Professional Documents
Culture Documents
شكلت ظاهرة الفيودالية أحد أخصب المواضيع التي استأثرت باهتمام الباحثين في مختلف أقطار
المعمور منذ القرن الثامن عشر .و لزالت إلى يومنا هذا مثار جدال بين المختصين ،سواء فيما يتعلق
بحيثيات نشأتها أو فيما يتعلق بمجال انتشارها و مستويات تبلورها هنا و هناك.
و قد انعكست ديناميكية البحث و سيولة التأليف في مختلف جوانب الظاهرة باليجاب على المكتبة
التاريخية عموما و مكتبة التاريخ الوربي الوسيط بشكل خاص.حتى أنه أصبح من الصعب -و ربما
من المستحيل – على القارئ العادي أو الباحث المختص الحاطة بجميع ما تم انجازه فيها من أبحاث
منغرافية أو دراسات ذات طابع تركيبي أو مقالت أو مداخلت ألقيت في إطار الندوات و الملتقيات
العلمية؛ نظرا لكثرة هذه التآليف من جهة و نظرا لختلف اللغات التي كتبت بها من جهة أخرى.
و الملحظ أن ظاهرة الفيودالية تكاد تكون ظاهرة كونية؛ انتشرت كليا أو جزئيا في مختلف أقاليم
العالم القديم ،و لذلك اهتم الباحثون الغربيون المحدثون و المعاصرون بدراسة مظاهرها في مجالت
أوربية طبعا و في مجالت غير أوربية أيضا .و في هذا السياق انبرى عدد منهم لمعالجة بعض تجلياتها
في المجال العربي-السلمي خلل العصر الوسيط أو خلل الحقبة السابقة على الستعمار الوربي.
غير أن الباحثين العرب ظلوا ،مع السف ،بمنأى عن هذه الحركية ،باستثناء قلة قليلة منهم اقتحمت
غمار هذا الموضوع .ومن ثم ،فان ما كتب عن الفيودالية باللغة العربية ،أو ما تم تعريبه من مؤلفات
أجنبية تناولتها،ل يمثل سوى نسبة هزيلة جدا .و يبدوهذا المرغير مفهوم إذا علما بأن التاريخ الوربي
الوسيط ،الذي تمثل الفيودالية إحدى أبرز قضاياه ،يندرج ضمن برامج ومقررات أقسام التاريخ
بالجامعات العربية .و من هذا المنطلق كان من المفروض أن تحضى الفيودالية ) و تاريخ أوربا الوسيط
ككل ( باهتمام الجامعيين بحثا و تأليفا.
و رغبة منا في سد جانب من الفراغ الحاصل ،ارتأينا و ضع هذا المؤلف رهن إشارة الطلبة و
الباحثين و عموم القراء؛ آملين أن يحضى بالقبول و ال ولي التوفيق.
مدخل
1
خصائص العصر الوسيط ) عصر الفيودالية و النظام الفيودالي ( -1
درج المؤرخون الوربيون منذ عصر النهضة على تقسيم تاريخ أوربا إلى مجموعة عصور
متعاقبة هي :العصر القديم بمرحلتيه اليونانية و الرومانية ،و العصر الوسيط ثم العصر
الحديث .واتخذوا من بعض الحداث السياسية-العسكرية الكبرى مفاصل بين عصر و آخر.
و يجمعون في هدا الشأن بأن سنة 476ميلدية ،التي تم فيها وضع حد لسيادة المبراطورية
الرومانية تمثل نهاية العصر القديم و بداية العصر الوسيط .بينما اعتبروا سنة 1453ميلدية،
تاريخ سيطرة التراك العثمانيين على القسطنطينية ،نهاية العصر الوسيط و بداية العصر
الحديث .ومن ثم ،يكون العصر الوسيط قد استغرق حوالي ألف سنة .شهدت خللها أوربا بوجه
عام و مناطقها الغربية بوجه خاص أحداثا متميزة و تطورات متباينة ،سواء من حيث اليقاع أو
من حيث المظاهر
تعود مقدمات تلك الحداث و التطورات إلى الفترة الممتدة بين القرنين الثالث و الخامس .و
هي فترة اصطلح على تسميتها بالعصر المبراطوري السفل .شهدت خللها المبراطورية
الرومانية أزمة متعددة المظاهر انتهت بسقوط روما سنة 476م .على اثر موجة غزو أولى
قامت بها شعوب قدمت من شمال أوربا عبر فترات ،و استقرت على أطراف المبراطورية قبيل
بداية الغزو.
و إذا كان ذلك الغزو قد أدى إلى نهاية وجود المبراطوربة الرومانية ،فقد أدى من جهة
ثانية إلى السراع بوتيرة تلك الحداث و التطورات .إذ استطاعت تلك الشعوب ،المعروفة
بالشعوب الجرمانية ،أن تسيطر على أقاليم غرب أوربا التي كانت وليات تابعة للمبراطورية .و
أسست بها كيانات سياسية .فكان ذلك إيذانا ببداية مسلسل التجزئة السياسية و تدهور المؤسسات
العمومية.و هو مسلسل استفحلت حلقاته خلل السنوات و القرون التي تلت عمليات الغزو ،رغم
بعض المحاولت التي رامت العودة بأوربا إلى عهود الوحدة .و قد تمت تلك المحاولت في
نطاق محدود و آلت إلى الفشل .و بالتالي ،وجب النتظار حتى أواسط القرن الخامس عشر لتبدأ
محاولت الوحدة و لتشرع المؤسسات في التبلور في اطارالدول المركزية الناشئة.
و واكبت مسلسل التجزئة السياسية سلسلة حروب شبه متواصلة داخل أوربا و خارجها )كانت
الممالك الوربية طرفا فيها ( استغرقت العصر الوسيط برمته .حدثت أولها بين الممالك
الجرمانية التي تأسست غداة الغزو .و تلتها حروب خاضها أكبر حكام هاته الممالك ،كحروب
شارلمان الملك-المبراطور في جرمانيا و ايطاليا و اسبانيا .ثم الحروب التي جرت فصولها
بمناسبة الموجة الثانية من موجات الغزو التي قام بها هذه المرة السكندنافيون و الهنغاريون .و
الحروب بين المسيحيين و المسلمين ،و أبرزها الحروب الصليبية في المشرق و حرب
السترداد في الندلس .و انتهت سلسلة حروب العصر الوسيط بحرب المائة سنة بين فرنسا و
انجلترا اللتان انضمت لهما ممالك أخرى.
و من المفيد أن نذكرفي هذا المقام بأن العصرالوسيط في أوربا هو عصر الفروسية و الفرسان.
فقد شكل الفرسان الشريحة السفلى في الرستقراطية.وكانوا موزعين على شكل فرق)مليشيات (.
تعمل كل واحدة منها تحت إمرة أحد أفراد الشريحة العليا في الرستقراطية .و تربط بين
الطرفين روابط خاصة تعرف بالروابط الفيودو -فصلية .(liens féodo-vassaliques ) les
و قد مثلت هذه الروابط كنه ظاهرة الفيودالية.
و بما أن الحرب كانت اهتمام الفرسان الول والخير ،فقد كانت الوقائع بين أفراد
الرستقراطيات المحلية أو الجهوية أمرا مألوفا .و قد بلغت الوقائع ذروتها سنة 1337حين
اندلعت حرب المائة سنة المشارإليها آنفا .وكانت تتخلل سلسلة الحروب و الوقائع ،أو تسبقها أو
2
تتلوها ،حركات اجتماعية -دينية كان يقوم بها الفلحون .و أبرزها حركات القرنين الحادي عشر
و الرابع عشر.
و في جميع الحوال كان هؤلء الفلحون ،الذين شكلوا السواد العظم في مجتمع أوربا
العصر الوسيط ،هم حصاد تلك الحركات و الحروب .كما كانوا في نفس الوقت هم الحطب
المغذي للحروب بما يقدمونه من خدمات و ضرائب و مغارم و مكوس لفائدة الرستقراطية
العقارية التي سخر أفرادها كل الوسائل القانونية و العسكرية للستفادة من فائض إنتاج عمل
الفلحين .الذين كان الواحد منهم ملزما بقضاء أكثر ساعات النهار في وضعية انحناء نحو
الرض التي غدت خلل العصر الوسيط مصدر النتاج الرئيسي ،بل مصدر حياة و وجود
مجتمع بأكمله.
و الجدير بالذكر في هذا الصدد أن عملية إعادة تشكيل الخارطة السياسية في أوربا بعد
انهيار المبراطورية الرومانية واكبتها عملية إعادة تشكيل مماثلة « للخارطة القتصادية »
التي لم تعد مشكلة من أنشطة واضحة المعالم :نشاط فلجي في الرياف و مبادلت تجارية و
أنشطة حرفية و خدماتية في الحواضر .بل اختزلت كثيرا ،حتى أنها لم تعد تشمل سوى النشاط
الزراعي .في حين اختفت المبادلت التجارية و النشطة الحرفية و مختلف الخدمات ،بما فيها
النشطة الفكرية التي اشتهرت بها مدن المبراطورية الرومانية .و لم تعرف هذه النشطة
النتعاش إل بعد مطلع القرن الحادي عشر .حين أفضت النهضة الزراعية التي شهدتها الرياف
إلى حدوث تحولت هائلة شملت جميع مناحي الحياة.
بدأت تلك النهضة تسجل تراجعا ارتسمت معالمه الولى حوالي . 1317 -1316و أصبحت
واضحة منذ حوالي 1320ايذانا بحدوث انقلب في الظرفية ،سرعان ما تحول إلى أزمة
اقتصادية و ديموغرافية و اجتماعية و سياسية و عسكرية و فكرية استغرقت القرنين الرابع
عشر و الخامس عشر.
و انطلقا مما تقدم نخلص إلى القول بأن مجمل أحداث و ظواهر و تطورات العصر الوسيط،
بما فيها ظاهرة الفيودالية ،التي سنتناول جوانبها بتفصيل ،حدثت في الرياف التي مثلت إطارها
الرئيسي؛ على القل حتى مطلع القرن الحادي عشر .حيث ستشرع المدن الناشئة في النضمام
إلى الرياف كفضاء لحداث و تطورات ما بعد سنة .1000و لذلك نؤكد مند البدء بأن تاريخ
العصر الوسيط في أوربا هو عموما تاريخ أرياف.
فمنذ القرن الثالث للميلد شهدت المبراطورية الرومانية مشاكل متعددة المظاهر ،ازدادت
تفاقما حتى سنة 476تاريخ سقوط روما .و كان من بين مظاهر تلك المشاكل تدهور المدن .و
تواصل هذا التدهور خلل القرون اللحقة حتى أن العديد منها اختفى تماما .و إن المدن القليلة
التي استمرت في الوجود تقلصت مساحتها و تراجع عدد سكانها .و بالتالي ،أصبحت الرياف
هي إطار جميع النشطة السياسية والقتصادية و الجتماعية و الفكرية حتى مطلع القرن الحادي
عشر.حيث شهدت حركة التمدين بداية انتعاش سيتواصل خلل القرون الموالية .فشرعت المدن
بموازاة تلك الحركة في استعادة جانب من وظائفها و جانب من الهيمنة التي كانت تمارسها على
الرياف قبل القرن الثالث.
و يجب التنبيه ،بأن عملية الستعادة تلك كانت محدودة نسبيا ،حيث إن المبادلت التجارية
التي تعتبر من أبرز الوظائف التي تحتضنها المدن ظلت مرتبطة بما كانت تقدمه الرياف من
منتجات زراعية ستشهد تراجعا منذ سنتي .1317-1316و سيتأكد هذا التراجع بعد سنة 1320
و على امتداد قرنين من الزمان.
كما أن التشكيلة الجتماعية التي تمنح المدن هوية مجتمعية تتطابق و تسميتها كمدن لم تأخذ
في التبلور إل بعد مطلع القرن الرابع عشر .لن البورجوازية ،التي كان يفترض أن تكون الطبقة
السائدة في تلك المدن ،كما سيحدث بعد مطلع القرن السادس عشر ،ظلت هجينة بعد عودة حركة
التمدين إلى النتعاش.
3
مما ل شك فيه أن الفقرات السابقة تسلط بعض الضوء على خصائص العصر الوسيط ،و
تساعد على فهم السياق العام الذي " نشأت " فيه و تطورت فيه الفيودالية في معناها الضيق
كروابط و التزامات ذلت صلة بالفيف ) ( le fiefأو في معناها الواسع كنظام اقتصادي و
اجتماعي.
تعتبر كلمة " فيودالية " تعريبا للمصطلح الفرنسي " " Féodalitéالذي شرع في استعماله
بفرنسا ابتداء من مطلع القرن السابع عشر؛ في وقت أخذت تستعمل فيه بباقي أقطار أوربا
مصطلحات مرادفة كمصطلح " " Feudalismoالذي استعمله اليطاليون و ال سبانيون و
مصطلح " "Feudalismالذي استعمله النجليزيون و مصطلح " " Feudalismusالذي
استعمله اللمانيون .و يندرج هذا التعدد و التنوع في سياق تعدد و تنوع اللغات الناشئة في أقطار
أوربا .حيث أصبح سكان كل قطر يستعملون لغة خاصة بهم ابتداء من هذه الفترة.
و قد تم اشتقاق جميع المصطلحات السالف ذكرها من الكلمة اللتينية فيوداليس" Feodalis
" أو من كلمة " "Feodumالتي أصبحت الكلمة الكثر تداول في النصوص ابتداء من مطلع
القرن الحادي عشر ،و تعني الفيف ." le fief " 1و هو قطعة أرض كان شخص ) و قد يكون
أيضا مؤسسة دينية ( يسمى " سنيورا " ) ( un seigneurيقدمها لشخص آخر .فيصبح
المستفيد من قطعة الرض تابعا للمانح و يسمى فصل ) .( un vassalيلتزم بتقديم خدمات و
التزامات معينة للسنيور .و تنشأ عن عملية تقديم الفيف و عن تلك اللتزامات روابط خاصة بين
الطرفين.
و قد ظلت كلمة فيودوم " "Feodumتعني منذ هذا التاريخ و حتى مطلع القرن الثامن
عشر الفيف و اللتزامات المترتبة على التابع المستفيد منه .و بعد مطلع القرن الثامن عشر أخذ
مفكرو أقطار غرب أوربا يعطون للمصطلحات الحديثة المشتقة من كلمة فيودوم مضامين و
دللت متنوعة .و تجلى هذا التنوع بشكل أكبر في فرنسا عاصمة فكر النوار الذي ساد في
أوربا خلل القرن الثامن عشر.
فقد ظل رجال القانون و المهتمون بتاريخ المؤسسات حريصين على استعمال مصطلح
" " féodalitéبمعناه الضيق الصلي ،أي الفيف و ما يترتب عن الستفادة منه من التزامات
وروابط .أما أقطاب الفكرالسياسي ،أمثال لويس مونتسكيو )) Charles Louis Montesquieu
(( 1689 - 1755وهنري دي بولنفليي )( ) (Henri de Boulainvilliers 1658- 1722
الذين عاصروا مرحلة سيادة السلطة المركزية في كل من فرنسا و انجلترا ،فقد استعملوه عند
الحديث عن التجزئة السياسية التي شهدتها أوربا بعد القرن التاسع ،و ما نشأ عنها من طرق و
أساليب خاصة في تدبير السلطة؛ التي أصبح يمارسها أفراد الرستقراطية .كل واحد منهم يمارسها
في حدود رفعة ترابية ضيقة .في حين أعطى الفلسفة و المنظرون ،أمثال فرانسوا ماري أروية )
( François Marie Arouetالمعروف بفولتير ) (Voltaire) (1698-1778للمصطلح
دللت أوسع .فاستعملوه بمعنى نسق من التطور ) .( un processus d’évolutionأو بمعنى
نمط من أنماط الحياة ) (un mode de vieكانت تتبناه مجتمعات غرب أوربا خلل العصر
الوسيط .و يمكن أن يتبناه أي مجتمع في أي مجال جغرافي .فالفيودالية من وجهة نظرهم ليست
مجرد ظاهرة خاصة شهدتها مجتمعات أوريا في العصر الوسيط ،بل هي نسق من أنساق التطور
-11ارتأينا ترجمة الكلمة الفرنسية fiefبكلمة فيف )بعلمة سكون فوق الياء ( لنها أكثر دقة .في حين أن الكلمات مثل " اقطاعة "
التي تجعلها بعض المعاجم العربية مقابلة لكلمة fiefغير دقيقة و ذات دللت خاصة تنطبق على المجال السلمي.
4
أو نظام حياة حدث في العصر القديم .كما حدث في العصر الوسيط .و له امتدادات في العصر
الحديث .
و على غرار الفلسفة و المنظرين أعطى المفكرون القتصاديون ،و أبرزهم النجليزي
أدم سميث ) ،(Adam Smith) (1723-1790لمصطلح فيودالية دللت أوسع كذلك .فقد
رأوا بأن الفيف الذي اشتق منه هو أول و أخيرا عقار ) (un bien-fondsاكتسى أهمية بالغة
بالنظر إلى سيادة النشاط الزراعي في العصر الوسيط .و قد شكل تبعا لذلك مصدر ثروة بالنسبة
للسيد و التابع .ومن ثم ،ل يمكن الحديث عنه و عن اللتزامات و الروابط المتصلة به بمعزل
عن الحياة القتصادية .فانكبوا على دراسة بنية ذلك العقار و مكونات تلك الثروة و مجالت
صرفها و ما إلى ذلك من قضايا ذات صلة بالوضاع القتصادية التي شهدتها أقاليم غرب أوربا
زمن سيادة الفيودالية.
و قد شكلت طروحات الفلسفة و المنظرين و المفكرين القتصاديين نقطة انطلق بالنسبة
لماركس و انجلز و أتباعهما الذين ذهبوا بعيدا .فجعلوا من الفيودالية نمط إنتاج،أي نظاما
سوسيو -اقتصاديا نشأ بعد نهاية النظام العبودي .و انتهى عندما بدأت تترسخ قواعد النظام
الرأسمالي.أي أن النظام الفيودالي نشأ في أوربا عندما تراجع دور العبيد كقوى منتجة و لم تعد
العلقات الجتماعية قائمة على العبودية .و بدأ في النحلل عندما هيمنت المبادلت التجارية
على الحياة القتصادية؛ و بدأت العلقات الجتماعية تأخذ منحى منسجما مع تطور قوى النتاج.
و معنى ذلك أن فترة سيادة نمط النتاج الفيودالي حدث خللها تطابق بين قوى النتاج التي
بلغت مستوى معينا من التطور و العلقات الجتماعية التي حققت بدورها مستوى معينا من
التطور.
و تبعا لنتشار الفكر الماركسي ،فقد تبنى هذا الطرح العديد من المفكرين و الباحثين في
أقطار أوربا و أمريكا و آسيا و إفريقيا .و أصبحوا يفضلون استعمال أحد المفهومين المركبين :
" نمط النتاج الفيودالي" ) ( mode de production féodalأو " النظام الفيودالي " )
(système féodalبدل مفهوم الفيودالية .لن لهما دللة شاملة تنطبق على جميع بنيات
المجتمع السياسية و القتصادية والجتماعية والفكرية .و يمكن استعمالهما عند البحث في بنيات
مجتمعات أخرى غير المجتمعات الوربية .فيمكن حينئذ الحديث عن نمط إنتاج فيودالي في
3
اليابان 2أو في الصين أو في أحد أقطار إفريقيا.
و انطلقا مما تقدم ،يتضح بأن المضامين و الدللت التي أعطاها مفكرو أوربا لمصطلح
فيودالية و للمصطلحات المرادفة له مضامين و دللت مختلفة .و قد تحول الختلف إلى تباين
حينما لجأ ثلة من المفكرين إلى استعمال مصطلحات مركبة هي نمط النتاج الفيودالي ) le mode
( de production féodalأو النظام الفيودالي .( ( le système féodalبحيث لم يعد ممكنا
إحداث تقارب بين وجهات النظر.لن المصطلحات ارتقت إلى مستوى المفاهيم ،نظرا لصبغتها
الجرائية و الوظيفية و نظرا لما يعكسه استعمالها من مواقف و رؤى و مناهج في البحث .و لزال
هذا التباين حتى اليوم أحد سمات النتاج السطريوغرافي المتصل بالموضوع.
و إجمال يمكن التمييز في عموم الباحثين و المفكرين بين فئتين :فئة تتبنى و تستعمل مفهوم
الفيودالية ) أو أحد المفاهيم المرادفة له حسب لغة المفكر أو الباحث ( .و تلخص مضمونه في
-2يمكن العودة بهذا الخصوص إلى دراسة أصبحت اليوم كلسيكية للباحث كوهاشيرو تكاهاشي) ( Kohachiro Takahachiتحت
عنوان :
La place de la Révolution de Meiji dans l’histoire agraire du Japon , in Du féodalisme au capitalisme
Problèmes de la transition, traduction française, Paris Maspero,1977,Tome II.
و للطلع على أحدث ما كتب حول الفيودالية في اليابان و الصين و آسيا عموما نحيل القارئ على القسم الثاني من كتاب أنجزه
مجموعة مؤلفين تحت إشراف جون -بيار بولي) (Jean-Pierre Polyواريك بورنازيل) (Eric Bournazelبعنوان :
Les féodalités, Paris, P.U.F.,1998
-3انظر في هذا الشأن مداخلت الندوة التي نظمها مركز الدراسات و البحاث الماركسية بباريس يوم 27أبريل .1968و قد صدرت
سنة 1974ضمن منشورات سوي ) ( Seuilتحت عنوان :
féodalisme Sur le
5
كونه الفيف و اللتزامات المرتبطة به و العلقات القائمة بين الذي يقدمه و الذي يستفيد منه .و
فئة تتبنى و تستعمل مفهوم نمط النتاج الفيودالي أو النظام الفيودالي بمعنى نسق من التطور
شهده مجتمع غرب أوربا خلل مرحلة معينة من تاريخه تطابقت فيها قوى إنتاج ،وصلت
مستوى معينا من التطور ،مع علقات اجتماعية منسجمة معها.
ورغم المناظرات والملتقيات التي سعت بعض الجهات التي نظمتها إلى تقريب وجهات نظر
الفئتين ،4فإن التباين أصبح قدرا محتوما .بل إن هذا التباين أخذ في فرنسا طابع الجدل الحاد الذي
أفضى منذ مطلع القرن العشرين إلى ظهور وشيوع استعمال مفهوم جديد في أوساط المفكرين و
الباحثين المشبعين بفكر ماركس و انجلز و هو مفهوم " الفيوداليسم " ) )Féodalismeالمرادف
لمفهومي نمط النتاج الفيودالي والنظام الفيودالي .و قد تبنت هذا المفهوم الوساط العلمية .و دخل
قاموس اللغة الفرنسية الذي يتميز بكونه القاموس الوربي الوحيد الذي يتضمن مفهومين هما :
" " Féodalitéو" ." Féodalisme
و الحقيقة أن هذه الضافة لم تعمل على إثراء رصيد لغة الباحثين الفرنسيين بقدر ما جعلت
الهوة الفاصلة بين الذين يستعملون هذا المفهوم أو ذاك أكثر عمقا .و يخطأ البعض حين يعتبرون
هذه الزدواجية مجرد اختلف في اللغة أو المفاهيم المستعملة .بل على العكس من ذلك تماما
تعكس ،في اعتقادنا ،اختلفا في الرؤى و المناهج المتبعة كما سيتبين ذلك من خلل العناصر التي
سيتم تناولها في هذا البحث.
تفاديا لي فهم خاطئ قد يوحي به هذا العنوان ،نوضح بأن دراسة الفيودالية و النظام
الفيودالي ل تتم انطلقا من مصادر جد خاصة ،بل على العكس من ذلك تستوجب الحاطة
بمختلف جوانبهما العودة إلى قاعدة معلومات و معطيات متنوعة لستقاء المادة التاريخية .تتمثل
هذه القاعدة في المصادرالركيولوجية و المصادر الخطية.
- 4من بين هذه الملتقيات على سبيل المثال الندوة الدولية التي نظمها المركز الوطني للبحث العلمي )le Centre National de la
(Recherche Scientifiqueبرحاب المدرسة الفرنسية بروما ) (l’Ecole Française de Romeأيام 13-10أكتوبر سنة .1978
و صدرت أعمالها بباريس سنة 1980ضمن منشورات المركز المذكور تحت عنوان:
Structures féodales et féodalisme dans l’Occident méditerranéen Xe-XIIIe Siècles
6
إلى نتائج بالغة القيمة عززت، باعتبارها " مهد الفيودالية " كما يقال،في فرنسا بوجه خاص
رصيد قاعدة المعلومات و المعطيات التي كانت حتى بدايات القرن الماضي تستقى من النصوص
و من، في المقام الول؛ المر الذي مكن من إعادة رسم خارطة النتشار الجغرافي للفيودالية
إعادة تحديد المجال الترابي الذي كانت تمارس فيه سلطة أفراد الرستقراطية خلل فترة سيادة
.الفيودالية
( وla détection aérienne) و قد تمت صياغة أهم نتائج عمليات الستشعار الجوي
التنقيب الميداني في تقارير و عروض و دراسات أهمها على الطلق عروض و تقارير
مركز البحاث الركيولوجية1962 الملتقيات الدورية التي دأب على تنظيمها منذ سنة
(( التابعle Centre de Recherches Archéologiques médiévales القروسطوية
23 ( من2009 و قد تم نشر سلسلة منها تتألف ) حتى حدود شهر يونيو.( Caen ) لجامعة
Château Gaillard : مؤلفا تحت عنوان
: و تأتي بعد هذه السلسلة أبحاث و دراسات ل تقل أهمية نورد عناوينها كما يلي
1- AFFOLTER Eric ; PEGEOT Pierre ; VOISIN Jean-Claude, L’habitat
médiéval fortifié dans le nord de la Franche-Comté : Vestiges de
fortifications de terre et de maisons fortes, Montbéliard, Afram, 1986.
2- CHATEAU André, Châteaux forts et féodalité en Ile-de France du XIe
au XIIIe siècle, Paris, Editions Créer, 1983.
2- COLLECTIF, Des châteaux et des sources. Archéologie et histoire
dans la Normandie médiévale, Rouen, publications des Universités de
Rouen et du Havre, 2008.
3- DEBORD André, Aristocratie et pouvoir, le rôle du château dans la
France médiévale, Paris, Editions A. et J. Picard, 2000.
4- DURAND Philippe, Le château fort, Paris, Editions Jean-Paul Gisserot
,1999.
5- FIXOT Michel, Les fortifications de terre et les origines féodales dans
le Cinglais, Caen, Centre de Recherches Archéologiques médiévales,
1968.
6- GONDOIN Stéphane-Wiliam, Les châteaux-forts, Paris, Chemine-
ments, 2005.
7- JALMIN Daniel, Archéologie aérienne en Ile-de France, Paris,
Editions Technipp,1970.
8- LEFRANC Guy,Vestiges de mottes féodales en Flandre intérieure,
Atlas archéologique No 1, Lille,Editions l’APAR ,1976.
7
( و المتن الذي تكونه نصوص القوانين الجرمانيةDiplômes et les Edits royaux
.(les Formulaires ) ( و وثائق العقودles Lois Barbares ) " " الباربارية
: وعموما يمكن استعراض نماذج من أهم هذه المصنفات كما يلي
كتب الخباريات و الحوليات: أول
أ ( الخباريات
1- Abbon de Fleury (mort en 1040), Siège de Paris par les Normands, éd.
et trad. François Guizot in Collection des mémoires relatifs à l’histoire
de France depuis la formation de la monarchie française jusqu’au 13e
siècle, Paris, éd. J.L.J. Brière, vol. I, 1824.
2- Flodoard de Reims (mort en 966), Chronique, éd. et trad. François
Guizot in Collection des mémoires…
3- Hugues de Fleury (mort après 1122), Chronique, éd. et trad. François
Guizot in Collection des mémoires…
4- Raoul Glaber (mort en 1047), Chronique, éd. et trad. François Guizot
in Collection des mémoires…
5- Richer de Reims (mort en 998), Histoires, texte édité , traduit et
annoté par Jean Guadet, Paris, éd. Jules Renouard, 1845, 2 vol.
ب( الحوليات
1- Anonyme, Annales de Saint- Bertin et de Metz, éd. et trad. François
Guizot in Collection des mémoires relatifs à l’histoire de France depuis la
formation de la monarchie jusqu’au 13e siècle, Paris, éd. J.L.J. Brière,
vol. I, 1824.
2- Annales de Saint- Bertin et de Saint-Vaast suivies de fragments d’une
chronique inédite, éd. Abbé César Auguste Dehaisnes, Paris, éd. Jules
Renouard, 1871.
3- Eginhard (mort en 840), Annales des rois Pépin, Charlemagne et
Louis-le Débonnaire, éd. et trad. François Guizot in Collection des
mémoires…, vol. III, 1824.
سير القديسين و القديسات: ثانيا
1- Bernard d’Angers (mort vers 1050) et continuateurs, Les miracles de
Sainte-Foy de Conques (morte en 303), éd., Auguste Bouillet, Paris, A.
Picard, 1897.
2- Moine anonyme, Vie de Saint-Didier évéque de Cahors (630-655), éd.
René Poupardin, Paris, A. Picard, 1900.
3- Saint Odon abbé de Cluny (mort en 942), Vie de Géraud d’Aurillac
(mort en 909),
الظهائر و المراسيم الملكية: ثالثا
1- Eugène de Rozière, Recueil général des formules usitées dans l’Empire
des Francs du Ve au Xe siècle, Paris, éd. Auguste Durand, 1859-1871, 3
vol.
2- Recueil des actes de Louis II le Bègue, Louis III et Carloman II rois
des Francs (877-884), éd. Félix Grat, Jacques de Font-Reaulx, Georges
Tessier et Robert-Henri Bautier, Paris, Imprimerie Nationale, 1978.
8
3- Recueil des actes de Robert I et Raoul rois de F rance (922-936), éd.
Jean Dufour, Paris, Imprimerie Nationale, 1978.
4- Recueil des actes de Lothaire et de Louis V rois de France (954-987),
éd. Louis Halphen et Ferdinand Lot, Paris, Imprimerie Nationale, 1908.
5- Recueil des actes de Philippe Ier roi de France (1059-1108), éd.
Maurice Prou, Paris, Klincksieck, 1908.
القسم الول
9
لعامة المجتمع أو لخاصته ،لم يكن يعيش منعزل عن الفراد الخرين المنتمين لفئته أو لطبقته أو
لطائفته .كما لم يكن منعزل عن الفراد المنتمين لغير فئته .و ل يختلف اثنان في القول بأن أفراد
الرستقراطية ،الذين يهمنا أمرهم في هذا المقام ،كانت تربط بينهم منذ عهود قديمة روابط
اقتضتها المصالح المشتركة.
و نحن إذ نطرح هذه التساؤلت و نقدم هذه المعطيات ،فللتذكير بأن عددا من المؤرخين،
وخاصة منهم الفرنسيون ،الذين سيأتي ذكر أسماء بعضهم لحقا ،ينكرون أن تكون الفيودالية – أي
الروابط الفيودو – فصلية -امتدادا للروابط التي كانت قائمة بين أفراد الرستقراطية قبل سنة
،1000أو شكل متطورا لتلك الروابط .و دعواهم في ذلك هو أن الفيف بوصفه حجر الزاوية في
تلك الروابط لم يظهر و لم يصبح محور الفيودالية إل ابتداءا من مطلع القرن الحادي عشر .كما أن
كلمة فيودوم نفسها التي اشتق منها مصطلح فيودالية لم يبدأ تداولها في النصوص إل بعد سنة
.1000
و خلفا لهذا العتقاد ،سنحاول في هذا القسم تأكيد فكرة مفادها أن الفيودالية تضرب بجذور
عميقة في تاريخ غرب أوربا تعود على القل إلى القرن الثالث للميلد .و قد تطورت لتصل إلى
مرحلة النضج ابتداء من مطلع القرن الحادي عشر .و نميز في مسيرة الفيودالية الطويلة التي
امتدت من القرن الثالث حتى نهاية العصر الوسيط 5بين ثلثة مراحل كبرى :أولها مرحلة
علقات الرفاقة ) ( le Compagnonnageالتي كان يقيمها أفراد الرستقراطية الجرمانية مع
مجموعة شباب .كانوا يتخذونهم رفقاء و حراسا لهم في نفس الوقت .و تمثل هذه العلقات في
اعتقادنا أصول الفيودالية .و ثانيها مرحلة علقات الفصالة ) ( le vasselageالتي أصبح يقيمها
أفراد الرستقراطية في الممالك التي تأسست بعد انهيار المبراطورية الرومانية .و كانت هذه
العلقات قائمة بينهم و بين مجموعة أتباع ) محاربين في المقام الول ( .قامت في بادئ المر على
عطاء غير الرض يسمى بنفسيوم ) ( beneficium؛ ثم أصبحت الرض أساس هذه العلقات
منذ منتصف القرن التاسع .و قد استغرقت الفترة الزمنية الممتدة من القرن السادس حتى نهاية
القرن العاشر.أما المرحلة الثالثة ،فهي مرحلة نضج الفيودالية .و خللها أصبحت علقات الفصالة
التي سادت خلل المرحلة السابقة قائمة على الفيف .و لذلك نسمي العلقات التي سادت خلل
المرحلة الثالثة باسم الروابط الفيودو -فصلية تميزا لها عن علقات الفصالة.
ل يمكن البحث في جوانب تاريخ أوربا خلل العصر الوسيط دون استحضار الجرمان،
باعتبارهم إحدى أبرز القوى التي أثرت بشكل فعال في مجربات أحداث هذه الحقبة التاريخية .و
أثروا تبعا لذلك في نظم و حضارة الحقبة المذكورة .و يكفي أن نذكر مجددا بأنهم هم الذين أجهزوا
على المبراطورية الرومانية سنة .476فساهموا بذلك في إعادة تشكيل خارطة أوربا السياسية .و
تجاوز فعلهم حدود البنيات السياسية ليشمل البنيات القتصادية و الجتماعية و عناصر السكان .و
ل زالت مظاهر تأثيرهم في تاريخ و حضارة غرب أوربا سارية المفعول إلى يومنا هذا .بل تجاوز
تأثيرهم حدود القارة الوربية ليشمل مناطق من إفريقيا بعد أن نجحت مجموعة قبلية من الجرمان،
متمثلة في الو ندال ،من إقامة مملكة ببعض أقاليم شمال إفريقيا.
- 5نعتبر تجاوزا بأن منتهى الفيودالية في معناها الضيق تطابق مع نهاية العصر الوسيط .و الحقيقة أن بعض مظاهرها القانونية و
الجتماعية استمرت في بعض أقاليم غرب أوربا إلى وقت متأخر .ففي فرنسا مثل استمرت حتى سنة .1789لذلك يعتبر بعض الباحثين
الثورة الفرنسية ثورة ضد الفيودالية ) .( une révolution anti-féodale
10
و قد بات من المعروف اليوم بأن الشعوب الجرمانية تنحدر من أصول هندو -أوربية .كانت
تقيم في المناطق المحيطة ببحر البلطيق ؛ و بالتحديد في القاليم التي تتشكل منها اليوم كل من
السويد و الدانمارك و النرويج و القاليم المجاورة لها .و امتد مجال تواجدها في اتجاه بحر الشمال
و مصبي كل من نهر اللب و نهر الويزر.ثم شرعت بعد سنة 900قبل ميلد المسيح في القيام
بحركة نزوح نحو الجنوب حتى أصبحت مستقرة حوالي القرن الثالث للميلد في القاليم الواقعة
شمال جبال اللب و نهر الدانوب و شرق نهر الراين.
يعد مصنفا سايوس يوليوس قيصر) Caius Julius Caesar) (100ق.م 44 – .ق.م ( .و
بوبليوس كورنيليوس تاسيتوس ) Publius Cornelius Tacitus ) ( 55ق.م 120 – .م ( .أهم
المصادر الخطية التي يعتمدها الباحثون في استقاء معلومات عن نمط حياة و تنظيمات الشعوب
الجرمانية .فقد كان الول قائدا عسكريا مارس السلطة و استكمل مشوار حياته المهنية كمدون
للحداث .خاض سلسلة حروب بين سنتي 58ق.م .و 51ق.م .لخضاع غاليا ) 6( Galliaأو غالة
) .( la Gauleفوجد نفسه وجها لوجه أمام الجرمان الذين كانوا يشنون غارات على غاليا بين
الفينة و الخرى .فخاض ضدهم عدة وقائع .اضطر في إحداها إلى عبور نهر الراين لستئصال
شأفتهم في مواطنهم .و قد دون مذكراته عن تلك الحروب في مؤلف 7نشره سنة 51ق.م .يتضمن
مادة طيبة عن السلتيين ) ( les Celtesأو الغاليين ،سكان غاليا .كما يتضمن معلومات قيمة – و
إن كانت ضئيلة – عن تنظيمات الجرمان العسكرية .بينما كان الثاني مؤرخا محترفا تجول في
بعض مواطن القبائل الجرمانية .و دون هو الخر مشاهداته في مؤلف نشره سنة 98م 8.يحفل
بمعلومات غزيرة حولها تعد تكملة لما ورد في مذكرات يوليوس قيصر.
يتضح من المؤلفين بأن الشعوب الجرمانية كانت تتألف من عدة قبائل .يمكن التميز فيها بين
ثلث مجموعات كبرى تبعا لمجال استقرارها و هي :الجرمان الغربيون ،و يتألفون من قبائل
اللمان والسويڨ و الماركومان و الفرنجة .و الجرمان الشرقيون ،و يتألفون من قبائل الو ندال و
القوط و البورغنديين و الل نڭوبارديين .و أخيرا الجرمان الشماليون ،و يتألفون من جرمان جبال
اللب و جرمان أقاليم بحر الشمال و جرمان العالم السكندناڨي.
كانت كل قبيلة ،من مجموع القبائل ،تتكون بدورها من مجموعة عشائر تمثل فيها العائلة
) بالمعنى الواسع للكلمة ( الخلية الساسية .و قد كانت تعيش على الزراعة و تربية المواشي و
القنص و الصيد و الحرب التي كانت من أبرز اهتمامات أفرادها من الذكور .9فقد كان محاربو
إحدى القبائل يشنون غارات على بعض المراكز الواقعة على الحدود مع المبراطورية الرومانية.
وأحيانا كان مجموعة محاربين من إحدى القبائل يشنون غارات على قبيلة أخرى .فتقع بين أيديهم
غنائم ،وعدد من السرى يبيعونهم كعبيد في السواق الرومانية الواقعة بمحاذاة نهري الراين و
الدانوب .و يحصلون على نقود يصرفونها في شراء سلع ترفيهية و مواد استهلكية من تلك
السواق.
و كان من الطبيعي أن تتزايد حاجياتهم باستمرار.فترتبت عن ذلك زيادة في غارات القبائل على
بعضها البعض و ارتفاع في حدة الضغط الذي كانت تمارسه بعض تلك القبائل على أطراف
المبراطورية الرومانية .فدفع هذا الضغط الباطرة و كبار الموظفين الرومان إلى اللجوء إلى
سياسة تقديم الهدايا العينية و النقدية لرؤساء تلك القبائل و أعيانها و كبار محاربيها 10بهدف
- 6كانت غاليا تتكون قبيل سنة 58ق.م من مجموع القاليم التي تتشكل منها فرنسا اليوم بالضافة إلى القاليم التي تعرف حاليا
ببلجيكا و أجزاء من شمال ايطاليا و بعض أقاليم ألمانيا .وكل هذه القاليم كانت خارج دائرة السيطرة الرومانية باستثناء أقاليم الجنوب
التي كانت خاضعة للرومان منذ سنة 121ق .م.
- 7يعرف هذا المؤلف في ألوساط الفرنسية باسمين :
Commentaires sur la Guerre de la Gaule ou La Guerre des Gaules
و قد اعتمدنا في هذا البحث على نسخة منه نقلها إلى الفرنسية و أعدها للنشر .Charles Louandreو صدرت بباريس سنة 1868
عن منشورات ) Charpentier.تضم هذه النسخة النصان اللتيني و الفرنسي(.
- 8يتعلق المر بكتاب Germaniaeالذي اعتمدنا على نسخة منه حققها و نشرها Jacques Perretتحت عنوان La Germanie؛
و صدرت سنة 1967عن منشورات Les Belles Lettresبباريس .و تتضمن هذه النسخة النص اللتيني و ترجمته الفرنسية.
9
- Jules César,Guerre des Gaules,Op. Cit. Livre IV,pp. 143-144.
10
- Tacite , La Germanie , Ibid. , p. 73.
11
استقطابهم و صرفهم عن شن غارات على القاليم الحدودية .و بذلك أخذت تتراكم في حوزة
هؤلء الرؤساء و العيان و كبار المحاربين ثروات عينية ونقدية .أضافوها إلى ما كانوا يحصلون
عليه من هدايا و أعطيات من لدن اسر القبائل التي كانوا ينتمون إليها بحكم مكانتهم السياسية و
الجتماعية أو العسكرية .بوصف بعضهم رؤساء قبائل ،و البعض الخر أعضاء في مجالس
القدماء ) أو الشيوخ () (les conseils des anciensأو محاربون كبار .فأصبحوا متميزين عن
باقي أفراد القبائل التي ينتمون إليها .و شكلوا طبقة أرستقراطية وراثية .كما كونوا مجلسا دائما
) ( un conseil permanentأصبح يمارس السلطة في القبيلة .و استطاع بعض أعضاء هذا
المجلس الرتقاء إلى مصاف الملوك .نعرف من بينهم اليوم أسماء أولئك الذين قادوا الجرمان
إلى اقتحام أقاليم غرب أوربا و شمال إفريقيا أمثال شلدريك الول ) ( Childéricملك الفرنجة و
ألريك ) ( Alaricملك القوط الغربيين و جنسريك ) ( Genséricملك الو ندال.
و كان من تبعات تنامي ثروة أفراد الطبقة الرستقراطية و تميزهم عن سائر الفراد ،أن لجأ
عدد منهم الر استقطاب مجموعات من الشباب أصبحوا يشكلون حاشياتهم .فكانوا يحضرون
اجتماعاتهم و مجالسهم .واتخذوهم في نفس الوقت حرسا خاصا لهم .يسهرون على حمايتهم و
حماية ممتلكاتهم و مرافقتهم في تنقلتهم .و قد كان كل ارستقراطي يحرص على انتقاء الشباب
المكونين لحاشيته و حرسه .فيشترط أن تكون سمعة الواحد منهم طيبة .و أن يكون على دراية
بفنون الحرب و القتال.
و قد تحدث تاسيتوس عن هذه المجموعات من الشباب باسم" الرفقاء ") ( les compagnons
قائل في نص تقتضي الضرورة إثباته رغم طوله (...)":إن إحدى سمات النبالة هي أن يحضى
بعض الفراد برضى بعض الرؤساء.وهي رغبة بعض الفراد من الشباب أيضا .إذ يسعون إلى
النضمام إلى بعض القوياء .و قد كان يتم التعبيرعن هذه الرغبة منذ قديم .و إن الفرد ل يخجل
حين يجد نفسه من بين الرفقاء) (...بل إن الرفقاء يتنافسون ليكون الواحد منهم أكثر قربا من
الرئيس .كما يتنافس الرؤساء ليكون للواحد منهم أكبر عدد من الرفقاء .انه المجد ،إنها القوة أن
يكون الواحد محاطا دائما بمجموعة كبيرة من أفراد شباب يمثلون الصفوة .فهم زينة أوقات السلم و
حرس أوقات الحرب)(...إن الحرص عليهم شديد ،ومن أجله تقدم لهم العطيات .وغالبا ما يكفي
اسمهم لتحديد نتيجة الحروب .11"...و يقول في موضع آخر ")(...إن الرؤساء يحاربون من أجل
النصر ،أما الرفقاء فيحاربون من أجل رئيسهم" 12.و ينتصرون له ظالما أو مظلوما.
و مما ل شك فيه ،أن النصوص التي يتضمنها مصنف تاسيتوس تأكد المنحى الحربي
"العسكري" الذي أخذته علقات الرفاقة بين الشباب المحاربين و الملوك و أعيان و رؤساء
القبائل .و ينسجم هذا التطور ،فيما يبدو ،مع طبائع القبائل الجرمانية المعروفة بميلها إلى الحرب
و القتال منذ أزمنة غابرة كما يوضح ذلك يوليوس قيصر في مذكراته .13و استمرت كذلك زمن
تاسيتوس؛ الذي يذكر بأن الواحد من أفراد تلك القبائل لم يكن يباشر أمرا خاصا أو عاما إل وهو
يحمل سلحه .14ومهما يكن من أمر،فإن تاسيتوس الذي خص مسألة الرفاقة بحديث مسهب في
مصنفه ل يفصح عما إذا كانت تقدم للرفقاء الشباب قطع أرض أم ل؟ و الكيد أن كل أرستقراطي
كان يسهر على إيواء أفراد المجموعة التابعة له .و يقوم بتلبية حاجياتهم من ملبس و مأكل و
مشرب .و يقدم لكل واحد منهم فرسا وقطع السلح التي تتطلبها مهامه كمحارب.بالضافة إلى
بعض الهدايا و التحف أو أعداد من العبيد الذين يتم الحصول عليهم بعد كل غارة محلية على إحدى
القبائل أوغارة على أحد المواقع الرومانية.و من هذا المنطلق نعتقد أنهم لم يكونوا يستلمون قطعا
11
- Ibid. , p. 78.
12
- Ibid. , p. 79.
- 13أنظر الكتاب الرابع من مؤلف يوليوس قيصر La Guerre des Gaules
14
- Tacite , La Germanie, Op.Cit., p.78.
12
أرضية .لنهم لم يكونوا في حاجة إلى مصدر عيش،15و لن مهامهم كانت تقتضي بأن يظلوا
بالقرب من سيدهم.
و يبدو أن هذه الروابط التي تعود إلى ما قبل القرن الثالث استمرت في الوجود و التطور خلل
القرنين الرابع و الخامس رغم أنه من الصعب تتبع مسارها خلل هذه الفترة نظرا للغموض و
الضطراب الذي ميزها .فقد تردت الوضاع في المبراطورية الرومانية بسبب الفوضى السياسية
والعسكرية والمصاعب القتصادية و الضطرابات الجتماعية .و زادت من تفاقم تلك الوضاع
عمليات الغزو الجماعي الذي قامت به القبائل الجرمانية.و من المعطيات الدالة على استمرارها و
تطورها هو أن بعض الكلمات التي تؤلف اليوم ما يسمى بقاموس الفصالة ،مثل كلمة ڤاسو
) ( vassoو كلمة ڤاسوس ) ،( vassusكانت مستعملة في اللغة اللتينية المتداولة من قبل
العامة قبل القرن السادس .وستدخل ضمن لغة المتن الذي تتألف منه القوانين " الباربارية " ) les
( lois barbaresالتي أصبحت تنظم المعاملت في الممالك الجرمانية بعد القرن السادس،و
خاصة المجموعة المعروفة بالقانون السالي 16( ( la loi Saliqueو المجموعة المعروفة
بالقانون الضفي ) .17( la loi Ripuaireففي هذه القوانين أصبحت كل من كلمة ڤاسو و كلمة
ڤاسوس تطلق على العبيد وكذلك على مجموع الفراد المرتبطين عن طريق الولء بأفراد
آخرين ،18أي أتباع .و يتضح من خلل القوانين المذكورة بأن هؤلء التباع كانوا أفرادا
متواضعين من الناحية الجتماعية ،و لكنهم كانوا،خلفا للعبيد ،أحرارا من حيث الوضع القانوني.
بدليل أن القانونان السالي و الضفي يوضحان بأنهم كانوا يحضرون الجتماعات العمومية ) les
.( plaidsو من المعلوم أن حضور الجتماعات خلل فترة سيادة الممالك الجرمانية الناشئة في
أقاليم غرب أوربا ،كان مقتصرا على الفراد الحرار،كيفما كان موقعهم في علقة التبعية.
تسمح المعطيات التي أوردناها بتأكيد وجود روابط تبعية قبل القرن الثالث للميلد .نشأت في
أطراف أقاليم غرب أوربا .ثم انتقلت في مرحلة لحقة ،أي بعد سنة ، 476إلى قلبها .فهل معنى
ذلك أن الفيودالية ذات أصول جرمانية؟ هذا ما نميل إليه رغم أن قلة من الباحثين هم وحدهم الذين
أثاروا هذه المسألة .ومن بينهم الفرنسي فرنسوا ﯕيزو ) ( Francois Guizotالذي يؤكد في
كتاب صدر له سنة 1830بأنه ليس من المعقول أن تصل الفيودالية إلى مرحلة الكتمال دون أن
تكون لها مقدمات .19و إذ تفادى جعل تلك المقدمات ذات أصول جرمانية أو رومانية ،فقد دعا إلى
رصدها من خلل البحث في ثلثة عناصر .أولها طبيعة الملكية الترابية و ثانيها انصهار السيادة
مع ملكية الرض و ثالثها منظومة المؤسسات التشريعية و القانونية و العسكرية .20أما النجليزي
سير فرنسيس بالغريب ) ( Francis Palgraveفقد كان أكثر وضوحا حين ذهب إلى التأكيد
بأن بعض عناصر الفيودالية ذات أصول جرمانية .حملها الجرمان معهم من أدغال جرمانيا.
-15هذا ما يفهم من حديث مارك بلوك) ( Marc Blochحين يذكر في معرض حديثه عن الروابط خلل هذه الزمنة بأنه كانت تفوح
منها رائحة "خبز الدار") (le pain de ménageأنظر في هذا الصدد كتابه :
La Société Féodale, Paris, Albin Michel, 1968, pp.233-249 et p.259.
-16يمثل القانون السالي مجموعة العراف التي كانت تحتكم إليها مجموعة من قبائل الفرنجة .و فد تم تدوينها بين سنتي 507و 511
على عهد كلوڤيس ) ( Clovisأول ملوك الفرنجة في غاليا أو)غالة( .فأخذت شكل مدونة قوانين مؤلفة من 65بندا على شكل فقرات
متفاوتة الطول .ثم خضعت لعمليات تكملة و تنقيح عدة مرات بين سنتي 511و 533و بين سنتي 567و 593ثم بين سنتي 763و
. 764و تم تصحيحها أخيرا سنة .798و صدرت بعد تحقيق نصها في عدة طبعات من بينها طبعة 1828التي تضم مجموعة القوانين
السالية و مجموعة القوانين الضفية باللغتين اللتينية و الفرنسية في كتاب واحد تحت عنوان :
Lois des Francs (contenant la loi Salique et la loi Ripuaire), texte traduit et annoté par Jean
François-
Aimé Peyré , Paris, Imprimerie de Firmin Didot, 1828.
- 17نسبة إلى مجموعة قبائل من الفرنجة كانت مستقرة قبيل عمليات الغزو بمناطق محاذية لنهر الراين .فسموا بالفرنجة الضفيين ) les
( Francs Ripuaires
- 18أنظر الفقرة ، 35البند 6من القانون السالي ضمن الكتاب المشار إليه في الهامش السابق.
19
- Francois Guizot , Histoire de la civilisation en France depuis la chute de l’Empire romain,(3 éme
édition), Paris, Victor Masson, 1851, Tome III, p.227.
20
- Ibid. pp.230-231.
13
ومن بين تلك العناصر الولء ) ( l’hommageالذي يتم التعبير عنه عمليا بانحناء شخص أمام
شخص آخر و وقوفه على الركبتين و قول بترديده لعبارة " أريد أن أصبح رجلك " .21أما قطب
المدرسة التاريخية الفرنسية المعاصرة مارك بلوك فقد نعت مسألة الصول بكونها " معضلة "
يصعب الحسم فيها .و اكتفى في موضوعها ببضعة أسطر .أبان فيها عن ميله إلى اعتبار أصول
الفيودالية جرمانية -رومانية في نفس الوقت .امتزجت مع مرور الزمن 22.و على غراره ذهب
23
روبير بوتريش ) ( Robert Boutrucheإلى القول بثنائية الصول حيت أكد بأن " الفصالة "
نشأت من جراء قيام أفراد الرستقراطية في مختلف الممالك الجرمانية الناشئة بإحياء علقات
الرفاقة ) الجرمانية) وعلقات الذعان و التضرع ) ( la recommandationالتي كانت
منتشرة في ربوع المبراطورية الرومانية خلل المرحلة المتأخرة من عمرها.24
و تعقيبا على ما ذهب إليه بوتريش ،نوضح بأن علقات الذعان و التضرع قامت بين بعض
الفراد الثرياء من الرستقراطية الرومانية و كبار الموظفين .و أخذت طابع الزبونية و تبادل
المصالح .بينما كان أفراد آخرين من متوسطي الحال أو من الفقراء يضعون أنفسهم رهن إشارة
أولئك الثرياء و كبار الموظفين لخدمتهم و النخراط في زمرتهم نظير الحصول منهم على ما
يسد رمقهم .و لكنها لم تأخذ في كل الحوال ذلك المنحى الحربي الذي أخذته علقات الرفاقة .لن
المبراطورية الرومانية ،حتى تاريخ سقوطها ،ظلت " دولة مؤسسات " كانت فيها أمور حفظ
المن الداخلي و خوض الحروب موكولة لمؤسسات وأجهزة رسمية ،أبرزها الجيش النظامي .و
بالتالي ،فان أفراد الرستقراطية الرومانية لم يكونوا في حاجة إلى تكوين " مليشيات عسكرية "
مسخرة لحمايتهم .و لكن ل بأس من التنبيه في هذا المقام بأن العادة جرت في جميع وليات
المبراطورية بأن يحيط كل واحد من أفراد الرستقراطية نفسه بحاشية من التباع و الصدقاء و
"الزبائن" و من ضمنهم بعض أفراد الحرس الخاص.و ل شك أن هذا الجراء الخير أخذ في
الستشراء بموازاة تفاقم الوضاع المنية خلل المراحل المتأخرة من عمر المبراطورية.
و مهما يكن من أمر،فان روابط التبعية لم تكن قائمة على الفيف خلل هذه المرحلة الولى من
مسيرة الفيودالية حسب الفادات التي تقدمها النصوص المتوفرة .كما أن تلك الروابط كانت تتم في
نطاق محدود نسبيا ،على اعتبارأن المعنيين بها كانوا نفرا من علية القوم و مجموعة شباب يسعون
لتحسين أوضاعهم الجتماعية .ويطمحون لتحقيق المجد من خلل استغلل شجاعتهم و مقدراتهم
القتالية.
و لكن يجب التذكير في هذا المقام بمقولة " أول الغيث قطرة " .فهذه الروابط كانت في
بداياتها .و بما أن حالة عدم استقرار الوضاع المنية استمرت بعد سنة 476على امتداد عدة
قرون ،فقد استدعى المر من أفراد الرستقراطية البحث المتواصل عن سند حرصا على ذواتهم و
على ممتلكاتهم .و كان من تبعات ذلك أن اتسع نطاق تلك الروابط كما سنرى لحقا .و ل بأس من
التذكير بأن علقات التضرع و الذعان استمرت هي الخرى في خط موازي مع علقات
الرفاقة .فالوضاع السياسية المتردية و الظرفية القتصادية الصعبة ظلت تدعو الغنياء إلى
البحث عن سند و الفقراء إلى البحث عمن يحميهم و يلبي حاجياتهم.25
21
- Francis Palgrave, History of the Anglo – Saxons, London, William Tegg , 1869, p. 211.
22
- Marc Bloch , La Société féodale , Op.Cit. ,pp. 213-214. -
- 23أي العلقات التي سادت خلل ما سميناه بالمرحلة الثانية من مسيرة الفيودالية.
24
- Robert Boutruche , Seigneurie et Féodalité, Paris, Aubier, 1975, Tome I ,p.166.
- 25اكتفينا في هذا المقام بذكر الوضاع السياسية و القتصادية دون ذكر اعتبارات أخرى أسهمت بدورها في تفعيل تلك العلقات ومن
بينها المواقف الذهنية السائدة .فالغنياء ،وهم أيضا القوياء ،بقدر ما كانوا يبحثون من وراء علقات الذعان و التضرع عن السند،فقد
كانوا ينشدون أيضا القيادة و تحقيق الشهرة.
14
تميزت الممالك الجرمانية بكونها لم تكن دول مؤسسات قوية ومتطورة كما كان المر خلل
سيادة المبراطورية الرومانية .لن السلطة فيها ظلت منذ عهد الملوك الوائل ،و على امتداد
حوالي ثلثة قرون 26،تختزل في شخص الملك الذي كان قائد حرب في المقام الول .يعتبر ،طبقا
لتقليد جرى العمل به منذ عهود قديمة ،الكيان الذي يخضع لسلطته بمثابة غنيمة تمت حيازتها بعد
النصر .يتصرف فيها كيفما شاء ،ثم يقسمها على أبنائه قبيل وفاته .و لذلك فان " الرجالت " الذين
كانوا يساعدون الملك في إدارة و تدبير " الغنيمة " كانوا بمثابة خدام أكثر من كونهم موظفي دولة.
لم يتعد فعلهم و تأثيرهم حدود دائرة ضيقة .و من ثم ،ظلت القاليم البعيدة عن القصر ،الذي يمثل
المركز،بمنأى عن تأثير الملك و خدامه .وهذا ما يؤكده روبيرفوصيي) ( Robert Fossierحين
يذكر بأن عدم فعالية المؤسسات و الجهزة في مملكة الفرنجة بغالة ،كما في مملكة القوط الغربيين
باسبانيا أو في مملكة اللومبارديين بايطاليا دفع بعض كبار الملكين العقاريين ،بمن فيهم كبار
رجال الدين ،إلى الستعانة بعدد من فرق العبيد الذين كانوا في ملكيتهم و بمجموعات من الشباب.
إذ كانوا يسهرون على إيوائهم و إعالتهم و تزويدهم بالسلح نظير القيام بحراسة ممتلكاتهم .27و
قد كانت مهام هؤلء المسلحين تتجاوز حدود الحراسة إلى المشاركة في أي اشتباك قد يقع بين
المالك العقاري الرستقراطي و أحد جيرانه .و كذلك النخراط ،تحت إمرة سيدهم ،في الحروب
الدفاعية أو الهجومية التي تخوضها المملكة .و يكتسي هذا المعطى أهمية كبرى نظرا لما سيترتب
عنه مستقبل من نتائج فيما يخص علقة " الدولة " بظاهرة الفيودالية ،لذلك سنتوقف عنده قليل.
فقد كانت الحروب من الثوابت التي رافقت تاريخ الممالك الجرمانية منذ مراحل تأسيسها .حتى
إن إحدى الباحثات ذهبت إلى القول بأن فترات السلم خلل مرحلة سيادة الممالك الجرمانية كانت
بمثابة الفاصل بين مشهدين في عرض مسرحي .و مع ذلك ،فان ذلك الفاصل لم يكن مرغوبا
فيه 28.و يبدو أن هذا القول ينطبق أيضا على الفترات التاريخية التي تلت مرحلة سيادة الممالك
الجرمانية حسب خلصة انتهت إليها باحثة أخرى 29.و دون استعراض كرونولوجية الحروب التي
خاضتها هاته المملكة أو تلك ،يمكن التمييز فيها بين ثلثة أشكال :حروب توسعية ،و حروب
دفاعية ،و حروب ناتجة عن نزاع بين أفراد إحدى السر المالكة أو بين السرة الحاكمة في مملكة
من الممالك و بعض العناصر المتمردة على السلطة .بالضافة إلى شكل آخر أشرنا إليه سابقا ،و
إن لم يكن يعني القائمين على المرمباشرة ،تمثل في الحروب الخاصة )( les guerres privées
بين بعض السر الرستقراطية داخل المملكة الواحدة .و في جميع الحوال كانت وقائع تلك
الحروب كثيرة .و كانت تتطلب التوفر على موارد بشرية هائلة و متجددة باستمرار؛ و هو المر
الذي لم يكن من السهولة بمكان لعتبارات ديموغرافية 30و اقتصادية .31و من ثمة ،تتضح صحة
ما ذهب إليه مارك بلوك منذ ثلثينيات القرن الماضي حين أكد بأن التحدي الكبرالذي كان على
القائمين على المر رفعه لم يكن متصل بمسألة تدبير شأن ممالكهم أوقات السلم ،بقدر ما كان
يتمثل في كيفية الحصول على العناصر البشرية اللزمة لخوض الحروب .32لذلك كانوا يستنفرون
عند كل وقعة كل الذكور الحرار القادرين على حمل السلح .كما كانوا يستعينون بخدمات أفراد
-26أي منذ سقوط المبراطورية الرومانية سنة 476و حتى بداية حكم شارلمان سنة ،768الذي سيسعى إلى القيام بسلسلة إصلحات
إدارية و قضائية و اقتصادية للرقي بمستوى المؤسسات.
27
- Robert Fossier, Histoire sociale de l’Occident médiéval, Paris, Armand Colin, 1970, p.98.
28
- Colette Beaune, Le miroir du pouvoir, les manuscrits des rois de France au Moyen Age, Paris,
Bibliothèque de l’image, 1997, p.95.
29
- Hélène Débax, La féodalité languedocienne XIe-XIIe siècles. Serments, hommages et fiefs dans le
Languedoc des Trencavel, Toulouse, Presses Universitaires du Mirail, 2003, p.234.
- 30كانت أعداد سكان أقاليم غرب أوربا قليلة منذ سنة 476حتى مطلع القرن التاسع؛ حيث بدأت تلك القاليم تشهد بداية نمو
ديموغرافي سيتضح أكثر بعد حوالي سنة .1000و تعزى تلك القلة لسباب بشرية و طبيعية ،من بينها الحروب و النتفاضات
الجتماعية و الوبئة والمجاعات.
- 31تتمثل هذه العتبارات في تدهور مختلف النشطة و ندرة السيولة النقدية لدفع مرتبات الجند .فضل عن كون تكاليف إعداد الفارس
الواحد كانت باهضة .فالفرس لوحده كان سعره خلل القرن السابع يبلغ ثلث مرات ضعف سعر الثور.
32
- Marc Bloc, La société féodale, Op.Cit., pp.217-218.
15
الرستقراطية الذين كانوا يعززون " جيوش الملوك " بما كان تحت إمرتهم من عناصر مسلحة .و
سيزداد المر حدة في الممالك التي أصبحت محاذية لمراكز الوجود السلمي في أوربا بعد أن
نجح المسلمون في فتح الندلس سنة 711و شرعوا في عبور جبال البرانس .و أهم الممالك التي
نعنيها في هذا المقام مملكة غاليا ) أو غالة ( التي كان يحكمها شارل 33محافظ قصر أوسترازيا
إبان فترة أوج الفتوحات السلمية في أوربا بعد سنة .711فقد شرع في استنفار جميع من له قدرة
على حمل السلح .بل فكر جديا في استحداث فرق من المحاربين تمتطي صهوات الخيول بعد أن
كان معظم محاربي المملكة من المشاة34؛ في حين كان المسلمون يعتمدون غي حروبهم على
الفرسان إلى جانب المشاة .وفي هذا الصدد ،يفيدنا أحد إخباريي القرن الثامن ،35بأن شارل نجح
بعد سنة 716في تكوين فرق من الفرسان انضمت إلى صفوف خاصة محاربيه) حرسه الخاص (
الذين كانوا مرتبطين بقائدهم شارل بعلقات تبعية و ولء .و كان المحاربون العاملون تحت إمرة
أفراد الرستقراطية يعززون هذا الجيش؛ بالضافة إلى كل من له قدرة على حمل السلح .و قد
حقق انتصارات كاسحة في جميع الوقائع التي خاضها ضد السكسونيين) ( les Saxonsو اللمن
) ( les Alamansو الفريزيين ) .( les Frisonsو تمكن من إيقاف المد السلمي في وقعة
بواتيي ) ) ( Poitiersبلط الشهداء ( سنة .732ثم اتجه نحو الجنوب حيث استرد أقاليم أكيتانيا
و بورغونديا و بروﭬانسيا .و استكمل بذلك وحدة غالة.
و أهم ما في المر،هو أن القائمين على المر في غالة بدوا ،منذ عهد شارل مارتل ،أكثر
اقتناعا من أي وقت مضى بمدى ثقل الرستقراطية على المستويين العسكري و السياسي ،فارتأوا
الستمرار في تسخيرها لتحقيق مشاريعهم .و لذلك أخذوا يغضون الطرف عن إجراءات أفراد
الرستقراطية الذين ظلوا يدينون بالولء للقائمين على المر و لممثليهم في مختلف القومطيات؛ و
لكنهم لم ينفكوا في نفس الوقت يعملون على توسيع نطاق شبكة علقات التبعية التي سبق أن أرسى
قواعدها آباؤهم و أجدادهم منذ أمد بعيد .و كان من نتائج سياسة غض الطرف أن أصبحت
لجراءات أفراد الرستقراطية شيئا فشيئا تداعيات في دائرة كل قرية تقع بها ممتلكات هذا
الرستقراطي أو ذاك .تجلت تلك التداعيات في كون عموم الفلحين المقيمين في تلك القرى
أصبحوا يخضعون أكثر للقوة التي يلمسون وقعها و ليس لتلك التي يشعرون بصداها .و هذا أمر
طبيعي إذا علمنا بأن القوة اقترنت في جميع المجتمعات و منذ فجر التاريخ بالثروة .فالذي يملك
الثروة يملك القوة .فيتقرب له من هم أنداده أو القل منه ثروة و يذعن له المستضعفون.36
و من ثم ،فان تلك الجراءات ذات الطابع الحربي،و ما استتبعها من علئق ،أخذت تتبلور و
تترسخ أكثر فأكثر في ربوع قرى غرب أوربا على حساب علقات التضرع و الذعان ) la
( recommandationالتي ضاق نطاق استعمالها دون أن تختفي بصورة نهائية ،طالما أن نسبة
- 33هو شارل ابن ببين هرسطال) .( Héristalولد حوالي سنة 688وتوفي سنة .741كان دوقا لمقاطعة أوسترازيا .ثم أصبح
محافظا لقصرها بين سنتي 737و .741و بما أن الملوك المنتمين للسرة الميروﭬنجية الذين تعاقبوا على حكم غالة منذ سنة 638
كانوا ضعاف الشخصية أو صغار السن ،فان محافظي القصور هم الذين كانوا بمثابة ملوك فعليين .و قد برز من بينهم محافظو قصر
أوسترازيا :ببين هرسطال ثم ابنه شارل الذي لقب بشارل مارتل ) ) (Charles Martelأي شارل المطرقة( بعد وقعة بواتيي أو بلط
الشهداء.
- 34يجب أن ننبه في هذا المقام بأن الممالك الجرمانية لم تكن تتوفر على جيوش نظامية كما كان المر خلل سيادة المبراطورية
الرومانية ،لذلك كان الملوك يستنفرون عند كل حرب الذكور الحرار القادرين على حمل السلح .كانوا ينظمون على شكل فرق من
المشاة .أما الفرسان المشاركون في تلك الحروب فكانوا يتألفون أساسا من الفرسان العاملين تحت إمرة أفراد الرستقراطية والفرسان
التابعين للملوك .و يمثلون حرسهم الخاص ) .( les antrustionsو سيتزايد عدد الفرسان المحاربين تحت إمرة الملوك بعد إصلحات
شارل العسكرية.
-35يتعلق المر بمؤرخ مغمور يدعى فريدﯕير) .(Frédégaireينتمي لمنطقة بورغونديا و عاش معظم حياته في مقاطعة أوسترازيا.
وضع مصنفا سنة 660يتناول الحداث منذ بدء الخليقة حتى حوالي .642و من ضمنها الحداث التي شهدتها ممالك كل من الفرنجة و
اللومبارديين و القوط الشرقيين و الغربيين .ثم تعاقب على استكمال نص الكتاب ثلثة إخباريين مددوا الفترة التي يتناولها حتى حدود
سنة .768تم تحقيق و ترجمة هذا المصنف المؤلف من عدة نسخ إلى مختلف اللغات الوربية .و قد اعتمدنا في هذا البحث على ترجمة
فرنسية أنجزها فرانسوا ﯕيزوت ) (François Guizotوصدرت بباريس سنة 1823ضمن منشورات J.-L.-J. Brièreفي كتاب
يتضمن مؤلف غريغوار أسقف مدينة تور )تاريخ الفرنجة( و مؤلف فريدﯕير )إخبارية( ) (Chroniqueتحت عنوان :
Collection des Mémoires relatifs à l’histoire de France
-36و من هنا نفهم لماذا تنعت النصوص الرستقراطي بالقوي ) (Potentatو المسيطر) .(Dominusو من هنا الفعل الفرنسي سيطر
). (dominer
16
كبيرة من أفراد مجتمع غرب أوربا كانت تعيش في حالة إملق .و لذلك ،فان عددا منهم ظلوا
يضعون أنفسهم رهن إشارة متوسطي الحال و الغنياء لخدمتهم ،أو فقط لستجدائهم و الحصول
منهم على ما يسد رمق أفراد أسرهم.
و يؤكد روبير بوتريش غلبة العلقات ذات البعد الحربي )العسكري( ،مستدركا في ذات الوقت
موقفه السابق بخصوص ثنائية أصل الفيودالية في قوله ":المحصلة النهائية هي أن الفصالة ،في
معناها الحقيقي ،نشأت في أوساط المحاربين وفق مقتضيات ستتضح و ستتبلور أكثر مستقبل .و
ستفضي في ذات الوقت إلى إرساء التزامات أكثر تخصصا ستلقي بضللها على علقات التضرع
و الذعان".37
و يبدو أن موعد أجرأة مقتضيات الفصالة لم يتأخر كثيرا .فالملوك الجرمان الوائل في غالة و
في الممالك الخرى كانوا يغضون الطرف عن مختلف أشكال علقات التبعية .ولكن ملوك ما بعد
العقد الثالث من القرن الثامن أصبحوا منخرطين في تفعيلها .و يعني هذا النخراط في أعين بعض
الباحثين 38نجاح الرستقراطية في الهيمنة على " المؤسسة الملكية " في تلك الممالك.
و تمثل سنة 757لحظة حاسمة في هذا التجاه .وقعت أحداث تلك اللحظة في غالة أكبر
الممالك الجرمانية و " مهد الفيودالية " .و أورد اينهارد أو ايجنهارد ) 39( Eginhardتفاصيلها
في " حولياته " ضمن أحداث سنة 757كما يلي ":كان الملك ببين ) 40(Pépinيرأس جمعا ببلدة
كومين ) [( Commynes ou Compiègneفي أحد أيام تلك السنة] فقدم تسلون ) ( Tassilon
دوق ) (Ducبﭬاريا .و مثل بين يدي الملك و قدم له الولء عن طريق لف اليدين .ثم وضع يده
على الكتاب المقدس و أقسم اليمين بأن يصبح تابعا للملك و ابنيه السيد شارل و السيد كارلومان .و
هذا ما يتوجب أن يقوم به بتفان و إخلص كل فصل لسادته .و قام أعيان بﭬاريا الذين قدموا مع
تسلون بدورهم بتأدية فروض الطاعة والولء ".41
يكتسي النص من دون شك أهمية قصوى لكونه يتضمن معطيات ذات قيمة بالغة في تاريخ
الفيودالية .و لذلك يستوجب إبداء الملحظتين التيتين :
أول :يسجل النص نقلة نوعية في طبيعة علقات التبعية ،و خاصة فيما يتعلق بأطرافها .فقد
كانت علقات الرفاقة تربط منذ ما قبل القرن الثالث بين مجموعة محاربين و أحد أعيان أو
رؤساء القبائل الجرمانية أو أحد كبار محاربيها .و استمرت حتى سنة 476تاريخ سقوط
المبراطورية الرومانية كما رأينا من قبل .ثم أصبحت تربط بين أحد أفراد الشريحة العليا في
الرستقراطية العقارية و مجموعة محاربين حتى سنة .757و سيستمر هذا النوع من الروابط
وفق مقتضيات جديدة .و لكن سنة 757تسجل بداية دخول أطراف جديدة سامية في شبكة علقات
التبعية.و نعني بهذه الطراف الملوك و كبار رجالت الممالك من أقماط و دوقات و غيرهم .كان
لكل واحد منهم أتباع .و لكن بعد هذا التاريخ أصبح بعضهم تابعا للبعض الخر .و كلهم أتباع للملك
أو لمحافظي القصور الذين أصبحوا ملوكا دون أن تتم تسميتهم كذلك.
ثانيا :يقدم النص صورة عامة عن المراسيم التي أخذت تتم فيها علقات الفصالة ،و التي ستتم
فيها الروابط الفيودو -فصلية بعد ذلك .كما يتحدث عن أهم المقومات التي سيرتكز عليها هذا
37
- Robert Boutruche, Seigneurie et féodalité, Op.Cit. Tome I, p.170.
- 38أنظر على سبيل المثال ما يذكره ميشال كابلن ) (Michel Kaplanحول الموضوع في كتابه :
Histoire médiévale, Tome I, Le Moyen Age IVe-Xe siècles, Paris, Boréal, 1994, p.168.
-39يعتبر من أشهر إخباريي غالة .ولد حوالي سبة 770أو 775و توفي سنة .840ينحدر من أسرة نبيلة.تلقى تعليمه الولي بمنستير
فولدا ) (Fuldaشرق غالة .و أبان عن فطنة ونباهة منذ نعومة أظافره ،فتم إرساله سنة 791إلى المدرسة الملكية الملحقة بقصر
شارلمان لستكمال تعليمه .و ظل بالقصر،حيث قربه شارلمان منه و أصبح من خاصته .و عينه كاتبا خاصا له و"وزيرا".
نظم مجموعة قصائد و وضع عدة مؤلفات أشهرها عمل "بيوغرافي"حول شخص شارلمان يعرف ب"حياة شارلمان")Vita
(Karoliو كتاب الحوليات) (Annalesالذي يشك بعض الباحثين في نسبته ليجنهارد.
-40هو ببين ابن شارل مارتل .يعرف ببيبن القصير نظرا لقصر قامته .ولد حوالي سنة 715و توفي سنة .768شغل منصب محافظ
قصري كل من نوستريا و أوسترازيا بمملكة غالة بين سنتي 741و .751ثم أقصى آخر الملوك الميروﭬنجيين و أصبح ملكا لمملكة
غالة منذ سنة 751حتى تاريخ وفاته.
41
- Éginhard, Annales,Texte traduit et édité par François Guizot dans Collection des Mémoires relatifs à
l’histoire de France, Paris, J.-L.-J., Librairie, 1824, pp. 6-7.
17
النوع من الروابط خلل المرحلة الثالثة من مسيرة الفيودالية .و تتمثل هذه المقومات في الولء
الذي يقدمه الفصل ،و عملية وضع يديه ملفوفتين بين يدي السنيور)،(la dationوعملية أداء القسم
باستعمال أشياء أو بقايا مقدسة ) .( les Reliques
و انطلقا من هاتين الملحظتين تبدو التطورات التي يتحدث عنها النص مفاجئة و مثيرة
للدهشة .إذ ل يعقل أن تأخذ علقات الفصالة هذا الطابع الرسمي؛ و تتم مباشرتها في هذه الجواء
بدءا من سنة 757دون مقدمات.
و توضيحا للمر نذكر بمعطى أوردناه في مقدمة هذا المبحث و هو أن " رجالت الدولة " في
الممالك الجرمانية كانوا بمثابة خدام للملوك .عدد منهم كانوا خداما " مدنيين " يؤلفون حاشية
الملك و خاصة أقربائه .و عدد آخر كانوا خداما " عسكريين " .يتشكلون من الحرس و يمثلون
صفوة حملة السيف .يقيم هؤلء الحراس بجانب الملك .يسهرون على حمايته أوقات السلم و
يخوضون إلى جانبه الوقائع أيام الحرب .يتمتعون بحظوة خاصة لدى الملك .تتضح إذا علمنا بأن
أحد بنود القانون السالي المنظم للعلقات و المعاملت في مملكة غالة الميروﭬنجية كان يقضي بأن
يدفع قاتل أحد هؤلء الحراس ذعيرة يفوق مبلغها ثلث مرات مبلغ الذعيرة التي يدفعها الجاني إذا
تعلق المر بمقتل " مواطن "؛حتى و إن كان هذا " المواطن " إفرنجيا ) ( un francأو أحد
البرابرة ) .42( un barbare
و الجدير بالذكر أن هؤلء الحراس ،الذين كانوا صفوة حملة السيف كما ذكرنا آنفا ،كانوا
يمثلون أيضا نخبة خدام الملك .كانت تربطهم به علقات تبعية تقوم على الولء ) (la fidélité
والقسم الذي يؤديه الواحد منهم بعد أن يضع يديه ملفوفتين بين يدي الملك .و يجمع عدد من
الباحثين 43بأن هذه العلقات ،بمختلف مقوماتها و الطقوس التي كانت ترافقها ،ورثها ملوك
القرنين السادس و السابع عن الجداد و السلف .44و نفس علقات التبعية هاته أصبحت تربط
بين الملوك و خدامهم " المدنيين " كمحافظي القصور و القماط و الدوقات و كبار رجال الدين و
كبار الملكين العقاريين بعد تأسيس الممالك الجرمانية .كانت تقوم هي الخرى على الولء و
القسم ،و وضع الخادم )أي التابع( يديه ملفوفتين بين يدي الملك .و الجديد في الطقوس المصاحبة
لهذه العلقات هو أن القسم أصبح يعتمد في أدائه على الكتاب المقدس الذي يضع التابع يده عليه.
و قد أدرج كعنصر جديد بعد أن تبنت الممالك الجرمانية المسيحية كديانة رسمية .45و سيتواصل
العمل بهذه الطقوس خلل القرون الموالية .و سينضاف عنصر جديد إلى العناصر المكونة لها
بعد مطلع القرن الحادي عشر و هو عملية تقديم السنيور حفنة تراب أو غصن شجرة صغير
مورق للفصل دليل على تقديم الفيف.
و نذكر بأن غياب هذا العنصر بالنسبة للباحثين الذين ينكرون وجود فيودالية قبل مطلع القرن
الحادي عشر ،يعني غياب الفيف كعنصرمادي في علقات التبعية وغيابه كمصطلح في نصوص
ما قبل سنة .1000و نحن إذ نقر بدورنا بما يذهبون إليه ،نؤكد في المقابل بأن الرض كانت
حاضرة في علقات الفصالة و لو على نطاق ضيق نسبيا .كيف ذلك ؟.
لقد كانت علقات الرفاقة تقوم على عطاء كان يقدمه السيد للرفيق كما ذكرنا فيما مضى.
تمثل في المأوى و المأكل والمشرب و السلح و الحصان .و ظل نفس العطاء يمثل محور
-42ينص القانون السالي في البند الول من الفقرة )أو المادة( 43على أنه إذا قتل أحدهم إفرنجيا أو أحد البرابرة يلزم بدفع غرامة
قدرها 8000دنير ) (deniersأو " 200فلس") (sousمن ذهب .بينما بنص البند الرابع من نفس الفقرة )أو المادة( على أنه إذا قتل
أحدهم حارسا من حراس الملك ) (membre de la Trusteيلزم بدفع غرامة قدرها 24000دنير أو " 600فلس" من ذهب .أنظر
الصفحة 149من القانون السالي ،طبعة 1828التي سبقت الحالة عليها.
-43من بينهم على سبيل المثال جون -بيير بولي ) (Jean-Pierre Polyو اريك بورنازيل ) (Eric Bournazelمؤلفا كتاب :
La mutation féodale, Paris, P.U.F. (Collection Nouvelle Clio) 1980.
-44أنظر ص 109.من نفس الكتاب.
-45نشير في هذا الصدد إلى أن كلوﭬيس) (Clovisأول ملوك مملكة غالة الميروﭬنجية )وهي أكبر الممالك الجرمانية( اعتنق المسيحية
يوم 25دجنبر .498بعد مرور 16سنة على اعتلئه عرش هذه المملكة.أنظر تفاصيل الحدث عند ﯕريﯕوار أسقف كنيسة تور)
(Toursفي كتاب :
Histoire des Francs, traduction et édition Robert Latouche, Paris, Les Belles Lettres,1995, Livre
II, chap. 31, pp.120-121.
18
علقات الفصالة خلل القرنين السادس و السابع و النصف الول من القرن الثامن .ثم حدث أن
دخل القائمون على المر و ممثلو السلطة " المركزية " كطرف في علقات الفصالة ،فضل عن
أطرافها القدامى ككبار رجال الدين و كبار الملكين العقاريين .فأصبح بعضهم " سنايرة " )des
(seigneursو بعضهم أفصال .حينها لم يعد من المعقول أن يظل العطاء على حاله .بمعنى أنه
كان يجب أن يرقى إلى مستوى هذه الطراف السامية .فكيف أصبحت طبيعته ؟.
كان حريا بالخباري الذي نقل إلينا خبر اجتماع ببين القصير سنة 757و مقدم دوق بﭬاريا
إلى بلدة كومين و تقديمه لفروض التبعية و الولء للملك أن يخبرنا عن نوعية العطاء الذي قدمه
الملك السنيور لفصله الدوق ،و لكنه لم يفعل .و يبدو أن ثمة ما يبرر عدم بث الخباري في
المر،لن تسلون كان في غنى عن ذلك العطاء الذي يقدم لمتوسطي و بسطاء الفصال .كما لم
يكن ينتظرأن تمنح له قطعة أرض و هو الدوق الذي يتصرف في أرض شاسعة المساحة؛ و هي
دوقية بﭬاريا التي كان يحكمها.و ربما كان العطاء هو الدوقية نفسها التي أقر ببين تسلون على
حكمها.
و على كل ،فان كتب الخباريات و الحوليات تفيدنا بأن العطاء الذي كان معروفا منذ قرون
ظل معمول به في أوساط الفئات المتوسطة و الدنيا المعنية بعلقات الفصالة .و لكن المر اختلف
بالنسبة لخاصة المجتمع .فقد شرع شارل مارتل قبيل سنة 732في تقديم قطع أرض تقع ضمن
ممتلكات السرة الحاكمة لنفر من أتباعه من كبار أفراد الرستقراطية عرفانا بما أسدوه من عون
و مساندة .كما وزع قطعا أخرى على كبار أتباعه من حملة السيف .و بما أن الوقائع كانت كثيرة،
و أعداد المحاربين كانت في تزايد مستمر،لم يكن ممكنا أن يستمر في تقديم قطع أرض من
ممتلكاته أو من ممتلكات المملكة ،لذلك لجأ إلى مصادرة مساحات شاسعة من الراضي التي
كانت في حوزة الكنائس .و كان من الطبيعي أن يثير هذا الجراء حفيظة تلك المؤسسات .و في
ذلك خسارة لشارل مارتل الذي كان في حاجة إلى سندها؛ خاصة وأنه كان لزال محفظ قصر
يحكم " نيابة " عن ملك يحضى بالشرعية .و استدراكا للموقف دعي إلى إيجاد مخرج للمشكلة.
فعقدت ثلث مجامع دينية بين سنتي 742و .744انتهت إلى القرار بأن الراضي التي
صودرت من الكنائس و وزعت على أفصال )محاربين أو غير محاربين( تظل في ملكية تلك
المؤسسات .و ل حق للفصال فيها إل حق الستغلل الذي ينتقل إلى ورثة الفصل بعد وفاة هذا
الخير .و قد يتوقف مفعول حق الستغلل إذا ارتأى الملك ذلك .و يلتزم الفصال المستغلون لما
في أيديهم من أراضي بتقديم ضريبة محددة .نص عليها عقد كان يبرمه كل فصل مع الكنيسة
مالكة الرض .بينما كان يبرم ذات الفصل عقدا آخر مع الملك باعتباره السنيور المانح لحق
الستغلل .و منذ هذا التاريخ وحتى مطلع القرن الحادي عشر بدأت ترتسم في الفق معالم
علقات الفصالة المتمحورة حول قطعة أرض كعطاء يعرف في النصوص باسم " بنفسيوم " )
.46(beneficiumو تترك نفس النصوص النطباع بأن مجال استعمال هذا النوع من العطاء
أخذ يتسع على حساب العطاء الذي كان معمول به منذ ما قبل القرن الثالث للميلد ) أي المأوى و
المأكل و ما شاكل ذلك ( .كما أن أعداد المعنيين بالعطاء " القديم " ظلت في تراجع رغم عدم
وجود معطيات رقمية تثبت ذلك.
و يمثل عهد شارلمان ) (814 – 687فترة حاسمة في اتساع نطاق استعمال قطع الرض
كعطاء في علقات الفصالة .و قد استمر هذا التساع حتى نهاية حكم السرة الكارولنجية حسب
الخلصة التي انتهى إليها فردناند لوط ) ( Ferdinand Lotمنذ عدة عقود .47و قد كان محقا
في ذلك .على اعتبار أن شارلمان خاض حروبا كثيرة في اسبانيا وايطاليا و جرمانيا أفضت إلى
الحصول على مساحات شاسعة من الرض .وزع قطعا كثيرة منها على عدد من أفراد
الرستقراطية الذين ارتبطوا به بعلقات تبعية و ولء .ولكنه حرص على أل يكون لهم عليها
- 46يجدر التنبيه إلى أن كلمة بنفسيوم ل تطلق فقط على قطعة أرض ،و إنما على أي شيء يقدمه شخص لشخص آخر للنتفاع به .و قد
يكون ذلك الشيء كمية من الحبوب أو مبلغا من المال.
47
- Ferdinand Lot, « Le serment de fidélité à l’époque franque », in Recueil des travaux de Ferdinand
Lot, Paris – Genève, Droz, 1968, TomeII ,p. 343.
19
سوى حق النتفاع ،لكي يحرص كل مستفيد على التشبث بالولء و يضع في حسبانه بأن قطعة
الرض قد تنتزع منه إذا لم يف بالتزاماته العسكرية المتمثلة في استنفار ما تحت إمرته من
محاربين عند الضرورة .و على كل ،فقد أصبحت الرض حجر الزاوية في علقة الملوك
الكارولنجيين بأفراد الرستقراطية .و هذا ما يفهم من كلم الباحثان جون -بيير بولي)Jean-
(Pierre Polyو اريك بورنزيل ) ( Eric Bournazelاللذان تناول المسألة منذ بضع سنوات
وأكدا بأن البنفسيوم غدا عنصرا أساسيا في علقات الفصالة منذ منتصف القرن التاسع .48و نعتقد
من جانبنا بأن هذا التطور ينسجم مع مسارعلقات الفصالة التي اتخذت منذعهد شارلمان طابعا
رسميا .و أصبحت إحدى الدوات المعتمدة في الحكم و التسيير.
و يبدو هذا التطور في علقة الدولة بالفصالة غريبا إذا علمنا بأن شارلمان قام بعدة
إصلحات 49في مجال الدارة و القضاء و نظام الحكم بهدف إرساء دعائم " دولة مركزية " ذات
مؤسسات يخضع لسلطانها جميع سكان المملكة -المبراطورية .و كان من المفترض أن تفضي
تلك الصلحات إلى تقليص مساحة شبكة علقات التبعية و الحد من سطوة أفراد الرستقراطية؛
خاصة وأن شارلمان قرر الشراف شخصيا على تعيين القماط و الدوقات و كبار رجال الدين
على رأس مختلف القمطيات .و حرص على أن يكونوا هم المسؤولين المباشرين على إقرار
المن و على جباية الضرائب وهم المشرفين على أمور القضاء .و زاد بأن دعم هذا الجراء
بإقرار مبدإ الرقابة المستمرة بواسطة المبعوثين الملكيين ) ( les missi dominici؛ الذين كانوا
يتجولون عبر مختلف القمطيات و يرفعون له تقارير عن سير القماط و المؤسسات الدينية و عن
سلوك أفراد الرستقراطية .غيران هذه الجراءات لم تحدث القطيعة المنتظرة مع علقات
الفصالة ،لن شارلمان كان يراعي في اختيارالقماط و الدوقات و كبار رجال الدين أن يكونوا
من أشد المخلصين للسرة المالكة .تربطهم بشخص الملك علقات تبعية و ولء ،أي علقات
فصالة .على أن يغدوا في المقاطعات التي يشرفون على إدارتها " سنايرة " )( des seigneurs
يرتبط بهم بعلقات فصالة مختلف رجال الدين و كبار الملكين العقاريين .بينما تترك لعموم
فلحي المقاطعات و " المواطنين " الحرار حرية اختيارالسنايرة الذين يرغبون في الرتباط بهم
بعلقات فصالة.
و بناء عليه يتضح بأن الصلحات التي قام بها شارلمان في مجال نظام الحكم و إدارة
القمطيات لم تكن تهدف استئصال علقات الفصالة بقدر ما كانت تروم " ترويضها " أو بعبارة
أصح تقنينها .50لن عملية استئصالها كانت صعبة ،حتى ل نقول مستحيلة ،لعتبارات يمكن إيجاز
أهمها فيما يلي :
أول :رسوخ علقات الفصالة في المجتمع عامة ،وفي أوساط الطبقة الرستقراطية التي تبنتها
كتقليد منذ قرون .و لم يكن بإمكان شارلمان المضي قدما في إصلحاته الدارية بإلغاء هذا التقليد.
و من ثم التنكر لفراد الرستقراطية الدين أسدوا خدمات جلة لبائه و أجداده أوصلتهم إلى دفة
الحكم على حساب ملوك السرة الميروﭬنجية.
ثانيا :افتقار الدولة إلى أطر كافية و محترفة لتدبير شؤونها في وقت أصبحت فيه مترامية
الطراف بعد الحروب التوسعية .و بالتالي ،فان الضرورة كانت تقتضي الستمرار في العتماد
على أفراد الرستقراطية في تدبير مختلف القمطيات من خلل علقات الفصالة التي أرسوا
دعائمها والتي مكنتهم من القيادة و التسيير.
ثالثا :محدودية الموارد المالية الضرورية لتغطية النفقات التي تتطلبها مهام الحكم و التدبير و
دفع مرتبات " موظفي " الدولة من رجال الدين و العلمانيين رغم الصلحات القتصادية و
-48أنظر الصفحة 117من كتابهما La mutation féodale :الذي سبقت الحالة عليه.
-49نشرت دراسات وأبحاث كثيرة حول شخصية شارلمان و حول إصلحاته .يمكن العودة على سبيل المثال إلى الدراسة المستفيضة
التي أنجزها لوي هالفن ) (Louis Halphenمنذ عقود تحت عنوان :
.Charlemagne et l’empire carolingien,Paris, Albin Michel,1947, réédition,1968
-50نقصد بتقنينها . sa canalisationأي جعلها تأخذ مسلكا واحدا يبتدأ عند أدنى فرد في المجتمع متمتع بحق الحرية و ينتهي عند
شخص الملك باعتباره " سنيور السنايرة ").(le suzerain
20
المالية التي قام بها شارلمان .و بالتالي ،كان لبد من استعمال الرض كوحدة نقدية لتغطية النفقات
الدارية و العسكرية .و بما أن الحروب التي خاضها شارلمان و فرت مساحات شاسعة من
الرض ،فقد أغنت عن المضي قدما في البحث عن مصادر السيولة النقدية .كما أن تلك الوفرة
شجعت على المنح المطلق أحيانا و على المنح المشروط بحق الستغلل في أحايين كثيرة .و كان
من تبعات ذلك أن استغل عدد من أفراد الرستقراطية وفاة شارلمان فسيطروا على قطع الرض
التي منح لهم حق استغللها .كما أن خلفاؤه حادوا عن السياسة التي انتهجها في هذا المضمار و
التي كان يتبعها فيما مضى محافظو القصر .و ذلك حين قرروا بأن تصبح ملكية الفصل على قطعة
الرض التي منحت له كعطاء ) ،( beneficiumملكية تامة مطلقة نظير استمراره على الولء
سواء كان سيده ،أي " سنيوره " أحد الخواص أو سيده الملك شخصيا.
و انطلقا مما تقدم ،نخلص إلى القول بأن علقات الفصالة التي نشأت في الممالك الجرمانية
زمن ضعف السلطات المركزية ،كان من المفترض أن تتراجع في مرحلة بدأت تترسخ فيها نسبيا
أسس الدولة المركزية .غير أن هذا التطور لم يحصل .بل على العكس من ذلك تماما اكتست تلك
العلقات مشروعية و ارتقت إلى مصاف القوانين المنظمة للعلقات و المعاملت .و هذا ما حدث
بالذات في غالة التي غدت في عهد شارلمان إمبراطورية مترامية الطراف .شمل نفوذها معظم
أقاليم غرب أوربا .و ستشكل الضطرابات الداخلية التي شهدها هذا الكيان بعد وفاته بالضافة إلى
عوامل خارجية المناخ المثل لكي تنطلق تلك العلقات نحو آفاق أرحب سنتوقف عند تجلياتها في
الفصل الموالي .
51
هيا انهيار المبراطورية الكارولنجية و ماتله من اضطرابات داخلية وغارات خارجية
المناخ الملئم لتساع مجال انتشار علقات الفصالة في غالة و في مجموع أقاليم غرب أوربا.
والحقيقة أن تلك العلقات لم تتوقف أبدا عن النتشار منذ عهد محافظي القصور كما أوضحنا
ذلك فيما مضى .وكان من الممكن أن يأخذ انتشارها منحى تصاعديا منذ عهد شارل مارتل ،غير
أن شارلمان نجح في التخفيف من إيقاع مسيرتها حين عمل على تقنينها .و بذلك وفق أيضا في
كبح جماح أفراد الطبقة الرستقراطية و وضعهم تحت السيطرة و لو إلى حين .وبعد وفاته
افتقدت غالة ،و الغرب الوربي عموما ،حاكما في مثل حنكته و قوة شخصيته .فخلى الجو لفراد
الرستقراطية الذين عادوا مجددا لتفعيل علقات الفصالة التي أصبحت منذ هذا الوقت متحورة
حول الفيف أكثر من أي وقت مضى .كما اجتهدوا في بسط سلطانهم على عموم الفلحين.
وشرعوا في إرساء الليات و الوسائل الكفيلة بتحقيق مكاسب معنوية و مادية من وراء ذلك
السلطان .و قد استفادوا لتحقيق مبتغاهم من الضطرابات و الفوضى السياسية .و مع ذلك فيجب
التنبيه في هذا المقام ،بأن أفراد الرستقراطية من كبار الملكين العقاريين و كبار رجال الدين لم
يستغلوا تلك الوضاع للسراع بإعلن تمردهم أو للتحلل من سلطة القائمين على المر في
الممالك التي قامت في غالة ،وفي أقاليم غرب أوربا الخرى ،بعد انهيار المبراطورية
الكارولنجية .فقد استمروا ،حتى العقد الخير من القرن العاشر ،يدينون بالولء للملوك مباشرة أو
للقماط الذين يمثلونهم في القمطيات .و تجلى ذلك في كونهم ظلوا يؤدون فروض الطاعة
للملوك مباشرة ،و يحضرون أشغال " الجتماع الملكي " ) .( le plaid royalو هو واحد من
بين اجتماعين سنويين كان يرأسهما الملك .كما ظلوا يؤدون يمين الولء للقماط .بعضهم يقومون
-51نعني هنا غارات الﭬكينج أو النورمان و غارات القبائل الهنغارية و غارات المسلمين انطلقا من الندلس.
21
بذلك بوصفهم أفصال لهؤلء القماط وبعضهم الخر يقومون بذلك بوصفهم " مواطنين "
خاضعين لسلطة القماط .و بما أنهم من علية القوم ،فقد كان يتوجب عليهم القيام عمليا بأداء
الولء ،و حضور الجتماعات الدورية التي يدعو إليها القمط ) .( les plaids comtauxو
عند تعيين قمط جديد على رأس القمطية ،كان كبار الملكين العقاريين و كبار رجال الدين
يقومون بتقديم ولئهم للقمط الذي تم تعيينه .و إذا تعذر على أحدهم القيام بذلك لسباب قاهرة
كان ينيب عنه من يقوم بالعملية .و كأنهم بذلك يقدمون فروض الطاعة و الولء للملك شخصيا .و
هذا التقليد ظل يجري به العمل منذ عهد شارلمان .52و لكن بعد مطلع القرن الحادي عشر بدأت
تظهر معالم التجاه نحو مرحلة جديدة في مسار تطور الفيودالية.
نشترك مع عموم الباحثين في القول بأن هذه المرحلة تميزت بكون الفيف أصبح خللها يمثل
حجر الزاوية في العلقات بين أفراد الرستقراطية .و لكننا نختلف معهم حين نذهب إلى اعتبارها
مرحلة ثالثة اكتمل خللها نضج الفيودالية كما أشرنا إلى ذلك في مقدمة هذا القسم .في حين ،يذهب
الباحثون إلى اعتبار هذه المرحلة مرحلة أولى و وحيدة نشأت خللها الروابط الفيودو – فصلية ،و
خللها أيضا تبلورت تلك الروابط .و ينكرون اعتبار علقات الفصالة مقدمة لهذه الروابط.
و مهما يكن من أمر ،فقد قام الباحثون منذ عقود برصد مسيرة هذه الروابط و باستعراض
السياق الذي " نشأت " و تطورت فيه .بعضهم اختار الغرب الوربى ككل مجال جغرافيا لتناولها،
و بعضهم اختار أحد أقطاره الحالية كإطار جغرافي للقيام بذلك ،بينما ارتأى البعض الخر تناولها
في حيز جغرافي أضيق .و بما أننا نتفق معهم ،على القل في كون فترة ما بعد ستة 1000تمثل
مرحلة تبلور الروابط الفيودو – فصلية ،فقد ارتأينا في هذا الفصل اعتماد بعض المنغرافيات
القليمية للقيام باستعراض أبرز مظاهر هذا التبلور كما حدثت في قمطيتين تنتميان لغالة الموسومة
بكونها " الموطن الصلي " للفيودالية هما قمطية ماكوني ) 53(le Mâconnaisو قمطية
55
بروﭬانسيا ) 54( la Provence؛ وفي إقليمين بعيدين عن غالة هما إقليم اللسيوم )(le Latium
أحد أقاليم ايطاليا ،و إقليم قطلونيا ) 56( la Catalogneالواقع في شبه جزيرة ايبيريا.
شكلت قمطية ماكوني مجال جغرافيا لطروحة أصدرها جورج دوبي ) ( Georges Duby
سنة .1953و قد أنجز هذه الطروحة بين نهاية الربعينيات و مطلع الخمسينيات من القرن
العشرين؛ خلل مرحلة خاصة من مسيرة البحث التاريخي في فرنسا .تميزت بكون الرؤية الضيقة
التي تختزل الفيودالية في الفصالة و الفيف و المؤسسات المتصلة بهما كانت هي السائدة في أوساط
- 52تحدث بتفصيل عن هذا التقليد هنكمار)(Hincmarأسقف كنيسة مدينة ريمس) (Reimsفي كتابه :
De Ordine Palatii , texte latin et sa traduction française établit par la Bibliothèque de l’ Ecole des
Hautes Etudes, Paris, Editions f.Vieweg , 1885.
و من المعلوم أن هنكمار الذي عاش بين سنتي 806و 882قضى فترة من حياته في خدمة لويس التقي) (Louis le Pieuxو شارل
الصلع) (Charles le Chauveخلفاء شارلمان.
53
- Georges Duby , La société au XIe et XIIe siècles dans la région mâconnaise, Paris, A. Colin, 1953.
54
- Jean-Pierre Poly, La Provence et la société féodale, 879-1166, contribution à l’étude des structures
féodales dans le Midi, Paris, Bordas, 1976.
55
- Pierre Toubert , Les structures du Latium médiéval :Le Latium méridional et la Sabine du IXe siècle
à la fin du XIIe siècle, Paris, les Editions de Boccard, 1973, 2 vol.
56
- Pierre Bonnassie, La Catalogne du milieu du Xe à la fin du XIe siècle :Croissance et mutations
d’une société, Toulouse, Association des publications de l’Université de Toulouse-Le Mirail ,1975-
1976, 2 vol..
22
الباحثين في التاريخ الوربي الوسيط 57و كذلك في أوساط المهتمين بالقانون و تاريخ
المؤسسات .58بينما كانت الرؤية الواسعة التي تبناها مارك بلوك ) ،59( Marc Blochو التي
ترى الفيودالية إحدى التجليات التي اتخذتها البنيات الجتماعية في تطورها خلل العصر الوسيط ،
ل زالت تبحث لها عن موطئ قدم .و لذلك ،جاءت أطروحة دوبي مثقلة بإرث الماضي و
مستشرفة في ذات الوقت النقلة التي ستحدث بعد تزايد تلمذة بلوك .و هذا ما يتضح من عنوانها و
كذلك من مضمونها .فقد تضمن عنوانها كلمة " مجتمع " على شاكلة عنوان كتاب مارك بلوك .أما
مضمونها فتضمن فصول مطولة خصصها الباحث للفصالة والفيف .و أخرى خصصها لرصد
التحولت التي شهدها مجتمع الماكوني خلل القرنين الحادي عشر و الثاني عشر .سعى فيها جاهدا
إلى إقناع القارئ بأن الفصالة و الفيف كانا مجرد واجهتين لمؤسسات نشأت و تطورت في سياق
تلك التحولت الجتماعية .و رغم الجهد المبذول ،لم يستطع جورج دوبي التحرر من نظرة
المؤرخين القدامى للفيودالية 60حين يرون بأنها تمثل الحصيلة المنطقية لنفراط وحدة
المبراطورية الكارولنجية .إذ يذهب على غرارهم إلى العتقاد بأن تدهور مؤسسة القمطية في
إقليم الماكوني أفضى إلى تشكل شبكة من الروابط الفيودو – فصلية انخرط فيها أفراد
الرستقراطية في هذا القليم.
أول :تدهور مؤسسة القمطية
يفيدنا جورج دوبي بأن إقليم الماكوني كان منتظما في إطار قمطية نشأت منذ العهد
الكارولنجي في سياق عملية إعادة تنظيم " الدارة الترابية " .و قد حصل فتور في علقة هذه
القمطية بالمؤسسة الملكية منذ شهر غشت من العام ،843تاريخ توقيع معاهدة ﭬردان
) ( Verdunالتي تم بموجبها تقسيم المبراطورية الكارولنجية بين الخوة الثلث أبناء الملك
لويس التقي ) .( Louis le Pieuxو تحول هذا الفتور إلى نوع من القطيعة منذ سنة . 951فقد
زار الملك لويس الرابع قمطية ماكوني خلل هذه السنة .و بعد هذا التاريخ لم تطأها أقدام ملك
حتى حوالي سنة .611166و رغم هذه التطورات ،فان مؤسسة القمطية و المؤسسات العمومية
المتصلة بها ظلت منذ سنة 951وحتى حدود سنة 980أو 982تمارس دورها في إقرار المن
و جباية الضرائب و الشراف على أمور القضاء والسهر على ممارسة الشعائر الدينية في ربوع
قمطية الماكوني .و لذلك فان عموم الفلحين و غيرهم من الفراد الحرار ظلوا يثقون في تلك
المؤسسات .و لم يعودوا يبحثون عن المان و الطمئنان في علقات القرابة أو في صيغ أخرى
-57نذكر من بين هؤلء الباحثين فوستيل دي كولنج ) ( Fustel de Coulangesالمتوفى سنة .1889و أوﯖيستان فلبش )
(Augustin Flicheالمتوفى سنة .1951و فرديناند لوط ) (Ferdinand Lotالمتوفى سنة .1952أنجز هؤلء المؤرخين أبحاثا
كثيرة ذات قيمة علمية بالغة .شكلت حجر الزاوية في لئحة المراجع التي اعتمدها مؤرخو ما بعد الحرب الكونية الثانية .ومن بين
أبحاثهم نذكر على سبيل المثال :
Fustel de Coulanges,Histoire des anciennes institutions françaises, Paris, Hachette, 1901-1914. 6
Tomes.
Augustin Fliche, La chrétienté médiévale (395-1254), Paris, Editions de Boccard, 1929.
Ferdinand Lot, La France des origines à la guerre de Cent ans, Paris, Gallimard, 1941.
-58نذكر من بين هؤلء المهتمين جاك فلش ) ( Jacques Flachالمتوفى سنة .1919رجل قانون له عدة مؤلفات من بينها :
Etudes critiques sur l’histoire du droit romain au Moyen Age, Paris, Librairie Larose et Forcel, 1890.
و فرانسوا اوليفيي – مارتان ) (François Olivier- Martinالمتوفى سنة .1952هو أيضا رجل قانون له عدة مؤلفات من بينها :
Histoire du droit français des origines à la Révolution, Paris, Montchrétien, 1948.
- 59يعد من أبرز المؤرخين الباحثين في اقتصاد و مجتمع فرنسا في العصر الوسيط .دعا إلى ضرورة تغيير مناهج البحث .و أسس لهذا
الغرض رفقة زميله لوسيان فيفر ) (Lucien Febvreالمجلة الشهيرة "حوليات التاريخ القتصادي و الجتماعي" )Annales
(d’Histoire Economique et Socialeالتي لزالت تصدر إلى اليوم باسم "الحوليات ،التاريخ ،العلوم الجتماعية" ) Annales
.Histoire Sciences Socialesكما أنجز عدة أبحاث قبل أن يلقى حتفه رميا بالرصاص على يد القوات النازية يوم 16يونيو
.1944و من أهم ما صدر له :
Les caractères originaux de l’histoire rurale française (1931). Et La société féodale (1939).
-60ننبه القارئ بأن ما نذكره في هذا الشأن ينطبق على أطروحة دوبي التي صدرت سنة .1953أما بعد ذلك فقد تطورت نظرته كثيرا
كما يتضح من خلل مؤلفاته اللحقة مثل كتاب (Guerriers et paysans (1969و كتاب
.(Les trois ordres ou l’imaginaires du féodalisme (1978
61
- Georges Duby, La société au XIe et XIIe siècles…, Op. Cit. p.91 et p.540.
23
مماثلة لها .أما أفراد الرستقراطية اللئكية ،فقد استمروا من جانبهم في احترام مؤسسات
القمطية .و لم يكونوا يترددون في مد يد العون للقمط و للمؤسسات الدينية في الحالت العادية،
كما في الظروف الستثنائية .غير أن مستجدات شهدتها القمطية أخذت تأثر سلبا في علقة أفراد
الرستقراطية اللئكية و الدينية بالقمط .
فابتداء من سنة 982تولى إدارة القمطية أوت ﯖيوم ) ( Otte Guillaumeالذي أمضى
السنوات الولى من فترة وليته في سلسلة حروب توسعية ضد جيرانه .استنزفت موارد القمطية
واضطر لنهائها دون تحقيق طائل ليتفرغ لقرار السلم الجتماعي 62في ربوع القمطية على
اثر موجة العنف التي أخذت تجتاحها.
لم يخف أفراد الرستقراطية تذمرهم من سياسة أوت ﯖيوم ،و لكن المصالح المشتركة اقتضت
أن يلتفوا حوله لمواجهة هذه المستجدات الداخلية .و يفيدنا جورج دوبي بأن عملية التصدي
لعمال العنف التي أخذت تقوم بها مجموعات من الفرسان و التي واكبتها حركات احتجاج في
أوساط الفلحين شكلت في حقيقة المر سلحا ذو حدين :فقد أبانت عن تظافر جهود القمط و
أفراد الرستقراطية و رجال الدين في تدبير الشأن العام .كما أبانت عن حرص جميع الطراف
على سلمة المؤسسات و استمرارية دورها .و لكنها دلت في نفس الوقت على أن مؤسسة
القمطية لم تكن قادرة لوحدها على مواجهة أعمال العنف أو التصدي لحركات الحتجاج .و بما
أن تلك العمال و الحركات اتخذت في بادئ المر مسحة دينية ،فقد تزعمت المؤسسات الدينية
عملية مجابهتها .فأمدها ذلك بشحنة معنوية و جعل كبار رجال الدين ينفردون باتخاذ بعض
القرارات دون العودة إلى القمط ؛ من قبيل عقد الجتماعات دون سابق إعلن للبث في آليات
التصدي لتلك الحركات .فكان هذا الجراء لوحده يمثل مؤشرا على تزايد تنامي سلطة كبار رجال
الدين و تراجع هيبة القمط أوت ﯕيوم الذي أخذ يتخلى عنه كبار أفراد الرستقراطية اللئكية
بدورهم .و هذا ما تأكد لحقا بعد سنة 1000حيث أخذ عدد الحاضرين لجتماعات القمط
يتراجع بشكل مستمر .و إذا صدقنا جورج دوبي ،فان اجتماعا دعا لنعقاده أوت ﯕيوم سنة
1005لم يحضره سوى أفصال القمط و نفر من كبار رجال الدين و أعيان الرستقراطية
اللئكية .أما اجتماع سنة 1010فلم يحضره سوى أفصال القمط و أسقف القمطية مرفوقا بأحد
مساعديه .63و بعد هذا التاريخ أخذت تلك الجتماعات تكتسي طابعا عائليا .حيث لم يعد يحضرها
سوى أقرب المقربين من القمط و أفراد عائلته و أشخاص آخرين تربطهم به صلت قرابة.
و معنى ذلك أن أفراد الرستقراطية ،من كبار الملكين العقاريين اللئكيين و كبار رجال الدين
تحللوا من سلطة القمط و قطعوا صلتهم بمؤسسات القمطية .و أضحوا سادة أنفسهم و سادة سكان
القمطية الذين أصبحوا خاضعين لنفوذهم في إطارما نصطلح على تسميته " بالسنيورية
اللزامية " .( la seigneurie banale ) 64كما شيدوا القصور التي اتخذوها مراكز لممارسة
السيادة .و شكلوا ،لتفعيل تلك السيادة أجهزة و مؤسسات تابعة لهم .تقوم بإقرار المن و جباية
الضرائب و تشرف على أمورالقضاء .و بموازاة ذلك ارتبطوا فيما بينهم بعلقات فصالة متمحورة
حول الفيف.
ثانيا ; تشكل الروابط الفيودو – فصلية
-62نقصد هنا ما يعرف بحركة سلم ال) ( la Paix de Dieuالتي ظهرت سنة 989بإقليم أكيتانيا،جنوب غالة ،ثم انتشرت في
مختلف أقاليم غالة .و هي حركة ذات مسحة دينية اجتماعية .نشأت في أوساط رجال الدين و تبنتها المؤسسات الدينية .كانت تهدف إلى
اقرارالسلم الجتماعي بين المسيحيين على اثر حركات العنف التي بدأت تندلع هنا وهناك في سياق التحولت الكبرى التي بدأت تشهدها
أقاليم غرب أوربا.
و قد كان هدفها السمى في حقيقة المر هو حماية المؤسسات الدينية ،و الحرص على حرمتها .لذلك عقدت الكنائس سلسلة اجتماعات
للنظر في آليات تطبيق الحركة.أقرت على إثرها جعل المؤسسات الدينية أماكن حرما يجرم من اقتحمها أو اعتدى على الفراد العزل
المحتمين بها .كما أقرت كذلك جعل أيام الحد و الثنين والثلثاء و الربعاء أياما حرما ل يتم فيها القتال.و نفس المر ينطبق على اليام
التي تتصادف مع تخليد العياد الدينية .لمزيد من التفاصيل بخصوص هذا الموضوع يمكن العودة إلى كتاب :
Dominique Barthélemy, L’an mil et la paix de Dieu: la France chrétienne et féodale (980-1060),
Paris, Fayard, 1999.
63
- Georges Duby, La société au XIe et XIIe siècles…,Op.Cit.,p. 168.
-64سنعرف بهذه المؤسسة و سنتحدث عن بنيتها بتفصيل في موضع لحق.
24
يعود جورج دوبي في معرض حديثه عن الروابط الفيودو – فصلية ليقنع القارئ ضمنيا بأن
انخراط أفراد الرستقراطية الماكونية في هذه الروابط يمثل النتيجة المنطقية التي آل إليها تدهور
مؤسسة القمطية .و يفيدنا في هذا الصدد بأن النصوص التي اعتمدها توضح بأن الصلة بين الفيف
و الولء ( l’hommage ) 65أصبحت وثيقة في الماكوني ابتداء من سنة .1030حيث غدت كل
عملية تقديم فيف تستوجب من المستفيد منه تقديم الولء و أداء القسم .و تبعا لذلك خصص
صفحات مطولة لرصد مسيرة الفيف و للحديث عن الولء و عن الطقوس التي كانت تتم فيها
عملية تقديم الفيف وعملية أداء الولء .و أهم الملحظات التي يمكن استخلصها من تلك
الصفحات هي كما بلي :
أول :لم تكن العلقات بين جميع أفراد الرستقراطية في إقليم الماكوني قائمة على الفيف.فقد
مثل حجر الزاوية في العلقات القائمة بين أفراد الشريحة السفلى و أفراد الشريحة المتوسطة في
الطبقة الرستقراطية ،و كذلك بين أفراد هذه الشريحة و أفراد الشريحة العليا ،أما بين أفراد
الشريحة العليا فقامت روابط " فيودو – فصلية " غير مستندة على الفيف.و قليل ما كان أحد أفراد
هذه الشريحة يقدم فيفا لفرد آخر .لن أفراد هذه الشريحة كانوا ينحدرون كلهم من أسر نبيلة و
عريقة مالكة لراضي مترامية الطراف ،و لن المر يتعلق هنا بشخصين متساويين في المقام و
القوة .و من ثم ،لم يكن من اللئق أن يسلم أحدهم فيفا للخر ،لن عملية تسليم الفيف تحيل إلى نوع
من الدونية .كما تجعل المستفيد من الفيف في وضعية تبعية و خضوع للشخص مانح الفيف.
ثانيا :اتخذت عملية تقديم الولء ) ( l’hommageفي قمطية ماكوني شكل عموديا و آخر
أفقيا .فقد كان بإمكان الشخص الواحد المنتمي للشريحة السفلى أو للشريحة المتوسطة في
الرستقراطية أن يتسلم فيفين من مانحين .فيغدو بذلك فصل " لسنيورين " .وغالبا ما كانت تتكرر
مثل هذه الحالت في أوساط حملة السيف الذين كان الطلب عليهم قويا ،لذلك كان " السنايرة "
يتنافسون في استقطابهم بمنح الفياف و التخفيف من أعباء الخدمات و اللتزامات .بينما لم يكونوا
هم أيضا يترددون في الستجابة لتلك الغراءات .فكان الواحد منهم يضع مهاراته القتالية رهن
إشارة أكثر من سنيور لزيادة رصيده من الفياف .غير أن تعدد مثل هذه الروابط كان يطرح أحيانا
بعض المشاكل ،حين يقع سوء تفاهم بين سنيورين .فيجد الفارس المرتبط بهما بعلقة فصالة نفسه
في وضعية حرجة.
و مهما يكن من أمر فالمحصلة النهائية التي يخرج بها قارئ أطروحة جورج دوبي هي أن
قمطية الماكوني وقعت في شراك الفيودالية بعد تدهور مؤسسة القمطية و نهاية دورها في رعاية
شؤون أفراد المجتمع .فغدت بذلك إحدى المجالت الجغرافية الممثلة لهذه الظاهرة في ربوع غالة.
و من ثمة ،فان قصة العلقة بين قمطية الماكوني و الفيودالية تلخص إلى حد بعيد قصة غالة مع
هذه الظاهرة تبعا للنطباع الذي تتركه الطروحة .ففي الماكوني كما في مجموع تراب غالة بدأت
تلك القصة عندما تدهورت المؤسسات السياسية ،و حدث فراغ سياسي أفضى إلى تجزئة متقدمة
للسلطة التي أصبح يمارسها كل من استطاع إلى ذلك سبيل.فانتفت المؤسسات .وانتفت معها أية
صلة تربط الفرد بالدولة .فماذا يمكن أن يقال عن صلة قمطية بروﭬانسيا بالفيودالية ؟
شكل إقليم بروﭬانسيا مجال جغرافيا لطروحة أنجزها جون بيير بولي )(Jean-Pierre Poly
الباحث الذي يزاوج بين المقاربة التاريخية و المقاربة القانونية في تناول قضايا العصر الوسيط في
أوربا.
66
و تندرج هذه الطروحة و الطروحتان اللتان سيأتي الحديث عنهما بعد حين ضمن مشروع
علمي طموح انبرى للقيام به ثلة من الباحثين منذ سبعينيات القرن الماضي .سعى لدحض فكرة
-65ننبه القارئ بأننا نستعمل كلمة ولء كمرادف لكلمة . hommageكما أننا سنستعملها لحقا كمرادف لكلمة .fidélitéفي حين أن
هناك فرقا بين الكلمتين الفرنسيتين .لذلك فإننا عند كل استعمال لكلمة ولء نسجل بين قوسين ما يقابلها في اللغة الفرنسية حسب سياق
النص.
- 66يتعلق المر بأطروحتي بيير توبير و بيير بوناصي اللتين أرجأنا الحديث عنهما بعد الحديث عن أطروحة جون بيير بولي لنها
تهم أحد أقاليم غالة.
25
كانت رائجة في أوساط الباحثين في تاريخ العصر الوربي الوسيط خلل خمسينيات و ستينيات
القرن المذكور .مفادها أن موطن الفيودالية هو القاليم الممتدة بين نهري اللوار و الراين التي
شكلت قلب المبراطورية الكارولنجية .أما أقاليم جنوب غالة ،و معها أقاليم جنوب أوربا ،فلم
تشهد ظاهرة الفيودالية .و إذ قدر لبعض تلك القاليم أن تشهد بعض تجليات الظاهرة ،فقد كانت
تجليات دخيلة على نظمها و بنياتها.
و قد عبر جون بيير بولي عن مقاصد أطروحته منذ الصفحات الولى من خلل السؤال
المحوري التي :هل ينطبق المخطط الخاص بالفيودالية ،الذي صاغه مؤرخو مرحلة ما بعد
الحرب الكونية الثانية انطلقا من نصوص تنتمي للقاليم المعروفة بمهد الفيودالية ،على إقليم
67
بروﭬانسيا خاصة ،و أقاليم جنوب غالة عامة؟
و قد اقتضى الجواب عن هذا السؤال من قبل الباحث اعتماد ما ينيف عن ألفي نص من
النصوص المعروفة " بالمواثيق " ) .( les chartesبالضافة إلى ترسانة أخرى من المصنفات؛
ككتب التاريخ العام و الحوليات و سجلت الديرة و النصوص الهاجيوغرافية التي تعرض لسير
و كرامات القديسين و القديسات و غيرها من النصوص.
خلص جون بيير بولي بعد استقرائها إلى خلصة مفادها أن قمطية بروﭬانسيا انخرطت هي
الخرى في ظاهرة الفيودالية " من أبوابها الواسعة " .و أن مقومات الظاهرة في هذا المجال
الجغرافي لم تقل نضجا و تكامل عن مثيلتها في وسط أو شمال غالة.
و يفيدنا على غرار جورج دوبي بان الفيودالية اتبعت في نشأتها و تطورها بقمطية بروﭬانسيا
مسارين متوازيين :واحد ذو طابع سياسي تمثل في نهاية دور المؤسسات العمومية .و الثاني ذو
صبغة عقارية تمثل في تشكل شبكة من العلقات تمحورت حول الفيف .و لكن لحظة انطلق
المسار الول كانت أسبق من لحظة انطلق المسار الثاني .حيث انطلق المسار السياسي بين سنتي
1000و .1040و لم ينطلق المسار العقاري إل بعد مطلع القرن الثاني عشر.
و بناء عليه ،ففي إقليم بروﭬانسيا كما في إقليم الماكوني شكلت مؤسسة القمطية أم المؤسسات.
كانت تباشر بواسطة أجهزتها القتصادية و القانونية و القضائية تدبير الشأن العام .و إليها كانت
تحتكم سائر فئات المجتمع من خاصة و عامة.
و إذا كانت حركة هدنة ال قد شكلت منعطفا حاسما في مسار تلك المؤسسات بقمطية الماكوني،
كما رأينا من قبل ،فان تطورات ذات بعد اقتصادي – ديموغرافي حدثت خلل الفترة الممتدة بين
سنتي 950و 1040هي التي أفضت هذه المرة إلى التحولت السياسية و الجتماعية التي شهدتها
بروﭬانسيا بعد سنة .1040
و قد تمثلت هذه التطورات في كون أن أفراد الرستقراطية ،من كبار و متوسطي الملكين
العقاريين ،أصبحوا يلقون صعوبات في إيجاد اليدي العاملة الكافية لستثمار استغللياتهم
المترامية الطراف .بفعل التراجع الديموغرافي و تقلص أعداد العبيد الذين كانوا يسخرون منذ
قرون في مختلف النشطة الزراعية .و من ثم ،لم يجدوا أمامهم من حل سوى القيام ببسط سلطانهم
المعنوي و المادي على عموم الفلحين الحرار .فشرعوا في إرساء الليات لتحقيق هذا المبتغى.
و من المفيد التذكير مجددا في هذا المقام ،بأن القمط كان هو المسؤول الوحيد منذ عهد
شارلمان ،و قبله أيضا ،الذي تتجسد في شخصه السلطة في ربوع القمطية .فهو الذي يمتلك ما
تسميه بحق اللزام ( le droit de ban ) 68الذي يسري مفعوله في حدود دائرة ترابية معينة هي
القمطية .و بمقتضى هذا الحق ،الذي تقوم بأجرأته عدة أجهزة ،يقوم القمط بالقيادة ) le
( commandementو يسهر على إقرار المن ،و يدعو كبار أفراد الرستقراطية لحضور
الجتماعات السنوية التي تعقد للبث في القضايا التي تهم القمطية ،و يشرف على جباية الضرائب،
وعلى شؤون القضاء ،كما يشرف على استخلص الذعائر و الغرامات.
67
- Jean-Pierre Poly, La Provence …, Op.Cit., p.IV.
- 68يسمى هذا الحق باللغة اللتينية .Bannusوبما أنه حق ملزم ) ، (un droit contraignantفقد ارتأينا ترجمة اسمه بالفرنسية
Le banأو le droit de banبعبارة حق اللزام.
26
فحدث في قمطية بروﭬانسيا أن شرع عدد من أفراد الرستقراطية اللئكية في التطاول على
بعض هذه الحقوق .فأخذوا يسهرون على إقرار المن في ربوع القرية التي تقع بها ممتلكاتهم
العقارية .و نجحوا في التأثير على أشغال المؤسسات القضائية .و أنشأوا مؤسسات اقتصادية
كالفران و المعاصر و الطاحونات .و احتكروا استغللها.
و بالنظر إلى ثروة أفراد الرستقراطية و ما كانوا يملكونه من نفوذ قوي ،فقد أصبحت لمعظمهم
اليد الطولى داخل القرى .بل إن عددا منهم نصبوا أنفسهم " اقماطا " في تلك القرى .التي تحولت
كل واحدة منها إلى " سنيورية إلزامية " .أي إلى دائرة ترابية يمارس الرستقراطي في حدودها
حق اللزام بكل تجلياته.
و قد كان التطور حاسما في هذا التجاه ،في نظر جون بيير بولي ،حين أصبح أفراد
الرستقراطية في بروﭬانسيا يشيدون القصور و الحصون دون طلب إذن من مؤسسة القمطية.
فأخذت هذه المنشآت تنتشر هنا و هناك بإيقاع سريع .إذ قبيل حدود سنة 1040أضحت إحدى
المعالم البارزة في المشهد العمراني بقمطية بروﭬانسيا .المر الذي دفع الباحث إلى التساؤل عن
أسباب هذه الظاهرة.
انتهى جون بيير بولي في معرض جوابه عن هذا السؤال إلى التأكيد بأنه لم يكن ثمة مبرر أمني
داخلي أو خطر عسكري خارجي يدعو إلى إقامة هذه التحصينات ،خاصة و أن المسلمين الذين
كانوا يهددون القمطية تراجعوا عن حدودها منذ سنة .69972فما من تفسير لهذه الظاهرة ،في
اعتقاده ،سوى أن أفراد الرستقراطية كانوا يسعون بخطى حثيثة لعسكرة القرى لسببين :أول
لحماية أنفسهم و حماية ممتلكاتهم بدل التعويل على الجهزة العمومية لتحقيق الحماية .وثانيا ليجاد
قاعدة مادية لتفعيل سلطانهم على سكان القرى.
و انطلقا مما تقدم ،يذهب جون بيير بولي إلى العتقاد على غرار جورج دوبي بان القصر
) ( le châteauأو الحصن أصبح من وجهة نظر معنوية رمزا للسلطة .و من وجهة نظر مادية
مركزا لمؤسسة هي السنيورية اللزامية .انطلقا من هذا المركز أضحى الرستقراطي ،أي
السنيور ،يمارس حق اللزام على سكان القرية.
و إذ قدر لفراد الرستقراطية في بروﭬانسيا النجاح في الستحواذ على حق اللزام ،و سحب
البساط من تحت أقدام القمط ،فقد أفرغوا بذلك مؤسسة القمطية من أي محتوى ،و نجحوا في
نفس الوقت في إيجاد مخرج لزمة اليد العاملة التي كانت وراء كل هذه الترتيبات .و إذا كانت
هذه التحولت قد حدثت دون أن ترافقها أحداث دامية كبرى كما حدث في قمطيات أخرى،فقد أدت
مع ذلك ،إلى حدوث " قطيعة " بين عهدين في يروﭬانسيا 70كما يؤكد ذلك جون – بيير
بولي :عهد ما قبل الفيودالية ،وعهد الفيودالية .و رغم ذلك فان الباحث يشد انتباهنا إلى مسألة
أساسية و هي أنه حتى نهاية القرن الحادي عشر كانت الظاهرة " تستعد لحط الرحال " بالديار
البروﭬانسية .و كان عليها أن تبدأ المسار الثاني من رحلتها لكي تستكمل مسيرتها و تصبح نظاما
متكامل.
بدا جون بيير بولي معالجته لهذا المسار بالتذكير بان الفئات الجتماعية في قمطية بروﭬانسيا
ارتبطت فيما بينها بمختلف أشكال و صيغ علقات التبعية منذ القدم كما هو الشأن في مختلف
قمطيات غالة .فالفقراء ارتبطوا بالغنياء ،و الضعفاء ارتبطوا بالقوياء بعلقات تضرع و إذعان.
بينما ارتبط نفر من كبار أفراد الرستقراطية الدينية و اللئكية مع القمط بعلقات ولء ) la
.( fidélité
و قد كانت علقات الولء بين هذه الطراف التي تهمنا فيما نحن يصدده ،تستند في بعض
الحالت إلى عقار .هو عبارة عن " بنفسيوم " استفاد منه عدد من " علية القوم " الذين أبانوا عن
69
- Jean-Pierre Poly , La Provence…,Op.Cit., p. 127.
70
- Ibid. p. 129.
27
إخلص و تفان في خدمة القمط و القمطية .تمثل ذلك البنفسيوم في الغلب العم في مجموعة
حصون .كان المستفيدون منها يقومون بحراسة المناطق التي تقع بها نظير استمرارهم على ولئهم
للقمط .و حسب الفادات التي يقدمها لنا جون بيير بولي ،فان النصوص القليلة التي تتحدث عن
هذا الشكل من العلقات ل تتضمن مصطلحات تندرج ضمن ما يسمى بقاموس الفصالة .كما أنها
ل تتضمن معلومات عن الطقوس و الحركات ) ( les gestesالمتصلة بعلقات الفصالة من قبيل
النحناء و عملية أداء اليمين .باستثناء نص واحد يعود لسنة 990يفيد بأن ريكولف ) ( Riculf
أسقف كنيسة فريجوس ) ( Fréjusوقف على ركبتيه ) ( s’est agenouilléيوما ما بين يدي
القمط كما يفعل الفصل أمام سيده السنيور .71و لشك أن هذا الحدث يكتسي دللة بالغة الهمية؛
المر الذي دفع جون بيير بولي إلى التساؤل عما إذا كان هذا النحناء تعبيرا عن علقة فصالة أم
أن ما قام به السقف كان مجرد تعبير عن الخلص و الولء في أرقى صوره ؟ جوابا عن هذا
السؤال يذكر بولي بأنه من الصعب الحسم في المسألة انطلقا من شهادة منفردة .و لكنه لم يتردد
مع ذلك في الجزم بأن الطقوس و الشعائر المرافقة لعلقات الفصالة لم تظهر في قمطية بروﭬانسيا
إل بعد مطلع القرن الثاني عشر .و يذكرنا في هذا المقام بأن عددا من أفراد الرستقراطية الذين
شيدوا القصور و الحصون ،كما ذكرنا فيما مضى ،شكلوا مليشيات عسكرية كانت تعمل تحت
إمرتهم؛ و كان من المفروض أن يكون أفرادها أ فصال لهم ،و رغم ذلك فقد كانت العلقات القائمة
بينهم و بين أفراد الرستقراطية قائمة على الولء ،و لم تكن علقات فصالة .و يدعم جون بيير
بولي و جهة نظره هاته بالقول بأن المصادر الخطية التي اعتمدها في انجاز أطروحته ل تتضمن
سوى 19نصا تعود للفترة الممتدة بين سنتي 1040و 1100تتحدث عن الولء ) .( la fidélité
و ل تشير من قريب أو من بعيد إلى الفصالة ) .( la vassalitéو بعد سنة 1100و حتى حدود
سنة 1166انضاف إليها 16نصا .تعززت بظهور عدد من العقود الفيودالية ) des
( conventions féodalesبلغ عددها 22عقدا .و أهم ما في المر هو أن معظم هذه النصوص
بالضافة إلى العقود المشار إليها أصبحت تتحدث بكل وضوح عن الفصالة و ما يتصل بها من
طقوس.
و المحصلة النهائية هي أن قمطية بروﭬانسيا انخرطت بدورها في سلك القمطيات التي سادت
فيها الفيودالية .و قد وجدت في جون بيير بولي الباحث الذي أثبت ذلك بالحجة و الدليل .فماذا
يمكن أن يقال عن اللسيوم أحد أقاليم شبه جزيرة ايطاليا.
ظل الباحثون حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي يروجون لوجهة نظر مفادها أن الراضي
التي كانت خاضعة لسلطة البابوية في شبه جزيرة ايطاليا ظلت بمنأى عن ظاهرة الفصالة حتى
حدود سنة 999حين اعتلى عرش البابوية رجل الدين الفرنسي جربير الورياكي ) Gerbert
(d’Aurillacالمعروف باسم البابا سلفستر الثاني ) .( Sylvestre II
72
يذكر روبير بوتريش ،أحد الباحثين المتأخرين المروجين لهذا الطرح ،بأن البابا المذكور أبان
خلل الربع سنوات التي قضاها على رأس البابوية عن حيوية و نشاط لرد العتبار لمؤسسة
البابوية ،و لنشر تعاليم المسيحية في بعض أقاليم أوربا الشرقية المعروفة اليوم ببولندا و هنغاريا.
و لم يخف رغبته في وضع الحجاج القاصدين بيت المقدس تحت حماية البابوية .بل دعا إلى حمل
السلح لتحرير الماكن المقدسة .فشرع في استقطاب حملة السيف من المتحمسين لهذا المشروع.
و شجع أفراد الرستقراطية على تكوين مليشيات و النخراط في روابط الفصالة.
و إذ ارتبط هذا المشروع بشخصية البابا سلفستر الثاني ،فقد شهد نوعا من التعثر بعد وفاة هذا
الخير سنة .1003و لذلك ظلت الفيودالية محتشمة في هذه الربوع .ولم يقدر لها الكتمال لتصل
إلى مستوى أعلى من التبلور حسب مزاعم بوتريش و الباحثين السابقين.
71
- Ibid., p. 160.
-72أنظر كتابه الذي سبقت الحالة عليه ،الجزء الول ،ص ص.225-224.
28
تمثل أطروحة بيير توبير) ( Pierre Toubertالصادرة سنة 1973قطيعة مع هذا الطرح.
فقد خلص بعد قراءة جديدة لترسانة من النصوص تهم الفترة الممتدة بين القرنين التاسع و الثاني
عشر بأن المر عكس ما روج له الباحثون تماما.
و حقيقة هذا المر هو أن فيودالية إقليم اللسيوم ) ( le Latiumالذي اختاره مجال جغرافيا
لبحثه ،فيودالية " محلية الصنع " .كانت وراء إرساء قواعدها مؤسسات دينية ،أبرزها دير فارفا
73( ( Farfaو دير سوبياكو ) .74( Subiacoفقد دأبت هاتان المؤسستان منذ مطلع القرن الحادي
عشر على تقديم قطع أرض لفراد ينتفعون بها مدى الحياة ) ( des tenures livellairesسعيا
منها لستقطاب أكبر عدد ممكن من المريدين.
و يفيدنا بيير توبير بأن دير فارفا كان مؤهل أكثر من دير سوبياكو في التسريع بوتيرة إرساء
دعائم الفيودالية .فقد كان يملك موارد مادية وبشرية هائلة .تمثلت في تحف نادرة و قطع أرض
شاسعة المساحة و أعداد كبيرة من المريدين .كانوا في معظمهم يتألفون من فلحين يقيمون في
قرى محيطة بالدير ،و يحظون بحمايته فيما يعرف " بالمحميات " ) .( les sauvetésلذلك
ارتأى رجال الدين القائمون بأمر دير فارفا إنهاء العمل بالصيغة السالف ذكرها .و شرعوا منذ
سنة 1062في منح قطع أرض كأفياف للمريدين ،الذين يتقنون استعمال السلح ،مقابل خدمات
عسكرية .و سرعان ما تلت هذه العملية عمليات مماثلة خلل السنوات الموالية .ثم تضاعفت
خلل العشرية الممتدة بين سنتي 1080و .1090و غدت هي الصيغة الكثر تداول بين دير فارفا
و الراغبين في النضمام للمليشيات التي أنشاها .و منذ هذا التاريخ بدأت ظاهرة العسكرة تأخذ
منحى تصاعديا في الراضي الواقعة في منطقة صابين ) ( Sabineالخاضعة لنفوذ دير فارفا .ثم
أصبحت الظاهرة واضحة أكثر بعد سنة 1100حسب الفادات التي تقدمها النصوص التي
اعتمدها بيير توبير.75
و فد سمحت نفس النصوص لبيير توبير بالقول بأنه ابنداءا من حوالي سنة 1120أخذ نفس
المشهد يتشكل في المنطقة المحاذية لنهر التيبر ) ( le pays Tibertinالخاضعة لنفوذ دير
سوبياكو .فقد أبان نفر من أفراد الرستقراطية اللئكية عن رغبة جامحة في الستحواذ على
أراضي تدخل ضمن ممتلكات هذا الدير ،فاقتضت ضرورة صد الطماع من رجال الدين
المشرفين عليه اللتحاق بركب زملئهم رجال دين دير فارفا .فاجتهدوا بدورهم في استقطاب
" المريدين " ) ( Fides equitesمن بين الذين يتقنون فنون الحرب و القتال و امتطاء صهوات
الخيول .فمنح الدير لكل منخرط في العملية فيفا .و شكل مجموع المنخرطين مليشيات عسكرية.
ارتبط أفرادها بسادتهم من رجال الدين بروابط فيودو – فصلية .و تعهدوا بالخدمة العسكرية.
انطلقا مما تقدم يتضح بأن مؤسسات دينية " صغرى " نسبيا هي التي تزعمت حركة إرساء
الفيودالية في شبه جزيرة ايطاليا ،أو على القل في إقليم اللسيوم و في الراضي المحاذية لنهر
التيبر .و هذا ما يستفاد من كلم بيير توبير حين يذكر بأن عملية إرساء الفيودالية في ايطاليا
اندرجت ضمن اهتمامات " المؤسسات العمومية " و ليس ضمن اهتمامات الفراد كما حدث في
أقاليم غالة .76و قد تأكد هذا البعد " المؤسساتي العمومي " أكثر حين انضمت البابوية إلى العملية.
فما هي الجراءات التي قامت بها أم المؤسسات الدينية في هذا الشأن؟
يذكرنا ما يورده بيير توبير من معطيات و هو بصدد الجواب عن هذا السؤال بما حدث في غالة
قبيل أن يتولى شارلمان حكمها .فقد كانت روابط الفصالة قد استشرت في أوساط الطبقة
الرستقراطية من مجتمعها .و بما أنه كان من الصعب استئصال الظاهرة ،فقد فكرفي احتوائها
-73ينتسب هذا الدير للقديسة ماريا ) .( Sainte – Marieيقع في منطقة صابين أو صابينا على بعد حوالي 50كلم .من روما .تعود
نشأته إلى القرن السادس للميلد .اتبع خلل رحلته الطريقة البندكتية .أنظر في هذا الشأن :
,John Howe, Church and social change in eleventh century Italy, University of Pennsylvania Press
.1997
- 74أنشأ هذا الدير القديس بنوا ) ( Saint Benoîtحوالي سنة 500ميلدية .و قد اتبع الطريقة البندكتية كدير فارفا.
75
- Pierre Toubert, Les structures du Latium…, Tome II, p. 1105.
76
- Ibid., Tome II,p. 1183.
29
،كما ذكرنا فيما مضى ،من خلل إضفاء الطابع المؤسساتي عليها .و ذلك بأن جعلها إحدى وسائل
الحكم وممارسة السلطة .و هذا بالذات ما حاولت البابوية القيام به في ايطاليا.
فقد شرع الباباوات منذ مطلع القرن الثاني عشر في نسج خيوط شبكة من الروابط الفيودو –
فصلية .و شجعوا كبار رجال الدين و كبار الملكين العقاريين اللئكيين على النخراط فيها؛
مستحضرين في هذا الشأن ما سبق أن قام به البابا سلفستر الثاني .و لتحقيق النجاح في مسعاهم
اتبعوا مسلكين أساسيين :تمثل المسلك الول في عملية شراء مجموعة قصور و حصون كانت في
حوزة بعض أفراد الرستقراطية .منحت لهم فيما مضى قصد النتفاع ،أو بسطوا عليها نفوذهم
في ظروف غير عادية .فاشترتها منهم البابوية و عادت لتمنحها لهم كأفياف نظير القرار بتبعيتهم
لها كأفصال .وتمثل المسلك الثاني في عملية " شراء للولءات " .فقد كان عدد من كبار الملكين
العقاريين يدينون بالولء ) ( la fidélitéللبابوية منذ القدم .فارتأى الباباوات تقديم مبالغ مالية
لهؤلء على أن يتحولوا من مجرد أشخاص يدينون بالولء للمؤسسة إلى أفصال تابعين لها.
و يفيدنا بيير توبير بأن البابوية حققت نجاحا منقطع النظير في هذا التجاه .إذ بعد مضي سنوات
قليلة شرع كثير من كبار الملكين العقاريين و عدد من القماط في تقديم فروض الطاعة للبابوية
بالنحناء و تقديم الولء ) ( l’hommageو تأدية القسم كسا يفعل سائر الفصال .77و بذلك ،فان
الفيودالية التي سبق لها أن بلغت مستوى من النضج في إقليمي اللسيو م و صابينا اكتمل نضجها
أكثرعلى يد البابوية .و اتسع انتشارها هذه المرة في مجال جغرافي أوسع.
و الجدير بالذكر أن ما أقدمت عليه البابوية كان ينسجم من جهة مع ما كان يعتمل في ايطاليا و
في غرب أوربا عامة من أحدات و تحولت انطلقت منذ مطلع القرن الحادي عشر .فكان على هذه
المؤسسة الدينية أن تركب تيار مرحلة جديدة من تاريخ غرب أوربا اختلط فيها الديني بالدنيوي.
و أصبحت فيها المؤسسات الدينية تجنح نحو طلب الدنيا كما كان يفعل أفراد الرستقراطية
اللئكية .78كما كان يستجيب من جهة أخرى مع رغبة البابوية في أن تكون تحت إمرتها مليشيات
تمدها بالقوة و تسمح لها بقيادة المسيحيين في المشروع الحربي الشهير بالحروب الصليبية.
تترك الفقرات السابقة النطباع لدى القارئ و كأن نشأة و تطور الفيودالية ،في إقليمي اللسيوم
و صابينا ،حدثا في سياق مختلف عن السياق الذي حدثا فيه في إقليمي الماكوني و بروﭬانسيا .ففي
هذين القليمين حدث أن تدهورت المؤسسات العمومية .فاتجهت عملية تدبير الشأن العام نحو
" الخوصصة "؛ و ذلك حين قام أفراد الرستقراطية ) فرادى ( بالسطو على حق اللزام وشرعوا
في تشييد القصور .ثم أصبحوا يمارسون ذلك الحق في إطار سسنيوريات إلزامية أنشأوها .و
ارتبطوا فيما بينهم في شبكة من العلقات تمحورت حول الفيف.
في ايطاليا لم يحدث التدهور المشار إليه .فقد كانت المؤسسات الدينية تشكل دائما ما يمكن
تسميته ببنيات استقبال .حيث كانت تحتضن أفراد المجتمع و تسهر على تأطيرهم .كما أن
منظومة القوانين التي كانت تنظم المعاملت بين الفراد ظلت قوية .و من ثم لم يتهافت أفراد
الرستقراطية اللئكية في إقليم اللسيوم على تطبيق قوانين جديدة .و لم يسارعوا إلى التسلط على
شؤون القضاء .و رغم أنهم شرعوا منذ منتصف القرن العاشر في تشييد القصور و إقامة مناطق
النفوذ ،فإنهم لم يلجئوا إلى نسج روابط فيودو -فصلية كما فعل زملئهم في عدد من أقاليم
غالة .79و هذا ما يفسر في نظر الباحث عدم مواكبة الروابط الفيودو – فصلية ) أي الفيودالية في
معناها الضيق ( في إقليم اللسيوم لظاهرة تشييد القصور و إقامة مناطق النفوذ كما حدث في
أقاليم غالة .لكن هذا ل يعني بأن أفراد الرستقراطية ) اللئكية بوجه خاص ( ظلوا في إقليم
اللسيوم بمنأى عن الفيودالية أو بمنأى عما كانت تقوم به المؤسسات الدينية .فكيف يوضح بيير
توبير هذا المر؟
77
- Ibid., Tome II, p. 1135 et suivantes..
78
- Jules Gay, Les Papes du XIe siècle et la chrétienté, Paris, Gabalda, 1926,p.126. voir aussi Jean Flori,
Croisade et chevalerie, XIe – XIIe siècles, Paris – Bruxelles, De Boeck Université, 1998, pp. 15-16.
79
- Pierre Toubert, Les structures du Latium…, Tome II, p. 1097.
30
يفيدنا بيير توبير بأن حضور أفراد الرستقراطية في قلب الحداث يتجلى من خلل الحديث
عن " حركة إعادة الهيكلة " التي شهدها إقليم اللسيوم بين سنتي 920و ،1030و التي شملت
مختلف المجالت كأشكال السكن الريفي و أساليب الزراعة و البنيات الجتماعية و طرق تدبير
80
الشأن المحلي .و قد كانت وراء تلك " الحركة " تحولت كبرى ،أبرزها النمو الديموغرافي
الذي حدث في مجال جغرافي يتميز بصعوبة تضاريسه و قلة أراضيه الصالحة للزراعة.
المر الذي كان يستدعي التدخل لعادة تنظيم ذلك المجال بشكل يجعله قادرا على استيعاب التزايد
المذكور دون إعاقة النمو القتصادي ) أي التوسع الزراعي ( الذي بدأ يرتسم في الفق منذ نهاية
القرن العاشر .و لتحقيق هذا المسعى قام أفراد الرستقراطية بتجميع سكان إقليم اللسيوم في قرى
محصنة بأسوار أقاموها لهم في المرتفعات و في المناطق الوعرة التي لم تكن مستغلة من قبل.
فأفضى ذلك إلى ظهور تجمعات سكنية جديدة .أطلق عليها الباحث اسم " النكستلمنطو "
) .81( l’incastellamentoوالواقع أن المر يتعلق بظاهرة تجاوزت كثيرا حدود التجمعات
السكنية .اكتست دللت متعددة و ترتبت عنها نتائج بالغة الهمية يمكن إجمالها فيما يلي :
أول :أشرف على إقامة تلك التجمعات أفراد الرستقراطية الدينية و اللئكية .أحيانا كانوا
يقومون بذلك مجتمعين ،و في أحايين أخرى متفرقين.فانتهى على اثر ذلك عهد تميز فيه العمران
الريفي بتفرق المساكن .و حل عهد أصبحت فيه المساكن متجمعة .و غدا " الكاستروم " ) le
( Castrumهو النواة الساسية في التنظيم الترابي .و بالمثل انتهى عهد كانت فيه أرياف ايطاليا
مجال جغرافيا مفتوحا ،يمكن أن تتحرك ساكنته في جميع التجاهات .و حل عهد أصبح فيه
الفلحون قرويون ) .( des villageois ou des castellanusيقيمون تحت رحمة أفراد
الرستقراطية في تجمعات مغلقة يمكن نعتها بلغة عصرنا " بالكيطوهات " ) .( des ghettos
ثانيا :ترتب عن إقامة القرى المحصنة نهاية العمل بنظام الدومين الكبير ) le grand
( domaineالذي كان سائدا خلل الحقبة الكارولنجية .و الذي بمقتضاه كانت الراضي الصالحة
للزراعة موزعة إلى استغلليات كبيرة ،شاسعة المساحة .فأصبح الن كل دومين مقسما إلى
وحدات صغرى يتوسطها قصر المالك العقاري .و تكتسي إعادة الهيكلة هاته دللة بالغة في نظر
بيير توبير لنها تعني نهاية العصر الوسيط و بداية العصر الوسيط في إقليم اللسيوم.
ثالثا :يختلف بيير توبير مع بعض الباحثين حين يربطون بين ظاهرة " النكستلمنطو " و
غارات المسلمين على بعض المواقع اليطالية .و يوضح في هدا المقام بأن أقدام المسلمين وطأت
إقليم اللسيوم بين سنتي 870و .910و قد استطاع المسلمون الوصول إلى كنيسة القديس
بطرس .ثم ابتعدوا عن القليم نهائيا بعد هزيمتهم في وقعة .915في حين أن عملية تشييد القرى
المحصنة لم تنطلق إل بعد سنة .82920
و بناء على ما تقدم يخلص بيير توبير إلى القول بأن المنشآت الجديدة أقيمت في بادئ المر
لعادة تنظيم السكان .و بعد ذلك غدت أطرا تعتمل فيها حياة سكان الرياف .بل إن جميع
الحداث و التطورات السياسية و القتصادية و الجتماعية أصبحت الن تعتمل في هذه
الفضاءات الجديدة.و كأنه بذلك يقر ضمنا بأنها ل تختلف عن السنيوريات اللزامية التي أرسى
دعائمها أفراد الرستقراطية في قمطيتي الماكوني و بروﭬانسيا كما رأينا فيما مضى .و يؤكد بيير
بوناصي فعل ،في معرض تعليقه على أطروحة بيير توبير ،بأن تجمع السكن الريفي في إقليم
اللسيوم أو تفرقه في إقليم قطلونيا ل يعدوان كونهما مجرد تجليات اتخذها السكن هنا و هناك.
أما في واقع المر،فقد كان السكان تحت سيطرة الطبقة الرستقراطية التي استطاع أفرادها
امتلك حق اتخاذ القرار ،أي امتلك حق اللزام .83و إذا كان مالكو حق اللزام في قمطيات غالة
80
- Ibid., Tome I, p. 313.
- 81أطلق بيير توبير كلمة " النكستلمنطو " على التجمعات السكنية في قرى محصنة معلقة في المرتفعات.و يستعمل الفرنسيون كلمة
Enchâtellementكمرادف لها .و على غرار بيير توبير ،استعمل روبير فوصيي ) ( Robert Fossierكلمة encellulement
للحديث عن التجمعات السكنية في إقليم بيكارديا ) .( la Picardie
82
- Ibid. Tome I,p. 311.
83
- Pierre Bonnassie, Le Latium au cœur du Moyen Age, in Anuario de estudios medievales, No 09,
1974-1979, pp.723-731.
31
فد حصنوا أنفسهم بتشييد القصور المنيعة ،و شكلوا المليشيات للستناد عليها في أجرأة ذلك الحق،
فيبدو أن الهاجس المني أو العسكري لم يكن غائبا تماما عن أذهان أفراد أرستقراطية اللسيوم.
لنهم بقدر حرصهم على حل المشاكل الديموغرافية عن طريق إعادة تنظيم المجال ،فقد كانوا
أيضا حريصين من خلل إقامة القرى المحصنة و تشييد القصور على حماية أنفسهم و حماية
ممتلكاتهم العقارية .و جعلها في مأمن من أي خطر قد يتهددها من قبل الفلحين ،الذين أخذت
أعدادهم تتكاثر بشكل ملفت ،أو من قبل أية قوى أجنبية.
نخلص في ضوء ما تقدم إلى القول بأن بيير توبير أبان بما ل يقبل الجدل بأن إقليم اللسيوم ،و
بمعيته مجموع أقاليم ايطاليا ،شهد ظاهرة الفيودالية .و أن المر يتعلق بظاهرة أصيلة نشأت و
ترعرعت في نفس القليم .و بالمثل ففد أبان بأنه انتهى زمن كان يتم فيه النظر إلى فيودالية غرب
أوربا انطلقا فقط من النموذج الماكوني أو من نماذج القاليم الواقعة في الشمال بين نهري الراين
و اللوار .و نؤكد من جانبنا بأن أطروحة بيير توبيرالتي حظيت باهتمام خاص في الوساط
العلمية 84غدت منذ صدورها نموذجا يقتدى من قبل المهتمين بالبحث في المؤسسات السياسية
و القانونية و في البنيات الجتماعية و الزراعية في أقاليم جنوب أوربا .و فد تلتها بعد سنتين فقط
أطروحة بيير بوناصي حول إقليم قطلونيا التي أحدثت القطيعة بصفة نهائية مع الطروحات التي
ظلت رائجة حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي ،سواء فيما يتعلق بنشأة و تطور الفيودالية ،أو
فيما يتعلق بطبيعة هذه الظاهرة في أقاليم جنوب غالة و أقاليم أوربا المتوسطية .فماذا يمكن أن
يقال عن الفيودالية في إقليم قطلونيا ؟
اعتمد بيير بوناصي لنجاز بحثه على ما ينيف عن 15000نص تعود للفترة الممتدة بين
منتصف القرن العاشر و نهاية القرن الموالي .توزعت بين سجلت أديرة و مواثيق و عقود
ونصوص هاجيوغرافية و غيرها .خلص بعد استقرائها إلى فكرة أساسية وهي أن إقليم قطلونيا
شهد خلل الفترة المذكورة تحولت اقتصادية كبرى واكبتها عملية إعادة تشكل للبنيات
الجتماعية .و من ثم ،فخلفا لجورج دوبي و بيير توبير الذان يربطان نشأة الفيودالية بالتحولت
السياسية ،يذهب بيير بوناصي إلى التأكيد بأن نشأة و تطور ظاهرة الفيودالية في إقليم قطلوتيا ل
يمكن فهمها و تتبع مسارها إل باستحضار النمو القتصادي الذي أفضت إليه تلك التحولت
القتصادية.
أول :نهاية الركود القتصادي في إقليم قطلونيا و بداية النمو
يفيدنا بيير بوناصي بأن النصوص التي اعتمدها تسمح بالقول بأن إقليم قطلونيا كان منتظما
خلل الفترة موضوع البحث في هيأة قمطيات؛ أكبرها قمطية برشلونة .و على غرار قمطية
الماكوني ،فقد ظلت مؤسسة القمطية قوية في قطلونيا حتى حدود سنة .950حيث كان القمط
مهاب الجانب .يدين له بالولء جميع السكان من خاصة و عامة .و ربما كان التماسك و التآلف
في قطلونيا أقوى مما كان عليه في سائر القمطيات نظرا لقربها من مراكز وجود المسلمين في
الندلس .أما اقتصاديا ،ففد كانت قطلونيا إقليما فقيرا حتى حدود السنة المذكورة .يقيم سكانها
المؤلفين في معظمهم من فلحين في المناطق الوعرة .يعيشون في إملق و تغلب على حياتهم
الرتابة.
و يفيدنا بيير بوناصي بأن أقماط قطلونيا تحللوا من تبعيتهم لملوك غالة منذ عهد بوريل الثاني
) ( Borrell IIالذي تولى مهام القمطية بين سنتي 948و . 992فحرموا من أي سند يحميهم،
و لذلك ظلوا حريصين على كسب ود خلفاء قرطبة بحفظ المواثيق و تبادل الهدايا و الصلت .و
لم يجرؤوا يوما على مناوشة مسلمي الندلس رغم أنهم تعرضوا لبعض الحملت العسكرية مثل
تلك التي قادها المنصور بن أبي عامر سنة 985م 374 / .ه .و تلك التي قام بها ابنه عبد الملك
سنة 1003م 393 /.ه .و رغم انقلب موازين القوى لصالح مسيحيي شبه جزيرة ايبيريا بعد
سقوط الخلفة و اتجاه الندلس نحو التجزئة ،فقد استمر أقماط قطلونيا في نهج سياسة الود و
- 84دليلنا في ذلك التعاليق و التقارير الكثيرة التي خصها بها الباحثون في الدوريات و المجلت المتخصصة.
32
المهادنة اتجاه القائمين على المر في الممالك الطائفية خلفا للسياسة التي انتهجها القشتاليون .و
أهم ما تجرؤوا على القيام به هو حماية بعض الممالك الطائفية الصغرى مثل مملكتي سرقسطة و
طرطوشة و المشاركة في بعض الحملت التي قام بها مسيحيو شبه جزيرة ايبيريا ضد مسلمي
الندلس و السماح لعدد من المحاربين القطلنيين بوضع مهاراتهم القتالية رهن إشارة بعض
القوى السلمية مقابل أجر.
و يبدو أن سياسة القماط و خدمات المحاربين عادت بالنفع على القمطية و على سكانها .فقد
أخذت تتسرب إليها كميات مهمة من القطع الذهبية الندلسية .ساهمت منذ حوالي سنة 980في
إنعاش اقتصادها .حيث أعطت ديناميكية للنشاط الزراعي الذي كان معتمد سكانها .و أسهمت في
إذكاء المبادلت التجارية ،و إن ظلت منتجات الرض موضوع تلك المبادلت .مما أفضى إلى
نهضة اقتصادية .بدأت معالمها تتضح أكثر ابتداء من سنة .851020
و ينبهنا بيير بوناصي في هذا المقام يأته من الخطأ القول بأن العوامل الخارجية وحدها هي التي
أدت إلى حدوث النتعاش القتصادي .و الصواب هو أن استقرار الوضاع المنية على حدود
قطلونيا هيأ الظروف الملئمة لجهود مضنية كان يقوم بها الفلحون منذ منتصف القرن العاشر.
تمثلت في عمليات توسيع للمساحات الصالحة للزراعة عن طريق استصلح الراضي الهامشية
و تجفيف بعض المستنقعات و تحسين أساليب الداء في العمل الزراعي .و أتى ذهب الندلس
ليقدم قيمة مضافة لتلك الجهود.
و الحصيلة هي أن عوامل خارجية و أخرى داخلية تظافرت لتنتقل قمطية قطلونيا من مرحلة
الركود إلى مرحلة النمو86؛ ومن مرحلة النغلق إلى مرحلة النفتاح .و قد تجسدت صور هذا
النتقال في ارتفاع كمية عائدات الرض ،و انتعاش السواق ،و ازدياد حدة السيولة النقدية ،و
انتعاش حركة البناء و التشييد وتحسن ظروف عيش السكان ،و ارتفاع وتيرة الترحال في اتجاه
المراكز المسيحية و السلمية.
ثانيا :النمو القتصادي و تشكل الروابط الفيودو – فصلية
كان من تبعات النمو القتصادي أن ازدادت قيمة و أهمية الرض .و أصبحت موضوع رهان
حاد و صراع مكشوف بين عموم الفلحين و كبار الملكين من أفراد الرستقراطية الذين تزايد
جشعهم .فلجأ هؤلء إلى تشييد الحصون و القصور المنيعة و تشكيل المليشيات العسكرية على
غرار ما قام به أقرانهم في مختلف قمطيات غالة .و شرعوا في شن الغارات على بعض
المؤسسات الدينية و على الفلحين للستحواذ على ما في حوزتهم من أراضي.
و آل الصراع بطبيعة الحال لفراد الرستقراطية الذين نجحوا في بسط سلطانهم على معظم
فلحي قطلونيا من خلل إرساء السنيورية اللزامية .التي تمثل في نظر الباحث مؤسسة أقيمت
للستفادة من الثمار التي أسفرت عنها جهود الفلحين.87
و يبدو أن المكاسب المادية و المعنوية التي حققها أفراد الرستقراطية لم تثنيهم عن طلب المزيد.
فأينعت رؤوس الكبار منهم .و أخذوا يرنون بأبصارهم نحو مؤسسة القمطية .و دخلوا فعل في
صراع مكشوف مع القمط رايموند برنجر الول ) . ( Raimond Béranger Ierنجحوا على
إثره في بسط سلطانهم على القرى الواقعة في منطقة قطلونيا العليا .و أسسوا بها ما يشبه
الكيانات السياسية المستقلة ) .( des dominations territoriales autonomesبينما فشلوا
في تحقيق نجاح مماثل في الحاضرة برشلونة وفي القرى التابعة لعمالها .و مرد هذا الفشل
في نظر بيير بوناصي يكمن في قوة سلطة القمط في هذه المناطق و في انضمام سكان الحاضرة
و فلحي القرى إلى صفوفه تجنبا للسقوط في قبضة أفراد الرستقراطية.
85
- Pierre Bonnassie, La Catalogne du milieu du Xe à la fin du XIe siècle : croissance et mutations
d’une société, Toulouse, Association des publications de l’Université de Toulouse-Le Mirail,1975-
1976, Tome I, p. 433 et p. 479.
86
- Ibid. , Tome I, p. 480.
87
- Ibid. ,Tome II, p. 537. Voir aussi du même auteur Les cinquante mots clefs de l’histoire médiévale,
Toulouse, Privat, 1981, p. 27 et p.86.
33
و الهم من ذلك هو أن النتصار الذي حققه القمط في هذه المواجهة شكل منعطفا حاسما في
مسيرة المؤسسات السياسية و البنيات الجتماعية في قطلونيا .فقد خبر رايمند برنجر قوة
خصومه ،فارتأى أن يتحول من قمط يشرف على تدبير الشأن العام و يرعى شؤون جميع أفراد
المجتمع من خاصة و عامة إلى قائد للرستقراطية .فكان هذا التحول يعني بالنسبة لبيير
بوناصي دخول قطلونيا في " عصر الفيودالية " .88حيث غدت الروابط الفيودو – فصلية هي
أساس العلقات بين القماط الذين تعاقبوا على إدارة قطلونيا و كبار أفراد الرستقراطية .و قد
تميزت هذه الروابط بكونها كانت تتم أمام المل في طقوس و مراسيم خاصة .ثم أصبحت منذ
سنة 1040تتم عبر مواثيق أو عقود ) 89.( les convenientiaeفكان كل واحد من كبار
الرستقراطية يبرم عقدا مع القمط ؛ بوصف الول فصل و الثاني سنيورا .و بموجب هذه العقود
كان يتم تحديد واجبات و حقوق كل طرف من طرفي العقد .و قد تزايد عدد هذه العقود خلل
السنوات الموالية .و واكبتها في تفس الوقت روابط فيودو – فصلية من دون عقود بين المنتمين
للشريحة السفلى و المنتمين للشريحة الوسطى في الطبقة الرستقراطية و كذلك بين هؤلء و
المنتمين للشريحة العليا في نفس الطبقة.
و المحصلة النهائية هي أن شبكة الروابط الفيودو – فصلية بلغت في ظرف ل يتجاوز العقدين
بعد سنة 1040مستوى رفيعا من النضج و التبلور لم يسبق له مثيل في مختلف أقاليم غرب
أوربا.،بما في ذلك القاليم الواقعة بين نهري اللوار و الراين التي ظلت تنعت حتى مطلع
سبعينيات القرن الماضي بكونها مهد الفيودالية.
يسمح العرض الوجيز لمضامين المنغرافيات القليمية التي اخترناها كنماذج لرصد مظاهر
تطور الفيودالية خلل المرحلة الثالثة من مسيرتها بالقول بأن الفيودالية بلغت فعل مستوى
متطورا من النضج بعد سنة .1000يمكن إجمال تجلياته و البعاد المترتبة عنه في العناصر
التية :
-أول :تجلى ذلك النضج في تجزئة مطلقة للسلطة؛ التي أصبح يمارسها كل من استطاع إلى
ذلك سبيل من أفراد الرستقراطية في دوائر ترابية ضيقة ل تتجاوز حدود القرية .فتراجع دور
قصور الملوك و مقرات القماط .وغدت القصور القديمة التي كان يملكها أفراد الرستقراطية ،و
القصور التي استحدثها نفر منهم ،مراكز لتخاذ القرارات و إصدار الوامر و ممارسة حق
اللزام الذي تم تسليطه على عموم الفرحين .و استتبع كل ذلك اتساع نطاق شبكة روابط الفصالة
التي بلغت خلل هذه المرحلة الثالثة مستوى من الكمال .فأخذت تبرم بمناسبة إقامتها في بعض
القاليم عقود و مواثيق .كما حدث مثل في إقليمي قطلونيا و اللنكدوك حيث حلت تلك المواثيق
محل الوفاء القائم على القسم في الروابط الفيودو -فصلية .و في نفس الوقت أصبحت هذه الروابط
متمحورة حول الفيف الذي لم يعد متمثل في قطعة أرض فقط ،بل أصبح كذلك عبارة عن
90
قصور أو حصون كان يمنحها القماط أو كبار الملكين العقاريين لقادة المليشيات العسكرية .
-ثانيا :يبدو أن هذه التحولت كانت بالغة الهمية حسب النطباع الذي تتركه قراءة مؤلفات
المعاصرين لها .91ترتبت عنها نتائج عميقة و شاملة على جميع الصعدة و المستويات .و لذلك
ذهب جورج دوبي ،المعروف بكونه أبرز الباحثين الفرنسيين في التاريخ الوربي الوسيط ،إلى
88
- Pierre Bonnassie, La Catalogne…, Op. Cit., Tome II, p. 680.
89
- Pierre Bonnassie, « Les conventions féodales dans la Catalogne du XIe siècle », in Les structures
sociales de l’Aquitaine , du Languedoc et de l’Espagne au premier âge féodal , Paris,éd. Du C.N.R.S.,
1969, pp.187-208.
- 90أنظر في هذا الشأن بيير بوناصي :
Du Rhône à la Galice :Genèse et modalités du réglme féodale,in Structures féodales et féodalisme…,
.Op.Cit.p. 39 et suivantes
- 91من بينهم راوول ﯖلبير ) (Raoul Glaberأحد أبرز إخباريي العصر الوسيط .ولد سنة 985و توفي بعد سنة .1047نقل إلينا
معطيات عن تلك التحولت في " تواريخه " التي نشرها فرانسوا ﯕيزو ) ( Francoit Guizotباللغة الفرنسية سنة 1824تحت
عنوان . Chronique de Raoul Glaber :ثم أعاد موريس برو ) (Maurice Prouنشر نصها اللتيني سنة 1886تحت عنوان :
.Les Cinq livres de ses histoiresوصدرت بباريس عن منشورات A. Picard
34
نعتها " بالثورة الفيودالية " .92فيما ارتأى باحثون آخرون نعتها " بالنتقال الفيودالي "la ) 93
.( mutation féodale
-ثالثا :انخرطت فيما نسميه بالمرحلة الثالثة من مسيرة الفيودالية مختلف أقاليم غرب أوربا ،و
لو أن انطلقة هذه المرحلة تمت هنا و هناك في فترات متفاوتة نسبيا بين كيان سياسي وآخر؛ و
أيضا بين كيانات متجاورة داخل المجال الجغرافي الواحد .ففي غالة نجح أفراد الرستقراطية في
النفراد بالسلطة في جميع القاليم منذ العقد الثاني من القرن الحادي عشر كما يتضح من
منغرافيتي جورج دوبي و جون بيير بولي .أما في انجلترا فلم يحدث ذلك إل على نطاق ضيق
منذ عهد وليم الفاتح ) .( Guillaume le Conquérantفقد تنامت قوة بعض البارونات .و
أقاموا شبكة من علقات التبعية .و أصبحت تحت إمرتهم مليشيات عسكرية .و لكنهم ظلوا
يحترمون المؤسسة الملكية من خلل تقديم الضرائب و تلبية نداء الملوك حين يدعونهم لبداء
94
المشورة أو لخوض الحروب.
و يبدو أن هذا المسار الخاص الذي سلكته الفيودالية في أنجلترا هو الذي حدا ببعض الباحثين
إلى إنكار وجود فيودالية بها .بل إن نفرا منهم نادوا بضرورة شطب مفهوم الفيودالية من قاموس
95
اللغة.
و خلفا لنجلترا ،ففي شبه جزيرة أيبيريا استطاعت أرستقراطية إقليم قطلونيا أن تفرض
وجودها كقوة فاعلة ابتداء من سنة 1060بعد أربعين سنة من الصراع مع سلطة القليم ممثلة
في شخص القمط.
و قريبا جدا من قطلونيا ،في مملكة قشتالة و ليون ،لم يستطع أفراد الرستقراطية النفراد
بالسلطة إل بعد سنة 1109تاريخ وفاة ألفونسو السادس الذي كان يحكم المملكة خلل عهده بيد
96
من حديد.
و عموما ،فقد حدثت التحولت في مختلف كيانات غرب أوربا بعد فترة مخاض صعبة امتدت
بين سنتي 1020و 1060أو .1080احتدمت خللها النزاعات السياسية – العسكرية و
الضطرابات الجتماعية .فماذا يمكن أن يقال عن ملمح فترة المخاض و ما هي مظاهر
التحولت التي انبثقت عنها ؟
- 92استعمل جورج دوبي العبارة لول مرة و جعلها عنوان مبحث في كتاب :
du féodalisme,Paris,Gallimard, 1978,pp.182-205. Les trois ordre ou l’imaginaire
-93يتعلق المر بجون بيير – بولي و اريك بورنازيل اللذان جعل عبارة " "la mutation féodaleعنوانا لكتاب أصدراه سنة
1980و قد سبق أن أحلنا عليه .و الجدير بالشارة أن مسألة الثورة الفيودالية أو النتقال الفيودالي ،التي ل يسمح لنا المقام بالتوقف
عندها،أثارت نقاشا حادا في أوساط الباحثين خلل السنوات القليلة الماضية .يمكن الطلع عليه من خلل العودة إلى المقالت التي
نشرتها المجلة النجليزية Past and Presentفي العدد 142الصادر سنة ،1994و العدد 152الصادر سنة ،1996و العدد 155
الصادر سنة .1997كما يمكن العودة إلى كتاب دومنيك بارثلمي ): (Dominique Barthélémy
La mutation de l’an mil a-t-elle eu lieu ? Servage et chevalerie dans la France des Xe et Xie siécle,
Paris, Fayard, 1997.
كما يمكن العودة إلى بحث لكريستيان لورنسون روزاز ) (Christian Lauranson Rozazتحت عنوان :
» .« Le débat sur la mutation féodale :état de la questionوهو نص من 14صفحة في صيغة pdfمنشور على
الموقع www.droit.u-clermont1.fr :
- 94لمزيد من التفاصيل بخصوص هذا الموضوع نحيل القارئ إلى دراستين إحداهما قديمة باللغة الفرنسية و الخرى باللغة النجليزية
صدرت منذ بضع سنوات .وهما :
Charlees Menche de Loise, France et Angleterre, étude sociale et politique, Paris, éd. E. Dentu, 1859.
,et Wilfred Lewis Warrem, The governance of norman and angevin England 1086-1272, California
.Stanford University Press, 1987
-95تعد الباحثة اليزابيث راش براون ) (Elisabeth Rash Brownأبرز من عبر عن هذا الموقف في عدد من أبحاثها و أهمها في هذا
المقام مقال :
» The tyranny of construct, feudalism and historians of medieval Europe », The American Historical
.Review, Vol. 79, No 04, 1974, pp. 1063-1088
96
- Marie-Claude Gerbet, La noblesse dans le royaume de Castille, Paris, les publications de la
Sorbonne, 1979.
35
يستفاد من البحاث المنغرافية التي استعرضنا مضامينها و من غيرها ،97بأن الفترة المشار إليها
) شهدت فعل حالة احتقان و توتر عمت مختلف أقاليم غالة كإقليم ماكوني و إقليم بواتو
( Poitouو إقليم بيكارديا ) ( la Picardie؛ و هي أقاليم تقع وسط و شمال غالة وقريبة من
مركز السلطة .و حدث الحتقان أيضا في إقليمي بروﭬانسيا و اللنكدوك ) ( le Languedoc
الواقعان في الجنوب و البعيدين نسبيا عن مركز السلطة .و حدثت نفس الحالة في إقليم اللسيوم
اليطالي البعيد عن التأثير المباشر للحداث الجارية في غالة .و كذلك في أقاليم شبه جزيرة
أيبيريا التي كان من المفترض أن تظل فيها جميع فئات المجتمع متماسكة ،و أيديها في أيدي
القائمين على المر بها ،نظرا لوقوعها بمحاذاة مراكز وجود المسلمين الذين كانوا يهددونها
باستمرار.
و عموما،فان العنف أصبح منذ مطلع القرن الحادي عشرسلوك أفراد المجتمع عامته و خاصته.
و كأنهم استشعروا جميعا بأن حدثا ما يلوح في الفق كان يجب الستعداد له .ما هو ذلك الحدث
الذي كان يلوح في الفق؟ انه باختصار النهضة القتصادية التي بدأت مقدماتها منذ مطلع القرن
التاسع ،98و التي ستتجلى في صورة أوضح بعد سنة .1020و ستستمر حتى حوالي سنة .1320
فقد أحس الفلحون الذين بذلوا جهودا مضنية في استصلح الراضي و توسيع المساحات
الصالحة للزراعة ،بأن عوائق توضع أمامهم لمنعهم من الستفادة من ثمار تلك النهضة .أما أفراد
الرستقراطية فأرادوا استباق الحداث للستفادة منها .و لذلك شرعوا في وضع " المسالك " و
" القنوات " التي ارتأوا أن تعبرها النهضة التية.
و هكذا بدأت في أوساط الفلحين إرهاصات الحركات الحتجاجية التي ستندلع بعنف ،متخذة
تارة شكل حركات دينية كالحركات الهرطقية ) 99( les hérésiesو تارة شكل انتفاضات
اجتماعية عارمة 100.اندلع بعضها بين سنتي 1000و ، 1320أي خلل العصر الوسيط الوسط.
بينما اندلعت سلسلة انتفاضات أخرى منذ سنة 1315أو 1320و استمرت طيلة العصر الوسيط
السفل؛ متزامنة مع الكوارث الطبيعية و الديمغرافية و الحروب التي شهدتها أقاليم غرب أوربا
خلل هذه الفترة.
أما أفراد الرستقراطية ،الذين بهمنا أمرهم في هذا المقام ،فقد بدأوا يتلكئون في تقديم الولء
للقماط كما رأينا في ما مضى .و أخذت العلقات بينهم و بين القماط تميل نحو التشنج .ينطبق
هذا المر أيضا على نفر من أفراد الرستقراطية الذين ينتمون لسر عريقة ،و الذين كانوا
يشاركون في ممارسة السلطة في القرى بتفويض من القماط أو بتفويض مباشر من الملوك .فقد
أصيبوا هم الخرين بالعدوى .و بموازاة هذه التطورات أخذ الفساد ينخر جسم مؤسسة القمطية .و
- 97يمكن أن نذكر في هذا المقام المنغرافيات التية :
Marcel Garaud, Les châtelains de Poitou et l’avénement du régime féodal. XIe-XIIe siècles, Poitiers,
éd., Société des Antiquaires de l’Ouest, 1967 ;Robert Fossier, La terre et les hommes en Picardie
jusqu’à la fin du XIIIe siècle, Paris, B. Nauwelaerts, 1968, 2 Vol. ; Dominique Barthélemy, Les deux
; âges de la seigneurie banale. Coucy (XIe-XIIIe siècles), Paris, les publications de la Sorbonne, 1984
Hélène Débax, La féodalité languedocienne XIe-XIIe siècles. Serments, hommage et fiefs dans le
Languedoc Trencavel, Toulouse, Presses Universitaires du Mirail, 2003.
-98عن مقدمات النهضة القتصادية أنظر كتاب جورج دوبي :
Guerries et paysants.VIIe-XIIe siècles. Premier essor de l’économie européenne, Paris,Gallimard,1973.
-99أنظر عن هذه الحركات كتاب :
Régis Blanchet, Les hérésies médiévales face à l’inquisition, Paris, éd., du Prieuré, 1995, 2 Vol. et
و كتاب :
André Vauchez et Robert Fossier, Histoire du Moyen Age, Tome II (Xe-XIe siècles), Paris, A. Colin,
2005.
-100تناول عدد كبير من الباحثين النتفاضات الجتماعية التي شهدها الغرب الوربي خلل العصر الوسيط الوسط و العصر الوسيط
السفل .يمكن العودة إلى المؤلفات التية على سبيل المثال ل الحصر :
Rodney Howard Hilton, Bond men made free, medieval peasant movements and the English rising of
1381, London, éd., Maurice Temple Smith, Ltd.,1973. ; Laurent Feller, Paysans et seigneurs au Moyen
Age, VIIIe-Xve siècles, Paris, A. Colin, 2007. ; Flaran, Les luttes anti-seigneuriales dans l’Europe
médiévales et moderne (Actes de journées d’études tenues à l’abaye de Flaran),Toulouse, Presses
Universitaires du Mirail, 2009.
36
تفشت الضغائن و الدسائس بين القماط و مساعديهم كما حدث في إقليم قطلونيا و في قمطية
اللنكدوك مثل حسب الفادات التي يقدمها لنا كل من بيير بوناصي 101و هلين ديباكس
) 102( Hélène Débaxفي الموضوع .و سرعان ما كانت هذه المشاكل تتحول إلى صراع
مكشوف.
و من البديهي في مثل هاته الحالة أن ينضم أرستقراطيون لهذا الطرف و آخرون لذاك
الطرف .ثم يحدث القتتال.
و الراجح أن هذه الظاهرة لم تقتصر على إقليمي قطلونيا و اللنكدوك ،بل حدث ما يشبهها في
أقاليم و قمطيات أخرى كما يتضح من المنغرافيات القليمية التي سبق أن أحلنا عليها .حيث
خصص مؤلفوها صفحات مطولة للحديث عن الوقائع و الحروب التي دارت رحاها بين أفراد
الرستقراطية .إما بسبب اختلف المواقف من مؤسسات القمطية و من شخص القمط ،أو
لسباب و دواعي مختلفة .وإن أهم ما يمكن استخلصه من وراء هذا الحديث هو أن وقائع
الحروب لم تعد تجري فقط على مستويات جهوية أو إقليمية كما كان يحدث في الماضي ،بل
أصبحت كذلك عبارة عن وقائع شبه يومية تحتدم على المستوى المحلي .أي في حدود القمطية،
و أحيانا في حدود القرية الواحدة على مشارف القصر أو الحصن.
و انطلقا من هذا العتبار ذهبت دومنيك بارثلمي ) ( Dominique Barthélemyإلى
القول بأن الحروب و عمليات القرصنة و عمليات السلب و النهب ) ( les rapinesوجميع
103
أشكال العنف الخرى غدت بعد مطلع القرن الحادي عشر إحدى ظواهر المجتمع الوربي.
104
بينما ذهبت هلين ديباكس إلى التأكيد بأن العنف غدا أحد مكونات الفيودالية.
و كان من الطبيعي في مثل هاته الجواء أن يتصدر حملة السيف واجهة الحداث .فعليهم أخذ
يعول أفراد الرستقراطية في خوض الوقائع الدائرة بين بعضهم ؛ أو الدائرة بينهم و بين القماط.
و عليهم كذلك أخذ يعول أفراد الرستقراطية لخماد انتفاضات الفلحين .و من ثم ،تكاثرت
المليشيات العسكرية التي كانت عبارة عن فرق تتشكل من فرسان ) ( les militesو من
محاربين مرابطين في الحصون ) .( les milites castriو قد قدر بيير بوناصي بأن الفرقة
الواحدة من تلك المليشيات كانت تتألف أحيانا من مائة محارب 105.و في نفس السياق خلص فليب
دوران ) 106( Philippe Durandإلى القول ،بعد تحريات ميدانية ،بان عدد المحاربين
المرابطين في القصور المنتشرة هنا و هناك في غرب أوربا كان مختلفا ،ولكنه كان يصل
107
عموما إلى المائة محارب .و لكن هذا العدد كان يرتفع تبعا للظروف و المستجدات العسكرية.
و من هنا نستطيع أن نتصور بان مجمل عدد المحاربين كان يقدر باللف .بعضهم كان يحارب
تحت إمرة القماط ،و بعضهم الخر تحت إمرة المؤسسات الدينية ،و بعضهم تحت إمرة كبار
الملكين العقاريين .و كانت تربط بين كل واحد منهم و بين سيده القمط أو المؤسسة الدينية أو
الرستقراطي روابط فيودو – فصلية .كانت تقضي بأن يقوم بخدمة سيده السنيور 108مقابل قطعة
أرض ) الفيف (.
و من المفيد الشارة إلى أن خصوصيات المرحلة اقتضت في بعض القمطيات لجوء أفراد
الرستقراطية إلى الوسائل السلمية لفض النزاعات القائمة بينهم و التحالف لمجابهة التحديات
101
- Pierre Bonnassie , La Catalogne…, Op.Cit. Tome II, p.539 et suivantes. Voir aussi les pages 575-
580.
102
- Hélène débax, La féodalité languedocienne…, Op.Cit., pp. 233-268.
103
- Dominique Barthélemy, Les deux age de la seigneurie banale…, Op.Cit., pp. 539-541.
104
- Hélène Débax, La féodalité…, Op.Cit., p. 233
105
- Pierre Bonnassie, « du Rône à la Galice genése et modalité du régime féodale », in Structures
féodales et féodalisme…, Op.Cit. p. 32. Voir aussi du même auteur, Les milites en pays d’ Oc au XIe
siècle, dans son recueil d’articles intitulé : Les sociétés de l’an mil un monde entre deux ages,
Bruxelles, De Bœck Université, 2001, p.453 et suivantes.
106
- Philippe Durand, Le château fort, Paris, éd., J.P. Gisserot, 1999.
107
- Ibid., p. 8.
-108كانت الخدمة العسكرية )ما يسمى بالفرنسية ( le servisse d’ostتمثل أهم خدمة على الطلق.
37
المشتركة ،وأهمها انتفاضات الفلحين .لذلك نشأت في تلك القمطيات،إلى جانب الروابط الفيودو-
فصلية التي تربط بين كل سنيور و أفصاله ،روابط فيودو – فصلية بين بعض " السنايرة " ،و
خاصة بين متوسطي و كبار الملكين العقاريين أو بين هؤلء و البابوية كما حدث مثل في
قمطية بروﭭانسيا أو في إقليم اللسيوم .و يبدو أن هذه الروابط تجاوزت مستوى " المجموعات
" و نحت نحو " المركزية " في إقليم قطلونيا .فقد استطاع قمط برشلونة ريموند برنجر الول
أن يحسم سنة 1070الصراع الدائر بينه و بين الرستقراطية المحلية لصالحه .فلجأ إلى"
ترويض" الروابط الفيودو – فصلية القائمة بين أفراد الرستقراطية و المليشيات التابعة لهم بان
سخر تلك الروابط لحسابه من خلل إقامة شبكة علقات تبعية .وضع نفسه على رأسها،فغدا بذلك
" سنيور السنايرة " .و تفاديا لية ردة من جانب أحد عناصر الشبكة اقترح إبرام عقود أو مواثيق
) ( convenenientiaeبينه و بين أفراد الرستقراطية 109.منح بمقتضاها لهؤلء " أفيافا "
تمثلت في قطع أرض و حصون نظير اللتزام بولئهم للقمط و احترام مؤسسات القمطية .و كأنه
بهذا الجراء ألهم الملوك و المراء الذين حكموا الكيانات المسيحية في شبه جزيرة أيبيريا بعد
القرن الثاني عشر .إذ أرسوا هم الخرين حكمهم على العناصر الثلث :الفصالة و الفيف و
المواثيق التي غدت هي العناصر الساسية المعتمدة في الحكم و تدبير الشأن العام.
و يبدو أن هذا الجراء كان ناجعا و منسجما تماما مع ما كان يعتمل في الواقع .بدليل أن بعض
القائمين على المر في فرنسا " مهد الفيودالية " تبنوه هم الخرين خلل القرن الثالث عشر و
حتى أواخر القرن الموالي .فبعد هذا التاريخ بدأ الوهن يدب في أوساط الرستقراطية من جراء
المصاعب القتصادية – المالية التي تفاقمت منذ سنة .110 1317و تداعيات حرب المائة سنة
التي اندلعت منذ سنة 1337؛ بالضافة إلى طاعون .1349-1348فهيأت هذه العوامل الظرفية
المواتية لتشرع " الدولة " مجددا في استعادة هيبتها على أسس قومية هذه المرة .فكان ذلك يعني
بداية تلشي الفيودالية رغم أن بعض تجلياتها القانونية و المؤسساتية ظلت مستمرة في فرنسا
" مهد الفيودالية " حتى سنة .1789و لذلك ذهب جمهرة من الباحثين إلى نعت الثورة الفرنسية
بكونها " ثورة ضد الفيودالية " ) .111( une révolution anti-féodale
109
- Pierre Bonnassie, « Les conventions féodales… », contribution déjà citée.
-110أنظر ما ذكرناه في مقدمة هذا البحث .و لمزيد من التفاصيل يمكن العودة إلى كتاب ﯖي بوا ): ( Guy Bois
.Crise du féodalisme, Paris, Presses de la Fondation Nationale des Sciences Politiques, 1976
و كتاب رودني هلتون ): ( Rodney Howard Hilton
Class conflict and the crisis of feudalism. Essays in medieval social history, London, The Hambledon
Press, 1985.
- 111يمكن العودة بخصوص هذا الموضوع إلى الكتابين التيين :
L’abolition de la féodalité dans le monde occidental, (actes du colloque international tenu à Toulouse
entre le 12 et le 16 novembre 1968), éd., du C.N.R.S.,Paris, 1972, 2 Vol. et John Markoff, The aboli-
tion of feudalism. Peasants, Lords and Legislations in the French Revolution, Pensylvania, The
Pensylvania University Press, 1996.
38