You are on page 1of 600

‫وب َِناءُ‬ ‫عل ُ َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ال ِ‬

‫م‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ء‬
‫في ب َِنا ِ‬
‫ِ‬
‫عل ْم ِ ِ‬ ‫ر ال ْ ِ‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫صي‬ ‫ة ت َأ ْ‬
‫س ٌ‬
‫ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِدَرا َ‬
‫وَلة‬
‫الدّ ْ‬

‫د‪ .‬راغب السرجاني‬


‫المشرف على موقع قصة‬
‫السلم‬
‫‪www.islamstory.com‬‬
‫العلم وبناء المم د‪ .‬راغب السرجاني المشرف على موقع قصة السلم‬
‫‪www.islamstory.com‬‬

‫مقدمة الكتاب‬
‫إن الحمد لله‪ ،‬نحمده ونستعين به ونستهديه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ‬
‫بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬إنه من يهده الله فل‬
‫مضل له‪ ،‬ومن يضلل الله فل هادي له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل الله وحده‬
‫دا عبده ورسوله‪.‬‬
‫ل شريك له‪ ،‬وأن محم ً‬
‫ما بعد‪..‬‬
‫أ ّ‬
‫فأمة السلم أمة عظيمة!!‬
‫كر وقد ذكرها ربنا‬‫هذه حقيقة ل ينكرها إنسان‪ ..‬وكيف ُتن َ‬
‫سبحانه وتعالى في كتابه في أكثر من موضع‪ ،‬بل لم يكتف بالشادة‬
‫قا‪ ..‬قال تعإلي‪:‬‬
‫حا أنها خير المم مطل ً‬ ‫بعظمتها‪ ،‬ولكنه ذكر تصري ً‬
‫س‪ ،1‬فهذه شهادة من رب العالمين‬ ‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬ ‫ر َ‬ ‫ة أُ ْ‬
‫خ ِ‬ ‫م ٍ‬
‫ُ‬
‫خي َْر أ ّ‬ ‫‪‬ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م َ‬
‫الذي خلق الخلق أجمعين‪ ،‬ويعلم ما سبق من أمم‪ ،‬وما هو لحق‪..‬‬
‫فهذا يثلج صدور المسلمين‪ ،‬ويزرع الثقة إليقينية في قلوب المة أنها‬
‫مهما تقاوم عليها الزمان ستظل خير أمة أخرجت للناس‪.‬‬
‫ومع كون هذه الحقيقة ثابتة‪ ،‬إل أن هذا ل يمنع أن يحدث للمة‬
‫هّنات وأزمات‪ ،‬ول ُيستغرب أن يأتي عليها زمان يتقدم عليها غيرها‪،‬‬
‫وتتراجع المة بالتالي من المكانة السامية التي أرادها الله لها‪،‬‬
‫َ‬
‫ول ُ َ‬
‫ها‬ ‫دا ِ‬
‫م نُ َ‬ ‫ك اْلّيا ُ‬ ‫وت ِل ْ َ‬‫دق ذلك قول ربنا في كتابه الكريم‪َ  :‬‬ ‫وُيص ّ‬
‫س‪ ‬فليست هناك أمة ‪ -‬بما فيها أمة السلم ‪ -‬تبقى قوية‬ ‫‪2‬‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫ب َي ْ َ‬
‫أبد الدهر‪ ،‬وإنما تتناوب المم قيادة الرض‪ ،‬ولكن وعد رب العالمين‬
‫أن هذه المة السلمية العظيمة ستظل باقية إلى يوم القيامة‪ ..‬قال‬
‫ر‬
‫في الّزُبو ِ‬ ‫قدْ ك َت َب َْنا ِ‬ ‫ول َ َ‬‫ن‪ ‬وقال‪َ  :‬‬
‫‪3‬‬
‫قي َ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫قب َ ُ‬‫عا ِ‬‫وال ْ َ‬‫تعإلي‪َ  :‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‪. ‬‬ ‫حو َ‬ ‫صال ِ ُ‬ ‫ي ال ّ‬ ‫عَباِد َ‬ ‫رث ُ َ‬
‫ها ِ‬ ‫ض يَ ِ‬
‫ن الْر َ‬ ‫رأ ّ‬ ‫د الذّك ْ ِ‬‫ع ِ‬
‫ن بَ ْ‬‫م ْ‬
‫‪4‬‬
‫ِ‬
‫وبرغم اطمئنان قلوبنا إلى هذه البشريات إل أن النفس تتألم‬
‫لرؤية المة في حالة ضعف أو سقوط‪ ،‬ويخشى الصادقون أن يكون‬
‫ذلك بسبب تقصير من المسلمين‪ ،‬أو تفريط في قاعدة من قواعد‬
‫العزة والنهوض‪ ..‬وليس من شك في أن حال المة في زماننا هذا ‪-‬‬
‫برغم وجود مبشرات كثيرة ‪ -‬إل أنه ليس كما نتمنى لهذه المة‬
‫العظيمة ونرغب‪ ..‬فأزماتنا كثيرة وفي مجالت متعددة‪ ،‬ومصائبنا‬
‫جمة‪ ،‬والكوارث ما تركت ركًنا من أركان أمتنا إل وحلت عليه‬
‫ووقعت‪ ..‬واتسع ‪ -‬كما يقولون ‪ -‬الخرق على الراقع!‬

‫)آل عمران‪. (110 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)آل عمران‪. (140 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)العراف‪. (128 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)النبياء‪. (105 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪2‬‬
‫العلم وبناء المم د‪ .‬راغب السرجاني المشرف على موقع قصة السلم‬
‫‪www.islamstory.com‬‬

‫صُلح معه سكوت؟!‬


‫هل هذا وضع ي َ ْ‬
‫إن الواجب علينا في ظل هذه اللحظات الليمة التي تمر بالمة‬
‫أن نقف وقفات جادة أمام هذه الحداث‪ ،‬فنشخص بدقة أسباب‬
‫النهيار‪ ،‬ونصف بصدق وأمانة العلج الناجع الذي يعيد المة إلى‬
‫مكانتها التي ل ينبغي أن تتخلف عنها‪..‬‬
‫إن المم ل ُتبنى بسهولة‪ ،‬كما أنها ل ُتبنى بطريقة عشوائية!!‬
‫إن بناء المم أمر صعب يحتاج إلى جهود متضافرة‪ ،‬وصبر‬
‫طويل‪ ،‬وعزم أكيد‪ ،‬وهو ‪ -‬في نفس الوقت ‪ -‬يسير وفق خطوات‬
‫د‬
‫ج َ‬ ‫فل َ ْ‬
‫ن تَ ِ‬ ‫محددة‪ ،‬وسنن ثابتة‪ ،‬ل تبديل لها ول تغيير‪ ،‬قال تعال‪َ  :‬‬
‫ويل ً‪.5‬‬
‫ح ِ‬ ‫ة الل ّ ِ‬
‫ه تَ ْ‬ ‫سن ّ ِ‬
‫جد َ ل ِ ُ‬ ‫ول َ ْ‬
‫ن تَ ِ‬ ‫ديل ً َ‬ ‫ة الل ّ ِ‬
‫ه ت َب ْ ِ‬ ‫سن ّ ِ‬
‫لِ ُ‬
‫وعلى المة في لحظات ضعفها أن تدرس بعمق السس التي‬
‫ينبغي للمة أن ُتبنى عليها‪ ،‬حتى ل يصبح بناؤنا ه ً‬
‫شا ينهار مع أي‬
‫عاصفة‪..‬‬
‫إننا يجب أن نتدبر في سنن بناء المم التي جاءت في كتاب ربنا‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وفي سنه رسولنا ‪ ،‬كما يجب أن نتدبر في سنن‬
‫ددون‬‫بناء أمتنا في مراحلها السابقة‪ ،‬وكيف استطاع المغّيرون والمج ّ‬
‫ولوا الهزيمة إلى نصر‪ ،‬والضعف إلى‬‫من أبناء المة المخلصين أن يح ّ‬
‫قوة‪ ،‬والهوان إلى سيادة وتمكين‪..‬‬
‫وفوق ذلك فإن على المسلمين أن يدرسوا بعمق تجارب بناء‬
‫المم المختلفة من عموم أهل الرض‪ ،‬وليس بالضرورة أن تدرس‬
‫تجارب المسلمين فقط‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬إن على المسلمين أن‬
‫يستفيدوا من ميراث النسانية‪ ،‬وذلك ‪ -‬بطبيعة الحال ‪ -‬دون التنازل‬
‫عن شيء من ثوابتنا‪ ،‬أو التخلي عن أمر من شريعتنا‪..‬‬
‫وبدراسة متأنية لكتاب الله عز وجل‪ ،‬ولحاديث الرسول الكريم‬
‫‪ ،‬والقصص والتاريخ‪ ،‬وكذلك لحداث الواقع‪ ،‬يتبين لنا ‪ -‬بما ل يدع‬
‫ل متفاعل في بناء أي أمة‪،‬‬ ‫مجال ً للشك ‪ -‬عدة عوامل ُتسهم بشك ٍ‬
‫دا للنظر ‪:-‬‬
‫ويأتي على رأس هذه العوامل ‪ -‬وبشكل لفت ج ً‬
‫"العلم"!‬
‫صا بأمة السلم وحدها‪ ..‬إنما هو أمر‬
‫وهذا الذي ذكرت ليس خا ً‬
‫ما كان أو غير مسلم‪..‬‬
‫ضروري لزم لكل من أراد القيام‪ ..‬مسل ً‬
‫وشواهد ذلك من القرآن والسنة ‪ -‬كما سيتبين لنا خلل صفحات هذا‬
‫الكتاب ‪ -‬ل تحصى ول تعد‪..‬‬

‫)فاطر‪. (43 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪3‬‬
‫العلم وبناء المم د‪ .‬راغب السرجاني المشرف على موقع قصة السلم‬
‫‪www.islamstory.com‬‬

‫والعلم الذي أعنيه هنا ليس هو العلم الشرعي فقط‪ ،‬بل العلم‬
‫ضا‪ ،‬ويشمل ذلك علوم الطب والهندسة والفلك والكيمياء‬ ‫الحياتي أي ً‬
‫والجغرافيا‪ ،‬وغير ذلك من علوم تصلح بها حياة البشر وتتحسن‬
‫ون – مع العلم الشرعي‪ -‬دعامة‬ ‫م لبد منه‪ ،‬وهو ُيك ّ‬
‫معيشتهم‪ ،‬فهذا عل ٌ‬
‫رئيسية من دعامات المة السلمية‪.‬‬
‫ول يخفى على الناظر إلى حال أمتنا أن قضية العلم لم تأخذ‬
‫مكانها المناسب في اهتمام المسلمين‪ ،‬على الرغم من التركيز‬
‫الواضح على هذه الوسيلة المهمة في بناء المم في كلمات القرآن‬
‫الكريم والسنة المطهرة‪ ،‬وكذلك في أقوال الصالحين والمخلصين من‬
‫أبناء هذه المة‪.‬‬
‫ل عدم دخول العلم في بؤرة اهتمام المسلمين هو أحد أهم‬ ‫ولع ّ‬
‫مْرضية التي عليها أمتنا في زماننا الحإلي‪..‬‬
‫السباب للحالة غير ال ُ‬
‫حا لجميع أنه لن تقوم المة من جديد إل عندما ينشأ جيل‬ ‫ويصبح واض ً‬
‫يضع قضية العلم هذه في مكانها الذي ينبغي أن تكون فيه‪ ،‬كأولوية‬
‫دا في اهتمامات المة كلها‪..‬‬‫من الولويات المهمة ج ً‬
‫كرت في جمع‬ ‫وكمحاولة لوضع لبنة في صرح المة السلمية ف ّ‬
‫ما يؤيد أهمية العلم في إعادة المة إلى مكانها الصحيح‪ ،‬فتجولت في‬
‫صفحات القرآن الكريم وسنة الرسول ‪ ،‬وعدت إلى حياة الصحابة‬
‫ددين‪ ،‬ودرست‬ ‫‪ ،‬والتابعين رحمهم الله‪ ،‬وقرأت ِ‬
‫سَير العلماء والمج ّ‬
‫تجارب المم التي كان لها نصيب في الصدارة والتمكين‪ ..‬فعلت ذلك‬
‫ت ما عندي من أوراق‪..‬‬ ‫ت وصنف ُ‬ ‫وغيره‪ ،‬وجمعت من هنا وهناك‪ ،‬ورتب ُ‬
‫فكان هذا الكتاب!!‬
‫أسأل الله عز وجل أن ينفع المة السلمية بكل حرف في هذا‬
‫الكتاب‪ ،‬وأن يقّر أعيننا برؤية أمتنا عظيمة رائدة‪ ،‬وأن يجعل ذلك كله‬
‫في ميزان حسنات كل من ساهم في هذا العمل أو استفاد منه‪..‬‬
‫والله من وراء القصد‪ ،‬وهو يهدي السبيل‪..‬‬
‫ي‪ .‬يييي يييييييي‬

‫‪4‬‬
‫الباب الول‪ :‬أمة السلم والعلم‬

‫ويضم الفصول التالية‪:‬‬

‫الفصل الول‪ :‬العلم في منظور السلم‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬أنواع العلوم‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬قراءة في واقعنا العلمي‪.‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬السلم وعلوم الحياة‪.‬‬

‫الفصل الخامس‪ :‬نماذج من علوم المسلمين‬


‫في الحضارة السلمية‬

‫الفصل السادس‪ :‬آراء المستشرقين في‬


‫الحضارة العلمية السلمية‬
‫ي‬
‫م ّ‬
‫سل ِ‬
‫ن ال ْ‬ ‫في ال ْ ِ‬
‫ميَزا ِ‬ ‫عل ْ ُ‬
‫م ِ‬ ‫الفصل الول‪ :‬ال ِ‬

‫لقد كانت الحقيقة الولى التي ظهرت في الرض عند نزول‬


‫جبريل ‪ ‬لول مرة على رسول الله ‪ ‬أن هذا الدين الجديد‬
‫"السلم" دين يقوم على العلم ويرفض الضللت والوهام جملة‬
‫وتفصي ً‬
‫ل‪..‬‬
‫فقد نزل الوحي أول ما نزل بخمس آيات تتحدث حول قضية‬
‫ك‬‫سم ِ َرب ّ َ‬ ‫واحدة تقريبا‪ ،‬وهى قضية العلم‪ ..‬قال تعإلي‪:‬ا ْ ْ‬
‫قَرأ ِبا ْ‬ ‫ً‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ذي‬‫م ال ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وَرب ّك الكَر ُ‬ ‫ْ‬
‫ق اقَرأ َ‬ ‫عل ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫سا َ‬‫ق ال ِن ْ َ‬‫خل َ‬ ‫ق َ‬ ‫خل َ َ‬‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ ‪6‬‬
‫م‪. ‬‬
‫عل ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫ن َ‬ ‫سا َ‬‫م اْل ِن ْ َ‬
‫عل ّ َ‬
‫قل َم ِ َ‬‫م ِبال ْ َ‬
‫عل ّ َ‬‫َ‬
‫دة وجوه‪..‬‬
‫وهذا النزول الول بهذه الكيفية عجيب من ع ّ‬
‫عا معيًنا من آلف‬‫فهو عجيب لن الله ‪ ‬قد اختار موضو ً‬
‫المواضيع التي يتضمنها القرآن الكريم وبدأ به‪ ،‬مع أن الرسول ‪‬‬
‫حا أن هذا‬ ‫ي ل يقرأ ول يكتب‪ ،‬فكان واض ً‬
‫الذي يتنزل عليه القرآن أم ٌ‬
‫الموضوع الول هو مفتاح فهم هذا الدين‪ ،‬ومفتاح فهم هذه الدنيا‪ ،‬بل‬
‫وفهم الخرة التي سُيقبل عليها الناس أجمعون‪.‬‬
‫ثم هو عجيب لنه نزل يتحدث عن قضية ما اهتم بها العرب‬
‫كثيًرا في هذه الونة في عمق التاريخ‪ ،‬بل كانت الخرافات والباطيل‬
‫هي التي تحكم حياتهم من أولها إلى آخرها‪ ..‬فكانوا يفتقرون إلى‬
‫العلم في كل المجالت‪ ،‬اللهم إل في مجال البلغة والشعر‪ ،‬فكان‬
‫هذا هو الميدان الذي تفوق فيها العرب وبرعوا‪ ،‬ولذلك نزل القرآن ‪-‬‬
‫وهو العجب ‪ -‬يتحداهم في هذا الذي برعوا فيه‪ ،‬معلًنا لهم أنه ينادى‬
‫بالعلم والتفوق فيه في كل الجوانب‪ ،‬بما فيها تلك التي يجيدونها‪.‬‬
‫ضا لنه اختار وسيلة من وسائل التعلم ُتعد‬
‫ثم هو عجيب أي ً‬
‫الشقّ والصعب بين كل الوسائل‪ ،‬وهى القراءة‪ ..‬لكنها ول شك‬
‫أرسخ من غيرها‪ ،‬فهي أرسخ من مجرد السماع‪ ،‬أو النظر‪ ،‬أو مجرد‬
‫الستنباط أو الستنتاج‪..‬‬
‫فهو ي ُعِْلم للناس جميًعا من أول يوم ومن أول لحظة‪ ،‬أن الذي‬
‫مضنًيا في العلم‬
‫يريد أن يرتبط بهذا الدين لبد أن يبذل مجهوًدا ُ‬
‫والتعلم والقراءة‪.‬‬
‫لقد كان السلم بمثابة ثورة علمية حقيقية في بيئة ما ألفت‬
‫روح العلم وما تعودت عليه‪ ،‬لدرجة أن المرحلة السابقة لنزول أول‬

‫)العلق‪.(5 - 1 :‬‬ ‫‪6‬‬


‫كلمات القرآن تعرف باسم "الجاهلية "!!‪ ..‬فصفه "الجهل" ترتبط بما‬
‫هو قبل السلم‪ ،‬ثم جاء السلم ليبدأ العلم‪ ،‬ول ِت َُنار الدنيا بنور الهداية‬
‫َ‬ ‫الربانية‪ ..‬قال تعإلي‪ :‬أ َ َ‬
‫ن‬
‫س ُ‬‫ح َ‬‫نأ ْ‬‫م ْ‬
‫و َ‬
‫ن َ‬‫غو َ‬ ‫ة ي َب ْ ُ‬
‫هل ِي ّ ِ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫جا ِ‬ ‫حك ْ َ‬
‫ف ُ‬
‫ن‪.7‬‬
‫قُنو َ‬ ‫وم ٍ ُيو ِ‬
‫ق ْ‬ ‫حك ْ ً‬
‫ما ل ِ َ‬ ‫ن الل ّ ِ‬
‫ه ُ‬ ‫م َ‬
‫ِ‬
‫ن أو الش ّ‬
‫ك أو‬ ‫ن في هذا الدين للجهل أو الظ ّ‬
‫فليس هناك مكا ٌ‬
‫الّريَبة‪.‬‬
‫لقد أمر الله ‪ ‬رسوله الكريم ‪ ‬منذ اليام الولى للرسالة أن‬
‫يعرض عن الجاهلين الذين يتمسكون بجاهليتهم‪ ،‬ويرفضون العلم‪..‬‬
‫ن‪. ‬‬
‫‪8‬‬
‫هِلي َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫جا ِ‬ ‫ع ِ‬
‫ض َ‬
‫ر ْ‬ ‫وأ َ ْ‬
‫ع ِ‬ ‫ف َ‬ ‫مْر ِبال ْ ُ‬
‫عْر ِ‬
‫فو ْ‬
‫وأ ُ‬ ‫ذ ال ْ َ‬
‫ع ْ َ َ‬ ‫قال تعإلي‪ُ  :‬‬
‫خ ِ‬
‫حا منذ اليام الولى لهذا الدين أنه يرفض المناهج‬
‫كما كان واض ً‬
‫الظنية‪ ،‬وعليه فل يمكن أن يبنى شرائعه وأحكامه وقوانينه وتصوراته‬
‫ونظرياته إل على أساس من إليقين‪.‬‬
‫فهذا رب العالمين سبحانه يقول في إعجازٍ ظاهرٍ يصف حياة‬
‫ن ِ ْ‬ ‫ما ل َ ُ‬ ‫الكافرين والمعرضين عن دينه ‪ ‬بقوله‪َ  :‬‬
‫ع‪9‬لم ٍ‬ ‫م ْ‬‫ه ِ‬‫م بِ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫و َ‬
‫شي ًْئا‪. ‬‬‫ق َ‬‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫غِني ِ‬‫ن َل ي ُ ْ‬
‫ن الظّ ّ‬
‫وإ ِ ّ‬ ‫ن إ ِّل الظّ ّ‬
‫ن َ‬ ‫عو َ‬
‫ن ي َت ّب ِ ُ‬
‫إِ ْ‬
‫فجعل الله ‪ ‬الفارق الرئيسي بين المؤمنين وبين الكافرين هو‬
‫قضية العلم‪ ..‬فالمؤمن يعلم والكافر يظن‪ ..‬والمؤمن يبنى على‬
‫إليقين‪ ،‬والكافر يبنى على الشك‪.‬‬

‫ذا‬ ‫وعليه فقد قال سبحانه يصف حال الكافرين يذمهم‪َ  :‬‬
‫وإ ِ َ‬
‫ري‬‫ما ن َدْ ِ‬
‫م َ‬ ‫قل ْت ُ ْ‬
‫ها ُ‬ ‫في َ‬ ‫ب ِ‬ ‫ة َل َري ْ َ‬ ‫ع ُ‬‫سا َ‬
‫وال ّ‬‫ق َ‬ ‫ح ّ‬
‫ه َ‬ ‫عدَ الل ّ ِ‬‫و ْ‬‫ن َ‬ ‫قي َ‬
‫ل إِ ّ‬ ‫ِ‬
‫ن‪. ‬‬
‫‪10‬‬
‫قِني َ‬ ‫ست َي ْ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ن بِ ُ‬‫ح ُ‬ ‫ما ن َ ْ‬‫و َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن إ ِل ظّنا َ‬ ‫ُ‬
‫ن ن َظ ّ‬ ‫ة إِ ْ‬‫ع ُ‬
‫سا َ‬‫ما ال ّ‬ ‫َ‬
‫ولم تكن البداية فقط في هذا الكتاب المعجز "القرآن" هي‬
‫جا ثابًتا في‬
‫التي تتحدث عن العلم وقيمته وأهميته‪ ،‬بل كان هذا منه ً‬
‫هذا الدستور الخالد‪ ،‬فل تكاد تخلو سورة من سوره من الحديث عن‬
‫العلم‪ ،‬سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة‪.‬‬
‫جئت مفاجأة كبيرة عندما قمت بإحصاء عدد المرات‬ ‫ولقد فو ِ‬
‫التي جاءت فيها كلمة "العلم" بمشتقاتها المختلفة في كتاب الله ‪‬؛‬
‫ت‪-‬‬‫إذ وجدتها ‪ -‬بل مبالغة ‪ -‬قد بلغت ‪ 779‬مرة !! أي بمعدل سبع مرا ٍ‬
‫تقريًبا ‪ -‬في كل سورة!!‬

‫‪) 7‬المائدة‪.(50:‬‬
‫‪) 8‬العراف‪.(199 :‬‬
‫‪) 9‬النجم‪.(28 :‬‬
‫‪) 10‬الجاثية‪(32 :‬‬
‫وهذا عن كلمة "العلم" بمادتها الثلثية )ع ل م(‪ ،‬إل أن هناك‬
‫كلمات أخرى كثيرة تشير إلى معنى العلم ولكن لم ُتذكر بلفظه‪،‬‬
‫وذلك مثل‪ :‬إليقين والهدى والعقل والفكر والنظر والحكمة والفقه‬
‫ن تندرج‬
‫والبرهان والدليل والحجة والية والبينة‪ ..‬وغير ذلك من معا ٍ‬
‫ث عليه‪.‬‬
‫تحت معنى العلم وتح ّ‬
‫ما السنة النبوية فإحصاء هذه الكلمة فيها يكاد يكون مستحي ً‬
‫ل‪..‬‬ ‫أ ّ‬
‫فقد وردت كلمة "العلم" في صحيح البخاري أكثر من ثلثمائة‬
‫مرة‪ ،‬وهذا كتاب واحد من كتب السنة‪ ،‬وهو في ذات الوقت ليس‬
‫ما؛ إذ أن هناك من كتب السنة ما يحوي أضعاف ما في‬‫بأكبرها حج ً‬
‫صحيح البخاري‪ ،‬مثل صحيح مسلم وسنن الترمذي والنسائي وأبي‬
‫داود وابن ماجة والدارمي والبيهقي‪ ،‬ومسند المام أحمد بن حنبل‪،‬‬
‫وموطأ المام مالك‪ ،‬وكذلك معجم الطبراني وصحيح ابن حبان‬
‫ومستدرك الحاكم‪ ،‬وغيرهم وغيرهم‪..‬‬
‫بل إن الملحظ أن الهتمام بقضية العلم لم يكن منذ أول‬
‫لحظات السلم ونزول القرآن فقط‪ ،‬وإنما كان ذلك منذ بداية خلق‬
‫النسان نفسه‪ ..‬كما حكى ذلك القرآن الكريم في آياته!!‬
‫فالله ‪ ‬خلق آدم وجعله خليفة في الرض‪ ،‬وأمر الملئكة أن‬
‫ظمه ورفعه‪ ،‬ثم ذكر لنا وللملئكة سبب هذا‬ ‫تسجد له‪ ،‬وكّرمه وع ّ‬
‫التكريم والتعظيم والّرفعة‪ ..‬فعّين أنه "العلم"‪!!..‬‬
‫لم يتفوق آدم ‪ ‬على الملئكة بطول قيام‪ ،‬ول بكثرة ذكرٍ أو‬
‫تسبيٍح‪ ،‬ول بقوةٍ خارقة‪ ،‬ول بطاعةٍ مطلقة‪ ..‬فهذه المور كّلها مما‬
‫تتفوق فيها الملئكة بل منازع‪ ،‬وإنما تفوق عليهم فقط في قضية‬
‫"العلم"‪..‬‬

‫ومن أجل ذلك رفعه الله ‪ ‬فوق مصا ّ‬


‫ف هؤلء الملئكة الِعظام‬
‫ضله عليهم‪ ،‬بل وأسجدهم له ‪.‬‬
‫وف ّ‬
‫ة إ ِّني‬ ‫مَلئ ِك َ ِ‬ ‫ك ل ِل ْ َ‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫قا َ‬ ‫وإ ِذْ َ‬ ‫يقول تعالى في تقرير ذلك‪َ  :‬‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫ها‬ ‫في َ‬ ‫سدُ ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ها َ‬ ‫في َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ع ُ‬ ‫ج َ‬ ‫قاُلوا أت َ ْ‬ ‫ة َ‬ ‫ف ً‬ ‫خِلي َ‬ ‫ض َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫ل ِ‬ ‫ع ٌ‬ ‫جا ِ‬ ‫َ‬
‫ل إ ِّني‬ ‫قا َ‬ ‫ك َ‬ ‫سل َ‬ ‫َ‬ ‫قد ّ ُ‬ ‫ون ُ َ‬ ‫ك َ‬ ‫د َ‬ ‫م ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫ح بِ َ‬ ‫سب ّ ُ‬ ‫ن نُ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ون َ ْ‬ ‫ماءَ َ‬ ‫ك الدّ َ‬ ‫ف ُ‬ ‫س ِ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫َ‬
‫على‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫عَر َ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ها ث ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ماءَ كل َ‬ ‫س َ‬ ‫م ال ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م آد َ َ‬ ‫عل َ‬‫ّ‬ ‫و َ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫عل ُ‬ ‫ما ل ت َ ْ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫عل ُ‬‫َ‬ ‫أَ ْ‬
‫ؤَل ِ‬ ‫َ‬ ‫قا َ َ‬
‫ن‬
‫قي َ‬ ‫صاِد ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ء إِ ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ء َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ل أن ْب ُِئوِني ب ِأ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ة َ‬ ‫مَلئ ِك َ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫عل ّمت ََنا إن ّ َ َ‬
‫م‬ ‫عِلي ُ‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ما َ ْ‬ ‫م ل ََنا إ ِّل َ‬ ‫عل ْ َ‬‫ك َل ِ‬ ‫حان َ َ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫قاُلوا ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ه ْ‬ ‫ماَئ ِ ِ‬‫س َ‬ ‫م ب ِأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ما أن ْب َأ ُ‬ ‫فل َ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ِ‬ ‫مائ ِ‬ ‫س َ‬ ‫م ب ِأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫م أن ْب ِئ ْ ُ‬ ‫ل َيا آدَ ُ‬ ‫قا َ‬ ‫م َ‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫عل َ ُ‬ ‫وأ ْ‬ ‫ض َ‬ ‫والْر ِ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬‫ب ال ّ‬ ‫غي ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫م إ ِّني أ ْ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ق ْ‬ ‫مأ ُ‬ ‫ل أل َ ْ‬ ‫قا َ‬ ‫َ‬
‫دوا ِل َدَ َ‬
‫م‬ ‫ج ُ‬
‫س ُ‬ ‫ةا ْ‬ ‫مَلئ ِك َ ِ‬
‫قل َْنا ل ِل ْ َ‬
‫وإ ِذْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬‫ت َك ْت ُ ُ‬ ‫م‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫و َ‬
‫ن َ‬ ‫دو َ‬‫ما ت ُب ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ن ال ْ َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن‪.11‬‬
‫ري َ‬ ‫ف ِ‬
‫كا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ست َك ْب ََر َ‬‫وا ْ‬‫أَبى َ‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫لي‬ ‫ب‬ ‫إ‬
‫ِ ِْ ِ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫دوا‬ ‫ج‬
‫َ َ ُ‬ ‫س‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫وهكذا كانت القضية منذ اللحظات الولى لخلق آدم ‪ ‬واضحة‬
‫جلية‪ ..‬فما إن يتمسك النسان بالعلم‪ ،‬ويحرص عليه‪ ،‬ويبذل الجهد‬
‫في تحصيله‪ ،‬إل ّ استحقّ أن يكون خليفة الله في الرض‪ ،‬وما إن يألف‬
‫ض منه‬
‫ود عليه‪ ،‬أو يزهد في العلم‪ ،‬ويبتعد عنه‪ ،‬وير َ‬ ‫الجهل ويتع ّ‬
‫ت هذه الخلفة‪ ،‬ومن ث َ ّ‬
‫م‬ ‫بالقليل‪ ..‬فإنه ‪ -‬ل ريب ‪ -‬يكون قد فَ َ‬
‫قد َ مؤهل ِ‬
‫ظم الشأن‪..‬‬‫حا مرفوع الذكر مع ّ‬ ‫دا صال ً‬
‫ل يصلح أن يكون عب ً‬
‫ولم يكن الحتفال بقيمة العلم منذ أول خلق "النسان" فقط‪،‬‬
‫بل ظهر هذا الحتفال قبل خلق النسان!! فإن الله ‪ ‬خلق أول ما‬
‫خلق "القلم"‪ ،‬أداة العلم الولى والخالدة‪ ،‬وذلك كما روى الترمذي أن‬
‫َ‬
‫ب‪،‬‬‫ل‪ :‬اك ْت ُ ْ‬‫قا َ‬‫ف َ‬
‫م َ‬ ‫قل َ َ‬‫ه ال ْ َ‬
‫ق الل ّ ُ‬
‫خل َ َ‬‫ما َ‬‫ل َ‬ ‫و َ‬
‫نأ ّ‬ ‫رسول الله‪ ‬قال‪" :‬إ ِ ّ‬
‫و َ‬ ‫ما َ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫كائ ِ ٌ‬ ‫ه َ‬‫ما ُ‬ ‫و َ‬
‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫قدََر َ‬ ‫ل‪ :‬اك ْت ُ ْ‬ ‫قا َ‬‫ب؟ َ‬ ‫ما أك ْت ُ ُ‬‫ل‪َ :‬‬ ‫ف َ‬
‫قا َ‬ ‫َ‬
‫د" ‪.‬‬
‫‪12‬‬ ‫َ‬
‫إلى اْلب َ ِ‬
‫وهكذا نجد أن العلم أمٌر محوري ورئيسي في الحياة النسانية‬
‫التي وجدت على ظهر الرض‪ ،‬وسيظل كذلك إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫ومن هنا لم يكن المر من باب المبالغة حين أشار الرسول ‪‬‬
‫في حديثه إلى أن الدنيا بكاملها ل قيمة لها ‪ -‬بل هي ملعونة ‪ -‬إل إذا‬
‫كر الله ‪..‬‬ ‫ازدانت بالعلم وذ ِ ْ‬

‫روى الترمذي عن أبي هريرة < أن رسول الله ‪ ‬قال‪:‬‬


‫َ‬
‫و‬ ‫واَل ُ‬
‫ه‪ ،‬أ ْ‬ ‫ما َ‬
‫و َ‬ ‫ل‪ِ :‬ذك َْر الل ّ ِ‬
‫ه‪َ ،‬‬ ‫ها‪ ،‬إ ِ ّ‬
‫في َ‬
‫ما ِ‬
‫ن َ‬
‫عو ٌ‬‫مل ْ ُ‬
‫ة َ‬ ‫عون َ ٌ‬ ‫مل ْ ُ‬‫"الدّن َْيا َ‬
‫َ‬
‫ما" ‪.‬‬ ‫عل ّ ً‬‫مت َ َ‬
‫و ُ‬ ‫ما‪ ،‬أ ْ‬ ‫عال ِ ً‬
‫‪13‬‬
‫َ‬
‫بل إنه إذا اختفى العلم من الدنيا‪ ،‬فإن الحياة فيها تصبح‬
‫مستحيلة‪ ،‬أو لمعنى لها‪ ،‬لهذا فإن اختفاء العلم يكون إيذاًنا بقرب‬
‫قيام الساعة‪..‬‬

‫‪ 11‬البقرة‪.34 - 30 :‬‬
‫‪ 12‬الترمذي‪ :‬كتاب التفسير‪ ،‬باب تفسير سورة "ن" )‪ ،(3319‬والحاكم )‪ ،(3693‬وقال صحيح‬
‫السناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي‪ ،‬والطيالسي )‪ ،(577‬والطبراني في الكبير )‪،(12500‬‬
‫والبيهقي في سننه )‪ ،(20664‬وأبو نعيم في الحلية ‪ ،5/248‬وقال اللباني‪ :‬صحيح )‪(2017‬‬
‫صحيح الجامع‪.‬‬
‫‪ 13‬الترمذي‪ :‬كتاب الزهد‪ ،‬باب ما جاء في هوان الدنيا على الله )‪ ،(2322‬والدارمي )‪،(322‬‬
‫والطبراني في الوسط )‪ ،(4072‬والبزار )‪ ،(1736‬والبيهقي في شعب اليمان )‪ ،(1708‬وقال‬
‫اللباني‪ :‬حسن )‪ (1609‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫يروي في ذلك البخاري ومسلم عن أنس بن مالك < قال‪ :‬قال‬
‫ع َ‬ ‫ن أَ ْ‬
‫عل ْ ُ‬
‫م‬ ‫ع ال ْ ِ‬ ‫ن ي ُْر َ‬
‫ف َ‬ ‫ةأ ْ‬‫سا َ ِ‬‫ط ال ّ‬‫شَرا ِ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬‫رسول الله ‪" :‬إ ِ ّ‬
‫هَر الّزَنا" ‪.‬‬ ‫وي َظْ َ‬
‫مُر َ‬ ‫ب ال ْ َ‬
‫خ ْ‬ ‫وي ُ ْ‬
‫شَر َ‬ ‫ل َ‬‫ه ُ‬ ‫ت ال ْ َ‬
‫ج ْ‬ ‫وي َث ْب ُ َ‬
‫‪14‬‬
‫َ‬
‫ورفعُ الِعلم هذا ل يكون بمحوه من الصدور‪ ،‬ولكن ُيرفع بموت‬
‫العلماء‪..‬‬
‫روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص } قال‪:‬‬
‫عا‬ ‫م ان ْت َِزا ً‬ ‫عل ْ َ‬‫ض ال ْ ِ‬
‫قب ِ ُ‬‫ه َل ي َ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫سمعت رسول الله ‪ ‬يقول‪" :‬إ ِ ّ‬
‫حّتى‬ ‫ء‪َ ،‬‬ ‫ما ِ‬‫عل َ َ‬ ‫ض ال ْ ُ‬ ‫م بِ َ‬
‫قب ْ ِ‬ ‫عل ْ َ‬‫ض ال ْ ِ‬ ‫قب ِ ُ‬ ‫ول َك ِ ْ‬
‫ن يَ ْ‬ ‫عَبادِ‪َ ،‬‬ ‫ن ال ْ ِ‬‫م ْ‬‫ه ِ‬ ‫ع ُ‬‫ز ُ‬ ‫ي َن ْت َ ِ‬
‫َ‬
‫فأ ْ‬‫سئ ِلوا َ‬‫ُ‬ ‫ً‬
‫هال‪َ ،‬‬ ‫َ‬
‫وا‬
‫فت َ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫ج ّ‬‫سا ُ‬ ‫ءو ً‬ ‫س ُر ُ‬‫خذَ الّنا ُ‬ ‫ما ات ّ َ‬
‫عال ِ ً‬ ‫ق َ‬ ‫م ي ُب ْ ِ‬ ‫ذا ل ْ‬ ‫إِ َ‬
‫ضلوا" ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وأ َ‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫م‪َ ،‬‬ ‫ْ‬
‫ضلوا َ‬ ‫ف َ‬ ‫عل ٍ‬ ‫ر ِ‬ ‫غي ْ ِ‬‫بِ َ‬
‫‪15‬‬

‫ولذلك فإن موت العاِلم هو الكارثة الحقيقية‪ ،‬والتي هي أشد‬


‫من كوارث الزلزل والبراكين؛ لنه بغياب العاِلم تفسد الرض‪ ،‬ويجهل‬
‫الناس الغاية من خلقهم‪ ،‬ومن ثم تصبح الحياة بكاملها ل قيمة لها‪..‬‬
‫يقول عمر بن الخطاب <‪" :‬لموت ألف عابد قائم الليل صائم‬
‫النهار‪ ،‬أهون من موت عالم ٍ بصيرٍ بحلل الله وحرامه"‪!!16‬‬
‫ولما مات زيد بن ثابت < ‪ -‬كاتب الوحي ومن علماء الصحابة‬
‫الجلء ‪ -‬قال عبد الله بن عباس }‪" :‬من سّره أن ينظر كيف ذهاب‬
‫العلم فهكذا ذهابه"‪.17‬‬

‫ة ال َن ْب َِياء‪..‬‬ ‫ص َ‬
‫ف ُ‬ ‫عل ْ ُ‬
‫م ِ‬ ‫ال ِ‬
‫إن أعلى منزلة وأسمى رتبة في الخلق وبين البشر عند الله‬
‫تعالى هي منزلة النبياء ورتبة النبوة‪ ،‬ولمكانة العلم ولهميته القصوى‬
‫ومكانته في ميزانه سبحانه وتعالى‪ ،‬فإن الله ‪ ‬قد ربط في كتابه‬
‫الكريم بين النبياء وصفة العلم‪ ،‬على أساس أنها صفة ثابتة ولزمة‬
‫ضح سبحانه أن العلم هو أهم الصفات التي يتميز بها هؤلء‬ ‫لهم‪ ،‬بل و ّ‬
‫موا غيرهم؟‬‫النبياء‪ ،‬وكيف ل والدور الرئيسي لهم في الدنيا أن ُيعل ّ ُ‬

‫‪ 14‬البخاري‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب رفع العلم وظهور الجهل )‪ ،(80‬ومسلم‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب رفع‬
‫العلم وقبضه )‪ ،(2671‬والترمذي )‪ ،(2205‬وابن ماجة )‪ ،(4045‬وأحمد )‪ ،(12829‬وأبو يعلي )‬
‫‪.(3062‬‬
‫‪ 15‬البخاري‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب كيف يقبض العلم )‪ ،(100‬ومسلم‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب رفع العلم‬
‫وقبضه )‪ ،(2673‬والترمذي )‪ ،(2652‬والدارمي )‪ ،(239‬وابن حبان )‪ ،(4571‬والطبراني في‬
‫الوسط )‪،(55‬‬
‫‪ 16‬الحارث بن أبي أسامة‪ ،‬الحافظ نور الدين الهيثمي‪ :‬بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث‬
‫‪.2/813‬‬
‫‪ 17‬ابن حجر‪ :‬تهذيب التهذيب ‪.3/344‬‬
‫ما على‬ ‫فإذا كان فاقد الشيء ل ُيعطيه ‪ -‬كما قيل ‪ -‬فكان لزا ً‬
‫ما‪ ،‬بل وأن يحرص على زيادة علمه‪ ،‬وفي ذات‬ ‫النبي أن يكون عال ً‬
‫ما‬
‫صا على نقل علمه هذا إلى غيره‪ ،‬وأل يكتم عل ً‬ ‫الوقت يكون حري ً‬
‫ل إ ِّل ال ْب ََل ُ‬
‫غ‬ ‫عَلى الّر ُ‬
‫سو ِ‬ ‫ما َ‬ ‫عّلمه الله إياه‪ ..‬قال تعإلي‪َ  :‬‬
‫و َ‬
‫ن‪.18‬‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مِبي ُ‬
‫فكيف ُيبّلغ شيًئا بل ً‬
‫غا مبيًنا وهو يجهله ول يعلمه؟!‬
‫ما مرتب ً‬
‫طا بالعلم‪ ،‬فقال ‪ ‬في‬ ‫ومن هنا فقد جاء ذ ِك ُْر النبياء دائ ً‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ماءَ ك ُل ّ َ‬
‫ها‪.19‬‬ ‫م اْل ْ‬
‫س َ‬ ‫عل ّ َ‬
‫م آد َ َ‬ ‫حق آدم ‪َ : ‬‬
‫و َ‬

‫عل ْ ً‬
‫ما‪.20‬‬ ‫و ِ‬‫ما َ‬ ‫طا آ َت َي َْناهُ ُ‬
‫حك ْ ً‬ ‫وُلو ً‬ ‫وقال في حق لوط ‪َ : ‬‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫وى آت َي َْنا ُ‬ ‫ست َ َ‬‫وا ْ‬‫شدّهُ َ‬ ‫غ أَ ُ‬
‫ما ب َل َ َ‬ ‫ول َ ّ‬
‫وقال في حق موسى ‪َ : ‬‬
‫عل ْ ً‬
‫ما‪.21‬‬ ‫و ِ‬ ‫حك ْ ً‬
‫ما َ‬ ‫ُ‬
‫ه‬
‫مَنا ُ‬ ‫عل ّ ْ‬
‫ما َ‬‫عل ْم ٍ ل ِ َ‬
‫ذو ِ‬ ‫ه لَ ُ‬ ‫وقال في حق يعقوب ‪َ : "‬‬
‫وإ ِن ّ ُ‬
‫َ‬
‫ن‪.22‬‬
‫مو َ‬‫عل َ ُ‬
‫س َل ي َ ْ‬‫ن أك ْث ََر الّنا ِ‬‫ول َك ِ ّ‬
‫َ‬
‫ما‬ ‫شدّهُ آ َت َي َْناهُ ُ‬
‫حك ْ ً‬ ‫غ أَ ُ‬
‫ما ب َل َ َ‬ ‫ول َ ّ‬‫وقال في حق يوسف ‪َ : ‬‬
‫ن‪. ‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬
‫م ْ‬ ‫زي ال ْ ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫وك َذَل ِ َ‬
‫ك نَ ْ‬ ‫ما َ‬‫عل ْ ً‬
‫و ِ‬
‫‪23‬‬
‫َ‬
‫ها‬
‫مَنا َ‬
‫ه ْ‬ ‫ف َ‬
‫ف ّ‬ ‫وقال في حق داود وسليمان عليهما السلم‪َ  :‬‬
‫عل ْ ً‬
‫ما‪.24‬‬ ‫و ِ‬
‫ما َ‬ ‫وك ُل ً آ َت َي َْنا ُ‬
‫حك ْ ً‬ ‫ن َ‬ ‫سل َي ْ َ‬
‫ما َ‬ ‫ُ‬
‫ة‬
‫م َ‬ ‫وال ْ ِ‬
‫حك ْ َ‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬
‫ب َ‬ ‫عل ّ ْ‬
‫مت ُ َ‬ ‫وقال في حق عيسى ‪َ : ‬‬
‫وإ ِذْ َ‬
‫واْل ِن ْ ِ‬
‫جي َ‬
‫ل‪.25‬‬ ‫وَراةَ َ‬
‫والت ّ ْ‬
‫َ‬
‫ي‬
‫ح ٌ‬ ‫و إ ِّل َ‬
‫و ْ‬ ‫ه َ‬ ‫وقال كذلك في حق رسولنا الكريم ‪: ‬إ ِ ْ‬
‫ن ُ‬
‫وى‪.26‬‬ ‫ديدُ ال ْ ُ‬
‫ق َ‬ ‫ه َ‬
‫ش ِ‬ ‫عل ّ َ‬
‫م ُ‬ ‫حى َ‬
‫ُيو َ‬

‫عل َ ُ‬
‫م‪.27‬‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م ت َك ُ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫عل ّ َ‬
‫م َ‬ ‫ضا‪َ  :‬‬
‫و َ‬ ‫وقال أي ً‬

‫)النور‪.(54 :‬‬ ‫‪18‬‬

‫)البقرة‪.(31 :‬‬ ‫‪19‬‬

‫)النبياء‪.(74 :‬‬ ‫‪20‬‬

‫)القصص‪.(14 :‬‬ ‫‪21‬‬

‫)يوسف‪.(68 :‬‬ ‫‪22‬‬

‫)يوسف‪.(22 :‬‬ ‫‪23‬‬

‫)النبياء‪.(79 :‬‬ ‫‪24‬‬

‫)المائدة‪.(110 :‬‬ ‫‪25‬‬

‫)النجم‪.(5 - 3 :‬‬ ‫‪26‬‬

‫)النساء‪.(113 :‬‬ ‫‪27‬‬


‫سو َ‬
‫ل‬ ‫ت َر ُ‬ ‫معْ ُ‬‫س ِ‬
‫وقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر } قال‪َ :‬‬
‫ن‪َ ،‬‬ ‫قد َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الل ّهِ ‪َ ‬قا َ‬
‫حّتى إ ِّني‬ ‫ت َ‬ ‫رب ْ ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ت بِ َ ِ‬
‫ح َ لب َ ٍ‬ ‫م أِتي ُ‬ ‫ل‪" :‬ب َي َْنا أَنا َنائ ِ ٌ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫مَر ب ْ َ‬‫ع َ‬‫ضِلي ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫ت َ‬ ‫عطَي ْ ُ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ري‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫في أظْ َ‬
‫فا ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫خُر ُ‬
‫ي يَ ْ‬ ‫َلَرى الّر ّ‬
‫َ‬
‫م"‪.28‬‬ ‫عل ْ َ‬ ‫ل‪ :‬ال ْ ِ‬ ‫ه؟ َقا َ‬ ‫ل الل ّ ِ‬ ‫سو َ‬‫ه َيا َر ُ‬ ‫ما أوّل ْت َ ُ‬ ‫ب‪َ .‬قاُلوا‪ :‬فَ َ‬ ‫خ ّ‬
‫طا ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫فكان العلم أثمن ما يمتلك النبياء‪ ،‬ولذلك كان هو الذي أورثوه‬
‫لنا‪.‬‬
‫وعليه فمن أراد أن يحمل لواء النبياء‪ ,‬وأن يسير في طريقهم‪,‬‬
‫ومن ثم ُيحشر في زمرتهم يوم القيامة‪ ،‬فعليه بطريق العلم‪..‬‬
‫ولعظم قيمة العلم ومكانته‪ ،‬فقد امتن به الله ‪ ‬على ُأناس‬
‫معينين واختصهم بالزيادة منه‪ ،‬وقد اصطفاهم ‪ ‬على غيرهم‪ ..‬فجعل‬
‫‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬مؤهلت القيادة عند طالوت ~ هي العلم‬
‫في‬‫ة ِ‬ ‫سطَ ً‬
‫وَزادَهُ ب َ ْ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫صطَ َ‬
‫فاهُ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ها ْ‬ ‫والقوة‪ ،‬فقال‪ :‬إ ِ ّ‬
‫سم ِ‪.29‬‬ ‫وال ْ ِ‬
‫ج ْ‬ ‫عل ْم ِ َ‬
‫ال ْ ِ‬
‫خر‬
‫دم هنا العلم على القوة؛ لن العلم بإمكانه أن ُيس ّ‬
‫وقد ق ّ‬
‫القوة لصالحه‪ ،‬وليس العكس بصحيح‪ ,‬إذ أنه بإمكان الرجل الضعيف‬
‫أن ُيسخر السد القوى لخدمته‪ ,‬كون هذا ل يرجع إلى معيار القوة‬
‫والضعف عند الرجل‪ ،‬وإنما يرجع إلى سعة علمه وإحاطته بما يمكن‬
‫من خلله أن يتفادى مهاجمة السد له‪ ،‬وما يمكن من خلله أن يزل َّله‬
‫له‪.‬‬
‫و‪،‬‬‫بل إن الله ‪ ‬جعل العلم سبًبا في السيطرة والهيمنة والعل ّ‬
‫م‬ ‫وُأوِتيَنا ال ْ ِ‬
‫عل ْ َ‬ ‫فقال في قصة سليمان ‪ ‬مع بلقيس ملكة سبأ‪َ  :‬‬
‫ن‪.30‬‬
‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫وك ُّنا ُ‬
‫م ْ‬ ‫ها َ‬ ‫ن َ‬
‫قب ْل ِ َ‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬
‫وينسب الله ‪ ‬إلى أهل العلم دائما كل صلٍح وفلح‪ ،‬بل‬
‫وشهادة حق وعمق نظرة ودراية‪ ،‬فيقول في إشارة إلى من أدرك‬
‫مَلئ ِك َ ُ‬ ‫شهد الل ّ َ‬
‫ة‬ ‫وال ْ َ‬‫و َ‬ ‫ه إ ِّل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ه َل إ ِل َ َ‬
‫ه أن ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫منهم حقيقة التوحيد‪َ ِ َ  :‬‬
‫م‪. ‬‬
‫‪31‬‬
‫كي ُ‬‫ح ِ‬ ‫ْ‬
‫زيُز ال َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ْ‬
‫و ال َ‬
‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ه إ ِل ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ط ل إ ِل َ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬‫ما ِبال ْ ِ‬
‫قائ ِ ً‬ ‫وُأوُلو ال ْ ِ‬
‫عل ْم ِ َ‬ ‫َ‬
‫ويقول عن أولئك الذين يحفظون القرآن في صدورهم‪َ :‬بلْ‬
‫د‬
‫ح ُ‬
‫ج َ‬
‫ما ي َ ْ‬
‫و َ‬
‫م َ‬ ‫ن ُأوُتوا ال ْ ِ‬
‫عل ْ َ‬ ‫ر ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫دو ِ‬
‫ص ُ‬
‫في ُ‬ ‫ت ِ‬ ‫ت ب َي َّنا ٌ‬
‫ه َ‬
‫و آَيا ٌ‬
‫ُ َ‬
‫ن‪. ‬‬‫مو َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ب ِآَيات َِنا إ ِل الظال ِ ُ‬
‫‪32‬‬

‫‪ 28‬البخاري‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب فضل العلم )‪ ،(82‬ومسلم‪ :‬كتاب فضائل الصحابة‪ ،‬باب من‬
‫فضائل عمر < )‪ ،(2391‬وأحمد )‪.(5868‬‬
‫‪) 29‬البقرة‪.(247 :‬‬
‫‪) 30‬النمل‪.(42 :‬‬
‫‪) 31‬آل عمران‪.(18 :‬‬
‫‪) 32‬العنكبوت‪.(49 :‬‬
‫ن‬ ‫وفيمن يدرك الحق من غيره يقول سبحانه‪ :‬وَي ََرى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ُ‬ ‫ُأوُتوا ال ْ ِ‬
‫دي إلى‬ ‫ه ِ‬
‫وي َ ْ‬
‫ق َ‬ ‫و ال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬
‫ك ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل إلي َ‬
‫ك ِ‬ ‫ز َ‬ ‫ذي أن ْ ِ‬ ‫م ال ّ ِ‬‫عل ْ َ‬
‫د‪.33‬‬
‫مي ِ‬ ‫ح ِ‬‫ز ال ْ َ‬ ‫زي ِ‬
‫ع ِ‬‫ط ال ْ َ‬ ‫صَرا ِ‬‫ِ‬
‫وفي إشادة بأولئك الذين فقهوا حقيقة الدنيا والخرة في قصة‬
‫ب الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫وا ُ‬‫م ثَ َ‬‫وي ْل َك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ن ُأوُتوا ال ْ ِ‬
‫عل ْ َ‬ ‫ذي َ‬‫ل ال ّ ِ‬‫قا َ‬‫و َ‬‫قارون يقول ‪َ : ‬‬
‫َ‬
‫ن‪. ‬‬‫صاب ُِرو َ‬‫ها إ ِّل ال ّ‬ ‫قا َ‬ ‫وَل ي ُل َ ّ‬
‫حا َ‬‫صال ِ ً‬ ‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫ع ِ‬‫و َ‬
‫ن َ‬
‫م َ‬
‫نآ َ‬‫م ْ‬
‫خي ٌْر ل ِ َ‬
‫َ‬
‫‪34‬‬

‫ل موسى ‪ ‬عليه ليتعّلم منه‪ ،‬لنه‬ ‫ضا الخضر‪ ،‬ود ّ‬ ‫وقد مدح أي ً‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫اتصف بالرحمة والعلم فقال‪َ  :‬‬
‫عَباِدَنا آت َي َْنا ُ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫دا ِ‬‫عب ْ ً‬
‫دا َ‬‫ج َ‬‫و َ‬
‫ف َ‬
‫عل ْ ً‬
‫ما‪.35‬‬ ‫ن ل َدُّنا ِ‬‫م ْ‬ ‫عل ّ ْ‬
‫مَناهُ ِ‬ ‫و َ‬
‫دَنا َ‬
‫عن ْ ِ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫ة ِ‬
‫م ً‬
‫ح َ‬
‫َر ْ‬
‫ن‬
‫م ّ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫وقد امتن ‪ ‬على المؤمنين بصفة خاصة فقال‪ :‬ل َ َ‬
‫م ي َت ُْلو‬ ‫ه ْ‬‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬‫م ْ‬‫سول ً ِ‬‫م َر ُ‬ ‫ه ْ‬
‫في ِ‬‫ث ِ‬ ‫ع َ‬ ‫ن إ ِذْ ب َ َ‬ ‫مِني َ‬‫ؤ ِ‬ ‫عَلى ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫كاُنوا‬ ‫ن َ‬ ‫وإ ِ ْ‬ ‫ة َ‬‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬‫وال ْ ِ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬
‫ب َ‬ ‫ه ُ‬ ‫عل ّ ُ‬
‫م ُ‬ ‫وي ُ َ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫ِ‬ ‫وي َُز ّ‬
‫كي‬ ‫ه َ‬‫م آ ََيات ِ ِ‬‫ه ْ‬ ‫َ َ‬
‫علي ْ ِ‬
‫ن‪. ‬‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ل ُ‬ ‫ضَل ٍ‬ ‫في َ‬ ‫ل لَ ِ‬ ‫قب ْ ُ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫‪36‬‬
‫ِ‬

‫عل ّ َ‬
‫م‬ ‫ن َ‬
‫م ُ‬ ‫وامتن على النسان بصفة عامة فقال‪ :‬الّر ْ‬
‫ح َ‬
‫ه ال ْب ََيا َ‬
‫ن‪.37‬‬ ‫عل ّ َ‬
‫م ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ق اْل ِن ْ َ‬
‫سا َ‬ ‫خل َ َ‬ ‫قْرآ َ َ‬
‫ن َ‬ ‫ال ْ ُ‬

‫مع ملحظ تقديم تعليم القرآن على خلق النسان‪ ,‬مع أن‬
‫خلق أول ثم ع ُّلم‪ ،‬ولكنه قدم العلم ليوحي بأن النسان إذا‬ ‫النسان ُ‬
‫قد َ معه إنسانيته‪ ,‬فكأنه لم ُيخلق بعد‪ ..‬ثم إنه أعقب‬ ‫فقد العلم فَ َ‬
‫ن"‪ ,‬وكأن العلم يحيط‬ ‫ه ال ْب ََيا َ‬ ‫الحديث عن خلق النسان بقوله‪" :‬ع َل ّ َ‬
‫م ُ‬
‫كر الخلق يمدح العلم‪,‬‬ ‫بحياة النسان من أولها إلى أخرها‪ ..‬فقبل ذ ْ‬
‫كر الخلق يمدح العلم‪.‬‬ ‫وبعد ذ ْ‬

‫صر ‪ ‬رفع العلم لصحابه على عالم النس فقط‪ ،‬بل‬ ‫ق ُ‬ ‫ولم ي َ ْ‬
‫ل‬‫قا َ‬ ‫ضا‪ ،‬قال تعإلي‪َ  :‬‬ ‫تعدى ذلك عنده ليشمل عالم الجن أي ً‬
‫َ‬ ‫ن أ ََنا آ َِتي َ‬
‫م َ‬
‫ك‬ ‫قا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬‫م ِ‬‫قو َ‬ ‫ن تَ ُ‬
‫لأ ْ‬ ‫قب ْ َ‬‫به َ‬
‫ك ِ ِ‬ ‫ج ّ‬ ‫ن ال ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫فري ٌ‬ ‫ع ْ‬‫ِ‬
‫َ‬
‫ب أَنا‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫قا َ‬‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫هل َ‬ ‫َ‬
‫ن الك َِتا ِ‬ ‫م َ‬‫م ِ‬‫عل ٌ‬ ‫عن ْدَهُ ِ‬ ‫ذي ِ‬ ‫ل ال ِ‬ ‫مي ٌ‬ ‫يأ ِ‬ ‫و ّ‬ ‫قَ ِ‬ ‫علي ْ ِ‬‫وإ ِّني َ‬ ‫َ‬
‫َ ‪38‬‬
‫فك ‪. ‬‬ ‫ك طَْر ُ‬ ‫ن ي َْرت َدّ إلي َ‬ ‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ق‬‫َ‬
‫ِ ِ ْ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫آَ ِ‬
‫تي‬
‫وفي عالم الحيوان والطير‪ ،‬فإنه سبحانه يرفع من شأن‬
‫الجوارح المعّلمة والكلب المعّلم عن الجوارح غير المعلمة‪ ،‬فُيحل‬
‫الصيد الذي تصطاده الجوارح المعلمة‪ ,‬ويحّرم الذي تصطاده غير‬

‫)سبأ‪.(6 :‬‬ ‫‪33‬‬

‫)القصص‪.(80 :‬‬ ‫‪34‬‬

‫)الكهف‪.(65 :‬‬ ‫‪35‬‬

‫)آل عمران‪.(164 :‬‬ ‫‪36‬‬

‫)الرحمن‪.(4 – 1 :‬‬ ‫‪37‬‬

‫)النمل‪.(40 ،39 :‬‬ ‫‪38‬‬


‫ل ل َك ُ ُ‬
‫م‬ ‫ل أُ ِ‬
‫ح ّ‬ ‫ق ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ه ْ‬‫ل لَ ُ‬‫ح ّ‬ ‫ذا أ ُ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ك َ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬ ‫المعلمة‪ ..‬قال تعإلي‪ :‬ي َ ْ‬
‫ما‬‫م ّ‬
‫ن ِ‬ ‫ه ّ‬ ‫مون َ ُ‬‫عل ّ ُ‬
‫ن تُ َ‬‫مك َل ِّبي َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ر ِ‬
‫وا ِ‬‫ج َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬
‫م ِ‬ ‫عل ّ ْ‬
‫مت ُ ْ‬ ‫ما َ‬‫و َ‬‫ت َ‬ ‫الطّي َّبا ُ‬
‫َ‬
‫م الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫واذْك ُُروا ا ْ‬
‫س َ‬ ‫م َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫ن َ‬ ‫سك ْ َ‬ ‫م َ‬‫ما أ ْ‬ ‫فك ُُلوا ِ‬
‫م ّ‬ ‫ه َ‬‫م الل ّ ُ‬ ‫مك ُ ُ‬‫عل ّ َ‬‫َ‬
‫ب‪. ‬‬
‫‪39‬‬
‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ع ال ْ ِ‬ ‫ري ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫وات ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ما يجب على النسان أن‬ ‫وقد جعله رسول الله ‪ ‬أمًرا عظي ً‬
‫وق فيه عليهم‪..‬‬‫يتنافس فيه مع غيره‪ ,‬ويتمنى أن لو تف ّ‬
‫يروي في ذلك البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود <‬
‫ل آَتاهُ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ج ٌ‬‫ن‪َ :‬ر ُ‬‫في اث ْن َت َي ْ ِ‬‫سدَ إ ِّل ِ‬‫ح َ‬ ‫ي ‪َ" :‬ل َ‬ ‫ل الن ّب ِ ّ‬ ‫قال‪َ :‬قا َ‬
‫ة‬ ‫حك ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ْ‬
‫ه ال ِ‬ ‫ّ‬
‫ل آَتاهُ الل ُ‬‫ج ٌ‬‫وَر ُ‬ ‫ق‪َ ،‬‬‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫في ال َ‬ ‫ه ِ‬ ‫َ‬
‫هلك َت ِ ِ‬ ‫على َ‬ ‫َ‬ ‫سلط َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ف ُ‬ ‫مال ً َ‬ ‫َ‬
‫ها" ‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫م َ‬ ‫ّ‬
‫عل ُ‬ ‫وي ُ َ‬
‫ها َ‬ ‫ضي ب ِ َ‬ ‫ْ‬
‫و ي َق ِ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫ف ُ‬
‫كل هذه الملحظات وغيرها تبين مدى أهمية العلم‪ ،‬وأنه أعظم‬
‫النعم التي أنعم بها الله العليم الخبير على مخلوقاته‪..‬‬
‫فل غرو إذن أن يكون العلم من الشياء القليلة التي أمر الله ‪‬‬
‫رسوله الكريم ‪ ‬أن يطلب الستزادة منها‪ ،‬فقال تعالى موجًها نبيه‬
‫عل ْ ً‬
‫ما‪.41‬‬ ‫زدِْني ِ‬
‫ب ِ‬
‫ل َر ّ‬ ‫و ُ‬
‫ق ْ‬ ‫والمة السلمية من بعده‪َ  :‬‬
‫ثم إن النسان َليقف مذهول ً أمام علم ‪ ‬الذي وصفه سبحانه‬
‫عل ْ ً‬
‫ما‪.42‬‬ ‫ء ِ‬
‫ي ٍ‬
‫ش ْ‬ ‫ع َرّبي ك ُ ّ‬
‫ل َ‬ ‫س َ‬ ‫في كتابه حيث قال‪َ  :‬‬
‫و ِ‬
‫وقد وصف سبحانه علم البشر بكل أنواعه وتصانيفه وتفريعاته‪،‬‬
‫من علوم فضاء وسلح وكيمياء وطب وهندسة وجغرافيا‪ ,‬وعلوم‬
‫نووية وبيولوجية وغيرها‪ ..‬وصف كل هذه العلوم بالقليل فقال تعإلي‪:‬‬
‫عل ْم ِ إ ِّل َ‬
‫قِليل ً‪.43‬‬ ‫ن ال ْ ِ‬ ‫ُ‬
‫م َ‬
‫م ِ‬
‫ما أوِتيت ُ ْ‬ ‫‪َ ‬‬
‫و َ‬
‫وذلك في إشارة خفّية منه سبحانه إلى البحث عن المزيد‪،‬‬
‫والتنقيب عن ذلك المجهول‪.‬‬
‫وإننا في هذا الفصل لم نسع إلى حصر كل ما جاء عن العلم‬
‫في كتاب الله عز وجل‪ ،‬أو في سنة رسوله ‪‬؛ فإن ذلك أمر يصعب‬
‫دا‪ ،‬ولكننا فقط نضع أيدينا على الوزن الحقيقي له من منظور‬‫ج ً‬
‫ّ‬
‫الشريعة السلمية؛ فلن يهتم إنسان قط إل بما يشعر بأهميته‬
‫وقيمته‪ ،‬ونسأل الله‪ ‬أن ي ُعِّز السلم والمسلمين‪.‬‬

‫‪) 39‬المائدة‪.(4 :‬‬


‫‪ 40‬البخاري‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب الغتباط في العلم والحكمة )‪ ،(73‬ومسلم‪ :‬كتاب صلة‬
‫المسافرين‪ ،‬باب من يقوم بالقرآن ويعلمه )‪ ،(816‬وابن ماجة )‪ ،(4208‬والطبراني في‬
‫الوسط )‪ ،(1712‬وأبو يعلي )‪ ،(5078‬والبزار )‪ ،(1890‬والبيهقي في شعب اليمان )‪.(7528‬‬
‫‪) 41‬طه‪.(114 :‬‬
‫‪) 42‬النعام‪.(80 :‬‬
‫‪) 43‬السراء‪.(85 :‬‬
‫ع ال ْ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫علوم ِ‬ ‫وا ُ‬
‫الفصل الثاني‪ :‬أن ْ َ‬

‫جاءت كلمة "العلم" في كتاب الله ‪ ‬وفي سنة رسوله الكريم‬


‫‪ ‬مطلقة‪ ،‬ودونما تقييد أو تحديد؛ فهي تشمل كل علم ٍ نافٍع يهدف‬
‫إلى خير الدنيا وعمارة الرض‪ ..‬وكل علم ٍ يهدف إلى صلح الناس‪،‬‬
‫والقيام السليم بواجبات الخلفة البشرية على هذا الكوكب‪.‬‬
‫وبالمكان تقسيم العلوم إلى قسمين كبيرين يشملن كل علم‬
‫نعرفه أو نحتاج إليه‪ ،‬وهذان القسمان هما‪ :‬العلوم الشرعية والعلوم‬
‫الحياتية‪.‬‬
‫أما العلوم الشرعية‪ :‬فهي العلوم التي ُيعَرف بها الله ‪،‬‬
‫وُيعَرف بها كيف تكون العبادة الصحيحة‪ ،‬ويشمل ذلك كل العلوم‬
‫المتعلقة بدراسة الدين وفقه الشريعة‪ ،‬مثل علوم القرآن‪ ،‬وعلوم‬
‫السنة والحديث الشريف‪ ،‬وعلوم العقيدة‪ ،‬وعلوم الفقه وأصوله‪،‬‬
‫وعلوم الخلق‪ ،‬وغير ذلك مما يتعلق بالشريعة والدين‪ .‬ويرتبط بهذا‬
‫القسم بعض العلوم الخرى التي ُيحتاج إليها في فقه تلك العلوم‬
‫الشرعية‪ ،‬مثل علوم اللغة والدب والتاريخ‪ ،‬ونحو ذلك‪..‬‬
‫أما العلوم الحياتية‪ :‬فهي العلوم النافعة التي يحتاج إليها‬
‫مر بها أرضه‪ ،‬ويستكشف بها كونه‬ ‫النسان ليصلح بها حياته‪ ،‬ويع ّ‬
‫وبيئته‪ ..‬وذلك مثل علوم الطب والهندسة والفلك والكيمياء والفيزياء‬
‫والجغرافيا‪ ،‬وعلوم الرض والنبات والحيوان‪ ،‬وغير ذلك من العلوم‬
‫المشابهة‪.‬‬
‫فكلمة العلم التي ك َُثرت الشارة إليها في الكتاب والسنة إنما‬
‫تعني ‪ -‬في أكثر الحيان ‪ -‬العلم بشقيه الشرعي والحياتي‪ ..‬وكل ما‬
‫جاء من مدٍح للعلماء‪ ،‬فهو لكل عالم ٍ نفع الناس بعلمه‪ ،‬سواء كان‬
‫شرعًيا أم حياتًيا‪ .‬وتوضيح ذلك ‪ -‬وخاصة أهمية العلم الحياتي ‪ -‬سيرد‬
‫في موضعه من هذا الكتاب‪.‬‬
‫ثم إن هذه العلوم ‪ -‬سواء علوم الشرع أو علوم الحياة ‪ -‬تنقسم‬
‫بدورها إلى قسمين‪ :‬علوم فرض عين‪ ،‬وعلوم فرض كفاية‪.‬‬
‫ما من كل‬‫وفرض العين‪ :‬هو ما طلب الشارع فعله طلًبا جاز ً‬
‫مكلف بعينه‪ ،‬فل يكفي أن يقوم به البعض دون البعض الخر‪ ،‬ومنه‪:‬‬
‫الصلة‪ ،‬والصيام‪ ،‬والوفاء بالعقود وغيرها‪.‬‬
‫ما من‬
‫وفرض الكفاية‪ :‬هو ما طلب الشارع حصوله طلًبا جاز ً‬
‫جماعة المكلفين‪ ،‬فإن أقامه أحدهم أو بعضهم على الوجه المطلوب‪،‬‬
‫سقط الثم عن الباقين‪ ،‬وإن لم يقمه أحد أثم الجميع‪ ،‬ومنه‪ :‬الجهاد‬
‫في سبيل الله‪ ،‬وإقامة الخلفة‪ ،‬والصلة على الميت ودفنه‪ ،‬وغيرها ‪.‬‬
‫‪44‬‬

‫وعليه فالعلوم التي ت َُعد من فروض العين هي تلك التي يتعين‬


‫صَلها‬
‫على كل مسلم ومسلمة ممن اتصف بالعقل والبلوغ أن ُيح ّ‬
‫ويتعّلمها‪ ،‬وإذا لم يحصلها أثم بسبب ذلك‪ ،‬وركبته السيئات بحجم‬
‫التفريط الذي فّرط‪.‬‬
‫ي على كل المسلمين‪ ،‬وليس هناك‬ ‫فهذا النوع من العلوم حتم ٌ‬
‫استثناء فيه‪ ،‬وهو الذي عناه الرسول ‪ ‬في الحديث الصحيح عن‬
‫ل‬‫عَلى ك ُ ّ‬
‫ة َ‬
‫ض ٌ‬
‫ري َ‬ ‫عل ْم ِ َ‬
‫ف ِ‬ ‫ب ال ْ ِ‬
‫أنس بن مالك < وقال فيه‪" :‬طَل َ ُ‬
‫سل ِم ٍ"‪.45‬‬
‫م ْ‬
‫ُ‬
‫وأما العلوم فرض الكفاية‪ :‬فهي تلك العلوم التي إن قام بها‬
‫بعض المسلمين على الوجه الكمل‪ ،‬واستطاعوا أن ي ْ‬
‫كفوا بقية المة‬
‫فيها‪ ،‬فإنهم يثابون عليها ويسقط الثم عن باقي المة‪ ،‬حتى أولئك‬
‫الذين لم يقوموا بها‪ ..‬وأما إذا لم توفر المة من العلماء ما يكفي‬
‫حاجتها في فرع معين‪ ،‬فإن الثم يقع على الجميع إلى أن تكفي المة‬
‫حاجتها في ذلك الفرع‪ ،‬فتوفر الكم والنوع اللزم لسد كل الثغرات‪..‬‬
‫دا‪ ،‬والمة النجيبة الواعية هي التي‬‫وفروض الكفاية كثيرة ج ً‬
‫توّزع فروض الكفاية على أفرادها بحيث تسد كل الثغرات لديها‪،‬‬
‫س في أحد‬ ‫وتكفى كل حاجاتها‪ ،‬بحيث ل يصبح هناك ‪ -‬مثل ً ‪ -‬تكد ٌ‬
‫ص وقصوٌر في مجالت أخرى‪ ..‬وهذا يحتاج إلى اتساع‬ ‫المجالت‪ ،‬ونق ٌ‬
‫ل نظرة‪.‬‬‫ق وشمو ِ‬
‫أف ٍ‬
‫ولنحاول أن نسقط هذه التعريفات على الواقع‪..‬‬
‫فالعلوم الشرعية منها ما هو فرض عين‪" ،‬يتعين" على كل‬
‫مسلم ٍ ومسلمةٍ أن يتعلموه‪ ،‬ويأثمون بتركه‪ ،‬وذلك مثل العلم بالله ‪‬‬
‫م وخبيٌر وقادٌر على كل‬
‫على سبيل الجمال‪ ،‬كالعلم بأنه سبحانه علي ٌ‬
‫م وغير ذلك‪..‬‬ ‫م وكري ٌ‬
‫شيء‪ ،‬وأنه خالقٌ ورازقٌ ورحي ٌ‬
‫ضا مثل العلم بأمور الفقه الضرورية لداء العبادات‪ ..‬فيتعلم‬
‫وأي ً‬
‫المسلم كيف يتوضأ وكيف يصّلي‪ ،‬وما هي نواقض الوضوء‪ ،‬وما هي‬
‫نواقض الصلة‪ ،‬وما الفرق بين الفرض والنافلة‪ ،‬وبين ما تصح الصلة‬
‫م وأحكامه‪ ،‬والزكاة‬‫بدونه‪ ،‬وما ل تصح الصلة إل به‪ ،‬وأن يعرف الصيا َ‬
‫وأحكامها‪ ،‬وأن يعرف أمور الحلل والحرام‪ ،‬وخاصة المشهور منها‪،‬‬
‫ماه العلماء "ما هو معلوم من الدين بالضرورة" كحرمة الزنا‬ ‫والذي س ّ‬
‫‪ 44‬راجع النووي‪ :‬المجموع شرح المهذب‪ ،‬مطبعة المنيرية‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪. 49‬‬
‫‪ 45‬ابن ماجة‪ :‬كتاب اليمان وفضائل الصحابة والعلم‪ ،‬باب فضل العلم والحث عليه )‪،(224‬‬
‫والطبراني في الكبير )‪ ،(10439‬والبزار )‪ ،(94‬وقال اللباني‪ :‬صحيح ) ‪ (3913‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫والخمر والخنزير والربا‪ ،‬وكذلك عليه أن يعرف رسوله الكريم ‪‬‬
‫ضا يعرف القرآن وكيف ُيتلى‪ ،‬ويعرف عن‬ ‫ونبذة عن سيرته‪ ،‬وأي ً‬
‫الساعة ويوم القيامة إجما ً‬
‫ل‪ ،‬وكذلك عن الجنة والنار وهكذا‪..‬‬
‫ومن العلوم الشرعية ما هو فرض كفاية على بعض علماء المة‬
‫ضا على بقية المسلمين‪ ،‬مثل دقائق علم العقيدة‪،‬‬‫وليس مفرو ً‬
‫ودقائق الفقه مثل فقه المواريث‪ ،‬ودقائق فقه التجارة لغير التجار‪،‬‬
‫وكيفية حساب الزكاة في الحتمالت المختلفة‪ ،‬ودقائق القتصاد لغير‬
‫القتصاديين‪ ،‬ودقائق تفسير القرآن‪ ،‬وأسباب النزول‪ ،‬وتفاصيل حياة‬
‫الرسول وحياة أصحابه‪ ،‬وتخريج الحاديث‪ ،‬والعلم برواتها‪ ،‬ودرجاتهم‬
‫من حيث الجرح والتعديل‪ ،‬وتفاصيل التاريخ السلمي‪ ،‬وفنون اللغة‬
‫ودقائقها‪..46‬‬
‫فهذه العلوم هي من فروض الكفاية‪ ،‬والتي وجب على المة أن‬
‫توجد طائفة من أفرادها ليقوموا بالخوض فيها‪ ،‬وإتقانها والتبحر فيها‬
‫والتمكن منها‪ ،‬والقدرة على معرفة كافة أطرافها ودقائقها‪ ..‬وهو‬
‫وَل‬
‫فل َ ْ‬
‫ة َ‬
‫ف ً‬‫كا ّ‬‫فُروا َ‬ ‫ن ل ِي َن ْ ِ‬‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫و َ‬ ‫مصداق قول الله ‪َ :‬‬
‫ن‬ ‫ف ّ‬ ‫ة ل ِي َت َ َ‬ ‫م َ‬
‫طائ ِ َ‬ ‫فْر َ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫نَ َ‬
‫دي ِ‬ ‫في ال ّ‬ ‫هوا ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫ف ٌ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ة ِ‬ ‫ق ٍ‬ ‫ل ِ‬ ‫م ْ‬
‫فَر ِ‬
‫ن‪.47‬‬‫حذَُرو َ‬‫م يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫عل ّ ُ‬‫م لَ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫عوا إلي ِ‬ ‫ج ُ‬‫ذا َر َ‬ ‫م إِ َ‬‫ه ْ‬
‫م ُ‬‫و َ‬
‫ق ْ‬‫ذُروا َ‬
‫ول ِي ُن ْ ِ‬‫َ‬
‫وإذا لم توفر المة هؤلء العلماء‪ ،‬وكانت تعاني ‪ -‬مثل ً ‪ -‬نق ً‬
‫صا‬
‫في علماء التفسير أو علماء الفقه أو الحديث أو غيره‪ ،‬فإن المة‬
‫جميعها تأثم إلى أن توفر هذه الطائفة‪.‬‬
‫هذا بالنسبة للعلوم الشرعية‪..‬‬
‫والمر هو نفسه بالنسبة للعلوم الحياتية‪ ..‬فمنها ما هو فرض‬
‫عين‪" ،‬يتعين" على كل مسلم ٍ ومسلمةٍ أن يتعلموه‪ ،‬ويأثمون بتركه‪،‬‬
‫ومنها ما هو فرض كفاية‪ ،‬إن قام به البعض سقط عن الجميع‪..‬‬
‫ن على الطبيب‪ ،‬وعلم الهندسة‬ ‫فمثل ً علم الطب ُيعد فرض عي ٍ‬
‫ن على‬‫ن على المهندس‪ ،‬وعلم الكيمياء فرض عي ٍ‬ ‫ُيعد فرض عي ٍ‬
‫الكيميائي وهكذا‪ ..‬فإذا تعلم كل واحد ٍ من هؤلء مهنته وأتقنها وبرع‬
‫فيها‪ ،‬ووصل إلى درجة من البتكار وحل المشكلت في مجاله‪ ،‬وهكذا‬
‫في كل تخصص‪ ،‬فإن الفرض ُيكفى‪ ،‬وبذلك يسقط الثم عن‬
‫المسلمين‪..‬‬

‫‪ 46‬راجع في ذلك ابن حزم‪ :‬الحكام في أصول الحكام‪ ،‬مطبعة المام – القاهرة‪ ،‬ج ‪ 5‬ص ‪113‬‬
‫وما بعدها ‪ -‬ويوسف القرضاوي‪ :‬الرسول والعلم‪ ،‬مكتبة وهبة – القاهرة ص ‪. 94 ،93‬‬
‫‪) 47‬التوبة‪.(122 :‬‬
‫أما إذا فشلت المة في إخراج عدد مناسب‪ ،‬وبكفاءة متميزة‬
‫ي ْ‬
‫كفون حاجة المسلمين‪ ..‬فإن الثم يقع على المة جميًعا؛ وذلك‬
‫لفشلها في تحقيق ذلك المر !!‬
‫‪48‬‬

‫وليس غريًبا بعد ذلك أن يكون من نتيجة ذلك الفشل أن تتخلف‬


‫المة عن ركب الحضارة‪ ،‬وأن تكثر أزماتها ومشكلتها‪ ،‬فضل عن‬
‫سقوطها في أعين غيرها من المم الخرى‪ ،‬فتصبح وقد اقتادها‬
‫غيرها‪ ،‬وقد أضحت فريسة سهلة للطامعين‪ ،‬فل ُيستبعد أن تنتهك‬
‫سيادتها‪ ،‬وأن تحتل أرضها‪ ،‬وأن تسلب ثرواتها‪ ..‬حتى تضيع تحت أقدام‬
‫الغزاة!!‬
‫والشاهد من ذلك أن المرء المسلم واقع بين نوعين من العلوم‬
‫يتعين عليه أن يتقنهما‪ :‬الول خاص بمعرفة دينه المعرفة التي توصله‬
‫إلى العبادة الصحيحة كما ذكرنا سابقا‪ ،‬وهو ما لبد للجميع منه‪.‬‬
‫والثاني خاص بمجال التخصص الذي هو فيه‪ ،‬أّيا كان مجاله وطبيعة‬
‫ل هو بحجم التقصير الذي يحصل‪.‬‬ ‫عمله‪ .‬والذنب والثم في ك ٍ‬
‫ومن هذا المنطلق ل يستقيم لطالب رفعةٍ لهذه المة‪ ،‬وراجي‬
‫فا في صنعته‬‫التمكين لها في الرض‪ ،‬أن يكون فاشل ً في مجاله‪ ،‬متخل ً‬
‫كل به؛ إذ أن تقدم المة معتمد ٌ على‬‫أو في مهنته أو في علمه الذي وُ ّ‬
‫تقدمه‪ ،‬وتخلفها هو نتيجة لتخلفه‪.‬‬
‫وعلى ذلك فإننا إذا أخذنا أحد المسلمين كمثال توضيحي‪ ،‬فإننا‬
‫نقول‪:‬‬
‫صا )من المسلمين(‪ ،‬فإنه يتعين‬
‫لو أن هناك اقتصادًيا متخص ً‬
‫كي‪ ،‬وكيف يعتقد‬ ‫عليه أن يتعلم كيف ُيصّلي‪ ،‬وكيف يصوم‪ ،‬وكيف يز ّ‬
‫في ربه وفي رسوله وفي القرآن‪ ،‬وأن يعرف عن يوم القيامة والجنة‬
‫والنار‪ ،‬كما سبق أن ذكرنا‪..‬‬
‫وفوق ذلك فيتعّين عليه أن ُيتقن مجال القتصاد ويبرع فيه‪،‬‬
‫ويبتكر الطرق الحديثة التي ترفع من اقتصاد المة وت ُْعلي من شأنها‬
‫ضا أن يعرف الفقه السلمي الخاص بالقتصاد‪ ،‬وحكم‬ ‫مادّيا‪ ،‬وعليه أي ً‬
‫السلم في المعاملت القتصادية المختلفة‪ ،‬وحكمه في قضايا البنوك‬
‫وشركات الستثمار والتأمين والتوفير والقروض‪ ..‬وغير ذلك من‬
‫المور التي تمس هذا الجانب بصورة مباشرة‪.‬‬
‫ولكن هذا القتصادي ل يتعين عليه ول يلزمه أن يتعلم دقائق‬
‫التفسير‪ ،‬أو يتعلم بنود الفقه المختلفة الخاصة بالطب‪ ،‬أو الخاصة‬
‫بالحرب أو الخاصة بالزواج أو الطلق أو الميراث؛ فهذا له متخصصون‬
‫ومهتمون‪ ،‬تماما كما هو في تخصصه في مجال القتصاد‪.‬‬
‫انظر في ذلك‪ :‬الغزالي‪ :‬إحياء علوم الدين‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.1/16 ،‬‬ ‫‪48‬‬
‫كما أنه ل يلزمه أن يتعلم شيًئا عن الطب أو الهندسة أو الفلك‬
‫أو الزراعة أو غيرها‪ ،‬إل فيما يرتبط بعمله كاقتصادي‪..‬‬
‫وهكذا تتوزع كفاءات المة على الفروع المختلفة‪ ،‬وتسد‬
‫عا‪..‬‬
‫الثغرات تبا ً‬
‫ول يستقيم لمة ناجحة أن تتكدس فيها ‪ -‬مثل ً ‪ -‬طاقات فقهية‪،‬‬
‫بينما تفتقر إلى علماء الطب أو الكيمياء‪ ،‬ول يستقيم لمة متكاملة أن‬
‫يتكدس فيها جمعٌ غفيٌر من القضاة‪ ،‬وهي تفتقر إلى علماء التاريخ‪،‬‬
‫وهكذا‪..‬‬
‫وهذا دور الدولة الناجحة‪ ..‬أن ترُقب باستمرارٍ أوجه النقص‪،‬‬
‫ومن ثم تسد الخلل وتحرص على تكميله‪ ..‬كما أنه دور الفراد في أن‬
‫يتوجهوا إلى سد الثغرات المهمة والضعيفة‪ ،‬وأل يترك أصحاب‬
‫التخصص منهم تخصصهم وينشغلوا بغيره من العمال التي لم يكلفوا‬
‫أصل ً بأدائها‪ ،‬ولم توجب عليهم‪..‬‬
‫على أن الدور الكبر والمسؤولية الضخمة في هذا المر تتحمله‬
‫الدولة ممثلة في الحكومة‪ ،‬ولبد لها من أن تسعى لرفعة شعبها‬
‫متها في كل المجالت‪ ،‬وهي غير معذورة في أي تقصير في‬ ‫وإعزاز أ ّ‬
‫هذا المر‪ ،‬كما أنه ليس هناك مبرٌر للبقاء في ذيل المم لسنوات‬
‫وسنوات‪..‬‬
‫وهذا ل يعني ‪ -‬كما سبق أن أشرنا ‪ -‬إعفاء أنفسنا من‬
‫المسئولية‪ ،‬فهذا مصير المة‪ ،‬وإننا ‪ -‬كأفراد ‪ -‬لدينا من المساحات‬
‫الضخمة التي من الممكن أن نعمل فيها وننتج ونبرع الكثير والكثير‪..‬‬
‫فالطالب ‪ -‬مثل ً ‪ -‬في أي مراحله التعليمية بإمكانه أل يكتفي بما‬
‫هو مقرٌر عليه فقط‪ ،‬وخاصة إذا كان هذا المقرر على مستوى غير‬
‫ف‪ ،‬ومن ثم فيمكن أن يلجأ إلى المكتبات وإلى الشبكة العالمية‬ ‫كا ٍ‬
‫)النترنت( وغيرها‪ ،‬مما يزيد من حصيلته العلمية في مقرراته‬
‫الدراسية وفي مجال تخصصه‪.‬‬

‫فإذا كان طالًبا يكون طالًبا متفوًقا‪ ،‬وإذا كان أستاًذا أو معل ً‬
‫ما‬
‫سا يكون على أعلى درجة‬ ‫عا‪ ،‬وإذا كان مهند ً‬‫ما متقنا ومبد ً‬
‫يكون معل ً‬
‫وأمكن معرفة بمجال عمله وهندسته‪ ،‬وهكذا‪ ..‬والمطلوب هو بذل‬
‫ل في مجاله قدر المستطاع‪.‬‬ ‫الجهد ك ٌ‬

‫وحين يكون اللتزام بذلك‪ ،‬وحين ل يكون مبلغ علم الجميع‬


‫وأقصى أمانيهم هو فقط الحصول على شهادة في كذا أو كذا‪ ..‬حينها‬
‫يسود جوٌ عام من حب العلم‪ ،‬فيصبح البلد أو القليم وقد اتخذ وجهة‬
‫صّناعه!!‬
‫العلم قبلة له‪ ،‬شاء في ذلك أم أبى أصحاب اتخاذ القرار و ُ‬
‫بل إن السياسيين حينذاك سيجدون أنهم مضطرون إلى أن‬
‫يسايروا تلك الموجة العلمية‪ ،‬ويكونون من ر ْ‬
‫كبها‪ ،‬تماما كما يسايرون‬
‫الموجة الدينية ‪ -‬رغم أن الكثيرين منهم ليست لهم ميول دينية أصل ً ‪-‬‬
‫فتراهم ‪ -‬مثل ً ‪ُ -‬يقيمون المسابقات الدينية‪ ،‬ويحضرون الحتفالت‬
‫الموسمية‪ ،‬ويهبون الجوائز على حفظ القرآن الكريم‪ ..‬وذلك طالما‬
‫كان هناك جو عام من الهتمام بالدين‪.‬‬
‫فكذلك إذا كانت هناك ثورة علمية‪ ،‬وأصبح العلم شغل الفراد‬
‫ومصب اهتماماتهم‪ ..‬حينها ستجد السياسي ‪ -‬مثل ً ‪ -‬الذي يريد أن‬
‫ينجح في النتخابات‪ ،‬تراه يضع في برنامجه النتخابي الهتمام‬
‫بالمؤسسات العلمية‪ ،‬والعمل على إنشاء الجديد منها والمزيد‪ ،‬وزيادة‬
‫ة‬
‫ميزانية الدولة في هذا الجانب‪ ..‬وعليه فلن تجد اهتماماته متجه ً‬
‫فقط إلى الطعام والشراب‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ،‬وإنما يكون جل اهتماماته‬
‫م المة الول وشغلها الشاغل‪ ،‬وهو يومئذ العلم وقضايا التعليم!!‬ ‫هو ه ّ‬
‫ولو قامت المة السلمية بدورها في هذا المجال )الهتمام‬
‫بالتوازن بين العلوم والربط بين العلم الشرعي والعلم الحياتي(‬
‫دا إلى غيرها‪ ,‬ولقامت‬
‫حكومة وشعًبا‪ ,‬جماعات وأفراًدا‪ ،‬ما افتقرت أب ً‬
‫معتمدة على سواعد أبنائها‪ ..‬وهذا ‪ -‬ولشك ‪ -‬يرفع من قيمتها ويعز‬
‫شأنها‪..‬‬
‫ي‬ ‫عل ْ ْ‬
‫م ّ‬ ‫عَنا ال ْ ِ‬
‫ق ِ‬
‫وا ِ‬
‫في َ‬
‫قَراءَةٌ ِ‬
‫الفصل الثالث‪ِ :‬‬

‫مع ازدهار الصحوة السلمية‪ ،‬وشيوع اللتزام بين صفوف‬


‫سخ في أذهان الكثيرين حب‬ ‫المسلمين‪ ،‬وبالذات طائفة الشباب‪ ،‬تر ّ‬
‫العلم وطلبه‪ ،‬والبحث عنه وبذل الوقت له‪ .‬وكل هذا ‪ -‬ولشك ‪ -‬أمر‬
‫محمود‪ ،‬ونتيجة طبيعية لعودة المسلمين إلى ربهم وإلى دينهم‪..‬‬
‫لكن بقيت نقطة ما أشعر أنها أخذت المساحة الكافية من‬
‫تفكير شباب الصحوة‪ ،‬وما فُّرغت لها الوقات كما فرغت لغيرها‪ ،‬مع‬
‫أن هذه النقطة من أهم النقاط التي تنفع في بناء المم‪ ،‬وتفيد في‬
‫تشييد الحضارات‪..‬‬
‫وهذه النقطة هي الهتمام بعلوم الحياة‪ ،‬والتفوق والبداع فيها‪..‬‬
‫وعلوم الحياة ‪ -‬كما أشرنا قبل ذلك ‪ -‬هي العلوم التي ُتصلح‬
‫حياة البشر على الرض‪ ،‬والتي يهتدي إليها الناس بعقولهم وتجاربهم‬
‫ومشاهداتهم‪ ،‬ويستطيعون من خللها عمران الرض وأص ً‬
‫لحها‬
‫وتسخير إمكانياتها‪ ،‬وهي مثل علوم الطب والهندسة والفلك والكيمياء‬
‫والنباتات والحيوان‪ ،‬وغير ذلك من العلوم التي تشمل الماديات‬
‫لح "حياتهم" على‬ ‫المبثوثة في الكون‪ ،‬والتي يحتاج إليها البشر في أص ً‬
‫هذا الكوكب‪..‬‬
‫ما‬
‫وتلك العلوم هي التي يقصدها الغرب‪ ،‬وهي التي يعنونها دائ ً‬
‫حين يكون الحديث عن مطلق العلم‪..‬‬
‫وقد تعددت الشواهد والملحظات المهمة التي تبين سوء‬
‫الوضع العلمي الذي تعيشه المة السلمية‪ ،‬ومدى ما وصل إليه حالها‬
‫فيه‪ ،‬وهي كلها ناتجة عن عامل واحد‪ ،‬هو إهمال المسلمين لعلوم‬
‫الحياة‪..‬‬
‫ولعل في الملحظات التالية دليل ً على القصور غير المقبول‬
‫الذي وصل إليه المسلمون الن‪..‬‬
‫الملحظة الولى‪:‬‬
‫بدراسة أحوال العاملين في حقل الدعوة في الجامعات‬
‫حظ أن نسبة المتفوقين‬ ‫السلمية في أكثر من بلد إسلمي‪ُ ،‬يل َ‬
‫دراسًيا في أوساط الدعوة نسبة قليلة بصورة لفتة للنظر‪ ،‬وأن‬
‫الطالب الملتزم بدعوته وبرسالته السلمية يرتب أموره بصورة تضع‬
‫التحصيل الدراسي والتفوق العلمي في أخريات أولوياته‪ ..‬وهذا‬
‫حي بعلومه الدراسية‬ ‫لشعوره واعتقاده الدائم بأنه يجب عليه أن ُيض ّ‬
‫ة تحفيظ القرآن‬ ‫ومناهجه البحثية من أجل الدين‪ ،‬فُيعطي ‪ -‬مثل ً ‪ -‬حلق َ‬
‫ة‬
‫ة عن محاضرة علمية‪ ،‬ويعطي موعظة ُتقال في مدّرٍج أولوي ً‬ ‫أولوي ً‬
‫عن موضوع علمي يلقيه في فصل دراسي أو في مجموعة علمية‪،‬‬
‫ة‬
‫ة عن قراء ٍ‬‫ث أولوي ً‬
‫ويعطي قراءة ً في كتاب تفسيرٍ أو فقهٍ أو حدي ٍ‬
‫في كتاب كيمياء أو فيزياء أو رياضيات‪ ،‬ويهتم بحضور دروس العلم‬
‫للمشايخ والقراء‪ ،‬ول يهتم بحضور الدوريات أو الندوات العلمية‪ ،‬أو‬
‫المؤتمرات المتخصصة في مجاله مث ً‬
‫ل!!‬
‫وهذه ليست ملحظة عابرة‪ ،‬أو حالت فردية‪ ،‬أو مشكلة محلية‪،‬‬
‫إنما تكاد تكون هي الصل بين أوساط الشباب العاملين في حقل‬
‫الدعوة في الجامعات السلمية‪ ..‬وهذا أمر يحتاج ‪ -‬ولشك ‪ -‬إلى‬
‫وقفات ووقفات‪..‬‬
‫ومثل هذا الحديث ليس من قبيل الحباط أو اليأس‪ ،‬وإنما هو‬
‫محاولة لتشخيص المراض برصد الظواهر والحقائق‪ ،‬ثم وصف العلج‬
‫بعد ذلك‪ ..‬والمر يحتاج إلى مصارحة‪ ،‬ووقوف على مواطن الداء‪..‬‬
‫ومما زاد من أهمية هذه الملحظة وإبراز دورها بين أهم‬
‫المشاهدات التي تبين إهمال المسلمين لهذا الجانب الحياتي من‬
‫العلوم وأنهم لم يعطوه حقه بالصورة الكافية‪ ،‬أنه ترتب عليها خشية‬
‫كثير من الطلب المتفوقين الذين ليست لهم وجهة إسلمية من‬
‫اللتزام أص ً‬
‫ل؛ وذلك لئل ُيصِبحوا مثل كثير من المثلة الدعوية‪ ،‬الذين‬
‫هم متردون دراسًيا ومتعثرون علمًيا‪..‬‬
‫وقد تحدثت كثيًرا مع بعض الشباب المتفوق دراسًيا ولكنه بعيد‬
‫عن آداب السلم وسلوكه‪ ،‬فكان يقبل كلمي عن السلم‪ ،‬وعلقته‬
‫ضه عليه‪ ،‬وتزكيته لهله‪ ..‬ولكن كان هذا القبول منه مجرد‬ ‫بالعلم‪ ،‬وح ّ‬
‫قبول نظري غير واقعي‪ .‬وقد رصدته وهو يقول لي بلسان الحال‪ ،‬أو‬
‫بلسان المقال‪ :‬إن هذه قواعد غير قابلة للتطبيق؛ لن ما أراه حقيقة‬
‫هو خلف ما تتحدث عنه!! وإل فكيف تفسر حصول الطلب‬
‫ب‬
‫السلميين على تقديرات متدنية‪ ،‬بينما يتصدر قائمة المتفوقين شبا ٌ‬
‫حا لحياتهم‪ ،‬بل قد يكونون من غير‬
‫جا واض ً‬
‫ل يضعون السلم منه ً‬
‫المسلمين أص ً‬
‫ل؟!‬
‫قا إلى وقفات!!‬
‫إنها معضلة تحتاج ح ً‬

‫الملحظة الثانية‪:‬‬
‫التقيت في أمريكا مع أحد العرب الدارسين هناك‪ ،‬وكنت‬
‫أتحدث في محاضرة عن أهمية علوم الحياة‪ ،‬وأهمية أن تكفل المة‬
‫السلمية نفسها في هذا المجال‪ ،‬بل وأهمية أن تقود غيرها‪ ،‬وأن‬
‫تصل إلى درجة التفوق والبداع‪..‬‬
‫ث عنها‪ ،‬ففوجئت بوجهة‬ ‫وبعد هذه المحاضرة دار بيني وبينه حدي ٌ‬
‫نظره في هذه القضية‪ ،‬والتي اكتشفت فيما بعد أنها ليست وجهة‬
‫نظر شخصية غير متكررة‪ ،‬بل هي وجهة نظر لها مؤيدون‪ ،‬ومن ورائها‬
‫مشجعون‪ ،‬والتي يرى فيها أن الله ‪ - ‬بفضله ورحمته ‪ -‬قد س ّ‬
‫خر‬
‫الكفار لخدمتنا‪ ،‬وأنه منحنا الموال الكافية لشراء النتاج العلمي‬
‫المجِهد الذي يقومون به!!‬
‫ومن أعظم نعم الله علينا ‪ -‬والكلم ما زال له ‪ -‬أنه وهبهم‬
‫العلم والتقنية المتطورة التي يصنعون بها كل ما نحتاجه نحن دون أن‬
‫نبذل أدنى مجهود‪ ،‬والحمد لله الذي فّرغ لنا الوقت للبحث في المور‬
‫الشرعية‪ ،‬وإتمام العبادات والنوافل‪ ،‬أو حتى في اللهو‪ ..‬ثم هم‬
‫يعملون لنا!!‬
‫مع ملحظة أن الرجل كان يتحدث عن هذا المنطق بحماسة‬
‫شديدة وبحمية ظاهرة‪ ،‬بل ويصّرح ‪ -‬بغرابة أشد ‪ -‬أن الله ‪ ‬قد‬
‫سخر لنا أمريكا واليابان والصين وألمانيا وروسيا وغيرهم ليكونوا‬
‫طوع إرادة المة السلمية‪ ،‬فيخترعون ويبتكرون كل ما نريده!!‬

‫ولعّله قد فاته أن يذكر أن الله قد سخر إسرائيل أي ً‬


‫ضا لخدمتنا‪،‬‬
‫عن طريق الحتلل باستخدام التقنية الحديثة والسلحة المتطورة!!‬
‫الملحظة الثالثة‪:‬‬
‫ل في فهم احتياجات المة السلمية‪ ،‬وطرق النفاق‬ ‫هناك خل ٌ‬
‫على وجوه الخير المختلفة‪ ،‬فتجد أن كثيًرا من أصحاب رؤوس‬
‫الموال قد ُينفقون على الفقراء والمساكين‪ ،‬ولكن ل ينفقون على‬
‫طلبة العلم‪ ،‬وبالذات المغتربين منهم‪ ،‬والذين يعانون معاناة شديدة‪،‬‬
‫ويحتاجون إلى تفرغ لجمع وتحصيل العلم‪..‬‬
‫ونجد أن بعض الثرياء ‪ -‬مثل ً ‪ -‬يتبعون العمرة بعمرات عديدة‪،‬‬
‫ما بعد عام‪ ،‬ثم هم ل يفكرون في إنفاق‬ ‫ومنهم من يوالون الحج عا ً‬
‫المال في حضور مؤتمرٍ علمي متخصص في مجال كالطب أو‬
‫الهندسة أو الفلك أو غيره‪ ،‬مما هو في مجال تخصصه وصميم عمله‪..‬‬
‫وقد تجد بعضهم يفكر في إنشاء معهد ٍ ديني أو دار تحفيظ‬
‫ة‬
‫للقرآن‪ ،‬ولكنه ل يفكر في إنشاء مركزٍ لتعليم الكمبيوتر‪ ،‬أو مكتب ٍ‬
‫علميةٍ حديثة‪ ،‬أو شبكة معلومات‪ ،‬أو جامعةٍ علميةٍ متخصصة‪..‬‬
‫بل إني رأيت كثيًرا من المسلمين في بلد الغرب يحرصون‬
‫على بناء مسجد ٍ في بلد ٍ قد يكون فيه عشرة مساجد أو يزيد‪ ،‬ولكنهم‬
‫ل يحرصون علي بناء مدرسةٍ في نفس البلد‪ ،‬رغم افتقارها إلى‬
‫مدرسةٍ واحدةٍ متخصصة!!‬
‫وهذا الخلل ‪ -‬ل شك ‪ -‬مرّده عدم فقهٍ لمفهوم العمل الخيري‬
‫في السلم؛ فالعمل الخيري عندهم مرتبط بالشعائر والعلوم‬
‫الشرعية فقط‪ ،‬أما أمور إعمار الرض وعلوم الحياة فهو مما يقع في‬
‫دا في الولويات‪ ،‬أو لعله ل يقع في الولويات أص ً‬
‫ل!!‬ ‫مرتبة متأخرة ج ً‬
‫الملحظة الرابعة‪:‬‬
‫شي المية بصورة كبيرة في بلدان العالم السلمي‪ ..‬وهو ما‬‫تف ّ‬
‫يعني غياب قضية العلم أص ً‬
‫ل‪ ،‬أو أنها ليست مطروحة بالمرة‪..‬‬
‫ففي مصر ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬وصلت نسبة المية في الفئة‬
‫فوق سن الخامسة عشرة ‪ %29.6‬وهذا يعني أن من بين كل عشرة‬
‫ة تقريًبا ل يعرفون القراءة ول الكتابة‪!!49‬‬
‫مصريين ثلث ً‬
‫ضا أن ما يقرب من ثلث المجتمع المصري الذي يقع‬ ‫ويعني أي ً‬
‫عليه واجب النتاج ل يقرأ ول يكتب‪ ..‬وخاصة ونحن نواكب عصر‬
‫الفضاء والقمار الصناعية والتكنولوجيا متناهية التعقيد‪!!..‬‬
‫ضا ‪ -‬فيما يعنيه ‪ -‬أن هذه النسبة الخطيرة ل‬
‫كما يعني ذلك أي ً‬
‫س المصحف الشريف‬ ‫تقرأ الجرائد ول تعرف المجلت‪ ..‬بل لم تم ّ‬
‫أص ً‬
‫ل‪!!..‬‬
‫ما الغريب‪ ،‬فحين نعلم أن هذه النسبة ليست بمعزل عّنا‪ ،‬وإنما‬ ‫أ ّ‬
‫تعيش بيننا وفي محيطنا‪ ،‬ومع ذلك فل تجد أهل الخير حريصين على‬
‫ما في‬ ‫تعليمهم أو النفاق على تعليمهم‪ ،‬وكأ القضية مهمشة تما ً‬
‫حياتنا!!‬
‫وحتى نعي خطورة وفداحة هذا الرقم‪ ،‬فيكفي أن نعلم أن نسبة‬
‫المية في إسرائيل تبلغ ‪ %2.9‬فيما فوق ‪ 15‬سنة‪!!50‬‬
‫وفي الفئة العمرية من سن ‪ 15‬إلى ‪ 24‬سنة‪ ،‬وهي فئة‬
‫الشباب‪ ،‬والتي هي أمل المة وعليها بناؤها‪ ،‬فتبلغ نسبة المية بينها‬

‫‪ 49‬تقرير التنمية البشرية الصادر عن هيئة المم المتحدة لعام ‪2006‬م‪ ،‬والمنشور على موقع‬
‫المنظمة على شبكة النترنت صفحة مصر‪ ،‬الرابط اللكتروني‬
‫‪http://hdr.undp.org/hdr2006/statistics/countries/data_sheets/cty_ds_EGY.html‬‬
‫‪ 50‬تقرير التنمية البشرية الصادر عن هيئة المم المتحدة لعام ‪2006‬م‪ ،‬والمنشور على موقع‬
‫المنظمة على شبكة النترنت‪ ،‬الرابط اللكتروني‬
‫‪http://hdr.undp.org/hdr2006/statistics/countries/data_sheets/cty_ds_ISR.html‬‬
‫في مصر ‪ %15.1‬في مقابل ‪ %0.2‬لسرائيل في نفس هذه‬
‫الفئة‪!!51..‬‬
‫ولبراز الصورة بشكل أوضح‪ ،‬فإن دولة مثل كوبا‪ ،‬والتي أنهكها‬
‫الفقر والحروب‪ ،‬تبلغ نسبة المية فيها في فئة الشباب من ‪ 15‬إلى‬
‫‪ 24‬سنة )صفًرا(!! أي ليس بها شاب ول فتاة ل يقرءون ول يكتبون‪،‬‬
‫وتبلغ نسبة المية في الكبار فيها ‪ % 0.2‬والتي هي في مصر ‪ -‬كما‬
‫مر بنا ‪.52 % 29.6 -‬‬
‫بل إنك لتعجب أشد العجب إذا علمت أن نسبة المية في نفس‬
‫هذه الفئة العمرية )فئة الشباب( في فلسطين المحتلة‪ ،‬في الضفة‬
‫الغربية وغزة‪ ،‬هي ‪ %0.9‬فقط‪ ،‬وذلك رغم الفقر والقهر والحصار‬
‫إليهودي‪ ،‬ورغم قتل الطفال والشباب والرجال والنساء‪ ،‬ورغم تهديم‬
‫ن ومدارس ومستشفيات وغيرها‪!!..53‬‬‫البنية التحتية من مبا ٍ‬
‫وليست كوبا الفقيرة ول فلسطين المحتلة وحدها في هذا‬
‫المجال‪ ،‬بل إن معظم دول أمريكا اللتينية الفقيرة مثل شيلي‬
‫والبرازيل‪ ،‬وحتى كولومبيا‪ ،‬تتخطى نسبة التعليم فيها حاجز ‪ % 97‬و‬
‫‪.54 %98‬‬
‫ونعني بذلك أنه ليس هناك من أعذار ول من مبررات للقعود‬
‫عن حل هذه المعضلة وإحداث التغيير المنشود‪ ،‬ول ينفع في ذلك‬
‫التحجج بالفقر أو الزمات القتصادية أو غيرها‪..‬‬
‫ومثل هذا ل ينطبق على مصر فقط‪ ،‬بل وعلى معظم البلدان‬
‫دا من النسبة في‬
‫السلمية الخرى؛ إذ أن نسبة المية فيها قريبة ج ً‬
‫مصر‪ ،‬بل وأحياًنا كثيرة تكون أعلى منها‪ ،‬وذلك كما في المغرب ‪ -‬مثل ً‬
‫‪ -‬حيث تبلغ نسبة المية فيها في فئة الشباب ‪ %30‬أي ضعف التي‬
‫في مصر‪ ،‬وفي فئة الكبار فتبلغ ‪ %48‬وهذه كارثة بكل‬
‫المقاييس‪!!55..‬‬

‫‪ 51‬نفس المصدر السابق‪.‬‬


‫‪ 52‬تقرير التنمية البشرية الصادر عن هيئة المم المتحدة لعام ‪2006‬م‪ ،‬والمنشور على موقع‬
‫المنظمة على شبكة النترنت‪،‬كوبا ‪ ،‬الرابط اللكتروني‬
‫‪http://hdr.undp.org/hdr2006/statistics/countries/data_sheets/cty_ds_CUB.html‬‬
‫‪ 53‬موقع الجهاز المركزي للحصاء الفلسطيني‪.‬‬
‫‪ 54‬تقرير التنمية البشرية الصادر عن هيئة المم المتحدة لعام ‪2006‬م‪ ،‬والمنشور على موقع‬
‫المنظمة على شبكة النترنت‪ ،‬الرابط اللكتروني‬
‫‪http://hdr.undp.org/hdr2006/statistics/indicators/20.html‬‬
‫‪ 55‬تقرير التنمية البشرية الصادر عن هيئة المم المتحدة لعام ‪2006‬م‪ ،‬والمنشور على موقع‬
‫المنظمة على شبكة النترنت‪ ،‬الرابط اللكتروني‬
‫‪http://hdr.undp.org/hdr2006/statistics/countries/data_sheets/cty_ds_MAR.html‬‬
‫ضا ‪ -‬كمثال للبلدان‬
‫وإذا جئنا إلى موقف الناث في مصر أي ً‬
‫السلمية ‪ -‬وجدنا أن نسبة المية بين بني جنسهن وصلت إلى ‪%41‬‬
‫في مقابل ‪ %4‬فقط لمثيلتهن في إسرائيل‪!!56‬‬
‫عا عما‬
‫ومثل هذه الحصائيات )انظر جدول رقم ‪ُ (1‬تعطي انطبا ً‬
‫ل‪ ،‬وكذلك البلدان السلمية‬ ‫يكون عليه المستقبل في مصر مث ً‬
‫الخرى‪ ،‬مع العلم بأن هذه النسبة من الشباب الذين ل يقرءون ول‬
‫يكتبون قلما تجدهم يعرفون قيمة العلم‪ ،‬ومن ثم ل يحرصون على‬
‫تعلمه‪ ،‬وفي الغلب العم لن يدفعوا أولدهم مستقبل ً إليه‪ ،‬وسيزداد‬
‫الوضع بالنسبة لهم سوًءا على سوء‪.‬‬
‫فعلى من ‪ -‬يا ُترى ‪ -‬تقع مسؤولية تعليم هؤلء الشباب؟! هل‬
‫ضا كباغين الخير‬
‫هي مسؤولية الحكومة وحدها؟! أم هي مسؤوليتنا أي ً‬
‫وساعين للصلح‪ ،‬وكمتطلعين إلى رفعة أمة السلم وعلو شأنها‪..‬؟!‬
‫إن تعليم مثل هؤلء القراءة والكتابة لهو من أبلغ وأهم مجالت‬
‫ب يحتاج لمزيد ٍ من الفكر والجهد‪ ،‬كما‬‫الدعوة إلى الله ‪ ،‬وهو با ٌ‬
‫ينتظر من أهل الخير أن ينفقوا عليه بسخاء‪ ،‬وذلك عن طريق كفالة‬
‫المعلمين الذين يقومون على تعليم هؤلء الميين‪ ،‬وإنها ‪ -‬والله ‪-‬‬
‫لنقلة نوعية للمة‪ ،‬يوم يتقن جميع أبنائها القراءة والكتابة‪ ،‬بل علوم‬
‫الدنيا والدين‪.‬‬
‫وقد يبدو لنا أن تعليم القراءة والكتابة أمر صعب قد يطول‬
‫حا بالمرة؛ وقد حكى لي‬ ‫وقته‪ ،‬وتتعدد جلساته‪ ،‬ولكن هذا ليس صحي ً‬
‫أحد من أعرفهم أنه جلس مع اثنين من حّراس العمارات في‬
‫المنطقة التي يقطنها‪ ،‬وفي خلل شهر واحد‪ ،‬بثمان لقاءات تقريًبا‬
‫لمدة تتراوح بين الساعة والساعتين‪ ،‬أصبحوا يتقنون اللغة العربية‬
‫قراءة وكتابة‪!!..‬‬
‫وأعتقد أن مثل هذا العمل متيسٌر للجميع‪ ..‬لمن أراد الثواب‪،‬‬
‫ولمن أراد الخير والصلح لهذه المة‪..‬‬
‫الملحظة الخامسة‪:‬‬
‫دا‪ ،‬ظاهرة هجرة‬
‫قا والمحزنة ج ً‬
‫من الملحظات المزعجة ح ً‬
‫العقول السلمية إلى الغرب‪ ،‬فيما ُيعَرف بظاهرة "استنزاف العقول"‬
‫أو "‪ ،"Brain Drain‬فالمم الغربية بصفة عامة ‪ -‬وأمريكا بصفة خاصة ‪-‬‬
‫تحرص على استقطاب العقول المفكرة والمبدعة علمًيا من شتي‬
‫بقاع الرض‪ ،‬ومنها ‪ -‬بالطبع ‪ -‬بلد المسلمين‪..‬‬

‫تقرير التنمية البشرية الصادر عن هيئة المم المتحدة لعام ‪2006‬م‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪.‬‬ ‫‪56‬‬
‫وليس أدل على ذلك من أن أمريكا قد أعطت في التسعينات‬
‫‪ 12‬مليون مهاجر من شتي أنحاء العالم تأشيرة هجرة إليها‪ ،‬ولم تكن‬
‫هذه التأشيرة مجرد تأشيرة سفر‪ ،‬فقد كانوا يعطونهم الجنسية‬
‫المريكية‪ ،‬وفوقها ضمانات هائلة‪ ،‬وإغراءات مادية عالية‪ ،‬بحيث يذوب‬
‫ة عن أصوله‬ ‫ما في المجتمع المريكي‪ ،‬وينقطع كلي ً‬ ‫المهاجر تما ً‬
‫وجذوره التي انحدر منها ‪..‬‬
‫‪57‬‬

‫وموضوع استقطاب العقول هذا له أولوية خاصة في القرارات‬


‫دل في سنة ‪1995‬م‬ ‫المريكية‪ ،‬حتى إن قانون الهجرة المريكية ع ُ ّ‬
‫ليعطي أولوية الهجرة لصحاب العقول المفكرة والمبدعة‪ ،‬ويكفي أن‬
‫نشير إلى أن أمريكا خصصت في سنة ‪2003‬م مائتي ألف تأشيرة‬
‫لستقطاب مهارات في مجالت علمية معينة‪ ،‬منها مائة ألف تأشيرة‬
‫لستقطاب مبرمجي كمبيوتر من الهند‪ ،‬وذلك عندما ظهر التفوق‬
‫الهندي في هذا المجال في السنوات الخيرة‪ ،‬مع أن الظاهر للعيان‬
‫أن التفوق المريكي في مجال الكمبيوتر ُيعد ّ تفوًقا ملحو ً‬
‫ظا‪!!58‬‬
‫وهذا إن دل على شيٍء فإنما يدل على أنهم ل يبحثون عن‬
‫مجرد التواجد أو السيادة بفارق بسيط‪ ،‬وإنما يبحثون عن السيادة‬
‫بفارق هائل وحاسم‪ ،‬كما أن هذا الستقطاب لن يقوي أمريكا فقط‪،‬‬
‫بل سيعمل على إضعاف الهند التي ستفقد مائة ألف متخصص جملة‬
‫واحدة!!‬
‫وبنظرة متفحصة في ظاهرة هجرة العقول العربية السلمية‬
‫إلى الغرب‪ ،‬تجد ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬أن ‪ %50‬من الطباء العرب‬
‫المسلمين يهاجرون إلى أمريكا وأوروبا هجرة نهائية‪ ،‬ليصبحوا بذلك‬
‫ركًنا أساسًيا في نهضة المشروع المريكي الوروبي الطبي‪ ،‬بينما‬
‫ينزوي المشروع السلمي مع مرور الوقت‪ ..‬وليس هذا في مجال‬
‫الطب فقط؛ فالحصائيات تقول‪ :‬إن ‪ %23‬من المهندسين و ‪%15‬‬
‫من العلماء من مجموع الكفاءات العربية المتخرجة يهاجرون‬
‫متوجهين إلى أوروبا والوليات المتحدة‪ ،‬وكندا بوجه خاص‪ ،‬بل إن في‬
‫بريطانيا وحدها تبلغ نسبة الطباء من أصول عربية ‪ %34‬من مجموع‬
‫الطباء هناك‪!!59‬‬
‫وقد أثبتت دراسة أجريت على الطلب العرب الذين يسافرون‬
‫لتحصيل العلم من أوروبا وأمريكا أن ‪ %54‬منهم ل يعودون إلى‬

‫‪ 57‬موقع البلغ‪ :‬مقال بعنوان‪ :‬العقول المهاجرة بين الستنزاف والستثمار‪ ،‬الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.balagh.com/thaqafa/320t3zh0.htm‬‬
‫‪ 58‬راجع في ذلك مقال بعنوان‪" :‬العقول المهاجرة بين الستنزاف والستثمار"‪ ،‬منشور على‬
‫شبكة"بلغ"‪.‬‬
‫‪ 59‬مجلة البرلماني العربي‪ ،‬السنة الثانية والعشرون‪ ،‬العدد الثاني والثمانون‪ ،‬ديسمبر ‪:2001‬‬
‫مذكرة المانة العامة حول جوهر الدمغة العربية‪ ،‬الرابط‪http://www.arab- :‬‬
‫‪ipu.org/publications/journal/v82/memobrain.html‬‬
‫بلدهم!! وبهذا وصل عدد العرب الذين يستقرون في أوروبا وأمريكا‬
‫من حملة الشهادات المؤهلة العليا حتى سنة ‪ 2000‬إلى ‪ 450‬ألف‬
‫عربي‪!!60‬‬
‫مع ملحظة أن كل الحصائيات السابقة على العرب وليست‬
‫على عموم المسلمين‪ ،‬مع أن العرب ل يمثلون أكثر من خمس العالم‬
‫السلمي‪ .‬فإذا أضفت المسلمين غير العرب فإن الحصائيات ستصل‬
‫‪ -‬بل شك ‪ -‬إلى أرقام مفزعة‪ ،‬وبالخص إذا كان هناك دول إسلمية‬
‫غير عربية اشتهر أبناؤها بالهجرة إلى أوروبا وأمريكا بصورة لفتة‪،‬‬
‫وذلك مثل باكستان والهند وإندونيسيا وتركيا ونيجيريا وغيرها‪..‬‬
‫ويكفي للدللة على ذلك أن نيجيريا ‪ -‬على سبيل المثال ‪-‬‬
‫درت بمفردها إلى الن إلى أمريكا فقط أكثر من ‪ 21‬ألف طبيب‬ ‫ص ّ‬
‫نيجيري‪ ،‬وذلك على مدار السنوات السابقة !!‬
‫‪61‬‬

‫والوضع في قارة أفريقيا بصفة عامة مشابه للوضع في بلد‬


‫العالم السلمي‪ ،‬وخاصة وأن كثيًرا من بلدانها هي بلد إسلمية أو بها‬
‫نسبة عالية من المسلمين‪ ،‬وذلك كما في الصومال والنيجر ومإلى‬
‫وتشاد وأوغندا وسيراليون وغيرها‪..‬‬
‫فأفريقيا تصدر سنوًيا ‪ 20‬ألف مهاجرٍ متعلم ٍ إلى أوروبا وأمريكا‪،‬‬
‫ثم بعد ذلك تدفع ‪ 4‬مليار دولر سنوًيا؛ كأجورٍ لجانب وخبرات علمية‬
‫دمة؛ لسد الثغرات التي خّلفها غياب هؤلء العلماء الفارقة‬ ‫مستق َ‬
‫المهاجرين !!‬
‫‪62‬‬

‫ما في‬
‫وهذه الحصائيات كلها في الظروف الطبيعية العادية‪ ،‬أ ّ‬
‫حال الكوارث أو الحروب أو الفتنة أو غيرها‪ ،‬فإن الرقام تكون أبشع‬
‫من ذلك‪..‬‬
‫فالعراق مثل ً تنزف من عقولها وعلمائها ما ل ُيتخيل‪ ،‬وهناك في‬
‫بريطانيا أكثر من ‪ 2000‬طبيب عراقي!! وتتضح حجم الخسارة إذا‬
‫علمنا أن الطبيب العراقي كان يكلف دولته في السبعينات أكثر من‬
‫‪ 45‬ألف دولر‪ ..‬فخسارة أكثر من ‪ 2000‬طبيب عراقي إذن ‪-‬‬
‫وبحساب السبعينات ‪ -‬تعني خسارة ‪ 100‬مليون دولر!! وهذا‬
‫بالضافة إلى الخسارة العلمية الناتجة عن فقد هؤلء العلماء‪،‬‬
‫‪ 60‬مجلة البرلماني العربي‪ ،‬السنة الثانية والعشرون‪ ،‬العدد الثاني والثمانون‪ ،‬ديسمبر ‪:2001‬‬
‫مذكرة المانة العامة حول جوهر الدمغة العربية‪ ،‬الرابط‪http://www.arab- :‬‬
‫‪ipu.org/publications/journal/v82/memobrain.html‬‬
‫‪61‬‬
‫موقع القنطرة‪ :‬مقال بعنوان‪ :‬هجرة العقققول سققلبيات وإيجابيققات ظققاهرة الهجققرة‪ ،‬الرابققط‪:‬‬
‫?‪http://www.quantara.de/webcom/show_article.php/_c-471/_nr-158/_p-1/i.html‬‬
‫‪PHPSESSID=133099777‬‬
‫‪ 62‬شبكة المشكاة السلمية‪ :‬إدريس جالو‪ :‬مقال بعنوان‪ :‬هجرة االعقول الفريقية الثار‬
‫والحلول‪ ،‬الرابط‪http://www.meshkat.net/new/contents.php?catid=6&artid=7717 :‬‬
‫قد من يعالج مرضى‬
‫وبالضافة إلى الخسارة الصحية الناجمة عن ف ْ‬
‫الدولة‪..63‬‬
‫والوضع ليس أفضل حال ً بالنسبة إلى فلسطين ولبنان‬
‫والسودان‪ ..‬وكل بلد ٍ مر بحروب شديدة أو فتنة متكررة‪ ،‬وإن كان‬
‫ما على كل بلد المسلمين كما ذكرنا‪.‬‬‫المر عا ً‬
‫الملحظة السادسة‪:‬‬
‫مع كل المعوقات التي تواجهها أمتنا للخروج من مأزق التخلف‬
‫العلمي‪ ،‬إل أن العذار لستمرار هذا التخلف غير مقبولة؛ وذلك لننا‬
‫نرى دول ً أخرى غير إسلمية مرت بنفس ظروف أمتنا أو أشد‪ ،‬ثم هي‬
‫ف الدول المتقدمة‬‫تخرج من كبوتها وأزمتها‪ ،‬وترتفع إلى مصا ّ‬
‫والمؤثرة في العالم‪..‬‬
‫والمثلة على ذلك كثيرة ومتكررة‪ ،‬فهناك ‪ -‬على سبيل المثال ‪-‬‬
‫اليابان التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية في الخروج من الزمة‬
‫ضا في الحرب‬ ‫الرهيبة التي عصفت بها‪ ،‬وهناك ألمانيا التي أبيدت أي ً‬
‫العالمية الثانية‪ ،‬وهناك كوريا الجنوبية التي لم تظهر على الساحة‬
‫العالمية إل منذ سنوات معدودات‪ ،‬وهناك كوريا الشمإلية التي‬
‫استطاعت أن تصنع السلح النووي مع كل المعوقات التي تمر بها‪..‬‬
‫س سكاني رهيب‪ ،‬فإنها‬ ‫بل هناك الهند‪ ،‬مع كل ما تعانيه من فقرٍ وتكد ّ ٍ‬
‫قد استطاعت أن ُتصّنع السلح النووي‪ ،‬واستطاعت كذلك أن تنبغ‬
‫وتبرز في مجال الكمبيوتر‪ ،‬بل وتصبح من الدول الولى المرموقة في‬
‫هذا المجال في العالم‪ .‬ويكفي في التدليل على ذلك ملحظة‬
‫المعدلت المتنامية لصادراتها في مجال برامج الكمبيوتر فقد بلغت‬
‫صادرتها نحو ‪ 23.71‬مليار دولر في ‪2006 – 2005‬م مقارنة بق‬
‫جل صادرات الهند في‬ ‫‪ 17.21‬مليار دولر في ‪ ،2005 - 2004‬وتس ّ‬
‫ل‪ ،‬ففي الفتره ما بين‬ ‫وا هائ ً‬
‫قطاع تكنولوجيا المعلومات سنوًيا نم ً‬
‫عامي ‪ 2006 - 2005‬سجل حجم الصادرات الهندية في هذا القطاع‬
‫وا بنسبة ‪ %37.77‬مقارنه بالفترة ما بين ‪.642005 - 2004‬‬ ‫نم ً‬
‫ومع أن المعوقات أمام الدول السلمية قد تكون أشد‪ ،‬إل أن‬
‫هذا ليس مبرًرا لقبول مبدأ التخلف العلمي؛ فإنه إذا أرادت دولة‬
‫ما ستصل‪،‬‬ ‫إسلمية أن تصل إلى مستوي علمي لئق فإنها حت ً‬
‫والسباب متاحة للجميع‪ ،‬وليس أدل على ذلك من المثال المإليزي‪..‬‬

‫‪ 63‬موقع البلغ‪ :‬مقال بعنوان‪ :‬العقول المهاجرة بين الستنزاف والستثمار‪ ،‬الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.balagh.com/thaqafa/320t3zh0.htm‬‬
‫‪ 64‬مجلة البيان‪ :‬العدد )‪ (9842‬السنة السابعة والعشرون‪ ،‬الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.albayan.ae/servlet/Satellite?c=Article&cid=1161352119791&pagename=Albayan‬‬
‫‪%2FArticle%2FFullDetail‬‬
‫فدولة ماليزيا السلمية تتقدم اليوم بخطوات ثابتة رصينة في طريق‬
‫ما بعد يوم مع كل المعوقات التي تمر بها‪..‬‬
‫العلم‪ ،‬وترتقي يو ً‬
‫وهذه التجربة الماليزية تحتاج إلى دراسة متأنية؛ لنها بالفعل‬
‫تفتح أبواب المل أمام عموم المسلمين‪ ،‬وسنتعرض لها في نهاية‬
‫الكتاب بإذن الله‪..‬‬
‫الملحظة السابعة‪:‬‬
‫من الملحظات السلبية والخطيرة كذلك والتي تدل على إهمال‬
‫المسلمين لعلوم الحياة‪ ..‬قضية "النفاق على العلم والبحوث‬
‫العلمية"‪..‬‬
‫فقد أورد تقرير التنمية البشرية الصادر عن منظمة‬
‫دا يقيس مدى اهتمام دول العالم‬ ‫المم المتحدة لعام ‪2006‬م‪ ،‬بن ً‬
‫المختلفة بقضايا العلم‪ ،‬ويحدد ذلك بنسبة ما تنفقه الدولة على البحث‬
‫العلمي من جملة ناتجها القومي كل عام‪..‬‬
‫وفي هذا التقرير لن نقارن الدول السلمية بالدول الصناعية‬
‫الكبرى‪ ،‬مثل أمريكا واليابان والصين وفرنسا وألمانيا وإنجلترا‬
‫وغيرها‪ ,‬وإن كان يجب أن نقارن أنفسنا بهؤلء لنصل إلى ما وصلوا‬
‫إليه‪ ،‬بل ولنسبقهم إن شاء الله‪ ..‬ولكننا سنقارن بدولة لقيطة ليس‬
‫لها جذور حقيقية‪ ،‬ول تملك من القيم ما يدفعها للصدارة‪ ،‬كما أنها‬
‫قامت على أرض مضطربة مليئة بكثير من المشكلت والصعوبات‬
‫والمعوقات‪ ،‬وتلك الدولة هي إسرائيل!!‬
‫فإسرائيل تنفق ‪ %4.9‬من ناتجها القومي على العلم‬
‫والنجازات التقنية‪ ،‬وت ُعَد ّ هذه أعلى نسبة إنفاق في العالم على العلم‪،‬‬
‫ويفوق في ذات الوقت ما تخصصه كل الدول العربية مجتمعة بنحو‬
‫ثلث مرات ونصف‪ !!65‬وهي بهذا الكم من النفاق تستطيع أن تصل‬
‫إلى مستوى الدول المصّنعة والمبتكرة‪ ،‬بل وتفوقها‪ ،‬وبالفعل فقد‬
‫أصبح لها رصيد محترم من الختراعات والضافات‪ ،‬وفي أكثر من‬
‫مجال‪ ،‬سواء في العلوم العسكرية‪ ،‬أو علوم الفضاء‪ ،‬أو علوم الذرة‪،‬‬
‫أو العلوم الطبية‪ ،‬وكذلك باقي مجالت التصنيع المختلفة‪..‬‬
‫فالعلم يقع في بؤرة اهتمامها‪ ،‬ولذلك وصلت إلى مستوى‬
‫متميز‪ ،‬وإلى مكانة مرموقة‪.‬‬
‫أما إذا نظرت إلى الدول السلمية‪ ،‬فإنك ‪ -‬وللسف الشديد ‪-‬‬
‫تفاجئ بأن قضايا النجاز العلمي والتقني والبتكارات ل تقع في بؤرة‬

‫‪ 65‬تقرير التنمية البشرية الصادر عن هيئة المم المتحدة لعام ‪2006‬م‪،‬صفحة إسرائيل‪ ،‬الرابط‬
‫اللكتروني ‪http://hdr.undp.org/hdr2006/statistics/countries/data_sheets/cty_ds_ISR.html‬‬
‫الهتمام‪ ،‬ول ينفق عليها من الناتج القومي إل النذر اليسير‪ ،‬مع أنه إذا‬
‫زاد الهتمام بالعلم فإن ذلك سيساعد على تقدم الصناعة والزراعة‬
‫والقتصاد والتصدير‪ ،‬وكافة المجالت الخرى‪ ،‬وهذا ‪ -‬من وجهة نظر‬
‫مادية بحتة ‪ -‬سيقدم المة للمام خطوات وخطوات‪ ،‬وسيصب في‬
‫ضا سياسًيا وعسكرًيا‪..‬‬‫قوتها‪ ،‬ليس علمًيا واقتصادًيا فحسب‪ ،‬وإنما أي ً‬
‫ولكن ‪ -‬وعلى ما يبدو ‪ -‬فإن القضية ل تشغل أذهان المسئولين‬
‫عن هذه المة الضخمة!!‬
‫فيذكر تقرير المم المتحدة أن مصر ‪ -‬مثل ً ‪ -‬تنفق ‪ %0.2‬من‬
‫ناتجها القومي على العلم والنجاز التقني‪ ،‬أي أن نسبة إنفاق إسرائيل‬
‫على العلم ضعف نسبة إنفاق مصر ما يقرب من ‪ 25‬مرة‪!!66‬‬
‫وعليه فل يشك أحد أن التميز إليهودي في مجال العلوم‬
‫سيكون ضعف التميز المصري ‪ 25‬مرة‪ ..‬وهذه سنة ماضية‪ ,‬فالذي‬
‫يبذل في الدنيا لبد أن يصل إلى ما يريده‪ ،‬كما لبد لتحقيق نتائج‬
‫معينة أن ُتبذل أسباب بذاتها‪ ،‬حتى لو كان هذا الذي يبذل كافر ملحد‪..‬‬
‫م‬
‫ه ْ‬
‫ف إلي ِ‬
‫و ّ‬‫ها ن ُ َ‬
‫زين َت َ َ‬
‫و ِ‬
‫حَياةَ الدّن َْيا َ‬‫ريدُ ال ْ َ‬‫ن يُ ِ‬ ‫ن َ‬
‫كا َ‬ ‫م ْ‬‫يقول تعإلي‪َ  :‬‬
‫ن‪. ‬‬
‫‪67‬‬
‫سو َ‬‫خ ُ‬ ‫ها َل ي ُب ْ َ‬‫في َ‬‫م ِ‬‫ه ْ‬
‫و ُ‬‫ها َ‬‫في َ‬
‫م ِ‬ ‫مال َ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫أَ ْ‬
‫ع َ‬
‫وعن بقية البلدان العربية‪ ،‬فإن حالها ل يختلف كثيًرا عن أحوال‬
‫مصر في مجال النفاق على العلوم والتقنية‪ ،‬وهي تحوم حول نفس‬
‫النسبة تقريبا‪..‬‬
‫فهذا الردن ينفق ‪ %0.3‬من الدخل القومي على العلم‪،‬‬
‫وتونس كذلك‪ ،‬وسوريا تقل لتصل إلى ‪ %0.2‬من جملة دخلها‬
‫القومي‪ .‬وتعد المارات أعلى الدول العربية من حيث النفاق على‬
‫العلم؛ إذ يصل نسبة إنفاقها ‪ %0.6‬من دخلها القومي‪ ،68‬ومع أنها‬
‫أعلى الدول العربية إل أن المسافة بينها وبين إسرائيل مازالت‬
‫شاسعة‪..‬‬
‫وفي غير قضايا النفاق على البحاث العلمية‪ ،‬وبما يعبر عن‬
‫المدى الذي وصل إليه المستوى العلمي في الدول السلمية مقارنة‬
‫بإسرائيل‪ ،‬فقد كشف تقريٌر صادٌر عن هيئة المم المتحدة عن حقيقة‬
‫الفجوة التكنولوجية والعلمية بين العرب وإسرائيل‪ ،‬والتي تجسد‬
‫تفوًقا علمّيا وتكنولوجًيا إسرائيلًيا ساح ً‬
‫قا‪..‬‬

‫‪ 66‬تقرير التنمية البشرية الصادر عن هيئة المم المتحدة لعام ‪2006‬م صفحة مصر‪ ،‬الرابط‬
‫اللكتروني ‪http://hdr.undp.org/hdr2006/statistics/countries/data_sheets/cty_ds_EGY.html‬‬
‫‪) 67‬هود‪.(15 :‬‬
‫‪ 68‬تقرير التنمية البشرية الصادر عن هيئة المم المتحدة لعام ‪2006‬م صفحة كل البلدان‪،‬‬
‫الرابط اللكتروني ‪http://hdr.undp.org/hdr2006/statistics/indicators/20.html‬‬
‫ففي حين يذكر التقرير أن لكل ‪ 1000‬مواطن إسرائيلي ‪217‬‬
‫جهاز كمبيوتر‪ ،‬يذكر أن في الردن ‪ 52‬جهاًزا لكل ألف أردني‪ ،‬وفي‬
‫لبنان ‪ 39‬جهاًزا لكل ألف لبناني‪ ،‬وفي مصر ‪ 9‬أجهزة لكل ألف‬
‫مواطن مصري‪!!69..‬‬
‫وبالنسبة لعدد الباحثين العلميين في العالم العربي مجتمًعا‪ ،‬فإن‬
‫ضا إلى أن لكل مليون مواطن عربي ‪ 136‬باحًثا‪ ،‬في‬ ‫التقرير ُيشير أي ً‬
‫حين أن في إسرائيل ‪ 1613‬باحًثا لكل مليون يهودي يعيش في‬
‫إسرائيل‪!!70‬‬

‫وإذا أردنا التوسع في ذكر أمثلة أخرى‪ ،‬فإن في أمريكا ‪4374‬‬


‫باحًثا لكل مليون مواطن أمريكي‪ ،‬وفي اليابان ‪ 5000‬باحث علمي‬
‫لكل مليون مواطن ياباني‪..71‬‬
‫أما بالنسبة إلى نصيب المواطن في الدولة من النفاق على‬
‫التعليم‪ ،‬فهو ‪ -‬حسب إحصائيات نفس التقرير ‪ -‬في إسرائيل ‪922‬‬
‫دولر سنوًيا‪ ،‬والمواطن المريكي يصرف عليه ‪ 1005‬دولر‬
‫سنوًيا‪ ،‬أما المواطن المصري فنصيبه ‪ 6‬دولر سنوًيا!!‬
‫والجدول رقم )‪ (2‬يوضح دارسي العلوم الطبيعية والعلماء‬
‫والمهندسين‪ ،‬وإنتاجهم من البحوث العلمية‪ ،‬والنفاق على البحث‬
‫والتطوير العلميين في الدول العربية ودول مختارة‪ ،‬مقارنة‬
‫بالمتوسط العالمي‪.‬‬
‫ذر البلد العربية والسلمية بفقرٍ أو بضيق في ذات إليد‪،‬‬ ‫ول ُتع َ‬
‫ويكفي في ذلك أن نعرف أن واحدة من هذه الدول التي تشكو‬
‫معاناة الفقر والتكدس السكاني‪ُ ،‬تنفق المليين والمليين على أمور‬
‫ليست من الولويات في شيء‪ ..‬وقد رأينا مؤسسة علمية ضخمة في‬
‫مصر تنفق ‪ 15‬مليون جنيه مصري على تجميل السور المحيط بها‪،‬‬
‫دا إنفاق ألف أو ألفين جنيه مصري على مشروع بحثي‬ ‫بينما يصعب ج ً‬
‫ضا من يكلف تأسيس مكتب مدير مؤسسة علمية‬ ‫مفيد!! ورأينا أي ً‬
‫مئات اللف من الجنيهات‪ ،‬بينما يتردد هذا المدير في الموافقة على‬
‫مكافأة بسيطة لعالم ٍ كادح!!‬
‫فالمكانيات متاحة والموال موجودة‪ ..‬لكن المشكلة تكمن في‬
‫ترتيب الولويات‪ ،‬وفي فقه الواقع‪ ،‬وفي الضمير‪ ،‬وفي تقديم المصالح‬
‫الخاصة على المصالح العامة‪ ،‬وفي ضعف العتقاد في أهمية العلم‪..‬‬

‫تقرير التنمية البشرية الصادر عن هيئة المم المتحدة لعام ‪2006‬م‪.‬‬ ‫‪69‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.‬‬ ‫‪70‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.‬‬ ‫‪71‬‬


‫وخلصة هذه الملحظة أن قضية العلم لم تقع بعد ُ في بؤرة‬
‫الهتمام في العالم العربي والسلمي‪ ،‬وكان هذا ‪ -‬ول شك ‪ -‬أحد أهم‬
‫السباب المباشرة لحالة التخلف والتردي التي تمر بها المة‪ ،‬والمر‬
‫يحتاج إلى وقفات‪..‬‬
‫الملحظة الثامنة‪:‬‬
‫نظًرا للهمية القصوى للعلم‪ ،‬ونظًرا للهتمام بأبحاثه والتطلع‬
‫إلى كل جديد فيه‪ ،‬وأهمية أن تضع الدولة في مخططاتها المستقبلية‬
‫سبل الرتقاء به وتنميته؛ فإن المم المتحدة ‪ -‬كما جاء في تقرير‬
‫التنمية البشرية لسنة ‪2001‬م ‪ُ -‬تقسم العالم بحسب النجاز التقني‬
‫إلى خمس فئات‪ ،‬وأولى هذه الفئات هي مجموعة القادة‪ ،‬ثم القادة‬
‫المحتملون‪ ،‬ثم النشطون‪ ،‬ثم المهمشون‪ ،‬وأخيرا‪ :‬الخرون‪..‬‬
‫وقد أظهر هذا التصنيف خلل ً كبيًرا في عالمنا السلمي!!‬
‫فالفئة الولى وهي مجموعة القادة ضمت ‪ 18‬دولة‪ ،‬ليس من‬
‫بينهم دولة إسلمية واحدة‪ ..‬بينما تقع إسرائيل ضمن هذه الفئة‬
‫الولى!!‬
‫مت ‪ -‬فيما‬‫أما الفئة الثانية وهي القادة المحَتملون‪ ،‬فقد ض ّ‬
‫مته ‪ -‬دولة إسلمية واحدة هي ماليزيا‪ ،‬بينما تقع مصر وإندونيسيا‬ ‫ض ّ‬
‫وتونس وسوريا والجزائر وإيران في فئة النشطين‪ ،‬أما بقية الدول‬
‫العربية والسلمية فتقع في طائفة المهمشين والخرين‪ ،‬والذين لم‬
‫قا‪..‬‬
‫يضعوا قضية العلم في حساباتهم مطل ً‬
‫والجدير بالذكر أن بعض هذه الدول السلمية تتميز بمستوى‬
‫مرتفع في المعيشة‪ ،‬بل وارتفاع في معدلت التنمية‪ ،‬لكن – وللسف‬
‫‪ -‬ليس لها اهتمام ُيذ َ‬
‫كر بالنجازات التقنية‪.‬‬
‫وعند النظر إلى الدول القادة أو تلك التي يحتمل أن تصبح‬
‫قادة‪ ،‬تدرك ولول وهلة إلى أي مدى وضعت هذه الدول البحث‬
‫العلمي في أولى حساباتها‪ ،‬وكيف كّرست جهوًدا مضنية للوصول إلى‬
‫هذه المكانة المرموقة التي تبوأتها‪..‬‬
‫فعلى سبيل المثال فإن رجال الصناعة في مجالت التصالت‬
‫والمعلومات‪ ،‬وفي مجالت تصنيع الخشاب في دولة مثل فنلندا ‪-‬‬
‫وهي دولة تتفوق في هذه المجالت ‪ -‬يخصصون ‪ %20‬من أوقاتهم‬
‫لتوريث الخبرة إلى طلب الجامعات الفنلدنية‪ ..‬وبذلك تستمر الدولة‬
‫في طريقها نحو التفوق‪ ،‬ويبدأ فيها الطلب من حيث انتهى العلماء‪،‬‬
‫وتستطيع الدولة أن تحافظ على مكانتها العلمية‪ ،‬بل تتقدم وتسبق‪..‬‬
‫وفي دولة مثل الصين تجد أن الجامعات الحكومية تدعم‬
‫مجالت البحث العلمي‪ ،‬ليس فقط في المشروعات الحكومية‪ ،‬وإنما‬
‫ضا لصالح المؤسسات الصناعية في القطاع الخاص‪ ،‬وذلك‬ ‫تدعمه أي ً‬
‫مثل تحديث الصناعات البتروكيماوية‪ ،‬وتحسين النشطة التقليدية في‬
‫مجال الزراعة‪ ،‬وغيرها‪..‬‬
‫وهكذا تساعد الجامعات الحكومية في الصين عموم الشعب‬
‫لكي يبدع في مجالت العلوم والتقنية‪ ،‬ول غرو إذن في أن تصل‬
‫الصين إلى هذه المكانة المتقدمة التي احتلتها بين دول العالم‪..‬‬
‫دا في مجال‬ ‫وهذه كوريا الجنوبية‪ ..‬تجدها تقفز خطوات كبيرة ج ً‬
‫العلوم والتقنية الحديثة‪ ،‬بل وتنافس الن دول العالم الكبرى‪ ..‬فإذا‬
‫راجعت برامجها وقوانينها تجد أنها ‪ -‬مثل ً ‪ُ -‬تقدم تسهيلت ضريبية‬
‫كبيرة للشركات التي تساهم في مشروعات البحث العلمي‪ ،‬كما تجد‬
‫أنها تمد هذه الشركات بالكفاءات العلمية التي تساعدها على إتمام‬
‫مشروعاتها العلمية‪ ،‬وبالطبع فإن الفائدة في النهاية تعود على الدولة‬
‫ككل‪..72‬‬

‫‪ 72‬مركز الهرام للدراسات السياسية والستراتيجية‪ :‬تقرير التجاهات القتصادية الستراتيجية‪،‬‬


‫‪2001‬م‪ ،‬الرابط ‪.http://www.ahram.org.eg/acpss/ahram/2001/1/1/ECON8.HTM‬‬
‫الملحظة التاسعة‪:‬‬
‫وضع وترتيب الجامعات السلمية على مستوى العالم‪..‬‬
‫فالطبيعي أن تقدم دول العالم ُيقاس اليوم بقدر إسهامها في بناء‬
‫الحضارة النسانية وتقدم العلوم‪ ,‬وهو دوٌر ل تقوم به إل الجامعات‬
‫العلمية في تلك الدول‪..‬‬
‫وعلى هذا الساس فقد نشر معهد التعليم العإلى في جامعة‬
‫جياو تونج في شنغهاي بالصين )‪Institute of Higher Education, Shanghai Jiao Tong‬‬
‫صل حول ترتيب ومكانة أفضل خمسمائة‬ ‫‪ (University‬تقريًرا تقييمّيا مف ّ‬
‫جامعة في العالم في سنة ‪2004‬م‪ ،‬وتله تقرير سنة ‪2005‬م‪ ،‬ثم‬
‫تقرير سنة ‪2006‬م‪.73‬‬
‫وهذه التقارير تبرز بوضوح تلك الفجوة الهائلة في مجالت‬
‫البحث العلمي والهتمام بالنجازات التقنية بين دول العالم السلمي‬
‫ودول العالم الخرى‪..‬‬
‫وبداية فإني لست مع من ُيشكك في مصداقية أي من هذه‬
‫طلعت عليها فكانت‬ ‫التقارير‪ ،‬أو الدعاء بأنها غير موضوعية‪ ،‬وقد ا ّ‬
‫عا بأن هناك دقة في المعايير‪..‬‬‫النتائج جد متقاربة‪ ،‬مما يعطي انطبا ً‬
‫وهذا بالضافة إلى مطابقة نتائجها للواقع الذي نحياه‪..‬‬
‫ومما يعطي المصداقية أن تصنيف جامعة شنغهاي هذا استند‬
‫إلى أربعة معايير علمية وموضوعية‪ ،‬يشهد بها كافة الكاديميين في‬
‫العالم‪ ،‬كما يستند إلى عدد من المؤشرات أو وحدات القياس في كل‬
‫معيار‪ ،‬ويخصص لكل من تلك المؤشرات نسًبا مئوية حصيلتها ‪100‬‬
‫علمة‪ ،‬وتلك المعايير والمؤشرات هي‪:74‬‬
‫‪ -1‬معيار جودة التعليم‪ :‬المؤشر‪" :‬خريجو المؤسسة الجامعية‪،‬‬
‫والحائزون على جوائز نوبل منها أو ميداليات في مجال تخصصهم‪،‬‬
‫ونسبته ‪."%10‬‬
‫‪ -2‬معيار جودة الكلية أو المعهد‪ :‬المؤشر‪" :‬الجهاز البشري‬
‫العلمي في المؤسسة‪ ،‬والحائزون على جوائز نوبل والميداليات في‬
‫التخصص منها‪ ،‬ونسبته ‪ %20‬والمؤشر‪" :‬الباحثون رفيعو المستوى‬
‫لديها في ‪ 21‬فئة من الموضوعات العلمية الرئيسية‪ ،‬ونسبته ‪."%20‬‬

‫‪ 73‬نشر ترتيب الجامعات على موقع الكتروني يتبع جامعة شنغهاي‪ ،‬وذلك على شبكة النترنت‪،‬‬
‫الرابط اللكتروني ‪http://ed.sjtu.edu.cn/ranking.htm‬‬
‫‪ 74‬نفس المرجع السابق‪ ،‬وفي صفحة خاصة بقواعد التفضيل بين الجامعات‪ ،‬الرابط اللكتروني‪،‬‬
‫‪http://ed.sjtu.edu.cn/rank/2004/Methodology.htm‬‬
‫‪ -3‬معيار مخرجات البحاث العلمية‪ :‬والمؤشر‪" :‬المقالت‬
‫المنشورة من قبلها في فهرس علوم الطبيعة والعلوم الساسية‪،‬‬
‫ونسبته ‪ %20‬والمؤشر‪ :‬المقالت المنشورة في الفهارس الموسعة‬
‫في العلوم الجتماعية والفنون والعلوم النسانية‪ ،‬ونسبته ‪."%20‬‬
‫‪ -4‬معيار حجم المؤسسة‪ :‬المؤشر‪" :‬الداء الكاديمي من قبلها‪،‬‬
‫مع الخذ بالعتبار حجم المؤسسة العلمية‪ ،‬ونسبته ‪.%10‬‬
‫دا‪ ،‬استندوا إليها في‬
‫فهي ‪ -‬ول شك ‪ -‬معايير قوية وموضوعية ج ً‬
‫ترتيبهم لفضل خمسمائة جامعة في العالم‪ ..‬وهو ما يجعلنا نقف‬
‫وقفة ‪ -‬من خلل تقارير السنوات الثلث السابقة ‪ -‬نستقريء منها‬
‫الملحظات المهمة التالية‪:‬‬
‫خَلت الجامعات الخمسمائة من‬ ‫‪ -1‬في تقرير سنة ‪2004‬م َ‬
‫جامعة إسلمية‪ ،‬وفي تقرير سنة ‪2005‬م دخلت دولة إسلمية واحدة‬
‫بجامعتين برقم ‪ 409‬و ‪ 468‬على العالم‪ ،‬وهي تركيا‪!!..‬‬
‫وهذا فأل حسن‪ ،‬والوصول إلى القمة لن يحدث قفزة واحدة‪،‬‬
‫وتركيا استحقت بالفعل أن تدخل هذا الترتيب‪ ،‬وتحتاج تجربتها إلى‬
‫دراسة متأنية‪.‬‬
‫وبينما أصابتنا حالة من الحزن لخروج تركيا من تصنيف‬
‫وضتنا مصر عن ذلك‬ ‫الجامعات الولى في تقرير سنة ‪2006‬م ع ّ‬
‫بدخولها في التصنيف بجامعة القاهرة‪ ،‬وذلك بترتيب ‪ 404‬من أفضل‬
‫‪ 500‬جامعة على مستوى العالم‪.75‬‬
‫‪ -2‬أمريكا هي الدولة الولى في العالم من حيث عدد جامعاتها‬
‫في تقرير سنة ‪2005‬م؛ إذ شملت القائمة ‪ 168‬جامعة أمريكية‪ ،‬من‬
‫بين العشرين الولى فيها ‪ 17‬جامعة أمريكية‪ ،‬ومن بين المائة الولى‬
‫‪ 53‬جامعة أمريكية‪.‬‬
‫وتتصدر جامعة هارفارد المريكية الجامعات الخمسمائة‪ ،‬ثم‬
‫جامعة ستانفورد في المركز الثالث‪ ،‬ومعهد ماساشوستش‬
‫للتكنولوجيا‪ ،‬والذي درس به بنيامين نيتانياهو رئيس وزراء إسرائيل‬
‫السبق في المركز الخامس‪ ,‬ثم جاء معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا‪،‬‬
‫والذي يضم الدكتور أحمد زويل في المركز السادس‪.‬‬
‫أما بقية الجامعات العشرين الولى‪ :‬فاثنتان منها بريطانيتان‪،‬‬
‫وهما جامعة كمبردج‪ ,‬وتأتي في المركز الثاني‪ ,‬وجامعة أكسفورد‬

‫‪ 75‬معهد التعليم العإلي في جامعة شنغهاي جياو تونغ‪ ،‬الصين‪ ،‬الرابط‬


‫‪http://ed.sjtu.edu.cn/rank/2006/ARWU2006TOP500list.htm‬‬
‫وترتيبها العاشر‪ ,‬وجامعة يابانية‪ ،‬وهي جامعة طوكيو‪ ،‬وترتيبها‬
‫العشرون‪ ،‬وكان ترتيبها في تقرير ‪2004‬م الرابع عشر‪.‬‬
‫‪ -3‬جاءت أولى جامعات الصين ‪ -‬التي خرج منها التقرير ‪ -‬في‬
‫المركز ‪ 162‬في ترتيب الجامعات‪ ،‬وذلك بجامعة تايوان الوطنية على‬
‫أنها أولي الجامعات الصينية في الترتيب‪ ،‬وذلك باعتبار أن تايوان جزء‬
‫من الصين‪ ..‬ولم يرصد المعهد صاحب التقرير لجامعات بلده‬
‫ومعاهدها ومراكزها العلمية التي تبلغ اللف إل ‪ 18‬جامعة فقط‪!!..‬‬
‫ل على شيء فإنما يدل على مصداقية وموضوعية‬ ‫وهو وإن د ّ‬
‫هذا التقرير؛ إذ كان التحيز أن تأتي بكين أو شنغهاي على رأس‬
‫القائمة لكونهما في الصين الشعبية ل الجامعة الوطنية في تايوان‪.‬‬
‫‪ -4‬الدولة الثانية في عدد الجامعات بعد أمريكا هي إنجلترا‪،‬‬
‫وعدد جامعاتها في قائمة الخمسمائة هو ‪ 40‬جامعة‪ ..‬ولك أن تتخيل‬
‫بعد ذلك الملزمة التي بينها وبين أمريكا‪ ،‬بعد أن تدرك أول ً من التابع‬
‫ومن المتبوع فيهما‪..‬؟!‬
‫‪ -5‬الدولة الثالثة في عدد الجامعات في القائمة هي اليابان‬
‫بنحو ‪ 34‬جامعة‪..‬‬
‫‪ -6‬تأتي إسرائيل لتحتل المركز الثاني عشر في التقرير‪،‬‬
‫متفوقة بذلك علي دول كبري مثل روسيا والصين‪ ،‬وذلك بسبع‬
‫جامعات إسرائيلية‪ ،‬على رأسها الجامعة العبرية في القدس‪ ،‬وجاءت‬
‫في المركز ‪ ،78‬وكانت في تقرير ‪2004‬م في المركز التسعين‪ ،‬بما‬
‫يعني أنها في صعود وتقدم مستمر‪!!..‬‬
‫‪ -7‬وتأتي جنوب أفريقيا لتكون هي الدولة الفريقية الوحيدة في‬
‫قائمة دول الجامعات الخمسمائة عام ‪2004‬م‪ ،‬وذلك بأربع جامعات‪..‬‬
‫ول على الفقر‪ ،‬فقد ضمت القائمة دول ً فقيرة مثل‪:‬‬ ‫‪ -8‬ولئل ّ نع ّ‬
‫سنغافورة والمكسيك وجنوب أفريقيا والمجر وايرلندا والهند‬
‫والرجنتين وإليونان وبولندا والتشيك وشيلي والبرتغال‪..‬‬
‫‪ -9‬جاء ترتيب الدول الثمانية الصناعية الكبرى في المراكز‬
‫العشرة الولى‪ ،‬وذلك باستثناء روسيا‪ ،‬والتي جاء ترتيبها في المركز‬
‫‪ 17‬بين دول القائمة‪ ،‬وليس هذا من قبيل المصادفة؛ فمن الواضح أن‬
‫روسيا في تدهور مستمر‪ ،‬ولكن بصفة عامة لبد أن تكون الدول‬
‫الصناعية الكبرى في الصدارة بخصوص قضايا اعلم والتعلم‪.‬‬
‫ويبين الجدول رقم )‪ (3‬تقرير معهد التعليم العإلى في جامعة‬
‫جياو تونج الصينّية لسنة ‪2005‬م‪.‬‬
‫‪ -10‬بعد تقارير معهد التعليم العإلى في جامعة جياو تونج‬
‫الصينّية لسنة ‪ 2004‬و ‪ 2005‬و ‪2006‬م‪ ،‬ظهر تقرير آخر سنة ‪2006‬‬
‫لمجموعة "لبوراتوريو دي إنترنت" المتخصصة‪ ،‬ومقرها مدريد‪،‬‬
‫لتفاجئنا هي الخرى بنتائج ترتيب أفضل ثلثة آلف جامعة في العالم‪..‬‬
‫ضا مفزعة )انظر الجدول رقم )‪ (4‬ومخيبة‬ ‫إذ كانت النتائج أي ً‬
‫للمال‪!!76‬‬
‫فقد كانت أمريكا هي الدولة الولى في العالم من حيث عدد‬
‫ضا؛ وقد شملت اللف جامعة الولى ‪455‬‬ ‫جامعاتها في تلك القائمة أي ً‬
‫جامعة أمريكية‪ ،‬على رأسها جميعا جامعة كاليفورنيا‪ .‬وكانت الدولة‬
‫ضا في عدد الجامعات بعد أمريكا هي بريطانيا‪ ،‬بنحو ‪79‬‬ ‫الثانية أي ً‬
‫جامعة بريطانية‪ ..‬ثم جاء الترتيب بعد ذلك قريًبا من التقرير السابق‪.‬‬
‫دا أو‬
‫ول شك أن مثل هذه الحقيقة لم تكن مؤامرة‪ ،‬وليست حق ً‬
‫ي لما تمر به‬
‫غيرة من الدول السلمية‪ ..‬وإنما هي تجسيد وتصوير ح ٌ‬
‫المة؛ المر الذي يوقفنا على تشخيص المرض وموطن الداء‪ ،‬ومن ثم‬
‫وصف الدواء‪..‬‬
‫الملحظة العاشرة‪:‬‬
‫دا‪،‬‬
‫وهذه الملحظة تعم بلدان العالم السلمي‪ ،‬وهي مؤسفة ج ً‬
‫قا بالهيئة التعليمية‪ ،‬تلك التي تحمل‬
‫وتكمن في عدم الهتمام مطل ً‬
‫مسئولية قيادة البلد علمًيا وتقنًيا‪ ،‬وذلك بدًءا من العلماء وأساتذة‬
‫الجامعات‪ ،‬ومروًرا بكل مراحل التعليم‪ ،‬وانتهاء بمدرسي المدارس‬
‫البتدائية والحضانات‪..‬‬
‫والمر ‪ -‬بل شك ‪ -‬يعكس قيمة العلم في منظور هذه الدول‪..‬‬
‫فإذا نظرنا إلى المرتبات والجور التي يتقاضاها العلماء‬
‫والساتذة ‪ -‬كواحدة من الصور التي تعكس قيمة العلم ومكانته في‬
‫هذه الدول ‪ -‬تجد أنها ل تكفي بحال من الحوال لسد أقل متطلبات‬
‫الحياة اليومية!!‬
‫وعليه فإن هذا العالم وذاك الستاذ من الصعب ‪ -‬إن لم يكن‬
‫من المستحيل ‪ -‬أن يبرع ويبتكر في مجاله في مثل هذه الظروف‪..‬‬
‫صل‬
‫سب منه‪ ،‬ويح ّ‬ ‫فهو أول ً سيبحث عن عمل خارجي إضافي كي يتك ّ‬
‫من ورائه جزًءا من المال يتقوى به على متطلبات الحياة‪ ،‬وكثيًرا ما‬
‫ما‪..‬‬
‫يكون هذا العمل الضافي في خارج مجاله تما ً‬

‫‪ 76‬الترتيب الخاص بمجموعة "لبوراتوريو" منشور على موقعهم الخاص على شبكة النترنت‪،‬‬
‫والرابط اللكتروني ‪http://www.webometrics.info/index.html‬‬
‫ثم هو ثانًيا لن يهتم كثيًرا بعمله في الجامعة أو المؤسسة‬
‫العلمية؛ كونه يشعر بالغبن في الجر‪ ،‬وبعدم التقدير للمجهود‪ ،‬ومن‬
‫َثم يعطي من مجهوده ما يتناسب في تقديره والجر الذي يتقاضاه‪.‬‬

‫ثم هو ثالًثا يشعر بال ّ‬


‫سخط وعدم النتماء لهذه الدولة التي لم‬
‫در جهده وسعيه وعلمه‪ ..‬وهذا الشعور المقيت يقتل كل نوايا‬ ‫ُتق ّ‬
‫البداع والبتكار‪.‬‬
‫دره‬
‫وفي النهاية تراه وقد قرر الهجرة وترك الديار إلى بيئة ُتق ّ‬
‫علمًيا أو مادًيا‪ ..‬فإما أن يهاجر إلى أمريكا أو إلى أوروبا ليرتقي بعلمه‬
‫وينبغ فيه‪ ،‬ويدخل بذلك ضمن المنظومة العلمية الغربية‪ ،‬وإما أن‬
‫ز‪ ،‬ولو كان على حساب مجاله‪ ،‬ولو كان في‬ ‫يبحث عن عقد عمل مج ٍ‬
‫بيئة ل تهتم أصل ً بالعلم ول تحفل به!!‬
‫ولعله من البدايات المهمة والتي يجب أن تكون نقطة انطلق‬
‫في تلك البلد التي تريد أن يكون لها مكانة بين الدول الكبرى‪ ،‬أن‬
‫تهتم بأجور علمائها وأساتذتها ومربييها‪ ..‬ويكفي في الشارة إلى ذلك‬
‫أن تعلم أن مرتب أستاذ الجامعة في بلد كمصر هو أقل من مرتب‬
‫أستاذ الجامعة في أمريكا أو أوروبا الغربية بأكثر من خمسين مرة‬
‫على القل‪ ،‬وأحياًنا أكثر من مائة مرة‪ ،‬مع أن السعار بصفة عامة‬
‫أرخص هناك عن السعار في بلدنا!!‬
‫عا وخلفية عن الحالة النفسية والمادية التي‬
‫وهذا يعطي انطبا ً‬
‫صا أكبر للبداع والتفوق والبتكار‪..‬‬
‫يعيشها العالم هناك‪ ،‬مما يعني فر ً‬
‫ول مجال هنا للعتذار والتعلل بضعف الوضع القتصادي في‬
‫بلدنا‪ ،‬والتحديات التي تواجهنا؛ فإن مرتب الوزير في بلدنا ومن كان‬
‫في وضعه السياسي يفوق مرتب مثيله في تلك البلد الغربية‬
‫المتقدمة مرات عديدة!!‬
‫فالقضية إذن ليست قضية نقص مال‪ ،‬وإنما هي قضية نقص‬
‫علم ٍ ونقص فقهٍ وسوء تصرف‪ ..‬وأحياًنا كثيرة تكون نقص ضمير!!‬
‫أنا ل أقول هذا لنلقي باللوم على بعضنا البعض‪ ،‬ولكن لنقف‬
‫وقفة جادة في سبيل حصول التغيير‪ ..‬أريد أن يعلم الجميع أن ديننا‬
‫يأمر بعكس ما نفعل الن‪ ..‬ديننا يأمر بالعلم النافع على إطلقه‪ ،‬سواء‬
‫علوم الشرع أو علوم الحياة‪..‬‬
‫دا إذا أردنا‬
‫ضا أن أقول أن الوقت ليس متأخًرا أب ً‬
‫وأريد أي ً‬
‫البداية‪ ،‬وأن النهضة ل تحتاج إلى عقود‪ ،‬وإنما تحتاج إلى إخلص‪ ،‬وإلى‬
‫جهد‪ ،‬وإلى بذل‪ ،‬وإلى خطة‪ ،‬وإلى عمل‪..‬‬
‫نتيجة كل هذه الملحظات السابقة‪ ،‬وبعد رؤية حال المسلمين‬
‫في مشارق الرض ومغاربها‪ ،‬كان من الطبيعي أن ُيتهم السلم بأنه‬
‫ب لهذا التخلف العلمي الذي تمر به المة‪..‬‬
‫سب ٌ‬
‫وقد حرص أعداء المة ‪ -‬سواء من خارجها أو من أبنائها‬
‫ن‬
‫العلمانيين ‪ -‬على الضرب على هذا الوتر‪ ،‬وادعاء أن السلم "دي ٌ‬
‫رجعي" يقاوم التجديد‪ ،‬ويمنع البتكار‪ ،‬ويقتل البداع!!‬
‫ما؛ إذ ما‬
‫ول ريب في أن هذا الدعاء خلف الواقع والحقيقة تما ً‬
‫عرفت البشرية قانوًنا أو تشريًعا كالسلم يحض على العلم النافع‪،‬‬
‫ويدفع إلى عمارة الرض والهتمام بكنوزها وثرواتها‪..‬‬
‫وإذا كان الغربيون معذورين بتخوفهم من الدين السلمي‪،‬‬
‫وذلك لسابق عهدهم وذكرياتهم الليمة مع الكنيسة الوروبية‪ ،‬تلك‬
‫التي حاربت العلم والعلماء بكل طاقتها‪ ،‬فلم يبدع علماء أوروبا إل بعد‬
‫أن تخلصوا من سلطان الكنيسة ‪ -‬إذا كان الغربيون معذورين بذلك‪،‬‬
‫فكيف يعذر المسلمون في هذا الفكر؟!‬
‫كيف يعذرون والنصوص القرآنية والنبوية التي تحض على العلم‬
‫وتشجع عليه أكثر من أن تحصى؟ وكيف يعذرون والتاريخ السلمي‬
‫كله يشهد بتفوق المسلمين العلمي وفي شتى مجالت علوم الحياة؟‬
‫ويشهد كذلك التاريخ السلمي أن الدولة السلمية في معظم‬
‫مراحلها كانت تشجع العلم وترعى العلماء‪ ،‬وكان الخلفاء يجزلون‬
‫العطاء للعلماء‪ ،‬ويولونهم عناية خاصة‪ ،‬وكانت هذه سياسة عامة‬
‫حا للدولة السلمية على كافة مستوياتها‪..‬‬
‫جا واض ً‬
‫متبعة‪ ،‬وتو ً‬
‫إن المر يحتاج إلى وقفة جقادة‪ ..‬واللسنة التي تطعن في‬
‫السلم لن تخرس إل بصحوة علمية قوية‪ ،‬وبعزيمة صادقة‪ ..‬تدفع‬
‫المسلمين دفًعا إلى اللحاق بالركب‪ ،‬بل والسبق فيه إن شاء الله‪..‬‬
‫من هذه الملحظات والمشاهدات العشر ومن غيرها‪ ،‬ندرك‬
‫بوضوح أن قضية "علوم الحياة" والتقدم فيها ليست في نصابها‪،‬‬
‫وليست في موضعها الصحيح الذي ينبغي أن تكون عليه بين‬
‫المسلمين‪ ،‬بل أحياًنا ما نجدها خارجة عن بؤرة اهتمام المسلمين‬
‫بالكلية‪..‬‬
‫أمقا لماذا وصلت المة إلى هذه الحالة‪ ..‬فالسباب ‪ -‬ل شك –‬
‫ة ل تبّرر هذا الموقف‬
‫كثيرة‪ ،‬وإن كانت كل هذه السباب مجتمع ً‬
‫السلبي من قضايا الجتهاد والبتكار في علوم الحياة‪ ،‬لسيما وأن‬
‫ما؛ إذ السلم ‪-‬‬
‫الخلفية الشرعية لهمالنا الذي نعيشه غير موجودة تما ً‬
‫كما رأينا ‪ -‬يحض على العلم النافع بكل صوره‪..‬‬
‫ولذلك فالقضية غريبة على الشرع السلمي‪ ،‬وتحتاج لوقفة‬
‫وتحليل‪ ..‬وهو موضوع الفصل التالي‪.‬‬
‫حَياة‬ ‫عُلو ُ‬
‫م ال َ‬ ‫و ُ‬
‫م َ‬
‫سل ُ‬
‫الفصل الرابع‪ :‬ال ِ ْ‬
‫ل يخفى على أحد ذلك الخلل الكبير في المستوى العلمي لكثير‬
‫من المسلمين‪ ،‬وأحياًنا يكون الخلل عند الملتزمين بتعاليم الدين‪،‬‬
‫ما بأن مستوى هؤلء الملتزمين في العلوم الشرعية غالًبا ما يكون‬ ‫عل ً‬
‫ما بالجانب الشرعي‪ ،‬وتغليبه‬ ‫دا‪ ..‬مما يعكس اهتما ً‬
‫على درجة طيبة ج ً‬
‫‪ -‬إلى حد ٍ كبيرٍ ‪ -‬على الجانب الحياتي في قضايا العلوم والتعليم‪..‬‬
‫وهذا الفصل في الهتمام بين علوم الشرع وعلوم الحياة أمٌر‬
‫ب على الشريعة السلمية‪ ،‬ودخيل على أمتنا‪ ،‬وهو أمر جد خطير؛‬ ‫غري ٌ‬
‫لنه كما ل يصلح بناء المة السلمية بغير العلوم الشرعية‪ ،‬فكذلك ل‬
‫يصلح بناء المة السلمية بدون العلوم الحياتية‪ ،‬والفصل بينهما ‪ -‬ل‬
‫ت المة السلمية‬ ‫شك ‪ -‬يؤخر المسيرة‪ ،‬بل يكاد يوقفها‪ ،‬وما عرِفَ ْ‬
‫السيادة والقوة والمجد والصدارة إل وكانت علومها الحياتية قوية‬
‫وسابقة‪ ،‬وما عرفت المة السلمية الضعف والتأخر والتخلف إل‬
‫وكانت علومها الحياتية ضعيفة ومهملة‪ ..‬والتاريخ خير شاهد على‬
‫ذلك‪ ،‬وفي أكثر من موضع‪.‬‬
‫إذن‪ ..‬لماذا حدث هذا الفصام غير المفهوم؟!!‬
‫على ما يبدو فإن القضية في الساس هي قضية فَْهم‪ ..‬وإن‬
‫سا من‬‫كان للعداء تخطيطهم وتدبيرهم‪ ،‬إل أن العيب ينبع أسا ً‬
‫داخلنا‪..‬‬
‫فعلى مدار السنوات الماضية اختل فهم المسلمين ‪ -‬سواء‬
‫ل خارجي أو داخلي ‪ -‬لمعنى كلمقة "العلم النافع"‪ ،‬فصاروا‬
‫بفعل فاع ٍ‬
‫يقصرونها على العلوم الشرعية فقط‪ ،‬مع أن الدلة ‪ -‬كما سنوضح بعد‬
‫قليل ‪ -‬متواترة على عكس ذلك‪..‬‬
‫والمر هذا كان مترتًبا على فهم أن ساحة التقرب إلى الله ‪‬‬
‫محصورة فقط في الشعائر التعبدية المحضة‪ ،‬كالصلة والصيام‬
‫والزكاة والحج‪ ،‬أما ساحة الدنيا وعمرانها وأص ً‬
‫لحها وتسخير‬
‫إمكانياتها‪ ،‬فقد ابتعدت عن تلك التي ُأريد بها وجه الله سبحانه‪..‬‬
‫ففي العقود الخيرة التي مرت بأمتنا نظر كثير من المسلمين‬
‫إلى العلوم الحياتية نظرة إهمال‪ ،‬بل نظرة ازدراء وتنقيص‪ ،‬وساعد‬
‫سموا العلوم إلى علوم‬‫على هذا الفهم الخاطئ بعض العلماء الذين ق ّ‬
‫"دينية" وعلوم "دنيوية"‪ ،‬فغدت علوم الطب والهندسة والكيمياء‪ ،‬وما‬
‫ما دنيوية‪ ،‬بينما علوم الشريعة من فقه وتفسير‬ ‫على شاكلتها علو ً‬
‫وعقيدة وغيرها هي العلوم الدينية أو الخروية!!‬
‫وهكذا فإن المسلم الملتزم سرعان ما يشعر بحرٍج شديد وهو‬
‫يدرس هذا العلم الدنيوي؛ إذ أنه ينصرف بذلك ‪ -‬فيما يعتقد ‪ -‬عن‬
‫علوم الخرة‪ ،‬وهذا يعني عنده أنه سيترك شيًئا من أمور "الدين" إلى‬
‫شيء من أمور الدنيا!!‬
‫والدنيا بصفة عامة مذمومة في الكتاب والسنة‪ ،‬وما أكثر اليات‬
‫والحاديث التي جاءت تحث المسلمين على الزهد فيها‪ ،‬وعدم‬
‫الكتراث بها ول بحجمها‪ ..‬والمر في ذلك أكثر من أن ُيحصى‪ ،‬ويكفي‬
‫ء‬
‫ما ٍ‬ ‫ة الدّن َْيا ك َ َ‬ ‫حَيا ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫مث َ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫للدللة عليه أن نورد قوله تعإلي‪ :‬إ ِن ّ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫خت َل َ َ‬ ‫َ‬
‫س‬
‫ل الّنا ُ‬ ‫ما ي َأك ُ ُ‬ ‫م ّ‬‫ض ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت الْر‬ ‫ه ن ََبا ُ‬ ‫ط بِ ِ‬ ‫فا ْ‬ ‫ء َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫أن َْزل َْناهُ ِ‬
‫ها‬ ‫ن أَ ْ‬
‫هل ُ َ‬ ‫وظَ ّ‬ ‫ت َ‬ ‫واّزي ّن َ ْ‬ ‫ها َ‬ ‫ف َ‬ ‫خُر َ‬ ‫ض ُز ْ‬ ‫ت اْلْر ُ‬
‫َ‬ ‫خذ َ ِ‬ ‫ذا أ َ َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫عا ُ‬ ‫واْل َن ْ َ‬ ‫َ‬
‫ها‬ ‫علَنا َ‬ ‫ْ‬ ‫هاًرا َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ج َ‬ ‫ف َ‬ ‫و نَ َ‬ ‫مُرَنا لي ْل أ ْ‬ ‫ها أ ْ‬ ‫ها أَتا َ‬ ‫علي ْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫قاِدُرو َ‬ ‫ه ْ‬ ‫أن ّ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وم ٍ‬ ‫ق ْ‬‫ت لِ َ‬ ‫ل اْل ََيا ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫ف ّ‬ ‫ك نُ َ‬ ‫س ك َذَل ِ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ِباْل ْ‬ ‫غ َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬‫دا ك َأ ْ‬ ‫صي ً‬ ‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫ن‪. ‬‬
‫‪77‬‬ ‫ّ‬
‫ي َت َفكُرو َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ضيُتم‬ ‫صا من شأنها وقدرها‪ :‬أَر ِ‬ ‫ضا منق ً‬ ‫ويقول سبحانه أي ً‬
‫ة‬
‫خَر ِ‬ ‫في ال ِ‬ ‫ة الدّن َْيا ِ‬ ‫حَيا ِ‬ ‫ع ال ْ َ‬ ‫مَتا ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ف َ‬ ‫ة َ‬‫خَر ِ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫ة الدّن َْيا ِ‬ ‫حَيا ِ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫ل‪.78‬‬‫قِلي ٌ‬ ‫إ ِل ّ َ‬

‫مث َ ُ‬
‫ل‬ ‫وروى المستورد الفهري < أن رسول الله ‪ ‬قال‪َ " :‬‬
‫ل ما يجع ُ َ‬
‫م‪،‬‬
‫في إلي ّ‬ ‫ه ِ‬‫ع ُ‬
‫صب َ َ‬ ‫حدُك ُ ْ‬
‫م إِ ْ‬ ‫لأ َ‬ ‫ة إ ِّل َ‬
‫مث َ ُ َ َ ْ َ‬ ‫خَر ِ‬‫في اْل ِ‬ ‫الدّن َْيا ِ‬
‫ع" ‪.‬‬ ‫ج ُ‬ ‫فل ْي َن ْظُْر ب ِ َ‬
‫م ي َْر ِ‬ ‫َ‬
‫‪79‬‬

‫ل الل ّهِ ‪" :‬ل َ ْ‬


‫و‬ ‫سو ُ‬
‫ل َر ُ‬‫كذلك روى سهل بن سعد < قال‪َ :‬قا َ‬
‫فًرا‬ ‫قى َ‬
‫كا ِ‬ ‫س َ‬‫ما َ‬ ‫ة َ‬‫ض ٍ‬‫عو َ‬ ‫ح بَ ُ‬
‫جَنا َ‬ ‫عن ْدَ الل ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ل ِ‬ ‫د ُ‬
‫ع ِ‬‫ت الدّن َْيا ت َ ْ‬
‫كان َ ْ‬‫َ‬
‫ء"‪.80‬‬‫ما ٍ‬ ‫ة َ‬‫شْرب َ َ‬‫ها َ‬‫من ْ َ‬ ‫ِ‬
‫ونتيجة لربط هذه العلوم الطبيعية والحياتية بالدنيا‪ ،‬نظر‬
‫الملتزمون إليها على أنها مما ُيبعد عن الدين السلمي‪ ،‬وأن الشتغال‬
‫بها أمٌر مذموم‪ ،‬وأن الدارس للهندسة ‪ -‬مثل ً ‪ -‬والكيمياء وعلوم الذرة‪،‬‬
‫هو رج ٌ‬
‫ل نسي دينه واهتم بدنياه!!‬
‫والحق أن هذه كلها أباطيل ما أنزل الله بها من سلطان؛ فعلوم‬
‫الطب والهندسة وغيرها هي طرقٌ واضحة من طرق الجنة إذا صلحت‬
‫النوايا وأخلصت لله تعإلي‪ ،‬وهي علوم "أخروية" إذا ابتغى بها العبد‬
‫‪) 77‬يونس‪.(24 :‬‬
‫‪) 78‬التوبة‪.(38 :‬‬
‫‪ 79‬مسلم‪ :‬كتاب الجنة ونعيمها وصفات أهلها‪ ،‬باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة )‪،(2858‬‬
‫والترمذي )‪ ،(2323‬وابن ماجة )‪ ،(4108‬وأحمد )‪ ،(18037‬وابن حبان )‪ ،(4330‬والطبراني‬
‫في الكبير )‪.(713‬‬
‫‪ 80‬الترمذي‪ :‬كتاب الزهد‪ ،‬باب هوان الدنيا على الله عز وجل )‪ ،(2320‬وابن ماجة )‪،(4110‬‬
‫والحاكم )‪ ،(7847‬وقال حديث صحيح‪ ،‬والطبراني في الكبير )‪ ،(5840‬والبيهقي في شعب‬
‫اليمان )‪ ،(10465‬وقال اللباني‪ :‬صحيح )‪ (5292‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫ثواب الخرة‪ ،‬وهي علوم "دينية" إذا أردا بها المسلم نصرة دينه‬
‫ورفعة أمته‪..‬‬
‫عا‬ ‫والواقع كذلك أن صحابة رسول الله ‪ ‬كانوا ت ُ ّ‬
‫جاًرا وُزّرا ً‬
‫ل كان له حرفة وصناعة بجانب‬ ‫عا‪ ،‬وقبلهم أنبياء الله ‪ ،‬ك ٌ‬
‫صّنا ً‬
‫و ُ‬
‫مهمته الساسية‪ ،‬فكان آدم حراًثا‪ ،‬وكان داود حداًدا‪ ،‬وكان نوح نجاًرا‪،‬‬
‫طا‪ ،‬وكان موسى راعًيا‪ ،‬وكان زكريا نجاًرا‪ ..‬فلم يقعد‬ ‫وكان إدريس خيا ً‬
‫بهم انشغالهم بالخرة والعمل لها وتعليم علومها عن العمل للدنيا‬
‫وتعميرها وتسخيرها وتعليم علومها‪..‬‬
‫ل ذي سيما‬ ‫بل إن عمر بن الخطاب < كان إذا نظر إلى رج ٍ‬
‫)هيئة حسنة( قال‪ :‬أله حرفة؟ فإن قيل ل سقط من عينه ‪!!..‬‬
‫‪81‬‬

‫ثم ماذا يعني قوله ‪ ‬فيما يرويه أنس بن مالك < عن رسول‬
‫سيل َ ٌ‬ ‫ة وبي َ‬
‫ن‬ ‫ة َ‬
‫فإ ِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫دك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ح ِ‬
‫دأ َ‬ ‫ع ُ َ ِ َ ِ‬
‫سا َ‬‫ت ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َ‬
‫قا َ‬ ‫الله ‪ ‬أنه قال‪" :‬إ ِ ْ‬
‫ل" ؟!‬ ‫ع ْ‬ ‫فل ْي َ ْ‬
‫ها َ‬ ‫ن َل ي َ ُ‬ ‫طا َ َ‬
‫ست َ َ‬
‫‪82‬‬
‫ف َ‬ ‫س َ‬‫ر َ‬
‫غ ِ‬
‫حّتى ي َ ْ‬‫م َ‬‫قو َ‬ ‫عأ ْ‬ ‫ا ْ‬
‫لماذا يغرسها وهي من نفع الدنيا‪ ،‬فضل ً عن أنه لن يستفيد منها‬
‫دنيوًيا أص ً‬
‫ل؟!‬
‫والذي ُيفهم من ذلك كله هو ‪ -‬كما ُيعبر الدكتور عبد الباقي عبد‬
‫الكبير‪ - 83‬أنه في سْعينا لقضاء حوائجنا والقيام بمسؤولية عمران‬
‫ي لرضاء لله ‪ ..‬بل‬‫الرض ووظيفة الستخلف فيها بنية خالصة‪ ،‬سعْ ٌ‬
‫إن في سْعينا لعمران الرض‪ ،‬وتعليم علومها‪ ،‬والوقوف على ثغراتها‬
‫ل في مجاله وحسب‬ ‫وز الحاجة‪ ،‬ك ٌ‬‫التنموية‪ ،‬وإخراج المجتمع من ع ْ‬
‫ي لعلء كلمة الله‬‫إمكانياته وقدراته الوظيفية‪ ..‬هو في الساس سع ٌ‬
‫‪ ‬ورفع راية السلم‪..84‬‬
‫وعليه‪ ،‬وإذا كانت القضية في الساس ‪ -‬كما رأينا ‪ -‬قضية َفهم‬
‫وسوء فقه‪ ..‬فإننا نود القيام من ركائز ومنطلقات صلبة وقويمة‪ ،‬هي‬
‫من أساس ديننا ومن صلب معتقداتنا‪..‬‬
‫دا إطلق لفظ علوم "دنيوية"‬ ‫وفي بداية هذا الطريق فل أحبذ أب ً‬
‫على هذه العلوم‪ ،‬وإنما يمكن أن نطلق عليها "علوم الحياة"‪ ..‬فهي‬
‫علوم أراد الله ‪ ‬لنا أن نتعلمها لنصلح بها حياتنا على الرض‪..‬‬
‫‪ 81‬عبد الرءوف المناوي‪ :‬فيض القدير ‪.2/290‬‬
‫‪ 82‬أحمد )‪ ،(13004‬والبخاري في الدب المفرد )‪ ،(479‬وعبد بن حميد في مسنده )‪،(1216‬‬
‫وقال اللباني‪ :‬صحيح )‪ (1424‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫‪ 83‬عبد الباقي عبد الكبير عبد الواحد ولد عام ‪1970‬م في مدينة وردك بأفغانستان‪ ،‬حصل على‬
‫الماجستير والدكتوراه من كلية الشريعة والقانون في السودان‪ ،‬ويعمل حإليا بالجامعة‬
‫السمرية للعلوم السلمية بمدينة زليتين‪ ،‬ليبيا‪ ،‬ومن مؤلفاته‪ :‬المدخل لدراسة الشريعة‬
‫السلمية‪.‬‬
‫‪ 84‬موقع إسلم أون لين‪ :‬استشارة إعمار الدنيا فريضة وضرورة للدكتور‪ :‬عبد الباقي عبد‬
‫الكبير‪.‬‬
‫والحياة بصفة عامة ليست مذمومة كالدنيا‪ ،‬بل هي نعمة من‬
‫الله تعإلي‪..‬‬
‫وانظر إلى قوله سبحانه وهو يربط بين مراعاة أحكام الشرع‬
‫ل صال ِحا من ذَك َ َ‬
‫و‬
‫رأ ْ‬‫ٍ‬ ‫م َ َ ً ِ ْ‬ ‫ع ِ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬‫وبين الحياة الطيبة حين يقول‪َ  :‬‬
‫حَياةً طَي ّب َ ً‬ ‫ُ‬
‫ة‪. ‬‬
‫‪85‬‬
‫ه َ‬ ‫فل َن ُ ْ‬
‫حي ِي َن ّ ُ‬ ‫ن َ‬
‫م ٌ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫و ُ‬
‫ه َ‬ ‫أن َْثى َ‬
‫و ُ‬
‫وهكذا‪ ،‬فتكون علوم "الحياة" من هذا المنظور‪ ،‬والتي تعني‬
‫شيًئا عظي ً‬
‫ما علوًيا‪ ،‬أرقى وأعظم من علوم "الدنيا"‪ ،‬والتي تعني‬
‫الدونية والسفلية‪..‬‬
‫ن َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫كا َ‬ ‫م ْ‬ ‫ويوضح هذا المعنى وذاك المراد قوله تعإلي‪ :‬أ َ‬
‫و َ‬
‫ه‪.86‬‬ ‫ميًتا َ َ‬
‫حي َي َْنا ُ‬
‫فأ ْ‬ ‫َ ْ‬
‫وعلى هذا النهج تسير كثير من اليات والحاديث‪ ..‬مما يعطي‬
‫ثراًء ملحو ً‬
‫ظا لكلمة الحياة‪..‬‬
‫ثم لنقف وقفة نحاور فيها ونناقش أولئك الذين صرفوا جل‬
‫وقتهم واهتماماتهم لعلوم الشريعة‪ ،‬ولم يشاءوا أن يصرفوا قدًرا من‬
‫جهدهم وفكرهم ومالهم ووقتهم لعلوم الحياة‪ ..‬ونجيب معهم على‬
‫سؤال مهم مفاده‪:‬‬
‫هل يعقل أن ُيهمل المسلمون علوم الحياة؟؟‬
‫وفي معرض الجواب بالنفي الصريح على هذا السؤال‪ ،‬نقدم‬
‫هذه الدلة وتلك البراهين القطعية على ُنبل هذه العلوم إذا ما وجهت‬
‫لخير الرض‪ ،‬ونفع البشرية‪ ،‬ورفعة هذا الدين‪ ،‬وعزة هذه المة‪:‬‬
‫الدليل الول‪:‬‬
‫هل نسي النسان أن الله ‪ ‬قد جعله "خليفة" في الرض؟!‬
‫وحين تكون الجابة قطًعا بالنفي‪ ،‬فلنتفكر سوًيا‪ :‬كيف يمكن أن‬
‫ُيستخلف النسان في الرض وهو ل يعلم شيًئا عن علومها؟!‬
‫فالحقيقة التي ل مراء فيها أن الذي ُيستخلف في الرض يجب‬
‫أن يعرف ربه‪ ،‬وأن يعرف كيف يعبده‪ ،‬ثم لبد له أن يعلم طبيعة‬
‫المكان الذي استخلف فيه‪ ،‬وكيف يمكن استغلله لعبادة الله رب‬
‫ْ َ‬ ‫هو أ َن ْ َ َ‬
‫مَرك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ع َ‬
‫ست َ ْ‬
‫وا ْ‬
‫ض َ‬
‫ن الْر ِ‬‫م َ‬ ‫شأك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫العالمين‪ ،‬قال تعإلي‪َ ُ  :‬‬
‫ها‪.87‬‬
‫في َ‬
‫ِ‬
‫)النحل‪.(97 :‬‬ ‫‪85‬‬

‫)النعام‪.(122 :‬‬ ‫‪86‬‬

‫)هود‪.(61 :‬‬ ‫‪87‬‬


‫فمن شروط الستخلف‪ ،‬ومن واجباته الساسية‪ ،‬أن يعرف‬
‫مر" الرض‪ ،‬وكيف يكشف كنوزها ويستفيد من‬ ‫النسان كيف "ي َعْ ُ‬
‫خر كل ما يمكن أن تصلح به "الحياة" على وجه‬
‫ثرواتها‪ ..‬وكيف ُيس ّ‬
‫هذه الرض‪.‬‬
‫ولما خلق الله آدم ‪ ،‬وعظمه ورفع قدره‪ ،‬وأسجد الملئكة‬
‫َ‬
‫م‬ ‫عل ّ َ‬
‫م آد َ َ‬ ‫له‪ ..‬لم يكن ذلك إل بالعلم الذي أتاه إياه‪ ،‬قال تعإلي‪َ  :‬‬
‫و َ‬
‫َ‬
‫ماءَ ك ُل ّ َ‬
‫ها‪.88‬‬ ‫اْل ْ‬
‫س َ‬
‫والسؤال إذن‪ :‬ما هذا العلم الذي علمه الله ‪ ‬آدم ‪ ،‬وبه‬
‫تفوق على الملئكة؟‬
‫لقد عّلمه الله ‪ - ‬فيما يروي ابن عباس <‪ -‬أسماء كل شيء‪:‬‬
‫الجبل‪ ،‬والشجر‪ ،‬والبحر‪ ،‬والنخلة‪ ..‬وأسماء الناس والدواب‪..89‬‬
‫أي أن الله ‪ ‬علمه العلوم "الطبيعية" التي سيحتاج إليها‬
‫للحياة فوق الرض وعمارتها‪ ،‬أما الملئكة فهي ل تعلم هذه السماء‬
‫وتلك العلوم؛ لنها لن تستخلف على الرض‪ ،‬ومن ثم فهي ليست في‬
‫حاجة إليها‪..‬‬
‫والواضح أنه لو عّلم الله ‪ ‬آدم ‪ ‬العبادة بمفهومها المقتصر‬
‫على الصلة والصيام والذكر والدعاء‪ ،‬لتفوقت الملئكة على آدم ‪‬‬
‫في هذا المجال‪ ،‬وما كان هناك داٍع أن ُيستخلف النسان في الرض‪،‬‬
‫بل يعيش في السماء كما تعيش الملئكة‪ ،‬يفعل أفعالهم‪ ،‬ويكتفي‬
‫ن‪.90‬‬ ‫هاَر َل ي َ ْ‬
‫فت ُُرو َ‬ ‫والن ّ َ‬ ‫ن الل ّي ْ َ‬
‫ل َ‬ ‫حو َ‬ ‫بعلومهم‪ ..‬ي ُ َ‬
‫سب ّ ُ‬
‫ما حياتًيا‬
‫ما شرعًيا فقط‪ ،‬وإنما كان عل ً‬ ‫فلم يكن عل ْ ُ‬
‫م آدم ‪ ‬عل ً‬
‫كذلك‪..‬‬
‫وعليه فإن النسان إذا أهمل العلوم الطبيعية أو علوم "الحياة"‪،‬‬
‫فإنه بذلك ُيهمل أهم مقومات استخلفه على الرض‪ ..‬وهذا ل يجوز‬
‫في حق مسلم واع‪ ،‬يفهم دينه‪ ،‬ويدرك طبيعة استخلفه على الرض‪..‬‬

‫)البقرة‪.(31 :‬‬ ‫‪88‬‬

‫انظر ابن كثير‪ :‬تفسير القرآن العظيم ‪. 109 /1‬‬ ‫‪89‬‬

‫)النبياء‪.(20 :‬‬ ‫‪90‬‬


‫الدليل الثاني‪:‬‬
‫أكمل الله ‪ ‬العلوم الشرعية قبل وفاة رسول الله ‪ ..‬قال‬
‫تعإلي‪ :‬ال ْيوم أ َك ْمل ْت ل َك ُم دين َك ُم َ‬
‫مِتي‬
‫ع َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫م نِ ْ‬ ‫ت َ‬
‫م ُ‬
‫م ْ‬
‫وأت ْ َ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ ِ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ْ َ‬
‫م ِديًنا‪.. ‬‬‫سل َ َ‬
‫م ال ِ ْ‬‫ت ل َك ُ ُ‬
‫ضي ُ‬
‫وَر ِ‬
‫‪91‬‬
‫َ‬
‫ي بعد رسول الله ‪ ،‬ومن ثم فستبقى العلوم‬ ‫وليس هناك وح ٌ‬
‫الشرعية كأصول كما هي‪ ..‬نعم قد يجتهد علماء الشرع في بعض‬
‫المور بحسب المتغيرات والمستجدات في البيئة والزمان والمكان‪،‬‬
‫ولكن تبقى الصول ثابتة موجودة في القرآن والسنة‪..‬‬
‫هذا بالنسبة للعلوم الشرعية‪..‬‬
‫أما بالنسبة لعلوم الحياة‪ ،‬فإن المر يختلف؛ إذ أنها علوم لم‬
‫ف‬
‫دا‪ ..‬ففي كل يوم يمر علينا ُيكشف لنا كش ٌ‬‫تكتمل بعد‪ ،‬ولن تكتمل أب ً‬
‫جديد في هذه العلوم‪ ،‬وعلم اليوم في الطب ‪ -‬مثل ً ‪ -‬يختلف عما‬
‫دا‪ ،‬وهما غير ما كانا عليه بالمس وهكذا‪..‬‬‫سيكون عليه غ ً‬
‫فعلوم الحياة في تطور وتغير مستمر‪ ..‬وما ي ُعَد ّ اليوم حقيقة‬
‫دا أنه وهم ل أصل له‪ ،‬أو أن هناك ما يتخطاه‬ ‫علمية‪ ،‬قد ُيكَتشف غ ً‬
‫ويتعداه‪ ،‬وما أكثر المعتقدات العلمية التي ظلت موروثة لمئات‬
‫السنين‪ ،‬ولم تتغير إل منذ سنوات قلئل بعد اكتشاف خطئها‪..‬‬

‫م‬
‫ه ْ‬
‫س ِ‬
‫ف ِ‬‫في َأن ُ‬ ‫و ِ‬
‫ق َ‬ ‫في اْل َ‬
‫فا َ ِ‬ ‫م آَيات َِنا ِ‬ ‫ه ْ‬
‫ري ِ‬
‫سن ُ ِ‬‫يقول تعإلي‪َ  :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫على ك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫ه َ‬‫ك أن ّ ُ‬ ‫م ي َك ْ ِ‬
‫ف ب َِرب ّ َ‬ ‫ول ْ‬ ‫قأ َ‬ ‫ح ّ‬‫ه ال َ‬ ‫م أن ّ ُ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫حّتى ي َت َب َي ّ َ‬ ‫َ‬
‫د‪. ‬‬
‫‪92‬‬
‫هي ٌ‬‫ش ِ‬ ‫ء َ‬ ‫ي ٍ‬ ‫َ‬
‫ش ْ‬
‫فالية نزلت بصيغة المستقبل‪ ،‬وستظل ُتقرأ إلى يوم القيامة‬
‫دا‬
‫بصيغة المستقبل‪ ،‬وسيظل المستقبل إلى يوم القيامة يحمل جدي ً‬
‫في علوم الحياة‪ ،‬سواء كان في الكون )في الفاق(‪ ،‬أو في النسان‬
‫)وفي أنفسهم(‪..‬‬
‫والعمل الدءوب في هذا المجال مطلوب ومهم‪ ..‬وإل سبق‬
‫الركب‪ ،‬وتع ّ‬
‫ذر اللحاق!‬
‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫هناك الكثير من القضايا الشرعية والفقهية ل يستطيع فقهاء‬
‫ب‪ ،‬يبين الحل أو الحرمة فيها إل‬
‫ي صائ ٍ‬
‫المسلمين أن يقطعوا فيها برأ ٍ‬

‫)المائدة‪.(3 :‬‬ ‫‪91‬‬

‫)فصلت‪.(53 :‬‬ ‫‪92‬‬


‫بالستعانة بعلماء مسلمين في مجال العلوم الحياتية‪ ..‬يكونون مهرة‬
‫في مهنتهم‪ ،‬أكفاء في تخصصهم‪..‬‬
‫فإذا أخذنا علم القتصاد والتجارة ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬كنموذج‬
‫ه مسلم غير متخصص أن يستنبط آراء‬ ‫للدراسة‪ ..‬فهل يستطيع فقي ٌ‬
‫فقهية صائبة في كل المعاملت القتصادية والتجارية؟! هل يستطيع‬
‫أن يقطع بحل أو حرمة في قضية من قضايا التجارة وعلم القتصاد‬
‫دون أن يكون على إحاطة تامة بأوجه المعاملت والمضاربات التي‬
‫تتم في البنوك والبورصة والشركات والسواق وغيرها؟!‬
‫بالقطع الجابة هي النفي‪ ،‬خاصة وأن العلوم قد تشعبت كثيًرا‪،‬‬
‫م أخرى كثيرة تتفرع منه وتنبثق عنه‪،‬‬
‫حتى أصبح داخل كل علم علو ٌ‬
‫ولكل فرٍع من هذه العلوم متخصصون وباحثون ودارسون‪..‬‬
‫ثم وعلى فرض إمكانية أن ُيدلي الفقيه بدلوه في مثل هذه‬
‫القضايا ودون الرجوع إلى متخصصين فيه ‪ -‬وهو مستحيل وغير جائز ‪-‬‬
‫فما الحال إذا وجدنا مخالفة شرعية في مثل هذه العلوم؟ كيف يمكن‬
‫لحها وأسلمتها وفق المنهج السلمي؟! وكيف يمكننا أن نتعامل‬‫أص ً‬
‫مع النظمة القتصادية العالمية المحيطة على ما بها من مخالفات‪،‬‬
‫دون الوقوع في مخالفة شرعية؟!‬
‫أل نحتاج في ذلك كله إلى اقتصادي متخصص؟! أل نحتاج إلى‬
‫م بكل تفصيلته‬‫من يدرس القتصاد بكل تفريعاته وعلومه‪ ،‬وُيل ّ‬
‫ودقائقه‪ ،‬ثم هو يدرس الفقه السلمي الخاص بالقتصاد والتجارة‪ ،‬ثم‬
‫يبدأ في صياغة القتصاد السلمي بالصورة التي تتناسب والعصر‬
‫الذي نعيش فيه‪ ،‬ودون الوقوع في أدنى مخالفة شرعية؟!‬
‫ونستطيع أن نستشهد في ذلك بمثال واقعي في مجال الحقوق‬
‫والقوانين‪ ،‬فقد كان الشهيد القاضي عبد القادر عودة من خريجي‬
‫كلية الحقوق‪ ،‬وقد أّلف كتابه "التشريع الجنائي السلمي"‪ ،‬والذي‬
‫دم فيه دراسة فقهية حول التشريع الجنائي في السلم‬ ‫استطاع أن ُيق ّ‬
‫وفلسفته ومقارنته مع القانون الوضعي‪ ،‬كما استطاع أن ُيثبت بالدلة‬
‫والبراهين والحجج الدامغة محاسن الشريعة السلمية وتفوقها على‬
‫القوانين الوضعية‪ ،‬مع سبقها إلى تقرير كل المبادئ النسانية‬
‫والنظريات العلمية والجتماعية التي لم يعرفها العالم‪ ،‬والتي لم يهتد‬
‫إليها العلماء إل مؤخًرا‪..‬‬
‫أل تحتاج المة في حياتها إلى مثل ذلك؟!!‬
‫أليست هذه ثغرة ً إسلمية تحتاج إلى من يسدها ويقف عليها؟!‬
‫ثم أليس من يقوم بذلك يكون مأجوًرا من الله ‪ ‬على علمه‬
‫وعمله هذا؟!‬
‫وهل يعتقد المسلمون المعظمون لدينهم أنهم لن يأثموا بترك‬
‫هذا المجال وليس فيه متخصصون؟!‬
‫أل يعتقد المسلمون أن دراسة القتصاد من هذا المنظور هو‬
‫طريق مباشر من طرق الجنة؟!‬
‫والحقيقة أن الجابة في ذلك ل تخفى على ذي عقل وصاحب‬
‫قا إل بمبدعين‬ ‫لُ ّ‬
‫ب‪ ..‬وليكن في خلد الجميع أنه لن يقوم هذا الدين ح ً‬
‫في شتى مجالت وعلوم الحياة!!‬
‫ضا‬
‫ن للدراسة ‪ -‬نستطيع أن نقف أي ً‬‫وفي علم الطب ‪ -‬كنموذج ثا ٍ‬
‫على نفس ما وقفنا عليه في علم القتصاد‪ ،‬من حاجة فقيه اليوم‬
‫الماسة إلى طبيب مسلم متخصص‪ ،‬يساعده في تقرير فتواه فيما له‬
‫علقة ببعض جوانب الطب‪..‬‬
‫ي في قضايا دقيقة لها علقة قوية‬‫م شرع ٌ‬‫إذ كيف سيدلي عال ٌ‬
‫بالطب‪ ،‬دون الستعانة بطبيب مسلم ٍ ماهر‪ ،‬يستطيع أن يشرح بدقة‬
‫طبيعة المر في النقطة التي يحتاجها الفقيه؟!!‬
‫حكم الشرع في القضايا المستجدة وثيقة‬
‫وكيف لنا أن نعرف ُ‬
‫الصلة بالطب؟‬
‫كيف لنا أن نعرف حكم الشرع ‪ -‬مثل ً ‪ -‬في قضايا مثل‬
‫"الستنساخ" أو "زرع العضاء" أو "عمليات التجميل"‪ ،‬أو "أطفال‬
‫محّرم‪ ..‬وغيرها؟!‬‫النابيب" أو التداوي بما قد يتخلله ُ‬
‫كل هذه المور وغيرها مما يستجد في حياتنا اليومية‪ ،‬نحتاج‬
‫فيها ‪ -‬ول شك ‪ -‬إلى أطباء مهرة في تخصصهم‪ ،‬ثم هم يدرسون في‬
‫الشرع ما يختص بالفرع الذي يتقنونه‪ ،‬وبذلك يمتلكون القدرة على‬
‫الدلء برأي صائب‪ ،‬يوافق بين رأي الطب ورأي الشرع‪.‬‬
‫قا إلى الجنة؟! وهل‬
‫أفل يكون الطب من هذا المنظور طري ً‬
‫يعذر المسلمون إذا لم يخرجوا لمتهم أطباء يوضحون لهم هذه‬
‫المور‪ ،‬ويبينوه للفقهاء‪ ،‬فيتمكنوا من الفتاء بالحلل أو الحرام فيما‬
‫يتعلق بهذه المسائل؟!‬
‫ب لبد من أن يتفوق فيه المسلمون‪،‬‬ ‫فهذا ‪ -‬ول ريب ‪ -‬با ٌ‬
‫ليقيموا بذلك دينهم‪ ،‬وليطّبقوه كما أراد الله ‪..‬‬
‫ومن هذا المنطلق فهذه العلوم جميًعا‪ ،‬سواء أكانت علوم‬
‫اقتصاد أو علوم سياسة أو علوم طب أو هندسقة‪ ،‬أو غيرها ممن هي‬
‫على شاكلتها‪ ،‬وتنفع المة وتصلح الحياة للنسان على الرض‪ ..‬هي‬
‫كلها علوم ُأخروية‪ ،‬بشرط توفر النية الصالحة‪ ،‬والخلص لله ‪.‬‬
‫الدليل الرابع‪:‬‬
‫إذا لم يتفوق المسلمون في هذه المجالت‪ ،‬فما البديل؟!!‬
‫لن يخالفني أحد إذا قلت بأن البديل في ذلك هو أن يعتمد‬
‫المسلمون في هذه المجالت التي أهملوها وتخلفوا فيها‪ ،‬على‬
‫غيرهم‪ ،‬أو قل‪ :‬على عدوهم؛ إذ هو البديل الوحيد أحياًنا!!‬
‫عا؟!‬
‫فهل يستقيم هذا المر شر ً‬
‫هل تقوم أمة على أكتاف غيرها؟! بل هل تقوم أمة على أكتاف‬
‫أعدائها‪..‬؟!!‬
‫أليس أمًرا يدعو إلى الدهشة والغرابة حين يضطر المسلم لكي‬
‫يبدع في مهنة ما أن يسافر إلى بلد أعدائه ليتعلم منهم‪ ،‬وينقل‬
‫عنهم؟!‬
‫وكيف يقوم مصنع في بلد مسلم على ماكينات وقطع غيار‬
‫مستوردة من بلد عدوه؟!‬
‫وماذا يحدث لو دارت رحى الحرب بين المة السلمية وبين‬
‫أعدائها هؤلء‪ ،‬أو حتى حدثت بينهما مقاطعات؟ هل سنوقف حياتنا‬
‫انتظاًرا لتحسن العلقات مع العداء؟!‬
‫وأوضح من ذلك‪ :‬كيف سنحارب أعداءنا إذا كنا نعتمد عليهم‬
‫ما‬
‫اعتماًدا كلًيا في السلح‪ ،‬وهم الذين يعلمون بالضبط ما قد يكون مه ً‬
‫ما فيمنعوه إيانا‪ ،‬وما قد يكون قليل الهمية ضعيف‬ ‫ومؤثًرا ومتقد ً‬
‫التأثير والجدوى فيبيعونا إياه؟!‬
‫إن هذا ‪ -‬وايم الله ‪ -‬لهو العجب فع ً‬
‫ل!!‬
‫ولين‪ ،‬فهذه إحدى إحصائيات سوق‬
‫وحتى ل نكون مبالغين ول مه ّ‬
‫السلح الدولية‪:‬‬
‫تشير الحصائية إلى أن صادرات أمريكا من السلح ما بين عام‬
‫‪2004 – 2000‬م بلغت ‪ 25.390‬مليار دولر‪ ،‬وهي بذلك تعد الدولة‬
‫الثانية في العالم في تصدير السلح بعد روسيا والتي بلغت قيمة‬
‫صادراتها ‪ 26.9‬مليار دولر في نفس الفترة‪ ..‬وأن ‪ 5.079‬مليار دولر‬
‫من إجمإلى الصادرات المريكية من السلح هي من دول الشرق‬
‫الوسط وأفريقيا‪ ،‬أي من العالم العربي والسلمي‪!!93‬‬
‫وجوهر القضية ليس فقط في دخول هذه الموال الطائلة‬
‫الخزانة المريكية أو غيرها‪ ،‬لكن القضية الحقيقية والكارثة الملمة هي‬
‫في اعتماد هذه الدول اعتماًدا أساسًيا وكلًيا على السلح الخارجي‬
‫فقط!!‬
‫وإضافة إلى أمريكا فإن بريطانيا وحدها ‪ -‬كما تشير الحصائيات‬
‫حا بما يبلغ قيمته ‪ 4.450‬مليار دولر في نفس‬‫ضا ‪ -‬صدرت سل ً‬
‫أي ً‬
‫الفترة‪ ،‬وأن ‪ 1.004‬مليار دولر تأتي من دول الشرق الوسط‬
‫وأفريقيا‪ ،‬أي من العالم العربي والسلمي!!‬
‫ضا إلى أن ‪ %40‬من صادرات فرنسا من‬ ‫وتشير الحصائيات أي ً‬
‫السلح يتجه إلى العالم العربي!! وأن ‪ %18‬من صادرات الصين من‬
‫ضا يتجه إلى نفس المنطقة!! وأن ‪ %15‬من صادرات‬ ‫السلح أي ً‬
‫روسيا من السلح يتجه كذلك إلى العالم العربي !!‬
‫‪94‬‬

‫والملحظ أن دول ً كثيرة ‪ -‬غير إسلمية ‪ -‬لها باع ٌ في سوق‬


‫السلح‪ ،‬لكنها لم تدخل بعد هذه الحصائيات؛ وذلك إما لنها في أول‬
‫طريق التصدير‪ ،‬أو لن تصديرها منه سًرا‪ ،‬وذلك مثل كوريا الشمالية‬
‫والهند وأوكرانيا وصربيا وجمهورية التشيك وغيرها‪..‬‬
‫أما الغريب والعجيب فهو أن تكون إسرائيل هي الدولة الرابعة‬
‫في العالم في تصدير السلح‪ ،‬وذلك بعد أمريكا وروسيا وبريطانيا‪،‬‬
‫متخطية في ذلك دول ً مثل فرنسا والصين وصربيا والتشيك‬
‫وأوكرانيا‪!!..95‬‬
‫وتمثل صادرات السلح في إسرائيل ‪ %40‬من إجمإلى‬
‫صادراتها‪ ،‬وهي أعلى نسبة على مستوى العالم‪!!96‬‬
‫أما الدولة التي حازت بنصيب السد من صادرات السلح‬
‫السرائيلي فهي الهند‪ ..‬العدو التقليدي لباكستان المسلمة!!‬

‫‪ 93‬مركز الهرام للدراسات السياسية و الستراتيجية‪ :‬تقرير التجاهات القتصادية الستراتيجية‬


‫الصادر عام ‪2006‬م ص ‪.118-113‬‬
‫‪ 94‬مركز الهرام للدراسات السياسية والستراتيجية‪ :‬تقرير التجاهات القتصادية الستراتيجية‬
‫ص ‪.118‬‬
‫‪ 95‬موقع مجلة دار الحياة تقرير بعنوان‪ :‬إسرائيل الدولة الرابعة في العالم في تصدير السلح‪،‬‬
‫الرابط‪http://www.daralhayat.com/special/features/09-2005/Item-20050917-65253914-c0a8- :‬‬
‫‪10ed-00a6-5760872f5f4c/story.html‬‬
‫‪ 96‬موقع فلسطين المسلمة‪ :‬تقرير ملف الصناعة الحربية السرائيلية إعداد‪ :‬لواء أركان حرب‬
‫متقاعد حسام سويلم‪ ،‬الرابط‪http://www.fm-m.com/2004/dec2004/story19.htm :‬‬
‫قا أو حزًنا لدى‬
‫فهل مثل هذه الحصائيات ل تمثل غضاضة أو قل ً‬
‫الشباب المسلم الملتزم‪ ،‬وكل من عنده أدنى حمية لمته؟!‬
‫ول يتحجج البعض بأن القضية في ذلك هي مجرد قرار سياسي؛‬
‫إذ أنه لو حدث ذات يوم وتم اتخاذ مثل هذا القرار السياسي ‪ -‬أعني‬
‫القرار بتصنيع السلح والكتفاء الذاتي منه مع ما يتطلبه ذلك من‬
‫مسايرة أحدث تكنولوجيا التسليح في ذلك العصر ‪ -‬فإننا يجب أن‬
‫يكون لدينا قبل هذا القرار العلماء الكفاء في علوم الهندسة والذرة‬
‫والكيمياء والفيزياء والطاقة وغيرها‪ ..‬ممن يستطيعون تصنيع السلح‬
‫المثل‪ ،‬وإل أصبح قرار تصنيع السلح هذا قراًرا ل معنى له‪..‬‬
‫ولتأكيد هذا المعنى وتوضيحه بصورة أكبر كان هناك تقريرات‬
‫أخرى‪..‬‬
‫فقد أشار التقرير القتصادي العربي الموحد لعام ‪2006‬م‪ ،‬إلى‬
‫مواصلة ارتفاع حصة الواردات العربية من الوليات المتحدة وآسيا‪،‬‬
‫ومنها الصين بوجه خاص‪ ،‬وكانت نسبة الواردات العربية الجمإلية قد‬
‫وصلت قيمتها في عام ‪2005‬م إلى ‪ 314.1‬مليار دولر‪!!..‬‬
‫والجانب العظم من الواردات العربية يعتبر من الوليات‬
‫المتحدة‪ ،‬وأهم ما ُيستوَرد منها‪ :‬العدد واللت ووسائل النقل‬
‫المختلفة‪ ،‬حيث تستحوذ على ‪ %60‬من إجمإلى هذه الواردات‪ ،‬ويليها‬
‫في الهمية السلع الغذائية مثل القمح واللحوم‪ ،‬وتمثل حوإلى ‪،%15‬‬
‫ويأتي في المرتبة الخيرة المشروبات الغازية والتبغ ومنتجاته‪ ..‬وتبلغ‬
‫فاتورة الواردات العربية في الغذية وحدها ‪ 20‬مليار دولر سنوًيا‪..‬‬
‫وُتعد واردات مصر ‪ -‬كمثال من تلك الدول ‪ -‬من السلع الغذائية‬
‫‪ %16.8‬من إجمإلى الواردات المصرية‪ ،‬وتستهلك من القمح أكثر من‬
‫‪ 12.2‬مليون طن سنويا‪ ،‬تستورد منها ‪ 6‬مليين طن‪..97‬‬
‫كل هذه الرقام وغيرها تعكس ضعف نسب الكتفاء الذاتي‬
‫ضا إمكانية استخدام هذا‬
‫العربي من السلع الساسية‪ ،‬ويعني أي ً‬
‫الضعف كسلح ضد الدول العربية‪..‬‬
‫قا فهو أن تكون الواردات العربية من المواد الخام‬
‫أما الغريب ح ً‬
‫هي ‪ %5‬فقط )انظر الشكل رقم ‪(2 ،1‬؛ إذ أن ذلك يعني أننا نمتلك‬
‫الكثير من الثروات الطبيعية التي حبا الله ‪ ‬بها بلدنا‪ ،‬وهو يعني في‬
‫ذات الوقت عجزنا الكبير على تحقيق أدنى نسبة تحقيق اكتفاء ذاتي‪..‬‬

‫‪ 97‬موقع صندوق النقد العربي‪ ،‬على شبكة النترنت‪ ،‬الرابط اللكتروني‬


‫‪http://www.amf.org.ae/vArabic/showPage.asp?objectID={1510E2A6-2842-45F5-919B-‬‬
‫‪{76C62AC1AADD‬‬
‫ثم هو يعني ثالًثا أننا نصدر المواد الخام لُيعاد تصنيعها‪ ،‬ثم نستوردها‬
‫مرة أخرى‪ ..‬ولكن بأضعاف مضاعفة‪!!..‬‬
‫ويعتبر السكر من أكثر السلع الغذائية التي تعاني المنطقة‬
‫العربية من عجز دائم فيها‪ ،‬وبدرجة اكتفاء ذاتي تصل لنحو ‪%35‬‬
‫فقط‪ ،‬وتقدر الفجوة الكمية من السكر في الوطن العربي عام‬
‫‪2001‬م بنحو ‪ 4.48‬مليون طن‪ ،‬تصل أقصاها في كل من الجزائر‬
‫والسعودية وسوريا وإليمن ومصر‪ ،‬وبأهمية نسبية تقدر بنحو ‪،%20‬‬
‫‪ %8.4 ،%10 ،%12.1 ،%16.1‬لكل منها على الترتيب‪..98‬‬
‫أما عن السلع الستفزازية‪ ،‬فإن الرقام تشير إلى أن مصر‬
‫وحدها استوردت من أنواع الجبن المختلفة التي تم حصرها في ‪32‬‬
‫عا‪ ،‬ما قيمته نحو ‪ 121‬مليون جنيه في عام واحد‪ ،‬هذه الحقيقة‬
‫نو ً‬
‫تأتى على الرغم من أن مصر تعتبر من الدول المنتجة لللبان‪ ،‬وتأتى‬
‫ضا ‪ -‬وللسف ‪ -‬رغم أن بمصر العديد من شركات تصنيع الجبان‪،‬‬ ‫أي ً‬
‫سواء من الشركات الحكومية أو من شركات القطاع الخاص‪!!..‬‬
‫وتبلغ فاتورة أغذية القطط والكلب المصرية من الخارج في‬
‫خلل ستة شهور فقط حوإلى ‪ 2‬مليون جنيه‪!!..99‬‬
‫والظاهرة الغرب تلك الرقام التي تصل إلى نحو ‪ 5‬مليين‬
‫دولر لستيراد اليس كريم من الخارج‪!!..‬‬
‫أل يدعو ذلك إلى الدهشة والستغراب‪..‬؟!‬
‫ثم أل يدعو كل ذلك إلى تفعيل دور الصناعات عندنا لئل نعتمد ‪-‬‬
‫على القل ‪ -‬على أعدائنا‪..‬؟!‬
‫وإن الحاجة الشديدة إلى ذلك لتظهر بوضوح حين نستعرض‬
‫إحصائيات براءات الختراع للمنظمة العالمية‪ ،‬والتي تعبر عن حقيقة‬
‫الوضع الذي نعيشه‪.‬‬
‫ففي سنة ‪2001‬م قدمت مصر ‪ -‬كواحدة من الدول السلمية ‪-‬‬
‫دا‪ ،‬وفي سنة ‪2002‬م كان نصيبها في براءات الختراع‬ ‫عا واح ً‬
‫اخترا ً‬
‫دا‪ ،‬وفي سنة ‪2003‬م زاد هذا العدد ‪ -‬بفضل الله ‪-‬‬ ‫عا واح ً‬
‫ضا اخترا ً‬
‫أي ً‬
‫عا‪ ،‬وكانت سنة ‪2004‬م قائمة النجاز بوصول‬ ‫ليصل إلى ‪ 12‬اخترا ً‬
‫عا‪ ..‬وهو تطور طيب يدعو إلى‬ ‫عدد براءات الختراع إلى ‪ 78‬اخترا ً‬
‫التفاؤل‪.‬‬
‫‪ 98‬تقرير أوضاع المن الغذائي العربي ‪ ،2002‬الصادر عن المنظمة العربية للتنمية الزراعية‬
‫التابعة لجامعة الدول العربية‪ ،‬والتقرير منشور على موقع المنظمة على شبكة النترنت‪،‬‬
‫الرابط الكتروني ‪http://www.aoad.org/foods/TABLE%20OF%20CONTENTS.htm‬‬
‫‪ 99‬موقع ديوان العرب‪ :‬أشرف شهاب‪ :‬مقال بعنوان‪ :‬مصر تستورد طعام الكلب والقطط‪،‬‬
‫الرابط‪.http://www.diwanalarab.com/spip.php?article13 :‬‬
‫وتعتبر مصر بذلك ثاني دولة إسلمية في تسجيل براءات‬
‫الختراع‪ ،‬أما الدولة السلمية الولى في ذلك فهي تركيا‪ ،‬وحصيلتها‬
‫من عدد براءات الختراع في سنة ‪2004‬م هو ‪ 104‬اختراٍع‪..100‬‬
‫لكن الحقيقة أن هذه النسبة ‪ -‬سواء التي في مصر أو التي في‬
‫دا إذا ما قورنت بغيرها من الدول الخرى‪ ،‬وخاصة‬ ‫تركيا ‪ -‬هي قليلة ج ً‬
‫حين نعلم أن إسرائيل وحدها بلغ نصيبها في تسجيل براءات الختراع‬
‫عا‪ ،‬محتلة بذلك المركز رقم ‪ 15‬بين دول‬‫في نفس العام ‪ 1222‬اخترا ً‬
‫العالم في عدد براءات الختراع المسجلة سنوًيا‪!!..‬‬
‫أما المركز الول فكان ‪ -‬بالطبع ‪ -‬من نصيب أمريكا‪ ،‬والذي‬
‫ضا ‪41.870‬‬ ‫وصل نصيبها فيه من براءات الختراع في نفس العام أي ً‬
‫عا‪ ،‬ومن بعدها‬‫عا!! وتلتها في ذلك اليابان بنحو ‪ 19.982‬اخترا ً‬
‫اخترا ً‬
‫فرنسا‪ ،‬ثم إنجلترا ‪..‬‬
‫‪101‬‬

‫وحتى تتضح الصورة بعض الشيء‪ ،‬فليس معنى تسجيل براءة‬


‫اختراع القتصار فقط على اختراع شيء لم يكن موجوًدا أص ً‬
‫ل‪ ،‬مثل‬
‫التليفزيون أو الكمبيوتر أو ما شابه‪ ،‬وإنما تمنح براءة الختراع عن كل‬
‫إضافة علمية جديدة ناشئة عن فكرة جديدة وجهد في البتكار‪ ،‬وتكون‬
‫قابلة للستغلل الصناعي بما فيها الفلحة‪ .‬ويدخل في ذلك تطوير‬
‫اختراع قائم‪ ،‬أو تحسينه بإدخال بعض التعديلت عليه‪ ،‬مما من شأنه‬
‫أن يرفع من كفاءته‪ ،‬أو يقلل من مضاعفاته الجانبية‪ ،‬أو يساعد على‬
‫تخفيض سعره‪ ،‬أو غيره‪..‬‬
‫عا‪،‬‬
‫أي أن أيّ إضافةٍ على هذا الشيء ولو صغيرة ُيعد اخترا ً‬
‫يستطيع صاحبه أن ُيسجله باسمه في براءات الختراع‪ ،‬ويكون بذلك‬
‫قد أضاف للنسانية شيًئا جدي ً‬
‫دا‪..‬‬
‫وإنه لما كانت هناك دول قليلة السكان ودول أخرى كثيرة‬
‫السكان‪ ،‬فإن العلماء استحدثوا طريقة أخرى أدق لحساب براءات‬
‫الختراع للدول‪ ،‬وذلك بحساب عدد براءات الختراع فيها بالنسبة إلى‬
‫عدد السكان‪ ،‬وكان من نتيجة ذلك أن احتلت إسرائيل المركز الثامن‬
‫بين دول العالم في تسجيل براءات الختراع‪ ،‬وسبقت في ذلك أمريكا‬
‫واليابان وفرنسا وإنجلترا‪ ،‬ودول أخرى كثيرة؛ لن عدد السكان بها‬
‫قليل‪!!..‬‬
‫عا لكل‬
‫وتوضيح ذلك أن بمثل هذه الطريقة يكون هناك اخترا ً‬
‫‪ 5000‬إسرائيلي‪ ،‬في حين أن ذلك الختراع في أمريكا هو لكل‬

‫راجع تقرير التنمية البشرية ‪ ،2006‬مرجع سبق ذكره‪.‬‬ ‫‪100‬‬

‫تقرير التنمية البشرية ‪. 2006‬‬ ‫‪101‬‬


‫ضا فإن‬
‫‪ 6700‬أمريكي‪ ،‬وفي اليابان لكل ‪ 6300‬وعلى هذا القياس أي ً‬
‫النسبة في مصر هي اختراع واحد لكل ‪ 900.000‬مصري‪!!..102‬‬
‫فا‬
‫وغير تصنيف الدول‪ ،‬فإن للشركات على مستوى العالم تصني ً‬
‫ضا في تسجيل براءات اختراع خاصة بها‪ ،‬وكانت الشركة الولى في‬ ‫أي ً‬
‫تقديم أكبر عدد من البراءات هي شركة "فيلبس" الهولندية‪ ،‬محتفظة‬
‫بهذه الصدارة للسنة الثانية على التوالي‪ ..‬ومن بعدها تأتي شركة‬
‫"ماستوشيتا" التي منها "باناسونيك"‪ ،‬ثم "سيمنز" اللمانية‪ ،‬ثم‬
‫"نوكيا" الفلندية‪ ،‬ثم شركة "بوش" اللمانية‪ ،‬ثم "إنتل" المريكية‪ ،‬ثم‬
‫س" اللمانية‪ ،‬ثم "ثري إم" المريكية‪ ،‬ثم "موتورول" المريكية‪ ،‬ثم‬ ‫"ب ُ ّ‬
‫"سوني" اليابانية ‪..‬‬
‫‪103‬‬

‫شركات كثيرة ‪ -‬وللسف ‪ -‬ليس بينها واحدة إسلمية‪ ..‬فكل‬


‫براءات الختراع لدينا إنما هي من نصيب الفراد‪ ،‬وهذا يعني ‪ -‬في‬
‫أهم ما يعنيه ‪ -‬غياب العمل الجماعي أو العمل المؤسسي وعمل‬
‫الفريق الواحد‪ ،‬والذي يعتمد عليه البداع كلية في القرن الحادي‬
‫والعشرين‪!!..‬‬
‫ول شك أن هذه الختراعات تنعكس على طبيعة المواد‬
‫المصدرة من كل دولة‪ ،‬والدول الكبرى هي التي تصدر مواد مصنعة‬
‫دا‪ ،‬كلما ازداد‬
‫أكثر من غيرها‪ ،‬وكلما ازدادت المواد المصنعة تعقي ً‬
‫تقدير العالم لقيمة هذه الدولة علمًيا‪ ..‬ويوضح الجدول رقم )‪(5‬‬
‫طبيعة المواد المصدرة في بعض دول العالم‪.‬‬
‫والسؤال الن‪:‬‬
‫أليس العلم الذي يتحصل به التصنيع والحصول على براءات‬
‫الختراع بدل ً من أن نكون في ذيل الدول الخرى ‪ -‬أليس ذلك عل ً‬
‫ما‬
‫شرعًيا؟!‬
‫أليس العاِلم الذي يصنع السلحة ‪ -‬مثل ً ‪ -‬أو يساعد في تصنيعها‬
‫ما نافًعا لمته‪ ،‬مثاًبا على علمه وعمله هذا من ربه إن أخلص فيه‬‫عال ً‬
‫نيته؟!‬
‫أليس هذا الطريق من الطرق الموصلة إلى الجنة؟‬
‫وقس على ذلك كل العلوم والفروع الخرى‪..‬‬

‫‪ 102‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ 103‬تقرير براءات الختراع لعام ‪ 2005‬الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية‪ ،‬والمنشور‬
‫على موقع المنظمة على شبكة النترنت‪ ،‬الرابط اللكتروني‬
‫‪http://www.wipo.int/edocs/prdocs/en/2005/wipo_pr_2005_403.html‬‬
‫فإن تخلف المسلمين في هذه العلوم الحياتية يعني أنهم إنما‬
‫ُيسلمون رقابهم لسيوف أعدائهم‪..‬‬
‫ول ريب في أن المة التي تعثرت فيها العلوم الطبية أو‬
‫العسكرية أو الهندسية أو الفلكية أو غيرها من العلوم الحياتية‪ ،‬أو تلك‬
‫التي يرتبط تقدمها في هذه العلوم بقرار من أعدائها‪ ..‬ل ريب أن هذه‬
‫المة على حافة هاوية عظيمة‪..‬‬
‫والواقع أنه ل نجاة من ذلك ول مفر إل بفقه قيمة هذه العلوم‬
‫في حياة المة‪ ،‬وفي ميزان السلم‪.‬‬
‫الدليل الخامس‪:‬‬
‫علوم الحياة طريقٌ لمعرفة الله ‪..‬‬
‫ففي القرآن الكريم لم تأت الدعوة للتفكر في الكون مرة أو‬
‫مرتين‪ ،‬إنما جاءت مرات عديدة‪ ،‬وبصور مختلفة‪..‬‬

‫خت َِل ِ‬
‫ف‬ ‫وا ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫في َ ْ‬ ‫قال تعإلي‪ :‬إ ِ ّ‬
‫ض َ‬ ‫والْر ِ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫خل ِ‬ ‫ن ِ‬
‫ع‬ ‫ف ُ‬ ‫ما ي َن ْ َ‬ ‫ر بِ َ‬‫ح َِ‬ ‫ْ‬
‫في الب َ ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ّ‬
‫ك الِتي ت َ ْ‬ ‫فل ْ ِ‬ ‫وال ْ ُ‬ ‫ر َ‬ ‫ها َ ِ‬ ‫والن ّ َ‬ ‫ل َ‬ ‫الل ّي ْ ِ‬
‫َ‬
‫ه اْلْر َ‬
‫ض‬ ‫حَيا ب ِ ِ‬ ‫فأ ْ‬ ‫ء َ‬ ‫ما ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ء ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫و َ‬‫س َ‬ ‫الّنا َ‬
‫ح‬‫ف الّرَيا ِ‬ ‫ري ِ‬ ‫ص ِ‬‫وت َ ْ‬ ‫ة َ‬ ‫داب ّ ٍ‬ ‫ل َ‬ ‫ن كُ ّ‬‫م ْ‬ ‫ها ِ‬ ‫في َ‬ ‫ث ِ‬ ‫وب َ ّ‬ ‫ها َ‬ ‫وت ِ َ‬‫م ْ‬‫عد َ َ‬ ‫بَ ْ‬
‫ت لِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وم ٍ‬ ‫ق ْ‬ ‫ض لَيا ٍ‬ ‫والْر ِ‬ ‫ء َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ر ب َي ْ َ‬ ‫خ ِ‬ ‫س ّ‬‫م َ‬ ‫ب ال ُ‬ ‫حا ِ‬ ‫س َ‬ ‫وال ّ‬ ‫َ‬
‫ن‪. ‬‬
‫‪104‬‬
‫قلو َ‬ ‫ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬
‫ي‬
‫س َ‬
‫وا ِ‬‫ها َر َ‬ ‫في َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ع َ‬
‫ج َ‬‫و َ‬‫ض َ‬ ‫مدّ اْلْر َ‬ ‫ذي َ‬ ‫و ال ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫و ُ‬‫وقال تعإلي‪َ  :‬‬
‫ن كُ ّ‬ ‫َ‬
‫شي‬ ‫غ ِ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫ن اث ْن َي ْ‬
‫‪ِ 105‬‬ ‫جي ْ ِ‬‫و َ‬‫ها َز ْ‬ ‫في َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ع َ‬ ‫ج َ‬
‫ت َ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫ل الث ّ َ‬ ‫م ْ‬
‫و ِ‬‫هاًرا َ‬ ‫وأن ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن‪. ‬‬ ‫فكُرو َ‬‫ّ‬ ‫وم ٍ ي َت َ َ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫في ذَل ِ َ‬ ‫ّ‬
‫اللي ْ َ‬
‫ق ْ‬ ‫ك لَيا ٍ‬ ‫ن ِ‬ ‫هاَر إ ِ ّ‬‫ل الن ّ َ‬
‫جَنا‬
‫خَر ْ‬ ‫فأ َ ْ‬
‫ماءً َ‬ ‫ء َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ذي أ َن َْز َ‬ ‫و ال ّ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬‫وقال تعإلي‪َ  :‬‬
‫حّبا‬ ‫َ‬ ‫ء َ‬ ‫ل َ‬ ‫ت كُ ّ‬
‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫ر ُ‬ ‫خ ِ‬‫ضًرا ن ُ ْ‬ ‫خ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬‫جَنا ِ‬ ‫خَر ْ‬ ‫فأ ْ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫ه ن ََبا َ‬‫بِ ِ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫و َ‬ ‫ة َ‬ ‫دان ِي َ ٌ‬
‫ن َ‬ ‫وا ٌ‬ ‫قن ْ َ‬ ‫ها ِ‬ ‫ع َ‬ ‫ن طَل ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن الن ّ ْ‬ ‫م َ‬ ‫و ِ‬‫مت ََراك ًِبا َ‬ ‫ُ‬
‫ه ان ْظُروا إلى‬‫ُ‬ ‫شاب ِ ٍ‬ ‫مت َ َ‬ ‫وغي َْر ُ‬ ‫َ‬ ‫ها َ‬ ‫شت َب ِ ً‬ ‫م ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫ما َ‬ ‫والّر ّ‬ ‫ن َ‬ ‫والّزي ُْتو َ‬ ‫ب َ‬ ‫عَنا ٍ‬‫أَ ْ‬
‫ث َمره إ َ َ‬
‫ن‪.106‬‬‫مُنو َ‬ ‫وم ٍ ي ُ ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫م َل ََيا ٍ‬ ‫في ذَل ِك ُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫ع ِ‬
‫وي َن ْ ِ‬‫مَر َ‬ ‫ذا أث ْ َ‬ ‫َ ِ ِ ِ‬
‫وهذه الدعوة المتكررة للتفكر في الكون هي دعوة لتعظيم‬
‫وتقدير رب العالمين ‪ ،‬فكلما اتسعت علوم الحياة في ذهن العاِلم‬
‫ما وإجلل ً وإكباًرا لله ‪ ،‬ولذلك قال سبحانه بعد‬
‫كلما ازداد تعظي ً‬

‫)البقرة‪.(164 :‬‬ ‫‪104‬‬

‫)الرعد‪.(3 :‬‬ ‫‪105‬‬

‫)النعام‪.(99 :‬‬ ‫‪106‬‬


‫خ َ‬
‫شى‬ ‫الحديث عن علوم الحياة ‪ -‬وليس علوم الشرع ‪ :-‬إ ِن ّ َ‬
‫ما ي َ ْ‬
‫عل َ َ‬
‫ماءُ‪.107‬‬ ‫ه ال ْ ُ‬
‫عَباِد ِ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه ِ‬
‫َ‬
‫م ت ََر‬ ‫فقد قال سبحانه قبل تقريره في هذه الية مباشرة‪ :‬أل َ ْ‬
‫فا‬‫خت َل ِ ً‬‫م ْ‬ ‫ت ُ‬ ‫مَرا ٍ‬ ‫ه ثَ َ‬ ‫جَنا ب ِ ِ‬ ‫خَر ْ‬ ‫فأ َ ْ‬‫ماءً َ‬‫ء َ‬ ‫ما ِ‬‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ه أ َن َْز َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫أ ّ‬
‫َ‬
‫خت َل ِ ٌ َ‬ ‫َ‬
‫ها‬ ‫وان ُ َ‬‫ف أل ْ َ‬ ‫م ْ‬‫مٌر ُ‬ ‫ح ْ‬
‫و ُ‬ ‫ض َ‬ ‫جدَدٌ ِبي ٌ‬ ‫ل ُ‬ ‫جَبا ِ‬ ‫ن ال ْ ِ‬‫م َ‬ ‫و ِ‬‫ها َ‬ ‫وان ُ َ‬‫أل ْ َ‬
‫خت َل ِ ٌ َ‬
‫ه‬
‫وان ُ ُ‬‫ف أل ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫عام ِ ُ‬ ‫واْل َن ْ َ‬ ‫ب َ‬ ‫وا ّ‬ ‫والدّ َ‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬‫و ِ‬ ‫سودٌ َ‬ ‫ب ُ‬ ‫غَراِبي ُ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫زيٌز‬ ‫ع ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ماءُ إ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫عل َ‬ ‫ْ‬
‫ه ال ُ‬ ‫عَباِد ِ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ّ‬
‫شى الل َ‬ ‫خ َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫َ‬
‫كذَل ِك إ ِن ّ َ‬ ‫َ‬
‫فوٌر‪.108‬‬ ‫غ ُ‬ ‫َ‬

‫فكل علوم المياه والنبات والجيولوجيا والنسان والحيوان هذه‪..‬‬


‫مما يقود إلى خشية الله ‪..‬‬
‫وهذا أينشتاين ‪ -‬وهو عالم غربي ليس مسلم ‪ -‬بعد ما نظر إلى‬
‫الكون الفسيح وتدبر في أفلكه‪ ،‬واستطاع أن يتوصل إلى نظرية‬
‫النسبية‪ ،‬قال مقرًرا وجود الخالق سبحانه‪ :‬وراء هذا الكون قوة خارقة‬
‫ل أعرفها‪!!..109‬‬
‫فالهتمام بهذه العلوم إذن من شأنه أن يؤدي إلى اليمان‬
‫ضا أن يجعل النسان‬ ‫ويرفع من مستواه عند الفرد‪ ،‬ومن شأنه أي ً‬
‫يزداد تمس ً‬
‫كا بالدين كلما تقدم العلم‪ ..‬ولسنا نقصد بذلك العلماء‬
‫فقط‪ ،‬وإنما يرتفع اليمان عند عموم المة بعد أن ينتقل إليهم هذا‬
‫العلم عن طريق علمائها‪..‬‬
‫الدليل السادس‪:‬‬
‫علوم الحياة طريق لفقه وفهم نصوص القرآن الكريم والسنة‬
‫المطهرة‪..‬‬
‫وهي حقيقة كشفها العجاز العلمي الحديث‪ ..‬فكثير من اليات‬
‫الكريمة والحاديث الشريفة ل ُتفهم ول ُيعرف المراد منها على وجه‬
‫الحقيقة إل في ضوء دراسةٍ علميةٍ واعية‪..‬‬
‫وفي واحدة مما ُيثبت تلك الحقيقة‪ ،‬ما جاء حول قوله تعإلي‪:‬‬
‫دا‪.110‬‬ ‫‪‬أ َل َم ن َجعل ال َرض مهادا وال ْجبا َ َ‬
‫وَتا ً‬
‫لأ ْ‬ ‫ْ َ ِ َ ً َ ِ َ‬ ‫ْ َ ِ‬ ‫ْ‬

‫‪) 107‬فاطر‪.(28 :‬‬


‫‪) 108‬فاطر‪.(29-27 :‬‬
‫‪ 109‬انظر مايكل هارت‪ :‬الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله‪ ،‬ترجمة أنيس منصور‪،‬‬
‫الشخصية رقم ‪ 10‬ص ‪. 45‬‬
‫‪) 110‬النبأ‪.(7 ،6 :‬‬
‫ل‬
‫فهاتان اليتان فهمهما علماء السلف وفسروهما على محم ٍ‬
‫ما لما‬
‫ووجه معين‪ ،‬ولما تقدم العلم كان لهما تفسير آخر مغاير تما ً‬
‫كان ُيعتقد فيهما من قبل‪..‬‬
‫قا على الية الثانية من هاتين‬
‫معل ً‬
‫ُ‬
‫‪111‬‬
‫يقول الدكتور زغلول النجار‬
‫اليتين‪ :‬يصف الله ‪ ‬الجبال بأنها أوتاد‪ ،‬وفي ذلك إشارة واضحة إلى‬
‫أن هذه المعالم المدهشة ليست عبارة فقط عن الرتفاعات الشاهقة‬
‫التي نراها على سطح هذه الكرة الرضية )كما تصفها أغلب المعاجم‬
‫ودوائر المعارف الحالية(‪ ،‬إنما يؤكد الله تعالى بهذه العبارة أن للجبال‬
‫امتدادات إلى داخل طبقة الليثوسفير الرضية‪ .‬فكما أن الوتد يكمن‬
‫أغلبه داخل التربة أو الصخر ووظيفته هي تثبيت طرف الخيمة إلى‬
‫الرض فكذلك الجبال‪ ،‬والتي أثبتت علوم الرض حديًثا أن لها جذوًرا‬
‫دا لتثبيت ألواح الليثوسفير‪ ،‬بل والكرة الرضية ككل‪ ،‬فما‬ ‫عميقة ج ّ‬
‫نراه فوق سطح الرض من جبال ما هو إل قمم لكتل ضخمة من‬
‫الصخور مخترقة لطبقة الليثوسفير وطافية في طبقة الثنوسفير‬
‫البلستيكية والعلى كثافة‪ ،‬كما تطفو الجبال الجليدية في مياه‬
‫المحيط؛ فتبلغ امتدادات الجبال داخل طبقة الليثوسفير ما بين ‪- 10‬‬
‫‪ 15‬ضعف ارتفاعاتها فوق سطح الرض )حسب كثافة الصخور‬
‫المكونة للجبل وكثافة المادة التي ينغمس فيه الجذر(‪.‬‬
‫فجبل يبلغ ثقله النوعي ‪ specific gravity 2.7‬في المتوسط‬
‫ل( يستطيع أن يغوص داخل طبقة من الصخور‬ ‫)كالجرانيت مث ً‬
‫السيماتية ‪) simatic rock‬البالغ ثقلها النوعي ‪ 3.0‬في المتوسط( حتى‬
‫يبلغ طول الجزء القابع داخل الرض ‪ 9/10‬والجزء الظاهر فوق سطح‬
‫الرض ‪ 1/10‬من الطول الجمالي‪.‬‬
‫ة واحدة ٌ ‪ -‬وهي كلمة الوتد ‪ -‬جزئي‬
‫وهكذا نرى كيف تصف كلم ٌ‬
‫الجبل العلوي والسفلي ووظيفته من تثبيت للكرة الرضية وألواح‬
‫الليثوسفير‪ ،‬وبالتالي فإن الكلمة التي يستخدمها القرآن الكريم‬
‫لوصف الجبال أكثر دقة من الناحية العلمية واللغوية من كلمة "جذر"‬
‫المستخدم حالًيا من قبل العلماء لوصف الجزء السفلي المختبئ‬
‫داخل الرض‪.‬‬
‫ويتابع الدكتور زغلول قوله‪ :‬ومع أن العلماء فكروا ملّيا منذ‬
‫أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أنه يمكن أن تكون‬
‫للجبال جذور‪ ،‬إل أن العلماء لم يؤكدوا هذه الحقيقة من وجود‬
‫امتدادات سفلية وظيفتها تثبيت الرض وألواح الليثوسفير إل مؤخًرا‪.‬‬

‫‪ 111‬هو زغلول راغب النجار من موإليد محافظة الغربية‪ ،‬عام ‪ ،1933‬تخرج من جامعة القاهرة‬
‫عام ‪1955‬م وكان أول دفعته ومنح العديد من الجوائز‪ ،‬وأشرف على عدد كبير من البحاث‬
‫العلمية‪ ،‬ومؤلفاته العلمية تربوا على مائة وخمسين بحًثا‪ ،‬وله العديد من المقالت والمرئيات‬
‫التي تحدث فيها عن العجاز العلمي في القرآن الكريم‪.‬‬
‫ولم نصل إل لبداية فهم عملية تكوين تلك المتدادات السفلية‬
‫ووظيفتها في توقيف الهتزازات المفاجئة لكوكبنا وللواح الليثوسفير‬
‫من خلل إطار علوم الفلك الحديثة‪ ،‬ومن خلل المفهوم الحديث‬
‫لتكتونية اللواح الليثوسفيرية‪.‬‬
‫ويعتبر سبق القرآن الكريم في وصف الجبال كالوتاد شهادة‬
‫دا ‪ ‬هو آخر‬ ‫واضحة أن القرآن الكريم كلمة الله ‪ ‬وأن محم ً‬
‫المرسلين‪.112‬‬
‫ومثل هذا التفسير العلمي من شأنه أن يوقفنا على الفهم‬
‫الحقيقي والتفسير الصحيح المراد من مثل هذه اليات الكريمة‪،‬‬
‫ضا يعرفنا بالعجاز العلمي الذي يحويه دستور المة منذ أكثر من‬
‫وأي ً‬
‫ألف وأربعمائة عام‪ ..‬فضل عما يمكن أن يكون سبًبا لكثير من غير‬
‫المسلمين ممن ولعوا بالحقائق العلمية‪!!..‬‬
‫ضا وهذه الحقيقة العلمية هي أفضل بكثير‬ ‫ومثل هذا التفسير أي ً‬
‫من أن نذكر ما وقف عليه مفسرونا السابقون‪ ،‬من أن المقصود‬
‫بقوله تعإلي‪ :‬والجبال أوتادا‪ ‬هو أنه سبحانه ‪ -‬كما يقول الطبري‬
‫مثل ً في تفسيره ‪" -‬جعل الجبال للرض أوتادا أن تميد بنا"‪..113‬‬
‫وفي واحدة أخرى من مثل هذه التفسيرات العلمية لنصوص‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬والتي كان لها بالغ الثر على غير المؤمنين به حين‬
‫أكدتها وأثبتتها الحقائق العلمية‪ ،‬ما جاء في أول سورة القمر‪ ،‬وهو‬
‫مُر‪.114‬‬ ‫ق ال ْ َ‬
‫ق َ‬ ‫وان ْ َ‬
‫ش ّ‬ ‫ة َ‬
‫ع ُ‬
‫سا َ‬
‫ت ال ّ‬ ‫قوله تعإلي‪ :‬ا ْ‬
‫قت ََرب َ ِ‬
‫فبعد محاضرة ألقاها الدكتور زغلول النجار في كلية الطب‬
‫جه إليه سؤا ٌ‬
‫ل حول‬ ‫بجامعة كاريف في مقاطعة ويلز غربي بريطانيا‪ ،‬وُ ّ‬
‫اليات السابقة‪ ،‬وهل هذه اليات تمثل ومضة من ومضات العجاز‬
‫العلمي في كتاب الله؟‬
‫دا‬
‫وفي رده قال بأن معجزة انشقاق القمر التي وقعت تأيي ً‬
‫للنبي ‪ ‬في مواجهة الكفار تم إثباتها حديثا‪ ،‬ثم دّلل على ذلك بما‬
‫أثبته العلماء‪ ،‬وبعد أن أتم إجابته استأذن رجل بريطاني في إضافة‬
‫شيء إلى كلم الدكتور زغلول‪..‬‬
‫فبدأ بتعريف نفسه‪ ،‬وأنه ُيدعى "داود موسى بيدكوك"‪ ،‬مسلم‬
‫ويرأس الحزب السلمي في بريطانيا‪ ،‬ثم راح هذا الرجل يذكر أن‬
‫هذه اليات بعينها كانت السبب في إسلمه!!‬

‫اانظر لدكتور زغلول النجار‪ :‬مقال بجريدة الهرام المصرية‪ ،‬بتاريخ ‪2001 /12 /31‬م‪.‬‬ ‫‪112‬‬

‫الطبري‪ :‬جامع البيان عن تأويل آي القرآن ‪.12/397‬‬ ‫‪113‬‬

‫)القمر‪.(1 :‬‬ ‫‪114‬‬


‫وكانت البداية حين أهداه أحد المسلمين ترجمة لمعاني القرآن‪،‬‬
‫فكان أول ما قرأ بداية سورة القمر‪ ،‬وفيها واقعة انشقاق القمر‪ ،‬فلم‬
‫جا‬
‫در الله له أن يرى برنام ً‬
‫يصدق ذلك وأغلق القرآن‪ ،‬وذات يوم ق ّ‬
‫على قناة ‪ BBC‬استضاف فيه المذيع ثلثة من علماء الفضاء‬
‫المريكيين وذلك عام ‪1978‬م‪ ،‬وكان المذيع في هذه الحلقة يتحامل‬
‫على علماء الفضاء في السراف الزائد في إنفاق المليين والمليارات‬
‫في مشاريع غزو الفضاء‪ ،‬في الوقت الذي يتضور فيه المليين من‬
‫الفقر والجوع والتخلف‪..‬‬
‫وكان جواب العلماء أنه بفضل هذا الرحلت تم تطوير عدد من‬
‫التقنيات التي تطبق في مجال الطب والتشخيص العلجي والزراعة‬
‫وغير ذلك‪ ،‬ثم قالوا بأنهم توصلوا إلى اكتشاف لو أنفقوا أضعاف هذه‬
‫المبالغ لقناع الناس بهذه الحقيقة ما صدقهم أحد!!‬
‫وهنا سألهم المذيع عن هذه الحقيقة فقالوا‪ :‬إن القمر سبق له‬
‫أن انشق ثم التحم )انظر صورة رقم ‪ ،(1‬وأن أثاًرا محسوسة تؤيد‬
‫ذلك الحدث قد وجدت على سطح القمر وامتدت بداخله!!‬
‫فعاد السيد بيدكوك إلى ترجمة القرآن‪ ،‬فقرأ اليات ثم قال‪:‬‬
‫معجزة لمحمد في القرآن منذ أربعة عشر قرًنا يذكرها القرآن ويثبتها‬
‫قا‪!!..‬‬‫العلم الحديث‪ ،‬فلبد أن يكون هذا القرآن ح ً‬
‫فكانت هذه اليات هي السبب المباشر وراء إسلم "داود‬
‫موسى بيدكوك"‪..115‬‬
‫فهذه ول شك إضافة طيبة إلى أمة السلم‪ ،‬ونحن في ذلك‬
‫س الحاجة إلى علماء مسلمين يكتشفون لنا مثل هذه الحقائق‪،‬‬ ‫بأم ّ‬
‫لتكون حجة دامغة على العباد‪ ،‬وأل ننتظر لن يقوم علماء أمريكيون‬
‫أو روس أو غيرهم بهذا الدور‪ ،‬ثم ل يكون دورنا إل أن ُنسقط ذلك‬
‫الكشف العلمي على ما جاء في آيات القرآن الكريم وسنة نبينا ‪،‬‬
‫وهما اللذان ل تنقضي عجائبهما‪..‬‬
‫وعليه فإن العلوم الحياتية مكملة للعلوم الشرعية‪ ،‬وهي ُتساعد‬
‫على فهم القرآن الكريم‪ ،‬ومن ثم على هداية الناس لرب‬
‫العالمين‪!!..‬‬
‫ما إلى العلماء المسلمين المبدعين في هذه‬ ‫والمة ستحتاج دو ً‬
‫العلوم الحياتية‪ ،‬الذين يفقهون علمهم إلى جوار فقه اليات القرآنية‬
‫والحاديث الشريفة‪ ،‬فيستطيعون الربط بين هذا وذاك‪ ،‬ومن ثم‬
‫نستطيع فهم وتفسير النصوص القرآنية والنبوية‪ ..‬ول شك أن هذا‬
‫سيظهر لنا قيمة ذلك الكنز العظيم الذي بين أيدينا‪..‬‬
‫دكتور زغلول النجار مقال بعنوان "داود موسى بيدكوك" جريدة الهرام ‪.22/5/2005‬‬ ‫‪115‬‬
‫فإذا كان في أمتنا الفلكي البارع‪ ،‬وعالم النبات المتفوق‪ ،‬وعالم‬
‫الحيوان النابغة‪ ،‬والطبيب الواعي‪ ،‬والجغرافي الفاهم‪ ..‬ل شك أن‬
‫مثل هؤلء سيفتحون أبواًبا واسعة لفقه العجاز العلمي العجيب في‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬وسيصبح هذا الفتح سبًبا رئيسًيا لدعوة غير المسلمين‬
‫إلى السلم‪.‬‬
‫وما أكثر أولئك الذين دخلوا السلم عند مشاهدتهم للعجاز‬
‫العلمي في اثنين من مصادر شريعتنا‪ :‬القرآن والسنة!!‬
‫الدليل السابع‪:‬‬
‫هل من مصلحة الدعوة أن يكون حاملوها في ذيل أهل‬
‫التخصص؟! سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو على مستوى‬
‫المجتمع‪ ،‬أو حتى على مستوى المة ككل‪..‬؟!‬
‫وبصورة أوضح‪ ..‬إذا كان الطالب المسلم الملتزم بدينه غير‬
‫قا في علومه بين أقرانه‪ ..‬هل‬‫متفوق في دراسته‪ ،‬ولم يكن ساب ً‬
‫سيكون قدوة بين الطلب‪ ،‬ومن ثم يقلدونه في منهج حياته‪ ،‬ويتبعونه‬
‫في دعوته؟! وهل سيطمئن الباء على أبنائهم في صحبتهم له؟!‬
‫ت‬
‫ص بسم ٍ‬ ‫ب أو متخص ٌ‬
‫إن من أخطر المور أن يتميز طال ٌ‬
‫ر‪ ،‬ثم تخاله في مجال دراسته أو في تخصصه‪ ،‬أو‬ ‫إسلمي ودعوي ظاه ٍ‬
‫حتى في مهنته ‪ -‬تخاله قليل العلم‪ ،‬أو ضعيف المستوي‪ ،‬أو بطيء‬
‫الداء‪ ..‬فهذه ‪ -‬ول شك ‪ -‬دعوة سلبية‪ ،‬وهي دعوة إلى ترك هذا الدين‬
‫الذي يلتزمه هذا المتأخر وذاك الضعيف‪ ،‬وذلك إما من أجل الخوف‬
‫من أن يماثله في تأخره وضعفه‪ ،‬أو خوًفا من أن تتعطل أو تتعثر‬
‫مسيرة العلوم‪..‬‬

‫عل َْنا‬ ‫وقد قال العلماء في تفسير قوله تعإلي‪َ :‬رب َّنا َل ت َ ْ‬
‫ج َ‬
‫ن‪ 116‬قالوا‪ :‬إن معنى الدعاء في هذه الية‪ :‬أن‬ ‫مي َ‬ ‫وم ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫ة ل ِل ْ َ‬
‫ق ْ ِ‬ ‫فت ْن َ ً‬
‫ِ‬
‫ل تجعل الكافرين أعلى من المؤمنين وأعظم؛ فيفتن الكافرون بذلك‪،‬‬
‫صرنا عليهم‪ ،‬ولو كانوا على‬ ‫ويقولوا‪ :‬لو كان هؤلء على الحق ما ن ُ ِ‬
‫الحق ما كانوا أضعف منا وأهون‪..117‬‬
‫دا من المريكيين أسلم حديًثا يحمد الله أنه‬
‫ولقد سمعت واح ً‬
‫قرأ عن السلم واقتنع به قبل أن يرى حال المسلمين‪ ،‬وإل لكانت‬
‫فرصة إسلمه ضعيفة‪ ..‬والسبب أنه ربما لم تكن ستواتيه فرصة‬
‫القتناع بهذا الدين الذي ل يدفع أصحابه ‪ -‬كما يعبر حالهم ‪ -‬إلى العلم‬
‫والتقدم والعمل‪ ..‬لكنه ‪ -‬بفضل الله ‪ -‬كان قد قرأ عن السلم قبل أن‬
‫يرى المسلمين‪ ،‬وعلم أنه يدعو إلى العمل ويحث على العلم ويحض‬
‫)يونس‪.(85 :‬‬ ‫‪116‬‬

‫ابن كثير‪ :‬تفسير القرآن العظيم ‪ .2/563‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪117‬‬


‫ضا أن هؤلء‬
‫على الفضيلة والمعاني الجميلة‪ ،‬وإعمار الرض‪ ..‬وعلم أي ً‬
‫المسلمين الذين يراهم ل يمثلون حقيقة الدين السلمي‪ ،‬بل هم‬
‫مخالفون لمبادئه‪ ،‬بعيدون عن تطبيق قوانينه‪..‬‬
‫والمر في النهاية ل يخرج عن أن يكون فتنة؛ فكم من البشر‬
‫دوا عن سبيل الله برؤية تأخر المسلمين هذا وبمعاينة تخلفهم‬
‫ص ّ‬
‫ُ‬
‫وضعفهم؟!!‬
‫أفل يدعو كل ذلك المسلمين إلى النبوغ في مجالت العلوم‬
‫ما كما ينبغون في العلوم الشرعية؟!‬
‫الحياتية‪ ،‬تما ً‬
‫إن هذا ‪ -‬والله ‪ -‬لهو الحق الذي ل ريب فيه‪..‬‬
‫الدليل الثامن‪:‬‬
‫أمر الله ‪ ‬المسلمين بالتقان في كل شيء‪ ..‬واهتم السلم‬
‫بالمتمرسين والمتفوقين في كل مجال‪ ،‬وأولهم القيادة على ذلك‪،‬‬
‫وأعطى التبعية لغيرهم ومن دونهم‪..‬‬
‫ففي كلمته الجامعة فيما يرويه المام مسلم عن شداد بن‬
‫عَلى ك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫ن َ‬ ‫سا َ‬ ‫ح َ‬ ‫ب اْل ِ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ك َت َ َ‬ ‫أوس <‪ ،‬قال رسول الله ‪: ‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫م َ‬ ‫قت ْل َ َ‬ ‫سُنوا ال ْ ِ‬ ‫قت َل ْت ُم َ َ‬
‫ذا َ‬ ‫ء‪َ ،‬‬ ‫َ‬
‫سُنوا‬
‫ح ِ‬‫فأ ْ‬ ‫حت ُ ْ‬‫ذا ذَب َ ْ‬ ‫وإ ِ َ‬
‫ة‪َ ،‬‬ ‫ح ِ‬‫فأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫فإ ِ َ‬ ‫ي ٍ‬‫ش ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ه "‪.‬‬ ‫حت َ ُ‬‫ح ذَِبي َ‬ ‫ر ْ‬ ‫فلي ُ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ش ْ‬
‫فَرت َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫حدُك ُ ْ‬
‫حد ّ أ َ‬
‫ولي ُ ِ‬ ‫ح‪َ ،‬‬‫الذّب ْ َ‬
‫‪118‬‬

‫وانظر إلى قوله "كل شيء"؛ فهي تعني ‪ -‬فيما تعنيه ‪ -‬أن الله‬
‫‪ ‬كتب الحسان على المسلم في علمه الشرعي‪ ،‬وكذلك في علمه‬
‫الحياتي‪ .‬ول شك أن الحسان هذا يقتضي التفوق والنبوغ والسيادة‬
‫والريادة‪..‬‬
‫وعلى ما هو واضح من سياق اليات الكريمة في كتاب الله‪،‬‬
‫وكذلك من سياق حياة رسول الله ‪ ،‬فإن القيادة ُتساق دو ً‬
‫ما إلى‬
‫المتفوق‪ ،‬والناس جميًعا يكونون تبًعا لهذا المتفوق‪ .‬ول تشذ هذه‬
‫القاعدة في حال المم والشعوب؛ فالمة المتفوقة تكون قائدة‪،‬‬
‫وتتبعها غيرها من المم‪ ،‬وهكذا‪..‬‬
‫ومصداق ذلك في كتاب الله ‪ ،‬ما كان من إعطائه سبحانه‬
‫القيادة لطالوت ~‪ ،‬وقد علل ذلك صراحة بأنه سبحانه زاده بسطة‬
‫في العلم والجسم‪ .‬وليس يخفى على أحد أن المقصود بالعلم هنا‬
‫ضا العلم بأمور الحرب والقيادة‬
‫ليس هو العلم الشرعي فقط‪ ،‬وإنما أي ً‬
‫والدارة‪ ،‬وغير ذلك مما يلزم القائد العسكري من معارف وعلوم‪..‬‬
‫‪ 118‬مسلم‪ :‬كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان‪ ،‬باب المر بإحسان الذبح والقتل وتحديد‬
‫الشفرة )‪ ،(1955‬وأبو داود )‪ ،(2815‬والترمذي )‪ ،(1409‬والنسائي )‪ ،(4405‬وابن ماجة )‬
‫‪ ،(3170‬وأحمد )‪ ،(17154‬والدارمي )‪ ،(1970‬وابن حبان )‪.(5883‬‬
‫وتصديق ذلك أنه كان من الممكن أن ُتعطى هذه القيادة للنبي ذاته‪،‬‬
‫والذي هو أعظم الناس ‪ -‬بل شك ‪ -‬تفوًقا في مجال العلم الشرعي‪،‬‬
‫وهو يوحى إليه‪ ،‬لكن النبي لم يقد الجيش في المعركة‪ ،‬وإنما قال‬
‫طاُلو َ‬
‫م َ‬‫ث ل َك ُ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ً ‪119‬‬
‫مل ِكا‪. ‬‬
‫ت َ‬ ‫ع َ‬ ‫ه َ‬
‫قد ْ ب َ َ‬ ‫للمل من بني إسرائيل‪ :‬إ ِ ّ‬
‫فهذا مجال تفوقه‪ ..‬وذاك سبب قيادته‪..‬‬
‫وكذلك فإن يوسف ‪ ‬لما عرضت عليه الوزارة في مصر قال‪:‬‬
‫م‪.120‬‬ ‫في ٌ‬ ‫ْ َ‬ ‫عَلى َ‬
‫عل ِْني َ‬ ‫‪‬ا ْ‬
‫عِلي ٌ‬
‫ظ َ‬ ‫ح ِ‬
‫ض إ ِّني َ‬
‫ن الْر ِ‬‫خَزائ ِ ِ‬ ‫ج َ‬
‫فهو هنا يذكر أن المجال الذي يتخصص فيه ويبدع هو مجال‬
‫القتصاد وإدارة المال‪ ،‬ومن ثم لم يتردد في أن يعرض خدماته في‬
‫هذا المجال المهم‪ ،‬ولم يقبل مكاًنا آخر‪ ،‬حتى ولو كان مرموًقا‬
‫ومؤثًرا‪ ..‬وخلفيته الدافعة له في هذا الختيار هي مستوى علمه في‬
‫هذا الجانب‪ ،‬ومدى تمكنه منه‪.‬‬
‫ولو كان المقصود بالعلم في قوله "إني حفيظ عليم" العلم‬
‫حا لكل المناصب‪ ،‬وليس‬‫الشرعي وعلم الوحي‪ ،‬لكان يوسف ‪ ‬صال ً‬
‫فقط في القتصاد وإدارة المال؛ إذ أنه أعلى الجميع بل جدال في هذا‬
‫الجانب الشرعي‪ ،‬ولكن الواضح أنه كان يتميز ‪ -‬إضافة إلى ذلك ‪ -‬في‬
‫جانب القتصاد‪ ،‬ومن ثم فقد اختاره وفضله‪..‬‬
‫ولما وّلى رسول الله ‪ ‬الصحابي الجليل عمرو بن العاص <‬
‫إمارة سرية ذات السلسل‪ ،‬ووضع تحت إمرته عظماء الصحابة‬
‫وسابقيه إلى السلم‪ ..‬فإنه لم يفعل ذلك لنه كان يرى أن عمرو بن‬
‫ما بأمور الشرع والدين‪ ،‬وإنما لنه ‪ ‬كان يرى‬‫العاص أكثر منهم عل ً‬
‫أنه أعلمهم بأمور الحرب‪ ،‬وفنون القتال والنزال والمناورة‪ ،‬وهو الذي‬
‫لم يكن قد مضى على إسلمه بعد أكثر من خمسة شهور فقط‪ ..‬ومن‬
‫ثم تجده ‪ ‬وقد قال في وضوح‪" :‬لقد وليته لنه أبصر‬
‫بالحرب‪."121‬‬
‫دمه على عمالقة عظام‬ ‫فإتقان عمرو بن العاص < وتفوقه ق ّ‬
‫من الصحابة‪ ،‬كأبي بكر وعمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح‬
‫وُأسْيد بن حضير‪ ،‬وغيرهم ‪ ‬أجمعين‪ ،‬وليس ذلك إل لفقه الرسول‬
‫‪ ‬لهمية إتقان العلم الحياتي اللزم للحرب والجهاد‪.‬‬
‫وقد أمر رسول الله ‪ ‬المسلمين أن يقلدوا نابغين من‬
‫الصحابة في قراءة القرآن فعن عبد الله بن عمرو } أن رسول الله‬
‫ه‪،‬‬ ‫عبد َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ذوا ال ْ ُ‬ ‫‪ ‬قال‪ُ " :‬‬
‫خ ُ‬
‫فب َدَأ ب ِ ِ‬ ‫م َ ْ ٍ‬
‫نأ ّ‬‫ن اب ْ ِ‬
‫م ْ‬
‫ة‪ِ :‬‬
‫ع ٍ‬
‫ن أْرب َ َ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬
‫قْرآ َ‬
‫)البقرة‪.(247 :‬‬ ‫‪119‬‬

‫)يوسف‪.(55 :‬‬ ‫‪120‬‬

‫السيوطي‪ :‬تاريخ الخلفاء ص ‪.96‬‬ ‫‪121‬‬


‫وَلى أ َِبي‬
‫م ْ‬
‫سال ِم ٍ َ‬
‫ب‪ ،‬و َ َ‬ ‫ن كَ ْ‬
‫ع ٍ‬ ‫ي بْ ِ‬
‫ومعاذ بن جبل‪ُ َ ،‬‬
‫وأب َ ّ‬ ‫َ ُ َ ِ ْ ِ َ َ ٍ‬
‫ة‪."122‬‬ ‫حذَي ْ َ‬
‫ف َ‬ ‫ُ‬
‫فلم يقل ذلك ‪ ‬لعلو قدر هؤلء النفر عن بقية الصحابة مثل ً‬
‫في التقوى أو الزهد أو الورع‪ ،‬أو لنهم كان يكثرون من القيام أو‬
‫الصيام أو النافلة أو غيرها‪ ..‬وإنما قال ‪ ‬ذلك في حقهم؛ لتقانهم‬
‫للقراءة‪ ،‬وتمكنهم من النطق بها كما ينبغي‪ ..‬ولذلك وجب على‬
‫الجميع أن يتبعوهم فيها‪..‬‬
‫وعندما أمر رسول الله ‪ ‬بلل ً أن يصدع بأذان الصلة‪ ،‬لم‬
‫دمه لحلوة‬ ‫يأمره بذلك لعلمه الشرعي أو لسبقه أو لهجرته‪ ،‬إنما ق ّ‬
‫صوته في الذان‪ ،‬وتفوقه في هذا المجال‪ ،‬بل إنه ‪ ‬لم ُيقدم في‬
‫ذلك عبد الله بن زيد <‪ ،‬ذاك الصحابي الذي رأى الرؤيا التي كانت‬
‫ع‬
‫م َ‬
‫م َ‬ ‫ف ُ‬
‫ق ْ‬ ‫ق‪َ ،‬‬‫ح ّ‬
‫ؤَيا َ‬ ‫ه ل َُر ْ‬
‫ذ ِ‬‫ه ِ‬ ‫ن َ‬
‫سبًبا في تشريع الذان‪ ،‬وقال له‪" :‬إ ِ ّ‬
‫ل لَ َ‬ ‫َ‬ ‫فإن ّه أ َن ْدى َ‬
‫ك‪،‬‬ ‫قي َ‬‫ما ِ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ق َ‬ ‫ك‪ْ َ ،‬‬
‫فأل ِ‬ ‫من ْ َ‬
‫وًتا ِ‬
‫ص ْ‬
‫مد ّ َ‬
‫وأ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل َ ِ ُ‬ ‫ب َِل ٍ‬
‫ول ْي َُناِد ب ِذَل ِك "‪.‬‬
‫َ ‪123‬‬
‫َ‬
‫وكذلك في أمور الطب كان ‪ ‬أي ً‬
‫ضا يأمر بالعلج عند المهر‬
‫والتقن في تلك الصنعة‪ ..‬وقد روى المام مالك ~ في الموطأ أن‬
‫رجل ً من الصحابة أصيب بجرح‪ ،‬فدعا النبي ‪ ،‬رجلين من بنى أنمار‬
‫فنظروا إليه‪ ،‬فسألهما رسول الله ‪ :‬أّيكم أط ّ‬
‫ب )أي أمهر في‬
‫الطب(؟ فقال‪ :‬أوفي الطب خيٌر يا رسول الله؟ فقال‪" :‬أنزل الدواء‬
‫الذي أنزل الداء"‪ 124‬يعني الله ‪..‬‬
‫قا على هذا الحديث يقول ابن القيم ~‪" :‬إنه يجب‬‫و تعلي ً‬
‫الستعانة في كل علم وصناعة بأحذق من فيها فالحذق؛ فإنه إلى‬
‫الصابة أقرب"‪..125‬‬
‫أما الذي ل يتقن الصنعة وهو يشتغل بها‪ ،‬فقد يؤذى ويضر بدل ً‬
‫ضا فأذاه‪,‬‬‫من أن ينفع‪ ..‬ولذلك كان الحكم الفقهي على من عالج مري ً‬
‫س فيه‪ ،‬فإنه‬ ‫ولم يكن معروًفا عن هذا المعاِلج أنه ماهٌر بالطب متمر ٌ‬
‫يتحمل المسئولية عن ذلك‪ ،‬بأن يدفع ما يعوض المريض عن مقدار‬
‫الذى الذي وقع له‪ ..‬بينما ل يقع ذلك الحكم على الطبيب الذي عرف‬
‫عنه التقان والمهارة في صنعته‪..‬‬

‫‪ 122‬البخاري‪ :‬كتاب فضائل الصحابة‪ ،‬باب مناقب أبي بن كعب )‪ ،(3597‬ومسلم‪ :‬كتاب فضائل‬
‫الصحابة‪ ،‬باب فضائل عبد الله بن مسعود وأمه )‪ ،(2464‬واللفظ له‪ ،‬والترمذي )‪،(3810‬‬
‫وأحمد )‪ ،(6786‬والحاكم )‪.(4999‬‬
‫‪ 123‬الترمذي‪ :‬أبواب الصلة‪ ،‬باب بدء الذان )‪ ،(189‬وقال حسن صحيح‪ ،‬وابن خزيمة )‪،(373‬‬
‫والبيهقي في سننه )‪.(1818‬‬
‫‪ 124‬مالك‪ :‬كتاب العين‪ ،‬باب تعالج المريض )‪ ،(1689‬واللفظ له‪ ،‬والطبراني في الكبير )‪،(7395‬‬
‫وابن أبي شيبة )‪،(23420‬‬
‫‪ 125‬ابن القيم‪ :‬زاد المعاد ‪.4/121‬‬
‫روى أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عبد الله بن‬
‫ب‬
‫ه طِ ّ‬
‫من ْ ُ‬ ‫عل َ ُ‬
‫م ِ‬ ‫وَل ي ُ ْ‬ ‫ن ت َطَب ّ َ‬
‫ب َ‬ ‫عمرو } أن رسول الله ‪ ‬قال‪َ " :‬‬
‫م ْ‬
‫ن"‪.126‬‬
‫م ٌ‬
‫ضا ِ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫ف ُ‬
‫ولخص الحكم الفقهي في ذلك الفقيه الطبيب الفيلسوف ابن‬
‫رشد القرطبي الحفيد فقال‪ :‬أما الطبيب وما أشبه إذا أخطأ في فعله‬
‫وكان من أهل المعرفة‪ ،‬فل شيء عليه في النفس‪ ،‬والدية على‬
‫العاقلة )يعني العصبة( فيما فوق الثلث‪ ،‬وفي ما له فيما دون الثلث‪.‬‬
‫وإن لم يكن من أهل المعرفة فعليه الضرب والسجن والدية‪ ،‬قيل في‬
‫ماله وقيل على العاقلة‪.127‬‬
‫وفي هذا الطار فقد أمر ‪ ‬أن يعاَلج سعد بن معاذ‪ <128‬عند‬
‫الصحابية الجليلة رفيدة‪130> 129‬؛ لنها ماهرة بالطب‪ ،‬مع أن البيئة في‬
‫ذلك الوقت لم تكن بعد قد تعارفت على معالجة المرأة للرجال‪،‬‬
‫ولكن لعلمها بالطب وإتقانها له كانت لها هذه المكانة السامية‪..‬‬
‫بل إنه أمر سعد بن أبي وقاص < أن يأتي الحارث بن كلدة‪،131‬‬
‫الطبيب العربي المعروف ‪ -‬وهو من قبيلة ثقيف ‪ -‬ليعاَلج عنده‪ ،‬مع أن‬
‫هذا الطبيب لم يثبت إسلمه بعد‪ ..‬ولكن لتقانه لحرفته وصنعته‬
‫ومهارته فيها‪ ،‬قِبل رسول الله ‪ ‬أن يعاَلج عنده المسلم‪!!132‬‬
‫كل هذه المور تصب في النهاية في أمر واحد‪ ،‬وهو أن التقان‬
‫مطلوب في كل مهنة وحرفة وصنعة‪ ..‬وذلك التقان ل يأتي إل بعلم‬
‫ودراسة‪ ،‬وخبرة وكفاءة‪..‬‬
‫أما غير المتمرس في صنعة ما وغير الخبير بها‪ ..‬فل يؤخذ‬
‫برأيه‪ ،‬مهما كانت مكانته في التقوى والصلح والورع‪ ..‬وليس أدل‬
‫على ذلك من قصة تأبير النخل في المدينة‪..‬‬

‫‪ 126‬أبو داود‪ :‬كتاب الديات‪ ،‬باب من تطبب بغير علم )‪ ،(4586‬والنسائي )‪ ،(4830‬وابن ماجة )‬
‫‪ ،(3466‬والحاكم )‪ ،(7484‬وقال صحيح السناد ولم يخرجاه‪ ،‬ووافقه الذهبي‪ ،‬وقال اللباني‪:‬‬
‫صحيح‪ ،‬السلسلة الصحيحة )‪.(635‬‬
‫‪ 127‬ابن رشد‪ :‬بداية المجتهد ‪.1/997‬‬
‫‪ 128‬سعد بن معاذ بن عبد الشهل‪ ،‬أسلم بالمدينة بين العقبة الولى والثانية على يدي مصعب بن‬
‫ي يوم الخندق بسهم فعاش شهًرا‪ ،‬ثم انتفض جرحه‬ ‫م َ‬
‫دا والخندق‪ ،‬وُر ِ‬
‫عمير‪ ،‬وشهد بدًرا وأح ً‬
‫فمات منه‪ ،‬وكان موته بعد الخندق بشهر‪ .‬الصابة الترجمة )‪ ،(3200‬أسد الغابة ‪.2/239‬‬
‫‪129‬‬
‫م بالخندق؛ قال‬‫رفيدة‪ :‬امرأة من أسلم‪ ،‬كان رسول الله ‪ ‬حين أصاب سعد بن معاذ السه ُ‬
‫لقومه‪ :‬اجعلوه في خيمةِ ُرفيدة حتى أعوده من قريب‪ ،‬فكانت تداوي الجرحى‪ ،‬وتخدم من‬
‫كانت به ضيعة من المسلمين‪ .‬أسد الغابة ‪،6/114‬الصابة الترجمة )‪.(11169‬‬
‫‪ 130‬الطبري‪ :‬تاريخ المم والملوك ‪ ،2/100‬ابن سيد الناس‪ :‬عيون الثر ‪ ،2/103‬ابن هشام‪:‬‬
‫السيرة النبوية ‪.4/198‬‬
‫‪ 131‬الحارث بن كلدة‪ :‬ثقفي من أهل الطائف‪ ،‬طبيب العرب في عصره ‪ ،‬وأحد الحكماء‬
‫المشهورين‪ ،‬رحل إلي فارس وأخذ الطب هناك‪ ،‬ولد في الجاهلية وعاش في أيام الرسول‪‬‬
‫والخلفاء الراشدين‪ ،‬كان شاعًرا‪ ،‬توفي في أيام معاوية‬
‫‪ 132‬أبو داود‪ :‬كتاب الطب‪ ،‬باب في التداوي بالعجوة )‪.(3875‬‬
‫فقد روى المام مسلم‪ ،‬وأحمد عن طلحة بن عبيد الله < قال‪:‬‬
‫ل‬
‫خ ِ‬‫س الن ّ ْ‬ ‫ما ِفي ُرُءو ِ‬ ‫وا ً‬ ‫َ‬ ‫ة‪ ،‬فََرَأى أ َقْ‬ ‫دين َ ِ‬‫م ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ي ‪ِ ‬في ن َ ْ‬ ‫معَ الن ّب ِ ّ‬ ‫ت َ‬ ‫مَرْر ُ‬ ‫َ‬
‫رَ‬ ‫ْ‬ ‫ء؟ قا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫قا َ‬ ‫َ‬ ‫خ َ‬ ‫َ‬
‫ن الذ ّك ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذو َ‬ ‫خ ُ‬‫ل‪ :‬ي َأ ُ‬
‫َ‬
‫هؤل ِ‬ ‫ع َ‬ ‫صن َ ُ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫ل‪َ :‬‬ ‫ل‪ ،‬ف َ‬ ‫ن الن ّ ْ‬ ‫حو َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ي ُل ّ‬
‫شي ًْئا‪.‬‬‫غِني َ‬ ‫ك يُ ْ‬ ‫ن ذَل ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫قا َ‬ ‫ه‪ .‬فَ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن ِفي الن َْثى ي ُل ّ‬‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫فَي َ ُ‬
‫ما أظ ّ‬ ‫ل‪َ :‬‬ ‫ن بِ ِ‬ ‫حو َ‬ ‫ق ُ‬ ‫حطو َ‬
‫ك‬‫شي ًْئا‪ .‬فَب َل َغَ ذ َل ِ َ‬ ‫ة َ‬ ‫سن َ َ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫ل ت ِل ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫كوه ُ وَن ََزُلوا ع َن َْها‪ ،‬فَل َ ْ‬ ‫م فَت ََر ُ‬ ‫فَب َل َغَهُ ْ‬
‫شي ًْئا‬ ‫غِني َ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ه‪ ،‬إ ِ ْ‬ ‫ن ظَن َن ْت ُ ُ‬ ‫و ظَ ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ما ُ‬ ‫ل‪ :‬إ ِن ّ َ‬ ‫قا َ‬ ‫ي ‪ ‬فَ َ‬ ‫الن ّب ِ ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ب‪،‬‬ ‫صي ُ‬ ‫وي ُ ِ‬ ‫ئ َ‬ ‫خطِ ُ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫والظ ّ‬ ‫م‪َ ،‬‬ ‫مث ْلك ُ ْ‬ ‫شٌر ِ‬ ‫ما أَنا ب َ َ‬ ‫فإ ِن ّ َ‬ ‫عوا‪َ ،‬‬ ‫صن َ ُ‬ ‫فا ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ه" ‪.‬‬
‫‪133‬‬
‫عَلى الل ّ ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ذ َ‬ ‫ن أك ْ ِ‬ ‫فل َ ْ‬ ‫ه ‪َ ،‬‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫قا َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ل َك ُ ْ‬ ‫قل ْ ُ‬ ‫ما ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ول َك ِ ْ‬ ‫َ‬
‫فالنصيحة النبوية للقوم لم تكن من وحي إلهي ولم تكن‬
‫تشريًعا‪ ،‬ولذلك ففي مثل هذه القضية يرجع فيها إلى أهل الخبرة‬
‫والتقان‪ ،‬وليس إلى الرسول ‪ ،‬على علو قدره وسمو مكانته‪..‬‬
‫ويؤكد على ذلك رواية مسلم عن رافع بن خديج < أن الرسول‬
‫شر‪ ،‬إ َ َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ن ِدين ِك ُ ْ‬‫م ْ‬ ‫ء ِ‬‫ي ٍ‬‫ْ‬ ‫م بِ َ‬
‫ش‬ ‫مْرت ُك ُ ْ‬‫ذا أ َ‬ ‫ِ‬ ‫ما أَنا ب َ َ ٌ‬ ‫‪ ‬قال لهم‪" :‬إ ِن ّ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫شٌر" ‪.‬‬ ‫ما أَنا ب َ َ‬ ‫ي َ‬
‫فإ ِن ّ َ‬ ‫ن َرأ ٍ‬ ‫م ْ‬‫ء ِ‬ ‫ي ٍ‬
‫ش ْ‬ ‫م بِ َ‬‫مْرت ُك ُ ْ‬ ‫ذا أ َ‬‫وإ ِ َ‬‫ه‪َ ،‬‬ ‫خ ُ‬
‫ذوا ب ِ ِ‬ ‫َ‬
‫ف ُ‬
‫‪134‬‬

‫وقال لهم كذلك كما في صحيح مسلم عن عائشة > وأنس بن‬
‫َ‬ ‫م أَ ْ‬ ‫َ‬
‫ر دُن َْياك ُ ْ‬
‫م"‪.135‬‬ ‫م ِ‬ ‫عل َ ُ‬
‫م ب ِأ ْ‬ ‫مالك }‪" :‬أن ْت ُ ْ‬
‫وليس هناك دليل أعظم من ذلك على اهتمام السلم بأهل‬
‫الخبرة في كل تخصص من تخصصات الحياة‪ ،‬سواء كان ذلك في‬
‫الزراعة أو في الطب‪ ،‬أو في الحرب أو في التجارة‪ ،‬أو في غير ذلك‪..‬‬
‫الدليل التاسع‪:‬‬
‫السلم بصفة عامة يحث على تكوين العقلية العلمية‬
‫الموضوعية‪ ،‬التي تبني أفكارها على الستدلل والستنباط‪ ،‬وينكر‬
‫ما ذلك التقليد العمى‪ ،‬الذي ل ُينظر فيه إلى حجة‪ ،‬ول ُيهتم فيه‬
‫تما ً‬
‫بمنطق ول برهان‪..‬‬
‫فتراه سبحانه ينكر على الكفار تبعيتهم العمياء لبائهم فيقول‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫جدَْنا آ ََباءََنا َ‬
‫ن‪.136‬‬
‫دو َ‬
‫هت َ ُ‬
‫م ْ‬
‫م ُ‬
‫ه ْ‬ ‫عَلى آَثا ِ‬
‫ر ِ‬ ‫وإ ِّنا َ‬
‫ة َ‬ ‫عَلى أ ّ‬
‫م ٍ‬ ‫‪‬إ ِّنا َ‬
‫و َ‬
‫وترى رسول الله ‪ ‬ينكر على المسلم أن يكون همل إمعة ل‬
‫رأي له ول قرار‪ ،‬فيقول في الحديث الذي رواه الترمذي عن حذيفة‬
‫‪ 133‬مسلم‪ :‬كتاب الفضائل‪ ،‬باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره ‪ ‬من معايش الدنيا‬
‫على سبيل الرأي )‪ ،(2362‬وابن ماجة )‪ ،(2470‬وأحمد )‪ ،(1399‬واللفظ له‪ ،‬والطيالسي )‬
‫‪.(230‬‬
‫‪ 134‬مسلم‪ :‬كتاب الفضائل‪ ،‬باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره ‪ ‬من معايش الدنيا‬
‫على سبيل الرأي )‪.(2362‬‬
‫‪ 135‬مسلم‪ :‬كتاب الفضائل‪ ،‬باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره ‪ ‬من معايش الدنيا‬
‫على سبيل الرأي )‪.(2363‬‬
‫‪) 136‬الزخرف‪.(22 :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫وإ ِ ْ‬
‫سّنا‪َ ،‬‬
‫ح َ‬‫سأ ْ‬ ‫ن الّنا ُ‬ ‫س َ‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ة؛ ت َ ُ‬ ‫ع ً‬‫م َ‬‫كوُنوا إ ِ ّ‬ ‫<‪َ" :‬ل ت َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫وطُّنوا أ َن ْ ُ‬
‫ن‬
‫سأ ْ‬ ‫ن الّنا ُ‬‫س َ‬ ‫ح َ‬
‫نأ ْ‬‫م؛ إ ِ ْ‬‫سك ُ ْ‬‫ف َ‬ ‫ن َ‬ ‫ول َك ِ ْ‬‫مَنا‪َ ،‬‬ ‫موا ظَل َ ْ‬ ‫ظَل َ ُ‬
‫َ‬
‫موا" ‪.‬‬ ‫فَل ت َظْل ِ ُ‬
‫ءوا َ‬ ‫سا ُ‬ ‫نأ َ‬ ‫وإ ِ ْ‬
‫سُنوا‪َ ،‬‬ ‫ح ِ‬ ‫تُ ْ‬
‫‪137‬‬

‫بل إن الله ‪ ‬قد طلب البرهان من الكفار على كفرهم هذا‬


‫م‬‫قك ُ ْ‬‫ن ي َْرُز ُ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬‫ه َ‬ ‫عيدُ ُ‬ ‫م يُ ِ‬ ‫ق ثُ ّ‬ ‫خل ْ َ‬ ‫ن ي َب ْدَأ ُ ال ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬
‫َ‬
‫وعنادهم فقال‪ :‬أ ْ‬
‫َ‬ ‫ء واْل َ‬
‫ن‬
‫م إِ ْ‬ ‫هان َك ُ ْ‬ ‫هاُتوا ب ُْر َ‬ ‫ل َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ع الل ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه َ‬ ‫ض أئ ِل َ ٌ‬ ‫‪ْ138‬ر ِ‬ ‫ما ِ َ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫ن‪. ‬‬ ‫قي َ‬ ‫صاِد ِ‬ ‫م َ‬ ‫ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ه أ َُروِني‬ ‫ن الل ّ ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ما ت َدْ ُ‬ ‫م َ‬
‫ق ْ َ َ‬
‫ل أَرأي ْت ُ ْ‬ ‫ضا‪ُ  :‬‬ ‫وقال أي ً‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ت ائ ُْتوِني‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫في ال ّ‬ ‫ك ِ‬ ‫شْر ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫م لَ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫ضأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ن اْلْر‬ ‫م َ‬ ‫قوا ِ‬ ‫خل َ ُ‬
‫ذا َ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬
‫ن‪. ‬‬
‫‪139‬‬
‫قي َ‬ ‫صاِد ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫علم ٍ إ ِ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫و أَثاَر ٍ‬ ‫ذا أ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ل َ‬ ‫قب ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫ب ِك َِتا ٍ‬
‫وقد عرض ربنا سبحانه وتعالى كل القضايا بمنطق الحجة‬
‫والبرهان والدليل‪..‬‬

‫ة إ ِّل‬ ‫َ‬
‫ه ٌ‬
‫ما آل ِ َ‬‫ه َ‬
‫في ِ‬‫ن ِ‬ ‫و َ‬
‫كا َ‬ ‫فقال في إثبات وحدانيته سبحانه‪ :‬ل َ ْ‬
‫ن‪. ‬‬
‫‪140‬‬
‫فو َ‬ ‫ص ُ‬
‫ما ي َ ِ‬
‫ع ّ‬
‫ش َ‬ ‫عْر ِ‬‫ب ال ْ َ‬ ‫ن الل ّ ِ‬
‫ه َر ّ‬ ‫حا َ‬
‫سب ْ َ‬ ‫سدََتا َ‬
‫ف ُ‬ ‫ه لَ َ‬
‫ف َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ن‬ ‫كا َ‬‫ما َ‬ ‫و َ‬‫د َ‬‫ول َ ٍ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬‫خذَ الل ّ ُ‬‫ما ات ّ َ‬ ‫وقال في موضع آخر‪َ  :‬‬
‫َ‬
‫على‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬
‫ض ُ‬‫ع ُ‬‫عل ب َ ْ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ول َ‬ ‫ق َ‬‫خل َ‬‫َ‬ ‫ما َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫َ‬
‫ل إ ِل ٍ‬‫ب كُ ّ‬‫ه َ‬ ‫ذا ل َذَ َ‬ ‫ن إ ِل َ ٍ‬
‫ه إِ ً‬ ‫م ْ‬
‫ه ِ‬
‫ع ُ‬
‫م َ‬
‫َ‬
‫ن‪. ‬‬
‫‪141‬‬
‫َ‬ ‫فو‬ ‫ُ‬ ‫ص‬ ‫ي‬
‫ّ َ ِ‬ ‫ما‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ن‬
‫بَ ْ ٍ ُ ْ َ َ‬
‫حا‬ ‫ب‬‫س‬ ‫ض‬ ‫ع‬
‫خل ْق الل ّه َ َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ق ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫خل َ َ‬ ‫ما َ‬
‫ذا َ‬ ‫فأُروِني َ‬ ‫ِ‬ ‫ذا َ ُ‬ ‫ه َ‬‫وقال‪َ  :‬‬
‫ن‪. ‬‬ ‫مِبي ٍ‬
‫ل ُ‬‫ضَل ٍ‬ ‫في َ‬ ‫ن ِ‬‫مو َ‬ ‫ل ال ّ‬
‫ظال ِ ُ‬ ‫ه بَ ِ‬
‫دون ِ ِ‬
‫‪142‬‬
‫ُ‬
‫وفي قضية البعث يقول سبحانه معد ًّدا الدلة والبراهين والحجج‬
‫حِيي‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫قا َ‬ ‫ه َ‬‫ق ُ‬ ‫خل ْ َ‬‫ي َ‬ ‫س َ‬ ‫ون َ ِ‬ ‫ب ل ََنا مثل ً َ‬ ‫ضَر َ‬ ‫و َ‬ ‫العقلية‪َ  :‬‬
‫و‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذي أن ْ َ‬ ‫ّ‬ ‫ق ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫و ُ‬‫ة َ‬‫مّر ٍ‬ ‫ل َ‬ ‫ها أ ّ‬ ‫شأ َ‬ ‫ها ال ِ‬ ‫حِيي َ‬ ‫ل يُ ْ‬ ‫مي ٌ‬ ‫ي َر ِ‬ ‫ه َ‬ ‫و ِ‬
‫م َ‬ ‫ظا َ‬
‫ر َناًرا َ‬
‫فإ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫ِ‬ ‫ض‬‫خ َ‬ ‫ر اْل َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ج‬‫ش َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫ج َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫ق َ‬ ‫ٍ‬
‫خل ْ‬‫ل َ‬ ‫ب ِك ُ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫واْلْر َ‬
‫ض‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫خل َ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫س ال ّ ِ‬ ‫ول َي ْ َ‬ ‫نأ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ه ُتو ِ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫أن ْت ُ ْ‬
‫َ‬
‫م‪.143‬‬‫عِلي ُ‬ ‫خّلقُ ال ْ َ‬ ‫و ال ْ َ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬ ‫م ب ََلى َ‬ ‫ه ْ‬ ‫مث ْل َ ُ‬‫ق ِ‬‫خل ُ َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫عَلى أ ْ‬ ‫ر َ‬ ‫قاِد ٍ‬ ‫بِ َ‬

‫وهكذا‪ ..‬فالسلم يحث على استخدام العقل‪ ،‬وعلى التفكير‬


‫طل عقله أشبه‬‫الناضج‪ ،‬والفقه الواعي‪ ..‬بل إنه يعد النسان الذي ع ّ‬
‫بالحيوان‪ ،‬أو أحط قيمة منه!!‬
‫الترمذي‪ :‬كتاب البر والصلة‪ ،‬باب ما جاء في الحسان والعفو )‪ ،(2007‬وقال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬ ‫‪137‬‬

‫)النمل‪.(64 :‬‬ ‫‪138‬‬

‫)الحقاف‪.(4 :‬‬ ‫‪139‬‬

‫)النبياء‪.(22 :‬‬ ‫‪140‬‬

‫)المؤمنون‪.(91 :‬‬ ‫‪141‬‬

‫)لقمان‪.(11 :‬‬ ‫‪142‬‬

‫)يس‪.(81 – 78 :‬‬ ‫‪143‬‬


‫ْ‬
‫ن‬
‫ج ّ‬ ‫ن ال ْ ِ‬ ‫م َ‬‫م ك َِثيًرا ِ‬ ‫هن ّ َ‬ ‫قدْ ذََرأَنا ل ِ َ‬
‫ج َ‬ ‫ول َ َ‬
‫قال الله ‪َ : ‬‬
‫َ‬
‫ن‬‫صُرو َ‬‫ن َل ي ُب ْ ِ‬ ‫عي ُ ٌ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ول َ ُ‬ ‫ها َ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫هو َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ب َل ي َ ْ‬
‫ف َ‬ ‫قُلو ٌ‬ ‫م ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫س لَ ُ‬‫ِ‬ ‫واْل ِن ْ‬
‫َ‬
‫ض ّ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫مأ َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫عا‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫كاْل َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫أو‬‫ُ‬ ‫ها‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫عو‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫بها ول َهم آ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ِ َ َ ُ ْ‬
‫ن‪.144‬‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫لو‬ ‫ف‬
‫َ ِ‬‫غا‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫ه ُ‬‫ك ُ‬‫ُأول َئ ِ َ‬

‫ن يدعو إلى إعمال العقل‪ ،‬وتحريره من قيود‬


‫فالسلم إذن دي ٌ‬
‫التقليد والجمود والمحاكاة‪ ،‬وأن يطلق له العنان لداء وظيفته وفق‬
‫ضوابط معينة وأطر خاصة‪..‬‬
‫وعليه فإن الذي ُيع ّ‬
‫طل عقله عن العمل والتفكير والبداع‪..‬‬
‫يكون قد خالف المنهج السلمي مخالفة جسيمة‪ ،‬وأضّر بنفسه‪ ،‬ثم‬
‫بأمته من بعده‪..‬‬
‫الدليل العاشر‪:‬‬
‫بمراجعة التاريخ السلمي نجد أن عهود القوة فيه كانت‬
‫ما ومرتبطة تمام الرتباط بالتفوق في العلوم الشرعية‬ ‫مرهونة دائ ً‬
‫والعلوم الحياتية مًعا‪ ..‬كما أنه لم يكن في هذا التاريخ أيّ من مظاهر‬
‫اضطهاد العلماء‪ ،‬كما كان الحال عند الوربيين‪..‬‬
‫قا في طريق المسلمين للعلم‪ ،‬سواء‬ ‫دا عائ ً‬
‫فالدين لم يقف أب ً‬
‫في الجانب النظري أو في الجانب العملي التطبيقي‪ ،‬إنما كان الدين‬
‫قا للعلم في المجتمعات الوروبية قبل نهضتهم الحديثة‪،‬‬ ‫بالفعل عائ ً‬
‫وهو الذي رسخ في أذهانهم وأذهان من تعلم على أيديهم واقتفى‬
‫أثرهم من المسلمين أن الدين من المعوقات الرئيسية للعلم‪..‬‬
‫فالكنيسة الوربية في عصور ظلمهم كانت شديدة القسوة‬
‫على العلماء‪ ،‬وكانت تقمع كل محاولة للبتكار والختراع والبحث في‬
‫العلم؛ في سبيل أن تظل لها السيطرة الكاملة على الشعوب وقيادة‬
‫الناس‪ ..‬وفي سبيل استمرار جباية الموال‪ ..‬وفي سبيل أخذ‬
‫القرارات المصيرية‪ ..‬بل وفي سبيل أخذ قرار الغفران من عدمه‪،‬‬
‫لعبد أخطأ أو ارتكب ذنًبا‪!!..‬‬
‫من هذا المنطلق حدث صراع ٌ بين الدين والعلم في أوربا‪،‬‬
‫شّلت حركة العلم في أواسط القرن السادس عشر‬ ‫وعليه فقد ُ‬
‫الميلدي ولم يتوقف ذلك إل عند بداية النهضة العلمية والثورة العلمية‬
‫الوربية‪ ،‬والنقلب على الكنيسة‪!!..‬‬
‫والقصص والروايات التي تصف ظلم الكنيسة الوروبية‬
‫الكاثوليكية ل تكاد تنتهي‪ ،‬ول يخفى على أحد محاكمات كوبرنيكس‬

‫)العراف‪.(179 :‬‬ ‫‪144‬‬


‫ومحاكمات جإليليو‪ ،‬وما حدث لأينشتاين وماكس بلنك‪ ،‬وغيرها‬
‫الكثير‪..‬‬
‫لقد اكتشف كوبرنيكس عام ‪1543‬م أن الرض تدور حول‬
‫نفسها مرة كل ‪ 24‬ساعة‪ ،‬فيحدث تبادل الليل والنهار‪ ،‬وتدور حول‬
‫الشمس مرة كل عام‪ ،‬فيحدث تغير الفصول الربعة‪ ،‬وأن الشمس‬
‫دا قبل ذلك‪ ..‬إل أن هذا‬‫هي مركز الكون وليس الرض كما كان معتق ً‬
‫الكشف كان كارثة في أوربا في القرن السادس عشر الميلدي‪ ،‬وقد‬
‫تعجبت الكنيسة لهذا الكشف حين حاكمته بميزان الحقائق النجيلية‪،‬‬
‫إذ وجدته يتناقض مع معتقداتهم‪ ،‬ومع الحساس الظاهري للبشر‪ ،‬ومع‬
‫الجبال الساكنة في نظر النصوص المقدسة‪!!..145‬‬
‫ولهذا قررت الكنيسة محاربة كوبرنيكس‪ ،‬واضطهدوه واتهموه‬
‫بالكفر وطلبوه للقتل‪ ،‬بل وأحرقوا كتبه وأبحاثه ومنعوا تدريسها‪ ..‬ولم‬
‫يكتشفوا صحة ما وصل إليه إل بعد وفاته بسنوات وسنوات‪..‬‬
‫أما جإليليو والذي أثبت أن كوبرنيكس كان على حق‪ ،‬وأن‬
‫ما‬
‫ضا أن القمر ليس جس ً‬
‫الشمس هي مركز الكون‪ ،‬واكتشف أي ً‬
‫مستوًيا‪ ..‬فقد أمر البابا بإحضاره بالقوة رغم شيخوخته وسوء صحته‪،‬‬
‫للتحقيق معه لتأييده فكرة تحرك الرض‪ ،‬وحكمت الكنيسة عليه‬
‫بالسجن في بيته )قيد القامة الجبرية( إلى أن يموت‪!!..146‬‬
‫ضا برونو حرًقا في ميدان عام‬
‫وكذلك أعدمت الكنيسة أي ً‬
‫لدفاعه عن تحرك الرض‪ ،‬وتوقعه وجود أراضين أخرى ‪!!..‬‬
‫‪147‬‬

‫وهذا غيض من فيض‪ ..‬والمثلة على ذلك جد كثيرة‪ ،‬ولم تتوقف‬


‫فقط على محاكمات كوبرنيكس وجاليليو‪ ،‬حتى إنهم توسعوا في‬
‫تشكيل محاكم التفتيش ضد العلماء‪ ،‬وقد حكمت تلك المحاكم على‬
‫ما بأحكام مختلفة في الفترة ما بين‬ ‫فا وثلثة وعشرين عال ً‬
‫تسعين أل ً‬
‫سنة ‪1481‬م إلى سنة ‪1499‬م‪ ،‬أي في غضون ‪ 18‬سنة ‪ ،‬كما‬
‫‪148‬‬

‫أصدرت قرارات ُتحّرم قراءة كتب جيوردا نويرنو‪ ،‬ونيوتن لقوله‬


‫بقانون الجاذبية‪ ،‬وتأمر بحرق كتبهم‪ ،‬وقد أحرق بالفعل الكاردينال‬
‫إكيمنيس في غرناطة ‪ 8000‬كتاًبا مخطو ً‬
‫طا لمخالفتها آراء‬
‫الكنيسة‪!!..149‬‬

‫‪ 145‬انظر ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة‪ ،‬ترجمة محمد علي أبو درة ‪.30/273‬‬
‫‪ 146‬انظر ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة‪ ،‬ترجمة محمد علي أبو درة ‪.30/279،269‬‬
‫‪ 147‬انظر ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة‪ ،‬ترجمة محمد علي أبو درة ‪.30/300‬‬
‫‪ 148‬المام محمد عبده‪ :‬مقاومة النصرانية للعلم في التاريخ نقل ً عن كتاب البابا والسلم للدكتور‬
‫يوسف القرضاوي‪.‬‬
‫‪ 149‬الموسوعة الميسرة في الديان والمذاهب والحزاب المعاصرة‪ ،‬إعداد الندوة العالمية‬
‫للشباب السلمي فصل بعنوان الكاثوليك بتصرف‪ .‬شوقي أبو خليل‪ :‬سقوط غرناطة ص ‪98‬‬
‫بتصرف‪.‬‬
‫وهذا الواقع الرهيب والمظلم عاشته أوروبا قروًنا طويلة‪،‬‬
‫ضا بالقرون الوسطى‪ ،‬حيث‬ ‫ميت بالعصور المظلمة‪ ،‬وُتسمى أي ً‬‫س ّ‬
‫ُ‬
‫سخ هذا الواقع في أذهان‬ ‫استغرقت نحو ألف عام من الزمان‪ ،‬وقد ر ّ‬
‫العلماء والفلسفة )أمثال ديكارت وفولتير( وعموم الناس أنه ل أمل‬
‫في طلب العلم والبتكار إل بهدم سلطان الكنيسة‪ ،‬وإل بمحو الدين‬
‫ما من الصدور‪ ،‬والتجاه إلى اللحاد بكل ما تعنيه الكلمة من‬
‫تما ً‬
‫معان‪ ..‬فأعلنوا صراحة معارضتهم للكتب المقدسة كالتوراة والنجيل؛‬
‫لحتوائهما على ما يتعارض مع الحقائق العلمية‪ ،‬ولعتقادهم بأن الدين‬
‫‪ -‬كما رأوا ‪ -‬هو اضطهاد العلم والعلماء‪ ،‬وهو الحجر على العقول‪..150‬‬
‫وقد راحوا يدعون بعد ذلك إلى إعلء العقل في مقابلة‬
‫النصوص الرئيسية‪ ،‬وحجتهم أن العقل يستطيع إدراك الحقائق‬
‫العلمية‪ ،‬ويستطيع التمييز بين الخير والشر‪..‬‬
‫وقد ساعدت الجمعية الوطنية الفرنسية على هذا التحرر‪ ،‬وذلك‬
‫بإصدار قرارات سنة ‪1790‬م‪ ،‬كان من شأنها أن قصمت ظهر‬
‫الكنيسة‪ ،‬حيث سرحت الرهبان والراهبات‪ ،‬وأجبرت رجال الكنيسة‬
‫على الخضوع للدستور المدني‪ ،‬وأخذت تعين هي رجال الكنيسة بدل‬
‫من البابا!!‬
‫ثم جاء القانون الذي أقرته الحكومة الفرنسية عام ‪1905‬م‬
‫بفصل الدين عن الدولة على أساس التفريق بينهما‪ ،‬وإعلن حياد‬
‫الدولة تجاه الدين‪ ،‬كقاصمة أخرى شجعت المعارضين للكنيسة على‬
‫نقد نصوص الكتاب المقدس والكنيسة بحرية‪ ،‬كما أجبر هذا القانون‬
‫رجال الكنيسة على أن يقسموا يمين الولء للطاعة والشعب والملك‬
‫والدستور المدني الجديد‪..‬‬
‫وقد توالت القرارات بعد ذلك لتعم دول أوربا كلها‪ ،‬ليتقلص‬
‫بذلك دور الكنيسة من محاولة السيطرة على أمور العلم والسياسة‪،‬‬
‫ما داخل الجدران‪ ،‬فتمارس فقط الوعظ والترانيم‪!!..151‬‬ ‫ولتنزوي تما ً‬
‫هذا في أوروبا النصرانية‪..‬‬
‫لكن‪ ..‬لماذا يقال هذا الكلم ولماذا يراد تطبيقه على الدين‬
‫السلمي؟‬
‫هل كان ثمة صراع ٌ قد حدث بين علماء الدين والشريعة وبين‬
‫علماء الحياة؟!‬

‫‪ 150‬الموسوعة الميسرة في الديان والمذاهب والحزاب المعاصرة‪ ،‬إعداد الندوة العالمية‬


‫للشباب السلمي فصل بعنوان الكاثوليك بتصرف‪.‬‬
‫‪ 151‬المرجع السابق فصل بعنوان الكاثوليك‪.‬‬
‫حورب علماء الطب والهندسة والفلك والكيمياء والفيزياء‬ ‫هل ُ‬
‫دموا على غيرهم؟!‬‫والسلح والجغرافيا‪..‬؟ أم ك ُّرموا وقُ ّ‬
‫لقد كان اتصاف المسلم بفضيلة العلم بشتى أنواعه كافًيا‬
‫صّناعها المبجلين‪،‬‬
‫ف رجال المة و ُ‬‫لتقديمه على غيره‪ ،‬ورفعه إلى مصا ّ‬
‫والمقربين إلى الخاصة وإلى العامة على حد سواء‪..‬‬
‫لقد كان عباس بن فرناس‪ - 152‬على سبيل المثال ‪ -‬من علماء‬
‫ق في اختراعات‬ ‫المسلمين الفاضل في الندلس‪ ،‬وهو صاحب سب ٍ‬
‫كثيرة‪ ،‬لعل أشهرها أنه أول من قام بمحاولة للطيران في التاريخ‪..‬‬
‫ولهذا التفوق العلمي قّربه الخلفاء وعظموا قدره‪..‬‬
‫ولحاله هذا‪ ،‬وِلما وصل إليه من شهرة وحظوة لدى المراء‪،‬‬
‫ساد يتربصون به‪ ،‬وقد راحوا يتهمونه بالسحر‬ ‫فقد كان له ح ّ‬
‫والشعوذة‪ ،‬وأنه يقوم بأشياء غريبة وعجيبة في منزله‪ ،‬أو في معمله‬
‫الختباري إن صح التعبير‪ ،‬وذلك لنه كان يشتغل بالكيمياء‪ ،‬وكان ينتج‬
‫عن ذلك انبعاث أدخنة وتطاير أبخرة من منزله‪..‬‬
‫وقد اسُتدعي للمحاكمة في قرطبة ‪ -‬وكان الخليفة في ذلك‬
‫الوقت هو عبد الرحمن بن هشام الموي ‪ -‬وقيل له في ذلك أنك‬
‫تفعل كذا وكذا‪ ،‬وتخلط أشياء بأشياء‪ ،‬وتقوم بغرائب وعجائب لم‬
‫نعهدها‪ ،‬فقال في رده عليهم‪ :‬أترون أني لو عجنت الدقيق بالماء‬
‫فصيرته عجيًنا‪ ،‬ثم أنضجت العجين خبًزا على النار‪ ،‬أأكون قد صنعت‬
‫سحًرا؟ قالوا‪ :‬ل؛ بل هذا مما علم الله النسان‪ .‬فقال‪ :‬وهذا ما أشتغل‬
‫به في داري‪ ،‬أمزج الشيء بالشيء‪ ،‬وأستعين بالنار على ما أمزج‪،‬‬
‫فيأتي مما أمزج شيء فيه منفعة للمسلمين وأحوالهم‪.153‬‬
‫دا على صحة الدعوى‪ ،‬فكان الشاهد هو‬ ‫وكانوا قد أرادوا شاه ً‬
‫عبد الرحمن بن هشام‪ ،‬الخليفة الموي نفسه‪ ..‬وفي المحكمة وحين‬
‫سمع القوال راح ُيدلي بشهادته فقال‪ :‬أشهد أنه قال لي أنه يفعل‬
‫كذا وكذا )يريد أن كل هذه الشياء يعملها ولها أصول عنده(‪ ،‬وقد صنع‬
‫ما أنبأني به‪ ،‬فلم أجد فيه إل منفعة للمسلمين‪ ،‬ولو علمت أنه سحر‬
‫ده!!‬
‫لكنت أول من ح ّ‬
‫لقد أتوا بقائد الدولة وخليفة المسلمين إلى المحكمة ليشهد‪،‬‬
‫ثم هو يشهد بالحق ولصالح العاِلم‪ ،‬فكان أن حكم القاضي والفقهاء‬

‫‪ 152‬أبو القاسم عباس بن فرناس‪ ،‬من موالي بني أمية‪ ،‬فيلسوف شاعر‪ ،‬له علم بالفلك‪ ،‬وأول‬
‫من استنبط صناعة الزجاج من الحجارة‪ ،‬وأول من اخترق الجو فقد حاول الطيران‪ ،‬فكسا‬
‫نفسه الريش‪ ،‬ومد له جناحين طار بهما في الجو مسافة بعيدة‪ ،‬ثم سقط فتأذى في ظهره‪،‬‬
‫توفي سنة أربع وسبعين ومائتين‪ .‬انظر الوافي بالوفيات للصفدي‪ ،‬ونفح الطيب للمقري‪.‬‬
‫‪ 153‬ابن سعيد المغربي‪ :‬المغرب في حلي المغرب ص ‪.203‬‬
‫ببراءة ابن فرناس‪ ،‬وأثنوا عليه وحثوه على أن يستزيد من عمله‬
‫حفظت له بذلك مكانته‪..154‬‬‫وتجاربه‪ ،‬و ُ‬
‫ولنقارن ذلك بمحاكمة كوبرنيكس ومحاكمة جالليو وغيرها مما‬
‫مفارقة‪..‬‬
‫فا‪ ،‬لنتبين أبعاد ال ُ‬
‫عرضنا لها سال ً‬
‫والمثلة على توقير العلماء‪ ،‬وإنزالهم منزلتهم‪ ،‬وحفظ مكانتهم‬
‫وقدرهم‪ ..‬هي أكثر من أن ُتحصى‪ ،‬ولعل ما يمكن أن نذكره هنا ما‬
‫كان من حال عالم البصريات البرز في تاريخ الحضارة السلمية‪،‬‬
‫الحسن بن الهيثم‪ ،155‬فقد كان أمراء عصره في كل أقطار العالم‬
‫السلمي شغوفين بالعلم ورعاية العلماء والهتمام بهم‪ ،‬المر الذي‬
‫جعله يتنقل بحرية تامة في ربوع العالم السلمي بين مراكز الحضارة‬
‫السلمية فيه‪ ،‬ينهل منها جميعها‪..‬‬
‫وكان للحاكم بأمر الله )المير الفاطمي‪ ،‬ت ‪411‬هق( دوره‬
‫المهم في تنمية علم المهندس البصري الحسن بن الهيثم‪ ،‬وذلك بعد‬
‫أن سمع عنه وذاع صيته في البصرة‪ ،‬وخاصة لما علم قوله‪" :‬لو كنت‬
‫بمصر لعملت ِفي نيلها عمل ً يحصل ب ِهِ النفع ِفي كل حالة من حالته‬
‫ل‪ ،‬وهو ِفي‬
‫من زيادة ونقص‪ ،‬فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عا ٍ‬
‫طرف القليم المصري"‪.‬‬
‫كان من أمر الحاكم بأمر الله أن دعا الحسن بن الهيثم للمجيء‬
‫إلى مصر‪ ،‬على أن ُيساعده ويقدم العون له والمال‪ ،‬للقيام بمشروع‬
‫السد الذي يتحكم في مياه النيل كما قال‪..‬‬
‫وما أن جاء ابن الهيثم إلى مصر‪ ،‬حتى استقبله الحاكم بأمر الله‬
‫في قصر الضيافة الملكي‪ ،‬وأمر بإنزاله وإكرامه‪ ،‬ثم سرعان ما‬
‫تناقشا في أمر السد‪ ،‬وكان أن اقترح عليه المير أن يبدأ فيه‪..‬‬
‫ولما وصل ابن الهيثم إلى أرض الواقع‪ ،‬والموضع المعروف‬
‫بالجنادل‪ ،‬قبلي مدينة أسوان‪ ،‬وهو موضع مرتفع ينحدر منه ماء النيل‪،‬‬
‫عاينه وباشره واختبره من جانبيه‪ ،‬وجد أن ما يبغيه هو فوق جهد‬
‫الناس في أيامه‪ ..‬فتراجع معتذًرا عن فكرته‪.‬‬
‫فابن الهيثم حين وصل إلى منطقة الجنادل جنوبي مصر )وهو‬
‫نفس مكان السد العإلى المقام حإليا( وعاين المكان‪ ،‬اكتشف‬

‫‪ 154‬أمين يوسف وعلي حسين النبهان‪ :‬أشهر محاكمات التاريخ بتصرف دار التراث بيروت‬
‫‪.1972‬‬
‫‪ 155‬الحسن ابن الهيثم‪ ،‬المسمى عند الغربيين "الهازن" ولد بالبصرة ودرس بها‪ ،‬وتفوق في‬
‫علم البصريات ويقول عنه أرنولد في كتاب "تراث السلم"‪ :‬إن علم البصريات وصل إلي الوج‬
‫بظهور ابن الهيثم‪ ،‬وابن الهيثم هو أول من قال بأن العدسة المحدبة ترى الشياء أكبر مما هي‬
‫عليه وأول من شرح تركيب العين ووضح أجزاءها بالرسوم‪.‬‬
‫استحالة تنفيذ فكرته في زمانه بوسائل وإمكانات عصره‪ ،‬فرجع إلى‬
‫القاهرة معترًفا بفشله في تنفيذ فكرته بإقامة سد علي النيل يختزن‬
‫المياه من أيام الفيضان لتروى أرض مصر في أيام التحاريق‪.‬‬
‫والشاهد في ذلك مدى اهتمام المير الفاطمي بالعلماء‪ ،‬ومدى‬
‫توقيره لهم‪ ،‬والذي ظهر من خلل دعوته لابن الهيثم للمجيء إلى‬
‫مصر‪ ،‬ثم حسن استقباله له وإكرامه‪ ،‬ولم يكن ذلك إل لعلم ابن‬
‫الهيثم ~‪..‬‬
‫ضا أن الخوارزمي‪ 156‬انتقل من بلدته خوارزم‬‫ويذكر التاريخ أي ً‬
‫)وكانت مركًزا من مراكز الثقافة السلمية( إلى بغداد عاصمة‬
‫الخلفة‪ ،‬حيث "بيت الحكمة" ذلك المجمع العلمي الكبير الذي أقامه‬
‫دا فلكًيا‪..‬‬
‫الخليفة هارون الرشيد‪ ،‬والذي بنى المأمون بجواره مرص ً‬
‫ولن الخوارزمي كان بارًزا في علوم الفلك والجغرافيا‪ ،‬فقد‬
‫ب للعلم والعلماء‪،‬‬
‫اتصل بالخليفة المأمون‪ ،‬لما عرف عنه من ح ٍ‬
‫عا في هذين المجإلين من العلوم‪..‬‬ ‫وخاصة وأن المأمون كان بار ً‬
‫وسرعان ما أحاطه المأمون بعناية خاصة وتكريم كبير‪ ،‬فوله‬
‫منصًبا كبيًرا في بيت الحكمة‪ ،‬ثم أوفده في بعض البعثات العلمية إلى‬
‫البلد المجاورة‪ ،‬للتصال بعلماء هذه المناطق‪ ،‬والستزادة من علوم‬
‫الخرين‪ ،‬ونشر العلم في أرجاء الدولة السلمية‪..‬‬
‫وفي سياق الحديث عن مرصد المأمون‪ ،‬فقد كان اهتمام‬
‫المأمون بعلم الفلك غالًبا على اهتمامه بمجالت العلوم الخرى‪،‬‬
‫ولذلك أمر العلماء )ولنقارن ذلك بحال الكنيسة مع العلماء كما ذكرنا‬
‫دا فلكًيا لقياس الكواكب ومعرفة‬
‫في هذا الشأن( أن يقيموا مرص ً‬
‫أحوالها‪ ..‬وقد تحدث صاعد الندلسي عن اهتمام المأمون بعلم الفلك‬
‫وجهوده في ذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"ولما أفضت الخلفة إلى عبد الله المأمون‪ ،‬وطمحت نفسه‬
‫الفاضلة إلى إدراك الحكمة‪ ،‬وسمت به همته الشريفة إلى الشراف‬
‫على علوم الفلسفة‪ ،‬ووقف علماء وقته على كتاب المجسطي‬
‫)لبطليموس(‪ ،‬وفهموا صورة آلت الرصد الموصوفة فيه… جمع‬
‫المأمون علماء عصره من أقطار مملكته‪ ،‬وأمرهم أن يصنعوا مثل‬
‫تلك الدوات‪ ،‬وأن يقيسوا بها الكواكب ويتعرفوا بها أحوالها‪ ،‬كما صنع‬
‫‪ 156‬عاش محمد بن موسى الخوارزمي في بغداد فيما بين ‪164‬ق ‪ 235‬هجرية )‪850,780‬م(‬
‫وتوفي هناك‪ ،‬وبرز في عهد المأمون‪ ،‬ونبغ في الرياضيات والفلك‪ ،‬وطور الفكر الرياضي وذلك‬
‫بإيجاد نظم لتحليل كل من معادلت الدرجة الولى والثانية ذات المجهول الواحد بطرق جبرية‬
‫هندسية‪ ،‬لذا يعتبر الجبر والمقابلة للخوارزمي هو أول محاولة منظمة لتطوير علم الجبر على‬
‫أسس علمية ‪ .‬انظر ابن النديم‪ :‬الفهرست ص ‪ - 333‬إليان سيركيس‪ :‬معجم المطبوعات ‪/1‬‬
‫‪ - 841‬أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪ – 20‬علي عبد الله الدفاع‪ :‬العلوم‬
‫البحتة في الحضارة العربية السلمية ص ‪.148‬‬
‫بطليموس ومن كان قبله‪ ،‬ففعلوا ذلك وتولوا الرصد بمدينة‬
‫الشماسية من بلد دمشق من أرض الشام‪ ،‬سنة أربع عشرة ومائتين‪،‬‬
‫فوقفوا على زمن سنة الشمس الرصدية‪ ،‬ومقدار ميلها وخروج‬
‫مركزها ووضع أوجهها‪ ،‬وعرفوا مع ذلك بعض أحوال باقي الكواكب‬
‫من السيارة والثابتة‪ ،‬ثم قطع بهم عن استيفاء غرضهم موت الخليفة‬
‫المأمون سنة ثماني عشرة ومائتين )‪833‬م(‪ ،‬فقيدوا ما انتهوا إليه‪،‬‬
‫وسموه "المرصد المأموني"‪.157‬‬
‫وفي طور اهتمام الخلفاء بالعلم والعلماء‪ ،‬فقد كانوا يمنحون‬
‫من الجوائز العظيمة والهبات الجزيلة التي تشجع على تحصيل هذه‬
‫العلوم بصورة هي أقرب إلى الخيال‪ ،‬وبصورة أكثر من غيرها في أي‬
‫مجال آخر‪..‬‬
‫م من العلماء كتاًبا من لغة غير‬ ‫ضا إذا ترجم عال ِ ٌ‬
‫فكان المأمون أي ً‬
‫جم ذهًبا‪،‬‬‫العربية إلى اللغة العربية أعطاه وزن هذا الكتاب المتر َ‬
‫وبالطبع فليس في هذه العلوم المترجمة صلة بعلوم الشرع‪ ،‬إنما‬
‫كانت من علوم اليونان أو الرومان أو الغريق أو الهند‪ ،‬مما هي في‬
‫الطب والرياضيات والهندسة وغيرها من علوم الحياة‪..158‬‬
‫ولذلك فقد نشطت حركة الترجمة كثيًرا في ذلك الوقت‪ ،‬وعلى‬
‫إثرها ُنقل إلى المسلمين علوم هائلة‪ ..‬فاستطاعوا أن يقيموا أروع‬
‫حضارة عرفتها البشرية في تاريخها‪..‬‬
‫وبهذه المناسبة والحديث عن الترجمة‪ ،‬فإننا ُنعّرج قليل على‬
‫حركة الترجمة في البلد السلمية في عصرنا هذا‪ ،‬لنقارنه بما كانت‬
‫عليه الحياة العلمية والحضارة السلمية بصفة عامة في عصر‬
‫الخليفة المأمون‪..‬‬
‫جم‬
‫فإن الحصائيات الحديثة تشير إلى أن العالم العربي ُيتر ِ‬
‫ثلثة كتب سنوًيا لكل مائة ألف مواطن‪ ،‬بينما وعلى الجانب الخر‪،‬‬
‫فإن إسرائيل وحدها ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬تترجم مائة كتاب سنوًيا‬
‫لكل مائة ألف مواطن!!‬
‫وهذا يوقفنا بعض الشيء على حقيقة الوضع العلمي المتردي‬
‫الذي نعيشه الن‪..‬‬
‫ضا أرسل المنصور والمأمون والمتوكل‬ ‫وفي هذا الشأن أي ً‬
‫ل إلى القسطنطينية وغيرها من المدن البيزنطية لجتلب الكتب‬ ‫الّرس َ‬
‫اليونانية التي أهملها أصحابها ‪ -‬على حد تعبير علي بن عبد الله الدفاع‬
‫في روائع الحضارة العربية والسلمية ‪ -‬ولم يعرفوا قيمتها‪ ..‬فكان‬
‫صديق بن حسن القنوجي‪ :‬أبجد العلوم ‪.2/299‬‬ ‫‪157‬‬

‫شوقي أبو خليل‪ :‬الحضارة العربية السلمية ص ‪ 442‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪158‬‬


‫خلفاء المسلمين يرسلون أحيانا العلماء إلى أعدائهم أباطرة الروم‬
‫ليشتروا منهم الكتب العلمية اليونانية‪ ،‬كما أن خلفاء بني أمية‬
‫والعباس كانوا يقبلون المخطوطات والكتب العلمية من أساقفة‬
‫النصارى والصابئة والمجوس وغيرهم بدل من دفع الجزية‪!!159‬‬
‫م للعلم والعلماء‪ ،‬وأبلغ رسالة في الحرص عليه‪،‬‬
‫أبلغ تكري ٌ‬
‫والتشجيع له‪ ..‬ذلك الذي كان بقوم به الخلفاء المسلمون‪..‬؟!‬
‫والحديث في هذه المثلة ل ينقطع‪ ..‬ولم تكن هذه الحداث‬
‫عابرة في حياة المة السلمية‪ ،‬إنما كانت متكررة عبر قرون‬
‫متتالية‪ ..‬مما يؤكد على أنها لم تكن من قبيل المصادفة‪ ،‬أو نتيجة‬
‫وجود خليفة معين أو حاكم بذاته يهتم بالعلوم‪..‬‬
‫فلقد كانت هذه العلوم سمة أصيلة من أهم سمات ومقومات‬
‫الدولة السلمية في شتى مراحلها‪ ..‬وهو ما حدا بجامعات مثل‬
‫قرطبة وإشبيلية وغرناطة وطليطلة في الندلس‪ ،‬لن تفتح أبوابها‬
‫للراغبين في العلم من كل أنحاء أوروبا‪ ..‬إذ لم يكن هناك جوٌ علمي‪،‬‬
‫ول بيئة علمية إل في هذه البقاع المسلمة‪..‬‬
‫ويقول سارتون‪" :‬حقق المسلمون ‪ -‬عباقرة الشرق ‪ -‬أعظم‬
‫المآثر في القرون الوسطى‪ ،‬فكتبت معظم المؤلفات قيمة وأكثرها‬
‫أصالة وأغزرها مادة باللغة العربية‪ ،‬وكانت من منتصف القرن الثامن‬
‫حتى نهاية القرن الحادي عشر لغة العلم الرتقائية للجنس البشري‪،‬‬
‫حتى لقد كان ينبغي لي كائن إذا أراد أن يلم بثقافة عصره وبأحدث‬
‫صورها أن يتعلم اللغة العربية‪ ،‬ولقد فعل ذلك كثيرون من غير‬
‫المتكلمين بها‪ ،‬وأعتقد أننا لسنا في حاجة أن نبين منجزات المسلمين‬
‫العلمية في الرياضيات والفيزياء وعلم الفلك والكيمياء والنبات‬
‫والطب والجغرافيا"‪..160‬‬
‫ولنا أن نتساءل بعد‪:‬‬
‫لماذا يهرب كثيٌر من المسلمين من القضايا العلمية الن؟‬
‫ولماذا ي ُّتهم السلم بالتخلف والجمود؟ ولماذا ُيعّلق كثيٌر من‬
‫المتشائمين والعلمانيين الغربيين على أن هذه القواعد التي ذكرنا هي‬
‫قواعد نظرية‪ ،‬ل مجال لها للتطبيق في مجال الحياة‪ ،‬وفي واقع‬
‫الناس؟ ولماذا يرسخون في اعتقادنا أن الدين عكس العلم وأنه‬
‫قا‪ ،‬فعليه‬
‫ما ح ً‬
‫يضاده ويتنافى معه؟ وأن النسان إذا أراد أن يكون عال ً‬
‫أول ً أن يتخلص من قيود الدين؟!‬

‫‪ 159‬انظر علي عبد الله الدفاع‪ :‬روائع الحضارة العربية السلمية في العلوم‪ ،‬مؤسسة الرسالة ‪-‬‬
‫القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪1999 ،‬م ص ‪25‬‬
‫‪ 160‬حسان شمسي باشا‪ :‬هكذا كانوا يوم كنا ص ‪ ،8‬وانظر‪ :‬أحمد علي المل‪ :‬أثر العلماء‬
‫المسلمين في الحضارة الوروبية ص ‪ ،110،111‬نقل عن سارتون‪ :‬المدخل إلي تارخ العلوم‪.‬‬
‫أل يثبت ذلك التشجيع المكثف على العلم‪ ،‬وذاك الحرص‬
‫الشديد عليه الذي رأيناه من ِقبل الخلفاء المسلمين على مدى‬
‫عصورهم‪ ،‬وتلك المكانة السامقة والرفيعة للعلم والعلماء في السلم‬
‫بصفة عامة‪ ،‬وعلى مدى تاريخهم الحضاري بصفة خاصة‪ ..‬أل يثبت‬
‫ذلك أنه تشجيعٌ عملي واقعي‪ ،‬قاب ٌ‬
‫ل للتطبيق والتكرار؟!‬
‫َ‬ ‫‪‬ويست َن ْبُئون َ َ َ‬
‫م‬
‫ما أن ْت ُ ْ‬
‫و َ‬
‫ق َ‬ ‫ه لَ َ‬
‫ح ّ‬ ‫وَرّبي إ ِن ّ ُ‬
‫ل ِإي َ‬ ‫و ُ‬
‫ق ْ‬ ‫ه َ‬
‫ق ُ‬
‫ح ّ‬
‫كأ َ‬ ‫َ َ ْ ِ‬
‫ن‪.161‬‬
‫زي َ‬
‫ج ِ‬
‫ع ِ‬
‫م ْ‬
‫بِ ُ‬

‫)يونس‪.(53 :‬‬ ‫‪161‬‬


‫الفصل الخامس‪ :‬نماذج من علوم المسلمين‬
‫في الحضارة السلمية‬
‫في صورة تعبر عن جمع الحضارة السلمية بين علوم الشرع‬
‫مر الرض‪..‬‬ ‫التي تحفظ الدين‪ ،‬وعلوم الحياة التي ُتسّير الحياة وتع ّ‬
‫وذلك كله لرفعة المة واستغنائها عن غيرها‪ ،‬لتحقق أهليتها بأن تكون‬
‫خير أمة ُأخرجت للناس‪..‬‬
‫وفي واحدة مما يمكننا من خللها غرس المل وإيقاظه في‬
‫النفوس‪..‬‬
‫فهذه أمثلة ‪ -‬مجرد أمثلة ‪ -‬ونماذج واقعية أخذت بأسباب العلم‪،‬‬
‫هاجة أضاءت سماء‬ ‫وارتقت به في مدارج السماء؛ فأصبحت شعلة و ّ‬
‫ددت ظلم القرون الوسطى‪ ،‬ونعرضها في أربعة مباحث‬ ‫النسانية‪ ،‬وب ّ‬
‫كما يلي‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬علم الجرح والتعديل‬
‫المبحث الثاني‪ :‬علم الطب في الحضارة السلمية‬
‫المبحث الثالث‪ :‬علم الجغرافيا في الحضارة‬
‫السلمية‬
‫المبحث الرابع‪ :‬علم البصريات في الحضارة السلمية‬
‫المبحث الول‪ :‬علم الجرح والتعديل‬
‫لما كان الحديث النبوي الشريف المصدر الثاني للتشريع‬
‫السلمي بعد القرآن الكريم‪ ،‬والمنهل البياني له في تفصيل الحكام‬
‫المجملة التي وردت فيه‪ ،‬وتقييد المطلق وتخصيص العام‪ ،‬وتأسيس‬
‫عني المسلمون بحفظه‬ ‫الحكام التي لم ينص عليها القرآن‪ ..‬فقد ُ‬
‫وفهمه في حياة النبي ‪ ‬وبعد وفاته‪ ،‬واستمر هذا الهتمام عبر‬
‫الجيال المتتالية‪.‬‬
‫ولما كان من المور المعلومة بداهة أنه ل سبيل إلى معرفة ما‬
‫جاء عن النبي ‪ ‬من أحاديث وأخبار إل عن طريق الرواة والنقلة‪،‬‬
‫الذين نقلوا أخباره جيل ً بعد جيل وطبقة بعد طبقة‪ ،‬حتى دونت السنة‬
‫في الكتب المعتمدة المعروفة‪ ..‬فقد كان الطلع على أحوال هؤلء‬
‫الرواة والنقلة‪ ،‬وتتبع مسالكهم‪ ،‬وإدراك مقاصدهم وأغراضهم‪،‬‬
‫ومعرفة مراتبهم وطبقاتهم‪ ،‬وتمييز ِثقاتهم من ضعافهم‪ ،‬هو الوسيلة‬
‫الهم لمعرفة صحيح الخبار من سقيمها‪..‬‬
‫وقد نتج عن هذا نشوء علم عظيم وضعت له القواعد‪ ،‬وأسست‬
‫قا ضبطت به أحوال الرواة‪،‬‬ ‫سا دقي ً‬
‫له السس والضوابط‪ ،‬فكان مقيا ً‬
‫من حيث التوثيق والتضعيف‪ ،‬والخذ والرد‪ ،‬وذلك هو "علم الجرح‬
‫والتعديل"‪ ،‬أو علم الرجال‪ ،‬أو علم ميزان أو معيار الرواة‪ ،‬والذي‬
‫ل نظير له عند أمة أخرى من أمم الرض‪..‬‬
‫وقد ع ُد ّ هذا العلم نصف علم الحديث؛ وكيف ل وهو ميزان‬
‫رجال الحديث ومعيار الحكم عليهم‪ ،‬وهو الحارس للسنة من كل زيف‬
‫ودخيل‪..‬؟!‬
‫والذي يطالع كتب الرجال والتراجم والجرح والتعديل‪ ،‬يقف‬
‫مبهوًرا أمام هذا العلم الذي ل يمكن أن يكون وضعه جاء صدفة أو‬
‫طعت فيه فيافي وقفار‪ ،‬وفنيت فيه‬‫ذلت فيه جهود‪ ،‬وقُ ِ‬
‫تشهًيا‪ ،‬بل ب ُ ِ‬
‫أزمان وأعمار‪ ،‬حتى بلغ قمة الحسن ومنتهى الجودة‪..‬‬
‫وبداية؛ فإن "الجرح" في اللغة يعني‪ :‬التأثير في البدن بقطع‬
‫خُلق‬
‫بسلح ونحوه‪ ،‬وقد استعير في المعنويات بمعنى التأثير في ال ُ‬
‫ف يناقضهما‪ .‬وعلى هذا فهو في الصطلح يعني‪ :‬وصف‬ ‫والدين بوص ٍ‬
‫الراوي أو الطعن فيه بما يقتضي رد روايته‪.‬‬
‫أما "التعديل" فيعني في اللغة‪ :‬التقويم والتسوية‪ ،‬واستعير‬
‫ضا في المعنويات بمعنى الثناء على الشخص بما يدل على دينه‬ ‫أي ً‬
‫القويم وخلقه السوي‪ .‬وهو في الصطلح يعني‪ :‬وصف الراوي بما‬
‫يقتضي قبول روايته‪.‬‬
‫وعلى هذا فعلم الجرح والتعديل النظري هو‪ :‬القواعد التي‬
‫تنبني عليها معرفة الرواة الذين تقبل رواياتهم أو ترد‪ ،‬ومراتبهم في‬
‫ذلك‪ .‬أما التطبيقي فهو‪ :‬إنزال كل راوٍ منزلته التي يستحقها من‬
‫القبول وعدمه‪.162‬‬
‫حا وتعديل ً ثابت عن رسول الله ‪ ،‬وعن‬ ‫والكلم في الرجال جر ً‬
‫عا وصوًنا‬
‫وز ذلك تور ً‬
‫ج ّ‬
‫كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم‪ ،‬و ُ‬
‫للشريعة من أن يدخل فيها ما ليس منها‪ ،‬ونصيحة لله ورسوله‬
‫والمسلمين‪ ،‬وليس هو طعًنا في الناس‪ ،‬وكما جاز الجرح في الشهود‬
‫جاز في الرواة‪ ،‬والتثبت في أمر الدين أولى من التثبت في الحقوق‬
‫والموال‪..163‬‬
‫حا لي أحد؛ وذلك أن‬ ‫والحقيقة أن التجريح والتعديل لم يكن متا ً‬
‫المر يتطلب من الهلية والتمكن ما ل يمكن أن يصل إليه إل القلة‬
‫من جهابذة النقاد والمحدثين‪ ،‬الذين لديهم اطلع واسع على الخبار‬
‫والمرويات وطرقها‪ ،‬ومعرفة تامة بأحوال الرواة ومقاصدهم‬
‫وأغراضهم‪ ،‬والسباب الداعية إلى التساهل والكذب‪ ،‬والموقعة في‬
‫الوهم والخطأ‪ ،‬مع معرفة بأحوال الراوي وتاريخ ولدته‪ ،‬وبلده‪ ،‬وديانته‬
‫وأمانته وحفظه وسلوكه‪ ،‬وشيوخه وتلميذه‪ ،‬ومقارنة مروياته‬
‫بمرويات غيره‪ ،‬إلى غير ذلك‪..‬‬
‫ل على ذلك من أن‬ ‫وهي منزلة ل يصل إليها كل أحد‪ ،‬وليس أد ّ‬
‫رواة الخبار كثيرون يعدون باللوف‪ ،‬وأما النقاد الحاذقون فإنهم قليل‬
‫ل يتجاوزن أصابع إليد في كل طبقة‪ ،‬وهؤلء الئمة الذين بلغوا هذه‬
‫المرتبة لم يبلغوها إل بعد استيفائهم للشروط التي تؤهلهم للتصدي‬
‫لهذا المر‪.‬‬
‫وقد قام الئمة بهذا الواجب حسبة لله‪ ،‬وصيانة لدينه‪ ،‬وحفا ً‬
‫ظا‬
‫لد ليحي بن سعيد‪" :‬أما تخشى أن‬ ‫على سنة نبيه‪ ،‬قال أبو بكر ابن خ ّ‬
‫يكون هؤلء الذين تركت حديثهم خصماؤك عند الله؟ فقال‪ :‬لن‬
‫يكونوا خصمائي أحب إلى من أن يكون خصمي رسول الله ‪ ‬يقول‪:‬‬
‫ب الكذب عن حديثي؟"‪.164‬‬ ‫م لَ ْ‬
‫م تذ ُ ّ‬ ‫لِ َ‬
‫فلم يكن الحامل لهم على ذلك أهواء أو حظوظ النفس أو‬
‫دا حتى ولو أقرب القربين‪ ،‬فوجدنا‬ ‫غيره‪ ،‬ولذلك لم تراهم يجاملوا أح ً‬
‫سِئل علي بن المديني ‪ -‬كما مّر بنا من‬‫منهم من يضعف والده‪ ،‬وقد ُ‬
‫قبل ‪ -‬عن أبيه؛ فقال‪ :‬اسألوا غيري‪ ،‬فقالوا‪ :‬سألناك‪ ،‬فأطرق ثم رفع‬
‫رأسه وقال‪" :‬هذا هو الدين‪ ،‬أبي ضعيف"‪ ،165‬وكان منهم من ُيضّعف‬
‫الشريف حاتم بن عارف العوني‪ :‬خلصة التأصيل لعلم الجرح والتعديل ص ‪.6‬‬ ‫‪162‬‬

‫الخطيب البغدادي‪ :‬الكفاية في علم الرواية ص ‪.38‬‬ ‫‪163‬‬

‫البناسي‪ :‬الشذا الفياح ‪.2/740‬‬ ‫‪164‬‬

‫ابن حبان‪ :‬المجروحين ‪.2/15‬‬ ‫‪165‬‬


‫ولده وأخاه‪ ،‬قال أبو داود صاحب السنن‪" :‬ابني عبد الله كذاب"‪،‬‬
‫وقال زيد بن أبي أنيسة‪" :‬ل تأخذوا عن أخي يحيى"‪!!..166‬‬
‫وعلى هذا فإنه لبد من توافر شروط معينة في الجارح‬
‫فا عن حال‬
‫فا كاش ً‬
‫دل‪ ،‬والتي من شأنها أن تجعل حكمه منص ً‬
‫والمع ّ‬
‫الراوي‪..‬‬
‫ويمكن إجمال هذه الصفات أو تلك الشروط فيما يلي‪:‬‬
‫‪ (1‬أن يتصف بالعلم والتقوى والورع والصدق؛ لنه إن لم يكن‬
‫ما على غيره‬
‫بهذه الخلق فهو محتاج إلى من يعدله‪ ،‬فكيف يكون حاك ً‬
‫بالجرح والتعديل والحالة كما ذكر‪167‬؟!‬
‫ما بأسباب الجرح والتعديل؛ لنه إن لم يكن‬
‫‪ (2‬أن يكون عال ً‬
‫بهذه الصفة ربما جرح الراوي بما ل يقتضي جرحه‪ ،‬أو بأمر فيه خلف‬
‫دل الرجل استدلل ً ببعض مظاهره دون خلطة ومعرفة‬ ‫قوي‪ ،‬وربما ع ّ‬
‫وسير لحواله ‪.‬‬
‫‪168‬‬

‫ما بتصاريف كلم العرب ل يضع اللفظ لغير‬


‫‪ (3‬أن يكون عال ً‬
‫ً‬
‫معناه‪ ،‬ول يجرح بنقله لفظا هو غير جارح ‪.‬‬
‫‪169‬‬

‫وهذا الجرح والتعديل في الرواة يثبت بواحد من‬


‫طرق ثلثة‪:‬‬
‫الول‪ :‬الستفاضة والشهرة؛ فمن اشتهر بين أهل الحديث‬
‫بعدالته‪ ،‬وشاع الثناء عليه‪ ،‬استغنى عن بينة شاهدة بعدالته‪ ،‬وهؤلء‬
‫مثل‪ :‬المام مالك‪ ،‬وشعبة‪ ،‬وسفيان الثوري‪ ،‬وسفيان بن عيينة‪ ،‬وعبد‬
‫الله بن المبارك‪ ،‬ووكيع‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ..‬فمثل هؤلء ل ُيسأل عن‬
‫عدالتهم؛ لن شهرتهم بالعدالة أقوى في النفس من شهادة الواحد‬
‫والثنين بعدالتهم‪.170‬‬
‫سِئل المام أحمد بن حنبل عن إسحاق بن راهويه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وقد ُ‬
‫مثل إسحاق ُيسأل عنه؟! إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين ‪.‬‬
‫‪171‬‬

‫وحكم الجرح فيما سبق كالتعديل‪.‬‬

‫السخاوي‪ :‬فتح المغيث ‪.3/355‬‬ ‫‪166‬‬

‫أبو الحسنات اللكنوي الهندي‪ :‬الرفع والتكميل ص ‪.67‬‬ ‫‪167‬‬

‫ضاح ‪.1/142‬‬‫زين الدين العراقي‪ :‬التقييد والي ً‬ ‫‪168‬‬

‫الشريف حاتم بن عارف العوني‪ :‬خلصة التأصيل لعلم الجرح والتعديل ص ‪.27‬‬ ‫‪169‬‬

‫البانسي‪ :‬الشذا الفياح ‪.1/235‬‬ ‫‪170‬‬

‫أبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.2/382‬‬ ‫‪171‬‬


‫الثاني‪ :‬أن ينص اثنان من أهل العلم على عدالته أو جرحه‪،‬‬
‫سا على الشهادة‪ ،‬حيث يشترط‬‫وهذا باتفاق الجماهير من العلماء؛ قيا ً‬
‫في تزكية الشاهد اثنان‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن ينص واحد من علماء الجرح والتعديل على عدالة‬
‫ذلك الراوي أو جرحه‪ ،‬على الصحيح المختار الذي رجحه الخطيب‬
‫البغدادي وابن الصلح وغيرهما‪ ،‬واستدلوا على ذلك بأن العدد لم‬
‫ن الحديث الغريب )أي الذي جاء من‬ ‫يشترط في قبول الخبر‪ ،‬فإ ّ‬
‫حا‪ ،‬فإذا كان كذلك فل يشترط في جرح‬ ‫ق واحد( قد يكون صحي ً‬ ‫طري ٍ‬
‫الراوي أو تعديله أكثر من معدل أو جارح واحد ‪.‬‬
‫‪172‬‬

‫وخالف بعض العلماء فقالوا‪ :‬ل يثبت التعديل والجرح إل باثنين؛‬


‫سا على الجرح والتعديل في الشهادات‪.173‬‬‫قيا ً‬

‫وهناك َ‬
‫شرطان لقبول الجرح والتعديل‪:‬‬
‫دل التي‬
‫الول‪ :‬أن يصدرا ممن استوفى شروط الجارح والمع ّ‬
‫ل بعض شروط الجارح والمعدل لم يقبل جرحه‬ ‫سبق ذكرها؛ فإن اخت ّ‬
‫ول تعديله‪ ،‬ولذلك صور منها‪:‬‬
‫حا‪ :‬ومثال ذلك ما ذكره‬‫‪ (1‬أن يكون الجارح نفسه مجرو ً‬
‫الحافظ ابن حجر في التهذيب في أحمد بن شبيب الحبطي البصري‪،‬‬
‫بعد أن نقل توثيقه عن أبي حاتم‪ ،‬وأهل العراق‪ ،‬وابن حبان‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وقال أبو الفتح الزدي‪ :‬منكر الحديث غير مرضي‪ ،‬قلت )ابن حجر(‪:‬‬
‫لم يلتفت أحد ٌ إلى هذا القول‪ ،‬بل الزدي غير مرضي‪.174‬‬
‫‪ (2‬أن يكون الجارح من المتشددين الذين يجرحون الراوي‬
‫بأدنى جرح‪ :‬ومثال ذلك ما ذكره المام الذهبي في الميزان في محمد‬
‫بن الفضل السدوسي شيخ المام البخاري‪ ،‬الملقب بعارم‪ ،‬بعد أن‬
‫ذكر توثيق الدارقطني له‪ ،‬قال‪ :‬قلت )الذهبي(‪ :‬فهذا قول حافظ‬
‫العصر الذي لم يأت بعد النسائي مثله‪ ،‬فأين هذا القول من قول ابن‬
‫حبان‪ ...‬في عارم‪" :‬اختلط في آخر عمره‪ ،‬وتغير حديثه حتى كان ل‬
‫يدري ما يحدث به‪ ،‬فوقع في حديثه المناكير الكثيرة‪ ،‬فيجب التنكب‬
‫رك الكل‬
‫عن حديثه فيما رواه المتأخرون‪ ،‬فإذا لم يعرف هذا من هذا ت ُ ِ‬
‫ول يحتج بشيء منها"‪ ،‬قلت )الذهبي(‪ :‬ولم يقدر ابن حبان أن يسوق‬
‫له حديًثا منكًرا‪ ،‬فأين ما زعم‪175‬؟‬

‫السيوطي‪ :‬تدريب الراوي ‪.1/308‬‬ ‫‪172‬‬

‫الشهرزوري‪ :‬مقدمة ابن الصلح ‪.1/61‬‬ ‫‪173‬‬

‫ابن حجر‪ :‬تهذيب التهذيب ‪.1/31‬‬ ‫‪174‬‬

‫المام الذهبي‪ :‬ميزان العتدال ‪.4/8‬‬ ‫‪175‬‬


‫سًرا‪ ،‬وأما التعديل فل‬
‫الشرط الثاني‪ :‬أن يكون الجرح مف ّ‬
‫يشترط تفسيره‪ ،‬وسبب التفريق بينهما أن أسباب التعديل كثيرة‬
‫يصعب حصرها؛ فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول‪ :‬فعل كذا وكذا‪،‬‬
‫فيذكر كل ما يجب عليه أن يفعله‪ ،‬ويقول‪ :‬لم يكن يفعل كذا وكذا‪،‬‬
‫دا‪ ،‬وأما الجرح فإنه‬
‫فيعد كل ما يجب عليه أن يجتنبه وهذا أمر شاق ج ً‬
‫يثبت في الراوي ولو بخصلة واحدة مما يقتضي الجرح ‪.‬‬
‫‪176‬‬

‫وهناك سبب آخر للتفريق بينهما‪ ،‬وهو أن الناس اختلفوا في‬


‫أسباب الجرح‪ ،‬فربما جرح بعضهم الراوي بما ليس بجارح عند‬
‫التحقيق‪ ،‬فكان لبد من الستفسار عن سبب الجرح لينظر‪ ،‬هل هو‬
‫جرح أم ل‪ ،‬وليس المر كذلك في التعديل‪.177‬‬
‫هذا هو مذهب الجمهور‪ ،‬واختار الخطيب البغدادي قبول الجرح‬
‫المجمل ‪ -‬أي الذي لم يفسر ‪ -‬إذا صدر من العالم بما يصير به الراوي‬
‫حا؛ لنا متى استفسرناه عن سبب الجرح فقد شككنا في علمه‪،‬‬ ‫مجرو ً‬
‫فنقضنا ما بنينا عليه أمره من الرضى به والرجوع إليه ‪.‬‬
‫‪178‬‬

‫على أنه قد تتعارض أقوال أهل العلم في الراوي‪،‬‬


‫فيوثقه ‪ -‬مثل ً ‪ -‬بعضهم ويجرحه آخرون‪ ..‬و حينئذ ٍ ل يخلو المر من‬
‫حالين‪:‬‬
‫أول‪ :‬أن يمكن الجمع بين كلم الموثق وكلم الجارح في ذلك‬
‫الراوي‪ ،‬وذلك بأن يحمل التوثيق على أمر خاص‪ ،‬والتجريح على أمر‬
‫خاص آخر‪ ،‬ولذلك صور‪:‬‬
‫‪ (1‬أن يكون التوثيق للراوي في روايته عن أهل بلده‪ ،‬والجرح‬
‫له في روايته عن غير أهل بلده‪ ،‬وذلك مثل إسماعيل بن عياش‬
‫الحمصي؛ فإنه إذا حدث عن الشاميين فحديثه عنهم جيد‪ ،‬وإذا حدث‬
‫عن غيرهم فحديث مضطرب‪.‬‬
‫‪ (2‬أن يكون التوثيق للراوي في وقت من عمره‪ ،‬والتجريح في‬
‫وقت آخر من عمره‪ ،‬وذلك في حق الرواة المختلطين‪ ،‬فيؤخذ من‬
‫حديث هؤلء ما روي عنهم قبل أن يختلطوا‪ ،‬ويضعف من حديثهم ما‬
‫روي عنهم بعد الختلط‪.‬‬
‫ومن أمثلة هذا النوع عطاء بن السائب‪ ،‬وسعيد بن أبي عروبة‪،‬‬
‫وصالح بن نبهان مولى التوأمة‪ ،‬هذا فيما إذا استمر المختلط في‬
‫التحديث بعد اختلطه‪ ،‬فأما إن توقف عن التحديث أو حجب عنه‬

‫أبو الحسنات اللكنوي‪ :‬الرفع والتكميل ص ‪.117‬‬ ‫‪176‬‬

‫سراج الدين النصاري‪ :‬المقنع ‪.1/249‬‬ ‫‪177‬‬

‫الخطيب البغدادي‪ :‬الكفاية في علم الرواية ص ‪.108‬‬ ‫‪178‬‬


‫الناس ‪ -‬كما في شأن جرير بن حازم وعبد الوهاب بن عبد المجيد‬
‫الثقفي ‪ -‬فإن حديثه مقبول ول يضره اختلطه‪.‬‬
‫‪ (3‬أن يكون التوثيق للراوي في روايته عن بعض شيوخه‪،‬‬
‫والجرح في روايته عن شيوخ معينين‪.‬‬
‫ومثال ذلك حماد بن سلمة؛ فإنه ثقة‪ ،‬وخاصة في روايته عن‬
‫ثابت البناني‪ ،‬ولكن روايته عن قيس بن سعد ل يحتج بها‪ ،‬قال المام‬
‫أحمد‪ :‬ضاع كتابه عنه‪ ،‬فكان يحدث من حفظه فيخطئ‪.‬‬
‫ومثل هشام بن حسان الزدي؛ فإنه ثقة مشهور‪ ،‬لكن ت ُك ُّلم في‬
‫قى من حديثه عن‬ ‫روايته عن بعض شيوخه‪ ،‬قال يحيى بن معين‪ :‬ي ُت ّ َ‬
‫عكرمة‪ ،‬وعن عطاء وعن الحسن البصري‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬أن يتعذر الجمع بين الجرح والتعديل‪ ،‬وهنا يقدم الجرح‬
‫على التعديل؛ لن المعدل يخبر عما ظهر له من حال ذلك الراوي‪،‬‬
‫دم‬
‫دل‪ ،‬فمعه زيادة علم‪ ،‬فُيق ّ‬
‫والجارح يخبر عن باطن خفي عن المع ّ‬
‫قوله‪.‬‬
‫ط ثلثة‪:‬‬
‫ن ذلك بشرو ٍ‬
‫ولك ّ‬
‫سًرا‪.‬‬
‫أن يكون الجرح مف ّ‬ ‫‪(1‬‬

‫‪ (2‬أن ل يكون الجارح متعصًبا على المجروح أو متعنًتا في‬


‫جرحه‪.‬‬
‫‪ (3‬أن ل يبين المعدل أن الجرح قد انتفى عن ذلك الراوي‬
‫بدليل صحيح‪ ،‬وذلك مثل أن يجرحه الجارح بأمر مفسق‬
‫فيبين المعدل أنه قد تاب من ذلك العمل‪.‬‬
‫وبقي إذن أن نعلم أن علماء الحديث اصطلحوا على ألفاظ‬
‫معينة يصفون بها الرواة؛ ليميزوا بها بين مراتب أحاديثهم من‬
‫حيث القبول والرد‪ ،‬وهذه اللفاظ كما يلي‪:‬‬
‫أول‪ :‬ألفاظ التوثيق‪:‬‬
‫‪ (1‬أعلها وصف الراوي بما يدل على المبالغة في‬
‫التوثيق‪ ،‬وأصرح ذلك التعبير بأفعل‪ ،‬كأوثق الناس‪ ،‬أو‬
‫أثبت الناس‪ ،‬أو إليه المنتهى في التثبت‪.‬‬
‫‪ (2‬ثم ما كررت فيه صفة التوثيق لف ً‬
‫ظا‪ ،‬كثقة ثقة‪ ،‬أو‬
‫ى‪ ،‬كثقة حافظ‪ ،‬وثبت حجة‪ ،‬وثقة متقن‪.‬‬ ‫معن ً‬
‫‪ (3‬ثم ما انفرد فيه لفظ التوثيق‪ ،‬كثقة‪ ،‬أو ثبت‪ ،‬أو‬
‫إمام‪ ،‬أو حجة‪ .‬أو تعدد ولكن بمعنى المفرد‪ ،‬مثل‪ :‬عدل‬
‫حافظ‪ ،‬أو عدل ضابط‪.‬‬
‫‪ (4‬ثم ما قالوا فيه‪ :‬ل بأس به‪ ،‬أو ليس به بأس ‪ -‬عند‬
‫غير ابن معين ‪ -‬أو صدوق‪ ،‬أو خيار‪ ،‬وأما ابن معين فإنه‬
‫قال‪ :‬إذا قلت لك‪ :‬ليس به بأس فهو ثقة‪.‬‬
‫‪ (5‬ثم ما قالوا فيه‪ :‬محّله الصدق‪ ،‬أو إلى الصدق ما‬
‫هو‪ ،‬أو شيخ‪ ،‬أو مقارب الحديث‪ ،‬أو صدوق له أوهام‪،‬‬
‫أو صدوق يهم‪ ،‬أو صدوق إن شاء الله‪ ،‬أو أرجو أنه ل‬
‫سا‪ ،‬أو صويلح‪ ،‬أو صالح‬‫بأس به‪ ،‬أو ما أعلم به بأ ً‬
‫الحديث‪.‬‬
‫حكم هذه المراتب‪:‬‬
‫من قيل فيه من الرواة لفظ من ألفاظ المراتب الثلث‬ ‫َ‬
‫الولى‪ ،‬فحديثه صحيح‪ ،‬وبعضه أصح من بعض‪ ،‬وأما أهل المرتبة‬
‫الرابعة فحديثهم حسن‪ ،‬وأما أهل المرتبة الخامسة فل ُيحَتج‬
‫بحديثهم‪ ،‬بل ُيكَتب حديثهم للعتبار‪ ،‬فإن وافقهم غيرهم قُب ِ َ‬
‫ل‪،‬‬
‫وإل ُرّد‪.‬‬
‫ضا‪:‬‬
‫ثانًيا‪ :‬ألفاظ الجرح‪ :‬وهي على مراتب أي ً‬
‫‪ (1‬فشّرها الوصف بما دل على المبالغة في الجرح‪،‬‬
‫وأصرح ذلك التعبير بأفعل‪ ،‬كقولهم‪ :‬أكذب الناس‪ ،‬أو‬
‫إليه المنتهى في الكذب‪ ،‬أو هو ركن الكذب‪.‬‬
‫ضاع‪ ،‬أو ك ّ‬
‫ذاب‪ ،‬أو يضع‬ ‫‪ (2‬ودونها ما قيل فيه‪ :‬و ّ‬
‫الحديث‪ ،‬أو يختلق الحديث‪ ،‬أو "ل شيء" عند‬
‫الشافعي‪.‬‬
‫‪ (3‬ودونها ما قيل فيه‪ :‬متهم بالكذب‪ ،‬أو بالوضع‪ ،‬أو‬
‫يسرق الحديث‪ ،‬أو ساقط‪ ،‬أو هالك‪ ،‬أو ذاهب الحديث‪،‬‬
‫أو متروك الحديث‪ ،‬أو تركوه‪ ،‬أو فيه نظر‪ ،‬أو سكتوا‬
‫عنه )عند البخاري في اللفظتين الخيرتين فقط(‪ ،‬أو‬
‫ليس بثقة‪.‬‬
‫دا‪ ،‬أو‬
‫‪ (4‬ودونها ما قيل فيه‪ :‬رّدوا حديثه‪ ،‬أو ضعيف ج ً‬
‫واه بمرة‪ ،‬أو تالف‪ ،‬أو ل تحل الرواية عنه‪ ،‬أو ل شيء‪،‬‬
‫أو ليس بشيء عند غير الشافعي‪ ،‬أو منكر الحديث‬
‫عند البخاري‪.‬‬
‫‪ (5‬ودونها ما قيل فيه‪ :‬ضعيف‪ ،‬أو ضعفوه‪ ،‬أو منكر‬
‫الحديث عند غير البخاري‪ ،‬أو مضطرب الحديث‪ ،‬أو ل‬
‫يحتج به‪ ،‬أو واه‪.‬‬
‫‪ (6‬ودونها ما قيل فيه‪ :‬فيه مقال‪ ،‬أو فيه ضعف‪ ،‬أو‬
‫ليس بذلك‪ ،‬أو ليس بالقوي‪ ،‬أو ليس بحجة‪ ،‬أو ليس‬
‫بالمتين‪ ،‬أو سيئ الحفظ‪ ،‬أو لين‪ ،‬أو تعرف وتنكر‪ ،‬أو‬
‫ليس بالحافظ‪.‬‬
‫حكم هذه المراتب‪:‬‬
‫الحكم في المراتب الربع الولى أنه ل ُيحَتج بواحد من‬
‫أهلها‪ ،‬ول ُيستشهد به‪ ،‬ول ُيعتبر به؛ فأهل المرتبة الولى والثانية‬
‫حديثهم موضوع‪ ،‬وأهل الثالثة حديثهم متروك‪ ،‬وأهل الرابعة‬
‫دا‪.‬‬
‫حديثهم ضعيف ج ً‬
‫وأما أهل المرتبة الخامسة والسادسة فُيكَتب حديثهم‬
‫للعتبار‪ ،‬ويرتقي إلى الحسن إذا تعددت طرقه‪ ،‬والله أعلم ‪.‬‬
‫‪179‬‬

‫ن هذه التفاصيل عن علم الجرح والتعديل‪ ،‬وقواعده‪،‬‬ ‫إ ّ‬


‫وضوابطه؛ َلتبين ‪ -‬بما ل يدع مجال ً للشك ‪ -‬مدى الجهد الذي‬
‫سّنة النبوية الشريفة‪،‬‬
‫بذله العلماء المسلمون من أجل توثيق ال ّ‬
‫سنة إل طرقوه؛‬ ‫وأنهم ما تركوا سبيل ً للتيقن من ضبط صحة ال ّ‬
‫حيث أنشأوا هذا العلم إنشاًء؛ مما جعله قصًرا على المة‬
‫السلمية‪ ،‬فل توجد أمة تملك هذه الدقة في النقل عن نبيها‪،‬‬
‫ول هذه التراجم الكاملة لكثر من نصف مليون راوٍ من الرواة‪،‬‬
‫ظ وآخر في الجرح والتعديل؛‬ ‫ول التفرقة الدقيقة بين كل لف ٍ‬
‫ل من الجرح والتعديل‬ ‫ُ‬
‫بحيث ل ت ُْترك المور للراء الشخصية‪ ،‬فك ّ‬
‫مضبوط بقواعد صارمة تحميه من اتباع الهوى‪ ،‬وتحافظ على‬
‫ة بالغة‪ ،‬وهذا دليل على‬ ‫المنهج العلمي في توثيق الرواة محافظ ً‬
‫دقة ومكانة علماء المسلمين الذين دفعتهم غيرتهم وحميتهم‪،‬‬
‫سّنة الصحيحة إلى ابتكار‬ ‫وحرصهم على اتباع المة السلمية لل ّ‬
‫ذلك العلم والتنظير له بما ليس له في تاريخ البشرية العلمي‬
‫نظير‪.‬‬

‫إبراهيم بن علي آل كليب‪ :‬مهمات علم الحديث‪.‬‬ ‫‪179‬‬


‫المبحث الثاني‪ :‬علم الطب في الحضارة‬
‫السلمية‬
‫ُيعد ّ الطب من أوسع مجالت العلوم الحياتية التي كان‬
‫للمسلمين فيها إسهامات بارزة على مدار عصور حضارتهم الزاهرة‪..‬‬
‫وكانت تلك السهامات على نحو غير مسبوق شمول ً وتمي ًّزا وتصحي ً‬
‫حا‬
‫طلع على هذه السهامات الخالدة كأن لم‬ ‫للمسار‪ ..‬حتى لُيخّيل للم ّ‬
‫ب قبل حضارة المسلمين!!‬ ‫يكن ط ّ‬
‫داه إلى‬ ‫ولم يقتصر البداع على علج المراض فحسب‪ ..‬بل تع ّ‬
‫تأسيس منهج تجريبي أصيل انعكست آثاره الراقية والرائعة على كافة‬
‫جا‪ ..‬أو مرافق وأدوات‪ ..‬أو أبعاًدا‬
‫جوانب الممارسة الطبّية وقاية وعل ً‬
‫إنسانية وأخلقية تحكم الداء الطبي‪..‬‬
‫وتتجلى روعة السهامات السلمية في الطب في تخريج هذا‬
‫الحشد من العبقريات الطبية النادرة‪ ،‬التي كان لها ‪ -‬بعد الله ‪ -‬الفضل‬
‫ها آخر تابعت المسير على نهجه‬ ‫الكبير في تحويل مسار الطب اتجا ً‬
‫أجيا ُ‬
‫ل الطباء إلى يوم الناس هذا‪..‬‬
‫وإن بدايات تلك الصنعة تكمن في أن النسان منذ ُوجد على‬
‫ظهر الرض وهو يهتدي ‪ -‬بإلهام ربه ‪ -‬إلى أنواع من التطبيب تتفق مع‬
‫مستواه العقلي وتطوره النساني‪ ،‬وكان ذلك النوع من الطب ُيعرف‬
‫ما مع المستوى الحضاري للنسان‪ ،‬ولذلك‬ ‫بالطب )البدائي( انسجا ً‬
‫نجد ابن خلدون )ت ‪ 808‬هق( يذكر أن‪ .." :‬للبادية من أهل العمران‬
‫طًبا يبنونه في أغلب المر على تجربة قاصرة‪ ،‬ويتداولونه متوارًثا عن‬
‫مشايخ الحي‪ ،‬وربما صح منه شيء‪ ،‬ولكنه ليس على قانون‬
‫طبيعي‪.180"..‬‬
‫ولما جاء السلم كان للعرب في الجاهلية مثل هذا الطب‪،‬‬
‫فحث رسول الله ‪ ‬على التداوي فقال ‪ -‬كما روى أسامة بن شريك‬
‫ع لَ ُ‬
‫ه‬ ‫ض َ‬ ‫داءً إ ِل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ع َ‬
‫ض ْ‬
‫م يَ َ‬‫ل لَ ْ‬
‫ج ّ‬‫و َ‬
‫عّز َ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫فإ ِ ّ‬‫وا؛ َ‬ ‫و ْ‬
‫دا َ‬‫<‪" :-‬ت َ َ‬
‫عرف عن رسول الله ‪‬‬ ‫م" ‪ ..‬و ُ‬ ‫هَر ُ‬‫د‪ :‬ال ْ َ‬ ‫ح ٍ‬
‫وا ِ‬ ‫ء َ‬ ‫دا ٍ‬ ‫ء‪َ ،‬‬
‫غي َْر َ‬ ‫وا ً‬
‫دَ َ‬
‫‪181‬‬

‫عرف بق‬ ‫التداوي بالعسل والتمر والعشاب الطبيعية‪ ،‬وغيرها مما ُ‬


‫"الطب النبوي"‪..‬‬
‫غير أن المسلمين لم يقفوا عند حدود ذلك الطب النبوي )مع‬
‫إيمانهم بنفعه وبركته(‪ ،‬بل أدركوا منذ وقت مبكر أن العلوم الدنيوية ‪-‬‬
‫والطب أحدها ‪ -‬تحتاج إلى دوام البحث والنظر‪ ،‬والوقوف على ما عند‬
‫‪ 180‬ابن خلدون‪ :‬العبر في ديوان المبتدأ والخبر ‪.1/650‬‬
‫‪ 181‬أبو داود‪ :‬كتاب الطب‪ ،‬باب في الرجل يتداوى )‪ ،(3855‬والترمذي )‪ ،(2038‬وقال حديث‬
‫حسن‪ ،‬وابن ماجة )‪ ،(3436‬وأحمد )‪ ،(18477‬والحاكم )‪ ،(8206‬وقال‪:‬حديث صحيح ووافقه‬
‫الذهبي‪ ،‬والبخاري في الدب المفرد )‪ ،(291‬وقال اللباني‪ :‬صحيح )‪ (2930‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫ما للستزادة‬‫قا لهدي السلم الدافع دو ً‬
‫المم الخرى منها؛ وذلك تطبي ً‬
‫من كل ما هو نافع‪ ،‬والبحث عن الحكمة أّنى ُوجدت‪ ..‬فنرى أطباء‬
‫المسلمين يأخذون في التعرف على الطب اليوناني من خلل البلد‬
‫السلمية المفتوحة‪ ،‬كما أن الخلفاء بدءوا يستقدمون الطباء الروم‪،‬‬
‫الذين سرعان ما أخذ عنهم الطباء المسلمون‪ ،‬ونشطوا في ترجمة‬
‫كل ما وقع تحت أيديهم من مؤلفات طبية‪ ،‬ولعل هذا يعتبر من أعظم‬
‫أحداث العصر الموي‪.‬‬
‫وقد تميز علماء الطب المسلمون بأنهم أول من عرف‬
‫حالين(‪ ،‬ومنهم‬
‫مون )الك ّ‬
‫التخصص؛ فكان منهم‪ :‬أطباء العيون‪ ،‬ويس ّ‬
‫جامون(‪ ،‬ومنهم المختصون في أمراض‬ ‫الجراحون‪ ،‬والفاصدون )الح ّ‬
‫النساء‪ ,‬وهكذا‪..‬‬
‫وكان من سمات هذا العصر إنشاء المستشفيات النظامية‪،‬‬
‫وبروز الشخصيات السلمية في ميدان علم الطب‪ ،‬وكانت عائلة أبي‬
‫الحكم الدمشقي هي المسيطرة على هذه المهنة في العصر الموي‪،‬‬
‫ضا‪ :‬تياذوق‪ ،‬وقد كان قريًبا من الحجاج‬
‫وكان من هذه الشخصيات أي ً‬
‫بن يوسف الثقفي‪ ،‬وأحمد بن إبراهيم الذي كان طبيب الخليفة‬
‫الموي يزيد بن عبد الملك‪..182‬‬
‫وما كادت عجلة اليام تدور في العصر العباسي حتى أجاد‬
‫المسلمون في كل فرع من فروع الطب‪ ،‬وصححوا ما كان من أخطاء‬
‫العلماء السابقين تجاه نظريات بعينها‪ ،‬ولم يقفوا عند حد النقل‬
‫وبوا أخطاء السابقين‪..‬‬
‫والترجمة فقط‪ ,‬وإنما واصلوا البحث وص ّ‬
‫وكان من عمالقة هذا العصر المبهرين أبو بكر الرازي ~‪،‬‬
‫والذي يعتبر من أعظم علماء الطب في التاريخ قاطبة‪ ..‬وله من‬
‫مه‪ ،‬وسوف نفرد له حديًثا خا ً‬
‫صا‬ ‫النجازات ما يعجز هذا الكتاب عن ض ّ‬
‫بإذن الله في موضع آخر من هذا الكتاب‪.‬‬
‫ور عند المسلمين طب العيون )الكحالة(‪ ,‬ولم يطاولهم‬ ‫كما تط ّ‬
‫د؛ فل اليونان من قبلهم‪ ،‬ول اللتين المعاصرون لهم‪ ,‬ول الذين‬ ‫فيه أح ٌ‬
‫أتوا من بعدهم بقرون بلغوا فيه شأوهم؛ فقد كانت مؤلفاتهم فيه‬
‫الحجة الولى خلل قرون طوال‪ ،‬ول عجب أن كثيرين من المؤلفين‬
‫كادوا يعتبرون طب العيون طًبا عربًيا‪ ،‬ويقّرر المؤرخون أن علي بن‬
‫عيسى الكحال )ت ‪ 400‬هق( كان أعظم طبيب عيون في القرون‬
‫الوسطى برمتها‪ ..‬ومؤلفه )التذكرة( أعظم مؤلفاته‪.183‬‬
‫وإذا طوينا تلك الصفحة المشرقة للرازي وابن عيسى الكحال‬
‫فإننا نجد أنفسنا أمام عملق آخر يعتبر من أعظم الجراحين في‬
‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.410-1/405‬‬ ‫‪182‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.2/263‬‬ ‫‪183‬‬


‫التاريخ إن لم يكن أعظمهم على الطلق وهو أبو القاسم‬
‫الزهراوي )ت ‪ 403‬هق( الذي تمكن من اختراع أولى أدوات الجراحة‬
‫كالمشرط والمقص الجراحي‪ ،‬كما وضع السس والقوانين للجراحة‪..‬‬
‫والتي من أهمها ربط الوعية لمنع نزفها‪ ،‬واخترع خيوط الجراحة‪,‬‬
‫وتمكن من إيقاف النزف بالتخثير‪.‬‬
‫وقد كان الزهراوي هو الواضع الول لعلم )المناظير الجراحية(‬
‫وذلك باختراعه واستخدامه للمحاقن والمبازل الجراحية والتي عليها‬
‫يقوم هذا العلم‪ ,‬وقام بالفعل بتفتيت حصوة المثانة بما يشبه المنظار‬
‫في الوقت الحاضر‪ ..‬إلى جانب أنه أول مخترع ومستخدم لمنظار‬
‫المهبل‪.‬‬
‫ويعتبر كتاب الزهراوي‪) :‬التصريف لمن عجز عن التأليف( ‪-‬‬
‫والذي قام بترجمته إلى اللتينية العالم اليطإلى جيراردو‪ 184‬تحت‬
‫اسم ‪ - ( (ALTASRIF‬موسوعة طبية متكاملة لمؤسسي علم الجراحة‬
‫دا‬
‫بأوروبا‪ ,‬وهذا باعترافهم )تتألف هذه الموسوعة من ثلثين مجل ً‬
‫مقسمة إلى ثلثة أقسام‪ :‬الول في )الطب(‪ ،‬والثاني في )الكيمياء(‪،‬‬
‫والثالث في )الجراحة والدوات الجراحية(‪ ..‬ويذهب مؤرخو الطب‬
‫إلى أن الزهرواي كان أول من خص الجراحة بدراسة متميزة وفصلها‬
‫عن سائر المراض التي تعتري جسم النسان‪.‬‬
‫ل مبحث أبي القاسم الزهراوي في الجراحة محل‬ ‫ولقد ح ّ‬
‫كتابات القدماء‪ ،‬وظل مبحثه هذا العمدة في فن الجراحة حتى القرن‬
‫السادس عشر )أي لما يزيد على خمسة قرون من زمانه(‪ ،‬ويشتمل‬
‫على صور توضيحية للعديد من آلت الجراحة )أكثر من مائتي آلة‬
‫جراحية!!( كان لها أكبر الثر فيمن أتى من بعده من الجراحين‬
‫الغربيين‪ ،‬وكانت بالغة الهمية على الخص بالنسبة لولئك الذين‬
‫أصلحوا فن الجراحة في أوروبا في القرن السادس عشر‪ ..‬يقول‬
‫عالم وظائف العضاء الكبير هالر‪" :‬إن جميع الجراحين الوروبيين‬
‫الذين ظهروا بعد القرن الرابع عشر قد نهلوا واستقوا من هذا‬
‫المبحث"‪.185‬‬
‫وكانت قد برزت كذلك شخصيات إسلمية أخرى لمعة في‬
‫ميدان علم الطب من أمثال ابن سينا )ت ‪ 428‬هق( الذي استطاع‬
‫أن يقدم للنسانية أعظم الخدمات بما توصل إليه من اكتشافات‪ ،‬وما‬
‫يسره الله له من فتوحات طبية جليلة؛ فقد كان أول من اكتشف‬
‫العديد من المراض التي ما زالت منتشرة حتى الن‪ ،‬فهو الذي‬
‫‪ 184‬جيراردو دا كريمونا )‪ 1114‬ق ‪1187‬م( مستشرق إيطإلي‪ .‬مولده ووفاته في » كريمونا«‬
‫من مدن إيطإليا الشمإلية‪ .‬أقام زمًنا في طليطلة )بالندلس( فترجم عن العربية إلي اللتينية‬
‫أكثر من سبعين كتاًبا من كتب الهيئة وأحكام النجوم والهندسة والطب والطبيعة والكيمياء‬
‫والفلسفة‪.‬‬
‫‪ 185‬جوستاف لوبون‪ :‬حضارة العرب ص ‪.591‬‬
‫اكتشف لول مرة طفيل )النكلستوما(‪ ,‬وسماها الدودة المستديرة‪،‬‬
‫وهو بذلك قد سبق العاِلم اليطإلى "دوبيني" بنحو ‪ 900‬سنة‪ ..‬كما أنه‬
‫أول من وصف اللتهاب السحائي‪ ،‬وأول من فّرق بين الشلل الناجم‬
‫عن سبب داخلي في الدماغ والشلل الناتج عن سبب خارجي‪،‬‬
‫فا بذلك ما‬
‫ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم‪ ،‬مخال ً‬
‫استقر عليه أساطين الطب اليوناني القديم‪ ،‬فضل ً عن أنه أول من‬
‫فّرق بين المغص المعوي والمغص الكلوي‪..186‬‬
‫ضا ‪ -‬طرق العدوى لبعض‬ ‫كما كشف ابن سينا ‪ -‬لول مرة أي ً‬
‫المراض المعدية كالجدري والحصبة‪ ،‬وذكر أنها تنتقل عن طريق‬
‫بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والجو‪ ،‬وقال‪" :‬إن الماء يحتوي‬
‫على حيوانات صغيرة جدا ل ُترى بالعين المجردة‪ ،‬وهي التي تسبب‬
‫بعض المراض‪ ,187"..‬وهو ما أكده "فان ليوتهوك" في القرن الثامن‬
‫عشر والعلماء المتأخرون من بعده‪ ،‬بعد اختراع المجهر‪.‬‬
‫ولهذا فإن ابن سينا يعد أول من أرسى )علم الطفيليات ( الذي‬
‫يحتل مرتبة عالية في الطب الحديث؛ فقد وصف لول مرة )التهاب‬
‫السحايا الولي( وفّرقه عن )التهاب السحايا الثانوي( ‪ -‬وهو اللتهاب‬
‫ضا عن طريقة‬ ‫السحائي ‪ -‬وغيره من المراض المماثلة‪ ..‬كما تحدث أي ً‬
‫عا من السرطانات‬ ‫استئصال )اللوزتين(‪ ،‬وتناول في آرائه الطبية أنوا ً‬
‫كسرطان الكبد‪ ،‬والثدي‪ ،‬وأورام العقد الليمفاوية‪ ..‬وغيرها ‪.‬‬
‫‪188‬‬

‫وُيظهر ابن سينا براعة كبيرة ومقدرة فائقة في علم الجراحة؛‬


‫فقد ذكر عدة طرق ليقاف النزيف‪ ،‬سواء بالربط أو إدخال الفتائل أو‬
‫بالكي بالنار أو بدواء كاٍو‪ ،‬أو بضغط اللحم فوق العرق‪ ..‬كما تحدث‬
‫سهام واستخراجها من الجروح‪ ،‬وح ّ‬
‫ذر‬ ‫عن كيفية التعامل مع ال ّ‬
‫المعالجين من إصابة الشرايين أو العصاب عند إخراج السهام من‬
‫الجروح‪ ،‬كما نّبه إلى ضرورة أن يكون المعالج على معرفة تامة‬
‫بالتشريح‪.189‬‬
‫ويعتبر ابن سينا أول من اكتشف ووصف عضلت العين‬
‫الداخلية‪ ،‬وأول من قال بأن مركز البصر ليس في الجسم البلوري‬
‫كما كان ُيعتقد من قبل‪ ،‬وإنما هو في العصب البصري‪.190‬‬

‫‪ 186‬عامر النجار‪ :‬في تاريخ الطب في الدولة السلمية ص ‪.133 ،132‬‬


‫‪ 187‬علي بن عبد الله الدفاع‪ :‬رواد علم الطب في الحضارة السلمية ص ‪.298‬‬
‫‪ 188‬عامر النجار‪ :‬في تاريخ الطب في الدولة السلمية ص ‪ ،133‬واظر‪ :‬فوزي طوقان‪ :‬العلوم‬
‫عند العرب ص ‪.17‬‬
‫‪ 189‬انظر‪ :‬محمود الحاج قاسم‪ :‬الطب عند العرب والمسلمين ص ‪.118‬‬
‫‪ 190‬حسن الشرقاوي‪ :‬المسلمون علماء وحكماء ص ‪ ،160‬مؤسسة مختار الطبعة الولى‬
‫‪.1978‬‬
‫عا؛ فقد قام بعمليات جراحية دقيقة‬
‫حا بار ً‬
‫وكان ابن سينا جّرا ً‬
‫ق‬
‫للغاية مثل استئصال الورام السرطانية في مراحلها الولى ‪ ,‬وش ّ‬
‫‪191‬‬

‫الحنجرة والقصبة الهوائية‪ ،‬واستئصال الخّراج من الغشاء البلوري‬


‫بالرئة‪ ،‬كما عالج البواسير بطريقة الربط‪ ،‬ووصف ‪ -‬بدقة ‪ -‬حالت‬
‫النواسير البولية‪ ..‬إلى جانب أنه توصل إلى طريقة مبتكرة لعلج‬
‫الناسور الشرجي ل تزال تستخدم حتى الن! وتعّرض لحصاة الكلى‬
‫وشرح كيفية استخراجها والمحاذير التي يجب مراعاتها‪ ،‬كما ذكر‬
‫حالت استعمال القسطرة‪ ،‬وكذلك الحالت التي ُيحذر استعمالها‬
‫فيها‪.192‬‬
‫كما كان له باع كبير في مجال المراض التناسلية؛ فوصف بدقة‬
‫بعض أمراض النساء مثل‪ :‬النسداد المهبلي‪ ,‬والسقاط‪ ،‬والورام‬
‫الليفية‪.‬‬
‫وتحدث عن المراض التي يمكن أن تصيب النفساء‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫النزيف‪ ،‬واحتباس الدم‪ ،‬وما قد يسببه من أورام وحميات حادة‪،‬‬
‫وأشار إلى أن تعفن الرحم قد ينشأ من عسر الولدة أو موت الجنين‪،‬‬
‫وهو ما لم يكن معروًفا من قبل‪ ..‬كما تعرض أي ً‬
‫ضا للذكورة والنوثة‬
‫في الجنين‪ ,‬وعزاها إلى الرجل دون المرأة‪ ،‬وهو المر الذي أكده‬
‫مؤخًرا العلم الحديث‪.193‬‬
‫وإلى جانب كل ما سبق‪ ..‬كان ابن سينا على دراية واسعة‬
‫قا في تحديده للغاية والهدف من‬ ‫حا دقي ً‬
‫بطب السنان‪ ,‬وكان واض ً‬
‫مداواة نخور السنان حين قال‪" :‬الغرض من علج التآكل منع الزيادة‬
‫على ما تآكل؛ وذلك بتنقية الجوهر الفاسد منه‪ ،‬وتحليل المادة المؤدية‬
‫إلى ذلك‪ ."..‬ونلحظ أن المبدأ الساسي لمداواة السنان هو‬
‫ما مع رفع‬‫المحافظة عليها‪ ,‬وذلك بإعداد الحفرة إعداًدا فنّيا ملئ ً‬
‫الجزاء النخرة منها‪ ،‬ثم يعمد إلى ملئها بالمادة الحاشية المناسبة‬
‫لتعويض الضياع المادي الذي تعرضت له السن‪ ،‬مما يعيدها بالتالي‬
‫إلى أداء وظيفتها من جديد‪.194‬‬
‫ولم تكن تلك حالت استثنائية للعبقرية السلمية في مجال‬
‫الطب‪ ,‬فقد حفل سجل المجاد الحضارية السلمية بالعشرات‪ ،‬بل‬
‫المئات من الرواد الذين تتلمذت عليهم البشرية قروًنا طويلة‪ ,‬وشهد‬
‫ضا ابن‬
‫بفضلهم وسْبقهم العداء قبل الصدقاء‪ ..‬فكان منهم أي ً‬
‫النفيس )ت ‪ 687‬هق( الذي عارض نظرية جالينوس الذي كان يقول‬
‫بوجود ثقب بين بطيني القلب اليمن واليسر‪ ،‬فصحح ابن النفيس‬

‫محمود الحاج قاسم‪ :‬الطب عند العرب والمسلمين ص ‪.148‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫‪191‬‬

‫ابن سينا‪ :‬القانون ‪.3/165‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫‪192‬‬

‫ابن سينا‪ :‬القانون ‪.2/586‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫‪193‬‬

‫ابن سينا‪ :‬القانون ‪.1/192‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫‪194‬‬


‫هذا الخطأ‪ ..‬ومنه اكتشف الدورة الدموية الصغرى‪ ،‬حيث لحظ من‬
‫خلل دراسته لحركة الدم في القلب أن الدم الذي يصل إلى التجويف‬
‫اليسر من تجويفي القلب يكون مختل ً‬
‫طا بالهواء‪ ،‬وأن الدم الذي‬
‫طف )أي انخفضت درجة حرارته( في التجويف اليمن ول منفذ له‬ ‫تل ّ‬
‫من داخل القلب ليس أمامه سوى أن ينفذ إلى الرئة‪ ..‬وهكذا قرر أن‪:‬‬
‫خنه‬‫"انتقال الدم إلى البطين اليسر إنما هو من الرئة‪ ,‬بعد تس ّ‬
‫وتصّعده من البطين اليمن‪ ,"..‬وينفي )ابن النفيس( أن يكون للدم‬
‫مجرى آخر؛ فهو ليس خاضًعا لي مد ّ أو جزر‪ ،‬واتجاهه واحد‪.‬‬
‫وهكذا أثبت ابن النفيس أن اتجاه الدم إنما يكون على هذا‬
‫النحو‪ :‬يمر من التجويف اليمن للقلب إلى الرئة حيث يخالط الهواء‪،‬‬
‫ومن الرئة عن طريق الشريان الرئوي إلى التجويف اليسر ‪ ،‬بل‬
‫ويزيد على ذلك بأن يفصل القول في )الشريان الوريدي( الرئوي‬
‫ويصفه بأنه ذو طبقتين؛ وذلك حتى يكون ما ينفذ من مسامه شديد‬
‫الرقة‪ ،‬وأن شبهه بالشريان جاء من كونه ينبض‪ ،‬ولما كان نبض‬
‫العروق من خواص الشريان كان إلحاق هذا العرق الرئوي‬
‫بالشرايين‪..195‬‬
‫قا للدورة الدموية الصغرى‪،‬‬
‫فا دقي ً‬
‫وهكذا قدم ابن النفيس وص ً‬
‫لم ُيسَبق إليه‪.‬‬

‫المسلمون وابتكار المستشفيات‬


‫ل شك أن إسهامات المسلمين في مجال الطب ل ُتحصى‪..‬‬
‫ل هذه السهامات وأعظمها أن المسلمين هم أول من‬ ‫ج ّ‬
‫ولعل من أ َ‬
‫أسس المستشفيات في العالم‪ ،‬بل إنهم سبقوا غيرهم في ذلك المر‬
‫بأكثر من تسعة قرون!!‬
‫سس أول مستشفي إسلمي في عهد الخليفة الموي‬ ‫ُ‬
‫فقد أ ّ‬
‫الوليد بن عبد الملك‪ ،‬والذي حكم من سنة ‪ 86‬هق إلى سنة ‪ 96‬هق‪،‬‬
‫صا في الجذام‪ ،196‬وأنشئت بعد ذلك‬ ‫وكان هذا المستشفي متخص ً‬
‫ما؛‬
‫المستشفيات العديدة في العالم السلمي‪ ،‬وبلغ بعضها شأًوا عظي ً‬
‫عا للعلم والطب‪ ،‬وُتعتبر من‬ ‫حتى كانت هذه المستشفيات ُتعد ّ قل ً‬
‫شئ أول مستشفي‬ ‫ُ‬
‫أوائل الكليات والجامعات في العالم‪ ..‬بينما أن ِ‬
‫أوروبي في باريس بعد ذلك بأكثر من تسعة قرون!!‬

‫‪ 195‬عامر النجار‪ :‬في تاريخ الطب في الدولة السلمية ص ‪ ،148،147‬وانظر‪ :‬محمود الحاج‬
‫محمد قاسم‪ :‬الطب عند العرب والمسلمين ص ‪ ،101‬عمر فاروق الطباع‪ :‬ابن النفيس قي‬
‫تاريخ الطب العربي ص ‪..184-179‬‬
‫‪ 196‬الطبري‪ :‬تاريخ المم والملوك ‪.4/29‬‬
‫ستانات(‪ ،‬وكان منها‬
‫وكانت المستشفيات ُتعرف بق )البيمارِ ْ‬
‫شأ في المدن‪ ،‬وقّلما‬‫قل‪ ،‬فالثابت هو الذي ُين َ‬ ‫الثابت ومنها المتن ّ‬
‫تجد مدينة إسلمية ‪ -‬ولو صغيرة ‪ -‬بغير مستشفي‪ ،‬أما المستشفي‬
‫المتنقل فهو الذي يجوب القرى البعيدة والصحارى والجبال‪!!..‬‬
‫مل على مجموعة كبيرة من‬ ‫قلة ُتح َ‬
‫وكانت المستشفيات المتن ّ‬
‫ل!! وذلك في عهد‬‫جمال )وصلت في بعض الحيان إلى أربعين جم ً‬ ‫ال ِ‬
‫السلطان محمود السلجوقي ~‪ ،‬والذي حكم من سنة ‪ 511‬هق إلى‬
‫مزّودة باللت العلجية والدوية‪،‬‬ ‫سنة ‪ 525‬هق( وكانت هذه القوافل ُ‬
‫ويرافقها عدد من الطباء‪ ،‬وكان بمقدورها الوصول إلى كل رقعة في‬
‫المة السلمية‪.197‬‬
‫وقد وصلت المستشفيات الثابتة في المدن الكبرى إلى درجة‬
‫ضدي‬‫دا في المستوى‪ ،‬وكان من أشهرها المستشفي الع ُ‬ ‫راقية ج ً‬
‫ببغداد‪ ،‬والذي أنشئ في سنة ‪ 371‬هق‪ ،‬والمستشفي النوري بدمشق‪،‬‬
‫والذي أنشئ في سنة ‪ 549‬هق‪ ،‬والمستشفي المنصوري الكبير‬
‫بالقاهرة‪ ،‬والذي ُأنشئ سنة ‪ 683‬هق‪ ،‬وكان بقرطبة وحدها أكثر من‬
‫خمسين مستشفي‪!!198‬‬
‫سم إلى أقسام بحسب‬ ‫وكانت هذه المستشفيات العملقة ُتق ّ‬
‫التخصص؛ فهناك أقسام للمراض الباطنة‪ ،‬وأقسام للجراحة‪ ،‬وأقسام‬
‫للمراض الجلدية‪ ،‬وأقسام لمراض العيون‪ ،‬وأقسام للمراض‬
‫النفسية‪ ،‬وأقسام للعظام والكسور وغيرها‪..‬‬
‫ولم تكن تلك المستشفيات مجرد دور علج‪ ،‬بل كانت كّليات‬
‫طب حقيقية على أرقى مستوى؛ فكان الطبيب المتخصص )الستاذ(‬
‫يمّر على الحالت في الصباح‪ ،‬ومعه الطباء الذين هم في أولى‬
‫مراحلهم الطبية‪ ،‬فيعلمهم‪ ،‬ويدّون ملحظاته‪ ،‬ويصف العلج‪ ،‬وهم‬
‫يراقبون ويتعلمون‪ ،‬ثم ينتقل الستاذ بعد ذلك إلى قاعة كبيرة ويجلس‬
‫ضح‪ ،‬ويجيب عن‬‫حوله الطلب فيقرأ عليهم الكتب الطبية‪ ،‬ويشرح ويو ّ‬
‫أسئلتهم‪ ..‬بل إنه يعقد لهم امتحاًنا في نهاية كل برنامج تعليمي معين‬
‫ينتهون من دراسته‪ ،‬ومن ثم يعطيهم إجازة في الفرع الذي تخصصوا‬
‫فيه‪.‬‬
‫وكانت المستشفيات السلمية تضم في داخلها مكتبات ضخمة‬
‫تحوي عدًدا هائل ً من الكتب المتخصصة في الطب والصيدلة وعلم‬
‫التشريح ووظائف العضاء‪ ..‬إلى جانب علوم الفقه المتعلقة بالطب‪،‬‬
‫وغير ذلك من علوم تهم الطبيب‪..‬‬

‫ابن القفطي‪ :‬تاريخ الحكماء ص ‪.405‬‬ ‫‪197‬‬

‫محمود الحاج قاسم‪ :‬الطب عند العرب والمسلمين ص ‪.329،328‬‬ ‫‪198‬‬


‫ومما يذكر على سبيل المثال ‪ -‬لنعرف ضخامة هذه المكتبات ‪-‬‬
‫أن مكتبة مستشفي ابن طولون بالقاهرة كانت تضم بين جنباتها أكثر‬
‫من مائة ألف كتاب!!‬
‫وكانت ُتزَرع ‪ -‬إلى جوار المستشفيات ‪ -‬المزارع الضخمة التي‬
‫تنمو فيها العشاب الطبية والنباتات العلجية؛ وذلك لمداد‬
‫المستشفي بما يحتاجه من الدوية‪.‬‬
‫أما الجراءات التي كانت ُتتخذ في المستشفيات لتجنب‬
‫العدوى فكانت من نوع خاص فريد؛ فكان المريض إذا دخل‬
‫طى ملبس جديدة‬ ‫المستشفي ُيسّلم ملبسه التي دخل بها‪ ،‬ثم ُيع َ‬
‫مجانية لمنع انتقال العدوى عن طريق ملبسه التي كان يرتديها حين‬
‫مرض‪ ،‬ثم يدخل كل مريض في عنبر مختص بمرضه‪ ،‬ول ُيسمح له‬
‫ضا‪ ،‬وينام كل مريض‬ ‫بدخول العنابر الخرى لمنع انتقال العدوى أي ً‬
‫على سرير خاص به‪ ،‬وعليه ملءات جديدة وأدوات خاصة‪!!..‬‬
‫قارن كل ذلك بالمستشفي الذي ُأنشئ في باريس بعد هذه‬
‫المستشفيات السلمية بقرون‪ ،‬حيث كان المرضى ُيجبرون على‬
‫القامة في عنبر واحد‪ ،‬وذلك بصرف النظر عن نوعية أمراضهم‪ ،‬بل‬
‫وُيضطرون لنوم ثلثة أو أربعة‪ ،‬وأحياًنا خمسة من المرضى على‬
‫سريرٍ واحد!! فتجد مريض الجدري إلى جوار حالت الكسور إلى‬
‫جوار السيدة التي تلد!! كما كان الطباء والممرضون ل يستطيعون‬
‫مامات على النف من الرائحة شديدة‬ ‫دخول العنابر إل بوضع ك ّ‬
‫العفونة في داخل هذه العنابر! بل كان الموتى ل ُينقلون إلى خارج‬
‫ة على القل من الوفاة!! ولك‬‫العنابر إل بعد مرور أربٍع وعشرين ساع ً‬
‫أن تتخيل مدى خطورة هذا المر على بقية المرضى !!‬
‫‪199‬‬

‫ضا من المستشفيات الرائدة في‬ ‫وإذا أردنا أن نستعرض بع ً‬


‫ضدي‪ ،‬الذي‬ ‫التاريخ السلمي‪ ،‬فكان من أعظمها‪ :‬المستشفي الع ُ‬
‫أنشأه عضد الدولة ابن بويه عام ‪ 371‬هق في بغداد‪ ،‬وكان يقوم‬
‫دا‪،‬‬
‫بالعلج فيه عند إنشائه أربعة وعشرون طبيًبا‪ ..‬تزايدوا بعد ذلك ج ً‬
‫كما كان يضم مكتبة علمية فخمة وصيدلية ومطابخ‪ ،‬وكان يخدم فيه‬
‫عدد ضخم من الموظفين والفّراشين‪ ،‬وكان الطباء يتناوبون على‬
‫ة وعشرين‬ ‫خدمة المرضى بحيث يكون هناك أطباء بالمستشفي أربع ً‬
‫ساعة يومًيا‪.‬‬
‫ضا‪ :‬المستشفي‬ ‫ومن المستشفيات السلمية العظمى أي ً‬
‫النوري الكبير بدمشق‪ ،‬والذي أنشأه السلطان العادل نور الدين‬
‫ج ّ‬
‫ل‬ ‫محمود الشهيد ~‪ ،‬وذلك في سنة ‪ 549‬هق‪ ،‬وكان من أ َ‬
‫دا من‬‫المستشفيات وأعظمها‪ ،‬واستمر في العمل فترة طويلة ج ً‬
‫مصطفى السباعي‪ :‬من روائع حضارتنا‪ ،‬مصطفى السباعي ص ‪.117،116‬‬ ‫‪199‬‬
‫الزمان‪ ،‬حيث بقي يستقبل المرضى حتى سنة ‪ 1317‬هق )‪1899‬م(‬
‫أي قرابة ثمانمائة سنة!!‬
‫كذلك من أعظم المستشفيات في تاريخ السلم‪:‬‬
‫المستشفي المنصوري الكبير‪ ،‬الذي أنشأه الملك المنصور سيف‬
‫الدين قلوون ~ في القاهرة‪ ،‬وذلك سنة ‪ 683‬هق‪ ..‬وكان آية من آيات‬
‫الدنيا في الدقة والنظام والنظافة‪ ،‬وكان من الضخامة بحيث إنه كان‬
‫يعالج في اليوم الواحد أكثر من أربعة آلف مريض!!‬
‫ول ننسى في هذا المضمار مستشفي مراكش‪ ،‬والذي‬
‫أنشأه المنصور أبو يوسف يعقوب ~‪ ،‬ملك دولة الموحدين بالمغرب‪،‬‬
‫والذي حكم من ‪ 580‬هق إلى ‪ 595‬هق‪ ،‬وكان بناء هذا المستشفي آية‬
‫غرست فيه جميع أنواع الشجار‬ ‫من آيات والتقان والروعة! فقد ُ‬
‫والزروع‪ ،‬بل كانت في داخله أربع بحيرات صناعية صغيرة!! وكان‬
‫دا من حيث المكانيات الطبية والدوية الحديثة‬
‫لج ً‬ ‫على مستوىً عا ٍ‬
‫والطباء المهرة ‪..‬‬
‫‪200‬‬

‫لقد كان ‪ -‬بحق ‪ -‬دّرة في جبين المة السلمية‪..‬‬


‫ليس هذا فقط‪ ..‬بل كانت هناك المستشفيات المتخصصة‪،‬‬
‫عا معيًنا من المراض‪ :‬كمستشفيات العيون‪،‬‬
‫التي ل تعالج إل نو ً‬
‫ومستشفيات الجذام‪ ،‬ومستشفيات المراض العقلية‪ ،‬وغير ذلك‪..‬‬
‫وأعجب منه وأغرب‪ :‬أنه كانت توجد في بعض المدن السلمية‬
‫دث ابن جبير ~ في رحلته التي‬‫الكبرى أحياء طبية متكاملة؛ فقد ح ّ‬
‫قام بها في سنة ‪ 580‬هق تقريًبا‪ ،‬أنه رأى في بغداد ‪ -‬عاصمة الخلفة‬
‫العباسية ‪ -‬ح ّّيا كامل ً من أحيائها يشبه المدينة الصغيرة‪ ،‬يتوسطه قصر‬
‫فا‬
‫فخم جميل‪ ،‬تحيط به الحدائق والبيوت المتعددة‪ ،‬وكان كل ذلك وق ً‬
‫على المرضى‪ ،‬وكان يؤمه الطباء من مختلف التخصصات‪ ،‬فضل عن‬
‫الصيادلة وطلبة الطب‪ ..‬وكانت النفقة جارية عليهم من الدولة ومن‬
‫الوقاف التي يجعلها الغنياء من المة لعلج الفقراء وغيرهم‪.201‬‬

‫منهج إسلمي فريد لدراسة الطب‬


‫ت تلك النجازات السابقة في مجالت الطب عند‬ ‫لم تأ ِ‬
‫المسلمين بصورة عشوائية غير مدروسة‪ ،‬وإنما كان هناك منهج واضح‬
‫قاد إلى هقذا المستوى الراقي في البحث‪ ،‬وقاد إلى نتائج متميزة في‬
‫هذا العلم المهم‪.‬‬

‫مصطفى السباعي‪ :‬من روائع حضارتنا ص ‪.118-110‬‬ ‫‪200‬‬

‫مصطفى السباعي‪ :‬من روائع حضارتنا ص ‪.101‬‬ ‫‪201‬‬


‫ولهذا المنهج الحضاري الراقي خصائص كثيرة‪ ،‬سنتعرف الن‬
‫على ثلثة منها قادت إلى هذا التميز الملموس‪:‬‬
‫الخاصية الولى‪ :‬النفتاح على الغير‪:‬‬
‫كانت الحضارة السلمية منفتحة تمام النفتاح في أمور العلوم‬
‫الحياتية على غيرها من الحضارات‪ ،‬ولم يكن هناك أي حرج في أن‬
‫يأخذ العلماء المسلمون من غير المسلمين‪ ،‬أو أن يعطي علماء‬
‫المسلمين سواهم من غير المسلمين‪..‬‬
‫فكان العلماء المسلمون ينظرون إلى العلوم الحياتية كميراث‬
‫إنساني عام تستفيد فيه كل أمة من تجارب المم الخرى‪ ،‬ولم يكن‬
‫الطب بمنأىً عن هذه النظرة‪ ،‬بل كان من أهم العلوم التي اعتنى‬
‫المسلمون فيها بالجمع والتطوير والبتكار؛ لنه من أهم العلوم‬
‫النسانية‪ ،‬بل إن كثيًرا من علماء المسلمين يعدون الطب هو أشرف‬
‫العلوم النسانية بعد العلوم الشرعية؛ وذلك لحاجة الناس إليه‪،‬‬
‫ولكونه يحفظ الروح‪ ،‬والعقل‪ ،‬والجسد‪ ..‬ومن ثم يحفظ النسان لداء‬
‫مهامه الشرعية والحياتية في الدنيا‪..‬‬
‫ولذلك نجد أن الطب من أوائل العلوم التي اهتم علماء‬
‫المسلمين بالبحث فيها‪ ،‬عن طريق ترجمة أعمال السابقين من‬
‫الطباء من الحضارات المختلفة‪ ،‬وكانت أولى هذه المحاولت على يد‬
‫خالد بن يزيد الموي )ت ‪85‬هق( والذي اهتم بالطب والكيمياء‪ ،‬وبدأ‬
‫يترجم الكتب اليونانية‪ ،‬وخاصة ما كان موجوًدا منها في مكتبة‬
‫السكندرية بمصر‪..202‬‬
‫وفي عهد الخلفة العباسية تزايدت حركة الترجمة بشكل‬
‫ملحوظ‪ ،‬وخاصة في عهد هارون الرشيد ~‪ ،‬ثم ابنه المأمون من‬
‫حا غير مسبوق على كل العلوم‬ ‫بعده‪ ،‬وانفتح أطباء المسلمين انفتا ً‬
‫الطبية من مختلف الحضارات؛ فترجمت المؤلفات اليونانية‬
‫والفارسية والهندية والرومانية والسريانية في الطب‪ ..‬وا ّ‬
‫طلع‬
‫م هائل من التجارب‪ ،‬وبخاصة التجارب اليونانية‬ ‫المسلمون على ك ّ‬
‫القديمة‪..203‬‬
‫ول نبالغ إذا ذكرنا أن الذي عّرف الوروبيين بتاريخ أجدادهم‬
‫اليونان هم المسلمون؛ لن كتب الطباء اليونانيين والرومانيين كانت‬
‫ملة في الديرة والكنائس وبعض القصور والمكتبات‪ ..‬فأخذت تلمع‬ ‫مه َ‬
‫في سماء الدنيا أسماء لطباء يونانيين لم تكن معروفة قبل ذلك مثل‪:‬‬
‫أبقراط‪ ،‬وجإلينوس‪ ،‬وغيرهما‪..‬‬
‫ومن المهم هنا أن نلفت النظار إلى ثلث نقاط مهمة في هذه‬
‫الخاصية )خاصية النفتاح على الغير(‪:‬‬
‫ابن كثير‪ :‬البداية والنهاية ‪.9/60‬‬ ‫‪202‬‬

‫مصطفى السباعي‪ :‬من روائع حضارتنا‪ ،‬مصطفى السباعي ص ‪.122‬‬ ‫‪203‬‬


‫النقطة الولى‪ :‬أن الطباء المسلمين كانوا من المانة‬
‫ما كانوا ينسبون الفضل لهله‪ ،‬وما اّدعى‬ ‫والنزاهة بحيث إنهم دائ ً‬
‫طبيب مسلم اكتشاًفا طبًيا أو سب ً‬
‫قا علمًيا نقله من عالم من‬
‫الحضارات الخرى‪ ،‬بل امتلت كتب الطباء المسلمين بأسماء العلماء‬
‫الذين نقلوا عنهم‪ ،‬وأعطوهم التقدير الكافي والتبجيل الواضح‪..‬‬
‫ولك أن تستمع إلى كلم العلمة السلمي الطبيب المشهور‬
‫أبي بكر الرازي صاحب كتاب الحاوي )من أعظم الكتب في تاريخ‬
‫الطب( وهو يقول‪ .." :‬ولقد جمعت في كتابي هذا جمل ً وعيوًنا من‬
‫صناعة الطب مما استخرجته من كتب )أبقراط( و)جإلينوس(‬
‫و)أرماسوس(‪ ..‬ومن دونهم من قدماء فلسفة الطباء‪ ،‬ومن بعدهم‬
‫من المحدثين في أحكام الطب مثل )بولس( و)آهرون( و)حنين بن‬
‫إسحاق( و)يحيى بن ماسويه(‪ ...‬وغيرهم"‪.204‬‬
‫هذه المانة العلمية المشّرفة كانت بالفعل من أعظم مناقب‬
‫علماء المسلمين‪ ،‬وبخاصة أن المعاصرين من أبناء المم الخرى لم‬
‫دا أن‬
‫يكونوا يعرفون تاريخ أجدادهم‪ ،‬وبالتالي فقد كان من السهل ج ً‬
‫ُتسرق أبحاثهم‪ ،‬لول البعد الخلقي العميق عند علماء المسلمين‪.‬‬
‫دا‬
‫أما النقطة الثانية فهي‪ :‬أن أطباء المسلمين لم يقفوا أب ً‬
‫عند حد النقل والترجمة‪ ،‬وإنما أخذوا تدريجًيا في تطوير ما نقلوه‪ ،‬ثم‬
‫وصلوا إلى مرحلة البتكار والتأليف‪ ،‬بل تناولوا ما نقلوه بالنقد‬
‫والتحليل‪ ،‬ولم يكن هناك أدنى تردد في تناول نظريات مشاهير‬
‫الطباء القدماء بالتعليق والضافة والحذف‪ ..‬وأحياًنا بالعتراض‬
‫الكامل على المحتوى‪ ،‬وذلك مثل ما فعله ابن النفيس ~‪ ،‬عندما‬
‫ة في اتجاه سير الدم من القلب‪ ،‬وقاده‬ ‫رفض نظرية جالينوس كلي ً‬
‫قا‬
‫هذا العتراض إلى اكتشاف الدورة الدموية الصغرى‪ ،‬فكان ذلك سب ً‬
‫علمًيا هائل ً‪..205‬‬
‫لقد كان الطباء المسلمون علماء بحق‪ ،‬وكانوا يتميزون‬
‫سر لهم قيادة البشرية لعدة‬‫بعقليات مفكرة‪ ،‬وطاقات جبارة‪ ,‬مما ي ّ‬
‫قرون في هذا المجال المهم من مجالت العلوم‪.‬‬
‫والنقطة الثالثة هي‪ :‬أن الطباء المسلمين لم يجعلوا الطب‬
‫حكًرا عليهم‪ ،‬حتى في زمان قوة دولتهم‪ ,‬بل فتحوا الباب لكل العلماء‬
‫المعاصرين من الديانات الخرى؛ ليدلوا بدلوهم‪ ،‬وليساهموا‬
‫بإنجازاتهم في سبيل تقدم هذا العلم المهم‪ ..‬علم الطب‪..‬‬
‫فقد ظهرت أسماء نصرانية ويهودية مؤثرة في علم الطب مثل‬
‫قسطا بن لوقا البعلبكي‪ ،‬وأبي النصر المسيحي‪ ،‬وهبة الله بن جميع‬
‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.1/70‬‬ ‫‪204‬‬

‫عامر النجار‪ :‬في تاريخ الطب في الدولة السلمية ص ‪..148،147‬‬ ‫‪205‬‬


‫ة‬
‫ت نصراني ٌ‬‫السرائيلي‪ ،‬وغيرهم وغيرهم‪ ..‬لدرجة أنه كان هناك عائل ٌ‬
‫ب اهتمامها الساسي على علم الطب؛ ولذلك تراها وقد‬ ‫ة انص ّ‬
‫كامل ٌ‬
‫برعت فيه‪ ,‬وتبوأت مكانة مرموقة في الدولة السلمية‪ ،‬وذلك مثل‬
‫عائلة آل بختيشوع النصرانية‪ ،‬والتي ظلت تحترف الطب لثلثة قرون‬
‫كاملة‪ ،‬وكان لها مكانة عظيمة عند خلفاء بني العباس‪ ،‬وكان من‬
‫أشهر علمائهم جبرائيل بن بختيشوع‪ ،‬الطبيب الخاص لجعفر البرمكي‬
‫)أحد كبار رجال الدولة في عهد هارون الرشيد ~(‪..206‬‬
‫وتكفي الشارة إلى أمر يدل على مدى التسامح الذي كان عند‬
‫قادة المسلمين‪ ،‬ومدى القتناع عندهم بقبول الخر‪ ،‬وهو أن الناصر‬
‫صلح الدين اليوبي ‪ - ~ -‬عندما دخل مصر‪ ،‬كان بصحبته ثمانية عشر‬
‫طبيًبا‪ ،‬من بينهم ثمانية مسلمون وخمسة يهود وأربعة من النصارى‪،‬‬
‫وسامري واحد‪!!..‬‬
‫وهكذا وشت الحضارة السلمية علم الطب ‪ -‬بكل تخصصاته‬
‫وفروعه ‪ -‬بكل نافع ومفيد‪ ،‬واستطاعت أن تضيف المزيد إليه‪ ،‬وتترك‬
‫بصماتها الواضحة عليه‪ ،‬بما يفيد المسلمين والبشرية جمعاء‪ ..‬فأْثرت‬
‫الحضارة النسانية بصفة عامة في هذا الجانب‪ ،‬واستطاعت أن تكمل‬
‫مسيرتها فيه من بعد ما ارتكزت على السابقين‪..‬‬
‫وهذا ما يجب أن يكون عليه تعامل المسلمين مع العلوم‬
‫الحياتية الن بصفة عامة‪..‬‬
‫الخاصية الثانية‪ :‬العتماد على التجريب والتطبيقات‬
‫الواقعية‪:‬‬
‫كانت الخاصية الثانية التي ميزت المنهج الحضاري عند‬
‫المسلمين في دراسة الطب هي اعتمادهم على التجربة والمشاهدة‬
‫جا فلسفًيا نظرًيا بحًتا‪ ،‬وإنما اعتمد ‪-‬‬
‫والفروض؛ بمعنى أنه لم يكن منه ً‬
‫وبشكل رئيسي ‪ -‬على التجارب العملية والتطبيقات الواقعية‪ ..‬وهذا‬
‫يميزه كثيًرا عن المناهج الطبيعية اليونانية‪ ،‬والتي كانت في أغلبها‬
‫فلسفات نظرية‪ ،‬ل تطبيق لها في الكثير من الحايين‪ ،‬حتى وإن كانت‬
‫صحيحة!‬
‫فقد اعتمد الطباء المسلمون المنهج التجريبي في علم الطب‪،‬‬
‫وكانوا يقومون في ذلك بتجربة طرق مختلفة ومتعددة للعلج‪،‬‬
‫وملحظة الفروق بين هذه الطرق‪ ،‬وتسجيل ذلك بعناية ودقة‪..‬‬
‫ما بالًغا؛‬
‫واهتم الطباء المسلمون بتسجيل الملحظات اهتما ً‬
‫فكانوا يدّونون ما يشاهدونه في الحالت المرضية المختلفة‪ ،‬كما‬
‫اهتموا بمحاولة تبرير هذه الملحظات بما يستطيعون‪ ،‬أو محاولة‬
‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.2/15،14‬‬ ‫‪206‬‬
‫ابتكار العلج المناسب لكل حالة‪ ..‬وبذلك حدث المزج الرائع بين‬
‫العلوم النظرية والعلوم العملية‪ ،‬واستفادت البشرية من جهود العلماء‬
‫السابقين واللحقين‪..‬‬
‫يقول ابن سينا العلمة السلمي المتميز‪" :‬تعهدت المرضى؛‬
‫ي من أبواب العلجات المقتبسة من التجربة ما ل‬‫فانفتح عل ّ‬
‫يوصف‪. "..‬‬
‫‪207‬‬

‫ويمتعنا الرازي ~ في هذا المجال بكلم في غاية النفاسة‬


‫والفائدة‪ ،‬حيث يقول‪" :‬عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة مع‬
‫النظرية السائدة‪ ،‬يجب قبول الواقعة‪ ،‬حتى وإن أخذ الجميع بالنظرية‬
‫دا لمشاهير العلماء‪.208"..‬‬
‫السائدة تأيي ً‬
‫فهو يقّرر أن الجميع قد ينبهر بآراء العلماء المشهورين الكبار‪،‬‬
‫ويتوقف عند نظرياتهم‪ ،‬إل أن التجربة أحياًنا ما تتعارض مع النظرية‪،‬‬
‫فهنا يجب علينا رفض النظرية ‪ -‬وإن كانت لمشاهير العلماء ‪ -‬وقبول‬
‫التجربة والواقعة‪ ،‬والبدء في تحليلها والستفادة منها‪.‬‬
‫وانطلًقا من هذا المنهج العظيم‪ ،‬وهو منهج العتماد على‬
‫التجربة والملحظة‪ ,‬وافتراض الفروض‪ ،‬ومحاولة تطبيقها‪..‬لم يقبل‬
‫الطباء المسلمون بالجهزة والدوات القديمة التي استخدمها قدماء‬
‫الطباء اليونانيين والفارسيين‪ ،‬بل بدءوا يفكرون في أدوات جديدة‪،‬‬
‫عا عدة‪ ،‬وجربوها‪ ،‬فما أثبت كفاءته منها استخدموه‬
‫وابتكروا أنوا ً‬
‫سا علمية لكثير من أدوات الجراحة‬‫وروه‪ ..‬حتى وضعوا بذلك أس ً‬ ‫وط ّ‬
‫والولدة وعلج السنان‪ ،‬وعلج كسور العظام‪ ،‬وصلت أحياًنا إلى حد‬
‫البهار‪ ،‬وبخاصة إذا نظرنا إلى التوقيت المبكر الذي ظهرت فيه هذه‬
‫اللت‪ ،‬وإلى خلو العالم في ذلك الوقت من أي منافس في هذا‬
‫المجال‪..‬‬
‫وليس أدل على ذلك من إنتاج الجّراح السلمي الفذ أبي‬
‫القاسم الزهراوي الذي أبهر العالم ‪ -‬ولعدة قرون ‪ -‬بأدواته الجراحية‬
‫التي ابتكرها واستعملها بنفسه‪ ،‬وسجلها في كتابه الرائع )التصريف‬
‫لمن عجز عن التأليف(‪ ،‬وأصبحت هذه اللت العبقرية هي النواة التي‬
‫ت بعد ذلك بقرون لتصبح الدوات الجراحية الحديثة‪..‬‬ ‫ط ُوَّر ْ‬
‫وتجدر الشارة هنا إلى أن الزهراوي هو أول من ابتكر اللة‬
‫التي تستخدم في الحقن )الحقنة(‪ ،‬وكان يسميها )الزراقة(‪ ،‬ول يخفي‬
‫على لبيب إلى أي حد كانت الضافة التي قدمتها تلك اللة البسيطة‬
‫في تركيبها‪ ..‬العبقرية في فكرتها‪ ..‬بالغة النفع‪ ،‬في علج المرضى ‪.‬‬
‫‪209‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.3/73‬‬ ‫‪207‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.1/78،77‬‬ ‫‪208‬‬

‫عامر النجار‪ :‬في تاريخ الطب في الدولة السلمية ص ‪.176‬‬ ‫‪209‬‬


‫الخاصية الثالثة‪ :‬الهتمام بالضوابط الشرعية في‬
‫العلج‪:‬‬
‫وهذه هي الخاصية الثالثة الفريدة التي ميزت المنهج السلمي‬
‫في دراسة الطب عن غيره من المناهج؛ فكل مناهج الرض في كافة‬
‫العلوم تفكر وتبتكر وتنفذ دون ضابط شرعي‪ ،‬أو دليل إلهي على‬
‫صحة أو بطلن عمل من العمال‪ ،‬لكن الطب السلمي تميز بأنه كان‬
‫يستمد أصول ً ثوابت من القرآن والسنة مّيزته عن شتى المناهج‬
‫الخرى‪..‬‬
‫وليس معنى هذا أن القرآن والسنة وضعا التفاصيل الدقيقة‬
‫ضا إل بدليل! ولكن معناه أن هناك أطًرا‬ ‫لعلج المراض؛ فل نعالج مر ً‬
‫عامة‪ ،‬وحدوًدا خاصة وضعها السلم لتكون هادًيا للطباء المسلمين‪،‬‬
‫ولكافة العلماء وعموم الناس لكي ينجحوا في الوصول إلى الحق‬
‫وإلى الخير والصلح في كل فروع الحياة‪ ،‬ومن هذا المنطلق نفهم‬
‫ء‪.210‬‬
‫ي ٍ‬ ‫ن َ‬
‫ش ْ‬ ‫م ْ‬ ‫في ال ْك َِتا ِ‬
‫ب ِ‬ ‫فّرطَْنا ِ‬
‫ما َ‬
‫قوله ‪َ : ‬‬
‫فكان الطباء المسلمون ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬يحترمون‬
‫القاعدة الشرعية الصيلة التي رواها أبو الدرداء < قال‪ :‬قال رسول‬
‫ء‪،‬‬
‫وا ً‬‫ء دَ َ‬‫دا ٍ‬ ‫ل ل ِك ُ ّ‬
‫ل َ‬ ‫ع َ‬
‫ج َ‬
‫و َ‬
‫ء‪َ ،‬‬
‫وا َ‬
‫والدّ َ‬‫داءَ َ‬
‫ل ال ّ‬‫ه أ َن َْز َ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫الله ‪" :‬إ ِ ّ‬
‫حَرام ٍ" ‪ ..‬ومن هنا لم يكن مقبول ً أب ً‬
‫دا‬ ‫‪211‬‬
‫وا ب ِ َ‬
‫و ْ‬ ‫دا َ‬ ‫ول َ ت َ َ‬‫وا َ‬ ‫و ْ‬
‫دا َ‬ ‫َ‬
‫فت َ َ‬
‫ضا بخمرٍ أو نجاسة‪ ،‬أو بفعل منكر؛ فقد أغلق‬ ‫عندهم أن يعالجوا مر ً‬
‫لهم هذا الحديث الشريف أبواًبا كثيرة من الشر؛ لن الله ‪ ‬يعلم ما‬
‫ُيصلح عباده وما ُيفسدهم‪..‬‬
‫ضا أن الطباء المسلمين لم ينساقوا وراء ما كان‬
‫ومثال ذلك أي ً‬
‫شائًعا في زمانهم من أمور العلج بالدجل والشعوذة‪ ،‬وإنما استخدموا‬
‫السلوب العلمي الراقي في علج المراض‪ ،‬وقادهم هذا إلى‬
‫اكتشاف الكثير من المراض النفسية‪ ،‬ومعرفة طرق علجها‪.‬‬
‫كذلك لم يستخدم المسلمون الكي في العلج؛ لن الرسول ‪‬‬
‫نهى عن ذلك‪ ،‬فقد روى ابن عباس } أن رسول الله ‪ ‬قال‪.." :‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ي"‪ ..212‬وبذلك أغلق الطباء المسلمون هذه‬‫ن ال ْك َ ّ‬
‫ع ْ‬
‫مِتي َ‬
‫هى أ ّ‬
‫وأن ْ َ‬‫َ‬
‫الصفحة من طرق العلج‪ ،‬والتي أثبت الطب الحديث بعد ذلك أنها‬
‫مجرد تسكين مؤقت‪ ،‬ليس له فائدة حقيقية!!‬
‫وإذا كان من مثال رابع‪ ،‬فهو عدم استخدامهم السحر في‬
‫ي عنه‬
‫العلج‪ ،‬مع إدراكهم أنه علم له أصول‪ ،‬ولكنهم علموا أنه منه ّ‬
‫‪) 210‬النعام‪.(38 :‬‬
‫‪ 211‬أبو داود‪ :‬كتاب في الطب‪ ،‬باب في الدوية المكروهة )‪ ،(3874‬والبيهقي في سننه الكبرى )‬
‫‪.(19465‬‬
‫‪ 212‬البخاري‪ :‬كتاب الطب‪ ،‬باب الشفاء في ثلث )‪ ،(5356‬وابن ماجة )‪ ،(3491‬وأحمد )‪.(2208‬‬
‫عا‪ ،‬بل إنه من الكبائر ومن الموبقات السبع‪ ،‬كما روى أبو هريرة‬ ‫شر ً‬
‫ت‪ ...‬وذكر‬‫قا ِ‬ ‫ع ال ْ ُ‬
‫موب ِ َ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫<‪ ..‬أن رسول الله ‪ ‬قال‪" :‬ا ْ‬
‫جت َن ُِبوا ال ّ‬
‫حُر"‪.213‬‬
‫س ْ‬
‫منها‪ :‬ال ّ‬
‫وكان لهتمام الطباء المسلمين بالقرآن والسنة السبيل‬
‫لرشادهم إلى كثير من وسائل العلج التي أثبت الطب الحديث‬
‫كفاءتها‪ ،‬بل وإعجازها‪ ..‬وذلك مثل الستشفاء بعسل النحل‪ ،‬وحبة‬
‫فلت بها كتب‬‫البركة‪ ،‬والحجامة‪ ..‬وغير ذلك من أنواع العلج التي ح ِ‬
‫السنة النبوية‪.‬‬
‫فهذه خصائص عظيمة وفريدة ميزت المنهج السلمي في‬
‫دراسة الطب عن غيره من المناهج‪ ،‬ومكنته من وضع أصول راسخقة‬
‫لهذا العلم العظيم‪ ،‬ويسرت لعلمائنا الفذاذ أن يقودوا البشرية كلها‬
‫لعدة قرون‪..‬‬

‫البعد النساني للطب عند المسلمين‬


‫نريد بعد ما سبق أن نلفت النظر إلى ُبعد ٍ رائع آخر تميز به‬
‫الداء الطبي عند المسلمين في زمن حضارتهم‪ ..‬ذلكم هو البعد‬
‫النساني‪ ,‬والذي يكمن في احترام النسان بصفة عامة‪ ,‬والسعي‬
‫الحثيث لرفع المعاناة واللم والحرج عنه‪ ،‬أّيا كان هذا النسان‪ ,‬وأّيا‬
‫كانت معاناته‪..‬‬
‫ولم يكن غريًبا على أطباء المسلمين أن يهتموا بالبعد النساني‬
‫في تعاملهم مع المريض؛ لن قوانين التشريع السلمي تنطق بهذا‬
‫النهج الخلقي الفريد‪ ..‬فالسلم ينظر إلى المريض على أنه إنسان‬
‫في أزمة‪ ،‬ومن ثم يحتاج إلى من يقف إلى جواره‪ ،‬ويأخذ بيده‪ ،‬ويرفع‬
‫دئ من روعه‪ ،‬ويخفف عن آلمه الجسدية‪ ،‬فضل ً عن‬ ‫من معنوياته‪ ،‬ويه ّ‬
‫المعنوية‪...‬‬
‫فالتشريع السلمي يسعى إلى رفع الحرج عن المريض‬
‫بكل وسيلة‪ ،‬ويخفف عنه العباء إلى أقصى درجة‪ ..‬فجعل للمريض‬
‫رخصة الفطار في رمضان‪ ،‬وإن عاقه اعتلل صحته عن الحج فل حج‬
‫عليه‪ ،‬وليس عليه إثم‪ ..‬كما أن المريض الذي ل يستطيع الصلة على‬
‫سا أو‬
‫صورتها الطبيعية ُيعطى رخصة الصلة في أوضاع تناسبه جال ً‬
‫ما أو حتى بعينيه! والمريض الذي يضره الماء في الوضوء يتيمم‪،‬‬
‫نائ ً‬

‫‪ 213‬البخاري‪ :‬كتاب الوصايا‪ ،‬باب في قوله تعإلي "إن الذين يأكلون أموال إليتامى ظلما" )‬
‫‪ ،(2615‬ومسلم‪ :‬كتاب اليمان‪ ،‬باب بيان الكبائر وأكبرها )‪ ،(89‬وأبو داود )‪ ،(2874‬والنسائي )‬
‫‪ ،(6371‬وابن حبان )‪.(5561‬‬
‫والذي ل يستطيع الوضوء ول التيمم لسبب أو آخر يصلي دون أي‬
‫منهما‪ ،‬ويسمى فاقد الطهورين!!‬
‫حتى في أوقات الجهاد في سبيل الله‪ ،‬رفع التشريع السلمي‬
‫عَلى‬
‫س َ‬‫الحرج عن المريض‪ ،‬فل يجاهد ول إثم عليه‪ ..‬يقول ‪: ‬ل َي ْ َ‬
‫ج‬
‫حَر ٌ‬
‫ض َ‬‫ري ِ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫ول َ َ‬
‫ج َ‬
‫حَر ٌ‬
‫ج َ‬ ‫عَلى اْل َ ْ‬
‫عَر ِ‬ ‫وَل َ‬
‫ج َ‬
‫حَر ٌ‬
‫مى َ‬ ‫اْل َ ْ‬
‫ع َ‬
‫‪.214‬‬
‫ف برفع بعض التكليفات‪،‬‬ ‫بل إن التشريع السلمي لم يكت ِ‬
‫والترخيص في بعض العبادات والفروض‪ ،‬وإنما يحض وبشدة على‬
‫الوقوف إلى جوار المريض‪ ،‬ورفع روحه المعنوية إلى أقصى‬
‫درجة؛ فجعل رسول الله ‪ ‬زيارة المريض وعيادته في بيته أو في‬
‫قا له على المسلمين‪ ،‬فقال فيما رواه أبو هريرة <‪:‬‬ ‫المستشفي ح ً‬
‫ض‬
‫ر َ‬ ‫م ِ‬ ‫وإ ِ َ‬
‫ذا َ‬ ‫ت‪ ..‬وذكر منها‪َ " :‬‬ ‫س ّ‬ ‫سل ِم ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عَلى ال ْ ُ‬ ‫سل ِم ِ َ‬‫م ْ‬ ‫ق ال ْ ُ‬‫ح ّ‬ ‫" َ‬
‫ضا‪ ،‬فقال فيما رواه أبو‬ ‫ه" ‪ ..‬وجعل الجنة نصيًبا لمن عاد مري ً‬ ‫‪215‬‬
‫عد ْ ُ‬
‫ف ُ‬‫َ‬
‫ت‬
‫ء طِب ْ َ‬ ‫ما ِ‬‫س َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫م ْ‬‫مَناٍد ِ‬ ‫دى ُ‬ ‫ضا َنا َ‬‫ري ً‬ ‫م ِْ‬‫عادَ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫هريرة <‪َ " :‬‬
‫ً ‪216‬‬
‫زل " ‪.‬‬ ‫من ْ ِ‬
‫ة َ‬‫جن ّ ِ‬‫ن ال ْ َ‬‫م ْ‬‫ت ِ‬ ‫وأ َ‬ ‫وت َب َ ّ‬
‫ك َ‬ ‫شا َ‬ ‫م َ‬ ‫م ْ‬
‫ب َ‬ ‫طا َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫وأمر رسول الله ‪ ‬أن تذكر الخير عند المريض‪ ،‬وأن ترفع من‬
‫ه في الشفاء وفي طول العمر‪ ،‬فقد روى أبو‬ ‫معَ ُ‬ ‫روحه المعنوية‪ ،‬وت ُط ْ ِ‬
‫ض‬
‫ري ِ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫خل ْت ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫سعيد الخدري‪ ‬أن رسول الله ‪ ‬قال‪" :‬إ ِ َ‬
‫ذا دَ َ‬
‫ل )أي ارفعوا من أمله في الشفاء وطول‬ ‫ج ِ‬ ‫في اْل َ َ‬ ‫ه ِ‬‫سوا ل َ ُ‬‫ف ُ‬ ‫فن َ ّ‬‫َ‬
‫س‬
‫ف ِ‬ ‫ب ب ِن َ ْ‬ ‫طي ُ‬‫و يَ ِ‬ ‫ه َ‬
‫و ُ‬ ‫ك َل ي َُردّ َ‬
‫شي ًْئا‪َ ،‬‬ ‫ن ذَل ِ َ‬
‫فإ ِ ّ‬ ‫الجل(؛ َ‬
‫ض" ‪.‬‬ ‫ري ِ‬‫م ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫‪217‬‬

‫بل إن رسول الله ‪ ‬يرتفع بروح المريض إلى السماء عندما‬


‫يخبره أن هذا المرض هو كفارة لذنوبه‪ ،‬وهو مدعاة لنجاته في الخرة‬
‫ب‬
‫صي ُ‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫إن صبر‪ ،‬فقد روى أبو هريرة < أن رسول الله ‪ ‬قال‪َ " :‬‬
‫ولَ‬
‫ذى َ‬ ‫وَل أ َ ً‬‫ن َ‬ ‫حْز ٍ‬ ‫وَل ُ‬ ‫م َ‬ ‫وَل َ‬
‫ه ّ‬ ‫ب َ‬ ‫ص ٍ‬‫و َ‬ ‫وَل َ‬ ‫ب َ‬‫ص ٍ‬ ‫ن نَ َ‬‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫سل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ه"‪.218‬‬ ‫طاَيا ُ‬ ‫خ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ها ِ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫فَر الل ّ ُ‬ ‫ها إ ِّل ك َ ّ‬ ‫شاك ُ َ‬
‫ة يُ َ‬‫وك َ ِ‬ ‫حّتى ال ّ‬
‫ش ْ‬ ‫م َ‬ ‫غ ّ‬‫َ‬
‫دي‬ ‫عب ْ ِ‬
‫ت َ‬ ‫ذا اب ْت َل َي ْ ُ‬ ‫ل إِ َ‬ ‫قا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ويقول فيما رواه أنس <‪" :‬إ ِ ّ‬
‫ة" ‪..‬‬
‫‪219‬‬
‫جن ّ َ‬ ‫ْ‬
‫ما ال َ‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ه ِ‬ ‫ضت ُ ُ‬‫و ْ‬ ‫ع ّ‬
‫صب ََر‪َ ،‬‬ ‫ف َ‬‫ه )أي بعينيه( َ‬ ‫حِبيب َت َي ْ ِ‬ ‫بِ َ‬

‫‪) 214‬النور‪.(61 :‬‬


‫‪ 215‬مسلم‪ :‬كتاب السلم‪ ،‬باب حق المسلم للمسلم رد السلم )‪ ،(2162‬وأحمد )‪ ،(8832‬وابن‬
‫حبان )‪ ،(242‬والبخاري في الدب المفرد )‪.(925‬‬
‫ضا )‪ ،(1443‬وقال اللباني‪:‬‬
‫‪ 216‬ابن ماجة‪ :‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب ما جاء في ثواب من عاد مري ً‬
‫حسن )‪ (6387‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫‪ 217‬الترمذي‪ :‬كتاب الطب )‪ (2087‬وقال‪ :‬حديث غريب ‪ ،‬وابن ماجة )‪ ،(1438‬وابن أبي شيبة )‬
‫‪ ،(10851‬والبيهقي في شعب اليمان )‪ ،(9213‬وأبو نعيم في الحلية ‪.2/208‬‬
‫‪ 218‬البخاري‪ :‬كتاب المرضى‪ ،‬باب ما جاء في ثواب المرض )‪ ،(5318‬وسلم‪ :‬كتاب البر والصلة‬
‫والداب‪ ،‬باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن )‪.(2573‬‬
‫‪ 219‬البخاري‪ :‬كتاب المرضى باب فضل من ذهب بصره )‪ ،(5329‬والطبراني في الوسط )‬
‫‪ ،(250‬والبيهقي في شعب اليمان )‪.(9958‬‬
‫وهكذا ترتفع معنويات المريض المؤمن إلى السماء‪ ،‬ول يشعر‬
‫ما عاجًزا مهمل ً في المجتمع‪ ،‬بل إن الجميع يهتم به‬
‫بأنه أصبح ك ّ‬
‫ويرعاه‪.‬‬
‫ولم تكن هذه النظرة السلمية الراقية للمرضى المسلمين‬
‫فقط‪ ،‬بل كانت لي إنسان مريض مهما كانت ديانته‪ ،‬وذلك انطلًقا‬
‫َ‬ ‫ول َ َ‬
‫م‪ 220‬فالنسان بصفة عامة‬ ‫قدْ ك َّر ْ‬
‫مَنا ب َِني آدَ َ‬ ‫من الية الكريمة‪َ  :‬‬
‫مكّرم‪ ،‬ولذلك نهتم برعايته حين مرضه‪ ،‬وبعلجه إذا اشتكى ولو لم‬ ‫ُ‬
‫ما يهودًيا عندما مرض ‪،‬‬ ‫ما‪ ..‬وقد زار رسول الله ‪ ‬غل ً‬ ‫يكن مسل ً‬
‫‪221‬‬

‫صا في صحيحه فقال‪" :‬باب عيادة‬ ‫وأفرد البخاري لذلك باًبا خا ً‬


‫المشرك"‪.‬‬
‫هذا البعد النساني العميق الذي زرعه فينا الشرع السلمي‬
‫الحنيف جعل الطباء المسلمين في كل عصور الحضارة السلمية‬
‫يتعاملون مع المريض على أنه إنسان وليس على أنه "شيء ل‬
‫إحساس له"‪ ،‬ول على أساس أنه مصدر للرزق عن طريق أخذ الجر‬
‫ما على أنه إنسان في أزمة‪ ،‬ويحتاج إلى‬‫منه‪ ،‬بل كان التعامل معه دائ ً‬
‫دى ذلك‬
‫من يقف إلى جواره‪ ،‬وليست المساعدة طبية فقط‪ ،‬ولكن تتع ّ‬
‫إلى المساعدة النفسية والجتماعية والقتصادية وغير ذلك‪.‬‬
‫وبهذه الروح النبيلة تعامل الطباء المسلمون مع مرضاهم‪،‬‬
‫فكانت الخدمة الطبية الراقية تقدم للمرضى في الدولة السلمية‬
‫دون تفرقة بين غني أو فقير‪ ،‬ول عربي أو غير عربي‪ ،‬ول أبيض أو‬
‫أسود‪ ،‬ول حاكم ول محكوم‪ ،‬ول مسلم أو غير مسلم‪ ..‬ففي معظم‬
‫الحيان كان العلج مجانًيا للجميع‪ ..‬وكان المرضى ينعمون بنفس‬
‫المستوى من الخدمة أّيا كان مستواهم‪.‬‬
‫ولنطلع سوًيا على طرف من نظام المستشفيات السلمية‪،‬‬
‫عا عن البعد النساني الذي نقصده‪..‬‬
‫والذي يعطي انطبا ً‬
‫فبمجرد دخول المريض للمستشفي ُيفحص أول بالقاعة‬
‫الخارجية‪ ،‬فإن كان به مرض خفيف ُيكتب له العلج‪ ،‬وُيصرف من‬
‫صيدلية المستشفي‪ ،‬وإن كانت حالته المرضية تستوجب دخوله‬
‫المستشفي كان ُيقيد اسمه‪ ،‬وُيدخل إلى الحمام للغتسال‪ ،‬وُتخلع عنه‬
‫ثيابه التي دخل بها فتوضع في مخزن خاص‪ ،‬ثم يعطى ثياًبا جديدة‬
‫خاصة للمستشفي‪ ،‬وُيدخل إلى القاعة المخصصة لمثاله من‬
‫صص له سرير مفروش بأثاث جيد‪ ،‬ول يسمح بوجود‬ ‫المرضى‪ ،‬ويخ ّ‬
‫مريض آخر معه في نفس السرير مراعاة لنفسيته‪..‬‬

‫‪) 220‬السراء‪(70 :‬‬


‫‪ 221‬انظر البخاري‪ :‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصّلى عليه؟ وهل ُيعَرض على‬
‫الصبي السلم؟ )‪.(1290‬‬
‫وبعد دخول المريض للمستشفي السلمي ُيعطى الدواء الذي‬
‫يعّينه الطبيب‪ ،‬كما يوصف له الغذاء الموافق لصحته‪ ،‬وبالمقدار‬
‫دا على المرضى في نوع الطعام‬ ‫المفروض له‪ ..‬ولم يكن يضيق أب ً‬
‫الذي يأكلونه‪ ،‬بل كان يقدم لهم أطايب الطعام‪ ،‬فقد كان غذاء‬
‫المرضى يحتوي على لحوم الغنام والبقار والطيور والدجاج‪ ..‬كذلك‬
‫دا في كميات الطعام‪ ،‬بل كانت من علمات الشفاء‬ ‫ل يضيق عليهم أب ً‬
‫فا كامل ً ودجاجة كاملة في الوجبة الواحدة!‬
‫أن يأكل المريض رغي ً‬
‫فإذا أصبح المريض في َدور النقاهة أدخل القاعة المخصصة‬
‫ي ثياًبا جديدة دون أجر‪ ،‬وليس هذا‬ ‫ُ‬
‫للناقهين‪ ،‬حتى إذا تم شفاؤه أعط ِ َ‬
‫فقط بل كان يعطى مبلًغا من المال يكفيه إلى أن يصبح قادًرا على‬
‫العمل! وذلك حتى ل يضطر إلى العمل في فترة النقاهة فتحدث له‬
‫انتكاسة‪!!222‬‬
‫ل بعد عن مدى الطمأنينة التي ينعم بها الفقير في‬ ‫ول تس ْ‬
‫رض فسيجد مثل هذا‬ ‫م ِ‬
‫المجتمع السلمي عندما يعلم أنه إذا َ‬
‫المستوى من الرعاية المجانية دون أن يحتاج إلى إراقة ماء وجهه أو‬
‫البحث عن وساطات أو شفاعات لينال ما يستحق من الهتمام‬
‫والعلج‪ ..‬فضل ً عن مد ّ يده متسول ً ليتم علجه!!‬
‫وما أروع توجيه أبي بكر الرازي لتلميذه أن يكون هدفهم الول‬
‫إبراء مرضاهم أكثر من نيل أجورهم منهم!! وأن يعالجوا الفقراء بمثل‬
‫الهتمام والعناية التي يعالجون بها المراء والغنياء!! وأن ُيوهموا‬
‫المرضى بالشفاء حتى لو كانوا هم أنفسهم ل يعتقدون بذلك!! فمزاج‬
‫الجسم تابع لخلق النفس‪.223‬‬
‫ولم يكن هذا المستوى العإلى من الرعاية الصحية مقصوًرا‬
‫على المدن والحواضر الكبرى‪ ,‬بل حظيت كل بقاع الدولة السلمية‬
‫بذات الهتمام‪ ..‬وذلك من خلل المستشفيات المتنقلة التي أشرنا‬
‫قا‪ ..‬والتي كانت تجوب القرى والنجوع والجبال والمناطق‬ ‫إليها ساب ً‬
‫النائية بصفة عامة‪ ،‬والشاهد هنا أنه كان ُينظر إلى رعايا الدولة‬
‫ض النظر‬‫المسلمة ‪ -‬في مجال الرعاية الطبية ‪ -‬نظرة متساوية بغ ّ‬
‫عن بيئاتهم ومستوياتهم الجتماعية أو القتصادية‪.‬‬
‫دت كل طبقات‬ ‫بل إن النظرة السلمية الرحيمة للمريض تع ّ‬
‫المجتمع السوية لتشمل نزلء السجون ممن أساءوا لمجتمعهم!‬
‫ضا كانوا يجدون الرعاية الطبية الكافية؛ فهم ب َ َ‬
‫شٌر‪ ,‬ومن أبناء‬ ‫فهؤلء أي ً‬
‫المجتمع على أي حال‪ ..‬وما ينزل بهم من الحبس والعقاب إنما هو‬

‫‪ 222‬مصطفى السباعي‪ :‬من روائع حضارتنا ص ‪.110‬‬


‫‪ 223‬عبد المنعم صفو‪ :‬تعليم الطب عند العرب‪ ،‬أبحاث الندوة العلمية للجمعية السورية لتاريخ‬
‫العلوم‪،‬دار الجامعة )حلب‪1980،‬م( ص ‪.279‬‬
‫لعادة أص ً‬
‫لحهم ل للقضاء عليهم بالموت البطيء الذي يتعرض له‬
‫نزلء كثير من السجون في عالم اليوم‪..‬‬
‫وقد كتب الوزير علي بن عيسى بن الجراح إلى سنان بن ثابت‬
‫رئيس أطباء بغداد‪:‬‬
‫من في الحبوس )السجون(‪ ,‬وأنه ل يخلو مع‬ ‫"‪ ..‬فكرت في أمرِ َ‬
‫كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم المراض؛ فينبغي أن تفرد لهم‬
‫أطباء يدخلون إليهم كل يوم‪ ,‬وُتحمل إليهم الدوية والشربة‪,‬‬
‫ويطوفون في سائر الحبوس‪ ..‬ويعالجون فيها المرضى"‪..224‬‬
‫وما كان لهذا الفيض النساني أن يستمر على مر عصور‬
‫الحضارة السلمية لول ينابيع العطاء المتدفقة من قلوب أبناء المة‬
‫المسلمة والموازية لدعم الدولة نفسها‪..‬‬
‫ونقصد هنا نظام الوقاف الخيرية‪ ,‬وما كان يقوم به من دور‬
‫حسن رعاية المرضى وإكرامهم‪ ..‬فقد كانت مستشفيات راقية‬ ‫في ُ‬
‫بأكملها تعتمد على ريع وقف يرصده أحد المسلمين ‪ -‬بمن فيهم‬
‫الحاكم نفسه ‪ -‬لتغطية كل احتياجات المستشفي بمرضاه وأطبائه‬
‫ومفروشاته وأغذيته ونباتاته الطبية وأدويته‪ ..‬إلى حد النفاق على‬
‫طلب الطب المتدربين في هذا المستشفي!!‬
‫ل من أشهر المثلة على ذلك المستشفي المنصوري الكبير‬ ‫ولع ّ‬
‫الذي أسسه في القاهرة الملك المنصور سيف الدين قلوون سنة‬
‫‪ 683‬هجرية‪ ،‬وأوقف عليه ما يغطي نفقاته سنوًيا‪ ..‬وقد سبقت‬
‫فا‪.‬‬
‫الشارة إليه آن ً‬
‫وفي صدد ِذكر الوقاف الخيرية وأثرها في تغطية الجانب‬
‫النساني في الطب عند المسلمين لبد أن نشير هنا إلى بعض الصور‬
‫المبتكرة وغير المسبوقة في التعامل النساني مع نفسية المريض‪..‬‬
‫فقد كان ِريع بعض الوقاف ُيخصص لتوظيف اثنين يمّران‬
‫بالمستشفيات يومًيا‪ ,‬فيتحدثان بجانب المرضى حديًثا خافًتا يسمعه‬
‫سن‬‫المريض دون أن يراهما‪ ..‬يوحيان إليه من خلل حديثهما بتح ّ‬
‫حاله! فيما كان ُيعرف "بوقف خداع المريض"!!‪ ..‬وذلك لترتفع‬
‫معنوياته‪ ،‬وبالتالي يتماثل للشفاء بصورة أسرع‪!!225‬‬
‫ولم يكن ذلك البعد النساني الراقي في التعامل مع المرضى‬
‫كا فردًيا يمارسه بعض الطباء‪ ,‬ول كان مجرد حب شعبي للخير‬ ‫سلو ً‬
‫ما تتبناه سياسات‬ ‫والرحمة ينبع من قلوب العامة‪ ..‬بل كان سلو ً‬
‫كا عا ً‬
‫ابن القفطي‪ :‬تاريخ الحكماء ص ‪.148‬‬ ‫‪224‬‬

‫مصطفى السباعي‪ :‬من روائع حضارتنا ص ‪.112‬‬ ‫‪225‬‬


‫ما ومحكومين؛ فكثيًرا ما كان الخليفة‬
‫الدولة‪ ,‬وينتهجه أفراد المة حكا ً‬
‫أو المير يتفقد بنفسه المرضى ويشرف على حسن معاملتهم‪..‬‬
‫وُيذكر هنا أن المنصور الموحدي )ملك دولة الموحدين بالمغرب(‬
‫كانت له زيارة أسبوعية للمستشفي )المنصوري( بمراكش بعد صقلة‬
‫الجمعة من كل أسبوع؛ يطمئن فيها بنفسه على أحوال المرضى‪.226‬‬
‫ومن الجوانب النسانية في تعامل الطب السلمي مع المرضى‬
‫ما اشتملت عليه شريعة السلم من آداب تحفظ كرامة المريض‬
‫وتصون حياءه‪ ,‬وتضمن سير مراحل الفحص والعلج دون انتهاك‬
‫لخصوصياته؛ فل يجوز ‪ -‬مثل ً ‪ -‬كشف عورة المريض إل لضرورة‪,‬‬
‫وبالقدر المطلوب فقط في الفحص أو الجراحة وما إلى ذلك‪ ...‬كما ل‬
‫يجوز أن يشهد فحص المريض أو المريضة شخص غير ذي صفة ‪-‬‬
‫وخاصة إذا كان من جنس مختلف ‪ -‬إلى جانب عدم جواز خلوة‬
‫حرم لها‪ ,‬أو وجود‬
‫م ْ‬
‫الطبيب بمريضة من النساء‪ ،‬إل مع وجود ذي َ‬
‫ل‪ ..‬كذلك راعت المستشفيات في‬ ‫امرأة أخرى كالممرضة مث ً‬
‫الحضارة السلمية الفصل في أقسامها الداخلية بين الرجال‬
‫والنساء‪..‬‬
‫كذلك كان من الجوانب النسانية في تعامل الطب السلمي‬
‫مع المرضى‪ ،‬أن راعى الشرع حقوق المريض في العلج‪ ،‬بأن سمح‬
‫للطبيب الرجل أن يعالج المرأة‪ ،‬والعكس كذلك‪ ،‬وذلك إن لم يوجد‬
‫البديل الكفء من نفس الجنس‪ ،‬والذي يستطيع أن يقوم بالمهمة‬
‫على الوجه الكمل‪ ،‬وذلك حتى ل يفوت على المريض ‪ -‬رجل ً كان أو‬
‫امرأة ‪ -‬فرصة العلج الصحيح‪ ،‬بل إن الشرع أجاز كذلك أن يبحث‬
‫المريض المسلم عن العلج عند الطباء غير المسلمين إن تعذر وجود‬
‫ظا على صحة المريض‬ ‫من يستطيع علجه من المسلمين‪ ،‬وذلك حفا ً‬
‫وحياته‪..‬‬
‫دا سماوًيا ‪-‬‬
‫كل هذه وغيرها ضوابط وآداب إسلمية تنقل مب ً‬
‫َ‬ ‫ول َ َ‬
‫م‪ - 227‬من حيز النظريات‬ ‫قدْ ك َّر ْ‬
‫مَنا ب َِني آدَ َ‬ ‫كقوله تعإلي‪َ  :‬‬
‫المجردة إلى التطبيق الواقعي؛ لترتقي حياة النسان عن أنماط‬
‫عا بهذا‬‫أخرى للحياة عند سائر الكائنات‪ ..‬وسبحان الذي أنزل شر ً‬
‫التكامل!!‬

‫الطب الوقائي في السلم‬

‫مصطفى السباعي‪ :‬من روائع حضارتنا ص ‪.116‬‬ ‫‪226‬‬

‫)السراء‪(70 :‬‬ ‫‪227‬‬


‫اهتم المنهج السلمي منذ بداية نزوله بتوعية المسلمين لكل ما‬
‫فيه الخير لدينهم ودنياهم؛ فأمرهم بالعلم وحض عليه‪ ،‬ورغبهم في‬
‫لح كل جوانب الحياة‪..‬‬ ‫استخدام هذا العلم في أص ً‬

‫ومن أهم هذه المجالت التي أبدع فيها المنهج السلمي مجال‬
‫الوقاية من المراض؛ فقد ظهر فيه بجلء حرص السلم ‪ -‬ليس فقط‬
‫على المة السلمية ‪ -‬ولكن على عموم النسانية‪ ..‬فإن المراض إذا‬
‫ص ديًنا دون دين‪ ,‬ول تختار عنصًرا دون‬
‫انتشرت في مجتمع فإنها ل تخ ّ‬
‫عنصر‪ ،‬ولكنها تؤثر سلًبا على حياة العموم من الناس‪..‬‬
‫كيف أخذ السلم التدابير اللزمة‪ ،‬والجراءات الدقيقة لمنع‬
‫ل؟ وإن حدثت فكيف يمكن أن ُتمنع من‬ ‫حدوث المراض أص ً‬
‫النتشار؟!‬
‫لقد جاء السلم بمنهج معجز‪ ،‬فيه سلمة الجسد والنفس‬
‫والمجتمع‪ ..‬وكيف ل يكون معجًزا وقد جاء من عند رب العالمين؟!‬
‫ففي الوقت الذي كانت القذارة في كل شيء سمة مميزة‬
‫لحياة الوربيين‪ ،‬حتى وصل المر إلى اعتبار أن الوساخ التي تعلق‬
‫بالجسم والملبس هي من البركة‪ ،‬ومن الشياء التي تعطي القوة‬
‫للبدان!! حتى وصل المر إلى أن النسان كان ل يغتسل في العام‬
‫كله إل مرة أو مرتين‪ ..!!228‬في هذا الوقت نزل المنهج السلمي في‬
‫دا عن حياة المدن والحضارات العملقة‪ُ ..‬يرشد‬
‫عمق الصحراء‪ ,‬وبعي ً‬
‫الناس إلى الطهارة ووجوب الغسل وإلى استحبابه‪..‬‬
‫فالغسل واجب عند الجنابة وعند الحيض وفي الحج وغير ذلك‪..‬‬
‫وهو مستحب في العيدين والحرام وغيرهما‪ ،‬واختلف العلماء في‬
‫وجوبه أو استحبابه يوم الجمعة‪ ،‬والغالب أنه مستحب‪ ..‬قال رسول‬
‫عَلى‬‫ة َ‬
‫ع ِ‬ ‫م َ‬ ‫وم ِ ال ْ ُ‬
‫ج ُ‬ ‫س ُ‬
‫ل يَ ْ‬ ‫غ ْ‬‫الله ‪ ‬كما روى أبو سعيد الخدري‪ُ ": ‬‬
‫ه" ‪..‬‬
‫‪229‬‬
‫عل َي ْ ِ‬‫قدََر َ‬ ‫ما َ‬ ‫ب َ‬‫طي ِ‬‫ن ال ّ‬‫م ْ‬
‫س ِ‬
‫م ّ‬
‫وي َ َ‬ ‫وا ٌ‬
‫ك‪َ ،‬‬ ‫س َ‬
‫و ِ‬
‫م‪َ ،‬‬
‫حت َل ِ ٍ‬
‫م ْ‬ ‫كُ ّ‬
‫ل ُ‬
‫دد للمسلم فترة زمنية قصوى للفارق بين الغسلين‪،‬‬ ‫بل إنه ح ّ‬
‫َ‬ ‫في ك ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫عَلى ك ُ ّ‬
‫ة أّيام ٍ‬
‫ع ِ‬
‫سب ْ َ‬
‫ل َ‬ ‫س َ‬
‫ل ِ‬ ‫غت َ ِ‬‫ن يَ ْ‬
‫سل ِم ٍ أ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫فقال ‪َ " :‬‬
‫ه" ‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫س ُ‬
‫سد َ ُ‬
‫ج َ‬ ‫و َ‬
‫ه َ‬‫س ُ‬‫ه َرأ َ‬
‫في ِ‬‫ل ِ‬ ‫غ ِ‬
‫ما‪ ،‬ي َ ْ‬
‫و ً‬
‫يَ ْ‬
‫‪230‬‬

‫ووصل بعض الفقهاء بأنواع الغسل المختلفة إلى سبعة عشر‬


‫عا من الغسل للدللة على أهميته‪ ..‬ودعا السلم إلى طهارة‬
‫نو ً‬
‫‪ 228‬زيغريد هونكة‪ :‬شمس العرب تسطع على الغرب ص ‪.54‬‬
‫‪ 229‬البخاري‪ :‬كتاب الجمعة‪ ،‬باب الطيب للجمعة )‪ ،(840‬ومسلم‪ :‬كتاب الجمعة‪ ،‬باب الطيب‬
‫والسواك يوم الجمعة )‪ ،(846‬وأبو داود )‪ ،(344‬والنسائي )‪.(1375‬‬
‫‪ 230‬البخاري‪ :‬كتاب الجمعة‪ ،‬باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان‬
‫وغيرهم )‪ ،(856‬ومسلم في الجمعة باب الطيب والسواك يوم الجمعة )‪ ،(849‬وابن حبان )‬
‫‪ (1234‬عن أبي هريرة رضي الله عنه‪.‬‬
‫العضاء المختلفة من الجسم‪ ،‬واهتم بالعضاء التي تكثر فيها‬
‫المراض أو يحتمل فيها حدوث الوسخ‪ ..‬ففي طهارة الفم قال ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ن أَ ُ‬ ‫َ‬
‫عن ْدَ ك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫ك ِ‬
‫وا ِ‬
‫س َ‬ ‫م ِبال ّ‬ ‫ه ْ‬
‫مْرت ُ ُ‬ ‫عَلى أ ّ‬
‫مِتي ل َ‬ ‫ق َ‬
‫ش ّ‬ ‫ول َ أ ْ‬‫"ل َ ْ‬
‫مر بالسواك‪ ،‬حتى‬ ‫ؤ َ‬‫ء"‪ ..231‬وقال ابن عباس }‪" :‬لقد ك ُّنا ن ُ ْ‬ ‫ضو ٍ‬
‫و ُ‬ ‫ُ‬
‫ظنّنا أن سينزل به قرآن" ‪..‬‬
‫‪232‬‬

‫ودعا رسول الله ‪ ‬إلى طهارة ونظافة الماكن التي ي ُت َوَّقع‬


‫فيها العرق والوساخ والميكروبات‪ ،‬بل جعل ذلك من سنن الفطرة‪..‬‬
‫ن‪،‬‬‫خَتا ُ‬‫ة‪ :‬ال ْ ِ‬
‫فطَْر ِ‬ ‫ن ال ْ ِ‬‫م ْ‬‫س ِ‬‫م ٌ‬ ‫خ ْ‬‫فقد قال رسول الله ‪َ " :‬‬
‫ص‬
‫ق ّ‬ ‫و َ‬ ‫ط‪َ ،‬‬ ‫ْ‬
‫ف ال ِب ِ ِ‬‫ون َت ْ ُ‬
‫ر‪َ ،‬‬ ‫م اْل َظ َ‬
‫فا ِ‬ ‫ْ‬ ‫وت َ ْ‬
‫قِلي ُ‬ ‫د‪َ ،‬‬‫دا ُ‬
‫ح َ‬
‫ست ِ ْ‬
‫واِل ْ‬
‫َ‬
‫ب" ‪..‬‬
‫‪233‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ر‬ ‫ّ‬
‫شا‬ ‫ال‬
‫ولك أن تتخيل مدى رقي هذا الدين الذي يأمر بهذه الداب في‬
‫هذا العمق من التاريخ‪ ،‬وفي هذا المكان في الصحراء‪ ،‬وفي هذه‬
‫الظروف الصعبة التي نشأ فيها السلم‪..‬‬
‫ضا بالتنّزه من قذارة البول والغائط‪،‬‬ ‫وقد أمر رسول الله ‪ ‬أي ً‬
‫دد في ذلك حتى إنه مر على قبرين؛ فقال لصحابه يحدثهم عن‬ ‫وش ّ‬
‫ن‬‫عذَّبا ِ‬ ‫ما ل َي ُ َ‬‫ه َ‬
‫صاحبي هذين القبرين وذلك كما روى ابن عباس }‪" :‬إ ِن ّ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‪،‬‬‫و ِ‬‫ن ال ْب َ ْ‬ ‫م ْ‬
‫ست َت ُِر ِ‬ ‫ن ل َ يَ ْ‬
‫كا َ‬‫ف َ‬‫ما َ‬‫ه َ‬‫حد ُ ُ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ر‪ ،‬أ ّ‬‫في ك َِبي ٍ‬ ‫ن ِ‬‫عذَّبا ِ‬ ‫ما ي ُ َ‬‫و َ‬ ‫َ‬
‫ة" ‪..‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫وأ َ‬
‫‪234‬‬
‫م ِ‬‫َ‬ ‫مي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫بال‬‫ِ‬ ‫شي‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫َ ْ‬ ‫ي‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫كا‬ ‫ف‬ ‫ر‬
‫ُ‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ما‬‫َ ّ‬
‫ض الرسول الحكيم ‪ ‬المسلمين‬ ‫وفي غير الطهارة‪ ،‬فقد ح ّ‬
‫على حماية أنفسهم من آثار الطعام الزائد عن الحاجة‪ ،‬وحذرهم‬
‫ن‪،‬‬ ‫ْ‬
‫ن ب َط ٍ‬
‫م ْ‬ ‫شّرا ِ‬ ‫عاءً َ‬ ‫و َ‬
‫ي ِ‬ ‫م ّ‬ ‫م ل َ آد َ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫من آثار التخمة‪ ..‬فقال‪َ " :‬‬
‫ي‬‫م ّ‬‫ت الدَ ِ‬ ‫غل َب َ ْ‬
‫ن َ‬ ‫ه‪َ ،‬‬
‫فإ ِ ْ‬ ‫صل ْب َ ُ‬
‫ن ُ‬ ‫م َ‬ ‫ق ْ‬‫ت يُ ِ‬ ‫ما ٌ‬‫قي ْ َ‬ ‫ي لُ َ‬
‫م ّ‬‫ب اْلدَ ِ‬‫س ُ‬‫ح ْ‬ ‫َ‬
‫س" ‪..‬‬ ‫ث ِللن ّ َ‬ ‫ُ‬
‫وث ُل ٌ‬ ‫ث ِلل ّ‬ ‫ُ‬
‫وث ُل ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫فث ُل ٌ‬‫ه َ‬ ‫نَ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫ب‪َ ،‬‬ ‫شَرا ِ‬ ‫م‪َ ،‬‬ ‫عا ِ‬ ‫ث ِللط َ‬ ‫س ُ‬‫ف ُ‬
‫‪235‬‬

‫كما أمرهم بالحفاظ على نظافة الطعمة والشربة فقال ‪:‬‬


‫دوا فتحة‬ ‫س َ‬ ‫و ُ‬ ‫طوا اْلَناءَ َ‬
‫غ ّ‬
‫" َ‬
‫قاءَ"‪ ..236‬وأوكوا بمعنى‪ :‬س ّ‬ ‫كوا ال ّ‬ ‫وأ ْ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الوعاء الذي به الشراب‪.‬‬

‫البخاري‪ :‬كتاب الجمعة‪ ،‬باب السواك يوم الجمعة )‪ ،(847‬وأحمد )‪ (7840‬عن أبي هريرة‬ ‫‪231‬‬

‫‪.‬‬
‫‪ 232‬ابن أبي شيبة )‪.(1793‬‬
‫‪ 233‬البخاري‪ :‬كتاب اللباس‪ ،‬باب قص الشارب )‪ ،(5550‬ومسلم‪ :‬كتاب الطهارة باب خصال‬
‫الفطرة )‪ ،(257‬وأبو داود )‪ ،(4198‬والترمذي )‪ ،(2756‬والنسائي )‪ (10‬عن أبي هريرة ‪.‬‬
‫‪ 234‬البخاري‪ :‬كتاب الوضوء‪ ،‬باب من الكبائر ال يستتر من بوله )‪ ،(213‬ومسلم‪ :‬كتاب الطهارة‬
‫باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الستبراء منه )‪ ،(292‬وأبو داود )‪ ،(20‬والترمذي )‪،(70‬‬
‫والنسائي )‪.(31‬‬
‫‪ 235‬ابن ماجة‪ :‬كتاب الطعمة‪ ،‬باب القتصاد في الكل وكراهية الشبع )‪ ،(3349‬وابن حبان )‬
‫‪ ،(5236‬والحاكم )‪ ،(7945‬وقال‪ :‬صحيح السناد ووافقه الذهبي‪ ،‬وقال اللباني‪ :‬صحيح )‬
‫‪ (5674‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫‪ 236‬مسلم‪ :‬كتاب الشربة‪ ،‬باب المر بتغطية الناء وإيكاء السقاء )‪.(3755‬‬
‫وقد ذهب التشريع السلمي إلى أبعد من ذلك‪ ،‬حين منع‬
‫أتباعه من كل خبيث يؤدي إلى ضرر بالصحة الجسدية والنفسية‬
‫ويضر كذلك بالمجتمع‪..‬‬
‫فحّرم السلم الخمر وما يندرج في حكمها كالمخدرات‪ ..‬قال‬
‫م"‪ ...237‬وبذلك‬
‫حَرا ٌ‬
‫ر َ‬
‫م ٍ‬
‫خ ْ‬ ‫وك ُ ّ‬
‫ل َ‬ ‫مٌر‪َ ،‬‬
‫خ ْ‬
‫ر َ‬
‫سك ِ ٍ‬
‫م ْ‬ ‫رسول الله ‪" :‬ك ُ ّ‬
‫ل ُ‬
‫حمى المسلمين من الضرار الصحية الخطيرة للخمور والمخدرات‪،‬‬
‫كما حمى البشرية جميًعا من الثار الضارة للمخمورين سوء نتيجة‬
‫للحوادث أو للجريمة أو لغير ذلك من الثار السيئة لغياب العقل‪..‬‬
‫والذي ذكرناه في الخمر ينطبق كذلك على تحريم الفواحش؛‬
‫لسلم حرم الزنا وكل العلقات غير المشروعة‪ ..‬وبذلك لم يحفظ‬
‫فا ٍ‬
‫فقط صحة المسلمين ونسلهم وأخلقهم‪ ،‬ولكن كان لذلك مردود على‬
‫المجتمع بكامله مسلمين وغير مسلمين‪..‬‬
‫ول يخفي على أحد أن انتشار المراض الجنسية في البلد‬
‫السلمية أقل بكثير منه في البلد غير السلمية‪ ،‬وما ذلك إل لكون‬
‫السلم يمنع هذه الموبقات‪..‬‬
‫في‬ ‫ة ِ‬
‫ش ُ‬‫ح َ‬ ‫فا ِ‬‫هْر ال ْ َ‬‫م ت َظْ َ‬ ‫وما أروع ما قاله ‪ ‬حين قال‪" :‬ل َ ْ‬
‫َ‬
‫ع‬
‫جا ُ‬ ‫واْل ْ‬
‫و َ‬ ‫ن َ‬ ‫عو ُ‬ ‫طا ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ه ْ‬
‫ِ‬ ‫في‬ ‫شا ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ها إ ِّل َ‬
‫عل ُِنوا ب ِ َ‬
‫حّتى ي ُ ْ‬
‫ط َ‬ ‫ق ّ‬ ‫وم ٍ َ‬
‫ق ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫وا"‪ ..238‬ول يخفي‬ ‫ض ْ‬ ‫م َ‬‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫سَل ِ‬
‫ف ِ‬ ‫في أ ْ‬ ‫ت ِ‬‫ض ْ‬ ‫م َ‬ ‫م ت َك ُ ْ‬
‫ن َ‬ ‫ال ِّتي ل َ ْ‬
‫على أحد أن أمراض اليدز واليبول‪ ،‬وغيرها من المراض الجنسية‬
‫القاتلة لم تكن معروفة قبل ذلك‪ ،‬ولم تظهر إل بظهور الفاحشة في‬
‫المجتمعات‪..‬‬
‫ضا أكل الميتة؛ لما في ذلك من أضرار جسيمة‬
‫وحّرم السلم أي ً‬
‫بالصحة أثبتها الن الطب الحديث‪..‬‬
‫ومما جعلني أشعر بالفخر الشديد وأنا في زيارة لأمريكا‪ ،‬أني‬
‫وجدتهم يفتخرون بأنه إذا مات لهم طائر أو حيوان قبل الذبح فإنهم ل‬
‫يأكلونه؛ لنه يكون ضاًرا بالصحة‪ ،‬وهذا لم يكتشفوه إل منذ أعوام‬
‫قليلة‪ ،‬بينما أوروبا إلى الن تأكل الميتة!! وهذا يجعل المريكان‬
‫يفتخرون بمنهجهم الصحي على الوروبيين!!‬
‫فقلت في نفسي وأمام المريكان وغيرهم‪ :‬ما أروع ديننا‪ ..‬الذي‬
‫حّرم علينا هذا الذي اكتشفتموه حديًثا‪ ،‬ولكنه حّرم ذلك علينا منذ أكثر‬
‫من ألف وأربعمائة عام!!‪ ..‬فسبحان الذي يعلم السر وأخفي!!‪..‬‬
‫‪ 237‬البخاري‪ :‬كتاب الوضوء‪ ،‬باب ل يجوز الوضوء بالنبيذ ول المسكر )‪ ،(239‬مسلم‪ :‬كتاب‬
‫الشربة باب بيان أن كل مسكر خمر )‪ ،(2003‬وأبو داود )‪ ،(3679‬والترمذي )‪،(1861‬‬
‫والنسائي )‪.(5585‬‬
‫‪ 238‬ابن ماجة‪ :‬كتاب الفتن‪ ،‬باب العقوبات )‪ ،(4009‬البيهقي في شعب اليمان )‪ ،(3315‬وقال‬
‫اللباني‪ :‬صحيح )‪ (2187‬صحيح الترغيب والترهيب‪.‬‬
‫ول أشك ‪ -‬من هذا المنطلق ‪ -‬في أن السجائر حرام‪ ،‬وأن الذي‬
‫يتناولها آثم‪ ،‬فالدين الذي حّرم على أتباعه الخبائث ل يمكن أن يحل‬
‫لهم شرب السجائر بكل ما فيها من خبث وضرر؛ فإنها لم تترك‬
‫وا من أعضاء الجسم إل وألحقت به ضرًرا خطيًرا‪ ..‬فعودة إلى‬ ‫عض ً‬
‫السلم أيها المسلمون!!‬

‫ولم يهتم السلم فقط بصحة الجسد بل اهتم كذلك بصحة‬


‫النفس‪ ..‬فأمر بذكر الله ‪ ,‬وجعل ذلك اطمئناًنا للقلب؛ فقال ‪:‬‬
‫َ‬
‫ب‪ 239‬وحض المسلمين على الرفق‬ ‫قُلو ُ‬
‫ن ال ْ ُ‬ ‫ه ت َطْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬ ‫ر الل ّ ِ‬ ‫‪‬أَل ب ِ ِ‬
‫ذك ْ ِ‬
‫خلق ولين الجانب وطيب الكلم‪ ,‬وجعل في‬ ‫حسن ال ُ‬ ‫والرحمة‪ ،‬و ُ‬
‫التبسم صدقة‪ ،‬وجعل في أدب المعاملت أجًرا‪ ،‬وشجع المسلمين‬
‫على نسيان أخطاء الغير‪ ،‬وعلى العفو والمغفرة‪ ،‬وع ّ‬
‫ظم لهم قيمة‬
‫ضا عما أصابهم من‬ ‫الرضا بما قسم الله ‪ ،‬وجعل لهم الجنة عو ً‬
‫مصائب إذا صبروا عليها‪..‬‬
‫ول شك أن كل هذا يصب في تكوين صحة نفسية جيدة‪ ،‬ويسمو‬
‫مِئن القلب‪ ،‬ويرتفع بأخلق المسلم وقيمه وأهدافه إلى‬
‫بالروح وُيط ْ‬
‫درجات راقية ل يتخيلها غير المسلم‪ ،‬ول شك أن معدل المراض‬
‫النفسية من قلق واضطراب واكتئاب أعلى بكثير في بلد الغرب منها‬
‫في بلد المسلمين‪ ،‬وليس أدل على ذلك من مراجعة نسب النتحار‬
‫هنا وهناك لتعلم قيمة السلم‪..‬‬
‫وانطلًقا من حفاظ السلم على صحة الفرد والمجتمع‪ ،‬فإن‬
‫السلم لم يحض فقط على الهتمام بالجسد والنفس بل اهتم كذلك‬
‫بما ُيلبس من ثياب‪ ..‬فالثياب النظيفة الجميلة تعود بالفائدة على‬
‫صاحبها وعلى من يعيشون إلى جواره‪ ..‬بل على من يراه وإن كان ل‬
‫يعرفه‪..‬‬

‫ك‬‫وث َِياب َ َ‬
‫ففي أول ما نزل من القرآن نجد قول الله ‪َ : ‬‬
‫هْر‪ 240‬وما أروع أن يكون اهتمام السلم من أول يوم نزل فيه‬ ‫فطَ ّ‬
‫َ‬
‫للبشر بظاهرهم كما يهتم بباطنهم‪ ،‬فهو يقرن التوحيد بنظافة النسان‬
‫هْر‪ ‬واللفظ يحتمل ظاهر‬ ‫فطَ ّ‬‫ك َ‬ ‫فك َب ّْر َ‬
‫وث َِياب َ َ‬ ‫وَرب ّ َ‬
‫ك َ‬ ‫فيقول‪َ  :‬‬
‫المعنى‪ ،‬وإن كانت له تأويلت أخرى‪..‬‬
‫سا بمجرد وصول شيء‬ ‫ن التشريع السلمي عد ّ الثوب نج ً‬ ‫كما أ ّ‬
‫من النجاسة إليه‪ ،‬كالبول والغائط والدم‪ ،‬ول تصح الصلة فيه إل أن‬
‫تزول النجاسة‪ ،‬حتى لو كانت النجاسة قليلة‪ ..‬قال أحمد ابن حنبل ~‬

‫)الرعد‪.(28 :‬‬ ‫‪239‬‬

‫)المدثر‪.(4 :‬‬ ‫‪240‬‬


‫عن الثوب الذي أصابه بول أو غائط‪" :‬يعيد الصلة من قليله وكثيره"‪،‬‬
‫أي من قليل النجاسة أو كثيرها‪..241‬‬
‫كذلك ينجس الماء إذا وقع فيه من النجاسة ما ُيغير لونه أو‬
‫طعمه أو رائحته‪ ..242‬وكل ذلك يهدف إلى عدم استعمال شيء وصل‬
‫إليه قذر أو وسخ‪..‬‬
‫ول يهتم المسلم فقط بنظافة نفسه وثيابه‪ ،‬بل يجب أن يهتم‬
‫بنظافة البيئة التي حوله‪ ..‬وهذا بحث يحتاج إلى كثير تفصيل‪ ،‬ليس‬
‫هذا موضعه‪..‬‬
‫ص الوقاية من المراض على‬ ‫وإذا كان عطاء السلم فيما يخ ّ‬
‫هذا النحو من الرقي فإنه ل يقف عاجًزا أمام المراض إذا حدثت‪ ..‬فل‬
‫يكتفي فقط بالمر بالتداوي‪ ،‬ولكن يحض ‪ -‬وبشدة ‪ -‬على منع انتشار‬
‫حجر الصحي"‪..‬‬ ‫المراض في المجتمع‪ ،‬فيما ُيعرف بق "ال َ‬
‫ن المرء ليقف مبهوًرا أمام عظمة التوجيه النبوي الذي يحد ّ‬ ‫وإ ّ‬
‫من انتشار المراض في المجتمع‪ ،‬حيث قال رسول الله ‪" :‬ل ً‬
‫ح"‪243‬؛ فهو بذلك يوضح لك أبسط وسائل‬ ‫ص ّ‬ ‫عَلى ُ‬
‫م ِ‬ ‫ض َ‬‫ر ٌ‬‫م ِ‬
‫م ْ‬
‫ن ُ‬ ‫رد َ ّ‬
‫ُيو ِ‬
‫الوقاية من المراض ‪ -‬وأنجحها في ذات الوقت ‪ -‬وهذا كله منذ أكثر‬
‫من ألف وأربعمائة عام!!‬
‫ضا خطيرة بعينها ‪ -‬ع ُِلم الن على وجه إليقين‬ ‫ثم هو يختار أمرا ً‬
‫أنها تنتقل بالعدوى ‪ -‬ويحذر منها تحذيًرا بي ًّنا ظاهًرا ل يحتمل التأويل؛‬
‫ن‬
‫م ْ‬
‫فّر ِ‬
‫جذام الخطير‪ِ " :‬‬ ‫فتراه يقول ‪ -‬مثل ً ‪ -‬في أمر مرض ال ُ‬
‫َ‬
‫د"‪..244‬‬ ‫ن اْل َ‬
‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫فَراَر َ‬
‫ك ِ‬ ‫ج ُ‬
‫ذوم ِ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫م ْ‬
‫ثم هو يضع أعظم قواعد الحجر الصحي بالنسبة للوبئة‬
‫فلَ‬‫ض َ‬ ‫َ‬ ‫ع ال ّ‬ ‫و َ‬ ‫الخطيرة كالطاعون فيقول‪" :‬إ ِ َ‬
‫ن ب ِأْر ‪ٍ 245‬‬ ‫عو ُ‬‫طا ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ذا َ‬
‫قع َ‬
‫ها" ‪..‬‬ ‫من ْ َ‬‫جوا ِ‬ ‫فَل ت َ ْ‬
‫خُر ُ‬ ‫ها َ‬‫م بِ َ‬ ‫و َ َ َ‬
‫وأن ْت ُ ْ‬ ‫وإ ِ َ‬
‫ذا َ‬ ‫خُلو َ‬
‫ها‪َ ،‬‬ ‫ت َدْ ُ‬
‫وهذا هو قمة ما وصل إليه الطب الحديث في محاولة الحد من‬
‫انتشار الوبئة الخطيرة كالطاعون‪..‬‬
‫وأخيًرا‪ ..‬فإن المنهج السلمي في الوقاية من المراض لكي‬
‫يضمن الدقة في التطبيق‪ ،‬والحرص في أداء القواعد الصحية‪ ،‬فإنه‬
‫ضا من العلماء والفقهاء‪.‬‬
‫‪ 241‬اظر مسائل المام أحمد ص ‪ .41‬وهذا رأي غيره أي ً‬
‫‪ 242‬ابن قدامة‪ :‬المغني ‪.1/52‬‬
‫‪ 243‬البخاري‪ :‬كتاب الطب‪ ،‬باب ل هامة )‪ ،(5437‬ومسلم‪ :‬كتاب السلم‪ ،‬باب ل عدوى ول طيرة‬
‫ول هامة ول صفر)‪ ،(2221‬وعبد الرزاق )‪ (19507‬عن أبي هريرة ‪.‬‬
‫‪ 244‬أحمد )‪ ،(9720‬وابن أبي شيبة )‪ ،(24543‬والبيهقي في سننه الكبرى )‪ ،(13550‬وقال‬
‫اللباني صحيح السلسلة الصحيحة )‪ (783‬عن أبي هريرة ‪.‬‬
‫‪ 245‬مسلم‪ :‬كتاب السلم‪ ،‬باب الطاعون والكهانة ونحوها )‪ ،(2218‬وأحمد)‪ ،(21876‬وابن حبان‬
‫)‪.(2912‬‬
‫يربط كل هذه القواعد برضا الله ‪ ،‬وبالزجر والمثوبة‪ ,‬والجنة‬
‫والنار؛ فليس الغرض فقط هو الحياة الدنيوية السعيدة ‪ -‬وإن كان هذا‬
‫قا إن شاء الله ‪ -‬ولكن الهدف أسمى من ذلك وأج ّ‬
‫ل‪ ،‬وهو‬ ‫متحق ً‬
‫سعادة الخرة‪..‬‬
‫فنجد مثل ً في تعظيم أمر السواك وطهارة الفم ونظافته أن‬
‫ب"‪..246‬‬
‫ضاةٌ ِللّر ّ‬
‫مْر َ‬ ‫هَرةٌ ل ِل ْ َ‬
‫فم ِ َ‬ ‫مطْ َ‬ ‫وا ُ‬
‫ك َ‬ ‫الرسول ‪ ‬يقول‪" :‬ال ّ‬
‫س َ‬
‫فهو ل يحقق نظافة وصحة فقط‪ ,‬بل يحقق أجًرا ومثوبة!!‬
‫ونجده ‪ ‬يقول في أمر الوضوء والغسل‪ ..‬وذلك كما روى أبو‬
‫ن"‪ ،247‬فجعل هذا الطهور‬‫ما ِ‬ ‫شطُْر ا ْ ِ‬
‫لي َ‬ ‫مالك الشعري <‪" :‬الطّ ُ‬
‫هوُر َ‬
‫وهذه النظافة نصف اليمان‪..‬‬
‫ما لمن ساهم في منع انتشار الطاعون‪،‬‬ ‫ونجده يعطي أجًرا عظي ً‬
‫حتى يصل هذا الجر إلى الشهادة في سبيل الله! فيقول لمُ‬
‫ّ‬
‫ذاًبا‬‫ع َ‬‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫المؤمنين عائشة >‪ ،‬عندما سألته عن الطاعون‪" :‬إ ِن ّ ُ‬
‫ن‪،‬‬‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬ ‫م ً‬‫ح َ‬‫ه َر ْ‬‫ه الل ّ ُ‬‫عل َ ُ‬‫ج َ‬
‫ف َ‬ ‫ء‪َ ،‬‬ ‫شا ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫عَلى َ‬ ‫ه َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬‫عث ُ ُ‬‫ي َب ْ َ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫عل ُ‬‫صاب ًِرا‪ ،‬ي َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫د ِ‬ ‫َ‬
‫في ب َل ِ‬ ‫ث ِ‬ ‫مك ُ‬‫ُ‬ ‫في َ ْ‬‫ن َ‬ ‫عو ُ‬ ‫ّ‬
‫ع الطا ُ‬ ‫ق ُ‬‫د يَ َ‬
‫عب ْ ٍ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫س ِ‬ ‫فل َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ر‬
‫ج ِ‬ ‫لأ ْ‬ ‫مث ْ ُ‬ ‫ه ِ‬ ‫ن لَ ُ‬‫كا َ‬‫ه‪ ،‬إ ِّل َ‬ ‫ه لَ ُ‬ ‫ب الل ّ ُ‬ ‫ما ك َت َ َ‬‫ه إ ِّل َ‬ ‫صيب َ ُ‬‫ن يُ ِ‬ ‫ه لَ ْ‬ ‫أن ّ ُ‬
‫د"‪..248‬‬ ‫هي ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫ال ّ‬

‫‪ 246‬النسائي‪ :‬كتاب الطهارة‪ ،‬باب الترغيب في السواك )‪ ،(5‬وابن ماجة )‪ ،(289‬وأحمد )‪،(7‬‬
‫والدارمي )‪ ،(684‬وابن خزيمة )‪ ،(135‬وقال اللباني‪ :‬صحيح)‪ (3695‬صحيح الجامع‪ ،‬عن‬
‫عائشة >‪.‬‬
‫‪ 247‬مسلم‪ :‬كتاب الطهارة‪ ،‬باب فضل الوضوء )‪ ،(223‬وأحمد )‪ ،(22953‬والدارمي )‪.(653‬‬
‫‪ 248‬البخاري‪ :‬كتاب الطب‪ ،‬باب أجر الصابرين في الطاعون )‪ ،(5402‬وأحمد )‪.(24403‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬علم الجغرافيا في الحضارة‬
‫السلمية‬
‫مع أن المسلمين لم يكونوا أول من درس علم الجغرافيا إل‬
‫أنهم ‪ -‬بل جدال ‪ -‬كانوا أول من أبدع فيه‪ ،‬وسنتعرض في الصفحات‬
‫القادمة ‪ -‬إن شاء الله ‪ -‬لحركة تطور علم الجغرافيا وإسهامات‬
‫ضا على بعض العلماء الجلء الذين‬‫المسلمين فيه‪ ،‬كما سنتعرف أي ً‬
‫أث َْروا ذلك العلم بما ل يتخيل من إبداعات‪ ،‬وبخاصة عند النظر إلى‬
‫المكانيات الضئيلة التي كانت متاحة لهم في أزمانهم‪..‬‬
‫وبداية؛ فإن كلمة )جغرافيا( يونانية الصل‪ ،‬وهي تتكون من‬
‫مقطعين هما‪" :‬جيو" )‪ (Geo‬بمعنى‪ :‬أرض‪ ..‬و"غرافيا" )‪(Grophia‬‬
‫وتعني‪ :‬وصف‪ ..‬ومن ثم جاء التعريف الصطلحي لعلم الجغرافيا‬
‫ف منه أحوال‬‫معبًرا عن مقتضيات "وصف الرض"؛ فهو‪" :‬علم ي ُت َعَّر ُ‬
‫القاليم )القارات( السبع‪ ،‬الواقعة في الربع المسكون من كرة‬
‫الرض‪ ،‬وعروض البلدان الواقعة فيها‪ ،‬وأطوالها وعدد مدنها وجبالها‬
‫وبراريها وبحارها وأنهارها‪ ...‬إلى غير ذلك من أحوال الربع المعمور"‪.‬‬
‫وكلمة "الجغرافيا" حديثة بعض الشيء في الستخدام العربي؛‬
‫حيث كان العرب والمسلمون يستعملون بدل ً منها مصطلحات مثل‪:‬‬
‫صورة الرض‪ ،‬أو قطع الرض‪ ،‬أو خريطة العالم والقإليم‪ ،‬أو علم‬
‫المسالك والممالك‪ ،‬أو علم تقويم البلدان أو علم الطرق‪..249‬‬
‫ولم يكن ظهور علم الجغرافيا لدى المسلمين وليد صدفة‪ ،‬وإنما‬
‫كانت هناك عوامل وأسباب عدة أسهمت في ظهوره ونمائه‪ ،‬نذكر‬
‫منها ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬انتشار السلم‪ :‬فقد اقترن الفكر الجغرافي لدى‬
‫المسلمين بانتشار السلم في أنحاء شتى من العالم القديم في‬
‫قاراته الثلث‪ ،‬وترتب على ذلك اختلف خصائص البيئات التي سادها‬
‫الدين السلمي؛ مما أوجد حاجة ماسة لمعرفة وجمع معلومات‬
‫متخصصة عن تلك البيئات‪.‬‬
‫‪ -2‬التدبر في خلق الله‪ :‬حيث جاء القرآن الكريم ببيان كثير‬
‫َ‬
‫واْلْر َ‬
‫ض‬ ‫من الظواهر التي أودعها الله في الرض‪ ،‬قال تعإلي‪َ  :‬‬
‫ء‬
‫ي ٍ‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫م ْ‬
‫ها ِ‬ ‫في َ‬ ‫وأ َن ْب َت َْنا ِ‬
‫ي َ‬ ‫س َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ها َر َ‬
‫في َ‬ ‫وأ َل ْ َ‬
‫قي َْنا ِ‬ ‫ها َ‬ ‫مدَدَْنا َ‬ ‫َ‬
‫ما ب َْرَز ٌ‬
‫خ‬ ‫ه َ‬‫ن ب َي ْن َ ُ‬
‫قَيا ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ي َلت َ ِ‬ ‫ْ‬ ‫وقوله تعإلي‪َ  :‬‬
‫‪250‬‬
‫حَري ْ ِ‬‫ج الب َ ْ‬ ‫مَر َ‬ ‫ن‪‬‬
‫وُزو ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َل ي َب ْ ِ‬
‫حَياءً‬ ‫ض ك ِفاًتا أ ْ‬ ‫ل الْر َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ج َ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫ن‪ ‬وقوله تعإلي‪ :‬أل ْ‬ ‫غَيا ِ‬
‫‪251‬‬

‫‪ 249‬القنوجي‪ :‬أبجد العلوم ‪ ،213 ،2/212‬وكشف الظنون ‪.1/590‬‬


‫‪) 250‬الحجر‪.(19 :‬‬
‫‪) 251‬الرحمن‪.(20 ،19 :‬‬
‫خات َ‬ ‫عل َْنا ِ‬ ‫َ‬
‫ماءً ُ‬
‫فَراًتا‬ ‫قي َْناك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫س َ‬
‫وأ ْ‬
‫م َ ٍ َ‬ ‫ي َ‬
‫شا ِ‬ ‫س َ‬
‫وا ِ‬
‫ها َر َ‬
‫في َ‬ ‫ج َ‬
‫و َ‬
‫واًتا َ‬
‫م َ‬
‫وأ ْ‬‫َ‬
‫‪ 252‬وهكذا‪..‬‬
‫ولقد تدبر رواد الجغرافيا المسلمون هذه النصوص المحفزة‬
‫وناتها؛ مما كان له أكبر الثر‬
‫على النظر في عظمة خلق الرض ومك ّ‬
‫في إثراء الدراسات الجغرافية في الحضارة السلمية‪.‬‬
‫جل أركان السلم‬ ‫‪ -3‬المتطلبات الشرعية‪ :‬فقد اعتمدت ُ‬
‫في أدائها على مواقيت زمنية ومكانية‪ ،‬وبما أن بقاع الرض تختلف‬
‫في مواقيتها الزمنية والمكانية فقد كانت هناك ضرورة لن يهتم‬
‫علماء كل ولية إسلمية بتوضيح هذه المور لعامة الناس‪..‬‬
‫فالصلة تقام في أوقات زمنية محددة؛ ولذلك وضع علماء‬
‫المسلمين في كل قطر إسلمي حدوًدا زمنية لقامة الصلة‪ ..‬وما‬
‫تزال الدوات التي تقاس بها مواعيد الصلة موجودة في بعض‬
‫المساجد القديمة‪ ،‬وتسمى بالساعات الشمسية‪ ،‬وكان العتناء بذلك‬
‫جا عن أن دخول الوقت شرط لقامة الصلة‪ ،‬كما أن الصلة‬ ‫نات ً‬
‫تستقبل فيها جهة محددة وهي الكعبة في مكة‪ ،‬ولذلك وجب معرفة‬
‫التجاهات الجغرافية لتحدد قبلة الصلة في كل مدينة أو قرية‪..‬‬
‫حدد أداؤه بحدود‬
‫ولم تختلف الحال كثيًرا في الصيام الذي ُ‬
‫شهرية وحدود يومية‪ ..‬وكذلك ارتبط الحج والعمرة بمواقيت مكانية‬
‫للحرام وهي مختلفة في أبعادها من مكة حسب الجهات التي يأتي‬
‫منها المسلمون لداء الفريضة‪ ،‬وكان ضرورًيا معرفة تلك المواضع‬
‫التي يتم إحرام الحجاج والمعتمرين منها حتى ل يترتب عند تجاوزها‬
‫مخالفة شرعية تؤثر على صحة العبادة‪ ..‬إلى جانب أن الحج يرتبط‬
‫ت‪ 253‬وهي التي تتركز‬ ‫عُلو َ‬
‫ما ٌ‬ ‫م ْ‬
‫هٌر َ‬ ‫ج أَ ْ‬
‫ش ُ‬ ‫بميقات زمني محدد‪ :‬ال ْ َ‬
‫ح ّ‬
‫حول شهر ذي الحجة؛ لن الحج مرتبط بالوقوف بعرفة في يوم‬
‫التاسع من شهر ذي الحجة‪ ،‬فمن فاته الوقوف بعرفة ‪ -‬كما هو معلوم‬
‫‪ -‬فقد فاته الحج‪ ،‬وهكذا‪..‬‬
‫‪ -4‬تفسير ما ورد من نصوص شرعية‪ :‬فقد أسهمت بعض‬
‫النصوص الشرعية التي وردت في السنة في تنشيط المعرفة‬
‫الجغرافية في محاولة لتفسير تلك النصوص‪ ،‬من ذلك ما رواه أبو‬
‫حّتى ي َك ْث َُر‬ ‫ة َ‬ ‫ع ُ‬‫سا َ‬ ‫م ال ّ‬‫قو ُ‬ ‫هريرة < أن رسول الله ‪ ‬قال‪َ" :‬ل ت َ ُ‬
‫َ‬
‫دا‬
‫ح ً‬ ‫جد ُ أ َ‬ ‫فَل ي َ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫مال ِ ِ‬‫ة َ‬ ‫ل ب َِز َ‬
‫كا ِ‬ ‫ج ُ‬‫ج الّر ُ‬
‫خُر َ‬
‫حّتى ي َ ْ‬
‫ض َ‬‫في َ‬‫وي َ ِ‬
‫ل َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ما ُ‬
‫قبل ُها من ْه وحّتى ت َعود أ َرض ال ْعرب مروجا َ‬
‫هاًرا"‪..254‬‬ ‫وأن ْ َ‬‫َ َ ِ ُ ُ ً َ‬ ‫ُ َ ْ ُ‬ ‫يَ ْ َ َ ِ ُ َ َ‬

‫‪) 252‬المرسلت‪(27 – 25 :‬‬


‫‪) 253‬البقرة‪.(197 :‬‬
‫‪ 254‬البخاري‪ :‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب الصدقة قبل الرد )‪ ،(1346‬ومسلم‪ :‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب الترغيب‬
‫في الصدقة قبل أن ل يوجد من يقبلها )‪ (157‬واللفظ له‪ ،‬وأحمد )‪.(9384‬‬
‫ب"‪،255‬‬ ‫ة ال ْ َ‬
‫عَر ِ‬ ‫زيَر ِ‬
‫ج ِ‬
‫في َ‬
‫ن ِ‬
‫ع ِديَنا ِ‬
‫م ُ‬ ‫وقول الرسول ‪َ" :‬ل ي َ ْ‬
‫جت َ ِ‬
‫وقوله كذلك‪" :‬أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"‪..256‬‬
‫حة في بيان‬‫مل ِ ّ‬
‫فتلك النصوص وما شابهها أظهرت حاجة ُ‬
‫المقصود من ذلك؛ لتحقيق ما أمر به الرسول ‪ ،‬كما أوجدت وجهات‬
‫نظر جغرافية في التحديد؛ فالنصوص السابقة مثل ً جعلت من تحديد‬
‫جزيرة العرب محل اختلف بين العلماء الجغرافيين‪ ،‬حتى إنه ورد فيه‬
‫أربعة آراء‪ ،‬منها ما هو متسع كتحديد ابن حوقل والصطخري‪ ،‬ومنها‬
‫ما هو ضيق كتحديد المقدسي والجيهاني‪ ،‬وظهرت مصنفات هامة‬
‫مثل )صفة جزيرة العرب( للهمداني‪ ،‬و)بلد العرب( للحسن بن عبد‬
‫الله الصفهاني‪.‬‬
‫‪ -5‬الدعوة إلى الله وتعليم أمور الدين‪ :‬فبعد فتح البلد‬
‫السلمية أصبحت هناك حاجة ملحة لتعلم شرائع الدين‪ ،‬حيث قام‬
‫عدد من التابعين بالسفر إلى البلد المفتوحة لتعليم أبنائها أمور الدين‬
‫والدعوة إليه‪ ،‬وفي الوقت نفسه قام أفراد من سكان تلك البلد‬
‫بطلب العلم من المنابع التي ظهر فيها السلم سواًء في مكة أو‬
‫المدينة؛ لما تتمتع به المدينتان من وجود كبار الصحابة والتابعين‪،‬‬
‫وكانت تلك الرحلت الدعوية أو العلمية تستلزم المعرفة بالمسالك‬
‫المؤدية للمناطق المقصودة‪ ،‬كما أن أساليب الدعوة في بيئةٍ ما ل‬
‫يمكن أن تصلح في كل بيئة‪..‬‬
‫ومما أسهم في تيسير التصال الدعوي الموقع الجغرافي‬
‫لموطن الرسالة‪ ،‬فقد أثبتت الدراسات الجغرافية الحضارية لمنطقة‬
‫الشرق العربي أن موقعها الجغرافي كان وما يزال متوس ً‬
‫طا في‬
‫العلقات القليمية والعالمية‪ ،‬ولذا أسهم بدور الوساطة التجارية من‬
‫جانب وبدور الدعوة والبلغ من جانب آخر‪.‬‬
‫‪ -6‬المتطلبات الدارية والعسكرية‪ :‬نمت الدولة السلمية‬
‫وبلغت حدودها من الصين شرًقا حتى الندلس )أسبانيا( غرًبا في‬
‫غضون ثمانين سنة تقريًبا‪ ،‬وكان هذا النمو حصيلة فتوحات في ثلث‬
‫خلفات إسلمية )الخلفة الراشدة‪ ،‬والخلفة الموية‪ ،‬والخلفة‬
‫العباسية(‪ .‬ويتطلب التوسع في الدولة مراعاة أمور ترتبط بهذا‬
‫التوسع‪ ..‬منها‪:‬‬
‫إدارة المناطق‪ :‬فعندما أصبح المر في معظم أصقاع العالم‬
‫م بها‬
‫القديم تحت إمرة الخلفة السلمية كان من الولويات التي اهت ُ ّ‬
‫الكيفية التي تتم بها إدارة المناطق بما يتفق مع المكانات البيئية‬
‫‪ 255‬الموطأ برواية يحيى الليثي‪ :‬كتاب الجامع‪ ،‬باب في إجلء إليهود عن المدينة )‪،(1584‬‬
‫وبرواية محمد بن الحسن )‪ ،(873‬والبيهقي في سننه الكبرى )‪.(18531‬‬
‫‪ 256‬أحمد )‪ ،(1935‬والنسائي في سننه الكبرى )‪ ،(5854‬وقال شعيب الرنؤوط إسناده صحيح‬
‫على شرط الشيخين‪.‬‬
‫والخصائص الجتماعية لكل قطر‪ ،‬وكان المر يتم بدراسة التقارير‬
‫الوصفية )الجغرافية( الولية من ِقبل الفاتحين لتحديد الطريقة المثلى‬
‫لدارة تلك القطار‪ ،‬وتعد تلك التقارير بمثابة النواة الولى لتطور‬
‫اتجاهات الدراسات القليمية‪.‬‬
‫ظم الدين السلمي جمع المال عبر‬ ‫اللتزامات المالية‪ :‬ن ّ‬
‫أبواب متعددة؛ فجمع الزكاة يتعين على الموسرين من المسلمين‪،‬‬
‫در الخراج حسب مقدار غّلة الرض‪ ،‬وهو ما يختلف باختلف‬ ‫وُيق ّ‬
‫ة‬
‫خذ الجزي ُ‬
‫محة عليها‪ ،‬بينما ُتؤ َ‬
‫س ْ‬
‫البيئات التي بسط السلم تعاليمه ال ّ‬
‫من أهل الذمة الداخلين في حمى الولية السلمية‪ ،‬ومثال ذلك ما‬
‫قام به المقدسي من تحديد للقليات غير المسلمة في إطار الممالك‬
‫السلمية‪.‬‬
‫تلبية احتياجات المناطق من المتطلبات المهمة‪ :‬تقترن‬
‫عمليات توفير الحتياجات للمناطق بالمعرفة الجغرافية التي تحدد‬
‫الولوية في تقديم المتطلبات لسكان الوليات السلمية؛ فمثل ً بناء‬
‫الطرق وتسهيلها من المتطلبات العامة التي تكفلت بها الخلفة‪ ،‬ومما‬
‫روي من الهتمام بذلك ما أناط عمر بن الخطاب به نفسه بقوله‪" :‬‬
‫لو أن جمل هلك ضياعا بشط الفرات خشيت أن يسأل الله عنه آل‬
‫الخطاب‪"257‬؟!‬
‫كما رغب معظم الخلفاء في معرفة الممالك التي أصبحت‬
‫تحت إدارتهم‪ ،‬ومن ذلك ما قام به الخليفة عمر بن عبد العزيز ~ من‬
‫الكتابة إلى واليه في الندلس يطلب منه فيها موافاته بصفة الندلس‬
‫وأنهارها‪ ،‬وفي هذا بيان لهمية التجاه القليمي للجغرافية في إدارة‬
‫شؤون الدولة‪ ،‬والتعرف على أحوالها والتخطيط لمستقبلها‪.258‬‬
‫تحديد المناطق المثلى لنشاء خطوط الدفاع عن‬
‫الدولة السلمية‪ :‬تميزت دولة السلم إبان نشأتها بالقوة والمنعة‬
‫إل أن ذلك لم يمنع من التفكير في الذود عن المة السلمية ‪ -‬التي‬
‫يتربص بها أعداؤها حالة ضعفها‪ ،‬أو انشغال المسلمين عن الجهاد في‬
‫سبيل الله ‪ -‬بإيجاد بعض النقاط التي تكون مراكز للدفاع عن‬
‫الراضي السلمية‪ ،‬وقد تم اختيار بعض المعابر الرضية )الثغور( بين‬
‫ممالك السلم والممالك غير المسلمة نصرانية كانت أم ل دينية؛‬
‫لتكون مصدات لهجوم العداء‪ ،‬وكان اختيار هذه المعابر يأتي عبر‬
‫معرفة جغرافية دقيقة بطبوغرافية المكان‪..‬‬
‫كما ابتكر القادة نقاط إمداد عسكرية شبه ثابتة ‪ -‬في حالة‬
‫الحاجة إلى استنفار أكبر عدد ممكن من المسلمين للجهاد أو صد‬

‫الطبري‪ :‬تاريخ المم والملوك ‪.2/566‬‬ ‫‪257‬‬

‫عبد الستار الشيخ‪ :‬عمر بن عبد العزيز ص ‪.271‬‬ ‫‪258‬‬


‫هجوم المعتدين ‪ -‬ببناء المدن الحربية في مواضع مختلفة‪ ..‬وما‬
‫البصرة والكوفة والقيروان إل نماذج للمدن الحربية؛ فقد اختير موقع‬
‫مدينة كالقيروان بعناية من ِقبل القائد المسلم عقبة بن نافع في‬
‫الجزء الهامشي من المنطقة الرطبة وعلى مقربة من المنطقة‬
‫الجافة وعند ملتقى طرق تتجه في جميع التجاهات مع اهتمام بوجود‬
‫ينابيع مائية تكفل نمو المدينة‪ ،‬وفي هذا بيان لهمية الموقع الجغرافي‬
‫في التجاه العلمي للمتطلبات التي تحتاجها الدولة السلمية‪.259‬‬
‫‪ -7‬الدوافع القتصادية‪ :‬حقق التبادل التجاري تنشي ً‬
‫طا‬
‫للمعرفة الجغرافية عند المسلمين قدر ما حققه انتشار السلم في‬
‫أرجاء واسعة من العالم؛ فالتجارة هي الحرفة الرئيسة للمجتمعات‬
‫ون تجار‬ ‫العربية حيث ارتبطت مدن الصحراء بالمناطق الزراعية‪ ،‬وك ّ‬
‫المسلمين بعد انتشار السلم خلفية واسعة عن البلد المحيطة بهم‬
‫عبر علقات تجارية‪ ،‬وجعلت التجارة المعطيات الجغرافية أعظم‬
‫بكثير مما كانت لدى أسلفهم من المم الخرى‪ ،‬ووضعتها تحت‬
‫ي؛ مما جعله يكتب عن مناطق لم‬ ‫تصرفهم فوسعت أفق الجغراف ّ‬
‫يرها وإنما سمع عنها فقط من التجار‪ ،‬ولقد تعددت العلقات التجارية‬
‫التي كان من أبرزها تلك العلقات مع الهند وجنوب شرق آسيا‬
‫والصين وأفريقيا وأوربا‪ ،‬ولهذا العامل تأثير في بناء أساسيات‬
‫الجغرافية التجارية لدى العلماء المختصين‪.‬‬
‫كانت تلك هي أبرز الدوافع التي من أجلها اهتم المسلمون بعلم‬
‫الجغرافيا‪ ،‬ومن الجدير بالذكر أن هذا الهتمام كان على مستوى‬
‫الخلفاء والعلماء على حد سواء؛ فبينما أنفق الخلفاء بسخاء على‬
‫الحركة العلمية‪ ،‬وقاموا بإنشاء صروح علمية هائلة كبيت الحكمة في‬
‫بغداد‪ ،‬وعملوا على تنشيط حركة الترجمة للستفادة من جهود المم‬
‫السابقة‪ ...‬كّرس العلماء حياتهم وفكرهم ووقتهم ومالهم لخدمة هذا‬
‫العلم المهم‪ ،‬فظهر ما يعرف في التاريخ بالرحلت‪..‬‬
‫والرحلت هذه هي السفار الطويلة والقصيرة التي قام بها‬
‫العلماء في كل أرجاء المعمورة لدراسة أحوال الرض‪ ،‬وأدت بنجاح‬
‫إلى تفوق الجغرافيا الوصفية‪ ،‬كما أسهمت في تطور الجغرافيا‬
‫البلدانية )القليمية(‪ ،‬حيث كانت الرحلة هي المصدر العلمي لهذا‬
‫النوع من الكتابات الجغرافية‪ ،‬وتمثل الرحلة الوجه المشرق للجغرافيا‬
‫السلمية‪ ،‬ففي بطونها معين ل ينضب من المعلومات التاريخية‬
‫والقتصادية والنثروبولوجية لمعظم مناطق العالم السلمي‪ ،‬وقد‬
‫اعتمد كبار الجغرافيين المسلمين على الرحلة في جمع معلوماتهم‪،‬‬
‫أو التأكد مما سمعوه أو نقلوه‪ ،‬فزاروا معظم البلدان التي كتبوا عنها‪،‬‬

‫محمود شيت خطاب‪ :‬قادة الفتح في المغرب العربي ‪.1/103،102‬‬ ‫‪259‬‬


‫وألفوا كتًبا تحدثوا فيها عن رحلتهم؛ عرف الناس من خللها أجزاء‬
‫كثيرة من العالم كانت مجهولة من قبل‪.‬‬

‫المسلمون وإنقاذ علم الجغرافيا‬


‫ما كما هو اليوم‪ ،‬وهذا من طبائع كل‬
‫لم يظهر علم الجغرافيا قدي ً‬
‫العلوم؛ فلكل علم إرهاصات‪ ..‬ثم تأتي البداية المشوشة التي يتداخل‬
‫فيها مع غيره من العلوم‪ ..‬إلى أن يأخذ بعد ذلك دوره في التشكل‬
‫والتكوين‪ ،‬خاصة مع ظهور المتخصصين‪.‬‬
‫وفي معرض تناول انطلق النهضة الجغرافية لدى المسلمين‬
‫يجدر بنا في البداية ذكر السهامات التي سبقت الحضارة السلمية‪،‬‬
‫حالة الهنود أو علماء اليونان الذين استعان المسلمون‬
‫والتي قدمها الر ّ‬
‫بمجهوداتهم البحثية التي كانت شرارة لنطلق ثورتهم الجغرافية‬
‫المبدعة‪.‬‬
‫ي‬
‫لقد كان اليونان ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬يقطنون ضفاف بحر غن ّ‬
‫بالملجئ الطبيعية‪ ،‬فنشطوا من خلل تجارتهم وقربهم من البحر‪،‬‬
‫وكان منهم المؤرخ "هيرودوت" الذي قام برحلت كبيرة في برقة‬
‫ومصر وفينيقية وبلد بابل‪ ،‬كما زار المستعمرات الغريقية في ساحل‬
‫آسيا الصغرى الشمإلي‪ ،‬وجزر بحر إيجة وصقلية وجنوب إيطإليا‪..‬‬
‫صًرا للمعارف الجغرافية لدى‬‫ويعتبر كتاب "التاريخ" الذي ألفه مخت َ‬
‫الغريق في أواسط القرن الخامس )ق‪ .‬م‪..(.‬‬
‫دمت مؤلفات "بطليموس" و"مارينوس" البدايات‬ ‫كما ق ّ‬
‫للمسلمين؛ حيث اعتمد المسلمون في القرن )الثالث الهجري ‪-‬‬
‫التاسع الميلدي( لرساء قواعد علمهم الجغرافي على كتاب‬
‫"الجغرافيا" لبطليموس‪ ،‬وكان اعتمادهم عليه أساسّيا‪ ..‬إلى جانب‬
‫كتاب "مارينوس الصوري" الذي يأتي في درجة تالية من الهمية ‪..‬‬
‫‪260‬‬

‫وكانت تلك المؤلفات القديمة وصفية اهتم فيها هؤلء العلماء‬


‫سست لستخدام الجغرافيا‬ ‫بحساب درجات الطول والعرض‪ ،‬وأ ّ‬
‫الرياضية في رسم الخرائط‪.‬‬
‫دد بطليموس في كتابه العاَلم المعروف لدى القدمين؛‬ ‫فقد ح ّ‬
‫فكان يمتد من جزر الخالدات )وهو السم العربي الذي كان ُيطلق‬
‫على جزر الكناري حإليا في المحيط الطلنطي( غرًبا إلى الصين‬
‫شرقا‪ ،‬أما حدوده الشمإلية فكانت الجزر الواقعة شمإلى بريطانيا‪،‬‬

‫‪ 260‬محمد محمود محمدين‪ :‬الجغرافيا ولجغرافيون بين الزمان والمكان ص ‪ .120،119‬دار‬


‫الخريجي للنشر والتوزيع الطبعة الثانية ‪1417‬هق‪.‬‬
‫في حين ل تتعدى حدوده الجنوبية منطقة السودان والبحيرات‬
‫الكبرى‪ ،‬وكان كتاب بطليموس مزودا بق ‪ 27‬خارطة‪ ،‬كانت إحداها تمد‬
‫البحر المتوسط بحوإلى ‪ 20‬درجة شرًقا؛ مما أدى بالتالي إلى‬
‫استطالة الراضي بشكل مفرط باتجاه الشرق‪.261‬‬
‫ولم تكن استفادة المسلمين في هذا المضمار من اليونانيين‬
‫فقط‪ ،‬بل حرصوا على الطلع على كل الميراث الجغرافي لشعوب‬
‫العالم‪..‬‬
‫فقد قام المصريون القدامى في عهد )سينفرو( فرعون مصر‬
‫برحلت عديدة بغية الستكشاف‪ ،‬كما أرسلت مصر البعثات لكشف‬
‫حوض النيل وارتياد الصحراء الشرقية والليبية وشبه جزيرة سيناء‪،‬‬
‫ت قناة‬‫فَر ْ‬
‫ح ِ‬
‫وتيسيًرا لنقل التجارة من داخل البلد إلى البحر الحمر ُ‬
‫سيزوستريس بين النيل وذلك البحر‪.262‬‬
‫أما الكريتيون فهم شعب بحري ضاعت معظم معالم تاريخه‬
‫قا‬
‫من الذاكرة‪ ،‬ويظهر أن نشاطهم في مضمار الملحة كان ساب ً‬
‫للفينيقيين‪ ..‬وهم أقدم من ركب عرض البحر‪ ،‬ولم يتبق من تاريخهم‬
‫عرفوا من خللها سواحل‬ ‫سوى تجارتهم الواسعة مع مصر التي َ‬
‫الحوض الشرقي من البحر البيض المتوسط كما عرفوا غرًبا سواحل‬
‫صقلية وإيطإليا الجنوبية دون أن يتجشموا مخاطر البتعاد أكثر من‬
‫ذلك‪.‬‬
‫أما الفينيقيون فقد تمت أول حملة اكتشافية على أيديهم‪ ،‬وقد‬
‫جهزها فرعون مصر "نيخاوس" الذي حكم في النصف الثاني من‬
‫القرن السابع قبل الميلد بالسفن والمؤن‪ ،‬واستطاعت هذه الحملة‬
‫عام )‪ 665‬ق‪.‬م( أن تدور حول أفريقيا‪ ،‬بعد أن انطلقت من البحر‬
‫الحمر‪ ،‬وعادت من طريق البحر البيض المتوسط‪ ..‬وقد استغرقت‬
‫هذه الرحلة مدة عامين‪.‬‬
‫وفي الفترة الواقعة قبل الميلد بخمسة قرون قام القرطاجيون‬
‫بإرسال القائد "صفون" لكتشاف ساحل أفريقيا الغربية‪ ،‬فانطلق‬
‫على رأس أسطول من ستين سفينة يركبها ثلثمائة بحار بالضافة‬
‫إلى عدد من المهاجرين وفي الوقت نفسه كان القائد "هيميلكون"‬
‫غل في بحر الشمال‪.‬‬ ‫يكتشف سواحل أوروبا الغربية ويتو ّ‬

‫كما اتسعت معارف الرومان الجغرافية؛ إذ إنهم توغلوا في‬


‫الحبشة بعد دخولهم مصر‪ ،‬ووصلوا إلى مناطق المستنقعات الفسيحة‬

‫‪ 261‬عبد الرحمن حميدة‪ :‬أعلم الجغرافيين العرب ص ‪.33،32‬‬


‫‪ 262‬انظر‪ :‬شريف محمد شريف‪ :‬تطور الفكر الجغرافي‪ ،‬علي عبد الله الدفاع‪ :‬رواد علم‬
‫الجغرافيا ص ‪.17-15‬‬
‫في بحر الغزال‪ ،‬وقاموا ببعض الستكشافات الجغرافية هناك‪ ،‬كما‬
‫اكتشفوا جبل كينيا وجبل كليمنجارو أعلى قمم أفريقيا‪..‬‬
‫حتى جاء حين من الدهر أخذت فيه روح البحث العلمي في هذا‬
‫المجال في الخمول حينما بدأ رجال الكنيسة من أمثال القديس‬
‫"أمبرواز" )‪397 - 330‬م( يجهرون بأن دراسة الكون ووضع الرض‬
‫لن يفيد النسانية في تحقيق أملها في الحياة الخرة‪!!..‬‬
‫وقد أّدى ذلك إلى أن بدأ الكثيرون يعزفون عن الرغبة في‬
‫المعرفة‪ ،‬ويعتبرون هذه المور ضرًبا من السحر‪ ..‬واستمر الحال‬
‫هكذا في أوروبا حتى القرن الخامس عشر الميلدي؛ فقد عانى علماء‬
‫مثل "كوبرنيكوس" )‪ (1743 – 1473‬و"جإليليو" )‪- (1642 – 1564‬‬
‫على نحو ما ذكرنا في الباب الول ‪ -‬الكثير من المضايقات من رجال‬
‫الكنيسة‪ ،‬والتي وصلت إلى حد ّ القتل والحراق‪!!263‬‬
‫وحين جاء دور المسلمين‪ ،‬فإنهم لم يقفوا في تناولهم لعلم‬
‫الجغرافيا موقف المطلع والمشاهد فقط لمؤلفات "بطليموس" أو‬
‫"مارينوس الصوري" أو غيرهما‪ ..‬وإنما تعاملوا مع المر بخطوات‬
‫إيجابية‪ ،‬شأن الجغرافيا لديهم شأن باقي العلوم التي اطلعوا على‬
‫إسهامات السابقين فيها‪ ،‬ومن ثم قدموا ما عندهم من إبداعات‬
‫واختراعات‪..‬‬
‫وقد مرت الجغرافيا لدى المسلمين بالمراحل التالية‪:‬‬
‫‪ (1‬ظهور الجغرافيا الدبية‪:‬‬
‫كانت المحاولت الولى في الجغرافيا عند المسلمين قد‬
‫دا في مطلع القرن الثالث الهجري )التاسع‬ ‫ظهرت بشكل متواضع ج ً‬
‫ون بعدها بنصف قرن ما ُيعرف بالجغرافيا الدبية‪،‬‬ ‫الميلدي(‪ ..‬فقد تك ّ‬
‫وقبل القرن التاسع الميلدي لم تكن هناك مصنفات جغرافية قائمة‬
‫بمعنى الكلمة‪ ،‬إنما كانت تظهر بين الحين والخر معلومات جغرافية‬
‫متفرقة ضمن كتب الدب‪ ،‬حتى نشطت الترجمة واطلع المسلمون‬
‫على أفكار "بطليموس" و"مارينوس الصوري"‪ ،‬وبدأت سلسلة‬
‫الجغرافيا العلمية‪ ،‬التي سرعان ما تبعتها أنماط متعددة للجغرافيا‬
‫الوصفية‪..‬‬
‫وفي أواخر القرن الثالث الهجري بدأ ما ُيعَرف بالوجيزات‬
‫الجغرافية في الظهور لمساعدة كّتاب الدواوين‪ ،‬وكان من أهم ما‬
‫يمثل ذلك الكتاب الذي تصدى لدراسة مشهد الرض الطبيعي بشكل‬
‫خاص ويحمل عنوان‪" :‬كتاب المسالك والممالك" لبن خرداذبة )ت‬
‫‪272‬هق‪885 /‬م(‪ ..‬وتل ذلك وجيزات جغرافية أخرى حتى أصبحت في‬
‫‪263‬‬
‫عبد الرحمن حميدة‪ :‬أعلم الجغرافيين العرب ص‪. 33 - 21‬‬
‫متناول رجال الدب ومن ثم عامة الناس‪ ،‬وكان منها‪" :‬كتاب البلدان"‬
‫للجاحظ )‪159‬هق‪255/‬هق(‪.264‬‬
‫‪ (2‬ازدهار المؤّلفات من النوع المبسط‪:‬‬
‫وكان التطور التالي في القرن الرابع الهجري )العاشر‬
‫الميلدي(‪ ،‬حيث بلغ الدب الجغرافي ذروته وذلك على أثر ظهور‬
‫مؤلفات من نوع )المسالك والممالك(‪ ،‬أي بظهور المدرسة التقليدية‬
‫للجغرافيين العرب التي كانت على صلة وثيقة "بأطلس السلم"‬
‫خُرط‪..‬‬
‫الذي يمثل قمة علم المصورات عند العرب‪ ،‬أو علم ال ُ‬
‫كما حظي التبسيط الجغرافي بترحيب الجمهور الذي أقبل عليه‬
‫بشغف‪ ،‬وتعددت مناهج وصف الرحلت‪ ..‬و يمكن القول إجما ً‬
‫ل‪ :‬إن‬
‫القرن الرابع الهجري )العاشر الميلدي( كان عصر تكامل النماط في‬
‫المصنفات الجغرافية‪ ،‬حيث تعددت السفار الستكشافية مما زاد من‬
‫اتساع أفق الجغرافيين الوصفيين‪ ،‬وزادت مع ذلك معلوماتهم دقة‬
‫حا‪.265‬‬
‫ووضو ً‬
‫ففي عام )‪309‬هق‪921/‬م( أرسل خليفة بغداد "المقتدر" بعثة‬
‫إلى بلغار الفولغان‪ ،‬وعهد إلى "ابن فضلن" بكتابة تقرير عن أخلق‬
‫شعوب تلك المنطقة‪ ..‬وقد ظل هذا الكتيب حتى القرن الثاني عشر‬
‫الميلدي أفضل مصدر وثائقي يملكه المسلمون عن الروس وعن‬
‫سكان بحر الخزر )قزوين(‪.266‬‬
‫‪ (3‬التطور الختامي للنماط الجغرافية‪:‬‬
‫وكان ذلك في نهاية القرن السادس الهجري )الثاني عشر‬
‫الميلدي( والقرون التالية‪ ،‬ففي هذه الفترة ظهرت المعاجم‬
‫الجغرافية‪ ،‬والمؤلفات الكوزموغرافية التي تهتم بالكوزموغرافيا أو‬
‫الجغرافيا الكونية‪ ،‬والمؤلفات الجغرافية العالمية‪ ،‬واحتلت‬
‫الموسوعات التاريخية والجغرافية مكانة مهمة أيام الممإليك في‬
‫مصر‪ ..‬وكذلك كثرت أقاصيص الرحالة الجغرافيين‪.‬‬
‫‪ (4‬الحقبة العثمانية‪:‬‬
‫وفيها بدأ الحتكاك بالجغرافيا الوروبية الحديثة والكتشافات‬
‫الجغرافية الكبرى‪.‬‬
‫‪ (5‬النهضة الجغرافية الحديثة‪:‬‬
‫‪264‬‬
‫عبد الرحمن حميدة‪ :‬أعلم الجغرافيين العرب ص‪. 67‬‬
‫‪265‬‬
‫عبد الرحمن حميدة‪ :‬أعلم الجغرافيين العرب ص‪.59‬‬
‫‪266‬‬
‫انظر مقدمة رحلة ابن فضلن‪.‬‬
‫وقد ابتدأت في مصر مع مطلع العصر الحديث‪ ،‬الذي اقترن‬
‫برحيل الحملة الفرنسية وظهور أسرة محمد علي‪ ،‬فقد ظهرت عدة‬
‫مؤلفات في الجغرافيا الرياضية والرحلت‪ ،‬ولسيما في الشطر الثاني‬
‫من القرن التاسع عشر الميلدي ومطلع القرن العشرين‪.267‬‬
‫لقد كانت رحلة علم الجغرافيا في الحضارة السلمية رحلة‬
‫فريدة بكل المقاييس‪ ..‬ابتدأت بإنقاذ ذلك العلم المهم من الختناق‬
‫بيد الكنيسة الوروبية‪ ،‬والتي حّرمت البحث فيه كما رأينا قبل قليل‪..‬‬
‫فلت‬
‫ف بإنقاذه ‪ -‬وقد كان في طور طفولته ‪ -‬حتى تك ّ‬ ‫ثم لم تكت ِ‬
‫خ دماء العافية العلمية في جسده من جديد‪..‬‬‫ض ّ‬‫بتنميته‪ ،‬و َ‬
‫وسنحاول فيما يلي ‪ -‬بإذن الله ‪ -‬الوقوف أمام بعض النجازات‬
‫السلمية المبهرة في علم الجغرافيا‪ ..‬بعد أن نتعّرف على بعض‬
‫معالم المناهج السلمية لدراسة الجغرافيا‪..‬‬

‫المناهج السلمية لدراسة الجغرافيا‬


‫عرفت الدراسات الجغرافية عند المسلمين عدة مناهج‪ ،‬كان‬
‫منها‪:‬‬
‫المنهج الدبي‪ :‬وقد كان ذا استقللية فكرية‪ ،‬ويعتمد على‬
‫السلوب الدبي متأثًرا بروائع الشعر العربي أو المقالت النثرية‪.‬‬
‫وللمؤّلفات التي اتخذت هذا المنهج ‪ -‬رغم قِّلة عددها ‪ -‬قوة‬
‫ورصانة علمية قلما تتوافر في غيرها من المؤلفات‪ ..‬وقد كانت كتب‬
‫أدب الرحلت من أوضح المثلة على هذا المنهج‪.‬‬
‫المنهج الرياضي‪ :‬وهو انعكاس للحاجة التي نمت حول‬
‫‪.‬‬ ‫‪268‬‬
‫القياسات الحسابية للطوالع التي بدأت عند العرب قبل السلم‬
‫ولقد تطور المنهج الرياضي بعد ترجمة الكتب اليونانية ذات‬
‫الصبغة الرياضية‪ ،‬مثل كتاب )المجسطي( لبطليموس‪ ،‬وأصبح لهذا‬
‫المنهج كتب معروفة مثل‪ :‬كتاب )القانون المسعودي( للبيروني )‬
‫‪362‬هق ‪440 -‬هق(‪ ،‬و)الزيج الصابئ( للبتاني )‪244‬هق ‪317 -‬هق(‪ ،‬وقد‬
‫أعطى هذا المنهج للمصنفات الفلكية رصانة علمية؛ مما جعلها ذات‬
‫سا في تطور‬ ‫مرجعية في الدراسات الحديثة‪ ،‬ويعد هذا المنهج أسا ً‬
‫التجاه الرياضي )الفلكي(‪.‬‬

‫‪ 267‬عبد الرحمن حميدة‪ :‬أعلم الجغرافيين العرب ص‪.60‬‬


‫‪ 268‬محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص ‪.255‬‬
‫صل جغرافيو المسلمين هذا‬ ‫المنهج الوصفي القليمي‪ :‬أ ّ‬
‫المنهج وأبدعوا فيه‪ ،‬ووضعوا له الطر العلمية‪ ،‬وجاء البداع في‬
‫أدبيات هذا المنهج لسباب عديدة منها‪:‬‬

‫أ ‪ -‬التساع في ك َ ّ‬
‫م المعلومات عن بقاع الرض؛ مما جعل‬
‫الستفادة الفعلية منها ل تتحقق إل في حالة وضع تصنيف لهذه‬
‫المعلومات بشكل موضوعي‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التجارب المتعاقبة حول الكتابة بمنهج إقليمي‪ ،‬والتي‬
‫امتدت لكثر من أربعة قرون‪ ،‬وكان من شأن ذلك المتداد التجريبي‬
‫أن حدث تطوير لهذا المنهج‪ ،‬وتم إدخال تعديلت في إليات الوصف‪.‬‬
‫دد المدارس السلمية في أسلوب الكتابة القليمية بما‬ ‫ج ‪ -‬تع ّ‬
‫سا‬
‫يعرف بالمدرسة البطليموسية‪ ،‬والمدرسة البلخية؛ مما أحدث تناف ً‬
‫بينها في قبول الطرح الجغرافي عند المتلقين‪.‬‬
‫د ‪ -‬تبني العديد من المصنفين لهذا المنهج‪ ،‬فقد كان أكثر‬
‫الكتاب ُيخضعون مصنفاتهم للسلوب الوصفي المدعم بالمشاهدات‬
‫والتحقيقات الميدانية‪.‬‬
‫هق ‪ -‬وجود فائدة علمية وعملية للمعلومات المدونة وفق هذا‬
‫المنهج؛ مما جعل أكثر الخلفاء والملوك يدعمون التجاه القليمي‬
‫بتأليف عدد من المصنفات‪ ،‬فمثل ً قام "الشريف الدريسي" )‪493‬هق ‪-‬‬
‫‪560‬هق( بتأليف كتاب في تقويم البلدان لغليوم الول )ملك هولندا(‬
‫عنونه بق "روضة النس ونزهة النفس"‪.‬‬
‫وقد قام الجغرافيون الوصفيون والرحالة بوصف المدن بدقة‪،‬‬
‫مر ّ‬
‫كزين بذلك على تاريخها وأجوائها وأهم منتجاتها وتعاملتها التجارية‬
‫مع الخرين‪ ،‬ومما جاء في ذلك‪:‬‬
‫أورد "ابن حوقل" )‪294‬هق ‪367 -‬هق( في كتابه "صورة الرض"‬
‫فا للمدن التي استعرضها في دراسته للقاليم‪ ،‬وكان من تلك‬
‫وص ً‬
‫المدن مدينة )الفسطاط(‪ ،‬وقد وصفها بقوله‪" :‬الفسطاط مدينة كبيرة‬
‫نحو ثلث بغداد‪ ،‬ومقدارها نحو فرسخ على نهاية العمارة والخصب‬
‫والطيبة واللذة‪ ،‬ذات رحاب في محالها وأسواق عظام ومتاجر فخام‪،‬‬
‫وممالك جسام‪ ..‬إلى ظاهر أنيق‪ ،‬وهواء رقيق‪ ،‬وبساتين نضرة‪،‬‬
‫ومنتزهات على مّر اليام خضرة‪ ...‬وفيها خمسة مساجد وحمامان‬
‫وغير فرن لخبز عجين أهلها‪ ،‬ومعظم بنيانهم بالطوب‪ ،‬وأكثر سفل‬
‫دورهم غير مسكون وبها مسجدان لصلة الجمعة"‪.269‬‬

‫ابن حوقل صورة الرض ص ‪.138،137‬‬ ‫‪269‬‬


‫ويتضح من وصف "ابن حوقل" السابق التركيز على تقدير‬
‫مساحة الفسطاط‪ ،‬وإيراد بعض خصائص أسواقها‪ ،‬إلى جانب إبراز‬
‫بعض المرافق والخدمات‪..‬‬
‫ومن المثلة المختصرة في وصف المدن ما ذكره في وصف‬
‫مدينة )الطائف( التي مّر بها خلل رحلته الطويلة التي استغرقت‬
‫ما‪ ،‬حيث يقول‪" :‬والطائف مدينة صغيرة‪...‬‬ ‫حوإلى ثمانية وعشرين عا ً‬
‫كثيرة الشجر والثمر‪ ،‬وأكثر ثمارها الزيت‪ ،‬وهي طيبة الهواء‪ ،‬وفواكه‬
‫مكة وُبقولُها منها وهي على ظهر جبل غزوان‪ ،‬وبغزوان ديار بني سعد‬
‫وسائر قبائل هذيل‪ ،‬وليس بالحجاز فيما علمته مكان أبرد من رأس‬
‫هذا الجبل؛ ولذلك اعتدل هواء الطائف"‪..270‬‬
‫وهو بهذا الوصف يؤكد أثر الموضع الجغرافي على مناخ‬
‫المدينة‪ ،‬كما أنه أعطى بياًنا لتوزيع القبائل وارتباط استقرارها‬
‫بالمدن‪.‬‬
‫كما أبدع "الشريف الدريسي" )‪493‬هق ‪560 -‬هق( في وصف‬
‫المدن في كتابه )نزهة المشتاق في اختراق الفاق(؛ فهو ُيولي‬
‫ما كبيًرا لدراسة المدن‪ ..‬ومما ذكره في ذلك وصفه الدقيق‬ ‫اهتما ً‬
‫لمدينة )قرطبة( بقوله‪" :‬ومدينة قرطبة قاعدة بلد الندلس وأم‬
‫ضا‪ ،‬بين المدينة‬
‫ن خمس يتلو بعضها بع ً‬‫مدنها‪ ...‬وهي في ذاتها مد ٌ‬
‫والمدينة سور حاجز‪ ..‬وفي كل مدينة ما يكفيها من السواق‬
‫ما منها في بلد الندلس"‪.271‬‬
‫والفنادق‪ ...‬ول بلد أكبر اس ً‬
‫ومن الكتابات التي احتلت منزلة مرموقة في المنهج الوصفي‬
‫للدراسات الجغرافية‪ ،‬ما أورده "ابن بطوطة" )‪703‬هق ‪779 -‬هق(‬
‫حالة المسلم الكثر شهرة‪ ،‬في كتابه المعروف باسم )رحلة ابن‬ ‫الر ّ‬
‫بطوطة(‪ ..‬أو )تحفة النظار في غرائب المصار وعجائب السفار(‪..‬‬
‫حيث أبدع في وصف مشاهداته عبر رحلته الطويلة‪ ..‬وكان مما قاله‬
‫في وصف مدينة )حماة(‪" :‬إحدى أمهات الشام الرفيعة‪ ،‬ومدائنها‬
‫البديعة‪ ،‬ذات الحسن الرائق‪ ،‬والجمال الفائق‪ ،‬تحف بها البساتين‬
‫قها النهر العظيم‬
‫والجنات‪ ،‬عليها النواعير كالفلك الدائرات‪ ،‬يش ّ‬
‫المسمى بالعاصي‪ ،‬ولها ربض سمي بالمنصورة‪ ...‬فيها السواق‬
‫الحافلة والحمامات الحسان"‪.272‬‬
‫‪ .4‬المنهج التعليلي‪ :‬وقد اتصفت دراسات "ابن خلدون" )‬
‫‪732‬هق ‪808 -‬هق( بهذا النمط‪ ،‬على الرغم من وجود أعلم آخرين‬
‫سبقوا ابن خلدون في هذا المضمار‪ ،‬ولكن ليس بالشمول والتطبيق‬

‫ابن حوقل صورة الرض ص ‪.39‬‬ ‫‪270‬‬

‫الشريف الدريسي‪ :‬نزهة المشتاق في اختراق الفاق ‪.2/574‬‬ ‫‪271‬‬

‫ابن بطوطة‪ :‬تحفة النظار في غرائب المصار وعجائب السفار ص ‪.28‬‬ ‫‪272‬‬
‫أنفسهما؛ فمقدمة ابن خلدون الشهيرة ل تركز على وصف المدن‬
‫بالقدر الذي تحاول فيه تحديد العوامل المقترنة بظروف مواقعها‬
‫ونموها وأحجامها‪ ،‬مع تحديد لتعريف المدينة‪ ..‬وهي كما يلي‪:‬‬
‫ظروف الموقع‪ :‬بلغ عدد المدن التي أنشأها المسلمون‬
‫خارج الجزيرة العربية ما يزيد على مائتي مدينة خلل حكم الخلفاء‬
‫الراشدين وفي عهد المويين والعباسيين‪ ،‬ويعطي هذا الرقم مع ما‬
‫ذكر حول تحديد المناطق المثلى لنشاء خطوط الدفاع عن الدولة‬
‫السلمية ‪ -‬كأحد العوامل المرتبطة بالمتطلبات الدارية والعسكرية ‪-‬‬
‫أهمية دراسة المواقع بشكل دقيق لتحديد المزايا التي يتمتع بها‬
‫والعيوب التي ترتبط به‪.‬‬
‫صص "ابن خلدون" لهذا المر فصل ً فيما‬
‫ومن هذا المنطلق خ ّ‬
‫يجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث إذا غفل عن تلك المراعاة‬
‫في جانبين‪:‬‬
‫أ ‪ -‬دفع المضاّر‪ :‬ويكون ببناء أسوار للمدن‪ ،‬مع الحرص على‬
‫الموضع الذي تحصل به المنعة الطبيعية‪ ،‬ويقول في هذا‪" :‬وأن يكون‬
‫وضع ذلك في ممتنع من المكنة؛ إما على هضبة متوعرة من الجبل‬
‫وإما باستدارة بحر أو نهر بها حتى ل يوصل إليها إل بعد العبور على‬
‫جسر أو قنطرة‪ ،‬فيصعب منالها من العدو‪ ،‬ويتضاعف امتناعها‬
‫وحصنها"‪.‬‬
‫ومن القضايا التي ُأخذت في دفع المضار السلمة من المراض‬
‫دا عن الراكد من الماء؛ لما قد‬
‫بأن يكون الموقع طيب الهواء بعي ً‬
‫ش للمراض‪،‬‬ ‫يسببه ركود الماء من انتشار الفات وما يصاحبه من تف ٍ‬
‫وقد أعطى "ابن خلدون" أمثلة لبعض المواضع السيئة التي لم تختر‬
‫بعناية مثل‪ :‬مدينة قابس بالمغرب‪.273‬‬
‫ب ‪ -‬جلب المنافع‪ :‬ويراعى فيها توافر الماء بأن تكون‬
‫المدينة على نهر جار أو بالقرب من عيون عذبة‪ ،‬كما يشترط لمثإلية‬
‫الموقع طيب المرعي للسائمة وقربه لما يترتب على بعده من‬
‫ضا توافر المزارع التي يتحصل بها قوت‬ ‫حصول المشقة‪ ،‬ويراعى أي ً‬
‫الناس‪ ،‬ويرى في اختيار المدن الساحلية الحصانة الطبيعية والبشرية‬
‫فقد ذكر أن "مما يراعى في البلد الساحلية التي على البحر أن تكون‬
‫في جبل أو تكون بين أمة من المم موفورة العدد‪ ...‬والسبب في‬
‫ذلك أن المدينة إذا كانت حاضرة البحر ولم يكن بساحتها عمران‬
‫للقبائل ول موضعها متوعر من الجبل كانت في ِغّرةٍ للبيات )أي‪:‬‬
‫مباغتة العدو( وسهل طروقها )غزوها( من الساطيل البحرية" ‪.‬‬
‫‪274‬‬

‫ابن خلدون‪ :‬المقدمة ص ‪.280‬‬ ‫‪273‬‬

‫ابن خلدون‪ :‬المقدمة ص ‪.281‬‬ ‫‪274‬‬


‫نمو المدن‪ :‬يخضع نمو المدن إلى مقومات تدفع به إلى‬
‫المام‪ ،‬أو إلى معوقات تحد منه‪ ..‬ولقد أورد "ابن خلدون" في الفصل‬
‫الرابع من الكتاب الول أن المدن عند نشأتها يمكن أن تنمو بتوجيه‬
‫من الدولة رغبة منها في اجتماع اليدي‪ ،‬وهو يقول في هذا الشأن‪:‬‬
‫"فلبد من تمصير المصار‪ ،‬واختطاط المدن من الدولة والملك‪ ..‬ثم‬
‫إذا ب ُِنيت المدينة وكمل تشييدها بحسب نظر من شيدها‪ ،‬وبما اقتضته‬
‫مُر الدولة ‪ -‬حينئذ ٍ ‪ -‬عمٌر لها‪ ،‬فإن‬
‫الحوال السماوية والرضية فيها فعُ ُ‬
‫كان عمر الدولة قصيًرا وقف الحال بها عند انتهاء الدولة‪ ،‬وتراجع‬
‫عمرانها‪ ،‬وخربت‪ ،‬وإن كان أمد الدولة طويل ً ومدتها منفسحة‪ ،‬فل‬
‫تزال المصانع فيها تشاد‪ ،‬والمنازل الرحيبة تكثر وتتعدد‪ ،‬ونطاق‬
‫السواق يتباعد وينفسح إلى أن تتسع الخطة وتبعد المسافة‪ ،‬وينفسح‬
‫ذراع المساحة كما هو واقع ببغداد وأمثالها"‪.275‬‬
‫تصنيف المدن وتدّرجها‪ :‬أخذ المسلمون بمسألة اختلف‬
‫المدن في أحجامها‪ ،‬وهذا أوجد مصطلحات تختص بهذا الختلف‬
‫دة والب ََلد‪ ،‬وتم ربط أحجام المدن بالسواق‪ ،‬فمثل ً‬
‫دة والب َل ْ َ‬
‫فهناك الب ُل َي ْ َ‬
‫أوضح "ابن خلدون" أنه متى ما كان العمران أكثر كانت الحضارة‬
‫أكمل‪ ،‬وأن المصر كثير العمران يختص بالغلء في أسعار حاجاته ‪.‬‬
‫‪276‬‬

‫وبعد أن تعّرفنا ‪ -‬من خلل الستعراض الموجز السابق ‪ -‬على‬


‫بعض ملمح المنهج السلمي لدراسة الجغرافيا‪ ..‬ذلك المنهج الذي‬
‫قاد إلى روائع من النجازات المبهرة التي غّيرت مجرى النظر‬
‫الجغرافي عبر تاريخ النسانية كله‪ ..‬سنحاول في الصفحات القادمة ‪-‬‬
‫إن شاء الله ‪ -‬التوقف أمام بعض المعالم المبهرة لتلك النجازات‬
‫الخالدة‪..‬‬
‫المسلمون وإثبات كروية الرض‬
‫بالرغم من أن "كروية الرض" ُتعد ّ الن من الحقائق العلمية‬
‫ك فيها أحد من الناس على اختلف العمار‬ ‫البديهية التي ل يش ّ‬
‫والثقافات‪ ،‬حتى صار الصغار يدرسونها بالبراهين في مراحل تعليمهم‬
‫المبكرة‪ ..‬إل أن هذه الحقيقة واجهت في عصور قديمة صعوبات‬
‫بالغة حتى تستقر علمّيا في أذهان البشر‪..‬‬
‫وقد يأخذك العجب عندما تعلم أن هيئات دينية كبرى حكمت‬
‫قا‬
‫العقل الوروبي قروًنا طويلة ضاقت بهذه الحقيقة العلمية ضي ً‬
‫حملها على تكفير من يؤمن بها من العلماء‪ ..‬وربما بلغ المر حد ّ‬
‫التعذيب أو العدام بأبشع الساليب‪!!..‬‬

‫ابن خلدون‪ :‬المقدمة ص ‪.279‬‬ ‫‪275‬‬

‫ابن خلدون‪ :‬المقدمة ص ‪.301‬‬ ‫‪276‬‬


‫ل ذلك الوضع حتى جاء السلم بما يحمله من دعوة لتوسيع‬ ‫وظ ّ‬
‫النظر في الكون‪ ،‬وتحرير العقل من الوهام والخرافات‪ ،‬وإطلق‬
‫دا على التجريب والبرهان‪ ،‬ثم الوصول‬‫سراح البحث العلمي معتم ً‬
‫حّر وهادئ؛ فأحيا ما كاد ينمحي من‬
‫للحقائق بعد نقاش موضوعي ُ‬
‫حقائق العلوم جميًعا )وكروّية الرض إحداها(‪ ...‬وإليك التفاصيل‪..‬‬
‫كان الغريق يعتقدون أن الرض قرص دائري مسطح تحيط به‬
‫مياه المحيطات من كل جانب‪ ،‬فها هو "هكتاتيوس" )سنة ‪ 500‬ق‪.‬م(‬
‫والذي يعتبر أبا الجغرافيا الغريقية يرسم خرائطه على أساس‬
‫القرص المستدير‪..277‬‬
‫وبالرغم من أن "أفلطون" )سنة ‪ 348‬ق‪.‬م( أتى بأول نظرية‬
‫عن كروية الرض إل إنه لم يلق التأييد الكافي ممن جاء بعده‪ ..‬بل إن‬
‫الدولة الرومانية رفضت هذه الفكرة‪ ،‬وكتب "كوزماس" )‪(COSMAS‬‬
‫"أبو الجغرافيا الرومانية" في )سنة ‪ 547‬م(‪" :‬إن العالم يشبه‬
‫العجلة‪ ،‬وإن مياه المحيط حوله من كل الجهات‪..278"..‬‬
‫وبلغ المر ذروته حين تبّنت الكنيسة وآباؤها الوائل )وعلى‬
‫رأسهم "الكتانشيوس"( هذه النظرية بشدة‪ ،‬وقالوا بأن الرض‬
‫مسطحة‪ ،‬وأن الجانب الخر غير مأهول؛ وإل سقط الناس في‬
‫الفضاء‪!!279‬‬
‫والمثير للعجب أن التعامل مع معارضي أمثال تلك النظرّيات‬
‫كان يّتسم بالضراوة البالغة؛ فكان المعارض يتعرض للتعذيب على‬
‫الخازوق أو الحرق حّيا بتهمة الهرطقة )التي تعني كنسّيا‪ :‬المروق عن‬
‫الدين الصحيح(!!‬
‫بل كان علماء أوروبا حتى القرن الثالث عشر الميلدي‬
‫يرسمون خريطة العالم على شكل صليب‪ :‬رأسه هي الجنة‪ ،‬وقدماه‬
‫هي النار‪ ،‬وذراعاه‪ :‬البحر البيض والبحر الحمر‪ ..‬وبيت المقدس‬
‫)أورشليم( في موضع القلب!!!‬
‫وقد كان من أشهر العلماء الوروبيين الذين تبّنوا نظرّية كروّية‬
‫صل إلى أن‬ ‫الرض "نيقول كوبرينكوس" )‪1473‬م – ‪1543‬م( الذي تو ّ‬
‫الرض ليست مركز الكون‪ ..‬إل أنه لم يتجرأ على نشر كتابه إل وهو‬
‫على فراش الموت!! وظل كتاب "كوبرنيكوس" من الكتب المحرمة‪،‬‬
‫واضطهدت الكنيسة كل من يؤيد اعتقاد "كوبرنيكوس" مثل "برونو"‬
‫الذي ُأعدم حرًقا‪ ،‬و"جإليليو" الذي أودع السجن حتى ُأرغم على‬

‫انظر‪ :‬محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص ‪.258‬‬ ‫‪277‬‬

‫كتاب " كوزموس " ‪.Christian Geography Cosmography‬‬ ‫‪278‬‬

‫جلل مظهر‪ :‬حضارة السلم وأثرها في الترقي العالمي ص ‪.398،397‬‬ ‫‪279‬‬


‫التنكر لنظرية "كوبرنيكوس" والتخلي عن آرائه‪ ،‬والنصياع للفكر‬
‫الكنسي‪!!!280‬‬
‫ولما جاءت الحضارة السلمية‪ ،‬عملت على إحياء نظرية كروية‬
‫الرض وتبّنتها‪ ..‬وربما كان من أهم أسباب ذلك أن القرآن أشار بصور‬
‫مختلفة إلى كروية الرض‪..‬‬
‫َ‬
‫ها‪ 281‬والدحية‬ ‫حا َ‬ ‫عدَ ذَل ِ َ‬
‫ك دَ َ‬ ‫ض بَ ْ‬‫واْلْر َ‬ ‫فمن ذلك قوله تعإلي‪َ  :‬‬
‫في اللغة هي الكرة‪ ..‬كما أن هناك آيات تتحدث عن دوران هذه الكرة‬
‫وُر الل ّي ْ َ‬
‫ل‬ ‫حول نفسها بما ُيحدث الليل والنهار‪ ..‬فيقول تعإلي‪ :‬ي ُك َ ّ‬
‫ل‪.282‬‬‫عَلى الل ّي ْ ِ‬
‫هاَر َ‬ ‫وي ُك َ ّ‬
‫وُر الن ّ َ‬ ‫ر َ‬ ‫عَلى الن ّ َ‬
‫ها ِ‬ ‫َ‬
‫ويعّلق الدكتور زغلول النجار على هذه الية الخيرة بقوله‪:‬‬
‫"معني يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل‪ :‬أي ُيغشي ك ّ‬
‫ل‬
‫فه عليه‪ ,‬وهو وصف واضح الدللة علي كروية‬ ‫واحد منهما الخَر كأنه ي َل ُ ّ‬
‫الرض‪ ,‬وعلي دورانها حول محورها أمام الشمس‪ ,‬وذلك لن كل ً من‬
‫الليل والنهار عبارة عن فترة زمنية تعتري نصف الرض في تبادل‬
‫مستمر‪ ,‬ولو لم تكن الرض مكورة لما تكور أي منهما‪ ,‬ولو لم تكن‬
‫الرض تدور حول محورها أمام الشمس ما تبادل الليل والنهار‬
‫ور‪ ,‬بل يتشكل‬ ‫ما مادًيا يمكن أن ي ُك َ ّ‬
‫وكلهما ظرف زمان وليس جس ً‬
‫بشكل نصف الرض الذي يعتريه‪."..‬‬

‫ثم يؤكد الله تعالى هذا المعنى فيقول سبحانه‪َ :‬ر ّ‬


‫ب‬
‫فل َ‬
‫ن‪ 283‬وُيقسم في موضع آخر‪َ  :‬‬ ‫رب َي ْ ِ‬
‫غ ِ‬
‫م ْ‬‫ب ال ْ َ‬‫وَر ّ‬ ‫ن َ‬ ‫ر َ‬
‫قي ْ ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬‫ال ْ َ‬
‫فهي آيات‬ ‫‪284‬‬
‫ن‪‬‬ ‫ب إ ِّنا ل َ َ‬
‫قاِدُرو َ‬ ‫ر ِ‬
‫غا ِ‬ ‫وال ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ق َ‬ ‫ر ِ‬ ‫شا ِ‬ ‫م َ‬‫ب ال ْ َ‬
‫م ب َِر ّ‬ ‫س ُ‬‫ق ِ‬ ‫أُ ْ‬
‫تشير بوضوح إلى أن الشمس عندما تشرق على مكان من الرض‪،‬‬
‫فهذا يعني أن هناك غروًبا في مكان آخر‪ ،‬أي أن المشارق والمغارب‬
‫تتعاقب بسبب دوران الكرة الرضية حول نفسها‪.285‬‬
‫والغريب أنه مع أن "كروّية الرض" شأن علمي كوني‪ ،‬إل أننا‬
‫ضا‪،‬‬
‫سنرى في السطور القادمة نظرة علماء الشرع لهذه الحقيقة أي ً‬
‫وكيفية اعتراضهم على منكريها‪ ..‬مقارنة بما أشرنا إلى طرف منه‬
‫فا‪ ،‬مما كان يعانيه معتنقو المسيحية في أوروبا من آباء الكنيسة‬
‫آن ً‬
‫وسلطانها المطلق‪ ،‬عندما كان أحدهم ‪ -‬مهما أوتي من علم ‪ -‬يجهر‬
‫بكروّية الرض؛ لندرك الفارق الضخم بين مناخين‪:‬‬

‫انظر ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة‪ ،‬ترجمة محمد علي أبو درة ‪.30/273‬‬ ‫‪280‬‬

‫)النازعات‪.(30 :‬‬ ‫‪281‬‬

‫)الزمر‪.(5 :‬‬ ‫‪282‬‬

‫)الرحمن‪.(17:‬‬ ‫‪283‬‬

‫)المعارج‪.(40:‬‬ ‫‪284‬‬

‫الدكتور زغلول النجار‪ :‬جريدة الهرام بتاريخ ‪..14/1/2002‬‬ ‫‪285‬‬


‫رمة للعقل‬ ‫صنع السلم أحدهما بروح مشجعة على العلم‪ ،‬محت ِ‬
‫والنظر والتجريب والبرهان؛ فأقام حضارته العظيمة التي أحسنت‬
‫الصلة ‪ -‬على نحو غير مسبوق ‪ -‬بين الدين والعلم‪ ..‬حتى غدا كلهما‬
‫يدعو إلى صاحبه‪ ،‬ويرسخ أقدامه في القلوب والعقول جميًعا‪..‬‬
‫ح العلم‬
‫سلطة الكنيسة ‪ -‬في المناخ الخر – ُرو َ‬
‫بينما اغتالت ُ‬
‫مل الناس قسًرا على‬ ‫اغتيا ً‬
‫ل‪ ،‬حينما أدمنت اعتناق الساطير‪ ،‬وح ْ‬
‫اعتناقها‪ ..‬المر الذي أّدى – في نهاية المطاف – إلى ما نرى عليه‬
‫الغرب الن من إقصاء كامل للكنيسة عن كل قضايا الحياة!!‬
‫وبالنسبة إلى نظرة علوم الشرع إلى كروية الرض‪ ،‬فإن "ابن‬
‫حزم" )ت‪456:‬هق ‪1064 -‬م( ينقل في كتابه )الفصل في الملل‬
‫والهواء والنحل( إجماع أئمة المسلمين على كروية الرض‪ ،‬فيقول‬
‫عنهم‪" :‬قالوا إن البراهين قد صحت بأن الرض كروية‪ ،‬والعامة تقول‬
‫دا من أئمة المسلمين‬ ‫غير ذلك‪ ..‬وجوابنا وبالله تعالى التوفيق‪ :‬إن أح ً‬
‫المستحقين لسم المامة بالعلم ‪ ‬لم ينكروا تكوير الرض‪ ،‬ول‬
‫ة‪ ..‬بل البراهين من القرآن والسنة قد‬ ‫فظ لحد منهم في دفعه كلم ٌ‬ ‫ُيح َ‬
‫وي ُك َ ّ‬
‫وُر‬ ‫ر َ‬ ‫عَلى الن ّ َ‬
‫ها ِ‬ ‫ل َ‬ ‫وُر الل ّي ْ َ‬
‫جاءت بتكويرها‪ ..‬قال الله ‪: ‬ي ُك َ ّ‬
‫ل‪ ..‬وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض‪،‬‬ ‫عَلى الل ّي ْ ِ‬
‫هاَر َ‬
‫الن ّ َ‬
‫ور العمامة‪ (..‬وهو إدارتها‪ ،‬وهذا نص على تكوير‬ ‫مأخوذ من‪) :‬ك ّ‬
‫الرض‪.286"...‬‬
‫ولبد أن نلحظ هنا إلى أي مدىً وصل ابن حزم ~ في‬
‫زد على‬‫اعتراضه على مخالفيه في قضية بديهية كهذه‪ ..‬إنه لم ي َ ِ‬
‫مة" دونما تكفير ول أحكام بالقتل‪ ..‬لسّيما وهو أحد‬ ‫وصفهم بق"العا ّ‬
‫ن ذلك بما أشرنا إليه من مصادرة الكنيسة‬ ‫فقهاء عصره‪ ..‬ولنقار َ‬
‫الوروبية لراء الخرين معتمدة على سطوة النفوذ الديني والروحي!!‬
‫وهذا المام "فخر الدين الرازي" )ت‪606 :‬هق ‪1209 -‬م تقريًبا(‬
‫و‬
‫ه َ‬ ‫يقول في تفسيره )مفاتيح الغيب( في تفسير قوله تعإلي‪َ  :‬‬
‫و ُ‬
‫َ‬
‫ي‪ ..287‬يقول‪" :‬المد ّ هو‬ ‫س َ‬ ‫وا ِ‬
‫ها َر َ‬‫في َ‬ ‫ع َ‬
‫ل ِ‬ ‫ج َ‬
‫و َ‬ ‫مدّ اْلْر َ‬
‫ض َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫َ‬
‫ض" ُيشعر‬ ‫مد ّ اْلْر َ‬ ‫البسط إلى ما ل يدرك منتهاه‪ ،‬فقوله‪" :‬وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ما ل يقع البصر على منتهاه؛‬ ‫ما عظي ً‬ ‫بأنه تعالى جعل حجم الرض حج ً‬
‫لن الرض لو كانت أصغر حجما مما هي الن عليه لما كمل النتفاع‬
‫به‪ ...‬والكرة إذا كانت في غاية الكبر‪ ،‬كان كل قطعة منها تشاهد‬
‫كالسطح‪.288"..‬‬

‫ابن حزم‪ :‬الفصل في الملل ‪.2/78‬‬ ‫‪286‬‬

‫)الرعد‪(3 :‬‬ ‫‪287‬‬

‫الرازي‪ :‬مفاتيح الغيب ‪.19/1‬‬ ‫‪288‬‬


‫أما علماء الجغرافيا المسلمين فكان لهم شأن آخر في إثبات‬
‫كروية الرض‪..‬‬
‫فإنهم لم يكتفوا فقط في إثبات هذه الحقيقة العلمية بنفض ما‬
‫علها من أتربة الجهل والتعصب‪ ..‬وإنما أيدوها بالمزيد من الدلة‬
‫سرها الله لهم‪..‬‬
‫والبراهين القاطعة التي ي ّ‬
‫يقول "ابن خرداذبة" )ت ‪272‬هق ‪885 -‬م( في كتابه )المسالك‬
‫مد َوَّرة ٌ كدوران الكرة‪ ..‬موضحة كالمحة‬
‫والممالك(‪" :‬إن الرض ُ‬
‫)المحة هي‪ :‬صفار البيض( في جوف البيضة" ‪.‬‬
‫‪289‬‬

‫وكتب "ابن ُرستة" )ت ‪290‬هق ‪903 -‬م( في كتابه )العلق‬


‫النفيسة(‪" :‬إن الله ‪ ‬وضع الفلك مستديًرا كاستدارة الكرة أجوف‬
‫ضا ومصمتة في جوف الفلك"‪.290‬‬ ‫دّواًرا‪ ..‬والرض مستديرة أي ً‬
‫وكتب "المسعودي" )ت ‪346‬هق ‪956 -‬م( في كتابه )التنبيه‬
‫والشراف( ‪" :‬جعل الله ‪ ‬الفلك العلى وهو فلك الستواء وما‬
‫يشمل عليه من طبائع التدوير‪ ،‬فأولها كرة الرض يحيط بها فلك‬
‫القمر‪.291"..‬‬
‫وقد ذكر "الشريف الدريسي" )ت ‪560‬هق ‪1166 -‬م( في كتابه‬
‫)نزهة المشتاق( ما نصه‪ .." :‬وإن الرض مدورة كتدوير الكرة‪ ،‬والماء‬
‫لصق بها‪ ،‬وراكد عليها ركوًدا طبيعّيا ل يفارقها‪ ،‬والرض والماء‬
‫مستقّران في جوف الفلك كالمحة في جوف البيضة‪ ..‬ووضعهما وضع‬
‫متوسط‪ ،‬والنسيم يحيط بها )يقصد الغلف الجوي( من جميع‬
‫جهاتها‪.292"..‬‬
‫صنع نموذج للرض كان على شكل‬
‫ي لما أراد ُ‬ ‫وُيذ َ‬
‫كر أن الدريس ّ‬
‫كرة المجسمة‪..293‬‬
‫ويقول "القزويني" )ت ‪682‬هق ‪1283 -‬م( في كتابه )عجائب‬
‫المخلوقات(‪" :‬الرض كرة‪ ،‬والدليل على ذلك أن خسوف القمر إذا‬
‫كان ُيرى من بلدان مختلفة فإنه ل ُيرى فيها كلها في وقت واحد بل‬
‫في أوقات متعاقبة؛ لن طلوع القمر وغروبه يكونان في أوقات‬
‫مختلفة في الماكن المختلفة‪ .‬والرض واقفة في وسط الفلك كلها‬
‫بإذن الله تعإلي‪."..‬‬

‫‪ 289‬ابن خرداذبة‪ :‬المسالك والممالك ص ‪.4‬‬


‫‪ 290‬ابن رستة‪ :‬العلق النفيسة ص ‪.8‬‬
‫‪ 291‬عبد الرحمن حميدة‪ :‬أعلم الجغرافيين العرب ص ‪.319‬‬
‫‪ 292‬الدريسي‪ :‬نزهة المشتاق في اختراق الفاق ص ‪.7‬‬
‫‪ 293‬جلل مظهر‪ :‬حضارة السلم وأثرها في الترقي العالمي ص ‪ ،403 ،402‬وزكي محمد‬
‫حسن‪ :‬الرحالة المسلمون في العصور الوسطى ص ‪.64‬‬
‫ثم يفّند القزويني آراء علماء القرون الوسطى في أوروبا‬
‫ورجال الكنيسة الذين يقولون‪ :‬إن الرض لو كانت كرة لسقط الناس‬
‫في الجانب الخر منها‪ ،‬أو كانت رءوسهم مقلوبة‪ ..‬فيقول‪" :‬إن‬
‫دا مما يلي‬‫النسان في أي موضع يقف على سطح الرض فرأسه أب ً‬
‫دا مما يلي الرض‪ ،‬وهو يرى من السماء نصفها‪ ،‬وإذا‬ ‫السماء‪ ،‬ورجله أب ً‬
‫انتقل إلى موضع آخر ظهر له من جانب السماء الذي أمامه بقدر ما‬
‫كان قد خفي عنه من الجانب الخر‪.294"..‬‬
‫والعجيب ‪ -‬بعد كل ما سبق ‪ -‬أن بعض الكتب والمراجع العربية‬
‫مازالت تنقل عن المراجع الجنبية أن المسلمين لم يعرفوا نظرية‬
‫كروية الرض‪ ..‬وأن هذه النظرية لم تعلن إل بفضل "كوبرنيكوس" )‬
‫‪1473‬م – ‪1543‬م(!!‬
‫حسُبك الن مقارنة تاريخ وفاة كوبرنيكوس بأعوام وفّيات‬‫و َ‬
‫من؟؟!‬‫من أخذ م ّ‬‫علماء المسلمين الذين سبق ذكرهم؛ ليتبّين لك‪َ :‬‬
‫فقد أكد المسلمون ‪ -‬كما رأينا ‪ -‬وبتحفيز من كتاب ربهم وسّنة‬
‫نبّيهم ‪ -‬إثبات تلك الحقيقة الجغرافية عظيمة الهمّية‪ ،‬وذلك بعدما‬
‫عدت عليها ‪ -‬أو كادت ‪ -‬جهالت العصور المظلمة‪ ..‬وقد رأينا كيف‬
‫اّتسم البحث العلمي في عصور حضارتنا السلمية بالحّرّية الكاملة‬
‫ونزاهة الحوار وتحكيم التجربة‪..‬‬
‫من إنجازات المسلمين في علم الجغرافيا‬
‫ت أو غّربت في فروع علم الجغرافيا‪ ،‬فإّنك ‪ -‬ل ش ّ‬
‫ك‬ ‫حيثما شّرق َ‬
‫‪ -‬سترى بصمات العلماء المسلمين ‪ -‬الذين سعدت الدنيا بإنجازات‬
‫حضارتهم ‪ -‬فيها واضحة جلية‪ ،‬وقد استقرت بديهيات العلوم المختلفة‬
‫بحسن اعتمادهم على الله في توظيف طاقات العقول وإمكانات‬
‫البحث والتجريب والمشاهدة‪..‬‬
‫وستتوقف بنا الصفحات القادمة أمام بعض النجازات المبهرة‬
‫التي سبق إليها المسلمون في الجغرافيا‪ ،‬والتي ُتش ّ‬
‫كل معالم فارقة‬
‫في مسيرة هذا العلم عبر التاريخ النساني‪ ،‬القديم والحديث على حد‬
‫سواء‪..‬‬

‫القزويني‪ :‬عجائب المخلوقات ص ‪.35‬‬ ‫‪294‬‬


‫خطوط الطول وخطوط العرض‪:‬‬
‫ُيعد ّ المسلمون أول من وضع خطوط الطول وخطوط العرض‬
‫على خريطة الكرة الرضية‪ ،‬وقد وضعها العالم أبو علي المراكشي‬
‫)ت ‪660‬هق ‪1262 -‬م(؛ وذلك لكي يستدل المسلمون على الساعات‬
‫المتساوية في بقاع الرض المختلفة للصلة‪ ..‬كما وضع البيروني‬
‫قاعدة حسابية لتسطيح الكرة أي نقل الخطوط والخرائط من الكرة‬
‫إلى سطح مسطح وبالعكس‪ ..‬وبهذا سهل رسم الخرائط‬
‫الجغرافية‪.295‬‬
‫قياس محيط الرض‪:‬‬
‫كان أول من قام بمحاولة قياس أبعاد الكرة الرضية الخليفة‬
‫العباسي العالم المأمون )ت ‪218‬هق‪833 -‬م( فقد جاء بفريقين من‬
‫علماء الفلك والجغرافيا فريق برئاسة "سند بن علي"‪ ،‬وفريق بقيادة‬
‫"علي بن عيسى السطرلبي" )ويقال‪ :‬إن رئاسة أحد الفريقين كانت‬
‫لبني موسى بن شاكر‪ ،‬وهو ما ذكرناه في الفصل السابق( واتفق‬
‫معهما أن يذهبا إلى بقعتين مختلفتين على الدائرة العظمى من‬
‫محيط الرض شرًقا وغرًبا‪ ،‬ثم يقيسا مقدار درجة واحدة من خطوط‬
‫ط طول(‪..‬‬‫الطول )التي تبلغ ‪ 360‬خ ّ‬

‫ويحكي في ذلك ابن خلكان أن كل فريق اختار بقعة واسعة‬


‫ة‪،‬‬
‫ة ثابت ً‬
‫دا‪ ،‬واتخذ النجم القطبي نقط ً‬
‫ن منها وت ً‬
‫مسطحة‪ ،‬وركز في مكا ٍ‬
‫ثم قاس الزاوية بين الوتر وبين النجم القطبي والرض‪ ،‬ثم سار‬
‫شمال ً إلى مكان زادت فيه تلك الزاوية‪ ،‬وقاس كل فريق المسافة‬
‫بين الوتدين‪ ،‬وكانوا يقيسون المسافات على الرض بحبال يشدونها‬
‫على الوتاد‪..296‬‬
‫والعجيب أن النتائج جاءت دقيقة وقريبة مما توصل إليه العلم‬
‫المعاصر؛ فقد أخذ المأمون متوسط قياس الفريقين‪ ،‬فوجده ‪56.66‬‬
‫ل‪ .‬وعلى‬‫ميل ً تقريًبا‪ ،‬والذي توصل إليه العلم المعاصر هو ‪ 56.93‬مي ً‬
‫قياس المأمون هذا فإن محيط الرض يبلغ ‪ 20.400‬ميل‪ ،‬أي حوإلي‪:‬‬
‫‪41,248‬كم‪.‬‬
‫ومن خلل مقارنة هذه القيمة مع القيمة التي قيست بواسطة‬
‫القمار الصناعية في العصر الحديث‪ ،‬وهي ‪ 40.070‬كم‪ ،‬يتضح أن‬

‫‪ 295‬عبد الرحمن حميدة‪ :‬أعلم الجغرافيين العرب ص ‪ ،459‬جلل مظهر‪ :‬حضارة السلم وأثرها‬
‫في الترقي العالمي ص ‪.397‬‬
‫‪ 296‬ابن خلكان‪ :‬وفيات العيان ‪.5/162‬‬
‫نسبة الخطأ في قياسات فريق المأمون لم تتجاوز )‪ !!(% 3‬وهو أمر‬
‫جدير بالتقدير‪..297‬‬
‫ثم جاء "البيروني" فقام بتجربة جديدة على أساس مختلف‪..‬‬
‫بقياس النخفاض الرأسي من )قلل الجبال( في الهند‪ ،‬فجاءت شبيهة‬
‫بأرقام فلكيي المأمون فأثنى عليهم‪.298‬‬
‫قا ‪ -‬في‬
‫وفي ذلك يقول المستشرق "نللينو" ‪ -‬كما أشرنا ساب ً‬
‫كتابه )علم الفلك عند العرب(‪ :‬إن قياس العرب للكرة الرضية هو‬
‫أول قياس حقيقي ُأجري كله مباشرة مع كل ما تقتضيه تلك المسافة‬
‫الطويلة وهذا الفريق الكبير من العلماء والمساحين العرب‪ ،‬فهو يعد‬
‫من أعمال العرب المأثورة وأمجادهم العلمية‪!!299‬‬
‫دوران الرض حول نفسها‪:‬‬
‫في الوقت الذي كان العالم ل يتخيل فيه أن الرض كرة لم يكن‬
‫هناك من يناقش مسألة دوران الكرة حول نفسها‪ ..‬ولكن ثلثة من‬
‫علماء المسلمين كانوا أول من ناقش فكرة دوران الرض في القرن‬
‫الثالث عشر الميلدي )السابع الهجري( وهم "علي بن عمر الكاتبي"‬
‫و"قطب الدين الشيرازي" من الندلس و"أبو الفرج علي" من‬
‫سوريا‪ ..‬فقد كان هؤلء الثلثة أول من أشار في التاريخ النساني إلى‬
‫احتمال دوران الرض حول نفسها أمام الشمس مرة كل يوم وليلة‪..‬‬
‫وعن هؤلء العلماء يقول "سارتون"‪ :‬إن أبحاث هؤلء العلماء‬
‫سدى‪ ،‬بل كانت أحد العوامل التي‬‫الثلثة في القرن ‪ 13‬لم تذهب ُ‬
‫أثرت على أبحاث "كوبرنيكوس" في نظريته التي أعلنها سنة‬
‫‪1543‬م‪.300‬‬
‫علم الخرائط‪:‬‬
‫كر أحد ٌ أن الغرب قد استفاد من مجهودات المسلمين في‬ ‫ل ُين ِ‬
‫علم الجغرافيا عامة أّيما استفادة‪ ..‬إل أن )أطلس السلم( أو‬
‫الخرائط السلمية كانت في مقدمة مظاهر التأثير السلمي المباشر‬
‫في الحضارة الغربية‪.‬‬
‫طف )الغرب( مؤّلف "الدريسي" )نزهة المشتاق في‬ ‫فقد تخ ّ‬
‫اختراق الفاق( وقاموا بطباعته طبعات كثيرة ومختلفة‪ ،‬حتى ظل هذا‬

‫‪ 297‬انظر في ذلك يوهانس فيلرز‪ :‬كنوز علم الفلك‪ ،‬المتحف القومي اللماني ‪ -‬نورنبرج‪1983 ،‬‬
‫ص ‪. 25‬‬
‫‪ 298‬قدري طوقان‪ :‬تراث العرب العلمي ص ‪.63‬‬
‫‪ 299‬نللينو‪ :‬علم الفلك عن العرب‬
‫‪ 300‬سارتون‪ :‬مقدمة في تاريخ العلم ‪.1/46‬‬
‫الكتاب مصدًرا أساسّيا لدارسي الجغرافيا الوروبيين على مدار أكثر‬
‫من أربعة قرون!!‬
‫صمم "الدريسي" خريطته )انظر خريطة رقم ‪ (1‬على الطريقة‬
‫العربية في ذلك الوقت‪ ,‬حيث بدأ بالجنوب في أعلى الخريطة‪ ,‬ثم‬
‫انتقل إلى الشمال في أسفلها‪ ..‬وتتكون مخطوطة الخريطة من ‪70‬‬
‫ورقة )‪21×33‬سم( تصل إلى نحو خمسة أمتار مربعة‪.‬‬

‫مل َ ّ‬
‫ونة منها‬ ‫وقد قام العالم اللماني "كونراد ميلر" بنشر نسخة ُ‬
‫سنة ‪1928‬م‪ ,‬بعد أن بذل مجهوًدا خارًقا من أجل تجميع أجزائها‬
‫م المجمع‬ ‫المختلفة‪ ,‬وترجمة السماء العربية إلى اللمانية‪ ..‬ثم اهت ّ‬
‫العراقي بهذا الكتاب؛ فعمل باحثوه على مراجعة وتدقيق كل النسخ‬
‫الموجودة في العالم‪ ،‬وأخرجوا خريطة الدريسي وطبعوها سنة‬
‫‪1951‬م وهي بطول مترين وعرض متر واحد‪..301‬‬
‫تصحيح أخطاء السابقين‪:‬‬
‫بين أيدينا الن شهادة لمؤرخ غربي مشهور هو "جوستاف‬
‫لوبون" الذي ستؤكد كلماته ما سبق بخصوص تفوق المسلمين في‬
‫مجال الخرائط‪ ..‬إلى جانب أنها ستضيف إلى عظمة إسهامات‬
‫دا بالغ الهمية‪..‬‬
‫دا جدي ً‬
‫المسلمين في الجغرافيا ُبع ً‬
‫يقول "جوستاف لوبون"‪" :‬يكفي أن نشير إلى ما حققه العرب‬
‫في الجغرافيا لثبات قيمتهم العالية؛ فالعرب هم الذين عي ُّنوا‬
‫طا في الخرائط‪،‬‬ ‫بمعارفهم الفلكية مواقع الماكن تعييًنا مضبو ً‬
‫فصححوا بذلك أغاليط علماء اليونان‪ ،‬والعرب هم الذين نشروا‬
‫رحلتهم الممتعة عن بقاع العالم التي كان يشك الوربيون في‬
‫وجودها‪ ،‬والعرب هم الذين وضعوا الكتب الجغرافية التي جاءت‬
‫ناسخة لما تقدمها‪ ،‬فاقتصرت أمم الغرب عليها وحدها قروًنا‬
‫كثيرة‪.302"...‬‬
‫دمه‬
‫فالروعة والنجاز ل يتجسدان فقط في الجديد الذي ق ّ‬
‫الجغرافيون المسلمون للعالم‪ ..‬وإنما يتجسد النجاز وتتجّلى الروعة‬
‫كذلك في التصويب والتعديل الذي عاد به عباقرة الجغرافيين‬
‫المسلمين على التراث الجغرافي اليوناني‪.‬‬
‫لقد وقع "بطليموس" ‪ -‬على الرغم من براعته المعروفة ‪ -‬في‬
‫العديد من الخطاء عند تحديد الطوال والعراض‪ ،‬ومن هذه الخطاء‪:‬‬
‫أنه بالغ كثيًرا في تحديد طول البحر المتوسط‪..‬‬

‫قدري حافظ طوفان‪ :‬علماء العرب وما أعطوه للحضارة ص ‪.199‬‬ ‫‪301‬‬

‫محمود الشرقاوي‪ :‬السلم وأثره في الثقافة العالمية ص ‪ ،97‬نقل ً عن حضارة العرب‪.‬‬ ‫‪302‬‬
‫وبالغ في تحديد امتداد الجزء المعمور من الرض المعروف له‪..‬‬
‫وجعل المحيط الهندي والهادي بحيرة!!! وذلك عندما وصل‬
‫جنوبي آسيا بجنوبي أفريقيا‪..‬‬
‫وبالغ في تحديد حجم جزيرة "سيلن"‪..‬‬
‫وأخطأ في وضع بحر قزوين والخليج العربي خ ً‬
‫طا فاح ً‬
‫شا‪..303‬‬
‫وقد صحح المسلمون كل هذه الخطاء وغيرها‪ ،‬ولم يأخذ‬
‫الغرب هذه التعديلت إل عنهم‪ ..‬ومن هنا يتجّلى دور المسلمين في‬
‫وهات العلمية والمنهجّية‪ ..‬كما‬
‫إنقاذ الدراسات الجغرافّية من التش ّ‬
‫رأينا من قبل دورهم في إنقاذها من بطش السلطة الكنسّية‬
‫الغاشم‪..‬‬
‫وقد بدأت تلك المسيرة التصحيحية منذ عهد الخليفة "المأمون"‬
‫)ت ‪218‬هق ‪833 -‬م(‪..‬‬
‫فقد أسدت الخريطة المأمونية )انظر خريطة رقم ‪ (3‬التي أمر‬
‫ما‪ ،‬رغم ضعف‬ ‫علماء عصره بتنفيذها‪ ،‬إلى الحضارة الغربية فضل ً عظي ً‬
‫إمكانات المسلمين من حيث الجهزة الجغرافية في ذلك العصر‪،‬‬
‫وقام المسلمون بإدخال الكثير من التعديلت المهمة على خريطة‬
‫سنوها وأضافوا إليها الكثير من‬
‫بطليموس )انظر خريطة رقم ‪ ،(2‬وح ّ‬
‫التصحيحات الجوهرية‪..‬‬
‫وقد أقبل الغرب على عطاء الجغرافيين المسلمين بشغف‬
‫واهتمام بالغين؛ فلم يكن الوروبيون حتى بداية القرن الخامس عشر‬
‫يرجعون إل إلى الجغرافيا السلمية كما يقرر "كراتشكوفسكي"‪..‬‬
‫وقد ظلت الكارتوغرافيا الوروبية )علم الخرائط( تعتمد على خارطة‬
‫الدريسي حتى قبيل القرن الخامس عشر الميلدي‪..304‬‬
‫ل‪ ،‬فإنه منذ وقت الدريسي ‪1150‬م إلى حوإلى ‪1450‬م‬ ‫وإجما ً‬
‫سا من الجغرافيا السلمية‪ ..‬إل أن‬ ‫دت الجغرافيا الوروبية رأ ً‬ ‫م ّ‬
‫است ُ ِ‬
‫ول عنصرّيا أصاب الفكر الوروبي فيما بين )‪1450‬م( إلى )‬ ‫تح ّ‬
‫‪1550‬م(‪ ،‬فنهضت حملة ضد المسلمين ل أساس لها من العلم‪،‬‬
‫وأسفرت عن تحول الجغرافيين الوروبيين إلى جغرافيا‬
‫"بطليموس"!! ولما كان استمرار هذا المر غير منطقي فقد اضطّرُ‬
‫ة إلى هجر بطليموس‪..305‬‬ ‫العلماء ثاني ً‬

‫جلل مظهر‪ :‬حضارة السلم ص ‪.393،390‬‬ ‫‪303‬‬

‫جلل مظهر‪ :‬حضارة السلم ص ‪.405‬‬ ‫‪304‬‬

‫جلل مظهر‪ :‬حضارة السلم وأثرها في الترقي العالمي ص ‪.412 ،411‬‬ ‫‪305‬‬
‫ن إسهامات المسلمين في الجغرافيا محيط واسع‪..‬‬ ‫والحقّ أ ّ‬
‫ربما بقدر سعة الماد المذهلة التي بلغتها رحلت علمائهم‬
‫الستكشافية بّرا وبحًرا‪ ...‬وهو الجانب الذي ستحاول الصفحات‬
‫القادمة الوقوف بنا أمامه‪..‬‬
‫المسلمون والكشوف الجغرافية‬
‫لم تكن النهضة الجغرافية السلمية لتظهر لول جهود مضنية ‪-‬‬
‫بعد توفيق الله ‪ - ‬قام بها العديد من العلماء الفذاذ الذين مّر بنا نبأ‬
‫بعضهم في صفحات سابقة‪..‬‬
‫ولم تكن جهود أولئك العلماء حبيسة الجدران‪ ،‬ول أسيرة‬
‫خيالت أو موروثات بإلية‪ ..‬بل كان السير في الرض والضرب في‬
‫ضا‪ ،‬والنظر عن قرب إلى طبائعها في شتى البقاع‪،‬‬ ‫مناكبها طول ً وعر ً‬
‫وملمح الحياة المتباينة فوق كل شبر منها‪ ..‬كان كل ذلك هو الطابع‬
‫المميز للدراسات الجغرافية عند المسلمين‪..‬‬
‫فر أتباعه من التعويل على الظن الذي "ل‬ ‫ول عجب؛ فالسلم ُين ّ‬
‫ُيغني من الحق شيًئا"‪ ،‬ويدعو في أكثر من موضع إلى العتماد على‬
‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫هان َك ُ ْ‬ ‫الحق والبرهان‪ُ  :‬‬
‫‪306‬‬
‫ن‪‬‬
‫قي َ‬
‫صاِد ِ‬
‫م َ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫هاُتوا ب ُْر َ‬ ‫ل َ‬ ‫ق ْ‬
‫ن‪.307‬‬
‫قي َ‬ ‫صاِد ِ‬‫م َ‬ ‫عل ْم ٍ إ ِ ْ‬
‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫‪‬ن َب ُّئوِني ب ِ ِ‬
‫وفيما يلي أهم اكتشافات جغرافي المسلمين‪:‬‬
‫استكشاف القارات‪:‬‬
‫‪ (1‬في آسيا‪:‬‬
‫كان أقصى ما يعرفه الغريق عن شرقي آسيا هو منطقة‬
‫سيراداريا )بأوزباكستان حالًيا(‪ ..‬وهي أقصى منطقةٍ وصل إليها‬
‫"السكندر الكبر" في فتوحاته )سنة ‪ 323‬ق‪.‬م(‪..‬‬
‫فلما جاء المسلمون تعد ّْوا هذه الحدود‪ ،‬وتمكنوا من عبور جبال‬
‫)تيان شاه(‪ ،‬والتوغل مئات الميال إلى الشرق منها‪ ،‬فوقعت كل مدن‬
‫وسط آسيا كبخارى وسمرقند وفرغانة وكشغر )وهي إحدى الوليات‬
‫الصينية( تحت نفوذهم منذ عام )‪86‬هق ‪705 -‬م(‪ ..‬وقد انتشر السلم‬
‫في هذه المناطق وبقي فيها حتى يومنا هذا‪ ،‬وكان الخلفاء يرسلون‬
‫الوفود إلى ملوك الصين والتبت وسائر آسيا يدعونهم إلى‬
‫السلم‪..308‬‬

‫)البقرة‪.(111 :‬‬ ‫‪306‬‬

‫)النعام‪.(143 :‬‬ ‫‪307‬‬

‫فهمي هويدي‪ :‬السلم في الصين‪.‬‬ ‫‪308‬‬


‫وقد اكتشف المسلمون عن طريق أساطيلهم التجارية التي‬
‫كانت ُتبحر من ميناء عدن إلى ميناء كانتون بالصين أن بحر الصين‬
‫يتصل بالمحيط الهندي‪ ،‬كما اكتشفوا بحيرة )آرال( شمإلى شرق‬
‫ت لول مرة على الخرائط المأمونية في عهد المأمون‬ ‫ضعَ ْ‬
‫قزوين‪ ،‬فوُ ِ‬
‫باسم )بحيرة خوارزم(‪ ،‬وقد زار "البيروني" )ت‪440:‬هق ‪1048 -‬م(‬
‫مى نهر أنجارا )الواقع شمال غرب‬ ‫س ّ‬
‫سيبيريا الشرقية‪ ،‬وكان أول من َ‬
‫ي سيبيريا(‪ ..‬كما أنه عاش في الهند قَُرابة عشرين‬‫بحيرة بيكال شرق ّ‬
‫ما؛ فأبدع في وصفها بما لم يسبقه إليه أحد‪ ..‬وذلك في كتابه )ما‬ ‫عا ً‬
‫للهند من مقولة( ‪.‬‬
‫‪309‬‬

‫‪ (2‬في أوروبا‪:‬‬
‫لقد عرف المسلمون أوروبا رغم تخلفها وخمولها الحضاري في‬
‫ذلك الوقت؛ ففي عام )‪308‬هق ‪921 -‬م( ذهب "ابن فضلن" رسول ً‬
‫من قَِبل الخليفة العباسي "المقتدر" إلى بلد البلغار في الفولجا‬
‫)تطلق عند العرب على بلد الصقالبة الروس وعلى عاصمتهم التي‬
‫تقع شرقي نهر الفولجا(‪ ,‬كما وصف البيروني بلد )الفرنج( وهم‬
‫النرويج والسكندنافيون‪ ،‬ووصف )بحر الثلج( وهو القطب الشمإلي‪,‬‬
‫كما عرف المسلمون "بلد الغال" وهي فرنسا‪..310‬‬
‫وقد ع ُِثر حديًثا على عملت إسلمية في كل من روسيا‬
‫وإسكندنافيا تعود إلى العصر العباسي!!‬
‫‪ (3‬في أفريقيا‪:‬‬
‫توقفت معلومات الغريق والرومان في إفريقيا على البلد‬
‫ضا أمام‬
‫الساحلية وحدها‪ ،‬أما قلب القارة السوداء فقد بقي غام ً‬
‫حالة أو سفراء‪ ..‬فاستكشفوا‬‫العالم حتى وصله المسلمون كتجار أو ر ّ‬
‫القارة الغامضة‪ ،‬ونشروا السلم في السودان والسنغال والنيجر‬
‫وغيرها‪ ..‬وكانوا أول من اكتشف مدغشقر‪ ،‬وقد وصلت مراكبهم من‬
‫الندلس والجزائر إلى الصومال وزنجبار وموزمبيق وجزائر الكومور‪..‬‬
‫سّباقة أنهم أول من اكتشف‬
‫ومما ُيعد من إنجازات المسلمين ال َ‬
‫منابع نهر النيل العظيمة قبل أن تصل إليها حملت الستكشاف‬
‫البريطانية بعدة قرون؛ فقد ذكر الرحالة البريطاني "ستانلي" أنه في‬
‫رحلته لكتشاف منابع النيل قد وجد التجار العرب قد سبقوه‪ ,‬وأن‬
‫القبائل الفريقية تدين بالسلم!!‬
‫الكتشافات البحرية‪:‬‬

‫نفيس أحمد ترجمة‪ :‬فتحي عثمان‪ :‬الفكر الجغرافي في التراث السلمي ص ‪.44‬‬ ‫‪309‬‬

‫نفيس أحمد ترجمة ‪ /‬فتحي عثمان‪ :‬الفكر الجغرافي في التراث السلمي ص ‪.44‬‬ ‫‪310‬‬
‫ُيعت ََبر اكتشاف "كريستوفر كولومبوس" لأمريكا عام ‪1492‬م‪،‬‬
‫واكتشاف "فاسكو دي جاما" لطريق الهند البحري عام ‪1497‬م من‬
‫أكثر الكشوف الجغرافية تأثيًرا في مجرى التاريخ النساني‪ ..‬وبالرغم‬
‫من مرور ما يزيد على خمسمائة عام على هذين الكشفين إل أن‬
‫سم بعد حول أسبقيتهما‪..‬‬ ‫الجدل لم ُيح َ‬
‫فهل كان "كريستوفر كولومبوس" ذلك البحار اليطإلى هو أول‬
‫مكتشف للسواحل المريكية بالفعل؟؟‬
‫سّر وراء انطلق رحلته من أسبانيا التي كانت قد فرغت‬
‫وما ال ّ‬
‫للتوّ من القضاء على الوجود السلمي في أراضيها؟‬
‫ن معه من آلف الوثائق العلمية‬‫م ْ‬
‫فد "كولومبوس" و َ‬
‫ألم يست ِ‬
‫والخرائط السلمية التي وضع السبان أيديهم عليها من ميراث‬
‫الحضارة السلمية الطويل؛ فأحرقوا بعضها‪ ،‬واستولوا على البعض‬
‫الخر مما لم يظهر بعد ذلك إل حديًثا في مكتبة السكوريال في‬
‫مدريد‪..‬؟؟‬
‫وما حقيقة الهداف التي حركت الكشوف البحرية الوروبية‬
‫على نحو كثيف ومتزامن‪..‬؟؟!‬
‫إننا في السطور القادمة سنحاول ‪ -‬بإذن الله ‪ -‬إلقاء الضوء‬
‫على حقيقة هذا المر‪..‬‬
‫فمنذ أعلن المسلمون كروية الرض‪ ،‬وأثبتوا ذلك بالبراهين‬
‫الفلكية والحسابية بدأت الشارات تظهر في كتبهم إلى أنه لبد من‬
‫شف‬ ‫وجود جزر معمورة في الوجه الخر من الكرة الرضية لم ُتكت َ َ‬
‫بعد‪ ،‬وقد ب ُن َِيت هذه النظرية على أنه ليس من المعقول أن يكون أحد‬
‫ن‬‫سطحي الكرة يابسة بالكامل بينما يغطي الماء الجانب الخر؛ ل ّ‬
‫هذا سيؤدي إلى اختلل توازن الرض وانتظام دورانها‪..311‬‬
‫وقد كان "البيروني" أول من أشار إلى هذه الحقيقة وب َ ّ‬
‫شر بها‬
‫في كتبه‪ ،‬وبناًء على هذه النظرية ابتدأت مغامرات الكشف الجغرافي‬
‫التي جاء ذكرها في مخطوطات كبار الجغرافيين المسلمين‪ ،‬ومنهم‬
‫"المسعودي" في كتابه )مروج الذهب‪ (..‬و"الدريسي" في كتابه‬
‫)نزهة المشتاق‪ (..‬وغيرهما‪..‬‬
‫وأول إشارة في ذلك تقول‪ :‬إن بحاًرا عربّيا أندلسّيا‬
‫اسمه"خشخاش البحري" أبحر بسفينته من "لشبونة" إلى الغرب في‬
‫بحر الظلمات )المحيط الطلنطي( )سنة ‪235‬هق تقريًبا ‪850 -‬م( وقد‬
‫اكتشف في هذا البحر جزيرة مأهولة بالسكان أحضر منها الهدايا إلى‬
‫جلل مظهر‪ :‬حضارة السلم ص ‪.397،396‬‬ ‫‪311‬‬
‫حاكم الندلس "عبد الرحمن الثاني" الذي كافأه بتعيينه أميًرا للبحرية‬
‫السلمية‪ ..‬وقد اسُتشِهد هذا الرجل في معركة بحرية مع قرصان‬
‫)الفايكنج(‪.312‬‬
‫أما الشارة الثانية فتذكر أن جماعة من عرب المغرب الفريقي‬
‫قد خرجوا إلى بحر الظلمات نحو تلك الجزيرة‪ ،‬وكان ذلك في القرن‬
‫الرابع الهجري )العاشر الميلدي( ولم ي َعُد ْ أحد ٌ منهم ولم يسمع عنهم‬
‫أي خبر!!‬
‫دث عنهم‬ ‫ثم يتلو ذلك قصة "الفتية المغّررين" الذين تح ّ‬
‫المسعودي والدريسي‪ ،‬وتقول هذه القصة‪ :‬إن ثمانية من الشباب‬
‫العرب في مدينة لشبونة من عائلة واحدة من البحارة‪ ...‬قرروا‬
‫المغامرة )في بحر الظلمات( بحًثا عن تلك الجزر التي هلك من‬
‫سبقوهم دون خبر عنها‪ ..‬وأن أهل المدينة أطلقوا عليهم لقب )الفتية‬
‫المغررين( نسبة إلى )الغُّرة( أي )المقدمة( وليس المغرورين نسبة‬
‫إلى )الغرور( كما جاء في بعض المراجع‪ ،‬فمن ذلك ما ذكره‬
‫"المسعودي" في كتابه )مروج الذهب( عن أخبار )من خاطر بنفسه‬
‫في ركوبه ‪ -‬أي المحيط الطلسي ‪ -‬ومن نجا منهم ومن تلف‪ ،‬وما‬
‫شاهدوا منه وما رأوا‪..313‬‬
‫وعندما يوِرد "الدريسي" هذه القصة يذكر أن هؤلء الفتية‬
‫الثمانية عندما عادوا إلى الندلس احتفي بهم أهل لشبونة‪،‬‬
‫واستقبلوهم بالزينات والفراح‪ ..‬وأطلقوا على الشارع الذي يسكنون‬
‫فيه اسم )شارع الفتية المغّررين(‪ ،‬كان ذلك في أواخر القرن العاشر‬
‫الميلدي‪ ..‬ثم ظل هذا السم معروًفا بعد ذلك في لشبونة لمئات من‬
‫السنين‪.314‬‬
‫كانت هذه صورة موجزة لما أورده جغرافيو الندلس عن سبق‬
‫العرب لكتشاف أمريكا‪ ..‬يعضدها ما ذكره العالم المؤرخ اللغوي‬
‫"الب أنستاس الكرملي" من أن العرب قد وصلوا أمريكا من لشبونة‬
‫قبل "كولومبوس" بفضل معرفتهم لتيار الخليج الحار في الطلسي‪،‬‬
‫سب َقَ العرب سائر المم إلى معرفة هذا التيار وخواصه‪،‬‬
‫فيقول‪َ " :‬‬
‫وإلى حركته من المكسيك إلى إيرلندا وبالعكس‪. "..‬‬
‫‪315‬‬

‫على أن هناك إشارة تظهر في أقوال "كولومبوس" نفسه؛‬


‫حيث يذكر أنه كان يعتقد أو َ‬
‫ل المر أن الهنود الحمر الذين رآهم في‬
‫تلك الجزر لبد أن يكونوا من سللة العرب "الذين سبقوه‪ "..‬كما قرأ‬
‫‪ 312‬انظر‪ :‬المسعودي‪ :‬مروج الذهب ‪.1/45‬‬
‫‪ 313‬انظر‪ :‬المسعودي‪ :‬مروج الذهب ‪.1/45‬‬
‫‪ 314‬انظر‪ :‬المسعودي‪ :‬مروج الذهب ‪.1/45‬‬
‫‪ 315‬الب انستاس الكرملي‪ :‬عرف العرب أمريكا قبل أن يعرفها الغرب‪ ،‬نشر هذا البحث في‬
‫مجلة المقتطف عدد ‪ ،106‬وأشار إليه العقاد في كتابه أثر العرب في الحضارة ص ‪.47‬‬
‫في المخطوطات العربية‪ ..‬وقد قامت )الجمعية الجغرافية البريطانية(‬
‫بإنتاج مسلسل تليفزيوني وثائقي بعنوان )المكتشفون( وفيه حلقة‬
‫مستقلة عن "كولومبوس" واكتشافاته‪ ،‬وهي تبين أنه قد اختار أحد‬
‫رجاله الذين يعرفون اللغة العربية )لنه مقن أصل عربي( وبعث معه‬
‫برسالة إلى ملك الهنود الحمر ك ُت ِب َ ْ‬
‫ت باللغة العربية يقول فيها‪" :‬يا‬
‫صاحب الجللة‪ ..‬إن الملكة "إيزابيل" ملكة أسبانيا وقشتالة تهديك‬
‫السلم‪ ،‬وتطمع أن يكون بينها وبين بلدك علقات صداقة‪ ..‬الخ" ‪.‬‬
‫‪316‬‬

‫إل أن أكثر تلك الشارات إبهاًرا وإثارة للدهشة هي تلك‬


‫الخريطة التي اكتشفها المستشرق اللماني ‪ Kahle‬في مكتبة )طوب‬
‫كابي سراي( بإسطنبول‪ ،‬ونشرها على العالم سنة ‪1929‬م بعد‬
‫تحقيق علمي دولي استمر عدة سنوات‪..‬‬
‫فقد حّيرت هذه الخريطة )انظر خريطة رقم ‪ (4‬العلماء‬
‫وأذهلت العالم‪ ..‬وهي من تأليف جغرافي تركي مسلم هو "بيري‬
‫ريس" واسمه الكامل "محيي الدين بن محمد الريس" )ت ‪1513‬م(‪،‬‬
‫وكان أحد قادة البحرية في السطول التركي الذي كان سيد البحار‬
‫في تلك الونة‪ ..‬وهذه الخريطة تنقسم في الواقع إلى عدة خرائط‬
‫مفردة؛ فهي تبين شرقي المحيط الطلسي حيث السواحل السبانية‬
‫والفريقية الغربية‪ ...‬أما في غربي المحيط فأنت ترى القارة‬
‫المريكية بسواحلها وجزرها وموانيها وحيواناتها‪ ..‬فضل ً عن سكانها‬
‫الصليين )الهنود الحمر( الذين يرسمهم عراة ً وهو يرعون الغنم‪.‬‬
‫ويذكر المستشرق "كراتشكوفسكي" في كتابه )تاريخ الدب‬
‫الجغرافي العربي( تعليل ً لهذه الخريطة أنه لبد أن يكون "الريس" قد‬
‫بناها على أساس خرائط "كولومبوس" التي ربما تكون قد سقطت‬
‫في يده عندما انتصر السطول التركي على أسطول البندقية سنة‬
‫سَر بعض سفنه‪..317‬‬ ‫َ‬
‫‪1499‬م‪ ،‬وأ َ‬
‫إل أن هذا الرأي يلقي معارضة من كثير من الباحثين؛ لن‬
‫الخريطة بها تفاصيل لماكن لم يعرفها "كولومبوس"‪ ،‬ولم يكن‬
‫اكتشفها‪ ،‬ولكن هؤلء الباحثين لم يقدموا تعليل ً بديل ً يكشف ِ‬
‫سّر هذه‬
‫الخريطة الغامضة‪.‬‬
‫اكتشاف القارة السادسة في القطب الجنوبي!!‬
‫إن أعجب ما في خرائط "بيري ريس" أنها عادت لتشغل‬
‫العلماء بعد عصر رحلت الفضاء وتصوير الرض من القمار الصناعية؛‬
‫فقد كان العتقاد الول لدى علماء الخرائط في أمريكا وأوروبا في‬
‫القرن العشرين أن الخرائط غير دقيقة‪ ،‬وأن بها أخطاًء في الرسم‬
‫زينب عصمت راشد‪ :‬تاريخ أوروبا الحديث‪ ،‬القاهرة ص ‪ ،47‬دار الفكر العربي ‪.1998‬‬ ‫‪316‬‬

‫كراتشوفسكي‪ :‬تاريخ الدب الجغرافي العربي ‪ 2/562‬النسخة العربية ‪.‬‬ ‫‪317‬‬


‫حسب أحدث معلوماتهم عن الشاطئ المريكي‪ ..‬ولكنهم فوجئوا بعد‬
‫ظهور أول صورة مأخوذة من القمر الصناعي لهذه المناطق أن‬
‫خرائط "محي الدين الريس" أدقّ من كل ما عرفوه وتصوروه!!‪..‬‬
‫ما صور القمر الصناعي‪ ،‬وأن معلوماتهم هي التي‬
‫وأنها تطابق تما ً‬
‫كانت خاطئة‪.‬‬
‫وعلى أثر ذلك عكف فريق من العلماء في وكالة الفضاء‬
‫المريكية على إعادة دراسة الخرائط مقطعًيا بعد تكبيرها عدة مرات‪،‬‬
‫فكانت المفاجأة الثانية‪ ..‬وهي أن "بيري ريس" قد وضع في خرائطه‬
‫القارة السادسة في القطب الجنوبي والمسماة ‪ Antarctica‬قبل‬
‫اكتشافها بأكثر من قرنين!!‪ ..‬كما أنه وصف جبالها ووديانها التي لم‬
‫تكتشف حتى سنة ‪1952‬م!! )انظر خريطة رقم ‪.318( 5‬‬
‫يحكي الكاتب "إريك فون دانيكن" في كتابه ‪Chariots of the"319‬‬
‫سّلمت إلى الدكتور "ماليري‬ ‫‪ "?gods‬أن خرائط "بيري ريس" ُ‬
‫آرلنجتون" أستاذ الخرائط الجغرافية في الجامعات المريكية الذي‬
‫قّرر بعد فحص دقيق أنها تحتوي على كل الحقائق الجغرافية حول‬
‫ك في وجود خطأ أو عدم دقة في بعض الماكن‪..‬‬ ‫أمريكا‪ ..‬ولكنه ش ّ‬
‫فطلب الستعانة بجغرافيي السطول المريكي الذين أظهرت‬
‫دراساتهم أن خرائط "بيري ريس" قد نقلت الطبوغرافيا الداخلية‬
‫للقارات )أي التضاريس( بدقة مذهلة؛ فتظهر فيها الجبال والنهار‬
‫ذت من الفضاء الخارجي‪!!..‬‬ ‫والسهول وكأنما أ ُ ِ‬
‫خ َ‬
‫وفي سنة ‪1957‬م عكف فريق من علماء الجغرافيا بالمراصد‬
‫الكبرى والبحرية المريكية على مزيد من دراسة خرائط "الريس"‪..‬‬
‫وبعد دراسات على أجهزة متطورة وجدوا أن صوره عن القارة‬
‫السادسة ‪ Antarctica‬صحيحة ودقيقة بدرجة مذهلة‪ ..‬حتى بالنسبة‬
‫مل اكتشافها في عصرنا الحاضر!! فالجبال‬ ‫للمناطق التي لم ُيستك َ‬
‫ما‬
‫شف حتى عام ‪1952‬م‪ ..‬فهي دائ ً‬ ‫ْ‬
‫على قارة القطب الجنوبي لم ت ُكت َ َ‬
‫مغطاة بطبقة سميكة من الثلوج بحيث إن اكتشاف وجودها على‬
‫الخرائط الحديثة كان باستعمال أجهزة صدى الصوت ‪Echo-Sounding‬‬
‫‪. . apparatus‬‬
‫ضا هو اهتمام وكالة الفضاء المريكية‬
‫والجدير بالذكر هنا أي ً‬
‫ما الصور‬
‫بمواصلة دراسة هذه الخرائط‪ ،‬حيث اتضح أنها تشبه تما ً‬
‫المأخوذة للكرة الرضية من مركبة فضائية أثناء مرورها فوق منطقة‬
‫القارة القطبية الجنوبية‪ ،‬وهي صور تغطي مسافة )خمسة آلف ميل(‬

‫‪ 318‬إريك فون دانكين‪ :‬عربات اللهة ص ‪.29‬‬


‫دث عن سفن الفضاء‪ ،‬ونقتبس المعلومات منه رغم‬ ‫‪ 319‬اسم الكتاب‪ :‬عربات اللهة‪ ،‬وهو يتح ّ‬
‫اعتراضنا على اسمه؛ لن الحكمة ضاّلة المؤمن؛ أّنى وجدها فهو أحقّ الناس بها‪.‬‬
‫فوجدوا تشابًها مذهل ً بين صور القمر الصناعي وبين خريطة "بيري‬
‫ريس"‪!!320‬‬
‫فلكم هو مذهل تتّبع جهود المسلمين في اكتشاف الرض من‬
‫فح ثمار تلك الجهود!!‪..‬‬
‫مبهر تص ّ‬
‫حولهم‪ ..‬وكم هو ُ‬
‫ويبقى أن نقرر ‪ -‬أخيًرا ‪ -‬أن استشعار خلفة الله في هذه‬
‫الرض لبد أن يكون له أكبر الثر في بعث تلك الحركة الهائلة‬
‫للكشوف والرحلت الجغرافية‪ ،‬التي جابت أقطار المعمورة في تلك‬
‫العصور البعيدة‪..‬‬
‫ضا ‪ -‬أن نقرر أن اهتداء المسلمين بكتاب ربهم قد كان‬ ‫ولبد ‪ -‬أي ً‬
‫له أكبر الثر في هذا السير الفريد في جنبات الرض‪ ..‬حيث يقول‬
‫خل ْ َ‬
‫ق‬ ‫ف ب َدَأ َ ال ْ َ‬‫فان ْظُُروا ك َي ْ َ‬‫ض َ‬ ‫ْ َ‬
‫في الْر ِ‬ ‫سيُروا ِ‬ ‫ل ِ‬ ‫ق ْ‬‫سبحانه‪ُ  :‬‬
‫عَلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫شأةَ اْل َ ِ‬
‫ء َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ثُ ّ‬
‫‪321‬‬
‫ديٌر‪. ‬‬ ‫ق ِ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه َ‬ ‫خَرةَ إ ِ ّ‬ ‫ئ الن ّ ْ‬‫ش ُ‬‫ه ي ُن ْ ِ‬

‫إريك فون دانيكن‪ :‬عربات اللهة ص ‪.29‬‬ ‫‪320‬‬

‫)العنكبوت‪.(20 :‬‬ ‫‪321‬‬


‫المبحث الرابع‪ :‬علم البصريات في الحضارة‬
‫السلمية‬
‫كغيره من العلوم التي ظهرت قبل المسلمين‪ ،‬كان لليونانيين‬
‫وغيرهم من الشعوب القديمة اهتمام بعلم البصريات‪ ،‬وكان لهم فيه‬
‫آثار طيبة اتكأ عليها المسلمون عند ممارستهم لهذا العلم‪ ،‬فقد نقلوا‬
‫عن اليونان آراءهم في انكسار الضوء‪ ,‬والمرايا المحرقة وغيرها‪,‬‬
‫ولكنهم لم يقتصروا على مجرد النقل بل توسعوا وأضافوا إضافات‬
‫مبهرة من ابتكاراتهم‪ ،‬واستطاعوا أن يسطروا في علم البصريات‬
‫خا مشرًفا‪.‬‬‫تاري ً‬
‫ففي أول المر كانت البصريات الغريقية تحوي رأيين‬
‫متعارضين‪ :‬الول‪ :‬هو الدخال‪ ،‬أي دخول شيء ما يمثل الجسم إلى‬
‫العينيين‪ ،‬والثاني‪ :‬النبعاث‪ ،‬أي حدوث الرؤية )البصار( عندما تنبعث‬
‫أشعة من العينيين وتعترضها الجسام المرئية‪.‬‬
‫وقد ظلت الحضارة الغريقية تتناول البصريات بأخذ ٍ ورد ٍ بين‬
‫هذين الرأين‪ ،‬وكانت مجهودات أرسطو تفتقر إلى تفصيل حتمي‪،‬‬
‫وكذلك إقليدس رغم مجهوداته الملموسة‪ ،‬إل أن نظرياته كانت‬
‫قاصرة على تقديم شرح كامل للبصار؛ لنها أغفلت العناصر‬
‫الفيزيائية والفسيولوجية والسيكولوجية للظواهر البصرية‪ ،‬حيث ذهب‬
‫إلى أن العين ُتحدث في الجسم الشفاف المتوسط بينها وبين‬
‫عا ينبعث منها‪ ،‬وأن الشياء التي يقع عليها هذا الشعاع‬ ‫المبصرات شعا ً‬
‫صر‪ ،‬والتي ل يقع عليها ل تبصر‪ ،‬وأن الشياء التي تبصر من زاوية‬ ‫ت ُب ْ َ‬
‫كبيرة ُترى كبيرة‪ ،‬والتي تبصر من زاوية صغيرة ترى صغيرة‪.‬‬
‫أما بطليموس فرغم إبداعه في التوفيق بين التناول الهندسي‬
‫والتناول الفيزيائي إل أنه فشل في نهاية المر؛ لن استخدامه كان‬
‫مقصوًرا على دعم استنتاجات سبق التوصل إليها فع ً‬
‫ل‪ ،‬بل إن معالجة‬
‫النتائج التجريبية كانت تجري أحياًنا بجواز مروره لهذه الستنتاجات‪.‬‬
‫وقد ظلت البحوث في علم البصريات تدور في هذا الفلك‬
‫السابق دون تقدم أو رقي‪ ،‬وبقيت على ذلك حتى جاءت الحضارة‬
‫السلمية فكان لسهامات المسلمين في علم البصريات نسق آخر‬
‫متطور وفريد؛ وذلك نظًرا لنبوغهم في العديد من العلوم المرتبطة‬
‫بهذا العلم مثل الفلك والهندسة الميكانيكية وغيرهما‪ ،‬إذ أن ابتكاراتهم‬
‫قد تتداخل فيها هذه العلوم‪.‬‬
‫فقد جاء الفيلسوف أبو يوسف الكندي )‪ 256-185‬هق ‪-805 /‬‬
‫‪873‬م(‪ ،‬والذي ُيعد من أوائل العلماء المسلمين الذين طرقوا ميدان‬
‫علم الطبيعة‪ ،‬فتناول الظواهر الضوئية وعالجها في كتابه الشهير‬
‫"علم المناظر"‪ ،‬وكان ذلك أول كتاب عربي يعني بعلم البصريات‪.‬‬
‫والكندي هذا هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق )‪256-185‬هق ‪/‬‬
‫‪873-805‬م(‪ُ ,‬يعد ‪ -‬كما يصنفه الكثيرون ‪ -‬مؤسس الفلسفة العربية‬
‫السلمية‪ ,‬وكان كمعظم علماء عصره موسوعًيا‪ ،‬فهو رياضي‬
‫وفيزيائي وفلكي‪ ،‬بالضافة إلى كونه فيلسوًفا‪!322‬‬
‫وكانت بدايته مع أسرته الغنية في الكوفة‪ ،‬والذي كان والده‬
‫والًيا عليها‪ ،‬وقد توفي وترك يعقوب صغيًرا مع أخوته ووالدته‪ ،‬فأتم‬
‫حفظ القرآن الكريم والكثير من الحديث النبوي الشريف وهو بعد في‬
‫الخامسة عشر من عمره‪ ،‬وكعادة طلب العلم في عصره فقد قرر‬
‫السفر بصحبة والدته إلى البصرة للستزادة من العلم‪ ،‬ثم انتقل‬
‫بعدها إلى بغداد ليزيد من ثقافتة وعلمه‪ ،‬حيث كانت بغداد في العصر‬
‫العباسي بحًرا زاخًرا بالعلوم المتنوعة المختلفة‪.323‬‬
‫كانت مكتبة "بيت الحكمة" التي أنشأها هارون الرشيد‬
‫ة‬
‫ما كامل ً‬
‫وازدهرت في عهد ابنه المأمون مقصده‪ ،‬وصار ُيمضي أيا ً‬
‫فيها وهو يقرأ الكتب المترجمة عن اليونانية والفارسية والهندية‪ ،‬إل‬
‫أن فضوله الزائد للمعرفة والعلم لم يتوقف عند حد قراءة الكتب‬
‫المترجمة فقط‪ ،‬فبدأ بدراسة اللغتين السريانية واليونانية علي يد‬
‫أستاذين كانا يأتيان إلى منزله ليعلماه‪ ،‬وقد تمكن من إتقان هاتين‬
‫اللغتين بعد فترة وجيزة‪ ،‬بعدها بدأ في تكوين فريق خاص به‪ ،‬وصار‬
‫صاحب مدرسة ذات مكانة مهمة في الترجمة‪ ،‬وأنشأ في بيته مكتبة‬
‫تضاهي في ضخامتها مكتبة الحكمة‪ ،‬فصار الناس يقصدون بيته للتعلم‬
‫ة‬
‫ومكتبته للمطالعة‪ ،‬وسارت شهرته في البلد عندما كان عمره خمس ً‬
‫ما فقط‪ ،‬فدعاه الخليفة المأمون إليه وصارا صديقين منذ‬ ‫وعشرين عا ً‬
‫ذلك الحين ‪.‬‬
‫‪324‬‬

‫وفي البصريات فقد أخذ الكندي بنظرية النبعاث الغريقية‪ ،‬إل‬


‫قا لمبدأ الشعاع‪ ،‬وصاغ من خلل ذلك‬ ‫فا دقي ً‬
‫أنه أضاف كذلك وص ً‬
‫أساس نظام تصوري جديد يحل في نهاية المر محل نظرية النبعاث‪،‬‬
‫وكان لهذا الكتاب صدى في المحافل العلمية العربية‪ ،‬ثم الوروبية‬
‫خلل العصور الوسطى‪.‬‬
‫ثم من بعده جاء أبو الحسن بن الهيثم )‪430 -354‬هق( والذي‬
‫دا ووثبة خطيرة في عالم البصريات‬
‫حا جدي ً‬
‫ُتعد أعماله العلمية فت ً‬
‫وفزيولوجية البصار‪ ،‬وكانت أعماله هي الساس الذي بنى عليه علماء‬

‫مصطفى عبد الرازق‪ :‬فيلسوف العرب ص ‪.18‬‬ ‫‪322‬‬

‫أحمد فؤاد الهواني‪ :‬الكندي فيلسوف العرب ص ‪.26‬‬ ‫‪323‬‬

‫رحاب العكاوي‪ :‬الكندي أعظم الحكماء في تاريخ البشرية ص ‪ 16‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪324‬‬


‫الغرب جميع نظرياتهم في هذا الميدان‪ ،‬وكان في طليعة العلماء‬
‫الجانب الذين اعتمدوا على نظرياته ‪ -‬بل أغاروا عليها ونسبوها‬
‫لنفسهم ‪ -‬روجر بيكون وفيتلو وعلماء آخرون‪ ،‬ولسيما في بحوثهم‬
‫الخاصة بالمجهر والتلسكوب والعدسة المكبرة‪.325‬‬
‫بدأ ابن الهيثم أول بمناقشة نظريات إقليدس وبطليموس في‬
‫مجال البصار‪ ،‬وأظهر فساد بعض جوانبها‪ ،‬ثم في أثناء ذلك قدم‬
‫قا للعين وللعدسات وللبصار بواسطة العينين‪ ،‬ووصف‬ ‫فا دقي ً‬
‫وص ً‬
‫أطوار انكسار الشعة الضوئية عند نفوذها في الهواء المحيط بالكرة‬
‫الرضية بعامة‪ ،‬وخاصة إذا نفذ من جسم شفاف كالهواء والماء‬
‫والذرات العالقة بالجو‪ ،‬فإنه ينعطف ‪ -‬أي ينكسر ‪ -‬عن استقامته ‪.‬‬
‫‪326‬‬

‫وقد بحث في )النعكاس( وتبيان الزوايا المترتبة على ذلك‪ ،‬كما‬


‫تطرق إلى شرح أن الجرام السماوية تظهر في الفق عند الشروق‬
‫ل‪ ،‬والعكس صحيح عند غروبها‪ ،‬فإنها تبقى‬ ‫قبل أن تصل إليه فع ً‬
‫ظاهرة في المجال الفقي بعد أن تكون قد احتجبت تحته‪ ،‬وهو أول‬
‫وه باستخدام الحجرة السوداء التي تعتبر أساس التصوير‬ ‫من ن ّ‬
‫الفوتوغرافي ‪.‬‬
‫‪327‬‬

‫والكتاب الذي خّلد اسم ابن الهيثم عبر القرون هو "كتاب‬


‫المناظر"‪ ،‬ويوضح هذا الكتاب تصور البصريات كنظرية أولية في‬
‫البصار‪ ،‬مختلفة جذرًيا عن فرض الشعاع المرئي الذي حافظ عليه‬
‫التقليد الرياضي منذ إقليدس وحتى الكندي‪.‬‬
‫ضا منهجية جديدة على هذا التفسير‬ ‫ولقد أدخل ابن الهيثم أي ً‬
‫ما غير مفهومة‬
‫لعملية البصار‪ ،‬وبهذا تمكن من صياغة مسائل كانت إ ّ‬
‫ملة من جانب فلسفة يهدفون‬ ‫مه َ‬
‫قا لنظرية الشعاع البصري‪ ،‬أو ُ‬ ‫طب ً‬
‫سا إلى تفسير ماهية الرؤية أكثر من اهتمامهم بشرح كيفية‬ ‫أسا ً‬
‫حدوث البصار‪.‬‬
‫وعلى الرغم من مكانة ابن الهيثم وبحوثه المبتكرة في علم‬
‫الضوء‪ ،‬إل أنه ظل مغموًرا ل يعرفه كثير من الناس‪ ،‬حتى قيض الله‬
‫له من يكشف عن جهوده وينقب عن آثاره ويجليها‪ ،‬وكان من هؤلء‬
‫العالم العربي مصطفي نظيف‪ ،‬وذلك حين كتب عنه دراسة طيبة‬
‫دا مضنًيا‬
‫رائدة نشرتها جامعة القاهرة في مجلدين‪ ،‬وقد بذل فيها جه ً‬
‫في قراءة مخطوطات ابن الهيثم ومئات المراجع الخرى‪ ،‬حتى خلص‬
‫عد واضع أسس علم‬ ‫ن ابن الهيثم ي ُ َ‬
‫إلى حقيقة صادقة‪ ،‬وهي أ ّ‬
‫الضوء بالمعنى الحديث!!‬

‫موقع إسلم أون لين‪ :‬ابن الهيثم عبقري في ثوب الجنون‪.‬‬ ‫‪325‬‬

‫الدفاع‪ :‬روائع الحضارة العربية السلمية في العلوم ص ‪.124‬‬ ‫‪326‬‬

‫محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص ‪.148‬‬ ‫‪327‬‬
‫يقول الستاذ مصطفي نظيف‪" :‬لقد قلب ابن الهيثم الوضاع‬
‫دا أبطل فيه علم المناظر‪ ،‬الذي أنشأه‬ ‫ما جدي ً‬‫القديمة‪ ،‬وأنشأ عل ً‬
‫اليونان‪ ،‬كما أنشأ علم الضوء الحديث‪ ،‬وإن أثره في الضوء ل يقل عن‬
‫أثر )نيوتن( في المكيانيكا‪ ،‬فإن ع ُد ّ )نيوتن( بحق رائد علم الميكانيكا‬
‫في القرن السابع عشر فإن ابن الهيثم خليقٌ بأن ُيعد بحق رائد علم‬
‫الضوء في مستهل القرن الحادي عشر"‪.328‬‬
‫وطالما كان على هذا القدر من المكانة والمنزلة‪ ،‬فإنا نخوض‬
‫بعض الشيء في شخصيته‪ ،‬نتعرض فيها لحياته الشخصية‪ ،‬ثم حياته‬
‫العلمية‪..‬‬
‫فهو المهندس البصري أبو علي الحسن بن الهيثم‪ ،‬من أصل‬
‫ب ببطليموس الثاني‪ ،‬وجده العلى "الهيثم" أي "فرخ‬ ‫عربي‪ ،‬ل ُ ّ‬
‫ق َ‬
‫رف ابن الهيثم عند الوربيين بق )‪ ،(alhazen‬وهو عالم‬ ‫النسر"‪ ،‬وقد ع ُ ِ‬
‫موسوعي من أعظم علماء الرياضيات والفيزياء ومؤسس علم‬
‫ما‬
‫البصريات‪ ،‬وأتقن الطب وصنف فيه لكنه لم يمارسه‪ ،‬وكان دائ ً‬
‫دت لي الحياة‪ ،‬باذل جهدي‪ ،‬ومستفرغ قوتي في‬ ‫م ّ‬
‫يقول‪" :‬وإني ما ُ‬
‫مثل ذلك )يقصد الدراسة وتحصيل العلوم(‪ ،‬متوخًيا منه أموًرا ثلثة‪:‬‬
‫أحدها إفادة من يطلب الحق ويؤثره‪ ،‬في حياتي وبعد مماتي‪ ،‬والخر‬
‫ضا لي بهذه المور في إثبات ما يتصوره ويتقنه‬ ‫أني جعلت ذلك ارتيا ً‬
‫صيرته ذخيرة وعدة لزمان‬ ‫فكري من تلك العلوم‪ ،‬والثالث أني ّ‬
‫الشيخوخة وأوان الهرم"‪.329‬‬
‫ولد في البصرة عام ‪354‬هق ‪965 /‬م وعاش فيها حياته الولى‪،‬‬
‫وكان في طفولته عازًفا عن اللهو مع أقرانه‪ ،‬مقبل ً على القراءة‬
‫م بتحصيل العلم واللمام بما وصلت‬ ‫والطلع‪ ،‬كثير التساؤل‪ ،‬حيث اهت ّ‬
‫ضا ‪.‬‬
‫‪330‬‬
‫إليه الفلسفة والعلوم التعليمية‪ ،‬بل والعلوم الطبية أي ً‬
‫ب ابن الهيثم اشتغل كموظف في الديوان الحكومي‪،‬‬ ‫وعندما ش ّ‬
‫إل أنه عكف على مواصلة البحث والدراسة‪ ،‬فكان يقرأ الفلسفة‬
‫ويشرح ويلخص ويختصر فيها من كتب اليونان ما أحاط فكره بتصوره‬
‫عا كثيرة‪ ،‬وقد اشتغل بنسخ الكتب فيما بعد‪،‬‬‫وصنف في ذلك فرو ً‬
‫وسار على طريق العلماء‪ ،‬فسافر في طلب العلم‪ ،‬فذهب إلى بغداد‬
‫قل بين أرجاء الدولة السلمية‪.‬‬‫والشام ومصر‪ ،‬وتن ّ‬
‫دا عن الدنيا مقبل ً على التحصيل‬
‫ولقد كان في كل أحواله زاه ً‬
‫والدراسة‪ ،‬يصفه ابن أبي أصيبعة فيقول‪" :‬كان ابن الهيثم فاضل‬
‫النفس‪ ،‬قوي الذكاء‪ ،‬متفنًنا في العلوم‪ ،‬لم يماثله أحد من أهل زمانه‬

‫قدري طوقان‪ :‬الخالدون العرب‪.‬‬ ‫‪328‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.3/380‬‬ ‫‪329‬‬

‫ابن القفطي‪ :‬أخبار الحكماء ص ‪.114‬‬ ‫‪330‬‬


‫في العلم الرياضي‪ ،‬ول يقرب منه‪ ،‬وكان دائم الشتغال‪ ،‬كثير‬
‫التصنيف‪ ،‬وافر التزهد"‪.331‬‬
‫كر في ذلك ‪ -‬كما أشرنا من قبل ‪ -‬أنه وهو بالشام عند‬ ‫ومما ُيذ َ‬
‫أحد أمرائها فأعجب به وأراد أن يغمره بالموال‪ ،‬فقال ابن الهيثم‪:‬‬
‫"يكفيني قوت يوم وتكفيني جارية وخادم‪ ،‬فما زاد على قوت يوم إن‬
‫ت بهذين‬ ‫ت وكيلك‪ ،‬وإذا اشتغل ُ‬
‫ت خازَنك‪ ،‬وإن أنفقُته كن ُ‬‫أمسكُته كن ُ‬
‫المرين فمن الذي يشتغل بأمري وعلمي؟!" ‪.‬‬
‫‪332‬‬

‫وقد درس في بغداد الطب‪ ،‬واجتاز امتحاًنا مقرًرا لكل من يريد‬


‫صص في طب الكحالة )طب العيون(‪ ،‬وكان أهل‬ ‫العمل بالمهنة‪ ،‬وتخ ّ‬
‫بغداد يقصدونه للسؤال في عدة علوم‪ ،‬برغم أن المدينة كانت زاخرة‬
‫بصفوة من كبار علماء العصر‪.‬‬
‫وقد تعرضنا لموقفه مع الحاكم بأمر الله الفاطمي‪ ،‬عندما‬
‫استدعاه الخير للقيام بمشروع على النيل يحجب الفيضان بعدما‬
‫سمع مقولته‪" :‬لو كنت بمصر لعملت في نيلها عمل يحصل به النفع‬
‫في كل حالة من حالته من زيادة ونقص"‪ ،333‬وكيف أنه اعتذر بعد أن‬
‫أدرك صعوبة أو استحالة إقامة المشروع بإمكانات عصره‪..‬‬
‫ثم وهو في مصر اتخذ من غرفة بجوار الجامع الزهر سكًنا‪،‬‬
‫ومن مهنة نسخ بعض الكتب العالمية مورًدا لرزقه‪ ،‬هذا بخلف‬
‫التأليف والترجمة؛ حيث كان متمكًنا من عدة لغات‪ ،‬ولكنه لم يكن في‬
‫سعة من العيش‪ ،‬فقد كان يرتزق من نسخ كتابين أو ثلثة كتب‬
‫رياضية‪ ،‬منها‪ :‬كتاب الصول لقليدس في الهندسة‪ ،‬وكتاب‬
‫المجسطي لبطليموس في الفلك‪ ،‬فكان ينسخها كل عام فيأتيه من‬
‫أقاصي البلد من يشتريها منه بثمن معلوم‪ ،‬ل مساومة فيه ول‬
‫معاودة‪ ،‬فيبيعها ويجعلها مئونة حياته طول سنته‪.334‬‬
‫ابن الهيثم‪ ..‬والمنهج العلمي‬
‫اعتمد ابن الهيثم في بحوثه على منهجين هما‪ :‬منهج الستقراء‪،‬‬
‫ومنهج الستنباط‪ ،‬وفي الحإلين كان يعتمد على التجربة والملحظة‪،‬‬
‫وكان همه من وراء البحث هو الوصول إلى الحقيقة التي تثلج صدره‪،‬‬
‫وقد حدد الرجل هدفه من بحوثه‪ ،‬وهو إفادة من يطلب الحق ويؤثره‬
‫في حياته وبعد مماته‪.335‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.3/372‬‬ ‫‪331‬‬

‫البيهقي ظهير الدين‪ :‬تتمة صوان الحكمة ص ‪.16‬‬ ‫‪332‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.3/374‬‬ ‫‪333‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.3/380‬‬ ‫‪334‬‬

‫محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر عند المسلمين ص ‪ 145‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪335‬‬


‫وكان ابن الهيثم يرى أن تضارب الراء هو الطريق الوحيد‬
‫جا ثابًتا في إثبات‬
‫لظهور الحقيقة‪ ،‬وقد جعل من التجربة العملية منها ً‬
‫صحة أو خطأ النتائج العقلية أو الفرضيات العلمية‪ ،‬وبعد ذلك يحاول‬
‫التعبير عن النتيجة الصحيحة بصياغة رياضية دقيقة‪.‬‬
‫ويتضح منهج ابن الهيثم في البحث إجمال ً من مقدمة كتابه‬
‫)المناظر(؛ فقد بين فيه بإيجاز الطريقة التي هداه تفكيره إلى أنها‬
‫الطريقة المثلى في البحث‪ ،‬والتي اتبعها في بحوثه‪ ،‬يقول ابن الهيثم‪:‬‬
‫"‪ ..‬ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات‪ ،‬وتصفح أحوال‬
‫المبصرات وتمييز خواص الجزئيات‪ ،‬ونلتقط باستقراء ما يخص البصر‬
‫في حال البصار‪ ،‬وما هو مطرد ل يتغير وظاهر ل يشتبه من كيفية‬
‫الحساس‪ ،‬ثم نرتقي في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب‬
‫مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج‪ ،‬ونجعل غرضنا في جميع ما‬
‫نستقريه ونتصفحه استعمال العدل ل اتباع الهوى ونتحرى في سائر‬
‫ما نميزه وننتقده طلب الحق ل الميل مع الراء"‪.336‬‬
‫ي في‬ ‫فقد أخذ ابن الهيثم في بحوثه بالستقراء والقياس‪ ،‬وع ُن ِ َ‬
‫البعض منها بالتمثيل‪ ،‬وهي عناصر البحوث العلمية العصرية‪ ،‬وابن‬
‫الهيثم في هذا كله لم يسبق فرنسيس بيكون إلى طريقته‬
‫قا‬
‫وا كبيًرا‪ ،‬وكان أوسع منه أف ً‬ ‫الستقرائية فحسب‪ ،‬بل سما عليه سم ً‬
‫ي بيكون بالتفلسف النظري‪ ،‬فهذا‬ ‫ن كما ع ُن ِ َ‬
‫وأعمق تفكيًرا‪ ،‬وإن لم ُيع َ‬
‫المنهج يتسم بالحيوية والتكامل؛ إذ يجد فيه رجل العلم ما يرتاح له‬
‫من أسإليب وطرق تسهل له عمله‪ ،‬ويجد فيه الفيلسوف صاحب‬
‫النظر المجرد ما يثلج صدره ويقيه جمحات عقله‪.337‬‬
‫يقول أحمد أمين‪" :‬وأهم ما امتاز به )ابن الهيثم( معرفة‬
‫‪.‬‬ ‫نظريات الرياضة‪ ،‬ومن أهم مميزاته تطبيق علمه على العمل"‬
‫‪338‬‬

‫وفوق ذلك فقد كان ابن الهيثم يتحلى بروح علمية سامقة؛ إذ‬
‫قرر أن الحقائق العلمية غير ثابتة‪ ،‬وأنها ليست غايات ينتهي إليها‬
‫العلم‪ ،‬بل كثيًرا ما يعتريها التبديل والتغيير‪ ،‬وهو يؤمل ويرجو رجاء‬
‫العالم المتواضع الوصول إلى الحقيقة فيقول‪ .." :‬ولعلنا ننتهي بهذا‬
‫الطريق إلى الحق الذي يثلج الصدر ونصل بالتدريج والتلطف إلى‬
‫الغاية التي عندها إليقين‪ ،‬ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي‬
‫يزول معها الخلف وتنحسم بها مواد الشبهات"‪!!339‬‬

‫‪ 336‬انظر‪ :‬ابن الهيثم‪ :‬المناظر ص ‪.62‬‬


‫‪ 337‬عمر فاروق الطباع‪ ،‬عبد المنعم الهاشمي‪ :‬ابن الهثم مؤسس علم الضوء الحديث ص‬
‫‪.108،107‬‬
‫‪ 338‬أحمد أمين‪ :‬ظهر السلم ‪/1‬‬
‫‪ 339‬انظر‪ :‬ابن الهيثم‪ :‬المناظر ص ‪.62‬‬
‫وهكذا يتضح أن منهج ابن الهيثم في العلم يلتقي مع المنهج‬
‫العلمي الحديث وأربى عليه باعتبار سبقه الزمني‪.‬‬
‫تقول زيجريد هونكه‪" :‬والواقع أن روجر بيكون‪ ،‬أو باكوفون‬
‫فارولم‪ ،‬أو ليوناردو دا فنشي‪ ،‬أو جإليليو‪ ،‬ليسوا هم الذين أسسوا‬
‫البحث العلمي؛ إنما السابقون في هذا المضمار كانوا من العرب‪،‬‬
‫والذي حققه ابن الهيثم لم يكن إل علم الطبيعة الحديث‪ ،‬بفضل‬
‫التأمل النظري والتجربة الدقيقة"‪.340‬‬
‫وعلى هذا المنهج سار ابن الهيثم في كل مؤلفاته وتصانيفه‪،‬‬
‫وقد كان غزير التأليف متدفق النتاج في شتي أنواع المعرفة‪ ،‬فطرق‬
‫الفلسفة والمنطق والطب والفلك والبصريات والرياضيات‪ ،‬مستحدًثا‬
‫طا جديدة من الفكر العلمي الصيل‪ ،‬وقد بلغ عدد مؤلفاته ما يربو‬ ‫أنما ً‬
‫على مائتي مؤلف )‪ 237‬مخطوطة ورسالة في مختلف فروع العلم‬
‫والمعرفة(‪.‬‬

‫وفي البصريات وحدها أل ّ َ‬


‫ف ابن الهيثم ما يقرب من أربعة‬
‫عا‪ ،‬ما بين كتاب ورسالة ومقالة‪ ،‬غير أن أكثر هذه‬ ‫وعشرين موضو ً‬
‫الكتب قد ُفقد فيما فقد من تراثنا العلمي‪ ،‬وما بقي منها فقد ضمته‬
‫مكتبات إستانبول ولندن وغيرهما‪ ،‬وقد سلم من الضياع كتابه العظيم‬
‫"المناظر" الذي احتوى على نظريات مبتكرة في علم الضوء‪ ،‬وظل‬
‫المرجع الرئيسي لهذا العلم حتى القرن السابع عشر الميلدي بعد‬
‫ترجمته إلى اللتينية‪.341‬‬
‫ول يعرف العالم من مؤلفات ابن الهيثم حإليا سوى خمسين‬
‫كتابا لم يبق منها في القاهرة سوى ثلثة فقط‪ ،‬حيث تسرب العديد‬
‫من كتبه الخرى إلى أوروبا أثناء الحملة الفرنسية على مصر وأثناء‬
‫الحروب الصليبية‪.‬‬
‫وإلى جانب البصريات فقد كانت له مساهماته في الهندسة‪،‬‬
‫فا‪ ،‬تضم آراءه وبراهينه المبتكرة‬
‫وله فيها ثمانية وخمسون مؤل ً‬
‫لمسائل تواترت عن إقليدس وأرشميدس بدون برهان‪ ،‬أو في حاجة‬
‫إلى شرح وإثبات‪ ،‬ويوجد في مكتبات العالم في القاهرة ولندن‬
‫وباريس وإستانبول أكثر من واحد وعشرين مخطو ً‬
‫طا لابن الهيثم في‬
‫هذا التخصص‪ ،‬وفي الحساب والجبر والمقابلة أّلف ما ل يقل عن‬
‫عشرة كتب‪ ،‬ل يوجد منها سوى مخطوطات قليلة في مكتبة عاطف‬
‫بتركيا منها‪ :‬حساب المعاملت‪ ،‬واستخراج مسألة عددية‪.‬‬
‫وفي الفلك أبدع ابن الهيثم وأسهم فيه بفاعلية حتى ُأطلق عليه‬
‫"بطليموس الثاني"‪ ،‬ولم يصلنا من تراث ابن الهيثم في الفلكيات إل‬
‫زيغريد هونكة‪ :‬شمس العرب تسطع على الغرب ص ‪.149،148‬‬ ‫‪340‬‬

‫الدفاع‪ :‬روائع الحضارة العربية السلمية في العلوم ص ‪.123‬‬ ‫‪341‬‬


‫نحو سبع عشرة مقالة من أربعة وعشرين تأليفا‪ ،‬تحدث فيها عن أبعاد‬
‫الجرام السماوية وأحجامها وكيفية رؤيتها وغير ذلك‪.342‬‬
‫كما أن له في الطب كتابان‪ :‬أحدهما في "تقويم الصناعة‬
‫منه خلصة ثلثين كتاًبا قرأها لجإلينوس‪ ،‬والخر "مقالة في‬‫الطبية" ض ّ‬
‫الرد على أبي الفرج عبد الله بن الطيب" لبطال رأيه الذي يخالف‬
‫ضا رسالة في تشريح العين وكيفية‬ ‫فيه رأي جإلينوس‪ ،‬وله أي ً‬
‫البصار‪.343‬‬
‫ابن الهيثم‪ ..‬وعلم الضوء الحديث‬
‫كان لكتشافات ابن الهيثم تأثير كبير على التراث الفكري‬
‫النساني‪ ،‬أما ما يهمنا في تخصصه العلمي فهو كتابه )المناظر(؛ إذ‬
‫كان ثورة في عالم البصريات‪ ،‬فابن الهيثم لم يتبن نظريات‬
‫بطليموس ليشرحها ويجري عليها بعض التعديل‪ ،‬بل إنه رفض عدًدا‬
‫من نظرياته في علم الضوء‪ ،‬بعدما توصل إلى نظريات جديدة غدت‬
‫نواة علم البصريات الحديث‪.‬‬
‫فقد كان بطليموس ‪ -‬كما ذكرنا ‪ -‬يزعم أن الرؤية تتم بواسطة‬
‫أشّعة تنبعث من العين إلى الجسم المرئي‪ ،‬وقد تبنى العلماء‬
‫اللحقون هذه النظرية‪ ،‬ولما جاء ابن الهيثم نسف هذه النظرية في‬
‫كتابه "المناظر"‪ ،‬وبين أن الرؤية تتم بواسطة الشعة التي تنبعث من‬
‫الجسم المرئي باتجاه عين المبصر‪ ،‬وبعد سلسلة من الختبارات‬
‫أجراها ابن الهيثم بّين أن الشعاع الضوئي ينتشر في خط مستقيم‬
‫ضمن وسط متجانس‪.‬‬
‫ما أن يكون )أي‬
‫وقد أثبت ذلك بقوله في كتاب المناظر‪" :‬إ ّ‬
‫ما فنحن إذا نظرنا إلى السماء‬‫ما أو ل‪ ،‬فإن كان جس ً‬
‫الشعاع ( جس ً‬
‫ورأينا الكواكب فقد خرج من البصر جسم مل ما بين السماء والرض‬
‫ولم ينقص من البصر شيء‪ ،‬وهذا محال في غاية الستحالة وفي غاية‬
‫ما فهو ل يحس هو نفسه بالبصر‪،‬‬ ‫الشناعة‪ ،‬وإن لم يكن جس ً‬
‫فالحساس ليس إل للجسام ذات الحياة‪. "..‬‬
‫‪344‬‬

‫ثم بعد مناقشة مثل هذه الراء وغيرها يدلي برأيه )في الفصل‬
‫السادس من المقالة الولى( فيقول‪" :‬فلنحّرر الن ما استقّر من‬
‫س بالضوء واللون اللذين في‬
‫ح ّ‬‫جميع ما ذكرناه فنقول‪ :‬إن البصر ي ُ ِ‬
‫صر من الصورة التي تمتد من الضوء واللون اللذين في‬ ‫سطح المب َ‬
‫صر‪،‬‬
‫ف المتوسط بين البصر والمب َ‬ ‫ش ّ‬‫صر في الجسم الم ِ‬ ‫سطح المب َ‬
‫صرات إل من سموت الخطوط‬ ‫وليس البصر شيًئا من صور المب َ‬
‫رحاب العكاوي‪ :‬الحسن بن الهيثم ص ‪.72‬‬ ‫‪342‬‬

‫الدفاع‪ :‬رواد علم الطب في الحضارة العربية السلمية في العلوم ص ‪.318‬‬ ‫‪343‬‬

‫انظر‪ :‬ابن الهيثم‪ :‬المناظر ص ‪.133‬‬ ‫‪344‬‬


‫صر ومركز البصر فقط‪ ،‬وإذا‬
‫المستقيمة التي تتوهم ممتدة بين المب َ‬
‫قد تحّرر ذلك وتبين مع هذه الحال أن هذا المعنى ممكن وغير ممتنع‬
‫فإنا نحرر الن الدعوى‪.345"..‬‬
‫كذلك برهن ابن الهيثم رياضًيا وهندسًيا علي كيفية النظر‬
‫ن واحد دون أن يحدث ازدواج في‬ ‫بالعينين مًعا إلى الشياء في آ ٍ‬
‫الرؤية برؤية الشيء شيئين‪ ،‬وعّلل ابن الهيثم ذلك بأن صورتي‬
‫الشيء المرئي تتطابقان علي شبكية العينين‪ ،‬وقد وضع ابن الهيثم‬
‫بهذه البرهنة وذلك التعليل الساس الول لما يعرف الن باسم‬
‫الستريسكوب‪.‬‬
‫وكان ابن الهيثم أول من درس العين دراسة علمية‪ ،‬وعرف‬
‫أجزاءها وتشريحها ورسمها‪ ،‬وأول من أطلق علي أجزاء العين أسماء‬
‫أخذها الغرب بنطقها أو ترجمها إلى لغاته )انظر شكل رقم ‪ ،(3‬ومن‬
‫هذه السماء ‪ :‬القرنية ) ‪ ، ( Cornea‬والشبكية ) ‪ ،( Retina‬والسائل‬
‫الزجاجي)‪ ، Vitrous Humour‬والسائل المائي )‪.(Aqueous Humour‬‬

‫ومن أهم إنجازاته كذلك في هذا المجال ‪ -‬كما يتضح من‬


‫كتابه"المناظر" ‪ -‬ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬أنه أول من أجرى تجارب بواسطة آلة الثقب أو‬
‫البيت المظلم أو الخزانة المظلمة واكتشف منها أن‬
‫صورة الشيء تظهر مقلوبة داخل هذه الخزانة‪ ،‬فمهد‬
‫بهذا الطريق إلى ابتكار آلة التصوير‪ ،‬وبهذه الفكرة‬
‫وتلك التجارب سيق ابن الهيثم العالمين اليطإليين‬
‫"ليوناردو دوفنشى" و"دل بورتا" بخمسة قرون‪.346‬‬
‫‪ -‬وضع ابن الهيثم ولول مرة قوانين النعكاس‬
‫والنعطاف في علم الضوء‪ ،‬وعّلل لنكسار الضوء في‬
‫مساره‪ ،‬وهو النكسار الذي يحدث عن طريق وسائط‬
‫كالماء والزجاج والهواء‪ ،‬فسبق ابن الهيثم بما قاله‬
‫العالم النجليزي نيوتن‪.347‬‬
‫‪ -‬قام بتعريف الضوء بصورة قريبة مما نعرفه اليوم‪،‬‬
‫وذلك بأنه جسم مادي لطيف يتألف من أشعة لها‬
‫أطوال وعروض‪ ،‬وناقش خصائصه‪ ،‬وقام بتعريف‬
‫النعكاس‪ ،‬وحدد بصورة قاطعة أن زاوية السقوط‬
‫تساوي زاوية انعكاس الضوء في المرايا‪.348‬‬

‫انظر‪ :‬ابن الهيثم‪ :‬المناظر ص ‪.119‬‬ ‫‪345‬‬

‫جلل مظهر‪ :‬حضارة السلم وأثرها في الترقي العالمي ص ‪.304‬‬ ‫‪346‬‬

‫جلل مظهر‪ :‬حضارة السلم وأثرها في الترقي العالمي ص ‪.303‬‬ ‫‪347‬‬

‫عمر فاروق الطباع‪ ،‬عبد المنعم الهاشمي‪ :‬ابن الهيثم مؤسس علم الضوء الحديث ص ‪.91‬‬ ‫‪348‬‬
‫‪ -‬كان أول من قال بأن للضوء سرعة محددة يمكن‬
‫قياسها‪.349‬‬
‫‪ -‬حد ّد َ اتجاه انكسار الضوء عند انتقاله من وسط إلى‬
‫وسط أقل أو أكثر كثافة من الول‪ ،‬فيكون النكسار‬
‫دا أو مقترًبا من العمود‬
‫)النعطاف في لفظه( مبتع ً‬
‫المقام على المستوى الفاصل بين الوسطين ‪.‬‬
‫‪350‬‬

‫‪ -‬وكان أحد أبرز إنجازاته في هذا الكتاب تجربة‬


‫الصندوق السود‪ ،‬وتعتبر الخطوة الولى في اختراع‬
‫الكاميرا‪ ،‬وكما تقول الموسوعة العلمية "سارتون"‪:‬‬
‫فابن الهيثم يعتبر أول مخترع للكاميرات‪ ،‬وهي ما‬
‫‪.‬‬
‫‪351‬‬
‫يا‪(Camera obscura):‬‬
‫مى عمل ً‬
‫ُيس ّ‬
‫‪ -‬عرض لصور النعكاس من على السطوح المختلفة‪،‬‬
‫عرف باسم مسألة ابن الهيثم‪ ،‬وفيها تعامل ابن‬‫وهو ما ُ‬
‫الهيثم مع معادلة من الدرجة الرابعة‪ ،‬وذلك لتحديد‬
‫مكان نقطة النعكاس لكافة أشكال السطح‪.352‬‬
‫طلع على كتاب المناظر والموضوعات التي تتعلق بالضوء‬ ‫ومن ي ّ‬
‫وما إليه‪ ،‬يخرج بأن ابن الهيثم قد طبع علم الضوء بطابع جديد لم‬
‫يسبق إليه‪ ،‬وقد ألف هذا الكتاب عام ‪411‬هق‪1021 /‬م‪ ،‬وفيه استثمر‬
‫عبقريته الرياضية‪ ،‬وخبرته الطبية‪ ،‬وتجاربه العلمية‪ ،‬فتوصل فيه إلى‬
‫نتائج وضعته على قمة عالية في المجال العلمي‪ ،‬وصار بها أحد‬
‫المؤسسين لعلوم غّيرت من نظرة العلماء لمور كثيرة في هذا‬
‫المجال‪.353‬‬
‫ن ما أتى به ابن الهيثم قبل أكثر من ألف عام‪،‬‬ ‫وخلصة القول أ ّ‬
‫ما؛ فهو بحق‬‫شيء كثير يستحق أن ينحني العلماء أمامه إجلل ً واحترا ً‬
‫أكبر فيزيائي مسلم‪ ،‬وكتابه في البصريات تضمن أول وصف صحيح‬
‫للعين بأخلطها المائية وجسمها البللوري وقرنيتها وشبكيتها وغرفتها‬
‫المظلمة‪.‬‬
‫كما يتضح لنا أن ابن الهيثم جعل علم الضوء يتخذ صبغة جديدة‪،‬‬
‫وينشأ نشأة أخرى غير نشأته الولى‪ ،‬حتى أصبح أثره في علم الضوء‬
‫يشبه تأثير نيوتن العام في علم الميكانيكا‪ ،‬فكانت المعلومات في‬
‫علم الضوء قبل ابن الهيثم متفرقة ل يربطها رابط‪ ،‬فأعاد البحث فيها‬

‫رحاب عكاوي‪ :‬الحسن بن الهيثم الحكيم بطليموس الثاني ص ‪.117‬‬ ‫‪349‬‬

‫رحاب عكاوي‪ :‬الحسن بن الهيثم الحكيم بطليموس الثاني ص ‪.100‬‬ ‫‪350‬‬

‫انظر‪ :‬جورج سارتون‪ :‬مقدمة لتاريخ العلم ‪.1/721‬‬ ‫‪351‬‬

‫رحاب عكاوي‪ :‬الحسن بن الهيثم الحكيم بطليموس الثاني ص ‪.118‬‬ ‫‪352‬‬

‫رحاب العكاوي‪ :‬الحسن بن الهيثم ص ‪ 84‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪353‬‬


‫من جديد‪ ،‬واتجه في بحثه وجهة لم يسبقه إليها أحد من قبله‪ ،‬فأصلح‬
‫الخطاء وأتم النقص‪ ،‬وابتكر المستحدث من البحوث‪ ،‬وأضاف الجديد‬
‫من الكشوف‪ ،‬واستطاع أن يؤلف من ذلك كله وحدة مترابطة‬
‫الجزاء‪ ،‬وأقام الساس الذي انبنى عليه صرح علم الضوء‪.‬‬
‫يقول الدكتور محمد يونس الحملوي‪" :‬لقد حفر ابن الهيثم‬
‫ف من نور حين درس واستوعب‬ ‫مكانه في سجل تقدم البشرية بحرو ٍ‬
‫ونقد وفّند المسلمات التي عاشت عند رواد علم المناظر من أمثال‬
‫إقليدس وبطليموس وغيرهما‪ ..‬لقد أضاف الكثير لعلم الضوء حين‬
‫قال بوجود سرعة للضوء‪ ،‬وحدد أن هذه السرعة متناهية‪ ،‬ولكنها‬
‫دا لدرجة تبدو في بعض الحيان ل متناهية‪ ،‬وبرهن على ذلك‬ ‫كبيرة ج ً‬
‫دا على الجهزة التي ابتكرها‪ .‬لقد اخترع ابن الهيثم وصنع بيديه‬
‫معتم ً‬
‫العديد من الجهزة الفلكية والطبيعية في مجال تجاربه‪ ،‬وبهذا يكون‬
‫ابن الهيثم قد سبق ك ُل ً من ديكارت ونيوتن‪ ،‬كما سبق ابن الهيثم‬
‫أينشتاين حينما بّين أن سرعة الضوء محدودة‪ ،‬ورغم هذا يتعلم طلبنا‬
‫تلكم الحقائق عن أي طريق وعن كل طريق إل عن أصله العربي‬
‫الصيل‪ ،‬وعن كل العلماء إل عن علماء أمتهم!!"‪.‬‬
‫ثم‪ ..‬وبعد رحلة علمية حافلة بالنجازات التي أفادت البشرية‪،‬‬
‫وساعدت على قيام النهضة الوربية الحديثة‪ ..‬وبعد تأثير دام أثره إلى‬
‫اليوم‪ ..‬وفي القاهرة‪ ،‬وفي سنة ‪ 430‬هق‪1039/‬م‪ ..‬رحل ابن الهيثم ‪-‬‬
‫~ ‪ -‬عن دنيا الناس والطبيعة‪ ،‬وترك أعماله القيمة تنبئ عنه‪ ،‬وتستمد‬
‫منها الحضارة النسانية النور والمعرفة‪.354‬‬
‫والحقيقة أن ابن الهيثم لم يكن وحده في هذه الحلبة‪ ،‬فقد أتى‬
‫من بعده علماء مسلمون أفذاذ اقتفوا أثره وساروا على دربه‪ ،‬بل‬
‫وقدموه للعالم بعد أن لم يكن قد لمع نجمه!!‬
‫علم الضوء بعد ابن الهيثم‬
‫كان البيروني )‪441 - 362‬هق( ثالث ثلثة ‪ -‬بعد ابن سينا وابن‬
‫الهيثم ‪ -‬ازدهرت بهم الحضارة العربية السلمية في الفترة من‬
‫منتصف القرن الرابع الهجري إلى منتصف القرن الخامس الهجري‪،‬‬
‫ويذهب بعض مؤرخي العلوم مثل اللماني إدوارد سخاو )ت ‪1348‬هق‪،‬‬
‫ن البيروني أعظم عقلية عرفها التاريخ‪.355‬‬
‫‪1930‬م( إلى أ ّ‬
‫ومثل ابن الهيثم وغيرهم الكثير من العلماء المسلمين الذين‬
‫اتصفوا بأنهم موسوعيون‪ ،‬فإن البيروني يكاد يكون قد أّلف في كل‬
‫فروع المعرفة التي عهدها عصره؛ فقد كتب في الرياضيات والفلك‬
‫والتنجيم والحكمة والديان والتاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والحياء‬
‫الدفاع‪ :‬روائع الحضارة العربية السلمية ص ‪.122‬‬ ‫‪354‬‬

‫المجلد التذكاري للبيروني ص ‪ ،282‬طبع بكلكتا الهند ‪.1951‬‬ ‫‪355‬‬


‫والصيدلة‪ ،356‬وفي مجال الطبيعيات اهتم بالخواص الفيزيائية لكثير‬
‫من المواد‪ ،‬وتناول في كتاباته ظاهرة تأثير الحرارة في المعادن‪،‬‬
‫وضغط السوائل وتوازنها‪ ،‬وتفسير بعض الظواهر المتعلقة بسريان‬
‫ضا علم‬‫الموائع‪ ،‬وظاهرة المد والجزر وغيرها‪ ،‬وتناولت أبحاثه أي ً‬
‫ميكانيكا الموانع والهيدروستاتيكا‪ ،‬ولجأ في بحوثه إلى التجربة وجعلها‬
‫محوًرا لستنتاجاته‪.‬‬
‫وفيما يختص بسريان الضوء فقد فطن البيروني إلى أن‬
‫سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت‪ ،357‬واتفق مع ابن الهيثم وابن‬
‫سينا في قولهما بأن الرؤية تحدث بخروج الشعاع الضوئي من الجسم‬
‫المرئي إلى العين وليس العكس‪ ،358‬كما يقّرر أن القمر جسم معتم ل‬
‫يضيء بذاته وإنما يضيء بانعكاس أشعة الشمس عليه‪ ،‬وكان‬
‫البيروني يشرح كل ذلك بوضوح تام‪ ،‬ودقة متناهية في تعبيرات سهلة‬
‫ل تعقيد فيها ول التواء‪.‬‬
‫أما الرجل الثاني في موضوعنا هذا فهو كمال الدين أبو‬
‫الحسن الفارسي‪ ،‬وهو رياضي وعالم فيزياء‪ ،‬ولد بمدينة شيراز‬
‫في بيت اشتهر بالعلم‪ ،‬وتلقى مبادئ علم الطب عن أبيه‪ ،‬وتتلمذ على‬
‫يد العالم قطب الدين الشيرازي أشهر علماء المسلمين في القرن‬
‫السابع الهجري )الثالث عشر الميلدي(‪ ،‬وصار كمال الدين الفارسي‬
‫يسترشد بقطب الدين الشيرازي في دراسته‪ ،‬ويعرض عليه ما يواجهه‬
‫من مشاكل علمية‪ ،‬واتصل بالعالم نصير الدين الطوسي الفلكي‬
‫الرياضي المشهور‪.‬‬
‫عني كمال الدين الفارسي بالرياضة‪ ،‬وبدراسة علم الضوء‪،‬‬ ‫وقد ُ‬
‫وكان ُيسمى في ذلك العصر بق "علم المناظر"‪ ،‬وانصرفت عنايته‬
‫صرات بالنعطاف‪،‬‬ ‫بصفة خاصة إلى ما يتعلق بكيفية إدراك صور المب َ‬
‫ولم يجد في كتاب إقليدس في المناظر‪ ،‬ول في كتب الفلسفة بغيته‬
‫في موضوع النعطاف‪ ،‬فذهب إلى أستاذه نصير الدين الطوسي‬
‫يسأله عن رأيه في هذا الموضوع‪.359‬‬
‫أرشد نصير الدين الطوسي تلميذه كمال الدين الفارسي إلى‬
‫كتاب "المناظر" للعالم ابن الهيثم وهو في مجلدين كان قد رآه‬
‫بخزائن الكتب بفارس‪ ،‬وأعطاه نسخة من هذا الكتاب بخط ابن الهيثم‬
‫دا‪ ،‬وكان كمال الدين الفارسي قد وجد‬
‫نفسه‪ ،‬فاهتم به ودرسه جي ً‬
‫قبل حصوله على هذا الكتاب أقوال ً في النعطاف تدل على جهل‬
‫بهذه الظاهرة‪ ،‬وكانت هذه القوال ما زالت تتردد في بعض كتب‬

‫‪ 356‬محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص ‪.115،114‬‬


‫‪ 357‬حسن نافعة‪ ،‬كليفورد بوزورث‪ :‬تراث السلم ‪.2/193‬‬
‫‪ 358‬قدري طوفان‪ :‬العلماء العرب وما أعطوه للحضارة ص ‪.163‬‬
‫‪ 359‬محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ‪.141،140‬‬
‫الحكمة‪ ،‬وكان قد مضى على بحوث ابن الهيثم وبحوثه في الضوء‬
‫والنعطاف ما يقرب من ثلثمائة عام‪ ،‬ولم تكن بحوث ابن الهيثم قد‬
‫م تداولها في الوساط العلمية بالعالم السلمي في القرون الثلثة‬‫عَ ّ‬
‫التالية له بسبب ظروف الفتن الداخلية ومحنة التتار والحروب‬
‫الصليبية‪.‬‬
‫وكان من أهم إنجازات كمال الدين الفارسي دراسته لكيفية‬
‫انعكاس الضوء والبصار في كرة مشفة واحدة‪ ،‬وفي كرتين مشفتين‪،‬‬
‫وقد أوضح كمال الدين الفارسي بعض مظاهر الخداع البصري‪ ،‬حين‬
‫صبغ وجه حجر الطاحون بعدة ألوان وأداره بسرعة فوجد أنه ل يظهر‬
‫إل لون واحد لمتزاج اللوان‪ ،‬وبذلك يكون قد سبق أسطوانة نيوتن )‬
‫‪1727- 1642‬م( بعدة قرون‪.‬‬
‫ور كمال الدين الفارسي نظرية قوس قزح‪ ،‬ووضع لها‬ ‫وقد ط ّ‬
‫الشكل النهائي في التراث العربي العلمي ليعّلل فيها أمرين‪ ،‬الول‪:‬‬
‫الهيئة التي يظهر عليها قوس قزح في السماء كقوس أو كقوسين‬
‫متحدي المركز‪ ،‬والثاني‪ :‬اللوان وترتيبها في كل من القوسين‪ ،‬وقد‬
‫أضاف الفارسي بنظريته إضافة علمية جديدة لعلم الضوء لم يسبقه‬
‫إليها ابن الهيثم‪ ,‬وسبق بنظريته هذه بحوث ديكارت ونيوتن عن قوس‬
‫قزح‪ ،‬واستطاع كمال الدين التوصل إلى تفسير جديد لظاهرة قوسي‬
‫قزح مداها أن قوس قزح الول ناتج عن انكسارين للضوء وانعكاس‬
‫واحد‪ ،‬وأن القوس الثاني ناتج عن انكسارين وانعكاسين‪ ,‬وبرهن على‬
‫تحديد انكسار ضوء الشمس خلل قطرات المطر‪ ،‬وهو النكسار‬
‫الذي يحدث ظاهرة قوس قزح عن طريق تمرير شعاع من خلل كرة‬
‫زجاجية‪.‬‬
‫من تكلم عن نظرية الضوء‬‫وكمال الدين الفارسي هو أول َ‬
‫الموجية‪ ،‬وله اهتمامات ببعض الظواهر الفلكية مثل‪ :‬الشفق‪،‬‬
‫والسمت‪ ،‬ودائرة البروج‪.‬‬
‫ومن أهم مصنفات كمال الدين الفارسي‪ :‬تنقيح المناظر لذوي‬
‫البصار والبصائر‪ ،‬و الهالة وقوس قزح‪ ،‬ومقال‪ :‬رسالة في أمر‬
‫الشفق‪ ،‬وله في الرياضيات كتب‪ :‬أساس القواعد في أصول الفوائد‪،‬‬
‫وهو شرح لكتاب ابن الخوام البغدادي المسمى‪ :‬الفوائد البهية في‬
‫القواعد الحسابية‪ ،‬وله كتاب‪ :‬تذكرة الحباب في بيان المتحاب وهو‬
‫في العداد المتحابة‪.‬‬
‫"المناظر"‪ ..‬وعلماء الغرب‬
‫عني ببحوث ابن‬
‫قا أن كمال الدين الفارسي هو الذي ُ‬
‫ذكرنا ساب ً‬
‫الهيثم في البصريات ودرسها دراسة وافية‪ ،‬وكان قد ألف في ذلك‬
‫كتابه المعروف "تنقيح المناظر لذوي البصار والبصائر"‪ ،‬وعن طريق‬
‫هذا الكتاب عرفت أوروبا الكثير عن ابن الهيثم وأعماله وجهوده في‬
‫علم الضوء بعد أن لم تكن قد ذاعت بعد؛ حيث نشر هذا الكتاب‬
‫ما في مدينة بال بسويسرا سنة )‪980‬هق‪ ،(1572 /‬وإن كان قد‬ ‫مترج ً‬
‫سبق نشره قبل اختراع الطباعة من قبل "جيرار دي كريمونا" أشهر‬
‫المترجمين في إسبانيا‪ ،‬الذي اهتم بإنشاء أضخم مجموعة فلكية سنة‬
‫)‪676‬هق‪1277 /‬م( عن العلماء العرب‪ ،‬وهذه الكتب استفادت منها‬
‫إسبانيا والبرتغال في رحلتهما البحرية في المحيط الطلنطي بفضل‬
‫الزياج الفلكية )الجداول الفلكية( والمعلومات الرياضية التي خلفها‬
‫العلماء العرب‪.‬‬
‫وعن طريق هذه الترجمات لعمال ابن الهيثم تأّثر روجر بيكون‬
‫وجون بيكام وفيتلو في بحوثهم‪ ،‬فكتاب جون بيكام الموسوم‬
‫صا من كتاب ابن الهيثم في البصريات‪،‬‬ ‫سا ناق ً‬
‫بالمنظور ليس إل اقتبا ً‬
‫وأما كتاب فيتلو الذي ألفه سنة )‪669‬هق‪1270 /‬م( فمأخوذ في قسم‬
‫كبير منه عن ابن الهيثم‪ ،‬ول يتجاوز النتائج التي وصل إليها‪.‬‬
‫وكان كتاب "المناظر" معيًنا للعديد من العلماء الحقيقيين‬
‫وغيرهم‪ ،‬فقبل أكثر من خمسة قرون ترجم اليطإلى جيرادي كيرمونا‬
‫هذا الكتاب إلى اللغة اللتينية‪ ،‬وما زالت مكتبة الفاتيكان تحتفظ‬
‫بنسخة من تلك الترجمة حتى الن‪ ،‬وتلقف علماء الغرب كتاب‬
‫"المناظر" ليستفيدوا منه في علوم الضوء والرياضيات‪ ،‬ولينسب‬
‫البعض إلى أنفسهم بعض الراء التي جاءت فيه‪.‬‬
‫ومن بين من نسب لنفسه بعض ما جاء في الكتاب في القرن‬
‫السابع عشر الميلدي اللماني "كبلر"‪ ،‬كما أن عالم البصريات فيتيلو‬
‫البولوني في كتابه "الذخيرة" نسب لنفسه الكثير مما قاله ابن‬
‫الهيثم؛ مما حدا بالعالم دي لبورتا أن يقول‪" :‬لقد أخطأ فيتيلو فيما‬
‫نقله عن الهازن )ابن الهيثم كما يطلق عليه الوروبيون( وكان كالقرد‬
‫المقلد‪ ،‬ولبث هذا الكتاب المنقول عن العربية مرجعا لهل أوروبا في‬
‫علم الضوء خلل القرون الوسطى"‪.360‬‬
‫لقد سبق ابن الهيثم كل ً من فيتلو وكبلر في وضع أساس علم‬
‫البصريات ورغم ذلك مازلنا نشير إلى كليهما على أنهما واضعا أساس‬
‫علم البصريات في كتبنا!!‬
‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فقد حاز ابن الهيثم إعجاب كثير من‬
‫المنصفين الغربيين‪ ،‬حتى وصفه جورج سارتون ‪ -‬وهو من كبار‬

‫‪ 360‬مصطفى نظيف‪ :‬الحسن بن الهيثم بحوثه وكشوفه البصرية ‪ 1/3‬نقل ً عن تعليق هيئة تحرير‬
‫‪.JOURNAK OF AMERICAN ORIENTAL SOCIETY VOL IV P. 1859‬‬
‫مؤرخي العلم ‪ -‬بقوله‪" :‬هو أعظم عالم فيزيائي مسلم‪ ،‬وأحد كبار‬
‫العلماء الذين بحثوا في البصريات في جميع العصور"‪.361‬‬
‫ووصفه أرنولد في كتاب " تراث السلم" يقول عنه‪" :‬إن علم‬
‫البصريات وصل إلى الوج بظهور ابن الهيثم"‪.362‬‬
‫وقد سحرت بحوث ابن الهيثم في الضوء "ماكس مايرهوف"‬
‫وأثارت إعجابه إلى درجة جعلته يقول‪" :‬إن عظمة البتكار السلمي‬
‫تتجلى لنا في البصريات"‪.363‬‬
‫أما دائرة المعارف البريطانية فقد وصفته بأنه رائد علم‬
‫البصريات بعد بطليموس‪.‬‬
‫وتقول زيغريد هونكه اللمانية‪" :‬كان الحسن بن الهيثم أحد أكثر‬
‫معلمي العرب في بلد الغرب أثًرا وتأثيًرا‪."..‬‬
‫ضا‪" :‬لقد كان تأثير هذا العربي )ابن الهيثم( النابغة‬
‫وتقول أي ً‬
‫على بلد الغرب عظيم الشأن فسيطرت نظرياته في علمي الفيزياء‬
‫والبصريات على العلوم الوروبية حتى أيامنا هذه‪ ،‬فعلى أساس كتاب‬
‫المناظر لابن الهيثم نشأ كل ما يتعلق بالبصريات ابتداء من النكليزي‬
‫)روجر بيكون( حتى اللماني )فيتلوا(‪ ،‬وأما ليوناردو دافنشي اليطإلى‬
‫مخترع آلة )التصوير الثقب( أو اللة المعتمة ومخترع المضخة‬
‫والمخرط وأول طائرة ‪ -‬ادعاء ‪ -‬فقد كان متأثًرا تأثيًرا مباشًرا بالعرب‬
‫وأوحت إليه آثار ابن الهيثم أفكاًرا كثيرة‪ ،‬وعندما قام )كبلر( في‬
‫ألمانيا خلل القرن السادس عشر ببحث القوانين التي تمكن )جليليو(‬
‫بالستناد إليها من رؤية نجوم مجهولة من خلل منظار كبير كان ظل‬
‫ابن الهيثم الكبير يجثم خلفه‪ ،‬وما تزال حتى أيامنا هذه المسألة‬
‫الفيزيائية الرياضية الصعبة التي حلها ابن الهيثم بواسطة معادلة من‬
‫الدرجة الرابعة مبرهًنا بهذا عن تضلعه البالغ في علم الجبر‪ ،‬نقول‪ :‬ما‬
‫تزال المسألة القائمة على حسب موقع نقطة التقاء الصورة التي‬
‫تعكسها المرآة المحرقة بالدوائر على مسافة منها ما تزال تسمى‬
‫"بالمسألة الهيثمية" نسبة إلى ابن الهيثم نفسه"‪.364‬‬
‫ويقول د‪ .‬تشالرز جروسي )متخصص في فسيولوجيا العصاب‬
‫والجوانب العصبية والنفسية للبصار( بعد دراسة قيمة في كتاب‬
‫المناظر‪" :‬والخلصة الساسية التي يمكننا الخروج بها هي أن هذا‬
‫الرجل المرموق يستحق منا دراسة أعمق‪ ،‬فمع أن العمل الفريد‬
‫الذي قام به ابن الهيثم في دمج الفيزياء والرياضيات ووظائف‬

‫انظر‪ :‬جورج سارتون‪ :‬مقدمة لتاريخ العلم ‪.1/721‬‬ ‫‪361‬‬

‫أرنولد‪ :‬تراث السلم‪.‬‬ ‫‪362‬‬

‫قدري حافظ طوفان‪ :‬علماء العرب وما أعطوه للحضارة ص ‪.167‬‬ ‫‪363‬‬

‫زيغريد هونكة‪ :‬شمس العرب تسطع على الغرب ص ‪.150‬‬ ‫‪364‬‬


‫العضاء في نظرية جديدة عن البصار قد احتل مكانة تاريخية‪ ،‬إل أن‬
‫نظرياته عن سيكولوجية الدراك وآثارها ستظل مجال ً خصًبا ومه ً‬
‫ما‬
‫للبحث والدراسة"‪.365‬‬
‫وأخيرا كانت هذه الحقيقة‪ ..‬يقول العالم الرياضى الفرنسى‬
‫"شارل أبرنون ")‪1880‬م(‪" :‬إن بحوث ابن الهيثم في ميدان المناظر‬
‫ت ُعَد ّ أصل معارفنا في علم الضوء"‪.366‬‬

‫تشالرز جروسي‪ :‬أراء ابن الهيثم في العين والمخ واستيعابها‪ ،‬موقع ويكبيديا الرابط‪:‬‬ ‫‪365‬‬

‫‪http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B7%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%8A‬‬
‫‪%D9%88%D9%86..‬‬
‫موقع مهارات النجاح الرابط‬ ‫‪366‬‬

‫‪http://www.sst5.com/inde.php?lang=0&CODE=02&id=1455..‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬آراء المستشرقين في‬
‫الحضارة العلمية السلمية‬
‫‪ -1‬شهادة المؤرخ النجليزي ويلز‬
‫"كل دين ل يسير مع المدنية في كل أطوارها فاضرب به عرض‬
‫الحائط‪ ،‬وإن الدين الحق الذي وجدته يسير مع المدنية أينما سارت‬
‫هو السلم‪ ..‬ومن أراد الدليل فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات‬
‫ومناهج علمية‪ ،‬وقوانين اجتماعية‪ ،‬فهو كتاب دين وعلم واجتماع‬
‫دد معنى السلم فإني أحدده‬ ‫ب مني أن أح ّ‬ ‫وخلق وتاريخ‪ ،‬وإذا ُ‬
‫طل َ‬
‫بهذه العبارة )السلم هو المدنية("‪.367‬‬

‫‪ -2‬شهادة العلمة بريفولت‬


‫"ما من ناحية من نواحي الزدهار الوربي إل يمكن إرجاع أصلها‬
‫ن ما يدين به علمنا‬ ‫إلى مؤّثرات الثقافة السلمية بصورة قاطعة‪ ،‬وإ ّ‬
‫دموه لنا من كشوف مدهشة ونظريات‬ ‫لعلم العرب ليس فيما ق ّ‬
‫مبتكرة‪ ،‬بل إنه مدين بوجوده ذاته… ولم يكن بيكون إل رسول ً من‬
‫لق ّ‬
‫ط‬ ‫رسل العلم والمنهج السلمي إلى أوربا المسيحية‪ ،‬وهو لم َيم ّ‬
‫من التصريح بأن اللغة العربية وعلوم العرب هما الطريق الوحيد‬
‫لمعرفة الحق‪ ..368‬ولقد انبعثت الحضارة السلمية انبعاًثا طبيعًيا من‬
‫القرآن‪ ،‬وتميزت عن الحضارات البشرية المختلفة بطابع العدل‬
‫وة‬‫والخلق والتوحيد‪ ،‬كما اتسمت بالسماحة والنسانية والخ ّ‬
‫العالمية"‪.369‬‬

‫‪ -3‬شهادة المفكر ليوبولد فايس‬


‫ن العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه‪،‬‬
‫"لسنا نبالغ إذ قلنا‪ :‬إ ّ‬
‫شن في مدن أوربا‪ ،‬ولكن في المراكز السلمية في دمشق‬ ‫لم ُيد ّ‬
‫وبغداد والقاهرة وقرطبة" ‪.‬‬
‫‪370‬‬

‫"نحن مدينون للمسلمين بكل محامد حضارتنا في العلم والفن‬


‫ب المسلمين أنهم كانوا مثال ً للكمال البشري‪ ،‬بينما‬‫س ُ‬
‫ح ْ‬
‫والصناعة‪ ،‬و َ‬
‫كّنا مثال ً للهمجية" ‪.‬‬
‫‪371‬‬

‫‪ -4‬شهادة الكاتب الفرنسي أناتول فرانس‬


‫عبد المنعم النمر‪ :‬السلم والمبادئ المستوردة ص ‪.84‬‬ ‫‪367‬‬

‫أنور الجندي‪ :‬مقدمات العلوم والمناهج ‪ 4/710‬نقل ً عن رويلت بريفولت‪ :‬بناء النسانية‪.‬‬ ‫‪368‬‬

‫أنور الجندي‪ :‬أخطر ما تواصى به المسلمون عبر الجيال ص ‪.16‬‬ ‫‪369‬‬

‫محمد أسد‪ :‬السلم على مفترق الطرق ص ‪.40‬‬ ‫‪370‬‬

‫عبد المنعم النمر‪ :‬السلم والمبادئ المستوردة ص ‪.84‬‬ ‫‪371‬‬


‫"أسوأ يوم في التاريخ هو يوم معركة )بواتييه( عندما تراجع‬
‫العلم والفن والحضارة العربية أمام بربرية الفرنجة‪ ،‬أل ليت شارل‬
‫ده ولم ينتصر على القائد السلمي عبد الرحمن‬ ‫مارتل قُط َِعت ي ُ‬
‫الغافقي"‪.‬‬
‫"حين نتذكر كم كان العرب بدائيين في جاهليتهم يصبح مدى‬
‫التقدم الثقافي الذي أحرزوه خلل مئتي سنة‪ ،‬وعمق ذلك التقدم‪،‬‬
‫ضا أن‬ ‫قا‪ ،‬ذلك بأن علينا أن نتذكر أي ً‬ ‫أمًرا يدعو إلى الذهول ح ً‬
‫شئ ما‬‫ف وخمسمائة سنة لكي ُتن ِ‬ ‫النصرانية احتاجت إلى نحوٍ من أل ٍ‬
‫ل من العلم‬ ‫لك ّ‬‫عى حضارة مسيحية‪ ،‬وفي السلم لم ُيو ّ‬ ‫يمكن أن ُيد َ‬
‫والدين ظهره للخر‪ ،‬بل كان الدين باعًثا على العلم‪ ،‬وإن الحضارة‬
‫الغربية مدينة للحضارة السلمية بشيء كثير إلى درجة نعجز معها‬
‫عن فهم الولى إذا لم تتم معرفة الثانية"‪.372‬‬

‫‪ -5‬شهادة المسيو سيديو‬


‫جر العقل‪،‬‬‫"لم يشهد المجتمع السلمي ما شهدته أوربا من تح ّ‬
‫ل التفكير‪ ،‬وجدب الّروح‪ ،‬ومحاربة العلم والعلماء‪ ،‬ويذكر التاريخ‬‫وش ّ‬
‫رقوا أحياًء! ول جدال في أن تاريخ‬ ‫ُ‬
‫أن اثنين وثلثين ألف عالم قد أح ِ‬
‫السلم لم يعرف هذا الضطهاد الشنيع لحرية الفكر‪ ،‬بل كان‬
‫المسلمون منفردين بالعلم في تلك العصور المظلمة‪ ،‬ولم يحدث أن‬
‫ن بالسلطة‪ ،‬ومنح مخالفيه في العقيدة كل أسباب الحرية‬ ‫انفرد دي ٌ‬
‫كما فعل السلم" ‪.‬‬
‫‪373‬‬

‫ة العظيمة في الندلس!‬ ‫ست بالقدام تلك المدني ُ‬


‫"لقد ِدي َ‬
‫ولماذا؟ لنها نشأت من أصول رفيعة‪ ،‬ومن طباع شريفة‪ ،‬نعم من‬
‫ما للحياة"‪.374‬‬
‫رجال السلم‪ .‬إن المدنية السلمية لم تتنكر يو ً‬

‫روم لندو‪ :‬السلم والعرب ص ‪.9،246‬‬ ‫‪372‬‬

‫حسان شمسي باشا‪ :‬هكذا كانوا يوم كنا ص ‪.83‬‬ ‫‪373‬‬

‫محمد الغزالي‪ :‬ظلم من الغرب ص ‪.140‬‬ ‫‪374‬‬


‫‪ -6‬شهادة الع ّ‬
‫لمة جورج سارتون‬
‫"المسلمون عباقرة الشرق‪ ،‬لهم مأثرة عظمى على النسانية‪،‬‬
‫ة‬‫تتمثل في أنهم توّلوا كتابة أعظم الدراسات قيمة‪ ،‬وأكثرها أصال ً‬
‫قا‪ ،‬مستخدمين اللغة العربية التي كانت بل مراٍء لغة العلم‬
‫وعم ً‬
‫للجنس البشري" ‪.‬‬
‫‪375‬‬

‫‪ -7‬شهادة الدكتورة لويجي رينالدي‬


‫"لما شعرنا بالحاجة إلى دفع الجهل الذي كان يثقل كاهلنا‪،‬‬
‫تقدمنا إلى العرب ومددنا إليهم أيدينا لنهم كانوا الساتذة الوحيدين‬
‫في العالم"‪.376‬‬

‫‪ -8‬شهادة البروفسور غريسيب‪ ،‬مدير‬


‫جامعة برلين‬
‫"أيها المسلمون ما دام كتابكم المقدس عنوان نهضتكم موجوًدا‬
‫بينكم‪ ،‬وتعاليم نبيكم محفوظة عندكم‪ ،‬فارجعوا إلى الماضي لتؤسسوا‬
‫المستقبل"‪.377‬‬

‫‪ -9‬شهادة المستشرق درايبر‬


‫"ينبغي أن أنعي على الطريقة التي تحايل بها الدب الوربي‬
‫ليخفي عن النظار مآثر المسلمين العلمية علينا! إن الجور المبّني‬
‫على الحقد الديني‪ ،‬والغرور الوطني ل يمكن أن يستمر إلى البد" ‪.‬‬
‫‪378‬‬

‫‪ -10‬شهادة المستشرق الفرنسي جاك‬


‫رسلر‬
‫في غضون خمسمائة سنة ما بين ‪ 700‬و ‪ 1200‬ساد السلم‬
‫على العالم بقوة حضارته وعلمه ‪ ..‬فكان المقاتل العربي في القرن‬
‫الحادي عشر مزوًدا بالقوس والقذافة قبل الغربيين بمائتي عام‬
‫وكانت القذافة تستعمل لغرضين فهي لم تكن تسمح فقط بإطلق‬
‫عدة أسهم فحسب‪ ،‬بل كانقت قادرة على قذفها لمسافة بعيدة ‪،‬‬

‫‪ 375‬حسان شمسي باشا‪ :‬هكذا كانوا يوم كنا ص ‪ ،8‬وانظر‪ :‬أحمد علي المل‪ :‬أثر العلماء‬
‫المسلمين في الحضارة الوروبية ص ‪.110،111‬‬
‫‪ 376‬أنور الجندي‪ :‬مقدمات العلوم والمناهج ‪.7/141‬‬
‫‪ 377‬حسان شمسي باشا‪ :‬هكذا كانوا يوم كنا ص ‪.9‬‬
‫‪ 378‬عماد الدين خليل‪ :‬تشكيل العقل المسلم ص ‪.94‬‬
‫ومنها ما كان يطلق من على منصات إطلق ثقيلة ‪ .‬ثم كان العرب‬
‫أول من صنع البارود بعد ذلك بنصف قرن"‪.379‬‬

‫‪ -11‬شهادة رينان‬
‫ولود إلى إبداع المدنية من‬
‫"ما يدرينا أن يعود العقل السلمي ال َ‬
‫جديد؟ إن فترات الزدهار والنحدار مّرت على جميع المم بما فيها‬
‫أوربا المتعجرفة"‪.380‬‬

‫‪ -12‬شهادة غوستاف لوبون‬


‫ن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت المم الوربية‬ ‫"إ ّ‬
‫الوحشية في عالم النسانية‪ ،‬فلقد كان العرب أساتذتنا… وإن‬
‫جامعات الغرب لم تعرف لها مورًدا علمًيا سوى مؤلفات العرب‪ ،‬فهم‬
‫دنوا أوربا مادة ً وعقل ً وأخلًقا‪ ،‬والتاريخ ل يعرف أمة أنتجت ما‬
‫الذين م ّ‬
‫مدينة للعرب بحضارتها… وإن العرب هم أول من‬ ‫أنتجوه… إن أوربا َ‬
‫عّلم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين… فهم الذين‬
‫عّلموا الشعوب النصرانية‪ ،‬وإن شئت فقل‪ :‬حاولوا أن يعلموها‬
‫التسامح الذي هو أثمن صفات النسان… ولقد كانت أخلق‬
‫المسلمين في أدوار السلم الولى أرقى كثيًرا من أخلق أمم الرض‬
‫ة…"‪.381‬‬ ‫قاطب ً‬

‫‪ -13‬شهادة جلين ليونارد‬


‫يجب أن تكون حالة أوروبا مع السلم بعيدة من كل هذه‬
‫العتبارات الثقيلة‪ ،‬وأن تكون حالة شكرٍ أبديّ بدل ً من نكران الجميل‬
‫ن أوروبا لم تعترف إلى يومنا هذا‬ ‫الممقوت والزدراء المهين‪ ،‬فإ ّ‬
‫بإخلص طوية وقلب سليم‪ ،‬بالد ّْين العظيم المدينة به للتربية‬
‫السلمية والمدنية العربية‪ ،‬فقد اعترفت به بفتور وعدم اكتراث‬
‫عندما كان أهلها غارقين في بحار الهمجية والجهل في العصور‬
‫المظلمة فقط‪ .‬ولقد وصلت المدنية السلمية عند العرب إلى أعلى‬
‫مستوى من عظمة العمران والعلم‪ ،‬فأحيت المجتمع الوروبي‬
‫وحفظته من النحطاط‪ ،‬ولم نعترف ‪ -‬ونحن نرى أنفسنا في أعلى‬
‫قمة من التهذيب والمدنية ‪ -‬بأنه لول التهذيب السلمي‪ ،‬ومدنية‬
‫حسن نظام‬ ‫العرب وعلمهم وعظمتهم في مسائل المدنية‪ ،‬و ُ‬
‫مدارسهم‪ ،‬لكانت أوروبا إلى اليوم غارقة في ظلمات الجهل ‪.‬‬
‫‪382‬‬

‫جاك رسلر‪ :‬كتاب الحضارة العربية‪.‬‬ ‫‪379‬‬

‫أنور الجندي‪ :‬مقدمات العلوم والمناهج ‪.8/173‬‬ ‫‪380‬‬

‫انظر‪ :‬غوستاف لوبون‪ :‬حضارة العرب ص ‪.26،276،430،566‬‬ ‫‪381‬‬

‫محمد كرد على‪ :‬السلم والحضارة العربية القاهرة ‪ 1968‬ص ‪.82‬‬ ‫‪382‬‬
‫‪ -14‬شهادة كارادي فو‬
‫إن العرب ارتفعوا بالحياة العقلية والدراسة العلمية إلى المقام‬
‫السمى في الوقت الذي كان العالم المسيحي يناضل نضال‬
‫المستميت للنعتاق )للتحّرر( من أحابيل البربرية وأغللها‪ ،‬ووصلوا‬
‫إلى قمة نشاطهم )الذي استمر حتى القرن الخامس عشر( في‬
‫دا‪ ،‬كانت‬
‫القرنين التاسع والعاشر‪ .‬ومن القرن الثاني عشر فصاع ً‬
‫ط أنظار كل غربي يميل إلى العلم‬ ‫مراكش والشرق الوسط مح ّ‬
‫ويتذوقه‪ ،‬وفي هذه الفترة شرع أبناء أوروبا يترجمون آثار العرب‪ ،‬كما‬
‫كان العرب قد ترجموا آثار الغريق‪.383‬‬

‫‪ -15‬شهادة زيغريد هونكه‬


‫"إن هذه القفزة السريعة المدهشة في سلم الحضارة التي‬
‫قفزها أبناء الصحراء‪ ،‬والتي بدأت من الل شيء لهي جديرة بالعتبار‬
‫في تاريخ الفكر النساني‪ .‬وإن انتصاراتهم العلمية المتلحقة التي‬
‫فريدة من نوعها‪ ،‬لدرجة‬ ‫جعلت منهم سادة للشعوب المتحضرة ل َ َ‬
‫تجعلها أعظم من أن ُتقاَرن بغيرها‪ ،‬وتدعونا أن نقف متأملين‪ :‬كيف‬
‫ما‪،‬‬‫ككة شعًبا عظي ً‬‫حدث هذا؟ إنه السلم الذي جعل من القبائل المتف ّ‬
‫ب طريقهم‬ ‫آخت بينه العقيدة‪ ،‬وبهذا الروح القوي الفتي شقّ العر ُ‬
‫بعزيمة قوية تحت قيادة حكيمة وضع أساسها الرسول بنفسه!! أو‬
‫ليس في هذا اليمان تفسير لذلك البعث الجديد؟! والواقع أن روجر‬
‫بيكون أو جاليليو أو دافنشي ليسوا هم الذين أسسوا البحث‬
‫العلمي ‪ ..‬إنما السّباقون في هذا المضمار كانوا من العرب الذين‬
‫لجؤوا في بحثهم إلى العقل والملحظة والتحقيق والبحث المستقيم‪،‬‬
‫دم المسلمون أثمن هدية وهي طريقة البحث العلمي الصحيح‬ ‫لقد ق ّ‬
‫التي مّهدت أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار الطبيعة وتسلطه‬
‫ن كل مستشفى‪ ،‬وكل مركز علمي في أيامنا هذه إنما‬ ‫عليها اليوم‪ .‬وإ ّ‬
‫هي في حقيقة المر ُنصب تذكاري للعبقرية العربية‪.‬‬
‫وقد بقي الطب الغربي قروًنا عديدة ً نسخة ممسوخة عن‬
‫الطب العربي‪ ،‬وعلى الرغم من إحراق كتب ابن سينا في مدينة بازل‬
‫ف من رفوف‬ ‫بحركة مسيحية عدائية‪ ،‬فإن كتب التراث العربي لم تخت ِ‬
‫المكتبات وجيوب الطباء‪ ،‬بل ظّلت محفوظة يسرق منها السارقون‬
‫ما أحّبوا أن يسرقوا"‪.384‬‬

‫‪ -16‬شهادة بلسنر‬

‫‪ 383‬كارداي فو‪ :‬الفلك والرياضيات بحث منشورة بكتاب تراث السلم بإشراف "أرنولد" ص‬
‫‪.564‬‬
‫‪ 384‬زيغريد هونكه‪ :‬شمس العرب تسطع على الغرب ص ‪.148،269،315،354‬‬
‫"ل يكاد يوجد شيء من جهود المسلمين في ميدان العلوم لم‬
‫يتأثر به الغرب بطريق أو بآخر"‬
‫"لم تكن علوم المسلمين بطبيعة الحال العامل الوحيد الذي‬
‫أدى إلى إحياء العلم في الغرب‪ ،‬فتقاليد العلوم القديمة لم تتلش‬
‫ما وسط الفوضى التي عمت خلل عصر غزوات البرابرة لوربا‪،‬‬ ‫تما ً‬
‫ومع ذلك فمن الصحيح أن علماء المسلمين أعطوا العلم الوربي قوة‬
‫دفع جديدة‪ ،‬وأهم من ذلك أن هذا العلم الغربي قد اكتسب مادة أّدت‬
‫إلى إثرائه بدرجة ل نظير لها بفضل الترجمات العربية عن الغريق‪،‬‬
‫وكذلك بفضل النتاج العلمي المستقل للمسلمين أنفسهم‪.385"..‬‬

‫‪ -17‬شهادة يبدي تومبسون‬


‫"إن انتعاش العلم في العالم الغربي نشأ بسبب تأثر شعوب‬
‫غربي أوربا بالمعرفة العلمية العربية وبسبب الترجمة السريعة لمؤ ّ‬
‫ل‬
‫فات المسلمين في حقل العلوم ونقلها من العربية إلى اللتينية لغة‬
‫التعليم الدولية آنذاك ويقول في مكان آخر‪ :‬إن ولدة العلم في‬
‫الغرب ربما كان أمجد قسم وأعظم إنجاز في تاريخ المكتبات‬
‫السلمية"‪.386‬‬

‫‪ -18‬شهادة أوسلر‬
‫كن علماء الغرب من الشروع في الثورة العلمية‪،‬‬‫إن ابن سينا م ّ‬
‫التي بدأت فعل ً في القرن الثالث عشر وبلغت مرحلتها الساسية في‬
‫القرن السابع عشر"‪.387‬‬

‫‪ -19‬شهادة جوان فرينيه‬


‫"وإذا نحن تحّرينا الدقة نجد أن أصول التطور العلمي‬
‫للرياضيات عند المسلمين تبدأ مع القرآن الكريم‪ ،‬وذلك فيما ورد في‬
‫قدة في تقسيم الميراث‪ ،‬وي ُعَد ّ الخوارزمي‬
‫القرآن من الحكام المع ّ‬
‫أول رياضي مسلم‪ ،‬ونحن مدينون له بمحاولة وضع تنظيم منهجي‬
‫باللغة العربية لكل المعارف العلمية والتقويم‪ ،‬كما ندين له باللفظ‬
‫السباني "غوارزمي" الذي يعني الترقيم )أي العداد ومنازلها‬
‫والصفر(‪ ،‬وكان الجبر هو الميدان الثاني الذي عمل فيه الخوارزمي‪،‬‬
‫عا لية‬
‫وهو فرع من الرياضيات لم يكن حتى ذلك الوقت موضو ً‬
‫دراسة منهجية جادة"‪.388‬‬

‫‪ 385‬بلسنر‪ :‬العلوم الطبيعية والطب دراسة منشورة بكتاب تراث السلم إشراف "شاخت"‬
‫و"بوزورث" ص ‪.81،79‬‬
‫‪.Yhompsonj\J\W\The Medioval Library N.Y. Hafner Piblishing Company 1967 P,263 386‬‬
‫‪ 387‬شوقي أبو خليل‪ :‬دور الحضارة العربية السلمية في النهضة الوربية ص ‪.123‬‬
‫‪ -20‬شهادة براند تراند جون‬
‫ة أثناء القرن‬
‫"إن قرطبة التي فاقت كل حواضر أوربا مدني ً‬
‫ط إعجاب العالم ودهشته‪ ،‬كمدينة‬ ‫العاشر كانت في الحقيقة مح ّ‬
‫فينسيا في أعين دول البلقان‪ .‬وكان السياح القادمون من الشمال‬
‫يسمعون بما هو أشبه بالخشوع والرهبة عن تلك المدينة التي تحوي‬
‫سبعين مكتبة‪ ،‬وتسعمائة حمام عمومي؛ فإن أدركت الحاجة حكام‬
‫ح أو مهندس أو معماري أو خائط‬ ‫ليون أو النافار أو برشلونة إلى جرا ٍ‬
‫ثياب أو موسيقي فل يتجهون بمطالبهم إل إلى قرطبة" ‪.‬‬
‫‪389‬‬

‫‪ -21‬شهادة دويبر‬
‫"ولما آلت الخلفة إلى المأمون سنة ‪813‬م صارت بغداد‬
‫العاصمة العلمية العظمى في الرض؛ فجمع الخليفة إليها كتًبا ل‬
‫تحصى‪ ،‬وقّرب إليه العلماء‪ ،‬وباَلغ في الحفاوة بهم‪ .‬وقد كانت‬
‫جامعات المسلمين مفتوحة للطلبة الوربيين الذين نزحوا إليها من‬
‫بلدهم لطلب العلم‪ ،‬وكان ملوك أوروبا وأمراؤها ي َْغدون على بلد‬
‫جوا فيها"‪.390‬‬
‫المسلمين لُيعال َ‬

‫‪ 388‬جوان فرينيه‪ :‬الرياضيات والفلك والبصريات دراسة منشورة بكتاب تراث السلم إشراف‬
‫"شاخت" و"بوزورث" القسم الثالث ص ‪.168‬‬
‫‪ 389‬جون براند تراند‪ :‬إسبانيا والبرتغال دراسة منشورة بكتاب تراث السلم بإشراف "أرنولد"‬
‫ص ‪.27‬‬
‫‪ 390‬دوبير‪ :‬المنازعة بين العلم‪.‬‬
‫‪ -22‬شهادة نيكلسون‬
‫سب شيًئا مذكوًرا إزاء ما نحن‬‫شفات اليوم ل َُتح َ‬
‫"وما المكت َ َ‬
‫ضاًء في القرون‬ ‫مدينون به للّرّواد العرب الذين كانوا مشعل ً و ّ‬
‫الوسطى ول سيما في أوربا"‪.391‬‬

‫‪ -23‬شهادة وايدمان‬
‫دا‪،‬‬
‫"إن العرب أخذوا بعض النظريات عن اليونان وفهموها جي ً‬
‫وطّبقوها على حالت كثيرة ومختلفة‪ ،‬ثم أنشأوا من ذلك نظريات‬
‫ت ل تق ّ‬
‫ل‬ ‫جديدة وبحوث مبتكرة‪ ،‬فهم بذلك قد أسدوا إلى العلم خدما ٍ‬
‫عن الخدمات التي أتت من مجهودات نيوتن‪ ،‬وفراداي‪ ،‬وُرنتجن" ‪.‬‬
‫‪392‬‬

‫‪ -24‬شهادة كمستون‬
‫"إّنه لو لم يكن للعرب غير هذا الفضل في النقاذ‪ ،‬لكفاهم‬
‫خدمة وفخًرا‪ .‬لقد رفع العرب شأن الطب ولهم الفضل في جعل‬
‫ما منفصل عنه‪ ،‬وفي إنشاء المستشفيات والتفنن فيها‪،‬‬‫الجراحة قس ً‬
‫وفي الترخيص الشرعي لممارسة الطب" ‪.‬‬
‫‪393‬‬

‫‪ -25‬الباحث اللماني الدكتور بير بورمان‬


‫"إن إنجازات المسلمين في العالم واضحة جلّية في كل شؤون‬
‫العلوم والثقافة‪ ،‬بل إن إنجازاتهم في مجال الطب ل يستطيع أحد‬
‫إنكارها‪ ،‬وهذا هو ما دفعني إلى تأليف كتاب بعنوان )الطب السلمي‬
‫في القرون الوسطى("‪ .‬وقال‪" :‬دفعني لتأليف هذا الكتاب أنني‬
‫كمسيحي ألماني أدين بالفضل في جزء من ثقافتي للثقافة السلمية‪،‬‬
‫وهذا ما أحاول توضيحه وتأكيده رغم محاولت البعض طمس الدور‬
‫المهم الذي لعبه المسلمون في أوروبا والعالم‪ ،‬ولقد عكفت أنا‬
‫وزميلتي الباحثة "إيميلي سافاج سميث" علي رصد إنجازات‬
‫المسلمين في مجال الطب في القرون الوسطى"‪ ،‬وأضاف‪" :‬إن‬
‫المستشفيات السلمية كانت عبارة عن أوقاف إسلمية‪ ،‬وكانت تقدم‬
‫الخدمة الطبية لكل الناس بصرف النظر عن ديانتهم‪ ،‬فهناك اليهود‬
‫والمسيحيون والصابئة والزرادشتيون وغيرهم‪ ،‬فكان المستشفى‬
‫حا إسلمًيا كبيًرا مع غير‬
‫السلمي يعالج الجميع‪ ،‬وهذا يعني تسام ً‬
‫المسلمين"‪ ..‬وعن أهم المراض التي أسهم فيها المسلمون بعلم‬

‫قدري طوفان‪ :‬علماء العرب وما قدموه للحضارة ص ‪.6‬‬ ‫‪391‬‬

‫قدري طوفان‪ :‬علماء العرب وما قدموه للحضارة ص ‪.10‬‬ ‫‪392‬‬

‫قدري طوفان‪ :‬علماء العرب وما قدموه للحضارة ص ‪.12‬‬ ‫‪393‬‬


‫جديد‪ ،‬قال‪" :‬الكثير من المراض‪ ،‬إل أن أخطرها هو مرض‬
‫المالنخوليا"‪.394‬‬

‫‪ -26‬شهادة ي‪ .‬هل‬
‫"من تراث العرب علم حساب المثلثات ونظريات الزوايا‬
‫والّتماس‪ ،‬ولم يكن في استطاعة بيورباخ ورجيوناس وكوبرنيق أن‬
‫يصلوا إلى ما وصلوا إليه دون أساس من علوم العرب وما أسهموا به‬
‫في ميدان الرياضيات؛ ذلك أن العرب أحّبوا تدعيم نظرياتهم بنماذج‬
‫عملية‪ ،‬وساعدهم ذلك على وصول درجة الكمال في علم الجوادسيا‬
‫)مقياس سطح الرض( الخاص بقياس ارتفاع الجبال واتساع الوديان‪،‬‬
‫أو حساب المسافة بين نقطتين تقعان على سطح منبسط‪ ،‬واستخدم‬
‫ضا في تصميم مجاري المياه"‪.395‬‬
‫العرب هذا العلم أي ً‬

‫‪ -27‬شهادة جوستاف إ‪ .‬فون جرونيباوم‬


‫قا‪ ،‬حتى لقد‬
‫"كان الرازي يتناول الطب على صورة علمية ح ّ‬
‫كتب رسالة موضوعها "أن مهرة الطباء أنفسهم ل يستطيعون شفاء‬
‫جميع المراض"‪.396‬‬

‫‪ -28‬شهادة مايرهوف‬
‫"كان تفوق المسلمين العلمي والمادي في الشطر العظم من‬
‫العصر الوسيط معَترًفا به غير منكور إلى حد ّ بعيد‪ .‬ثم يتناقص ذلك‬
‫التفوق قرب نهاية ذلك العصر بدخول الشرق في دور الركود الذهني‬
‫والضمحلل القتصادي‪ ،‬على حين تنهض أوروبا وتتماسك وقد نبهها‬
‫طراد إلمامها بالعلوم السلمية"‪.397‬‬ ‫إلى حد كبير ا ّ‬

‫‪ -29‬تشرش‬
‫"يعود الفضل للعرب إذ أنهم كانوا أول من أوجد حوانيت‬
‫الصيدلة لبيع القرباذينات‪ ،‬ويغلب على الظن أنه لول العرب لما وصل‬
‫الطب الوربي إلى ما هو عليه الن"‪.398‬‬

‫‪ -30‬شهادة تومبسون‬

‫‪ 394‬حوار له بجريد الخبار المصرية بتاريخ ‪.13/4/2007‬‬


‫‪ 395‬ي‪ .‬هل‪ :‬الحضارة العربية ص ‪ ،108‬تعريب الدكتور إبراهيم العدوي‪.‬‬
‫‪ 396‬جوستاف إ‪ .‬فون جرونيباوم‪ :‬حضارة السلم ص ‪ ،424‬ترجمة عبد العزيز توفيق‪.‬‬
‫‪ 397‬انظر تراث السلم ص ‪.353‬‬
‫‪ 398‬محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص ‪.188‬‬
‫ن انتعاش العلم في العالم الغربي نشأ بسبب تأّثر شعوب‬ ‫"إ ّ‬
‫غربي أوربا بالمعرفة العلمية العربية‪ ،‬وبسبب الترجمة السريعة‬
‫لمؤّلفات المسلمين في حقل العلوم‪ ،‬ونقلها من العربية إلى اللتينية‬
‫ن ولدة العلم في الغرب‪ ،‬ربما كان أمجد‬ ‫لغة التعليم الدولية آنذاك‪ ..‬إ ّ‬
‫قسم‪ ،‬وأعظم إنجاز في تاريخ المكتبات السلمية ‪.‬‬
‫‪399‬‬

‫‪ -33‬شهادة ماكس فانتيجو‬


‫"كل الشواهد تؤكد أن العلم الغربي مدين بوجوده إلى‬
‫الحضارة العربية السلمية‪ ،‬وأن المنهج العلمي الحديث القائم على‬
‫البحث والملحظة والتجربة‪ ،‬والذي أخذ به علماء أوربا والذي أخذ به‬
‫علماء أوروبا‪ ،‬إنما كان نتاج اتصال العلماء الوربيين بالعالم السلمي‬
‫عن طريق دولة العرب المسلمين في الندلس‪.400‬‬

‫‪ -34‬شهادة الزعيم الهندي "جواهر لل‬


‫نهرو"‬
‫ن بغداد تفوقت على كل‬ ‫"إنهم ‪ -‬العرب ‪ -‬آباء العلم الحديث وإ ّ‬
‫العواصم الوروبية فيما عدا قرطبة عاصمة أسبانيا العربية‬
‫كنقدي‬ ‫"الندلس"‪ ،‬وإنه كان ل ب ُد ّ من وجود ابن الهيثم والحسن وال ِ‬
‫وابن سينا والخوارزمي والبيروني لكي يظهر عند الغرب "جاليليو‪،‬‬
‫وكبلر‪ ،‬وكوبرنيق‪ ،‬ونيوتن"‪.401‬‬

‫‪ -35‬شهادة المير البريطاني تشارلز‬


‫"إن السلم يمكن أن يعلمنا طريقة للتفاهم والعيش في‬
‫العالم‪ ،‬المر الذي فقدته المسيحية ‪ ،‬فالسلم يرفض الفصل بين‬
‫النسان والطبيعة‪ ،‬والدين والعلم‪ ،‬والعقل والمادة"‪.402‬‬

‫‪ -38‬شهادة الموسوعة البريطانية‬


‫"والحق أن كثيًرا من أسماء الدوية وكثيًرا من مركباتها‬
‫المعروفة حتى يومنا هذا‪ ،‬وفي الحقيقة المبنى العام للصيدلة الحديثة‬

‫‪.Thompson the mediaeval n. y. hafner piblishing combany page263 399‬‬


‫‪ 400‬ماكس فانتيجو‪ :‬في كلمة له أمام مؤتمر الحضارة العربية السلمية المعقود في جامعة‬
‫برنستون في واشنطن عام ‪1953‬م انظر شوقي أبو خليل‪ ،‬هاني المبارك‪ :‬دور الحضارة‬
‫العربية والسلمية في النهضة الوربية ص ‪.125‬‬
‫‪ 401‬جواهر لل نهروا‪ :‬لمحات من تاريخ العالم‪.‬‬
‫‪ 402‬محاضرة "السلم والغرب" والتي ألقاها في مركز أوكسفورد للدراسات السلمية عام‬
‫‪.1993‬‬
‫‪ -‬فيما عدا التعديلت الكيماوية الحديثة بطبيعة الحال ‪ -‬قد بدأه‬
‫العرب"‪.403‬‬

‫‪ -39‬شهادة دريبر‬
‫"كان الفلح المسيحي الوربي إذا أصابته حادثة‪ ،‬أو فاجأته‬
‫الحمى‪ ،‬يسرع إلى ضريح أقرب قديس انتظاًرا لحدوث معجزة‬
‫تشفيه‪ ،‬وأما العربي السباني فكان يعتمد على تعليمات طبيبه‪،‬‬
‫ومشرطه‪ ،‬وتضميد جراحه"‪.404‬‬

‫‪ -40‬شهادة الدكتور كمبل‬


‫"إن أوربا كانت من عصر شارلمان حتى تأسيس مدرسة‬
‫)سالرنو( الطبية )العرب هم الذين أسسوها(‪ ،‬قد انحدرت إلى أدنى‬
‫دركات النحطاط‪ ،‬وإن شعوبها لم تكن لتقارن بالهمج السطوريين‬
‫الذين عاشوا في أدنى حدود المدنية‪ ،‬وأنها كانت كلها حتى الحروب‬
‫الصليبية )‪1272 - 1096‬م( باستثناء إسبانيا وإيطإليا )وكانتا تحت‬
‫النفوذ العربي السلمي( في حالة همجية تامة"‪.405‬‬

‫الموسوعة البريطانية ‪ 18/46‬الطبعة الحادية عشر‪.‬‬ ‫‪403‬‬

‫‪J. Draper: A History of the intellectual devekoment of Europe Vol 11/49.‬‬ ‫‪404‬‬

‫‪.D. Campbell: ARABIAN Medicine Vol 1/107,108‬‬ ‫‪405‬‬


‫‪ -41‬شهادة أندرو ديكسون وايت‬
‫"إن معاملة المجانين في العالم السلمي منذ عصر عمر وما‬
‫بعده كانت أرحم بكثير من الوضع الذي ساد في طول العالم‬
‫ة عشَر قرَنا من الزمان‪ ،‬كان المجانين‬‫المسيحي وعرضه مدة ثماني َ‬
‫ة تعّرضوا‬
‫م َ‬
‫ُيعت ََبرون خللها ممسوسين تقمصتهم الشياطين‪ ،‬ومن ث ّ‬
‫لقصى ضروب التنكيل والوحشية‪.‬‬
‫ضا‪" :‬إن الراهب جون هوارد لحظ في القرن الثامن‬ ‫ويقول أي ً‬
‫عشر ما لحظه غيره من الّرهبان والّرحالة الوربيين في ذلك العصر‬
‫ن المسلمين قد وّفروا كثيًرا من الوسائل الرحيمة‬ ‫وقبل ذلك‪ ،‬أ ّ‬
‫للمجانين‪ ،‬لم ي ََر هؤلء لها مثيل ً في أراضي أوربا المسيحية‪ .‬والحق أن‬
‫المسلمين هم الذين نبهوا إلى ضرورة بذل الجهود التي بدأت في‬
‫أوربا ابتداء من القرن الثامن عشر لمعاملة المجانين معاملة‬
‫رحيمة"‪.406‬‬

‫‪ -42‬شهادة سميث‬
‫"إن البيروني كان ألمع أهل زمانه في الرياضيات‪ ،‬وإن الغربيين‬
‫مدينون له بمعلوماتهم عن الهند ومآثرهم في العلوم"‪.407‬‬

‫‪ -43‬شهادة سنجر‬
‫"نستطيع أن نستبين بوضوح الحالة الراهنة في ذلك العصر بأن‬
‫نستجمع الصورة الحقيقية من وثائق مختلفة‪ ،‬تدل على أن طالب‬
‫العلم الوربي‪ ،‬المشغوف بالعلم‪ ،‬المتطلع إلى الستزادة من المعرفة‬
‫ذاك الذي كانت الدراسة في باريس أو بادوا أو أكسفورد ل ترضيه‪،‬‬
‫إنما كان يذهب إلى طليطلة أو قرطبة"‪.408‬‬

‫‪ 406‬انظر‪A. D. White: A History of the Warfare of Science with Theology in Christendom :‬‬
‫‪.Vol. 11/123‬‬
‫‪ 407‬قدري حفظ طوفان‪ :‬تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك ص ‪ ،311‬نقل ً عن سميث‪:‬‬
‫تاريخ الرياضيات الجزء الول‪.‬‬
‫‪.Ch. Singer: Medieval Contribution to modern Civlization P.124 408‬‬
‫‪ -44‬شهادة جون هرمان راندال‬
‫"وسط هذا العالم الذي أخذت رقعته في التساع اتجه رجال‬
‫القرون الوسطى إلى المعرفة العلمية التي وجدوها في مكاتب‬
‫العرب وجامعاتهم الغنية وحين أخذ الغرب يستيقظ في مطلع القرون‬
‫الوسطى انتقل مركز الثقافة السلمية بنتيجة فعل المتعصبين من‬
‫المصلحين المسلمين من الخلفة الشرقية إلى إسبانيا‪ ،‬وعن طريق‬
‫إسبانيا جاءت أول معرفه بمؤلفات أرسطو الكبيرة‪ ،‬ولكن المسلمين‬
‫أنقذوا من العالم القديم شيًئا كان أرسطو بالرغم من عبقريته عاجًزا‬
‫كل العجز عنه وهو العلم الرياضي واللي"‪.409‬‬

‫‪409‬‬
‫جون هرمان راندال‪ :‬تكوين العقل الحديث ‪.1/331‬‬
‫صناعة العلماء‬ ‫الباب الثاني‪:‬‬

‫ة عند من‬‫قد يبدو غريًبا عنوان هذا الباب‪ ،‬وقد يبدو أشد غراب ً‬
‫مه وطموحه فقط أن يصبح طالب علم‪ ،‬أو ‪-‬‬ ‫يتواضع كثيًرا فيجعل ه ّ‬
‫طويلب علم"‪!!..‬‬ ‫كما يقول بعضهم ‪ُ " -‬‬

‫ول شك أن مثل هذه الهمة هي همة قاصرة‪ ،‬وهي همة تعجز‬


‫في أن تلحق ‪ -‬بالمرة ‪ -‬بركب العلماء‪ ..‬وأولى بصاحبها وأجدر أن‬
‫يقف مع نفسه وقفة أخرى‪ ،‬يجدد العزم‪ ،‬ويعقد العهد قبل أن تتفلت‬
‫من يده اليام‪ ،‬ويندم ولت حين مناص!‬
‫يقول المتنبي‪:‬‬
‫قنعْ بما ُدون الّنجوم ِ‬
‫فل ت ْ‬ ‫ف مروم ٍ‬ ‫إذا غامرت في شر ٍ‬
‫ت في أمرٍ عظيم ِ‬ ‫كطعم ِ المو ِ‬ ‫ر‬
‫ت في أمرٍ حقي ٍ‬
‫م المو ِ‬‫فطع ُ‬
‫ما‪ ..‬وليس فقط من طلب‬ ‫لذا ل يصلح لك إل أن تكون عال ً‬
‫العلم‪..‬‬
‫صا من العداد‪ ..‬فيتطلب خطة‬ ‫عا خا ً‬ ‫ول شك أن ذلك يتطلب نو ً‬
‫ضا حالة نفسية معينة‪ ..‬أو قل‪ :‬يتطلب‬ ‫بعينها‪ ،‬ويتطلب حياة خاصة‪ ،‬وأي ً‬
‫جا في الحياة جديد‪ ،‬فتصبح لك طريقة تفكير خاصة‪ ،‬وطريقة‬ ‫ذلك منه ً‬
‫ترتيب وقت يناسب هذه الحياة الخاصة‪ ،‬بل وطريقة نوم وأكل‬
‫مختلفة عن بقية الناس‪ ..‬إنها حياة إنسان ُيرّبي لُيغّير ل ليتغير‪ ،‬ويؤّثر‬
‫قا!!‬
‫ل ليتأثر‪ ..‬إنها حياة مختلفة ح ً‬
‫ومثل هذه الحياة الجديدة‪ ..‬نقف على أبعادها وأطوارها‪ ،‬من‬
‫خلل هذا الباب في فصوله الربعة‪.‬‬
‫ء‬ ‫عل َ َ‬
‫ما ِ‬ ‫ة ال ْ ُ‬
‫زل َ ُ‬
‫من ْ ِ‬
‫الفصل الول‪َ :‬‬

‫در بحسب قيمتها‪ ،‬ومن ثم تكون الولويات في‬ ‫من الشياء وُتق ّ‬‫ُتث ّ‬
‫عرف‬‫تحصيلها‪ ..‬ولول ذلك لختلط الغث بالثمين والحابل بالنابل‪ ،‬وما ُ‬
‫م للحياة‪..‬‬ ‫طع ٌ‬
‫وقد علمنا في الباب الول قيمة العلم في الميزان السلمي‪،‬‬
‫وعرفنا أهميته‪ ،‬وكيف أن حياة الناس ل تستقيم إل به‪ ،‬وكيف كان‬
‫ة للنبياء عليهم السلم‪..‬‬
‫ة لزم ً‬‫صف ً‬
‫وكان من رحمة الله ‪ ‬أنه لم يرفع العلم بذهاب النبياء‪ ،‬وإنما‬
‫جعل النبياء صلوات الله عليهم وسلمه يوّرُثوا علمهم هذا قبل أن‬
‫يموتوا إلى طائفة معينة من البشر‪ ،‬أوكل إليها مهمة تعليم الناس‪،‬‬
‫ي‬
‫والقيام بالدور الذي كان يقوم به النبياء في حياتهم‪ ..‬ولكن دون وح ٍ‬
‫ودونما عصمة‪..‬‬
‫وهذه الطائفة من البشر هي "العلماء"‪..‬‬
‫قا‬ ‫ري ً‬ ‫ك طَ ِ‬ ‫سل َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫عن أبي الدرداء < أن رسول الله ‪ ‬قال‪َ " :‬‬
‫ن‬ ‫وإ ِ ّ‬ ‫ة‪َ ،‬‬ ‫جن ّ ِ‬ ‫قا إلى ال ْ َ‬ ‫ري ً‬ ‫ه طَ ِ‬ ‫ه بِ ِ‬ ‫ك الل ّ ُ‬ ‫سل َ َ‬ ‫ما َ‬ ‫عل ْ ً‬ ‫ه ِ‬ ‫في ِ‬ ‫غي ِ‬ ‫ي َب ْت َ ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫عال ِ َ‬ ‫ن ال َ‬ ‫وإ ِ ّ‬ ‫م‪َ ،‬‬ ‫عل َِ‬ ‫ب ال ِ‬ ‫ضاءً ل ِطال ِ ِ‬ ‫ر َ‬ ‫ها ِ‬ ‫حت َ َ‬‫جن ِ َ‬ ‫عأ ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫ة لت َ َ‬ ‫َ‬
‫ملئ ِك َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫حّتى‬ ‫ض َ‬ ‫ْ‬ ‫فُر ل َ ُ‬ ‫ل َي َ ْ‬
‫في الْر ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫ت َ‬‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫س َ‬ ‫في ال ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫غ ِ‬ ‫ست َ ْ‬
‫ر‬
‫م ِ‬ ‫ق َ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫ض ِ‬ ‫ف ْ‬ ‫د كَ َ‬ ‫عاب ِ ِ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬ ‫عال ِم ِ َ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫ض ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫و َ‬ ‫ء‪َ ،‬‬ ‫ما ِ‬ ‫في ال ْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫حيَتا ُ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ة اْل َن ْب َِيا ِ‬
‫ن اْلن ْب َِياءَ ل َ ْ‬
‫م‬ ‫ء‪ ،‬إ ِ ّ‬ ‫وَرث َ ُ‬ ‫ماءَ َ‬ ‫عل َ َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ب‪ ،‬إ ِ ّ‬ ‫واك ِ ِ‬ ‫ر ال ْك َ َ‬ ‫ِ‬ ‫سائ ِ‬ ‫عَلى َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫خ َ‬
‫ذ‬ ‫هأ َ‬ ‫خذ َ ب ِ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ف َ‬ ‫م‪َ ،‬‬ ‫عل ْ َ‬ ‫وّرُثوا ال ْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ما‪ ،‬إ ِن ّ َ‬ ‫ه ً‬ ‫وَل ِدْر َ‬ ‫وّرُثوا ِديَناًرا َ‬ ‫يُ َ‬
‫ر" ‪.‬‬
‫‪410‬‬
‫ف ٍ‬ ‫وا ِ‬ ‫ظ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫بِ َ‬
‫ففي نهاية هذا الحديث وضح رسولنا الكريم ‪ ‬أن النبياء لم‬
‫كا‪ ،‬وإنما تركوا العلم‪ ,‬وهذه هي أعظم تركة‪,‬‬ ‫مل ً‬ ‫يتركوا خلفهم مال ً ول ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ة َ‬ ‫م َ‬ ‫ؤِتي ال ْ ِ‬
‫حك ْ َ‬ ‫قا‪ ..‬يقول الله تعإلي‪ :‬ي ُ ْ‬ ‫ومن أخذها فقد فاز ح ً‬
‫ما ي َذّك ُّر إ ِّل‬ ‫ُ‬ ‫ت ال ْ ِ‬
‫و َ‬‫خي ًْرا ك َِثيًرا َ‬
‫ي َ‬ ‫ف َ‬
‫قدْ أوت ِ َ‬ ‫ة َ‬
‫م َ‬‫حك ْ َ‬ ‫ؤ َ‬‫ن يُ ْ‬
‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫يَ َ‬
‫شاءُ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ب‪. ‬‬ ‫أوُلو اْلل َْبا ِ‬
‫‪411‬‬

‫وفضل ً عن ذلك فالحديث يبين فضل العلم ومنزلة العلماء؛‬


‫ما‬
‫فالملئكة تضع أجنحتها لمن يبدءون طريق العلم؛ تواضًعا وتعظي ً‬
‫ما وتبجيل ً لهم‪ ..‬وكفى بذلك شرًفا ومنزلة‪!!..‬‬
‫وتكري ً‬
‫‪ 410‬الترمذي‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب فضل الفقه على العبادة )‪ (2682‬واللفظ له‪ ،‬وأبو داود )‪،(3641‬‬
‫وابن ماجة )‪ ،(223‬وأحمد )‪ ،(21763‬والدارمي )‪ ،(342‬وابن حبان )‪ ،(88‬وقال اللباني‪:‬‬
‫صحيح )‪ (6297‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫‪) 411‬البقرة‪.(269 :‬‬
‫ويخص رسول الله ‪ ‬طائفة العلماء ‪ -‬وليس طلب العلم ‪-‬‬
‫بمزية خاصة‪ ،‬وهي أنه يستغفر لهم من في السماوات ومن في‬
‫ضا‪ ،‬بل حتى‬
‫الرض‪ ،‬بل يصل المر إلى أن تستغفر له الحيوانات أي ً‬
‫تلك التي تسبح في جوف الماء‪!!..‬‬
‫ضل ذلك‬ ‫وليت المر يقف عند هذا الحد فقط‪ ،‬بل إنه ‪ُ ‬يف ّ‬
‫العاِلم ويرفع منزلته ومكانته على العابد لله ‪ !!‬وقد جعل المقارنة‬
‫ما كما يكون القمر ليلة البدر ‪ -‬كما ورد ذلك في‬
‫بينهما في ذلك تما ً‬
‫رواية أخرى ‪ -‬مع غيره من النجوم‪ ،‬وذلك في إشارة إلى أن نور‬
‫القمر يحجب نور الكواكب الخرى وُيغ ّ‬
‫طي عليها‪ ،‬مهما كُثر نورها‬
‫بكثرة أعدادها‪!!..‬‬
‫أل ترى أن المر جد عظيم‪..‬؟!‬
‫ومع كون هذه المقارنة عظيمة في حق العلماء‪ ،‬إل أن هناك‬
‫مقارنة أعظم منها‪ ،‬ذكرها رسول الله ‪ ‬في الحديث الذي رواه‬
‫جَل ِ‬
‫ن‪:‬‬ ‫ل الل ّهِ ‪َ ‬ر ُ‬ ‫سو ِ‬ ‫ي < قال‪" :‬ذ ُك َِر ل َِر ُ‬ ‫الترمذي عن أبي أمامة الباهل ّ‬
‫ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫ل اللهِ ‪َ :‬‬ ‫ّ‬ ‫سو ُ‬ ‫قا َ‬ ‫م‪ ،‬فَ َ‬ ‫د‪َ ،‬واْل َ‬ ‫َ‬
‫عال ِم ِ‬ ‫ل ال َ‬ ‫ف ْ‬ ‫ل َر ُ‬
‫َ‬
‫عال ِ ٌ‬‫خُر‪َ :‬‬ ‫عاب ِ ٌ‬ ‫ما‪َ :‬‬ ‫حد ُهُ َ‬‫أ َ‬
‫ه ‪:‬‬ ‫ل الل ّ ِ‬‫سو ُ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫قا َ‬ ‫م َ‬ ‫م‪ .‬ث ُ ّ‬‫عَلى أدَْناك ُ ْ‬ ‫ضِلي َ‬ ‫ف ْ‬ ‫د كَ َ‬ ‫عاب ِ ِ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫َ‬
‫مل َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫حّتى الن ّ ْ‬ ‫ن‪َ ،‬‬ ‫ضي َ‬ ‫والَر ِ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬‫س َ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫وأ ْ‬‫ه َ‬ ‫ملئ ِكت َ ُ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫إِ ّ‬
‫س‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫علم ِ الّنا ِ‬ ‫م َ‬‫على ُ‬ ‫ن َ‬ ‫صلو َ‬ ‫ت لي ُ َ‬ ‫حو َ‬ ‫حّتى ال ُ‬ ‫و َ‬ ‫ها‪َ ،‬‬ ‫ر َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ج ْ‬ ‫في ُ‬ ‫ِ‬
‫خي َْر" ‪.‬‬
‫‪412‬‬
‫ال ْ َ‬
‫ففي هذا الحديث الشريف ُيقارن رسول الله ‪ ‬بين العالم‬
‫والعابد‪ ،‬فيشبه ذلك بالفارق بين منزلة الرسول ‪ ‬ومنزلة أقل‬
‫المسلمين‪ ..‬أي أن الفجوة التي بينه ‪ ‬وبين أدنى المسلمين‪ ،‬تشبه‬
‫تلك التي بين العالم والعابد‪!!..‬‬
‫وفي ذلك من الفضل والشرف والمنزلة الرفيعة العالية ما‬
‫فيه‪..‬‬
‫فلم يقارن ‪ ‬بين نفسه وبين أحد العظماء ‪ -‬مثل ً ‪ -‬في‬
‫ضا؛ إذ البون شاسع‬‫السلم‪ ،‬رغم أن مثل هذه المقارنة هي عظيمة أي ً‬
‫بين رسول الله ‪ ‬وبين أي إنسان آخر‪ ,‬ولكن لعظم المفارقة هنا‬
‫وبيان الفضل‪ ،‬فهو يقارن بين نفسه ‪ ‬وبين أدنى المسلمين‪!!..‬‬
‫ولعل البعض قد يستغرب من كون هذه المنزلة العالية للعالم‬
‫إنما هي فوق منزلة العابد‪ ..‬ولعل هذا العجب يزول إذا علمت أن‬
‫العابد الذي يعبد الله على غير علم َيضل وُيضل‪ ..‬وقد كان كفار مكة‬
‫أنفسهم يعترفون لله بالعبودية‪ ,‬ولكنها عبودية على غير علم‪ ،‬فكان‬
‫‪ 412‬الترمذي‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب فضل الفقه على العبادة )‪ ،(2685‬وقال اللباني‪ :‬صحيح )‪(4213‬‬
‫صحيح الجامع‪.‬‬
‫أن كفروا وضلوا‪ ،‬يقول تعالى يصف حالهم وهم يتحدثون عن الصنام‪:‬‬
‫م إ ِّل ل ِي ُ َ‬ ‫ذوا من دون ِ َ‬
‫قّرُبوَنا‬ ‫ه ْ‬
‫عب ُدُ ُ‬
‫ما ن َ ْ‬
‫ول َِياءَ َ‬
‫هأ ْ‬‫ِ‬ ‫ِ ْ ُ‬ ‫خ ُ‬
‫ن ات ّ َ‬
‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬
‫‪َ ‬‬
‫فى‪. ‬‬
‫‪413‬‬ ‫ْ‬
‫ه ُزل َ‬ ‫ّ‬
‫إلى الل ِ‬
‫د‪ ،‬فإن عبادته‬ ‫ن فاس ٍ‬ ‫كما أن العابد إذا كانت عبادته لله على ظ ٍ‬
‫م‬‫وذَل ِك ُ ْ‬‫هذه ل ُتقبل‪ ،‬ويكون بذلك من الخاسرين‪ ..‬قال تعإلي‪َ  :‬‬
‫ن‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ظَن ّك ُم ال ّذي ظَن َن ْت ُم بربك ُم أ َرداك ُم َ َ‬
‫ري َ‬
‫س ِ‬ ‫خا ِ‬ ‫م َ‬
‫م ِ‬
‫حت ُ ْ‬
‫صب َ ْ‬
‫فأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ِ َ ّ ْ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫‪.414‬‬
‫ويروى الدارمي أن عمر بن عبد العزيز ~ كتب إلى أهل‬
‫‪.‬‬ ‫‪415‬‬
‫م‪ ،‬كان ما ُيفسد أكثر مما يصلح"‬
‫المدينة‪" :‬إنه من تعبد بغير عل ٍ‬
‫بل إن من الفقهاء في السلم من رفع درجة العلماء فوق‬
‫درجه المجاهدين في سبيل الله وليس فقط العُّباد!! يقول الصحابي‬
‫الجليل عبد الله بن مسعود <‪ ،‬وهو من علماء الصحابة الفذاذ‪:‬‬
‫ل ُقتلوا في سبيل الله شهداء‪ ،‬أن‬
‫ن رجا ٌ‬
‫"والذي نفسي بيده‪ ،‬ليود ّ ّ‬
‫يبعثهم الله علماء؛ لما يرون من كرامتهم" أي من كرامة العلماء‪.‬‬
‫‪416‬‬

‫ويقول العلمة التابعي الحسن البصري ~‪" :‬يوزن مداد العلماء‬


‫بدماء الشهداء‪ ،‬فيرجح مداد العلماء!!"‪.417‬‬
‫وإن كان البعض قد يستغرب هذا الكلم‪ ،‬إل أن حجته قوية‪..‬‬
‫سا إل بالعلم‪ ،‬وعليه فلن يجاهد إل‬
‫فالجهاد ل ُيعرف فضله أسا ً‬
‫من "علم" قيمة الجهاد ودرجة المجاهد‪ ،‬كما لن ُتعرف شروط الجهاد‬
‫ومشروعيته إل بالعلم‪ ،‬ولن ُيعرف فرض العين من فرض الكفاية فيه‬
‫ضا ويقيم نافلة‪ ،‬وهذا‬
‫إل بالعلم‪ ..‬ومن ثم فقد يترك "من ل يعلم" فر ً‬
‫ل يجوز‪ ,‬كما أنه قد يتعدى في جهاده الحدود المشروعة‪ ،‬أو يقاتل من‬
‫ل يجوز قتاله‪ ..‬وهذا كله ل يجوز‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فالعلم هو الذي يحدد مشروعية الجهاد وحدوده‪ ..‬وبغير‬
‫العلماء الصادقين لن يوجد مجاهدون على حق‪..‬‬
‫بل قد يأثم المسلم بجهاده بغير علم!!‬
‫وما فتنه الخوارج بخافية على أحد‪..‬‬

‫)الزمر‪.(3 :‬‬ ‫‪413‬‬

‫)فصلت‪.(23 :‬‬ ‫‪414‬‬

‫أبو عبد الله الذهبي‪ :‬تذكرة الحفاظ ‪.349 /1‬‬ ‫‪415‬‬

‫أبو حامد الغزالي‪ :‬إحياء علوم الدين ‪.1/8‬‬ ‫‪416‬‬

‫المصدر السابق‪.‬‬ ‫‪417‬‬


‫فالخوارج كانوا يعبدون الله ‪ ,‬ويقيمون الفرائض‪ ,‬ويجاهدون‬
‫في سبيل الله‪ ..‬وذلك كله على غير هدىً من الله ول علم‪ ،‬فكان أن‬
‫خرجوا من الدين بالكلية‪ ،‬بينما هم يحسبون أنفسهم على أفضل‬
‫درجات العبادة والجهاد‪!!..‬‬
‫م عمر بن الخطاب < أن يقتل أحدهم ‪ -‬كما يروى أبو‬ ‫ولما ه ّ‬
‫ن لَ ُ‬
‫ه‬ ‫ه؛ َ‬
‫فإ ِ ّ‬ ‫سعيد الخدري < ‪ -‬قال له رسول الله ‪ ‬قال‪" :‬دَ ْ‬
‫ع ُ‬
‫ع َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ع‬‫م َ‬ ‫ه َ‬‫م ُ‬ ‫صَيا َ‬‫و ِ‬ ‫م‪َ ،‬‬ ‫ه ْ‬
‫صلت ِ ِ‬ ‫م َ‬‫ه َ‬ ‫صَلت َ ُ‬‫م َ‬ ‫حدُك ُ ْ‬
‫قُر أ َ‬ ‫ح ِ‬
‫حاًبا ي َ ْ‬ ‫ص َ‬‫أ ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫قو َ‬ ‫مُر ُ‬ ‫م‪ ،‬ي َ ْ‬ ‫ه ْ‬
‫قي َ ُ‬
‫وُز ت ََرا ِ‬ ‫جا ِ‬‫ن َل ي ُ َ‬ ‫قْرآ َ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫ءو َ‬‫قَر ُ‬ ‫م‪ ،‬ي َ ْ‬ ‫ه ْ‬‫م ِ‬‫صَيا ِ‬‫ِ‬
‫ة" ‪..‬‬
‫‪418‬‬
‫مي ّ ِ‬‫ن الّر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ُ‬‫س ْ‬‫مُرقُ ال ّ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫نك َ‬‫َ‬ ‫دي ِ‬ ‫ال ّ‬
‫فكانت آفتهم الرئيسية أنهم اجتهدوا بغير علم‪ ،‬فأدى بهم ذلك‬
‫إلى أن يجاهدوا على باطل‪ ..‬حتى كان أحد زعمائهم‪ ،‬وهو عبد‬
‫الرحمن بن ملجم والذي قتل علي بن أبي طالب < ‪ -‬كان يظن تمام‬
‫الظن أنه تقرب إلى الله ‪ ‬بقتل أمير المؤمنين ورابع الخلفاء‬
‫الراشدين وزوج بنت رسول الله ‪ ‬والمبشر بالجنة مراًرا‪ ،‬على بن‬
‫أبي طالب <!!‬
‫وكان هذا اعتقاد ٌ راسخ عند كل الخوارج‪ ،‬حتى إنك لتجد عمران‬
‫فا هذه الطعنة‬
‫بن قحطان )أحد شعراء الخوارج المتأخرين( يقول واص ً‬
‫اللئيمة التي ُقتل بها على بن أبي طالب <‪:‬‬
‫إل ليبُلغ من ذي العرش ِرضواًنا‬ ‫ي ما أراد بها‬
‫ة من تق ّ‬
‫يا ضرب ً‬
‫أوَْفى البرّية عند الله ميزاًنا‬ ‫إني لذكره حيًنا فأحسبه‬
‫كل ذلك‪ ،‬وقد قال رسول الله ‪ ‬في حقه يوم خيبر ‪ -‬كما‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫حب ّ ُ‬‫ل يُ ِ‬‫ج ٌ‬ ‫دا َر ُ‬‫غ ً‬‫ة َ‬ ‫ن الّراي َ َ‬ ‫عطِي َ ّ‬‫يروي سلمة بن الكوع <‪َ" :‬ل ُ ْ‬
‫َ‬
‫ه"‪..419‬‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬‫ح الل ّ ُ‬
‫فت َ ُ‬‫ه‪ ،‬ي َ ْ‬ ‫سول َ ُ‬
‫وَر ُ‬ ‫ب الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫ح ّ‬
‫ل‪ :‬ي ُ ِ‬ ‫و َ‬
‫قا َ‬ ‫سول ُ ُ‬
‫ه‪ ،‬أ ْ‬ ‫وَر ُ‬
‫َ‬
‫وحين كان الغد كان هذا الرجل هو علي بن أبي طالب <‪..‬‬
‫ولم يقع عبد الرحمن بن ملجم )القاتل( في هذه الكارثة إل‬
‫بفقد العلم‪..‬‬

‫ن‬ ‫مال ً ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ع َ‬‫ن أَ ْ‬ ‫ري َ‬‫ِ‬ ‫س‬
‫خ َ‬ ‫م ِباْل َ ْ‬‫ل ن ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬
‫ه ْ‬
‫ل َ‬‫ق ْ‬ ‫يقول تعإلي‪ُ  :‬‬
‫َ‬
‫ن‬
‫سُنو َ‬ ‫ح ِ‬‫م يُ ْ‬‫ه ْ‬‫ن أن ّ ُ‬ ‫سُبو َ‬‫ح َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ه ْ‬‫و ُ‬‫ة الدّن َْيا َ‬ ‫في ال ْ َ‬
‫حَيا ِ‬ ‫م ِ‬
‫ه ْ‬
‫عي ُ ُ‬
‫س ْ‬
‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫َ‬
‫عا‪. ‬‬
‫‪420‬‬
‫صن ْ ً‬ ‫ُ‬
‫‪ 418‬البخاري‪ :‬كتاب المناقب‪ ،‬باب علمات النبوة في السلم )‪ ،(3414‬ومسلم‪ :‬كتاب الزكاة‪،‬‬
‫باب ذكر الخوارج وصفاتهم )‪ ،(1064‬وابن حبان )‪ ،(6741‬وعبد الرزاق )‪ ،(18649‬والبيهقي‬
‫في سننه الكبرى )‪.(16479‬‬
‫‪ 419‬البخاري‪ :‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب فضل من أسلم على يديه رجل )‪ ،(2847‬ومسلم‪ :‬كتاب‬
‫فضائل الصحابة‪ ،‬باب من فضائل علي بن أبي طالب < )‪ ،(2406‬وابن حبان )‪.(6932‬‬
‫‪) 420‬الكهف‪.(104 ،103 :‬‬
‫ولكم عانت المة السلمية من بعض المتحمسين للدين‪،‬‬
‫المشتاقين للجهاد ولكن بغير علم‪ ..‬وقد أدى بهم حالهم هذا إلى أن‬
‫ما جائرة‪ ,‬فكانت النتيجة‬‫يجتهدوا اجتهادات خاطئة‪ ,‬ويحكموا أحكا ً‬
‫تكفير المجتمعات المسلمة‪ ,‬واستباحة دماء البرياء‪ ,‬والستهانة بكل‬
‫الحرمات‪ ,‬والقتل والسفك والظلم والبطش باسم الجهاد والدعوة‬
‫والتضحية!! والسلم من ذلك كله براء‪..‬‬
‫ولجل ذلك‪ ،‬ومن فقهٍ لمنزلة العلماء وقيمة العلم مقارنة‬
‫حا الحقيقة‪" :‬طالب العلم كالغادي‬‫بغيره‪ ،‬يقول كعب الحبار < موض ً‬
‫الرائح في سبيل الله ‪..421"‬‬
‫وهو ما أكده أبو الدرداء < حين قال‪" :‬من رأى الغدو والرواح‬
‫إلى العلم ليس بجهاد‪ ،‬فقد نقص في عقله ورأيه"‪..422‬‬
‫ضا‪" :‬من‬
‫وترى سفيان بن عيينة ~‪ ،‬وهو من التابعين يقول أي ً‬
‫طلب العلم فقد بايع الله ‪..423"‬‬
‫ولذلك فإن الله ‪ ‬رفع قدر العلماء وعظم قيمتهم‪ ..‬يقول‬
‫م‬ ‫ن ُأوُتوا ال ْ ِ‬
‫عل ْ َ‬ ‫وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫َ‬
‫نآ َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ع الل ّ ُ‬‫ف ِ‬‫تعإلي‪ :‬ي َْر َ‬
‫خِبيٌر‪. ‬‬
‫‪424‬‬
‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬‫ع َ‬‫ما ت َ ْ‬ ‫والل ّ ُ‬
‫ه بِ َ‬ ‫ت َ‬
‫جا ٍ‬
‫دََر َ‬
‫وقد فقه الصحابة والتابعون والصالحون من هذه المة الكريمة‬
‫هذا القدر‪ ،‬فعظموا علماءهم‪ ,‬ورفعوا من قدرهم‪ ,‬وحفظوا لهم‬
‫س ول عمرٍ ول‬
‫ب ول جن ٍ‬‫ق ول نس ٍ‬ ‫مكانتهم‪ ..‬ولم يعتبروا في ذلك بعر ٍ‬
‫صغر‬
‫منصب‪ ..‬إنما اعتبروا فقط بالعلم‪ ..‬فكان معاذ بن جبل < على ِ‬
‫دا بين الصحابة‪ ،‬حتى إنهم كانوا ل يرفعون أعينهم في‬‫ما ج ً‬
‫سنه معظ ً‬
‫ما له <‪ ..‬هذا مع أنه مات وهو لم يتجاوز‬
‫عينه حياًء منه وتعظي ً‬
‫الخامسة والثلثين من عمره‪ ،‬ولكنه ع ُ ّ‬
‫ظم بالعلم الذي كان يحويه في‬
‫صدره <‪..‬‬
‫يقول رسولنا الكريم ‪ ‬في حقه ‪ -‬كما يروي أنس بن مالك <‪:‬‬
‫ل"‪..425‬‬
‫جب َ ٍ‬ ‫عاذُ ب ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫م َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫حَرام ِ ُ‬ ‫حَل ِ‬
‫ل َ‬ ‫م ِبال ْ َ‬
‫ه ْ‬
‫م ُ‬ ‫وأ َ ْ‬
‫عل َ ُ‬ ‫" َ‬
‫ومن هنا نستطيع فهم الموقف الذي حكاه لنا أبو مسلم‬
‫الخولني ~ )من التابعين(‪ ،‬وفيه يصور مدى احترام وتعظيم الصحابة‬
‫لمعاذ بن جبل < مع حداثه سنه‪..‬‬

‫‪ 421‬أبو نعيم‪ :‬حلية الولياء ‪.5/377‬‬


‫‪ 422‬ابن القيم‪ :‬مفتاح دار السعادة ‪.1/71‬‬
‫‪ 423‬ابن القيم‪ :‬مفتاح دار السعادة ‪.1/71‬‬
‫‪) 424‬المجادلة‪.(11 :‬‬
‫‪ 425‬الترمذي‪ :‬كتاب المناقب‪ ،‬باب مناقب معاذ بن جبل )‪ ،(3790‬وابن ماجة )‪ ،(154‬وأحمد )‬
‫‪ ،(14022‬وابن حبان )‪ ،(7137‬والطيالسي )‪ ،(2096‬وقال اللباني‪ :‬صحيح )‪ (1224‬السلسلة‬
‫الصحيحة‪.‬‬
‫حل ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫ق ٌ‬ ‫شقَ فَإ َِذا َ‬ ‫م ْ‬‫ل دِ َ‬‫جد َ أهْ ِ‬‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ت َ‬‫يقول أبو مسلم الخولني‪" :‬أت َي ْ ُ‬
‫ح ُ ْ‬ ‫شاب فيه َ‬ ‫لم َ‬
‫ق‬
‫ن ب َّرا ُ‬ ‫ل العَي ْ ِ‬ ‫م أك ْ َ‬‫ي ‪ ،‬وَإ َِذا َ ّ ِ ِ ْ‬ ‫ب الن ّب ِ ّ‬‫حا ِ‬ ‫ص َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ِفيَها ك ُُهو ٌ ِ ْ‬
‫ب ‪ -‬وفي رواية‬ ‫شا ّ‬ ‫فَتى فًَتى َ‬ ‫يٍء َرّدوه ُ إلى ال ْ َ‬‫ش ْ‬ ‫فوا ِفي َ‬ ‫خت َل َ ُ‬ ‫الث َّناَيا‪ ،‬ك ُل ّ َ‬
‫ما ا ْ‬
‫ذا؟‬‫ن هَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫س ِلي‪َ :‬‬ ‫جِلي ٍ‬ ‫ت لِ َ‬‫ل‪ :‬قُل ْ ُ‬‫أخرى‪ :‬ول يصدرون إل عن رأيه ‪َ -‬قا َ‬
‫ل"‪.426‬‬ ‫جب َ ٍ‬
‫ن َ‬ ‫مَعاذ ُ ب ْ ُ‬ ‫ذا ُ‬ ‫ل‪ :‬هَ َ‬‫َقا َ‬

‫ة الذين هم حول معاذ < بأنهم‬‫فقد وصف أبو مسلم الصحاب َ‬


‫"كهول"‪ ،‬أي شيوخ كبار في السن‪ ،‬ورغم ذلك ‪ -‬وكما جاء في‬
‫الحديث ‪ -‬فكانوا يرجعون فيما يختلفون فيه وفيما ل ُيدركون له حل ً‬
‫ى شاب‪ ..‬ولم يكن ذلك إل لعلمه وفقهه <‪..‬‬ ‫إلى معاذ ٍ وهو يومئذ فت ً‬
‫وقد جاء في رواية أن هؤلء الصحاب كانوا نحو من ثلثين كهل ً‬
‫من الصحابة‪!!427‬‬
‫ويؤكد معنى تقديم العلماء على غيرهم بصرف النظر عن‬
‫ن ع َب ْدِ‬ ‫مناصبهم ما رواه المام مسلم في صحيحه‪ ،‬وهو أن َنافِعَ ب ْ َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫قا َ‬ ‫ة ‪ -‬فَ َ‬ ‫مك ّ َ‬ ‫ه ع ََلى َ‬ ‫مل ُ ُ‬‫ست َعْ ِ‬ ‫مُر ي َ ْ‬ ‫ن عُ َ‬ ‫كا َ‬ ‫ن ‪ -‬وَ َ‬ ‫فا َ‬‫س َ‬‫مَر ب ِعُ ْ‬
‫ي عُ َ‬ ‫ق َ‬ ‫ث لَ ِ‬ ‫حارِ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ن اب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل‪ :‬وَ َ‬ ‫ن أب َْزى‪َ .‬قا َ‬ ‫ل‪ :‬اب ْ َ‬ ‫قا َ‬ ‫واِدي؟ فَ َ‬ ‫ل ال ْ َ‬‫ت ع ََلى أهْ ِ‬ ‫مل ْ َ‬ ‫ست َعْ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫موًْلى! َقا َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ت‬‫س‬ ‫فا‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫نا‪.‬‬ ‫وإلي‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫لى‬‫ً‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫؟‬ ‫زى‬ ‫َ‬
‫َ َ ِْ ْ َ‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫ِ ْ َ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫أَْ‬‫ب‬
‫َ‬ ‫م ِبال ْ َ‬
‫ن ن َب ِي ّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ما إ ِ ّ‬ ‫مُر‪ :‬أ َ‬ ‫ل عُ َ‬ ‫ض‪َ .‬قا َ‬ ‫فَرائ ِ َ ِ‬ ‫عال ِ ٌ‬ ‫ه َ‬ ‫ب الل ّهِ ‪ ،‬وَإ ِن ّ ُ‬ ‫ه َقارِئٌ ل ِك َِتا ِ‬ ‫إ ِن ّ ُ‬
‫ه‬
‫ع بِ ِ‬ ‫ض ُ‬ ‫وي َ َ‬‫ما َ‬ ‫وا ً‬ ‫ق َ‬ ‫بأ ْ‬ ‫ْ‬
‫ذا الك َِتا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ع بِ َ‬ ‫ف ُ‬‫ه ي َْر َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ل‪ :‬إ ِ ّ‬ ‫‪ ‬قَد ْ َقا َ‬
‫ن" ‪.‬‬
‫‪428‬‬
‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫آ َ‬
‫وفي مثل ذلك ما روي أن زيد بن ثابت < صلى على جنازة‬
‫قّربت إليه بغلته ليركبها‪ ,‬فجاء ابن عباس } فأخذ بركابه‪ ،‬فقال زيد‪:‬‬
‫ف ُ‬
‫ل عنه يا ابن عم رسول الله ‪ ,‬فقال ابن عباس‪ :‬هكذا أمرنا أن‬ ‫خ ّ‬
‫نفعل بالعلماء والكبراء‪ .‬فقّبل زيد بن ثابت < يده وقال‪ :‬هكذا أمرنا‬
‫أن نفعل بأهل بيت نبينا ‪..429‬‬
‫فعبد الله بن عباس } يرفع من قدر زيد بن ثابت < ويوّقره‬
‫دمه‪ ,‬ويمسك له دابته رغم صغر سنه‪ ..‬وليس ذلك لشيٍء إل‬ ‫ويق ّ‬
‫لعلمه وفقهه‪ ,‬وكان هذا عموم حال الصحابة ‪ ‬وعهدهم مع العلماء‪..‬‬
‫يقول علي بن أبي طالب <‪" :‬إن من حق العالم أن ل تكثر‬
‫عليه بالسؤال‪ ،‬ول تعنته في الجواب‪ ،‬ول تلح عليه إذا كسل‪ ،‬ول تأخذ‬
‫دا عنده‪ ،‬ول تطلبن‬‫بثوبه إذا نهض‪ ،‬ول تفشي له سّرا‪ ،‬ول تغتابن أح ً‬
‫عثرته‪ ،‬وإن زل قبلت معذرته‪ ,‬وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى ما‬

‫‪ 426‬أحمد )‪ ،(22117‬وقال شعيب الرنؤوط إسناده صحيح‪.‬‬


‫‪ 427‬انظر الذهبي‪ :‬تذكرة الحفاظ ‪. 20 /1‬‬
‫‪ 428‬مسلم‪ :‬كتاب صلة المسافرين وقصرها‪ ،‬باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه )‪ ،(817‬أبو‬
‫القاسم الطبراني‪ :‬مسند الشاميين )‪.(2999‬‬
‫‪ 429‬ابن القيم‪ :‬مدارج السالكين ‪ ،2/330‬المتقي الهندي‪ :‬كنز العمال ‪.13/370‬‬
‫دام يحفظ أمر الله تعإلي‪ ،‬ول تجلس أمامه‪ ،‬وإن كانت له حاجة‬
‫سبقت القوم إلى خدمته"‪.430‬‬
‫ضا‪" :‬العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد‪،‬‬
‫وقال علي < أي ً‬
‫ف‬
‫وإذا مات العالم ثلم في السلم ثلمة )أي‪ :‬ثغرة( ل يسدها إل خل ٌ‬
‫منه"‪.431‬‬
‫دا‪:‬‬
‫ضا منش ً‬
‫وقال أي ً‬
‫على الهدى لمن استهدى أدلُء‬ ‫ما الفخر إل لهل العلم إنهم‬
‫والجاهلون لهل العلم أعداُء‬ ‫ئ ما كان يحسنه‬
‫وقدر كل امر ٍ‬
‫الناس موتى وأهل العلم أحياُء‬ ‫دا‬
‫ش حّيا به أب ً‬
‫ففْز بعلم ٍ تع ْ‬
‫بل يذكر الغزالي ~ في الحياء أن حق المعلم أعظم من حق‬
‫الوالدين؛ لن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية‪ ،‬والمعلم‬
‫سبب الحياة الباقية‪ ،‬فهو معلم علوم الخرة أو علوم الدنيا على قصد‬
‫الخرة‪..432‬‬
‫سئل‪ :‬من‬‫ثم يقرر الغزالي ‪ -‬بعد أن أورد قول ابن المبارك حين ُ‬
‫الناس؟ فقال‪ :‬العلماء‪ .‬قيل‪ :‬فمن الملوك؟ قال‪ :‬الزهاد ‪ -‬فيقول‪:‬‬
‫"ولم يجعل غير العالم من الناس؛ لن الخاصية التي يتميز بها الناس‬
‫عن سائر البهائم هو العلم؛ فالنسان إنسان بما هو شريف لجله‪،‬‬
‫وليس ذلك بقوة شخصه‪ ،‬فإن الجمل أقوى منه‪ ،‬ول بعظمه فإن‬
‫الفيل أعظم منه‪ ،‬ول بشجاعته فإن السبع أشجع منه‪ ،‬ول بأكله فإن‬
‫الثور أوسع بطًنا منه‪ ،‬ول ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على‬
‫السفاد منه‪ ،‬بل لم يخلق إل للعلم"‪.433‬‬
‫ويروي عبادة بن الصامت < أن رسول الله ‪ ‬قال‪" :‬ليس‬
‫من أمتي من لم يجل كبيرنا‪ ,‬ويرحم صغيرنا‪ ,‬ويعرف‬
‫عالمنا"‪ 434‬أي يعرف لعالمنا حقه‪..‬‬
‫وفي قصة موسى ‪ ‬مع الخضر كان غاية توقير العلماء‬
‫وإجللهم‪ ،‬فمع كون موسى ‪ ‬أعلى قدًرا وأعظم مكانة؛ كونه ليس‬
‫نبًيا فقط‪ ،‬بل من أولى العزم من الرسل‪ ،‬إل أنه قال للخضر موقًرا‬
‫جل‪" :‬هل أتبعك؟"!‬
‫مب ّ‬

‫‪ 430‬أبو حامد الغزالي‪ :‬إحياء علوم الدين ‪.1/51‬‬


‫‪ 431‬أبو حامد الغزالي‪ :‬إحياء علوم الدين ‪.1/7‬‬
‫‪ 432‬أبو حامد الغزالي‪ :‬إحياء علوم الدين ‪.1/55‬‬
‫‪ 433‬أبو حامد الغزالي‪ :‬إحياء علوم الدين ‪.1/7‬‬
‫‪ 434‬أحمد )‪ (22807‬واللفظ له‪ ،‬والحاكم )‪ ،(421‬وقال الهيثمي‪ :‬رواه أحمد وإسناده حسن‪،‬‬
‫وقال اللباني‪ :‬صحيح )‪ (101‬صحيح الترغيب والترهيب‪.‬‬
‫عَلى‬‫فهو يصرح بأنه سيتبع الخضر‪ ،‬وسبب التباع هو العلم‪َ  :‬‬
‫َ‬
‫دا‪ ،435‬ثم هو يستأذن منه‪ ،‬ويسترضيه‪,‬‬ ‫ت ُر ْ‬
‫ش ً‬ ‫م َ‬‫عل ّ ْ‬
‫ما ُ‬
‫م ّ‬
‫ن ِ‬ ‫عل ّ َ‬
‫م ِ‬ ‫ن تُ َ‬
‫أ ْ‬
‫ويستسمحه‪ ..‬ل لشيء إل للعلم الذي رفع من قدر الخضر‪ ,‬وجعل له‬
‫ما وإجل ً‬
‫ل‪..‬‬ ‫هيبة واحترا ً‬
‫ويقول الزهري ~ )وهو من التابعين العظماء( مقرًرا‪" :‬كنت‬
‫ضا من التابعين( فأجلس بالباب‪,‬‬
‫آتي باب عروة بن الزبير < )وهو أي ً‬
‫ولو شئت أن أدخل لدخلت‪ ،‬ولكن إجلل ً له" !!‬
‫‪436‬‬

‫وفي سبيل التربية على ذلك يقول الحسن بن علي < لبنه‬
‫دا‪" :‬يا بنى‪ ،‬إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع‬
‫حا ومرش ً‬
‫ناص ً‬
‫أحرص منك على أن تقول‪ ،‬وتعلم حسن الستماع كما تتعلم حسن‬
‫الصمت‪ ،‬ول تقطع على أحد حديًثا ‪ -‬وإن طال ‪ -‬حتى يس ّ‬
‫مك"‪.‬‬
‫وعلى هذا ظلت مكانة العلماء محفوظة ومرموقة في المة‬
‫عا فوق غيرهم من المسلمين‪..‬‬
‫السلمية‪ ,‬وظل قدرهم مرفو ً‬
‫ولقد كان الناس يجتمعون باللف حول البخاري ~ ليعلمهم‬
‫حديث رسول الله ‪ ،‬وهو بعد في السادسة عشرة من عمره!!‬
‫يقول الشافعي ~‪:‬‬
‫كبيٌر إذا ردت إليه المحافل‬ ‫ما‬
‫وإن صغير القوم إن كان عال ً‬
‫ضا من‬
‫ولم يكن هذا التقدير من جانب العامة فقط‪ ،‬بل كان أي ً‬
‫قبل المراء وأصحاب السلطان‪ ،‬فكانوا ينزلون العلماء منازلهم‬
‫ويرفعونهم قدرهم‪ ،‬ولذلك عّزت أمتهم‪ ،‬وسادت غيرها من المم‪..‬‬
‫ففي أحد مواسم الحج جاء أمير المؤمنين سليمان بن عبد‬
‫الملك ~ إلى الحج هو واثنان من أبنائه المراء‪ ،‬فاحتاجوا إلى إجابة‬
‫عن بعض السئلة المتعلقة بالحج‪ ،‬ولم يجدوا لذلك أفضل من العلمة‬
‫عطاء بن أبي رباح‪ ،~ 437‬فذهبوا إليه وهو يصلي‪ ،‬فانتظروا إلى جواره‬
‫حتى انتهى من صلته‪ ،‬فبدءوا يسألونه وهو يجيبهم في وضع الصلة ل‬
‫يلتفت إليهم‪ ،‬وهو يقبلون بهذا الوضع لنهم يحتاجون إلى العلم‪ ،‬وبعد‬
‫انتهاء السئلة انصرفوا‪ ،‬ثم جمع أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك‬

‫‪) 435‬الكهف‪.(66 :‬‬


‫‪ 436‬سنن الدارمي )‪.(569‬‬
‫دا أسود لمرأة‪ ،‬وكان أنفه كأنه باقلة وكان بنو أمية‬
‫‪ 437‬نشأ عطاء بن أبي رباح بمكة‪ ،‬وكان عب ً‬
‫حا يصيح ل يفتى الناس إل عطاء بن أبي رباح‪ ،‬ويقول عنه الوزاعي‪ :‬ما‬ ‫يأمرون في الحاج صائ ً‬
‫رأيت أحدا أخشع لله من عطاء‪ ،‬ومات بمكة عام ‪115‬وعمره ‪ .88‬صفة الصفوة ‪-212 /2‬‬
‫‪.214‬‬
‫~ ولديه وقال لهما‪" :‬يا بني‪ ،‬ل تنيا في طلب العلم‪ ،‬فإني ل أنسى‬
‫ذلنا بين يدي هذا العبد السود"‪!!438‬‬
‫دا أسوًدا لمرأة‬
‫وكان عطاء بن أبي رباح ~ )من التابعين( عب ً‬
‫من مكة‪!!..‬‬
‫وصدق قول الشاعر‪:‬‬
‫ف‬
‫العلم يرفع بيًتا ل عماد له والجهل يهدم بيت العّز والشر ِ‬
‫ما‬
‫وكان المأمون قد وكل الفراء يلقن ابنيه النحو‪ ،‬فلما كان يو ً‬
‫أراد الفراء أن ينهض إلى بعض حوائجه‪ ،‬فابتدرا إلى نعل الفراء‬
‫يقدمانه له‪ ،‬فتنازعا أيهما يقدمه‪ ،‬فاصطلحا على أن يقدم كل واحد‬
‫منهما فرًدا فقدماها‪ ،‬فرفع ذلك الخبر إلى المأمون‪ ،‬فوجه إلى الفراء‬
‫فاستدعاه‪ ،‬فلما دخل عليه قال‪ :‬من أعز الناس? قال‪ :‬ما أعرف أعز‬
‫من أمير المؤمنين‪ ،‬قال‪ :‬بل من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا‬
‫عهد المسلمين حتى رضي كل واحد أن يقدم له فرًدا!! قال‪ :‬يا أمير‬
‫المؤمنين‪ ،‬لقد أردت منعهما عن ذلك‪ ،‬ولكن خشيت أن أدفعهما عن‬
‫مكرمة سبقا إليها أو أكسر نفوسهما عن شريعة حرصا عليها‪ .‬فقال‬
‫ما وعتًبا وألزمتك ذنًبا‪،‬‬
‫له المأمون‪ :‬لو منعتهما عن ذلك لوجعتك لو ً‬
‫ضعَ ما فعله من شرفهما‪ ،‬بل رفع من قدرهما وبّين عن‬ ‫وما وَ َ‬
‫جوهرهما‪ ،‬ولقد ظهرت لي مخيلة الفراسة بفعلهما‪ ،‬فليس يكبر‬
‫الرجل وإن كان كبيًرا عن ثلث‪ :‬عن تواضعه لسلطانه‪ ،‬ووالده‪،‬‬
‫ومعلمه العلم‪..‬‬
‫وإن جواب المأمون هذا ليعكس نظرة السلم والمة السلمية‬
‫كلها آنذاك إلى العلم والعلماء‪ ،‬وما كانوا عليه رعاة ورعية من العناية‬
‫والهتمام والتعظيم والجلل للعلم وأهله‪..‬‬
‫قا أعز الناس‪ ،‬وهذه هي الدرجة والمنزلة التي‬‫فكان العاِلم ح ً‬
‫قررها الصالحون لعلماء المة وحفظوها لهم وأنزلوهم إياها‪ ..‬وقد‬
‫علموا أنهم مصابيح الدجى التي ُيهتدى بها‪ ،‬وهو المر الذي أورثهم‬
‫ما وحضارة ورفعة‪!!..‬‬
‫دا وتقد ً‬‫عًزا ومج ً‬
‫ما‪ ،‬فلبد لك أول ً أن‬
‫فإن أردت ‪ -‬أخي في الله ‪ -‬أن تصبح عال ً‬
‫تعرف منزلة ما تطلب‪ ،‬ومكانة ما تهفو إليه نفسك؛ فليس في الدنيا‬
‫أعز ممن ورث النبياء‪ ،‬واستغفر له أهل الرض والسماء!!‬

‫ابن الجوزي‪ :‬صفة الصفوة ‪.2/212‬‬ ‫‪438‬‬


‫ء‬ ‫عل َ َ‬
‫ما ِ‬ ‫هادُ ال ْ ُ‬
‫ج َ‬
‫الفصل الثاني‪ِ :‬‬

‫لما كان العلم أشرف النعم‪ ،‬وأعلى المنازل والرتب‪ ..‬ولما كان‬
‫كذلك ميراث النبياء‪ ،‬وكان الطريق المؤهل إلى الجنة‪ ..‬فلبد أن‬
‫يكون تحصيله بمجهود ٍ عظيم‪ ،‬وتضحيةٍ ثمينة؛ وكيف ل والمكارم‬
‫منوطة بالمكاره‪ ،‬والسعادة ل يعبر إليها إل على جسرٍ من التعب؟!‬
‫وقد أرشد رسول الله ‪ ‬إلى أن سلوك طريق الخرة بصفة‬
‫ب‪ ،‬وأن تحصيل الخرة متعسٌر ل يحصل إل بسعي حثيث‪،‬‬ ‫عامة صع ٌ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ة ‪ ،‬أل إ ِ ّ‬
‫غإلي ٌ‬ ‫ة الل ِ‬
‫ع َ‬
‫سل َ‬‫ن ِ‬
‫فقال ‪ -‬كما روى أبو هريرة < ‪" : -‬أل إ ِ ّ‬
‫ة"‪.439‬‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫جن ّ ُ‬ ‫ة الل ّ ِ‬ ‫سل ْ َ‬
‫ع َ‬ ‫ِ‬
‫وعلى هذا السياق روى المام مسلم في صحيحه عن يحيى بن‬
‫م"‪..440‬‬
‫س ِ‬ ‫حةِ ال ْ ِ‬
‫ج ْ‬ ‫طاع ُ ال ْعِل ْ ُ‬
‫م ب َِرا َ‬ ‫ست َ َ‬
‫أبي كثير ~ أنه قال‪" :‬ل َ ي ُ ْ‬
‫ويقول المام النووي في وصفه لطالب العلم‪ :‬ينبغي أن يكون‬
‫صا على التعلم‪ ،‬مواظًبا عليه في جميع أوقاته‪ ،‬ليل ً ونهاًرا‪ ،‬وسفًرا‬‫حري ً‬
‫وحضًرا‪ ،‬ول ُيذهب من أوقاته شيًئا في غير العلم إل بقدر الضرورة‪،‬‬
‫لكل ونوم قدًرا لبد له منه ونحوهما‪ ،‬كاستراحة يسيرة لزالة الملل‪،‬‬
‫وشبه ذلك من الضروريات‪ ،‬وليس بعاقل من أمكنه درجة ورثة النبياء‬
‫م فوتها‪!!441‬‬‫ث ّ‬
‫ويقول ابن القيم ~‪ :‬وأما سعادة العلم فل يورثك إياها إل بذل‬
‫الوسع‪ ،‬وصدق الطلب‪ ،‬وصحة النية‪..442‬‬
‫ويؤكد على ذلك ابن الجوزي فيقول‪" :‬تأملت عجًبا‪ ،‬وهو أن كل‬
‫ن‬‫س خطيرٍ يطول طريقه‪ ،‬ويكثر التعب في تحصيله‪ ،‬فإ ّ‬‫شيٍء نفي ٍ‬
‫العلم لما كان أشرف الشياء لم يحصل إل بالتعب والسهر والتكرار‪،‬‬
‫وهجر اللذات والراحة‪."..‬‬

‫‪ 439‬الترمذي‪ :‬كتاب صفة القيامة والرقائق والورع )‪ ،(2450‬والحاكم )‪ ،(7851‬وقال صحيح‬


‫السناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي‪ ،‬والبيهقي في شعب اليمان )‪ ،(881‬وأبو نعيم في حلية‬
‫الولياء ‪ ،8/377‬وقال اللباني‪ :‬صحيح حديث )‪ (6222‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫‪ 440‬مسلم‪ :‬كتاب المساجد ومواضع الصلة‪ ،‬باب أوقات الصلة )‪ ،(612‬والسؤال عن إدخال‬
‫المام مسلم هذه الحكاية عن يحيى مع أنه ل يذكر في كتابه ال أحاديث النبي ‪ ‬محضة مع أن‬
‫هذه الحكاية ل تتعلق بأحاديث مواقيت الصلة‪ ،‬فكيف أدخلها بينها؟ حكى القاضي عياض ~ عن‬
‫بعض الئمة أنه قال‪ :‬سببه أن مسلما ~ أعجبه حسن سياق هذه الطرق التي ذكرها لحديث‬
‫عبد الله بن عمر وكثرة فوائدها وتلخيص مقاصدها وما اشتملت عليه من الفوائد في الحكام‬
‫وغيرها ول نعلم أحدا شاركه فيها فلما رأى ذلك أراد أن ينبه من رغب في تحصيل الرتبة التي‬
‫ينال بها معرفة مثل هذا‪ ،‬فقال طريقه أن يكثر اشتغاله وإتعابه جسمه في العتناء بتحصيل‬
‫العلم هذا شرح ما حكاه القاضي‪ .‬شرح النووي ‪.5/114‬‬
‫‪ 441‬النووي‪ :‬التبيان في آداب حملة القرآن ‪.1/13‬‬
‫‪ 442‬ابن القيم‪ :‬مفتاح دار السعادة ‪.1/108‬‬
‫ضا‪ :‬قال بعض الفقهاء‪ :‬بقيت سنين أشتهي‬
‫وهو الذي قال أي ً‬
‫الهريسة ول أقدر على شرائها؛ لن وقت بيعها وقت سماع‬
‫الدرس‪!!443‬‬
‫ولما رأى أحد أصحاب المام أحمد بن حنبل ~ جهده ومثابرته‬
‫ما‬‫ل‪ :‬إلى متى تستمر في طلب العلم‪ ،‬وقد أصبحت إما ً‬ ‫سأله قائ ً‬
‫ما كبيًرا؟! فقال له‪" :‬مع المحبرة إلى المقبرة" !!‬
‫‪444‬‬
‫للمسلمين وعال ً‬
‫ومعنى ذلك أنه سيستمر في طلب العلم إلى أن يموت ويدخل‬
‫القبر‪ ،‬رغم أنه لم يكن في عصره من هو أحفظ منه لحديث رسول‬
‫الله ‪ ،‬حتى إنهم ل َ ّ‬
‫قبوه‪" :‬إمام السنة وفقيه المحدثين"‪.‬‬
‫وهو الذي قال عنه ابن رافع‪ :‬رأيت أحمد بن حنبل بمكة بعد‬
‫ققت رجله وأبلغ إليه التعب‪ ،‬فقال لي‪ :‬يا‬
‫رجوعه من إليمن وقد تش ّ‬
‫أبا عبد الله‪ ،‬ما أخلقني أن ل أرحل بعدها في حديث‪ .‬قال‪ :‬ثم بلغني‬
‫أنه صار إلى أبي إليمان بعد إليمن‪ ،‬أي إلى حمص‪!!445‬‬
‫وقد خرج المام أحمد إلى طرسوس ماشًيا على قدميه لعجزه‬
‫عن النفقة في السفر‪!!446..‬‬
‫ما لخرجت إلى جرير‬
‫وهو الذي قال‪ :‬لو كان عندي خمسون دره ً‬
‫ما في الرواية(‪ ،‬فخرج بعض‬
‫بن عبد الحميد إلى الري )كان إما ً‬
‫أصحابنا ولم يمكني الخروج لنه لم يكن عندي‪!! ..‬‬
‫‪447‬‬

‫يقول الشافعي ~‪" :‬حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في‬
‫ض دون طلبه‪ ,‬وإخلص‬ ‫الستكثار من علمه‪ ,‬والصبر على كل عار ٍ‬
‫ً‬
‫صا واستنباطا‪ ،‬والرغبة إلى الله‬
‫النية لله تعالى في إدراك علمه ن ً‬
‫تعالى في العون عليه"‪.448‬‬

‫ابن الجوزي‪ :‬صيد الخاطر ص ‪.266‬‬ ‫‪443‬‬

‫ابن الجوزي‪ :‬تلبيس إبليس ص ‪.399‬‬ ‫‪444‬‬

‫ابن عساكر‪ :‬تاريخ دمشق ‪.5/267‬‬ ‫‪445‬‬

‫أبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.1/447‬‬ ‫‪446‬‬

‫أبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.1/447‬‬ ‫‪447‬‬

‫بدر الدين بن جماعة‪ :‬تذكرة السامع والمتكلم ص ‪.27‬‬ ‫‪448‬‬


‫ويقول المام ابن هشام النحوي‪:‬‬
‫ومن يخطب الحسناَء‬ ‫ومن يصطبْر للعلم يظفْر بنيلهِ‬
‫ل‬
‫يصبْر على البذ ِ‬
‫وقال الن ّ‬
‫ظام‪ :‬العلم شيٌء ل يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك‪,‬‬
‫فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر‪..449‬‬
‫حين قال‪:‬‬ ‫‪450‬‬
‫وصدق حوط بن رئاب السدي‬
‫لن تبُلغ المجد حتى‬ ‫ل تحسب المجد تمًرا أنت آكله‬
‫تلعق الصبَرا‬
‫ولجل ذلك حرص الفاهمون الصادقون على تحصيل العلم‬
‫والسعي في طلبه‪ ،‬بصورة قد يتعجب لها الكثيرون ممن لم يدركوا‬
‫ل شدة‪،‬‬‫ون على من يعرفها ك ّ‬‫بعد قيمة العلم وثمراته‪ ..‬بل بصورة ُته ّ‬
‫وتجعلهم يبذلون أنفسهم طواعية في سبيل تحصيله‪..‬‬
‫وفي ذلك فقد روى البخاري عن عمر بن الخطاب < أنه قال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ة بْ ِ‬ ‫مي ّ َ‬
‫ي( ِفي ب َِني أ َ‬ ‫صارِ )هو أوس بن خول ِ ّ‬ ‫ن اْلن ْ َ‬ ‫م ْ‬‫جاٌر ِلي ِ‬ ‫ت أَنا وَ َ‬ ‫"ك ُن ْ ُ‬
‫ل الل ّهِ‬ ‫سو ِ‬ ‫ل ع ََلى َر ُ‬ ‫ب الن ُّزو َ‬ ‫ة‪ ،‬وَك ُّنا ن َت ََناوَ ُ‬ ‫دين َ ِ‬
‫م ِ‬ ‫وإلى ال ْ َ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ي ِ‬ ‫د‪ ،‬وَه ِ َ‬ ‫َزي ْ ٍ‬
‫َ‬
‫ي‬
‫ح ِ‬‫ن ال ْوَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ك اليوم ِ ِ‬‫خب َرِ ذ َل ِ َ‬ ‫جئ ْت ُ ُ‬
‫ه بِ َ‬ ‫ت ِ‬‫ما‪ ،‬فَإ َِذا ن ََزل ْ ُ‬ ‫ل ي َوْ ً‬‫ما وَأن ْزِ ُ‬ ‫ل ي َوْ ً‬‫‪ ،‬ي َن ْزِ ُ‬
‫ك‪. "..‬‬
‫‪451‬‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬ ‫مث ْ َ‬‫ل ِ‬ ‫ل فَعَ َ‬ ‫ه‪ ،‬وَإ َِذا ن ََز َ‬‫وَغ َي ْرِ ِ‬
‫ل الل ّهِ ‪‬‬ ‫سو ُ‬ ‫ى َر ُ‬ ‫ما َ ت ُوُفّ َ‬ ‫أما عبد الله بن عباس }‪ ،‬فقد قال‪" :‬ل َ ّ‬
‫ي ‪ ‬فَإ ِن ّهُ ُ‬
‫م‬ ‫ب الن ّب ِ ّ‬ ‫حا َ‬ ‫ص َ‬‫لأ ْ‬ ‫سأ َ ْ‬ ‫م فَل ْن َ ْ‬ ‫ن‪ ،‬هَل ُ ّ‬ ‫صاِر‪َ :‬يا فُل َ ُ‬ ‫َ‬
‫ن الن ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ج ٍ‬ ‫ت ل َِر ُ‬ ‫قُل ْ ُ‬
‫ن إلي َ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫جًبا ل َ َ‬ ‫قا َ‬ ‫م ك َِثيٌر‪ .‬فَ َ‬
‫جو َ‬ ‫حَتا ُ‬ ‫س يَ ْ‬ ‫س؛ أت ََرى الّنا َ‬ ‫ٍ‬ ‫ن ع َّبا‬ ‫ك َيا اب ْ َ‬ ‫ل‪َ :‬واع َ َ‬ ‫اليو َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ك ذ َل ِ َ‬ ‫ن ت ََرى؟! فَت ََر َ‬ ‫َ‬
‫ت ع َلى‬ ‫ك وَأقْب َل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ي‪َ ‬‬ ‫ب الن ّب ِ ّ‬ ‫حا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫س ِ‬ ‫وَِفى َالّنا ِ‬
‫ل‪،‬‬ ‫ل َفآِتيهِ وَهُوَ َقائ ِ ٌ‬ ‫ج ِ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫ث عَ ِ‬ ‫دي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن ل َي َب ْل ُغُِني ال ْ َ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ة‪ ،‬فَإ ِ ْ‬ ‫سأل َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬
‫ج‬
‫خُر ُ‬ ‫ب‪ ،‬فَي َ ْ‬ ‫جِهي الت َّرا َ‬ ‫ح ع ََلى وَ ْ‬ ‫في الّري ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ه‪ ،‬فَت َ ْ‬ ‫سد ُ رَِداِئي ع ََلى َباب ِ ِ‬ ‫فَأت َوَ ّ‬
‫ل‪ :‬يا ابن ع َم رسول الل ّه‪ ،‬ما جاَء ب َ َ َ‬
‫ت إلى‬ ‫سل ْ َ‬ ‫ك؟ أل َ أْر َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َ َ‬ ‫ّ َ ُ ِ‬ ‫قو ُ َ ْ َ‬ ‫فَي ََراِني فَي َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك؟ فَأ َُقو ُ‬
‫ث‪.‬‬‫دي ِ‬ ‫ح ِ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫سأل ُ ُ‬ ‫ك‪ ،‬فَأ ْ‬ ‫ن آت ِي َ َ‬ ‫حق ّ أ ْ‬ ‫ل‪ ،‬أَنا أ َ‬ ‫ل‪َ :‬‬ ‫َفآت ِي َ َ‬

‫ن‬
‫كا َ‬‫ل‪َ :‬‬ ‫قا َ‬ ‫ى فَ َ‬ ‫معَ الّنا ُ َ‬ ‫حّتى َرآِني وَقَد ِ ا ْ‬ ‫ج ُ‬ ‫ل‪ :‬فَب َ ِ‬ ‫َقا َ‬
‫س ع َل ّ‬ ‫جت َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ى الّر ُ‬ ‫ق َ‬ ‫َ‬
‫مّنى" !!‬
‫‪452‬‬
‫ل ِ‬ ‫ق َ‬ ‫فَتى أع ْ َ‬ ‫ذا ال ْ َ‬ ‫هَ َ‬

‫‪ 449‬الخطيب البغدادي‪ :‬تاريخ بغداد ‪.6/97‬‬


‫‪ 450‬حوط بن رئاب السدي‪ ،‬المشتهر بأبي المهوش‪ :‬شاعر مخضرم‪ ،‬عاش واشتهر في الجاهلية‬
‫وأدرك السلم‪ .‬شعره قليل متفرق‪ .‬العلم ‪.289 /2‬‬
‫‪ 451‬البخاري‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب التناوب في العلم )‪ ،(89‬وابن حبان )‪.(4187‬‬
‫‪ 452‬الدارمي‪ :‬باب الرحلة في طلب العلم )‪ ،(570‬والحاكم )‪ (363‬وقال صحيح على شرط‬
‫البخاري ووافقه الذهبي‪.‬‬
‫ولما ُفتحت البلد آثر ابن عباس ظمأ الهواجر في دروب المدينة‬
‫ومسالكها على الظلل الوارفة في بساتين الشام وسواد العراق من‬
‫أجل طلب العلم هذا‪ ،‬وقد قال <‪" :‬لما ُفتحت المدائن أقبل الناس‬
‫على الدنيا وأقبلت على عمر بن الخطاب <"‪$$!!453‬‬
‫ولمثله أنشد أبو القاسم الجزي‪:454‬‬
‫وإن مرادي صحة وفراغْ‬ ‫لكل بني الدنيا مراد ومقصد‬
‫يكون به لي للجنان بلغْ‬ ‫لبلغ في علم الشريعة مبلًغا‬
‫وحسبي من الدنيا الغرور بلغْ‬ ‫وفي مثل هذا فلينافس أولو النهى‬
‫به العيش رغد والشراب يساغْ‬ ‫فما الفوز إل في النعيم مؤب ّد ٍ‬
‫ثم يخبر < عن دأبه في طلب العلم فيقول‪" :‬كنت آتي باب أبي‬
‫بن كعب وهو نائم‪ ،‬فأقيل عند بابه‪ ،‬ولو علم بمكاني لحب أن يوقظ‬
‫لي لمكاني من رسول الله ‪ ،‬لكنني أكره أن أمله"!!‬
‫حا فيقول‪" :‬كنت ألزم الكابر من أصحاب رسول‬ ‫ويزيد وضو ً‬
‫الله ‪ ‬من المهاجرين والنصار‪ ,‬فأسألهم عن مغازي رسول الله ‪‬‬
‫سّر بإتياني‪،‬‬
‫دا إل ُ‬
‫وما نزل من القرآن في ذلك‪ ،‬وكنت ل آتي أح ً‬
‫ُ‬
‫ي بن كعب <‪ ,‬وكان من‬ ‫لقربي من رسول الله ‪ ،‬فجعلت أسأل أب ّ‬
‫الراسخين في العلم‪ ،‬عما نزل بالقرآن في المدينة‪ ،‬فقال‪ :‬نزل بها‬
‫سبعٌ وعشرين سورة‪ ،‬وسائرها بمكة"‪.455‬‬
‫وقد قيل للشعبي‪ :‬من أين لك هذا العلم كله؟!‬
‫فرد ّ عليهم وقال‪ :‬بنفي العتماد‪ ،‬والسير في البلد‪ ،‬وصبر كصبر‬
‫الحمار‪ ،‬وبكور كبكور الغراب‪!!456‬‬
‫ولننظر إلى الشافعي ~ كيف يتحدث عن نفسه في طلب‬
‫العلم حين يقول‪" :‬حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين‪ ،‬وحفظت‬
‫الموطأ )لمالك ~( وأنا ابن عشر سنين"‪!!..457‬‬

‫‪ 453‬انظر‪ :‬مسند البزار ‪.1/311‬‬


‫‪ 454‬هو محمد بن أحمد بن يوسف بن جزي‪ ،‬الكلبي‪ ،‬أبو القاسم‪ ،‬من أهل غرناطة‪ ،‬وذوي الصالة‬
‫والنباهة فيها‪ ،‬ولد سنة ‪ ،693‬ومات وهو يحرض الناس يوم الكائنة بطريف سنة ‪ 741‬هق‪ .‬انظر‬
‫ضا في هذا المصدر‪.‬‬‫نفح الطيب ‪ 416 – 514 /5‬والبيات أي ً‬
‫‪ 455‬ابن سعد‪ :‬الطبقات الكبرى ‪.2/371‬‬
‫‪ 456‬الذهبي‪ :‬تذكرة الحفاظ ‪.1/81‬‬
‫‪ 457‬أبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.24/366‬‬
‫وقد تكون هذه طفولة صعبة بالنسبة للكثيرين‪ ،‬لكنها في النهاية‬
‫أنتجت وولدت رجل ً مثل الشافعي‪ ،‬الذي نفع الله ‪ ‬بعلمه المة‪،‬‬
‫ضا‪..‬‬
‫ليس في زمانه فقط‪ ،‬ولكن فيما تل ذلك من أزمان أي ً‬
‫يقول الشافعي ~‪" :‬فلما ختمت القرآن دخلت المسجد‪ ،‬فكنت‬
‫أجالس العلماء‪ ،‬وكنت أسمع الحديث أو المسألة فأحفظها‪ ،‬ولم يكن‬
‫عند أمي ما ُتعطيني أشتري به قراطيس )أوراق يكتب عليها(‪ ،‬فكنت‬
‫ما يلوح‪ ،‬آخذه فأكتب فيه‪ ،‬فإذا امتل طرحته في جرة‬
‫إذا رأيت عظ ً‬
‫كانت لنا قديمة‪. "..‬‬
‫‪458‬‬

‫ولما كُبر الشافعي قلي ً‬


‫ل‪ ،‬وكان بين العاشرة والثالثة عشرة‪،‬‬
‫احتاج إلى المزيد من الورق ليكتب عليه ما يتعلمه‪ ،‬ولم يكن له مال‬
‫يشتري به الوراق‪ ،‬فكان يذهب إلى الديوان يستوهب "الظهور"‬
‫)وهي الوراق المستعملة من ناحية واحدة فقط‪ ،‬يطلبها ليستنفع‬
‫بالناحية الخرى( فيأخذها ليكتب على ظهرها‪!!459‬‬
‫صل العلم‪..‬‬
‫كل هذه المعاناة لُيح ّ‬
‫قال ابن أبي حاتم‪ :‬سمعت المزني يقول‪ :‬قيل للشافعي‪ :‬كيف‬
‫شهوتك للعلم؟ قال‪" :‬أسمع بالحرف )أي بالكلمة( مما لم أسمعه‪،‬‬
‫عا تتنعم بما تنعمت به الذنان"‪ ،‬فقيل له‪:‬‬
‫فتود أعضائي أن لها أسما ً‬
‫كيف حقرصقك عليه؟ قال‪ :‬حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته‬
‫للمال‪ .‬قيل له‪ :‬فكيف طلبك له؟ قال‪ :‬طلب المرأة المضلة ولدها‬
‫ليس لها غيره!!‬
‫وصدق الشافعي ~‪ ..‬إذ لول هذا الطلب وذاك الحرص ما كان‬
‫الشافعي‪..‬‬
‫ما ُيقتدي به في‬
‫فليس من فراغ أن يصبح النسان إما ً‬
‫العالمين‪ ..‬قال ابن تيمية‪" :‬إّنما تنال المامة في الدين بالصبر‬
‫واليقين"‪!!460‬‬
‫ويقول ربنا ‪ ‬في كتابه الكريم‪ ،‬يعلمنا الدعاء النافع ح ً‬
‫قا‪:‬‬
‫ما‪.461‬‬
‫ما ً‬
‫ن إِ َ‬
‫قي َ‬ ‫عل َْنا ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫ج َ‬ ‫‪َ ‬‬
‫وا ْ‬
‫ففي تفسير هذه الية يقول ابن عباس }‪ :‬أي‪ :‬اجعلنا أئمة‬
‫يقتدي بنا في الخير‪ ..462‬وذلك ‪ -‬ل شك ‪ -‬ل يتأتى إل بمجهود مضن‪،‬‬
‫وتضحيات غإلية عزيزة‪ ..‬ومن طلب العل سهر الليإلي!!‬
‫ابن الجوزي‪ :‬صفة الصفوة ‪ - 2/249‬ابن عساكر‪ :‬تاريخ دمشق ‪. 282 /51‬‬ ‫‪458‬‬

‫أبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.24/361‬‬ ‫‪459‬‬

‫ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى ‪.3/358‬‬ ‫‪460‬‬

‫)الفرقان‪.(74 :‬‬ ‫‪461‬‬

‫ابن كثير‪ :‬تفسير القرآن العظيم ‪.3/439‬‬ ‫‪462‬‬


‫وكما لم يمنع الفقر ول ضيق ذات اليد من أن يصير الشافعيّ‬
‫ضا من أن يكون سفيان الثوري ~ فقيه‬ ‫ي‪ ،‬فلم يمنع ذلك أي ً‬
‫الشافع ّ‬
‫العرب ومحدثهم‪ ،‬وأحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة‪ ،‬وأمير‬
‫المؤمنين في الحديث‪ ،‬والذي قال فيه زائدة‪" :‬الثوري سيد‬
‫المسلمين"‪ ،463‬وقال فيه الوزاعي‪" :‬لم يبق من تجتمع عليه المة‬
‫بالرضا إل سفيان"‪!!..464‬‬
‫ويصور ذلك بنفسه فيقول‪ :‬لما أردت أن أطلب العلم قلت‪ :‬يا‬
‫رب‪ ،‬لبد لي من معيشة‪ .‬ورأيت العلم ُيدرس )أي‪ :‬يذهب ويندثر(‬
‫ت الله الكفاية‪ ..‬يعني أن‬ ‫ُ‬
‫فقلت‪ :‬أفّرغ نفسي في طلبه‪ ،‬قال‪ :‬وسأل ُ‬
‫يكفيه أمر الرزق!! وكان من كفاية الله له في ذلك الشأن أن قيض‬
‫ما صالحة‪ ،‬قد تكفلت بالنفاق عليه‪ ،‬فكان هو ثمرتها‪..‬‬ ‫ُ‬
‫له أ ّ‬
‫قالت أمه له‪" :‬يا بني‪ ,‬اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي"‪!!..465‬‬
‫فكانت رحمها الله تعمل بالغزل‪ ،‬وتقدم لولدها نفقة الكتب‬
‫والتعلم؛ ليتفرغ هو للعلم‪ ،‬بل والكثر من ذلك أنها كانت كثيًرا ما‬
‫تتخوله بالموعظة والنصيحة لتحضه على تحصيل العلم‪ ،‬فكان مما‬
‫قالته له ذات مرة‪" :‬يا بني‪ ،‬إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى‬
‫في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك‪ ،‬فإن لم تر ذلك فاعلم‬
‫أنها تضرك ول تنفعك"‪!!..466‬‬
‫وهكذا كانت كفاية الله له‪..‬‬
‫فلم يكن من غرابةٍ بعد ُ أن يتبوأ سفيان الثوري السيادة في‬
‫العلم‪ ،‬والمامة في الدين‪ ،‬وكيف وقد ترعرع في كنف مثل هذه الم‬
‫ذى من فضائلها وتقواها‪..‬؟!‬ ‫الصالحة‪ ،‬وتغ ّ‬
‫ولم يكن العلماء يكتفون بطلب العلم في بلدهم‪ ،‬ولكن كانوا‬
‫يطلبونه في أصقاع العالم المختلفة‪ ،‬ولهم في ذلك حكايات أشبه‬
‫بالساطير؛ إذ تراهم يقطعون آلف الميال من أجل الدرس‬
‫والتحصيل‪ ..‬ويكفي أن نعرف فقط وسائلهم في ذلك الوقت‪ ،‬لندرك‬
‫حجم المعاناة والمخاطرة التي كانوا يتعرضون لها في هذا الطريق‪..‬‬
‫فهذا جابر بن عبد الله < يرحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن‬
‫أنيس < في طلب حديث واحد‪ ،‬يقول جابر‪ :‬بلغني حديث عن رجل‬
‫ت إليه رحلي شهًرا‪ ،‬حتى‬ ‫من أصحاب النبي ‪ ،‬فابتعت بعيًرا‪ ،‬فشدد ُ‬
‫ن جابًرا بالباب‬
‫قدمت الشام‪ ،‬فإذا عبد الله بن أنيس‪ ،‬فبعثت إليه أ ّ‬

‫ابن أبي حاتم‪ :‬الجرح والتعديل ‪.1/118‬‬ ‫‪463‬‬

‫أبو عبد الله الذهبي‪ :‬تذكرة الحفاظ ‪.1/204‬‬ ‫‪464‬‬

‫أبو نعيم‪ :‬حلية الولياء ‪.6/370‬‬ ‫‪465‬‬

‫ابن الجوزي‪ :‬صفة الصفوة ‪.3/189‬‬ ‫‪466‬‬


‫فرجع الرسول فقال‪ :‬جابر بن عبد الله؟! فقلت‪ :‬نعم‪ .‬فخرج‬
‫فاعتنقني‪ ،‬قلت‪ :‬حديث بلغني لم أسمعه خشيت أن أموت أو تموت‪..‬‬
‫فذكر الحديث‪.467‬‬
‫وبعد سماع الحديث عاد جابر إلى المدينة مباشرة؛ إذ لم يكن‬
‫له بغية في الشام غير هذا الحديث الواحد!!‬
‫وقد رحل أبو أيوب النصاري كذلك من المدينة إلى عقبة بن‬
‫عامر بن عبس الجهني في مصر ليروي عنه حديًثا واح ً‬
‫دا‪ ،‬فقدم مصر‪،‬‬
‫و نزل عن راحلته ولم يحل رحلها‪ ،‬فسمع منه الحديث ثم ركب‬
‫راحلته وقفل إلى المدينة راجًعا‪!!468‬‬
‫ويقول حاتم الرازي )من العلماء الجهابذة الّنقاد‪ ،‬من الطبقة‬
‫الرابعة‪ ،‬من أهل الري( ~ يقص أمر رحلته العجيبة‪ :‬أحصيت ما‬
‫ي زيادة على ألف فرسخ )أي نحو خمسة آلف كيلو‬ ‫مشيت على قدم ّ‬
‫متر‪ ،‬والفرسخ هو ثلثة أميال‪ ،‬أو ‪ 5544‬متًرا!!(‪ ،‬لم أزل أحصي حتى‬
‫لما زاد على ألف فرسخ تركته‪ ،‬وأما ما سرت أنا من الكوفة إلى‬
‫بغداد فما ل أحصي كم مرة‪ ،‬ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة‪،‬‬
‫وخرجت من البحر من قرب مدينة سل ‪ -‬وذلك في المغرب القصى ‪-‬‬
‫إلى مصر ماشًيا‪ ،‬ومن مصر إلى الرملة ماشًيا‪ ،‬ومن الرملة إلى بيت‬
‫المقدس‪ ،‬ومن الرملة إلى عسقلن‪ ،‬ومن الرملة إلى طبرية‪ ،‬ومن‬
‫طبرية إلى دمشق‪ ،‬ومن دمشق إلى حمص‪ ،‬ومن حمص إلى إنطاكية‪،‬‬
‫م رجعت من طرسوس إلى حمص‪،‬‬ ‫ومن إنطاكية إلى طرسوس‪ ،‬ث ّ‬
‫م خرجت من‬ ‫ي شيء من حديث أبي إليمان فسمعته‪ ،‬ث ّ‬ ‫قي عل ّ‬
‫وكان ب َ ِ‬
‫حمص إلى بيسان‪ ،‬ومن بيسان إلى الرقة‪ ،‬ومن الرقة ركبت الفرات‬
‫إلى بغداد‪ ،‬وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل‪،‬‬
‫ومن النيل إلى الكوفي‪ ،‬كل ذلك ماشًيا‪ ،‬هذا سفري الول وأنا ابن‬
‫عشرين سنة أجول سبع سنين!! وخرجت المرة الثانية‪ ،‬وكان سني‬
‫في هذه الرحلة سبًعا وأربعين سنة‪!!469‬‬
‫وكان أسد بن الفرات ~‪ ،‬وهو الفقيه المالكي العظيم الذي‬
‫دّون مذهب المام مالك ~‪ ،‬والذي كان يعمل قاضًيا للقيروان ثم‬
‫دا في سبيل الله‪ ،‬وفتح جزيرة صقلية حيث استشهد هناك سنة‬ ‫مجاه ً‬
‫‪213‬هق‪ ،‬كان هذا العلمة الفقيه القاضي المجاهد يحكي عن نفسه‪,‬‬
‫وكيف طلب العلم فيقول‪:‬‬
‫إنه ذهب إلى المدينة فتعلم على يد المام مالك ~‪ ,‬ثم رحل‬
‫إلى العراق فسمع من أصحاب أبي حنيفة ~‪ ،‬وبالذات محمد بن‬
‫‪ 467‬البخاري‪ :‬الدب المفرد )‪ ،(970‬أحمد )‪ ،16085‬والحاكم )‪ (3638‬وقال صحيح السناد‬
‫ووافقه الذهبي‪.‬‬
‫‪ 468‬أحمد )‪ ،(17490‬وعبد الرزاق )‪ ،(18936‬وابن أبي شيبة )‪.(13729‬‬
‫‪ 469‬أبو حاتم الرازي‪ :‬الجرح والتعديل ‪ ،1/360‬وابن عساكر‪ :‬تاريخ دمشق ‪.52/10‬‬
‫الحسن الشيباني‪ ,‬وكان يجلس في مجلسه مع مئات وآلف الطلب‬
‫فل يستطيع أن يسأل ما يريد‪ ,‬ول أن يتعلم ما يشتهي‪ ,‬فذكر ذلك‬
‫للمام الجليل محمد بن الحسن وقال له‪" :‬إني غريب قليل النفقة‪,‬‬
‫والسماع منك نذر )أي قليل لشدة الزحام(‪ ،‬والطلبة عندك كثير‪ ,‬فما‬
‫حيلتي؟‬
‫فقال له العلمة الجليل المتجرد محمد بن الحسن ~‪ :‬اسمع مع‬
‫العراقيين بالنهار‪ ,‬وقد جعلت لك الليل وحدك‪ ,‬فتبيت عندي‪,‬‬
‫وأسمعك!!‬
‫قال أسد بن الفرات ~‪" :‬وكنت أبيت عنده وينزل إلي‪ ,‬ويجعل‬
‫حا فيه الماء‪ ,‬ثم يأخذ في القراءة‪ ،‬فإذا طال الليل‬
‫بين يديه قد ً‬
‫ونعست‪ ,‬مل يده ونفخ في وجهي بالماء فأنتبه‪ ,‬فكان ذلك دأبه ودأبي‪,‬‬
‫حتى أتيت على ما أريد من السماع عليه"‪.‬‬
‫فانظر رحمك الله إلى همة العالمين الجليلين‪ ،‬وانظر كيف فّرغ‬
‫محمد بن الحسن من وقته لسد بن الفرات‪ ..‬وذلك لنه يعلم أنه‬
‫سينشر هذا العلم في بلد لن يستطيع محمد بن الحسن الوصول‬
‫إليها‪ ،‬ومن ثم فهو أولى من غيره بتفريغ مزيد من الوقت له‪..‬‬
‫ثم انظر إلى همة أسد بن الفرات ~‪ ،‬الذي كان يكفيه أنه تعلم‬
‫على يد المام مالك ~‪ ..‬لكنه طالب العلم الذي ل يرتوي ول يشبع‬
‫دا‪ ،‬فيظل يطلب العلم مادام فيه نبض الحياة‪!!..‬‬
‫أب ً‬
‫روى الدارمي بسند ٍ صحيح غير أنه مرسل‪ ،‬عن طاووس بن‬
‫ل الل ّ َ‬
‫س‬
‫ه‪ ،‬أيّ الّنا ِ‬ ‫ِ‬ ‫سو َ‬ ‫ه ‪َ :‬يا َر ُ‬‫ل الل ّ ِ‬
‫سو ِ‬ ‫كيسان ~ أنه قال‪ِ :‬قي َ‬
‫ل ل َِر ُ‬
‫ب ِ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫َ‬
‫علم ٍ‬ ‫طال ِ ِ‬ ‫وك ُ ّ‬
‫ه‪َ ،‬‬ ‫عل ْ ِ‬
‫م ِ‬ ‫س إلى ِ‬ ‫ِ‬ ‫عل ْ َ‬
‫م الّنا‬ ‫ع ِ‬ ‫م َ‬
‫ج َ‬‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫م؟ َقا َ‬
‫ل‪َ " :‬‬ ‫أع ْل َ ُ‬
‫عل ْم ٍ"‪.470‬‬‫ن )أي‪ :‬جائع‪ ،‬أو‪ :‬ل يكتفي ويطلب المزيد( إلى ِ‬ ‫غْرَثا ُ‬ ‫َ‬

‫فلم تكن أجسادهم لجل ذلك تقوى على ملمسة الفراش؛‬


‫كون هذا يمنعهم من تحصيل العلم!!‬
‫ولقد كان البخاري ~ يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه‬
‫فيوقد السراج‪ ,‬ويكتب الفائدة تمر بخاطره‪ ,‬ثم يطفئ سراجه‪ ،‬ثم‬
‫يقوم مرة أخرى وأخرى‪ ,‬حتى كان يتعدد منه ذلك قريًبا من عشرين‬
‫مرة‪!!..471‬‬
‫وهو الذي قال عنه عمر بن حفص الشقر‪ :‬إنهم فقدوا البخاري‬
‫ما من كتابة الحديث بالبصرة‪ ،‬قال‪ :‬فطلبناه فوجدناه في بيت وهو‬
‫أيا ً‬

‫‪ 470‬الدارمي‪ :‬باب من هاب الفتية مخافة السقط )‪ ،(285‬وقال حسين سلم أسد محقق سنن‬
‫الدارمي‪ :‬إسناده صحيح‪.‬‬
‫‪ 471‬ابن كثير‪ :‬البداية والنهاية ‪.11/25‬‬
‫عريان! وقد نفد ما عنده‪ ،‬ولم يبق معه شيء‪ ،‬فاجتمعنا وجمعنا له‬
‫الدراهم‪ ،‬حتى اشترينا له ثوًبا وكسوناه‪ ،‬ثم اندفع معنا في كتابة‬
‫الحديث‪!!472‬‬
‫ويحكي النووي ~ عن نفسه فيقول‪" :‬بقيت سنتين لم أضع‬
‫جنبي إلى الرض‪ ,‬وكان إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة‬
‫وأنتبه‪!!"473‬‬
‫وذلك الجهد العظيم ُيصوره فخر الدين محمد الساعاتي‪ ،‬أحد‬
‫جهابذة الطب في تاريخ السلم‪ ،‬حين يصف معاناته في تحصيل‬
‫الطب فيقول‪:‬‬
‫لنني بينهم فارس‬ ‫يحسدني قومي على صنعتي‬
‫‪474‬‬
‫لن يستوي الدراس والناعس‬ ‫سهرت في ليلي واستنعسوا‬
‫ضا ابن رشد‪ ،‬حين نعلم أنه لم يدع النظر في الكتب‬‫ويصوره أي ً‬
‫إل ليلة وفاة أبيه‪ ،‬وليلة زواجه‪ !! ..‬وكان من نتيجة ذلك أنه صنف‬
‫‪475‬‬

‫وشرح وهذب أكثر من عشرة ألف ورقة‪ !!..‬وكان ُيفزع إلى فتياه‬
‫في الطب كما ُيفزع إلى ُفتياه في الفقه‪ ،‬مع الحظ الوافر في‬
‫العراب والداب والحكمة‪!!..‬‬
‫دا‪ ،‬حتى إنه لم‬ ‫ُ‬
‫ما شدي ً‬
‫أما الجاحظ والذي أغرم بالمطالعة إغرا ً‬
‫يقع في يده كتاب إل استوفى قراءته‪ ..‬فكان من حرصه على طلب‬
‫العلم وجهاده في ذلك‪ ،‬أنه كان يستأجر حوانيت الوّراقين في البصرة‬
‫الزاخرة بشتى الرسائل والمدونات في العلوم المختلفة‪ ،‬ويعتكف‬
‫فيها للدرس والمطالعة‪!!..476‬‬
‫وفي مثل ذلك يحكي المام أحمد بن حنبل ~ عن طفولته‬
‫فيقول‪" :‬كنت ربما أردت البكور في الحديث )أي الخروج من بيته‬
‫مبكًرا لكي يجد مكاًنا مناسًبا في درس الحديث( فتأخذ أمي بثيابي‬
‫حتى يؤّذن الناس‪ ،‬أو حتى يصبحوا"‪!!477‬‬
‫فهو يحاول الخروج لطلب الحديث والعلم قبل صلة الفجر‪،‬‬
‫لكن أمه تخشى عليه‪ ،‬فتستبقيه حتى يكون الذان‪!!..‬‬
‫بل وأكثر من ذلك أنهم كانوا كثيًرا ما يهملون أهم ضرورات‬
‫الحياة لجل العلم‪ ،‬يفضلونه في ذلك على أنفسهم‪ ،‬وقد ذكر الذهبي‬
‫الخطيب البغدادي‪ :‬تاريخ بغداد ‪.2/13‬‬ ‫‪472‬‬

‫ابن قاضي شهبة‪ :‬طبقات الشافعية‬ ‫‪473‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.4/162‬‬ ‫‪474‬‬

‫انظر ترجمته عند الذهبي‪ :‬تاريخ السلم‬ ‫‪475‬‬

‫انظر ترجمته عند الذهبي‪ :‬تاريخ السلم‪.‬‬ ‫‪476‬‬

‫الذهبي‪ :‬سير أعلم النبلء‬ ‫‪477‬‬


‫في سيره عن عبد الرحمن بن أبي حاتم أنه قال‪ :‬كنا بمصر سبعة‬
‫م لمجالس الشيوخ‪،‬‬ ‫أشهر‪ ،‬لم نأكل فيها مرقة‪ ،‬كل نهارنا مقس ٌ‬
‫خا‪،‬‬
‫ما أنا ورفيق لي شي ً‬ ‫وبالليل‪ :‬النسخ والمقابلة‪ .‬قال‪ :‬فأتينا يو ً‬
‫ما‬ ‫ً‬
‫فقالوا‪ :‬هو عليل‪ ،‬فرأينا في طريقنا سمكا أعجبنا‪ ،‬فاشتريناه‪ ،‬فل ّ‬
‫صرنا إلى البيت‪ ،‬حضر وقت مجلس‪ ،‬فلم يمكّنا إصلحه ومضينا إلى‬ ‫ِ‬
‫المجلس‪ ،‬فلم نزل حتى أتى عليه ثلثة أيام‪ ،‬وكاد أن يتغير‪ ،‬فأكلناه‬
‫نيًئا‪ ،‬لم يكن لنا فراغ أن نعطيه من يشويه‪ .‬ثم قال‪" :‬ل ُيستطاع العلم‬
‫براحة الجسد"‪!!478‬‬
‫وهذا ابن الجوزي يقول‪ :‬لقد كنت في حلوة طلبي العلم ألقى‬
‫من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لجل ما أطلب وأرجو‪.‬‬
‫وقال‪ :‬كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في‬
‫طلب الحديث وأقعد على نهر عيسى‪ ،‬فل أقدر على أكلها إل عند‬
‫الماء‪ .‬فكلما أكلت لقمة شربت عليها‪ ،‬وعين همتي ل ترى إل لقذة‬
‫تحصيل العلم‪ ،‬فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث‬
‫رسول الله ‪ ،‬وأحواله وآدابه‪ ،‬وأصحابه وتابعيهم‪..479‬‬
‫بل انظر إلى حال من كان غنًيا منهم‪ ..‬فهذا يحيى بن معين ~‬
‫)من كبار علماء الجرح والتعديل(‪ ،‬وقد خلف له أبواه ألف ألف درهم‪،‬‬
‫فأنفقها كلها في تحصيل الحديث‪ ،‬حتى لم يبق له نعل يلبس‪!!..480‬‬
‫بل انظر إلى من ُيعرض عليه المال منهم‪ ،‬وكيف كان زهدهم‬
‫فيه‪..‬‬
‫فهذا ابن الهيثم ~‪ ،‬والمعروف عند الوربيين بق )الخازن‬
‫‪ ،(Alhazen‬وهو عالم موسوعي من أعظم علماء الرياضيات والفيزياء‪،‬‬
‫وهو مؤسس علم البصريات‪ ،‬وله في ذلك الكتشافات المذهلة‪ ،‬والتي‬
‫عليها قامت النظريات العلمية الحديثة‪ ،‬ومن المستحيل أن تجد كتاًبا‬
‫أو مرجًعا في علم البصريات ل ُيشير فيه إلى ابن الهيثم‪ ،‬وخاصة‬
‫كتابه "المناظر" الذي كان ثورة حقيقية في عالم البصريات!!‬
‫فقد كان ابن الهيثم يعيش حياة مادية متعسرة‪ ،‬ولن المراء‬
‫والخلفاء ‪ -‬كما ذكرنا من قبل ‪ -‬كانوا يقدرون العلم والعلماء‪ ،‬فقد‬
‫ُأعجب به أحد أمراء الشام حين كان عنده‪ ،‬وأراد أن يغمره بالموال‪،‬‬
‫فقال ابن الهيثم‪ :‬يكفيني قوت يوم‪ ،‬وتكفيني جارية وخادم؛ فما زاد‬
‫على قوت يومي إن أمسكته كنت خازنك‪ ،‬وإن أنفقته كنت وكيلك‪،‬‬
‫وإذا اشتغلت بهذين المرين فمن الذي يشتغل بأمري وعلمي‪..481‬؟!!‬
‫الذهبي‪ :‬سير أعلم النبلء‬ ‫‪478‬‬

‫ابن الجوزي‪ :‬صيد الخاطر ص ‪.231‬‬ ‫‪479‬‬

‫المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪. 547 /31‬‬ ‫‪480‬‬

‫البيهقي ظهير الدين‪ :‬تتمة صوان الحكمة ص ‪.16‬‬ ‫‪481‬‬


‫فا أن ُيلهيه المال الفائض عن‬
‫فإلى هذا الحد كان ابن الهيثم خائ ً‬
‫ن للعلم إن لم‬
‫م ْ‬
‫حاجة يومه عن الشتغال بالعلم‪ ..‬فالقضية عنده‪َ :‬‬
‫أكن أنا له‪..‬؟!‬
‫ولهذا كان هو ابن الهيثم‪..‬‬
‫ما مبي ًّنا منهجه في الحياة بصفة عامة‪ ،‬وفي قضية‬
‫ولقد قال يو ً‬
‫ل جهدي‪،‬‬‫دت لي الحياة‪ ،‬باذ ٌ‬‫م ّ‬
‫العلم عنده بصفة خاصة‪" :‬وإني ما ُ‬
‫ومستفرغ قوتي في مثل ذلك )يقصد الدراسة وتحصيل العلوم(‪،‬‬
‫خًيا منه أموًرا ثلثة‪ :‬أحدها‪ :‬إفادة من يطلب الحق ويؤثره‪ ،‬في‬‫متو ّ‬
‫ضا لي بهذه المور‬‫حياتي وبعد مماتي‪ .‬والخر‪ :‬أني جعلت ذلك ارتيا ً‬
‫في إثبات ما يتصوره وُيتقنه فكري من تلك العلوم‪ .‬والثالث‪ :‬أني‬
‫صيرته ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة وأوان الهرم"‪!!..482‬‬ ‫ّ‬
‫وفي ظروف غير الفقر والمال قد تكون أشد وأصعب منهما‪..‬‬
‫ضا فوق العادة‪ ،‬فلم يستسلم علماء المة للمر‬‫كان المجهود أي ً‬
‫الواقع‪ ،‬ولم يكسلوا أو يتوانوا‪ ،‬بل برعوا حتى وهم تحت أغلل‬
‫القيود‪!!..‬‬
‫فكان الطوسي‪ 483‬ذا مكانة عالية ودرجة رفيعة عند خلفاء‬
‫العباسيين لنباهته وحدة ذكائه‪ ،‬ولهذا فإن أحد وزراء البلط أضمر له‬
‫دا‪ ،‬وأرسل إلى حاكم قهستان )من لعمال نيسابور( يتهمه‬ ‫الغدر حس ً‬
‫زوًرا وبهتاًنا‪ ،‬مما دفع به إلى السجن في إحدى القلع‪ ،‬وقد كان من‬
‫نتيجة سجنه أن أنجز في خلل اعتقاله معظم مصنفاته في الفلك‬
‫والرياضيات‪ ،‬وهي التي كانت سبب ذيوع صيته وشهرته وبروز اسمه‬
‫بين عباقرة السلم في جميع النحاء!!‬
‫وهذا سيد قطب‪ ،~484‬يكتب "الظلل" وهو من أشهر التفاسير‬
‫ل أن تجد مكتبة إسلمية في أنحاء العالم السلمي‬ ‫الحديثة‪ ،‬والذي ق ّ‬
‫تخلو منه‪ ،‬سواء بالعربية أو بغيرها ‪ -‬كتب معظم هذا التفسير العظيم‬
‫خلل فترة ءسجنه!!‬
‫ضا العالم الجليل ابن تيمية الذي صّنف مؤلفات‬
‫وقبله كان أي ً‬
‫عدة في فترة سجنه‪ ،‬منها – على سبيل المثال ‪ -‬كتاب في التفسير‬
‫في ربعة مجلدات!!‬

‫‪ 482‬ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.3/380‬‬


‫‪ 483‬ظهر الطوسي في القرن السادس الهجري‪ ،‬وكان أحد حكماء السلم المرموقين‪ ،‬كرمه‬
‫الخلفاء العباسيين لمكانته في العلم‪ ،‬وجعله هولكو من مستشاريه الطبيين العلميين واستطاع‬
‫دا في بغداد‪ ،‬وكذلك استطاع إنشاء مكتبة كبيرة‪ .‬انظر الزركلي‪ :‬العلم ‪.7/30‬‬‫أن يبني مرص ً‬
‫‪ 484‬سيد قطب )‪1906‬م – ‪1966‬م(‪ :‬كاتب وأديب ومفكر إسلمي‪ ،‬له إسهامات مجيدة في‬
‫قضايا الدب الفكر السلمي والدعوة‪ ،‬فقد أعانه الله على إكمال تحفته الخالدة "في ظلل‬
‫القرآن" رغم المصاعب التي مّر بها في حياته‪ ..‬كما أّلف إلي جانب الظلل‪ :‬هذا الدين‪-‬‬
‫خصائص التصور السلمي‪ -‬المستقبل لهذا الدين‪ ..‬وغيرها‬
‫دا‪،‬‬
‫دا أن ترى من يسجن نفسه ويتغرب متعم ً‬ ‫بج ً‬‫ثم عجي ٌ‬
‫لينقطع إلى العلم والدراسة والتأليف‪!!..‬‬
‫ففي جنوب قسنطية في قلعة ابن سلمة بالجزائر ينقطع ابن‬
‫خلدون أربع سنوات كاملة للكتابة‪ ،‬وقد أنجز في هذه المدة مقدمته‬
‫الشهيرة "مقدمة ابن خلدون"‪ ،‬والتي خلدت اسمه في التاريخ‪ ،‬وكيف‬
‫ل وقد وضع فيها قواعد تفسير التاريخ‪ ،‬فضل ً عن أسس علم الجتماع‬
‫قا في ذلك دوركايم وغيره من الغربيين‪!!..‬‬
‫الحديث‪ ،‬ساب ً‬
‫وعن مقدمته تلك يقول‪" :‬وأكملت المقدمة على هذا النحو‬
‫الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة‪ ،‬فسالت فيها شآبيب الكلم‬
‫والمعاني على الفكر‪ ،‬حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها"‪.485‬‬
‫وقد كان له من العمر آنذاك ثلث وأربعون سنة‪ ،‬وكانت المدة‬
‫سا وعشرين‬ ‫منذ خروجه من بلده الندلس وإلى رجوعه إليها خم ً‬
‫سنة!!‬
‫ورحل ابن البيطار )من كبار علماء النبات المسلمين ‪646‬هق(‬
‫إلى أقطار العالم السلمي‪ ،‬في سبيل طلب العلم وتحصيله‪ ،‬وقد زار‬
‫ضا اليونان وبلد الروم في طريقه إلى المشرق‪ ،‬وبذلك فقد أخذ‬ ‫أي ً‬
‫عن المسلمين كما أخذ عن اليونان والرومان‪ ،‬وفي بلد اليونان لقي‬
‫مهتمين بعلم النبات فاستفاد منهم‪ ،‬كما رافقهم لدراسة النبات في‬
‫مواضعه‪ ..‬وفي المغرب قام بالعمل نفسه‪..486‬‬
‫صْيبعة أنه شاهده في دمشق‪ ،‬ورافقه لمعاينة‬ ‫ُ‬
‫ويقول ابن أبي أ َ‬
‫النبات في مواضعه‪ ،‬كما قرأ عليه ابن البيطار تفسيره لسماء أدوية‬
‫ديسقوريدس‪..487‬‬
‫وكان ابن البيطار يصحب أستاذه العشاب الشهير ابن الرومية‬
‫إلى الريف‪ ،‬فيعاينان النبات مًعا‪..‬‬
‫وهذه قصة عجيبة للمام الجليل "بقي بن مخلد الندلسي‪~"488‬‬
‫)ت ‪276‬هق(‪ ،‬والذي سأل عن العلم فدلوه على بغداد حيث المام‬
‫أحمد بن حنبل ~‪ ,‬فسافر ماشًيا من الندلس في أقصي غرب بلد‬
‫المسلمين إلى بغداد‪!!489‬‬

‫‪ 485‬ابن خلدون‪ :‬العبر في ديوان المبتدأ والخبر ‪.7/44‬‬


‫‪ 486‬المقري‪ :‬نفح الطيب ‪.2/692‬‬
‫‪ 487‬ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.3/500‬‬
‫‪ 488‬بقي بن مخلد بن يزيد أبو عبد الرحمن الحافظ أحد علماء الندلس ذو رحلة واسعة صنف‬
‫دا مجاب الدعوة توفي بالندلس سنة ست‬ ‫عا فاضل ً زاه ً‬
‫المسند والتفسير وغيرهما وكان ور ً‬
‫وسبعين ومائتين‪ .‬تاريخ دمشق ‪.10/354‬‬
‫‪ 489‬ابن عساكر‪ :‬تاريخ دمشق ‪.10/357‬‬
‫يحكي عن نفسه فيقول‪" :‬لما قربت من بغداد اتصل بي خبر‬
‫المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل‪ ،‬وأنه ممنوع من الجتماع إليه‬
‫جعل تحت‬ ‫حِبس في بيته‪ ،‬و ُ‬
‫والسماع منه )كان أحمد بن حنبل قد ُ‬
‫دا‪ ،‬فاحتللت‬‫ما شدي ً‬‫المراقبة ورهن القانة الجبرية(‪ ،‬فأغممت بذلك غ ً‬
‫الموضع‪ ،‬فلم أعرج على شيٍء بعد إنزإلى متاعي في بيت أكتريه‬
‫)أستأجره( في بعض الفنادق أن أتيت المسجد الجامع‪ ،‬وأنا أريد أن‬
‫أجلس إلى الخلق وأسمع ما يتذاكرونه‪.‬‬
‫فدفعت إلى حلقة نبيلة‪ ،‬فإذا برجل يكشف عن الرجال‪،‬‬
‫وي‪ ،‬فقلت‪ :‬من هذا؟ لمن كان قربي‪ ،‬فقال‪ :‬هذا يحي بن‬ ‫فُيضّعف وُيق ّ‬
‫معين‪ ،‬فرأيت فرجة قد تفّرجت قربه‪ ،‬فقمت إليه فقلت‪ :‬أبا زكريا‬
‫فني‪ .‬فقال لي‪:‬‬ ‫ب نائي الدار‪ ،‬أردت السؤال فل تستخ ّ‬
‫رحمك الله‪ ،‬غري ٌ‬
‫ّ‬
‫ضا زكي‪،‬‬‫قل‪ .‬فسألته عن بعض من لقيت من أهل الحديث‪ ،‬فبع ً‬
‫ضا جّرح‪.‬‬
‫وبع ً‬
‫مار‪ ،‬وكنت قد أكثرت‬ ‫فسألته في آخر السؤال عن هشام بن ع ّ‬
‫من الخذ منه‪ ،‬فقال‪ :‬أبو الوليد هشام بن عمار صاحب الصلة‪،‬‬
‫كبٌر وتقّلد كبًرا ما ضّره‬
‫ة وفوق الثقة‪ ،‬لو كان تحت ردائه ِ‬
‫دمشقي ثق ٌ‬
‫شيًئا لخيره وفضله‪ .‬فصاح أهل الحلقة‪ :‬يكفيك ‪ -‬رحمة الله عليك ‪-‬‬
‫غيرك له سؤال!‬
‫فقلت وأنا واقف على قدمي‪ :‬أكشفك عن رجل واحد‪ :‬أحمد بن‬
‫حنبل؟!‬
‫فنظر إلى كالمتعجب وقال لي‪ :‬ومثلنا نحن ن َ ْ‬
‫كشف عن أحمد‬
‫بن حنبل؟! ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم‪.‬‬
‫ل على منزل أحمد بن حنبل فد ُِللت عليه‪،‬‬ ‫فخرجت أستد ّ‬
‫فقرعت بابه فخرج إلى وفتح الباب‪ ،‬فنظر رجل لم يعرفه‪ ،‬فقلت‪ :‬يا‬
‫ب‪ ،‬نائي الدار‪ ،‬هذا أول دخولي هذا البلد‪ ،‬وأنا‬
‫ل غري ٌ‬‫أبا عبد الله‪ ،‬رج ٌ‬
‫سّنة )أي جامع حديث(‪ ،‬ولم تكن رحلتي إل‬ ‫مقّيد ُ‬‫طالب حديث‪ ،‬و ُ‬
‫إليك‪.‬‬
‫خل السطوان )يعني‪ :‬الممر إلى داخل الدار( ول يقع‬
‫فقال‪ :‬اد ُ‬
‫عليك عين‪.‬‬
‫فدخلت‪ ،‬فقال لي‪ :‬وأين موضعك؟! قلت‪ :‬المغرب القصى‪.‬‬
‫؟ قلت‪ :‬أبعد من إفريقية‪ ،‬أجوز من بلدي البحر إلى‬
‫فقال لي‪ :‬إفريقية ‍‬
‫إفريقية‪ ،‬بلدي الندلس‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن موضعك لبعيد‪ ،‬وما كان شيٌء أحب إلى من أن ُأحسن‬
‫ن بما لعّله قد‬
‫ممتح ٌ‬
‫عون مثلك على مطلبه‪ ،‬غير أّني في حيني هذا ُ‬
‫بلغك‪.‬‬
‫مقب ٌ‬
‫ل نحوك‪.‬‬ ‫فقلت‪ :‬بلى قد بلغني‪ ،‬وأنا قريب من بلدك‪ُ ،‬‬
‫فقلت له‪ :‬يا أبا عبد الله‪ ،‬هذا أول دخولي‪ ،‬وأنا مجهول العين‬
‫ؤال )في هيئة‬‫س ّ‬
‫عندكم‪ ،‬فان أذنت لي أن آتي كل يوم في زِيّ ال ّ‬
‫ول(‪ ،‬فأقول عند الباب ما يقولونه‪ ،‬فتخرج إلى هذا الموضع‪ ،‬فلو‬ ‫متس ّ‬
‫لم تحدثني في كل يوم إل بحديث واحد لكان لي فيه كفاية‪.‬‬
‫حلق‪ ،‬ول عند‬
‫فقال لي‪ :‬نعم‪ ،‬على شرط أن ل تظهر في ال ِ‬
‫المحدثين‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬لك شرطك‪.‬‬
‫فكنت آخذ عصا بيدي‪ ،‬وألف رأسي بخرقة‪ ،‬وأجعل ورقي‬
‫س ّ‬
‫ؤال‬ ‫م آتي بابه فأصيح‪ :‬الجر ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬وال ّ‬
‫ودواتي في كمي‪ ،‬ث ّ‬
‫هناك كذلك‪ ،‬فيخرج إلى وُيغلق باب الدار‪ ،‬ويحدثني بالحديثين والثلثة‬
‫والكثر‪.‬‬
‫فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له )الخليفة المأمون ومن‬
‫بعده المعتصم وكذا الواثق(‪ ،‬وولي بعده من كان على مذهب السنة‬
‫)الخليفة المتوكل(‪ ،‬فظهر أحمد وعلت إمامته‪ ،‬وكانت تضرب إليه‬
‫آباط البل‪ ،‬فكان يعرف لي حق صبري‪ ،‬فكنت إذا أتيت حلقته فسح‬
‫لي‪ ،‬ويقص على أصحاب الحديث قصتي معه‪ ،‬فكان يناولني الحديث‬
‫ي وأقرؤه عليه‪!!..490‬‬
‫مناولة‪ ،‬ويقرؤه عل ّ‬
‫وقد كان من نتيجة هذا المجهود الشاق الذي بذله بقي بن‬
‫مخلد‪ ،‬ونتيجة ذلك التحايل في سبيل طلب العلم والصبر على‬
‫تداعياته‪ ،‬أنه ~ رجع إلى الندلس فملها علما‪ ،‬وقد عمل مسنده‬
‫المشهور في أحاديث رسول الله ‪" ،‬مسند بقي بن مخلد"‪ ،‬والذي‬
‫ُيعد من أعظم كتب المسانيد‪ ،‬يصفه طاهر بن عبد العزيز الندلسي‬
‫فيقول‪ :‬حملت معي جزًءا من مسند بقي بن مخلد إلى المشرق‪،‬‬
‫فأريته محمد بن إسماعيل الصائغ‪ ،‬فقال‪ :‬ما اغترف هذا إل من بحر‪،‬‬
‫وعجب من كثرة علمه‪.491‬‬
‫وعن قدر الجهد المبذول في هذا المسند يقول المام أبو محمد‬
‫بن حزم الظاهري ~‪" :‬ومسند بقي روى فيه عن ألف وثلث مائة‬
‫صاحب ونيف‪ ،‬ورتب حديث كل صاحب على أبواب الفقه‪ ،‬فهو مسند‬

‫الذهبي‪ :‬سير أعلم النبلء ‪.13/292‬‬ ‫‪490‬‬

‫الذهبي‪ :‬تاريخ السلم‪.‬‬ ‫‪491‬‬


‫ومصنف‪ ،‬وما أعلم هذه الرتبة لحد قبله‪ ،‬مع ثقته وضبطه وإتقانه‪،‬‬
‫ودة شيوخه‪ ،‬فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة‬ ‫ج ْ‬
‫واحتفاله فيه‪ ،‬و َ‬
‫ل‪ ،‬ليس فيهم عشرة ضعفاء" !!‬
‫‪492‬‬ ‫وثمانين رج ً‬

‫وهذا المسند يقع في نحو ‪ 200‬جزء‪ ،‬وفيه )‪ (30.969‬حديًثا‪،‬‬


‫بزيادة )‪ (969‬حديًثا على مسند شيخه المام أحمد‪!!..‬‬
‫وحول شخصيته ومنهجه في مؤلفاته وبحوثه يقول الذهبي‪:‬‬
‫سا في العلم‬ ‫حا‪ ،‬ربانًيا صادًقا مخل ً‬
‫صا‪ ،‬رأ ً‬ ‫دا صال ً‬
‫ما مجته ً‬
‫وكان إما ً‬
‫دا ‪.‬‬
‫‪493‬‬
‫والعمل‪ ،‬عديم المثل‪ ،‬منقطع القرين‪ ،‬يفتي بالثر‪ ،‬ول يقلد أح ً‬
‫أما العجيب والمحزن فهو أن مسند بقي بن مخلد هذا ُيعد‬
‫مفقوًدا الن‪ ،‬وإن كان المباركفوري قد نقل في تحفة الحوذي أنه‬
‫موجود في مكتبة برلين بألمانيا‪.‬‬
‫ضا من‬
‫غير أن بقّيا كان له مصنفات أخرى على قدر كبير أي ً‬
‫الهمية والتفرد‪ ،‬يقول ابن حزم‪ :‬وله مصنف في فتاوى الصحابة‬
‫والتابعين فمن دونهم‪ ،‬الذي قد أربى فيه على مصنف ابن أبي شيبة‬
‫وعلى مصنف عبد الرزاق وعلى مصنف سعيد بن منصور‪ ...‬حتى‬
‫قال‪ :‬فصارت تصانيف هذا المام الفاضل قواعد السلم‪ ،‬ل نظير لها‪،‬‬
‫دا‪ ،‬وكان ذا خاصة من أحمد بن حنبل وجارًيا‬
‫وكان متخيًرا ل يقلد أح ً‬
‫في مضمار البخاري ومسلم والنسائي ‪.‬‬
‫‪494‬‬

‫أما عن تفسيره فيقول ابن حزم‪ :‬أقطع أنه لم يؤّلف في‬


‫السلم مثل تفسير بقي‪ ،‬ل تفسير محمد بن جرير‪ ،‬ول غيره ‪!!..‬‬
‫‪495‬‬

‫ضا‪ ،‬يقول الذهبي‪:‬‬‫وفوق ذلك كانت له هذه المنقبة العجيبة أي ً‬


‫ومن مناقبه أنه كان من كبار المجاهدين في سبيل الله‪ ،‬يقال‪ :‬شهد‬
‫سبعين غزوة‪!!..‬‬
‫فهل يمكن أن تتخيل مقدار عمله وجهده‪ ،‬ثم أجره إن شاء‬
‫الله؟!‬

‫ن‬
‫سو َ‬
‫ف ُ‬ ‫س ال ْ ُ‬
‫مت ََنا ِ‬ ‫فل ْي َت ََنا َ‬
‫ف ِ‬ ‫في ذَل ِ َ‬
‫ك َ‬ ‫وصدق الله إذ يقول‪َ  :‬‬
‫و ِ‬
‫‪.496‬‬

‫‪ 492‬المصدر السابق‪.‬‬
‫‪ 493‬الذهبي‪ :‬تاريخ السلم‪.‬‬
‫‪ 494‬انظر ابن عساكر‪ :‬تاريخ دمشق ‪. 358 /10‬‬
‫‪ 495‬حاجي خليفة‪ :‬كشف الظنون ‪ ،443 /1‬السيوطي‪ :‬طبقات المفسرين ص ‪ ،30‬الدنروي‪:‬‬
‫طبقات المفسرين ص ‪.37‬‬
‫‪) 496‬المطففين‪.(26 :‬‬
‫ولم يكن بقي بن مخلد ~‪ ،‬هو الوحيد صحاب الرحلة الطويلة‬
‫للبحث عن العلم‪ ،‬ولكن هناك الكثير والكثير ممن قضوا ج ّ‬
‫ل حياتهم‬
‫سعًيا وراء العلم‪ ..‬وكان من هؤلء العظماء المام الجليل شعبة بن‬
‫الحجاج‪..‬‬
‫فقد روى الخطيب البغدادي في كتابه "الكفاية في معرفة‬
‫أصول علم الرواية" تلك الرحلة التي قام بها هذا المام العظيم من‬
‫أجل اعتبار حديث واحد‪ ،‬حتى يقف على علته!!‬
‫يقول الخطيب البغدادي‪ :‬كان جماعة من السلف قعوًدا على‬
‫باب المام شعبة‪ ،‬يتذاكرون‪ ،‬فقال أحدهم‪ :‬حدثنا إسرائيل‪ ،‬عن أبي‬
‫إسحاق‪ ،‬عن عبد الله بن عطاء‪ ،‬عن عقبة بن عامر‪ ،‬قال‪ :‬كنا نتناوب‬
‫رعاية البل على عهد رسول الله ‪ ،‬فجئت ذات يوم والنبي ‪‬‬
‫جالس وحوله أصحابه‪ ،‬فسمعته يقول‪" :‬من توضأ‪ ،‬فأحسن الوضوء‪،‬‬
‫ثم دخل المسجد‪ ،‬فصلى ركعتين واستغفر الله‪ ،‬غفر الله له"‪ .‬فقلت‪:‬‬
‫ب ٍَخ ب ٍَخ! فجذبني رجل من خلفي‪ .‬فالتفت‪ ،‬فإذا هو عمر بن الخطاب‪.‬‬
‫فقال‪ :‬الذي قال قبل أحسن! فقلت‪ :‬وما قبل؟! قال‪ :‬قال‪" :‬من شهد‬
‫أن ل إله إل الله وأن محمدا رسول الله‪ ،‬قيل له‪ :‬ادخل من أي أبواب‬
‫الجنة شئت"‪.‬‬
‫واتفق أن استمع المام شعبة إلى هذا الحديث‪ ،‬فخرج إلى‬
‫هؤلء الرهط وعّنفهم على تهاونهم في عدم تحري الدقة عند رواية‬
‫هذا الحديث‪ ،‬لوجود علة في سند الرواية‪ ) :‬إسرائيل‪ ،‬عن أبي‬
‫إسحاق‪ ،‬عن عبد الله بن عطاء‪ ،‬عن عقبة(! وأوضح أنه قد سمع أبو‬
‫إسحاق يروي هذا الحديث‪ ،‬فذهب للتأكد من صحة هذه الرواية‪،‬‬
‫دثه بهذا الحديث فقال له أبو إسحاق‪ :‬حدثني عبد الله‬
‫فسأله عمن ح ّ‬
‫بن عطاء‪ ،‬عن عقبة‪ ،‬فألح شعبة بن الحجاج على أبي إسحاق في‬
‫السؤال‪" :‬هل سمع عبد الله بن عطاء من عقبة"؟! لن سماع‬
‫طا للقبول بصحة الحديث‪.‬‬ ‫المحدثين من بعضهم يعتبر شر ً‬

‫ولما لم يتيقن شعبة بن الحجاج من ذلك‪ ،‬قرر أن عليه الذهاب‬


‫إلى عبد الله بن عطاء بمكة لسؤاله عن هذا الحديث‪ ،‬فبدأ في التجهز‬
‫لهذه الرحلة‪ ،‬ثم توجه إلى من البصرة إلى مكة‪ ،‬وكان موسم الحج‬
‫قد بدأ‪ ،‬ولكن لم يكن قصد شعبة الحج‪ ،‬وإنما كان همه معرفة صحة‬
‫هذا الحديث‪ ،‬فلما لقي عبد الله بن عطاء‪ ،‬سأله عمن سمع منه هذا‬
‫الحديث‪ ،‬فأخبره أنه سمعه من سعد بن إبراهيم! أي صحت شكوك‬
‫شعبة بن الحجاج بأن عبد الله بن عطاء لم يسمع هذا الحديث من‬
‫عقبة بن عامر مباشرة‪ .‬وهنا كان على شعبة البحث مرة أخرى!!‬
‫ولم يكن هذا الشخص الذي سماه عبد الله بن عطاء ممن‬
‫ذهبوا للحج في هذا العام‪ ،‬بل كان في بلده بالمدينة المنورة‪ ،‬فرحل‬
‫شعبة بن الحجاج ثانية إلى المدينة‪ ،‬ولقي هذا الرجل‪ ،‬وسأله عمن‬
‫سمع منه هذا الحديث‪ ،‬فأخبره بأنه سمع هذا الحديث من رجل آخر‬
‫يقطن في البصرة‪ ،‬وهنا شك شعبة في المر‪ ،‬ولكنه أراد أن يكمله‬
‫سمي له‪ .‬وسأل شعبة‬ ‫للنهاية‪ ،‬فرجع إلى البصرة‪ ،‬فلقي الرجل الذي ُ‬
‫هذا الرجل عن ذلك الحديث‪ ،‬فأخبره أنه سمعه من أحد الضعفاء!‬
‫وهنا أيقن شعبة بن الحجاج بضعف هذا الحديث‪ ،‬وقال‪ :‬لو صح‬
‫لي مثل هذا الحديث عن رسول الله ‪ ‬كان أحب إلى من أهلي‬
‫ومإلى ومن الناس أجمعين‪!!497‬‬
‫فيالله من همم!! يطوف بلداًنا شتى‪ ،‬ويدخل مدائن عدة‪،‬‬
‫وتمضي به الزمان‪ ،‬وينفق الموال العظام‪ ..‬من أجل الوقوف على‬
‫صحة حديث واحد‪!!..‬‬

‫وبمثل هذا الجهد العظيم في الرحلة‪ ،‬فقد كان الصادقون من‬


‫ضا يتسابقون لحجز الماكن لحضور مجالس العلم‪..‬‬ ‫أهل هذه المة أي ً‬
‫يقول جعفر بن درستويه )من كبار المحدثين(‪" :‬كنا نأخذ المجلس في‬
‫مجلس علي بن المديني ~ )وهو من علماء الجرح والتعديل( وقت‬
‫العصر لمجلس غد بعد الفجر‪ ,‬فنقعد طول الليل؛ مخافة أن ل نلحق‬
‫من الغد موضًعا نسمع فيه"‪!!498‬‬
‫من َّبه ~ )وهو من التابعين(‪" :‬مجلس‬
‫وفي ذلك يقول وهب بن ُ‬
‫يتنازع فيه العلم أحب إلى من قدره صلة لعل أحدهم يسمع الكلمة‬
‫فينتفع بها سنة أو ما بقي من عمره "‪.499‬‬
‫صلوا‬
‫ولجل ذلك كانوا ل يتركون موطًنا فيه علم إل طرقوه وح ّ‬
‫منه‪ ،‬يقول مكحول ~ )وهو من التابعين(‪" :‬أعتقت بمصر فلم أدع بها‬
‫ما إل حويته فيما أرى‪ ,‬ثم أتيت العراق‪ ،‬ثم أتيت المدينة فلم أدع‬
‫عل ً‬
‫ما إل حويت عليه فيما أرى‪ ,‬ثم أتيت الشام فغربلتها" !!‬
‫‪500‬‬
‫بهما عل ً‬
‫س‬
‫ما التي تكون عليها نف ُ‬ ‫وتلك هي الطبيعة المتعطشة دائ ً‬
‫طالب العلم وهمته‪ ،‬يقول الحسن البصري ~‪" :‬منهومان ل يشبعان‬
‫منهوم في العلم ل يشبع منه ومنهوم في الدنيا ل يشبع منها"‪.501‬‬
‫ولعله أخذ هذا المعنى من عبد الله بن مسعود < حيث يقول‪:‬‬
‫"منهومان ل يشبعان صاحب العلم وصاحب الدنيا ول يستويان أما‬
‫الخطيب البغدادي‪ :‬الكفاية في علم الرواية ‪.1/400‬‬ ‫‪497‬‬

‫أبو سعد التميمي السمعاني‪ :‬أدب الملء ‪.1/112‬‬ ‫‪498‬‬

‫الدارمي‪ :‬باب في فضل العلم والعالم )‪.(325‬‬ ‫‪499‬‬

‫أبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.28/470‬‬ ‫‪500‬‬

‫الدارمي‪ :‬باب في فضل العلم والعالم )‪.(331‬‬ ‫‪501‬‬


‫صاحب العلم فيزداد رضى للرحمن واما صاحب الدنيا فيتمادى في‬
‫َ‬ ‫ن ل َي َطْ َ‬
‫ه‬
‫ن َرآ ُ‬‫غى أ ْ‬ ‫سا َ‬
‫ن ال ِن ْ َ‬ ‫الطغيان ثم قرأ عبد الله‪ :‬ك َل ّ إ ِ ّ‬
‫ه‬
‫عَباِد ِ‬
‫ن ِ‬‫م ْ‬‫ه ِ‬‫شى الل ّ َ‬ ‫خ َ‬ ‫ما ي َ ْ‬‫خُر‪ :‬إ ِن ّ َ‬ ‫ل‪ :‬وََقا َ‬
‫ل ال َ‬ ‫غَنى‪َ ،‬قا َ‬‫ست َ ْ‬‫ا ْ‬
‫عل َ َ‬
‫ماءُ‪. ‬‬ ‫ال ْ ُ‬
‫‪502‬‬

‫وليس أقل من أن صاحب مثل هذه النفس كان إذا فاته شيٌء‬
‫من العلم‪ ،‬نزل به الهم والحزن‪ ،‬وأصابه المرض‪!!..‬‬
‫فقد ذكروا حديًثا لشعبة لم يسمعه‪ ،‬فجعل يقول‪:‬‬
‫"!!‬ ‫‪503‬‬
‫"واحزناه!!"‪ .‬وكان يقول‪" :‬إّني لذكر الحديث يفوتني فأمرض‬
‫ولجل ذلك كله لم يكن العلماء فقط هم الذين يطلبون العلم‬
‫ضا‪ ،‬مع علو‬
‫ويبحثون عنه‪ ،‬بل سبقهم إلى تلك الفضيلة النبياء أي ً‬
‫قدرهم‪ ،‬وسمو منزلتهم‪..‬‬
‫وفي صورة توضح ذلك‪ ،‬فقد روى ُأبي بن كعب < عن النبي ‪‬‬
‫ل‪:‬‬ ‫سئ ِ َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ل‪َ ،‬‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫في ب َِني إ ِ ْ‬ ‫طيًبا ِ‬ ‫خ ِ‬ ‫ي َ‬ ‫سى الن ّب ِ ّ‬ ‫مو َ‬ ‫م ُ‬ ‫قا َ‬ ‫قال‪َ " :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫د‬
‫م ي َُر ّ‬ ‫ه إ ِذْ ل َ ْ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ب الل ّ ُ‬ ‫عت َ َ‬ ‫ف َ‬ ‫م‪َ .‬‬ ‫عل َ ُ‬ ‫ل‪ :‬أَنا أ ْ‬ ‫قا َ‬ ‫ف َ‬ ‫م؟ َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫سأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ي الّنا‬ ‫أ ّ‬
‫فأ َوحى الل ّه إلي َ‬
‫ع‬
‫م ِ‬ ‫ج َ‬ ‫م ْ‬ ‫عَباِدي ب ِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫دا ِ‬ ‫عب ْ ً‬ ‫ن َ‬ ‫هأ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ه‪َ ْ َ ،‬‬ ‫م إلي ِ‬ ‫عل ْ َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ه‪:‬‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫قي َ‬ ‫ف ِ‬ ‫ه؟ َ‬ ‫ف بِ ِ‬ ‫وك َي ْ َ‬ ‫ب‪َ ،‬‬ ‫ل‪َ :‬يا َر ّ‬ ‫قا َ‬ ‫ك‪َ .‬‬ ‫من ْ َ‬ ‫م ِ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫و أَ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ن ُ‬ ‫حَري ْ ِ‬ ‫ال ْب َ ْ‬
‫م‪.‬‬ ‫و ثَ ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ه َ‬ ‫قدْت َ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ذا َ‬ ‫فإ ِ َ‬ ‫ل‪َ ،‬‬ ‫مك ْت َ ٍ‬ ‫في ِ‬ ‫حوًتا ِ‬ ‫ل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫ا ْ‬
‫في‬ ‫حوًتا ِ‬ ‫مَل ُ‬ ‫ح َ‬ ‫و َ‬ ‫ن‪َ ،‬‬ ‫ن ُنو ٍ‬ ‫شع َ ب ْ ِ‬ ‫ه ُيو َ‬ ‫فَتا ُ‬ ‫ق بِ َ‬ ‫وان ْطَل َ َ‬ ‫ق َ‬ ‫فان ْطَل َ َ‬ ‫َ‬
‫ما‪،‬‬ ‫وَنا َ‬ ‫ما َ‬ ‫ه َ‬ ‫س ُ‬ ‫ءو َ‬ ‫عا ُر ُ‬ ‫ض َ‬ ‫و َ‬ ‫ة َ‬ ‫خَر ِ‬ ‫ص ْ‬ ‫عن ْدَ ال ّ‬ ‫كاَنا ِ‬ ‫حّتى َ‬ ‫ل‪َ ،‬‬ ‫مك ْت َ ٍ‬ ‫ِ‬
‫سَرًبا‪.‬‬ ‫ر َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ْ‬
‫في الب َ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫َ‬
‫سِبيل ُ‬ ‫خذ َ‬ ‫َ‬ ‫ل‪ ،‬فات ّ َ‬ ‫َ‬ ‫مكت َ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ن ال ِ‬‫ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫حو ُ‬ ‫ْ‬
‫سل ال ُ‬ ‫ّ‬ ‫فان ْ َ‬ ‫َ‬

‫ما‬
‫ه َ‬ ‫قي ّ َ َ َ‬ ‫فان ْطَل َ َ‬ ‫جًبا‪َ ،‬‬ ‫و َ‬ ‫و َ‬
‫ة لي ْلت ِ ِ‬ ‫قا ب َ ِ‬ ‫ع َ‬ ‫فَتاهُ َ‬ ‫سى َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن لِ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫داءََنا لقدْ‬ ‫سى ل ِفَتاهُ‪ :‬آت َِنا غ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬ ‫ح قا َ‬ ‫صب َ َ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫ما‪ ،‬فل ّ‬ ‫ه َ‬ ‫م ُ‬ ‫و َ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫َ‬
‫ب‬
‫َ ِ‬ ‫ص‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫سا‬ ‫َ ّ‬ ‫م‬ ‫سى‬ ‫ُ َ‬ ‫مو‬ ‫د‬
‫ْ‬ ‫ج‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫م‬‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫با‬ ‫ً‬ ‫ص‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ذا‬‫َ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫س‬
‫ْ َ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫قي‬ ‫ِ‬ ‫لَ‬
‫ُ‬
‫ه‪.‬‬ ‫مَر ب ِ ِ‬ ‫ذي أ ِ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫كا َ‬ ‫م َ‬ ‫وَز ال ْ َ‬ ‫جا َ‬ ‫حّتى َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ت‬
‫سي ُ‬ ‫ة َ‬
‫فإ ِّني ن َ ِ‬ ‫خَر ِ‬
‫ص ْ‬ ‫ت إ ِذْ أ َ‬
‫وي َْنا إلى ال ّ‬ ‫ه‪ :‬أَرأي ْ َ‬ ‫ه فََتا ُ‬‫ل لَ ُ‬
‫قا َ‬‫فَ َ‬
‫شي ْ َ‬
‫ه إ ِّل ال ّ‬ ‫َ‬
‫ن‪.‬‬‫طا ُ‬ ‫ساِني ِ‬‫ما أن ْ َ‬ ‫و َ‬‫ت َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫حو َ‬
‫ما‬
‫ه َ‬ ‫عَلى آَثا ِ‬
‫ر ِ‬ ‫دا َ‬
‫فاْرت َ ّ‬ ‫ما ك ُّنا ن َب ْ ِ‬
‫غي َ‬ ‫سى‪ :‬ذَل ِ َ‬
‫ك َ‬ ‫مو َ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ُ‬
‫صا‪.‬‬
‫ص ً‬ ‫َ‬
‫ق َ‬
‫وقد أشعره الله بالتعب ليتوقف ويكتشف ضياع الحوت‪ ،‬ومن‬
‫ثم يستطيع الوصول إلى من ُوصف له بأنه سُيعّلمه‪ ،‬ويعني ذلك أن‬

‫‪ 502‬الدارمي‪ :‬باب في فضل العلم والعالم )‪ (332‬واليات من سورة العلق ‪ ،6،5‬وسورة فاطر‬
‫‪.28‬‬
‫‪ 503‬أبو نعيم الصبهاني‪ :‬حلية الولياء ‪. 155 /7‬‬
‫الله ‪ ‬لما اطلع على الخلص في قلبه‪ ،‬وظهر على إثر ذلك رغبته‬
‫سر الله له الوصول إلى ما كان يبغيه‪،‬‬
‫الحقيقية في التعلم‪ ،‬فقد ي ّ‬
‫ووفقه إلى طريق العلم‪..‬‬
‫سر له وسائل‬
‫وهكذا كل من أراد أن يتعلم بصدق‪ ،‬فإن الله ُيي ّ‬
‫التعليم‪..‬‬
‫ويتابع رسول الله ‪ ‬القصة فيقول‪:‬‬
‫َ‬
‫و‬
‫ب‪ ،‬أ ْ‬ ‫و ٍ‬ ‫جى ب ِث َ ْ‬ ‫س ّ‬‫م َ‬ ‫ل ُ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ذا َر ُ‬ ‫ة إِ َ‬‫خَر ِ‬
‫ص ْ‬ ‫هَيا إلى ال ّ‬ ‫ما ان ْت َ َ‬‫فل َ ّ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫وأّنى‬ ‫ضرُ‪َ :‬‬ ‫خ ِ‬ ‫قا َ‬ ‫ف َ‬ ‫سى َ‬ ‫مو َ‬ ‫م ُ‬ ‫سل ّ َ‬‫ف َ‬‫ه‪َ ،‬‬ ‫جى ب ِث َ ْ‬
‫وب ِ ِ‬ ‫س ّ‬ ‫ل تَ َ‬ ‫قا َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫سى ب َِني‬ ‫مو َ‬ ‫ل‪ُ :‬‬ ‫قا َ‬ ‫ف َ‬ ‫سى‪َ .‬‬ ‫مو َ‬ ‫ل‪ :‬أَنا ُ‬ ‫قا َ‬‫ف َ‬ ‫م‪َ .‬‬ ‫سَل ُ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫ض َ‬ ‫ب ِأْر ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مِني‬ ‫عل ّ َ‬ ‫ن تُ َ‬ ‫عَلى أ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ع َ‬ ‫ه ْ‬
‫ل أت ّب ِ ُ‬ ‫ل‪َ  :‬‬ ‫قا َ‬ ‫م‪َ .‬‬ ‫ع ْ‬‫ل‪ :‬ن َ َ‬ ‫قا َ‬ ‫ل؟ َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫إِ ْ‬
‫دا‪‬؟‬ ‫ش ً‬ ‫ت َر َ‬ ‫م َ‬ ‫ّ‬
‫عل ْ‬ ‫ما ُ‬‫م ّ‬ ‫ِ‬
‫عَلى‬
‫سى إ ِّني َ‬ ‫مو َ‬ ‫صب ًْرا‪َ ‬يا ُ‬‫ي َ‬ ‫ع َ‬ ‫م ِ‬‫ع َ‬ ‫طي َ‬‫ست َ ِ‬‫ن تَ ْ‬ ‫ك لَ ْ‬ ‫ل‪ :‬إ ِن ّ َ‬ ‫َقا َ‬
‫عَلى ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫علم ٍ‬ ‫ت َ‬ ‫وأن ْ َ‬ ‫ت‪َ ،‬‬ ‫ه أن ْ َ‬
‫م ُ‬ ‫عل َ ُ‬‫ه َل ت َ ْ‬‫مِني ِ‬ ‫عل ّ َ‬
‫ه َ‬‫عل ْم ِ الل ّ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عل ْم ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ه!‬ ‫م ُ‬‫عل َ ُ‬
‫ه َل أ ْ‬ ‫مك َ ُ‬ ‫عل ّ َ‬
‫َ‬

‫ك‬‫صي ل َ َ‬
‫ع ِ‬‫وَل أ َ ْ‬ ‫صاب ًِرا َ‬‫ه َ‬ ‫شاءَ الل ّ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫جدُِني إ ِ ْ‬ ‫ست َ ِ‬‫ل َ‬ ‫قا َ‬ ‫‪َ ‬‬
‫مًرا‪.‬‬ ‫َ‬
‫أ ْ‬
‫ما‬ ‫ه َ‬ ‫س لَ ُ‬ ‫ر ل َي ْ َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ل ال ْب َ ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫سا ِ‬ ‫عَلى َ‬ ‫ن َ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫م ِ‬ ‫قا ي َ ْ‬ ‫فان ْطَل َ َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ف‬
‫ر َ‬‫ع ِ‬‫ف ُ‬ ‫ما‪َ ،‬‬ ‫ه َ‬ ‫ملو ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن يَ ْ‬‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫مو ُ‬ ‫فك َل ُ‬ ‫ة َ‬ ‫فين َ ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ه َ‬ ‫ت بِ ِ‬ ‫مّر ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ة‪َ ،‬‬ ‫فين َ ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫على‬ ‫ع َ‬ ‫وق َ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫صفوٌر ف َ‬ ‫ُ‬ ‫ع ْ‬ ‫جاءَ ُ‬ ‫ل‪ ،‬ف َ‬ ‫َ‬ ‫و ٍ‬ ‫ر نَ ْ‬ ‫غي ْ ِ‬
‫ما ب ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ملو ُ‬ ‫ُ‬ ‫ح َ‬ ‫َ‬
‫ضُر ف َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬
‫ل‬‫قا َ‬ ‫ف َ‬ ‫ر‪َ ،‬‬ ‫ح ِ‬ ‫في ال ْب َ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫قَرت َي ْ ِ‬ ‫و نَ ْ‬ ‫قَرةً أ ْ‬ ‫قَر ن َ ْ‬ ‫فن َ َ‬ ‫ة َ‬ ‫فين َ ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ال ّ‬ ‫حْر ِ‬ ‫َ‬
‫ه إ ِّل‬
‫عل ْم ِ الل ّ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬‫م َ‬ ‫عل ْ ُ‬ ‫و ِ‬ ‫مي َ‬ ‫عل ْ ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫ق َ‬ ‫ما ن َ َ‬ ‫سى‪َ ،‬‬ ‫مو َ‬ ‫ضُر‪َ :‬يا ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ر‪. "..‬‬
‫‪504‬‬
‫ح ِ‬ ‫في ال ْب َ ْ‬ ‫ر ِ‬ ‫فو ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫ع ْ‬ ‫ذا ال ْ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ة َ‬ ‫قَر ِ‬ ‫ك َن َ ْ‬

‫ثم كان من أمرهما ما كان في سورة الكهف من أحداث‪..‬‬


‫وما يمكن أن نضيفه هنا‪ ،‬هو أن هذا الجهد العظيم المبذول في‬
‫قا ‪ -‬رغم كل المعوقات‬
‫تعلم العلم وتحصيله ‪ -‬كما رأينا ساب ً‬
‫والصعوبات التي قد تعتري الطريق ‪ -‬لم يكن ذلك الجهد قاصًرا على‬
‫العلماء المسلمين فقط‪ ،‬بل شاركهم في ذلك كل من نبغ وتفوق في‬
‫أي من مجالت العلوم الخرى من كل أمم الرض؛ إذ هي سنة كونية‬
‫وقاعدة مطردة‪..‬‬

‫‪ 504‬البخاري‪ :‬كتاب العلم‪ :‬باب إذا سئل العالم أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلي الله )‪،(122‬‬
‫ومسلم‪ :‬كتاب الفضائل‪ ،‬باب من فضائل الخضر ‪ ،((2380‬والترمذي )‪ ،(3149‬وأحمد )‬
‫‪ ،(21155‬وابن حبان )‪ .(6220‬واليات من سورة الكهف من ‪.68-61‬‬
‫فمن بذر لبد وأن يرى الثمر‪ ،‬وعلى قدر البذل والجهد‪ ،‬لبد وأن‬
‫يكون العطاء‪..‬‬
‫وعليه‪ ،‬فكما نبغ علماء مسلمون وذاع صيتهم وشهرتهم في‬
‫مجال علمهم‪ ،‬نتيجة ما بذلوه من مجهود‪ ،‬وما صبروا عليه من مشاق‬
‫ضا علماء غير مسلمين في مجال علومهم‪،‬‬ ‫وتضحيات‪ ..‬فقد نبغ أي ً‬
‫ضا في رحلتهم العلمية الخاصة‬
‫نتيجة طبيعية وحتمية لما مروا به أي ً‬
‫بهم‪..‬‬
‫فهذا توماس أديسون مخترع المصباح الكهربائي‪ ..‬كان من دأبه‬
‫الكد والعمل ودونما انقطاع طيلة الربع والعشرين ساعة على مدار‬
‫اليوم‪ ،‬يختلس منها فقط فترات وجيزة للراحة‪ ،‬ليعود على إثرها‬
‫للبحث والعمل من جديد‪ ،‬وكان يكتفي في طعامه بالوجبات السريعة‬
‫في المعمل‪!!..‬‬
‫وفي سنة ‪1886‬م استطاع أن يؤسس مصنع "منلوبارك"‬
‫الشهير بمدينة "نيوجيرسي"‪ ،‬حيث تلحقت منه اختراعاته التي سجل‬
‫عا‪!!..‬‬
‫منها ما يقارب ‪ 1500‬اخترا ً‬
‫وقد بقي في معمله الذي اتخذ منه بيًتا ومصنًعا أربعة أيام‬
‫ضا الخروج منه قبل تحقيق اختراعه‪ ،‬وكان يردد‪" :‬إما‬ ‫متصلة‪ ،‬راف ً‬
‫النجاح أو أن أموت"‪..‬‬
‫ولما توفي في الثامن عشر من شهر أكتوبر سنة ‪1931‬م‪ ،‬كان‬
‫عا!!‬
‫جل رسمًيا ‪ 2500‬اخترا ً‬
‫هذا العبقري قد س ّ‬
‫سِئل عن سر هذا النجاز الجّبار أجاب‪" :‬إن المثابرة والكد‬‫ولما ُ‬
‫والصبر أساس النجاح‪ ..‬وإن نسبة الوحي واللهام هي ‪ ،%1‬و ‪%99‬‬
‫عرق جبين"‪..‬‬
‫وهذا أنطوان لفوازييه‪ 505‬مكتشف الوكسجين‪ ..‬انقطع كلية عن‬
‫اللهو والمرح مع أقرانه‪ ،‬وعاش منهم ً‬
‫كا في الدراسة والعلم‪ ،‬حتى‬
‫تدهورت صحته بسبب ذلك‪ ،‬وُأصيب بتوعك في معدته‪ ،‬المر الذي‬
‫فرض عليه العيش على الحليب لعدة أشهر‪ ،‬حتى نصحه أحد أصدقائه‬
‫بالتقليل من الجهاد الفكري‪ ،‬والزيادة في النشاط البدني!!‬
‫ورغم ذلك فقد شغل ثلث وظائف‪ ،‬هي‪ :‬عضوية المجمع‬
‫العلمي‪ ،‬وعضوية المزرعة‪ ،‬ومدير دار السلحة‪ ..‬ولم يمنعه ذلك كله‬
‫من القيام باختباراته العلمية‪ ،‬وقد خصص لها ‪ 6‬ساعات يومّيا!!‬
‫‪ 505‬ولد لفوازييه في باريس ‪1743‬م‪ ،‬عمل بالمحاماة كوالده ونال جائزة لبتكاره في طريقة‬
‫إنارة شوارع باريس إل أنه كان يعشق البحث فقاده ذلك لن يكون أبو الكيمياء الحديثة وهو‬
‫أول من تعرف على الوكسجين‪ ،‬ورغم عبقريته إل أن مصيره كان العدام بعد قيام الثورة‬
‫الفرنسية‪.‬‬
‫أما العالم نيوتن‪ ..506‬فقد ضرب أروع المثلة في تحمل الفقر‬
‫وضيق العيش وصلف الحياة‪ ..‬فقد رأت أمه أن تبعده عن الدراسة‬
‫بعد وفاة أبيه‪ ،‬وذلك ليعتني لها بالرض والحرث‪ ،‬كما كان يفعل أبوه‬
‫من قبل!!‬
‫ها عن الدراسة‪!!..‬‬
‫مكر ً‬
‫وبالفعل تخلى ُ‬
‫ولجل ذلك‪ ،‬وفي سبيل كسر ذلك الطوق الذي قّيده عن إتمام‬
‫تعليمه‪ ،‬كان يختلي بكتبه كلما سنحت له الفرصة‪ ،‬ولما كانت تأمره‬
‫أمه بمرافقة الخادم إلى السوق‪ ،‬كان يستجيب لها حتى إذا ما أشرف‬
‫على المدينة خل إلى كتابه وطلب من الخادم أن يقوم بمهام الشراء‬
‫بمفرده!!‬
‫وهكذا يمضي الخادم لشأنه‪ ،‬ويبقى نيوتن مستلقًيا على العشب‬
‫يحل إحدى المسائل الحسابية في استغراق كلي‪ ،‬ريثما يعود الخادم‬
‫من السوق‪ ،‬فيرجعا مًعا إلى المزرعة‪..‬‬
‫أما العالم الفرنسي المشهور لويس باستير‪ ،507‬فقد افتقده‬
‫الناس ليلة زفافه‪ ،‬ولما بحثوا عنه وجدوه في مختبره يجري بعض‬
‫التجارب!!!‬
‫هذه هي أحوال العلماء في جهادهم من أجل العلم‪ ،‬ومن أجل‬
‫تحصيله‪ ..‬ول يظنن أحد ٌ أنه بعيد ٌ عن تحصيل مثل هذه الدرجات التي‬
‫صلها هؤلء السابقون‪ ،‬ويتحجج في ذلك بأن جهله عريض‪ ،‬أو أن‬ ‫ح ّ‬
‫حصيلته قليلة‪ ،‬أو أن بضاعته في ذلك مزجاة!!‬
‫فالمر فقط كما روى معاوية < بسند حسن أن رسول الله ‪‬‬
‫قال‪" :‬يا أيها الناس‪ ،‬تعلموا‪ ،‬إنما العلم بالتعلم‪ ،‬وإنما الفقه‬
‫بالتفقه‪ ،‬ومن يرد الله به خيًرا يفقه في الدين"‪.508‬‬
‫ول ريب أن المة التي يكون أتباعها على هذه الدرجة من‬
‫معرفة قيمة العلم‪ ،‬ومن الحرص عليه‪ ،‬والرغبة الشديدة فيه‪ ..‬لبد أن‬
‫تكون أمة رائدة سائدة قائدة‪..‬‬

‫‪ 506‬ولد السير إسحاق نيوتن ‪1642‬م في بلدة وولثروب البريطانية‪ ،‬وظهرت عليه براعة‬
‫ميكانيكية فصنع أدوات إلية من تصميمه مثل طائرة ورقية ومزولة وساعة مائية‪ ،‬واكتشف‬
‫قانون الجاذبية‪ ،‬وقانون الجذب العام‪ ،‬ومن مؤلفاته "الصول الرياضية للفلسفة الطبيعية"‪،‬‬
‫وتوفي عام ‪.1727‬‬
‫‪ 507‬لويس باستر ولد في عام ‪ 1822‬في مدينة دول في فرنسا‪ ،‬ابتدع طريقة للقاح ضد مرض‬
‫الكلب واستطاع اكتشاف طريقة اللهوائية وهي استطاعة بعض الكائنات على العيش دون‬
‫أوكسجين أو هواء‪ ،‬وهو أول من عرف البكتريا والجراثيم وعرف التعامل معها وتوفي عام‬
‫‪.1895‬‬
‫‪ 508‬الطبراني في الوسط )‪ ،(2663‬وقال اللباني‪ :‬حسن لغيره صحيح الترغيب والترهيب‬
‫‪.1/16‬‬
‫ولشك أن الذي يتخلى عن هذه الحمية العلمية‪ ،‬يقود أمته‬
‫ونفسه من قبل إلى النقياد‪ ،‬بل ويقودهما إلى مواطن الهلك‬
‫ومصارع السوء‪..‬‬
‫َ‬
‫عل َ َ‬
‫ماءُ‬ ‫ت ال ْ ُ‬ ‫و َ‬
‫قا ُ‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أ ْ‬

‫صناعة العلماء تبدأ من حرصهم على احترام الوقت كركيزة‬


‫إسلمية وقيمة حضارية كبرى‪ ،‬وهي الحقيقة التي لم يغفلها السلم‬
‫ما كبيًرا بالوقت‪ ،‬وحث أتباعه على استثماره‬
‫دا‪ ،‬فكان أن اهتم اهتما ً‬
‫أب ً‬
‫والمحافظة عليه‪ ،‬وذلك فيما ينفع دينهم ودنياهم‪..‬‬
‫فلعظم الوقت وأهميته الكبرى أقسم الله ‪ ‬به في كتابه‬
‫الكريم في أكثر من موضع‪ ،‬فأقسم سبحانه بالفجر‪ ،‬والضحى‪ ،‬والليل‪،‬‬
‫والعصر‪ ..‬ولم يقسم الله ‪ ‬إل بغا ٍ‬
‫ل وعزيزٍ ونفيس‪..‬‬
‫وإنه إذا كانت النظرية الغربية ترى أن الوقت هو المال‪ ،‬فإن‬
‫س لحقّ الوقت؛ إذ هو أغلى‬
‫النظرية السلمية ترى أن هذه القيمة بخ ٌ‬
‫در بمال‪ ،‬ولذلك فكان الوقت في منظومتها هو الحياة‪..‬‬ ‫من أن ُيق ّ‬
‫فالوقت باهظ الثمن؛ إذ هو الحياة بعينها‪ ،‬وما حياة النسان إل‬
‫ذلك الوقت الذي يقضيه من ساعة الميلد إلى ساعة الوفاة‪..‬‬
‫ولذلك لم يكن غريًبا أن يقول ابن القيم ~‪:‬‬
‫ما فما هو من‬
‫ولم أكتسب عل ً‬ ‫م ولم أستفد هدى‬
‫إذا مّر بي يو ٌ‬
‫‪509‬‬
‫عمري‬
‫ولم يكن عجيًبا أن أحدهم حين مّر بقوم ٍ وهم في ملهى أو في‬
‫مقهى جالسون‪ ،‬أنه أخذ يتألم! ولما قيل له في ذلك قال‪ :‬والله‬
‫آسف‪ ،‬وأتمنى لو أن الوقات تشترى كما تشترى البضاعة لشترينا‬
‫من هؤلء أوقاتهم‪!!..‬‬
‫ما كانوا على‬
‫وفي ذلك يقول الحسن البصري ~‪" :‬أدركت أقوا ً‬
‫صا على دراهمكم ودنانيركم"‪!!510‬‬
‫أوقاتهم أشد منكم حر ً‬
‫وإنه ‪ -‬وللسف ‪ -‬فإن الكثيرين لم ُيدركوا هذه الحقيقة‪ ،‬ولم‬
‫يفقهوا كون "الوقت" من أعظم وأكبر نعم الله ‪ ‬على النسان‪،‬‬
‫دروه بأقل من ثمنه‪ ،‬ففرطوا في استهلكه والنتفاع بكل‬ ‫فغبنوه وق ّ‬
‫ن‬
‫مَتا ِ‬ ‫لحظة فيه‪ ..‬فقد روى ابن عباس < أن رسول الله ‪ ‬قال‪" :‬ن ِ ْ‬
‫ع َ‬
‫وال ْ َ‬
‫فَرا ُ‬
‫غ"‪!!511‬‬ ‫ة َ‬
‫ح ُ‬
‫ص ّ‬
‫س‪ :‬ال ّ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫ما ك َِثيٌر ِ‬
‫م ْ‬ ‫ه َ‬
‫في ِ‬‫ن ِ‬
‫غُبو ٌ‬
‫م ْ‬
‫َ‬

‫‪ 509‬ابن القيم‪ :‬مفتاح دار السعادة ‪. 122 /1‬‬


‫‪ 510‬أنور بن سعيد البيلوي‪ :‬الوقت بين حرص السلف وتفريط الخلف ص ‪.10‬‬
‫‪ 511‬البخاري‪ :‬كتاب الرقاق‪ ،‬باب ما جاء في الصحة والفراغ وأن ل عيش إل عيش الخرة )‬
‫‪ ،(6049‬والترمذي )‪ ،(2304‬وابن ماجة )‪ ،(4170‬واحمد )‪ ،(3207‬والحاكم )‪.(7845‬‬
‫ولذالك يقول ابن مسعود <‪" :‬ما ندمت على شيٍء ندمي على‬
‫يوم ٍ غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي"‪.‬‬
‫وإنه لما كان لعلماء السلم مهمة شريفة‪ ،‬وغاية نبيلة‪ -‬على‬
‫قا ‪ -‬فضل عن معرفتهم تلك القيمة الغإلية للوقت‪..‬‬ ‫نحو ما وضحنا ساب ً‬
‫فقد كان لهم تعاملهم الخاص معه‪ ،‬وبمعنى آخر‪ :‬كان لهم تعاملهم‬
‫الخاص مع أنفاسهم التي ُتعد عليهم‪ ..‬وذاك الذي أورثهم حضارة‬
‫دا‪ ،‬لم يعرف‬ ‫ُ‬
‫ما وعًزا ومج ً‬‫عريقة الجذور‪ ،‬استطاعت أن تؤتي أكلها عل ً‬
‫التاريخ لمثلها نظيًرا!!‬
‫وفي تجسيد عملي‪ ،‬وفي صورة واقعية تبين تثمين ذلك الوقت‬
‫وكيفية إدارته في واقع علماء المسلمين‪ ،‬يقول المام أبو الوفاء بن‬
‫عقيل الحنبلي‪ :‬إني ل يحل لي أن ُأضّيع ساعة من عمري‪ ،‬حتى إذا‬
‫طل لساني عن مذاكرة أو مناظرة‪ ،‬وبصري عن مطالعة‪ ،‬أعملت‬ ‫تع ّ‬
‫فكري في حال راحتي وأنا منطرح‪ ،‬فل أنهض إل وقد خطر لي ما‬
‫أسطره‪ ،‬وإني لجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين‬
‫أشد ما كنت أجده وأنا ابن عشرين‪.512‬‬
‫ثم ترى العجب حين تراه ُيكمل فيقول‪ :‬وأنا أقصر بغاية جهدي‬
‫سيه بالماء على الخبز؛ لجل‬‫ف الكعك وتح ّ‬‫وقت أكلي حتى أختار س ّ‬
‫ة‪ ،‬أو تسطير فائدة لم‬
‫ما بينهما من تفاوت المضغ؛ توفًرا علي مطالع ٍ‬
‫أدركها فيه‪!!513‬‬
‫ي‪ :‬لو قلت لكم إني ما رأيت‬‫وقال موسى بن إسماعيل الت ُّبوذك ِ ّ‬
‫كا لصدقت‪ ،‬كان مشغو ً‬
‫ل‪ :‬إما أن يحدث أو يقرأ‬ ‫حماد بن سلمة ضاح ً‬
‫أو ُيسّبح أو يصلي‪ ،‬وقد قسم النهار على ذلك ‪.‬‬
‫‪514‬‬

‫سليم بن أيوب الرازي )أحد كبار أئمة المذهب‬ ‫بل إن المام ُ‬


‫الشافعي ت ‪447‬هق( كان يحاسب نفسه على النفاس أن تضيع دون‬
‫إفادة‪ ,‬فقد حكى عنه أبو الفرج غيث بن علي التنوخي الصوري قال‪:‬‬
‫دثت عنه أنه كان يحاسب نفسه على النفاس‪ ,‬ل يدع وقًتا يمضي‬ ‫ح ّ‬‫و ُ‬
‫عليه بغير فائدة‪ ,‬إما ينسخ‪ ,‬أو ُيدّرس‪ ,‬أو يقرأ‪ ,‬وينسخ شيًئا كثيًرا‪.‬‬
‫ولقد حدثني عنه شيخنا أبو الفرج السفرايني )أحد تلمذته( أنه نزل‬
‫ما إلى داره ورجع‪ ,‬فقال‪" :‬وقد قرأت جزًءا في طريقي"!!‬ ‫يو ً‬
‫ي عليه‬
‫ف َ‬
‫ح ِ‬ ‫سَلي ً‬
‫ما َ‬ ‫مل بن الحسن‪ :‬أنه رأى ُ‬ ‫قال‪ :‬وحدثني المؤ ّ‬
‫ه )أي‪ :‬براه وأصلحه(‬ ‫ّ‬
‫حا للكتابة( فإلى أن قَط ُ‬
‫القلم )أي‪ :‬لم يعد صال ً‬

‫أبو الفضل العسقلني‪ :‬لسان الميزان ‪.4/243‬‬ ‫‪512‬‬

‫ابن رجب الحنبلي‪ :‬ذيل طبقات الحنابلة ‪.1/108‬‬ ‫‪513‬‬

‫أبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.7/265‬‬ ‫‪514‬‬


‫جعل يحرك شفتيه‪ ،‬فعلم أنه يقرأ بإزاء أص ً‬
‫لحه القلم؛ لئل يمضي‬
‫عليه زمان وهو فارغ‪!!515‬‬
‫لم الب ِي ْك َْندي شيخ البخاري )ت ‪227‬هق( كان‬
‫وهذا محمد بن س َ‬
‫ملي‪،‬‬‫دث وي ُ ْ‬
‫سا في مجلس الملء والشيخ يح ّ‬ ‫في حال الطلب جال ً‬
‫فانكسر قلم محمد بن سلم فأمر أن ينادى‪ :‬قلم بدينار‪ ..‬فتطايرت‬
‫إليه القلم‪.516‬‬
‫وذلك لئل ينشغل ولو برهة عن الدرس والتحصيل؛ فالمال‬
‫وض‪ ،‬أما الوقت والتحصيل فهيهات هيهات أن يرجع‪!!..‬‬
‫يع ّ‬
‫ومن هذه المشكاة‪ ،‬كان الخليل بن أحمد الفراهيدي يقول‪:‬‬
‫ي‪ :‬ساعة آكل فيها‪517‬ا!!‬
‫أثقل الساعات عل ّ‬
‫ويحكي ابن أبي أصيبعة صاحب طبقات الطباء فيقول‪ :‬حكى لنا‬
‫القاضي شمس الدين الخوئي عن الشيخ فخر الدين بن الخطيب أنه‬
‫قال‪ :‬والله إنني أتأسف في الفوات عن الشتغال بالعلم في وقت‬
‫الكل‪ ،‬فإن الوقت والزمان عزيز‪!!518‬‬
‫ضا القاضي عياض في ترتيب المدارك عن ابن المكوى‬ ‫وحكى أي ً‬
‫القرطبي‪ ،519‬وكان قد حبب إليه الدرس مدة عمره ل يفتر عنه ليله‬
‫ونهاره‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫قا له قصده في عيد زائًرا له‪ ،‬فأصابه داخل داره‬ ‫ذكر أن صدي ً‬
‫وبابه مفتوح‪ ،‬فجلس منتظره‪ ،‬وأبطأ عليه‪ ،‬فأوصى إليه‪ ،‬فخرج وهو‬
‫ينظر في كتاب فلم يشعر بصديقه حتى عثر فيه لشتغال باله‬
‫بالكتاب!! فتنّبه حينئذ ٍ له وسّلم عليه‪ ،‬واعتذر إليه من احتباسه بشغله‬
‫بمسألة عويصة لم يمكنه تركها حتى فتحها الله عليه!! فقال له‬
‫الرجل‪ :‬في أيام عيد ووقت راحة مسنونة؟! فقال‪ :‬إذا علمت‬
‫بهذه النفس انصبت إلى هذه المعرفة‪ ،‬والله ما لي راحة ول لذة في‬
‫غير النظر والقراءة‪.520‬‬
‫وعن مكانته يقول ابن عفيف‪ :‬إليه انتهت رئاسة العلم‬
‫بالندلس‪ ،‬حتى صار بمثابة يحيى بن يحيى في زمانه‪ ،‬واعتلى على‬
‫جميع الفقهاء‪ ،‬ونفذت الحكام برأيه‪ ،‬فحكم على الحاكم‪ ،‬وبُعد صيته‬
‫بالندلس‪ ،‬وكان ~ من ذوي المتانة في دينه والصلبة في رأيه والبعد‬

‫ابن عساكر‪ :‬تبيين كذب المفتري ص ‪.263‬‬ ‫‪515‬‬

‫الذهبي‪ :‬سير أعلم النبلء‬ ‫‪516‬‬

‫أبو هلل العسكري‪ :‬الحث على طلب العلم والجتهاد ص ‪88‬‬ ‫‪517‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.3/130‬‬ ‫‪518‬‬

‫هو أبو عمر أحمد بن عبد الملك الشبيلي المعروف بابن المكوى‪ ،‬مولى بني أمية‪.‬‬ ‫‪519‬‬

‫القاضي عياض‪ :‬ترتيب المدارك ‪.4/636‬‬ ‫‪520‬‬


‫عن هوى نفسه‪ ،‬ل يداهن السلطان‪ ،‬ول يدع صدعه بالحق‪ ،‬كان البعيد‬
‫والقريب عنده في الحق سواء‪!!521‬‬
‫فلجل ذلك الحرص الشديد على الوقت في الدراسة وتحصيل‬
‫سدى‪ ..‬ومن ثم فإنك تراهم يقتنصون‬ ‫العلم‪ ،‬لم تكن تضيع منهم برهة ُ‬
‫ميه بق "الفراغات البينية"‪ ،‬وهي التي تكون بين عمل وآخر‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ما أس ّ‬
‫بل ويجعلون من أعمال حياتهم الضرورية ‪ -‬مثل أوقات الكل‪ ،‬ودخول‬
‫الخلء‪ ،‬والذهاب إلى عمل ما ‪ -‬يجعلون منها أوقاًتا للدرس والعلم‬
‫ضا!!‬ ‫أي ً‬
‫فقد ذكر الحافظ الذهبي في ترجمة أبي حاتم الرازي أنه قال‪:‬‬
‫دا أحرص على طلب‬ ‫قال لي أبو زرعة )يعني الرازي(‪ :‬ما رأيت أح ً‬
‫العلم منك‪ ،‬فقلت له‪ :‬إن عبد الرحمن ابني لحريص‪ .‬فقال‪ :‬من أشبه‬
‫أباه فما ظلم‪.‬‬
‫مام )وهو أحمد بن علي‪ ،‬أحد رجال إسناد الخبر(‪:‬‬
‫قال الّر ّ‬
‫فسألت عبد الرحمن عن اتفاق كثرة السماع له وسؤالته لبيه فقال‪:‬‬
‫ربما كان يأكل وأقرأ عليه‪ ،‬ويمشي وأقرأ عليه‪ ،‬ويدخل الخلء وأقرأ‬
‫عليه‪ ،‬ويدخل البيت في طلب شيء فأقرأ عليه‪!!522‬‬
‫فكانت ثمرة تلك المحافظة العجيبة على الزمن‪ ،‬والحرص‬
‫جا علمًيا كبيًرا‪ ،‬منه‪:‬‬
‫الشديد على طلب العلم هذا ‪ -‬كانت ثمرته نتا ً‬
‫كتاب "الجرح والتعديل" في تسعة مجلدات‪ ،‬وهو من أهم الكتب‬
‫النفيسة الحافلة الرائدة في هذا العلم‪ ،‬وكتاب "التفسير" في عدة‬
‫مجلدات‪ ،‬وكتاب "المسند" في ألف جزء!!‬
‫وهذا عبد الرحمن بن تيمية يحكي عن أبيه فيقول‪ :‬كان الجد إذا‬
‫دخل الخلء يقول‪ :‬اقرأ لي هذا الكتاب‪ ،‬وارفع صوتك حتى أسمع‪!!523‬‬
‫مار بن رجاء‪ :‬سمعت عبيد بن‬ ‫ضا قال ع ّ‬
‫وعلى هذا النحو أي ً‬
‫يعيش يقول‪ :‬أقمت ثلثين سنة ما أكلت بيدي بالليل‪ ،‬كانت أختي‬
‫تلقمني وأنا أكتب الحديث‪!!524‬‬
‫ف‬
‫ف الفتيت‪ ،‬ويقول‪ :‬بين س ّ‬
‫بل إن داود الطائي كان يست ّ‬
‫الفتيت وأكل الخبز قراءة خمسين آية !!‬
‫‪525‬‬

‫وحكى القطب اليونيني عن المام النووي ~ أنه كان ل يضيع له‬


‫وقت في ليل ول نهار إل في وظيفة من الشتغال بالعلم‪ ،‬حتى إنه‬
‫القاضي عياض‪ :‬ترتيب المسالك ص ‪.657‬‬ ‫‪521‬‬

‫أبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.24/388‬‬ ‫‪522‬‬

‫أبو عبد الله الزرعي‪ :‬روضة المحبين ‪.1/70‬‬ ‫‪523‬‬

‫الخطيب البغدادي‪ :‬الجامع لخلق الراوي ‪.2/178‬‬ ‫‪524‬‬

‫ابن الجوزي‪ :‬صيد الخاطر ص ‪.489‬‬ ‫‪525‬‬


‫في ذهابه في الطريق وإيابه يشتغل في تكرار محفوظة‪ ،‬أو مطالعة‪،‬‬
‫وإنه بقي على التحصيل ‪ -‬على هذا الوجه ‪ -‬ست سنين‪!!526‬‬
‫ربة شخصية مررت بها ونفعتني كثيًرا‪،‬‬ ‫وبالمكان أن أذكر هنا تج ِ‬
‫من خلل استغلل تلك المسافات البينية‪ ،‬أو الوقات المهدرة بين‬
‫العمل والخر‪..‬‬
‫فحين كنت في أمريكا‪ ،‬ولما كانت المسافات التي نقطعها يومًيا‬
‫دا‪ ،‬فقد حرصت على أن‬ ‫بالسيارة للوصول إلى العمل طويلة ج ً‬
‫أستغل ذلك الوقت وأستفيد منه قدر الطاقة‪ ،‬وقمت على إثر ذلك‬
‫بإعداد برنامج عملي تفصيلي لسماع محاضرات علمية في أثناء‬
‫ركوب السيارة‪ ،‬واستطعت سماع مكتبة كبيرة وقيمة من الشرطة‬
‫المسموعة التي في المسجد‪ ،‬والتي هي عندي وعند أصدقائي‪،‬‬
‫ما‬
‫وكانت لشيوخ وعلماء من بلدان إسلمية شتى‪ ،‬فأضافت إلى علو ً‬
‫در دونما تقدير!!‬
‫ت أن أحوزها‪ ..‬وكل ذلك في وقت قد ُيه َ‬‫ما تخيل ُ‬
‫مع العلم بأن استماعي هذا لم يكن بطريقة عشوائية‪ ،‬وإنما‬
‫كان وفق برنامج مدروس ومتكامل‪ ،‬يضيف المعلومة إلى المعلومة‪،‬‬
‫والموضوع إلى الموضوع‪ ،‬وهكذا‪..‬‬
‫فماذا لو خصص كل منا "شري ً‬
‫طا" إسلمًيا ‪ -‬مثل ً ‪ -‬وجعله معه‬
‫أثناء سفره ‪ -‬وخاصة وكلنا يمر بتجربة السفر والتنقل والترحال ‪-‬‬
‫واستطاع أن يستفيد من سماعه في السيارة التي يستقلها‪ ،‬أو‬
‫لت عامة؟!!‬ ‫يستفيد ويفيد منه الخرين‪ ،‬إذا كان يستقل موأص ً‬

‫إن المر جد ّ هّين‪ ..‬وما عليك إل أن تعرف قيمة ما عزمت‬


‫عليه‪ ..‬ول إخال أنك لم تعرفه الن!!‬
‫وليس المر في ذلك مقتصًرا فقط على أوقات السفر‪ ،‬فهناك‬
‫ضا أوقات النتظار‪ ،‬سواء كان ذلك لقضاء عمل معين أو مصلحة‬ ‫أي ً‬
‫خاصة‪ ..‬وما أكثر ذلك في حياتنا!! فهناك ‪ -‬مثل ً ‪ -‬عيادات الطباء‪..‬‬
‫وهناك مكاتب المحاماة‪ ..‬وهناك انتظار المحاضرات‪ ..‬وغيرها الكثير‬
‫من الفراغات الوقتية الهائلة!!‬
‫فمن الممكن في ذلك تخصيص كتاب لقراءته والستفادة منه‪،‬‬
‫حمل المصحف للحفظ فيه أو قراءة الورد اليومي‪ ،‬وذلك في مثل‬ ‫أو َ‬
‫كل هذه المور‪ ..‬ويكفي في ذلك أل تجعل وقًتا يمر عليك دون‬
‫فائدة!!‬

‫السخاوي‪ :‬ترجمة النووي ص ‪.12،11‬‬ ‫‪526‬‬


‫وقد حكي عن أبي بكر بن الخياط النحوي ~ أنه كان يدرس‬
‫جميع أوقاته‪ ،‬حتى في الطريق!! وكان ربما سقط في جرف‪ ،‬أو‬
‫خبطته دابة لسبب ذلك‪!!527‬‬
‫خا له( فكان‬‫وأما الفتح بن خاقان )استوزره المتوكل واتخذه أ ً‬
‫فه‪ ،‬فإذا قام من بين يدي المتوكل لحاجة أو‬ ‫خ ّ‬
‫يحمل الكتاب في ُ‬
‫ليصلي‪ ،‬أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي حتى يبلغ الموضع الذي‬
‫يريد‪ ،‬ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه إلى أن يأخذ مجلسه‪.528‬‬
‫ن آخر‪..‬‬
‫أما حالهم في سهر الليل‪ ،‬فكان له شأ ٌ‬
‫فكان محمد بن الحسن الشيباني ~ ل ينام الليل‪ ،‬وكان عنده‬
‫الماء يزيل نومه به‪ ،‬وكان يقول‪ :‬إن النوم من الحرارة لبد من دفعه‬
‫بالماء البارد‪!!529‬‬
‫وذكر ابن اللباد أن محمد بن عبدوس صّلى الصبح بوضوء‬
‫العتمة )العشاء( ثلثين سنة‪ ،‬خمس عشرة من دراسة‪ ،‬وخمس‬
‫عشرة من عبادة‪!!530‬‬
‫ويحكي أحد أصحاب المام مالك‪ ،‬وهو عبد الرحمن بن قاسم؛‬
‫سا فأسأله عن مسألتين‪ ،‬ثلثة‪ ،‬أربعة‪،‬‬‫فيقول‪ :‬كنت آتي مالك ًا غل ً‬
‫وكنت أجد منه في ذلك الوقت انشراح الصدر‪ ،‬فكنت آتي كل سقحقر‪،‬‬
‫ت مرة عتبته فغلبتني عيني فِنمت‪ ،‬وخرج مالك إلى المسجد‬ ‫فتوسد ُ‬
‫ولم أشعر به‪ ،‬فركضتني جارية سوداء له برجلها‪ ،‬وقالت لي‪ :‬إن‬
‫مولك )ظنت أنه موله من كثرة اختلفه إليه وتردده عليه( قد خرج‪،‬‬
‫ليس يغفل كما تغفل أنت‪ ،‬اليوم له تسعٌ وأربعون سنة قّلما صّلى‬
‫الصبح إل بوضوء العتمة‪!!531‬‬
‫وإذا نظرنا إلى حالهم مع أقرانهم ومحيطهم ودروسهم فإنك‬
‫ترى العجب العجاب‪..‬‬
‫وقد كان العلمة الكبير أبو المعإلى محمود شكري اللوسي‬
‫البغدادي الحفيد‪ ،‬يمتاز بالجد الشديد والحرص على الوقت‪ ،‬فكان ل‬
‫يثنيه عن دروسه شدة الحر‪ ،‬ول قرص برد الشتاء‪ ،‬وكثيًرا ما تعّرض‬
‫تلميذه بسبب تأخرهم عن الدرس إلى النقد والتعنيف‪..‬‬
‫قال عنه تلميذه العلمة بهجة الثري‪ :‬أذكر أنني انقطعت عن‬
‫حضور درسه في يوم مزعج‪ ،‬شديد الريح‪ ،‬غزير المطر‪ ،‬كثير الوحل؛‬
‫أبو هلل العسكري‪ :‬الحث على طلب العلم والجتهاد ص ‪.77‬‬ ‫‪527‬‬

‫ابن النديم‪ :‬الفهرست ص ‪.169‬‬ ‫‪528‬‬

‫طاشكبري‪ :‬مفتاح السعادة ومصباح السيادة ‪.1/23‬‬ ‫‪529‬‬

‫القاضي عياض‪ :‬اللماع إلي معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ‪.1/235‬‬ ‫‪530‬‬

‫الذهبي‪ :‬سير أعلم النبلء ‪.9/120‬‬ ‫‪531‬‬


‫ما شخصت في اليوم الثاني إلى‬ ‫ظًنا مني أنه ل يحضر المدرسة‪ ،‬فل ّ‬
‫الدرس‪ ،‬صار ينشد بلهجة الغضبان‪ :‬ول خير فيمن عاقه الحر والبرد‪..‬‬
‫‪!!532‬‬
‫ق‬
‫ما من عمره في غير ح ٍ‬ ‫ولهذا قال بعضهم‪" :‬من أمضى يو ً‬
‫سه‪ ،‬أو‬‫س َ‬
‫صله‪ ،‬أو خيرٍ أ ّ‬
‫صله‪ ،‬أو حمد ٍ ح ّ‬
‫ض أّداه‪ ،‬أو مجد ٍ أ ّ‬
‫قضاه‪ ،‬أو فر ٍ‬
‫علم ٍ اقتبسه‪ ،‬فقد عق يومه وظلم نفسه"‪.‬‬
‫وعليه فل نعجب حين نسمع بعد ذلك عن وفرة حفظهم وسعة‬
‫تحصيلهم‪..‬‬
‫فل نعجب ‪ -‬مثل ً ‪ -‬حين نعلم أن النووي وهو في أول طلبه‬
‫حا‬‫سا على المشايخ شر ً‬
‫للعلم‪ ،‬كان يقرأ كل يوم اثني عشر در ً‬
‫حا!!‬‫وتصحي ً‬
‫فكان يقرأ درسين في "الوسيط"‪ ،‬وثالًثا في "المهذب"‪ ،‬ورابًعا‬
‫سا في‬‫سا في "صحيح مسلم"‪ ،‬ودر ً‬ ‫في الجمع بين الصحيحين‪ ،‬وخام ً‬
‫لح المنطق" لبن‬ ‫سا في "أص ً‬‫"الّلمع" لبن جني في النحو‪ ،‬ودر ً‬
‫سا في أصول الفقه‪،‬‬‫سا في التصريف‪ ،‬ودر ً‬ ‫السكيت في اللغة‪ ،‬ودر ً‬
‫تارة في "اللمع" لبن إسحاق‪ ،‬وتارة في "المنتخب" للفخر الرازي‪،‬‬
‫سا في أصول الدين‪!!533‬‬ ‫سا في أسماء الرجال‪ ،‬ودر ً‬
‫ودر ً‬
‫ُ‬
‫قال النووي‪ :‬وكنت أعّلق جميع ما يتعلق بها من شرح ُ‬
‫م ْ‬
‫شكل‪،‬‬
‫ضاح عبارة‪ ،‬وضبط لغة‪ ،‬وبارك الله لي في وقتي واشتغإلي‪،‬‬
‫وأي ً‬
‫وأعانني عليه !!‬
‫‪534‬‬

‫وفي مثل ذلك ما ذكره الذهبي في تاريخه عن إسماعيل بن‬


‫أحمد الحيري النيسابوري الضرير‪ ،‬فيقول في ترجمته‪ :‬سمع عليه‬
‫الخطيب البغدادي بمكة صحيح البخاري بسماعه من الكشميهني في‬
‫ثلثة مجالس‪ :‬اثنان منها في ليلتين‪ ،‬كان يبتدئ بالقراءة وقت‬
‫المغرب ويختم عند صلة الفجر‪ ،‬والثالث من ضحوة النهار إلى طلوع‬
‫الفجر!!‬
‫دا في‬
‫وقد علق الذهبي على ذلك بقوله‪ :‬وهذا شيٌء ل أعلم أح ً‬
‫زماننا يستطيعه‪!!535‬‬
‫وقد قرأ الفيروز آبادي )صاحب القاموس المحيط( صحيح‬
‫مسلم في ثلثة أيام وهو بدمشق‪.‬‬
‫‪ 532‬من مقدمة الستاذ عدنان عبد الرحمن الدوري‪ :‬لكتاب إتحاف المجاد فيما يصح به‬
‫الستشهاد لللوسي محمود الحفيد ص ‪.15‬‬
‫‪ 533‬الذهبي‪ :‬تذكرة الحفاظ ‪.4/1470‬‬
‫‪ 534‬الذهبي‪ :‬تذكرة الحفاظ ‪.4/1470‬‬
‫‪ 535‬السخاوي‪ :‬فتح المغيث ‪.2/52‬‬
‫وذكر الحافظ السخاوي في حق شيخه ابن حجر قال‪ :‬وقع‬
‫لشيخنا الحافظ ابن حجر أج ّ‬
‫ل مما وقع لشيخه المجد اللغوي‪ ،‬فإنه‬
‫قرأ صحيح البخاري في أربعين ساعة رملية‪ ،‬وقرأ صحيح مسلم في‬
‫أربعة مجالس سوى مجلس الختم‪ ،‬وقرأ سنن ابن ماجة في أربعة‬
‫مجالس‪ ،‬وقرأ كتاب النسائي الكبير في عشرة مجالس‪ ،‬كل مجلس‬
‫منها نحو أربع ساعات‪ ،‬وقرأ صحيح البخاري في عشرة مجالس كل‬
‫مجلس منها أربع ساعات‪.‬‬
‫ثم قال السخاوي‪ :‬وأسرع شيء وقع له )أي لبن حجر( أنه قرأ‬
‫في رحلته الشامية معجم الطبراني الكبير في مجلس واحد بين‬
‫صلتي الظهر والعصر!! قال‪ :‬وهذا الكتاب في مجلد يشتمل على نحو‬
‫ألف حديث وخمسمائة‪!!536‬‬
‫ضا أن يصبح لهم باع عريض في شتى‬
‫كما ل نعجب بعد ذلك أي ً‬
‫أصناف العلوم‪..‬‬
‫سد قيمة الوقت عندهم‪ ،‬وكيفية‬
‫وفي صورة تعبر عن ذلك‪ ،‬وُتج ّ‬
‫ضا سعة اطلعهم ووفرة تصنيفاتهم‪ ..‬ما‬ ‫تحصيلهم للعلوم‪ ،‬وتبين أي ً‬
‫يقصه صاحب طبقات الطباء عن ابن سينا‪ ،‬حيث يحكي عن نفسه‬
‫فيقول‪:‬‬
‫أحضرت معلم القرآن ومعلم الدب‪ ،‬وأكملت العشر من العمر‬
‫وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الدب‪ ،‬حتى كان يقضى مني‬
‫العجب‪ ...‬ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله النائلي‪ ،‬وكان من علماء‬
‫الفلسفة‪ ،‬وأنزله أبي دارنا رجاء تعلمي منه‪ ،‬وقبل قدومه كنت أشتغل‬
‫بالفقه والتردد فيه إلى إسماعيل الزاهد‪ ،‬وكنت من أجود السالكين‪،‬‬
‫وقد ألفت طرق المطالبة ووجوه العتراض على المجيب على الوجه‬
‫الذي جرت عادة القوم به‪.‬‬
‫ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح حتى أحكمت‬
‫علم المنطق‪ ،‬وكذلك كتاب إقليدس‪ ،‬فقرأت من أوله خمسة أشكال‬
‫أو ستة عليه‪ ،‬ثم توليت بنفسي حل بقية الكتاب بأسره‪ ،‬ثم انتقلت‬
‫إلى المجسطي‪ ،‬ولما فرغت من مقدماته وانتهيت إلى الشكال‬
‫الهندسية‪ ،‬قال لي النائلي‪ :‬تول قراءتها وحلها بنفسك‪ ،‬ثم اعرضها‬
‫ي لبين لك صوابه من خطئه‪ ،‬وما كان الرجل يقوم بالكتاب‪،‬‬ ‫عل ّ‬
‫وأخذت أحل ذلك الكتاب‪ ،‬فكم من شكل ما عرفه إلى وقت ما‬
‫عرضته عليه أفهمته إياه )أي أنه بدأ يشرح لستاذه(!!‬

‫‪ 536‬انظر سيد العفاني‪ :‬صلح المة في علو الهمة ‪ ،1/558،557‬نقل عن الضوء اللمع‬
‫للسخاوي‪.‬‬
‫ثم فارقني النائلي متوجًها إلى كركانج‪ ،‬واشتغلت أنا بتحصيل‬
‫الكتب من الفصوص والشروح‪ ،‬من الطبيعي واللهي‪ ،‬وصارت أبواب‬
‫العلم تنفتح علي‪.‬‬
‫ثم رغبت في علم الطب وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه؛‬
‫وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة‪ ،‬فل جرم أني برزت فيه في‬
‫ي علم الطب‪ ،‬وتعهدت‬ ‫أقل مدة‪ ،‬حتى بدأ فضلء الطب يقرءون عل ّ‬
‫ي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما‬ ‫المرضى فانفتح عل ّ‬
‫ل يوصف‪ ،‬وأنا مع ذلك اختلف إلى الفقه وأناظر فيه‪ ،‬وأنا في هذا‬
‫الوقت من أبناء ست عشرة سنة!!‬
‫فا‪ ،‬فأعدت قراءة‬‫ثم توفرت على العلم والقراءة سنة ونص ً‬
‫المنطق وجميع أجزاء الفلسفة‪ ،‬وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة‬
‫بطولها‪ ،‬ول اشتغلت النهار بغيره‪ ،‬وجمعت بين يدي ظهوًرا‪ ،‬فكل حجة‬
‫كنت أنظر فيها أثبت مقدمات قياسية‪ ،‬ورتبتها في تلك الظهور‪ ،‬ثم‬
‫نظرت فيما عساها تنتج‪ ،‬وراعيت شروط مقدماته حتى تحقق لي‬
‫حقيقة الحق في تلك المسألة‪.‬‬
‫وكلما كنت أتحّير في مسألة ولم أكن أظفر بالحد الوسط في‬
‫قياس‪ ،‬ترددت إلى الجامع‪ ،‬وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل‪ ،‬حتى فتح‬
‫لي المنغلق‪ ،‬وتيسر المتعسر!!‬
‫وكنت أرجع بالليل إلى داري‪ ،‬وأضع السراج بين يدي‪ ،‬وأشتغل‬
‫بالقراءة والكتابة‪ ،‬فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف‪ ،‬عدلت إلى‬
‫شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلى قوتي‪ ،‬ثم أرجع إلى القراءة‪،‬‬
‫ومهما أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها‪ ،‬حتى أن كثيًرا‬
‫من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام!!‬
‫وكذلك حتى استحكم معي جميع العلوم‪ ،‬ووقفت عليها بحسب‬
‫المكان النساني!!‬
‫‪ ...‬حتى أحكمت على المنطق والطبيعي والرياضي‪ ،‬ثم عدلت‬
‫إلى اللهي‪ ،‬وقرأت كتاب "ما بعد الطبيعة"‪ ،‬فما كنت أفهم ما فيه‪،‬‬
‫ي غرض واضعه‪ ،‬حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي‬ ‫والتبس عل ّ‬
‫ظا‪ ،‬وأنا مع ذلك ل أفهمه ول المقصود به‪ ،‬وأيست من نفسي‬ ‫محفو ً‬
‫وقلت‪ :‬هذا كتاب ل سبيل إلى فهمه!!‬
‫وإذا أنا في يوم من اليام حضرت وقت العصر في الوراقين‪،‬‬
‫ي فرددته رد متبرم‪ ،‬معتقد ٌ أن‬
‫وبيد دلل مجلد ينادي عليه‪ ،‬فعرضه عل ّ‬
‫ل فائدة من هذا العلم‪ ،‬فقال لي‪ :‬اشتر مني هذا فإنه رخيص‪ ،‬أبيعكه‬
‫ج إلى ثمنه‪.‬‬
‫بثلثة دراهم‪ ،‬وصاحبه محتا ٌ‬
‫واشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما‬
‫ي في‬‫بعد الطبيعة‪ ،‬ورجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته‪ ،‬فانفتح عل ّ‬
‫ظا على ظهر‬‫الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان لي محفو ً‬
‫القلب‪ ،‬وفرحت بذلك‪ ،‬وتصدقت في ثاني يومه بشيء كثير على‬
‫الفقراء؛ شكًرا لله تعإلي‪!!537‬‬
‫أعتقد أن معنى استغلل الوقت واستثماره قد وضح لنا من‬
‫خلل التعرف على قصة ابن سينا‪ ،‬وطريقته في تلقي العلوم والبحث‬
‫عنها‪ ،‬وهي ليست طريقة خاصة بابن سينا وحده‪ ،‬ولكنها الطريقة‬
‫الصيلة التي يحرص عليها أي عالم يريد أن يصل إلى البداع!‬
‫ضا‪..‬‬
‫وغير ابن سينا‪ ،‬كان هناك الشافعي أي ً‬
‫فقد ذكر ابن خلكان أن أحد علماء النساب في العراق تحدث‬
‫مع الشافعي في هذا العلم )علم النساب(‪ ،‬فوجده من كبار العلماء‬
‫فيه‪ ،‬فلما طال بينهما الحديث‪ ،‬قال له الشافعي‪ :‬مثلي ومثلك ل يليق‬
‫بهما أن يتحدثا عن أنساب الرجال من قبل آبائهم‪ ،‬فتعال نتحدث عن‬
‫أنسابهم من قبل أمهاتهم‪!!538‬‬
‫ثم يذكر أنه لقيه طلبة الطب في الفسطاط‪ ،‬فوجدوا عنده من‬
‫سا يأخذون‬
‫المعرفة في علومهم ما أطمعهم في أن يخصص لهم در ً‬
‫فيه عنه علوم الطب‪ ،‬فأشار إلى الفقهاء واقفين ينتظرونه في ظل‬
‫جدار جامع عمرو بن العاص فقال‪ :‬وهل ترك لي هؤلء من الوقت ما‬
‫أتفرغ به لكم؟‪!!539‬‬
‫ولما قدم الشافعي الفسطاط كان يجالسه أرباب الحلق‪ ،‬عبد‬
‫الله بن الحكم ونظراؤه‪ ،‬وكان حسن الوجه والخلق‪ ،‬فحبب إلى أهل‬
‫مصر من الفقهاء والنبلء والعيان‪ ،‬وكان يجلس في حلقته إذا صلى‬
‫الصبح بجامع عمرو‪ ،‬فيجيئه أهل القرآن ويسألونه‪ ،‬فإذا طلعت‬
‫الشمس قاموا وجاء أهل الحديث‪ ،‬فيسألونه عن معانيه وتفسيره؛‬
‫فإذا ارتفعت الشمس قاموا‪ ،‬واستوت الحلقة للمناظرة والمذاكرة؛‬
‫فإذا ارتفع النهار تفرقوا‪ ،‬وجاء أهل العربية والعروض والشعر والنحو‪،‬‬
‫حتى يقترب انتصاف النهار‪ ،‬ثم ينصرف إلى منزله في الفسطاط‪!!540‬‬
‫وقال الربيع‪ :‬أقام الشافعي ها هنا في الفسطاط أربع سنين‪،‬‬
‫فا وخمسين ورقة‪ ،‬كلها في أربع سنين‪ ،‬وكان مع ذلك عليل ً‬‫فأملى أل ً‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.74-3/71‬‬ ‫‪537‬‬

‫الصفدي‪ :‬الوافي بالوفيات ‪.2/175‬‬ ‫‪538‬‬

‫ابن أبي حاتم الرازي‪ :‬آداب الشافعي ومناقبه ص ‪.324‬‬ ‫‪539‬‬

‫ياقوت الحموي‪ :‬معجم الدباء ‪.17/304‬‬ ‫‪540‬‬


‫شديد العلة‪ ،‬وربما خرج الدم وهو راكب‪ ،‬حتى يمل سراويله وخفه‬
‫)يعنى من البواسير( ‪!!541‬‬
‫وتراه يحكي عن نفسه فيما رواه عنه عمرو بن سواد قال‪ :‬قال‬
‫ي سنتان حملتني أمي‬
‫لي الشافعي‪ :‬ولدت بعسقلن‪ ،‬فلما أتت عل ّ‬
‫إلى مكة‪ ،‬وكانت نهمتي في شيئيين‪ :‬الرمي‪ ،‬وطلب العلم‪ ،‬فنلت من‬
‫الرمي حتى إني أصيب من عشرةٍ عشرة‪ ،‬وسكت عن العلم‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫أنت والله في العلم أكثر منك في الرمي‪!!542‬‬
‫ضا من حالهم وهم على فراش‬
‫وليس لنا بعد ذلك أن نعجب أي ً‬
‫الموت‪ ..‬إذ تراهم يطلبون العلم حتى آخر لحظات حياتهم‪..‬‬
‫فقد روى المعافى بن زكريا عن بعض الثقات أنه كان بحضرة‬
‫أبي جعفر الطبري ~ قبل موته‪ ،‬وتوفي بعد ساعة أو أقل منها‪ ،‬ف ُ‬
‫ذكر‬
‫ة فكتبه‪،‬‬‫له هذا الدعاء عن جعفر بن محمد‪ ،‬فاستدعى محبرة وصحيف ً‬
‫فقيل له‪ :‬أفي هذه الحالة؟! فقال‪ :‬ينبغي للنسان أل يدع اقتباس‬
‫العلم حتى الممات‪!!543‬‬
‫و عن فرقد )إمام مسجد البصرة( أنهم دخلوا على سفيان‬
‫ث فأعجبه‪ ،‬فضرب سفيان‬ ‫الثوري في مرض موته‪ ،‬فحدثه رجل بحدي ٍ‬
‫حا فكتبه‪ ،‬فقالوا له‪ :‬على هذه‬
‫بيده إلى تحت فراشه‪ ،‬فأخرج ألوا ً‬
‫الحال منك؟! فقال‪ :‬إنه حسن؛ إن بقيت فقد سمعت حسًنا‪ ،‬وإن مت‬
‫فقد كتبت حسًنا‪!!544‬‬
‫فا جميل ً لستاذه‬‫ويروي القاضي إبراهيم بن الجراح الكوفي موق ً‬
‫المام أبي يوسف القاضي‪ ،‬والمام أبو يوسف هو يعقوب بن إبراهيم‬
‫النصاري‪ ،‬صاحب أبي حنيفة وتلميذه وناشر علمه ومذهبه‪ ،‬وقاضي‬
‫الخلفاء العباسيين الثلثة‪ :‬المهدي والهادي والرشيد‪ ،‬وأول من ُدعي‪:‬‬
‫قاضي القضاة‪ ،‬وكان يقال له‪ :‬قاضي قضاة الدنيا‪ ،‬ت ‪182‬هق‪ ،‬يقول‬
‫ى عليه‪،‬‬‫مغم ً‬‫القاضي إبراهيم‪ :‬مرض أبو يوسف فأتيته أعوده‪ ،‬فوجدته ُ‬
‫ة؟ قلت‪ :‬في مثل‬ ‫فلما أفاق قال لي‪ :‬يا إبراهيم‪ ،‬ما تقول في مسأل ٍ‬
‫هذه الحالة؟! قال‪ :‬ول بأس بذلك‪ ،‬ندرس لعله ينجو بها ناج! ثم قال‪:‬‬
‫يا إبراهيم‪ ،‬أيما أفضل في رمي الجمار ‪ -‬أي في مناسك الحج ‪ -‬أن‬
‫يرميها ماشًيا أو راكًبا؟ قلت‪ :‬راكًبا‪ ،‬قال‪ :‬أخطأت‪ ،‬قلت‪ :‬ماشًيا‪ ،‬قال‬
‫أخطأت‪ ،‬قلت‪ :‬قل فيها‪ ،‬يرضى الله عنك!! قال‪ :‬أما من كان يوقف‬
‫عنده للدعاء‪ ،‬فالفضل أن يرميه ماشًيا‪ ،‬وأما ما كان ل يوقف عنده‪،‬‬
‫فالفضل أن يرميه راكًبا‪.‬‬

‫البيهقي‪ :‬المناقب ‪.2/290،289‬‬ ‫‪541‬‬

‫أبو نعيم‪ :‬حلية الولياء ‪ ،9/77‬وأبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.24/362‬‬ ‫‪542‬‬

‫ابن عساكر‪ :‬تاريخ دمشق ‪.52/199‬‬ ‫‪543‬‬

‫أبو نعيم‪ :‬حلية الولياء ‪.7/64‬‬ ‫‪544‬‬


‫قال‪ :‬ثم قمت من عنده‪ ،‬فما بلغت باب الدار حتى سمعت‬
‫الصراخ عليه‪ ،‬وإذا هو قد مات ~‪!!545‬‬
‫ويروي الفقيه أبو الحسن على بن عيسى ~ أنه دخل على أبي‬
‫الريحان البيروني ~ وهو في لحظات حياته الخيرة‪ ,‬وقد حشرجت‬
‫نفسه‪ ،‬وكادت أن تخرج‪ ،‬فقال البيروني وهو في هذه الحالة من‬
‫دات التي تكون‬‫ج ّ‬
‫ما في مسألة ال ِ‬
‫حالت الحتضار‪ :‬كيف قلت لي يو ً‬
‫من قبل الم؟!‬
‫يسأله عن مسألة من مسائل الميراث!!‬
‫فيقول الفقيه أبو الحسن‪ :‬فقلت له إشفاًقا عليه‪ :‬أفي هذه‬
‫الحالة؟!‬
‫قال لي‪ :‬يا هذا‪ ،‬أ ُوَّدع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة‪ ،‬أل يكون‬
‫خيًرا لي من أن ُأخّليها وأنا جاهل بها‪546‬؟!‬
‫فهو يريد أن يتعلم المر قبل أن يموت‪ ،‬ل لشيٍء إل لمجرد‬
‫العلم‪ ،‬وذلك أنه يعلم فضل ومزية تلك المكانة والمنزلة‪ ..‬فأعاد عليه‬
‫فظه‪ ،‬ثم قال‪" :‬وخرجت‬ ‫الفقيه أبو الحسن شرح المسألة وعّلمه وح ّ‬
‫من عنده‪ ،‬وأنا في الطريق سمعت الصراخ"‪!!547‬‬
‫لقد مات أبو الريحان البيروني ~ بعد دقائق من تعلمه‬
‫المسألة‪!!..‬‬
‫وقد يتخيل البعض أن هذه مبالغات من هؤلء العلماء‪ ،‬وأن‬
‫فا‪ ..‬لكن الذي‬ ‫الحرص على الوقت إلى هذه الصورة قد يكون تكل ً‬
‫ينظر إلى إنتاج هؤلء العلماء يدرك بوضوح أهمية استغلل كل لحظة‬
‫من لحظات الحياة‪ ،‬وخاصة أن التراث الذي تركوه ما زلنا ننتفع به‬
‫دا إلى يوم القيامة!‬
‫إلى ساعتنا هذه‪ ،‬وقد يبقى خال ً‬
‫قال الخطيب البغدادي‪ :‬سمعت علي بن عبيد الله بن عبد‬
‫الغفار اللغوي‪ ،‬يحكي أن محمد بن جرير الطبري )ت ‪310‬هق عن ثلثة‬
‫ثمانين سنة( مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين‬
‫ورقة‪!!548‬‬
‫أي أنه ~ كتب في حياته ما يزيد على نصف مليون ورقة!!‬

‫‪ 545‬ابن معظم شاه الكشميري‪ :‬العرف الشذي للكشميري ‪ .2/358‬الطبعة الولى المحقق‬
‫محمود أحمد شاكر المدقق مؤسسة ضحى للنشر والتوزيع‬
‫‪ 546‬الصفدي‪ :‬الوافي بالوفيات ‪.1/1070‬‬
‫‪ 547‬ياقوت الحموي‪ :‬معجم الدباء ‪.17/182،181‬‬
‫‪ 548‬السيوطي‪ :‬طبقات المفسرين ‪.1/82‬‬
‫دا هذا النتاج الغزير بدون حرص أكيد على كل‬
‫ول يتأتى أب ً‬
‫لحظات الحياة مهما دقت!‬
‫يقول الستاذ محمد كرد على في ترجمة الطبري‪ :‬وما أ ُِثر عنه‬
‫أنه أضاع دقيقة من حياته في غير الفادة والستفادة‪!!549‬‬
‫ولعل عجب القارئ يزداد ويزداد إذا علم أن المام الطبري لم‬
‫جا في مجال واحد فقط‪ ،‬بل في عدة مجالت في آن واحد‪،‬‬ ‫يكن منت ً‬
‫فله التصانيف العظيمة في التفسير‪ ،‬وكذلك في التاريخ‪ ،‬هذا غير‬
‫تميزه الملحوظ في الفقه‪ ،‬حيث يعد صاحب مدرسة فقهية خاصة‬
‫به!!‬
‫وغير الطبري فقد بلغ المام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي‬
‫البغدادي الذي يقول فيه المام ابن تيمية‪" :‬إنه من أذكياء العالم" ‪،‬‬
‫‪550‬‬

‫ف في الدنيا‪،‬‬
‫بلغ في محافظته على الزمن مبلًغا أثمر أكبر كتاب ع ُرِ َ‬
‫وهو كتاب "الفنون"‪ ،‬وقد جاء في ثمانمائة مجلد!!‬
‫قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في ترجمته‪ :‬وأكبر تصانيفه‬
‫دا‪ ،‬فيه فوائد كثيرة جليلة في‬‫كتاب "الفنون"‪ ،‬وهو كتاب كبير ج ً‬
‫الوعظ‪ ,‬والتفسير‪ ,‬والفقه‪ ،‬والصول‪ ،‬والنحو‪ ،‬واللغة‪ ,‬والشعر‪,‬‬
‫والتاريخ‪ ،‬والحكايات‪ ،‬وفيه مناظراته ومجالساته التي وقعت له‪,‬‬
‫وخواطره‪ ،‬ونتائج فكره‪ ،‬قيدها فيه‪.551‬‬
‫وهذا هو المام أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد‬
‫الجوزي تليمذ ابن عقيل )ت ‪597‬هق( أحد أعلم الئمة الذين يقتدي‬
‫بهم في حرصهم على الزمن‪ ،‬ها هو يتحدث عن نفسه يصف إنتاجه –‬
‫كما يقول أبو المظفر ‪ :-‬كتبت بإصبعي هاتين ألفي مجلدة‪ ،‬وتاب‬
‫على يديّ مائة ألف‪ ،‬وأسلم على يديّ عشرون ألف يهودي‬
‫ونصراني‪.552‬‬
‫أما مقدار ما أّلف وصنف‪ ،‬فنترك ابن تيمية يحدثنا عنه‪:‬‬
‫يقول المام ابن تيمية – ~‪ -‬في "أجوبته المصرية" "كان الشيخ‬
‫أبو الفرج مفتًيا كثير التصنيف والتأليف‪ ،‬وله مصنفات في أمور كثيرة‬
‫حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنف‪ ،‬ورأيت بعد ذلك له ما لم‬
‫أره"‪.‬‬

‫محمد كرد علي‪ :‬كنوز الجداد ‪.123‬‬ ‫‪549‬‬

‫ابن تيمية‪ :‬درء التعارض ‪.4/133‬‬ ‫‪550‬‬

‫ابن رجب الحنبلي‪ :‬ذيل طبقات الحنابلة ‪.108-1/107‬‬ ‫‪551‬‬

‫الصفدي‪ :‬الوافي في الوفيات ‪.1/2582‬‬ ‫‪552‬‬


‫دا من العلماء صنف ما‬
‫ويقول الحافظ الذهبي‪" :‬وما علمت أح ً‬
‫صنف هذا الرجل ولم يدع ابن الجوزي فًنا من الفنون إل وصنف فيه‪،‬‬
‫دا ‪ ،‬ومنها ما هو في رسالة قصيرة‪.553‬‬
‫منها ما هو عشرون مجل ً‬
‫ولعلنا نفهم سر هذا النتاج العجيب عندما ننظر إلى تقديره ~‬
‫للوقت وقيمته‪..‬‬
‫يقول الموفق عبد اللطيف‪ -‬فيما نقله عنه الذهبي إنه كان "ل‬
‫يضيع من زمانه شيًئا"‪.554‬‬
‫قا كثيًرا يجرون‬
‫ويقول ابن الجوزي نفسه‪ : -~ -‬لقد رأيت خل ً‬
‫معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة‪ ،‬ويسمون لك التردد‬
‫خدمة‪ ،‬ويطلبون الجلوس‪ ،‬ويجرون فيه أحاديث الناس‪ ،‬وما ل يعني‪،‬‬
‫وما يتخلله غيبة‪ ،‬وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس‪ ،‬وربما‬
‫صا في أيام‬‫طلبه المزور وتشوق إليه‪ ,‬واستوحش من الوحدة‪ ،‬خصو ً‬
‫التهاني والسلم‪ ،‬فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض‪ ،‬ول يقتصرون على‬
‫الهناء والسلم‪ ,‬بل يمزجون ذلك بما ذكرت من تضييع الزمان‪.‬‬
‫فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء‪ ،‬والواجب انتهازه بفعل‬
‫الخير‪ ،‬كرهت ذلك وبقيت معهم بين أمرين‪ :‬إن أنكرت عليهم وقعت‬
‫وحشة لموضع قطع المألوف‪ ،‬وإن تقبلته منهم ضاع الزمان‪ ،‬فصرت‬
‫أدافع اللقاء جهدي‪ ،‬فإذا غلبت قصرت في الكلم لتعجل الفراق‪.‬‬
‫ثم أعددت أعمال ً ل تمنع من المحادثة لوقات لقائهم لئل يمضي‬
‫غا‪ ،‬فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد‪ ،‬وبري‬ ‫الزمان فار ً‬
‫القلم‪ ،‬وحزم الدفاتر‪ ،‬فإن هذه الشياء لبد منها‪ ،‬ول تحتاج إلى فكر‬
‫وحضور قلب‪ .‬فأرصدتها لوقات زيارتهم لئل يضيع شئ من وقتي‪.555‬‬
‫لقد عرف ابن الجوزي ~ مهمته في الحياة‪ ،‬فما ضيع لحظة في‬
‫عمل يسلهيه عن مهمته!‬
‫وعلى سنن من سبق‪ ،‬مشي رئيس الطب في زمانه ‪ :‬ابن‬
‫النفيس‪ -~ -‬ويقول عنه المام التاج السبكي‪":‬وأما الطب فلم يكن‬
‫على وجه الرض مثله‪ ،‬قيل‪ :‬ول جاء بعد ابن سينا مثله‪ ،‬قالوا وكان‬
‫في العلج أعظم من ابن سينا"‪.‬هذا الطبيب الرائد صنف كتاًبا في‬
‫الطب سماه "الشامل" يقول فيه تاج السبكي‪" :‬قيل لو تم لكان‬
‫ثلثمائة مجلدة‪ ،‬تم منه ثمانون مجلدة ‪ ،‬وكان فيما يذكر يملي‬
‫تصانيفه من ذهنه"‪ .556‬فكيف تم له لك؟‬

‫الذهبي‪ :‬تاريخ السلم ‪.1/4265‬‬ ‫‪553‬‬

‫الذهبي‪ :‬تذكرة الحفاظ ‪.4/1346‬‬ ‫‪554‬‬

‫ابن الجوزي‪ :‬صيد الخاطر ‪.1/225‬‬ ‫‪555‬‬

‫القنوجي‪ :‬أبجد العلوم ‪.3/115‬‬ ‫‪556‬‬


‫كان –~‪ -‬إذا أراد التصنيف‪ُ ،‬توضع له القلم مبرية‪ ،‬ويدير وجهه‬
‫إلى الحائط‪ ،‬ويأخذ في التصنيف‪ ،‬إملًء من خاطره‪ ،‬ويكتب مثل‬
‫ل القلم وحفي‪ ،‬رمى به وتناول غيره‪ ,‬لئل ّ‬
‫السيل إذا انحدر‪ ،‬فإذا ك ّ‬
‫يضيع عليه الزمان في بري القلم ‪..‬‬
‫‪557‬‬

‫ودخل ذات مرة إلى الحمام‪ ،‬فلما كان في بعض تغسيله خرج‬
‫مام )موضع نزع الثياب وخلعها( واستدعى بدواة وقلم‬ ‫إلى مسلخ الح ّ‬
‫وورق‪ ،‬وأخذ في تصنيف مقالة في النبض إلى أن أنهاها‪ ،‬ثم عاد‬
‫ودخل الحمام وكمل تغسيله‪!!..558‬‬
‫إن ما ذكرناه هنا من أمثلة لتقدير العلماء لقيمة الوقت ما هو‬
‫ض من فيض‪ ،‬وإن النظر في حياة هؤلء العظماء ليعكس‬ ‫إل غي ٌ‬
‫فا ‪ -‬لهذه القيمة الغإلية‪ :‬الوقت‪ ،‬ولعل‬
‫ما ‪ -‬قد يبدو لنا متكل ً‬
‫اهتما ً‬
‫بعض الناس يرى أن المر أهون من ذلك‪ ،‬وأن الحياة فيها متًعا كثيرة‪،‬‬
‫تحتاج أن يفرغ لها وقت وأوقات‪ ..‬لكن العالمين ببواطن المور‪،‬‬
‫والناظرين إلى حقيقة الشياء‪ ،‬والفاهمين لقصر الدنيا وحقيقة‬
‫الخرة‪ ..‬هؤلء يعترون النفاس معدودة‪ ،‬فضل ً عن الساعات واليام‪،‬‬
‫ولله در الحسن البصري ~ إذ يقول‪" :‬يا ابن آدم‪ ،‬إنما أنت أيام‬
‫مجموعة‪ ،‬إذا ذهب يومك ذهب بعضك‪ ،‬ويوشك إذا ذهب البعض أن‬
‫يذهب الكل"‪!!559‬‬
‫فما أنت ‪ -‬يا عبد الله ‪ -‬إل بضع لحظات‪ ..‬فإما نفعٌ لك‬
‫ك وخسران!!‬ ‫وللبشرية‪ ،‬وإما ضياع ٌ وهل ٌ‬

‫"والكّيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت‪،‬‬


‫والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله"‪..560‬‬
‫وأسأل الله أن ي ُعِّز السلم والمسلمين‪.‬‬
‫عل َ َ‬
‫ماء‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬أ َ ْ‬
‫خل َقُ ال ْ ُ‬

‫مّر بنا في الفصول الثلثة السابقة أموٌر ل غنى عنها في تكوين‬


‫العلماء‪ ..‬وأول هذه المور هو إدراك قيمة الوقت ومنزلة العلماء‪ ،‬أما‬
‫المر الثاني فهو التيقن أن ذلك لن يتأتى إل ببذل الغإلى والنفيس‪،‬‬
‫‪ 557‬انظر‪ :‬عمر فاروق الطباع‪ :‬ابن النفيس في تاريخ الطب العربي ص ‪ ،157‬نقل ً عن ابن فضل‬
‫الله العمري‪ :‬مساللك البصار‪.‬‬
‫‪ 558‬انظر‪ :‬عمر فاروق الطباع‪ :‬ابن النفيس في تاريخ الطب العربي ص ‪ ،157‬نقل ً عن ابن فضل‬
‫الله العمري‪ :‬مساللك البصار‪.‬‬
‫‪ 559‬ابن رجب الحنبلي‪ :‬جامع العلوم والحكم‪ ،‬دار المعرفة ‪ -‬بيروت‪ ،‬الطبعة الولى‪1408 ،‬هق ص‬
‫‪.382‬‬
‫عا إلي رسول الله‬‫‪ 560‬الترمذي‪ :‬كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن شداد بن أوس مرفو ً‬
‫ضا ابن ماجه )‪ ،(4260‬وأحمد )‪ ،(17164‬والحاكم )‪ (7639‬وقال صحيح‬ ‫‪ ،( (2459‬وأخرجه أي ً‬
‫افسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي‪.‬‬
‫وصرف الجهد كل الجهد في سبيل ذلك‪ ،‬وأما المر الثالث والخير‬
‫فهو إدراك قيمة الوقت والحرص على كل دقيقة من دقائق الحياة‪..‬‬
‫وإذا كنا قد وقفنا على ذلك‪ ،‬فلنعلم أن مثل هذه المور وتلك‬
‫الخلل ليست خاصة بالمسلمين وحدهم‪ ،‬وإنما يشترك فيها ويتساوى‬
‫في تحصيلها العالم المسلم وغير المسلم‪ ،‬وهي تصلح للعالم التقي‬
‫مع بينها سواء‪..‬‬
‫ج ْ‬
‫كما تصلح للعالم الفاجر‪ ..‬فالجميع في ال َ‬
‫وبالنظر إلى رسالة السلم‪ ،‬ودور هذا الدين العظيم في أص ً‬
‫لح‬
‫ما على العالم‬
‫الرض كلها‪ ،‬وفي نفع العالمين‪ ،‬كل العالمين‪ ،‬كان لزا ً‬
‫فا عن غيره‪ ،‬متميًزا بما ل يقدر غيره على‬‫المسلم أن يكون مختل ً‬
‫التميز به‪..‬‬
‫ول يكون ذلك في جانب الجهد أو التحصيل فقط‪ ،‬فهذا ‪ -‬كما‬
‫ذكرنا ‪ -‬أمر مشترك بين عموم العلماء‪ ،‬ولكن يكون ‪ -‬وفي المقام‬
‫الول ‪ -‬في جانب الخلق والقيم‪..‬‬
‫إن العلماء هم ورثة النبياء‪ ،‬وهم قدوة المجتمع‪ ،‬وهم بناة المة‬
‫ما عليهم أن يكون لهم أخلق‬ ‫وقائدو التغيير والص ً‬
‫لح‪ ،‬لذا كان لزا ً‬
‫خاصة‪ ،‬يتفردون بها عن عموم الخلق‪ ،‬سواء من المسلمين أو من‬
‫غير المسلمين‪..‬‬
‫إن هذا يعني أن هناك أخلًقا معينة وصفات خاصة‪ ،‬لبد أن‬
‫يتحلى بها العالم المسلم‪ ،‬ولبد أن تصطبغ بها حياته وتكون غالبة‬
‫عليه‪ ..‬ومنذ بداية الطريق‪..‬‬
‫وفي ذلك فإنا نكتفي بما يمكن أن يكون هو الساس وليس‬
‫الكل؛ إذ المر أكبر من أن يحويه هذا الفصل‪ ،‬ويكفي أن أخلق العالم‬
‫ُتمّثل في حد ذاتها أخلق السلم‪..‬‬
‫وعليه؛ فإن أهم ما يجب على العالم أن يتصف به من أخلق‪..‬‬
‫ما يلي‪:‬‬
‫أو ً‬
‫ل‪ :‬الخلص‪:‬‬
‫وهو حجر الزاوية في القضية برمتها‪ ..‬وهو الخطوة الولى في‬
‫وم ويوزن‬‫طريق تحصيل العلم‪ ..‬إذ هو الميزان الحساس الذي به ُيق ّ‬
‫عْلمنا‪ ،‬بل أعمالنا كلها‪ ..‬وبه نصعد إلى أعلى الدرجات والمنازل‪ ،‬ومن‬
‫ِ‬
‫سنبين ‪ -‬إلى أسفل الدركات وأحط الرتب‪!!..‬‬ ‫غيره نهوي ‪ -‬كما ُ‬
‫إنه الخلص‪..‬‬
‫إنه السر الدفين المخبوء داخل قلب المرء‪ ،‬والذي ل يطلع عليه‬
‫غير من يعلم خائنة العين وما تخفي الصدور‪..‬‬
‫فُترى‪..‬‬
‫لماذا نتعلم هذا العلم‪..‬؟!‬
‫وأيّ شيء نبغي من وراء تحصيله‪..‬؟!‬
‫وبالحرى‪ :‬لماذا ُنريد أن نكون علماء‪..‬؟!‬
‫هل هذا لجل الله عز وجل‪ ،‬وطمًعا في جنته‪ ،‬وخوًفا من ناره؟!‬
‫أم أنه لجل التكسب وجني المال‪..‬؟! أو لجل التفاخر‬
‫والتباهي‪ ،‬والرفعة في دار الدنيا‪ ،‬والمنزلة العالية في قلوب‬
‫الخلق‪..‬؟!‬
‫دا ذلك الحديث الذي‬ ‫وقبل الجابة على هذه السئلة‪ ،‬لنعي جي ً‬
‫َ‬
‫و َ‬
‫ل‬ ‫نأ ّ‬ ‫رواه أبو هريرة < قال‪ :‬سمعت رسول الله ‪ ‬يقول‪" :‬إ ِ ّ‬
‫ُ‬
‫ه‬
‫ي بِ ِ‬ ‫فأت ِ َ‬ ‫د‪َ ،‬‬ ‫ه َ‬ ‫ش ِ‬‫ست ُ ْ‬‫لا ْ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ه‪َ :‬ر ُ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ة َ‬ ‫م ِ‬‫قَيا َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫و َ‬ ‫ضى ي َ ْ‬ ‫ق َ‬ ‫س يُ ْ‬ ‫الّنا ِ‬
‫ت‬ ‫ْ‬
‫قات َل ُ‬ ‫ل‪َ :‬‬ ‫قا َ‬ ‫ها؟ َ‬ ‫في َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ْ‬
‫مل َ‬ ‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫ف َ‬ ‫ل‪َ :‬‬ ‫قا َ‬ ‫ها‪َ ،‬‬ ‫ف َ‬‫عَر َ‬ ‫ه َ‬
‫ف َ‬ ‫م ُ‬‫ع َ‬‫ه نِ َ‬ ‫ف ُ‬ ‫عّر َ‬‫ف َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ل‬‫قا َ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫ت ِل ْ‬ ‫قات َل َ‬ ‫ك َ‬ ‫ولك ِن ّ َ‬ ‫ت؛ َ‬ ‫ل‪ :‬ك َذَب ْ َ‬ ‫قا َ‬ ‫ت‪َ .‬‬ ‫هد ْ ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫ست ُ ْ‬
‫حّتى ا ْ‬ ‫ك َ‬ ‫في َ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫حّتى أل ْ ِ‬ ‫ُ‬
‫ي‬
‫ق َ‬ ‫ه َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ج ِ‬‫و ْ‬‫عَلى َ‬ ‫ب َ‬ ‫ح َ‬ ‫س ِ‬
‫ف ُ‬ ‫ه َ‬ ‫مَر ب ِ ِ‬ ‫مأ ِ‬ ‫ل‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫قي َ‬ ‫قد ْ ِ‬‫ف َ‬ ‫ء‪َ ،‬‬ ‫ري ٌ‬ ‫ج ِ‬‫َ‬
‫ر‪.‬‬ ‫في الّنا ِ‬ ‫ِ‬
‫فهذا الشهيد الذي مات في وسط المعركة‪ ،‬والذي جاد بنفسه‬
‫التي هي أغلى ما يملك‪ُ ..‬يجر على وجهه حتى ُيلقى في النار!!‬
‫لقد اطلع على باطنه الذي يعلم السر وأخفى‪ ،‬وعلم أنه إنما‬
‫كان ُيقاتل ليرتقي أرفع الدرجات في أعين الناس‪ ،‬كان ُيقاتل ليتحدث‬
‫دث الناس‬‫الناس عنه بأنه جريء مقدام‪ ..‬وقد تحقق طلبه وُبغيته‪ ،‬وتح َ‬
‫عنه بذلك‪ ،‬ليأخذ نصيبه في دار الدنيا‪ ،‬ومن ثم فليس له نصيب في‬
‫س‬ ‫ول َك ِ ّ‬
‫ن الّنا َ‬ ‫شي ًْئا َ‬
‫س َ‬ ‫ه َل ي َظْل ِ ُ‬
‫م الّنا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫الخرة‪ ..‬إ ِ ّ‬
‫ن‪. ‬‬
‫‪561‬‬
‫مو َ‬ ‫م ي َظْل ِ ُ‬‫ه ْ‬
‫س ُ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫ف َ‬
‫وهذا عن أّول الثلثة الذين هم أول من ُيقضى عليه يوم‬
‫القيامة‪ ،‬وأما الثاني فهو‪:‬‬
‫قرآن‪ُ َ ،‬‬ ‫عل ّمه‪ ،‬و َ َ‬
‫ه‬
‫ي بِ ِ‬ ‫فأت ِ َ‬ ‫قَرأ ال ْ ُ ْ َ‬ ‫و َ َ ُ َ‬ ‫م َ‬ ‫عل ْ َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫عل ّ َ‬‫ل تَ َ‬ ‫ج ٌ‬ ‫وَر ُ‬ ‫" َ‬
‫ت‬‫م ُ‬ ‫ّ‬
‫عل ْ‬ ‫ل‪ :‬ت َ َ‬ ‫قا َ‬ ‫ها؟ َ‬ ‫في َ‬‫ت ِ‬ ‫مل َ‬ ‫ْ‬ ‫ع ِ‬‫ما َ‬ ‫ل‪َ :‬‬
‫ف َ‬ ‫قا َ‬ ‫ها‪َ ،‬‬ ‫ف َ‬‫عَر َ‬ ‫ف َ‬ ‫ه َ‬ ‫م ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ه نِ َ‬ ‫ف ُ‬ ‫عّر َ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫ول َك ِن ّ َ‬ ‫ك ال ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫ك‬ ‫ت؛ َ‬ ‫ل‪ :‬ك َذَب ْ َ‬ ‫قا َ‬ ‫ن‪َ .‬‬ ‫قْرآ َ‬ ‫في َ‬ ‫ت ِ‬ ‫قَرأ ُ‬ ‫و َ‬ ‫ه‪َ ،‬‬ ‫مت ُ ُ‬ ‫عل ّ ْ‬ ‫و َ‬‫م َ‬ ‫عل ْ َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ت ال ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫ر ٌ‬
‫ئ‪،‬‬ ‫قا ِ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬‫ل ُ‬ ‫قا َ‬ ‫ن ل ِي ُ َ‬‫قْرآ َ‬ ‫قَرأ َ‬ ‫و َ‬‫م‪َ ،‬‬ ‫عال ِ ٌ‬ ‫ل َ‬ ‫قا َ‬ ‫م ل ِي ُ َ‬‫عل ْ َ‬ ‫ت ال ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫عل ّ ْ‬ ‫تَ َ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫ُ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫في‬ ‫ي ِ‬ ‫ق َ‬ ‫حّتى أل ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ه ِ‬
‫ج ِ‬ ‫و ْ‬ ‫على َ‬ ‫ب َ‬ ‫ح َ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ُ‬ ‫مَر ب ِ ِ‬ ‫مأ ِ‬ ‫ل‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫قي َ‬ ‫قد ْ ِ‬
‫ر"‪.‬‬‫الّنا ِ‬
‫وهذا الرجل الثاني‪ ،‬الذي يحكم عليه ضمن أول من يحكم‬
‫عليهم يوم القيامة‪ ،‬هو بيت القصيد في بحثنا‪ ،‬وهو موضوع دراستنا‪..‬‬
‫ما متفاعل ً ومؤثًرا في‬
‫ما وحسب‪ ،‬وإنما كان عال ً‬ ‫وهو لم يكن عال ً‬
‫مجتمعه‪ ،‬تعّلم العلم‪ ،‬ثم راح يبذل جهده ووقته وعرقه ليعلمه الناس‪..‬‬
‫جّر على وجهه حتى ُيلقى في النار!!‬ ‫ثم هو ي ُ َ‬
‫ول عجب؛ إنه كمال العدل‪ ..‬فلم يكن في ذلك كله يطلب وجه‬
‫الله ‪ ..‬لقد انطوى قلبه على مكنون من الهداف الشخصية‬
‫والمصالح الخاصة في دار الدنيا‪ ..‬لقد أراد أن ُيشار إليه بالبنان‪ ،‬وأراد‬
‫أن يكون حديث الناس في مجالسهم وسمرهم‪ ،‬وأراد أن ُيعلم أنه‬
‫العلم‪ ،‬وأنه القرأ‪..‬‬
‫وكل هذا قد حدث!!‬
‫حدث ونال ما تمنى‪ ،‬وتكلم الناس كما أراد‪ ،‬وتحقق حلمه الذي‬
‫كان يسعى إليه‪ ..‬فكان هذا هو أجره ونصيبه‪ ،‬وقد أخذه كامل ً كما‬
‫أراده هو‪ ..‬فليس العدل إذن أن يأخذه مرة ثانية‪ ..‬ومن ثم فليس لك‬
‫في الخرة نصيب!!‬
‫ضا على شاكلتهم في مقصده‬ ‫أما الرجل الثالث‪ ،‬فكان أي ً‬
‫جر على وجهه في النار‪ ،‬يقول رسول‬‫ضا درجتهم‪ ،‬و ُ‬
‫ومراده‪ ،‬فنال أي ً‬
‫الله ‪ ‬عنه يصفه‪:‬‬
‫َ‬ ‫وأ َ ْ‬
‫ل ك ُل ّ ِ‬
‫ه‪،‬‬ ‫ما ِ‬ ‫ف ال ْ َ‬‫صَنا ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬‫طاهُ ِ‬ ‫ع َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ع الل ّ ُ‬ ‫س َ‬‫و ّ‬‫ل َ‬ ‫ج ٌ‬ ‫وَر ُ‬ ‫" َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫قا َ‬ ‫ها؟ َ‬ ‫في َ‬ ‫ت ِ‬ ‫مل َ‬‫ْ‬ ‫ع ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ف َ‬ ‫ل‪َ :‬‬‫قا َ‬‫ها‪َ ،‬‬ ‫ف َ‬ ‫عَر َ‬ ‫ف َ‬‫ه َ‬ ‫م ُ‬
‫ع َ‬‫ه نِ َ‬
‫ف ُ‬‫عّر َ‬‫ف َ‬ ‫ه َ‬ ‫ي بِ ِ‬
‫َ‬ ‫فأ ُت ِ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ك‪.‬‬‫ها ل َ‬ ‫في َ‬
‫ت ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫ف ْ‬‫ها إ ِل أن ْ َ‬ ‫في َ‬
‫ق ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ن ي ُن ْ َ‬ ‫بأ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ل تُ ِ‬ ‫سِبي ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫ما ت ََرك ْ ُ‬ ‫َ‬

‫)يونس‪.(44 :‬‬ ‫‪561‬‬


‫ل‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫قي َ‬
‫قد ْ ِ‬‫ف َ‬‫د‪َ ،‬‬ ‫وا ٌ‬
‫ج َ‬
‫و َ‬‫ه َ‬‫ل ُ‬ ‫قا َ‬ ‫ت ل ِي ُ َ‬ ‫عل ْ َ‬‫ف َ‬ ‫ول َك ِن ّ َ‬
‫ك َ‬ ‫ت؛ َ‬ ‫ل‪ :‬ك َذَب ْ َ‬ ‫قا َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫م أل ْ ِ‬ ‫ُ‬
‫ر" ‪.‬‬ ‫في الّنا ِ‬ ‫ي ِ‬ ‫ق َ‬ ‫ه ثُ ّ‬ ‫ه ِ‬‫ج ِ‬‫و ْ‬ ‫عَلى َ‬ ‫ب َ‬ ‫ح َ‬
‫س ِ‬‫ف ُ‬ ‫ه َ‬ ‫مَر ب ِ ِ‬
‫أ ِ‬
‫‪562‬‬

‫والقضية جد خطيرة‪ ،‬والموضوع ليس بالهّين!!‬


‫فمع وجود الكافرين‪ ،‬ومع وجود المنافقين‪ ،‬ومع وجود أصحاب‬
‫الكبائر والمعاصي‪ ،‬ومع وجود من اقترف من الموبقات ما اقترف‪..‬‬
‫مع وجود كل هؤلء يقضي رب العالمين سبحانه أول ما يقضي على‬
‫هذه الطوائف الثلث‪ ،‬والتي كانت في حياتها ملء سمع الدنيا‬
‫وبصرها!!‬
‫وإن ذلك ليوقفنا على حقيقة مهمة وقاعدة خطيرة‪ ،‬وهي أن‬
‫العمال التي ليس فيها إخلص‪ ،‬والتي لم يرد بها وجه الله تعإلي‪ ،‬هي‬
‫أعمال محبطة‪ ،‬وهي أعمال ل وزن لها ول قيمة‪ ..‬يقول تعإلي‪:‬‬
‫ت‬ ‫ن أَ ْ‬
‫شَرك ْ َ‬ ‫ك ل َئ ِ ْ‬
‫قب ْل ِ َ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫وإلى ال ّ ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ي إلي َ‬ ‫ح َ‬ ‫قدْ ُأو ِ‬‫ول َ َ‬
‫‪َ ‬‬
‫ن‪. ‬‬
‫‪563‬‬
‫ري َ‬ ‫س ِ‬‫خا ِ‬‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ول َت َ ُ‬
‫كون َ ّ‬ ‫مل ُ َ‬
‫ك َ‬ ‫ع َ‬‫ن َ‬ ‫حب َطَ ّ‬ ‫ل َي َ ْ‬
‫ومن ثم كان الخلص أول خطوة في طريق العلماء‪ ،‬وإنا وإن‬
‫ل وعزيز‪،‬‬‫علمنا ذلك‪ ،‬فإن الحصول عليه ‪ -‬كما العلم ‪ -‬هو مطلب غا ٍ‬
‫وليس يحصل بين يوم وليلة‪ ،‬وإنما يحتاج المر فيه إلى مجاهدة شاقة‬
‫على طول طريق العلم‪ ،‬بل وعلى طول طريق الحياة!!‬
‫فالنفس تتغّير بين الحين والخر‪ ،‬والقلب يتقلب بين الفينة‬
‫ة صالحة لله ‪ ‬في أول‬ ‫والثانية‪ ،‬ومن الممكن أن ينوي النسان ني ً‬
‫عمل ما‪ ،‬ثم ومع مرور الوقت‪ ،‬وأثناء أداء نفس العمل‪ ،‬يأتيه ‪ -‬مثل ً ‪-‬‬
‫من ُيثني عليه فيه‪ ،‬أو من يعظمه بسببه‪ ،‬أو غيره‪ ..‬فيجد نفسه وقد‬
‫تغيرت عليه نيته وتبدلت؛ فينظر وقد ارتاحت نفسه لذلك الثناء وهذا‬
‫المديح واستكانت إليه‪ ..‬وهذا بعينه هو المحظور الذي وقع فيه!!‬

‫يقول سفيان الثوري ~‪" :‬ما عالجت شيًئا أشد عل ّ‬


‫ي من نيتي؛‬
‫ي"‪.564‬‬
‫لنها تنقلب عل ّ‬
‫صا؟ فقال‪ :‬إذا‬
‫وقد قيل ليحيى بن معاذ ~‪ :‬متى يكون العبد مخل ً‬
‫خلقه كخلق الرضيع‪ ،‬ل يبإلى من مدحه أو ذمه‪.‬‬‫صار ُ‬
‫وقال يوسف بن الحسين‪ :‬أعّز شيء في الدنيا الخلص‪ ،‬وكم‬
‫أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي‪ ،‬فكأنه ينبت على لون آخر‪!!565‬‬
‫ومن ثم فالمر يحتاج إلى طول متابعة‪ ،‬وعظيم مجاهدة‪..‬‬
‫مسلم‪ :‬كتاب المارة‪ ،‬باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار ) ‪.( 1905‬‬ ‫‪562‬‬

‫)الزمر‪.(65 :‬‬ ‫‪563‬‬

‫ابن رجب الحنبلي‪ :‬جامع العلوم والحكم ‪.1/13‬‬ ‫‪564‬‬

‫ابن رجب الحنبلي‪ :‬جامع العلوم والحكم ‪.1/17‬‬ ‫‪565‬‬


‫يقول أبو يوسف صاحب أبي حنيفة‪" :‬يا قوم‪ ،‬أريدوا بعلمكم‬
‫سا قط أنوي فيه أن أتواضع إل لم أقم حتى‬
‫الله؛ فإني لم أجلس مجل ً‬
‫أعلوهم‪ ،‬ولم أجلس مجلسا قط أنوي فيه أن أعلوهم إل لم أقم حتى‬
‫أفتضح‪."566‬‬
‫وإن ذلك ليتأكد في الحديث الذي رواه ابن عمر } أن النبي ‪‬‬
‫فل ْيت َبوأ ْ‬ ‫غير الل ّه‪ ،‬أ َ َ‬
‫ه‪ّ َ َ َ ،‬‬ ‫غي َْر الل ّ ِ‬
‫ه َ‬
‫و أَرادَ ب ِ ِ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫عل ْ َ‬
‫م لِ َ ْ ِ‬ ‫ب ال ْ ِ‬‫ن طَل َ َ‬‫م ْ‬‫قال‪َ " :‬‬
‫ر" ‪.‬‬
‫‪567‬‬
‫ن الّنا ِ‬‫م ْ‬‫عدَهُ ِ‬ ‫م ْ‬
‫ق َ‬ ‫َ‬
‫وكان المطّرف بن عبد الله يقول في دعائه‪" :‬اللهم إني‬
‫أستغفرك مما زعمت أني أريد به وجهك‪ ،‬فخالط قلبي منه ما قد‬
‫علمت"‪!568‬‬
‫فليست القضية إذن في فضائل العمال‪ ،‬إنما هي منهج حياة!!‬
‫ب‬‫ن طَل َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وقد روى ابن عمر‪ ،‬أن رسول الله ‪ ‬قال محذًرا‪َ " :‬‬
‫ء‪ ،‬أ َو ل ِيباهي به ال ْعل َما َ َ‬
‫ف‬
‫ر َ‬ ‫ص ِ‬
‫و ل ِي َ ْ‬‫ء‪ ،‬أ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ ُ َ ِ َ ِ ِ‬ ‫ها َ‬‫ف َ‬ ‫س َ‬ ‫ه ال ّ‬‫ي بِ ِ‬
‫ر َ‬
‫ما ِ‬ ‫عل ْ َ‬
‫م ل ِي ُ َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ر" ‪.‬‬
‫‪569‬‬
‫في الّنا ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ف ُ‬‫ه‪َ ،‬‬
‫س إلي ِ‬ ‫جوهَ الّنا ِ‬ ‫و ُ‬‫ُ‬
‫فرسول الله ‪ ‬يذم في ذلك من أراد بعلمه أن يجادل ضعاف‬
‫العقول‪ ،‬يريد تكبًرا عليهم‪ ،‬أو من يتيه بعلمه أمام العلماء يفاخرهم به‪،‬‬
‫أو من يريد بعلمه الجاه والمكانة بين الناس‪ ،‬وصرف وجوه عوامهم‬
‫إليه‪ ..‬فكل ذلك نهايته إلى النار!!‬
‫ما‪ ،‬فجلسوا‬‫وقد اجتمع الفضيل بن عياض وسفيان الثوري يو ً‬
‫يتذاكرون شيًئا من الرقائق‪ ،‬فرقّ كل واحد منهم وبكى‪ ،‬فقال سفيان‬
‫الثوري ~‪ :‬أرجو أن يكون هذا المجلس علينا رحمة وبركة"‪ ،‬فقال‬
‫الفضيل بن عياض‪" :‬ولكني أخاف ‪ -‬يا أبا عبد الله ‪ -‬أل يكون أضُر‬
‫ت أنا إلى أحسن‬ ‫ت إلى أحسن حديثك وتخلص ُ‬ ‫علينا‪ ..‬ألست تخلص َ‬
‫ت لي؟! فبكى سفيان الثوري ~ وقال‪:‬‬ ‫ت لك وتزين َ‬
‫حديثي‪ ،‬فتزين ُ‬
‫"أحييتني أحياك الله" !!‬
‫‪570‬‬

‫وكان المام الشافعي ~ يقول‪" :‬وددت أن الناس تعلموا هذا‬


‫العلم ولم ُينسب إلى منه شيء"‪!!571‬‬

‫‪ 566‬النووي‪ :‬بستان العارفين ص ‪.82‬‬


‫‪ 567‬الترمذي‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب فيمن يطل بعلمه للدنيا )‪ (2655‬وقال حديث حسن‪ ،‬وابن ماجة‬
‫)‪ (258‬واللفظ له‪.‬‬
‫‪ 568‬ابن رجب الحنبلي‪ :‬جامع العلوم والحكم ‪.1/17‬‬
‫‪ 569‬الترمذي‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب فيمن يطل بعلمه للدنيا )‪ ،(2654‬وابن ماجة )‪ (253‬واللفظ له‪،‬‬
‫والدارمي )‪ ،(373‬وقال اللباني‪ :‬حسن )‪ (6382‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫‪ 570‬الذهبي‪ :‬سير أعلم النبلء ‪.8/439‬‬
‫‪ 571‬ابن رجب الحنبلي‪ :‬جامع العلوم والحكم ‪.1/123‬‬
‫وهذا الخلص هو الذي دفعه إلى قبول الحق أّيا كان قائله‪،‬‬
‫دا قط على الغلبة‪ ،‬وددت إذا ناظرت‬ ‫يقول في ذلك‪" :‬ما ناظرت أح ً‬
‫دا أن يظهر الحق على يديه" ‪..‬‬
‫‪572‬‬
‫أح ً‬
‫وخرج أيوب السخيتاني مرة في سفر فتبعه أناس كثير‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"لول أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره‪ ،‬لخشيت المقت‬
‫من الله ‪!!573"‬‬
‫صدق النية من العجب بنفسه بسبب علمه‪،‬‬ ‫حفظه الخلص و ِ‬
‫وخاصة وهو في مثل هذه الحالة‪ ،‬والناس حوله مشيعون وله‬
‫معظمون‪..‬‬
‫وعليه فإن الخلص هو أول الطريق في منهج العلماء‬
‫الربانيين‪..‬‬
‫والمر كما ذكرنا في البداية ليس مجرد وقفة مع النفس في‬
‫لحظة من اللحظات‪ ،‬أو في يوم من اليام‪ ،‬وإنما هو منهج حياة‪ ،‬فيه‬
‫مراجعة دائمة‪ ،‬ومراقبة مستمرة‪ ،‬والموّفق من وفقه الله عز وجل‪.‬‬

‫ثانًيا‪ :‬الزهد في الدنيا‪:‬‬


‫يأتي الزهد في الدنيا نتيجة طبيعية وحتمية للخلص عند‬
‫صا في علمه لله تعإلي‪ ،‬متجرًدا فيه‬
‫العلماء؛ فإذا لم يكن العالم مخل ً‬
‫خلق وفضيلة‬ ‫عن إغراءات الدنيا وزخارفها‪ ،‬لن يكون بإمكانه تحقيق ُ‬
‫صا لوجه الله‬‫الزهد فيها‪ ،‬وما لم يحقق الزهد فيها فلن يكون علمه خال ً‬
‫تعإلي‪..‬‬
‫وأعني فيما أعني هنا‪ ..‬أل نطلب الدنيا بعلمنا‪..‬‬
‫وهذه حقيقة يقع فيها الكثيرون‪ ،‬وخاصة وأن أغلب العلوم الن ‪-‬‬
‫وبالخص العلوم الحياتية ‪ -‬تعد من مصادر الدخل الساسية للفرد‪..‬‬
‫وقد يكثر المال بسبب التفوق في هذه العلوم‪ ،‬فيفتن به وينسى‬
‫قضيته‪ ،‬وتتبدل نيته!!‬
‫يقول رسول ‪ ‬في الحديث الذي رواه عبد الرحمن بن عوف‬
‫عل َيك ُ َ‬ ‫ن أَ َ‬ ‫قَر أ َ ْ‬
‫ن‬
‫مأ ْ‬‫شى َ ْ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫ول َك ِ ْ‬
‫م‪َ ،‬‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫شى َ‬ ‫خ َ‬ ‫ف ْ‬ ‫ما ال ْ َ‬ ‫ه َ‬ ‫والل ّ ِ‬‫ف َ‬‫<‪َ " :‬‬
‫م‪،‬‬‫قب ْل َك ُ ْ‬‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫عَلى َ‬ ‫ت َ‬ ‫سطَ ْ‬ ‫ما ب ُ ِ‬‫م الدّن َْيا ك َ َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫ط َ‬ ‫س َ‬ ‫ت ُب ْ َ‬
‫َ‬
‫م" ‪.‬‬ ‫ه ْ‬ ‫هل َك َت ْ ُ‬‫ما أ ْ‬ ‫م كَ َ‬ ‫هل ِك َك ُ ْ‬ ‫وت ُ ْ‬
‫ها‪َ ،‬‬ ‫سو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ما ت ََنا َ‬ ‫ها ك َ َ‬ ‫سو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫فت ََنا َ‬
‫َ‬
‫‪574‬‬

‫ابن الجوزي‪ :‬صفة الصفوة ‪.2/251‬‬ ‫‪572‬‬

‫أبو بكر القرشي‪ :‬التواضع والخمول ‪.1/84‬‬ ‫‪573‬‬


‫أمٌر جد خطير أن نسعى لتحصيل العلم ونتعلم ‪ -‬أّيا كانت‬
‫العلوم ‪ -‬من أجل المال‪ ..‬وأخطر منه أن يفتح الله ‪ ‬أبواب الرزق‬
‫الواسعة على العالم فتنة له‪ ،‬فيقع فيها‪ ،‬فتراه ل يعد يصرف علمه إل‬
‫في الوجه الذي يأتي فقط بمال!!‬
‫وهذه ‪ -‬وللسف ‪ -‬حقيقة مشاهدة‪ ،‬ومن دعاة في الدين‬
‫وعلماء!!‬
‫ما في مسجد في دولة غربية‪،‬‬ ‫فقد كان أحد من أعرفهم إما ً‬
‫وكان يأخذ راتًبا على هذه المامة‪ ،‬ولما انفصم العقد الذي كان بينه‬
‫وبين إدارة المسجد‪ ،‬وجدته وقد قّرر أن يظل بالبلد يعمل بأي عمل‬
‫ما عن مجال الدعوة والدين‪ ،‬فالمهم عنده هو‬ ‫دا تما ً‬
‫آخر ولو كان بعي ً‬
‫الستمرار في تحصيل المال والثروة‪..‬‬
‫ما له‪،‬‬
‫ورغم أن بيته كان قريًبا من المسجد الذي كان يعمل إما ً‬
‫إل أنه لم يعد ْ يأتي إلى الصلة‪ ..‬لقد ذهب الراتب‪ ،‬فذهبت الدعوة‪ ،‬بل‬
‫وذهبت صلة الجماعة!!‬
‫ي قبل‬
‫ص عل ّ‬
‫أما الغريب‪ ،‬فهو أن هذا الشيخ بعينه هو الذي ق ّ‬
‫ذلك ‪ -‬متندًرا أحوال العلماء والدعاة الذين يقومون بمثل ذلك‪ ..‬فحكى‬
‫ضا ‪ -‬إذا جاء يوم إجازة‬
‫ما أي ً‬
‫ى ‪ -‬أن أحدهم ‪ -‬وكان إما ً‬
‫لي في أس ً‬
‫ّ‬
‫السبوع‪ ،‬كان ل ينزل إلى المسجد ُيصلي‪ ،‬رغم أن بيته فوق المسجد‬
‫ما‪!!..‬‬
‫تما ً‬
‫وقد مّرت اليام‪ ،‬ووقع هو فيما وقع فيه صاحبه‪ ..‬والمؤمن ل‬
‫دا‪ ،‬ونسأل الله الثبات‪..‬‬
‫يأمن على نفسه الفتنة أب ً‬
‫ضا في غير أئمة المساجد‪ ..‬فحين‬ ‫ومثل هذه الصورة نراها أي ً‬
‫كنت في الردن وجدت من يشكو إلى أن إحدى الذاعات طلبت من‬
‫أحد الدعاة البارزين أن يلقي حديًثا فيها‪ ،‬لتعليم الناس ونشر العلم‬
‫وغيره‪ ..‬فوافق على أن ُيدفع له أول ً مبلغٌ وقدره كذا‪!!..‬‬
‫لقد ُأتيحت له الفرصة لنشر العلم‪ ،‬والدعوة إلى الخير‪ ،‬والقيام‬
‫بمهمة النبياء‪ ،‬وتهيأت له السباب لتبليغ الجمع الغفير‪ ..‬إل أنه غلبته‬
‫الدنيا‪ ،‬فصار يعمل وُيعّلم لجلها‪ ،‬ولم يعد بحسبانه نفع المة‪ ،‬أو العمل‬
‫حرم‬ ‫على نهضتها‪ ،‬أو المشاركة في حل أزماتها‪ ..‬فوق أنه أصل ً قد ُ‬
‫ل وأجر لم يكن بمقدورهم!!‬ ‫أجر هذه المهمة؛ كون ما طلبه من ما ٍ‬
‫إننا إزاء هذه الزمات والفتن لبد أن نعود إلى الصول‪ ،‬وأن‬
‫نقف وقفات طويلة أمام القدوات الحقيقية في هذا الشأن‪ ،‬أل وهم‬

‫‪ 574‬البخاري‪ :‬كتاب المغازي‪ ،‬باب شهود الملئكة بدًرا )‪ ،(3791‬ومسلم‪ :‬في أوائل كتاب الزهد‬
‫والرقائق )‪ (2961‬والترمذي )‪ ،(2462‬وابن ماجة )‪ ،(3997‬وأحمد )‪.(17273‬‬
‫النبياء صلوات الله عليهم وسلمه‪ ..‬فهم القدوة في الدعوة‪ ،‬وهم‬
‫القدوة في العلم‪..‬‬
‫إننا حين نراجع قصصهم في القرآن الكريم‪ ،‬نجد أنهم في‬
‫دعوتهم وعلمهم دائما ما يقرنون ذلك بقولهم‪َ :‬ل أ َ َ‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬ ‫سأل ُك ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬
‫ي إ ِلّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ر َ‬ ‫ج ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫مال ً إ ِ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫علي ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫سألك ُ ْ‬ ‫وم ِ ل أ ْ‬ ‫وَيا َ‬
‫ق ْ‬ ‫جًرا‪ . ‬وقولهم‪َ  :‬‬ ‫أ ْ‬
‫‪575‬‬

‫َ‬ ‫عل َي َ‬ ‫قوم َل أ َ َ‬


‫سأل ُك ُ ْ‬
‫ّ ‪576‬‬
‫ي‬
‫ر َ‬ ‫ج ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫جًرا إ ِ ْ‬ ‫هأ ْ‬ ‫م َ ْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ه‪ . ‬وقولهم‪َ :‬يا َ ْ ِ‬ ‫عَلى الل ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫م َ‬ ‫سأل ُك ُ ْ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫فطََرِني‪ . ‬وقولهم‪َ  :‬‬
‫‪577‬‬
‫ذي َ‬ ‫عَلى ال ّ ِ‬ ‫إ ِّل َ‬
‫ي إ ِّل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أ َجر‪ .578‬وقولهم‪ :‬وما أ َ َ‬
‫ر َ‬ ‫ج ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ر إِ ْ‬ ‫ج ٍ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫م َ‬ ‫سأل ُك ُ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ ٍ‬
‫ن‪. ‬‬
‫‪579‬‬
‫مي َ‬ ‫َ‬
‫عال ِ‬ ‫ْ‬
‫ب ال َ‬ ‫عَلى َر ّ‬ ‫َ‬
‫وهذه الية الخيرة تكررت في سورة الشعراء على لسان‬
‫خمسة أنبياء‪ ،‬وهم‪ :‬نوح‪ ،‬وهود‪ ،‬وصالح‪ ،‬ولوط‪ ،‬وشعيب‪ ،‬على‬
‫الترتيب!!‬

‫ما‬
‫ل َ‬ ‫بل إن الله ‪ ‬قد خص نبيه محمد ‪ ‬بقوله‪ُ  :‬‬
‫ق ْ‬
‫مت َك َل ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أَ َ‬
‫ن‪.580‬‬
‫في َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬
‫ما أَنا ِ‬
‫و َ‬
‫ر َ‬
‫ج ٍ‬
‫نأ ْ‬‫م ْ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه ِ‬ ‫سأل ُك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ْ‬
‫يقول ابن كثير في تفسير هذه الية‪ :‬يقول تعإلي‪ :‬قل يا محمد‬
‫لهؤلء المشركين‪ :‬ما أسألكم على هذا البلغ وهذا النصح أجًرا‬
‫مت َك َل ّ ِ‬ ‫َ‬
‫ن‪ ‬أي‪ :‬وما‬
‫في َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬
‫ما أَنا ِ‬
‫و َ‬
‫تعطونيه من عرض الحياة الدنيا‪َ  ،‬‬
‫أزيد على ما أرسلني الله به‪ ،‬ول أبتغي زيادة عليه‪ ،‬بل ما أمرت به‬
‫أديته ل أزيد عليه ول أنقص منه‪ ،‬وإنما أبتغي بذلك وجه الله ‪ ‬والدار‬
‫الخرة‪..581‬‬
‫وعليه فإن ربط العالم علمه‪ ،‬أو ربط دعوته بالمال‪ ..‬فهو ليس‬
‫ي‪ ،‬وأن علمه هذا ودعوته تلك يصبحان وبال ً عليه‬
‫على الطريق السو ّ‬
‫يوم القيامة‪..‬‬
‫وقد جاء أن أحد المراء قصد ابن الهيثم ليتعّلم عليه‪ ،‬فخشي‬
‫أن يضيع وقته معه سدى‪ ،‬فأراد أن يختبر حبه للعلم فطلب منه أن‬
‫يدفع مائة دينار في كل شهر‪ ،‬فبذل المير المال وبعد أن تعّلم على‬
‫عا‬
‫ابن الهيثم ثلث سنين وأراد النصراف‪ ،‬صحبه الستاذ العظيم مود ّ ً‬
‫ومعه كل ما أخذه من المال‪ ،‬وكان قد حفظه له فأعطاه إياه‪ ،‬وقال‬
‫له‪ :‬أنت أحوج لهذا المال مني عند عودتك إلى بلدك‪ ،‬وإني قد جّربتك‬

‫)النعام‪.(90 :‬‬ ‫‪575‬‬

‫)هود‪.(29 :‬‬ ‫‪576‬‬

‫)هود‪.(51 :‬‬ ‫‪577‬‬

‫)الفرقان‪.(57 :‬‬ ‫‪578‬‬

‫)الشعراء‪.(109 :‬‬ ‫‪579‬‬

‫)ص‪.(86 :‬‬ ‫‪580‬‬

‫ابن كثير‪ :‬تفسير القرآن العظيم ‪.4/57‬‬ ‫‪581‬‬


‫ت أنه ل خطر ول موقع للمال عندك في طلب‬
‫ما علم ُ‬
‫بهذه الجرة‪ ،‬فل ّ‬
‫العلم بذلت مجهودي في تعليمك وإرشادك‪ ،‬واعلم أنه ل أجرة ول‬
‫رشوة ول هدية في إقامة الخير"‪.‬‬
‫وقد يتساءل أحدهم‪ :‬هل ل يمكن الجمع بين العلم والدنيا؟ أو‬
‫ما على العلماء بالفقر‪..‬؟!‬
‫بمعنى آخر‪ :‬هل يظل محكو ً‬
‫والحقيقة أن هذه القضية ليست معضلة‪ ،‬وهي ليست في‬
‫دا أن ما كان من‬‫حسبان العلماء الحقيقيين بالمرة؛ إذ أنهم يدركون جي ً‬
‫رزقهم فلن يفوتهم‪ ،‬وهم يعلمون أن الرزق يطلب النسان كما يطلبه‬
‫در لنا من رزق‬‫ما‪ ،‬فكلهما يبحث عن الخر‪ ،‬وهكذا فما قُ ّ‬ ‫النسان تما ً‬
‫ما كما ل يمكن النتقاص منه‪ ،‬بعز عزيز أو‬ ‫ل يمكن الزيادة عليه‪ ،‬تما ً‬
‫بذل ذليل‪..‬‬
‫ومن ثم فإن العالم يطلب العلم ويتعلمه وينشره‪ ،‬وقد يكون‬
‫ذلك العلم ‪ -‬كما ذكرنا ‪ -‬هو مصدر رزقه‪ ،‬فإذا جاءه من وراء ذلك مال‬
‫وفير‪ ،‬كان ذلك نعمة من الله ‪ ‬تستحق الشكر والمتنان‪ ،‬فضل ً عن‬
‫تأدية حقه‪ ..‬وإذا جاءه قليل‪ ،‬صبر وحمد الله‪ ،‬واحتسب الجر عنده‪..‬‬
‫فل يشغل باله بهذه القضية إطلًقا‪..‬‬
‫لكن أن يصرف حياته‪ ،‬ويكرس علمه وعمله لجل الدنيا وجمع‬
‫المال‪ ،‬ويكون ذلك مقصده وديدنه‪ ..‬فهذا غير ممكن لمن أراد أن‬
‫ما ربانًيا يبغي الجر عند الله‪ ،‬ويقتفي أثر النبياء‪ ،‬قدوته‬
‫يكون عال ً‬
‫عليهم السلم‪..‬‬
‫إن الدنيا إذا أصبحت هدًفا‪ ،‬فل شك أن الفتنة عظيمة‪..‬‬
‫والشيطان يوهم النسان أحياًنا أنه يجب أن يمتلك الدنيا لينفقها‬
‫في سبيل الله‪ ..‬فإذا جاءت الدنيا ُفتن فيها النسان على الغلب‪ ،‬إل‬
‫ما رحم الله وقليل ما هم‪..‬‬
‫إننا يجب أن نراجع مناهج سلفنا وعلمائنا لنعرف الطريقة‬
‫المثلى في التعامل مع قضية الدنيا والمال‪.‬‬
‫فهدف عثمان بن عفان أو أبي بكر الصديق‪ ،‬أو عبد الرحمن بن‬
‫عوف‪ ،‬أو طلحة بن عبيد الله‪ ،‬أو سعد بن عبادة‪ ..‬أو غيرهم من أغنياء‬
‫دا جمع المال ثم إنفاقه في‬
‫الصحابة رضوان الله عليهم‪ ،‬لم يكن أب ً‬
‫سبيل الله‪ ..‬وإنما جاءهم المال بعمل لم يستنزف كل أوقاتهم وغالب‬
‫حياتهم‪ ،‬فأنفقوه في سبيل الله‪ ،‬وكان منهم من تخّلى عن ماله وتركه‬
‫بالكلية من أجل الدعوة والرسالة!!‬
‫يقول يونس بن ميسرة‪" :‬ليس الزهد بتحريم الحلل وإضاعة‬
‫المال‪ ،‬ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك‪ ،‬وأن‬
‫تكون في ثواب المصيبة ‪ -‬إذا أصبت بها ‪ -‬أرغب منك فيها لو لم‬
‫تصبك"‪..582‬‬
‫دا أنه إذا أتتك الدنيا وجاءك المال الوفير أل‬
‫ثم إنك ل تضمن أب ً‬
‫ُتفتن به‪ ،‬وكيف تضمن أن تراعي فيه حق الله‪ ،‬فضل ً على أن تنفقه‬
‫كله أو بعضه في سبيل الله‪..‬؟!‬
‫وما أكثر من وقع في ذلك‪ ..‬يقول رسول الله ‪ ‬محذًرا في‬
‫ة‪،‬‬
‫ضَر ٌ‬
‫خ ِ‬‫وة ٌ َ‬‫حل ْ َ‬
‫ن الدّن َْيا ُ‬ ‫الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري <‪" :‬إ ِ ّ‬
‫فات ّ ُ‬
‫قوا‬ ‫ن‪َ ،‬‬ ‫ُ‬
‫ملو َ‬ ‫ع َ‬‫ف تَ ْ‬‫في َن ْظُُر ك َي ْ َ‬
‫ها َ‬
‫في َ‬ ‫فك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫خل ِ ُ‬
‫ست َ ْ‬
‫م ْ‬‫ه ُ‬‫ن الل ّ َ‬
‫وإ ِ ّ‬
‫َ‬
‫الدّن َْيا‪. "..‬‬
‫‪583‬‬

‫وفضل ً عن الزهد في الدنيا‪ ،‬فإن على العالم ومن يسلك طريق‬


‫العلم أن يترفع عن الدنايا‪ ،‬ويتحرز عن الشبهات والمكروهات‪..‬‬
‫يقول الشافعي ~‪:‬‬
‫َ‬
‫فإن النفس ما ط َ ِ‬
‫مَعت تهون‬ ‫ت مطامعي فأرحت نفسي‬
‫م ّ‬
‫أ َ‬
‫مصون‬
‫ض َ‬
‫عْر ٌ‬
‫ففي إحيائه ِ‬ ‫ت القنوع َ وكان ميًتا‬
‫وأحيي ُ‬
‫وليس معنى هذا أن ينعزل العلماء عن الدنيا‪ ،‬ويتركوا الختراع‬
‫قا في‬‫والبتكار الذي يأتي بصورة طبيعية بمال أو ثروة؛ فإننا ُنريد سب ً‬
‫كا للقدرات العلمية والعسكرية والحضارية التي تكفل‬ ‫العلوم‪ ،‬وامتل ً‬
‫لمتنا مكانة سابقة في العالمين‪ ..‬لكن المقصود هو هدف العلماء‬
‫وغايتهم‪ ..‬أهو تقدم المة ورفعتها‪ ،‬أم هو المال وبريقه؟!‬
‫إن القضية ليست قضية هامشية في حياة العلماء‪ ..‬فالثروة‬
‫الحقيقية التي يمتلكها العاِلم تكمن في عقله وفي فكره‪ ،‬ول يجب‬
‫دا للعالم أن يهبط بثروته هذه إلى سفاسف الدنيا ومغريات العوام‪..‬‬ ‫أب ً‬
‫فليس سهل ً أن تكون قائ ً‬
‫دا وقدوة‪ ،‬وليس يسيًرا أن تكون وارًثا‬
‫للنبياء!!‬

‫ثالًثا‪ :‬العلم النافع‪:‬‬

‫‪ 582‬ابن رجب الحنبلي‪ :‬جامع العلوم والحكم ‪.1/289‬‬


‫‪ 583‬مسلم‪ :‬كتاب التوبة والدعاء والذكر والستغفار‪ ،‬باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار‬
‫النساء وبيان الفتنة )‪ ،(2742‬والترمذي )‪ ،(2191‬والحاكم )‪.(8543‬‬
‫لم يكن على المسلم ‪ -‬وخاصة العالم ‪ -‬إل أن تكون حياته‬
‫مورقة مثمرة‪ ،‬وعليه فل يجب أن ُيضّيع عمره في فراغ‪ ،‬كما ل يجب‬
‫أن يكون عمله عبًثا‪ ..‬بل لبد أن يكون كل عمله‪ ،‬وكل وقته وجهده‬
‫فيما ينفعه وينفع الخرين في الدنيا والخرة‪..‬‬
‫ومن ثم فإنك ل تكاد تجد رسول الله ‪ ‬ذكر العلم أو حث‬
‫عليه‪ ،‬إل وأضاف إليه صفة "النفع"‪..‬‬
‫ت‬
‫ما َ‬‫ذا َ‬‫فقد روى أبو هريرة < أن رسول الله ‪ ‬قال‪" :‬إ ِ َ‬
‫ة )أي‪ :‬ثلثة أشياء‪ ،‬وفي‬ ‫ن ث ََلث َ ٍ‬ ‫م ْ‬‫ه إ ِّل ِ‬‫مل ُ ُ‬‫ع َ‬
‫ه َ‬ ‫عن ْ ُ‬‫ع َ‬ ‫قطَ َ‬ ‫ن ان ْ َ‬ ‫اْل ِن ْ َ‬
‫سا ُ‬
‫َ‬ ‫عل ْم ٍ ي ُن ْت َ َ‬ ‫َ‬
‫و‬
‫ه‪ ،‬أ ْ‬‫ع بِ ِ‬
‫ف ُ‬ ‫و ِ‬‫ة‪ ،‬أ ْ‬ ‫ري َ ٍ‬‫جا ِ‬
‫ة َ‬
‫ق ٍ‬ ‫صدَ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫الترمذي‪ :‬ثلث(‪ :‬إ ِّل ِ‬
‫ه"‪.584‬‬ ‫عو ل َ ُ‬ ‫ح ي َدْ ُ‬ ‫صال ِ ٍ‬
‫د َ‬‫ول َ ٍ‬‫َ‬
‫م‬
‫ه ّ‬‫وروى زيد بن أرقم < أن رسول الله ‪ ‬كان يقول‪" :‬الل ّ ُ‬
‫ن‬‫م ْ‬‫و ِ‬ ‫ع‪َ ،‬‬
‫ش ُ‬ ‫ب َل ي َ ْ‬
‫خ َ‬ ‫قل ْ ٍ‬
‫ن َ‬‫م ْ‬‫و ِ‬‫ع‪َ ،‬‬ ‫ف ُ‬‫عل ْم ٍ َل ي َن ْ َ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬
‫ك ِ‬ ‫عوذُ ب ِ َ‬‫إ ِّني أ َ ُ‬
‫ها"‪.585‬‬ ‫ب لَ َ‬ ‫جا ُ‬
‫ست َ َ‬‫ة َل ي ُ ْ‬ ‫و ٍ‬‫ع َ‬
‫ن دَ ْ‬ ‫م ْ‬‫و ِ‬
‫ع‪َ ،‬‬‫شب َ ُ‬‫س َل ت َ ْ‬ ‫ف ٍ‬‫نَ ْ‬

‫وعليه فقد كان رسول الله ‪ ‬يحض على العلم النافع ويحث‬
‫عا"‪..586‬‬
‫ف ً‬ ‫عل ْ ً‬
‫ما َنا ِ‬ ‫سُلوا الل ّ َ‬
‫ه ِ‬ ‫عليه فيقول‪َ " :‬‬
‫م إلى ثلثة أنواع‪:‬‬
‫ومن هنا قسم العلماُء العلو َ‬
‫‪ (1‬علم نافع‪ :‬ينفع النسان ويفيد البشرية في دينهم‬
‫ودنياهم‪..‬‬
‫علم ضار‪ :‬يضر النسان في دينه‪ ،‬أو دنياه‪..‬‬ ‫‪(2‬‬
‫علم ل هو بالنافع ول هو بالضار‪ :‬فهو ُيعد ّ ضاًرا؛ لنه‬ ‫‪(3‬‬
‫دد الوقات‪..‬‬‫أضاع العمار وب ّ‬
‫وقد فقه الصحابة ‪ ‬هذا المر جي ً‬
‫دا‪ ،‬وكانوا حريصين تمام‬
‫صل‪..‬‬
‫الحرص على قضية العلم النافع‪ ،‬وكيف ُيطلب وُيح ّ‬
‫ففي قصة الدجال ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬ذكر رسول الله ‪ ‬في‬
‫ددها‪ ،‬وكانت كل صفة من صفاته‬ ‫أحاديث كثيرة صفاته وعلماته‪ ،‬وع ّ‬
‫غريبة في حد ذاتها‪ ،‬تسترعي انتباه المتطلعين وتستثيرهم للسؤال‬
‫عنها‪ ،‬ومعرفتها على وجه الحقيقة وإليقين‪..‬‬

‫‪ 584‬مسلم‪ :‬كتاب الوصية‪ ،‬ياي ما يلحق النسان بعد وفاته )‪ ،(1631‬وأبو داود )‪ ،(2880‬وأحمد )‬
‫‪ ،(8831‬وأبو يعلي )‪.(6457‬‬
‫‪ 585‬مسلم‪ :‬كتاب الذكر والدعاء والتوبة والستغفار‪ ،‬باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم‬
‫يعمل )‪ ،(2722‬والنسائي )‪ ،(5470‬وابن ماجة )‪ ،(250‬وأحمد )‪ ،(13699‬وابن حبان ‪.(83‬‬
‫‪ 586‬ابن ماجة‪ :‬كتاب الدعاء‪ ،‬باب ما تعوذ منه النبي ‪ ،( (3843‬وأبو يعلي )‪ ،(1927‬وابن أبي‬
‫شيبة )‪ ،(26712‬وعبد بن حميد )‪ ،(1093‬وقال اللباني‪ :‬حسن )‪ (3635‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫إل أن كل ذلك لم يدفعهم إلى السؤال عن تفاصيل أكثر ‪ ،‬ولكن‬
‫َ‬
‫ن‬‫عو َ‬ ‫عندما ذكر رسول الله ‪ ‬مدة مكوثه في الرض وهي‪" :‬أْرب َ ُ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫م ِ‬ ‫سائ ُِر أّيا ِ‬ ‫و َ‬ ‫ة‪َ ،‬‬‫ع ٍ‬‫م َ‬
‫ج ُ‬‫م كَ ُ‬‫و ٌ‬‫وي َ ْ‬‫ر‪َ ،‬‬ ‫ه ٍ‬ ‫م كَ َ‬
‫ش ْ‬ ‫و ٌ‬
‫وي َ ْ‬
‫ة‪َ ،‬‬ ‫م كَ َ‬
‫سن َ ٍ‬ ‫و ٌ‬‫ما‪ ،‬ي َ ْ‬ ‫و ً‬ ‫يَ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‪."..‬‬ ‫مك ْ‬ ‫ك َأّيا ِ‬
‫َ‬
‫فيَنا‬‫ة‪ ،‬أت َك ْ ِ‬ ‫سن َ ٍ‬ ‫ذي ك َ َ‬‫م ال ّ ِ‬
‫ك اليو ُ‬ ‫ل الل ّ ِ‬
‫ه‪ ،‬فَذ َل ِ َ‬ ‫سو َ‬
‫قال الصحابة‪َ" :‬يا َر ُ‬
‫ه" !!‬ ‫قدَْر ُ‬ ‫قدُُروا ل َ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ل‪ ،‬ا ْ‬ ‫ل‪َ :‬‬
‫م؟ َقا َ‬‫صلة ُ ي َوْ ٍ‬
‫ِفيهِ َ َ‬
‫‪587‬‬

‫إنها وفقط قضية العلم النافع‪ ..‬يريدون أن يتعلموا ما يعينهم‬


‫على العمل‪ ،‬ول يكترثون بالبحث عن قضايا ل ينبني عليها عمل‪ ،‬بل‬
‫كل اهتمامهم مما ينفع دنياهم وآخرتهم‪.‬‬
‫لقد زرع رسول الله ‪ ‬في صحابته هذا النهج القويم في‬
‫مَتى‬
‫البحث عن النافع من العلوم‪ ،‬لذلك حين جاءه أعرابي ليسأله‪َ " :‬‬
‫ت لَ َ‬
‫ها؟"‪..588‬‬ ‫ذا أ َ ْ‬
‫عدَدْ َ‬ ‫ما َ‬
‫و َ‬
‫ة؟" قال له مباشرة‪َ " :‬‬
‫ع ُ‬
‫سا َ‬
‫ال ّ‬
‫فهو بذلك نقله من طور النظريات‪ ،‬وما ل ينبني عليه كثير‬
‫عمل‪ ،‬إلى طور العمل‪ ،‬والعمل النافع الذي ينفعه في الخرة‪..‬‬
‫هذا هو العلم النافع الذي يؤتي ثماًرا وفيرة في الدنيا والخرة‪..‬‬
‫ضا على العلوم الحياتية‪ ،‬فقد أدرك أبناء‬ ‫ومثل هذا الكلم يقال أي ً‬
‫دا‪ ،‬وهم أول وأشهر فريق‬ ‫موسى بن شاكر حقيقة هذا العلم النافع جي ً‬
‫علمي جماعي في التاريخ‪ ،‬ذاع صيتهم في علوم الرياضيات والفلك‬
‫والعلوم التطبيقية والتقنية‪ ،‬وكانوا من علماء القرن الثالث الهجري‪..‬‬
‫لقد أدرك هذا الفريق العظيم قيمة أن يكون العلم نافًعا‪ ،‬فاستفادوا‬
‫من علمهم وأفادوا منه المسلمين‪ ،‬بل والبشرية جمعاء‪..‬‬
‫ففي كتابهم "الحيل" استحدثوا آلت لخدمة الزراعة والفلحة‪،‬‬
‫مثل المعالف الخاصة لحيوانات ذات أحجام معينة‪ ،‬تتمكن أن تصيب‬
‫مأكلها ومشربها‪ ،‬فل تنازعها غيرها الطعام والشراب‪ ،‬وعمل خزانات‬
‫للحمامات‪ ،‬وآلت لتعيين كثافة السوائل‪ ،‬وآلت تثبت في الحقول‬
‫لكيل تضيع كميات الماء هدًرا‪ ،‬ويمكن بواسطتها السيطرة على عملية‬
‫ري المزروعات‪.‬‬
‫ضا عمل سراج إذا وضع في الريح‬ ‫وكان من جملة أعمالهم أي ً‬
‫العاصف ل ينطفئ‪ ،‬وعمل سراج يخرج الفتيلة لنفسه ويصب الزيت‬
‫لنفسه‪ ،‬وكل من يراه يظن أن النار ل تأكل من الزيت ول من الفتيلة‬

‫‪ 587‬مسلم‪ :‬كتاب الفتن واشراط الساعة‪ ،‬باب ذكر الدجال وصفته )‪ ،(2937‬وأبو داود )‪،(4321‬‬
‫وابن ماجة )‪ ،(4075‬وأحمد )‪ ،(17666‬وكل عن النواس بن سمعان الكلبي رضي الله عنه‪.‬‬
‫‪ 588‬البخاري‪ :‬كتاب فضائل الصحابة‪ ،‬باب مناقب عمر بن الخطاب )‪ ،(3485‬ومسلم‪ :‬كتاب البر‬
‫والصلة والداب‪ ،‬باب المرء مع من أحب )‪ ،(2639‬وأحمد )‪.(12715‬‬
‫ضا عمل نافورة يفور منها الماء مدة من الزمان كهيئة‬ ‫شيًئا البّتة‪ ،‬وأي ً‬
‫الترس‪ ،‬ومدة متماثلة كهيئة القناة‪ ،‬وكذلك ل تزال دهرها تتبدل!!‬
‫وكتابهم السابق يحتوي على مائة تركيب ميكانيكي‪ ،‬مع شروح‬
‫تفصيلية ورسوم توضيحية لطرائق التركيب والتشغيل‪ ،‬وكان‬
‫استخدامهم للصمامات التي تعمل تلقائًيا‪ ،‬وللنظمة التي تعمل بعد‬
‫زمن معين‪ ،‬وغير ذلك مما من شأنه يحصل فيه التحكم اللي‪ ،‬من‬
‫أهم النجازات في تاريخ العلم والتقنية بشكل عام‪.‬‬
‫وقد كان لكل هذه الفكار البداعية ‪ -‬كما يقول أحمد فؤاد باشا‬
‫‪ -‬أثٌر كبير في دفع مسيرة تقنية "الحيل النافعة" أو الهندسة‬
‫ما؛ حيث تميزت تصاميمها بالخيال الخصب والتوصيف‬ ‫الميكانيكية قد ً‬
‫الدقيق والمنهجية التجريبية الرائدة ‪.‬‬
‫‪589‬‬

‫ولعل النسان ُيدرك قيمة بحوث أبناء موسى بن شاكر عندما‬


‫يرى القواعد النظرية الكثيرة التي ألفها الغريق لكنهم لم يسقطوها‬
‫على الواقع‪ ،‬وبالتالي لم يستفيدوا منها‪ ،‬ولم تستفد كذلك البشرية‪..‬‬
‫أما العلم الذي ل ينبني عليه عمل‪ ،‬فل منفعة منه‪ ،‬ول طائل من‬
‫ورائه‪ ،‬وما هو إل مضيعة للوقت‪ ..‬ومثال ذلك من يبحث في طول‬
‫سفينة نوح ‪ ..‬أو في نوع الشجرة التي أكل منها آدم ‪ ..‬أو المدة‬
‫التي قضاها قابيل حامل ً هابيل حتى يدفنه‪ ..‬وغيرها كثير!!‬
‫ولو كان العلم بهذه الشياء فيه منفعة أو فائدة من قريب أو‬
‫من بعيد‪ ،‬لذكرها لنا ‪ ،‬أو قصها علينا رسوله ‪..‬‬
‫دد ابن رجب طائفة منه فقال‪ :‬أصعب‬ ‫وأما العلم الضار‪ ،‬فقد ع ّ‬
‫ذلك ما ُأحدث من الكلم في أفعال الله تعالى من قضائه وقدره؛‬
‫فكذب بذلك من كذب‪ ,‬وزعم أنه نّزه الله بذلك عن الظلم!‬
‫وأصعب منه ما ُأحدث بعد ترجمة فلسفة اليونان‪ ،‬وذلك من‬
‫ضا في ذات الله وصفاته‪ ،‬مما سكت عنه النبي ‪ ‬والصحابة‬‫الكلم أي ً‬
‫والتابعون‪..‬‬
‫وقد تجلت مظاهر هذا العلم في كتابات بعض الصوفية‪ ،‬الذين‬
‫دا إلى خيرٍ أو صلح!!‬
‫كتبوا كتابات ل ُتفهم بحال‪ ،‬ول تدفع أب ً‬
‫ومن أمثلة هذا قول بعضهم عن اللف والباء في البسملة‪:‬‬
‫"اللف في التحقيق لسان حل "النقطة" في فوت كنهها‪،‬‬
‫والباء لسان حل تفصيلها‪ ،‬وقلم خطها في تشكيلها‪ ،‬ومبدأ‬
‫بسطها في تنزيلها"‪!!..‬‬

‫أحمد فؤاد باشا‪ :‬التراث العلمي السلمي ص ‪.31 ،30‬‬ ‫‪589‬‬


‫وأنا على يقين أن كاتب هذا الكلم ل يفقه معناه فضل عن‬
‫قارئه!!‬
‫ي والقول‬‫وف الفلسف ّ‬ ‫وقد قال الذهبي ~ في سياق ذكر التص ّ‬
‫ف البقر‪ ،‬ل يعرف‬ ‫م جاهل ً خل َ‬‫ش المسل ُ‬
‫وجود‪" :‬والله لن يعي َ‬ ‫بوحدةِ ال ُ‬
‫ت‪ ،‬ويؤمن‬ ‫سورةٍ من القرآن يصّلي بها الصلوا ِ‬ ‫سوى ُ‬ ‫من العلم شيًئا ِ‬
‫ق! ولو‬
‫هذا العِْرفان وهذه الحقائ ِ‬ ‫بالله واليوم الخر‪ ،‬خيٌر له بكثيرٍ من‬
‫وة!" ‪.‬‬ ‫خل ْ َ‬
‫ة َ‬ ‫م َ‬
‫ل مائ َ‬ ‫ب أو ع َ ِ‬‫قرأ مائة كتا ٍ‬
‫‪590‬‬

‫ضا علوم الفن والرقص وما يلحق‬ ‫ومن أمثلة ذلك العلم الضار أي ً‬
‫بهما‪ ..‬والعجيب في ذلك أن تجد حكومات مسلمة تخصص مدارس‬
‫للرقص بأنواعه‪ ،‬وتنفق عليها من أموال المسلمين‪ ،‬بل وترعى الفرق‬
‫الراقصة‪ ،‬وتنسبها إلى القومية‪ ،‬وتعطي الجوائز القيمة لمن أبدع في‬
‫أغنية أو لحن‪ ،‬واصفة إياه بأنه من رهبان الفن وعلماء الموسيقى!!‬
‫ومثلهم من ظل يتعلم ويبذل جهده ووقته وعمره كي يضيف‬
‫وتًرا إلى العود!!‬
‫ومن أمثلة هذا العلم الضار كذلك علوم التنجيم‪ ،‬وعلوم‬
‫السحر‪..‬‬
‫وبالجملة فالعلم الضار هو العلم الذي يضر بالنسان والبشرية‪،‬‬
‫سواء كان هذا الضرر دنيوًيا أو أخروًيا‪..‬‬
‫فإذا كان ل ينبغي للمسلم أن يصرف أوقاته في علم ل يترتب‬
‫عليه نفع له أو للمسلمين في الدين أو الدنيا‪ ..‬فما البال وما الخطب‬
‫بمن يصرف أوقاته فيما يضر بالمسلمين!!‬

‫عا‪ :‬العمل بما عِلم‪:‬‬


‫راب ً‬
‫طالما كان هناك إخلص‪ ،‬وطالما كان هناك علم نافع ينبني عليه‬
‫عمل‪ ..‬إذن لبد أن يكون هناك استثماٌر لهذا العلم‪ ..‬وهو العمل به!‬
‫يقول أبو الدرداء <‪ :‬إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن‬
‫يدعوني على رؤوس الخلئق فيقول لي‪ :‬يا عويمر‪ ،‬فأقول‪ :‬لبيك يا‬
‫رب‪ ،‬فيقول‪" :‬ما عملت فيما علمت"‪591‬؟!‬

‫الذهبي‪ :‬لسان الميزان ‪.5/312‬‬ ‫‪590‬‬

‫أبو محمد المنذري‪ :‬الترغيب والترهيب ‪.1/74‬‬ ‫‪591‬‬


‫وذكر الخطيب البغدادي بسنده قال‪ :‬كان إسماعيل بن إبراهيم‬
‫بن جارية يقول‪" :‬كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به"‪..592‬‬
‫ولفهم تلك القضية‪ ،‬فماذا يعني كونك ‪ -‬مثل ً ‪ -‬عندك من الدلة‬
‫على فضل صلة الفجر‪ ،‬أو الصلة في جماعة‪ ،‬والهمية الكبيرة‬
‫والثواب العظيم عليهما‪ ،‬والوعيد الشديد لمن يتخلف عنهما‪ ..‬ثم‬
‫تتخلف أنت‪..‬؟!‬
‫إن مثل ذلك العلم يكون حجة على النسان‪ ،‬ل حجة له‪ ..‬وقس‬
‫على ذلك كل العلوم‪ ،‬سواء في علوم الشريعة أو في علوم الحياة‪..‬‬
‫ومن هذه الوجهة‪ ،‬فقد قسم رسول الله ‪ ‬الناس إلى أربعة‬
‫أصناف‪ ،‬وذلك بحسب العلم والمال الذي عندهم‪ ..‬فهناك من أنعم‬
‫الله عليهم بالعلم والمال‪ ،‬وهناك من حرمهم الله العلم والمال‪،‬‬
‫وهناك من أعطاهم العلم ومنعهم المال‪ ،‬وهناك من رزقهم المال‬
‫ومنعهم العلم‪..‬‬

‫فقد روى أبو كبش النماري < أن رسول الله ‪ ‬قال‪" :‬إ ِن ّ َ‬
‫ما‬
‫قي‬ ‫و ي َت ّ ِ‬‫ه َ‬ ‫ما‪َ ،‬‬
‫ف ُ‬ ‫عل ْ ً‬
‫و ِ‬‫مال ً َ‬ ‫ه َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫د َرَز َ‬
‫ق ُ‬ ‫عب ْ ٍ‬‫ر‪َ :‬‬
‫ف ٍ‬ ‫ة نَ َ‬‫ع ِ‬‫الدّن َْيا ِل َْرب َ َ‬
‫ه َ‬
‫ذا‬ ‫قا؛ َ‬
‫ف َ‬ ‫ح ّ‬
‫ه َ‬ ‫في ِ‬ ‫ه ِ‬‫م ل ِل ّ ِ‬‫عل َ ُ‬‫وي َ ْ‬
‫ه‪َ ،‬‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬‫ه َر ِ‬ ‫في ِ‬
‫ل ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫وي َ ِ‬ ‫ه‪َ ،‬‬ ‫ه َرب ّ ُ‬‫في ِ‬ ‫ِ‬
‫ل‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ز ِ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ل ال َ‬ ‫ض ِ‬ ‫ب ِأف َ‬
‫ما‬
‫ذلك أن العلم عنده ضبط حركة المال‪ ،‬فجعله يتحكم فيه تحك ً‬
‫شرعًيا‪ ..‬فتراه يأتي به من جهة حلل‪ ،‬وتراه ينفقه في الوجه الذي‬
‫أحله الله‪ ،‬وفوق ذلك فهو ل ينسى حق ذلك العلم عليه‪ ،‬من جهة‬
‫نشره وتعليمه وتدريسه‪..‬‬
‫ة‬
‫صاِدقُ الن ّي ّ ِ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬‫ف ُ‬‫ل‪َ ،‬‬‫ما ً‬‫ه َ‬ ‫ق ُ‬‫م ي َْرُز ْ‬‫ول َ ْ‬
‫ما َ‬ ‫عل ْ ً‬‫ه ِ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ق ُ‬‫د َرَز َ‬ ‫عب ْ ٍ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫ه‪،‬‬ ‫ن‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ل ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قو ُ‬ ‫يَ ُ‬
‫و ب ِن ِي ّت ِ ِ‬‫ه َ‬‫ف ُ‬ ‫فل ٍ‬ ‫م ِ‬‫ع َ‬‫ت بِ َ‬ ‫مل ُ‬‫ع ِ‬ ‫مال ل َ‬ ‫ن ِلي َ‬ ‫وأ ّ‬ ‫ل‪ :‬ل ْ‬
‫واءٌ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س َ‬‫ما َ‬ ‫ه َ‬
‫جُر ُ‬‫فأ ْ‬
‫وما أعظم تلك المثوبة وذلك الجزاء العظيم‪ ،‬الذي هو متوقف‬
‫فقط على الخلص والنية الصالحة!! وما أعظم الحسنات التي من‬
‫الممكن أن يكتسبها الذي حرم المال وهو يبغي النفاق‪!!..‬‬
‫في‬ ‫ط ِ‬‫خب ِ ُ‬
‫و يَ ْ‬
‫ه َ‬ ‫ما‪َ ،‬‬
‫ف ُ‬ ‫عل ْ ً‬‫ه ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫م ي َْرُز ْ‬‫ول َ ْ‬ ‫مال ً َ‬ ‫ه َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫ق ُ‬‫د َرَز َ‬ ‫عب ْ ٍ‬‫و َ‬ ‫َ‬
‫ولَ‬ ‫ه‪،‬‬ ‫م‬
‫َ َ ُ َ‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫في‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ص‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ه‪،‬‬
‫َ ّ ُ َ‬ ‫ب‬‫ر‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫في‬‫ِ‬ ‫قي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫م‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ع‬‫ِ‬ ‫ر‬
‫ه بِ ْ ِ‬
‫ي‬ ‫غ‬
‫َ‬ ‫مال ِ ِ‬‫َ‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫ل‪.‬‬ ‫ز ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫مَنا ِ‬ ‫ث ال َ‬ ‫خب َ ِ‬ ‫هذا ب ِأ ْ‬ ‫حقا؛ ف َ‬ ‫ه َ‬ ‫في ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫م ل ِل ِ‬ ‫عل ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫فحرمان العلم مع وجود المال‪ ،‬جعله ل يعرف وجوه الحلل‬
‫والحرام في التيان به‪ ،‬أو صرفه وضبط حركته‪ ،‬فتراه يتصرف فيه‬

‫الخطيب البغدادي‪ :‬الجامع لخلق الراوي ‪.2/258‬‬ ‫‪592‬‬


‫دا ميمنة وميسرة‪ ،‬فيمسك تارة‬
‫من تلقاء نفسه‪ ،‬فيتخبط فيه معرب ً‬
‫صا‪ ،‬وينفق أخرى فخًرا وسمعة ورياء‪..‬‬
‫حا وحر ً‬ ‫ُ‬
‫ش ّ‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن أكثر الغنياء يفتنون‪ ..‬يقول رسول الله ‪ ‬في‬
‫َ‬
‫م‬
‫ه ْ‬ ‫ن )في المال( ُ‬ ‫ن اْلك ْث َ ِ‬
‫ري َ‬ ‫الحديث الذي رواه أبو ذر <‪" :‬إ ِ ّ‬
‫هك َ َ‬
‫ذا‬ ‫و َ‬
‫ذا َ‬‫هك َ َ‬
‫ل َ‬ ‫قا َ‬‫ن َ‬‫م ْ‬‫ة‪ ،‬إ ِّل َ‬ ‫م ِ‬ ‫قَيا َ‬‫م ال ْ ِ‬‫و َ‬
‫ن )في الحسنات( ي َ ْ‬ ‫قّلو َ‬ ‫اْل َ َ‬
‫ما‬‫ل َ‬ ‫و َ‬
‫قِلي ٌ‬ ‫ه‪َ ،‬‬
‫ف ِ‬‫خل ْ ِ‬‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫و ِ‬ ‫ه َ‬
‫مال ِ ِ‬‫ش َ‬‫ن ِ‬ ‫ع ْ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬
‫مين ِ ِ‬
‫ن يَ ِ‬
‫ع ْ‬
‫ذا‪َ ،‬‬ ‫هك َ َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫م‪. "..‬‬
‫‪593‬‬
‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬
‫دا من ُيؤتى المال فيثبت‪ ،‬ويتصرف فيه بما ينبغي أن‬ ‫فقلي ٌ‬
‫لج ً‬
‫يكون‪..‬‬
‫أما الصنف الرابع‪:‬‬
‫ل‪ :‬ل َ َ‬
‫ن‬
‫وأ ّ‬‫ْ‬ ‫قو ُ‬ ‫و يَ ُ‬‫ه َ‬
‫ف ُ‬ ‫ما‪َ ،‬‬ ‫عل ْ ً‬‫وَل ِ‬‫مال ً َ‬‫ه َ‬‫ه الل ّ ُ‬ ‫ق ُ‬‫م ي َْرُز ْ‬‫د لَ ْ‬‫عب ْ ٍ‬
‫و َ‬‫َ‬
‫ما‬
‫ه َ‬
‫وْزُر ُ‬‫ف ِ‬‫ه‪َ ،‬‬ ‫و ب ِن ِي ّت ِ ِ‬‫ه َ‬‫ف ُ‬‫ن؛ َ‬ ‫َ‬
‫فل ٍ‬ ‫ل ُ‬‫م ِ‬ ‫ع َ‬
‫ه بِ َ‬‫في ِ‬‫ت ِ‬ ‫ْ‬
‫مل ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫َ‬
‫مال ل َ‬‫ً‬ ‫ِلي َ‬
‫واءٌ" ‪.‬‬
‫‪594‬‬
‫س َ‬
‫َ‬
‫وإن هذا الصنف من الناس ‪ -‬والله ‪ -‬لمسكين‪ ..‬فهو ليس لديه‬
‫كثير مال‪ ،‬ولم يتعلم العلم ولم يطلبه‪ ،‬ورغم ذلك تراه يتمنى أن لو‬
‫كان عنده مال‪ ،‬لعمل فيه ‪ -‬ليس بالتعلم‪ ،‬أو بإنفاقه في طرق الخير‬
‫وفي مصارفه الشرعية‪ ،‬وإنما ‪ -‬بعمل ذلك الرجل العاصي‪ ،‬الذي ينفق‬
‫ماله في معصية الله ‪ ،‬والذي يتكبر بماله ويتطاول به على‬
‫الناس‪!!..‬‬
‫وقد وقع عليه وزر نيته‪!!..‬‬
‫وفي عدم العمل بالعلم يروي أسامة بن زيد < أن رسول الله‬
‫ق‬
‫فت َن ْدَل ِ ُ‬ ‫ر‪َ ،‬‬ ‫في الّنا ِ‬ ‫قى ِ‬ ‫في ُل ْ َ‬ ‫ة َ‬ ‫م ِ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫و َ‬ ‫ل يَ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫جاءُ ِبالّر ُ‬ ‫‪ ‬قال‪" :‬ي ُ َ‬
‫ع‬
‫م ُ‬ ‫جت َ ِ‬ ‫في َ ْ‬ ‫ه‪َ ،‬‬ ‫حا ُ‬ ‫ماُر ب َِر َ‬ ‫ح َ‬ ‫ْ‬
‫دوُر ال ِ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫َ‬
‫دوُر ك َ‬ ‫في َ ُ‬ ‫ر‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫في الّنا‬ ‫ه ِ‬ ‫قَتاب ُ ُ‬ ‫أَ ْ‬
‫ك؟ أليس ك ُن ْ َ‬
‫ت‬ ‫شأ ْن ُ َ‬‫ما َ‬ ‫ن‪َ ،‬‬ ‫فَل ُ‬ ‫ي ُ‬ ‫ن‪ :‬أ ْ‬
‫َ‬
‫قوُلو َ‬ ‫في َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ر َ‬ ‫ل الّنا ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫أَ ْ‬
‫ْ‬
‫م‬ ‫مُرك ُ ْ‬ ‫تآ ُ‬ ‫ل‪ :‬ك ُن ْ ُ‬ ‫قا َ‬ ‫ر؟ َ‬ ‫من ْك َ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫ع ْ‬ ‫هاَنا َ‬ ‫وت َن ْ َ‬ ‫ف َ‬ ‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مُرَنا ِبال ْ َ‬ ‫ت َأ ُ‬
‫بال ْمعروف وَل آِتيه‪َ ،‬‬
‫ه"‪.595‬‬ ‫وآِتي ِ‬ ‫ر َ‬ ‫من ْك َ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ع ْ‬ ‫م َ‬ ‫هاك ُ ْ‬ ‫وأن ْ َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ َ ْ ُ‬
‫ُ‬
‫ي‬
‫ر َ‬ ‫س ِ‬‫ما أ ْ‬ ‫ويروي أنس بن مالك < أن رسول الله ‪ ‬قال‪" :‬ل َ ّ‬
‫ل‪:‬‬‫قا َ‬ ‫ر‪َ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ن َنا‬ ‫م ْ‬‫ض ِ‬ ‫ري َ‬ ‫ِ‬ ‫قا‬ ‫م َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫فا ُ‬ ‫ش َ‬ ‫ض ِ‬ ‫قَر ُ‬ ‫ل تُ ْ‬ ‫جا ٍ‬ ‫ر َ‬‫ت بِ ِ‬ ‫مَرْر ُ‬ ‫ِبي َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‪،‬‬ ‫مت ِ َ‬ ‫نأ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫خطَباءُ ِ‬ ‫ء ُ‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫ل‪َ :‬‬ ‫قا َ‬ ‫ل؟ َ‬ ‫ري ُ‬ ‫جب ْ ِ‬ ‫ء َيا ِ‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت‪َ :‬‬ ‫قل ْ ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫َ‬

‫‪ 593‬البخاري‪ :‬كتاب الستقراض والديون والحجر والتفليس‪ ،‬باب أداء الديون )‪ ،(2258‬مسلم‪:‬‬
‫كتاب الزكاة‪ ،‬باب الترغيب في الصدقة )‪ ،(94‬وأحمد )‪ ،(21385‬وابن حبان )‪.(170‬‬
‫‪ 594‬الترمذي‪ :‬كتاب الزهد‪ ،‬باب مثل الدنيا مثل أربعة نفر )‪ (2325‬وقال حديث حسن صحيح‪،‬‬
‫وأحمد )‪ ،(18060‬وقال اللباني‪ :‬صحيح‪ (3024) :‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫‪ 595‬البخاري‪ :‬كتاب بدء الخلق‪ ،‬باب صفة النار وأنها مخلوقة )‪ ،(3094‬ومسلم‪ :‬كتاب الزهد‬
‫والرقائق‪ ،‬باب عقوبة من يأمر بالمعروف ول يفعله )‪.(2989‬‬
‫ن ال ْك َِتا َ‬
‫ب‪،‬‬ ‫م ي َت ُْلو َ‬
‫ه ْ‬
‫و ُ‬
‫م َ‬
‫ه ْ‬
‫س ُ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫و َ‬
‫س ْ‬ ‫س ِبال ْب ِّر َ‬
‫وي َن ْ َ‬ ‫ن الّنا َ‬‫مُرو َ‬
‫ْ‬
‫ي َأ ُ‬
‫قُلو َ‬
‫ن"‪.596‬‬ ‫ع ِ‬‫فَل ي َ ْ‬‫أَ َ‬

‫ل‬ ‫ن ال ْعِل ْم ِ فَي َعْ َ‬


‫م ُ‬ ‫م َ‬‫ب ِ‬ ‫ب ال َْبا َ‬ ‫صي ُ‬ ‫ل ل َي ُ ِ‬‫ج ُ‬ ‫ن الّر ُ‬‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫وقال الحسن‪" :‬إ ِ ْ‬
‫ة‪.‬‬
‫خَر ِ‬‫جعَلَها ِفي ال ِ‬ ‫َ‬ ‫ه فَ َ‬ ‫َ‬
‫تل ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما ِفيَها لوْ كان َ ْ‬ ‫ن الد ّن َْيا وَ َ‬ ‫م َ‬‫ه ِ‬‫خي ًْرا ل َ ُ‬
‫ن َ‬ ‫كو ُ‬ ‫ه‪ ،‬فَي َ ُ‬
‫بِ ِ‬
‫َ‬ ‫م ي َل ْب َ ْ‬
‫ك ِفي‬ ‫ن ي َُرى ذ َل ِ َ‬ ‫ثأ ْ‬ ‫م لَ ْ‬‫ب ال ْعِل ْ َ‬ ‫ل إ َِذا ط َل َ َ‬‫ج ُ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫ضا‪َ :‬‬
‫كا َ‬ ‫ل أي ً‬ ‫ل‪ :‬وََقا َ‬ ‫َقا َ‬
‫ه" ‪.‬‬
‫‪597‬‬
‫صل َت ِهِ وَُزهْد ِ ِ‬ ‫سان ِهِ وَي َد ِهِ وَ َ‬ ‫شعِهِ وَل ِ َ‬ ‫خ ّ‬ ‫صرِهِ وَت َ َ‬ ‫بَ َ‬
‫وفي أمثلة عملية وحية على أحوال علماء المة في العمل‬
‫بالعلم‪ ،‬فإن المروذي يقول‪ :‬قال المام أحمد‪ :‬ما كتبت عن النبي ‪‬‬
‫حديًثا إل وعملت به‪) ،‬في مسند المام أحمد حوإلى ‪ 40.000‬حديث(‬
‫حتى مر بي في الحديث أن النبي ‪ ‬احتجم وأعطى الحجام ديناًرا‪،‬‬
‫فأعطيت الحجام ديناًرا حين احتجمت‪!!598‬‬
‫ة فأذنت له‪ ،‬فاشترى‬ ‫م ً‬ ‫َ‬
‫بل إنه ~ استأذن زوجته في أن يتخذ أ َ‬
‫جارية بثمن يسير وسماها ريحانة؛ استناًنا بالرسول ‪!!‬‬
‫ما وطلبوا منه أن‬‫وهذا الحسن البصري ~‪ ،‬جاءه الرقيق يو ً‬
‫يكلم الناس في خطبة الجمعة عن فضل عتق الرقاب؛ إذ كان الناس‬
‫وقتئذ ٍ َيقبلون منه ما ل يقبلون من العلماء‪ ..‬فقام الحسن في الجمعة‬
‫ضا‪ ،‬وفي الجمعة‬‫الولى فلم يتكلم في هذا‪ ،‬وفي الثانية لم يتكلم أي ً‬
‫الثالثة تكلم فأحسن في فضل عتق الرقاب‪ ،‬وكان أن خرج الناس من‬
‫المسجد فأعتقوا من كان عندهم من الرقيق‪..‬‬
‫وحينها جاء الرقيق المحررون لوجه الله تعالى يشكرون الحسن‬
‫ويقولون‪ :‬أبطأت علينا ثلث جمع‪ ،‬فقال‪ :‬لقد انتظرت حتى رزقني‬
‫دا وأعتقته لوجه الله تعإلي؛ حتى ل آمر الناس‬ ‫الله ما ً‬
‫ل‪ ،‬فاشتريت عب ً‬
‫بما لم أفعل‪!!..‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن مهدي‪ :‬سمعت سفيان يقول‪" :‬ما بلغني‬
‫ة"‪..599‬‬ ‫عن رسول الله ‪ ‬حديث قَ ّ‬
‫ط إل عملت به‪ ،‬ولو مرة ً واحد ً‬
‫قَرأ َ "إ َِذا‬
‫ة‪ ،‬فَ َ‬‫م َ‬ ‫َ‬
‫معَ أِبي هَُري َْرة َ ال ْعَت َ َ‬ ‫ت َ‬ ‫صل ّي ْ ُ‬
‫ويقول أبو رافع‪َ " :‬‬
‫َ‬ ‫خل ْ َ‬
‫ف أِبي‬ ‫ت ب َِها َ‬‫جد ْ ُ‬‫س َ‬ ‫ل‪َ :‬‬ ‫ه؟ َقا َ‬ ‫ما هَذ ِ ِ‬‫ت‪َ :‬‬ ‫قل ْ ُ‬‫د‪ ،‬فَ ُ‬ ‫ج َ‬ ‫ت" ف َ َ‬
‫س َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ماُء ان ْ َ‬
‫ش ّ‬ ‫س َ‬
‫ال ّ‬
‫ه" ‪.‬‬ ‫َ‬
‫حّتى أل ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سم ِ ‪ ،‬فََل أَزا ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫قا ُ‬ ‫جد ُ ب َِها َ‬ ‫س ُ‬
‫لأ ْ‬ ‫قا ِ‬
‫‪600‬‬

‫‪ 596‬أحمد )‪ ،(13445‬وابن حبان )‪ ،(53‬والطبراني في الوسط )‪ ،(8223‬وقال اللباني‪ :‬صحيح )‬


‫‪ (291‬السلسلة الصحيحة‪.‬‬
‫‪ 597‬الدارمي‪ :‬باب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله )‪.(385‬‬
‫‪ 598‬الذهبي‪ :‬نزهة الفضلء تهذيب سير أعلم النبلء إعداد محمد بن موسى الشريف ‪.2/929‬‬
‫‪ 599‬الذهبي‪ :‬سير أعلم النبلء ‪7/242‬‬
‫‪ 600‬البخاري‪ :‬كتاب صفة الصلة‪ ،‬باب الجهر في صلة العشاء )‪ ،(732‬ومسلم‪ :‬كتاب المساجد‬
‫ومواضع الصلة‪ ،‬باب سجود التلوة )‪ ،(578‬وأبو داود )‪.(1408‬‬
‫وفي العلوم الحياتية‪ ،‬فإن الصينيين كانوا قد اخترعوا البوصلة‪،‬‬
‫إل أنهم كانوا يستخدمونها في السحر والخرافات‪ ،‬وحينما وصلت‬
‫ليدي المسلمين‪ ،‬كانوا هم أول من استخدمها في الملحة البحرية‪،‬‬
‫وفي تحديد القبلة في الصلة‪ ..‬وبدءوا يطورونها كي تؤدي فوائد‬
‫عملية للناس‪..‬‬
‫ي ابن الهيثم لتطبيق فكرته لبناء سد ّ على النيل‬
‫وقد مّر بنا سع ْ‬
‫يحمي مصر من مياه الفيضان‪..‬‬
‫وهو الذي أنكر نظرية إقليدس وبطليموس في علم البصريات‪،‬‬
‫والتي تقول بأن العين هي التي ترسل أشعتها على الشياء‪ ،‬وأثبت‬
‫بتجاربه العملية أن العكس هو الصحيح‪..601‬‬
‫أما الجزري ~ )من علماء الهندسة الميكانيكية المعدودين( فقد‬
‫طلب منه الخليفة أن يصنع آلة تغنيه عن الخدم كّلما رغب في‬
‫الوضوء للصلة‪ ،‬فصنع له الجزري آلة على هيئة غلم منتصب القامة‪،‬‬
‫وفي يده إبريق ماء‪ ،‬وفي اليد الخرى منشفة‪ ،‬وعلى عمامته يقف‬
‫طائر‪ ،‬فإذا حان وقت الصلة يصفر الطائر‪ ،‬ثم يتقدم الخادم نحو‬
‫سيده ويصب الماء من البريق بمقدار معين‪ ،‬فإذا انتهى من وضوئه‬
‫يقدم له المنشفة ثم يعود إلى مكانه‪ ،‬والعصفور يغّرد‪!!602‬‬
‫وهكذا‪ ،‬كان للعلم الذي تعلمه العلماء المسلمون‪ ،‬سواء‬
‫الشرعي أو الحياتي‪ ،‬تطبيق عملي في حياتهم اليومية‪ ،‬واستثمار حي‬
‫وحقيقي له‪..‬‬

‫سا‪ :‬الرحمة‪:‬‬
‫خام ً‬
‫ضا الرحمة‪..‬‬
‫من الخلق التي لبد أن يتصف بها العلماء أي ً‬
‫فكثيًرا ما يضع العاِلم حواجز كثيرة بينه وبين عموم الناس إذا‬
‫فا بهذا الخلق العظيم‪ :‬خلق الرحمة‪ ..‬والناس عادة ً تنفر‬ ‫لم يكن متص ً‬
‫من النسان غليظ الطباع‪ ،‬قاسي المشاعر؛ ولذلك قد يحوي عقل‬
‫ن قلبه ما حوى‬‫ما هائل ً لكنه ل يستطيع أن ُيفيد الخلق به؛ ل ّ‬
‫العاِلم عل ً‬
‫ة ول شفقة!!‬ ‫رحم ً‬
‫ما كما يتعّلم العلم‪،‬‬
‫لذلك على العالم أن يتعّلم الرحمة تما ً‬
‫ما كما يباشر تجاربه وقواعده‬ ‫ويباشر هذه الرحمة مع عباد الله تما ً‬
‫وأصوله العلمية‪.‬‬

‫الدفاع‪ :‬روائع الحضارة العربية السلمية في العلوم ص ‪.124‬‬ ‫‪601‬‬

‫محمد أمين فرشوخ‪ :‬موسوعة عباقرة السلم ‪. 5/237‬‬ ‫‪602‬‬


‫دم الله عز وجل صفة الرحمة عنده‬ ‫ومن هنا نفهم لماذا ق ّ‬
‫ش‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫عْر َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ح ِ‬‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫سبحانه وتعالى على صفة العلم؛ فقال‪ :‬ال ّ ِ‬
‫ن‬
‫فُرو َ‬ ‫غ ِ‬ ‫ست َ ْ‬
‫وي َ ْ‬‫ه َ‬ ‫ن بِ ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬‫وي ُ ْ‬ ‫م َ‬‫ه ْ‬ ‫د َرب ّ ِ‬ ‫م ِ‬‫ح ْ‬‫ن بِ َ‬
‫حو َ‬ ‫سب ّ ُ‬ ‫ول َ ُ‬
‫ه يُ َ‬ ‫ح ْ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫و َ‬ ‫َ‬
‫فْر‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫غ‬ ‫فا‬‫َ‬ ‫ما‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫ْ ّ ْ َ ً َ ِ ً‬ ‫م‬ ‫ح‬ ‫ر‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫ي‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ت‬ ‫ع‬‫س‬ ‫و‬ ‫نا‬
‫َ ّ َ َ ِ ْ َ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫نوا‬‫لِ ِ َ َ ُ‬
‫م‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬
‫حيم ِ‪. ‬‬
‫‪603‬‬
‫ج ِ‬‫ب ال ْ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ع َ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫ق ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ك َ‬ ‫سِبيل َ َ‬ ‫عوا َ‬ ‫وات ّب َ ُ‬‫ن َتاُبوا َ‬ ‫ذي َ‬‫ل ِل ّ ِ‬
‫فالملئكة يصفونه سبحانه بأنه وسع كل شيء رحمة وعلما‪..‬‬
‫وقد قدموا قبل طلبهم وسؤالهم ودعائهم سبحانه للذين آمنوا ‪ -‬قدموا‬
‫قبل ذلك رحمته ‪ ‬ولم يقدموا علمه‪ ..‬في صورة إنما توحي‬
‫باستئناسهم وارتياحهم وحاجتهم لهذه الرحمة أو ً‬
‫ل‪..‬‬
‫ف بالعلم‪،‬‬ ‫ص َ‬ ‫بل إنه سبحانه قال يصف العبد الصالح الذي وُ ِ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫دا ِ‬ ‫عب ْ ً‬
‫دا َ‬ ‫ج َ‬‫و َ‬‫ف َ‬‫والذي أرسل إليه موسى ‪ ‬كي يتعلم منه‪َ  :‬‬
‫ل لَ ُ‬
‫ه‬ ‫قا َ‬ ‫ما َ‬ ‫عل ْ ً‬ ‫ن ل َدُّنا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عل ّ ْ‬
‫مَناهُ ِ‬ ‫و َ‬‫دَنا َ‬ ‫عن ْ ِ‬ ‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫ة ِ‬‫م ً‬‫ح َ‬‫عَباِدَنا آ َت َي َْناهُ َر ْ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عل ّ ْ‬ ‫عل ّ َ‬ ‫عَلى أ ْ‬ ‫ع َ‬
‫‪604‬‬
‫دا‪. ‬‬ ‫ش ً‬ ‫ت ُر ْ‬ ‫م َ‬ ‫ما ُ‬‫م ّ‬
‫ن ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ن تُ َ‬ ‫ك َ‬ ‫ه ْ‬
‫ل أت ّب ِ ُ‬ ‫سى َ‬ ‫مو َ‬ ‫ُ‬
‫فقد رزقه الله الرحمة أول ً وزوده بها‪ ،‬وذلك كي ييسر له‬
‫التعامل مع الناس‪ ،‬ثم عّلمه ‪ ‬من علمه بعد ذلك‪..‬‬
‫حا في بقية أحداث القصة في اليات التي‬‫وهذا بعينه ما بدا واض ً‬
‫جاءت بعد ذلك‪ ،‬وكيف عامل العبد الصالح موسى ‪ ،‬وكيف صبر‬
‫على أسئلته التي أثارها رغم تعهداته‪..‬‬
‫ومن أوضح المثلة العملية على ذلك‪ ،‬ما جسده رسول الله ‪‬‬
‫بنفسه في حياته‪ ،‬فكان نعم المعّلم هو ونعم المربي هو‪ ،‬ونعم القدوة‬
‫هو ‪..‬‬
‫وانظر إلى تجسيد الصحابي الجليل معاوية بن الحكم السلمي‬
‫‪ ‬لهذه الرحمة في التعليم‪ ،‬وذلك حين يصف سلوك رسول الله ‪‬‬
‫َ ُ‬
‫ن‬‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫ج ٌ‬ ‫س َر ُ‬ ‫ل الل ّهِ ‪َ ‬إ ِذ ْ ع َط َ َ‬ ‫سو ِ‬ ‫معَ َر ُ‬ ‫صّلي َ‬ ‫معه؛ فيقول‪" :‬ب َي َْنا أَنا أ َ‬
‫ت‪َ :‬واث ُك ْ َ‬
‫ل‬ ‫قل ْ ُ‬
‫م‪ ،‬فَ ُ‬ ‫صارِه ِ ْ‬ ‫م ب ِأب ْ َ‬ ‫قوْ ُ‬ ‫ماِني ال ْ َ‬ ‫ه"‪ ،‬فََر َ‬ ‫ك الل ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ح ُ‬‫ت‪" :‬ي َْر َ‬ ‫قل ْ ُ‬ ‫م‪ ،‬فَ ُ‬ ‫قوْ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫م ع ََلى‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ديهِ ْ‬ ‫ن ب ِأي ْ ِ‬ ‫ضرُِبو َ‬ ‫جعَُلوا ي َ ْ‬ ‫ن إلي! فَ َ‬ ‫م ت َن ْظ ُُرو َ‬ ‫شأن ُك ُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ه‪َ ،‬‬ ‫مَيا ْ‬ ‫أ ّ‬
‫َ‬ ‫أ َفْ َ‬
‫ت‪.‬‬ ‫سك َ ّ‬ ‫مُتون َِني ل َك ِّني َ‬ ‫ص ّ‬ ‫م يُ َ‬ ‫ما َرأي ْت ُهُ ْ‬ ‫م‪ ،‬فَل َ ّ‬ ‫خاذ ِه ِ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ما قَب ْل َ ُ‬
‫ه‬ ‫معَل ّ ً‬‫ت ُ‬ ‫ما َرأي ْ ُ‬ ‫مي‪َ ،‬‬ ‫ل الل ّهِ ‪ ،‬فَب ِأِبي هُوَ وَأ ّ‬ ‫سو ُ‬ ‫صّلى َر ُ‬ ‫ما َ‬ ‫فَل َ ّ‬
‫ضَرب َِني وََل َ‬ ‫َ‬
‫مِني‪،‬‬ ‫شت َ َ‬ ‫ما ك َهََرِني وََل َ‬ ‫والل ّهِ َ‬ ‫ه‪ ،‬فَ َ‬ ‫من ْ ُ‬‫ما ِ‬ ‫ن ت َعِْلي ً‬ ‫س َ‬ ‫ح َ‬ ‫وََل ب َعْد َه ُ أ ْ‬
‫م ْ َ‬ ‫صل ُ ُ‬‫صَلةَ َل ي َ ْ‬
‫س‪،‬‬‫ن ك َلم ِ الّنا ِ‬ ‫َ‬
‫يء ٌ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ها َ‬ ‫في َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ذ ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ل‪ :‬إ ِ ّ‬‫َقا َ‬
‫ل‬‫قا َ‬ ‫ما َ‬ ‫و كَ َ‬ ‫ن‪ ،‬أ ْ‬ ‫قْرآ ِ‬ ‫قَراءَةُ ال ْ ُ‬ ‫و ِ‬ ‫والت ّك ِْبيُر َ‬ ‫ح َ‬ ‫سِبي ُ‬ ‫و الت ّ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ما ُ‬ ‫إ ِن ّ َ‬
‫ه ‪.‬‬ ‫ل الل ّ ِ‬ ‫سو ُ‬ ‫َر ُ‬

‫)غافر‪.(7 :‬‬ ‫‪603‬‬

‫)الكهف‪(66 ،65 :‬‬ ‫‪604‬‬


‫جاَء الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ة‪ ،‬وَقَد ْ َ‬ ‫جاه ِل ِي ّ ٍ‬‫ث ع َهْد ٍ ب ِ َ‬
‫دي ُ‬ ‫ح ِ‬‫ه‪ ،‬إ ِّني َ‬ ‫ل الل ّ ِ‬
‫سو َ‬ ‫ت‪َ :‬يا َر ُ‬ ‫قُل ْ ُ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫جا ٌ‬
‫ل‬ ‫مّنا رِ َ‬ ‫م‪َ .‬قا َ‬
‫ل‪ :‬وَ ِ‬ ‫ل‪ :‬فََل ت َأت ِهِ ْ‬ ‫ن‪َ .‬قا َ‬ ‫ن ال ْك ُّها َ‬ ‫جال ً ي َأُتو َ‬ ‫مّنا رِ َ‬
‫ن ِ‬‫م‪ ،‬وَإ ِ ّ‬ ‫سل ِ‬
‫ِباْل ِ ْ َ‬
‫فَل‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ر ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫ص ُ‬‫في ُ‬ ‫ه ِ‬‫دون َ ُ‬ ‫ج ُ‬‫يء ٌ ي َ ِ‬
‫ش ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ذا َ‬
‫ل‪َ :‬‬ ‫ن‪َ .‬قا َ‬ ‫ي َت َط َي ُّرو َ‬
‫م‪.605"..‬‬ ‫ه ْ‬ ‫صدّن ّ ُ‬
‫يَ ُ‬
‫ولعلنا نلحظ بوضوح في هذا الموقف أن رحمة رسول الله ‪‬‬
‫لم تمّر هكذا دون أن يلتفت إليها معاوية ‪ ‬أو ينتبه إليها‪ ،‬لقد عّلق‬
‫ل صفات المعّلم وأحسنها‪ ..‬ثم لعّلنا نلحظ‬‫عليها‪ ،‬وذكر أنها من أج ّ‬
‫ضا أن هذه الرحمة هي التي شجعت معاوية على أن يتقدم بأسئلة‬ ‫أي ً‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫أخرى ليستفيد ويستزيد‪ ..‬ولو كان أسلوب المعلم غليظا لمتنع‬
‫السائل خشية التعّرض للغلظة أو القسوة‪.‬‬
‫ن العجب بعد ذلك أن تجد علماء يستعملون هذه الغلظة في‬
‫وإ ّ‬
‫معاملتهم ودعوتهم‪ ،‬المر الذي ينفر الناس منهم‪ ،‬ويصدهم عن‬
‫دعوتهم‪ ،‬فضل عن القتداء بهم‪..‬‬
‫وقد حدث قريب من هذا في عهد رسول الله ‪ ،‬فكان له معه‬
‫موقف‪..‬‬
‫ل‬ ‫سو ِ‬ ‫ل إلى َر ُ‬ ‫ج ٌ‬ ‫جاَء َر ُ‬ ‫فقد روى أبو مسعود النصاري < قال‪َ " :‬‬
‫َ‬
‫ة‬
‫دا ِ‬‫صَلةِ ال ْغَ َ‬ ‫ن َ‬ ‫خُر ع َ ْ‬ ‫ه‪ ،‬إ ِّني ‪َ -‬والل ّهِ ‪َ -‬ل َت َأ ّ‬ ‫ل الل ّ ِ‬ ‫سو َ‬ ‫ل‪َ :‬يا َر ُ‬ ‫قا َ‬ ‫الل ّهِ ‪ ‬فَ َ‬
‫شد ّ‬ ‫ط أَ َ‬ ‫ي ‪ ‬قَ ّ‬ ‫ت الن ّب ِ ّ‬
‫َ‬
‫ما َرأي ْ ُ‬ ‫ل‪ :‬فَ َ‬‫ل ب َِنا ِفيَها! َقا َ‬ ‫طي ُ‬‫ما ي ُ ِ‬ ‫م ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫ل فَُل ٍ‬ ‫ج ِ‬
‫م َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ِ ْ‬
‫َ‬
‫م‬‫من ْك ُ ْ‬‫ن ِ‬ ‫س‪ ،‬إ ِ ّ‬ ‫ها الّنا ُ‬ ‫ل‪َ :‬يا أي ّ َ‬ ‫م َقا َ‬ ‫ذ‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫مئ ِ ٍ‬
‫ه ي َوْ َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫عظ َةٍ ِ‬ ‫موْ ِ‬ ‫ضًبا ِفي َ‬ ‫غَ َ‬
‫َ‬
‫م‬‫ه ْ‬‫في ِ‬‫ن ِ‬ ‫فإ ِ ّ‬ ‫وْز؛ َ‬ ‫ج ّ‬ ‫فل ْي َت َ َ‬‫س َ‬ ‫ِ‬ ‫صّلى ِبالّنا‬ ‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫فأي ّك ُ ْ‬ ‫ن‪َ ،‬‬ ‫ري َ‬‫ف ِ‬‫من َ ّ‬ ‫ُ‬
‫ة" ‪.‬‬
‫‪606‬‬
‫ج‬
‫َ َ ِ‬ ‫حا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ف‪،‬‬ ‫َ‬ ‫عي‬
‫ِ‬ ‫ض‬
‫ّ‬ ‫وال‬ ‫ا ِ َ َ‬
‫ر‪،‬‬ ‫بي‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬
‫وإن مثل ذلك الخلق يتطلبه المعّلم في كل مكان وكل مجال‪..‬‬
‫فيتطلبه الب في البيت‪ ،‬والمدرس في المدرسة‪ ،‬والستاذ في‬
‫الجامعة‪ ،‬والطبيب في المستشفى أو العيادة‪ ..‬ويتطلبه بصفة خاصة‬
‫الداعية والمربي في كل أحواله ومقاماته‪..‬‬

‫سا‪ :‬توريث العلم‪:‬‬


‫ساد ً‬

‫‪ 605‬مسلم‪ :‬كتاب المساجد ومواضع الصلة‪ ،‬باب تحريم الكلم في الصلة ونسخ ما كان من‬
‫إباحة )‪ ،(537‬والنسائي )‪ ،(1218‬وأبو داود )‪ ،(930‬وأحمد )‪.(23813‬‬
‫‪ 606‬البخاري‪ :‬كتاب الجماعة والمامة‪ ،‬باب تخفيف المام في القيام وإتمام الركوع والسجود )‬
‫‪ ،(670‬ومسلم‪ :‬كتاب الصلة‪ ،‬باب أمر الئمة بتخفيف الصلة في تمام )‪ ،(466‬والدارمي )‬
‫‪ ،(1259‬وابن خزيمة )‪ ،(1605‬وابن حبان )‪ ،(2137‬والطبراني في الكبير )‪ ،(560‬وابن أبي‬
‫شيبة )‪.(4657‬‬
‫ضا‬
‫نقل العلم هو أعظم استثمار له‪ ..‬فبه قد وصل إلينا‪ ،‬وبه أي ً‬
‫يصل إلى غيرنا‪ ..‬وإن أعظم العمال هي تلك التي لم يقتصر نفعها‬
‫على صاحبها‪ ،‬وإنما التي يتعدى نفعها إلى الخرين‪..‬‬
‫ونقل العلم وبيانه للناس هو أعظم حق له على العلماء‬
‫الربانيين‪ ..‬فبه يتعلم الجاهل‪ ،‬ويرشد الضال‪ ..‬يقول تعإلي‪َ  :‬‬
‫وإ ِ ْ‬
‫ذ‬
‫وَل‬ ‫ُ‬ ‫أَ َ‬
‫س َ‬ ‫ب ل َت ُب َي ّن ُن ّ ُ‬
‫ه ِللّنا ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ميَثاقَ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ه ِ‬‫خذَ الل ّ ُ‬
‫ه‪.607‬‬ ‫ت َك ْت ُ ُ‬
‫مون َ ُ‬
‫ضا هو أن ينفع بعلمه‬
‫ومن هنا فإن من أهم أخلق العالم أي ً‬
‫الخرين‪ ،‬فينقله لهم ويورثه إياهم‪ ..‬لتعم الفائدة‪ ،‬ويعود النفع على‬
‫المة بأثرها‪..‬‬
‫س‬
‫ن الّنا َ‬ ‫دا أبو هريرة < فيقول‪" :‬إ ِ ّ‬ ‫وذلك المر قد فقهه جي ً‬
‫ديًثا‪،‬‬‫ح ِ‬‫ت َ‬ ‫حد ّث ْ ُ‬
‫ما َ‬ ‫ب الل ّهِ َ‬ ‫ن ِفي ك َِتا ِ‬ ‫ة"‪ ،‬وَل َوَْل آي ََتا ِ‬ ‫ن‪" :‬أ َك ْث ََر أ َُبو هَُري َْر َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫يَ ُ‬
‫َ‬
‫دى‪ "..‬إلى قَوْل ِ ِ‬
‫ه‪:‬‬ ‫ت َوال ْهُ َ‬ ‫ن ال ْب َي َّنا ِ‬‫م ْ‬ ‫ما أن َْزل َْنا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م ي َت ُْلو‪" :‬إ ِ ّ‬ ‫ثُ ّ‬
‫ق‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫وا ِ‬ ‫س َ‬ ‫فقُ ِبال ْ‬ ‫ص ْ‬‫م ال ّ‬
‫ل في أ َموال ِهم‪ ،‬وإن أباَ‬
‫شغَلهُ ْ‬ ‫ن كا َ‬ ‫ري َ‬ ‫ج ِ‬‫مَها ِ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫م ْ‬ ‫وان ََنا ِ‬ ‫خ َ‬‫ن إِ ْ‬ ‫م" وَإ ِ ّ‬ ‫حي ُ‬ ‫"الّر ِ‬
‫َ‬
‫ْ َ ِ ْ َِ ّ َ‬ ‫م ُ ِ‬ ‫م ال ْعَ َ‬ ‫شغَل ُهُ ْ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫كا َ‬‫صارِ َ‬ ‫ن اْلن ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وان ََنا ِ‬‫خ َ‬ ‫ن إِ ْ‬‫وَإ ِ ّ‬
‫ن‪،‬‬‫ضُرو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ما َل ي َ ْ‬ ‫ضُر َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ه‪ ،‬وَي َ ْ‬ ‫شب َِع ب َط ْن ِ ِ‬‫ه ‪ ‬بِ ِ‬ ‫ل الل ّ ِ‬ ‫سو َ‬ ‫م َر ُ‬ ‫ن ي َل َْز ُ‬‫كا َ‬‫هَُري َْرة َ َ‬
‫ن"‪.608‬‬ ‫ظو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ما َل ي َ ْ‬ ‫ظ َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ح َ‬‫وَي َ ْ‬
‫وعن فضل ذلك ومكانته‪ ،‬يروي زيد بن ثابت < أن رسول الله‬
‫ه‪،‬‬ ‫حّتى ي ُب َل ّ َ‬
‫غ ُ‬ ‫ه َ‬‫فظَ ُ‬‫ح ِ‬ ‫ديًثا َ‬
‫ف َ‬ ‫ح ِ‬‫مّنا َ‬ ‫ع ِ‬‫م َ‬‫س ِ‬
‫م ًَرا َ‬ ‫ضَر الل ّ ُ‬
‫ها ْ‬ ‫‪ ‬قال‪" :‬ن َ ّ‬
‫ه‬ ‫ف ْ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫وأ ْ‬ ‫ف ْ‬ ‫َ‬
‫ق ٍ‬ ‫ل ِ‬
‫م ِ‬‫حا ِ‬
‫ب َ‬ ‫وُر ّ‬
‫ه‪َ ،‬‬ ‫من ْ ُ‬
‫ه ِ‬‫ق ُ‬ ‫ه َ‬‫ن ُ‬ ‫م ْ‬
‫ه إلى َ‬ ‫ق ٍ‬ ‫ل ِ‬ ‫م ِ‬‫حا ِ‬‫ب َ‬ ‫فُر ّ‬
‫ه" ‪.‬‬ ‫قي ٍ‬ ‫ف ِ‬ ‫ل َي ْ َ‬
‫س بِ َ‬
‫‪609‬‬

‫وفي صورة رائعة‪ ،‬توضح فضل من يعّلم العلم على غيره‪ ،‬فإن‬
‫ن‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ه بِ ِ‬ ‫عث َِني الل ّ ُ‬ ‫ما ب َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫مث َ ُ‬ ‫رسول الله ‪ ‬يضرب المثل فيقول‪َ " :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ها‬ ‫من ْ َ‬‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ف َ‬ ‫ضا‪َ ،‬‬ ‫ب أْر ً‬ ‫صا َ‬ ‫رأ َ‬ ‫ث ال ْ َك َِثي ِ‬ ‫غي ْ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫مث َ ِ‬
‫َ‬
‫عل ْم ِ ك َ َ‬ ‫وال ْ ِ‬ ‫دى َ‬ ‫ه َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ها‬
‫من ْ َ‬ ‫ت ِ‬ ‫كان َ ْ‬ ‫و َ‬ ‫ب ال ْك َِثيَر‪َ ،‬‬ ‫ش َ‬ ‫ع ْ‬ ‫وال ْ ُ‬‫ت ال ْك ََل َ‬ ‫فأن ْب َت َ ْ‬ ‫ماءَ َ‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫قب ِل َ ْ‬ ‫ة َ‬ ‫قي ّ ٌ‬ ‫نَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وا‬‫ق ْ‬ ‫س َ‬‫و َ‬ ‫رُبوا َ‬ ‫ش ِ‬ ‫ف َ‬ ‫س َ‬ ‫ها الّنا َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ع الل ّ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫فن َ َ‬ ‫ماءَ َ‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫سك َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫بأ ْ‬ ‫جاِد ُ‬ ‫أ َ‬
‫ن َل‬ ‫عا ٌ‬ ‫قي َ‬ ‫ي ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ما ِ‬ ‫خَرى إ ِن ّ َ‬ ‫ة أُ ْ‬ ‫ف ً‬‫طائ ِ َ‬‫ها َ‬ ‫من ْ َ‬ ‫ت ِ‬ ‫صاب َ ْ‬
‫عوا‪َ ،‬‬
‫وأ َ‬ ‫َ‬ ‫وَزَر ُ‬ ‫َ‬
‫ل‪.‬‬‫ت كَ ً‬ ‫ِ ُ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ء‬ ‫ما‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫تُ ْ‬
‫عث َِني‬‫ما ب َ َ‬‫ه َ‬‫ع ُ‬
‫ف َ‬‫ون َ َ‬
‫ه‪َ ،‬‬ ‫ن الل ّ ِ‬ ‫في ِدي ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫ق َ‬‫ف ُ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫مث َ ُ‬‫ك َ‬ ‫فذَل ِ َ‬ ‫َ‬
‫ْ‬
‫م‬‫ول َ ْ‬
‫سا َ‬ ‫ك َرأ ً‬ ‫ع ب ِذَل ِ َ‬
‫ف ْ‬ ‫م ي َْر َ‬‫ن لَ ْ‬‫م ْ‬‫ل َ‬ ‫مث َ ُ‬‫و َ‬ ‫م‪َ ،‬‬‫عل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫عل ِ َ‬‫ف َ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ه بِ ِ‬
‫ُ‬
‫ه"‪.610‬‬ ‫ت بِ ِ‬‫سل ْ ُ‬‫ذي أْر ِ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫دى الل ّ ِ‬ ‫ه َ‬‫ل ُ‬ ‫قب َ ْ‬‫يَ ْ‬
‫‪) 607‬آل عمران‪.(187 :‬‬
‫‪ 608‬البخاري‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب حفظ العلم )‪ ،(118‬وأبو داود )‪.(1261‬‬
‫‪ 609‬أبو داود‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب فضل نشر العلم )‪ ،(3660‬والترمذي )‪ ،(2656‬وابن ماجة ‪،(232‬‬
‫وأحمد )‪ ،(4157‬والدارمي )‪ ،(29‬وقال اللباني صحيح )‪ (404‬السلسلة الصحيحة‪.‬‬
‫‪ 610‬البخاري‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب فضل من علم وعلم )‪ ،(79‬ومسلم‪ :‬كتاب الفضائل‪ ،‬باب بيان‬
‫مثل ما بعث به النبي ‪ ‬من الهدى والعلم )‪ ،(2282‬وأحمد )‪ ،(19588‬وابن حبان )‪.(4‬‬
‫حجة‬ ‫ض على تعليم الغير‪ ،‬فيقول في ِ‬ ‫ومن هنا تراه ‪ ‬يح ّ‬
‫د‬
‫ه ُ‬
‫شا ِ‬ ‫كرة ‪" :‬ل ِي ُب َّلغ ال ّ‬ ‫الوداع في خطبته الجامعة‪ ،‬عن ابي ب َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عى ل َ ُ‬
‫ه‬ ‫و َ‬
‫وأ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ن ُ‬‫م ْ‬ ‫ن ي ُب َل ّ َ‬
‫غ َ‬ ‫سى أ ْ‬‫ع َ‬
‫هد َ َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫شا ِ‬ ‫ب؛ َ‬
‫فإ ِ ّ‬ ‫غائ ِ َ‬‫ال ْ َ‬
‫ه"‪.611‬‬ ‫من ْ ُ‬‫ِ‬

‫عل ّ َ‬
‫م‬ ‫ن تَ َ‬
‫م ْ‬ ‫خي ُْرك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫وروى عثمان < أن رسول الله ‪ ‬قال‪َ " :‬‬
‫ه"‪.612‬‬ ‫عل ّ َ‬
‫م ُ‬ ‫و َ‬
‫ن َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫قْرآ َ‬
‫وفي شرحه يقول ابن حجر‪ :‬والذي ُيعّلم غيره يحصل له النفع‬
‫المتعدي‪ ،‬بخلف من يعمل فقط‪ ،‬بل من أشرف العمل تعليم الغير‪،‬‬
‫معّلم غيره يستلزم أن يكون تعلمه وتعليمه لغيره عمل وتحصيل نفٍع‬ ‫ف ُ‬
‫ل لنفسه‬ ‫م ٌ‬ ‫د‪ ...‬ول شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مك ّ‬ ‫متع ٍ‬
‫ولغيره‪ ،‬جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي‪ ،‬ولهذا كان أفضل‪،‬‬
‫َ‬
‫عا‬‫ن دَ َ‬
‫م ْ‬
‫م ّ‬‫ول ً ِ‬ ‫ق ْ‬‫ن َ‬ ‫س ُ‬‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫وهو من جملة من عنى ‪ ‬بقوله‪َ  :‬‬
‫و َ‬
‫ن‪. ‬‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬‫ل إ ِن ِّني ِ‬ ‫و َ‬
‫قا َ‬ ‫حا َ‬
‫صال ِ ً‬ ‫م َ‬
‫ل َ‬ ‫ع ِ‬
‫و َ‬ ‫إلى الل ّ ِ‬
‫ه َ‬
‫‪613‬‬

‫ويقول معاذ بن جبل <‪ .." :‬وتعليمه من ل يعلمه صدقة‪.614"..‬‬


‫ويقول جابر بن عبد الله‪" :‬إذا لعن آخر هذه المة أولها‪ ،‬فمن‬
‫كان عنده علم فليظهره؛ فإن كاتم ذلك العلم ككاتم ما ُأنزل على‬
‫رسول الله ‪!!615"‬‬
‫وهو يريد أنه إذا جاء زمان يلعن فيه الناس أوائل هذه المة‪ ،‬أي‬
‫الصحابة ‪ ،‬فمن كان عنده علم في الدفاع عنهم فليظهره‪ ،‬وإل فإن‬
‫من يكتمه كمن يكتم ما ُأنزل على رسول الله ‪ ..‬وكلهما أمر‬
‫عظيم!!‬
‫ومن هنا كان التحذير الشديد من كتمان العلم عمن يسأل‬
‫عنه‪..‬‬

‫ه ثُ ّ‬
‫م‬ ‫م ُ‬ ‫عل ْم ٍ َ‬
‫عل ِ َ‬ ‫ن ِ‬‫ع ْ‬‫ل َ‬‫سئ ِ َ‬‫ن ُ‬‫م ْ‬‫فقد قال رسول الله ‪َ " :‬‬
‫م ال ْ ِ‬ ‫ُ‬
‫ر" !!‬ ‫ن َنا ٍ‬‫م ْ‬
‫جام ٍ ِ‬‫ة ب ِل ِ َ‬
‫م ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫و َ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ه‪ ،‬أل ْ ِ‬
‫ج َ‬ ‫ك َت َ َ‬
‫م ُ‬
‫‪616‬‬

‫‪ 611‬البخاري‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب قول النبي ‪ ‬رب مبلغ أوعى من سامع )‪ ،(76‬ومسلم‪ :‬كتاب‬
‫القسامة‪ ،‬باب تغليظ تحريم الدماء والعراض والموال )‪ ،(1679‬وابن ماجة )‪.(233‬‬
‫‪ 612‬البخاري‪ :‬كتاب فضائل القرآن‪ ،‬باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه )‪ ،(4739‬وأبو داود )‬
‫‪ ،(1452‬والترمذي )‪.(2907‬‬
‫‪ 613‬ابن حجر‪ :‬فتح الباري ‪ ،9/76‬والية من سورة فصلت‪.33 :‬‬
‫‪ 614‬الغزالي‪ :‬إحياء علوم الدين ‪.1/11‬‬
‫‪ 615‬الطبراني في الوسط‪(430) :‬‬
‫‪ 616‬أبو داود‪ :‬كتاب العلم‪ :‬باب كراهية منع العلم )‪ ،(3658‬والترمذي )‪ ،(2649‬وابن ماجة )‬
‫‪ ،(264‬وأحمد )‪ ،(7561‬والحاكم )‪ ،(345‬وقال‪ :‬حديث صحيح‪ ،‬وقال اللباني‪ :‬صحيح )‪(6284‬‬
‫صحيح الجامع‪.‬‬
‫ولعّلنا ندرك بعد ذلك سبب انتشار علم المام مالك‪ ،‬حتى صار‬
‫ص به‪ ،‬وعدم انتشار علم المام الليث بن سعد ~‪،‬‬ ‫ي خا ّ‬
‫ب فقه ّ‬
‫له مذه ٌ‬
‫وقد كان فقيه عصره وإمامه البارز‪!!..‬‬
‫ن المام مالك ~ كان له من التلميذ الذين‬
‫وتظهر الحقيقة في أ ّ‬
‫يبّلغون عنه‪ ،‬وينشرون علمه‪ ،‬في حين لم يجد المام الليث من يحمل‬
‫م وينتشر‪ ..‬وقد أشار إلى هذه الحقيقة المام الشافعي‬‫مذهبه حتى يعُ ّ‬
‫~ حين قال‪" :‬الليث بن سعد أفقه من مالك‪ ،‬إل أن أصحابه لم‬
‫يقوموا به"‪.617‬‬
‫ضا استفادت الدنيا من علم الرازي ~‪ ..‬فقد كانت له‬
‫وبذلك أي ً‬
‫مدرسة في تعليم الطب؛ فكان يؤلف الكتب‪ ،‬ويجري التجارب‬
‫والبحاث مع طلبة العلم‪ ،‬وكان يقوم بجولة معهم للطمئنان على‬
‫المرضى‪ ..‬فوّرث ~ العلم‪ ،‬واستفادت منه ليست أمة السلم‬
‫فحسب‪ ،‬وإنما البشرية جمعاء‪!!..‬‬
‫ضا‪ ،‬فقد أهدى أبو نصر بن عراق )وهو‬ ‫وفي العلوم الحياتية أي ً‬
‫من علماء القرن الرابع الهجري‪ ،‬وله مصنفات في اللت الفلكية‬
‫والمثلثات( أكثر كتبه ورسائله إلى أبي ريحان البيروني‪ ،‬وقد اعترف‬
‫له البيروني بفضله‪ ،‬فكان يلقبه بق "أستاذي"‪!!618‬‬
‫أما الجلدكي )وهو من علماء القرن الثامن الهجري(‪ ،‬والذي‬
‫اشتهر بسعة اطلعه وتبحره في علم الكيمياء‪ ،‬فكان محًبا لنشر هذا‬
‫العلم بين الناس؛ ولذلك كانت داره مفتوحة أمام طلب المعرفة‪،‬‬
‫وصدره واسًعا لجابة من يستفتيه في مسألة من مسائل الكيمياء‪ ،‬أو‬
‫أي فرع من فروع المعرفة‪..619‬‬

‫عا‪ :‬المانة العلمية‪:‬‬


‫ساب ً‬
‫لعلنا يجب أن نقف كثيًرا أمام أهم صفتين اتصف بهما رسول‬
‫الله ‪ ‬حتى قبل أن تنزل عليه الرسالة ويتعّلم العلم‪ ،‬وهما صفتا‪:‬‬
‫رف بهما في مجتمعه‪ ،‬مما كان له أبلغ الثر بعد‬ ‫الصدق والمانة؛ إذ ع ُ ِ‬
‫ذلك في نجاحه في توصيل علمه ودعوته للناس‪..‬‬
‫قد‬
‫ة عندما يرى أن هذا الخلق قد افت ُ ِ‬
‫وإن القلب ليحزن حقيق ً‬
‫كثيًرا في زماننا هذا‪ ..‬فتجد من يسرق الصفحات ول ينسبها إلى‬
‫أصحابها‪ ،‬بل تجد من يسرق الكتب كاملة ويحصل بها على درجات‬

‫ابن حيان النصاري‪ :‬طبقات المحدثين بأصبهان ‪.1/406‬‬ ‫‪617‬‬

‫هداية العارفين ص ‪.698‬‬ ‫‪618‬‬

‫رحاب خضر عكاوي‪ :‬موسوعة عباقرة السلم ‪.55-4/50‬‬ ‫‪619‬‬


‫الترقية في الجامعات الكاديمية‪ ،‬ودون أي رادع إيماني أو إلزام‬
‫ده عن ذلك‪!!..‬‬
‫خلقي يص ّ‬
‫وهذه الفة من أخطر الخلق وأخبثها‪..‬‬
‫ولجل ذلك فقد كان علماء المسلمين في كل علومهم‪ ،‬سواء‬
‫ما شرعّيا أو حياتّيا ‪ -‬كانوا حريصين أشد الحرص على تحري‬‫كان عل ً‬
‫الدقة والمانة العلمية فيما ينقلونه عن غيرهم‪ ،‬حتى ولو كان النقل‬
‫حا في كل كتبهم وتصانيفهم‪..‬‬
‫عن مجهولين‪ ،‬وكان ذلك واض ً‬
‫من هذا مثل ً ما يقوله ابن الثير في مقدمة كتابه )الكامل( بعد‬
‫ت‬ ‫أن يذكر السبب الذي من أجله كان كتابه هذا‪" :‬ول أقو ُ‬
‫ل إني أتي ُ‬
‫ن من هو بالموصل لبد أن‬ ‫على جميع الحوادث المتعّلقة بالتاريخ؛ فإ ّ‬
‫يشذ ّ عنه ما هو بأقصى الشرق والغرب‪ ،‬ولكن أقول‪ :‬إنني قد جمعت‬
‫حة‬
‫مله علم ص ّ‬ ‫في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد‪ ،‬ومن تأ ّ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ي؛ إذ‬‫فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صّنفه المام أبو جعفر الطبر ّ‬
‫ول عند الكافة عليه‪ ،‬والمرجوع ُ عند الختلف إليه‪،‬‬‫هو الكتاب المع ّ‬
‫ل بترجمة واحدة منها‪ ،‬وقد‬ ‫ُ‬
‫فأخذت ما فيه من جميع تراجمه‪ ،‬لم أخ ّ‬
‫ذكر هو في أكثر الحوادث روايات ذوات عدد‪ ،‬ك ّ‬
‫ل رواية منها مثل التي‬
‫م‬‫ت أت ّ‬
‫قبلها أو أقل منها‪ ،‬ورّبما زاد الشيء أليسير أو نقصه‪ ،‬فقصد ُ‬
‫الروايات‪ ،‬فنقلتها وأضفت إليها من غيرها ما ليس فيها‪ ،‬وأودعت كل‬
‫شيء مكانه‪ ،‬فجاء جميع ما في تلك الحادثة على اختلف طرقها‬
‫دا على ما تراه‪.‬‬ ‫سياًقا واح ً‬
‫ت غيره من التواريخ المشهورة فطالعتها‬
‫ت منه وأخذ ُ‬‫ما فرغ ُ‬
‫فل ّ‬
‫ت‬‫وأضفت منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه‪ ،‬ووضع ُ‬
‫ل شيء منها موضعه‪.620"..‬‬‫ك ّ‬

‫وترى المقريزي في مقدمة كتابه )المواعظ والعتبار( يذكر أنه‬


‫سلك في كتابه هذا ثلثة أنحاء‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫"النقل من الكتب المصنفة في العلوم‪ ،‬والرواية عمن أدركت‬
‫جّلة الناس‪ ،‬والمشاهدة لما عاينته ورأيته‪ .‬فأما‬
‫من شيخه العلم و ِ‬
‫النقل من دواوين العلماء التي صنفوها في أنواع العلوم؛ فإني أعزو‬
‫ل إلى الكتاب الذي نقلته منه؛ لخلص من عهدته‪ ،‬وأبرأ من‬ ‫كل نق ٍ‬
‫جريرته‪ ،‬فكثيًرا ممن ضمني وإياه العصر‪ ،‬واشتمل علينا المصر صار‬
‫لقلة إشرافه على العلوم وقصور باعه في معرفة علوم التاريخ‪،‬‬
‫وجهل مقالت الناس‪ ،‬يهجم بالنكار على ما ل يعرفه‪ ،‬ولو أنصف لعلم‬
‫أن العجز من قبله وليس ما تضمنه هذا الكتاب من العلم الذي يقطع‬
‫ابن الثير‪ :‬الكامل في التاريخ ‪.1/8،7‬‬ ‫‪620‬‬
‫ن يعلم ما قيل في‬
‫عليه‪ ،‬ول يحتاج في الشريعة إليه‪ ،‬وحسب العالم أ ْ‬
‫ذلك ويقف عليه‪.‬‬
‫جّلة والمشايخ؛ فإني في الغالب‬‫وأما الرواية عمن أدركت من ال ِ‬
‫دثني إل أن ل يحتاج إلى تعيينه‪ ،‬أو أكون قد‬
‫والكثر أصرح باسم من ح ّ‬
‫أنسيته‪ ،‬وق ّ‬
‫ل ما يتفق مثل ذلك‪.‬‬
‫ما ما شاهدته؛ فإني أرجو أن أكون ‪ -‬ولله الحمد ‪ -‬غير متهم‬
‫وأ ّ‬
‫ول ظنين‪. "..‬‬
‫‪621‬‬

‫وهذا أبو كامل المصري‪ ،‬من علماء القرن الثالث الهجري‪،‬‬


‫والذي كان ُيلقب بأستاذ الجبر‪ ،‬وقد صنف فيه كتابه المعروف بق‬
‫ضا أنه إنما هو تكملة لما‬
‫)الكامل بالجبر(‪ ..‬فقد ذكر في هذا الكتاب أي ً‬
‫وصل إليه أستاذه محمد بن موسى الخوارزمي عن الجبر‬
‫والمقابلة‪!!..622‬‬
‫قا ‪ -‬كان لهم‬
‫بل إن أبناء موسى بن شاكر ‪ -‬الذين ذكرناهم ساب ً‬
‫مع المانة العلمية شأًنا عجيًبا‪..‬‬
‫فتراهم في أشهر كتبهم‪ ،‬وهو "الحيل"‪ ،‬يوضحون ما ليس من‬
‫فنا‬
‫عملهم‪ ،‬وما قد يخفى على كثير من أمتهم فيقولون‪" :‬فكل ما وص ْ‬
‫ملنا‪ ،‬إل معرفة المحيط من القطر؛ فإنه من‬
‫في كتابنا فإنه من ع َ َ‬
‫عمل أرشميدس‪ ،‬وإل معرفة وضع مقدارين بين مقدارين لتتوإلى‬
‫على نسبة واحدة؛ فإنه من عمل مانا لوس"‪!!623‬‬
‫ما‬
‫وأعجب من ذلك أن ترى العالم المسلم يشهد على أبيه؛ التزا ً‬
‫بنهج رسول الله ‪!!..‬‬
‫سِئل عن أبيه فقال‪:‬‬
‫فقد ذكر ابن حبان أن علي بن المديني ُ‬
‫اسألوا غيري‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬سألناك‪.‬‬
‫فأطرق‪ ،‬ثم رفع رأسه وقال‪ :‬هذا هو الدين‪" ،‬أبي" ضعيف‪!!624‬‬
‫دفعته المانة العلمية إلى أن يعترف بالحق‪ ،‬فُيضّعف أباه؛ حتى‬
‫ل ُيؤخذ عنه ما قد ُيسيء إلى العلم‪ ،‬أو إلى الدين بصفة عامة‪..‬‬

‫المقريزي‪ :‬المواعظ والعتبار مقدمة الكتاب‪.‬‬ ‫‪621‬‬

‫الدفاع‪ :‬العلوم البحتة في الحضارة العربية والسلمية ص ‪.199‬‬ ‫‪622‬‬

‫انظر‪ :‬بنو موسى‪ :‬كتاب معرفة مساحة الشكال ص ‪.25 ،17‬‬ ‫‪623‬‬

‫ابن حبان‪ :‬المجروحين ‪.2/15‬‬ ‫‪624‬‬


‫وفي الحديث عن المانة العلمية‪ ،‬فإن ذلك يجرنا إلى أمر‬
‫أعظم من مجرد سرقة الفكار أو الكتب‪ ،‬وهو التظاهر بالمعرفة‬
‫العلمية‪ ..‬أو قل إنه‪ :‬الفتوى بغير علم!!‬
‫وذلك ليس في العلوم الشرعية فقط‪ ،‬بل في كل مجالت‬
‫ل شأنها أو عظم‪ ،‬حتى َليتسع فيشمل المسئول في‬ ‫العلوم‪ ،‬ق ّ‬
‫الشارع‪ ،‬والمستشار في الزواج‪ ،‬والطبيب في مستشفاه‪ ،‬والقاضي‬
‫في محكمته‪ ..‬وأخطر من هذا كله‪ :‬الفتوى في الدين!!‬
‫وفي مثل ذلك روى البخاري وابن حبان ‪ -‬واللفظ له ‪ -‬عن‬
‫دث في كندة قال‪ :‬يجيء دخان‬ ‫مسروق < أنه قال‪" :‬بينما رجل ُيح ّ‬
‫يوم القيامة‪ ،‬فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم‪ ،‬ويأخذ المؤمن كهيئة‬
‫الزكام‪ .‬قال‪ :‬ففزعنا‪ ،‬فأتيت ابن مسعود‪ ،‬قال‪ :‬وكان متكًئا‪ ،‬فغضب‪،‬‬
‫فجلس‪ ،‬وقال‪ :‬يا أيها الناس‪ ،‬من علم شيًئا فليقل به‪ ،‬ومن لم يعلم‬
‫شيًئا فليقل‪" :‬الله أعلم"؛ فإن من العلم أن يقول الرجل لما ل يعلم‪:‬‬
‫ل ما أ َ َ‬
‫سأل ُك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ْ‬ ‫"ل أعلم"؛ فإن الله جل وعل قال لنبيه ‪ُ : ‬‬
‫ق ْ َ‬
‫مت َك َل ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‪ .625‬فهذا الرجل يروي عن‬ ‫في َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬
‫ما أَنا ِ‬
‫و َ‬
‫ر َ‬
‫ج ٍ‬‫نأ ْ‬‫م ْ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه ِ‬ ‫َ‬
‫ت في آية قرآنية أو حديث‬ ‫أحداث يوم القيامة ما ل علم له به‪ ،‬ولم يأ ِ‬
‫شريف؛ مما أثار غضب الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ‪‬؛‬
‫فطفق يعّلم السامعين أهمية توقف المسلم عند ما يعلمه‪ ،‬وأهمية‬
‫قول‪ :‬ل أعلم‪.‬‬
‫وهذه هي القاعدة العريضة التي لبد أن يحتكم إليها كل إنسان‪،‬‬
‫ما ل ينبغي له أن يعطي‬‫ما قال بعلمه‪ ،‬ومن لم يكن عال ً‬
‫فمن كان عال ً‬
‫ل وهلك‪!!.‬‬ ‫الناس شيًئا هو فاقده؛ ذلك أن من أفتى بغير علم ض ّ‬

‫وقد روى الخطيب البغدادي في تاريخه عن ابن عمر أنه قال‪:‬‬


‫سّنة ماضية‪ ،‬ول أدري"‪.626‬‬
‫"العلم ثلثة‪ :‬كتاب ناطق‪ ،‬و ُ‬
‫ما "ل أدري"‪ ،‬فحدثت الحادثة‪ ،‬ووقعت‬ ‫ول غرو‪ ..‬فقد انتفت يو ً‬
‫ل صحابي بسبب فقدها!!‬ ‫الكارثة‪ ..‬وقُت ِ َ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫ج ُ‬
‫ش ّ‬ ‫جٌر فَ َ‬ ‫ح َ‬ ‫مّنا َ‬ ‫جل ً ِ‬ ‫ب َر ُ‬ ‫صا َ‬ ‫فرٍ فَأ َ‬ ‫س َ‬ ‫جَنا ِفي َ‬ ‫خَر ْ‬ ‫يقول جابر <‪َ " :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ة ِفي‬ ‫ص ً‬ ‫خ َ‬ ‫ن ِلي ُر ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ج ُ‬‫ل تَ ِ‬ ‫ل‪ :‬هَ ْ‬ ‫قا َ‬ ‫ه فَ َ‬ ‫حاب َ ُ‬
‫ص َ‬
‫لأ ْ‬ ‫سأ َ‬ ‫م‪ ،‬فَ َ‬ ‫حت َل َ َ‬
‫ما ْ‬ ‫ه‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫س ِ‬
‫ِفي َرأ ِ‬
‫خص ً َ‬
‫س َ‬
‫ل‬ ‫ماِء‪َ .‬فاغ ْت َ َ‬ ‫قد ُِر ع ََلى ال ْ َ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫ة وَأن ْ َ‬ ‫ك ُر ْ َ‬ ‫جد ُ ل َ َ‬ ‫ما ن َ ِ‬ ‫قاُلوا‪َ :‬‬ ‫م؟ فَ َ‬ ‫م ِ‬ ‫الت ّي َ ّ‬
‫َ‬ ‫قت َلوهُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ل‪َ :‬‬ ‫َ‬
‫خب َِر ب ِذ َل ِك فَ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫قت َل ُ‬ ‫قا َ‬ ‫ي‪‬أ ْ‬ ‫مَنا ع َلى الن ّب ِ ّ‬ ‫ما قَد ِ ْ‬ ‫ت‪ .‬فَل ّ‬ ‫ما َ‬ ‫فَ َ‬
‫ْ‬ ‫ش َ‬ ‫موا؟! َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ي )أي‪ :‬الجهل‬ ‫ع ّ‬ ‫فاءُ ال ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫فإ ِن ّ َ‬ ‫عل ُ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫سألوا إ ِذْ ل ْ‬ ‫ه ؛ أل َ‬ ‫الل ُ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ن ي َك ْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ؤا ُ‬ ‫س َ‬
‫م َ‬ ‫ن ي َت َي َ ّ‬ ‫هأ ْ‬ ‫في ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ل؛ إ ِن ّ َ‬ ‫أو‪ :‬التحير في الكلم( ال ّ‬

‫‪ 625‬البخاري‪ :‬كتاب التفسير‪ ،‬باب الم غلبت الروم في أدنى الرض )‪ ،(4496‬وابن حبان )‬
‫‪ ،(6585‬والية من سورة ص‪.86 :‬‬
‫‪ 626‬الخطيب البغدادي‪ :‬تاريخ بغداد ‪.4/23‬‬
‫َ‬
‫ة‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫خْر َ‬
‫ق ً‬ ‫ه ِ‬
‫ح ِ‬ ‫عَلى ُ‬
‫جْر ِ‬ ‫سى ‪َ -‬‬‫مو َ‬ ‫ش ّ‬
‫ك ُ‬ ‫ب‪َ -‬‬ ‫ص َ‬ ‫ع ِ‬‫و يَ ْ‬‫صَر‪ ،‬أ ْ‬ ‫ع ِ‬
‫وي َ ْ‬
‫َ‬
‫ه" ‪.‬‬
‫‪627‬‬
‫د‬ ‫س‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫ئ‬
‫َ ِ َ َ َ ِ ِ‬‫سا‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫س‬ ‫غ‬
‫ْ‬
‫َ َ ِ‬‫ي‬ ‫و‬ ‫ها‪،‬‬‫ْ َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫ح‬
‫يَ ْ َ َ‬
‫س‬ ‫م‬
‫ن كثيًرا من الناس يستحيون من ذكر كلمة "ل أعلم"‪ ،‬وكأنه‬ ‫إ ّ‬
‫على النسان أن يعلم علوم الدنيا والدين جميًعا!! وما أبلغ الدرس‬
‫الذي علمنا إياه رسول الله ‪ ،‬وهو يجيب أحياًنا على بعض السئلة‬
‫بقوله‪" :‬ل أدري"‪ ،‬مع كونه أعلم الخلق‪ ،‬وسيد البشر‪ ،‬وخير الرسل‪..‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫سو َ‬
‫ل‬ ‫ي ‪ ‬فَ َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪َ :‬يا َر ُ‬ ‫جل ً أَتى الن ّب ِ ّ‬ ‫يروي جبير بن مطعم ‪ ‬أ ّ‬
‫ن َر ُ‬
‫َ‬
‫شّر؟‬ ‫ن َ‬ ‫دا ِ‬‫الل ّهِ أيّ ال ْب ُل ْ َ‬
‫َ‬
‫ري"‪.‬‬ ‫ل‪َ" :‬ل أدْ ِ‬ ‫قا َ‬‫ل‪ :‬فَ َ‬ ‫َقا َ‬
‫ل‪" :‬يا جبري ُ َ‬ ‫َ‬
‫شّر؟"‬ ‫ن َ‬ ‫ي ال ْب ُل ْ َ‬
‫دا ِ‬ ‫ل‪ ،‬أ ّ‬ ‫َ ِ ْ ِ‬ ‫ل ‪َ ‬قا َ‬ ‫ري ُ‬
‫جب ْ ِ‬
‫ما أَتاه ُ ِ‬ ‫فَل َ ّ‬
‫سأ َ َ‬
‫ل َرّبي ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‪َ :‬ل أد ِْري َ‬
‫حّتى أ ْ‬ ‫َقا َ‬
‫شاَء الل ّ َ‬
‫جاءَ‬ ‫ث‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م َ‬ ‫مك ُ َ‬
‫ن يَ ْ‬‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ث َ‬ ‫مك َ َ‬ ‫م َ‬‫ل ‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫ري ُ‬‫ِ‬ ‫َفان ْط َل َقَ ِ‬
‫جب ْ‬
‫ت‪َ" :‬ل أ َد ِْري"‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قل ْ ُ‬‫شّر؟ فَ ُ‬‫ن َ‬ ‫سأل ْت َِني‪ :‬أيّ ال ْب ُل ْ َ‬
‫دا ِ‬ ‫ك َ‬ ‫د‪ ،‬إ ِن ّ َ‬‫م ُ‬
‫ح ّ‬
‫م َ‬ ‫ل‪َ :‬يا ُ‬ ‫فَ َ‬
‫قا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫واقَُها" ‪.‬‬
‫‪628‬‬
‫س َ‬ ‫ل‪" :‬أ ْ‬ ‫شّر؟ فَ َ‬
‫قا َ‬ ‫ن َ‬ ‫دا ِ‬ ‫ت َرّبي ‪ ‬أيّ ال ْب ُل ْ َ‬ ‫سأل ْ ُ‬‫وَإ ِّني َ‬
‫سِئل عن أهل‬ ‫وليس هذا هو الموقف الوحيد في حياته ‪‬؛ فقد ُ‬
‫سِئل عن ذي‬
‫سِئل عن الساعة‪ ،‬وكذلك عن الّروح‪ ،‬و ُ‬ ‫الكهف‪ ،‬و ُ‬
‫القرنين‪ ..‬ولم ُيجب عن كل ذلك حتى نزل عليه الوحي بالجابة‪ ،‬وهو‬
‫خر‬‫ئ بما كان يقوله المشركون حين يتأ ّ‬
‫في ذلك غير ناظرٍ ول عاب ٍ‬
‫الوحي بها‪!!629‬‬
‫وقد وعى الصحابة‪ ‬الدرس‪ ،‬وتعلموا منه ‪ ‬كلمة "ل أعلم"‪،‬‬
‫جا في الحياة‪ ..‬والمثلة على ذلك في كتب السنن‬ ‫وصارت لهم منه ً‬
‫صر‪ ،‬فمنها ما رواه أبو هريرة < قال‪ :‬قال رسول الله‬ ‫أكثر من أن ُتح َ‬
‫ل‪ِ" :‬ذك ُْركَ‬ ‫م‪َ .‬قا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ه أع ْل ُ‬ ‫سول ُ‬ ‫ه وََر ُ‬‫ة؟" َقالوا‪ :‬الل ُ‬ ‫غيب َ ُ‬‫ما ال ِ‬ ‫ن َ‬ ‫‪" :‬أت َدُْرو َ‬
‫ل‪:‬‬‫ل؟ َقا َ‬‫ما أ َُقو ُ‬ ‫خي َ‬ ‫ن ِفي أ َ ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ك بما يك ْره"‪ .‬قي َ َ َ‬
‫ل‪ :‬أفََرأي ْ َ‬
‫ت إِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫خا َ ِ َ َ َ ُ‬ ‫أَ َ‬
‫د‬
‫ق ْ‬‫ف َ‬‫ه َ‬ ‫في ِ‬‫ن ِ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬‫ن لَ ْ‬ ‫وإ ِ ْ‬
‫ه‪َ ،‬‬ ‫قد ْ ا ْ‬
‫غت َب ْت َ ُ‬ ‫ف َ‬‫ل َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ما ت َ ُ‬
‫ه َ‬ ‫في ِ‬‫ن ِ‬‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫"إ ِ ْ‬
‫ه" ‪.‬‬
‫‪630‬‬
‫هت ّ ُ‬‫بَ َ‬

‫‪ 627‬أبو داود‪ :‬كتاب الطهارة‪ ،‬باب في المجروح يتيمم )‪ ،(336‬والدار قطني )‪ ،(3‬والبيهقي في‬
‫سننه الكبرى )‪ (1016‬صحيح أبي داود )‪ ،(325‬وقال اللباني‪ :‬صحيح‪.‬‬
‫‪ 628‬أحمد )‪ ،(16790‬والحاكم )‪ ،(2148‬وقال هذا حديث صحيح‪ ،‬وأبو يعلي )‪ ،(7403‬قال‬
‫حسين سليم أسد‪ :‬إسناده حسن‪.‬‬
‫‪ 629‬انظر البخاري‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب وما أوتيتم من العلم إل قليل )‪ ،(125‬ومسلم‪ :‬كتاب صفات‬
‫المنافقين‪ ،‬باب سؤال إليهود النبي ‪ ‬عن الروح )‪(2794‬‬
‫‪ 630‬مسلم‪ :‬كتاب البر والصلة والدب‪ ،‬باب تحريم الغيبة )‪ ،(2589‬وابن حبان )‪ ،(5758‬والبيهقي‬
‫في شعب اليمان )‪.(6719‬‬
‫فلم ُيفتوا ‪ ‬بغير علم‪ ،‬ولم يتطوع أحد ٌ منهم بتبسيط المسألة‪،‬‬
‫أو باقتراح إجابة‪ ..‬بل إنهم شفعوا "الله ورسوله أعلم" بسؤال‬
‫يوضح لهم الصورة أكثر مما علموه عنها!!‬
‫ويقول الشعبي‪" :‬كان أبو بكر يقول‪ :‬أي سماء تظلني وأي أرض‬
‫تقلني إذا قلت في كتاب الله ما ل أعلم"‪!!631‬‬
‫وعلى هذا النهج سار علماء المة من بعدهم‪..‬‬
‫يقول ابن القيم في )إعلم الموقعين(‪" :‬وكان السلف من‬
‫الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى‪ ،‬وي َوَد ّ كل واحد ٍ منهم‬
‫أن يكفيه إياها غيُره‪ ،‬فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في‬
‫معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين‪ ،‬ثم‬
‫أفتى"‪.632‬‬
‫ة من‬‫ويقول عبد الرحمن بن أبي ليلى ~‪" :‬أدركت عشرين ومائ ً‬
‫ل يسأل عن شيء إل‬ ‫النصار من أصحاب رسول الله ‪ ،‬ما منهم رج ٌ‬
‫دث حديًثا إل ود أن أخاه كفاه" ‪.‬‬
‫‪633‬‬
‫ود أن أخاه كفاه‪ ،‬ول يح ّ‬
‫وهذه قصة رائعة يرويها أبو عياش ~ توضح نفور علماء‬
‫الصحابة والتابعين من الفتوى إل عند الضطرار‪ ..‬يروي أبو عياش أنه‬
‫سا عند عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن‬ ‫كان جال ً‬
‫إياس بن الُبكْير؛ فقال‪ :‬إن رجل ً من أهل البادية طلق امرأته ثلًثا؛‬
‫فماذا تريان؟ فقال عبد الله ابن الزبير‪ :‬إن هذا المر ما لنا فيه قول؛‬
‫فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة‪ ،‬فإني تركتهما عند عائشة‬
‫زوج النبي ‪ ،‬ثم ائتنا فأخبرنا‪ ،‬فذهْبت فسألتهما‪ ،‬فقال ابن عباس‬
‫لبي هريرة‪ :‬أفته يا أبا هريرة‪ ،‬فقد جاءتك معضلة‪ .‬فقال أبو هريرة‪:‬‬
‫جا غيره‪.634‬‬
‫مها حتى تنكح زو ً‬
‫الواحدة ت ُِبيُنها‪ ،‬والثلث ُتحّر ُ‬
‫ويقول ابن عباس‪ :‬إن كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه‬
‫عنه لمجنون‪.635‬‬
‫ما‪،‬‬
‫وقال سحنون بن سعيد‪ :‬أجسر الناس على الفتيا أقلهم عل ً‬
‫يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه !!‬
‫‪636‬‬

‫ابن أبي شيبة‪.(30103) :‬‬ ‫‪631‬‬

‫ابن القيم‪ :‬إعلم الموقعين ‪. 33 /1‬‬ ‫‪632‬‬

‫المصدر السابق ‪. 34 /1‬‬ ‫‪633‬‬

‫الموطأ‪ ،‬رواية يحيى الليثي ‪. 571 /2‬‬ ‫‪634‬‬

‫ابن القيم‪ :‬إعلم الموقعين ‪. 34 /1‬‬ ‫‪635‬‬

‫المصدر السابق ‪. 35 /1‬‬ ‫‪636‬‬


‫سخ من‬
‫س أحد ُ ثلثة‪ :‬من يعلم ما ن ُ ِ‬
‫ويقول حذيفة‪ :‬إنما ُيفتي النا َ‬
‫دا‪ ،‬أو أحمق متكلف‪ .‬قال‪ :‬وكان ابن سيرين‬ ‫القرآن‪ ،‬أو أميٌر ل يجد ب ً‬
‫يقول‪ :‬فلست بواحد من هذين‪ ،‬ول أحب أن أكون الثالث !!‬
‫‪637‬‬

‫ما‬
‫ت أقوا ً‬
‫ويقول النووي عن عطاء بن السائب التابعي‪" :‬أدرك ُ‬
‫يسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد"‪!!638‬‬
‫سئل عن ثمان‬ ‫ت مال ً‬
‫كا ُ‬ ‫وعن الهيثم بن جميل قال‪َ :‬‬
‫شهِد ْ ُ‬
‫وأربعين مسألة‪ ،‬فقال في اثنتين وثلثين منها‪" :‬ل أدري" !!‬
‫‪639‬‬

‫ضا‪ :‬أنه ربما كان ُيسأل عن خمسين مسألة فل‬


‫وعن مالك أي ً‬
‫يجيب في واحدة منها‪ ،‬وكان يقول‪" :‬من أجاب في مسألة فينبغي‬
‫قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلصه‪ ،‬ثم‬
‫يجيب"‪.640‬‬
‫سِئل عن مسألة فقال‪" :‬ل أدري"‪ ،‬فقيل‪ :‬هي مسألة خفيفة‬
‫و ُ‬
‫سهلة‪ ،‬فغضب وقال‪" :‬ليس في العلم شيء خفيف" ‪.‬‬
‫‪641‬‬

‫سِئل أيوب عن شيء فقال‪ :‬لم يبلغني فيه‬‫وقال حماد بن زيد‪ُ " :‬‬
‫شيء‪ .‬فقيل له‪ :‬فقل فيه برأيك‪ .‬فقال‪ :‬ل يبلغه رأيي" !!‬
‫‪642‬‬

‫وهذا ابن النفيس شيخ الطب في زمانه‪ ،‬ومكتشف الدورة‬


‫الدموية الصغرى‪ ،‬تقدم إليه أحد المرضى‪ ،‬وسأله عن علج لورم ٍ في‬
‫ما فحصه قال في تواضع‪" :‬أعرف صفة الورم‪ ،‬وأتفّهم أسبابه‪،‬‬‫يده‪ ،‬فل ّ‬
‫جا؛ فالتمسه عند غيري" ‪.‬‬
‫‪643‬‬
‫ولكنني ل أعرف له عل ً‬

‫ثامًنا‪ :‬العزة‪:‬‬
‫لم يرث النبياء غير العلماء‪ ،‬وإذا كانت رتبة النبوة أعل المراتب‬
‫وأشرف المنازل عند الله ‪ ..‬فإنه ل يليها في المرتبة والمنزلة غير‬
‫ه‬
‫سول ِ ِ‬
‫ول َِر ُ‬ ‫ه ال ْ ِ‬
‫عّزةُ َ‬ ‫ول ِل ّ ِ‬
‫تلك التي ورثتها‪ ..‬ولقد قال الله ‪َ : ‬‬
‫ن‪.644‬‬
‫مِني َ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ول ِل ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫َ‬

‫‪ 637‬ابن القيم‪ :‬إعلم الموقعين ‪. 35 /1‬‬


‫‪ 638‬النووي‪ :‬آَداب الفتوى والمفتي والمستفتي مقدمة الكتاب‪.‬‬
‫‪ 639‬القاضي عياض‪ :‬ترتيب المدارك ‪.1/144‬‬
‫‪ 640‬انظر‪ :‬الشهرزوي‪ :‬أدب المفتي والمستفتي ص ‪ ، 80 - 79‬القاسمي‪ :‬الفتوى في السلم‬
‫ص ‪.45‬‬
‫‪ 641‬النووي‪ :‬آَداب الفتوى والمفتي والمستفتي مقدمة الكتاب‪.‬‬
‫‪ 642‬ابن سعد‪ :‬الطبقات الكبرى ‪.7/247‬‬
‫‪ 643‬انظر في ذلك صبري الدمرداش‪ :‬قطوف من سير العلماء‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪،‬‬
‫‪2006‬م‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪. 175‬‬
‫‪) 644‬المنافقون‪.(8 :‬‬
‫فالعلماء أعّزاء بالعلم الذي هو إرث النبياء‪ ..‬فل يخضعون ول‬
‫يذلون ول يهانون؛ إذ أنهم ل يريدون من دنيا الناس شيًئا؛ حكا ً‬
‫ما كانوا‬
‫أو محكومين‪!!..‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فل يضيرهم كيد المستكبرين‪ ،‬ول ظلم المستبدين‪ ،‬ول‬
‫بريق أموال المزهوين‪..‬‬
‫ويستوي في ذلك المر أن يكونوا أغنياء أو فقراء‪ ..‬فإنهم‬
‫غَنى‬ ‫ْ‬
‫ن ال ِ‬‫ول َك ِ ّ‬
‫ض‪َ ،‬‬ ‫ة ال ْ َ‬
‫ن ك َث َْر ِ‬ ‫س ال ْ ِ‬
‫يعلمون قوله ‪" :‬ل َي ْ َ‬
‫عَر ِ‬ ‫ع ْ‬
‫غَنى َ‬
‫س"‪.645‬‬ ‫غَنى الن ّ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫ِ‬
‫ومصداق ذلك ما ذكره ابن عبد البر من أن الحجاج سأل خالد‬
‫ن سيد أهل البصرة؟ فقال له‪ :‬الحسن )الحسن‬ ‫م ْ‬
‫بن صفوان‪َ :‬‬
‫البصري(‪ .‬فقال‪ :‬وكيف ذلك وهو مولى؟! فقال‪ :‬احتاج الناس إليه في‬
‫دا من أشراف أهل‬ ‫دينهم‪ ،‬واستغنى عنهم في دنياهم‪ ،‬وما رأيت أح ً‬
‫البصرة إل يروم الوصول إلى حلقته؛ ليستمع قوله ويكتب علمه‪.‬‬
‫س ْ‬
‫ؤدد!!‬ ‫فقال الحجاج‪ :‬هذا ‪ -‬والله ‪ -‬ال ّ‬
‫وتلك العزة التي هي في الغنى‪ ،‬صورها الشافعي ~ حين قال‬
‫دا‪:‬‬
‫منش ً‬
‫وفيضي آبار تبريز تبًرا‬ ‫أمطري لؤل ً‬
‫ؤا جبال سرنديب‬
‫وإذا مت لست أعدم قبًرا‬ ‫أنا إن عشت لست أعدم قوًتا‬
‫نفس حر ترى المذلة كفًرا‬ ‫همتي همة الملوك ونفسقي‬
‫دا وعمقًرا؟!‬
‫فلماذا أهاب زي ً‬ ‫عمري‬
‫وإذا ما قنعت بالقوت ُ‬
‫سدها أبو حازم التابعي ~ حين دخل على الخليفة الموي‬‫وج ّ‬
‫سليمان بن عبد الملك؛ ورأى منه الخير عزته وقوته في الحق؛ فقال‬
‫له يطلب صحبته‪:‬‬
‫هل لك أن تصحبنا‪ ،‬وتصيب منا ونصيب منك؟ قال‪ :‬كل‪ .‬قال‪:‬‬
‫ل‪ ،‬فيذيقني الله ضعف‬ ‫ولم؟ قال‪ :‬إني أخاف أن أركن إليكم شيًئا قلي ً‬
‫الحياة وضعف الممات‪ ،‬ثم ل يكون لي منه نصيًرا‪ .‬قال‪ :‬يا أبا حازم‪،‬‬
‫ارفع إلى حاجتك‪ .‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬تدخلني الجنة‪ ،‬وتخرجني من النار‪ .‬قال‪:‬‬
‫ليس ذاك إلي‪ .‬قال‪ :‬فما لي حاجة سواها‪.646‬‬

‫‪ 645‬البخاري‪ :‬كتاب الرقاق‪ ،‬باب الغنى غنى النفس )‪ ،(6081‬ومسلم‪ :‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب ليس‬
‫الغنى عن كثرة العرض )‪ ،(1051‬وابن ماجة )‪ ،(4137‬وأحمد )‪ ،(7546‬وابن حبان )‪،(679‬‬
‫ل عن أبي هريرة ‪.‬‬
‫وك ّ‬
‫‪ 646‬سنن الدارمي )‪ ،(647‬وأبو نعيم‪ :‬حلية الولياء ‪.3/235‬‬
‫ضا في حسن المحاضرة أن السلطان الصالح‬ ‫وذكر السيوطي أي ً‬
‫إسماعيل استعان بالصليبيين وأعطاهم مدينة صيدا وقلعة الشقيف‪،‬‬
‫فأنكر عليه الشيخ عز الدين بن عبد السلم‪ ،‬وترك الدعاء له في‬
‫الخطبة‪ ،‬وساعده في ذلك الشيخ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب‬
‫المالكي‪ ،‬فغضب السلطان منهما‪ ،‬فخرجا إلى الديار المصرية‪.‬‬
‫فأرسل السلطان إلى الشيخ عز الدين ‪ -‬وهو في الطريق ‪ -‬رسول ً‬
‫يتلطف به في العودة إلى دمشق‪ ،‬فاجتمع به ولينه‪ ،‬وقال له‪ :‬ما نريد‬
‫منك شيًئا إل أن تنكسر للسلطان‪ ،‬وتقبل يده ل غير!!‬
‫فقال الشيخ له‪ :‬يا مسكين‪ ،‬ما أرضاه ُيقّبل يدي‪ ،‬فضل ً عن أن‬
‫أقبل يده! يا قوم‪ ،‬أنتم في واد ٍ وأنا في واد! والحمد لله الذي عافانا‬
‫مما ابتلكم‪.647‬‬
‫ضا يقول الباجي‪ :‬خرج السلطان أيوب‬ ‫وفي مواقف أخرى له أي ً‬
‫في يوم العيد في أ ُّبهة الملك‪ ،‬وأخذت المراء تقبل الرض‪ ،‬فالتفت‬
‫جتك عند الله‬
‫ح ّ‬
‫إليه الشيخ العز بن عبد السلم‪ ،‬وناداه‪ :‬يا أيوب‪ ،‬ما ُ‬
‫ملك مصر ثم تبيح الخمور؟‬ ‫إذا قال لك‪ :‬ألم أبوئ لك ُ‬
‫فقال السلطان‪ :‬هل جرى هذا؟‬
‫فقال العز‪ :‬نعم‪ ،‬الحانة الفلنية ُيباع فيها الخمور وغيرها من‬
‫المنكرات‪ ،‬وأنت تتقّلب في نعمة هذه المملكة ‪ -‬يناديه بأعلى صوته‬
‫والعساكر واقفون ‪!!-‬‬
‫قال‪ :‬يا سيدي‪ ،‬هذا أنا ما عملته‪ ،‬هذا من زمان أبي‪.‬‬
‫فقال العز‪ :‬أنت من الذين يقولون‪" :‬إنا وجدنا آباءنا على أمة"؟!‬
‫فأمر السلطان بإبطال تلك الحانة‪.‬‬
‫فسأله الباجي‪ :‬أما خفته؟‬
‫قال العز‪ :‬والله يا بني‪ ،‬استحضرت هيبة الله تعإلي‪ ،‬فصار‬
‫قط‪!!648‬‬ ‫السلطان قُ ّ‬
‫دامي كال ِ‬
‫ضع العلماء الصحيح‬
‫والمثلة في ذلك جد كثيرة‪ ..‬وكلها تجسد و ْ‬
‫جهون‬‫بين الناس‪ ،‬وكيف أنهم هم القادة ل المقودون‪ ،‬وأنهم هم المو ّ‬
‫جهون‪..‬‬
‫ل المو ّ‬

‫السيوطي‪ :‬حسن المحاضرة ‪.2/162‬‬ ‫‪647‬‬

‫السبكي‪ :‬طبقات الشافعية ‪.8/211‬‬ ‫‪648‬‬


‫عا‪ :‬التواضع‪:‬‬
‫تاس ً‬
‫طالما كانت العزة من شيم العلماء وأخلقهم‪ ،‬فكان لبد أن‬
‫جا يزين رؤوسهم‪..‬‬
‫يأتي التواضع تا ً‬
‫وكما أن العزة ل تعني الغرور أو الكبر‪ ،‬فكذلك التواضع ل يعنى‬
‫التذلل أو التزلف‪ ..‬وإنما يعني أن ُينصف العاِلم غيره من نفسه‪ ،‬وأن‬
‫يقف عند حدود علمه ل يتجاوزه‪ ،‬وأل يتدخل فيما ليس هو من‬
‫ُ‬
‫ن‬
‫م َ‬
‫م ِ‬‫ما أوِتيت ُ ْ‬ ‫دا قوله تعإلي‪َ  :‬‬
‫و َ‬ ‫ي جي ً‬
‫اختصاصه‪ ..‬كما أن منه أن ي َعِ َ‬
‫قِليل ً‪ ..649‬وهذا هو المعني بخلق التواضع عند العلماء‪..‬‬ ‫عل ْم ِ إ ِّل َ‬
‫ال ْ ِ‬
‫إن العالم المتواضع يدرك أن بضاعته في العلم قليلة مهما‬
‫زادت‪ ،‬وبسيطة مهما عظمت‪ ،‬وليس أدل على ذلك من موقف واحد‬
‫در علمه بالقياس إلى‬ ‫من أعظم علماء الرض‪ ،‬وهو الخضر ~؛ إذ ُيق ّ‬
‫علم الله ‪ ‬بقو ٍ‬
‫ل عجيب‪..‬‬
‫ل‬‫ق ّ‬ ‫لقد جاء عصفوٌر فوقع على حرف السفينة التي كانت ت ُ ِ‬
‫موسى والخضر عليهما السلم‪ ،‬فنقر نقرة أو نقرتين في البحر‪ ،‬فقال‬
‫ة‬
‫قَر ِ‬‫عل ْم ِ الل ّهِ إ ِل ّ ك َن َ ْ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫ك ِ‬ ‫عل ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫عل ْ ِ‬
‫مي وَ ِ‬ ‫ص ِ‬‫ق َ‬‫ما ن َ َ‬
‫سى‪َ ،‬‬ ‫مو َ‬‫الخضر‪َ" :‬يا ُ‬
‫ر‪!! "..‬‬
‫‪650‬‬
‫ح ِ‬‫فورِ ِفي ال ْب َ ْ‬ ‫ذا ال ْعُ ْ‬
‫ص ُ‬ ‫هَ َ‬
‫وهذا الشعور الدائم بالقلة والبساطة هو الذي يورث التواضع‬
‫في القلب‪..‬‬
‫وهو ما عناه الشافعي حين قال‪:‬‬
‫أراني نقص عقلي‬ ‫كّلما أّدبني الدهقر‬
‫ما بجهلي!‬
‫زادني عل ً‬ ‫ما‬
‫ت عل ً‬
‫أو أراني ازدد ُ‬
‫ضا ما أدركه الفخر الرازي‪ ،‬إمام علم الكلم والفلسفة‬
‫وهو أي ً‬
‫والعقيدة في عصره‪ ،‬وصاحب التفسير الكبير )مفاتيح الغيب( حين‬
‫قال في أخريات حياته‪:‬‬
‫م‬
‫وسواه في جهلته يتغمغ ُ‬ ‫العلم للرحمن ج ّ‬
‫ل جلله‬
‫م!‬
‫يسعى ليعلم أنه ل يعل ُ‬ ‫ما للتراب وللعلوم وإنما‬
‫وذلك الشعور هو ما يدفع العالم الرباني إلى أن يعرف قدر‬
‫نفسه وقدر غيره‪ ..‬فل ينتقص من غيره‪ ،‬ول يتعالى هو عليهم‪ ..‬وفي‬

‫‪) 649‬السراء‪(85 :‬‬


‫‪ 650‬البخاري‪ :‬كتاب النبياء‪ ،‬باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلم )‪ ،(3220‬الترمذي )‬
‫‪ ،(3149‬وابن حبان )‪.(6220‬‬
‫ذات الوقت ل يزهو بنفسه‪ ،‬ول يأخذه العجب أو الغرور بما عنده‪ ،‬وما‬
‫حصله‪..‬‬
‫وقد قال رسول الله ‪" :‬يظهر السلم حتى يختلف‬
‫التجار في البحر‪ ،‬وحتى تخوض الخيل في سبيل الله‪ ،‬ثم‬
‫يظهر قوم يقرؤون القرآن يقولون‪ :‬من أقرأ منا؟ من‬
‫أفقه منا؟ من أعلم منا؟ ثم قال لصحابه‪ :‬هل في أولئك‬
‫من خير؟ قالوا‪ :‬الله ورسوله أعلم‪ .‬قال‪ :‬أولئك منكم من‬
‫هذه المة‪ ،‬فأولئك هم وقود النار"‪.651‬‬
‫ل حالهم على شيء‬ ‫وذلك شأن العلماء المغرورين‪ ،‬والذي إن د ّ‬
‫فإنما يدل على جهلهم وقلة علمهم؛ إذ لو كانوا يعلمون‪ ،‬لعلموا أنهم‬
‫صلوا كثيًرا‪ ،‬بل ول قلي ً‬
‫ل!!‬ ‫ما ح ّ‬
‫وقد ضرب المام مالك بن أنس ~ أروع المثلة في تجسيد‬
‫خلق التواضع عند العلماء؛ فقد روى ابن عبد البر عنه أنه قال‪ :‬لما‬
‫ت عليه فحدثته‪ ،‬وسألني فأجبته‬ ‫ج أبو جعفر المنصور دعاني فدخل ُ‬‫ح ّ‬
‫فقال‪:‬‬
‫إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها ‪ -‬يعني الموطأ ‪-‬‬
‫خا ثم أبعث إلى كل مصر )قطر أو بلد( من أمصار‬ ‫فينسخ نس ً‬
‫المسلمين منها نسخة‪ ،‬وآمرهم أن يعملوا بما فيها ل يتعدون إلى‬
‫ت أصل‬‫دث؛ فإني رأي ُ‬‫غيره‪ ،‬ويدعون ما سوى ذلك من هذا العلم المح َ‬
‫العلم رواية أهل المدينة وعلمهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقلت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬ل تفعل؛ فإن الناس قد سبقت‬
‫إليهم أقاويل‪ ،‬وسمعوا أحاديث‪ ،‬ورووا روايات‪ ،‬وأخذ كل قوم بما سبق‬
‫إليهم‪ ،‬وعملوا به ودانوا به‪ ،‬من اختلف الناس‪ :‬أصحاب رسول الله‬
‫‪ ‬وغيرهم‪ ،‬وإن ردهم عما اعتقدوه شديد‪ ،‬فدع الناس وما هم عليه‪،‬‬
‫وما اختار كل أهل بلد لنفسهم‪.‬‬
‫ت به‪ .‬قال الراوي بعد‬
‫فقال‪ :‬لعمري لو طاوعتني على ذلك لمر ُ‬
‫نهاية القصة‪" :‬وهذا غاية في النصاف لمن فهم" !!‬
‫‪652‬‬

‫ضا عن عبد الرحمن بن القاسم أنه قال لمالك‪ :‬ما أعلم‬


‫وُرويَ أي ً‬
‫م بالبيوع من أهل مصر‪ .‬فقال له مالك‪ :‬وبم ذلك؟ قال‪ :‬بك‪.‬‬ ‫دا أعل َ‬
‫أح ً‬
‫فقال‪ :‬أنا ل أعرف البيوع فكيف يعرفونها بي ؟!‬
‫‪653‬‬

‫‪ 651‬الطبراني في الوسط ‪ ،6/221‬والبزار )‪ ،(283‬وقال الهيثمي مجمع الزوائد‪ :‬رواه الطبراني‬


‫في الوسط والبزار ورجال البزار موثقون‪.‬‬
‫‪ 652‬الموطأ ‪ -‬رواية محمد بن الحسن ‪.1/33‬‬
‫‪ 653‬ابن عبد البر‪ :‬جامع بيان العلم وفضله )‪.(1/533‬‬
‫وهكذا يكون العالم المتواضع‪ ..‬وهكذا تكون مواقفه وردود‬
‫فعله‪..‬‬
‫ة‬ ‫صدَ َ‬
‫ق ٌ‬ ‫ت َ‬ ‫ص ْ‬‫ق َ‬‫ما ن َ َ‬‫ن رسول الله ‪ ‬قال‪َ " :‬‬ ‫يروي أبو هريرة < أ ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫د‬
‫ح ٌ‬
‫عأ َ‬ ‫ض َ‬‫وا َ‬‫ما ت َ َ‬‫و َ‬
‫عّزا‪َ ،‬‬
‫و إ ِل ِ‬ ‫ع ْ‬
‫ف ٍ‬ ‫دا ب ِ َ‬
‫عب ْ ً‬‫ه َ‬‫ما َزادَ الل ّ ُ‬ ‫و َ‬‫ل‪َ ،‬‬ ‫ما ٍ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ه" ‪.‬‬ ‫ه الل ّ ُ‬‫ع ُ‬ ‫ه إ ِّل َر َ‬
‫ف َ‬ ‫ل ِل ّ ِ‬
‫‪654‬‬

‫ة‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫وفي التحذير من الضد‪ ،‬قال رسول الله ‪َ" :‬ل ي َدْ ُ‬
‫ر"‪.655‬‬ ‫ن ك ِب ْ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ل ذَّر ٍ‬ ‫قا ُ‬‫مث ْ َ‬‫ه ِ‬ ‫قل ْب ِ ِ‬
‫في َ‬ ‫ن ِ‬
‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫وقال رسول الله ‪ ‬أيضا‪" :‬وَإن الل ّ َ‬
‫حى إلى أ ْ‬ ‫و َ‬‫هأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ ّ‬ ‫ً‬
‫على‬‫َ‬ ‫حد ٌ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف َ َ‬ ‫حّتى َل ي َ ْ‬
‫غأ َ‬‫ول ي َب ْ ِ‬ ‫د َ‬ ‫ح ٍ‬ ‫على أ َ‬ ‫حد ٌ َ‬ ‫خَر أ َ‬ ‫عوا؛ َ‬ ‫ض ُ‬‫وا َ‬ ‫تَ َ‬
‫د" ‪.‬‬ ‫َ‬
‫‪656‬‬
‫ح ٍ‬‫أ َ‬

‫عاشًرا‪ :‬العمل في فريق‪ ،‬والبداية من حيث انتهى‬


‫الخرون‪:‬‬
‫إذا قام العالم بكل ما سبق من أعمال‪ ،‬واتصف بكل ما سبق‬
‫ل‪ ..‬لكن هذا ل يكفي‬‫ما متميًزا جلي ً‬‫خلل‪ ،‬فل شك أنه يكون عال ً‬ ‫من ِ‬
‫رفعة ونهضة المة‪ ،‬إنما يحتاج العلم‬ ‫لتنمية وتطوير حركة العلم‪ ،‬ول ل ِ‬
‫وتحتاج المة إلى تضافر الجهود‪ ،‬وتفاعل الطاقات‪ ..‬ول يكون هذا إل‬
‫حين يضع العاِلم يده في يد غيره من العلماء‪ ..‬وكذلك بأن ينظر‬
‫بصورة عملية وجدية في جهود السابقين والمعاصرين من أقرانه في‬
‫العلم‪.‬‬
‫ووضع اليد في يد الخرين هو ما يمكن أن نسميه "العمل في‬
‫فريق"‪ ،‬وهذا ول شك يحقق أهداًفا مهمة‪ ،‬مثل‪ :‬البداع‪ ،‬وسرعة‬
‫النجاز‪ ،‬وزيادة النتاج‪ ،‬ودقة التقان‪ ،‬وبروز الكفاءة العالية‪ ..‬كما أنه‬
‫خْلق روح التطوير‪ ،‬وصناعة مادة التقدم والحضارة‪..‬‬ ‫ُيساعد على َ‬
‫وذلك كله يفتقده العمل الفردي‪ ،‬والذي تقوم عليه ‪ -‬للسف ‪-‬‬
‫كثيٌر من المؤسسات في المة السلمية‪ ،‬كما رأينا قبل ذلك في‬
‫عرضنا لتسجيل براءات الختراع بالنسبة للشركات والمؤسسات‪ ..‬إذ‬
‫جلت براءات اختراع شركة‬ ‫لم يوجد بين الشركات الكثيرة التي س ّ‬

‫‪ 654‬مسلم‪ :‬كتاب البر والصلة والدب‪ ،‬باب استحباب العفو والتواضع )‪ ،(2588‬والترمذي )‬
‫‪ ،(2029‬وأحمد )‪ ،(8996‬ومالك برواية محمد بن الحسن )‪.(1817‬‬
‫‪ 655‬مسلم‪ :‬كتاب اليمان‪ ،‬باب تحريم الكبر وبيانه )‪ ،(91‬والترمذي )‪ ،(1998‬وابن ماجة )‪،(59‬‬
‫وأحمد )‪.(3789‬‬
‫‪ 656‬مسلم‪ :‬كتاب الجنة وضفة نعيمها وأهلها‪ ،‬باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة‬
‫واهل النار )‪ ،(2865‬والبيهقي في سننه الكبرى )‪.(20872‬‬
‫واحدة إسلمية‪ ،‬وكانت براءات الختراع عندنا ‪ -‬على قلتها ‪ -‬إنما هي‬
‫من نصيب الفراد فقط!!‬
‫وقد أدرك علماء المسلمين في تاريخنا تلك القيمة‪ ،‬فأْثروا‬
‫الحياة العلمية في جميع المجالت‪ ،‬واستطاعوا أن يصنعوا نهضة المة‬
‫وحضارتها‪..‬‬
‫وقد تجّلت قيمة "العمل في فريق" ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬في‬
‫ضُر‬
‫ظهور مذهب المام أبي حنيفة النعمان ~؛ فقد كان أبو حنيفة يح ُ‬
‫‪ -‬كعادة العلماء المسلمين في تحصيلهم للعلم ‪ -‬حلقة حماد بن أبي‬
‫سليمان‪ ،‬وبعد موت شيخه حماد آلت رياسة الحلقة إليه‪ ،‬وقد التف‬
‫حوله تلميذه ينهلون من غزير علمه‪..‬‬
‫ن أبا حنيفة كانت له طريقة خاصة حين تطرح المسائل‬ ‫إل أ ّ‬
‫والقضايا المختلفة في حلقته؛ فلم يكن يتصدى لها هو في البداية‪،‬‬
‫وإنما كان يطرحها على تلميذه أو فريقه ‪ -‬إن جاز التعبير ‪ -‬أو ً‬
‫ل‪ ،‬ثم‬
‫ُيدلي كل منهم برأيه فيها‪ ،‬ويقوم أبو حنيفة بجمع كل هذه الراء‬
‫وب أخيًرا ما ارتآه صواًبا‪ ..‬ليحصل البداع والثراء‪،‬‬
‫ومناقشتها‪ ،‬ثم يص ّ‬
‫م الوصول إلى أفضل الحلول‪..‬‬ ‫ومن ث َ ّ‬
‫صا فقط بالعلوم الشرعية‪ ،‬إنما وجدناه كذلك‬ ‫ولم يكن هذا خا ً‬
‫م في زمان‬ ‫في العلوم الحياتية‪ ..‬ومن أشهر المثلة على ذلك ما ت ّ‬
‫الخليفة العباسي العالم المأمون )ت‪218 :‬هق‪833 /‬م(؛ حيث قام‬
‫العلماء بأول محاولة لقياس أبعاد الكرة الرضية‪ ..‬والذي يهمنا هنا هو‬
‫أنه قام بذلك عن طريق فريقين من العلماء ‪ -‬سيأتي تفصيل ذلك‬
‫قا إن شاء الله‪ -‬وكان أحد هذين الفريقين‪" :‬بنو موسى بن‬ ‫لح ً‬
‫شاكر"!!‬
‫وفي ذلك يقول المستشرق )نللينو(‪" :‬إن قياس العرب‬
‫)المسلمين( للكرة الرضية هو أول قياس حقيقي ُأجرِيَ كله مباشرة‪،‬‬
‫مع كل ما تقتضيه تلك المسافة الطويلة وهذا الفريق الكبير من‬
‫العلماء والمساحين العرب؛ فهو ُيعد ّ من أعمال العرب المأثورة‬
‫وأمجادهم العلمية"‪.657‬‬
‫أما بنو موسى بن شاكر ‪ -‬وقد مّر بنا قبل ذلك حديث عنهم ‪-‬‬
‫قا متكام ً‬
‫ل‪ ،‬ول نكون مغإلين إذا قلنا بأنهم أول‬ ‫فكانوا وحدهم فري ً‬
‫فريق علمي ظهر في العالم!! وفي كتابهم المشهور "الحيل" في‬
‫سد‬
‫علم الهندسة والميكانيكا‪ ،‬اتضحت روح الفريق بشكل مباشر‪ ،‬وتج ّ‬
‫فيه مبدأ العمل الجماعي القائم على المشاركة والتعاون‪ ،‬حتى إنه‬
‫ليصادفك كثيًرا عبارات مثل‪" :‬نريد أن نجد‪" ،"..‬وذلك ما أردناه‪،"..‬‬

‫نللينو‪ :‬علم الفلك عند العرب‬ ‫‪657‬‬


‫كما تجد أن أغلب أفعال المضارعة هي مثل‪" :‬نبين"‪" ،‬نقول"‪،‬‬
‫"نريد"‪ ..‬وهكذا‪..‬‬
‫إننا لنشك في أن هذه الجماعية هي التي كانت سبًبا في‬
‫نبوغهم وتقديمهم للمة وللبشرية ما لم يضارعهم فيه أحد ٌ في‬
‫زمانهم‪ ،‬يقول عنهم ابن خلكان‪ .." :‬الخوة الثلثة الذين ينسب إليهم‬
‫حيل بن موسى‪ ،‬وهم مشهورون بها‪ ..‬وكانت لهم همة عالية في‬
‫تحصيل العلوم القديمة وكتب الوائل‪ ،‬وأتعبوا أنفسهم في شأنها‪،‬‬
‫وأنفذوا إلى بلد الروم من أخرجها لهم‪ ،‬وأحضروا النقلة من الصقاع‬
‫الشاسعة والماكن البعيدة بالبذل السني‪ ،‬فأظهروا عجائب‬
‫الحكمة‪!!658"..‬‬
‫ضا بفضل التعاون والعمل‬
‫ومن عجائب الحكمة التي ظهرت أي ً‬
‫في فريق‪ ،‬ما كان بين ابن رشد وابن زهر )أبي مروان بن زهر(‪..‬‬
‫فحين أّلف ابن رشد كتابه "الك ُّليات"‪ ،‬والتي تعود شهرته في‬
‫الطب إليه‪ ،‬وقد جمع فيه النظريات العامة لعلم الطب‪ ،‬والمباديء‬
‫الساسية لعلم المراض ‪ -‬حين أّلف كتابه هذا‪ ،‬رأى أنه في حاجة إلى‬
‫كتاب آخر يكمله‪ ،‬ويكون مقصوًرا على الجزئيات؛ لتكون جملة‬
‫كتابيهما ‪ -‬كما يذكر ابن أبي أصيبعة في طبقات الطباء ‪ -‬ككتاب‬
‫ن رشد أبا زهر )الطبيب‬‫م قصد اب ُ‬ ‫كامل في صناعة الطب‪ ..‬ومن ث َ ّ‬
‫الندلسي الشهير( وكانت بينهما مودة‪ ،‬ورجاه أن يقوم بهذه المهمة‪..‬‬
‫وقد تم له ما أراد‪ ،‬وألف ابن زهر أهم كتبه وهو‪" :‬التيسير في‬
‫المداواة والتدبير" وهو موسوعة طبية عظيمة‪ ،‬وفيه تظهر براعة ابن‬
‫زهر وتضّلعه في الصناعة الطبية!!‬
‫ولذلك تجد ابن رشد يقول في آخر كتابه "الكليات"‪" :‬فهذا هو‬
‫القول في معالجة جميع أصناف المراض بأوجز ما أمكننا وأبينه‪ ،‬وقد‬
‫بقي علينا من هذا الجزء القول في شفاء ع ََرض عرض من العراض‬
‫و‬
‫الداخلة على عضو من العضاء‪ ،‬وهذا وإن لم يكن ضرورًيا لنه منط ٍ‬
‫م ما وارتياض؛ لّنا‬ ‫بالقوة فيما سلف من القاويل ال ُ‬
‫كلية ففيه تتمي ٌ‬
‫ننزل فيها إلى علجات المراض بحسب عضو عضو‪ ،‬وهي الطريقة‬
‫التي سلكها أصحاب الكنانيش )الكتب(‪ ،‬حتى نجمع في أقاويلنا هذه‬
‫إلى الشياء الكلية المور الجزئية؛ فإن هذه الصناعة أحق صناعة‬
‫خر هذا إلى وقت‬ ‫ينزل فيها إلى المور الجزئية ما أمكن‪ ،‬إل أنا نؤ ّ‬
‫غا لعنايتنا في هذا الوقت بما يهم من غير ذلك‪،‬‬ ‫نكون فيه أشد فرا ً‬
‫فمن وقع له هذا الكتاب دون هذا الجزء‪ ،‬وأحب أن ينظر بعد ذلك إلى‬
‫قب بق"التيسير" الذي أّلفه‬ ‫الكنانيش‪ ،‬فأوفق الكنانيش له الكتاب المل ّ‬

‫ابن خلكان‪ :‬وفيات العيان ‪.6/161‬‬ ‫‪658‬‬


‫اه‬ ‫ي‪+‬‬
‫في زماننا هذا أبو مروان بن زهر‪ ،‬وهذا الكتاب سألته أنا إ ّ‬
‫وانتسخته فكان ذلك سبيل ً إلى خروجه‪.659 "..‬‬
‫ومن هنا تظهر قيمة العمل الجماعي في الوقوف على ما هو‬
‫أهم ومطلوب‪ ،‬ومن ثم تكميل النقص‪ ،‬وإثراء العلم‪ ..‬وتقدم المة!!‬
‫ضا خاصية مهمة في ضمان‬ ‫وغير "العمل في فريق" هناك أي ً‬
‫خروج العمل في أفضل صورة ممكنة‪ ،‬وهي خاصية "البدء من حيث‬
‫دا من الصفر‪ ،‬وإنما‬
‫انتهى الخرون"‪ ..‬فكل حضارة معتبرة لم تبدأ أب ً‬
‫تبدأ من حيث انتهى سابقوها‪ ..‬ولو بدأت كل حضارة في مضمار‬
‫العلوم من الصفر لما ازدهرت أي حضارة‪ ،‬ولما وصلت حضارة اليوم‬
‫إلى ما وصلت إليه من هذا التقدم العلمي المذهل‪..‬‬
‫وقد ارتكز المسلمون في نهضتهم على الحضارات التي‬
‫سبقتهم‪ ،‬من فرعونية وإغريقية ويونانية وفارسية‪ ،‬واستطاعوا بعد‬
‫ذلك أن يواصلوا العطاء والتقدم الذي ابتدأه من سبقهم‪ ،‬وقد قدموا‬
‫في ذلك للنسانية ‪ -‬وللنهضة الوربية بصفة خاصة ‪ -‬أجل ما يمكن أن‬
‫تفخر به!!‬
‫وعلى هذا فإن ما نريده اليوم هو أن نبدأ من حيث انتهى أو من‬
‫حيث يقف سابقونا؛ إذ هي سنة قيام المم والحضارات‪ ،‬واللحق في‬
‫ذلك يبني على السابق‪..‬‬
‫فإذا كانت شركة سنجر المريكية ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬لم‬
‫تخترع ماكينة الخياطة‪ ،‬فإنها أضافت إليها تطوير الحركة الميكانيكية‬
‫بالرجل بدل ُ من إليد‪ ،‬واستطاع سنجر بذلك أن يحقق نجا ً‬
‫حا باهًرا في‬
‫تسويق وبيع الماكينات‪ ،‬وفي ذات الوقت إفادة النسانية وتقدم‬
‫الحضارة!!‬
‫دا على حضارات‬ ‫ما في العلوم الشرعية فل تعتمد حضارتنا أب ً‬ ‫وأ ّ‬
‫َ‬
‫م‬‫ت ل َك ُ ْ‬
‫مل ْ ُ‬
‫م أك ْ َ‬‫م‪ ،‬قال تعإلي‪ :‬اليو َ‬ ‫أخرى؛ فديننا مكتمل وشرعنا تا ّ‬
‫دين َك ُم َ‬
‫م ِديًنا‪... ‬‬ ‫سَل َ‬
‫م اْل ِ ْ‬‫ت ل َك ُ ُ‬
‫ضي ُ‬
‫وَر ِ‬
‫مِتي َ‬‫ع َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫م نِ ْ‬ ‫ت َ‬
‫م ُ‬
‫م ْ‬
‫وأت ْ َ‬
‫‪660‬‬
‫ْ َ‬ ‫ِ‬
‫ومع ذلك ففي مجال التصنيف والتأليف يمكن أن يكمل عالم جهود‬
‫علماء سابقين‪ ،‬وبذلك تستفيد المة‪ ،‬وتكتمل العلوم‪.‬‬
‫وقد قام المام النووي ~ ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬بالبدء في‬
‫مه؛ فجاء‬ ‫تصنيف كتاب )المجموع شرح المه ّ‬
‫ذب(‪ ،‬ولكنه مات ولم يت ّ‬
‫ضا قبل أن يتمه؛‬‫المام السبكي ~‪ ،‬وابتدأ في إكمال الشرح‪ ،‬ومات أي ً‬
‫فجاء الشيخ محمد نجيب المطيعي ~‪ ،‬وأكمل ما بدأه الشيخان من‬
‫عمل‪..‬‬
‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.3/320،319‬‬ ‫‪659‬‬

‫)المائدة‪. (3 :‬‬ ‫‪660‬‬


‫ولو حاول كل واحد ممن أتوا بعد المام النووي أن يصنف‬
‫صا به‪ ..‬فترى كم كان يضيع من الزمان‪ ،‬وكم كان يضيع من‬ ‫حا خا ً‬
‫شر ً‬
‫علم لعالم مثل النووي‪ ،‬وكم كان يضيع من استفادة يستطيع‬
‫اللحقون أن يبنوا عليها‪..‬؟!‬
‫ضا جلل الدين السيوطي في تفسير‬ ‫ومثلما فعل هؤلء فعل أي ً‬
‫مى بق "تفسير الجللين"‪ ،‬وهذه التسمية جاءت نسبة‬ ‫القرآن المس ّ‬
‫إلى مؤّلفيه الجليلين‪ :‬جلل الدين المحلي‪ ،‬وجلل الدين السيوطي؛‬
‫ّ‬
‫وهو من التفاسير القّيمة المفيدة‪ ،‬التي لقت انتشاًرا واسًعا بين‬
‫المسلمين‪..‬‬
‫فقد بدأ المام جلل الدين المحّلي ~‪ ،‬وهو من العلماء البارزين‬
‫في القرن الثامن الهجري‪ ،‬بتأليف هذا التفسير من سورة الكهف‪،‬‬
‫وانتهى به إلى سورة الناس‪ ،‬وعندما شرع في تفسير سورة الفاتحة‬
‫وما بعدها وافته المنّية‪ ..‬فجاء المام السيوطي من بعده‪ ،‬وهو من‬
‫علماء القرن التاسع الهجري‪ ،‬فشرع في تكميله‪ ،‬واستطاع أن يتمه‬
‫إلى نهاية سورة السراء‪.‬‬
‫وبهذا العمل اكتمل هذا التفسير العظيم‪ ،‬والذي كان له من‬
‫ن‬
‫ت ثمي ٌ‬
‫حفظ وق ٌ‬‫م من الضياع‪ ،‬كما ُ‬
‫فظ عل ٌ‬‫ح ِ‬
‫القبول والنفع الكثير‪ ،‬وبه ُ‬
‫من أن ُيهدر‪..‬‬
‫م أن يتعاون مع الخرين‬ ‫ي عن البيان أنه لكي يقبل عال ٌ‬
‫وغن ّ‬
‫ويأخذ منهم ويعطي لهم‪ ،‬لبد أن يكون متواضًعا متجرًدا‪ ،‬ل يبغي نفًعا‬
‫شخصًيا ول مصلحة ذاتية‪ ..‬ولو توّفر لدينا هذا النوع من العلماء‪ ،‬فهذه‬
‫‪ -‬واللهِ ‪ -‬هي أولى خطوات الّريادة!!‬
‫ء‬ ‫عل َ َ‬
‫ما ِ‬ ‫ة ال ْ ُ‬
‫شئ َ ُ‬
‫الفصل الخامس‪ :‬ت َن ْ ِ‬

‫نسعد كثيًرا‪ ،‬ويأخذنا العجاب والفخر كل مأخذ‪ ،‬حين نسمع عن‬


‫عالم ٍ عظيم ٍ نبغ في مجال من مجالت العلوم المختلفة‪ ،‬ويزداد‬
‫ما بتعاليم دينه‪،‬‬
‫ما ملتز ً‬
‫العجاب والفرح حين يكون هذا العالم مسل ً‬
‫فع المة‪ ..‬والعجيب أن هذا الشعور وذاك الحساس‬ ‫يبغي الصلح ون ْ‬
‫طى حاجز النظرة العابرة واللحظة النية‪ ،‬تلك التي تنظر‬ ‫أحياًنا ل يتخ ّ‬
‫فقط إلى المور في نهايتها‪ ،‬وإلى الثمار في أوج نضجها‪ ،‬وليس إلى‬
‫الن ّْبت من أول غرسه وكيف نَبت!!‬
‫وإنه لحريٌ بنا ‪ -‬ونحن نبغي العلم ورفعة المة ‪ -‬أن نقف على‬
‫ذاك النبت منذ بدايته‪ ..‬كيف ينمو؟ وكيف ينشأ؟ وما هي السبل التي‬
‫من شأنها أن تخرج لنا هذه الثمرة الطيبة؟ وهي‪" :‬العلماء"!!‬
‫وإذا كنا قد ذكرنا في هذا الصدد جهد العالم نفسه‪ ،‬وأهمية‬
‫الرادة ووجود الستعداد عنده‪ ..‬فإنا نرى أن هذا الجهد ُيثمر بصورة‬
‫دة عوامل أخرى‪ ،‬نجملها في النقاط‬ ‫أكبر إذا ما توافرت وتضافرت ع ّ‬
‫التالية‪:‬‬

‫أو ً‬
‫ل‪ :‬دور السرة في تنشئة العلماء‬
‫يقع الواجب الكبر في إخراج العلماء وتنشئتهم على عاتق‬
‫قطبي السرة‪ :‬الب والم؛ فهما المظلة الحقيقية التي يخرج من‬
‫تحت عباءتها العلماء‪ ،‬وهما البلد الذي يخرج نباته كما ُيسقى وُيغ ّ‬
‫ذى‪..‬‬
‫ذي‬ ‫وال ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه ب ِإ ِذْ ِ‬
‫ن َرب ّ ِ‬ ‫ج ن ََبات ُ ُ‬
‫خُر ُ‬ ‫وال ْب َل َدُ الطّي ّ ُ‬
‫ب يَ ْ‬ ‫يقول تعإلي‪َ  :‬‬
‫دا‪. ‬‬
‫‪661‬‬
‫ج إ ِّل ن َك ِ ً‬ ‫ث ل َ يَ ْ‬
‫خُر ُ‬ ‫خب ُ َ‬
‫َ‬
‫والبوان غالًبا ما يحددان وجهة الطفل ومصيره‪ ،‬وقد ذكر‬
‫ما‬‫رسولنا ‪ ‬هذا المر في الحديث الذي رواه أبو هريرة < فقال‪َ " :‬‬
‫ه‪،‬‬ ‫فطْرة‪َ َ ،‬‬ ‫عَلى ال ْ ِ‬ ‫وُلوٍد إ ِل ّ ُيول َدُ َ‬
‫دان ِ ِ‬ ‫و َ‬
‫ه ّ‬‫واهُ ي ُ َ‬ ‫فأب َ َ‬ ‫َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ه ْ‬
‫ل‬ ‫ء‪َ ،‬‬ ‫عا َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م َ‬‫ج ْ‬‫ة َ‬ ‫م ً‬‫هي َ‬ ‫ة بَ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫هي َ‬ ‫ج الب َ ِ‬ ‫ما ت ُن ْت َ ُ‬ ‫ه‪ ،‬ك َ‬ ‫سان ِ ِ‬‫ج َ‬‫م ّ‬ ‫و يُ َ‬‫ه‪ ،‬أ ْ‬ ‫صَران ِ ِ‬ ‫وي ُن َ ّ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ة‬
‫فطَر َ‬ ‫هَري َْرةَ <‪ِ  :‬‬ ‫ل أُبو ُ‬ ‫م ي َقو ُ‬ ‫عاءَ؟" ث ُ ّ‬ ‫جد ْ َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ها ِ‬ ‫في َ‬ ‫ن ِ‬ ‫سو َ‬ ‫ح ّ‬ ‫تُ ِ‬
‫ن‬
‫دي ُ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫ه ذَل ِ َ‬ ‫ّ‬
‫ق الل ِ‬ ‫ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ها ل َ ت َب ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه الِتي َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خل ِ‬ ‫ل لِ َ‬ ‫علي ْ َ‬ ‫س َ‬ ‫فطَر الّنا َ‬ ‫الل ِ‬
‫م‪. ‬‬
‫‪662‬‬
‫قي ّ ُ‬ ‫ال ْ َ‬

‫‪ 661‬العراف‪. 58 :‬‬
‫‪ 662‬البخاري‪ :‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي‬
‫السلم )‪ ،(1271‬ومسلم‪ :‬كتاب القدر‪ ،‬باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت‬
‫أطفال الكفار وأطفال المسلمين )‪.(4803‬‬
‫وقد فقه كثيٌر من الباء المسلمين تلك الحقيقة‪ ،‬فبذلوا جهدهم‬
‫ليوفروا لبنائهم تلك البيئة الصالحة التي تساعدهم على أن يكونوا‬
‫علماء‪ ..‬فكان منهم ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬من يستقدم لبنائه علماء‬
‫مشهورين لتعليمهم وهم صغار‪ ،‬وكانوا يختارون من هؤلء العلماء‬
‫المشهورين من يجمعون ‪ -‬في الغالب ‪ -‬بين أكثر من علم!!‬
‫وكان من ذلك أن محمد بن عبد الله بن طاهر )حاكم بغداد في‬
‫أيام المتوكل العباسي‪ ،‬وتوفي سنة ‪253‬هق( اختار لتعليم ابنه طاهر‬
‫م النحوي اللغوي أحمد بن يحيى المعروف بثعلب‪ ،‬إمام الكوفيين‬ ‫العال ِ َ‬
‫في النحو واللغة‪ ،‬بل إن هذا الب أفرد لذلك العالم الذي استقدمه‬
‫دى معه‪،‬‬‫لتعليم ابنه داًرا في داره ليقيم فيها هو وتلميذه‪ ،‬وكان يتغ ّ‬
‫ما في الشهر‪!!663‬‬‫هذا غير إجرائه له مرتًبا معلو ً‬
‫كل الفّراء )من أئمة‬‫ومثله فعل الخليفة المأمون حين و ّ‬
‫ضا‪ ،‬وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الدب‪ ،‬ت ُوُّفي سنة‬ ‫الكوفيين أي ً‬
‫‪207‬هق( بتعليم ابنيه في داره على نحو ما مّر بنا‪ ،‬والطريف في ذلك‬
‫ضا ‪ -‬أن ابني المأمون هذين‪ ،‬اللذين ترّبيا على العلم‬ ‫‪ -‬كما ذكرنا أي ً‬
‫وحفظ مكانة العلماء‪ ،‬تنازعا ذات يوم ٍ على تقديم نعل الفّراء إليه!!‬
‫ن أعّز الناس? فأجابه الفراء‬ ‫م ْ‬
‫ولما علم المأمون بذلك بادر بسؤاله‪َ :‬‬
‫بأنه ما يعرف أعّز من أمير المؤمنين‪ ،‬فقال له المأمون‪ :‬بل أعز‬
‫الناس من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه ولّيا عهد المسلمين‪ ،‬حتى‬
‫رضي كل واحد أن يقدم له فرًدا!! ثم أخبره بأن ما فعله رفع من‬
‫قدرهما‪ ،‬وكشف عن جوهرهما‪!!664‬‬
‫ب لولده‪ ،‬ويقول له‪" :‬ليكن‬ ‫وهذا عتبة بن أبي سفيان يأتي بمؤد ّ ٍ‬
‫ن عيونهم معقودة بك؛‬ ‫لحك لنفسك؛ فإ ّ‬ ‫لحك لولدي أص ً‬ ‫أول أص ً‬
‫ت‪ ،‬والقبيح عندهم ما تركت‪ ،‬عّلمهم كتاب‬ ‫سن عندهم ما صنع َ‬ ‫ح َ‬
‫فال َ‬
‫الله‪ ،‬ول تملهم فيكرهوا‪ ،‬ول تدعهم منه فيهجروا‪ ،‬وَرّوهم من الحديث‬
‫ب من العلم إلى غيره‬‫فه‪ ،‬ول تخرجهم من با ٍ‬ ‫أشرفه‪ ،‬ومن الشعر أ َع َ ّ‬
‫حتى يحكموه؛ فإن ازدحام الكلم في السمع مضلة للفهم‪ .‬تهددهم‬
‫بي‪ ،‬وأدبهم دوني‪ ،‬وكن لهم كالطبيب الرفيق الذي ل يعجل بالدواء‬
‫حتى يعرف الداء‪ ،‬وامنعهم من محادثة النساء‪ ،‬وأشغلهم بسير‬
‫ن على عذر مني؛ فقد‬ ‫الحكماء‪ ،‬واستزدني بآدابهم أزِْدك‪ ،‬ول تتكل ّ‬
‫اتكلت على كفاية منك"‪.665‬‬

‫‪ 663‬انظر‪ :‬آدم متز‪ :‬الحضارة السلمية في القرن الرابع الهجري‪ ،‬ترجمة محمد عبد الهادي أبي‬
‫ريدة‪ ،‬لجنة التأليف والترجمة والنشر ‪ -‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪. 328‬‬
‫ضا في وفيات العيان ‪.179 /6‬‬ ‫‪ 664‬راجع القصة في الكتاب‪ ،‬وانظرها أي ً‬
‫‪ 665‬انظر تاريخ دمشق ‪ – 272 /38‬ابن عبد ربه‪ :‬العقد الفريد ‪.234 /1‬‬
‫كس حرص الباء على تنشئة أبنائهم التنشئة‬ ‫ومثل هذا ل ََيع ِ‬
‫العلمية السليمة‪ ،‬وحرصهم على رعايتهم وتربيتهم منذ صغرهم‬
‫ليكونوا علماء الغد ورجالته‪..‬‬
‫ضا في تنشئة أبنائهم‬‫ولقد كان من وسائل هؤلء الباء أي ً‬
‫ليصبحوا علماء ما كان من تشجيعهم لهم‪ ،‬واحتفائهم بهم‪ ،‬وتقديمهم‬
‫ضا إكرام‬
‫الغإلى والنفيس ليرغبوا أطفالهم في العلم‪ ،‬كما كان منه أي ً‬
‫معلميهم‪.‬‬
‫ي‪،‬‬ ‫فكان عبد الملك بن مروان ُير ّ‬
‫غب بنيه‪ ،‬ويقول لهم‪" :‬يا ب َن ِ ّ‬
‫ل‪ ،‬وإن افتقرتم كان لكم‬ ‫تعّلموا العلم؛ فإن استغنيتم كان لكم كما ً‬
‫ما ً‬
‫ل"‪.666‬‬
‫دث النضر بن الحارث؛ فقال‪ :‬سمعت إبراهيم بن أدهم‬ ‫وح ّ‬
‫ت حديًثا‬ ‫ّ‬
‫ي‪ ،‬اطلب الحديث‪ ،‬فكلما سمع َ‬
‫يقول‪ :‬قال لي أبي‪" :‬يا ُبن ّ‬
‫ت الحديث على هذا" ‪.‬‬
‫‪667‬‬
‫وحفظَته فلك درهم‪ .‬فطلب ُ‬
‫وهذا أبو القاسم بن الوزير الخاقاني يحتفل بدخول ابنه الك ُّتاب‪،‬‬
‫ة بلغوا ثلثين فرًدا‪،‬‬‫واد والرؤساء جماع ً‬
‫فكان مما فعله أنه دعا من الق ّ‬
‫معّلم ألف دينار! وأكرم الناس وأكلوا ‪.‬‬
‫‪668‬‬
‫وأمر الداعي بإعطاء ال ُ‬
‫ص بالخلفاء أو المراء أو المشهورين‬ ‫ن أن المر خا ّ‬ ‫وحتى ل ي ُظ َ ّ‬
‫صا لم ُيعَرف عنه أنه‬‫من العلماء فقط‪ ،‬فهذا والد ابن سينا‪ ،‬وكان شخ ً‬
‫اشت ُهَِر بعلم أو رياسة‪ ،‬أحضر لولده ابن سينا ‪ -‬رغم نبوغه وعبقريته‬
‫م الفلسفة المشهور أبا عبد الله النائلي‪ ،‬وأنزله‬
‫ذة منذ صغره ‪ -‬عال ِ َ‬ ‫الف ّ‬
‫ّ‬
‫داره؛ بغية أن يعلم ولده ابن سينا ‪.‬‬
‫‪669‬‬

‫ضا المام الطبري )أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ت‬ ‫وهذا أي ً‬


‫ت القرآن ولي سبع سنين‪،‬‬ ‫فظ ُ‬‫دث عن نفسه فيقول‪ :‬ح ِ‬ ‫‪310‬هق( يح ّ‬
‫وصّليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين‪ ،‬وكتبت الحديث وأنا في‬
‫التاسعة‪ !!670‬والشاهد هنا‪ :‬كيف وصل إلى هذه الرتبة العَل ِّية والدرجة‬
‫الرفيعة تلك؟!‬
‫والجابة في ذلك تكمن في قوله وهو يحكي دور والده‪ :‬رأى لي‬
‫أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله ‪ ،‬ومعي مخلة‬
‫ص رؤياه على المعَّبر؛‬‫مملوءة بالحجار‪ ،‬وأنا أرمي بين يديه‪ ،‬وق ّ‬
‫ب عن شريعته‪.‬‬ ‫فقال له‪ :‬إن ابنك إن كبر نصح في دينه‪ ،‬وذ ّ‬

‫ابن عبد البر‪ :‬جامع بيان العلم وفضله ‪.242 /1‬‬ ‫انظر‬ ‫‪666‬‬

‫الخطيب البغدادي‪ :‬شرف أصحاب الحديث ص ‪.165‬‬ ‫انظر‬ ‫‪667‬‬

‫آدم متز‪ :‬الحضارة السلمية ‪.329 /1‬‬ ‫انظر‬ ‫‪668‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.71 /3‬‬ ‫انظر‬ ‫‪669‬‬

‫ياقوت الحموي‪ :‬معجم الدباء ‪.49 /18‬‬ ‫انظر‬ ‫‪670‬‬


‫فحرص أبي على معونتي على طلب العلم‪ ،‬وأنا حينئ ِذٍ‬
‫ي صغير‪!671‬‬
‫صب ّ‬
‫ول نعجب بعد ُ أن نرى الطبري وهو يحدث عن نفسه وهو بصدد‬
‫مى )جامع البيان في‬ ‫تفسير القرآن العظيم الذي أّلفه‪ ،‬والمس ّ‬
‫تأويل القرآن(‪ ،‬والذي يقع في أكثر من عشرين جزًءا كبيًرا؛‬
‫فيقول‪" :‬حدثتني نفسي به وأنا صبي"‪ !!672‬أي منذ أن شجعه‬
‫والده‪ ،‬وأعانه على طلب العلم‪ ،‬وحببه له‪ ،‬حتى غدا ~ شيخ‬
‫دثين والمؤّرخين‪ ،‬والمجتهد العظيم‪.‬‬
‫المفسرين والمح ّ‬
‫مه الول؛ حتى‬ ‫معل ّ َ‬
‫وفي عصرنا‪ ،‬كان والد المودودي الهندي هو ُ‬
‫ه ‪ -‬كما سيأتي ‪ -‬اللغة العربية والقرآن الكريم والحديث‬ ‫إنه عل ّ َ‬
‫م ُ‬
‫الشريف والفقه وغيرها‪ ،‬وقد حكى ابنه عن ذلك فقال عن والده‪:‬‬
‫"لقد أحسن تربيتي‪ ،‬وعلمني النطق السليم‪ ،‬وكان يحكي لي كل‬
‫مساء قصص النبياء والمرسلين‪ ،‬ووقائع التاريخ السلمي‪ ،‬وحوادث‬
‫ما عند رفاقه‪ ،‬وك ُل ُّهم على‬ ‫الهند‪ ،‬واهتم بأخلقي؛ وكان يأخذني معه دائ ً‬
‫درجة عالية من الثقافة والتزان‪ ،‬فانتقلت إلى من مجالستهم العادات‬
‫الفاضلة الحسنة"‪.673‬‬
‫ظموا عند البناء‬‫وبصفة عامة فإن من أهم واجبات الباء أن ُيع ّ‬
‫قيمة العلم‪ ،‬ويرفعوا عندهم قيمة المعلمين والمدرسين‪ ،‬وإل ّ يصبح‬
‫كلم المعلم للطفل هباًء منثوًرا‪ ..‬ومن أروع ما جاء في ذلك ما كان‬
‫من حال أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك هو واثنين من أبنائه‬
‫المراء ‪ -‬كما مّر بنا ‪ -‬مع العالم الجليل عطاء بن أبي رباح العبد‬
‫السود؛ حيث قال سليمان لولديه‪" :‬يا بني‪ ،‬ل تنيا في طلب العلم‪،‬‬
‫فإني ل أنسى ذ ُّلنا بين يدي هذا العبد السود"‪!!674‬‬
‫وهكذا يكون دور الباء مع البناء في سبيل تخريج وتنشئة‬
‫ل يمكنها القيام به‪،‬‬
‫العلماء‪ ..‬أما دور الم في ذلك؛ فهو أعظم عم ٍ‬
‫وكيف ل وقد اجتمع لها من وسائل تربية البناء وقضاء أغلب الوقات‬
‫معهم ما لم يجتمع للب؟ فهي أقرب الناس لقلوب أبنائها‪ ،‬وأحرص‬
‫الناس على منفعتهم‪ ،‬ولو جعلت القضية قضيتها‪ ،‬والمهمة مهمتها‬
‫لخرج لنا جيل نفاخر به العالمين‪ ..‬فالم مدرسة حقيقية‪ ،‬شريطة أن‬
‫تضع مصالح المة وهموم المسلمين نصب عينها‪.‬‬
‫إذ يقول‪:‬‬ ‫‪675‬‬
‫وصدق حافظ إبراهيم‬
‫‪ 671‬المصدر السابق‪ :‬نفس الصفحة‪.‬‬
‫‪ 672‬انظر ياقوت الحموي‪ :‬معجم الدباء ‪.62 /18‬‬
‫‪ 673‬مجلة المختار السلمي‪ ،‬ربيع الول ‪1400‬هق ص ‪.84‬‬
‫‪ 674‬ابن الجوزي‪ :‬صفة الصفوة ‪.2/212‬‬
‫‪ 675‬هو محمد حافظ بن إبراهيم فهمي المهندس‪ ،‬الشهير بحافظ إبراهيم )‪1351 - 1288‬هق ‪/‬‬
‫فا وربًعا من القرن‪ .‬وُل ِد َ في ديروط‪ ،‬ونشأ‬ ‫‪1932 - 1871‬م(‪ ،‬شاعر مصر ومدون أحداثها ني ً‬
‫قب بشاعر النيل‪ .‬له‪:‬‬ ‫ما‪ ،‬وتوفي بالقاهرة‪ .‬نظم الشعر في أثناء الدراسة‪ ،‬واشت ُهَِر حتى ل ُ ّ‬
‫يتي ً‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ق‬
‫ب العرا ِ‬ ‫شعًبا ط َي ّ َ‬ ‫ت َ‬
‫دد َ‬
‫أع َ‬ ‫ددَتها‬ ‫ة ِإذا أع َ‬ ‫س ٌ‬‫مدَر َ‬
‫م َ‬ ‫ال ّ‬
‫ق‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِبالقرِيّ أوَرقَ أّيمقا إيرا ِ‬ ‫حيا‬
‫ض ِإن ت َعَهّد َه ُ ال َ‬ ‫م َرو ٌ‬ ‫ال ّ‬
‫ال ُم ُأستاذ ُ ا َ‬
‫ق‬
‫مدى الفا ِ‬
‫هم َ‬ ‫شغََلت َ‬
‫مآث ُِر ُ‬ ‫َ‬ ‫لسات ِذ َةِ اللى‬ ‫ّ‬
‫سد ذلك معروف الرصافي‪676‬؛ فقال‪:‬‬
‫وج ّ‬
‫حضن المهات‬ ‫يه ّ‬
‫ذبها ك ِ‬ ‫حق ّ‬
‫ل‬ ‫م َ‬
‫ولم أَر للخلئق من َ‬
‫بتربيقة البنين أو البنات‬ ‫فحضن الم مدرسة تسامت‬
‫بأخلق النساء الوالدات‬ ‫وأخلق الوليد ُتقاس حسًنا‬
‫وليت المهات يكتشفن مواهب أبنائهن قبل أن تمر السنوات‬
‫وار بنت مالك > أم زيد بن‬
‫وتضيع فيما ل فائدة فيه‪ ..‬ولنا عبرة في الن ّ َ‬
‫ثابت <‪..‬‬
‫لقد كان زيد بن ثابت طفل ً صغيًرا‪ ،‬واشتاقت نفسه للجهاد وهو‬
‫ما‪ ،‬وحين حاول أن يخرج للحرب في بدر‪ ،‬رّده‬ ‫بعد ُ ابن ثلثة عشر عا ً‬
‫ل الله ‪ ‬بسبب صغر سنه‪ ..‬وعندها رجع إلى البيت يبكي بسبب‬ ‫رسو ُ‬
‫عدم مشاركته المسلمين في الجهاد‪ ،‬ولما رأته أمه على هذه الحالة‬
‫لم تطيب خاطره بكلمات وكفى‪ ،‬فإنها كانت تدرك بعمق مواهبه‬
‫وإمكاناته؛ فلفتت نظره إليها وقالت له‪ :‬إن لم يكن باستطاعتك أن‬
‫تجاهد بالسيف والدرع كما يفعل المجاهدون في المعركة‪،‬‬
‫فباستطاعتك أن تخدم رسول الله ‪ ‬والسلم بالعلم الذي عندك!!‬
‫زية لدى زيد <‪ ،‬فوق أنه يحفظ‬ ‫م ِ‬
‫لقد كانت القراءة والكتابة َ‬
‫الكثير من آيات القرآن الكريم‪ ..‬وهذا مجال يتفوق فيه على غيره‪..‬‬
‫وهكذا استطاعت الم الواعية الفاهمة أن تفتح لصغيرها باًبا آخر‪ ،‬بعد‬
‫ما ُأغلق أمامه باب الجهاد مؤقًتا‪.‬‬
‫وحين ذهبت به إلى رسول الله ‪ ‬وعرضت عليه إمكانات‬
‫ولدها‪ ،‬وما يمتلكه في غير مجال الجهاد والحرب‪ ،‬اختبره ‪ ‬وسمع‬
‫منه‪ ،‬ولما علم قدراته وطاقاته قال له‪" :‬اذهب فتعّلم لغة اليهود؛‬
‫فإني ‪ -‬والله ‪ -‬ما آمنهم على كتابي"‪..677‬‬

‫ديوان حافظ‪ ،‬والبؤساء‪ ،‬وليإلي سطيح‪ ،‬وكتيب في القتصاد وغيرها‪ .‬انظر العلم ‪. 76 /6‬‬
‫‪ 676‬هو معروف بن عبد الغني البغدادي الرصافي )‪1364 - 1294‬هق ‪1945 - 1877 /‬م(‪ ،‬شاعر‬
‫العراق في عصره‪ ،‬من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق‪ ،‬وُل ِد َ ببغداد‪ ،‬ونشأ بها في‬
‫الرصافة‪ ،‬وتوفي في العظمية ببغداد‪ .‬له كتب منها‪ :‬ديوان الرصافي‪ ،‬ودفع الهجنة‪ ،‬ومحاضرات‬
‫في الدب العربي‪ ،‬وغيرها الكثير‪ .‬انظر العلم ‪. 268 /7‬‬
‫ضا‪ :‬ابن حجر العسقلني‪:‬‬ ‫‪ 677‬أبو داود )‪ ،(3645‬وأحمد )‪ ،(21658‬والحاكم )‪ ،(252‬وانظر أي ً‬
‫الصابة في تمييز الصحابة ‪ – 2/593‬والمزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪. 28 /10‬‬
‫فذهب زيد وتعلم لغة إليهود في أقل من سبع عشرة ليلة!!‬
‫ولعله كان عنده بعض الخلفية عنها‪ ،‬واستطاع خلل اليام السبعة‬
‫عشر أن ُيتم تعلمها وإتقانها‪..‬‬
‫وبعد ذلك جعله رسول الله ‪ ‬من ك َت ََبة الوحي‪ ،‬وكفاه شرًفا‬
‫بذلك‪ ..‬حتى إنه بعد وفاة رسول الله ‪ ‬أوكل إليه أبو بكر الصديق <‬
‫مهمة جمع القرآن‪ ،‬وكان عمره وقتئ ِذ ٍ ثلًثا وعشرين سنة!!‬
‫فلكم نبغ ذلك الطفل!! ولكم أفاد المة السلمية!! وكان ذلك‬
‫م مسلمة استطاعت أن تهب المة أعظم ثروة‪ ..‬فُترى إذن‪:‬‬ ‫ثمرة أ ّ‬
‫كم يكون أجرها ومكافأتها عند الله!!‬
‫م زيد بن ثابت ‪ -‬والمثلة جد كثيرة ‪ -‬كانت هند بنت‬ ‫وقبل أ ّ‬
‫عتبة‪ ،‬أم الصحابي والخليفة معاوية بن أبي سفيان <‪ ..‬فقد قيل لها‬
‫ومعاوية مازال طفل صغيًرا‪" :‬إن عاش معاوية ساد قومه"‪ ،‬فرّدت‬
‫هي من فورها وكلها ثقة وحزم‪" :‬ثك ِل ُْته إن لم ي ُ‬
‫سد ْ إل قومه"‪!!678‬‬
‫وقد كان لها ما عزمت وأرادت‪ ،‬حيث صار خليفة للمسلمين‪،‬‬
‫ومؤسس الدولة الموية‪ ،‬صاحبة التاريخ العظيم والمآثر الجليلة في‬
‫السلم‪..‬‬
‫ضا أم "ربيعة‬ ‫ُ‬
‫وغير أولء المهات الجليلت‪ ،‬كانت هناك أي ً‬
‫الرأي"‪ ،679‬شيخ المام مالك‪ ،‬حيث خرج زوجها فّروخ في البعوث إلى‬
‫خراسان أيام بنى أمية‪ ،‬وترك ربيعة حمل ً في بطنها‪ ،‬لتقوم هي على‬
‫تنشئته وتربيته وتعليمه‪ ،‬وقد ترك عندها ثلثين ألف دينار‪ ..‬ولما رجع‬
‫بعد سبٍع وعشرين سنة‪ ،‬دخل مسجد المدينة‪ ،‬فنظر إلى حلقة وافرة‪،‬‬
‫فأتاها فوقف عليها‪ ،‬وإذا فيها مالك والحسن وأشراف أهل المدينة‪،‬‬
‫ولما سأل عن صاحب هذه الحلقة أجابوه بأنه ربيعة بن أبي عبد‬
‫الرحمن )ابنه(!!‬
‫فرجع إلى منزله وقال لزوجته وأم ولده‪" :‬لقد رأيت ولدك على‬
‫دا من أهل العلم والفقه عليها"‪ ،‬فقالت له‪ :‬فأيهما‬‫حالة ما رأيت أح ً‬
‫أحب إليك‪ :‬ثلثون ألف دينار‪ ،‬أم هذا الذي هو فيه؟! فقال‪ :‬ل ‪ -‬والله ‪-‬‬
‫بل هذا‪ .‬فقالت‪ :‬أنفقت المال كله عليه‪ .‬قال‪ :‬فوالله ما ضّيعتيه‪!!680‬‬
‫ن سفيان الثوري ~ ‪ -‬فقيه العرب‬‫ب حين نعلم أ ّ‬ ‫وإّنا ل ََنع َ‬
‫ج ُ‬
‫ومحدثهم‪ ،‬وأمير المؤمنين في الحديث‪ ،‬والذي قال فيه زائدة‪:681‬‬

‫‪ 678‬ابن كثير‪ :‬البداية والنهاية ‪.8/118‬‬


‫‪ 679‬هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن التيمي مولهم أبو عثمان المدني المعروف بربيعة الرأي‪،‬‬
‫يقول ابن حجر عنه‪ :‬ثقة فقيه مشهور‪ .‬مات سنة ‪ 136‬هجرية على الصحيح‪ .‬انظر تقريب‬
‫التهذيب ص ‪ - 207‬تاريخ بغداد ‪ – 420 /8‬الباجي‪ :‬التعديل والتجريح ‪. 573 /2‬‬
‫‪ 680‬ابن خلكان‪ :‬وفيات العيان ‪.2/290،289‬‬
‫"الثوري سيد المسلمين"‪ ،682‬وقال فيه الوزاعي‪" :683‬لم يبقَ من‬
‫م صالحة‪،‬‬‫تجتمع عليه المة بالرضا إل سفيان" ‪ -‬كان وراءه أ ّ‬
‫‪684‬‬

‫تكفلت بتربيته والنفاق عليه‪ ،‬فكان هو ثمرتها!!‬

‫ور ذلك هو بنفسه فيقول‪" :‬لما أردت أن أطلب العلم؛ ُقل ُ‬


‫ت‪:‬‬ ‫يص ّ‬
‫ب‪ ،‬لبد لي من معيشة‪ .‬ورأيت العلم ي َد ُْرس )أي‪ :‬يذهب‬ ‫يا ر ّ‬
‫ت الله الكفاية"‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ويندثر(؛ فقلت‪ :‬أفّرغ نفسي في طلبه‪ ،‬قال‪ :‬وسأل ُ‬
‫يعني أن يكفيه أمر الرزق‪ ،‬فكان من كفاية الله له في ذلك الشأن أن‬
‫ي‪ ,‬اطلب العلم وأنا أكفيك‬ ‫قّيض له أمه التي قالت له‪" :‬يا ب ُن َ ّ‬
‫بمغزلي"‪!!685‬‬
‫فكانت رحمها الله تعمل بالغزل‪ ،‬وتقدم لولدها نفقة الكتب‬
‫والتعّلم؛ ليتفرغ هو للعلم‪ ،‬بل والكثر من ذلك أنها كانت كثيًرا ما‬
‫ضه على تحصيل العلم‪ ،‬فكان مما‬ ‫وله بالموعظة والنصيحة لتح ّ‬ ‫تتخ ّ‬
‫قالته له ذات مرة‪" :‬يا بني‪ ،‬إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى‬
‫في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك‪ ،‬فإن لم ت ََر ذلك فاعلم‬
‫أنها تضرك ول تنفعك"‪!!686‬‬
‫وأ السيادة في العلم والمامة في‬
‫وهكذا كانت أمه فكان هو‪َ ..‬تب ّ‬
‫الدين!!‬
‫وه بدور الم في حياة الئمة المشهورين‪،‬‬
‫ول يفوتنا هنا أن نن ّ‬
‫مثل البخاري‪ ،‬أمير أهل الحديث‪ ،‬وكذلك الشافعي وأحمد بن حنبل‬
‫ومالك‪ ،‬أصحاب المذاهب الفقهية المشهورة‪..‬‬
‫جر أمه‪،‬‬‫ح ْ‬
‫ما ضريًرا في ِ‬ ‫فقد نشأ البخاري ‪ -‬كما سيأتي ‪ -‬يتي ً‬
‫لتقوم هي على تربيته أفضل تربية‪ ،‬فتتعهده بالرعاية والدعاء‪ ،‬وتدفعه‬
‫إلى التعلم والصلح‪ ،‬وتزين له أبواب الخير‪ ،‬بل وترحل به وهو في‬
‫سن السادسة عشرة إلى مكة للحج‪ ،‬ثم تتركه هناك وترجع‪ ،‬ليطلب‬
‫ي‪ ،‬ولُتعّلم أمهات‬
‫العلم بلسان قومه‪ ..‬ليرجع ويكون هو البخار ّ‬
‫المسلمين ‪ -‬والرامل منهن خاصة ‪ -‬كيف تكون تربية البناء‪ ،‬وما دور‬
‫المهات في جهادهن لرفعة المة والنهوض بها!‬

‫صلت الكوفى‪ ،‬من كبار أتباع التابعين‪ ،‬قال الذهبي‪ :‬ثقة‬


‫هو زائدة بن قدامة الثقفى‪ ،‬أبو ال ّ‬
‫‪681‬‬

‫حجة صاحب سنة‪ ،‬توفي غازًيا بالروم سنة ‪ . 161‬انظر الكاشف ‪ - 400 /1‬تقريب التهذيب ص‬
‫‪. 213‬‬
‫‪ 682‬ابن أبي حاتم‪ :‬الجرح والتعديل ‪.1/118‬‬
‫‪ 683‬هو أبو عمرو الوزاعي‪ ،‬واسمه عبد الرحمن بن عمرو‪ ،‬والوزاع بطن من همدان‪ ،‬ولد سنة‬
‫‪88‬هق‪ .‬إمام أهل الشام في زمانه في الحديث والفقه‪ ،‬قال ابن سعد‪ :‬كان ثقة مأموًنا صدوًقا‬
‫فاضل ً خيًرا كثير الحديث والعلم والفقه حجة‪ .‬كان يسكن بيروت وبها مات سنة ‪157‬هق‪ .‬انظر‬
‫الطبقات الكبرى ‪ - 488 /7‬تهذيب الكمال ‪. 308 /17‬‬
‫‪ 684‬أبو عبد الله الذهبي‪ :‬تذكرة الحفاظ ‪.1/204‬‬
‫‪ 685‬أبو نعيم‪ :‬حلية الولياء ‪.6/370‬‬
‫‪ 686‬ابن الجوزي‪ :‬صفة الصفوة ‪.3/189‬‬
‫ضا في نجابة وظهور المام مالك ~ يكمن في‬ ‫وكان السر أي ً‬
‫أمه العاقلة‪ ،‬تلك التي أحسنت توجيه أبنائها‪ ،‬واختارت لهم الطريق‬
‫السوي‪ ،‬وهيئت لهم أسباب النجاح‪ ،‬وفي قصتها يأخذنا العجب كل‬
‫كا الطفل لم يكن يريد أن يتجه إلى العلم‪،‬‬ ‫مأخذ حين نعلم أن مال ً‬
‫وإنما رغب في أن يتعلم الغناء ويجيده‪ ،‬وبالتالي يصبح مغن ًّيا!! فالغناء‬
‫ة للثروة‪،‬‬ ‫ة سريع ً‬ ‫شهرة‪ ،‬ومجلب ً‬‫‪ -‬كما يخيل للحاِلم والرائي ‪ -‬مصدًرا لل ّ‬
‫ض لولدها ذلك‪ ،‬وحالها هنا على‬ ‫لكن أم المام مالك العاقلة لم تر َ‬
‫عكس المهات اللئي يسارعن إلى تشجيع أولدهن لصقل تلك‬
‫ف شديد ولباقة‬ ‫الموهبة التي ظهرت حسب ما يظنون!! ففي لط ٍ‬
‫جمة‪ ،‬استطاعت أن تصرف ولدها عن فكرته‪ ،‬وأن تختار بديل ً سريًعا‬
‫لها‪ ،‬وهو العلم؛ ذلك الذي يرفع من قدر البيوت وإن كانت خاملة‪،‬‬
‫وُيعِلي من قيمة الّرجال وإن جاءوا من حضيض الفقر وقسوة‬
‫العوز‪.687‬‬
‫ت وأنا غلم‪ ،‬فأعجبني الخذ‬‫يقول المام عن تلك الحادثة‪ :‬نشأ ُ‬
‫عن المغنين‪ ،‬فقالت أمي‪ :‬يا بني‪ ،‬إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم‬
‫فت إلى غنائه؛ فدع الغناء واطلب الفقه‪ .‬فتركت المغنين وتبعت‬ ‫ُيلت َ َ‬
‫الفقهاء‪ ،‬فبلغ الله بي ما ترى ‪.‬‬
‫‪688‬‬

‫فهذه الم الفاضلة العاقلة لم تكذب على ولدها وتقول له‪ :‬إنه‬
‫ما ذا شقرة‪ ،‬وإنما‬
‫قبيح الوجه؛ إذ لم يكن مالك كذلك‪ ،‬بل كان وسي ً‬
‫هي أرادت أن توحي إليه بما يصرفه عن عزمه‪ ،‬فقالت قولتها تلك‬
‫اللبقة المهذبة‪.689‬‬
‫ولم يتوقف دور أم مالك عند ذلك‪ ،‬ولم تكتف بتوجيهه إلى‬
‫ّ‬
‫جهته إلى من يتعلم‬ ‫طلب العلم وحسب‪ ،‬بل إنها ألبسته ثياب العلم وو ّ‬
‫منه‪ ،‬يقول مالك في ذلك‪ :‬فألبستني ثياًبا مشمرة‪ ،‬ووضعت الطويلة‬
‫ممتني فوقها‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬ ‫على رأسي ‪ -‬يعني القلنسوة الطويلة ‪ -‬وع ّ‬
‫اذهب فاكتب الن!! ثم تختار له المعّلم والستاذ ‪ -‬وكان أشهرهم‬
‫آنذاك ربيعة بن أبي عبد الرحمن ‪ -‬فتقول له‪ :‬اذهب إلى ربيعة فتعلم‬
‫من أدبه قبل علمه‪ .690‬ومقصدها بالطبع هو تعّلم العلم والدب جميًعا‪.‬‬
‫وبذلك يبتدئ الصبي الصغير مالك بن أنس مسيرته الطويلة في‬
‫ما ف ّ‬
‫ذا من أئمة المسلمين‪ ،‬فيكون أثمن‬ ‫طريق العلم حتى يصير إما ً‬
‫عطية‪ ،‬وأغلى هدية‪ ،‬من أم فاضلة تجيد التربية وتحسن التوجيه ‪.‬‬
‫‪691‬‬

‫‪ 687‬انظر في قصة أم مالك‪ :‬مصطفى الشكعة‪ :‬الئمة الربعة‪ ،‬دار الكتاب المصري ‪ -‬القاهرة‪،‬‬
‫دار الكتاب اللبناني ‪ -‬بيروت‪ ،‬الطبعة الرابعة‪1418 ،‬هق ‪1998 -‬م ص ‪. 7 ،6‬‬
‫‪ 688‬سرح العيون ص ‪ ،181‬نقل عن المصدر السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬
‫‪ 689‬انظر مصطفى الشكعة‪ :‬الئمة الربعة ص ‪. 7‬‬
‫‪ 690‬انظر ابن فرحون‪ :‬الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب ص ‪. 9‬‬
‫‪ 691‬راجع مصطفى الشكعة‪ :‬الئمة الربعة ص ‪. 9 ،8‬‬
‫ما والدة الشافعي ~ فقد شَبه دورها دور أم البخاري ~‪..‬‬ ‫أ ّ‬
‫إذ أن والد الشافعي مات بعد أن وُل ِد َ الشافعي بزمن قصير‪ ،‬فنشأ‬
‫طا بتصّرف أمه‪ ..‬فإن كانت الم‬‫ما‪ ،‬وأصبح مصيره مرتب ً‬
‫الشافعي يتي ً‬
‫عاقلة حاذقة فإنها ‪ -‬ل شك ‪ -‬ستهيئ للطفل أسباب السعادة والنشأة‬
‫الصالحة‪ ،‬وإن كانت الخرى فإنها ستعرض وليدها للشقاء والمستقبل‬
‫المضطرب‪..‬‬
‫على أن أم الشافعي أثبتت وبكل جدارة أنها من المهات‬
‫ما‬
‫الصالحات الحاذقات المجاهدات؛ إذ أهدت للمة السلمية إما ً‬
‫ما‪ ،‬مل سمع الرض والسماء!!‬ ‫عظي ً‬
‫ومن طريف ما يذكره المؤرخون عن والدة الشافعي أنها كانت‬
‫قه في الدين‪ ،‬وقوة عارضة‪ ،‬وقدرة على‬ ‫ذات حذق وذكاء‪ ،‬وتف ّ‬
‫الستبطان‪ ،‬ودليل ذلك أنها تقدمت هي وامرأة أخرى مع رجل للدلء‬
‫ض‪ ،‬فأراد القاضي أن يفّرق بين المرأتين‪ ،‬ولكن والدة‬ ‫بشهادة أمام قا ٍ‬
‫الشافعي المتصفة بما أسلفنا من شمائل اعترضت على القاضي‬
‫َ‬
‫ض ّ‬
‫ل‬ ‫قائلة‪ :‬ليس لك ذلك؛ لن الله سبحانه وتعالى يقول‪ :‬أ ْ‬
‫ن تَ ِ‬
‫خَرى‪692‬؛ فأسقط في يد القاضي‬ ‫ما اْل ُ ْ‬
‫ه َ‬
‫دا ُ‬
‫ح َ‬‫فت ُذَك َّر إ ِ ْ‬
‫ما َ‬
‫ه َ‬
‫دا ُ‬
‫ح َ‬
‫إِ ْ‬
‫وانصاع لقولها ‪.‬‬
‫‪693‬‬

‫وقع منها إل أن تحسن رعاية وليدها‪،‬‬


‫وهذه الم الفاضلة ل ي ُت َ َ‬
‫وتسهر على تنشئته تنشئة صالحة‪ ،‬وتختار له الطريق القويم‪ ..‬وكان‬
‫من ذلك أنها ارتحلت به حين بلغ عامين من عمره من غّزة ‪ -‬مسقط‬
‫رأس الشافعي ‪ -‬إلى مكة‪ ،‬حيث العلم والفضل‪ ،‬وحيث البادية حولها‪،‬‬
‫وم لسان الغلم وتصح لغته‪ ،694‬وكان الشافعي هو ثمرة‬ ‫والتي فيها يق ّ‬
‫جهود تلك المرأة الفاضلة‪..‬‬
‫وإذا جئنا إلى صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك بن شيبان‪ ،‬فإنا‬
‫نراها وقد أهدت إلى دنيا المؤمنين وعالم الموحدين إمام أهل السنة‬
‫أحمد بن حنبل ~‪..‬‬
‫ضا!!(‪ ،‬واختارت‬ ‫فقد وهبت صفية حياتها كلها لطفلها اليتيم )أي ً‬
‫جا لحياتها‪ ،‬وقد كان الكثيرات من‬ ‫مل في سن الشباب نه ً‬ ‫من أجله التر ّ‬
‫ظا على‬‫ضلن الزواج إذا مات الزوج؛ صوًنا للعفة وحفا ً‬ ‫نساء العرب يف ّ‬
‫السمعة‪ ،‬بل إنه كان من المور المتعارف عليها أن تتزوج المرأة إذا‬
‫ملت أو طلقت‪ ،‬أما صفية فقد منحت شبابها لوليدها‪..‬‬ ‫تر ّ‬

‫‪ 692‬البقرة‪. 282 :‬‬


‫‪ 693‬ابن حجر‪ :‬توإلي التأسيس بمعإلي ابن إدريس ص ‪ ،42‬نقل عن مصطفى الشكعة‪ :‬الئمة‬
‫الربعة ص ‪. 10‬‬
‫‪ 694‬راجع في قصة أم الشافعي‪ :‬مصطفى الشكعة‪ :‬الئمة الربعة ص ‪. 11 ،10‬‬
‫ذلك أن زوجها محمد بن حنبل مات شاًبا في الثلثين‪ ،‬وكانت‬
‫هي دون الثلثين حين وفاة زوجها‪ ،‬ورغم ذلك فإنها لم ترض بالزواج‪،‬‬
‫سا‪ ،‬وهو ما لم يكن‬
‫وإنما ارتضت أن تمل على ولدها حياته حناًنا وأن ً‬
‫يخفيه أحمد ~ بعد أن كبر‪.‬‬
‫وإذا عرفنا أن المام ابن حنبل لم يتزوج قبل سن الربعين‬
‫أدركنا أن السبب في ذلك هو ما هيأته له أمه من سبيل العناية وغامر‬
‫الهتمام‪..695‬‬
‫وهكذا وعلى طول الطريق كان دور الم في تنشئة العلماء‪..‬‬
‫من أجل النهوض بالمة‪ ،‬والعمل على تقدمها‪ ،‬ونفع المسلمين‬
‫ورفعتهم‪..‬‬
‫ويبقى في دور السرة بصفة عامة في تنشئة العلماء دور‬
‫الزوجة‪..‬‬
‫ما؛ فبيت المرأة بصفة‬‫وأعني بذلك دورها تجاه زوجها ليكون عال ً‬
‫عامة هو مملكتها‪ ،‬وهو منطلقها الحيوي والحقيقي نحو أي أص ً‬
‫لح أو‬
‫قا – وقبل ذلك‬
‫تغيير‪ ،‬وذلك يكون عن طريق أولدها ‪ -‬كما قدمنا ساب ً‬
‫عن طريق زوجها‪..‬‬
‫وفي هذا الصدد بإمكان الزوجة أن ُتهيئ للزوج الجو العلمي‬
‫دع وينتج في مجاله وعلمه وصناعته‪ ..‬وبإمكانها أن‬‫المناسب لُيب ِ‬
‫مسه على التقدم والبداع والختراع‪ ،‬فتوفر له الجو النفسي الذي‬ ‫ُتح ّ‬
‫يناسب ذلك‪ ..‬وبإمكانها أن تخفف عنه مطالب الحياة؛ فل ترهقه‬
‫بالمتطّلبات غير الضرورية في المعيشة والحياة؛ لجل توفير نفقات‬
‫العلم‪ ..‬وبإمكانها أن يكون من ضمن طلباتها قبل الزواج مكتبة قيمة‪،‬‬
‫تشترك فيها مع زوجها‪ ،‬ويتعاونان على إعدادها مًعا لبيت الزوجية‬
‫الجديد‪ ،‬ولست أعني بالمكتبة "القيمة" ارتفاع ثمنها أو فخامة شكلها‪،‬‬
‫وإنما أعني تنوع مصادرها‪ ،‬وغزارة محتوياتها‪ ..‬ولو كانت كتبها ذات‬
‫طباعة غير فاخرة‪ ،‬أو كانت على أرفف بسيطة زهيدة الثمن‪ ،‬ول شك‬
‫مة من وجود هذه المكتبة‪..‬‬‫أن الطفال سيستفيدون استفادة ج ّ‬
‫وحقيقة فإن نبوغ الزوج وتفوقه غالًبا ما يكون لن وراءه زوجة‬
‫تدفعه إلى ذلك وتعينه عليه‪ ،‬وفي المثل المتداول‪" :‬وراء كل رجل‬
‫عظيم امرأة"‪ ،‬ول نغإلى هنا إذا قلنا‪" :‬وراء كل رجل عظيم امرأة‬
‫أعظم"!!‬
‫ول ضير إذا ما كان دور الزوجة هنا ظاهًرا أو غير ظاهر؛ ول‬
‫ضير إذا ما كانت الزوجة تقوم بدور الجندي المجهول أو غيره؛‬
‫راجع في قصة أم المام أحمد‪ :‬مصطفى الشكعة‪ :‬الئمة الربعة ص ‪. 15 ،14‬‬ ‫‪695‬‬
‫فالبديهي أن تفوق الزوج ونجاحه في عمله ونبوغه في علمه ما هو إل‬
‫ظم الزوجة وتفوقها‪ ،‬وهو يعكس نجاحها هي‪ ،‬بل‬‫ع َ‬
‫دليل على ِ‬
‫وصلحها‪ ،‬تلك التي هيأت له من الوسائل والسباب التي ذكرناها أول ً‬
‫ما جعله يصل إلى ما وصل إليه‪..‬‬
‫فالزوجة الصالحة‪ ،‬والتي تبغي نفع المة والعمل على نهضتها‪،‬‬
‫ما إلى المام لتحقيق النجاح‪ ،‬والوصول‬ ‫هي تلك التي تدفع زوجها دائ ً‬
‫إلى الهدف المنشود‪ ..‬ورحم الله تلك التي كانت تنادي على زوجها‬
‫في الصباح تقول له‪ :‬اّتق الله فينا‪ ،‬ول تطعمنا إل ّ حل ً‬
‫ل؛ فإننا نصبر‬
‫على الجوع في الدنيا‪ ،‬ول نصبر على النار في الخرة !!‬
‫‪696‬‬

‫وفي تجسيد دور الزوجة في ذلك المجال‪ ،‬فليس أقل من دور‬


‫زوجة الحافظ الهيثمي )وهي بنت شيخه الحافظ العراقي(؛ إذ ثبت‬
‫أنها كانت تساعد زوجها في مراجعة كتب الحديث‪.697‬‬
‫وفي دور غيرها‪ ،‬فقد أجمع المؤرخون على أن جميع العمال‬
‫الطيبة‪ ،‬والفعال الحسنة التي قام بها الخليفة المهدي‪ ،‬فأكسبته‬
‫الشهرة الفائقة‪ ،‬إنما كانت بتأثير زوجته "الخيزران"‪!!698‬‬
‫وغير هذه وتلك فإن ابنة سعيد بن المسيب دخل بها زوجها‪،‬‬
‫وكان من أحد طلبة والدها‪ ،‬فلما أن أصبح أخذ رداءه يريد أن يخرج‪،‬‬
‫فقالت له زوجته‪ :‬إلى أين تريد؟ فقال‪ :‬إلى مجلس سعيد أتعّلم‬
‫مك علم سعيد‪!!699‬‬‫س أعل ّ ْ‬
‫العلم‪ ،‬فقالت له‪ :‬اجل ْ‬
‫فهي لم تِعنه وتساعده فقط على تعّلم العلم‪ ،‬وإنما تقوم بدور‬
‫المعّلم كذلك!! ولذلك لم يكن غريًبا أن يقول زوجها عبد الله بن أبي‬
‫وداعة بعد أن دخل بها‪ .." :‬فإذا هي أجمل الناس‪ ،‬وأحفظهم‬
‫لكتاب الله تعإلي‪ ،‬وأعلمهم بسّنة الرسول‪ ،‬وأعرفهم بحق‬
‫الزوج‪ ،‬وإن كانت المعضلة وهجز الفقهاء عنها فأجدها‬
‫عندها فأسألها علمها"‪!!700‬‬
‫طر الرجال‬
‫م وكزوجة ‪ُ -‬تشا ِ‬
‫والمرأة بدورها في ذلك كله ‪ -‬كأ ّ‬
‫ما بتمام في سبيل تنشئة العلماء والعمل على رفعة هذه المة‪ ،‬إن‬ ‫تما ً‬
‫لم يكن لها فضل السبق عليهم والجر عنهم‪..‬‬

‫‪696‬‬

‫‪ 697‬عبد الله بن محمد بن الصديق الحسني‪ :‬تمام المنة ببيان الخصال الموجبة للجنة‪ ،‬مكتبة‬
‫القاهرة – مصر ص ‪. 39‬‬
‫سن منهن وساء‪ ،‬مكتبة التراث‬ ‫ُ‬ ‫ح‬ ‫فيما‬ ‫النساء‬ ‫مرآة‬ ‫الدهمي‪:‬‬ ‫الدين‬ ‫‪ 698‬انظر محمد كمال‬
‫السلمي ‪ -‬القاهرة ص ‪ ،86‬وهي أم الهادي وهارون الرشيد‪ ،‬ملكة حازمة متفقهة‪ ،‬أخذت‬
‫الفقه عن المام الوزاعي‪ .‬انظر العلم ‪. 328 /2‬‬
‫‪ 699‬أبو عبد الله محمد بن محمد العبدري بن الحاج‪ :‬المدخل‪ ،‬دار الفكر – بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫‪1397‬هق ‪1977 -‬م‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪. 215‬‬
‫‪ 700‬انظر إحياء علوم الدين ‪. 104 /3‬‬
‫ثانًيا‪ :‬دور الدولة في تنشئة العلماء‬
‫ل دور الدولة في تنشئة العلماء عن دور السرة‪ ،‬بل إن‬ ‫ق ّ‬
‫لي ِ‬
‫ما على‬
‫ن كثيرة‪ ..‬وقد يكون لزا ً‬
‫دورها قد يفوق دور السرة في أحيا ٍ‬
‫الدولة في سبيل بناء نهضتها‪ ،‬وفي سبيل قيادة مسيرتها نحو التقدم‬
‫ل التبعية‪ ،‬أن تحوز نصيب السد في كفالة‬ ‫والستقللية‪ ،‬والبعد عن ذ ُ ّ‬
‫العلماء‪ ،‬ورعايتهم وتنشئتهم‪ ،‬وتفقد أحوالهم!!‬
‫ما دورها المحوري‬ ‫والحقيقة أن الدولة السلمية لم تغفل يو ً‬
‫في هذا المجال‪ ،‬بل ربما كان هو الدور الغالب عليها‪ ،‬حتى إنك لتجد‬
‫المدارس‪ ،‬والمعاهد العليا‪ ،‬والمكتبات العامة وكذلك الخاصة‪ ،‬وقد‬
‫ازدانت بها مدن العالم السلمي من أقصاه إلى أقصاه‪ ..‬وفي ذلك‬
‫ما غفيًرا من خلفاء‬‫يذكر التاريخ بكثير من الكبار والعجاب ج ّ‬
‫المسلمين وأمرائهم‪ ،‬الذين كان لهم دوٌر كبير في رعاية العلماء‬
‫وطلب العلم‪ ،‬وكانت لهم إليد الطولى في إنشاء المدارس والمعاهد‬
‫والمكتبات في مختلف المصار السلمية‪ ،‬واستطاعوا أن يساعدوا‬
‫العلماء في بناء أمة متعّلمة ذات حضارة عالمية‪..‬‬
‫وكان من هؤلء على سبيل المثال نظام الملك‪ ،‬الوزير‬
‫السلجوقي العظيم؛ الذي مل بلد العراق وخراسان بالمدارس‪ ،‬حتى‬
‫ن له في كل مدينة بالعراق وخراسان مدرسة‪ ،‬وكان‬‫قيل فيه‪ :‬إ ّ‬
‫ينشيء المدارس حتى في الماكن النائية‪ ،‬وكان كّلما وجد في بلد ٍ‬
‫ة‬
‫فا‪،‬‬
‫ما قد تميز وتبحر في العلم بنى له مدرسة‪ ،‬ووقف عليها وق ً‬
‫عال ً‬
‫وجعل فيها دار كتب !!‬
‫‪701‬‬

‫ولع ّ‬
‫ل أهم ما كان يتميز به النظام الوقفي هو اشتراطه أن‬
‫يتوّلى المدرسة أعلم العلماء في مجاله وفي علمه‪ ،‬وهو المر الذي‬
‫كان وراء نبوغ الكثير من العلماء وكذلك الطلب‪.‬‬
‫ولم تكن هذه المدارس صغيرة أو بدائية‪ ،‬ويكفي أن نعلم أن‬
‫إحدى مدارس الوزير السلجوقي نظام الملك‪ ،‬وهي نظامية بغداد‪ ،‬بلغ‬
‫عدد تلميذها ستة آلف تلميذ‪ ،‬وكانوا كّلهم يتعّلمون بالمجان‪ ،‬بل‬
‫إن الطالب الفقير كان له فوق ذلك شيء معلوم يتقاضاه‬
‫صص لذلك‪.702‬‬‫من الّريع المخ ّ‬

‫‪ 701‬انظر مصطفى السباعي‪ :‬من روائع حضارتنا‪ ،‬دار الوراق‪ ،‬ودار السلم ‪ -‬القاهرة‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى‪1418 ،‬هق ‪1998 -‬م ص ‪.104‬‬
‫‪ 702‬المصدر السابق‪ :‬نفس الصفحة‪.‬‬
‫وغير نظام الملك ‪ -‬والمثلة أكثر من أن تحصى ‪ -‬كان هناك‬
‫ضا صلح الدين اليوبي‪ ،‬فقد أنشأ المدارس في جميع المدن التي‬
‫أي ً‬
‫كانت تحت سلطانه‪ ،‬في مصر ودمشق والموصل وبيت المقدس !!‬
‫‪703‬‬

‫ومثله كذلك كان الخليفة العباسي هارون الرشيد‪ ،‬وقد مّر بنا‬
‫التعّرض له في هذا المجال في أكثر من موضع‪ ،‬فقد قال عنه عبد‬
‫ما‪ ،‬ول قارًئا للقرآن‪ ،‬ول ساب ً‬
‫قا‬ ‫ت عال ً‬
‫الله بن المبارك‪" :‬ما رأي ُ‬
‫ظا للحرمات في أيام بعد أيام رسول الله ‪ ‬وأيام‬ ‫للخيرات‪ ،‬ول حاف ً‬
‫الخلفاء الراشدين والصحابة‪ ،‬أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه‪ ،‬لقد‬
‫كان الغلم يجمع القرآن وهو ابن ثماني سنين‪ ،‬ولقد كان‬
‫علم‪ ،‬ويروي الحديث‪ ،‬ويجمع‬ ‫الغلم يستبحر في الفقه وال ِ‬
‫الدواوين‪ ،‬ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة" ؛‬
‫‪704‬‬

‫ولم يكن ذلك إل بكثرة إنفاقه‪ ،‬واهتمامه بالعلم والعلماء وطلبه منذ‬
‫الصغر!!‬
‫ونظرة واحدة على عدد المدارس على اختلف أقسامها‪،‬‬
‫دت في عصر النهضة والحضارة السلمية‬ ‫والبيمارستانات التي ُ‬
‫شي ّ َ‬
‫فك على ما كان من دور الدولة في رعاية العلماء وتنشئتهم منذ‬ ‫ُتوقِ ُ‬
‫الصغر‪ ..‬فقد كانت هناك مدارس لتدريس القرآن الكريم وتفسيره‪،‬‬
‫ومدارس للحديث الشريف‪ ،‬ومدارس للفقه‪ ،‬وأخرى للطب‪ ،‬كما كان‬
‫هناك مدارس خاصة باليتام!!‬
‫وفي محاولة للوقوف على بعض من ذلك يقول ابن كثير في‬
‫ل بناء المدرسة‬ ‫حوادث سنة إحدى وثلثين وستمائة‪" :‬فيها ك َ ُ‬
‫م َ‬
‫فت على‬ ‫ن مدرسة قبلها مثلها‪ ،‬ووُقِ َ‬ ‫المستنصرية ببغداد‪ ،‬ولم ي ُب ْ َ‬
‫المذاهب الربعة‪ ،‬من كل طائفة اثنان وستون فقيًها‪ ،‬وأربعة معيدين‪،‬‬
‫ومدارس لكل مذهب‪ ،‬وشيخ حديث‪ ،‬وقارئان‪ ،‬وعشرة مستمعين‪،‬‬
‫وشيخ طب‪ ،‬وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب‪ ،‬ومكتب‬
‫در للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية‬ ‫لليتام‪ ،‬وقُ ّ‬
‫وافرة لكل واحد" ‪.‬‬
‫‪705‬‬

‫وتابع ابن كثير فقال‪" :‬ولما كان يوم الخميس خامس رجب‬
‫حضرت الدروس بها‪ ،‬وحضر الخليفة المستنصر بالله بنفسه الكريمة‬
‫وأهل دولته من المراء والوزراء والقضاة والفقهاء والصوفية‬
‫ل سماط عظيم بها أكل‬ ‫والشعراء‪ ،‬ولم يتخّلف أحد ٌ من هؤلء‪ ،‬وع ُ ِ‬
‫م َ‬
‫ل منه إلى سائر دروب بغداد من بيوتات‬ ‫م َ‬
‫ح ِ‬
‫منه الحاضرون‪ ،‬و ُ‬

‫‪ 703‬انظر في ذلك على سبيل المثال‪ :‬النعيمي‪ :‬الدارس في أخبار المدارس‪.‬‬


‫‪ 704‬أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينورى‪ :‬المامة والسياسة‪ ،‬وهو المعروف بتاريخ‬
‫ه ‪1967 -‬م‬
‫الخلفاء‪ ،‬تحقيق الدكتور طه محمد الزينى‪ ،‬مؤسسة الحلبي – القاهرة‪‍ 1387 ،‬‬
‫‪.2/157‬‬
‫‪ 705‬البداية والنهاية ‪. 163 /13‬‬
‫وام‪ ،‬وخلع على جميع المدرسين بها والحاضرين فيها‪،‬‬ ‫الخواص والعَ َ‬
‫ما مشهوًدا‪."..‬‬
‫وعلى جميع الدولة والفقهاء والمعيدين‪ ،‬وكان يو ً‬
‫مع بمثلها في‬
‫ب لم ُيس َ‬
‫ن كت ٍ‬
‫فت خزائ ُ‬
‫إلى أن قال ابن كثير‪" :‬ووُقِ َ‬
‫سن نسخها‪ ،‬وجودة الكتب الموقوفة بها" !!‬
‫‪706‬‬
‫ح ْ‬
‫كثرتها‪ ،‬و ُ‬
‫ضا في الهتمام‬
‫وبعد مرحلة الصغر كان للدولة الدور البارز أي ً‬
‫بأبنائها العلماء ورعايتهم بما يليق ومكانتهم‪..‬‬
‫فكانت أول ً توفر لهم من المرتبات ما يكفي لمعيشتهم عيشة‬
‫طون من رواتب أخرى كحاجات معاشية‪..‬‬ ‫هانئة‪ ،‬وهذا عدا ما كان ُيع َ‬
‫فقد كان الشيخ نجم الدين الخبوشاني ممن عّينه السلطان صلح‬
‫الدين ليدّرس في مدرسته الصلحية‪ ،‬وقد جعل له كل شهر أربعين‬
‫ديناًرا عن التدريس‪ ،‬وعشرة دنانير للشراف على أوقاف المدرسة‪،‬‬
‫وستين رطل ً مصرًيا من الخبز كل يوم‪ ،‬وراويتين من ماء النيل كل‬
‫يوم‪.‬‬
‫وكان من رواتب شيوخ الزهر الشهرية‪ ،‬راتب يأخذه الشيخ‬
‫لنفقات بغلته‪ ،‬إذ ْ كان من أوقاف الزهر وقف خاص لبغلة الشيخ‬
‫ونفقاتها‪.707‬‬
‫ضا‬
‫ومثل هذا ي ُعَد ّ من أبواب تفريغ العلماء للتأليف والبتكار‪ ،‬وأي ً‬
‫تعليم الناس‪ ،‬وإفادتهم‪ ،‬دينًيا ودنيوًيا‪..‬‬
‫ضا أنه كان للمعلمين‬
‫ومما يستحق التنويه به في ذلك الصدد أي ً‬
‫في ذلك الوقت المبكر نقابة خاصة بهم‪ ،‬وكان جماعة المعلمين هم‬
‫الذين يختارون النقيب‪ ،‬وما كان يتدخل السلطان إل إذا وقع خلف‬
‫بين العضاء فيصلح بينهم‪..‬‬
‫وفي ذلك يروى أبو شامة في الروضتين عن مقلد الدولعي أنه‬
‫قال‪ :‬لما مات الحافظ المرادي‪ ،‬وك ُّنا جماعة الفقهاء قسمين‪ :‬العرب‬
‫من مال إلى المذهب‪ ،‬وأراد أن يستدعي الشيخ شرف‬ ‫والكراد؛ فمّنا َ‬
‫الدين بن أبى عصرون‪ ،‬وكان بالموصل‪ ،‬ومّنا من مال إلى علم النظر‬
‫والخلف‪ ،‬وأراد أن يستدعي القطب النيسابوري‪ ،‬وكان قد جاء وزار‬
‫البيت المقدس‪ ،‬ثم عاد إلى بلد العجم؛ فوقع بيننا كلم بسبب ذلك‬
‫ووقعت فتنة بين الفقهاء‪ ،‬فسمع نور الدين بذلك فاستدعى جماعة‬
‫داية نائًبا عنه‪،‬‬
‫الفقهاء إلى القلعة بحلب‪ ،‬وخرج إليهم مجد الدين بن ال ّ‬
‫وقال لهم‪ :‬ما أردنا ببناء المدارس إل نشر العلم‪ ،‬ودحض البدع‪،‬‬
‫وإظهار الدين‪ ،‬وهذا الذي جرى بينكم ل يحسن ول يليق‪ ،‬وقد قال‬
‫المولى نور الدين‪ُ :‬نرضي الطائفتين ونستدعي الشيخين‪ .‬فاستدعاهما‬
‫المصدر السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬ ‫‪706‬‬

‫انظر مصطفى السباعي‪ :‬من روائع حضارتنا ص ‪. 102‬‬ ‫‪707‬‬


‫مَيت باسمه‪ ،‬وولى قطب‬
‫س ّ‬
‫جميًعا‪ ،‬وولى شرف الدين المدرسة التي ُ‬
‫الدين مدرسة النفري‪.708‬‬
‫وفي مرحلة أخرى فإن دور الدولة في التعامل مع‬
‫ن آخر!!‬
‫العلماء المبدعين كان له شأ ٌ‬
‫فهذا الخليفة الموحدي الثالث المنصور يعقوب بن يوسف بن‬
‫عبد المؤمن ُينشئ "بيت الطلبة"‪ ،‬للنابغين ويشرف عليه بنفسه‪،‬‬
‫حتى إن بعض حاشيته حسدوا هؤلء الطلبة على موضعهم منه‪،‬‬
‫وتقريبه إياهم‪ ،‬وخلوته بهم دونهم‪ ،‬ولما بلغ ذلك المنصور الموحدي‬
‫ل‪" :‬يا معشر الموحدين‪ ،‬أنتم قبائل‪ ،‬فمن نابه منكم‬ ‫فزع وخاطبهم قائ ً‬
‫أمٌر فزع إلى قبيلته‪ ،‬وهؤلء الطلبة ل قبيلة لهم إل أنا‪ ،‬فمهما نابهم‬
‫سبون‪ ،709"..‬فكان أن‬ ‫من أمرٍ فأنا ملجأهم‪ ،‬وإلى فزعهم‪ ،‬وإلى ُين َ‬
‫مت الرجاء!!‬ ‫قامت دولة الموحدين وسادت وع ّ‬
‫ولبي ع َُبيد القاسم بن سلم قصة طريفة مع عبد الله بن طاهر‬
‫تدل على تقدير المراء لعقول العلماء‪ ،‬وتكريم النابغين منهم‪ ..‬فإنه‬
‫لما وضع أبو عبيد القاسم بن سلم كتاب "غريب الحديث" عرضه‬
‫على عبد الله بن طاهر‪ ،‬فاستحسنه وقال‪" :‬إن عقل ً بعث صاحبه على‬
‫ج إلى طلب المعاش"‪ ،‬ثم أجرى له‬ ‫حوَ َ‬‫عمل هذا الكتاب حقيقٌ أن ل ي ُ ْ‬
‫كل شهر عشرة آلف درهم‪!!710‬‬
‫وقد مّر بنا ما كان من الجوائز العظيمة والهبات الجزيلة التي‬
‫كان يمنحها الخلفاء والحكام للعلماء بهدف التشجيع على تحصيل‬
‫العلوم‪ ،‬والتي كانت )أي‪ :‬الجوائز والهبات( في صورة هي أقرب إلى‬
‫جم ‪ -‬من لغة غير‬
‫متر َ‬
‫الخيال‪ ،‬وأنه كان من ذلك إعطاء وزن الكتاب ال ُ‬
‫العربية إلى اللغة العربية ‪ -‬ذهًبا للعاِلم الذي يقوم بترجمته!!‬
‫قَلت‬
‫وقد كان من جّراء ذلك أن نشطت حركة الترجمة‪ ،‬ون ُ ِ‬
‫علوم هائلة على إثرها إلى المسلمين‪..‬‬
‫وأروع من ذلك ما قامت به الخلقة العثمانية‪ ،‬وذلك حين نجحت‬
‫في تجميع النابغين من جميع القرى والمصار‪ ،‬ووفرت لهم الرعاية‬
‫التي جعلت كل نابغة يعطي ما عنده من فن وعلم؛ وهو المر الذي‬
‫ساعد على ازدهار الدولة حضارًيا وعسكرًيا حتى باتت الدولة الولى‬
‫في العالم!!‬

‫انظر الروضتين في أخبار النورية والصلحية ص ‪. 17‬‬ ‫‪708‬‬

‫المراكشي‪ :‬المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص ‪. 81‬‬ ‫‪709‬‬

‫انظر تاريخ بغداد ‪ - 406 /12‬تاريخ دمشق ‪ - 74 /49‬تهذيب التهذيب ‪. 284 /8‬‬ ‫‪710‬‬
‫ولم يكن اهتمام الدولة يقتصر على رعاية العلماء من أبنائها‪،‬‬
‫بل كان الحكام يستدعون العلماء من شتى المصار ليستفيدوا‬
‫من علومهم‪ ،‬ويسعدوا برعايتهم!!‬
‫فها هو المير المعز بن باديس‪ ،‬أحد أمراء دولة الصنهاجيين في‬
‫المغرب السلمي‪ ،‬كان ل يسمع بعالم جليل إل أحضره عنده‪ ،‬بل‬
‫ول على آرائه‪ ،‬ومنحه أسمى‬ ‫وجعله من خاصته‪ ،‬وبالغ في إكرامه‪ ،‬وع ّ‬
‫الرتب‪!!711‬‬
‫وها هو السلطان محمد الفاتح ل يسمع عن عالم في مكانه‬
‫أصابه عوز وإملق إل بادر إلى مساعدته‪ ،‬وب َ‬
‫ذل له ما يستعين به على‬
‫أمور دنياه‪.712‬‬
‫وإن هذه الصورة لتتضح في وصيته لبنه وهو على فراش‬
‫الموت؛ فقد جاء فيها‪ .." :‬وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة‬
‫د‬
‫ظم جانبهم وشجعهم‪ ،‬وإذا سمعت بأح ٍ‬ ‫في جسم الدولة‪ ،‬فع ّ‬
‫منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك‪ ،‬وأكرمه بالمال‪. "..‬‬
‫‪713‬‬

‫وقد مّر بنا استدعاء الحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر لبن‬
‫الهيثم العالم الشهير‪ ،‬والحتفاء بقدومه وإكرامه‪ ،‬وتقديم العون‬
‫والمال له‪..‬‬
‫ضا انتقال الخوارزمي من بلدته خوارزم إلى بغداد‪،‬‬
‫ومّر بنا أي ً‬
‫حيث )بيت الحكمة(‪ ،‬وكيف أحاطه المأمون بعناية خاصة وتكريم كبير‪،‬‬
‫له منصًبا كبيًرا في بيت الحكمة‪ ،‬ثم أوفده في بعض البعثات‬ ‫وو ّ‬
‫العلمية إلى البلد المجاورة‪ ،‬للتصال بعلماء هذه المناطق‪،‬‬
‫والستزادة من علوم الخرين‪ ،‬ونشر العلم في أرجاء الدولة‬
‫السلمية‪..‬‬
‫بل إن اهتمام الدولة برعاية وتنشئة العلماء لم يقتصر فقط‬
‫دى ذلك ليشمل العلماء غير المسلمين‬‫على المسلمين منهم‪ ،‬وإنما تع ّ‬
‫ضا!!‬
‫أي ً‬
‫سا مجرًيا نصرانًيا‬
‫فها هو السلطان محمد الفاتح يراسل مهند ً‬
‫عا في صناعة المدافع‪ ،‬فيحسن استقباله‪،‬‬ ‫ُيدعى أوربان‪ ،‬كان بار ً‬
‫ويزداد في إكرامه‪ ،‬ويعتني به عناية خاصة‪ ،‬فيوّفر له جميع المكانيات‪،‬‬
‫كن هذا المهندس بعد ذلك من تصميم‬ ‫ويزوده بكل ما يحتاجه؛ ليتم ّ‬
‫وتنفيذ العديد من المدافع الضخمة‪ ،‬والتي كان على رأسها المدفع‬
‫‪ 711‬انظر في ذلك ابن عذارى‪ :‬البيان المغرب في أخبار الندلس و المغرب ص ‪ - 129‬العلم‬
‫‪. 269 /7‬‬
‫‪ 712‬علي محمد الصلبي‪ :‬الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط‪ ،‬دار التوزيع والنشر‬
‫السلمية ‪ -‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪1424 ،‬هق ‪2004 -‬م ص ‪. 140‬‬
‫‪ 713‬المصدر السابق ص ‪. 148‬‬
‫السلطاني المشهور‪ ،‬والذي لم ي َُر مثله‪ !!714‬وهو بعينه ما تقوم به‬
‫أمريكا وأوربا الن‪..‬‬
‫وهذه أسرة بختيشوع النسطورية‪ ،‬كان أبناؤها أطباء السرة‬
‫قَرابة ‪ 70‬سنة‪ ،‬من زمن المنصور إلى المعتمد‪ ،‬فكانت لهم‬ ‫العباسية ل ُ‬
‫الرعاية والهتمام الخاص ‪ .‬وكان من هذه السرة جبرائيل بن‬
‫‪715‬‬

‫بختيشوع بن جرجس )ت ‪213‬هق(‪ ،‬والذي كان طبيب هارون الرشيد‬


‫وجليسه وخليله‪ ،‬حتى إنه ليقال‪ :‬إن منزلته مازالت تقوى عند الرشيد‬
‫حتى قال لصحابه‪ :‬من كانت له حاجة إلى فليخاطب بها جبرائيل‪!!716‬‬
‫وكذلك كان ابن ميمون اليهودي الندلسي له رعاية واهتمام‬
‫خاص عند صلح الدين اليوبي‪ ،‬وكان طبيبه الخاص‪!!717‬‬
‫على أن الحكام والمراء كانت لهم وسائل أخرى إذا لم‬
‫ّ‬
‫يستطيعوا أن يجتذبوا العلماء‪ ،‬وكان من هذه الوسائل‪ :‬شراء مؤلفات‬
‫العلماء العلمية فور انتهاء أصحابها من تأليفها!!‬
‫وعلى سبيل المثال فإنه لما سمع الحكم الخليفة الموي‬
‫بالندلس بكتاب "الغاني" المشهور الن في الدب‪ ،‬ما كان منه إل أن‬
‫أرسل إلى مؤّلفه أبي الفرج الصفهاني ألف دينار من الذهب ثمن‬
‫نسخة منه ليرسله إليه في بلده‪ ،‬وكان له ما أراد؛ حيث أرسل إليه أبو‬
‫ريء الكتاب في الندلس‬ ‫الفرج بنسخة من كتابه المذكور‪ ،‬فكان أن قُ ِ‬
‫قبل أن ُيقَرأ في العراق موطن المؤلف!!‬
‫حب تلك الروح العلمية العالية عند أولي المر‪،‬‬
‫ما ُيصا ِ‬
‫ناهيك ع ّ‬
‫وما يمكن أن يتمخض عنها من حالة علمية ومعرفية عامة!!‬
‫ونستطيع أن نتلمس دور الدولة في تنشئة ورعاية العلماء في‬
‫عصرنا الحاضر من خلل مؤسسة الملك فيصل الخيرية‪ ،‬كمثال‬
‫حي وشاهد عيان على ما ذكرناه‪..‬‬
‫فهذه المؤسسة َتمنح جائزة ً سنوية )جائزة الملك فيصل‬
‫ت‬
‫ققوا إنجازا ٍ‬
‫العالمية( لتكافيء الذين أوقفوا حياتهم للعلم‪ ،‬وح ّ‬
‫ة‪ ،‬وتحول ً إيجابًيا في مجالت إبداعهم‪ ،‬وُتمَنح للعلماء الذين كان‬
‫فريد ً‬
‫دم جوهري في تخصصاتهم العلمية‬ ‫لنتائج بحوثهم الثر في تحقيق تق ّ‬
‫ة للنسانية‪ ،‬ومن شأن هذا الحافز أن يشجع على توسيع البحوث‬ ‫خدم ً‬
‫ق جديدة‪ ،‬وذلك في ميداني‪ :‬الطب‬ ‫العلمية وتطويرها لرتياد آفا ٍ‬
‫والعلوم‪.‬‬
‫‪ 714‬انظر عبد العزيز العمري‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬دار إشبيلية ‪ -‬الرياض‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪1986 ،‬م – ‪1406‬هق ص ‪. 361‬‬
‫‪ 715‬انظر العلم )‪. 45 ،44 /2‬‬
‫‪ 716‬المصدر السابق ‪. 111 /2‬‬
‫‪ 717‬انظر العلم ‪. 329 /7‬‬
‫ددت غايات الجائزة في‪:‬‬
‫وقد تح ّ‬
‫‪ -‬العمل على خدمة السلم والمسلمين في المجالت‬
‫الفكرية والعلمية والعملية‪.‬‬
‫‪ -‬تحقيق النفع العام لهم في حاضرهم ومستقبلهم‪ ،‬والتقدم‬
‫بهم نحو ميادين الحضارة والمشاركة فيها‪.‬‬
‫‪ -‬تأصيل المثل والقيم السلمية في الحياة الجتماعية‪،‬‬
‫وإبرازها للعالم‪.‬‬
‫دم البشرية‪ ،‬وإثراء الفكر النساني‪.‬‬
‫السهام في تق ّ‬ ‫‪-‬‬

‫وتتيح المعايير الموضوعية التي تعتمدها الجائزة الفرصة لي‬


‫عالم أو مفكر له دراسة علمية أصيلة في الفرع المعلن أن يكون‬
‫مؤهّل ً لنيل الجائزة‪ ،‬مادام قد أغنى مجال تخصصه‪ ،‬وأسهم في‬
‫قق فائدة ملحوظة للبشرية‪..718‬‬‫تطوره‪ ،‬وح ّ‬
‫ضا جائزة محمد بن راشد آل مكتوم نائب‬‫ومثل هذه الجائزة أي ً‬
‫رئيس دولة المارات‪ ،‬ورئيس مجلس الوزراء‪ ،‬وحاكم دبي؛ والتي‬
‫صا على ضمان تطور ونمو‬ ‫صا لخدمة المة العربية‪ ،‬وحر ً‬‫جعَِلت خصي ً‬
‫ُ‬
‫مؤسساتها‪ ،‬ورقي ورفعة شعوبها‪..‬‬
‫يقول راعي الجائزة‪" :‬لقد أردنا أن تكون هذه الجائزة وسيلة‬
‫فّعالة لتطوير الدارة العربية‪ ،‬وأداة عملية للرتقاء بالممارسات‬
‫صنا على أن تكون‬ ‫الدارية والمهنية في المؤسسات العربية‪ ،‬وحر ْ‬
‫فرصة للتعبير عن تقديرنا ومساندتنا للداء المتميز‪ ،‬والنجاز الفّعال‪،‬‬
‫والعمل الجيد الذي يستجيب لمتطلبات أمتنا ويخدم شعوبنا‬
‫العربية‪..719‬‬
‫ن على الدولة جانًبا كبيًرا من الجهود المطلوبة‬
‫بقي أن نقّرر أ ّ‬
‫لتنشئة العلماء وإخراجهم إلى الوجود‪ ،‬وأنه ل مناص لها من بذل ذلك‬
‫الجهد إذا ما أرادت النهوض ومواكبة العصر‪ ،‬والقتداء بمثيلتها في‬
‫عصر الحضارة والنهضة السلمية؛ فينبغي عليها الهتمام بالعلماء‬
‫والباحثين في الجامعات وفي مراكز البحوث المختلفة‪ ،‬ومن صور‬
‫ذلك‪ :‬تقديم الحوافز المادّية والمعنوية لهم‪ ،‬وعدم إخضاعهم‬
‫للبيروقراطية واللوائح التي تعوق طريقهم‪ ،‬كما ينبغي عليها منح‬
‫ت‪ ،‬وحوافز تشجيعية للمرافق البحثية وللعاملين‬ ‫ت‪ ،‬وامتيازا ٍ‬
‫تسهيل ٍ‬
‫فيها؛ وذلك بهدف ملحقة التطور ودفع عجلة النتاج في هذا المجال‪،‬‬
‫‪ 718‬موقع جائزة الملك فيصل العالمية على شبكة النترنت‪ ،‬وهو على الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.menofia.edu.eg/announcements/faisal/section- 1-ar.html‬‬
‫‪ 719‬انظر موقع جائزة محمد بن راشد آل مكتوم على الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.arabmanagementaward.com/Default.aspx?&lang=ar‬‬
‫فضل ً عن إيقاف طوفان هجرة العقول والكفاءات إلى دول أخرى‬
‫متقدمة‪.‬‬

‫ثالًثا‪ :‬دور العلماء والدعاة في تنشئة العلماء‬


‫للعلماء والدعاة في تنشئة العلماء دوٌر ل ُيضاهيه دور آخر في‬
‫من الشيء إل من‬ ‫تأثيره الفعلي ونتيجته المباشرة والقريبة؛ إذ ل ُيث ّ‬
‫مه‪ ..‬والخد ّ يعلم‬
‫مه وزانه‪ ،‬ول يعرف طعم العسل إل من ذاقه وطعِ َ‬ ‫عل ِ َ‬
‫ق ‪..‬‬
‫‪720‬‬
‫حَر ِ‬
‫ما في الدمع من ُ‬
‫فلنهم أعلم المة بمصالح المة‪ ،‬ولنهم أحرص الناس على‬
‫لح‪ ،‬ولنهم أحرصهم على سيادة العلم؛ فكان دورهم جد كبير في‬ ‫الص ً‬
‫إخراج العلماء‪ ،‬وفي تربية المجتمع على إخراج وتنشئة هؤلء العلماء‪..‬‬
‫ب والمساحة واسعة‪ ،‬ولو أخذ‬‫أما بالنسبة للدعاة فالمجال رح ٌ‬
‫الدعاة على عاتقهم هذا الدور بمحمل من الجد لخرج لنا جي ٌ‬
‫ل من‬
‫العلماء يكفي المة‪ ،‬ويسد ّ الثغرات في كل المجالت!! وكيف ل‬
‫جهو دّفة مسيرتها؟! وهم وسيلة الص ً‬
‫لح‬ ‫والدعاة هم أعلم المة ومو ّ‬
‫الولى في المجتمع‪ ،‬وعن طريقهم يحصل المل المنشود؟!‬
‫سد معاذ بن جبل < ذلك الدور‪ ،‬فقام وهو يحمل هم‬ ‫وقد ج ّ‬
‫ّ‬
‫المة يخطب الناس‪ ،‬ويقول‪" :‬تعلموا العلم؛ فإن تعلمه لله خشية‪،‬‬
‫وطلبه عبادة‪ ،‬ومدارسته تسبيح‪ ،‬والبحث عنه جهاد‪ ،‬وتعليمه من ل‬
‫يعلمه صدقة‪ ،‬وبذله لهله قربة‪ ،‬وهو النيس في الوحدة‪ ،‬والصاحب‬
‫في الخلوة‪ ،‬والدليل على الدين‪ ،‬والمصّبر على السراء والضراء‪،‬‬
‫والوزير عند الخ ّ‬
‫لء‪ ،‬والقريب عند الغرباء‪ ،‬ومنار سبيل الجنة‪ ،‬يرفع‬
‫ما فيجعلهم في الخير قادة سادة‪ ،‬هداة يقتدى بهم‪ ،‬أدلة‬ ‫الله به أقوا ً‬
‫في الخير‪ ،‬تقتص آثارهم‪ ،‬وترمق أفعالهم‪ ،‬وترغب الملئكة في خلتهم‪،‬‬
‫وبأجنحتها تمسحهم‪ ،‬وكل رطب ويابس لهم يستغفر‪ ،‬حتى حيتان‬
‫البحر وهوامه‪ ،‬وسباع البر وأنعامه‪ ،‬والسماء ونجومها؛ لن العلم حياة‬
‫القلوب من الجهل‪ ،‬ومصابيح البصار من الظلم‪ ،‬يبلغ العبد بالعلم‬
‫منازل الخيار والدرجات العل في الدنيا والخرة‪ ،‬والتفكر فيه يعدل‬
‫الصيام‪ ،‬ومدارسته تعدل القيام‪ ،‬به توصل الرحام‪ ،‬وبه يعرف الحلل‬
‫من الحرام‪ ،‬وهو إمام والعمل تابعه‪ ،‬يلهمه السعداء ويحرمه‬
‫الشقياء"‪.721‬‬

‫‪ 720‬شطر بيت لشاعر المهجر إلياس فرحات‪ ،‬وتمامه هو‪" :‬الخد يعلم ما في الدمع من حرق ‪..‬‬
‫وليس تعلم ما فيه المناديل"‪.‬‬
‫‪ 721‬رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله )‪ (235 /1‬وقال‪ :‬هكذا حدثنيه أبو عبد الله‬
‫عا بالسناد المذكور‪) ،‬وكان قد ذكر السناد(‪.‬‬
‫عبيد بن محمد ~ مرفو ً‬
‫فلم يترك < واردة ول شاردة في الحث على العلم‪ ،‬وبيان‬
‫فضله ومنزلته إل أتى بها‪ ،‬يخاطب بها قومه ومجتمعه؛ عّلهم يأخذون‬
‫في تعليمه ويهُّبون إلى تحصيله‪..‬‬
‫فالمهمة جليلة وجد عظيمة‪ ،‬وخاصة إذا كان حال المة غير‬
‫ي‪ ..‬ولعلنا نوجه من هنا دعوة إلى كل الدعاة في أنحاء العالم‬ ‫مرض ّ‬
‫السلمي‪ ،‬بأن يسدوا الثغرة التي أوكلهم الله إياها وأوقفهم عليها‪،‬‬
‫عّني‬
‫غوا َ‬‫وأن يقوموا بها على وجهها‪ ..‬وقد قال رسول الله ‪" :‬ب َل ّ ُ‬
‫ة‪.722"..‬‬ ‫ول َ ْ‬
‫و آي َ ً‬ ‫َ‬
‫وحريٌ بدعاة المسلمين بأن يقفوا على مواطن النزف التي‬
‫تصيب المة‪ ،‬وأن يكشفوا عنها‪ ،‬ويعملوا على علجها ومقاومتها‪ ،‬وأل‬
‫يتخوضوا في سفاسف المور وما ل يعود ينفٍع على المة من قريب أو‬
‫بعيد‪ ..‬وأحرى بهم بأن يسيروا وفق منهج واضح وهدف محدد‪ ،‬عن‬
‫طريقه يمكن تربية المجتمع وتنشئة وإخراج العلماء‪.‬‬
‫ث والنصح‪ ،‬والتوجيه‬
‫دعاة غالًبا ما يأخذ طابع الح ّ‬ ‫على أن دور ال ّ‬
‫والرشاد‪ ،‬على الهتمام بالعلم وتعليمه‪ ،‬وبذل المال فيه‪ ،‬وإنفاقه على‬
‫طلبته ومشاريعه ومؤسساته‪ ،‬متوجهين في ذلك لكل فئات المجتمع‬
‫وطبقاته‪ ،‬بدًءا بالطفال وانتهاًء بالباء‪ ،‬ومروًرا بأرباب الصنائع‬
‫والحرف المختلفة في المجتمع‪ ،‬وانتهاًء بالدولة ومؤسساتها‪..‬‬
‫فكان من ذلك‪ ،‬في سبيل تنشئة الطفال مثل ً وتعويدهم على‬
‫أن ُيصبحوا علماء‪ ،‬أن عمرو ابن العاص < مّر على حلقة من قريش‬
‫فقال‪" :‬ما لكم قد طرحتم هذه الغيلمة؟ ل تفعلوا! أوسعوا لهم في‬
‫المجلس‪ ،‬وأسمعوهم الحديث‪ ،‬وأفهموهم إياه؛ فإنهم صغار قوم‬
‫أوشك أن يكونوا كبار قوم‪ ،‬وقد كنتم صغار قوم فأنتم اليوم كبار‬
‫قوم"‪.723‬‬
‫فكان العتناء بتعليم الطفال الجرأة على طرح أفكارهم‪،‬‬
‫والمشاركة بها في نوادي الكبار‪ ،‬وذلك بمجالسة العقلء الكبار‪ ،‬فتكبر‬
‫عقولهم وينضج تفكيرهم‪ ..‬كان ذلك وسيلة مهمة من قبل الدعاة‬
‫والمصلحين في تنشئة الطفال ليصبحوا علماء‪ ،‬ومن الخطأ أن ُيمَنع‬
‫الصغير من حضور مجالس أهل الخبرة والتجربة‪ ،‬كما أن من الخطأ‬
‫عدم الهتمام بالنشء في هذه الفترة المبكرة‪.‬‬
‫بل إن ابن شهاب الزهري ~ كان يشجع الصغار ويقول لهم‪:‬‬
‫"ل تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب كان‬

‫البخاري‪ :‬كتاب أحاديث النبياء‪ ،‬باب ما ذكر عن بني إسرائيل )‪.(3202‬‬ ‫‪722‬‬

‫انظر الخطيب البغدادي‪ :‬شرف أصحاب الحديث ص ‪. 159‬‬ ‫‪723‬‬


‫دة‬
‫إذا نزل به المر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع ح ّ‬
‫عقولهم"‪.724‬‬
‫ولم تقتصر نصيحة الدعاة في هذا الدور على الطفال فحسب‪،‬‬
‫قا ‪ -‬كانت لهم توجيهاتهم الخاصة لباء هؤلء‬ ‫وإنما ‪ -‬وكما أشرنا ساب ً‬
‫الطفال؛ وذلك أن الباء ربما ينخرطون في دوامة الدنيا وصروفها‪،‬‬
‫فينشغلون بذلك عن أبنائهم وتقديم الرعاية اللزمة لهم ليصبحوا‬
‫علماء‪ ،‬ل عن قصد ٍ بقدر ما هو عن تكاسل أو جهل‪ ..‬وهنا يصبح دور‬
‫دا!!‬
‫ما ج ً‬
‫الدعاة دوًرا محورًيا ومه ً‬
‫رهونه‬
‫فهذا المام النووي ~ وهو طفل صغير كان الصبيان ُيك ِ‬
‫ب منهم ويبكي؛ يريد أن يتعلم ويحفظ‬ ‫على اللعب معهم‪ ،‬وهو يهر ُ‬
‫القرآن‪ ،‬وقد صادف أن مّر بقريته الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي‬
‫حه بأن يفّرغه‬‫ورأى ذلك‪ ،‬فما كان منه إل أن ذهب إلى والده ونص َ‬
‫لطلب العلم‪ ،‬وكان أن استجاب والد النووي‪ ،‬حتى إنه رحل به إلى‬
‫دمشق ليتعلم في مدرسة دار الحديث‪ ..725‬ليصبح بعد ذلك المام‬
‫النووي‪ ،‬والذي مل سمع الدنيا بعلمه‪ ،‬وصار إمام عصره‪ ،‬وبرع في‬
‫الحديث والفقه واللغة‪ ،‬وترك لنا أسفاًرا وكتًبا مازالت تحييه في‬
‫عالمنا!!‬
‫ب بارز من دور الدعاة في‬ ‫ضا بصفة عامة نصي ٌ‬ ‫وكان للمجتمع أي ً‬
‫‪726‬‬
‫هذا المجال‪ ..‬ومما ُيذكر في ذلك أن أسد بن الفرات بن سنان‬
‫دمه على غزو صقلية؛ فخرج في‬ ‫و ّ‬
‫له زيادة الله القضاء بإفريقية‪ ،‬وق ّ‬
‫عشرة آلف رجل‪ ،‬منهم ألف فارس‪ .‬ولما خرج إلى سوسة ليتوجه‬
‫منها إلى صقلية‪ ،‬خرج معه وجوه أهل العلم يشيعونه‪ ،‬وهنا استغل‬
‫ذلك الحدث الجليل وقام فيهم خطيًبا؛ فقال‪ :‬ل إله إل الله وحده ل‬
‫شريك له‪ ،‬يا معشر الناس‪ ،‬ما بلغت ما ترون إل بالقلم!‬
‫فأجهدوا أنفسكم فيها‪ ،‬وثابروا على تدوين العلم‪ ،‬تنالوا به‬
‫الدنيا والخرة‪!727‬‬
‫ة وأسوة ً في ذلك الصدد‪ ،‬فإنما هو دور‬
‫وإذا أردنا تجارب واقعي ً‬
‫الدعاة والمصلحين في هذه المة وعلى امتداد العالم السلمي‪،‬‬
‫وسيرتهم في ذلك‪ ،‬ومنهم على سبيل المثال ل الحصر‪ :‬جمال الدين‬
‫الفغاني )‪1314 -1254‬هق ‪1897 -1838 /‬م(‪ ،‬ومحمد عبده )‪-1265‬‬
‫‪1323‬هق ‪1905 -1849 /‬م(‪ ،‬ومحمد رشيد رضا )‪1354-1282‬هق ‪/‬‬

‫‪ 724‬رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ‪. 409 /1‬‬
‫‪ 725‬انظر القصة في تحفة الطالبين في ترجمة المام النووي لبن العطار ص ‪.2‬‬
‫‪ 726‬هو أسد بن الفرات الفقيه المالكي العظيم‪ ،‬أصله من خراسان‪ ،‬ورحل أبوه إلي القيروان‬
‫في جيش الشعث‪ ،‬فأخذه معه وهو طفل‪ ،‬فنشأ بها ثم بتونس‪ ،‬ورحل إلي المشرق في طلب‬
‫دا في سبيل الله‪ ،‬وفتح‬‫الحديث‪ .‬دّون مذهب المام مالك‪ ،‬وكان يعمل قاضًيا للقيروان‪ ،‬ثم مجاه ً‬
‫جزيرة صقلية‪ ،‬واسُتشِهد هناك سنة ‪213‬هق‪ .‬العلم ‪. 298 /1‬‬
‫‪ 727‬انظر النباهي‪ :‬تاريخ قضاة الندلس ص ‪. 31‬‬
‫‪1935-1865‬م(‪ ،‬ومحمد أبو زهرة )‪1394-1316‬هق ‪-1898 /‬‬
‫‪1974‬م(‪ ،‬وحسن البنا )‪1368-1324‬هق ‪1949-1906 /‬م(‪ ،‬وعبد‬
‫الحميد بن باديس )‪1359-1305‬هق ‪1940-1887 /‬م(‪ ..‬وغيرهم كثير‬
‫فى‬‫سم خطاهم وُيقت َ َ‬ ‫من الدعاة والمصلحين‪ ،‬والذين ينبغي أن ُيتر ّ‬
‫أثُرهم‪ ،‬وخاصة فيما نحن بصدده في قضية تنشئة العلماء‪.‬‬
‫ما دور العلماء في هذا المجال‪ ،‬فإنه ل يقل عن دور الدعاة‪،‬‬
‫أ ّ‬
‫ل ووسائل شتى‪ ،‬على أن أنجع وسيلة يمكن أن‬ ‫ولهم في ذلك سب ٌ‬
‫يقوموا بها هي توريث العلم‪..‬‬
‫ضا‬
‫فنقل العلم هو أعظم استثمار له؛ فبه وصل إلينا‪ ،‬وبه أي ً‬
‫يصل إلى غيرنا‪ ..‬وإن أعظم العمال هي تلك التي لم يقتصر نفعها‬
‫على صاحبها‪ ،‬وإنما التي يتعدى نفعها إلى الخرين‪..‬‬
‫ونقل العلم وبيانه للناس هو أعظم حق له على العلماء‬
‫َ‬
‫خ َ‬
‫ذ‬ ‫وإ ِذْ أ َ‬‫ل‪ ..‬يقول تعإلي‪َ  :‬‬ ‫الربانيين؛ فبه يتعلم الجاهل‪ ،‬ويرشد الضا ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ه‪. ‬‬ ‫مون َ ُ‬ ‫ْ‬
‫ول ت َكت ُ ُ‬‫س َ‬ ‫ب ل َت ُب َي ّن ُن ّ ُ‬
‫ه ِللّنا ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ميَثاقَ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ه ِ‬
‫‪728‬‬

‫ومن هنا فإن من أهم وسائل العلماء في سبيل تنشئة العلماء‬


‫م‬
‫هو أن ينفعوا بعلمهم الخرين؛ فينقلوه لهم ويورثوه إياهم‪ ..‬لتعُ ّ‬
‫الفائدة‪ ،‬ويعود النفع على المة بأثرها‪.‬‬
‫ن‬
‫دا أبو هريرة <‪ ،‬فتراه وهو يقول‪" :‬إ ِ ّ‬ ‫وذلك المر قد فقهه جي ً‬
‫ه‬ ‫ّ‬
‫ب الل ِ‬ ‫في ك َِتا ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫ول آي ََتا ِ‬ ‫َ‬ ‫ول ْ‬ ‫َ‬ ‫ة‪َ ،‬‬ ‫هَري َْر َ‬ ‫ن‪ :‬أ َك ْث ََر أ َُبو ُ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫س يَ ُ‬ ‫الّنا َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ما أن َْزلَنا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م ي َت ْلو‪" :‬إ ِ ّ‬ ‫ديًثا‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫ح ِ‬ ‫ت َ‬ ‫حدّث ْ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫وان ََنا ِ‬ ‫خ َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫وإ ِ ّ‬ ‫م" َ‬ ‫حي ُ‬ ‫ه‪" :‬الّر ِ‬ ‫ول ِ ِ‬ ‫َ‬
‫دى‪ "..‬إلى ق ْ‬ ‫ه َ‬ ‫وال ُ‬‫ْ‬ ‫ت َ‬ ‫الب َي َّنا ِ‬‫ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫وان ََنا ِ‬ ‫خ َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫وإ ِ ّ‬ ‫ق‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫وا‬‫س َ‬ ‫ق ِبال ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫ص ْ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫غل ُ‬ ‫ش َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ن كا َ‬ ‫َ‬ ‫ري َ‬ ‫ِ‬ ‫ج‬‫ها ِ‬ ‫م َ‬‫ال ْ ُ‬
‫ة‬
‫هَري َْر َ‬ ‫ن أ ََبا ُ‬ ‫وإ ِ ّ‬
‫م‪َ ،‬‬ ‫ه ْ‬ ‫وال ِ ِ‬ ‫م َ‬
‫َ‬
‫في أ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ع َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫غل ُ ُ‬‫ش َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫ر َ‬ ‫صا ِ‬
‫َ‬
‫اْلن ْ َ‬
‫ما َل‬ ‫ضُر َ‬ ‫ح ُ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫ه‪َ ،‬‬ ‫ع ب َطْن ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫شب َ‬ ‫ه ‪ ‬بِ ِ‬ ‫ل الل ّ ِ‬ ‫سو َ‬ ‫م َر ُ‬ ‫ن ي َل َْز ُ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫ن"‪.729‬‬ ‫ظو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ما َل ي َ ْ‬ ‫ظ َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ح َ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫ن‪َ ،‬‬ ‫ضُرو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫وعن فضل نقل العلم ومكانته‪ ،‬يروي زيد بن ثابت < أن ‪‬‬
‫ه‪،‬‬
‫غ ُ‬‫حّتى ي ُب َل ّ َ‬ ‫ه َ‬‫فظَ ُ‬ ‫ح ِ‬
‫ف َ‬ ‫ديًثا َ‬‫ح ِ‬‫مّنا َ‬
‫ع ِ‬‫م َ‬‫س ِ‬‫م ًَرا َ‬
‫ها ْ‬ ‫ضَر الل ّ ُ‬ ‫قال‪" :‬ن َ ّ‬
‫ه‬ ‫ف ْ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫وأ ْ‬ ‫ف ْ‬ ‫َ‬
‫ق ٍ‬ ‫ل ِ‬ ‫م ِ‬ ‫حا ِ‬
‫ب َ‬ ‫وُر ّ‬‫ه‪َ ،‬‬ ‫من ْ ُ‬
‫ه ِ‬‫ق ُ‬ ‫ه َ‬‫ن ُ‬‫م ْ‬ ‫ه إلى َ‬ ‫ق ٍ‬ ‫ل ِ‬ ‫م ِ‬
‫حا ِ‬ ‫ب َ‬ ‫فُر ّ‬
‫ه" ‪.‬‬ ‫قي ٍ‬‫ف ِ‬ ‫ل َي ْ َ‬
‫س بِ َ‬
‫‪730‬‬

‫وفي صورة رائعة‪ ،‬توضح فضل من يعلم العلم على غيره‪ ،‬فإن‬
‫ن‬
‫م ْ‬
‫ه ِ‬ ‫عث َِني الل ّ ُ‬
‫ه بِ ِ‬ ‫ما ب َ َ‬ ‫مث َ ُ‬
‫ل َ‬ ‫رسول الله ‪ ‬يضرب المثل فيقول‪َ " :‬‬

‫‪) 728‬آل عمران‪.(187 :‬‬


‫‪ 729‬البخاري‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب حفظ العلم )‪ ،(118‬وأبو داود )‪.(1261‬‬
‫‪ 730‬أبو داود‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب فضل نشر العلم )‪ ،(3660‬والترمذي )‪ ،(2656‬وابن ماجة ‪،(232‬‬
‫وأحمد )‪ ،(4157‬والدارمي )‪ ،(29‬وقال اللباني‪ :‬صحيح )‪ (404‬السلسلة الصحيحة‪.‬‬
‫ها‬ ‫من ْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬‫ف َ‬ ‫ضا‪َ ،‬‬ ‫ب أ َْر ً‬ ‫صا َ‬ ‫رأ َ‬
‫غيث ال ْك َِثي َ‬
‫ِ‬ ‫ل ال ْ َ ْ ِ‬ ‫مث َ ِ‬ ‫عل ْم ِ ك َ َ‬ ‫وال ْ ِ‬ ‫دى َ‬ ‫ه َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫َ‬ ‫قبل َت ال ْماءَ َ َ‬
‫ها‬ ‫من ْ َ‬ ‫ت ِ‬ ‫كان َ ْ‬ ‫و َ‬ ‫ب ال ْك َِثيَر‪َ ،‬‬ ‫ش َ‬ ‫ع ْ‬ ‫وال ْ ُ‬ ‫ت ال ْك ََل َ‬ ‫فأن ْب َت َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ة َ ِ ْ‬ ‫قي ّ ٌ‬ ‫نَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وا‬ ‫ق ْ‬ ‫س َ‬ ‫و َ‬ ‫رُبوا َ‬ ‫ش ِ‬ ‫ف َ‬ ‫س َ‬ ‫ها الّنا َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ع الل ّ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫فن َ َ‬ ‫ماءَ َ‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫سك َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫بأ ْ‬ ‫جاِد ُ‬ ‫أ َ‬
‫ن َل‬ ‫عا ٌ‬ ‫قي َ‬ ‫ي ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ما ِ‬ ‫خَرى إ ِن ّ َ‬ ‫ة أُ ْ‬ ‫ف ً‬ ‫طائ ِ َ‬ ‫ها َ‬ ‫من ْ َ‬ ‫ت ِ‬ ‫صاب َ ْ‬ ‫وأ َ‬
‫عوا‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫وَزَر ُ‬ ‫َ‬
‫ه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫دي‬ ‫في‬ ‫َ ِ‬ ‫ه‬ ‫ق‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ل‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ث‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ل‪.‬‬‫ً‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ت‬ ‫ب‬
‫ُ ْ ِ ُ‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫َ ً َ‬ ‫ء‬ ‫ما‬ ‫ك‬‫ُ‬ ‫س‬‫تُ ْ ِ‬
‫م‬
‫ِ ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ع‬
‫ف ْ‬ ‫م ي َْر َ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫مث َ ُ‬ ‫و َ‬ ‫م‪َ ،‬‬ ‫عل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫عل ِ َ‬ ‫ف َ‬ ‫ه َ‬ ‫ه بِ ِ‬ ‫عث َِني الل ّ ُ‬ ‫ما ب َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ع ُ‬‫ف َ‬ ‫ون َ َ‬ ‫َ‬
‫ه"‪.731‬‬ ‫ْ‬ ‫هدى الل ّه ال ّذي أ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ك رأ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ت بِ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ي‬
‫َ ً َ ْ َ َ‬‫م‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫سا‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ذ‬ ‫بِ‬
‫جة‬
‫ح ّ‬
‫ض على تعليم الغير‪ ،‬فيقول في ِ‬ ‫ومن هنا تراه ‪ ‬يح ّ‬
‫د‬
‫ه َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫شا ِ‬ ‫ب؛ َ‬
‫فإ ِ ّ‬ ‫غائ ِ َ‬ ‫ْ‬
‫هدُ ال َ‬‫شا ِ‬ ‫ّ‬
‫خطبته الجامعة‪" :‬ل ِي ُب َلغ ال ّ‬ ‫الوداع في ُ‬
‫ه" ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫من ْ ُ‬
‫ه ِ‬
‫عى ل ُ‬ ‫و َ‬ ‫وأ ْ‬‫ه َ‬
‫ن ُ‬
‫م ْ‬
‫غ َ‬
‫ن ي ُب َل َ‬
‫سى أ ْ‬
‫ع َ‬
‫‪732‬‬
‫َ‬

‫عل ّ َ‬
‫م‬ ‫ن تَ َ‬
‫م ْ‬ ‫خي ُْرك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫وروى عثمان < أن رسول الله ‪ ‬قال‪َ " :‬‬
‫ه"‪.733‬‬ ‫عل ّ َ‬
‫م ُ‬ ‫و َ‬
‫ن َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫قْرآ َ‬
‫وفي شرحه يقول ابن حجر‪ :‬والذي ُيعّلم غيره يحصل له النفع‬
‫المتعدي‪ ،‬بخلف من يعمل فقط‪ ،‬بل من أشرف العمل تعليم الغير‪،‬‬
‫معّلم غيره يستلزم أن يكون تعلمه وتعليمه لغيره عمل وتحصيل نفٍع‬ ‫ف ُ‬
‫ل لنفسه‬‫م ٌ‬ ‫د‪ ...‬ول شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مك ّ‬ ‫متع ٍ‬
‫ولغيره‪ ،‬جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي‪ ،‬ولهذا كان أفضل‪،‬‬
‫ول ً‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬
‫ق ْ‬ ‫س ُ‬
‫ح َ‬‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى بقوله‪َ  :‬‬
‫و َ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫ل إ ِن ِّني ِ‬ ‫و َ‬
‫قا َ‬ ‫حا َ‬
‫صال ِ ً‬ ‫م َ‬
‫ل َ‬ ‫ع ِ‬
‫و َ‬ ‫عا إلى الل ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ن دَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ِ‬
‫ن‪. ‬‬
‫‪734‬‬
‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ال ُ‬‫ْ‬

‫ويقول جابر بن عبد الله‪" :‬إذا لعن آخر هذه المة أولها‪ ،‬فمن‬
‫زل على‬ ‫ُ‬
‫كان عنده علم فليظهره؛ فإن كاتم ذلك العلم ككاتم ما أن ِ‬
‫رسول الله ‪!!735"‬‬
‫وهو يريد أنه إذا جاء زمان يلعن فيه الناس أوائل هذه المة‪ ،‬أي‬
‫الصحابة ‪ ،‬فمن كان عنده علم في الدفاع عنهم فليظهره‪ ،‬وإل فإن‬
‫من يكتمه كمن يكتم ما ُأنزل على رسول الله ‪ ..‬وكلهما أمر‬
‫عظيم!!‬
‫من يسأل عنه‪..‬‬
‫ومن هنا كان التحذير الشديد من كتمان العلم ع ّ‬

‫‪ 731‬البخاري‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب فضل من علم وعلم )‪ ،(79‬ومسلم‪ :‬كتاب الفضائل‪ ،‬باب بيان‬
‫مثل ما بعث به النبي ‪ ‬من الهدى والعلم )‪ ،(2282‬وأحمد )‪ ،(19588‬وابن حبان )‪.(4‬‬
‫‪ 732‬البخاري‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬باب قول النبي ‪ ‬رب مبلغ أوعى من سامع )‪ ،(76‬ومسلم‪ :‬كتاب‬
‫القسامة‪ ،‬باب تغليظ تحريم الدماء والعراض والموال )‪ ،(1679‬وابن ماجة )‪.(233‬‬
‫‪ 733‬البخاري‪ :‬كتاب فضائل القرآن‪ ،‬باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه )‪ ،(4739‬وأبو داود )‬
‫‪ ،(1452‬والترمذي )‪.(2907‬‬
‫‪ 734‬ابن حجر‪ :‬فتح الباري ‪ ،9/76‬والية من سورة فصلت‪.33 :‬‬
‫‪ 735‬الطبراني في الوسط‪(430) :‬‬
‫ه ثُ ّ‬
‫م‬ ‫م ُ‬ ‫عل ْم ٍ َ‬
‫عل ِ َ‬ ‫ن ِ‬‫ع ْ‬‫ل َ‬‫سئ ِ َ‬‫ن ُ‬‫م ْ‬‫فقد قال رسول الله ‪َ " :‬‬
‫م ال ْ ِ‬ ‫ُ‬
‫ر" !!‬ ‫ن َنا ٍ‬‫م ْ‬
‫جام ٍ ِ‬‫ة ب ِل ِ َ‬
‫م ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫و َ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ه‪ ،‬أل ْ ِ‬
‫ج َ‬ ‫ك َت َ َ‬
‫م ُ‬
‫‪736‬‬

‫ولعلنا ندرك بعد ذلك سبب انتشار علم المام مالك‪ ،‬حتى صار‬
‫ص به‪ ،‬وعدم انتشار علم المام الليث بن سعد ~‪،‬‬ ‫ي خا ّ‬
‫له مذهب فقه ّ‬
‫وقد كان فقيه عصره‪ ،‬وإمامه البارز‪!!..‬‬
‫وتظهر الحقيقة في أن المام مالك ~ كان له من التلميذ الذين‬
‫يبّلغون عنه‪ ،‬وينشرون علمه‪ ،‬في حين لم يجد المام الليث من يحمل‬
‫م وينتشر‪ ..‬وقد أشار إلى هذه الحقيقة المام الشافعي‬
‫مذهبه حتى يع ّ‬
‫~ حين قال‪" :‬الليث بن سعد أفقه من مالك‪ ،‬إل أن أصحابه لم‬
‫يقوموا به"‪.737‬‬
‫ضا استفادت الدنيا من علم الرازي ~‪ ..‬فقد كانت له‬
‫وبذلك أي ً‬
‫ّ‬
‫مدرسة في تعليم الطب؛ فكان يؤلف الكتب‪ ،‬ويجري التجارب‬
‫والبحاث مع طلبة العلم‪ ،‬وكان يقوم بجولة معهم للطمئنان على‬
‫المرضى‪ ..‬فوّرث ~ العلم‪ ،‬واستفادت منه ليست أمة السلم‬
‫فحسب‪ ،‬وإنما البشرية جمعاء‪!!..‬‬
‫ضا كان العلماء المسلمون يهتمون‬ ‫وفي العلوم الحياتية أي ً‬
‫بقضية توريث العلم؛ فقد أهدى أبو نصر بن عراق )وهو من علماء‬
‫القرن الرابع الهجري‪ ،‬وله مصّنفات في اللت الفلكية والمثلثات(‬
‫أكثر كتبه ورسائله إلى أبي ريحان البيروني‪ ،‬وقد اعترف له البيروني‬
‫بفضله‪ ،‬فكان يلقبه بق "أستاذي"!!‬
‫أما الجلدكي )وهو من علماء القرن الثامن الهجري(‪ ،‬والذي‬
‫حره في علم الكيمياء‪ ،‬فكان محًبا لنشر هذا‬ ‫سَعة ا ّ‬
‫طلعه وتب ّ‬ ‫اشتهر ب َ‬
‫العلم بين الناس؛ ولذلك كانت داره مفتوحة أمام طلب المعرفة‪،‬‬
‫وصدره واسًعا لجابة من يستفتيه في مسألة من مسائل الكيمياء‪ ،‬أو‬
‫أي فرع من فروع المعرفة‪..‬‬
‫وغير وسيلة توريث العلم كان للعلماء المسلمين وسائل ُأخرى‬
‫في دورهم في تنشئة العلماء؛ فكان من ذلك تأليفهم الكتب التي‬
‫ث على تعّلم العلم‪ ،‬وتبين فضله ومكانته‪ ،‬والكتب المؤّلفة في ذلك‬
‫تح ّ‬
‫أكثر من أن تحصى‪ ،‬ومن أبرزها‪ :‬جامع بيان العلم وفضله لبن عبد‬
‫البر‪ ،‬وآداب العلماء والمتعّلمين للحسين بن المنصور اليمني‪ ،‬وأخلق‬
‫العلماء للجري‪ ،‬وجماع العلم لمحمد بن إدريس الشافعي‪ ،‬ومسبوك‬

‫‪ 736‬أبو داود‪ :‬كتاب العلم‪ :‬باب كراهية منع العلم )‪ ،(3658‬والترمذي )‪ ،(2649‬وابن ماجة )‬
‫‪ ،(264‬وأحمد )‪ ،(7561‬والحاكم )‪ ،(345‬وقال حديث صحيح‪ ،‬وقال اللباني‪:‬صحيح )‪(6284‬‬
‫صحيح الجامع‪.‬‬
‫‪ 737‬ابن حيان النصاري‪ :‬طبقات المحدثين بأصبهان ‪.1/406‬‬
‫الذهب في فضل العرب وشرف العلم على شرف النسب لمرعي‬
‫الكرمي‪ ،‬واقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي‪ ،‬وغيرها كثير‪..‬‬
‫على أن أهم وأبرز وسيلة قام بها العلماء والدعاة في هذا‬
‫الشأن هي رعاية النابغين والموهوبين من طلبة العلم‪،‬‬
‫معنوًيا ومادًيا‪..‬‬
‫فقد اهتم السلم برعاية النابغين والتنويه بهم‪ ،‬خاصة وأن هؤلء‬
‫دون في الساس ثروة المة وعمادها‪..‬‬ ‫النابغين يع ّ‬
‫فكان عمر بن الخطاب < ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬يحب عبد الله‬
‫بن عباس ويقّربه من مجلسه‪ ،‬ويستشيره في الكثير من أموره‪،‬‬
‫وُيدخله مع أشياخ بدر‪ ،‬ويأخذ برأيه رغم صغر سنه‪ ،‬حتى عاب‬
‫س من المهاجرين ذلك على عمر‪ ،‬وقالوا‪ُ :‬تدخل هذا الفتى معنا ولنا‬ ‫نا ٌ‬
‫أبناء مثله؟! وهنا قال لهم عمر‪ :‬أما أني سأريكم اليوم منه ما تعرفون‬
‫صُر الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫جاءَ ن َ ْ‬ ‫فضله‪ ،‬فسألهم عمر عن تفسير سورة ‪‬إ ِ َ‬
‫ذا َ‬
‫ح‪ ،738‬فسكت بعضهم‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬أمر الله نبّيه إذا رأى‬ ‫وال ْ َ‬
‫فت ْ ُ‬ ‫َ‬
‫جا أن يحمده ويستغفره‪ ،‬فقال عمر‪:‬‬ ‫الناس يدخلون في دين الله أفوا ً‬
‫م الله رسوله متى يموت‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫يا ابن عباس‪ ،‬تكّلم‪ .‬فقال عبد الله‪ :‬أعل َ َ‬
‫ح بحمد ربك واستغفره ‪.‬‬
‫‪739‬‬
‫د‪ ،‬فسب ّ ْ‬
‫فهي علمة موتك فاستع ّ‬
‫ضا قال الصفدي يصف اهتمام المام أبي‬ ‫وفي هذا الصدد أي ً‬
‫حيان محمد بن يوسف الغرناطى بالنابغين فيقول‪" :‬لم أره قَ ّ‬
‫ط إل‬
‫يسمع أو يكتب أو ينظر في كتاب‪ ،‬ولم أره على غير ذلك‪ ،‬وكان له‬
‫وه بقدرهم"‪.740‬‬ ‫ظمهم وين ّ‬ ‫إقبال على أذكياء الطلبة؛ يع ّ‬

‫دث صغير كان‬ ‫ح َ‬


‫ولما اتجه مالك بن أنس لطلب العلم وهو َ‬
‫ُيعاني شظف العيش‪ ،‬فكان فقيه مصر الليث بن سعد ‪ -‬وكان من‬
‫الغنياء ‪ -‬يرسل إليه بالهدايا وبالمال‪ ،‬حتى انصلحت حاله‪ ،‬واستطاع‬
‫أن يكون مالك بن أنس!!‬
‫ن الله عليه كان المام مالك ~ يدعو طلبته لبيته‪،‬‬ ‫وبعد أن م ّ‬
‫ويبرهم ويكرمهم ويهتم بهم؛ فقد قال عبد الله بن عبد الحكم‪ :‬هيأ‬
‫ما دخلنا قال‪:‬‬
‫ت فيهم‪ ،‬فمضينا إلى داره‪ ،‬فل ّ‬
‫مالك دعوة للطلبة وكن ُ‬
‫هذا المستراح وهذا الماء‪ ،‬ثم دخلنا البيت فلم يدخل معنا‪ ،‬ودخل بعد‬
‫ذلك فأ ُِتينا بالطعام‪..741‬‬

‫النصر‪.1 :‬‬ ‫‪738‬‬

‫القصة في البخاري‪ :‬كتاب المغازي‪ ،‬باب منزل النبي ‪ ‬يوم الفتح )‪.(3956‬‬ ‫‪739‬‬

‫انظر ابن حجر‪ :‬الدرر الكامنة ‪.121 /2‬‬ ‫‪740‬‬

‫انظر ابن فرحون‪ :‬الديباج المذهب ص ‪.9‬‬ ‫‪741‬‬


‫ضا هو الذي أفضى به طلب العلم‪ ،‬وإنفاقه على‬
‫والمام مالك أي ً‬
‫طلبه إلى أن ينقض سقف بيته فيبيع خشبه !!‬
‫‪742‬‬

‫بل إن هارون الرشيد بعث إلى مالك مجموعة من البل كهدية‪،‬‬


‫دا منها لتلميذه‬
‫فتصد ّقَ بها مالك على تلميذه‪ ،‬وأعطى واح ً‬
‫الشافعي!!‬
‫وأكثر من ذلك ما كان من قصة أسد بن الفرات ~ مع شيخه‬
‫محمد بن الحسن الشيباني‪ ..‬فقد ذهب أسد إلى المدينة فتعّلم على‬
‫يد المام مالك ~‪ ,‬ثم رحل إلى العراق فسمع من أصحاب أبي حنيفة‬
‫~‪ ،‬وبخاصةٍ من محمد بن الحسن الشيباني‪ ,‬وكان يجلس في مجلسه‬
‫ما يريد‪ ,‬ول أن يتعلم‬
‫مع مئات وآلف الطلب فل يستطيع أن يسأل ع ّ‬
‫ما يشتهي‪ ,‬فذكر ذلك للمام الجليل محمد بن الحسن‪ ،‬وقال له‪" :‬إني‬
‫غريب قليل النفقة‪ ,‬والسماع منك ن َْزر )أي قليل لشدة الزحام(‪،‬‬
‫والطلبة عندك كثير‪ ,‬فما حيلتي؟‬
‫فقال له الع ّ‬
‫لمة الجليل المتجّرد محمد بن الحسن‪ :‬اسمع مع‬
‫العراقيين بالنهار‪ ,‬وقد جعلت لك الليل وحدك‪ ,‬فتبيت عندي‪,‬‬
‫وأسمعك!!‬
‫حا‬
‫قال أسد‪" :‬وكنت أبيت عنده وينزل إلي‪ ,‬ويجعل بين يديه قد ً‬
‫ت‪ ,‬مل يده‬‫فيه الماء‪ ,‬ثم يأخذ في القراءة‪ ،‬فإذا طال الليل ونعس ُ‬
‫ت على‬ ‫ونفخ في وجهي بالماء فأنتبه‪ ,‬فكان ذلك دأبه ودأبي‪ ,‬حتى أتي ُ‬
‫ما أريد من السماع عليه"‪.743‬‬
‫فانظر رحمك الله كيف فّرغ محمد بن الحسن من وقته لتلميذه‬
‫أسد بن الفرات‪ ،‬وكيف اهتم به وبتعليمه‪..‬‬
‫وعلى دربهم يحكي زفر بن الهذيل أن المام أبا حنيفة ~ كان‬
‫ماد‪ ،‬فكان يسمع مسائله فيحفظها‪ ،‬ثم إذا أعادها‬ ‫يجلس إلى شيخه ح ّ‬
‫ها به وبتفوقه‪:‬‬‫من الغد حفظها وأخطأ أصحابه‪ ،‬وهنا قال شيخه منوّ ً‬
‫"ل يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة"‪ ،‬وقد صحبه لذلك‬
‫أبو حنيفة عشر سنين‪ ،‬حتى أمره أن يجلس مكانه‪!!744‬‬
‫ضا يهتم بطلبته النابهين‬
‫ولم يحد ْ أبو حنيفة عن النهج‪ ،‬فكان أي ً‬
‫ويتفقد أحوالهم‪ ..‬يقول تلميذه النجيب المام أبو يوسف‪ :‬كنت أطلب‬
‫ما وأنا عند أبي‬
‫ث الحال‪ ،‬فجاء أبي يو ً‬ ‫الحديث والفقه وأنا مق ّ‬
‫لر ّ‬
‫حنيفة‪ ،‬فانصرفت معه‪ ،‬فقال‪ :‬يا بني‪ ،‬ل تمد رجلك مع أبي حنيفة‪ ،‬فإن‬

‫المصدر السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬ ‫‪742‬‬

‫انظر القاضي عياض‪ :‬ترتيب المدارك وتقريب المسالك ‪. 169 /1‬‬ ‫‪743‬‬

‫تاريخ بغداد ‪.13/333‬‬ ‫‪744‬‬


‫أبا حنيفة خبزه مشوي‪ ،745‬وأنت تحتاج إلى المعاش‪ ،‬فقصرت عن‬
‫كثيرٍ من الطلب‪ ،‬وآثرت طاعة أبي‪ ،‬فتفقدني أبو حنيفة‪ ،‬وسأل عني‪،‬‬
‫فجعلت أتعاهد مجلسه‪ ،‬فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه؛ قال‬
‫لي‪ :‬ما شغلك عّنا؟ قلت‪ :‬الشغل بالمعاش وطاعة والدي‪ ،‬فجلست‪،‬‬
‫صّرة‪ ،‬وقال‪ :‬استمتع بها‪ ،‬فنظرت فإذا‬‫ما انصرف الناس دفع إلى ُ‬ ‫فل ّ‬
‫فيها مائة درهم‪ ،‬فقال لي‪ :‬الزم الحلقة‪ ،‬وإذا فرغت هذه فأعلمني‪.‬‬
‫فلزمت الحلقة‪ ،‬فلما قضيت مدة يسيرة‪ ،‬دفع إلى مائة أخرى‪ ،‬ثم كان‬
‫قّلة ق ّ‬
‫ط‪ ،‬ول أخبرته بنفاد شيء‪ ،‬وكأنه‬ ‫يتعّهدني )يرعاني( وما أعلمته ب ِ‬
‫يخبر بنفادها حتى بلغت حاجتي من العلم أحسن الله مكافأته ‪.‬‬
‫‪746‬‬

‫ضا أن الحسن بن زياد كان فقيًرا‪ ،‬وكان يلزم المام‬ ‫وروي أي ً‬


‫ت وليس لنا غيرك‪ ،‬فاشتغل‬ ‫أبي حنيفة‪ ،‬فكان أبوه يقول له‪ :‬لنا بنا ٌ‬
‫ما بلغ الخبر المام أبا حنيفة أجرى عليه رزًقا‪ ،‬وش ّ‬
‫جعه وقال‬ ‫ن؛ فل ّ‬
‫به ّ‬
‫له‪ :‬الزم الفقه؛ فإني ما رأيت فقيًها معسًرا قط ‪.‬‬
‫‪747‬‬

‫وعلى هذا كان نهج العلماء العاملين‪ ،‬ومن قبلهم الدعاة‬


‫الصادقين‪..‬‬

‫عا‪ :‬دور المجتمع في تنشئة العلماء‬


‫راب ً‬
‫للمجتمع في تنشئة العلماء دوٌر ل يقل أهمية عن الدوار‬
‫السابقة‪ ..‬فالمجتمع الذي يعيش فيه العاِلم ُيعد ّ بمثابة البيئة التي‬
‫يتنفس فيها والرض التي ينمو في تربتها ومن خللها؛ ومن ث َ ّ‬
‫م فإنه‬
‫در للعلماء قدرهم‪،‬‬ ‫لكي ينشأ العلماء فلبد من مجتمع واٍع وفّعال‪ُ ،‬يق ّ‬
‫زلهم مكانتهم التي أنزلهم الله إياها‪.‬‬
‫وُين ِ‬
‫والحقيقة أن هذا الدور ليس من قبيل الترف أو الفضل‪ ،‬وإنما‬
‫هو فرض وواجب على المجتمع تجاه العلماء؛ إذ هم ‪ -‬كما أشرنا إلى‬
‫ذلك من قبل ‪ -‬ورثة النبياء‪ ،‬وهم الذين زكاهم الله عز وجل ورفع‬
‫وال ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫مُنوا ِ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ع الل ّ ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫قدرهم فقال تعإلي‪ :‬ي َْر َ‬
‫خِبيٌر‪. ‬‬
‫‪748‬‬
‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬‫ع َ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫ه بِ َ‬‫والل ّ ُ‬ ‫ت َ‬‫جا ٍ‬
‫م دََر َ‬ ‫ُأوُتوا ال ْ ِ‬
‫عل ْ َ‬
‫ويروي عبادة بن الصامت < عن رسول الله ‪ ‬أنه قال‪:‬‬
‫ُ‬
‫ف‬
‫ر ْ‬
‫ع ِ‬
‫وي َ ْ‬
‫غيَرَنا َ‬
‫ص ِ‬
‫م َ‬
‫ح ْ‬ ‫ل ك َِبيَرَنا َ‬
‫وي َْر َ‬ ‫ج ّ‬ ‫ن لَ ْ‬
‫م يُ ِ‬ ‫م ْ‬
‫مِتي َ‬ ‫نأ ّ‬ ‫م ْ‬‫س ِ‬‫"ل َي ْ َ‬
‫ه" ‪..‬‬
‫‪749‬‬
‫ق ُ‬‫ح ّ‬‫مَنا َ‬‫عال ِ ِ‬
‫لِ َ‬
‫‪ 745‬يريد أن لديه سعة في الرزق تعينه على ما هو فيه من التفرغ لتدريس العلم‪.‬‬
‫‪ 746‬مناقب الكردري ‪.2/122‬‬
‫‪ 747‬المصدر السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬
‫‪) 748‬المجادلة‪.(11 :‬‬
‫‪ 749‬أحمد )‪ (22807‬واللفظ له‪ ،‬والحاكم )‪ ،(421‬وقال الهيثمي‪ :‬رواه أحمد وإسناده حسن‪،‬‬
‫وقال اللباني‪ :‬صحيح )‪ (101‬صحيح الترغيب والترهيب‪.‬‬
‫ف‬
‫ر ْ‬
‫ع ِ‬
‫وي َ ْ‬
‫غيَرَنا َ‬
‫ص ِ‬
‫م َ‬
‫ح ْ‬ ‫ن لَ ْ‬
‫م ي َْر َ‬ ‫م ْ‬
‫مّنا َ‬ ‫ضا‪" :‬ل َي ْ َ‬
‫س ِ‬ ‫وقال أي ً‬
‫رَنا" ‪.‬‬ ‫ف ك َِبي ِ‬ ‫َ‬
‫شَر َ‬
‫‪750‬‬

‫ومثله ما رواه أبو موسى الشعري < عن رسول الله ‪ ‬أنه‬


‫ل‬
‫م ِ‬
‫حا ِ‬
‫و َ‬
‫سل ِم ِ‪َ ،‬‬‫م ْ‬ ‫ة ال ْ ُ‬
‫شي ْب َ ِ‬ ‫م ِذي ال ّ‬ ‫ل الل ّ ِ‬
‫ه‪ :‬إ ِك َْرا َ‬ ‫جل َ ِ‬‫ن إِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫قال‪" :‬إ ِ ّ‬
‫م ِذي‬‫وإ ِك َْرا َ‬‫ه ‪َ ،‬‬
‫‪752‬‬
‫عن ْ ُ‬‫في َ‬‫جا ِ‬‫وال ْ َ‬
‫ه ‪َ ،‬‬
‫‪751‬‬
‫في ِ‬‫غإلى ِ‬ ‫ر ال ْ َ‬ ‫ن َ‬
‫غي ْ ِ‬ ‫قْرآ ِ‬‫ال ْ ُ‬
‫ط" ‪.‬‬ ‫س ِ‬ ‫ق ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫طا ِ‬‫سل ْ َ‬‫ال ّ‬
‫‪753‬‬

‫م وجليل‪ ،‬ويتمثل‬‫فدور المجتمع إذن في تنشئة العلماء دوٌر مه ٌ‬


‫في توقير العلماء وتقديره لهم‪ ،‬وتكريمه إياهم‪ ،‬والنظر إليهم بعين‬
‫م‪،‬‬
‫م العل َ‬
‫ما بتمام كما كّرم السل ُ‬‫الكبار والجلل والتعظيم‪ ..‬وذلك تما ً‬
‫ورفع قدره وأعلى من شأنه وأهله!!‬
‫ما لشخاصهم‬
‫وعلى هذا فإن تكريم المجتمع للعلماء ليس تكري ً‬
‫م للعلم في صورة أشخاصهم‪..‬‬ ‫بقدر ما هو تكري ٌ‬
‫ومثل هذه الصورة المثلى لم ُتعدم في المجتمعات السلمية‬
‫في عصور قوتها‪ ،‬حتى غدا التواضع للعلماء في هذا المجتمع رفعة‪،‬‬
‫حب ْرِ المة ابن عباس‬
‫وحتى ع ُد ّ احترامهم والخضوع لهم فخًرا!! فهذا َ‬
‫‪ ‬مع جللته وقرابته لرسول الله ‪ ‬وهو يأخذ بركاب زيد بن ثابت <‬
‫مرنا أن نفعل بعلمائنا"!!‬ ‫ُ‬
‫رغم صغر سنه ويقول‪" :‬هكذا أ ِ‬
‫ت في مجلس‬ ‫ولن نعجب حين نرى الشافعي ~ وهو يقول‪" :‬كن ُ‬
‫قا؛ هيبة له لئل ّ‬
‫حا رقي ً‬
‫مالك وأريد أن أصفح الورقة‪ 754‬فأصفحها صف ً‬
‫يسمع وقعها"‪!!755‬‬
‫ضا الربيع بن سليمان يقول‪" :‬والله ما اجترأت أن‬
‫ومثله أي ً‬
‫أشرب الماء والشافعي ينظر إلي؛ هيبة له" !!‬
‫‪756‬‬

‫وهذا على مستوى الفراد‪ ،‬أما على مستوى الجماعات فإن‬


‫يوسف بن موسى المروزي يحكي فيقول‪ :‬كنت بالبصرة في جامعها‬
‫إذ سمعت منادًيا ينادي‪ :‬يا أهل العلم‪ ،‬لقد قدم محمد بن‬
‫إسماعيل البخاري‪ .‬فقاموا جميًعا إليه!!‬

‫‪ 750‬الترمذي‪ :‬كتاب البر والصلة‪ ،‬باب ما جاء في رحمة الصغير )‪ ،(1843‬وأحمد )‪،(6733‬‬
‫والحاكم )‪ ،(209‬وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي‪ ،‬والبخاري في الدب المفرد )‬
‫‪ ،(358‬وقال اللباني صحيح )‪ (5444‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫‪ 751‬الغإلي فيه‪ :‬المجاوز حده‪.‬‬
‫‪ 752‬أصل الجفاء ترك الصلة والبر‪ ،‬وجفاه‪ :‬أبعده وأقصاه‪.‬‬
‫‪ 753‬أبو داود‪ :‬كتاب الدب‪ ،‬باب في تنزيل الناس منازلهم )‪ ،(4843‬والبخاري في الدب المفرد )‬
‫‪ ،(357‬وابن ابي شيبة )‪ ،(32561‬والبيهقي في شعب اليمان )‪ ،(2685‬وقال اللباني‪ :‬حديث‬
‫حسن )‪ (2199‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫‪ 754‬أي‪ :‬أعرضها ورقة ورقة‪.‬‬
‫‪ 755‬انظر تاريخ دمشق ‪ - 293 /14‬فيض القدير ‪. 253 /3‬‬
‫‪ 756‬انظر تاريخ دمشق ‪. 404 /51‬‬
‫ثم تابع فقال‪ :‬وكنت معهم‪ ،‬فرأينا رجل ً شاًبا ليس في لحيته‬
‫بياض )أي صغير السن(‪ ،‬فأحدقوا به وسألوه أن يعقد لهم‬
‫سا للملء‪ ،‬فأجابهم إلى ذلك‪ ،‬فقام المنادي ثانًيا في جامع‬‫مجل ً‬
‫البصرة فقال‪ :‬يا أهل العلم‪ ،‬لقد قدم محمد بن إسماعيل البخاري‬
‫دا في موضع‬ ‫فسألناه أن يعقد مجلس الملء فأجاب بأن يجلس غ ً‬
‫كذا‪!!757"...‬‬
‫فهو ينادي في المدينة كلها بقدوم عالم ٍ إليها ليس من أهلها‪،‬‬
‫فترى الناس وقد قاموا إليه‪ ،‬وأحاطوا به من كل جانب‪ ،‬يريدون أن‬
‫سا لذلك‪ ،‬وحين يحدد ذلك‬ ‫يستفيدوا من علمه‪ ،‬فيطلبوا منه مجل ً‬
‫العالم )وهو البخاري( الموعد ينادي المنادي من جديد؛ ُيعلم الناس‬
‫بموعد مجلس العالم المغترب‪ ،‬كي يكون لقاؤهم معه واحتفاؤهم‬
‫به!!‬
‫ولقد كان الناس يجتمعون باللف حول البخاري ~ ليعلمهم‬
‫حديث رسول الله ‪ ،‬وهو دون العشرين من عمره‪!!758‬‬
‫وعلى النقيض من ذلك‪ ،‬ترى المة في حال ضعفها ل توقر‬
‫العلماء ول تنزلهم منزلتهم ول ترفعهم قدرهم‪ ،‬بل قد ُتعلي من شأن‬
‫المطربين واللعبين واللهين ول تأبه بوجود العلماء!! ول شك أن هذه‬
‫علمة من علمات الوهن الشديد‪ ،‬وهي متكررة في معظم مراحل‬
‫المة‪.‬‬
‫ي‪ 759‬عالم‬‫سَلم ّ‬
‫ومما ُيذكر في ذلك أن عبد الملك بن حبيب ال ّ‬
‫لندلس في‬ ‫دم ا َ‬‫الندلس وفقيهها سمع أن زِْرياب‪) 760‬المغّني( ق ِ‬
‫عهده‪ ،‬فاحتفى الناس به أيما احتفاء‪ ،‬وصاروا يقلدونه في كل شيء‪،‬‬
‫ما بين يدي‬ ‫وبذل له الرؤساء الموال‪ ،‬حتى بلغ من ذلك أنه غّنى يو ً‬
‫رب المير لذلك لحسن‬ ‫المير عبد الرحمن الثاني ابن الحكم‪ ،‬فط ِ‬
‫ة‪ ،‬وكان‬
‫ة واحد ً‬ ‫دا‪ ،‬فأعطاه ألف دينار دفع ً‬ ‫صوته وعذوبته طرًبا شدي ً‬
‫عبد الملك بن حبيب فقير الحال‪ ،‬ل يكاد يجد من يعينه على العيش‪،‬‬
‫فقال شاكًيا حاله وعاتًبا على أهل زمانه‪:‬‬

‫‪ 757‬انظر فتح الباري ‪. 486 /1‬‬


‫‪ 758‬انظر تهذيب الكمال ‪. 452 /24‬‬
‫‪ 759‬هو عبد الملك بن حبيب بن سليمان القرطبي‪ ،‬أبو مروان‪ :‬عالم الندلس وفقيهها في‬
‫عصره‪ .‬ولد في إلبيرة سنة ‪174‬هق‪ ،‬وسكن قرطبة وتوفي بها سنة ‪238‬هق‪ .‬له تصانيف كثيرة‪،‬‬
‫قيل‪ :‬تزيد على ألف‪ ،‬وكان ابن لبابة يقول‪ :‬عبد الملك بن حبيب عالم الندلس‪ ،‬ويحيى بن‬
‫يحيى عاقلها‪ ،‬وعيسى بن عبد الملك بن حسين العصامي فقيهها‪ .‬انظر تاريخ علماء الندلس‬
‫ص ‪ - 101‬العلم ‪. 157 /4‬‬
‫‪ 760‬هو علي بن نافع‪ ،‬أحد المغنين المطبوعين‪ ،‬والموسيقيين المشهورين‪ ،‬سافر من بغداد إلي‬
‫الندلس‪ ،‬واستقبله هناك عبد الرحمن بن الحكم‪ .‬توفي سنة ‪230‬هق ‪ .‬انظر ابن حيان‬
‫القرطبي‪ :‬المقتبس من أنباء الندلس ص ‪ 25‬نفح الطيب ‪ - 344 /1‬العلم ‪. 28 /5‬‬
‫سهل على الرحمن في‬ ‫صلح أمري والذي أبتغي‬
‫قدرته‬
‫لعقالم أوفقى على بغيته‬ ‫ألف من الحمر وأقلل بها‬
‫وصنعتي أشرف من صنعته‪!761‬‬ ‫زرياب قد يأخذها دفعة‬
‫دم صاحب صنعة ما‪ ،‬أّنى كانت‪ ،‬على‬‫وإن تعجب فعجب بمن ُيق ّ‬
‫صاحب صنعة العلم ووريث النبياء!! وإنك لن تراهم في ذلك إل‬
‫أصحاب الهواء والشهوات‪.‬‬
‫ب لو رأى‬
‫وليت شعري ماذا كان سيقول عبد الملك بن حبي ٍ‬
‫زماننا الذي نعيشه؟! وماذا لو رأى جانًبا أو لوًنا من تكريم أرباب الفن‬
‫واللعب فيه؟!!‬
‫على أن الذي نقصده هنا هو أن المجتمع السلمي في فترات‬
‫قوته‪ ،‬والتزامه أحكام السلم قد حفظ مكانة العلماء وصانها لهم‪،‬‬
‫وأهم ما يستحقونه من الحفاوة والكرام‪ ،‬والمنزلة العالية‪ ،‬والدرجة‬ ‫وب ّ‬
‫دا وحضارة‪.‬‬ ‫ما ومج ً‬
‫رفيعة‪ ..‬فساد َ المسلمون الدنيا وملؤوها عل ً‬
‫وإن مثل ذلك لو تم القيام به على الوجه الكمل‪ ،‬فمن شأنه أن‬
‫يحفز الشباب على بلوغ درجات العلماء‪ ،‬فوق أنه سيجعل باب البداع‬
‫حا على مصراعيه‪ ..‬فيعود من جديد مجد المسلمين‬ ‫والبتكار مفتو ً‬
‫وحضارتهم إلى الّريادة والصدارة‪ ،‬وتراهم وقد انطلقوا في أصقاع‬
‫صرون الناس‪ ،‬ويدّلونهم على حقيقة‬
‫الرض‪ ،‬ينشرون العلم‪ ،‬ويب ّ‬
‫إنسانيتهم وأسرار خلقهم!!‬

‫سا‪ :‬دور رجال القتصاد والثروة في تنشئة‬


‫خام ً‬
‫العلماء‬
‫ظمهم الله في الدنيا كما ع ّ‬
‫ظم العلماء‪ ..‬فإذا كان‬ ‫السخياء ع ّ‬
‫العلماء بعلمهم وبمنزلتهم التي أكرمهم الله بها‪ ،‬فإن السخياء من‬
‫رجال القتصاد والثروة سادوا كذلك بسخائهم وُقربهم من الله عز‬
‫وجل ومن الناس‪..‬‬

‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬‫مث َ ُ‬‫وفي النفاق بصفة عامة يقول الله عز وجل‪َ  :‬‬
‫في سبيل الل ّه ك َمث َل حب َ‬ ‫َ‬
‫ع‬
‫سب ْ َ‬‫ت َ‬ ‫ة أن ْب َت َ ْ‬‫َ ِ َ ّ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫وال َ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫م َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ي ُن ْ ِ‬
‫شاءُ‬ ‫ن يَ َ‬‫م ْ‬ ‫ف لِ َ‬ ‫ع ُ‬ ‫ضا ِ‬ ‫والل ّ ُ‬
‫ه يُ َ‬ ‫ة َ‬‫حب ّ ٍ‬
‫ة َ‬‫مئ َ ُ‬ ‫سن ْب ُل َ ٍ‬
‫ة ِ‬ ‫ل ُ‬ ‫في ك ُ ّ‬ ‫ل ِ‬‫سَناب ِ َ‬ ‫َ‬
‫م‪ . ‬يقول ابن كثير في تفسير هذه الية‪" :‬هذا‬ ‫‪762‬‬
‫عِلي ٌ‬ ‫ع َ‬ ‫س ٌ‬ ‫وا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫والل ُ‬ ‫َ‬

‫انظر الحميدي‪ :‬جذوة المقتبس في ذكر ولة الندلس ص ‪ - 101‬ونفح الطيب ‪. 7 /2‬‬ ‫‪761‬‬

‫البقرة‪. 261 :‬‬ ‫‪762‬‬


‫مث ٌ‬
‫ل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء‬
‫مرضاته‪ ،‬وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة‬
‫ضعف‪.763"..‬‬
‫ل‬‫في ظِ ّ‬ ‫و ِ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬ ‫ي ‪َ ‬‬ ‫ت إلى الن ّب ِ ّ‬ ‫هي ْ ُ‬ ‫وروى أبو ذر < قال‪ :‬ان ْت َ َ‬
‫ن‬
‫سُرو َ‬ ‫َ‬ ‫ب ال ْك َ ْ‬ ‫م ال َ ْ‬ ‫قو ُ‬ ‫ة يَ ُ‬ ‫ال ْك َ ْ‬
‫خ َ‬ ‫م ال ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ة‪ُ ،‬‬ ‫عب َ ِ‬ ‫وَر ّ‬ ‫ن َ‬ ‫سُرو َ‬ ‫خ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ل‪ُ :‬‬ ‫عب َ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫شأِني؟‬ ‫ما َ‬ ‫ء؟ َ‬ ‫ي ٌ‬ ‫ش َْ‬ ‫ي َ‬ ‫ّ‬ ‫ف‬
‫شأِني؟ أي َُرى ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ت‪َ :‬‬ ‫قل ْ ُ‬ ‫ة‪ُ .‬‬ ‫عب َ ِ‬ ‫ب ال ْك َ ْ‬ ‫وَر ّ‬ ‫َ‬
‫ت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫س‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫س‬ ‫ا‬ ‫ما‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫إلي‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ج‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫مي َيا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫غ ّ‬
‫وأ ّ‬ ‫ت َ‬ ‫م ب ِأِبي أن ْ َ‬ ‫ه ْ‬‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ت‪َ :‬‬ ‫ه؛ فقل ُ‬ ‫ما شاءَ الل ُ‬ ‫شاِني َ‬ ‫وت َ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ه؟ َ‬ ‫ّ‬
‫هك َ‬
‫ذا‬ ‫و َ‬ ‫ذا َ‬ ‫هك َ‬ ‫ل َ‬ ‫قا َ‬ ‫م ْ‬ ‫وال‪ ،‬إ ِل َ‬ ‫م َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ل‪ :‬الكث َُرو َ‬ ‫قا َ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سو َ‬ ‫َر ُ‬
‫ه‪،‬‬
‫مين ِ ِ‬ ‫ن يَ ِ‬ ‫ع ْ‬ ‫و َ‬ ‫ه‪َ ،‬‬ ‫ف ِ‬‫خل ِ‬ ‫ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫و ِ‬ ‫ه‪َ ،‬‬ ‫ن ي َدَي ْ ِ‬ ‫ن ب َي ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ذا‪ ،‬وزاد مسلم‪ِ " :‬‬ ‫هك َ َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫ه‪. "..‬‬
‫‪764‬‬
‫مال ِ ِ‬ ‫ش َ‬‫ن ِ‬ ‫ع ْ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫وإنه إذا كانت سبل الخير وطرق النفاق كثيرة ومتتنوعة‪ ،‬فإن‬
‫من أفضل وأحسن وأنفع ما ينفق فيه المحسنون ويبذل فيه السخياء‬
‫والموسرون من رجال القتصاد والثروة نشر العلم‪ ،‬وتعّهد طلبه‬
‫ورعايتهم‪ ،‬والعمل على تنشئة العلماء‪ ،‬وإقامة المراكز والمؤسسات‬
‫البحثية‪ ..‬وذلك أن طلب العلم ونشره يحتاج فيما يحتاج إليه إلى تفرٍغ‬
‫ذر كثيًرا على من‬‫وجهاد ٍ بالنفس والنفيس كما سبق أن رأينا‪ ،‬وذلك يتع ّ‬
‫فوا مؤونة العيش وهم ك ُُثر‪ ،‬وقد قال الشاعر‪:765‬‬
‫لم ي ُك ْ َ‬
‫ل‬
‫جه ٍ‬
‫على َ‬ ‫مل ٌ‬
‫ك َ‬ ‫ن ُ‬
‫م ي ُب ْ َ‬
‫ل َ‬ ‫ملك َهُ ُ‬
‫م‬ ‫س ُ‬
‫ل َيبني النا ُ‬
‫ِبالِعلم ِ َوالما ِ‬
‫ل‬
‫وَِإقل ِ‬
‫والمجتمع المسلم قبل كل شيء مجتمعٌ متكاف ٌ‬
‫ل ومترابط‪،‬‬
‫ضا‪ ،‬وما من شريحة من شرائحه إل وهي تقوم بدوٍر‬ ‫م بعضه بع ً‬
‫ومتم ٌ‬
‫ل فيه‪ ،‬وتسد ثغرة من الثغرات المهمة التي ل يمكن إغفالها‪،‬‬‫فاع ٍ‬
‫والتقصير في أي دور من تلك الدوار يؤدي بالضرورة إلى إحداث‬
‫ل وأضرار وتأثيرات سلبية على المجتمع السلمي ككل!!‬ ‫خل ٍ‬
‫وعليه فإن مساعدة رجال القتصاد والثروة لخوانهم من‬
‫العلماء وطلب العلم‪ ،‬وعملهم على سد تلك الثغرة الحيوية والمهمة‬
‫دا ما تحتاج إلى النفاق عليها‪ ،‬من شأنه‬ ‫في المجتمع‪ ،‬والتي كثيًرا ج ً‬
‫سر ويتيح‬
‫أن يعمل على قيام حياة علمية متقدمة‪ ،‬ومن شأنه أن ُيي ّ‬
‫للعلماء القيام بواجبهم في نشر العلم‪ ،‬ونفع الناس‪ ،‬وهدايتهم إلى ما‬
‫فيه خيرهم وصلحهم في الدين والدنيا‪.‬‬

‫‪ 763‬تفسير ابن كثير ‪. 691 /1‬‬


‫‪ 764‬البخاري‪ :‬كتاب اليمان والنذور‪ ،‬باب كيف كانت يمين النبي ‪ ،( (6147‬ومسلم‪ :‬كتاب‬
‫الزكاة‪ ،‬باب تغليظ عقوبة من ل يؤدي الزكاة )‪.(1652‬‬
‫‪ 765‬هو أحمد شوقي )‪1351 - 1285‬هق ‪1932 - 1868 /‬م( أشهر شعراء العصر الخير‪ ،‬يلقب‬
‫بأمير الشعراء‪ ،‬مولده ووفاته بالقاهرة‪ .‬انظر العلم ‪. 136 /1‬‬
‫فهذا العالم المجاهد التاجر‪ ،‬الذي اشتغل بالتجارة لجل النفاق‬
‫على العلماء وطلب العلم‪ ،‬عبد الله بن المبارك ~‪ ،‬يقول‪" :‬إني‬
‫ل وصدق‪ ،‬طلبوا الحديث فأحسنوا الطلب‬ ‫أعرف مكان قوم لهم فض ٌ‬
‫للحديث‪ ،‬وحاجة الناس إليهم شديدة وقد احتاجوا‪ ،‬فإن تركناهم ضاع‬
‫علمهم‪ ،‬وإن أغنيناهم نشروا العلم لمة محمد ‪ ،‬ول أعلم بعد النبوة‬
‫ث العلم"‪!!766‬‬
‫درجة أفضل من ب َ ّ‬
‫ما‪" :‬أنت تأمرنا بالزهد والتقلل‬
‫وقد قال له الفضيل بن عياض يو ً‬
‫والبلغة ونراك تأتي بالبضائع من بلد خراسان إلى البلد الحرام؟ كيف‬
‫ذا وأنت تأمرنا بخلف ذا"؟! فرد عليه ابن المبارك وقال‪" :‬يا أبا علي‪،‬‬
‫إنما أفعل ذا لصون فيه عرضي‪ ،‬وأكرم به عرضي‪ ،‬وأستعين به علي‬
‫قا إل سارعت إليه حتى أقوم به"‪ .‬فقال له‬ ‫طاعة ربي‪ ،‬ل أرى لله ح ّ‬
‫الفضيل‪" :‬يا بن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا" ‪.‬‬
‫‪767‬‬

‫ضا فيقول‪ :‬بلغنا أنه قال‬


‫ويحكي الذهبي عن ابن المبارك أي ً‬
‫للفضيل بن عياض‪" :‬لولك وأصحابك ما اتجرت" !!‬
‫‪768‬‬

‫وذكر ابن حجر أن بن المبارك كان يتجر ويقول‪ :‬لول خمسة ما‬
‫دثين العظيمين‪:‬‬
‫اتجرت‪ :‬السفيانان )يعني العالمين الكبيرين والمح ّ‬
‫سفيان الثوري وسفيان بن عيينة رحمهما الله(‪ ،‬والفضيل‪ ،‬وابن‬
‫السماك‪ ،‬وابن علية؛ فيصلهم‪.769‬‬
‫ضل َ ُ‬
‫كم‬ ‫شرم‪ :‬قلت لعيسى بن يونس‪ :‬كيف فَ َ‬ ‫خ ْ‬
‫وقال علي بن َ‬
‫ْ‬
‫ابن المبارك ولم يكن بأسن منكم؟ قال‪ :‬كان يقدم ومعه الغِلمة‬
‫صل العلماء‪ ،‬ويعطيهم‪.770..‬‬
‫الخرسانية‪ ،‬والبّزة الحسنة‪ ،‬في َ ِ‬
‫وكان من ذلك ما يحكيه جعفر بن عبد الله الوراق حيث قال‪:‬‬
‫صرًرا‪ ،‬فجعل‬
‫دم ابن المبارك الكوفة ومعه مال‪ ،‬فقسمه‪ ،‬فصّر ُ‬‫ق ِ‬
‫صّرة !!‬
‫‪771‬‬
‫يوجه إلى كل شيخ ب ُ‬
‫وهكذا كان حال التاجر المسلم في عصره‪ ،‬عبد الله بن‬
‫المبارك‪ ،‬مع العلماء وطلب العلم؛ يكفلهم بالمال‪ ،‬ويغنيهم عن ذل‬
‫السؤال‪ ،‬ويعينهم على مؤونة العيش؛ ليتفرغوا هم للعلم ونشره‪ ،‬ونفع‬
‫الناس به‪ ..‬وذلك كله رغم ما ُأثر عنه من علمه هو وجهاده في سبيل‬
‫الله!!‬

‫المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪ – 20 ،19 /16‬ابن عساكر‪ :‬تاريخ دمشق ‪. 455 /32‬‬ ‫‪766‬‬

‫المصدرين السابقين‪ :‬نفس الصفحات‪.‬‬ ‫‪767‬‬

‫انظر سير أعلم النبلء ‪. 386 /8‬‬ ‫‪768‬‬

‫انظر تهذيب التهذيب ‪ - 242 /1‬وتاريخ بغداد ‪. 235 /6‬‬ ‫‪769‬‬

‫انظر الذهبي‪ :‬تاريخ السلم ‪. 1385 /1‬‬ ‫‪770‬‬

‫انظر تاريخ دمشق ‪. 457 /32‬‬ ‫‪771‬‬


‫ضا دعلج بن أحمد )ت ‪351‬هق(؛‬‫وغير ابن المبارك كان هناك أي ً‬
‫إذ كان ضمن منظومة من لهم صدقات جارية على العلماء‬
‫دثين!!‬
‫والمح ّ‬
‫قال الخطيب البغدادي في ذلك ما مؤداه‪ :‬كان من ذوي أليسار‪،‬‬
‫مشهوًرا بالبر‪ ،‬له صدقات جارية ووقوف على أهل الحديث ببغداد‬
‫ومكة وسجستان‪) .‬أي جعل لهم قدًرا كبيًرا من المال موقوًفا عليهم‪،‬‬
‫ل ينفق منه على وجه آخر من وجوه الخير(‪ ،‬وزاد ابن ناصر الدين‬
‫قول الحاكم‪ :‬لم يكن في الدنيا أيسر منه‪.772‬‬
‫وقال الذهبي‪ :‬قال الحاكم‪" :‬دعلج الفقيه‪ ...‬له صدقات جارية‬
‫على أهل الحديث بمكة وببغداد وسجستان"‪!!773‬‬
‫ومثل ذلك الصنيع إذا قام به رجال القتصاد والثروة في‬
‫مجتمعنا‪ ،‬وكان لهم اهتمام خاص بالمؤسسات والمراكز العلمية‬
‫الناجحة ‪ -‬وهناك الكثيرين ممن يقومون بذلك بفضل الله ‪ -‬من شأنه‬
‫أن يعمل على خلق جو علمي عام‪ ،‬ينشأ فيه العلماء ويكثرون‪،‬‬
‫ويدفعهم ذلك إلى إتمام مسيرتهم‪ ،‬واستكمال طريقهم نحو تقدم‬
‫المة ورفع الحرج عنها في كل المجالت العلمية المختلفة‪..‬‬
‫ونستطيع هنا أن ُنشيد ببعض مؤسسات رجال القتصاد والثروة‬
‫في عصرنا الحاضر‪ ،‬والذين بات لهم دوٌر بارٌز في هذا المجال‪ ..‬فنذكر‬
‫على سبيل المثال ل الحصر مؤسسة سعيد هائل الخيرية‪ ،‬كمثال‬
‫حضاري إيجابي‪..‬‬
‫فهي مؤسسة علمية ثقافية تأسست في عام ‪1996‬م بقرار‬
‫ما لذكرى هائل سعيد‬ ‫من مجموعة هائل سعيد أنعم وشركاه؛ تكري ً‬
‫أنعم ~؛ لما قدمه من خدمات لمجتمعه في الميدان التنموي بصورة‬
‫عامة‪ ،‬وفي المجال الخيري بصورة خاصة‪ ،‬انطلًقا من ح ّ‬
‫سه‬
‫دا لمانيه في تطوير العلوم والثقافة والتكنولوجيا‬
‫السلمي وتجسي ً‬
‫في بلده اليمن‪.‬‬
‫وتهدف المؤسسة إلى التي‪:‬‬
‫‪ -‬السهام في تطوير جيل من العلماء والخبراء‬
‫والمتخصصين إليمنيين في ميادين العلوم الطبيعية‬
‫الساسية والتطبيقية والتقنية والتنموية‪.‬‬
‫إنشاء مركز للبحث العلمي‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫انظر تاريخ بغداد ‪ - 42 /4‬العلم ‪. 340 /2‬‬ ‫‪772‬‬

‫الذهبي‪ :‬سير أعلم النبلء ‪. 31 /16‬‬ ‫‪773‬‬


‫‪ -‬السهام في تطوير قطاعات النتاج الوطني وقطاع‬
‫الزراعة على الخصوص والنهوض بها وتحديثها بزيادة‬
‫البحوث والتجارب العلمية والعملية‪.‬‬
‫‪ -‬تنظيم المسابقات للعلماء والمبدعين لتشجيعهم‬
‫على البحث العلمي والعمال البداعية وعلى إجراءات‬
‫علمية مبتكرة أو متطورة وتقديم جوائز للبحوث‬
‫والبتكارات للفائزين‪.‬‬
‫وتنتهج المؤسسة أساليب علمية وعملية لتنفيذ أهدافها‪ ،‬وهي‬
‫تنظيم الندوات والمحاضرات وورش العمل والمؤتمرات العلمية‪،‬‬
‫وكذلك تنمية العلقات بين المؤسسة ومؤسسات البحث العلمي‬
‫داخل إليمن وخارجها لتحقيق الهداف المشتركة‪ ،‬وإبراز عملية‬
‫البداع العلمي والفكري والدبي‪ ،‬وضمان تقدير العلماء والدباء‬
‫والكتاب ورجال الفكر ونوابغ الباحثين الذين يسهمون في بناء الوطن‬
‫وحضارته‪ ،‬وتشجيع البحث الدبي والنقدي والمعرفي‪.‬‬
‫وتتوزع مجالت منح الجائزة في الوقت الراهن فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬جائزة العلوم الطبية‪.‬‬
‫‪ -‬جائزة العلوم النسانية والجتماعية‪.‬‬
‫‪ -‬جائزة العلوم السلمية‪.‬‬
‫‪ -‬جائزة البداع الدبي‪.‬‬
‫‪ -‬جائزة العلوم البيئية والزراعية‪.‬‬
‫‪ -‬جائزة العلوم القتصادية‪.‬‬
‫وتمنح هذه الجوائز في اليوم السابع والعشرين من شهر إبريل‬
‫من كل عام في ذكرى وفاة السيد‪ /‬هائل سعيد أنعم‪.774‬‬
‫وفيما يخص البحث العلمي؛ فقد تم إنشاء صندوق السعيد لدعم‬
‫ما‬
‫البحث العلمي بقرار من مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة تكري ً‬
‫لذكرى السيد‪ /‬هائل سعيد أنعم‪ ،‬ولتحقيق المقاصد والهداف التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬دعم البحث العلمي وتشجيعه في الجامعات والمؤسسات‬
‫والمراكز العلمية المتخصصة في إليمن‪ ،‬وذلك من خلل‪:‬‬

‫‪ 774‬جائزة السيد‪ /‬هائل سعيد أنعم للعلوم والداب‪ ،‬الدورة الثانية عن عام ‪1998‬م )كتاب‬
‫توثيقي( ص ‪. 4‬‬
‫‪ -‬دعم البحوث العلمية الصيلة للباحثين والمتخصصين‬
‫والكاديميين في الجامعات والمؤسسات والمراكز التعليمية المؤهلة‪.‬‬
‫‪ -‬تشجيع الباحثين والمتخصصين والكاديميين في الجامعات‬
‫والمؤسسات والمراكز العلمية إليمنية على إجراء بحوث علمية‬
‫مبتكرة‪ ،‬ثم تصميمها بعناية مع مؤسسات البحث العلمي الراقية‪،‬‬
‫المحلي منها والعربي والدولي‪.‬‬
‫‪ -‬دعم البحوث العلمية عن طريق المنح أو التعاقد مع الصندوق‬
‫في مجالت معينة من العلوم الساسية والتطبيقية والتكنولوجية ذات‬
‫الولوية للصندوق والمؤسسة‪.‬‬
‫‪ -‬التطوير المشترك للتكنولوجيات الناشئة التي من شأنها‬
‫السهام في تطوير القتصاد إليمني‪.‬‬
‫‪ -2‬المشاركة في دعم المؤتمرات المتخصصة والندوات وورش‬
‫العمل العلمية التي تتواءم وأهداف المؤسسة‪.‬‬
‫‪ -3‬المشاركة في تنمية إمكانات مكتبة السعيد من كتب ومراجع‬
‫العلوم الساسية والتطبيقية والتكنولوجية‪.‬‬ ‫ونصوص إلكترونية في‬
‫‪ -4‬العمل على نشر نتائج البحوث العلمية ووقائع المؤتمرات‬
‫والندوات وورش العمل التي تقيمها الجامعات ومؤسسات ومراكز‬
‫البحث العلمية التخصصية والتي تتفق وأهداف المؤسسة‪.‬‬
‫‪ -5‬إقامة وتعزيز الصلت بين مراكز ومؤسسات البحث العلمي‬
‫محلًيا وعربًيا ودولًيا‪.‬‬
‫ويدير الصندوق لجنة خاصة مؤلفة من رئيس ونائب رئيس‬
‫وخمسة أعضاء يختارهم مجلس إدارة مؤسسة السعيد للعلوم‬
‫والثقافة من ذوي الكفاءة العالية‪ ،‬ومن أصحاب التخصصات والخبرات‬
‫العلمية المختلفة ولمدة ثلث سنوات‪.775‬‬
‫ومثل هذه المؤسسة هناك مؤسسات أخرى كثيرة تقوم بمثل‬
‫هذا الدور‪ ،‬وهي ‪ -‬ولله الحمد ‪ -‬في ازدياد وتطور مستمر‪ ،‬وإنا لنأمل‬
‫في أن يقوم خيرون من هذه المة ذوو ثروة بتخصيص أموال بعينها‬
‫للبحث العلمي‪ ،‬مضارعة بنوبل السويدي‪ ،‬صاحب ومؤسس الجائزة‬
‫المشهورة على البحاث العلمية الممتازة‪.‬‬
‫ويهمنا بعد أن نقرر أن كل هذه العوامل التي ذكرناها في سبيل‬
‫تنشئة العلماء ل شك أنها تساعد كثيًرا في إنتاج وإخراج علماء‬
‫‪ 775‬الموقع الرسمي لمؤسسة السعيد للعلوم والثقافة على شبكة النترنت‪ ،‬الرابط‬
‫‪http://www.al-saeed.net/index.php‬‬
‫متميزين‪ ،‬لكن الحقيقة التي ل يمكن إغفالها هي أن العامل الرئيسي‬
‫هو الرغبة الداخلية والرادة الحقيقية في نفس الطفل‪ ،‬أو الشاب‪ ،‬أو‬
‫ما متميًزا‪ ،‬فهذا هو الساس‬‫الرجل‪ ،‬أو المرأة في أن يصبح عال ً‬
‫ول عليه‪ ،‬ومن دون ذلك تضيع كل الجهود المذكورة هباًء‬ ‫والمع ّ‬
‫منثوًرا‪ ..‬ونسأل الله أن ي ُعِّز السلم والمسلمين‪.‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬دور العلم في بناء الحضارات‬
‫ة(‬ ‫ة ت َطِْبي ِ‬
‫قي ّ ٌ‬ ‫مث ِل َ ٌ‬ ‫َ‬
‫)أ ْ‬

‫لئل ّ يكون الحديث محض تسلية أو تنفيس‪ ،‬وفي سبيل طرق‬


‫ميدان العمل وترك ميدان القول‪ ..‬وحتى نخرج من طور النظرية إلى‬
‫طور العملية والتطبيق‪..‬‬
‫وفي واحدة مما يمكننا من خللها غرس المل وإيقاظه في‬
‫النفوس‪..‬‬
‫ل ثلثة‪:‬‬
‫فهذه أمثلة ونماذج واقعية‪ ،‬نعرضها في فصو ٍ‬
‫الفصل الول‪ :‬وفيه نماذج من تاريخ الحضارات القديمة التي‬
‫اهتمت بالعلم؛ فسادت العالم قروًنا طويلة‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬ونذكر فيه نماذج من الحضارة السلمية‪،‬‬
‫أخذت بأسباب العلم‪ ،‬فارتقى بها في مدارج السماء؛ لتصبح شعلة‬
‫تضيء سماء النسانية‪ ،‬وتبدد ظلم القرون الوسطى!!‬
‫الفصل الثالث‪ :‬وفيه نماذج من الواقع المعاصر‪ ،‬في صورة‬
‫دول؛ اهتمت بالعلم؛ فصارت قوى عظمى‪ ،‬يخطب الجميع وّدها‪،‬‬
‫ويلجئون إليها لطلب العلم والحضارة والمدنية‪.‬‬
‫الفصل الول‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الحضارات القديمة‬

‫ويضم هذا الفصل المباحث التالية‪:‬‬


‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الحضارة الصينية‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الحضارة الرومانية‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الحضارة الفارسية‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الحضارة الهندية‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الحضارة المصرية‪.‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الحضارة اليونانية‪.‬‬
‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الحضارة الصينية‪.‬‬
‫كان للحضارة الصينية منجزات عظيمة في مجال العلوم‬
‫والصناعة والطب والفلك والمعمار؛ ففي مجال العلوم كتب الصينيون‬
‫ت على‬ ‫عن الخسوف وعن مجموعات من النجوم كما أوردوا ملحظا ٍ‬
‫دبة والمستوية‪ ،‬كما‬
‫الضوء‪ ،‬وعلى المرايا بأنواعها‪ :‬المقّعرة والمح ّ‬
‫أدركوا النسبة الصحيحة في النحاس والقصدير‪.‬‬
‫وتذكر كتب التاريخ فضل أسرة )سونج ‪1279 -960‬م( في‬
‫فَلت فترة سونج بالعديد من‬ ‫ح ِ‬
‫النهضة العلمية بالصين القديمة؛ حيث َ‬
‫الختراعات‪ ،‬ونشأت في عام ‪1100‬م مصانع الحديد والصلب‬
‫العملقة والتي أنتجت حوإلى ‪ 150‬ألف طن من الحديد والصلب‪.‬‬
‫وأنتج الصينيون عام ‪1078‬م من الصلب ما يعادل ما أنتجته إنجلترا‬
‫في بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر‪ .‬وكانت الدولة‬
‫تكافيء المخترعين على اختراعاتهم‪.‬‬
‫ومن أهم الختراعات التي قام بها الصينيون‪:‬‬
‫الطباعة‪ ،‬واختراع الورق‪:‬‬
‫صنع الصينيون حوإلى )‪105‬م( الورق من قشر الشجر والقِّنب‬
‫والخرق‪ ،‬وقد كانوا قبله يكتبون علي الخيزران والحرير‪.‬‬
‫ة من النقوش الفنية‬
‫ت موحي ً‬
‫وقد حوت المتاحف وقتئذ ٍ مجموعا ٍ‬
‫على البرونز وأحجار إليشب‪ ،776‬ومن الصور الزيتية والمخطوطات؛‬
‫شَئت في البلد دور الكتب التي بقي بعضها بعد أن زالت أمجاد‬ ‫ُ‬
‫وأن ِ‬
‫الحروب‪ ،‬وكانت كلتا العاصمتين الشمإلية والجنوبية من أهم مراكز‬
‫العلم في آسيا ‪.‬‬
‫و قد دخلت الطباعة في أيام أسرة سونج فأحدثت في حياة‬
‫الصين الدبية ثورة كاملة وإن لم يدرك الناس ‪ -‬حينها ‪ -‬مداها‪ ،‬وكان‬
‫َ‬
‫جه في‬‫هذا الفن قد نما شيًئا فشيًئا خلل القرون الطوال حتى بلغ أوْ َ‬
‫صن َِعت اللواح المحفورة‬ ‫أيام تلك السرة‪ ،‬فأتم مرحلتيه الكبيرتين؛ إذ ُ‬
‫ّ‬
‫ف المفككة المفَردة من‬ ‫فت الحرو ُ‬‫ص ّ‬
‫ت كاملة‪،‬و ُ‬
‫لُتطَبع عليها صفحا ٌ‬
‫المعادن المجموعة في القوالب‪ ،‬وكان هذا الختراع الصيني الخالص‬
‫أعظم اختراع في تاريخ الجنس البشري بعد الكتابة‪.777‬‬

‫نوع من الحجار الكريمة‪ ،‬كانت تستخدم للكتابة عليها‪.‬‬ ‫‪776‬‬

‫ول ديورانت‪ :‬قصقة الحضارة ق ‪ 2/4‬صق ‪ 151‬وما بعدها‬ ‫‪777‬‬


‫وكانت الخطوة الولى في هذا الختراع العظيم هي كشف مادة‬
‫تكون الكتابة عليها أسهل منها على الحرير أو الغاب اللذين قنع بهما‬
‫الصينيون؛ ذلك أن الحرير غإلى الثمن والغاب ثقيل‪ ،‬وكانوا يحتاجون‬
‫إلى ثلث عربات نقل يحمل عليها الكتب المدونة على شرائح الغاب‬
‫التي كانت أثمن ما يملكون من متاع الدنيا آنذاك‪.‬‬
‫ضا في بلد الشرق‪ .‬نعم إن المصريين قد‬ ‫وكان اختراع الحبر أي ً‬
‫صنعوا الورق والحبر في العهد الذي نستطيع أن نسميه أقدم العهود‪،‬‬
‫ولكن الصين هي التي أخذت عنها أوربا طريقة خلط الحبر بسناج‬
‫المصابيح‪ .‬ولقد كان "الحبر الهندي" صيني الصل‪ ،‬وكذلك كان الحبر‬
‫الحمر المصنوع من كبريتور الزئبق‪ 778‬شائع الستعمال في الصين‬
‫ما ظهر الحبر السود في القرن الرابع‬ ‫من أيام أسرة )هان(؛ فل ّ‬
‫الميلدي أصبح استعمال الحبر الحمر ميزة خاصة بالباطرة ‪ .‬وكان‬
‫‪779‬‬

‫اختراع الحبر السود من العوامل المشجعة على انتشار الطباعة؛ لنه‬


‫كان أصلح المواد للستعمال في القوالب الخشبية‪ ،‬ويمتاز بأن الكتابة‬
‫س من الورق في آسيا‬ ‫دت أكدا ٌ‬
‫ج َ‬
‫قا؛ فلقد وُ ِ‬‫حى مطل ً‬ ‫به ل تكاد ُتم َ‬
‫الوسطى ظلت تحت الماء حتى عطنت‪ ،‬ولكن ما عليها من الكتابة‬
‫حا ُتست َ َ‬
‫طاع قراءُته‪.780‬‬ ‫ظ ّ‬
‫ل واض ً‬
‫وكان استخدام الختام في مهر الوراق هو البداية غير‬
‫المقصودة التي نشأت عنها الطباعة‪ ،‬ول يزال اللفظ الصيني الذي‬
‫يطلق على الطباعة هو نفسه الذي يطلق على الخاتم‪ ،‬وكانت الختام‬
‫الصينية تطبع في باديء المر على الطين كما كانت ُتطَبع عليه في‬
‫دونها‬ ‫بلد الشرق الدنى‪ ،‬ثم أخذوا في القرن الخامس الميلدي ي ُن َ ّ‬
‫فر‬‫بالحبر‪ ،‬وفي هذه الثناء كانت أمهات الكتب الصينية القديمة ُتح َ‬
‫على الحجر في القرن الثامن بعد الميلد‪ ،‬وسرعان ما نشأت بعدئ ِذٍ‬
‫عادة ُ استخراج صورٍ من هذه النقوش المحفورة بعد طلءها بالحبر‪.‬‬
‫ما من الخشب لطبع‬ ‫وفي القرن السادس نجد الد ّّويين يستعملون أختا ً‬
‫الّرقى السحرية‪ ،‬وبعد مائة عام من ذلك الوقت أخذ المبشرون‬
‫دة نسخ مطبوعة‬ ‫البوذيون ُيجُرون التجارب بقصد استخراج ع ّ‬
‫ضاح وطباعة على المنسوجات‪ ،‬وقد‬ ‫باستخدام أختام وألواح وورق ن ّ‬
‫أخذوا هذا النوع الخير عن الهنود‪ ،‬وأقدم ما وصل إلينا من الطباعة‬
‫على لوح محفور ألف ألف ُرقَْية سحرية ط ُب َِعت في اليابان حوإلى‬
‫ة باللغة السنسكريتية وبحروف صينية‪ ،‬فهي بذلك‬ ‫عام )‪770‬م( مكتوب ً‬
‫مثل طيب لتفاعل الحضارات في بلد آسيا‪ .‬وطبعت أشياء أخرى‬
‫ح أنها‬ ‫كثيرة من القوالب )الكليشهات( في أيام أسرة تانج‪ ،‬ولكن يُلو ُ‬
‫دت في أثناء الفوضى والقلقل التي أعقبت عهد )منج‬ ‫قد تلفت أو فُ ِ‬
‫ق َ‬
‫هوانج(‪.‬‬
‫المادة الخام التي يستخرج منها الزئبق ‪.‬‬ ‫‪778‬‬

‫ول ديورانت ‪ :‬قصة الحضارة ق ‪ 2/4‬ص ‪.156‬‬ ‫‪779‬‬

‫السابق ‪:‬ص ‪157‬‬ ‫‪780‬‬


‫وقد كان الباعث الول على اختراع الطباعة في بلد الصين‬
‫باعًثا دينًيا‪ ،‬كما كانت الحال في أوربا في العصور الوسطى المتأخرة‪،‬‬
‫وكما هي الحال بين بعض الشعوب البدائية في الوقت الحاضر؛ ذلك‬
‫أن الديان في ذلك الزمن القديم كانت تسعى لنشر عقائدها عن‬
‫طريق العين وعن طريق الذن مًعا‪ ،‬ولجعل صلواتها ورقاها‬
‫وأقاصيصها في متناول كل إنسان‪.‬‬
‫لقد كان الصينيون أقدر على الختراع منهم على النتفاع بما‬
‫يخترعون؛ فقد اخترعوا البارود في أيام أسرة )تانج(‪ ،‬ولكنهم قصروا‬
‫استعماله وقتئ ِذ ٍ على اللعاب النارية‪ ،‬ولم يستخدموه في صنع القنابل‬
‫اليدوية وفي الحروب إل في عهد أسرة سونج )عام ‪1161‬م(‪.‬‬
‫وقد عرف المسلمون ملح البارود )نترات البوتاسا( ‪ -‬وهو أهم‬
‫موه )الثلج‬
‫مركبات البارود ‪ -‬في أثناء اّتجاِرهم مع الصين وس ّ‬
‫سّر صناعة البارود إلى البلد الغربية‪ ،‬واستخدمه‬‫الصيني(‪ ،‬ونقلوا ِ‬
‫ل سير روجر بيكين ‪-‬‬ ‫المسلمون في أسبانيا في الغراض الحربية‪ ،‬ولع ّ‬
‫أول من ذكره من الوربيين ‪ -‬قد عرفه من دراسته لعلوم المسلمين‪،‬‬
‫حالة الذي طاف في أواسط آسيا‪.‬‬ ‫أو من اتصاله بق )ده‪ -‬بروكي( الّر ّ‬
‫دق‬
‫دا من البارود‪ ،‬وإذا جازفنا بأن نص ّ‬
‫والبوصلة البحرية أقدم عه ً‬
‫ما يقوله عنها المؤّرخون الصينيون فإن دوق جو قد اخترعها في عهد‬
‫المبراطور تشنج وانج )‪ 1078-1115‬ق‪.‬م( ليهتدي بها بعض السفراء‬
‫الجانب في عودتهم إلى بلدهم‪ .‬ويقول الرواة‪ :‬إن الدوق أهدى إلى‬
‫السفارة خمس عربات جهزت كل منها "بإبرة تشير إلى الجنوب"‪.‬‬
‫وأكبر الظن أن الصينيين القدمين كانوا يعرفون ما لحجر المغناطيس‬
‫ص مغناطيسية‪ ،‬ولكن استعماله كان مقصوًرا على تحديد‬ ‫من خوا ّ‬
‫التجاهات في بناء الهياكل‪ ،‬وقد ورد وصف البرة المغناطيسية في‬
‫)السونج‪ -‬شو( وهو كتاب تاريخي مؤّلف في القرن الخامس الميلدي‪،‬‬
‫عها هو الفلكي جانج هنج )المتوفى في عام‬ ‫ويقول المؤّلف‪ :‬إ ّ‬
‫ن مختر َ‬
‫‪139‬م(‪ ،781‬على أن هذا العالم ِ لم يفعل أكثر من أن يكشف من جديد‬
‫ما كانت الصين تعرفه قبل أيامه‪ .‬وأقدم ما ورد عن البرة من حيث‬
‫فائدتها للملحين هو ما جاء في كتاب أ ُّلف في أوائل القرن الثاني‬
‫عشر الميلدي وهو يعزو استخدامها في هذا الغرض إلى البحارة‬
‫الجانب‪ -‬وأكبر الظن أنهم من المسلمين ‪ -‬الذين كانوا ُيسّيرون‬
‫سفنهم بين سومطرة وكانتون‪.782‬‬
‫وكان الصينيون من أوائل المم التي اتخذت الفحم وقوًدا‬
‫واستخرجوه من الرض بكميات قليلة منذ عام ‪ 122‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة ‪ 2/4‬ص ‪.251‬‬ ‫‪781‬‬

‫السابق نفسه ‪.‬‬ ‫‪782‬‬


‫و أنتجت الحضارة الصينية كذلك كتًبا من أرقى الكتب الدراسية‬
‫في الزراعة‪ ،‬وفي تربية دود القز قبل ميلد المسيح بقرنين كاملين‪،‬‬
‫ت قّيمة في علم تقويم البلدان‪ .‬وقد خّلف عالمها‬ ‫ُ‬
‫وأّلفت رسال ٌ‬
‫مر جانج تسانج )المتوفى في عام ‪152‬ق‪.‬م( وراءه‬ ‫الرياضي المع ّ‬
‫كتاًبا في الجبر والهندسة فيه أول إشارة معروفة للكميات السالبة‪،‬‬
‫وقد حسب )دزو تسو تشونج‪ -‬جي( القيمة الصحيحة للنسبة التقريبية‬
‫سن المغناطيس أو "الداة التي تشير إلى‬ ‫إلى ثلثة أرقام عشرية‪ ،‬وح ّ‬
‫الجنوب"‪ ،‬وقد وردت عنه إشارة غير واضحة قيل فيها‪ :‬إنه كان يجري‬
‫التجارب على سفينة تتحرك بنفسها‪ .‬واخترع تشانج هنج آلة لتسجيل‬
‫الزلزل )سيمسغرافا( في عام ‪132‬م‪.783‬‬
‫الرياضيات‪:‬‬
‫وأكبر الظن أن علماء الرياضة الصينيين قد أخذوا الجبر عن‬
‫علماء الهند‪ ،‬ولكنهم هم الذين أنشئوا علم الهندسة في بلدهم‬
‫سِع‬
‫مدفوعين إلى هذا بحاجتهم إلى قياس الرض‪ ،‬وكان في وُ ْ‬
‫الفلكيين في أيام )كونفوشيوس( أن يتنّبئوا بالخسوف والكسوف تنب ّ ً‬
‫ؤا‬
‫قا‪ ،‬وأن يضعوا أساس التقويم الصيني بتقسيم اليوم إلى اثنتي‬ ‫دقي ً‬
‫ة‪ ،‬وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهًرا يبدأ كل منها‬
‫عشرة َ ساع ً‬
‫بظهور الهلل‪ ،‬وكانوا يضيفون شهًرا آخر في كل بضع سنين لكي‬
‫يتفق التقويم القمري مع الفصول الشمسية‪.‬‬
‫الطب‪:‬‬
‫طا من الحكمة التجريبية والخرافات‬ ‫وكان الطب في الصين خلي ً‬
‫الشعبية‪ ،‬وكانت بدايته فيما قبل التاريخ المدّون‪ ،‬ونبغ فيه أطباء‬
‫عظماء قبل عهد أبقراط بزمن طويل‪ ،‬وكانت الدولة من أيام أسرة‬
‫)جو( تعقد امتحاًنا سنوًيا للذين يريدون الشتغال بالمهن الطبية‪،‬‬
‫دد مرتبات الناجحين منهم في المتحان حسب ما يظهرون من‬ ‫وُتح ّ‬
‫ي في القرن الرابع قبل‬ ‫م صين ّ‬‫جدارة في الختبارات‪ ،‬وقد أمر حاك ٌ‬
‫ث أربعين من المجرمين المحكوم عليهم‬ ‫الميلد أن ُتشّرح جث ُ‬
‫ة‪ ،‬ولكن نتائج هذا‬‫ة تشريحي ً‬‫مهم دراس ً‬ ‫بالعدام‪ ،‬وأن ُتدَرس أجسا ُ‬
‫التشريح وهذه الدراسة قد ضاعت وسط النقاش النظري‪ ،‬ولم‬
‫تستمر عمليات التشريح فيما بعد‪.784‬‬
‫دة رسائل في‬ ‫وكتب )جانج جونج‪ -‬تنج( في القرن الثاني ع ّ‬
‫حمَيات )الريجيم( ظّلت هي النصوص المعمول بها مدى‬ ‫التغذية وال ِ‬
‫ألف عام‪ ،‬وكتب )هوا‪ -‬دو( في القرن الثالث كتاًبا في الجراحة‪،‬‬
‫ما‪.‬‬
‫در المريض تخديًرا تا ً‬‫وأشاع العمليات الجراحية باختراع نبيذ ٍ يخ ّ‬

‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة ‪ 2/4‬صق ‪252‬‬ ‫‪783‬‬

‫السابق ‪253‬‬ ‫‪784‬‬


‫در فيما بعد‪ ،‬ولم‬
‫ومن إهمال المؤّرخين أن ضاعت أوصاف هذا المخ ّ‬
‫ُيعَرف عنها شيٌء‪.785‬‬
‫فا شامل ً‬
‫وفي أوائل القرن السادس كتب داو هونج‪ -‬جنج وص ً‬
‫لسبعمائة وثلثين عقاًرا مما كان يستخدم في الدوية الصينية‪ ،‬وبعد‬
‫ما في أمراض‬ ‫مائة عام من ذلك الوقت كتب جاو يوان‪ -‬فانج كتاًبا قي ً‬
‫ل‪ .‬وكثرت دوائر‬ ‫النساء والطفال ظل من المراجع المهمة زمًنا طوي ً‬
‫المعارف الطبية في أيام أباطرة أسرة تانج كما كثرت الرسائل‬
‫الطبية المتخصصة التي تبحث كل منها في موضوع واحد في عهد‬
‫شَئت في أيام هذه السرة ك ُّلية طبية؛‬ ‫ُ‬
‫الملوك من أسرة سونج‪ ،‬وأن ِ‬
‫وإن ظل طريق التعليم الطبي هو التمرين والممارسة‪.‬‬
‫وكانت العقاقير الطبية كثيرة متنوعة حتى لقد كان أحد مخازن‬
‫الدوية منذ ثلثمائة عام يبيع منها بنحو ألف ريال في اليوم الواحد‪.‬‬
‫وكان الطباء يطنبون في تشخيص المراض؛ فقد مّيزوا من أنواع‬
‫النبض أربًعا وعشرين حالة‪ ،‬واستخدموا اللقاح في معالجة الجدري‪،‬‬
‫وإن كانوا لم يستخدموا التطعيم للوقاية منه‪ ،‬ولعّلهم قد أخذوا هذا‬
‫عن الهند‪ ،‬ووصفوا الزئبق للعلج من الزهري‪ .‬ويلوح أن هذا المرض‬
‫الخير قد ظهر في الصين في أواخر أيام أسرة )منج(‪ ،‬وأنه انتشر‬
‫عا بين الهلين‪ ،‬وأنه بعد زواله قد خّلف وراءه حصانة‬‫انتشاًرا مرو ً‬
‫نسبية تقيهم أشد عواقبه خطورة‪.‬‬
‫ما يستحق الذكر من أيام )شي‬ ‫ولم يتقدم علم الطب تقد ً‬
‫ل في وسعنا أن نقول هذا‬ ‫هوانج‪ -‬دي( إلى أيام الملكة الوالدة‪ ،‬ولع ّ‬
‫القول بعينه عن علم الطب في أوربا من عهد أبقراط إلى عهد‬
‫باستير‪ .‬وغزا الطب الوربي بلد الصين في صحبة المسيحية ولكن‬
‫دنيا ظلوا إلى أيامنا هذه يقصرون‬‫المرضى الصينيين من الطبقات ال ّ‬
‫ضلون أطباءهم‬‫ما فيما عداها فهم يف ّ‬ ‫النتفاع به على الجراحة‪ ،‬أ ّ‬
‫وأعشابهم القديمة على الطباء الوربيين والعقاقير الوربية ‪.‬‬
‫‪786‬‬

‫السابق ‪254‬‬ ‫‪785‬‬

‫ول ديورانت‪ :‬مصدر سابق ‪.255‬‬ ‫‪786‬‬


‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الحضارة الرومانية‬
‫تعد الحضارة الرومانية من أعظم حضارات أوروبا بعد الحضارة‬
‫اليونانية‪ ،‬ولم يكن لحضارة أن تقوم‪ ،‬وتتقدم بذلك القدر بدون أن‬
‫يكون فيها من العلماء‪ ،‬والحريصين على نهضتها وتقدمها من يقودها‬
‫إلى ذرا ذلك المجد والعظمة‪ ،‬وكان هؤلء هم علماء الحضارة‬
‫الرومانية‪ ،‬وكان تناولهم للعلم يعتمد على تجارب علمائهم الشخصية‪،‬‬
‫أو النقل عن الحضارات المجاورة لهم ‪.‬‬
‫فنجد مثل ً أن دراسة الجغرافيا كانت لديهم أكثر واقعية‪ ،‬وكان‬
‫الغرض منها أن ُيسَتعان بها على الملحة‪ ،‬وقد نشر بمبنيوس ميل‬
‫سم فيها سطح الرض إلى منطقة‬ ‫‪Mela Pomponius (43‬م( خرائط ق ّ‬
‫حارة في الوسط‪ ،‬ومنطقتين معتدلتين شمإلية وجنوبية‪ ،‬وكان‬
‫الجغرافيون الرومان يعرفون أوربا وشمإلى آسيا الغربية‪ ،‬وشمإليها‬
‫الشرقي‪ ،‬أما سائر أجزاء العالم فكانت لديهم عنها أفكار غامضة‪،‬‬
‫وأقاصيص خرافية غريبة‪ .‬وقد وصلت السفن السبانية والفريقية‬
‫الصغيرة إلى جزائر ماديرا ‪ Madeira‬وكناريا أو الخالدات )‪.(Canary‬‬
‫وكان أكبر المنتجات العلمية اليطالية‪ ،‬وأكثرها دللة على الجد‬
‫في ذات الوقت كتاب التاريخ الطبيعي ‪Historia Naturalis‬الذي وضعه‬
‫كيوس بلنيوس سكندس ‪ ،Caius Plinius Secondus‬وقد قضى كيوس‬
‫دا للسطول‬ ‫ما‪ ،‬وقائ ً‬
‫حالة‪ ،‬وحاك ً‬
‫حياته كلها تقريًبا جندًيا‪ ،‬ومحامًيا‪ ،‬ور ّ‬
‫الروماني في غربي البحر المتوسط‪ ،‬ولكّنه رغم هذه المشاغل كّلها‬
‫خا لروما‪،‬‬‫أّلف رسائل في الخطابة‪ ،‬والنحو‪ ،‬والحرب‪ ،‬وكتب تاري ً‬
‫خا آخر لحروب روما في ألمانيا‪ ،‬وسبعة وثلثين "كتاًبا" في‬ ‫وتاري ً‬
‫التاريخ الطبيعي هي كل ما بقي من هذا الفيض العظيم من‬
‫المؤلفات‪.‬‬
‫وكتابه هذا في جملته وتفصيله دائرة معارف كتبها رجل واحد‪،‬‬
‫وجمع فيها خلصة علم زمانه وأخطائه‪ .‬وفي ذلك يقول‪" :‬إن الغرض‬
‫ما لكل ما نعرف أنه موجود‬‫فا عا ً‬
‫الذي أرمي إليه هو أن أعرض وص ً‬
‫على سطح الرض"‪ ،‬فهو يبحث في عشرين ألف موضوع‪ ،‬ويعتذر عما‬
‫تركه من الموضوعات الخرى‪ ،‬ويشير في هذا الكتاب إلى ألفي مجلد‬
‫فا‪ ،‬ويعترف بد َي ِْنه إلى من رجع إليهم من الكّتاب ويذكر‬ ‫كتبها ‪ 473‬مؤل ً‬
‫ضا‬
‫أسمائهم جميًعا بصراحة ل نظير لها في الدب القديم‪ ،‬ويشير عر ً‬
‫إلى أنه وجد أن كثيًرا من المؤلفين نقلوا أقوال من سبقوهم بنصها‬
‫دون أن يعترفوا بهذا النقل‪.787‬‬

‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة ‪ 186 5/2‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪787‬‬


‫الطب عند الرومان‪:‬‬
‫ما الطب فقد أخذوه عن اليونان‪ ،‬ولكّنهم أحسنوا صياغته‪،‬‬ ‫أ ّ‬
‫وتنظيمه‪ ،‬وطّبقوه على الصحة العامة والخاصة‪ ،‬ولقد كانت روما‬
‫تحيط بها من جميع جهاتها تقريبا مستنقعات واسعة‪ ،‬وكانت معرضة‬
‫للفيضانات الوبائية‪ ،‬فكانت بذلك في أشد الحاجة إلى العناية بالصحة‬
‫ن الملريا كانت منتشرة في روما في القرن‬ ‫العامة‪ ،‬فنحن نسمع أ ّ‬
‫الثاني قبل الميلد‪ ،‬وأن بعوضة النوفيل كانت في ذلك الوقت‬
‫مستقرة في مناقع بنتين )‪ ،(Pontine‬وانتشر داء النقرس بانتشار‬
‫الترف‪ ،‬وتدل بعض الفقرات في كتابات الهجائين الرومان على ظهور‬
‫الزهري في القرن الول بعد الميلد‪ ،‬واجتاحت الوبئة الفتاكة إيطإليا‬
‫الوسطى في عام ‪ 23‬ق‪.‬م وفي أعوام ‪ 166 ،79 ،95‬ميلدية‪.788‬‬
‫وكان الناس من أقدم الزمنة يحاولون التغلب على المرض‬
‫والطاعون بالسحر والصلوات‪ ،‬وكانوا يحملون مرضاهم وقرابينهم إلى‬
‫هيكل إيسكلبيوس ‪ Aesculapius‬ومنيرفا‪ ،‬وكان الكثيرون منهم يتركون‬
‫ل القرن الول قبل‬ ‫ما أن ح ّ‬‫فيهما الهدايا شكًرا على نعمة الشفاء‪ .‬فل ّ‬
‫الميلد أخذت عنايتهم بالطب الحقيقي تزداد شيًئا فشيًئا‪ ،‬ولم تكن‬
‫ما لممارسة مهنة الطب‪ ،‬فكان‬ ‫الدولة في ذلك الوقت قد وضعت نظا ً‬
‫ذاؤون‪ ،‬والحلقون‪ ،‬والنجارون يمارسونه مع مهنهم الصلية إذا‬ ‫الح ّ‬
‫شاءوا‪ ،‬ويستعينون بالسحر‪ ،‬ويخلطون عقاقيرهم بأنفسهم ويبيعونها‬
‫للناس‪.‬‬
‫معات ‪ Auditoria‬لتعليم الطب‬ ‫مست َ َ‬ ‫حت في عهد فسبازيان ُ‬ ‫وفُت ِ َ‬
‫م فيها أساتذة تعترف بهم الدولة وتؤّدي إليهم رواتبهم‪،‬‬ ‫يتوّلى التعلي َ‬
‫ن اللغة‬
‫وكانت اللغة اليونانية لغة التعليم في هذه المعاهد كما أ ّ‬
‫ب بها تذاكُر الدواء في هذه اليام‪ .‬وكان‬ ‫اللتينية هي اللغة التي ُتكت َ ُ‬
‫ُيطَلق على خريجي هذه المعاهد اسم‪ :‬أطباء الجمهورية‪ ،‬وكانوا هم‬
‫وحدهم الذين يستطيعون ممارسة الطب بصفة قانونية في روما بعد‬
‫ص في قانون أكوليا ‪ Les Aquilia‬على أن تشرف‬ ‫عهد فسبازيان‪ .‬ون ّ‬
‫الدولة على الطباء‪ ،‬كما نص فيه على وجوب تحملهم تبعة إهمالهم‪.‬‬
‫وكان قانون كرنليا ‪ Les Cornelia‬يفرض أشد العقوبات على من‬
‫يتسببون في موت المرضى بسبب إهمالهم أو خطئهم الناشيء من‬
‫جإلين ظلوا يمارسون دجلهم‪ ،‬ولكن‬ ‫جهلهم بأعمالهم‪ .‬ومع هذا فإن الد ّ ّ‬
‫ل يزداد شيًئا فشيًئا ‪.‬‬
‫‪789‬‬
‫عدد الطباء المتعلمين ظ ّ‬

‫وقد وصل الطب العسكري في عام )‪100‬م( إلى أرقى ما‬


‫وصل إليه في الزمن القديم؛ فكان في كل فيلق أربعة وعشرون‬

‫ول ديورانت ‪ :‬قصة الحضارة ‪ 5/2‬صق ‪.194‬‬ ‫‪788‬‬

‫السابق ‪.195‬‬ ‫‪789‬‬


‫حا‪ ،‬كما كان له هيئة للسعاف الولي ونقالت ميدان منظمة‬ ‫جرا ً‬
‫أحسن تنظيم‪ ،‬وكانت الدولة تعين الطباء لمعالجة الفقراء مجاًنا‬
‫وتؤدي لهم أجورهم‪ ،‬أما الغنياء فكان لهم أطباؤهم الخصوصيون‬
‫وكان "رؤساء الطباء ‪ُ "Archiarti‬يعنون بالمبراطور وأسرته‪ ،‬وخدمه‬
‫وأعوانه‪ ،‬وتؤدى لهم على ذلك أجور طيبة‪ ،‬وكانت بعض السر تتعاقد‬
‫أحياًنا مع بعض الطباء على أن يعنوا بصحتها ويداووها من أمراضها‬
‫مدة معينة‪.790‬‬
‫وبلغت مهنة الطب في ذلك الوقت درجة عظيمة من التخصص‪،‬‬
‫فكان في البلد أخصائيون في المسالك البولية‪ ،‬وفي أمراض النساء‪،‬‬
‫وكان فيها أطباء موّلدون‪ ،‬وأطباء رمد‪ ،‬وأخصائيون في أمراض العين‬
‫والذن‪ ،‬وأطباء بيطريون‪ ،‬وجراحو أسنان‪ ،‬وكان في وسع الرومان أن‬
‫تكون لهم أسنان صناعية من ذهب‪ ،‬وأسنان مرتبطة بأسلك‪ ،‬وكباري‬
‫وأسنان ذات قشرة ذهبية‪ ،‬كما كان لديهم عدد كبير من الطبيبات‪،‬‬
‫ن كتًبا في الجهاض كانت واسعة النتشار بين‬ ‫وقد كتبت الكثيرات منه ّ‬
‫سيدات الطبقات الراقية‪ ،‬وكان الجراحون يتخصصون في فروع‬
‫الجراحة المختلفة‪ ،‬وقّلما كان يوجد جراح غير متخصص في فرع‬
‫جد َ في خرائب‬
‫مل في التخدير‪ ،‬وقد وُ ِ‬ ‫خاص‪ .‬وكان التروبين ُيسَتع َ‬
‫مدينة )بمبي( أكثر من مائتي أداة جراحية مختلفة‪ .‬وكان تشريح جثث‬
‫الدميين عمل ً غير مشروع‪ ،‬ولكنهم كانوا يستعيضون عن ذلك بفحص‬
‫رين‪.‬‬‫ض ِ‬
‫عن أجسام المجروحين أو المحت َ َ‬
‫وكان العلج بمياه العيون واسع النتشار‪ ،‬وكانت العيون الحارة‬
‫الكبرى معاهد للعلج والستشفاء‪ .‬وقد جمع شارميس ‪Charmis‬‬
‫المرسيلي ثروة طائلة بإدارة حمامات باردة‪ .‬وكان المصابون بالسل‬
‫يرسلون إلى مصر أو شمإلى إفريقية‪ ،‬على حين كان الكبريت‬
‫دم لعلج المراض الجلدية‪ ،‬ولتبخير الحجرات بعد انتشار‬ ‫ُيستخ َ‬
‫المراض المعدية‪ .‬وكانت العقاقير آخر ما يلجأ إليه الناس من وسائل‬
‫العلج‪ ،‬ولكنهم كانوا يلجأون إليها في كثير من الحالت‪ ،‬وكان الطباء‬
‫يصنعونها بأنفسهم بطرق يحتفظون بسريتها‪ ،‬ول يطلعون الجماهير‬
‫عليها‪ ،‬ويبيعونها بأغلى الثمان التي يطيقها المرضى‪.791‬‬
‫وليس بين الكّتاب المعروفين في علم الطب في هذا العهد‬
‫دا فقط‪ ،‬وحتى هذا الكاتب لم يكن‬ ‫كاتب من أصل روماني إل واح ً‬
‫طبيًبا‪ .‬لقد كان أورليوس كرنليوس سلسس ‪Aurelius Cornelius‬‬
‫‪ Celsus‬من أبناء الشراف‪ ،‬جمع حوإلى عام ‪50‬م في دائرة المعارف‬
‫كل ما درسه عن الزراعة‪ ،‬والحرب‪ ،‬والخطابة‪ ،‬والقانون‪ ،‬والفلسفة‪،‬‬
‫سم الخاص بالطب‪ ،‬وي ُعَد ّ كتاُبه‬
‫ق َ‬
‫والطب‪ .‬وقد ضاع كل ما كتبه إل ال َ‬
‫ف وصل إلينا من القرون الستة المحصورة‬ ‫م مؤل ّ ٍ‬
‫في هذا العلم أعظ َ‬
‫السابق ‪.196‬‬ ‫‪790‬‬

‫ول ديورانت قصة الحضارة ‪ 5/2‬ص ‪.197‬‬ ‫‪791‬‬


‫بين أبقراط وجالينوس‪ ،‬ويمتاز فوق هذا بأنه ك ُت ِ َ‬
‫ب بلغةٍ لتينية فصحى‬
‫نقية ُلقب سلسس من أجلها بشيشرون‪ 792‬الطب‪ .‬ولقد ظّلت السماء‬
‫اللتينية التي ترجم بها المصطلحات الطبية اليونانية تسيطر على علم‬
‫الطب من ذلك الوقت إلى أيامنا هذه‪. !!793‬‬
‫الهندسة عند الرومان‪:‬‬
‫برع الرومان كذلك في إنشاء الطرق فقد كانت السفن‬
‫والطرق التي تحمل عليها البضائع‪ ،‬والقناطر التي تربط الطرق بعضها‬
‫ببعض‪ ،‬والموانئ والحواض التي تستقبل السفن‪ ،‬والقنوات المبنية‬
‫التي يجري فيها الماء النقي إلى روما‪ ،‬والمصارف التي تنصرف فيها‬
‫مياه المستنقعات الريفية وأقذار المدن‪ ،‬كانت هذه كلها من عمل‬
‫المهندسين الرومان واليونان والسوريين يساعدهم آلف من العمال‬
‫الحرار وجنود الفيالق والعبيد‪ .‬وكانوا يرفعون الحمال أو الحجارة‬
‫الثقيلة‪ ،‬أو يجرونها بوساطة البكرات أو القوائم الخشبية العمودية‬
‫تديرها الروافع التي يدفعها فيها الحيوانات أو الدميون‪،‬وقد أقاموا‬
‫على أحد شواطئهم جدراًنا ذات درجات ثلث حتى ل ينكشف الطين‬
‫في قاع النهر إذا انخفض ماؤه ‪.‬‬
‫جا عند" أستيا "لملوكهم "كلوديوس ")‬ ‫كما أنشئوا ميناًء مزدو ً‬
‫‪ 41‬ق ‪54‬م( ونيرون وتراجان‪ ،‬وافتتحوا موانئ أصغر منها في مرسيليا‬
‫وبتيولي‪ ،‬وميسينم‪ ،‬وقرطاجنة وبرنديزيوم ورافنا؛ وجددوا أعظم‬
‫موانئ المبراطورية كلها في السكندرية‪ .‬وقد جففوا البحيرة‬
‫قا يخترق‬‫الفوسية‪ ،‬واستصلحوا أرضها للزراعة وذلك بأن شقوا لها نف ً‬
‫جبل ً من الصخر الصلب‪ ،‬وأنشأ تحت الرض في روما مصارف من‬
‫السمنت المتحجر للجر والقرميد قاومت البلي مئات السنين‪،‬‬
‫وجففوا مناقع كمبانيا حتى أصبحت صالحة للسكنى‪ ،‬ويدل ما عثر‬
‫عليه فيها من آثار على أن قصوًرا فخمة كثيرة أقيمت فيها ‪ ،‬وقاموا‬
‫بتنفيذ المشروعات العامة المدهشة التي خفف بها قيصر وغيره من‬
‫العباقرة التعطل في البلد وجملوا بها روما‪.‬‬
‫وكانت الطرق القنصلية من أقل أعمالهم مشقة‪ ،‬ولكنها لم‬
‫تكن تنقص عن طرق هذه اليام‪ .‬وكانت سعتها تختلف من ستة عشر‬
‫ما ولكن بعض هذا العرض كان يشغله بالقرب‬ ‫إلى أربع وعشرين قد ً‬
‫من روما ممرات جانبية مرصوفة بألواح حجرية مستطيلة الشكل‪،‬‬
‫وكانت تسير مستقيمة إلى أهدافها مضحية بالنفقات العاجلة في‬
‫سبيل اقتصاد دائم؛ وأقيمت على المجاري التي ل حصر لها قناطر‬
‫كثيرة النفقات‪ ،‬فإذا وصلت إلى المستنقعات اخترقتها فوق قباب‬
‫مقامة على جدران من الجر والحجارة‪ ،‬وكانت تصعد فوق الجبال‬
‫كاتب وخطيب روماني مميز‪.‬‬ ‫‪792‬‬

‫ول ديورانت قصة الحضارة ‪ 5/2‬ص ‪.197‬‬ ‫‪793‬‬


‫الوعرة وتنحدر على سفوحها دون أن تستخدم النفق‪ ،‬وسارت‬
‫بمحاذاة الجبال أو الجسور العالية تحميها الجدران القوية‪ ،‬واختلفت‬
‫المواد التي ترصف بها باختلف الماكن التي تمر بها‪ ،‬وكانت الطبقة‬
‫السفلى تصنع في العادة من الرمل ويتراوح سمكها بين أربع بوصات‬
‫و ست‪ ،‬أو من الملط بسمك بوصة واحدة‪ ،‬ثم تقام فوق هذه الطبقة‬
‫أربع طبقات من البناء‪ :‬الولى وسمكها قدم وتبنى من الحجارة‬
‫يمسكها السمنت أو الطين‪ ،‬تليها طبقة ثانية سمكها عشر بوصات‬
‫من السمنت القوي‪ ،‬ثم طبقة ثالثة سمكها ما بين اثنتي عشر وثمان‬
‫ضا‪،‬‬
‫عشر بوصة وتتألف من عدة طبقات من السمنت المقوى أي ً‬
‫فوقها الطبقة الرابعة وتتخذ من حجر الصوان أو الحمم البركانية‬
‫الكثيرة الضلع والتي يختلق قطر كل منها بين قدم واحد وثلث‬
‫أقدام‪ ،‬وسمكها بين ثمان بوصات واثنتي عشر بوصة‪ ،‬وكان يسوون‬
‫الوجه العلى لهذه القطع‪ ،‬وكانت مواضع اتصالها بعضها ببعض ل تكاد‬
‫تتبينها العين‪ ،‬وكانت الطبقة العليا تصنع في بعض الحيان من‬
‫السمنت المقوى‪ ،‬وفي الطرق القليلة الهمية كانت تصنع من‬
‫الحصباء؛ وفي بريطانيا كانت من حجر الصوان المخلوط بالسمنت‬
‫فوق طبقة من الحصباء‪ .‬وكان سمك الطبقات السفلى كبيًرا إلى حد‬
‫جعل المهندسين ل يعنون كثيًرا بتصريف الماء الجوفي‪ .‬ويمكننا أن‬
‫نقول عن هذه الطرق بوجه عام إنها أطول الطرق أعماًرا في التاريخ‬
‫كله‪ ،‬ول يزال بعضها يستخدم إلى اليوم‪ ،‬ولكن منحنياتها الشديدة‬
‫صن َِعت لسير البغال والعربات الصغيرة جعلتها غير صالحة‬
‫التي ُ‬
‫لوسائل النقل الحديث‪.‬‬
‫وكانت القناطر التي تحمل هذه الطرق نماذج طيبة لتضافر‬
‫العلم والفن‪ ،‬ولقد ورث الرومان عن مصر البطليموسية أصول‬
‫دا لم‬
‫الهندسة المائية واستخدموها على نطاق بلغ من السعة ح ً‬
‫قَلت عنهم لم يطرأ‬ ‫يسبقهم أحد إليه من قبل‪ ،‬وبقيت الساليب التي ن ُ ِ‬
‫عليها تغيير إلى هذه اليام‪ ،‬وقد وضعوا السس‪ ،‬وأشادوا الرصفة‬
‫تحت الماء كما كانت تشاد هذه وتلك في أقدم العهود‪ ،‬وكانوا يدفعون‬
‫في أنواع المجاري أسطوانات مزدوجة مملوءة بمواد البناء‪ ،‬وقد‬
‫أحكموا إغلق كل منهما ونزحوا الماء مما بينهما‪ ،‬وغطوا الجزء‬
‫المعرى بالحجارة أو الجير‪ ،‬وأقاموا الرصيف المطلوب إقامته على‬
‫هذا الساس‪ .‬وقد أقيمت على نهر التيبر قبالة روما تسعة جسور‬
‫بعضها قديم ‪ :‬كجسر سبليسيوس الذي لم يكن يجوز استخدام‬
‫المعادن فيه‪ ،‬وبعضها متقن البناء كجسر فبريسيوس لدرجة أنه بقي‬
‫حا للستعمال إلى هذه اليام‪.794‬‬
‫صال ً‬

‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة ‪ 5/2‬ص ‪ 225‬وما بعدها ‪.‬‬ ‫‪794‬‬


‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الحضارة الفارسية‬
‫يرجع الفضل في حضارة الفرس إلى )آل ساسان ( الذين‬
‫حكموا فارس في القرن الثالث الميلدي‪ ،‬وككل القوى العظمى كان‬
‫للفرس حضارة علمية ل ُيسَتهان بها‪ ،‬وكان أبرز ما ع ُرَِفت به‬
‫الحضارة الساسانية علم نظم الدارة‪ ،‬والتنظيمات السياسية‪ ،‬التي‬
‫بدأت منذ أقّر "أردشير" )أول الحكام الساسانيين( عدًدا من النظمة‬
‫والقوانين في الدولة‪ ،‬منها وضع ديانة أساسية للبلد‪ ،‬ووقع اختياره‬
‫على الديانة الزرادشتية‪ ،‬التي كانت سائدة لدى الشعب‪ ،‬وأمر كبير‬
‫وزراءه "تنسر" بجمع كافة النصوص المتعلقة بكتابها المقدس المدعو‬
‫)الفستا( أو )البستاق( في مجلد ٍ واحد‪ ،‬وأجازه باللغة البهلوية‪،‬‬
‫واعتبره الكتاب المقدس‪.‬‬
‫وفي عهد ولده وخليفته "سابور" أدخل رجال الدين إلى هذه‬
‫صا‬
‫دوها نصو ً‬
‫صا طبية وفلكية وطبيعية‪ ،‬ع ّ‬
‫النصوص الدينية نصو ً‬
‫تعليمية‪ ،‬وجبت إضافتها إلى ثقافة الزرادشتي الصالح لدينه ووطنه ‪.‬‬
‫‪795‬‬

‫الّنظم الجتماعية والدارة‪:‬‬


‫بدأ "أردشير الول" في إرساء أول نظام اجتماعي عرفته‬
‫الحضارة القديمة‪ ،‬ارتكز على تقسيم المجتمع إلى أربع طبقات‬
‫رئيسية؛ تأتي في مقدمتها طبقة "رجال الدين"‪ ،‬ثم طبقة "رجال‬
‫الجيش"‪ ،‬ثم طبقة "الكّتاب"‪ ،‬ثم طبقة "الفلحين والعمال"‪.‬‬
‫وتذكر المصادر أنه بعد وفاة "أردشير" تولى الحكم ابنه"‬
‫شابور" الذي ورث دولة قوية‪ ،‬واهتم بتدعيم الدولة‪ ،‬وأعاد تنظيم‬
‫المبراطورية‪ ،‬وأقام سد ّ "شستر"‪ ،‬وأنشأ العديد من المدن‪ ،‬كما اهتم‬
‫بالعلوم فأمر بترجمة الكثير من الكتب الغريقية في شتى العلوم‪،‬‬
‫كالطب والفلك والفلسفة‪.796‬‬
‫التعليم في الحضارة الفارسية‪:‬‬
‫يذكر )ول ديورانت( في قصة الحضارة أن الفرس كان لديهم‬
‫صة في تعليم أبنائهم‪ ،‬فيقول‪" :‬كان الوليد يبقى في أحضان‬ ‫ت خا ّ‬‫عادا ٌ‬
‫أمه حتى السنة الخامسة من عمره ثم يحتضنه أبوه حتى السابعة‪،‬‬
‫صر في الغالب على‬
‫وفي هذه السنة يدخل المدرسة‪ .‬وكان التعليم ُيق َ‬
‫ة؛ فكان التلميذ يجتمعون في الهيكل‬ ‫أبناء الغنياء‪ ،‬ويتو ّ‬
‫له الكهنة عاد ً‬
‫أو في بيت الكاهن؛ وكان من المبادئ المقررة أل ّ تقوم مدرسة‬
‫عبد الحفيظ يعقوب‪ :‬من ملمح الحضارة اليرانية القديمة ‪.80‬‬ ‫‪795‬‬

‫حسن برنيا‪ :‬تاريخ إيران القديم ‪230‬‬ ‫‪796‬‬


‫بالقرب من السوق حتى ل يكون ما يسودها من كذب وسباب وغش‬
‫‪797‬‬
‫سبًبا في إفساد الصغار‪ .‬وكانت الكتب الدراسية هي )البستاق(‬
‫ما‬
‫وشروحها‪ ،‬وكانت مواد الدراسة تشمل الدين‪ ،‬والطب أو القانون‪ ،‬أ ّ‬
‫طريقة الدرس فكانت الحفظ عن ظهر قلب‪ ،‬وتكرار الفقرات‬
‫الطويلة غيًبا‪.‬‬
‫ما أبناء الطبقات غير الموسرة فلم يكونوا يتلقون ذلك النوع‬
‫أ ّ‬
‫من التعليم‪ ،‬بل كان تعليمهم مقصوًرا على ثلثة أشياء‪ :‬ركوب الخيل‪،‬‬
‫والرمي بالقوس‪ ،‬وقول الحق‪.‬‬
‫وكان التعليم العإلى عند أبناء الثرياء يمتد إلى السنة العشرين‬
‫صا لتوّلي المناصب‬‫من ي ُعَد ّ إعداًدا خا ّ‬
‫أو الرابعة والعشرين‪ ،‬وكان َ‬
‫العامة أو حكم الوليات؛ ُيدّربون على القتال بل استثناء‪.‬‬
‫وكانت حياة الطلب في هذه المدارس العليا حياة شاقة؛ فكان‬
‫التلميذ يستيقظون مبكرين‪ ،‬ويدّربون على الجري مسافات طويلة‪،‬‬
‫وعلى ركوب الخيل الجامحة وهي تركض بأقصى سرعتها‪ ،‬والسباحة‪،‬‬
‫وصيد الحيوان‪ ،‬ومطاردة اللصوص‪ ،‬وفلحة الرض‪ ،‬وغرس الشجار‪،‬‬
‫والمشي مسافات طويلة في حر الشمس اللفح أو البرد القارس؛‬
‫مل جميع تقلبات الجو القاسية‪ ،‬وأن يعيشوا‬
‫وكانوا يدّربون على تح ّ‬
‫على الطعام الخشن البسيط‪.‬‬
‫ما ينشرح له صدر فريدرك نتشه في‬ ‫لقد كان هذا في الحق تعلي ً‬
‫اللحظات التي يستطيع فيها نسيان ثقافة اليونان القدمين وما فيها‬
‫من تنوع وبريق‪.798‬‬
‫العلوم الطبية‬
‫كان الفرس الساسانيون يثقون بعلوم الغريق والرومان‪،‬‬
‫كد المصادر أن معظم أطباء الملوك كانوا‬ ‫خاصة في الطب‪ ،‬حيث تؤ ّ‬
‫قا أو روماًنا‪ ،‬ومع ذلك تتضمن )الوتسا( وشروحها‪ ،‬وأشهرها‬
‫إغري ً‬
‫هبسارم( معلومات طبية جيدة‪ ،‬تستهلها بحقيقة أن‬‫)نسك ُ‬
‫"أهورامزدا" رد ّ على "أهريمن" الذي خلق المراض لقهر النسان بأن‬
‫أوجد لكل مرض نباًتا يشفى منه‪ ،‬كما يتضمن )النسك( تفاصيل عن‬
‫صفات الطبيب الجيد‪ ،‬ومراحل تعليمه‪ ،‬وواجباته تجاه مرضاه‬
‫ومجتمعه‪ ،‬إضافة إلى أجوره التي تختلف حسب حالة المريض‬
‫الجتماعية ونوعية المرض‪ ،‬ونجد في "النسك" توجيًها للمرضى‬
‫اليرانيين بضرورة اللجوء إلى الطبيب الوطني‪ ،‬قبل الستعانة‬
‫بالطبيب الجنبي‪ ،‬وكذلك تفاصيل أخرى عن أنواع المراض وأشكال‬
‫الوبئة‪ ،‬وكذلك أمراض الحيوانات الليفة وعلجها‪.‬‬
‫هو كتاب الديانة الزرادشتية‪ ،‬وقد سبقت الشارة إليه‪.‬‬ ‫‪797‬‬

‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة المجلد الول ق الجزء الثاني ‪.443‬‬ ‫‪798‬‬
‫ولعل أبرز ما في هذا النسك من معلومات طبية‪ ،‬هو تقديمه‬
‫معلومات عن الطب النفسي‪ ،‬وتفريقه بين صحة الجسد و صحة‬
‫ما بأنه ل يستخدم أدوية‬
‫الروح‪ ،‬وتأكيده على أهمية طبيب الروح‪ ،‬عل ً‬
‫بل يستخدم طرًقا معنوية للعلج‪.‬‬
‫وقد أوردت كتب التراث العلمية الساسانية ثلث طرق للعلج‪،‬‬
‫وهي‪:‬‬
‫العلج بالعشاب وهي "كالدوية"‪ ،‬والعلج بالسكين وهي‬
‫"الجراحة"‪ ،‬وثالثها الكلم المقدس‪ ،‬وهو "العلج النفسي"‪ ،‬وكان‬
‫ُيضاف له حرقُ البخور لطرد الرواح الخبيثة‪ ،‬ويبدو أن الطباء‬
‫النفسيين كانوا يقتربون بحسب علومهم من رجال الدين أكثر من‬
‫رجال العلم‪ ،‬حيث كان هؤلء يشبهون الثم بالمرض‪ ،‬ويوازون بينهما‪،‬‬
‫ويعتقدون أن الرذائل كالجهل والغرور والخداع ما هي إل أسباب ل‬
‫مى وغيرها‪.‬‬
‫مرئية لمراض الزكام والسهال والجفاف والح ّ‬
‫ويبدو أن نجاح العلوم الطبية المعاصرة التي أثبتت وجودها في‬
‫المجتمع الساساني دفعت في اتجاه إنشاء مدرسة لتخريج الطباء‪،‬‬
‫وقد سّهل تحقيق الهدف لجوء عدد كبير من الطباء الرومان إليهم‬
‫)أثناء اضطهادهم في رومانيا(‪ ،‬مما دفعهم لتأسيس أفضل‬
‫مدارس الطب في "جنديسابور" آنذاك‪ ،‬وظّلت هذه المدرسة‬
‫مزدهرة‪ ،‬وُتخّرج العديد من الطباء حتى بدايات العصر السلمي‪..799‬‬
‫العلوم الخرى‪:‬‬
‫وهي تلك العلوم التي ازدهرت استمراًرا للعلوم التي عرفتها‬
‫دول إيران القدم من الدولة الساسانية‪ ،‬ومعظم هذه العلوم كانت‬
‫منذ عهد كسرى الول )‪ 531‬ق ‪579‬م( الذي كان ‪ -‬على الرغم من‬
‫كونه زرادشتًيا ‪ -‬واسع الفق‪ ،‬حّر التفكير‪ ،‬ذا عقلية علمية متميزة؛ إذ‬
‫كان يتقبل بحث الراء المختلفة في مسائل الطبيعة العلوم المختلفة‪،‬‬
‫ولم يترّدد في الستعانة بأبناء الديانات الخرى )كالنصارى( في‬
‫فا يتقن اللغة‬‫الوظائف التعليمية أو العلمية ذات النفع العام‪ ،‬وكان مثق ً‬
‫السريانية‪ ،‬والسنسكريتية‪ ،‬وكان معجًبا بفلسفة أفلطون وأرسطو‪،‬‬
‫لدرجة أنه كّلف أحد المطارنة بترجمة كتب المنطق التي كتبها‬
‫أرسطو‪ ،‬والتي تحدث فيها عن الراء التاريخية بوصف اللهة والعالم‪،‬‬
‫ونظريات الخلف‪ ..‬وغيرها‬

‫حسن بيرنيا‪ :‬تاريخ إيران القديم ‪ 300‬وما بعدها ‪.‬‬ ‫‪799‬‬


‫ما في إيران‪ ،‬وذلك لحرصه على‬ ‫ويبدو تأثير ذلك الملك عظي ً‬
‫نقل معارف المم المجاورة إلى بلده‪ ،‬ففي عهده نقلت مجموعة‬
‫الكتابات الهندية والبوذية إلى اللغة البهلوية والساسانية‪.800‬‬
‫العمارة‬
‫كان للفرس طراز فني خاص في العمارة؛ فقد شّيدوا في أيام‬
‫قورش )‪550‬ق ‪ 529‬ق‪.‬م(‪ ،‬مقابر وقصوًرا‪ ،‬كشف علماء الثار القليل‬
‫منها‪ ،‬وقد يستطيع المعول والمجرف ‪ -‬وهما المؤّرخان اللذان ل‬
‫ينقطعان عن البحث والتنقيب ‪ -‬أن يكشفا لنا في المستقبل القريب‬
‫ما ُيعِلي من تقديرنا للفن الفارسي‪.‬‬
‫وإلى أقصى الجنوب عند نقش رستم غير بعيد من برسبوليس‬
‫يقوم قبر )دارا( الول منحوًتا في واجهة صخرة في الجبل كأنه ضريح‬
‫ش مدخُله ليمثل لمن يراه واجهة قصر ل قبر‪،‬‬ ‫ق َ‬‫هندوسي‪ ،‬وقد ن ُ ِ‬
‫مد دقيقة حول باب غير شامخ‪ .‬ومن‬ ‫وأقيمت عند هذا المدخل أربعة ع ُ ُ‬
‫فوق هذا الباب شخوص قائمة كأنها فوق سقف يمثل أهل البلد‬
‫م عليها الملك كأنه يعبد أهورا‪-‬‬
‫س َ‬‫الخاضعة للفرس تحمل منصة ُر ِ‬
‫مزدا‪ ،‬والقمر‪ .‬والفكرة التي أوحت بهذا الرسم وطريقة تنفيذها‬
‫تسري فيهما روح البساطة والّرقة الرستقراطية‪.‬‬
‫ما أروع الثار الفارسية القديمة التي تنفرج عنها الرض الكتوم‬ ‫أ ّ‬
‫ما بعد يوم فهي الدرج الحجرية والرصفة والعمدة التي كشفت‬ ‫يو ً‬
‫ن دارا )‪ 521‬ق‪ .‬م( ومن جاء بعده من ملوك‬ ‫في برسبوليس؛ ذلك أ ّ‬
‫الفرس قد أقاموا لهم فيها قصوًرا يحاولون بها أن يرجئوا الوقت الذي‬
‫سى فيه أسمائهم‪ .‬ولسنا نجد في تاريخ العمائر كلها ما يشبه الدرج‬ ‫ُتن َ‬
‫الخارجية العظيمة التي كان القادم من السهل يرقاها إلى الربوة التي‬
‫شيدت عليها القصور‪.‬‬
‫وأكبر الظن أن الفرس أخذوا هذا الطراز عن الدرج التي كانت‬
‫توصل إلى )الزجورات(‪ ،‬أي أبراج أرض الجزيرة‪ ،‬وتلتف حولها‪ ،‬ولكنها‬
‫كان لها مع ذلك خصائص ل يشاركها فيها غيرها من المباني‪ .‬ذلك أنها‬
‫كاب الخيل أن‬ ‫كانت سهلة المرتقى واسعة يستطيع عشرة من ُر ّ‬
‫يصعدوها جنًبا إلى جنب‪ .‬وما من شك في أن هذه الدرج كانت مدخل ً‬
‫وا‬
‫بديًعا إلى الطور الفسيح الذي يعلو عن الرض المجاورة له عل ً‬
‫فا وخمسمائة‬ ‫ما‪ ،‬والذي يبلغ طوله أل ً‬
‫يتراوح بين عشرين وخمسين قد ً‬
‫شّيدت عليه القصور الملكية‪ ،‬وكان عند‬ ‫فا‪ ،‬والذي ُ‬
‫قدم‪ ،‬وعرضه أل ً‬
‫صَبت على‬‫ملتقى الدرج الصاعدة من الجانبين مدخل أمامي كبير ن ُ ِ‬
‫ّ‬
‫جانبيه تماثيل ثيران مجّنحة ذات رؤوس بشرية كأبشع ما خلفه الفن‬
‫الشوري‪ .‬وكانت في الجهة إليمنى بعد هذا المدخل آية العمائر‬
‫من ملمح الحضارة اليرانية ‪.101‬‬ ‫‪800‬‬
‫الفارسية على الطلق‪ ،‬ونعنى بها )الجهل‪ -‬منار(‪ ،‬أو الّردهة العظمى‬
‫التي شادها خشيارشاي الول‪ ،‬والتي كانت هي وغرفات النتظار‬
‫المتصلة بها تشغل رقعة من الرض تربو مساحتها على مائة ألف قدم‬
‫مربع‪ ،‬فهي أوسع من معبد الكرنك الفسيح‪ ،‬ومن أية كنيسة أوربية‬
‫عدا كنيسة ميلن‪.801‬‬
‫ول يزال ثلثة عشر عموًدا من الثنين والسبعين التي كانت‬
‫قائمة في قصر خشيارشاي باقية إلى اليوم بين خربات القصر‪ ،‬كأنها‬
‫جذوع نخل في واحة مقفرة موحشة‪ ،‬وت ُعَد ّ هذه العمدة المبتورة من‬
‫العمال البشرية القريبة من الكمال‪ ،‬وهي أرفع من مثيلتها في مصر‬
‫وا ل تصل إليه معظم العمدة‬ ‫القديمة أو اليونان‪ ،‬وتعلو في الجو عل ً‬
‫ما‪ ،‬وقد خطت في جذوعها‬ ‫الخرى‪ ،‬إذ يبلغ ارتفاعها أربعة وستين قد ً‬
‫سا تغطيها أوراقُ أشجاٍر‬‫ستة وأربعون محًزا‪ ،‬وتشبه قواعدها أجرا ً‬
‫مقلوبة الوضع‪ ،‬ومعظم تيجانها في صورة لفائف من الزهار تكاد‬
‫تشبه اللفائف "اليونية"‪ ،‬يعلوها صدرا ثورين أو حصانين مقّرنين‬
‫يتصل عنقاهما من الخلف وترتكز عليهما عوارض السقف‪ .‬وقام من‬
‫مد المائة" ولم يبق من‬ ‫خلف الجهل‪ -‬منار‪ ،‬أي من شرقيها "بهو العُ ُ‬
‫هذا البهو سوى عمود واحد والحدود الخارجة لتصميمه العام‪ .‬ولع ّ‬
‫ل‬
‫هذين القصرين كانا أجمل ما شاده النسان في العالم القديم‬
‫والحديث على السواء‪.‬‬
‫وأقام أرت خشتر الول والثاني )‪382-379‬م ( في مدينة‬
‫السوس )في منطقة الحواز( قصرين لم يبق منهما إل أساسهما‪.‬‬
‫ف من القرميد ذي‬ ‫ذلك أنهما ُ‬
‫شّيدا من الجر المكسو بأجمل ما ع ُرِ َ‬
‫اللؤلوء الزجاجي‪.‬‬
‫ولم يكن التصوير والنحت في السوس وفي غيرها من العواصم‬
‫فنين مستقلين‪ ،‬بل كانا تابعين لفن العمارة‪ ،‬كذلك كانت الكثرة‬
‫الغالبة من التماثيل من صنع فنانين جيء بهم من أشور وبابل وبلد‬
‫اليونان‪.802‬‬
‫بناء الطرق‬
‫ة لمر دارا الول )‪ 486 _ 521‬ق‪.‬م(‬ ‫انشأ المهندسون طاع ً‬
‫طرًقا عظيمة تربط حواضر الدولة بعضها ببعض‪ ،‬وكان طول أحد هذه‬
‫فا وخمسمائة‬‫الطرق )وهي الممتدة من السوس إلى سرديس( أل ً‬
‫قا بالفراسخ ) وكان الفرسخ ‪3.4‬‬‫ميل‪ ،‬وكان طولها يقدر تقديًرا دقي ً‬
‫ميل(‪ ،‬ويقول هيرودوت‪" :‬إنه كان عند نهاية كل أربعة فراسخ محاط‬
‫ملكية ون ُُزل فخمة‪ ،‬وكان الطريق كله يخترق أقإليم آمنة عامرة‬

‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة ‪. 2/449‬‬ ‫‪801‬‬

‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة ‪.2/450‬‬ ‫‪802‬‬


‫بالسكان"‪ ،‬وكان في كل محطة خيول بديلة متأهبة لمواصلة السير‬
‫بالبريد‪ ،‬ولهذا فإن البريد الملكي كان يجتاز المسافة من السوس إلى‬
‫سرديس بالسرعة التي يجتازها بها الن رتل من السيارات الحديثة‪،‬‬
‫أي في أقل قليل ً من أسبوع‪ ،‬مع أن المسافر العادي في تلك اليام‬
‫ما‪ .‬وكانوا يعبرون‬
‫الغابرة كان يجتاز تلك المسافة في تسعين يو ً‬
‫النهار الكبيرة في قوارب‪ ،‬ولكن المهندسين كانوا يستطيعون متى‬
‫شاءوا أن يقيموا على الفرات أو على الدردنيل نفسه قناطر متينة‬
‫تمر عليها مئات الفيلة الوجلة وهي آمنة‪ ،‬وكان ثمة طرق تصل فارس‬
‫بالهند مجتازة ممرات جبال أفغانستان‪ ،‬وقد جعلت هذه الطرق مدينة‬
‫طا لثروة الشرق التي كانت حتى في ذلك‬ ‫عا وس ً‬‫السوس مستود ً‬
‫العهد البعيد ثروة عظيمة ل يكاد يصدقها العقل‪ .‬وقد أنشأت هذه‬
‫الطرق في الصل لغراض حربية وحكومية‪ ،‬وذلك لتسيير سيطرة‬
‫ضا في تنشيط‬ ‫الحكومة المركزية وأعمالها الدارية؛ ولكنها أفادت أي ً‬
‫التجارة وانتقال العادات والفكار‪.803‬‬

‫السابق ‪.413 /2‬‬ ‫‪803‬‬


‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الحضارة الهندية‬
‫ن مًعا؛ فهي‬‫دا في آ ٍ‬
‫دا وحديثة ج ً‬ ‫جهود الهند في العلم قديمة ج ً‬
‫ل‪ ،‬وهي قديمة إذا‬ ‫حديثة إذا نظرنا إلى العلم باعتباره بحًثا دنيوًيا مستق ً‬
‫نظرنا إليه باعتباره مشغلة فرعية من مشاغل الكهنة؛ ولما كان الدين‬
‫ب الحياة الهندية وصميمها‪ ،‬فإن العلوم التي كان من شأنها أن‬ ‫هو ل ُ ّ‬
‫تعاون الدين هي التي سبقت غيرها بالرعاية والنمو؛ فالفلك قد نشأ‬
‫من عبادة الجرام السماوية‪ ،‬ومشاهدة حركاتها لتحديد أيام العياد‬
‫حة بأن تكون كل‬ ‫والقرابين؛ ونشأ النحو وعلم اللغة عن الرغبة المل ّ‬
‫صلة وكل صيغة دينية‪ ،‬صحيحة في تركيبها وفي مخارج أصواتها‪ ،‬على‬
‫الرغم من أنها تقال أو تكتب بلغة ميتة‪ ،‬فقد كان علماء الهند هم‬
‫كهنتها‪ ،‬بكل ما في ذلك من خيرٍ ومن شّر‪.‬‬
‫علم الفلك‪:‬‬
‫دا‬
‫نشأ علم الفلك عن التنجيم نشأة غير مقصودة‪ ،‬ثم أخذ روي ً‬
‫ل اليونان؛ وأقدم الرسائل‬ ‫ض عن نفسه الغلل في ظ ّ‬ ‫ف ُ‬ ‫دا ين ُ‬
‫روي ً‬
‫سد ْ ذانتا حوإلى ‪ 425‬ق‪.‬م ‪ -‬كانت قائمة على أساس‬ ‫الفلكية ‪ -‬وهي ال ِ‬
‫ّ‬
‫العلم اليوناني حتى لقد اعترف "فارهاميرا" الذي أطلق على مؤلفه‬
‫ما له مغزاه إذ أطلق عليه "مجموعة كاملة للتنجيم‬ ‫الموسوعي اس ً‬
‫الطبيعي" ‪ -‬اعترف صراحة باعتماده على اليونان‪ ،‬وعّلل "آريا بهاتا"‪-‬‬
‫وهو أعظم الفلكيين والرياضيين الهنود ‪ -‬الكسوف والخسوف‪،‬‬
‫والعتدإلين والنقلبين )في حركة الرض حول الشمس(‪ ،‬وأعلن عن‬
‫قا‬ ‫كروية الرض ودورتها اليومية حول محورها‪ ،‬وكان فيما كتبه ساب ً‬
‫ن عالم النجوم ثابت‪،‬‬ ‫قا جريًئا؛ حيث قال‪" :‬إ ّ‬ ‫لعلم النهضة الوربية سب ً‬
‫ل يوم ظهور الكواكب والنجوم‬ ‫ثك ّ‬‫والرض في دورانها هي التي ُتحد ِ ُ‬
‫فه المشهور )براهما‬ ‫َ‬
‫خل ُ‬ ‫من الشرق‪ ،‬واختفاءها في الغرب" وجاء بعده َ‬
‫سق المعلومات الفلكية في الهند‪ ،‬ولو أنه أعاق تقدم الفلك‬ ‫جوبتا( فن َ ّ‬
‫هناك برفضه لنظرية "آريا بهاتا" الخاصة بدوران الرض‪ ،‬هؤلء الرجال‬
‫وأتباعهم هم الذين لءموا بين حاجات الهنود والتقسيم البابلي للسماء‬
‫سموا العام اثني عشر شهًرا‪ ،‬كل شهر منها‬ ‫إلى أبراج‪ ،‬وهم الذين ق ّ‬
‫دا كل‬ ‫ما‪ ،‬وكل يوم ثلثون ساعة‪ ،‬وكانوا يضيفون شهًرا زائ ً‬ ‫ثلثون يو ً‬
‫ْ‬
‫خمسة أعوام‪ ،‬وحسبوا بدقة تستوقف النظر قُطَر القمر وخسوف‬
‫الشمس‪ ،‬وموضع القطبين ومواضع النجوم الرئيسية ودورانها‪،‬‬
‫وشرحوا نظرية الجاذبية‪ -‬ولو أنهم لم يصلوا إلى قانونها‪ -‬عندما كتبوا‬
‫سد ْ ذانت" ‪" :‬إن الرض تجذب إليها كل شيء بما لها من قوة‬ ‫في " ِ‬
‫جاذبة"‪.804‬‬

‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة المجلد الثاني الجزء الثالث ‪.236‬‬ ‫‪804‬‬
‫الجبر والرياضة‪:‬‬
‫تقدم الجبر عند الهنود وعند اليونان دون أن يأخذ فريق عن‬
‫فريق فيما يظهر لكن احتفاظنا باسمه العربي )الجبر كلمة عربية‬
‫معناها ملءمة التركيب( يدل على أن هذا العلم قد أ ُِتي به إلى أوربا‬
‫الغربية من العرب‪ -‬وهذا معناه أنه جاء إليها من الهند ل من اليونان‪،‬‬
‫وأبطال هذا الميدان من الهنود هم‪ -‬كما في علم الفلك‪ -‬آريا بهاتا‬
‫وبراهما جوبتا وبهاسكارا؛ ويظهر أن أخيرهم )وُل ِد َ سنة ‪1114‬م( قد‬
‫ابتكر العلمة الجذرية وكثيًرا غيرها من الرموز الجبرية‪ ،‬وهؤلء‬
‫الرجال هم الذين ابتكروا فكرة الكمية السلبية التي كان يستحيل‬
‫الجبر بغيرها‪ ،‬وصاغوا القواعد التي يمكن بها إيجاد التباديل والتوافيق‪،‬‬
‫وحسبوا الجذر التربيعي للعدد ‪ ،2‬وحّلوا في القرن الثامن الميلدي‬
‫ت غير متعينة من الدرجة الثانية‪ ،‬كانت تجهلها أوربا حتى أيام‬
‫معادل ٍ‬
‫"يولر" بعد ذلك بألف عام‪ ،‬ولقد صاغوا علمهم هذا في قالب شعري‪،‬‬
‫وخلعوا على مسائل الرياضة رشاقة ُتمّيز العصر الذهبي في تاريخ‬
‫الهند‪.805‬‬
‫غير أن الهنود لم يكونوا على هذه الدرجة من التوفيق في‬
‫الهندسة؛ ولو أن الكهنة استطاعوا ‪ -‬في قياس مذابح القرابين وبنائها‬
‫‪ -‬أن يصوغوا النظرية الفيثاغورسية )التي مؤداها أن المربع المنشأ‬
‫على وتر المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين‬
‫على الضلعين الخرين( قبل ميلد المسيح ببضع مئات من السنين‪،‬‬
‫وكذلك استطاع "آريا بهاتا"‪ -‬وقد يكون متأثًرا باليونان في ذلك‪ -‬أن‬
‫يحسب مساحة المثلث والمّعين والدائرة وأن يقدر قيمة النسبة‬
‫التقريبية ) في حساب النسبة بين طول قطر الدائرة ومحيطها( بق‬
‫‪1416‬ر ‪ -3‬وهو رقم لم يعادله في دقة الحساب رقم آخر حتى عهد‬
‫"بير باخ" في أوربا؛ وكان "بهاسكارا" سباًقا إلى حساب التفاضل‪ ،‬إذ‬
‫فكر فيه على نحو تقريبي‪ ،‬وأعد "آريا بهاتا" قائمة بحساب الجيب‪،‬‬
‫سد ْ ذانتا" مجموعة منسقة في حساب‬ ‫وجاء في كتاب "سوريا ِ‬
‫المثلثات‪ ،‬كانت أرفع مستوى من كل ما عرفه اليونان في هذا‬
‫الباب‪.806‬‬
‫الكيمياء‪:‬‬
‫تقدمت الكيمياء بادئة طريقها من مصدرين‪ :‬الطب والصناعة؛‬
‫ب الحديد في‬‫ص ّ‬
‫فقد أسلفنا بعض القول في براعتهم الكيماوية في َ‬
‫الهند القديمة‪ ،‬وفي الرقي الصناعي العظيم في عصور "جوبتا"‪،‬‬
‫حينما كان ينظر إلى الهند ‪ -‬حتى من روما القيصرية ‪ -‬على أنها أمهر‬

‫السابق ‪. 237‬‬ ‫‪805‬‬

‫انظر ‪ :‬ماكدونال‪ :‬تاريخ الهند القديم ‪29‬‬ ‫‪806‬‬


‫المم جميًعا في صناعات كيماوية مثل‪ :‬الصباغة والدبغ وصناعة‬
‫الصابون والزجاج والسمنت‪.‬‬
‫وفي القرن الثاني قبل الميلد‪ ،‬خصص "ناجارجونا" كتاًبا بأكمله‬
‫ما كان القرن السادس كان الهنود أسبق بشوط‬ ‫للبحث في الزئبق؛ فل ّ‬
‫طويل من أوربا في الكيمياء الصناعية‪ ،‬فكانوا أساتذة في التكليس‬
‫والتقطير والتصفية والتبخير واللحام وإنتاج الضوء بغير حرارة‪ ،‬وخلط‬
‫المساحيق المنومة والمخدرة‪ ،‬وتحضير الملح المعدنية‪ ،‬والمركبات‬
‫والمخلوطات من مختلف المعادن؛ وبلغ طرق الصلب في الهند‬
‫ن‬
‫دا من الكمال لم تعرفه أوربا إل في أيامنا هذه‪ ،‬ويقال‪ :‬إ ّ‬ ‫القديمة ح ً‬
‫الملك يورس‪ ،‬قد اختار هدية نفسية نادرة يقدمها للسكندر ثلثين‬
‫رطل ً من الصلب‪ ،‬إذا آثرها على هدية من الذهب أو الفضة؛ ونقل‬
‫المسلمون كثيًرا مما كان للهنود من علم الكيمياء والصناعة الكيماوية‬
‫إلى الشرق الدنى وأوربا‪ ،‬وكان الفرس قد نقلوا بدورهم عن الهند‬
‫سّر صناعة السيوف "الدمشقية"‪.807‬‬ ‫ِ‬
‫الطب الهندي‪:‬‬
‫كان التشريح وعلم الوظائف العضاء‪ -‬مثل بعض الجوانب‬
‫الكيمياء‪ -‬نتيجتين عرضيتين للطب الهندي؛ ففي القرن السادس قبل‬
‫الميلد‪ -‬رغم أنه عهد يغوص في القدم‪ ،‬كان الطباء الهنود يعرفون‬
‫خصائص الربطة العضلية‪ ،‬ورتق العظام‪ ،‬والجهاز اللمفاوي‪ ،‬والضفائر‬
‫العصبية‪ ،‬واللفائف والنسجة الدهنية‪ ،‬والوعية الدموية‪ ،‬والغشية‬
‫عا من العضلت أكثر مما نستطيع أن‬ ‫المخاطية والمفصلية‪ ،‬وأنوا ً‬
‫نتبينه من جثة حديثة‪.‬‬
‫ل أطباء الهند في العصر السابق لميلد المسيح في نفس‬ ‫وقد ز ّ‬
‫الخطأ الذي وقع فيه أرسطو حين تصور القلب مركز الشعور وأداته‪،‬‬
‫وظنوا أن العصاب تصعد من القلب وتهبط إليه‪ ،‬لكنهم فهموا‬
‫ما يستوقف النظر بدقته‪ -‬أعني الوظائف المختلفة‬ ‫عمليات الهضم فه ً‬
‫للعصارات المعدية‪ ،‬وتحول الكيموس إلى كيلوس‪ ،‬ثم تحول الكيلوس‬
‫إلى دم‪ ،‬وسبق "أتريا"‪" ،‬وايزمان" بألفين وأربعمائة عام حين ذهب‬
‫)حوإلى ‪ 500‬ق‪.‬م( إلى أن نطفة الوالد مستقلة‪ ،‬وكانوا يحبذون‬
‫فحص الرجال للتحقق من توافر عناصر الرجولة فيهم قبل إقدامهم‬
‫على الزواج؛ وجاء في تشريع "مانو" تحذير من عقد الزواج بين‬
‫أشخاص مصابين بالسل‪ ،‬أو الصرع‪ ،‬أو سوء الهضم المزمن‪ ،‬أو‬
‫البواسير‪ ،‬أو شقشقة اللسان‪.‬‬
‫وكان مما فكرت فيه مدارس الطب الهندية سنة ‪ 500‬ق‪.‬م‪،‬‬
‫ضبط النسل على آخر طراز يأخذ به رجال اللهوت‪ ،‬وهو يقوم على‬
‫ول ديورانت ‪ :‬قصة الحضارة ‪ 2/3‬صق ‪.238‬‬ ‫‪807‬‬
‫ما من موعد‬ ‫نظرية هي أن الحمل مستحيل في مدى اثني عشر يو ً‬
‫دا من الدقة‪ ،‬وكان‬‫فا فيه كثيًرا ج ً‬
‫الحيض؛ ووصفوا تطور الجنين وص ً‬
‫مما لوحظ في هذا الصدد أن جنس الجنين ل يتعين إل بعد مدة‪،‬‬
‫وزعموا أن جنس الجنين في بعض الحالت يمكن التأثير فيه بفعل‬
‫الطعام أو العقاقير‪.808‬‬
‫وتبدأ مدونات الطب الهندي بكتاب "أترافا‪ -‬فيدا"‪ ،‬ففي هذا‬
‫الكتاب تجد قائمة بأمراض مقرونة بأعراضها‪ ،‬لكنك تجدها محاطة‬
‫دا من السحر والتعزيم؛ فقد نشأ الطب ذيل ً للسحر؛ فالقائم‬‫بكثير ج ً‬
‫بالعلج كان يدرس ويستخدم وسائل جثمانية لشفاء المريض‪ ،‬على‬
‫أساس أن هذه تساعد على نجاح ما يكتبه له من صيغ روحانية؛ ثم‬
‫أخذ على مّر الزمن يزيد من اعتماده على الوسائل الدنيوية‪ ،‬ماضًيا‬
‫معينة لتلك من‬ ‫إلى جوار ذلك في تعاويذه السحرية؛ لتكون هذه ُ‬
‫الوجهة النفسية‪ ،‬كما نفعل اليوم بتشجيعنا للمريض‪.‬‬
‫وفي ذيل كتاب "أترافا‪ -‬فيدا" ملحق يسمى "أجو‪ -‬فيدا"‬
‫)ومعناها‪ :‬علم إطالة العمر(؛ ويذهب هذا الطب الهندي القديم إلى‬
‫أن المرض يسببه اضطراب في واحد من العناصر الربعة‪) :‬الهواء‬
‫والماء والبلغم والدم(‪ ،‬وطرائق العلج هي العشاب والتمائم‬
‫السحرية؛ ول يزال كثير من طرائق الطب القديم في وصف المراض‬
‫صيب من النجاح أحياًنا‬ ‫ن ذلك ل َي ُ ِ‬
‫وعلجها مأخوًذا به في الهند اليوم‪ ،‬وإ ّ‬
‫ج‪ -‬فيدا"‬‫ما يثير الغيرة في صدور الطباء الغربيين؛ وتجد في كتاب "ر ْ‬
‫نحو ألف اسم من أسماء هذه العشاب‪ ،‬وهو يحّبذ الماء على أنه خير‬
‫علج لمعظم المراض؛ على أن الطباء والجراحين حتى في العهد‬
‫الفيدي كانوا يتميزون بما يفّرق بينهم وبين المعالجين بالسحر؛ وكانوا‬
‫يسكنون منازل تحيط بها حدائق يستنبتون فيها العشاب الطبية‪.‬‬
‫وأعظم اسمين في الطب الهندي هما "سوشروتا" في القرن‬
‫الخامس قبل الميلد و"شاراكا" في القرن الثاني بعد الميلد؛ فقد‬
‫كتب "سوشروتا"‪ -‬وكان أستاذا للطب في جامعة بنارس‪ ،‬باللغة‬
‫السنسكريتية مجموعة من أوصاف المراض وطرائق علجها‪ ،‬وكان‬
‫قد ورث العلم بها من معمله "ذانوانتاري"؛ فبحث في كتابه بإطناب‬
‫في الجراحة‪ ،‬والتوليد‪ ،‬والطعام الصحي‪ ،‬والستحمام‪ ،‬والعقاقير‪،‬‬
‫ضع والعناية بهم والتربية الطبية‪ ،‬وأما "شاركا" فقد أنشأ‬‫وتغذية الّر ّ‬
‫"سامهيتا" )ومعناها موسوعة( تشمل علم الطب‪ ،‬وهي ل تزال‬
‫ث في أتباعه فكرة عن مهنتهم كادت تقترب‬ ‫مأخوًذا بها في الهند؛ وب ّ‬
‫ة‬
‫من فكرة أبقراط‪" :‬ل ينبغي أن تعالجوا مرضاكم ابتغاَء منفع ٍ‬
‫عا لشهوة ما من شهوات الكسب الدنيوية‪ ،‬بل‬ ‫لنفسكم‪ ،‬ول إشبا ً‬

‫السابق نفسه ‪.239 :‬‬ ‫‪808‬‬


‫عالجوهم من أجل غاية واحدة هي التخفيف عن النسانية المعذبة‪،‬‬
‫بهذا تفقدون سائر الناس"‪.809‬‬
‫عا في تاريخ الطب الهندي اسم‬ ‫ويتلو هذين السمين التما ً‬
‫ما‪ ،‬ثم اسم‬
‫"فاجبهاتا" )‪625‬م( الذي أعد موسوعة طبية نثًرا ونظ ً‬
‫جا لذلك المرض‬ ‫سًرا" )‪1550‬م( الذي وصف الزئبق عل ً‬ ‫م ْ‬
‫"بهافا ِ‬
‫الجديد‪ -‬مرض الزهري‪ -‬الذي كان من عهد قريب مع البرتغإليين‪،‬‬
‫جزًءا من التراث الذي خّلفته أوربا للهند‪.810‬‬
‫وصف "سوشوترا" كثيًرا من العمليات الجراحية‪ -‬الماء في‬
‫قر المهات عن الجنة‬ ‫العين‪ ،‬والفتق‪ ،‬وإخراج الحصاة من المثانة‪ ،‬وب ْ‬
‫وغير ذلك‪ ،‬كما ذكر )‪ (121‬أداة من أدوات الجراحة منها المشارط‬
‫دبُر‪ ،‬وعلى الرغم من تحريم‬ ‫قُبل وال ّ‬
‫والمسابير والملقط ومناظير ال ُ‬
‫البراهمة لتشريح جثث الموتى‪ ،‬جعل يدافع عن ضرورة ذلك في‬
‫تدريب الجراحين؛ وكان أول من رّقع أذًنا جريحة بقطع من الجلد‬
‫اقتطعها من أجزاء أخرى من الجسم‪ ،‬وعنه وعن أتباعه من الهنود‬
‫ن"‪" :‬لقد أجرى‬‫س ْ‬
‫أخذ الطب الحديث عملية تقويم النف؛ ويقول "جارِ ُ‬
‫قدماء الهنود كل العمليات الجراحية الكبرى تقريًبا‪ ،‬ما عدا عملية ربط‬
‫الشرايين"‪811‬؛ فقد بتروا الطراف‪ ،‬وأجروا الجراحات في البطن‪،‬‬
‫وجبروا كسور العظام‪ ،‬وأزالوا البواسير؛ وقَّعد "سوشوترا" القواعد‬
‫الدقيقة لجراء الجراحة‪ ،‬ويعد اقتراحه بتعقيم الجرح بالتبخير أول ما‬
‫نعرفه من جهود في وسائل التطهير أثناء الجراحة)‪(37‬؛ ويذكر لنا‬
‫"سوشوترا" و "شاراكا" كلهما فوائد أنواع من الشراب الطبي في‬
‫تخدير الجسم عند اللم‪ ،‬وحدث في سنة ‪ 927‬م أن قام جراحان‬
‫بتربنة الجمجمة لملك هندي‪ ،‬فخدره عن الجراحة بفعل عقار يسمى‬
‫"ساموهيني"‪. 812‬‬
‫وأوصى "سوشوترا" بأن ت ُّتبع في تشخيص المراض التي‬
‫أحصى منها )‪ ،(1120‬طريقة النظر بالمنظار‪ ،‬وطريقتا جس النبض‬
‫س النبض في رسالة تاريخها‬ ‫مع بالذن‪ ،‬وقد جاء وصف لج ّ‬ ‫والتس ّ‬
‫‪1300‬م؛ وكان تحليل البول طريقة مستحسنة في تشخيص المراض؛‬
‫حتى لقد اشتهر أطباء التبت بقدرتهم على علج أي مريض دون‬
‫النظر في أي شيء يتعلق به ما عدا بوله؛ وكان العلج الطبي في‬
‫الهند في عهد يوان شوانج‪ ،‬يبدأ بصيام مداه سبعة أيام‪ ،‬وكثيًرا ما كان‬
‫يشفى المريض في هذه الفترة‪ ،‬فإذا بقى المريض لجؤوا بعدئذ إلى‬
‫استخدام العقاقير‪ ،‬لكنهم لم يكونوا يسرفون في استخدامها حتى في‬
‫أمثال هذه الحالت؛ إذ كان معظم اعتمادهم على تدبير الطعام‬

‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة ‪ 2/3‬صق ‪.242‬‬ ‫‪809‬‬

‫السابق ‪.243‬‬ ‫‪810‬‬

‫السابق نفسقه‪.‬‬ ‫‪811‬‬

‫أقيمت المستشفيات في سيلن منذ ‪ 427‬ق‪.‬م ‪ ،‬وفي شمال الهند منذ ‪ 226‬ق‪.‬م‪.‬‬ ‫‪812‬‬
‫الملئم‪ ،‬والستحمام والحقن الشرجية‪ ،‬والستنشاق‪ ،‬والحقن في‬
‫مجاري البول‪ ،‬وإخراج الدم بدود العلق أو بالكؤوس‪.‬‬
‫وقد كان لطباء الهنود شهرة خاصة في تكوين ترياقات‬
‫السموم‪ ،‬ولقد عرفت الهند التطعيم منذ سنة ‪ 550‬م‪ ،‬مع أن أوربا لم‬
‫تعرفه إل في القرن الثامن عشر‪ ،‬ذلك لو حكمنا من نص ُيعَزى إلى‬
‫"ذانوانتاري" وهو طبيب من أقدم أطباء الهنود‪ ،‬وهذا هو‪" :‬خذ السائل‬
‫ذه على سنان المشرط‪،‬‬ ‫خ ْ‬
‫من البثور التي تراها على ضرع البقرة ‪ُ ...‬‬
‫ثم طّعم به الذرع بين الكتاف والمرافق‪ ،‬حتى يظهر الدم؛ عندئذٍ‬
‫يختلط السائل بالدم فتنشأ عن اختلطه حمى الجدري"‪.813‬‬
‫ومن اللفت للنظر أن كثيًرا من قوانين الصحة التي أوصى بها‬
‫ما‪ -‬فيما يظهر‪ -‬بما نسميه نحن‬ ‫"سوشوترا" و "مانو" ُتسّلم تسلي ً‬
‫ن التنويم كوسيلة‬‫بنظرية المرض عن طريق الجراثيم؛ ويبدو لنا أ ّ‬
‫للعلج قد نشأ عند الهنود الذين كثيًرا ما كونا ينقلون مرضاهم إلى‬
‫المعابد لمعالجتهم باليحاء التنويمي‪ ،‬أو "نعاس المعبد" كما كان‬
‫ما الطباء النجليز الذين أدخلوا طريقة‬ ‫يحدث في مصر واليونان‪ .‬أ ّ‬
‫سن"‬‫العلج بالتنويم في إنجلترا‪ -‬وهم "بريد" و"ازديل" و"اليوت ُ‬
‫ن ما أوحى لهم بآرائهم تلك‪ ،‬وببعض خبرتهم‪ ،‬هو‬ ‫"فلشك في أ ّ‬
‫اتصالهم بالهند" ‪.‬‬
‫‪814‬‬

‫وقد تطور الطب الهندي بصفة عامة تطوًرا سريًعا في العهدين‬


‫ت الوئيد‬
‫ن سار فيه التقدم بخطوا ِ‬‫الفيدي والبوذي‪ ،‬ثم أعقب ذلك قرو ٌ‬
‫الحذر؛ ولسنا ندري كم يدين "أتريا" و"ذانوانتاري" و"سوشوترا"‬
‫لليونان!! وكم تدين اليونان لهم!! يقول "جارسن"‪ :‬إنه في أيام‬
‫السكندر "كان لطباء الهنود وجراحيهم شهرة ‪ -‬هم جديرون بها ‪ -‬بما‬
‫وق في العلم والمهارة في العمل"‪ ،‬وحتى أرسطو‬ ‫يتميزون به من تف ّ‬
‫نفسه ‪ -‬في رأي طائفة من الباحثين ‪ -‬مدين لهم وكذلك قل في‬
‫ي في مدى ما أخذه‬ ‫الفرس والعرب‪ ،‬فمن العسير أن تقطع برأ ٍ‬
‫الطب الهندي من بغداد‪ ،‬ومن الطب البابلي في الشرق الدنى عن‬
‫طريق بغداد؛ فمن جهة ترى بعض طرائق العلج مثل الفيون‬
‫والزئبق‪ ،‬وبعض وسائل الكشف عن حقيقة المرض مثل جس النبض‪،‬‬
‫قد جاءت إلى الهند من فارس فيما يظهر‪ ،‬لكّنك من جهة أخرى ترى‬
‫الفرس قد ترجموا إلى لغتيهما في القرن الثامن الميلدي موسوعتي‬
‫"سوشوترا" و "شراكا" اللتين كانتا قد مضى عليهما ألف عام‪ ،‬وينتهي‬
‫متِهل" إلى نتيجة هي أن أوربا الوسيطة والحديثة مدينة بعلمها‬‫"لورد آ ِ‬
‫ل هذا‬‫الطبي للعرب بطريق مباشر‪ ،‬وللهند عن طريق العرب؛ ولع ّ‬
‫العلم قد نشأ في بلد مختلفة في وقت واحد تقريًبا‪ ،‬ثم جعل يتطور‬

‫ول ديورانت ‪ :‬قصة الحضارة ‪ 2/3‬ص ‪244‬‬ ‫‪813‬‬

‫السابق نفسه ‪.‬‬ ‫‪814‬‬


‫بما كان بين المم المتعاصرة في سومر ومصر والهند من صلت‬
‫وتبادل فكري‪.815‬‬

‫السابق ‪. 245‬‬ ‫‪815‬‬


‫المبحث الخامس‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الحضارة المصرية‬
‫ل شك أن أي حضارة ل يستقيم بنائها عبًثا‪ ،‬ول يمكن أن تكون‬
‫راسخة شامخة إل بأسس ودعائم قوية‪ ،‬وأن أساس أي حضارة هو ما‬
‫توصلت إليه من علم في شتى مجالت الحياة المختلفة‪ ،‬ذلك العلم‬
‫الذي بدأ بحاجة النسان البدائية للحياة‪ ،‬وتطور بإعمال عقله‪ ،‬ول شك‬
‫ما كبيًرا في الحضارة‬
‫أن الحضارة المصرية القديمة أسهمت إسها ً‬
‫النسانية لما توصلت إليه من اكتشافات ومخترعات‪ ،‬كما سنرى‪:‬‬
‫اختراع الكتابة‪:‬‬
‫ي ُعَد ّ أعظم ما قام به المصريون الولون من جهود حضارية هو‬
‫اختراع الكتابة‪ ،‬وسواء أكانوا هم أول من اخترعها‪ ،‬أم سبقهم في‬
‫ذلك السومريون أو الصينيون فهذه مسألة موضع جدل ونظر‪ ،‬ولكنهم‬
‫على أية حال اخترعوها مستقلين عن غيرهم‪ ،‬وينبغي أل ننسى أن‬
‫عا كهذا ‪ -‬بقطع النظر عن موضع ظهوره ‪ -‬ل يمكن تحديد زمنه‬ ‫اخترا ً‬
‫ن ذلك‬
‫بالضبط‪ ،‬لنه ل يظهر دفعة واحدة‪ ،‬ول في زمن معين‪ ،‬وإ ّ‬
‫الختراع بدأ في مصر في عصر ما قبل التاريخ‪ ،‬ويمكن أن يقال‪ :‬إنه‬
‫وصل إلى مرتبة من الكمال قبل نهاية ذلك العصر؛ لن أقدم كتابة‬
‫وصلت إلينا ترجع إلى عصر الدولة القديمة‪.‬‬
‫ونستطيع أن نفترض أن المصريين بدءوا الكتابة باستعمال صور‬
‫للتدليل على الشياء أو الفكار ل الكلمات‪ ،‬ثم أصبحت هذه الصور‬
‫سطة ومقّعدة مرتبطة في‬ ‫ت مب ّ‬ ‫تدريجًيا ‪ -‬وبمضي الزمن ‪ -‬مصطلحا ٍ‬
‫النهاية بكلمات منطوقة‪ ،‬وبذلك أصبحت كل صورة ل تمثل فكرة‬
‫فحسب‪ ،‬بل كلمة معينة من كلمات اللغة المصرية‪ ،‬وربما يحدث فيما‬
‫بعد أن تذهب الفكرة الصلية وتحتفظ الصورة بقيمتها الصوتية‪ ،‬وأن‬
‫يحدث أن يستعملوها‪ ،‬بل استعملوها فعل ً في كتابة كلمات ذات‬
‫أصول واحدة‪ ،‬وبخاصة في كلمات أسماء الشخاص‪ ،‬أو الكلمات ذات‬
‫الدللة المعنوية التي ل يمكن تأديتها عن طريق التصوير‪ ،‬وبمرور‬
‫الزمن تقدم المصريون خطوة أخرى‪ ،‬حين استعملوا بعض الرموز‬
‫للدللة على العلمات الساكنة الولى في الصوتيات‪ ،‬وهكذا صار‬
‫دتها أربع وعشرون علمة‬ ‫ع ّ‬
‫لديهم ‪ -‬زمن الدولة القديمة ‪ -‬مجموعة ِ‬
‫هجائية‪ ،‬ولم تزد عن هذا العدد فيما بعد‪.816‬‬

‫جورج سارتون ‪ :‬تاريخ العلم ‪76 /1‬‬ ‫‪816‬‬


‫اكتشاف ورق البردي‪:‬‬
‫بلغ اختراع الكتابة قيمته الجتماعية عن طريق اختراع آخر‪ ،‬وهو‬
‫إيجاد مادة صالحة للكتابة‪ ،‬مع سهولة الحصول على هذه المادة بثمن‬
‫في متناول اليدي‪ ،‬ومن الواضح أنه طالما ظّلت الكتابة مقصورة‬
‫على النقش على الحجر )كما كانت الحال على ما يبدو في بلد‬
‫اليونان لعدة قرون(؛ فإن مجالها ينحصر في كتابة الوثائق ذات‬
‫ما النتاج الدبي فيكون طويل ً لدرجة أنه ل يمكن‬‫الهمية البارزة‪ ،‬أ ّ‬
‫نقشه على الحجر أو المعدن‪ ،‬ول ب ُد ّ من مادة أرخص لحفظه عن‬
‫طريق تدوينه بالكتابة‪.‬‬
‫وقد تغّلب المصريون القدماء على تلك المشكلة الساسية‬
‫بطريقة رائعة‪ ،‬فقد اكتشفوا طريقة لستخدام ورق البردي في‬
‫دا للكتابة‪ ،‬صنعها المصريون من ل ُ ّ‬
‫ب‬ ‫الكتابة‪ ،‬وهو مادة صالحة ج ً‬
‫السيقان الطويلة لنبات البردي الذي كان يكثر في مستنقعات الدلتا‪،‬‬
‫طع إلى شرائح طويلة توضع متعارضة في طبقتين أو‬ ‫وكان الّلب ُيق ّ‬
‫ثلث‪ ،‬ثم ُتبّلل بالماء‪ ،‬ثم تضغط وتصقل‪ ،‬ولم يكن المر يكلفهم أكثر‬
‫ما صنعه ورًقا فكان هيًنا للغاية‪.‬‬
‫من جمع نبات البردي كثير النتشار‪ ،‬أ ّ‬
‫ملة له‪ ،‬فل يكفي‬‫ت أخرى مك ّ‬
‫غير أن كل اختراع يتطلب اختراعا ٍ‬
‫أن يكون لدينا شيء في متناول إليد لنكتب عليه‪ ،‬بل يجب أن يكون‬
‫ضا أدوات الكتابة نفسها‪ ،‬وقد استعمل المصريون في الكتابة‬
‫لدينا أي ً‬
‫عا مختلفة من اللوان ليكتبوا بها على ورق البردي بفرشاة دقيقة‬‫أنوا ً‬
‫صن َِعت من السمار الرقيق الذي وجدوه في نفس المواضع المائية مع‬ ‫ُ‬
‫نبات البردي‪.‬‬
‫ومن الواضح أن ورق البردي تفوق على غيره من المواد التي‬
‫استعملها المصريون للكتابة في أي زمن من الزمنة )مثل‪ :‬العظام‬
‫والفخار والعاج والجلد والكتان(‪ ،‬على أن ناحية من نواحي هذا التفوق‬
‫لم تتضح لول وهلة‪ ،‬مع أنها في نظرنا أهم هذه النواحي‪ ،‬وهي أن‬
‫الخبار المكتوبة على العظام أو الجلد أو غيرهما من المواد تظل‬
‫قطًعا غير متصلة‪ ،‬ل يمكن الحتفاظ بها مجموعة مدى قرون من‬
‫الزمن‪ ،‬أما العباقرة مخترعو ورق البردي‪ ،‬فبعد أن صنعوا منه‬
‫صفحات منفصلة لم يلبثوا أن أدركوا أنه يمكن لصق كثير من هذه‬
‫الصفحات بعضها إلى بعض الواحدة ذيل الخرى وبذلك أمكنهم عمل‬
‫قت كلمة فليوم‬ ‫درج ‪ -‬وهو في اللتينية فليومن ‪ ، volumen‬ومنه اشت ُ ّ‬
‫ص مهما بلغ‬‫‪ volume‬في اللغات الوروبية الحديثة ‪ -‬ليحتوي على ن ّ‬
‫ما في ترتيبه الخاص‪ ،‬واختلف عرض الدرج‬ ‫طوله‪ ،‬ويحفظه حف ً‬
‫ظا تا ً‬
‫ما‪ ،‬وأما الطول فيتوقف على‬ ‫ة عشَر قد ً‬
‫من ثلثة أقدام إلى ثماني َ‬
‫مى هاريس‬ ‫النص الذي يحتويه‪ ،‬وأطول بردية معروفة هي التي تس ّ‬
‫ما ×‬
‫رقم ‪) 1‬بالمتحف البريطاني رقم ‪ ،(9999‬ويبلغ قياسها ‪ 133‬قد ً‬
‫ما‪ ،817‬وبفضل اختراع الدرج وصل إلينا كثير من النصوص‬ ‫‪ 16‬قد ً‬
‫القديمة كامل ً‪.818‬‬
‫الفلك‪:‬‬
‫ترجع معرفة المصريين بالنجوم إلى أبعد عصر من عصور ما‬
‫قبل التاريخ‪ ،‬وليس في هذا ما يدعو إلى العجب؛ لن جوّ مصر‬
‫الصافي ولطافة طقسها المنعش أثناء الليل‪ ،‬حدا بالناس إلى التأمل‬
‫في حركات الجرام السماوية‪ ،‬ول بد أنهم لحظوا أن النجوم موزعة‬
‫توزيًعا غير متساٍو‪ ،‬وأنها مجموعات )أو أبراج( ذات أشكال معينة‪،‬‬
‫سموا منطقة واسعة على‬ ‫وتسهيل ً للرجوع إلى هذه المجموعات ق ّ‬
‫ع‬
‫ما يشمل كل منها أسط َ‬ ‫طول خط الستواء إلى ستة وثلثين قس ً‬
‫النجوم والمجموعات )أو أجزائها(‪ ،‬مما يمكن رصد ظهوره كل عشرة‬
‫مى‪ :‬ديكان(‪ ،‬ولدينا جداول قديمة لهذه‬ ‫س ّ‬
‫أيام متعاقبة )وهو ما ي ُ َ‬
‫القسام‪ ،‬والنجوم الخاصة بكل منها‪.819‬‬
‫ومن المعروف أن أهم حدث في الحياة المصرية هو الفيضان‬
‫السنوي للنيل‪ ،‬إذ يتوقف عليه رخاء الفلح أو ضنكه )في الفيضان‬
‫ما )أو تقريًبا لنه انتظامه لم يكن‬
‫المنخفض(‪ ،‬واتفق ذلك الحدث تما ً‬
‫قا في‬ ‫ما( مع شروق ال ّ‬
‫شعَرى إليمانية‪ ،‬وهي أكثر النجوم تأل ً‬ ‫دائ ً‬
‫السماء‪.‬‬
‫وقبل ذلك حاول المصريون حساب الزمن بواسطة القمر‪،‬‬
‫ولكنهم سرعان ما انتقلوا عنها إلى التقويم الشمسي؛ فغدت السنة‬
‫عندهم أول ً مقسمة إلى اثني عشَر شهًرا‪ ،‬وكل شهر منها ثلثة‬
‫دياكين(‪ ،‬وساوت السنة ستة وثلثين ديكاًنا‪ ،‬ولكنهم سرعان ما‬
‫أضافوا إليها خمسة أيام ٍ أعياًدا‪.820‬‬
‫العمارة والهندسة‪:‬‬
‫الهرام معروفة لكل إنسان‪ ،‬وهي لذلك غنية عن‬
‫ن القاريء العادي ل يفكر إل في أهرام الجيزة الثلثة‬‫التعريف‪ ،‬ولك ّ‬
‫وهي أكبر الهرام‪ ،‬ولكّنها ليست كل ما هنالك منها‪ ،‬ول هي أقدمها‪،‬‬
‫ما أقدم هرم فهو ما ب ُِني للملك زوسر من السرة الثالثة ) في‬
‫أ ّ‬
‫القرن الثلثين قبل الميلد(‪ ،‬وهو المعروف باسم الهرم المدّرج‬
‫بسقارة )قرب العاصمة القديمة منف جنوبي القاهرة(‪ ،‬ويبلغ ارتفاع‬
‫‪ 817‬عُث َِر عليها عام ‪1855‬م بالقرب من معبد " الدير البحري "‪ ،‬وقد وصلت إلي يد أحد تجار‬
‫الثار في نفس الوقت‪ ،‬واشتراها منه في العام نفسه‬
‫المستر "هاريس" النجليزي الصل‪ ،‬و أول مذكرة ك ُِتبت عن هذه الورقة كانت عام ‪1858‬م‪.‬‬
‫‪ 818‬جورج سارتون‪ :‬تاريخ العلم ‪.81/ 1‬‬
‫‪ 819‬السابق ‪.85‬‬
‫‪ 820‬سارتون‪ :‬تاريخ العلم ‪.1/88‬‬
‫هذا الهرم حوإلى مائتي قدم‪ ،‬أما الهرم الكبر‪ ،‬وهو أضخم الهرام‬
‫الثلثة بالجيزة‪ ،‬فكان بناؤه بعد ذلك بقرن من الزمن للملك خوفو من‬
‫السرة الرابعة‪ ،‬وهو أضخم بناء من العصور القديمة‪ ،‬ومن أضخم ما‬
‫شّيد النسان على الطلق‪ ،‬إذ يبلغ طول كل جانب من جوانبه حوإلى‬
‫ما وهذه الهرام التي‬ ‫ما‪ ،‬وارتفاعه عندما كان كامل ً ‪ 480‬قد ً‬ ‫‪ 775‬قد ً‬
‫شيدت ليواء القبور الملكية وحفظها وصيانتها ب ُن َِيت من الحجر‬
‫الجيري كتلة فوق كتلة‪ ،‬ما عدا الحجرات الجنائزية والممّرات‬
‫المتعّرجة التي تؤدي إليها‪ .‬وتثير إقامة هذه البنية الضخمة منذ تسعة‬
‫ة متعددة لم يتضح كثيٌر منها حتى‬ ‫ت فني ً‬ ‫وأربعين قرًنا مضت معضل ٍ‬
‫ل‪ :‬كيف تمكن المعماريون أيام خوفو‬ ‫الن؛ فل يزال مما يحير الفكر مث ً‬
‫كنت رعيته من إقامته؟ ذلك أن‬ ‫من ابتكار تصميم لهذا البناء‪ ،‬وكيف تم ّ‬
‫أدواتهم الهندسية‪ ،‬بالغة ما بلغت من التقدم بالقياس إلى أدوات‬
‫ت كثيرة ً دون أدواتنا ‪ -‬والواقع أن‬ ‫الشعوب القديمة ‪ -‬كانت درجا ٍ‬
‫دا لدرجة أن بعض العلماء الذين حاولوا‬ ‫الهرام بالجيزة عجيبة ج ً‬
‫ة لنوع من الجنون‪ ،‬فنسبوا إلى بنائيها‬ ‫كشف أسرارها وقعوا فريس ً‬
‫ة وميتافيزيقية‪.‬‬ ‫ت سحري ً‬‫القدماء قدرا ٍ‬
‫فين بمجهودات بناة الهرام معجزة‬ ‫خ ّ‬
‫سر بعض المست ِ‬ ‫وقد ف ّ‬
‫البناء هذه؛ بقولهم‪" :‬استخدم المصريون آلًفا كثيرة من الرجال لمدة‬
‫ل القوة اللية بأعداد ل‬ ‫طويلة من الزمن‪ ،‬فأحّلوا القوة البشرية مح ّ‬
‫تنتهي من العمال"‪ ،‬ول ريب أنهم استخدموا آلًفا كثيرة من العمال‪،‬‬
‫ولكن هذا ل يفسر المعجزات المعمارية والفنية‪ ،‬بل يضيف إليها‬
‫ت بشرية تشبها في صعوبة تفسيرها؛ ذلك أنه من السهل أن‬ ‫معجزا ٍ‬
‫ل‪ ،‬للقيام مًعا بعمل شاق‪ ،‬ولكن كيف‬ ‫نتحدث عن حشد ‪ 30‬ألف رج ٍ‬
‫ن عدد الرجال الذين يمكن حشدهم للفادة‬ ‫حدث ذلك بالضبط؟ إ ّ‬
‫منهم في عمل معين في مكان محدود يتطلب أن يكون عدًدا‬
‫محدوًدا‪ ،‬ومع التسليم بأن من المستطاع أن نستخدم عدًدا كبيًرا ‪-‬‬
‫عشرات اللف مثل ً ‪ -‬من العمال مًعا في وقت واحد؛ فإن الشراف‬
‫مال يحتاج إلى مهارة كبيرة وتدبير‪ ،‬كما‬ ‫على مثل هذه العدد من الع ّ‬
‫أن إطعامها من جوع‪ ،‬وسد ّ حاجاتها الخرى يستلزم خبرة إدارية‪،‬‬
‫ل‬
‫ومهارة بالغة في شئون التموين‪ ،‬وسواء أكانت القوة اللزمة لعم ٍ‬
‫ن‬
‫ك مكني أم من كتلة بشرية‪ ،‬فإ ّ‬ ‫من العمال مستوردة ً من محر ٍ‬
‫قا بين العمل‬ ‫ترتيب هذا العمل وتنفيذه يتطلب معرفة وذكاء وتنسي ً‬
‫والعمال‪.821‬‬
‫الرياضيات‪:‬‬
‫تتضمن العمال المعمارية والهندسية في مصر قدًرا كبيًرا من‬
‫المعرفة بالحساب والهندسة‪ ،‬وأول ذلك أنهم كانوا في حاجة ضرورية‬

‫سارتون ‪ :‬تاريخ العلم ‪.1/90‬‬ ‫‪821‬‬


‫لمعرفة الطرق البسيطة لجراء الحسابات المعقدة‪ ،‬وقد استطاعوا‬
‫سد ّ مثل هذه الحاجة منذ القدم‪ ،‬فهناك صولجان ملكي بمتحف‬
‫)الشموليان( بأكسفورد يرجع تاريخه إلى عهد الملك نارمر‪ 822‬قبل‬
‫جل الستيلء على ‪ 120‬ألف‬ ‫السرة الولى )أي عام ‪3400‬ق‪.‬م(‪ ،‬يس ّ‬
‫أسير‪ ،‬و ‪ 400‬ألف ثور‪ ،‬و ‪ 1.422.000‬من الماعز‪ ،‬وهذه ل شك‬
‫أعداد كبيرة منقوشة بطريقة قريبة إلى حد ّ ما من طريقة العداد‬
‫الرومانية‪ ،‬لوجود رموز تحيل المليون لرقام عشرية يمكن تكرارها‬
‫عدة مرات حسب العدد المطلوب‪ ،‬وعلى العموم كتب المصريون‬
‫ل‪ ،‬ثم أعقبوها بالوحدات الخرى حسب أهميتها‪.‬‬ ‫أكبر الوحدات أو ً‬

‫أما الحاجة إلى الهندسة فواضحة حتى في بناء آثار بسيطة في‬
‫مظهرها الخارجي كالهرام‪ ،‬وهذه تعود بنا إلى القرن الثلثين قبل‬
‫الميلد‪ ،‬ذلك أنه تحّتم على بناة الهرام أن يقطعوا كتل الحجر الجيري‬
‫على مقاسات مضبوطة قبل وضعها على مواضعها المطلوبة‪ ،‬وأكبر‬
‫دا فوق المقبرة الملكية بمثابة‬‫هذه الكتل هي التي رتبت ترتيًبا معق ً‬
‫دعامات لتحويل الضغط عن سقفها‪ ،‬ويوجد من هذه الدعامات ‪56‬‬
‫دعامة لسقف المقبرة الملكية في الهرم الكبر‪ ،‬يبلغ متوسط وزنها‬
‫عَيت في بناء ذلك الهرم ) خوفو‪-‬‬ ‫‪ 54‬طًنا‪ ،‬وبلغت الدقة التي ُرو ِ‬
‫السرة الرابعة( درجة ل يمكن تصديقها ‪.‬‬
‫‪823‬‬

‫ويدل قطع الحجار التي تطلب تركيبها بعضها إلى بعض معرفة‬
‫دا‬
‫بالهندسة وقياس الحجار )وسنرى الن كيف ذهب المصريون بعي ً‬
‫في هذا المضمار(‪ .‬ومع أنه من المستطاع أن تقول في اطمئنان‬
‫عا ما لدى بناة الهرام‪ ،‬وأنه لم يكن في‬
‫بوجود أجهزة رياضية كافية نو ً‬
‫المكان أن ينهضوا بالجانب العلمي من عملهم بدون هذه الجهزة‪،‬‬
‫فل توجد لدينا نصوص رياضية من الدولة القديمة ول غيرها قبل‬
‫السرة الثانية عشرة )‪ 1788 – 2000‬ق‪.‬م( مع احتمال إرجاع أهم‬
‫نصين من النصوص المتأخرة التي وصلت إلينا إلى تلك السرة‬
‫نفسها‪.824‬‬
‫الطب‪:‬‬
‫ل حاجة إلى التأكيد بقدم الطب المصري‪ ،‬ففي كل حضارة من‬
‫ما‪،‬‬
‫الحضارات يتطور الطب مبكًرا‪ ،‬لن الحاجة إليه عامة ملحة دائ ً‬
‫بحيث ل يمكن إغفالها في أية بقعة من بقاع الرض‪ ،‬وليس هناك من‬
‫عا من الطب منذ أبعد العصور ما قبل‬ ‫شك أن المصريين مارسوا نو ً‬
‫ن استعمال‬ ‫التاريخ‪ ،‬أي قبل الميلد بعدة آلف من السنين‪ ،‬مثال ذلك أ ّ‬
‫الملخيت كحل ً وطلًء للعين يرجع إلى عصر البداري )‪ 4500‬ق‪.‬م (‪،‬‬

‫موحد مصر في القرن الثاني والثلثين قبل الميلد‪ ،‬ومؤسس السرة الفرعونية الولى‪.‬‬ ‫‪822‬‬

‫السابق ‪.98‬‬ ‫‪823‬‬

‫سارتون‪ :‬تاريخ العلم ‪.1/99‬‬ ‫‪824‬‬


‫وأن استعمال الجإلينا )خام الرصاص( لغراض مشابهة جاء بعد ذلك‬
‫سا من طقوس‬ ‫ضا‪ ،‬وكان الختان طق ً‬
‫في عصور ما قبل السرات أي ً‬
‫المصريين منذ عصر سحيق‪ ،‬دّلت عليه آثاره في الجثث التي‬
‫جت من مقابر عصر ما قبل التاريخ )أي منذ عام ‪ 4000‬ق‪.‬م(‬ ‫اسُتخرِ َ‬
‫وفي مقبرة من السرة السادسة )حوإلى ‪2475 -2625‬ق‪.‬م(‪.‬‬
‫وأقدم طبيب معروف باسمه هو إيمحتب وزير الملك زوسر‬
‫مؤسس السرة الثالثة في القرن الثلثين قبل الميلد‪ ،‬وكان إيمحتب‬
‫سا معمارًيا‪ ،‬وصار إيمحتب في‬ ‫رجل ً عال ً‬
‫ما وفلكًيا وطبيًبا ومهند ً‬
‫العصور التالية معبوًدا عند المصريين‪ ،‬باعتباره بطل ً وطبيًبا منز ً‬
‫ها عن‬
‫كل شائبة‪ ،‬ثم عبدوه بعد ذلك باعتباره إلًها للطب‪ .‬ونحن ل نعرف إل‬
‫ن رفعه إلى مقام‬ ‫نزًرا يسيًرا عن مدى معرفة إيمحتب بالطب‪ ،‬غير أ ّ‬
‫الله ينطوي معان واضحة‪ ،‬تجعلنا مطمئنين إلى تقدير المصريين له‬
‫بأنه أول رجل عظيم في الطب‪.‬‬
‫ولم يقتصر المر في عصر الهرام على وجود كثير من الطباء‬
‫فحسب‪ ،‬بل تعداه إلى وجود أخصائيين بينهم في بعض فروع الطب‪،‬‬
‫وتظهر مهارة أحد أطباء السنان الوليين في فك سفلي وجد في‬
‫مقبرة من السرة الرابعة‪ (2750 -2900 ) ،‬أجريت فيه عملية‬
‫لتصريف الفرازات من خراج تحت الضرس الطاحن الول‪ ،‬ويتضح‬
‫من اللوحة الجنائزية الخاصة بالطبيب )غيري(‪ ،‬وهو رئيس أطباء أحد‬
‫ضا "طبيب‬‫فراعنة السرة السادسة )‪ (2475 -2625‬أنه كان أي ً‬
‫العيون بالقصر" والطبيب الباطني للقصر" وأنه كان يلقب بألقاب‬
‫منها "العارف بالفرازات الباطنية" و"حارس الدير"‪.825‬‬
‫ثم نرتفع في مصر من هذه العماق إلى الطباء العظام‬
‫والجراحين والخصائيين الذين ساروا في صناعة الطب على قانون‬
‫سم الذائع‬ ‫ق َ‬ ‫وارث جيل ً بعد جيل حتى وصل إلى ال َ‬‫أخلقي ظل ي ُت َ َ‬
‫الصيت‪ :‬قسم أبقراط الذي انتقل إليهم من الحضارة اليونانية‪ .‬وكان‬
‫من المصريين أخصائيون في التوليد وفي أمراض النساء؛ ومنهم من‬
‫لم يكن يعالج إل اضطرابات المعدة‪ ،‬ومنهم أطباء العيون‪ .‬وقد بلغ‬
‫دا منهم إلى بلد الفرس‪.‬‬ ‫من شهرة هؤلء أن قورش استدعى واح ً‬
‫ك لهم جمع‬ ‫أولئك هم الخصائيون‪ ،‬أما غير الخصائيين منهم فقد ت ُرِ َ‬
‫الفتات بعد هؤلء وعلج الفقراء من الناس؛ وكان من عملهم فوق‬
‫ضروا أدهان الوجه‪ ،‬وصبغات الشعر‪ ،‬وتجميل الجلد‪،‬‬ ‫هذا أن يح ّ‬
‫وأعضاء الجسم‪ ،‬ومبيدات البراغيث‪.‬‬
‫وقد وصلت إلينا عدة برديات تبحث في الشئون الطبية‪.‬‬
‫وأعظمها قيمة بردية أدون سميث‪ ،‬وسميت كذلك نسبة إلى‬
‫ما‪ ،‬ويرجع تاريخها إلى‬
‫مستكشفها وهي ملف طوله خمسة عشر قد ً‬
‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة المجلد الول‪ ،‬الجزء الثاني ‪.130‬‬ ‫‪825‬‬
‫عام ‪ 1600‬ق‪ .‬م تقريًبا وتعتمد على مراجع أقدم منها كثيًرا ‪ .‬وحتى‬
‫حا عن هذه المراجع الولى لظلت هذه البردية نفسها‬ ‫لو ضربنا صف ً‬
‫أقدم وثيقة علمية معروفة في التاريخ وهي تصف ثماني وأربعين حالة‬
‫من حالت الجراحة التطبيقية تختلف من كسر في الجمجمة إلى‬
‫إصابة النخاع الشوكي‪ ،‬وكل حالة من الحالت الواردة فيها مبحوثة‬
‫قا في نظام منطقي في عناوين مرتبة من تشخيص ابتدائي‬ ‫بحًثا دقي ً‬
‫مؤقت‪ ،‬وفحص‪ ،‬وبحث في العراض المشتركة بين أمراض مختلفة‪،‬‬
‫وتشخيص العلة‪ ،‬والستدلل بأعراضها على عواقبها وطريقة علجها‪،‬‬
‫ثم تعليقات على سطح المصطلحات العلمية الواردة فيها وشروح لها‪.‬‬
‫ويشير المؤلف في وضوح ل نجد له مثيل ً قبل القرن الثامن عشر‬
‫الميلدي إلى أن المركز المسيطر على الطرفين السفليين من‬
‫أطراف الجسم كائن في المخ‪.‬‬
‫وكان لدى الطباء المصريين عدة وافية من القراباذينات‬
‫)دساتير الدوية( لمقاومة هذه المراض كلها‪ .‬ففي بردية إيبرز ث َب ْ ٌ‬
‫ت‬
‫بأسماء سبعمائة دواء لكل الدواء المعروفة‪ ،‬من عضة الفعى إلى‬
‫مى الّنفاس‪ .826‬وتصف بردية كاهون )ويرجع عهدها إلى حوإلى عام‬ ‫ح ّ‬
‫ُ‬
‫‪ 1850‬ق‪.‬م( أقماع اللبوس‪ ،‬ولعلها كانت تستخدم لمنع الحمل‪ .‬وقد‬
‫ع ُث َِر في قبر إحدى ملكات السرة الحادية عشرة على صندوق للدوية‬
‫يحتوي على مزهريات‪ ،‬وملعق‪ ،‬وعقاقير جافة‪ ،‬وجذور‪ .‬وقد انتقلت‬
‫بعض هذه الوسائل العلجية من المصريين إلى اليونان‪ ،‬ثم انتقلت‬
‫من اليونان إلى الرومان‪ ،‬ومن الرومان إلى العالم بعد ذلك ول نزال‬
‫إلى اليوم نتجرع في ثقة واطمئنان كثيًرا من الدوية التي خلطها‬
‫‪827‬‬
‫وجّهزها لنا المصريون على شاطئ النيل في أقدم الزمان‪.‬‬
‫ولقد حاول المصريون أن يحافظوا على صحة أجسامهم باّتباع‬
‫الوسائل الصحية العامة‪ ،‬وبختان الذكور‪ ،‬وبتعويد الناس أن ُيكث ُِروا من‬
‫استخدام الحقن الشرجية‪ .‬ويقول ديودور الصقلي في هذا المعنى‪:‬‬
‫"وهم يّتقون المراض بالمحافظة على صحة أجسامهم وذلك‬
‫باستخدام الملّينات وبالصوم وبالمقيئات‪ ،‬كل يوم في بعض الحيان‬
‫وكل ثلثة أيام أو أربعة في البعض الخر؛ وذلك لنهم يقولون‪ :‬إن‬
‫ل بالجسم من طعام يزيد على حاجته‪ ،‬وإن‬ ‫الجزء الكبر مما يخ ّ‬
‫المراض إنما تنشأ من هذا القدر الزائد"‪.828‬‬
‫ويعتقد )بلني( أن المصريين قد تعّلموا عادة ً استخدام الحقن‬
‫الشرجية من الطائر المعروف "بأبي منجل" وهو طائر يقاوم‬
‫المساك الناشئ من طبيعة ما يتناوله من الطعام بإدخال منقاره‬
‫الطويل في دبره واستخدامه كالمحقن‪ .‬ويروي هيرودوت أن‬
‫هي حدوث ارتفاع في درجة الحرارة في خلل أربعين يوما من الولدة‪.‬‬ ‫‪826‬‬

‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة المجلد الول‪ ،‬الجزء الثاني‪ 132،‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪827‬‬

‫السابق نفسه‪.‬‬ ‫‪828‬‬


‫المصريين كانوا "يطهرون أجسامهم مرة في كل شهر ثلثة أيام‬
‫متوالية‪ ،‬ويعملون على حفظ صحتهم بالمقّيئات والحقن الشرجية‪،‬‬
‫لنهم يظنون أن جميع ما يصيب الناس من المراض إنما ينشأ مما‬
‫يأكلون من الطعام"‪ .829‬وهذا المؤرخ‪ -‬وهو أول مؤرخ للحضارة‪ -‬يصف‬
‫ما‪.‬‬
‫المصريين بأنهم بعد اللوبيين‪ 830‬أصح شعوب العالم أجسا ً‬
‫التحنيط‪:‬‬
‫التي تميزت بها الحضارة المصرية إيمانها بفكرة‬ ‫ومن المور‬
‫تلك التي دفعت أفرادها إلى التفكير بطريقة‬ ‫الحياة بعد الموت‪،‬‬
‫دا لنتقاله إلى هذا‬
‫جسم النسان بعد موته‪ ،‬تمهي ً‬ ‫يحافظون بها على‬
‫كان في معتقدهم عالم إله الموت) أوزوريس( ‪.‬‬ ‫العالم الخر‪ ،‬الذي‬
‫وكانوا يدرسون التفاصيل المادية لجسم النسان أثناء حياته‪،‬‬
‫ويحاولوا أن يحتفظوا بها بعد موته‪ ،‬بما يكفل عدم تحللها‪ ،‬وانصب‬
‫اهتمامهم الساسي على الجسد‪ ،‬كيف يحفظونه‪ ،‬وذلك من خلل‬
‫التحنيط الذي كان يقوم به الكهنة والطباء أو الفيزيائيين في أماكن‬
‫قا للطقوس الدينية الجوهرية الخاصة بالدفن‪.‬‬
‫خاصة وف ً‬
‫قا‪ ،‬يتلخص في تفريغ جسم‬ ‫واتبعوا للتحنيط أسلوًبا علمًيا دقي ً‬
‫النسان مما فيه باستخدام بعض الدوات في ذلك‪ ،‬فكانوا يفرغون‬
‫الصدر‪،‬ويغسلوا الحشاء‪ ،‬ويقوموا بحشوها بالبصل‪ ،‬ثم‬
‫رع في تجفيف الجسم‪ ،‬كما‬ ‫يلفون الجسم بلفافات كتانية ُتس ِ‬
‫يفرغون الدماغ من النف‪ ،‬ويضمدون الجسم بعناية‪ ،‬كل عضو على‬
‫حدة‪ ،‬وتوضع الصابع والكف والقدام والرجل والذرع متقاطعة على‬
‫دا من الكتان المغطسة‬‫دا ج ً‬
‫الصدر‪ ،‬الجسم يغطى بضمادات طويلة ج ً‬
‫بمادة صمغية التي تحمي الجسم من الصدمات ول تسمح للبكتريا‬
‫بالدخول للجسم‪.‬‬
‫دا تمكّنا من‬
‫و بفضل تلك الطريقة العلمية المبتكرة والفريدة ج ً‬
‫الوصول إلى عدد من الجثث المحنطة للعديد من السر الفرعونية‬
‫القديمة‪.‬‬
‫وهكذا كان العلم‪ ،‬والتفكير العلمي سبيل قدماء المصريين إلى‬
‫تلك النهضة العظيمة‪ ،‬التي ل تزال آثارها باقية حتى يومنا هذا‪.‬‬

‫انظر ول ديورانت ‪ :‬قصة الحضارة ‪ 1/2‬صق ‪.135‬‬ ‫‪829‬‬

‫أقوام بدائيون ل حضارة لهم‪ ،‬عاشوا في أفريقيا‪.‬‬ ‫‪830‬‬


‫المبحث السادس‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الحضارة اليونانية‬
‫ف اليونان بالتقدم العلمي مبكًرا في تاريخ الحضارة‬
‫ع ُرِ َ‬
‫النسانية‪ ،‬إذ يذكر )ول ديورانت( في قصة الحضارة أن العصر الذهبي‬
‫للحضارة القديمة كان عند"اليونان"‪ ،‬حيث ظهر النشاط الثقافي في‬
‫ثلثة أشكال رئيسية هي الفن‪ ،‬والتمثيل‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬ويذكر أن‬
‫الفلسفة كانوا يخشون مهاجمة العقائد الدينية للشعب مهاجمة‬
‫دا هو‬
‫صريحة‪ ،‬ونشط فيهم علماء كثيرون‪ ،‬وكان عصر )بركليز( تحدي ً‬
‫عصر النهضة البارزة علمًيا على مختلف مجالت العلوم‪.831‬‬
‫علم الحساب والهندسة‪:‬‬
‫يكاد علم الحساب المتداول بين جمهرة اليونان قبل عصر‬
‫ما بدائًيا لم يدخل عليه إل القليل من الصقل‬
‫بركليز أن يكون عل ً‬
‫مز لرقم ‪ 1‬بشرطة عمودية ولرقم ‪ 2‬بشرطتين‪،‬‬ ‫والتهذيب‪ ،‬فكان ي ُْر َ‬
‫شَرط لرقم ‪ 3‬وبأربع لرقم ‪ ،4‬وكانت العداد ‪،100 ،10 ،5‬‬ ‫وبثلث ُ‬
‫‪000 ،1000‬ر ‪ 10‬يرمز لها بالحروف الولى من الكلمات اليونانية‬
‫مى بها هذه العداد وهي‪ :‬بنتي ‪ ،Pente‬وديكا ‪ ،Deka‬وهكتون‬ ‫التي ُتس ّ‬
‫‪ ،Hekaton‬وكليوي ‪ ،Chilioi‬ومريوي ‪ .Myrioi‬ولم يضع علماء الحساب‬
‫اليونان رمًزا للصفر‪ .‬ومما يدل على أن علم الحساب اليوناني‬
‫مصدره بلد الشرق أنه أخذ عن المصريين النظام العشري فقد كان‬
‫دون بالعشرات‪ ،‬وأخذ عن البابليين في علمي الفلك وتقويم‬ ‫اليونان َيع ّ‬
‫سّتينية؛ فكانوا يعدون في هذين‬‫البلدان الطريقة الثني عشرية وال ّ‬
‫العلمين بالثني عشرات والستينات ‪.‬‬
‫‪832‬‬

‫ما الهندسة النظرية‪ ،‬فكانت من الدراسات المحّببة إلى‬‫أ ّ‬


‫الفلسفة‪ ،‬ولم تكن ُتدَرس لفائدتها العملية بقدر ما كانت تدرس‬
‫لب‪ ،‬وما‬ ‫لفائدتها الذهنية النظرية وما فيها من استدلل منطقي خ ّ‬
‫فيها من دقة ووضوح‪ ،‬وتفكير متتابع ينبني بعضه على بعض‪ .‬كذلك‬
‫كانت دراسات الفيثاغوريين للقطع المكافئ‪ ،‬والقطع الزائد‪ ،‬والقطع‬
‫الناقص هي التي مهدت السبيل إلى مؤّلف )أبولونيوس البرجي(‬
‫‪ Appolonius of Perga‬في القطاعات المخروطية‪ ،‬وهو المؤلف الذي‬
‫كان عظيم الشأن في تاريخ العلوم الرياضية‪ .‬وفي عام ‪ 440‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫نشر أبقراط الطشيوزي )وهو غير أبقراط الطبيب( أول كتاب‬
‫معروف في الهندسة النظرية وحل مشكلة تربيع المساحة الكائنة بين‬
‫قوسين متقاطعين ‪ .‬وفي عام ‪420‬ق‪.‬م أفلح هيبياس الليائي ‪Hippias‬‬
‫‪ of Elia‬في تقسيم الزاوية ثلثة أقسام متساوية بالستعانة بالمنحنى‪.‬‬
‫ول ديورانت‪ :‬قصقة الحضارة ‪ 4/1‬صق ‪.174‬‬ ‫‪831‬‬

‫السابق ‪.175 :‬‬ ‫‪832‬‬


‫وملك القول أن براعة اليونان في الهندسة قد بلغت من‬
‫ضعفهم في الحساب‪ .‬وكان للهندسة شأن عظيم في‬ ‫العظمة ما بلغه َ‬
‫جميع نواحي نشاطهم‪ ،‬وحتى فنونهم نفسها قد تدخلت فيها فوضعت‬
‫أشكال ً كثيرة للحلي المنقوشة على خزفهم وأبنيتهم‪.833‬‬
‫علم الفلك‪:‬‬
‫وكان هذا العلم قد خطا خطوته الولى في بلد اليونان حين‬
‫أعلن )أنبادوقليس( في )أكرجاس( أن الضوء يستغرق بعض الوقت‬
‫في انتقاله من نقطة إلى أخرى‪ .‬ثم خطا خطوة ً ثانية حين أعلن‬
‫سم هذا‬ ‫)بارمنيدس( في )إيليا( ‪ Elea‬أن الرض كروية الشكل‪ ،‬ثم ق ّ‬
‫الكوكب الرضي إلى خمس مناطق‪ ،‬وعرف أن القمر يواجه الشمس‬
‫بجزئه المنير على الدوام‪ .‬ثم قام )فيلولوس( ‪ Philolaus‬الفيثاغوري‬
‫في طيبة فخلع الرض عن عرشها في مركز الكون وأنزلها منزلة‬
‫كوكب من الكواكب الكثيرة التي تطوف حول "نار تتوسطها" جميًعا‪.‬‬
‫وجاء )لوقيبوس( ‪ Leucippus‬تلميذ فيلولوس فقال‪ :‬إن النجوم قد‬
‫نشأت من الحتراق المتوهج لمواد "تندفع في مجرى الحركة العالمية‬
‫للدوامة الدائرية" ومن تجمع هذه المواد وتركزها‪ .‬وقام في )أبدرا(‬
‫)دمقريطس( تلميذ لوقيبوس بعد أن درس العلوم البابلية‪ ،‬فوصف‬
‫المجرة بأنها مكونة من عدد ل يحصى من النجوم الصغرى‪ ،‬ولخص‬
‫التاريخ الفلكي بقوله‪" :‬إنه تصادم دوري وتحطيم لعدد ل يحصى من‬
‫العوالم"‪ .‬وجملة القول أن القرن الخامس كان في جميع‬
‫المستعمرات اليونانية عصر تطور علمي عجيب في زمن يكاد يكون‬
‫وا من اللت العلمية‪.834‬‬
‫خل ً‬
‫الطب‪ ..‬وأبقراط‪:‬‬
‫لقد كان أهم الحوادث في تاريخ العلوم اليونانية في عصر‬
‫)بركليز( نهضة الطب القائم على العقل ل على الخرافة؛ ذلك أن‬
‫الطب اليوناني قبل ذلك الوقت حتى في القرن الخامس نفسه كان‬
‫وثيق الرتباط بالدين إلى حد كبير‪ ،‬وكان كهنة هيكل أسكلبيوس‬
‫‪ Asclepius‬ل يزالون يقومون بعلج المرضى‪ .‬وكان العلج في هذا‬
‫الهيكل يقوم على خليط من الدوية التجريبية‪ ،‬والطقوس المؤثرة‬
‫الرهيبة‪ ،‬والّرقى السحرية التي تؤثر في خيال المريض وتطلقه من‬
‫ضا إلى التنويم المغناطيسي‬
‫عقاله‪ ،‬وليس ببعيد أنهم كانوا يلجأون أي ً‬
‫وإلى بعض المخدرات‪ .‬وكان الطب الدنيوي ينافس الطب الديني‬
‫ويحاول أن يتغلب عليه‪ .‬وكان أنصار هذا وذاك يعزون منشأ علمهم‬
‫إلى أسكلبيوس‪ ،‬ولكن السكلبيسيين غير الدينيين كانوا يرفضون‬
‫دعون أنهم يعالجون المرضى‬ ‫الستعانة بالدين في عملهم‪ ،‬ول ي ّ‬
‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة ‪ 4/1‬صق ‪177‬‬ ‫‪833‬‬

‫السابق نفسه ‪178‬‬ ‫‪834‬‬


‫بالمعجزات‪ ،‬وقد أفلحوا شيًئا فشيًئا في إقامة الطب على قواعد‬
‫العقل‪.835‬‬
‫وتطور الطب الدنيوي في بلد اليونان أثناء القرن الخامس في‬
‫أربع مدارس كبرى‪ :‬في كوس ونيدس من مدن آسية الصغرى‪ ،‬وفي‬
‫كرتونا بإيطإليا‪ ،‬وفي صقلية‪ .‬وفي أكرجاس اقتسم أنبادوقليس مفاخر‬
‫الطب مع أكرون ‪ Acron‬الطبيب المفكر المنطقي‪ .‬وقد وصلت إلينا‬
‫سديز(‬‫م ِ‬
‫أنباء مدونة ترجع إلى عام ‪ 520‬عن طبيب يدعى )د ِ ُ‬
‫‪ Democedes‬وُل ِد َ في )كرتونا(‪ ،‬ومارس مهنة الطب في إيجينا‪،‬‬
‫ضا خّرجت المدرسة الفيثاغورية‬ ‫وساموس‪ ،‬وسوسة‪ .‬وفي كرتونا أي ً‬
‫أوسع أطباء اليونان شهرة ً قبل أبقراط‪ ،‬ونعني به )ألقميون(‬
‫قبونه‪ :‬الب الحق للطب اليوناني‪ .‬ولكنه لم يكن‬ ‫‪ Alcmaeon‬الذي ُيل ّ‬
‫ما متأخًرا في ثبت طويل من أسماء الطباء غير‬ ‫في واقع المر إل اس ً‬
‫الدينيين ضاعت أسماؤهم فيما وراء أفق التاريخ‪ ،‬وقد نشر هذا‬
‫الطبيب في أوائل القرن الخامس كتاًبا في الطبيعة ‪-Peri Physeos‬‬
‫وكان ذلك هو العنوان المألوف في بلد اليونان لي بحث عام في‬
‫دد من اليونان موضع‬ ‫العلوم الطبيعية‪ ،‬ومبلغ علمنا أنه كان أول من ح ّ‬
‫سر فلسفة‬ ‫العصب البصري وقناة إستاكيوس‪ ،‬وشّرح الحيوانات‪ ،‬وف ّ‬
‫النوم‪ ،‬وقّرر أن المخ هو العضو الرئيسي في عملية التفكير‪ ،‬وعّرف‬
‫فا فيثاغورًيا فقال‪ :‬إنها التوافق بين أجزاء الجسم‬ ‫الصحة تعري ً‬
‫المختلفة‪ .‬وكان أكبر رجال الطب في نيدس هو يوريفرون ‪Euryphron‬‬
‫الذي كتب في الطب خلصة موجزة تعرف باسم الجمل النيدية‬
‫‪ ،Cnidian Sentences‬وقال عن التهاب البلورا‪ :‬إنه مرض من أمراض‬
‫الرئتين‪ ،‬وإن المساك منشأ الكثير من المراض‪ ،‬وذاع صيته لنجاحه‬
‫في عمليات التوليد‪.‬‬
‫ويبدو أبقراط‪ ،‬كما تراه في سيرته الموجزة التي كتبها‬
‫سويداس ‪ ،Suidas‬أعظم أطباء زمانه بل منازع‪ .‬وقد وُل ِد َ في جزيرة‬
‫كوس في السنة التي ولد فيها دمقريطس‪ ،‬وأصبح الرجلن صديقين‬
‫حميمين بالرغم من ب ُعْد ِ موطنيهما‪ ،‬ولربما كان "للفيلسوف الضاحك"‬
‫جَهة دنيوية‪ .‬وكان أبقراط ابن طبيب‪ ،‬وقد‬ ‫نصيب في توجيه الطب وِ ْ‬
‫نشأ ومارس صناعته بين آلف المرضى والسياح الذين وفدوا على‬
‫كوس "لخذ الماء من عيونها الساخنة"‪ .‬ووضع له معلمه هيرودكس‬
‫السلمبري ‪ Herodicus of Selymbria‬الساس الذي بنى عليه فّنه‬
‫بتعويده العتماد على نظام التغذية وعلى الرياضة الجسمية أكثر من‬
‫اعتماده على الدوية‪ .‬وذاعت شهرة أبقراط حتى كان من بين مرضاه‬
‫حكام مثل بردكاس ‪ Percdiccas‬ملك مقدونيا‪ ،‬وأردشير الول ملك‬

‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة ‪ 4/1‬ص ‪.. 184‬‬ ‫‪835‬‬


‫الفرس‪ ،‬وفي عام ‪ 430‬ق‪.‬م‪ .‬استدعته أثينا ليحاول وقف انتشار‬
‫الطاعون فيها‪.836‬‬
‫ب في الطب‪ ،‬وفي كل ما يمكن أن يكتب‬ ‫وليس في كل ما ك ُت ِ َ‬
‫عا من مجموعة الرسائل التي كانت ُتعَزى في‬ ‫فيه ما هو أكثر تنو ً‬
‫القديم إلى أبقراط؛ ففيها كتب مدرسية للطباء‪ ،‬ونصائح لغير رجال‬
‫الطب‪ ،‬ومحاضرات للطلبة‪ ،‬وتقريرات‪ ،‬وبحوث‪ ،‬وملحظات‪،‬‬
‫وتسجيلت سريرية )إكلينيكية( لحالت طريفة‪ ،‬ومقالت كتبها‬
‫سوفسطائيون ممن يهتمون بالناحيتين‪ :‬العلمية والفلسفية في‬
‫الطب‪ .‬وكانت الثنان والربعون سجل ً سريرًيا هي السجلت الوحيدة‬
‫من نوعها في السبعة عشر قرًنا التي أعقبت ذلك العهد‪ ،‬وكانت أعلى‬
‫المثلة في المانة باعترافها أن المرض أو العلج قد أعقبه الموت في‬
‫ستين في المائة من الحالت‪ .‬وأربعة ل أكثر من هذه المؤّلفات هي‬
‫التي انعقد إجماع المؤرخين على أنها من كتابات أبقراط؛ وهي‬
‫"الحكم" و"الدلة" و"تنظيم التغذية والعوائد في المراض الحادة"‪،‬‬
‫ما ماعدا هذه الربعة من المؤّلفات‬‫ورسالته "في جروح الرأس"‪ ،‬أ ّ‬
‫المعُزّوة إلى أبقراط فمن وضع مؤّلفين مختلفين عاشوا في أوقات‬
‫مختلفة بين القرنين الخامس والثاني قبل الميلد‪.‬‬
‫والتشخيص أضعف النقط في طب أبقراط‪ .‬فقد يبدو أنه لم‬
‫يكن يعنى بقياس النبض‪ ،‬وكانت الحمى تعرف باللمس البسيط كما‬
‫كان الستماع يحدث بالذن مباشرة‪ .‬وكان يؤمن بالعدوى في أحوال‬
‫الجرب‪ ،‬والرمد‪ ،‬والسل‪ .‬وفي كتابه عن )الجسم ‪ (Corpus‬صور‬
‫إكلينيكية كثيرة للصرع‪ ،‬والتهاب الغدة النكفية الوبائي‪ ،‬وحمى‬
‫النفاس‪ ،‬والحمى اليومية‪ ،‬وحمى الثلث‪ ،‬وحمى الربع‪ .‬ولم يرد في‬
‫المجموعة ذكر للجدري أو الحصباء‪ ،‬أو الخناق )الدفتريا( أو الحمى‬
‫القرمزية أو الزهري‪ ،‬كما لم يرد فيه ذكر صريح للتيفود‪.‬‬
‫وتنزع رسائل "التنظيم" نحو الطب الوقائي بدعوتها إلى دراسة‬
‫أحوال الداء في أول ظهوره ‪ -‬وهي محاولة لمعرفة أولى علمات‬
‫المرض والقضاء عليه قبل أن يستفحل‪ .‬وكان أبقراط شديد الولع‬
‫بمعرفة العواقب في الطب‪ ،‬ويرى أن الطبيب الماهر يعرف بتجاربه‬
‫نتائج أحوال الجسم المختلفة‪ ،‬وفي مقدوره أن يتنبأ بسير المرض من‬
‫ن معظم المراض تصل إلى مرحلة يقضى‬ ‫مراحله الولى‪ ،‬ويقول‪ :‬إ ّ‬
‫ن تقديره الحسابي ‪ -‬الذي‬
‫ما على المريض ذاته‪ ،‬وإ ّ‬
‫ما عليها‪ ،‬وإ ّ‬
‫فيها إ ّ‬
‫يكاد يبلغ في دقته الحساب الفيثاغوري ‪ -‬الذي يصل فيه المرض إلى‬
‫أشد حالته لمن أخص خصائص النظرية البقراطية‪.‬‬
‫ن الطبيعة ‪ -‬أي قوى الجسم وِبنيته ‪ -‬هي أهم‬
‫ويقول أبقراط‪ :‬إ ّ‬
‫علج لكل مرض أًيا كان نوعه‪ ،‬وإن كل ما يستطيع الطبيب أن يفعله‬
‫ول ديورانت ‪ :‬قصة الحضارة ‪ 4/1‬صق ‪.. 185‬‬ ‫‪836‬‬
‫هو أن يقّلل أو يزيل العقبات القائمة في طريق هذين الطريقين‬
‫ن الطريقة البقراطية ل تستخدم العقاقير‬ ‫الطبيعيين للشفاء؛ ولهذا فإ ّ‬
‫في العلج‪ ،‬وأكثر ما تعتمد عليه هو الهواء النقي‪ ،‬والمقيئات‪،‬‬
‫والقماع‪ ،‬والحقن الشرجية‪ ،‬والحجامة‪ ،‬والدماء )إسالة الدم(‪،‬‬
‫مادات‪ ،‬والمراهم‪ ،‬والتدليك‪ ،‬والمياه المعدنية‪ .‬ومن أجل ذلك كان‬ ‫والك ّ‬
‫سّهلت‪.‬‬ ‫دستور الدوية اليوناني جد صغير يتكون معظمه من الم َ‬
‫وكانت أمراض الجلد ُتعاَلج بالحمامات الكبريتية‪ ،‬وبالتدليك بدهن كبد‬
‫ة صحية؛‬ ‫ش عيش ً‬‫ع ْ‬
‫الدلفين‪ .‬ويسدي أبقراط للناس هذه النصيحة‪ِ " :‬‬
‫ج من المراض إذا انتشر في البلد وباء أو أصابتك حادثة‪ .‬وإذا‬ ‫تن ُ‬
‫حا في الكل والحياة أتاح لك ذلك أحسن‬ ‫ما صال ً‬ ‫مرضت ثم اتبعت نظا ً‬
‫الفرص للشفاء"‪ .‬وكثيًرا ما كان يوصي بالصوم إذا سمحت بذلك قوة‬
‫المريض لنه "كلما أكثرنا من تغذية الجسام المريضة زدنا بذلك‬
‫تعريضها للذى"‪ .‬ويمكن القول بوجه عام إن "النسان يجب أل يتناول‬
‫إل وجبة واحدة من الطعام في اليوم إل إذا كانت معدته شديدة‬
‫الجفاف"‪.‬‬
‫أما الجراحة فكانت ل تزال في معظم الحوال عمل ً ل يتخصص‬
‫فيه الطلب‪ ،‬ويشتغل به كبار الطباء‪ ،‬وإن كان من الموظفين في‬
‫الجيوش جراحون‪.‬‬
‫وجملة القول‪ :‬إن العلوم اليونانية قد بلغت الدرجة التي ينتظر‬
‫النسان أن يبلغها علم من العلوم من غير الستعانة بآلت دقيقة‬
‫للرصد والملحظة‪ ،‬ومن غير التجارب العلمية‪.837‬‬

‫ول ديورانت ‪ :‬قصة الحضارة ‪ 4/1‬صق ‪. 194‬‬ ‫‪837‬‬


‫الفصل الثاني‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الحضارة السلمية‬
‫ويضم هذا الفصل المباحث التالية‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في بناء الخلفة‬
‫في أيام عمر بن عبد العزيز‬
‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في بناء الخلفة‬
‫صدر الدولة العباسية‬
‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الخلفة الموية بالندلس )عبد الرحمن الناصر‬
‫وابنه الحكم ‪ -‬قرطبة كمثال تطبيقي(‬
‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في بناء الدولة‬
‫الزنكية واليوبية )نور الدين محمود ‪ -‬صلح‬
‫الدين اليوبي(‬
‫المبحث الخامس‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الخلفة العثمانية‬
‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في بناء الخلفة‬
‫في أيام عمر بن عبد العزيز‬
‫سا من نورٍ أضاء سماء المة السلمية في فترة من‬ ‫كان قب ً‬
‫الفترات التي ضعفت فيها الهمم‪ ،‬وفترت فيها العزائم‪ ،‬فقّيضه الله‬
‫دد دينها على رأس المائة الثانية‪ ،‬وقد كان !!‬ ‫عّز وج ّ‬
‫ل للمة ليكون مج ّ‬
‫نشأته العلمية‪:‬‬
‫اختار "عبد العزيز" ق والد عمر ق صالح بن كيسان ليكون مربًيا‬
‫لعمر بن عبد العزيز‪ ،‬فتولى صالح تأديبه وتعليمه‪ ،‬وحّببه في العلم‪،‬‬
‫صا على تقويمه‪ ،‬وتشجيعه على الجد والجتهاد؛ يروي‬ ‫وكان أبوه حري ً‬
‫ابن كثير عنه أنه كان يلزم الصلوات المفروضة في المسجد منذ‬
‫خر مرة عن صلة الجماعة‪ ،‬فسأله مؤدبه "صالح‬ ‫نعومة أظفاره‪ ،‬فتأ ّ‬
‫جل له شعره‪،‬‬ ‫ما أخره‪ ،‬فذكر له أن الخادمة كانت تَر ّ‬ ‫بن كيسان" ع ّ‬
‫فقال له‪ :‬بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلة‪ ،‬وكتب‬
‫إلى والده في ذلك‪ ،‬فبعث أبوه له من يحلق رأسه‪ ،838‬هكذا كانت‬
‫تربيته‪.‬‬
‫كما تأثر فيما بعد بشيوخ كبار مثل "عبيد الله بن عبد الله بن‬
‫جّله كثيًرا‪ ،‬وأخذ عنه ونهل‬
‫عتبة بن مسعود" الذي كان عمر يحترمه وي ُ ِ‬
‫مه "عبد الملك بن‬ ‫من علمه وأدبه‪ ،‬ولما ت ُوُّفي والده ضمه إليه ع ّ‬
‫مروان" ) الخليفة الفقيه(‪ ،‬مما دفعه إلى العلم دفًعا‪ ،‬وجعله يدرك ق‬
‫منذ فترة مبكرة ق أن الحياة ل تقوم إل بالعلم‪ ،‬وأن العلم "ل يعطيك‬
‫بعضه حتى تعطيه ك ُّلك"‪..‬‬
‫وهكذا تربى عمر وتعلم على يد طائفة كبيرة من العلماء‬
‫ما‪ ،‬فيهم ثمانية من الصحابة‪،‬‬‫والفقهاء‪ ،‬بلغ عددهم ثلثة وثلثون عال ً‬
‫وخمسة وعشرون من التابعين‪ ،839‬نهل من علمهم وتأدب بأدبهم‪،‬‬
‫ولزم مجالستهم حتى ظهرت آثار هذا العلم وهذه التربية على‬
‫تصرفاته‪ ،‬فامتاز بشخصية علمية دقيقة‪...‬‬
‫حبه للعلم‪:‬‬
‫ل وعل له أن حّبب إليه العلم منذ نعومة‬ ‫كان من توفيق الله ج ّ‬
‫أظفاره‪ ،‬فرحل في طلب العلم‪ ،‬وأطال الجلوس في حلقات الفقهاء‪،‬‬
‫ومجالس المحدثين‪ ..‬ومنذ كان وإليا للمدينة المنورة وهو حريص‬
‫على تلقي العلم من الصحابة وكبار التابعين‪ ،‬يذكر أنه كان يكثر من‬
‫مجالسة شيخه "عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة"‪ ،‬وكان من شيوخه‬
‫البداية والنهاية ‪12/678‬‬ ‫‪838‬‬

‫مسند أمير المؤمنين عمر صق ‪34‬‬ ‫‪839‬‬


‫دا من‬ ‫ف عنه أنه كان ل يأتي أح ً‬
‫ضا سعيد بن المسيب‪ ،‬الذي ع ُرِ َ‬
‫أي ً‬
‫المراء إل عمر‪ ،‬وذلك لما عرفه عنه من حبه للعلم‪ ،‬وتوقيره للعلماء‪،‬‬
‫ما لكثير‬ ‫ولمكانته العلمية وما حصله فترة شبابه من علم جعله معل ً‬
‫من معاصريه‪ ،‬ومن شيوخه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب‪،‬‬
‫وكان مجلس عمر ~ يضم نخبة من كبار العلماء يذكر الزهري )المام‬
‫العالم( أنه كان مع "عمر بن عبد العزيز" في ليلة يتحادثان‪ ،‬فقال له‬
‫دثَته الليلة فقد سمعته‪ ،‬ولكّنك حفظت ونسينا"‪..840‬‬‫عمر‪" :‬كل ما ح ّ‬
‫وهذا يبين رسوخ قدمه في طلب العلم‪ ،‬وكثرة سماعه‪ ،‬وسعة‬
‫دث به‪...‬‬
‫ل ما ح ّ‬ ‫ا ّ‬
‫طلعه‪ ،‬حتى يصّرح للمام الزهري‪ ،‬بأنه سمع ك ّ‬

‫ومن الدلئل الواضحة على سعة علمه‪:‬‬


‫أنه ما من كتاب من كتب السنة أو الفقه الستدللي‪ ،‬إل وفيه‬
‫ذكر لعمر بن عبد العزيز‪ ،‬من حديث أو رأي‪ ،‬أو أمر‪ ،‬أو قضاء‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫الحتجاج لرأيهم بقوله وفعله‪ ،‬من ذلك الرسالة الشهيرة التي‬
‫بعث فيها الليث بن سعد إلى المام مالك‪ ،‬وفيها يحتج المام الليث‬
‫غير مرة لصحة قوله بقول عمر على مالك فيما ذهب إليه في بعض‬
‫مسائله‪.‬‬
‫كذلك يرد ذكره في كتب المذاهب الربعة‪ ،‬على سبيل‬
‫فا متميًزا به‪ ،‬وهو " عمر‬ ‫الحتجاج به‪ ،‬حتى إن الحنفية جعلوا له وص ً‬
‫الصغير" تمييًزا له عن جده الفاروق عمر ‪ ،‬والمام مالك ذكره في‬
‫ن أصحابه من بعده‬ ‫"الموطأ" في زيادة على عشرين موضًعا‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ما‬‫قد أكثروا من ذكر عمر في كتبهم‪ ،‬وكذلك فعل الشافعية‪ ،‬وأ ّ‬
‫الحنابلة فيكفي للدللة على شأنه الكبير عندهم والحتجاج بقوله‪ ،‬ما‬
‫جة إل‬
‫ح ّ‬‫قاله إمام المذهب ~ تعإلي‪ ":‬ل أدري قول أحد من التابعين ُ‬
‫قول عمر بن عبد العزيز"‪.841‬‬
‫ججه‬‫ح َ‬
‫درية‪ ،842‬و ُ‬
‫ق َ‬
‫ورسالته الطويلة العظيمة في الّرد على ال َ‬
‫القوية فيها‪ ،‬وتفنيد آرائهم‪ ،‬شاهد واضح‪ ،‬ودليل ناصع‪ ،‬على غزارة‬
‫علمه‪ ،‬وكبير شانه‪ ،‬كذلك حجاجه للخوارج‪ ،‬وكشف زيوف آرائهم‪،‬‬
‫جة إل كسرها بمنطق قويم‪ ،‬ودليل‬ ‫ح ّ‬‫حيث ناظرهم فما ترك لهم ُ‬
‫جة غالبة‪ ،‬ورأي قاهر ‪.‬‬
‫‪843‬‬
‫ح ّ‬
‫قوي‪ ،‬و ُ‬
‫أقوال العلماء في علمه‪:‬‬

‫ابن سعد‪ :‬الطبقات الكبرى ‪.5/385‬‬ ‫‪840‬‬

‫مقدمة مسند المام أحمد‪.‬‬ ‫‪841‬‬

‫في حلية الولياء ‪.346/ 5‬‬ ‫‪842‬‬

‫حلية الولياء ‪.5/309‬‬ ‫‪843‬‬


‫اجتمعت آراء الئمة وشهاداتهم على أن عمر بن عبد العزيز أحد‬
‫الفراد من العلماء الراسخين‪ ،‬ومن أبرز علماء زمانه المليء بكبار‬
‫التابعين‪ ،‬وهذه شذرات من أقوالهم‪:‬‬
‫عن الزهري قال عبيد الله بن عبد الله‪ ":‬كانت العلماء عند عمر‬
‫بن عبد العزيز تلمذة"‪ .844‬وهذه شهادة عظيمة من أستاذه وخاصة‬
‫شيوخه‪.‬‬
‫وقال مجاهد‪" :‬أتينا عمر بن عبد العزيز ونحن نرى أنه سيحتاج‬
‫ضا‪" :‬أتينا عمر‬
‫إلينا‪ ،‬فما خرجنا من عنده حتى احتجنا إليه"‪ ،‬وقال أي ً‬
‫نعلمه‪ ،‬فما برحنا حتى تعلمنا منه"‪.845‬‬
‫وقال ميمون بن مهران‪" :‬كان عمر بن عبد العزيز معّلم‬
‫العلماء"‪ ،‬وقال فيه سيد العلماء أيوب السختياني‪ -‬وكفى به‪ " :-‬ل‬
‫دا ممن أدركنا كان أخذ عن النبي ‪ ‬أكثر منه"‪.846‬‬
‫نعلم أح ً‬
‫ما المامان مالك وابن عيينة فقال‪" :‬عمر بن عبد العزيز‬ ‫وأ ّ‬
‫ة مأموًنا‪ ،‬له فقه وعلم‬
‫إمام"‪ .847‬وقال الحافظ ابن سعد فيه‪" :‬كان ثق ً‬
‫ل‪ ~ ،‬ورضي عنه"‪ ،848‬ووصفه‬ ‫وورع‪ ،‬وروى حديًثا كثيًرا‪ ،‬وكان إمام عد ٍ‬
‫الحافظ ابن عبد البر بأنه‪ ":‬كان أحد الراسخين في العلم" ‪.‬‬
‫‪849‬‬

‫دا‪ ،‬عارًفا بالسنن‪،‬‬


‫ما فقهًيا مجاه ً‬
‫وقال المام الذهبي‪" :‬وكان إما ً‬
‫كبير الشأن‪ ،‬ثبًتا‪ ،‬حجة‪ ،‬حاف ً‬
‫ظا"‪.850‬‬
‫فهذه كلمة إجماع من هؤلء الئمة الثقات‪ ،‬وبذلك أصبح عمر‬
‫موئل العلماء‪ ،‬وقبلة الطالبين‪ ،‬روى الحديث فأكثر‪ ،‬ونظر في‬
‫النصوص فاجتهد واستنبط‪ ،‬فأخذ عنه الفقهاء‪ ،‬واعتبروا رأيه حجة‪.‬‬
‫قال الليث بن سعد ~‪ :‬حدثني رجل كان صحب ابن عمر وابن‬
‫عباس‪ ،‬وكان عمر بن عبد العزيز يستعمله على الجزيرة‪ ،‬فقال‪" :‬ما‬
‫م شيٍء إل وجدنا عمر بن عبد العزيز أعلم الناس بأصله‬ ‫التمسنا عل َ‬
‫وفروعه‪ ،‬وما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إل تلمذة"‪.851‬‬
‫جهوده في نشر العلم وتدوينه‪:‬‬

‫انظر تاريخ السلم للذهبي ‪ ،190‬والكامل في التاريخ ‪ ،،2/371‬وغيرهم ‪.‬‬ ‫‪844‬‬

‫الطبقات ‪ ،5/398‬و البداية والنهاية ‪ ...9/194‬وغيرها‪.‬‬ ‫‪845‬‬

‫تهذيب التهذيب ‪.7/419‬‬ ‫‪846‬‬

‫السابق صق ‪.420‬‬ ‫‪847‬‬

‫عن سير أعلم النبلء ‪.5/115‬‬ ‫‪848‬‬

‫جامع بيان العلم ‪.2/130‬‬ ‫‪849‬‬

‫فاظ ‪.1/118‬‬ ‫تذكرة الح ّ‬ ‫‪850‬‬

‫ابن كثير‪ :‬البداية والنهاية ‪.9/194‬‬ ‫‪851‬‬


‫ث فيها ما‬
‫لم يجلس أمير المؤمنين عمر في حلقات العلم ليب ّ‬
‫ن له سابقة‬ ‫عنده‪ ،‬ولم يتصدر المجالس للفتاء ونشر الفقه؛ إل أ ّ‬
‫عظيمة‪ ،‬ودوًرا أكبر خطًرا‪ ،‬وأعظم أثًرا‪ ،‬وأكثر نفًعا للمسلمين في هذا‬
‫المجال‪ ...‬ذلكم هو جهده العظيم في تدوين الحديث النبوي‪ ،‬وكذلك‬
‫جهده الوافر في تسيير العلماء والفقهاء لتعليم الناس وتثقيفهم‬
‫وإرشادهم‪ ،‬وكان من جهده العظيم في هذين الجانبين ما يأتي‪:‬‬
‫أو ً‬
‫ل‪ :‬تدوينه العلم وأمره بذلك‪:‬‬
‫كان رسول الله ‪ ‬قد نهى عن كتابة غير القرآن في أول المر‪،‬‬
‫مخافة اختلط غير القرآن به‪ ،‬واشتغال الناس عن كتاب ربهم بغيره‪،‬‬
‫ثم جاء بعد ذلك الذن النبوي بالكتابة والباحة المطلقة لتدوين‬
‫خ النهي‪ ،‬وصار المر إلى الجواز‪.‬‬‫س َ‬
‫الحديث الشريف‪ ،‬فن ُ ِ‬
‫ن كراهة الكتاب في الصدر الول إنما‬ ‫قال الخطيب البغدادي‪" :‬إ ّ‬
‫هي لئل ّ يضاهى بكتاب الله تعالى غيره‪ ،‬أو ُيشت ََغل عن القرآن‬
‫قّلة الفقهاء في ذلك‬ ‫ب العلم في صدر السلم‪ ،‬ل ِ‬ ‫بسواه‪ ..‬ونهى عن ك َت ْ ِ‬
‫ن أكثر العراب لم يكونوا‬ ‫الوقت‪ ،‬والمميزين بين الوحي وغيره؛ ل ّ‬
‫حقوا‬ ‫من أن ُيل ِ‬‫فقهوا في الدين‪ ،‬ول جالسوا العلماء العارفين‪ ،‬فلم ُيؤ َ‬
‫م‬‫ن ما اشتملت عليه كل ُ‬ ‫ما يجدون في الصحف بالقرآن‪ ،‬ويعتقدوا أ ّ‬
‫الرحمن"‪.852‬‬
‫كر طوي ً‬
‫ل‪ ،‬ثم لم‬ ‫م عمر بن الخطاب ‪ ‬بجمع السنة‪ ،‬وف ّ‬ ‫ولقد هَ ّ‬
‫ل عن ذلك؛ فعن عروة بن الزبير " أن عمر بن الخطاب‬ ‫يلبث أن ع َد َ َ‬
‫‪ ‬أراد أن يكتب السنة‪ ،‬فاستفتى أصحاب النبي ‪ ‬في ذلك‪،‬‬
‫ه فيها شهًرا‪ ،‬ثم‬
‫فأشاروا عليها أن يكتبها‪ ،‬فطفق عمر يستخير الل َ‬
‫ما وقد عزم الله له‪ ،‬فقال‪ :‬إني أريد أن أكتب السنن‪ ،‬وإني‬ ‫أصبح يو ً‬
‫ما كانوا قبلكم كتبوا كتًبا؛ فأكّبوا عليها وتركوا كتاب الله‪،‬‬ ‫ذكرت قو ً‬
‫دا"‪.853‬‬
‫وإني والله ل أشوب كتاب الله بشيء أب ً‬
‫ن ذلك ودعت الحاجة لم ُتكَره كتابة العلم‪ ،‬وثبت أن‬ ‫ُ‬
‫م َ‬
‫ولما أ ِ‬
‫كثيًرا من الصحابة قد أباحوا تدوين الحديث‪ ،‬وكتبوه لنفسهم‪ ،‬وكتب‬
‫طلبهم بين أيديهم‪ ،‬وأصبحوا يتواصوا بكتابة الحديث وحفظه‪.‬‬
‫ب َي ْد َ أن التدوين الذي آتى ثماَره هو ما قام به أمير المؤمنين‬
‫عمر بن عبد العزيز‪ ،‬وقد تجّلي ذلك في إرشاداته لكتابة العلم وتدوين‬
‫الحديث‪ ،‬وأوامره للخاصة والعامة بذلك؛ فمن إرشاداته قوله‪ ":‬أيها‬
‫ف أميُر‬‫الناس‪ ،‬قّيدوا النعم بالشكر‪ ،‬وقيدوا العلم بالكتابة"‪ .854‬ولم يكت ِ‬
‫ض على حفظ العلم بكتابته‪،‬‬ ‫المؤمنين عمر بهذا الرشاد العام‪ ،‬والح ّ‬
‫انظر محمد الخطيب‪ :‬أصول الحديث ‪.176:147‬‬ ‫‪852‬‬

‫ابن عبد البر‪ :‬جامع بيان العلم ‪.93: 1/76‬‬ ‫‪853‬‬

‫ابن الجوزي‪ :‬مناقب عمر بن عبد العزيز ‪.276‬‬ ‫‪854‬‬


‫بل سعى ‪ -‬بحكمه خليفة المسلمين ‪ -‬إلى إصدار أوامره إلى بعض‬
‫مة العلماء بجمع سنن وأحاديث رسول الله ‪ ،‬وقد حمله على‬ ‫الئ ّ‬
‫ذلك ما رآه عند كثير من التابعين من إباحة كتابة الحديث‪ ،‬وهم قد‬
‫ما‬
‫ما كثيًرا‪ ،‬فخشي عمر على ضياعه خاصة وأنه ليس دائ ً‬ ‫حملوا عل ً‬
‫تتوفر الحفظة الواعون لنقله‪ ،‬دونما احتياج إلى كتابة الكتب والرجوع‬
‫إليها للستذكار‪.‬‬
‫وثمة سبب آخر يضاهي سابقه في الهمية‪ ،‬وهو انتشار الوضع‪،‬‬
‫ودس الحاديث المكذوبة‪ ،‬وخلطها بالصحيح من كلم النبي ‪ ،‬بسبب‬
‫الخلفات المذهبية والسياسية‪ ،‬وإلى هذا يشير كلم المام الزهري‪:‬‬
‫ت حديًثا‪،‬‬
‫ل المشرق ننكرها ل نعرفها‪ ،‬ما كتب ُ‬
‫"لول أحاديث تأتينا من قِب َ ِ‬
‫ت في كتابته"‪.855‬‬ ‫َ‬
‫ول أِذن ُ‬
‫مة ذلك العصر؛ حيث‬‫ورأي الزهري هذا كان رأي كثيرٍ من أئ ّ‬
‫فز‬
‫خافوا على الحديث النبوي من الضياع‪ ،‬واختلطه بالمكذوب‪ ،‬مما ح ّ‬
‫العلماء على حفظ السنن بتدوينها‪.‬‬
‫وجاء رأي السلطة العليا ممثل ً بقرار الخليفة الورع المجاهد‬
‫أمير المؤمنين عمر؛ فاتخذ خطوة حازمة حاسمة بتدوين سنن رسول‬
‫الله ‪ ،‬وجعل من مسؤوليات الدولة حفظ السنة المطهرة‪856‬؛ فكتب‬
‫إلى المام الث ّْبت‪ ،‬أمير المدينة وأعلم أهل زمانه بالقضاء‪ ،‬أبي بكر بن‬
‫حزم‪ ،‬يأمره بذلك ففي صحيح البخاري‪" :‬وكتب عمر بن عبد العزيز‬
‫إلى أبي بكر بن حزم‪ :‬انظر ما كان من حديث رسول الله ‪ ‬فاكتبه‪،‬‬
‫فإني خفت دروس العلم )ضياعه(‪ ،‬وذهاب العلماء‪ ،‬ول تقبل إل حديث‬
‫شوا العلم‪ ،‬ولتجلسوا حتى يعلم من ل يعلم‪ ،‬فإن العلم‬ ‫ف ُ‬‫النبي ‪ ،‬ولت ُ ْ‬
‫ل يهلك حتى يكون سًرا" ‪ ،‬وعند ابن سعد عن عبد الله بن دينار‪:‬‬
‫‪857‬‬

‫قال‪" :‬كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد عمرو بن‬
‫حزم‪ :‬أن انظر ما كان من حديث رسول الله ‪ ،‬أو سنة ماضية‪ ،‬أو‬
‫ت دروس العلم‬ ‫ف ُ‬
‫خ ْ‬
‫حديث عمرة بنت عبد الرحمن‪ ،858‬فاكتبه‪ ،‬فإني ِ‬
‫وذهاب أهله"‪.859‬‬
‫جه كتاًبا بهذا الشأن إلى المام الحجة ابن شهاب‬‫كذلك و ّ‬
‫الزهري‪ ،‬فقد ذكر ابن عبد البر أن ابن شهاب قال‪" :‬أمرنا عمر بن‬
‫عبد العزيز بجمع السنن‪ ،‬فكتبناها دفتًرا دفتًرا‪ ،‬فبعث إلى كل أرض له‬
‫عليها سلطان دفتًرا"‪ .860‬ومن هنا قال الحافظ ابن حجر‪" :‬وأول من‬
‫دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد‬
‫الخطيب البغدادى‪ :‬تقييد العلم ‪.257/ 1‬‬ ‫‪855‬‬

‫الخطيب‪ :‬أصول الحديث ‪ ،176‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪856‬‬

‫فتح الباري ‪.1/194‬‬ ‫‪857‬‬

‫وكانت من أثبت الناس بحديث أم المؤمنين عائشة >‪ ،‬كما ذكر ابن حزم‪.‬‬ ‫‪858‬‬

‫ابن سعد‪ :‬الطبقات الكبرى ‪.2/378‬‬ ‫‪859‬‬

‫جامع بيان العلم ‪.1/91‬‬ ‫‪860‬‬


‫العزيز‪ ،‬ثم ك َث َُر التدوين ثم التصنيف‪ ،‬وحصل بذلك خير كثير‪ ،‬فلله‬
‫ن عمر أرسل إلى أهل المدينة جميًعا يحثهم على جمع‬ ‫الحمد"‪ ،861‬بل إ ّ‬
‫حديث رسول الله ‪‬؛ ليشارك في هذا كل من لديه علم‪ ،‬ولو كان‬
‫بضعة أحاديث؛ فعن عبد الله بن دينار قال‪" :‬كتب عمر بن عبد العزيز‬
‫إلى أهل المدينة‪ :‬أن أنظروا حديث رسول الله ‪ ‬فاكتبوه‪ ،‬فإني قد‬
‫خفت درس العلم وذهاب أهله"‪.862‬‬
‫مم أوامره إلى جميع المصار في‬ ‫ولم يقف عمر عند ذلك‪ ،‬بل ع ّ‬
‫الدولة السلمية؛ ليقوم كل عالم بجمع وتدوين ما عنده من حديث‬
‫رسول الله ‪ ،‬وما سمعه من أصحابه الكرام؛ روى أبو نعيم في‬
‫"تاريخ أصبهان" فقال‪" :‬كتب عمر بن عبد العزيز إلى الفاق‪ :‬انظروا‬
‫حديث رسول الله ‪ ‬فاجمعوه واحفظوه‪ ،‬فإني أخاف دروس العلم‬
‫وذهاب العلماء"‪.863‬‬
‫جع‬ ‫كذلك فإن عمر بن عبد العزيز ‪ ‬اهت ّ‬
‫م باللغة العربية؛ فش ّ‬
‫دق عليهم – لذلك ‪-‬‬ ‫أهل البلد المفتوحة على تعلمها وإتقانها‪ ،‬وكان ُيغ ِ‬
‫حن بالعربية‪ ،‬وينقص من عطائه‪ ،‬لما‬ ‫العطايا‪ ،‬كما كان يعاقب من ي َل ْ َ‬
‫يعلم من أهمية العربية في فهم كتاب الله تعالى والسنة الشريفة‪.864‬‬
‫منهجه وطريقته في التدوين‪:‬‬
‫اتبع عمر بن عبد العزيز ~ في جمع الحديث النبوي وتدوينه‬
‫طا صارمة‪ ،‬ويتجّلى ذلك في‬
‫ما‪ ،‬ووضع فيه شرو ً‬‫دا قوي ً‬
‫جا سدي ً‬
‫منه ً‬
‫أربعة أمور‪:‬‬
‫ن اختياره للقائمين بهذا المر‪:‬‬
‫س ُ‬
‫ح ْ‬
‫الول‪ُ :‬‬
‫ما أبو بكر بن حزم فهو‬ ‫فقد اختار له )ابن حزم(‪ ،‬والزهري‪ :‬فأ ّ‬
‫أحد أوعية العلم‪ ،‬ومن أعلم عصره‪ ،‬قال فيه المام مالك‪" :‬ما رأيت‬
‫ي مثل ما‬ ‫ُ‬ ‫ل ابن حزم ٍ أعظم مروءة ً ول أتم حا ً‬
‫مث َ‬
‫ل‪ ،‬ول رأيت من أوت ِ َ‬
‫أوتي‪ :‬ولية المدينة‪ ،‬والقضاء‪ ،‬والموسم"‪ ،‬وقال‪" :‬كان رجل صدق‪،‬‬
‫‪866‬‬
‫ما كثير الحديث"‬
‫كثير الحديث"‪ ،865‬وقال ابن سعد‪" :‬كان ثقة عال ً‬
‫توفي سنة )‪120‬هق(‪.867‬‬
‫وأما ابن شهاب الزهري فهو المام العلم‪ ،‬حافظ زمانه‪،‬‬
‫ما قطّ‬
‫وشهرته ملت الفاق‪ :‬قال فيه الليث بن سعد‪" :‬ما رأيت عال ً‬
‫فتح الباري ‪.1/208‬‬ ‫‪861‬‬

‫الدارمي‪ :‬باب من رخص في كتابة العلم )‪ (488‬قال حسين سليم أسد ‪ :‬إسناده صحيح‪.‬‬ ‫‪862‬‬

‫ابن حجر‪ :‬فتح الباري ‪.1/195‬‬ ‫‪863‬‬

‫عبد الرحمن الشرقاوي‪" :‬عمر" ‪.178‬‬ ‫‪864‬‬

‫سير أعلم النبلء ‪.5/313‬‬ ‫‪865‬‬

‫انظر سير أعلم النبلء ‪.5/131‬‬ ‫‪866‬‬

‫السابق‪.‬‬ ‫‪867‬‬
‫دث في الترغيب والترهيب؛ فتقول‪ :‬ل‬ ‫أجمع من ابن شهاب‪ :‬يح ّ‬
‫دث عن العرب والنساب‪ ،‬قلت‪ :‬ل يحسن إل‬ ‫يحسن إل هذا‪ ،‬وإن ح ّ‬
‫دث عن القرآن والسنة‪ ،‬كان حديثه"‪.868‬‬ ‫هذا‪ ،‬وإن ح ّ‬
‫وقال عمر بن عبد العزيز‪ :‬عليكم بابن شهاب‪ ،‬فإنه ما بقي أحد ٌ‬
‫ن أعلم من لقيت؟ قال‪:‬‬ ‫م ْ‬
‫سن ّةٍ ماضية منه"‪ ،869‬وقيل لمكحول‪َ " :‬‬
‫أعلم ب ُ‬
‫ابن شهاب‪ .‬قال‪ :‬ثم من؟ قال‪ :‬ابن شهاب"‪.870‬‬
‫قا‬
‫سنة جمع الحاديث مطل ً‬ ‫الثاني‪ :‬أنه طلب ممن يدون له ال ّ‬
‫وتدوينها‪ ،‬وتتبع أحاديث أناس مخصوصين لما امتازوا به‪ ،‬وتدوين‬
‫عمرة بنت‬ ‫أحاديث معينة لهميتها؛ فقد أمر ابن حزم بتدوين حديث َ‬
‫الرحمن لنها من أثبت الناس بأم المؤمنين عائشة‪ ،871‬والسيدة عائشة‬
‫هي أعلم الناس بأحوال سيدنا رسول الله ‪ ‬وشؤونه الخاصة داخل‬
‫بيته ومع أهله‪.‬‬
‫وذكرت إحدى الروايات أنه أمر ابن حزم بجمع وتدوين حديث‬
‫"عمر بن الخطاب"‪ ،‬وذلك لما يقصده ابن عبد العزيز من تتبع سيرة‬
‫الفاروق‪ ،‬وأقضيته وسياسته في الصدقات‪ ،‬وكتبه إلى عماله فيها‪،‬‬
‫ضا من سالم بن عبد الله بن عمر‪ ،‬وكل ذلك‬‫وقد طلب عمر ذلك أي ً‬
‫واضح من النهج الذي سلكه عمر بن عبد العزيز في القتداء بجده ‪.‬‬
‫من ُيدّون السنة النبوية أن يميز الصحيح من‬ ‫الثالث‪ :‬أنه ألزم َ‬
‫السقيم‪ ،‬ويتحّرى الثابت من الحديث‪ ،‬وذلك واضح في رواية الدارمي؛‬
‫ب إلى بما ثبت عندك من الحديث‬ ‫حيث يقول عمر لبن حزم‪" :‬اكت ُ ْ‬
‫عن رسول الله ‪ ،‬وبحديث عمر"‪ ،‬وعند المام أحمد ‪":‬اكتب إلى من‬
‫مرة"‪.872‬‬‫الحديث بما ثبت عندك عن رسول الله ‪ ،‬وحديث ع َ ْ‬
‫وهذه نقطة عظيمة الهمية في تأسيس منهج التدوين على‬
‫س راسخة‪ ،‬ثابتة صحيحة‪.‬‬
‫أس ٍ‬
‫الرابع‪ :‬ت َث َّبته شخصًيا من صحة الحديث والتحديث‪:‬‬
‫من أمرهم‬ ‫فعمر من كبار العلماء‪ ،‬وليس بأقل شأًنا من العلم م ّ‬
‫بالتدوين؛ لذلك قام بمشاركة العلماء في مناقشة بعض ما جمعوه‪،‬‬
‫زيادة ً في التثبت؛ من ذلك ما رواه أبو الزناد عبد الله بن ذكوان‬
‫القرشي قال‪ :‬رأيت عمر بن عبد العزيز جمع الفقهاء‪ ،‬فجمعوا له‬

‫سير أعلم النبلء ‪.5/326‬‬ ‫‪868‬‬

‫تهذيب التهذيب ‪.9/395‬‬ ‫‪869‬‬

‫تذكرة الحفاظ ‪.108/ 1‬‬ ‫‪870‬‬

‫ابن سعد‪ :‬الطبقات الكبرى ‪.387/ 2‬‬ ‫‪871‬‬

‫مقدمة مسند المام أحمد ص ‪.20‬‬ ‫‪872‬‬


‫أشياء من السنن‪ ،‬فإذا جاء الشيء ليس العمل عليه؛ قال‪ :‬هذه زيادة‬
‫ليس العمل عليها"‪.873‬‬
‫ثمرة هذا التدوين‪:‬‬
‫ت هذه الجهود الباكرة المباركة أ ُك َُلها‪ ،‬وتمّثل ذلك بتلك‬
‫لقد آت َ ْ‬
‫الدفاتر التي جمعها المام الزهري‪ ،‬فأمر عمر بن عبد العزيز بنسخها‬
‫دة نسخ‪ ،‬ثم أرسل إلى كل بلد في دولته الكبيرة دفتًرا منها‪.‬‬ ‫ع ّ‬
‫حظ أن كثيًرا من العلماء جمع لنفسه مسموعاته‪ ،‬ليعود إليها‬ ‫وُيل َ‬
‫كّلما وجد في نفسه الحاجة إلى إتقان حفظها‪ ،‬أما التدوين الرسمي‪،‬‬
‫مت ثمرُته على المصار‪ ،‬فكان بأمر عمر بن‬ ‫الذي توّلته الدولة‪ ،‬وع ُ ّ‬
‫م َ‬
‫عبد العزيز‪.‬‬
‫ضا – ذلك المنهج السديد الذي اتبعه‬‫ومن الثمرات الطيبة‪ -‬أي ً‬
‫أمير المؤمنين عمر‪ ،‬بوضع السس والنقاط المهمة أثناء التدوين‪،‬‬
‫فكانت نواة لمنهج واسع متكامل جاء بعده‪.‬‬
‫وهذا كله ناتج من د ِّقة فهمه‪ ،‬وغزارة علمه‪ ،‬ونفاذ بصيرته وقبل‬
‫ذلك وبعده توفيق الله تعالى له‪.‬‬
‫ديق بجمع‬‫ص ّ‬
‫ولئن كان عمر بن الخطاب قد أشار على ال ّ‬
‫القرآن‪ ،‬ففعل‪ ،‬فكان لهما الفضل الكبير على الئمة‪ ،‬ثم جاء عثمان‬
‫فجمع الناس على مصحف واحد‪ ،‬وحرف واحد‪ ،‬ولهجة واحدة هي‬
‫لهجة قريش ‪ -‬فإن الله ‪ ‬قد اّدخر لعمر بن عبد العزيز تلك المنقبة‬
‫العظيمة‪ ،‬والمكرمة الجليلة‪ ،‬في إصدار أوامر الخلفة بجمع السنة‬
‫وتنقيحها وتدوينها‪ ،‬وجعل من واجبات الدولة حماية السنة التي هي‬
‫المصدر الثاني للتشريع‪.‬‬
‫سّنة حسنة له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة‪،‬‬‫وهي ُ‬
‫فلول التدوين لضاع الكثير من الحديث النبوي‪ ،‬خاصة في العصور‬
‫ل الحفظ والرواية والسماع‪ ،‬بل حتى الهتمام‬ ‫المتأخرة‪ ،‬بعد أن ق ّ‬
‫بالحديث الشريف‪.‬‬
‫ة عظيمة على المة‪ ،‬فجزاه الله عن السلم‬ ‫من ّ ٌ‬
‫مر بذلك ِ‬
‫ول ِعُ َ‬
‫والمسلمين خير الجزاء‪ ،‬وهذا من توفيق الله للعظماء وكبار‬
‫المصلحين‪ ،‬عندما تخُلص سرائرهم‪ ،‬يوفقهم الله للحق‪ ،‬ويدلهم على‬
‫دا‪.‬‬
‫الخيرات‪ ،‬ويسدد خطواتهم ويهيئ لهم من أمرهم رش ً‬
‫ثانًيا‪ :‬نشره العلم في المصار‪:‬‬

‫محمد الخطيب‪ :‬أصول الحديث ‪.179‬‬ ‫‪873‬‬


‫لما كان "من واجبات الدولة أن ُتسّهل تحصيل العلم لجميع‬
‫القادرين على تحصيله‪ ،‬وهو من فروض الكفايات التي يجب على‬
‫ل عمر ~‬‫الدولة القيام به‪ ،‬وتمكين الناس من الوصول إليه"‪ ،874‬لم يأ ُ‬
‫دا في القيام بهذا العبء خير قيام‪ ،‬و أداء هذا الواجب على الوجه‬ ‫جه ً‬
‫الكمل‪ ،‬فأرسل العلماء إلى المصار بل والبوادي‪ ،‬ليعلموا أهلها شرع‬
‫الله‪ ،‬ويفقهوهم به‪.‬‬
‫فبعث إلى مصر المام المفتي الثبت‪ ،‬عالم المدينة "نافًعا"‬
‫عمر بن عبد‬ ‫مولى ابن عمر وراويته؛ قال عبيد الله بن عمر‪" :‬بعث ُ‬
‫العزيز نافًعا مولى ابن عمر إلى أهل مصر يعلمهم السنن" ‪.‬‬
‫‪875‬‬

‫وأرسل عشرة من فقهاء مصر من رجال التابعين إلى إفريقية‬


‫ليفقهوا أهلها ويعلموهم‪ ،‬وينشروا بينهم حديث رسول الله ‪ ،‬لينالهم‬
‫م إخوانهم من أهل الحجاز والشام والعراق‪،‬‬ ‫من الخير مثل الذي ي َعُ ّ‬
‫وكانت معاقل العلم‪ ،‬فلم يحتج عمر أن يسير لها العلماء‪ ،‬بل تطّلع‬
‫إلى أقاصي دولته‪ ،‬فأرسل العلماء إليها‪ ،‬بل إنه أرسل الفقهاء إلى‬
‫البدو ليعلموا الناس في مضاربهم ويفقهوهم في دينهم؛ روى ابن‬
‫الجوزي عن ابن أبي غيلن قال‪" :‬بعث عمر بن عبد العزيز يزيد بن‬
‫أبي مالك الدمشقي والحارث الشعري يفقهان الناس في البدو‪،‬‬
‫وأجرى عليهما رزًقا‪.876"...‬‬
‫كذلك كان يرسل الكتب إلى المصار السلمية في دولته‬
‫الكبيرة‪ ،‬يعلمهم فيها السنن والفقه‪ ،‬ويأمرهم بإحياء ما كان عليه‬
‫رسول الله ‪ ‬وصحابته‪ ،‬واللتزام بالشرع‪ ،‬وترك ما خالفه‪ ،‬وكانت‬
‫جه إلى الولة والمراء ليعملوا بها‪ ،‬ويحملوا الناس على‬ ‫الكتب ت ُوَ ّ‬
‫ل على عمر أمٌر بعث إلى المدينة‬ ‫ُ‬
‫التزام ما جاء فيها‪ ،‬وإذا أشك ِ َ‬
‫يسألهم عن ذلك؛ يقول المام مالك‪" :‬كان عمر بن عبد العزيز يكتب‬
‫ما‬
‫إلى المصار يعلمهم السنن والفقه‪ ،‬ويكتب إلى المدينة يسألهم ع ّ‬
‫مضى‪ ،‬وأن يعملوا بما عندهم"‪ ،877‬ويقول الحسن البصري‪" :‬وما ورد‬
‫ط كتاب عمر بن عبد العزيز إل بإحياء سنة‪ ،‬أو إماتة بدعة‪ ،‬أو‬ ‫علينا قَ ّ‬
‫رد مظلمة" ‪.‬‬
‫‪878‬‬

‫م كتمانه‪ ،‬وذلك واضح في كتابه‬‫وقد أمر ~ بإفشاء العلم‪ ،‬وذ ّ‬


‫إلى أبي بكر بن حزم‪" :‬ولتفشوا العلم‪ ،‬ولتجلسوا حتى يعلم من ل‬
‫يعلم‪ ،‬فإن العلم ل يهلك حتى يكون سًرا"‪.879‬‬

‫‪ 874‬تذكرة الحفاظ للذهبي ‪ ،1/119‬وذكره المام أحمد في مقدمة مسنده‪.‬‬


‫‪ 875‬الذهبي‪ :‬سير أعلم النبلء ‪.5/97‬‬
‫‪876‬سيرة ومناقب عمر‪ ،‬لبن الجوزي ‪.92‬‬
‫‪ 877‬مقدمة مسند المام أحمد ص ‪.17‬‬
‫‪ 878‬السابق ص ‪.6‬‬
‫‪ 879‬الن حجر‪ :‬فتح الباري ‪.1/194‬‬
‫وقد عمل ~ على تذليل الصعوبات أمام العلماء وطلبة العلم؛‬
‫ب نفسه للعلم وحبسها عليه؛‬ ‫ص َ‬‫ن نَ َ‬‫م ْ‬ ‫ففرض المرتبات للعلماء‪ ،‬ولك ّ‬
‫ل َ‬
‫رئه للناس‪ ،‬وُيعّلمهم أحكامه‪،‬‬ ‫فقاريء القرآن الذي حفظه‪ ،‬وقام ُيق ِ‬
‫دث الذي يعقد مجالس الملء وينشر الحديث النبوي‪ ،‬والفقيه‬ ‫والمح ّ‬
‫الذي ينظر في الكتب ويستنبط منها‪ ،‬ويعّلم الناس أمور دينهم ليعبدوا‬
‫الله على بصيرة‪ ،‬والطالب الذي يتفرغ للعلم أو البحث والدرس‪ ،‬كل‬
‫أولئك قد يشغلهم أمر ذويهم وأبنائهم‪ ،‬وسد ّ حاجاتهم‪ ،‬وتدبير أمور‬
‫معاشهم‪ ،‬فقام عمر بقطع هذا الهاجس عنهم‪ ،‬وكفل لهم ولمن‬
‫خذ من بيت‬ ‫فل به الدولة‪ ،‬وُيؤ َ‬‫يعولون ما يعيشون به حياة كريمة‪ ،‬تتك ّ‬
‫من وجد في نفسه المكانية‬ ‫ل َ‬ ‫ما فعل ~‪ ،‬فبذلك شجع ك ّ‬ ‫المال‪ ،‬ونع ّ‬
‫لنشر العلم وخدمة الدين والمة‪.‬‬
‫روى المام الثقة الحجة الخطيب البغدادي عن أبي بكر بن أبي‬
‫مْر لهل‬‫مريم قال‪ :‬كتب عمر بن عبد العزيز إلى وإلى حمص‪ُ " :‬‬
‫الصلح من بيت المال بما يغنيهم؛ لئل ّ يشغلهم شيء عن تلوة‬
‫القرآن‪ ،‬وما حملوا من الحاديث"‪.880‬‬
‫اهتمامه ـ ~ ـ بتعليم أولده‪:‬‬
‫لم يقتصر اهتمام عمر بن عبد العزيز بالعلم على هذا القدر ‪-‬‬
‫جا مثإليا في تربية أبنائه على‬ ‫عظ َم ِ شأنه ‪ ، -‬ولكنه كان نموذ ً‬‫على ِ‬
‫ت تعليمية جعل منها‬ ‫ب العلماء وتوقيرهم‪ ،‬واتبع إجراءا ٍ‬ ‫ح ّ‬
‫العلم‪ ،‬و ُ‬
‫جا جديًرا يلبي حاجة الناشئ المسلم‪ ،‬وكان يغرس في أبنائه حب‬ ‫منه ً‬
‫ّ‬
‫العلم منذ الصغر‪ ،‬ويتعاهدهم بالرعاية والعناية‪ ،‬فها هو ~ يعلم ابنه‬
‫مذ ْ أصبح يجيد الكلم القراءة وبعض القرآن‪ ،‬قبل أن‬ ‫)عبد الملك( ُ‬
‫يدفع به للمعلمين‪ ،‬ويقول له ابن عمه في ذلك‪) :‬دعه يلعب مع‬
‫ما‪،‬‬
‫ن عال ً‬‫ي كُ ْ‬
‫ل(‪ ،‬فأخذ عمر بيده وقال له‪" :‬يا ب ُن َ ّ‬ ‫الصبيان‪ ،‬فما زال طف ً‬
‫ما"‪...881‬‬
‫فإن لم تستطع فمتعل ً‬
‫ن بنيه قد أخذوا حظهم من التربية المستقيمة‬ ‫ن إلى أ ّ‬
‫ولما اطمأ ّ‬
‫ت أخلُقهم على التقوى‪،‬‬ ‫ُ‬
‫س ْ‬
‫س َ‬
‫في بيت البوة القويمة العليمة‪ ،‬وأ ّ‬
‫ب العلم والتعّلم‪ ،‬اختار لهم مؤد ًّبا عال ً‬
‫ما تقًيا‪،‬‬ ‫سهم ح ّ‬‫وتشّربت نفو ُ‬
‫بعث به إليهم‪ ،‬وأرسل إليه رسالة يحدد له فيها الطريقة المثلى‬
‫للتأديب فقال له‪" :‬فإني قد اخترتك على علم ٍ مّني بك‪ ،‬لتأديب ولدي‪،‬‬
‫فصرفتهم إليك من غيرك من موإلى وذ َوِيّ الخاصة بي‪ ..،‬وليفتتح كل‬
‫غلم منهم بجزء من القرآن يثبت في قراءته‪ ،‬فإذا فرغ تناول قوسه‬
‫ونبله وخرج للرمي‪.882"...‬‬

‫‪ 880‬الخطيب البغدادي‪ :‬شرف أصحاب الحديث ‪.155‬‬


‫‪ 881‬انظر سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لبن الجوزي‪،‬ص ‪.219‬‬
‫‪ 882‬السابق ‪.220‬‬
‫دد خطاهم‬ ‫وظ ّ‬
‫ل ~ يتابع أبناءه ويتعّهدهم بالرعاية‪ ،‬وُيس ّ‬
‫ويوجههم‪ ،‬فكتب إلى أحد أبنائه يقول‪" :‬يا ُبني احذر الصرعة على‬
‫ن‬
‫الغفلة‪ ،‬حين ل تستجاب الدعوة‪ ،‬ول سبيل إلى الرجعة‪ ،‬ول تغتر ّ‬
‫بطول العافية‪ ،‬فإنما هو أجل ليس دونه فناء‪ ،‬ول بعد أن تستكمله‬
‫بقاء"‪.883‬‬
‫وقال لبنه عبد العزيز‪" :‬يا ُبني إذا سمعت كلمة من امرئ‬
‫مسلم‪ ،‬فل تحملها على شيء من الشر‪ ،‬ما وجدت لها محمل ً على‬
‫‪884‬‬
‫الخير"‬
‫صا بألف درهم‪ ،‬فكتب‬
‫ما‪ ،‬واشترى له ف ً‬
‫وبلغه أن ابًنا له اتخذ خات ً‬
‫صا بألف درهم‪،‬‬
‫د‪ ،‬فقد بلغني أنك اشتريت ف ً‬ ‫إليه عمر قائ ً‬
‫ل‪" :‬أما بع ُ‬
‫ما من حديد‪ ،‬واكتب عليه‪ :‬رحم‬
‫فبعه‪ ،‬وأشِبع به ألف جائع‪ ،‬واتخذ خات ً‬
‫الله امًرا عرف قدر نفسه"‪.885‬‬
‫رحم الله عمر بن عبد العزيز؛ كان طوًدا من أطواد العلم‪،‬‬
‫سا لمن جاء بعده؛ فجزاه الله عن المة خير الجزاء !!‬
‫ونبرا ً‬

‫أبو نعيم‪ :‬حلية الولياء ‪4/240‬‬ ‫‪883‬‬

‫انظر‪ :‬السيوطي‪ :‬تاريخ الخلفاء ص ‪ ،200‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪884‬‬

‫السابق نفسه‪.‬‬ ‫‪885‬‬


‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في بناء الخلفة‬
‫صدر الدولة العباسية‬
‫)هارون الرشيد والمأمون(‬
‫كلت "الخلفة العباسية" مرحلة هامة واسعة التأثير في تاريخ‬‫ش ّ‬
‫السلم‪ ،‬و ليكاد المنشغلون بالحضارة السلمية يتحدثون عنه إل‬
‫وتأتي فترة الخلفة العباسية كواسطة العقد‪ ،‬و قمة المجد التي تشار‬
‫ما‪ ،‬ولم يكن ذلك من فراغ‪ ،‬فقد اهتم الخلفاء العباسيون عامة‬ ‫إليها دائ ً‬
‫بالنهضة والرقي بالمة السلمية‪ ،‬بعد أن وطدوا أركان دولتهم‪ ،‬وكان‬
‫أبرز اسمين في النهضة العلمية التي حدثت في العصر العباسي "‬
‫هارون الرشيد" وابنه المأمون ‪.‬‬
‫نشأة الرشيد العلمية‪:‬‬
‫وُل ِد َ هارون الرشيد ونشأ وترّبى في بيت علم ٍ وأدب؛ فقد اهتم‬
‫والده )المهدي( بتعليمه‪ ،‬وعهد بذلك لطائفة من كبار علماء عصره‪،‬‬
‫ما في عدد ٍ من‬ ‫كان منهم "الكسائي" الذي ُيذ َ‬
‫كر عنه أنه كان إما ً‬
‫العلوم‪ ،‬وجلس الرشيد كذلك إلى إمام اللغة "الخليل بن أحمد"‪،‬‬
‫ضل الضّبي")وهو من أوثق رواة الشعر في زمانه(‬ ‫وعّلمه "المف ّ‬
‫الشعَر وأيام العرب‪ ،‬ومله الصمعي )رواية العرب( بنوادر العرب‬
‫الدبية‪ ،‬كما قرأ الرشيد القرآن على "حمزة الزيات" أربع مرات‪،‬‬
‫واختار لنفسه ق منذ حداثة سنه ق إحدى القراءات السبع فأتقنها‬
‫فا ثقافة واسعة‪ ،‬وأن يجمع إلى عقله‬ ‫وأجادها‪ ،‬فل عجب أن يصبح مثق ً‬
‫ة بشّتى أنواع العلوم والمعارف‪ ،‬إلى الحد ّ‬ ‫ما‪ ،‬ومعرف ً‬‫الراجح أدًبا ج ً‬
‫الذي جعل معاصريه يقولون‪" :‬كان فهم الرشيد فهم العلماء" ‪.‬‬
‫‪886‬‬

‫وكان الرشيد يحب العلماء‪ ،‬ويسعى لطلب العلم على أيديهم‬


‫ة‬
‫ك رحل ً‬
‫ن لمل ٍ‬
‫مهما بذل من جهد؛ قال القاضي الفاضل‪" :887‬ما أعلم أ ّ‬
‫ط في طلب العلم إل للرشيد؛ فإّنه رحل بولديه‪ :‬المين والمأمون‬ ‫ق ّ‬
‫لسماع الموطأ على مالك ~‪ ،‬قال‪ :‬وكان أصل الموطأ بسماع الرشيد‬
‫في خزانة المصريين‪.888"..‬‬

‫‪886‬السيوطي‪ :‬تاريخ الخلفاء ‪.247‬‬


‫‪ 887‬هو عبد الرحيم بن علي اللخمي‪ ،‬المعروف بالقاضي الفاضل‪ 529 ) :‬ق ‪ (596‬وزير‬
‫السلطان صلح الدين اليوبي ‪ )..‬انظر معجم المؤلفين‪ 209/ 5 :‬و ابن خلكان‪ :‬وفيات العيان‬
‫‪.(359 - 357 :1‬‬
‫‪ 888‬السيوطي ‪ :‬تاريخ الخلفاء ‪.249‬‬
‫تقديره للعلماء‪:‬‬
‫كان الرشيد ~ محّبا للعلم والعلماء‪ ،‬وكان يعرف للعلماء‬
‫فضلهم؛ لذا لما بلغه موت عبد الله بن المبارك حزن عليه‪ ،‬وجلس‬
‫‪889‬‬
‫للعزاء فعزاه الكابر‪ ،‬و أمر العيان أن يعزوه فيه‬
‫ص‬
‫ب على يدي بعد الكل شخ ٌ‬ ‫وعن أبي معاوية الضرير‪ ،‬قال‪ :‬ص ّ‬
‫ل أعرفه؛ فقال الرشيد‪ :‬تدري من يصب عليك؟ قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬أنا؛‬
‫إجلل ً للعلم‪.890‬‬
‫وقد كان العلماء يبادلونه هذا التقدير‪،‬فقد ُرويَ عن الفضيل بن‬
‫ي موًتا من أمير‬
‫عياض أنه قال‪ ":‬ما من نفس تموت أشد عل ّ‬
‫ن الله زاد من عمري في عمره"‪ ،‬قال‬ ‫تأ ّ‬
‫المؤمنين هارون‪ ،‬ولودد ُ‬
‫ما مات هارون‪،‬‬ ‫عثمان ابن كثير الواسطي‪ :‬فكب َُر ذلك علينا؛ فل ّ‬
‫وظهرت الفتن‪ ،‬وكان من المأمون ما حمل الناس على القول بخلق‬
‫‪891‬‬
‫القرآن؛ قلنا‪ :‬الشيخ كان أعلم بما تكّلم‪.‬‬
‫النهضة العلمية في عصر الرشيد‪:‬‬
‫كان لبد لهذه النشأة المفعمة بطلب العلم أن تثمر حياة ً قوامها‬
‫ف عصر الخليفة العباسي الرشيد‬ ‫العلم‪ ،‬وتشجيع العلماء؛ لذا فقد ع ُرِ َ‬
‫بأنه عصر ازدهار الحركة العلمية في الدولة العباسية‪ ،‬لسيما بعد‬
‫انتشار حركة النقل والترجمة آنذاك‪...‬‬
‫بتولي الرشيد الحكم بدأ عصر زاهر كان واسطة العقد في‬
‫تاريخ )الدولة العباسية( التي دامت أكثر من خمسة قرون‪ ،‬ارتقت فيه‬
‫م الرخاء ربوع الدولة السلمية؛‬‫العلوم‪ ،‬وسمت الفنون والداب‪ ،‬وع ّ‬
‫فقد أنشأ بيت الحكمة‪ ،‬وزّوده بأعداد كبيرة من الكتب والمؤّلفات من‬
‫مختلف بقاع الرض كالهند وفارس والناضول واليونان‪ .‬وكان يضم‬
‫ضها للكتب‪ ،‬والبعض‬
‫ص بع ُ‬‫ص َ‬ ‫غرًفا عديدة يمتد بينها أروقة طويلة‪ُ ،‬‬
‫خ ّ‬
‫صص جزٌء ثالث للناسخين والمترجمين‬ ‫خ ّ‬‫الخر للمحاضرات‪ ،‬في حين ُ‬
‫والمجّلدين‪ ،‬وعهد الرشيد إلى "يوحنا بن ماسويه" بالشراف على‬
‫بيت الحكمة‪ ،‬وكّلفه بالقيام بترجمات كثيرٍ من الكتب التي قدمت‬
‫لبغداد من حرب أنقرة‪ ،‬ووضعه أميًنا على الترجمة وكان أكثر هذه‬
‫جه إلى الطب والفلسفة وعلوم الفلك‪ ،‬وكان منها مؤلفات‬ ‫الكتب يت ّ‬
‫‪892‬‬
‫علماء اليونان كأرسطو وجإلينوس وأبقراط‪.‬‬

‫السيوطي ‪ :‬تاريخ الخلفاء ‪.242‬‬ ‫‪889‬‬

‫السابق نفسقه‪.‬‬ ‫‪890‬‬

‫الخطيب البغدادي ‪ :‬تاريخ بغداد ‪.12 /14‬‬ ‫‪891‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪ 2/109‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪892‬‬
‫وغدت )بغداد( قبلة طلب العلم من جميع البلد‪ ،‬يرحلون إليها‬
‫قّراء واللغويين‪ ،‬وكانت المساجد‬‫حيث كبار الفقهاء والمحدثين وال ُ‬
‫الجامعة تحتضن دروسهم وحلقاتهم العلمية التي كان كثير منها أشبه‬
‫بالمدارس العليا‪ ،‬من حيث غزارة العلم‪ ،‬ودقة التخصص‪ ،‬وحرية الرأي‬
‫والمناقشة‪ ،‬وثراء الجدل والحوار‪ .‬وكان الرشيد نفسه يميل إلى أهل‬
‫الدب والفقه والعلم‪ ،‬ويحيط نفسه بهم‪.‬‬
‫وكان الرشيد وكبار رجال دولته يقفون وراء هذه النهضة‪،‬‬
‫يصلون أهل العلم والدين بالصلت الواسعة‪ ،‬ويبذلون لهم الموال‬
‫تشجيًعا لهم‪ ،‬حتى إن ول ديورانت يذكر في "قصة الحضارة" ‪:‬‬
‫"ولسنا نعلم في التاريخ كله أن حاشية للملوك قد جمعت مثلما‬
‫جمعت حاشية الرشيد‪ ،‬من العلماء ذوي العقول الراجحة النابهين‬
‫"‪ ،893‬ففي عصره اجتمع أبو يوسف ) صاحب كتاب الخراج أول كتاب‬
‫في منهج القتصاد السلمي(‪ ،‬وعبد الله بن المبارك )الزاهد‬
‫المجاهد(‪ ،‬والفضيل بن عياض ‪ ،‬و اثنان من الئمة العلم مالك‬
‫والشافعي رجمهم الله جميًعا ‪.‬‬
‫اهتمامه بعلماء الشرع‪:‬‬
‫لما كانت ثقافة الرشيد ~ قائمة على الكتاب والسنة‪ ،‬وما يدور‬
‫حولهما من شروح وإيضاحات‪ ،‬لم يكن غريًبا أن يختار وينتقي‬
‫خيَرة علماء الشرع‪ ،‬فكان من أول ما قام في هذا‬ ‫لمناصب الدولة ِ‬
‫الصدد أن اختص العلمة "أبا يوسف" بمكانة عالية‪ ،‬وجعله "قاضي‬
‫قضاة" الدولة‪ ،‬بحيث ل ي ُعَّين أحد ٌ من القضاة إل بأمره وإشارته‪ ،‬وكان‬
‫أبو يوسف يكثر من وصية الرشيد‪ ،‬ولم يكن الرشيد إل مستمًعا له‬
‫عامل ً بوصاياه ‪ ،‬من ذلك وصيته الطويلة التي يحثه فيها على كل ما‬
‫‪894‬‬
‫فيه مصلحته ومصلحة المسلمين‪.‬‬
‫وكان يحفظ للمام مالك بن أنس ~ مكانته ومقامه‪ ،‬ويمنحه‬
‫من السلطة بالمدينة ما يجعل أمره ناف ً‬
‫ذا على الوإلي‪ ،‬بل ويستقبل‬
‫منه رسالة طويلة في "وعظه" و إرشاده تشمل أجمل ما يهدى‬
‫للملوك‪ ،‬والمراء من النصائح والرشادات‪ ،‬والسلوك في تعامله مع‬
‫‪895‬‬
‫الرعية‪..،‬‬
‫وذكرنا كيف كانت منزلته عند الفضيل بن عياض‪ ،‬وكيف أدرك‬
‫ما‪ ،‬فضل ً‬
‫فضله وعلمه‪ ،‬ذلك أن الرشيد كان يرفع من قدر العلماء دائ ً‬
‫عن أنه بنفسه كان من العلماء ‪..‬‬

‫‪ 893‬ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة ‪. 13/2‬‬


‫‪ 894‬الوصية مذكورة بالتفصيل في حسن التقاضي في سيرة أبو يوسف القاضي للكوثري ‪ 94‬ق‬
‫‪.101‬‬
‫‪ 895‬انظر الرسالة مطولة‪ :‬إبراهيم عبد الباقي‪ :‬مشكاة المواعظ‪.‬‬
‫علوم الحياة في عصره‪:‬‬
‫ة‪،‬‬
‫لقد بلغ التقدم في علوم الحياة في عصر الرشيد ذروة ً سامق ً‬
‫كر في هذا‬‫فا‪ ،‬ومما ُيذ َ‬ ‫في حين كان الغرب يعيش أشد ّ عصوره تخل ّ ً‬
‫ن هارون الرشيد أرسل هدية عجيبة إلى شارلمان ملك‬ ‫الشأن أ ّ‬
‫الفرنجة‪ ،‬وكانت الهدية عبارة عن ساعة ضخمة بارتفاع حائط الغرفة‬
‫تتحرك بواسطة قوة مائية‪ ،‬وعند تمام كل ساعة يسقط منها عدد‬
‫معين من الكرات المعدنية بعضها في إ ِث ْرِ بعض بعدد الساعات فوق‬
‫ي ي ُد َّوي في أنحاء‬
‫ن موسيق ّ‬ ‫مع لها رني ٌ‬
‫قاعدة نحاسية ضخمة‪ ،‬فُيس َ‬
‫القصر‪..‬‬
‫ب من البواب الثني عشر المؤدية‬ ‫وفي نفس الوقت ُيفَتح با ٌ‬
‫إلى داخل الساعة‪ ،‬ويخرج منها فارس يدور حول الساعة‪ ،‬ثم يعود‬
‫إلى حيث خرج‪ ،‬فإذا حانت الساعة الثانية عشرة يخرج من البواب‬
‫ة‪ ،‬ثم يعودون‬ ‫ة‪ ،‬ويدورون دورة ً كامل ً‬‫سا مرة ً واحد ً‬
‫اثنا عشر فار ً‬
‫َ‬
‫فيدخلون من البواب فُتغلق خلفهم‪ .‬كان هذا هو الوصف الذي جاء‬
‫في المراجع الجنبية والعربية عن تلك الساعة التي كانت ت ُعَد ّ وقتئذٍ‬
‫ة‪ ،‬وأثارت دهشة الملك وحاشيته‪ ..‬ولكن رهبان القصر‬ ‫أعجوب ً‬
‫ن في داخل الساعة شيطاًنا يحركها‪ ..‬فتربصوا بها لي ً‬
‫ل‪،‬‬ ‫اعتقدوا أ ّ‬
‫ما‪ ،‬إل إنهم لم يجدوا بداخلها‬ ‫وأحضروا الب َُلط‪ ،‬وانهالوا عليها تحطي ً‬
‫شيًئا"‪.896‬‬
‫وقد برز عدد كبير من علماء الحياة في عهد الرشيد‪ ،‬بفضل‬
‫حّثه على العلم‪ ،‬وتقديره للعلماء أًيا كانت دياناتهم‪ ،‬وإنزالهم منازلهم‪،‬‬
‫َ‬
‫فمن هؤلء‪ :‬طبيب الرشيد الخاص "جبرائيل بن بختيشوع" الذي تذكر‬
‫كتب الطب أنه جمع ثروة عظيمة من الشتغال بالطب )كطبيب‬
‫خاص للرشيد(‪ ،‬وُيرَوى أنه لما حضر قال له الرشيد ما اسمك؟ قال‬
‫جبرائيل‪ ،‬قال له أي شيء تعرف من الطب؟ فقال أبرد الحار‪،‬‬
‫وأسخن البارد‪ ،‬وأرطب إليابس‪ ،‬وأيبس الرطب الخارج عن الطبع‪،‬‬
‫فضحك الخليفة وقال هذا‪ ،‬غاية ما يحتاج إليه في صناعة الطب‪،‬وقال‬
‫ه لك في مواقف دعاء‬ ‫ت الل َ‬
‫له ذات مرة وهو يحج بمكة‪" :‬لقد دعو ُ‬
‫كثيرة‪ ،‬ثم التفت إلى أبنائه وقال‪ :‬عسى أن تكونوا كرهتم قولي!‪،‬‬
‫ولكن تعرفون أنه يقوم على صلح بدني‪ ،‬وقوامه به‪ ،‬وأقوم على‬
‫صلح المسلمين‪ ،‬وقوام المسلمين بي‪ .‬فقالوا‪ :‬صدقت يا أمير‬
‫المؤمنين"‪.897‬‬

‫الشادياق‪" :‬كشف المخبا في فنون أوربا" ‪ 218‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪896‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬طبقات الطباء ‪.1/109‬‬ ‫‪897‬‬


‫ومما أ ُث َِر عنه ~ أنه كان يجمع الطباء‪ ،‬ويستشيرهم في أمور‬
‫عديدة‪ ،‬فمن ذلك ما يذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد ‪ :‬جمع‬
‫الرشيد من الطباء أربعة‪ :‬عراقًيا‪ ،‬ورومًيا‪ ،‬وهندًيا‪ ،‬ويونانًيا ‪.‬فقال‪:‬‬
‫ليصف لي كل واحد منكم الدواء الذي ل داء معه‪ ،‬فقال العراقي‪:‬‬
‫الدواء الذي ل داء معه حب الرشاد البيض‪ ،‬وقال الهندي‪ :‬الهليلج‬
‫السود‪ ،‬وقال الرومي‪ :‬الماء الحار‪ ،‬وقال اليوناني ق وكان أطبهم ق‬
‫حب الرشاد البيض يولد الرطوبة‪ ،‬والماء الحار يرخي المعدة‪،‬‬
‫والهليلج السود يرق المعدة‪ ،‬لكن الدواء الذي ل داء معه أن تقعد‬
‫على الطعام وأنت تشتهيه‪ ،‬وتقوم عنه وأنت تشتهيه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪898‬‬
‫صدقت ‪.‬‬
‫كا لدورهم في‬‫صا على العلم والعلماء‪ ،‬مدر ً‬
‫هكذا كان ~ حري ُ‬
‫نهضة المة السلمية ورقيها‪ ،‬فل عجب ق والحال كذلك أن ‪ :‬ينشأ‬
‫ناشيء الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه‪ ،‬فنجد ابنه المأمون يسير‬
‫على الخطى التي رسمها له‪ ،‬وعلمه إياها والده الرشيد‪ ،‬في الحرص‬
‫على العلم والتعلم ‪..‬‬

‫ابن عبدربه‪ :‬العقد الفريد ‪.6/307‬‬ ‫‪898‬‬


‫المأمون‪ ..‬والنهضة العلمية‬
‫نشأة المأمون العلمية‪:‬‬
‫ل العلماء‪ ،‬ويقوم بكل تلك‬‫ج ّ‬ ‫لشك أن رجل ً يحب العلم وي ُ ِ‬
‫المنجزات الحضارية في وقت توليه الحكم‪ ،‬مثل الرشيد‪ ،‬ل شك أن‬
‫اهتمامه بأبنائه‪ ،‬وتربيتهم‪ ،‬وتنشئتهم نشأة علمية رصينة‪ ،‬سيكون‬
‫كبيًرا‪ ،‬ولذا لم يكن غريًبا أن تكون تلك التنشئة العلمية الفذة لولدي‬
‫الرشيد "المين والمأمون"‪ ،‬بل إن بعض المؤرخين قد أطلقوا على‬
‫سّنه ق من‬
‫ف عنه ق منذ حداثة ِ‬
‫المأمون لقب "الخليفة العالم" لما ع ُرِ َ‬
‫ل شديد ٍ على العلم والتعّلم‪ ،‬وقد كان الكسائي معلمه ومؤدبه هو‬
‫ّ‬ ‫إقبا ٍ‬
‫وأخاه المين‪.‬‬
‫كذلك كان من مؤدبيه "أبو محمد إليزيدي" أحد كبار علماء‬
‫عصره‪ ،‬كما سمع من"هشيم بن بشر" الحديث ومن عباد بن العوام‪،‬‬
‫َ‬
‫ب المأمون‬ ‫وأبي معاوية الضرير‪ ،‬وغيرهم من كبار العلماء‪ ،899‬وقد أك َ ّ‬
‫على دراسة الحديث حتى صار من رواته‪ ،‬فسمع منه الكثيرون ورووا‬
‫عنه‪ ،‬ساعده على ذلك ما منحه الله من ذاكرة قوية‪ ،‬كانت مضرب‬
‫المثل‪ ،‬وكان المأمون يقرأ الفقه على "الحسن اللؤلؤي"‪ ،‬ويذكر ابن‬
‫تغري بردي أنه برع في الفقه على مذهب أبي حنيفة النعمان‪.900‬‬
‫وقد قال عنه "الدينوري"‪ :‬إنه نجم ولد العباس في العلم‬
‫والحكمة‪ ،‬أخذ من جميع العلوم بقسط‪ ،‬وضرب فيها بسهم وهو الذي‬
‫استخرج كتاب إقليدس من الروم‪ ،‬وأمر بترجمته وتفصيله‪ ،‬وعقد‬
‫المجالس في خلفته للمناظرة في الديان والمقالت‪ ،‬وكان استاذه‬
‫فيها أبا الهذيل محمد بن الهذيل العلف‪.‬ودخل بلد الجزيرة والشام‪،‬‬
‫حا كثيرة‪ ،‬وأبلي بلء‬ ‫فأقام بها مدة طويلة‪ ،‬ثم غزا الروم‪ ،‬وفتح فتو ً‬
‫ف الخليفة‬
‫حسًنا"‪ ،901‬ويصفه جمال الدين القاسمي بقوله‪" :‬ع ُرِ َ‬
‫المأمون بمحبته للعلم والعلماء‪ ،‬وشغفه بالحكمة والحكماء‪ ،‬بل لم ي َُر‬
‫شق العلوم الحكمية على حداثة سنه‪ ،‬وأقام‬ ‫في أولد الملوك من تع ّ‬
‫بين العلماء لمناظرتهم في جميع أنواع العلوم مثله‪ ،‬وكان مجلسه‬
‫يضم عدد من العلماء والحكماء‪ ،‬وقد ورث ذلك عن أبيه الرشيد‪." ..‬‬
‫‪902‬‬

‫وهكذا نشأ "المأمون" يقبل على فروع المعرفة ويستزيد منها‪،‬‬


‫فهو يهوى العربية والدب‪ ،‬حتى نراه شاعًرا‪ ،‬ويهوى الفقه فيجادل فيه‬

‫‪ 899‬العصامي‪ :‬سمط النجوم العوالي في أنباء الوائل والتوالي ‪.211 / 2‬‬


‫‪ 900‬ابن تغري بردي ‪ :‬المنهل الصافي ‪.445‬‬
‫‪ 901‬الدينوري‪ :‬الخبار الطوال ‪.401‬‬
‫‪ 902‬القاسمي‪ :‬تاريخ الجهمية والمعتزلة ‪.165‬‬
‫الثقات المتخصصين‪ ،‬ويهوى الحديث حتى يؤخذ منه‪ ،‬ثم يهوى‬
‫الفلسفة بعد ذلك‪ ،‬ويكون له معها شأن"‪...903‬‬
‫النهضة العلمية والحضارية في عصر المأمون‪:‬‬
‫شهد عصر المأمون نهضة حضارية كبيرة‪ ،‬فقد كان المأمون‬
‫ما وأديًبا‪ ،‬يحب الشعر ويجالس‬ ‫محًبا للعلم والدب وكان شاعًرا وعال ً‬
‫الشعراء ويشجعهم‪ ،‬وكان يعجب بالبلغة والدب‪ ،‬كما كان للفقه‬
‫نصيب كبير من اهتمامه‪ ،‬وكان العلماء والدباء والفقهاء ل يفارقونه‬
‫في حضر أو سفر‪ ،‬وقد أدى تشجيعه للشعراء في أيامه إلى إعطاء‬
‫الشعر دفعة قوية‪ ،‬وكان تشجيعه للعلوم والفنون والداب والفلسفة‬
‫ذا أثر عظيم في رقيها وتقدمها‪ ،‬وانبعاث حركة أدبية وعلمية زاهرة‪،‬‬
‫ونهضة فكرية عظيمة امتدت أصداؤها من بغداد حاضرة العالم‬
‫السلمي ومركز الخلفة العباسية إلى جميع أرجاء المعمورة‪ ،‬فقد‬
‫ما‪ ،‬وأن يعطي العلم‬ ‫حا حضارًيا عظي ً‬‫استطاع المأمون أن يشيد صر ً‬
‫ة ظّلت آثارها واضحة لقرون عديدة؛ فقد أرسل البعوث إلى‬ ‫ة قوي ً‬
‫دفع ً‬
‫"القسطنطينية" و"السكندرية" و"أنطاكية" وغيرها من المدن للبحث‬
‫عن مؤّلفات علماء اليونان‪ ،‬وأجرى الرزاق على طائفة من‬
‫المترجمين لنقل هذه الكتب إلى اللغة العربية‪ ،‬وأنشأ مجمًعا علمًيا‬
‫في بغداد‪ ،‬ومرصدين أحدهما في بغداد والخر في "تدمر"‪ ،‬وأمر‬
‫الفلكيين برصد حركات الكواكب‪ ،‬كما أمر برسم خريطة جغرافية‬
‫كبيرة للعالم‪.904‬‬
‫ازدهار حركة الترجمة في عصر المأمون‪:‬‬
‫كان لتشجيع المأمون حركة الترجمة أكبر الثر في ازدهارها في‬
‫عهده‪ ،‬فظهر عدد كبير من العلماء الذين قاموا بدور مهم في نقل‬
‫العلوم والفنون والداب والفلسفة إلى العربية‪ ،‬والفادة منها‬
‫وتطويرها‪ ،‬ومن هؤلء‪:‬‬
‫"حنين بن إسحاق" الطبيب البارع الذي أّلف العديد َ من‬
‫المؤّلفات الطبية‪ ،‬كما ترجم عدًدا من كتب أرسطو وأفلطون إلى‬
‫العربية‪.905‬‬
‫"ويوحّنا بن ماسويه" الذي كان يشرف على "بيت الحكمة" في‬
‫بغداد وكان يؤلف بالسريانية والعربية‪ ،‬كما كان متمكًنا من اليونانية‪،‬‬
‫ل‪ ،‬ثم ترجم بعد ذلك‬ ‫وله كتاب طبي عن الحميات اشتهر زمًنا طوي ً‬
‫إلى العبرية واللتينية‪.906‬‬

‫محمد هدارة ‪ :‬المأمون الخليفة العالم ص ‪.110‬‬ ‫‪903‬‬

‫القفطي‪ :‬إخبار العلماء بأخبار الحكماء ‪.120/ 1‬‬ ‫‪904‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء ‪.2/164‬‬ ‫‪905‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء ‪2/109‬‬ ‫‪906‬‬


‫و"ميخائيل بن ماسويه" وكان طبيب المأمون الخاص‪ ،‬وكان‬
‫‪.‬‬ ‫‪907‬‬
‫يكرمه غاية الكرام وكان يثق بعلمه فل يشرب دواًء إل من تركيبه‬
‫ولعل من أبرز السباب التي أدت إلى ظهور تلك النهضة‬
‫الحضارية والعلمية في عصر المأمون‪ ،‬ذلك الهدوء الذي ساد الجواء‬
‫بين الخلفة العباسية والروم‪ ،‬والذي استمر لكثر من عشرة أعوام‪.‬‬
‫فا وترجمة‪،‬‬
‫وهكذا ازدهرت الحركة العلمية في عهد المأمون تألي ً‬
‫واستهل فيها أبو يوسف يعقوب "الك ِْندي" نشاطه العلمي‪ ،‬الذي لم‬
‫يقتصر على التعريف بفلسفة أرسطو وأفلطون عن طريق الترجمة‪،‬‬
‫دى ذلك للتوسع في الفاق العقلية بما أخرج من دراسات في‬ ‫بل تع ّ‬
‫التاريخ الطبيعي‪ ،‬وعلم الظواهر الجوية ‪..‬‬
‫‪908‬‬

‫هذا‪ ،‬ولم يكن نشاط المأمون العلمي مقتصًرا على شراء‬


‫الكتب والتشجيع على التأليف والترجمة‪ ،‬بل كان يسعى إلى إحضار‬
‫ل أصدق ما يدل‬ ‫العلماء الجانب للستفادة من علمهم وخبرتهم‪ ،‬ولع ّ‬
‫على ذلك إلحاح المأمون في طلب العالم الهندسي "ليون" الذي كان‬
‫شا‬‫قد دفن نفسه في أحياء القسطنطينية الفقيرة‪ ،‬وأخذ يعيش عي ً‬
‫طا بتعليم الناس‪ ،‬فاتفق أن كان أحد تلمذته من بين أسرى‬ ‫بسي ً‬
‫المسلمين‪ ،‬فأظهر في إحدى المناسبات معرفته بالستدلل‬
‫ل عليه‪ ،‬فأرسل "المأمون" إليه‬ ‫معلمه د ّ‬ ‫سئ ِ َ‬
‫ل عن ُ‬ ‫ما ُ‬
‫الهندسي‪ ،‬فل ّ‬
‫يدعوه للحضور إلى بغداد‪ ،‬فعرض "ليون" الرسالة على الجهات‬
‫الرسمية في بلده‪ ،‬وعلم المبراطور بها فمنعه من السفر‪ ،‬وكانت‬
‫تلك الرسالة سبًبا في شهرة هذا العالم‪ ،‬وتنّبه بلده إلى عبقريته‪،‬‬
‫وظل المأمون يراسله ويسأله عن أمور في الهندسة والفلك‪.909‬‬
‫اهتمامات المأمون العلمية‪:‬‬
‫دا عن الحاطة ببعض المسائل الهندسية‪،‬‬ ‫لم يكن المأمون بعي ً‬
‫طلع‪ ،‬شغوًفا بالعلم والمعرفة‪ ،‬يقول‪" :‬ل يعرف‬ ‫فقد كان واسع ال ّ‬
‫الهندسة من لم يقرأ كتاب إقليدس"‪ .910‬وإلى جانب ثقافته في العلوم‬
‫سا في‬
‫الحياتية‪ ،‬كان على دراية بالمسائل الفقهية‪ ،‬كما كان لتلقيه درو ً‬
‫علوم القرآن والحديث دوره المهم في تكوينه العلمي‪.‬‬
‫ويدلنا يحيى بن أكثم ) قاضي المأمون( على صورة من مجالس‬
‫المأمون العلمية‪ ،‬فيقول‪ :‬كان إذا حضر الفقهاء ومن يناظرونه من‬
‫سائر العلماء‪ ،‬أدخلهم حجرة مفروشة‪ ،‬ثم أمرهم بالطعام والشراب‪،‬‬

‫السابق ‪.126 /2‬‬ ‫‪907‬‬

‫القفطي ‪ :‬أخبار الحكماء ‪ ،240‬وابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء )‪.(179 /2‬‬ ‫‪908‬‬

‫العصامي‪ :‬النجوم العوالي ‪.2/214‬‬ ‫‪909‬‬

‫انظر العلم للزركلي ‪ ،8/138‬ووفيات العيان ‪.6/147‬‬ ‫‪910‬‬


‫ثم أمر أن يتطيبوا ويتزينوا‪ ،‬حتى يدخلوا عليه فيدنيهم‪ ،‬ويناقشهم‪،‬‬
‫ويناظرهم أحسن مناظرة‪.911‬‬
‫وكان المأمون في سعيه لتثقيف الناس ل يفرق بين علم وآخر‪،‬‬
‫وكانت غايته من كل علم التماس ما ل يسع جهله‪ ،‬أي الخذ من كل‬
‫علم بطرف‪ ،‬ولهذا خاض في كل العلوم والمعارف‪ ،‬ولم يقتصر على‬
‫شيء منها بعينه‪ ،‬حتى إنه كانت له معرفة بالطب‪ ،‬روى أحد الفقهاء‬
‫ضعَ على المائدة‬‫ما فوُ ِ‬‫الذين كانوا يحضرون مجلسه أنه تغذى عنده يو ً‬
‫ف نظر إليه المأمون؛‬ ‫ضع صن ٌ‬ ‫ف متعددة من الطعام‪ ،‬فكّلما وُ ِ‬ ‫أصنا ٌ‬
‫وقال‪ :‬هذا يصلح لكذا‪ ،‬وهذا نافع لكذا‪ ...‬يقول‪ :‬فما زالت تلك حاله‬
‫حتى ُرفَِعت الموائد‪ ،‬فقال له يحيى بن أكثم‪ :‬يا أمير المؤمنين إن‬
‫خضنا في الطب كنت"جالينوس" في معرفته‪ ،‬أو في النجوم كنت‬
‫أبرع من"هرمس" في حسابه‪ ،‬أو في الفقه كنت كعلي بن أبي طالب‬
‫ن النسان إنما فُ ّ‬
‫ض َ‬
‫ل‬ ‫ل‪ :‬يا أبا محمد إ ّ‬‫في علمه‪ ....،912‬فَرد ّ المأمون قائ ً‬
‫م‬
‫على غيره من الهوام بفعله وعقله وتمييزه‪ ،‬ولول ذلك لم يكن لح ٌ‬
‫م أطيب من دم‪.!!913‬‬ ‫أطيب من لحم‪ ،‬ول د ٌ‬
‫وهكذا كان المأمون ق ومن قبله والده الرشيد ق مثال ً لحكام‬
‫قا لرفعة أمتهم‪ ،‬ووصلوا بها إلى‬ ‫المسلمين الذين اتخذوا العلم طري ً‬
‫ذرا المجد‪..‬‬

‫الذهبي‪ :‬تاريخ السلم ‪.432/ 3‬‬ ‫‪911‬‬

‫ول شك أن مقارنته بعلي بن أبي طالب ‪ ‬فيها الكثير من المبالغة غير المقبولة‪.‬‬ ‫‪912‬‬

‫ابن عساكر ‪ :‬تاريخ دمشق ‪.291/ 33‬‬ ‫‪913‬‬


‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الخلفة الموية بالندلس‬
‫)عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم (‬
‫يذكر المؤرخون أن النهضة العلمية في الندلس بدأت متأخرة‬
‫بعض الشيء‪ ،‬وهي التي قام عليها عماد تلك الحضارة العظيمة‪ ،‬التي‬
‫قّلما يجود الزمان بمثلها‪..‬‬
‫والحق أن بوادر تلك النهضة العلمية كانت مع الفاتحين الوائل‪،‬‬
‫الذين كان بينهم العديد من العلماء‪ ،‬في مختلف مجالت الحياة‪ ،‬ثم‬
‫كان أن أنعم الله على الندلس‪ ،‬وشعب الندلس بحكام علماء‪ ،‬نشأوا‬
‫حب العلم وأهله‪ ،‬وعرفوا ما للعلم من أهمية وقيمة في الرقي‬ ‫على ُ‬
‫بمجتمعه وأمتهم‪ ،‬فساعدوا على قيام تلك النهضة العلمية‪ ،‬وكان من‬
‫أعظم هؤلء الخلفاء وأبرزهم" عبد الرحمن الناصر"‪ ،‬وابنه الحكم‬
‫المستنصر‪.‬‬
‫عبد الرحمن الناصر والنهضة العلمية‪:‬‬
‫كان لنشأة الناصر العلمية‪ ،‬وحبه للعلم منذ صغره دور بارز في‬
‫النشاط العلمي الذي حدث للندلس أثناء توّليه الخلفة‪ ،‬فقد درس‬
‫د‪ ،‬وبرع‬
‫عبد الرحمن القرآن والحديث وهو طفل لم يبلغ العاشرة بع ُ‬
‫قى العلم على أيدي‬ ‫في اللغة والحساب وفنون الفروسية‪ ،‬وتل ّ‬
‫محدثين وفقهاء كبار‪ ،‬منهم "قاسم البياني" ‪.‬‬
‫‪914‬‬

‫وعلى الرغم من توّليه السلطة في عهد مليء بالفتن‬


‫والضطرابات‪ ،‬إل ّ أنه استطاع بفطنته وذكائه أن يقضي على كل هذه‬
‫حد البلد تحت إمرته‪ ،‬ويعلن الخلفة الموية بالندلس‪،‬‬ ‫الفتن‪ ،‬ويو ّ‬
‫قب بق"أمير المؤمنين الناصر" ‪ ،‬وبدأ يركز على العلم والعلماء‪،‬‬
‫‪915‬‬
‫وتل ّ‬
‫ومحاولة الترقي العلمي بالندلس؛ لذلك يذكر المؤرخون أن بلط‬
‫الناصر كان يحفل بالكثير من العلماء والدباء‪ ،‬فمنهم ابن عبد ربه‬
‫صاحب "العقد الفريد"‪ ،‬و"منذر بن سعيد"كبير فقهاء عصره ‪،‬و"أبو‬
‫القاسم الزهرواي"الطبيب والجراح الكبير ‪ ،‬وقد كان عبد الرحمن‬
‫جّلهم‪ ،‬ويحرص كل الحرص على إنزالهم ما‬ ‫يكرم هؤلء العلماء‪ ،‬وي ُ ِ‬
‫ما‪ ،‬كما اجتهد في‬‫يليق بهم من مكانة‪ ،‬والسماع لرأيهم ومشورتهم دائ ً‬
‫تخير قضاته من أولي العلم والمعرفة‪.916‬‬

‫محمد عنان‪ :‬تراجم إسلمية ‪.167‬‬ ‫‪914‬‬

‫ابن عذاري‪ :‬البيان المغرب ‪.158/ 2‬‬ ‫‪915‬‬

‫الشبيلي‪ :‬ريحان اللباب وريعان الشباب ‪.1139‬‬ ‫‪916‬‬


‫دا‬
‫هذا وقد بلغ من عناية "الناصر" بالعلم والمعرفة أن بذل جه ً‬
‫‪917‬‬
‫خارًقا في جمع الكتب‪ ،‬كما وضع أساس المكتبة الموية الكبرى‬
‫التي ازدهرت في عهد ابنه "المستنصر"‪ ،‬ورفعت من شأن الندلس‬
‫كمنارة علمية كبرى يقصدها القاصي والداني‪.‬‬
‫وُيذ َ‬
‫كر أنه اشت ُهَِر عنه اهتمامه بالكتب‪ ،‬وولُعه الشديد باقتنائها‪،‬‬
‫حتى بلغ ذلك أحد ملوك عصره‪ ،‬وهو المبراطور البيزنطي‬
‫)أرمانوس( الذي أرسل له هدية علمية‪ ،‬يتوّدده ويأمل أن يحوز رضاه‪،‬‬
‫فأرسل إليه كتابين من تصانيف الوائل‪ ،‬أحدهما في الطب‪ :‬وهو‬
‫كتاب"ديسقوريدس"‪ ،‬والخر في التاريخ‪ :‬وهو كتاب" رهوشيش"‪،‬‬
‫وكان باللتينية‪.918‬‬

‫وبذلك كان عهد الناصر بداية مجيدة‪ ،‬ودفعة قوية‪ ،‬لعصرٍ عظيم ٍ‬
‫ازدهرت فيه العلوم والداب‪ ،‬وانصرف العلماء فيه لتحصيل العلم‬
‫ن كثيًرا‬
‫وتصنيف الكتب في شتى فروع المعرفة‪ ،‬ول ريب في ذلك فإ ّ‬
‫ُ‬
‫دل على ما اّتسم به من مناخ‬ ‫من كتب العلم التي أّلفت في عهده‪ ،‬ل َت َ ُ‬
‫خصب نمت فيه القدرات العلمية‪ ،‬فأعطت ثماًرا يانعة في ميدان‬
‫الفكر‪ ،‬وجعلت من حاضر الخلفة "قرطبة" داًرا للعلوم‪ ،‬ومركًزا‬
‫ما استقطب العلماء من نواحي الندلس المختلفة‪ ،‬بل ومن‬ ‫ثقافًيا مه ً‬
‫خارجها‪ ،‬في صورة تؤكد عظمة ذلك العصر‪ ،‬ومدى اهتمام الناصر‬
‫ذ‪.‬‬ ‫بالعلم والعلماء حينئ ِ ٍ‬
‫كر من اهتمامه بعلوم الحياة أن حركة الشتغال بالطب ق‬‫ُيذ َ‬
‫مثل ً ق بدأت في عصره تأخذ أبعاًدا جديدة‪ ،‬فتتبعت الخيرات في أيامه‪،‬‬
‫ودخلت الكتب الطبية من المشرق‪ ،‬وقامت الهمم‪ ،‬وظهر الكثير من‬
‫الطباء المشهورين في دولته‪.‬‬
‫ومن أهم تلك الكتب كتاب "زاد المسافر" الذي نقله الطبيب‬
‫لمة )ابن بريق(‪ ،‬الذي كان من أمهر أطباء الندلس‪ ،‬ودرس الطب‬ ‫الع ّ‬
‫في القيروان على يد )ابن الجزار( ستة أشهر‪ ،‬ثم عاد للندلس بهذا‬
‫الكتاب‪ ،‬فأحسن الناصر وفادته‪ ،‬وأجزل له العطاء‪..‬‬
‫وكان الخلفاء يحرصون على أن يكون في قصورهم عدد من‬
‫الطباء البارعين المهرة‪ ،‬لحاجتهم إليهم في التداوي‪ ،‬ولهذا اشتغل‬
‫رفوا بخدمة الخلفاء‪ ،‬وممارستهم‬ ‫الكثير من الطباء الندلسيين‪ ،‬وع ُ ِ‬
‫الطب في قصورهم‪ ،‬فمنهم أصبغ القرطبي‪ ،‬الذي خدم عبد الرحمن‬
‫الناصر‪ ،‬وكذلك ابن بريق‪ ،..‬ومنهم "سليمان بن باج" الذي عرف‬
‫الناصر عنه تمك َّنه العميق في الطب وتركيب الدوية‪ ،‬فقّربه منه‪،‬‬
‫وأصبح طبيبه الخاص‪ ،‬وكذا نال يحيى بن إسحاق مكانة رفيعة عند‬

‫ماهر حمادة‪ :‬المكتبات في السلم ص ‪.122‬‬ ‫‪917‬‬

‫الشبيلي‪ :‬ريحان اللبان وريعان الشباب "مخطوطة" ‪.1139‬‬ ‫‪918‬‬


‫الناصر نظًرا لما تمتع به من سعة العلم والسيرة الحسنة‪ ،‬مما جعله‬
‫يوليه الوزارة‪.919‬‬
‫تقديره للعلماء‪:‬‬
‫لما بنى الناصر مدينة "الزهراء" واستفرغ جهده في زخرفتها‬
‫وتنميقها وإتقان قصورها‪ ،‬كان من انهماكه بذلك أن تخّلف مرة عن‬
‫شهود الجمعة في المسجد الجامع بقرطبة‪ ،‬والمفروض أن يشهدها‬
‫ما حضر لصلة‬ ‫في المسجد الجامع ل في غيره بحكم وليته‪ .‬فل ّ‬
‫الجمعة بعد افتتاح "الزهراء" ‪ -‬وكان القاضي "المنذر بن سعيد"‬
‫ن ب ِك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ع‬‫ري ٍ‬ ‫ل ِ‬ ‫يخطب في المسجد‪ ،‬بدأ خطبته بقوله تعالي‪ :‬أت َب ُْنو َ‬
‫م‬
‫شت ُ ْ‬ ‫ذا ب َطَ ْ‬ ‫وإ ِ َ‬
‫ن َ‬ ‫دو َ‬ ‫خل ُ ُ‬‫م تَ ْ‬ ‫عل ّك ُ ْ‬ ‫ع لَ َ‬
‫صان ِ َ‬ ‫م َ‬‫ن َ‬ ‫ذو َ‬ ‫خ ُ‬‫وت َت ّ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫عب َُثو َ‬ ‫ة تَ ْ‬ ‫آي َ ً‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫وات ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫فات ّ ُ‬‫ن َ‬ ‫َ‬
‫ب َط ْ‬
‫مدّك ْ‬ ‫ذي أ َ‬ ‫قوا ال ِ‬ ‫ن َ‬ ‫عو ِ‬ ‫طي ُ‬ ‫وأ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫ري َ‬ ‫جّبا ِ‬‫م َ‬ ‫شت ُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫خا ُ‬ ‫ن إ ِّني أ َ‬ ‫عُيو ٍ‬‫و ُ‬ ‫ت َ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫و َ‬ ‫ن َ‬ ‫وب َِني َ‬ ‫عام ٍ َ‬ ‫م ب ِأن ْ َ‬ ‫مدّك ُ ْ‬ ‫نأ َ‬ ‫مو َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫بِ َ‬
‫ظيم ٍ‪. ‬‬ ‫ع ِ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ب يَ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫ع َ‬
‫م َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫‪920‬‬
‫َ‬
‫ومضى في هذه الطريقة والتذكير الخاشع‪ ،‬والموعظة المؤثرة‪،‬‬
‫والقول البليغ في النفوس والقلوب ‪ -‬وما زال بالقوم حتى أخذ منهم‬
‫ج المسجد على رحبه بالبكاء‪ ،‬وأخذ الخليفة‬ ‫ض ّ‬
‫الخشوع كل مأخذ‪ ،‬و َ‬
‫من تلك الكلمات اليمانية الصادقة بأوفر نصيب‪ ،‬فبكى وندم على ما‬
‫حا ماضًيا يعمل‬‫حصل من التفريط‪ ،‬وكانت كل كلمة بالنسبة إليه سل ً‬
‫عمله متخطًيا كل الحواجز والعتبارات‪ .‬غير أن الخليفة ‪ -‬على كل‬
‫تأثره ‪ -‬وجد بعض الشيء على المنذر‪ ،‬وشكا ذلك لولده الحكم وقال‬
‫مدني منذر بخطبته‪ ،‬وما عنى بها‬ ‫‪ -‬وقد أتعبته نفسه ‪ :-‬والله لقد تع ّ‬
‫ي‪ ،‬وأفرط في تقريعي‪ ،‬ولم يحسن السياسة في‬ ‫غيري‪ ،‬فأسرف عل ّ‬
‫م أقسم أل ّ يصلي خلفه صلة الجمعة‪ ،‬فجعل يلزم صلتها‬ ‫وعظي‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫وراء أحمد بن مطرف صاحب الصلة بقرطبة‪ ،‬ويجانب الصلة في‬
‫الزهراء؛ عند ذلك قال له ابنه الحكم‪ :‬ما الذي يمنعك من عزل منذر‬
‫دت الصالة وغلب الدين‪ ،‬إذ قال‬ ‫عن الصلة بك إذا كرهته؟ وهنا تب ّ‬
‫الخليفة للحكم بعد أن زجره‪ :‬أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره‬
‫م لك ‪ُ -‬يعَزل لرضاء نفس ناكبة عن الرشد‪ ،‬سالكة غير‬ ‫ُ‬
‫وعلمه ‪ -‬ل أ ّ‬
‫القصد؟ هذا ما ل يكون‪ ،‬وإني لستحيي من الله أل أجعل بيني وبينه‬
‫في صلة الجمعة شفيًعا مثل منذر في ورعه وصدقه‪ ،‬ولكن أحرجني‬
‫ت أن أجد سبيل ً إلى كفارة يميني بملكي‪ ،‬بل يصّلي‬ ‫فأقسمت‪ ،‬ولوَد ِد ْ ُ‬
‫دا‪.‬‬
‫بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعإلي‪ ،‬فما أظننا نعتاض عنه أب ً‬
‫فهذه مكانة العلماء عند الناصر‪ ،‬مكانة عظيمة‪ ،‬يعرف بها‬
‫ة عليه‪.‬‬
‫در موعظتهم ولو كانت ثقيل ً‬‫حقهم‪ ،‬ويق ّ‬

‫انظر ابن جلجل‪ :‬طبقات الطباء ‪.110‬‬ ‫‪919‬‬

‫)الشعراء‪.(128:135 :‬‬ ‫‪920‬‬


‫الحكم المستنصر ودور العلم في حياته‪:‬‬
‫كان لنشأة المستنصر العلمية‪ ،‬على يد والده الناصر‪ ،‬أثٌر بالغٌ‬
‫في تشكيل وعيه العلمي المبكر‪ ،‬فقد درس على أيدي نخبة من كبار‬
‫علماء عصره‪ ،‬منهم "محمد القرطبي"‪ ،‬الذي درس عليه علوم اللغة‬
‫والحساب‪ ،‬والدب والنحو‪ ،‬وأفاد منه دراسة العلوم بطريقة تحليلية‬
‫عميقة‪ ،‬كما درس علوم الدين على يد العلمة "ابن أصبغ"‪ ،‬وأخذ‬
‫علوم التاريخ عن "علي الرعيني"‪ ،‬فكان لكل هؤلء العلماء وغيرهم‬
‫أعمق الثر في تكوين شخصية الحكم العلمية‪..921‬‬
‫وقد نتج عن إقبال الحكم على دراسة العلوم والداب‪،‬‬
‫ون لديه‬‫ومجالسته للعلماء أن أصبح شغوًفا بالعلم وتحصيله‪ ،‬مما ك ّ‬
‫دون‬‫ذة‪ ،‬جعلت المؤرخين والعلماء يشيدون به‪ ،‬ويعت ّ‬ ‫شخصية علمية ف ّ‬
‫جة لدى العلماء‬ ‫ح ّ‬
‫بآرائه‪ ،‬ومن المثلة على أن أقوال "الحكم" كانت ُ‬
‫ما أشار إليه "الحميدي" عند ترجمته لبن عبد ربه‪ ،‬إذ قال‪" :‬هذا آخر‬
‫ما رأيت بخط الحكم المستنصر ‪ -‬وخطه حجة عند أهل العلم ‪ -‬؛ لنه‬
‫ما ثبًتا‪..."922‬‬
‫كان عال ً‬
‫ما ثبًتا"؛ فإن العصر سيكون‬ ‫ول شك أنه إذا كان الخليفة "عال ً‬
‫عصر العلم والعلماء‪ ،‬والرقي والزدهار للندلس على نحو ما رأينا!!‪،‬‬
‫وهكذا قدم المستنصر إلى الحركة العلمية في الندلس دفعة كبرى‬
‫ما مادّيا‪ ،‬بأن وضع كتاًبا في‬
‫من النشاط‪ ،‬بل إنه أسهم فيها إسها ً‬
‫)أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب(‪ ،‬وذلك لسعة‬
‫معرفته بالتاريخ والنساب ‪..923‬‬
‫وكان لغلبة النشاط العلمي في عهد الحكم المستنصر أثر في‬
‫ذهاب بعض المستشرقين إلى القول بأن "انصراف الحكم إلى العلم‬
‫واهتمامه بالكتب والعناية بها‪ ،‬قد أّدى إلى عدم تطلعه للغزو‬
‫والجهاد‪ 924"..‬وهذا المر غير صحيح على إطلقه‪ ،‬فلم يكن خلفاء‬
‫المسلمين وعلمائهم ليهتموا بجانب على حساب جانب آخر‪ ،‬ولو أمعّنا‬
‫م ‪ -‬إلى جانب اهتمامه بالعلم‬ ‫ح َ‬
‫كم‪ ،‬لوجدناه قد اهت ّ‬ ‫النظر في سيرة ال َ‬
‫‪ -‬بالجهاد والغزو‪ ،‬وهذا ما يثبته المؤّرخون‪ ،‬فيذكر الحميدي أنه "واصل‬
‫كد ابن الخطيب أنه‬ ‫غزو الروم‪ ،‬ومن خالفه من المحاربين"‪ ،925‬ويؤ ّ‬
‫كان "ذا همة عالية في الجهاد‪ ،‬جعلت ملوك عصره يهادنونه‬
‫ويسالمونه‪ ،‬لقوته وبأسه"‪ ،926‬هذا كله بالضافة إلى أن عصر الحكم‬
‫كان عصر سلم نسبي مع ممالك النصارى‪ ،‬واستقرار لشتى مناطق‬
‫ري‪ :‬نفح الطيب ‪.395/ 1‬‬‫ق ِ‬‫الم ّ‬ ‫‪921‬‬

‫الحميدي‪ :‬جذوة المقتبس في ذكر ولة الندلس ص ‪.101‬‬ ‫‪922‬‬

‫قري‪ :‬نفح الطيب ‪.60/ 3‬‬‫الم ّ‬ ‫‪923‬‬

‫لين بول‪ :‬قصة العربي في أسبانيا‪ ،‬ترجمة علي الجارم ص ‪.141‬‬ ‫‪924‬‬

‫الحميدي‪ :‬جذوة المقتبس في ذكر ولة الندلس ‪.6‬‬ ‫‪925‬‬

‫لسان الدين بن الخطيب‪ :‬الحاطة في أخبار غرناطة ‪.478 / 1‬‬ ‫‪926‬‬


‫الندلس‪ ،‬وذلك بعد جهود أبيه )الناصر( وما عقده من معاهدات صلح‬
‫مع ملوك النصارى‪.‬‬
‫وقد اتبع الحكم وسائل عديدة لنشر العلم في البلد‬
‫فمنها‪:‬‬
‫‪1‬ق العناية بالعلوم وتشجيع العلماء على البحث والتأليف‪ :‬فقد‬
‫سعى إلى تقريب أولي العلم والمعرفة وإكرامهم‪ ،‬وتهيئة المناخ‬
‫كنهم من النصراف إلى العلم والبحث العلمي‪،‬‬ ‫الملئم الذي يم ّ‬
‫سر السبل أمام إنتاجهم الفكري حسب تخصص كل‬ ‫وبالتالي فقد ي ّ‬
‫منهم‪ ،‬وفي هذا يقول الشبيلي‪" :‬وفي أيامه كث َُر العلماء وأدلوا بما بما‬
‫ُ‬
‫فت التصانيف"‪..927‬‬ ‫عندهم‪ ،‬وأّلفت التوإليف‪ ،‬و ُ‬
‫صن ّ َ‬
‫ولذلك ل غرابة أن نجد في عصره كثيًرا من العلماء المبّرزين‬
‫في شتى ميادين العلم‪ ،‬فبرز في علوم الدين‪ :‬الليثي‪ ،‬والثغري‪ ،‬وابن‬
‫الفخار‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وفي ميدان الدب واللغة برز أبو علي القإلي‪ ،‬وابن‬
‫فار‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬وفي الطب‪ :‬أحمد الحّراني‪ ،‬والّزهراوي‪ ،،‬وفي‬ ‫الص ّ‬
‫الرياضيات والفلك والجغرافيا برع المجريطي‪ ،‬وابن السمح وغيرهم‬
‫من العلماء الذين أسهموا في ازدهار العلوم والداب بما أضافوه من‬
‫أنواع النتاج العلمي القيم‪..‬‬
‫ما بالًغا بالكتب‪ ،‬وسار على نهج والده في‬
‫‪ 2‬ق اهتم الحكم اهتما ً‬
‫ذلك‪ ،‬في الحرص على جمع كل المؤّلفات في مكان واحد‪ ،‬ذلك أنه‬
‫رأى أّنه لن يتم النشاط العلمي إل بتوافر المؤلفات في شتى‬
‫المجالت‪ ،‬وحتى يتمكن المشتغلون بالعلم وطلب العلم على السواء‬
‫من تحصيله بأيسر الطرق‪.‬‬
‫‪3‬ق توفير المكان المناسب لطلبة العلم‪ ..‬تمّثل ذلك في مكتبة‬
‫ولت إلى ما يشبه الجامعة بمفهومنا المعاصر‪ ،‬لنها‬ ‫"قرطبة" التي تح ّ‬
‫جا من الكتب‪،‬‬ ‫كانت بحق )دار العلوم( ‪ ،‬حيث كانت تستقبل أفوا ً‬
‫‪928‬‬

‫التي كان المستنصر قد أوصى بها أعوانه المنتشرين في كل مكان‬


‫ذ‪ ،‬وهكذا رسم المستنصر خطة لنشاء‬ ‫من العالم السلمي يومئ ِ ٍ‬
‫مكتبة عامرة تكون عوًنا لطلب العلم‪ ،‬ومرجًعا أساسًيا لكل من أراد‬
‫الستزادة‪ ،‬فقد ورث عن أبيه ثروة طيبة من الكتب كانت النواة‬
‫دها بذخائر‬
‫ماها الحكم‪ ،‬وأم ّ‬‫والساس لمكتبة قرطبة العظيمة‪ ،‬التي ن ّ‬
‫نفيسة من التأليف العلمية‪ ،‬حتى أصبحت في صورة فريدة لم يجمع‬
‫مثلها أيّ خليفة في السلم‪ ،‬وبلغ من ضخامة محتويات تلك المكتبة‬
‫أن اشت ُهَِر أمُرها في الوساط العلمية في العالم السلمي‪ ،‬حتى‬

‫‪ 927‬الشبيلي‪ :‬ريحان اللباب " مخطوطة"‪.‬‬


‫‪ 928‬انظقر الفصل الخاص بقرطبة ص‪ ...‬من هذا الكتاب‪.‬‬
‫أصبحت مثل ً بارًزا على الزدهار العلمي والنشاط الفكري‪ ،‬وغدت من‬
‫أعظم خزائن الكتب في السلم‪..929‬‬
‫يذكر ابن البار في حديثه عن الحكم أنه‪" :‬كان حسن السيرة‬
‫صا على اقتناء دواوينها‪ ،‬يبعث فيها‬ ‫فاضل ً عادل ً مشغوًفا بالعلوم‪ ،‬حري ً‬
‫إلى القطار والبلدان‪ ،‬ويبذل في أعلقها ودفاترها أنفس الثمان‪،‬‬
‫ك سوق‪ ،‬ما نفق فيها‬ ‫مل ْ ُ‬
‫مَلت من كل جهة إليه‪ ،‬وال ُ‬ ‫ح ِ‬‫ونفق ذلك لديه‪ ،‬ف ُ‬
‫صت بها بيوته‪ ،‬وضاقت عنها خزائنه "‪.‬‬
‫‪930‬‬
‫ب إليها‪ ،‬حتى غ ّ‬ ‫جل ِ َ‬
‫ُ‬
‫كم‪" :‬كان من أهل الدين والعلم‪،‬‬ ‫ح َ‬
‫قال ابن حيان عند ذكر ال َ‬
‫راغًبا في جمع العلوم الشرعية من الفقه والحديث وفنون العلم‪،‬‬
‫صا على تأليف قبائل العرب وإلحاق من درس‬ ‫باحًثا عن النساب‪ ،‬حري ً‬
‫نسبه أو جهله بقبيلته التي هو منها‪ ،‬مستجلًبا للعلماء ورواة الحديث‬
‫من جميع الفاق‪ ،‬يشاهد مجالس العلماء ويسمع منهم ويروى‬
‫عنهم"‪..931‬‬
‫معْ في السلم بخليفة بلغ مبلغ الحكم في اقتناء الكتب‬ ‫ولم ُيس َ‬
‫وه بأهله‬ ‫والدواوين وإيثارها والهتمام بها‪ ،‬فلقد أفاء على العلم‪ ،‬ون ّ‬
‫صلته إلى فقهاء المصار‬ ‫س في طلبه‪ ،‬ووصلت عطاياه و ِ‬ ‫ور ّ‬
‫غب النا َ‬
‫النائية عنه‪ ،‬ومنهم أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان بمصر‪،‬‬
‫دي وغيرهما؛ جرى ذ ِك ُْر هذا‬ ‫وأبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الك ِن ْ ِ‬
‫في كتب تواريخهم‪.‬‬
‫وكان له وّراقون بأقطار البلد ينتخبون له غرائب التوإليف‪،‬‬
‫ورجال يوجههم إلى الفاق عنها‪ .‬ومن وَّراقيه ببغداد محمد بن‬
‫طرخان‪ ،‬ومن أهل المشرق والندلس جماعة‪ ،‬وكان مع هذا كثير‬
‫الهتمام بكتبه والتصحيح لها والمطالعة لفوائدها‪ ،‬وقّلما تجد له كتاًبا‬
‫كان في خزانته إل وله فيه قراءة ونظر من أي فن كان من فنون‬
‫العلم‪ :‬يقرؤه ويكتب فيه بخطه ‪ -‬إما في أوله أو آخره أو في تضاعيفه‬
‫‪ -‬نسب المؤلف ومولده ووفاته والتعريف به‪ ،‬ويذكر أنساب الرواة له‪،‬‬
‫ويأتي من ذلك بغرائب ل تكاد توجد إل عنده‪ ،‬لكثرة مطالعته وعنايته‬
‫جة عند‬ ‫بهذا الفن‪ .‬وكان موثوًقا به مأموًنا عليه‪ .‬صار كل ما كتبه ُ‬
‫ح ّ‬
‫شيوخ الندلسيين وأئمتهم‪ ،‬ينقلونه من خطه ويحاضرون به" ‪.‬‬
‫‪932‬‬

‫وقال أبو محمد بن حزم في كتاب جمهرة النساب من تأليفه‪،‬‬


‫ما في هدوء وعلو‪ .‬وكان‬
‫وذكر الحكم‪" :‬اتصلت وليته خمسة عشر عا ً‬
‫قا بالرعية‪ ،‬محًبا في العلم‪ ،‬مل الندلس بجميع كتب العلوم‪.‬‬
‫رفي ً‬
‫وأخبرني تليد الفتى ‪ -‬وكان على خزانة العلوم بقصر بني مروان‬
‫القلقشندي‪ :‬صبح العشى ‪.1/466‬‬ ‫‪929‬‬

‫ابن البار‪ :‬الحلة السيراء ‪.201/ 1‬‬ ‫‪930‬‬

‫الحميدي‪ :‬جذوة المقتبس ‪.125/ 2‬‬ ‫‪931‬‬

‫الحميدي‪ :‬جذوة المقتبس في ذكر ولة الندلس ‪.125/ 2‬‬ ‫‪932‬‬


‫بالندلس ‪ -‬أن عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الكتب أربع‬
‫وأربعون فهرسة‪ ،‬في كل فهرسة خمسون ورقة‪ ،‬ليس فيها إل ذكر‬
‫أسماء الدواوين فقط"‪.933‬‬
‫فإذا كان هذا الحال مع الدواوين ) تتجاوز اللفي ديوان( فما‬
‫بالنا بمصنفات العلم وكتب المعرفة الخرى‪ ،‬التي ول شك ستكون‬
‫أعظم وأكثر عدًدا!! بالضافة إلى أن تلك المقولة تشير إلى ما‬
‫ن مواد المكتبة مرتبة تبًعا‬
‫امتازت به تلك المكتبة من تنظيم‪ ،‬إذ إ ّ‬
‫لمواضيعها‪ ،‬ولكل موضوع فهرسه الخاص‪ ،‬وهي ما يعرف بالفهرسة‬
‫الموضوعية الموجودة في مكتبات اليوم‪.‬‬
‫ري عند حديثه عن مكتبة المستنصر‪" :‬أنه جمع من‬ ‫ق ِ‬
‫وذكر الم ّ‬
‫الكتب مال يحد ول يوصف كثرة ً ونفاسة‪ ،‬حتى قيل‪ :‬إنها كانت‬
‫أربعمائة ألف مجلد‪ ،‬وأنهم لما نقلوها أقاموا ستة أشهر في نقلها" ‪.‬‬
‫‪934‬‬

‫وقد أشار إلى هذا العدد الهائل من الكتب الكثير من الكتاب‬


‫المحدثين ممكن كتبوا عن هذا الخليفة و تحدثوا عن سيرته العلمية‪،‬‬
‫بل إن المستشرقة اللمانية "زيغريد هونكه" تشير إلى أن تلك‬
‫ب‪...935‬‬
‫المكتبة ضمت نصف مليون كتا ٍ‬
‫وهكذا أسهمت هذه المكتبة‪ ،‬وذلك الهتمام البالغ بالعلم‬
‫حا على‬‫والعلماء في نهضة غير مسبوقة للندلس‪ ،‬غدت دليل ً واض ً‬
‫مدى ما حققه الحكم المستنصر للحركة العلمية من جهود‪ ،‬وما حققه‬
‫الندلسيون في ميدان العلم‪ ،‬جعلتهم يصفون قصر الحكم بأنه "مصنع‬
‫حّلون الكتب‬ ‫ساخون والمجّلدون والمزخ ِ‬
‫رفون ي ُ َ‬ ‫ل ي َُرى فيه إل الن ّ ّ‬
‫بالمنمنمات والرسوم الجميلة" ‪.‬‬
‫‪936‬‬

‫ة‬
‫ن الوّراقين قد نالوا من وراء علمهم هذا منزل ً‬ ‫والجدير بالذكر أ ّ‬
‫ة من الّثراء‪ ،‬كل ذلك‬
‫ة طيب ً‬
‫ة في المجتمع‪ ،‬كما أنهم بلغوا درج ً‬ ‫رفيع ً‬
‫من اهتمام الخليفة بالعلم‪ ،‬والعلماء والكتب‪..‬‬
‫ولهمية النسخ في النشاط العلمي باعتباره وسيلة من وسائل‬
‫حفظ العلوم وصيانتها من الضياع‪ ،‬ونشرها بين الناس‪ ،‬فقد اهتم‬
‫ة بالعلم من أجل ذلك‪،‬‬
‫الخلفاء باستقدام أمهر الكتاب‪ ،‬وأشدهم عناي ً‬
‫بل وتذكر صاحبة كتاب )فن التجليد عند المسلمين( إلى أن ذلك‬
‫‪937‬‬

‫دى إلى المجّلدين المختصين بالشكل الخارجي للكتاب‬ ‫الهتمام تع ّ‬


‫وتجليده‪ ،‬وإخراجه في أحسن صوره‪.‬‬

‫ابن حزم ‪ :‬جمهرة أنساب العرب ‪44/ 1‬‬ ‫‪933‬‬

‫المقري‪ :‬نفح الطيب ‪.395 /1‬‬ ‫‪934‬‬

‫زيجريد هونكه‪ :‬شمس العرب تسطع على الغرب ‪.353‬‬ ‫‪935‬‬

‫إنجل جونثالث بالنثيا‪ :‬تاريخ الفكر الندلسي )ترجمة‪ :‬حسين مؤنس( ‪.10‬‬ ‫‪936‬‬

‫اعتماد القصيري‪ :‬فن التجليد عند المسلمين ص ‪.30‬‬ ‫‪937‬‬


‫جهوده في نشر التعليم‪:‬‬
‫يضاف إلى ذلك جهود الخليفة المستنصر في رفع شأن التعليم‬
‫في بلده‪ ،‬وتيسيره لرعيته‪ ،‬فيذكر ابن عذاري أنه‪" :‬أمر بإنشاء سبٍع‬
‫ث منها بالمسجد الجامع بقرطبة‪ ،‬والباقي‬‫حق ثل ٌ‬‫ة ُيل َ‬
‫وعشرين مكتب ً‬
‫فّرقه على أنحاء ُقر ُ‬
‫طبة‪ ،‬وعّين فيها العلماء والفقهاء للقيام بتدريس‬
‫النشء في تلك المكتبات‪ ،‬وأجرى عليهم المرتبات‪ ،‬وأغدق عليهم‬
‫الصلت‪ ،‬وبال َغَ في تعليم أطفال المسلمين"‪.938‬‬
‫دم‪ ،‬بل كان يسعى‬ ‫ولم يقتصر الخليفة الحكم على ما تق ّ‬
‫للفضل في سبيل الترقي بالمستوى العلمي لرعيته‪ ،‬فقد أنشأ‬
‫"حوانيت خاصة" بقرطبة لتعليم أولد الضعفاء والفقراء؛ مما يدل‬
‫على أن الحكم قد أتاح الفرصة لجميع أفراد المجتمع في الستفادة‬
‫مما هيأه لهم من سبل اكتساب العلم والمعرفة‪ ،‬فلم يعد العلم‬
‫قاصًرا على ذوي المقدرة المادية من الناس‪ ،‬بل غدت فرص التعليم‬
‫متاحة لكل من يريد‪.‬‬
‫الحكم و علماء الشرع‪:‬‬
‫ولم يقتصر اهتمام الحكم على حد ّ نشر العلم والمعرفة‪،‬‬
‫والهتمام بالعلوم الحياتية فحسب‪ ،‬بل كان ‪ -‬كما ذكرنا ‪ -‬يحمل كل‬
‫الجلل والكبار لعلماء الشرع‪ ،‬ويوّقرهم‪ ،‬ويستشيرهم في كل أموره‪،‬‬
‫من ذلك أنه أراد ~ أن يقطع شجرة العنب من الندلس‪ ،‬في محاولة‬
‫منه للقضاء على الخمور‪ ،‬فاستشار الفقهاء في ذلك‪ ،‬فذكروا له أنها‬
‫ف عن ذلك‪ ،939‬وفي ذلك إشارة‬ ‫قد ُتصَنع من غيرها ) أي الخمور(‪ ،‬فك َ ّ‬
‫داّلة إلى مكانة هؤلء العلماء‪ ،‬وما وصلوا إليه وما بلغوه من احترام‬
‫وتعظيم‪.‬‬
‫صا على تعليم ابنه "هشام المؤّيد" على يد كبار علماء‬ ‫كما كان حري ً‬
‫الفقه في الندلس‪ ،‬وهو" يحيى الليثي" ~‪ ،‬الذي كان مجلسه من‬
‫أشهر المجالس العلمية في قرطبة‪ ،‬وكان يتوافد عليه الطلب من‬
‫شّتى أقطار الندلس لينهلوا من علمه‪ ،‬ومن بينهم ابن الخليفة‪،‬‬
‫يجلس مع طلبة العلم‪ ،‬كواحد منهم‪ ،‬وقد حمل في نفسه ما رّباه عليه‬
‫ل وإكبارٍ للعلم والعلماء‪..940‬‬
‫والده‪ ،‬من إجل ٍ‬
‫صل العلم من‬ ‫ولما نبغ الفقيه "عبد الله بن القاسم الثغري"‪ ،‬وح ّ‬
‫أقطار المشرق والمغرب‪ ،‬حتى شبهه أصحابه بسفيان الثوري‪ ،‬لم‬
‫يكن من الخليفة المستنصر إل أن و ّ‬
‫له القضاء على بلده‪ ،‬تقديًرا‬
‫لدوره‪ ،‬وعلمه‪ ،‬بالضافة إلى أنه كان يشجع العلماء على البحث‬

‫ابن عذاري‪ :‬البيان المغرب ‪.2/240‬‬ ‫‪938‬‬

‫المقري‪ :‬نفح الطيب ‪.395 / 1‬‬ ‫‪939‬‬

‫الحميدي‪ :‬جذوة المقتبس ‪.98‬‬ ‫‪940‬‬


‫والدرس‪ ،‬فهو الذي جعل الفقيه "محمد بن الحارث الخشني" يؤّلف‬
‫عدًدا من الكتب يذكر ابن الفرضي أنها بلغت ألف كتاب‪.!!941‬‬
‫ي بتأييد الخليفة‪ ،‬وتشجيعه‪،‬‬
‫حظ ِ َ‬
‫ولم يكن "الخشني" وحده من َ‬
‫بل كان إلى جانبه عدد كبير من العلماء والفقهاء‪ ،‬منهم " أبو بكر‬
‫ما كبيًرا بالدراسات الفقهية‪ ،‬وأّلف‬‫محمد بن يحيى" الذي أظهر اهتما ً‬
‫كتًبا كثيرة في ذلك‪ ،‬منها كتاب خاص عن "فقه التابعين"‪ ،‬ولمعرفته‬
‫ة القضاَء‪ ،‬وأجزل له‬
‫له الخليف ُ‬‫الواسعة بالفقه وأحكام الشريعة‪ ،‬و ّ‬
‫العطاء‪.942‬‬
‫كما يذكر ابن الفرضي )في تاريخ علماء الندلس( أن "محمد‬
‫بن عبد الله بن سيد" نال منزلة سامية لدى الخليفة الحكم‪ ،‬وبتشجيع‬
‫منه كتب له كتاب ) المستخرجة( وهو كتاب فقهي في الفقه‬
‫المالكي‪.943‬‬
‫ومن علماء الحديث الذين قّربهم "الحكم" كان )قاسم بن أصبغ‬
‫فاظ الحديث في زمانه‪ ،‬ومن ألمع‬ ‫البياني( ~‪ ،‬الذي ي ُعَد ّ من كبار ح ّ‬
‫ن أخرجته الندلس في هذا الميدان‪ ،‬رحل إلى المشرق فأخذ العلم‬ ‫م ْ‬
‫َ‬
‫من" القيروان ومصر وبغداد والمدينة" ثم عاد إلى الندلس‪ ،‬فتهافت‬
‫ب "المستنصر" بجهوده‪ ،‬فقّربه‬ ‫ُ‬
‫ج َ‬
‫عليه طلب العلم من كل مكان‪ ،‬وأع ِ‬
‫ب في الحديث‪ ،‬فصّنف كتاًبا في السنن‬ ‫منه‪ ،‬بل وأمره بتأليف كتا ٍ‬
‫المسندة فيه ‪ 2494‬حديًثا ‪.‬‬
‫‪944‬‬

‫جع المستنصر المحدث "يعيش بن سعيد الوراق" على‬ ‫كما ش ّ‬


‫تأليف كتاب في الحديث سماه )مسند ابن الحمر( نسبة إلى "محمد‬
‫بن معاوية القرشي"‪ ،945‬ول شك أن في اهتمام المستنصر بإخراج‬
‫مصنف في حديث )ابن الحمر( ما يدل على مكانته العلمية‪ ،‬وما‬
‫يتمتع به من منزلة علمية كبيرة بين أهل الحديث‪ ،‬ويدلنا كذلك على‬
‫إحاطة الخليفة بكبار أهل الحديث في عصره‪ ،‬وإنزالهم منازلهم‪.946‬‬
‫وكان لبن الحمر إسهام في حركة النتاج العلمي المتصل بالحديث‪،‬‬
‫فقد أّلف مسن ً‬
‫دا في الحديث فيه أربعة آلف وثلثون حديًثا‪..‬‬
‫وكذلك ما فعله الحكم )وقت أن كان ولًيا للعهد( من اهتمام‬
‫بمحمد بن مفرح القرطبي‪ ،‬الذي كان قد رحل للمشرق في طلب‬
‫ما عاد للندلس‪ ،‬أرسل في طلبه‪ ،‬وأكرمه‪ ،‬ورفع مكانته بين‬‫العلم‪ ،‬فل ّ‬
‫‪ 941‬ابن الفرضي‪ :‬تاريخ علماء الندلس ‪.190‬‬
‫‪ 942‬ابن الفرضي‪ :‬تاريخ علماء الندلس ‪.191‬‬
‫‪ 943‬السابق ‪.192‬‬
‫‪ 944‬المقري‪ :‬نفح الطيب ‪169 /3‬‬
‫‪ 945‬وهو غير سعيد بن الحمر‪ ،‬ذكره الذهبي في تاريخه بأنه محدث الندلس ومسندها الثقة‪،‬‬
‫وكان الوراق من أروى الناس عنه‪ ،‬وانظر سير أعلم النبلء ‪68 /16‬‬
‫‪ 946‬انظر سيرة ابن الحمر المحدث في‪ :‬جذوة المقتبس للحميدي ق ‪ ،386‬وتاريخ علماء‬
‫الندلس لبن الفرضي‪ ،‬وابن خير الشبيلي في"الفهرسة"‬
‫علماء الحديث‪ ،‬فصّنف له مؤلفات عديدة في مختلف ضروب‬
‫المعرفة‪.947‬‬
‫وكان من متابعاته للعلماء‪ ،‬أن تابع النشاط العلمي للعلمة‬
‫ري "عبد الملك البجاني"‪ ،‬الذي رحل للمشرق‪ ،‬وأخذ عن علمائه‪،‬‬ ‫ق ِ‬
‫الم ّ‬
‫ثم عاد إلى الندلس ومعه كتاب "الوقف والبتداء" عن نافع برواية‬
‫)ورش(‪ ،‬وما إن علم الخليفة بذلك حتى بعث في إحضاره‪ ،‬وقّربه من‬
‫مجلسه‪ ،‬وأفاد من علمه‪.948‬‬
‫كما اهتم المستنصر بتخصيص جانب من دار الملك )قصر‬
‫الخلفة( لتكون مركًزا للبحوث والدراسات )كما نطلق عليها اليوم(‪،‬‬
‫يجتمع فيها العلماء والباحثون للبحث والدراسة والتأليف‪ ،‬من هذه‬
‫الجتماعات ما يذكره الحميدي في )جذوة المقتبس(‪" :‬دعا الحكم‬
‫المستنصر بعض علماء اللغة )محمد بن أبي الحسين‪ ،‬وأبو علي‬
‫القإلي‪ ،‬وابن سيده(؛ وذلك لمقابلة كتاب "العين" للخليل بن أحمد‪،‬‬
‫خا كثيرة من هذا الكتاب‪ ،‬وانصرف هؤلء العلماء إلى‬ ‫وأحضر لهم نس ً‬
‫ّ‬
‫دارسة تلك النسخ‪ ،‬ومعرفة وجوه الختلف بينها" ‪ ،‬وهو عمل ُيذكرنا‬
‫‪949‬‬

‫ققون لكتب التراث هذه اليام‪ ،‬ويدّلنا على عقلية‬


‫بما يقوم به المح ّ‬
‫الحكم المستنصر العلمية‪ ،‬وحرصه على التحقق من كتبه‪ ،‬وعنايته‬
‫الفائقة بها‪.‬‬
‫كذلك يذكر ابن حبان في المقتبس‪ ،‬أنه ~ اهتم بجهود‬
‫)الزبيدي(‪ 950‬في علم اللغة‪ ،‬وخلع عليه "خلعة سنية" بعد تصفحه‬
‫لكتابه في اختصار كتاب "العين"‪ ،‬بل إن الزبيدي يذكر في تأليفه‬
‫منه أشهر النحاة في المشرق‬ ‫لكتاب ) طبقات النحويين ( )الذي ض ّ‬
‫جا علمًيا أمله عليه‬ ‫والندلس( يذكر أنه اتبع في تأليف هذا الكتاب منه ً‬
‫ت هذا الكتاب على الوجه الذي أمرني‬ ‫الخليفة المستنصر؛ يقول‪" :‬أّلف ُ‬
‫ده‪ ..‬بعنايته‬
‫به )أي الخليفة المستنصر(‪ ،‬وأقمته على الشكل الذي ح ّ‬
‫وعلمه‪ ،‬وأوسعني من روايته وحفظه‪ ،‬إذ هو البحر ل ُتعَبر أواذيه‪ ،‬ول‬
‫ُتدَرك سواحُله‪.951"...‬‬
‫ضا إلى سعة علم المستنصر‪ ،‬ومدى اهتمامه‬
‫وهو بذلك يشير أي ً‬
‫بالتأليف‪ ،‬وإدراكه لحاجة الناس لكتابة مثل هذا الكتاب‪ ،‬في طبقات‬
‫النحويين‪.‬‬
‫تقديره لعلماء الحياة‪:‬‬

‫‪ 947‬ابن الفرضي‪ :‬تاريخ علماء الندلس ‪ 2/91‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪ 948‬المراكشي‪ :‬الذيل والتكملة لكتاب الصلة ‪.5/13‬‬
‫‪ 949‬انظر‪ :‬الحميدي‪ :‬جذوة المقتبس ص ‪ 50‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 950‬العالم اللغوي الندلسي الكبير‪ ،‬وصاحب معجم ) تاج العروس(‪ ،‬وله العديد من المؤلفات‬
‫الثرية‪.‬‬
‫‪ 951‬الزبيدي‪ :‬طبقات النحويين ‪.231‬‬
‫وإذا كان هذا هو الحال مع علماء الشرع‪ ،‬فإن الحال لم يختلف‬
‫ما بالًغا‪،‬‬
‫كثيًرا مع علماء الحياة‪ ،‬الذين اهتم بهم المستنصر اهتما ً‬
‫دا للطباء‬ ‫ما جدي ً‬
‫وأجزل لهم العطاء‪ ،‬بل يذكر أنه استحدث نظا ً‬
‫المشتغلين بخدمة الخلفاء‪ ،‬فقد أنشأ ديواًنا يضم أولئك الطباء‪،‬‬
‫ة حسب قدرهم وكفاءتهم‪ ،‬فمنهم "أحمد بن‬ ‫ت متفاوت ً‬
‫وينزلهم درجا ٍ‬
‫حفصون" الذي اشتغل بخدمة الخليفة المستنصر‪ ،‬ونال مكانة عالية‬
‫بين أطباء البلط‪ .‬ولحق بخدمة الخليفة كذلك "أبو بكر أحمد بن‬
‫ما لديهم‪ ،‬وكذا الطبيب‬ ‫معظ ّ ً‬
‫جابر"‪ ،‬وكان كبير المنزلة عند الخلفاء ُ‬
‫"أبو عبد الملك الثقفي" الذي جمع بين المهارة في الطب والبراعة‬
‫في الهندسة‪ ،‬وكان عإلى المقام عند المستنصر‪.952‬‬
‫وكان المستنصر على عادته في تقديرهم وتشجيعهم على‬
‫تأليف الكتب المهمة‪ ،‬ك ّ‬
‫ل في مجاله‪:‬‬
‫فمن العلماء الذين حظوا بعناية المستنصر في مجال الطب‬
‫خ طبيب‪ ،‬حظي بمكانة عالية‬ ‫)عريب بن سعد القرطبي( وهو مؤر ٌ‬
‫عنده‪ ،‬جعلته ُيهدي عمدة كتبه‪ ،‬وأجّلها في هذا المجال للخليفة‬
‫المستنصر‪ ،‬يقول في مقدمة كتابه )خلق الجنين وتدبير الحبإلى‬
‫ن أحق ما طرقت الهمم إليه‪ ،‬واستعملت الفكار فيه‬ ‫والمولود(‪" :‬وإ ّ‬
‫بعد حقوق الله عز وجل‪ ،‬واستيفاء حدود شكره طلب الزلفى إلى‬
‫ن أحظى العمال المقربة من‬ ‫المام الحكم المستنصر‪ ..‬ولما رأيت أ ّ‬
‫رأيه ‪ -‬أّيده الله ‪ -‬وأقرب الوسائل إليه‪ ،‬وأزكاها لديه تأليف كتب‬
‫العلم‪ ،‬وجمع منثور الحكم‪ ،‬وتجديد آثار الذين سبقوا إلى فضيلة‪...‬‬
‫تكّلفت كتاًبا يشتمل على أقاويل العلماء في ابتداء خلق الله تعالى‬
‫النسان‪.953"...‬‬
‫وفي ميدان طب العيون برع الخوان أحمد و عمر ابنا يونس‬
‫الحراني في عصر الناصر والمستنصر‪ ،‬حيث رحل إلى المشرق‬
‫ودرسا الطب على يد ثابت بن سنان وغيره‪ ،‬ثم عادا للندلس‪،‬‬
‫فأحسن المستنصر استقبالهما‪ ،‬ورفع مكانتهما بين علماء الطب‪...‬‬
‫وكان أن ت ُوُّفي عمر‪ ،‬وبرع أخوه أحمد من بعده في الطب‪ ،‬فسمح له‬
‫الخليفة المستنصر بإقامة خزانة طبية بالقصر رّتب فيها ‪ 12‬صبًيا‬
‫لصناعة الدوية‪ ،‬ولم يكن يبخل بشيء من العلج للفقراء والمساكين‬
‫الذين كانوا يترددون على هذه الخزانة )كأنها الصيدلية في أيامنا(‪.954‬‬
‫كذلك ازدهر علم الفلك في عهد الخليفة المستنصر‪ ،‬فقد أوله‬
‫رعايته وأحاطه بتشجيعه‪ ،‬واستجلب من مصر والعراق أهم الكتب‬
‫الساسية فيه‪ ،‬قديمها وحديثها‪ ،‬مما أّدى إلى نبوغ الكثير من الفلكيين‬

‫ابن جلجل‪ :‬طبقات الطباء ‪.111‬‬ ‫‪952‬‬

‫عريب بن سعيد‪ :‬خلق الجنين )مخطوطة( ورقة ‪85‬ب‪...‬‬ ‫‪953‬‬

‫ابن جلجل‪ :‬طبقات الطباء‪.113 :‬‬ ‫‪954‬‬


‫الذين تخصصوا في مراقبة حركات النجوم واستخدام آلت المرصد‪،‬‬
‫وأثبتوا نبوغهم وعبقريتهم في ذلك المجال بما قاموا به من تصحيح‬
‫وتحسين للجداول الفلكية‪ ،‬وتقويم نتائج من سبقهم‪ .‬كما كان له أثره‬
‫البالغ ~ في ازدهار الدراسات الرياضية‪ ،‬والبحث في مواضيعها‬
‫لمة )عبد الله السري(‬ ‫المختلفة‪ ،‬إذ ُيرَوى عنه أنه كان يقدر الع ّ‬
‫المعروف ببراعته في الحساب والهندسة‪ ،‬وأّلف كتاًبا مشهوًرا في‬
‫)البيع(‪ ،‬وعلى الرغم من حرص المستنصر على تقريبه منه للستفادة‬
‫صا على الزهد والبعد عن مجالس‬ ‫من علمه‪ ،‬إل أنه كان ~ حري ُ‬
‫المراء‪ ،‬إل في حاجة‪..955‬‬
‫وتذكر المستشرقة )زيغريد هونكة( أن الحكم لم يكن ق إلى‬
‫ذلك كله ق يقتصر في أخذ علوم الحياة عن العلماء المسلمين‪ ،‬بل‬
‫كان من العلماء المقربين إلى مجلسه علماء نصارى‪ ،‬يقدرهم ويرفع‬
‫من قدرهم لما لديهم من علم‪ ،‬كان أبرزهم )السقف القرطبي ابن‬
‫زيد( الذي نال مكانة رفيعة لدى الحكم المستنصر‪ ،‬وصّنف له كتاًبا‬
‫في الفلك أسماه )تفصيل الزمان ومصالح البدان( ذكر فيه منازل‬
‫القمر‪ ،‬وما يتعّلق بذلك مما يستحسن مقصده وتقريبه‪.956"...‬‬
‫وهكذا كان اهتمام الخلفاء في الندلس بالعلم‪ ،‬وبالكتب‪،‬‬
‫وبالعلماء‪ ،‬لم يقتصر على حد ّ التحفيز والتشجيع‪ ،‬بل شمل شتى‬
‫جوانب النهضة العلمية‪ ،‬وتيسيرها على طلبة العلم‪ ،‬ووصل إلى حد ّ‬
‫المر بكتابة المؤلفات‪ ،‬والمكافأة على إنجازها‪ ،‬بل ووضع الخطط‬
‫العملية‪ ،‬والخطوات المنهجية للباحث والعالم حتى يؤّلف مؤّلفاته‪،‬‬
‫ت بحقّ ُذخًرا للسلم والمسلمين‪ ،‬وخيَر دليل على اهتمام‬ ‫التي ع ُد ّ ْ‬
‫هؤلء الخلفاء رحمهم الله بنهضة أمتهم على أساس قوي من العلم‪،‬‬
‫فل عجب بعد ذلك أن نرى في الندلس علماء نوابغ‪ ،‬أناروا العالم كله‬
‫من مغربه إلى مشرقه‪ ،‬وبنوا في الندلس حضارة ً أضاءت الشرق‬
‫خا على أن‬ ‫ذى‪ ،‬ودليل ً راس ً‬
‫والغرب‪ ،‬وبقيت حتى يومنا هذا مثال ً ُيحت َ َ‬
‫العلم سبيل للنهضة والرقي والرفعة‪.‬‬

‫القفطي‪:‬أخبار الحكماء ص ‪243‬‬ ‫‪955‬‬

‫شمس العرب تسطع على الغرب‪ :‬زيغريد هونكه ص ‪.501‬‬ ‫‪956‬‬


‫قرطبة كمثال تطبيقي‬
‫مدينة قرطبة في القرن الرابع الهجري‬
‫)العاشر الميلدي(‬
‫حجبت فيها‬
‫في عمق التاريخ‪ ..‬وفي غابر الزمن‪ ..‬وفي أرض ُ‬
‫س العلم والحضارة بغيم ٍ كثيف من ظلمات الجهل والتخلف‪..‬‬
‫شم ُ‬
‫وسط كل ذلك‪ ..‬وامتداًدا لحضارة إسلمية إنسانية‪ ،‬طالت‬
‫دا‪ ..‬بزغ نجم مدينة قرطبة‪،‬‬ ‫ما ومج ً‬
‫ما وقِي َ ً‬
‫السماء وناطحتها؛ عل ً‬
‫ي على ما وصلت إليه حضارة المسلمين وعّز‬ ‫دح ٍ‬‫كشاه ٍ‬
‫السلم في ذلك الوقت من التاريخ‪ ،‬وهو منتصف القرن الرابع‬
‫ط في جهل‬ ‫الهجري )العاشر الميلدي(‪ ..‬يوم أن كانت أوربا تغ ّ‬
‫عميق‪..‬‬
‫قرطبة‪ ..‬ذلك السم الذي طالما كان له جرس معين‪ ،‬ووقع‬
‫خاص في الذن السلمية‪ ..‬بل وفي أذن كل أوربي آمن بالنهضة‬
‫والحضارة النسانية‪..‬‬
‫قرطبة‪ ..‬تلك المدينة التي ينسب إلى عبد الرحمن الناصر أنه‬
‫قال فيها‪:‬‬

‫مقن ب َْعدهقم فَِبأل ْ ُ‬


‫سن البنيان‬ ‫مم الملوك إذا أرادوا ذ ِك َْر َ‬
‫ها‬ ‫هِ َ‬
‫مل ِ ٌ‬
‫ك محاه حوادث الزمقان‬ ‫مْين قد بقيا وكم‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫أوَ ما ت ََرى الهر َ‬
‫أضحى ي َد ُ ّ‬
‫ل على عظيم الشان‬ ‫إن البنقاء إذا تعاظقم شأنه‬
‫والتي أنشد أبو البقاء الرندي يرثيها‪:‬‬
‫سمى فيها له شان؟!!‬
‫من عالم ٍ قد َ‬ ‫وأين قرطبة دار العلوم فكم‬
‫وتلك هي الحقيقة‪..‬‬
‫ولنبدأ بالبداية‪..‬‬
‫فهي مدينة تقع على نهر الوادي الكبير‪ ،‬في الجزء الجنوبي من‬
‫إسبانيا‪ ..‬وقد أّرخت لها موسوعة المورد الحديثة فقالت‪" :‬أسسها‬
‫القرطاجيون فيما يعتقد‪ .‬وخضعت لحكم الرومان والقوط‬
‫الغربيين"‪) 957‬انظر خريطة رقم ‪.(6‬‬

‫موسوعة المورد الحديثة )‪.(1995‬‬ ‫‪957‬‬


‫وقد قام بفتحها القائد السلمي الشهيد طارق بن زياد ~‪،‬‬
‫وذلك سنة )‪ 93‬هجرية ‪ 711 -‬ميلدية(‪.‬‬
‫دا‬ ‫ومنذ ذلك العهد بدأت مدينة قرطبة تخط لنفسها خ ً‬
‫طا جدي ً‬
‫ما في تاريخ الحضارة‪ ..‬فبدأ نجمها في الصعود كمدينة‬
‫حا مه ً‬
‫وملم ً‬
‫حضارية عالمية‪ ،‬لسيما في عام ‪138‬هق ‪756 /‬م‪ ،‬عندما أسس عبد‬
‫الرحمن الداخل )صقر قريش( لقيام الدولة الموية في الندلس‪،‬‬
‫وذلك بعدما سقطت في دمشق على أيدي العباسيين‪..‬‬
‫وفي عهد عبد الرحمن الناصر )أول خليفة أموي في الندلس(‬
‫ومن بعده ابنه الحكم المستنصر‪ ،‬بلغت قرطبة أوج ازدهارها‪ ،‬وقمة‬
‫ريادتها وحضارتها‪ ،‬خاصة وأنه اتخذها عاصمة لدولته الفتية‪ ،‬ومقًرا له‬
‫كخليفة للمسلمين في العالم الغربي‪ ..‬وقد جعل منها منبًرا للعلوم‬
‫والثقافة والمدنية‪ ..‬حتى غدت تنافس القسطنطينية عاصمة‬
‫المبراطورية البيزنطية في قارتها‪ ،‬وبغداد عاصمة العباسيين في‬
‫المشرق‪ ،‬والقيروان والقاهرة في إفريقيا‪ ..‬وحتى أطلق عليها‬
‫الوروبيون "جوهرة العالم"‪!!..‬‬
‫وقد شمل اهتمام المويين بقرطبة اهتمامهم كذلك بنواحي‬
‫الحياة المختلفة فيها‪ ،‬من زراعة وصناعة‪ ،‬وبناء الحصون‪ ،‬ودور‬
‫السلحة وغيرها‪ ..‬وقد شقوا الترع وحفروا القنوات‪ ،‬وأقاموا‬
‫المصارف‪ ،‬وجلبوا للندلس أشجاًرا وثماًرا لم تكن تزرع فيها‪!!..‬‬
‫معالم من قرطبة‬
‫في هذه السطور القادمة سنتعرف على بعض مظاهر الرقي‬
‫والحضارة التي تميزت بها الندلس عامة‪ ،‬وقرطبة خاصة؛ لنقف على‬
‫السهامات السلمية لمسيرة النسانية‪..‬‬
‫‪ (1‬قنطرة قرطبة‪:‬‬
‫كان من المعالم المهمة في قرطبة "قنطرة قرطبة" )انظر‬
‫صورة رقم ‪ ،(2‬والتي تقع على نهر الوادي الكبير‪ ،‬وقد عرفت باسم‬
‫ة وثلثين متًرا‬
‫ضا "قنطرة الدهر"‪ ،‬وكان طولها سبع ً‬‫"الجسر" وأي ً‬
‫عا )الذراع يساوي ‪ 46.2‬سم(‪ ،‬وارتفاعها‬‫تقريًبا‪ ،‬وعرضها ثمانون ذرا ً‬
‫عا!!‬
‫ستون ذرا ً‬
‫وقد وصفها ابن الوردي فقال‪ :‬وبمدينة قرطبة القنطرة العجيبة‬
‫سا‪،‬‬
‫التي فاقت قناطر الدنيا حسًنا وإتقاًنا‪ ،‬وعدد قسيها سبعة عشر قو ً‬
‫كل قوس منها خمسون شبًرا وبين كل قوسين خمسون شبًرا‪..958‬‬
‫ووصفها الدريسي فقال‪ :‬ولقرطبة القنطرة التي علت القناطر‬
‫سا‪ ،‬بين القوس‬ ‫فخًرا في بنائها وإتقانها‪ ،‬وعدد قسيها سبع عشرة قو ً‬
‫والقوس خمسون شبًرا‪ ،‬وسعة القوس مثل ذلك خمسون شبًرا‪،‬‬
‫وسعة ظهرها المعبور عليه ثلثون شبًرا‪ ،‬ولها ستائر من كل جهة‬
‫تستر القامة‪ ،‬وارتفاع القنطرة من موضع المشي إلى وجه الماء في‬
‫عا‪ ،‬وإذا كان السيل بلغ الماء منها‬
‫أيام جفوف الماء وقلته ثلثون ذرا ً‬
‫إلى نحو حلوقها‪ ،‬وتحت القنطرة يعترض الوادي رصيف سد مصنوع‬
‫من الحجار القبطية والعمد الخاشنة من الرخام‪ ،‬وعلى هذا السد‬
‫ثلث بيوت أرحاء‪ ،‬في كل بيت منها أربعة مطاحن‪..959‬‬
‫‪ (2‬مسجد قرطبة‪:‬‬
‫يعتبر الجامع الكبير من أهم معالم قرطبة وآثارها الباقية إلى‬
‫اليوم‪ ..‬وهو ُيسمى بالسبانية ‪) Mezquita‬وتنطق‪ :‬ميتكيتا( وهي‬
‫تحريف لكلمة )مسجد(‪ ،‬وقد كان أشهر مسجد بالندلس )على اعتبار‬
‫أنه الن كاتدرائية(‪ ،‬ومن أكبر المساجد في أوربا‪!!..‬‬
‫وقد بدأ بناؤه عبد الرحمن الداخل سنة ‪170‬هق‪786 /‬م ومن‬
‫بعده ابنه هشام الول‪ ..‬وكان كل خليفة جديد يضيف لهذا الجامع ما‬
‫يزيد في سعته وتزيينه‪ ..‬ليكون أجمل المساجد في مدينة قرطبة‪،‬‬
‫ومن أكبر المساجد وقت وجوده‪!!..‬‬
‫وفي وصف لهذا الجامع يقول صاحب الروض المعطار‪ :‬وبها‬
‫ل مساجد الدنيا‬ ‫)بقرطبة( الجامع المشهور أمره الشائع ذكره‪ ،‬من أج ّ‬
‫ل هيئة‪ ،‬وإتقان بنية‪ ،‬تهمم به‬ ‫م صنعة‪ ،‬وجما َ‬ ‫كبَر مساحة‪ ،‬وإحكا َ‬
‫ما إثر تتميم‪،‬‬‫الخلفاء المروانيون فزادوا فيه زيادة بعد زيادة‪ ،‬وتتمي ً‬

‫ابن الوردي‪ :‬خريدة العجائب وفريدة الغرائب ص ‪.12‬‬ ‫‪958‬‬

‫الدريسي‪ :‬نزهة المشتاق ‪.2/579‬‬ ‫‪959‬‬


‫حتى بلغ الغاية في التقان‪ ،‬فصار يحار فيه الطرف ويعجز عن حسنه‬
‫قا وطول ً وعر ً‬
‫ضا!!‬ ‫الوصف‪ ،‬وليس في مساجد المسلمين مثله تنمي ً‬
‫عا‪ ،‬ونصفه مسقف ونصفه صحن بل‬ ‫طوله مائة باع وثمانون با ً‬
‫سا‪ ،‬وسواري مسقفه بين‬ ‫قفه أربع عشرة قو ً‬ ‫سقف‪ ،‬وعدد قسي مس ّ‬
‫أعمدته وسواري قببه صغاًرا وكباًرا مع سواري القبلة الكبرى وما يليها‬
‫ألف سارية‪ ،‬وفيه مائة وثلث عشرة ثريا للوقيد‪ ،‬أكبر واحدة منها‬
‫حا‪ ،‬وجميع خشبه‬ ‫تحمل ألف مصباح‪ ،‬وأقلها تحمل اثني عشر مصبا ً‬
‫من عيدان الصنوبر الطرطوشي‪ ،‬ارتفاع الجائزة منه شبر في عرض‬
‫شبر إل ثلثة أصابع‪ ،‬في طول كل جائزة سبعة وثلثون شبًرا‪ ،‬وبين‬
‫الجائزة والجائزة غلظ الجائزة‪ ،‬وفي سقفه من ضروب الصنائع‬
‫ضا‪ ،‬قد أحكم ترتيبها وأبدع تلوينها بأنواع‬‫والنقوش ما ل يشبه بعضها بع ً‬
‫الحمرة والبياض والزرقة والخضرة والتكحيل‪ ،‬فهي تروق العيون‬
‫وتستميل النفوس بإتقان ترسيمها ومختلفات ألوانها‪ ،‬وسعة كل بلط‬
‫من بلط سقفه ثلثة وثلثون شبًرا‪ ،‬وبين العمود والعمود خمسة‬
‫عشر شبًرا‪ ،‬ولكل عمود منها رأس رخام وقاعدة رخام‪.‬‬
‫ولهذا الجامع قبلة يعجز الواصفون عن وصفها‪ ،‬وفيها إتقان يبهر‬
‫العقول تنميقها‪ ،‬وفيها من الفسيفساء المذهب والبلور مما بعث به‬
‫صاحب القسطنطينية العظمى إلى عبد الرحمن الناصر لدين الله‪..‬‬
‫وفي جهتي المحراب أربعة أعمدة‪ :‬اثنان أخضران واثنان زرزوريان‪ ،‬ل‬
‫صة رخام قطعة واحدة مسبوكة‬ ‫خ ّ‬
‫وم بمال‪ ،‬وعلى رأس المحراب َ‬ ‫ُتق ّ‬
‫منمقة بأبدع التنميق من الذهب واللزورد وسائر اللوان‪ ،‬واستدارت‬
‫على المحراب حظيرة خشب بها من أنواع النقش كل غريبة‪ ،‬ومع‬
‫يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الرض مثله صنعة‪ ،‬خشبه‬
‫أبنوس وبقس وعود المجمر‪ ،‬يقال إنه صنع في سبع سنين‪ ،‬وكان‬
‫صناعة ستة رجال غير من يخدمهم تصرًفا!!‬
‫وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطسوت ذهب وفضة‬
‫وحسك‪ ،‬وكلها لوقيد الشمع في كل ليلة سبع وعشرين من رمضان‪،‬‬
‫وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلن لثقله فيه أربع أوراق من‬
‫مصحف عثمان بن عفان < الذي خطه بيمينه‪ ،‬وفيه نقطة من دمه‪،‬‬
‫ويخرج هذا المصحف في صبيحة كل يوم‪ ،‬يتولى إخراجه قوم من‬
‫ومة الجامع‪ ،‬وللمصحف غشاء بديع الصنعة منقوش بأغرب ما يكون‬ ‫قَ َ‬
‫من النقش‪ ،‬وله كرسي يوضع عليه‪ ،‬فيتولى المام قراءة نصف حزب‬
‫فيه‪ ،‬ثم يرفع إلى موضعه‪.‬‬
‫وعن يمين المحراب والمنبر باب يفضي إلى القصر‪ ،‬بين‬
‫حائطي الجامع في ساباط متصل‪ ،‬وفي هذا الساباط ثمانية أبواب‪،‬‬
‫منها أربعة تنغلق من جهة القصر وأربعة تنغلق من جهة الجامع‪ ،‬ولهذا‬
‫الجامع عشرون باًبا مصفحة بصفائح النحاس وكواكب النحاس‪ ،‬وفي‬
‫كل باب منها حلقتان في غاية التقان‪ ،‬وعلى وجه كل باب منها في‬
‫ص المتخذ من الجر الحمر المحكوك‪ ،‬أنواع‬
‫الحائط ضروب من الف ّ‬
‫شتى وأصناف مختلفة من الصناعات والتنميق‪.‬‬
‫وللجامع في الجهة الشمالية الصومعة )المئذنة( الغريبة‬
‫الصنعة‪ ،‬الجليلة العمال‪ ،‬الرائقة الشكل والمثال‪ ،‬ارتفاعها في الهواء‬
‫عا إلى الموضع الذي‬ ‫مائة ذراع بالذراع الرشاشي‪ ،‬منها ثمانون ذرا ً‬
‫عا‪ ،‬ويصعد إلى‬‫يقف عليه المؤذن‪ ،‬ومن هناك إلى أعلها عشرون ذرا ً‬
‫أعلى هذا المنار بدرجين‪ :‬أحدهما من الجانب الغربي‪ ،‬والثاني من‬
‫الشرقي‪ ،‬إذا افترق الصاعدان أسفل الصومعة لم يجتمعا إل إذا وصل‬
‫ذان منقوش من وجه الرض‬ ‫العلى‪ ،‬ووجه هذه الصومعة مبطن بالك ّ‬
‫إلى أعلى الصومعة‪ ،‬بصنعة تحتوي على أنواع من التزويق والكتابة‪.‬‬
‫ي دائرة‬‫وبالوجه الربعة الدائرة من الصومعة صفان من قس ّ‬
‫على عقد الرخام‪ ،‬وبيت له أربعة أبواب مغلقة يبيت فيه في كل ليلة‬
‫مؤذنان‪ ،‬وعلى أعلى الصومعة التي على البيت ثلث تفاحات ذهًبا‬
‫واثنتان من فضة وأوراق سوسنية‪ ،‬تسع الكبيرة من هذه التفاحات‬
‫ستين رطل ً من الزيت‪ ،‬ويخدم الجامع كله ستون رج ً‬
‫ل‪ ،‬وعليهم قائم‬
‫ينظر في أمورهم‪ .960‬ا‪.‬هق‬
‫وقريب من ذلك يصفه ابن الوردي في كتابه )خريدة العجائب‬
‫وفريدة الغرائب(‪..‬‬
‫وقد كانت ساحته تملها أشجار البرتقال والرمان‪ ،‬ليأكل منها‬
‫الجائعون والقادمون إلى المدينة من شتى البقاع‪) ..961‬انظر صورة‬
‫رقم ‪!!(3‬‬
‫ومما يحزن له القلب وتدمع له العين أن هذا المسجد العظيم‬
‫ول عقب سقوط الندلس إلى كاتدرائية‪ ،‬وأصبح تابًعا‬ ‫المهيب قد تح ّ‬
‫للكنيسة‪ ،‬مع احتفاظه باسمه‪ ،‬وتحولت مئذنته الشاهقة إلى برج‬
‫تنتصب فوقه أجراس الكنيسة لخفاء طابعها السلمي‪ ،‬كما ل يزال‬
‫ش قرآنية تعكس عبقرية فنية نادرة!! وهو‬
‫يعلو جدرانه المنيعة نقو ٌ‬
‫الن من أشهر المواقع التاريخية في العالم كله‪ ..‬وتستطيع دخوله‬
‫مقابل دفع ‪ 6‬يورو‪!!..‬‬
‫وفي ذلك يقول إقبال يخاطبه‪:‬‬
‫لسمقاء للعيقون‬ ‫ضا أنت فيقها‬
‫إن أر ً‬
‫أهلها مقنذ قرون؟‬ ‫كيف لم يسمع أذاًنا‬

‫الحميري‪ :‬الروض المعطار في خبر القطار ‪.1/457،456‬‬ ‫‪960‬‬

‫ابن الوردي‪ :‬خريدة العجائب وفريدة الغرائب‪.‬‬ ‫‪961‬‬


‫‪ (3‬جامعة قرطبة‪:‬‬
‫ضا‬
‫لم يقتصر دور مسجد قرطبة على العبادة فقط‪ ،‬وإنما كان أي ً‬
‫جامعة علمية ُتعد من أشهر جامعات العالم آنذاك‪ ،‬وأكبر مركز‬
‫علمي في أوروبا‪ ،‬ومن خلله انتقلت العلوم العربية إلى الدول‬
‫الوروبية‪ ،‬وعلى مدى قرون‪!!..‬‬
‫وكان ُيدرس في هذه الجامعة كل العلوم‪ ،‬وكان ُيختار لها أعظم‬
‫الساتذة‪ ..‬وكان طلب العلم يفدون إليها من الشرق والغرب على‬
‫السواء‪ ،‬مسلمين كانوا أو غير مسلمين‪!!..‬‬
‫وقد احتلت حلقات الدرس والعلم أكثر من نصف المسجد‪،‬‬
‫ضا‬
‫ب جيد ليتفرغوا للدرس والتأليف‪ ،‬وكذلك أي ً‬
‫وكان للشيوخ رات ٌ‬
‫خصصت أموال للطلب‪ ،‬ومكافآت ومعونات للمحتاجين‪!!..‬‬
‫وهو المر الذي أثرى الحياة العلمية بصورة ملحوظة في ذلك‬
‫الوقت وفي تلك البيئة‪ ،‬واستطاعت قرطبة أن تخرج للمسلمين‬
‫وللعالم الجم الخفير من العلماء‪ ،‬وفي جميع مجالت العلوم‪ ..‬وفي‬
‫السطور التالية نتعرف على بعض منهم‪..‬‬

‫علماء من قرطبة‬
‫ل غرو بعد أن يكون في قرطبة تلك الجامعة العريقة‪ ،‬وهؤلء‬
‫الحكام المهتمون بالعلم بهذه الدرجة الكبيرة )سنتعرض لذلك‬
‫وسنبين الحياة العلمية في قرطبة والمكتبات التي كانت بها( أن‬
‫تنجب قرطبة الكثير من العلماء‪ ،‬الذين كانوا شعلة مضيئة في سماء‬
‫العلوم ومحراب النسانية‪..‬‬
‫وهذان مثالن رائعان لعلماء هذه الفترة العظيمة من فترات‬
‫التاريخ السلمي‪..‬‬
‫أو ً‬
‫ل‪ :‬الزهراوي‪:‬‬
‫ُيعد خلف بن عباس أبو القاسم‪ ،‬الزهراوى‪ ،‬الندلسي )‪- 325‬‬
‫‪404‬هق ‪1013 - 936 /‬م( أشهر جراح‪ ،‬وطبيب‪ ،‬وعالم بالدوية‬
‫وتركيبها في ذلك الوقت‪ ..‬وقد سبق أن تحدثنا عنه في أكثر من‬
‫موضع في هذا الكتاب‪..‬‬
‫وقد ولد الزهراوي بالزهراء‪ ،‬من ضواحي مدينة قرطبة‪ ،‬ونشأ‬
‫بها‪ ،‬وتعلم الطب بجامعة قرطبة علي أيدي أطبائها‪ ..‬وقد برع فيه‬
‫حتى أصبح طبيب الخليفة الموي‪ ،‬الحكم الثاني!!‬
‫وللزهراوي في الطب إنجازات وإبداعات علمية صارت حديث‬
‫العلماء في الشرق والغرب في عصره وبعد عصره‪ ..‬فهو أول من‬
‫أسس علم الجراحة العامة في العالم‪ ،‬وأول من مارس الجراحة‬
‫بيديه من بين الطباء العرب السابقين له والمعاصرين؛ فقد كان‬
‫الحجامون هم الذين يقومون بالعمليات الجراحية تحت إشراف‬
‫الطباء الباحثين كعلماء في الجراحة‪..962‬‬
‫كما يعد الزهراوي أول رائد لفكرة الطباعة في العالم؛ فلقد‬
‫خطا الخطوة الولى في صناعة الطباعة‪ ،‬وسبق بها اللماني يوحنا‬
‫جوتنبرج بعدة قرون‪ ،‬وقد سجل الزهراوي فكرته عن الطباعة ونفذها‬
‫في المقالة الثامنة والعشرين من كتابه الفذ "التصريف"‪..‬‬
‫ففي الباب الثالث من هذه المقالة‪ ،‬ولول مرة في تاريخ الطب‬
‫والصيدلة يصف الزهراوي كيفية صنع الحبوب )أقراص الدواء(‪،‬‬
‫وطريقة صنع القالب الذي تصب فيه هذه القراص أو تحضر‪ ،‬مع طبع‬
‫أسمائها عليها في الوقت نفسه باستخدام لوح من البنوس أو العاج‬
‫ل‪ ،‬ويحضر في كل وجه قدر غلظ نصف قرص‪،‬‬ ‫مشقوق نصفين طو ً‬
‫عا‬
‫وينقش علي قعر أحد الوجهين اسم القرص المراد صنعه‪ ،‬مطبو ً‬
‫حا عند خروج القراص من‬ ‫بشكل معكوس‪ ،‬فيكون النقش صحي ً‬
‫قالبها؛ وذلك منًعا للغش في الدوية‪ ،‬وإخضاعها للرقابة الطبية ‪!!..‬‬
‫‪963‬‬

‫ضا المبتكر الول لعملية القسطرة‪ ،‬وصاحب‬ ‫ويعد الزهراوي أي ً‬


‫فكرتها والمبتكر لدواتها‪ ..‬وقد وصف عملية غسل المثانة وأدخل إليها‬
‫بعض السوائل المطهرة بواسطة اللت‪ ..‬وابتكر الزهراوي كذلك آلة‬
‫دقيقة جدا لمعالجة انسداد فتحة البول الخارجية عند الطفال حديثي‬
‫الولدة؛ لتسهيل مرور البول‪ ..‬كما نجح في إزالة الدم من تجويف‬
‫الصدر‪ ،‬ومن الجروح الغائرة كلها بشكل عام‪!!..‬‬
‫وفي الجراحة العامة يعد الزهراوي أول من أجري عملية شق‬
‫القصبة الهوائية "تراكيو ستومي" علي خادمه‪ ،‬ونجح فيها‪ ،‬وكان‬
‫الطباء قبله‪ ،‬مثل ابن سينا والرازي‪ ،‬قد أحجموا عن إجرائها‬
‫لخطورتها‪..‬‬
‫والزهراوي كذلك هو أول من نجح في إيقاف نزيف الدم أثناء‬
‫العمليات الجراحية‪ ،‬وذلك بربط الشرايين الكبيرة‪ ،‬وسبق بهذا الربط‬
‫سواه من الطباء الغربيين بستمائة عام‪ ..‬والعجيب أن يأتي من بعده‬
‫من يدعي هذا البتكار لنفسه‪ ،‬وهو الجراح إمبراطور باري عام ‪1552‬‬
‫م!!‬

‫انظر‪ :‬جلل مظهر‪ :‬حضارة السلم وأثرها في الترقي العالمي ص ‪.331،332‬‬ ‫‪962‬‬

‫انظر علي بن عبد الله الدفاع‪ :‬رواد علم الطب في الحضارة العربية والسلمية ص ‪.266‬‬ ‫‪963‬‬
‫والزهراوي هو أول من استخدم خياطة الجراح بإبرتين‪ ،‬وبخيط‬
‫واحد مثبت فيهما‪!!.‬‬
‫وهو أخيًرا أول من ابتكر التدريز‪ ،‬أو التخطيط المثمن في‬
‫جراحات البطن‪ ..‬وأول من مارس تخييط الجراح من الداخل‪ ,‬كي ل‬
‫تترك أثرا مرئيا للجراح‪ ،‬وقد أطلق علي هذا العمل اسم "إلمام‬
‫ضا في أولي‬
‫الجروح تحت الدمة"‪ ..‬وبذلك يعد الزهراوي رائدا أي ً‬
‫عمليات جراحات التجميل‪!!964‬‬

‫هذا وقد خّرجت قرطبة للمسلمين وللعالم أجمع ‪ -‬غير ما ذكرنا‬


‫‪ -‬علماء كثيرين‪ ،‬وفي شتى المجالت‪ ،‬ول يتسع المجال هنا لجمعهم‪،‬‬
‫ويكفي أن نذكر أنه كان منهم غير ما سبق‪ :‬ابن باجه‪ ،‬وابن طفيل‪،‬‬
‫ومحمد الغافقي )أحد مؤسسي طب العيون(‪ ،‬وابن عبد البر‪ ،‬وابن‬
‫رشد‪ ،‬والدريسي‪ ،‬وأبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام الزدي‪،‬‬
‫والقاضي القرطبي النحوي‪ ،‬والحافظ القرطبي‪ ،‬وأبو جعفر القرطبي‪،‬‬
‫وغيرهم كثير‪..‬‬
‫وإن هذا ليحدو بنا إلى أن نتعرف على السبيل الذي جعل‬
‫قرطبة ُتخّرج كل هؤلء العلماء‪ ،‬والذين أضاءوا عصور الظلم في‬
‫أوربا‪ ،‬وبددوا الجهل والتخلف‪ ،‬وأفادوا النسانية في أوربا والعالم‬
‫السلمي‪ ،‬وقادوها إلى الرفعة والمدنية‪..‬‬
‫وأعني‪ :‬السبيل الذي جعل من قرطبة عاصمة عالمية للحضارة‬
‫العلمية والمدنية‪..‬‬

‫التعليم والمكتبات في قرطبة‪:‬‬


‫كان للخلفاء دور كبير في إثراء الحياة العلمية في قرطبة‪ ،‬فلم‬
‫يهملوا الجانب الثقافي والمعرفي‪ ،‬والذي ولعوا به ولًعا قبل غيرهم‪..‬‬
‫وكم كان في قرطبة من خلفاء علماء‪ ،‬ووزراء حكماء‪!!..‬‬
‫فقد كان الخليفة عبد الرحمن الناصر )‪ 350 - 300‬هق‪- 913 /‬‬
‫‪962‬م( ذا ولع وحب شديد للعلم والمعرفة‪ ..‬وفي صورة تعبر عن‬
‫ذلك أن المبراطور البيزنطي قسطنطين السابع لم يجد شيًئا يتقرب‬
‫به إلى قلب الناصر حينما عزم على عقد معاهدة معه سوى أن يهديه‬
‫دا لم يعرفه من قبل‪ ،‬وهو كتاب ديسقوريدس‪ ،‬وكانت هذه‬ ‫كتاًبا جدي ً‬

‫شوقي أبو خليل‪ :‬علماء الندلس ص ‪.31‬‬ ‫‪964‬‬


‫النسخة رائعة‪ ،‬حيث كتبت بحروف من ذهب وزينت برسوم‬
‫جميلة‪!!965‬‬
‫وإن حب الناصر للكتب هو الذي جعله يهتم بمكتبة القصر كثيًرا‪،‬‬
‫ويقوم بتزويدها بكل ما هو نفيس من الكتب‪.‬‬
‫حكم الخليفة الحكم بن عبد الرحمن الناصر في‬ ‫ولما تولى ال ُ‬
‫ما في طريق‬‫سنة ‪350‬هق ‪962 /‬م جعل كل هدفه السير بالندلس قد ً‬
‫العلم والمعرفة‪ ،‬فوجه جل اهتمامه إلى بناء وتعمير مكتبة قرطبة أو‬
‫مكتبة القصر‪..‬‬
‫ولنه لم يكن للمكتبات عند إنشائها أبنية مستقلة خاصة‪ ،‬بل‬
‫كانت المكتبة جزًءا غير مستقل من مبنى المؤسسة التي تنشأ في‬
‫كنفها‪ ،‬فكانت مكتبة الحكم تشغل أحد أجنحة قصر الخلفة بقرطبة‪،‬‬
‫وكان هذا الجناح هو ما يعرف في التاريخ باسم مكتبة الحكم‪ ،‬أو‬
‫مكتبة قرطبة الموية‪..‬‬
‫وعندما ضاقت غرف المكتبة بما تحويه من كتب‪ ،‬علوة على‬
‫عدم استيعابها للزيادة المطردة من الكتب‪ ،‬كان من الضروري أن‬
‫تنقل المكتبة في مكان آخر‪ ،‬وقد استغرقت عملية النقل هذه ستة‬
‫أشهر كاملة!!‬
‫وكان المبنى الجديد يضم عدًدا من القسام‪ ،‬منها‪ :‬قاعة الكتب‪،‬‬
‫وهي أصل المكتبة‪ ،‬ومركز البحث والتأليف‪ ،‬ومركز النقل والترجمة‪،‬‬
‫ومركز التدقيق والمراجعة‪..‬‬
‫أما وظائفها الخاصة فكانت على النحو التالي‪:‬‬
‫‪ (1‬المكتبة‪:‬‬
‫وتشمل القاعة الرئيسية في مبنى المكتبة‪ ،‬وكانت تحوي عدًدا‬
‫كبيًرا من الكتب التي كان يجمعها المراء من كل حدب وصوب‪..‬‬
‫ولقد جمع الحكم من الكتب ما ل يحد كثرة ول يوصف نفاسة‪،‬‬
‫وصلت على وقته ‪ 400.000‬مجلد‪ ،‬استغرق نقلها ستة أشهر‪ ..‬ووصل‬
‫عدد فهارس المكتبة فقط في أسماء دواوين الشعر ‪ 44‬فهرسا‪ ،‬بكل‬
‫فهرسة عشرون ورقة‪..‬‬
‫واهتم الحكم بهذه الكتب عناية كبرى‪ ،‬فجمع في قصره حذاق‬
‫النساخين‪ ،‬والمهرة في الضبط‪ ،‬والمجيدين في التجليد صيانة لكتبه‪.‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.1/328‬‬ ‫‪965‬‬


‫وقد اعتمدت المكتبة على مجموعة مصادر في بناء وتنمية‬
‫مجموعاتها من الكتب‪ ،‬كان منها‪ :‬الشراء‪ ،‬ويعتبر المصدر الهم في‬
‫حكم ينفق في شراء الكتب ونوادر‬ ‫جمع الكتب؛ حيث كان ال َ‬
‫المخطوطات أموال طائلة!!‬
‫وعلى سبيل المثال بعث الحكم في طلب كتاب الغاني إلى‬
‫مصنفه أبي الفرج الصفهاني‪ ،‬ودفع إليه فيه ألف دينار‪ ،‬فأرسل إليه‬
‫أبو الفرج نسخة مكتوبة من هذا الكتاب قبل أن يظهر في بغداد‪!!966‬‬
‫وكذلك ألف له كتاًبا يتضمن أنساب قومه بني أمية‪ ،‬وقد فعل‬
‫ضا مع القاضي أبي بكر البهري المالكي في شرحه‬ ‫الحكم ذلك أي ً‬
‫لمختصر ابن عبد الحكم‪ ،‬ومع محمد بن القاسم بن شعبان بمصر‪،‬‬
‫ما في مسالك‬‫ومحمد بن يوسف الوراق الذي صنف له كتاًبا ضخ ً‬
‫إفريقية وممالكها‪ ،‬وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى بن‬
‫مفرج‪.967‬‬
‫وكان يعين هؤلء الكتاب بالمال على كتابة مصنفاتهم‪ ،‬كما كان‬
‫ل يتردد في مساعدتهم عن طريق إعارتهم ما كانوا يحتاجون إليه من‬
‫مصادر؛ فقد أرسل إلى الكاتب المصري أبي سعيد عبد الرحمن بن‬
‫يونس صاحب كتاب )تاريخ مصر والمغرب( كتابا‪ ،‬استعان به هذا‬
‫المؤرخ في تصنيف كتابه المذكور‪ ،‬في القسم الخاص بالندلس ‪..‬‬
‫‪968‬‬

‫ضا غير الشراء‪ :‬الهبات والهدايا؛ فكان‬


‫ولقد كان من المصادر أي ً‬
‫العلماء يهدون الكتب لمن يطلبها على سبيل الهبة‪ ،‬حتى ولو كان‬
‫المطلوب مخطو ً‬
‫طا أصلًيا نادًرا‪ ..‬وفضل ً عن ذلك فقد كانت تأتى كتب‬
‫أجنبية من البلدان الخرى هدية إلى حكام المسلمين‪..‬‬
‫ما في إثراء‬
‫ضا‪ :‬الوقف؛ وكان يمثل مصدًرا مه ً‬
‫ومن المصادر أي ً‬
‫المكتبة بالمجموعات القيمة من الكتب‪ ،‬حيث كان الحكام‬
‫والمحكومون شديدي الرغبة في وقف الكتب على مختلف معاهد‬
‫التعليم‪ ،‬وإنشاء المكتبات بها؛ حتى ينالوا الجر والثواب من الله على‬
‫ذلك‪ ،‬وإفادة طلب العلم من جهة أخرى‪.969‬‬
‫‪ (2‬مركز البحث والتأليف‪:‬‬
‫وهو يشمل فئات من الباحثين والمؤلفين‪ ،‬كل على حسب‬
‫تخصصه‪ ،‬فكان فيها من العلماء المتخصصين في مختلف فروع‬
‫المعرفة‪ ،‬وكان يتم تكليف بعض علماء الندلس للتأليف في‬

‫‪ 966‬جودة هلل‪ ،‬نحند محمود صبح‪ :‬قرطبة في التاريخ السلمي ص ‪.80‬‬


‫‪ 967‬ابن البار‪ :‬الحلة السيراء ص‪.48‬‬
‫‪ 968‬إحسان عباس‪ :‬تاريخ الدب الندلسي ص ‪.46‬‬
‫‪ 969‬انظر‪ :‬ابن الجوزي‪ :‬المنتظم ‪ ،9/42‬وانظر الجبرتي‪ :‬عجائب الثار ‪.1/566‬‬
‫تخصصات معينة‪ ،‬ومن أمثلة ذلك‪ :‬تكليف محمد بن الحارث الخشني‬
‫لتأليف بعض الكتب للمكتبة‪ ،‬كان منها كتاب )تاريخ قضاة قرطبة(‪،‬‬
‫وكتاب )فضائل المام مالك(‪ ،‬وغيرها كثير‪..970‬‬
‫‪ (3‬مركز النقل والترجمة‪:‬‬
‫كان مركز النقل والترجمة ُيزود المكتبة بالمصنفات في‬
‫الحضارة الجنبية والفكر العالمي‪ ،‬ومن ثم اهتم القسم بترجمة‬
‫أمهات الكتب من اللغات الخرى إلى اللغة العربية‪ ،‬وقد عمل في‬
‫قسم الترجمة نخبة ممتازة من لمترجمين الذين يجيدون اللغات‬
‫الجنبية‪ ،‬خاصة اليونانية واللتينية‪ ،‬وكان منهم‪ :‬عبد الله الصقلي‪،‬‬
‫ومحمد النباتي‪ ،‬ومحمد بن سعيد‪ ،‬وعبد الرحمن بن إسحاق بن‬
‫الهيثم‪ ،‬وغيرهم‪ ..‬وكان أكثر العلوم التي ترجمت في المجالت‬
‫العلمية‪ :‬الطب والهندسة والفلك‪.971‬‬
‫‪ (4‬مركز التدقيق والمراجعة‪:‬‬
‫كانت مهمة هذا القسم مراجعة الكتب وتصحيحها وتهذيبها‪،‬‬
‫سواء المؤلفة أو المترجمة؛ حتى تصبح خإلية من النقص العلمي أو‬
‫العيب المادي‪ ،‬وكان يعمل في هذا القسم نخبة من العلماء‬
‫المعروفين‪ ،‬والمشهود لهم بغزارة علمهم وتميزهم في كل تخصص‪..‬‬
‫وكان من هؤلء العلماء‪ :‬الرياض محمد بن يحيى بن عبد السلم‬
‫الزدي‪ ،‬وأبو محمد بن أبي الحسن الفهري القرطبي‪ ،‬ومحمد بن‬
‫معمر الجياني‪.972‬‬
‫‪ (5‬إدارة المكتبة‪:‬‬
‫شملت المكتبة ِفئات من العاملين‪ ،‬منهم فئة المؤلفين‪ ،‬وفئة‬
‫المترجمين‪ ،‬وفئة منتجي الكتب‪ ،‬وتشمل النساخين ومن في حكمهم‪،‬‬
‫كالمراجعين والمجلدين والمزخرفين‪ ،‬وفئة المتخصصين في شئون‬
‫المكتبات‪ ،‬كالقائمين بالعمال الفنية والخدمات المكتبية‪ ،‬بالضافة‬
‫إلى فئة العمال والسعاة الذين يقومون بعمليات المن والحراسة‪،‬‬
‫وتنظيم أثاث المكتبة‪.‬‬
‫وكان الفراد في كل فئة يعملون تحت إشراف مسئول يتولى‬
‫شئون العمل من حيث توزيعه عليهم وتجهيز مستلزماته‪ ،‬وكان‬
‫يشرف على هؤلء جميًعا من الناحية العلمية والدارية "خازن"‪ ..‬كانت‬
‫وظيفته تماثل وظيفة رئيس المكتبة أو مدير المكتبة‪ ،‬وكان يتولى‬

‫‪ 970‬إحسان عباس‪ :‬تاريخ الدب الندلسي ص ‪.48‬‬


‫‪ 971‬ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.1/328‬‬
‫‪ 972‬خوليان ريبيرا‪ :‬التربية السلمية في الندلس‪ ،‬ترجمة الطاهر أحمد مكي دار المعارف ص‬
‫‪.192‬‬
‫وظيفة الخازن أحد أساطين العلماء‪ ،‬أو أحد مشاهير الدباء‪ ،‬بحيث‬
‫يسمح عمله وتتيح ثقافته وخبرته القيام بهذه المسئوليات الجسام‬
‫على أكمل صورة‪.‬‬
‫وعلى هذا‪ ..‬كان للحياة العلمية على المستوى العام في قرطبة‬
‫د‪ ،‬لم تعهدهما تلك البقعة الجغرافية في زمانها‪..‬‬
‫ن جدي ٌ‬
‫ن آخر‪ ..‬وشأ ٌ‬
‫لو ٌ‬

‫قرطبة اللفية الثالثة‪:‬‬


‫للحال التي رأينا‪ ..‬وللحياة التي شاهدنا‪ ..‬ل غرو أن تصبح‬
‫قرطبة )منتصف القرن الرابع الهجري العاشر الميلدي( وكأنها مدينة‬
‫عصرية‪ ،‬تضارع المدن العالمية في اللفية الثالثة‪!!..‬‬
‫وكيف العجب وقد شهدت الحياة العلمية والتعليمية فيها نهضة‬
‫قلما نراها في عصرنا هذا‪ ..‬حتى انتشرت المدارس لتعليم الناس‪،‬‬
‫وحتى انتشرت المكتبات الخاصة والعامة‪ ،‬وحتى صارت هي أكثر بلد‬
‫الله كتب ً‍ا‪ ،‬وحتى غدت مركًزا ثقافًيا ومجمًعا علمًيا لكل العلوم وفي‬
‫شتى المجالت‪..‬‬
‫ما مع أبي بكر‬ ‫ومن عجيب ما يروى هنا أن ابن رشد تناظر يو ً‬
‫بن زهر‪ ،‬فقال ابن رشد‪ :‬إذا مات عالم بإشبيلية فأ ُِريد بيع كتبه حملت‬
‫إلى قرطبة حتى تباع فيها‪ ،‬وإن مات بقرطبة مطرب فأريد بيع آلته‬
‫حملت إلى إشبيلية‪!!..973‬‬
‫وقد كان الفقراء يتعلمون في مدارس بالمجان على نفقة‬
‫الحكام أنفسهم‪ ..‬ولذا فليس عجيًبا أن تعلم أن جميع أفراد الشعب‬
‫كان قد عرف القراءة والكتابة‪ ،‬ولم يوجد في قرطبة شخص‬
‫واحد ل يجيد القراءة والكتابة‪ ..974‬في حين لم يكن يعرفها أرفع‬
‫الناس في أوربا‪ ،‬باستثناء رجال الدين‪!!..‬‬
‫وجدير بالذكر أن هذه النهضة العلمية والحضارية في قرطبة‬
‫ضا نهضة إدارية‪ ،‬وذلك من خلل عدد من‬ ‫في ذلك الوقت‪ ،‬واكبها أي ً‬
‫المؤسسات والنظم الرائدة في الحكم‪ ،‬ومنها‪ :‬المارة والوزارة‪ ،‬وقد‬
‫تطورت أنظمة القضاء والشرطة والحسبة‪..‬‬
‫ضا نهضة صناعية عظيمة؛ إذ تطورت فيها الصناعة‬
‫وواكبتها أي ً‬
‫كثيًرا‪ ،‬واشتهرت صناعات مثل‪ :‬صناعة الجلود‪ ،‬وصناعة السفن‪،‬‬

‫المقري‪ :‬نفح الطيب ‪.1/155‬‬ ‫‪973‬‬

‫محمد ماهر حمادة‪ :‬المكتبات في السلم ص ‪ .99‬ط ثانية ‪1978‬م‪.‬‬ ‫‪974‬‬


‫وآلت الحرث‪ ،‬والدوية وغيرها‪ ..‬وكذلك استخراج الذهب والفضة‬
‫والنحاس‪!!975‬‬
‫أما إذا نظرت إلى الحياة المدنية والعصرية فيها‪ ،‬فتراها‬
‫مقسمة إلى خمس مدن‪ ،‬يقول المقري‪" :‬وبين المدينة والمدينة سور‬
‫عظيم حصين حاجز‪ ،‬وكل مدينة مستقلة بنفسها‪ ،‬وفي كل منها من‬
‫الحمامات‪ ،‬والسواق‪ ،‬والصناعات‪ ..‬ما يكفي أهلها"‪.976‬‬
‫كما تميزت قرطبة ‪ -‬كما يذكر ذلك ياقوت في معجم البلدان‪،‬‬
‫والدريسي في نزهة المشتاق ‪ -‬بأسواقها الممتلئة بكافة السلع‪ ،‬وكان‬
‫لكل مدينة سوقٌ خاص بها‪..977‬‬
‫وقد بلغ عدد ضواحي قرطبة ثمان وعشرين ضاحية‪ ،‬وكان فيها‬
‫ما‪ ،‬وثلثة آلف مسجد‪ ،‬وكان عدد سكان قرطبة في عهد‬ ‫ثلثمائة حما ً‬
‫عبد الرحمن الناصر خمسمائة ألف نسمة‪ ..‬وتعتبر بذلك ثاني أكبر‬
‫مدينة في تعداد السكان في العالم بأسره في ذلك الوقت‪ ،‬وذلك بعد‬
‫بغداد المدينة الولى‪ ،‬والتي كان تعداد سكانها يبلغ ثلثة مليين‪!!..‬‬
‫والجدير بالذكر أن عدد سكان قرطبة حالًيا يبلغ ‪310,000‬‬
‫نسمة تقريًبا‪!!978‬‬
‫وكانت قرطبة منذ عهد عبد الرحمن الناصر‪ ،‬والذي يعد عصره‬
‫ما أثبت‬
‫أزهى عصور الندلس جميًعا؛ إذ أنه حكم الندلس خمسين عا ً‬
‫ما في ميدان‬
‫حا تا ً‬
‫خللها أنه أكفأ الحكام‪ ،‬واستطاع أن يحرز نجا ً‬
‫السياسة وفي ميدان الحضارة على السواء‪ ..‬كانت قرطبة في عهده‬
‫ُتضاء بالمصابيح ليل ً لمسافة ‪ 16‬كم‪ !!..‬وكانت مبلطة‪ ،‬ومحاطة‬
‫بالحدائق الغناء‪ !!..‬وكذلك انتشر فيها البريد‪!!..‬‬
‫وقد طرق قرطبة في حدود سنة ‪350‬هق ابن حوقل‪ ،‬التاجر‬
‫الموصلي ‪ -‬كما يحكي ياقوت في معجمه ‪ -‬فقال يصفها‪" :‬وأعظم‬
‫مدينة بالندلس قرطبة‪ ،‬وليس لها في المغرب شبيه في كثرة الهل‬
‫وسعة الرقعة‪ ،‬ويقال‪ :‬إنها كأحد جانبي بغداد‪ ،‬وإن لم تكن كذلك فهي‬
‫قريبة منها‪ ،‬وهي حصينة بسور من حجارة‪ ،‬ولها بابان مشرعان في‬
‫نفس السور إلى طريق الوادي من الرصافة‪ ،‬والرصافة مساكن‬
‫أعإلى البلد متصلة بأسافله من ربضها وأبنيتها مشتبكة محيطة من‬
‫شرقيها وشمإليها وغربها وجنوبها‪ ،‬فهو إلى واديها‪ ،‬وعليه الرصيف‬
‫القلقشندي‪ :‬صبح العشى ‪.5/218‬‬ ‫‪975‬‬

‫المقري‪ :‬نفح الطيب من غصن الندلس الرطيب ‪.1/558‬‬ ‫‪976‬‬

‫ياقوت الحموي‪ :‬معجم البلدان ‪.4/324‬‬ ‫‪977‬‬

‫موقع ويكبيديا الرابط‪:‬‬ ‫‪978‬‬

‫‪http://ar.wikipedia.org/wiki/‬‬
‫‪%D9%82%D8%B1%D8%B7%D8%A8%D8%A9_(%D8%A5%D8%B3%D8%A8%D8%A7‬‬
‫)‪%D9%86%D9%8A%D8%A7‬‬
‫المعروف بالسواق والبيوع‪ ،‬ومساكن العامة بربضها‪ ،‬وأهلها متمولون‬
‫متخصصون"‪.979‬‬
‫بل إن سكان قرطبة قد تمّيزوا خاصة بأنهم أشراف‬
‫ة‪!!..‬‬
‫الناس وعلمائهم‪ ،‬وأرفعهم مكان ً‬
‫ل قرطبة‬‫يقول في ذلك الدريسي في نزهة المشتاق‪" :‬ولم تخ ُ‬
‫قَ ّ‬
‫ط من أعلم العلماء وسادات الفضلء‪ ،‬وتجارها مياسير لهم أموال‬
‫كثيرة وأحوال واسعة‪ ،‬ولهم مراكب سنية وهمم علية‪!!980"..‬‬
‫حميري في الروض المعطار‪" :‬قرطبة‪ :‬قاعدة‬ ‫ويقول ال ِ‬
‫الندلس‪ ،‬وأم مدائنها‪ ،‬ومستقر خلفة المويين بها‪ ،‬وآثارهم بها‬
‫ظاهرة‪ ،‬وفضائل قرطبة ومناقب خلفائها أشهر من أن تذكر‪ ،‬وهم‬
‫أعلم البلد وأعيان الناس‪ ،‬اشتهروا بصحة المذهب‪ ،‬وطيب‬
‫المكسب‪ ،‬وحسن الزي‪ ،‬وعلو الهمة‪ ،‬وجميل الخلق‪ ،‬وكان فيها‬
‫أعلم العلماء وسادات الفضلء‪.981"..‬‬
‫ويصفها ياقوت في معجمه فيقول‪" :‬مدينة عظيمة بالندلس‬
‫وسط بلدها‪ ،‬وكانت سريًرا لملكها وقصبتها‪ ،‬وبها كانت ملوك بني‬
‫أمية‪ ،‬ومعدن الفضلِء ومنبع النبلِء من ذلك الصقع‪.982"..‬‬
‫سام في كتابه الذخيرة‪" :‬كانت منتهى‬ ‫ويقول أبو الحسن بن ب ّ‬
‫الغاية‪ ،‬ومركز الراية‪ ،‬وأم القرى‪ ،‬وقرارة أهل الفضل والتقى‪ ،‬ووطن‬
‫أولي العلم والنهى‪ ،‬وقلب القليم‪ ،‬وينبوع متفجر العلوم‪ ،‬وقبة‬
‫السلم‪ ،‬وحضرة المام‪ ،‬ودار صوب العقول‪ ،‬وبستان ثمرة الخواطر‪،‬‬
‫وبحر درر القرائح؛ ومن أفقها طلعت نجوم الرض وأعلم العصر‪،‬‬
‫وفرسان النظم والنثر؛ وبها انتشأت التأليفات الرائقة‪ ،‬وصنفت‬
‫ما وحديًثا‬
‫التصنيفات الفائقة؛ والسبب في ذلك‪ ،‬وتبريز القوم قدي ً‬
‫هنالك على من سواهم‪ ،‬أن أفقهم القرطبي لم يشتمل قط إل على‬
‫أهل البحث والطلب‪ ،‬لنواع العلم والدب‪.983‬‬
‫وبالجملة فأكثر أهل بلد هذا الفق ‪ -‬يعني قرطبة خاصة‬
‫والندلس عامة ‪ -‬أشراف عرب المشرق افتتحوها‪ ،‬وسادات أجناد‬
‫ق كريم‪،‬‬‫الشام والعراق نزلوها؛ فبقي النسل فيها بكل إقليم‪ ،‬على عر ٍ‬
‫فل يكاد بلد منها يخلو من كاتب ماهر‪ ،‬وشاعر قاهر‪!!"..‬‬
‫ويصفها وأهلها ابن الوردي في خريدة العجائب فيقول‪" :‬وأهلها‬
‫أعيان البلد‪ ،‬وسراة الناس في حسن المآكل والملبس والمراكب‬
‫ياقوت الحموي‪ :‬معجم البلدان ‪.4/324‬‬ ‫‪979‬‬

‫الدريسي‪ :‬نزهة المشتاق في اختراق الفاق ‪.2/575‬‬ ‫‪980‬‬

‫الحميري‪ :‬الروض المعطار في خبر القطار ص ‪.456‬‬ ‫‪981‬‬

‫ياقوت الحموي‪ :‬معجم البلدان ‪.4/324‬‬ ‫‪982‬‬

‫أبو الحسن بسام‪ :‬الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة ‪ ،1/33‬تحقيق‪ :‬إحسان عباس‪.‬‬ ‫‪983‬‬
‫وعلو الهمة‪ ،‬وبها أعلم العلماء وسادات الفضلء وأجلء الغزاة وأمجاد‬
‫الحروب‪!!"..‬‬
‫ثم قال بعد أن وصف مسجدها وقنطرتها‪" :‬ومحاسن هذه‬
‫المدينة أعظم من أن يحيط بها وصف"‪!!..984‬‬
‫كانت هذه هي إحدى مدن الحضارة السلمية في العالم‬
‫الغربي‪ ..‬وليست هي الوحيدة‪ ،‬بل لو كان حديثنا عن بغداد أو دمشق‬
‫أو القاهرة أو البصرة أو غيرها وغيرها‪ ،‬لكان على نفس الدرجة من‬
‫العجب أو أشد‪ ..‬ول غرو؛ فهذه حضارة المسلمين‪ ،‬أعظم حضارات‬
‫الدنيا‪ ،‬ودرة الجبين في تاريخ النسانية الطويل!!‬

‫ابن الوردي‪ :‬خريدة العجائب وفريدة الغرائب ص ‪.12‬‬ ‫‪984‬‬


‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في بناء الدولة‬
‫الزنكية واليوبية‬
‫)نور الدين محمود ‪ -‬صلح الدين اليوبي(‬
‫إنه المجاهد الكبير نور الدين محمود‪ ،‬الذي توّلى إمارة حلب‬
‫ضا )عماد الدين زنكي(؛ فوضع نصب عينيه‬ ‫بعد وفاة والده المجاهد أي ً‬
‫السير على منهاج أبيه في جهاد الصليبيين‪ ،‬الذين كانوا قد بدءوا في‬
‫كن من التغّلب عليهم‪ ،‬في بعض المناطق‪،‬‬ ‫احتلل إمارات الشام‪ ،‬وتم ّ‬
‫وتمكن من فرض سيطرته على عدد ٍ من قلع الشام‪ ،‬كما استطاع –‬
‫كذلك ‪ -‬أن يضم إنطاكية لمارته‪ ،‬ثم دمشق بعد ذلك‪ ،‬ثم استطاع أن‬
‫يضم إليه مصر‪ ،‬ودخلت تحت سيطرته‪.‬‬
‫لقد كان ذلك المجاهد قريًبا من العلم قربه من الجهاد؛ فيذكر‬
‫صا على‬ ‫)ابن عساكر( في حديثه عن )نور الدين محمود(‪" :‬وكان حري ً‬
‫تحصيل الكتب الصحاح والسنن‪ ،‬كثير المطالعة للفقه والحديث"‪.985‬‬
‫جهوده في نشر العلم‪:‬‬
‫ن من مآثر نور الدين محمود أن حياة الجهاد العظيمة التي‬ ‫إ ّ‬
‫عاشها لم تشغله عن الهتمام بالعلم سواء بتعلمه أو الهتمام بنشره؛‬
‫مه الشديد بالعلم‪ ،‬والمبالغة‬ ‫ُ‬
‫فقد أث َِر عن نور الدين محمود ~ اهتما ُ‬
‫ة منه في إعادة بناء دولته )الزنكية( بناًء قو ًّيا‬ ‫في العطاء عليه‪ ،‬رغب ً‬
‫س من العلم؛ من هنا حرص ~ على نشر العلم والتعليم بين‬ ‫على أسا ٍ‬
‫الناس‪ ،‬فأمر بإنشاء عدد من مدارس الفقه في شتى مذاهبه‪ ،‬لتكون‬
‫ة لطلب العلم‪ ،‬فأمر بإنشاء )المدرسة العادلية( في المذهب‬ ‫قبل ً‬
‫ن بنى‬ ‫م ْ‬ ‫الشافعي‪ ،‬والمدرسة )البدرية( للمذهب الحنفي‪ ،‬وكان أول َ‬
‫ة للحديث هو نور الدين محمود‪ ،986‬فقد كان يؤمن أنه ل يمكن‬ ‫مدرس ً‬
‫أن تقيم راية الجهاد إل إذا أعددت الشعب بالتعليم؛ لذا كان ي ُعِد ّ‬
‫الناس للجهاد بنفخ روح اليمان في نفوسهم من ناحية‪ ،‬وبنشر العلم‬
‫والثقافة من ناحية أخرى‪.‬‬
‫ولم يكن اهتمامه ~ منصًبا على علوم الدين فحسب‪ ،‬بل كان‬
‫يقدر لعلوم الحياة قدرها؛ فقد كان ~ شديد الهتمام بالبتكار في‬
‫ث العلماَء على‬
‫سائر المجالت كالفلك وعلم النجوم‪ ،‬وكان يح ّ‬
‫البتكار؛ من ذلك ما فعله مع رضوان بن رستم الساعاتي‪ ،‬الذي صنع‬

‫ابن عساكر ‪ :‬تاريخ دمشق ‪.118 /57‬‬ ‫‪985‬‬

‫انظر بالتفصيل‪ :‬عبد القادر النعيمي ‪ :‬الدارس في تاريخ المدارس ‪.1/149‬‬ ‫‪986‬‬
‫صه‬
‫ت التي عند باب الجامع الموي بدمشق‪ ،‬حيث كان يخ ّ‬ ‫الساعا ِ‬
‫بالكثير من المال والعطايا‪ ،‬حتى يتقدم في صناعته ويتقنها ‪..‬‬
‫‪987‬‬

‫م نور الدين محمود بإنشاء المستشفيات‬ ‫كذلك اهت ّ‬


‫)البيمارستانات(‪ ،‬وجعلها تقدم الخدمة الطبية المجانية للشعب‪ ،‬وقد‬
‫انتشرت في أغلب مدن الدولة الزنكية‪ ،‬وُتعت ََبر البيمارستانات من‬
‫مفاخر الحضارة السلمية التي سبقت غيرها من الحضارات‪.‬‬
‫وكان الملك العادل نور الدين محمود وخلفاؤه من البيت‬
‫اليوبي هم أول من استكثر منها من الملوك والسلطين‪ ،‬كما اهتموا‬
‫ة لبلدهم من الوبئة‬
‫ما بالًغا وقاي ً‬
‫بدراسة الطب وممارسته اهتما ً‬
‫والمراض‪ ،‬وكانت حلب في عهد الملك نور الدين محمود إحدى‬
‫مراكز تدريس الطب في بلد الشام‪ ،‬وكان ميدان ذلك البيمارستان‬
‫النوري الذي كان يؤدي رسالة علمية لها أهميتها في تدريس الطب‬
‫إضافة إلى قيامه بوظيفته الساسية علج المرضى ومتابعتهم‪.988‬‬
‫أهم المؤسسات العلمية التي أنشأها‪:‬‬
‫‪ -1‬البيمارستانات‪:‬‬
‫أ‪ -‬البيمارستان النوري‪ :‬قال ابن الشحنة‪ :‬إن الملك نور الدين‬
‫محمود هو الذي بنى هذا البيمارستان داخل باب أنطاكية بالقرب من‬
‫ن الملك نور الدين حينما أراد‬ ‫سوق الهواء‪ .989‬وقد ذكر ابن الشحنة أ ّ‬‫ُ‬
‫بناء هذه البيمارستان طلب من الطباء أن يختاروا من حلب أفضل‬
‫بقعة‪ ،‬صحيحة الهواء صالحة لقامة البيمارستان بها‪ ،‬وذبحوا خروًفا‬
‫ما أصبحوا وجدوا‬ ‫وقطّعوه أربعة أرباع‪ ،‬وعّلقوها بأرباع المدينة لي ً‬
‫ل‪ ،‬فل ّ‬
‫أحسنها رائحة الّربع الذي كان في هذا الموقع‪ ،‬فبنوا البيمارستان فيه ‪،‬‬
‫وهذه خطة حكيمة في اختيار المكان الصالح لبناء البيمارستان‪ ،‬ومما‬
‫يذكر أن هذا المر شبيه بما فعله "الرازي" من قبل في بغداد حينما‬
‫أشرف على بناء المستشفى العضدي‪ ،990‬كل ذلك في وقت تنعدم فيه‬
‫آلت قياس البعاد ودرجات الحرارة واختبارات الجواء‪.‬‬
‫ويقع هذا البيمارستان حإليا في منطقة الجلوم الكبرى في‬
‫الزقاق المعروف حإليا بزقاق البهرامّية‪ ،991‬وقد وجد مكتوًبا عند باب‬
‫البيمارستان‪ :‬بسم الله الرحمن الرحيم أمر بعمله المولى الملك‬
‫العادل المجاهد المرابط العز الكامل صلح الدنيا والدين ِقسيم‬
‫‪ 987‬عبد القادر النعيمي‪ :‬الدارس في تاريخ المدارس ‪.1/433‬‬
‫‪ 988‬إبراهيم المزيني‪ :‬الحياة العلمية في العهد الزنكي ص ‪.412‬‬
‫‪ 989‬ابن الشحنة ‪:‬الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب ص ‪. 230‬‬
‫ضا بذبح خروف ‪ ،‬وتقطيعه أربعة أرباع‪ ،‬ووضع كل ربع في مكان‪ ،‬ولما أصبح‬ ‫‪ 990‬قام الرازي أي ً‬
‫نظر إلي أكثر الجزاء التي لم تتغير رائحتها‪ ،‬فبنى فيها المستشفى‪ :‬انظر السباعي‪ :‬من روائع‬
‫حضارتنا ‪. 101‬‬
‫‪991‬خير الدين السدي‪ :‬أخبار حلب وأسواقها ص ‪.167‬‬
‫الدولة رضي الخلفة تاج الملوك والسلطين ناصر الحق بالبراهين‬
‫محي العدل في العالمين قامع الملحدين قاتل الكفرة المشركين أبو‬
‫القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر ناصر أمير المؤمنين أدام الله‬
‫دولته‪ ،992‬وكان نور الدين قد أوقف على هذا البيمارستان عدًدا كبيًرا‬
‫من الوقاف‪993‬؛ لكي ت ُد ِّر قدًرا وفيًرا من المال لتأمين نفقات هذا‬
‫البيمارستان الكبير‪ ،‬وقد أشار محمد كرد إلى وجود مكتبة متخصصة‬
‫داخل البيمارستان تشتمل على كثيرٍ من الكتب الطبية التي أوقفها‬
‫كد أثر هذا‬‫ما يؤ ّ‬
‫الملك نور الدين محمود على هذا البيمارستان‪994‬؛ م ّ‬
‫البيمارستان في النشاط العلمي في هذا العهد إلى جانب الوظيفة‬
‫الطبية التي كان يقوم بها‪.‬‬
‫ب هذا البيمارستان‬
‫س ُ‬
‫ب‪ -‬البيمارستان النوري في دمشق‪ُ :‬ين َ‬
‫إلى لملك نور الدين محمود زنكي قال عنه ابن الثير‪ :‬وبنى‬
‫البيمارستانات في البلد‪ ،‬ومن أعظمها البيمارستان الذي بناه‬
‫فا على الفقراء فحسب‪ ،‬بل على‬ ‫بدمشق؛ بلغني أنه لم يجعله وق ً‬
‫كاّفة المسلمين من غني وفقير ‪.‬‬
‫‪995‬‬

‫وقد اشتهر البيمارستان النوري في دمشق في عهد نور الدين‬


‫محمود زنكي بتدريس الطب‪ ،‬وقد أشار إلى ذلك ابن أبي أصيبعة وهو‬
‫ُيترجم لشيخه الطبيب أبي المجد بن أبي الحكم المتوفي سنة ‪570‬ه‪/‬‬
‫‪1174‬م؛ فالبيمارستان كان في ذلك العهد هو المكان الرئيسي لمهنة‬
‫الطب والصيدلة من حيث التدريس والتطبيق‪ ،‬كما شاركه في ذلك‬
‫مجالس العلم التي كان يعقدها الموصوفون بصناعة الطب وتدريسه‬
‫شْر المصادر إلى وجود مدارس مستقلة بتدريس‬ ‫لطلبهم‪ ،‬ولم ت ُ ِ‬
‫الطب في العهد الزنكي كما هو الشأن في العهد اليوبي بعد ذلك‪،‬‬
‫شئت أول مدرسة خاصة لتدريس الطب سنة ‪621‬ه‪1224/‬م‬ ‫ُ‬
‫عندما أن ِ‬
‫وهي المدرسة قبلي الجامع الموي بدمشق‪.996‬‬
‫‪ -2‬المدارس‪ :‬كانت المساجد هي المراكز الولى للتعليم في‬
‫السلم‪ ،‬إلى جانب كونها محل عبادة المسلمين‪ ،‬ومقر اجتماعاتهم‬
‫ولكن مع مرور الزمن انتقل التعليم في بعض مظاهره عن المساجد‬
‫إلى أماكن أخرى ع ُرَِفت بالمدارس‪ ،‬ولما تولى نور الدين حكم الدولة‬
‫الزنكية شاهدت حركة بناء المدارس انتشاًرا واسًعا فقد أخذ في‬
‫إنشائها‪ ،‬واستدعى لها كبار العلماء من مختلف القطار السلمية‪،‬‬
‫وبنى لهم العديد من المدارس في شتى أرجاء مملكته‪ ،‬وكان يهدف‬

‫‪ 992‬كامل الحلبي‪ :‬نهر الذهب في تاريخ حلب ‪.66 ،2/65‬‬


‫‪ 993‬ابن الشحنة‪ :‬الدرالمنتخب ص ‪.231‬‬
‫‪ 994‬محمد كرد علي‪ :‬خطط الشام ‪.6/187‬‬
‫‪ 995‬ابن الثير‪ :‬التاريخ الباهر في الدولة التابكية بالموصل ص ‪.170‬‬
‫‪996‬ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.413 / 1‬‬
‫من ذلك إلى دعم المذهب السني‪ ،‬ومقاومة التشيع في المنطقة‪،‬‬
‫ومن أهم المدارس التي قام بإنشائها‪:‬‬
‫المدارس في حلب‪ :‬بدأت الحركة العلمية تبرز في حلب في‬
‫بداية حكم نور الدين محمود لها في عام ‪541‬ه والذي ركز نشاطه‬
‫مُنذ استلمه الحكم في تنفيذ سياسته الرامية إلى الوقوف بشدة‬
‫أمام المذهب الشيعي الذي زاد انتشاره آنذاك في حلب‪ ،‬فحرص‬
‫على تقويضه وإحلل المذهب السني مكانه‪ ،‬مما تطلب منه القيام‬
‫بجهود علمية بارزة تجاه ذلك‪ .‬كان منها تشجيع العلم والعلماء عن‬
‫طريق إنشاء العديد من المدارس على مختلف المذاهب السنية‪،‬‬
‫وتوجيه التعليم وجهة سنية عن طريق تشجيع تدريس العلوم‬
‫فاء لتولي المهمة‪ ،‬وبهذه‬‫الشرعية‪ ،‬وقد جلب عدًدا من العلماء ال َك ْ َ‬
‫صل الفكر الشيعي بها‪،‬‬ ‫السياسة نجح نور الدين في إنقاذ حلب من تأ ّ‬
‫كن من تحويلها إلى مركز من مراكز السنة بعد أن كانت قاعدة‬ ‫وتم ّ‬
‫للمذهب الشيعي في المنطقة‪ ،997‬وقد أثمرت تلك الجهود في دعم‬
‫حركة التعليم في حلب حتى أصبحت من المراكز العلمية المشهورة‬
‫التي جلبت أنظار العلماء من مختلف القطار السلمية‪ ،‬بل ربما‬
‫وقت عليها في بعض المجالت لما تميزت به حلب من موقع‬ ‫تف ّ‬
‫متوسط بين تلك المراكز‪ ،‬وإمكانات مادية وبشرية تفوق في بعض‬
‫الحيان إمكانات المراكز الخرى‪ ،‬إضافة إلى استمرار النشاط العلمي‬
‫بها في فترات لحقة للحكم الزنكي في نفس القوة التي بدأ بها نظًرا‬
‫لما لقته تلك المارة من دعم وتشجيع مستمرين طيلة عصر نور‬
‫الدين‪ ،‬والسلطين اليوبيين والممإليك من بعدهم )‪ .(998‬وكانت أبرز‬
‫المدارس التي أنشئت في حلب‪:‬‬
‫المدرسة النورية‪ :‬أنشأها الملك العادل نور الدين محمود‬
‫سنة ‪544‬ه )‪1149‬م( وكان الشيخ قطب الدين النيسابوري وهو أول‬
‫من ُولي التدريس في هذه المدرسة‪ ،‬وكان قدم إليها من دمشق‪ ،‬ثم‬
‫ولي تدريسها بعده مجد الدين طاهر بن جهبل المتوفى سنة )‪597‬ه‪/‬‬
‫‪1201‬م(‪.999‬‬
‫المدرسة العصرونية‪ :‬كان موقع هذه المدرسة في الصل‬
‫مرداس أصحاب حلب‬ ‫دار لبي الحسن علي بن أبي الُثرّيا وزير بني ِ‬
‫ولها‬
‫ولما جاء نور الدين محمود إلى حلب اشترى هذه الدار وح ّ‬
‫مدرسة‪ ،‬وجعل فيها مساكن للمدرسين بها من الفقهاء وذلك سنة‬
‫‪550‬ه حسب ما جاء في بعض المصادر التاريخية‪ ،1000‬وبعد أن أّتم نور‬
‫الدين محمود بناء هذه المدرسة استدعى لها من نواحي سنجار المام‬

‫‪ 997‬إبراهيم المزيني‪ :‬الحياة العلمية في العهد الزنكي ص ‪.389‬‬


‫‪ 998‬انظر النعيمي‪ :‬الدارس في تاريخ المدارس ‪ 167‬ومابعدها‪.‬‬
‫‪ 999‬النعيمي‪ :‬الدارس في تاريخ المدارس ‪.262/ 1‬‬
‫‪ 1000‬ابن الشحنة‪ :‬الدر المنتخب ص ‪.110‬‬
‫وض‬
‫شرف الدين عبد الله بن أبي عصرون المتوفي سنة ‪585‬ه ‪ ،‬وف ّ‬
‫إليه مهنة التدريس بها والنظر في أوقافها‪ ،‬وهو أو ّ‬
‫ل من دّرس بها‬
‫فعُرَِفت به‪ ،‬ونسبت إليه‪.1001‬‬

‫وانية‪ُ :‬تنسب هذه المدرسة للمير‬


‫ج ّ‬
‫المدرسة السدية ال ُ‬
‫أسد الدين شيركوه بن شاذى بن مروان المتوفي سنة ‪564‬ه‪/‬‬
‫‪1168‬م الذي أنشاها بمحلة الرحبة بحلب للمذهب الشافعي ‪.‬‬
‫‪1002‬‬

‫دا يقال‪:‬‬ ‫شعْيبّية‪ :‬كان موقع هذه المدرسة مسج ً‬ ‫المدرسة ال ُ‬


‫ف هذا‬‫طه المسلمون عند فتح حلب من المساجد‪ ،‬وع ُرِ َ‬ ‫إنه أول ما اخت ّ‬
‫ما ملك نور‬ ‫المسجد بأبي الحسن الغضائ ِرِيّ المتوّفى سنة ‪313‬ه؛ فل ّ‬
‫شعيب‬ ‫الدين محمود حلب‪ ،‬وأنشأ بها المدارس وصل الشيخ ُ‬
‫سا بها‬‫صير له هذا المسجد مدرسة‪ ،‬وجعله مدر ً‬ ‫الندلسي إلى حلب؛ ف ّ‬
‫سا بها إلى أن توفي بطريق‬ ‫مدّر ً‬
‫فعرفت به‪ ،‬ولم يزل الشيخ شعيب ُ‬
‫مكة سنة ‪596‬ه‪1199/‬م‪.1003‬‬
‫ب‪ -‬في دمشق‪ :‬كانت أول مدرسة أشارت المصادر إلى‬
‫إنشائها في دمشق سنة ‪491‬ه‪1097/‬م هي المدرسة الصادرية‬
‫الحنفية ثم تل ذلك إنشاء العديد من المدارس‪ ،‬في الحكم الزنكي‬
‫لدمشق )‪549‬ه ‪569 -‬ه‪1174 – 1154/‬م( وقد توزعت تلك‬
‫المدارس على المذاهب السنية الربعة‪ ،‬ولكن المذهب الحنفي‬
‫والشافعي هما السائدان على مدارس دمشق في ذلك العهد يليهما‬
‫المذهب الحنبلي‪ ،‬وأخيًرا المذهب المالكي‪ ،‬ومن أهم هذه المدارس‪:‬‬
‫المدرسة الُنورية الكبرى‪ :‬ذكر ابن شداد أن هذه المدرسة‬
‫خواصين‪ ،1004‬وأن الذي بناها هو نور الدين محمود زنكي‪،1005‬‬ ‫تقع بخط ال ّ‬
‫وقد شاهد الرحالة الندلسي ابن جبير هذه المدرسة في زيارته‬
‫لدمشق سنة ‪580‬ه‪ ،‬ووصفها بأنها من أحسن مدارس الدنيا منظًرا‪،‬‬
‫وأنها قصر من القصور النيقة"ينصب فيها الماء وسط نهر عظيم ثم‬
‫يمتد الماء في ساقية مستطيلة أن يقع في صهريج كبير وسط الدار‪،‬‬
‫فتحار البصار في حسن ذلك المنظر فكل من يبصره يجدد الدعاء‬
‫لنور الدين‪.1006"~ ،‬‬

‫‪1001‬عز الدين بن شداد‪ :‬العلق الخطيرة ‪، 244‬و النعيمي‪ :‬الدارس في تاريخ المدارس ‪./1 :‬‬
‫‪167‬‬
‫‪ 1002‬النعيمي‪ :‬الدارس في تاريخ المدارس ‪ ، 1/55‬وعز الدين بن شداد‪ :‬العلق‪.253 :‬‬
‫‪ 1003‬عز الدين بن شداد‪ :‬العلق‪.257 :‬‬
‫‪1004‬يسميه أهالي دمشق حالًيا‪ :‬سوق الخياطين‪.‬‬
‫‪ 1005‬عز الدين بن شداد‪ :‬العلق الخطيرة ‪ .248‬وانظر‪ :‬النعيمي‪ :‬الدارس في المدارس ‪.1/262‬‬
‫‪ 1006‬رحلة ابن جبير‪.1/107 :‬‬
‫وقد نالت هذه المدرسة مكانة علمية كبيرة في ذلك العهد؛‬
‫حيث كانت في مقدمة مدارس دمشق‪ ،‬وبخاصة في عصر منشئها‬
‫ة‬
‫كر حرك ُ‬ ‫الملك نور الدين محمود والسنوات التي أعقبتها‪ ،‬وحينما ُتذ َ‬
‫التعليم في بلد الشام في تلك العصور ُيشار إلى هذه المدرسة في‬
‫مقدمة دور التعليم‪ ،‬وتتضح أهمية هذه المدرسة في الثر العلمي‬
‫معيدوها‪ ،‬وفي العداد الوافرة من‬ ‫الذي تركه شيوخها ومدرسوها و ُ‬
‫ة إلى ما قامت به تلك المدرسة من‬ ‫الطلب الذين تخّرجوا فيها‪ ،‬إضاف ً‬
‫نشاط سياسي واجتماعي كبير في ذلك العهد‪ ،‬وقراءة الكتابة‬
‫كون العتبة العليا لباب المدرسة تبين لنا‬ ‫المسجلة على الحجر الذي ي ّ‬
‫حجم الوقاف التي أوقفها نور الدين على هذه المدرسة للنفاق من‬
‫ِريعها على الطلب والمدرسين والعاملين بالمدرسة إنفاًقا سخًيا‬
‫ص هذه الكتابة كالتي‪ :‬بسم الله الرحمن الرحيم أنشأ‬ ‫متوأص ً‬
‫ل‪ ،‬ون َ ّ‬
‫هذه المدرسة المباركة العادل الزاهد نور الدين أبو القاسم محمود‬
‫بن زنكي آق سنقر ضاعف الله ثوابه‪ ،‬ووقفها على أصحاب المام‬
‫سراج المة أبي حنيفة رضي الله عنه‪ ،‬ووقف عليها‪ ،‬وعلى الفقهاء‪،‬‬
‫حمامين‬ ‫مستجد بسوق القمح‪ .‬وال ّ‬ ‫حمام ال ُ‬
‫والمتفقهة بها جميع ال ّ‬
‫المستجدين بالوراقة ظاهر باب السلمة‪ ،‬والدار المجاورة والريع من‬
‫بستان الجوزة بالرزة‪ ،‬والحدى والعشرين حانوًتا خارج باب الجابية‪،‬‬
‫ص‬
‫والساحة الملصقة لها من الشرق‪ ،‬والستة حقول بداريا‪ ،‬على ما ن ُ ّ‬
‫رط؛ فكتب الوقف رغبة في الخرة‪ ،‬وتقدمه بين يديه يوم‬ ‫و ُ‬
‫ش ِ‬
‫الحساب‪ :‬فمن ّبدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن‬
‫الله سميع عليم‪.1007‬‬
‫المدرسة العمادية‪ :‬بناها نور الدين محمود ~ تعالى برسم‬
‫خطيب دمشق أبي البركات بن عبد الحارثي وهو أول من دّرس بها‪،‬‬
‫ونسبت للعماد الصفهاني لتدريسه بها بعده وقد ذكر العماد خبر‬
‫تدريسه في هذه المدرسة سنة ‪567‬ه فقال‪ :‬وفي رجب من هذه‬
‫ل علي‬ ‫وض إلى المدرسة التي بحضرة حمام القصير‪ ،‬وعو ّ‬ ‫السنة ف ّ‬
‫في التدريس بها والنظر في أوقافها‪.1008‬‬
‫دور الحديث‪ :‬على الرغم من انتشار حركة المدارس في‬
‫العهد الزنكي‪ ،‬وشيوع لفظ "مدرسة" على المكان المخصص للتعليم‬
‫جد بجانبها ُدوٌر تعليمية تؤدي الغراض نفسها‬
‫والقامة والرعاية‪ ،‬فقد وُ ِ‬
‫التي تنهض بها المدارس‪ ،‬وإن لم تحمل اسمها فلفظ )دار( كان‬
‫مرادًفا في المعنى والوظيفة لكلمة مدرسة‪ ،‬وقد ورد كثيًرا في ذلك‬
‫العهد‪ ،‬فنور الدين محمود أنشأ دار الحديث بدمشق‪ ،‬وهي الولى من‬
‫مى مدرسة‪ ،‬ومن بعده‬ ‫نوعها في السلم‪ ،‬ولم يطلق عليها مس ّ‬
‫تكاثرت دور الحديث كمدارس أحادية يخصصها لهذا العلم‪ ،‬وقد ع ُِني‬

‫‪1007‬الزيني‪ :‬الحياة العلمية في العهد الزنكي ‪.165‬‬


‫‪ 1008‬العماد الصفهاني‪ :‬البرق الشامي ‪ ،1/30‬وانظر الدارس‪.1/171 :‬‬
‫ة كبيرة ً باعتباره المصدر‬
‫المسلمون بدراسة الحديث الشريف عناي ً‬
‫الثاني من مصادر التشريع السلمي بعد القرآن الكريم‪ ،‬ومن مظاهر‬
‫دور التي تتولى مهمة تدريس أقوال النبي ‪،‬‬ ‫العناية به إنشاء تلك ال ّ‬
‫وأفعاله‪ ،‬وأحواله من حيث رواية الحديث والبحث عن كيفية اتصال‬
‫طا وعدالة‪ ،‬ومن‬ ‫الحاديث بالرسول ‪ ‬من حيث أحوال رواتها ضب ً‬
‫عا‪ ،‬كما تتناول دراسة المعنى‬ ‫حيث كيفية السند اتصال ً وانقطا ً‬
‫المفهوم من ألفاظ الحديث‪ ،‬والمراد منها مبيًنا على قواعد اللغة‬
‫قا لحوال النبي ‪ .1009‬وكان التجاه‬ ‫العربية‪ ،‬وضوابط الشريعة‪ ،‬ومطاب ً‬
‫سا‪ ،‬وتشييد د ُُور خاصة به‬
‫إلى العناية بالحديث الشريف دراسة وتدري ً‬
‫من أبرز سمات التعليم في العهد الزنكي‪ ،‬وُتعد مبادرة نور الدين تلك‬
‫كا منه للظروف المحيطة بالمنطقة في تلك المدة سواء ما‬ ‫إدرا ً‬
‫مل عبء تقويضه من المنطقة‪،‬‬ ‫يختص منها بالمذهب الشيعي‪ ،‬وتح ّ‬
‫ونشر المذهب السني‪ ،‬أو ما يتمثل بالخطر الصليبي المحيط‬
‫بالمنطقة‪ ،‬إذ كانت مهمة تلك المعاهد أن تقوم بدورها إلى جانب دور‬
‫التعليم الخرى في تهيئة الناس وإعدادهم للجهاد ضد العدوان‪،‬‬
‫فكثرت الدراسات والتأليف حول فضائل الجهاد والحث عليه‪ ،‬وزاد‬
‫الهتمام بدراسة هذا التخصص‪ ،‬وكانت دور الحديث مقًرا لذلك‬
‫النشاط‪.1010‬‬
‫أ‪ -‬في حلب‪ :‬أوردت في بعض المصادر إشارات إلى وجود‬
‫العديد من دور الحديث في حلب في هذا العهد‪ ،‬ولكن تلك المصادر‬
‫لم تورد أية تفصيلت عن نشأة تلك الدور أو نشاطاتها أو مواقعها‪،‬‬
‫واكتفت بنسبتها إلى مؤسسيها‪ ،‬وكان أبرز تلك الدور ما يأتي‪:‬‬
‫‪ -‬دار للحديث ُتنسب للملك العادل نور الدين محمود‪ ،1011‬وهي‬
‫غير الزاوية التي أوقفها نور الدين داخل جامع حلب لتدريس هذا‬
‫العلم ‪.‬‬
‫‪ -‬دار أخرى أنشأها نائب نور الدين في حلب مجد الدين ابن‬
‫داية المتوفى سنة ‪565‬ه‪1170/‬م‪.1012‬‬‫ال ّ‬
‫‪ -‬دار أنشأتها أم الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود‬
‫في الخاِنقاه التي ب َن َْتها‪.1013‬‬
‫ب‪ -‬في دمشق‪ :‬كانت العناية بالحديث الشريف دراسة‬
‫سا‪ ،‬وإنشاء د ُُور خاصة به كان من أبرز سمات التعليم في هذا‬
‫وتدري ً‬
‫العهد‪ ،‬إذ بادر الملك نور الدين محمود بإنشاء أول دار للحديث في‬
‫‪1009‬كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون‪ ،‬حاجي خليفة ص ‪.132‬‬
‫‪1010‬الحياة العلمية في العهد الزنكي ص ‪.133‬‬
‫‪ 1011‬ابن الشحنة ‪ :‬الدر المنتخب ص ‪.123‬‬
‫‪1012‬عز الدين بن شداد‪ :‬العلق الخطيرة ‪ 286‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪1013‬السابق نفسه‪.‬‬
‫السلم‪ ،‬وهي دار الحديث النورية بدمشق‪ ،‬والتي أوكل مهمة‬
‫التدريس فيها والشراف عليها إلى أبرز أعلم عصره في هذا المجال‪،‬‬
‫وهو الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر المتوفي سنة ‪571‬ه )‬
‫‪1176‬م( ثم تلى ذلك إنشاء العديد من دور الحديث في العالم‬
‫السلمي‪ .‬ولم يكن في دمشق في هذا العهد سوى هذه الدار ‪.‬‬
‫‪1014‬‬

‫وبتشجيع من الملك العادل نور الدين محمود ّتم تأليف أكبر‬


‫مصنف عن تاريخ دمشق‪ ،‬وهو )تاريخ مدينة دمشق( للحافظ ابن‬
‫ي خبر جمعي له إلى‬ ‫عساكر وقد جاء في مقدمة هذا الكتاب‪" :‬وَرقِ َ‬
‫حضرة الملك الكامل العادل الزاهد المجاهد المرابط الهمام‪ ،‬أبي‬
‫القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر ناصر المام‪ ...‬وبلغني تشوقه‬
‫سر منه بعض اللمام‪،‬‬ ‫إلى الستنجاز والستتمام ليّلم بمطالعة ما تي ّ‬
‫فراجعت العمل فيه راجًيا الظفر بالتمام‪ ،‬شاكًرا لما ظهر منه من‬
‫حسن الهتمام"‪1015‬؛ مما يوضح حرص نور الدين محمود على الطلع‬
‫على تاريخ عاصمته )دمشق(‪ ،‬وتشوقه إلى ذلك‪ ،‬كما أنه يؤرخ لنا‬
‫زمن تصنيف ابن عساكر لهذا الكتاب‪ ،‬ويعد هذا العمل من الثار‬
‫العلمية المجيدة التي تبناها نور الدين محمود‪.‬‬
‫أثر العلماء في دولة نور الدين‪:‬‬
‫كان لبعض العلماء المشتغلين بالتعليم والتربية والوعظ‬
‫والرشاد دور بارز في دولة نور الدين تمثل في التي‪:‬‬
‫ما‬
‫أ‪ -‬الجهاد ضد الصليبيين‪ :‬كان نور الدين محمود يعمل دائ ً‬
‫بمشورة العلماء ومساندتهم؛ حيث كانت لهم الكلمة النافذة‪ ،‬والمكانة‬
‫ل من الموصل وبلد الشام في ذلك‬ ‫المرموقة‪ ،‬والحظ الوافر في ك ّ‬
‫العهد‪ ،‬ومن العلماء الذين كان لهم أثر بارز في الجهاد ضد الصليبيين‪،‬‬
‫الحافظ المحدث أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر‪ ،1016‬ومن‬
‫م إلى العلماء المجاهدين توجيه الحديث‬ ‫أعماله التي قام بها لينض ّ‬
‫خا لول دار‬ ‫الشريف لخدمة الجهاد ضد الصليبيين باعتباره شي ً‬
‫تخصصية تنشأ لتدريس الحديث في السلم‪ ،‬وهي دار الحديث الّنورية‬
‫بدمشق؛ فقد حرص الحافظ على تدريس ما يتعّلق منه بباب الجهاد‪،‬‬
‫ث على فضائله‪ ،‬ودراسة الحاديث والداب المتعلقة به‪ ،‬وقد جمع‬ ‫والح ّ‬
‫لنور الدين أربعين حديًثا في فضائل الجهاد في جزء واحد؛ دفعه إلى‬
‫ث الناس على فضائل الجهاد‪ ،‬والستشهاد في‬ ‫ح ّ‬
‫جمعه رغبُته في َ‬
‫سبيل الله‪ ،1017‬كما كان للعماد الصفهاني الديب الكاتب المتوّفى سنة‬
‫‪597‬ه أثر بارز في الجهاد ضد الصليبيين؛ فقد انتقل إلى دمشق‬

‫‪1014‬ابن عساكر‪ :‬تاريخ دمشق ‪.7 /1‬‬


‫‪ 1015‬السابق في المقدمة ص ‪.4‬‬
‫‪ 1016‬ت ُوُّفي سنة ‪571‬ه ‪1176 /‬م‪.‬‬
‫‪1017‬معجم البلدان ‪.13/78‬‬
‫دا لنور الدين؛ حيث‬ ‫‪562‬ه في أيام الملك نور الدين محمود‪ ،‬وكان سن ً‬
‫توّلى لديه العديد من الوظائف المهمة في الدولة التي م ّ‬
‫كنته من‬
‫السهام بالمشورة والتدريس والتأليف‪ ،‬فكانت أعماله صورة صادقة‬
‫من تجاوب العلماء مع أحداث الجهاد في ذلك العهد‪.1018‬‬
‫ب‪ -‬السفارة بين الدول‪ :‬شارك بعض العلماء في العهد‬
‫ما‬
‫الزنكي في مهمة السفارة بين الدولة الزنكية والخلفة العباسية إ ّ‬
‫بهدف الستنجاد ضد الصليبيين‪ ،‬أو لقضاء مصلحة بين الدولتين‪ ،‬ومن‬
‫سفراء الستنجاد‪ ،‬وطلب المعونة ضد الصليبيين القاضي كمال الدين‬
‫أبو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري المتوفى‬
‫‪572‬ه؛ إذ أرسله الملك عماد الدين زنكي سفيًرا من لدنه ليستنجد‬
‫بالخليفة العباسي المقتفي لمر الله‪ ،‬والسلطان السلجوقي مسعود‬
‫عام ‪532‬ه أثناء الهجوم الصليبي البيزنطي المشترك على حلب‬
‫وغيرها من مدن الشام‪.1019‬‬
‫كما واصل القاضي كمال الدين القيام بمهمة السفارة بين‬
‫الدولة الزنكية والخلفة العباسية في عصر نور الدين محمود؛ إذ‬
‫اعتمده نور الدين سفيًرا إلى الخليفة العباسي المستضيء يطلب منه‬
‫دا بما في يده من البلد )الشام ومصر والجزيرة والموصل(‪ ،‬وبما‬ ‫تقلي ً‬
‫في طاعته كديار بكر‪ ،‬وما يجاوز ذلك كخلط وبلد أرسلن‪ ،‬يقول ابن‬
‫ما لم يكرمه رسول ً قبله‪،‬‬
‫الثير‪ :‬فأكرم الخليفة كمال الدين إكرا ً‬
‫ب إلى ما التمسه‪.1020‬‬ ‫ُ‬
‫جي َ‬‫وأ ِ‬
‫ونلحظ في حديثنا عن مكانة العلماء في دولة نور الدين محمود‬
‫أموًرا‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬أن نور الدين ~‪ ،‬قد استفاد من العلماء على اختلف‬
‫مذاهبهم رغم أنه كان حنفي المذهب‪ .‬فارتفع فوق عصبية المذهب‪،‬‬
‫وكان لها سطوتها آنذاك‪.‬‬
‫‪ -2‬أن عصر الملك العادل‪ ،‬كان حافل ً بالحركة العلمية مزدهًرا‬
‫بالعلماء والفقهاء والقضاة من ذوي العلم الغزير‪ ،‬والعاملين بعلمهم‪،‬‬
‫ورغم ذلك كانوا يندهشون مما يبديه السلطان من الفهم لمسائل‬
‫طال الخلف حولها‪ ،‬وكان يناقشهم فيها‪ ،‬ويعود ذلك إلى ذكاء لماح‬
‫ل مشكلت عصره بينما‬ ‫ون ِّية حسنة‪ ،‬وعلم ٍ غزير‪ ،‬مما م ّ‬
‫كنه من ح ّ‬
‫عجز عنها قبله فحول وأساطين‪.‬‬

‫‪ 1018‬ياقوت الحموي‪ :‬معجم البلدان ‪.19/14‬‬


‫‪ 1019‬ابن الثير ‪ :‬الكامل في التاريخ ‪.139 /5‬‬
‫‪ .1020‬السابق ‪.125‬‬
‫‪ -3‬أن التعاون بين السلطان والعلماء العاملين‪ ،‬قد أّدى إلى‬
‫تغيير الوضاع المتردية‪ ،‬وتجديد أحوال المة‪ ،‬والرتقاء بها نحو‬
‫الفضل‪ ،‬مع إقامة العدل وطرد الغزاة في أماكن كثيرة‪.‬‬
‫كانت تلك صورة من اهتمام الملك العادل نور الدين محمود‬
‫بالعلم‪ ،‬وهي صورة مشرقة في كل جوانبها‪ ،‬تكشف عن عقلية‬
‫عظيمة سعت إلى نهضة شاملة للعالم السلمي‪ ،‬وكان صاحبها ذا‬
‫مشروع نهضوي عظيم‪ ،‬بدأ فيه‪ ،‬ثم أدركه القدر بعد أن مّهد الطريق‬
‫لمن جاء بعده‪.‬‬
‫دور العلم في حياة صلح الدين اليوبي‬
‫صا على العلم‪ ،‬شديد الرغبة في سماع‬ ‫كان صلح الدين ~ حري ً‬
‫داد في‬
‫الحديث‪ ،‬يذكر كاتب سيرته القاضي العلمة بهاء الدين بن ش ّ‬
‫كتابه )النوادر السلطانية(‪:‬‬
‫كان ~ متى سمع عن شيٍخ ذي رواية عالية وسماٍع كثير‪ ،‬فإن‬
‫كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع منه‪ ،‬وكان يأمر الناس‬
‫بالجلوس عند سماع الحديث إجلل ً له‪ ،‬وكان يوّقر العلماء‪ ،‬ويحفظ‬
‫ما‪..1021‬‬
‫لهم مكانتهم دائ ً‬
‫ن الكثير من الناس أن صلح الدين شغلته أعمال الجهاد‬ ‫وقد يظ ّ‬
‫ل صورة‬ ‫عن النصراف إلى شئون الدولة الخرى الحضارية‪ ،‬ولع ّ‬
‫الفارس المحارب صلح الدين قد طغت على الجوانب الخرى من‬
‫ضا من ملمحها المشرقة‪ ،‬وقسماتها المضيئة‪.‬‬ ‫شخصيته‪ ،‬فأخفت بع ً‬
‫ل يلقانا من أعمال صلح الدين هو دعمه للمذهب‬ ‫وأو ُ‬
‫ل عم ٍ‬
‫السني؛ بإنشائه مدرستين لتدريس فقه أهل السنة‪ ،‬هما المدرسة‬
‫الناصرية‪ 1022‬لتدريس الفقه الشافعي‪ ،‬والمدرسة القمحية لتدريس‬
‫مَيت بذلك؛ لنها كانت توزع على أساتذتها‬‫س ّ‬
‫الفقه المالكي‪ ،‬و ُ‬
‫حا‪ ،‬كانت ت ُغِّله من أرض موقوفة عليها‪ ،‬وفي‬
‫ومعيديها وتلميذها قم ً‬
‫الوقت نفسه قصر تولي مناصب القضاء على أصحاب المذهب‬
‫الشافعي‪ ،‬فكان ذلك سبًبا في انتشار المذهب في مصر وما يتبعها‬
‫من أقاليم‪.‬‬
‫وقد برز في عصر صلح الدين عدد من الشخصيات العلمية‬
‫والفكرية‪ ،‬مثل )القاضي الفاضل( المتوّفى سنة ‪ 596‬رئيس ديوان‬
‫النشاء وصاحب القلم البديع في الكتابة‪ ،1023‬وكان صلح الدين‬
‫يستشيره في أدق أمور الحرب والسياسة‪ ،‬و)العماد الصفهاني(‬
‫المتوّفى سنة ‪ 597‬هق‪ ،‬صاحب المؤّلفات المعروفة في الدب‬
‫والتاريخ‪ ،1024‬الذي نجح مع القاضي الفاضل في تطوير ديوان النشاء‬
‫في مصر‪ ،‬وهذا الديوان يشبه في وظيفته وزارة الخارجية‪.‬‬

‫‪ 1021‬بهاء الدين بن شداد‪ :‬النوادر السلطانية )‪(1/130‬‬


‫‪ 1022‬الدارس في تاريخ المدارس ‪ ،1/195‬وابن كثير‪ :‬البداية والنهاية ‪.14/104‬‬
‫‪ 1023‬واسمه عبد الرحيم بن علي البيساني‪ ،‬انظر ابن الثير‪ :‬الكامل في التاريخ ‪ . 5/235‬و‬
‫السلوك لمعرفة دول الملوك )‪.(1/25‬‬
‫‪ 1024‬ذكر القنوجي‪ :‬بلغ الرفعة عند نور الدين محمود بن أتابك زنكي والسلطان صلح الدين‪،‬‬
‫م أمُره‪ ،‬وصّنف التصانيف النافعة منها‪ :‬كتاب خريدة القصر‬ ‫وتقّلبت به الحوال إلي أن عظ ُ َ‬
‫وفريدة العصر‪ ،‬جعله ذيل ً على‪ :‬زينة الدهر للخطيري وجعله في عشر مجلدات‪ ،‬وله ‪ :‬كتاب‬
‫البرق الشامي في سبع مجلدات في التاريخ‪ ،‬وكتاب الفتح البستي في فتح القدسي )انظر‬
‫أبجد العلوم ‪.(674‬‬
‫وقد كان من مظاهر اهتمام صلح الدين بالعلم؛ تدبير أمور‬
‫ي؛ فقد استقّرت النظم الدارية؛ فكان‬ ‫س إداريّ علم ّ‬ ‫الدولة على أسا ٍ‬
‫السلطان يرأس الحكومة المركزية في العاصمة‪ ،‬يليه نائب‬
‫السلطان؛ وهو المنصب الذي استحدثه صلح الدين لينوب عنه في‬
‫أثناء غيابه يليه الوزير‪ ،‬وكان يقوم بتنفيذ سياسات الدولة‪ ،‬ويلي ذلك‬
‫الدواوين‪ ،‬مثل‪) :‬ديوان النظر( الذي يشرف على الشئون المإلية‪،‬‬
‫و)ديوان النشاء( ويختص بالمراسلت والعمال الكتابية‪ ،‬و)ديوان‬
‫الجيش( ويختص بالشراف على شئون الجيش‪ ،‬و)ديوان السطول(‬
‫ة لمواجهة الصليبيين الذين كانوا‬ ‫ة فائق ً‬‫ي به صلح الدين عناي ً‬ ‫الذي ع ُن ِ َ‬
‫يستخدمون البحر في هجومهم على البلد السلمية‪ ،‬وأفرد له ميزانية‬
‫خاصة‪ ،‬وعهد به إلى أخيه العادل‪ ،‬وقد اشترك السطول في عدة‬
‫ده لحملة أرناط على‬ ‫معارك بحرية في سواحل مصر والشام‪ ،‬منها ص ّ‬
‫مكة والمدينة‪.1025‬‬
‫عني صلح الدين بالمؤسسات الجتماعية التي تعين الناس‬ ‫و ُ‬
‫وتخفف عنهم بعض عناء الحياة؛ فألغى الضرائب التي كانت تفرض‬
‫على الحجاج الذين يمرون بمصر‪ ،‬وتعهد بالنفاق على الفقراء‬
‫والغرباء الذين يلجئون إلى المساجد‪ ،‬وجعل من مسجد )أحمد بن‬
‫طولون( مأوى للغرباء من المغاربة‪.‬‬
‫كذلك لم يهمل صلح الدين ~ جانب العلوم الحياتية‪ ،‬إذ نراه‬
‫ما بالًغا بالعلماء‪ ،‬والطباء‪ ،‬وأقام عدًدا من المستشفيات‬
‫م اهتما ً‬
‫اهت ّ‬
‫التي جلب لها الطباء المتخصصين في شتى التخصصات‪ ،‬ومن أهم‬
‫هذه المستشفيات ) المارستان( ‪ 1026‬الذي أمر ببنائه في القاهرة‪ ،‬وهو‬
‫بناء ضخم مّتسع‪ ،‬وضع عليه صلح الدين مشرفين من ذوي العلم‬
‫والدراية‪ ،‬ووضع لديهم خزائن الدوية‪ ،‬وكانت هذه المستشفى مزودة‬
‫سّرة كبيرة ومجهزة لستقبال المرضى‪..‬‬ ‫َ‬
‫بأ ِ‬
‫و مما ُيؤَثر عن صلح الدين أنه كان يحب العلم‪ ،‬ويشجع‬
‫العلماء‪ ،‬ول يضن بمال أو جهد في سبيل إنعاش الحركة العلمية في‬
‫البلد‪ ،‬فأنشأ كثيًرا من المدارس‪ ،‬وقّرب العلماء والكتاب والراسخين‬
‫في العلم وفنون الثقافة المختلفة منه‪.‬‬
‫وكان نظام الكتاتيب موجوًدا في عهد صلح الدين‪ ،‬فكان الصبي‬
‫ب عن الطوق التحق بهذه الكتاتيب ليتعّلم القرآن‪ ،‬ويحفظ‬ ‫إذا َ‬
‫ش ّ‬
‫طرًفا من الحديث‪ ،‬ثم أصول الحساب‪ ،‬واللغة‪ ،‬وهكذا حتى يبرع في‬
‫ب الغلم وترعرع وأراد أن يستزيد من العلم‬ ‫علم من العلوم‪ ،‬وإذا ش ّ‬

‫ابن الثير‪ :‬الكامل في التاريخ ‪169 /5‬‬ ‫‪1025‬‬

‫السلوك في معرفة دول الملوك ‪1/12‬‬ ‫‪1026‬‬


‫رحل إلى مواطن العلم في مصر والشام وبغداد ومكة‪ ،‬ليتقن علوم‬
‫دينه وحياته‪.1027‬‬
‫هذا وقد قامت المدارس المختلفة في مصر والشام بدور كبير‬
‫في تعليم المذاهب الفقهية على أوسع نطاق‪ ،‬وذلك إلى جانب‬
‫شَئت في القدس عقب استردادها عام ‪583‬هق‪ ،‬وقد‬ ‫ُ‬
‫المدارس التي أن ِ‬
‫بنى صلح الدين عام ‪572‬هق أول مدرسة للحنفية ع ُرَِفت باسم‬
‫)المدرسة السيوفية() بجوار سوق السيوفيين( ‪ ،‬وبلغ من عناية صلح‬
‫ن‬
‫الدين بهذه المدرسة أن أوقف عليها اثنين وثلثين دكاًنا‪ ،‬ولم يض ّ‬
‫بمال على الساتذة الذين يقومون بالتدريس فيها‪ ،‬وبقيت هذه‬
‫المدرسة قائمة يشع منها نور العلم حتى وضعت الحرب الصليبية‬
‫أوزارها‪.1028‬‬
‫كما أنشأ صلح الدين المدرسة الصالحية‪ ،‬وجعلها للمذهب‬
‫ما بالًغا‪ ،‬فأوصى أن‬ ‫الشافعي‪ ،‬وكان يهتم بشؤون هذه المدرسة اهتما ً‬
‫ما بجوارها‬ ‫تكون عظيمة البناء فسيحة الرجاء‪ ،‬ووقف لها حما ً‬
‫وحوانيت شتى‪ ،‬حتى يشجع الطلب على تلقي العلم ‪..‬‬
‫‪1029‬‬

‫أما مدرسة القدس‪ ،‬فقد بناها صلح الدين عقب استرداد بيت‬
‫داد(‬ ‫المقدس عام ‪583‬هق‪ ،‬وكّلف القاضي الع ّ‬
‫لمة )بهاء الدين بن ش ّ‬
‫بالتدريس فيها‪ ،‬فكثرت وفود طالبي العلم إلى بيت المقدس‪ ،‬كما أمر‬
‫صلح الدين بتنظيم العمل في شتى المدارس التي أنشأها على‬
‫اختلف تخصصاتها في أمور العلم والدين‪ ،‬فكان القائمون بالتدريس‬
‫ينقسمون إلى فريقين‪:‬‬
‫الفريق الول‪ :‬فريق المدرسين‪ ،‬وهم الساتذة المتبحرون في‬
‫العلم‪.‬‬
‫والفريق الثاني‪ :‬فريق المعيدين‪ ،‬وهؤلء يقومون بإعادة ما‬
‫يلقيه المدرسون على الطلب‪ ،‬ويشرحون لهم ما استغلق عليهم‬
‫فهمه‪..‬وكان)المعيد( ل يبخل بوقته في سبيل شرح المادة العلمية‪،‬‬
‫وتيسيرها على الطلب‪.1030‬‬
‫ويتضح من مناهج المدارس التي أسسها صلح الدين أنه كان‬
‫يقتفي آثار معلمه )نور الدين( في التعمير من جهة‪ ،‬ونشر العلم من‬
‫جهة أخرى‪ ،‬مع التركيز على تعليم المذهب السني‪..‬‬

‫عبد الله ناصح علوان‪ :‬صلح الدين محرر فلسطين ‪.101‬‬ ‫‪1027‬‬

‫المقريزي‪ :‬السلوك لمعرفة دول الملوك ‪.321 /2‬‬ ‫‪1028‬‬

‫السابق ‪.440‬‬ ‫‪1029‬‬

‫صلح الدين محرر القدس ‪ :‬عبد الله ناصح علوان ‪ ،115‬وما بعدها ‪.‬‬ ‫‪1030‬‬
‫وكان من اهتمامهم بالعلم اهتمامهم بنشر وسائل العلم‬
‫المختلفة‪ ،‬ولذا راجت لديهم سوق الكتب‪ ،‬وكان في مصر سوق كبير‬
‫لها في الجانب الشرقي من جامع )عمرو بن العاص(‪ ،‬وأسواق أخرى‬
‫عديدة‪ ،‬تضم أنفس الكتب وأقيم الذخائر‪ ،‬كما كان يوجد بدمشق‬
‫سوق كبير للكتب‪...1031‬‬
‫ما بالًغا بأص ً‬
‫لح جوانب العقيدة‪ ،‬و تعليم‬ ‫واهتم ~ اهتما ً‬
‫المسلمين عقيدتهم الصحيحة‪ ،‬يقول عنه القاضي )بهاء الدين(‪:‬‬
‫ضا للفلسفة والمعَ ّ‬
‫طلة‪،‬‬ ‫) وكان ~ كثير التعظيم لشعائر الدين‪ ،‬ومبغ ً‬
‫ومن يعاند الشريعة‪) 1032‬أي مذهب أهل السنة والجماعة(‪ ،‬فحارب إّبان‬
‫وزارته لمصر كل عقائد الشيعة التي كان )الفاطميون( ينشرونها‪ ،‬وقد‬
‫استطاع أن يستأصل ‪ -‬بفضل الله وتوفيقه ‪ -‬جذور هذا المذهب‪ ،‬ولما‬
‫فتح المدارس المتبعة لمذهب أهل السنة والجماعة )كالمدرسة‬
‫الكاملية( و)المدرسة الناصرية( أمر جميع طبقات الشعب أن يلتحقوا‬
‫بهذه المدارس‪ ،‬ليدرسوا الدين الصحيح‪ ،‬ويتلقوا عقيدة أهل السنة‬
‫والجماعة‪.‬‬
‫وهكذا ظهر لنا صلح الدين اليوبي خير مثال للخليفة العالم‬
‫المجاهد القدوة‪ ،‬التي يجب أن يحتذى به في شتى جوانب حياته‪،~ ،‬‬
‫لم يمنعه تصديه لجهاد الصليبيين‪ ،‬وانشغاله بتوحيد أقطار العالم‬
‫السلمي من محاربة العداء الداخليين‪ ،‬والسعي الحثيث على نشر‬
‫العلم والعقيدة الصحيحة‪ ،‬ولم يتوقف عند ذلك‪ ،‬بل سعى لنشر العلم‬
‫الحياتي‪ ،‬وتوفيره للمسلمين‪ ،‬حتى تنهض المة السلمية‪ ،‬تلك المة‬
‫التي كانت ق بعد كل تلك الجهود ق قادرة على دحر الصليبيين ‪ ،‬وتحرير‬
‫المسجد القصى ‪..‬‬
‫وهكذا ق بالعلم والجهاد وتصحيح العقيدة ق يمكن للمقة أن تقوم‪،‬‬
‫وتنهض ‪ ،‬وتستعيد مجدها الغابر ‪.‬‬

‫المقريزي ‪ :‬السلوك لمعرفة دول الملوك ‪.356 /3‬‬ ‫‪1031‬‬

‫ابن شداد‪ :‬النوادر السلطانية ‪. 37‬‬ ‫‪1032‬‬


‫المبحث الخامس‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫الخلفة العثمانية‬
‫)محمد الفاتح(‬
‫حت "القسطنطينية" بالعلم؟‬ ‫كيف ُ‬
‫فت ِ َ‬
‫ما يرواد الفاتحين المسلمين‪ ،‬منذ‬ ‫حل ً‬ ‫ل )فتح القسطنطينية( ُ‬ ‫ظ ّ‬
‫ص‪" :‬‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫سمعوا رسول الله ‪ُ ‬يب ّ‬
‫ن ال ََعا ِ‬ ‫رو ب ْ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ن عَ ْ‬ ‫شر؛ فعن ع َب ْد ِ ال َلهِ ب ْ ِ‬
‫ح أوًّل‬ ‫فت َ ُ‬
‫ن تُ ْ‬ ‫دين َت َي ْ ِ‬‫م ِ‬‫م أيّ ال ْ َ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫ه ع َل َي ْهِ وَ َ‬ ‫صّلى الل ّ ُ‬ ‫ل الل ّهِ َ‬ ‫سو ُ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫سئ ِ َ‬‫ُ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ة فَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫دين َ ُ‬
‫م ِ‬‫م َ‬ ‫سل َ‬ ‫ه ع َلي ْهِ وَ َ‬ ‫صلى الل ُ‬ ‫ل اللهِ َ‬ ‫سو ُ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫قا َ‬ ‫مي ّ ُ‬‫ة أوْ ُرو ِ‬ ‫طين ِي ّ ُ‬ ‫سطن ْ ِ‬ ‫قُ ْ‬
‫ة" ‪ ،‬وروي عنه ‪" :‬ل َت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ح ّ‬‫فت َ َ‬ ‫‪1033‬‬
‫سط َن ْ ِ‬
‫طين ِي ّ َ‬ ‫ح أوًّل ي َعِْني قُ ْ‬ ‫فت َ ُ‬ ‫ل تُ ْ‬ ‫ه َِرقْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ش ذَل ِ َ‬ ‫جي ْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ع َ‬ ‫ول َن ِ ْ‬
‫ها َ‬ ‫ميُر َ‬ ‫ميُر أ ِ‬ ‫م اْل ِ‬ ‫ع َ‬‫فل َن ِ ْ‬ ‫ة َ‬
‫طين ِي ّ ُ‬ ‫سطَن ْ ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ش"‪..1034‬‬ ‫جي ْ ُ‬ ‫ال ْ َ‬

‫وتعاقبت دول السلم‪ ،‬واتسعت رقعة الفتوحات‪ ،‬حتى أذن الله‬


‫بالفتح على في عهد الدولة العثمانية‪ ،‬وعلى يد المير )محمد بن مراد‬
‫الثاني( الذي حمل لقب )الفاتح(‪ ،‬فكيف صار هذا المير هو المير‬
‫الخير‪ ،‬كما بشر به رسول الله‪ ،‬وكيف كان جيشه خير الجيوش؟‬
‫تذكر كتب التاريخ والسير أن محمد الفاتح حظي بتربية علمية‬
‫خاصة‪ ،‬منذ طفولته‪ ،‬فقد اهتم والده السلطان )مراد الثاني( بتنشئته‬
‫تنشئة علمية وجسدية جادة‪ ،‬فمّرنه على ركوب الخيل والرمي‬
‫والمبارزة‪ ،‬وجعله يتتلمذ على يد خيرة أساتذة عصره‪ ،‬ومنهم )أحمد‬
‫بن إسماعيل الكوراني(‪ 1035‬الذي ذكر السيوطي أنه كان أول معلمي‬
‫ما فقيًها‪ ،‬شهد له علماء عصره‬
‫الفاتح‪ ،‬وقال عنه‪ :‬إنه "كان عال ً‬
‫بالتفوق والتقان‪ ،‬بل إنهم كانوا يسمونه‪ :‬أبا حنيفة زمانه(‪ ،‬وتشير‬
‫الروايات التاريخية إلى أن الكوراني حّبب الفاتح في العلم‪ ،‬وجعله‬
‫مة ونشاط‪ ،‬فما مضى وقت حتى كان محمد الفاتح قد‬ ‫يقبل عليه به ّ‬
‫ّ‬
‫حفظ القرآن‪ ،‬ودرس التاريخ السلمي‪ ،‬وكان على اطلع بالمحاولت‬

‫‪ 1033‬رواه أحمد ‪ ، 2 / 176‬والدارمي ‪ ، 1 / 126‬وابن أبي شيبة في المصنف ‪، 47 / 153 / 2‬‬


‫وأبو عمر الداني في السنن الواردة في الفتن ‪ ، 116 / 2‬والحاكم ‪ 4 / 422‬و ‪ 508‬و ‪، 555‬‬
‫وقال ‪ :‬حديث حسن السناد ‪ .‬وصححه الحاكم ووافقه الذهبي‪.‬‬
‫‪ 1034‬رواه أحمد و ابنه في زوائده )‪ (235 / 4‬و ابن أبي خيثمة في "التاريخ" )‪- 101 / 10 / 2‬‬
‫مخطوطة الرباط(‪ ،‬والبخاري في "التاريخ الصغير" )ص ‪ ،(139‬والطبراني في "الكبير" )‪/ 1‬‬
‫‪ ،(2 / 119‬والحاكم )‪ ،(422 / 4‬وابن عساكر )‪ .(2 / 223 / 16‬وقال اللباني في "السلسلة‬
‫الضعيفة والموضوعة" )‪ :(268 / 2‬ضعيف‪.‬‬
‫‪ 1035‬العالم الجليل‪ ،‬تولى قضاء العسكر‪ ،‬ثم منصب الفتوى‪ ،‬توفي بالقسطنطينية ))‪ 813‬ق‬
‫‪ ((893‬من مؤلفاته‪ :‬شرح صحيح البخاري‪ ،‬كشف السرار عن قراءة الئمة الخيار‪ ،‬شرح جمع‬
‫الجوامع في اصول الفقه‪ ،‬غاية الماني في تفسير الكلم الرباني‪ ،‬وقصيدة في علم العروض‪.‬‬
‫)عمر كحالة‪ :‬معجم المؤلفين ‪.(1/166‬‬
‫السلمية السابقة لفتح القسطنطينية‪ ،‬وأسهمت تربيته في تنشئته‬
‫ب السلم‪ ،‬والعمل بالقرآن‪ ،‬وحب العلم‪ ،‬وتقدير العلماء‪ ،‬وقد‬ ‫ح ّ‬
‫على ُ‬
‫الذي كان أول‬ ‫‪1036‬‬
‫تأّثر الفاتح كذلك بالشيخ )آق شمس الدين سنقر(‬
‫م )فتح القسطنطينية( في ذهنه منذ الصغر‪ ،‬وكبر الفتى‬ ‫حل ْ َ‬
‫من زرع ُ‬
‫وهو يصبو إلى تحقيق ذلك الحلم‪ ..‬وقد دّرس الشيخ )آق شمس‬
‫سّنة نبوية‬
‫ن وحديث و ُ‬‫الدين( لمحمد الفاتح العلوم الساسية )من قرآ ٍ‬
‫وفقه(‪ ،‬وكذلك اللغات )العربية والفارسية والتركية(‪ ،‬كما دّرس له‬
‫ض علوم الحياة كالرياضيات والفلك والتاريخ‪..‬‬ ‫بع َ‬
‫ما مع محمد الفاتح‪ ،‬حتى إنه بعد‬ ‫وكان الشيخ آق شمس الدين صار ً‬
‫ن احترامي لهذا الشيخ يأخذ‬ ‫أن توّلى السلطنة‪ ،‬يقول لحد وزرائه‪" :‬إ ّ‬
‫بمجامع نفسي وأنا ماثل في حضرته مضطر ًَبا ويداي ترتعشان!"‪.1037‬‬
‫وقد أث َّرت هذه المجموعة من العلماء‪ ،‬وهذه التنشئة العلمية في‬
‫تشكيل المير الصغير‪ ،‬وتربيته سياسًيا وعسكرًيا‪.‬‬
‫وما إن توّلى محمد الثاني مهام السلطنة خل ً‬
‫فا لوالده مراد‬
‫الثاني‪ ،‬حتى وضع فتح القسطنطينية هدًفا نصب عينه‪ ،‬واتخذ من أجل‬
‫ذلك عدًدا من الخطوات العملية العلمية‪:‬‬
‫دا مختلفة للتخطيط والترتيب لفتح‬‫في البداية بذل الفاتح جهو ً‬
‫القسطنطينية‪ ،‬فاعتنى بتقوية الجيش العثماني مادًيا ومعنوًيا‪ ،‬فحرص‬
‫كروهم‬‫على نشر العلماء بينهم‪ ،‬حتى يغرسوا فيهم روح الجهاد‪ ،‬ويذ ّ‬
‫بحديث رسول الله ه‪ ‬في الثناء على جيش الفتح؛ حتى يجتهدوا في‬
‫فتح القسطنطينية؛ عسى أن يكونوا هم الجيش المقصود‪ ،‬كما كان‬
‫لنتشار العلماء بين الجنود أثر كبير في تقوية عزائم الجنود‪ ،‬وربطهم‬
‫بالجهاد في سبيل الله‪..‬‬
‫خذ السباب؛‬‫وفي ذات الوقت أخذ بزمام الستعداد المادي‪ ،‬وال َ ْ‬
‫فأخذ يستعين بأهل الخبرة والعلم وسألهم‪ :‬لم ل نستطيع أن نفتح‬
‫القسطنطينية؟ فحددوا له ثلثة أسباب‪:‬‬
‫‪ .1‬عدم وجود حصون للمسلمين عند بداية الحصار‪ ..‬مما يجعل‬
‫ن بناء الحصن‬
‫المسلمين في العََراء أثناء الشتاء القارص‪ ...‬وأعلموه أ ّ‬
‫يستغرق سنة كاملة‪..‬‬
‫‪ .2‬عدم وجود مدفع يستطيع أن يخترق سمك السوار أو يجوز‬
‫ارتفاعها‪..‬‬

‫‪ 1036‬هو محمد بن حمزة الدمشقي الرومي‪ 792) ،‬ق ‪ (863‬ارتحل مع والده إلي الروم‪ ،‬وطلب‬
‫ما من أعلم المسلمين في العصر العثماني‪ ،‬تولى تربية‬‫فنون العلم وتبحر فيها‪ ،‬وأصبح عل ً‬
‫الفاتح ‪ ...‬انظر )عمر كحالة‪ :‬معجم المؤلفين ‪.( 9/271‬‬
‫‪ 1037‬الشوكاني‪ :‬البدر الطالع ‪.166/ 2‬‬
‫‪ .3‬امتداد سلسلة بعرض الخليج‪ ،‬تمنع سفن المسلمين من‬
‫دخول الخليج‪ ،‬وتهديد السوار الضعيفة‪.1038‬‬
‫من هنا انطلق الفاتح‪ ،‬وبعقلية العالم الواعية‪ ،‬وبنفس يملؤها‬
‫الطموح‪ ،‬وروح تملؤها الحيوية‪ ،‬في استقدام عدد من العلماء‬
‫المختصين‪ ،‬وتكوين مجلس للبحث في كيفية التغلب على هذه‬
‫ث الكثير من ذوي‬‫العقبات‪ ،‬وبذل من أجل ذلك المال الكثير‪ ،‬وح ّ‬
‫الدراية والخبرة في فنون الحرب على تقديم مقترحاتهم‪ ،‬وأفكارهم‪،‬‬
‫حتى تكون محل مناقشة‪ ،‬مما أسفر بعد ذلك عن وضع حلول عاجلة‪،‬‬
‫ساعدت في تكوين الخطة الولى للفتح‪..‬‬
‫خطة فتح القسطنطينية‪:‬‬
‫لقد وضع محمد الفاتح خطة عبقرية‪ ،‬تحدث عنها المستشرقون‬
‫بانبهار شديد‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن هذا الرجل سبق السكندر الكبر ونابليون؛‬
‫فقد قام محمد الفاتح بعد تحديد أسباب امتناع الفتح‪ ...‬بحّلها واح ً‬
‫دا‬
‫تلو الخر؛ فللتغّلب على العائق الول‪ ،‬وهو عدم وجود حصن‬
‫ن في مدة زمنية ل‬ ‫للمسلمين أمام سور القسطنطينية؛ قّرر بناء حص ٍ‬
‫تتعدى الشهر الثلثة‪ ...‬فجمع العمال‪ ،‬واختار منهم المتقنين المهرة‪،‬‬
‫فزهم بقوله‪" :‬أتحبون أن تكونوا من أتباع رسول الله يوم‬ ‫وح ّ‬
‫القيامة‪....‬وتكونوا من الذين قال فيهم "ولنعم الجيش ذلك الجيش؟"‬
‫فتحفز العمال‪ ،‬وأنجزوا العمل في وقت قياسي‪ ،‬وتم بناء قلعة‬
‫عظيمة يستغرق بناؤها سنة كاملة في ثلثة شهور فقط‪...‬‬
‫مدفع الصالح لختراق‬ ‫ما العائق الثاني‪ ،‬وهو عدم وجود ال ِ‬ ‫أ ّ‬
‫أسوار المدينة؛ فقد ضرب الفاتح المثل في تفعيل قاعدة "الحكمة‬
‫ق الناس بها"‪1039‬؛ فقد‬ ‫ضاّلة المؤمن؛ أّنى وجدها؛ فهو أح ّ‬
‫م المجري المهندس )أوربان(‪ ،‬والذي كان قد علم‬ ‫ح العال َ‬
‫استقدم الفات ُ‬
‫ك أسوار القسطنطينية‪،‬‬ ‫أنه أعد ّ مدافعَ ذات قوة خاصة‪ ،‬بإمكانها أن تد ّ‬
‫وكان )أوربان( قد عرض خدماته على إمبراطور القسطنطينية‪ ،‬فلم‬
‫يمنحه ما كان يريده من مكافأة‪ ،‬فجاء للفاتح‪ ،‬فاستقبله استقبال ً‬
‫حسًنا‪ ،‬وأغدق عليه الموال‪ ،‬وعرف كيف يستفيد منه أكبر استفادة‪،‬‬
‫كنه من إتمام اختراعه‪ ،‬ووضع تحت‬ ‫سر له كل الوسائل التي تم ّ‬ ‫بل وي ّ‬
‫تصرفه ما طلبه من آلت وفنيين‪ ،‬وشرع )أوربان( في صنع المدافع‪،‬‬
‫بمعاونة عدد من المهندسين العثمانيين الخرين‪ ،‬وكان الفاتح يشرف‬
‫ض ثلثة أشهر حتى كان )أوربان( قد صنع ثلثة‬ ‫عليهم بنفسه‪ ،‬ولم تم ِ‬
‫مدافع ‪ ،‬بينها مدفع ضخم عملق‪ ،‬كان يزن سبعمائة طن‪ ،‬وتزن‬
‫القذيفة الواحدة فيه ألف وخمسمائة كيلو جرام!!‪ ،‬يصل مداها ألف‬

‫‪ 1038‬محمد صفوت‪ :‬فتح القسطنطينية ص ‪.57‬‬


‫‪ 1039‬الترمذي‪ :‬باب العلم‪ :‬كتاب فضل العلم على العبادة )‪ ،( 2687‬وابن ماجة من حديث أبي‬
‫هريرة )‪ ،(4169‬وابن ابي شيبة ‪ ،7/240‬والقضاعي في الشهاب )‪.(146‬‬
‫ميل‪ ،‬يجّره ‪ 60‬ثور بمعاونة ‪ 400‬من الرجال الشداء كل ‪ 200‬على‬
‫جانب‪.1040‬‬
‫وعندما أرادوا أن يجربوه لول مقرة في )أدرنة( أنذر السلطان‬
‫معَ د َوِّيه على ب ُعْد ِ ثلثة عشر مي ً‬
‫ل‪،‬‬ ‫س ِ‬
‫سكان المنطقة‪ ،‬ثم أطلقوه ف ُ‬
‫وسقطت قذيفته على ُبعد ميل‪ ،‬وتركت أثًرا بعمق ستة أقدام في‬
‫الرض‪ ،‬وقد قطع هذا المدفع ‪ -‬الذي أسماه العثمانيون بالمدفع‬
‫السلطاني ‪ -‬الطريق من أدرنة إلى موضعه أمام أسوار القسطنطينية‬
‫سّر السلطان محمد الفاتح بنجاح التجربة‪،‬‬ ‫في شهرين اثنين‪ ،‬و ُ‬
‫وتفاءل بالفتح‪ ،‬وأجزل العطاء لهذا المهندس المجري‪ ،‬ولكل‬
‫المهندسين الذين عاونوه‪..1041‬‬
‫ما عن السلسلة الموجودة بعرض الخليج؛ فقدكانت هذه‬ ‫أ ّ‬
‫السلسلة تعوق دخول أسطول المسلمين إلى داخل الخليج حتى تصل‬
‫إلى السوار‪ ...‬ولهذا قّرر أن يقوم بعمل فريد من نوعه‪ ....‬فقام‬
‫بعمل ممر تسير فيه السفن خلل الجبل حتى تصل مباشرة إلى‬
‫داخل الخليج بدون المرور عبر السلسلة وهذه المسافة تقدر بثلثة‬
‫أميال‪ ..‬واستعمل في ذلك قضباًنا خشبية دهنها بالزيت لتسهل من‬
‫حركة السفن‪ ،‬وكان عددها سبعين سفينة‪ ..‬واستعمل في جّرها مئات‬
‫الثيران ومئات الرجال‪....‬واستغرق نقل السفن من بعد غروب‬
‫الشمس حتى ما قبل الفجر‪...‬حتى يفاجيء الروم‪ ....‬وقد استمّر‬
‫ما حّتى قيض الله الفتح للجيش‪.1042‬‬
‫ة وخمسين يو ً‬ ‫الحصار ثلث ً‬

‫وهكذا كان العلم سبيل ً للتخطيط‪ ،‬وعامل ً ها ً‬


‫ما من عوامل فتح‬
‫القسطنطينة‪ ،‬و تحقيق ذلك الحلم للمسلمين ‪.‬‬
‫بيد أن دور العلم لم يقتصر على التمهيد للفتح ‪ ،‬أو استخدامه‬
‫ما للنهضة العثمانية في عهد" محمد الفاتح" ‪.‬‬
‫للحرب‪ ،‬بل ظل ملز ً‬
‫النهضة العلمية بعد الفتح‪:‬‬
‫اهتمامه بالمدارس والمعاهد‪:‬‬
‫كان السلطان محمد الفاتح محًبا للعلم والعلماء؛ ولذلك اهتم‬
‫ببناء المدارس والمعاهد في جميع أرجاء دولته‪ ،‬وقد كان السلطان‬
‫أورخان ) ‪726‬هق ‪ 761 /‬هق ( أول من أنشأ مدرسة نموذجية في‬
‫الدولة العثمانية‪ ،‬وسار بعده سلطين الدولة على نهجه وانتشرت‬
‫المدارس والمعاهد في بورصة وأدرنة وغيرهما من المدن‪.1043‬‬

‫محمد حرب‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ص ‪.240‬‬ ‫‪1040‬‬

‫عبد السلم فهمي‪ :‬محمد الفاتح ص ‪.82‬‬ ‫‪1041‬‬

‫عبد السلم فهمي‪ :‬محمد الفاتح ص ‪.82‬‬ ‫‪1042‬‬

‫الرشيدي‪ :‬محمد الفاتح ص ‪ 384‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪1043‬‬


‫ولقد فاق محمد الفاتح أجداده في هذا المضمار‪ ،‬وبذلك جهوًدا‬
‫لحات‬ ‫في نشر العلم‪ ،‬وإنشاء المدارس والمعاهد‪ ،‬وأدخل بعض الص ً‬
‫في التعليم‪ ،‬وأشرف على تهذيب المناهج وتطويرها‪ ،‬وحرص على‬
‫نشر المدارس والمعاهد في جميع المدن الكبيرة والصغيرة‪ ،‬وكذلك‬
‫ظم هذه المدارس‪ ،‬ورّتبها‬ ‫القرى‪ ،‬وأوقف عليها الوقاف العظيمة‪ ،‬ون ّ‬
‫دد العلوم والمواد التي تدرس في كل‬ ‫ت ومراحل‪ ،‬وح ّ‬‫على درجا ٍ‬
‫مرحلة‪ ،‬ووضع لها نظام المتحانات فل ينتقل طالب من مرحلة إلى‬
‫أخرى إل بعد إتقانه لعلوم المرحلة السابقة‪ ،‬وخضوعه لمتحان دقيق‪،‬‬
‫وكان السلطان الفاتح يتابع هذه المور ويشرف عليها‪ ،‬وأحياًنا يحضر‬
‫امتحانات الطلبة‪ ،‬ويزور المدارس بين الحين والحين‪ ،‬ول يأنف من‬
‫استماع الدروس التي يلقيها الساتذة‪ ،‬وكان يوصي الطلبة بالجد‬
‫والجتهاد‪ ،‬ول يبخل بالعطاء على النابغين من الساتذة والطلبة‪،‬‬
‫وجعل التعليم في كل مدارس الدولة بالمجان‪ ،‬وكانت المواد التي‬
‫ت ُد َّرس في تلك المدارس هي‪ :‬التفسير‪ ،‬والحديث‪ ،‬والفقه‪،‬‬
‫والدب‪،‬وعلوم اللغة‪ ،‬والهندسة‪ ،‬والرياضة وعلوم الفلك ‪ ..‬إلخ ‪.‬‬
‫‪1044‬‬

‫كما أنشأ بجانب مسجده الذي بناه بالقسطنطينية ثماني‬


‫مدارس على كل جانب من جوانب المسجد‪ ،‬وأربعة مساجد يتوسطها‬
‫صحن فسيح‪ ،‬وفيها يقضي الطالب المرحلة الخيرة من دراسته‪،‬‬
‫وكانت مدارس المرحلة الولى تدرس‪ :‬مبادئ العلوم الدينية‪،‬‬
‫والرياضة والطبيعة‪ ،‬علوة على حفظ أجزاء من القرآن‪ ،‬وتسمى في‬
‫مجموعها"دروس الخارج"‪ ،‬والمرحلة الثانية كانت تدرس مقاصد هذه‬
‫العلوم‪ ،‬ول سيما الفقه‪ ،‬ويضاف إليها مواد التاريخ السلمي واللغة‬
‫العربية‪ ،‬وهي في مجموعها عموميات ومدخل للتخصص‪ ،‬ويمكن‬
‫لخريج المرحلة الثانية تولي الوظائف البسيطة ‪ ،‬أما الطالب الذي‬
‫كان يريد إكمال التعليم‪ ،‬فإنه يلتحق بالمرحلة العلمية الثالثة‪ ،‬وهي‬
‫بمثابة" إعداد" للمرحلة الخيرة‪ ،‬حيث يدرس على يد علماء‬
‫متخصصين في العلوم العالية المقررة فيها‪ ،‬حتى إذا أتم الدراسة‬
‫بنجاح تمكن من دخول المرحلة الرابعة" الصحن"‪.‬‬
‫ومدارس الصحن هي بمثابة جامعة علمية كبرى‪ ،‬تتكون من‬
‫المدارس الثمان المبنية حول جامع الفاتح‪ ،‬وبجوارها المدارس‬
‫الموصلة للصحن‪ ،‬وهي ثماني مدارس أخرى‪.‬‬
‫ن للطلبة ينامون فيها‪ ،‬ويأكلون‬
‫قت بهذه المدارس مساك ُ‬ ‫وُأل ِ‬
‫ح َ‬
‫صت لهم منحة مإلية شهرية‪ ،‬وكان الموسم‬ ‫ص َ‬
‫خ ّ‬
‫فيها طعامهم‪ ،‬و ُ‬
‫ة‪،‬‬
‫الدراسي طوال السنة في هذه المدارس‪ ،‬وأنشأ بجانبها مكتبة خاص ً‬
‫وكان يشترط في الرجل الذي يتولى أمانة هذه المكتبة أن يكون من‬
‫أهل العلم والتقوى متبحًرا في أسماء الكتب والمؤلفين‪ ،‬وكان‬
‫‪ 1044‬انظر " أبو الفتح السلطان محمد الثاني وحياته العدلية" علي همت بركي ) تعريب‪ :‬محمد‬
‫إحسان( ص ‪. 93 - 84‬‬
‫المشرف على المكتبة يعير الطلبة والمدرسين ما يطلبونه من الكتب‬
‫بطريقة منظمة ودقيقة‪ ،‬ويسجل أسماء الكتب المستعارة في دفتر‬
‫خاص‪ ،‬وهذا المين مسئول عن الكتب التي في عهدته‪ ،‬ومسئول عن‬
‫سلمة أوراقها‪ ،‬وتخضع هذه المكتبة للتفتيش كل ثلثة أشهر على‬
‫القل‪.1045‬‬
‫وكانت مناهج هذه المدارس تتضمن نظام التخصص‪ ،‬فكان‬
‫للعلوم النقلية والنظرية قسم خاص‪ ،‬وللعلوم التطبيقية قسم خاص‬
‫ضا‪ ،‬وكان الوزراء والعلماء من أصحاب الثروات يتنافسون في‬
‫أي ً‬
‫إنشاء المعاهد والمدارس والمساجد والوقاف الخيرية ‪.‬‬
‫‪1046‬‬

‫اهتمام السلطان محمد الفاتح بالعلماء‪:‬‬


‫لقد كان للعلماء والدباء مكانة خاصة لدى محمد الفاتح‪ ،‬فقّرب‬
‫جعهم على العمل والنتاج وبذل لهم‬ ‫إليه العلماء ورفع قدرهم‪ ،‬وش ّ‬
‫سع لهم في العطايا والمنح والهدايا؛ ليتفرغوا للعلم‬
‫الموال‪ ،‬وو ّ‬
‫والتعليم ويكرمهم غاية الكرام ولو كانوا من خصومه؛ فبعد أن ضم‬
‫إمارة القرمان إلى الدولة أمر بنقل العمال والصناع إلى‬
‫القسطنطينية غير أن وزيره روم محمد باشا ظلم الناس‪ ،‬ومن بينهم‬
‫بعض العلماء وأهل الفضل‪ ،‬ومن بينهم العالم أحمد جلبي ابن‬
‫السلطان أمير علي‪ ،‬فلما علم السلطان محمد الفاتح بأمره اعتذر‬
‫ما‪.1047‬‬
‫إليه‪ ،‬وأعاده إلى وطنه مع رفاقه معزًزا مكر ً‬
‫وكان السلطان محمد الفاتح ل يسمع عن عالم في مكانه‬
‫أصابه عوز وإملق إل بادر إليه مساعدته وبذل له ما يستعين به على‬
‫أمور دنياه‪.‬‬
‫وكان من عادة الفاتح في شهر رمضان أن يأتي إلى قصره بعد‬
‫صلة الظهر بجماعة من العلماء المتبحرين في تفسير القرآن فيقوم‬
‫في كل مرة واحد ٌ منهم بتفسير آيات من القرآن الكريم وتقريرها‪،‬‬
‫ويناقشه في ذلك سائر العلماء ويجادلونه‪ ،‬وكان الفاتح يشارك في‬
‫هذه المناقشات ويشجع هؤلء بالعطايا والهدايا والمكافآت المإلية‬
‫الجزيلة‪.‬‬
‫اهتمامه بالترجمة‪:‬‬
‫كان السلطان محمد الفاتح متقًنا للغة الرومية‪ ،‬ومن أجل أن‬
‫يبعث نهضة فكرية في شعبه أمر بنقل كثير من الثار المكتوبة‬
‫باليونانية واللتينية والعربية والفارسية إلى اللغة التركية‪ ،‬من ذلك‬

‫الرشيدي‪ :‬السلطان محمد الفاتح ‪.158‬‬ ‫‪1045‬‬

‫الشوكاني‪ :‬البدر الطالع ‪.1/41‬‬ ‫‪1046‬‬

‫محمد حرب‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪.247‬‬ ‫‪1047‬‬


‫كتاب )مشاهير الرجال( لبلوتارك‪ ،‬ونقل إلى التركية كتاب )التصريف‬
‫في الطب( لبي القاسم الزهراوي الطبيب الندلسي مع زيادات في‬
‫صور آلت الجراحة‪ ،‬وأوضاع المرضى أثناء إجراء العمليات‬
‫الجراحية‪.1048‬‬
‫وعندما وجد كتاب بطليموس في الجغرافيا وخريطة له قام‬
‫بمطالعته ودراسته مع العالم الرومي )جورج أميروتزوس(‪ ،‬ثم طلب‬
‫إليه الفاتح وإلى ابنه )ابن العالم الرومي( ‪ -‬الذي كان يجيد اللغتين‪:‬‬
‫الرومية والعربية ‪ -‬ترجمة الكتاب إلى العربية‪ ،‬وإعادة رسم الخرائط‪،‬‬
‫مع التحقيق في أسماء البلدان وكتابتها باللغتين‪ :‬العربية والرومية‪،‬‬
‫لمة علي‬ ‫مة‪ ،‬وكان الع ّ‬‫وكافأهما على هذا العمل بعطايا واسعة ج ّ‬
‫القوشجي وهو من أكبر علماء عصره في الرياضيات والفلك كّلما‬
‫ألف كتاًبا بالفارسية نقله إلى العربية وأهداه إلى الفاتح‪.1049‬‬
‫ودعم الفاتح حركة الترجمة والتأليف لنشر المعارف بين رعاياه‬
‫بالكثار من نشر المكاتب العامة‪ ،‬و قد كون الفاتح مكتبة خاصة في‬
‫دا من‬‫قصره غنية بنوادر الكتب‪ ،‬وروائع الثار‪ ،‬فيها ‪ 12‬ألف مجل ً‬
‫مختلف اللغات )العربية‪ ،‬والتركية‪ ،‬والفارسية واليونانية‪ ،( ..‬بالضافة‬
‫إلى المكتبات الخرى الملحقة بمدارس الصحن‪ ،‬ومدرسة أيا صوفيا‪،‬‬
‫وسار على هذا النهج وزراؤه‪ ،‬ثم السلطين الخرون من بعده‪ ،‬حتى‬
‫أصبحت استنبول من أغنى العواصم السلمية بروائع الكتب والثار‬
‫السلمية‪ ،‬لحرص السلطين والوزراء على اقتناء الكتب القيمة من‬
‫أطراف العالم السلمي ‪ ،‬وتكوين مكتباتهم الخاصة بالجوامع الكبرى‪،‬‬
‫ول تزال هذه المكتبات تحتفظ بأكبر قدر من روائع المخطوطات‬
‫العربية‪..1050‬‬
‫اهتمامه بالعمران والبناء والمستشفيات‪:‬‬
‫ما ببناء المساجد والمعاهد‬
‫كان السلطان محمد الفاتح مغر ً‬
‫والقصور والمستشفيات‪ ،‬والخانات والحمامات‪ ،‬والسواق الكبيرة‪،‬‬
‫والحدائق العامة‪ ،‬وقد أدخل المياه إلى القسطنطينية بواسطة قناطر‬
‫خاصة‪ ،‬وقد حرص على تشجيع الوزراء وكبار رجال الدولة والغنياء‬
‫والعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين والحمامات‪ ،‬وغيرها من‬
‫قا‪.‬‬
‫المباني التي تعطي المدن بهاًء ورون ً‬
‫م الفاتح بالعاصمة القسطنطينية {التي غّير اسمها إلى‬ ‫وقد اهت ّ‬
‫صا من أجل أن يجعلها أجمل‬ ‫ما خا ً‬
‫إسلم بول )إستانبول الن(} اهتما ً‬
‫عواصم العالم‪ ،‬وحاضرة العلوم والفنون‪.‬‬

‫عبد السلم فهمي‪ :‬محمد الفاتح ص ‪.396‬‬ ‫‪1048‬‬

‫الرشيدي‪ :‬محمد الفاتح ‪. 413‬‬ ‫‪1049‬‬

‫سيد رضوان‪ :‬السلطان محمد الفاتح بطل الفتح السلمي‪.. 83 :‬‬ ‫‪1050‬‬
‫دورِ الشفاء‪ ،‬ووضع لها‬ ‫وفي عهده كث َُر العمران وانتشر‪ ،‬فاهت ّ‬
‫مب ُ‬
‫ما مثإليا في غاية الروعة والدقة والجمال‪ ،‬فقد كان يعهد بكل دار‬ ‫نظا ً‬
‫ذاق الطباء من‬ ‫ح ّ‬
‫من هذه الدور إلى طبيب ‪ -‬ثم زيد إلى اثنين من ُ‬
‫حال ) أي طبيب عيون( وجراح وصيدلي‬ ‫أي جنس ‪ -‬كان يعاونهما ك ّ‬
‫وجماعة من الخدم والبوابين‪ ،‬ويشترط في جميع المشتغلين‬
‫بالمستشفى أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والنسانية‪ ،‬ويجب‬
‫على الطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم‪ ،‬وأن ل ُتصَرف‬
‫الدوية للمرضى إل بعد التدقيق من إعدادها‪ ،‬وكان يشترط في طباخ‬
‫المستشفى أن يكون عارًفا بطهي الطعمة والصناف التي توافق‬
‫المرضى منها‪ ،‬وكان العلج والدوية في هذه المستشفى بالمجان‬
‫ويغشاها جميع الناس بدون تمييز بين أجناسهم وأديانهم‪.1051‬‬
‫وهكذا‪ ،‬لم يكن للنهضة أن تتم‪ ،‬ول للفتح أن يكتمل إل بتضافر‬
‫تلك الجهود‪ ،‬مع الخلص لله عز وجل‪ ،‬والخذ بالعلم والنهضة بأبناء‬
‫المة نهضة علمية حقيقية‪ ،‬ل تقتصر على جانب علوم الشرع‬
‫فحسب‪ ،‬بل تأخذ علوم الحياة ) من طب و هندسة وغيرها( سبيل ً إلى‬
‫رقيها وتقدمها‪...‬‬

‫السلطان محمد الفاتح صق ‪.154‬‬ ‫‪1051‬‬


‫الفصل الثالث‪ :‬دور العلم في بناء بعض‬
‫الحضارات الحديثة‬
‫ويضم هذا الفصل المباحث التالية‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في بناء أمريكا‬
‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في بناء اليابان‬
‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في بناء كوريا‬
‫الجنوبية‬
‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في بناء ماليزيا‬
‫المبحث الخامس‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫المارات‬
‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في بناء أمريكا‬
‫يخطئ من يظن أن سبب تفوق الوليات المتحدة المريكية‬
‫وتفردها كقوة عظمى ُتمِلي رغباتها على دول العالم أجمع هو قوتها‬
‫العسكرية فقط‪ ،‬بل ومع اعترافنا بقدرة اللة العسكرية المريكية إل‬
‫أن أهم ما يميز النهضة المريكية أنها نهضة شاملة قوامها هو العلم‪،‬‬
‫فهي لم تقتصر على مجال دون الخر بل إنها نهضة عسكرية‬
‫واقتصادية وسياسية مما ساعدها في هيمنتها على العالم كدولة ل‬
‫نظير لها‪ ،‬وقد سجل التاريخ الخطوات الجادة نحو التقدم القتصادي‬
‫والصناعي التي بدأتها الوليات المتحدة خاصة في إعادة بناء هيكلها‬
‫القتصادي ليدعم موقعها العالمي بعد الدمار الشامل الذي لحق‬
‫بالعديد من بلدان العالم من المحيط الطلسي إلى الهادي عقب‬
‫الحرب العالمية الولى والثانية‪.‬‬
‫وقد استفادت الوليات المتحدة من مرحلة الحرب الباردة في‬
‫إعادة بناء اقتصادها واسترداد مكانتها القتصادية في السواق العالمية‬
‫ضا كوريا الجنوبية وتايوان حتى‬
‫خاصة أوروبا الغربية واليابان وأي ً‬
‫وصلت إلى تفوق اقتصادي لم يسبق له مثيل‪ ،‬وأصبح اقتصادها الكبر‬
‫على مستوى العالم وتعادل قيمته ثلث اقتصاديات العالم مجتمعة‪،‬‬
‫حيث يقدر حجم القتصاد المريكي بق ‪ 10‬تريليون دولر‪..‬‬
‫وكان العلم بمثابة القاعدة التي ارتكزت عليها النهضة‬
‫المريكية‪ ،‬ويتضح ذلك إذا نظرنا ما صاحب النهضة المريكية من‬
‫مساهمات في مجال العلم والتكنولوجيا على مدار القرنين السابقين‪،‬‬
‫لقد ساهمت الوليات المتحدة خاصة في مجال الختراعات التي‬
‫فا بما يكشف عن أمة‬ ‫عا وكي ً‬
‫غيرت الحياة اليومية للنسان العادي نو ً‬
‫در العلم وتدعم العلماء وتشجعهم‪..‬‬‫تق ّ‬
‫وقد تخيرنا بعض المثلة لهذه المخترعات المريكية في مختلف‬
‫المجالت كمقدمة توضح مدى الهتمام المريكي بالعلم ودوره في‬
‫صناعة نهضتها‪:‬‬
‫‪ -1‬في المجال الزراعي قدمت الوليات المتحدة المريكية‬
‫العديد من الختراعات منها‪:‬‬
‫اختراع ماكينة حلج القطن في عام ‪1794‬م‪.‬‬
‫اختراع شفرة المحراث المصنوعة من الحديد الزهر المصبوب‬
‫في عام ‪1797‬م‪.‬‬
‫اختراع المحراث الزاحف في عام ‪1904‬م‪ ،‬وقد كان هذا‬
‫مقدمة للمحراث اللى والذي يعتمد على البنزين كوقود للمحرك‪.‬‬
‫‪ -2‬في مجال العلم وهندسة التصالت‪:‬‬
‫اختراع نموذج للتلغراف في عام ‪1854‬م‪.‬‬
‫قام المريكي وليام بالوك في عام ‪1863‬م بتطوير أول ماكينة‬
‫طباعة للجرائد‪ ،‬وتحتوي على نظام للتغذية بالورق‪.‬‬
‫اختراع اللة في عام ‪1873‬م‪.‬‬
‫قام المريكي توماس أديسون في عام ‪1876‬م بتطوير الهاتف‬
‫اللي‪ ،‬وكان يعيش في ولية بنسلفانيا في هذا الوقت‪.‬‬
‫اختراع الحاكي اللى للسطوانات )الجرامافون( في عام‬
‫‪1887‬م‪.‬‬
‫اختراع أسطوانة الوديون المستعملة في الرسال الذاعي في‬
‫عام ‪1906‬م‪.‬‬
‫اختراع دائرة الرسال الذاعي المحددة في عام ‪1912‬م‪.‬‬
‫اختراع البث الذاعي على الموجات الطويلة في عام ‪1933‬م‪.‬‬
‫اخترع المريكي بيتر جلودمارك في عام ‪1953‬م نظام‬
‫المرشحات الثلثة الذي ساعد على إنتاج التليفزيون الملون‪ ،‬كما أنه‬
‫اخترع آلة تسجيل الفيديو اللكترونية‪.‬‬
‫‪ -3‬في مجال الحياء والطبيعة‪:‬‬
‫اختراع أول جهاز بدائي للكشف المعدني في عام ‪1881‬م‪.‬‬
‫اختراع السائل المستخدم كوقود للصواريخ في عام ‪1926‬م‪.‬‬
‫اخترع الثلثي المريكي باردين وشوكلي وسراتان صمام‬
‫الترانزيستور اللكتروني في عام ‪1947‬م‪ ،‬والذي استخدم فيما بعد‬
‫في أجهزة الستقبال الذاعي‪.‬‬
‫اكتشاف نموذج الهندسة الوراثية المعروف بالق ‪ DNA‬في عام‬
‫‪1960‬م‪.‬‬
‫‪ -4‬في مجال المواصلت‪:‬‬
‫اختراع السفينة البخارية في عام ‪1790‬م‪.‬‬
‫اختراع سيارة مطافئ تسير بالبخار في عام ‪1829‬م‪.‬‬
‫اختراع أول ترام كهربائي ‪1873‬م‪.‬‬
‫اختراع أول طائرة تسير بالبنزين في عام ‪1903‬م‪.‬‬
‫اختراع المحرك الكهربائي لمحرك السيارة )المارش( في عام‬
‫‪1910‬م‪.‬‬
‫‪ -5‬في مجال الصناعات الحربية‪:‬‬
‫اختراع المسدس الدوار في عام ‪1836‬م‪.‬‬
‫اختراع أول غواصة حربية في عام ‪1862‬م‪.‬‬
‫اختراع المدفع الرشاش في عام ‪1890‬م‪.‬‬
‫اختراع القناع الواقي من الغازات السامة في عام ‪1914‬م‪.‬‬
‫تمكن المريكي روبرت أوبينهايمر بقيادته لفريق من العلماء‬
‫والمهندسين من إنتاج أول قنبلة ذرية في عام ‪1945‬م‪.‬‬
‫‪ -6‬في مجال العلوم الطبية‪:‬‬
‫اختراع ضمادة الجروح )‪ ( Band- Aid‬في عام ‪1920‬م‪.‬‬
‫اختراع عقار لمرض سرطان الدم يتحكم في عملية تكاثر‬
‫الخليا السرطانية ‪1953‬م‪.‬‬
‫اختراع عقار قادر على كبت النظام المناعي في الجسم‬
‫البشري أثناء عملية زرع العضاء في عام ‪1957‬م‪.‬‬
‫‪ -7‬في مجال الحاسب اللي‪:‬‬
‫اخترعت المريكية جريس هوبر أول حاسب إلى في عام‬
‫‪1952‬م‪.‬‬
‫اخترعت جريس هوبر أول لغة خاصة بالحاسب اللى في عام‬
‫‪1959‬م‪.‬‬
‫‪ -8‬في مجال التصنيع وهندسة النتاج‪:‬‬
‫اختراع طريقة لغزل القطن باستخدام سلك معدني في عام‬
‫‪1809‬م‪.‬‬
‫اختراع ماكينة الخياطة في عام ‪1846‬م‪.‬‬
‫اخترع المريكي جورج إيستمان الفيلم المستعمل في آلت‬
‫التصوير في عام ‪1888‬م‪.‬‬
‫اختراع آلة لتقطيع الجلد لتصنيع الحذية في عام ‪1879‬م‪.‬‬
‫‪ -9‬في مجال النشاءات والمواد‪:‬‬
‫اختراع مادة المطاط في عام ‪1835‬م‪ ،‬والذي استخدم فيما‬
‫بعد في صناعة إطارات السيارات‪.‬‬
‫إنتاج مادة السفلت في عام ‪1872‬م‪ ،‬واختراع جهاز تكييف‬
‫الهواء في عام ‪1902‬م‪ ،‬واختراع جهاز الطباعة الفوتوغرافي في عام‬
‫‪1937‬م‪..1052‬‬
‫وغير هذه الختراعات الكثير والكثير‪ ،‬وكما رأينا في مختلف‬
‫المجالت وليس في العلوم العسكرية فقط‪ ،‬ولعل ذلك يفسر لنا سر‬
‫التفوق المريكي‪ ،‬حيث أنه وبحق ما تم إنجازه في غضون المائة سنة‬
‫الولى بعد الستقلل المريكي أمر مذهل للغاية!!‬
‫ل‪ ،‬كانت الوليات المتحدة قد أصبحت تنتج‬ ‫ففي عام ‪1890‬م مث ً‬
‫من الحديد والفولذ بكميات تساوي إنتاج بريطانيا العظمى وألمانيا‬
‫مجتمعتين‪ ،‬وفي العام ‪ 1900‬أصبحت الوليات المتحدة بحسب معايير‬
‫عدة‪ ،‬أعظم دولة صناعية يتمتع شعبها بأعلى مستوى للمعيشة في‬
‫العالم‪ ،‬وفي العام ‪ 1913‬أنتجت الوليات المتحدة أكثر من ثلث‬
‫المنتجات الصناعية في العالم‪ ،‬وفي الفترة الزمنية التي تلت الحرب‬
‫العالمية الثانية‪ ،‬كانت الوليات المتحدة تنتج ‪ %50‬من النتاج العالمي‬
‫الجمإلي‪ ،‬وإلى اليوم ل تزال الوليات المتحدة تنتج حوإلى ‪ %25‬من‬
‫المصنوعات العالمية والمنتجات الزراعية والخدمات‪ ،‬وقد تضاعف‬
‫إنتاجها القومي الجمإلى ثلث مرات منذ انتهاء الحرب العالمية‬
‫الثانية‪ ،‬وهي رائدة في عدة ميادين عالمية مختلفة‪ ،‬مثل الهندسة‬
‫الكيميائية‪ ،‬وهندسة علم الوراثة‪ ،‬والبحوث والنماء في ميدان الرض‬
‫والفضاء والعلقات العامة والكمبيوتر‪ ،‬وخدمات المعلومات‪ ،‬وحقول‬
‫أخرى مماثلة في التكنولوجيا المتطورة‪ ،‬وما تزال الصناعات‬
‫المريكية الخاصة تتمتع بنجاح متواصل‪ ،‬وللشركات المريكية التي‬
‫تنتج طائرات الركاب وتبيعها‪ ،‬أو في مجال صناعة الكمبيوتر‬
‫والمتاجرة به‪ ،‬أكبر نصيب في السوق العالمية‪ ،‬ووادي السليكون‬
‫بالقرب من مدينة سان فرانسيسكو المريكية خير شاهد على التطور‬
‫التكنولوجي‪ ،‬حيث يعد الول والكبر على مستوى العالم للبحث في‬
‫الكمبيوتر وإنتاجه‪ ،‬حيث تتواجد فيه أكثر من ‪ 4000‬شركة تتمتع كلها‬
‫د‪.‬صفي الدين حامد‪ :‬المبراطورية المريكية‪ ،‬الجزء الثالث ص ‪.349‬‬ ‫‪1052‬‬
‫بالتكنولوجيا المتطورة‪ ،‬ومن المعلوم أن الوليات المتحدة المريكية‬
‫تتمتع بمهارات صناعية وتقنية عالية ولكن مال يعرفه الكثيرون‪ ،‬ومنهم‬
‫عدد كبير من المريكيين‪ ،‬هو أن الوليات المتحدة هي الدولة الرائدة‬
‫في مجال الزراعة‪ ،‬فأمريكا هي الولى في تزويد العالم بالحبوب‪ ،‬إذ‬
‫تنتج حوإلى ‪ %20‬من القمح والذرة والشوفان في العالم‪ ،‬كذلك‬
‫يتولى المزارعون والفلحون المريكيين أمر ‪ %14‬من إنتاج اللبان‬
‫في العالم‪ ،‬و ‪ %17‬من إنتاج اللحوم‪ ،‬و ‪ %27‬من إنتاج الزيوت النباتية‬
‫والسمن النباتي‪ ،‬وأكثر من ‪ %60‬من إنتاج فول الصويا‪ ،‬مع العلم أن‬
‫حصة الوليات المتحدة المريكية من الراضي الزراعية في العالم ل‬
‫تتعدى ‪ %8‬من إجمإلى مساحة الراضي الزراعية في العالم‪!!1053‬‬
‫كما أنه من الملحظ ويثير العجاب في النموذج النهضوي‬
‫المريكي الستفادة الواسعة التي حققها قطاعي العمل والتجارة من‬
‫الجامعات الكبرى وبحوثها الساسية واستعدادهما لدعم وتبني‬
‫جع هذا الدعم المبدعين وأصحاب المواهب‬ ‫المواهب‪ ،‬وقد ش ّ‬
‫وأعطاهم الثقة‪ ،‬ولما ل وهم يرون الشركات العملقة تجري وراءهم‬
‫وتبحث عنهم وتتلقف أفكارهم لتطبيقها‪ ،‬بل وتغريهم هذه الشركات‬
‫بالتوظيف في أعلى المناصب وبأعلى الجور‪ ،‬ولذا فإنه من الطبيعي‬
‫في هذا الجو الذي يشجع على العلم ويعلي من شأن العلماء‪-‬وهو‬
‫ل‪ -‬أن نرى هذا الفيض من البتكارات والختراعات بل ونرى تسابق‬ ‫عا ٍ‬
‫العلماء من كافة أنحاء العالم إلى الهروب بعلمهم إلى الوليات‬
‫المتحدة المريكية‪ ،‬وكما استفادت الوليات المتحدة من دعم قطاع‬
‫ضا من النجاح الذي حققته شركاتها‬ ‫التجارة للعلماء فقد استفادت أي ً‬
‫فز نجاح هذه الشركات المجتمع‬ ‫بدعمها للعلماء وتجاربهم‪ ،‬لقد ح ّ‬
‫المريكي ككل وخاصة الشباب على إنشاء شركاتهم الخاصة‬
‫وأعطاهم الجرأة على المغامرة والصبر وهم على ثقة بالنجاح‪ ،‬حتى‬
‫بلغ عدد المريكيين الذين يديرون أعمال ً خاصة وذلك في عام‬
‫‪1984‬م حوإلى عشرة مليين أمريكي‪ ،‬كما ساهم نحو أربعة أضعاف‬
‫هذا العدد )حوإلى ‪ 42‬مليون( في شركات وصناعات متفرقة‪.1054‬‬

‫وكما يقال أن النجاح يجلب النجاح‪ ،‬فما أن رأى الشعب‬


‫المريكي ثمرة تقدمه ورأى بلده تتجه نحو الصدارة إل ونما بداخلهم‬
‫حبهم وولئهم لبلدهم‪ ،‬التي رفعت شأنهم وأعزتهم بين كل شعوب‬
‫العالم‪ ،‬وقد ترجم بعض كبار أغنياء الوليات المتحدة هذه المشاعر‬
‫في شكل عملي‪ ،‬فمثل ً قام بعضهم بتوزيع قسم كبير من ثرواتهم قبل‬
‫موتهم للمؤسسات الخيرية‪ ،‬والمستشفيات والجامعات والمكتبات‬
‫والمتاحف وصالت العرض الفنية والمؤسسات الثقافية‪ ،‬ومنهم‬
‫د‪.‬ك‪ .‬ستيفنسون‪ :‬الحياة والمؤسسات في أمريكا‪.118-115،‬‬ ‫‪1053‬‬

‫د‪.‬ك‪ .‬ستيفنسون‪ :‬الحياة والمؤسسات في أمريكا‪.120،121،‬‬ ‫‪1054‬‬


‫المريكي الفذ كارنيجي‪ 1055‬الذي بلغت قيمة تبرعاته خلل حياته ‪370‬‬
‫مليون دولر من أصل ثروته المقدرة بق ‪ 400‬مليون دولر وذلك من‬
‫أجل مصلحة المجتمع‪ ،‬حيث أتاحت هذه التبرعات بناء ‪ 2800‬مكتبة‬
‫عامة مجانية‪ ،‬وقد أدت مثل هذه المبادرات الشخصية إلى أنه يوجد‬
‫في الوليات المتحدة اليوم حوإلى ‪200‬ألف مؤسسة كبيرة وصغيرة‬
‫يتوقف دورها على دعم المشاريع البحثية المختلفة‪ ،‬وتقديم التبرعات‬
‫إلى القضايا العامة والخيرية‪..1056‬‬
‫وبالتأكيد أن الشعب المريكي لم يبادر إلى مثل هذه الفعال‬
‫التي تمتلئ بأسمى معاني الولء للوطن كما تكشف مقداًرا هائل ً من‬
‫التعلم النضج العقلي‪ ،‬ولكن البداية كانت من جانب الدارة المريكية‬
‫التي تحكم البلد حينما وضعت التفوق في كل المجالت كهدف‬
‫استراتيجي مطلوب تحقيقه‪ ،‬واختارت العلم كوسيلة وحيدة لتحقيق‬
‫هدفها‪ ،‬والرقام هي بالفعل خير شاهد‪..‬‬
‫ورد في تقرير التنمية البشرية الصادر عن البنك الدولي لعام‬
‫‪2006‬م أن نسبة النفاق العام على التعليم في الوليات المتحدة‬
‫المريكية ‪ % 5.1‬من الناتج المحلي الجمإلى لعام ‪1991‬م‪ ،‬وزادت‬
‫هذه النسبة فبلغت ‪ % 5.9‬من الناتج المحلي الجمإلى لعام ‪2004‬م‪،‬‬
‫ول ينبغي أن نستهين بهذه النسبة فإن الناتج المحلي الجمإلى‬
‫للوليات المتحدة المريكية بلغ ‪ 12.98‬تريليون دولر في عام‬
‫‪2006‬م‪..1057‬‬
‫كما زادت نسبة اللتحاق بالتعليم الثانوي من ‪ %85‬عام‬
‫ضا قفز عدد‬
‫‪1991‬م إلى نسبة ‪ %90‬في عام ‪2004‬م‪ ،‬وأي ً‬
‫مستخدمي النترنت من ثمانية أشخاص من كل ألف فرد أمريكي في‬
‫عام ‪1990‬م‪ ،‬إلى ‪ 630‬مستخدم للنترنت من كل ألف أمريكي في‬
‫عام ‪2003‬م‪..‬‬
‫ما بالنسبة لما تنفقه الوليات المتحدة على البحث والتطوير‬
‫أ ّ‬
‫فقد بلغ نسبة ‪ % 2.6‬من الناتج المحلي الجمإلى لعام ‪2003‬م‪ ،‬كما‬
‫درت ثروة الوليات المتحدة المريكية من الباحثين في الفترة )‬
‫ق ّ‬
‫‪2004 – 1990‬م( بحوإلى ‪ 4.484‬ألف باحث من كل مليون فرد‬
‫أمريكي أو مقيم في الوليات المتحدة المريكية‪..‬‬

‫‪ 1055‬ديل كارنيجي )‪ :(1955-1888‬مؤلف أمريكي‪ ،‬ومدير معهد كارنيجي للعلقات النسانية‪.‬‬


‫‪ 1056‬د‪.‬ك‪ .‬ستيفنسون‪ :‬الحياة والمؤسسات في أمريكا‪.125 ،124 ،‬‬
‫‪ 1057‬صفحة الوليات المتحدة المريكية في كتاب الحقائق‪ ،‬الصادر عن وكالة المخابرات‬
‫المريكية‪ ،‬والمنشور على شبكة النترنت‪ ،‬الرابط اللكتروني‬
‫‪https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/us.html#Econ‬‬
‫وبالضافة إلى ذلك فقد بلغت الصادرات المصّنعة التي تحتوي‬
‫على تكنولوجيا عالية نسبة ‪ %32‬من إجمإلى الصادرات المريكية‬
‫المصنعة في عام ‪2004‬م‪..1058‬‬
‫ولعل حداثة الحصائيات يبرهن بالدليل العملي أن الوليات‬
‫در أهمية العلم والعلماء‪ ،‬ومازالت تنفق‬
‫المتحدة المريكية مازالت ُتق ّ‬
‫بسخاء على مختلف المجالت العلمية وذلك للمحافظة على تفوقها‬
‫وريادتها على كل دول العالم‪.‬‬
‫وقد كشفت الحصائية السابقة حجم الموال الهائل الذي تنفقه‬
‫الوليات المتحدة على قطاع التعليم‪ ،‬وهو قطاع متميز يشهد الجميع‬
‫بكفاءته‪ ،‬ولكن المر اللفت والذي نود أن نشير إليه ونستخلص منه‬
‫العبرة هو المعايير التي تم وضعها للتأكد والطمئنان على مستوى‬
‫الطلب الخريجين من المدارس المريكية‪ ،‬فعلى الرغم من الشهرة‬
‫الواسعة التي حققتها المدارس المريكية والثقة التي حازتها إل أنه‬
‫ول‬‫في الوليات المتحدة ل تكفي الشهادة المدرسية كبطاقة تخ ّ‬
‫لحاملها دخول الجامعة تلقائًيا‪ ،‬إذ يجب على الطالب عند تقديم‬
‫طلبات الدخول إلى الكليات والجامعات أن يجتاز العديد من‬
‫المتحانات المركزة جميع المجالت الثقافية تقريًبا‪ ،‬وبالتحديد ثمة‬
‫امتحانان يجريان لتلميذ الصفوف الثانوية الذين يودون النتساب إلى‬
‫كلية أو جامعة ما‪ ،‬وهما امتحانات رفيعا المستوى تتولى منظمات غير‬
‫حكومية إجراءهما في جميع أنحاء البلد‪ ،‬احدهما "امتحان الكفاءة‬
‫المدرسية" )‪ (SAT‬وهو يهدف إلى اختبار التلميذ في القدرات اللغوية‬
‫والحاسبية الضرورية للتحصيل الجامعي‪ ،‬والثاني هو "اختبار الكلية‬
‫المريكية" )‪ (ACT‬وهدفه أن يختبر قدرات الطالب في اللغة‬
‫النجليزية والرياضيات والعلوم الجتماعية والطبيعية‪ ،‬ويجري هذان‬
‫المتحانان في مواعيد محددة في كل مكان من الوليات المتحدة‬
‫وتشرف عليهما هيئات غير تجارية وغير حكومية‪ ،‬وتستخدم الجامعات‬
‫نتائج هذين المتحانين كمقاييس محددة للمقارنة‪ ،‬فل يجوز البتة‬
‫اعتبارها امتحانات رسمية‪ ،‬ويتقدم حوإلى مليوني تلميذ إلى امتحان )‬
‫ما بأن نصف هذا العدد من تلميذ الصف الثانوي‬ ‫‪ (SAT‬كل سنة‪ ،‬عل ً‬
‫الخير )أي الثالث(‪ ،‬أما النصف الباقي فمن تلميذ السنة الثانوية‬
‫سا في الجزء الغربي من‬ ‫الثانية‪ ،‬أما امتحان )‪ ( ACT‬وهو يعتمد أسا ً‬
‫الوليات المتحدة‪ ،‬فيتقدم إليه سنوًيا حوإلى المليون تلميذ ثانوي‬
‫ضا‪ ،‬وتوفر نتائج هذين المتحانين مقاييس مشتركة وقومية النطاق‪،‬‬ ‫أي ً‬
‫رغم التنوع الواسع الموجود في المدارس الثانوية من حيث برامجها‬
‫ومقرراتها التعليمية ومستوياتها‪ ،‬وتنشر عدة جامعات المجموع العام‬
‫للعلمات التي أحرزها التلميذ المتقدمون إلى هذه المتحانات‪ ،‬مما‬

‫‪ 1058‬تقرير التنمية البشرية للبنك الدولي‪ ،‬والمنشور على شبكة النترنت‪ ،‬الرابط اللكتروني‬
‫‪http://hdr.undp.org/hdr2006/statistics/countries/data_sheets/cty_ds_USA.html‬‬
‫ضا برامج‬‫يبين "النوعية" أو مستوى القدرة المطلوب‪ ،‬كذلك تتواجد أي ً‬
‫اختبار مماثلة على مستويات أعلى‪ ،‬فكل من أنهى سنوات الجامعة‬
‫الربع ويود اللتحاق بكليات الطب أو الحقوق‪ ،‬يجب أن يجتاز امتحاًنا‬
‫رفيع المستوى‪ ،‬وقد جرى التفاق على هذه المتحانات بين عدد من‬
‫كليات الحقوق والطب ولذلك تجري على نطاق قومي وفي أوقات‬
‫محددة‪ ،‬إل أنها شأن امتحاني )‪ (SAT) (ACT‬ل تعتبر رسمية أو‬
‫حكومية إنما هنالك نوع آخر من المتحانات الرسمية يتميز بالصعوبة‪،‬‬
‫فإذا درس شخص ما لعدة سنوات مثل ً ونال شهادة طبية من‬
‫الجامعة‪ ،‬فهذا ل يعني أن من حقه أن يباشر ممارسة الطب الفعلية‬
‫في الوليات المتحدة‪ ،‬إذ أن كل ولية تطلب اجتياز امتحانات إضافية‬
‫خاصة‪..1059‬‬
‫ما عن الجهود التي بذلتها الدارات المريكية المتعاقبة في‬
‫أ ّ‬
‫مجال تيسير سبل المعرفة والتثقيف والحث على القراءة والطلع‬
‫در في الوليات المتحدة أكثر من ‪ 11‬ألف‬ ‫فيكفي أن نقول أنه َتص ُ‬
‫مجلة ونشرة دورية‪ ،‬بينها أكثر من أربعة آلف تصدر شهرًيا‪ ،‬وأكثر من‬
‫‪ 1300‬تصدر أسبوعًيا‪..‬‬
‫وأنه في عام ‪1986‬م بلغ عدد الصحف الصادرة نحو ‪9144‬‬
‫صحيفة في ‪ 34‬لغة مختلفة‪ ،‬وبلغ عدد النسخ التي تباع من الصحف‬
‫اليومية في الوليات المتحدة يومًيا نحو ‪ 63‬مليون نسخة‪..1060‬‬
‫وكل هذا بجانب ثروة حقيقة من الكتب والمجلدات في شتى‬
‫فروع العلم‪ ،‬ويكفي في الحديث عن هذه النقطة ِذكر مكتبة‬
‫الكونجرس المريكي‪ ،‬ومكتبة جامعة هارفارد التي تعد ّ مكتبتها من‬
‫أعظم المكتبات الجامعية في العالم‪..‬‬
‫ونتمنى من خلل الموجز أليسير الذي عرضناه أن نكون‬
‫ساهمنا في توضيح الدور المحوري للعلم في النموذج النهضوي‬
‫للوليات المتحدة المريكية‪..‬‬

‫د‪.‬ك‪ .‬ستيفنسون‪ :‬الحياة والمؤسسات في أمريكا‪.108-106 ،‬‬ ‫‪1059‬‬

‫د‪.‬ك‪ .‬ستيفنسون‪ :‬الحياة والمؤسسات في أمريكا‪.166 ،165 ،‬‬ ‫‪1060‬‬


‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في بناء اليابان‬
‫كانت الضربة القاصمة التي تلقتها اليابان في الحرب العالمية‬
‫الثانية وأّدت إلى استسلمها وهي في حالة انهيار كامل؛ إذ خّلفت‬
‫الحرب وراءها سبعة مليين عاطل‪ ،‬ومسحت من على وجه الرض‬
‫ما ُرب ُعَ الطاقة الصناعية‪ ،‬وخّربت كل المدن الرئيسية تقريًبا‪ ،‬وذلك‬
‫تما ً‬
‫من‬‫بجانب الكارثة النسانية التي سببتها قنبلتا هيروشيما وناجازاكي ِ‬
‫ة‬
‫ي وإشعاعي‪ ،‬كانت هذه الضربة كفيل ً‬ ‫ث بيئ ّ‬
‫قتلى وجرحى وتلو ٍ‬
‫باختفائها كدولة‪ ،‬ونهاية دورها إلى البد‪..‬‬
‫ولكن اليابان أبت إل أن تضرب المثل لكل دول العالم‪ ،‬وتعلمها‬
‫سا في التخطيط الدقيق‬ ‫قن الجميع در ً‬
‫معاني العزيمة والصرار‪ ،‬وتل ّ‬
‫والمثابرة حتى تحقيق الهداف‪ ،‬كما أوضحت تجربة اليابان بما ل يدع‬
‫مجال ً للشك الدور الذي يمكن للعلم أن يؤديه في حياة البشر‪..‬‬
‫وللحق فإن اهتمام اليابان بالعلم والخذ بأسباب التطور يسبق‬
‫الحرب العالمية الثانية بسنوات طويلة‪ ،‬مع اعترافنا بأن هذه الزمة‬
‫هي التي فجرت طاقات الشعب الياباني ودفعته إلى النتصار على‬
‫الجميع حتى على نفسه‪ ،‬إل أن النهضة العلمية اليابانية قد نضجت‬
‫ثمارها قبل ذلك بكثير‪ ،‬فمنذ القرن التاسع عشر واليابان تمتلك سكك‬
‫حديد وخطوط برق‪ ،‬وصناعة حديثة خاصة الصناعات الثقيلة الساسية‬
‫صلب وبناء السفن لسد الحاجات العسكرية‪،‬‬ ‫كالتعدين وصناعة ال ّ‬
‫وصناعات خفيفة واعدة كصناعة المنسوجات‪ ،‬مع قاعدة عريضة من‬
‫اليدي العاملة الماهرة‪ ،‬والكثير من الخبراء الجانب الذين استقدمتهم‬
‫اليابان بهدف نقل التكنولوجيا المتقدمة‪ ،‬ومنذ عام ‪1870‬م ظهرت‬
‫آلت الغزل الميكانيكية الحديثة في المصانع اليابانية‪ ،‬وغيرها الكثير‬
‫من وسائل التكنولوجيا الصناعية الحديثة‪ ،‬وبدأت عجلة التنمية اليابانية‬
‫في السراع وأصبحت اليابان قوة ناشئة وواعدة‪ ،‬وقد بلغ هذا التطور‬
‫ذروته في عام ‪1913‬م‪..1061‬‬
‫وقد اعتمدت النهضة العلمية باليابان خلل هذه المرحلة على‬
‫ثلثة أعمدة رئيسية‪:‬‬
‫‪ -1‬الستعانة بالعلماء والمعلمين الوروبيين سواء كانوا أعضاء‬
‫البعثات التبشيرية أو العلماء المتخصصين في اللغات الوروبية‪،‬‬
‫ي إلى اليابان الخبراء‬
‫ع َ‬
‫وخاصة اللغتين الهولندية والنجليزية‪ ،‬كما د ُ ِ‬
‫الفنيون من كل الدول المتقدمة‪ ،‬وقد حملت السفن القادمة إلى‬
‫اليابان مئات المعّلمين والمستشارين والفنيين الجانب‪ ،‬وقد خصصت‬
‫الحكومة اليابانية لهؤلء الخبراء الجانب في مجال التعليم إلى جانب‬
‫د‪ .‬إسماعيل أحمد ياغي‪ :‬تاريخ شرق آسيا الحديث‪.143 ،142 ،‬‬ ‫‪1061‬‬
‫المبعوثين اليابانيين في الخارج ما يوازي ‪ %30‬من ميزانية وزارة‬
‫التعليم اليابانية في ذلك الوقت‪..‬‬
‫‪ -2‬ترجمة الكتب الجنبية إلى اللغة اليابانية‪ ،‬وإنشاء المدارس‬
‫الحديثة‪ ،‬وكانت أهم الكتب التي نقلت العلم إلى اليابانيين مؤلفات‬
‫كل من جان جاك روسو‪ ،‬وهيوم‪ ،‬ودستوفسكي‪ ،‬وتولستوي‪ ،‬وغيرهم‬
‫من كبار المفكرين العالميين في ذلك الوقت‪ ،‬والذين ساعدت‬
‫أفكارهم في زيادة وعي اليابانيين بأحوال العالم المحيط بهم‪.‬‬
‫‪ -3‬إرسال البعثات اليابانية إلى الدول الوروبية المتقدمة لينهل‬
‫أفرادها من العلوم الحديثة‪ ،‬وكانت وزارة التعليم تدقق في اختيار‬
‫أعضاء البعثات من أفضل العناصر الوطنية‪ ،‬وكانت معظم هذه‬
‫البعثات يتم إرسالها إلى الوليات المتحدة المريكية‪ ،‬وإلى بعض‬
‫الدول الوروبية مثل ألمانيا وفرنسا‪ ،‬وعندما شعر قادة الص ً‬
‫لح‬
‫الياباني أن أسلوب التربية اللماني الذي يركز على الجوانب الخلقية‬
‫‪ -‬التي تؤمن بأن هدف التعليم خلق الدارة المستنيرة التي تميز بين‬
‫الصواب والخطأ ‪ -‬هو ما يناسب الطبيعة اليابانية الجتماعية‪ ،‬بدأت‬
‫المناهج اللمانية تحل محل المناهج المريكية على يد أعضاء البعثات‬
‫اليابانيين‪.‬‬
‫أما عن التعليم الجامعي في اليابان خلل تلك الفترة‪ ،‬فقد تم‬
‫إنشاء العديد من المعاهد والكليات العليا حتى عام ‪1877‬م الذي‬
‫ف بجامعة طوكيو‬ ‫تجمعت فيه هذه المعاهد والكليات فيما ع ُرِ َ‬
‫المبراطورية التي ضمت كليات الداب والعلوم والحقوق والطب‬
‫والهندسة‪ ،‬ثم افتتحت عام ‪1897‬م جامعة "كيوتو"‪ ،‬وفي عام‬
‫‪1900‬م تأسست أول كلية لتعليم اللغة النجليزية للبنات‪ ،‬وفي نفس‬
‫العام أدارت الدكتورة "يوشيو كايابوي" ‪ -‬كأول طبيبة يابانية ‪ -‬أول‬
‫كلية طب للنساء‪..1062‬‬
‫ورت اليابان نظامها التربوي‪ ،‬واستطاعت في زمن‬ ‫وبذلك ط ّ‬
‫قصير أن تسد الفجوة التي كانت تفصل بينها وبين الدول الوروبية‬
‫في مجال العلم‪ ،‬وقد حدث ذلك بسبب إيمان اليابانيين بأن نقل العلم‬
‫دى كونه مرحلة أولى يجب أن‬ ‫والتكنولوجيا مع أهميته إل أنه ل يتع ّ‬
‫تتبعها مراحل وخطوات‪ ،‬وكانت الخطوة التالية هي إعداد كوادر علمية‬
‫وطنية يمكن العتماد عليها في بناء الدولة اليابانية الحديثة‪ ،‬وبالفعل‬
‫سم‬ ‫أعادت الحكومة اليابانية النظر في ن ُ ُ‬
‫ظم التعليم اليابانية بحيث تتر ّ‬
‫خطى أحسن النظم التعليمية الجنبية‪ ،‬فاستدعت الحكومة‬
‫المبراطورية عدًدا كبيًرا من رجال العلم الجانب للسهام في إنشاء‬
‫المدارس والجامعات لجميع الطلب‪ ،‬وأرسلت البعثات العلمية إلى‬
‫الخارج للتخصص‪ ،‬ثم استقبلت اليابان مبعوثيها في الخارج ليشاركوا‬
‫د‪ .‬رأفت غنيمي الشيخ‪ ،‬تاريخ آسيا الحديث والمعاصر‪.41 ،40،‬‬ ‫‪1062‬‬
‫في النهضة التعليمية في البلد‪ ،‬وليقوموا بالتدريس في المدارس‬
‫الجديدة‪.1063‬‬
‫فمنذ منتصف القرن التاسع عشر وأكثر من ‪ %45‬من سكان‬
‫اليابان الذكور يجيدون القراءة والكتابة‪ ،‬ونحو ‪ %15‬من الناث‬
‫يجيدونها‪ ،‬وهذه النسب لم تكن تقل بحال من الحوال عنها في أشد‬
‫ما في ذلك الوقت‪ ،‬وفي عام ‪1907‬م تمكنت‬ ‫دول العالم الغربي تقد ً‬
‫اليابان من إدخال أغلب أبنائها إلى المدارس‪ ،‬وكان اللتحاق بالتعليم‬
‫ست الولى‬ ‫ما خلل السنوات الدراسية ال ّ‬ ‫إجبارًيا وبالمجان تما ً‬
‫)المرحلة البتدائية(‪ ،‬وبعد اجتياز الطالب لهذه السنوات الست ينتقل‬
‫إلى مرحلة تعليمية أخرى مدتها خمس سنوات‪ ،‬ثم ينتقل الطلبة إلى‬
‫المرحلة العالية ومدتها ثلث سنوات والتي تعادل المرحلة الثانوية‬
‫الن‪ ،‬ثم ينتقل إلى مرحلة التعليم الجامعي لثلث سنوات أو أربع‬
‫قا لنوع التخصص‪.1064‬‬ ‫طب ً‬
‫وُيعد ّ من أشهر علماء اليابان في هذه الفترة عالم البكتيريا‬
‫)كيتا صاطو( الذي أسهم بجهود كبيرة في هذا المجال من العلوم‪،‬‬
‫وقام كذلك بإنشاء مركز لبحوث البكتيريا في عام ‪1915‬م‪ ،‬ويحمل‬
‫هذا المركز اسم هذا العالم الكبير‪ ،‬وقد كان أول من توّلى عمادة‬
‫كلية الطب في جامعة كيتو العريقة‪ ،‬وكان قبل ذلك قد توّلى رئاسة‬
‫ضا من أعلم هذه الفترة العالم‬ ‫مركز بحوث المراض المعدية‪ ،‬أي ً‬
‫الكبير شيجا كيوشي )‪1957-1871‬م( الذي قام باكتشاف أحد أنواع‬
‫بكتيريا الدوسنتاريا في عام ‪1898‬م وسميت )بكتريا دوسنتاريا‬
‫سل‪ ،‬وقد‬ ‫شيجا(‪ ،‬كذلك قام بالبحث في أسباب وكيفية علج أمراض ال ّ‬
‫ضا على‬ ‫حصل هذا العالم على لقب المواط ََنة الفخرية وحصل أي ً‬
‫ضا من علماء اليابان البارزين العالم‬ ‫جائزة الثقافة اليابانية‪ .‬نذكر أي ً‬
‫نوجوتشي هيديو الذي سافر للدراسة في الوليات المتحدة المريكية‬
‫في عام ‪1900‬م‪ ،‬وهناك قام بأبحاث عديدة‪ ،‬ولكنه أظهر براعة‬
‫واضحة في أبحاثه على مرض الزهري والبكتيريا المسببة له‪ ،‬وأوضح‬
‫المتاعب المختلفة المصاحبة لهذا المرض الخطير‪ ،‬وذلك بجانب‬
‫مى الصفراء؛ حيث نجح بالفعل في‬ ‫ح ّ‬
‫أبحاثه المهمة عن مرض ال ُ‬
‫تصنيف الجرثومة المسببة لهذا المرض‪ ،‬وكذلك نجح في إنتاج البلزما‬
‫المناسبة لهذا المرض‪..1065‬‬
‫ما عن علم المعادن فل يمكن تجاوز دور العالم هوندا كوطارو‬ ‫وأ ّ‬
‫)‪1954 -1870‬م( الذي استحدث هذا العلم‪ ،‬وقام باكتشاف معدن‬
‫النيكل كما اشت ُهَِرت أبحاُثه على معدن الحديد‪ .‬وتدرج هذا العالم‬

‫تاريخ شرق آسيا الحديث‪.143،‬‬ ‫‪1063‬‬

‫د‪ .‬فوزي درويش‪ :‬الشرق القصى الصين واليابان‪.257،‬‬ ‫‪1064‬‬

‫تاريخ اليابان الحديث والمعاصر‪.106 ،105 ،‬‬ ‫‪1065‬‬


‫سا لجامعة‬
‫الكبير في المناصب العلمية حتى وصل لن يصبح رئي ً‬
‫)طوهوكو( العريقة‪..1066‬‬
‫ولعل هذه النبذة من التاريخ الياباني الحديث تساعدنا على فهم‬
‫المعجزة اليابانية‪ ،‬وما نقصده بالمعجزة هو ما فعلته اليابان بعد كارثة‬
‫الحرب العالمية الثانية‪ ،‬إذ عادت لتبدأ من الصفر بل وأقل من الصفر‬
‫ذى به في التقدم والعلم والرخاء‪..‬‬ ‫ما صعًبا ومثل ً ُيحت َ َ‬
‫لتصبح رق ً‬
‫لقد قامت اليابان بتقليد الغرب في بادئ المر‪ ،‬ثم ما لبثت أن‬
‫سبقته وتفوقت عليه‪ ،‬فقد نقلت عنه أحدث نظرياته العلمية‪ ،‬ثم بدأت‬
‫في تأصيل نفسها في العلوم والتكنولوجيا؛ فكثفت جهودها في برامج‬
‫ي‬
‫م َ‬
‫س ّ‬‫شا كبيَرا من العلماء في إطار ما ُ‬ ‫البحث والتطوير لتخرج جي ً‬
‫سلمي"‪ ،‬واستند اليابانيون إلى نظام تعليمي غاية في‬ ‫"بالتفوق ال ّ‬
‫ب أصيل لنقل العلم والمعرفة كامن في الشخصية‬ ‫ح ّ‬
‫الدقة يدعمه ُ‬
‫اليابانية‪ ،‬وإلى جانب تخريج العلماء والباحثين من المهندسين ركزت‬
‫اليابان في المقام الول على مرحلة التعليم الساسي باعتباره‬
‫المستودع الول لمداد الدولة بكوادرها الفنية والكاديمية‪ ،‬وحقيقة‬
‫المر فإن اندفاع اليابانيين لتوسيع نطاق التعليم وتجويده كان بنفس‬
‫اندفاعهم لزيادة ناتجهم القومي‪ ،‬ففي عام ‪1955‬م كان نصف‬
‫الشباب الياباني بالكاد يدرس في مرحلة التعليم الثانوي‪ ،‬ونسبة أقل‬
‫من ‪ %10‬يستكملون التعليم فيما بعد المرحلة الثانوية‪ ،‬وعند حلول‬
‫مون مرحلة‬ ‫السبعينيات صار أكثر من ‪ %90‬من كل الجنسين ي ُت ِ ّ‬
‫ة بنسبة ‪ %80‬للشباب المريكي‪ ،‬وفي عام‬ ‫تعليمهم الثانوي مقارن ً‬
‫‪ 1975‬على سبيل المثال كان ‪ %97‬من الطلبة اليابانيين الذين‬
‫التحقوا بالتعليم الثانوي قد أتموا دراستهم فيه ليلتحقوا بالتعليم‬
‫العإلي‪..1067‬‬
‫والمر المثير للعجاب أن الطلبة اليابانيين ل يكتفون بمجرد‬
‫الحضور في الفصول المدرسية‪ ،‬بل نجد ما يزيد على نصف الشبان‬
‫اليابانيين يلتحقون لبعض الوقت في مدارس تكميلية خاصة بالتوازي‬
‫مع دراستهم في المرحلتين البتدائية والثانوية لمزيد من التدريب‪،‬‬
‫وهذه المدارس التكميلية لها أشكال وأحجام متعددة‪ ،‬والهدف منها‬
‫تحسين الفرص أمام الطالب للدخول في مسابقات تعقدها المدارس‬
‫ذات الشهرة في مستوى تعليمها والتي يتوق الطلب إلى النتساب‬
‫إليها‪ ،‬وقد أصبح نظام المسابقات هذا سمة معروفة في نظام التعليم‬
‫الياباني‪ ،‬واللفت للنظر أن هذه المسابقات تهدف إلى قياس مدى‬
‫سا على فرضية تلقى قبول ً عا ً‬
‫ما في‬ ‫المعلومات المكتسبة تأسي ً‬
‫اليابان‪ ،‬وهي أن النجاح ل يعتمد على المكانات الفطرية للطالب ول‬
‫على مدى استعداده العام‪ ،‬ولكن يعتمد بالحرى على مدى استخدامه‬
‫تاريخ اليابان الحديث والمعاصر‪.106،‬‬ ‫‪1066‬‬

‫السابق‪.254،‬‬ ‫‪1067‬‬
‫لهذه المكانات الفطرية في الدراسة المنتظمة‪ ،‬حيث إنه من وجهة‬
‫النظر اليابانية ليس هناك سوى طريق واحد لتحقيق الفوز هو‬
‫الستذكار والجتهاد في تحصيل العلم‪..1068‬‬
‫والجدير بالملحظة أن الطالب الياباني يحضر في المدرسة ما‬
‫يزيد عن الطالب المريكي بمقدار الثلث؛ فهو يحضر بالمدرسة ‪240‬‬
‫ما فقط‪،‬‬‫ما في السنة في حين يحضر الطالب المريكي ‪180‬يو ً‬ ‫يو ً‬
‫ضا من السمات المميزة لنظام التعليم الياباني هو أن المدارس‬ ‫أي ً‬
‫رط على احتواء الطلب‪ ،‬وغير مسموح‬ ‫اليابانية ُتشت ََهر بحرصها المف ِ‬
‫فّلت أو تسّرب تعليمي في أي مرحلة من المراحل‪،‬‬ ‫فيها بأي نسبة ت َ َ‬
‫أو أية فرقة من الفرق‪ ،‬رغم أن ذلك يش ّ‬
‫كل عبًئا إضافًيا على معلميها‪،‬‬
‫ونجد المريكيين مثل ً أكثر استعداًدا للقبول بحرمان الطلبة المتعثرين‬
‫من التعليم في حين يبذل المدرس الياباني قصارى جهده ليطمئن‬
‫قق مستوى تعليمّيا مطمئًنا قبل‬ ‫إلى أن كل طالب من طلبه قد ح ّ‬
‫نهاية العام الدراسي‪ ،‬ويلجأ المدرس في هذا الخصوص إلى حشد‬
‫جهود أولياء أمور الطلبة المتعثرين لمساعدة أبنائهم؛ وذلك لن‬
‫المدرس الياباني يعتبر نفسه ليس مسئول ً فقط عن تقديم المادة‬
‫ضا ‪ -‬عن التأكد من أن الطالب قد‬ ‫العلمية للطالب‪ ،‬وإنما مسئول – أي ً‬
‫‪1069‬‬
‫استوعب علومه بالفعل‪.‬‬
‫وبالتأكيد كان لهذه النهضة التعليمية أعظم الثر في إعداد‬
‫وتجهيز كوادر علمية قادرة على العطاء‪ ،‬وقد انعكس أثر ذلك على‬
‫القتصاد الياباني‪ ،‬فقد بلغ متوسط النمو القتصادي لليابان في الفترة‬
‫من عام ‪ 1950‬وحتى عام ‪ 1973‬معدل ً غير عادي‪ ،‬حيث بلغ ‪ 10‬في‬
‫المائة سنوًيا‪ ،‬والتفسير العلمي لذلك هو أن هذا النمو قد نبع من‬
‫الزيادة الستثنائية السريعة التي قامت بها اليابان في تعبئة العمالة‬
‫دا عن‬‫ورأس المال والتكنولوجيا‪ ،‬وكذلك نتيجة لتحول الموارد بعي ً‬
‫الستثمار في الزراعة‪ ،‬وقد قام مركز اليابان للبحوث القتصادية‬
‫بتقدير معدل النمو السنوي بنسبة ‪ 9.2‬في المائة سنوًيا في الفترة‬
‫من ‪ 1970‬حتى ‪1985‬م‪..1070‬‬
‫وازداد الهتمام الياباني بالعلم والتعليم‪ ،‬فزادت نسبة‬
‫المصروفات الحكومية على التعليم من إجمإلى الناتج المحلي من‬
‫‪ %4.5‬سنة ‪ 1975‬إلى ‪ %5‬سنة ‪ ،1993‬وانعكس ذلك إيجابًيا على‬
‫"العملية التعليمية" حيث بلغت نسبة المقيدين في المدارس البتدائية‬
‫من الطفال )ذكوًرا وإناًثا( في سن الدراسة إلى ‪،%100 -99‬‬
‫وبلغت نسبة الطلب في المدارس الثانوية إلى إجمإلى الفراد في‬
‫سن الدراسة ‪ %91‬في الفترة ما بين سنة ‪1970‬م وسنة ‪1975‬م‪،‬‬
‫الشرق القصى الصين واليابان‪.254،‬‬ ‫‪1068‬‬

‫الشرق القصى الصين واليابان ص ‪.256‬‬ ‫‪1069‬‬

‫روبرت جرام‪ :‬ترويض النمور‪ ،‬ترجمة سمير كريم‪،‬مركز الهرام للترجمة والنشر‪.37 ،36 ،‬‬ ‫‪1070‬‬
‫ثم ارتفعت إلى ‪ %95‬بين سنة ‪1980‬م و ‪1985‬م‪ ،‬ثم إلى ‪ %97‬بين‬
‫سنة ‪ 1990‬وسنة ‪1993‬م‪ ،‬وتحسنت نسبة الساتذة إلى الطلب‬
‫فارتفعت من مدرس واحد لكل ‪ 24‬طالًبا بين السنة ‪1980‬م وسنة‬
‫‪1985‬م إلى مدرس واحد لكل ‪ 20‬طالًبا بين سنة ‪1990‬م وسنة‬
‫‪1993‬م‪.1071‬‬
‫ولشك في أن اهتمام دولة اليابان بصفة رسمية وجموع‬
‫المواطنين بصفة شعبية بالعملية التعليمية قد أّثر بشكل مباشر في‬
‫دم العلم‪ ،‬وأّدى إلى انتشار المراكز البحثية في اليابان بشكل‬‫تق ّ‬
‫ملحوظ‪ ،‬فقد كان لزيادة عدد الجامعات والمدارس أثره في إعطاء‬
‫الفرصة للعلماء أن يواصلوا أبحاثهم ودراساتهم في شتى المجالت‪،‬‬
‫كما أننا ل نستطيع إغفال دور الحرب العالمية الولى في تقدم العلوم‬
‫وذلك لشعور اليابانيين بأن عليهم بذل قصار جهدهم من أجل أن تقف‬
‫ف البلدان المتقدمة‪ ،‬ففي مجال العلوم التطبيقية‬‫بلدهم في مصا ّ‬
‫والطبيعية واصل العلماء عطائهم الذي بدأوه في هذه المرحلة‬
‫التاريخية‪..1072‬‬
‫ولعّلنا نخلص بنتيجة في نهاية كلمتنا الموجزة عن دور العلم في‬
‫بناء النهضة اليابانية‪ ،‬وهذه النتيجة تتلخص في أن دور العلم ظل بارًزا‬
‫طوال مراحل التاريخ الياباني الحديث‪..‬‬
‫كما بيّنا أن الهتمام بالتطوير والتجديد التكنولوجي كان أمًرا‬
‫يشغل بال القائمين على الصناعات اليابانية منذ القرن التاسع عشر‪،‬‬
‫فكثير من براءات الختراع والسإليب التكنولوجية الحدث كانت‬
‫اليابان تستجلبها من الخارج بصفة مستمرة في تلك الونة مع سعي‬
‫متواصل لصنع منتجات يابانية بتصميمات جديدة‪ ..‬ثم تضاعف اهتمام‬
‫اليابان بالعلم ووصل ذروته خلل الفترة التي تبعت هزيمتها في‬
‫الحرب العالمية الثانية عام ‪1945‬م في محاولة جادة للنهوض وإثبات‬
‫الوجود‪ ،‬وقد نجحت اليابان في تحقيق هدفها بكل تأكيد‪ ،‬ففي خلل‬
‫النصف الثاني من الستينيات تجاوز الناتج القومي لليابان نظيره في‬
‫كل من الدول الصناعية الكبرى في غرب أوروبا‪ ،‬وغزت صادرات‬
‫صلب‪ ،‬والسفن‪،‬‬ ‫اليابان أسواق الدول الصناعية الكبرى‪ ،‬بدًءا من ال ّ‬
‫مروًرا بالمركبات‪ ،‬واللت والمعدات‪ ،‬وانتهاًء باللكترونيات التي‬
‫تفوقت على مثيلتها في كل دول العالم‪ ،‬وسيطر المنتج اللكتروني‬
‫الياباني على أسواق المستهلكين في العالم‪.1073‬‬
‫ومن أهم الختراعات اللكترونية اليابانية‪:‬‬

‫‪ 1071‬أ‪ .‬أماني مسعود الحديني‪ :‬العلقة بين الديمقراطية والتنمية في آسيا‪.113،‬‬


‫‪ 1072‬هشام عبد الرءوف حسن‪ ،‬تاريخ اليابان الحديث والمعاصر‪.105 ،‬‬
‫‪ 1073‬الشرق القصى الصين واليابان ص ‪.249‬‬
‫‪ -1‬اختراع الفيديو كاسيت ‪videocassette recorder 1969‬م‪.1074‬‬
‫‪ -2‬اختراع الووكمان ‪ stereo personal‬في عام ‪1979‬م‪.‬‬
‫‪ -3‬اختراع السي دي ‪ (compact disc (CD‬في عام ‪1980‬م‪.‬‬
‫‪ -4‬اختراع ‪ (digital videodisc (DVD‬في عام ‪1995‬م‪.‬‬
‫وها هو تقرير التنمية البشرية لعام ‪2006‬م يبرهن بالرقام‬
‫الواضحة أن الهتمام بالعلم مازال هو ديدن اليابان حتى يومنا هذا‪،‬‬
‫وجاء فيه أن نسبة التحاق الطفال بالمدارس البتدائية مستقرة عند‬
‫‪ %100‬منذ عام ‪1991‬م‪ ،‬مما يدل على أن الحرص على التعّلم أصبح‬
‫من مسّلمات الشعب الياباني‪..‬‬
‫كما ارتفعت نسبة اللتحاق بالتعليم الثانوي من ‪ %97‬عام‬
‫‪ 1991‬إلى نسبة ‪ %100‬عام ‪2004‬م‪..‬‬
‫ووصل عدد مستخدمي شبكة النترنت إلى ‪ 578‬من كل ‪1000‬‬
‫فرد في اليابان‪..‬‬
‫در عدد الباحثين في اليابان بحوإلى ‪ 5.287‬باحث من كل‬ ‫ويق ّ‬
‫ما بأن عدد سكان اليابان بلغ‬
‫مليون فرد في اليابان‪ ،‬عل ً‬
‫‪ 127.433.494‬مليون نسمة حسب تقديرات ‪2007‬م ؛ حيث‬
‫‪1075‬‬

‫تنفق اليابان على أنشطة البحث والتطوير ‪ %3.1‬من إجمإلى ناتجها‬


‫القومي البالغ ‪ 4.22‬تريليون دولر عام ‪2006‬م‪..1076‬‬
‫كما بلغت الصادرات التي تحتوي على تكنولوجيا عالية نسبة‬
‫‪ %24‬من إجمإلى صادرات اليابان حسب تقديرات عام ‪2004‬م ‪.‬‬
‫‪1077‬‬

‫ن ما قامت به اليابان من إنجازات علمية وتقنية واقتصادية‬ ‫إ ّ‬


‫جا لمعظم دول شرق آسيا التي استطاعت تحقيق‬ ‫جعلها قدوة ً ونموذ ً‬
‫د‪ ،‬فقد كان النموذج الياباني مصدر‬
‫ت اقتصادية وتقنية فيما بع ُ‬ ‫طفرا ٍ‬
‫اللهام لقادة شرق آسيا الذين أرادوا لبلدهم وشعوبهم مستقبل ً‬
‫زاهًرا‪.‬‬

‫‪ 1074‬الموسوعة البريطانية‪ ،‬الرابط ‪http://corporate.britannica.com/press/inventions.html‬‬


‫‪ 1075‬كتاب الحقائق السنوي الصادر عن وكالة المخابرات المريكية لسنة ‪ ،2007‬والمنشور على‬
‫شبكة النترنت‪ ،‬الرابط ‪https://www.cia.gov/library/publications/the-world-‬‬
‫‪factbook/geos/ja.html#People‬‬
‫‪ 1076‬كتاب الحقائق ‪2007‬م‪.‬‬
‫‪ 1077‬تقرير التنمية البشرية لعام ‪2006‬م‪ ،‬والمنشور على صفحة النترنت‪ ،‬الرابط اللكتروني‬
‫‪http://hdr.undp.org/hdr2006/statistics/countries/data_sheets/cty_ds_JPN.html‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في بناء كوريا‬
‫الجنوبية‬
‫لقد أصبحت كوريا الجنوبية دولة صناعية من الطراز الول؛‬
‫حيث تصنع كل شيء تقريًبا‪ ،‬فهي تصنع الطائرة ‪ F-16‬المريكية‬
‫بأسعار أرخص من أمريكا ذاتها‪ ،‬وتصنع القطع البحرية والسلحة‬
‫المختلفة‪ ،‬وتصنع القمار الصناعية المختلفة‪ ،‬وجميع أنواع الكهربائيات‬
‫واللكترونيات‪ ،‬بالضافة إلى تصنيعها لللت الصناعية نفسها‪ ،‬والهم‬
‫من ذلك أن القاعدة الصناعية الكورية يمكنها التحول من صناعة إلى‬
‫أخرى بسرعة فائقة حسب السوق الدولي للسلع وفي سهولة‬
‫تامة‪..1078‬‬
‫ن كل ما يسير على أرض‬ ‫ويكفينا في هذا المقام أن نقول‪ :‬إ ّ‬
‫كوريا مصنوع ٌ بمصانعها‪ ،‬من القطارات‪ ،‬والتوبيسات العامة والخاصة‪،‬‬
‫والسيارات‪ ،‬واللوريات المختلفة من جميع الحجام‪ ،‬ومترو النفاق‪،...‬‬
‫وبالفعل يصعب على الناظر داخل السوق الكوري أن يجد أّية ماركة‬
‫أجنبية في الطريق‪ ،‬أو أية سلعةٍ مستوردة‪ ،‬هذا بالضافة إلى حقيقة‬
‫مهمة‪ ،‬وهي أن الشعب نفسه حريص على تشجيع منتجه المحلي‪،‬‬
‫فالمحلت مكتظة بالسلع المستوردة بناء على حرية السوق السلعي‬
‫داخل الدولة‪ ،‬ومع هذا نجد الثرياء الكوريين يركبون السيارات‬
‫الكورية‪ ،‬ويستعملون المنتج الكوري حتى لو كان من إنتاج شركة‬
‫منافسة كورية‪ ،‬ول يشترون السلع المستوردة‪..1079‬‬
‫كما تحتل الصناعات اللكترونية الكورية المركز السادس في‬
‫العالم بالنسبة للنتاج‪ ،‬والخامس بالنسبة للتسويق‪ ،‬وتحتل كوريا‬
‫المركز الثاني بعد اليابان في إنتاج الدوات المنزلية الكهربائية‬
‫مرة بمختلف أنواعها‪ ،‬وتحتل كوريا المركز الثالث على العالم بعد‬ ‫المع ّ‬
‫اليابان والوليات المتحدة في صناعة الذاكرات اللكترونية‬
‫للكمبيوترات‪..1080‬‬
‫واللفت في تجربة النهضة الكورية هو الدور المحوري للعلم‬
‫فيها؛ فلقد أدركت كوريا مبكًرا أنه ل أمل لنهضتها إل بتحقيق طفرة‬
‫كنها من تعويض افتقارها الشديد للموارد‬‫علمية وتكنولوجية تم ّ‬
‫الطبيعية‪..‬‬
‫ن من أهم الدروس الجلّية التي يمكن استخلصها من‬ ‫كما أ ّ‬
‫ضا ‪ -‬عملها بقاعدة‪ :‬البداية من‬
‫النهضة العلمية لكوريا الجنوبية ‪ -‬أي ً‬

‫أ‪ .‬محمد أمين شلقامي‪ ،‬فهم التجربة الكورية وسبل الستفادة منها‪.45 ،‬‬ ‫‪1078‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.45،‬‬ ‫‪1079‬‬

‫نفس المصدر السابق ‪.46،‬‬ ‫‪1080‬‬


‫حيث انتهى الخرون‪ ،‬وقد قادتها هذه القاعدة إلى اّتباع سياسة نقل‬
‫التقنية الحديثة‪ ،‬ثم دراستها والستفادة منها‪ ،‬وأخيًرا تطوير هذه‬
‫التقنية وسبقها‪..‬‬
‫وإذا نظرنا لعملية نقل التقنية في كوريا‪ ،‬نجد أنها تبدأ بمرحلة‬
‫التخطيط‪ ،‬وقد اضطلعت الحكومة الكورية بتلك المرحلة بمشاركة‬
‫سسات الكورية الخاصة العملقة‪ ،‬والتي خضعت لها في‬ ‫ثانوية للمؤ ّ‬
‫معظم الحيان‪ ،‬وقد كانت الحكومة في البداية تختار أفضل الشروط‬
‫التي يقدمها الموّرد لنقل التقنية وليس أفضل تقنية بالضرورة‪ ،‬ثم‬
‫قامت الحكومة الكورية بعد خطوة نقل التقنية بخطوة مهمة أخرى‬
‫وهي إدماج التقنية الحديثة في المصانع الكورية‪ ،‬ثم يلي تلك الخطوة‬
‫ما‪..1081‬‬
‫مرحلة البحث والتطوير لنتاج تقنية محلية أكثر تقد ً‬
‫ومن أبرز المثلة العملية التي توضح كيفية نقل كوريا للتقنية‬
‫الحديثة هو خطواتها لنتاج أول سيارة كورية الصنع‪ ،‬حيث قامت كوريا‬
‫باستيراد سيارات تويوتا وفورد شبه مفككة ثم بدأت بتجميعها محلًيا‪،‬‬
‫وبعد القيام بدراسات علمية على مكونات هذه السيارات‪ ،‬ودراسة‬
‫إمكانية استبدال أجزاء محلية الصنع ببعض الجزاء‪ ،‬تمكنت كوريا من‬
‫تصنيع السيارة )هيونداي( محل ّّيا بنسبة ‪ ،1082%96‬ومن هذا المثال‬
‫تتضح لنا السياسة التي اختارتها كوريا في مجال البحث والتطوير‬
‫ذاته‪ ،‬فهي إذا قورنت بالدول المتقدمة نجدها لم تستثمر بالصورة‬
‫الكافية في تطوير تقنية مستقلة‪ ،‬ولكنها اعتمدت على التقنية‬
‫المستوردة؛ حيث كانت تستوعبها وتحسنها‪ ،‬ثم تقدم بديل ً محلّيا‬
‫ما‪ ،‬وبهذا وقفت‬ ‫لبعض مكوناتها أو تطورها لتخرج بمنتج جديد تما ً‬
‫ما من الدول الخرى‬ ‫كوريا في منتصف الطريق تقنًيا؛ فهي أكثر تقد ً‬
‫المصنعة حديًثا‪ ،‬وأقل من اليابان والوليات المتحدة‪..‬‬
‫كما قامت كوريا الجنوبية في خطتها الولى بالتركيز على تصنيع‬
‫السلع ذات القبول الدولي الواسع لضمان سهولة تسويقها‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫صناعة النسيج‪ ،‬وصناعة الحذية‪ ،‬وقد تم استخدام التقنية العالية في‬
‫تلك الصناعات لزيادة الميزة التنافسية للسلعة الكورية على مثيلتها‬
‫في السوق الدولي‪ ،‬وقد تم إنشاء المعهد الكوري لتنمية العلوم‬
‫والتقنية الذي يرأسه رئيس الجمهورية الكورية بنفسه‪ ،‬للقيام بتلك‬
‫المهمة‪ ،‬كما تم إنشاء مدينة كاملة لمعاهد البحاث والتقنية اسمها‬
‫مدينة )تدوك(‪ ،‬وبها ‪ 34‬معهد أبحاث بعضها تابع للحكومة الكورية‪،‬‬
‫وأغلبها تابع للشركات الخاصة‪ ،‬وتقوم تلك المعاهد بتخريج الفنيين‬
‫المطلوبين للعمل في الشركات المختلفة‪ ،‬وفيها يتم عزل الدارسين‬
‫عن العالم الخارجي للتفرغ للدراسة والبحاث فقط‪ ،‬وذلك بإقامة‬

‫د‪ .‬محمد السيد سليم‪ :‬النموذج الكوري للتنمية ص ‪.210‬‬ ‫‪1081‬‬

‫المصدر السابق ص ‪.208‬‬ ‫‪1082‬‬


‫المدينة بين سلسة من الجبال‪ ،‬وأقرب مدينة لها على بعد ‪20‬‬
‫كيلومتر تقريًبا‪..1083‬‬
‫لم يكن ممكًنا النجاح في تحقيق الهداف الكورية بمجرد نقل‬
‫التقنية المتقدمة؛ ولذا اتجهت الدولة إلى إعداد كوادر قادرة على‬
‫مل عبء‬ ‫استقبال هذه العلوم المتقدمة والستفادة منها‪ ،‬ثم تح ّ‬
‫التطوير والبتكار‪ ،‬ومن هذا المنطلق قامت الحكومة الكورية بمراجعة‬
‫شاملة لنظامها التعليمي ليصبح مؤهّل ً لمدادها بالكفاءات العلمية‬
‫المطلوبة‪..‬‬
‫وللحق فقد كان التعليم الكوري يواجه العديد من المشاكل‪،‬‬
‫وهو في ذلك مثل العديد من النظمة التعليمية في مختلف أنحاء‬
‫العالم‪ ،‬ولكن دولة مثل كوريا تريد النهوض والتقدم تعظم في عين‬
‫المسؤولين بها هذه المشاكل‪ ،‬وتصبح في نظرهم كوارث يجب‬
‫معالجتها والحتراز من آثارها‪ ،‬وعلى سبيل المثال نجد أن مرحلة‬
‫التعليم الثانوي الكورية‪ ،‬كانت تعاني من كونها أكاديمية التوجه‬
‫سا‪ ،‬مع انفصالها عن القتصاد‪ ،‬وكانت المدارس‬ ‫وجسًرا للجامعة أسا ً‬
‫المهنية ملتقى الطلبة الفاشلين انتظاًرا لدخولهم امتحان القبول‬
‫بإحدى المعاهد أو الجامعات‪ ،‬كما كانت المدارس المهنية المختلفة‬
‫وخاصة الفنية منها غير مرتبطة بالقطاع الصناعي ومفتقرة‬
‫للتسهيلت اللزمة‪ ،‬وظل الوضع هكذا حتى بداية السبعينيات؛ حيث‬
‫دة تعديلت على النظام التعليمي فلعبت المعاهد المتوسطة‬ ‫خل ع ّ‬‫أ ُد ْ ِ‬
‫سد ّ الحتياجات للعمالة الفنية المدربة في ظل‬ ‫ما في َ‬ ‫المهنية دوًرا مه ً‬
‫ما بعد عام‪ ،‬وكانت الدراسة في هذه المعاهد‬ ‫تزايد الطلب عليها عا ً‬
‫ث سنوات بعد المرحلة الثانوية‪ ،‬وقد بلغ عدد هذه المعاهد‬ ‫تمتد لثل ِ‬
‫في تلك الفترة حوإلى ‪ 118‬مؤسسة لتخريج الفنيين‪ ،‬بينما ُيكّرس‬
‫‪ %50 -20‬من حصة الدخول للجامعات لهؤلء الخريجين الذين‬
‫يريدون استكمال دراستهم في ذات المجال‪ ،‬ومن أهم النقاط‬
‫اليجابية التي تساعد هذه المعاهد على أداء رسالتها التعاون الوثيق‬
‫بينها وبين المؤسسات الصناعية العملقة لتسهيل التدريب العملي‬
‫في المواقع الصناعية‪ ،‬وذلك بجانب تشكيل حوإلى ‪ 641‬لجنة تعاونية‬
‫في مختلف المجالت مهمتها التنسيق بين المصنع والهيئة التعليمية‪،‬‬
‫مما أدى إلى تخريج كوادر فنية مدربة على أعلى مستوى وقادرة‬
‫على استيعاب الوسائل الحديثة في الصناعة‪..1084‬‬
‫وُأنشئت مدرسة العلوم والتقنية في عام ‪1983‬م‪ ،‬مع السماح‬
‫لخريجيها باللتحاق بجامعة العلوم والتقنية‪ ،‬وإعطاء هؤلء الطلب‬
‫الولوية في المنح والبعثات‪ ،‬وذلك بجانب إنشاء مدارس للنابغين‬
‫دا علمّيا‪ ،‬و ‪ 79‬مركًزا للبحاث‪ ،‬وإنشاء صندوق‬
‫علمًيا‪ ،‬و ‪ 12‬معه ً‬
‫أ‪ .‬محمد أمين شلقامي‪ :‬فهم التجربة الكورية وسبل الستفادة منها ص ‪.37‬‬ ‫‪1083‬‬

‫د‪ .‬محمد السيد سليم‪ :‬النموذج الكوري للتنمية ص ‪.187‬‬ ‫‪1084‬‬


‫للتعليم العلمي وإنشاء شبكة معلومات بين المعاهد البحثية‪ ،‬وقد‬
‫أسفرت الجهود الحكومية في الدفع بالجانب التطبيقي للتعليم في‬
‫الجامعات إلى ارتفاع عدد المهندسين الخريجين من ‪ 5.000‬في عام‬
‫‪1971‬م إلى ‪ 15.000‬في عام ‪1982‬م‪..1085‬‬
‫وقد بلغ النفاق على التعليم المهني في كوريا ‪ %59‬من‬
‫ميزانية التعليم في عام ‪1991‬م‪ ،‬وفي عام ‪2002‬م كان هناك ‪741‬‬
‫ب‪..1086‬‬
‫مدرسة ثانوية مهنية يدرس فيها ‪ 535.363‬ألف طال ٍ‬
‫وقد تأثرت السياسات التعليمية الكورية كثيًرا بالنظام التعليمي‬
‫في اليابان والوليات المتحدة المريكية‪ ،‬كما بعثت أمريكا بمساعداتها‬
‫وخبرائها إلى كوريا‪ ،‬ويعتبر معهد كوريا لتنمية التعليم من أهم‬
‫المؤسسات الكورية التي أسهمت في تطوير نظام جديد للتدريس‬
‫مثل البرامج المرئية ومواد التعليم الذاتي‪..1087‬‬
‫ما عن مراحل التعليم المختلفة‪ ،‬فالتعليم البتدائي في كوريا‬ ‫أ ّ‬
‫ي‪ ،‬وتصل نسبة التسجيل فيه إلى ‪ ،% 100‬وكذلك أصبح التعليم‬ ‫إلزام ّ‬
‫العدادي إلزامًيا في كل أنحاء كوريا اعتباًرا من عام ‪2002‬م‪ ،‬وقد‬
‫كانت نسبة الطلب للمعلمين في المدارس البتدائية ‪ 58.8‬طالًبا‬
‫للمعلم الواحد في عام ‪1960‬م‪ ،‬إل أن هذه النسبة انخفضت إلى‬
‫‪ 28.1‬طالًبا للمعلم الواحد في عام ‪2002‬م‪ ،‬كما تم إنشاء جامعة‬
‫كوريا المفتوحة الوطنية للشباب والبالغين العاملين‪..1088‬‬
‫هذا وفد وصلت نسبة الطلبة إلى عدد السكان في كوريا‬
‫الجنوبية عام ‪1991‬م إلى ‪ 395‬لكل ‪ 10.000‬وهي من أعلى النسب‬
‫في العالم بجانب الوليات المتحدة وكندا‪..1089‬‬
‫كما ي ُعَد ّ من أهم إنجازات السياسة التعليمية في كوريا الجنوبية‬
‫‪ -‬والذي أسهم بقوة في النهضة العلمية ‪ -‬المضمون المعنوي الذي‬
‫ل نظام الرئيس )بارك شونج(‬ ‫تحتويه الكتب المدرسية‪ ،‬ففي ظ ّ‬
‫عملت المناهج على التقليل من أهمية القيم الفردية‪ ،‬وركزت الكتب‬
‫كدت كتب الخلق‬ ‫على أهمية الطاعة والتعاون والولء للوطن‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ن العمل الدءوب والدراسة‬ ‫للمرحلة الوسطى من التعليم على أ ّ‬
‫والزهد وتهذيب ومراقبة النفس من أهم صفات الفرد‪ ،‬وقد اعتبر‬

‫‪ 1085‬نفس المصدر السابق‪.192 ،‬‬


‫‪ 1086‬الصفحة الرسمية للجمهورية الكورية الجنوبية على شبكة النترنت‪ ،‬الرابط‬
‫‪.http://www.arab2korea.net/default.asp‬‬
‫‪ 1087‬النموذج الكوري للتنمية‪.197،199،‬‬
‫‪ 1088‬الصفحة الرسمية للجمهورية الكورية الجنوبية على شبكة النترنت‪ ،‬الرابط‬
‫‪.http://www.arab2korea.net/default.asp‬‬
‫‪ 1089‬النموذج الكوري للتنمية‪.196،‬‬
‫دمة في المناهج الدراسية الكورية هي أهم‬‫البعض أن هذه القيم المق ّ‬
‫السإليب التي حققت بها كوريا إعجازها التنموي ‪..‬‬
‫‪1090‬‬

‫ويعتبر علم الدارة العامة من أهم العلوم التي أسهمت مباشرة‬


‫في المعجزة الكورية‪ ،‬فالتعليم الداري أفرز القيادة القادرة على‬
‫التخطيط التي أسهمت في وضع السياسات المختلفة سواء في‬
‫المؤسسات الصناعية العملقة أو في الحكومة‪ ،‬بالضافة إلى العمالة‬
‫الماهرة المنظمة‪ ،‬كما أسهم علم الدارة في تحديد المهارات اللزمة‬
‫لصنع القرار والتخطيط المركزي وتعبئة الموارد‪ ،‬ووضع البرامج‬
‫م لزمة لدولة تأخرت في التصنيع مثل‬ ‫التنموية‪ ،‬وهي ك ُّلها مها ّ‬
‫كوريا‪..1091‬‬
‫معّلم‬ ‫َ‬
‫وبجانب الهتمام بالتعليم أوَْلت كوريا عناية خاصة لل ُ‬
‫الكوري الذي هو بمثابة المنفذ للخطط والتعديلت التعليمية التي‬
‫طرأت خلل المراحل السابق عرضها‪ ،‬لقد كان المدرس هدًفا كما‬
‫ذا لتلك السياسات؛ فمنذ الستينيات تم الرتقاء بالمعاهد‬ ‫كان منف ً‬
‫ولت‬ ‫المتوسطة الخاصة بتأهيل معلمي المرحلة البتدائية‪ ،‬كما م ّ‬
‫ة‬
‫حق بها مدرس ٌ‬ ‫ت المعلمين‪ ،‬بل حرصت على أن ُيل َ‬ ‫الحكومة كليا ِ‬
‫ابتدائية ومتوسطة وثانوية؛ وذلك كي يتم تدريب المعلم بصورة‬
‫عملية‪ ،‬كما اشتملت التعديلت الكيفية في الثمانينيات على ضرورة‬
‫فرض امتحان قدرات ومقابلة شخصية للمتقدمين لمعاهد المعلمين‪،‬‬
‫هذا مع إعفاء الطلبة في كليات المعلمين من بعض المصاريف بنسبة‬
‫قد تصل إلى ‪ %40‬من قيمة المصروفات الدراسية‪ ،‬وفي إطار‬
‫ضا ‪ -‬تم توفير‬ ‫تحسين ظروف المعلم والرتقاء بمستواه العلمي – أي ً‬
‫دورات تدريبية خلل العمل لتحسين المستوى أو للحصول على‬
‫شهادات إضافية للترقية أو للتأقلم‪ ،‬هذا بالضافة إلى قيام وزارة‬
‫التعليم الكورية بإرسال بعثات من المعلمين إلى الخارج للستفادة‬
‫من الجديد في نظم التدريس‪ ،‬وقد تم بالفعل إرسال ‪ 2.119‬مدرس‬
‫ما المدرس الجامعي‬ ‫من عام ‪ 1978‬إلى ‪1988‬م في تلك البعثات‪ ،‬أ ّ‬
‫فهو محل للتقييم المستمر من قَِبل الطلب كنوع من الرقابة على‬
‫مستواه‪..1092‬‬
‫ما عن تثقيف المجتمع ونشر المعرفة فنجد في كوريا العديد‬ ‫أ ّ‬
‫من المكتبات بأنواعها المختلفة‪ ،‬كالمكتبات القومية والعامة‬
‫والمتخصصة وغير المتخصصة‪ ،‬ومكتبات التعليم العإلى والمدارس‪،‬‬
‫وقد بلغ عدد المشتركين بها في أوائل التسعينيات حوإلى ‪ 24‬مليون‬

‫د‪ .‬محمد السيد سليم‪ ،‬النموذج الكوري للتنمية‪.191،‬‬ ‫‪1090‬‬

‫المصدر السابق ‪.193،‬‬ ‫‪1091‬‬

‫د‪ .‬محمد السيد سليم‪ ،‬النموذج الكوري للتنمية‪.190 ،189 ،‬‬ ‫‪1092‬‬
‫ب‪ ،‬وهي معدلت عالية بالنسبة لدولة‬
‫فرٍد‪ ،‬وبها حوإلى ‪ 68‬مليون كتا ٍ‬
‫حديثة النمو‪..1093‬‬
‫وقد جاء في تقرير التنمية البشرية الصادر عن البنك الدولي‬
‫ن كوريا الجنوبية نجحت في تحقيق نسبة محو للمية‬ ‫لعام ‪2006‬م أ ّ‬
‫قا لتقديرات‬
‫ما وصلت إلى ‪ % 99.2‬طب ً‬ ‫في شبابها مابين ‪ 24 – 15‬عا ً‬
‫‪1991‬م‪..1094‬‬
‫كما وصل عدد مستخدمي النترنت إلى ‪ 657‬من كل ألف‬
‫مواطن كوري في عام ‪2003‬م‪..‬‬
‫وبلغ عدد براءات الختراع الممنوحة للمقيمين في كوريا‬
‫الجنوبية ‪ 738‬لكل مليون نسمة في عام ‪2004‬م‪..‬‬
‫كما أنفقت الحكومة الكورية في عام ‪2003‬م على البحث‬
‫والتطوير نسبة ‪ %2.6‬من إجمإلى ناتجها المحلي‪ ،‬وهي تمثل نسبة‬
‫كبيرة في ظل التزايد المستمر لقيمة الناتج المحلي الجمإلى لكوريا‬
‫الجنوبية والذي بلغ ‪ 1.18‬تريليون دولر في عام ‪2006‬م‪..1095‬‬
‫ووصل عدد الباحثين إلى ‪ 3.187‬باحًثا من كل مليون فرد في‬
‫عام ‪2003‬م‪..‬‬
‫كما بلغت الصادرات المصنعة نسبة ‪ %92‬من إجمإلى‬
‫الصادرات الكورية عام ‪2004‬م‪ ،‬وهذا مع العلم أن الصادرات التي‬
‫تحتوي على تقنية عالية مّثلت ‪ %33‬من إجمإلى الصادرات المصّنعة‬
‫في عام ‪2004‬م‪.‬‬

‫‪ 1093‬المصدر السابق ‪.196،‬‬


‫‪ 1094‬تقرير التنمية البشرية لعام ‪2006‬م‪ ،‬الرابط‬
‫‪http://hdr.undp.org/hdr2006/statistics/countries/data_sheets/cty_ds_KOR.html‬‬
‫‪ 1095‬كتاب الحقائق الدولي لعام ‪2007‬م‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في بناء ماليزيا‬
‫ُتمثل ماليزيا ‪ -‬بحق ‪ -‬حالة فريدة ومتميزة بين الدول السلمية‪،‬‬
‫ليس فقط بسبب نجاحها بامتياز في عملية التنمية والنهضة‪ ،‬وبالتالي‬
‫بلوغها مرتبة متقدمة بين المم الصاعدة‪ ،‬وإنما أيضا بسبب براعتها‬
‫في التعامل مع كل المعضلت والتحديات التي واجهتها‪..‬‬
‫وبداية؛ فإن ماليزيا الشقيقة تقع في قلب جنوب شرق آسيا‪،‬‬
‫وتبلغ مساحتها ‪ 330.343‬ألف كم ‪ ،2‬وعاصمتها مدينة كواللمبور‪،‬‬
‫ويبلغ عدد سكان ماليزيا ‪ 24.385.858‬مليون نسمة )عام ‪،(2006‬‬
‫يمثل المسلمون نسبة ‪ %60‬تقريًبا منهم‪ ،1096‬وتعتبر ماليزيا هي يابان‬
‫العالم السلمي‪ ..‬لماذا؟‬
‫لقد وصلت ماليزيا إلى المرتبة الثامنة عشرة على مستوى‬
‫العالم اقتصاديا‪ ،‬وبنظرة سريعة إلى الرقام التي حققتها دولة ماليزيا‬
‫على العديد من الصعدة‪ ،‬ومن واقع التقارير والدراسات العالمية‬
‫المعتمدة‪ ،‬نستطيع أن نرى وبوضوح المكانة التي استطاعت الشقيقة‬
‫المسلمة ‪ -‬والتي تعتز بانتمائها إلى المة السلمية – أن تحفرها‬
‫لنفسها بين دول العالم المتقدم‪..‬‬
‫فالناتج القومي لماليزيا ‪ 308.8‬مليار دولر‪ ،‬ومعدل النمو‬
‫السنوي للناتج القومي ‪) ٪ 5.5‬تقديرات ‪ ، (2006‬ووصلت قيمة‬
‫صادراتها إلى ‪ 147.1‬بليون )ألف مليون( دولر )تقديرات ‪(2005‬‬
‫وتصل نسبة الصادرات المصنعة ‪ % 79‬من إجمإلى الصادرات‪ ،‬بينما‬
‫الصادرات المصنعة عالية التقنية والتكنولوجيا تمثل ‪ % 58‬من‬
‫إجمإلى الصادرات المصنعة الماليزية‪ ،‬بما يوضح التقدم الملموس في‬
‫الصناعات التي تحتوي على تقنية عالية‪ ،‬مثل الكومبيوتر ووسائل‬
‫التصال ‪..‬‬
‫وإذا نظرنا ‪ -‬مثل ً ‪ -‬إلى دولة متقدمة مثل ألمانيا‪ ،‬نجد أن‬
‫صادراتها الصناعية تمثل ‪ % 84‬من إجمإلى صادراتها‪ ،‬بينما تمثل‬
‫الصادرات عالية التقنية ‪ %17‬من إجمإلى الصادرات المصنعة‪ ..‬بينما‬
‫في مصر تمثل الصادرات المصنعة عالية التقنية نسبة ‪ % 1‬فقط من‬
‫إجمإلى الصادرات الصناعية ‪..‬‬
‫وتبلغ نسبة البطالة في ماليزيا ‪) % 3.6‬تقديرات ‪ ،(2005‬بينما‬
‫هي في فرنسا ‪ -‬مثل ً ‪ % 4.3 -‬وفي ألمانيا ‪ % 5‬مما يوضح لنا مقدار‬
‫الندية مع الدول الصناعية الكبرى‪..‬‬

‫كتاب الحقائق الدولي لعام ‪2007‬م‪.‬‬ ‫‪1096‬‬


‫ما عن قضية العلم ومكافحة المية‪ ،‬فقد جاء في نفس‬ ‫أ ّ‬
‫المصدر السابق أن ‪ % 88.7‬من عدد السكان فوق سن الخامسة‬
‫ما يستطيع القراءة والكتابة‪ ،‬وقد وضح التقرير أن هذه‬
‫عشر عا ً‬
‫النسبة كانت ‪ % 80‬في عام ‪1990‬م‪ ،‬مما يوضح استمرار وتواصل‬
‫ما‪..‬‬
‫الجهود للقضاء على هذه الظاهرة تما ً‬
‫ما‬
‫ولعل من اللفت للنظر أن الناث ما بين سن ‪ 24-15‬عا ً‬
‫تصل نسبة معرفتهن للقراءة والكتابة إلى ‪ % 97.3‬ول يخفي أن هذا‬
‫هو سن الزواج وتكوين السرة‪ ،‬وبالتأكيد ستكون الم المتعلمة‬
‫أحرص على تعليم أبنائها‪..‬‬
‫أما نسبة ما تنفقه ماليزيا على التعليم‪ ،‬فإنه يعادل ‪ %28‬من‬
‫ضا في تقرير التنمية لعام‬
‫إجمإلى نفقاتها الحكومية‪ ،‬كما جاء أي ً‬
‫‪ ،2006‬في حين أن ما تنفقه إسرائيل على التعليم ‪ %13.7‬من‬
‫إجمإلى نفقاتها الحكومية‪..‬‬
‫كما أّنه من كل ألف شخص في ماليزيا يوجد ‪ 397‬من‬
‫مستخدمي النترنت‪ ..‬كما يوجد ‪ 299‬باحث لكل مليون نسمة ‪..‬‬
‫‪1097‬‬

‫ول نريد أن نستفيض في هذه النقطة ‪ -‬رغم أهميتها ‪ -‬أكثر من‬


‫ح‪ ،‬وهو‪:‬‬‫مل ِ ّ‬
‫دا أن نجيب على سؤال ُ‬
‫ذلك‪ ،‬بل نجد أنه من المهم ج ً‬
‫كيف استطاعت دولة مثل ماليزيا أن تحقق هذا التقدم‪..‬؟!‬
‫وماهو دور العلم في هذا النجاح المذهل؟‬
‫وسؤالنا هذا ليس القصد منه التقليل من شأن ماليزيا‪ ،‬بقدر ما‬
‫هو مبعث إعجاب ودهشة‪ ،‬وشعور بالمتنان والفخر نوعا ما‪ ،‬وخاصة‬
‫وأنها دولة ذات إمكانيات محدودة‪ ..‬فل تملك ‪ -‬مثل ً ‪ -‬احتياطيا ٍ‬
‫ت‬
‫ة هائلة‪ ،‬مثل السعودية والعراق‪ ،‬ول تمتلك طاقات بشرية‬ ‫نفطي ً‬
‫ضخمة‪ ،‬مثل إندونيسيا‪ ،‬وكذلك فهي ل تمتلك ‪ 30‬مليون فدان صالحة‬
‫للزراعة مثل السودان الشقيق‪ ،‬وفضل ً عن ذلك‪ ،‬فمساحتها ليست‬
‫شاسعة مثل دولة الجزائر التي تقترب من ‪ 2.5‬مليون كم ‪ !!10982‬بل‬
‫وعلى العكس من ذلك!!‬
‫فقد اجتمعت في دولة ماليزيا عدة عوامل‪ ،‬يكفي أي عامل‬
‫منهم ليكون حجة للتكاسل والقعود عن العمل‪ ،‬فضل عن التنافس مع‬
‫الدول المتقدمة ومضارعتها‪..‬‬

‫‪ 1097‬تقرير التنمية البشرية لعام ‪2006‬م‪ ،‬الرابط‬


‫‪http://hdr.undp.org/hdr2006/statistics/countries/data_sheets/cty_ds_MYS.html‬‬
‫‪ 1098‬كتاب الحقائق الدولي المريكي لعام ‪2007‬م‪.‬‬
‫لقد طرق الستعمار أبواب ماليزيا منذ القرن السادس عشر‪،‬‬
‫بدًءا بالستعمار البرتغإلي‪ ،‬ثم الهولندي‪ ،‬وأخيًرا الستعمار البريطاني‪،‬‬
‫الذي بدأ في منتصف القرن السابع عشر‪ ،‬وبالتحديد في عام‬
‫‪1665‬م‪ ،‬واستمر الحتلل البريطاني جاسم على ماليزيا‪ ،‬يستنزفها‬
‫بدون انقطاع‪ ،‬ولمدة تقترب من ثلثة قرون‪ ..‬فعندما اندلعت الحرب‬
‫العالمية الثانية وقعت ماليزيا تحت الحتلل الياباني خلل عام‬
‫‪1941‬م وحتى استسلمت اليابان في شهر سبتمبر ‪1945‬م‪ ،‬ثم‬
‫عادت بعدها الدارة البريطانية لحكم ماليزيا مرة أخرى‪ ،‬حتى حصلت‬
‫على كامل استقللها في عام ‪1957‬م‪ ،‬وُأعلن قيام دولة ماليزيا في‬
‫‪ 16‬مارس ‪1963‬م‪.. 1099‬‬
‫وبالضافة إلى ما عانته من مرارة الستعمار‪ ،‬فقد واجهت‬
‫ماليزيا مشكلة خطيرة‪ ،‬وهي التنوع‪ ،‬بل والختلف بين عناصر‬
‫تركيبتها العرقية والدينية‪..‬‬
‫فنجد أن التركيبة العرقية مقسمة ما بين ‪ % 58‬من عدد‬
‫السكان لهم أصول تعود إلى منطقة المليو‪ ،‬و ‪ % 27‬تعود أصولهم‬
‫إلى الصين‪ ،‬و ‪ % 8‬أصول هندية‪ % 7 ،‬لهم أصول مختلفة أخرى‪..‬‬
‫ولهذه التركيبة العرقية أثر واضح في التركيبة الدينية لماليزيا‪،‬‬
‫حيث نجد أن المسلمين يمثلون ‪ % 60‬من عدد السكان‪ ،‬ومعظمهم‬
‫من الملويين السكان الصليين‪ ،‬ويأتي بعدهم البوذيون بنسبة ‪% 19‬‬
‫ومعظمهم من الصينيين‪ ،‬ثم النصارى بنسبة ‪ ،% 9‬والهندوس ‪،% 6‬‬
‫والباقي ديانات أخرى‪ ،‬مثل الكونفوشسية والسيخية‪..1100‬‬
‫أي خليط هذا‪..‬؟!‬
‫وبجانب هذه المصاعب فقد خرجت ماليزيا إلى العالم بعد‬
‫حصولها على الستقلل وهي تعاني من جروح غائرة في جسدها‬
‫الوليد‪ ،‬المتمثل في دولة صغيرة تتكون من اتحاد ‪ 13‬ولية‪ ،‬وكان أكبر‬
‫جراح الدولة الوليدة هو جرح الفقر الذي استعاذ منه النبي ‪ ،‬فكان‬
‫قرابة نصف الشعب المإليزي يعاني الفقر المدقع‪ ،‬ولم تكن هناك‬
‫صناعات تكاد تذكر أو تشتهر بها ماليزيا في ذلك الوقت‪ ،‬بل كان أبرز‬
‫أنشطتها يتركز على تصدير المطاط‪ ،‬ويليه في التصدير معدن‬
‫القصدير‪ ،‬مع القليل من المواد النفطية‪ ،‬وكان يحترف بعض سكان‬
‫ماليزيا مهنة الصيد‪ ،‬ويعمل بعضهم بالزراعة‪ ،‬مع تدني رهيب في‬
‫مستوى التعليم‪!!..‬‬
‫وتلك شيمة البلد التي تعرضت للحتلل‪ ،‬والذي كان ‪ -‬ول زال ‪-‬‬
‫من طبيعة عمله أن يحرص ليل نهار على نشر الجهل والتخلف؛ حتى‬
‫د‪ .‬رأفت غنيمي الشيخ‪ ،‬تاريخ آسيا الحديث والمعاصر‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪.167-161،‬‬ ‫‪1099‬‬

‫كتاب الحقائق المريكي‪.‬‬ ‫‪1100‬‬


‫يضمن استقراره‪ ،‬وسهولة قيادة فريسته‪ ..‬وذلك هو المشهد ‪ -‬إن لم‬
‫يكن هناك ما هو أسوأ منه ‪ -‬حين حصول دولة ماليزيا على‬
‫الستقلل‪!!..‬‬
‫ومن فور الحصول على الستقلل أعطت الدولة اهتمامها الول‬
‫بقضية التعليم كهدف ل غنى عنه لتحقيق النهضة‪ ،‬وذلك لنها تدرك أن‬
‫التعليم هو الذي يكفل تنمية وصقل الموارد البشرية للدولة‪ ،‬ولذا‬
‫حرصت الدارة المإليزية منذ استقلل البلد في ‪1957‬م على تقديم‬
‫خدمات التعليم الساسي ‪ -‬لمدة إحدى عشرة سنة ‪ -‬مجاًنا‪ ,‬كما أولت‬
‫الحكومة عناية كبيرة بتأسيس معاهد خاصة لتدريب المعلمين‬
‫وتأهيلهم على المستوى القومي‪..‬‬
‫ولقد ركزت الحكومة في مطلع الستينات على هدف واضح‪،‬‬
‫وهو إحلل الوردات‪ ،‬بمعنى التصنيع المحلي للسلع التي يتم‬
‫استيرادها من الخارج‪ ،‬وبالفعل تكونت نواة صناعية‪ ،‬عبارة عن‬
‫صناعات صغيرة كصناعة الغذية‪ ،‬ثم تطور المر لصناعة مواد البناء‬
‫والطباعة والبلستيك والكيميائيات‪ ،‬وساندت الدولة هذه الخطوة‬
‫الناجحة بإصدار قانون تشجيع الستثمار في سنة ‪1968‬م؛ لجذب‬
‫الستثمارات الجنبية بهدف زيادة القاعدة الصناعية‪ ،‬وبالفعل حدث‬
‫توسع في إنتاج زيت النخيل والخشب والمطاط والكاكاو‪ ،‬كما شهد‬
‫القطاع النفطي تطوًرا كبيًرا؛ مما وضع ماليزيا على خارطة الدول‬
‫المصدرة للبترول والغاز‪..‬‬
‫وفي مطلع السبعينات شجعت الحكومة دخول الستثمارات‬
‫الجنبية في مجال اللكترونيات وصناعة النسيج‪ ،‬وذلك بتوفير العمالة‬
‫المإليزية وتقديم حوافز ضريبية مغرية‪ ،‬وإصدار تراخيص منتجات‬
‫أجنبية‪ ،‬وإنشاء مناطق تجارة حرة‪ ،‬كما بدأت الحكومة تستضيف‬
‫الشركات الكبرى متعددة الجنسيات لتشغيل خطوط إنتاجية في‬
‫ماليزيا‪ ،‬فشهدت هذه المرحلة النتقال من سياسة إحلل الواردات‬
‫إلى سياسة التصنيع الموجه إلى التصدير‪..‬‬
‫ومن ثم أصبحت الرض المإليزية ممهدة وجاهزة للنطلق‬
‫واللحاق بركب الدول المتقدمة‪ ،‬ل ينقصها إل قائد ماهر طموح يقودها‬
‫ويحسن إدارتها وتوجيهها‪ ..‬وكان هذا الرجل هو مهاتير محمد‪ ،‬صانع‬
‫المعجزة المإليزية‪ ،‬فكيف فعلها؟!‬
‫بدأ ظهور الدكتور مهاتير محمد في الحياة السياسية في عام‬
‫‪1970‬م‪ ،‬وذلك عندما ألف كتابا بعنوان "معضلة المليو"‪ ،‬انتقد فيه‬
‫بشدة شعب المليو واتهمه بالكسل‪ ،‬والرضا بأن تظل بلده دولة‬
‫وا‬
‫زراعية متخلفة دون محاولة تطويرها‪ ،‬وكان في ذلك الوقت عض ً‬
‫في الحزب الحاكم والذي يحمل اسم منظمة المليو القومية‬
‫المتحدة‪ ،‬وقرر الحزب منع الكتاب من التداول نظرا للراء العنيفة‬
‫التي تضمنها‪ ،‬وأصبح مهاتير محمد في نظر قادة الحزب مجرد شاب‬
‫متمرد لبد أن تحظر مؤلفاته!!‬
‫غير أن مهاتير سرعان ما أقنع قادة الحزب بقدراته‪ ،‬مما يدل‬
‫على حنكته السياسية؛ فهو لم يغضب ويترك الحزب‪ ،‬وبالفعل صعد‬
‫نجمه في الحياة السياسية بسرعة‪ ،‬حتى تولى رئاسة وزراء بلده في‬
‫ول أفكاره إلى واقع‬
‫عام ‪1981‬م‪ ،‬وأتيحت له الفرصة كاملة ليح ّ‬
‫عملي‪..1101‬‬
‫لم يكن مهاتير محمد مجرد رجل سياسة‪ ،‬بل كان أيضا مفكر له‬
‫كتبه ومؤلفاته‪ ،‬وكان صاحب رؤية لما ينبغي أن تكون عليه بلده‪ ،‬ولقد‬
‫استفاد مهاتير من كل ما حققته ماليزيا منذ الستقلل من نجاحات‬
‫واستثمرها وجعلها قاعدة لنطلقته‪ ،‬ولم يرد الدكتور مهاتير أن يكون‬
‫انطلقه عشوائًيا‪ ،‬بل بدأ يبحث في تجارب الدول الخرى وخاصة‬
‫سميت سياسته بالتجاه شرًقا‪ ،‬واستقر اختياره على‬ ‫السيوية‪ ،‬حيث ُ‬
‫المعجزة اليابانية فجعلها أمامه قدوة ومثل ً أعلى‪ ..‬وقد كان توجه‬
‫ما من تجربة نجاحها ملحوظ بشكل‬ ‫مهاتير محمد ناحية اليابان مستله ً‬
‫كبير‪ ،‬وقد صرح بذلك في العديد من المناسبات‪..1102‬‬
‫اختارت ماليزيا اليابان التي تحتل مكانة عالمية وإقليمية على‬
‫كافة المستويات وخاصة التصنيعية‪ ،‬حيث تجاوز حجم إجمإلى الناتج‬
‫المحلي الياباني عدة مرات إجمإلى الناتج المحلي لدول شرق أسيا‬
‫مجتمعة‪ ،‬بما فيها الصين خلل فترة الثمانينات‪ ،‬وكانت اليابان من‬
‫السباب الجوهرية التي ساهمت في يقظة وتوعية الشعب السيوي‬
‫مما أطلق عليه "وهم التفوق الوروبي"‪.‬‬
‫وتعتقد ماليزيا أن الستراتيجية التي انتهجتها اليابان في إنتاج‬
‫سلع جيدة بأسعار زهيدة ساهمت بشكل كبير في تحقيق تفوقها على‬
‫المنتجات الوروبية والمريكية ذات السعار المرتفعة‪ ،‬وبالتالي نجحت‬
‫في السيطرة على أسواق آسيا وأفريقيا‪ ،‬بالضافة إلى إتباع سياسة‬
‫منهجية في التصنيع‪ ،‬وإيجاد قيادات تتمتع بمستوى علمي فائق‪،‬‬
‫وتتميز بالتطور والبداع‪ ،‬وعلى المستوى المعنوي نجد في اليابان‬
‫اللتزام الخلقي والمهني بقيم العمل السيوية‪ ،‬مما يستتبعه التفاني‬
‫والجدية في الداء المهني‪..1103‬‬
‫لقد استلم مهاتير محمد السلطة بعد مرور أكثر من عقدين‬
‫على الستقلل‪ ،‬وفي هذه الفترة تم قطع خطوات هامة في طريق‬
‫‪ 1101‬موقع بي بي سي‪ ،‬مهاتير محمد‪ :‬من شاب متمرد إلي بطل قومي ‪ ،‬الرابط‬
‫‪http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news/newsid_3238000/3238603.stm‬‬
‫‪ 1102‬ماجدة علي صالح‪ :‬عظماء آسيا في القرن العشرين ص ‪ 132،122‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ 1103‬عبد الرحيم عبد الواحد‪ :‬مهاتير محمد عاقل في زمن الجنون ص ‪.86-84‬‬
‫الص ً‬
‫لح والبناء؛ مما وفر له قاعدة تصلح للرتكاز عليها‪ ،‬وباختياره‬
‫شف أمامه الطريق نحو المستقبل‪ ،‬وجاء‬ ‫لليابان كنموذج تنموي تك ّ‬
‫دوره المفصلي في تاريخ ماليزيا‪ ،‬وهو كيفية إدارته للدولة‪ ،‬والقفز بها‬
‫إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى‪..‬‬
‫ولعل أبرز ما يميز المرحلة المهاتيرية تلك الطفرة القتصادية‬
‫اللفتة‪ ،‬حيث أصبحت فيها ماليزيا دولة صناعية متقدمة‪ ،‬يساهم‬
‫قطاعي الصناعة والخدمات فيها بنحو ‪ %90‬من الناتج المحلي‬
‫الجمإلي‪ ،‬وفي عهده بلغت نسبة صادراتها من السلع المصنعة ‪%85‬‬
‫من إجمإلى صادراتها‪ ،‬وأنتجت ‪ %80‬من السيارات التي تسير في‬
‫طرقاتها‪ ،‬وأصبحت من أنجح البلدان في جنوب آسيا‪ ،‬بل وفي العالم‬
‫السلمي بأكمله‪ ،‬فكيف فعل هذا‪1104‬؟!‬
‫إذا نظرنا لهذه المرحلة نظرة تحليلية متعمقة نجد أن الدكتور‬
‫مهاتير محمد انطلق في عدة محاور وفي وقت واحد‪ ،‬ولكنه قام‬
‫بالتركيز على ثلثة محاور بصفة خاصة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫محور التعليم‪ ،‬ويوازيه محور التصنيع‪ ،‬ويأتي في خدمتهما‬
‫المحور الجتماعي‪..‬‬
‫وكان اهتمامه بالتعليم منذ مرحلة ما قبل المدرسة البتدائية؛‬
‫فجعل هذه المرحلة جزًءا من النظام التحادي للتعليم‪ ،‬واشترط أن‬
‫تكون جميع دور الرياض وما قبل المدرسة مسجلة لدى وزارة‬
‫التربية‪ ،‬وتلتزم بمنهج تعليمي مقرر من الوزارة‪..‬‬
‫كما تم إضافة مواد ُتنمي المعاني الوطنية‪ ،‬وتغرز روح النتماء‬
‫للتعليم البتدائي‪ ..‬أي في السنة السادسة من عمر الطفل‪..‬‬
‫ومن بداية المرحلة الثانوية تصبح العملية التعليمية شاملة‪،‬‬
‫فبجانب العلوم والداب تدّرس مواد خاصة بالمجالت المهنية والفنية‪،‬‬
‫والتي تتيح للطلب فرصة تنمية وصقل مهاراتهم‪..‬‬
‫وإلى جانب ذلك كان إنشاء الكثير من معاهد التدريب المهني‪،‬‬
‫التي تستوعب طلب المدارس الثانوية وتؤهلهم لدخول سوق العمل‬
‫في مجال الهندسة الميكانيكية والكهربائية وتقنية البلستيك‪ ،‬وكان‬
‫من أشهر هذه المعاهد معهد التدريب الصناعي المإليزي‪ ،‬والذي‬
‫ترعاه وزارة الموارد البشرية‪ ،‬وقد أصبح له تسعة فروع في مختلف‬
‫الوليات المإليزية‪..‬‬
‫وقد واكب هذا الهتمام بالتعليم دخول ماليزيا مرحلة التصنيع‬
‫الثقيل‪ ،‬كما في صناعات السمنت والحديد والصلب‪ ،‬بل وتصنيع‬
‫موقع بي بي سي‪ ،‬مهاتير محمد‪ :‬من شاب متمرد إلي بطل قومي‪.‬‬ ‫‪1104‬‬
‫السيارة المإليزية الوطنية )بريتون(‪ ،‬ثم التوسع في صناعة النسيج‬
‫وصناعة اللكترونيات‪ ،‬والتي صارت تساهم بثلثي القيمة المضافة‬
‫للقطاع الصناعي‪ ،‬وتستوعب ‪ %40‬من العمالة‪..‬‬
‫وكانت التسعينات من القرن الماضي مرحلة نضج الثمرة‪ ،‬حيث‬
‫ُوضعت ماليزيا في قائمة الدول المتقدمة‪..‬‬
‫قا مع ثورة عصر التقنية‪ ،‬قامت‬
‫ففي مجال التعليم‪ ،1105‬وتواف ً‬
‫الحكومة المإليزية في عام ‪1996‬م بوضع خطة تقنية شاملة‪ ،‬من‬
‫أهم أهدافها إدخال الحاسب اللى والرتباط بشبكة النترنت في كل‬
‫مدرسة‪ ..‬بل في كل فصل دراسي!!‬
‫وبالفعل بلغت نسبة المدارس المربوطة بشبكة النترنت في‬
‫ديسمبر ‪1999‬م أكثر من ‪ ،%90‬وبلغت هذه النسبة في الفصول‬
‫الدراسية ‪ ،%45‬كما أنشأت الحكومة المإليزية العديد مما يعرف‬
‫بالمدارس الذكية التي تتوفر فيها مواد دراسية تساعد الطلب على‬
‫تطوير مهاراتهم واستيعاب التقنية الجديدة‪ ،‬وذلك من خلل مواد‬
‫متخصصة عن أنظمة التصنيع المتطورة وشبكات التصال‪ ،‬ونظم‬
‫استخدام الطاقة التي ل تحدث تلوًثا بالبيئة‪..‬‬
‫قا‬
‫كما تنفذ عملية التدريس والتعليم في هذه المدارس وف ً‬
‫لحاجات الطلب وقدراتهم ومستوياتهم الدراسية المختلفة‪ ،‬ويتم‬
‫اختيار مدير المدرسة من القيادات التربوية البارزة‪ ،‬ويساعده فريق‬
‫من الساتذة ممن لديهم قدرات مهنية ممتازة‪،‬كما تتيح مشاركة‬
‫الطلب في اختيار البرامج الدراسية‪ ،‬بجانب حرص هذه المدارس‬
‫على التنويع والتطوير في أسإليب التدريس‪ ،‬مثل الرحلت العلمية‬
‫واليام الترفيهية‪..‬‬
‫لقد حددت الدولة أولوياتها بدقة‪ ،‬فإذا نظرنا إلى إجمإلى ما‬
‫أنفقته الحكومة المإليزية على التعليم في عام ‪1996‬م على سبيل‬
‫المثال نجده ‪ 2.9‬مليار دولر‪ ،‬بنسبة ‪ %21.7‬من إجمإلى حجم‬
‫النفاق الحكومي‪ ،‬وازداد هذا المبلغ إلى ‪ 3.7‬مليار دولر عام ‪2000‬م‬
‫بما يعادل نسبة ‪ %23.8‬من إجمإلى النفقات الحكومية‪..‬‬
‫وكان إنفاق هذه المبالغ على بناء مدارس جديدة‪ ،‬وخاصة‬
‫المدرس الفنية‪ ،‬وإنشاء معامل للعلوم والكمبيوتر‪ ،‬ومنح قروض‬
‫لمواصلة التعليم العإلى داخل وخارج البلد‪ ..‬وبالضافة إلى الدعم‬
‫والتسهيلت الكبيرة التي تقدمها الدولة‪ ،‬فإن إلزامية التعليم أصبحت‬

‫‪ 1105‬دراسة د‪ .‬محمد شريف بشير‪ ،‬منشورة على موقع اسلم أون لين‪ ،‬بعنوان استثمار في‬
‫البشر في ماليزيا‪ ،‬الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.islamonline.net/arabic/economics/2002/05/article11.shtml‬‬
‫من المور التي ل جدال فيها‪ ،‬وأصبح القانون المإليزي يعاقب الباء‬
‫الذين ل يرسلون أبناءهم إلى المدارس!!‬
‫كل ذلك بجانب الحرص على النفتاح‪ ،‬والستفادة من النظم‬
‫التعليمية المتطورة في الدول المتقدمة‪ ..‬وفي هذا السياق تم إنشاء‬
‫أكثر من ‪ 400‬معهد وكلية جامعية خاصة‪ ،‬تقدم دراسات وبرامج توأمة‬
‫مع جامعات في الخارج‪ ،‬كما أتاحت الفرصة للطلب المإليزيين‬
‫لمواصلة دراستهم في الجامعات الجنبية‪..1106‬‬
‫إل أن ما يستحق التسجيل ويدعو إلى العجاب‪ ،‬تلك الفكرة‬
‫الجديدة التي قامت بها الحكومة المإليزية‪ ،‬عندما عملت على تقوية‬
‫العلقة بين مراكز البحوث والجامعات وبين القطاع الخاص‪ ..‬بمعنى‬
‫فتح المجال لستخدام أنشطة البحث الجامعية لغراض تجارية!!‬
‫وقد كان لتلك الفكرة أعظم الثر على الجميع؛ فلم تعد‬
‫الحكومة الن مطالبة بدعم كل النشطة البحثية بمفردها‪ ،‬بل شاركتها‬
‫في ذلك المصانع والمؤسسات المإلية والقتصادية‪ ،‬كل حسب‬
‫حاجته‪ ..‬وفي ذات الوقت ل تكاد تجد مركز أبحاث يشكو من قلة‬
‫الدعم الحكومي‪ ..‬وهذا بالضافة إلى أن الدولة استطاعت أن توجه‬
‫ما كان يمكن أن يصرف على هذه النشطة إلى مصارف أخرى‬
‫مهمة‪..‬‬
‫ومن جّراء ذلك امتلكت المصانع المإليزية القدرة على التطوير‪،‬‬
‫بل والبتكار والمنافسة‪ ،‬وإثبات وجودها في السواق المحلية‬
‫والعالمية‪..‬‬
‫ولم تنس الحكومة المرأة المإليزية‪ ،‬والتي حصلت على نصيبها‬
‫ضا بدون فوائد‬
‫ما‪ ،‬بل تقدم الحكومة قرو ً‬
‫من التعليم كالرجل تما ً‬
‫لتمكين الباء من إرسال بناتهم إلى المدارس وتوفير مستلزمات‬
‫المدرسة‪ ،‬وتعطى الفقراء مساعدات مجانية لهذا الغرض‪..‬‬
‫وبالتوازي مع الهتمام بالتعليم‪ ،‬فقد دخلت ماليزيا في‬
‫التسعينات مرحلة صناعية مهمة‪ ،‬وذلك حين شجعت الصناعات ذات‬
‫التقنية العالية وأولتها عناية خاصة‪ ،‬وقد كان ذلك بعد أن توافر لديها‬
‫جيل جديد من العمالة الماهرة المتعلمة‪ ،‬والمدربة بأحدث الوسائل‪،‬‬
‫فأصبح في مقدورها إثبات وجودها‪ ،‬بل والمنافسة على الصدارة ‪..‬‬
‫ومن أبلغ ما يبين نجاح الداء القتصادي لماليزيا في الفترة‬
‫المهاتيرية‪ ،‬ذلك التوسع الذي حدث في استثمارات القطاع الصناعي‪،‬‬
‫حيث أنشئ أكثر من ‪ 15‬ألف مشروع صناعي‪ ،‬بإجمإلى رأس مال‬
‫وصل إلى ‪ 220‬مليار دولر‪ ،‬وقد شكلت المشروعات الجنبية حوإلى‬
‫دراسة د‪ .‬محمد شريف بشير‪ ،‬موقع إسلم أون لين‪.‬‬ ‫‪1106‬‬
‫‪ %54‬من هذه المشاريع‪ ،‬بما يوضح مدى الطمئنان الذي يحمله‬
‫المستثمر الجنبي لماليزيا من ناحية المان‪ ،‬وبالتأكيد ضمان الربحية‬
‫العالية‪ ،‬بينما مثلت المشروعات المحلية ‪ %46‬من هذه المشاريع‪..‬‬
‫وقد كان لهذه المشروعات عظيم الثر والنفع على الشعب‬
‫المإليزي؛ حيث وفرت مليوني وظيفة للمواطن الماليزي‪ ،‬إلى جانب‬
‫الفائدة الكبرى المتمثلة في نقل التقنية الحديثة وتطوير مهارات‬
‫العمالة الماليزية‪..‬‬
‫وقد بلغ عدد الشركات الجنبية التي تستثمر أموالها في ماليزيا‬
‫حوإلى ‪ 5‬آلف شركة‪ ،‬تساعدهم الدولة الماليزية بتنفيذ سياسة‬
‫الصداقة مع رجال العمال والمستثمرين‪ ،‬والتي يقصد بها تسهيل‬
‫الجراءات المكتبية والدارية‪ ،‬وزيادة الحوافز الستثمارية‪ ،‬إضافة إلى‬
‫وضوح القوانين وسهولة الجراءات‪..1107‬‬
‫كما تبّنت ماليزيا العديد من مشروعات التقنية الحديثة بصورة‬
‫ملفتة للنظر‪ ،‬كان آخرها إطلق ثالث قمر صناعي لها في عام ‪2004‬‬
‫صا للقارة الفريقية في مرحلته الولى‪ ،‬ثم يمتد إلى القارة‬‫مخص ً‬
‫الوربية والشرق الوسط‪ ،‬ويحمل اسم " اس‪ .‬ام‪ .‬سات" وهي‬
‫التجربة الولى التي تنفذها دولة آسيوية ‪..‬‬
‫ضا تحققت في فترة وليته طفرة ملحوظة في مشروعات‬ ‫أي ً‬
‫التصالت والمعلومات التي كانت تحظى باهتمام ودعم حكومته‬
‫كعنصر هام من عناصر خطته التنموية‪ ،‬وكان يسميه "القتصاد‬
‫المعرفي" وبالفعل أصبحت ماليزيا محطة إقليمية وعالمية في مجال‬
‫صناعة التصالت والمعلومات والنترنت‪..‬‬
‫كما أقامت ماليزيا مدينة ذكية خاصة بالتكنولوجيا خارج‬
‫العاصمة كواللمبور‪ ،‬حيث ترتبط هذه المدينة بشبكة اتصالت ذكية‬
‫تخدم العاصمة المستقبلة لماليزيا‪ ،‬وتضم أضخم الشركات‬
‫التكنولوجية في العالم وتسمى هذه المدينة "بوتراجايا"‪.. 1108‬‬
‫وبعد هذا السرد السريع والموجز لتجربة النهضة المإليزية‪،‬‬
‫والتي يحق لي مسلم أن يفخر بها‪ ،‬وبعد أن بيّنا قدر المعوقات التي‬
‫واجهتها وكيف تغلبت عليها‪ ،‬بالعلم والعمل‪ ،‬يتضح للجميع بما ل يدع‬
‫ما هو العامل المشترك الذي أخذت به‬ ‫مجال ً للشك أن العلم كان دائ ً‬
‫أي دولة استطاعت تحقيق النجاح‪...‬‬

‫‪ 1107‬موقع إسلم أون لين‪ :‬ماليزيا‪ ...‬اليابان قدوتنا‪ ،‬الرابط‬


‫‪http://www.islamonline.net/arabic/economics/2003/07/article07b.shtml‬‬
‫‪ 1108‬عبد الرحيم عبد الواحد‪ :‬مهاتير محمد عاقل في زمن الجنون ‪.470،‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬دور العلم في بناء‬
‫المارات‬
‫ة المارات العربية المتحدة من أكثر الدول العربية التي‬
‫ت ُعَد ّ دول ُ‬
‫استطاعت لفت النتباه في العقدين الخيرين‪ ،‬لسيما بمشاريعها‬
‫ص في المجال القتصادي‪ ،‬ولكنها تقوم في‬ ‫النهضوية التي تصب بالخ ّ‬
‫الساس على الخذ بأحدث وسائل العلم الحديث‪..‬‬
‫ة على الخليج‬‫مط ِل ّ ً‬
‫تقع دولة المارات في شرق الجزيرة العربية ُ‬
‫ّ‬
‫سكان‬ ‫العربي‪ ،‬وتبلغ مساحتها ‪ 38.600‬ألف كم ‪ ،2‬ويبلغ عدد ُ‬
‫المارات والمقيمين فيها ‪ 4.444.011‬مليون نسمة حسب تقديرات‬
‫عام ‪2007‬م‪..1109‬‬
‫وقد استطاعت المارات تحقيق معدلت نمو جيدة في مختلف‬
‫المجالت‪ ،‬ولكن ما حققته المارات في مجال التعليم وتكنولوجيا‬
‫المعلومات ُيعد قفزة ً هائلة؛ جعلتها إحدى مناطق التكنولوجيا‬
‫المتطورة المعدودة على المستوى العالمي‪..‬‬
‫وخير شاهد على المكانة التي حققتها دولة المارات‪ ،‬والتقدير‬
‫العالمي الذي حازته أنها تأتي في صدارة الدول العربية في أي تقرير‬
‫عالمي يهتم بقياس معدلت النهوض لدى مختلف الدول‪ ،‬وعلى سبيل‬
‫ة كبرى‬‫المثال فقد سبقت دولة المارات العربية المتحدة دول ً عربي ً‬
‫مثل المملكة العربية السعودية ومصر في تقرير التنمية البشرية‬
‫الصادر عن البنك الدولي لعدة سنوات‪ ،‬ول شك أن السبب الرئيسي‬
‫لهذا التفوق هو معدلت التنمية السريعة لدولة المارات‪..‬‬
‫ن‬
‫لقد جاء في تقرير التنمية البشرية الصادر في عام ‪2006‬م أ ّ‬
‫المارات تنفق على التعليم ما يعادل ‪ %22.5‬من إجمإلى النفقات‬
‫الحكومية‪ ،‬كما بلغ عدد مستخدمي النترنت ‪ 321‬من كل ألف شخص‬
‫في المارات‪..1110‬‬
‫وقصة اهتمام المارات بالعلم والتعليم ليست وليدة اليوم بل‬
‫م وتزدهر إل‬‫تعود إلى قديم الزمن‪ ،‬ولكنها كسائر الدول العربية لم تن ُ‬
‫سم تاريخ‬ ‫بعد التخّلص من المستعمر الجنبي‪ ،‬ونستطيع أن نق ّ‬
‫الهتمام بالعلم في المارات إلى أربعة أنواع من النظم التعليمية‪،‬‬
‫كان أولها نظام الكتاتيب الذي اعتمد في الساس على تعليم العلم‬

‫‪ 1109‬كتاب الحقائق الدولي المريكي‪ ،‬الرابط ‪https://www.cia.gov/library/publications/the-‬‬


‫‪world-factbook‬‬
‫‪ 1110‬تقرير التنمية البشرية عام ‪2006‬م‪ ،‬الرابط‬
‫‪http://hdr.undp.org/hdr2006/statistics/countries/data_sheets/cty_ds_ARE.htm‬‬
‫الشرعي مثل حفظ القرآن الكريم والحاديث النبوية إلى جانب‬
‫التدريب على الكتابة والخط واللمام بأركان السلم‪.‬‬
‫ما النوع الثاني من أنواع التعليم فكان نظام تعليم الحلقات‬ ‫أ ّ‬
‫ل من الفقهاء والعلماء الذين توّفرت‬ ‫العلمية‪ ،‬وكان يمارسه عدد ٌ قلي ٌ‬
‫لديهم معرفة واسعة في أصول العقيدة والفقه والتفسير والنحو‬
‫والملء والتاريخ والدروس الدينية المختلفة‪ ،‬وكانت هذه الحلقات‬
‫ن أو‬
‫صص لها مكا ٌ‬ ‫كن في أحد المساجد‪ ،‬أو ُيخ ّ‬ ‫قد في زاوية أو ُر ْ‬‫ُتع َ‬
‫موضع معروف في بيت الفقيه نفسه‪ ،‬وقد شهدت مدن المارات‬
‫العديد من أ َْروَِقة العلم التي قام بإحيائها علماٌء كبار زاروا البلد‬
‫آنذاك‪ ،‬وجلسوا يعلمون الطلبة النابهين‪ ،‬وظلت الحلقات العلمية‬
‫ل الول من ُرّواد المارات‪.‬‬ ‫مصدًرا للعلم والفقه وقد تخرج فيها الرعي ُ‬

‫وكان النوع الثالث هو النظام التعليمي شبه النظامي الذي ظهر‬


‫خلل الفترة ما بين ‪1907‬م إلى ‪1953‬م‪ ،‬وكان السبب الرئيسي‬
‫لوجود هذا النوع هو التأثر بحركات الص ً‬
‫لح وإليقظة التي شهدها‬
‫العالم العربي‪ ،‬وفي هذه الفترة تم إنشاء العديد من المدارس‪ ،‬وقد‬
‫شهدت هذه الفترة تأسيس أّول دائرة للمعارف في المارات عام‬
‫‪1936‬م في إمارة دبي‪ ،‬وقد ترأسها الشيخ مانع بن راشد آل مكتوم‬
‫رائد حركة الص ً‬
‫لح في الثلثينيات‪.‬‬
‫والنوع الرابع والخير من مراحل التطور التاريخي للتعليم في‬
‫المارات هو التعليم النظامي الحديث‪ ،‬وهو المستمر حتى الن‪ .‬وقد‬
‫تطور التعليم النظامي في المارات على مرحلتين‪ :‬المرحلة الولى‬
‫كان العتماد فيها على الحكومات المحلية ودوائر المعارف التي‬
‫تأسست خلل عقد الستينيات‪ ،‬أما المرحلة الثانية والتي تمثل‬
‫النطلقة الكبرى للتعليم الماراتي فبدأت منذ الثاني من ديسمبر عام‬
‫ن فيه عن قيام دولة المارات المتحدة‪،1111‬‬ ‫ُ‬
‫‪1971‬م وهو اليوم الذي أع ْل ِ َ‬
‫حيث تأسست الوزارات التحادية‪ ،‬ومنها وزارة التربية والتعليم‬
‫والشباب التي توّلت مسؤولية الشراف على التعليم في مراحله‬
‫المختلفة‪ ،‬وانتشرت خلل تلك الفترة المدارس الحكومية ذات الطراز‬
‫المعماري الراقي‪ ،‬والمجهزة بأحدث الجهزة والوسائل‪ ،‬واستقدمت‬
‫الدولة البعثات التعليمية من مختلف البلدان العربية لتسهم في تطوير‬
‫التعليم الحديث‪..1112‬‬
‫وقد اعتمدت الدولة خلل فترة السبعينيات وثيقة الهداف‬
‫العامة الرئيسية للتنمية والتي جاءت شاملة للجوانب القتصادية‬
‫‪ 1111‬د‪ .‬محمد حسن عيدروس‪ ،‬المارات بين الماضي والحاضر ص ‪ ،59‬دار العيدروس للكتاب‬
‫الحديث‪1422 ،‬هق‪2002-‬م‪.‬‬
‫‪ 1112‬د‪.‬عبد الله الطابور‪ ،‬الموقع الرسمي لوزارة التربية والتعليم الماراتية‪ ،‬الرابط‬
‫‪http://www.moe.gov.ae/newmoe/uae_edu_history/uae_history.htm‬‬
‫والجتماعية والسياسية؛ حيث تضمنت كافة الطموحات سواء بالنسبة‬
‫للفرد أو المجتمع‪ ،‬ومن أهم المباديء التي تضمنتها الوثيقة تشديدها‬
‫ن النسان في دولة المارات هو الغاية‪ ،‬وإقرار كفالة التعليم‬‫على أ ّ‬
‫للجميع‪ ،‬وكفالة الرعاية الصحية كذلك‪ ،‬والتأكيد على أهمية البحث‬
‫العلمي‪ ،‬وذلك بالضافة إلى تنمية القوى العاملة الوطنية‪ ،‬وتكوين‬
‫الكوادر المدربة منها والقادرة على النهوض باحتياجات التنمية‪،‬‬
‫والعمل على رفع مستوى الكفاية النتاجية‪ ،‬وتحقيق العرض المناسب‬
‫ما حسب مراحل النمو المختلفة‪..‬‬‫للعمل دائ ً‬
‫وقد قامت المارات في هذه المرحلة بإقامة مراكز لتدريب‬
‫المدرسين والداريين والموظفين الفنيين‪ ،‬مع استحداث برامج‬
‫تشارك فيها المدارس وأولياء المور‪ ،‬ووضع مناهج دراسية ل تكتفي‬
‫بالتركيز على العلوم الكاديمية فحسب‪ .‬كما ت ََرّتب على هذه النهضة‬
‫التعليمية أن تضاءلت النسبة بين عدد المدرسين إلى عدد الطلب‬
‫إلى مدرس لكل ‪ 12‬طالًبا‪ ،‬و صار عدد المدارس ‪ 1105‬مدرسة من‬
‫ما عدد الجامعات الحكومية والهلية فقد‬‫بينها ‪ 710‬مدارس حكومية‪ ،‬أ ّ‬
‫ت‬
‫ت في عام ‪1999‬م‪ ،‬وارتفع العدد إلى ثماني جامعا ٍ‬ ‫ت جامعا ٍ‬
‫بلغ س ّ‬
‫في عام ‪2006‬م‪..1113‬‬
‫وقد باتت المارات تتصدر دول الشرق الوسط جميعها في أهم‬
‫دا في مجالت القتصاد والصحة والتعليم‬ ‫مؤشرات التنمية‪ ،‬وتحدي ً‬
‫والتقنية والثقافة‪ ،‬فالملمح التنموية لدولة المارات تتغير شكل ً‬
‫ومضموًنا على مدار الساعة‪ ،‬حيث ل يكاد يمر يوم دون العلن عن‬
‫واحد أو أكثر من مشاريع التنمية والبناء القتصادي في المارات‪ ،‬التي‬
‫استطاعت أن تطرح نفسها كتجربة اقتصادية ناجحة وفريدة في‬
‫منطقة تموج بالصراعات السياسية والمنية‪ ،‬رغم أن مجموع سكانها‬
‫ل يتجاوز ‪ %2‬من إجمإلى سكان العالم العربي‪ ،‬كما تخطط المارات‬
‫لتصبح مركًزا إقليمّيا للقتصاد العالمي‪ ،‬وتتجه لتحوز موقع الّريادة في‬
‫مختلف الميادين القتصادية والستثمارية والصناعية والتكنولوجية‬
‫والعلمية‪..1114‬‬
‫وقد أ َوَْلت دولة المارات العربية المتحدة الجانب الستثماري‬
‫خل‬‫صا باعتباره الساس في التنمية القتصادية‪ ،‬وتوليد الد ّ ْ‬
‫ما خا ً‬
‫اهتما ً‬
‫ب‬‫وخلق فرص العمل‪ ،‬حيث تم خلل السنوات الماضية تخصيص نس ٍ‬
‫عالية من اليرادات العامة لتمويل عدد كبير من مشاريع التنمية‪ ،‬كما‬
‫قامت الحكومة التحادية بالمارات بتقديم الدعم والتسهيلت للقطاع‬

‫‪ 1113‬الموقع الرسمي لمجلس التعاون الخليجي‪ ،‬الرابط ‪http://library.gcc-‬‬


‫‪sg.org/Arabic/Books/ArabicPublish-30.htm‬‬
‫‪ 1114‬افتتاحية دراسة لمركز المارات للدراسات والبحوث الستراتيجية‪ ،‬الرابط‬
‫‪http://www.ecssr.ac.ae/CDA/ar/Publications/ShowAkbarAlSaahIssue/0,2432,1618,00.html‬‬
‫الخاص في استثماراته وعملياته بهدف زيادة كفاءته في تنفيذ بعض‬
‫المشروعات الستثمارية التي اتسمت في أغلبها بالطابع التقني‪..‬‬
‫وإذا أردنا أن نعطي أمثلة على المشاريع التي تحمل طابًعا‬
‫ي(‬‫تقنّيا‪ ،‬وتحتوي على تكنولوجيا عالية فلبد أن نذكر مدينة )دب ّ‬
‫للنترنت‪..1115‬‬
‫ن فكرة مشروع مدينة دبي للنترنت لم تنطلق من فراغ‪ ،‬بل‬ ‫إ ّ‬
‫كانت تعبر عن سياسة دولة تريد أن تخطو نحو المستقبل‪ ،‬فهذا‬
‫المشروع ليس الول من نوعه‪ ،‬بل يعمل جنًبا إلى جنب مع مشاريع‬
‫مك َ ّ‬
‫ملة له مثل الحكومة اللكترونية‪ ،‬وسوق دبي اللكترونية‬ ‫أخرى ُ‬
‫التي بدأ العمل بها مع بداية عام ‪2000‬م‪..‬‬

‫وقد قُ ِ‬
‫صد َ بمدينة دبي للنترنت أن تكون مركًزا للنشطة‬
‫والشركات المتعددة المرتبطة بصناعة تكنولوجيا المعلومات‬
‫والتصالت ووسائط العلم المتعددة‪ ،‬ومشاريع النترنت والشركات‬
‫المتخصصة في تقديم المساندة عن ب ُْعد‪ ،‬والمؤسسات التي تسعى‬
‫إلى احتضان الفكار الجديدة وتطويرها‪ ،‬بالضافة إلى احتواء رؤوس‬
‫مَرة في المشاريع الجديدة والشركات المهنية‬
‫الموال المستث َ‬
‫والمتخصصة وغيرها‪..‬‬
‫ف واضحة‬
‫ضَعت أهدا ٌ‬
‫ولوضع هذا المشروع موضع التنفيذ وُ ِ‬
‫ومحددة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬تجهيز بنية تحتية بمقاييس عالمية‪ ،‬ونظم اتصالت قادرة‬
‫ل من المعلومات بسرعة عالية‪ ،‬كما يجب أن‬ ‫م هائ ٍ‬
‫على استيعاب ك ّ‬
‫صَلت إليه‬
‫تكون هذه البنى التحتية آمنة تعتمد على آخر ما تو ّ‬
‫التكنولوجيا الحديثة وبتكلفة منخفضة‪.‬‬
‫‪ -2‬أن تكون المدينة متطورة وبمقاييس تنافسية‪ ،‬مع توفير‬
‫المكاتب المجهزة بأحدث التسهيلت والوحدات السكنية ذات‬
‫المستويات العالمية والمزودة بالمرافق الطبية والتعليمية‪.‬‬
‫‪ -3‬استقطاب الكفاءات العالمية‪ ،‬والعمالة المدّربة‪.‬‬
‫‪ -4‬وضع قوانين وإجراءات مبسطة وميسرة وسريعة لتسجيل‬
‫الشركات وغيرها من المعاملت الحكومية‪.‬‬
‫‪ -5‬خلق أجواء مشجعة‪ ،‬ومبادرات حكومية لدعم العمال‬
‫اللكترونية‪ ،‬ورعاية الفكار البداعية والمشاريع الجديدة‪ ،‬وإنشاء‬
‫صناديق لدعم المشاريع وبرامج التعليم اللكترونية‪.‬‬

‫الموقع الرسمي لمدينة دبي للنترنت‪ ،‬الرابط ‪/http://www.dubaiinternetcity.com‬‬ ‫‪1115‬‬


‫حّرة للتجارة اللكترونية‬
‫وُتعت ََبر مدينة دبي للنترنت‪ ،‬أول منطقة ُ‬
‫في العالم‪ ،‬وقد تم افتتاحها في ‪ 28‬من أكتوبر ‪2000‬م‪ ،‬وقد قُد َّرت‬
‫ة إقامة هذا المشروع بق ‪ 2.5‬مليار دولر‪ ،‬ويعمل فيه أكثر من‬ ‫تكلف ُ‬
‫‪ 500‬شركة عالمية وإقليمية ومحلية من بينها مجموعة من الشركات‬
‫العملقة‪..1116‬‬
‫كما تأسس في المارات في شهر ديسمبر عام ‪2000‬م‬
‫المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا‪ ،1117‬وتهدف المؤسسة إلى‬
‫الرتقاء بالعلوم والتكنولوجيا في جميع أنحاء الوطن العربي‪،‬‬
‫والستفادة من الكفاءات العلمية وتشجيعها‪ ،‬وهي مؤسسة علمية‬
‫مستقلة ل تهدف إلى الربح‪ ،‬ومقرها إمارة الشارقة‪ ،‬وتعمل‬
‫المؤسسة على تحقيق أهدافها من خلل تشكيل شبكات علمية‬
‫تخصصية من العلماء العرب‪ ،‬مع تشكيل شبكات داعمة تهيئ الغطاء‬
‫المإلى لدعم إنجاز المشاريع البحثية والتكنولوجية المتميزة في‬
‫المؤسسات والمراكز البحثية داخل الوطن العربي‪ ،‬ومن أكثر البحاث‬
‫ل مشكلتي الطاقة‬‫التي شاركت فيها المؤسسة البحاث المتعلقة بح ّ‬
‫والمياه‪..‬‬
‫وقد جاء تأسيس المؤسسة بناًء على توصية المشاركين في‬
‫الندوة حول "آفاق البحث العلمي والتطوير التكنولوجي في العالم‬
‫العربي"‪ ،‬والتي نظمتها جامعة الشارقة بتاريخ ‪ 26-24‬من‬
‫ة من داخل‬‫ما وعالم ً‬
‫نيسان‪/‬إبريل ‪2000‬م‪ ،‬وشارك فيها ‪ 375‬عال ً‬
‫وخارج الوطن العربي‪ ،‬ويتأّلف مجلس إدارتها ومجلسها الستشاري‬
‫من كوكبة من العلماء العرب ذوي النجازات العلمية المتميزة على‬
‫المستويين الوطني والعالمي‪..‬‬
‫وتعتبر المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا هي أول منظمة‬
‫ضمت العلماء العرب من داخل وخارج الوطن العربي بهدف‬
‫الستفادة من الخبرات العربية المحلية وتلك الموجودة في المهجر‬
‫لخدمة العالم العربي والنسانية عامة‪ ،‬وتتطلع المؤسسة أن تكون‬
‫هيئة عربية ودولية مؤثرة‪ ،‬تدعم جهود العلماء والباحثين العرب‪،‬‬
‫وتدافع عن مصالح القليم في التطور العلمي والتكنولوجي‪ ،‬مع‬
‫العمل على توفير الحماية للنسانية من التأثيرات السلبية المحتملة‬
‫ضا إلى توطيد الصلت بين‬ ‫لذلك التطور‪ ،‬كما تسعى المؤسسة أي ً‬
‫الجامعات ومراكز البحوث داخل وخارج الوطن العربي‪ ،‬كما تسعى‬
‫فذة في‬‫إلى جذب الشركات والفراد نحو توفير التمويل للبحاث المن ّ‬

‫‪ 1116‬موقع النادي العربي للمعلومات‪ ،‬الرابط‬


‫‪http://www.arabcin.net/arabic/5nadweh/pivot_5/information_technic2.htm‬‬
‫‪ 1117‬الموقع الرسمي للمؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا‪ ،‬الرابط‬
‫‪.http://www.astf.net/site/arabic/index.asp‬‬
‫ص في المجالت التي ُتعت ََبر حيوية‬
‫مراكز البحث والجامعات‪ ،‬وبالخ ّ‬
‫بالنسبة للدول العربية‪.1118‬‬

‫الباب الرابع‪ :‬دور العلم في حياة العلماء‬


‫ة(‬ ‫ة ت َطِْبي ِ‬
‫قي ّ ٌ‬ ‫مث ِل َ ٌ‬ ‫َ‬
‫)أ ْ‬
‫أمثلة ونماذج واقعية في حياة العلماء‪ ،‬نعرضها في الفصول‬
‫التالية‪:‬‬
‫الفصل الول‪ :‬دور العلم في حياة علماء الشرع القدامى‬
‫الفصل الثاني‪ :‬دور العلم في حياة علماء الحياة القدامى‬
‫الفصل الثالث‪ :‬دور العلم في حياة علماء الشرع المعاصرين‬
‫الفصل الرابع‪ :‬دور العلم في حياة علماء الحياة المعاصرين‬
‫الفصل الخامس‪ :‬دور العلم في حياة العلماء غير المسلمين‬

‫المصدر السابق‪.‬‬ ‫‪1118‬‬


‫الفصل الول‪ :‬دور العلم في حياة علماء‬
‫الشرع القدامى‬

‫ويضم هذا الفصل المباحث التالية‪:‬‬


‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في حياة المام‬
‫البخاري‬
‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫المام الطبري‬
‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في حياة المام‬
‫النووي‬
‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في حياة المام‬
‫ابن تيمية‬
‫المبحث الخامس‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫المام ابن خلدون‬
‫المبحث السادس‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫المام السيوطي‬
‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في حياة المام‬
‫البخاري‬
‫لنه الدين الخاتم‪ ،‬ولنه الدين الذي ارتضاه رب العالمين لعباده‬
‫فل سبحانه بحفظه وإلى قيام الساعة‪ ،‬ومن ثم‬ ‫على الرض‪ ،‬فقد تك ّ‬
‫ة‪..‬‬
‫ب عنه قرآًنا وسن ً‬
‫خر من خلقه من يذ ّ‬‫س ّ‬
‫وبالنسبة إلى السنة ممثلة في الحديث النبوي الشريف‪ ،‬فكونها‬
‫المصدر الثاني للتشريع السلمي‪ ،‬والمنهل البياني له في تفصيل‬
‫الحكام المجملة التي وردت فيه‪ ،‬وتقييد المطلق وتخصيص العام‪،‬‬
‫وتأسيس الحكام التي لم ينص عليها القرآن‪ ..‬فقد انبرى لتدوينها‬
‫وتمييز صحيحها من ضعيفها علماء أجلء‪ ،‬علموا قيمة العلم‪ ،‬فبذلوا‬
‫سهم‪..‬‬
‫فيه جهدهم‪ ،‬ونذروا له نفوسهم ونفي َ‬
‫اشترك في ذلك العرب وغير العرب‪ ،‬ولم تمنعهم أصولهم من‬
‫أن يقوموا بدورهم على أكمل وجه‪ ،‬حتى في ذلك المجال الصعب‪..‬‬
‫وفي هذا السياق كان لنا أن نتوقف مع أمير أهل الحديث‪،‬‬
‫المام الجليل والمحدث العظيم‪ ،‬أبو عبد الله محمد بن إسماعيل‬
‫البخاري‪ ..‬أمير أهل الحديث‪ ،‬وصاحب أصح كتاب بعد كتاب الله‬
‫تعإلي‪ ،‬والذي احتل مكانته في القلوب؛ حتى كان يقرأ في المساجد‬
‫كما ُتتلى المصاحف‪ ..‬قال هو عنه‪" :‬ما وضعت في كتاب "الصحيح"‬
‫ضا‪" :‬صنفت‬‫حديًثا إل اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين"‪ ،‬وقال أي ً‬
‫"الصحيح" في ست عشرة سنة‪ ،‬وجعلته حجة فيما بيني وبين الله‬
‫تعإلي"‪.1119‬‬
‫ن تاريخ السلم لم يشهد مثله في قوة الحفظ‪ ،‬ودقة الرواية‪،‬‬ ‫إ ّ‬
‫والصبر على البحث‪ ،‬مع قلة المكانات‪ ،‬حتى أصبح منارة في‬
‫الحديث‪ ،‬وفاق أقرانه وشيوخه على السواء‪ ،‬بل فاق كل العرب مع‬
‫كونه ليس عربّيا‪!!..‬‬
‫م صالحة‬
‫ةأ ّ‬
‫البخاري‪ ..‬تربي ُ‬
‫دا‬
‫كانت البداية في ُبخارى )إحدى مدن أوزبكستان الن(‪ ،‬وتحدي ً‬
‫في ليلة الجمعة ‪13‬من شوال‪ ،‬سنة ‪194‬هق‪ ،‬حيث ولدته ~‪..1120‬‬
‫وقد عرفت أسرته السلم عن طريق جده "المغيرة بن‬
‫بردذبة"‪ ،‬فكان أول من أسلم من أجداده‪ ،‬وكان إسلمه على يد وإلى‬

‫أبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.24/443،449‬‬ ‫‪1119‬‬

‫الذهبي‪ :‬الكاشف ‪.2/156‬‬ ‫‪1120‬‬


‫سب إلى قبيلته‪ ،‬وانتمى إليها‬
‫بخارى "إليمان الجعفي"؛ ولذلك ن ُ ِ‬
‫بالولء‪ ،‬وأصبح "الجعفي" نسًبا له ولسرته من بعده‪.‬‬
‫وكان قدر الله أن يموت والد البخاري وهو مازال طفل ً صغيًرا‪،‬‬
‫ما في حجر أمه‪ ،‬التي قامت على تربيته أحسن تربية‪ ..‬لُتري‬ ‫لينشأ يتي ً‬
‫أمهات المسلمين ‪ -‬والرامل منهن خاصة ‪ -‬كيف تكون تربية البناء‪..‬‬
‫وما هو دور الم في جهادها لرفعة المة والنهوض بها‪..‬؟!‬
‫لم تكن بداية البخاري الطفل ككل البناء؛ إذ ابتله الله ‪ ‬في‬
‫ن أمه الصالحة لم تنقطع صلُتها بربها‪،‬‬
‫صباه بفقدان بصره!! ولك ّ‬
‫وكانت تتودد إليه ليل نهار‪ ،‬وهي تدعوه سبحانه راجية أن يرد على‬
‫صبيها بصره‪ ..‬ويشاء الله أن يسمع دعاءها‪ ،‬فيأتيها إبراهيم ‪ ‬يبشرها‬
‫في المنام يقول لها‪" :‬يا هذه‪ ،‬قد رد ّ الله على ابنك بصره لكثرة‬
‫دعائك"!!‬
‫فأصبح البخاري وقد رد ّ الله عليه بصره‪ ،‬بحسن صلة أمه بربها‪،‬‬
‫وبركة دعائها له‪!!..1121‬‬
‫ولم يتوقف المر عند هذا الحد‪ ،‬فقد أنعم الله ‪ ‬عليه وهو‬
‫مازال في طفولته بالنجابة والذكاء‪ ،‬ووهبه سبحانه ذاكرة ً قوّية‪ ،‬قّلما‬
‫وهبها غيَره‪ ،‬حتى كان آية في الحفظ‪..‬‬
‫وقد زادت أمه من العناية به‪ ،‬وتعهدته بالرعاية والتعليم‬
‫والصلح‪ ،‬فكانت تدفعه إلى العلم وتحببه فيه‪ ،‬وتزين له أبواب الخير‪..‬‬
‫م النفس‪ ،‬متين الخلق‪ ،‬محًبا للعلم‪ ،‬مقبل ً على‬ ‫فنشأ البخاريّ مستقي َ‬
‫الطاعة‪ ..‬حتى ما كاد يتم العاشرة إل وكان قد حفظ القرآن الكريم‪،‬‬
‫وبدأ يتردد على الشيوخ والمحدثين‪..‬‬
‫يقول محمد بن أبي حاتم‪ :‬قلت لبي عبد الله )البخاري(‪ :‬كيف‬
‫ت حفظ الحديث وأنا في المكتب )الك ُّتاب(‪.‬‬ ‫ُ‬
‫كان بدء أمرك؟ قال‪ :‬ألِهم ُ‬
‫فقلت‪ :‬كم كان سنك؟ فقال‪ :‬عشر سنين أو أقل‪ ،‬ثم خرجت من‬
‫ما‬
‫المكتب بعد العشر‪ ،‬فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره‪ ،‬فقال يو ً‬
‫فيما كان يقرأ للناس‪ :‬سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم‪ .‬فقلت له‪:‬‬
‫إن أبا الزبير لم يروِ عن إبراهيم‪ ،‬فانتهرني‪ ،‬فقلت له‪ :‬ارجع إلى‬
‫الصل‪ ،‬فدخل فنظر فيه ثم خرج فقال لي‪ :‬كيف هو يا غلم؟ قلت‪:‬‬
‫هو الزبير بن عدي عن إبراهيم‪ ،‬فأخذ القلم مني وأحكم )أصلح(‬
‫كتابه‪ ،‬وقال‪ :‬صدقت‪ .‬فقيل للبخاري‪ :‬ابن كم كنت حين رددت عليه؟‬
‫قال‪ :‬ابن إحدى عشرة سنة!!‪.1122‬‬

‫ابن حجر‪ :‬فتح الباري ‪.1/478‬‬ ‫‪1121‬‬

‫الخطيب البغدادي‪ :‬تاريخ بغداد ‪.2/7،6‬‬ ‫‪1122‬‬


‫وما كاد البخاري يبلغ السادسة عشرة من عمره حتى حفظ‬
‫كتب ابن المبارك ووكيع‪ ،‬وغيرها من كتب الئمة المحدثين‪ ،‬حتى بلغ‬
‫ما‪ ..‬وكانت بخارى آنذاك‬
‫محفوظه آلف الحاديث وهو ل يزال غل ً‬
‫دثين والفقهاء ‪.‬‬
‫‪1123‬‬
‫مركًزا من مراكز العلم‪ ،‬تمتلئ بحلقات المح ّ‬
‫رحلة العلم‪ ..‬ومازال دور الم‬
‫في مرحلة جديدة‪ ..‬وفي دور جديد لمه في إحكام تربيته‬
‫خا له يدعى أحمد‬‫ونشأته‪ ..‬أخذته وهو في سن السادسة عشرة هو وأ ً‬
‫إلى مكة للحج‪..‬‬
‫كانت فرصة عظيمة عند البخاري الصغير ليحج‪ ،‬ثم تتفتح له‬
‫م له ذلك؛ فلما أ َّدوا‬
‫آفاقٌ أوسع من أبواب العلم ينهل منها‪ ..‬وقد ت ّ‬
‫جميًعا مناسك الحج‪ ،‬تخّلف هو لطلب الحديث والخذ عن الشيوخ‪،‬‬
‫ورجعت أمه وأخوه إلى بخارى‪..1124‬‬
‫وعلى ما يبدو؛ فإن أمه هي التي كانت صاحبة هذه الفكرة‪ ،‬في‬
‫أن يحج‪ ،‬ثم يظل يأخذ العلم بلسان العرب ومن منبعه ورافده الول‪..‬‬
‫فهي بصدد إعداده ل ليرجع فيعلم قومه وأهل بلده فقط‪ ،‬وإنما ليعود‬
‫فُيعّلم الدنيا‪..‬‬
‫وفي الحرمين الشريفين‪ ،‬كانت بداية رحلة البخاري في طلب‬
‫العلم‪ ،‬وقد ظل بهما ستة أعوام‪ ،‬ينهل من الشيوخ والعلماء‪ ،‬انطلق‬
‫بعدها متنقل ً بين حواضر العالم السلمي‪ ..‬يجالس العلماء ويحاور‬
‫دثين‪ ،‬ويجمع الحديث‪ ،‬ويعقد مجالس للتحديث‪ ،‬ويتكبد مشاق‬ ‫المح ّ‬
‫السفر والنتقال‪ ..‬لم يترك حاضرة من حواضر العلم إل نزل بها‬
‫وروى عن شيوخها‪ ،‬وربما ح ّ‬
‫ل بالبلد الواحد مرات عديدة‪ ،‬يغادره ثم‬
‫يعود إليه مرة أخرى‪..‬‬
‫وكان من الحواضر السلمية التي نهل منها وأخذ من شيوخها‬
‫غير مكة والمدينة‪ ،‬بغداد وواسط‪ ،‬والبصرة‪ ،‬والكوفة‪ ،‬ودمشق‪،‬‬
‫وقيسارية‪ ،‬وعسقلن‪ ،‬وخراسان‪ ،‬وبلخ‪ ،‬ونيسابور‪ ،‬ومرو‪ ،‬وهراة‪،‬‬
‫ومصر‪ ،‬وغيرها‪..‬‬
‫وفي مثال يدل على عجب أقرانه منه وهو خارج موطنه‪ ،‬يقول‬
‫محمد بن أبي حاتم الوراق‪ :‬سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولن‪:‬‬
‫كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلم‬
‫فل يكتب‪ ،‬حتى أتى على ذلك أيام‪ ،‬فكنا نقول له‪ :‬إنك تختلف معنا ول‬
‫ما‪ :‬إنكما قد أكثرتما‬
‫ما بعد ستة عشر يو ً‬ ‫تكتب‪ ،‬فما تصنع؟ فقال لنا يو ً‬
‫ي ما كتبتما‪ ،‬فأخرجنا إليه ما كان عندنا‪،‬‬
‫ي وألححتما‪ ،‬فاعرضا عل ّ‬‫عل ّ‬
‫الخطيب البغدادي‪ :‬تاريخ بغداد ‪.2/7،6‬‬ ‫‪1123‬‬

‫ابن حجر‪ :‬فتح الباري ‪.1/478‬‬ ‫‪1124‬‬


‫فزاد على خمسة عشر ألف حديث‪ ،‬فقرأها كلها عن ظهر قلب‪ ،‬حتى‬
‫جعلنا نحكم كتبنا من حفظه‪ ،‬ثم قال‪ :‬أترون أني أختلف هدًرا وأضيع‬
‫أيامي؟! فعرفنا أنه ل يتقدمه أحد‪.1125‬‬
‫وعن رحلته في طلب العلم يقول البخاري‪" :‬دخلت إلى الشام‬
‫ومصر والجزيرة مرتين‪ ،‬وإلى البصرة أربع مرات‪ ،‬وأقمت بالحجاز‬
‫ستة أعوام‪ ،‬ول أحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد"‪.1126‬‬
‫فلم يكن غريًبا إذن أن يزيد عدد شيوخه عن ألف شيخ من‬
‫الثقات العلم!! وتراه هو يعبر عن ذلك فيقول‪" :‬كتبت عن ألف شيٍخ‬
‫وأكثر‪ ،‬ما عندي حديث إل أذكر إسناده"!!‪.1127‬‬
‫سا‪ ،‬ليس‬
‫ويحدد عدد شيوخه فيقول‪" :‬كتبت عن ألف وثمانين نف ً‬
‫فيهم إل صاحب حديث‪ ،‬كانوا يقولون اليمان قول وعمل يزيد‬
‫وينقص"‪.1128‬‬
‫وكان من شيوخه المعروفين والذين روى عنهم‪ :‬أحمد بن حنبل‪،‬‬
‫ويذكره البخاري ممتًنا فيقول‪" :‬قال لي في آخر ما وّدعته‪ :‬يا أبا عبد‬
‫الله‪ ،‬تدع العلم والناس وتصير إلى خراسان؟ قال‪ :‬فأنا الن أذكر‬
‫ضا يحيى بن معين‪ ،‬وإسحاق بن راهويه‪،‬‬ ‫قوله‪ .‬وكان من شيوخه أي ً‬
‫وعلي بن المديني‪ ،‬وقتيبة بن سعيد‪ ،‬وأبو بكر بن أبي شيبة‪ ،‬وأبو حاتم‬
‫الرازي‪ ،‬وغيرهم‪..1129‬‬
‫البخاري‪ ..‬منهج خاص‬
‫كان للبخاري منهج خاص في حياته كلها‪ ،‬وبالخص في العلم‬
‫ما يجمع الحاديث الصحاح‬‫وتدوين الحديث‪ ..‬فقد ظل ستة عشر عا ً‬
‫في دقة متناهية‪ ،‬وعمل دؤوب‪ ،‬وصبر على البحث‪ ،‬وتحرٍ للصواب‪،‬‬
‫قلما توافر لباحث قبله أو بعده‪ ،‬وكان بعد كل هذا ل يدون الحديث إل‬
‫بعد أن يغتسل ويصلي ركعتين!!‬
‫وقد بات عنده أحد تلمذته ذات ليلة‪ ،‬فأحصى عليه أنه قام‬
‫وأسرج يستذكر أشياء يعلقها في ليلة ثمان عشرة مرة!!‬
‫وقال محمد بن أبي حاتم الوراق‪ :‬كان أبو عبد الله إذا كنت معه‬
‫في سفر يجمعنا بيت واحد إل في القيظ أحياًنا‪ ،‬فكنت أراه يقوم في‬
‫ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة‪ ،‬في كل ذلك يأخذ‬

‫حجر‪ :‬فتح الباري ‪.1/478‬‬ ‫ابن‬ ‫‪1125‬‬

‫حجر‪ :‬فتح الباري ‪.478 /1‬‬ ‫ابن‬ ‫‪1126‬‬

‫عساكر‪ :‬تاريخ دمشق ‪.52/58‬‬ ‫ابن‬ ‫‪1127‬‬

‫حجر‪ :‬فتح الباري ‪.479 /1‬‬ ‫ابن‬ ‫‪1128‬‬

‫حجر‪ :‬فتح الباري ‪.478،479 /1‬‬ ‫ابن‬ ‫‪1129‬‬


‫القداحة فيوري )يشعل( ناًرا ويسرج‪ ،‬ثم يخرج أحاديث فيعلم‬
‫عليها‪.1130‬‬
‫ب‬ ‫وروي عن البخاري أنه قال‪ :‬لم تكن كتابتي للحديث كما َ‬
‫كت َ‬
‫هؤلء؛ كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبته‪،‬‬
‫ما‪ ،‬فإن لم يكن سألته أن يخرج إلى‬
‫وحمله الحديث إن كان الرجل فه ً‬
‫أصله ونسخته‪..‬‬
‫دا يحسن طلب الحديث‬ ‫وكان العباس الدوري يقول‪ :‬ما رأيت أح ً‬
‫مثل محمد بن إسماعيل‪ ،‬كان ل يدع أصل ً ول فر ً‬
‫عا إل قلعه‪ ،‬ثم قال‬
‫لنا‪ :‬ل تدعوا من كلمه شيًئا إل كتبتموه!‬
‫وكان من كلمه ~‪" :‬ما جلست للحديث حتى عرفت الصحيح‬
‫من السقيم‪ ،‬وحتى نظرت في عامة كتب الرأي‪ ،‬وحتى دخلت البصرة‬
‫خمس مرات أو نحوها‪ ،‬فما تركت بها حديًثا صحي ً‬
‫حا إل كتبته‪ ،‬إل ما لم‬
‫يظهر لي"‪.1131‬‬
‫وقال بكر بن منير‪ :‬سمعت أبا عبد الله البخاري يقول‪ :‬أرجو أن‬
‫ألقى الله ول يحاسبني أني اغتبت أحدا‪ ،‬قلت‪ :‬صدق ~‪ ،‬ومن نظر‬
‫في كلمه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلم في الناس‬
‫وإنصافه فيمن يضعفه؛ فإنه أكثر ما يقول‪ :‬منكر الحديث‪ ،‬سكتوا عنه‪،‬‬
‫فيه نظر ونحو هذا‪ ،‬وقل أن يقول‪ :‬فلن كذاب أو كان يضع الحديث‪،‬‬
‫حتى إنه قال‪ :‬إذا قلت‪ :‬فلن في حديثه نظر‪ ،‬فهو متهم واه‪ ،‬وهذا‬
‫معنى قوله‪" :‬ل يحاسبني الله أني اغتبت أحدا"‪ ،‬وهذا هو ‪ -‬والله ‪-‬‬
‫غاية الورع‪.1132‬‬
‫البخاري‪ ..‬مؤلفات في محراب العلم‬
‫بعد أن تهيأت له السباب‪ ،‬من موهبة الذكاء‪ ،‬وقوة الحافظة‪،‬‬
‫والصبر على العلم‪ ،‬والمثابرة في تحصيله‪ ،‬والمعرفة الواسعة‬
‫بالحديث النبوي وأحوال رجاله‪ ،‬من عدل وتجريح‪ ،‬وخبرة تامة‬
‫بالسانيد؛ صحيحها وفاسدها‪ ..‬كان له أن يكثر من التأليف والتصانيف‪،‬‬
‫والتي ما برحت تخلد اسمه في سماء العلم‪ ،‬وقد بدأ هذا الطريق وهو‬
‫في الثامنة عشرة من عمره!!‬
‫فا‪ ،‬منها‪" :‬الدب‬
‫وقد صّنف البخاري ~ ما يزيد عن عشرين مصن ً‬
‫المفرد"‪ ،‬و"التاريخ الكبير"‪ ،‬وهو كتاب كبير في التراجم‪ ،‬رتب فيه‬
‫أسماء رواة الحديث على حروف المعجم‪ ،‬و"التاريخ الصغير"‪ ،‬وهو‬
‫تاريخ مختصر للنبي ‪ ‬وأصحابه ومن جاء بعدهم من الرواة إلى سنة‬

‫أبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.24/447‬‬ ‫‪1130‬‬

‫ابن حجر‪ :‬فتح الباري ‪.488 /1‬‬ ‫‪1131‬‬

‫أبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.24/446‬‬ ‫‪1132‬‬


‫‪256‬هق = ‪870‬م‪ ،‬و"خلق أفعال العباد"‪ ،‬و"رفع إليدين في الصلة"‪،‬‬
‫و"ال ُ‬
‫كنى"‪ ،‬وغيره‪..‬‬
‫غير أن أشهر كتبه‪ ،‬بل أشهر كتب الحديث النبوي قاطبة‪ ،‬هو‬
‫كتابه "الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله ‪ ‬وسننه‬
‫وأيامه"‪ ،‬وهو المعروف بق "الجامع الصحيح" أو "صحيح البخاري"‪،‬‬
‫صنف في الحديث الصحيح المجرد‪ ،‬وقد قال فيه‬ ‫وُيعد أول كتاب ُ‬
‫المام البخاري‪ :‬وما أدخلت فيه حديًثا إل بعدما استخرت الله تعإلي‪،‬‬
‫وصليت ركعتين‪ ،‬وتيقنت صحته‪.1133‬‬
‫دا خارًقا‪ ،‬واستمر في تأليفه وجمعه‬
‫وقد بذل فيه البخاري جه ً‬
‫ما‪ ،‬هي مدة رحلته الشاقة في طلب‬ ‫وترتيبه وتبويبه ستة عشر عا ً‬
‫الحديث‪.‬‬
‫ويذكر البخاري السبب الذي جعله ينهض إلى هذا العمل‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬كنت عند إسحاق ابن راهويه‪ ،‬فقال‪ :‬لو جمعتم كتاًبا مختصًرا‬
‫لصحيح سنة رسول الله ‪‬؛ فوقع ذلك في قلبي‪ ،‬فأخذت في جمع‬
‫"الجامع الصحيح"‪.1134‬‬
‫ضا‪ :‬رأيت رسول الله ‪ ‬وكأنني واقف بين يديه وبيدي‬
‫وقال أي ً‬
‫ب عنه‬‫مروحة أذب عنه‪ ،‬فسألت بعض المعبرين‪ ،‬فقال لي‪ :‬أنت تذ ّ‬
‫الكذب؛ فهو الذي حملني على إخراج "الجامع الصحيح"‪.1135‬‬
‫وقد ابتدأ البخاري تأليف هذا الكتاب في المسجد الحرام‬
‫والمسجد النبوي‪ ،‬ولم يتعجل إخراجه للناس بعد أن فرغ منه‪ ،‬ولكن‬
‫عاود النظر فيه مرة بعد أخرى‪ ،‬وتعهده بالمراجعة والتنقيح؛ ولذلك‬
‫صنفه ثلث مرات حتى خرج على الصورة التي عليها الن‪.‬‬
‫ويحوي الكتاب ‪ 7275‬حديًثا‪ ،‬اختارها البخاري من بين ستمائة‬
‫قا في قبول الرواية‪ ،‬وكان‬‫ألف حديث كانت تحت يديه؛ لنه كان مدقّ ً‬
‫طا خاصة في قبول رواية راوي الحديث‪ ،‬وهي أن‬ ‫قد اشترط شرو ً‬
‫يكون معاصًرا لمن يروي عنه‪ ،‬وأن يكون قد سمع الحديث منه‪ ،‬إلى‬
‫جانب‪ :‬الثقة‪ ،‬والعدالة‪ ،‬والضبط‪ ،‬والتقان‪ ،‬والعلم‪ ،‬والورع!!‬
‫دثين كتابه هذا‬
‫وقد استحسن شيوخ البخاري وأقرانه من المح ّ‬
‫بعد أن عرضه عليهم‪ ،‬وكان منهم جهابذة الحديث‪ ،‬مثل‪ :‬المام أحمد‬
‫بن حنبل‪ ،‬وعلي بن المديني‪ ،‬ويحيى بن معين؛ وقد استحسنوه‬
‫وشهدوا له بصحة ما فيه من الحديث‪ ،‬إل في أربعة أحاديث!! قال‬

‫ابن حجر‪ :‬فتح الباري ‪.1/489‬‬ ‫‪1133‬‬

‫أبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.24/442‬‬ ‫‪1134‬‬

‫السيوطي‪ :‬تدريب الراوي ‪.1/88‬‬ ‫‪1135‬‬


‫العقيلي‪ :‬والقول فيها قول البخاري‪ ،‬وهي صحيحة!! ثم تلقته المة‬
‫بعدهم بالقبول باعتباره أصح كتاب بعد كتاب الله تعإلي‪.1136‬‬
‫وتلقف الكتاب علماء أجلء بالشرح والتعليق والدراسة‪ ،‬بل‬
‫امتدت العناية به إلى العلماء من غير المسلمين؛ حيث ُدرس وُترجم‪،‬‬
‫كتبت حوله عشرات الكتب‪.‬‬ ‫و ُ‬

‫وكان من أشهر شروح صحيح البخاري‪" :‬أعلم السنن" للمام‬


‫أبي سليمان الخطابي )ت ‪388‬هق(‪ ،‬و"الكواكب الدراري في‬
‫شرح صحيح البخاري" لشمس الدين الكرماني )ت ‪786‬هق ‪/‬‬
‫‪1348‬م(‪ ،‬و"فتح الباري في شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن‬
‫حجر )ت ‪852‬هق ‪1448 /‬م‪ ،‬و"عمدة القاري شرح صحيح‬
‫البخاري" لبدر الدين العيني )ت ‪855‬هق ‪1451 /‬م(‪" ،‬إرشاد‬
‫الساري إلى شرح صحيح البخاري" للقسطلني )ت ‪923‬هق‪/‬‬
‫‪1517‬م(‪.‬‬
‫ن بالجميل‬
‫البخاري‪ ..‬عرفا ٌ‬
‫تبوأ البخاري ~ مكانة عالية ومنزلة رفيعة في العلم وبين‬
‫قبوه‬
‫العلماء‪ ،‬وقد شهد له العلماء والمعاصرون له بذلك‪ ،‬حتى إنهم ل ّ‬
‫بأمير المؤمنين في الحديث‪ ..‬وهي أعظم درجة ينالها عالم في‬
‫الحديث النبوي‪ ،‬وقد أثنوا عليه ثناًء عاطًرا‪..‬‬
‫فيقول عنه ابن خزيمة‪" :‬ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث‬
‫من محمد بن إسماعيل البخاري"‪.1137‬‬
‫وقال أبو جعفر‪ :‬سمعت يحيى بن جعفر يقول‪" :‬لو قدرت أن‬
‫أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت؛ فإن موتي يكون‬
‫موت رجل واحد‪ ،‬وموته ذهاب العلم"‪!!1138‬‬
‫وقال قتيبة بن سعيد‪" :‬جالست الفقهاء والعباد والزهاد؛ فما‬
‫رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل‪ ،‬وهو في زمانه كعمر في‬
‫الصحابة"‪.1139‬‬
‫وقال أبو عيسى الترمذي )صاحب جامع الترمذي(‪" :‬لم أَر‬
‫بالعراق ول بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة السانيد أعلم‬
‫من محمد بن إسماعيل"‪.‬‬

‫ابن حجر‪ :‬فتح الباري ‪.1/7‬‬ ‫‪1136‬‬

‫ابن حجر‪ :‬فتح الباري ‪.1/485‬‬ ‫‪1137‬‬

‫أبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.24/460‬‬ ‫‪1138‬‬

‫ابن حجر‪ :‬فتح الباري ‪.1/482‬‬ ‫‪1139‬‬


‫وقد قّبله تلميذه النجيب "مسلم بن الحجاج" )صاحب صحيح‬
‫مسلم( بين عينيه‪ ،‬وقال له‪" :‬دعني أقبل رجليك يا أستاذ الستاِذين‪،‬‬
‫دثين‪ ،‬وطبيب الحديث في علله"‪.1140‬‬‫وسيد المح ّ‬
‫حنة العلماء‬
‫م َ‬
‫البخاري‪ِ ..‬‬
‫على الرغم من تلك المكانة العظيمة‪ ،‬وهذه المنزلة العالية‬
‫الرفيعة للبخاري‪ ،‬والتي جعلها الله فقط للعلماء‪ ،‬إل أن ذلك لم يكن‬
‫يمنع ِغيرة الحاسدين أو حقد الحاقدين؛ إذ هي سنة الله في خلقه‪،‬‬
‫والنفس تأبى على من يعلوها إل من عصم ربي‪..‬‬
‫فبعد رحلته الطويلة الشاقة‪ ،‬والتي لقي فيها الشيوخ ووضع‬
‫مؤلفاته العظيمة‪ ،‬وقد ذاعت صيته بين الناس‪ ..‬رجع البخاري إلى‬
‫دا سعوا به إلى‬
‫نيسابور للقامة بها‪ ،‬إل أن بعض العلماء غيرة وحس ً‬
‫ما مختلقة‪ ،‬مما اضطروه إلى أن يغادر‬‫وإلى المدينة‪ ،‬وألصقوا به ته ً‬
‫نيسابور إلى مسقط رأسه بخارى‪ ،‬وهناك استقبله أهلها استقبال‬
‫الفاتحين؛ فُنصبت له القباب على مشارف المدينة‪ ،‬وُنثرت عليه‬
‫الدراهم والدنانير‪.‬‬
‫ولنها سنة قائمة؛ فلم يكد يستقر البخاري في موطنه الصلي‬
‫حتى طلب منه أميرها "خالد بن أحمد الدهلي" أن يأتي إليه لُيسمعه‬
‫الحديث؛ فقال البخاري لرسول المير بعزة العاِلم‪" :‬قل له إنني ل‬
‫أذل العلم‪ ،‬ول أحمله إلى أبواب السلطين‪ ،‬فإن كانت له حاجة إلى‬
‫شيء فليحضرني في مسجدي أو في داري‪ ،‬فإن لم يعجبك هذا فأنت‬
‫سلطان‪ ،‬فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة‬
‫أني ل أكتم العلم"‪.1141‬‬
‫وبعزة مضادة آثمة‪ ،‬ما كان من الحاكم إل أن أخذ يحرض عليه‬
‫ويسيء إليه‪ ،‬وقد أغرى به بعض السفهاء ليتكلموا في حقه‪ ،‬ويثيروا‬
‫عليه الناس‪ ،‬وفي نهاية المر قام بنفيه من المدينة )بخارى( إلى‬
‫"خرتنك"!!‬
‫وفي "خرتنك" )من قرى سمرقند‪ ،‬وتعرف الن بقرية "خواجة‬
‫دا عن وطنه‪ ،‬صابًرا على محنته‪ ،‬حتى توفاه‬ ‫صاحب"( ظل البخاري بعي ً‬
‫الله ‪ ‬في ليلة عيد الفطر المبارك ‪ 30‬رمضان ‪256‬هق ‪31 /‬‬
‫ما ونوًرا تستضيء به النسانية‪ ،‬وتظل‬‫فا عل ً‬‫أغسطس ‪869‬م‪ ..‬مخل ّ ً‬
‫ة‬
‫تنهل منه‪ ،‬وتعول عليه‪ ،‬إلى يوم القيامة ‪ ،‬فرحمه الله رحم ً‬
‫‪1142‬‬

‫واسعة‪ ،‬وجزاه عن السلم والمسلمين خير الجزاء‪.‬‬

‫ابن كثير‪ :‬البداية والنهاية ‪.11/26‬‬ ‫‪1140‬‬

‫أبو الحجاج المزي‪ :‬تهذيب الكمال ‪.24/464‬‬ ‫‪1141‬‬

‫الذهبي‪ :‬الكاشف ‪.2/156‬‬ ‫‪1142‬‬


‫المبحث الثاني ‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫المام الطبري‬
‫]‪224‬هق‪310 -‬هق= ‪922 - 838‬م[‬
‫ميلده ونشأته‬
‫هو "أبو جعفر" محمد بن جرير الطبري‪ ،‬وُل ِد َ بطبرستان في آخر‬
‫سنة ‪224‬هق‪ .1143‬حفظ القرآن وله سبع سنين‪ ،‬وصّلى بالناس وهو ابن‬
‫ثماني سنين‪ ،‬وكتب الحديث وهو في التاسعة‪ ،‬ثم ارتحل إلى الّري‪،‬‬
‫ثم إلى بغداد ليأخذ العلم على أحمد بن حنبل؛ إل أن المام أحمد مات‬
‫قبل أن يصل الطبري إلى بغداد‪ ،‬فاتجه إلى البصرة فأخذ عن‬
‫شيوخها‪ ،‬ثم انتقل إلى واسط‪ ،‬فالكوفة‪ ،‬ثم رجع إلى بغداد مرة‬
‫أخرى‪ ،‬ثم رحل إلى مصر سنة ‪253‬هق‪ ،‬واجتمع بمحمد بن إسحاق بن‬
‫خزيمة‪ ،‬العالم المؤرخ‪ ،‬ثم عاد إلى بغداد بعد رحلة طويلة وانقطع‬
‫للدرس والتأليف‪.‬‬
‫تلمذته‬
‫لم يحصر الطبري نفسه بين الجدران والكتب‪ ،‬ولم يبتعد عن‬
‫حا على الحياة؛ يفتي الناس‪،‬‬‫الحياة والمجتمع والمة‪ ،‬وإنما كان منفت ً‬
‫دث بآثار‬
‫ويملي على طلبه وتلمذته‪ ،‬ويقريء القرآن والقراءات‪ ،‬ويح ّ‬
‫ما‪ ،‬ويناظر الئمة‪ ..‬لذلك ل ينحصر‬ ‫رسول الله ‪ ،‬ويصلي بالناس إما ً‬
‫إنتاجه في كتبه ومصنفاته‪ ،‬بل يشمل طلبه وتلمذته وأتباعه‬
‫ومواقفه‪..‬‬
‫ومن أشهر تلمذته‪:‬‬
‫قه‬
‫ل أصحاب الطبري‪ ،‬وكان يتف ّ‬‫القاضي أبو بكر بن كامل؛ أج ّ‬
‫دة كتب على مذهبه‪،‬‬ ‫على مذهب أبي جعفر الطبري‪ ،1144‬وكتب ع ّ‬
‫وهارون بن عبد العزيز )أهم رواة كتب الطبري(‪ ،‬وابن بشار الحول‬
‫)أستاذ ابن سريج(‪..1145‬‬

‫ياقوت الحموي‪ :‬معجم الدباء‪.18/48 ،‬‬ ‫‪1143‬‬

‫المصدر السابق ‪.54 /18‬‬ ‫‪1144‬‬

‫انظر‪ :‬ابن قاضي شهبة ‪ :‬طبقات الشافعية ‪.3/121‬‬ ‫‪1145‬‬


‫ومن تلمذته في الفقه‪:‬‬
‫أبو الفرج المعافي )المعروف بابن الطّرار( وقد شرح كتاب‬
‫"الخفيف" للطبري‪ ،1146‬وعلي بن عبد العزيز الدولبي‪ ،‬وأبو بكر بن‬
‫أبي الثلج الكاتب‪ ،‬وأبو القاسم بن العّراد‪ ،‬وأبو محمد بن جعفر‬
‫الفرغاني‪ ،‬وله كتاب "الذيل على تاريخ المم للطبري"‪.1147‬‬
‫ومن تلمذته في الحديث‪:‬‬
‫قاضي الكوفة أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة البغدادي‪،‬‬
‫وسليمان اللخمي الشامي‪ ،‬وأبو شعيب الحراني‪ ،‬ومحمد بن أحمد بن‬
‫دث محمد بن شعيب النيسابوري‪ ،‬ومخّلد بن‬ ‫سنان‪ ،‬والفقيه المح ّ‬
‫جعفر الباقرحي‪ ،‬والقاضي أبو بكر الماينجي ‪.‬‬
‫‪1148‬‬

‫إسهاماته العلمية‬
‫كان الطبري ذكّيا نابغة‪ ،‬سريع الحفظ‪ ،‬ذا قدرةٍ هائلة على‬
‫ل فسألني عن‬ ‫ما رج ٌ‬
‫دث عن نفسه؛ فقال‪" :‬جاءني يو ً‬ ‫التعّلم؛ فقد ح ّ‬
‫ت له قبل ذلك؛ فقلت له‪ :‬إذا‬ ‫شيء في علم العروض‪ ،‬ولم أكن نشط ُ‬
‫فَر العروض للخليل بن أحمد ‪ ،‬فجاءوا‬ ‫س ْ‬
‫دا فتعال إلي"‪ ،‬وطلب ِ‬
‫كان غ ً‬
‫له به فاستوعبه وأحاط بقواعده وكلياته في ليلة واحدة‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫"فأمسيت غير عروضي‪ ،‬وأصبحت عروضًيا"‪.1149‬‬
‫ولم يقتصر الطبري على فن أو علم واحد‪ ،‬بل جمع مختلف‬
‫ما في‬‫ما فيها؛ فكان إما ً‬
‫العلوم الشرعية واللغوية وغيرها‪ ،‬وكان إما ً‬
‫ده النووي ~ من طبقة الترمذي والنسائي‪،‬‬ ‫السنة وعلوم الحديث‪ ،‬وع ّ‬
‫وسمع الحديث من كثيرين‪ ،‬بعضهم من شيوخ البخاري ومسلم‪.‬‬
‫ما في القراءات وعلوم القرآن‪،‬‬
‫وكان الطبري – كذلك ‪ -‬إما ً‬
‫منه‬
‫مق في دارسة التفسير‪ ،‬وصّنف تفسيره‪ ،‬وض ّ‬ ‫صّنف فيها‪ ،‬وتع ّ‬
‫م المفسرين وشيخهم‪.‬‬ ‫علوم القرآن‪ ،‬حتى اعت ُب َِر إما َ‬
‫ما في الفقه‪ ،‬وعلم الخلف‪ ،‬والفقه المقارن‪ ،‬واختلف‬ ‫وكان إما ً‬
‫مة المجتهدين‪ ،‬وصاحب مذهب مستقل‪ ،‬وتبعه‬ ‫العلماء‪ ،‬وكان من الئ ّ‬
‫بعض الناس على مذهبه‪ ،‬وصنف كتًبا في الفقه العام‪ ،‬والفقه‬
‫المقارن‪ ،‬والفقه المذهبي‪.‬‬

‫‪ 1146‬لبن النديم‪ :‬الفهرست ص ‪.329 ،328‬‬


‫‪ 1147‬الذهبي‪ :‬سير أعلم النبلء ‪ ،16/132 ،14/271‬فؤاد سزكقين‪ :‬تاريخ التراث العربي‬
‫‪ ،1/2/164‬تاريخ الدب العربي ‪.3/47‬‬
‫مسند الشام في وقته‪.‬‬
‫ُ‬ ‫و‬ ‫دمشق‪،‬‬ ‫قاضي‬ ‫هق(‪،‬‬‫‪375‬‬ ‫)ت‬ ‫الماينجي‬ ‫‪) 1148‬أبو بكر( يوسف بن القاسم‬
‫‪ 1149‬السابق نفسه ‪.18/56‬‬
‫ما في علم التاريخ‪ ،‬وهو شيخ المؤرخين‪ ،‬وله فيه كتب‬
‫وي ُعَد ّ إما ً‬
‫عظيمة‪.‬‬
‫كما كان مبّرًزا في علوم العربية؛ من المعاني واللغة والنحو‬
‫ما بالفلسفة والمنطق والجدل‪،‬‬‫والصرف والعروض والبيان‪ ،‬وكان عال ً‬
‫وكان عنده شيء من الطب والجبر والرياضيات‪ ،‬وله نظم وشعر‪.‬‬
‫ما بأصول الدين والتوحيد وعلم الكلم‪ ،‬وله كتب في‬
‫وكان عال ً‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ما بالحديث‪ ،‬فهو حافظ محدث‪ ،‬وصنف كتًبا في علم‬ ‫وكان عال ً‬
‫دثين في معظم كتبه‪.‬‬
‫الحديث ومصطلحه‪ ،‬والتزم بمنهج المح ّ‬
‫ما بأصول الفقه وقواعد الجتهاد والستنباط‪ ،‬وصّنف‬
‫وكان عال ً‬
‫فيه وعمل به‪.‬‬
‫ما بآداب النفس وعلم الخلق والتربية‪ ،‬وصنف‬
‫وكان عال ً‬
‫فيها‪.1150‬‬
‫من مؤّلفات الطبري‪:1151‬‬
‫سَعة ثقافته‪ ،‬ودقته‬ ‫ل مؤّلفات الطبري على غزارة علمه‪ ،‬و َ‬ ‫تد ّ‬
‫سه‪،‬‬‫ف ِ‬
‫في اختيار العلوم الشرعية والحكام المتعلقة بها‪ ،‬وطول ن َ َ‬
‫ن محمد‬ ‫وصبره على البحث والدرس؛ فقد ذكر الخطيب في تاريخه أ ّ‬
‫بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم ٍ منها أربعين ورقة ‪،‬‬
‫‪1152‬‬

‫ومن أشهر هذه المؤّلفات‪:‬‬


‫‪" -1‬جامع البيان عن تأويل القرآن" المعروف بتفسير الطبري‪،‬‬
‫قال السيوطي عن تفسير الطبري‪" :‬وكتابه أج ّ‬
‫ل التفاسير‬
‫وأعظمها"‪ ،1153‬وقال النووي‪" :‬أجمعت المة على أنه لم ُيصّنف مثل‬
‫تفسير الطبري"‪ ،1154‬وقال أبو حامد السفراييني‪" :‬لو سافر رجل إلى‬
‫‪1155‬‬
‫الصين حتى يحصل له كتاب تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيراً"‪.‬‬
‫‪" -2‬تاريخ المم والملوك" المعروف بتاريخ الطبري‪.‬‬

‫‪ 1150‬محمد الزحيلي‪ :‬المام الطبري ص ‪.47 -46‬‬


‫‪ 1151‬لمعرفة مؤلفات الطبري؛ انظر‪ :‬ياقوت الحموي‪ :‬معجم الدباء ‪ 18/42‬وما بعدها‪ ،‬الخطيب‬
‫البغدادي‪ :‬تاريخ بغداد ‪ ،2/16‬طبقات الشافعية الكبرى ‪ ،3/121‬تذكرة الحفاظ ‪ ،2/711‬مفتاح‬
‫السعادة ‪ ،2/426 ،1/416‬تاريخ التراث العربي ‪ ،1/2/162‬تاريخ الدب العربي ‪ 3/45‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬كشف الظنون ‪ ،303 ،1/64‬إنباه الرواة ‪ ،3/90‬الطبري للحوفي ص ‪ ،89‬الفهرست ص‬
‫‪ ،326‬الطبري للمصلح ص ‪ ،38‬الطبري للزحيلي ص ‪ 51‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 1152‬الخطيب البغدادي‪ :‬تاريخ بغداد ‪.163 /2‬‬
‫‪ 1153‬السيوطي‪ :‬التقان في علوم القرآن‪.186 /2 ،‬‬
‫‪ 1154‬النووي‪ :‬تهذيب السماء ‪.78 /1‬‬
‫‪ 1155‬ياقوت الحموي‪ :‬معجم الدباء ‪.42 /18‬‬
‫"اختلف علماء المصار في أحكام شرائع السلم" المعروف‬
‫بق"اختلف الفقهاء"‪ ،‬وهو في علم الخلف‪.‬‬
‫"تهذيب الثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الخبار"‪،‬‬
‫ماه القفطي‪" :‬شرح الثار"‪ ،‬وهو كتاب في الحديث‪.‬‬
‫وس ّ‬
‫"آداب القضاة"‪ ،‬وهو في الفقه عن أحكام القضاء وأخبار‬
‫القضاة‪.‬‬
‫منهجه العلمي والفكري‬
‫منهجه في التفسير‪:‬‬
‫دم الطبري على تفسير كتاب الله تعالى إل بعد نضوج‬ ‫لم ُيق ِ‬
‫الفكر‪ ،‬واكتمال العقل‪ ،‬وتحصيل العلوم‪ ،‬والتزود بآلت التفسير‬
‫سر القرآن بمجرد الهوى والّتشّهي والرأي‪ ،‬بل‬
‫ووسائله‪ ،‬ولم يكن ليف ّ‬
‫سار على منهج واضح وخطة حكيمة‪ ،‬وفوق ذلك فقد رسم الخطوط‬
‫ن‬
‫العريضة لتفسير القرآن الكريم‪ ،‬ووضع القواعد الصحيحة‪ ،‬واست ّ‬
‫القوانين الحكيمة‪ ،‬ووضع السياج المين للحفاظ على مقاصد‬
‫الشريعة‪.‬‬
‫دم الطبري مقدمة مستفيضة لكتابه‪ ،‬تحتوي أصول‬ ‫وقد ق ّ‬
‫التفسير في السلم؛ ليلتزم بها بنفسه‪ ،‬ويرسم الطريق لمن يأتي‬
‫بعده‪ ،‬ويحدد الحدود لتناول كتاب الله تعإلي؛ وقد عرض الطبري‬
‫منهجه بإيجاز‪ ،‬بعد أن بّين فضل محمد بالنبوة والمعجزات‪ ،‬وفضل‬
‫الله على هذه المة بحفظ كتابها ومعجزة نبيها‪ ،‬ثم بين فضل العناية‬
‫ن‬
‫بكتاب الله‪ ،‬ثم قال‪" :‬ونحن في شرح تأويله‪ ،‬وبيان ما فيه من معا ٍ‬
‫شئون كتاًبا مستوعًبا‪ ،‬لكل ما بالّناس إليه الحاجة من علمه جامًعا‪،‬‬ ‫من ِ‬
‫ُ‬
‫ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافًيا‪ ،‬ومخبرون في كل ذلك‪ ،‬بما‬
‫جة فيما اتفقت عليه المة‪ ،‬واختلفها فيما‬ ‫ح ّ‬
‫انتهى إلينا من اتفاق ال ُ‬
‫ل مذهب من مذاهبهم‪ ،‬وموضحو‬ ‫لك ّ‬‫عل َ َ‬
‫اختلفت فيه منه‪ ،‬ومبينو ِ‬
‫الصحيح لدينا من ذلك‪ ،‬بأوجز ما أمكن من اليجاز في ذلك‪ ،‬وأخصر‬
‫ما أمكن من الختصار فيه"‪ ،1156‬ثم شرع الطبري بتفصيل منهجه في‬
‫أصول التفسير مع ذكر الدلة الشرعية واللغوية‪ ،‬وضرب المثلة‬
‫شعر ‪.‬‬
‫‪1157‬‬
‫العملية من القرآن الكريم والسنة وكلم العرب واللغة وال ّ‬
‫وتفسير الطبري ذو منهج خاص‪ ،‬يذكر فيه الية أو اليات من‬
‫القرآن‪ ،‬ثم يعقبها بذكر أشهر القوال التي أثرت عن الصحابة‬
‫ت أخرى متفاوتة‬ ‫والتابعين في تفسيرها‪ ،‬ثم يورد بعد ذلك روايا ٍ‬
‫الدرجة في الثقة والقوة في الية كّلها أو بعض أجزائها‪ ،‬بناًء على‬
‫الطبري‪ :‬جامع بيان تأويل آي القرآن ‪.1/5‬‬ ‫‪1156‬‬

‫محمد الزحيلي‪ :‬المام الطبري ص ‪.120‬‬ ‫‪1157‬‬


‫ف في التأويل‪ ،‬ثم يعقب كل ذلك بالترجيح‬ ‫ف في القراءة‪ ،‬أو اختل ٍ‬‫خل ٍ‬
‫بين الروايات‪ ،‬واختيار أولها بالتقدمة‪ ،‬وأحقها باليثار‪ ،‬ثم ينتقل إلى‬
‫حا؛ وهو إذ ينقد‬
‫دا ثم مرج ً‬‫ضا ثم ناق ً‬
‫آية أخرى‪ ،‬فينهج نفس النهج عار ً‬
‫أو يرجح‪ ،‬يرد النقد أو الترجيح إلى مقاييس تاريخية من حال رجال‬
‫السند في القوة والضعف‪ ،‬أو إلى مقاييس علمية وفنية‪ :‬من الحتكام‬
‫إلى اللغة التي نزل فيها الكتاب‪ ،‬نصوصها وأقوال شعرائها‪ ،‬ومن نقد‬
‫القراءة وتوثيقها أو تضعيفها‪ ،‬ومن رجوع إلى ما تقّرر بين العلماء من‬
‫أصول العقائد‪ ،‬أو أصول الحكام أو غيرهما من ضروب المعارف التي‬
‫أحاط بها ابن جرير‪ ،‬وجمع فيها مادة لم تجتمع لكثير من غيره من‬
‫كبار علماء عصره"‪.1158‬‬
‫وبعد أن بين الطبري ذلك وضع قواعد التفسير‪ ،‬وأصول التأويل‪،‬‬
‫ذر من التفسير بالرأي‪ ،‬والتلعب في كلم الله تعالى بحسب‬ ‫وح ّ‬
‫الهواء والغراض‪ ،‬وأورد الحاديث الكثيرة بأسانيدها في تحريم ذلك‪،‬‬
‫وتجّنب التفسير بالرأي المجرد‪ ،‬وقال‪" :‬إن ما كان من تأويل آي‬
‫القرآن الذي ل يدرك علمه إل بنص بيان رسول الله ‪ ،‬أو بنصبه‬
‫الدللة عليه‪ ،‬فغير جائز لحد القيل فيه برأيه؛ لن إصابته ليست إصابة‬
‫ن‪ ،‬والقائل في دين الله‬
‫موقن أو محق‪ ،‬وإنما هو إصابة خارص وظا ّ‬
‫بالظن قائل على الله ما لم يعلم‪ ،‬وقد حّرم الله ذلك" ‪.‬‬
‫‪1159‬‬

‫ويلتزم الطبري بما اتفق عليه المسلمون في درجات التفسير؛‬


‫فيلجأ أول ً إلى تفسير القرآن بالقرآن‪ ،‬ثم إلى تفسيره بال ّ‬
‫سنة البيانية‬
‫وما ثبت عن رسول الله ‪ ،‬ثم يتبع ذلك بالثار الواردة عن الصحابة‬
‫رضوان الله عليهم‪ ،‬وعن التابعين‪..‬‬
‫منهجه في التاريخ‪:‬‬
‫ُيعت ََبر الطبريّ أبا التاريخ‪ ،‬وهو عمدة المؤرخين عند العرب‬
‫والمسلمين‪ ،‬وهو أول مؤّرخ وصل إلينا كتابه العام والكامل في‬
‫التاريخ‪ ،‬ويعتمد عليه كل من كتب في التاريخ على الطلق‪ ،‬وكان ثقة‬
‫في نقله‪،1160‬‬
‫وللطبري في التاريخ كتابان‪:‬‬
‫تاريخ المم والملوك‪:‬‬
‫ضا التاريخ الكبير‪ ،1161‬وذكره ياقوت الحموي باسم‬
‫ويسمى أي ً‬
‫"تاريخ الرسل والنبياء والملوك والخلفاء" ‪ ،‬وُيعَرف بتاريخ‬
‫‪1162‬‬

‫انظر‪ :‬كلمة )الناشر( أ‪ .‬محمد محمود الحلبي‪ :‬الطبعة الثالثة‪ ،‬تفسير الطبري ‪.1/4‬‬ ‫‪1158‬‬

‫الطبري‪ :‬جامع البيان في تأويل آي القرآن ‪.35 /1‬‬ ‫‪1159‬‬

‫مفتاح السعادة ‪ ،1/253‬وابن خلكان‪ :‬فيات العيان ‪.3/332‬‬ ‫‪1160‬‬

‫ياقوت الحموي‪ :‬معجم الدباء ‪.18/68‬‬ ‫‪1161‬‬

‫المصدر السابق ‪.18/44‬‬ ‫‪1162‬‬


‫الطبري‪ ،‬وبه اشتهر ولمع صيته‪ ،‬وفرغ منه في )‪ 27‬ربيع الول‬
‫‪303‬هق(‪ ،1163‬وقد وصل تاريخ الطبري إلى قمة التأليف التاريخي عند‬
‫العرب والمسلمين في القرون الثلثة الولي‪ ،‬وتظهر أهمية الكتاب‬
‫في كونه‪:1164‬‬
‫أوّ َ‬
‫ل كتاب في التاريخ العام‪ ،‬وأقدم مصدر كامل للتاريخ العربي‬
‫واللغة العربية منذ أوائل الزمان إلى أول القرن الرابع الهجري؛‬
‫وحافل ً بالنصوص الدبية وتراجم الشعراء والخطباء وغيرهم‪..‬‬
‫جمعَ الكثير من أخبار العرب في الجاهلية وحفظها من الضياع‪،‬‬
‫وأّرخ للقرون الولي في السلم‪.‬‬
‫َذكَر تاريخ الفرس‪ ،‬وتاريخ الرومان بدقة شديدة‪.‬‬
‫مصدًرا لمن جاء بعده من المؤّرخين‪ ،‬مثل مسكويه )‪421‬هق(‪،‬‬
‫وابن الثير )‪630‬هق(‪ ،‬وابن خلدون )‪808‬هق(‪.‬‬
‫تاريخ السلم‪ :‬وقد عرضه بناًء على منهج محدد‪ ،‬تتلخص‬
‫معالمه فيما يلي‪:1165‬‬
‫ما بعد عام‪.‬‬
‫نظام الحوليات؛ الترتيب الزمني للحداث عا ً‬
‫نقل الروايات؛ سواء كانت موافقة لرأيه أم ل‪ ،‬مع ذكر السند‬
‫موصول ً كما في الحديث‪.‬‬
‫العتماد على المصادر التي صّنفت قبله‪ ،‬وجمع الخبار وضبط‬
‫النصوص؛ فيذكر أحداث كل سنة في شكل أخبار‪ ،‬ويذكر للحادثة‬
‫ت مختلفة‪.‬‬
‫الواحدة روايا ٍ‬
‫الستطراد في ذكر السباب والتفصيلت المصاحبة‪ ،‬ووضع‬
‫العناوين للحداث؛ وخاصة الحداث المهمة‪ ،‬والتوسع في سيرة‬
‫الخلفاء؛ بإعطائهم أولوية خاصة وأهمية متميزة‪.‬‬
‫الكثار من الوثائق التاريخية؛ لذا اعتبر تاريخه أوثق مصادر‬
‫التاريخ السلمي‪ ،‬وتسجيل النصوص الدبية؛ كالشعر والخطابة‬
‫والرسائل والمحاورات ذات الصلة‪.1166‬‬

‫‪ 1163‬الخطيب البغدادي‪ :‬تاريخ بغداد ‪.2/163‬‬


‫‪ 1164‬محمد الزحيلي‪ :‬المام الطبري ‪ 207‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 1165‬محمد الزحيلي‪ :‬المام الطبري ص ‪ 238 -231‬باختصار وتصّرف‪.‬‬
‫‪ 1166‬ظهر السلم ‪ .2/204‬ويقول أحمد أمين‪ :‬وكتابه هذا‪ ،‬مع أنه تاريخي في أصله‪ ،‬فالقارئ له‬
‫يقف على ثروة كبيرة في الدب؛ لنه في حكايته للروايات المختلفة يقصها في لغة رصينة‬
‫بليغة‪ ،‬غاية في القوة"‪.‬‬
‫الحياد والواقعية؛ لورعه وتقواه ودقته‪ ،‬والجرأة في العرض؛‬
‫حيث عرض حوادث ل ُترضي العباسيين‪ ،‬وهم الخلفاء في عصره ‪.‬‬
‫‪1167‬‬

‫منهجه في الفقه‪:‬‬
‫كانت شخصية الطبري الفقهية أقوى وأشهر وأرسخ من‬
‫سر أو مؤّرخ‪ ،‬وقد عاش مع الفقه‪ ،‬ومارس الجتهاد‪،‬‬ ‫شخصيته كمف ّ‬
‫وأفتى الناس والوزراء والخلفاء‪ ،‬وبدأ حياته بتصنيف كتاب "اختلف‬
‫ل يكتب في الفقه ويدّرسه طيلة حياته‪ ،‬ولم يصّنف‬ ‫الفقهاء"‪ ،‬وظ ّ‬
‫ل السبب في هذه الصورة‬ ‫التفسير إل عندما قارب الستين ‪ ،‬ولع ّ‬
‫‪1168‬‬

‫الباهتة لشخصيته الفقهية فيما بعد‪ ،‬يرجع إلى انقراض تلميذه‪ ،‬وغياب‬
‫مذهبه الفقهي‪ ،‬بسبب قّلة أتباعه وخمولهم في حمله ونشره‪ ،‬ولك ّ‬
‫ن‬
‫ذلك ل يقّلل من أهمية فقه الطبري واجتهاده وآرائه وإمامته‪ ،‬حتى إ ّ‬
‫ن‬
‫لمة أبا العباس بن سريج قال عنه‪" :‬محمد بن جرير الطبري فقيه‬ ‫الع ّ‬
‫العاَلم"‪ ،1169‬والطبري حسب اصطلح ابن عابدين‪ :‬هو من طبقة‬
‫المجتهدين في الشرع‪ ،‬وهو مجتهد مستقل‪ ،‬استقل بوضع قواعد‬
‫لنفسه وأصول لجتهاده‪ ،‬ليبني عليها أقواله وفقهه"‪ ،1170‬كما ذكره‬
‫ده في جملة المجتهدين‬ ‫الشيرازي في "طبقات الفقهاء" وع ّ‬
‫ده من طبقات أصحاب المذهب الشافعي ‪،‬‬
‫‪1171‬‬
‫المستقلين‪ ،‬ولم يع ّ‬
‫دا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫مة المجتهدين‪ ،‬لم يقلد أح ً‬ ‫وقال عنه ابن خلكان‪" :‬وكان من الئ ّ‬
‫مَعافي على مذهبه" ‪.‬‬
‫‪1172‬‬
‫وكان أبو الفرج ال ُ‬
‫ددة للستنباط‪ ،‬ومنهج معين‬ ‫ولمذهبه الفقهي قواعد مح ّ‬
‫ص على المصادر‬‫دد الطبري منهجه وقواعده‪ ،‬ون ّ‬ ‫للستدلل؛ وقد ح ّ‬
‫التشريعية التي يعتمد عليها‪ ،‬ولكن كتب الطبري في أصول الفقه قد‬
‫قدت‪ ،‬ولم يصل إلينا منها شيء‪ ،‬ولم نضع أيدينا على التحديد‬‫فُ ِ‬
‫الصريح والكامل لصول مذهبه ومنهجه في الستنباط‪ ،‬وقواعده في‬
‫البيان والستدلل‪ ،1173‬ولكن يظهر لنا من كتبه المطبوعة )التفسير‬
‫والتاريخ وغيرها‪ (..‬أن أصول الحكام‪ ،‬ومصادر التشريع عند الطبري‬
‫هي‪ :‬القرآن الكريم‪ ،‬السنة‪ ،‬الجماع‪ ،‬القياس‪ ،‬اعتبار مقاصد الشريعة‬
‫بتحقيق مصالح الناس‪ ،‬العرف‪.1174‬‬
‫منهجه في الحديث‪:‬‬

‫‪ 1167‬ظهر السلم ‪.2/204‬‬


‫‪ 1168‬معجم الدباء ‪.18/42‬‬
‫‪ 1169‬طبقات الشافعية الكبرى ‪.3/123‬‬
‫‪ 1170‬انظر‪ :‬حاشية ابن عابدين ‪ ،1/77‬الفقه السلمي وأدلته ‪.1/47‬‬
‫‪ 1171‬الشيرازي‪ :‬طبقات الفقهاء ص ‪.93‬‬
‫‪ 1172‬ابن خلكان‪ :‬وفيات العيان ‪ ،3/332‬وانظر‪ :‬روضات الجنات ‪.7/292‬‬
‫‪ 1173‬محمد الزحيلي‪ :‬المام الطبري ص ‪.169‬‬
‫‪ 1174‬انظر بحث "الجانب الفقهي في تفسير الطبري" للدسوقي ص ‪ ،32 -31‬وبحث "فقه‬
‫الطبري" لقلعجي ص ‪.26‬‬
‫ويتضح منهج الطبري في كتابه تهذيب الثار؛ حيث رّتبه ترتيًبا‬
‫صا بحسب السانيد‪ ،‬وتناول كل حديث بتدقيق السند‪ ،‬وما في‬ ‫خا ً‬
‫المتن من الفقه‪ ،‬وذكر غريب اللفاظ‪ ،‬وغريب المعاني‪ ،‬وما يستنبط‬
‫من الحديث من الحكام الشرعية‪ ،‬وما يثور حوله من اختلف الفقهاء‪،‬‬
‫جهم وأدل ِّتهم‪ ،‬ومناقشة الدلة‪ ،‬وبيان القول الراجح‪ ،‬وبيان‬ ‫ج ِ‬
‫ح َ‬
‫مع إيراد ُ‬
‫جته فيما ذهب إليه‪.1175‬‬
‫ح ّ‬
‫مذهبه في المسألة‪ ،‬و ُ‬
‫دراسات عن الطبري‬
‫الطبري‪ :‬د‪ .‬أحمد محمد الحوفي‪.‬‬
‫الطبري‪ :‬عبد الله بن عبد العزيز المصلح‪.‬‬
‫دم‬
‫مق ّ‬
‫عمدة المؤّرخين‪ ،‬و ُ‬
‫المام الطبري شيخ المفسرين‪ ،‬و ُ‬
‫الفقهاء المحدثين‪ :‬د‪ .‬محمد الزحيلي‪.‬‬
‫موسوعة عباقرة السلم‪ :‬د‪ .‬رحاب خضر عكاوي‪.‬‬
‫نوابغ المسلمين‪ :‬مصطفى وهبة‪.‬‬
‫وفاته‬
‫ت ُوُّفي الطبري في يوم ‪ 26‬من شهر شوال سنة ‪ 310‬هق‪،‬‬
‫ة‪ ،‬وجزاه عن السلم‬
‫ة واسع ً‬
‫وعمره )‪ 86‬سنة(‪1176‬؛ فرحمه الله رحم ً‬
‫والمسلمين خير الجزاء‪.‬‬

‫انظر تهذيب الثار مسند علي بن أبي طالب ص ‪.13 -11‬‬ ‫‪1175‬‬

‫محمد الزحيلي‪ :‬المام الطبري ص ‪.33‬‬ ‫‪1176‬‬


‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في حياة المام‬
‫النووي‬
‫]‪631‬هق ‪676 -‬هق= ‪1277 -1233‬م[‬
‫هو "أبو زكريا‪ ،‬محيي الدين" يحيى بن شرف النووي‪ .‬ولد في‬
‫قرية نوى عام ‪631‬هق لبوين صالحين‪ ،‬ولما بلغ العاشرة من عمره‬
‫بدأ في حفظ القرآن وقراءة الفقه على بعض أهل العلم‪ .‬وفي سنة‬
‫م مع أبيه إلى دمشق لستكمال تحصيله العلمي في‬ ‫‪649‬هق قَد ِ َ‬
‫ن المدرسة الرواحية‪ ،‬وهي ملصقة‬ ‫مدرسة دار الحديث‪ ،‬وسك َ‬
‫ج مع أبيه ثم رجع إلى دمشق‪،‬‬‫للمسجد الموي‪ .‬وفي عام ‪ 651‬هق ح ّ‬
‫وهناك أكب على علمائها ينهل منهم ‪..‬‬
‫أخلقه وصفاته‬
‫كان المام النووي مهيًبا‪ ،‬قليل الضحك‪ ،‬عديم اللعب‪ ،‬يقول‬
‫الحق وإن كان مّرا‪ ،‬ل يخاف في الله لومة لئم‪ ،‬وكان الزهد والورع‬
‫سا‬
‫ب كتب التراجم أنه كان رأ ً‬ ‫أهم ملمح شخصيته؛ حيث أجمعَ أصحا ُ‬
‫في الزهد‪ ،‬قدوة في الورع‪ ،‬عديم النظير في مناصحة الحكام والمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وكان ~ ل يأكل في اليوم والليلة إل‬
‫أكلة واحدة بعد العشاء الخرة‪ ،‬وكان ل يأخذ من أحد شيئا‪ ،‬وكان‬
‫كثيًرا ما يكاتب المراء والوزراء‪ ،‬وينصحهم لما فيه خير البلد والعباد‪..‬‬
‫حياته العلمية‬
‫تميزت حياته العلمية بعد وصوله إلى دمشق بثلثة أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬الجد ّ في طلب العلم والتحصيل في أول نشأته وفي‬
‫شبابه‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬سَعة علمه وثقافته‪ ،‬وقد جمع إلى جانب الجد ّ في‬
‫الطلب غزارة العلم والثقافة المتعددة‪ ،‬فقد كان يقرأ ك َّ‬
‫ل يوم اثني‬
‫حا‪.‬‬
‫حا وتصحي ً‬
‫سا على المشايخ شر ً‬ ‫عشر در ً‬
‫الثالث‪ :‬غزارة إنتاجه‪ ،‬فقد بدأ به عام ‪ 660‬هق‪ ،‬أي في الثلثين‬
‫عصارة فكره‬ ‫من عمره‪ ،‬وقد بارك الّله له في وقته وأعانه‪ ،‬فأذاب ُ‬
‫ة العبارة‪،‬‬
‫س فيها سهول َ‬
‫في كتب ومؤلفات عظيمة ومدهشة‪ ،‬تلم ُ‬
‫ح الفكار‪ .‬وما زالت مؤلفاته حتى الن تحظى‬ ‫وسطوع َ الدليل‪ ،‬ووضو َ‬
‫باهتمام كل مسلم‪.‬‬
‫وكان النووي ل يضيع وقًتا في ليل أو نهار إل في الشتغال‬
‫بالعلم‪ ،‬حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه كان يشتغل في تكرار أو‬
‫مطالعة‪ ،‬وبقي على التحصيل على هذا الوجه نحو ست سنين؛ ثم‬
‫اشتغل بالتصنيف والمناصحة للمسلمين وولتهم‪ ،‬مع ما هو عليه من‬
‫المجاهدة لنفسه‪ ،‬والعمل بدقائق الفقه والجتهاد على الخروج من‬
‫خلف العلماء‪ ،‬وكان بعيد المراقبة لعمال القلوب وتصفيتها من‬
‫قا في‬‫ق ً‬
‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫السوء‪ ،‬يحاسب نفسه على الخطرة بعد الخطرة‪ ،‬وكان ُ‬
‫ظا لحديث رسول الله ‪ ‬عارًفا بأنواعه كلها‪،‬‬‫قا حاف ً‬
‫علمه وفنونه‪ ،‬مدق ً‬
‫من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه وصحيح معانيه واستنباط فقهه‪،‬‬
‫كما صرف أوقاته كلها في أنواع العلم والعمل؛ فبعضها للتصنيف‪،‬‬
‫وبعضها للتعليم‪ ،‬وبعضها للصلة‪ ،‬وبعضها للتلوة‪ ،‬وبعضها للمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫مد َد ٍ وجيزة‪ ،‬فنال‬
‫وكان سريع الحفظ؛ حفظ عدة كتب في ُ‬
‫ب أستاذه أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد المغربي‪ ،‬فجعَله‬ ‫إعجاب وح ّ‬
‫س بدار الحديث الشرفية‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫معيد الدرس في حلقته‪ .‬ثم دّر َ‬ ‫ُ‬
‫ذه علء الدين بن العطار – على لسان النووي ‪ -‬عن‬ ‫ث تلمي ُ‬
‫ّ َ‬ ‫د‬‫ح‬ ‫وقد‬
‫سا على‬ ‫َ‬ ‫فترة التحصيل والطلب‪ ،‬أنه كان يقرأ ك ّ‬
‫ل يوم اثني عشر در ً‬
‫حا‪ ،‬درسين في الوسيط‪ ،‬وثالًثا في المهذب‪،‬‬ ‫حا وتصحي ً‬
‫المشايخ شر ً‬
‫سا‬
‫سا في صحيح مسلم‪ ،‬ودر ً‬ ‫سا في الجمع بين الصحيحين‪ ،‬وخام ً‬ ‫ودر ً‬
‫ً‬
‫سا في أصلح المنطق لبن‬ ‫في اللمع لبن جّني في النحو‪ ،‬ودر ً‬
‫سا في أصول الفقه‪،‬‬ ‫سا في الصرف‪ ،‬ودر ً‬ ‫كيت في اللغة‪ ،‬ودر ً‬ ‫الس ّ‬
‫ب جميعَ‬ ‫سا في أصول الدين‪ ،‬وكان يكت ُ‬ ‫سا في أسماء الرجال‪ ،‬ودر ً‬ ‫ودر ً‬
‫ما يتعلق بهذه الدروس من شرح مشكل وإيضاح عبارة وضبط لغة‪.‬‬
‫وسمع منه خلق كثير من الفقهاء‪ ،‬وسار علمه وفتاويه في‬
‫الفاق‪ ،‬وانتفع الناس في سائر البلد السلمية بتصانيفه‪ ،‬وأكبوا على‬
‫تحصيل مؤلفاته ‪.‬‬
‫شيوخه‬
‫سمع النووي أبا الفرج عبد الرحمن بن أبى عمر‪ ،‬ومحمد بن‬
‫أحمد المقدسي وهو أجل شيوخه‪ ،‬وأبا إسماعيل بن أبى إسحاق‬
‫إبراهيم ابن أبى أليسر وأبا العباس أحمد بن عبد الدائم‪ ،‬وأبو البقاء‬
‫خالد النابلسي‪ ،‬وأبا محمد عبد العزيز بن عبد الله محمد بن عبد‬
‫المحسن النصاري‪ ،‬والضياء بن تمام الحيصي‪ ،‬والحافظ أبا الفضل‬
‫محمد بن محمد البكري‪ ،‬وأبا الفضائل عبد الكريم بن عبد الصمد‬
‫خطيب دمشق‪ ،‬وأبا محمد عبد الرحمن بن سالم ين يحيى البناري‪،‬‬
‫وأبا زكريا يحيى بن الفتح الصيرفي الحراني‪ ،‬وأبا إسحاق إبراهيم بن‬
‫على بن أحمد بن فاضل الواسطي وغيرهم‬
‫إسهاماته العلمية‬
‫ها‪:‬‬
‫النووي فقي ً‬
‫ظا للمذهب الشافعي وقواعده‬ ‫يقول ابن العطار‪" :‬كان حاف ً‬
‫وأصوله وفروعه‪ ،‬ومذاهب الصحابة والتابعين‪ ،‬واختلف العلماء‬
‫ووفاقهم وإجماعهم‪ ،‬وما اشتهر من ذلك جميعه وما هجر‪ ،‬سال ً‬
‫كا في‬
‫كلها طريقة السلف"‪.‬‬
‫النووي محدًثا‪:‬‬
‫دثون ووجدوا في‬ ‫كّلما جاءت فترة من الزمن جاء لها مح ّ‬
‫حا؛ وفي فترة‬‫حا أو تصحي ً‬ ‫دا‪ :‬استدرا ً‬
‫كا أو شر ً‬ ‫الحديث شغل ً جدي ً‬
‫ي‬
‫مّز ّ‬
‫جد َ أمثال ابن الصلح والنووي وال ِ‬
‫العصور السلمية الوسطى وُ ِ‬
‫والذهبي؛ وامتاز النووي من بينهم بأنه فقيه المة‪ ،‬وقلما اجتمع لعالم‬
‫تبحر في الفقه وإتقان لعلوم الحديث‪.1177‬‬
‫ويروي ابن العطار أن النووي سمع الصحيحين )البخاري‬
‫ما( وسنن أبي داود والترمذي‪ ،‬والنسائي‪ ،‬وموطأ مالك‪ ،‬ومسند‬ ‫ومسل ً‬
‫الشافعي‪ ،‬ومسند أحمد بن حنبل‪ ،‬والدارمي‪ ،‬وأبي عوانة‬
‫السفراييني‪ ،‬وأبي يعلى الموصلي‪ ،‬وسنن ابن ماجة‪ ،‬والدارقطني‪،‬‬
‫والبيهقي‪ ،‬وشرح السنة للبغوي‪ ،‬ومعالم التنزيل له في التفسير‪،‬‬
‫وكتاب النساب للزبير بن بكار‪ ،‬والخطب النباتية‪ ،‬ورسالة القشيري‪،‬‬
‫وعمل اليوم والليلة لبن السني‪ ،‬وكتاب آداب السامع والراوي‬
‫للخطيب‪ ،‬وأجزاء كثيرة غير ذلك‪ ..‬نقلت ذلك جميعه من خط الشيخ‬
‫~"‪.‬‬
‫النووي وفقه الحديث‪:‬‬
‫ما كان النووي يحبس علمه في الحديث في نطاق الرواية التي‬
‫مه في الحديث معرفة ما ذكره‬ ‫حد ِّثين‪ ،‬وإنما كان هَ ّ‬
‫م َ‬
‫هي كالنوافل لل ُ‬
‫ه‪ .‬وقد سمع‬ ‫قهِ ِ‬
‫في مقدمة شرحه لصحيح مسلم‪ ،‬ثم النصراف إلى فِ ْ‬
‫ي‪ ،‬وابن العطار‪..‬‬
‫مّز ّ‬‫منه الكثيرون؛ منهم أبو الفتح‪ ،‬وال ِ‬
‫النووي وعلم اللغة‪:‬‬
‫ل يقوى أحد ٌ على فهم الكتاب والسنة والتفقه بهما واستنباط‬
‫الحكام منهما‪ ،‬ويستوعب عبارات أئمة الدين من المتقدمين بل‬
‫المتأخرين‪ ،‬حتى يتقن العربية‪ :‬نحوها وصرفها واشتقاقها‪ ،‬ومعاني‬
‫مفرداتها‪ ،‬وهذا ما يراه النووي ويحث عليه‪ ،‬يقول ~ في مقدمة كتابه‬
‫عبد الغني الدقر‪ :‬المام النووي ص ‪.55‬‬ ‫‪1177‬‬
‫تهذيب السماء واللغات‪" :‬ول حاجة إلى الطالة في الحث عليها‪،‬‬
‫فالعلماء مجمعون على الدعاء إليها‪ ،‬بل شرطوها في المفتي والمام‬
‫العظم والقاضي لصحة الوليات‪ ،‬واتفقوا على أن تعلمها من فروض‬
‫الكفايات"‪.1178‬‬
‫وكتابا النووي "تحرير التنبيه"‪" ،‬تهذيب السماء واللغات" يدلن‬
‫على تمكن المام بعلم اللغة تمكًنا قل نظيره في نظرائه في عصره‪.‬‬
‫محاولة اشتغال النووي بالطب‪:‬‬
‫يقول النووي‪" :‬وخطر لي الشتغال بعلم الطب‪ ،‬فاشتريت‬
‫ي قلبي‪،‬‬ ‫القانون )لبن سينا( وعزمت على الشتغال فيه‪ ،‬فأظلم عل ّ‬
‫ما ل أقدر على الشتغال بشيء‪ ،‬ففكرت في أمري‪ :‬من أين‬ ‫وبقيت أّيا ً‬
‫ي الداخل‪ ،‬فألهمني الله أن اشتغإلى بالطب سببه‪ ،‬فبعت في‬ ‫دخل عل ّ‬
‫الحال الكتاب المذكور‪ ،‬وأخرجت من بيتي كل ما يتعلق بعلم الطب‬
‫ل"‪1179‬؛ ولع ّ‬
‫ل‬ ‫فاستنار قلبي ورجع إلى حالي‪ ،‬وعدت لما كنت عليه أو ً‬
‫الظلمة التي أصابت قلبه مرجعها إلى أنه لم يألف الطب‪ ،‬أو لعّله‬
‫استغلقت عليه مسائله‪ .‬ويجوز أن يكون النووي قد تأثر – في رغبته‬
‫ما – بعد الحلل‬ ‫دراسة الطب – بمقولة إمامه الشافعي‪" :‬ل أعلم عل ً‬
‫ل من الطب"‪.1180‬‬ ‫والحرام – أنب َ‬

‫أهم المناصب‬
‫باشر النووي التدريس في المدرسة القبإلية‪ ،‬نيابة عن ابن‬
‫خلكان إلى آخر سنة ‪669‬هق‪.1181‬‬
‫كما ناب النووي – أي صار نائًبا ‪ -‬في مدرستي الفلكية‬
‫والركنية‪.1182‬‬
‫وتولى النووي دار الحديث الشرفية في الفترة )‪676 -665‬هق(؛‬
‫وهي أشهر دار في بلد الشام لعلم الحديث‪ ،‬والمتعارف عليه أل يلي‬
‫صا علم الحديث‪ ،‬ومن لقب‬ ‫مشيختها إل عظيم وقته في العلم‪ ،‬وخصو ً‬
‫بشيخ دار الحديث‪ ،‬نال في العلم أجل اللقاب‪ ،‬وقد وليها قبل النووي‪:‬‬
‫تقي الدين بن الصلح‪ ،‬وشهاب الدين أبو شامة المقدسي‪.‬‬

‫النووي‪ :‬تهذيب السماء و اللغات‪.3 /1 ،‬‬ ‫‪1178‬‬

‫السخاوي ص ‪ ،7 ،6‬والتذكرة ‪.4/1470‬‬ ‫‪1179‬‬

‫انظر‪ :‬عبد الغني الدقر‪ :‬المام الشافعي ص ‪.273‬‬ ‫‪1180‬‬

‫ابن كثير‪ :‬البداية والنهاية ‪.279 /13‬‬ ‫‪1181‬‬

‫السابق نفسه‪.‬‬ ‫‪1182‬‬


‫وقال التاج السبكي‪ " :‬قال والدي‪ :‬إنه ما دخلها – أي دار‬
‫الحديث الشرفية – أعلم ول أحفظ من المزي‪ ،‬ول أورع من النووي‬
‫وابن الصلح"‪.1183‬‬
‫مؤّلفاته‬
‫عاش النووي )‪ 46‬سنة( فقط‪ ،‬ورغم هذا فقد ترك من‬
‫المؤلفات ما لو قسم على سني حياته لكان نصيب كل يوم‬
‫كراستين‪1184‬؛ فإذا علمنا أنه لم يبدأ العلم إل في سن )‪ 18‬سنة(‪ ،‬فأي‬
‫مضاء وأي عزيمة وقدرة وبركة في العمر آتاه الله إياها!!‬
‫ومن أشهر ما صّنف النووي‪:‬‬
‫شرح مسلم‪ :‬يبحث السند‪ ،‬واللغة وتسمية ما يجهل اسمه‪،‬‬
‫وشرح المعنى‪ ،‬وما يستنبط من الحديث‪ ،‬ومن قال بظاهر الحديث‬
‫ومن خالف وما حجته‪ ،‬مع فوائد كثيرة أخرى‪.‬‬
‫الروضة "روضة الطالبين"‪ :‬والروضة من الكتب الكبيرة‬
‫المعتمدة في المذهب الشافعي‪ ،‬اختصرها النووي من كتاب المام‬
‫الرافعي "الشرح الكبير"‪ ،‬وأثنى عليها الئمة‪.‬‬
‫المنهاج‪ :‬من أكثر كتب النووي تداو ً‬
‫ل‪ ،‬اختصره من "المحّرر"‬
‫للرافعي‪ ،‬وله فيه تصحيحات واختيارات‪.‬‬
‫رياض الصالحين‪ :‬لم يبلغ كتاب من كتب الحديث والوعظ من‬
‫النتشار والثقة ما بلغه هذا الكتاب‪ ،‬وشرحه العلمة محمد بن علي‬
‫الصديقي الشافعي في كتاب "دليل الفالحين لطريق رياض‬
‫الصالحين"‪.‬‬
‫الذكار‪ :‬ذكر فيه عمل اليوم والليلة‪ ،‬وزاد عليها أذكار المناسبات‬
‫مع كثير من الحكام المتناسبة مع الذكر‪.‬‬
‫كتب أخرى للنووي‪:‬‬
‫التبيان‪ ،‬تحرير التنبيه‪ ،‬تصحيح التنبيه‪ ،‬اليضاح في المناسك‪،‬‬
‫الرشاد‪ ،‬التقريب‪ ،‬الربعين‪ ،‬بستان العارفين‪ ،‬مناقب الشافعي‪،‬‬
‫مختصر أسد الغابة‪ ،‬الفتاوى‪ ،‬أدب المفتي والمستفتي‪ ،‬مختصر آداب‬
‫الستسقاء‪ ،‬رؤوس المسائل‪ ،‬تحفة طلب الفضائل‪ ،‬الترخيص في‬
‫الكرام والقيام‪ ،‬مسألة تخميس الغنائم‪ ،‬مختصر التذنيب‪ ،‬مسألة نية‬
‫الغتراف‪ ،‬دقائق المنهاج والروضة‪ ،‬التقريب والتيسير‪.‬‬
‫‪ 1183‬النعيمي‪ :‬الدارس في تاريخ المداري ‪.36 /6‬‬
‫‪ 1184‬والكراسة‪ :‬كتيب أو فصل في كتاب؛ تقول‪ :‬قرأت كراسة في كتاب سيبويه‪ ،‬حوإلي ‪40‬‬
‫صفحة‪.‬‬
‫وفاته‬
‫توفي سنة )‪676‬هق( بعد أن رجع إلى َنوى ورد ّ الكتب‬
‫المستعارة من الوقاف‪ ،‬وزار مقبرة شيوخه‪ ،‬فدعا لهم وبكى‪ ،‬وزار‬
‫ده وزار بيت المقدس والخليل‪ ،‬ثم‬ ‫أصحابه الحياء ووّدعهم‪ ،‬وزار وال َ‬
‫ة‬
‫عاد إلى نوى؛ فمرض بها‪ ،‬ومات في ‪ 24‬من رجب؛ فرحمه الله رحم ً‬
‫واسعة‪ ،‬وجزاه عن السلم والمسلمين خير الجزاء‪.‬‬

‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في حياة المام‬


‫ابن تيمية‬
‫] ‪728 - 661‬هق = ‪1328 - 1263‬م[‬
‫ميلده ونشأته وعصره‬
‫حّراني‪،‬‬
‫مّية‪ ،1185‬ال َ‬
‫هو أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن ت َي ْ ِ‬
‫حّران بدمشق في )الثنين ‪ 10‬من ربيع الول‬ ‫الدمشقي‪ .‬ولد ب ِ َ‬
‫‪661‬هق(‪ ،‬نشأ في بيت علم ٍ وفقهٍ ودين‪ ،‬فأبوه وأجداده وإخوته وكثير‬
‫من أعمامه كانوا من العلماء المشاهير‪ .‬ولما بلغ السابعة انتقل مع‬
‫والده إلى دمشق؛ هرًبا من التتار‪ ،‬وبدأ طلب العلم أول ً على أبيه‬
‫وعلماء دمشق‪ ،‬فحفظ القرآن صغيًرا‪ ،‬ودرس الحديث والفقه‬
‫ف بالذكاء وقوة الحفظ والّنجابة منذ صغره‪،‬‬ ‫والصول والتفسير‪ ،‬وع ُرِ َ‬
‫سع في دراسة العلوم والتبحر فيها‪ ،‬وقبل بلوغه الثلثين‬ ‫ثم تو ّ‬
‫ما يعترف له‬ ‫اجتمعت فيه صفات المجتهد وشروط الجتهاد‪ ،‬فصار إما ً‬
‫الجهابذة بالعلم والفضل والمامة‪.‬‬
‫مّية ~ على فترةٍ من المصلحين في تاريخ السلم‪،‬‬ ‫وجاء ابن ت َي ْ ِ‬
‫وكان المجتمع السلمي فيها قد وصل إلى صورة يعجز الواصف عن‬
‫َ‬
‫صل َ َ‬
‫ح الله‬ ‫مب َي ًّنا‪ ،‬حتى أ ْ‬
‫حا‪ ،‬و ُ‬ ‫تصويرها؛ فوقف الشيخ آمًرا وناهًيا‪ ،‬وناص ً‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ة وأهْلَها‪.‬‬‫سن ّ َ‬
‫صَر ب ِهِ ال ّ‬
‫على يديه الكثير من أوضاع المسلمين‪ ،‬ون َ َ‬
‫أخلقه نموذج للعلماء‬
‫ل بالعلم‪ ،‬واشت ُِهر‬
‫مشتغِ ٍ‬ ‫جا لك ّ‬
‫ل ُ‬ ‫كانت خصاله وأخلقه نموذ ً‬
‫بالمهابة والقوة في الحق‪ ،‬وكان كثير العبادة والذكر وقراءة القرآن‪،‬‬

‫دته‪ ،‬وقد سماها‬


‫ج ّ‬
‫مّية هو اسم َ‬
‫‪ 1185‬جاء في سبب تسميته عدة أقوال‪ ،‬خلصتها جميًعا‪ :‬أن ت َي ْ ِ‬
‫أبوها بذلك لشبهها لجارية صغيرة رآها بتيماء وهو يحج‪ ،‬وكانت جدته هذه واعظة‪ ،‬فنسب إليها‬
‫وعرف بها‪.‬‬
‫دا ل يكاد يملك شيًئا من متاع الدنيا‪ ،‬كما عرف بالصبر وقوة‬
‫عا زاه ً‬
‫ور ً‬
‫الحتمال في سبيل الله‪ ،‬وكان ذا فراسة‪ ،‬وكان مستجاب الدعوة‪.‬‬
‫جهاده ونصحه لتطبيق علمه‬
‫كان نصيب ابن تيمية من الذى والسجن وافًرا؛ فقد سجن في‬
‫مصر‪ ،‬ونفي إلى السكندرية‪ ،‬وكذلك سجن بالشام عدة مرات‪،1186‬‬
‫ومنذ عودته من منفاه سنة )‪709‬هق( وإلى حين عودته إلى دمشق‬
‫سنة )‪712‬هق( كان بصحبة ابن قلوون الذي سجنه أربع مرات بسبب‬
‫فتاواه وخلف العلماء معه‪ ،‬وتحريضهم ضده‪ ،‬ورغم ذلك أصدر ابن‬
‫قلوون خلل هذه الفترة القصيرة كثيًرا من الوامر والمراسيم التي‬
‫دا؛‬
‫دا شدي ً‬
‫جه إليها نق ً‬‫مّية قد و ّ‬ ‫عا فاسدة‪ ،‬كان ابن ت َي ْ ِ‬
‫أبطل بها أوضا ً‬
‫كالّرشوة‪ ،‬التي أصدر بن قلوون سنة )‪711‬هق( أمًرا بإلغائها‪ ،‬فتقرر‬
‫أن ل ُيوّلى أحد ٌ بمال ول برشوة‪ ،‬وهذا ما ع َل ّقَ عليه ابن كثير بقوله‪:‬‬
‫مّية"‪.1187‬‬
‫"وكان سبب ذلك الشيخ تقي الدين ابن ت َي ْ ِ‬
‫ويرجح "هنري لووست‪ "1188‬في ترجمته لكتاب "السياسة‬
‫مّية صّنفه ما بين )‪712 -709‬هق(‪،‬‬‫ن ابن ت َي ْ ِ‬
‫الشرعية" إلى الفرنسية‪ ،‬أ ّ‬
‫في أعقاب استدعاء ابن قلوون له من منفاه بالسكندرية‪ ،‬وبناًء على‬
‫طلبه كما فعل هارون الرشيد مع أبي يوسف‪ .‬ويرى "لووست"‬
‫بالستناد إلى ما كتبه ابن كثير في "البداية والنهاية" أن هناك مطابقة‬
‫واضحة بين الخطط المرسومة في كتاب "السياسة الشرعية"‬
‫لحات التي قام بها محمد‬ ‫لحات المقترحة فيه‪ ،‬والتدابير والص ً‬ ‫والص ً‬
‫بن قلوون في هذا الوقت‪.‬‬

‫أشهر تلميذه‬
‫‪ -1‬المام الجليل شمس الدين ابن قيم الجوزّية )‪751-691‬هق(؛‬
‫فا(؛ أشهرها‪ :‬زاد المعاد‪،‬‬
‫الذي ذكر البعض أن مؤلفاته بلغت )‪ 98‬مؤل ً‬
‫ومدارج السالكين‪ ،‬وهداية الحيارى في أجوبة إليهود والنصارى‪ ،‬وإغاثة‬
‫اللهفان من مصايد الشيطان‪.‬‬
‫‪ -2‬المام الجليل أبو عبد الله شمس الدين الذهبي )‪-673‬‬
‫دا(‪ ،‬وميزان‬
‫‪748‬هق(؛ من أشهر مؤلفاته‪ :‬سير أعلم النبلء )‪ 25‬مجل ً‬
‫قّراء‪ ،‬وطبقات الحفاظ‪ ،‬وتراجم العيان‪.‬‬ ‫العتدال‪ ،‬وطبقات ال ُ‬
‫‪ 1186‬إبراهيم محمد العلي‪ :‬شيخ السلم ابن تيمية ص ‪.296‬‬
‫‪ 1187‬ابن كثير‪ :‬البداية والنهاية ‪.14/75‬‬
‫مّية‪ ،‬وأكثر‬
‫‪ 1188‬هنري لووست‪ :‬مستشرق فرنسي ي َُعد أهم من تخصصوا في ابن ت َي ْ ِ‬
‫المستشرقين إنصاًفا له‪ ،‬قضى أكثر من ثلثين سنة في دراسة عصر الممإليك‪ ،‬والحنابلة‪ ،‬وابن‬
‫م له مقدمة قيمة‪ ،‬وله‬ ‫م كتاب "السياسة الشرعية" إلي الفرنسية‪ ،‬وقَد ّ َ‬ ‫ج َ‬
‫مّية بوجه خاص‪ ،‬وت َْر َ‬
‫ت َي ْ ِ‬
‫مّية"‪.‬‬ ‫ي‬
‫َْ ِ‬ ‫ت‬ ‫ابن‬ ‫منهج‬ ‫في‬ ‫السلم‬ ‫"شرائع‬ ‫بعنوان‪:‬‬ ‫دراسة‬
‫‪ -3‬أبو الفداء إسماعيل بن كثير )‪774 -701‬هق(؛ من أشهر‬
‫مؤلفاته‪ :‬البداية والنهاية‪ ،‬وتفسير القرآن العظيم‪ ،‬والباعث الحثيث‬
‫في اختصار علوم الحديث‪ ،‬والتكميل في الجرح والتعديل‪.‬‬
‫ضا محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي‪ ،‬وأبو‬ ‫ومنهم أي ً‬
‫العباس أحمد بن الحسن المشهور بقاضي الجبل‪ ،‬وزين الدين عمر‬
‫حّراني‪ ،‬وأبو عبد الله محمد‬
‫الشهير بابن الوردي‪ ،‬وأبو حفص عمر ال َ‬
‫بن مفلح‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫إسهاماته العلمية‬
‫مّية من المؤلفين الذين لهم تأثير كبير على أهل‬‫"إن ابن ت َي ْ ِ‬
‫سّنة" ‪ ،‬وله‬
‫‪1189‬‬
‫السلم من الزمان الغابر إلى الن وخاصة على أهل ال ّ‬
‫تراث ضخم ثمين‪ ،‬ل يزال العلماء والباحثون ينهلون منه معيًنا صافًيا‪،‬‬
‫من مؤلفات ورسائل وفتاوى ومسائل وغيرها‪ ،‬هذا من المطبوع‪ ،‬وما‬
‫بقي مجهول ً ومكنوًزا في عالم المخطوطات فكثير‪.‬‬
‫صعوبة استقصاء مؤلفاته‬
‫فا(؛‬
‫مّية )‪ 337‬مصن ً‬
‫ذكر ابن القيم من مؤلفات الشيخ ابن ت َي ْ ِ‬
‫دة‪ ،‬جعلت من الصعوبة بمكان حصر أسماء مؤلفات‬ ‫وهناك أسباب ع ّ‬
‫مّية‪ ،‬من أهمها‪:‬‬
‫ابن ت َي ْ ِ‬
‫تتابع الفتن والمتحانات التي تعّرض لها الشيخ‪.‬‬
‫كان الشيخ يكتب الجواب لمن سأله‪ ،‬فإن وجد من ينقل‬
‫الجواب ويبيضه‪ ،‬وإل أخذ السائل الجواب وذهب‪.1190‬‬
‫وف أصحاُبه من‬‫خ ّ‬ ‫ت ُ‬
‫كتبه‪ ،‬وت َ َ‬ ‫فّرقَ ْ‬
‫حِبس‪ ،‬فَت َ َ‬
‫ما ُ‬ ‫فّرقُ أ َت َْبا ِ‬
‫عه ل َ ّ‬ ‫تَ َ‬
‫رق‬‫س ِ‬
‫هب البعض‪ ،‬و ُ‬ ‫ل بما عنده‪ ،‬وِبيع البعض‪ ،‬ووُ ِ‬ ‫إظهارها؛ فذهب ك ّ‬
‫في الكثير‪ ،‬ولم يقدر الشيخ على تحصيلها مرة أخرى‪..‬‬ ‫البعض‪ ،‬وأ ُ ْ‬
‫خ ِ‬
‫صوِدرت كتب الشيخ وهو في السجن‪ ،‬فَت َوَّزع ََها أعداؤه‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫وخصومه؛ فمنها ما جحدوه وأتلفوه‪ ،‬ومنها ما أجِبروا على َرّده إلى‬
‫أخيه زين الدين‪.‬‬
‫ل أعداؤه فيما بعد وفاته‪ ،‬جهوًدا كبيرة وأموال ً طائلة لشراء‬
‫ب َذ َ َ‬
‫مؤلفاته لتلفها‪.‬‬
‫وقد حاولت بعض المصادر استقصاء مصنفات الشيخ‪ ،‬منها‬
‫محاولته هو في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب‬

‫الندوة العالمية عن شيخ السلم ص ‪.207‬‬ ‫‪1189‬‬

‫ابن عبد الهادي‪ :‬العقود الدرية في مناقب شيخ السلم ابن تيمية ص ‪.65‬‬ ‫‪1190‬‬
‫فا(‪ ،‬وأحصى بعضهم مصنفات الشيخ‬
‫الجحيم"‪ ،‬وقد أحصى )‪ 702‬مصن ً‬
‫فا(‪.1191‬‬
‫فكانت )‪ 923‬مصن ً‬
‫مؤّلفاته‬
‫من مؤّلفاته في التفسير‪ :‬رسالة في منهاج التفسير وكيف‬
‫يكون‪ ،‬تفسير سورة الخلص‪ ،‬جواب أهل العلم واليمان بتحقيق ما‬
‫ن }قل هو الله أحد{ تعدل ثلث القران‪،‬‬
‫أخبر به رسول الرحمن من أ ّ‬
‫تفسير المعوذتين‪..‬‬
‫ومن مؤلفاته في العقائد‪ :‬اليمان‪ ،‬الستقامة‪ ،‬اقتضاء الصراط‬
‫المستقيم‪ ،‬الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان‪ ،‬رسالة في‬
‫سل والوسيلة‪ ،‬الرسالة الحموية‪ ،‬الرسالة‬ ‫علم الباطن والظاهر‪ ،‬التو ّ‬
‫دل دين‬
‫التدمرية‪ ،‬العقيدة الواسطية‪ ،‬الجواب الصحيح فيمن ب ّ‬
‫المسيح‪ ،‬معتقدات أهل الضلل‪ ،‬معارج الوصول‪ ،‬السؤال عن العرش‪،‬‬
‫بيان الفرقة الناجية‪ ،‬درء تعارض العقل والنقل‪ ،‬منهاج السنة النبوية‪،‬‬
‫إبطال قول الفلسفة بإثبات الجواهر العقلية‪ ،‬شرح حديث النزول‪،‬‬
‫نقض المنطق‪ ،‬الّرد ّ على المنطقيين‪ ،‬رفع الملم عن الئمة العلم‪،‬‬
‫مّية عن كتاب فصوص‬ ‫الواسطة بين الحق والخلق‪ ،‬فتوى ابن ت َي ْ ِ‬
‫الحكم‪..‬‬
‫دا(‪ ،‬الفتاوى‬
‫ومن مؤلفاته في الفقه‪ :‬مجموع الفتاوى )‪ 35‬مجل ً‬
‫الكبرى )‪ 6‬مجلدات(‪ ،‬رسالة القياس‪ ،‬القواعد‪ ،‬رسالة الحسبة‪ ،‬المر‬
‫بالمعروف‪ ،‬العقود‪ ،‬المظالم المشتركة‪ ،‬حقيقة الصيام‪..‬‬
‫وله مجموعة من القصائد؛ من أشهرها‪ :‬ياسائلي عن مذهبي‬
‫وعقيدتي‪ ،‬والقصيدة التائية‪.‬‬

‫غزارة عطائه العلمي‬


‫مّية ~‪ ،‬يعجز الكثيرون‬ ‫إن ما قام بتصنيفه شيخ السلم ابن ت َي ْ ِ‬
‫عن القيام به مجتمعين‪ ،‬فيقول الحافظ البّزار ~ عن مؤلفات ابن‬
‫ما مؤلفاته ومصنفاته‪ ،‬فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها‪،‬‬ ‫مّية‪" :‬وأ ّ‬
‫ت َي ْ ِ‬
‫أو يحضرني جملة أسمائها‪ ،‬بل هذا ل يقدر عليه – غالًبا‪ -‬أحد؛ لنها‬
‫دا‪ ،‬وكباًرا وصغاًرا‪ ،‬وهي منشورة في البلدان‪ ،‬فق ّ‬
‫ل بلد نزلته‬ ‫كثيرة ج ً‬
‫إل ورأيت فيه من تصانيفه" ‪ ،‬وقال المام البرزإلي‪" :‬إن تصانيفه في‬
‫‪1192‬‬

‫هذا الوقت أربعة آلف كراس أو أكثر"‪.1193‬‬

‫مّية رجل الص ً‬


‫لح والدعوة ص ‪.376‬‬ ‫إبراهيم محمد العلي‪ :‬شيخ السلم ابن ت َي ْ ِ‬ ‫‪1191‬‬

‫أبو حفص البزار‪ :‬العلم العلية في مناقب ابن تيمية ص ‪.53‬‬ ‫‪1192‬‬

‫ابن شاكر الكتببي‪ :‬فوات الوفيات عن المنجد ص ‪.62 -61‬‬ ‫‪1193‬‬


‫ول شك أن توفيق الله تعالى وفضله أول ً وآخًرا‪ ،‬كانا يصاحبانه‪،‬‬
‫علوة ً على السباب الفطرية والمكتسبة التي توافرت فيه‪ ،‬ومن هذه‬
‫السباب‪:‬‬
‫البدء بالتأليف في سن مبكرة‪:‬‬
‫مّية‪ ..." :‬وأفتى وله تسع‬‫يقول الحافظ الذهبي ~ عن ابن ت َي ْ ِ‬
‫عشرة سنة‪ ،‬بل أقل‪ ،‬وشرع في الجمع والتصنيف منذ ذلك الوقت‪،‬‬
‫ب على الشتغال"‪ ،1194‬ويقول ابن رجب الحنبلي ~‪" :‬شرع الشيخ‬ ‫وأك َ ّ‬
‫في الجمع والتصنيف من دون العشرين‪ ،‬ولم يزل في علوّ وازدياد من‬
‫ما(‪،‬‬
‫العلم والقدر إلى آخر عمره"‪1195‬؛ فإذا كان الشيخ قد عاش )‪ 67‬عا ً‬
‫واشتغل بالتأليف في تلك السن المبكرة‪ ،‬فهذا يعني أنه ظل ي ُؤ َّلف ما‬
‫يقرب من نصف قرن؛ مما يبرر كثرة مؤلفاته‪.‬‬
‫غزارة علومه ومعارفه‪:‬‬
‫م بفنون الثقافة في عصره في وقت‬ ‫استطاع الشيخ أن ي ُل ِ ّ‬
‫مبكر‪ ،‬ساعده في ذلك حافظة خارقة‪ ،‬فقد كان يحفظ كل ما يقع‬
‫دا‪ ،‬ل يضيع منه شيًئا‪،‬‬
‫صا على الوقت ج ّ‬
‫تحت عينيه‪ ،‬وكان مع ذلك حري ً‬
‫ف عن الدراسة والقراءة والبحث والتأليف طول عمره وفي‬ ‫ولم يك ّ‬
‫مختلف أحواله‪.1196‬‬
‫ده الله‬
‫وقد مهر في سائر العلوم التي عرفت في عصره‪" ،‬وأم ّ‬
‫ب‪ ،‬وسرعة الحفظ‪ ،‬وقوة الدراك والفهم‪ ،‬وبطء النسيان؛‬ ‫بكثرة الك َت ْ ِ‬
‫حتى قال غير واحد من أهل العلم‪ :‬إنه لم يكن يحفظ شيًئا‬
‫فينساه"‪.1197‬‬
‫وشهد له معاصروه بذلك؛ قال الحافظ ابن سيد الناس ~‪:‬‬
‫ظا‪ ،‬وكاد يستوعب السنن والثار‬ ‫"ألفيته ممن أدرك من العلوم ح ً‬
‫ظا‪ ،‬وإن تكّلم في التفسير فهو حامل رايته‪ ،‬أو أفتى في الفقه فهو‬ ‫حف ً‬
‫مدرك غايته‪ ،‬أو ذكر في الحديث فهو صاحب علمه وذو روايته‪ ،‬أو‬
‫حاضر بالملل والنحل لم ي َُر أوسع من نحلته في ذلك ول أرفع من‬
‫من رآه مثله‪ ،‬ول‬ ‫ن َ‬
‫ن على أبناء جنسه‪ ،‬ولم ت ََر عي ُ‬ ‫رايته‪ ،‬برز في كل ف ّ‬
‫رأت عينه مثل نفسه" ‪.‬‬
‫‪1198‬‬

‫سرعته في الكتابة والتأليف‪:‬‬

‫ابن عبد الهادي‪ :‬العقود الدرية ص ‪.4‬‬ ‫‪1194‬‬

‫ابن رجب الحنبلي‪ :‬ذيل طبقات الحنابلة ‪.388 /2‬‬ ‫‪1195‬‬

‫شاكر الكتبي‪ :‬فوات الوفيات ‪.64 /1‬‬ ‫‪1196‬‬

‫ابن العماد الحنبلي‪ ،‬شذرات الذهب‪.81 /6 :‬‬ ‫‪1197‬‬

‫ابن حجر العسقلني‪ ،‬الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة‪.154 /1 :‬‬ ‫‪1198‬‬
‫قال تلميذه ابن القيم ~‪" :‬إنه كان يحّرر أربعين فتوى في‬
‫ساعة"‪ ،‬وقال الحافظ الذهبي ~‪" :‬ويكتب في اليوم والليلة من‬
‫التفسير أو من الفقه أو من الصلين أو من الرد على الفلسفة‬
‫ن تصانيفه إلى الن‬
‫وا من أربعة كراريس أو أزيد‪ ،‬وما يبعد أ ّ‬
‫الوائل نح ً‬
‫تبلغ خمسمائة مجلد‪ ،‬وله في غير مسألة مصنف مفرد في‬
‫مجلدة"‪.1199‬‬
‫ومن المثلة التي ذكرت في سرعته في الكتابة‪ ،‬يقول ابن عبد‬
‫الهادي وابن سيد الناس عن شيخ السلم‪" :‬كتب الرسالة الحموية‬
‫)سنة ‪698‬هق( في قعدةٍ بين الظهر والعصر‪" ،"1200‬وكتب الرسالة‬
‫الواسطية في قعدة بعد العصر"‪ ،1201‬وذكر ابن عبد الهادي‪" :‬كان يكتب‬
‫فا في يوم"‪.1202‬‬ ‫مجل ّ ً‬
‫دا لطي ً‬
‫منهجه العلمي‬
‫وكان للشيخ منهج محدد واضح لم يتخ ّ‬
‫ل عنه‪ ،‬ويتلخص فيما‬
‫يلي‪:1203‬‬
‫‪ -1‬العتماد على الكتاب والسنة وأقوال السلف‪ :‬يقول ابن‬
‫مّية في هذا‪" :‬فقد وجب على كل مسلم تصديقه ‪ ‬فيما أخبر به‬ ‫ت َي ْ ِ‬
‫عن الله ‪ ‬من أسماء الله وصفاته مما جاء في القرآن وفي ال ّ‬
‫سّنة‬
‫الثابتة عنه‪ ،‬كما كان عليه السابقون الّولون من المهاجرين والنصار‬
‫والذين اتبعوهم بإحسان"‪.1204‬‬
‫‪ -2‬الستدلل العقلي فيما يستطيع العقل الحاطة به‪ :‬وتلك من‬
‫مّية؛ فمع توقيره العظيم للنصوص ل‬ ‫صور التوازن العجيبة عند ابن ت َي ْ ِ‬
‫يهمل العقل ول يزدريه‪ ،‬بل يرى أن العقل السليم لبد أن يوافق‬
‫النقل الصحيح‪ ،‬وأن الدين يأتي بما تحار منه العقول ل بما ُتحيله‪ ،‬أي‬
‫ل؛ وهو مع هذا التوقير للعقل ل يقدسه‪ ،‬بل يرى أن له‬ ‫تراه مستحي ً‬
‫قدرة محدودة ينطلق فيها كما يشاء‪ ،‬ويعجز عن إدراك بعض قضايا‬
‫الدين‪.‬‬
‫‪ -3‬حرصه الشديد على ضبط المصطلحات‪ :‬وهو يعتني بذلك‬
‫ن كثيًرا من خلف السلف خلف تنوع ل خلف‬ ‫أشد العناية ويرى أ ّ‬
‫تضاد أي أنهم يختلفون لفظًيا فقط‪ ،‬كما أن المتأخرين يستخدمون‬
‫مصطلحات محدثة فيها الحق والباطل ثم ينفونها ليتوصلوا بها إلى‬
‫نفي معنى صحيح‪.‬‬
‫تاريخ ابن الوردي‪ ،407 -406 /2 :‬فوات الوفيات‪ :‬عن المنجد ص ‪.63‬‬ ‫‪1199‬‬

‫العقود الدرية‪ :‬ص ‪ ،67 ،64‬فوات الوفيات عن المنجد ص ‪.66‬‬ ‫‪1200‬‬

‫ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى‪ ،164 /3 :‬والعقود الدرية‪ :‬ص ‪.311‬‬ ‫‪1201‬‬

‫ابن تيمية‪ :‬العقود الدرية‪ :‬ص ‪.64‬‬ ‫‪1202‬‬

‫إبراهيم محمد العلي‪ :‬شيخ السلم ابن تيمية ص ‪.364 -360‬‬ ‫‪1203‬‬

‫ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى‪.68 /19 :‬‬ ‫‪1204‬‬


‫‪ -4‬العتماد على اللغة الصحيحة‪ :‬فالشيخ يعتمد على اللغة كما‬
‫كانت عند العرب المتقدمين‪ ،‬ويميز بعبقريته بين معاني اللفاظ في‬
‫أصل وضعها واستخدام المتأخرين لها‪.‬‬
‫جة خصم‪ ،‬فإنه يعتمد‬‫‪ -5‬النقل الموثوق‪ :‬فهو عندما يريد محا ّ‬
‫ما المنقول شفهًيا عن الخصم من مصادر‬ ‫ما المكتوب‪ ،‬وإ ّ‬‫على كلمه‪ ،‬إ ّ‬
‫ق بها؛ ولذلك نجده في كثيرٍ من كتبه في الرد على الخصوم‪،‬‬ ‫موثو ٍ‬
‫صه وبأمانة ول يتدخل فيه حتى ينتهي من‬ ‫يذكر أول ً كلم الخصم بن ّ‬
‫علله‪ ،‬وهذه الطريقة جعلت من كتبه‬ ‫سرده‪ ،‬ثم يبدأ في نقده وبيان ِ‬
‫ما موثوًقا به في الفرق‪ ،‬وخاصة تلك التي لم يأتنا شيء من‬ ‫مرجًعا مه ً‬
‫مؤّلفات زعمائها كالكلبية‪.‬‬
‫ت‬‫ل‪ ،‬وكيف َزل ّ ْ‬ ‫ض ّ‬
‫‪ -6‬التأصيل‪ :‬وهو يذكر أسباب ضلل من َ‬
‫ذة‪ ،‬ويتتّبع التسلسل‬ ‫أقدامهم‪ ،‬وجذور انحرافهم‪ ،‬ويتتبعها بعبقرية ف ّ‬
‫ي للنصوص والسانيد‪ ،‬مع‬ ‫التاريخي لنحراف المنحرفين‪ ،‬مع نقد ٍ داخل ّ‬
‫طراد ٍ في‬ ‫نقد ٍ بّناء يبطل الباطل‪ ،‬ويحقّ الحقّ في أنصع صوره‪ ،‬مع ا ّ‬
‫ن له طريقته الخاصة في نقد‬ ‫م‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ج ّ‬
‫المنهج ل يحيد عنه‪ ،‬وأدب َ‬
‫المتكلمين؛ التي أخذت من جهده ووقته وكتبه الشيء الكثير‪ ،‬ويبدو‬
‫أنه فعل ذلك لّنه يرى أنهم أكثر الناس أنصاًرا‪ ،‬بينما تقّلصت‬
‫المدارس الخرى أو انقرضت نهائًيا‪ .‬وكان في منهجه لنقدهم ل‬
‫مة تسلكهم في نظام واحد‪ ،‬بل كان يميز بينهم‪،‬‬ ‫ما عا ّ‬
‫يعطي أحكا ً‬
‫ل نقد كل متكلم منهم بعينه‪ ،‬لنه رأى أن كل فرد منهم قد‬ ‫ض ُ‬
‫ف ّ‬
‫وي ُ َ‬
‫يكون له آراء ل يشاركه فيها الخرون‪ ،‬فمن الظلم والحالة هذه‬
‫ضا في نقده لهم يراعي حال‬ ‫مؤاخذتهم بما قاله بعضهم‪ ،‬كما كان أي ً‬
‫الشخص الواحد‪ ،‬فهو على سبيل المثال ل يهاجم الشعري بما كتبه‬
‫في فترة العتزال‪.‬‬

‫أقواله في باب العلم‬


‫ما نق ٌ‬
‫ل‬ ‫مّية في باب العلم أقوال جامعة؛ منها‪" :‬العلم إ ّ‬ ‫ولبن ت َي ْ ِ‬
‫موُْروثة عن‬‫ق" ‪" ،‬المامة في الدين َ‬
‫‪1205‬‬
‫ق ٌ‬
‫ح ّ‬
‫م َ‬ ‫ستدل ٌ‬
‫ل ُ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫دق‪ ،‬وإ ّ‬‫ص ّ‬
‫م َ‬
‫ُ‬
‫ن لذة العلم أعظم اللذات‪ ،‬واللذة التي‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ريب‬ ‫"ل‬ ‫‪،‬‬ ‫‪1206‬‬
‫وإليقين"‬ ‫الصبر‬
‫تبقى بعد الموت‪ ،‬وتنفع في الخرة هي لذة العلم بالله والعمل له‪،‬‬
‫ل السبيل‪ ،‬ول دليل إل بما‬ ‫وهو اليمان به"‪" ،1207‬من فارق الدليل ض ّ‬

‫مجموع الفتاوى‪.344 /13 :‬‬ ‫‪1205‬‬

‫السابق نفسه‪.10/38 :‬‬ ‫‪1206‬‬

‫السابق نفسه‪.162 /14 :‬‬ ‫‪1207‬‬


‫جاء به الرسول"‪" ،1208‬حصول العلم في القلب كحصول الطعام في‬
‫الجسم‪ ،‬يحس بالطعام والشراب‪ ،‬وكذلك القلوب تحس بما ت ُن ْزِ ُ‬
‫ل‬
‫إليها من العلوم التي هي طعامها وشرابها"‪" ،1209‬ل ُينال الهدى إل‬
‫بالعلم‪ ،‬ول ينال الرشاد إل بالصبر"‪.1210‬‬
‫منهجه في مؤلفاته‬
‫مّية‪ ،‬التي تبرز شخصيته ومنهجه‬
‫بالنظر في مؤلفات ابن ت َي ْ ِ‬
‫بشكل واضح‪ ،‬نخلص إلى هذا المنهج في نقاط ‪:‬‬
‫‪1211‬‬

‫الرتباط بالحياة والواقع من خلل ع َْيش الحداث وتسجيلها‬


‫ومناقشتها‪ ،‬ووضع الرأي السديد والصائب فيه؛ مما أكسب كتبه‬
‫قا في النفوس‪ ،‬ويندر أن تجد ذلك‬
‫ة وتأثيًرا عمي ً‬
‫ومصنفاته قوة ً وحيوي ً‬
‫في كتب غيره من المؤلفين‪.‬‬
‫جة‬
‫ح ّ‬
‫استعماله السلوب العلمي في إقناع الخصوم‪ ،‬وإلزامهم ال ُ‬
‫من خلل الحتجاج عليهم بكلم أئمتهم‪ ،‬واستخدام أساليبهم الجدلية‬
‫والمنطقية مما يضيق دائرة المناظرة على الخصم‪.‬‬
‫الوضوح فهي في أغلب الحيان ردود على مجادلت‪ ،‬أو نقد‬
‫لنواٍح واجتهادات شرعية‪.‬‬
‫السلوب الموسوعي في جمع أطراف الفكرة الواحدة؛ مما‬
‫أكسب مؤلفاته ميزة خاصة تجعل قارئها يستغني بما فيها من‬
‫ب كثيرة‪ ،‬بل عن مكتبة ضخمة‪.‬‬‫معلومات قيمة عن كت ٍ‬
‫الكثار من النقل عن الئمة؛ مما أكسب مؤلفاته القوة‬
‫والصالة‪ ،‬ثم إلحاقه هذه النقول بتعليقاته وإيضاحاته‪ ،‬مع بيان المنزلة‬
‫العلمية التي كان يتمتع بها هذا المام الذي نقل عنه‪.‬‬
‫طلعه المدهش على الخلفيات‪ ،‬ودراساته‬‫ُتبرز هذه المؤلفات ا ّ‬
‫المقارنة للمسائل التي يعرضها؛ مما جعل أحكامه أقرب إلى السلمة‬
‫الكاملة‪ ،‬والدقة المتناهية‪ ،‬وندرة الخطأ‪.‬‬
‫خلو منهجه من الجفاف والتعقيد في عرض القضايا الفقهية؛‬
‫لنها سمة سيطرت على مؤلفات المتأخرين في الجانب الفقهي؛‬
‫فلما ابتعد عنها في مصنفاته الفقهية‪ ،‬أعطى الفقه دفعة قوية‪ ،‬وقبول ً‬
‫في نفوس الناس‪.‬‬
‫‪ 1208‬مفتاح دار السعادة‪.304 /1 :‬‬
‫‪ 1209‬مجموع الفتاوى‪.41 /4 :‬‬
‫‪ 1210‬السابق نفسه‪.40 /10 :‬‬
‫مّية رجل الص ً‬
‫لح والدعوة‪ ،‬سلسلة أعلم‬ ‫‪ 1211‬إبراهيم محمد العلي‪ :‬شيخ السلم أحمد بن ت َي ْ ِ‬
‫المسلمين )‪ ،(79‬دار القلم‪ -‬دمشق‪ ،‬الطبعة الولى ‪1421‬هق= ‪2000‬م ص ‪363 -360‬‬
‫بتصرف يسير ‪.‬‬
‫المانة العلمية وتحّري الدقة في النقل‪ ،‬والنقل بالنص مع العزو‬
‫للمصدر والقائل‪.‬‬
‫الستطراد في النقل أحياًنا‪ ،‬لحاجة تدعو إلى ذلك؛ كشرح أو‬
‫توضيح أو تفريع‪..‬‬
‫التجرد للحق وقبوله واتباعه الموضوعية والعدالة مع‬
‫المخالفين‪ ،‬وذكر جوانبهم اليجابية‪.‬‬
‫التكرار وإعادة البحث للموضوع الواحد ففي بعض تصانيفه يكاد‬
‫ينقل كثيًرا مما قال في مواطن أخرى‪ ،‬ولع ّ‬
‫ل ذلك ناتج من حرصه‬
‫على التأكيد على أهمية الموضوع الذي يبحثه‪.‬‬
‫سعة أفقه واطلعه المدهش على مختلف العلوم والفنون في‬
‫عصره‪.‬‬
‫سرعة بديهته‪ ،‬وقوة استحضاره للدليل؛ حتى قال الحافظ‬
‫عا لليات الدالة على المسألة‬
‫الذهبي متعجًبا‪" :‬ما رأيت أسرع انتزا ً‬
‫التي يوردها منه" ‪.‬‬
‫‪1213 1212‬‬

‫مّية‬
‫دراسات عن ابن ت َي ْ ِ‬
‫مّية وعلمه ومنهجه ونظرياته عدد كبير من‬ ‫ك ُت ِ َ‬
‫ب عن ابن ت َي ْ ِ‬
‫الرسائل العلمية والكتب والمقالت‪ ،‬منها‪:‬‬
‫مّية في السياسة والجتماع؛ للمستشرق‬
‫نظريات ابن ت َي ْ ِ‬
‫الفرنسي هنري لوست‪.‬‬
‫مّية لهنري لوست‪.‬‬
‫شرائع السلم في منهج ابن ت َي ْ ِ‬
‫مّية للدكتور عبد الرحمن النحلوي‪.‬‬
‫ابن ت َي ْ ِ‬
‫مّية للدكتور محمد يوسف موسى‪.‬‬
‫ابن ت َي ْ ِ‬
‫مّية لمحمد بهجة البيطار‪.‬‬
‫حياة شيخ السلم ابن ت َي ْ ِ‬
‫مّية خلل سبعة قرون لمحمد‬
‫الجامع لسيرة شيخ السلم ابن ت َي ْ ِ‬
‫العمران‪.‬‬
‫مّية السلفي للدكتور محمد خليل هراس‪.‬‬
‫ابن ت َي ْ ِ‬
‫مّية العالم الجريء لعبد المنعم الهاشمي‪.‬‬
‫ابن ت َي ْ ِ‬
‫‪ 1212‬الدرر الكامنة‪.1/160 :‬‬
‫‪ 1213‬محمد أبو زهرة‪ :‬ابن تيمية ص ‪ ،524 -521‬الندوي‪ :‬ابن تيمية ص ‪ ،139 -133‬مقدمة‬
‫الحموية‪ :‬ص ‪.79 -72‬‬
‫مّية والتصوف للدكتور مصطفى حلمي‪.‬‬
‫ابن ت َي ْ ِ‬
‫مّية والتنظير السياسي للدكتور عبد الحكيم الفيتوري‪.‬‬
‫ابن ت َي ْ ِ‬
‫مّية وموقفه من قضية التأويل للدكتور محمد السيد‬
‫المام ابن ت َي ْ ِ‬
‫الجليند‪.‬‬
‫مّية لبراهيم عقيلي‪.‬‬
‫تكامل المنهج المعرفي عند ابن ت َي ْ ِ‬
‫مّية والعمل الجماعي لعبد الرحمن عبد‬
‫شيخ السلم ابن ت َي ْ ِ‬
‫الخالق‪.‬‬
‫مّية" عرض ونقد "للدكتور‬
‫دعاوى المناوئين لشيخ السلم ابن ت َي ْ ِ‬
‫عبد الله بن صالح الغصن‪.‬‬
‫مّية )رسالة ماجستير(‬
‫سد الذرائع عند شيخ السلم ابن ت َي ْ ِ‬
‫لبراهيم بن مهنا المهنا‪.‬‬
‫مّية التجديدي السلفي ودعوته الص ً‬
‫لحية لسعيد عبد‬ ‫منهج ابن ت َي ْ ِ‬
‫العظيم‪.‬‬
‫مّية في مسألة التكفير لعبد المجيد المشعبي‪.‬‬
‫منهج ابن ت َي ْ ِ‬
‫مّية في التأليف ومراحله المتعددة‬
‫منهج شيخ السلم ابن ت َي ْ ِ‬
‫لعبد الله بن سعد الحجيلي‪.‬‬
‫مّية في الرد على المتكلمين لعبد العزيز التميمي‪.‬‬
‫منهج ابن ت َي ْ ِ‬
‫مّية لمحمد حسني الزين‪.‬‬
‫منطق ابن ت َي ْ ِ‬
‫مّية ليوسف البدوي‪.‬‬
‫مقاصد الشريعة عند ابن ت َي ْ ِ‬
‫وفاته‬
‫ي به نتيجة تأليب الفقهاء‬ ‫مرض الشيخ في سجنه الذي دخله وابت ُل ِ َ‬
‫والعلماء المخالفين له‪ ،‬وتحريضهم السلطان ضده‪ ،‬وكان مرضه‬
‫بسبب فقده لكتبه‪ ،‬ومنعه من الكتابة‪ ،‬وضياع الكثير من كتبه‪،‬‬
‫ومصادرة بعضها‪ ،‬وكان قد أخبر صديقه وصاحبه في السجن الشيخ‬
‫عبد الله الزرعي في آخر لحظاته أنه سامح جميع أعدائه وحّللهم من‬
‫عداوته وسّبه‪ ،‬ثم تفرغ لتلوة القرآن وختمه ثمانين مرة‪ ،‬ووصل إلى‬
‫ق‬
‫صد ْ ٍ‬
‫د ِ‬‫ع ِ‬ ‫م ْ‬
‫ق َ‬ ‫في َ‬‫ر ِ‬
‫ه ٍ‬
‫ون َ َ‬
‫ت َ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫في َ‬ ‫ن ِ‬
‫قي َ‬
‫مت ّ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬
‫قوله تعالى‪ :‬إ ِ ّ‬
‫در ٍ‪ ،‬ثم اشتدت علته‪ ،‬وفاضت روحه إلى بارئها‬ ‫‪1214‬‬
‫م ْ‬
‫قت َ ِ‬ ‫ك ُ‬‫مِلي ٍ‬
‫عن ْدَ َ‬
‫ِ‬
‫وهو مسجون بسجن القلعة بدمشق ليلة الثنين )‪ 20‬من ذي القعدة‬

‫)القمر‪.(55،54 :‬‬ ‫‪1214‬‬


‫ة واسعة‪ ،‬وجزاه عن‬
‫‪728‬هق(‪ 1215‬وعمره )‪ (67‬سنة‪ ،‬فرحمه الله رحم ً‬
‫السلم والمسلمين خير الجزاء‪.‬‬

‫المبحث الخامس‪ :‬دور العلم في حياة‬


‫المام ابن خلدون‬
‫]‪808- 732‬هق =‪1406 -1332‬م[‬
‫ميلده ونشأته‬
‫هو "أبو زيد"‪ ،‬عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون‪ ،‬الحضرمي‪،‬‬
‫الشبيلي‪ .‬وُل ِد َ بتونس سنة )‪732‬هق = ‪1332‬م(‪ ،‬ويعود أصله إلى‬
‫عائلة يمنية هاجرت إلى إشبيلية ولعبت دوًرا كبيًرا في التاريخ العربي‬
‫لهذه المدينة‪ ،‬وشاع ذكرها على امتداد القرن الثامن إلى أن أصبحت‬
‫كن ملوك‬ ‫في القرن العاشر من أعرق العائلت بإشبيلية‪ .‬ولما تم ّ‬
‫الصليبيين من السيطرة على هذه المدينة نزح أجداده إلى سبتة ثم‬
‫إلى تونس‪.‬‬
‫وفي كتاب )التعريف( لبن خلدون‪ ،‬يشير إلى أنه حفظ القرآن‬
‫مق في‬ ‫م بالقراءات السبع وعني بالتفسير والحديث‪ ،‬وتع ّ‬‫الكريم وأل ّ‬
‫النحو والفقه‪ ،‬ولم يقتصر في تلقي هذه العلوم على أبيه محمد‪ ،‬بل‬
‫اتصل بكبار علماء تونس‪ ،‬ولم يبلغ الثامنة عشرة حتى أصبح طويل‬
‫الباع في الفقه وعلوم الدين‪ ،‬كما درس علم الحديث وأحاط بأصول‬
‫المنطق وآراء الفلسفة وكتبهم‪.1216‬‬
‫كام إفريقية‪ ،‬ركب البحر‬ ‫وبعد قضائه سنوات في خدمة ح ّ‬
‫مهاجًرا إلى أرض أجداده )الندلس( لينزل عند سلطان غرناطة آخر‬
‫حيكت‬ ‫الممالك الندلسية‪ ،‬وبعد سلسلة من المكايد والفتن التي ِ‬
‫ده‪ ،‬آثر الرجوع إلى إفريقية‪ ،‬واختار قلعة ابن سلمة بالجزائر ليقيم‬
‫ض ّ‬
‫ّ‬
‫بها‪ ،‬ويباشر كتابة مؤلفه الشهير المعروف بتاريخ ابن خلدون‪ ،‬الذي‬
‫دم فيه نظريات جديدة في علمي الجتماع والتاريخ‪.1217‬‬ ‫قَ ّ‬
‫حياته‬
‫عاش هذا الع ّ‬
‫لمة الكبير في عصر مضطرب؛ تميز بالهزائم‬
‫والنكسارات ليس على مستوى العالم فقط بل على مستوى‬
‫ابن كثير‪ :‬البداية والنهاية ‪.14/159‬‬ ‫‪1215‬‬

‫عمر فاروق الطباع‪ :‬ابن خلدون ص ‪.32 -31‬‬ ‫‪1216‬‬

‫عمر فاروق الطباع‪ :‬ابن خلدون ص ‪.45 -33‬‬ ‫‪1217‬‬


‫ب أكثَر من مرة بأحبائه وأسرته‪ ،‬ولم يشأ له‬ ‫ضا‪ ،‬فقد ن ُك ِ َ‬ ‫الشخص أي ً‬
‫قل من‬ ‫دا‪ ،‬أو أن يمتهن عمل ً محدًدا؛ فقد تن ّ‬ ‫دا واح ً‬ ‫القدر أن يسكن بل ً‬
‫الندلس حتى بلد الشام‪ ،‬وشهد بنفسه تسليم غرناطة ودمشق‪،‬‬
‫م عينه انهيار الحضارات‪ ،‬وسيطرة القوي وغطرسته عند‬ ‫ورأى بأ ّ‬
‫ك قشتالة )بدرو( أثناء محاولته بس َ‬
‫ط‬ ‫النصر‪ ،‬وقد التقى ابن خلدون مل َ‬
‫ن قليلة ومنعزلة للمسلمين في الندلس‪،‬‬ ‫قى من مد ٍ‬ ‫نفوذه على ما تب ّ‬
‫م يحرقها‪،‬‬ ‫ضا )تيمور لنك( وهو يحاصر مدن الشام وينهبها‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫والتقى أي ً‬
‫ت في شرق العالم السلمي وغربه‪ ،‬كما رأى‬ ‫أي أنه رأى النهيارا ِ‬
‫ما على المستوى الشخصي فلم يهنأ‬ ‫كيف تموت الدول وكيف تنشأ‪ ،‬أ ّ‬
‫ساد والواشين‪ ،‬لكنه ورغم‬ ‫ما لكثرة الح ّ‬ ‫ب مقا ً‬ ‫بمنصب‪ ،‬ولم يست َط ِ ْ‬
‫ف عصره‪،‬‬ ‫هذه الحياة القاسية والمضطربة استطاع أن يكون مثق َ‬
‫دا عليه‪ ،‬واستطاع أن ينتزع وقًتا للكتابة والتأليف‪ ،‬وأن يقدم‬ ‫وشاه ً‬
‫للجيال من بعده عصارة ذهنه ورحيق روحه‪.‬‬
‫وظائفه العلمية‬
‫عمل ابن خلدون بالتدريس في بلد المغرب‪ ،‬بجامعة القرويين‬
‫في )فاس(‪ ،‬ثم في الجامع الزهر في القاهرة‪ ،‬والمدرسة الظاهرية‪..‬‬
‫وا من ربع قرن توّلى ابن خلدون‬
‫وغيرها؛ وخلل إقامته في مصر نح ً‬
‫القضاء أكثر من مرة‪.1218‬‬
‫مؤّلفاته‬
‫كرين المسلمين‪،‬‬ ‫دا من أعظم المف ّ‬
‫ن خلدون" واح ً‬ ‫ُيعت ََبر "اب ُ‬
‫ب في علم التاريخ‪ ،‬وعنون كتابه بق "كتاب العَِبر‪ ،‬وديوان‬ ‫وأبرز من ك َت َ َ‬
‫المبتدأ والخبر في أّيام العرب والعجم والبربر‪ ،‬ومن عاصرهم من‬
‫ذوي السلطان الكبر"‪ ،‬وينقسم هذا الكتاب إلى ثلثة أجزاء‪ :‬الول‪:‬‬
‫م‬
‫ملت عميقة حول الحضارة النسانية‪ ،‬والثاني‪ :‬يهت ّ‬ ‫دمة؛ وفيها تأ ّ‬ ‫المق ّ‬
‫مت‬‫ج َ‬
‫بتاريخ المم الممالك‪ ،‬والثالث‪ :‬سيرة ابن خلدون الذاتية‪ .‬وقد ُتر ِ‬
‫دة مرات‪.‬‬
‫مقدمُته إلى مختلف لغات العالم ع ّ‬
‫كتاب )تاريخ ابن خلدون(‪:‬‬
‫ن خلدون‬ ‫)تاريخ ابن خلدون( هو الكتاب الذي رفعت مقدمُته اب َ‬
‫ف كبار فلسفة العالم‪ .‬وهي كما قال توينبي‪ - 1219‬مستعيًرا‬ ‫إلى مصا ّ‬
‫ل لم يقم بمثله إنسان في أي زمان‬‫‪) : -‬عم ٌ‬ ‫‪1220‬‬
‫كلمة المقريزي‬
‫‪ 1218‬عمر فاروق الطباع‪ :‬ابن خلدون ص ‪.52 -46‬‬
‫‪ 1219‬أرنولد جوزف توينبي )‪1975 -1889‬م(‪ :‬أستاذ الدراسات اليونانّية والبيزنطّية في جامعة‬
‫لندن‪ ،‬ومدير دائرة الدراسات في وزارة الخارجية البريطانية؛ من أشهر مؤرخي القرن‬
‫العشرين‪ ،‬أهم أعماله "موسوعة دراسة للتاريخ"‪.‬‬
‫‪) 1220‬تقي الدين( أحمد بن علي المقريزي )‪845 -766‬هق(‪ :‬شيخ المؤرخين المصريين‪ ،‬عاش‬
‫زمن المماليك‪ ،‬من أشهر كتبه‪ :‬السلوك لمعرفة دول الملوك‪ ،‬والمواعظ والعتبار بذكر‬
‫الخطط و الثار )المعروف بخطط المقريزي(‪.‬‬
‫م‬
‫ومكان( ‪ .‬وفيها أرسى قواعد فقه التاريخ وعلم العمران‪ ،‬وهو عل ٌ‬
‫‪1221‬‬

‫ه كما يقول‪ ،1222‬وموضوعه‪) :‬البحث في أسباب انهيار‬ ‫أعثره عليه الل ُ‬


‫سّر‬
‫الدول وازدهارها( ‪ .‬وأراد أن تجد به الملوك ما يغني عن ) ِ‬
‫‪1223‬‬

‫السرار( الذي أّلفه أرسطو للسكندر‪ ،‬وأنجزه أول ً في مدة خمسة‬


‫أشهر‪ ،‬من عام )‪779‬هق( أثناء إقامته عند بني العريف في قلعة بني‬
‫قحه بعد ذلك‪ ،‬وه ّ‬
‫ذبه‪ ،‬وألحق به تاريخ العرب‬ ‫سلمة بوهران‪ ،‬ثم ن ّ‬
‫ّ‬
‫وأخبار البربر وزناتة‪ ،‬وأهداه إلى المستنصر أبي العباس‪ ،‬الذي تولى‬
‫إمارة تونس من سنة )‪ 772‬حتى ‪796‬هق(‪ .‬وكانت هذه النسخة‬
‫ما ترك تونس إلى مصر عكف على‬ ‫موجودة حتى عام )‪1858‬م(‪ ،‬فل ّ‬
‫تهذيب الكتاب والزيادة عليه‪ ،‬زهاء عشرين سنة‪ ،‬فأضاف إليه الجزء‬
‫ما أخرى ألحقها بمواضعها‪ ،‬وأهدى هذه‬ ‫الخاص بملوك العجم‪ ،‬وأقسا ً‬
‫حله لقب‪) :‬ولي الدين(‪) ،‬وفرغ منها سنة‬ ‫َ‬ ‫النسخة للسلطان برقوق؛ فن َ َ‬
‫‪ (797‬وانتسخ منها نسخة وقفها على طلبة العلم في جامع القرويين‬
‫بفاس‪.1224‬‬
‫ومن مؤّلفاته الخرى‪ :‬شرح قصيدة البردة‪ ،‬تلخيص مجموعة‬
‫صل المام فخر الدين الرازي‪ ،‬كتاب‬
‫من كتب ابن رشد‪ ،‬تلخيص مح ّ‬
‫في الحساب‪ ،‬تعريف مفيد في المنطق‪ ،‬لباب المحصول في أصول‬
‫الدين‪ ،‬شرح أرجوزة ابن الخطيب‪ ،‬شفاء السائل لتهذيب‬
‫المسائل‪.1225‬‬

‫آراؤه ومنهجه العلمي والفكري‬


‫منهجه العلمي‪:‬‬
‫ن الواقع المادي‬
‫يقوم المنهج العلمي لبن خلدون على قاعدة أ ّ‬
‫هو موضوع العقل في ظواهره المختلفة؛ فعندما قام بتحليل وتفسير‬
‫الفتوحات السلمية الكبرى خلل القرنين السابع والثامن استند إلى‬
‫مفاهيمه العلمية التي تختلف عن مفاهيم القديس أوغسطين الذي‬
‫ن السباب العميقة لمجمل مظاهر الحضارة القديمة تكمن في‬ ‫اعتبر أ ّ‬
‫نظرات العناية اللهية‪.‬‬
‫عل ََله وأسبابه؛‬
‫ومنهج ابن خلدون يقتضي أن يلتمس لكل شيء ِ‬
‫عّلة‬
‫ويقوده هذا المر إلى أن يرد سلسلة السباب والمسببات إلى ِ‬
‫نقل ً عن‪ :‬زهير ظاظا‪ ،‬شبكة الوراق‪http://www.alwaraq.net :‬‬ ‫‪1221‬‬

‫السابق نفسه‪.‬‬ ‫‪1222‬‬

‫انظر‪ :‬محمد أمين فرشوخ‪ :‬موسوعة عباقرة السلم ‪.71-1/68‬‬ ‫‪1223‬‬

‫عبد الرحمن بدوي‪ :‬مؤلفات ابن خلدون‪.‬‬ ‫‪1224‬‬

‫عمر فاروق الطباع‪ :‬ابن خلدون ص ‪.56 -54‬‬ ‫‪1225‬‬


‫أولى؛ وبذلك نبرهن على وجود الله‪ ،‬ويتضمن هذا ‪-‬كما يقول ابن‬
‫خلدون‪ -‬العتراف بعجز النسان عن معرفة كل شيء معرفة عملية‬
‫تجريبية‪ ،‬وعلى أن شعور النسان بجهله في مواضع معينة هو نفسه‬
‫ب من العلم بلغة ذلك الع ّ‬
‫لمة الكبير‪.‬‬ ‫ضْر ٌ‬
‫َ‬
‫أفكاره‪:‬‬
‫دة في فكر ابن خلدون إلى ريادته في الشارة‬ ‫ع ّ‬
‫أشار باحثون ِ‬
‫إلى مسألتين مهمتين تنّبه إليهما الفكر الحديث‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫ل‪ -‬أن القيمة القتصادية للسلعة يحددها الجهد النساني‪/‬‬‫أو ً‬
‫العمإلى المبذول فيها‪ ،‬وليس مجرد قيمتها المادية‪ .‬وهي مسألة انبنى‬
‫عليها الفكر الجتماعي الحديث ‪ -‬الشتراكي بخاصة ‪ -‬في دعوته إلى‬
‫إنصاف العمال الذين يضيف جهدهم إلى قيمة السلعة‪ ،‬وهي قيمة‬
‫يستفيد منها الرأسماليون عادة‪ .‬والواقع أنه لم يصل إلى هذه الدعوة‬
‫الصريحة لكنه اقترب كثيًرا من مضمونها الفكري‪.1226‬‬
‫ثانًيا‪ -‬أومأ ابن خلدون إلى شيء قريب من الفكرة القومية‬
‫الجامعة‪ ،‬عندما تحدث عن ))دولة العرب((‪ ،‬ثم ))دولة الفرس((‪ ،‬ثم‬
‫))دولة الترك(( في سياق التاريخ السلمي‪ .‬صحيح أنه بنى فكره في‬
‫تفسير الجتماع والتاريخ لدى العرب على ))العصبية القبلية(( ‪ -‬وهو‬
‫ضا إلى أن‬‫واقع ل يستطيع أي مفكر حقيقي تجاهله ‪ -‬لكنه أشار أي ً‬
‫تلك العصائب القبلية إذا تحالفت‪ ،‬خاصة في ظل ))دعوة دينية((‪،‬‬
‫فا أوسع بينها يستند إلى حقيقة كونها منتمية‬
‫تستطيع أن تؤسس تحال ً‬
‫إلى ))قوم(( متميز من القوام‪.‬‬
‫إل أن أهمية ابن خلدون وطرافة فكره‪ ،‬وإن تمّثلت في إيماءات‬
‫فكرّية تتخطى عصرها كالفكرة القتصادية‪ ،‬والفكرة القومية؛ فإنه‬
‫حا في أفكار أخرى‪ ،‬ما زالت واقًعا ل يمكن إنكاره‬ ‫كان محد ًّدا وواض ً‬
‫في حياتنا العربية الراهنة؛ ومن ذلك تحذيره من اشتغال رجال‬
‫جاره‪ ،‬بما يؤّدي إلى عرقلة‬
‫السلطة بالتجارة‪ ،‬ومنافستهم لهل البلد وت ّ‬
‫القتصاد وتدميره‪ ،‬وانعكاس ذلك وبال ً على الدولة نفسها في نهاية‬
‫المر؛ يقول ابن خلدون‪" :‬إن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا‬
‫ومفسدة للجباية"‪.1227‬‬
‫ص رؤيته لثار الستبداد والتسلط بمقولته‪" :‬الظلم‬
‫خ َ‬‫كما ل َ ّ‬
‫ن بخراب العمران"‪ ،‬ونبه إلى أن كثرة العصبيات ينذر بزوال‬ ‫مؤ ْذ ِ ٌ‬
‫ُ‬
‫ل أن تستحكم فيها دولة"‪.‬‬‫الدولة‪" :‬إن الوطان الكثيرة العصائب‪ ،‬ق ّ‬

‫طا بين العروبيين والسلميين‪ ،‬مجلة »العربي«‪:‬‬ ‫‪ 1226‬محمد جابر النصاري‪ :‬ابن خلدون وسي ً‬
‫مارس ‪.1983‬‬
‫‪ 1227‬محمد جابر النصاري‪ :‬الرومانسية جميلة‪ ..‬لكنها تجهل حقيقة التاريخ والعالم‪ ،‬جريدة الوطن‬
‫ن عصر ابن خلدون كان عصًرا معادًيا للفلسفة‬ ‫وبالرغم من أ ّ‬
‫في المجتمع السلمي‪ ،‬وهو ما ينعكس في الفصل الذي عنوانه‪:‬‬
‫ول ابن خلدون عمل‬ ‫))في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها((‪ ،‬فقد ح ّ‬
‫العقل من النشغال بالميتافيزيقيا )ما وراء الطبيعة( إلى إعماله في‬
‫شئون المجتمع والتاريخ والعلم‪ ،‬أي إنزاله من السماء‪ ،‬فيما يتجاوزه‬
‫من غيب‪ ،‬إلى واقع الرض‪ ،‬وما فيها من شواهد ومشاهدة‪ .‬ومن‬
‫منطلق عقلنيته‪ ،‬انتقد السحر والطلسمات‪ ،‬وكتب في إبطال صناعة‬
‫التنجيم وضعف مداركها‪ ،‬وفساد غايتها‪ ،‬وعرض لعلم المنطق بحياد‬
‫ن نقده للفلسفة الميتافيزيقية لم يصل‬ ‫موضوعي ولم يهاجمه‪ ،‬كما أ ّ‬
‫حد ّ تحريمها‪ ،‬وإنما اكتفى بتنبيه من يريد الطلع عليها إلى‬ ‫لديه إلى َ‬
‫اللمام بعلوم "الملة" من فقه وشرعيات‪.1228‬‬
‫إن التصالح الذي أقامه ابن خلدون بين نظرته المادية ونظرته‬
‫اليمانية شمل الكثير من مظاهر الحياة الجتماعية؛ فقد حاول بكل‬
‫قواه إظهار التكامل بين ما هو ُروحي وما هو مادي‪ ،‬بين ما هو طبيعي‬
‫وما هو اجتماعي‪ ،‬بين ما تقتضيه طبائع العمران‪ ،‬وبين ما تقرره‬
‫المشيئة اللهية‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه‬
‫قال إيف لكوست عن مؤّلف ابن خلدون )المقدمة(‪" :‬التحليل‬
‫والتأليف والبحوث التي حققها هذا المغربي العبقري في القرن الرابع‬
‫عشر تساعدنا اليوم على إجادة فهم القضية التي هي بل ريب أوسع‬
‫دها مأساوية في عصرنا؛ أل وهي التخلف"‪.1229‬‬
‫القضايا وأش ّ‬
‫ن نزعة الهتمام بالبحث في تاريخ النشوء‬
‫وقال كاّرا دو فو‪" :‬إ ّ‬
‫ف أرقى العقليات في أوربا‬
‫والتطور تضع ابن خلدون في مصا ّ‬
‫الحإلية"‪.1230‬‬
‫ووصف كثير من الكتاب الغربيين سرد ابن خلدون للتاريخ بأنه‬
‫أول سرد علمي منهجي للتاريخ‪ ،1231‬وهذا تقدير كبير عندهم‪.‬‬
‫دراسات عن ابن خلدون‬
‫كتب عن ابن خلدون وفكره ومنهجه ونظرياته العمرانية‬ ‫ُ‬
‫والجتماعية وغيرها‪ ،‬مئات الكتب‪ ،‬منها‪:‬‬
‫العمران البشري في مقدمة ابن خلدون‪ :‬سفتيلنا باتسييفا‪.‬‬
‫‪ 1228‬نقل ً عن‪ :‬محمد جابر النصاري‪» :‬مراجعات في الفكر القومي«‪ ،‬كتاب العربي رقم ‪57‬‬
‫بتاريخ ‪ 15‬يوليو ‪2004‬م‪.‬‬
‫‪ 1229‬ايف لكوست‪ :‬العلمة ابن خلدون ص ‪.248‬‬
‫‪ 1230‬عمر فاروق الطباع‪ :‬ابن خلدون‪ ،‬المقدمة‪.‬‬
‫‪ 1231‬نقل ً عن‪ :‬زهير ظاظا‪ ،‬شبكة الوراق‪http://www.alwaraq.net :‬‬
‫العلمة ابن خلدون‪ :‬إيف لكوست‪.‬‬
‫السياسة والدين عند ابن خلدون‪ :‬جورج لبيكا‪.‬‬
‫فلسفه ابن خلدون الجتماعية ‪ -‬تحليل ونقد‪ :‬طه حسين‪.‬‬
‫النظرية السلمية لبن خلدون دراسة مقارنة‪ :‬محمد محمود‬
‫ربيع‪.‬‬
‫السس السلمية في فكر ابن خلدون و نظرياته‪ :‬مصطفى‬
‫الشكعة‪.‬‬
‫ابن خلدون إسلمًيا‪ :‬عماد الدين خليل‪.‬‬
‫وفاته‬
‫ت ُوُّفي ابن خلدون بمصر سنة )‪808‬هق= ‪1406‬م(‪ ،‬عن عمر‬
‫يناهز )‪ ،1232(78‬ودفن في مقابر الصوفية عند باب النصر شمال‬
‫ة واسعة‪ ،‬وجزاه عن السلم والمسلمين‬ ‫القاهرة؛ فرحمه الله رحم ً‬
‫خير الجزاء‪.‬‬

‫عمر فاروق الطباع‪ :‬ابن خلدون ص ‪.51‬‬ ‫‪1232‬‬


‫المبحث السادس‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫المام السيوطي‬
‫]‪849‬هق ‪911 -‬هق = ‪1505 - 1445‬م [‬
‫ميلده ونشأته‬

‫هو "أبو الفضل" عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي‪ .‬وُل ِد َ‬


‫بأسيوط في سبتمبر ‪1445‬م‪ ،‬لسرة اشت ُهَِرت بالعلم والتدين‪ ،‬وكان‬
‫أبوه من العلماء الصالحين ذوي المكانة العلمية الرفيعة‪.‬‬
‫م حفظ القرآن‬ ‫َ‬
‫ما؛ إذ ُتوفي أبوه وله ست سنوات‪ ،‬وأت َ ّ‬
‫نشأ يتي ً‬
‫الكريم وهو دون الثامنة‪ ،‬ثم حفظ بعض الكتب في تلك السن‬
‫المبكرة مثل‪ :‬الُعمدة‪ ،‬ومنهاج الفقه والصول‪ ،‬وألفية ابن مالك‪،‬‬
‫فاتسعت مداركه وزادت معارفه‪ ،‬وكان محل العناية والرعاية من عدد‬
‫من العلماء من رفاق أبيه‪ ،‬وتوّلى بعضهم أمر الوصاية عليه‪ ،‬ومنهم‬
‫"الكمال بن الهمام الحنفي"‪ 1233‬أحد كبار فقهاء عصره‪ ،‬الذي تأّثر به‬
‫السيوطي تأثًرا كبيًرا خاصة في ابتعاده عن السلطين وأرباب‬
‫الدولة‪.1234‬‬
‫شيوخه‬
‫عاش السيوطي في عصرٍ ك َث َُر فيه العلماء العلم ؛ فتأثر‬
‫السيوطي بهذه النخبة‪ ،‬فابتدأ في طلب العلم سنة ]‪ 864‬هق=‬
‫ض عامان حتى‬‫ُ‪1459‬م[‪ ،‬ودرس الفقه والنحو والفرائض‪ ،‬ولم يم ِ‬
‫جيز بتدريس العربية‪ ،‬وأّلف في تلك السنة أول كتبه "شرح الستعاذة‬ ‫أ ِ‬
‫والبسملة" وهو في سن السابعة عشرة‪ ،‬فأثنى عليه شيخه "علم‬
‫الدين البلقيني"‪.‬‬
‫وللسيوطي نحو ست مئة شيخ‪1235‬؛ من أبرزهم‪ :‬الحافظ ابن‬
‫حجر‪ ،‬شمس الدين القياتي‪ ،‬الشيخ باكير‪ ،‬جلل الدين المحلي‬
‫الشافعي‪ ،‬محمد الجيلني‪.1236‬‬

‫‪ 1233‬الكمال بن الهمام الحنفي )‪861 -790‬هق(‪ :‬هو محمد بن عبد الواحد الكمال بن همام الدين‪،‬‬
‫اشتهر بالكمال ابن الهمام‪ ،‬ولد بالسكندرية‪ ،‬أحد أقطاب المذهب الحنفي‪ ،‬وإذا أطلق الحنفية‬
‫كلمة "المحقق" عنوه بها‪.‬‬
‫‪ 1234‬مصطفى عاشور‪ :‬السيوطي صاحب الق ‪7‬علوم‪ ،‬حدث في العام الهجري‪،‬‬
‫‪www.islamonline.net‬‬
‫‪ 1235‬إياد الطباع‪ :‬جلل الدين السيوطي ص ‪.47‬‬
‫‪ 1236‬إياد الطباع‪ :‬جلل الدين السيوطي ص ‪.32‬‬
‫تلميذه‬
‫وتلميذ السيوطي من الكثرة والنجابة بمكان‪ ،‬وأبرزهم "شمس‬
‫الدين الداودي" صاحب كتاب "طبقات المفسرين" الذي كتبه‬
‫بمساعدة أستاذه "السيوطي" ‪ ،‬و"شمس الدين بن طولون"‪،‬‬
‫دث الديار المصرية‪ ،‬والمؤّرخ الكبير‬‫و"شمس الدين الشامي" مح ّ‬
‫"ابن إياس" صاحب كتاب "بدائع الزهور"‪.1237‬‬
‫ومنهم كذلك قاضي القضاة برهان الدين بن ظهيرة الشافعي‪،‬‬
‫وقاضي القضاة نور الدين ابن أبي إليمن المالكي‪ ،‬ونور الدين‬
‫السنهوري شيخ مالكية عصره‪ ،‬وفخر الدين المقسي فقيه الشافعية‪،‬‬
‫ومحب الدين بن مصيفح‪ ،‬وزين الدين عبد القادر بن شعبان‪.1238‬‬
‫رحلته‬
‫سافر السيوطي لطلب العلم إلى الفيوم ودمياط والمحلة وبلد‬
‫الشام وإليمن والهند والمغرب‪ 1239‬والتكرور )تشاد حإليا(‪ ،‬ورحل إلى‬
‫الحجاز سنة )‪869‬هق(‪ 1240‬وجاور بها سنة كاملة‪ ،‬وشرب من ماء زمزم‬
‫ليصل في الفقه إلى رتبة سراج الدين البلقيني‪ ،‬وفي الحديث إلى‬
‫رتبة الحافظ ابن حجر العسقلني‪.1241‬‬
‫اعتزال الحياة العامة والسلطين‬
‫ة عشَر سلطاًنا مملوكًيا‪ ،‬إل أن علقته بهم‬
‫عاصر السيوطي ثلث َ‬
‫كانت متحفظة‪ ،‬وطابعها العام المقاطعة‪ ،‬وإن كان ثمة لقاء بينه‬
‫وبينهم‪ ،‬وضع نفسه في مكانته التي يستحقها‪ ،‬وسلك معهم سلوك‬
‫العلماء التقياء‪ ،‬فإذا لم يقع سلوكه منهم موقع الرضا قاطعهم‬
‫وتجاهلهم‪ ،‬وكان بعض المراء يأتون لزيارته‪ ،‬ويقدمون له الموال‬
‫والهدايا النفيسة فيردها‪ ،‬ورفض مرات عديدة دعوة السلطان‬
‫لمقابلته‪ ،‬وأّلف في ذلك كتاًبا أسماه "ما وراء الساطين في عدم‬
‫التردد على السلطين"‪.‬‬
‫وقد أعانه على كثرة تأليفه انقطاعه التام للعمل وهو في سن‬
‫الربعين حتى وفاته‪ ،‬وثراء مكتبته وغزارة علمه وكثرة شيوخه‬
‫س وأربعين‬
‫ورحلته‪ ،‬وسرعة كتابته‪ ،‬فقد اتسع عمره التأليفي إلى خم ٍ‬
‫سنة‪ ،‬حيث بدأ التأليف وهو في السابعة عشرة من عمره‪ ،‬وانقطع له‬
‫‪ 1237‬مصطفى عاشور‪ :‬السيوطي صاحب الق ‪7‬علوم‪ ،‬حدث في العام الهجري‪،‬‬
‫‪www.islamonline.net‬‬
‫‪ 1238‬إياد الطباع‪ :‬جلل الدين السيوطي ص ‪.33‬‬
‫‪ 1239‬محمد سعيد مرسي‪ :‬عظماء السلم عبر أربعة عشر قرًنا من الزمان ص ‪.344‬‬
‫‪ 1240‬إياد الطباع‪ :‬جلل الدين السيوطي ص ‪.41‬‬
‫‪ 1241‬مصطفى عاشور‪ :‬السيوطي صاحب الق ‪7‬علوم‪ ،‬حدث في العام الهجري‪،‬‬
‫‪www.islamonline.net‬‬
‫ما متواصلة‪ ،‬ولو وُّزع عمره على الوراق التي كتبها‬ ‫اثنين وعشرين عا ً‬
‫م الواحد أربعين ورقة‪ ،‬وقد تمّنى أن يكون إمام المائة‬ ‫لصاب اليو ُ‬
‫جيت من نعم الله وفضله أن‬ ‫التاسعة من الهجرة‪ ،‬فيقول‪" :‬إني تر ّ‬
‫حر في أنواع‬‫أكون المبعوث على هذه المائة‪ ،‬لنفرادي عليها بالتب ّ‬
‫العلوم"‪.1242‬‬
‫إسهاماته العلمية‬
‫عطاء علمي نادر‪:‬‬
‫ن ما أنجزه السيوطي ~ من مؤلفات تعجز اليوم عن إنجازه‬ ‫إ ّ‬
‫مؤسسات ومراكز بحوث‪ ،‬رغم ما يتوافر لها عادة من مال ورجال‬
‫وعلماء‪ ،‬ومصادر معلومات من الكتب والمراجع والحواسب ونحوها‪.‬‬
‫ول شك أن توفيق الله كان فوق السباب جميعها التي هيأت‬
‫للسيوطي تأليف هذه الكتب‪ ،‬بالضافة إلى تبحره في العديد من‬
‫حَر في سبعة علوم‪:‬‬‫ت التب ّ‬
‫العلوم؛ يقول السيوطي عن نفسه‪ُ" :‬رِزق ُ‬
‫التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع" ‪،‬‬
‫‪1243‬‬

‫بالضافة إلى أصول الفقه والجدل‪ ،‬والقراءات التي تعّلمها بنفسه‪،‬‬


‫والطب‪.‬‬
‫وأهم أسباب هذا العطاء العلمي النادر‪:1244‬‬
‫طموح السيوطي‪ ،‬ورغبته بالتفوق‪ ،‬والتصدر في ساحة الحياة‪،‬‬
‫كما كان لُبعده عن الحياة العامة‪ ،‬والمجاملت الجتماعية الفارغة‬
‫التي ل تليق بأهل العلم دور كبير‪.‬‬
‫وكثرة المصادر بين يديه‪ ،‬فقد ترك له أبوه مكتبة زاخرة‬
‫بالمنصفات‪ ،‬وكان يتردد منذ صغره على المدرسة المحمودية‪ ،‬وبها‬
‫ن أسلوبه‬ ‫مكتبة كبيرة من أنفس الكتب الموجودة في القاهرة‪ ،‬كما أ ّ‬
‫كنه من ذلك؛ فهو قد يختار مسألة من مسائل العلم‪،‬‬ ‫في التأليف قد م ّ‬
‫ولو صغيرة‪ ،‬فيفردها في رسالة مستقلة‪.‬‬
‫وقد تميز السيوطي ~ بالموسوعية‪ ،‬وجمع القوال والّنقول في‬
‫عا‬ ‫المسألة الواحدة‪ ،‬بحيث ي ُ َ‬
‫شّعبها تحريًرا‪ ،‬سواء كان الموضوع مختَر ً‬
‫عا‪.‬‬
‫أم مجمو ً‬
‫منهجه في التأليف‪:‬‬

‫‪ 1242‬مصطفى عاشور‪ :‬السيوطي صاحب الق ‪7‬علوم‪ ،‬حدث في العام الهجري‪،‬‬


‫‪www.islamonline.net‬‬
‫‪ 1243‬مصطفى عاشور‪ :‬السيوطي صاحب الق ‪7‬علوم‪ ،‬حدث في العام الهجري‪،‬‬
‫‪www.islamonline.net‬‬
‫‪ 1244‬سعدي أبو جيب‪ :‬حياة جلل الدين السيوطي مع العلم من المهد إلي اللحد ص ‪.47‬‬
‫للسيوطي ~ منهج في التأليف‪ ،‬يمكن إيراده على الوجه التالي‪:‬‬
‫من قاله‪ ،‬كما‬
‫ل إلى َ‬
‫أمانته في النقل‪ ،‬فهو يلتزم بعزو كل قو ٍ‬
‫يتبين من مؤلفاته العديدة‪.‬‬
‫ب اندثرت الن؛ مما ساعد على حفظ نصوصها لنا‪.‬‬
‫نقله عن كت ٍ‬
‫ذكره القوال المختلفة في الموضوع‪ ،‬مسندها إلى من قالها‪،‬‬
‫ومناقشة الدلة‪ ،‬وبيان ترجيحه‪ ،‬أو توقفه عن الترجيح‪.‬‬
‫مؤّلفاته‬
‫ن المحاضرة في أخبار مصر‬ ‫س ُ‬‫ح ْ‬ ‫ذكر السيوطي في مؤل ّ َ‬
‫فْيه " ُ‬
‫دث بنعمة الله" – وهو ترجمة ذاتيه للسيوطي ‪-‬؛‬ ‫والقاهرة"‪ ،‬و"التح ّ‬
‫ذكر قائمة تضم عناوين مؤلفاته‪ ،‬كما ورد في فهرس مؤلفات‬
‫السيوطي‪ ،‬وبهجة العابدين بترجمة حافظ العصر جلل الدين‪،‬‬
‫وغيرها‪ ..‬ما يصل بعدد كتبه إلى )‪ (1194‬عنواًنا‪ ،‬طبع منها )‪(331‬‬
‫طا‪ ،‬والمفقود هو )‪(432‬‬ ‫عنواًنا‪ ،‬وما يزال )‪ (431‬عنواًنا مخطو ً‬
‫عنواًنا‪.1245‬‬
‫ف في كل الفنون‪ ،‬فقد‬
‫صن ّ ُ‬
‫ولتنوع معارف السيوطي؛ نجده ي ُ َ‬
‫صّنف في التاريخ‪ ،‬وعلوم القرآن‪ ،‬والتفسير‪ ،‬والحديث وعلومه‪،‬‬ ‫َ‬
‫والفقه‪ ،‬واللغة‪ ،‬والطبقات‪..‬‬
‫فمن أمثلة ما صّنف في التاريخ‪:‬‬
‫"حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة"‪ ،‬و"تحفة المذاكر‬
‫في المنتقى في تاريخ ابن عساكر"‪ ،‬و"التحفة الظريفة في السيرة‬
‫الشريفة"‪ ،‬و"تاريخ الخلفاء"‪.‬‬
‫وفي الطبقات‪:‬‬
‫أّلف أكثر من )‪ (55‬كتاًبا ورسالة يأتي في مقدمتها‪" :‬عين‬
‫الصابة في معرفة الصحابة"‪ ،‬و"ُبغية الوعاة في طبقات النحاة"‪.‬‬

‫صّنف في علوم القرآن‪:‬‬


‫ومما َ‬
‫عا من علوم‬‫"التقان في علوم القرآن" وقد جمع فيه ثمانين نو ً‬
‫القرآن‪ ،‬وما زال هذا الكتاب عمدة الدراسات القرآنية‪ ،‬و"التحبير في‬
‫علوم التفسير"‪ ،‬و"متشابه القرآن"‪ ،‬و"الكليل في استنباط التنزيل"‪،‬‬

‫إياد الطباع‪ :‬المام السيوطي ص ‪.312،313‬‬ ‫‪1245‬‬


‫و"طبقات المفسرين"‪ ،‬و"اللفية في القراءات العشر"‪" ،‬الناسخ‬
‫والمنسوخ في القرآن"‪ ،‬وغير ذلك كثير‪..‬‬
‫وفي تفسير القرآن ‪:‬‬
‫"الد ّّر المنثور في التفسير بالمأثور"‪ ،‬والتفسير المسند المسمي‬
‫"ترجمان القرآن"‪ ،‬و"تفسير الجللين"؛ الذي ابتدأ جلل الدين المحلي‬
‫من أول سورة الكهف إلى آخر سورة الناس‪ ،‬ثم ابتدأ بتفسير الفاتحة‬
‫جا‬
‫وبعد إتمامها مات المحلي‪ ،‬فأتم السيوطي ما ابتدأه شيخه منته ً‬
‫نفس منهجه‪.‬‬
‫وفي الحديث وعلومه‪:‬‬
‫ما‬
‫كان يحفظ مائتي ألف حديث كما روى عن نفسه‪ ،‬وكان مغر ً‬
‫ت الكتب في هذا‬ ‫بجمع الحديث واستقصائه؛ لذلك أّلف عشرا ِ‬
‫المجال؛ ومن كتبه‪" :‬إسعاف المبطأ في رجال الموطأ"‪ ،‬و"تنوير‬
‫الحوالك في شرح موطأ المام مالك"‪ ،‬و"جمع الجوامع"‪ ،‬و"الد َّرر‬
‫المنتثرة في الحاديث المشتهرة"‪ ،‬و"المنتقى من شعب اليمان‬
‫للبيهقي"‪ ،‬و"أسماء المدلسين"‪ ،‬و"آداب الفتيا"‪ ،‬و"طبقات الحفاظ"‪.‬‬
‫وفي الفقه‪:‬‬
‫"الحاوي في الفتاوى"‪ ،‬و"الجامع في الفرائض"‪..‬‬
‫ومن كتبه في اللغة وعلومها‪:‬‬
‫"المزهر في اللغة"‪ ،‬و"الشباه والنظائر في اللغة"‪ ،‬و"القتراح‬
‫في النحو"‪ ،‬و"التوشيح على التوضيح"‪ ،‬و"المهذب فيما ورد في‬
‫القرآن من المعَّرب"‪ ،‬و"البهجة المرضية في شرح ألفية ابن مالك"‪،‬‬
‫مان في علم المعاني والبيان"‪،‬‬‫وفي ميدان البديع كان له‪" :‬عقود الج ّ‬
‫وغيره‪..‬‬
‫خصائص مؤّلفاته‬
‫م مؤلفاته لعدد من عناوين كتبه مثل كتابه "الحاوي‬
‫‪ -1‬ض ّ‬
‫للفتاوى" الذي يضم نحو سبعين رسالة له‪.‬‬
‫وع موضوعات كتبه في الفنون المختلفة‪.‬‬
‫‪ -2‬تن ّ‬
‫‪ -3‬اختلف حجم كتبه ما بين الورقة الواحدة والمجلدات‬
‫الكبيرة‪.‬‬
‫مناصبه‬
‫الفتاء‪:‬‬
‫تصدى السيوطي للفتاء من سنة )‪871‬هق( وعمره اثنان‬
‫فتيا إلى‬
‫ما‪ ،‬على مذهب المام الشافعي‪ ،‬واستمر في ال ُ‬ ‫وعشرون عا ً‬
‫أن اعتزل التدريس‪ ،‬وعمره قد قارب الربعين‪ ،‬وبّين عذره في ذلك‬
‫في "المقامة اللؤلؤية"‪.1246‬‬
‫التدريس‪:‬‬
‫بدأ التدريس من شوال سنة )‪870‬هق(‪ ،‬وما مّر عام حتى لزمه‬
‫الفضلء والكبراء‪ ،‬ومنهم الشيخ بدر الدين حسن القيمري أحد علماء‬
‫الفرائض‪ ،‬وأحد المشاركين في الفقه والعربية‪ ،‬فلزمه عشر سنين‪،‬‬
‫ومنهم الشيخ سراج الدين النصاري؛ شيخ القّراء‪ ،‬الذي لزمه نحو‬
‫عشرين سنة‪.1247‬‬
‫وبدأ إملء الحديث الشريف‪ ،‬مستهل سنة )‪872‬هق(‪ ،‬بعد موت‬
‫الحافظ ابن حجر العسقلني‪.1248‬‬
‫القضاء‪:‬‬
‫تقّلد القضاء في عهد المتوكل العباسي سنة )‪902‬هق(‪.1249‬‬
‫مشيخة الخانقاه‪:‬‬
‫تولها سنة )‪891‬هق( بعد وفاة الشيخ جلل الدين البكري‪،‬‬
‫واستمر في هذا المنصب حتى سنة )‪906‬هق(؛ حين عزله طومان‬
‫باي‪.1250‬‬
‫دراسات عن السيوطي‬
‫إسهام السيوطي بالفتاء‪ :‬د‪ .‬محمد الزحيلي‪.‬‬
‫المام الحافظ جلل الدين السيوطي وجهوده في الحديث‬
‫وعلومه‪ :‬د‪ .‬بديع السيد اللحام‪.‬‬
‫المام السيوطي وجهوده في علوم القرآن‪ :‬محمد يوسف‬
‫الشربجي )رسالة دكتوراه(‪.‬‬
‫المام السيوطي وفن السيرة الذاتية‪ :‬د‪ .‬عبد الله نبهان‪.‬‬

‫طبعت ضمن شرح المقامات ‪.996 /2‬‬ ‫‪1246‬‬

‫إياد الطباع‪ :‬المام السيوطي ص ‪.427‬‬ ‫‪1247‬‬

‫السيوطي‪ :‬التحدث بنعمة الله )مخطوط(‪.‬‬ ‫‪1248‬‬

‫عبد القادر الشاذلي‪ :‬بهجة العابدين )مخطوط(‪.‬‬ ‫‪1249‬‬

‫الشعراني‪ :‬الطبقات الصغرى ص ‪.35 ،34‬‬ ‫‪1250‬‬


‫جلل الدين السيوطي‪ :‬منهجه وآراؤه الكلمية‪ ،‬د‪ .‬محمد جلل‬
‫أبو الفتوح‪.‬‬
‫جلل الدين عبد الرحمن السيوطي ومنهجه في الكتابة‬
‫التاريخية‪ :‬د‪ .‬محمد عبد الوهاب فضل‪.‬‬
‫دور المام السيوطي في إحياء حركة الجتهاد الفقهي‪ :‬د‪ .‬محمد‬
‫الدسوقي‪.‬‬
‫جلل الدين السيوطي‪ :‬مصطفي الشكعة‪.‬‬
‫وفاته‬
‫ت ُوُّفي السيوطي ~ في )‪ 19‬من جمادى الولى ‪911‬هق= ‪20‬‬
‫من أكتوبر ‪ 1505‬م(‪ 1251‬بعد حياةٍ حافلة بالعلم والتعليم؛ فرحمه الله‬
‫ة واسعة‪ ،‬وجزاه عن السلم والمسلمين خير الجزاء‪.‬‬ ‫رحم ً‬

‫نجم الدين الغزي‪ :‬الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة‪.‬‬ ‫‪1251‬‬


‫الفصل الثاني‪ :‬دور العلم في حياة علماء‬
‫الحياة القدامى‬

‫ويضم هذا الفصل المباحث التالية‪:‬‬


‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في حياة جابر‬
‫بن حيان‬
‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫الخوارزمي‬
‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫الرازي‬
‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫الصطخري‬
‫المبحث الخامس‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫البيروني‬
‫المبحث السادس‪ :‬دور العلم في حياة ابن‬
‫النفيس‬
‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في حياة جابر‬
‫بن حيان‬
‫جابر بن حّيان‪ ..‬مؤسس علم الكيمياء‬
‫وصفه ابن خلدون في مقدمته وهو بصدد الحديث عن علم‬
‫الكيمياء فقال‪" :‬إمام المدونين فيها جابر بن حيان‪ ،‬حتى إنهم‬
‫يخصونها به فيسمونها‪" :‬علم جابر"‪ ،‬وله فيها سبعون رسالة" ‪.‬‬
‫‪1252‬‬

‫إنه أبو موسى جابر بن حيان بن عبد الله الزدي‪ ،‬نسبة إلى‬
‫قبيلة أزد إليمنية التي هاجر البعض منها إلى الكوفة بعد انهيار سد‬
‫مأرب‪ .‬وُل ِد َ في )طوس( واستقّر في بغداد بعد قيام الدولة العباسية‪،‬‬
‫وتوثقت علقته بأسرة البرامكة الفارسية‪ ،‬وامتدت حياته ما بين )‬
‫‪200 - 103‬هق ‪815 – 721 /‬م(‪.1253‬‬
‫ي َُعد مؤسس علم الكيمياء التجريبي؛ فهو أول من استخلص‬
‫معلوماته الكيميائية من خلل التجارب والستقراء والستنتاج العلمي‪،‬‬
‫وكان غزير النتاج والكتشافات‪ ،‬حتى إن الكيمياء اقترنت باسمه‬
‫فقالوا‪" :‬كيمياء جابر"‪ ،‬و"الكيمياء لجابر"‪ ،‬وكذلك‪" :‬صنعة جابر"‪ .‬كما‬
‫ضا‪" :‬شيخ الكيميائيين" و"أبو الكيمياء"‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أطلق عليه أي ً‬
‫فقبل جابر كان هناك مجموعة من المهن البدائية القديمة‪ ،‬وقد‬
‫دباغة‪،‬‬
‫اختلطت مع كثير من الحرف‪ ،‬كالتحنيط )في مصر القديمة( وال ّ‬
‫والصباغة والتعدين واستخلص الزيوت‪ ،‬لكن جابر بن حيان استطاع‬
‫ور الكيمياء ويرفعها من تلك المنزلة البدائية التي كانت عليها‬ ‫أن يط ّ‬
‫إلى منزلة عالية‪ ،‬وذلك بإضافته للكثير من المعارف النظرية‬
‫ل تحضير المواد الكيميائية والتعامل‬ ‫س وأصو َ‬
‫والعلمية‪ ،‬وإرسائه أس َ‬
‫ن حيان شيخ الكيميائيين بل منازع ‪.‬‬
‫‪1254‬‬
‫معها؛ لذلك ُيعت ََبر اب ُ‬

‫بداية الكيمياء والمنهج العلمي عند جابر‬


‫بدأت الكيمياء خرافية تستند على الساطير البالية‪ ،‬حيث‬
‫سيطرت فكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة؛ وذلك لن‬
‫العلماء في حضارات ما قبل السلم كانوا يعتقدون أن المعادن‬
‫المنطرقة مثل الذهب والفضة والنحاس والحديث والرصاص‬
‫والقصدير من نوع واحد‪ ،‬وأن تباينها نابع من الحرارة والبرودة‬
‫والجفاف والرطوبة الكامنة فيها‪ ،‬وهي أعراض متغيرة )نسبة إلى‬
‫نظرية العناصر الربعة‪ :‬النار والهواء والماء والتراب(؛ لذا يمكن‬
‫‪ 1252‬مقدمة ابن خلدون ‪.1/322‬‬
‫‪ 1253‬راجع ابن النديم‪ :‬الفهرست ص ‪ ،420‬الّزركلي‪ :‬العلم ‪ ،103 /2‬محمد علي عثمان‪:‬‬
‫مسلمون عّلموا العالم ص ‪ ،64‬أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪.17‬‬
‫‪ 1254‬انظر أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪.17‬‬
‫تحويل هذه المعادن من بعضها البعض بواسطة مادة ثالثة وهي‬
‫الكسير‪ .‬ومن هذا المنطلق تخيل بعض علماء الحضارات السابقة‬
‫للحضارة السلمية أنه بالمكان ابتكار إكسير الحياة أو حجر الحكمة‬
‫مى بعلم‬ ‫س ّ‬
‫الذي يزيل علل الحياة ويطيل العمر ‪ ،‬وهذا ما كان ي ُ َ‬
‫‪1255‬‬

‫الخيمياء‪.‬‬
‫وقد تأّثر بعض العلماء العرب والمسلمين الوائل كجابر بن‬
‫حيان وأبي بكر الرازي بنظرية العناصر الربعة التي ورثها علماء‬
‫العرب والمسلمين عن اليونان‪ ،‬لكنهما قاما بدراسة علمية دقيقة لها؛‬
‫أّدت هذه الدراسة إلى وضع وتطبيق المنهج العلمي التجريبي في‬
‫حقل العلوم التجريبية‪.‬‬
‫ملك كمال هذه‬ ‫وعن هذا المنهج التجريبي كان يقول جابر‪" :‬و ِ‬
‫الصنعة العمل والتجربة؛ فمن لم يعمل ولم يجّرب لم يظفر بشيء‬
‫دا"‪.1256‬‬
‫أب ً‬
‫وفي كتاب الخواص الكبير المقالة الولى يقول‪" :‬إننا نذكر في‬
‫هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه‪ ،‬أو قيل لنا وقرأناه‪،‬‬
‫ح أوردناه‪ ،‬وما بطل رفضناه‪ ،‬وما‬ ‫بعد أن امتحّناه وجّربناه‪ ،‬فما ص ّ‬
‫ضا قايسناه على أحوال هؤلء القوم" ‪.‬‬
‫‪1257‬‬
‫استخرجناه نحن أي ً‬
‫ولذلك ي َُعد جابر أول من أدخل التجربة العلمية المخبرية في‬
‫منهج البحث العلمي الذي أرسى قواعده‪ ،‬وكان أحياًنا ما ُيسمي‬
‫قا‪ ،‬ومن‬ ‫ما ح ً‬‫التجربة بالتدريب‪ ،‬فكان يقول‪" :‬فمن كان د َرًِبا كان عال ً‬
‫ما‪ ،‬وحسُبك بالدربة في جميع الصنائع أن‬ ‫لم يكن د َرًِبا لم يكن عال ً‬
‫الصانع الد ِّرب يحذق‪ ،‬وغير الد ِّرب يعطل" !!‬
‫‪1258‬‬

‫وعليه قطع جابر خطوة أبعد مما قطع اليونان في وضع التجربة‬
‫أساس العمل ل اعتماًدا على التأمل الساكن‪.‬‬
‫لقد كانت أعمال جابر القائمة على التجربة المعملية أهم‬
‫محاولة جادة قامت آنذاك لدراسة الطبيعة دراسة علمية دقيقة؛ فهو‬
‫شر بالمنهج التجريبي المخبري‪ ،‬وتكاد الجراءات التي كان‬ ‫أول من ب ّ‬
‫يتبعها في أبحاثه تطابق ما يقوم به المشتغلون بالمنهج العلمي اليوم؛‬
‫وتتلخص إجراءاته في خطوات ثلث‪:‬‬
‫الولى‪ -‬أن يأتي الكيميائي بفرض يفرضه من خلل مشاهداته‪،‬‬
‫وذلك حتى يفسر الظاهرة التي يريد تفسيرها‪.‬‬
‫الثانية‪ -‬أن يستنبط مما افترضه نتائج تترتب عليه نظرًيا‪.‬‬
‫‪ 1255‬انظر علي عبد الله الدفاع‪ :‬روائع الحضارة العربية السلمية ص ‪ ،274‬وانظر في الموضوع‬
‫ضا‪ :‬جلل مظهر‪ :‬حضارة السلم وأثرها في الترقي العالمي‪ ،‬مكتبة الخانجي ‪ -‬القاهرة ص‬ ‫أي ً‬
‫‪. 269 ،268‬‬
‫‪ 1256‬جابر بن حيان‪ :‬كتاب التجريد‪ ،‬ضمن مجموعة حققها ونشرها هولميارد بعنوان‪ :‬مصنفات في‬
‫علم الكيمياء للحكيم جابر بن حيان‪ ،‬باريس ‪1928‬م‪.‬‬
‫‪ 1257‬جابر بن حيان‪ :‬كتاب الخواص الكبير ص ‪ ،232‬ضمن مجموعة كراوس‪.‬‬
‫‪ 1258‬جابر بن حيان‪ :‬كتاب السبعين ص ‪ ،464‬ضمن مجموعة كراوس‪.‬‬
‫الثالثة‪ -‬أن يعود بهذه النتائج إلى الطبيعة ليتثبت ما إذا كانت‬
‫ستصدق على مشاهداته الجديدة أم ل؛ فإن صدقت تحولت الفرضية‬
‫ول عليه في التنبؤ بما يمكن أن يحدث في‬ ‫إلى قانون علمي ُيع ّ‬
‫الطبيعة إذا توافرت ظروف بعينها ‪.‬‬
‫‪1259‬‬

‫ولقد اهتم هولميارد‪ Holmyard‬بأعمال جابر ومنهجه العلمي‬


‫ومؤلفاته‪ ،‬وعكف على إبراز القيمة العلمية لعمله‪ ،‬وتراه بعد ذلك‬
‫يقول‪" :‬إن الصنعة الخاصة عند جابر هي أنه قد عرف وأ ّ‬
‫كد على‬
‫أهمية التجريب بشكل أوضح من كل من سبقه من الخيميائيين "‪.‬‬
‫‪1260‬‬

‫وليات وإنجازات‬ ‫جابر بن حيان‪ ..‬أ ّ‬


‫قام جابر بإجراء كثير من العمليات المخبرية‪ ،‬كان بعضها‬
‫ت جديدة‪ .‬ومن الوسائل التي‬ ‫وره‪ ،‬وأدخل عمليا ٍ‬ ‫ل فط ّ‬ ‫معروًفا من قب ُ‬
‫ّ ‪1262‬‬
‫خر‪ ،‬والتقطير ‪ ،‬والتبلر ‪ ،‬والتسامي ‪،‬‬
‫‪1263‬‬ ‫‪1261‬‬
‫استخدمها‪ :‬الّتب ّ‬
‫صهر‪ ،‬والتكثيف‪ ،‬والذابة‪ ،‬ودرس خواص بعض‬ ‫والترشيح ‪ ،‬وال ّ‬
‫‪1264‬‬

‫المواد دراسة دقيقة؛ فتعرف على أيون الفضة النشادري المعقد‪.1265‬‬


‫كما قام بتحضير عدد كبير من المواد الكيميائية‪ ،‬فهو أول من‬
‫ضر أكسيد الزئبق‪،‬‬ ‫شب‪ ،‬وح ّ‬ ‫ضر حمض الكبريتيك بالتقطير من ال ّ‬ ‫ح ّ‬
‫وحمض النتريك؛ أي ماء الفضة‪ ،‬وكان يسميه الماء المحلل أو ماء‬
‫مى بروح الملح‪ ،‬وهو أول من‬ ‫النار‪ ،‬وحضر حمض الكلوريدريك المس ّ‬
‫ماها‬‫اكتشف الصودا الكاوية‪ ،‬وأول من استخرج نترات الفضة وقد س ّ‬
‫حجر جهنم‪ ،‬وثاني كلوريد الزئبق )السليماني(‪ ،‬وحمض‬
‫مي كذلك لنه يذيب الذهب‬ ‫س ّ‬ ‫النتروهيدروكلوريك )الماء الملكي(‪ ،‬و ُ‬
‫ملك المعادن‪.‬‬
‫وهو أول من لحظ رواسب كلوريد الفضة عند إضافة ملح‬
‫الطعام إلى نترات الفضة‪ ،‬كما استخدم الشب في تثبيت الصباغ في‬
‫ضر بعض المواد التي تمنع الثياب من البلل؛ وهذه المواد‬ ‫القمشة‪ ،‬وح ّ‬
‫هي أملح اللومنيوم المشتقة من الحماض العضوية ذات الجزاء‬
‫سب النحاس اللون‬ ‫الهيدروكربونية‪ ،‬ومن استنتاجاته أن اللهب ُيك ِ‬
‫الزرق‪ ،‬بينما يكسب النحاس اللهب لوًنا أخضر‪ .‬وهو أول من فصل‬

‫‪ 1259‬انظر حكمت نجيب‪ :‬دراسات في تاريخ العلوم عند العرب ص ‪ – 266‬جلل مظهر‪ :‬حضارة‬
‫السلم وأثرها في الترقي العالمي ص ‪ - 279 ،278‬أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه‬
‫العالم ص ‪.17‬‬
‫‪ 1260‬عمر فروخ‪ :‬تاريخ العلوم عند العرب ص ‪.251‬‬
‫‪ 1261‬هو فصل الجسم المراد تحضيره بتصعيده إلي بخار ثم تكثيفه إلي سائل‪.‬‬
‫‪ 1262‬هو فصل البلورات من ماء البحر المالح والحالت المشابهة‪.‬‬
‫‪ 1263‬هو فصل الجسم الطيار بتسخينه حيث يتكاثف بخاره إلي مادة صلبة دون المرور على‬
‫الحالة السائلة‪.‬‬
‫كن بواسطة منخل أو قطعة قماش أن يرشح كثيًرا من المواد‪.‬‬ ‫‪ 1264‬تم ّ‬
‫‪ 1265‬انظر حكمت نجيب‪ :‬دراسات في تاريخ العلوم عند العرب ص ‪ ،266‬جلل مظهر‪ :‬حضارة‬
‫السلم وأثرها في الترقي العالمي ص ‪.281 ،280‬‬
‫الذهب عن الفضة بالحل بوساطة الحمض‪ ،‬وشرح بالتفصيل عملية‬
‫تحضير الزرنيخ‪ ،‬وتنقية المعادن‪ ،‬وصبغ القمشة‪.1266‬‬
‫ل من استعمل الميزان الحساس والوزان‬ ‫وُيعَزى إليه أنه أو ُ‬
‫متناهية الدقة في تجاربه المخبرية؛ وقد وزن مقادير يقل وزنها عن‬
‫سب إليه تحضير مركبات كل من كربونات‬ ‫‪ 1/100‬من الرطل‪ ،‬وُين َ‬
‫البوتاسيوم والصوديوم والرصاص القاعدي والثمد )النتيمون(‪ ،‬كما‬
‫استخدم ثاني أكسيد المنجنيز لزالة اللوان في صناعة الزجاج‪ ،‬كما‬
‫بلور جابر النظرية التي مفادها أن التحاد الكيميائي يتم باتصال ذرات‬
‫ل من الزئبق‬ ‫العناصر المتفاعلة مع بعضها‪ ،‬ومّثل على ذلك بك ّ‬
‫والكبريت عندما يتحدان ويكونان مادة جديدة‪ .‬وقد كان يجري معظم‬
‫شف في أنقاض مدينة الكوفة في أواخر‬ ‫تجاربه في مختبر خاص اكت ُ ِ‬
‫القرن الثاني عشر الهجري‪ ،‬الثامن عشر الميلدي ‪.‬‬
‫‪1267‬‬

‫مؤّلفات جابر‬
‫في مجمل مصنفاته يقول لوبون ‪" :G. Lebon‬تتألف من كتب‬
‫جابر موسوعة علمية تحتوي على خلصة ما وصل إليه علم الكيمياء‬
‫عند العرب في عصره‪ ،‬وقد اشتملت كتبه على بيان مركبات كيميائية‬
‫كانت مجهوله قبله"‪.1268‬‬
‫فقد كان لجابر بن حيان العديد من المؤلفات العلمية‪ ،‬والتي‬
‫تأثر بها الغرب ونقل عنها‪ ،‬حتى قرر ابن النديم أن له ‪ 306‬كتاًبا في‬
‫الكيمياء بأسلوبه الخاص في أنحاء العالم‪ ،‬ورغم أن معظمها قد فُ ِ‬
‫قد‪،‬‬
‫ظا في مكتبات الشرق‬ ‫إل أنه يوجد منها الن ثمانون كتاًبا محفو ً‬
‫م كتبه إلى اللتينية في القرن الثاني عشر‬ ‫والغرب‪ ،‬وقد ت َْرجم معظ َ‬
‫الميلدي روبرت الشستري )ت ‪539‬هق ‪1144 /‬م( وجيرار الكريموني‬
‫)ت ‪583‬هق ‪1187 /‬م( وغيرهما‪ ،‬ومّثلت مصنفاته المترجمة الركيزة‬
‫التي انطلق منها علم الكيمياء الحديث في العالم‪.1269‬‬
‫وي ُعَد ّ كتاب )السموم ودفع مضارها( أشهر مؤلفات جابر ويقع‬
‫سم السموم إلى حيوانية ونباتية وحجرية‪،‬‬ ‫في خمسة فصول‪ ،‬وفيه ق ّ‬
‫وذكر الدوية المضادة لها وتفاعلها في الجسم‪ ،‬وهذا الكتاب يعتبر‬
‫همزة وصل بين الطب والكيمياء‪.‬‬

‫‪ 1266‬انظر في ذلك‪ :‬جلل مظهر‪ :‬حضارة السلم وأثرها في الترقي العالمي ص ‪.281‬‬
‫‪ 1267‬راجع في إنجازات جابر‪ :‬العلم ‪ ،2/104‬أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم‬
‫ص ‪ ،17‬علي عبد الله الدفاع‪ :‬روائع الحضارة العربية السلمية ص ‪ ،275‬عبد الحليم منتصر‪:‬‬
‫تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه ص ‪ -106 ،105‬الموسوعة العربية العالمية على‬
‫شبكة النترنت‪ ،‬الرابط‪:‬‬
‫جابر‪20%‬بن‪20%‬حيان!!=‪http://www.mawsoah.net/gae_portal/maogen.asp?main2&articleid‬‬
‫_‪329556‬‬
‫‪ 1268‬جوستاف لوبون‪ :‬حضارة العرب ص ‪.25‬‬
‫‪ 1269‬راجع ابن النديم‪ :‬الفهرست ص ‪ ،420‬العلم ‪ ،103 /2‬محمد علي عثمان‪ :‬مسلمون علموا‬
‫العالم ص ‪ ،64‬أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪.17‬‬
‫ضا كتابه )الخواص الكبير(‪ ،‬ونسخته الصلية‬ ‫ومن أشهر كتبه أي ً‬
‫موجودة في المتحف البريطاني‪.‬‬
‫ضا كتاب )التدابير(‪ ،‬وتعني العمل القائم على التجربة‪،‬‬ ‫وله أي ً‬
‫وكتاب )الموازين(‪ ،‬وكتاب )الحديد( وفيه يصف جابر عملية استخراج‬
‫الحديد الصلب من خاماته الولى‪ ،‬كما يصف كيفية صنع الفولذ‬
‫بوساطة الصهر بالبواتق‪ .‬ومن كتبه كذلك )نهاية التقان( وهو مؤلف‬
‫رائد في الكيمياء‪ ،‬ورسالة )في الفران(‪.‬‬
‫ضا رسائل عن المرايا‪ ،‬كما أّلف كتاب )السبعين( والذي‬ ‫وله أي ً‬
‫يشمل سبعين مقالة حول أهم تجاربه في الكيمياء والنتائج التي‬
‫توصل إليها‪ ،‬ويمكن اعتباره خلصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند‬
‫العرب في عصره‪.‬‬
‫وله كذلك كتاب )الرحمة( أّلفه في الخيمياء وتطرق فيه إلى‬
‫إمكانية تحويل المعادن إلى ذهب‪ ،‬وكتاب )الجمل العشرون( و)أسرار‬
‫الكيمياء( )وأصول الكيمياء(‪ ،‬وهذا غير مؤلفات أخرى في الرياضيات‬
‫والفلسفة والشعر‪ ،‬وقد ترجمت بعض كتبه إلى اللتينية مثل كتاب‬
‫السبعين وكتاب الرحمة‪ ،‬وهناك كتب له باللتينية لم يتم العثور على‬
‫أصولها العربية‪ ،‬مثل‪) :‬البحث عن الكمال( و)كتاب العهد( و)كتاب‬
‫التون(‪.1270‬‬
‫جمت كتب جابر إلى اللتينية‪ ،‬وظّلت المرجع الوفى‬ ‫ولقد ُتر ِ‬
‫للكيمياء زهاء ألف عام‪ ،‬وكانت مؤلفاته موضع دراسة مشاهير علماء‬
‫الغرب‪ ،‬أمثال‪ :‬كوب‪ ،‬وبرثوليه‪ ،‬وكراوس‪ ،‬وهولميارد الذي أنصفه‬
‫دد الشكوك التي أثارها حوله العلماء‬ ‫ووضعه في القمة‪ ،‬وب ّ‬
‫ضا سارتون الذي أّرخ به حقبة من الزمن في تاريخ‬ ‫المغرضون‪ .‬وأي ً‬
‫در جابر أن الكتب التي أّلفها ل يمكن‬ ‫الحضارة السلمية‪ ،‬يقول‪" :‬ما ق ّ‬
‫أن تكون من وضع رجل عاش في القرن الثاني للهجرة لكثرتها‬
‫ووفرة ما بها من معلومات"‪.1271‬‬

‫‪ 1270‬انظر في مؤلفاته‪ :‬ابن النديم‪ :‬الفهرست ص ‪ 421‬وما بعدها‪ ،‬الزركلي‪ :‬العلم ‪،103 /2‬‬
‫أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪ ،17‬رحاب خضر عكاوي‪ :‬موسوعة عباقرة‬
‫السلم ‪ 4/29‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪ 1271‬انظر عبد الحليم منتصر‪ :‬تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه ص ‪.106‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫الخوارزمي‬
‫"إذا انتقلنا إلى الرياضيات والفلك فسنلتقي منذ البدء بعلماء‬
‫من الطراز الول‪ ،‬ومن أشهر هؤلء العلماء أبو عبد الله محمد بن‬
‫موسى الخوارزمي"!!‬
‫ليست تلك المقولة من تعبيري‪ ،‬وإنما هي لحد المستشرقين‬
‫الذين ع ُُنوا بعلوم المسلمين‪ ،‬وعرفوا فضل إسهاماتهم‪ ،‬وهو‬
‫المستشرق "ألدو ميلي"‪.‬‬
‫فالخوارزمي الرياضي والجغرافي والفلكي ي ُعَد ّ من أكبر علماء‬
‫المسلمين‪ ،‬ومن العلماء العالميين الذين كان لهم تأثير كبير على‬
‫العلوم الرياضية والفلكية‪ .‬وهو مؤسس ومبتدع علم الجبر كعلم ٍ‬
‫ل عن الحساب‪ ،‬وقد أخذه الوربيون عنه‪ ،‬كما أّنه أول من‬ ‫مستق ّ‬
‫استعمل كلمة "جبر" للعلم المعروف الن بهذا السم‪ ،‬فحتى الن ما‬
‫زال الجبر يعرف باسمه العربي في جميع اللغات الوربية‪ ،‬وترجع كل‬
‫الكلمات التي تنتهي في اللغات الوربية بق "‪ "algorism/algorithme‬إلى‬
‫اسم الخوارزمي‪ ،‬كما يرجع إليه الفضل في تعريف الناس بالرقام‬
‫العربية؛ ولهذا كان الخوارزمي أهل ً لتسميته بأبي الجبر‪.1272‬‬
‫وتعود أصول الخوارزمي إلى خوارزم )أوزبكستان اليوم(‪،‬‬
‫وعاش في بغداد فيما بين سنة ‪ 164‬وسنة ‪ 235‬هجرية )الموافق‬
‫‪ 850 - 780‬ميلدية( وت ُوُّفي هناك‪ .‬وبرز في زمن خلفة المأمون‬
‫)مدة خلفته من ‪218 - 198‬هق(‪ ،‬ولمع في علم الرياضيات والفلك‪.‬‬
‫لما كان والد المأمون )الخليفة هارون الرشيد( يريد توطيد‬
‫العلم في أنحاء العالم السلمي المترامي الطراف‪ ،‬فقد سار على‬
‫سس بيت الحكمة‪ ،‬والذي كان يحتوي على‬ ‫دربه ابنه )المأمون( وأ ّ‬
‫صا مترجمة لهم الكتب اللتينية‪ ،‬ثم عّين الخوارزمي‬ ‫مكتبة تضم نصو ً‬
‫سا له‪ ،‬وعهد إليه بجمع الكتب اليونانية وترجمتها‪ ،‬المر الذي أفاد‬‫رئي ً‬
‫الخوارزمي كثيًرا؛ حيث درس الرياضيات‪ ،‬والجغرافيا‪ ،‬والفلك‪،‬‬
‫ة إلى إحاطته بالمعارف اليونانية والهندية‪ ،‬حتى كان‬‫والتاريخ‪ ،‬إضاف ً‬
‫نبوغه في حدود سنة ‪ 205‬هجرية ‪.‬‬
‫‪1273‬‬

‫‪ 1272‬راجع محمد علي عثمان‪ :‬مسلمون عّلموا العالم ص ‪ – 75 ،74‬أكرم عبد الوهاب‪100 :‬‬
‫عالم غيروا وجه العالم ص ‪.20‬‬
‫‪ 1273‬انظر ابن النديم‪ :‬الفهرست ص ‪ ،333‬إليان سيركيس‪ :‬معجم المطبوعات ‪ ،1/841‬أكرم‬
‫عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪ ،20‬علي عبد الله الد ّّفاع‪ :‬العلوم البحتة في‬
‫الحضارة العربية السلمية ص ‪.148‬‬
‫وقد حدثت تغييرات عديدة في اسمه عند الغربيين بعد وفاته‪،‬‬
‫رف بق )‪ (alchwarizmi‬و)‪ (al-karismi‬و)‪ (algoritmi‬و)‪(algorismi‬‬ ‫حيث ع ُ ِ‬
‫و)‪ (algorism‬وقد أصبحت الكلمة الخيرة )‪ (algorism‬تعني الحساب‬
‫في اللغة النجليزية الحديثة‪.1274‬‬
‫الخوارزمي وعلم الجبر‬
‫ل المعادلت‬‫ح ّ‬
‫كلمة جبر تعبير استخدمه )الخوارزمي( من أجل َ‬
‫بعد تكوينها‪ ،‬ومعناه أن طرًفا من طرفي المعادلة يكمل ويزداد على‬
‫الخر وهو الجبر‪ ،‬والجناس المتجانسة في الطرفين تسقط منها‪ ،‬وهو‬
‫ن‪ :‬ب س ‪ +‬ج= أ س ‪2 + 2‬ب س‪ -‬جق‬ ‫المقابلة أي أ ّ‬
‫تصبح بعد الجبر ب س‪2 +‬جق= أ س ‪2 +2‬ب س‪.‬‬
‫وتصبح بالمقابلة ‪2‬جق= أ س ‪ +2‬ب س‪.‬‬
‫واسم الجبر في جميع لغات العالم مشتق من الكلمة العربية‬
‫)الجبر(‪ ،‬وهي التي استخدمها )الخوارزمي( في كتابه )الجبر‬
‫والمقابلة( كما سيأتي الحديث عنه‪.‬‬
‫وقد اشتغل المسلمون بالجبر واستعملوه حتى نبغوا فيه‪ ،‬بينما‬
‫كان بمثابة اللغاز بالنسبة للوربيين؛ يقول الدكتور ديفيد يوجين‬
‫ف‬‫ن الجبر ع ُرِ َ‬
‫سميث في كتابه )تاريخ الرياضيات ‪ -‬المجلد الثاني(‪" :‬إ ّ‬
‫في اللغة النجليزية في القرن السادس عشر الميلدي بالجبر‬
‫صَر في النهاية من مخطوطة محمد‬ ‫ن هذا السم اخت ُ ِ‬‫والمقابلة‪ ،‬ولك ّ‬
‫بن موسى الخوارزمي الذي نال الشهرة العظيمة عام ‪825‬م‪ ،‬وذلك‬
‫في بيت الحكمة في بغداد حيث أّلف هناك كتابه القيم "الجبر‬
‫ل الكثير من المعادلت ذات الدرجة الولى والثانية‬ ‫والمقابلة"‪ ،‬وفيه ح ّ‬
‫من ذات المجهول الواحد"‪.‬‬
‫ن‬‫واعترف رام لندو في كتابه )مآثر العرب في الحضارة( بأ ّ‬
‫الخوارزمي "ابتكر علم الجبر‪ ،‬ونقل العدد من صفة البدائية الحسابية‬
‫لكمية محدودة إلى عنصر ذي علقة وحدود ل نهاية لها من‬
‫الحتمالت‪ ،‬ويمكننا القول بأن الخطوة من الحساب إلى الجبر هي‬
‫في جوهرها الخطوة من الكينونة إلى الملئمة‪ ،‬أو من العالم‬
‫الغريقي الساكن إلى العالم السلمي المتحرك البدي الرباني" ‪.‬‬
‫‪1275‬‬

‫‪ 1274‬انظر علي عبد الله الدفاع‪ :‬مبتكر علم الجبر‪ ..‬محمد بن موسى الخوارزمي‪ ،‬مجلة البحوث‬
‫السلمية – الرياض‪ ،‬العدد الخامس‪ ،‬الصدار من المحرم إلي الثانية لسنة ‪1400‬هق ‪،5/173‬‬
‫أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪.20‬‬
‫‪ 1275‬انظر علي عبد الله الدفاع‪ :‬مبتكر علم الجبر‪ ..‬محمد بن موسى الخوارزمي‪ ،‬مجلة البحوث‬
‫السلمية – الرياض‪ ،‬العدد الخامس‪ ،‬الصدار من المحرم إلي الثانية لسنة ‪1400‬هق ‪.5/173‬‬
‫ور الخوارزمي علم الجبر كعلم ٍ مستقل عن الحساب؛‬ ‫وقد ط ّ‬
‫ولذا ينسب إليه هذا العلم في جميع أنحاء المعمورة‪ ،‬فقد ابتكر‬
‫الخوارزمي في بيت الحكمة الفكر الرياضي بإيجاد نظام لتحليل كل‬
‫معادلت الدرجة الولى والثانية ذات المجهول الواحد بطرق جبرية‬
‫وهندسية‪.1276‬‬
‫مى جورج سارتون في كتابه )مقدمة من تاريخ‬ ‫ولذا فقد س ّ‬
‫العلوم( النصف الول من القرن التاسع بق "عصر الخوارزمي"؛ وذلك‬
‫حد ّ تعبير‬
‫ي في ذلك العصر على َ‬‫لن الخوارزمي كان أعظم رياض ّ‬
‫سارتون‪ ،‬ويستطرد سارتون فيقول‪" :‬وإذا أخذنا جميع الحالت بعين‬
‫ن الخوارزمي أحد أعظم الرياضيين في كل العصور"‪.‬‬ ‫العتبار فإ ّ‬
‫كد الدكتور أي وايدمان أن أعمال الخوارزمي‬ ‫وإضافة إلى ذلك أ ّ‬
‫تتميز بالصالة والهمية العظمى وفيها تظهر عبقريته‪ ،‬كما قال‬
‫الدكتور ديفيد بوجين سميث ولويس شارلز كاربينسكي في كتابهما‬
‫ن الخوارزمي هو الستاذ الكبير في‬ ‫)العداد الهندية والعربية(‪" :‬إ ّ‬
‫ُ‬
‫عصر بغداد الذهبي؛ إذ إنه أحد الكّتاب المسلمين الوائل الذين جمعوا‬
‫الرياضيات الكلسيكية من الشرق والغرب‪ ،‬محتفظين بها حتى‬
‫ة كبيرة‪،‬‬‫ن لهذا الرجل معرف ً‬
‫استفادت منها أوروبا المتيقظة آنذاك‪ .‬إ ّ‬
‫ويدين له العالم بمعرفتنا الحإلية لعلمي الجبر والحساب" ‪.‬‬
‫‪1277‬‬

‫وقد وجد الخوارزمي متسًعا من الوقت لكتابة علم الجبر حينما‬


‫كان منهم ً‬
‫كا في العمال الفلكية في بغداد‪ ،‬ويختص كتابه "الجبر‬
‫والمقابلة" بإيجاد حلول لمسائل عملية واجهها المسلمون في حياتهم‬
‫اليومية‪.1278‬‬
‫ن الرياضيات التي ورثها المسلمون عن اليونان تجعل حساب‬ ‫إ ّ‬
‫دا للغاية إن لم يكن‬
‫التقسيم الشرعي للممتلكات بين البناء معق ً‬
‫ل‪ ،‬وهذا هو ما قاد الخوارزمي للبحث عن طرق أدق وأشمل‪،‬‬ ‫مستحي ً‬
‫وأكثر قابلية للتكيف فابتدع علم الجبر‪.‬‬
‫وقد استعمل الخوارزمي الطريقة البيانية ليجاد جذر المعادلة‬
‫بكل نجاح؛ لذا فإن الخطأ بين موضعين ُيعتبر من ابتكاره‪ ،‬وهذه‬
‫ما في التحليل العددي‪ ،‬وُتعَرف في اللغة‬ ‫الطريقة لعبت دوًرا مه ً‬
‫النجليزية باسم )‪.(false positions‬‬

‫‪ 1276‬انظر كرم حلمي فرحات أحمد‪ :‬التراث العلمي للحضارة السلمية في الشام والعراق خلل‬
‫ضا المصدر السابق‪ :‬ص ‪.172‬‬
‫القرن الرابع الهجري ص ‪ ،643 ،642‬وانظر أي ً‬
‫‪ 1277‬انظر علي عبد الله الدفاع‪ :‬مبتكر علم الجبر‪ ..‬محمد بن موسى الخوارزمي‪ ،‬مجلة البحوث‬
‫ضا‪ :‬العلوم البحتة في الحضارة العربية والسلمية ص ‪.149‬‬
‫السلمية ‪ ،173 ،172 /5‬وله أي ً‬
‫انظر أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪.20‬‬
‫‪ 1278‬علي عبد الله الدفاع‪ :‬مبتكر علم الجبر‪ ..‬محمد بن موسى الخوارزمي‪ ،‬مجلة البحوث‬
‫ضا‪ :‬روائع الحضارة العربية السلمية في العلوم ص ‪.76‬‬‫السلمية ‪ ،5/187‬وله أي ً‬
‫وعرف الخوارزمي الوحدة المستعملة في المساحات‪،‬‬
‫واستخدم )التكسير( ويقصد بذلك المساحة‪ ،‬سواء كانت سطحية أو‬
‫حجمية‪ ،‬كما تطرق إلى إيجاد مساحات بعض السطوح مستقيمة‬
‫الضلع والجسام‪ ،‬والدائرة‪ ،‬والقطعة‪ ،‬والهرم الثلثي والرباعي‪،‬‬
‫والمخروط والكرة‪ ،‬كما استعمل النسبة التقريبية وقيمتها ط = ‪/8‬‬
‫‪ 22‬أو ‪ ،10‬لذا فإن الخوارزمي أثرى علم الجبر باستعماله بعض‬
‫الفكار الجبرية لمعرفة المساحة‪.‬‬
‫ت يستحيل فيها إيجاد‬‫وكان الخوارزمي يعرف أن هناك حال ٍ‬
‫قيمة للمجهول )الكميات الّتخّيلية( وسماها‪) :‬الحالة المستحيلة(‪،‬‬
‫ة بهذا السم بين علماء الرياضيات حتى بدأ العالم‬ ‫وبقيت معروف ً‬
‫السويسري ليونارد أويلر ‪leonhard euler (1707- 1783‬م( في تعريف‬
‫الكميات التخيلية بأنها‪ :‬الكمية التي إذا ضربت بنفسها كان الناتج‬
‫مقداًرا سالًبا‪ ،‬وأعطى كثيًرا من المثلة على هذا‪.‬‬
‫ثم جاء العالم اللماني كارل قاوس )‪1855 – 1777‬م( فركز‬
‫على دراسة الكميات التخيلية وخواصها‪ .‬والجدير بالذكر أن الكميات‬
‫التخيلية قادت في النهاية إلى معرفة علم التحليل المر ّ‬
‫كب الذي ُيعتبر‬
‫من أهم العلوم الرياضية في العصر الحديث‪ ،‬ومما ل يقبل الجدل‬
‫والتأويل أن الفضل في ذلك يرجع أول ً للعالم المسلم محمد بن‬
‫موسى الخوارزمي‪.‬‬
‫ولم يكتشف الخوارزمي علم الجبر ونظرية الخطأين )وهما أداة‬
‫أساسية في التحليل العلمي الرياضي( فحسب‪ ،‬وإنما وضع كذلك‬
‫أسس البحث التجريبي الحديث باستخدام النماذج الرياضية‪ ،‬كما نشر‬
‫جمت إلى‬ ‫أول الجداول العربية عن المثلثات للجيوب والظلل‪ ،‬وقد ُتر ِ‬
‫اللتينية في القرن الثاني عشر‪.1279‬‬
‫ة إلى إسهاماته الكبرى في الحساب‪ ،‬أبدع الخوارزمي‬ ‫وإضاف ً‬
‫ضا في علم الفلك‪ ،‬وأتى ببحوث جديدة في المثلثات‪ ،‬ووضع جدول ً‬ ‫أي ً‬
‫جا(‪ ،‬وقد كان لهذا الزيج الثر الكبير على الجداول الخرى‬ ‫فلكّيا )زي ً‬
‫التي وضعها العرب فيما بعد‪ ،‬إذ استعانوا به واعتمدوا عليه وأخذوا‬
‫منه‪ .‬وكان من أهم إسهامات الخوارزمي العلمية التحسينات التي‬
‫أدخلها على جغرافية بطليموس سواء بالنسبة للنص أو الخرائط ‪.‬‬
‫‪1280‬‬

‫مؤّلفات الخوارزمي‬
‫يقول محمد خان في كتابه )نظرة مختصرة لمآثر المسلمين‬
‫ن الخوارزمي يقف في الصف الول من‬ ‫في العلوم والثقافة(‪" :‬إ ّ‬
‫‪ 1279‬انظر المصدرين السابقين‪.‬‬
‫‪ 1280‬انظر أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪ - 20‬عبد الحليم منتصر‪ :‬تاريخ‬
‫العلم ودور العلماء العرب في تقدمه ص ‪. 108‬‬
‫صفوف الرياضيين في جميع العصور‪ ،‬وكانت مؤلفاته هي المصدر‬
‫الرئيسي للمعرفة الرياضية لعدة قرون في الشرق والغرب"‪.1281‬‬
‫وقد اهتم الخوارزمي في بداية المر بالكتشافات في علم‬
‫الرياضيات والفلك‪ ،‬ثم بعدها بدأ التأليف فصّنف كتًبا كثيرة‪ ،‬منها على‬
‫سبيل المثال ل الحصر‪:‬‬
‫‪ - 1‬كتاب )الجبر والمقابلة(‪ ،‬وهو الكتاب الرئيسي ذو الثر‬
‫الحاسم‪ ،‬والذي درس فيه تحويل المعادلت وحلها‪ ،‬وقد ترجمه إلى‬
‫اللتينية "جيراردو دي كريمونا" ونشر النص العربي )روزن( مع‬
‫ترجمة إنجليزية في لندن سنة ‪1851‬م‪.‬‬
‫ضا "يوحنا السباني" الذي ترجم من العربية إلى‬
‫وترجم له أي ً‬
‫اللتينية عدة مؤلفات في الفلك والنجوم‪ ،‬من بينها كتب للخوارزمي‪،‬‬
‫بفضلها انتقل الحساب الهندي والنظام العشري في الحساب إلى‬
‫أوروبا؛ حتى عرفت العمليات الحسابية باسم ‪ .Alguarismo‬والغريب‬
‫أنها ترجمت إلى العربية باسم "اللوغاريتمات" وهي في الصل‬
‫منسوبة إلى الخوارزمي!! والصحيح أن تترجم "الخوارزميات" أو‬
‫"الجداول الخوارزمية"‪.‬‬
‫وقد أصبح الكتاب مصدًرا أساسًيا في الرياضيات في الجامعات‬
‫ن جاء‬ ‫الوربية حتى القرن السادس عشر‪ ،‬وكان معظم ما أّلفه َ‬
‫م ْ‬
‫دا عليه‪ ،‬وقد نقله من اللغة العربية إلى‬
‫بعده في علم الجبر مستن ً‬
‫اللتينية روبرت أوف شستر ) ‪ (Robert of chester‬فاستنارت به أوروبا‪.‬‬
‫وحديًثا حقق الدكتوران علي مصطفى مشرفة ومحمد مرسي‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬وذلك في سنة ‪1968‬م‪.1282‬‬

‫‪ - 2‬كتاب في الجغرافيا شرح فيه آراء بطليموس‪.‬‬


‫‪ - 3‬كتاب جداول للنجوم وحركاتها من مجلدين‪.‬‬
‫‪ - 4‬كتاب شرح فيه طريقة معرفة الوقت بواسطة الشمس‪.‬‬
‫‪ - 5‬كتاب جمع فيه بين الحساب والهندسة والموسيقى والفلك‪،‬‬
‫ويقول البروفيسور جورج سارتون في كتابه )المدخل إلى تاريخ‬

‫‪ 1281‬علي عبد الله الدفاع‪ :‬مبتكر علم الجبر‪ ..‬محمد بن موسى الخوارزمي‪ ،‬مجلة البحوث‬
‫السلمية ‪.5/172‬‬
‫‪ 1282‬الدفاع‪ :‬مبتكر علم الجبر‪ ..‬محمد بن موسى الخوارزمي‪ ،‬مجلة البحوث السلمية ‪،5/187‬‬
‫ضا‪ :‬روائع الحضارة العربية السلمية في العلوم ص ‪ ،77‬ومحمد علي عثمان‪ :‬مسلمون‬ ‫وله أي ً‬
‫عّلموا العالم ص ‪ ،77‬وعبد الحليم منتصر‪ :‬تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه ص ‪.65‬‬
‫العلوم( عن هذا الكتاب‪ :‬إنه "يشتمل على خلصة دراساته ل على‬
‫ابتكاراته العظيمة"‪.‬‬
‫‪ - 6‬كتاب العمل بالسطرلب‪.‬‬
‫‪ - 7‬كتاب صنع السطرلب‪.‬‬
‫‪ - 8‬كتاب وضح فيه طريقة الجمع والطرح‪.‬‬
‫‪ - 9‬كتاب صورة الرض وجغرافيتها‪.‬‬
‫‪ - 10‬كتاب صورة الرض‪ ،‬نشر سنة ‪1929‬م‪.‬‬
‫‪ - 11‬كتاب المعرفة‪ ،‬وهو يبحث في علم النجوم‪.‬‬
‫‪ - 12‬كتاب زيج الخوارزمي الول‪.‬‬
‫‪ - 13‬كتاب زيج الخوارزمي الثاني‪ ،‬وهو جداول فلكية سماه‬
‫)السند هند(‪ ،‬جمع فيه بين مذهب الهند والفرس‪.‬‬
‫‪ - 14‬رسالة عن النسبة التقريبية وقيمتها الرياضية‪.‬‬
‫‪ - 15‬رسالة وضح فيها معنى الوحدة المستعملة في المساحات‬
‫والحجوم‪.‬‬
‫ما‬
‫‪ - 16‬رسالة ذكر فيها برهاًنا آخر لنظرية فيثاغورث مستخد ً‬
‫مثلًثا قائم الزاوية ومتساوي الساقين‪.‬‬
‫‪ - 17‬رسالة مفصلة وضح فيها قوانين لجمع المقادير الجبرية‬
‫وطرحها وضربها وقسمها‪.‬‬
‫‪ - 18‬رسالة شرح فيها طريقة إجراء العمليات الحسابية الربع‬
‫على الكميات الصم‪.‬‬
‫‪ - 19‬كتاب رسم الربع المعمور‪.‬‬
‫‪ - 20‬كتاب الجمع والتفريق‪.‬‬
‫‪ - 21‬كتاب الّرخامة )الرخامة قطعة من الرخام مخططة‬
‫تساعد على معرفة الوقت عن طريق الشمس(‪.‬‬
‫‪ - 22‬كتاب هيئة الرض‪.‬‬
‫‪ - 23‬كتاب المعاملت‪ ،‬ويتضمن المعاملت التي يقوم بها الناس‬
‫من بيع وشراء‪.1283‬‬
‫م؛ بحًثا واكتشاًفا‬
‫لقد عاش الخوارزمي ~ حياة ً عماُدها العل ُ‬
‫وتأليفا ابتغاء مرضاة الله ‪ ،‬وسعًيا وراء راحة البشرية‪ ،‬ورقي‬
‫من ِّية سنة ‪235‬هق‪850/‬م؛ فرحمه‬ ‫الحضارة‪ ،‬وظ ّ‬
‫ل كذلك حتى وافته ال َ‬
‫ة واسعة‪ ،‬وجزاه عن السلم والمسلمين خير الجزاء‪.‬‬ ‫الله رحم ً‬

‫‪ 1283‬انظر ابن النديم‪ :‬الفهرست ص ‪ ،333‬إليان سيركيس‪ :‬معجم المطبوعات ‪ ،1/841‬علي‬


‫عبد الله الدفاع‪ :‬مبتكر علم الجبر‪ ..‬محمد بن موسى الخوارزمي‪ ،‬مجلة البحوث السلمية‬
‫ضا‪ :‬العلوم البحتة ص ‪.173 ،172‬‬
‫‪ ،187 ،5/186‬وله أي ً‬
‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫الرازي‬
‫الرازي‪ ..‬معجزة الطب عبر الجيال‬
‫ما فقط‪ ..‬ولكنه أبدع‬
‫لم يكن الرازي طبيًبا فحسب‪ ،‬ول معل ً‬
‫كذلك في مجالت الخلق والقيم والدين‪ ..‬كما أبدع ‪ -‬ول شك في‬
‫ما من أعلم الفضيلة‪ ،‬كما‬ ‫ذلك ‪ -‬في مجال النسانية‪ ..‬حتى أصبح عل ً‬
‫ما من أعلم الطب‪ ..‬ول شك أن هذا الرجل العظيم من أعظم‬ ‫كان عل ً‬
‫صور الحضارة السلمية‪..‬‬
‫فهو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي‪ ..‬وقد وُل ِد َ في مدينة الّري‪,‬‬
‫سب‪ ..‬ومدينة الري تقع على بعد ستة كيلومترات جنوب‬ ‫وإليها ن ُ ِ‬
‫شرقي طهران‪ ,‬وكان ميلده في سنة ‪250‬هق )‪864‬م(‪ ،‬وكان منذ‬
‫طفولته محًبا للعلم والعلماء‪ ،‬فدرس في بلدته "الري" العلوم‬
‫مه لطلب‬ ‫شبع ن َهَ َ‬‫الشرعية والطبية والفلسفية‪ ،1284‬ولكن هذا لم ي ُ ْ‬
‫العلم؛ فلم تكن مدينة الري ‪ -‬على اتساعها وكثرة علمائها ‪ -‬بالمدينة‬
‫مم الرازي وجهه‬ ‫التي تحوي علوم الرض في ذلك الوقت‪ ..‬ولذلك ي ّ‬
‫شطر عاصمة العلم في العالم في ذلك الوقت‪ ,‬وهي "بغداد" عاصمة‬
‫شبه بعثة علمية مكثفة‪ ،‬تعلم فيها‬ ‫الخلفة العباسية‪ ،‬فذهب إليها في ِ‬
‫كز اهتمامه في الساس على الطب‪ ،‬وكان‬ ‫ما كثيرة‪ ،‬ولكنه ر ّ‬ ‫علو ً‬
‫أستاذه الول في هذا المجال هو "علي بن زين الطبري"‪ ،‬وهو صاحب‬
‫أول موسوعة طبية عالمية )فردوس الحكمة(‪..1285‬‬
‫ضا بالعلوم التي لها علقة بالطب‪ ،‬كعلم الكيمياء‬
‫م الرازي أي ً‬
‫اهت ّ‬
‫والعشاب ‪ ،‬وكذلك علم الفلسفة؛ لكونه يحوي أراء الكثير من‬
‫‪1286‬‬

‫ضا‪ ..‬وكان أستاذه‬‫الفلسفة اليونان والذين كانوا يتكلمون في الطب أي ً‬


‫الول في الفلسفة هو "البلخي"‪ ،1287‬وهكذا أنفق الرازي عدة سنوات‬
‫من عمره في تعلم كل ما يقع تحت يديه من أمور الطب‪ ،‬حتى تفوق‬
‫في هذا المجال تفوًقا ملمو ً‬
‫سا‪..‬‬
‫ثم عاد الرازي بعد هذا التميز إلى الري‪ ,‬فتقّلد منصب مدير‬
‫مستشفي مدينة الري‪ ،‬وكان من المستشفيات المتقدمة في السلم‪،‬‬
‫وذاعت شهرته‪ ،‬ونجح في علج الكثير من الحالت المستعصية في‬
‫زمانه‪ ،‬وسمع بأمره الكبير والصغير والقريب والبعيد‪ ..‬حتى سمع به‬
‫"عضد الدولة بن بويه" كبير الوزراء في الدولة العباسية‪ ,‬فاستقدمه‬
‫إلى بغداد ليتولى منصب رئيس الطباء في المستشفي العضدي‪ ،‬وهو‬
‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬عيون النباء في طبقات الطباء ‪.1/63‬‬ ‫‪1284‬‬

‫مصطفى وهبة‪ :‬نوابغ المسلمين ‪.1/117‬‬ ‫‪1285‬‬

‫القنوجي‪ :‬أبجد العلوم ‪.3/114‬‬ ‫‪1286‬‬

‫ابن النديم‪ :‬الفهرست ‪.1/416‬‬ ‫‪1287‬‬


‫أكبر مستشفي في العالم في ذلك الوقت‪ ،‬وكان يعمل به خمسون‬
‫طبيًبا‪..1288‬‬
‫والحق أنه لم يكن مستشفى فقط‪ ,‬بل كان جامعة علمية‪,‬‬
‫وكلّية للطب على أعلى مستوى‪ ..‬وقد أصبح الرازي فيه مرجعية‬
‫علمية ل مثيل لها‪ ،‬ليس في بغداد فقط‪ ،‬وإنما في العالم كله‪ ،‬وليس‬
‫على مدى سنوات معدودة‪ ،‬ولكن لقرون متتالية‪ ..‬فكان معجزة‬
‫الطب عبر الجيال!!‬
‫دا أن نقف وقفة ونتساءل‪ :‬كيف وصل‬‫ولعّله من المهم ج ً‬
‫الرازي إلى هذا المجد‪ ..‬وإلى هذه المكانة؟‬
‫لبد ّ أن نعلم أن النجاح ل يأتي مصادفة‪ ،‬وأن التفوق ل يكون إل‬
‫دا‪ ..‬إنما‬
‫بجهد وتعب وبذل وتضحية‪ ..‬كما أن البداع ل يكون عشوائًيا أب ً‬
‫يحتاج إلى تخطيط وتدريب ومهارة‪ ..‬وهكذا كانت حياة الرازي ~‪..‬‬
‫لقد بحث الرازي عن العلم في كل مصادره‪ ،‬واجتهد قدر‬
‫استطاعته في تحصيل كل ما يقع تحت يده من معلومات‪ ،‬ثم أتبع‬
‫دل في‬
‫ذلك بتفكير عميق وتجارب متعددة ودراسة متأنية‪ ..‬حتى بدأ يع ّ‬
‫النظريات التي يقرؤها‪ ..‬وأخذ ينقد ويحلل‪ ..‬ثم وصل إلى الختراع‬
‫والبداع‪..‬‬
‫لقد انتشر في زمان الرازي الطب اليوناني والفارسي والهندي‬
‫والمصري نتيجة اجتهاد العلماء في ترجمة كتب تلك المم‪ ،‬فقرأها‬
‫الرازي جميًعا‪ ،‬لكنه لم يكتف بالقراءة بل سلك مسل ً‬
‫كا رائًعا من‬
‫أرقى مسالك العلم وهو الملحظة والتجربة والستنتاج‪..‬‬
‫فقد كان الطب اليوناني هو أهم طب في تلك الفترة‪ ،‬ولكنه‬
‫كان يعتمد في الساس على النظريات غير المجّربة‪ ..‬وكان كل أطباء‬
‫اليونان يعتمدون هذه الطريقة حتى عرفوا بفلسفة الطب‪ ،‬فهم لم‬
‫ل‪ ،‬ول ُيستثَنى من ذلك أحد ٌ من‬‫ُيخضعوا نظرياتهم لواقع الحياة إل قلي ً‬
‫أطباء اليونان حتى العمالقة منهم أمثال جإلينوس وأبقراط!! ولكن‬
‫الرازي قال كلمته المشهورة التي تعتبر الن قانوًنا من قوانين العلم‬
‫بصفة عامة‪ ,‬والطب بصفة خاصة‪ ..‬قال‪" :‬عندما تكون الواقعة التي‬
‫تواجهنا متعارضة والنظرية السائدة يجب قبول الواقعة‪ ،‬حتى وإن أخذ‬
‫دا لمشاهير العلماء‪!!1289"..‬‬‫الجميع بالنظرية تأيي ً‬
‫فهو يذكر أنه ليس لعالم مشهور أو غير مشهور أن يقرر نظرية‬
‫تتعارض مع المشاهدة الفعلية والتجربة الحقيقية والواقعة الحادثة‪ ،‬بل‬

‫الدفاع‪ :‬رواد في الحضارة السلمية ص ‪.218‬‬ ‫‪1288‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬طبقات الطباء ‪.78،77 /1‬‬ ‫‪1289‬‬


‫دم الملحظة والتجربة؛ وبذلك ي ُب َْنى الستنتاج على ضوء الحقائق ل‬‫ق ّ‬
‫تُ َ‬
‫الفتراضات الجدلية‪..‬‬
‫قا من مبدأ‪ ،‬وما أبدعها من طريقة!!‬
‫ما أروعه ح ً‬
‫ولذلك نجد أن الرازي كثيًرا ما انتقد آراء العلماء السابقين‬
‫صا للرد على جإلينوس‬ ‫صي ً‬‫نتيجة تجاربه المتكررة‪ ،‬بل إنه أّلف كتاًبا خ ّ‬
‫مى الكتاب "الشكوك على جإلينوس"‪ ,‬وذكر‬ ‫أعظم أطباء اليونان وس ّ‬
‫في هذا الكتاب الخطاء التي وقع فيها جإلينوس‪ ،‬والتصويب الذي قام‬
‫هو به لهذه الخطاء‪ ،‬وكيف وصل إلى هذه النتائج‪..1290‬‬
‫صا على سؤال المريض عن كل ما يتعلق‬ ‫وكان الرازي حري ً‬
‫بالمرض تقريًبا من قريب أو بعيد وكان يقول‪" :‬إن الطبيب ينبغي أل‬
‫مساَءلة المريض عن كل ما يمكن أن يقوله عن عّلته"‪ ،1291‬وهذه‬ ‫يدع ُ‬
‫أول خطوة في التعامل مع المريض في الطب الحديث‪ ،‬وهي معرفة‬
‫تاريخ المرض والمور المحتملة التي قد تكون سّببت المرض‪ ،‬ثم‬
‫يقوم الرازي بالكشف على المريض وقياس الحرارة والنبض‪ ،‬وإذا‬
‫استلزم المر أن يدخل المريض المستشفي فإنه يضعه تحت‬
‫الملحظة الدقيقة المستمرة لتسجيل كل معلومة قد تكون مفيدة‬
‫في كشف سبب المرض‪ ,‬أو في وصف العلج‪ ..‬وقد كان الرازي من‬
‫الدقة إلى درجة أذهلت من قرأ تعليقاته على الحالت المرضية التي‬
‫وصفها‪..‬‬
‫بل إن الرازي وصل إلى ما هو أروع من ذلك‪ ،‬حيث أرسى‬
‫دعائم الطب التجريبي على الحيوانات‪ ،‬فقد كان يجرب بعض الدوية‬
‫على القرود فإن أثبتت كفاءة وأماًنا جربها مع النسان‪ ،‬وهذا من أروع‬
‫ما يكون‪ ،‬ومعظم الدوية الن ل يمكن إجازتها إل بتجارب على‬
‫الحيوانات كما كان يفعل الرازي ~‪..1292‬‬
‫ولقد كان من نتيجة هذا السلوب العلمي المتميز للرازي‪ ،‬أن‬
‫قا علمًيا في كثير من‬
‫وصل إلى الكثير من النتائج المذهلة‪ ،‬وحقق سب ً‬
‫المور‪..‬‬
‫فالرازي هو أول مبتكر لخيوط الجراحة‪ ،‬وقد ابتكرها من أمعاء‬
‫القطة! وقد ظلت تستعمل بعد وفاته لعدة قرون‪ ،‬ولم يتوقف‬
‫الجراحون عن استعمالها إل منذ سنوات معدودة في أواخر القرن‬
‫العشرين‪ ،‬عند اختراع أنواع أفضل من الخيوط‪ ،‬وهذه الخيوط هي‬
‫المعروفة بخيوط أمعاء القط‪..1293"cat gut" ..‬‬
‫أصيبعة‪ :‬طبقات الطباء ‪.1/68‬‬ ‫ابن أبي‬ ‫‪1290‬‬

‫أصيبعة‪ :‬طبقات الطباء ‪.3/27‬‬ ‫ابن أبي‬ ‫‪1291‬‬

‫أصيبعة‪ :‬طبقات الطباء ‪.1/78‬‬ ‫ابن أبي‬ ‫‪1292‬‬

‫الحاج قاسم محمد‪ :‬الموجز لما أضافة العرب في الطب ص ‪.43‬‬ ‫محمود‬ ‫‪1293‬‬
‫والرازي هو أول من صنع مراهم الزئبق‪..1294‬‬
‫وهو أول من فّرق بين النزيف الوريدي والنزيف الشرياني‪،‬‬
‫واستخدام الضغط بالصابع ليقاف النزف الوريدي‪ ،‬واستخدم الربط‬
‫ليقاف النزيف الشرياني‪ ،‬وهذا عين ما يستخدم الن!!‬
‫وهو أول من وصف عملية استخراج الماء من العيون‪..1295‬‬
‫وهو أول من استخدم الفيون في علج حالت السعال الجاف‪..‬‬
‫وهو أول من أدخل الملّينات في علم الصيدلة‪..‬‬
‫ضا‪..1296‬‬
‫ضا ل مر ً‬
‫مى عر ً‬
‫وهو أول من اعتبر الح ّ‬
‫وكان ~ يهتم بالتعليق على وصف البول ودم المريض للخروج‬
‫منهما بمعلومات تفيده في العلج‪..1297‬‬
‫كما نصح بتجنب الدوية الكيميائية إذا كانت هناك فرصة للعلج‬
‫بالغذاء والعشاب‪ ،‬وهو عين ما ينصح به الطباء الن‪..1298‬‬
‫عا في فرع واحد من فروع الطب‪ ،‬بل قدم‬ ‫ولم يكن الرازي مبد ً‬
‫حا مفصل ً للمراض الباطنية والطفال والنساء والولدة والمراض‬‫شر ً‬
‫التناسلية والعيون والجراحة وغير ذلك‪..‬‬
‫وقد منحه الله ذكاء فوق العادة‪ ،‬ويؤكد ذلك وسيلته في اختيار‬
‫المكان المناسب لنشاء مستشفي كبير في بغداد‪ ..‬فقد اختار أربعة‬
‫أماكن تصلح لبناء المستشفي‪ ،‬ثم بدأ في المفاضلة بينها‪ ،‬وذلك بوضع‬
‫فن القطع‬‫قطعة لحم طازجة في الماكن الربعة‪ ..‬ثم أخذ يتابع تع ّ‬
‫الربع‪ ،‬ثم حدد آخر القطع تعفًنا‪ ،‬واختار المكان الذي ُوضعت فيه هذه‬
‫القطعة لبناء المستشفي؛ لنه أكثر الماكن تميًزا بجو صحي‪ ،‬وهواء‬
‫نقي يساعد على شفاء المراض‪..1299‬‬
‫ما‬
‫ولم يكن الرازي مجرد طبيب يهتم بعلج المرض‪ ،‬بل كان معل ً‬
‫ما يهتم بنشر العلم وتوريث الخبرة‪ ،‬وكان رحمه لله يدرس‬
‫عظي ً‬
‫تلمذته الطب في المدرسة الطبية العظيمة في المستشفي العضدي‬
‫ببغداد‪ ،‬وكان يعتمد في تدريسه على المنهجين‪ :‬العلمي النظري‪،‬‬
‫والتجريبي الكلينيكي؛ فكان يدرس الكتب الطبية‪ ،‬وبعض‬

‫‪ 1294‬ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة ‪.4/4‬‬


‫‪ 1295‬محمود الحاج قاسم‪ :‬الطب عند العرب والمسلمين ص ‪ 308‬نقل عن عبد المنعم عبد‬
‫الحميد‪ :‬مجلة جامعة الموصل عدد ‪ ،15‬السنة الثاني ص ‪.67‬‬
‫‪ 1296‬انظر‪ :‬محمود الحاج قاسم‪ :‬الطب عند العرب والمسلمين ص ‪.72‬‬
‫‪ 1297‬الرازي‪ :‬الحاوي ‪.10/10‬‬
‫‪ 1298‬مصطفى وهبة‪ :‬نوابغ المسلمين ‪.1/121‬‬
‫‪ 1299‬ابن أبي أصيبعة‪ :‬طبقات الطباء ‪.3/13‬‬
‫المحاضرات‪ ،‬ويدير الحلقات العلمية‪ ،‬وفي ذات الوقت يمر مع طلبته‬
‫سّرة المرضى‪ ..‬يشرح لهم ويعلمهم وينقل لهم خبرته‪ ،‬وكان‬ ‫على أ ِ‬
‫ُيدّرس لهم الطب في ثلث سنوات‪ ،‬ويبدأ بالمور النظرية ثم العملية‪،‬‬
‫ما كما يحدث في كليات الطب الن‪ ،‬وكان في آخر السنوات‬ ‫تما ً‬
‫الثلث يعقد امتحاًنا لطلبة الطب مكوًنا من جزأين‪ :‬الجزء الول في‬
‫التشريح‪ ،‬والثاني في الجانب العملي مع المرضى‪ ،‬ومن كان يفشل‬
‫ضا ما‬
‫في الجانب الول "التشريح" ل يدخل المتحان الثاني‪ ،‬وهذا أي ً‬
‫نمارسه الن في كليات الطب‪..1300‬‬
‫ولم يكن الرازي يكتفي فقط بالتدريس والتعليم والمتحانات‬
‫لنقل العلم‪ ،‬بل اهتم بجانب آخر ل يقل أهمية عن هذه الجوانب وهو‬
‫مكثًرا من التأليف وتدوين المعلومات وكتابة‬
‫جانب التأليف‪ ،‬فكان ~ ُ‬
‫الكتب الطبية‪ ،‬حتى أحصى له ابن النديم في كتابه "الفهرست" ‪113‬‬
‫ة وأنها جميًعا في مجال‬
‫كتاًبا و ‪ 28‬رسالة‪ ،‬وهذا عدد هائل‪ ،‬خاص ً‬
‫الطب‪..1301‬‬
‫وقد كان من أعظم مؤلفات الرازي كتاب "الحاوي في علم‬
‫التداوي"‪ ،‬وهو موسوعة طبية شاملة لكافة المعلومات الطبية‬
‫المعروفة حتى عصر الرازي‪ ،‬وقد جمع فيه ~ كل الخبرات الكلينيكية‬
‫التي عرفها‪ ،‬وكل الحالت المستعصية التي عالجها‪ ،‬وتتجلى في هذا‬
‫الكتاب مهارة الرازي ~‪ ،‬ودقة ملحظاته‪ ،‬وغزارة علمه‪ ،‬وقوة‬
‫استنتاجه‪..‬‬
‫جم هذا الكتاب إلى أكثر من لغة أوروبية‪ ،‬و ُ‬
‫طبع لول‬ ‫وقد ُتر ِ‬
‫مرة في بريشيا بشمال إيطإليا سنة ‪891‬هق )‪1486‬م(‪ ،‬وهو أضخم‬
‫عا في ‪25‬‬‫طبع بعد اختراع المطبعة مباشرة‪ ،‬وكان مطبو ً‬ ‫كتاب ُ‬
‫دا‪ ،‬وقد ُأعيدت طباعته مراًرا في البندقية بإيطاليا في القرن‬
‫مجل ً‬
‫العاشر الهجري )السادس عشر الميلدي(‪ ,‬ويذكر المؤرخ "ماكس‬
‫مايرهوف" أنه في عام ‪ 1500‬ميلدية كان هناك خمس طبعات‬
‫لكتاب الحاوي‪ ,‬مع عشرات الطبعات لجزاء منه‪..‬‬
‫ضا "المنصوري"‪ ،‬وقد سماه بهذا السم نسبة إلى‬ ‫ومن كتبه أي ً‬
‫المنصور بن إسحاق حاكم خراسان‪ ،‬وقد تناول فيه موضوعات طبية‬
‫مد الرازي‬‫متعددة في المراض الباطنية والجراحة والعيون‪ ،‬وقد تع ّ‬
‫الختصار في هذا الكتاب‪ ,‬فجاء في عشرة أجزاء!! لذلك رغب‬
‫العلماء الوروبيون في ترجمته عدة مرات إلى لغات مختلفة‪ ،‬منها‬
‫اللتينية والنجليزية واللمانية والعبرية! وقد تم نشره لول مرة في‬

‫سامي حمارنة‪ :‬الصناعة الطبية ص ‪.303‬‬ ‫‪1300‬‬

‫انظر‪ :‬ابن النديم‪ :‬الفهرست ‪.1/420‬‬ ‫‪1301‬‬


‫ميلنو سنة ‪1481‬م‪ ،‬وظل مرجًعا لطباء أوروبا حتى القرن السابع‬
‫عشر الميلدي‪.1302‬‬
‫ومن أروع كتبه كذلك كتاب "الجدري والحصبة"‪ ،‬وفيه يتبين‬
‫أن الرازي أول من فرق بين الجدري والحصبة‪ ،‬ودّون ملحظات في‬
‫غاية الهمية والدقة للتفرقة بين المرضين‪ ،‬وقد ُأعيدت طباعة هذا‬
‫الكتاب في أوروبا أربع مرات بين عامي ) ‪1283 : 903‬هق( )‪: 1498‬‬
‫‪1869‬م( ‪..1303‬‬
‫ضا كتاب "السرار في الكيمياء"‪ ،‬والذي بقي‬
‫ومن كتبه أي ً‬
‫مدة طويلة مرجًعا أساسّيا في الكيمياء في مدارس الشرق‬
‫والغرب‪.1304‬‬
‫ومن كتبه المهمة كذلك كتاب "الطب الروحاني" الذي ذكر فيه‬
‫ض في كتابه هذا‬
‫لح أخلق النفس‪ ..‬وح ّ‬ ‫أن غايته من الكتاب هو أص ً‬
‫على تكريم العقل‪ ،‬وعلى قمع الهوى‪ ,‬ومخالفة الطباع السيئة‪,‬‬
‫وتدريب النفس على ذلك‪..1305‬‬
‫إل أن أهم ما ميز الرازي في ذلك كله‪ ،‬هو الُبعد الخلقي‬
‫عنده‪..‬‬
‫فقد تميز ~ بالمانة العلمية التامة في كتاباته؛ فكان ل يذكر‬
‫أمًرا من المور اكتشفه غيره إل أشار إلى اسم المكتشف الصلي‪،‬‬
‫ولذلك حفلت كتبه بأسماء جإلينوس وأبقراط وأرمانسوس وغيرهم‪،‬‬
‫كما ذكر في كتبه المحدثين من الطباء أمثال يحيى بن ماسويه وحنين‬
‫بن إسحاق‪...‬‬
‫وكان الرازي يحض تلمذته على إتباع نهج الكتابة والتأليف‪،‬‬
‫فكان يقول لهم‪" :‬إذا جمع الطالب أكبر قدر من الكتب وفهم ما فيها‪،‬‬
‫فإن عليه أن يجعل لنفسه كتاًبا يضمنه ما غفلت عنه الكتب التي‬
‫قرأها"‪..‬‬
‫فهو ينصح كل طلبته أن يسجلوا المعلومات التي يلحظونها في‬
‫أثناء دراستهم وعلجهم للمرضى ‪ -‬والتي لم ُتذكر في الكتب السابقة‬
‫‪ -‬وبذلك يستفيد اللحقون بعلمهم وتأليفهم‪..‬‬
‫ما فقط‪ ،‬بل كان إنساًنا خلوًقا من الدرجة‬
‫ولم يكن الرازي عال ً‬
‫الولى‪ ،‬فقد اشتهر بالكرم والسخاء وكان باّرا بأصدقائه ومعارفه‪،‬‬

‫محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص ‪.192‬‬ ‫‪1302‬‬

‫انظر‪ :‬محمود الحاج قاسم‪ :‬الطب عند العرب والمسلمين ص ‪.73‬‬ ‫‪1303‬‬

‫محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص ‪.191‬‬ ‫‪1304‬‬

‫عامر النجار‪ :‬في تاريخ الطب في الدولة السلمية ص ‪.95‬‬ ‫‪1305‬‬


‫عطوًفا على الفقراء وبخاصة المرضى‪ ،‬فكان ينفق عليهم من ماله‬
‫الخاص‪ ،‬ويجري لهم أحياًنا الرواتب الثابتة‪!!1306‬‬
‫وكان يوصي تلمذته أن يكون هدفهم هو إبراء المرضى أكثر‬
‫من نيل الجور منهم‪ ،‬ويوصيهم كذلك بأن يكون اهتمامهم بعلج‬
‫دة‬
‫ما كاهتمامهم بعلج المراء والغنياء‪ ..‬بل إنه من ش ّ‬ ‫الفقراء تما ً‬
‫صا سماه "طب الفقراء"‪ ،‬وصف‬ ‫اهتمامه بالفقراء أّلف لهم كتاًبا خا ً‬
‫فيه المراض المختلفة وأعراضها ثم وصف طرق علجها عن طريق‬
‫الغذية والعشاب الرخيصة بدل ً من الدوية مرتفعة الثمن أو‬
‫التراكيب النادرة‪..1307‬‬

‫ومن شدة اهتمامه بالخلق الحميدة أّلف كتاًبا خا ً‬


‫صا بهذا المر‬
‫سماه "أخلق الطبيب" يشرح فيه العلقة النسانية بين الطبيب‬
‫منه كذلك بعض النصائح‬ ‫والمريض‪ ،‬وبين الطبيب والطبيب‪ ،‬وض ّ‬
‫للمرض في تعاملهم مع الطباء‪..1308‬‬
‫هذا‪ ..‬وقد اعترف القاصي والداني لبي بكر الرازي بالفضل‬
‫والمجد والعظمة والعلم والسبق‪ ،‬ول نقصد بذلك المسلمين فقط‪ ،‬بل‬
‫ضا بإنجازات الرازي وابتكاراته‪..‬‬
‫اهتم غير المسلمين أي ً‬
‫فنجد فضل ً عن ترجمة كتبه إلى اللغات الوروبية وطبعها أكثر‬
‫من مرة‪ ..‬نجد إشارات لطيفة وأحداًثا عظيمة تشير إلى أهمية ذلك‬
‫العالم الجليل‪ ،‬ومن ذلك أن الملك الفرنسي الشهير لويس الحادي‬
‫عشر‪ ،‬والذي حكم من عام ‪1461‬م إلى ‪1483‬م‪ ،‬قد دفع الذهب‬
‫الغزير لينسخ له أطباؤه نسخة خاصة من كتاب "الحاوي"؛ كي يكون‬
‫مرجًعا لهم إذا أصابه مرض ما!!‬
‫ونجد أن الشاعر النجليزي القديم "جوفري تشوسر" قد ذكر‬
‫الرازي بالمدح في إحدى قصائده المشهورة في كتابه "أقاصيص‬
‫كونتربري"!!‬
‫ضا أنه رغم تطور العلم وتعدد الفنون‬
‫ولعله من أوجه الفخار أي ً‬
‫إل أن جامعة بريستون المريكية ما زالت تطلق اسم الرازي على‬
‫جناح من أكبر أجنحتها‪ ،1309‬كما تضع كلية الطب بجامعة باريس نصًبا‬
‫تذكارًيا للرازي‪ ،‬بالضافة إلى صورته في شارع سان جيرمان‬
‫بباريس‪..‬‬

‫ابن أبي أصيبعة‪ :‬طبقات الطباء ‪.3/13‬‬ ‫‪1306‬‬

‫عامر النجار‪ :‬في تاريخ الطب في الدولة السلمية ص ‪.116 ،115‬‬ ‫‪1307‬‬

‫انظر‪ :‬مقدمة أخلق الطبيب للرازي‪ ،‬لمحققه عبد اللطيف محمد العبد ص ‪.6‬‬ ‫‪1308‬‬

‫أحمد علي الم ّ‬


‫ل‪ :‬أثر العلماء المسلمين في الحضارة الوربية ص ‪.138‬‬ ‫‪1309‬‬
‫لقد كان الرازي بحق صورة رائعة من صور الحضارة السلمية‪،‬‬
‫ما وإنساًنا‪ ..‬عاش‬ ‫قّلما تتكرر في التاريخ‪ ،‬لقد كان طبيًبا وعال ً‬
‫ما ومعل ً‬
‫حياته لخدمة السلم والعلم والبشرية‪ ،‬ومات عن عمر بلغ ستين‬
‫ما‪ ،‬وكانت وفاته في شعبان ‪311‬هق ‪ /‬نوفمبر ‪923‬م‪.‬‬ ‫عا ً‬
‫لكن من الصعب أن نقول‪ :‬إنه مات؛ فالمرء ُيكَتب له الخلود‬
‫بقدر ما ينفع الناس‪ ،‬وصدق الرسول الكريم ‪ ‬عندما ذكر في‬
‫ت‬
‫ما َ‬ ‫الحديث الذي رواه أبو هريرة < عن النبي ‪ ‬أنه قال‪" :‬إ ِ َ‬
‫ذا َ‬
‫عل ْ ً‬
‫ما‬ ‫ة‪ ...‬وذكر منها‪ِ .." :‬‬ ‫ن ث ََلث َ ٍ‬ ‫ه إ ِّل ِ‬
‫م ْ‬ ‫مل ُ ُ‬
‫ع َ‬
‫ه َ‬
‫عن ْ ُ‬ ‫قطَ َ‬
‫ع َ‬ ‫ن ان ْ َ‬‫سا ُ‬‫اْل ِن ْ َ‬
‫ه" ‪..‬‬
‫‪1310‬‬
‫ع بِ ِ‬
‫ف ُ‬‫ي ُن ْت َ َ‬

‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في حياة‬


‫الصطخري‬
‫الصطخري‪ ..‬عالم يسبق عصره!!‬
‫دا من علماء‬ ‫ما واح ً‬
‫لعل من الصعوبة بمكان أن نختار عال ً‬
‫صا؛ ذلك‬ ‫فا خا ّ‬
‫الجغرافيا المسلمين لنتوقف أمام سيرته وإنجازاته توق ً‬
‫جا‪..‬‬
‫أن عبقريات المسلمين في ذلك المجال كثيرة عدًدا‪ ..‬غزيرة إنتا ً‬
‫ة‪..‬‬
‫قا ورياد ً‬
‫وواسعة سب ً‬

‫ومن ث َ ّ‬
‫م سنكتفي هنا بالتوقف أمام أحد أبرز عباقرة الجغرافيا‬
‫المسلمين‪ ..‬وهو "أبو إسحاق الصطخري"‪..‬‬
‫ض والجغرافيا أبو إسحاق إبراهيم بن‬ ‫م الر ِ‬‫ة عال ِ ُ‬
‫وقد ولد الرحال ُ‬
‫ف في بعض الحيان باسم‬ ‫محمد الفارسي الصطخري )الذي ي ُعَْر ُ‬
‫الكرخي( بمدينة إصطخر‪ ،‬وهي مدينة برسيبوليس القديمة في بلد‬
‫فارس‪.‬‬
‫وعاش في القرن الرابع الهجري )العاشر الميلدي(‪ ،‬وإن كنا ل‬
‫نعرف الكثير عن نشأته الولى؛ فالموسوعات أو كتب تاريخ العلوم لم‬
‫تحدد عام ميلده‪ ،‬وكذلك لم تذكر شيًئا عن سيرة حياته‪ ..‬إل أنه كان‬
‫رحالة زار الكثير من أقطار العالم السلمي؛ فقد زار أكثر أقطار‬
‫آسيا حتى بلغ سواحل المحيط الهندي‪ ،‬ودخل الهند وتوفي بها بعد‬
‫عام )‪340‬هق ‪ 951 /‬م( ‪.1311‬‬

‫‪ 1310‬مسلم‪ :‬كتاب الوصية‪ ،‬ياي ما يلحق النسان بعد وفاته )‪ ،(1631‬وأبو داود )‪ ،(2880‬وأحمد‬
‫)‪ ،(8831‬وأبو يعلي )‪.(6457‬‬
‫‪ 1311‬عبد الرحمن حميدة‪ :‬أعلم الجغرافيين العرب ص ‪.199‬‬
‫وعن منهجه العلمي الذي اتبعه في كتابه "المسالك والممالك"‪،‬‬
‫والذي ي ُعَد ّ من أشهر مؤلفاته‪ ،‬فإن "الصطخري" يستعرض ذلك‬
‫فيقول‪" :‬فإني ذكرت في كتابي هذا أقإليم الرض على الممالك‪،‬‬
‫وقصدت منها بلد السلم‪ ،‬وتفصيل مدنها‪ ،‬وتقسيم ما يعود بالعمال‬
‫المجموعة إليها‪ ..‬ولم أقصد القإليم السبعة التي عليها قسمة الرض‪،‬‬
‫بل جعلت كل قطعة أفردتها مفردة مصورة‪ ،‬ثم ذكرت ما يحيط به‬
‫من الماكن‪ ،‬وما في أصقاعه من المدن والبقاع المشهورة والبحار‬
‫والنهار‪ ،‬وما يحتاج إلى معرفة من جوامع ما يشتمل عليه ذكر‬
‫القليم‪ ..‬لن الغرض من كتابي هذا تصوير هذه القإليم التي لم‬
‫يذكرها أحد علمته‪."..‬‬
‫جا علمًيا يدل على قدرته‬ ‫وقد نهج "أبو إسحاق الصطخري" منه ً‬
‫ور شكل الرض؛ فلم يتجاهل الناحية الفلكلورية أو‬ ‫الفائقة في تص ّ‬
‫القتصادية أو الثنوغرافية!! )الثنوغرافيا هو علم في وصف السللت‬
‫البشرية وعادات وأخلق الشعوب(‪ ..‬والحق أن هذه الطريقة التي‬
‫سار عليها "الصطخري" هي ذات الطريقة التي ينتهجها العلماء‬
‫المعاصرون في مثل هذا النوع من الدراسات؛ وهو أل تقتصر‬
‫الدراسات الجغرافية على الجوانب الطبيعية فقط‪ ،‬دون التفات إلى‬
‫البعاد القتصادية والثقافية والسللية وغيرها مما يخص البشر الذين‬
‫يحيون في هذه البقعة من الرض‪..‬‬
‫كز على المدلول الجغرافي‬ ‫سب للصطخري ~ أنه ر ّ‬ ‫كما ُيح َ‬
‫ص على‬‫والسياسي والداري‪ ،‬وتجنب النظريات التقليدية التي تن ُ ّ‬
‫تقسيم الرض إلى سبعة أقإليم‪ ،‬وأخذ كل إقليم بذاته كوحدة جغرافية‬
‫مستقلة‪.‬‬
‫لقد فهم "الصطخري" منهج علماء المسلمين في مجال علم‬
‫ما‪ ،‬وطّبقه في مؤلفاته بدقة واستنباط ذكي؛‬
‫محك ً‬
‫دا ُ‬
‫ما جي ً‬
‫الجغرافيا فه ً‬
‫ف أصول المنهج العلمي التجريبي القائم على القياس‬ ‫وبهذا ع ََر َ‬
‫والستقراء‪ ،‬والمستند على المشاهدة والتجربة والتمثيل‪.‬‬
‫وإضافة إلى كل هذا فقد اشتهر أبو إسحاق الصطخري‬
‫بالنصاف لمن سبقوه من علماء الجغرافيا‪ ،‬كما اّتصف بالصدق‬
‫س‬ ‫َ‬
‫م ّ‬‫والمانة العلمية وتقوى الله‪ ،‬وهي صفات ‪ -‬كما ترى ‪ -‬نحن في أ َ‬
‫الحاجة إليها في ميادين العلوم التجريبية وغيرها‪ ،‬وهي الصفات التي ‪-‬‬
‫كما رأينا من قبل كثيًرا ‪ -‬كانت تمّيز البحث العلمي في عصور‬
‫الحضارة السلمية‪ ..‬ولم تكن ثمار تلك الصفات قاصرة على المة‬
‫السلمية‪ ..‬بل أفادت منها النسانية جمعاء‪.‬‬
‫أما عن مؤّلفات "الصطخري" فإنه لم يكن صاحب مؤلفات‬
‫كثيرة‪ ،‬وكل ما وصلنا من أعماله كتابان‪ ،‬هما‪) :‬صور القإليم(‪،‬‬
‫والثاني‪) :‬المسالك والممالك(‪ ..‬ولعل تأّثر "الصطخري" واضح بعالم‬
‫الجغرافيا السابق عليه "ابن خرداذبة" الذي أّلف كتاًبا بنفس العنوان‬
‫)المسالك والممالك(‪..‬‬
‫كذلك اعتمد على كتاب "البلخي" )تقويم البلدان(؛ فماثل‬
‫"الصطخري" كتاب البلخي في مخططه‪ ،‬ولكن بتوسع ومراجعة‬
‫وتصحيح لكثير مما جاء فيه‪ ،‬وهذان المؤلفان للصطخري يعدان من‬
‫المراجع المهات في علم الجغرافيا بالخص‪.‬‬
‫قْين على‬ ‫وقد كان اعتماده الكبر في تصنيف مؤل ّ َ‬
‫في ْهِ الساب َ‬
‫رحلته العديدة في طلب العلم في شتى الفاق السلمية؛ فجاء‬
‫وصف تلك البلدان بإطناب‪ ،‬إضافة إلى تزيينه كتابه الول )صور‬
‫القإليم( بالخرائط والشكال التوضيحية‪.1312‬‬
‫فه الشهر )المسالك والممالك( فقد ظل في معظم‬ ‫أما مؤل ّ ُ‬
‫مكتبات العالم كمخطوط حتى جاءت سنة )‪1287‬هق ‪1870 -‬م(‬
‫وطبعه المستشرق )دي خويه( في ليدن بهولندا‪ ،‬وقد أ ُ ِ‬
‫عيد َ طبعه‬
‫بالصور سنة )‪1346‬هق ‪1927 -‬م(‪ ،‬وقام بتحقيقه محمد جابر عبد‬
‫العال الحسيني سنة )‪1381‬هق ‪1961 -‬م( ونشرته وزارة الثقافة‬
‫المصرية بالقاهرة آنذاك؛ ولعل ذلك كان السبب في انتشار الكتاب‬
‫عرفت مكانة‬ ‫وتداوله من قَِبل القراء في جميع أنحاء المعمورة‪ ..‬ومنه ُ‬
‫الصطخري في ميدان علم الجغرافيا القليمية‪.1313‬‬
‫والحقيقة أن إنجازات الصطخري في علم الجغرافيا كانت أكبر‬
‫بكثير من أن ينظر إليها على أساس مؤلفاته‪ ..‬فالصطخري يعد من‬
‫أوائل العلماء الذين جمعوا بين الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا‬
‫السكانية في كتبهم‪ ،‬وإذا كان قد اقتصر في مؤلفيه على وصف‬
‫ما‪ ،‬وكان يتحدث عن‬ ‫ه إلى عشرين إقلي ً‬ ‫م ُ‬‫س َ‬
‫العالم السلمي‪ ،‬فقد ق ّ‬
‫القليم ل بوصفه نطاًقا يضم عدًدا من درجات خطوط العرض‪ ،‬ولكن‬
‫بوصفه منطقة جغرافية واسعة‪ ،‬لها خصائصها الطبيعية والسكانية‬
‫والثقافية والقتصادية التي ُتمّيزها‪..‬‬
‫وقد تحدث في البداية عن الّربع المعمور من الرض وأبعاده‪..‬‬
‫دث عن البحار‪ ..‬ثم بدأ بوصف جزيرة العرب والخليج العربي‬ ‫ثم تح ّ‬
‫مع المحيط الهندي‪ ..‬ثم السند والهند وأنهار سجستان‪ ..‬ثم المغرب‬
‫مع الندلس وصقلية‪ ..‬ومصر مع بلد الشام وبحر الروم والجزيرة‪..‬‬
‫وإيران الجنوبية والوسطي والشمالية مع أرمينيا وأذربيجان وبحر‬
‫الخزر )قزوين(‪ ..‬ومدن برطس في تخوم البحر المذكور وأعمالها‬

‫‪ 1312‬على بن عبد لله الدفاع‪ :‬رواد علم الجغرافيه في الحضاره العربيه و السلمية ص‬
‫‪.105،104‬‬
‫‪ 1313‬محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص ‪..277،276‬‬
‫وكورها وجبالها وأنهارها وعمائرها‪ ..‬ثم يختم بحثه أخيًرا بوصف بلد ما‬
‫وراء النهر )التركستان(‪.‬‬
‫ويذكر "الصطخري" عن كل قطر معلومات تتعلق بالحدود‬
‫لت‪ ،‬ويذكر تفاصيل متفرقة عن‬ ‫والمدن والمسافات وطرق الموأص ً‬
‫المحاصيل والتجارة والصناعة‪ ،‬وعن أجناس السكان‪ ،‬ولكن معظم‬
‫التفاصيل تتعلق بالقطار التي زارها‪.1314‬‬
‫وقد أولى "الصطخري" عناية خاصة لموضوع المد والجزر؛ فله‬
‫نظريات جزئية في هذا المضمار؛ مما يدل على طول باعه في علم‬
‫النواء‪ ،‬والمعروف بين العلماء في الماضي أن علم النواء جزء ل‬
‫يتجزأ من علم الجغرافيا‪.‬‬
‫ول ننسى في حديثنا عن إنجازات "الصطخري" أنه حاول بكل‬
‫ما يملك أن يصحح الخطاء الجغرافية التي وقع فيها علماء الجغرافيا‬
‫السابقون له‪ ،‬واتخذ من الخرائط التي زخرت بها مؤلفاته وسيلة‬
‫لشرح وإبراز الفكار الجغرافية التصحيحية‪ ..‬ومن أبرز تلك الخرائط‬
‫)خريطة بحر قزوين( التي شهد المستشرقون بدقتها‪ ..‬كما ركز على‬
‫طريقة المقارنة بين المدن‪..1315‬‬
‫إلى غير ذلك من النجازات المبدعة التي تحملك على العتقاد‬
‫بأنك أمام سيرةٍ وإنجازات لعال ِم ٍ من القرن العشرين الميلدي‬
‫)الخامس عشر الهجري(‪ ،‬إل أنه كان يعيش بين علماء القرن الرابع‬
‫الهجري العاشر الميلدي(!!‪.‬‬
‫وقد عرف قدره المقدسي )ت ‪380‬هق‪990 /‬م( حين ُأتيح له أن‬
‫يرى بعض كتبه؛ فأكثر النقل عنه في )أخبار السند(‪ ،‬وقال يثني عليه‪:‬‬
‫ما لبراهيم بن محمد الفارسي )يعني‪:‬‬ ‫ج ً‬
‫"‪ ..‬ورأيت ببخارى متر َ‬
‫الصطخري(‪ "..‬ثم ُيعّلق عليه بقوله‪.." :‬وهو كتاب قد أجاد‬
‫أشكاله‪.1316"..‬‬
‫كر أن "أبا إسحاق الصطخري" ساح العالم السلمي؛‬ ‫كما ُيذ َ‬
‫لذا استفاد من رحلته في تصنيف كتابه )المسالك والممالك( الذي‬
‫ت بعده‬ ‫دا للكتب القليمية التي أ ُل ّ َ‬
‫ف ْ‬ ‫يكتسب أهمية بالغة؛ إذ يعتبر رائ ً‬
‫في منهجه ومعلوماته وتبويبه‪.1317‬‬

‫عبد الرحمن حميدة‪ :‬أعلم الجغرافيين العرب ص ‪.199‬‬ ‫‪1314‬‬

‫على بن عبد لله الدفاع‪ :‬رواد علم الجغرافيه في الحضاره العربيه و السلمية ص ‪.104‬‬ ‫‪1315‬‬

‫عبد الرحمن حميدة‪ :‬أعلم الجغرافيين العرب ص ‪.199‬‬ ‫‪1316‬‬

‫على بن عبد لله الدفاع‪ :‬رواد علم الجغرافيه في الحضاره العربيه و السلمية ص ‪.103‬‬ ‫‪1317‬‬
‫فرحم الله عالمنا العظيم الصطخري‪ ،‬ونسأل الله أن يهبنا‬
‫أمثاله من العلماء الذين غيروا بجهودهم وعقولهم حركة التاريخ‬
‫ومسيرة البشرية‪..‬‬

‫المبحث الخامس‪ :‬دور العلم في حياة‬


‫البيروني‬
‫]‪440 -362‬هـ ‪1048 -963 /‬م[‬
‫عّرفه جورج سارتون في كتابه )مقدمة لدراسة تاريخ العلم(‬
‫حالة وفيلسوًفا‪ ،‬ورياضًيا‪ ،‬وفلكًيا‪ ،‬وجغرافًيا‪ ،‬وعال ً‬
‫ما‬ ‫بقوله عنه‪" :‬كان ر ّ‬
‫موسوعًيا‪ ،‬ومن أكبر عظماء السلم‪ ،‬ومن أكابر علماء العالم"‪.‬‬
‫ووصفه المستشرق اللماني سخاو بقوله‪" :‬أعظم عقلية عرفها‬
‫التاريخ"‪.1318‬‬

‫إنه أبو الريحان أحمد بن محمد البيروني الخوارزمي‪ ،‬الذي وُل ِد َ‬


‫في بلدة بيرون‪ ،‬إحدى ضواحي مدينة )كاث( عاصمة الدولة‬
‫طلع على فلسفة اليونانيين‬ ‫الخوارزمية‪ ،‬سنة ‪362‬هق ‪963‬م‪ ،‬والذي ا ّ‬
‫ت شهرته‪ ،‬وارتفعت منزلته عند ملوك عصره‪.1319‬‬‫والهنود‪ ،‬وع َل َ ْ‬
‫طولى في صناعة أمجاد عصر النهضة‬ ‫كان لمؤّلفاته إليد ال ّ‬
‫دد بدقة خطوط الطول‬‫والثورة الصناعية في العالم الغربي؛ فقد ح ّ‬
‫وخطوط العرض‪ ،‬وناقش مسألة ما إذا كانت الرض تدور حول‬
‫ة إلى‬
‫محورها أم ل‪ ،‬وسبق في ذلك جإليليو وكوبرنيكوس‪ ،‬إضاف ً‬
‫ت أخرى عديدة‪..‬‬ ‫اكتشافا ٍ‬
‫وقد رحل البيروني إلى الهند وأقام فيها بضع سنين‪ ،‬نتج عنها‬
‫كتابه )الطائر الصيت(‪ ،‬المعروف بكتاب الهند‪ ،‬والمعروف بق )كتاب‬
‫البيروني في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة(‬
‫أودع فيه نتيجة دراساته من تاريخ وأخلق وعادات وعقائد وآداب‬
‫وعلوم الهند‪ ،‬ومن جملتها ما كان عندهم من المعرفة بصورة الرض‪.‬‬
‫ما هذا‬
‫ويصف المستشرق )روزن( منذ أكثر من سبعين عا ً‬
‫الكتاب بأنه "أثر فريد في بابه‪ ،‬ل مثيل له في الدب العلمي القديم أو‬
‫الوسيط‪ ،‬سواء في الغرب أم في الشرق"‪.1320‬‬
‫‪ 1318‬راجع‪ :‬كتاب نوابغ المسلمين ‪. 65 ،64 ،53 /2‬‬
‫‪ 1319‬انظر‪ :‬الصفدي‪ :‬الوافي بالوفيات ‪ ،1070 /1‬الّزركلي‪ :‬العلم ‪ ،314 /5‬عبد الرحمن‬
‫حميدة‪ :‬أعلم الجغرافيين العرب ص ‪ ،340‬موسوعة العرب‪ :‬أبو الريحان البيروني ص ‪.26‬‬
‫‪ 1320‬انظر‪ :‬عبد الرحمن حميدة‪ :‬أعلم الجغرافيين العرب ص ‪.341‬‬
‫ضا كتب أخرى كثيرة ومهمة‬ ‫وغير كتابه السابق كان للبيروني أي ً‬
‫في ضروب مختلفة من العلم؛ ففي الجغرافيا أّلف‪ :‬تصحيح الطول‬
‫والعرض لمساكن المعمور من الرض‪ ،‬وتحديد نهايات الماكن‬
‫ما في التاريخ؛ فله‪ :‬تصحيح التواريخ‪،‬‬
‫لتصحيح مسافات المساكن‪ ،‬أ ّ‬
‫والثار الباقية عن القرون الخإلية‪ ،‬وفي الفلك كان له مؤلفات عديدة‪،‬‬
‫مثل‪ :‬الستشهاد باختلف الرصاد‪ ،‬واختصار كتاب البطليموس‬
‫القلوذي‪ ،‬والزيج المسعودي‪ ،‬والستيعاب لوجوه الممكنة في صنعة‬
‫السطرلب‪ ،‬وتعبير الميزان لتقدير الزمان‪ ،‬وقانون المسعودي في‬
‫دة؛ كاستخراج‬ ‫الهيئة‪ ،‬وفي الرياضيات أ ُث َِر عن البيروني مؤّلفات ِ‬
‫ع ّ‬
‫الكعاب والضلع وما وراءه من مراتب الحساب‪ ،‬وكتاب الرقام ورغم‬
‫اهتمامه بالعلم فإنه كان ذا باٍع طويل في الدب؛ لذا كتب شرح ديوان‬
‫أبي تمام‪ ،‬ومختار الشعار والثار‪ ،‬وفوق كل ذلك كان له مؤّلفات‬
‫عديدة في الفلسفة‪ ،‬مثل‪ :‬كتاب المقالت والراء والديانات‪ ،‬ومفتاح‬
‫علم الهند‪ ،‬وجوامع الموجود في خواطر الهنود‪ ،‬وغير ذلك العشارت‬
‫من المؤّلفات الضخمة‪.1321‬‬
‫وبهذه المؤلفات يكاد البيروني يكون قد أّلف في كل فروع‬
‫المعرفة التي عهدها عصره؛ فقد كتب في الرياضيات والفلك‬
‫والتنجيم والحكمة والديان والتاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والحياء‬
‫والصيدلة‪.‬‬
‫أما في مجال الطبيعيات فقد اهتم بالخواص الفيزيائية لكثير‬
‫من المواد‪ ،‬وتناولت أبحاثه علم ميكانيكا الموائع والهيدروستاتيكا‪،‬‬
‫ولجأ في بحوثه إلى التجربة وجعلها محوًرا لستنتاجاته‪ ،1322‬كما انضم‬
‫مع ابن سينا إلى الذين شاركوا ابن الهيثم في رأيه القائل بأن الضوء‬
‫يأتي من الجسم المرئي إلى العين‪.1323‬‬
‫ومن أبرز ما قام به البيروني أنه توصل إلى تحديد الثقل‬
‫ما‬
‫النوعي لق ‪ 18‬عنصًرا مركًبا بعضها من الحجار الكريمة مستخد ً‬
‫الجهاز المخروطي‪ ،‬وقد استخرج قيم الثقل النوعي لهذه العناصر‬
‫دد فيها‬‫منسوبة إلى الذهب مرة وإلى الماء مرة أخرى‪ ،‬وله جداول ح ّ‬
‫قيم الثقل النوعي لبعض الحجار الكريمة منسوبة إلى إلياقوت على‬
‫أساس الوزن النوعي للياقوت = ‪ 100‬ثم إلى الماء‪.1324‬‬
‫وفي ظاهرة الجاذبية كان البيروني‪ ،‬مع ابن الحائك‪ ،‬من الرواد‬
‫الذين قالوا بأن للرض خاصية جذب الجسام نحو مركزها‪ ،‬وقد تناول‬

‫‪ 1321‬انظر الباباني‪ :‬هدية العارفين ‪ ،1/480‬الصفدي‪ :‬الوافي بالوفيات ‪ – 1/1070‬الزركلي‪:‬‬


‫العلم ‪. 314 /5‬‬
‫‪ 1322‬محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص ‪.115،114‬‬
‫‪ 1323‬قدري طوفان‪ :‬العلماء العرب وما أعطوه للحضارة ص ‪.163‬‬
‫‪ 1324‬انظر‪ :‬مصطفى وهبة‪ :‬نوابغ المسلمين ‪ 2/63‬بتصرف‪.‬‬
‫منها‬ ‫ذلك في آراء بّثها في كتب مختلفة‪ ،‬ولك ّ‬
‫ن أشهر آرائه في ذلك ض ّ‬
‫كتابه القانون المسعودي‪.1325‬‬
‫ومن المسائل الفيزيائية التي تناولها البيروني في كتاباته‬
‫ظاهرة تأثير الحرارة في المعادن‪ ،‬وضغط السوائل وتوازنها‪ ،‬وتفسير‬
‫بعض الظواهر المتعلقة بسريان الموائع‪ ،‬وظاهرة المد والجزر‬
‫دد عند تسخينها‪،‬‬
‫وسريان الضوء‪ ،‬فقد لحظ أن المعادن تتم ّ‬
‫وتنكمش إذا تعرضت للبرودة‪.1326‬‬
‫وأولى ملحظاته في هذا الشأن كانت في تأثير تباين درجة‬
‫الحرارة في دقة أجهزة الرصد‪ ،‬حيث تطرأ عليها تغيرات في الطول‬
‫والقصر في قيظ النهار وصقيع آخر الليل‪ ،‬وتعرض في كتابه الثار‬
‫الباقية عن القرون الخإلية لميكانيكا الموائع؛ فشرح الظواهر‬
‫التي تقوم على ضغط السوائل واتزانها وتوازنها‪ ،‬وأوضح صعود مياه‬
‫دا إلى خاصية سلوك السوائل في‬ ‫النافورات والعيون إلى أعلى مستن ً‬
‫الواني المستطرقة‪ .‬كما شرح تجمع مياه البار بالرشح من الجوانب‬
‫حيث يكون مصدرها من المياه القريبة منها‪ ،‬وتكون سطوح ما يجتمع‬
‫منها موازية لتلك المياه‪ ،‬وبّين كيف تفور العيون وكيف يمكن أن‬
‫تصعد مياهها إلى القلع ورؤوس المنارات‪ .‬وتحدث عن ظاهرة المد‬
‫والجزر في البحار والنهار وعزاهما إلى التغير الدوري لوجه‬
‫القمر‪.1327‬‬
‫أما فيما يختص بسريان الضوء فقد فطن إلى أن سرعة الضوء‬
‫تفوق سرعة الصوت‪ ،1328‬واتفق مع ابن الهيثم وابن سينا في قولهما‬
‫بأن الرؤية تحدث بخروج الشعاع الضوئي من الجسم المرئي إلى‬
‫العين وليس العكس‪ ،1329‬كما يقرر أن القمر جسم معتم ل يضيء‬
‫بذاته وإنما يضيء بانعكاس أشعة الشمس عليه‪ ،‬وكان البيروني‬
‫يشرح كل ذلك بوضوح تام‪ ،‬ودقة متناهية في تعبيرات سهلة ل تعقيد‬
‫فيها ول التواء‪.1330‬‬
‫كما وضع البيروني قاعدة حسابية لتسطيح الكرة‪ ،‬أي نقل‬
‫الخطوط والخرائط من الكرة إلى سطح مسطح وبالعكس‪ ..‬وبهذا‬
‫سهل رسم الخرائط الجغرافية‪.1331‬‬

‫‪ 1325‬المصدر السابق‪.‬‬
‫‪ 1326‬انظر‪ :‬مصطفى وهبة‪ :‬نوابغ المسلمين ‪ 2/63‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ 1327‬قدري طوفان‪ :‬العلماء العرب وما أعطوه للحضارة ص ‪ 176‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ 1328‬حسن نافعة‪ ،‬كليفورد بوزورث‪ :‬تراث السلم ‪.2/193‬‬
‫‪ 1329‬قدري طوفان‪ :‬العلماء العرب وما أعطوه للحضارة ص ‪.163‬‬
‫‪ 1330‬انظر موقع الموسوعة العربية العالمية )موثقة(‪.‬‬
‫‪ 1331‬عبد الرحمن حميدة‪ :‬أعلم الجغرافيين العرب ص ‪ ،459‬جلل مظهر‪ :‬حضارة السلم‬
‫وأثرها في الترقي العالمي ص ‪.397‬‬
‫ويعتبر البيروني بعد ُ أحد َ ألمع الوجوه التي يمكن أن تعتز بها‬
‫الثقافة العربية من خلل تاريخ الفكر السلمي وأكثرها جاذبية‪ .‬فعلى‬
‫الرغم من أن اسم البيروني يحتل مكانته من الدب العربي في ميدان‬
‫الجغرافيا والرحلت‪ ،‬إل أنه يتبين لنا من خلل المصنفات السابقة أنه‬
‫لم يكن جغرافًيا فحسب‪ ،‬بل كان رياضًيا وفلكًيا‪ ،‬وفيلسوًفا‪ ،‬وشاعًرا‬
‫خا!!‬
‫وأديًبا‪ ،‬وعالم اجتماٍع ومؤر ً‬
‫ل أولئك‪ ،‬وبرز في كل فروع المعرفة النسانية هذه‪،‬‬ ‫نعم كان ك ّ‬
‫فا انتظم نشاطه كل دائرة العلوم المعاصرة‬ ‫وبعبارة أخرى‪ :‬كان مؤل ً‬
‫له‪ ،‬والتي تحتل بينها العلوم الرياضية والفيزيائية مكانة الصدارة‬
‫عنده‪.1332‬‬
‫وفي رجب سنة ‪440‬هق ‪1048 /‬م توفي البيروني‪ ،‬وكانت وفاته‬
‫ختام حياة حافلة لرجل حكيم وعظيم‪ ،‬وفي وفاته يحكي أبو الحسن‬
‫علي بن عيسى – كما ذكرنا من قبل ‪ -‬فيقول‪ :‬دخلت على أبي‬
‫ما في حساب‬ ‫ت لي يو ً‬
‫الريحان وهو يجود بنفسه‪ ،‬فقال لي‪ :‬كيف قل َ‬
‫دات الفاسدة؟ فقلت له إشفاًقا عليه‪ :‬أفي هذه الحالة؟ قال‪ :‬يا‬ ‫الج ّ‬
‫َ‬
‫هذا‪ ،‬أوّدع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة‪ ،‬أل َ يكون خيًرا من أن أخّليها‬
‫ت ذلك عليه وحفظ‪ ،‬وعّلمني ما وعد‪ ،‬وخرجت‬ ‫وأنا جاهل بها؟ فأعد ُ‬
‫من عنده‪ ،‬وأنا في الطريق فسمعت الصراخ عليه !!‬
‫‪1333‬‬

‫المبحث السادس‪ :‬دور العلم في حياة ابن‬


‫النفيس‬
‫)‪ 687 - 607‬هـ ‪1288 - 1210 /‬م(‬
‫أعلم الناس في عصره‪ ،‬وأعظم وأشهر عالم بوظائف العضاء‬
‫في القرون الوسطى برمتها‪ ،‬والّرائد الذي مّهد الطريق أمام وليام‬
‫هارفي‪ ،‬العالم الفسيولوجي النجليزي مكتشف الدورة الدموية‬
‫الكبرى سنة ‪1628‬م؛ حيث استطاع ابن النفيس اكتشاف الدورة‬
‫دا لمن أتوا بعده!!‬
‫الدموية الصغرى‪ ،‬وأن يصفها لول مرة ليكون رائ ً‬
‫ق كان مثال ً للعالم الورع التقي المنقطع إلى العلم‪ ،‬وواح ً‬
‫دا‬ ‫وبح ٍ‬
‫من أكبر الطباء العرب والمسلمين الذين حققوا اكتشافات عظيمة‬
‫وجليلة‪ ،‬يفتخر بها الطب السلمي والحضارة السلمية إلى يومنا‬
‫هذا‪.‬‬

‫عبد الرحمن حميدة‪ :‬أعلم الجغرافيين العرب ص ‪.342 ،341‬‬ ‫‪1332‬‬

‫الصفدي‪ :‬الوافي بالوفيات ‪. 1070 /1‬‬ ‫‪1333‬‬


‫قال عنه السبكي‪ :‬وأما الطب فلم يكن على وجه الرض مثله‬
‫ل‪ ،‬ول جاء بعد ابن سينا مثله‪ ،‬قالوا‪ :‬وكان في العلج أعظم من ابن‬ ‫قب ُ‬
‫سينا‪ ،‬وقال السنوي‪ :‬كان إمام وقته في فنه شرًقا وغرًبا بل مدافعة‪،‬‬
‫أعجوبة فيه وفي غاية الذكاء‪.1334‬‬
‫ن في الحاجز الذي بين‬ ‫ُ‬
‫كل على جإلينوس فاّدعى أ ّ‬‫وكان قد أش ِ‬
‫الجانب اليمن والجانب اليسر في القلب ثقوًبا غير منظورة يتسرب‬
‫فيها الدم من الجانب الواحد إلى الجانب الخر‪ ،‬وما وظيفة الرئتين إل‬
‫أن ترفرفا فوق القلب فتبردا حرارته وحرارة الدم‪ ،‬ويتسرب شيء‬
‫من الهواء فيها بواسطة المنافذ التي بينهما وبين القلب فيغذي ذلك‬
‫القلب والدم‪.‬‬
‫فجاء هو وعارض هذه النظرية معارضة شديدة‪ ،‬وأثبت بما ل‬
‫يدع مجال للشك أن اليونان لم يفهموا وظيفة الرئتين والوعية التي‬
‫بين القلب والرئتين‪ ،‬وأنه فهم وظيفتها وأوعيتها وتركيب الرئة‬
‫فَرج‬
‫شْعرية التي بين الشرايين والوردة الرئوية‪ ،‬وشرح ال ُ‬ ‫والوعية ال ّ‬
‫ضا وظائف الوعية الكليلية‪ ،‬وأنها‬ ‫حا‪ ،‬كما فهم أي ً‬
‫حا واض ً‬
‫الرئوية شر ً‬
‫تنقل الدم ليتغذى القلب به‪ ،‬ونفى التعليم القائل بأن القلب يتغذى‬
‫من الدم الموجود في البطين اليمن‪.‬‬
‫ثم كّرر تعاليمه في الدورة الدموية الصغرى وطريقة عملها؛‬
‫ذلك أنه كّرر هذه التعاليم في خمسة مواضع متفرقة‪ ،‬ذاكًرا آراء ابن‬
‫سينا‪ ،‬ومكرًرا أقوال جإلينوس التي اعتمد عليها ابن سينا‪ ،‬ثم عارضها‬
‫قا بعد ُ بأن يصفه جورج سارتون بأنه أول‬
‫بمنتهى الحماسة‪ ..‬وكان حقي ً‬
‫من اكتشف الدورة الدموية‪ ،‬ليكون بذلك الرائد لوليام هارفي الذي‬
‫ُينسب إليه هذا الكتشاف‪.1335‬‬
‫إنه الفقيه الطبيب العلمة علء الدين علي بن أبى الحزم‪،‬‬
‫قْرشي )نسبة إلى قرية قَْرش( الدمشقي‪ ،‬المل ّ‬
‫قب بابن النفيس‪،‬‬ ‫ال َ‬
‫وهو سوري ولد في قرية "قَْرش" بالقرب من دمشق سنة )‪607‬هق ‪/‬‬
‫‪1210‬م( ‪.1336‬‬

‫‪ 1334‬انظر ابن قاضي شهبة‪ :‬طبقات الشافعية ‪.1/107‬‬


‫‪ 1335‬انظر جلل مظهر‪ :‬حضارة السلم وأثرها في الترقي العالمي ص ‪ ،347 ،346‬علي عبد‬
‫الله الدفاع‪ :‬رواد علم الطب في الخضارة السلمية ص ‪ ،451‬محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور‬
‫الفكر العلمي عند المسلمين ص ‪،207 ،205‬مصطفى لبيب عبد الغني‪ :‬راسات في تاريخ‬
‫العلوم عند العرب ص ‪ ،170‬محمد علي عثمان‪ :‬مسلمون علموا العالم ص ‪،52 ،51‬أحمد علي‬
‫المل‪ :‬أثر العلماء المسلمين في الحضارة الوربية ص ‪.140‬‬
‫‪ 1336‬انظر ابن قاضي شهبة‪ :‬طبقات الشافعية ‪ ،107 /1‬الباباني‪ :‬هدية العارفين ‪ ،378 /1‬إدوارد‬
‫فينديك‪ :‬اكتفاء القنوع بما هو مطبوع ص ‪ - 79‬كحالة‪ :‬معجم المؤلفين ‪ ،58 /7‬الّزِركلي‪:‬‬
‫العلم‪ ،271 /4 ،‬محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص ‪.205‬‬
‫نشأة ابن النفيس العاِلم‬
‫كغيره من علماء المسلمين بدأ ابن النفيس حياته العلمية‬
‫بحفظ القرآن الكريم‪ ،‬وكذا درس النحو واللغة‪ ،‬والفقه والصول‬
‫والحديث‪ ،‬والمنطق والسيرة وغيرها‪ ،‬ثم وفي سنة )‪629‬هق ‪/‬‬
‫‪1231‬م( وهو في الثانية والعشرين من عمره اتجه إلى دراسة‬
‫مت به‪ ..‬وتراه يحكي ذلك فيقول‪" :‬قد‬ ‫الطب‪ ،‬وذلك بعد أزمة صحية أل ّ‬
‫سّننا في ذلك الزمان قريبة من‬‫عرض لنا حميات مختلفة‪ ،‬وكانت ِ‬
‫ملنا سوء‬‫ح َ‬
‫عوفينا من تلك المرضة َ‬ ‫اثنتين وعشرين سنة‪ ،‬ومن حين ُ‬
‫ظّننا بأولئك الطباء )الذين عالجوه( على الشتغال بصناعة الطب‬
‫لننفع بها الناس"‪.‬‬
‫وكان تعليمه الطب في دمشق على يد طبيب العيون البارع‬
‫مهذب الدين عبد الرحمن المشهور باسم الدخوار‪ ،‬وهو أحد كبار‬
‫الطباء في التاريخ السلمي‪ ،‬وكان في ذلك الوقت كبير الطباء في‬
‫البيمارستان النوري العظيم‪ ،‬الذي أنشأه نور الدين محمود واجتذب‬
‫إليه أمهر أطباء العصر الذين توافدوا عليه من كل مكان‪ .‬وكان من‬
‫ضا عمران السرائيلي‪ ،‬ورضي الدين الرجي‪.‬‬ ‫أساتذته في الطب أي ً‬
‫صْيبعة )صاحب طبقات الطباء(‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وكان رفيق دراسته ابن أبي أ َ‬
‫وقد رحل مًعا إلى القاهرة سنة ‪633‬هق‪ ،‬وعمل في البيمارستان‬
‫دا‬
‫الناصري الذي شغل فيه ابن النفيس منصب الرئاسة‪ ،‬وعمي ً‬
‫للمدرسة الطبية الملتحقة به‪ ،‬وشغل ابن أبي أصيبعة رئيس قسم‬
‫الكحالة‪.‬‬
‫ف ابن النفيس بما درسه على أساتذة عظام في‬ ‫ولم يكت ِ‬
‫ضا على كتب ابن سينا وأبقراط‬
‫ب أي ً‬
‫البيمارستان النوري‪ ،‬بل إنه انك ّ‬
‫وجإلينوس وغيرهم‪ ،‬وقال البعض‪ :‬إنه كان يحفظ كتاب القانون في‬
‫الطب لبن سينا عن ظهر قلب‪.‬‬
‫ضا بدراسة الفلسفة والمنطق والبيان‪ ،‬وتعمق‬‫كما أنه اهتم أي ً‬
‫في دراسة الفقه‪ ،‬وعلوم الشريعة‪ ،‬حتى إنه أصبح أستاًذا لفقه‬
‫الشافعي في المدرسة المسرورية بالقاهرة‪ ،‬إلى جانب نبوغه‬
‫وعبقريته في الطب‪.1337‬‬

‫‪ 1337‬راجع في ذلك‪ :‬ابن قاضي شهبة‪ :‬طبقات الشافعية ‪ ،1/107‬الباباني‪ :‬هدية العارفين‬
‫‪ ،1/378‬كحالة‪ :‬معجم المؤلفين ‪ ،7/58‬الزركلي‪ :‬العلم ‪ ،4/271‬أكرم عبد الوهاب‪100 :‬‬
‫عالم غيروا وجه العالم ص ‪ ،41‬محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص‬
‫‪ ،205‬محمد علي عثمان‪ :‬مسلمون علموا العالم ص ‪.49‬‬
‫العالم المغمور‬
‫لم يكن ابن النفيس مجهول ً في عصره؛ فقد أطنب في الحديث‬
‫عنه العمري في مسالك البصار‪ ،‬والصفدي في الوافي بالوفيات‪،‬‬
‫ن ابن‬
‫وابن أبي أصيبعة في إحدى مخطوطاته )طبقات الطباء(‪ ،‬إل أ ّ‬
‫النفيس لم يأخذ حقه من الذيوع والشهرة بما يوازي ويضارع إنتاجه‬
‫واكتشافاته‪ ،‬ولع ّ‬
‫ل ذلك بسبب عدم التقدير أو عدم الحاطة بهذه‬
‫الكتشافات في ذلك الوقت‪.‬‬
‫ن النفيس من المستشرقين الجانب لكلير في‬ ‫وقد تناول اب َ‬
‫كتابه )الطب العربي(‪ ،‬والمستشرق اللماني مايرهوف في كثير من‬
‫مقالته‪ ،‬ووضع الدكتور بول غليونجي كتاًبا وافًيا‪ ،‬ي ُعَد ّ أجمعَ كتاب عن‬
‫ابن النفيس‪.1338‬‬
‫ن أول من كشف عن ابن النفيس‬ ‫ويقّرر بول في كتابه هذا أ ّ‬
‫في وقتنا الحاضر‪ ،‬وَرد ّ إليه اعتباره‪ ،‬هو الطبيب المصري الدكتور‬
‫محيي الدين التطاوي؛ حيث عثر على نسخة من مخطوطة )شرح‬
‫تشريح القانون( لبن النفيس في مكتبة برلين‪ ،‬وقام بإعداد رسالة‬
‫ي فيها بجانب واحد من جوانب هذا الكتاب‬ ‫في الدكتوراه عنها‪ ،‬وع ُن ِ َ‬
‫العظيم‪ ،‬أل وهو موضوع‪) :‬الدورة الدموية تبًعا للقْرشي(‪ ،‬وذلك سنة‬
‫‪1343‬هق ‪1924 /‬م‪.‬‬
‫وقد ُذهل أساتذُته والمشرفون على الرسالة‪ ،‬وأصابتهم الدهشة‬
‫حين ا ّ‬
‫طلعوا على ما فيها‪ ،‬وما كادوا يصدقونه!!‬
‫ولجهلهم باللغة العربية بعثوا بنسخة من الرسالة إلى الدكتور‬
‫"مايرهوف" المستشرق اللماني الذي كان آنذاك يقيم بالقاهرة‪،‬‬
‫وطلبوا رأيه فيما كتبه الباحث‪ ،‬وكانت النتيجة أن أّيد مايرهوف‬
‫الدكتور التطاوي‪ ،‬وأبلغ حقيقة ما كشفه من جهود ابن النفيس إلى‬
‫المؤّرخ "جورج سارتون"‪ ،‬فنشر هذه الحقيقة في آخر جزء من كتابه‬
‫المعروف "تاريخ العلم"‪ ،‬ثم بادر مايرهوف إلى البحث عن‬
‫مخطوطات أخرى لبن النفيس وعن تراجم له‪ ،‬ونشر نتيجة بحوثه‬
‫في عدة مقالت‪ ..‬ومنذ ذلك الحين بدأ الهتمام بهذا العالم الكبير‬
‫وإعادة اكتشافه‪!!1339‬‬

‫ابن النفيس والدورة الدموية‬

‫‪ 1338‬انظر‪ :‬ابن النفيس )أعلم العرب‪ ،‬رقم ‪.(57‬‬


‫دفاع‪:‬‬
‫‪ 1339‬محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص ‪ ،208‬علي عبد الله ال ّ‬
‫رواد علم الطب في الحضارة السلمية ص ‪.451‬‬
‫اقترن اسم ابن النفيس باكتشاف الدورة الدموية الصغرى‪،‬‬
‫والتي سجلها بدقة في كتابه "شرح تشريح القانون"‪ ،‬غير أن هذه‬
‫ما إلى الطبيب‬
‫سبت وه ً‬ ‫الحقيقة ظلت مختفية قروًنا طويلة‪ ،‬ون ُ ِ‬
‫النجليزي وليام هارفي )ت ‪1068‬هق ‪1657 /‬م( الذي بحث في دورة‬
‫الدم بعد وفاة ابن النفيس بأكثر من ثلثة قرون‪ ،‬وظل الناس‬
‫يتداولون هذا الوهم حتى أبان عن الحقيقة الدكتور محيي الدين‬
‫قا‪.‬‬
‫التطاوي في رسالته كما أشرنا ساب ً‬
‫وكان الطبيب اليطإلى ألباجو قد ترجم في سنة ‪954‬هق ‪/‬‬
‫ما من كتاب ابن النفيس "شرح تشريح القانون" إلى‬ ‫‪1547‬م أقسا ً‬
‫ما في "الّرها"‬
‫اللتينية‪ ،‬وهذا الطبيب أقام ما يقرب من ثلثين عا ً‬
‫وأتقن اللغة العربية لينقل منها إلى اللتينية‪ ،‬وكان القسم المتعلق‬
‫بالدورة الدموية في الرئة ضمن ما ترجمه من أقسام الكتاب‪ ،‬غير أن‬
‫دت‪ ،‬واتفق أن عالما إسبانًيا ليس من رجال الطب‬ ‫ق َ‬‫هذه الترجمة فُ ِ‬
‫طلع على ما‬ ‫كان يدعى "سيرفيتوس" كان يدرس في جامعة باريس ا ّ‬
‫ترجمه ألباجو من كتاب ابن النفيس‪ ،‬ونظًرا لتهام سيرفيتوس في‬
‫رد من الجامعة‪ ،‬وتشّرد بين المدن‪ ،‬وانتهى به الحال‬‫عقيدته‪ ،‬فقد ط ُ ِ‬
‫إلى العدام حرًقا هو وأكثر كتبه في سنة ‪1065‬هق ‪1553 /‬م‪ .‬على‬
‫ن الله ‪ ‬شاء أن تبقى بعض كتبه دون حرق‪ ،‬وكان من بينها ما نقله‬ ‫أ ّ‬
‫من ترجمة ألباجو عن ابن النفيس فيما يخص الدورة الدموية‪ ،‬واعتقد‬
‫الباحثون أن فضل اكتشافها يعود إلى هذا العالم السباني ومن بعده‬
‫حح الطبيب المصري هذا‬ ‫هارفي حتى سنة ‪1924 / 1343‬م حتى ص ّ‬
‫الوهم‪ ،‬وأعاد الحق إلى صاحبه‪.‬‬
‫وقد أثار ما كتبه الطبيب التطاوي اهتمام الباحثين‪ ،‬وفي‬
‫مقدمتهم مايرهوف المستشرق اللماني الذي كتب في أحد بحوثه‬
‫عن ابن النفيس‪" :‬إن ما أذهلني هو مشابهة‪ ،‬ل بل مماثلة بعض‬
‫الجمل الساسية في كلمات سيرفيتوس لقوال ابن النفيس التي‬
‫جمت ترجمة حرفية‪ ...‬أي أن سرفيتوس‪ ،‬وهو رجل دين متحّرر‬ ‫ُتر ِ‬
‫وليس طبيًبا‪ ،‬قد ذكر الدورة الدموية في الرئة بلغة ابن النفيس الذي‬
‫عاش قبله بما يزيد على القرن والنصف"!!‬
‫ولما اطلع "ألدو ميلي" على المتنين قال‪" :‬إن لبن النفيس‬
‫ما‪ ،‬وهكذا‬
‫فا للدوران الصغير تطابق كلماته كلمات سيرفيتوس تما ً‬‫وص ً‬
‫فمن الحق الصريح أن ي ُعَْزى كشف الدوران الرئيسي إلى ابن‬
‫النفيس ل إلى سيرفيتوس أو هارفي"‪.1340‬‬

‫‪ 1340‬راجع علي عبد الله الدفاع‪ :‬رواد علم الطب في الحضارة السلمية ص ‪ ،451‬محمد‬
‫الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص ‪ ،211 ،209‬أكرم عبد الوهاب‪100 :‬‬
‫عالم غيروا وجه العالم ص ‪.41‬‬
‫دا فقط من‬ ‫وُيعت ََبر اكتشاف الدورة الدموية الصغرى واح ً‬
‫إسهامات واكتشافات ابن النفيس العديدة؛ فهو ‪ -‬بحسب ما ك ُِتب عنه‬
‫حديًثا ‪ -‬ي َُعد مكتشف الدورتين الصغرى والكبرى للدورة الدموية‪،‬‬
‫وواضع نظرية باهرة في البصار والرؤية‪ ،‬وكاشف العديد من الحقائق‬
‫التشريحية‪ ،‬وجامع شتات المعرفة الطبية والصيدلنية في عصره‪ ،‬وقد‬
‫دم للعلم قواعد للبحث العلمي‪ ،‬وتصورات للمنهج العلمي التجريبي‪.‬‬ ‫ق ّ‬
‫مؤّلفات ابن النفيس‬
‫ضها ومازال‬
‫شَر بع ُ‬ ‫خّلف ابن النفيس مؤلفا ٍ‬
‫ت علمية عديدة‪ ،‬ن ُ ِ‬
‫البعض الخر في غياهب المكتبات‪ ،‬وحبيس رفوف المخطوطات لم‬
‫يَر النوَر بعد‪ ،‬ومن مؤلفاته ما يلي‪:‬‬
‫‪) -1‬شرح تشريح القانون(‪ ،‬وهو من أهم كتب ابن النفيس‪ ،‬وقد‬
‫نشر في القاهرة سنة ‪1408‬هق ‪1988 -‬م بتحقيق الدكتور سلمان‬
‫قطابة‪ ،‬وتبرز قيمته في وصفه للدورة الدموية الصغرى‪ ،‬واكتشافه أن‬
‫عضلت القلب تتغذى من الوعية المبثوثة في داخلها ل من الدم‬
‫الموجود في جوفه‪ ،‬كما يظهر في الكتاب ثقة ابن النفيس في علمه؛‬
‫حيث نقض كلم أعظم طبيبين عرفهما العرب في ذلك الوقت‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫جإلينوس‪ ،‬وابن سينا‪.‬‬
‫‪) -2‬الشامل في الصناعة الطبية(‪ ،‬وي َُعد أعظم مؤلفاته‪ ،‬كما‬
‫يعتبر أضخم موسوعة طبية يكتبها شخص واحد في التاريخ النساني‪،‬‬
‫وقد نجح الدكتور يوسف زيدان في مصر في جمع أجزاء الكتاب‬
‫المخطوطة‪ ،‬كما تطّلع المجمع الثقافي في أبو ظبي إلى تلك‬
‫قا‪ ،‬حتى خرج إلى النور‬‫الموسوعة‪ ،‬وأخذ على عاتقه نشر الكتاب محق ً‬
‫ثلثة أجزاء منه‪ ،‬وذلك في سنة ‪1422‬هق ‪2001 -‬م‪..‬‬
‫وكان ابن النفيس قد عكف على إعداد هذه الموسوعة وهو‬
‫ينوي أن يجعلها مرجًعا طبًيا شام ً‬
‫ل‪ ،‬لول أن وافته المنية بعد أن أعد ّ‬
‫منها ثمانين جزًءا‪ ،‬وهي تمثل صياغة علمية لجهود المسلمين في‬
‫الطب والصيدلة على مدى خمسة قرون من العمل المتواصل‪.‬‬
‫‪) -3‬الموجز في الطب(‪ ،‬ويعتبر هذا الكتاب مرجًعا لكل من‬
‫أراد دراسة الطب‪ ،‬وممارسة هذه المهنة العظيمة‪ ،‬وقد تناقله العلماء‬
‫حه والتعليقات عليه لما نال من منزلة‬ ‫بعضهم من بعض‪ ،‬وك َث َُرت شرو ُ‬
‫بين علماء العصور كلها حتى يومنا هذا‪ ،‬ويذكر بول غليونجي في كتابه‬
‫ن كتاب الموجز في الطب لبن النفيس عبارة عن‬ ‫)ابن النفيس( أ ّ‬
‫دا لكتاب القانون بالطب لبن سينا‪ ،‬تناول كل أجزاء‬ ‫شرح مختصر ج ً‬
‫القانون بلغة علمية سهلة ما عدا الجزء الخاص بالتشريح ووظائف‬
‫العضاء‪ ،‬المر الذي جعله محبوًبا محبة بالغة من الوجهة العلمية‬
‫لممارسي الطب‪.‬‬
‫الجدير بالذكر أنه يوجد نسخ منه على شكل مخطوط في كل‬
‫من باريس وأكسفورد وفلورنسا وميونيخ والسكوريال‪ ،‬ويقع )الموجز‬
‫في الطب( في أربعة أجزاء‪ ،‬وقد نال تقدير وإجلل أطباء العالم؛ لذا‬
‫ددت التعليقات عليه‪ ،‬وقد‬‫فقد كث َُرت ترجمته إلى اللغات الجنبية وتع ّ‬
‫شر سنة ‪1406‬هق ‪1985 -‬م في القاهرة بتحقيق عبد المنعم محمد‬ ‫نُ ِ‬
‫عمر‪ ،‬وكانت قد سبقتها نشرة ماكس مايرهوف ويوسف شاخت‬
‫ضمن منشورات أكسفورد سنة ‪1388‬هق ‪1968 -‬م‪.‬‬
‫‪) -4‬شرح فصول أبقراط(‪ ،‬وقد طبع في بيروت سنة ‪1409‬هق ‪-‬‬
‫‪1988‬م‪ ،‬بتحقيق ماهر عبد القادر ويوسف زيدان‪.‬‬
‫كحل المجرب(‪ ،‬ونشر في الرباط سنة‬‫ذب في ال ُ‬
‫‪) -5‬المه ّ‬
‫‪1407‬هق ‪1986 -‬م‪ ،‬بتحقيق ظافر الوفائي ومحمد رواس قلعة جي‪.‬‬
‫‪) -6‬المختصر في أصول علم الحديث(‪ ،‬ونشر بالقاهرة سنة‬
‫‪1412‬هق ‪1991 -‬م بتحقيق يوسف زيدان‪.1341‬‬
‫ة كبيرة بالنسبة لتاريخ الطب‬
‫ن لكتب ابن النفيس قيم ً‬
‫ولشك أ ّ‬
‫العربي والغربي على حد ّ سواء‪ ,‬وإضافة إلى ذلك فإنه أّلف في‬
‫السيرة وعلم الحديث والنحو والفلسفة والمنطق‪.1342‬‬
‫أما عن طريقته في التأليف يقول ابن قاضي شهبة‪" :‬وكانت‬
‫ره في الفن‪،‬‬‫ح ِ‬
‫تصانيفه يمليها من حفظه ول يحتاج إلى مراجعة لتب ّ‬
‫حا على التنبيه‪ ،‬وصّنف في أصول الفقه‪،‬‬ ‫وقال السبكي‪ :‬صّنف شر ً‬
‫كا في فنون "‪.‬‬
‫‪1343‬‬ ‫وفي المنطق‪ ،‬وكان مشار ً‬

‫وقال صاحب العلم‪" :‬وكانت طريقته في التأليف أن يكتب من‬


‫جع أو ينقل"‪ ،‬ثم‬ ‫حفظه وتجاربه ومشاهداته ومستنبطاته‪ ،‬وق ّ‬
‫ل أن يرا ِ‬
‫تراه يقول آخًرا‪ :‬وخّلف مال ً كثيًرا‪ ،‬ووقف كتبه وأملكه على‬
‫البيمارستان المنصوري بالقاهرة"‪!!1344‬‬

‫‪ 1341‬انظر ابن قاضي شهبة‪ :‬طبقات الشافعية ‪ ،107 /1‬الباباني‪ :‬هدية العارفين ‪ ،378 /1‬إدوارد‬
‫فينديك‪ :‬اكتفاء القنوع بما هو مطبوع ص ‪ ،79‬كحالة‪ :‬معجم المؤلفين ‪ ،58 /7‬الزركلي‪:‬‬
‫العلم‪ ،271 /4 ،‬محمد الصادق عفيفي‪ :‬تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص ‪ ،207‬علي‬
‫عبد الله الدفاع‪ :‬رواد علم الطب ص ‪ ،453 ،452‬عبد الحليم منتصر‪ :‬تاريخ العلم ودور العلماء‬
‫العرب في تقدمه ص ‪ ،133‬أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪.42‬‬
‫ضا ابن قاضي شهبة‪:‬‬ ‫‪ 1342‬انظر أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪ ،41‬وراجع أي ً‬
‫طبقات الشافعية ‪.107 /1‬‬
‫‪ 1343‬ابن قاضي شهبة‪ :‬طبقات الشافعية ‪.107 /1‬‬
‫‪ 1344‬الزركلي‪ :‬العلم‪.271 /4 ،‬‬
‫دا‪ ،‬وقد حاول‬
‫ضا شدي ً‬
‫وفي أيامه الخيرة مرض ابن النفيس مر ً‬
‫الطباء أن يعالجوه بالخمر إل أنه دفعها عن فمه وهو يقاسي عذاب‬
‫ل‪" :‬ل ألقى الله تعالى وفي جوفي شيٌء من الخمر"!!‬ ‫المرض قائ ً‬
‫ولم يدم في مرضه هذا طويل ً حتى وافته المنية‪ ،‬وكان ذلك سنة‬
‫ة واسعة‪ ،‬وجزاه عن السلم‬ ‫‪687‬هق ‪1288 -‬م‪1345‬؛ فرحمه الله رحم ً‬
‫والمسلمين خير الجزاء‪.‬‬

‫‪ 1345‬انظر الزركلي‪ :‬العلم ‪ ،4/271‬عبد الحليم منتصر‪ :‬تاريخ العلم ودور العلماء العرب في‬
‫تقدمه ص ‪ ،134 ،133‬محمد علي عثمان‪ :‬مسلمون عّلموا العالم ص ‪ ،52 ،51‬أكرم عبد‬
‫الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪.41‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬دور العلم في حياة علماء‬
‫الشرع المعاصرين‬

‫ويضم هذا الفصل المباحث التالية‪:‬‬


‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في حياة مالك‬
‫بن نبي‬
‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في حياة أبي‬
‫العلى المودودي‬
‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في حياة محمد‬
‫الغزالي‬
‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في حياة عبد‬
‫العزيز بن باز‬
‫المبحث الخامس‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫الندوي‬
‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في حياة مالك‬
‫بن نبي‬
‫]‪1973 -1905‬م[‬
‫ميلده ونشأته‬
‫هو "مالك" بن عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي‪ .‬وُل ِد َ في‬
‫مدينة )تبسة( التابعة لولية قسنطينة شرقي الجزائر في )ذي القعدة‬
‫‪1322‬هق = يناير ‪1905‬م( زمن الحتلل الفرنسي لها‪ ،‬وتأثر بأمه‬
‫التي عملت بالحياكة‪ ،‬وباعت بعض أثاث البيت لتعلم أولدها‪.1346‬‬
‫كانت )تبسة( التي قضى فيها معظم طفولته أقرب إلى البداوة‬
‫وذات حضور فرنسي ضعيف؛ فاستمّر في تلقي الدروس في‬
‫ق له دائم‬‫المساجد مع التحاقه بمدرسة فرنسية‪ ،‬وقد تأّثر بصدي ٍ‬
‫الستشهاد بآيات القرآن وتفسيرها تفسيًرا اجتماعّيا‪ ،‬كما تأثر بأبناء‬
‫مدينته المعتصمين بالسلم والعربية حتى ل تذوب هويتهم في هوية‬
‫المستعمر‪.‬‬
‫انتقل مالك بعد حصوله على البتدائية إلى )قسنطينة( ليكمل‬
‫تعليمه‪ ،‬وهناك تأثر بمعلمه الفرنسي "مارتان" في تذوقه للقراءة‪،‬‬
‫كما تأثر بمجلة "الشهاب" التي تصدرها جمعية العلماء المسلمين‪،‬‬
‫برئاسة عبد الحميد بن باديس‪.‬‬
‫طالع مالك في تلك الفترة كتابين كان لهما أبلغ الثر في حياته‪،‬‬
‫هما "الفلس المعنوي هل هو للسياسة الغربية في الشرق؟"‬
‫لق"أحمد محرم" الشاعر السلمي المعروف‪ ،‬و"رسالة التوحيد"‬
‫للمام محمد عبده وساعده هذان الكتابان على رؤية أوضاع العالم‬
‫السلمي في تلك الفترة‪ ،‬كما قرأ كتاب "أم القرى" للكواكبي‪،‬‬
‫وتعّرف على تلميذ المصلح الكبير "عبد الحميد بن باديس"‪ ،‬كما قرأ‬
‫ضا ‪ -‬على إحدى البعثات‬‫لعدد ٍ من الك ُّتاب الفرنسيين‪ ،‬وكان يتردد – أي ً‬
‫التبشيرية النجيلية‪ ،‬فتعّرف على النجيل‪ ،‬وناقش هؤلء المبشرين‬
‫في أدق الفكار‪.1347‬‬
‫كان لهذه الثنائية الثقافية )السلمية والغربية( أثرها في تكوينه‬
‫الفكري‪ ،‬وانعكاساتها الواضحة في كتاباته التي تميزت بالمزاوجة بين‬

‫‪ 1346‬مالك بن نبي‪ :‬مذكرات شاهد على القرن‪ ،‬ترجمة‪ :‬مروان القنواتي ص ‪.60‬‬
‫‪ 1347‬مصطفى عاشور‪ :‬مالك بن نبي‪ ..‬فيلسوف مشكلت الحضارة‪ ،‬حدث في العام الهجري‪:‬‬
‫‪http://www.islamonline.net‬‬
‫وموقع مالك بن نبي‪http://www.binnabi.net :‬‬
‫المصدرين‪ :‬بين النتماء لحضارة السلم والرغبة في التطور‪ ،1348‬ثم‬
‫سافر مالك في العشرين من عمره إلى باريس‪ ،‬ولم يلبث أن رجع‬
‫إلى الجزائر بعدما عانى البطالة هناك‪ ،‬لكنه قرر مواصلة دراسته في‬
‫فرنسا؛ فوصل باريس في )جمادى الولى ‪1349‬هق= سبتمبر‬
‫‪1930‬م(‪ ،‬واستطاع خلل فترة تواجده في فرنسا أن ينهل العلم من‬
‫حقول متعددة‪ ،‬ويسهم في الكثير من الفعاليات العلمية والثقافية‪،‬‬
‫ة الحقوق بمعهد‬ ‫ض طلُبه دراس َ‬
‫ولكن تحطمت آماله عندما ُرفِ َ‬
‫الدراسات الشرقية؛ فاتجه إلى دراسة الهندسة ‪..‬‬
‫‪1349‬‬

‫ت كثيرة في‬ ‫في هذه الفترة خاض مالك في باريس نقاشا ٍ‬


‫العقائد مع المسيحيين‪ ،‬وتزّوج في عام )‪1350‬هق = ‪1931‬م( من‬
‫امرأةٍ فرنسية أسلمت على يديه‪ ،‬واستطاع مالك أن يوسع شبكة‬
‫علقاته الفكرية والثقافية في باريس‪ ،‬فالتقى هناك شكيب أرسلن‬
‫وغاندي‪ ،‬وصار له حضور متميز في أوساط المغاربة والجزائريين‪،‬‬
‫قب بزعيم الوحدة المغربية‪ ،‬كما استطاع أن يقيم جسور‬ ‫حتى ل ُ ّ‬
‫التواصل والتعارف مع أبناء دول أخرى محتلة‪.1350‬‬
‫سا كهربائّيا؛‬
‫في سنة )‪1354‬هق = ‪1935‬م( تخّرج مالك مهند ً‬
‫وعندما عاد إلى الجزائر لم ت َُرقْ له الحياة فيها بعدما تحولت عن‬
‫زراعة القمح إلى زراعة العنب الذي ُتصَنع منه الخمور للفرنسيين‬
‫المحتلين‪ ،‬فقرر العودة إلى فرنسا سنة )‪1358‬هق = ‪1939‬م(‪.‬‬
‫وهناك تفّرغ مالك للعمل الفكري‪ ،‬فعمل صحفّيا في جريدة اللوموند‪،‬‬
‫وأصدر أول كتبه "الظاهرة القرآنية"‪ ،‬ثم "شروط النهضة" سنة )‬
‫‪1369‬هق = ‪1949‬م(‪ ،‬و"وجهة العالم السلمي" الذي عرض فيه‬
‫مفهوم "القابلية للستعمار"‪ ،‬و"لّبيك"‪ ،‬و"فكرة الفريقية‬
‫السيوية"‪.1351‬‬
‫رأى مالك في مصر ‪ -‬التي احتضنت في تلك الفترة قضايا‬
‫التحرر والعروبة ‪ -‬أنها إحدى مواقع التغيير المهمة في العالم‬
‫السلمي‪ ،‬فنزلها وعاش فيها الفترة )‪1963 -1956‬م( فأتقن‬
‫العربية‪ ،‬وحاضر في عدد من الجامعات والمعاهد‪ ،‬وأصبح منزله أشبه‬
‫بمنتدى فكري يرتاده المثقفون‪ ،‬وأصدر أول كتاب باللغة العربية بخط‬
‫يده وهو "الصراع الفكري في البلد المستعمرة"‪ ،‬ثم كتاب "تأملت‬
‫في المجتمع العربي"‪ ،‬وكتاب "ميلد مجتمع"‪ ،‬و"حديث البناء الجديد"‪،‬‬
‫وتم اختياره مستشارا للمؤتمر السلمي بالقاهرة‪.1352‬‬

‫السابق نفسه‪.‬‬ ‫‪1348‬‬

‫مالك بن نبي‪ :‬مذكرات شاهد القرن‪ ،‬الطفل والطالب ‪.2/28‬‬ ‫‪1349‬‬

‫مصطفى عاشور‪ :‬مالك بن نبي‪ ..‬فيلسوف مشكلت الحضارة‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪.‬‬ ‫‪1350‬‬

‫السابق نفسه‪.‬‬ ‫‪1351‬‬

‫السابق نفسه‪.‬‬ ‫‪1352‬‬


‫عاد مالك إلى الجزائر سنة )‪1383‬هق= ‪1963‬م( بعد استقللها‬
‫قل في عدد من المناصب‪ ،‬تركزت جميعها في حقل التعليم‪ ،‬كما‬ ‫وتن ّ‬
‫تركزت كتاباته في تلك الفترة على عمليات التغيير وإعادة البناء‬
‫الجتماعي في الدول السلمية‪ ،‬وأصدر عدة كتب‪ ،‬منها‪" :‬مشكلة‬
‫الفكار في العالم السلمي"‪ ،‬و"المسلم في عالم القتصاد"‪،‬‬
‫و"يوميات شاهد قرن"‪.1353‬‬
‫ة ثقافية متعددة؛ كان منها ندوته‬
‫مارس مالك بن نبي أنشط ً‬
‫السبوعية التي كان يعقدها في بيته‪ ،‬وكان يقصدها الشباب المثقف‪،‬‬
‫ما لشخصية مالك حولتها‬ ‫ومع استمرار هذه الندوات ونجاحها‪ ،‬وتكري ً‬
‫الجزائر إلى ملتقى للفكر السلمي ُيقام كل عام‪.‬‬
‫في عام )‪1387‬هق = ‪1967‬م( استقال مالك من مناصبه‪،‬‬
‫وتفّرغ للعمل الفكري‪ ،‬وألقى محاضرة مهمة في سوريا عام )‬
‫‪1392‬هق = ‪1972‬م( تحت عنوان "دور المسلم ورسالته في الثلث‬
‫الخير من القرن العشرين" اعتبرها الكثيرون أنها وصيته للعالم‬
‫السلمي قبل الموت‪.‬‬
‫منهجه العلمي والفكري‬
‫عا‪ ،‬وصاحب نظرية عميقة في‬ ‫كان مالك بن نبي مفكًرا مبد ً‬
‫البناء الحضاري‪ ،‬وامتلكت أفكاره مكونات القوة‪ ،‬بتركيزها على‬
‫القضايا الساسية والمحورية في العالم السلمي؛ فاهتم بمشكلة‬
‫الحضارة‪ ،‬والنهضة‪ ،‬والثقافة‪ ،‬والستعمار‪ ،‬والتبعية؛ فدرسها بكل‬
‫ور بعض مفاهيمها‪ ،‬وهذا ما‬ ‫أبعادها في كل مؤّلفاته‪ ،‬وأبدع فيها‪ ،‬وط ّ‬
‫صا في العمل الفكري‪ ،‬وصاحب أفكار تتجاوز الحساسيات‬ ‫جعله متخص ً‬
‫الطائفية والمذهبية‪ ،‬وتتمتع بالنتشار والقبول‪ ،‬إضافة إلى أن أفكاره‬
‫غّلبت جانب البناء على الهدم باعتبار أن ذلك هو الصلح للمة‬
‫السلمية‪.‬‬
‫انطلق مالك من فكرة محورية هي أن نهضة أي مجتمع تتم في‬
‫نفس الظروف التي شهدت ميلده‪ ،‬وعلى هذا فإن إعادة بناء‬
‫المجتمع المسلم الحديث ل بد أن تنطلق من الفكرة الدينية كأساس‬
‫ما‬‫غي ُّر َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ل يُ َ‬ ‫لي تغيير اجتماعي‪ ،‬لهذا كانت الية الكريمة ‪‬إ ِ ّ‬
‫م‪ ،1354‬نقطة ارتكاز مهمة في‬ ‫ه ْ‬
‫س ِ‬ ‫ما ب ِأ َن ْ ُ‬
‫ف ِ‬ ‫غي ُّروا َ‬
‫حّتى ي ُ َ‬
‫وم ٍ َ‬ ‫بِ َ‬
‫ق ْ‬
‫منظومته الفكرية‪ .‬ولمالك بن نبي مجموعة من الفكار المهمة‪ ،‬التي‬
‫تبين منهجه الفكري‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫السابق نفسه‪.‬‬ ‫‪1353‬‬

‫)الرعد‪.(11 :‬‬ ‫‪1354‬‬


‫فكرة الحضارة‬
‫ن الحضارة إنتاج بشري؛ لذا فالتخّلف الذي يعيشه‬ ‫رأى مالك أ ّ‬
‫المسلمون ينبع في الساس من داخلهم‪ ،‬ويعود إلى طبيعة تشكيل‬
‫عقليتهم وشخصيتهم التي ترسبت فيها مفردات الثقافة السلبية‪،‬‬
‫وفرق بين المجتمع الفّعال والمجتمع غير الفّعال‪ ،‬فاعتبر أن فاعلية‬
‫المجتمع تنطلق من فاعلية النسان لهذا كان يقول‪" :‬إذا تحرك‬
‫النسان تحرك المجتمع والتاريخ‪ ،‬وإذا سكن سكن المجتمع‬
‫والتاريخ"‪.1355‬‬
‫وشرط الفاعلية الساسي عند مالك أن ينظر النسان إلى‬
‫نفسه على أنه صانع التاريخ ومحّركه‪ ،‬فالتاريخ نتائج عملية‪ ،‬وليس‬
‫ت نظرية‪ ،‬ورأى أن مشكلة المسلم أنه ل يفكر ليعمل بل يفكر‬ ‫مقول ٍ‬
‫ّ‬
‫ليقول ويتكلم‪ ،‬وقد أّدى ذلك إلى ضياع الستفادة من المال والوقت‬
‫والعلم‪.1356‬‬
‫مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي‬
‫ينبني مفهوم الحضارة عند ابن نبي على اعتقاده الراسخ بأن‬
‫"مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية‪ ،‬ول يمكن‬
‫لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الحداث‬
‫النسانية‪ ،‬وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو‬
‫تهدمها"‪.1357‬‬
‫وانطلقا من هذا العتقاد الراسخ بأهمية الحضارة وضرورة‬
‫"فقه" حركتها منذ انطلقتها الولى إلى أفولها يحاول ابن نبي إعطاء‬
‫تعريف واسع للحضارة‪ ،‬يتحدد عنده في ضرورة "توفر مجموع‬
‫الشروط الخلقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل‬
‫فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى‬
‫الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار‬
‫نموه"‪.1358‬‬
‫وعلى هذا فكل ما يوفره المجتمع لبنائه من وسائل تثقيفية‬
‫وضمانات أمنية‪ ،‬وحقوق ضرورية تمثل جميعها أشكال مختلفة‬
‫للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد‬
‫الذي ينتمي إليه‪.1359‬‬

‫‪ 1355‬مصطفى عاشور‪ :‬مالك بن نبي‪ ..‬فيلسوف مشكلت الحضارة‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪.‬‬
‫‪ 1356‬مصطفى عاشور‪ :‬مالك بن نبي‪ ..‬فيلسوف مشكلت الحضارة‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪.‬‬
‫‪ 1357‬إبراهيم رضا‪ :‬مالك بن نبي وفلسفة الحضارة السلمية الحديثة‪ ،‬موقع السلم‪:‬‬
‫‪http://www.islamonline.net‬‬
‫‪ 1358‬مالك بن نبي‪ :‬شروط النهضة ص ‪.20-19‬‬
‫‪ 1359‬مالك بن نبي‪ :‬آفاق جزائرية ص ‪.38‬‬
‫والعناصر الضرورية التي تتشكل منها كل الحضارات ‪ -‬حسب‬
‫مالك بن نبي ‪ -‬هي ثلثة‪ :‬النسان ‪ +‬التراب ‪ +‬الوقت‪.1360‬‬
‫الفكار الميتة والفكار المميتة‬
‫دث مالك عن قضيتين خطيرتين‪ :‬الولى تتعلق بالفكار التي‬ ‫تح ّ‬
‫تعوق النهضة السلمية‪ ،‬وسماها بالفكار المّيتة والفكار المميتة‪،‬‬
‫ورأى أن الفكار الميتة تسكن العقول ول تدفع حاملها إلى أي مجهود‬
‫أو نشاط‪ ،‬فهي معلومات عقيمة متوارثة‪ ،‬وهي أحد أسباب انحطاط‬
‫الخط البياني الحضاري للمة السلمية‪ .‬أما الفكار المميتة فهي‬
‫الفكار التي تقتل البداع في النفوس بما لها من قدرة على الخماد‬
‫وكبح جماح العقول والهمم‪.‬‬
‫وهذه الفكار المميتة تخلق العقلية الستسهالية‪ ،‬وتغيب القدرة‬
‫التحليلية في فهم المشكلت المعقدة‪.1361‬‬
‫القابلية للستعمار‬
‫أما الفكرة الثانية فهي القابلية للستعمار )القابلية للحتلل(‪،‬‬
‫وهذا المفهوم ي ُعَد ّ من أشهر مفاهيم مالك التي أبدعها؛ إذ أدرك أن‬
‫المة السلمية في خطر‪ ،‬ل لنها تحت الهيمنة الغربية‪ ،‬ولكن لنها‬
‫فقدت كثيًرا من الدوافع التي رفعت من شأنها في القرون الماضية‪،‬‬
‫وأصبح موقعها زمنّيا في عهد ما قبل الحضارة؛ فالقابلية للستعمار‬
‫هي جملة خواص اجتماعية تسّهل سيطرة الغزاة على المة‪ ،‬وتؤدي‬
‫إلى استمرار الوضع المنحل للحضارة‪ ،‬فهناك مجتمعات تعرضت‬
‫للحتلل العسكري لكنها مجتمعات غير قابلة للستعمار مثل احتلل‬
‫ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وفي المقابل توجد مجتمعات لم‬
‫تتعرض للستعمار لكنها قابلة للستعمار‪.‬‬
‫انتقد مالك فرض التسييس للنهضة الجتماعي‪ ،‬والنظر‬
‫لح الجتماعي‪ ،‬ورأى أن هذين‬‫المتمحور حول دور السلطة في الص ً‬
‫الخطأين كانا من أسباب تأجيل عمليات النهضة الجتماعية‪.‬‬
‫يعتبر مالك بن نبي ومدرسته من أكثر المدارس الفكرية التي‬
‫كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملمح الفكر السلمي الحديث‪،‬‬
‫خاصة أن هذه المدرسة اهتمت أكثر من غيرها من المدارس الخرى‬
‫بدراسة مشكلت المة السلمية؛ انطلًقا من رؤيةٍ حضاريةٍ شامل ٍ‬
‫ة‬
‫ومتكاملة؛ فقد كانت جهوده لبناء الفكر السلمي الحديث‪ ،‬وفي‬
‫ما متميزة؛ سواء من حيث المواضيع‬ ‫دراسة المشكلت الحضارية عمو ً‬

‫مالك بن نبي‪ :‬تأملت ص ‪.168‬‬ ‫‪1360‬‬

‫مصطفى عاشور‪ :‬مالك بن نبي‪ ..‬فيلسوف مشكلت الحضارة‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪.‬‬ ‫‪1361‬‬
‫التي تناولها أو المناهج التي اعتمدها في ذلك التناول‪1362‬؛ "وكان بذلك‬
‫أول باحث حاول أن يحدد أبعاد المشكلة‪ ،‬ويحدد العناصر الساسية‬
‫لح‪ ،‬ويبعد في البحث عن العوارض‪ ،‬وكان كذلك أول من‬ ‫في الص ً‬
‫س من علم‬‫مشكلة المسلمين على أسا ٍ‬ ‫جا محدًدا في بحث‬ ‫أودع منه ً‬
‫سّنة التاريخ" ‪.‬‬
‫‪1363‬‬
‫النفس والجتماع و ُ‬
‫ابن خلدون العصر‬
‫من الدارسين للفكر السلمي الحديث من يعتبر مالك بن نبي‬
‫ي بالفكر الحضاري‬ ‫ن خلدون العصر الحديث‪ ،‬وأبرز مفكر عربي ع ُن ِ َ‬ ‫اب َ‬
‫ت الحضارة الحديثة تمثل ً‬ ‫منذ ابن خلدون‪ ،‬ومع أنه قد تمّثل فلسفا ِ‬
‫قا‪ ،‬واستلهم في أحايين كثيرة أعمال بعض الفلسفة الغربيين فإن‬ ‫عمي ً‬
‫ابن خلدون بالذات يظل أستاذه الول وملهمه الكبر ‪ .‬ومالك نفسه‬
‫‪1364‬‬

‫ل يخفي تأثره بفكر ابن خلدون ونظرياته حول العمران البشري‪ ،‬بل‬
‫أشار إلى ذلك في مواضع شّتى من كتبه‪ ،‬كما ذكر ذلك في مذكرات‬
‫حياته "شاهد القرن"‪.1365‬‬
‫هكذا ظهر "مالك بن نبي" وكأنه صدى لعلم ابن خلدون‪ ،‬يهمس‬
‫في وعي المة بلغة القرن العشرين‪ ،‬فأظهر أمراض المة مع وصف‬
‫أسباب نهضة المجتمعات‪ ،‬ووضع الستعمار تحت المجهر؛ فحّلل‬
‫نفسيته‪ ،‬ورصد أسإليبه الخبيثة في السيطرة على المم المستضعفة‪،‬‬
‫وخاصة المسلمين‪ ،‬ووضع لهم معادلت وقوانين "القلع الحضاري"‪..‬‬
‫ولكن المة لم تقلع حضارّيا؛ وذلك إمّا لثقل حجم التخلف بين‬
‫ما‬
‫ما لضعف المحّرك المقّرر أن يقلع بها‪ ،‬وإ ّ‬
‫أفرادها ومؤسساتها‪ ،‬وإ ّ‬
‫لجتماع السببين مًعا‪ .‬ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلت والقوانين‬
‫"نظريات" مفيدة للمحّركين الذي يهتمون بانطلق "المشروع‬
‫الحضاري" للمة‪.1366‬‬

‫‪ 1362‬إبراهيم رضا‪ :‬مالك بن نبي وفلسفة الحضارة السلمية الحديثة‪ ،‬موقع السلم‪:‬‬
‫‪http://www.islamonline.net‬‬
‫‪ 1363‬جودت سعيد‪" :‬مذهب ابن آدم الول" ص ‪.15-14‬‬
‫‪ 1364‬فهمي جدعان‪" :‬أسس التقدم عند مفكري السلم" ص ‪.410‬‬
‫‪ 1365‬ذكر مالك بن نبي في مذكراته شاهد القرن‪ :‬الطفل والطالب‪" ،‬جملة من المفكرين‬
‫المسلمين وغيرهم الذين كان لهم تأثير فكري في حياته" ينظر إلي مذكراته‪ ،‬ترجمة مروان‬
‫القنواتي‪.‬‬
‫‪ 1366‬خالد أبو الفتوح‪ :‬مقال "نحو وعي سنني"‪ ،‬مجلة البيان‪ ،‬العدد ‪.89‬‬
‫وفاته‬
‫وفي مالك بن نبي في الجزائر في )‪ 4‬من شوال ‪1393‬هق=‬ ‫تُ ُ‬
‫‪ 31‬من أكتوبر ‪1973‬م( وهو في الثامنة والستين من عمره ؛‬
‫‪1367‬‬

‫ة واسعة‪ ،‬وجزاه عن السلم والمسلمين خير‬


‫فرحمه الله رحم ً‬
‫الجزاء‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في حياة أبي‬


‫العلى المودودي‬
‫]‪ 3‬رجب ‪ -1321‬غرة ذي القعدة ‪1399‬هق= ‪ 25‬من سبتمبر‬
‫‪ 22 -1903‬سبتمبر ‪1979‬م[‬
‫ميلده ونشأته‬
‫هو "أبو العلى" ابن سيد أحمد‪ ،‬المودودي‪ .‬ولد في ‪ 25‬من‬
‫سبتمبر ‪1903‬م‪ ،‬ينتمي إلى أسرة تمتد جذورها إلى شبه جزيرة‬
‫العرب‪ ،‬فقد هاجرت أسرته إلى الهند في أواخر القرن التاسع‬
‫الهجري‪ ،‬ونشأ في جو صوفي‪ ،‬وتفتحت عيناه على حياة تفيض بالزهد‬
‫والورع والتقوى‪ ،‬وقضى طفولته الولى في مسقط رأسه في مدينة‬
‫"أورنك آباد الدكن"‪ ،‬بمقاطعة حيدر آباد‪ ،‬وكان أبوه معلمه الول؛‬
‫ه اللغة العربية‪ ،‬والقرآن الكريم‪ ،‬والحديث الشريف والفقه‪،‬‬ ‫فَعَل ّ َ‬
‫م ُ‬
‫َ‬
‫ه اللغة الفارسية‪ ،‬يقول المودودي‬ ‫موَط ّأ المام مالك‪ ،‬كما ع َل ّ َ‬
‫م ُ‬ ‫فظ َ ُ‬
‫ه ُ‬ ‫ح ّ‬‫و َ‬
‫عن والده‪" :‬لقد أحسن تربيتي‪ ،‬وعلمني النطق السليم‪ ،‬وكان يحكي‬
‫لي كل مساء قصص النبياء والمرسلين‪ ،‬ووقائع التاريخ السلمي‪،‬‬
‫ما عند رفاقه‪،‬‬‫وحوادث الهند‪ ،‬واهتم بأخلقي؛ وكان يأخذني معه دائ ً‬
‫وك ُل ُّهم على درجة عالية من الثقافة والتزان‪ ،‬فانتقلت إلى من‬
‫مجالستهم العادات الفاضلة الحسنة"‪ .1368‬وأقبل المودودي على‬
‫التعليم بجد ّ واهتمام حتى اجتاز امتحان مولوي‪ ،‬وهو ما يعادل‬
‫الليسانس‪.‬‬

‫أخلقه نموذج للعلماء‬


‫مصطفى عاشور‪ :‬مالك بن نبي‪ ..‬فيلسوف مشكلت الحضارة‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪.‬‬ ‫‪1367‬‬

‫مجلة المختار السلمي‪ ،‬ربيع الول ‪1400‬هق ص ‪.84‬‬ ‫‪1368‬‬


‫العتماد على النفس‪:‬‬
‫دا بل حراك‪ ،‬وضاقت‬
‫عندما أصيب أبوه بالشلل‪ ،‬وأصبح قعي ً‬
‫سبل العيش بالسرة والبناء‪ ،‬كان على المودودي أن يكافح من أجل‬
‫لقمة العيش؛ فقرر أن يجعل قلمه وسيلة للرزق‪.‬‬
‫الجتهاد الحثيث‪:‬‬
‫ورغم ضيق العيش‪ ،‬والكد في طلب الرزق‪ ،‬سعى المودودي‬
‫إلى تعلم اللغة النجليزية حتى أتقنها‪ ،‬وصار بإمكانه الطلع على كتب‬
‫التاريخ والفلسفة والجتماع ومقارنة الديان باللغة النجليزية دون أية‬
‫صعوبة في فهمها واستيعابها‪.‬‬
‫حبه للعلماء وارتباطه الروحي بهم‪:‬‬
‫ارتباطه الروحي بالشهيد سيد قطب‪:‬‬
‫روى الشيخ "خليل الحامدي" سكرتير الشيخ المودودي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫في أحد أعوام الستينيات بمكة المكرمة دخل شاب عربي مسلم‬
‫على الستاذ المودودي‪ ،‬وقدم له كتاب "معالم في الطريق" لمؤّلفه‬
‫"سيد قطب"‪ ،‬وقرأه الستاذ المودودي في ليلة واحدة‪ ،‬وفي الصباح‬
‫ت هذا الكتاب"‪ ،‬وأبدى دهشته من‬ ‫قال لي‪" :‬كأني أنا الذي أ َل ّ ْ‬
‫ف ُ‬
‫التقارب الفكري بينه وبين سيد قطب‪ ،‬ثم استدرك يقول‪" :‬ل عجب؛‬
‫فمصدر أفكاره وأفكاري واحد‪ ،‬وهو كتاب الله وسنة رسوله ‪."‬‬
‫ما عن علقة الحب والخاء التي كان ي ُك ِن َّها المودودي لقطب‬
‫أ ّ‬
‫ً‬
‫رغم ُبعد المسافة بينهما؛ فيحكي خليل الحامدي قائل‪ :‬غداة تنفيذ‬
‫حكم العدام بالشهيد سيد قطب‪ ،‬دخلنا على المودودي في غرفته‪،‬‬
‫وكانت الصحافة الباكستانية قد أبرزت الخبر على صفحاتها الولى‪ ،‬إل‬
‫ص علينا كيف أنه أحس‬ ‫أنه لم يكن قد قرأه بعد‪ ،‬فسبقنا المودودي وق ّ‬
‫ما عرف وقت إعدام‬ ‫فجأة باختناق شديد‪ ،‬ولم يدرك لذلك سبًبا‪ ..‬فل ّ‬
‫الشهيد سيد قطب من الصحف قال‪" :‬أدركت أن لحظة اختناقي هي‬
‫شنق فيها سيد قطب"‪.‬‬ ‫نفس اللحظة التي ُ‬
‫ارتباطه الروحي بمحمد إقبال‪:‬‬
‫وكان شاعر الهند الكبير محمد إقبال من المعنيين بكتابات‬
‫‪(‬‬
‫ن هذا الشيخ يعرض دين الرسول )‬ ‫المودودي‪ ،‬وكتب ذات مرة‪" :‬إ ّ‬
‫بقلم مداده الدم"‪ ،‬أما المودودي‪ ،‬فيقول‪" :‬كان بيني وبين إقبال‬
‫طط الذي كان في ذهني كان نفسه‬ ‫انسجام كبير في الراء‪ ،‬والمخ ّ‬
‫ت أكبر سندٍ‬
‫في ذهن إقبال"‪ ،‬وحين بلغته وفاة إقبال بكى قائل‪" :‬فقد ُ‬
‫لي في الدنيا بموت هذا الرجل العظيم"‪ ..‬وبعدها بوقت قصير ذهب‬
‫ضا من كلية "حماية السلم" بأن يكون محاضًرا‬
‫إلى لهور وقبل عر ً‬
‫ت‬
‫ت عن السلم لمدة عام‪ ،‬كما ألقى محاضرا ٍ‬ ‫شرفّيا‪ ،‬وألقى محاضرا ٍ‬
‫في عدة جامعات أخرى‪.‬‬
‫رحلة كفاحه‬
‫عمل المودودي في الصحافة في وقت مبكر ‪ ،‬وكان ينتقل من‬
‫عا عن الخلفة‬
‫صحيفة إلى أخرى ‪ ،‬ويكتب لها افتتاحيات نارية ‪ ،‬دفا ً‬
‫السلمية اليلة إلى السقوط ‪ ،‬وصار رئيس تحرير مجلة )المسلم(‬
‫التي تصدرها جمعية العلماء وهو ابن سبع عشرة )‪(1923 – 1920‬‬
‫وبكتابته هذه جمع بين السياسة والعلم والنكباب على قضايا‬
‫حا‪.‬‬
‫حا ومناف ً‬
‫السلم والمسلمين ‪ ،‬شار ً‬
‫وبدأ بالكتابة في بعض الجرائد‪ ،‬ثم اشترك مع مدير جمعية‬
‫علماء الهند في إصدار جريدة مسلم‪ ،‬وصار مديًرا لتحريرها لمدة‬
‫ت عام )‪1922‬م( فانتقل إلى بهو بال‪ ،‬ثم عاد‬ ‫ثلث سنوات حتى أ ُغ ْل ِ َ‬
‫ق ْ‬
‫مرة أخرى إلى دلهي سنة )‪1923‬م(؛ حيث تولى الشراف على‬
‫إصدار جريدة تصدرها جمعية علماء الهند تحمل اسم الجمعية‪ ،‬وظل‬
‫يتحمل وحده عبء إصدارها حتى سنة )‪1928‬م(‪ ،‬التي أتم فيها كتابه‬
‫قق شهرة عالمية‪ ،‬وقد كتبه رّدا على‬ ‫"الجهاد في السلم" الذي ح ّ‬
‫مزاعم غاندي التي يدعي فيها أن السلم انتشر بحد السيف‪ ،‬وفي‬
‫عام )‪1932‬م( أصدر ترجمان القرآن من حيدر آباد الدكن‪ ،‬وكان‬
‫قوا فوق‬ ‫حل ّ ُ‬
‫شعارها‪" :‬احملوا أيها المسلمون دعوة القرآن وانهضوا و َ‬
‫العالم"‪.‬‬
‫وكان تأثير المودودي عبر ترجمان القرآن من أهم العوامل التي‬
‫ساعدت على انتشار التيار السلمي في الهند‪ ،‬وزيادة قوته‪ ،‬وقد‬
‫تبلور ذلك في حزب الرابطة السلمية‪ ،‬وتأكد ذلك من خلل دعوته‬
‫عقد في لنكو سنة )‪1937‬م( إلى الستقلل‬ ‫أثناء المؤتمر الذي ُ‬
‫الذاتي للوليات ذات الغلبية السلمية‪.‬‬
‫ونتيجة لشهرة المودودي واتساع دائرة تأثيره الفكري في‬
‫العالم السلمي؛ دعاه المفكر والفيلسوف الهندي الكبير محمد إقبال‬
‫سنة )‪1937‬م( إلى لهور ليمارس نشاطه السلمي البارز بها‪ ،‬فَل َّبى‬
‫غا كبيًرا‬ ‫المودودي الدعوة؛ وعند وفاة إقبال في العام التالي تار ً‬
‫كا فرا ً‬
‫في مجال الفكر والدعوة اتجهت النظار إلى المودودي ليمل هذا‬
‫الفراغ؛ فبدأ تأسيس الجماعة السلمية في لهور‪ ،‬وتم انتخابه أميًرا‬
‫ت الجماعة‬ ‫قل َ ْ‬
‫لها في )أغسطس ‪1941‬م(‪ ،‬وبعد ذلك بعامين ن َ َ‬
‫السلمية مركزها الرئيسي من لهور إلى دار السلم ‪ -‬إحدى قرى‬
‫بتها نكوت – وكان المودودي طوال هذه الفترة ل يكف عن الكتابة‬
‫والتأليف‪.‬‬
‫ما من الكفاح طلب‬ ‫وفي )نوفمبر ‪1972‬م( بعد نحو ثلثين عا ً‬
‫المودودي إعفاءه من منصبه كأمير للجماعة السلمية لسباب صحية‪،‬‬
‫وانصرف إلى البحث والكتابة‪ ،‬وفي عام )‪1979‬م( فاز المودودي‬
‫بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة السلم؛ فكان أول من حصل‬
‫على تلك الجائزة تقديًرا لجهوده المخلصة في مجال خدمة السلم‬
‫والمسلمين‪.‬‬
‫منهجه الفكري‬
‫ما‬
‫ل الفكر السلمي باتساعه وشموله ومنهجيته إطاًرا عا ً‬ ‫شك ّ َ‬
‫َ‬
‫قا لنظرته‪ .‬وكان للمودودي موقف ورؤية من كل ما‬ ‫لفكره‪ ،‬ومنطل ً‬
‫يحيط به في الحياة؛ وتجاوز مرحلة الدعوة باللسان والقلم إلى‬
‫مرحلة العمل الحقيقي‪ ،‬حين ألف الجماعة السلمية لتقوم بتطبيق ما‬
‫ما وقيادةً‬
‫دعا إليه من آراء نظرية في مجال التشريع السلمي حك ً‬
‫ومعاملت‪ ،‬وقد بدأ ذلك بإصدار بيان رنان قال فيه‪:‬‬
‫"ل بد من وجود جماعة صادقة في دعوتها إلى الله‪ ،‬جماعة‬
‫مل السجن والتعذيب‬ ‫تقطع صلتها بكل شيء سوى الله‪ ،‬جماعة تتح ّ‬
‫والمصادرة وتلفيق التهامات‪ ،‬وحياكة الكاذيب‪ ،‬وتقوى على الجوع‬
‫والعطش والحرمان والتشريد‪ ،‬وربما القتل والعدام‪ ،‬جماعة تبذل‬
‫دم كل ما‬
‫الرواح رخيصة وتتنازل عن الموال بالرضا والخيار‪ ،‬وتق ّ‬
‫تملك قرباًنا في سبيل إقامة مجتمع السلم ونظامه‪ ،‬وإن الذين تتوفر‬
‫لديهم الرغبة في ذلك عليهم أن يجتمعوا في لهور يوم الخامس‬
‫والعشرين من شهر أغسطس عام ‪1941‬م؛ لبحث إجراءات تأسيس‬
‫ظم"‪ .1369‬ثم سارع بطرح دستور‬ ‫حركة إسلمية في شكل من ّ‬
‫كا المجال للمناقشة الصريحة‪ ،‬حيث انتهوا إلى الموافقة‬ ‫الجماعة‪ ،‬تار ً‬
‫التامة‪ ،‬وبدأ الكيان السلمي يتمثل في تجمع جديد‪ ،‬يقوم بتطبيق ما‬
‫جاء في دستور الجماعة‪.‬‬
‫ما في منطقه‪ ،‬فجذب انتباه أنصار الفكرة‬ ‫كان المودودي مفح ً‬
‫السلمية‪ ،‬واندفعوا يترجمون مقالته القوية إلى العربية والفارسية‬
‫والنجليزية والفرنسية‪ ،‬حتى انتشرت تعاليم السلم على يده صحيحة‬
‫صريحة في ربوٍع بذل أصحابها جهد الجبابرة في تشويه هذه التعاليم‪،‬‬
‫وج ذلك كله بوضع دستور شامل للحكم السلمي ل يزال إلى‬ ‫ثم ت ّ‬
‫الن أهم مرجع معاصر للدارسين ‪.‬‬
‫‪1370‬‬

‫لقد ع َب َّر المام المودودي عن إحساسه بأهمية وجود جماعة‬


‫ن نظام الستخلف في‬ ‫مؤمنة مجاهدة تكون أداة للتغيير بقوله‪" :‬إ ّ‬

‫‪ 1369‬محمد رجب البيومي‪ :‬النهضة السلمية في سير أعلمها المعاصرين‪ ،‬دار القلم والدار‬
‫الشامية ‪.1/514‬‬
‫‪ 1370‬السابق نفسه ص ‪.514‬‬
‫الرض ل يمكن أن يتغير ويتبدل بمجرد وجود فرد صالح أو أفراد‬
‫صالحين مشتتين في الدنيا‪ ،‬ولو كانوا في ذات أنفسهم من أولياء الله‬
‫تعإلي‪ ،‬بل ومن أنبيائه ورسله‪ ،‬إن الله تعالى لم يقطع ما قطع من‬
‫المواعيد لفراد متفرقين مشتتين‪ ،‬وإنما قطعها لجماعة منسقة‬
‫متمتعة بحسن الدارة والنظام‪ ،‬بل إن مما ل مندوحة عنه لهذه الفئة‬
‫المؤمنة أن تستمر في المكافحة والمناضلة لقوى الكفر والفسق‬
‫على كل خطوة‪ ،‬من كل حلبة من حلبات الحياة الدنيا‪ ،‬وتثبت ما في‬
‫نفسها من حب للحق‪ ،‬وكفاءة للضطلع بأعباء إمامة الرض‪ ،‬ببذل‬
‫التضحيات والمساعي في سبيل إقامة الحق‪ ،‬وذلك شرط لم ُيستثن‬
‫منه حتى النبياء والرسل عليهم الصلة والسلم‪ ،‬فَأ َّنى لحد ٍ اليوم أن‬
‫يتمّنى على ربه أن يستثنه منه"‪.‬‬
‫لم يكن المودودي ليسكت على الخطأ‪ ،‬بل كان يبادر إلى النقد‬
‫الهادف‪ ،‬جريًئا في الحق‪ ،‬ل يخشى في الله لومة لئم‪ ،‬ل يغتر بالبهرج‬
‫الكاذب‪ ،‬ول ينخدع بالبريق الظاهر؛ فواجه بريق الحضارة الغربية‪،‬‬
‫ودرسها دراسة متأنية‪ ،‬فوجدها تنحصر في العلمانية‪ ،‬والقومية‪،‬‬
‫والديمقراطية‪ ،‬وهي أصنام ثلثة صارت تعبد من دون الله‪ ،‬وقد أنحى‬
‫المودودي بمعوله حتى تحولت إلى أنقاض‪.1371‬‬
‫وفي مجال الجتهاد التشريعي‪ ،‬أفاض المودودي في أصول‬
‫إسلمية ممتازة‪ ،‬وما أكثر ما خاض المودودي في تشخيص الدواء لما‬
‫فا‬
‫يشيع في جسم العالم السلمي من داء‪ ،‬كاتًبا ومحاضًرا ومؤل ً‬
‫ومحاوًرا ومناظًرا‪ ،‬يقول‪" :‬السلم ل يزال يعطي الدليل على قوته‪،‬‬
‫فما قامت ثورة من ثورات التحرير الصادقة إل اعتمدت على آيات‬
‫القرآن وتوجيهات التشريع‪ ،‬وفي هذه الحركات التحريرية انتفاضات‬
‫صادقة تحب الدين باطًنا وظاهًرا‪ ،‬وانتفاضات اّدعائية تنادي بالدين‬
‫دفين تخاصمه وُتظهر‬ ‫لتجذب إليها أعناق المؤمنين‪ ،‬وهي في باطنها ال ّ‬
‫له العداء‪ ،‬ودليل ذلك أنها ل تعمل على تنفيذ شريعته" ‪.‬‬
‫‪1372‬‬

‫إسهاماته العلمية‬
‫درس المودودي هذه الحضارة من مصادرها‪ ..‬وبين لبناء أمته‬
‫بأسلوب مشرق متين أن السلم شيء آخر إنساني حضاري‪..‬‬
‫واستطاع أن يعيد إلى المسلمين ثقتهم بدينهم واعتزازهم‬
‫بشخصيتهم‪ .‬يقول المودودي‪ :‬من عام ‪1929‬م إلى عام ‪1939‬‬
‫أفرغت العديد من خزانات الكتب والمراجع في ذهني‪ ،‬استعداًدا‬
‫ملئ بالفكار‬ ‫للمهمة الجديدة مهمة الدعوة إلى السلم في عصر ُ‬
‫والتيارات يفرض على الداعية أن يتزود بزاد كمي علمي سام وأن‬

‫السابق نفسه ص ‪.517‬‬ ‫‪1371‬‬

‫السابق نفسه ص ‪.521‬‬ ‫‪1372‬‬


‫يحظى بعصا من البرهان يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه‪ ،‬ويحقق بها‬
‫المآرب الخرى‪.‬‬
‫ف المام المودودي مجموعة من أهم كتبه‬‫في هذه المرحلة أ َل ّ َ‬
‫مثل‪ :‬نحن والحضارة الغربية‪ ،‬والمسلمون وحركة تحرير الهند‪،‬‬
‫ومبادئ السلم‪ ،‬كما ألف كتابه الشهير )الجهاد في السلم(‪ ،‬في نحو‬
‫الخامسة والعشرين من عمره‪.‬‬
‫فا ما بين‬ ‫بلغ عدد مؤلفات المودودي )‪ (140‬مصن ً‬
‫كتاب ورسالة‪ ،‬وأكثر من ألف محاضرة‪ ،‬ومن أبرز تلك‬
‫المؤلفات‪:‬‬
‫الجهاد في السلم )‪ 1347‬هقق = ‪1928‬م(؛ وكقان سقبب تقأليفه لهقذا‬
‫الكتاب أن المهاتما غانققدي نقققل عنققه قققوله بققأن السققلم انتشققر بحققد‬
‫السيف‪ .‬وخطب المام "محمققد علققي الجققوهري" خطبققة فققي الجققامع‬
‫الكبير بدهلي‪ ،‬وصدح بقولته‪" :‬ليت رجل من المسققلمين يقققوم للققرد"؛‬
‫فأراد المودودي أن يكون هذا الرجل‪ ،‬وغربل أمهققات الكتققب فققي هققذا‬
‫ما‬
‫الموضققوع‪ ،‬وأخققذ يطققالع تاريققخ الحققروب عنققد جميققع الشققعوب قققدي ً‬
‫وحديًثا وكتب حلقات متواصلة في جريققدة الجمعيققة‪ ،‬ثققم صققدرت فققي‬
‫مققا الشققباب‬‫كتاب عام ‪ ،1928‬وكان الدكتور "محمد إقبققال" ينصققح دائ ً‬
‫المسلمين باقتناء هذا الكتاب‪ ،‬وكان تقأليف هقذا الكتقاب نقطقة تحقول‬
‫كبيرة للمودودي‪.‬‬
‫ضا مبادئ السلم‪ ،‬وقد ُترجم إلى ثلثين لغة عالمية ونققال‬ ‫ومن كتبه أي ً‬
‫جا كبيًرا في أوروبا‪ ،‬واعتنق كثيرون بسببه السلم‪ ..‬وسبب تققأليفه‬ ‫روا ً‬
‫أن إدارة التربيققة والتعليققم فققي وليققة "حيققدر آبققاد الققدكن" كلفققت‬
‫المودودي بوضع منهج التربية السلمية في مدارسققها‪ ،‬والطريققف أنققه‬
‫لم يكتب شيئا حتى جاءه إخطار بضرورة تسليم الكتققاب خلل أسققبوع‬
‫فأنجزه بالفعل في هذا الوقت اليسير‪.‬‬
‫وله مجموعة كبيرة من الكتب الشهيرة التي غيرت الكثير من الفكققار‬
‫وتربى عليها جيل بكامله‪ ،‬منها‪ :‬حضارة السلمية )أصولها ومبادؤها( )‬
‫‪ 1350‬هقققق = ‪1932‬م(‪ ،‬نظريقققة السقققلم السياسقققية )‪ 1358‬هقققق =‬
‫‪1939‬م(‪ ،‬تجديد وإحياء الققدين )‪ 1359‬هق ق = ‪1940‬م(‪ ،‬الصققطلحات‬
‫الربعققة الساسققية فققي القققرآن )‪ 1360‬هققق = ‪1940‬م(‪ ،‬السققلم‬
‫والجاهلية )‪ 1360‬هق = ‪1941‬م(‪ ،‬السس الخلقية للحركة السلمية‬
‫)‪ 1364‬هق = ‪1945‬م(‪ ،‬الققدين الحققق )‪ 1366‬هق ق = ‪1947‬م(‪ ،‬نظققام‬
‫الحياة في السلم ومبادئه الساسية )‪ 1367‬هققق = ‪1948‬م(‪ ،‬حقققوق‬
‫أهققل الذمققة )‪ 1367‬هق ق = ‪1948‬م(‪ ،‬مطققالب السققلم تجققاه المققرأة‬
‫المسققلمة )‪ 1372‬هققق = ‪1953‬م(‪ ،‬قضققية القاديانيققة )‪ 1372‬هققق =‬
‫‪1953‬م(‪ ،‬تفسقير تفهيقم الققرآن‪ :‬ويقققع فقي سققبعة مجلقدات؛ بقدأه )‬
‫‪ 1360‬هق ق = ‪1941‬م(‪ ،‬وأتمققه )‪1392‬هق ق = ‪1972‬م(‪ ،‬سققيرة النققبي‬
‫صققلى اللققه عليققه وسققلم؛ بققدأه )‪ 1392‬هقق = ‪1972‬م(‪ ،‬وأتمققه قبيققل‬
‫وفاته‪ ،‬وهو آخر مؤلفاته‪..‬‬
‫ومن مؤلفاته كذلك‪ :‬أسس القتصاد بين السققلم والنظققم المعاصققرة‪،‬‬
‫معضلت النسان القتصادية وحلها في السلم‪ ،‬إلققى أي شققيء يققدعو‬
‫السلم‪ ،‬الربا‪ ،‬الحجققاب‪ ،‬السققلم فققي مواجهققة التحققديات المعاصققرة‪،‬‬
‫السلم والمدنية الحديثة‪ ،‬تذكرة دعققاة السققلم‪ ،‬فققي محكمققة العقققل‪،‬‬
‫قضية كشمير المسلمة‪ ،‬مبادئ أساسية لفهم القققرآن‪ ،‬مسققألة ملكيققة‬
‫الرض فققي السققلم‪ ،‬مفققاهيم إسققلمية حققول الققدين والدولققة‪ ،‬نحققن‬
‫والحضارة العربية الرأسمإلية والشيوعية‪ ،‬نظققرة عققابرة علققى حقققوق‬
‫النسان الساسية‪..‬‬
‫فضل ً عن مؤلفات أخرى عديققدة‪ ،‬حظيققت بشققهرة عريضققة فققي جميققع‬
‫أنحاء العققالم ولقيققت قبققول واسقًعا فققي قلققوب المسققلمين فققي شققتى‬
‫البقاع؛ فترجم الكثير منها إلى العديد من اللغات‪..‬‬
‫وقد بلغ عققدد اللغققات الققتي ترجمققت مصققنفات المققودودي إليهققا سققت‬
‫عشققرة لغققة‪ ،‬منهققا‪ :‬النجليزيققة‪ ،‬والعربيققة‪ ،‬واللمانيققة‪ ،‬والفرنسققية‪،‬‬
‫والهندية‪ ،‬والبنغالية‪ ،‬والتركية‪ ،‬والسندية…‪ ،‬ونققالت استحسقان ورضققى‬
‫المسلمين على شتى مستوياتهم واتجاهاتهم‪.‬‬
‫وقد حظيت مؤلفات المودودي بشهرة عريضة في جميع أنحاء‬
‫العالم ولقيت قبول واسًعا في قلوب المسلمين في شتى البقاع؛‬
‫فترجم الكثير منها إلى العديد من اللغات‪..‬‬
‫وقد بلغ عدد اللغات التي ترجمت مصنفات المودودي إليها ست‬
‫عشرة لغة‪ ،‬منها‪ :‬النجليزية‪ ،‬والعربية‪ ،‬واللمانية‪ ،‬والفرنسية‪،‬‬
‫والهندية‪ ،‬والبنغإلية‪ ،‬والتركية‪ ،‬والسندية…‪ ،‬ونالت استحسان ورضى‬
‫المسلمين على شتى مستوياتهم واتجاهاتهم‪.‬‬
‫أقوال العلماء عن المودودي‬
‫الشهيد سيد قطب‬
‫كان الشهيد سيد قطب يسمي المودودي "المسلم العظيم"‪.‬‬
‫العلمة الشيخ أبو الحسن الندوي‬
‫"إنني ل أعرف رجل أ َث َّر في الجيل السلمي الجديد‪ ،‬فكرّيا‬
‫وعملّيا مثل المودودي‪ ،‬فقد قامت دعوته على أسس علمّية‪ ،‬أعمق‬
‫وأمتن من تلك التي تقوم عليها الدعوات سياسية‪ ،‬أو ردود فعل‬
‫للستعمار الجنبي‪ ،‬وكانت كتاباته وبحوثه موجهة إلى معرفة طبيعة‬
‫هذه الحضارة الغربية‪ ،‬وفلسفتها في الحياة وتحليلها تحليل علميا‪،‬‬
‫قلما يوجد له نظير في الزمن القريب‪ ،‬ولقد عرض السلم ونظم‬
‫حياته وأوضاع حضارته وحكمة سياسته وصياغته للمجتمع والحياة‪،‬‬
‫وقيادته للركب البشري والمسيرة النسانية في أسلوب علمي‬
‫رصين‪ ،‬وفي لغة عصرية تتفق مع نفسية الجيل المثقف‪ ،‬وتمل الفراغ‬
‫الذي يوجد في الدب السلمي من زمن طويل‪ ...‬ومن مآثره الخالدة‬
‫كب النقص" في نفوس الشباب السلمي فيما‬ ‫مَر ّ‬
‫‪ ..‬أنه حارب " ُ‬
‫يتصل بالعقائد والخلق ونظام الحياة السلمية‪ ..‬وكان لكتاباته فضل‬
‫كبير لعادة الثقة إلى نفوس هؤلء الشباب بصلحية السلم لمسايرة‬
‫العصر الحديث"‪.1373‬‬
‫العلمة الستاذ الدكتور يوسف القرضاوي‬
‫يقول‪" :‬المفكر المجدد‪ ،‬صاحب النظر العميق‪ ،‬والتحليل‬
‫الدقيق‪ ،‬ناقد الحضارة الغربية على بصيرة‪ ،‬والداعي إلى نظام‬
‫السلم على بينة‪ ،‬صاحب الكتب والرسائل التي ترجمت إلى عشرات‬
‫اللغات‪ ،‬الذي وقف في وجه دعاة )التغريب( وأعداء )السنة(‪،‬‬
‫والمنادين بنوبة جديدة )القاديانية(‪ ،‬و)المرتزقة( من الخرافيين‬
‫والقبوريين و)مشوشي الفكر( من المقلدين الجامدين‪ ..‬مؤسس‬
‫كبرى الجماعات السلمية في شبه القارة الهندية"‪.1374‬‬
‫المستشار عبد الله العقيل‬
‫"والعلمة المودودي علم من أعلم السلم المعاصرين‪ ،‬ومفكر‬
‫من مفكريه‪ ،‬وداعية من دعاته‪ ،‬آتاه الله الحكمة وبعد النظر‪ ،‬والعمق‬
‫في الفهم‪ ،‬والصبر على العلم‪ ،‬والتأمل في الواقع‪ ،‬والدراسة‬
‫الميدانية للفكار الرائجة‪ ،‬والوضاع السائدة‪ ،‬والتتبع لمصادر المعرفة‬
‫وتمييزها وتوثيقها‪ ،‬والنقد الموضوعي لحضارة الغرب‪ ،‬بأخذ الصالح‬
‫منها وطرح الضار‪ ،‬وتقديم السلم كحل لمشكلت الحياة في جميع‬
‫جوانبها"‪.‬‬
‫جائزة الملك فيصل العالمية‬
‫منح العلمة المودودي جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة‬
‫السلم‪ ،‬وهي أول جائزة تمنح لداعية إسلمي ومفكر‪ ،‬وتسلمها‬
‫بالنيابة عنه ابنه فاروق في حفل كبير‪ ،‬رعاه الملك خالد بن عبد‬
‫العزيز‪ ،‬بمدينة الرياض‪ ،‬في ربيع الول سنة ‪1399‬هق‪.‬‬
‫دراسات عن المودودي‬
‫أبو العلى المودودي‪ :‬حياته وفكره العقدي‪ :‬حمد بن‬ ‫•‬
‫صادق الجمال )‪1401‬هق= ‪1986‬م(‪.‬‬

‫مجلة العتصام‪ ،‬العدد ‪ ،12‬ذو الحجة‪ ،‬سنة ‪1399‬هق‪.‬‬ ‫‪1373‬‬

‫عبد الله العقيل‪ :‬من أعلم الدعوة والحركة السلمية المعاصرة ص ‪.340 -339‬‬ ‫‪1374‬‬
‫أبو العلى المودودي فكره ودعوته‪ :‬د‪ .‬سمير عبد الحميد‬ ‫•‬
‫إبراهيم )‪ 1399‬هق = ‪1979‬م(‪.‬‬
‫أبو العلى المودودي والصحوة السلمية‪ :‬د‪.‬محمد عمارة‬ ‫•‬
‫)‪ 1407‬هق = ‪1987‬م(‪.‬‬
‫من أعلم الدعوة والحركة السلمية المعاصرة‪:‬‬ ‫•‬
‫المستشار عبد الله عقيل سليمان العقيل )‪1423‬هق‪2002 -‬م(‪.‬‬
‫أبو العلى المودودي حياته ودعوته‪ :‬أليف الدين الترابي‪.‬‬ ‫•‬

‫في ذكرى المام أبي العلى المودودي‪ :‬مصطفى‬ ‫•‬


‫الطحان‪ ،‬مركز الدراسات السلمية‪.‬‬
‫وفاته‬
‫توفي المودودي في )غ ُّرة ذي القعدة ‪ 1399‬هق = ‪ 22‬من‬
‫ة‬
‫سبتمبر ‪1979‬م(‪ ،‬وهو مؤمن بمبدئه ثابت عليه؛ فرحمه الله رحم ً‬
‫واسعة‪ ،‬وجزاه عن السلم والمسلمين خير الجزاء‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في حياة محمد‬
‫الغزالي‬
‫]‪ 5‬من ذي الحجة ‪ 19 – 1335‬من شوال ‪1416‬هق = ‪ 22‬من‬
‫سبتمبر ‪ 9 -1917‬من مارس ‪1996‬م[‬
‫ميلده ونشأته‬
‫هو محمد الغزالي أحمد السقا‪ .‬وُل ِد َ في قرية )نكل العنب(‬
‫بإيتاي البارود بمحافظة البحيرة في مصر‪ ,‬في )‪ 5‬من ذي الحجة‬
‫مي الشيخ محمد‬ ‫س ّ‬
‫‪1335‬هق = ‪ 22‬من سبتمبر ‪1917‬م(‪ ،‬وقد ُ‬
‫الغزالي بهذا السم تيمًنا من والده بالمام أبي حامد الغزالي )ت‬
‫‪ 505‬هق(‪.1375‬‬
‫نشأ الشيخ محمد الغزالي في أسرة كريمة ملتزمة بتعاليم‬
‫م حفظ القرآن بك ُّتاب القرية في العاشرة‪ ,‬ويقول‬‫السلم‪ ,‬فأت ّ‬
‫ذ‪" :‬كنت أتدرب على إجادة الحفظ بالتلوة في‬ ‫الغزالي عن نفسه وقتئ ٍ‬
‫غ ُد ُّوي ورواحي‪ ،‬وأختم القرآن في تتابع صلواتي‪ ،‬وقبل نومي‪ ،‬وفي‬
‫سا في‬
‫وحدتي‪ ،‬وأذكر أنني ختمته أثناء اعتقالي‪ ،‬فقد كان القرآن مؤن ً‬
‫تلك الوحدة الموحشة"‪.1376‬‬
‫ثم التحق بمعهد السكندرية الديني البتدائي حتى حصل على‬
‫شهادة الكفاءة‪ ،‬ثم الثانوية الزهرية‪ ,‬ثم انتقل إلى القاهرة سنة )‬
‫‪1356‬هق = ‪1937‬م( فالتحق بكلية أصول الدين بالزهر الشريف‪,‬‬
‫وبدأت كتاباته في جريدة )الخوان المسلمون( أثناء دراسته بالسنة‬
‫ل المام حسن البنا‬ ‫الثالثة في الكلية سنة )‪1359‬هق= ‪1940‬م(‪ ,‬وظ ّ‬
‫جعه على الكتابة حتى تخّرج سنة )‪1360‬هق = ‪1941‬م(‪ ،‬ثم حصل‬ ‫يش ّ‬
‫على درجة العالمية سنة )‪1362‬هق= ‪1943‬م( وعمره ست وعشرون‬
‫ة‪ ,‬ثم بدأت بعدها رحلته في الدعوة في مساجد القاهرة‪.1377‬‬ ‫سن ً‬
‫شيوخه‬
‫قى الشيخ الغزالي العلم عن الشيخ عبد العظيم الزرقاني‪,‬‬
‫تل ّ‬
‫والشيخ محمود شلتوت‪ ,‬والشيخ محمد أبي زهرة‪ ،‬والدكتور محمد‬
‫يوسف موسى وغيرهم من علماء الزهر الشريف‪..‬‬

‫‪ 1375‬يوسف القرضاوي‪ ،‬الشيخ الغزالي كما عرفته‪ ،‬نقل ً عن موقع القرضاوي على‬
‫الشبكة الدولية‪http://www.qaradawi.net :‬‬
‫موقع الشيخ الغزالي على الشبكة الدولية‪/http://www.alghazaly.org :‬‬ ‫‪1376‬‬

‫موقع الشيخ الغزالي على الشبكة الدولية‪/http://www.alghazaly.org :‬‬ ‫‪1377‬‬


‫وقد انضم في شبابه إلى جماعة الخوان المسلمين وتأّثر‬
‫بمرشدها الول حسن البّنا‪.‬‬
‫ويقول الشيخ الغزالي عن هذه الفترة من حياته‪" :‬وإني أعترف‬
‫جلسوا إلى حسن‬ ‫‪َ -‬راّدا الفضل لهله ‪ -‬بأني واحد من التلمذة الذين َ‬
‫البّنا‪ ،‬وانتصحوا بأدبه‪ ،‬واستقاموا بتوجيهه‪ ،‬واستفادوا من يقظاته‬
‫حاته"‪.1378‬‬ ‫ول َ َ‬
‫م َ‬
‫وقد ظهر أول مؤّلفاته للنور تحت عنوان )السلم والوضاع‬
‫ل جماعة الخوان‬ ‫القتصادية( سنة ‪1947‬م‪ ،‬وفي العام التالي تم ح ّ‬
‫ُ‬
‫المسلمين‪ ،‬واعتقال أعضائها ومنهم الشيخ الغزالي‪ ,‬حيث أود ِع َ معتق َ‬
‫ل‬
‫الطور‪ ،‬ثم خرج الشيخ ~ من المعتقل عام ‪1949‬م‪.1379‬‬
‫جوائز‬
‫نال الشيخ ~ العديد من الجوائز والتكريم الذي كان أهل ً له؛‬
‫ومن أهم الجوائز التي حصل عليها‪ :‬جائزة الملك فيصل العالمية‬
‫للعلوم السلمية عام ‪1989‬م‪.1380‬‬
‫من مؤّلفاته‬
‫أثرى الشيخ ~ المكتبة السلمية بالعديد من الكتب التي ل‬
‫دة‬
‫ج ّ‬
‫نظير لها في تنوعها‪ ،‬وسهولتها مع عمقها الفكري‪ ،‬وبلغتها‪ ،‬و ِ‬
‫ن واحد‪ ،‬ومن هذه‬ ‫مواضيعها‪ ،‬ونفاذها إلى القلب‪ ،‬كل ذلك في آ ٍ‬
‫المؤّلفات‪ :‬عقيدة المسلم‪ ،‬وكيف تفهم السلم؟‪ ،‬وهموم داعية‪،‬‬
‫وخلق المسلم‪ ،‬ومع الله‪ ،‬والحق المر‪.‬‬
‫دا في سبيل نشر حقائق السلم‪،‬‬ ‫كما كان الشيخ مجاه ً‬
‫ومواجهة خصومه؛ فأّلف‪ :‬معركة المصحف‪ ،‬والسلم المفترى عليه‪،‬‬
‫والسلم والمناهج الشتراكية‪ ،‬والستعمار أحقاد وأطماع‪ ،‬والسلم‬
‫في مواجهة الزحف الحمر‪ ،‬والتعصب والتسامح بين المسيحية‬
‫والسلم‪ ،‬وقذائف الحق‪ ،‬وصيحة التحذير من دعاة التنصير‪ ،‬ومن هنا‬
‫نعلم‪.‬‬
‫وكان من القضايا التي نذر الشيخ لها نفسه القضاء على سلبية‬
‫المسلمين في مواجهة الستبداد والتخّلف؛ فأّلف لذلك‪ :‬السلم‬
‫والطاقات المعطلة‪ ،‬والسلم والستبداد السياسي‪ ،‬والسلم‬
‫سّر تأخر العرب‪ ،‬والكثير من العمال المهمة؛‬
‫والوضاع القتصادية‪ ،‬و ِ‬

‫‪ 1378‬الغزالي‪ :‬في موكب الدعوة ص ‪.11‬‬


‫‪ 1379‬محمد المجذوب‪ :‬علماء ومفكرون عرفتهم‪ ،‬ج ‪ ،1‬نقل ً عن موقع الشيخ الغزالي على‬
‫الشبكة الدولية‪/http://www.alghazaly.org :‬‬
‫‪ 1380‬موقع الشيخ الغزالي على الشبكة الدولية‪/http://www.alghazaly.org :‬‬
‫حيث ب ََلغت مؤّلفاته أكثر من خمسين عم ً‬
‫ل‪ ،‬وكان لها تأثير قوي على‬
‫المة السلمية كلها‪.‬‬
‫منهجه العلمي والفكري‬
‫ي ُعَد ّ الغزالي أحد أهم أعلم الفكر السلمي في النصف الثاني‬
‫ده في الفكر السلمي‪،‬‬ ‫ف عنه تجدي ُ‬
‫من القرن العشرين؛ وقد ع ُرِ َ‬
‫قد ُّر‬
‫قّر بفضلهم‪ ،‬وي ُ َ‬
‫ويتميز فكر الغزالي بأنه يعتز بالمصلحين وي ُ ِ‬
‫مواقفهم‪ ،‬ويتخير من آرائهم ولكنه ل يتحيز لفكرهم‪.‬‬
‫كان من منهج الشيخ الغزالي ~ رفض دخول العوام‪ ،‬وأنصاف‬
‫دعين‪ ،‬وكثيًرا ما تعّرض ~‬ ‫العلماء حلبة الفتاء‪ ،‬وكان يراهم م ّ‬
‫ت على محاكاة‬ ‫ُ‬
‫عن ُ‬
‫ت لو أ ِ‬
‫لتطاولهم‪ ،‬وإساءاتهم؛ يقول الغزالي‪" :‬وَِدد ُ‬
‫َ‬
‫ف "إلجام العوام عن علم الكلم"؛ فَأل ّ ْ‬
‫ت كتاًبا‬
‫ف ُ‬ ‫مؤ َل ّ ِ‬
‫أبي حامد الغزالي ُ‬
‫كل الثار"؛‬ ‫مش ِ‬ ‫عنوانه "إلجام الّرعاع والغمار عن دقائق الفقه و ُ‬
‫لمنعهم عن مناوشة الكبار‪ ،‬وأشغلهم بما يصلحون له من أعمال‬
‫تناسب مستوياتهم‪ ،‬وتنفع أممهم بهم"‪.1381‬‬
‫"ورغم أن الغزالي كان شديد العجاب بالفغاني وفكره في‬
‫لح السياسي إل أنه ل يعتبر تغيير الحكومات هو الحل الجذري‬ ‫الص ً‬
‫لن رفع مستوى الشعوب ل يتأتى إل بالتربية الصحيحة التي تمثل‬
‫القوة الفعلية لنهضة المم"‪.1382‬‬
‫وكان الشيخ ~ يرى الجهاد التربوي ‪ -‬كما فعل محمد عبده ‪ -‬هو‬
‫لح للصواب ويتفق الغزالي مع محمد عبده في‬ ‫أقرب مناهج الص ً‬
‫تقديم العمل التربوي الجماهيري على العمل السياسي الضيق‬
‫"فالفساد يهبط من أعلى إلى أدنى‪ ،‬والص ً‬
‫لح يصعد من أدنى إلى‬
‫أعلى"‪.1383‬‬
‫جه نحو دراسة أحوال المجتمع المسلم فجاءت قضية‬ ‫وقد تو ّ‬
‫المرأة‪ ،‬وتوسيع دائرة تعليمها‪ ،‬وفتح المجال لسهاماتها في مقدمة‬
‫لح الجتماعي‪ .‬وهو مسار طويل بدأه ابن‬ ‫منهاجه العملي في الص ً‬
‫باديس والمام محمد عبده‪ ،‬وتلميذه رشيد رضا وجاء الغزالي بعد‬
‫سعه وعمق نطاقه دون التقليل من شأن الص ً‬
‫لح‬ ‫حسن البنا فو ّ‬
‫السياسي‪.‬‬
‫يؤيد الغزالي ابن باديس المصلح الجزائري الكبير الذي آمن‬
‫بحق المرأة في التعلم وطالب بمشاركتها في عملية بناء المة" ‪.‬‬
‫‪1384‬‬

‫الغزالي‪ :‬علل وأدوية ‪.82 -81‬‬ ‫‪1381‬‬

‫الغزالي‪ :‬الحق المر ‪.2/162‬‬ ‫‪1382‬‬

‫محاضرات الشيخ الغزالي ص ‪.139‬‬ ‫‪1383‬‬

‫تراثنا الفكري ص ‪.48‬‬ ‫‪1384‬‬


‫كما ُيعد الغزالي من أبرز الدعاة المنافحين عن اللغة العربية‬
‫في هذا العصر‪ ،‬وكان يصرخ بحرقة‪" :‬اللغة العربية في خطر‪ ،‬أدركوها‬
‫قبل فوات الوان"‪1385‬؛ وقد اقترح الشيخ عدة مقترحات عملية لخدمة‬
‫اللغة العربية في مجالت النحو والمعجم‪.1386‬‬
‫وكان الغزالي يتذوق الشعر ويحفظه‪ ،‬ويستشهد به في كلمه‬
‫وفي كتاباته وفي مواقفه المختلفة‪ ،‬ومع أنه كان مولًعا بالشعر القديم‬
‫ضا الشعر الحديث ق‬‫ق وبخاصة شعر المتنبي ق إل أنه كان يحفظ أي ً‬
‫وبخاصة شعر أحمد شوقي ق وكان يتابع كل جديد ينشر في مجال‬
‫الدب والشعر ويقرأ للمعاصرين له‪ ،‬ولكنه يمقت الشعر المرسل‪،‬‬
‫وقد برر موقفه النقدي هذا في قوله‪» :‬قد ظل العرب أقل من‬
‫عشرين قرًنا يصوغون شعرهم حسب البحور المأثورة عنهم‪ ،‬حتى‬
‫جاء هذا العصر النكد بما يسمى‪ :‬الشعر المرسل‪ ،‬محاكاة للشعر‬
‫الوربي كما يقولون‪" ،1387" ..‬لماذا أيها القوم تسمون أنفسكم شعراء‬
‫إذا كنتم ل تحسنون قرض الشعر وبناء القصيد‪ ،‬لماذا ل تحاولون أن‬
‫تكونوا ناثرين بعد استكمال القدرة العقلية واللغوية"‪1388‬؛‬
‫ول أدل على تجديده الفكري من الضجة التي أثارتها بعض كتبه؛‬
‫ومن ذلك كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث‪ ،‬الذي ي ُعَد ّ‬
‫من أشهر كتب الغزالي‪ ،‬وقد أحدث ضجة فكرية كبيرة بين الباحثين؛‬
‫إذ جمع فيه المؤلف الكثير من أفكاره النقدية في موضوع المرأة‪.‬‬
‫ومن خلل استقراء فكر الغزالي نجد فلسفته التربوية تركز‬
‫لح الشامل وضرورة تقديم الفكر السلمي المنفتح‬ ‫على ضرورة الص ً‬
‫عن طريق السلوك الحميد‪ ,‬وعن طريق التعاون مع كل من يمكن‬
‫التعاون معهم؛ لن الحكمة ل وطن لها فأينما وجدها المسلم فهو أحق‬
‫الناس بها‪ .‬حاول الغزالي في تفسيره للقرآن الكريم والسنة النبوية‬
‫المطهرة والتراث النساني الضخم أن يرسم معالم التربية السلمية‬
‫السليمة ويستخلص جوهر المنهج المتفتح الذي أرساه السلم فجاءت‬
‫أطروحات الغزالي ومقالته المتفرقة‪ ،‬وكتبه الكثيرة‪ ،‬وأشرطته‬
‫السمعية المتنوعة لحل المشكلت الثقافية والجتماعية المعاصرة‪.‬‬
‫تقوم فلسفة الغزالي التربوية على اليمان بالفروق الفردية‬
‫ورعاية المواهب النسانية وتشغيل الطاقات المعطلة‪.‬‬
‫أقوال العلماء عن الغزالي‬

‫محمد الغزالي‪ ،‬مشكلت في طريق الحياة السلمية ص ‪.107‬‬ ‫‪1385‬‬

‫السابق نفسه ص ‪.90 -89‬‬ ‫‪1386‬‬

‫السابق نفسه ص ‪.103‬‬ ‫‪1387‬‬

‫السابق نفسه ص ‪.105‬‬ ‫‪1388‬‬


‫قال عنه العلمة القرضاوي‪" :‬قائد كبير من قادة الفكر‬
‫والتوجيه‪ ،‬وإمام من أئمة الفكر والدعوة والتجديد‪ ..‬بل نحن أمام‬
‫مدرسة متكاملة من مدارس الدعوة والفكر والص ً‬
‫لح‪ ،‬لها طابعها‬
‫وأسلوبها ولها مذاقها الخاص‪ ،‬وتحتاج إلى دراسات عديدة لبراز‬
‫خصائصها ومواقفها وآثارها؛ فليس الغزالي ملك نفسه ول ملك‬
‫جماعة أو حركة ول ملك قطر أو شعب بل هو ملك المة السلمية‬
‫جمعاء"‪.1389‬‬
‫صا على‬
‫قال العلمة الشيخ أبو الحسن الندوي‪" :‬كنت حري ً‬
‫الجتماع بالشيخ محمد الغزالي‪ ،‬فهو من شخصيات الخوان‬
‫المسلمين البارزة‪ ،‬وأحد كتاب النهضة الدينية بمصر"‪.1390‬‬
‫َ‬
‫الدكتور عبد الصبور شاهين‪ " :‬قََرأ ِ‬
‫ت الدنيا له عشرات الكتب‬
‫قت عنه ما لم تتلقّ عن أحد من معاصريه‪،‬‬ ‫في السلم ودعوته‪ ،‬وتل ّ‬
‫حتى إن عصرنا هذا يمكن أن يطلق عليه في مجال الدعوة‪ :‬عصر‬
‫الستاذ الغزالي"‪.1391‬‬
‫سم الغزالي الرضا‪ ،‬والمر‪،‬‬
‫الدكتور جابر قميحة‪" :‬لقد ج ّ‬
‫سدة‪ ،‬كما‬‫والتكليف‪ ،‬والضيق والتقزز‪ ..‬فبدت في صورة حسية مج ّ‬
‫شخص‪ :‬النفس والمشاعر؛ فإذا بها في صورة حية نابضة" ‪.‬‬
‫‪1392‬‬

‫تلميذه‬
‫تتلمذ على الغزالي عدد كبير من طلبة العلم الذين صاروا فيما‬
‫بعد علماء أجلء طبقت شهرتهم الفاق‪ ،‬ومن هؤلء العلمة الدكتور‬
‫سال‪..‬‬
‫يوسف القرضاوي‪ ،‬والشيخ مّناع القطان‪ ،‬والدكتور أحمد الع ّ‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫دراسات عن الغزالي‬
‫الشيخ الغزالي كما عرفته‪ ..‬رحلة نصف قرن‪ :‬أ‪.‬د يوسف‬ ‫•‬
‫القرضاوي‪.‬‬
‫كيف نتعامل مع القرآن‪ .‬في مدارسة مع الشيخ محمد‬ ‫•‬
‫الغزالي‪ :‬عمر عبيد حسنة‪.‬‬
‫‪ 1389‬القرضاوي‪ :‬في الذكرى الحادية عشرة لرحيل‪ ..‬الغزالي‪ ،‬على موقع القرضاوي‪:‬‬
‫‪http://www.qaradawi.net‬‬
‫‪ 1390‬أبو الحسن الندوي‪ :‬مذكرات سائح في الشرق العربي‪ ،‬نقل ً عن‪ :‬عبد الله العقيل‪:‬‬
‫من أعلم الدعوة والحركة السلمية ص ‪.28‬‬
‫‪ 1391‬وصفي عاشور أبو زيد‪ ،‬كيف ندعو إلي السلم في زمن العولمة وعصر الهجوم على‬
‫السلم )في فكر الشيخ محمد الغزالي(‪ ،‬مجلة الوعي السلمي‪ ،‬العدد رقم‪ ،493 :‬بتاريخ ‪23‬‬
‫ديسمبر ‪2006‬م‪.‬‬
‫‪ 1392‬جابر قميحة‪ :‬عشر سنوات على رحيل الغزالي الديب‪ ،‬على موقع الغزالي‪ ،‬ورابطه‪:‬‬
‫‪http://www.alghazaly.org‬‬
‫هكذا علمني محمد الغزالي‪ :‬علء الدين آل رشي‪.‬‬ ‫•‬

‫الشيخ محمد الغزالي‪ :‬صور من حياة مجاهد عظيم‬ ‫•‬


‫ودراسة لجوانب من فكره‪ :‬عماد الدين خليل‪ ,‬عبدالحليم‬
‫عويس‪ ,‬وآخرون‪.‬‬
‫دفع الشبهات عن الشيخ محمد الغزالي‪ :‬أحمد حجازي‬ ‫•‬
‫السقا‪.‬‬
‫الشيخ محمد الغزالي‪ :‬تاريخه‪ ,‬جهوده‪ ,‬وآراؤه‪ :‬عبدالحليم‬ ‫•‬
‫عويس‪.‬‬
‫خطب الشيخ الغزالي في شؤون الدين والحياة‪ :‬دار‬ ‫•‬
‫العتصام‪.‬‬
‫الشيخ محمد الغزالي الموقع الفكري والمعارك الفكرية‪:‬‬ ‫•‬
‫أ‪.‬د محمد عمارة‪.‬‬
‫الداعية الناجح في فكر الغزالي‪ ،‬وصفي عاشور أبو زيد‪.‬‬ ‫•‬

‫الشيخ الغزالي كما عرفته في الجزائر‪ :‬عمار الطالبي‪.‬‬ ‫•‬

‫ملمح الفكر السياسي للشيخ محمد الغزالي‪ :‬محمد وقيع‬ ‫•‬


‫الله‪.‬‬
‫وفاته‬
‫ت ُوُّفي يوم السبت )‪ 19‬من شوال ‪1416‬هق = ‪ 9‬من مارس‬
‫‪1996‬م( في السعودية أثناء مشاركته في مهرجان الجنادرية الثقافي‬
‫بالمملكة العربية السعودية‪ ،‬حول موضوع )السلم وتحديات العصر(‪،‬‬
‫ن في البقيع‪،‬‬‫ن بالبقيع‪ ،‬وكان قبلها قد صّرح بأن أمنيته أن يُدفَ َ‬
‫ود ُفِ َ‬
‫ة واسعة‪ ،‬وجزاه ن‬ ‫قق له ما تمنى ؛ فرحمه الله رحم ً‬
‫‪1393‬‬
‫وقد تح ّ‬
‫السلم والمسلمين خير الجزاء‪.‬‬

‫‪ 1393‬محمد المجذوب‪ :‬علماء ومفكرون عرفتهم ج ‪ ،1‬موقع الشيخ الغزالي على الشبكة‬
‫الدولية‪./http://www.alghazaly.org :‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في حياة عبد‬
‫العزيز بن باز‬
‫]ذو الحجة ‪ -1330‬المحرم ‪1420‬هق = نوفمبر ‪ -1912‬مايو‬
‫‪1999‬م[‬
‫ميلده ونشأته‬
‫هو عبد العزيز بن عبد الله بن باز‪ .‬وُل ِد َ في ذي الحجة سنة‬
‫‪1330‬هق بمدينة الرياض‪ ,‬وكان مبصًرا‪ ,‬ثم أصابه مرض في عينيه عام‬
‫ضُعف بصره‪ ,‬ثم فقده بالكلية عام ‪1350‬هق‪ ،‬ولكنه اجتهد‬ ‫‪1346‬هق ف َ‬
‫ن البلوغ ‪.‬‬
‫‪1394‬‬
‫س ّ‬‫فحفظ القرآن الكريم قبل ِ‬
‫شيوخه‬
‫جد ّ الشيخ في طلب العلم على أيدي أفاضل علماء المملكة‪،‬‬ ‫َ‬
‫ومن أبرزهم‪ :‬محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‪ ،‬وصالح بن عبد الوهاب‪ ،‬وسعد ابن حمد‬
‫بن عتيق )قاضي الرياض(‪ ،‬وحمد بن فارس )وكيل بيت المال في‬
‫الرياض(‪ ،‬ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ )مفتي المملكة العربية‬
‫قى‬
‫حا ومساًء‪ ،‬وتل ّ‬‫السعودية السبق ~(‪ ،‬الذي لزم ابن باز حلقاته صبا ً‬
‫عنه جميع العلوم الشرعية ابتداًء من سنة ‪1347‬هق‪ ،‬وحتى سنة‬
‫‪1357‬هق حين رشحه آل الشيخ للقضاء‪ ,‬وأخذ علم التجويد عن الشيخ‬
‫سعد وّقاص البخاري )من علماء مكة المكرمة( عام ‪1355‬هق‪.1395‬‬
‫جمعه صفات أهل العلم‬
‫لقد حوى الشيخ ~ العديد من أخلق أهل العلم؛ فقد كان شديد‬
‫سنة والتطبيق المستمر لها‪ ،‬كما كان يتصف بالّرقة وكثرة‬ ‫التعظيم لل ّ‬
‫سي َرِ العلماء الج ّ‬
‫لء‪ ،‬أو‬ ‫البكاء عند سماع القرآن‪ ،‬أو بعض الحديث‪ ،‬أو ِ‬
‫أخبار المستضعفين من المسلمين‪ ،‬أو الشعر الجيد المؤثر‪ ،‬ولم يدفعه‬
‫علمه الغزير للك ِْبر؛ فكان شديد التواضع‪ ،‬مع علوّ مكانته ومنزلته‪،‬‬
‫د‪ .‬واتصف ~ بالدب الجم‪،‬‬ ‫حلم العجيب الذي يفوق الح ّ‬ ‫يتصف بال ِ‬
‫والذوق الرفيع‪ ،‬وكان واسع الكرم والسخاء‪ ،‬سواء بالمال أو الوقت أو‬
‫ي‬
‫العلم أو الحسان أو الشفاعة‪ ،‬ورفض أن يكتب القصر الذي ب ُن ِ َ‬
‫صا له باسمه – عندما تولى رئاسة الجامعة السلمية – وقال‪:‬‬ ‫خصي ً‬
‫"يبقى القصر باسم رئيس الجامعة السلمية؛ وكل من تولى رئاسة‬
‫ن له"‪.1396‬‬
‫الجامعة فالقصر سك ٌ‬
‫‪ 1394‬محمد الحمد‪ :‬جوانب من سيرة المام عبد العزيز بن باز ص ‪.33‬‬
‫‪ 1395‬النجاز في ترجمة المام عبد العزيز بن باز‪ ،‬نقل ً عن موقع الشيخ ابن باز على الشبكة‬
‫الدولية‪http://www.bin-baz.org.sa :‬‬
‫‪ 1396‬عمر عبد الله‪ :‬قبسات وعظات من حياة العلمة الزاهد ابن باز‪ ،‬مجلة الفرقان‪ ،‬العدد ‪.447‬‬
‫ة كانت تزيد مع تقدمه في السن‪،‬‬ ‫وقد وهبه الله ‪ ‬ذاكرة ً قوي ً‬
‫مة عالية‪ ،‬وعزيمة قوية ل تستصعب شيًئا‪ ،‬وكان‬ ‫كما كان صاحب ه ّ‬
‫ديدنه العدل في الحكام سواء مع المخالفين أو الموافقين‪ ،‬ومن‬
‫مآثره العظيمة‪ ،‬وأخلقه الجليلة الثبات على المبدأ وعلى الحق‪ ،‬وكان‬
‫يجمع إلى ذلك سعة الفق‪ ،‬وُبعد النظر‪ ،‬والوفاء ودقة الموعد‪.1397‬‬
‫أعماله وإنجازاته‬
‫له سماحة الشيخ في مدينة الخرج في‬ ‫كان القضاء أول عمل تو ّ‬
‫الفترة )‪1371 -1357‬هق(‪ ،‬إضافة إلى إمامة الناس‪ ،‬وخطبة الجمعة‪،‬‬
‫وإلقاء الدروس في حلقات مستمرة أيام السبوع عدا يومي الثلثاء‬
‫والجمعة‪ ,‬ولديه طلب كثيرون متفرغون لطلب العلم‪.‬‬
‫انتقل إلى الرياض في عام ‪1372‬هق للتدريس في معهد الرياض‬
‫العلمي‪ ،‬ثم في كلية الشريعة بعد إنشائها سنة ‪1373‬هق‪ ،‬إلى أن صار‬
‫نائًبا لرئيس الجامعة السلمية بالمدينة المنورة عام ‪1381‬هق‪ ,‬وقد‬
‫أسس حلقة التدريس في الجامع الكبير بالرياض منذ انتقل إليها‪,‬‬
‫ولزمها كثير من طلبة العلم‪ ,‬وأثناء وجوده بالمدينة المنورة من عام‬
‫سا لها )‪1390‬هق ‪1395 -‬هق(‪،‬‬ ‫‪1381‬هق نائًبا لرئيس الجامعة‪ ،‬ثم رئي ً‬
‫عقد حلقة للتدريس في المسجد النبوي‪.1398‬‬
‫جة؛ أولها عام )‪1349‬هق(‪،‬‬‫ح ّ‬‫ج الشيخ ابن باز اثنتين وأربعين ِ‬‫ح ّ‬
‫َ‬
‫جات متفّرقات‪ ،‬ثم لم يترك حجة ‪ 37) -‬حجة‬ ‫ح ّ‬
‫ج بعدها أربع ِ‬‫ح ّ‬
‫ثم َ‬
‫متتابعة( ‪ -‬في الفترة )‪1418 -1372‬هق( ‪.‬‬
‫‪1399‬‬

‫إسهاماته العلمية‬
‫ما شّتى؛ فإذا رأيته يتكلم في علم من‬
‫جمع الشيخ ابن باز علو ً‬
‫العلوم ظننت أنه تخصصه‪ ،‬وأنه ل يحسن غيره‪ ،‬فهو إمام في الحديث‬
‫وعلومه‪ ،‬ومعرفة رجاله وأحوال رواته‪ ،‬ومعرفة صحيحه من ضعيفه‪،‬‬
‫وهو فقيه من الطراز الول‪ ،‬وإذا ُنوِقش في العقيدة ظننت أنه ل‬
‫يحسن غير هذا الفن‪ ،‬وهو هكذا إذا تحدث في التفسير‪ ،‬ويتعجب‬
‫السامع له من دروسه في علم الفرائض‪ ،‬وضبط مسائله‪ ،‬وقسمة‬
‫التركات‪ ،‬وكأنه يقرأ من كتاب‪.‬‬
‫مؤّلفاته‬

‫محمد الحمد‪ :‬جوانب من سيرة المام عبد العزيز بن باز ص ‪.41 -39‬‬ ‫‪1397‬‬

‫السابق نفسه ص ‪.48 -45‬‬ ‫‪1398‬‬

‫السابق نفسه ص ‪.113‬‬ ‫‪1399‬‬


‫ترك الشيخ ابن باز مؤّلفا ٍ‬
‫ت وآثاًرا علمية كثيرة تناولت جوانب‬
‫عديدة؛ وكان منها المخطوط‪ ،‬ومنها المسموع‪ ،‬ومنها المطبوع‪ ،‬ومن‬
‫أهمها‪:‬‬
‫الفوائد الجلية في المباحث الفرضية؛ وهو من أوائل مؤلفاته‪،‬‬
‫وكانت طبعته الولى في )‪1358‬هق(‪ ،‬واهتم الشيخ ~ بتوضيح العبادة‬
‫الصحيحة؛ فأّلف‪ :‬التحقيق واليضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة‬
‫والزيارة )توضيح المناسك(؛ وقد جمعه عام )‪1363‬هق(‪ ،‬حين كان‬
‫م إلى عدة لغات‪،‬‬ ‫قاضًيا في الخرج‪ ،‬وط ُب َِعت منه طبعات كثيرة‪ ،‬وت ُْر ِ‬
‫ج َ‬
‫ث رسائل في الصلة‪ ،‬ورسالتين موجزتين في الزكاة والصيام‪،‬‬ ‫وثل َ‬
‫ن له مجموع فتاوى ومقالت؛ جمعها الدكتور محمد بن سعد‬ ‫كما أ ّ‬
‫دا‪ ،‬واهتم الشيخ ببيان‬ ‫الشويعر‪ ،‬وخرج منها للنور ثمانية عشر مجل ً‬
‫ذر من البدع‪ ،‬وأبان أضرارها؛ فأخرج‪ :‬كتاب‬ ‫العقيدة الصحيحة‪ ،‬وح ّ‬
‫العقيدة الصحيحة وما يضاّدها‪ ،‬والتحذير من البدع‪ ،‬ووجوب تحكيم‬
‫سّنة‬‫شرع الله ونبذ ما خالفه‪ ،‬كما أدلى بدلوه في مواجهة الحملة ضد ّ‬
‫من‬ ‫رسول الله ‪ ‬فأخرج كتاب وجوب العمل بسنة الرسول ‪ ‬وكفر َ‬
‫أنكرها‪.‬‬
‫وكان له إسهاماته في مجال التأليف الدعوي؛ فقد أّلف‪ :‬الدعوة‬
‫شغار‪ ،‬نقد‬‫إلى الله وأخلق الدعاة‪ ،‬حكم السفور والحجاب ونكاح ال ّ‬
‫القومية العربية‪ ،‬الجواب المفيد في حكم التصوير‪ ،‬الشيخ محمد بن‬
‫عبد الوهاب دعوته وسيرته‪ ،‬حاشية مفيدة على فتح الباري‪ ،‬الجهاد‬
‫في سبيل الله‪.‬‬
‫ولسماحة الشيخ بحوث علمية‪ ،‬وردود فقهية واجتماعية نشرت‬
‫في العديد من المجلت والصحف داخل المملكة وخارجها‪ ،‬هذا إلى‬
‫جانب العداد الضخمة من الفتاوى التي رد ّ بها على مستفتيه‬
‫المنتشرين في مختلف أنحاء العالم‪.‬‬
‫إجلله لهل العلم‬
‫لهل العلم منزلة خاصة عند الشيخ؛ إذ كان يحبهم ويقدرهم‬
‫حقّ قدرهم‪ ،‬وُينزلهم منازلهم اللئقة بهم‪ ،1400‬ومن مواقفه المشهودة‬
‫في ذلك؛ ما رواه الشيخ محمد المجذوب )من علماء المغرب( عن‬
‫غضب الشيخ ورعدته وخطابه الذي أرسله إلى الحكومة المصرية عند‬
‫إعلن قرار المحكمة بإعدام العالم الجليل سيد قطب وإخوانه رحمهم‬
‫من‬ ‫و َ‬
‫ة تقطر ناًرا‪ ،‬ختمها الشيخ بقوله تعإلي‪َ } :‬‬ ‫الله‪ ،‬وكانت برقي ً‬
‫ب الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ض َ‬ ‫و َ‬
‫غ ِ‬ ‫ها َ‬
‫في َ‬
‫دا ِ‬
‫خال ِ ً‬
‫م َ‬
‫هن ّ ُ‬
‫ج َ‬ ‫جَزآ ُ‬
‫ؤه ُ َ‬ ‫دا َ‬
‫ف َ‬ ‫م ً‬
‫ع ّ‬
‫مت َ َ‬
‫مًنا ّ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ل ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫قت ُ ْ‬

‫السابق نفسه ص ‪.245‬‬ ‫‪1400‬‬


‫ما‪ ،1402{1401‬وكانت البرقية الوحيدة‬
‫ظي ً‬
‫ع ِ‬ ‫ع َ‬
‫ذاًبا َ‬ ‫ه َ‬ ‫وأ َ َ‬
‫عد ّ ل َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ول َ َ‬
‫عن َ ُ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫ة‪.‬‬
‫من أنحاء العالم السلمي التي تحمل أشد العبارات قسو ً‬
‫ضا؛ طلبه الطلع على رسائل‬ ‫ومما يذكر في هذا المقام أي ً‬
‫قا‬
‫الشيخ حسن البنا؛ فلما قرئت عليه أبدى إعجابه ببعضها‪ ،‬وعلق تعلي ً‬
‫يسيًرا على البعض الخر‪.1403‬‬
‫ثناء العلماء عليه‬
‫كان لسماحة الشيخ منزلة عظيمة سامية عند الجميع كباًرا‬
‫وصغاًرا وفي كل مكان من أرض السلم؛ وقد زاره الشيخ محمد‬
‫م بالخروج قال‪" :‬نحن بخيرٍ ما دام فينا هذا‬
‫الغزالي مرة‪ ،‬ولما ه ّ‬
‫الرجل"‪.1404‬‬
‫وقال عنه عبد الله بن سليمان بن منيع‪" :‬ولقد تقّلد القضاء ‪-‬‬
‫م القاضي‬‫حفظه الله ‪ -‬في آخر شبابه ومستهل كهولته ‪ ،‬فكان ن ِعْ َ‬
‫العادل‪ ،‬ونعم القاضي العالم‪ ،‬ونعم القاضي المرضي‪ ،‬فما من حكم‬
‫يصدر من سماحته في قضائه إل هو موضع التسليم والرضى والقناعة‬
‫من طرفي الخصومة ‪ ،‬لما يتمتع به ‪ -‬حفظه الله ‪ -‬من القبول لدى‬
‫الجميع‪ ،‬والقناعة به من الجميع‪ ،‬والطمئنان إلى ما يحكم به من‬
‫الجميع"‪.1405‬‬
‫منهجه العلمي والفكري‬
‫منهجه في العقيدة‪:‬‬
‫يرى الشيخ اليمان بصفات الله تعالى على ما وردت دون‬
‫تكلف لتأويل أو تعطيل‪ ،‬ويرى الشيخ أنه ل وسيلة لتثبيت العقيدة‬
‫كالدللت الحاسمة من الكتاب والسنة‪ ،‬وكل تعويل على ما سواها‬
‫مما ذهب إليه علماء الكلم مؤد ّ إلى الضطراب والتشويش‪.1406‬‬

‫منهجه في الفقه‪:‬‬
‫يأخذ بأصول المام أحمد‪ ،‬غير أنه ل يتقيد بالمذهب‪ ،‬إذا ظهر له‬
‫الدليل على خلفه‪ ،‬ويفضل الجتهاد في تقصي الدلة‪.1407‬‬

‫)النساء‪.(93 :‬‬ ‫‪1401‬‬

‫محمد المجذوب‪ :‬علماء ومفكرون عرفتهم‪.106 -1/77 ،‬‬ ‫‪1402‬‬

‫محمد الحمد‪ :‬جوانب من سيرة المام عبد العزيز بن باز ص ‪.263‬‬ ‫‪1403‬‬

‫السابق نفسه ص ‪.281‬‬ ‫‪1404‬‬

‫محمد المجذوب‪ :‬علماء ومفكرون عرفتهم‪.106 -1/77 ،‬‬ ‫‪1405‬‬

‫السابق نفسه ‪.106 -1/77‬‬ ‫‪1406‬‬

‫السابق نفسه ‪.106 ،1/77‬‬ ‫‪1407‬‬


‫منهجه في المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪:‬‬
‫كان الشيخ داعًيا إلى الله عامل ً بما يقول‪ ،‬يغار على دين الله‪،‬‬
‫وت فرصة للخير إل سعى إليها‬ ‫ل أهل العلم‪ ،‬وينصح لهم‪ ،‬ول ُيف ّ‬ ‫ج ّ‬
‫يُ ِ‬
‫سعًيا حثيًثا‪ ،‬يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر‪ ،‬ويفعل الخير‪ ،‬ويحث‬
‫الناس عليه‪ ..‬فكان إذا ثبت لديه وقوع منكر من شخص أو جهة كتب‬
‫إليهم‪ ،‬وخاطبهم مشافهة‪ ،‬أو استدعى من يعنيه المر‪ ،‬ثم أنكر عليه‬
‫غبه في الخير‪ ،‬وحذره من‬ ‫بلطف‪ ،‬وبّين له الدلة على ما يقول‪ ،‬ور ّ‬
‫الشر؛ فما يكاد يقوم بهذا المر إل ويجد قبول ً واستجابة‪ ،‬وكم درأ الله‬
‫بمنهجه هذا من مفسده! وكم قضى على منكر! وكم أحيا من سنة!‬
‫‪1408‬‬
‫وقمع من بدعة!‬
‫وكان من منهجه ~ مع طلبه؛ تربيتهم على مكارم الخلق‪،‬‬
‫وتدريبهم على البحث والنظر في الدلة واتباعها‪ ،‬واحترام العلماء‪،‬‬
‫وتنزيلهم منازلهم‪.1409‬‬
‫أهم المناصب التي تو ّ‬
‫لها‬
‫تولى الشيخ ~ رئاسة إدارات البحوث العلمية والفتاء والدعوة‬
‫والرشاد‪ ,‬ثم منصب مفتي عام الملكة ورئيس هيئة كبار العلماء‬
‫وإدارة البحوث العلمية والفتاء‪ ،‬كما كان رئيس وعضو المجلس‬
‫التأسيسي لرابطة العالم السلمي‪ ،‬وكذلك رئيس المجلس العلى‬
‫العالمي للمساجد‪.‬‬
‫جسام‪ :‬رئاسة المجمع الفقهي السلمي‬ ‫ومن مسؤولياته ال ِ‬
‫وا بالمجلس‬ ‫بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم السلمي‪ ،‬وكان عض ً‬
‫العلى للجامعة السلمية في المدينة المنورة‪ ،‬وعضو الهيئة العليا‬
‫للدعوة السلمية‪.‬‬
‫وتوّلى الشيخ ~ القضاء في منطقة الخرج سنة ‪1357‬هق لكثر‬
‫ما‪ ،‬وتوّلى التدريس في المعهد العلمي بالرياض‬‫من أربعة عشر عا ً‬
‫سنة ‪1372‬هق‪ ,‬وكلية الشريعة بالرياض سنة ‪1381‬هق‪ ,‬في علوم الفقه‬
‫والتوحيد والحديث‪ ،‬وقد ع ُّين في عام ‪1381‬هق نائًبا لرئيس الجمعة‬
‫السلمية بالمدينة المنورة‪ ،‬ثم توّلى رئاسة الجامعة السلمية في‬
‫سنة ‪1390‬هق‪.1410‬‬
‫وفاته‬

‫محمد الحمد‪ :‬جوانب من سيرة المام عبد العزيز بن باز ص ‪.343‬‬ ‫‪1408‬‬

‫محمد المجذوب‪ :‬علماء ومفكرون عرفتهم‪.106 -77 /1 ،‬‬ ‫‪1409‬‬

‫السابق نفسه ‪.106 -1/77‬‬ ‫‪1410‬‬


‫توّفي الشيخ ابن باز يوم الخميس )‪ 27‬من المحرم ‪1420‬هق(‬
‫ما؛ فرحمه‬ ‫عن عمر يناهز ‪ 89‬سنة بعد حياة عامرة بالعلم تعل ّ ً‬
‫ما وتعلي ً‬
‫ة واسعة‪ ،‬وجزاه الله ‪ ‬عن السلم والمسلمين خير‬ ‫الله رحم ً‬
‫الجزاء‪.1411‬‬

‫المبحث الخامس‪ :‬دور العلم في حياة‬


‫الندوي‬
‫]‪ 6‬محرم ‪ 23 -1333‬رمضان ‪1420‬هق= ‪ 31 -1914‬ديسمبر‬
‫‪1999‬م[‬
‫ميلده ونشأته‬
‫هو "أبو الحسن" علي بن فخر الدين‪ ،‬ينتهي نسبه إلى الحسن‬
‫بن علي }‪ .‬ولد بقرية "تكية" بمديرية "راي بريلي" في الولية‬
‫‪1412‬‬
‫الشمالية بالهند في )‪ 6‬محرم ‪1333‬هق= ‪1914‬م(‪ ،‬كان والده‬
‫علمة الهند ومؤرخها‪ ،‬وكانت والدته‪ 1413‬من السيدات الفاضلت؛‬
‫تحفظ القرآن الكريم وتقول الشعر‪ ،‬وتؤلف الكتب‪ ،‬توفي والده وهو‬
‫دون العاشرة فأشرف أخوه الكبير على تربيته‪ ،‬فحفظ القرآن‪ ،‬وتعلم‬
‫الردية والنجليزية والعربية‪ ،‬ثم التحق بجامعة لكهنؤ‪ ،‬وهي جامعة‬
‫تدرس العلوم المدنية باللغة النجليزية‪ ،‬وفيها قسم لداب اللغة‬
‫العربية‪ ،‬اختاره أبو الحسن عن شوق‪ ،‬ثم التحق بدار العلوم لندوة‬
‫العلماء عام ‪1929‬م‪ ،‬ليلقي كبار علماء الهند‪ ،‬وليحضر دروس‬

‫‪ 1411‬محمد الحمد‪ :‬جوانب من سيرة المام عبد العزيز بن باز‪.587 ،‬‬


‫‪ 1412‬والده هو )العلمة السيد عبد الحي الحسني( ولد في )‪ 18‬رمضان ‪1286‬هق= ‪ 22‬ديسمبر‬
‫‪1869‬م( وكان من كبار العلماء في )ق ‪14‬هق= ق ‪20‬م(‪ ،‬عاش في عصر يعد من أكثر‬
‫سا لحركة ندوة العلماء‪ ،‬وله‬ ‫العصور اضطرابا فكريا وسياسيا واجتماعيا في بلد الهند‪ ،‬كان رئي ً‬
‫مؤلفات كثيرة‪ ،‬أهمها )نزهة الخواطر( في ثمانية مجلدات في تراجم علماء الهند )‪4500‬‬
‫شخصية( جمعها في ثلثين سنة‪ ،‬وكتابه )الثقافة السلمية في الهند(‪ ،‬وكتابه )الهند في العهد‬
‫السلمي(‪ ،‬وله كتب في الحديث والفقه منها )تهذيب الخلق(‪ ،‬و)قانون في انتفاع المرتهن‬
‫بالمرهون( و)الغناء وحكمه في الشرع( وكلها بالعربية‪ .‬وله كتاب )ياد أيام( في تاريخ إقليم‬
‫حجرات وكتاب في تاريخ الشعر الردي باسم )كل رعنا( أي الوردة الرشيقة يدرس في عدة‬
‫لح الخلقي والجتماعي بالردية‪،‬‬ ‫جامعات‪ ،‬هذا بالضافة إلي رسائل في التعليم الديني والص ً‬
‫لح( في صلة الرحم‪ ،‬وله كتب مفيدة لبناء المسلمين منها )تعليم السلم( و‬ ‫منها رسالة )أص ً‬
‫)نور اليمان( وغيرها‪.‬‬
‫‪ 1413‬والدته هي )السيدة خير النساء بنت ضياء النبي الحسني( كانت تحفظ القرآن الكريم‪،‬‬
‫ونشرت لها عدة كتب إسلمية ومجموعتان في الشعر‪ ،‬ومجموعة قصائد في الدعاء والمناجاة‬
‫باسم )باب الرحمة(‪ ،‬ومجموعة قصائد في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم باسم )مفتاح‬
‫باب الرحمة(‪ ،‬ولها كتب في تعليم النساء والولد في المور الجتماعية منها كتاب )الذائقة(‬
‫وكتاب )حسن المعاشرة( وكتاب )الدعاء والقدر( وتميزت بقيام الليل وكثرة الدعاء والمناجاة‬
‫إلي الله‪ ،‬توفيت في ‪1388‬هق‪.‬‬
‫الشريعة عليهم‪ ،‬ولكنه لم يرتو بعد؛ فالتحق بديوبند مدة شهور‪ ،‬ثم‬
‫سافر إلى لهور‪ ،‬وقرأ التفسير القرآني على كبار علمائها‪ ،‬وتحققت‬
‫أمنيته بلقاء شاعر السلم محمد إقبال‪ ،‬فجالسه وأفاد منه‪ ،‬وعين –‬
‫سا بدار العلوم لندوة العلماء في عام ‪1934‬م‪.‬‬
‫بعد ذلك ‪ -‬مدر ً‬
‫همة باكرة‬
‫ي ُعَد ّ الندوي من أشهر العلماء المسلمين في الهند‪ ،‬وله كتابات‬
‫وإسهامات عديدة في الفكر السلمي‪ ،‬وكان كثير السفر إلى مختلف‬
‫أنحاء العالم لنصرة قضايا المسلمين والدعوة للسلم وشرح مبادئه‪،‬‬
‫وإلقاء المحاضرات في الجامعات والهيئات العلمية والمؤتمرات‪.‬‬
‫دفعته همته الباكرة – صغيًرا ‪ -‬إلى كتابة مقال تاريخي‪ ،‬وعمره‬
‫)‪ 18‬سنة( يتحدث فيه عن جده المجاهد أحمد بن عرفان شهيد‬
‫السلم‪ ،‬وبعث به إلى )مجلة المنار( المصرية التي يقوم عليها‬
‫العلمة محمد رشيد رضا فنشره‪ ،‬وبدأ الندوي الدعوة إلى الله على‬
‫المنابر خطيًبا‪.‬‬
‫ثم سافر إلى )دلهي( في رحلة علمية‪ ،‬فالتقى بعالمها الكبير‬
‫الشيخ محمد إلياس؛ فعزم الندوي أن يكون داعية بلسانه‪ ،‬كما يكتب‬
‫بقلمه‪ ،‬ولكنه رأى أن يدعو ويرحل إلى العالم السلمي كله‪ ،‬بدل ً من‬
‫الدعوة في الهند فقط كما فعل شيخه إلياس‪ ،‬فرحل إلى الحجاز‬
‫مرات‪ ،‬وإلى مصر‪ ،‬والمغرب‪ ،‬والشام‪ ،‬وتركيا‪ ،‬وزار أمريكا‪ ،‬والدول‬
‫الوربية‪ ،‬وطوف بأكثر عواصم العالم السلمي‪ ،‬وكانت رحلته عظيمة‬
‫التأثير‪.‬‬
‫إسهاماته العلمية‬
‫مؤلفاته‬
‫بلغ مجموع مؤلفاته وترجماته نحو ‪ 700‬عنواًنا‪ ،‬منها ‪ 177‬عنواًنا‬
‫بالعربية‪ ،‬ترجم عدد منها إلى النجليزية والفرنسية والتركية والبنغالية‬
‫والندونيسية وغيرها‪..‬‬
‫وكان كاتًبا غزير النتاج‪ ،‬صاحب منهج متمّيز عن غيره من‬
‫كرين والباحثين المعاصرين بسبب معرفته لعدد من اللغات‬ ‫المف ّ‬
‫طلعه على مصادر‬ ‫كالعربّية والوردّية والنجليزّية والفارسّية‪ ،‬وسعة ا ّ‬
‫الحضارات غير السلمّية‪ ،‬فضل ً عن تعمقه في التاريخ السلمي‪ ،‬وقد‬
‫تمّيزت مؤّلفاته كّلها بالغوص العميق في فهم أسرار الشريعة‪،‬‬
‫والتحليل العميق لمشاكل العالم السلمي‪.‬‬
‫أهم مؤلفاته‪:‬‬
‫ل للندوي بالعربية في مجلة "المنقار" ‪ -‬يرأسها‬ ‫شَر أوّ ُ‬
‫ل مقا ٍ‬ ‫نُ ِ‬
‫العلمة محمد رشيد رضا ‪1931) -‬م( حول حركة المام السيد أحمد‬
‫بن عرفان )الشهيد في بالكوت عام ‪1831‬م(‪ ،‬ثم توسع في هذا‬
‫ل كتاب بالردية )‪1938‬م(‪ ،‬بعنوان "سيرة سيد‬ ‫المقال فظهر له أوّ ُ‬
‫أحمد شهيد" ونال قبول ً واسعا ً في الوساط الدينية والدعوية‪ ،‬وأّلف‬
‫بعدها كتابه "مختارات في أدب العرب" )‪1940‬م(‪ ،‬ثم ألف سلسة‬
‫ة أخرى للطفال‬ ‫"قصص النبيين" للطفال في خمسة أجزاء‪ ،‬وسلسل ً‬
‫باسم‪" :‬القراءة الراشدة" في ثلثة أجزاء‪ ،‬في الفترة مابين ‪-1942‬‬
‫‪1944‬م‪.‬‬
‫ثم بدأ الندوي في تاليف كتابه المشهور "ماذا خسر العالم‬
‫بانحطاط المسلمين" )‪1944‬م(‪ ،‬وأكمله )‪1947‬م(‪ ،‬وقد ط ُِبعت‬
‫ة في الهند قبل رحلته الولى للحج عام ‪1947‬م‪ ،‬وقدم‬ ‫ترجمُته الردي ُ‬
‫لهذا الكتاب الستاذ سيد قطب‪ ،‬وقال عنه العلمة القرضاوي‪:‬‬
‫"الكتاب نظرة جديدة إلى التاريخ السلمي‪ ،‬وإلى التاريخ العالمي من‬
‫منظور إسلمي‪ ،‬وهو منظور عالم مؤرخ مصلح داعية‪ ،‬يعرف التاريخ‬
‫جيدًا‪ ،‬ويعرف كيف يستخدمه لهدفه ورسالته"‪.‬‬
‫ممّثلي البلد السلمية" )‪1947‬م(‪،‬‬ ‫وأّلف رسالة بعنوان‪" :‬إلى ُ‬
‫جهها إلى المندوبين المسلمين والعرب المشاركين في المؤتمر‬ ‫و ّ‬
‫السيوي المنعقد في دلهي‪ -‬بدعوة من رئيس وزراء الهند وقتها‪:‬‬
‫ل رسالةٍ له انتشرت في الحجاز عند‬‫جواهر لل نهرو ‪ -‬فكانت أو َ‬
‫رحلته الولى‪.‬‬
‫كما كّلفته الجامعة السلمية في عليكققره )‪ (.A.M.U‬الهنققد )‪1942‬م(‪،‬‬
‫بوضع منهاج لطلبة الليسانس في التعليم الديني أسماه "إسققلميات"‪،‬‬
‫طبعت بعنوان‪" :‬بين الققدين‬‫مل ّّية بدلهى محاضرة ً ُ‬
‫وألقى في الجامعة ال ْ ِ‬
‫ة"‪.‬‬
‫والمدن ِي ّ ِ‬
‫عي أستاذا ً زاِئرا ً في جامعة دمشق )‪1956‬م(‪ ،‬وألقى‬ ‫وقد د ُ ِ‬
‫ددون في تاريخ الفكر السلمي"‪،‬‬ ‫محاضرات بعنوان‪" :‬التجديد والمج ّ‬
‫مت ‪ -‬فيما بعد‪ -‬إلى كتابه الكبير "رجال الفكر والدعوة في‬ ‫ض ّ‬
‫ُ‬
‫السلم" )أربعة أجزاء(‪ ،‬كما ألقى محاضرات في الجامعة السلمية‬
‫بالمدينة المنورة بدعوة من نائب رئيسها سماحة الشيخ عبد العزيز‬
‫بن باز )‪1963‬م(‪ ،‬ط ُِبعت بعنوان‪" :‬النبوة والنبياء في ضوء القرآن"‪.‬‬
‫وسافر إلى الرياض بدعوة مققن وزيققر المعقارف السقعودي )‪1968‬م(؛‬
‫طة كلية الشريعة‪ ،‬وألقى بها عد ّة َ محاضققرات‬ ‫خ ّ‬
‫للمشاركة في دراسة ِ‬
‫ضققها إلققى كتققابه‪:‬‬
‫م بع ُ‬
‫ضق ّ‬ ‫ّ‬
‫في جامعة الرياض وفي كلية المعلمين‪ ،‬وقد ُ‬
‫"نحو التربية السلمية الحرة في الحكومات والبلد السلمية"‪.‬‬
‫ه من شيخه عبد القادر الراي بورى ‪ -‬كتابا ً حول‬ ‫كما أّلف ‪ -‬بتوجي ٍ‬
‫القاديانية )‪1958‬م(‪ ،‬بعنوان‪" :‬القادياني والقاديانية"‪ ،‬وأّلف كتابه‬
‫صراع بين الفكرة السلمية والفكرة الغربية في القطار‬
‫"ال ّ‬
‫السلمية" )‪1965‬م(‪ ،‬وكتابه "الركان الربعة" )‪1967‬م(‪ ،‬و"العقيدة‬
‫والعبادة والسلوك" )‪1980‬م(‪ ،‬و"صورتان متضادتان لنتائج جهود‬
‫الرسول العظم والمسلمين الوائل عند أهل السنة والشيعة" )‬
‫‪1984‬م(‪ ،‬و"المرتضى" في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب‬
‫)‪1988‬م(‪.‬‬

‫ومن مؤّلفاته أي ً‬
‫ضا‪:‬‬
‫كرات سائح في الشرق العربي(‬ ‫)العرب والسلم( و)مذ ّ‬
‫و)السلم والحياة( و)المسلمون وقضية فلسطين( و)المسلمون في‬
‫الهند( و)روائع إقبال( و)الصراع بين اليمان والمادّية( و)إلى السلم‬
‫من جديد( و)الطريق إلى المدينة( و)العاقبة للعرب والمسلمين(‬
‫و)العرب يكتشفون أنفسهم( و)روائع من أدب الدعوة( و)التفسير‬
‫السياسي للسلم( و)إذا هبت ريح اليمان( و)بين الصورة والحقيقة(‬
‫و)السلم والعلم( و)حديث من الغرب(‪.‬‬
‫آراؤه ومنهجه العلمي والفكري‬
‫تلقى الندوي تربيته الروحّية على الشيخ عبد القادر الرائي‬
‫فورى‪ ،‬وتأّثر بفكر المام أحمد بن حنبل‪ ،‬وشيخ السلم ابن تيمية‪،‬‬
‫وأحمد بن عبد الحد السرهندي‪ ،‬وشاه ولي الله الدهلوي‪ ،‬وكان‬
‫الشيخ محمد إلياس من أعظم أساتذته تأثيًرا فيه‪.‬‬
‫ورأى الندوي أن الحداث التي عاصرها وعلى رأسها سقوط‬
‫الخلفة‪ ،‬دعمت إيمانه ويقينه بأن السلم ل بد ّ أن يتوّلى الزمام لنقاذ‬
‫ول‬‫العرب والعالم؛ لن الحل الوحيد لمأساة النسان يكمن في تح ّ‬
‫قيادة العالم إلى أيد مؤمنة بقيم النسانّية‪ ،‬وكان محور أص ً‬
‫لحه‪:‬‬
‫ث روح العتزاز بالسلم في المسلمين‪،‬‬ ‫مكافحة الغزو الفكري‪ ،‬وب ّ‬
‫كز عليهم اهتمامه‪ ،‬لّنهم‬ ‫ومقاومة الرّدة وآثارها‪ ،‬وخاطب العرب ور ّ‬
‫يحملون استعداًدا روحّيا ومعنوّيا ومادّيا لقيادة العالم السلمي‪،‬‬
‫صا على نهضة العرب‬ ‫وبالتالي لقيادة العالم أجمع‪ ،‬وكان حري ً‬
‫بمواهبهم وكفاءاتهم ‪.‬‬
‫شَر بمجّلة‬
‫دد واجب العلماء والطبقة المثقفة في مقال ن ُ ِ‬ ‫وح ّ‬
‫كرين المسلمين‬ ‫ن مسؤولّية العلماء والمف ّ‬ ‫)البعث السلمي( قائ ً‬
‫ل‪" :‬إ ّ‬
‫ديات المعاصرة وإثباتهم أن‬ ‫في العصر الحديث ق بعد مواجهتهم للتح ّ‬
‫ضلوا‬‫السلم قادر على قيادتها وترشيدها والسموّ بها – هي أن يف ّ‬
‫سسة‪ ،‬ومدرسة‪ ،‬وطائفة‪ ،‬وحزب‪،‬‬ ‫السلم على كل جماعة‪ ،‬ومؤ ّ‬
‫ضلة على عمل كل مصلحة حزبّية‪،‬‬ ‫وليكن مصلحة الدين والعقيدة مف ّ‬
‫أو جماعّية"‪.‬‬
‫ن المنهج‬ ‫لح والتغيير؛ حيث رأى أ ّ‬ ‫ملته‪ :‬قضّية الص ً‬‫ومن أبرز تأ ّ‬
‫سا من تكوين الفرد تكويًنا نوعّيا‪،‬‬‫لحي الذي نريده ينبع أسا ً‬ ‫الص ً‬
‫لحي بالتجربة‬ ‫ويحمل على بعض المصلحين الذين خلطوا الواقع الص ً‬
‫والروح الغربّية‪ ،‬وكان يندهش من المسلمين الذين اطمأّنوا لتدريس‬
‫أبنائهم في المؤسسات العلمّية الغربّية‪ ،‬وغفلوا عن هدف الغرب في‬
‫القضاء على الهوّية السلمّية لهم‪ ،‬وتنّبه إلى ضرورة إحداث تغيير‬
‫شامل في الجامعات السلمّية من خلل ربط العلم بالتربية؛ وأولى‬
‫قاه الشباب‪ ،‬فل بد ّ من‬‫ما كبيًرا بالمنهل العلمي الذي يتل ّ‬
‫اهتما ً‬
‫تصفية هذا المنهل من خلل توحيد التعليم ليكون وحدة شاملة تجمع‬
‫بين الوسائل والغايات‪.‬‬
‫ثم إنه أ ّ‬
‫كد على عالمّية الرسالة وإنسانّيتها‪ ،‬وفي ذلك ما يبعث‬
‫على الغيرة‪ ،‬وما يبعث على أن يتنافس العرب‪ ،‬وأن يسبقوا لّنهم‬
‫أهل الفضل وأهل الرسالة‪ ،‬وأهل الدعوة‪ ،‬وأشاد بدور العرب لنهم‬
‫ن هذه‬‫الذين أشركونا في هذه الثروة السماوّية السامية الخيرة‪ ،‬وأ ّ‬
‫الدعوة قد لبّيت تلبية حسنة‪ ،‬وكانت مستجابة استجابة كريمة تليق‬
‫بإخواننا العرب وبشرفهم وبمكانتهم وبزعامتهم وقيادتهم ‪.‬‬
‫ركائز فقه الدعوة عند أبي الحسن الندوي‪:‬‬
‫حدد الدكتور يوسف القرضاوي ركائز عشرين لفقه الدعوة عند‬
‫أبي الحسن الندوي‪ ،‬هي‪:‬‬
‫تعميق اليمان في مواجهة المادية‪.‬‬ ‫‪-1‬‬
‫إعلء الوحي على العقل‪.‬‬ ‫‪-2‬‬
‫البناء ل الهدم‪ ،‬والجمع ل التفريق‪.‬‬ ‫‪-3‬‬

‫إحياء روح الجهاد في سبيل الله‪.‬‬ ‫‪-4‬‬

‫استيحاء التاريخ السلمي وبطولته‪.‬‬ ‫‪-5‬‬

‫نقد الفكرة الغربية والحضارة المادية‪.‬‬ ‫‪-6‬‬

‫تأكيد دور المة المسلمة واستمراره في التاريخ‪.‬‬ ‫‪-7‬‬

‫التنويه بقضية فلسطين وتحريرها‪.‬‬ ‫‪-8‬‬

‫العناية بالتربية السلمية الحرة‪.‬‬ ‫‪-9‬‬

‫دعوة غير المسلمين‪.‬‬ ‫‪-10‬‬


‫أهم أعماله ومناصبه‬
‫بدأ الندوي رحلته الدعوية عام ‪1939‬م في الهند‪ ،‬وأسس‬
‫وا في المجلس‬ ‫مركًزا للتعليم السلمي عام ‪1943‬م‪ ،‬ثم اختير عض ً‬
‫النتظامي لندوة العلماء عام ‪1948‬م‪ ،‬ثم أسس حركة رسالة‬
‫النسانية عام ‪1951‬م‪ ،‬والمجمع السلمي العلمي عام ‪1959‬م‪ ،‬في‬
‫ما لندوة العلماء عام ‪1961‬م – التي ظل‬ ‫لكنو بالهند‪ ،‬واختير أميًنا عا ً‬
‫بها حتى وفاته ‪ ،-‬وأدار الجلسة الولى لتأسيس رابطة العالم‬
‫ة عن رئيسها سماحة مفتي‬ ‫السلمي بمكة المكرمة عام ‪1962‬م نياب ً‬
‫عام المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ‪-‬‬
‫ة الملك سعود ُ بن عبد العزيز آل سعودكما‬ ‫وقد حضر أّولها جلل ُ‬
‫حضرها الملك إدريس السنوسي حاكم ليبيا‪ ،‬وشخصيات أخرى ذات‬
‫م "السلم فوق القوميات والعصبيات"‪.‬‬ ‫دم فيها مقاَله القي ّ َ‬ ‫شأن ‪ -‬وق ّ‬
‫وا في المجلس الستشاري العلى للجامعة‬ ‫اختير الندوي عض ً‬
‫ل عضوا‬ ‫السلمية بالمدينة المنورة منذ تأسيسها عام ‪1962‬م‪ ،‬وظ ّ‬
‫فيه إلى انحلل المجلس وانضمام الجامعة في سلك بقية الجامعات‬
‫ة لوزارة التعليم العإلي‪ ،‬كما دعا إلى تأسيس رابطة‬
‫السعودية تابع ً‬
‫الدب السلمي العالمية عام ‪1984‬م‪ ،‬واختير أول رئيس لها عام‬
‫‪1986‬م ‪.‬‬
‫حصل الندوي على عضوية كثير من الهيئات والمؤسسات‬
‫الدعوية العلمية والعالمية منها‪ :‬رابطة الجامعات السلمية منذ‬
‫تأسيسها‪ ،‬والمجمع العلمي بدمشق‪ ،‬ومجمع اللغة العربية الردني‬
‫عام ‪1980‬م‪ ،‬والمجمع الملكي لبحوث الحضارة السلمية )مؤسسة‬
‫منح درجة الدكتوراة الفخرية‬‫آل البيت( بالردن‪ ،‬عام ‪1983‬م‪ ،‬كما ُ‬
‫سا لمركز‬‫في الداب من جامعة كشمير عام ‪1981‬م‪ ،‬واختير رئي ً‬
‫أكسفورد للدراسات السلمية‪ 1414‬عام ‪1993‬م‪ ،‬وبعد وفاته صار‬
‫بالمعهد درجة زمالة )أبو الحسن الندوي(‪ ،‬وممن منح هذه الزمالة أ‪.‬د‪.‬‬
‫وهبه الزحيلي عام ‪2000‬م‪.‬‬
‫وذلك عدا عضويته في كثير من الجامعات السلمية‪،‬‬
‫والمنظمات الدعوية‪ ،‬ولجان التعليم والتربية‪.‬‬
‫جوائز‬

‫‪ 1414‬مركز أكسفورد للدراسات السلمية في بريطانيا‪ :‬معهد أكاديمي يرتبط بجامعة أكسفورد‪،‬‬
‫تأسس عام ‪1985‬م‪ ،‬برعاية ولي العهد البريطاني )المير تشارلز(‪ ،‬ويشارك خبراء المركز في‬
‫التدريس أو الشراف على البحوث‪ ،‬في القسام المناسبة في جامعة أكسفورد ومنها‪ :‬العلوم‬
‫الجتماعية‪ ،‬والتاريخ الحديث‪ ،‬والعقائد‪ ،‬والدراسات الشرقية‪ ،‬والتعليم‪ ،‬فضل ً عن برامجه‬
‫لتدريس اللغة العربية‪ ،‬كما يقود المركز مشاريع البحث حول موضوعات تتعلق بالعالم‬
‫السلمي‪.‬‬
‫منح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة السلم‪ ،‬سنة‬ ‫•‬
‫‪1400‬هق= ‪1980‬م‪.‬‬
‫منحته إمارة دبي جائزة شخصية العام السلمية لعام‬ ‫•‬
‫‪1419‬هق؛ في دورتها الثانية‪ ،‬بعد أن منحت في دورتها الولى‬
‫لفضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي‪.‬‬
‫منحه معهد الدراسات الموضوعية بالهند جائزة المام‬ ‫•‬
‫ولي الله الدهلوي لعام ‪1999‬م ‪ -‬والتي تم منحها لول مرة ‪-‬‬
‫وكان قد تقرر اختياره لهذه الجائزة في حياته ولكن وافته‬
‫المنية قبل العلن الرسمي‪ ،‬وقد استلم هذه الجائزة باسمه ~‬
‫دوي‬ ‫ابن أخته وخليفته فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الن ّ ْ‬
‫في دلهي في )‪ 7‬من شعبان ‪1421‬هق = نوفمبر ‪2000‬م(‪.‬‬
‫منحته المنظمة السلمية للتربية والعلوم والثقافة‬ ‫•‬
‫) ايسسكو ‪- (ISESCO‬تقديًرا لعطائه العلمي المتميز وإكباًرا‬
‫للخدمات الجليلة التي قدمها إلى الثقافة العربية السلمية ‪-‬‬
‫وسام اليسسكو من الدرجة الولى‪ .‬وقد استلم هذا الوسام‬
‫دوي في الرباط في‬ ‫نيابة عنه سعادة ُ الدكتور عبد الله عباس الن ّ ْ‬
‫‪ /25‬من شعبان ‪1421‬هق‪.‬‬
‫منح جائزة السلطان حسن بلقية العالمية في موضوع‬ ‫•‬
‫"سيرأعلم الفكر السلمي" من مركز أكسفورد للدراسات‬
‫السلمية عام )‪1998‬م= ‪1419‬هق(‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه‬
‫جا‬
‫قال عنه الدكتور يوسف القرضاوي‪" :‬كان الندوي يمثل نسي ً‬
‫مميًزا من العلماء المسلمين ينضم إلى العلماء الكبار‪" ،..‬أنه رجل‬
‫جعل الرسول الكريم أسوته في هديه وسلوكه وحياته كلها‪ ،‬واتخذ‬
‫سا له‪ ،‬في تعبده وزهده‪ ،‬وإعراضه عن زخارف الحياة‪،‬‬ ‫سيرته نبرا ً‬
‫وزينة الدنيا‪ ،‬فهو يعيش في الخلف عيشة السلف‪ ،‬ل يهتم بما يهتم به‬
‫أمثالنا من متاع وتملك ورياض وزينة‪ ،‬تحسبه إذا رأيته سلمان‬
‫الفارسي أو أبا الدرداء"‪.‬‬
‫كتب عنه الشيخ الغزالي في مذكراته‪ ،‬وقال‪" :‬إن رسائل‬
‫الندوي هي التي لفتت النظر إلى موقف ربعي بن عامر ‪-‬رضي الله‬
‫عنه‪ -‬بين رستم قائد الفرس وكلماته البليغة له‪ ..‬أبو الحسن الندوي ‪-‬‬
‫فيما أعلم ‪ -‬هو أول من نبهنا إلى قيمة هذا الموقف وهذه الكلمات‪،‬‬
‫ثم تناقلها الكاتبون بعد ذلك وانتشرت"‪.‬‬
‫وصفه الشيخ علي الطنطاوي لما زاره سنة )‪1373‬هق=‬
‫ما على‬‫‪1954‬م( في لكهنؤ فقال‪ :‬وجدته في الحوال كّلها‪ ،‬مستقي ً‬
‫الحق‪ ،‬عامل ً لله‪ ،‬زاه ً‬
‫دا حقيقًيا زهد العالم العارف بالدنيا وأهلها ‪.‬‬
‫ووصف الدكتور ليث القيسي المام الندوي بأّنه رمز بارز من‬
‫رموز الدعوة السلمّية‪ ،‬ومعلم ظاهر في الحقبة التاريخّية التي‬
‫عاشها‪ ،‬وطاقة فّعالة وجذوة لم تنطفئ‪ ،‬قضاها كاتًبا ومحاضًرا‬
‫دث القيسي عن جهوده في‬ ‫كا في الندوات والمؤتمرات ؛ وتح ّ‬ ‫ومشار ً‬
‫ن جهود الندوي في السيرة ل تفهم‬ ‫خدمة السيرة النبوّية فأشار إلى أ ّ‬
‫ولت‬‫إل ّ من خلل خلفّية تاريخّية مّيزت كتاباته وتزامنت مع طبيعة التح ّ‬
‫مة السلمّية خلل القرن‬ ‫الفكرّية السياسّية التي مّرت بها ال ّ‬
‫العشرين الذي علت فيه الفكرة الغربّية في صراعها للفكرة‬
‫خص العّلة وبّين ما خسره العالم بتراجع المسلمين‬ ‫السلمّية‪ ،‬و ش ّ‬
‫عن القيادة إلى التبعّية ثقافّيا وفكرّيا وسياسّيا‪ ،‬وانطلق إلى طرح‬
‫ل‪ ،‬وكان‬‫فا فّعا ً‬
‫جا لها من خلل توظيف السيرة توظي ً‬ ‫مة معال ً‬‫قضايا ال ّ‬
‫منطلقه من )الطريق إلى السّنة( وثمرته كتاب )السيرة النبوّية( الذي‬
‫ما منهجه في كتابة السسيرة‬ ‫صا في كتابة السيرة ؛ أ ّ‬ ‫جا خا ّ‬
‫منه منه ً‬ ‫ض ّ‬
‫فينطلق من خلل البعد التاريخي‪ ،‬والبعد الحضاري‪ ،‬والبعد النساني‪،‬‬
‫والبعد الدعوي والتربوي‪ ،‬والبعد العقائدي‪ ،‬والتكاملّية بين العلوم‪.‬‬
‫يوسف القرضاوي‪ :‬الندوي‪ ..‬مثال للعالم المسلم‪ ،‬والداعية‬
‫المجدد‪ ،‬ومثال جمع بين رقة الربانيين‪ ،‬وتوحيد السلفيين‪ ،‬والتزام‬
‫السنيين‪ ،‬وثقافة المعاصرين‪.‬‬
‫مصطفى السباعي‪ :‬الندوي‪ ..‬ذخر للسلم ودعوته‪ .‬وكتبه‬
‫ومؤلفاته تتميز بالدقة العلمية وبالغوص العميق في تفهم أسرار‬
‫الشريعة وبالتحليل الدقيق لمشاكل العالم السلمي ووسائل‬
‫معالجتها‪.‬‬
‫سيد قطب‪ :‬الندوي‪ ..‬رجل عرفته في شخصيته وفي قلمه‪،‬‬
‫فعرفت فيه قلب المسلم‪ ،‬والعقل المسلم‪ ،‬وعرفت فيه الرجل الذي‬
‫يعيش بالسلم وللسلم على فقه جيد للسلم‪ ..‬هذه شهادة لله‬
‫أؤديها‪.‬‬
‫محمد الرابع الحسني الندوي‪ :‬الندوي‪ ..‬قدوة أبناء المسلمين‬
‫ذب عن حوزته‪ ،‬وإقرار‬‫في الغيرة للدين والكفاح لعزاز السلم وال ّ‬
‫روحه وطبيعته الحقيقية‪.‬‬
‫محمد حميد الدين الحسامي‪ :‬الندوي‪ ..‬أمة وحده‪ ،‬وشخصية‬
‫عظيمة فذة‪ ،‬وموسوعة فكرية متنوعة الجوانب والمباحث‪ ،‬قّلما يجود‬
‫الزمان بمثله‪.‬‬
‫ما بمادئه‪ ،‬ولم‬
‫عبد الحليم عويس‪ :‬الندوي‪ ..‬رجل لم يتاجر يو ً‬
‫ما على الدنيا‪.‬‬
‫ما على باب أحد‪ ،‬ولم ينافس يو ً‬
‫يقف يو ً‬
‫وقال عنه المام الكبر شيخ الجامع الزهر عبد الحليم محمود‪:‬‬
‫أخلص أبو الحسن الندوي وجهه لله تعإلي‪ ،‬وسار في حياته سيرة‬
‫المسلم المخلص لله تعالى ورسوله ‪ ،‬فدعا إلى السلم بالقدوة‬
‫الحسنة‪ ،‬ودعا إلى السلم بكتبه النقية‪ ،‬ودعا إلى السلم بسياحته‬
‫التي حاضر فيها‪ ،‬ووجه وأرشد‪ ،‬فجزاه الله خير ما يجزي عالما عن‬
‫دينه‪.‬‬
‫دراسات عن الندوي‬
‫من المشايخ الذين درسو العلمة الندوي؛ الشيخ الدكتور تقي‬
‫الدين الهللى المراكشي‪ ،‬والشيخ حيدر حسن خان‪ ،‬والشيخ حسين‬
‫أحمد المدني‪ ،‬والشيخ عبد القادر الراي وهو المربي الروحي للندوي‪..‬‬
‫كما كتب عن الندوي الكثيرون؛ ومنهم د‪ .‬مصطفى السباعي‪،‬‬
‫وسيد قطب‪ ،‬وعلي الطنطاوي‪ ،‬ومحمد المجذوب‪ ..‬وغيرهم‪ ،‬ومما‬
‫ضا‪:‬‬ ‫ك ُت ِ َ‬
‫ب عنه أي ً‬
‫أبو الحسن الندوي كما عرفته‪ :‬أ‪.‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪.‬‬ ‫•‬

‫النهضة السلمية في سير أعلمها المعاصرين‪ :‬د‪ .‬محمد‬ ‫•‬


‫رجب البيومي )الجزء الثالث( – سلسلة البحوث السلمية ‪:‬‬
‫السنة ‪ 13‬الكتاب الول‪ :‬مجمع البحوث السلمية – القاهرة‪) :‬‬
‫‪ 1402‬هق = ‪1982‬م(‪ .‬وطبعة دار القلم والدار الشامية‬
‫)خمسة مجلدات(‪1415) ،‬هق‪1995 -‬م(‪.‬‬
‫علماء ومفكرون عرفتهم‪ :‬محمد المجذوب ‪.‬‬ ‫•‬

‫علماء العرب في شبه القارة الهندية‪ :‬يونس‬ ‫•‬


‫السامرائي ‪.‬‬
‫الدراسات القرآنية المعاصرة‪ :‬محمد السديس ‪.‬‬ ‫•‬

‫أدب الصحوة السلمية‪ :‬واضح الندوي‬ ‫•‬

‫ذكريات علي الطنطاوي‪.‬‬ ‫•‬

‫أبو الحسن الندوي مفكر وداعية‪ :‬عبد الحليم عويس‪،‬‬ ‫•‬


‫مقال منشور بمجلة الفيصل‪ ،‬العدد )‪ ،(39‬رمضان ‪1400‬هق=‬
‫‪.1980‬‬
‫أبو الحسن الندوي شاهد القرن‪ :‬مجّلة المجتمع‪ ،‬العدد )‬ ‫•‬
‫‪ 25 ،(1397‬أبريل ‪2000‬م‪.‬‬
‫وفاته‬
‫توفي الندوي في )‪ 23‬رمضان ‪1420‬هق = ‪ 31‬ديسمبر‬
‫ما‪.‬‬
‫‪1999‬م(‪ ،‬عن ‪ 86‬عا ً‬
‫توفي في العشر الواخر من رمضان‪ ،‬وفي يوم الجمعة أفضل‬
‫أيام السبوع‪ ،‬وقبل صلة الجمعة أفضل الساعات‪ ،‬وقد توضأ واستعد‬
‫ود كل جمعة‪ ،‬فوافاه أجله‬
‫للصلة‪ ،‬وشرع يقرأ سورة الكهف كما تع ّ‬
‫على أفضل حال‪.~ ،‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬دور العلم في حياة علماء‬
‫الحياة المعاصرين‬

‫ويضم هذا الفصل المباحث التالية‪:‬‬


‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في حياة علي‬
‫مصطفى مشرفة‬
‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في حياة جمال‬
‫حمدان‬
‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في حياة عبد‬
‫القدير خان‬
‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في حياة أحمد‬
‫زويل‬
‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في حياة علي‬
‫مصطفى مشرفة‬
‫علي مصطفى مشّرفة‪ ..‬عالم الذرة الفريد!!‬

‫لما سمع أينشتين بخبر موته لم يصدق‪ ،‬ثم قال‪" :‬كل‪ ..‬كل‪ ،‬ل‬
‫ن مشّرفة مات‪ ..‬إنها خسارة جسيمة"!! ووصفه بواحد‬ ‫تقولوا‪ :‬إ ّ‬
‫من أعظم علماء الفيزياء ‪ .‬ونعته الذاعة في أمريكا على أنه‬
‫‪1415‬‬

‫"واحد من سبعة علماء في العالم يعرفون أسرار‬


‫الذرة"‪!!1416‬‬

‫إنه العالم المصري المسلم الدكتور علي مصطفى عطية أحمد‬


‫مشرفة‪ ..‬من رّواد علوم الرياضيات والفيزياء‪..‬‬

‫نشأته ورحلته العلمية‪..‬‬

‫وُل ِد َ مشرفة سنة ‪1316‬هق ‪1898 /‬م في حي المظلوم بمدينة‬


‫دمياط‪ .‬وكان والده من ذوي أليسر والجاه‪ ،‬وهو ما جعل مشرفة‬
‫يقضي سنواته الولى في رغد من العيش وهناءة البال‪ ،‬غير أن تلك‬
‫ل‪ ..‬ففي سنة ‪1909‬م توفي والده بعد‬ ‫الحياة الرغدة لم تدم طوي ً‬
‫تعرضه لزمة مالية أودت بكل ما تملك السرة‪ ،‬وكان ذلك قبل‬
‫امتحان الشهادة البتدائية لمشرفة بثلثة أشهر‪ ،‬ولكنه تغلب على‬
‫ق ْ‬
‫طر‬ ‫الصدمة ونال البتدائية بتفوق وكان ترتيبه الول على ال ُ‬
‫المصري!!‬

‫انتقلت السرة بعد ذلك إلى القاهرة‪ ،‬وقبل امتحان البكالوريا‬


‫بشهرين توفيت والدته‪ ،‬ولكنه بنفس العزيمة حصل على شهادة‬
‫البكالوريا بتفوق‪ ،‬وكان ترتيبه الثاني على القطر المصري‪ ،‬وذلك سنة‬
‫‪1914‬م‪!!1417‬‬

‫آثر مشرفة أن يلتحق بمدرسة المعّلمين العليا؛ فحصل على‬


‫هله هذا‬
‫دبلومها سنة ‪1917‬م‪ ،‬وكان ترتيبه الثاني على الدبلوم‪ .‬وقد أ ّ‬
‫التفوق لُيختار ضمن بعثة علمية إلى إنجلترا‪ ،‬فالتحق بكلية "نوتنجهام"‬
‫‪ Nottingham‬بجامعة لندن‪ ،‬فحصل منها على درجة البكالوريوس‬
‫في الرياضة مع مرتبة الشرف‪ ،‬وكان الحصول على هذه الشهادة‬

‫‪ 1415‬انظر أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪.179‬‬
‫‪ 1416‬انظر محمد الجوادي‪ :‬مشّرفة بين الذرة والذروة‪ ،‬مكتبة مدبولي‪2002 ،‬م ص ‪.56‬‬
‫‪ 1417‬أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪ - 179‬محمد الجوادي‪ :‬مشرفة بين‬
‫الذرة والذروة ص ‪.26 ،52‬‬
‫يحتاج أربع سنوات من الدراسة‪ ،‬إل أن مشرفة اختصرها في ثلث‬
‫سنوات فقط‪ ،‬فحصل عليها سنة ‪1920‬م‪!!1418‬‬

‫وفي فبراير سنة ‪1923‬م حصل مشرفة على درجة الدكتوراه‬


‫في فلسفة العلوم )‪ (.ph. D‬من جامعة لندن في أقصر مدة تسمح‬
‫وا في الجمعية الملكية البريطانية‪،‬‬
‫بها قوانين الجامعة‪ ،‬وأصبح عض ً‬
‫وأخذ يحاضر العلماء من أعضاء الجمعية ولم يتجاوز بعد ُ الخامسة‬
‫والعشرين من عمره‪!!1419‬‬

‫على أن آمال مشرفة في الحصول على درجة "الدكتوراه في‬


‫ح عليه‪ ،‬فواصل ليله بنهاره في صيف سنة‬ ‫العلوم )‪ (D. Sc‬ظلت ت ُل ِ ّ‬
‫‪1923‬م حتى انتهى من إعداد أطروحة دكتوراه العلوم في شهر‬
‫سبتمبر‪ ،‬فعرضها على أستاذه السير ريتشاردسون )أكبر علماء‬
‫الطبيعة في عصره(‪ ،‬ولم تكن جامعة لندن تسمح بدخول امتحان هذه‬
‫الدرجة إل بعد مرور عامين ‪ -‬على القل ‪ -‬من حصول الطالب على‬
‫درجة دكتوراه الفلسفة في العلوم‪ ،‬وتقدم مشّرفة ‪ -‬بناء على نصيحة‬
‫كنه من‬‫صا من مجلس إدارة الجامعة يم ّ‬ ‫أساتذته ‪ -‬يلتمس إذًنا خا ً‬
‫دخول المتحان في أقرب فرصة؛ نظًرا لنه نشر أبحاًثا عملية جليلة‬
‫القدر‪ ،‬وفي الحادي والعشرين من نوفمبر سنة ‪1923‬م وافق مجلس‬
‫إدارة جامعة لندن للدكتور مشرفة على أن يؤدي هذا المتحان بصفة‬
‫استثنائية في الرابع والعشرين من يناير سنة ‪1924‬م‪ ،‬وأّدى مشرفة‬
‫ة المتحان في مارس سنة‬ ‫المتحان في الموعد المحدد‪ ،‬وُأعل َِنت نتيج ُ‬
‫‪1924‬م بحصول الدكتور مشرفة على الدكتوراه في العلوم؛ وبذلك‬
‫أصبح مشرفة العاِلم الحادي عشر في العاَلم الذي يحصل‬
‫على هذه الدرجة‪ ،‬وأول عالم مصري يحصل على هذه‬
‫المكانة الرفيعة‪!!1420‬‬

‫سا للرياضيات التطبيقية‬ ‫رجع مشرفة إلى مصر؛ وع ُّين مدّر ً‬


‫مِنح درجة "أستاذ" في عام ‪1926‬م‬ ‫بكلية العلوم بجامعة القاهرة‪ ،‬ثم ُ‬
‫رغم اعتراض قانون الجامعة على منح اللقب لمن هو أدنى من‬
‫ما يتجاوز‬‫الثلثين!! وكان بذلك أول أستاذ مصري في كلية العلوم‪ ،‬ول ّ‬
‫دا للكلية في عام‬ ‫مد َ عمي ً‬
‫الثامنة والعشرين من عمره!! وقد اعت ُ ِ‬
‫ب وكيل ً‬ ‫خ َ‬
‫ت متتاليات‪ ،‬كما انت ُ ِ‬ ‫ب للعمادة أربع مرا ٍ‬
‫خ َ‬
‫‪1936‬م‪ ،‬وانت ُ ِ‬
‫للجامعة سنة ‪1945‬م ‪.‬‬
‫‪1421‬‬

‫‪ 1418‬محمد الجوادي‪ :‬مشرفة بين الذرة والذروة ص ‪ ،27‬أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا‬
‫وجه العالم ص ‪.179‬‬
‫‪ 1419‬محمد الجوادي‪ :‬مشرفة بين الذرة والذروة ص ‪. 28‬‬
‫‪ 1420‬المصدر السابق ص ‪. 29 ،28‬‬
‫‪ 1421‬محمد الجوادي‪ :‬مشرفة بين الذرة والذروة ص ‪ ،30‬محمد علي عثمان‪ :‬مسلمون علموا‬
‫العالم ص ‪. 70‬‬
‫وقد تمتعت كلية العلوم في عصره بشهرة عالمية واسعة؛ حيث‬
‫عني عناية تامة بالبحث العلمي وإمكاناته‪ ،‬فوّفر كل الفرص المتاحة‬
‫للباحثين الشباب لتمام بحوثهم‪ ..‬ووصل به الهتمام إلى مراسلة‬
‫أعضاء البعثات الخارجية‪ ،‬وسمح لول مرة بدخول الطلبة العرب‬
‫ما للترجمة العلمية‬‫ضا أنه أنشأ قس ً‬
‫الكلية‪ ،‬وكان من أهم أعماله أي ً‬
‫بالكلية؛ لن الدراسة كانت باللغة النجليزية‪ ،‬وكان يهدف من وراء‬
‫ذلك إلى ترجمة المراجع العلمية إلى اللغة العربية‪ ،‬حتى يمكن تمصير‬
‫الكلية والمعاهد العليا بوجه عام‪ ،‬وحتى تكون اللغة العربية هي لغة‬
‫ول مشرفة الدراسة في قسم‬ ‫التعليم بدل ً من النجليزية‪ .‬كما ح ّ‬
‫الرياضيات التطبيقية الذي يرأسه والرياضيات البحتة باللغة‬
‫العربية‪!!1422‬‬

‫مُته وثقافته‪..‬‬
‫س ْ‬
‫أبرز ما كان يميز مشرفة ما كان من تمسكه بدينه منذ صغره‪،‬‬
‫سد ذلك في حفظه القرآن الكريم والصحيحين‪،‬‬ ‫وبعد سفره‪ ،‬وقد تج ّ‬
‫رف عنه مواظبته على أداء‬ ‫واستشهاده بذلك في سائر كلمه‪ ،‬كما ع ُ ِ‬
‫فروض الدين‪ ،‬وكان يحتفظ في جيبه بمصحف صغير على الدوام‪،‬‬
‫ة ما استطاع‪ ،‬وفي الخفاء‪ ،‬ولما مات جاءت‬ ‫وكان يؤتي الزكاة مضاعف ً‬
‫مجموعة من الطلبة الصوماليين يواسون أسرته‪ ،‬وهم يبكون على‬
‫مشّرفة وعلى مستقبلهم الذي ظنوه سيضيع بوفاة عائلهم الذي‬
‫فل بنفقات تعليمهم من دون أن يعلم أحد ٌ عن ذلك شيًئا‪ ..‬ولم يكن‬ ‫تك ّ‬
‫هذا التدين غريًبا عن مشرفة وهو العالم الذي تعمق في العلوم‪،‬‬
‫ووقف على أسرار الكون وخلق الله‪.1423‬‬

‫وكانت ثقافة مشّرفة الدينية مثل ً فري ً‬


‫دا‪ ،‬ليس عند العلماء الذين‬
‫تستهويهم الثقافات الدينية‪ ،‬ولكن عند علماء الدين أنفسهم‪ ،‬فقد‬
‫حفظ مشرفة الكتب السماوية الثلثة‪ ،‬واستطاع أن يدرس الديانات‬
‫السماوية دراسة مقارنة‪ ،‬وكان عقله جاهًزا في كل حين لستحضار‬
‫الصورة الكاملة للمفاهيم الدينية المختلفة في أية قضية من القضايا‪،‬‬
‫ولم يكن مشرفة يبهر علماء الديان بثقافته تلك فحسب‪ ،‬وإنما كان‬
‫جة وينتصر عليهم في كثير من الحيان!!‬ ‫يناظرهم ويقارعهم الح ّ‬
‫والذين يتتبعون مشرفة في حياته كلها يجدون في نفوسهم‬
‫سا قوًيا بأن مشرفة عمل ودرس‪ ،‬وسعى وجاهد‪ ،‬وقرأ وبحث‪،‬‬ ‫إحسا ً‬
‫وكشف وكتب وحاضر ابتغاَء مرضاةِ الله‪ ،‬على أن المر في مثل هذه‬
‫النية ل يقف عند الحساس الذي يجده المتتبعون‪ ،‬وإنما حفظ لنا‬
‫ق لوالده يقول فيه‪:‬‬
‫ب كتبه مشّرفة إلى صدي ٍ‬‫الدهر عبارة ً في خطا ٍ‬
‫‪ 1422‬انظر محمد علي عثمان‪ :‬مسلمون علموا العالم ص ‪ ،70‬ومحمد الجوادي‪ :‬مشرفة بين‬
‫الذرة والذروة ص ‪. 136‬‬
‫‪ 1423‬انظر محمد الجوادي‪ :‬مشرفة بين الذرة والذروة ص ‪. 45‬‬
‫َ‬
‫ور جديد من أطوار حياتي أسأل الله أن‬ ‫ورت في ط َ ْ‬
‫ما وقد تط ّ‬‫"أ َ‬
‫يجعله سبيل ً إلى تقواه‪ ،‬ومعيًنا على طاعته‪ ،‬ومقّرًبا من جنة‬
‫رضوانه"‪!!1424‬‬

‫وقد أجاد الدكتور مشرفة اللغة النجليزية‪ ،‬ل إلى الحد الذي‬
‫يعبر عنه الناس فيقولوا‪" :‬أتقنها كواحد من أهلها" فحسب‪ ،‬ولكن إلى‬
‫سا لجمعية‬
‫الحد ّ الذي شجع النجليز أنفسهم على اختياره رئي ً‬
‫المناقشات في الكلية الملكية‪ ،‬وكان مشرفة بالطبع أول أجنبي ُيختار‬
‫ف مشرفة في هذه الجمعية بلقب ‪ Pat‬وهو‬ ‫لهذا المنصب‪ ،‬وقد ع ُرِ َ‬
‫اختصار للسم اليرلندي ‪ Patrick‬وقد اختار له النجليز هذا السم‬
‫تقديًرا لقدراته وملكاته الجدلية‪.1425‬‬

‫دور العلم في حياته‪..‬‬

‫قا بالعلم‪ ،‬وبأهمية تطبيقه في الحياة‪،‬‬


‫آمن مشرفة إيماًنا عمي ً‬
‫وكانت هذه هي الفكرة الغالبة على أعماله ومؤّلفاته‪ ،‬وكان مشّرفة‬
‫يستنهض الهمم في كل حين إلى العناية بأمر العلم والبحوث العلمية‬
‫والتطبيقية واستغلل ثرواتنا البحرية والصحراوية‪ ،‬وتنظيم استغلل‬
‫ثرواتنا الزراعية والتجارية‪ ،‬وكان الساسة يظّنون مشرفة مغالًيا في‬
‫دعوته‪ ،‬وما كان مشرفة مغالًيا‪ ،‬وإنما كان مقدًرا للمر قدره‬
‫الغالي‪.1426‬‬

‫وكان مشرفة يعمل ما ل يقل عن ثلثة أرباع اليوم‪ ،‬وكثيًرا ما‬


‫كان يكتفي من النوم بثلث ساعات‪ :‬ساعة في العصر بين الرابعة‬
‫والخامسة‪ ،‬ويقوم بعدها فيتناول الشاي مع أسرته‪ ،‬وساعتين بعد‬
‫حا‪،‬‬
‫الفجر من الخامسة إلى السابعة أو من السادسة إلى الثامنة صبا ً‬
‫وكان المحيطون به يشفقون عليه من هذا الكفاح الذي ل يستريح‬
‫دا أنه إن استراح فقد تقاعس‪ ،‬والتقاعس ل‬ ‫معه‪ ،‬ولكنه كان معتق ً‬
‫يليق بسيرة العلماء الذين كان يرى أن عليهم واجًبا نحو النسانية‪،‬‬
‫ورسالة ل ينبغي أن يتخّلوا عنها طلًبا للراحة‪.1427‬‬

‫ولم يكن مشرفة من العلماء الذين يحول اشتغالهم بالعلم بينهم‬


‫وبين الجمهور‪ ،‬ولعل في هذا سّرا لدعوته الملحة إلى التصال بين‬
‫معاهد العلم وجماهير الشعب‪ ،‬وهي الدعوة التي صدرت عن تقديره‬
‫لمدى الفوائد اليجابية التي تعود نتيجة لهذا التصال‪ ،‬وعن تقديره‬
‫لمدى السلبيات التي تنتج عن غياب هذا التصال‪ ،‬والتي تتمثل على‬
‫حد تعبيره في أن يتحول العلم إلى ضرب من ضروب السحر‪،‬‬

‫المصدر السابق ص ‪. 46‬‬ ‫انظر‬ ‫‪1424‬‬

‫محمد الجوادي‪ :‬مشرفة بين الذرة والذروة ص ‪. 48‬‬ ‫انظر‬ ‫‪1425‬‬

‫المصدر السابق ص ‪. 39‬‬ ‫انظر‬ ‫‪1426‬‬

‫محمد الجوادي‪ :‬مشرفة بين الذرة والذروة ص ‪. 44‬‬ ‫انظر‬ ‫‪1427‬‬


‫ويتحول العلماء إلى نوع من الكهنة الذين ُيقَرأ عنهم في تاريخ مصر‬
‫القديمة‪.1428‬‬

‫وقد ترجم الدكتور مشرفة أفكاره في هذه الناحية إلى واقع‬


‫عملي‪ ،‬فكان من السّباقين إلى نشر الثقافة العلمية المبسطة عن‬
‫ة‬ ‫طريق الذاعة‪ ،‬ولم يسلك مشرفة في عمله هذا مسل ً‬
‫كا فردًيا بغي َ‬
‫مجد ٍ شخصي‪ ،‬وإنما استطاع أن ينظم سلسة من الحاديث الدورية‬
‫أطلق عليها اسم‪" :‬أحاديث كلية العلوم" يلقيها على الناس في‬
‫الراديو أساتذة كلية العلوم‪ ،‬وكان مشّرفة يعتقد أن قيام كلية العلوم‬
‫بهذا العمل إنما هو جزء من رسالتها في إتاحة الفرصة أمام الجمهور‬
‫قف للوقوف على أحدث الراء العلمية‪ ،‬واللمام بما كشف عنه‬ ‫المث ّ‬
‫الباحثون من خفايا الكون وأسرار الطبيعة‪ ،‬وكان يعتقد كذلك أن في‬
‫هذه الحاديث فرصة عظيمة لطائفة العلماء ليتحدثوا عن دراساتهم‪،‬‬
‫سطوا في هذه الحاديث بلغة سهلة‪،‬‬ ‫ويعبروا عن وجهات نظرهم‪ ،‬ويتب ّ‬
‫خالية على قدر ما يتيسر من المصطلحات الغربية‪ ،‬والرموز المريبة‪.‬‬

‫غير أن الهدف السمى الذي سعى مشرفة إليه من وراء هذه‬


‫الحاديث لم يكن إل إشاعة العقلية العلمية في ُروح الشعب؛ حتى‬
‫تصبح هذه العقلية عادة في تفكيرنا القومي‪ ،‬فإذا ما عّنت للناس‬
‫مشكلة من المشكلت استطاعوا التغلب عليها بالسلوب العلمي‪،‬‬
‫س أو غرض في التفكير‪.‬‬‫غير متأثرين بهوى نف ٍ‬
‫وقد حرص الدكتور مشرفة في الوقت نفسه على أن يبين‬
‫للناس في الحاديث التي قام هو بإلقائها كثيًرا من المور الساسية‬
‫في العلوم‪ ،‬والكتشافات الحديثة في دنيا الختراع‪ ،‬والعناصر‬
‫الرئيسية في التفكير العلمي‪ ،‬والعلمات البارزة في تاريخ البحث‬
‫والصناعة‪ .‬وقد اتسعت دائرة العلوم التي تناولتها هذه الحاديث‪ ،‬كما‬
‫تزايد عدد الساتذة الذين شاركوا في هذا البرنامج الذاعي حديًثا بعد‬
‫حديث‪.1429‬‬

‫وعلى الجانب الخر كان مشرفة يتمّنى للوظائف العامة أن‬


‫يتولها أساتذة الجامعات‪ ،‬ولم يكن من أنصار الرأي القائل بأنه على‬
‫أساتذة الجامعات أن يترّفعوا عن مثل هذه الوظائف‪ ،‬وكان يقول في‬
‫الرد على ذلك‪ :‬كيف يلم أساتذة الجامعة وهم صفوة المتعلمين في‬
‫مع صوتهم فل يظلوا بعيدين عن‬ ‫المة إذا طلبوا ذلك الجاه لكي ُيس َ‬
‫تيارات الحياة في المة‪1430‬؟!‬

‫انظر المصدر السابق ص ‪. 46‬‬ ‫‪1428‬‬

‫انظر محمد الجوادي‪ :‬مشرفة بين الذرة والذروة ص ‪. 47‬‬ ‫‪1429‬‬

‫انظر المصدر السابق ص ‪. 50‬‬ ‫‪1430‬‬


‫آثاره ومؤلفاته‪..‬‬

‫ث متعددة في نظرية الكم‪ ،‬وتفسير‬‫لعلي مصطفى مشرفة أبحا ٌ‬


‫كثير من الظواهر الفيزيائية‪ ،‬وكذلك في المادة والشعاع‪ ،‬وكان من‬
‫أول القائلين بأنه يمكن اعتبارهما صورتين لشيء واحد‪ ،‬تتحول‬
‫إحداهما للخرى‪ ،‬وقد اقترن اسمه بهذه النظرية‪.‬‬

‫كما أن له نظرية في مجال الذرة سهلت فيما بعد ُ اقتحام مجال‬


‫العلوم الذرية‪ ،‬والدخول إلى أعماقها‪!!1431‬‬

‫والحقيقة أن أبحاث الدكتور مشرفة بدأت تأخذ مكانها في‬


‫ما؛ ففي‬
‫الدوريات العلمية وعمره لم يتجاوز الخامسة والعشرين عا ً‬
‫شَر له أول خمسة أبحاث‬ ‫الجامعة الملكية بلندن ‪ King’s College‬ن ُ ِ‬
‫حول النظرية الكمية التي نال من أجلها درجتي ) ‪ Ph.D‬دكتوراه‬
‫ن له ‪ 26‬بحًثا مبتكًرا في‬
‫الفلسفة و ‪ .D.sc‬دكتوراة العلوم(‪ ،‬كما أ ّ‬
‫الطبيعة‪.‬‬

‫وقد كان من مؤّلفاته العديدة التي خّلفها ما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬كتاب الميكانيكا العلمية والنظرية‪ ،‬وقد ظهر هذا الكتاب‬


‫سنة ‪1937‬م‪.‬‬

‫‪ -2‬كتاب الهندسة الوصفية‪ ،‬وقد ظهر سنة ‪1937‬م‪.‬‬

‫‪ -4‬كتاب الهندسة المستوية والفراغية‪ ،‬وظهر سنة ‪1944‬م‪.‬‬

‫‪ -5‬كتاب حساب المثلثات المستوية‪ ،‬وظهر سنة ‪1944‬م‪.‬‬

‫‪ -6‬كتاب الذرة والقنابل الذرية‪ ،‬وظهر سنة ‪1945‬م‪.‬‬

‫‪ -7‬كتاب العلم والحياة‪ ،‬وظهر سنة ‪1946‬م‪.‬‬

‫‪ -8‬كتاب الهندسة وحساب المثلثات‪ ،‬وظهر سنة ‪1947‬م‪.‬‬

‫على أن مشرفة كان له إسهاماته الخاصة في مجال إحياء‬


‫ضا‪ ،‬وكان من أشهر تحقيقاته‪ :‬كتاب الجبر‬
‫التراث السلمي أي ً‬
‫والمقابلة للخوارزمي‪ ،‬وهو الكتاب الذي ظل عمدة ومرجًعا‬
‫لعلماء الشرق والغرب طيلة قرون عديدة‪ ،‬وقد قدم مشرفة لهذا‬
‫الكتاب بمقدمتين‪ :‬الولى عن "الجبر قبل الخوارزمي"‪ ،‬والثانية عن‬
‫انظر أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪. 179‬‬ ‫‪1431‬‬
‫"الخوارزمي وكتابه في الجبر والمقابلة"‪ ،‬ثم عرض كتاب الخوارزمي؛‬
‫فشرح الجزء الخاص بالجبر‪ ،‬وعّلق عليه‪ ،‬وحّلل مسائله‪ ،‬وعبر عن‬
‫المعاني العلمية والفنية بعبارات الصطلح الحديث‪ ،‬أما المسائل التي‬
‫صلب العلم فقد اكتفى فيها بالنقل دون التعليق‪ ،‬وهكذا‬
‫ل ترتبط ب ُ‬
‫لها خير تجلية ‪.‬‬
‫‪1432‬‬ ‫أخرج لنا مشرفة من كنوز العرب د ُّرة فج ّ‬

‫وفاته‬

‫وفي‬‫وبعد أن أضاء جنبات الحياة العلمية وأثراها في عصره‪ ،‬ت ُ ُ‬


‫ة‬
‫الدكتور علي مصطفى مشرفة سنة ‪1950‬م؛ فرحمه الله رحم ً‬
‫واسعة‪ ،‬وجزاه عن السلم والمسلمين خير الجزاء‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في حياة جمال‬


‫حمدان‬
‫سبق عصره بعطائه العلمي‪ ،‬واستطاع أن يترك بصماته‬
‫الفريدة على الدراسات الجغرافية في العصر الحديث‪ ،‬والتي ربط‬
‫فيها التاريخ بحقائق الرض والجغرافيا‪..‬‬
‫تفوق منذ النشأة‪:‬‬
‫وُل ِد َ "جمال محمود صالح حمدان" في قرية "ناي" بمحافظة‬
‫القليوبية بمصر في )‪ 12‬شعبان ‪1346‬هق ‪ 4 /‬فبراير سنة ‪1928‬م(‪،‬‬
‫ونشأ في أسرة كريمة تنحدر من قبيلة "بني حمدان" العربية التي‬
‫نزحت إلى مصر في أثناء الفتح السلمي‪.1433‬‬
‫سا للغة العربية‪ ..‬وقد اهتم بتحفيظ‬ ‫كان والده أزهرًيا ومدّر ً‬
‫أبنائه السبعة القرآن الكريم‪ ،‬وتجويده وتلوته على يديه؛ مما كان له‬
‫أثر بالغ على شخصية "جمال حمدان"‪ ،‬وعلى امتلكه نواصي اللغة‬
‫ي المبدع‪.‬‬ ‫العربية؛ مما غّلب على كتاباته السلو َ‬
‫ب الدب ّ‬
‫حصل "جمال حمدان" على الثانوية العامة عام )‪1363‬هق ‪-‬‬
‫‪1944‬م(‪ ،‬وكان ترتيبه السادس على القطر المصري‪ ،‬ثم التحق‬
‫بقسم الجغرافيا بكلية الداب‪ ،‬وكان طالًبا متفوًقا ومتميًزا خلل‬
‫مرحلة الدراسة الجامعية؛ حيث كان منكّبا على البحث والدراسة‪،‬‬
‫غا للعلم والتحصيل‪.‬‬ ‫متفر ّ‬
‫دا بالكلية‪،‬‬
‫وبعد تخرجه عام )‪1367‬هق ق ‪1948‬م( تم تعيينه معي ً‬
‫ثم أوفدته الجامعة في بعثة إلى بريطانيا سنة )‪1368‬هق ق ‪1949‬م(‪،‬‬
‫‪ 1432‬محمد الجوادي‪ :‬مشرفة بين الذرة والذروة ص ‪ - 186‬محمد على عثمان‪ :‬مسلمون علموا‬
‫العالم ص ‪ - 73‬أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪. 180‬‬
‫‪ 1433‬عبد الحميد صالح حمدان‪ :‬جمال حمدان وتراثه الفكري ص ‪.8‬‬
‫حصل خللها على الدكتوراة في )فلسفة الجغرافيا( من جامعة‬
‫"ريدنج" عام )‪ 1372‬هق ق ‪1953‬م(‪ ،‬وكان موضوع رسالته‪" :‬سكان‬
‫ما وحديًثا"‪ ،‬ولم تترجم رسالته تلك حتى وفاته‪.‬‬ ‫وسط الدلتا قدي ً‬
‫بعد عودته من بعثته العلمية انضم إلى هيئة التدريس بقسم‬
‫دا‪..‬‬‫الجغرافيا في كلية الداب جامعة القاهرة‪ ،‬ثم ُرّقي أستاًذا مساع ً‬
‫وأصدر في فترة تواجده بالجامعة كتبه الثلثة الولى‪" :‬جغرافيا‬
‫المدن"‪ ،‬و"المظاهر الجغرافية لمجموعة مدينة الخرطوم"‪،‬‬
‫و"دراسات عن العالم العربي" وقد حصل بهذه الكتب على جائزة‬
‫الدولة التشجيعية سنة )‪1379‬هق ق ‪1959‬م(‪ ،‬وقد لفتت كتبه أنظار‬
‫الحركة الثقافية عامة‪ ،‬كما أنها صوبت إليه سهام الغيرة من قَِبل‬
‫بعض زملئه وأساتذته داخل الجامعة‪ ..‬حتى اضطر في عام )‪1383‬هق‬
‫جا على ظلم‬ ‫دم باستقالته من الجامعة؛ احتجا ً‬‫ق ‪1963‬م( إلى التق ّ‬
‫إداري تعّرض له‪..1434‬‬
‫وباستقالة "جمال حمدان" من الجامعة تبدأ مرحلة طويلة‬
‫جا علمّيا‬ ‫من التبتل في طلب العلم‪ ،‬والنقطاع للتأليف‪ ..‬أثمرت نتا ً‬
‫غزيًرا‪ ،‬يأتي في القمة منه موسوعته الفريدة "شخصية مصر‪..‬‬
‫دراسة في عبقرية المكان"‪..1435‬‬
‫ومن النصاف أن نؤكد – كما أشار عدد من الباحثين – أن‬
‫"جمال حمدان" لم ينعزل تلك الفترة الطويلة ذلك النوع السلبي من‬
‫ل ضجيج الحياة وصغائر همومها وتهافت صراعاتها‬ ‫العزلة‪ ..‬وإنما ع ََز َ‬
‫عن فكره الراقي وعقله الثاقب؛ ليطلق لهما العنان في آفاق العلم‬
‫الرحبة وغير المحدودة‪..‬‬

‫نظرة "جمال حمدان" إلى الجغرافيا‪:‬‬


‫ل يرى "جمال حمدان" في علم الجغرافيا ذلك العلم الذي‬
‫يقف على حدود الموقع والتضاريس‪ ..‬وإنما هو علم تنصهر في بوتقته‬
‫علوم مختلفة؛ فالجغرافيا هي‪" :‬تلك التي إذا عرفتها عرفت كل شيء‬
‫عن نمط الحياة في هذا المكان أو ذاك‪ ..‬جغرافيا الحياة التي إن‬
‫بدأت من أعلى آفاق الفكر الجغرافي في التاريخ والسياسة فإنها ل‬
‫تستنكف عن أن تنفذ أو تنزل إلى أدق دقائق حياة الناس العادية في‬
‫القليم"‪.1436‬‬
‫وإذا كانت الجغرافيا ‪ -‬كما يقول في تقديمه لكتاب "شخصية‬
‫مصر" ‪ -‬هي علم "التباين الرضي"‪ ،‬أي التعرف على الختلفات‬

‫‪ 1434‬موقع إسلم أون لين الرابط‬


‫‪http://www.islamonline.net/arabic/famous/2001/04/article2.shtml‬‬
‫‪ 1435‬عبد الحميد صالح حمدان‪ :‬جمال حمدان وتراثه الفكري ص ‪.8‬‬
‫‪ 1436‬موقع إسلم أون لين الرابط‬
‫‪http://www.islamonline.net/arabic/famous/2001/04/article2.shtml‬‬
‫الرئيسية بين أجزاء الرض على مختلف المستويات؛ فمن الطبيعي‬
‫أن تكون قمة الجغرافيا هي التعرف على "شخصيات القاليم"‪..‬‬
‫والشخصية القليمية شيء أكبر من مجرد المحصلة الرياضية‬
‫سا عما يعطي منطقة‬ ‫لخصائص وتوزيعات القليم‪ ..‬إنها تتساءل أسا ً‬
‫ما تفّردها وتمّيزها بين سائر المناطق‪ ،‬كما تريد أن تنفذ إلى روح‬
‫المكان لتستشف عبقريته الذاتية التي تحدد شخصيته الكامنة ‪..‬‬
‫‪1437‬‬

‫جا فلسفًيا متنافًرا‪ ،‬يتأرجح‬


‫ولئن بدا أن هذا يجعل للجغرافيا نه ً‬
‫ة؛ فيمكن أن نضيف للتوضيح‪ :‬إنها كذلك؛ فهي‬ ‫ن وفلسف ٍ‬‫بين علم ٍ وف ّ‬
‫ة بنظراتها‪ ..‬والواقع أن هذا‬‫ن بمعالجتها‪ ،‬وفلسف ٌ‬‫م بمادتها‪ ،‬وف ٌ‬
‫عل ٌ‬
‫المنهج المثلث يعني ببساطة أنه ينتقل بالجغرافيا من مرحلة المعرفة‬
‫إلى مرحلة التفكير‪ ،‬من جغرافيا الحقائق المرصوصة إلى جغرافيا‬
‫الفكار الرفيعة‪.1438‬‬
‫وكانت رؤية جمال حمدان للعلقة بين النسان والطبيعة في‬
‫المكان والزمان متوازنة؛ فل ينحاز إلى طرف على حساب الخر‪..‬‬
‫حا في كتابه العظيم "شخصية مصر"‪ ،‬والذي تبرز فيه‬ ‫يظهر ذلك واض ً‬
‫نظرته الجغرافية المتوازنة للعلقة بين النسان المصري والطبيعة‬
‫ون أساسي للطبيعة المصرية ‪ -‬بصفة‬ ‫بصفة عامة‪ ،‬و"النيل" – كمك ّ‬
‫خاصة‪ ،‬وكيف أفضت هذه العلقة إلى صياغة الحضارة المصرية على‬
‫الوجهين‪ :‬المادي والروحي‪.1439‬‬

‫آثاره وإنجازاته‪:‬‬
‫كان لعبقرية جمال حمدان ونظرته العميقة الفضل – بعد توفيق‬
‫الله تعالى – في الوصول إلى كثير من التحليلت والراء التي‬
‫اسُتغرَِبت وقت إفصاحه عنها‪ ،‬إل أن اليام أكدتها بعد ذلك؛ فقد أدرك‬
‫بنظره الثاقب كيف أن تفكك الكتلة الشرقية واقع ل محالة‪ ،‬وكان‬
‫ذلك عام )‪1388‬هق ق ‪1968‬م(‪ ،‬فإذا الذي تنبأ به يتحقق بعد إحدى‬
‫وعشرين سنة‪ ،‬عام )‪1409‬هق ق ‪1989‬م(‪ ،‬حيث حدث الزلزال الذي‬
‫هز أركان أوروبا الشرقية‪ ،‬وانتهى المر بانهيار أحجار الكتلة الشرقية‪،‬‬
‫وتباعد دولها الوروبية عن التحاد السوفيتي‪ ،‬ثم تفكك وانهيار التحاد‬
‫السوفيتي نفسه عام )‪1411‬هق ق ‪1991‬م(‪.1440‬‬
‫وفي عام )‪1387‬هق ق ‪1967‬م( أصدر "جمال حمدان" كتابه‬
‫المهم )اليهودود أنثروبولوجًيا( والذي أثبت فيه أن إليهود المعاصرين‬
‫دعون أنهم ينتمون إلى فلسطين ليسوا هم أحفاد إليهود الذين‬ ‫الذين ي ّ‬
‫خرجوا من فلسطين قبل الميلد‪ ،‬وإنما ينتمي هؤلء إلى إمبراطورية‬
‫‪ 1437‬انظر‪ :‬جمال حمدان‪ :‬شخصية مصر‪ :‬المقدمة‪.‬‬
‫‪ 1438‬جمال حمدان‪ :‬شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان ص ‪ .9‬كتاب الهلل ق العدد ‪ 509‬ق‬
‫مايو ‪.1991‬‬
‫‪ 1439‬انظر عبد الحميد حمدان‪ :‬جمال حمدان وتراثه الفكري ص ‪.14،13‬‬
‫‪ 1440‬جمال حمدان‪ :‬إستراتيجية الستعمار والتحرير ص ‪ .199 ،198‬دار الشرق القاهرة‬
‫"الخزر التترية" التي قامت بين "بحر قزوين" و"البحر السود"‪،‬‬
‫واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلدي‪ ..‬وهذا ما أكده بعد ذلك‬
‫"آرثر بونيسلر" مؤلف كتاب )القبيلة الثالثة عشرة( الذي صدر عام‬
‫)‪1396‬هق ق ‪1976‬م(‪.1441‬‬
‫ة‬
‫ة وعشرين كتاًبا وتسع ً‬ ‫وقد ترك "جمال حمدان" تسع ً‬
‫ة‪ ،‬يأتي في مقدمتها كتاب "شخصية مصر‪ ..‬دراسة‬ ‫وسبعين بحًثا ومقال ً‬
‫في عبقرية المكان"‪ ،‬الذي أصدر الصياغة الولى له سنة )‪1387‬هق‬
‫‪1967‬م( في نحو ‪ 300‬صفحة من القطع الصغير‪ ..‬ثم تفرغ لنجاز‬
‫صياغته النهائية لمدة عشر سنوات‪ ،‬حتى صدر مكتمل ً في أربعة‬
‫مجلدات خلل السنوات بين )‪1401‬هق ق‪1981‬م‪1404/‬هق ق ‪1984‬م(‬
‫‪.1442‬‬
‫الجوائز والوفاة‪:‬‬
‫حظي "جمال حمدان" بالتكريم داخل مصر وخارجها‪:‬‬
‫فقد حصل عام )‪1379‬هق ق ‪1959‬م( على جائزة‬ ‫•‬
‫الدول التشجيعية في العلوم الجتماعية‪..‬‬
‫منح جائزة الدولة التقديرية في العلوم‬ ‫فقد ُ‬ ‫•‬
‫الجتماعية سنة )‪1406‬هق ق ‪1986‬م(‬
‫وحصل كذلك على وسام العلوم من الطبقة الولى‬ ‫•‬
‫عن كتابه )شخصية مصر( عام )‪1408‬هق ق ‪1988‬م(‪.‬‬
‫كما منحته الكويت جائزة التقدم العلمي سنة )‬ ‫•‬
‫‪1413‬هق ق ‪1992‬م( قبيل وفاته ‪..‬‬
‫‪1443‬‬

‫لقد كان بمقدور "جمال حمدان" أن يحيا حياة منعمة‪ ،‬وأن‬


‫عرضت عليه كثيٌر من‬ ‫يتقلب في صنوف الجاه والرفاهية؛ فقد ُ‬
‫المناصب التي يلهث وراءها كثير ممن يبتغون المغنم من وراء العلم‪،‬‬
‫وكان يقابل هذه العروض بالعتذار؛ فقد كان للنقطاع إلى العلم لذة‬
‫ونعيم ل ُيحسن تذوقهما إل أمثال "جمال حمدان"‪ ..‬فقد تم‬
‫ترشيحه ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬عام )‪1403‬هق ق ‪1983‬م( لتمثيل مصر‬
‫في إحدى اللجان المهمة بالمم المتحدة‪ ،‬ولكنه اعتذر عن ذلك‪ ،‬رغم‬
‫المحاولت المتكررة لثنائه عن العتذار‪ .‬كما اعتذر بأدب ورقة عن‬
‫عضوية مجمع اللغة العربية‪ ،‬وكذلك عن رئاسة جامعة الكويت… وغير‬
‫ذلك الكثير‪.‬‬
‫وفي الخامس والعشرين من شوال ‪1413‬هق ق السابع عشر‬

‫‪ 1441‬مصطفى عبد الجواد مقال جمال حمدان ‪ :‬صاحب مقولة ' الصراع الحتمي بين أمريكا‬
‫وأوروبا ' عام ‪ 1991‬موقع وكالة نبأ الخبارية الرابط ‪:‬‬
‫?‪http://www.islamicnews.net/Document/ShowDoc08.asp‬‬
‫‪DocID=60066&TypeID=8&TabIndex=2‬‬
‫‪ 1442‬عبد الحميد صالح حمدان‪ :‬جمال حمدان وتراثه الفكري ص ‪.9،10‬‬
‫‪ 1443‬انظر عبد الحميد حمدان‪ :‬جمال حمدان وتراثه الفكري ص ‪. 10‬‬
‫من إبريل ‪1993‬م‪ ،‬انتقل العالم الجليل الدكتور "جمال حمدان"‬
‫ب غامض للغاز في منزله‪ ..1444‬وكما شّيد‬ ‫إلى جوار ربه‪ ،‬إثر تسر ٍ‬
‫تراثه العلمي الخالد في هدوء فقد شاء الله له أن يرحل في هدوء‪..‬‬
‫ويبقى على الجيال اللحقة أن ُتحسن اللتفات إلى النماذج العلمية‬
‫الشامخة التي يمتلئ بها تاريخ أمتنا القديم والحديث على حد ّ سواء‪..‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في حياة عبد‬


‫القدير خان‬
‫]‪1935‬م ‪[ ... -‬‬
‫ميلده ونشأته‬
‫هو "عبد القدير" بن عبد الغفور خان‪ .‬وُل ِد َ في ولية بهوبال‬
‫الهندية سنة ‪1935‬م‪ ،‬لسرة متواضعة‪ ،‬هاجرت إلى كراتشي في‬
‫سا تقاعد عام‬ ‫جنوب باكستان‪ ،‬كان أبوه عبد الغفور خان مدر ً‬
‫‪1935‬م‪ ،‬وتفّرغ لتربية ولده ورعايته‪ ،‬وكانت أمه "زليخة بيجوم"‬
‫امرأة تقّية مؤمنة تتقن اللغة ال ُْرِدية والفارسية‪1445‬؛ وبعد سنوات تخّرج‬
‫م توفي والده‬‫عبد القدير خان في مدرسة الحامدية الثانوية ببوبال‪ ،‬ث ّ‬
‫سنة ‪.14461957‬‬
‫تخرج عبد القدير في كلية العلوم بجامعة كراتشي سنة‬
‫‪1960‬م‪ ،‬وتقدم لوظيفة مفتش للوزان والقياسات )وظيفة حكومية‬
‫من الدرجة الثانية(‪ ،‬وكان عبد القدير أحد اثنين قُب ُِلوا بهذه الوظيفة‬
‫دم‪ ،‬وكان راتبه مائتي روبية في الشهر‪ ،‬ولكّنه‬ ‫من بين مئتي متق ّ‬
‫ضا لما يتقاضاه مديره من رشاوى ‪ ،‬ولما لم يجد‬
‫‪1447‬‬
‫استقال منها رف ً‬
‫وظيفة قّرر السفر إلى الخارج لستكمال دراسته‪ ،‬وتقدم لعدة‬
‫جامعات أوروبية؛ وانتهى به المر في جامعة برلين التقنية؛ فأتم دورة‬
‫تدريبية لمدة عامين في علوم المعادن‪ ،‬ثم نال الماجستير سنة‬
‫‪1967‬م من جامعة )دلفت( التقنية بهولندا‪ ،‬ثم درجة الدكتوراه من‬
‫جامعة )لوفين( البلجيكية سنة ‪1972‬م‪ ،1448‬وشغل بعدها وظيفة كبير‬
‫خبراء المعادن بشركة ‪ FDO‬الهندسية الهولندية‪ ،‬والتي كانت يومها‬
‫على صلة وثيقة بمنظمة "اليورنكو" المهتمة بتخصيب اليورانيوم‪.1449‬‬

‫‪ 1444‬عبد الحميد حمدان‪ :‬جمال حمدان وتراثه الفكري ص ‪.10‬‬


‫‪ 1445‬نادية العوضي‪ ،‬عبد القدير خان‪ ..‬أبو القنبلة الباكستانية‪http://www.islamonline.net/iol- ،‬‬
‫‪arabic/dowalia/mashaheer-Sep-2000/mashaheer-5.asp‬‬
‫‪ 1446‬السابق نفسه‪.‬‬
‫‪ 1447‬السابق نفسه‪.‬‬
‫‪ 1448‬السابق نفسه‪.‬‬
‫‪http://www.islamicnews.net/Document/ShowDoc07.asp?1449‬‬
‫‪DocID=62847&TypeID=7&TabIndex=3‬‬
‫وحين فجرت الهند القنبلة النووية عام ‪1974‬م كتب الدكتور‬
‫عبد القدير خان رسالة إلى رئيس وزراء الباكستان في حينها "ذو‬
‫الفقار علي بوتو" قال فيها‪ :‬إنه حتى يتسّنى للباكستان البقاء كدولة‬
‫ي"‪ .‬ولم يستغرق الرد على هذه‬ ‫مستقلة فإن عليها إنشاء برنامج نوو ّ‬
‫من دعوة للدكتور عبد القدير‬‫الرسالة سوى عشرة أيام‪ ،‬والذي تض ّ‬
‫خان لزيارة رئيس الوزراء بالباكستان‪ ،‬والتي تمت بالفعل في ديسمبر‬
‫عام ‪1974‬م‪ .‬قام رئيس الوزراء بعدها بالتأكد من أوراق اعتماده عن‬
‫طريق السفارة الباكستانية بهولندا‪ ،‬وفي لقائهما الثاني عام ‪1975‬م‬
‫طلب منه رئيس الوزراء عدم الرجوع إلى هولندا؛ وذلك حتى يرأس‬
‫برنامج الباكستان النووي‪.1450‬‬
‫عاد خان إلى إسلم أباد سنة ‪1976‬م؛ حيث كّلفه ذو الفقار‬
‫ق‬ ‫ُ‬
‫علي بوتو بتأسيس "البرنامج النووي المدني"‪ ،‬وفي ‪1981‬م أطل ِ َ‬
‫على المختبر الرئيسي للبحاث الذرية الباكستانية "مختبرات أبحاث‬
‫الهندسة" في )كاهوتا( ُقرب إسلم أباد اسم "مختبرات خان للبحاث"‬
‫ما له‪.‬‬
‫تكري ً‬
‫وفي عام ‪ 1998‬أصبح خان )أبو القنبلة النووية الباكستانية(‬
‫بطل ً قومًيا عندما أعلنت جمهورية باكستان السلمية رسمًيا نفسها‬
‫قوة نووية بعد أسابيع من جارتها الهند عقب امتلك السلح النووي‪.1451‬‬
‫م أعماله‬
‫أه ّ‬
‫بدأ أعماله العظيمة؛ عندما عهد إليه بتأسيس المفاعل النووي‬
‫الباكستاني؛ فأحدث ثورة إدارية على السلوب المتبع عادة ً من فكرة‪،‬‬
‫ثم قرار‪ ،‬ثم دراسة جدوى‪ ،‬ثم بحوث أساسية‪ ،‬ثم بحوث تطبيقية‪ ،‬ثم‬
‫عمل نموذج مصغر‪ ،‬ثم إنشاء المفاعل ال َّولي‪ ،‬والذي يليه هندسة‬
‫المفاعل الحقيقي‪ ،‬وبناؤه وافتتاحه‪ ..‬حيث قام فريق الدكتور خان‬
‫بعمل كل هذه الخطوات دفعة واحدة‪ ،‬وتمكنت معامل كاهوتا من‬
‫شر الطاقة المستخدمة في الساليب‬ ‫ابتكار تقنية تستهلك ع ُ ْ‬
‫القديمة!!‬
‫ثم قام الفريق الباكستاني بقيادة عبد القدير خان بتصميم‬
‫النابذات‪ ،‬وتنظيم خطوط النابيب الرئيسية‪ ،‬وحساب الضغوط‪،‬‬
‫وتصميم البرامج والجهزة اللزمة للتشغيل‪ ،‬حتى حين اشتد الهجوم‬
‫على البرنامج النووي‪ ،‬وط ُب ّقَ الحظر والعقوبات القتصادية‪ ،‬بحيث لم‬
‫يتمكن الفريق من شراء ما يلزمه من مواد‪ ..‬بدأ المشروع في إنتاج‬
‫ما عن العالم الخارجي في‬ ‫جميع حاجياته بحيث أصبح مستقل ً تما ً‬
‫صناعة جميع ما يلزم المفاعل النووي‪.‬‬

‫‪ 1450‬نادية العوضي‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪.‬‬


‫‪ 1451‬انظر‪http://www.islamicnews.net :‬‬
‫وج الدكتور عبد القدير خان حياته العلمية وخدماته الجليلة‬
‫وقد ت َ ّ‬
‫لوطنه بالرد على تفجير الهند النووي في مايو سنة ‪1998‬م‪ ،‬بتفجير‬
‫نووي مماثل‪ ،‬بعد أسبوعين فقط من التفجير الهندي‪ ،‬لتنضم باكستان‬
‫إلى النادي النووي‪.‬‬
‫ل أعظم إنجاز لعبد القدير خان يتمثل في تم ّ‬
‫كنه من إنشاء‬ ‫ولع ّ‬
‫مفاعل "كاهوتا النووي" في ستة أعوام فقط؛ بينما يستغرق إنشاؤه‬
‫ما في مجال‬ ‫عقدين من الزمان ‪ -‬في أكثر دول العالم تقد ً‬ ‫عادة ً َ‬
‫ن المختبرات التي أشرف عليها خان أنتجت‬ ‫الصناعة النووية ‪ ،-‬كما أ ّ‬
‫صب في العالم!!‬ ‫أفضل يورانيوم مخ ّ‬
‫وامتدت أنشطة معامل خان البحثية لتشمل بعد ذلك برامج‬
‫دفاعية مختلفة؛ حيث تصنع صواريخ وأجهزة عسكرية أخرى كثيرة‬
‫وأنشطة صناعية وبرامج وبحوث تنمية‪ ،‬وأنشأت معهدا للعلوم‬
‫الهندسية والتكنولوجية ومصنًعا للحديد والصلب‪ ،‬كما تدعم‬
‫المؤسسات العلمية والتعليمية‪.1452‬‬
‫جوائز‬
‫نال عبد القدير خان ثلث عشرة ميدالية ذهبية من معاهد‬
‫ومؤسسات قومية مختلفة‪ ،‬كما نال أعلى وسام مدني تمنحه دولة‬
‫ما آخر عام‬
‫الباكستان "وسام هلل المتياز" سنة ‪1989‬م‪ ،‬ووسا ً‬
‫‪1996‬م تقديًرا لسهاماته المهمة في العلوم والهندسة‪.‬‬
‫من مؤّلفاته‬
‫نشر عبد القدير خان سنة ‪1981‬م كتاب "القنبلة السلمية"‬
‫بالنجليزية‪ ،‬وهو الكتاب الذي أحدث ثورة كبرى في الغرب‪ ،‬كما نشر‬
‫‪1453‬‬
‫حوإلى ‪ 150‬بحًثا علمًيا في مجلت علمية عالمية‬
‫منهجه العلمي والفكري‬
‫خر عبد القدير خان علمه وفكره في سبيل قضية السلم‬ ‫س ّ‬
‫الساسية‪ ،‬والخروج بالمسلمين من مهاوي الذلة إلى مراقي العزة‬
‫بين المم‪ ،‬ولعبد القدير خان منهجه العلمي والفكري الخاص؛ الذي‬
‫ينبني على مجموعة من السس‪ ،‬أهمها السيادة السلمية الخالصة‬
‫على أراضي السلم‪ ،‬وإخراج المحتل من أراضي المسلمين‪.‬‬
‫ويرى خان أنه ل مكان لليأس في نفس المسلم أًيا كانت‬
‫الظروف المحيطة‪ ،‬وأن العرب هم قادة الركب ورأس الحربة‬
‫والصف المامي‪ ،‬فيقول‪" :‬إن رسالتي إلى المة في هذا الوقت هي‬
‫أن تتحد في مواجهة عدوها‪ ،‬ومسؤولية النهوض تقع أول ً على عاتق‬
‫الناس الذين يواجهون العدو‪ ،‬وهم العرب والمسلمون‪ ،‬فهم يطلقون‬

‫‪ 1452‬نادية العوضي‪http://www.islamonline.net/iol-arabic/dowalia/mashaheer-Sep- ،‬‬


‫‪2000/mashaheer-5.asp‬‬
‫‪) 1453‬عبد القدير خان‪ ..‬أبو القنبلة الباكستانية( من إسلم أون لين‪.‬‬
‫سا من عرق آخر أو‬‫النار على العرب أنفسهم‪ ،‬إنهم ل يقتلون أنا ً‬
‫جنس أو دين آخر‪ ،‬فعلى العرب أن يتحّركوا أو ً‬
‫ل"‪.‬‬
‫وما زال العالم الكبير د‪ .‬عبد القدير خان يقدم لوطنه وأمته كل‬
‫ما‪.‬‬
‫ما يستطيع‪ ،‬ويخدم السلم بعلمه‪ ،‬وهذا سمت العالم المسلم دائ ً‬

‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في حياة أحمد‬


‫زويل‬
‫أحمد زويل‪ ..‬رائد كيمياء الفيمتو‬
‫لول مرة يمكننا أن نلحظ بالتصوير البطيء ما يحدث خلل أي‬
‫تفاعل كيميائي‪ ،‬وبذلك نستطيع أن نشرح العديد من المعادلت‬
‫والصيغ الكيميائية الصعبة التي لم نفهمها من قبل‪ ،‬ونستطيع تفسير‬
‫أسباب حدوث بعض التفاعلت الكيميائية وأسباب عدم حدوث بعضها‪،‬‬
‫كما يمكننا تفسير سبب تأثر تلك التفاعلت من حيث سرعتها ونتائجها‬
‫بالحرارة‪.‬‬
‫إنه ميلد علم كيمياء الفيمتو "‪ "FemtoChemistry‬وفيه‬
‫تستخدم كاميرات خاصة‪ ،‬فائقة السرعة‪ ،‬لرصد حركة الجزيئات عند‬
‫نشوئها‪ ،‬وعند التحام بعضها ببعض‪ ،‬وملحظة التفاعلت الكيميائية‬
‫بسرعة "ثانية الفيمتو" وهي أقل وحدة زمنية في الثانية الواحدة!!‬
‫ويستخدم العلماء حول العالم الن "ثانية الفيمتو" في دراسة‬
‫وتحليل العديد من المواد الكيميائية بمختلف أشكالها‪ ،‬السائلة‬
‫والصلبة والغازية‪ ،‬وتفاعلتها مع بعضها البعض‪ ،‬وتغطي تطبيقاتها‬
‫العديد من المجالت‪ ،‬بدًءا من دراسة العوامل المساعدة في‬
‫التفاعلت الكيميائية‪ ،‬وكيف يتم تصميم المكونات اللكترونية‬
‫للجزيئات‪ ،‬ووصول ً إلى أدق العمليات المتعلقة بالحياة‪ ،‬مثل الطب‬
‫وكيفية تطويره في المستقبل‪..1454‬‬
‫بقي أن نعرف أن ميلد "كيمياء الفيمتو" الذي أذهل العالم‪،‬‬
‫وأحدث انقلًبا مدوًيا في كل الوساط العلمية‪ ،‬وخاصة في الكيمياء‪،‬‬
‫إضافة إلى العلوم التي تتعلق بها؛ كان على يد العالم المصري‬
‫المسلم الدكتور أحمد زويل!!‬
‫ولد زويل في ‪ 26‬فبراير سنة ‪1946‬م في مدينة دمنهور بمصر‪،‬‬
‫وتلقى فيها تعليمه ال َّولي‪ ،‬ثم حصل على بكالوريوس العلوم قسم‬
‫الكيمياء من كلية العلوم بجامعة السكندرية‪ ،‬نال بعدها درجة‬
‫الماجستير من نفس الجامعة في علم الطياف سنة ‪1969‬م ‪.‬‬
‫‪1455‬‬

‫وفي الوليات المتحدة المريكية أكمل دراساته العليا؛ فحصل‬


‫‪ 1454‬انظر هشام الحديدي‪ :‬زويل أمير الكيمياء‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬الطبعة الثانية‪2006 ،‬م‬
‫ص ‪ ،168‬تحت عنوان‪" :‬ماذا فعل زويل بالضبط؟!"‪.‬‬
‫على درجة الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا سنة ‪1974‬م‪ ،‬وهي عن‬
‫"أطياف الرنين الضوئي والمغناطيسي للكسيتونات والحالت‬
‫الموضعية في البلورات الجزيئية"‪ ،‬والكستيون ‪ -‬كما يعبر زويل ‪ -‬هو‬
‫السم الذي أعطي ليعني حركة جسيم يمكن حفره بالضوء‪.1456‬‬
‫انتقل زويل بعدها إلى جامعة بيركلي بكإليفورنيا سنة ‪1974‬م‪،‬‬
‫وعن أثر تلك الجامعة فيه يقول‪" :‬أما جامعة بيركلي فقد فتحت‬
‫الطريق أمامي للولوج في علم جديد حاسم‪ ،‬والذي قاد بدوره إلى‬
‫ضا"؛ ذلك أن تلك الجامعة‬ ‫اكتشافات علمية وتكنولوجية حاسمة أي ً‬
‫كانت تضم مجموعات بحثية مميزة‪ ،‬أكسبتها مكانة مرموقة‪ ،‬وكان‬
‫يطلق على كثير من تلك المجموعات اسم‪" :‬المجموعات فائقة‬
‫القوة"‪.1457‬‬
‫وبعد بيركلي عمل زويل أستاًذا مساع ً‬
‫دا للطبيعة الكيميائية‬
‫بمعهد كإليفورنيا التقني )كالتك( من سنة ‪1976‬م حتى عام ‪1978‬م‪،‬‬
‫ثم أستاًذا في الفيزياء الكيميائية بنفس المعهد من سنة ‪1982‬م‬
‫وحتى الن‪ ،‬ومنه خرجت أعظم إنجازاته‪.1458‬‬
‫زويل وكاميرا الفيمتو‪..‬‬
‫كانت أهم إنجازات أحمد زويل قاطبة ذلك الفتح العلمي‬
‫العظيم في مجال الكيمياء )الفيمتو ثانية(؛ فقد استطاع لول مرة في‬
‫تاريخ العلم تصوير عملية التفاعل الكيميائي التي ل تستغرق سوى‬
‫لحظة من مليون بليون جزء من الثانية؛ فغير بذلك علم الكيمياء‬
‫الحديثة!! فلم يكن العالم يعرف بالضبط ماذا يحدث أثناء تلك‬
‫اللحظة‪ ،‬ول الوقت الذي تستغرقه‪ ،‬وسلم العلماء طيلة السنوات‬
‫الخمسين الماضية بالصورة التقريبية التي وضعها "ماكس بورن"‬
‫و"روبرت أوبنهايم" بما يسمى باللحظة النتقإلية التي تنفك خللها‬
‫الروابط الكيميائية للجزئيات‪ ،‬وتقرن بجزئيات مادة أخرى‪ ،‬ويولد عنها‬
‫جزئ جديد لمادة جديدة‪ .‬وهذا الكتشاف من شأنه أن يستخدم بكثرة‬
‫في العديد من المجالت‪ ،‬مثل الطب‪ ,‬والليكترونيات‪ ,‬وعلوم الفضاء‪,‬‬
‫والكيمياء‪ ,‬والفيزياء وغيرها‪.‬‬
‫صمم زويل كاميرا جزئية لرصد الذرات وهي في حالة حركة‪،‬‬
‫وتصوير عملية التفاعل التي تحدث في وقت مثل ثانية واحدة في‬
‫فيلم يستغرق عرضه ‪ 23‬مليون سنة‪ ،1459‬وقام بنشر تجاربه في ذلك‬
‫مع فريقه في مجلة العلوم المريكية‪ ،‬والتي نشرتها تحت عنوان‪:‬‬
‫"ميلد الجزئيات"‪ ،‬وقد نوهت لجنة جائزة نوبل إلى هذا البحث بقولها‪:‬‬
‫‪ 1455‬انظر هشام الحديدي‪ :‬زويل أمير الكيمياء ص ‪ ،34‬وأحمد زويل‪ :‬عصر العلم‪ ،‬دار الشروق‪،‬‬
‫الطبعة السادسة‪2007 ،‬م ص ‪ 29‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 1456‬انظر أحمد زويل‪ :‬عصر العلم ص ‪. 82‬‬
‫‪ 1457‬انظر المصدر السابق ص ‪.91‬‬
‫‪ 1458‬انظر هشام الحديدي‪ :‬زويل أمير الكيمياء ص ‪ ،34‬وأحمد زويل‪ :‬عصر العلم ص ‪،101‬‬
‫‪.116‬‬
‫‪ 1459‬انظر هشام الحديدي‪ :‬زويل أمير الكيمياء ص ‪.35‬‬
‫"والن فإنه بإمكاننا أن نرى حركة الذرات المنفردة كما نتصورها‪،‬‬
‫ومن ثم لم تعد تلك الجسيمات أشياء غير مرئية‪.1460"..‬‬
‫وعن نتيجة ميلد هذا العلم الجديد يقول زويل‪" :‬وترتب على‬
‫ذلك ميلد علوم جديدة‪ ،‬مثل "الفمتوكيمياء" و"الفمتوبيولوجيا"‪ ،‬وفي‬
‫ذلك الوقت تولدت قناعة بأن عالم "الفمتوثانية" )جزء من مليون‬
‫بليون جزء من الثانية‪ ،‬أو واحد على واحد أمامه ‪ 15‬صفًرا من الثانية(‬
‫سوف يؤدي إلى اكتشافات وتطورات علمية وتكنولوجية تساهم في‬
‫ترويض المادة وقياس الزمن"‪.1461‬‬
‫ضا بالقول‪" :‬هذا الكتشاف‬ ‫ضا على اكتشافه أي ً‬ ‫كما يعّلق أي ً‬
‫أسهم في تطوير دراسات الهندسة الوراثية والعلوم الطبية‪ ...‬ولزال‬
‫المركز القومي لعلوم الليزر والجزئ بالوليات المتحدة المريكية‬
‫يقوم بتجارب في النظام العصبي والبروتين والعيون وأساسيات‬
‫الخلية التي يطلق عليها )‪ (DNA‬لتطبيق هذا الفتح العلمي‪ ...‬ونتيجة‬
‫لذلك رصدت اليابان لعلم "الفامتو" ما يقدر بق ‪ 250‬مليون دولر؛‬
‫لنهم يفكرون في تحديث التجارب اللكترونية‪ ،‬وتصنيع مواد خام‬
‫جديدة‪ ،‬وتحقيق الفائدة في التصال المرئي"‪.1462‬‬
‫ولعل السر في وصول زويل إلى ما وصل إليه هو ما ظهر في‬
‫قوله‪" :‬إن نشوة العلم‪ ،‬والفرصة المتاحة لكشف أشياء جديدة‪،‬‬
‫ما في البحث العلمي‪ ،‬وكنت أواصل‬ ‫جعلتني مستغرًقا استغراًقا تا ً‬
‫العمل ليل نهار‪ ،‬طوال الربع والعشرين ساعة‪ ،‬باستثناء فترات‬
‫قصيرة آخذ فيها بعض النوم"‪.1463‬‬
‫واتضح أكثر حين قال‪" :‬حب العلم‪ ،‬والفتتان بالمعرفة‪ ،‬وعشق‬
‫تلك الجزئية من العلم التي هي بين يديك‪ ،‬والستغراق فيها بكل‬
‫ما أن‬‫ل بأن يحملك إلى شطآن معرفية لم تحلم يو ً‬ ‫جوارحك‪ ،‬كفي ٌ‬
‫تطأها قدماك" ‪.‬‬
‫‪1464‬‬

‫زويل‪ ..‬والتفوق عالمّيا‬


‫نال زويل جائزة بنيامين فرانكلين لنجازاته وإسهاماته العلمية‬
‫لخدمة العلم والعلوم‪ ,‬عن اكتشافه العلمي المذهل هذا‪ ،‬وكان ذلك‬
‫في سنة ‪1998‬م‪ .1465‬ثم وفي عام ‪1990‬م تم تكريمه بالحصول على‬
‫منصب الستاذ الول للكيمياء في معهد لينوس بولينج‪.‬‬
‫ثم ُتوج أخيًرا بمنحه جائزة نوبل للكيمياء سنة ‪1999‬م؛ وفي‬
‫هذه المناسبة قال البروفيسور بنجت نوردن رئيس لجنة جائزة نوبل‬
‫للكيمياء بالكاديمية السويدية للعلوم‪" :‬إن استخدام زويل لتقنية‬
‫أحمد زويل‪ :‬عصر العلم ص ‪.129 ،128‬‬ ‫‪1460‬‬

‫أحمد زويل‪ :‬عصر العلم ص ‪. 129‬‬ ‫‪1461‬‬

‫هشام الحديدي‪ :‬زويل أمير الكيمياء ص ‪.177‬‬ ‫‪1462‬‬

‫أحمد زويل‪ :‬عصر العلم ص ‪.113‬‬ ‫‪1463‬‬

‫هشام الحديدي‪ :‬زويل أمير الكيمياء ص ‪.52‬‬ ‫‪1464‬‬

‫أحمد زويل‪ :‬عصر العلم ص ‪.150‬‬ ‫‪1465‬‬


‫الليزر فائقة السرعة )فمتوسكوب( يمكن وضعه في سياقه التاريخي‬
‫جنًبا إلى جنب مع استخدام جإليليو للتلسكوب‪ ،‬والذي صوبه شطر‬
‫كل شيء مضى في القبة السماوية الزرقاء‪ ،‬أما زويل فقد صوب‬
‫ليزر الفيمتو ثانية على كل شيء يتحرك في عالم الجزئيات‪ .‬لقد‬
‫انتقل زويل بتلسكوبه هذا إلى آفاق العلم"‪.1466‬‬
‫وإنها لحقيقة؛ فقد وصل زويل بعلم الكيمياء إلى ما كان يبدو‬
‫مستحيل ً قبل ظهوره‪ ،‬وحين يشير علم الكيمياء إلى رجلين كان لهما‬
‫السهام الكبر في بنائه واستعلئه طيلة القرن العشرين‪ ،‬فليس غير‬
‫لينوس بولينج )الحائز على جائزة نوبل(‪ ،‬وأحمد زويل‪.‬‬
‫وهو الرأي الذي يجمله السير جون ميرج توماس )المدير‬
‫السابق للمؤسسة الملكية لبريطانيا العظمى‪ ،‬ورئيس ماستر‬
‫بيترهاوس بجامعة كمبردج( بقوله‪" :‬إن زويل هو خليفة الكيميائي‬
‫العظم في القرن العشرين لينوس بولينج؛ فقد منح جائزة نوبل في‬
‫الكيمياء منفرًدا من أجل إنجاز علمي كبير ‪ -‬ابتداعه لعلم الفمتو‬
‫كيمياء الجديد‪ ،‬والذي من المحتم أن يغير من علوم القرن الحادي‬
‫والعشرين"‪.1467‬‬
‫وغير جائزة بنيامين فرانكلين وجائزة نوبل وقبلهما‪ ،‬فقد حصل‬
‫زويل على جائزة بحوث الكيمياء المتميزة )‪ (N.R.C‬ببلجيكا سنة‬
‫‪ ،1982‬واختارته الجمعية المريكية للطبيعة زميل ً لها سنة‬
‫‪1982‬م‪.1468‬‬
‫منح زويل جائزة الكسندر فون هومبولت من ألمانيا الغربية‪،‬‬ ‫و ُ‬
‫وهي أكبر جائزة علمية هناك‪ ،‬وذلك في سنة ‪1983‬م ‪ ،‬ثم جائزة‬
‫‪1469‬‬

‫الملك فيصل في العلوم والفيزياء سنة ‪1989‬م‪ ،‬وهو بذلك ُيعد أول‬
‫عربي يحصل على هذه الجائزة في العلوم أو الطب‪.1470‬‬
‫ضا جائزة )وولف(‪ ،‬والتي حصل عليها في بداية‬ ‫كما منح زويل أي ً‬
‫سنة ‪1993‬م‪ ،‬وقد جاء في الحيثيات الرسمية لمنحه الجائزة ما يلي‪:‬‬
‫"من أجل التطوير الرائد لفمتوكيمياء الليزر‪ ،‬وباستخدام الليزرات‬
‫والحزمة أو الباقات الجزيئية‪ ،‬فإن الفمتوكيمياء جعلت بالمكان رصد‬
‫تطور التفاعلت الكيميائية كما تحدث بالفعل في زمن حقيقي"‪.1471‬‬
‫ضا جائزة ويلش‪ ،‬والتي تخصصت في تقدير‬ ‫منح زويل أي ً‬ ‫ُ‬
‫النجازات التي يتوصل إليها العاِلم طوال حياته‪ ،‬وتمنح لجل‬
‫الضافات العلمية البارزة في الكيمياء‪ ،‬والهادفة لرفاهية وإسعاد‬

‫‪.22‬‬ ‫أحمد زويل‪ :‬عصر العلم ص‬ ‫‪1466‬‬

‫‪. 21‬‬ ‫أحمد زويل‪ :‬عصر العلم ص‬ ‫‪1467‬‬

‫أمير الكيمياء ص ‪. 35‬‬ ‫انظر هشام الحديدي‪ :‬زويل‬ ‫‪1468‬‬

‫‪. 116‬‬ ‫أحمد زويل‪ :‬عصر العلم ص‬ ‫‪1469‬‬

‫‪. 142‬‬ ‫أحمد زويل‪ :‬عصر العلم ص‬ ‫‪1470‬‬

‫‪. 148‬‬ ‫أحمد زويل‪ :‬عصر العلم ص‬ ‫‪1471‬‬


‫الجنس البشري‪.1472‬‬
‫وفي سنة ‪1993‬م منحته الجامعة المريكية في مصر أول‬
‫دكتوراه فخرية‪ ،‬وفي سنة ‪1995‬م منحه الرئيس حسني مبارك وسام‬
‫العلوم والفنون من الطبقة الولى‪ ،‬وبعد تسلمه جائزة نوبل منحه‬
‫مبارك قلدة النيل العظمى ‪ -‬أعلى وسام مصري‪ ،‬وأصدرت هيئة‬
‫ما لنجازاته العلمية‪ ،‬كما‬
‫البريد المصرية طابعين يحملن صورته‪ ،‬تكري ً‬
‫ضا على المدرسة‬ ‫ُ‬
‫أطلق اسمه على شارع كبير في دمنهور‪ ،‬وأي ً‬
‫الثانوية التي تخرج فيها‪.1473‬‬
‫في نهاية ذلك كله‪ ،‬وبعد ما كان من إنجازات وتتويجات‪ ،‬ترى‬
‫زويل يقف صادًقا مع نفسه معبًرا عن حقيقة أكيدة‪ ،‬وقاعدة أصيلة‬
‫ل‪" :‬كل ما أعرفه‪ :‬هو أنني عاشقٌ لعلمي‪ ،‬ول يوجد عندي رغبة في‬ ‫قائ ً‬
‫التوقف والستمتاع بالمجد" ‪.‬‬
‫‪1474‬‬

‫أحمد زويل‪ :‬عصر العلم ص ‪. 148‬‬ ‫‪1472‬‬

‫أحمد زويل‪ :‬عصر العلم ص ‪. 160 ،151 ،150‬‬ ‫‪1473‬‬

‫أحمد زويل‪ :‬عصر العلم ص ‪. 87‬‬ ‫‪1474‬‬


‫الفصل الخامس‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫علماء الحياة غير المسلمين‬

‫ويضم هذا الفصل المباحث التالية‪:‬‬


‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في حياة جيمس‬
‫وات‬
‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫أديسون‬
‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫ماركوني‬
‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في حياة ألبرت‬
‫أينشتين‬
‫المبحث الخامس‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫جورج سارتون‬
‫المبحث السادس‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫ستيفن هوكينج‬
‫المبحث الول‪ :‬دور العلم في حياة جيمس‬
‫وات‬
‫)‪1819 -1736‬م(‬
‫اسمه مطبوع على لمبات الضاءة )‪ ..(Watt‬ويعني وحدة قياس‬
‫القوة‪ ،‬وهو ما أطلقته هيئة الطاقة البريطانية في سنة ‪1882‬م على‬
‫عم من شهرته‪ ..‬كما أنه أول من‬ ‫ما له؛ مما د ّ‬
‫وحدة القياس تكري ً‬
‫استخدم مصطلح )حصان( للتعبير عن قوة الماكينات‪ ..‬وهو ي َُعد بحق‬
‫رائد الثورة الصناعية!!‬
‫إنه جيمس وات‪ ،‬وُل ِد َ في بريطانيا سنة ‪1736‬م‪ ،‬وكان منصرًفا‬
‫عن دروسه إلى إشباع رغبته في علوم الميكانيكا والرياضيات‪ ,‬حتى‬
‫إنه قرأ في صغره كثيًرا من كتبها‪.‬‬
‫والحقيقة أن جيمس وات لم يكن هو مخترع المحرك البخاري‪،‬‬
‫وإنما كان توماس نيوكومن قد حقق هذا النجاز قبل مولد جيمس‬
‫بربع قرن‪ ،‬أما المحركات التي اخترعها وات فكانت ذات تأثير أكبر‪،‬‬
‫حيث اقتصر استخدام محرك نيوكومن في أعمال التعدين فقط وضخ‬
‫الماء من المناجم‪ ،‬بينما استخدمت المحركات التي صنعها جيمس في‬
‫كل الصناعات‪.1475‬‬
‫وإنه إذا كان نيوكومن قد اشتهر لختراعه محر ً‬
‫كا محدود‬
‫حا لكل الصناعات؛‬
‫الستخدام‪ ،‬فإن جيمس وات هو من جعله متا ً‬
‫فكانت الثورة الصناعية‪.‬‬
‫وقد بدأ اهتمام جيمس باللت البخارية في سنة ‪1764‬م عندما‬
‫ب من وات أن‬ ‫كان يصلح إحدى اللت البخارية القديمة‪1476‬؛ فقد ط ُل ِ َ‬
‫يصلح أحد محركات نيوكومن وكان يستخدم في أغراض التدريس في‬
‫جامعة جلسجو‪ ،‬وكانت نقطة الضعف التي اكتشفها وات في المحرك‬
‫هي تسخين ثم تبريد أسطوانات المحرك في كل دورة‪ ،‬وهذا يهدر‬
‫ضا‪ ،‬وهو الوقت الذي تستغرقه‬ ‫وقوًدا بدون داع‪ ،‬كما أنه يهدر الوقت أي ً‬
‫السطوانة لترتفع حرارتها بدرجة كافية لنتاج البخار؛ ما يقلل عدد‬
‫مرات الدوران؛ وبناء على ذلك بدأ وات في عمل التعديلت لتحسين‬
‫تصميم محرك نيوكومن‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه صادف الحل في سنة ‪1765‬م‬
‫ب تذكاريّ في المكان‬ ‫ضعَ نص ٌ‬
‫بينما كان يتجول في جلسجو‪ ،‬وقد وُ ِ‬
‫الذي توصل فيه وات إلى ذلك الحل الذي أّدى إلى حدوث الثورة‬
‫الصناعية!!‬
‫‪ 1475‬انظر مايكل هارت‪ :‬الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله‪ ،‬ترجمة أنيس منصور‪،‬‬
‫الشخصية رقم ‪ 25‬ص ‪ ،103‬أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪. 87‬‬
‫‪ 1476‬مايكل هارت‪ :‬الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله ص ‪. 104‬‬
‫فقد توصل وات إلى المفتاح الذي قاده إلى رفع كفاءة‬
‫المحرك‪ ،‬وهو ضغط البخار في حاوية خاصة؛ مما يسمح للسطوانة‬
‫والمكبس بالبقاء في حالة سخونة دائمة‪..1477‬‬
‫يقول مايكل هارت‪ :‬من النصاف أن يقال‪ :‬إنه هو المخترع‬
‫الحقيقي لللة البخارية‪.1478‬‬
‫دل في سنة ‪1768‬م‪ ،‬وعند ذلك بدأ‬ ‫صنع وات المحرك المع ّ‬
‫ول‬‫عمله التجاري‪ ،‬وذلك بالمشاركة مع جون ريبوك؛ وذلك لكي يم ّ‬
‫وقها‪ ،‬ثم بعد ذلك حصلت الشركة على براءة‬ ‫إنتاج المحركات ويس ّ‬
‫اختراع تحت اسم )طريقة مبتكرة جديدة لتقليل استهلك الوقود‬
‫والبخار في المحركات النارية( وبدءوا في بيعه لصحاب مناجم‬
‫الفحم‪ ،‬ولكن لسوء الحظ في سنة ‪1772‬م أفلس ريبوك‪ ،‬لكنه مع‬
‫حا مع ماثيو‬
‫كن وات من أن يدخل في شراكة جديدة أكثر نجا ً‬ ‫ذلك م ّ‬
‫بولتون في عام ‪1775‬م‪.‬‬
‫وسرعان ما تقدم الشريكان الجديدان وات وماثيو بولتون إلى‬
‫البرلمان بطلب جديد ُيم ّ‬
‫كنهم من أن يكونوا المنِتج والبائع الوحيد‬
‫ما‪ .‬وقد أدى نجاح‬ ‫لمحرك وات في البلد لمدة خمسة وعشرين عا ً‬
‫تلك الفكرة إلى أن يكونا محتكرين للمحرك‪ ،‬وإلى نمو الثروة‬
‫الشخصية لوات نفسه‪.‬‬
‫ولم تمنع براءة الختراع وات من إدخال تعديلت جديدة على‬
‫اللة البخارية‪ ،‬بما يجعلها أكثر فاعلية‪ ،‬وقد وصل إلى أفضل صورة لها‬
‫في سنة ‪1790‬م‪ ،‬وقد مكنته تلك التعديلت من أن يجعل المحرك‬
‫يدور على محور؛ إذ كانت المحركات التي صنعها من قبل هو‬
‫ونيوكومن ذات حركة من أسفل إلى أعلى‪ ،‬وهي مفيدة فقط في ضخ‬
‫المياه خارج المناجم‪ ،‬لكن فائدتها كانت أقل في أماكن أخرى‪ ،‬وعندما‬
‫أصبحت الحركة دائرية داخل المحرك أمكن استخدامه في صناعات‬
‫أخرى‪.1479‬‬
‫ضا يحدثنا مايكل هارت فيقول‪:‬‬
‫وعن أهمية اللة البخارية أي ً‬
‫باختراع اللة البخارية تزايدت خطورة وأهمية الثورة الصناعية في كل‬
‫اتجاه؛ فقد تضاعفت الطاقة الضرورية للنتاج‪ ،‬وبذلك تضاعف النتاج‬
‫نفسه‪.‬‬
‫ويتابع فيقول‪ :‬ول شك أن الحظر على البترول الذي فرضته‬
‫حرب أكتوبر سنة ‪1973‬م قد جعل الغرب يدرك خطورة النقص‬
‫المفاجيء للطاقة‪ ،‬وكيف أن هذا النقص من الممكن أن يربك‬
‫أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪. 87‬‬ ‫‪1477‬‬

‫الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله ص ‪. 104‬‬ ‫‪1478‬‬

‫انظر أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪. 88‬‬ ‫‪1479‬‬
‫الصناعة والنتاج‪ ،‬وهذا يجعلنا ندرك أهمية اختراع وات بالنسبة للثورة‬
‫الصناعية في أوروبا‪.1480‬‬
‫وبالضافة إلى فوائد اللة البخارية في الصناعة‪ ،‬فقد ظهرت لها‬
‫فوائد أخرى؛ حيث استطاع المركيز دابانز أن يستخدم اللة البخارية‬
‫في دفع أحد الزوارق‪ ،‬وفي سنة ‪1804‬م صنع ريتشارد تريفيك أول‬
‫طائرة بخارية‪ ،‬ولكن هذه الختراعات لم تنجح تجارًيا‪ ،‬ولكن بعد‬
‫عشرات السنين تطورت القاطرات والزوارق البخارية‪ ،‬وأحدثت‬
‫وحدها ثورة على الرض وفي الماء‪.1481‬‬
‫ت تزامن مع الثورة‬‫وقد كان لنشوب الثورة الصناعية في وق ٍ‬
‫المريكية والفرنسية الثر في عدم إحساس الناس بتأثيرها عليهم؛‬
‫يقول مايكل هارت‪ :‬وعلى الرغم من أن الثورة الصناعية لم تتضح‬
‫خطورتها في ذلك الوقت‪ ،‬فإننا الن ندرك بوضوح كيف أنها أثرت‬
‫على الحياة اليومية لكل الناس في العالم‪ ،‬أكثر مما كان لثورتي‬
‫أمريكا وفرنسا‪ ،‬ولذلك فجيمس وات يعتبر من أكبر الشخصيات في‬
‫التاريخ‪.1482‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬دور العلم في حياة‬


‫أديسون‬
‫جم الختراعات‬
‫من ْ َ‬
‫توماس أديسون‪َ ..‬‬
‫)‪1931 – 1847‬م(‬
‫ن أمي هي التي صنعتني؛ لنها كانت تحترمني وتثق في‪،‬‬ ‫"إ ّ‬
‫أشعرتني أني أهم شخص في الوجود‪ ،‬فأصبح وجودي ضرورّيا من‬
‫أجلها‪ ،‬وعاهدت نفسي أل أخذلها كما لم تخذلن قَ ّ‬
‫ط"‪..‬‬ ‫ِ‬
‫كلمات تحمل في طياتها حجر الزاوية والركن الركين في‬
‫صناعة المخترع المريكي "أديسون" صاحب الق ‪ 1093‬اختراع‬
‫فذة‪ ،‬واللف الخرى التي احتوت عليها مفكرته ولم يمهله العمر‬ ‫المن ّ‬
‫لتنفيذها‪ ،‬كما أنها تفسر البدايات الولى له‪ ،‬والتي لم تكن بدايات‬
‫عادية‪ ..‬وربما لن أمه كانت غير عادية!!‬

‫مايكل هارت‪ :‬الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله ص ‪. 105‬‬ ‫‪1480‬‬

‫المصدر السابق ص ‪. 105‬‬ ‫‪1481‬‬

‫الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله ص ‪. 105‬‬ ‫‪1482‬‬


‫البدايات الولى‪ ..‬ودور الم‬

‫في مدينة ميلن بولية أوهايو المريكية‪ ،‬وفي سنة ‪1847‬م وُل ِد َ‬
‫توماس ألفا أديسون‪ ،‬ومن المفارقات العجيبة أنه ُأخرج من‬
‫المدرسة بعد ثلثة شهور فقط من دخوله؛ حيث وجده ناظر المدرسة‬
‫فا عقلًيا‪!!1483‬‬ ‫طفل ً بلي ً‬
‫دا‪ ،‬ومتخل ً‬
‫وهنا جاء دور أمه التي لم تغب عنها المشكلة‪ ،‬فقامت بسحب‬
‫توماس من المدرسة‪ ،‬وواسته بكل ما تملك‪ ،‬وبدأت تعلمه بنفسها في‬
‫البيت‪ ،‬وتنمي بداخله حب الدراسة‪ ،‬حتى كان أول مشروع له هو‪:‬‬
‫"قراءة كل كتاب في البيت"‪ ،‬وكان ذلك المشروع هو بداية الطريق‬
‫نحو التعليم الذاتي‪ ،‬وكان البيت يحوي مكتبة كبيرة في مختلف أنواع‬
‫العلوم‪.1484‬‬
‫دا من تعليمه ودفعه للتعلم ومساعدته في ذلك‪،‬‬ ‫لم تم ّ‬
‫ل أمه أب ً‬
‫يقول أحد جيرانهم‪" :‬كنت أمر عدة مرات يومًيا أمام منزل آل‬
‫أديسون‪ ,‬وكثيًرا ما شاهدت الم وابنها توماس جالسين في الحديقة‬
‫أمام البيت"‪ ,‬فقد كانت تخصص بعض الوقت يومًيا للتدريس للفتى‬
‫الصغير وتعليمه‪.‬‬
‫ما ما؛ إذ تراه‬
‫وإن ذلك الصنيع لم يرحل عن ذاكرة أديسون يو ً‬
‫يقول عن أمه‪" :‬لقد اكتشفت مبكًرا في حياتي أن الم هي أطيب‬
‫كائن على الطلق؛ لقد دافعت أمي عني بقوة عندما وصفني أستاذي‬
‫بالفاسد‪ ,‬وفي تلك اللحظة عزمت على أن أكون جديًرا بثقتها‪ ,‬كانت‬
‫ت‬
‫شديدة الخلص واثقة بي كل الثقة‪ ,‬ولول إيمانها بي لما أصبح ُ‬
‫دا"‪.‬‬
‫عا أب ً‬
‫مختر ً‬
‫وقد بان ذلك التأثر الشديد بأمه حين وفاتها سنة ‪1871‬م؛ إذ‬
‫تركت تلك الصدمة في نفسه تأثيرات عميقة‪ ,‬حتى كان يصعب عليه‬
‫الحديث عنها دون أن تمتلئ عيناه بالدموع!!‬
‫ما واستكمال ً لدورها‪ ،‬فإنه لما كان للطفل )أديسون(‬‫وإتما ً‬
‫أسئلته الكثيرة‪ ،‬والتي باتت تتخطى إمكاناتها التي ما فتئت تمنحه‬
‫سا ليعلمه‪ ..‬لكن المعلم لم‬
‫إياها‪ ،‬ما كان منها إل أن انتدبت له مدر ً‬
‫يستطع أن يجارى رأس توماس وسرعة منطقه في تفنيد النظريات‪،‬‬
‫كا عند أديسون العقيدة الكيدة وهي‪" :‬التجريب‬ ‫فكان أن رحل تار ً‬
‫أفضل شيء في طريق العلم"‪.‬‬

‫‪ 1483‬انظر مايكل هارت‪ :‬الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله‪ ،‬ترجمة أنيس منصور‪،‬‬
‫الشخصية رقم ‪ 38‬ص ‪. 163‬‬
‫‪ 1484‬انظر محمد المنسي قنديل‪ :‬عظماء في طفولتهم‪ ،‬دار المعارف ‪ -‬القاهرة ص ‪. 97‬‬
‫ومن يومها بدأ نبوغ أديسون الطفل يظهر‪ ..‬ولم يمانع قط في‬
‫بذل أي مجهود لكسر أي تحد ٍ مهما كان!!‬
‫ليس هناك عائق للتفوق!!‬
‫كانت عائلة أديسون عائلة فقيرة‪ ،‬ومن ثم فقد أقنع توماس‬
‫والديه بأن يسمحوا له بالعمل‪ ،‬فكان يبيع الجرائد في محطات‬
‫القطار‪..1485‬‬
‫ولما كانت هناك حرب أهلية أمريكية مشتعلة ابتدأت سنة‬
‫‪1861‬م استغل فرصة عمله في محطة القطار‪ ،‬والتي كان فيها مقر‬
‫التلغراف الرئيسي الذي يتم إرسال الخبار إليه والمراسلت‪ ،‬ليقوم‬
‫بطباعة منشور بسيط فيه أحدث تطورات الزمة ويبيعه للركاب‪..‬‬
‫فكان بمثابة أول جريدة من نوعها في العالم تكتب وتطبع وتوزع في‬
‫قطار‪ ،‬وقد سماها‪."Grand Trunk Herald" :‬‬
‫وحين انتصر إبراهام لينكولن قام أديسون بجمع معلومات عنه‬
‫وطبعها في كتيب صغير‪ ،‬وّزعه على ركاب القطارات‪..1486‬‬
‫ولم يكن الفقر هو المعوق الوحيد في حياة أديسون‪ ،‬وإنما كان‬
‫ضا‪ ،‬وقد تمّثل ذلك في فقدانه لحاسة السمع‪ ..‬وكما تغّلب‬
‫المرض أي ً‬
‫على الفقر‪ ،‬فإن أديسون ربما اعتبر هذا الصمت الذي يلف الكون‬
‫حوله فرصة لتنمية قدراته على التركيز!! ولطالما وجد لنفسه وسيلة‬
‫للتغلب على أية مشكلة والستفادة منها‪.‬‬
‫وفي إحدى مرات تواجده في محطة القطار رأى أديسون طفل ً‬
‫يكاد يسقط على القضبان‪ ،‬فقفز ‪ -‬وهو المراهق الشاب ‪ -‬لينقذه ولم‬
‫ده أن هذا الطفل هو ابن رئيس المحطة‪ ،‬وكمكافأة لهذه‬‫خل َ ِ‬
‫ي َد ُْر ب َ‬
‫ّ‬
‫الشجاعة النادرة عّينه رئيس المحطة في مكتب التلغراف‪ ،‬وعلمه‬
‫قواعد لغة مورس!!‬
‫التطوير في العمل‪ ..‬بداية الختراعات‬
‫كان تعيين أديسون في مكتب التلغراف وتعليمه لغته بمثابة فتح‬
‫كبير له؛ إذ كانت فرصته الكبرى في أن يجرب تطوير هذا الشيء‬
‫الذي بين يديه‪ ،‬والذي نتج عنه ولدة أول اختراعاته‪ ..‬إنه "التلغراف‬
‫اللي"‪ ،‬والذي ل يحتاج إلى شخص في الجهة الخرى لستقباله‪ ،‬بل‬
‫يترجم العلمات بنفسه إلى كلمات مرة أخرى‪.‬‬

‫انظر أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪.131‬‬ ‫‪1485‬‬

‫انظر محمد المنسي قنديل‪ :‬عظماء في طفولتهم ص ‪.97‬‬ ‫‪1486‬‬


‫تقدم أديسون في عمله وانتقل إلى مدينة بوسطن بولية‬
‫ماساشوستس‪ ،‬وأسس مختبره هناك في عام ‪1876‬م‪ ،‬واخترع برقية‬
‫دم في إرسال العديد من البرقيات عبر خط واحد‪ ،‬ثم‬ ‫آلية ُتستخ َ‬
‫اخترع الق]كرامفون[ الذي يقوم بتسجيل الصوت ميكانيكًيا على‬
‫اسطوانة من المعدن‪ ،‬وبعدها بسنتين قام باختراعه العظيم "المصباح‬
‫الكهربائي"‪.1487‬‬
‫ومما يستحق النظر هنا هو أن أديسون أجرى ألف تجربة فاشلة‬
‫قبل الحصول على المصباح النهائي أو الحقيقي‪ ،‬وكان تعليقه في كل‬
‫ضا وسيلة فاشلة في الوصول‬ ‫مرة‪" :‬هذا عظيم‪ ..‬لقد أثبتنا أن هذه أي ً‬
‫للختراع الذي نحلم به"‪ ..‬قالها نحو ألف مرة‪ ،‬ولم يتوقف‪ ،‬ولم يم ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫ولم ُيحَبط!!‬
‫ضا أن أديسون لم يكن أول من اخترع المصباح‬ ‫والحقيقة أي ً‬
‫الكهربائي‪ ،‬إنما سبقه إلى ذلك كثيرون‪ ،‬كما أن المصابيح الكهربائية‬
‫دمت لضاءة شوارع باريس‪ ،‬ولكن مصباح أديسون مع نظام‬ ‫خ ِ‬
‫قد است ُ‬
‫توزيع الكهرباء الذي اخترعه‪ ،‬جعل المصابيح الكهربائية ‪ -‬كما يقول‬
‫مايكل هارت ‪ -‬صالحة للستعمال في كل البيوت‪ ،‬وقامت شركة‬
‫أديسون سنة ‪1882‬م بإنتاج الكهرباء لمدينة نيويورك‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫انتشرت الكهرباء في أمريكا والعالم‪.1488‬‬
‫وبعد دخول الكهرباء إلى كل البيوت‪ ،‬وضع أديسون الساس‬
‫الحقيقي لتطور الصناعة في العالم‪ ،‬كما أّدت السس التي وضعها‬
‫لتوزيع الكهرباء على البيوت والمصانع إلى أن أصبحت الكهرباء حدًثا‬
‫ما في تاريخ النسان‪.‬‬‫عظي ً‬
‫وقد أسهم أديسون في تطوير كاميرات السينما‪ ،‬وأسهم في‬
‫صا أنه هو الذي اخترع الكربون الذي ينقل‬
‫اختراع التليفون‪ ،‬خصو ً‬
‫الصوت‪ ،‬كما أسهم في اختراع أجهزة التلغراف واللة الكاتبة‪،‬‬
‫واختراع البطاريات الجافة والميكروفونات‪.‬‬
‫ضا سنة ‪1882‬م أنه يمكن أن تتحرك الكهرباء‬ ‫ومن اكتشافاته أي ً‬
‫في داخل "فراغ" بين سلكين غير متصلين‪ ،‬وقد أدى هذا الكتشاف‬
‫ما‪ ،‬ووضع أساس صناعة‬ ‫إلى اختراع اللمبات الكهربية المفرغة تما ً‬
‫اللكترونيات‪.1489‬‬
‫وفي عام ‪1887‬م نقل أديسون مختبره إلى ويست أورنج في‬
‫ولية نيو جيرسي‪ ،‬وفي عام ‪1888‬م قام باختراع ‪ kinetoscope‬وهو‬

‫انظر أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪. 132‬‬ ‫‪1487‬‬

‫مايكل هارت‪ :‬الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله ص ‪. 164‬‬ ‫‪1488‬‬

‫انظر المصدر السابق ص ‪. 165‬‬ ‫‪1489‬‬


‫أول جهاز لعمل الفلم‪ ،‬كما قام باختراع بطارية تخزين قاعدية‪ ،‬وفي‬
‫عام ‪1913‬م أنتج أول فيلم سينمائي صوتي‪.‬‬
‫وإبان الحرب العالمية الولى اخترع نظام لتوليد البنزين‬
‫ومشتقاته من النباتات‪ ،‬وخلل هذه الفترة ع ُّين مستشاًرا لرئيس‬
‫الوليات المتحدة المريكية‪.‬‬
‫وقد أكمل أديسون بعد ذلك اختراعاته ليسجل أكثر من ‪1000‬‬
‫براءة اختراع!! وهو عدد ل يصدقه العقل‪.‬‬
‫وعن أسباب عظمة أديسون في اكتشاف هذا السيل الهائل من‬
‫صا في سن‬ ‫الختراعات يقول مايكل هارت‪ :‬إنه أنشأ لنفسه معمل ً خا ً‬
‫مبكرة‪ ،‬وقد عّين في هذا المعمل عدًدا من المساعدين‪ ،‬وكان هذا‬
‫جا للمعامل التي أقامتها المؤسسات الكبرى بعد ذلك‪.‬‬ ‫المعمل نموذ ً‬
‫قا‪ :‬ومما ل شك فيه أن إقامة هذا النوع من‬ ‫ثم يستطرد مايكل معل ً‬
‫المعامل المنظمة والتي يعمل فيها عدد كبير من الناس بروح الفريق‪،‬‬
‫ضا‪ ،‬وهو‬‫هو من أعظم اختراعات أديسون‪ ،‬ومن علمات العصر أي ً‬
‫الختراع الوحيد الذي ل يستطيع أن يسجله‪ ،‬ول أن يحتكره !!‬
‫‪1490‬‬

‫ح وسام‬
‫من ِ َ‬
‫أما الوسمة والميدإليات التي حصل عليها‪ ،‬فقد ُ‬
‫ألبرت للجمعية الملكية من بريطانيا العظمى‪ ،‬وفي سنة ‪1928‬م‬
‫استلم الميدإلية الذهبية من الكونجرس‪.‬‬
‫ح جائزة نوبل سنة ‪1912‬م بالشتراك مع زميله‬ ‫من ِ َ‬
‫وكان قد ُ‬
‫ن رْفض تسل أ ْ‬
‫ن يقترن اسمه باسم أديسون جعلهما لم‬ ‫تسل‪ ،‬إل أ ّ‬
‫يحصل على الجائزة !!‬
‫‪1491‬‬

‫وإنه إذا كان أديسون قد توفي سنة ‪1931‬م عن أربٍع وثمانين‬


‫سنة‪ ،‬فإنه سيظل مؤسس التطور الحديث الذي نعيشه‪ ..‬وإنه إذا كان‬
‫العالم يذكره على أنه مخترع المصباح الكهربائي‪ ،‬فإن اختراعاته‬
‫دا بأقل منه أهمية!!‬
‫الكثيرة الخرى ليست أب ً‬

‫مايكل هارت‪ :‬الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله ص ‪. 164‬‬ ‫‪1490‬‬

‫أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪. 131‬‬ ‫‪1491‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬دور العلم في حياة‬
‫ماركوني‬
‫ماركوني‪ ..‬رائد تطوير الرسال البرقي اللسلكي‬
‫)الراديو(‬
‫)‪1937 -1874‬م(‬
‫كما أن هناك اكتشافات رائعة يقوم بها الكثيرون من النابغين‬
‫ضا من هؤلء العظماء من يجيدون الستفادة‬ ‫العظماء‪ ،‬فإن هناك أي ً‬
‫من الكتشافات التي لغيرهم‪.‬‬
‫وذلك هو ما ينطبق على جويلمو ماركوني‪ ،‬مخترع الراديو!!‬
‫وُل ِد َ ماركوني في مدينة بولونيا بإيطإليا سنة ‪1874‬م لسرة‬
‫غنية‪ ،‬وقد تعّلم في بيته‪ ،‬وعندما بلغ العشرين من عمره قرأ تجارب‬
‫هينريش هرتز التي قام بها قبل ذلك بسنوات‪ ،‬وتجارب هرتز قد أثبتت‬
‫وجود موجات كهربية مغناطيسية غير مرئية ‪ ،‬وهذه الموجات تتحرك‬
‫في الهواء بسرعة الضوء‪ .‬وآمن ماركوني بأن هذه الموجات يمكن‬
‫استخدامها في إرسال إشارات صوتية إلى مسافات بعيدة دون حاجة‬
‫إلى أسلك‪ ،‬وهذا يجعل التصال أسهل من استخدام التلغراف‪ ،‬فعن‬
‫طريق هذه الموجات يمكن أن يبعث رسائل إلى السفن في‬
‫المحيط‪.1492‬‬
‫وقد استفاد ماركوني من ممتلكات عائلته طويلة المساحة )ميل‬
‫ونصف(‪ ،‬وذلك كي يجري تجاربه عن إرسال الموجات اللسلكية في‬
‫مكان خاص ل ينازعه فيه أحد‪ ..‬وبحلول سنة ‪1895‬م‪ ،‬وبعد سنة‬
‫واحدة من العمل الشاق‪ ،‬كان قد صنع أجهزة معقدة يمكنها أن تذيع‬
‫وتستقبل وتغطي مساحة ممتلكات العائلة‪.1493‬‬
‫وبينما كان ماركوني مقتنًعا بأهمية ما توصل إليه خلل تجاربه‪،‬‬
‫دا في إيطإليا مقتنعين بذلك!! ولذلك قرر‬
‫كان هناك القليلون ج ً‬
‫النتقال إلى لندن في محاولة للبحث عن دعم أعماله هناك‪ ،‬وذلك‬
‫في سنة ‪1896‬م‪.‬‬
‫حا كبيًرا‪ ،‬حيث اهتمت الحكومة‬
‫وفي لندن حقق ماركوني نجا ً‬
‫وهيئة البريد والجيش بالستخدامات العملية التي يمكن جنيها من‬
‫وراء هذه التكنولوجيا الجديدة خلل عدة سنوات‪ ،‬وكان ذلك بعد أن‬

‫‪ 1492‬انظر مايكل هارت‪ :‬الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله‪ ،‬ترجمة أنيس منصور‪،‬‬
‫الشخصية رقم ‪ 41‬ص ‪. 175‬‬
‫‪ 1493‬انظر أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪. 159‬‬
‫قام ماركوني بأول عرض له للبث اللسلكي بين بريطانيا وفرنسا في‬
‫عام ‪1899‬م‪ ،‬وبعد هذا العرض أصبح محط أنظار العامة والخاصة‪.‬‬
‫وخلل هذه الفترة انشغل ماركوني في إقامة شركة تعتني‬
‫بمخترعاته وسميت شركة )ماركوني للسلكي المحدودة( في عام‬
‫‪1900‬م‪ ،‬وكان قد أجرى تجارب لسلكية ناجحة على سفن تابعة‬
‫للبحرية البريطانية‪.1494‬‬
‫نجح ماركوني بعد ذلك في تجربة بث لسلكي باستخدام شفرة‬
‫مورس عبر الطلنطي )ألفي ميل(؛ فقضى بذلك على كل الشكوك‬
‫حوله وحول نجاح فكرته‪ ،‬وأسكت كل المشككين في أعماله‪ ،‬ونال‬
‫شهرة عالمية‪.‬‬
‫ل مستحي ٌ‬
‫ل‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن‬ ‫وكان الكثيرون يعتقدون بأن ذلك عم ٌ‬
‫وس سطح الكرة الرضية عائق كبير‪ ،‬لكن ماركوني كان يعتقد أن‬ ‫تق ّ‬
‫ذلك ممكًنا‪ .‬وقبل ذلك الحدث وبعده كان ماركوني قد حصل على‬
‫عدة براءات لختراعه الذي صنعه بنفسه وأدخل عليه عدة‬
‫تعديلت‪.1495‬‬
‫وقد ظهرت أهمية هذا الختراع عندما وقع حادث غرق السفينة‬
‫ضا السفينة الشهيرة )تايتانك( سنة‬
‫)ريبابليك( سنة ‪1909‬م‪ ،‬وأي ً‬
‫‪1912‬م‪ ،‬وكان ذلك من بين ما أسكت المشككين في مدى فائدة‬
‫ل اثنان من المسئولين عن البث اللسلكي‬ ‫اختراع ماركوني؛ فقد ظ ّ‬
‫على السفينة تيتانك )وكان المسئول عن اللسلكي على أية سفينة‬
‫مى‪ :‬رجل ماركوني( في حجرة البث يرسلن استغاثة باستخدام‬ ‫ُيس ّ‬
‫اللسلكي‪ ،‬حتى تحطم جزء السفينة الموجود به غرفة اللسلكي‪ ،‬مما‬
‫تسبب في إنقاذ عدد ٍ من الركاب‪ ،‬وقد نجا أحدهما وهو هارولد بريد‪،‬‬
‫والتحق بعد ذلك بالبحرية الملكية‪ ،‬ولقي الخر حتفه مع الغارقين‪،‬‬
‫وهو جاك فيليبس‪.‬‬
‫وقد أدت هذه الحوادث إلى صدور القوانين التي تقتضي بأن‬
‫يكون بسفن الركاب أجهزة لسلكية‪.1496‬‬
‫ما قام به‪ ،‬وذلك سنة‬
‫نال ماركوني جائزة نوبل في الفيزياء ع ّ‬
‫‪1909‬م‪.‬‬
‫وفي السنة التالية نجح في أن يبعث برسائل لسلكية بين‬
‫أيرلندا والرجنتين‪ ،‬أي عبر مسافة ستة آلف ميل‪ .‬وهذه الرسائل‬
‫‪ 1494‬انظر المصدر السابق ص ‪. 160 ،159‬‬
‫‪ 1495‬أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪. 160‬‬
‫ضا‪" :‬الموسوعة العربية العالمية" على‬
‫‪ 1496‬انظر المصدر السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪ ،‬وانظر أي ً‬
‫شبكة النترنت‪ ،‬الرابط‪:‬‬
‫ماركوني!‪http://www.mawsoah.net/gae_portal/maogen.asp?main2&articleid=!0_131910‬‬
‫جميًعا قد انتقلت بطريقة مورس‪ ،‬أي نقطة وشرطة‪ ،‬وكان ماركوني‬
‫ضا عبر هذه المسافات الهائلة‪ ،‬ولكن‬
‫يتصور أنه يمكن نقل الصوت أي ً‬
‫ذلك لم يتحقق إل في سنة ‪ ،1915‬ولم يعرف العالم الذاعة على‬
‫نطاق تجاري واسع إل في ‪1920‬م‪.‬‬
‫وقد قضى بقية حياته منشغل ً في تطوير تقنية الراديو‬
‫ظا في تقنية الموجات القصيرة؛‬ ‫ما ملحو ً‬
‫قق تقد ً‬
‫)المذياع(‪ ،‬وقد ح ّ‬
‫مكنت من إقامة شبكة عالمية للذاعة في عام ‪1927‬م‪.‬‬
‫مم ماركوني أول جهاز هاتف يعمل‬ ‫وفي سنة ‪1932‬م ص ّ‬
‫بالموجات الدقيقة )الموجات المتناهية الصغر أو المايكروويف(‪..‬‬
‫وفي السنوات الخيرة من حياته قام بتصوير استخدام الموجات‬
‫صر‪ ،‬وت ُوُّفي ماركوني في روما سنة‬
‫ق َ‬
‫القصيرة والموجات شديدة ال ِ‬
‫‪1937‬م‪.1497‬‬
‫ومادام ماركوني قد اكتسب شهرته كمخترع فإن أهميته‬
‫تتناسب مع أهمية الراديو وما أسفر عنه من نتائج مهمة؛ فمن المؤكد‬
‫دا في التصالت الحديثة‪ ،‬فالراديو يستخدم في‬ ‫أن الراديو مهم ج ً‬
‫الذاعة والخبار ولخدمة البوليس وللبحاث العلمية‪ ..‬وعلى الرغم من‬
‫رع قبل ذلك بقرن ونصف قرن‪ ،‬فإن التلغراف ل‬ ‫أن التلغراف قد اخت ُ ِ‬
‫يستطيع أن يحل محل الراديو‪ ،‬فالراديو يربط السفن والسيارات‬
‫والطائرات وسفن الفضاء‪.1498‬‬
‫وتجدر الشارة إلى أن اختراعات ماركوني‪ ،‬وخاصة فيما يتصل‬
‫بالتجارب الخاصة بالموجات القصيرة والموجات الدقيقة )المايكرو‬
‫ويف( قد ساعدت على فتح الطريق أمام حدوث ثورة في مجال‬
‫التصال اللكتروني بالموجات الدقيقة!!‬

‫‪ 1497‬انظر مايكل هارت‪ :‬الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله ص ‪ ، 176‬والموسوعة‬
‫العربية العالمية‪.‬‬
‫‪ 1498‬انظر مايكل هارت‪ :‬الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله ص ‪. 177‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬دور العلم في حياة ألبرت‬
‫أينشتين‬
‫)‪1955 -1879‬م(‬
‫ن الثالثة‪ ،‬وفي شبابه كان يقوم‬‫لم يتمكن من الكلم حتى س ّ‬
‫بجهد كبير ليجاد المفردات المناسبة للتعبير‪ ،‬وكان يجد صعوبة في‬
‫المدرسة‪ ،‬وخاصة في مادة الرياضيات‪ ،‬ولم يكن قادًرا على التعبير‬
‫قد أنه أبله‪ ..‬إلى أن بدءوا يكتشفون‬
‫عن نفسه كتابة‪ ،‬حتى إنه كان ُيعت َ‬
‫إنجازاته!!‬
‫وُل ِد َ أينشتاين في مدينة )أولم( في ألمانيا‪ ،‬وأكمل دراسته في‬
‫سويسرا‪ ،‬وتجّنس بالجنسية السويسرية‪ ،‬ودرس في معاهدها‪ ،‬ثم بعد‬
‫إعلن نظرية النسبية الولى انتقل إلى العمل في ألمانيا في جامعتها‪،‬‬
‫ثم مديًرا لمعهد المبراطور الفلكي‪.1499‬‬
‫وي َُعد أينشتاين أعظم علماء القرن العشرين وأكثرهم شهرة‪،‬‬
‫وقد ارتبط اسمه بنظرية النسبية‪ ،‬وهناك نظريتان تحملن هذا السم‪:‬‬
‫واحدة أعلنها سنة ‪1905‬م وهي نظرية "النسبية الخاصة"‪ ،‬وكان قد‬
‫كر فيها وهو شاب دون العشرين‪ ،‬والثانية أعلنها سنة‬ ‫ف ّ‬
‫‪1915‬م واسمها "النسبية العامة"‪ ،‬وكلتاهما في غاية التعقيد‪ ،‬ول‬
‫يستطيع أي إنسان أن يشرحهما في مجلة أو لعامة الناس مهما أوتي‬
‫من القدرة على التوضيح‪.1500‬‬
‫ل؛ فيقول‪ :‬ولكن‬ ‫وفي تبسيط ذلك يضرب مايكل هارت مث ً‬
‫حا فهو واضح الغموض‪،‬‬ ‫سوف أضرب مثل ً على ذلك‪ ،‬وإن لم يكن واض ً‬
‫أو هو دليل واضح على صعوبة وغموض هذه النظرية‪ ،‬المثل‪ :‬لنفرض‬
‫دا عن‬‫أن سفينة فضاء انطلقت بسرعة مائة ألف ميل في الثانية بعي ً‬
‫الرض‪ ،‬والذي يراقبها من الرض‪ ،‬والذي يراقب الرض من السفينة‬
‫ما‪ ،‬وإذا انطلقت سفينة أخرى بسرعة‬ ‫سوف تتطابق معلوماتهما تما ً‬
‫دا عن الرض‪ ،‬فإن الذي يرقبها‬ ‫مائة وثمانين ألف ميل في الثانية بعي ً‬
‫من الرض ورائد السفينة الذي يرقب بعدها من الرض ستكون‬
‫ما‪.‬‬
‫معلوماتهما متطابقة تما ً‬
‫ن رائد السفينة الولى سيلحظ أن السفينة الثانية تسبقه‬ ‫ولك ّ‬
‫بثمانين ألف ميل في الثانية ‪ -‬هذا ما نقوله نحن‪ ،‬ولكن نظرية‬
‫أينشتاين تؤكد أن هذا خداع‪ ،‬وأن الحقيقة أن السفينة الثانية تسبقها‬
‫بمائة ألف ميل في الثانية‪ ،‬كيف؟ هذا هو لغز الحقيقة التي أرهقت‬
‫‪ 1499‬انظر أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪.161‬‬
‫‪ 1500‬المصدر السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪ ،‬ومايكل هارت‪ :‬الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله‪،‬‬
‫ترجمة أنيس منصور‪ ،‬الشخصية رقم ‪ 10‬ص ‪.45‬‬
‫العلماء في القرن العشرين‪ ،‬ولم تثبت صحتها إل بعد ذلك بعشرات‬
‫السنين عندما رصد الفلكيون كسوف الشمس من أماكن مختلفة في‬
‫العالم‪.1501‬‬
‫ضا نظريات أخرى هّزت الرياضيات والفيزياء‪ ،‬فمن‬ ‫ولينشتاين أي ً‬
‫اكتشافاته المهمة في الفيزياء قانون معادلة الطاقة والكتلة‪ ،‬وبهذه‬
‫المعادلة يمكن حساب كمية الطاقة المنطلقة من ذرة يورانيوم‬
‫بمعلومية كتلتها‪.‬‬
‫ضا اكتشافه لظاهرة كهربائية‪ ،‬وهي‬
‫ومن اكتشافات أينشتاين أي ً‬
‫ظاهرة انبعاث إلكترونات من أسطح الفلزات نتيجة سقوط ضوء ذي‬
‫تردد ٍ مناسب عليها‪ ،‬وقد أثبت أن الضوء في هذه الحالة كالجسيمات‪.‬‬
‫وهو صاحب المعادلة المشهورة التي تقول‪:‬‬
‫الطاقة = الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء!‬
‫وهذه المعادلة تقيس بالضبط كمية الطاقة التي تنطلق من ذرة‬
‫يورانيوم‪ ،‬أي عندما تتحول الذرة إلى طاقة حرارية‪!1502‬‬
‫وفي سنة ‪1921‬م حصل أينشتاين على جائزة نوبل في‬
‫الفيزياء؛ تقديًرا لبحاثه عن الظاهرة الكهروضوئية‪.‬‬
‫شَر‬
‫ولينشتاين أبحاث كثيرة‪ ،‬من أهمها‪) :‬معنى النسبية( الذي ن ُ ِ‬
‫شَر سنة ‪1932‬م‪.1503‬‬ ‫سنة ‪1923‬م‪ ،‬وكتاب )ُبناة الكون( ون ُ ِ‬
‫وأينشتاين هو أول من طلب إلى الحكومة المريكية أن تعجل‬
‫بإكمال القنبلة الذرية قبل أن يهتدي إليها اللمان‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه ندم على‬
‫ذلك فيما بعد!‬
‫ولنه يهودي فقد هرب من النازية سنة ‪1933‬م إلى أمريكا‪،‬‬
‫وحصل على الجنسية المريكية‪ ،‬وظل أستاًذا في جامعة برنستون‬
‫حتى وفاته سنة ‪1955‬م‪.1504‬‬
‫وقد ذكرنا قصة هذا الرجل مع اختلفنا الشديد معه في آرائه‬
‫فا كثيًرا مع دولة إسرائيل‪ ،‬وصهيونًيا‬
‫السياسية؛ فقد كان يهودًيا متعاط ً‬
‫متطرًفا‪ ،‬وكان من أكبر من أّيدوا إقامة دولة إسرائيل على أرض‬
‫فلسطين‪ ،‬وقد تمكن من جمع دعم مإلى كبير من كل أنحاء العالم‬
‫للعصابات إليهودية الثلث التي شاركت في بناء دولة إسرائيل‪ ،‬ونظير‬

‫مايكل هارت‪ :‬الخالدون مائة ص ‪. 46‬‬ ‫انظر‬ ‫‪1501‬‬

‫مايكل هارت‪ :‬الخالدون مائة ص ‪. 46‬‬ ‫انظر‬ ‫‪1502‬‬

‫أكرم عبد الوهاب‪ 100 :‬عالم غيروا وجه العالم ص ‪. 161‬‬ ‫انظر‬ ‫‪1503‬‬

‫مايكل هارت‪ :‬الخالدون مائة ص ‪. 47 ،46‬‬ ‫انظر‬ ‫‪1504‬‬


‫ذلك طلب منه اليهود أن يكون أول رئيس لدولتهم الغاصبة لكنه‬
‫رفض‪ ..‬فذكرنا قصته العلمية لنأخذ العبرة والعِ َ‬
‫ظة منها‪ ،‬والحكمة‬
‫ضاّلة المؤمن‪..‬‬

‫المبحث الخامس‪ :‬دور العلم في حياة‬


‫جورج سارتون‬
‫)‪1375 - 1302‬هـ ‪1956 - 1885 /‬م(‬
‫ُيعد ّ بحق ‪ -‬كما يصفه الدكتور إبراهيم مدكور في تقديمه لكتابه‬
‫)تاريخ العلم( ‪ -‬رأس المشتغلين بتاريخ العلم في نصف القرن الخير‪،‬‬
‫اتجه نحوه منذ عهد الشباب‪ ،‬ووقف عليه حياته كلها‪ ،‬وق ّ‬
‫ل أن تفّرغ‬
‫ث لموضوع مثلما فعل‪!!1505‬‬ ‫باح ٌ‬
‫وفي وصف بليغ وترجمة دقيقة له من قَِبل مجلة )المجمع‬
‫العلمي العربي( الذي هو عضو فيها جاء عنه النص التالي‪" :‬أخلص‬
‫الحب للعرب ولغتهم‪ ،‬وجل فضل علمائهم على العالم القديم في‬
‫تجّرد وإنصاف"‪.1506‬‬
‫إنه جورج سارتون "‪ "Georges Sarton‬المستشرق البلجيكي‪،‬‬
‫سا للتحاد الدولي‬
‫ف كبار العلماء‪ ،‬حتى كان رئي ً‬
‫والذي ي ُعَد ّ في مصا ّ‬
‫لتاريخ العلوم‪ ،‬ورئيس شرفّيا لجمعية تاريخ العلوم المريكية‪ ،‬وكان‬
‫وا في عشرة مجامع علمية دولية‪ ،‬إضافة إلى منحه ست شهادات‬ ‫عض ً‬
‫دكتوراه فخرية!!‬
‫دم إلى جامعة "جان" البلجيكية‪ ،‬حيث مسقط رأسه برسالة‬ ‫تق ّ‬
‫للدكتوراه موضوعها "ليونارد الفنسي" وكانت هذه نقطة البدء في‬
‫حياته العلمية الحافلة‪ ،‬ومنذ ذلك التاريخ أخذ يحاضر ويؤّلف في العلم‬
‫وتاريخه؛ فحاضر في بلجيكا وإنجلترا‪ ،‬ثم رحل إلى الوليات المتحدة‬
‫عام ‪1916‬م‪ ،‬فكان مدرس )تاريخ العلوم( في جامعة هارفارد )‬
‫طه إلى كبريات الجامعات‬ ‫‪ ،(1949 - 1917‬وهناك امتد ّ نشا ُ‬
‫المريكية‪ ،‬يحاضر فيها ويراسل‪ ،‬وينشيء جيل ً من الباحثين‪.‬‬

‫جورج سارتون‪ :‬تاريخ العلم‪ ،‬تصدير إبراهيم مدكور ص ‪.10‬‬ ‫‪1505‬‬

‫مجلة المجمع العلمي ‪ - 680 - 678 /31‬الزركلي‪ :‬العلم ‪.145 /2‬‬ ‫‪1506‬‬
‫وزار سارتون مصر وبلد الشام وأفريقيا الشمإلية سنة )‪1931‬‬
‫– ‪1932‬م(‪ ،‬وألقى محاضرات حول بيان )فضل العرب على التفكير‬
‫النساني(‪.1507‬‬
‫مصّنفاته‬
‫أما عن مصّنفاته فقد كتب وأّلف كثيًرا‪ ،‬ولعّله لم يكتب في‬
‫ج ّ‬
‫ل‬ ‫شيء إل في العلم وتاريخه‪ ،‬أو ما يتصل بهما عن قرب‪ ،‬وكان أ َ‬
‫كتبه‪) :‬المدخل إلى تاريخ العلوم( بالنجليزية‪ ،‬وهو يقع في خمس‬
‫ص منه تاريخ العلوم عند العرب بجزء وافر‪.‬‬
‫مجلدات‪ ،‬خ ّ‬
‫ضا‪) :‬حضانة الشرق الوسط للثقافة الغربية(‪،‬‬ ‫وله أي ً‬
‫محاضرة ترجمها إلى العربية عمر فروخ‪.‬‬
‫وله كذلك‪) :‬تاريخ العلم( الول والثاني ترجمتهما إلى العربية‬
‫لجنة نشر مؤسسة فرانكلين‪.‬‬
‫فتا‬
‫ضا قد أنشأ مجلتين إنجليزيتين علميتين‪ ،‬وُقِ َ‬
‫وكان سارتون أي ً‬
‫دا‪،‬‬
‫على تاريخ العلم‪ ،‬هما‪) :‬إيزيس( و)أوزيريس(‪ ،‬فأصدر منها ‪ 43‬مجل ً‬
‫وتخّلى عن الشراف عليهما بعد ذلك لبعض العلماء‪.1508‬‬
‫منهجه العلمي‬
‫وأما عن منهجه وطبيعة عمله في مصّنفاته؛ فيقول الدكتور‬
‫م بأوسع معاني الكلمة‪ ،‬يعرض‬ ‫إبراهيم مدكور‪" :‬وسارتون أخيًرا عال ٌ‬
‫م بأطرافها‪ ،‬الخبير بدقائقها‪ ،‬تراه‬ ‫لقضايا العلوم فيعالجها معالجة المل ِ ّ‬
‫صا‪ ،‬وأخرى طبيًبا متبحًرا‪ ،‬ثم ينتقل إلى الرياضة‬ ‫أحياًنا كيماوًيا متخص ً‬
‫ً‬
‫والفلك‪ ،‬فيبسط نظرياتهما بسطا شافًيا‪ ،‬ولم يقف عند العلوم‬
‫الطبيعية والرياضية‪ ،‬بل جاوزها إلى العلوم النسانية والجتماعية من‬
‫تاريخ وجغرافيا‪ ،‬واقتصاد واجتماع‪ ،‬وأدب وسياسة‪ ،‬باحًثا في ذلك كله‬
‫عن أصوله الدينية والخرافية‪ ،‬وموجًها إياه وجهة فلسفية عامة‪،‬‬
‫ومحاول ً ربطه بالتكنولوجيا والتطبيقات العلمية التي لجأ إليها النسان‬
‫منذ فجر التاريخ‪ ،‬ومع هذا فهو ل يؤّرخ لعلم ٍ بذاته‪ ،‬وإنما يتتّبع تطور‬
‫العلم البشري منذ بدء الخليقة إلى اليوم"‪.1509‬‬
‫والحقيقة أن أهمية سارتون في كتاباته لم تكمن فقط في‬
‫أنه أكثر المستشرقين إنصاًفا‪ ،‬وإنما لنه ل يمثل عالما واح ً‬
‫دا أو كتاًبا‬
‫دا‪ ،‬بل هو فريق ضخم من العلماء والباحثين‪ ،‬وموسوعته الضخمة‬ ‫واح ً‬
‫)تاريخ العلم( أصبحت المرجع الرئيسي والمنهل الكثر اعتماًدا لدى‬

‫انظر‪ :‬العلم ‪ ،145 /2‬تاريخ العلم‪ ،‬تصدير إبراهيم مدكور ص ‪.11 ،10‬‬ ‫‪1507‬‬

‫انظر المصدرين السابقين‪.‬‬ ‫‪1508‬‬

‫انظر‪ :‬تاريخ العلم‪ ،‬تصدير إبراهيم مدكور ص ‪.13‬‬ ‫‪1509‬‬


‫ضا لمؤّلفي‬
‫جميع المستشرقين والكتاب ومراكز البحث العلمي‪ ،‬بل أي ً‬
‫الموسوعات العامة في الغرب!!‬
‫ففي هذه الموسوعة يحدثنا سارتون عن العلم في التاريخ‬
‫النساني‪ ،‬وفي العالم كله‪ ،‬في أوربا وآسيا وأفريقيا‪ ،‬ول يترك شعًبا‬
‫دا أسهم في الحضارة النسانية ‪ -‬ولو بالقليل ‪ -‬إل ويذكر فضله‬ ‫واح ً‬
‫ودوره بالحق‪.‬‬
‫ويسير سارتون بالتطور العلمي ابتداء من عصور الفراعنة‪ ،‬ثم‬
‫الغريق‪ ،‬ثم الدولة البيزنطية‪ ،‬حتى يصل إلى ظهور الحضارة‬
‫السلمية‪.‬‬
‫سم سارتون عصور التاريخ بأسماء أبرز العلماء وأصحاب‬
‫ويق ّ‬
‫الفضل على الحضارة النسانية في عصرهم‪:‬‬
‫فالنصف الثاني من القرن الثامن الميلدي يسمى‪" :‬عصر جابر‬
‫بن حيان"‪.‬‬
‫والنصف الول من القرن التاسع الميلدي يسمى‪" :‬عصر‬
‫الخوارزمي"‪.‬‬
‫والنصف الثاني من القرن التاسع الميلدي يسمى‪" :‬عصر‬
‫الرازي"‪.‬‬
‫والنصف الول من القرن العاشر الميلدي يسمى‪" :‬عصر‬
‫المسعودي"‪.‬‬
‫والنصف الثاني من القرن العاشر الميلدي يسمى‪" :‬عصر أبو‬
‫الوفا البوزجاني"‪.‬‬
‫والنصف الول من القرن الحادي عشر يسمى‪" :‬عصر‬
‫البيروني"‪.‬‬
‫والنصف الثاني من القرن الحادي عشر يسمى‪" :‬عصر الخّيام"‪.‬‬
‫والنصف الول من القرن الثاني عشر يسمى‪" :‬عصر ابن زهر‬
‫الندلسي"‪.‬‬
‫والنصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلدي يسمى‪" :‬عصر‬
‫ابن رشد"‪.‬‬
‫والنصف الول من القرن الثالث عشر الميلدي هو‪" :‬عصر‬
‫الترجمة من العربية إلى أوروبا"‪.‬‬
‫قا‪" :‬ولهذا التقسيم‬‫يقول الدكتور أحمد شوقي الفنجري معل ّ ً‬
‫وهذه السماء مغزى كبير يجب أن ل يفوتنا؛ فمعناه أن الحضارة‬
‫السلمية كانت في تلك العصور سيدة الدنيا بغير منافس ول منازع‪،‬‬
‫مما حدا بسارتون أن يسميها بعصور العلم السلمي"‪ .1510‬وفي ذلك‬
‫يقول )سارتون( بعد أن يستعرض كل الحضارات المعاصرة من‬
‫اليابان والصين حتى إنجلترا وإسكندنافيا‪" :‬ولننتقل الن إلى السلم‪،‬‬
‫ل إلى الشمس الساطعة‪ ،‬ومن العالم‬ ‫فكأنما انتقلنا فجأة من الظ ّ ّ‬
‫النائم إلى عالم يعج بالحركة والطاقة والحيوية والنتاج"‪.1511‬‬
‫ويستطرد سارتون بأن العالم السلمي نفسه كان في سباق‬
‫مع نفسه نحو قمة الحضارة‪ ..‬فكانت هناك منافسة حضارية علمية‬
‫بين مسلمي الغرب السلمي وبين مسلمي الشرق السلمي‪ ،‬بل‬
‫كان هناك سباق بين أبناء الدولة الواحدة الذين ينتمون إلى عناصر‬
‫مختلفة‪ ،‬من عرب وفرس وأتراك وبربر وغيرهم؛ فقد دفع السلم‬
‫في هؤلء جميًعا طاقة ل تعرف الكلل‪.‬‬
‫ويرد سارتون على بعض المؤرخين الذين طغت لديهم الروح‬
‫العنصرية والصليبية على روح العلم والتفتح؛ فيقول‪ :‬إن بعض‬
‫المؤرخين يحاولون أن يبخسوا ما قدمه العرب والمسلمون للعالم‪،‬‬
‫ويصرحون بأن العرب والمسلمين نقلوا العلوم القديمة ولم يضيفوا‬
‫ل‪ :‬إن هذا الرأي خطأ جسيم؛ فقد كان‬ ‫إليها شيًئا‪ ،‬ويرد عليهم قائ ً‬
‫العرب أعظم معّلمين في العالم‪ ،‬وأنهم زادوا على العلوم التي‬
‫أخذوها ولم يكتفوا بذلك بل أوصلوها إلى درجة جديرة بالعتبار من‬
‫حيث النمو والرتقاء‪.1512‬‬
‫وقد ظهرت قضية العلم ودوره البارز في حياة سارتون حين‬
‫قال‪ :‬إنه عندما وصل في تأريخه إلى القرنين السابع والثامن‬
‫الميلديين‪ ،‬حيث بدأت الحضارة السلمية تصعد بسرعة مذهلة‪،‬‬
‫ويطغى نورها على كل ما سواها في شتى أنحاء المعمورة‪ ،‬لم‬
‫يستطع أن يكتفي بمعلومات مساعديه‪ ،‬رغم أنهم فريق‬
‫كبير من علماء التاريخ السلمي‪ ،‬فاضطر أن يدرس اللغة‬
‫سن الكبيرة حتى يستطيع بنفسه أن‬ ‫العربية في هذه ال ّ‬
‫يلحق هذا الفيض المتفجر من العلم والنتاج ‪.‬‬
‫‪1513‬‬

‫انظر أحمد شوقي الفنجري‪ :‬علوم المسلمين ص ‪.24‬‬ ‫‪1510‬‬

‫سارتون‪ :‬مقدمة في تاريخ العلم ا ‪.695/‬‬ ‫‪1511‬‬

‫‪science from homer to omar khayam. The life of science ( Essays in the history of 1512‬‬
‫‪(civilization‬‬
‫سارتون‪ :‬مقدمة في تاريخ العلم ا‪.45 /‬‬ ‫‪1513‬‬
‫وفاته‬
‫هاجة في سماء العلم وإلى أن‬
‫على أن سارتون بقي شعلة و ّ‬
‫لفظ النفس الخير‪ ،‬حتى إنه بعد أن اعتزل التدريس عام ‪1951‬م‪،‬‬
‫دة لرحلة قصيرة كي يلقي محاضرة في‬ ‫ويوم وفاته كان قد أعد ّ العُ ّ‬
‫مونتريال‪ ،‬ولكنه اضطر أن يعود من الطريق إلى منزله ليسافر‬
‫السفر الخير سنة ‪1956‬م‪.1514‬‬

‫المبحث السادس‪ :‬دور العلم في حياة‬


‫ستيفن هوكينج‬
‫دي العاقة‬
‫ستيفن هوكينج‪ ..‬أستاذ الكونيات ومتح ّ‬
‫ي ُعَد ّ ستيفن هوكينج أحد ألمع فيزيائيي القرن العشرين‪ ،‬ومن‬
‫دوا لصعب السئلة على مّر التاريخ‪:‬‬ ‫أبرز علماء الكونيات الذين تص ّ‬
‫"خلق الكون ومصيره"‪ ،‬حتى ل ُ ّ‬
‫قب بق "العقلية الفيزيائية الثانية بعد‬
‫نيوتن"‪ ،‬وقد اعتبرت نظريته عن أصل الكون ونهايته تحول ً في هذا‬
‫التجاه‪ ،‬خاصة وأنه ركز جهوده طوال العقود الماضية على التوحيد‬
‫بين "فيزياء الكم" و"نسبية إينشتاين"‪ ،‬وكانت له أبحاث في العلقة‬
‫بين الثقوب السوداء والديناميكا الحرارية‪ ،‬ودراسات في التسلسل‬
‫الزمني‪.‬‬
‫ورغم أنه "معاق" وعاجز عن الحركة وعن الكلم إل إنه كان‬
‫د‪" :‬ل أشعر بأنني شخص معاق‪ ،‬وإنما مجرد‬ ‫يقول )إليكترونًيا( في تح ٍ‬
‫شخص مصاب بتعطل العصب الحركي‪ ،‬وذلك كما لو كنت مصاًبا‬
‫بعمى اللوان‪ .‬أظن أن من الصعب وصف حياتي بأنها عادية‪ ،‬لكنني‬
‫جا في التحدي والصبر‬ ‫أشعر أنها عادية روحًيا"‪ !!1515‬فكان مثال ً وأنموذ ً‬
‫ومقاومة المرض‪ ،‬وإنجاز ما عجز عنه الصحاء‪.‬‬
‫وكان هوكينج قد أصيب بمرض عصبي وهو في الحادية‬
‫ما غير قادر على الحراك‪ ،‬وهو‬ ‫دا تما ً‬
‫والعشرين من عمره‪ ،‬جعله مقع ً‬
‫مرض التصلب الجانبي "‪ "ALS‬المميت والذي ل دواء له‪ ،‬حتى إن‬
‫الطباء ذكروا أنه لن يعيش أكثر من سنتين‪ ،‬إل أنه عاش مدة أطول‬
‫حاء رغم أن أيديهم‬‫من ذلك‪ ،‬واستطاع أن يتفوق على أقرانه الص ّ‬
‫قدة‪ ،‬وإجراء‬‫كانت سليمة‪ ،‬وكانوا يستطيعون كتابة المعادلت المع ّ‬

‫انظر‪ :‬تاريخ العلم تصدير إبراهيم مدكور ص ‪.10‬‬ ‫‪1514‬‬

‫‪ 1515‬انظر ناصر أسعد منذر‪) :‬ستيفن هوكينج العالم والنسان( من محاضرة ألقيت في‬
‫كلية الداب جامعة حلب يوم الثلثاء ‪ 19/12/2006‬ضمن نشاطات المنتدى الثقافي‬
‫لذوي الحتياجات الخاصة‪ ،‬بمناسبة يوم المعاق العالمي ‪2006‬م‪.‬‬
‫الحسابات الطويلة على الورق‪ ،‬وكان هو ‪ -‬وبطريقة ل تصدق ‪ -‬يجري‬
‫هذه المعادلت وتلك الحسابات في ذهنه‪ ،‬حتى جاءه اليوم الذي كان‬
‫يفخر فيه بأنه حظي بذات اللقب وكرسي الستاذية الذي حظي به‬
‫من قبل السير إسحق نيوتن!‬
‫ويستخدم هوكينج صوًتا إلكترونًيا بعد إجراء عملية للقصبة‬
‫الهوائية‪ ،‬وأصبح مرتبطا بجهاز إلكتروني خاص موصول مع الكرسي‪،‬‬
‫يتلقى الوامر عن طريق حركة العين والرأس ليعطي بيانات مخّزنة‬
‫في الجهاز‪ ،‬وهذا الجهاز هو كمبيوتر قامت بتطويره له بشكل خاص‬
‫شركة )إنتل(‪!!1516‬‬
‫وقد حظي هوكينج بعائلة متميزة‪ ،‬وخصوصا زوجته "جين وايلد "‬
‫التي تزوجها سنة ‪1965‬م‪ ،‬وإضافة إلى رصيده العلمي فقد كان يتميز‬
‫بالدعابة‪ ،‬ومساعدة الطفال وتدعيم مشاريع تنمية الطفولة‪ ،‬وشارك‬
‫في مظاهرات ضد الحرب على العراق‪ ،‬ولم تكن محاضرة "العودة‬
‫بالتاريخ إلى الوراء"‪ ،‬في جامعة )بيرزيت( بفلسطين في سنة‬
‫‪2006‬م هي نهاية محاضراته التي يجوب بها العالم‪.‬‬
‫نشأته وتعليمه‪:‬‬
‫وُل ِد َ هوكينج سنة ‪1942‬م أثناء الحرب العالمية الثانية في‬
‫أكسفورد ‪ -‬إنجلترا‪ ،‬وكان والده باحًثا في طب المراض الستوائية‪،‬‬
‫ومنه أخذ اهتمامه فيما بعد ُ بالبحث العلمي‪ ،‬لكنه وجد الطب‬
‫والبيولوجيا علمين وصفيين وغير دقيقين‪ ،‬وكان هو يبحث عن شيء‬
‫أكثر جوهرية‪ ،‬فوجد ذلك فيما بعد في الفيزياء‪ .‬كما درست والدته‬
‫ضا في أكسفورد في ذات الجامعة التي درس فيها والده‪ ،‬والتي‬ ‫أي ً‬
‫ضا فيها فيما بعد‪.‬‬
‫سيدرس هو أي ً‬
‫علمه‬ ‫دا‪ ،‬و ِ‬
‫لم يكن هوكينج في المدرسة أفضل من المتوسط أب ً‬
‫لم يكن مرتًبا‪ ،‬وكان خط يده مثار يأس أساتذته‪ ،‬وهو الذي كان يقول‬
‫ت أكثَر مهارة في أداء المتحانات والختبارات من‬
‫عن نفسه‪" :‬كن ُ‬
‫الداء أثناء الدرس"‪ ،‬ورغم ذلك فإن زملءه أطلقوا عليه اسم‬
‫"أينشتاين" لذكائه وتميزه في حل المعادلت وموهبته الستثنائية في‬
‫الفيزياء والرياضيات‪ ،‬والتي ظهرت في سن مبكرة‪ ،‬حتى كان قادًرا‬
‫ل مسائل رياضية في بضع ساعات لم يكن زملؤه الطلب‬ ‫على ح ّ‬
‫قادرين على حّلها في أسابيع !!‬
‫‪1517‬‬

‫انظر موقع ويكبيديا على شبكة النترنت‪ ،‬الرابط‪:‬‬ ‫‪1516‬‬

‫_‪http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B3%D8%AA%D9%8A%D9%81%D9%86‬‬
‫‪%D9%87%D9%88%D9%83%D9%8A%D9%86%D8%BA‬‬
‫انظر المصدرين السابقين‪.‬‬ ‫‪1517‬‬
‫وفي سنة ‪1962‬م حصل هوكينج على درجة البكالوريوس في‬
‫الفيزياء من جامعة أكسفورد‪ ،‬وفي سنة ‪1966‬م حصل على شهادة‬
‫الدكتوراه في الفلسفة من قسم الرياضيات التطبيقية والفيزياء‬
‫وا في‬‫النظرية في جامعة كمبريدج‪ ،‬وفي سنة ‪1974‬م أصبح عض ً‬
‫الجمعية الملكية‪ ،‬والتي هي إحدى أقدم المنظمات العلمية على وجه‬
‫ي الرياضيات اللوكاسي‬ ‫البسيطة‪ ،‬ثم تسّلم في العام ‪1979‬م كرس ّ‬
‫في جامعة كمبردج‪ ،‬وهو منصب كان يحتله العالم العظيم إسحق‬
‫ضا العالم بول ديراك‪ ،‬وهما من أكابر العلماء الذين‬
‫نيوتن‪ ،‬وشغله أي ً‬
‫اهتموا باللمتناهي في الكبر واللمتناهي في الصغر‪ ،‬وقد كان هوكينج‬
‫‪ -‬كما يقول كارل سيغان ‪" : -‬خليفتهما بكل جدارة"‪.1518‬‬
‫أهم إنجازاته‪:‬‬
‫في سنة ‪1960‬م نشر هوكينج نظريته الكبرى الموحدة عن‬
‫أصل الكون‪ ،‬وفي سنة ‪1971‬م وبالتزامن مع عالم الرياضيات روجر‬
‫بنروز‪ ،‬أصدر نظريته التي تثبت رياضًيا‪ ،‬وعبر نظرية النسبية العامة‬
‫ن الثقوب السوداء‪ ،‬أو النجوم القمنهارة بالجاذبية‪ ،‬هي‬
‫لينشتاين‪ ،‬أ ّ‬
‫حالة تفّردية في الكون "أي أنها حدث له نقطة بداية في الزمن"‪.‬‬
‫وفي سنة ‪1974‬م أثبت نظرًيا أن الثقوب السوداء تصدر‬
‫مي هذا‬‫س ّ‬
‫عا على عكس كل النظريات المطروحة آنذاك‪ ،‬و ُ‬ ‫إشعا ً‬
‫الشعاع باسمه "إشعاع هوكينج"‪ ،‬واستعان بنظريات ميكانيكا الكم‬
‫وقوانين الديناميكا الحرارية‪.‬‬
‫ور هوكينج‬
‫ومع معاونه جيم هارتل من جامعة كإليفورنيا‪ ،‬ط ّ‬
‫نظرية اللحدود للكون التي غيرت من التصور القديم للحظة النفجار‬
‫الكبير عن نشأة الكون‪ ،‬إضافة إلى عدم تعارضها مع أن الكون نظام‬
‫منتظم ومغلق‪.‬‬
‫وعمل ستيفن هوكينج على القوانين الساسية التي تحكم‬
‫الكون‪ ،‬ومن القمنشورات التي صدرت له هناك‪" :‬النسبية العامة"‪ ،‬و"‬
‫‪ 300‬عام من الجاذبية"‪.‬‬
‫وكان تقديم آخر ما توصل له العلم‪ ،‬بخصوص خلق الكون‬
‫وتطوره‪ ،‬إلى الجمهور العريض شغل هوكينج الشاغل‪ ،‬فقّرر بعد‬
‫سلسلة المحاضرات التي ألقاها في هارفارد تأليف كتاب شعبي عن‬
‫الزمان والمكان يستهدف الجمهور العريض‪ ،‬فكان الكتاب "موجز‬
‫تاريخ الزمن"‪ ،‬والذي حقق أرقام مبيعات وشهرة عالية‪ ،‬وع ُد ّ من‬
‫جل جينيس‬ ‫س ِ‬
‫أكثر الكتب العلمية شعبية على الطلق‪ ،‬ودخل في ِ‬

‫انظر ناصر أسعد منذر‪) :‬ستيفن هوكينج العالم والنسان(‪.‬‬ ‫‪1518‬‬


‫للرقام القياسية بسبب طول الفترة التي بقي فيها على لئحة الكتب‬
‫الكثر مبيًعا‪.1519‬‬
‫وفي تقديمه للكتاب يقول كارس ساغان‪" :‬إنه أول كتاب مليء‬
‫بالهدايا من كل نوع يقدمها هوكينج للجمهور العادي من غير‬
‫المختصين‪ ،‬إنه ينبيء عن العمل الفكري الذي بذله مؤلفه‪ ،‬وفيه من‬
‫التشويق بمقدار ما فيه من التنويع‪ .‬إن هذا الكتاب حافل بالرؤى‬
‫النفاذة فيما يخص حدود الفيزياء وعلم الفلك وعلم الكون‪. "..‬‬
‫‪1520‬‬

‫ويعرض هوكينج في هذا الكتاب‪ ،‬وبلغة علمية بسيطة‪ ،‬مسيرة‬


‫تطور فهم النسان للكون‪ ،‬وأحدث ما اكتشفته علوم الكونيات‪ ،‬كما‬
‫يعرض للنظريتين الرئيسيتين في القرن العشرين‪ :‬النسبية العامة‬
‫والميكانيك الكمومي‪ ،‬والمحاولت الرامية لتوحيد الفيزياء عبر‬
‫دمجهمها بنظرية واحدة‪ .‬والكتاب متوافر باللغة العربية‪ ،‬وقام بترجمته‬
‫الدكتور أدهم السمان‪.‬‬
‫وفي سنة ‪1993‬م قدم كتاًبا ثانًيا هو "الثقوب السوداء والكوان‬
‫الطفلة ومواضيع أخرى"‪ ،‬وهو كتاب يتضمن مجموعة من المواضيع‬
‫ما‪ ،‬تعكس حالته‬ ‫المتفرقة كتبها هوكينج على مدى ستة عشر عا ً‬
‫دم سنة‬‫ضا باللغة العربية‪ ،‬كما ق ّ‬
‫المعرفية في أوقاتها‪ ،‬وهو متوفر أي ً‬
‫‪2001‬م كتاب "الكون في قشرة جوز"‪.‬‬
‫ضا‬
‫ة لصداراته القيمة في مجال الكون‪ ،‬كان هناك أي ً‬ ‫ومتابع ً‬
‫ً‬
‫كتاب "كون ستيفن هوكينج" الكثر تبسيطا‪ ،‬والذي قّرر زميله في‬
‫قسم الفيزياء في كامبردج العالم "ديفيد فيلكن" تأليفه بعد أن أنجز‬
‫ت حلقات مع هوكينج في محطة البي بي سي عن الكون ونظرية‬ ‫س ّ‬
‫شر هذا‬
‫جا كبيًرا‪ ،‬وقد ن ُ ِ‬
‫كل شيء‪ ،‬وكانت هذه الحلقات قد لقت روا ً‬
‫ضا باللغة العربية سنة ‪2006‬م‪.‬‬
‫الكتاب أي ً‬
‫ويذكر فيلكن في مقدمة كتابه حادثة تدل على تواضع هوكينج‪،‬‬
‫حيث يقول‪ .." :‬أرسلت له بعض الملحظات ليبدي أفكاره وتصويباته‬
‫حولها‪ ،‬وكان منها ما كتبت‪) :‬ستيفن هوكينج‪ ،‬المعترف به كأحد رواد‬
‫المرجعيين في الثقوب السوداء(‪ ،‬إل أن الوراق المنسوخة قد ُأعيدت‬
‫إلى مدوًنا بهامشها ملحوظات واضحة بخط سو مازي‪ ،‬ممثلة لمانة‬
‫ستيفن العلمية‪ ،‬حيث وضعت علمة بحذف السطر الذي كتبته‬
‫ضيف بدل ً منه‪) :‬ستيفن هوكينج‪ ،‬الذي شارك في دراسة الثقوب‬ ‫ُ‬
‫وأ ِ‬
‫السوداء("‪.1521‬‬
‫الجوائز‪:‬‬
‫موقع ويكبيديا على الرابط السابق‪.‬‬ ‫‪1519‬‬

‫انظر ناصر أسعد منذر‪) :‬ستيفن هوكينج العالم والنسان(‪.‬‬ ‫‪1520‬‬

‫ناصر أسعد منذر‪) :‬ستيفن هوكينج العالم والنسان(‪.‬‬ ‫‪1521‬‬


‫ما في عالم البتكارات والعلماء‪ ،‬على‬
‫صنع هوكينج لنفسه اس ً‬
‫الرغم من إعاقته الجسدية الكبيرة التي تمنع أي شخص غيره من‬
‫القيام بأي عمل أو كسب للرزق‪ ،‬ناهيك عن الختراع ومقارعة‬
‫العلماء‪ ،‬وإثبات نظريته أمام الكثير من كبار العلماء في هذا العصر‪.‬‬
‫ف‬
‫ة شر ٍ‬‫وقد استحق بعد أن يحصل على اثنتي عشرة َ مرتب َ‬
‫علمية‪ ،‬والعديد من الوسمة والجوائز‪ ،‬إضافة إلى عضويته في‬
‫الجمعية الملكية‪ ،‬وجمعية العلوم الوطنية‪.1522‬‬
‫وفي النهاية يقول هوكينج‪ ..." :‬بالتأكيد أنا أسعد الن؛ فقد كنت‬
‫قبل إصابتي بمرض العصب الحركي ضجًرا من الحياة‪ ،‬لكن فكرة‬
‫الموت المبكر جعلتني أعي أن الحياة تستحق أن تعاش فع ً‬
‫ل‪ ،‬فثمة‬
‫ن لدي شعوًرا بأنني‬
‫الكثير الكثير مما يمكن للمرء أن يفعله فيها‪ .‬إ ّ‬
‫ت شيًئا متواضًعا‪ ،‬لكّنه إسهام ذو مغزى في المعرفة النسانية‪،‬‬‫أنجز ُ‬
‫دا‪ ،‬لكن كل شخص يستطيع تحقيق شيء إذا حاول ذلك‬ ‫أنا محظوظ ج ً‬
‫بجدية كافية" ‪.‬‬
‫‪1523‬‬

‫‪ 1522‬انظر جريدة اليام الفلسطينية‪ ،‬عدد السبت ‪ 16‬كانون الول ‪ 26 = 2006‬ذو القعدة ‪1427‬‬
‫مقال ليوسف الشايب‪ ،‬بعنوان‪" :‬يعود بالتقاريقخ إلي القوراء" في جامعة بيرزيت‪ ،‬البروفيسور ستيفان‬
‫هوكينج ‪ ..‬عبقريته في الفيزياء وحكاية تحديه للقمرض مثار إعجاب العالقم! وذلك بعد قدوم هوكينج‬
‫ستيفن جامعة بيرزيت‪.‬‬
‫انظر ناصر أسعد منذر‪) :‬ستيفن هوكينج العالم والنسان(‪.‬‬ ‫‪1523‬‬
‫الخاتمة‬
‫مة‪ ،‬فيحدث التغيير"‪..‬‬
‫م‪ ،‬فتثور اله ّ‬‫"المل المنشود‪ ..‬يبدأ باله ّ‬
‫سنة الكونية‪!!..‬‬‫تلك هي الخطوات‪ ..‬وهذه هي ال ّ‬
‫ل مجال للحباط أو اليأس‪ ..‬ول وقت للقعود أو الكسل‪ ،‬أو‬
‫البكاء على اللبن المسكوب‪..‬‬
‫ما أن نعود إلى عصر صناعة التاريخ وبناء الحضارة‪ ،‬وإما أن‬
‫فإ ّ‬
‫يكون دورنا مجرد تدوين ذلك التاريخ‪ ،‬والتباهي بتلك الحضارة التي‬
‫وّلت!!‬
‫وإن صناعة التاريخ تلك وبناء الحضارة هذه‪ ،‬لُيحّتمان علينا نبذ‬
‫الحباط بالكلية‪ ،‬مهما كان الواقع‪ ،‬ومهما كانت اللم والجراح‪..‬‬
‫ما سيحصل قيام بعد‬ ‫ما سيتغير‪ ،‬وحت ً‬
‫ما‪ ،‬حت ً‬
‫فالواقع وإن كان ألي ً‬
‫السقوط‪ ..‬وهي سنة الله في تعاقب المم والحضارات‪ ،‬والتي‬
‫استثنى ‪ ‬من بينها المة السلمية‪ ،‬في أنها أمة ل تموت‪ ،‬وأنها أب ً‬
‫دا‬
‫في قيام‪!!..‬‬
‫ث وقيام‬ ‫فليس من سنن الله مع المسلمين أل يتبع سقو َ‬
‫طهم بع ٌ‬
‫من جديد‪ ،‬فذاك ل يحدث إل مع أمم الرض الخرى غير المسلمة؛ إذ‬
‫الغالب على سقوطها هو الندثار بل رجعة‪ ،‬حتى وإن طال أمد قيامها‬
‫وازدهارها‪ ..‬ومن يقرأ التاريخ يعرف ذلك!!‬
‫وما حضارة الفراعنة‪ ،‬والغريق واليونان‪ ،‬وإمبراطوريتي فارس‬
‫والروم‪ ،‬وامبراطورية إنجلترا التي "ل تغرب عنها الشمس"‪ ..‬عّنا‬
‫َ‬ ‫ه َل َ ْ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫سِلي إ ِ ّ‬ ‫وُر ُ‬
‫ن أَنا َ‬ ‫غل ِب َ ّ‬ ‫ب الل ّ ُ‬ ‫ببعيد!! يقول تعإلي‪ :‬ك َت َ َ‬
‫م‬‫منك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫عدَ الل ّ ُ‬ ‫و َ‬ ‫ضا‪َ  :‬‬ ‫زيٌز‪ 1524‬وقال أي ً‬ ‫ع ِ‬ ‫ي َ‬ ‫و ّ‬ ‫ق ِ‬ ‫َ‬
‫خل َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ض كَ َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫هم ِ‬ ‫فن ّ ُ‬ ‫خل ِ َ‬
‫ست َ ْ‬ ‫ت ل َي َ ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ُ ْ‬‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ضى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫ّ ُ ْ ِ ُ ُ‬ ‫دي‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬‫و‬
‫ْ ِ ْ َ ُ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫ب‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫من‬ ‫ا ِ َ ِ‬
‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬
‫دون َِني َل ي ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن ِبي‬ ‫كو َ‬ ‫ر ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫مًنا ي َ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬‫ف ِ‬ ‫و ِ‬ ‫خ ْ‬
‫د َ‬ ‫ع ِ‬‫من ب َ ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫ول َي ُب َدّل َن ّ ُ‬ ‫َ‬
‫شي ًْئا‪. ‬‬
‫‪1525‬‬
‫َ‬

‫غير أن ذلك القيام ليس فقط لننا مسلمون‪ ..‬وإنما هو يتوقف‬


‫د‪،‬‬
‫م ٍ‬
‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫ت ُ‬ ‫ة ب ِن ْ َ‬
‫م ُ‬‫فاطِ َ‬ ‫على ما إذا كنا أهل ً له أو غير أهل له‪َ" ..‬يا َ‬
‫ن الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م ْ‬‫ك ِ‬ ‫عن ْ ِ‬‫غِني َ‬ ‫مإلي؛ ل َ أ ُ ْ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫شئ ْ ِ‬
‫ت ِ‬ ‫ما ِ‬
‫سِليِني َ‬
‫َ‬
‫شي ًْئا" ‪ ..‬وهنا يأتي دور المسؤولية الفردية‪.‬‬
‫‪1526‬‬
‫َ‬
‫‪) 1524‬المجادلة‪.(21 :‬‬
‫‪) 1525‬النور‪.(55 :‬‬
‫‪ 1526‬البخاري‪ :‬كتاب الوصايا‪ ،‬باب هل يدخل النساء والولد في القارب )‪ ،(2602‬ومسلم‪ :‬كتاب‬
‫اليمان‪ ،‬باب في قوله تعإلي "وأنذر عشيرتك القربين" )‪.(204‬‬
‫ما علينا إل أن نتسلح بالسباب؛ فنعتقد العتقاد الجازم بنصرة‬
‫الله وقدرته على تحقيق مساعينا‪ ،‬ثم تفعيل الخوة والوحدة ونبذ‬
‫الفرقة‪ ،‬مع تمكين العلم ونشر الدين‪ ،‬وتحقيق العدل بين الحاكم‬
‫ما‬
‫هم ّ‬ ‫دوا ْ ل َ ُ‬
‫ع ّ‬‫وأ َ ِ‬
‫والمحكوم‪ ..‬ثم ليكن شعار تلك المرحلة‪َ  :‬‬
‫و الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫عد ْ ّ‬
‫ه َ‬
‫ن بِ ِ‬ ‫هُبو َ‬‫ل ت ُْر ِ‬ ‫ط ال ْ َ‬
‫خي ْ ِ‬ ‫من ّرَبا ِ‬
‫و ِ‬
‫ة َ‬
‫و ٍ‬ ‫من ُ‬
‫ق ّ‬ ‫عُتم ّ‬ ‫ست َطَ ْ‬ ‫ا ْ‬
‫ُ ‪1527‬‬
‫م‪.. ‬‬ ‫وك ْ‬ ‫عد ُ ّ‬
‫و َ‬‫َ‬
‫ب‪ ،‬وفي ذات الوقت‬ ‫فالله ‪ ‬ليس بينه وبين أحد من البشر نس ٌ‬
‫فهو سبحانه لن يحاسب الناس يوم القيامة بالجملة ول بالمجموعة‪،‬‬
‫مَناهُ َ‬ ‫َ‬
‫في‬ ‫طائ َِرهُ ِ‬ ‫ن أل َْز ْ‬
‫سا ٍ‬ ‫وك ُ ّ‬
‫ل إ ِن ْ َ‬ ‫وإنما سيحاسبهم فردا فرًدا‪َ  ..‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫قَرأ ك َِتاب َ َ‬
‫ك‬ ‫شوًرا ا ْ‬‫من ْ ُ‬
‫قاهُ َ‬ ‫ة ك َِتاًبا ي َل َ‬‫م ِ‬‫قَيا َ‬ ‫و َ‬ ‫ج لَ ُ‬
‫ه يَ ْ‬ ‫ر ُ‬‫خ ِ‬
‫ون ُ ْ‬‫ه َ‬ ‫ق ِ‬
‫عن ُ ِ‬
‫ُ‬
‫سيًبا‪ ‬وإنقاذ النسان نفسه من‬ ‫‪1528‬‬
‫ح ِ‬ ‫ك َ‬ ‫عل َي ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ك اليو َ‬ ‫س َ‬‫ف ِ‬ ‫فى ب ِن َ ْ‬ ‫كَ َ‬
‫النار إنما هي مسؤوليته وحده وبالدرجة الولى‪ ،‬ول ينفعه في ذلك أنه‬
‫كان تحت تأثير غيره‪ ،‬أو نحوه‪..‬‬
‫وعليه‪ ..‬وكما أن نبوة نوح ولوط عليهما السلم لم تشفع‬
‫قه بزوجته‬ ‫ما كانتا كافرتين‪ ،‬ول أضّر فساد فرعون وفس ُ‬
‫لزوجتيهما ل ّ‬
‫آسية بنت مزاحم؛ طالما كانت قائمة بواجبها في النكار عليه‪ ..‬فإنه ل‬
‫يحق لنا أن نكون في موقف السلبي الناقد الناقم‪..‬‬
‫بمعنى أنه ليس علينا أن نوجه النقد أو اللوم لغيرنا‪ ،‬سواء كانوا‬
‫ما أو محكومين‪ ،‬باعتبارهم هم المسئولون عما تعانيه المة‪ ،‬وعما‬ ‫حكا ً‬
‫تواجهه من أزمات‪ ..‬أو حتى إلى عدوٍ من الخارج‪ ،‬نتهمه بالتآمر على‬
‫تخلفنا‪ ..‬وإن كان بالفعل!!‬
‫فالمتضرر في النهاية هو المة‪ ،‬ويأتي في مقدمتها الفرد الذي‬
‫هو لبنتها‪!!..‬‬
‫يقول محمد إقبال‪ :‬المؤمن الضعيف يتعّلل بالقضاء والقدر‪،‬‬
‫والمؤمن القوي هو قضاء الله وقدره في الرض‪..1529‬‬
‫وهذا يعني أن القضية إنما تبدأ من الفرد؛ إذ أن ارتقاء الفرد‬
‫بنفسه إنما يعني خطوة مهمة نحو ارتقاء المة‪ ،‬وخطوة جادة على‬
‫طريق انتزاعها من وحل التخلف وذل التبعية‪ ،‬وما ارتقاء المة إل‬
‫بارتقاء أفرادها‪..‬‬
‫فالمسئولية الفردية إذن ل يمكن تجاهلها على الطلق في هذا‬
‫الشأن‪ ،‬بل إن الوعي الكامل بها قد يحولها إلى مسؤولية جماعية‪،‬‬

‫)النفال‪.(60 :‬‬ ‫‪1527‬‬

‫)السراء‪.(14 ،13 :‬‬ ‫‪1528‬‬

‫أبو الحسن الندوي‪ :‬شاعر السلم الدكتور محمد إقبال ص ‪.66‬‬ ‫‪1529‬‬
‫من شأنها أن تكون قادرة على المساهمة في مواجهة ذلك الواقع‬
‫المرفوض‪..‬‬
‫ومن ثم فالبداية بك ومنك‪..‬‬
‫والعلم هو أول الطريق‪..‬‬
‫والخلص يعززه ويعطيه الحصانة‪..‬‬
‫ويأتي التقان في العمل ‪ -‬أي عمل ‪ -‬ليضع التاج على‬
‫الرؤوس‪!!..‬‬
‫َ‬ ‫وأ ُ َ‬ ‫ما أ َ ُ‬
‫ن‬ ‫ري إلى الل ّ ِ‬
‫ه إِ ّ‬ ‫م ِ‬
‫ضأ ْ‬‫و ُ‬
‫ف ّ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن َ‬‫ست َذْك ُُرو َ‬
‫ف َ‬‫‪َ ‬‬
‫عَباِد‪. ‬‬
‫‪1530‬‬ ‫ْ‬
‫صيٌر ِبال ِ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه بَ ِ‬

‫)غافر‪.(44 :‬‬ ‫‪1530‬‬


‫الفهرس‬
‫ميلده ونشأته‪567...............................................................................................‬‬
‫م أعماله ‪568..................................................................................................‬‬ ‫أه ّ‬
‫جوائز ‪569.........................................................................................................‬‬
‫من مؤّلفاته‪569..................................................................................................‬‬
‫منهجه العلمي والفكري‪569...................................................................................‬‬

You might also like