You are on page 1of 38

‫مقدمة‬

‫شكلت ظاهرة الفيودالية أحد أخصب المواضيع التي استأثرت باهتمام الباحثين في مختلف أقطار‬
‫المعمور منذ القرن الثامن عشر‪ .‬و لزالت إلى يومنا هذا مثار جدال بين المختصين‪ ،‬سواء فيما يتعلق‬
‫بحيثيات نشأتها أو فيما يتعلق بمجال انتشارها و مستويات تبلورها هنا و هناك‪.‬‬
‫و قد انعكست ديناميكية البحث و سيولة التأليف في مختلف جوانب الظاهرة باليجاب على المكتبة‬
‫التاريخية عموما و مكتبة التاريخ الوربي الوسيط بشكل خاص‪.‬حتى أنه أصبح من الصعب ‪ -‬و ربما‬
‫من المستحيل – على القارئ العادي أو الباحث المختص الحاطة بجميع ما تم انجازه فيها من أبحاث‬
‫منغرافية أو دراسات ذات طابع تركيبي أو مقالت أو مداخلت ألقيت في إطار الندوات و الملتقيات‬
‫العلمية؛ نظرا لكثرة هذه التآليف من جهة و نظرا لختلف اللغات التي كتبت بها من جهة أخرى‪.‬‬
‫و الملحظ أن ظاهرة الفيودالية تكاد تكون ظاهرة كونية؛ انتشرت كليا أو جزئيا في مختلف أقاليم‬
‫العالم القديم‪ ،‬و لذلك اهتم الباحثون الغربيون المحدثون و المعاصرون بدراسة مظاهرها في مجالت‬
‫أوربية طبعا و في مجالت غير أوربية أيضا‪ .‬و في هذا السياق انبرى عدد منهم لمعالجة بعض تجلياتها‬
‫في المجال العربي‪-‬السلمي خلل العصر الوسيط أو خلل الحقبة السابقة على الستعمار الوربي‪.‬‬
‫غير أن الباحثين العرب ظلوا‪ ،‬مع السف ‪ ،‬بمنأى عن هذه الحركية‪ ،‬باستثناء قلة قليلة منهم اقتحمت‬
‫غمار هذا الموضوع‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فان ما كتب عن الفيودالية باللغة العربية ‪،‬أو ما تم تعريبه من مؤلفات‬
‫أجنبية تناولتها‪،‬ل يمثل سوى نسبة هزيلة جدا‪ .‬و يبدوهذا المرغير مفهوم إذا علما بأن التاريخ الوربي‬
‫الوسيط ‪ ،‬الذي تمثل الفيودالية إحدى أبرز قضاياه ‪،‬يندرج ضمن برامج ومقررات أقسام التاريخ‬
‫بالجامعات العربية‪ .‬و من هذا المنطلق كان من المفروض أن تحضى الفيودالية ) و تاريخ أوربا الوسيط‬
‫ككل ( باهتمام الجامعيين بحثا و تأليفا‪.‬‬
‫و رغبة منا في سد جانب من الفراغ الحاصل‪ ،‬ارتأينا و ضع هذا المؤلف رهن إشارة الطلبة و‬
‫الباحثين و عموم القراء؛ آملين أن يحضى بالقبول و ال ولي التوفيق‪.‬‬

‫وجدة في ‪ 05‬ذي القعدة ‪1431‬‬


‫الموافق ‪ 14‬أكتوبر ‪2010‬‬

‫مدخل‬

‫‪1‬‬
‫خصائص العصر الوسيط ) عصر الفيودالية و النظام الفيودالي (‬ ‫‪-1‬‬

‫درج المؤرخون الوربيون منذ عصر النهضة على تقسيم تاريخ أوربا إلى مجموعة عصور‬
‫متعاقبة هي ‪ :‬العصر القديم بمرحلتيه اليونانية و الرومانية‪ ،‬و العصر الوسيط ثم العصر‬
‫الحديث‪ .‬واتخذوا من بعض الحداث السياسية‪-‬العسكرية الكبرى مفاصل بين عصر و آخر‪.‬‬
‫و يجمعون في هدا الشأن بأن سنة ‪ 476‬ميلدية‪ ،‬التي تم فيها وضع حد لسيادة المبراطورية‬
‫الرومانية تمثل نهاية العصر القديم و بداية العصر الوسيط‪ .‬بينما اعتبروا سنة ‪ 1453‬ميلدية‪،‬‬
‫تاريخ سيطرة التراك العثمانيين على القسطنطينية‪ ،‬نهاية العصر الوسيط و بداية العصر‬
‫الحديث‪ .‬ومن ثم‪ ،‬يكون العصر الوسيط قد استغرق حوالي ألف سنة‪ .‬شهدت خللها أوربا بوجه‬
‫عام و مناطقها الغربية بوجه خاص أحداثا متميزة و تطورات متباينة‪ ،‬سواء من حيث اليقاع أو‬
‫من حيث المظاهر‬
‫تعود مقدمات تلك الحداث و التطورات إلى الفترة الممتدة بين القرنين الثالث و الخامس‪ .‬و‬
‫هي فترة اصطلح على تسميتها بالعصر المبراطوري السفل‪ .‬شهدت خللها المبراطورية‬
‫الرومانية أزمة متعددة المظاهر انتهت بسقوط روما سنة ‪ 476‬م‪ .‬على اثر موجة غزو أولى‬
‫قامت بها شعوب قدمت من شمال أوربا عبر فترات‪ ،‬و استقرت على أطراف المبراطورية قبيل‬
‫بداية الغزو‪.‬‬
‫و إذا كان ذلك الغزو قد أدى إلى نهاية وجود المبراطوربة الرومانية‪ ،‬فقد أدى من جهة‬
‫ثانية إلى السراع بوتيرة تلك الحداث و التطورات‪ .‬إذ استطاعت تلك الشعوب‪ ،‬المعروفة‬
‫بالشعوب الجرمانية‪ ،‬أن تسيطر على أقاليم غرب أوربا التي كانت وليات تابعة للمبراطورية‪ .‬و‬
‫أسست بها كيانات سياسية‪ .‬فكان ذلك إيذانا ببداية مسلسل التجزئة السياسية و تدهور المؤسسات‬
‫العمومية‪.‬و هو مسلسل استفحلت حلقاته خلل السنوات و القرون التي تلت عمليات الغزو‪ ،‬رغم‬
‫بعض المحاولت التي رامت العودة بأوربا إلى عهود الوحدة‪ .‬و قد تمت تلك المحاولت في‬
‫نطاق محدود و آلت إلى الفشل‪ .‬و بالتالي‪ ،‬وجب النتظار حتى أواسط القرن الخامس عشر لتبدأ‬
‫محاولت الوحدة و لتشرع المؤسسات في التبلور في اطارالدول المركزية الناشئة‪.‬‬
‫و واكبت مسلسل التجزئة السياسية سلسلة حروب شبه متواصلة داخل أوربا و خارجها )كانت‬
‫الممالك الوربية طرفا فيها ( استغرقت العصر الوسيط برمته‪ .‬حدثت أولها بين الممالك‬
‫الجرمانية التي تأسست غداة الغزو‪ .‬و تلتها حروب خاضها أكبر حكام هاته الممالك‪ ،‬كحروب‬
‫شارلمان الملك‪-‬المبراطور في جرمانيا و ايطاليا و اسبانيا‪ .‬ثم الحروب التي جرت فصولها‬
‫بمناسبة الموجة الثانية من موجات الغزو التي قام بها هذه المرة السكندنافيون و الهنغاريون‪ .‬و‬
‫الحروب بين المسيحيين و المسلمين‪ ،‬و أبرزها الحروب الصليبية في المشرق و حرب‬
‫السترداد في الندلس‪ .‬و انتهت سلسلة حروب العصر الوسيط بحرب المائة سنة بين فرنسا و‬
‫انجلترا اللتان انضمت لهما ممالك أخرى‪.‬‬
‫و من المفيد أن نذكرفي هذا المقام بأن العصرالوسيط في أوربا هو عصر الفروسية و الفرسان‪.‬‬
‫فقد شكل الفرسان الشريحة السفلى في الرستقراطية‪.‬وكانوا موزعين على شكل فرق)مليشيات (‪.‬‬
‫تعمل كل واحدة منها تحت إمرة أحد أفراد الشريحة العليا في الرستقراطية ‪.‬و تربط بين‬
‫الطرفين روابط خاصة تعرف بالروابط الفيودو‪ -‬فصلية ‪.(liens féodo-vassaliques ) les‬‬
‫و قد مثلت هذه الروابط كنه ظاهرة الفيودالية‪.‬‬
‫و بما أن الحرب كانت اهتمام الفرسان الول والخير‪ ،‬فقد كانت الوقائع بين أفراد‬
‫الرستقراطيات المحلية أو الجهوية أمرا مألوفا‪ .‬و قد بلغت الوقائع ذروتها سنة ‪ 1337‬حين‬
‫اندلعت حرب المائة سنة المشارإليها آنفا‪ .‬وكانت تتخلل سلسلة الحروب و الوقائع‪ ،‬أو تسبقها أو‬

‫‪2‬‬
‫تتلوها‪ ،‬حركات اجتماعية‪ -‬دينية كان يقوم بها الفلحون‪ .‬و أبرزها حركات القرنين الحادي عشر‬
‫و الرابع عشر‪.‬‬
‫و في جميع الحوال كان هؤلء الفلحون‪ ،‬الذين شكلوا السواد العظم في مجتمع أوربا‬
‫العصر الوسيط ‪ ،‬هم حصاد تلك الحركات و الحروب‪ .‬كما كانوا في نفس الوقت هم الحطب‬
‫المغذي للحروب بما يقدمونه من خدمات و ضرائب و مغارم و مكوس لفائدة الرستقراطية‬
‫العقارية التي سخر أفرادها كل الوسائل القانونية و العسكرية للستفادة من فائض إنتاج عمل‬
‫الفلحين‪ .‬الذين كان الواحد منهم ملزما بقضاء أكثر ساعات النهار في وضعية انحناء نحو‬
‫الرض التي غدت خلل العصر الوسيط مصدر النتاج الرئيسي ‪ ،‬بل مصدر حياة و وجود‬
‫مجتمع بأكمله‪.‬‬
‫و الجدير بالذكر في هذا الصدد أن عملية إعادة تشكيل الخارطة السياسية في أوربا بعد‬
‫انهيار المبراطورية الرومانية واكبتها عملية إعادة تشكيل مماثلة « للخارطة القتصادية »‬
‫التي لم تعد مشكلة من أنشطة واضحة المعالم ‪ :‬نشاط فلجي في الرياف و مبادلت تجارية و‬
‫أنشطة حرفية و خدماتية في الحواضر‪ .‬بل اختزلت كثيرا ‪ ،‬حتى أنها لم تعد تشمل سوى النشاط‬
‫الزراعي‪ .‬في حين اختفت المبادلت التجارية و النشطة الحرفية و مختلف الخدمات ‪،‬بما فيها‬
‫النشطة الفكرية التي اشتهرت بها مدن المبراطورية الرومانية‪ .‬و لم تعرف هذه النشطة‬
‫النتعاش إل بعد مطلع القرن الحادي عشر‪ .‬حين أفضت النهضة الزراعية التي شهدتها الرياف‬
‫إلى حدوث تحولت هائلة شملت جميع مناحي الحياة‪.‬‬
‫بدأت تلك النهضة تسجل تراجعا ارتسمت معالمه الولى حوالي ‪. 1317 -1316‬و أصبحت‬
‫واضحة منذ حوالي ‪ 1320‬ايذانا بحدوث انقلب في الظرفية‪ ،‬سرعان ما تحول إلى أزمة‬
‫اقتصادية و ديموغرافية و اجتماعية و سياسية و عسكرية و فكرية استغرقت القرنين الرابع‬
‫عشر و الخامس عشر‪.‬‬
‫و انطلقا مما تقدم نخلص إلى القول بأن مجمل أحداث و ظواهر و تطورات العصر الوسيط‪،‬‬
‫بما فيها ظاهرة الفيودالية ‪،‬التي سنتناول جوانبها بتفصيل ‪،‬حدثت في الرياف التي مثلت إطارها‬
‫الرئيسي؛ على القل حتى مطلع القرن الحادي عشر‪ .‬حيث ستشرع المدن الناشئة في النضمام‬
‫إلى الرياف كفضاء لحداث و تطورات ما بعد سنة ‪ .1000‬و لذلك نؤكد مند البدء بأن تاريخ‬
‫العصر الوسيط في أوربا هو عموما تاريخ أرياف‪.‬‬
‫فمنذ القرن الثالث للميلد شهدت المبراطورية الرومانية مشاكل متعددة المظاهر‪ ،‬ازدادت‬
‫تفاقما حتى سنة ‪ 476‬تاريخ سقوط روما‪ .‬و كان من بين مظاهر تلك المشاكل تدهور المدن‪ .‬و‬
‫تواصل هذا التدهور خلل القرون اللحقة حتى أن العديد منها اختفى تماما ‪.‬و إن المدن القليلة‬
‫التي استمرت في الوجود تقلصت مساحتها و تراجع عدد سكانها‪ .‬و بالتالي‪ ،‬أصبحت الرياف‬
‫هي إطار جميع النشطة السياسية والقتصادية و الجتماعية و الفكرية حتى مطلع القرن الحادي‬
‫عشر‪.‬حيث شهدت حركة التمدين بداية انتعاش سيتواصل خلل القرون الموالية‪ .‬فشرعت المدن‬
‫بموازاة تلك الحركة في استعادة جانب من وظائفها و جانب من الهيمنة التي كانت تمارسها على‬
‫الرياف قبل القرن الثالث‪.‬‬
‫و يجب التنبيه‪ ،‬بأن عملية الستعادة تلك كانت محدودة نسبيا‪ ،‬حيث إن المبادلت التجارية‬
‫التي تعتبر من أبرز الوظائف التي تحتضنها المدن ظلت مرتبطة بما كانت تقدمه الرياف من‬
‫منتجات زراعية ستشهد تراجعا منذ سنتي ‪ .1317-1316‬و سيتأكد هذا التراجع بعد سنة ‪1320‬‬
‫و على امتداد قرنين من الزمان‪.‬‬
‫كما أن التشكيلة الجتماعية التي تمنح المدن هوية مجتمعية تتطابق و تسميتها كمدن لم تأخذ‬
‫في التبلور إل بعد مطلع القرن الرابع عشر‪ .‬لن البورجوازية‪ ،‬التي كان يفترض أن تكون الطبقة‬
‫السائدة في تلك المدن‪ ،‬كما سيحدث بعد مطلع القرن السادس عشر‪ ،‬ظلت هجينة بعد عودة حركة‬
‫التمدين إلى النتعاش‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫مما ل شك فيه أن الفقرات السابقة تسلط بعض الضوء على خصائص العصر الوسيط ‪ ،‬و‬
‫تساعد على فهم السياق العام الذي " نشأت " فيه و تطورت فيه الفيودالية في معناها الضيق‬
‫كروابط و التزامات ذلت صلة بالفيف ) ‪ ( le fief‬أو في معناها الواسع كنظام اقتصادي و‬
‫اجتماعي‪.‬‬

‫‪ -2‬دللت مفهومي " الفيودالية " و " النظام الفيودالي "‬

‫تعتبر كلمة " فيودالية " تعريبا للمصطلح الفرنسي " ‪ " Féodalité‬الذي شرع في استعماله‬
‫بفرنسا ابتداء من مطلع القرن السابع عشر؛ في وقت أخذت تستعمل فيه بباقي أقطار أوربا‬
‫مصطلحات مرادفة كمصطلح "‪ " Feudalismo‬الذي استعمله اليطاليون و ال سبانيون و‬
‫مصطلح " ‪ "Feudalism‬الذي استعمله النجليزيون و مصطلح " ‪ " Feudalismus‬الذي‬
‫استعمله اللمانيون‪ .‬و يندرج هذا التعدد و التنوع في سياق تعدد و تنوع اللغات الناشئة في أقطار‬
‫أوربا‪ .‬حيث أصبح سكان كل قطر يستعملون لغة خاصة بهم ابتداء من هذه الفترة‪.‬‬
‫و قد تم اشتقاق جميع المصطلحات السالف ذكرها من الكلمة اللتينية فيوداليس" ‪Feodalis‬‬
‫" أو من كلمة " ‪ "Feodum‬التي أصبحت الكلمة الكثر تداول في النصوص ابتداء من مطلع‬
‫القرن الحادي عشر ‪ ،‬و تعني الفيف‪ ." le fief " 1‬و هو قطعة أرض كان شخص ) و قد يكون‬
‫أيضا مؤسسة دينية ( يسمى " سنيورا " ) ‪ ( un seigneur‬يقدمها لشخص آخر‪ .‬فيصبح‬
‫المستفيد من قطعة الرض تابعا للمانح و يسمى فصل ) ‪ .( un vassal‬يلتزم بتقديم خدمات و‬
‫التزامات معينة للسنيور‪ .‬و تنشأ عن عملية تقديم الفيف و عن تلك اللتزامات روابط خاصة بين‬
‫الطرفين‪.‬‬
‫و قد ظلت كلمة فيودوم " ‪ "Feodum‬تعني منذ هذا التاريخ و حتى مطلع القرن الثامن‬
‫عشر الفيف و اللتزامات المترتبة على التابع المستفيد منه‪ .‬و بعد مطلع القرن الثامن عشر أخذ‬
‫مفكرو أقطار غرب أوربا يعطون للمصطلحات الحديثة المشتقة من كلمة فيودوم مضامين و‬
‫دللت متنوعة‪ .‬و تجلى هذا التنوع بشكل أكبر في فرنسا عاصمة فكر النوار الذي ساد في‬
‫أوربا خلل القرن الثامن عشر‪.‬‬
‫فقد ظل رجال القانون و المهتمون بتاريخ المؤسسات حريصين على استعمال مصطلح‬
‫" ‪ " féodalité‬بمعناه الضيق الصلي‪ ،‬أي الفيف و ما يترتب عن الستفادة منه من التزامات‬
‫وروابط‪ .‬أما أقطاب الفكرالسياسي‪ ،‬أمثال لويس مونتسكيو )) ‪Charles Louis Montesquieu‬‬
‫‪ (( 1689 - 1755‬وهنري دي بولنفليي )( ) ‪(Henri de Boulainvilliers 1658- 1722‬‬
‫الذين عاصروا مرحلة سيادة السلطة المركزية في كل من فرنسا و انجلترا‪ ،‬فقد استعملوه عند‬
‫الحديث عن التجزئة السياسية التي شهدتها أوربا بعد القرن التاسع‪ ،‬و ما نشأ عنها من طرق و‬
‫أساليب خاصة في تدبير السلطة؛ التي أصبح يمارسها أفراد الرستقراطية‪ .‬كل واحد منهم يمارسها‬
‫في حدود رفعة ترابية ضيقة‪ .‬في حين أعطى الفلسفة و المنظرون‪ ،‬أمثال فرانسوا ماري أروية )‬
‫‪ ( François Marie Arouet‬المعروف بفولتير ) ‪ (Voltaire) (1698-1778‬للمصطلح‬
‫دللت أوسع‪ .‬فاستعملوه بمعنى نسق من التطور )‪ .( un processus d’évolution‬أو بمعنى‬
‫نمط من أنماط الحياة ) ‪ (un mode de vie‬كانت تتبناه مجتمعات غرب أوربا خلل العصر‬
‫الوسيط ‪ .‬و يمكن أن يتبناه أي مجتمع في أي مجال جغرافي ‪ .‬فالفيودالية من وجهة نظرهم ليست‬
‫مجرد ظاهرة خاصة شهدتها مجتمعات أوريا في العصر الوسيط ‪،‬بل هي نسق من أنساق التطور‬

‫‪ -11‬ارتأينا ترجمة الكلمة الفرنسية ‪ fief‬بكلمة فيف )بعلمة سكون فوق الياء ( لنها أكثر دقة ‪ .‬في حين أن الكلمات مثل " اقطاعة "‬
‫التي تجعلها بعض المعاجم العربية مقابلة لكلمة ‪ fief‬غير دقيقة و ذات دللت خاصة تنطبق على المجال السلمي‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫أو نظام حياة حدث في العصر القديم ‪ .‬كما حدث في العصر الوسيط ‪ .‬و له امتدادات في العصر‬
‫الحديث ‪.‬‬
‫و على غرار الفلسفة و المنظرين أعطى المفكرون القتصاديون ‪ ،‬و أبرزهم النجليزي‬
‫أدم سميث ) ‪،(Adam Smith) (1723-1790‬لمصطلح فيودالية دللت أوسع كذلك‪ .‬فقد‬
‫رأوا بأن الفيف الذي اشتق منه هو أول و أخيرا عقار ) ‪ (un bien-fonds‬اكتسى أهمية بالغة‬
‫بالنظر إلى سيادة النشاط الزراعي في العصر الوسيط ‪.‬و قد شكل تبعا لذلك مصدر ثروة بالنسبة‬
‫للسيد و التابع‪ .‬ومن ثم‪ ،‬ل يمكن الحديث عنه و عن اللتزامات و الروابط المتصلة به بمعزل‬
‫عن الحياة القتصادية‪ .‬فانكبوا على دراسة بنية ذلك العقار و مكونات تلك الثروة و مجالت‬
‫صرفها و ما إلى ذلك من قضايا ذات صلة بالوضاع القتصادية التي شهدتها أقاليم غرب أوربا‬
‫زمن سيادة الفيودالية‪.‬‬
‫و قد شكلت طروحات الفلسفة و المنظرين و المفكرين القتصاديين نقطة انطلق بالنسبة‬
‫لماركس و انجلز و أتباعهما الذين ذهبوا بعيدا‪ .‬فجعلوا من الفيودالية نمط إنتاج‪،‬أي نظاما‬
‫سوسيو‪ -‬اقتصاديا نشأ بعد نهاية النظام العبودي‪ .‬و انتهى عندما بدأت تترسخ قواعد النظام‬
‫الرأسمالي‪.‬أي أن النظام الفيودالي نشأ في أوربا عندما تراجع دور العبيد كقوى منتجة و لم تعد‬
‫العلقات الجتماعية قائمة على العبودية‪ .‬و بدأ في النحلل عندما هيمنت المبادلت التجارية‬
‫على الحياة القتصادية؛ و بدأت العلقات الجتماعية تأخذ منحى منسجما مع تطور قوى النتاج‪.‬‬
‫و معنى ذلك أن فترة سيادة نمط النتاج الفيودالي حدث خللها تطابق بين قوى النتاج التي‬
‫بلغت مستوى معينا من التطور و العلقات الجتماعية التي حققت بدورها مستوى معينا من‬
‫التطور‪.‬‬
‫و تبعا لنتشار الفكر الماركسي‪ ،‬فقد تبنى هذا الطرح العديد من المفكرين و الباحثين في‬
‫أقطار أوربا و أمريكا و آسيا و إفريقيا‪ .‬و أصبحوا يفضلون استعمال أحد المفهومين المركبين ‪:‬‬
‫" نمط النتاج الفيودالي" ) ‪ ( mode de production féodal‬أو " النظام الفيودالي " )‬
‫‪ (système féodal‬بدل مفهوم الفيودالية‪ .‬لن لهما دللة شاملة تنطبق على جميع بنيات‬
‫المجتمع السياسية و القتصادية والجتماعية والفكرية‪ .‬و يمكن استعمالهما عند البحث في بنيات‬
‫مجتمعات أخرى غير المجتمعات الوربية‪ .‬فيمكن حينئذ الحديث عن نمط إنتاج فيودالي في‬
‫‪3‬‬
‫اليابان‪ 2‬أو في الصين أو في أحد أقطار إفريقيا‪.‬‬
‫و انطلقا مما تقدم‪ ،‬يتضح بأن المضامين و الدللت التي أعطاها مفكرو أوربا لمصطلح‬
‫فيودالية و للمصطلحات المرادفة له مضامين و دللت مختلفة‪ .‬و قد تحول الختلف إلى تباين‬
‫حينما لجأ ثلة من المفكرين إلى استعمال مصطلحات مركبة هي نمط النتاج الفيودالي ) ‪le mode‬‬
‫‪ ( de production féodal‬أو النظام الفيودالي ‪ .( ( le système féodal‬بحيث لم يعد ممكنا‬
‫إحداث تقارب بين وجهات النظر‪.‬لن المصطلحات ارتقت إلى مستوى المفاهيم‪ ،‬نظرا لصبغتها‬
‫الجرائية و الوظيفية و نظرا لما يعكسه استعمالها من مواقف و رؤى و مناهج في البحث‪ .‬و لزال‬
‫هذا التباين حتى اليوم أحد سمات النتاج السطريوغرافي المتصل بالموضوع‪.‬‬
‫و إجمال يمكن التمييز في عموم الباحثين و المفكرين بين فئتين‪ :‬فئة تتبنى و تستعمل مفهوم‬
‫الفيودالية ) أو أحد المفاهيم المرادفة له حسب لغة المفكر أو الباحث (‪ .‬و تلخص مضمونه في‬

‫‪ -2‬يمكن العودة بهذا الخصوص إلى دراسة أصبحت اليوم كلسيكية للباحث كوهاشيرو تكاهاشي) ‪ ( Kohachiro Takahachi‬تحت‬
‫عنوان ‪:‬‬
‫‪La place de la Révolution de Meiji dans l’histoire agraire du Japon , in Du féodalisme au capitalisme‬‬
‫‪Problèmes de la transition, traduction française, Paris Maspero,1977,Tome II.‬‬
‫و للطلع على أحدث ما كتب حول الفيودالية في اليابان و الصين و آسيا عموما نحيل القارئ على القسم الثاني من كتاب أنجزه‬
‫مجموعة مؤلفين تحت إشراف جون‪ -‬بيار بولي)‪ (Jean-Pierre Poly‬واريك بورنازيل) ‪ (Eric Bournazel‬بعنوان ‪:‬‬
‫‪Les féodalités, Paris, P.U.F.,1998‬‬
‫‪ -3‬انظر في هذا الشأن مداخلت الندوة التي نظمها مركز الدراسات و البحاث الماركسية بباريس يوم ‪ 27‬أبريل ‪ .1968‬و قد صدرت‬
‫سنة ‪ 1974‬ضمن منشورات سوي ) ‪ ( Seuil‬تحت عنوان ‪:‬‬
‫‪féodalisme Sur le‬‬

‫‪5‬‬
‫كونه الفيف و اللتزامات المرتبطة به و العلقات القائمة بين الذي يقدمه و الذي يستفيد منه‪ .‬و‬
‫فئة تتبنى و تستعمل مفهوم نمط النتاج الفيودالي أو النظام الفيودالي بمعنى نسق من التطور‬
‫شهده مجتمع غرب أوربا خلل مرحلة معينة من تاريخه تطابقت فيها قوى إنتاج‪ ،‬وصلت‬
‫مستوى معينا من التطور‪ ،‬مع علقات اجتماعية منسجمة معها‪.‬‬
‫ورغم المناظرات والملتقيات التي سعت بعض الجهات التي نظمتها إلى تقريب وجهات نظر‬
‫الفئتين‪ ،4‬فإن التباين أصبح قدرا محتوما‪ .‬بل إن هذا التباين أخذ في فرنسا طابع الجدل الحاد الذي‬
‫أفضى منذ مطلع القرن العشرين إلى ظهور وشيوع استعمال مفهوم جديد في أوساط المفكرين و‬
‫الباحثين المشبعين بفكر ماركس و انجلز و هو مفهوم " الفيوداليسم " ) )‪Féodalisme‬المرادف‬
‫لمفهومي نمط النتاج الفيودالي والنظام الفيودالي‪ .‬و قد تبنت هذا المفهوم الوساط العلمية‪ .‬و دخل‬
‫قاموس اللغة الفرنسية الذي يتميز بكونه القاموس الوربي الوحيد الذي يتضمن مفهومين هما ‪:‬‬
‫" ‪ " Féodalité‬و" ‪." Féodalisme‬‬
‫و الحقيقة أن هذه الضافة لم تعمل على إثراء رصيد لغة الباحثين الفرنسيين بقدر ما جعلت‬
‫الهوة الفاصلة بين الذين يستعملون هذا المفهوم أو ذاك أكثر عمقا‪ .‬و يخطأ البعض حين يعتبرون‬
‫هذه الزدواجية مجرد اختلف في اللغة أو المفاهيم المستعملة‪ .‬بل على العكس من ذلك تماما‬
‫تعكس ‪ ،‬في اعتقادنا‪ ،‬اختلفا في الرؤى و المناهج المتبعة كما سيتبين ذلك من خلل العناصر التي‬
‫سيتم تناولها في هذا البحث‪.‬‬

‫‪ -3‬مصادر دراسة الفيودالية و النظام الفيودالي‬

‫تفاديا لي فهم خاطئ قد يوحي به هذا العنوان‪ ،‬نوضح بأن دراسة الفيودالية و النظام‬
‫الفيودالي ل تتم انطلقا من مصادر جد خاصة‪ ،‬بل على العكس من ذلك تستوجب الحاطة‬
‫بمختلف جوانبهما العودة إلى قاعدة معلومات و معطيات متنوعة لستقاء المادة التاريخية‪ .‬تتمثل‬
‫هذه القاعدة في المصادرالركيولوجية و المصادر الخطية‪.‬‬

‫أول ‪ :‬المصادر الركيولوجية‪.‬‬


‫يفرض هذا النوع من المصادر حضوره لعتبار أساسي هو أن الفيودالية هي في كنهها‬
‫ظاهرة حربية‪.‬إذ أن الوقائع العسكرية تصدرت أحداث الحقبة التي سادت فيها‪ .‬و بما أن عملية‬
‫خوض الحروب أصبحت تشغل بال أفراد الرستقراطية منذ انهيار المبراطورية الرومانية‪ ،‬ثم‬
‫حدثت تحولت بعد مطلع القرن الحادي عشر جعلت الحروب تصبح من اهتماماتهم الرئيسية‪،‬‬
‫فقد اقتضى المر بعد هذا التاريخ إقامة تحصينات؛ أبرزها القصور ) ‪ (les châteaux‬و القلع‬
‫) ‪ ( les donjons‬و القصور المشيدة على تلل طبيعية أو اصطناعية ) ‪les mottes‬‬
‫‪ .( castrales‬و قد أصبحت هذه المنشآت من أبرز معالم المشهد ألمآثري )‪paysage le‬‬
‫‪ ( monumental‬في أرياف أوربا‪ .‬و غدت مراكز للقيادة وممارسة السلطة من قبل أفراد‬
‫الرستقراطية‪ .‬و من ثم‪ ،‬فان البحث في ظاهرة الفيودالية و ما يتصل بها من مؤسسات اقتضى‬
‫منذ عقود مضت القيام بعمليات مسح جوي و تنقيب ميداني لتحديد مواقع تلك المنشآت و الكشف‬
‫عن بقايا ما اندرس منها‪ .‬و قد أفضت مختلف العمليات التي بوشرت في مختلف أنحاء أوربا‪ ،‬و‬

‫‪- 4‬من بين هذه الملتقيات على سبيل المثال الندوة الدولية التي نظمها المركز الوطني للبحث العلمي )‪le Centre National de la‬‬
‫‪ (Recherche Scientifique‬برحاب المدرسة الفرنسية بروما )‪ (l’Ecole Française de Rome‬أيام ‪ 13-10‬أكتوبر سنة ‪.1978‬‬
‫و صدرت أعمالها بباريس سنة ‪ 1980‬ضمن منشورات المركز المذكور تحت عنوان‪:‬‬
‫‪Structures féodales et féodalisme dans l’Occident méditerranéen Xe-XIIIe Siècles‬‬

‫‪6‬‬
‫ إلى نتائج بالغة القيمة عززت‬،‫ باعتبارها " مهد الفيودالية " كما يقال‬،‫في فرنسا بوجه خاص‬
‫رصيد قاعدة المعلومات و المعطيات التي كانت حتى بدايات القرن الماضي تستقى من النصوص‬
‫ و من‬، ‫في المقام الول؛ المر الذي مكن من إعادة رسم خارطة النتشار الجغرافي للفيودالية‬
‫إعادة تحديد المجال الترابي الذي كانت تمارس فيه سلطة أفراد الرستقراطية خلل فترة سيادة‬
.‫الفيودالية‬
‫ ( و‬la détection aérienne) ‫و قد تمت صياغة أهم نتائج عمليات الستشعار الجوي‬
‫التنقيب الميداني في تقارير و عروض و دراسات أهمها على الطلق عروض و تقارير‬
‫ مركز البحاث الركيولوجية‬1962 ‫الملتقيات الدورية التي دأب على تنظيمها منذ سنة‬
‫ (( التابع‬le Centre de Recherches Archéologiques médiévales ‫القروسطوية‬
23 ‫ ( من‬2009 ‫ و قد تم نشر سلسلة منها تتألف ) حتى حدود شهر يونيو‬.( Caen ) ‫لجامعة‬
Château Gaillard : ‫مؤلفا تحت عنوان‬
: ‫و تأتي بعد هذه السلسلة أبحاث و دراسات ل تقل أهمية نورد عناوينها كما يلي‬
1- AFFOLTER Eric ; PEGEOT Pierre ; VOISIN Jean-Claude, L’habitat
médiéval fortifié dans le nord de la Franche-Comté : Vestiges de
fortifications de terre et de maisons fortes, Montbéliard, Afram, 1986.
2- CHATEAU André, Châteaux forts et féodalité en Ile-de France du XIe
au XIIIe siècle, Paris, Editions Créer, 1983.
2- COLLECTIF, Des châteaux et des sources. Archéologie et histoire
dans la Normandie médiévale, Rouen, publications des Universités de
Rouen et du Havre, 2008.
3- DEBORD André, Aristocratie et pouvoir, le rôle du château dans la
France médiévale, Paris, Editions A. et J. Picard, 2000.
4- DURAND Philippe, Le château fort, Paris, Editions Jean-Paul Gisserot
,1999.
5- FIXOT Michel, Les fortifications de terre et les origines féodales dans
le Cinglais, Caen, Centre de Recherches Archéologiques médiévales,
1968.
6- GONDOIN Stéphane-Wiliam, Les châteaux-forts, Paris, Chemine-
ments, 2005.
7- JALMIN Daniel, Archéologie aérienne en Ile-de France, Paris,
Editions Technipp,1970.
8- LEFRANC Guy,Vestiges de mottes féodales en Flandre intérieure,
Atlas archéologique No 1, Lille,Editions l’APAR ,1976.

.‫ المصادر الخطية‬: ‫ثانيا‬


‫تمثل المادة التاريخية التي تتضمنها المصادر الخطية الجانب الكبر من قاعدة المعلومات و‬
‫ فضل عن السياق التاريخي‬،‫المعطيات الضرورية لدراسة الفيودالية و ما يتصل بها من مؤسسات‬
.‫ و يتألف هذا النوع من المصادر من مصنفات متنوعة و متفاوتة القيمة‬.‫الذي نشأت و تطورت فيه‬
les ) ‫ ( و كتب الحوليات‬les Chroniques ) ‫يمكن أن نذكر من بينها كتب الخباريات‬
les récits ) ‫( و الكتب التي تروي سير القديسين و القديسات و تتحدث عن كراماتهم‬Annales
les ) ‫ ( و نصوص الظهائر و المراسيم و القرارات الصادرة عن الملوك‬hagiographiques

7
‫( و المتن الذي تكونه نصوص القوانين الجرمانية‬Diplômes et les Edits royaux
.(les Formulaires ) ‫( و وثائق العقود‬les Lois Barbares ) " ‫" الباربارية‬
: ‫وعموما يمكن استعراض نماذج من أهم هذه المصنفات كما يلي‬
‫ كتب الخباريات و الحوليات‬: ‫أول‬
‫أ ( الخباريات‬
1- Abbon de Fleury (mort en 1040), Siège de Paris par les Normands, éd.
et trad. François Guizot in Collection des mémoires relatifs à l’histoire
de France depuis la formation de la monarchie française jusqu’au 13e
siècle, Paris, éd. J.L.J. Brière, vol. I, 1824.
2- Flodoard de Reims (mort en 966), Chronique, éd. et trad. François
Guizot in Collection des mémoires…
3- Hugues de Fleury (mort après 1122), Chronique, éd. et trad. François
Guizot in Collection des mémoires…
4- Raoul Glaber (mort en 1047), Chronique, éd. et trad. François Guizot
in Collection des mémoires…
5- Richer de Reims (mort en 998), Histoires, texte édité , traduit et
annoté par Jean Guadet, Paris, éd. Jules Renouard, 1845, 2 vol.
‫ب( الحوليات‬
1- Anonyme, Annales de Saint- Bertin et de Metz, éd. et trad. François
Guizot in Collection des mémoires relatifs à l’histoire de France depuis la
formation de la monarchie jusqu’au 13e siècle, Paris, éd. J.L.J. Brière,
vol. I, 1824.
2- Annales de Saint- Bertin et de Saint-Vaast suivies de fragments d’une
chronique inédite, éd. Abbé César Auguste Dehaisnes, Paris, éd. Jules
Renouard, 1871.
3- Eginhard (mort en 840), Annales des rois Pépin, Charlemagne et
Louis-le Débonnaire, éd. et trad. François Guizot in Collection des
mémoires…, vol. III, 1824.
‫ سير القديسين و القديسات‬: ‫ثانيا‬
1- Bernard d’Angers (mort vers 1050) et continuateurs, Les miracles de
Sainte-Foy de Conques (morte en 303), éd., Auguste Bouillet, Paris, A.
Picard, 1897.
2- Moine anonyme, Vie de Saint-Didier évéque de Cahors (630-655), éd.
René Poupardin, Paris, A. Picard, 1900.
3- Saint Odon abbé de Cluny (mort en 942), Vie de Géraud d’Aurillac
(mort en 909),
‫ الظهائر و المراسيم الملكية‬: ‫ثالثا‬
1- Eugène de Rozière, Recueil général des formules usitées dans l’Empire
des Francs du Ve au Xe siècle, Paris, éd. Auguste Durand, 1859-1871, 3
vol.
2- Recueil des actes de Louis II le Bègue, Louis III et Carloman II rois
des Francs (877-884), éd. Félix Grat, Jacques de Font-Reaulx, Georges
Tessier et Robert-Henri Bautier, Paris, Imprimerie Nationale, 1978.

8
‫‪3- Recueil des actes de Robert I et Raoul rois de F rance (922-936), éd.‬‬
‫‪Jean Dufour, Paris, Imprimerie Nationale, 1978.‬‬
‫‪4- Recueil des actes de Lothaire et de Louis V rois de France (954-987),‬‬
‫‪éd. Louis Halphen et Ferdinand Lot, Paris, Imprimerie Nationale, 1908.‬‬
‫‪5- Recueil des actes de Philippe Ier roi de France (1059-1108), éd.‬‬
‫‪Maurice Prou, Paris, Klincksieck, 1908.‬‬

‫القسم الول‬

‫الفيودالية بمعنى الفيف و روابط الفصالة‬


‫يجمع جل الباحثين الغربيين‪ ،‬عامة و الفرنسيين بوجه خاص‪ ،‬بأن نشأة الفيودالية تعود إلى‬
‫مطلع القرن الحادي عشر‪ .‬و يربطون تلك النشأة بالتحولت السياسية التي بدأت تشهدها أقاليم‬
‫غرب أوربا ابتداء من سنة ‪ .1000‬و هي تحولت تمثلت في استفحال تدهور السلطات المركزية و‬
‫نهاية الدور الذي كانت تقوم به المؤسسات العمومية في تدبير شأن القمطيات‪ .‬مما أدى إلى حدوث‬
‫فراغ سياسي و انعدام المن و الستقرار‪.‬فوجد أفراد الرستقراطية أنفسهم مضطرين إلى إيجاد‬
‫صيغ جديدة للتآزر فيما بينهم‪ .‬فظهرت من جراء ذلك الفيودالية – أي الروابط المتمحورة حول‬
‫الفيف – كصيغة من صيغ التآزر المنشود‪ .‬و قد شارك في تفعيلها جميع أفراد الرستقراطية‪.‬‬
‫بحيث أن كبار الملكين العقاريين كانوا يقدمون قطع أرض لمتوسطي الملكين‪ ،‬و هؤلء كانوا‬
‫يقدمون بدورهم قطع ارض للفرسان‪ .‬و كانت هذه العملية تباشر وفق طقوس خاصة و في مراسيم‬
‫احتفالية تتم فيها تسمية مانح قطعة الرض سنيورا و المستفيد منها فصل‪ .‬يؤدي يمين الولء‬
‫للمانح و يتعهد بأداء خدمات والتزامات ذات صبغة عسكرية في المقام الول‪ .‬كانت تقتضيها‬
‫الظرفية التي " نشأت " فيها الفيودالية‪ .‬و إذ اتخذت تلك الروابط منحى عموديا‪ ،‬فقد اتخذت أيضا‬
‫شكل علقات أفقية‪ .‬لن الفصل كان بإمكانه أن يكون تابعا لكثر من سنيور‪ .‬و تفاديا لي‬
‫انزلقات أو مشاكل قد تترتب عن تعدد علقات الفصل الواحد ‪،‬فقد تم إيجاد ضوابط ملزمة‪ ،‬هي‬
‫جزء من الروابط التي كانت تنظم الروابط بين كل سنيور و الفصل التابع له كما سنرى لحقا‪ .‬و‬
‫لهذا العتبار و لغيره اتخذت الفيودالية طابع نظام متكامل ) ‪.(un régime‬‬
‫و من هذا المنطلق يحق للمرء أن يتساءل كيف وصلت الفيودالية إلى هذا المستوى العلى‬
‫من التطور و الكتمال خلل هذه الفترة التاريخية‪ ،‬أي فترة ما بعد سنة ‪1000‬؟ ألم تسبقها أشكال و‬
‫صيغ من الروابط هيأت لها إمكانية التطور؟ خاصة إذا علمنا بأن الفرد الوربي ‪،‬سواء كان ينتمي‬

‫‪9‬‬
‫لعامة المجتمع أو لخاصته‪ ،‬لم يكن يعيش منعزل عن الفراد الخرين المنتمين لفئته أو لطبقته أو‬
‫لطائفته ‪.‬كما لم يكن منعزل عن الفراد المنتمين لغير فئته‪ .‬و ل يختلف اثنان في القول بأن أفراد‬
‫الرستقراطية ‪ ،‬الذين يهمنا أمرهم في هذا المقام‪ ،‬كانت تربط بينهم منذ عهود قديمة روابط‬
‫اقتضتها المصالح المشتركة‪.‬‬
‫و نحن إذ نطرح هذه التساؤلت و نقدم هذه المعطيات ‪،‬فللتذكير بأن عددا من المؤرخين‪،‬‬
‫وخاصة منهم الفرنسيون ‪،‬الذين سيأتي ذكر أسماء بعضهم لحقا‪ ،‬ينكرون أن تكون الفيودالية – أي‬
‫الروابط الفيودو – فصلية ‪ -‬امتدادا للروابط التي كانت قائمة بين أفراد الرستقراطية قبل سنة‬
‫‪ ،1000‬أو شكل متطورا لتلك الروابط ‪ .‬و دعواهم في ذلك هو أن الفيف بوصفه حجر الزاوية في‬
‫تلك الروابط لم يظهر و لم يصبح محور الفيودالية إل ابتداءا من مطلع القرن الحادي عشر‪ .‬كما أن‬
‫كلمة فيودوم نفسها التي اشتق منها مصطلح فيودالية لم يبدأ تداولها في النصوص إل بعد سنة‬
‫‪.1000‬‬
‫و خلفا لهذا العتقاد‪ ،‬سنحاول في هذا القسم تأكيد فكرة مفادها أن الفيودالية تضرب بجذور‬
‫عميقة في تاريخ غرب أوربا تعود على القل إلى القرن الثالث للميلد‪ .‬و قد تطورت لتصل إلى‬
‫مرحلة النضج ابتداء من مطلع القرن الحادي عشر‪ .‬و نميز في مسيرة الفيودالية الطويلة التي‬
‫امتدت من القرن الثالث حتى نهاية العصر الوسيط‪ 5‬بين ثلثة مراحل كبرى ‪ :‬أولها مرحلة‬
‫علقات الرفاقة ) ‪ ( le Compagnonnage‬التي كان يقيمها أفراد الرستقراطية الجرمانية مع‬
‫مجموعة شباب‪ .‬كانوا يتخذونهم رفقاء و حراسا لهم في نفس الوقت‪ .‬و تمثل هذه العلقات في‬
‫اعتقادنا أصول الفيودالية‪ .‬و ثانيها مرحلة علقات الفصالة )‪ ( le vasselage‬التي أصبح يقيمها‬
‫أفراد الرستقراطية في الممالك التي تأسست بعد انهيار المبراطورية الرومانية‪ .‬و كانت هذه‬
‫العلقات قائمة بينهم و بين مجموعة أتباع ) محاربين في المقام الول (‪ .‬قامت في بادئ المر على‬
‫عطاء غير الرض يسمى بنفسيوم ) ‪( beneficium‬؛ ثم أصبحت الرض أساس هذه العلقات‬
‫منذ منتصف القرن التاسع‪ .‬و قد استغرقت الفترة الزمنية الممتدة من القرن السادس حتى نهاية‬
‫القرن العاشر‪.‬أما المرحلة الثالثة‪ ،‬فهي مرحلة نضج الفيودالية‪ .‬و خللها أصبحت علقات الفصالة‬
‫التي سادت خلل المرحلة السابقة قائمة على الفيف‪ .‬و لذلك نسمي العلقات التي سادت خلل‬
‫المرحلة الثالثة باسم الروابط الفيودو‪ -‬فصلية تميزا لها عن علقات الفصالة‪.‬‬

‫الفصل الول ‪ :‬أصول الفيودالية ‪ :‬علقات الرفاقة عند الجرمان‬

‫ل يمكن البحث في جوانب تاريخ أوربا خلل العصر الوسيط دون استحضار الجرمان‪،‬‬
‫باعتبارهم إحدى أبرز القوى التي أثرت بشكل فعال في مجربات أحداث هذه الحقبة التاريخية‪ .‬و‬
‫أثروا تبعا لذلك في نظم و حضارة الحقبة المذكورة‪ .‬و يكفي أن نذكر مجددا بأنهم هم الذين أجهزوا‬
‫على المبراطورية الرومانية سنة ‪ .476‬فساهموا بذلك في إعادة تشكيل خارطة أوربا السياسية‪ .‬و‬
‫تجاوز فعلهم حدود البنيات السياسية ليشمل البنيات القتصادية و الجتماعية و عناصر السكان‪ .‬و‬
‫ل زالت مظاهر تأثيرهم في تاريخ و حضارة غرب أوربا سارية المفعول إلى يومنا هذا‪ .‬بل تجاوز‬
‫تأثيرهم حدود القارة الوربية ليشمل مناطق من إفريقيا بعد أن نجحت مجموعة قبلية من الجرمان‪،‬‬
‫متمثلة في الو ندال‪ ،‬من إقامة مملكة ببعض أقاليم شمال إفريقيا‪.‬‬

‫‪ - 5‬نعتبر تجاوزا بأن منتهى الفيودالية في معناها الضيق تطابق مع نهاية العصر الوسيط‪ .‬و الحقيقة أن بعض مظاهرها القانونية و‬
‫الجتماعية استمرت في بعض أقاليم غرب أوربا إلى وقت متأخر‪ .‬ففي فرنسا مثل استمرت حتى سنة ‪ .1789‬لذلك يعتبر بعض الباحثين‬
‫الثورة الفرنسية ثورة ضد الفيودالية ) ‪.( une révolution anti-féodale‬‬

‫‪10‬‬
‫و قد بات من المعروف اليوم بأن الشعوب الجرمانية تنحدر من أصول هندو‪ -‬أوربية‪ .‬كانت‬
‫تقيم في المناطق المحيطة ببحر البلطيق ؛ و بالتحديد في القاليم التي تتشكل منها اليوم كل من‬
‫السويد و الدانمارك و النرويج و القاليم المجاورة لها‪ .‬و امتد مجال تواجدها في اتجاه بحر الشمال‬
‫و مصبي كل من نهر اللب و نهر الويزر‪.‬ثم شرعت بعد سنة ‪ 900‬قبل ميلد المسيح في القيام‬
‫بحركة نزوح نحو الجنوب حتى أصبحت مستقرة حوالي القرن الثالث للميلد في القاليم الواقعة‬
‫شمال جبال اللب و نهر الدانوب و شرق نهر الراين‪.‬‬
‫يعد مصنفا سايوس يوليوس قيصر) ‪ Caius Julius Caesar) (100‬ق‪.‬م‪ 44 – .‬ق‪.‬م‪ ( .‬و‬
‫بوبليوس كورنيليوس تاسيتوس )‪ Publius Cornelius Tacitus ) ( 55‬ق‪.‬م‪ 120 – .‬م‪ ( .‬أهم‬
‫المصادر الخطية التي يعتمدها الباحثون في استقاء معلومات عن نمط حياة و تنظيمات الشعوب‬
‫الجرمانية‪ .‬فقد كان الول قائدا عسكريا مارس السلطة و استكمل مشوار حياته المهنية كمدون‬
‫للحداث‪ .‬خاض سلسلة حروب بين سنتي ‪ 58‬ق‪.‬م‪ .‬و ‪ 51‬ق‪.‬م‪ .‬لخضاع غاليا )‪ 6( Gallia‬أو غالة‬
‫) ‪ .( la Gaule‬فوجد نفسه وجها لوجه أمام الجرمان الذين كانوا يشنون غارات على غاليا بين‬
‫الفينة و الخرى‪ .‬فخاض ضدهم عدة وقائع‪ .‬اضطر في إحداها إلى عبور نهر الراين لستئصال‬
‫شأفتهم في مواطنهم‪ .‬و قد دون مذكراته عن تلك الحروب في مؤلف‪ 7‬نشره سنة ‪ 51‬ق‪.‬م‪ .‬يتضمن‬
‫مادة طيبة عن السلتيين ) ‪ ( les Celtes‬أو الغاليين‪ ،‬سكان غاليا‪ .‬كما يتضمن معلومات قيمة – و‬
‫إن كانت ضئيلة – عن تنظيمات الجرمان العسكرية‪ .‬بينما كان الثاني مؤرخا محترفا تجول في‬
‫بعض مواطن القبائل الجرمانية‪ .‬و دون هو الخر مشاهداته في مؤلف نشره سنة ‪ 98‬م‪ 8.‬يحفل‬
‫بمعلومات غزيرة حولها تعد تكملة لما ورد في مذكرات يوليوس قيصر‪.‬‬
‫يتضح من المؤلفين بأن الشعوب الجرمانية كانت تتألف من عدة قبائل‪ .‬يمكن التميز فيها بين‬
‫ثلث مجموعات كبرى تبعا لمجال استقرارها و هي ‪ :‬الجرمان الغربيون ‪ ،‬و يتألفون من قبائل‬
‫اللمان والسويڨ و الماركومان و الفرنجة‪ .‬و الجرمان الشرقيون ‪ ،‬و يتألفون من قبائل الو ندال و‬
‫القوط و البورغنديين و الل نڭوبارديين‪ .‬و أخيرا الجرمان الشماليون‪ ،‬و يتألفون من جرمان جبال‬
‫اللب و جرمان أقاليم بحر الشمال و جرمان العالم السكندناڨي‪.‬‬
‫كانت كل قبيلة‪ ،‬من مجموع القبائل‪ ،‬تتكون بدورها من مجموعة عشائر تمثل فيها العائلة‬
‫) بالمعنى الواسع للكلمة ( الخلية الساسية‪ .‬و قد كانت تعيش على الزراعة و تربية المواشي و‬
‫القنص و الصيد و الحرب التي كانت من أبرز اهتمامات أفرادها من الذكور‪ .9‬فقد كان محاربو‬
‫إحدى القبائل يشنون غارات على بعض المراكز الواقعة على الحدود مع المبراطورية الرومانية‪.‬‬
‫وأحيانا كان مجموعة محاربين من إحدى القبائل يشنون غارات على قبيلة أخرى‪ .‬فتقع بين أيديهم‬
‫غنائم‪ ،‬وعدد من السرى يبيعونهم كعبيد في السواق الرومانية الواقعة بمحاذاة نهري الراين و‬
‫الدانوب‪ .‬و يحصلون على نقود يصرفونها في شراء سلع ترفيهية و مواد استهلكية من تلك‬
‫السواق‪.‬‬
‫و كان من الطبيعي أن تتزايد حاجياتهم باستمرار‪.‬فترتبت عن ذلك زيادة في غارات القبائل على‬
‫بعضها البعض و ارتفاع في حدة الضغط الذي كانت تمارسه بعض تلك القبائل على أطراف‬
‫المبراطورية الرومانية‪ .‬فدفع هذا الضغط الباطرة و كبار الموظفين الرومان إلى اللجوء إلى‬
‫سياسة تقديم الهدايا العينية و النقدية لرؤساء تلك القبائل و أعيانها و كبار محاربيها‪ 10‬بهدف‬
‫‪ - 6‬كانت غاليا تتكون قبيل سنة ‪ 58‬ق‪.‬م من مجموع القاليم التي تتشكل منها فرنسا اليوم بالضافة إلى القاليم التي تعرف حاليا‬
‫ببلجيكا و أجزاء من شمال ايطاليا و بعض أقاليم ألمانيا‪ .‬وكل هذه القاليم كانت خارج دائرة السيطرة الرومانية باستثناء أقاليم الجنوب‬
‫التي كانت خاضعة للرومان منذ سنة ‪ 121‬ق‪ .‬م‪.‬‬
‫‪ - 7‬يعرف هذا المؤلف في ألوساط الفرنسية باسمين ‪:‬‬
‫‪Commentaires sur la Guerre de la Gaule ou La Guerre des Gaules‬‬
‫و قد اعتمدنا في هذا البحث على نسخة منه نقلها إلى الفرنسية و أعدها للنشر ‪ .Charles Louandre‬و صدرت بباريس سنة ‪1868‬‬
‫عن منشورات ‪) Charpentier.‬تضم هذه النسخة النصان اللتيني و الفرنسي(‪.‬‬
‫‪ - 8‬يتعلق المر بكتاب ‪ Germaniae‬الذي اعتمدنا على نسخة منه حققها و نشرها ‪ Jacques Perret‬تحت عنوان ‪La Germanie‬؛‬
‫و صدرت سنة ‪ 1967‬عن منشورات ‪ Les Belles Lettres‬بباريس‪ .‬و تتضمن هذه النسخة النص اللتيني و ترجمته الفرنسية‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫‪- Jules César,Guerre des Gaules,Op. Cit. Livre IV,pp. 143-144.‬‬
‫‪10‬‬
‫‪- Tacite , La Germanie , Ibid. , p. 73.‬‬

‫‪11‬‬
‫استقطابهم و صرفهم عن شن غارات على القاليم الحدودية‪ .‬و بذلك أخذت تتراكم في حوزة‬
‫هؤلء الرؤساء و العيان و كبار المحاربين ثروات عينية ونقدية‪ .‬أضافوها إلى ما كانوا يحصلون‬
‫عليه من هدايا و أعطيات من لدن اسر القبائل التي كانوا ينتمون إليها بحكم مكانتهم السياسية و‬
‫الجتماعية أو العسكرية‪ .‬بوصف بعضهم رؤساء قبائل‪ ،‬و البعض الخر أعضاء في مجالس‬
‫القدماء ) أو الشيوخ () ‪ (les conseils des anciens‬أو محاربون كبار‪ .‬فأصبحوا متميزين عن‬
‫باقي أفراد القبائل التي ينتمون إليها‪ .‬و شكلوا طبقة أرستقراطية وراثية‪ .‬كما كونوا مجلسا دائما‬
‫) ‪ ( un conseil permanent‬أصبح يمارس السلطة في القبيلة‪ .‬و استطاع بعض أعضاء هذا‬
‫المجلس الرتقاء إلى مصاف الملوك‪ .‬نعرف من بينهم اليوم أسماء أولئك الذين قادوا الجرمان‬
‫إلى اقتحام أقاليم غرب أوربا و شمال إفريقيا أمثال شلدريك الول ) ‪ ( Childéric‬ملك الفرنجة و‬
‫ألريك ) ‪ ( Alaric‬ملك القوط الغربيين و جنسريك ) ‪ ( Genséric‬ملك الو ندال‪.‬‬
‫و كان من تبعات تنامي ثروة أفراد الطبقة الرستقراطية و تميزهم عن سائر الفراد‪ ،‬أن لجأ‬
‫عدد منهم الر استقطاب مجموعات من الشباب أصبحوا يشكلون حاشياتهم‪ .‬فكانوا يحضرون‬
‫اجتماعاتهم و مجالسهم‪ .‬واتخذوهم في نفس الوقت حرسا خاصا لهم‪ .‬يسهرون على حمايتهم و‬
‫حماية ممتلكاتهم و مرافقتهم في تنقلتهم‪ .‬و قد كان كل ارستقراطي يحرص على انتقاء الشباب‬
‫المكونين لحاشيته و حرسه‪ .‬فيشترط أن تكون سمعة الواحد منهم طيبة‪ .‬و أن يكون على دراية‬
‫بفنون الحرب و القتال‪.‬‬
‫و قد تحدث تاسيتوس عن هذه المجموعات من الشباب باسم" الرفقاء ") ‪( les compagnons‬‬
‫قائل في نص تقتضي الضرورة إثباته رغم طوله ‪ (...)":‬إن إحدى سمات النبالة هي أن يحضى‬
‫بعض الفراد برضى بعض الرؤساء‪.‬وهي رغبة بعض الفراد من الشباب أيضا‪ .‬إذ يسعون إلى‬
‫النضمام إلى بعض القوياء‪ .‬و قد كان يتم التعبيرعن هذه الرغبة منذ قديم‪ .‬و إن الفرد ل يخجل‬
‫حين يجد نفسه من بين الرفقاء)‪ (...‬بل إن الرفقاء يتنافسون ليكون الواحد منهم أكثر قربا من‬
‫الرئيس‪ .‬كما يتنافس الرؤساء ليكون للواحد منهم أكبر عدد من الرفقاء‪ .‬انه المجد‪ ،‬إنها القوة أن‬
‫يكون الواحد محاطا دائما بمجموعة كبيرة من أفراد شباب يمثلون الصفوة‪ .‬فهم زينة أوقات السلم و‬
‫حرس أوقات الحرب)‪(...‬إن الحرص عليهم شديد‪ ،‬ومن أجله تقدم لهم العطيات‪ .‬وغالبا ما يكفي‬
‫اسمهم لتحديد نتيجة الحروب‪ .11"...‬و يقول في موضع آخر ")‪(...‬إن الرؤساء يحاربون من أجل‬
‫النصر‪ ،‬أما الرفقاء فيحاربون من أجل رئيسهم"‪ 12.‬و ينتصرون له ظالما أو مظلوما‪.‬‬
‫و مما ل شك فيه‪ ،‬أن النصوص التي يتضمنها مصنف تاسيتوس تأكد المنحى الحربي‬
‫"العسكري" الذي أخذته علقات الرفاقة بين الشباب المحاربين و الملوك و أعيان و رؤساء‬
‫القبائل‪ .‬و ينسجم هذا التطور‪ ،‬فيما يبدو‪ ،‬مع طبائع القبائل الجرمانية المعروفة بميلها إلى الحرب‬
‫و القتال منذ أزمنة غابرة كما يوضح ذلك يوليوس قيصر في مذكراته‪ .13‬و استمرت كذلك زمن‬
‫تاسيتوس؛ الذي يذكر بأن الواحد من أفراد تلك القبائل لم يكن يباشر أمرا خاصا أو عاما إل وهو‬
‫يحمل سلحه‪ .14‬ومهما يكن من أمر‪،‬فإن تاسيتوس الذي خص مسألة الرفاقة بحديث مسهب في‬
‫مصنفه ل يفصح عما إذا كانت تقدم للرفقاء الشباب قطع أرض أم ل؟ و الكيد أن كل أرستقراطي‬
‫كان يسهر على إيواء أفراد المجموعة التابعة له‪ .‬و يقوم بتلبية حاجياتهم من ملبس و مأكل و‬
‫مشرب‪ .‬و يقدم لكل واحد منهم فرسا وقطع السلح التي تتطلبها مهامه كمحارب‪.‬بالضافة إلى‬
‫بعض الهدايا و التحف أو أعداد من العبيد الذين يتم الحصول عليهم بعد كل غارة محلية على إحدى‬
‫القبائل أوغارة على أحد المواقع الرومانية‪.‬و من هذا المنطلق نعتقد أنهم لم يكونوا يستلمون قطعا‬

‫‪11‬‬
‫‪- Ibid. , p. 78.‬‬
‫‪12‬‬
‫‪- Ibid. , p. 79.‬‬
‫‪ - 13‬أنظر الكتاب الرابع من مؤلف يوليوس قيصر ‪La Guerre des Gaules‬‬
‫‪14‬‬
‫‪- Tacite , La Germanie, Op.Cit., p.78.‬‬

‫‪12‬‬
‫أرضية‪ .‬لنهم لم يكونوا في حاجة إلى مصدر عيش‪،15‬و لن مهامهم كانت تقتضي بأن يظلوا‬
‫بالقرب من سيدهم‪.‬‬
‫و يبدو أن هذه الروابط التي تعود إلى ما قبل القرن الثالث استمرت في الوجود و التطور خلل‬
‫القرنين الرابع و الخامس رغم أنه من الصعب تتبع مسارها خلل هذه الفترة نظرا للغموض و‬
‫الضطراب الذي ميزها‪ .‬فقد تردت الوضاع في المبراطورية الرومانية بسبب الفوضى السياسية‬
‫والعسكرية والمصاعب القتصادية و الضطرابات الجتماعية‪ .‬و زادت من تفاقم تلك الوضاع‬
‫عمليات الغزو الجماعي الذي قامت به القبائل الجرمانية‪.‬و من المعطيات الدالة على استمرارها و‬
‫تطورها هو أن بعض الكلمات التي تؤلف اليوم ما يسمى بقاموس الفصالة‪ ،‬مثل كلمة ڤاسو‬
‫) ‪ ( vasso‬و كلمة ڤاسوس ) ‪ ،( vassus‬كانت مستعملة في اللغة اللتينية المتداولة من قبل‬
‫العامة قبل القرن السادس‪ .‬وستدخل ضمن لغة المتن الذي تتألف منه القوانين " الباربارية " ) ‪les‬‬
‫‪ ( lois barbares‬التي أصبحت تنظم المعاملت في الممالك الجرمانية بعد القرن السادس‪،‬و‬
‫خاصة المجموعة المعروفة بالقانون السالي ‪ 16( ( la loi Salique‬و المجموعة المعروفة‬
‫بالقانون الضفي )‪ .17( la loi Ripuaire‬ففي هذه القوانين أصبحت كل من كلمة ڤاسو و كلمة‬
‫ڤاسوس تطلق على العبيد وكذلك على مجموع الفراد المرتبطين عن طريق الولء بأفراد‬
‫آخرين‪ ،18‬أي أتباع‪ .‬و يتضح من خلل القوانين المذكورة بأن هؤلء التباع كانوا أفرادا‬
‫متواضعين من الناحية الجتماعية‪ ،‬و لكنهم كانوا‪،‬خلفا للعبيد‪ ،‬أحرارا من حيث الوضع القانوني‪.‬‬
‫بدليل أن القانونان السالي و الضفي يوضحان بأنهم كانوا يحضرون الجتماعات العمومية ) ‪les‬‬
‫‪ .( plaids‬و من المعلوم أن حضور الجتماعات خلل فترة سيادة الممالك الجرمانية الناشئة في‬
‫أقاليم غرب أوربا‪ ،‬كان مقتصرا على الفراد الحرار‪،‬كيفما كان موقعهم في علقة التبعية‪.‬‬

‫تسمح المعطيات التي أوردناها بتأكيد وجود روابط تبعية قبل القرن الثالث للميلد‪ .‬نشأت في‬
‫أطراف أقاليم غرب أوربا‪ .‬ثم انتقلت في مرحلة لحقة‪ ،‬أي بعد سنة ‪ ، 476‬إلى قلبها‪ .‬فهل معنى‬
‫ذلك أن الفيودالية ذات أصول جرمانية؟ هذا ما نميل إليه رغم أن قلة من الباحثين هم وحدهم الذين‬
‫أثاروا هذه المسألة‪ .‬ومن بينهم الفرنسي فرنسوا ﯕيزو ) ‪ ( Francois Guizot‬الذي يؤكد في‬
‫كتاب صدر له سنة ‪ 1830‬بأنه ليس من المعقول أن تصل الفيودالية إلى مرحلة الكتمال دون أن‬
‫تكون لها مقدمات‪ .19‬و إذ تفادى جعل تلك المقدمات ذات أصول جرمانية أو رومانية‪ ،‬فقد دعا إلى‬
‫رصدها من خلل البحث في ثلثة عناصر‪ .‬أولها طبيعة الملكية الترابية و ثانيها انصهار السيادة‬
‫مع ملكية الرض و ثالثها منظومة المؤسسات التشريعية و القانونية و العسكرية‪ .20‬أما النجليزي‬
‫سير فرنسيس بالغريب ) ‪ ( Francis Palgrave‬فقد كان أكثر وضوحا حين ذهب إلى التأكيد‬
‫بأن بعض عناصر الفيودالية ذات أصول جرمانية‪ .‬حملها الجرمان معهم من أدغال جرمانيا‪.‬‬

‫‪ -15‬هذا ما يفهم من حديث مارك بلوك) ‪ ( Marc Bloch‬حين يذكر في معرض حديثه عن الروابط خلل هذه الزمنة بأنه كانت تفوح‬
‫منها رائحة "خبز الدار")‪ (le pain de ménage‬أنظر في هذا الصدد كتابه ‪:‬‬
‫‪La Société Féodale, Paris, Albin Michel, 1968, pp.233-249 et p.259.‬‬
‫‪ -16‬يمثل القانون السالي مجموعة العراف التي كانت تحتكم إليها مجموعة من قبائل الفرنجة‪ .‬و فد تم تدوينها بين سنتي ‪ 507‬و ‪511‬‬
‫على عهد كلوڤيس )‪ ( Clovis‬أول ملوك الفرنجة في غاليا أو)غالة(‪ .‬فأخذت شكل مدونة قوانين مؤلفة من ‪ 65‬بندا على شكل فقرات‬
‫متفاوتة الطول‪ .‬ثم خضعت لعمليات تكملة و تنقيح عدة مرات بين سنتي ‪ 511‬و ‪ 533‬و بين سنتي ‪ 567‬و ‪ 593‬ثم بين سنتي ‪ 763‬و‬
‫‪ . 764‬و تم تصحيحها أخيرا سنة ‪ .798‬و صدرت بعد تحقيق نصها في عدة طبعات من بينها طبعة ‪ 1828‬التي تضم مجموعة القوانين‬
‫السالية و مجموعة القوانين الضفية باللغتين اللتينية و الفرنسية في كتاب واحد تحت عنوان ‪:‬‬
‫‪Lois des Francs (contenant la loi Salique et la loi Ripuaire), texte traduit et annoté par Jean‬‬
‫‪François-‬‬
‫‪Aimé Peyré , Paris, Imprimerie de Firmin Didot, 1828.‬‬
‫‪ - 17‬نسبة إلى مجموعة قبائل من الفرنجة كانت مستقرة قبيل عمليات الغزو بمناطق محاذية لنهر الراين‪ .‬فسموا بالفرنجة الضفيين ) ‪les‬‬
‫‪( Francs Ripuaires‬‬
‫‪ - 18‬أنظر الفقرة ‪ ، 35‬البند ‪ 6‬من القانون السالي ضمن الكتاب المشار إليه في الهامش السابق‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫‪- Francois Guizot , Histoire de la civilisation en France depuis la chute de l’Empire romain,(3 éme‬‬
‫‪édition), Paris, Victor Masson, 1851, Tome III, p.227.‬‬
‫‪20‬‬
‫‪- Ibid. pp.230-231.‬‬

‫‪13‬‬
‫ومن بين تلك العناصر الولء ) ‪ ( l’hommage‬الذي يتم التعبير عنه عمليا بانحناء شخص أمام‬
‫شخص آخر و وقوفه على الركبتين و قول بترديده لعبارة " أريد أن أصبح رجلك "‪ .21‬أما قطب‬
‫المدرسة التاريخية الفرنسية المعاصرة مارك بلوك فقد نعت مسألة الصول بكونها " معضلة "‬
‫يصعب الحسم فيها‪ .‬و اكتفى في موضوعها ببضعة أسطر‪ .‬أبان فيها عن ميله إلى اعتبار أصول‬
‫الفيودالية جرمانية‪ -‬رومانية في نفس الوقت‪ .‬امتزجت مع مرور الزمن‪ 22.‬و على غراره ذهب‬
‫‪23‬‬
‫روبير بوتريش ) ‪ ( Robert Boutruche‬إلى القول بثنائية الصول حيت أكد بأن " الفصالة "‬
‫نشأت من جراء قيام أفراد الرستقراطية في مختلف الممالك الجرمانية الناشئة بإحياء علقات‬
‫الرفاقة ) الجرمانية) وعلقات الذعان و التضرع ) ‪ ( la recommandation‬التي كانت‬
‫منتشرة في ربوع المبراطورية الرومانية خلل المرحلة المتأخرة من عمرها‪.24‬‬
‫و تعقيبا على ما ذهب إليه بوتريش‪ ،‬نوضح بأن علقات الذعان و التضرع قامت بين بعض‬
‫الفراد الثرياء من الرستقراطية الرومانية و كبار الموظفين‪ .‬و أخذت طابع الزبونية و تبادل‬
‫المصالح‪ .‬بينما كان أفراد آخرين من متوسطي الحال أو من الفقراء يضعون أنفسهم رهن إشارة‬
‫أولئك الثرياء و كبار الموظفين لخدمتهم و النخراط في زمرتهم نظير الحصول منهم على ما‬
‫يسد رمقهم‪ .‬و لكنها لم تأخذ في كل الحوال ذلك المنحى الحربي الذي أخذته علقات الرفاقة‪ .‬لن‬
‫المبراطورية الرومانية‪ ،‬حتى تاريخ سقوطها‪ ،‬ظلت " دولة مؤسسات " كانت فيها أمور حفظ‬
‫المن الداخلي و خوض الحروب موكولة لمؤسسات وأجهزة رسمية‪ ،‬أبرزها الجيش النظامي‪ .‬و‬
‫بالتالي‪ ،‬فان أفراد الرستقراطية الرومانية لم يكونوا في حاجة إلى تكوين " مليشيات عسكرية "‬
‫مسخرة لحمايتهم‪ .‬و لكن ل بأس من التنبيه في هذا المقام بأن العادة جرت في جميع وليات‬
‫المبراطورية بأن يحيط كل واحد من أفراد الرستقراطية نفسه بحاشية من التباع و الصدقاء و‬
‫"الزبائن" و من ضمنهم بعض أفراد الحرس الخاص‪.‬و ل شك أن هذا الجراء الخير أخذ في‬
‫الستشراء بموازاة تفاقم الوضاع المنية خلل المراحل المتأخرة من عمر المبراطورية‪.‬‬
‫و مهما يكن من أمر‪،‬فان روابط التبعية لم تكن قائمة على الفيف خلل هذه المرحلة الولى من‬
‫مسيرة الفيودالية حسب الفادات التي تقدمها النصوص المتوفرة‪ .‬كما أن تلك الروابط كانت تتم في‬
‫نطاق محدود نسبيا‪ ،‬على اعتبارأن المعنيين بها كانوا نفرا من علية القوم و مجموعة شباب يسعون‬
‫لتحسين أوضاعهم الجتماعية‪ .‬ويطمحون لتحقيق المجد من خلل استغلل شجاعتهم و مقدراتهم‬
‫القتالية‪.‬‬
‫و لكن يجب التذكير في هذا المقام بمقولة " أول الغيث قطرة "‪ .‬فهذه الروابط كانت في‬
‫بداياتها‪ .‬و بما أن حالة عدم استقرار الوضاع المنية استمرت بعد سنة ‪ 476‬على امتداد عدة‬
‫قرون‪ ،‬فقد استدعى المر من أفراد الرستقراطية البحث المتواصل عن سند حرصا على ذواتهم و‬
‫على ممتلكاتهم‪ .‬و كان من تبعات ذلك أن اتسع نطاق تلك الروابط كما سنرى لحقا‪ .‬و ل بأس من‬
‫التذكير بأن علقات التضرع و الذعان استمرت هي الخرى في خط موازي مع علقات‬
‫الرفاقة‪ .‬فالوضاع السياسية المتردية و الظرفية القتصادية الصعبة ظلت تدعو الغنياء إلى‬
‫البحث عن سند و الفقراء إلى البحث عمن يحميهم و يلبي حاجياتهم‪.25‬‬

‫الفصل الثاني ‪ :‬من علقات الرفاقة إلى علقات الفصالة‬

‫‪21‬‬
‫‪- Francis Palgrave, History of the Anglo – Saxons, London, William Tegg , 1869, p. 211.‬‬
‫‪22‬‬
‫‪- Marc Bloch , La Société féodale , Op.Cit. ,pp. 213-214. -‬‬
‫‪ - 23‬أي العلقات التي سادت خلل ما سميناه بالمرحلة الثانية من مسيرة الفيودالية‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫‪- Robert Boutruche , Seigneurie et Féodalité, Paris, Aubier, 1975, Tome I ,p.166.‬‬
‫‪ - 25‬اكتفينا في هذا المقام بذكر الوضاع السياسية و القتصادية دون ذكر اعتبارات أخرى أسهمت بدورها في تفعيل تلك العلقات ومن‬
‫بينها المواقف الذهنية السائدة‪ .‬فالغنياء‪ ،‬وهم أيضا القوياء‪ ،‬بقدر ما كانوا يبحثون من وراء علقات الذعان و التضرع عن السند‪،‬فقد‬
‫كانوا ينشدون أيضا القيادة و تحقيق الشهرة‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫تميزت الممالك الجرمانية بكونها لم تكن دول مؤسسات قوية ومتطورة كما كان المر خلل‬
‫سيادة المبراطورية الرومانية‪ .‬لن السلطة فيها ظلت منذ عهد الملوك الوائل‪ ،‬و على امتداد‬
‫حوالي ثلثة قرون‪ 26،‬تختزل في شخص الملك الذي كان قائد حرب في المقام الول‪ .‬يعتبر‪ ،‬طبقا‬
‫لتقليد جرى العمل به منذ عهود قديمة‪ ،‬الكيان الذي يخضع لسلطته بمثابة غنيمة تمت حيازتها بعد‬
‫النصر‪ .‬يتصرف فيها كيفما شاء‪ ،‬ثم يقسمها على أبنائه قبيل وفاته‪ .‬و لذلك فان " الرجالت " الذين‬
‫كانوا يساعدون الملك في إدارة و تدبير " الغنيمة " كانوا بمثابة خدام أكثر من كونهم موظفي دولة‪.‬‬
‫لم يتعد فعلهم و تأثيرهم حدود دائرة ضيقة‪ .‬و من ثم‪ ،‬ظلت القاليم البعيدة عن القصر‪ ،‬الذي يمثل‬
‫المركز‪،‬بمنأى عن تأثير الملك و خدامه‪ .‬وهذا ما يؤكده روبيرفوصيي) ‪ ( Robert Fossier‬حين‬
‫يذكر بأن عدم فعالية المؤسسات و الجهزة في مملكة الفرنجة بغالة‪ ،‬كما في مملكة القوط الغربيين‬
‫باسبانيا أو في مملكة اللومبارديين بايطاليا دفع بعض كبار الملكين العقاريين‪ ،‬بمن فيهم كبار‬
‫رجال الدين‪ ،‬إلى الستعانة بعدد من فرق العبيد الذين كانوا في ملكيتهم و بمجموعات من الشباب‪.‬‬
‫إذ كانوا يسهرون على إيوائهم و إعالتهم و تزويدهم بالسلح نظير القيام بحراسة ممتلكاتهم‪ .27‬و‬
‫قد كانت مهام هؤلء المسلحين تتجاوز حدود الحراسة إلى المشاركة في أي اشتباك قد يقع بين‬
‫المالك العقاري الرستقراطي و أحد جيرانه‪ .‬و كذلك النخراط ‪ ،‬تحت إمرة سيدهم‪ ،‬في الحروب‬
‫الدفاعية أو الهجومية التي تخوضها المملكة‪ .‬و يكتسي هذا المعطى أهمية كبرى نظرا لما سيترتب‬
‫عنه مستقبل من نتائج فيما يخص علقة " الدولة " بظاهرة الفيودالية‪ ،‬لذلك سنتوقف عنده قليل‪.‬‬
‫فقد كانت الحروب من الثوابت التي رافقت تاريخ الممالك الجرمانية منذ مراحل تأسيسها‪ .‬حتى‬
‫إن إحدى الباحثات ذهبت إلى القول بأن فترات السلم خلل مرحلة سيادة الممالك الجرمانية كانت‬
‫بمثابة الفاصل بين مشهدين في عرض مسرحي‪ .‬و مع ذلك‪ ،‬فان ذلك الفاصل لم يكن مرغوبا‬
‫فيه‪ 28.‬و يبدو أن هذا القول ينطبق أيضا على الفترات التاريخية التي تلت مرحلة سيادة الممالك‬
‫الجرمانية حسب خلصة انتهت إليها باحثة أخرى‪ 29.‬و دون استعراض كرونولوجية الحروب التي‬
‫خاضتها هاته المملكة أو تلك‪ ،‬يمكن التمييز فيها بين ثلثة أشكال ‪ :‬حروب توسعية‪ ،‬و حروب‬
‫دفاعية‪ ،‬و حروب ناتجة عن نزاع بين أفراد إحدى السر المالكة أو بين السرة الحاكمة في مملكة‬
‫من الممالك و بعض العناصر المتمردة على السلطة‪ .‬بالضافة إلى شكل آخر أشرنا إليه سابقا‪ ،‬و‬
‫إن لم يكن يعني القائمين على المرمباشرة‪ ،‬تمثل في الحروب الخاصة )‪( les guerres privées‬‬
‫بين بعض السر الرستقراطية داخل المملكة الواحدة‪ .‬و في جميع الحوال كانت وقائع تلك‬
‫الحروب كثيرة‪ .‬و كانت تتطلب التوفر على موارد بشرية هائلة و متجددة باستمرار؛ و هو المر‬
‫الذي لم يكن من السهولة بمكان لعتبارات ديموغرافية‪ 30‬و اقتصادية‪ .31‬و من ثمة‪ ،‬تتضح صحة‬
‫ما ذهب إليه مارك بلوك منذ ثلثينيات القرن الماضي حين أكد بأن التحدي الكبرالذي كان على‬
‫القائمين على المر رفعه لم يكن متصل بمسألة تدبير شأن ممالكهم أوقات السلم‪ ،‬بقدر ما كان‬
‫يتمثل في كيفية الحصول على العناصر البشرية اللزمة لخوض الحروب‪ .32‬لذلك كانوا يستنفرون‬
‫عند كل وقعة كل الذكور الحرار القادرين على حمل السلح‪ .‬كما كانوا يستعينون بخدمات أفراد‬

‫‪ -26‬أي منذ سقوط المبراطورية الرومانية سنة ‪ 476‬و حتى بداية حكم شارلمان سنة ‪ ،768‬الذي سيسعى إلى القيام بسلسلة إصلحات‬
‫إدارية و قضائية و اقتصادية للرقي بمستوى المؤسسات‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫‪- Robert Fossier, Histoire sociale de l’Occident médiéval, Paris, Armand Colin, 1970, p.98.‬‬
‫‪28‬‬
‫‪- Colette Beaune, Le miroir du pouvoir, les manuscrits des rois de France au Moyen Age, Paris,‬‬
‫‪Bibliothèque de l’image, 1997, p.95.‬‬
‫‪29‬‬
‫‪- Hélène Débax, La féodalité languedocienne XIe-XIIe siècles. Serments, hommages et fiefs dans le‬‬
‫‪Languedoc des Trencavel, Toulouse, Presses Universitaires du Mirail, 2003, p.234.‬‬
‫‪ - 30‬كانت أعداد سكان أقاليم غرب أوربا قليلة منذ سنة ‪ 476‬حتى مطلع القرن التاسع؛ حيث بدأت تلك القاليم تشهد بداية نمو‬
‫ديموغرافي سيتضح أكثر بعد حوالي سنة ‪ .1000‬و تعزى تلك القلة لسباب بشرية و طبيعية‪ ،‬من بينها الحروب و النتفاضات‬
‫الجتماعية و الوبئة والمجاعات‪.‬‬
‫‪ - 31‬تتمثل هذه العتبارات في تدهور مختلف النشطة و ندرة السيولة النقدية لدفع مرتبات الجند‪ .‬فضل عن كون تكاليف إعداد الفارس‬
‫الواحد كانت باهضة‪ .‬فالفرس لوحده كان سعره خلل القرن السابع يبلغ ثلث مرات ضعف سعر الثور‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫‪- Marc Bloc, La société féodale, Op.Cit., pp.217-218.‬‬

‫‪15‬‬
‫الرستقراطية الذين كانوا يعززون " جيوش الملوك " بما كان تحت إمرتهم من عناصر مسلحة‪ .‬و‬
‫سيزداد المر حدة في الممالك التي أصبحت محاذية لمراكز الوجود السلمي في أوربا بعد أن‬
‫نجح المسلمون في فتح الندلس سنة ‪ 711‬و شرعوا في عبور جبال البرانس‪ .‬و أهم الممالك التي‬
‫نعنيها في هذا المقام مملكة غاليا ) أو غالة ( التي كان يحكمها شارل‪ 33‬محافظ قصر أوسترازيا‬
‫إبان فترة أوج الفتوحات السلمية في أوربا بعد سنة ‪ .711‬فقد شرع في استنفار جميع من له قدرة‬
‫على حمل السلح‪ .‬بل فكر جديا في استحداث فرق من المحاربين تمتطي صهوات الخيول بعد أن‬
‫كان معظم محاربي المملكة من المشاة‪34‬؛ في حين كان المسلمون يعتمدون غي حروبهم على‬
‫الفرسان إلى جانب المشاة‪ .‬وفي هذا الصدد‪ ،‬يفيدنا أحد إخباريي القرن الثامن‪ ،35‬بأن شارل نجح‬
‫بعد سنة ‪ 716‬في تكوين فرق من الفرسان انضمت إلى صفوف خاصة محاربيه) حرسه الخاص (‬
‫الذين كانوا مرتبطين بقائدهم شارل بعلقات تبعية و ولء‪ .‬و كان المحاربون العاملون تحت إمرة‬
‫أفراد الرستقراطية يعززون هذا الجيش؛ بالضافة إلى كل من له قدرة على حمل السلح‪ .‬و قد‬
‫حقق انتصارات كاسحة في جميع الوقائع التي خاضها ضد السكسونيين) ‪ ( les Saxons‬و اللمن‬
‫) ‪ ( les Alamans‬و الفريزيين ) ‪ .( les Frisons‬و تمكن من إيقاف المد السلمي في وقعة‬
‫بواتيي ) ‪ ) ( Poitiers‬بلط الشهداء ( سنة ‪ .732‬ثم اتجه نحو الجنوب حيث استرد أقاليم أكيتانيا‬
‫و بورغونديا و بروﭬانسيا‪ .‬و استكمل بذلك وحدة غالة‪.‬‬
‫و أهم ما في المر‪،‬هو أن القائمين على المر في غالة بدوا ‪ ،‬منذ عهد شارل مارتل‪ ،‬أكثر‬
‫اقتناعا من أي وقت مضى بمدى ثقل الرستقراطية على المستويين العسكري و السياسي ‪ ،‬فارتأوا‬
‫الستمرار في تسخيرها لتحقيق مشاريعهم‪ .‬و لذلك أخذوا يغضون الطرف عن إجراءات أفراد‬
‫الرستقراطية الذين ظلوا يدينون بالولء للقائمين على المر و لممثليهم في مختلف القومطيات؛ و‬
‫لكنهم لم ينفكوا في نفس الوقت يعملون على توسيع نطاق شبكة علقات التبعية التي سبق أن أرسى‬
‫قواعدها آباؤهم و أجدادهم منذ أمد بعيد‪ .‬و كان من نتائج سياسة غض الطرف أن أصبحت‬
‫لجراءات أفراد الرستقراطية شيئا فشيئا تداعيات في دائرة كل قرية تقع بها ممتلكات هذا‬
‫الرستقراطي أو ذاك‪ .‬تجلت تلك التداعيات في كون عموم الفلحين المقيمين في تلك القرى‬
‫أصبحوا يخضعون أكثر للقوة التي يلمسون وقعها و ليس لتلك التي يشعرون بصداها‪ .‬و هذا أمر‬
‫طبيعي إذا علمنا بأن القوة اقترنت في جميع المجتمعات و منذ فجر التاريخ بالثروة‪ .‬فالذي يملك‬
‫الثروة يملك القوة‪ .‬فيتقرب له من هم أنداده أو القل منه ثروة و يذعن له المستضعفون‪.36‬‬
‫و من ثم‪ ،‬فان تلك الجراءات ذات الطابع الحربي‪،‬و ما استتبعها من علئق‪ ،‬أخذت تتبلور و‬
‫تترسخ أكثر فأكثر في ربوع قرى غرب أوربا على حساب علقات التضرع و الذعان ) ‪la‬‬
‫‪ ( recommandation‬التي ضاق نطاق استعمالها دون أن تختفي بصورة نهائية ‪ ،‬طالما أن نسبة‬
‫‪ - 33‬هو شارل ابن ببين هرسطال) ‪.( Héristal‬ولد حوالي سنة ‪ 688‬وتوفي سنة ‪ .741‬كان دوقا لمقاطعة أوسترازيا‪ .‬ثم أصبح‬
‫محافظا لقصرها بين سنتي ‪ 737‬و ‪ .741‬و بما أن الملوك المنتمين للسرة الميروﭬنجية الذين تعاقبوا على حكم غالة منذ سنة ‪638‬‬
‫كانوا ضعاف الشخصية أو صغار السن‪ ،‬فان محافظي القصور هم الذين كانوا بمثابة ملوك فعليين‪ .‬و قد برز من بينهم محافظو قصر‬
‫أوسترازيا ‪ :‬ببين هرسطال ثم ابنه شارل الذي لقب بشارل مارتل ) ‪ ) (Charles Martel‬أي شارل المطرقة( بعد وقعة بواتيي أو بلط‬
‫الشهداء‪.‬‬
‫‪ - 34‬يجب أن ننبه في هذا المقام بأن الممالك الجرمانية لم تكن تتوفر على جيوش نظامية كما كان المر خلل سيادة المبراطورية‬
‫الرومانية‪ ،‬لذلك كان الملوك يستنفرون عند كل حرب الذكور الحرار القادرين على حمل السلح‪ .‬كانوا ينظمون على شكل فرق من‬
‫المشاة‪ .‬أما الفرسان المشاركون في تلك الحروب فكانوا يتألفون أساسا من الفرسان العاملين تحت إمرة أفراد الرستقراطية والفرسان‬
‫التابعين للملوك‪ .‬و يمثلون حرسهم الخاص ) ‪ .( les antrustions‬و سيتزايد عدد الفرسان المحاربين تحت إمرة الملوك بعد إصلحات‬
‫شارل العسكرية‪.‬‬
‫‪ -35‬يتعلق المر بمؤرخ مغمور يدعى فريدﯕير)‪ .(Frédégaire‬ينتمي لمنطقة بورغونديا و عاش معظم حياته في مقاطعة أوسترازيا‪.‬‬
‫وضع مصنفا سنة ‪ 660‬يتناول الحداث منذ بدء الخليقة حتى حوالي ‪ .642‬و من ضمنها الحداث التي شهدتها ممالك كل من الفرنجة و‬
‫اللومبارديين و القوط الشرقيين و الغربيين‪ .‬ثم تعاقب على استكمال نص الكتاب ثلثة إخباريين مددوا الفترة التي يتناولها حتى حدود‬
‫سنة ‪ .768‬تم تحقيق و ترجمة هذا المصنف المؤلف من عدة نسخ إلى مختلف اللغات الوربية‪ .‬و قد اعتمدنا في هذا البحث على ترجمة‬
‫فرنسية أنجزها فرانسوا ﯕيزوت )‪ (François Guizot‬وصدرت بباريس سنة ‪ 1823‬ضمن منشورات ‪ J.-L.-J. Brière‬في كتاب‬
‫يتضمن مؤلف غريغوار أسقف مدينة تور )تاريخ الفرنجة( و مؤلف فريدﯕير )إخبارية( )‪ (Chronique‬تحت عنوان ‪:‬‬
‫‪Collection des Mémoires relatifs à l’histoire de France‬‬
‫‪ -36‬و من هنا نفهم لماذا تنعت النصوص الرستقراطي بالقوي )‪ (Potentat‬و المسيطر) ‪ .(Dominus‬و من هنا الفعل الفرنسي سيطر‬
‫)‪. (dominer‬‬

‫‪16‬‬
‫كبيرة من أفراد مجتمع غرب أوربا كانت تعيش في حالة إملق‪ .‬و لذلك‪ ،‬فان عددا منهم ظلوا‬
‫يضعون أنفسهم رهن إشارة متوسطي الحال و الغنياء لخدمتهم ‪ ،‬أو فقط لستجدائهم و الحصول‬
‫منهم على ما يسد رمق أفراد أسرهم‪.‬‬
‫و يؤكد روبير بوتريش غلبة العلقات ذات البعد الحربي )العسكري(‪ ،‬مستدركا في ذات الوقت‬
‫موقفه السابق بخصوص ثنائية أصل الفيودالية في قوله ‪ ":‬المحصلة النهائية هي أن الفصالة ‪،‬في‬
‫معناها الحقيقي ‪،‬نشأت في أوساط المحاربين وفق مقتضيات ستتضح و ستتبلور أكثر مستقبل‪ .‬و‬
‫ستفضي في ذات الوقت إلى إرساء التزامات أكثر تخصصا ستلقي بضللها على علقات التضرع‬
‫و الذعان"‪.37‬‬
‫و يبدو أن موعد أجرأة مقتضيات الفصالة لم يتأخر كثيرا‪ .‬فالملوك الجرمان الوائل في غالة و‬
‫في الممالك الخرى كانوا يغضون الطرف عن مختلف أشكال علقات التبعية‪ .‬ولكن ملوك ما بعد‬
‫العقد الثالث من القرن الثامن أصبحوا منخرطين في تفعيلها‪ .‬و يعني هذا النخراط في أعين بعض‬
‫الباحثين‪ 38‬نجاح الرستقراطية في الهيمنة على " المؤسسة الملكية " في تلك الممالك‪.‬‬
‫و تمثل سنة ‪ 757‬لحظة حاسمة في هذا التجاه‪ .‬وقعت أحداث تلك اللحظة في غالة أكبر‬
‫الممالك الجرمانية و " مهد الفيودالية "‪ .‬و أورد اينهارد أو ايجنهارد ) ‪ 39( Eginhard‬تفاصيلها‬
‫في " حولياته " ضمن أحداث سنة ‪ 757‬كما يلي ‪ ":‬كان الملك ببين )‪ 40(Pépin‬يرأس جمعا ببلدة‬
‫كومين ) ‪[( Commynes ou Compiègne‬في أحد أيام تلك السنة] فقدم تسلون ) ‪( Tassilon‬‬
‫دوق )‪ (Duc‬بﭬاريا‪ .‬و مثل بين يدي الملك و قدم له الولء عن طريق لف اليدين‪ .‬ثم وضع يده‬
‫على الكتاب المقدس و أقسم اليمين بأن يصبح تابعا للملك و ابنيه السيد شارل و السيد كارلومان‪ .‬و‬
‫هذا ما يتوجب أن يقوم به بتفان و إخلص كل فصل لسادته‪ .‬و قام أعيان بﭬاريا الذين قدموا مع‬
‫تسلون بدورهم بتأدية فروض الطاعة والولء "‪.41‬‬
‫يكتسي النص من دون شك أهمية قصوى لكونه يتضمن معطيات ذات قيمة بالغة في تاريخ‬
‫الفيودالية‪ .‬و لذلك يستوجب إبداء الملحظتين التيتين ‪:‬‬
‫أول ‪ :‬يسجل النص نقلة نوعية في طبيعة علقات التبعية‪ ،‬و خاصة فيما يتعلق بأطرافها‪ .‬فقد‬
‫كانت علقات الرفاقة تربط منذ ما قبل القرن الثالث بين مجموعة محاربين و أحد أعيان أو‬
‫رؤساء القبائل الجرمانية أو أحد كبار محاربيها‪ .‬و استمرت حتى سنة ‪ 476‬تاريخ سقوط‬
‫المبراطورية الرومانية كما رأينا من قبل‪ .‬ثم أصبحت تربط بين أحد أفراد الشريحة العليا في‬
‫الرستقراطية العقارية و مجموعة محاربين حتى سنة ‪ .757‬و سيستمر هذا النوع من الروابط‬
‫وفق مقتضيات جديدة‪ .‬و لكن سنة ‪ 757‬تسجل بداية دخول أطراف جديدة سامية في شبكة علقات‬
‫التبعية‪.‬و نعني بهذه الطراف الملوك و كبار رجالت الممالك من أقماط و دوقات و غيرهم‪ .‬كان‬
‫لكل واحد منهم أتباع‪ .‬و لكن بعد هذا التاريخ أصبح بعضهم تابعا للبعض الخر‪ .‬و كلهم أتباع للملك‬
‫أو لمحافظي القصور الذين أصبحوا ملوكا دون أن تتم تسميتهم كذلك‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬يقدم النص صورة عامة عن المراسيم التي أخذت تتم فيها علقات الفصالة‪ ،‬و التي ستتم‬
‫فيها الروابط الفيودو‪ -‬فصلية بعد ذلك‪ .‬كما يتحدث عن أهم المقومات التي سيرتكز عليها هذا‬
‫‪37‬‬
‫‪- Robert Boutruche, Seigneurie et féodalité, Op.Cit. Tome I, p.170.‬‬
‫‪ - 38‬أنظر على سبيل المثال ما يذكره ميشال كابلن )‪ (Michel Kaplan‬حول الموضوع في كتابه ‪:‬‬
‫‪Histoire médiévale, Tome I, Le Moyen Age IVe-Xe siècles, Paris, Boréal, 1994, p.168.‬‬
‫‪ -39‬يعتبر من أشهر إخباريي غالة‪ .‬ولد حوالي سبة ‪ 770‬أو ‪ 775‬و توفي سنة ‪ .840‬ينحدر من أسرة نبيلة‪.‬تلقى تعليمه الولي بمنستير‬
‫فولدا )‪ (Fulda‬شرق غالة‪ .‬و أبان عن فطنة ونباهة منذ نعومة أظافره‪ ،‬فتم إرساله سنة ‪ 791‬إلى المدرسة الملكية الملحقة بقصر‬
‫شارلمان لستكمال تعليمه‪ .‬و ظل بالقصر‪،‬حيث قربه شارلمان منه و أصبح من خاصته‪ .‬و عينه كاتبا خاصا له و"وزيرا"‪.‬‬
‫نظم مجموعة قصائد و وضع عدة مؤلفات أشهرها عمل "بيوغرافي"حول شخص شارلمان يعرف ب"حياة شارلمان")‪Vita‬‬
‫‪ (Karoli‬و كتاب الحوليات) ‪ (Annales‬الذي يشك بعض الباحثين في نسبته ليجنهارد‪.‬‬
‫‪ -40‬هو ببين ابن شارل مارتل‪ .‬يعرف ببيبن القصير نظرا لقصر قامته‪ .‬ولد حوالي سنة ‪ 715‬و توفي سنة ‪ .768‬شغل منصب محافظ‬
‫قصري كل من نوستريا و أوسترازيا بمملكة غالة بين سنتي ‪ 741‬و ‪ .751‬ثم أقصى آخر الملوك الميروﭬنجيين و أصبح ملكا لمملكة‬
‫غالة منذ سنة ‪ 751‬حتى تاريخ وفاته‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫‪- Éginhard, Annales,Texte traduit et édité par François Guizot dans Collection des Mémoires relatifs à‬‬
‫‪l’histoire de France, Paris, J.-L.-J., Librairie, 1824, pp. 6-7.‬‬

‫‪17‬‬
‫النوع من الروابط خلل المرحلة الثالثة من مسيرة الفيودالية‪ .‬و تتمثل هذه المقومات في الولء‬
‫الذي يقدمه الفصل‪ ،‬و عملية وضع يديه ملفوفتين بين يدي السنيور)‪،(la dation‬وعملية أداء القسم‬
‫باستعمال أشياء أو بقايا مقدسة ) ‪.( les Reliques‬‬
‫و انطلقا من هاتين الملحظتين تبدو التطورات التي يتحدث عنها النص مفاجئة و مثيرة‬
‫للدهشة‪ .‬إذ ل يعقل أن تأخذ علقات الفصالة هذا الطابع الرسمي؛ و تتم مباشرتها في هذه الجواء‬
‫بدءا من سنة ‪ 757‬دون مقدمات‪.‬‬
‫و توضيحا للمر نذكر بمعطى أوردناه في مقدمة هذا المبحث و هو أن " رجالت الدولة " في‬
‫الممالك الجرمانية كانوا بمثابة خدام للملوك‪ .‬عدد منهم كانوا خداما " مدنيين " يؤلفون حاشية‬
‫الملك و خاصة أقربائه‪ .‬و عدد آخر كانوا خداما " عسكريين "‪ .‬يتشكلون من الحرس و يمثلون‬
‫صفوة حملة السيف‪ .‬يقيم هؤلء الحراس بجانب الملك‪ .‬يسهرون على حمايته أوقات السلم و‬
‫يخوضون إلى جانبه الوقائع أيام الحرب‪ .‬يتمتعون بحظوة خاصة لدى الملك‪ .‬تتضح إذا علمنا بأن‬
‫أحد بنود القانون السالي المنظم للعلقات و المعاملت في مملكة غالة الميروﭬنجية كان يقضي بأن‬
‫يدفع قاتل أحد هؤلء الحراس ذعيرة يفوق مبلغها ثلث مرات مبلغ الذعيرة التي يدفعها الجاني إذا‬
‫تعلق المر بمقتل " مواطن "؛حتى و إن كان هذا " المواطن " إفرنجيا ) ‪ ( un franc‬أو أحد‬
‫البرابرة ) ‪.42( un barbare‬‬
‫و الجدير بالذكر أن هؤلء الحراس‪ ،‬الذين كانوا صفوة حملة السيف كما ذكرنا آنفا‪ ،‬كانوا‬
‫يمثلون أيضا نخبة خدام الملك‪ .‬كانت تربطهم به علقات تبعية تقوم على الولء ) ‪(la fidélité‬‬
‫والقسم الذي يؤديه الواحد منهم بعد أن يضع يديه ملفوفتين بين يدي الملك‪ .‬و يجمع عدد من‬
‫الباحثين‪ 43‬بأن هذه العلقات‪ ،‬بمختلف مقوماتها و الطقوس التي كانت ترافقها‪ ،‬ورثها ملوك‬
‫القرنين السادس و السابع عن الجداد و السلف‪ .44‬و نفس علقات التبعية هاته أصبحت تربط‬
‫بين الملوك و خدامهم " المدنيين " كمحافظي القصور و القماط و الدوقات و كبار رجال الدين و‬
‫كبار الملكين العقاريين بعد تأسيس الممالك الجرمانية‪ .‬كانت تقوم هي الخرى على الولء و‬
‫القسم‪ ،‬و وضع الخادم )أي التابع( يديه ملفوفتين بين يدي الملك‪ .‬و الجديد في الطقوس المصاحبة‬
‫لهذه العلقات هو أن القسم أصبح يعتمد في أدائه على الكتاب المقدس الذي يضع التابع يده عليه‪.‬‬
‫و قد أدرج كعنصر جديد بعد أن تبنت الممالك الجرمانية المسيحية كديانة رسمية‪ .45‬و سيتواصل‬
‫العمل بهذه الطقوس خلل القرون الموالية‪ .‬و سينضاف عنصر جديد إلى العناصر المكونة لها‬
‫بعد مطلع القرن الحادي عشر و هو عملية تقديم السنيور حفنة تراب أو غصن شجرة صغير‬
‫مورق للفصل دليل على تقديم الفيف‪.‬‬
‫و نذكر بأن غياب هذا العنصر بالنسبة للباحثين الذين ينكرون وجود فيودالية قبل مطلع القرن‬
‫الحادي عشر‪ ،‬يعني غياب الفيف كعنصرمادي في علقات التبعية وغيابه كمصطلح في نصوص‬
‫ما قبل سنة ‪ .1000‬و نحن إذ نقر بدورنا بما يذهبون إليه‪ ،‬نؤكد في المقابل بأن الرض كانت‬
‫حاضرة في علقات الفصالة و لو على نطاق ضيق نسبيا‪ .‬كيف ذلك ؟‪.‬‬
‫لقد كانت علقات الرفاقة تقوم على عطاء كان يقدمه السيد للرفيق كما ذكرنا فيما مضى‪.‬‬
‫تمثل في المأوى و المأكل والمشرب و السلح و الحصان‪ .‬و ظل نفس العطاء يمثل محور‬
‫‪ -42‬ينص القانون السالي في البند الول من الفقرة )أو المادة( ‪ 43‬على أنه إذا قتل أحدهم إفرنجيا أو أحد البرابرة يلزم بدفع غرامة‬
‫قدرها ‪ 8000‬دنير ) ‪ (deniers‬أو ‪ " 200‬فلس")‪ (sous‬من ذهب‪ .‬بينما بنص البند الرابع من نفس الفقرة )أو المادة( على أنه إذا قتل‬
‫أحدهم حارسا من حراس الملك )‪ (membre de la Truste‬يلزم بدفع غرامة قدرها ‪ 24000‬دنير أو ‪" 600‬فلس" من ذهب‪ .‬أنظر‬
‫الصفحة ‪ 149‬من القانون السالي ‪ ،‬طبعة ‪ 1828‬التي سبقت الحالة عليها‪.‬‬
‫‪ -43‬من بينهم على سبيل المثال جون‪ -‬بيير بولي )‪ (Jean-Pierre Poly‬و اريك بورنازيل ) ‪ (Eric Bournazel‬مؤلفا كتاب ‪:‬‬
‫‪La mutation féodale, Paris, P.U.F. (Collection Nouvelle Clio) 1980.‬‬
‫‪ -44‬أنظر ص‪ 109.‬من نفس الكتاب‪.‬‬
‫‪ -45‬نشير في هذا الصدد إلى أن كلوﭬيس)‪ (Clovis‬أول ملوك مملكة غالة الميروﭬنجية )وهي أكبر الممالك الجرمانية( اعتنق المسيحية‬
‫يوم ‪ 25‬دجنبر ‪ .498‬بعد مرور ‪ 16‬سنة على اعتلئه عرش هذه المملكة‪.‬أنظر تفاصيل الحدث عند ﯕريﯕوار أسقف كنيسة تور)‬
‫‪ (Tours‬في كتاب ‪:‬‬
‫‪Histoire des Francs, traduction et édition Robert Latouche, Paris, Les Belles Lettres,1995, Livre‬‬
‫‪II, chap. 31, pp.120-121.‬‬

‫‪18‬‬
‫علقات الفصالة خلل القرنين السادس و السابع و النصف الول من القرن الثامن‪ .‬ثم حدث أن‬
‫دخل القائمون على المر و ممثلو السلطة " المركزية " كطرف في علقات الفصالة‪ ،‬فضل عن‬
‫أطرافها القدامى ككبار رجال الدين و كبار الملكين العقاريين‪ .‬فأصبح بعضهم " سنايرة " )‪des‬‬
‫‪ (seigneurs‬و بعضهم أفصال‪ .‬حينها لم يعد من المعقول أن يظل العطاء على حاله‪ .‬بمعنى أنه‬
‫كان يجب أن يرقى إلى مستوى هذه الطراف السامية‪ .‬فكيف أصبحت طبيعته ؟‪.‬‬
‫كان حريا بالخباري الذي نقل إلينا خبر اجتماع ببين القصير سنة ‪ 757‬و مقدم دوق بﭬاريا‬
‫إلى بلدة كومين و تقديمه لفروض التبعية و الولء للملك أن يخبرنا عن نوعية العطاء الذي قدمه‬
‫الملك السنيور لفصله الدوق‪ ،‬و لكنه لم يفعل‪ .‬و يبدو أن ثمة ما يبرر عدم بث الخباري في‬
‫المر‪،‬لن تسلون كان في غنى عن ذلك العطاء الذي يقدم لمتوسطي و بسطاء الفصال‪ .‬كما لم‬
‫يكن ينتظرأن تمنح له قطعة أرض و هو الدوق الذي يتصرف في أرض شاسعة المساحة؛ و هي‬
‫دوقية بﭬاريا التي كان يحكمها‪.‬و ربما كان العطاء هو الدوقية نفسها التي أقر ببين تسلون على‬
‫حكمها‪.‬‬
‫و على كل‪ ،‬فان كتب الخباريات و الحوليات تفيدنا بأن العطاء الذي كان معروفا منذ قرون‬
‫ظل معمول به في أوساط الفئات المتوسطة و الدنيا المعنية بعلقات الفصالة‪ .‬و لكن المر اختلف‬
‫بالنسبة لخاصة المجتمع‪ .‬فقد شرع شارل مارتل قبيل سنة ‪ 732‬في تقديم قطع أرض تقع ضمن‬
‫ممتلكات السرة الحاكمة لنفر من أتباعه من كبار أفراد الرستقراطية عرفانا بما أسدوه من عون‬
‫و مساندة‪ .‬كما وزع قطعا أخرى على كبار أتباعه من حملة السيف‪ .‬و بما أن الوقائع كانت كثيرة‪،‬‬
‫و أعداد المحاربين كانت في تزايد مستمر‪،‬لم يكن ممكنا أن يستمر في تقديم قطع أرض من‬
‫ممتلكاته أو من ممتلكات المملكة‪ ،‬لذلك لجأ إلى مصادرة مساحات شاسعة من الراضي التي‬
‫كانت في حوزة الكنائس‪ .‬و كان من الطبيعي أن يثير هذا الجراء حفيظة تلك المؤسسات‪ .‬و في‬
‫ذلك خسارة لشارل مارتل الذي كان في حاجة إلى سندها؛ خاصة وأنه كان لزال محفظ قصر‬
‫يحكم " نيابة " عن ملك يحضى بالشرعية‪ .‬و استدراكا للموقف دعي إلى إيجاد مخرج للمشكلة‪.‬‬
‫فعقدت ثلث مجامع دينية بين سنتي ‪ 742‬و ‪ .744‬انتهت إلى القرار بأن الراضي التي‬
‫صودرت من الكنائس و وزعت على أفصال )محاربين أو غير محاربين( تظل في ملكية تلك‬
‫المؤسسات‪ .‬و ل حق للفصال فيها إل حق الستغلل الذي ينتقل إلى ورثة الفصل بعد وفاة هذا‬
‫الخير‪ .‬و قد يتوقف مفعول حق الستغلل إذا ارتأى الملك ذلك‪ .‬و يلتزم الفصال المستغلون لما‬
‫في أيديهم من أراضي بتقديم ضريبة محددة‪ .‬نص عليها عقد كان يبرمه كل فصل مع الكنيسة‬
‫مالكة الرض‪ .‬بينما كان يبرم ذات الفصل عقدا آخر مع الملك باعتباره السنيور المانح لحق‬
‫الستغلل‪ .‬و منذ هذا التاريخ وحتى مطلع القرن الحادي عشر بدأت ترتسم في الفق معالم‬
‫علقات الفصالة المتمحورة حول قطعة أرض كعطاء يعرف في النصوص باسم " بنفسيوم " )‬
‫‪ .46(beneficium‬و تترك نفس النصوص النطباع بأن مجال استعمال هذا النوع من العطاء‬
‫أخذ يتسع على حساب العطاء الذي كان معمول به منذ ما قبل القرن الثالث للميلد ) أي المأوى و‬
‫المأكل و ما شاكل ذلك (‪ .‬كما أن أعداد المعنيين بالعطاء " القديم " ظلت في تراجع رغم عدم‬
‫وجود معطيات رقمية تثبت ذلك‪.‬‬
‫و يمثل عهد شارلمان )‪ (814 – 687‬فترة حاسمة في اتساع نطاق استعمال قطع الرض‬
‫كعطاء في علقات الفصالة‪ .‬و قد استمر هذا التساع حتى نهاية حكم السرة الكارولنجية حسب‬
‫الخلصة التي انتهى إليها فردناند لوط ) ‪ ( Ferdinand Lot‬منذ عدة عقود‪ .47‬و قد كان محقا‬
‫في ذلك‪ .‬على اعتبار أن شارلمان خاض حروبا كثيرة في اسبانيا وايطاليا و جرمانيا أفضت إلى‬
‫الحصول على مساحات شاسعة من الرض‪ .‬وزع قطعا كثيرة منها على عدد من أفراد‬
‫الرستقراطية الذين ارتبطوا به بعلقات تبعية و ولء‪ .‬ولكنه حرص على أل يكون لهم عليها‬
‫‪ - 46‬يجدر التنبيه إلى أن كلمة بنفسيوم ل تطلق فقط على قطعة أرض‪ ،‬و إنما على أي شيء يقدمه شخص لشخص آخر للنتفاع به‪ .‬و قد‬
‫يكون ذلك الشيء كمية من الحبوب أو مبلغا من المال‪.‬‬
‫‪47‬‬
‫‪- Ferdinand Lot, « Le serment de fidélité à l’époque franque », in Recueil des travaux de Ferdinand‬‬
‫‪Lot, Paris – Genève, Droz, 1968, TomeII ,p. 343.‬‬

‫‪19‬‬
‫سوى حق النتفاع ‪،‬لكي يحرص كل مستفيد على التشبث بالولء و يضع في حسبانه بأن قطعة‬
‫الرض قد تنتزع منه إذا لم يف بالتزاماته العسكرية المتمثلة في استنفار ما تحت إمرته من‬
‫محاربين عند الضرورة‪ .‬و على كل ‪ ،‬فقد أصبحت الرض حجر الزاوية في علقة الملوك‬
‫الكارولنجيين بأفراد الرستقراطية‪ .‬و هذا ما يفهم من كلم الباحثان جون‪ -‬بيير بولي)‪Jean-‬‬
‫‪ (Pierre Poly‬و اريك بورنزيل ) ‪ ( Eric Bournazel‬اللذان تناول المسألة منذ بضع سنوات‬
‫وأكدا بأن البنفسيوم غدا عنصرا أساسيا في علقات الفصالة منذ منتصف القرن التاسع‪ .48‬و نعتقد‬
‫من جانبنا بأن هذا التطور ينسجم مع مسارعلقات الفصالة التي اتخذت منذعهد شارلمان طابعا‬
‫رسميا‪ .‬و أصبحت إحدى الدوات المعتمدة في الحكم و التسيير‪.‬‬
‫و يبدو هذا التطور في علقة الدولة بالفصالة غريبا إذا علمنا بأن شارلمان قام بعدة‬
‫إصلحات‪ 49‬في مجال الدارة و القضاء و نظام الحكم بهدف إرساء دعائم " دولة مركزية " ذات‬
‫مؤسسات يخضع لسلطانها جميع سكان المملكة ‪ -‬المبراطورية‪ .‬و كان من المفترض أن تفضي‬
‫تلك الصلحات إلى تقليص مساحة شبكة علقات التبعية و الحد من سطوة أفراد الرستقراطية؛‬
‫خاصة وأن شارلمان قرر الشراف شخصيا على تعيين القماط و الدوقات و كبار رجال الدين‬
‫على رأس مختلف القمطيات‪ .‬و حرص على أن يكونوا هم المسؤولين المباشرين على إقرار‬
‫المن و على جباية الضرائب وهم المشرفين على أمور القضاء‪ .‬و زاد بأن دعم هذا الجراء‬
‫بإقرار مبدإ الرقابة المستمرة بواسطة المبعوثين الملكيين ) ‪( les missi dominici‬؛ الذين كانوا‬
‫يتجولون عبر مختلف القمطيات و يرفعون له تقارير عن سير القماط و المؤسسات الدينية و عن‬
‫سلوك أفراد الرستقراطية‪ .‬غيران هذه الجراءات لم تحدث القطيعة المنتظرة مع علقات‬
‫الفصالة‪ ،‬لن شارلمان كان يراعي في اختيارالقماط و الدوقات و كبار رجال الدين أن يكونوا‬
‫من أشد المخلصين للسرة المالكة‪ .‬تربطهم بشخص الملك علقات تبعية و ولء ‪ ،‬أي علقات‬
‫فصالة‪ .‬على أن يغدوا في المقاطعات التي يشرفون على إدارتها " سنايرة " )‪( des seigneurs‬‬
‫يرتبط بهم بعلقات فصالة مختلف رجال الدين و كبار الملكين العقاريين‪ .‬بينما تترك لعموم‬
‫فلحي المقاطعات و " المواطنين " الحرار حرية اختيارالسنايرة الذين يرغبون في الرتباط بهم‬
‫بعلقات فصالة‪.‬‬
‫و بناء عليه يتضح بأن الصلحات التي قام بها شارلمان في مجال نظام الحكم و إدارة‬
‫القمطيات لم تكن تهدف استئصال علقات الفصالة بقدر ما كانت تروم " ترويضها " أو بعبارة‬
‫أصح تقنينها‪ .50‬لن عملية استئصالها كانت صعبة ‪،‬حتى ل نقول مستحيلة‪ ،‬لعتبارات يمكن إيجاز‬
‫أهمها فيما يلي ‪:‬‬
‫أول ‪ :‬رسوخ علقات الفصالة في المجتمع عامة‪ ،‬وفي أوساط الطبقة الرستقراطية التي تبنتها‬
‫كتقليد منذ قرون‪ .‬و لم يكن بإمكان شارلمان المضي قدما في إصلحاته الدارية بإلغاء هذا التقليد‪.‬‬
‫و من ثم التنكر لفراد الرستقراطية الدين أسدوا خدمات جلة لبائه و أجداده أوصلتهم إلى دفة‬
‫الحكم على حساب ملوك السرة الميروﭬنجية‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬افتقار الدولة إلى أطر كافية و محترفة لتدبير شؤونها في وقت أصبحت فيه مترامية‬
‫الطراف بعد الحروب التوسعية‪ .‬و بالتالي‪ ،‬فان الضرورة كانت تقتضي الستمرار في العتماد‬
‫على أفراد الرستقراطية في تدبير مختلف القمطيات من خلل علقات الفصالة التي أرسوا‬
‫دعائمها والتي مكنتهم من القيادة و التسيير‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬محدودية الموارد المالية الضرورية لتغطية النفقات التي تتطلبها مهام الحكم و التدبير و‬
‫دفع مرتبات " موظفي " الدولة من رجال الدين و العلمانيين رغم الصلحات القتصادية و‬

‫‪ -48‬أنظر الصفحة ‪ 117‬من كتابهما ‪ La mutation féodale :‬الذي سبقت الحالة عليه‪.‬‬
‫‪ -49‬نشرت دراسات وأبحاث كثيرة حول شخصية شارلمان و حول إصلحاته‪ .‬يمكن العودة على سبيل المثال إلى الدراسة المستفيضة‬
‫التي أنجزها لوي هالفن )‪ (Louis Halphen‬منذ عقود تحت عنوان ‪:‬‬
‫‪.Charlemagne et l’empire carolingien,Paris, Albin Michel,1947, réédition,1968‬‬
‫‪ -50‬نقصد بتقنينها ‪ . sa canalisation‬أي جعلها تأخذ مسلكا واحدا يبتدأ عند أدنى فرد في المجتمع متمتع بحق الحرية و ينتهي عند‬
‫شخص الملك باعتباره " سنيور السنايرة ")‪.(le suzerain‬‬

‫‪20‬‬
‫المالية التي قام بها شارلمان‪ .‬و بالتالي ‪،‬كان لبد من استعمال الرض كوحدة نقدية لتغطية النفقات‬
‫الدارية و العسكرية‪ .‬و بما أن الحروب التي خاضها شارلمان و فرت مساحات شاسعة من‬
‫الرض‪ ،‬فقد أغنت عن المضي قدما في البحث عن مصادر السيولة النقدية‪ .‬كما أن تلك الوفرة‬
‫شجعت على المنح المطلق أحيانا و على المنح المشروط بحق الستغلل في أحايين كثيرة‪ .‬و كان‬
‫من تبعات ذلك أن استغل عدد من أفراد الرستقراطية وفاة شارلمان فسيطروا على قطع الرض‬
‫التي منح لهم حق استغللها‪ .‬كما أن خلفاؤه حادوا عن السياسة التي انتهجها في هذا المضمار و‬
‫التي كان يتبعها فيما مضى محافظو القصر‪ .‬و ذلك حين قرروا بأن تصبح ملكية الفصل على قطعة‬
‫الرض التي منحت له كعطاء ) ‪ ،( beneficium‬ملكية تامة مطلقة نظير استمراره على الولء‬
‫سواء كان سيده‪ ،‬أي " سنيوره " أحد الخواص أو سيده الملك شخصيا‪.‬‬
‫و انطلقا مما تقدم‪ ،‬نخلص إلى القول بأن علقات الفصالة التي نشأت في الممالك الجرمانية‬
‫زمن ضعف السلطات المركزية‪ ،‬كان من المفترض أن تتراجع في مرحلة بدأت تترسخ فيها نسبيا‬
‫أسس الدولة المركزية‪ .‬غير أن هذا التطور لم يحصل‪ .‬بل على العكس من ذلك تماما اكتست تلك‬
‫العلقات مشروعية و ارتقت إلى مصاف القوانين المنظمة للعلقات و المعاملت‪ .‬و هذا ما حدث‬
‫بالذات في غالة التي غدت في عهد شارلمان إمبراطورية مترامية الطراف‪ .‬شمل نفوذها معظم‬
‫أقاليم غرب أوربا‪ .‬و ستشكل الضطرابات الداخلية التي شهدها هذا الكيان بعد وفاته بالضافة إلى‬
‫عوامل خارجية المناخ المثل لكي تنطلق تلك العلقات نحو آفاق أرحب سنتوقف عند تجلياتها في‬
‫الفصل الموالي ‪.‬‬

‫الفصل الثالث ‪ :‬الروابط الفيودو‪ -‬فصلية‬

‫‪51‬‬
‫هيا انهيار المبراطورية الكارولنجية و ماتله من اضطرابات داخلية وغارات خارجية‬
‫المناخ الملئم لتساع مجال انتشار علقات الفصالة في غالة و في مجموع أقاليم غرب أوربا‪.‬‬
‫والحقيقة أن تلك العلقات لم تتوقف أبدا عن النتشار منذ عهد محافظي القصور كما أوضحنا‬
‫ذلك فيما مضى‪ .‬وكان من الممكن أن يأخذ انتشارها منحى تصاعديا منذ عهد شارل مارتل‪ ،‬غير‬
‫أن شارلمان نجح في التخفيف من إيقاع مسيرتها حين عمل على تقنينها‪ .‬و بذلك وفق أيضا في‬
‫كبح جماح أفراد الطبقة الرستقراطية و وضعهم تحت السيطرة و لو إلى حين‪ .‬وبعد وفاته‬
‫افتقدت غالة‪ ،‬و الغرب الوربي عموما‪ ،‬حاكما في مثل حنكته و قوة شخصيته‪ .‬فخلى الجو لفراد‬
‫الرستقراطية الذين عادوا مجددا لتفعيل علقات الفصالة التي أصبحت منذ هذا الوقت متحورة‬
‫حول الفيف أكثر من أي وقت مضى‪ .‬كما اجتهدوا في بسط سلطانهم على عموم الفلحين‪.‬‬
‫وشرعوا في إرساء الليات و الوسائل الكفيلة بتحقيق مكاسب معنوية و مادية من وراء ذلك‬
‫السلطان‪ .‬و قد استفادوا لتحقيق مبتغاهم من الضطرابات و الفوضى السياسية‪ .‬و مع ذلك فيجب‬
‫التنبيه في هذا المقام‪ ،‬بأن أفراد الرستقراطية من كبار الملكين العقاريين و كبار رجال الدين لم‬
‫يستغلوا تلك الوضاع للسراع بإعلن تمردهم أو للتحلل من سلطة القائمين على المر في‬
‫الممالك التي قامت في غالة ‪ ،‬وفي أقاليم غرب أوربا الخرى ‪ ،‬بعد انهيار المبراطورية‬
‫الكارولنجية‪ .‬فقد استمروا‪ ،‬حتى العقد الخير من القرن العاشر‪ ،‬يدينون بالولء للملوك مباشرة أو‬
‫للقماط الذين يمثلونهم في القمطيات‪ .‬و تجلى ذلك في كونهم ظلوا يؤدون فروض الطاعة‬
‫للملوك مباشرة‪ ،‬و يحضرون أشغال " الجتماع الملكي " ) ‪ .( le plaid royal‬و هو واحد من‬
‫بين اجتماعين سنويين كان يرأسهما الملك‪ .‬كما ظلوا يؤدون يمين الولء للقماط‪ .‬بعضهم يقومون‬
‫‪-51‬نعني هنا غارات الﭬكينج أو النورمان و غارات القبائل الهنغارية و غارات المسلمين انطلقا من الندلس‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫بذلك بوصفهم أفصال لهؤلء القماط وبعضهم الخر يقومون بذلك بوصفهم " مواطنين "‬
‫خاضعين لسلطة القماط‪ .‬و بما أنهم من علية القوم‪ ،‬فقد كان يتوجب عليهم القيام عمليا بأداء‬
‫الولء‪ ،‬و حضور الجتماعات الدورية التي يدعو إليها القمط ) ‪ .( les plaids comtaux‬و‬
‫عند تعيين قمط جديد على رأس القمطية‪ ،‬كان كبار الملكين العقاريين و كبار رجال الدين‬
‫يقومون بتقديم ولئهم للقمط الذي تم تعيينه‪ .‬و إذا تعذر على أحدهم القيام بذلك لسباب قاهرة‬
‫كان ينيب عنه من يقوم بالعملية‪ .‬و كأنهم بذلك يقدمون فروض الطاعة و الولء للملك شخصيا‪ .‬و‬
‫هذا التقليد ظل يجري به العمل منذ عهد شارلمان‪ .52‬و لكن بعد مطلع القرن الحادي عشر بدأت‬
‫تظهر معالم التجاه نحو مرحلة جديدة في مسار تطور الفيودالية‪.‬‬
‫نشترك مع عموم الباحثين في القول بأن هذه المرحلة تميزت بكون الفيف أصبح خللها يمثل‬
‫حجر الزاوية في العلقات بين أفراد الرستقراطية‪ .‬و لكننا نختلف معهم حين نذهب إلى اعتبارها‬
‫مرحلة ثالثة اكتمل خللها نضج الفيودالية كما أشرنا إلى ذلك في مقدمة هذا القسم‪ .‬في حين‪ ،‬يذهب‬
‫الباحثون إلى اعتبار هذه المرحلة مرحلة أولى و وحيدة نشأت خللها الروابط الفيودو – فصلية‪ ،‬و‬
‫خللها أيضا تبلورت تلك الروابط‪ .‬و ينكرون اعتبار علقات الفصالة مقدمة لهذه الروابط‪.‬‬
‫و مهما يكن من أمر‪ ،‬فقد قام الباحثون منذ عقود برصد مسيرة هذه الروابط و باستعراض‬
‫السياق الذي " نشأت " و تطورت فيه‪ .‬بعضهم اختار الغرب الوربى ككل مجال جغرافيا لتناولها‪،‬‬
‫و بعضهم اختار أحد أقطاره الحالية كإطار جغرافي للقيام بذلك ‪ ،‬بينما ارتأى البعض الخر تناولها‬
‫في حيز جغرافي أضيق‪ .‬و بما أننا نتفق معهم‪ ،‬على القل في كون فترة ما بعد ستة ‪ 1000‬تمثل‬
‫مرحلة تبلور الروابط الفيودو – فصلية‪ ،‬فقد ارتأينا في هذا الفصل اعتماد بعض المنغرافيات‬
‫القليمية للقيام باستعراض أبرز مظاهر هذا التبلور كما حدثت في قمطيتين تنتميان لغالة الموسومة‬
‫بكونها " الموطن الصلي " للفيودالية هما قمطية ماكوني ) ‪ 53(le Mâconnais‬و قمطية‬
‫‪55‬‬
‫بروﭬانسيا ) ‪54( la Provence‬؛ وفي إقليمين بعيدين عن غالة هما إقليم اللسيوم )‪(le Latium‬‬
‫أحد أقاليم ايطاليا‪ ،‬و إقليم قطلونيا ) ‪ 56( la Catalogne‬الواقع في شبه جزيرة ايبيريا‪.‬‬

‫شكلت قمطية ماكوني مجال جغرافيا لطروحة أصدرها جورج دوبي ) ‪( Georges Duby‬‬
‫سنة ‪ .1953‬و قد أنجز هذه الطروحة بين نهاية الربعينيات و مطلع الخمسينيات من القرن‬
‫العشرين؛ خلل مرحلة خاصة من مسيرة البحث التاريخي في فرنسا‪ .‬تميزت بكون الرؤية الضيقة‬
‫التي تختزل الفيودالية في الفصالة و الفيف و المؤسسات المتصلة بهما كانت هي السائدة في أوساط‬

‫‪ - 52‬تحدث بتفصيل عن هذا التقليد هنكمار)‪(Hincmar‬أسقف كنيسة مدينة ريمس) ‪ (Reims‬في كتابه ‪:‬‬
‫‪De Ordine Palatii , texte latin et sa traduction française établit par la Bibliothèque de l’ Ecole des‬‬
‫‪Hautes Etudes, Paris, Editions f.Vieweg , 1885.‬‬
‫و من المعلوم أن هنكمار الذي عاش بين سنتي ‪ 806‬و ‪ 882‬قضى فترة من حياته في خدمة لويس التقي)‪ (Louis le Pieux‬و شارل‬
‫الصلع)‪ (Charles le Chauve‬خلفاء شارلمان‪.‬‬
‫‪53‬‬
‫‪- Georges Duby , La société au XIe et XIIe siècles dans la région mâconnaise, Paris, A. Colin, 1953.‬‬
‫‪54‬‬
‫‪- Jean-Pierre Poly, La Provence et la société féodale, 879-1166, contribution à l’étude des structures‬‬
‫‪féodales dans le Midi, Paris, Bordas, 1976.‬‬
‫‪55‬‬
‫‪- Pierre Toubert , Les structures du Latium médiéval :Le Latium méridional et la Sabine du IXe siècle‬‬
‫‪à la fin du XIIe siècle, Paris, les Editions de Boccard, 1973, 2 vol.‬‬
‫‪56‬‬
‫‪- Pierre Bonnassie, La Catalogne du milieu du Xe à la fin du XIe siècle :Croissance et mutations‬‬
‫‪d’une société, Toulouse, Association des publications de l’Université de Toulouse-Le Mirail ,1975-‬‬
‫‪1976, 2 vol..‬‬

‫‪22‬‬
‫الباحثين في التاريخ الوربي الوسيط‪ 57‬و كذلك في أوساط المهتمين بالقانون و تاريخ‬
‫المؤسسات‪ .58‬بينما كانت الرؤية الواسعة التي تبناها مارك بلوك ) ‪ ،59( Marc Bloch‬و التي‬
‫ترى الفيودالية إحدى التجليات التي اتخذتها البنيات الجتماعية في تطورها خلل العصر الوسيط ‪،‬‬
‫ل زالت تبحث لها عن موطئ قدم‪ .‬و لذلك‪ ،‬جاءت أطروحة دوبي مثقلة بإرث الماضي و‬
‫مستشرفة في ذات الوقت النقلة التي ستحدث بعد تزايد تلمذة بلوك‪ .‬و هذا ما يتضح من عنوانها و‬
‫كذلك من مضمونها‪ .‬فقد تضمن عنوانها كلمة " مجتمع " على شاكلة عنوان كتاب مارك بلوك‪ .‬أما‬
‫مضمونها فتضمن فصول مطولة خصصها الباحث للفصالة والفيف‪ .‬و أخرى خصصها لرصد‬
‫التحولت التي شهدها مجتمع الماكوني خلل القرنين الحادي عشر و الثاني عشر‪ .‬سعى فيها جاهدا‬
‫إلى إقناع القارئ بأن الفصالة و الفيف كانا مجرد واجهتين لمؤسسات نشأت و تطورت في سياق‬
‫تلك التحولت الجتماعية‪ .‬و رغم الجهد المبذول‪ ،‬لم يستطع جورج دوبي التحرر من نظرة‬
‫المؤرخين القدامى للفيودالية‪ 60‬حين يرون بأنها تمثل الحصيلة المنطقية لنفراط وحدة‬
‫المبراطورية الكارولنجية‪ .‬إذ يذهب على غرارهم إلى العتقاد بأن تدهور مؤسسة القمطية في‬
‫إقليم الماكوني أفضى إلى تشكل شبكة من الروابط الفيودو – فصلية انخرط فيها أفراد‬
‫الرستقراطية في هذا القليم‪.‬‬
‫أول ‪ :‬تدهور مؤسسة القمطية‬
‫يفيدنا جورج دوبي بأن إقليم الماكوني كان منتظما في إطار قمطية نشأت منذ العهد‬
‫الكارولنجي في سياق عملية إعادة تنظيم " الدارة الترابية "‪ .‬و قد حصل فتور في علقة هذه‬
‫القمطية بالمؤسسة الملكية منذ شهر غشت من العام ‪ ،843‬تاريخ توقيع معاهدة ﭬردان‬
‫) ‪ ( Verdun‬التي تم بموجبها تقسيم المبراطورية الكارولنجية بين الخوة الثلث أبناء الملك‬
‫لويس التقي ) ‪ .( Louis le Pieux‬و تحول هذا الفتور إلى نوع من القطيعة منذ سنة ‪. 951‬فقد‬
‫زار الملك لويس الرابع قمطية ماكوني خلل هذه السنة‪ .‬و بعد هذا التاريخ لم تطأها أقدام ملك‬
‫حتى حوالي سنة ‪ .611166‬و رغم هذه التطورات‪ ،‬فان مؤسسة القمطية و المؤسسات العمومية‬
‫المتصلة بها ظلت منذ سنة ‪ 951‬وحتى حدود سنة ‪ 980‬أو ‪ 982‬تمارس دورها في إقرار المن‬
‫و جباية الضرائب و الشراف على أمور القضاء والسهر على ممارسة الشعائر الدينية في ربوع‬
‫قمطية الماكوني‪ .‬و لذلك فان عموم الفلحين و غيرهم من الفراد الحرار ظلوا يثقون في تلك‬
‫المؤسسات‪ .‬و لم يعودوا يبحثون عن المان و الطمئنان في علقات القرابة أو في صيغ أخرى‬

‫‪ -57‬نذكر من بين هؤلء الباحثين فوستيل دي كولنج ) ‪ ( Fustel de Coulanges‬المتوفى سنة ‪ .1889‬و أوﯖيستان فلبش )‬
‫‪ (Augustin Fliche‬المتوفى سنة ‪ .1951‬و فرديناند لوط )‪ (Ferdinand Lot‬المتوفى سنة ‪.1952‬أنجز هؤلء المؤرخين أبحاثا‬
‫كثيرة ذات قيمة علمية بالغة‪ .‬شكلت حجر الزاوية في لئحة المراجع التي اعتمدها مؤرخو ما بعد الحرب الكونية الثانية‪ .‬ومن بين‬
‫أبحاثهم نذكر على سبيل المثال ‪:‬‬
‫‪Fustel de Coulanges,Histoire des anciennes institutions françaises, Paris, Hachette, 1901-1914. 6‬‬
‫‪Tomes.‬‬
‫‪Augustin Fliche, La chrétienté médiévale (395-1254), Paris, Editions de Boccard, 1929.‬‬
‫‪Ferdinand Lot, La France des origines à la guerre de Cent ans, Paris, Gallimard, 1941.‬‬

‫‪ -58‬نذكر من بين هؤلء المهتمين جاك فلش )‪ ( Jacques Flach‬المتوفى سنة ‪.1919‬رجل قانون له عدة مؤلفات من بينها ‪:‬‬
‫‪Etudes critiques sur l’histoire du droit romain au Moyen Age, Paris, Librairie Larose et Forcel, 1890.‬‬
‫و فرانسوا اوليفيي – مارتان )‪ (François Olivier- Martin‬المتوفى سنة ‪ .1952‬هو أيضا رجل قانون له عدة مؤلفات من بينها ‪:‬‬
‫‪Histoire du droit français des origines à la Révolution, Paris, Montchrétien, 1948.‬‬
‫‪ - 59‬يعد من أبرز المؤرخين الباحثين في اقتصاد و مجتمع فرنسا في العصر الوسيط‪ .‬دعا إلى ضرورة تغيير مناهج البحث‪ .‬و أسس لهذا‬
‫الغرض رفقة زميله لوسيان فيفر )‪ (Lucien Febvre‬المجلة الشهيرة "حوليات التاريخ القتصادي و الجتماعي" )‪Annales‬‬
‫‪ (d’Histoire Economique et Sociale‬التي لزالت تصدر إلى اليوم باسم "الحوليات‪ ،‬التاريخ‪ ،‬العلوم الجتماعية" ) ‪Annales‬‬
‫‪ .Histoire Sciences Sociales‬كما أنجز عدة أبحاث قبل أن يلقى حتفه رميا بالرصاص على يد القوات النازية يوم ‪ 16‬يونيو‬
‫‪ .1944‬و من أهم ما صدر له ‪:‬‬
‫‪Les caractères originaux de l’histoire rurale française (1931). Et La société féodale (1939).‬‬
‫‪ -60‬ننبه القارئ بأن ما نذكره في هذا الشأن ينطبق على أطروحة دوبي التي صدرت سنة ‪ .1953‬أما بعد ذلك فقد تطورت نظرته كثيرا‬
‫كما يتضح من خلل مؤلفاته اللحقة مثل كتاب ‪ (Guerriers et paysans (1969‬و كتاب‬
‫‪.(Les trois ordres ou l’imaginaires du féodalisme (1978‬‬
‫‪61‬‬
‫‪- Georges Duby, La société au XIe et XIIe siècles…, Op. Cit. p.91 et p.540.‬‬

‫‪23‬‬
‫مماثلة لها‪ .‬أما أفراد الرستقراطية اللئكية‪ ،‬فقد استمروا من جانبهم في احترام مؤسسات‬
‫القمطية‪ .‬و لم يكونوا يترددون في مد يد العون للقمط و للمؤسسات الدينية في الحالت العادية‪،‬‬
‫كما في الظروف الستثنائية‪ .‬غير أن مستجدات شهدتها القمطية أخذت تأثر سلبا في علقة أفراد‬
‫الرستقراطية اللئكية و الدينية بالقمط ‪.‬‬
‫فابتداء من سنة ‪ 982‬تولى إدارة القمطية أوت ﯖيوم ) ‪ ( Otte Guillaume‬الذي أمضى‬
‫السنوات الولى من فترة وليته في سلسلة حروب توسعية ضد جيرانه‪ .‬استنزفت موارد القمطية‬
‫واضطر لنهائها دون تحقيق طائل ليتفرغ لقرار السلم الجتماعي‪ 62‬في ربوع القمطية على‬
‫اثر موجة العنف التي أخذت تجتاحها‪.‬‬
‫لم يخف أفراد الرستقراطية تذمرهم من سياسة أوت ﯖيوم ‪،‬و لكن المصالح المشتركة اقتضت‬
‫أن يلتفوا حوله لمواجهة هذه المستجدات الداخلية‪ .‬و يفيدنا جورج دوبي بأن عملية التصدي‬
‫لعمال العنف التي أخذت تقوم بها مجموعات من الفرسان و التي واكبتها حركات احتجاج في‬
‫أوساط الفلحين شكلت في حقيقة المر سلحا ذو حدين‪ :‬فقد أبانت عن تظافر جهود القمط و‬
‫أفراد الرستقراطية و رجال الدين في تدبير الشأن العام‪ .‬كما أبانت عن حرص جميع الطراف‬
‫على سلمة المؤسسات و استمرارية دورها‪ .‬و لكنها دلت في نفس الوقت على أن مؤسسة‬
‫القمطية لم تكن قادرة لوحدها على مواجهة أعمال العنف أو التصدي لحركات الحتجاج‪ .‬و بما‬
‫أن تلك العمال و الحركات اتخذت في بادئ المر مسحة دينية‪ ،‬فقد تزعمت المؤسسات الدينية‬
‫عملية مجابهتها‪ .‬فأمدها ذلك بشحنة معنوية و جعل كبار رجال الدين ينفردون باتخاذ بعض‬
‫القرارات دون العودة إلى القمط ؛ من قبيل عقد الجتماعات دون سابق إعلن للبث في آليات‬
‫التصدي لتلك الحركات‪ .‬فكان هذا الجراء لوحده يمثل مؤشرا على تزايد تنامي سلطة كبار رجال‬
‫الدين و تراجع هيبة القمط أوت ﯕيوم الذي أخذ يتخلى عنه كبار أفراد الرستقراطية اللئكية‬
‫بدورهم‪ .‬و هذا ما تأكد لحقا بعد سنة ‪ 1000‬حيث أخذ عدد الحاضرين لجتماعات القمط‬
‫يتراجع بشكل مستمر‪ .‬و إذا صدقنا جورج دوبي ‪،‬فان اجتماعا دعا لنعقاده أوت ﯕيوم سنة‬
‫‪ 1005‬لم يحضره سوى أفصال القمط و نفر من كبار رجال الدين و أعيان الرستقراطية‬
‫اللئكية‪ .‬أما اجتماع سنة ‪ 1010‬فلم يحضره سوى أفصال القمط و أسقف القمطية مرفوقا بأحد‬
‫مساعديه‪ .63‬و بعد هذا التاريخ أخذت تلك الجتماعات تكتسي طابعا عائليا‪ .‬حيث لم يعد يحضرها‬
‫سوى أقرب المقربين من القمط و أفراد عائلته و أشخاص آخرين تربطهم به صلت قرابة‪.‬‬
‫و معنى ذلك أن أفراد الرستقراطية‪ ،‬من كبار الملكين العقاريين اللئكيين و كبار رجال الدين‬
‫تحللوا من سلطة القمط و قطعوا صلتهم بمؤسسات القمطية‪ .‬و أضحوا سادة أنفسهم و سادة سكان‬
‫القمطية الذين أصبحوا خاضعين لنفوذهم في إطارما نصطلح على تسميته " بالسنيورية‬
‫اللزامية "‪ .( la seigneurie banale ) 64‬كما شيدوا القصور التي اتخذوها مراكز لممارسة‬
‫السيادة‪ .‬و شكلوا‪ ،‬لتفعيل تلك السيادة أجهزة و مؤسسات تابعة لهم‪ .‬تقوم بإقرار المن و جباية‬
‫الضرائب و تشرف على أمورالقضاء‪ .‬و بموازاة ذلك ارتبطوا فيما بينهم بعلقات فصالة متمحورة‬
‫حول الفيف‪.‬‬
‫ثانيا ; تشكل الروابط الفيودو – فصلية‬
‫‪ -62‬نقصد هنا ما يعرف بحركة سلم ال)‪ ( la Paix de Dieu‬التي ظهرت سنة ‪ 989‬بإقليم أكيتانيا‪،‬جنوب غالة‪ ،‬ثم انتشرت في‬
‫مختلف أقاليم غالة‪ .‬و هي حركة ذات مسحة دينية اجتماعية‪ .‬نشأت في أوساط رجال الدين و تبنتها المؤسسات الدينية‪ .‬كانت تهدف إلى‬
‫اقرارالسلم الجتماعي بين المسيحيين على اثر حركات العنف التي بدأت تندلع هنا وهناك في سياق التحولت الكبرى التي بدأت تشهدها‬
‫أقاليم غرب أوربا‪.‬‬
‫و قد كان هدفها السمى في حقيقة المر هو حماية المؤسسات الدينية‪ ،‬و الحرص على حرمتها‪ .‬لذلك عقدت الكنائس سلسلة اجتماعات‬
‫للنظر في آليات تطبيق الحركة‪.‬أقرت على إثرها جعل المؤسسات الدينية أماكن حرما يجرم من اقتحمها أو اعتدى على الفراد العزل‬
‫المحتمين بها‪ .‬كما أقرت كذلك جعل أيام الحد و الثنين والثلثاء و الربعاء أياما حرما ل يتم فيها القتال‪.‬و نفس المر ينطبق على اليام‬
‫التي تتصادف مع تخليد العياد الدينية‪ .‬لمزيد من التفاصيل بخصوص هذا الموضوع يمكن العودة إلى كتاب ‪:‬‬
‫‪Dominique Barthélemy, L’an mil et la paix de Dieu: la France chrétienne et féodale (980-1060),‬‬
‫‪Paris, Fayard, 1999.‬‬
‫‪63‬‬
‫‪- Georges Duby, La société au XIe et XIIe siècles…,Op.Cit.,p. 168.‬‬
‫‪ -64‬سنعرف بهذه المؤسسة و سنتحدث عن بنيتها بتفصيل في موضع لحق‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫يعود جورج دوبي في معرض حديثه عن الروابط الفيودو – فصلية ليقنع القارئ ضمنيا بأن‬
‫انخراط أفراد الرستقراطية الماكونية في هذه الروابط يمثل النتيجة المنطقية التي آل إليها تدهور‬
‫مؤسسة القمطية‪ .‬و يفيدنا في هذا الصدد بأن النصوص التي اعتمدها توضح بأن الصلة بين الفيف‬
‫و الولء‪ ( l’hommage ) 65‬أصبحت وثيقة في الماكوني ابتداء من سنة ‪ .1030‬حيث غدت كل‬
‫عملية تقديم فيف تستوجب من المستفيد منه تقديم الولء و أداء القسم‪ .‬و تبعا لذلك خصص‬
‫صفحات مطولة لرصد مسيرة الفيف و للحديث عن الولء و عن الطقوس التي كانت تتم فيها‬
‫عملية تقديم الفيف وعملية أداء الولء‪ .‬و أهم الملحظات التي يمكن استخلصها من تلك‬
‫الصفحات هي كما بلي ‪:‬‬
‫أول ‪ :‬لم تكن العلقات بين جميع أفراد الرستقراطية في إقليم الماكوني قائمة على الفيف‪.‬فقد‬
‫مثل حجر الزاوية في العلقات القائمة بين أفراد الشريحة السفلى و أفراد الشريحة المتوسطة في‬
‫الطبقة الرستقراطية‪ ،‬و كذلك بين أفراد هذه الشريحة و أفراد الشريحة العليا‪ ،‬أما بين أفراد‬
‫الشريحة العليا فقامت روابط " فيودو – فصلية " غير مستندة على الفيف‪.‬و قليل ما كان أحد أفراد‬
‫هذه الشريحة يقدم فيفا لفرد آخر‪ .‬لن أفراد هذه الشريحة كانوا ينحدرون كلهم من أسر نبيلة و‬
‫عريقة مالكة لراضي مترامية الطراف‪ ،‬و لن المر يتعلق هنا بشخصين متساويين في المقام و‬
‫القوة‪ .‬و من ثم‪ ،‬لم يكن من اللئق أن يسلم أحدهم فيفا للخر‪ ،‬لن عملية تسليم الفيف تحيل إلى نوع‬
‫من الدونية‪ .‬كما تجعل المستفيد من الفيف في وضعية تبعية و خضوع للشخص مانح الفيف‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬اتخذت عملية تقديم الولء ) ‪ ( l’hommage‬في قمطية ماكوني شكل عموديا و آخر‬
‫أفقيا‪ .‬فقد كان بإمكان الشخص الواحد المنتمي للشريحة السفلى أو للشريحة المتوسطة في‬
‫الرستقراطية أن يتسلم فيفين من مانحين‪ .‬فيغدو بذلك فصل " لسنيورين "‪ .‬وغالبا ما كانت تتكرر‬
‫مثل هذه الحالت في أوساط حملة السيف الذين كان الطلب عليهم قويا‪ ،‬لذلك كان " السنايرة "‬
‫يتنافسون في استقطابهم بمنح الفياف و التخفيف من أعباء الخدمات و اللتزامات‪ .‬بينما لم يكونوا‬
‫هم أيضا يترددون في الستجابة لتلك الغراءات‪ .‬فكان الواحد منهم يضع مهاراته القتالية رهن‬
‫إشارة أكثر من سنيور لزيادة رصيده من الفياف‪ .‬غير أن تعدد مثل هذه الروابط كان يطرح أحيانا‬
‫بعض المشاكل‪ ،‬حين يقع سوء تفاهم بين سنيورين‪ .‬فيجد الفارس المرتبط بهما بعلقة فصالة نفسه‬
‫في وضعية حرجة‪.‬‬
‫و مهما يكن من أمر فالمحصلة النهائية التي يخرج بها قارئ أطروحة جورج دوبي هي أن‬
‫قمطية الماكوني وقعت في شراك الفيودالية بعد تدهور مؤسسة القمطية و نهاية دورها في رعاية‬
‫شؤون أفراد المجتمع‪ .‬فغدت بذلك إحدى المجالت الجغرافية الممثلة لهذه الظاهرة في ربوع غالة‪.‬‬
‫و من ثمة‪ ،‬فان قصة العلقة بين قمطية الماكوني و الفيودالية تلخص إلى حد بعيد قصة غالة مع‬
‫هذه الظاهرة تبعا للنطباع الذي تتركه الطروحة‪ .‬ففي الماكوني كما في مجموع تراب غالة بدأت‬
‫تلك القصة عندما تدهورت المؤسسات السياسية‪ ،‬و حدث فراغ سياسي أفضى إلى تجزئة متقدمة‬
‫للسلطة التي أصبح يمارسها كل من استطاع إلى ذلك سبيل‪.‬فانتفت المؤسسات‪ .‬وانتفت معها أية‬
‫صلة تربط الفرد بالدولة‪ .‬فماذا يمكن أن يقال عن صلة قمطية بروﭬانسيا بالفيودالية ؟‬

‫شكل إقليم بروﭬانسيا مجال جغرافيا لطروحة أنجزها جون بيير بولي )‪(Jean-Pierre Poly‬‬
‫الباحث الذي يزاوج بين المقاربة التاريخية و المقاربة القانونية في تناول قضايا العصر الوسيط في‬
‫أوربا‪.‬‬
‫‪66‬‬
‫و تندرج هذه الطروحة و الطروحتان اللتان سيأتي الحديث عنهما بعد حين ضمن مشروع‬
‫علمي طموح انبرى للقيام به ثلة من الباحثين منذ سبعينيات القرن الماضي‪ .‬سعى لدحض فكرة‬
‫‪ -65‬ننبه القارئ بأننا نستعمل كلمة ولء كمرادف لكلمة ‪ . hommage‬كما أننا سنستعملها لحقا كمرادف لكلمة ‪ .fidélité‬في حين أن‬
‫هناك فرقا بين الكلمتين الفرنسيتين‪ .‬لذلك فإننا عند كل استعمال لكلمة ولء نسجل بين قوسين ما يقابلها في اللغة الفرنسية حسب سياق‬
‫النص‪.‬‬
‫‪ - 66‬يتعلق المر بأطروحتي بيير توبير و بيير بوناصي اللتين أرجأنا الحديث عنهما بعد الحديث عن أطروحة جون بيير بولي لنها‬
‫تهم أحد أقاليم غالة‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫كانت رائجة في أوساط الباحثين في تاريخ العصر الوربي الوسيط خلل خمسينيات و ستينيات‬
‫القرن المذكور‪ .‬مفادها أن موطن الفيودالية هو القاليم الممتدة بين نهري اللوار و الراين التي‬
‫شكلت قلب المبراطورية الكارولنجية‪ .‬أما أقاليم جنوب غالة‪ ،‬و معها أقاليم جنوب أوربا‪ ،‬فلم‬
‫تشهد ظاهرة الفيودالية‪ .‬و إذ قدر لبعض تلك القاليم أن تشهد بعض تجليات الظاهرة‪ ،‬فقد كانت‬
‫تجليات دخيلة على نظمها و بنياتها‪.‬‬
‫و قد عبر جون بيير بولي عن مقاصد أطروحته منذ الصفحات الولى من خلل السؤال‬
‫المحوري التي ‪ :‬هل ينطبق المخطط الخاص بالفيودالية‪ ،‬الذي صاغه مؤرخو مرحلة ما بعد‬
‫الحرب الكونية الثانية انطلقا من نصوص تنتمي للقاليم المعروفة بمهد الفيودالية ‪،‬على إقليم‬
‫‪67‬‬
‫بروﭬانسيا خاصة‪ ،‬و أقاليم جنوب غالة عامة؟‬
‫و قد اقتضى الجواب عن هذا السؤال من قبل الباحث اعتماد ما ينيف عن ألفي نص من‬
‫النصوص المعروفة " بالمواثيق " ) ‪ .( les chartes‬بالضافة إلى ترسانة أخرى من المصنفات؛‬
‫ككتب التاريخ العام و الحوليات و سجلت الديرة و النصوص الهاجيوغرافية التي تعرض لسير‬
‫و كرامات القديسين و القديسات و غيرها من النصوص‪.‬‬
‫خلص جون بيير بولي بعد استقرائها إلى خلصة مفادها أن قمطية بروﭬانسيا انخرطت هي‬
‫الخرى في ظاهرة الفيودالية " من أبوابها الواسعة "‪ .‬و أن مقومات الظاهرة في هذا المجال‬
‫الجغرافي لم تقل نضجا و تكامل عن مثيلتها في وسط أو شمال غالة‪.‬‬
‫و يفيدنا على غرار جورج دوبي بان الفيودالية اتبعت في نشأتها و تطورها بقمطية بروﭬانسيا‬
‫مسارين متوازيين ‪ :‬واحد ذو طابع سياسي تمثل في نهاية دور المؤسسات العمومية‪ .‬و الثاني ذو‬
‫صبغة عقارية تمثل في تشكل شبكة من العلقات تمحورت حول الفيف‪ .‬و لكن لحظة انطلق‬
‫المسار الول كانت أسبق من لحظة انطلق المسار الثاني‪ .‬حيث انطلق المسار السياسي بين سنتي‬
‫‪ 1000‬و ‪ .1040‬و لم ينطلق المسار العقاري إل بعد مطلع القرن الثاني عشر‪.‬‬
‫و بناء عليه ‪ ،‬ففي إقليم بروﭬانسيا كما في إقليم الماكوني شكلت مؤسسة القمطية أم المؤسسات‪.‬‬
‫كانت تباشر بواسطة أجهزتها القتصادية و القانونية و القضائية تدبير الشأن العام‪ .‬و إليها كانت‬
‫تحتكم سائر فئات المجتمع من خاصة و عامة‪.‬‬
‫و إذا كانت حركة هدنة ال قد شكلت منعطفا حاسما في مسار تلك المؤسسات بقمطية الماكوني‪،‬‬
‫كما رأينا من قبل‪ ،‬فان تطورات ذات بعد اقتصادي – ديموغرافي حدثت خلل الفترة الممتدة بين‬
‫سنتي ‪ 950‬و ‪ 1040‬هي التي أفضت هذه المرة إلى التحولت السياسية و الجتماعية التي شهدتها‬
‫بروﭬانسيا بعد سنة ‪.1040‬‬
‫و قد تمثلت هذه التطورات في كون أن أفراد الرستقراطية‪ ،‬من كبار و متوسطي الملكين‬
‫العقاريين‪ ،‬أصبحوا يلقون صعوبات في إيجاد اليدي العاملة الكافية لستثمار استغللياتهم‬
‫المترامية الطراف‪ .‬بفعل التراجع الديموغرافي و تقلص أعداد العبيد الذين كانوا يسخرون منذ‬
‫قرون في مختلف النشطة الزراعية‪ .‬و من ثم‪ ،‬لم يجدوا أمامهم من حل سوى القيام ببسط سلطانهم‬
‫المعنوي و المادي على عموم الفلحين الحرار‪ .‬فشرعوا في إرساء الليات لتحقيق هذا المبتغى‪.‬‬
‫و من المفيد التذكير مجددا في هذا المقام‪ ،‬بأن القمط كان هو المسؤول الوحيد منذ عهد‬
‫شارلمان‪ ،‬و قبله أيضا‪ ،‬الذي تتجسد في شخصه السلطة في ربوع القمطية‪ .‬فهو الذي يمتلك ما‬
‫تسميه بحق اللزام‪ ( le droit de ban ) 68‬الذي يسري مفعوله في حدود دائرة ترابية معينة هي‬
‫القمطية‪ .‬و بمقتضى هذا الحق‪ ،‬الذي تقوم بأجرأته عدة أجهزة‪ ،‬يقوم القمط بالقيادة ) ‪le‬‬
‫‪ ( commandement‬و يسهر على إقرار المن‪ ،‬و يدعو كبار أفراد الرستقراطية لحضور‬
‫الجتماعات السنوية التي تعقد للبث في القضايا التي تهم القمطية‪ ،‬و يشرف على جباية الضرائب‪،‬‬
‫وعلى شؤون القضاء‪ ،‬كما يشرف على استخلص الذعائر و الغرامات‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫‪- Jean-Pierre Poly, La Provence …, Op.Cit., p.IV.‬‬
‫‪ - 68‬يسمى هذا الحق باللغة اللتينية ‪ .Bannus‬وبما أنه حق ملزم ) ‪ ، (un droit contraignant‬فقد ارتأينا ترجمة اسمه بالفرنسية‬
‫‪ Le ban‬أو ‪ le droit de ban‬بعبارة حق اللزام‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫فحدث في قمطية بروﭬانسيا أن شرع عدد من أفراد الرستقراطية اللئكية في التطاول على‬
‫بعض هذه الحقوق‪ .‬فأخذوا يسهرون على إقرار المن في ربوع القرية التي تقع بها ممتلكاتهم‬
‫العقارية‪ .‬و نجحوا في التأثير على أشغال المؤسسات القضائية‪ .‬و أنشأوا مؤسسات اقتصادية‬
‫كالفران و المعاصر و الطاحونات‪ .‬و احتكروا استغللها‪.‬‬
‫و بالنظر إلى ثروة أفراد الرستقراطية و ما كانوا يملكونه من نفوذ قوي‪ ،‬فقد أصبحت لمعظمهم‬
‫اليد الطولى داخل القرى‪ .‬بل إن عددا منهم نصبوا أنفسهم " اقماطا " في تلك القرى‪ .‬التي تحولت‬
‫كل واحدة منها إلى " سنيورية إلزامية " ‪ .‬أي إلى دائرة ترابية يمارس الرستقراطي في حدودها‬
‫حق اللزام بكل تجلياته‪.‬‬
‫و قد كان التطور حاسما في هذا التجاه‪ ،‬في نظر جون بيير بولي‪ ،‬حين أصبح أفراد‬
‫الرستقراطية في بروﭬانسيا يشيدون القصور و الحصون دون طلب إذن من مؤسسة القمطية‪.‬‬
‫فأخذت هذه المنشآت تنتشر هنا و هناك بإيقاع سريع‪ .‬إذ قبيل حدود سنة ‪ 1040‬أضحت إحدى‬
‫المعالم البارزة في المشهد العمراني بقمطية بروﭬانسيا‪ .‬المر الذي دفع الباحث إلى التساؤل عن‬
‫أسباب هذه الظاهرة‪.‬‬
‫انتهى جون بيير بولي في معرض جوابه عن هذا السؤال إلى التأكيد بأنه لم يكن ثمة مبرر أمني‬
‫داخلي أو خطر عسكري خارجي يدعو إلى إقامة هذه التحصينات‪ ،‬خاصة و أن المسلمين الذين‬
‫كانوا يهددون القمطية تراجعوا عن حدودها منذ سنة ‪ .69972‬فما من تفسير لهذه الظاهرة ‪ ،‬في‬
‫اعتقاده‪ ،‬سوى أن أفراد الرستقراطية كانوا يسعون بخطى حثيثة لعسكرة القرى لسببين ‪ :‬أول‬
‫لحماية أنفسهم و حماية ممتلكاتهم بدل التعويل على الجهزة العمومية لتحقيق الحماية‪ .‬وثانيا ليجاد‬
‫قاعدة مادية لتفعيل سلطانهم على سكان القرى‪.‬‬
‫و انطلقا مما تقدم‪ ،‬يذهب جون بيير بولي إلى العتقاد على غرار جورج دوبي بان القصر‬
‫) ‪ ( le château‬أو الحصن أصبح من وجهة نظر معنوية رمزا للسلطة‪ .‬و من وجهة نظر مادية‬
‫مركزا لمؤسسة هي السنيورية اللزامية‪ .‬انطلقا من هذا المركز أضحى الرستقراطي‪ ،‬أي‬
‫السنيور‪ ،‬يمارس حق اللزام على سكان القرية‪.‬‬
‫و إذ قدر لفراد الرستقراطية في بروﭬانسيا النجاح في الستحواذ على حق اللزام‪ ،‬و سحب‬
‫البساط من تحت أقدام القمط ‪ ،‬فقد أفرغوا بذلك مؤسسة القمطية من أي محتوى‪ ،‬و نجحوا في‬
‫نفس الوقت في إيجاد مخرج لزمة اليد العاملة التي كانت وراء كل هذه الترتيبات‪ .‬و إذا كانت‬
‫هذه التحولت قد حدثت دون أن ترافقها أحداث دامية كبرى كما حدث في قمطيات أخرى‪،‬فقد أدت‬
‫مع ذلك ‪ ،‬إلى حدوث " قطيعة " بين عهدين في يروﭬانسيا‪ 70‬كما يؤكد ذلك جون – بيير‬
‫بولي ‪:‬عهد ما قبل الفيودالية‪ ،‬وعهد الفيودالية‪ .‬و رغم ذلك فان الباحث يشد انتباهنا إلى مسألة‬
‫أساسية و هي أنه حتى نهاية القرن الحادي عشر كانت الظاهرة " تستعد لحط الرحال " بالديار‬
‫البروﭬانسية‪ .‬و كان عليها أن تبدأ المسار الثاني من رحلتها لكي تستكمل مسيرتها و تصبح نظاما‬
‫متكامل‪.‬‬

‫بدا جون بيير بولي معالجته لهذا المسار بالتذكير بان الفئات الجتماعية في قمطية بروﭬانسيا‬
‫ارتبطت فيما بينها بمختلف أشكال و صيغ علقات التبعية منذ القدم كما هو الشأن في مختلف‬
‫قمطيات غالة‪ .‬فالفقراء ارتبطوا بالغنياء‪ ،‬و الضعفاء ارتبطوا بالقوياء بعلقات تضرع و إذعان‪.‬‬
‫بينما ارتبط نفر من كبار أفراد الرستقراطية الدينية و اللئكية مع القمط بعلقات ولء ) ‪la‬‬
‫‪.( fidélité‬‬
‫و قد كانت علقات الولء بين هذه الطراف التي تهمنا فيما نحن يصدده‪ ،‬تستند في بعض‬
‫الحالت إلى عقار‪ .‬هو عبارة عن " بنفسيوم " استفاد منه عدد من " علية القوم " الذين أبانوا عن‬

‫‪69‬‬
‫‪- Jean-Pierre Poly , La Provence…,Op.Cit., p. 127.‬‬
‫‪70‬‬
‫‪- Ibid. p. 129.‬‬

‫‪27‬‬
‫إخلص و تفان في خدمة القمط و القمطية‪ .‬تمثل ذلك البنفسيوم في الغلب العم في مجموعة‬
‫حصون‪ .‬كان المستفيدون منها يقومون بحراسة المناطق التي تقع بها نظير استمرارهم على ولئهم‬
‫للقمط‪ .‬و حسب الفادات التي يقدمها لنا جون بيير بولي ‪ ،‬فان النصوص القليلة التي تتحدث عن‬
‫هذا الشكل من العلقات ل تتضمن مصطلحات تندرج ضمن ما يسمى بقاموس الفصالة‪ .‬كما أنها‬
‫ل تتضمن معلومات عن الطقوس و الحركات ) ‪ ( les gestes‬المتصلة بعلقات الفصالة من قبيل‬
‫النحناء و عملية أداء اليمين‪ .‬باستثناء نص واحد يعود لسنة ‪ 990‬يفيد بأن ريكولف ) ‪( Riculf‬‬
‫أسقف كنيسة فريجوس ) ‪ ( Fréjus‬وقف على ركبتيه ) ‪ ( s’est agenouillé‬يوما ما بين يدي‬
‫القمط كما يفعل الفصل أمام سيده السنيور‪ .71‬و لشك أن هذا الحدث يكتسي دللة بالغة الهمية؛‬
‫المر الذي دفع جون بيير بولي إلى التساؤل عما إذا كان هذا النحناء تعبيرا عن علقة فصالة أم‬
‫أن ما قام به السقف كان مجرد تعبير عن الخلص و الولء في أرقى صوره ؟ جوابا عن هذا‬
‫السؤال يذكر بولي بأنه من الصعب الحسم في المسألة انطلقا من شهادة منفردة‪ .‬و لكنه لم يتردد‬
‫مع ذلك في الجزم بأن الطقوس و الشعائر المرافقة لعلقات الفصالة لم تظهر في قمطية بروﭬانسيا‬
‫إل بعد مطلع القرن الثاني عشر‪ .‬و يذكرنا في هذا المقام بأن عددا من أفراد الرستقراطية الذين‬
‫شيدوا القصور و الحصون ‪ ،‬كما ذكرنا فيما مضى ‪ ،‬شكلوا مليشيات عسكرية كانت تعمل تحت‬
‫إمرتهم؛ و كان من المفروض أن يكون أفرادها أ فصال لهم‪ ،‬و رغم ذلك فقد كانت العلقات القائمة‬
‫بينهم و بين أفراد الرستقراطية قائمة على الولء‪ ،‬و لم تكن علقات فصالة‪ .‬و يدعم جون بيير‬
‫بولي و جهة نظره هاته بالقول بأن المصادر الخطية التي اعتمدها في انجاز أطروحته ل تتضمن‬
‫سوى ‪ 19‬نصا تعود للفترة الممتدة بين سنتي ‪ 1040‬و ‪ 1100‬تتحدث عن الولء ) ‪.( la fidélité‬‬
‫و ل تشير من قريب أو من بعيد إلى الفصالة ) ‪ .( la vassalité‬و بعد سنة ‪ 1100‬و حتى حدود‬
‫سنة ‪ 1166‬انضاف إليها ‪ 16‬نصا‪ .‬تعززت بظهور عدد من العقود الفيودالية ) ‪des‬‬
‫‪ ( conventions féodales‬بلغ عددها ‪ 22‬عقدا‪ .‬و أهم ما في المر هو أن معظم هذه النصوص‬
‫بالضافة إلى العقود المشار إليها أصبحت تتحدث بكل وضوح عن الفصالة و ما يتصل بها من‬
‫طقوس‪.‬‬
‫و المحصلة النهائية هي أن قمطية بروﭬانسيا انخرطت بدورها في سلك القمطيات التي سادت‬
‫فيها الفيودالية‪ .‬و قد وجدت في جون بيير بولي الباحث الذي أثبت ذلك بالحجة و الدليل‪ .‬فماذا‬
‫يمكن أن يقال عن اللسيوم أحد أقاليم شبه جزيرة ايطاليا‪.‬‬

‫ظل الباحثون حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي يروجون لوجهة نظر مفادها أن الراضي‬
‫التي كانت خاضعة لسلطة البابوية في شبه جزيرة ايطاليا ظلت بمنأى عن ظاهرة الفصالة حتى‬
‫حدود سنة ‪ 999‬حين اعتلى عرش البابوية رجل الدين الفرنسي جربير الورياكي ) ‪Gerbert‬‬
‫‪ (d’Aurillac‬المعروف باسم البابا سلفستر الثاني ) ‪.( Sylvestre II‬‬
‫‪72‬‬
‫يذكر روبير بوتريش‪ ،‬أحد الباحثين المتأخرين المروجين لهذا الطرح ‪،‬بأن البابا المذكور أبان‬
‫خلل الربع سنوات التي قضاها على رأس البابوية عن حيوية و نشاط لرد العتبار لمؤسسة‬
‫البابوية‪ ،‬و لنشر تعاليم المسيحية في بعض أقاليم أوربا الشرقية المعروفة اليوم ببولندا و هنغاريا‪.‬‬
‫و لم يخف رغبته في وضع الحجاج القاصدين بيت المقدس تحت حماية البابوية‪ .‬بل دعا إلى حمل‬
‫السلح لتحرير الماكن المقدسة‪ .‬فشرع في استقطاب حملة السيف من المتحمسين لهذا المشروع‪.‬‬
‫و شجع أفراد الرستقراطية على تكوين مليشيات و النخراط في روابط الفصالة‪.‬‬
‫و إذ ارتبط هذا المشروع بشخصية البابا سلفستر الثاني ‪ ،‬فقد شهد نوعا من التعثر بعد وفاة هذا‬
‫الخير سنة ‪ .1003‬و لذلك ظلت الفيودالية محتشمة في هذه الربوع‪ .‬ولم يقدر لها الكتمال لتصل‬
‫إلى مستوى أعلى من التبلور حسب مزاعم بوتريش و الباحثين السابقين‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫‪- Ibid., p. 160.‬‬
‫‪ -72‬أنظر كتابه الذي سبقت الحالة عليه ‪ ،‬الجزء الول ‪ ،‬ص ص‪.225-224.‬‬

‫‪28‬‬
‫تمثل أطروحة بيير توبير) ‪ ( Pierre Toubert‬الصادرة سنة ‪ 1973‬قطيعة مع هذا الطرح‪.‬‬
‫فقد خلص بعد قراءة جديدة لترسانة من النصوص تهم الفترة الممتدة بين القرنين التاسع و الثاني‬
‫عشر بأن المر عكس ما روج له الباحثون تماما‪.‬‬
‫و حقيقة هذا المر هو أن فيودالية إقليم اللسيوم ) ‪ ( le Latium‬الذي اختاره مجال جغرافيا‬
‫لبحثه‪ ،‬فيودالية " محلية الصنع "‪ .‬كانت وراء إرساء قواعدها مؤسسات دينية ‪،‬أبرزها دير فارفا‬
‫‪ 73( ( Farfa‬و دير سوبياكو ) ‪ .74( Subiaco‬فقد دأبت هاتان المؤسستان منذ مطلع القرن الحادي‬
‫عشر على تقديم قطع أرض لفراد ينتفعون بها مدى الحياة ) ‪ ( des tenures livellaires‬سعيا‬
‫منها لستقطاب أكبر عدد ممكن من المريدين‪.‬‬
‫و يفيدنا بيير توبير بأن دير فارفا كان مؤهل أكثر من دير سوبياكو في التسريع بوتيرة إرساء‬
‫دعائم الفيودالية‪ .‬فقد كان يملك موارد مادية وبشرية هائلة‪ .‬تمثلت في تحف نادرة و قطع أرض‬
‫شاسعة المساحة و أعداد كبيرة من المريدين‪ .‬كانوا في معظمهم يتألفون من فلحين يقيمون في‬
‫قرى محيطة بالدير‪ ،‬و يحظون بحمايته فيما يعرف " بالمحميات " ) ‪ .( les sauvetés‬لذلك‬
‫ارتأى رجال الدين القائمون بأمر دير فارفا إنهاء العمل بالصيغة السالف ذكرها‪ .‬و شرعوا منذ‬
‫سنة ‪ 1062‬في منح قطع أرض كأفياف للمريدين‪ ،‬الذين يتقنون استعمال السلح‪ ،‬مقابل خدمات‬
‫عسكرية‪ .‬و سرعان ما تلت هذه العملية عمليات مماثلة خلل السنوات الموالية‪ .‬ثم تضاعفت‬
‫خلل العشرية الممتدة بين سنتي ‪ 1080‬و ‪ .1090‬و غدت هي الصيغة الكثر تداول بين دير فارفا‬
‫و الراغبين في النضمام للمليشيات التي أنشاها‪ .‬و منذ هذا التاريخ بدأت ظاهرة العسكرة تأخذ‬
‫منحى تصاعديا في الراضي الواقعة في منطقة صابين ) ‪ ( Sabine‬الخاضعة لنفوذ دير فارفا‪ .‬ثم‬
‫أصبحت الظاهرة واضحة أكثر بعد سنة ‪ 1100‬حسب الفادات التي تقدمها النصوص التي‬
‫اعتمدها بيير توبير‪.75‬‬
‫و فد سمحت نفس النصوص لبيير توبير بالقول بأنه ابنداءا من حوالي سنة ‪ 1120‬أخذ نفس‬
‫المشهد يتشكل في المنطقة المحاذية لنهر التيبر ) ‪ ( le pays Tibertin‬الخاضعة لنفوذ دير‬
‫سوبياكو‪ .‬فقد أبان نفر من أفراد الرستقراطية اللئكية عن رغبة جامحة في الستحواذ على‬
‫أراضي تدخل ضمن ممتلكات هذا الدير‪ ،‬فاقتضت ضرورة صد الطماع من رجال الدين‬
‫المشرفين عليه اللتحاق بركب زملئهم رجال دين دير فارفا‪ .‬فاجتهدوا بدورهم في استقطاب‬
‫" المريدين " ) ‪ ( Fides equites‬من بين الذين يتقنون فنون الحرب و القتال و امتطاء صهوات‬
‫الخيول‪ .‬فمنح الدير لكل منخرط في العملية فيفا‪ .‬و شكل مجموع المنخرطين مليشيات عسكرية‪.‬‬
‫ارتبط أفرادها بسادتهم من رجال الدين بروابط فيودو – فصلية‪ .‬و تعهدوا بالخدمة العسكرية‪.‬‬

‫انطلقا مما تقدم يتضح بأن مؤسسات دينية " صغرى " نسبيا هي التي تزعمت حركة إرساء‬
‫الفيودالية في شبه جزيرة ايطاليا ‪ ،‬أو على القل في إقليم اللسيوم و في الراضي المحاذية لنهر‬
‫التيبر‪ .‬و هذا ما يستفاد من كلم بيير توبير حين يذكر بأن عملية إرساء الفيودالية في ايطاليا‬
‫اندرجت ضمن اهتمامات " المؤسسات العمومية " و ليس ضمن اهتمامات الفراد كما حدث في‬
‫أقاليم غالة‪ .76‬و قد تأكد هذا البعد " المؤسساتي العمومي " أكثر حين انضمت البابوية إلى العملية‪.‬‬
‫فما هي الجراءات التي قامت بها أم المؤسسات الدينية في هذا الشأن؟‬
‫يذكرنا ما يورده بيير توبير من معطيات و هو بصدد الجواب عن هذا السؤال بما حدث في غالة‬
‫قبيل أن يتولى شارلمان حكمها‪ .‬فقد كانت روابط الفصالة قد استشرت في أوساط الطبقة‬
‫الرستقراطية من مجتمعها‪ .‬و بما أنه كان من الصعب استئصال الظاهرة‪ ،‬فقد فكرفي احتوائها‬
‫‪ -73‬ينتسب هذا الدير للقديسة ماريا ) ‪ .( Sainte – Marie‬يقع في منطقة صابين أو صابينا على بعد حوالي ‪ 50‬كلم‪ .‬من روما‪ .‬تعود‬
‫نشأته إلى القرن السادس للميلد‪ .‬اتبع خلل رحلته الطريقة البندكتية‪ .‬أنظر في هذا الشأن ‪:‬‬
‫‪,John Howe, Church and social change in eleventh century Italy, University of Pennsylvania Press‬‬
‫‪.1997‬‬
‫‪ - 74‬أنشأ هذا الدير القديس بنوا ) ‪ ( Saint Benoît‬حوالي سنة ‪ 500‬ميلدية‪ .‬و قد اتبع الطريقة البندكتية كدير فارفا‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫‪- Pierre Toubert, Les structures du Latium…, Tome II, p. 1105.‬‬
‫‪76‬‬
‫‪- Ibid., Tome II,p. 1183.‬‬

‫‪29‬‬
‫‪،‬كما ذكرنا فيما مضى ‪ ،‬من خلل إضفاء الطابع المؤسساتي عليها‪ .‬و ذلك بأن جعلها إحدى وسائل‬
‫الحكم وممارسة السلطة‪ .‬و هذا بالذات ما حاولت البابوية القيام به في ايطاليا‪.‬‬
‫فقد شرع الباباوات منذ مطلع القرن الثاني عشر في نسج خيوط شبكة من الروابط الفيودو –‬
‫فصلية‪ .‬و شجعوا كبار رجال الدين و كبار الملكين العقاريين اللئكيين على النخراط فيها؛‬
‫مستحضرين في هذا الشأن ما سبق أن قام به البابا سلفستر الثاني‪ .‬و لتحقيق النجاح في مسعاهم‬
‫اتبعوا مسلكين أساسيين‪ :‬تمثل المسلك الول في عملية شراء مجموعة قصور و حصون كانت في‬
‫حوزة بعض أفراد الرستقراطية‪ .‬منحت لهم فيما مضى قصد النتفاع‪ ،‬أو بسطوا عليها نفوذهم‬
‫في ظروف غير عادية‪ .‬فاشترتها منهم البابوية و عادت لتمنحها لهم كأفياف نظير القرار بتبعيتهم‬
‫لها كأفصال‪ .‬وتمثل المسلك الثاني في عملية " شراء للولءات "‪ .‬فقد كان عدد من كبار الملكين‬
‫العقاريين يدينون بالولء ) ‪ ( la fidélité‬للبابوية منذ القدم‪ .‬فارتأى الباباوات تقديم مبالغ مالية‬
‫لهؤلء على أن يتحولوا من مجرد أشخاص يدينون بالولء للمؤسسة إلى أفصال تابعين لها‪.‬‬
‫و يفيدنا بيير توبير بأن البابوية حققت نجاحا منقطع النظير في هذا التجاه‪ .‬إذ بعد مضي سنوات‬
‫قليلة شرع كثير من كبار الملكين العقاريين و عدد من القماط في تقديم فروض الطاعة للبابوية‬
‫بالنحناء و تقديم الولء ) ‪ ( l’hommage‬و تأدية القسم كسا يفعل سائر الفصال‪ .77‬و بذلك ‪ ،‬فان‬
‫الفيودالية التي سبق لها أن بلغت مستوى من النضج في إقليمي اللسيو م و صابينا اكتمل نضجها‬
‫أكثرعلى يد البابوية‪ .‬و اتسع انتشارها هذه المرة في مجال جغرافي أوسع‪.‬‬
‫و الجدير بالذكر أن ما أقدمت عليه البابوية كان ينسجم من جهة مع ما كان يعتمل في ايطاليا و‬
‫في غرب أوربا عامة من أحدات و تحولت انطلقت منذ مطلع القرن الحادي عشر‪ .‬فكان على هذه‬
‫المؤسسة الدينية أن تركب تيار مرحلة جديدة من تاريخ غرب أوربا اختلط فيها الديني بالدنيوي‪.‬‬
‫و أصبحت فيها المؤسسات الدينية تجنح نحو طلب الدنيا كما كان يفعل أفراد الرستقراطية‬
‫اللئكية‪ .78‬كما كان يستجيب من جهة أخرى مع رغبة البابوية في أن تكون تحت إمرتها مليشيات‬
‫تمدها بالقوة و تسمح لها بقيادة المسيحيين في المشروع الحربي الشهير بالحروب الصليبية‪.‬‬

‫تترك الفقرات السابقة النطباع لدى القارئ و كأن نشأة و تطور الفيودالية‪ ،‬في إقليمي اللسيوم‬
‫و صابينا‪ ،‬حدثا في سياق مختلف عن السياق الذي حدثا فيه في إقليمي الماكوني و بروﭬانسيا‪ .‬ففي‬
‫هذين القليمين حدث أن تدهورت المؤسسات العمومية‪ .‬فاتجهت عملية تدبير الشأن العام نحو‬
‫" الخوصصة "؛ و ذلك حين قام أفراد الرستقراطية ) فرادى ( بالسطو على حق اللزام وشرعوا‬
‫في تشييد القصور‪ .‬ثم أصبحوا يمارسون ذلك الحق في إطار سسنيوريات إلزامية أنشأوها‪ .‬و‬
‫ارتبطوا فيما بينهم في شبكة من العلقات تمحورت حول الفيف‪.‬‬
‫في ايطاليا لم يحدث التدهور المشار إليه‪ .‬فقد كانت المؤسسات الدينية تشكل دائما ما يمكن‬
‫تسميته ببنيات استقبال‪ .‬حيث كانت تحتضن أفراد المجتمع و تسهر على تأطيرهم‪ .‬كما أن‬
‫منظومة القوانين التي كانت تنظم المعاملت بين الفراد ظلت قوية‪ .‬و من ثم لم يتهافت أفراد‬
‫الرستقراطية اللئكية في إقليم اللسيوم على تطبيق قوانين جديدة‪ .‬و لم يسارعوا إلى التسلط على‬
‫شؤون القضاء‪ .‬و رغم أنهم شرعوا منذ منتصف القرن العاشر في تشييد القصور و إقامة مناطق‬
‫النفوذ‪ ،‬فإنهم لم يلجئوا إلى نسج روابط فيودو ‪ -‬فصلية كما فعل زملئهم في عدد من أقاليم‬
‫غالة‪ .79‬و هذا ما يفسر في نظر الباحث عدم مواكبة الروابط الفيودو – فصلية ) أي الفيودالية في‬
‫معناها الضيق ( في إقليم اللسيوم لظاهرة تشييد القصور و إقامة مناطق النفوذ كما حدث في‬
‫أقاليم غالة‪ .‬لكن هذا ل يعني بأن أفراد الرستقراطية ) اللئكية بوجه خاص ( ظلوا في إقليم‬
‫اللسيوم بمنأى عن الفيودالية أو بمنأى عما كانت تقوم به المؤسسات الدينية‪ .‬فكيف يوضح بيير‬
‫توبير هذا المر؟‬
‫‪77‬‬
‫‪- Ibid., Tome II, p. 1135 et suivantes..‬‬
‫‪78‬‬
‫‪- Jules Gay, Les Papes du XIe siècle et la chrétienté, Paris, Gabalda, 1926,p.126. voir aussi Jean Flori,‬‬
‫‪Croisade et chevalerie, XIe – XIIe siècles, Paris – Bruxelles, De Boeck Université, 1998, pp. 15-16.‬‬
‫‪79‬‬
‫‪- Pierre Toubert, Les structures du Latium…, Tome II, p. 1097.‬‬

‫‪30‬‬
‫يفيدنا بيير توبير بأن حضور أفراد الرستقراطية في قلب الحداث يتجلى من خلل الحديث‬
‫عن " حركة إعادة الهيكلة " التي شهدها إقليم اللسيوم بين سنتي ‪ 920‬و ‪ ،1030‬و التي شملت‬
‫مختلف المجالت كأشكال السكن الريفي و أساليب الزراعة و البنيات الجتماعية و طرق تدبير‬
‫‪80‬‬
‫الشأن المحلي‪ .‬و قد كانت وراء تلك " الحركة " تحولت كبرى ‪ ،‬أبرزها النمو الديموغرافي‬
‫الذي حدث في مجال جغرافي يتميز بصعوبة تضاريسه و قلة أراضيه الصالحة للزراعة‪.‬‬
‫المر الذي كان يستدعي التدخل لعادة تنظيم ذلك المجال بشكل يجعله قادرا على استيعاب التزايد‬
‫المذكور دون إعاقة النمو القتصادي ) أي التوسع الزراعي ( الذي بدأ يرتسم في الفق منذ نهاية‬
‫القرن العاشر‪ .‬و لتحقيق هذا المسعى قام أفراد الرستقراطية بتجميع سكان إقليم اللسيوم في قرى‬
‫محصنة بأسوار أقاموها لهم في المرتفعات و في المناطق الوعرة التي لم تكن مستغلة من قبل‪.‬‬
‫فأفضى ذلك إلى ظهور تجمعات سكنية جديدة‪ .‬أطلق عليها الباحث اسم " النكستلمنطو "‬
‫) ‪.81( l’incastellamento‬والواقع أن المر يتعلق بظاهرة تجاوزت كثيرا حدود التجمعات‬
‫السكنية‪ .‬اكتست دللت متعددة و ترتبت عنها نتائج بالغة الهمية يمكن إجمالها فيما يلي ‪:‬‬
‫أول ‪ :‬أشرف على إقامة تلك التجمعات أفراد الرستقراطية الدينية و اللئكية‪ .‬أحيانا كانوا‬
‫يقومون بذلك مجتمعين ‪،‬و في أحايين أخرى متفرقين‪.‬فانتهى على اثر ذلك عهد تميز فيه العمران‬
‫الريفي بتفرق المساكن‪ .‬و حل عهد أصبحت فيه المساكن متجمعة‪ .‬و غدا " الكاستروم " ) ‪le‬‬
‫‪ ( Castrum‬هو النواة الساسية في التنظيم الترابي‪ .‬و بالمثل انتهى عهد كانت فيه أرياف ايطاليا‬
‫مجال جغرافيا مفتوحا‪ ،‬يمكن أن تتحرك ساكنته في جميع التجاهات‪ .‬و حل عهد أصبح فيه‬
‫الفلحون قرويون ) ‪ .( des villageois ou des castellanus‬يقيمون تحت رحمة أفراد‬
‫الرستقراطية في تجمعات مغلقة يمكن نعتها بلغة عصرنا " بالكيطوهات " ) ‪.( des ghettos‬‬
‫ثانيا ‪ :‬ترتب عن إقامة القرى المحصنة نهاية العمل بنظام الدومين الكبير ) ‪le grand‬‬
‫‪ ( domaine‬الذي كان سائدا خلل الحقبة الكارولنجية‪ .‬و الذي بمقتضاه كانت الراضي الصالحة‬
‫للزراعة موزعة إلى استغلليات كبيرة‪ ،‬شاسعة المساحة‪ .‬فأصبح الن كل دومين مقسما إلى‬
‫وحدات صغرى يتوسطها قصر المالك العقاري‪ .‬و تكتسي إعادة الهيكلة هاته دللة بالغة في نظر‬
‫بيير توبير لنها تعني نهاية العصر الوسيط و بداية العصر الوسيط في إقليم اللسيوم‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬يختلف بيير توبير مع بعض الباحثين حين يربطون بين ظاهرة " النكستلمنطو " و‬
‫غارات المسلمين على بعض المواقع اليطالية‪ .‬و يوضح في هدا المقام بأن أقدام المسلمين وطأت‬
‫إقليم اللسيوم بين سنتي ‪ 870‬و ‪ .910‬و قد استطاع المسلمون الوصول إلى كنيسة القديس‬
‫بطرس‪ .‬ثم ابتعدوا عن القليم نهائيا بعد هزيمتهم في وقعة ‪ .915‬في حين أن عملية تشييد القرى‬
‫المحصنة لم تنطلق إل بعد سنة ‪.82920‬‬
‫و بناء على ما تقدم يخلص بيير توبير إلى القول بأن المنشآت الجديدة أقيمت في بادئ المر‬
‫لعادة تنظيم السكان‪ .‬و بعد ذلك غدت أطرا تعتمل فيها حياة سكان الرياف‪ .‬بل إن جميع‬
‫الحداث و التطورات السياسية و القتصادية و الجتماعية أصبحت الن تعتمل في هذه‬
‫الفضاءات الجديدة‪.‬و كأنه بذلك يقر ضمنا بأنها ل تختلف عن السنيوريات اللزامية التي أرسى‬
‫دعائمها أفراد الرستقراطية في قمطيتي الماكوني و بروﭬانسيا كما رأينا فيما مضى‪ .‬و يؤكد بيير‬
‫بوناصي فعل‪ ،‬في معرض تعليقه على أطروحة بيير توبير‪ ،‬بأن تجمع السكن الريفي في إقليم‬
‫اللسيوم أو تفرقه في إقليم قطلونيا ل يعدوان كونهما مجرد تجليات اتخذها السكن هنا و هناك‪.‬‬
‫أما في واقع المر‪،‬فقد كان السكان تحت سيطرة الطبقة الرستقراطية التي استطاع أفرادها‬
‫امتلك حق اتخاذ القرار‪ ،‬أي امتلك حق اللزام‪ .83‬و إذا كان مالكو حق اللزام في قمطيات غالة‬
‫‪80‬‬
‫‪- Ibid., Tome I, p. 313.‬‬
‫‪ - 81‬أطلق بيير توبير كلمة " النكستلمنطو " على التجمعات السكنية في قرى محصنة معلقة في المرتفعات‪.‬و يستعمل الفرنسيون كلمة‬
‫‪ Enchâtellement‬كمرادف لها‪ .‬و على غرار بيير توبير ‪ ،‬استعمل روبير فوصيي ) ‪ ( Robert Fossier‬كلمة ‪encellulement‬‬
‫للحديث عن التجمعات السكنية في إقليم بيكارديا ) ‪.( la Picardie‬‬
‫‪82‬‬
‫‪- Ibid. Tome I,p. 311.‬‬
‫‪83‬‬
‫‪- Pierre Bonnassie, Le Latium au cœur du Moyen Age, in Anuario de estudios medievales, No 09,‬‬
‫‪1974-1979, pp.723-731.‬‬

‫‪31‬‬
‫فد حصنوا أنفسهم بتشييد القصور المنيعة ‪ ،‬و شكلوا المليشيات للستناد عليها في أجرأة ذلك الحق‪،‬‬
‫فيبدو أن الهاجس المني أو العسكري لم يكن غائبا تماما عن أذهان أفراد أرستقراطية اللسيوم‪.‬‬
‫لنهم بقدر حرصهم على حل المشاكل الديموغرافية عن طريق إعادة تنظيم المجال ‪ ،‬فقد كانوا‬
‫أيضا حريصين من خلل إقامة القرى المحصنة و تشييد القصور على حماية أنفسهم و حماية‬
‫ممتلكاتهم العقارية‪ .‬و جعلها في مأمن من أي خطر قد يتهددها من قبل الفلحين‪ ،‬الذين أخذت‬
‫أعدادهم تتكاثر بشكل ملفت‪ ،‬أو من قبل أية قوى أجنبية‪.‬‬
‫نخلص في ضوء ما تقدم إلى القول بأن بيير توبير أبان بما ل يقبل الجدل بأن إقليم اللسيوم ‪،‬و‬
‫بمعيته مجموع أقاليم ايطاليا‪ ،‬شهد ظاهرة الفيودالية‪ .‬و أن المر يتعلق بظاهرة أصيلة نشأت و‬
‫ترعرعت في نفس القليم‪ .‬و بالمثل ففد أبان بأنه انتهى زمن كان يتم فيه النظر إلى فيودالية غرب‬
‫أوربا انطلقا فقط من النموذج الماكوني أو من نماذج القاليم الواقعة في الشمال بين نهري الراين‬
‫و اللوار‪ .‬و نؤكد من جانبنا بأن أطروحة بيير توبيرالتي حظيت باهتمام خاص في الوساط‬
‫العلمية‪ 84‬غدت منذ صدورها نموذجا يقتدى من قبل المهتمين بالبحث في المؤسسات السياسية‬
‫و القانونية و في البنيات الجتماعية و الزراعية في أقاليم جنوب أوربا‪ .‬و فد تلتها بعد سنتين فقط‬
‫أطروحة بيير بوناصي حول إقليم قطلونيا التي أحدثت القطيعة بصفة نهائية مع الطروحات التي‬
‫ظلت رائجة حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي‪ ،‬سواء فيما يتعلق بنشأة و تطور الفيودالية ‪ ،‬أو‬
‫فيما يتعلق بطبيعة هذه الظاهرة في أقاليم جنوب غالة و أقاليم أوربا المتوسطية‪ .‬فماذا يمكن أن‬
‫يقال عن الفيودالية في إقليم قطلونيا ؟‬

‫اعتمد بيير بوناصي لنجاز بحثه على ما ينيف عن ‪ 15000‬نص تعود للفترة الممتدة بين‬
‫منتصف القرن العاشر و نهاية القرن الموالي‪ .‬توزعت بين سجلت أديرة و مواثيق و عقود‬
‫ونصوص هاجيوغرافية و غيرها‪ .‬خلص بعد استقرائها إلى فكرة أساسية وهي أن إقليم قطلونيا‬
‫شهد خلل الفترة المذكورة تحولت اقتصادية كبرى واكبتها عملية إعادة تشكل للبنيات‬
‫الجتماعية‪ .‬و من ثم ‪ ،‬فخلفا لجورج دوبي و بيير توبير الذان يربطان نشأة الفيودالية بالتحولت‬
‫السياسية‪ ،‬يذهب بيير بوناصي إلى التأكيد بأن نشأة و تطور ظاهرة الفيودالية في إقليم قطلوتيا ل‬
‫يمكن فهمها و تتبع مسارها إل باستحضار النمو القتصادي الذي أفضت إليه تلك التحولت‬
‫القتصادية‪.‬‬
‫أول ‪ :‬نهاية الركود القتصادي في إقليم قطلونيا و بداية النمو‬
‫يفيدنا بيير بوناصي بأن النصوص التي اعتمدها تسمح بالقول بأن إقليم قطلونيا كان منتظما‬
‫خلل الفترة موضوع البحث في هيأة قمطيات؛ أكبرها قمطية برشلونة‪ .‬و على غرار قمطية‬
‫الماكوني‪ ،‬فقد ظلت مؤسسة القمطية قوية في قطلونيا حتى حدود سنة ‪ .950‬حيث كان القمط‬
‫مهاب الجانب‪ .‬يدين له بالولء جميع السكان من خاصة و عامة‪ .‬و ربما كان التماسك و التآلف‬
‫في قطلونيا أقوى مما كان عليه في سائر القمطيات نظرا لقربها من مراكز وجود المسلمين في‬
‫الندلس‪ .‬أما اقتصاديا‪ ،‬ففد كانت قطلونيا إقليما فقيرا حتى حدود السنة المذكورة‪ .‬يقيم سكانها‬
‫المؤلفين في معظمهم من فلحين في المناطق الوعرة‪ .‬يعيشون في إملق و تغلب على حياتهم‬
‫الرتابة‪.‬‬
‫و يفيدنا بيير بوناصي بأن أقماط قطلونيا تحللوا من تبعيتهم لملوك غالة منذ عهد بوريل الثاني‬
‫) ‪ ( Borrell II‬الذي تولى مهام القمطية بين سنتي ‪ 948‬و ‪ . 992‬فحرموا من أي سند يحميهم‪،‬‬
‫و لذلك ظلوا حريصين على كسب ود خلفاء قرطبة بحفظ المواثيق و تبادل الهدايا و الصلت‪ .‬و‬
‫لم يجرؤوا يوما على مناوشة مسلمي الندلس رغم أنهم تعرضوا لبعض الحملت العسكرية مثل‬
‫تلك التي قادها المنصور بن أبي عامر سنة ‪ 985‬م‪ 374 / .‬ه‪ .‬و تلك التي قام بها ابنه عبد الملك‬
‫سنة ‪ 1003‬م‪ 393 /.‬ه‪ .‬و رغم انقلب موازين القوى لصالح مسيحيي شبه جزيرة ايبيريا بعد‬
‫سقوط الخلفة و اتجاه الندلس نحو التجزئة ‪،‬فقد استمر أقماط قطلونيا في نهج سياسة الود و‬
‫‪ - 84‬دليلنا في ذلك التعاليق و التقارير الكثيرة التي خصها بها الباحثون في الدوريات و المجلت المتخصصة‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫المهادنة اتجاه القائمين على المر في الممالك الطائفية خلفا للسياسة التي انتهجها القشتاليون‪ .‬و‬
‫أهم ما تجرؤوا على القيام به هو حماية بعض الممالك الطائفية الصغرى مثل مملكتي سرقسطة و‬
‫طرطوشة و المشاركة في بعض الحملت التي قام بها مسيحيو شبه جزيرة ايبيريا ضد مسلمي‬
‫الندلس و السماح لعدد من المحاربين القطلنيين بوضع مهاراتهم القتالية رهن إشارة بعض‬
‫القوى السلمية مقابل أجر‪.‬‬
‫و يبدو أن سياسة القماط و خدمات المحاربين عادت بالنفع على القمطية و على سكانها‪ .‬فقد‬
‫أخذت تتسرب إليها كميات مهمة من القطع الذهبية الندلسية‪ .‬ساهمت منذ حوالي سنة ‪ 980‬في‬
‫إنعاش اقتصادها‪ .‬حيث أعطت ديناميكية للنشاط الزراعي الذي كان معتمد سكانها‪ .‬و أسهمت في‬
‫إذكاء المبادلت التجارية‪ ،‬و إن ظلت منتجات الرض موضوع تلك المبادلت‪ .‬مما أفضى إلى‬
‫نهضة اقتصادية‪ .‬بدأت معالمها تتضح أكثر ابتداء من سنة ‪.851020‬‬
‫و ينبهنا بيير بوناصي في هذا المقام يأته من الخطأ القول بأن العوامل الخارجية وحدها هي التي‬
‫أدت إلى حدوث النتعاش القتصادي‪ .‬و الصواب هو أن استقرار الوضاع المنية على حدود‬
‫قطلونيا هيأ الظروف الملئمة لجهود مضنية كان يقوم بها الفلحون منذ منتصف القرن العاشر‪.‬‬
‫تمثلت في عمليات توسيع للمساحات الصالحة للزراعة عن طريق استصلح الراضي الهامشية‬
‫و تجفيف بعض المستنقعات و تحسين أساليب الداء في العمل الزراعي‪ .‬و أتى ذهب الندلس‬
‫ليقدم قيمة مضافة لتلك الجهود‪.‬‬
‫و الحصيلة هي أن عوامل خارجية و أخرى داخلية تظافرت لتنتقل قمطية قطلونيا من مرحلة‬
‫الركود إلى مرحلة النمو‪86‬؛ ومن مرحلة النغلق إلى مرحلة النفتاح‪ .‬و قد تجسدت صور هذا‬
‫النتقال في ارتفاع كمية عائدات الرض‪ ،‬و انتعاش السواق‪ ،‬و ازدياد حدة السيولة النقدية‪ ،‬و‬
‫انتعاش حركة البناء و التشييد وتحسن ظروف عيش السكان‪ ،‬و ارتفاع وتيرة الترحال في اتجاه‬
‫المراكز المسيحية و السلمية‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬النمو القتصادي و تشكل الروابط الفيودو – فصلية‬
‫كان من تبعات النمو القتصادي أن ازدادت قيمة و أهمية الرض‪ .‬و أصبحت موضوع رهان‬
‫حاد و صراع مكشوف بين عموم الفلحين و كبار الملكين من أفراد الرستقراطية الذين تزايد‬
‫جشعهم‪ .‬فلجأ هؤلء إلى تشييد الحصون و القصور المنيعة و تشكيل المليشيات العسكرية على‬
‫غرار ما قام به أقرانهم في مختلف قمطيات غالة‪ .‬و شرعوا في شن الغارات على بعض‬
‫المؤسسات الدينية و على الفلحين للستحواذ على ما في حوزتهم من أراضي‪.‬‬
‫و آل الصراع بطبيعة الحال لفراد الرستقراطية الذين نجحوا في بسط سلطانهم على معظم‬
‫فلحي قطلونيا من خلل إرساء السنيورية اللزامية‪ .‬التي تمثل في نظر الباحث مؤسسة أقيمت‬
‫للستفادة من الثمار التي أسفرت عنها جهود الفلحين‪.87‬‬
‫و يبدو أن المكاسب المادية و المعنوية التي حققها أفراد الرستقراطية لم تثنيهم عن طلب المزيد‪.‬‬
‫فأينعت رؤوس الكبار منهم ‪ .‬و أخذوا يرنون بأبصارهم نحو مؤسسة القمطية‪ .‬و دخلوا فعل في‬
‫صراع مكشوف مع القمط رايموند برنجر الول ) ‪ . ( Raimond Béranger Ier‬نجحوا على‬
‫إثره في بسط سلطانهم على القرى الواقعة في منطقة قطلونيا العليا‪ .‬و أسسوا بها ما يشبه‬
‫الكيانات السياسية المستقلة ) ‪ .( des dominations territoriales autonomes‬بينما فشلوا‬
‫في تحقيق نجاح مماثل في الحاضرة برشلونة وفي القرى التابعة لعمالها‪ .‬و مرد هذا الفشل‬
‫في نظر بيير بوناصي يكمن في قوة سلطة القمط في هذه المناطق و في انضمام سكان الحاضرة‬
‫و فلحي القرى إلى صفوفه تجنبا للسقوط في قبضة أفراد الرستقراطية‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫‪- Pierre Bonnassie, La Catalogne du milieu du Xe à la fin du XIe siècle : croissance et mutations‬‬
‫‪d’une société, Toulouse, Association des publications de l’Université de Toulouse-Le Mirail,1975-‬‬
‫‪1976, Tome I, p. 433 et p. 479.‬‬
‫‪86‬‬
‫‪- Ibid. , Tome I, p. 480.‬‬
‫‪87‬‬
‫‪- Ibid. ,Tome II, p. 537. Voir aussi du même auteur Les cinquante mots clefs de l’histoire médiévale,‬‬
‫‪Toulouse, Privat, 1981, p. 27 et p.86.‬‬

‫‪33‬‬
‫و الهم من ذلك هو أن النتصار الذي حققه القمط في هذه المواجهة شكل منعطفا حاسما في‬
‫مسيرة المؤسسات السياسية و البنيات الجتماعية في قطلونيا‪ .‬فقد خبر رايمند برنجر قوة‬
‫خصومه‪ ،‬فارتأى أن يتحول من قمط يشرف على تدبير الشأن العام و يرعى شؤون جميع أفراد‬
‫المجتمع من خاصة و عامة إلى قائد للرستقراطية‪ .‬فكان هذا التحول يعني بالنسبة لبيير‬
‫بوناصي دخول قطلونيا في " عصر الفيودالية "‪ .88‬حيث غدت الروابط الفيودو – فصلية هي‬
‫أساس العلقات بين القماط الذين تعاقبوا على إدارة قطلونيا و كبار أفراد الرستقراطية‪ .‬و قد‬
‫تميزت هذه الروابط بكونها كانت تتم أمام المل في طقوس و مراسيم خاصة‪ .‬ثم أصبحت منذ‬
‫سنة ‪ 1040‬تتم عبر مواثيق أو عقود ) ‪ 89.( les convenientiae‬فكان كل واحد من كبار‬
‫الرستقراطية يبرم عقدا مع القمط ؛ بوصف الول فصل و الثاني سنيورا‪ .‬و بموجب هذه العقود‬
‫كان يتم تحديد واجبات و حقوق كل طرف من طرفي العقد‪ .‬و قد تزايد عدد هذه العقود خلل‬
‫السنوات الموالية‪ .‬و واكبتها في تفس الوقت روابط فيودو – فصلية من دون عقود بين المنتمين‬
‫للشريحة السفلى و المنتمين للشريحة الوسطى في الطبقة الرستقراطية و كذلك بين هؤلء و‬
‫المنتمين للشريحة العليا في نفس الطبقة‪.‬‬
‫و المحصلة النهائية هي أن شبكة الروابط الفيودو – فصلية بلغت في ظرف ل يتجاوز العقدين‬
‫بعد سنة ‪ 1040‬مستوى رفيعا من النضج و التبلور لم يسبق له مثيل في مختلف أقاليم غرب‬
‫أوربا‪.،‬بما في ذلك القاليم الواقعة بين نهري اللوار و الراين التي ظلت تنعت حتى مطلع‬
‫سبعينيات القرن الماضي بكونها مهد الفيودالية‪.‬‬

‫يسمح العرض الوجيز لمضامين المنغرافيات القليمية التي اخترناها كنماذج لرصد مظاهر‬
‫تطور الفيودالية خلل المرحلة الثالثة من مسيرتها بالقول بأن الفيودالية بلغت فعل مستوى‬
‫متطورا من النضج بعد سنة ‪ .1000‬يمكن إجمال تجلياته و البعاد المترتبة عنه في العناصر‬
‫التية ‪:‬‬
‫‪ -‬أول ‪ :‬تجلى ذلك النضج في تجزئة مطلقة للسلطة؛ التي أصبح يمارسها كل من استطاع إلى‬
‫ذلك سبيل من أفراد الرستقراطية في دوائر ترابية ضيقة ل تتجاوز حدود القرية‪ .‬فتراجع دور‬
‫قصور الملوك و مقرات القماط‪ .‬وغدت القصور القديمة التي كان يملكها أفراد الرستقراطية‪ ،‬و‬
‫القصور التي استحدثها نفر منهم‪ ،‬مراكز لتخاذ القرارات و إصدار الوامر و ممارسة حق‬
‫اللزام الذي تم تسليطه على عموم الفرحين‪ .‬و استتبع كل ذلك اتساع نطاق شبكة روابط الفصالة‬
‫التي بلغت خلل هذه المرحلة الثالثة مستوى من الكمال‪ .‬فأخذت تبرم بمناسبة إقامتها في بعض‬
‫القاليم عقود و مواثيق‪ .‬كما حدث مثل في إقليمي قطلونيا و اللنكدوك حيث حلت تلك المواثيق‬
‫محل الوفاء القائم على القسم في الروابط الفيودو‪ -‬فصلية‪ .‬و في نفس الوقت أصبحت هذه الروابط‬
‫متمحورة حول الفيف الذي لم يعد متمثل في قطعة أرض فقط ‪ ،‬بل أصبح كذلك عبارة عن‬
‫‪90‬‬
‫قصور أو حصون كان يمنحها القماط أو كبار الملكين العقاريين لقادة المليشيات العسكرية ‪.‬‬
‫‪ -‬ثانيا ‪ :‬يبدو أن هذه التحولت كانت بالغة الهمية حسب النطباع الذي تتركه قراءة مؤلفات‬
‫المعاصرين لها‪ .91‬ترتبت عنها نتائج عميقة و شاملة على جميع الصعدة و المستويات‪ .‬و لذلك‬
‫ذهب جورج دوبي ‪،‬المعروف بكونه أبرز الباحثين الفرنسيين في التاريخ الوربي الوسيط ‪ ،‬إلى‬
‫‪88‬‬
‫‪- Pierre Bonnassie, La Catalogne…, Op. Cit., Tome II, p. 680.‬‬
‫‪89‬‬
‫‪- Pierre Bonnassie, « Les conventions féodales dans la Catalogne du XIe siècle », in Les structures‬‬
‫‪sociales de l’Aquitaine , du Languedoc et de l’Espagne au premier âge féodal , Paris,éd. Du C.N.R.S.,‬‬
‫‪1969, pp.187-208.‬‬
‫‪ - 90‬أنظر في هذا الشأن بيير بوناصي ‪:‬‬
‫‪Du Rhône à la Galice :Genèse et modalités du réglme féodale,in Structures féodales et féodalisme…,‬‬
‫‪.Op.Cit.p. 39 et suivantes‬‬
‫‪ - 91‬من بينهم راوول ﯖلبير )‪ (Raoul Glaber‬أحد أبرز إخباريي العصر الوسيط‪ .‬ولد سنة ‪ 985‬و توفي بعد سنة ‪ .1047‬نقل إلينا‬
‫معطيات عن تلك التحولت في " تواريخه " التي نشرها فرانسوا ﯕيزو )‪ ( Francoit Guizot‬باللغة الفرنسية سنة ‪ 1824‬تحت‬
‫عنوان‪ . Chronique de Raoul Glaber :‬ثم أعاد موريس برو )‪ (Maurice Prou‬نشر نصها اللتيني سنة ‪ 1886‬تحت عنوان ‪:‬‬
‫‪ .Les Cinq livres de ses histoires‬وصدرت بباريس عن منشورات ‪A. Picard‬‬

‫‪34‬‬
‫نعتها " بالثورة الفيودالية "‪ .92‬فيما ارتأى باحثون آخرون نعتها " بالنتقال الفيودالي "‪la ) 93‬‬
‫‪.( mutation féodale‬‬
‫‪ -‬ثالثا ‪ :‬انخرطت فيما نسميه بالمرحلة الثالثة من مسيرة الفيودالية مختلف أقاليم غرب أوربا‪ ،‬و‬
‫لو أن انطلقة هذه المرحلة تمت هنا و هناك في فترات متفاوتة نسبيا بين كيان سياسي وآخر؛ و‬
‫أيضا بين كيانات متجاورة داخل المجال الجغرافي الواحد‪ .‬ففي غالة نجح أفراد الرستقراطية في‬
‫النفراد بالسلطة في جميع القاليم منذ العقد الثاني من القرن الحادي عشر كما يتضح من‬
‫منغرافيتي جورج دوبي و جون بيير بولي‪ .‬أما في انجلترا فلم يحدث ذلك إل على نطاق ضيق‬
‫منذ عهد وليم الفاتح ) ‪ .( Guillaume le Conquérant‬فقد تنامت قوة بعض البارونات‪ .‬و‬
‫أقاموا شبكة من علقات التبعية‪ .‬و أصبحت تحت إمرتهم مليشيات عسكرية‪ .‬و لكنهم ظلوا‬
‫يحترمون المؤسسة الملكية من خلل تقديم الضرائب و تلبية نداء الملوك حين يدعونهم لبداء‬
‫‪94‬‬
‫المشورة أو لخوض الحروب‪.‬‬
‫و يبدو أن هذا المسار الخاص الذي سلكته الفيودالية في أنجلترا هو الذي حدا ببعض الباحثين‬
‫إلى إنكار وجود فيودالية بها‪ .‬بل إن نفرا منهم نادوا بضرورة شطب مفهوم الفيودالية من قاموس‬
‫‪95‬‬
‫اللغة‪.‬‬
‫و خلفا لنجلترا‪ ،‬ففي شبه جزيرة أيبيريا استطاعت أرستقراطية إقليم قطلونيا أن تفرض‬
‫وجودها كقوة فاعلة ابتداء من سنة ‪ 1060‬بعد أربعين سنة من الصراع مع سلطة القليم ممثلة‬
‫في شخص القمط‪.‬‬
‫و قريبا جدا من قطلونيا‪ ،‬في مملكة قشتالة و ليون‪ ،‬لم يستطع أفراد الرستقراطية النفراد‬
‫بالسلطة إل بعد سنة ‪ 1109‬تاريخ وفاة ألفونسو السادس الذي كان يحكم المملكة خلل عهده بيد‬
‫‪96‬‬
‫من حديد‪.‬‬
‫و عموما‪ ،‬فقد حدثت التحولت في مختلف كيانات غرب أوربا بعد فترة مخاض صعبة امتدت‬
‫بين سنتي ‪ 1020‬و ‪ 1060‬أو ‪ .1080‬احتدمت خللها النزاعات السياسية – العسكرية و‬
‫الضطرابات الجتماعية‪ .‬فماذا يمكن أن يقال عن ملمح فترة المخاض و ما هي مظاهر‬
‫التحولت التي انبثقت عنها ؟‬

‫‪ - 92‬استعمل جورج دوبي العبارة لول مرة و جعلها عنوان مبحث في كتاب ‪:‬‬
‫‪du féodalisme,Paris,Gallimard, 1978,pp.182-205.‬‬ ‫‪Les trois ordre ou l’imaginaire‬‬
‫‪ -93‬يتعلق المر بجون بيير – بولي و اريك بورنازيل اللذان جعل عبارة " ‪ "la mutation féodale‬عنوانا لكتاب أصدراه سنة‬
‫‪ 1980‬و قد سبق أن أحلنا عليه‪ .‬و الجدير بالشارة أن مسألة الثورة الفيودالية أو النتقال الفيودالي ‪ ،‬التي ل يسمح لنا المقام بالتوقف‬
‫عندها‪،‬أثارت نقاشا حادا في أوساط الباحثين خلل السنوات القليلة الماضية‪ .‬يمكن الطلع عليه من خلل العودة إلى المقالت التي‬
‫نشرتها المجلة النجليزية ‪ Past and Present‬في العدد ‪ 142‬الصادر سنة ‪ ،1994‬و العدد ‪ 152‬الصادر سنة ‪ ،1996‬و العدد ‪155‬‬
‫الصادر سنة ‪.1997‬كما يمكن العودة إلى كتاب دومنيك بارثلمي )‪: (Dominique Barthélémy‬‬
‫‪La mutation de l’an mil a-t-elle eu lieu ? Servage et chevalerie dans la France des Xe et Xie siécle,‬‬
‫‪Paris, Fayard, 1997.‬‬
‫كما يمكن العودة إلى بحث لكريستيان لورنسون روزاز )‪ (Christian Lauranson Rozaz‬تحت عنوان ‪:‬‬
‫» ‪ .« Le débat sur la mutation féodale :état de la question‬وهو نص من ‪ 14‬صفحة في صيغة ‪ pdf‬منشور على‬
‫الموقع ‪www.droit.u-clermont1.fr :‬‬
‫‪ - 94‬لمزيد من التفاصيل بخصوص هذا الموضوع نحيل القارئ إلى دراستين إحداهما قديمة باللغة الفرنسية و الخرى باللغة النجليزية‬
‫صدرت منذ بضع سنوات‪ .‬وهما ‪:‬‬
‫‪Charlees Menche de Loise, France et Angleterre, étude sociale et politique, Paris, éd. E. Dentu, 1859.‬‬
‫‪,et Wilfred Lewis Warrem, The governance of norman and angevin England 1086-1272, California‬‬
‫‪.Stanford University Press, 1987‬‬
‫‪ -95‬تعد الباحثة اليزابيث راش براون )‪ (Elisabeth Rash Brown‬أبرز من عبر عن هذا الموقف في عدد من أبحاثها و أهمها في هذا‬
‫المقام مقال ‪:‬‬
‫» ‪The tyranny of construct, feudalism and historians of medieval Europe », The American Historical‬‬
‫‪.Review, Vol. 79, No 04, 1974, pp. 1063-1088‬‬
‫‪96‬‬
‫‪- Marie-Claude Gerbet, La noblesse dans le royaume de Castille, Paris, les publications de la‬‬
‫‪Sorbonne, 1979.‬‬

‫‪35‬‬
‫يستفاد من البحاث المنغرافية التي استعرضنا مضامينها و من غيرها‪ ،97‬بأن الفترة المشار إليها‬
‫)‬ ‫شهدت فعل حالة احتقان و توتر عمت مختلف أقاليم غالة كإقليم ماكوني و إقليم بواتو‬
‫‪ ( Poitou‬و إقليم بيكارديا ) ‪( la Picardie‬؛ و هي أقاليم تقع وسط و شمال غالة وقريبة من‬
‫مركز السلطة‪ .‬و حدث الحتقان أيضا في إقليمي بروﭬانسيا و اللنكدوك ) ‪( le Languedoc‬‬
‫الواقعان في الجنوب و البعيدين نسبيا عن مركز السلطة‪ .‬و حدثت نفس الحالة في إقليم اللسيوم‬
‫اليطالي البعيد عن التأثير المباشر للحداث الجارية في غالة‪ .‬و كذلك في أقاليم شبه جزيرة‬
‫أيبيريا التي كان من المفترض أن تظل فيها جميع فئات المجتمع متماسكة ‪ ،‬و أيديها في أيدي‬
‫القائمين على المر بها‪ ،‬نظرا لوقوعها بمحاذاة مراكز وجود المسلمين الذين كانوا يهددونها‬
‫باستمرار‪.‬‬
‫و عموما‪،‬فان العنف أصبح منذ مطلع القرن الحادي عشرسلوك أفراد المجتمع عامته و خاصته‪.‬‬
‫و كأنهم استشعروا جميعا بأن حدثا ما يلوح في الفق كان يجب الستعداد له‪ .‬ما هو ذلك الحدث‬
‫الذي كان يلوح في الفق؟ انه باختصار النهضة القتصادية التي بدأت مقدماتها منذ مطلع القرن‬
‫التاسع‪ ،98‬و التي ستتجلى في صورة أوضح بعد سنة ‪ .1020‬و ستستمر حتى حوالي سنة ‪.1320‬‬
‫فقد أحس الفلحون الذين بذلوا جهودا مضنية في استصلح الراضي و توسيع المساحات‬
‫الصالحة للزراعة‪ ،‬بأن عوائق توضع أمامهم لمنعهم من الستفادة من ثمار تلك النهضة‪ .‬أما أفراد‬
‫الرستقراطية فأرادوا استباق الحداث للستفادة منها‪ .‬و لذلك شرعوا في وضع " المسالك " و‬
‫" القنوات " التي ارتأوا أن تعبرها النهضة التية‪.‬‬
‫و هكذا بدأت في أوساط الفلحين إرهاصات الحركات الحتجاجية التي ستندلع بعنف‪ ،‬متخذة‬
‫تارة شكل حركات دينية كالحركات الهرطقية ) ‪ 99( les hérésies‬و تارة شكل انتفاضات‬
‫اجتماعية عارمة‪ 100.‬اندلع بعضها بين سنتي ‪ 1000‬و ‪، 1320‬أي خلل العصر الوسيط الوسط‪.‬‬
‫بينما اندلعت سلسلة انتفاضات أخرى منذ سنة ‪ 1315‬أو ‪ 1320‬و استمرت طيلة العصر الوسيط‬
‫السفل؛ متزامنة مع الكوارث الطبيعية و الديمغرافية و الحروب التي شهدتها أقاليم غرب أوربا‬
‫خلل هذه الفترة‪.‬‬
‫أما أفراد الرستقراطية‪ ،‬الذين بهمنا أمرهم في هذا المقام‪ ،‬فقد بدأوا يتلكئون في تقديم الولء‬
‫للقماط كما رأينا في ما مضى‪ .‬و أخذت العلقات بينهم و بين القماط تميل نحو التشنج‪ .‬ينطبق‬
‫هذا المر أيضا على نفر من أفراد الرستقراطية الذين ينتمون لسر عريقة‪ ،‬و الذين كانوا‬
‫يشاركون في ممارسة السلطة في القرى بتفويض من القماط أو بتفويض مباشر من الملوك‪ .‬فقد‬
‫أصيبوا هم الخرين بالعدوى‪ .‬و بموازاة هذه التطورات أخذ الفساد ينخر جسم مؤسسة القمطية‪ .‬و‬
‫‪ - 97‬يمكن أن نذكر في هذا المقام المنغرافيات التية ‪:‬‬
‫‪Marcel Garaud, Les châtelains de Poitou et l’avénement du régime féodal. XIe-XIIe siècles, Poitiers,‬‬
‫‪éd., Société des Antiquaires de l’Ouest, 1967 ;Robert Fossier, La terre et les hommes en Picardie‬‬
‫‪jusqu’à la fin du XIIIe siècle, Paris, B. Nauwelaerts, 1968, 2 Vol. ; Dominique Barthélemy, Les deux‬‬
‫; ‪âges de la seigneurie banale. Coucy (XIe-XIIIe siècles), Paris, les publications de la Sorbonne, 1984‬‬
‫‪Hélène Débax, La féodalité languedocienne XIe-XIIe siècles. Serments, hommage et fiefs dans le‬‬
‫‪Languedoc Trencavel, Toulouse, Presses Universitaires du Mirail, 2003.‬‬
‫‪ -98‬عن مقدمات النهضة القتصادية أنظر كتاب جورج دوبي ‪:‬‬
‫‪Guerries et paysants.VIIe-XIIe siècles. Premier essor de l’économie européenne, Paris,Gallimard,1973.‬‬
‫‪ -99‬أنظر عن هذه الحركات كتاب ‪:‬‬
‫‪Régis Blanchet, Les hérésies médiévales face à l’inquisition, Paris, éd., du Prieuré, 1995, 2 Vol. et‬‬
‫و كتاب ‪:‬‬
‫‪André Vauchez et Robert Fossier, Histoire du Moyen Age, Tome II (Xe-XIe siècles), Paris, A. Colin,‬‬
‫‪2005.‬‬
‫‪ -100‬تناول عدد كبير من الباحثين النتفاضات الجتماعية التي شهدها الغرب الوربي خلل العصر الوسيط الوسط و العصر الوسيط‬
‫السفل‪ .‬يمكن العودة إلى المؤلفات التية على سبيل المثال ل الحصر ‪:‬‬
‫‪Rodney Howard Hilton, Bond men made free, medieval peasant movements and the English rising of‬‬
‫‪1381, London, éd., Maurice Temple Smith, Ltd.,1973. ; Laurent Feller, Paysans et seigneurs au Moyen‬‬
‫‪Age, VIIIe-Xve siècles, Paris, A. Colin, 2007. ; Flaran, Les luttes anti-seigneuriales dans l’Europe‬‬
‫‪médiévales et moderne (Actes de journées d’études tenues à l’abaye de Flaran),Toulouse, Presses‬‬
‫‪Universitaires du Mirail, 2009.‬‬

‫‪36‬‬
‫تفشت الضغائن و الدسائس بين القماط و مساعديهم كما حدث في إقليم قطلونيا و في قمطية‬
‫اللنكدوك مثل حسب الفادات التي يقدمها لنا كل من بيير بوناصي‪ 101‬و هلين ديباكس‬
‫) ‪ 102( Hélène Débax‬في الموضوع‪ .‬و سرعان ما كانت هذه المشاكل تتحول إلى صراع‬
‫مكشوف‪.‬‬
‫و من البديهي في مثل هاته الحالة أن ينضم أرستقراطيون لهذا الطرف و آخرون لذاك‬
‫الطرف‪ .‬ثم يحدث القتتال‪.‬‬
‫و الراجح أن هذه الظاهرة لم تقتصر على إقليمي قطلونيا و اللنكدوك‪ ،‬بل حدث ما يشبهها في‬
‫أقاليم و قمطيات أخرى كما يتضح من المنغرافيات القليمية التي سبق أن أحلنا عليها‪ .‬حيث‬
‫خصص مؤلفوها صفحات مطولة للحديث عن الوقائع و الحروب التي دارت رحاها بين أفراد‬
‫الرستقراطية‪ .‬إما بسبب اختلف المواقف من مؤسسات القمطية و من شخص القمط ‪ ،‬أو‬
‫لسباب و دواعي مختلفة‪ .‬وإن أهم ما يمكن استخلصه من وراء هذا الحديث هو أن وقائع‬
‫الحروب لم تعد تجري فقط على مستويات جهوية أو إقليمية كما كان يحدث في الماضي‪ ،‬بل‬
‫أصبحت كذلك عبارة عن وقائع شبه يومية تحتدم على المستوى المحلي‪ .‬أي في حدود القمطية‪،‬‬
‫و أحيانا في حدود القرية الواحدة على مشارف القصر أو الحصن‪.‬‬
‫و انطلقا من هذا العتبار ذهبت دومنيك بارثلمي ) ‪ ( Dominique Barthélemy‬إلى‬
‫القول بأن الحروب و عمليات القرصنة و عمليات السلب و النهب ) ‪ ( les rapines‬وجميع‬
‫‪103‬‬
‫أشكال العنف الخرى غدت بعد مطلع القرن الحادي عشر إحدى ظواهر المجتمع الوربي‪.‬‬
‫‪104‬‬
‫بينما ذهبت هلين ديباكس إلى التأكيد بأن العنف غدا أحد مكونات الفيودالية‪.‬‬
‫و كان من الطبيعي في مثل هاته الجواء أن يتصدر حملة السيف واجهة الحداث‪ .‬فعليهم أخذ‬
‫يعول أفراد الرستقراطية في خوض الوقائع الدائرة بين بعضهم ؛ أو الدائرة بينهم و بين القماط‪.‬‬
‫و عليهم كذلك أخذ يعول أفراد الرستقراطية لخماد انتفاضات الفلحين‪ .‬و من ثم ‪،‬تكاثرت‬
‫المليشيات العسكرية التي كانت عبارة عن فرق تتشكل من فرسان ) ‪ ( les milites‬و من‬
‫محاربين مرابطين في الحصون ) ‪ .( les milites castri‬و قد قدر بيير بوناصي بأن الفرقة‬
‫الواحدة من تلك المليشيات كانت تتألف أحيانا من مائة محارب‪ 105.‬و في نفس السياق خلص فليب‬
‫دوران ) ‪ 106( Philippe Durand‬إلى القول‪ ،‬بعد تحريات ميدانية‪ ،‬بان عدد المحاربين‬
‫المرابطين في القصور المنتشرة هنا و هناك في غرب أوربا كان مختلفا ‪ ،‬ولكنه كان يصل‬
‫‪107‬‬
‫عموما إلى المائة محارب‪ .‬و لكن هذا العدد كان يرتفع تبعا للظروف و المستجدات العسكرية‪.‬‬
‫و من هنا نستطيع أن نتصور بان مجمل عدد المحاربين كان يقدر باللف‪ .‬بعضهم كان يحارب‬
‫تحت إمرة القماط ‪،‬و بعضهم الخر تحت إمرة المؤسسات الدينية‪ ،‬و بعضهم تحت إمرة كبار‬
‫الملكين العقاريين‪ .‬و كانت تربط بين كل واحد منهم و بين سيده القمط أو المؤسسة الدينية أو‬
‫الرستقراطي روابط فيودو – فصلية‪ .‬كانت تقضي بأن يقوم بخدمة سيده السنيور‪ 108‬مقابل قطعة‬
‫أرض ) الفيف (‪.‬‬
‫و من المفيد الشارة إلى أن خصوصيات المرحلة اقتضت في بعض القمطيات لجوء أفراد‬
‫الرستقراطية إلى الوسائل السلمية لفض النزاعات القائمة بينهم و التحالف لمجابهة التحديات‬
‫‪101‬‬
‫‪- Pierre Bonnassie , La Catalogne…, Op.Cit. Tome II, p.539 et suivantes. Voir aussi les pages 575-‬‬
‫‪580.‬‬
‫‪102‬‬
‫‪- Hélène débax, La féodalité languedocienne…, Op.Cit., pp. 233-268.‬‬
‫‪103‬‬
‫‪- Dominique Barthélemy, Les deux age de la seigneurie banale…, Op.Cit., pp. 539-541.‬‬
‫‪104‬‬
‫‪- Hélène Débax, La féodalité…, Op.Cit., p. 233‬‬
‫‪105‬‬
‫‪- Pierre Bonnassie, « du Rône à la Galice genése et modalité du régime féodale », in Structures‬‬
‫‪féodales et féodalisme…, Op.Cit. p. 32. Voir aussi du même auteur, Les milites en pays d’ Oc au XIe‬‬
‫‪siècle, dans son recueil d’articles intitulé : Les sociétés de l’an mil un monde entre deux ages,‬‬
‫‪Bruxelles, De Bœck Université, 2001, p.453 et suivantes.‬‬
‫‪106‬‬
‫‪- Philippe Durand, Le château fort, Paris, éd., J.P. Gisserot, 1999.‬‬
‫‪107‬‬
‫‪- Ibid., p. 8.‬‬
‫‪ -108‬كانت الخدمة العسكرية )ما يسمى بالفرنسية ‪ ( le servisse d’ost‬تمثل أهم خدمة على الطلق‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫المشتركة‪ ،‬وأهمها انتفاضات الفلحين‪ .‬لذلك نشأت في تلك القمطيات‪،‬إلى جانب الروابط الفيودو‪-‬‬
‫فصلية التي تربط بين كل سنيور و أفصاله‪ ،‬روابط فيودو – فصلية بين بعض " السنايرة " ‪ ،‬و‬
‫خاصة بين متوسطي و كبار الملكين العقاريين أو بين هؤلء و البابوية كما حدث مثل في‬
‫قمطية بروﭭانسيا أو في إقليم اللسيوم‪ .‬و يبدو أن هذه الروابط تجاوزت مستوى " المجموعات‬
‫" و نحت نحو " المركزية " في إقليم قطلونيا‪ .‬فقد استطاع قمط برشلونة ريموند برنجر الول‬
‫أن يحسم سنة ‪ 1070‬الصراع الدائر بينه و بين الرستقراطية المحلية لصالحه‪ .‬فلجأ إلى"‬
‫ترويض" الروابط الفيودو – فصلية القائمة بين أفراد الرستقراطية و المليشيات التابعة لهم بان‬
‫سخر تلك الروابط لحسابه من خلل إقامة شبكة علقات تبعية‪ .‬وضع نفسه على رأسها‪،‬فغدا بذلك‬
‫" سنيور السنايرة "‪ .‬و تفاديا لية ردة من جانب أحد عناصر الشبكة اقترح إبرام عقود أو مواثيق‬
‫) ‪ ( convenenientiae‬بينه و بين أفراد الرستقراطية‪ 109.‬منح بمقتضاها لهؤلء " أفيافا "‬
‫تمثلت في قطع أرض و حصون نظير اللتزام بولئهم للقمط و احترام مؤسسات القمطية‪ .‬و كأنه‬
‫بهذا الجراء ألهم الملوك و المراء الذين حكموا الكيانات المسيحية في شبه جزيرة أيبيريا بعد‬
‫القرن الثاني عشر‪ .‬إذ أرسوا هم الخرين حكمهم على العناصر الثلث ‪ :‬الفصالة و الفيف و‬
‫المواثيق التي غدت هي العناصر الساسية المعتمدة في الحكم و تدبير الشأن العام‪.‬‬
‫و يبدو أن هذا الجراء كان ناجعا و منسجما تماما مع ما كان يعتمل في الواقع‪ .‬بدليل أن بعض‬
‫القائمين على المر في فرنسا " مهد الفيودالية " تبنوه هم الخرين خلل القرن الثالث عشر و‬
‫حتى أواخر القرن الموالي‪ .‬فبعد هذا التاريخ بدأ الوهن يدب في أوساط الرستقراطية من جراء‬
‫المصاعب القتصادية – المالية التي تفاقمت منذ سنة ‪ .110 1317‬و تداعيات حرب المائة سنة‬
‫التي اندلعت منذ سنة ‪1337‬؛ بالضافة إلى طاعون ‪ .1349-1348‬فهيأت هذه العوامل الظرفية‬
‫المواتية لتشرع " الدولة " مجددا في استعادة هيبتها على أسس قومية هذه المرة‪ .‬فكان ذلك يعني‬
‫بداية تلشي الفيودالية رغم أن بعض تجلياتها القانونية و المؤسساتية ظلت مستمرة في فرنسا‬
‫" مهد الفيودالية " حتى سنة ‪ .1789‬و لذلك ذهب جمهرة من الباحثين إلى نعت الثورة الفرنسية‬
‫بكونها " ثورة ضد الفيودالية " ) ‪.111( une révolution anti-féodale‬‬

‫يتبع بحول ال‬

‫‪109‬‬
‫‪- Pierre Bonnassie, « Les conventions féodales… », contribution déjà citée.‬‬
‫‪ -110‬أنظر ما ذكرناه في مقدمة هذا البحث‪ .‬و لمزيد من التفاصيل يمكن العودة إلى كتاب ﯖي بوا )‪: ( Guy Bois‬‬
‫‪.Crise du féodalisme, Paris, Presses de la Fondation Nationale des Sciences Politiques, 1976‬‬
‫و كتاب رودني هلتون )‪: ( Rodney Howard Hilton‬‬
‫‪Class conflict and the crisis of feudalism. Essays in medieval social history, London, The Hambledon‬‬
‫‪Press, 1985.‬‬
‫‪ - 111‬يمكن العودة بخصوص هذا الموضوع إلى الكتابين التيين ‪:‬‬
‫‪L’abolition de la féodalité dans le monde occidental, (actes du colloque international tenu à Toulouse‬‬
‫‪entre le 12 et le 16 novembre 1968), éd., du C.N.R.S.,Paris, 1972, 2 Vol. et John Markoff, The aboli-‬‬
‫‪tion of feudalism. Peasants, Lords and Legislations in the French Revolution, Pensylvania, The‬‬
‫‪Pensylvania University Press, 1996.‬‬

‫‪38‬‬

You might also like