You are on page 1of 126

‫دعــــوة‬

‫إلـى وعـي الـذات‬


‫‪ -‬فصول في نظرية الدراما والنقد‬
‫المسرحي ‪-‬‬

‫‪-2-‬‬
‫الحقوق كافة‬
‫مـحــــفــــوظـة‬
‫لتـحــاد الـكـتـاب‬
‫الــعـرب‬
‫‪unecriv@net.sy E-‬‬ ‫البريد اللكتروني‪:‬‬
‫‪:‬‬ ‫‪mail‬‬
‫‪aru@net.sy‬‬
‫موقع اتحاد الكّتاب العرب على شبكة النترنت‬
‫‪http:/www.awu-dam.com‬‬

‫تصميم الغلف للفنانة ‪ :‬نسرين المقداد‬


‫‪‬‬

‫‪-3-‬‬
‫الدكتور رشيد ياسين‬

‫دعــــوة‬
‫إلـى وعـي الـذات‬
‫‪ -‬فصول في نظرية الدراما والنقد‬
‫المسرحي ‪-‬‬

‫‪-4-‬‬
‫من منشورات اتحاد الكتاب العرب‬
‫‪2000‬‬

‫‪-5-‬‬
‫بسم الله الرحمن‬
‫الرحيم‬

‫‪-6-‬‬
‫توطئـــة‪..‬‬
‫يمر المسرح العربي‪ ،‬منذ سنوات طويلة‪ ،‬بحالة من الضياع‬
‫والتخبط وقفت بينه وبين التحول إلى متعة ثقافية جماهيرية‪،‬‬
‫كما هو شأنه في بلدان العالم المتقدم‪ .‬ومرد هذه الحالة إلى‬
‫عوامل متعددة‪ ،‬لعل أخطرها ضحالة الثقافة المسرحية‬
‫السليمة لدى كثير من العاملين عندنا في المسرح وضعف‬
‫اتصالهم بالمسرح العالمي المتطور‪ .‬ول يغير من هذه الحقيقة‬
‫أن لدينا الكثير من النصوص الدرامية المترجمة عن اللغات‬
‫الخرى‪ ،‬فالنصوص الدرامية وحدها ل تكفي لخلق المثقف‬
‫المسرحي الذي نحتاجه‪ .‬ولبد لفنان المسرح‪ ،‬قبل كل شيء‪،‬‬
‫من اللمام الكافي بأصول حرفته‪ ،‬شأنه في ذلك شأن‬
‫العاملين في مجالت الفن الخرى‪ .‬ويبدو لي أن معاهد‬
‫المسرح عندنا‪ ،‬على اختلف مستوياتها‪ ،‬ل تؤدي مهمة إعداد‬
‫الكوادر المسرحية على الوجه المطلوب‪ .‬وقد ترسخ عندي هذا‬
‫النطباع بعد أن تابعت النشاط المسرحي في العديد من‬
‫القطار العربية على مدى أكثر من ربع قرن‪ ،‬وبعد أن نهضت‪-‬‬
‫أو حاولت النهوض‪ ،‬على القل‪ -‬بمسؤوليات عديدة خلل عملي‬
‫الطويل في المؤسسة العامة للسينما والمسرح في العراق‪.‬‬
‫وثمة سبب آخر من أسباب أزمتنا المزمنة في مجال‬
‫المسرح‪ ،‬هو افتقار مسرحنا العربي‪ ،‬بدرجة أو أخرى‪ ،‬إلى‬
‫جمهور مستنير‪ ،‬يستطيع تمييز الصحيح من الزائف ويساعد‬
‫فنان المسرح على معرفة مدى توفيقه أو إخفاقه من خلل‬
‫القبال على عمله أو النصراف عنه‪ .‬وهذا الواقع المؤسف‬
‫ليس إل نتيجة منطقية لرداءة العمال المسرحية‪ ،‬التي تعرض‬
‫على الجمهور‪ ،‬ولكنه في الوقت نفسه سبب يساعد على‬
‫استمرار تردي المسرح وتفاقم أزمته‪.‬‬
‫ول يسعنا أن نغفل عامل ً سلبيا ً آخر يتمثل في طائفة من‬
‫النقاد المزعومين‪ ،‬الذين انتهزوا فرصة خلو الساحة وغياب‬
‫المقاييس السليمة فاندفعوا إلى ممارسة ما يتوهمونه نقدا ً‬
‫مسرحيًا‪ ،‬تسوقهم أهواؤهم الشخصية تارة وقلة حظهم من‬
‫الثقافة المسرحية تارة أخرى‪ .‬ومن غريب ما لحظته أن بين‬
‫هؤلء النقاد من لم يدرسوا الفن المسرحي في معاهد‬
‫متخصصة ولم يمارسوا العمل الفعلي في المسرح‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فإن الصحافة ل تبخل عليهم بمساحات يدلون فيها بآرائهم‪،‬‬
‫التي هي أشبه بوصفات يكتبها أطباء دجالون‪ .‬وتبرز خطورة‬
‫هذه المسألة إذا تذكرنا أن النقد هو البوصلة التي يهتدي بها‬
‫فنانو المسرح في البلدان ذات التقاليد العريقة في هذا‬
‫المضمار‪.‬‬
‫ويكفي أن نشير إلى أن الفرق المسرحية في برودواي –‬
‫ل‪ -‬تسهر ليلة العرض الول لمسرحية جديدة حتى الفجر‬ ‫مث ُ‬
‫لتطلع على ما يقوله نقاد الصحف في عملها الجديد‪ ،‬لن نجاح‬
‫المسرحية أو فشلها يتوقفان بالدرجة الولى على رأي النقاد‬
‫فيها‪.‬‬
‫إن هذه العوامل الثلثة التي ذكرناها أدت إلى بقاء‬
‫المسرح العربي عموما ً على حالته الراهنة‪ ،‬التي يتجاذبها‬
‫تياران أساسيان‪:‬‬

‫‪-7-‬‬
‫تيار المسرح الكوميدي التجاري‪ ،‬الذي يراد به اجتذاب‬
‫الناس البسطاء إلى شباك التذاكر‪ ،‬وهو تيار يغلب عليه التهريج‬
‫والتفاهة والنكات الفجة‪ ،‬والماجنة أحيانًا‪ ،‬وتيار المسرح‬
‫التجريبي‪ ،‬الذي يحفل –في الغالب‪ -‬بصنوف البدع ومحاولت‬
‫التجديد الساذجة التي ل علقة لها بفن المسرح الحقيقي‪.‬‬
‫ول أريد أن أقول إن المحاولت الجادة‪ ،‬التي تسندها‬
‫الموهبة والفهم الصائب لطبيعة فن المسرح‪ ،‬ل وجود لها في‬
‫مسرحنا العربي‪ ،‬فقد شاهدت أكثر من عمل مسرحي مهم‬
‫للكاتب الراحل سعد الله ونوس‪ ،‬ورأيت أعمال ً ممتعة للمخرج‬
‫التونسي المنصف السويسي‪ ،‬وحضرت بعض العمال الجيدة‬
‫للفرقة القومية المصرية‪ ،‬ولكن هذه ليست إل ومضات عابرة‬
‫في ليل المسرح العربي الدامس‪ ،‬الذي يطغى عليه التياران‬
‫المذكوران‪ :‬تيار التهريج وتيار التجريب‪.‬‬
‫على خلفية هذا الواقع‪ ،‬الذي وصفته بمنتهى اليجاز‪ ،‬وخلل‬
‫كتبت مواد هذا‬‫فترات متباعدة من العقود الثلثة الخيرة‪ُ ،‬‬
‫الكتاب‪ .‬وبعضها‪-‬كما سيرى القارئ‪ -‬يتعرض لواقعنا المسرحي‬
‫كما تجسده بعض العمال المسرحية التي حضرتها‪ ،‬ول سيما‬
‫في العراق‪ ،‬بينما يتصل بعضها الخر بنظرية الدراما وتطورها‪،‬‬
‫وبأوضاع المسرح العالمي المعاصر‪ ،‬الذي أتيح لي أن أتابعه‬
‫من خلل العروض الكثيرة التي شاهدتها في بلدان أجنبية‬
‫عديدة‪ .‬وقد كنت أتمنى أن يضم هذا الكتاب كل ما نشرته في‬
‫هذا المجال لول أن ظروفي الشخصية الراهنة ل تسمح بجمع‬
‫هذه المواد المبعثرة في صحافة أكثر من بلد عربي‪.‬‬
‫ويهمني قبل النتهاء من هذه التوطئة أن أتوقف قليل ً عند‬
‫بعض المور التي قد تعين القارئ على فهم طبيعة الكتاب‬
‫الذي بين يديه‪ .‬وأولها أن هذا الكتاب ليس دراسة منهجية في‬
‫نظرية الدراما أو في أوضاع المسرح العربي المعاصر‪ ،‬بل هو‬
‫جملة أبحاث ومقالت متفرقة أملتها مناسبات معينة‪ ،‬ولكن‬
‫هناك خيطا ً واحدا ً ينتظم هذه المقالت‪ ،‬هو السعي إلى إيضاح‬
‫بعض ما بدا لي أنه ملتبس من أسس التأليف الدرامي وتصحيح‬
‫ما وجدته شططا ً وانحرافا ً في مسار المسرح العربي‬
‫المعاصر‪.‬‬
‫وثانيها أن معظم مواد هذا الكتاب قد نشر‪ ،‬ل في الصحافة‬
‫الثقافية المتخصصة‪ ،‬وإنما في الصحف اليومية والمجلت‬
‫السبوعية الواسعة النتشار‪ ،‬فقد كان يهمني أن يصل صوتي‪،‬‬
‫ل إلى النخبة المثقفة وحسب‪ ،‬بل إلى جمهور القراء العريض‪،‬‬
‫الذي ل يعرف الكثير عن خفايا فن المسرح‪ .‬وهذا العتبار‪-‬‬
‫الذي وضعته دوما ً في حسابي‪ -‬هو الذي دفعني إلى توخي‬
‫البساطة في عرض أفكاري‪ ،‬وشرح المصطلحات الجنبية‬
‫والفنية حيثما وردت‪ ،‬والبتعاد قدر المكان عن اللغة الجافة‪،‬‬
‫المتحذلقة‪ ،‬التي أصبحت طابعا ً سائدا ً في الكتابات الثقافية‬
‫هذه اليام‪.‬‬
‫وسيلحظ القارئ أن الكتاب يكاد يخلو من الهوامش‪ -‬على‬
‫كثرة ما فيه من إشارات إلى كتاب ومفكرين أجانب‪ .‬ويبدو لي‬
‫أن هذا أمر غني عن اليضاح‪ ،‬فمعظم مواد الكتاب قد ظهرت‪-‬‬
‫كما أسلفت‪ -‬في جرائد يومية أو مجلت أسبوعية‪ ،‬وليس‬
‫مألوفا ً في مثل هذه الحوال أن يذيل الكاتب مقالته‬
‫بالهوامش‪ ،‬ول سيما ما كان منها بلغات أخرى غير العربية‪ .‬وقد‬
‫يكون هذا نقصًا‪ ،‬ولكني عاجز عن تداركه في الوقت الحالي‪،‬‬
‫فالمظان التي رجعت إليها عند كتابة هذه المواد ليست في‬
‫متناول يدي الن ولعل الظروف تسمح في المستقبل بتلفي‬
‫هذا النقص في طبعة لحقة‪ ،‬إذا قدر لهذا الكتاب أن يجد‬
‫الرواج الذي يتمناه كل مؤلف‪ .‬وأود بهذه المناسبة أن أضيف‬
‫‪-8-‬‬
‫أن جميع ما تضمنه الكتاب من آراء منسوبة إلى كتاب أجانب‬
‫هو من ترجمتي شخصيا ً باستثناء مواضيع قليلة قد ل تعدو‬
‫موضعا ً أو موضعين‪.‬‬
‫وبعد فإن قصارى ما أتمناه أن يفلح هذا الكتاب المتواضع‬
‫في حمل البعض على إعادة النظر في تصوراتهم عن المسرح‪.‬‬
‫ءءءء ءءءءء ‪-‬ءءءءء‬
‫ءءءءء ءءءءءء ‪1999‬‬
‫‪‬‬

‫‪-9-‬‬
‫دعوة‪..‬‬
‫إلى وعي الذات‬
‫خلل السنوات الخيرة كتبت أكداس من البحوث‬
‫والمقالت حول قضية التراث والمعاصرة في البداع الفني‪.‬‬
‫ورغم فوارق النتماء الفكري والفني‪ ،‬فقد كان الذين عالجوا‬
‫هذا الموضوع من النقاد والفنانين العرب متفقين على أن الفن‬
‫مطالب بالتوفيق بين التراث والمعاصرة‪ .‬وهذا طبيعي تمامًا‪ ،‬إذ‬
‫ليس بوسع أحد –مهما بلغت حماسته للتجديد‪ -‬أن يدعو إلى‬
‫فصل الدب والفن عن جذورهما القومية‪ ،‬كما ل يسع أحدًا‪-‬‬
‫مهما بلغ به التزمت‪ -‬أن يدعو إلى تجاهل تيارات العصر‬
‫وقضاياه والتجاهات الفنية السائدة فيه‪.‬‬
‫ولكن اتفاقنا على المبدأ العام ل يعني أننا قطعنا شوطا ً‬
‫بعيدا ً في الطريق إلى حل المشكلة‪ ،‬فقد ظلت تواجهنا‬
‫مجموعة من السئلة المعقدة التي تتعلق بوضع هذا المبدأ‬
‫موضع التطبيق‪:‬‬
‫مـــاذا نعنـــي بـــالتراث؟ ومـــا هـــي مســـتلزمات‬
‫المعاصــرة؟ مـاذا نأخـذ مـن تراثنـا ومـاذا نـدع؟ كيــف‬
‫نحــافظ علــى شخصــيتنا القوميــة دون أن نقــع فــي‬
‫العزلة والجمود؟‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫ومن المؤسف أن هذه السئلة وغيرها مما يتصل بموضوع‬
‫التراث والمعاصرة في الفن والدب لم تعالج حتى الن معالجة‬
‫نظرية شاملة تنير الطريق للفنانين والباحثين‪ ،‬ولذلك يظل‬
‫الموضوع‪ ،‬على كثرة ما كتب فيه‪ ،‬مفتوحا ً للنقاش‪.‬‬
‫ما الذي يجعل قضية التراث والمعاصرة تستأثر بكل هذا‬
‫القدر من الهتمام؟‬
‫إن السبب واضح‪ ،‬فنحن لم نوفق حتى الن إلى إقامة‬
‫علقة متوازنة بيننا وبين الثقافة العالمية المعاصرة‪ ،‬وأعني‬
‫بالعلقة المتوازنة تلك التي تضعنا في مستوى عصرنا من جهة‬
‫وتحفظ لنا أصالتنا القومية من جهة أخرى‪ .‬ويبدو لي أن في‬
‫مقدورنا أن نميز مرحلتين مختلفتين من مراحل العلقة بيننا‬
‫وبين الثقافة العالمية )الوربية الغربية بوجه خاص(‪:‬‬
‫الولى هي المرحلة التي امتدت حتى منتصف‬
‫القرن الحالي على وجه التقريب‪ ،‬وقد قصرنا خللها‬
‫عن الرتفاع إلى مستوى العصر‪ ،‬والثانية هي‬
‫مرحلتنا الحالية‪ ،‬وقد عجزنا خللها عن الحتفاظ‬
‫بقدر كاف من الصالة القومية‪.‬‬
‫‪- 10 -‬‬
‫ونا من الثقافة العالمية متهيبا ً‬ ‫خلل المرحلة الولى كان دن ّ‬
‫يشوبه الحذر‪ ،‬ويحد ّ منه خوف مزدوج‪ :‬خوف من انتهاك قداسة‬
‫التراث والخروج على أشكاله وتقاليده الفنية‪ ،‬وخوف من‬
‫اقتحام ميادين إبداعية جديدة لم يطرقها أسلفنا من قبل ول‬
‫نعرف عنها الشيء الكثير‪ .‬ولذلك اتسمت حركة التجديد الدبي‬
‫والفني عندنا خلل هذه الفترة بالتحفظ والعتدال‪ ،‬فوقفت‬
‫الرواية العربية عند حدود واقعية القرن التاسع عشر‪ ،‬وظل‬
‫شعراؤنا المجددون حتى نهاية الحرب العالمية الخيرة وبعدها‬
‫بقليل يتتلمذون على الشعر الرومانسي النكليزي والفرنسي‬
‫)لمارتين‪ ،‬دوفيني‪ ،‬جون كيتس الخ(‪ .‬أما فنانونا التشكيليون‬
‫فقد كان أول اتصال جدي لهم باتجاهات الفن الوروبي الحديث‬
‫في أيام الحرب الخيرة‪ ،‬عندما قدم إلى العراق بعض‬
‫الرسامين البولونيين )على ما رواه فائق حسن وجواد سليم‬
‫وغيرهما من جيل الرواد الوائل في هذا المجال( رغم أن‬
‫أوروبا كانت قد عرفت التكعيبية والدادية والسوريالية وغيرها‬
‫من مدارس الفن الحديث منذ الربع الول من القرن الحالي‪.‬‬
‫ولكن منتصف القرن شهد ما يمكن أن نسميه انقلبا ً من‬
‫موقفنا من الثقافة العالمية‪ ،‬فقد تخلت الحركة البداعية‬
‫العربية عن تهيبها واعتدالها واندفعت إلى ألوان من التجديد‬
‫الجريء شملت كل أوجه الخلق الفني وغيرت بالتدريج معالم‬
‫الثقافة العربية‪ .‬وغني عن القول أن هذا النقلب كان استجابة‬
‫منطقية لحاجة تاريخية‪ ،‬فقد تطورت الحياة العربية‪ ،‬بشقيها‬
‫المادي والروحي‪ ،‬منذ الحرب الخيرة حتى الن إلى حد لم تعد‬
‫تستوعبه أو تلئمه أشكال التعبير الفني التي كانت سائدة من‬
‫قبل‪ .‬ولكن ما حدث بعد ذلك كان مفارقة مبكية‪ ،‬فقد ساقتنا‬
‫حماستنا للتجديد إلى تقليد نماذج فنية أجنبية تنتمي إلى سياق‬
‫حضاري مختلف‪ ،‬وأفضت بنا رغبتنا في إنهاء غربتنا عن العصر‬
‫إلى نوع من الغربة عن الذات‪ ،‬وتحولت ثورتنا على المقاييس‬
‫البالية‪ ،‬في أحيان كثيرة‪ ،‬إلى "عدمية" ترفض كل المقاييس‪.‬‬
‫لماذا سار تطورنا الفني والدبــي‪ -‬ول ســيما منــذ‬
‫أوائل العقد الماضي‪ -‬في هذا التجاه؟‬
‫إن الجابة تكمن‪-‬في رأيي‪ -‬في عقدة النقص التي نحسها‬
‫إزاء الحضارة الغربية‪ ،‬فبدافع من هذه العقدة سارعنا إلى تبني‬
‫تيارات الفن الحديث في الغرب وراح بعض مثقفينا يرددون‪،‬‬
‫بكثير من التبجح والعتزاز‪ ،‬آراء نقاد الفن الغربيين المحدثين‬
‫ويحكمون من خللها على أعمالنا الدبية والفنية‪.‬‬
‫ولم يلتفت هؤلء المثقفون إلى واقع صارخ‪ ،‬هو أن‬
‫الحضارة الغربية تمر اليوم بطور انحلل وضياع‪ ،‬وأنها بالتالي‬
‫ليست النموذج المناسب لما نبغيه لنفسنا من رقي حضاري‪.‬‬
‫فالحضارة الغربية الراهنة قد انقلبت على نفسها وبدأت‬
‫تقوض‪ ،‬بنوع من اليأس والنزق الجامح‪ ،‬كل الركائز الفكرية‬
‫والمفاهيم الجمالية التي أقامتها لنفسها خلل عصور متعاقبة‪،‬‬
‫لتقف في نهاية المطاف وسط النقاض والخرائب مبشرة‬
‫باللشكل واللمعنى‪.‬‬
‫وليست هذه‪ ،‬بالطبع‪ ،‬محاولة للغض من قيمة‬
‫الحضارة الغربية التي أعطت العالم الكثير من‬
‫العمال والمثل الفنية العظيمة‪ ،‬ول هي دعوة إلى‬
‫تجاهل منجزات الخرين‪ ،‬فمن تحصيل الحاصل أن‬
‫الثقافة القومية –ول سيما في أيامنا هذه‪ -‬ل يمكن‬
‫أن تعيش وتزدهر بمعزل عن الثقافة العالمية‪،‬‬
‫ولكنها دعوة إلى وعي الذات‪ ،‬دعوة إلى إعادة النظر‬
‫في منحى تطور الثقافة العربية المعاصرة وتقصي‬
‫جذور المفاهيم التي تسترشد بها الجيال الجديدة‬
‫‪- 11 -‬‬
‫من أدبائنا وفنانينا‪.‬‬
‫إن مراجعة ما كتبه النقاد العرب في نظرية الفن وفي‬
‫النقد التطبيقي خلل السنوات الخيرة وما يكتبه نقاد الصحافة‬
‫عندنا وفي بقية أرجاء الوطن العربي تعليقا ً على ما يصدر من‬
‫أعمال أدبية وفنية ستقودنا إلى ملحظة أن حركتنا البداعية‬
‫)أي فنوننا وآدابنا( ظلت خلل العقدين الخيرين تدور في إطار‬
‫عدد من المفاهيم التي استقر في أذهان الكثير أنها مسلمات ل‬
‫ل‪ -‬أن على الفنان الحديث أن‬ ‫تحتاج إلى نقاش‪ .‬فنحن نقرأ –مث ً‬
‫يتجه إلى السطورة والرمز‪ ،‬وأن وظيفة الفن هي خلق عوالم‬
‫خاصة ل علقة لها بالواقع ولذلك فالعمل الفني يفسر من‬
‫الداخل وبمعزل عن العالم الموضوعي‪ ،‬وإن الفن يرفض‬
‫الترابط والوضوح والعقل‪ ،‬وإن على الفن أن يحطم كل‬
‫الشكال والقواعد المتعارف عليها متخطيا ً نفسه باستمرار‪.‬‬
‫وهذه المفاهيم التي يتسابق بعض مثقفينا إلى ترويجها هي‪-‬‬
‫بالضبط‪ -‬مرتكزات نظرية الفن الوربي الغربي في عصر‬
‫الثورة العلمية‪ -‬التكنولوجية‪.‬‬
‫ولكن ما هي الخلفية التاريخية التي قادت الفكر الجمالي‬
‫الغربي إلى هذا الموقف؟ لماذا يلتفت الفنان الغربي إلى‬
‫السطورة؟ لماذا يرفض العقلنية والوضوح؟ لماذا يصر على‬
‫فصم كل وشيجة بين الفن والواقع؟ ربما كان من الفضل أن‬
‫نبحث لدى المفكرين الغربيين أنفسهم عن إجابة عن هذه‬
‫التساؤلت‪.‬‬
‫في دراسة حول "جذور التعبير الرمزي" يقول الباحث‬
‫المريكي سيغفريد غديون‪ ،‬مفسرا ً لجوء الفنان الحديث إلى‬
‫السطورة والرمز‪:‬‬
‫"إن القاسم المشترك في العقيدة والطقوس‪ ،‬الذي كان‬
‫يشد النسان إلى النسان فيما مضى‪ ،‬قد فقد سلطانه اليوم‪.‬‬
‫فبعد أن كان السحر والسطورة والدين‪ ،‬في العهود البدائية‪،‬‬
‫تمد النسان بدرع روحي في وجه بيئة معادية‪ ،‬أمسى يقف‬
‫اليوم مجردا ً عاريًا‪ .‬وبغية التعويض كان عليه أن يخلق من ذاته‬
‫رموزا ً وصورا ً داخلية"‪.‬‬
‫ويقول أورلي هولتان في كتابه القيم "مدخل إلى المسرح‬
‫بوصفه مرآة للطبيعة" متحدثا ً عن أزمة الحضارة الغربية‬
‫المعاصرة‪:‬‬
‫"أن تراكم الدلة العلمية والصدمات العاطفية‬
‫التي أحدثتها الحرب العالمية الثانية وما تلها قد‬
‫جعل من الصعب على النسان أن يحتفظ بإيمانه‬
‫الديني القديم وأن يظن نفسه طفل ً للرب‪ .‬ولكن إذا‬
‫لم يكن النسان طفل ً للرب فماذا يكون؟ وإذا هو لم‬
‫يكن أكثر من واقعة كونية أو قرد بل شعر‪ ،‬فماذا‬
‫سيحل بكل بنيان القيم والتقاليد التي عاش عليها‬
‫منذ العصور الوسطى؟ هذا هو السؤال الذي وجد‬
‫كثير من المفكرين والفنانين المرهفي الحس‬
‫أنفسهم يطرحونه مع اقتراب القرن الحالي من‬
‫نهايته"‪.‬‬
‫ً‬
‫ويقول الفنان السوريالي الفرنسي جان آرب مدافعا عن‬
‫اللعقلنية في فنه‪:‬‬
‫"في رأيي أن العقل ل يقدم إل جزءا ً يسيرا ً جدا ً‬
‫من السعادة النسانية‪ .‬إن أشد ثمار العقل إثارة‬
‫للدهشة قد جلبت للبشرية تعاسة ل حدَ لها‪ .‬وأنا أجد‬
‫معظم مكتشفات عصرنا العظيمة مرعبة وكريهة‪.‬‬
‫‪- 12 -‬‬
‫ويقول آلن روب غرييه‪ ،‬أحد رواد ما يسمى بالرواية‬
‫الجديدة‪ ،‬مفسرا ً انفصال فنه عن الواقع‪:‬‬
‫"إن معاني العالم الذي حولنا الن ليست إل‬
‫جزئية ومؤقتة ومتناقضة وقابلة دائما ً للنقاش‬
‫والبحث‪ ،‬فكيف يستطيع العمل الفني إذن أن يدعي‬
‫تصوير معنى معروف مسبق مهما كان هذا المعنى؟‬
‫هل للواقع معنى؟ إن الفنان المعاصر ل يستطيع أن‬
‫يجيب عن هذا السؤال‪ .‬إنه ل يعرف شيئا ً عن هذا"‪.‬‬
‫إن هذه الشهادات‪ -‬وسنكتفي بها لئل نقع في استطراد‬
‫مخل‪ -‬تدلنا على المنابع الساسية للفن الوروبي الحديث‪.‬‬
‫فانهيار قيم الحضارة البورجوازية الغربية‪ ،‬ول سيما بعد الحرب‬
‫العالمية الخيرة‪ ،‬وحالة الغتراب والقلق التي يعانيها المثقف‬
‫في المجتمع الرأسمالي المتطور هما اللذان يغريانه باللجوء‬
‫إلى السطورة والخرافة بحثا ً عن درع روحي يحتمي به‪ .‬لقد‬
‫فقد المثقف البورجوازي الغربي إيمانه بالنهج العقلني الذي‬
‫اختطته الحضارة الوربية اعتقادا ً منه بأن هذا الّنهج هو الذي‬
‫قاده إلى ما يعانيه اليوم من ضياع ويأس‪ .‬وكفر بالعلم الحديث‬
‫حين رأى أن هذا العلم قد أثمر من وسائل البادة والتدمير ما‬
‫يكفي للقضاء على الجنس البشري بأسره‪ .‬وهو –أي المثقف‬
‫البورجوازي الغربي حائر أمام هذا اللغز لغز العقل الذي يقود‬
‫أصحابه إلى التعاسة والتقدم الذي يتمخض عن صنوف جديدة‬
‫مرعبة من القسوة والبربرية وحيرة المثقف البورجوازي‬
‫الغربي أمام ما يجري في مجتمعه يرافقها إحساس أليم‬
‫بالعجز عن الفعل والتغيير‪ .‬فهو أمام القوى الجبارة التي‬
‫تتحكم بحركة المجتمع أشبه بأبطال صاميويل بيكيت الذين‬
‫شدهم الشلل إلى مقاعدهم أو دفنوا حتى خصورهم في‬
‫الرمال‪ .‬وهو لهذا كله يدير ظهره لواقع يعجز عن فهمه ويعجز‬
‫عن تغييره‪ ،‬ليصوغ لنفسه‪ ،‬من خلل الفن‪ ،‬واقعا ً آخر جديدا ً ل‬
‫يخضع إل لمنطق هواه ونزواته‪ ،‬أويعود إلى الساطير باحثا ً عن‬
‫خلصه في حكمة العصور الخوالي‪ ،‬كما عبر غديون في مكان‬
‫آخر من دراسته المارة الذكر‪.‬‬
‫ما هي أوجه التماثل أو اللتقاء بين معاناتنا‪ ،‬نحن‬
‫المثقفين العــرب‪ ،‬وبيــن أزمــة المثقــف البورجــوازي‬
‫الغربي‪ ،‬كما تبدو من خلل الشهادات التي أوردناها؟‬
‫لعلي في غنى عن الجابة‪ ،‬فالهموم التي تؤرق المثقف‬
‫ل‪ -‬ذات طبيعة مختلفة تمامًا‪ .‬إن‬ ‫العربي‪-‬والنسان العربي إجما ً‬
‫خصومتنا ليست مع العقل بل مع الوضاع والممارسات‬
‫والمفاهيم اللعقلنية في حياتنا‪ ،‬وليست مع العلم‪ ،‬لننا نعرف‬
‫جيدا ً أن العلم يمنحنا القوة ويمدنا بأسباب الرقي المادي‬
‫والروحي‪ .‬ونحن ل نعاني في فهم الواقع مشقة كتلك التي‬
‫يعانيها آلن روب غرييه‪ ،‬فواقعنا واضح المعالم‪ :‬إنه واقع‬
‫الحتلل الجنبي والتجزئة والتسلط القطاعي والرأسمالي‬
‫والتخلف الحضاري‪ .‬ولسنا يائسين من تغيير هذا الواقع‪ ،‬رغم‬
‫الهزائم والخفاقات‪ ،‬لننا نقتنع يوميا ً من خلل التجارب بأننا‬
‫قادرون على تغييره بالفعل‪ .‬ونحن ل نشغل أنفسنا كثيرا ً‬
‫بالتساؤلت الميتافيزيقية حول معنى الحياة والموت‪-‬كما يفعل‬
‫ل‪ -‬ل لن الموت ل يخيفنا‪ ،‬ول لنا وجدنا الجواب‬ ‫بيكيت مث ً‬
‫القاطع عن هذه التساؤلت‪ ،‬وإنما لن همومنا الواقعية وقضايانا‬
‫الملحة ل تدع مجال ً لهذه الرياضة الذهنية العقيمة‪.‬‬
‫هذه‪ ،‬إذن‪ ،‬هي القضايا الساسية التي تشغل مثقفينا‬
‫الثوريين في المرحلة الراهنة من تاريخنا القومي‪ ،‬وهي التي‬
‫تؤلف بالتالي مضمون نتاجاتنا الفنية والدبية في هذه المرحلة‪.‬‬
‫أفليس غريبًا‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬أن نستورد لهذا المضمون أشكال ً فنية‬
‫‪- 13 -‬‬
‫وجدت أساسا ً للتعبير عن مضمون آخر مختلف نوعيًا؟ ثم‬
‫أليس من دواعي التهكم أن نتحدث‪ ،‬في الوقت نفسه‪ ،‬عن‬
‫الصالة والترابط العضوي بين المضمون والشكل؟‬
‫إن هذه المقدمة‪-‬وقد طالت‪ -‬كانت ضرورية قبل‬
‫النتقال إلى قضية التراث والمعاصرة في المسرح‬
‫العربي‪ ،‬فتطور المسرح مرتبط بمجمل تطور حياتنا‬
‫الثقافية‪ ،‬وقد كان من الطبيعي‪ ،‬وقد انساقت آدابنا‬
‫وفنونا خلل ربع القرن الخير مع النزعة "العدمية"‬
‫السائدة في الفن الوربي الحديث‪ ،‬أن ينساق معها‬
‫المسرح كذلك‪ ،‬وإن اتخذ انسياقه هذا في بعض‬
‫الحيان مظهر الحرص الشديد على الصالة القومية‪.‬‬
‫وقد تبدو الفكرة الخيرة غريبة ومتناقضة ولكني‬
‫سأوضحها في مكانها من السياق‪.‬‬
‫لبد لنا ونحن نتحدث عن التراث والمعاصرة في مسرحنا‬
‫العربي من أن نشير أول ً إلى أن العلقة مع التراث تتخذ في‬
‫هذا المجال شكل ً آخر غير الشكل الذي تتخذه في مجال‬
‫ل‪ .‬فالمسرح من الفنون الحديثة النشأة عندنا‪ ،‬إذ ل‬ ‫الشعر مث ً‬
‫يذهب تأريخه إلى أبعد من القرن الماضي‪ .‬ومن الثابت أننا‬
‫أخذنا مفهوم المسرح وقواعده وتقاليده عن الوروبيين‪،‬‬
‫وبخاصة عن المسرح الفرنسي الكلسيكي والرومانسي‬
‫)كورني وموليير وهوغو ودوما… الخ(‪ ،‬الذي أتيح لرواد مسرحنا‬
‫الوائل‪ ،‬كمارون النقاش وأبي خليل القباني ومحمد عثمان‬
‫جلل‪ ،‬أن يتصلوا به ويتعلموا منه‪ .‬ولم يكن ذلك خطأ )كما‬
‫زعم الكاتب السوري الدكتور سلمان قطاية في كتابه‬
‫"المسرح العربي‪ ..‬من أين وإلى أين"؟( ول تفريطا ً بالصالة‪،‬‬
‫فقد أخذت المم الوروبية بدورها فن المسرح عن الغريق‬
‫ولم تبتدعه ابتداعًا‪ ،‬ولكن هذا ل يقلل‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬من‬
‫أصالة مسرح شكسبير أو ثربانتس أو غوغول أو غيرهم من‬
‫كبار الكتاب المسرحيين الوروبيين‪.‬‬
‫وخلل السنوات الخيرة قيل كلم كثير حول الشواهد‬
‫الدالة على أن الحضارات القديمة في وادي الرافدين ومصر‬
‫والحضارة العربية السلمية قد عرفت في طقوسها وشعائرها‬
‫الدينية ونصوصها الدبية واحتفالتها الدنيوية بعض عناصر‬
‫المسرح‪ .‬وليس لهذا في الواقع كبير أهمية‪ ،‬فما من شعب في‬
‫الدنيا لم يمارس طقوسا ً وشعائر ذات شبه بالمسرح‪ ،‬وما من‬
‫أدب قومي في الدنيا ل يضم حكايات وشخصيات ومواقف‬
‫يمكن اتخاذها مادة لعرض مسرحي‪ .‬بل إن بين علماء الجتماع‬
‫من يذهب إلى أن الحياة نفسها مسرح كبير‪ ،‬يتقمص فيه‬
‫الناس‪ ،‬في كثير من الحوال‪ ،‬شخصيات غير شخصياتهم‬
‫الحقيقية وينطقون فيه بكلم أعدوه من قبل‪ .‬وهكذا فإن وجود‬
‫عناصر درامية في تراثنا ل يعني أننا عرفنا المسرح‪ ،‬لن هذه‬
‫العناصر بقيت في طورها الجنيني ولم تتطور لتصبح فنا ً‬
‫مستقل ً له نظريته ونماذجه وكّتابه‪ ،‬كما كان المر مع المسرح‬
‫الغريقي القديم‪.‬‬
‫ماذا نعني‪ ،‬إذن‪ ،‬حين نتحدث عن ضرورة ربط‬
‫المسرح بالتراث؟ إننا نعني‪ ،‬بالدرجة الولى‪ ،‬أن‬
‫يلتفت كتابنا المسرحيون إلى تاريخنا وأدبنا‬
‫ومأثوراتنا الشعبية يستمدون منها موضوعات‬
‫وأفكارا ً وشخصيات لعمالهم المسرحية على نحو ما‬
‫فعل شعراء المسرح الغريقي الكلسيكي حين‬
‫استقوا مادة مسرحهم من تراثهم الشعبي العظيم‪.‬‬
‫ولكن الرتباط بالتراث يتخذ عند بعض المعنيين بالمسرح‬
‫عندنا مدلول ً آخر‪ ،‬فهم يريدون للمسرح‪-‬باسم الصالة القومية‪-‬‬
‫‪- 14 -‬‬
‫أن يتخلى عن كل ركائز الدراما الرسطوطاليسية )الحبكة‪،‬‬
‫الشخصيات‪ ،‬وحدة الفعل‪ ،‬الحوار‪ ..‬الخ( وأن يستعيض عنها‬
‫بركائز أخرى يستمدها من التراث‪ .‬وكثيرا ً ما يشار في هذا‬
‫الصدد إلى كتابات الجاحظ ومقامات الهمذاني وخيال الظل‬
‫كمصادر لهذا المسرح "الصيل" المقترح‪ .‬وتتخذ هذه الدعوة‬
‫صورة متطرفة في كتاب الدكتور قطاية الذي سبقت الشارة‬
‫إليه‪ ،‬فبعد مناقشة سطحية ومليئة بالمغالطات لعناصر‬
‫المسرح الوروبي التقليدي‪ ،‬يخلص المؤلف إلى أن وجود النص‬
‫الدرامي والجمهور غير ضروري للمسرح وأن التمثيل هو‬
‫العنصر الضروري الوحيد لكي يكون المسرح مسرحًا! وبدل ً‬
‫من هذه العناصر غير الضرورية يقترح قطاية مسرحا ً جديدا ً‬
‫يعتمد على المقامات وخيال الظل وحلقات الذكر ورقص‬
‫السماح وصندوق الدنيا!‬
‫قد يتبادر إلى الذهن‪ ،‬للوهلة الولى‪ ،‬أن دعوة الدكتور‬
‫قطاية هذه وليدة المغالة في الحرص على الصالة‪ ،‬ولكن‬
‫القارئ الذي أتيح له أن يطلع على نظريات المسرح الوروبي‬
‫الحديث سرعان ما سيكتشف أن ثورة الدكتور قطاية على‬
‫الدراما الرسطوطاليسية ليست إل صدى متأخرا ً للراء التي‬
‫نادى بها الممثل الفرنسي انتونين آرتو منذ أربعين عاما ً في‬
‫كتابه المسرح وبديله‪ .‬فقد دعا آرتو في كتابه هذا‪ ،‬الذي أصبح‬
‫على حد تعبير أحد النقاد الغربيين إنجيل المسرح الجديد بعد‬
‫الحرب العالمية الثانية‪ ،‬إلى تحرير المسرح من طغيان الكلمة‬
‫ونبذ روائع الماضي والعودة إلى ما سماه آرتو بالمحاكاة‬
‫السحرية لحركات الجسم البشري‪ .‬وهذا ما عنيته حين قلت إن‬
‫النسياق مع النزعة العدمية في الفن البورجوازي الغربي‬
‫تنتحل لنفسها أحيانا ً مظهر الحرص الشديد على الصالة‬
‫القومية‪.‬‬
‫وليست الدعوة إلى بناء نظرية جديدة للمسرح‬
‫العربي قوامها مقامات بديع الزمان ورقص‬
‫الدراويش وخيال الظل وما أشبه إل رافدا ً واحدا ً من‬
‫مجموعة روافد فكرية جديدة تخللت الحياة المسرحية‬
‫العربية في السنوات الخيرة‪ .‬وهي روافد تنتهي‬
‫جميعا ً إلى مصب واحد‪ :‬رفض الدراما‬
‫الرسطوطاليسية والبحث عن أشكال جديدة‬
‫للمسرح‪.‬‬
‫وحين نتقصى هذه الروافد فسنجد أنها جميعا ً‬
‫ذات منابع أوروبية‪ .‬وسنجد –وهذا هو الهم‪ -‬أنها‬
‫انبثقت ضمن سياق اجتماعي وعقلي مختلف‪.‬‬
‫ولعل أبرز التيارات المناوئة للمسرح الرسطوطاليسي‬
‫في الوطن العربي اليوم تيار المسرح الملحمي‪ .‬ويستمد‬
‫المسرح الملحمي نفوذه الكاسح في بلدنا من كونه مسرحا ً‬
‫سياسيا ً ملتزما ً بالضافة إلى كونه بدعة جديدة في المسرح‪.‬‬
‫ومع أن تلمذة بريشت في بلدنا كثيرون‪ ،‬إل أن المرء يكتشف‪،‬‬
‫وكله دهشة‪ ،‬أن نظرية المسرح الملحمي التي أسهب‬
‫بريشت في شرحها ليست واضحة تماما ً في أذهان دعاتها‪.‬‬
‫ويحضرني مثال قريب‪ ،‬ففي الذكرى الثمانين لميلد برتولد‬
‫بريشت‪ ،‬التي مرت بنا مؤخرًا‪ ،‬كتب أكثر من فنان مسرحي‬
‫عراقي حول ارتباط مفهوم التغريب عند بريشت بمفهوم‬
‫التغريب عند ماركس‪ .‬والواقع أن المفهومين مختلفان تماما ً‬
‫والعلقة الوحيدة بينهما هي أن بريشت كان ماركسيًا! ول‬
‫تسمح طبيعة هذا المقال بالتوسع في شرح فكرة التغريب‬
‫عند ماركس )وقد درجنا على ترجمتها بكلمة استلب( واختلفها‬
‫عن فكرة التغريب البريشتي )التي يفضل البعض ترجمتها‬
‫‪- 15 -‬‬
‫بكلمة إبعاد(‪ ،‬ولكنا سنكتفي بالشارة إلى أن الستلب عند‬
‫ماركس هو مفهوم فلسفي تمتد جذوره إلى فلسفة هيغل‪،‬‬
‫أما التغريب عند بريشت فهو تقنية مسرحية يراد بها عزل‬
‫المتفرج عاطفيا ً عما يجري على منصة المسرح والحيلولة بينه‬
‫وبين الندماج في جو المسرحية‪ .‬وقد رأى بريشت أنه يستطيع‬
‫سرد الروائي‬ ‫تحقيق التغريب الذي يريده باستخدام وسائل ال ّ‬
‫على المسرح‪ ،‬ومن هنا جاءت تسمية المسرح الملحمي‬
‫التي يبدو أنها‪ ،‬هي الخرى‪ ،‬ليست واضحة تماما ً في بعض‬
‫الذهان‪.‬‬
‫وإذ نعود إلى كتابات بريشت النظرية تتكشف لنا العوامل‬
‫التي دفعته إلى رفض القواعد الرسطوطاليسية‪ ،‬فقد لحظ‬
‫بريشت –كما لحظ انتونين آرتو في الفترة نفسها تقريبًا‪ -‬أن‬
‫معظم الروائع الكلسيكية التي تقدم على المسرح ل تعطي‬
‫المتفرج المعاصر فكرة صادقة عن حياته ومشاكله‪ ،‬فهي‬
‫مكتوبة لزمنة أخرى غير زماننا )في رأي آرتو(‪ ،‬أو هي مكتوبة‬
‫من وجهة نظر الطبقات التي سيطرت على المجتمع في‬
‫مراحل تطوره المختلفة )في رأي بريشت(‪ .‬وقد رأى انتونين‬
‫آرتو أن يحسم المشكلة بالدعوة إلى نبذ النصوص المسرحية‬
‫القديمة جملة‪ ،‬فرفع شعاره المشهور "ل روائع قديمة بعد‬
‫اليوم"‪ ،‬أما بريشت فقد وجد للمشكلة علجا ً آخر هو إعادة‬
‫كتابة الروائع القديمة وعرضها بطريقة تكشف عن جوانب‬
‫الواقع التي أغفلها المؤلف وتساعد المتفرج على رؤية‬
‫الحقيقة‪ .‬ولبرتولد بريشت تجارب طريفة في هذا الصدد‬
‫فعندما فكر في تقديم مسرحية شكسبير العظيمة "روميو‬
‫وجولييت" على المسرح أضاف إليها ما يكشف عن الوجه‬
‫الخر لبطلها ويبدد الهالة الرومانسية التي أحاطه بها المؤلف‪،‬‬
‫إذ نرى روميو في أحد المشاهد يهدد فلحا ً بائسا ً بالطرد من‬
‫أرضه لنه عاجز عن دفع المبلغ الذي يريد روميو جمعه من‬
‫الفلحين لشراء هدية ثمينة لحبيبته جولييت!‬
‫على أن بريشت‪ ،‬وقد التقى بانتونين آرتو في‬
‫تشخيص مشكلة النص المسرحي القديم‪ ،‬ل يلبث أن‬
‫يسير في طريق مختلف تمامًا‪ .‬فإذا كان آرتو يعترض‬
‫على الدراما الرسطوطاليسية‪ ،‬فإنه يتفق مع‬
‫أرسطو على أن غاية المسرح هي التطهير أو ما‬
‫يشابهه‪ ،‬فمسرح القسوة الذي دعا إليه آرتو هو‬
‫مسرح يكشف للناس عن نوازع الشر الكامنة في‬
‫نفوسهم‪ ،‬وبذلك يساعدهم على كبحها والسيطرة‬
‫عليها‪ .‬أما بريشت فيرفض مبدأ "التطهير"‬
‫الرسطوطاليسي واضعا ً مكانه مبدأ "التعليم"‪ .‬وهو‬
‫لذلك ل يريد للمتفرج أن يندمج في المسرحية‪ ،‬أو هو‬
‫على القل ل يريد له أن يندمج فيها ذلك الندماج‬
‫الذي ينسيه نفسه ويمنعه من التفكير في القضية‬
‫المعروضة أمامه‪.‬‬
‫وإلى هنا تبدو المشكلة التي واجهها كل من بريشت وآرتو‬
‫متعلقة بمدى صدق النطباع الذي ينقله المسرح عن الواقع‪،‬‬
‫فقد لحظ الرجلان )وكلهما بنى نظريته في فترة ما بين‬
‫الحربين العالميتين( أن المسرح الوروبي مشغول بنصوص‬
‫قديمة ليست لها علقة وثيقة‪ ،‬أو ل علقة لها على الطلق‪،‬‬
‫بالحقائق المقلقة التي كانت تزخر بها الحياة الوربية في تلك‬
‫الفترة‪ .‬وهذا ما نلمسه بوضوح في صرخة أنتونين آرتو‬
‫الحتجاجية "إننا لسنا أحرارًا‪ ،‬فقد تنقض السماء فوق‬
‫رؤوسنا في أية لحظة‪ .‬والمسرح إنما وجد ليعلمنا‬
‫هذا قبل كل شيء"‪.‬‬

‫‪- 16 -‬‬
‫وهنا يخطر للمرء أن يتساءل‪ :‬ما العلقة بين قوانين‬
‫الدراما الرسطوطاليسية وبين عجز المسرح الوروبي في‬
‫الفترة المشار إليها عن التجاوب مع مشكلت الواقع؟ هل‬
‫اتسعت الحياة الحديثة وتعقدت إلى الحد الذي ل تستطيع‬
‫الدراما‪ ،‬بقواعدها المقررة‪ ،‬احتواءه‪ ،‬أم أن المسرح قام منذ‬
‫البداية على أسس خاطئة؟‬
‫وهذه‪ ،‬بالطبع أسئلة ل يمكن حسمها بكلمة عابرة‪ .‬ولكننا‬
‫نستطيع أن نتذكر في هذا السياق أن مسرح هنريك ابسن‬
‫)الذي كان صارما ً في تقيده بقواعد الدراما الرسطوطاليسية(‬
‫أحدث دويا ً هائل ً في أوروبا بأسرها في الربع الخير من القرن‬
‫الماضي عندما وجه ضربات عنيفة إلى أقوى المؤسسات‬
‫الجتماعية وأرسخها‪ :‬الكنيسة‪ ،‬النظام الرأسمالي‪ ،‬الصحافة‪،‬‬
‫السرة‪ ..‬الخ‪ .‬وما يقال عن مسرح ابسن يصدق إلى حد كبير‬
‫على مسرح برناردشو الذي عالج قضايا عصرنا بكثير من لعمق‬
‫والذكاء‪ ،‬وقد كان شو أسبق من بريشت إلى توكيد ضرورة‬
‫المناقشة الفكرية في المسرح الحديث‪ ،‬ولكنه لم يجابه *صعوبة‬
‫في إدارة هذه المناقشة ضمن الطار الدرامي المألوف‪.‬‬
‫ومن المثلة القريبة العهد في هذا الصدد مسرحية جون‬
‫أوزبورن المعروفة أنظر وراءك بغضب‪ ،‬فهذه المسرحية‬
‫ذات البناء الرسطوطاليسي التقليدي لم تكن حدثا ً مسرحيا ً‬
‫وحسب‪ ،‬بل كانت في الوقت نفسه حدثا ً اجتماعيا ً ساعد على‬
‫تفتيت التزمت الجتماعي النكليزي وجعل المواقف‬
‫الخلقية في المجتمع أكثر تسامحا ً‪ -‬على حد تعبير‬
‫الناقد مارتن إيسلن‪.‬‬
‫هل نمضي في تعداد المثلة؟ ل ضرورة لذلك‪ ،‬بالتأكيد‪،‬‬
‫فرجل المسرح يستطيع أن يستحضر إلى ذاكرته‪ ،‬دون عناء‪،‬‬
‫الكثير‪ ،‬من العمال المسرحية الحديثة التي لم تمنعها حبكتها‬
‫الرسطوطاليسية من استيعاب قلق العصر وأزماته وصراعاته‪.‬‬
‫كما أنه يستطيع أن يتذكر الكثير من "الروائع" الكلسيكية التي‬
‫مازلنا‪ ،‬رغم اختلف البيئة والعصر‪ ،‬نجد فيها نفوسنا وقضايانا‪،‬‬
‫ولول ذلك لما بقيت حية متجددة على خشبات المسارح‪.‬‬
‫وهكذا فليس سهل ً أن نسلم مع بريشت بأن الدراما‬
‫الرسطوطاليسية لم تعد تلئمنا وأن رسم صورة دقيقة للعالم‪-‬‬
‫على حد تعبيره‪ -‬يستلزم نوعا ً جديدا ً من التأليف للمسرح‪.‬‬
‫والواقع أن بريشت‪ ،‬الذي كان –خلفا ً لرتو‪ -‬كاتبا ً دراميا ً‬
‫عظيما ً قد نقض بكتاباته المسرحية جوهر نظريته حول‬
‫التغريب‪ ،‬إذ خلق‪-‬خلفا ً لرادته‪ -‬شخصيات درامية حية ل يملك‬
‫المرء إل أن يتجاوب معها عاطفيًا‪.‬‬
‫ومهما يكن من أمر فإن من الغلو في الدعاء أن يقول‬
‫قائل إن الشكل الدرامي الرسطوطاليسي قد ضاق عما نريد‬
‫تقديمه على المسرح‪ ،‬لننا لم نستنفد إمكانات هذا الشكل كما‬
‫استنفدها الكتاب الوروبيون‪ ،‬ولم نبلغ فيه ذروة تسمح لنا‬
‫بالنتقال إلى غيره من الشكال‪ .‬بل إننا لم نقدم إلى الجمهور‬
‫حتى الن من ألوان المسرح الدرامي الرسطوطاليسي ما‬
‫يسمح له بالموازنة والحكم على التجارب الجديدة التي نقدمها‬
‫إليه‪.‬‬
‫*‬
‫وووو وووووو وووو وووووو ووو وووو وووو و‪ .‬وو‪:‬‬
‫‪. The Quintessence of Ibsenism‬‬
‫‪- 17 -‬‬
‫لماذا سارعنا‪ ،‬إذن‪ ،‬إلى تبني نظرية المسرح الملحمي‬
‫بكل هذا الندفاع؟ إنها –أعيد القول‪ -‬نزعة النسياق مع كل تيار‬
‫جديد في الثقافة الوروبية‪ .‬ونزعة الهدم المستمر التي تسود‬
‫ثقافة العالم الرأسمالي في أيامنا هذه‪ .‬ول ينبغي أن نغفل‬
‫عامل ً آخر مهما ً هو أن الشكال الجديدة‪ -‬أو اللأشكال‪ ،‬إذا شئنا‬
‫الدقة في التعبير‪ -‬تعفي الفنان‪ ،‬أيا ً كان المجال الذي يعمل‬
‫فيه‪ ،‬من المحاسبة‪ ،‬لن المحاسبة متعذرة مع غياب أية معايير‬
‫متفق عليها‪.‬‬
‫إن هذه الوقفة عند بعض الروافد الغربية التي تسربت إلى‬
‫حركتنا المسرحية في السنوات الخيرة قد تطول كثيرا ً إذا‬
‫حاولنا أن نستقصي كل الروافد ونردها إلى منابعها‪ .‬وربما كان‬
‫مسرح العبث الوجودي جديرا ً بأن نتوقف عنده‪ ،‬لن بعض‬
‫مفاهيمه قد تسللت إلى أدبنا وممارستنا المسرحية‪ ،‬وإن لم‬
‫يتحول إلى تيار ذي شأن في نشاطنا المسرحي‪ .‬ولكن هذه‬
‫الكلمة ل تطمح إلى الشمول‪ ،‬وإنما هي مجرد دعوة إلى إعادة‬
‫النظر‪ ،‬دعوة إلى وعي الذات‪.‬‬

‫ءءءءء ‪1978‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫ملمح أساسية‬
‫في كتاب "فن الشعر" لرسطوطاليس‬

‫بالرغم من أن كتاب أرسطوطاليس الشهير "فن‬


‫الشعر" )‪ (Poetics‬قد وصل إلينا بصورة ناقصة‪ ،‬مشوشة‪ ،‬مما‬
‫حمل أغلب الدارسين على العتقاد بأنه ليس أكثر من‬
‫ملحظات موجزة دونها الفيلسوف ليستعين بها في تدريس‬
‫طلبه‪ ،‬فإن هذا الكتاب الصغير هو –بإجماع الراء‪ -‬أهم وثيقة‬
‫في تاريخ النقد الدبي بأسره‪ .‬وقد اختفى هذا الكتاب‪ ،‬في‬
‫جملة ما اختفى من مؤلفات الفيلسوف العظيم بعد وفاته‪،‬‬
‫وظل مهمل ً في خزائن الدولة البيزنطية عصورا ً مديدة حتى‬
‫اكتشفه العرب في القرن العاشر الميلدي وقام المترجم‬
‫السرياني متى بن يونس القنائي بنقله إلى العربية*‪ .‬وقد ظفر‬
‫الكتاب باهتمام الفلسفة العرب في العصر الوسيط‪ ،‬وعلى‬
‫رأسهم ابن سينا وابن رشد‪ ،‬اللذان حاول شرح ما أراده‬
‫أرسطوطاليس في كتابه‪.‬‬
‫ولكن ل المترجمون السريانيون ول الفلسفة العرب‬
‫استطاعوا أن يفهموا الكتاب على الوجه الصحيح‪ .‬وكان ذلك‬
‫أمرا ً طبيعيًا‪ ،‬فكتاب "فن الشعر" يدور حول التراجيديا‬
‫والملحمة‪ ،‬في المقام الول‪ ،‬وهما لونان من التأليف الدبي لم‬
‫يكن يعرفهما العرب آنذاك‪ .‬وفضل ً عن ذلك فقد كان المسرح‬
‫الكلسيكي )الغريقي والروماني( قد انقرض منذ أمد بعيد‪،‬‬
‫وبالتالي فلم تعد ثمة شواهد حسية تمكن الباحثين العرب من‬
‫معرفة معنى التراجيديا والكوميديا‪ ،‬وهكذا انصرفت أذهانهم‬
‫إلى أن التراجيديا هي شعر المديح وأن الكوميديا هي شعر‬
‫الهجاء‪ .‬ومع ذلك فقد كان للفلسفة العرب –ولسيما ابن‬
‫رشد‪ -‬فضل تنبيه الوربيين إلى خطورة هذا الكتاب‪ ،‬الذي أصبح‬
‫منذ القرن السادس عشر مرشد العاملين في المسرح وفي‬
‫النقد المسرحي والدبي على السواء‪ .‬بيد أن تعاليم‬
‫أرسطوطاليس حول التراجيديا قد تعرضت لكثير من التحريف‬
‫وسوء الفهم على يد اليطالي لودوفيكو كاستلفيترو )‪-1505‬‬
‫‪ (1571‬الذي نسب إلى الفيلسوف اليوناني أفكارا ً لم يقل بها‬
‫ل‪ -‬أن زمن التمثيل يجب أن يتطابق تماما ً مع‬ ‫قط‪ ،‬كزعمه –مث ً‬
‫زمن الفعل )‪ (action‬الذي تشتمل عليه المسرحية‪ ،‬وأن‬
‫أحداث المسرحية يجب أن تدور في مدة أقصاها اثنتا عشرة‬
‫ساعة‪ ،‬وأن مكان الفعل ينبغي أن يكون واحدا ً ل يتغير‪ .‬ومن‬
‫*‬
‫ووو ووووووو وووو وووو وووووو ووووو ووووووو‬
‫وووووو وووووووووووو ووووو ووووو وووو ووووووو وو‬
‫ووووووووو ووووووو‪ .‬ووو ووو ووووووو وووو وووو ووو‬
‫وووو وووو ووو وووو‪.‬‬
‫‪- 19 -‬‬
‫هنا نشأت فكرة الوحدات الثلث التي تمسكت بها الكلسيكية‬
‫الجديدة في فرنسا وحولتها إلى قانون ملزم لكتاب الدراما‪.‬‬
‫ويبرز‪ ،‬على نحو خاص‪ ،‬في هذا الصدد اسم الشاعر والناقد‬
‫الفرنسي نيكول بوالو وقصيدته الشهيرة فن الشعر )‪L, Art‬‬
‫‪ (Poetique‬الصادرة عام ‪ ،1674‬والتي نسج فيها على منوال‬
‫الشاعر الروماني هوراس الذي سبقه في عرض آرائه النقدية‬
‫في قالب شعري‪ .‬وقد نبه بوالو‪ ،‬في قصيدته تلك‪ ،‬شعراء‬
‫التراجيديا إلى ضرورة التقيد بالوحدات الثلث )وحدة الفعل‪،‬‬
‫وحدة الزمن‪ ،‬وحدة المكان( انسجاما ً مع العتقاد السائد بأن‬
‫أرسطوطاليس وهوراس قد أوصيا بذلك‪ ،‬فضل ً عن أن هذا –‬
‫كما اعتقد بوالو ومعاصروه‪ -‬وهو ما يقتضيه منطق الطبيعة‬
‫وقوانين العقل‪ ،‬التي كانت دستورا ً يسترشد به الكلسيكيون‬
‫الفرنسيون‪ .‬وقد بلغ من تمسك هؤلء بما عرف بمبدأ الوحدات‬
‫الثلث أن فولتير‪ ،‬الذي اطلع على أعمال شكسبير خلل إقامته‬
‫في لندن‪ ،‬عده كاتبا ً بربريًا‪ ،‬لنه لم يلزم نفسه بهذا المبدأ‪ .‬وقد‬
‫ظلت مفاهيم الكلسيكية الفرنسية الجديدة‪ ،‬التي ادعت‬
‫لنفسها الحرص الشديد على وصايا أرسطوطاليس وهوراس‪،‬‬
‫سائدة في المسرح الوربي حتى أصدر الناقد اللماني الكبير‬
‫غوتهولد أفرايم ليسنغ كتابه الذائع الصيت الفن المسرحي في‬
‫هامبورغ فبدد به الكثير من الوهام المتوارثة عن أرسطو‬
‫وكتابه فن الشعر ووجه إلى المسرح الكلسيكي الفرنسي‪-‬‬
‫وإلى مسرح فولتير بخاصة‪ -‬ضربات موجعة سرعان ما أدت‬
‫إلى انهياره وظهور الدراما البورجوازية الحديثة‪ ،‬التي كان‬
‫ليسنغ نفسه من روادها الوائل*‪ .‬والواقع أن أرسطوطاليس لم‬
‫يتحدث في فن الشعر عن شيء اسمه الوحدات الثلث بل‬
‫وقف بالتحديد عند وحدة الفعل التي سنتطرق إليها في ما‬
‫يلي من حديث‪ .‬أما وحدة الزمان فإن سندها الوحيد إشارة‬
‫عابرة‪ ،‬وردت في الفصل الخامس من كتابه في معرض‬
‫المقارنة بين التراجيديا والملحمة‪ .‬وتقول عبارة أرسطو‬
‫بالحرف الواحد‪" :‬إن التراجيديا تحاول‪ ،‬قدر المستطاع‪،‬‬
‫شمسية واحدة‪ ،‬أو أن تتجاوز‬ ‫أن تقيد نفسها بدورة‬
‫هذا الحد تجاوزا ً طفيفا ً")‪ .(1‬وواضح من هذه العبارة أن‬
‫الفيلسوف اليوناني لم يصغ قانونا ً يلزم كتاب الدراما بحدود‬
‫زمنية معينة‪ ،‬وإنما أشار إلى لمحة من ملمح المسرح‬
‫التراجيدي الغريقي‪ .‬وستغدو هذه الشارة مفهومة إذا وضعنا‬
‫في حسابنا أن التراجيديا الغريقية كانت تؤلف‪ ،‬في العادة‪،‬‬
‫حلقة واحدة من ثلثية ذات موضوع عام واحد‪ .‬وبالتالي فهي‬
‫تشبه أن تكون فصل ً من مسرحية ذات فصول ثلثة‪ .‬ومن‬
‫المألوف أن تجري وقائع الفصل الواحد من المسرحية في‬
‫إطار زمني ضيق‪ .‬فإذا عدنا بعد ذلك إلى ما يسمى بوحدة‬
‫المكان فإننا لن نجد لها أي ذكر في كتاب أرسطوطاليس‪،‬‬
‫الذي نحن بصدده‪.‬‬
‫ولنعد‪ ،‬بعد هذه التوطئة التي طالت بعض الشيء‪ ،‬إلى‬
‫نقطة البدء‪ ،‬أي إلى كتاب فن الشعر نفسه‪ .‬ومن المعروف أن‬
‫هذا الكتاب يركز اهتمامه‪ ،‬بالدرجة الولى‪ ،‬على التراجيديا‪،‬‬
‫ولكن أهميته في الواقع تتخطى ذلك بكثير‪ ،‬حتى ليمكن أن‬
‫يقال‪ ،‬دونما تزيد‪ ،‬أنه أول كتاب يضع نظرية شاملة للفنون‪،‬‬
‫أساسها المحاكاة والثر السايكولوجي الخاص الذي يحدثه‬
‫العمل الفني في نفس المتلقي‪ .‬ولكننا ل نريد لهذا البحث أن‬
‫يكون استعراضا ً شامل ً لما أورده أرسطوطاليس في كتابه‪،‬‬
‫*‬
‫وووو "ووووو" ووووو وووو ووووو وووو ووووو وووووووو‬
‫وووو ووو وووو وووووو وووووو وو ووووووو وووو ‪-68‬‬
‫‪.1769‬‬
‫)( ‪.Aristotle, poetics, Trans By S.H. Butcher, chapter 5‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫فهذه غاية يصعب إدراكها في نطاق بحث محدود كهذا‪ ،‬وإنما‬
‫يهمنا أن نقف وقفة متريثة أمام ثلث ركائز أساسية تقوم‬
‫عليها نظرية الدراما عند أرسطوطاليس‪ ،‬وهي‪ :‬المحاكاة‪،‬‬
‫الوحدة العضوية‪ ،‬التطهير‪.‬‬

‫مفهوم المحاكاة عند أرسطوطاليس‪.‬‬


‫تمثل المحاكاة )‪ -(Mimesis‬كما أسلفنا‪ -‬الساس‬
‫المشترك للفنون في رأي أرسطوطاليس‪ ،‬فنحن نقرأ في‬
‫الصفحة الولى من كتابه هذه الفقرة‪" :‬وهكذا‪ ،‬فإن الشعر‬
‫الملحمي والتراجيدي‪ ،‬وكذلك الكوميديا والشعر‬
‫الديثرامبي‪ ،‬والجزء الكبر من العزف على الناي‬
‫والمزهر‪ -‬كلها بوجه عام‪ ،‬ضروب من المحاكاة‪،‬‬
‫تختلف فيما بينها في ثلثة أمور‪ :‬فهي تحاكي إما‬
‫مختلفة‪(2،‬أو أشياء مختلفة‪ ،‬أو بطريقة‬ ‫بوسائل‬
‫مختلفة مغايرة") ‪.‬‬
‫وتنبغي الشارة إلى أن مفهوم المحاكاة‪ ،‬الذي يرتبط في‬
‫الذهان بأرسطوطاليس‪ ،‬ليس من ابتداعه في الواقع‪ ،‬فقد‬
‫سبقه أستاذه أفلطون إلى اعتبار الشعر والفنون التشكيلية‬
‫ضروبا ً من المحاكاة للطبيعة والواقع المادي‪ .‬وكان هذا‪ ،‬في‬
‫نظر أفلطون‪ ،‬مدعاة لحتقار الفنون‪ ،‬فالواقع الذي ندركه‬
‫بالحواس ل يعدو‪ ،‬في رأيه‪ ،‬أن يكون صورة باهتة لعالم المثل‬
‫الزلي الذي يدرك بالعقل‪ .‬وبالتالي فإن الفنون ليست إل‬
‫محاكاة لمحاكاة‪ ،‬وهذا ما يجعلها بعيدة عن الحقيقة بثلث‬
‫درجات‪ .‬فل عجب إذا كان أفلطون قد أوصد أبواب جمهوريته‬
‫الفاضلة في أوجه الشعراء وأشبعهم تقريعا ً في الفصل العاشر‬
‫من كتاب الجمهورية‪ ،‬وإن كان قد جنح بعد ذلك إلى شيء من‬
‫التساهل معهم في كتاب القوانين‪ .‬ويميل الباحثون‪ ،‬بوجه عام‪،‬‬
‫إلى العتقاد بأن ما كتبه أرسطوطاليس عن المحاكاة وعن‬
‫مكانة الشعر وبقية الفنون بين ضروب النشاط العقلي‬
‫المختلفة إنما هو رد غير مباشر على آراء أفلطون هذه‪.‬‬
‫فالمحاكاة عند أرسطوطاليس ليست مثلبة للشاعر أو‬
‫الفنان‪ ،‬لن الناس ميالون بطبيعتهم إلى محاكاة الخرين‪ ،‬وهم‬
‫يستمتعون برؤية الشياء المحكية حتى لو كانت هذه الشياء‬
‫بحد ذاتها ل تسر الناظر‪ ،‬كالحيوانات المقززة أو جثث‬
‫الموتى)‪ .(3‬وفوق ذلك فإن المحاكاة تعود على النسان‬
‫بالمعرفة‪ ،‬والمعرفة ل تسر الفلسفة وحدهم‪ ،‬بل الناس بوجه‬
‫عام‪ .‬على أن الهم من ذلك كله أن المحاكاة‪ ،‬عند‬
‫أرسطوطاليس‪ ،‬ل تعني النقل الحرفي للطبيعة والواقع‬
‫الملموس‪ ،‬فالفن ليس مجرد مرآة تعكس الشياء بصورة آلية‪،‬‬
‫خالية من البداع‪ ،‬كما يزعم أفلطون في جمهوريته‪ ،‬لن‬
‫للفنانين‪-‬ومنهم الشعراء بالطبع‪ -‬طرائق مختلفة في‬
‫المحاكاة‪ ،‬كما يفهم من الفقرة التي أثبتناها آنفًا‪ .‬ويتوقف‬
‫أرسطوطاليس عند هذه النقطة في الفصل الثاني من كتابه‪،‬‬
‫موضحا ً أن الختلف في طرق المحاكاة يتجّلى‪ ،‬ل في‬
‫الشعر والرسم وحسب‪ ،‬بل حتى في الرقص وفي العزف على‬
‫الشبابة والمزهر‪ .‬على أن أبعاد نظرية المحاكاة عند‬
‫أرسطوطاليس تتكشف‪ ،‬بنحو خاص‪ ،‬في المقارنة الشهيرة‬
‫التي أجراها بين الشعر والتأريخ‪ ،‬ففي الفصل التاسع من فن‬
‫)( وووووو ووو وووووو وو ووووووو ووووووووو ووووو "وو‬ ‫‪2‬‬

‫ووووو" وووو ووو ووو ووووووو ووووووو ءءءءءء وو‬


‫وووو وووووووو ووووووو و ‪2‬و ‪.1993‬‬
‫)( وووو ووووو وووووو وو وووو "وو ووووو"‬ ‫‪3‬‬
‫ووووووووووو‪.‬‬
‫‪- 21 -‬‬
‫الشعر يقول ما نصه‪" :‬يتضح مما قيل كذلك أن مهمة‬
‫الشاعر أن يتحدث ل عما وقع بالفعل‪ ،‬بل عما يمكن‬
‫أن يقع‪ ،‬أي عما هو ممكن بمقتضى الحتمال أو‬
‫الضرورة‪ .‬فالشاعر والمؤرخ يختلفان ل في أنهما‬
‫يتحدثان بكلم موزون أو منثور‪ ،‬إذ أن مؤلف‬
‫"هيرودوت" يمكن أن يصاغ في أبيات موزونة‪ ،‬ولكنه‬
‫سيظل تأريخا ً ما‪ ،‬سواء أكان منظوما ً أو منثورًا‪ .‬إنما‬
‫الفرق في أن الول يتحدث عن أشياء وقعت بالفعل‪،‬‬
‫أما الثاني فعن أشياء كان يمكن أن تقع‪ .‬ولهذا فإن‬
‫الشعر أدنى إلى الفلسفة وأخطر شأنا ً من التاريخ‪،‬‬
‫يتحدث‪ ،‬في الغالب‪ ،‬عن الكلي‪ ،‬أما التأريخ‬ ‫فالشعر‬
‫فعن الجزئي")‪.(4‬‬
‫ومدلول هذه الفقرة مما ل يحتمل اللبس‪ ،‬فمهمة الشاعر‬
‫أن يتحدث ل عما وقع بالفعل‪ ،‬بل عما يمكن أن يقع‪ .‬وبعبارة‬
‫أخرى‪ ،‬فإن مهمة الشاعر ل تنحصر في نقل الواقع العياني نقل ً‬
‫حرفيًا‪ ،‬مثلما تعكس المرآة الصور‪ ،‬بل هي بناء واقع جديد‪،‬‬
‫ممكن التحقق‪ ،‬استنادا ً إلى المبادئ الكلية التي تحكم الطبيعة‬
‫والسلوك البشري‪ .‬من هنا كان الشعر أوثق ارتباطا ً بالفلسفة‬
‫من التأريخ‪ ،‬فالتراجيديا‪-‬التي بنى عليها الفيلسوف اليوناني‬
‫تصوراته –ل تعنى بالتفاصيل والجزئيات لذاتها‪ ،‬وإنما تتخذ منها‬
‫معبرا ً إلى ما هو كلي شامل‪ ،‬كصراع النسان مع القدر‪ -‬كما‬
‫في أوديب الملك‪ -‬أو تحديه لمشيئة اللهة‪ -‬كما في‬
‫برومثيوس المقيد‪ .‬ومن السذاجة أن يتوهم أحد أن‬
‫سوفوكليس واسخيلوس قد صورا في هاتين المسرحيتين‬
‫وقائع عايشاها بأنفسهما ونقلها إلى القارئ –أو المتفرج‪ -‬بدقة‬
‫وأمانة‪.‬‬
‫ولبد لنا‪ ،‬قبل أن ننتقل إلى النقطة التالية من حديثنا‪ ،‬من‬
‫أن نتوقف عند كلمة ‪ mimesis‬الغريقية‪ ،‬التي جرت العادة‬
‫بترجمتها إلى "محاكاة" بالعربية و ‪ imitation‬بالنجليزية وما‬
‫يماثل هذه وتلك في اللغات الخرى‪ .‬والواقع أن كلمة‬
‫‪ ،mimesis‬كما يصر كثير من الباحثين‪ ،‬ل تؤدي هذا المعنى‬
‫كروتشه يذهب‬ ‫بالضبط‪ ،‬فالفيلسوف اليطالي المعروف بنديتو‬
‫إلى أنها تعني شيئا ً وسطا ً بين المحاكاة والتصوير)‪ ،(5‬بينما‬
‫يرى وولتر كاوفمان‪ ،‬وهو فيلسوف أمريكي معاصر‪ ،‬أن كلتا‬
‫المفردتين ل تؤديان المعنى المقصود بدقة‪ ،‬وإن كانت كلمة‬
‫تصوير تلئم بعض المواضع في فن الشعر أكثر من كلمة‬
‫محاكاة‪ .‬ولكاوفمان منطقه السديد في هذا الصدد‪ ،‬فهو‬
‫يتساءل‪" :‬حتى لو سلمنا بالفرضية القائلة بأن‬
‫الملحمة والتراجيديا والكوميديا "تحاكي" شيئا ً ما‪-‬‬
‫فماذا يحاكي الشعر الديثرامبي؟ وماذا يحاكي الجزء‬
‫الكبر من موسيقى الناي والمزهر"؟)‪ .(6‬ولنا أن نضيف‬
‫إلى تساؤلت كاوفمان أن أرسطوطاليس ل يكتفي بإدراج‬
‫الموسيقى في عداد الفنون المحاكية بل يؤكد في الفصل‬
‫الثامن من كتاب السياسة أنها أقدر الفنون جميعا ً على‬
‫المحاكاة!‬
‫ولعل في ما أوردناه ما يكفي للتدليل على أن‬
‫أرسطوطاليس ل يستخدم كلمة ‪ mimesis‬دوما بالمعنى الذي‬
‫)( وووووو ووو وووووو وو ووووو ووووووووو و‪ .‬ءءءءءءو‬ ‫‪4‬‬
‫وووو وووو ووووووو ووووو‪.‬‬
‫)( وووو‪B. Croce, Aesthetic, Nonpareil Books, Boston, 1978, p. :‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪.157‬‬
‫)( وووو‪Walter Kaufmann, Tragedy and philosophy, 3rd edition, :‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪.princeton, New jersy, 1992, p37‬‬
‫‪- 22 -‬‬
‫قصد إليه أفلطون‪ .‬وقد نكون أقرب إلى فهمه إذا ترجمنا هذه‬
‫المفردة في معظم السياقات التي وردت فيها إلى "تقديم‬
‫صور عن الحياة" )‪ -(representations of life‬كما يقترح هاملتون‬
‫فايف‪ ،‬وهو واحد ممن ترجموا كتاب فن الشعر إلى‬
‫النجليزية‪ .‬وإذ نفهم كلمة ‪ mimesis‬على هذا الوجه يتضح لنا‬
‫السبب الذي جعل بعض المفكرين المعاصرين‪ ،‬ومنهم‬
‫الفيلسوف اللماني هانس غ‪ .‬غادامير‪ ،‬يطالبون برد العتبار‬
‫المعجم النقدي‪ ،‬الذي‬ ‫إلى هذا المصطلح وإعادة إدراجه في‬
‫أقصي عنه منذ أواخر القرن الثامن عشر‪.(7).‬‬

‫‪ -2‬مفهوم الوحدة العضوية عند أرسطوطاليس‪.‬‬


‫يؤلف مفهوم وحدة العمل الفني‪ -‬أو الوحدة العضوية‪ ،‬كما‬
‫يسميها النقاد المعاصرون‪ -‬حجر الزاوية في فلسفة‬
‫أرسطوطاليس الجمالية‪ .‬وترينا القراءة المدققة للفصل الثامن‬
‫من كتاب فن الشعر أن هذا المبدأ ل يخص التراجيديا وحدها‪،‬‬
‫بل يتعداها إلى سائر الفنون المحاكية الخرى‪ .‬فالعمل الفني‬
‫الواحد‪ ،‬أو المحاكاة الواحدة‪ -‬كما يقول الفيلسوف‪ -‬إنما تكون‬
‫لشيء واحد‪ ،‬ولهذا وجب أن تكون موحدة‪ ،‬متكاملة‪ .‬وبقدر ما‬
‫يتعلق المر بالتراجيديا )ونستطيع هنا أن نعمم فنقول‪ ،‬الدراما‬
‫بوجه عام( فإنها محاكاة لفعل‪ .‬وطبقا ً للمبدأ المذكور‪ ،‬يجب أن‬
‫ل‪ ،‬وأن ترتب أجزاؤه )أو تبنى‬ ‫يكون هذا الفعل موحدًا‪ ،‬متكام ً‬
‫حبكته( على نحو يجعل تغيير أحد الجزاء أو حذفه سببا ً في‬
‫تغيير الكل وتخلخله‪ .‬لنه ما ل يؤدي حضوره أو غيابه إلى‬
‫اختلف ملموس ل يعد جزءا ً من الكل‪.‬‬
‫ولكن… متى تكون الحبكة موحدة؟‬
‫يجيبنا أرسطوطاليس عن هذا السؤال في الفصل الثامن‬
‫من كتابه بقوله‪" :‬تكون الحبكة موحدة‪ ،‬ل عندما تتعلق‬
‫بشخص واحد‪ ،‬كما يظن البعض‪ ،‬فالشخص الواحد قد‬
‫تحدث له أمور كثيرة‪ ،‬ل حصر لها‪] ،‬ولكنها[ ل تؤلف‬
‫أي وحدة‪ .‬كذلك يمكن أن يقوم الشخص الواحد‬
‫بأفعال كثيرة دون أن ينتج عنها فعل واحد متكامل‪.‬‬
‫أخطأ جميع أولئك)‪(9‬الشعراء الذين‬ ‫ولهذا‪ ،‬كما يبدو‪،‬‬
‫نظموا "الهيرقليدا")‪ (8‬و"الثيسيدا" وغيرهما من‬
‫القصائد المماثلة‪ ،‬ظنا ً منهم بأنه ما دام هرقل واحدا ً‬
‫وجب أن تكون الحبكة موحدة كذلك‪.‬‬
‫"ولكن هوميروس‪ ،‬الذي يتفوق في نواح كثيرة أخرى‪ ،‬قد‬
‫أدرك هذا المر كذلك إدراكا ً جيدًا‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬سواء بفضل‬
‫الوذيسية" لم يصور‬ ‫البراعة أو بفضل الموهبة‪ .‬فعندما ألف "‬
‫كل ما وقع للبطل‪ -‬كإصابته بجرح في اليارناس)‪ ،(10‬أو تظاهره‬
‫بالجنون عند احتشاد الجيوش‪ ،‬لن أيا ً من هاتين ]الحادثتين[ ل‬
‫تقع بالضرورة أو على سبيل الحتمال عند وقوع الخرى‪ -‬وإنما‬
‫على الفعل الواحد‪ ،‬الذي نتحدث عنه‪ ،‬وكذلك‬ ‫)‪(11‬‬
‫بنى الوذيسية‬
‫فعل في اللياذة"‪.‬‬
‫ولكي نستكمل مستلزمات الحبكة الدرامية عند‬
‫)( وووو‪peter J.Mc Comick, Modernity, Aesthetics and the Bounds :‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪.of art, Ithaca and London, 1990, p17‬‬
‫)( ووووو وو وووو ووووو وووووووو وووووووو وووو‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( ووووو وو وووو ووووو وووووووو وووووووو وووووو‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫)( وووووو وو ووووووو ووو ووو ووووووو وو وووووو‬ ‫‪10‬‬

‫وووووو ووو وو "ءءءءءءءءء" ووووووووو ووو وووو‬


‫وووووووووو‪.‬‬
‫‪- 23 -‬‬
‫أرسطوطاليس ونقف على مدى أهميتها بالقياس إلى العناصر‬
‫الخرى في التأليف الدرامي‪ ،‬نجد من الضروري أن نعود عودة‬
‫قصيرة إلى الفصل السابع من فن الشعر‪ ،‬حيث يشير‬
‫الفيلسوف إلى أن ترتيب الحداث‪-‬أي الحبكة‪ -‬هو العنصر الول‬
‫والهم في التراجيديا‪ ،‬مضيفا ً أن التراجيديا هي محاكاة لفعل‬
‫كلي تام‪ ،‬وأن الكلي هو ما يتألف من بداية ووسط وختام‪.‬‬
‫يتضح مما تقدم أن أرسطوطاليس يضع الحبكة في‬
‫المرتبة الولى بين عناصر العمل الدرامي‪ ،‬وهو يشترط في‬
‫الحبكة الدرامية أن تقوم على فعل تام مترابط‪ ،‬تتعاقب‬
‫أجزاؤه على نحو يجعل من الواقعة السابقة سببا ً أو تمهيدا ً‬
‫للواقعة التي تليها‪ .‬وهذا بالضبط ما يعنيه مصطلح وحدة‬
‫الفعل الذي يسيء البعض فهمه فيترجمونه بوحدة الحدث‪،‬‬
‫على ما بين تلك وهذه من اختلف بّين‪.‬‬
‫ولوحدة الفعل في الدراما ما يقابلها في الفنون المحاكية‬
‫الخرى فالوحدة شرط لبد منه لكل عمل فني‪ .‬على أن هذه‬
‫الوحدة ل ينبغي بالضرورة أن تكون وحدة فعل‪ ،‬فالفنون ل‬
‫تحاكي الفعال وحدها‪ ،‬بل تحاكي المشاعر والنطباعات‬
‫والفكار والخيلة كذلك‪ .‬والمهم أن يؤلف العمل الفني‪ ،‬أيا ً كان‬
‫نوعه‪ ،‬بنية تامة مترابطة‪ ،‬تذكرنا بترابط أعضاء الجسد الحي‪،‬‬
‫ومن هنا جاء مصطلح الوحدة العضوية الذي يستخدمه النقد‬
‫المعاصر‪ .‬وقد ترك لنا مؤلف فن الشعر مقياسا ً بالغ الدقة‬
‫لمدى تحقق الوحدة في العمل الفني حين قال‪" :‬إن ما ل‬
‫حضوره أو غيابه إلى اختلف ملموس ل يعد جزءا ً من‬ ‫)‪(12‬‬
‫يؤدي‬
‫الكل"‪.‬‬

‫‪ .3‬مفهوم التطهير عند أرسطوطاليس‪.‬‬


‫في الفصل السادس من فن الشعر يقدم لنا‬
‫أرسطوطاليس تعريفه الشهير التالي للتراجيديا‪:‬‬
‫‪(13...‬وهكذا فإن التراجيديا هي محاكاة لفعل‬
‫جدي) ‪ ،‬تام‪ ،‬ذي حجم معين‪ ،‬بلغة محسنة‪ ،‬تختلف‬
‫باختلف الجزاء‪ ،‬وهي محاكاة بالفعل ل بالسرد‪،‬‬
‫خلل الرثاء والخوف تطهيرا ً من المشاعر‬ ‫تحدث من‬
‫)‪(14‬‬
‫المماثلة‪.‬‬
‫وتكمن أهمية هذا التعريف‪ ،‬الذي نقله المترجمون إلى‬
‫اللغات الخرى على أوجه متعددة‪ ،‬في أمرين أساسيين‪ :‬أولهما‬
‫أنه حدد خصوصية الفن الدرامي بأنه محاكاة بالفعل ل‬
‫بالسرد‪ ،‬وذلك تمييزا ً له عن الفنون الدبية الخرى‪ ،‬كالملحمة‬
‫والشعر الغنائي‪ .‬وثانيها أنه اشتمل‪ ،‬لول مرة في تاريخ النقد‬
‫الدبي والفني‪ ،‬على تفسير سايكولوجي للثر الذي يحدثه الفن‬
‫التراجيدي عند المتلقي‪ ،‬وذلك في حديثه عن الرثاء والخوف‬
‫اللذين تثيرهما التراجيديا في النفوس وما يعقب ذلك من‬
‫تطهير‪ .‬وقد شغلت فكرة التطهير الرسطوطاليسية هذه‬
‫والسياق الغامض الذي وردت فيه اهتمام الباحثين لقرون‬
‫)( وو وووووو ووووو ووووووو ووووو ووووووووو و‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫ءءءءءء‪.‬‬
‫)( وووو ووووو وووووو وو وووو "وو ووووو"‬ ‫‪12‬‬
‫ووووووووووو‪.‬‬
‫)( وووو وو وووو "ووو" وو وووو ووو ووووووووووووووووو‬ ‫‪13‬‬

‫وو ووووءءءءءو وووووووو وووو ووووو وو ووووو ووووو‬


‫ووووووو ووو "ووو ءءءء" وو وو وووو وو ووو وووووو‪.‬‬
‫)( وو ووووو و‪ .‬وووووووو وووو وووو ووووووو ووووو‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫مديدة‪ ،‬ول سيما منذ أواخر عصر النهضة الوربية‪ ،‬وذهبوا في‬
‫تفسيرها مذاهب مختلفة‪ .‬وكان الشاعر اللماني الكبير غوته‬
‫أحد الذين أدلوا بدلوهم في هذا الموضوع‪ .‬ويتلخص رأي غوته‬
‫الضرورية لكل‬
‫)‪(15‬‬
‫في أن التطهير يراد به الذروة الحاسمة‪،‬‬
‫دراما ولجميع النتاجات الشعرية في الواقع‪.‬‬
‫ل‪ :‬إذا كان الشاعر قد‬ ‫ويمضي غوته في تفسير رأيه قائ ً‬
‫قام‪ ،‬من جانبه‪ ،‬بمهمته‪ ،‬بأن أثار قضايا مهمة‬
‫وحسمها على نحو مقبول‪ ،‬فإن أفكارا ً مماثلة‬
‫]لفكاره[ ستخطر للمتفرج في هذه الحالة‪.(16).‬‬
‫وكان الفيلسوف اليطالي كروتشه ممن تطرقوا إلى فكرة‬
‫ل‪ ،‬بل اكتفى بقوله‪" :‬ل‬ ‫التطهير ولكنه لم يتوقف عندها طوي ً‬
‫يمكننا أن ننكر بالمرة أنه )أي أرسطوطاليس( يمكن أن‬
‫من‪(17‬الفكرة الحديثة حول ما‬ ‫يكون قد استشف شيئا ً‬
‫للفن من طاقة تحريرية‪ )".‬وهذا رأي ل يخلو من‬
‫الستعلء المألوف في كتابات كروتشه‪.‬‬
‫ويخرج علينا الباحث البلغاري الكسندر نيتشيف برأي‬
‫آخر‪ ،‬خلصته أن المتفرج يتعاطف مع البطال التراجيديين‬
‫ويعتريه الخوف على مصائرهم لنه يتوهم في بداية المر أنهم‬
‫أبرياء ل يستحقون المصير الذي ينتظرهم‪ ،‬ولكن الفعل‬
‫التراجيدي يتطور باستمرار ليكتشف في النهاية‪ ،‬بما ل يقبل‬
‫التأويل‪ ،‬أن البطال مذنبون وأن المشاعر اليجابية التي أحسها‬
‫المشاهد حيالهم ل ترتكز إلى أساس‪ .‬وهنا تحدث لحظة‬
‫التطهير‪ ،‬أي لحظة التحرر من الرثاء والخوف‪ .‬ويدعم‬
‫الدكتور نيتشيف رأيه هذا بشواهد عديدة يستمدها من كتاب‬
‫الفصل الثالث عشر من‬ ‫فن الشعر نفسه‪ ،‬ول سيما ما ورد في‬
‫الكتاب حول الغلطة التراجيدية للبطل‪ (18).‬ولكن رغم كل‬
‫الشواهد التي يوردها نيتشيف فإن تفسيره لفكرة التطهير‬
‫يبدو غير مقبول‪ ،‬إذ ما من أحد‪ ،‬حتى أرسطوطاليس نفسه‪،‬‬
‫يمكن أن يوافق على أن أوديب‪ ،‬الذي كتب عليه مصيره الفاجع‬
‫حتى قبل ولدته‪ ،‬أو انتيغونا التي رفضت أن تترك جثة أخيها‬
‫القتيل مرمية في العراء‪ ،‬قد نال العقاب الذي يستحقانه وأن‬
‫تعاطفنا معهما يقوم على تصورات خاطئة‪ .‬وليس لدينا ما‬
‫يدعونا إلى العتقاد بأن سوفوكليس قد قصد إلى هذه الغاية‪.‬‬
‫ولعل أصدق التفاسير التي قدمها المعاصرون وأقربها إلى‬
‫وظيفة الفن الساسية هو رأي المريكي وليم كاوفمان الذي‬
‫يقول‪" :‬عندما تفصح المعاناة عن نفسها في شعر‬
‫رائع يتملكنا إحساس بالتحرر‪ ،‬لن حزننا الخرس‪،‬‬
‫إلى( أقصى الحدود‪ ،‬يجد تعبيره ويحلق‬ ‫)‪19‬‬
‫والمبهم‬
‫بجناحين‪".‬‬
‫ونحن مياليون إلى الخذ بهذا التفسير‪ ،‬لن التراجيديا‬
‫الغريقية‪ ،‬التي استنبط أرسطوطاليس منها أحكامه‪ ،‬تستثير‬
‫تلك المشاعر الليمة الكامنة وراء تخوم الوعي‪ ،‬والتي ينطوي‬
‫عليها كل البشر‪ .‬والتراجيديا الغريقية عميقة في واقعيتها‪،‬‬
‫رغم قشرتها الميثولوجية الخارجية‪ ،‬ذلك أنها تستمد موضوعاتها‬
‫من المعاناة والمحن النسانية الزلية‪ ،‬كالتحول المفاجئ من‬
‫)( وووو‪Goethe, Supplement to Aristotle,s poeties- Tarnslated by E. :‬‬ ‫‪15‬‬
‫‪.(L. Wenning (the Great critics, p 840‬‬
‫)( وووووو ووووو و ‪.841‬‬ ‫‪16‬‬

‫)( وووو ‪.B. Groce, Aesthetic, P. 161‬‬ ‫‪17‬‬

‫)( ووووووو ءءءءءءو ووووو ووووووو ووووووووو ووووو‬ ‫‪18‬‬


‫"وو ووووو"و و ‪.131 -130‬‬
‫)( وووو‪.W. Kaufmann, Tragedy and philosophy, p. 51 :‬‬ ‫‪19‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫السعادة إلى الشقاء‪ ،‬وكفاح النسان من أجل تفادي ما تجيء‬
‫به القدار‪ ،‬وصراعه المأساوي مع القوى الغاشمة التي تتحكم‬
‫في مصيره‪ ،‬وبطلن المجد الدنيوي وغير ذلك من المتحانات‬
‫القاسية التي لزمت النسان عبر تاريخه‪ .‬وقلق المرء إزاء هذه‬
‫المحن المحتملة‪ ،‬أو المؤكدة‪ ،‬هو جزء من الحياة الداخلية‬
‫العميقة لجميع الناس‪ ،‬وإن كان انشغالهم بهمومهم اليومية‬
‫الصغيرة قد ينسيهم‪ ،‬في الغالب‪ ،‬الطابع المأساوي لحياتهم‪.‬‬
‫لكنهم حين يشاهدون عرضا ً تراجيديا ً فإنهم يجدون في كلمات‬
‫الشاعر تعبيرا ً بليغا ً عن أحزانهم ومخاوفهم المكبوتة‬
‫الخرساء‪ .‬وهم بتعاطفهم مع البطل التراجيدي وخوفهم على‬
‫مصيره إنما يتيحون لهذه الحزان والمخاوف الكامنة في‬
‫أعماقهم فرصة الفصاح عن نفسها‪ ،‬وبذلك يتحرون منه مؤقتًا‪،‬‬
‫وهذا ما يعنيه أرسطوطاليس بكلمة التطهير )‪.(Catharsis‬‬
‫وثمة تفسير آخر قد يساعدنا على فهم ما عناه الفيلسوف‬
‫اليوناني بالتطهير‪ .‬فالمشاهد الذي غادر المسرح لتوه بعد أن‬
‫حضر مسرحية تراجيدية سرعان ما يثوب إلى نفسه ويفطن‬
‫إلى أن الحداث المأساوية‪ ،‬التي عايشها وشارك فيها بتعاطفه‬
‫وخوفه‪ ،‬ليست في الواقع سوى أحداث متخيلة ل تمس سلمته‬
‫الشخصية‪ .‬وإذا كان مقدرا ً له أن يواجه في حياته شيئا ً مما رآه‬
‫في المسرح فهذا أمر بعيد‪ ،‬ونحن‪ -‬كما يقول أرسطوطاليس‬
‫نفسه في الفصل الثاني من كتاب الخطابة‪ -‬ل نخاف المور‬
‫فجميعنا‪(20‬نعلم أننا سنموت‪ ،‬ولكن لن هذا ليس‬ ‫البعيدة جدًا‪،‬‬
‫قريبا ً فإننا ل نخافه‪ ).‬وهذا كله مدعاة للشعور بالتحرر‬
‫والرتياح‪.‬‬
‫وما دمنا نتحدث عن تضارب الراء حول التطهير‬
‫الرسطوطاليسي فمن المناسب أن نشير إلى أن أكثر‬
‫الباحثين الذين تصدوا لهذه المشكلة لم يفطنوا إلى أن‬
‫أرسطوطاليس قد تطرق إلى مفهوم التطهير بمزيد من‬
‫السهاب والوضوح في كتاب السياسة‪ ،‬وذلك في معرض حديثه‬
‫عن وظائف الموسيقى وأثرها في السامعين‪ .‬وقد نواجه هنا‬
‫اعتراضا ً يقول‪ ،‬إن أثر الموسيقى في النفوس يختلف عن أثر‬
‫التراجيديا‪ ،‬وبالتالي فإن التطهير الذي ينجم عن سماعها هو‬
‫شيء آخر غير التطهير التراجيدي‪ .‬غير أننا نستشف من‬
‫كتاب السياسة أن المر واحد في الحالتين‪ ،‬فالمؤلف يعدنا في‬
‫الفصل الثامن من الكتاب المذكور بأنه سيتناول موضوع‬
‫التطهير بمزيد التفصيل في كتابه عن فن الشعر‪ .‬ول ندري‬
‫هل نسي أرسطوطاليس ما وعد به‪ ،‬أم أنه لم يجد شيئا ً جديدا ً‬
‫يضيفه إلى ما قاله في كتاب السياسة‪ ،‬فهو –كما لحظنا‪ -‬لم‬
‫يشر في فن الشعر إلى التطهير إل إشارة عابرة‪ ،‬غامضة‪،‬‬
‫حار فيها المفسرون‪ .‬ولنعد الن لنقرأ ما كتبه الفيلسوف في‬
‫السياسة حول تأثير الموسيقى والتطهير الذي ينجم عنه‪:‬‬
‫"إن العواطف التي تؤثر بقوة في بعض النفوس‬
‫موجودة لدى الجميع بدرجات متفاوتة‪ ،‬كالرثاء )‪(eleos‬‬
‫ل‪ ،‬وكذلك النشوة‪ .‬وبعض الناس‬ ‫والخوف )‪ (phobos‬مث ً‬
‫يستجيبون لهذه الخيرة بوجه خاص‪ ،‬فنحن نراهم‬
‫يهدأون تحت تأثير الموسيقى والناشيد الدينية‪ ،‬التي‬
‫تدفع النفوس إلى الجنون‪ ،‬كما لو كانوا قد عولجوا‬
‫طبيا ً وتطهروا )‪ .(Katharseos‬ولبد أن الناس الميالين‬
‫إلى الشعور بالرثاء والخوف‪ ،‬والناس العاطفيين‬
‫ل‪ ،‬وغيرهم ممن تخامرهم عواطف مماثلة‪،‬‬ ‫إجما ً‬
‫يتأثرون بالطريقة نفسها‪ .‬فهم جميعا ً لبد أن يحسوا‬
‫)( ووووووووووو وووووووو ووووو وووووو )ووووووو‬ ‫‪20‬‬

‫ووووووووو وووووووو ءءءءءءو وووووو ‪.(1993‬‬


‫‪- 26 -‬‬
‫)‪(21‬‬
‫بتطهير )‪ (catharsis‬وبارتياح ممتع‪.‬‬
‫ويمكننا أن نخرج من هذا النص باستنتاجات عديدة‪ ،‬أولها‬
‫أن التطهير‪-‬على رأي أرسطوطاليس‪ -‬ليس وقفا ً على‬
‫التراجيديا وحدها‪ ،‬فالموسيقى تحدث بدورها تأثيرا ً مماثل ً في‬
‫المتلقي‪ .‬وقد يصدق هذا على فنون أخرى‪ ،‬وإن يكن‬
‫الفيلسوف لم يشر إلى ذلك‪ .‬وثانيها أن الناس جميعا ً ينطوون‬
‫على مشاعر مؤلمة‪ ،‬بدرجة أو أخرى‪ ،‬ولكن العاطفيين منهم‬
‫هم القدر على الحساس بما يحققه الفن للمتلقي من تطهير‬
‫نفسي‪ .‬وأخيرا ً فإن تطهير النفس مما تراكم فيها من حزن‬
‫ومخاوف يفضي إلى ارتياح ممتع‪ ،‬وهو ما نسميه في لغة‬
‫النقد المعاصر بالمتعة الجمالية )‪.(aesthetical pleasurre‬‬
‫ول نريد أن نغادر موضوعنا هذا قبل أن نشير إلى أن‬
‫أرسطوطاليس لم يكن أول من اكتشف قدرة الفن على‬
‫تطهير النفس مما يشوبها‪ ،‬وإن يكن له فضل الصياغة النظرية‬
‫لهذه الفكرة‪ .‬فقد روى القدمون أن فيثاغورس )القرن‬
‫السادس قبل الميلد( كان يؤمن بما للفنون من قدرة على‬
‫بالموسيقى والرقص‬
‫)‪(22‬‬
‫إعادة التوازن النفسي‪ ،‬وكان يستعين‬
‫وبأشعار هوميروس وهسيود لبلوغ هذه الغاية‪.‬‬
‫ءءءءء ‪1998‬‬

‫‪‬‬

‫)( ‪.G. M. A. Grube, on poetry and Style, 15 f, New York, 1958‬‬ ‫‪21‬‬

‫)( وووو‪ :‬ووووو ووووو ووووووو وووووووو ووووووو‬ ‫‪22‬‬


‫ووووووووو وووو و‪ .‬ووووووو و ‪.76 -75‬‬
‫‪- 27 -‬‬
‫حول‪ ..‬المسرح الشعري‬

‫من عوامل التخلف الساسية في مسرحنا العراقي عجزه‬


‫عن إدراك الصلة العضوية العميقة بينه وبين الدب‪ ،‬ففنانونا‬
‫المسرحيون بوجه عام ل يعرفون‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬أنهم ليسوا‬
‫في ختام المطاف سوى وسطاء بين المؤلف المسرحي‬
‫والجمهور‪ ،‬وإن الحياة التي يحاول المسرح تجسيدها بوسائله‬
‫المختلفة‪ -‬وأهمها فن الممثل بالطبع‪ -‬إنما هي حياة أبدعها‬
‫خيال المؤلف المسرحي‪ .‬صحيح أن المسرح استغنى عن‬
‫النص الدبي في فترات معينة من تاريخه‪ ،‬فظهرت في أوربا‬
‫خلل العصور الوسطى فرق الممثلين الجوالين الذين يقدمون‬
‫فنهم المرتجل في الميادين العامة والبلطات على النحو‬
‫الذي صوره شكسبير في الفصل الثالث من مسرحيته‬
‫المعروفة مأساة هاملت أمير الدانمارك‪ ،‬وصحيح أن‬
‫الملهاة الشعبية المرتجلة‪ ،‬أو كوميديا القنعة‪ ،‬التي ظهرت‬
‫في أوربا خلل عصر النهضة‪ ،‬لم تكن تستند إلى نص أدبي‬
‫مكتوب‪ ،‬ولكن من المؤكد أن فن المسرح ل يستمد نظريته‬
‫وتقاليده العريقة ومكانه البارز في تاريخ الحضارة من هذه‬
‫الروافد الجانبية الصغيرة‪ .‬وإنما يستمدها أساسًا‪ ،‬وقبل كل‬
‫شيء‪ ،‬من التراث العظيم الذي خلفه أدباء المسرح الكبار منذ‬
‫اسخيلوس‪ ،‬أول شاعر تراجيدي عظيم‪ ،‬حتى عصرنا الراهن‪.‬‬
‫إن الدراما ليست في حقيقة المر إل نوعا ً من أنواع‬
‫الدب‪ ،‬وهي أدب نستطيع أن نقرأه ونستمتع به في خلوتنا‬
‫مثلما نستمتع بأي نص أدبي آخر‪ .‬ولكن الدراما تتميز عن غيرها‬
‫من فنون الدب بأن روعتها ل تكتمل إل حين تتحول نصب‬
‫أعيننا إلى فعل دينامي حي على منصة المسرح‪ .‬وهي بهذا‬
‫تختلف عن القصة أو الرواية التي يتابعها القارئ بخياله‪ ،‬ل‬
‫بحواسه‪ .‬من هنا نشأت الصلة الوثيقة بين الدراما وفن التمثيل‬
‫واعتماد كل منهما على الخر‪ .‬فلكي تأخذ الدراما صورتها‬
‫النهائية وتمارس تأثيرها القصى لبد لها من الممثل الذي‬
‫يحولها إلى واقعة موضوعية ويبعث فيها نبض الحياة‬
‫وحرارتها وأبعادها الحسية‪ .‬ولكي تفصح موهبة الممثل عن‬
‫قوتها ومداها لبد لها من حوافز تثيرها ومجرى يحتويها‪ ،‬وهذا‬
‫ما يوفره لها النص الدرامي‪ .‬ولكن هذا ل يغير من الحقيقة‬
‫الجوهرية القائلة بأن الدراما أصل والتمثيل فرع‪ ،‬لن الدراما‬
‫تستطيع أن تكتفي بذاتها وتستغني عن الممثل بينما ليس لدى‬
‫الممثل الكثير مما يفعله بدون نص درامي‪.‬‬
‫ومن المؤسف أن هذه الحقيقة الولية‪ -‬أي حقيقة أن فن‬
‫المسرح ليس في جوهره إل نصا ً أدبيا ً يتولى الممثل إيصاله‬
‫إلى الجمهور‪ -‬تبدو غائبة عن أذهان الكثير ممن يعملون عندنا‬

‫‪- 28 -‬‬
‫في ميدان المسرح‪ ،‬ول أدل على ذلك ومن قلة حفول فناننا‬
‫المسرحي بالدب وتطيره من النصوص الدرامية العالمية‬
‫والعربية‪ ،‬وانكماشه أمام العربية الفصحى وعجزه –في‬
‫الغالب‪ -‬عن أدائها بطلقة ويسر‪ .‬ول أظنني أجانب الواقع إذا‬
‫قلت إن من النادر أن نجد بين ممثلينا من يؤدي النصوص‬
‫المكتوبة بالفصحى أداء طبيعيا ً سلسا خاليا ً من المشقة‬
‫والعثار‪.‬‬
‫ومن أدلة ضعف الصلة عندنا بين المسرح والدب غياب‬
‫الدراما الشعرية غيابا ً تاما ً عن منصة مسرحنا الوطني‪ .‬ويكفي‬
‫ن مسارح العاصمة لم‬ ‫لتصوير فداحة هذا الغياب أن نلحظ أ ّ‬
‫تشهد خلل السنوات العشر الخيرة سوى مسرحية شعرية‬
‫واحدة جاءت بها فرقة الموصل المسرحية إلى بغداد ولم‬
‫تعرض للجمهور –على ما أذكر‪ -‬سوى مرة واحدة!‬
‫وينبغي أن نضيف إلى ذلك أن زهد شعرائنا في الكتابة‬
‫للمسرح ل يقل عن زهد مسرحيينا في الشعر والدب‪ ،‬فكل‬
‫الفريقين قد أدار ظهره للخر غير ملتفت إلى ما بين هذين‬
‫الفنين من أواصر النسب الوثيق‪ .‬ولو حاولنا استعراض ما كتبه‬
‫شعراؤنا من أعمال شعرية للمسرح منذ نشأته عندنا في أواخر‬
‫القرن الماضي حتى الن لخرجنا بحصيلة مؤسفة حقًا‪ ،‬فليس‬
‫لدينا في هذا الباب إل محاولت قليلة يشكو معظمها من قلة‬
‫الخبرة وضعف الصياغة الدرامية وإن كان بعضها قد أصاب‬
‫حظا ً من التوفيق‪.‬‬
‫وقد يقال في تفسير عزوف شعرائنا عن الكتابة للمسرح‬
‫أن المسرحية الشعرية فن صعب يتطلب‪ ،‬بالضافة إلى‬
‫الموهبة‪ ،‬معرفة جيدة بأصول الفن الدرامي وأنها –فوق ذلك‪-‬‬
‫فن أرستقراطي ل يستهوي إل فئات محدودة من الجمهور‪.‬‬
‫وهذان سببان وجيهان دون شك‪ ،‬ولكنهما لم يحول دون ظهور‬
‫الدراما الشعرية وتطورها إلى حد ما في بلدان عربية أخرى‪-‬‬
‫ل‪ -‬مما يجعلنا نرجح أن السبب الساسي في عزوف‬ ‫كمصر مث ً‬
‫شعرائنا عن ولوج هذا الميدان هو ما ذكرناه من تقطع الوشائج‬
‫وبعد الشقة عندنا بين الدب والمسرح‪ ،‬وهي شقة تزداد عمقا ً‬
‫واتساعا ً مع اليام‪.‬‬
‫وقد يعن للمرء أن يتساءل ما الذي أدى إلى كل هذا‬
‫التباعد عندنا بين الدب والمسرح‪ ،‬وهذا حديث قد أعود إليه‬
‫في فرصة أخرى‪ -‬وهو حديث ذو شجون على أية حال‪ -‬أما الن‬
‫فإني أريد الوقوف عند موضوع آخر‪ ،‬هو غياب المسرح‬
‫الشعري عن حياتنا الثقافية وما ينطوي عليه هذا الغياب من‬
‫معان سلبية‪ .‬ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن أن ثمة مفارقة‬
‫حادة في غياب المسرح الشعري عن بلد كان الشعر دوما ً في‬
‫طليعة اهتماماته الثقافية وكان شعراؤه دوما ً من المبرزين بين‬
‫الشعراء العرب‪ .‬ولكن المسألة أبعد من ذلك في الواقع‪،‬‬
‫فالدراما الشعرية‪ -‬والتراجيديا الشعرية بالتحديد‪ -‬هي أنسب‬
‫الشكال الدبية للتعبير عن الهموم الكبيرة في حياة المم‬
‫وأكثرها اتصال ً بتاريخها القومي ووجدانها الحضاري وطبيعة‬
‫إحساسها بالعالم‪ ،‬حتى ليمكن القول بأن المم العريقة وجدت‬
‫ذاتها في التراجيديا الشعرية كما لم تجدها في أي فن آخر‪.‬‬
‫وهذا ما تؤكده تجربة المسرح الغريقي في القرن الخامس‬
‫قبل الميلد وتجربة المسرح النجليزي في العصر الليزابثي‪.‬‬
‫فليس بين فنون العالم القديم ما يستأثر بالهتمام أكثر من‬
‫التراجيديا الغريقية وليس بين فنون عصر النهضة ما يستأثر‬
‫بالهتمام أكثر من التراجيديا الشكسبيرية‪ .‬ويمكننا ونحن‬
‫نتقصى الوشائج بين التراجيديا الشعرية وخلفيتها التاريخية‬
‫خلل هاتين الفترتين أن نضع أيدينا على الكثير من المور ذات‬
‫‪- 29 -‬‬
‫الدللة‪ .‬ولعل أول ما تجدر ملحظته في هذا الصدد أن مولد‬
‫التراجيديا العظيمة في هاتين الفترتين جاء عقب امتحانات‬
‫تاريخية عصبية‪ ،‬خرج الشعب منها منتصرًا‪ ،‬موفور الثقة بنفسه‬
‫وبقدرته على مجابهة التحديات‪ .‬فقد ولدت التراجيديا الغريقية‬
‫بعد أن انتصر اليونانيون على جيوش المبراطورية الفارسية‬
‫الغازية في ثلث مواقع فاصلة‪ ،‬أولها موقعة الماراثون‬
‫الشهيرة )عام ‪ 490‬ق‪.‬م( التي تمكنت فيها أثينا بمفردها من‬
‫إلحاق الهزيمة بعدو يفوقها كثيرا ً في العدة والعدد‪ .‬وولدت‬
‫التراجيديا الشكسبيرية بعد انتصار النجليز على السبان )عام‬
‫‪588‬م( وتحطيمهم أسطول الرمادا الشهير قرب السواحل‬
‫البريطانية‪ .‬ومن السهل أن نتبين العلقة بين الهول والمعاناة‬
‫والجلل المأساوي التي هي أبرز سمات التراجيديا الشعرية‬
‫وبين نظائرها في هذه الحداث التاريخية التي سبقت ظهور‬
‫التراجيديا‪ .‬كما أن من السهل أن نتبين‪ ،‬في ملمح‬
‫"برومثيوس" الذي يتحدى كبير اللهة "زفس" )في تراجيديا‬
‫اسخيلوس المعروفة( شخصية المقاتل الثيني الذي تحدى‬
‫عتو المبراطور الفارسي وهزمه في سهل الماراثون‪ .‬ولو‬
‫مضينا في المقارنة بين الفترتين المذكورتين لوجدنا أن كلتيهما‬
‫كانت تتسم بحيوية فكرية شديدة ونشاط إبداعي متعدد‬
‫الجوانب‪ ،‬وإن الدراما الشعرية لم تزدهر فيهما بمحض الصدفة‬
‫بل جاءت ضمن سياق حضاري هيأ السباب لنشأتها وازدهارها‪.‬‬
‫فقد ظهرت التراجيديا الغريقية بعد أن قطع الغريق القدامى‬
‫أشواطا ً متناسقة في ميادين الفلسفة والعلوم والفنون والتربية‬
‫السياسية والجتماعية‪ ،‬فكان شعرهم التراجيدي تعبيرا ً عن‬
‫مرحلة ناضجة من مراحل وعيهم الحضاري‪ .‬وقد أشار‬
‫اسخيلوس نفسه إلى عمق ارتباط التراجيديا بالتراث حين‬
‫قال‪ ،‬في عبارة مأثورة‪ ،‬إن كتاباته وكتابات زملئه من الشعراء‬
‫التراجيديين ليست إل فتاتا ً من موائد هوميروس العظيمة‪.‬‬
‫والشيء نفسه يمكن أن يقال عن التراجيديا الشكسبيرية‪ ،‬التي‬
‫ولدت هي الخرى في عصر تميز بالتعطش إلى المعرفة‬
‫وبتراكم الخبرة البداعية‪ ،‬فقد بدأ شكسبير من حيث انتهى‬
‫كريستوفر مارلو وأفاد مما هيأه له عصره من أسباب الطلع‬
‫على التاريخ والتصال بثقافات المم الخرى‪ .‬ومما ل شك فيه‬
‫أن شكسبير ما كان ليجد المادة التاريخية الضرورية لكتابة‬
‫يوليوس قيصر وكوريولنوس وأنطوني وكليوباترا لو لم يجد في‬
‫متناول يده كتاب بلوتارك عن حياة عظماء الغريق والرومان‬
‫مترجما ً إلى النكليزية بقلم السرتوماس نورث‪ ،‬وما كان ليكتب‬
‫مكبث وريتشارد الثالث وبقية مسرحياته المستمدة من التاريخ‬
‫النجليزي لو لم يمهد له رافاييل هولنشيد السبل بما كتبه‬
‫عن تاريخ إنجلترا واسكوتلندا‪ .‬ول ينبغي‪ ،‬ونحن نتحدث عن‬
‫أوجه التماثل بين عصر أثينا الذهبي والعصر الليزابثي‪ ،‬أن‬
‫تفوتنا الشارة إلى ما شهده كل العصرين من تحولت دينية‬
‫وسياسية وما زخرا به من تناقضات وصراعات فكرية حادة بين‬
‫قوى اجتماعية استنفدت دورها التاريخي وأخرى فتية تسعى‬
‫إلى تثبيت قيمها الجديدة وإدارة دفة التطور الجتماعي في‬
‫التجاه الذي تريده‪ .‬لقد كان كل هذين العصرين عصر تحد‬
‫واستجابة وقلق وصراع وتحول‪ ،‬وكان ذلك كله خليقا ً بأن‬
‫يستفز الذهان ويدفعها إلى إعادة النظر في نسق القيم التي‬
‫تقوم عليها العلقات النسانية وفي النظم السياسية‬
‫والمعتقدات الدينية‪ ،‬وإلى تأمل التجربة النسانية بمختلف‬
‫أبعادها والبحث عن الحوافز العميقة للسلوك البشري وما‬
‫ينجم عنه من خير أو شر‪ .‬وقد انهمكت التراجيديا‪ ،‬كما انهمك‬
‫الفكر الفلسفي خلل هذين العصرين‪ ،‬في بحث هذه القضايا‬
‫النسانية الكبرى‪ .‬ولكن التراجيديا تميزت عن الفلسفة في إنها‬
‫لم تحول مشكلت الوجود النساني إلى تصورات ميتافيزيقية‬

‫‪- 30 -‬‬
‫مجردة‪ ،‬بل تناولتها بصورتها العيانية الملموسة ووضعت‬
‫النسان بكل أشواقه وطموحاته وهمومه ومخاوفه في صميم‬
‫تجربة الوجود‪ .‬ومن هنا كانت التراجيديا ظاهرة شغلت‬
‫صوها بكثير من التأمل والتحليل‪.‬‬ ‫الفلسفة أنفسهم فخ ّ‬
‫ويمكننا أن نلحظ مما تقدم‪-‬على ما فيه من إيجاز‬
‫وابتسار‪ -‬أن الخلفية التاريخية لمولد التراجيديا وازدهارها قد‬
‫تميزت بثلث سمات أساسية‪:‬‬
‫‪-1‬ووووو ووووو وووو ووووووو ووووووو‪.‬‬
‫و‪ -‬وووووو ووووووو وووووو ووووو وووو‬
‫وووووو وووو‪.‬‬
‫و‪ -‬وووووو وووووووو ووووووو ووووووووو‬
‫ووووووووو وووووو وووو ووووو وووووووو‬
‫وووووووووو ووووووو‪.‬‬
‫ومن السهل أن نرى أن هذه الخلفية التاريخية بأركانها‬
‫الثلثة –العراقة والتحدي والتحول –شاخصة في واقعنا العربي‬
‫الراهن‪ .‬ولعل الهتمام الجزئي الذي حظيت به المسرحية‬
‫الشعرية في بعض أقطار الوطن العربي‪ ،‬ول سيما في مصر‪،‬‬
‫بعد ظهور حركة الشعر الحديث في أواسط القرن كان من‬
‫بعض وجوهه استجابة لهذا الواقع التاريخي‪ ،‬وإن يكن من ناحية‬
‫أخرى غير مقطوع الصلة بمحاولت إحياء المسرح الشعري في‬
‫أوروبا وتعاظم الهتمام –من جانب النقاد الغربيين بوجه خاص‪-‬‬
‫بمسرحيات ت‪.‬س‪ .‬اليوت وكريستوفر فراي ولوركا وغيرهم‬
‫من شعراء المسرح المعاصر‪.‬‬
‫وظاهرة انبعاث المسرح الشعري في أوروبا بعد احتجاب‬
‫طويل هي بحد ذاتها ظاهرة جديرة بالتأمل‪ ،‬فهذه العودة إلى‬
‫الدراما الشعرية )وإلى التراجيديا بوجه خاص( ليست وليدة‬
‫الميل الفردي عند هذا الشاعر أو ذاك بمقدار ما هي وليدة‬
‫الحساس بأن المسرحية الطبيعية‪ ،‬المكتوبة بلغة الحياة‬
‫اليومية لم تعد الشكل المناسب لطرح القضايا الكبرى التي‬
‫تقلق ضمير العصر‪ .‬وهذا الحساس الذي برز بقوة منذ نهاية‬
‫الحرب العالمية الخيرة يمكن تفسيره بأن الدراما‬
‫"البورجوازية" الحديثة‪ ،‬التي ظلت لزمن طويل اللون الطاغي‬
‫على المسرح‪ ،‬قد أسرفت في القتراب من الواقع والتفرس‬
‫في جزئياته وتفاصيله إلى الحد الذي باتت معه غير قادرة على‬
‫أن تنظر إلى النسان والوجود تلك النظرة الفلسفية‬
‫الشمولية التي نجدها في المسرح الغريقي أو في مسرحيات‬
‫من طراز فاوست والملك لير‪.‬‬
‫ول ريب أن اقتراب الدراما الحديثة من الواقع اليومي‬
‫المباشر وانصرافها إلى معالجة قضايا الناس العاديين من أبناء‬
‫الطبقات الوسطى والكادحة كان تطورا ً ثوريا ً هاما ً فرضته‬
‫التحولت التاريخية نفسها‪ ،‬وهو تطور أغنى المسرح بكثير من‬
‫الروائع‪ ،‬ولكنه –في الوقت عينه‪ -‬قاد المسرح في أحيان كثيرة‬
‫إلى التنازل عن طبيعته الخاصة التي تتطلب بعدا ً معينا ً عن‬
‫الحياة‪.‬‬
‫وليس المقصود بهذا البعد أن ينسلخ المسرح عن الحياة‬
‫ويسترسل في الخيال والتجريب‪ ،‬وإنما يقصد به الحتفاظ‬
‫بمسافة معينة بينه وبين الواقع العياني المباشر ليتسنى له أن‬
‫يرى هذا الواقع بصورته الكلية وليغدو –كما عبر جورج‬
‫لوكاتش‪ -‬تعبيرا ً مركزا ً عن اتجاهات معينة في الحياة نفسها‪.‬‬
‫وتاريخ الدراما نفسه يؤكد طبيعتها هذه‪ ،‬فقد ولدت الدراما‬
‫‪- 31 -‬‬
‫الوروبية في أحضان الشعر ولزمته على مدى أكثر من‬
‫عشرين قرنًا‪ .‬وغني عن القول أن الشعر‪ ،‬بشكله ومضمونه‪،‬‬
‫يبعد المسرح عن الواقع بالمعنى الذي أشرنا عليه‪ ،‬فمن حيث‬
‫الشكل‪ ،‬ثمة اختلف جوهري بين لغة الشعر الرفيعة وأخيلته‬
‫وإيقاعه وبين الحديث اليومي الذي يتداوله الناس في حياتهم‪،‬‬
‫أما من حيث المضمون فإن الشعر أقرب إلى الفلسفة وأجدر‬
‫بالهتمام من التاريخ‪ ،‬لنه يتكلم عن الكليات‪ ،‬بينما يتكلم‬
‫التاريخ عن الجزئيات –كما وصفه أرسطوطاليس في معرض‬
‫حديثه عن الشعر التراجيدي –وهذا ما يجعله بالطبع بعيدا ً عن‬
‫لغة التخاطب العفوي بين الناس‪ .‬ولكن الشعر إذ يسمو‬
‫بالمسرح فوق صورة الحياة المألوفة فإنه يتيح له من عمق‬
‫الستيعاب وشمول النظرة وتعدد مستويات الدللة ما ل‬
‫تستطيع المسرحية النثرية بلوغه‪ ،‬فالشعر في المسرح –كما‬
‫يقول د‪.‬أي‪ .‬جونس في كتابه مسرحيات ت‪.‬س اليوت –‬
‫ليس مجرد زخرف خارجي‪ ،‬وليست مسرحيات شكسبير‬
‫شعرية لمجرد أنها تشتمل على مقاطع من الوصف الجميل أو‬
‫التأمل العميق‪ ،‬بل هي شعرية لنها تعكس المفهوم الكلي‬
‫للذي تستند إليه‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فهي شعرية لنها تعكس‬
‫نظرة شعرية –فلسفية إلى العالم‪ ،‬وقد عبر اليوت عن هذا‬
‫المعنى بطريقة أخرى حين كتب إلى صديقه عزرا باوند يقول‬
‫"إذا كتبت مسرحية شعرية فينبغي أن يكون الشعر واسطة‬
‫ننظر من خللها‪ ،‬ل ديكورا ً جميل ً ننظر إليه"‪.‬‬
‫إن هذا النظر الشعري الفلسفي الذي يتخطى الجزئيات‬
‫والوقائع العابرة إلى ماهو أبقى وأشمل هو بالتحديد ما يميز‬
‫المسرحية الشعرية عن مسرحية النثر‪ ،‬وهو بالذات ما جعل‬
‫أرسطوطاليس يتلمس القرابة بين الشعر والفلسفة‪ .‬ولهذا‬
‫فإن أعظم المسرحيات التي نعرفها –كما يؤكد رونالد بيكوك‬
‫في كتابه "فن الدراما" –هي جميعا ً مسرحيات شعرية‪.‬‬
‫ومن العوامل المهمة التي تفسر انتعاش المسرح الشعري‬
‫في أوروبا في عصرنا الراهن تعاظم الميل لدى المفكرين‬
‫الغربيين إلى تبين موقع النسان المعاصر في سياق التاريخ‬
‫والحضارات المتعاقبة‪ ،‬وهذا ميل ناشئ إلى حد كبير عن تطور‬
‫بعض فروع المعرفة النسانية التي ظلت متخلفة إلى زمن‬
‫قريب‪ ،‬كعلم النفس والنثروبولوجي‪ ،‬وعلم الجتماع وعلم‬
‫اللغة الحديث‪ ،‬ول ينبغي أن ننسى كذلك تزعزع ركائز الحضارة‬
‫الغربية المسيحية مما يدفع المفكرين والباحثين إلى إعادة‬
‫النظر فيها وتقصي منابعها في أساطير المم القديمة وفي‬
‫التراث الديني والفلسفي والفني‪ .‬ول يصعب أن نلحظ‬
‫اهتمام الثقافة الغربية المعاصرة بعبادات المم القديمة‬
‫وأساطيرها وفنونها‪ ،‬وانعكاس ذلك كله في نتاجات الفن‬
‫الوروبي الحديث‪ .‬وربما كان الشاعر النكليزي ت‪.‬س اليوت‬
‫من أبرز ممثلي هذا التجاه الحضاري الشمولي في النظر إلى‬
‫النسان‪ ،‬ففي قصيدته الرض اليباب‪ ،‬التي كتبها متأثرا ً‬
‫بالدراسات النثروبولوجية الحديثة حول العبادات وطقوس‬
‫الخصب لدى الشعوب البدائية‪ ،‬تتداخل الزمنة‪ ،‬والثقافات‬
‫والشخصيات على نحو جعل هذه القصيدة لغزا ً من اللغاز‪.‬‬
‫واليوت –في الوقت نفسه‪ -‬من رواد المسرح الشعري في‬
‫النصف الول من القرن‪ ،‬وقد كان اتجاه اليوت إلى المسرح‬
‫الشعري أمرا ً منطقيًا‪ ،‬ل لمجرد أنه شاعر‪ ،‬بل لن المسرح‬
‫الشعري هو الشكل المناسب لستيعاب هذا التجاه الحضاري‬
‫الشمولي الذي نتحدث عنه‪.‬‬
‫وقد أعاد اليوت اكتشاف الحقيقة القديمة بأن المسرحية‬
‫الشعرية أرحب أفقا ً وأشمل تعبيرا ً من المسرحية النثرية‪ .‬ومما‬
‫كتبه في معرض التمييز بين هذين الشكلين قوله‪:‬‬
‫‪- 32 -‬‬
‫"من المحتمل أن ما يميز الدراما الشعرية عن‬
‫النثرية هو نوع من الزدواج في الفعل‪ ،‬كما لو كانت‬
‫تجري على صعيدين في وقت واحد‪ .‬وهي لهذا‬
‫تختلف عن المجاز الذي يكون فيه التجريد شيئا ً‬
‫يتصوره المرء‪ ،‬ل شيئا ً يحسه بطريقة مختلفة‪ ،‬وعن‬
‫الرمزية كما في مسرحيات مترلنك التي يتقلص فيها‬
‫العالم المحسوس بطريقة متعمدة‪ ،‬لن الرمزية‬
‫والمجاز كليهما من عمليات الذهن الواعي المخطط‪.‬‬
‫وقد يكون ما يظهر من تفكك معين في الدراما‬
‫الشعرية من أعراض هذا الزدواج‪ ،‬أو أن الدراما لها‬
‫قالب تحتي أقل ظهورا ً من القالب المسرحي"‪.‬‬
‫بعد هذه اللمامة الوجيزة بطبيعة المسرح الشعري‬
‫والظروف التاريخية التي أحاطت بنشأته وازدهاره يمكننا أن‬
‫نعود إلى نقطة البدء لنتبين –ربما بوضوح أكبر‪ -‬عمق الخسارة‬
‫التي لحقت بمسرحنا جراء انصرافه التام عن الدراما الشعرية‪،‬‬
‫ولنستعرض بعض العوامل المباشرة التي تجعل المسرح‬
‫الشعري إحدى حاجاتنا الثقافية الملحة‪.‬‬
‫وأول هذه العوامل‪ ،‬في نظرنا‪ ،‬هو ضرورة أن يتحرر‬
‫المسرح العربي من السطحية وضيق الفق ويتحول فعل ً إلى‬
‫شكل فني قادر على التعبير عن معاناة المة ومثلها‬
‫وطموحاتها‪ .‬وهذا مرتبط إلى حد كبير بمواهب كتابنا‬
‫المسرحيين‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬ولكنه مرتبط في الوقت ذاته‬
‫بالشكل الدرامي‪ .‬ففي المسرحية النثرية ذات النزعة الواقعية‬
‫كثيرا ً ما يجد الكاتب صعوبة في تخطي الدللت المحدودة‬
‫المباشرة لحداث المسرحية والوصول إلى تعميمات فكرية‬
‫ذات مغزى إنساني أو قومي‪ .‬ويتدارك بعض كتاب المسرح هذا‬
‫النقص بوضع أفكار أو خطب منفصلة عن سياق الفعل‬
‫المسرحي على ألسنة بعض أبطالهم‪ ،‬أو يتداركونه بإضافة‬
‫راوية يقف إلى جانب المسرح ليعلق على الحداث ويفلسفها‪.‬‬
‫وهذه ظاهرة ملحوظة في المسرح العراقي‪ ،‬الذي تتحول‬
‫منصته أحيانا ً إلى منبر للخطابة يستعيض بالرنين اللفظي عن‬
‫التأثير الدرامي الحقيقي‪ .‬والمسرحية الشعرية تستطيع –إذا‬
‫توافرت لها موهبة الشعر والدراما معًا‪ -‬أن تحل هذا الشكال‬
‫لنها‪ ،‬بفضل هذا الزدواج الذي تحدث عنه اليوت‪ ،‬يمكن أن‬
‫تجمع بين الدللة القريبة للحداث وبين المعنى الكبير الكامن‬
‫وراءها دونما تعسف أو إخلل بشروط البناء الدرامي‪ .‬ول يعني‬
‫هذا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أننا ندعو إلى إهمال المسرحية الواقعية النثرية‬
‫والكتفاء بالمسرحية الشعرية‪ ،‬فكل اللونين ضروري‪ ،‬وكلهما‬
‫يؤدي الوظيفة التي تسمح بها طبيعته وأدواته التعبيرية‪.‬‬
‫والشعر هو الداة المناسبة للمسرحية التاريخية‪ .‬ولعلي‬
‫في غنى عن التوسع في شرح هذه النقطة‪ ،‬فهي من تحصيل‬
‫الحاصل‪ ،‬كما يقال‪ .‬ومع أن كتابنا المسرحيين‪ ،‬ولسيما‬
‫الشعراء منهم‪ ،‬قد استلهموا تاريخنا القومي في بعض ماكتبوه‪،‬‬
‫فإن هذا التاريخ الحافل بالشخصيات والحداث ظل في‬
‫معظمه بعيدا ً عن دائرة اهتمامهم فلم يفيدوا منه ول أفاد منهم‬
‫على النحو المطلوب‪.‬‬
‫وتبدو عودة المسرح العربي إلى التاريخ‪ ،‬أو لنقل‬
‫استحضار التاريخ العربي على المسرح‪ ،‬مهمة ملحة في‬
‫اللحظة الراهنة‪ ،‬ل لمجرد أن هذا التاريخ منجم يزخر بالمادة‬
‫الخام ينشدها الكاتب الدرامي‪ ،‬بل –وهذا هو الهم‪ -‬لتلمس‬
‫الخيط الذي يشد حاضر المة بماضيها‪ ،‬واستنباط المعاني من‬
‫تراثها الفكري والخلقي‪ ،‬وإبراز الملمح الصيلة للشخصية‬
‫العربية بما لها وما عليها‪ .‬وهذه المهام الملقاة على عاتق‬
‫‪- 33 -‬‬
‫المسرحية التاريخية تشدها إلى الشعر بقوة عظيمة‪ ،‬فمن‬
‫الصعب أن نستحضر صورة الحياة العربية أو نجسد الشخصية‬
‫العربية النموذجية بمعزل عن الشعر‪ ،‬الذي كان على الدوام‬
‫ركنا ً أساسيا ً من أركان حياتنا العقلية والوجدانية‪.‬‬
‫ومن الجلي تماما ً أن الشاعر المسرحي العربي في أيامنا‬
‫هذه قد تهيأت له ظروف موضوعية أفضل بكثير من تلك‬
‫الظروف التي كتب فيها شوقي مسرحياته الشعرية الرائدة‪،‬‬
‫بفضل ماتحقق لنا خلل نصف القرن الفائت من تطور حضاري‬
‫واتصال بالثقافة العالمية المعاصرة‪ ،‬أقدر ممن سبقوه على‬
‫اللمام بأصول الصنعة الدرامية والفادة من روائع أعمال‬
‫المسرح العالمي‪.‬‬
‫هذا من ناحية‪ ،‬أما الناحية الخرى التي قد تفوقها أهمية‬
‫فهي الطفرة النوعية التي حققها الشعر العربي منذ أواسط‬
‫القرن بانتقاله من نظام العروض التقليدي القائم على التناظر‬
‫المطلق بين البيات أو الشطار في القصيدة إلى نظام جديد‬
‫يقوم أساسا ً على التفعيلة كوحدة إيقاعية مما يسمح للشاعر‬
‫الدرامي بالتحكم في طول الجملة الشعرية ويعفيه من‬
‫الوقفات التي كان يفرضها عليه النظام العروضي التقليدي‪،‬‬
‫والتي تضعف كثيرا ً من حيوية الشعر الدرامي وانسيابه‬
‫الطبيعي‪.‬‬

‫ءءءءء ‪1985‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫دور المخرج‬
‫في المسرح الحديث‬

‫مادور المخرج في المسرح؟‪ ..‬سؤال قد يجد البعض عسرا ً‬


‫في الجابة عنه‪ ،‬فالمسرح‪ ،‬كما نعلم جميعًا‪ ،‬فن مركب تدخل‬
‫في نسيجه عناصر متعددة تؤلف بمجموعها صورته النهائية‬
‫التي نراها على منصة العرض‪ .‬وحين نرد هذه العناصر إلى‬
‫أصحابها ل نجد للمخرج حصة متميزة ينفرد بها دون غيره‪،‬‬
‫ل‪ -‬يضعه المؤلف‪ ،‬وهو يتضمن‪ ،‬كما يفترض‪ ،‬كل‬ ‫فالنص –مث ً‬
‫عبارة يتفوه بها الممثلون ويعين حتى الجهة التي يدخل منها‬
‫الممثل إلى المسرح والهيئة التي يكون عليها وهو يواجه‬
‫مختلف المواقف‪ .‬والمناظر المسرحية يصممها مهندس‬
‫الديكور استنادا ً إلى العصر الذي تدور فيه وقائع المسرحية‬
‫وإلى التوجيهات التي يضعها المؤلف عادة في مقدمة كل‬
‫فصل‪ ،‬وأحيانا ً في مقدمة كل مشهد‪ .‬وقل مثل ذلك في بقية‬
‫مكونات العمل المسرحي‪ ،‬كالزياء والمكياج والموسيقى‬
‫والمؤثرات الفنية والصوتية المختلفة‪ ،‬فلكل من هذه المكونات‬
‫فنانوها المتخصصون الذين يتولون إنجازها‪ ..‬فماذا يبقى‬
‫للمخرج بعد ذلك؟‬
‫هذا ما سنحاول الجابة عنه في هذا الحديث‪ ،‬ولكن قد‬
‫يكون من الضروري قبل ذلك أن نشير إلى أن المخرج لم‬
‫يلزم المسرح منذ نشأته الولى‪ ،‬بل هو ظاهرة حديثة العهد‬
‫نسبيًا‪ ،‬فقد مرت بالمسرح عهود مديدة كان فيها الممثلون‬
‫أحيانا ً ومؤلف النص أحيانا ً أخرى ينهضون بالمهمات التي يطلع‬
‫بها المخرج في عصرنا الحالي‪ .‬ولكن تزايد الحاجة إلى جهة‬
‫توفق بين عناصر العرض المختلفة وتشدها إلى بعضها ضمن‬
‫إطار واحد جعل وجود المخرج في المسرح ضرورة ل مناص‬
‫منها‪.‬‬
‫بوبوف" في كتابه‬ ‫يقول المخرج الروسي الكبير "الكسي‬
‫القيم "التكوين الفني للعرض المسرحي"* إن للمخرج‬
‫المسرحي ثلث مهمات أساسية‪ ،‬فهو مفسر النص أو ً‬
‫ل‪ ،‬وقائد‬
‫العمل ثانيًا‪ ،‬وهو بعد هذا وذاك المرآة التي يرى فيها الممثل‬
‫نفسه ودوره‪ .‬وسنقف‪ ،‬باليجاز الممكن‪ ،‬عند كل من هذه‬
‫المهمات الثلث‪.‬‬
‫ل شك أن دور المخرج في تفسير النص المراد تقديمه‬
‫*‬
‫وووووو ووو ووووو ووو ووووووو وو ووووو‪.‬‬
‫‪- 35 -‬‬
‫إلى الجمهور هو أولى مهماته‪ ،‬لن استشفاف الفكرة )أو‬
‫الفكار( التي أرادها المؤلف وتحديد الدوافع التي تسوق‬
‫شخصيات المسرحية إلى التصرف بهذه الطريقة أو تلك هما‬
‫نقطة النطلق نحو بناء العرض المسرحي‪ .‬ومن التقاليد‬
‫المرعية في المسرحية الحديث أن يجتمع المخرج وزملؤه من‬
‫الفنانين والفنيين‪ ،‬قبل بدء العمل‪ ،‬لتدارس النص وتحليل‬
‫الشخصيات الدرامية ووضع التصور الولي للعرض المسرحي‪.‬‬
‫ويلجأ بعض المخرجين المعاصرين إلى أسلوب طريف‪ ،‬إذ‬
‫يفرزون العبارات التي تجري على لسان كل شخصية على‬
‫حدة ليتمكنوا من تحديد طبيعة هذه الشخصية ومنطقها‬
‫ودوافعها‪ ،‬فالكلم التي تتفوه به شخصية درامية ماهو المفتاح‬
‫الساسي لفهمها‪ .‬وقد يتبادر إلى أذهان البعض أن تفسير النص‬
‫الدرامي أمر هين‪ ،‬فمن الواضح تماما ً أن "طرطرف" –مث ً‬
‫ل‪-‬‬
‫رجل منافق‪ ،‬وأن " عطيل" عاشق غيور‪ ،‬وأن "لير" عجوز‬
‫مغرور أحمق‪ .‬وبالتالي فليس من العسير الهتداء إلى دوافع‬
‫الشخصيات في نص درامي ما أو إلى الفكرة المركزية التي‬
‫رمى إليها المؤلف‪ .‬ولكن المر في الواقع ليس بهذه البساطة‪،‬‬
‫فالدراما الجيدة غالبا ً ما تتسع‪ ،‬كالحياة نفسها‪ ،‬لكثر من‬
‫تفسير‪ .‬وكما يختلف الناس في حياتهم الواقعية فيخرجون‬
‫بانطباعات مختلفة عن الشخاص الذين صادفوهم أو الوقائع‬
‫التي شهدوها‪ ،‬كذلك تختلف المواقف إزاء الشخصيات والفعال‬
‫الدرامية‪ .‬وينبغي أن أقول هنا إنني لست ميال ً إلى الخذ ببعض‬
‫الراء المسرفة التي راجت في السنوات الخيرة‪ ،‬والقائلة بأن‬
‫ما يريده المؤلف ل أهمية له على الطلق وأن النص يكتسب‬
‫مدلولت جديدة مع كل قارئ جديد‪ ،‬ولكن ل مفر من التسليم‬
‫بأن مرامي المؤلف ل تطفو دائما ً على السطح‪ .‬ومازلت أذكر‬
‫الحيرة التي انتابتني شخصيا ً عند القراءة الولى لبعض‬
‫النصوص المعقدة من طراز "هيدا غابلر" لبسن و"رجل‬
‫الجليد آت" ليوجين أونيل‪ .‬ويمكن القول بأنه كلما ازدادت‬
‫الشخصية الدرامية حياة وامتلء أصبحت أفعالها ودوافعها قابلة‬
‫لمزيد من الختلف ومزيد من مستويات الفهم والتأويل‪ .‬وقد‬
‫دأب نقاد الدب على تقسيم الشخصيات الروائية والدرامية إلى‬
‫نوعين‪ :‬مسطحة )‪ (flat‬وممتلئة )‪ .(rounded‬وهم يعنون بالنوع‬
‫الول الشخصيات التي يسيطر عليها حافز واحد ل يعنيها غيره‪،‬‬
‫كالطموح إلى السلطة أو التعلق بامرأة ما أو الجشع الشديد‪..‬‬
‫الخ‪ ،‬بينما تتميز الشخصيات "الممتلئة" بتعدد الهتمامات وبغنى‬
‫في التصورات والحاسيس يذكرنا بالناس الحقيقيين فع ً‬
‫ل‪.‬‬
‫وحين تكون شخصيات الدراما من النوع الول‪ ،‬أي المسطح‪،‬‬
‫فليس من الصعب تحديد فكرتها الساسية ومنطق أبطالها‪،‬‬
‫ولكن المر يختلف حين تكون الشخصيات من النوع الثاني‪،‬‬
‫فهنا قد يجد المرء عناًء في التفسير‪ ،‬وقد يفهم النص ويفسره‬
‫على نحو لم يسبقه إليه أحد‪ ،‬وإن كان هذا ل يعني أن من حق‬
‫أحد أن يتعسف فيفرض على النص أفكارا ً ل تأتلف مع محتواه‪.‬‬
‫والتفسير‪ ،‬كما يقول الناقد المريكي "إي‪.‬د‪ .‬هرش" في كتابه‬
‫"سلمة التفسير" )‪ ،(Validity In Interpretation‬قد يقتصر‬
‫أحيانا ً على "تعميق" الفهم‪ ،‬ولكنه في أحيان أخرى قد "يغير"‬
‫الفهم بصورة أساسية‪ .‬ومن أمثلة الحالة الخيرة ما قرأته‪ ،‬منذ‬
‫حوالي ربع قرن‪ ،‬عن مخرج روماني ذهب إلى باريس ليقدم‬
‫فيها مسرحية شكسبير الشهيرة "هاملت" بصورة تختلف تماما ً‬
‫عن صورتها التقليدية المعروفة‪ .‬وهاملت‪ ،‬كما يعرف جميع‬
‫سّيئ الطالع الذي‬ ‫المعنيين بالمسرح‪ ،‬هو المير الدانيماركي ال ّ‬
‫عاد إلى وطنه ليكتشف أن عمه الغادر قد اغتال أباه الملك‬
‫وتزوج بأمه واستولى على عرش البلد‪ .‬ولكن العرض الروماني‬
‫–كما ذكرت الصحافة الجنبية في حينه –ينفي هذه القصة‬
‫ل‪ ،‬مؤكدا ً أنها ل تعدو أن تكون خرافة لفقها عميل‬ ‫جملة وتفصي ً‬

‫‪- 36 -‬‬
‫النرويج "هوراشيو" –وهو من شخصيات المسرحية‪ -‬وأقنع بها‬
‫المير هاملت ليوقع الضطراب في بلط الدانيمارك ويسهل‬
‫بذلك للجيش النرويجي احتللها‪ ،‬كما يحدث فعل ً في ختام‬
‫المسرحية‪ .‬وجدير بالشارة أن المخرج الروماني –كما ذكرت‬
‫الصحف‪ -‬قدم تفسيره الطريف هذا دون أن يتلعب بالنص‬
‫الشكسبيري‪ .‬كل مافي المر أنه استعان بما يمتلكه المسرح‬
‫من وسائل تعبيرية وبأداء ممثليه ليروي حكاية هاملت على‬
‫الوجه الذي أراد‪.‬‬
‫وترجع الصعوبة في تحديد دللت النص‪ ،‬عادة‪ ،‬إلى أن‬
‫المؤلف المسرحي البارع ل يفصح بشكل مباشر عن الفكرة‬
‫الساسية في عمله‪ ،‬كما يفعل بعض المؤلفين الصغار‪ ،‬الذي‬
‫يضعون الخطب الرنانة على ألسنة أبطالهم‪ ،‬بل يدع للمخرج‬
‫أن يستنبط ذلك من النص بمجمله‪ .‬وقد يتضمن النص الدرامي‬
‫أكثر من فكرة جديرة بالهتمام‪ .‬وتعود بي الذاكرة الن إلى‬
‫"ايكرمان"‪ ،‬الذي كان سكرتيرا ً لغوته في سنواته الخيرة‪ ،‬فهو‬
‫يخبرنا أنه سأل الشاعر العظيم ذات مرة عن الفكرة الساسية‬
‫في مسرحية "فاوست" فأجابه هذا بأن عمل ً ضخما ً كهذا ل‬
‫يمكن اختزاله في فكرة واحدة مهما بلغت أهميتها‪.‬‬
‫وخلصة القول إن على المخرج أن يفهم بوضوح مايريد‬
‫النص أن يقوله وأن يعين منذ البداية اللحظات التي ينبغي‬
‫إبرازها بقوة على المسرح‪ ،‬وإل كان كمن يخبط في ظلمة‬
‫دامسة‪ .‬ومن الحماقة أن يتصدى مخرج لتجسيد نص لم تتبين‬
‫له أبعاده الفكرية‪ .‬أذكر مرة –وكنت يومها أعمل في مؤسسة‬
‫السينما والمسرح في العراق‪ -‬أنني حضرت "بروفة" مسرحية‬
‫للكاتب الروسي المعروف "أربوزوف"‪ .‬وكان المشهد الذي‬
‫يجري التدريب عليه يتضمن حوارا ً متوترا ً بين سيدة في‬
‫الخمسين من عمرها وبين مدير مصح للمراض الصدرية في‬
‫الستين من عمره‪ .‬ولم يكن المخرج قد وضع يده على‬
‫"الثيمة" الساسية في النص‪ ،‬فذهب به الظن إلى أن‬
‫المسألة تتعلق بخلف بين امرأة مشاكسة‪ ،‬غريبة الطوار‪،‬‬
‫ومدير حريص على استتباب النظام في المؤسسة التي يديرها‪.‬‬
‫ولم يكن هذا الفهم صحيحًا‪ ،‬ولذلك بدا المشهد مقطوع الصلة‬
‫بسياق المسرحية‪ ،‬وبدا واضحا ً للعيان أن ممثل دور المدير‬
‫ورفيقه لم يكونا على علم بكنه الشخصية التي يؤديها كل‬
‫منهما‪ .‬ولكن الحيرة تبددت عندما تأتى للمخرج والممثلين أن‬
‫يفهموا ما أراده المؤلف‪ ،‬فأربوزوف يريد أن يقول‪ ،‬على لسان‬
‫بطلة المسرحية‪ ،‬أن الكهولة ليست نهاية الحياة‪ ،‬وأن امرأة‬
‫في الخمسين ورجل ً في الستين يمكن أن يتحابا ويجدا في‬
‫حبهما من السعادة ما يجد الشبان‪ .‬ولم يكن المشهد الذي‬
‫ذكرناه يصور امرأة غريبة الطوار –كما توهم المخرج أول‬
‫المر‪ -‬بل امرأة عاشقة تؤنب الرجل الذي أحبته لنه ل يريد‬
‫أن يفهم أنها تحبه وأن من حقه أن يحب رغم بلوغه الستين‪.‬‬
‫ولننتقل الن إلى دور المخرج بوصفه قائدا ً للعمل‪ ،‬وهذه‬
‫نقطة قد ل تحتاج إلى كثير من التوسع‪ ،‬فالمسرح –كما سبق‬
‫أن قلنا‪ -‬فن مركب تلتقي فيه معظم الفنون التي نعرفها‪ ،‬إن‬
‫لم نقل كلها‪ .‬إنه حصيلة اقتران الدب )ممثل ً في النص( بفن‬
‫التمثيل‪ ،‬والفن التشكيلي بالموسيقى والزياء والنارة‬
‫والمؤثرات الفنية المختلفة‪ .‬وغني عن اليضاح أن هذه الفنون‬
‫المتعددة يجب أن تلغي وجودها المستقل وتندمج في بعضها‬
‫وه العام‪ ،‬فالوحدة‬ ‫لتؤلف عمل ً موحدا ً في أسلوبه وإيقاعه وج ّ‬
‫شرط ضروري لكل عمل فني‪ .‬ولعل أوجز تعريف لهذه الوحدة‬
‫تلك العبارة المأثورة التي وصف به غوته أوبرا موتسارت‬
‫المعروفة "دون جوان"‪" :‬إنها إبداع روحي تتخلل أجزاءه‪ ،‬كما‬
‫تتخلله بمجموعه‪ ،‬روح واحدة وأنفاس حياة واحدة"‪ .‬والمخرج‬
‫‪- 37 -‬‬
‫هو الرجل الذي يحقق هذه الوحدة‪ ،‬وهو الذي يوجه زملءه من‬
‫الفنانين المشاركين في العمل المسرحي إلى ما يتوجب عليهم‬
‫عمله‪ .‬ول يعني هذا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أن هؤلء الفنانين قد تنازلوا عن‬
‫ذواتهم المبدعة وتحولوا إلى أدوات خرساء بيد المخرج‪ ،‬وإنما‬
‫يعني –تحديدًا‪ -‬العمل بانسجام وتوافق ضمن التصور العام‬
‫الذي وضعه المخرج أساسًا‪ .‬وهنا تكمن الصعوبة الستثنائية في‬
‫عمل المخرج المسرحي‪ ،‬فهو كالرسام الذي يبدع لوحة‬
‫مترامية البعاد‪ ،‬ولكنه ل يتعامل كالرسام مع ألوان طيعة‪ ،‬بل‬
‫مع فنانين لكل منهم أسلوبه وشخصيته الفنية المستقلة‪ .‬ولبد‬
‫لنجاح المخرج المسرحي في مهمته هذه من توافر شرطين‬
‫أساسيين‪ :‬أولهما أن يعمل مع فريق منسجم‪ ،‬يتقيد بأخلقيات‬
‫المسرح ويتحاشى أفراده النسياق مع النانية الفردية التي قد‬
‫تغري هذا الفنان أو ذاك بالسعي إلى توكيد حضوره الشخصي‬
‫على حساب العمل نفسه‪ .‬وثانيهما أن يكسب ثقة العاملين‬
‫معه واحترامهم لكي يصهر هذه المواهب كلها في بوتقة‬
‫واحدة‪ .‬وليس من النادر أن يغيب أحد هذين الشرطين أو‬
‫كلهما‪ ،‬ولسيما في البلدان التي ل تتمتع بتقاليد عريقة في هذا‬
‫المجال‪ .‬فقد يحدث أحيانا ً أو يحاول أحد الممثلين الستئثار‬
‫بمقدمة المسرح أو الخروج إلى دائرة الضوء في لحظة غير‬
‫مناسبة ليستقطب انتباه الجمهور‪ ،‬دون أن يضع في حسابه أن‬
‫سلوكا ً كهذا قد يشتت ذهن المتفرج ويصرفه عن تركيز انتباهه‬
‫على بؤرة العمل الدرامي‪ .‬ومن الظواهر المؤسفة التي‬
‫لحظتها في المسرح العراقي بوجه خاص خروج بعض‬
‫الممثلين عن النص أو ارتجالهم النكات لستدرار ضحك‬
‫الجمهور وتحويل انتباهه إليهم‪ .‬وقد يجوز هذا إلى حد ما في‬
‫الملهي الشعبية البسيطة التي تتوخى تسلية المتفرجين‬
‫وإضحاكهم‪ ،‬ولكنه ل يجوز قطعا ً مع النصوص الدرامية الرصينة‪.‬‬
‫ومع أن المسؤولية المباشرة في مثل هذه الحوال تقع على‬
‫عاتق الممثل الذي تجاوز حدوده المرسومة‪ ،‬إل أننا ل نستطيع‬
‫إعفاء المخرج من المسؤولية‪ ،‬لنه قائد العمل والمسؤول‬
‫الول عن نجاحه أو سقوطه‪.‬‬
‫وعمل المخرج يتطلب دقة متناهية في بناء المشاهد‬
‫وتوزيع مساحة العرض وضبط اليقاع‪ ،‬لن أي خطأ في التقدير‬
‫قد يؤدي إلى فشل المسرحية وانصراف الجمهور عنها‪ ،‬وفي‬
‫ذلك ما فيه من خسائر معنوية ومادية‪ .‬ولكن فشل مسرحية ما‬
‫ل يعني بالضرورة أن المخرج قد أخفق في عمله‪ ،‬فقد ينصرف‬
‫الجمهور عن مسرحية جيدة لنها تخاطبه بلغة رفيعة ل يفهمها‪،‬‬
‫أو لنها تعالج قضايا ل تثير اهتمامه‪ .‬ولتدارك فشل كهذا يتوجب‬
‫على المخرج‪ ،‬والقوامين على المسرح بوجه عام‪ ،‬أن يضعوا‬
‫مستوى ثقافة الجمهور والقضايا التي تعنيه في حسابهم عند‬
‫اختيار النصوص التي يقدمونها إليه‪ .‬ول يعني هذا أن علينا أن‬
‫ندير ظهورنا للعمال الدرامية الرفيعة التي ل يتجاوب معها‬
‫الجمهور البسيط‪ ،‬فتعدد المستويات الثقافية لجمهور المسرح‬
‫مشكلة عالمية‪ ،‬وقد عالجتها المم المتقدمة بتخصيص مسارح‬
‫محدودة المقاعد للنخبة القادرة على تذوق مثل هذه العمال‪.‬‬
‫على أن أخطر مايواجه المخرج المسرحي في عمله هو‬
‫اختلل توازن العرض بطغيان بعض عناصره على البعض الخر‪،‬‬
‫ل‪ -‬عنصر ل غنى عنه في خلق الجو‬ ‫فالموسيقى التصويرية –مث ً‬
‫العام للمسرحية‪ ،‬ولكن الموسيقى ل ينبغي أن تطغى على‬
‫الحوار بحيث يعجز المشاهد عن تتبع الخيط الذي ينتظم‬
‫حلقات المسرحية‪ .‬والديكور هو الخر له دوره البارز في‬
‫استحضار بيئة المسرحية وأجوائها واليماء إلى دللتها المهمة‪،‬‬
‫ولكن الديكور الباذخ‪ ،‬الذي يتخطى بفخامته الحدود الضرورية‪،‬‬
‫قد ينقلب إلى عامل سلبي فيستأثر باهتمام المشاهد ويصرفه‪،‬‬
‫‪- 38 -‬‬
‫ولو لفترة وجيزة‪ ،‬عن متابعة مايجري أمامه‪ .‬والواقع أن‬
‫المسرح المعاصر يميل عموما ً إلى التقشف في الديكور‬
‫والقتصار على الحد الدنى منه‪ .‬وأذكر‪ ،‬بهذه المناسبة‪ ،‬أنني‬
‫حضرت في صوفيا مسرحية "عطيل" للمخرج اليطالي الشهير‬
‫"زفاريللي"‪ ،‬فوجدت ديكورها يقتصر على جدران القلعة التي‬
‫تدور فيها الحداث والسرير الذي خنقت فيه بطلة المسرحية‪.‬‬
‫وحضرت في مسرح "لماما" الشهير في نيويورك مسرحية‬
‫"منطق الطير" للمخرج البريطاني المعروف "بيتر بروك"‪،‬‬
‫وكان الديكور كله مؤلفا ً من سجادتين فارسيتين‪ ،‬علقت‬
‫إحداهما في خلفية المسرح وفرشت الثانية على الرض‪ .‬وكان‬
‫العرض مع ذلك في منتهى الروعة‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 39 -‬‬
‫ستانسلفسكي‬
‫وفن الممثل المسرحي‬

‫لشك أن التمثيل من أقدم الفنون التي عرفتها البشرية‪،‬‬


‫فالناس كما يقول أرسطوطاليس في الفصل الرابع من "فن‬
‫الشعر" مّيالون بطبعهم إلى المحاكاة‪ ،‬وهم يستمتعون بها‬
‫حتى عندما تكون مادة المحاكاة شيئا ً كريها ً تعافه النفوس ‪.‬‬
‫)‪(23‬‬
‫والتمثيل أكمل صور المحاكاة دون مراء‪ .‬وإذا سلمنا بالرأي‬
‫القائل بأن طقوس العبادة وغيرها من الطقوس الجتماعية‬
‫عند المم القديمة ليست إل ضروبا ً من التمثيل‪ ،‬وأن الرواة‬
‫في المجتمعات البدائية كانوا يستعينون باليماء والحركة‬
‫وتلوين الصوت ليقّربوا صورة الوقائع التي يسردونها إلى‬
‫أذهان مستمعيهم أدركنا أن هذا الفن قد سبق ظهور الدراما‬
‫عند الغريق بأشواط بعيدة‪ .‬ومع ذلك فإن فن التمثيل –خلفا ً‬
‫للدراما نفسها‪ -‬ل يستند إلى نظرية عريقة‪ .‬وليس معنى هذا‬
‫أنه لم يظفر‪ ،‬كغيره من الفنون‪ ،‬بعناية الدارسين والنقاد‪ ،‬ولكن‬
‫القليل الذي كتبه هؤلء حول الموضوع لم يكن كافيا ً لبناء‬
‫نظرية متكاملة يسترشد بها الممثل في صقل موهبته وإعداد‬
‫أدواره‪ .‬وإذا كان من حسن حظ الدراما أنها استأثرت باهتمام‬
‫مفكر عظيم كأرسطوطاليس فعكف على دراستها وكشف عن‬
‫طبيعتها وخصائصها الساسية منذ القرن الرابع قبل الميلد‪،‬‬
‫فإن مقومات فن التمثيل وعناصر الدور المسرحي ومراحل‬
‫ظ بصياغة نظرية تسعف رجل المسرح في عمله‬ ‫إعداده لم تح َ‬
‫إل في أواخر القرن الماضي‪ .‬وقد اقترن هذا التطور في علم‬
‫المسرح باسم الفنان الروسي الكبير "كونستانتن‬
‫ستانسسلفسكي"‪.‬‬

‫)( وووو وووووووووو وووووو وووووو‪" :‬وووو وو ووووو‬ ‫‪23‬‬


‫وووووووو ووو وو وووووو وووووو ووووو‪ .‬ووووو وو‬
‫ووووو ووووووو ووو ءءءءءءءء ووو ووووووو ووو‬
‫ووووووو وو ووووو وو وووووووو ووووو ووووو وووووو‬
‫ووو ءءءءءءءء وووووو ووووووو ووووووو وووووو وو‬
‫وووو ءءءءءءءءو ووووووو وو ووووو ووووووووووو‬
‫ووووووو وووو وووووووو ووووووو وووو وووو‪ :‬وووو‬
‫وو ووووووو وووووووو وو ووووو ووووووو وو‬ ‫وووووو ووو و‬
‫وو ووووو وووووو وووووو ووووووو ووووووووو ووووووو‬
‫وو ووووو ووووو–ووووووو وو وووو وووووووو ووووووو‬
‫وو ووووووووو ووووووو وووو ووووووووو و‪.‬ءءءءءء‬
‫ووووووو وو ووووو ووو ‪.1993‬‬
‫‪- 40 -‬‬
‫لم يكن ستانسلفسكي فيلسوفا ً كصاحب "فن* الشعر" ول‬
‫أديبا ً كمؤلف كتاب "الفن المسرحي في هامبورغ" بل كان‬
‫ممثل ً ومخرجا ً مسرحيا ً موهوبا ً استخلص من تجاربه الطويلة‬
‫المتنوعة وتأملته "منهجًا" عاما ً للتمثيل المسرحي‪ ،‬يرتكز‪ ،‬إلى‬
‫قوانين السلوك النساني نفسه‪ ،‬وبذلك حول عمل الممثل من‬
‫"الهام" غامض المصدر إلى "علم" له منهجه وأصوله‪.‬‬
‫كان ستانسلفسكي يردد ‪-‬كما نقل عنه الممثل الروسي‬
‫"فاسيلي توبوركوف" –أن الممثل يختلف عن العازف أو راقص‬
‫الباليه أو غيرهما من الفنانين في أنه "محروم من التمارين‪،‬‬
‫لنه ل يدري كيف ينبغي له أن يتمرن‪ ،‬فهو ل يعرف العناصر‬
‫التي يتألف منها فنه‪ ،‬وليست لديه نظرية"‪ .‬وقد أنفق حياته‬
‫الفنية المديدة باحثا ً عن هذه "العناصر" التي يتألف منها فن‬
‫الممثل وعن المقدمات الضرورية لخلق أدوار حية‪ ،‬مقنعة على‬
‫المسرح‪.‬‬
‫ومع أن من العسير على الباحث‪ ،‬في مقال وجيز كهذا أن‬
‫يلم من جميع الوجوه بذلك المنهج المتشعب الذي رسم‬
‫ستانسلفسكي خطوطه الساسية في كتابيه الشهيرين "إعداد‬
‫الممثل" و "حياتي في الفن"‪ ،‬إل أن بإمكاننا أن نوجز هذا‬
‫المنهج في مرحلتين‪ :‬إعداد الممثل لنفسه مهني ًّا‪ ،‬ثم إعداده‬
‫لدوره"‪.‬‬

‫كيف يعد الممثل نفسه مهنيًا؟‬


‫لزمن طويل ساد العتقاد بأن الموهبة الفطرية هي كل ما‬
‫يحتاج إليه الممثل ليتألق على خشبة المسرح‪ .‬ومن المحزن‬
‫أن بعض العاملين في المسرح عندنا مازالوا يحملون هذه‬
‫الفكرة الساذجة‪ ،‬فمهنة التمثيل ل تتطلب في نظرهم سوى‬
‫جملة من القوالب التعبيرية الجاهزة التي يفرغ فيها الممثل‬
‫دوره‪ .‬وقصارى مايراد من الممثل‪ ،‬في اعتقادهم‪ ،‬أن يجيد‬
‫اصطناع الخوف أو الغضب‪ ،‬وأن يعرف كيف يضحك أو ينتحب‬
‫على خشبة المسرح‪.‬‬
‫والواقع أن فن التمثيل أعمق وأبعد منال ً من ذلك بكثير‪.‬‬
‫فليس التمثيل مجرد محاكاة سطحية للسلوك البشري‪ ،‬وليس‬
‫رصيدا ً جاهزا ً من الحركات والتشنجات‪ ،‬بل هو "عملية خلق‬
‫فني" تستهدف ترجمة أفكار المؤلف المسرحي إلى حياة‬
‫وحركة وفعل‪ .‬والممثل الحقيقي هو من يبعث الحياة في‬
‫الشخصية التي رسمها المؤلف‪ ،‬ويكشف بالمعطيات الحسية‬
‫عن عالمها الداخلي المعقد‪ ،‬ويبرزها بكل أبعادها‬
‫السايكولوجية والجتماعية‪.‬‬
‫وفي عملية الخلق هذه تندمج ملمح الدور بملمح‬
‫شخصية الممثل لتؤلف صورة مركبة فريدة ومتجددة‬
‫باستمرار‪ .‬فكل شخصية تظهر أمامنا على المسرح لها جانبان‪:‬‬
‫الجانب الذي صاغه المؤلف‪ ،‬والجانب الذي أضافه الممثل‪.‬‬
‫مه الجانب الموضوعي من عملية‬ ‫ويستلزم الول منهما –ولنس ّ‬
‫الخلق الفني –فهما ً عميقا ً للدور وللمسرحية ككل‪ ،‬بينما يرتكز‬
‫الثاني‪-‬وسنسميه الجانب الذاتي‪ -‬إلى عوامل متعددة‪ ،‬أهمها‬
‫موهبة الممثل وثقافته وتجاربه وملحظاته‪ .‬ويمكننا في هذا‬
‫الشأن أن نشبه الممثل بالرسام الذي ينقل عن أنموذج حي‬
‫فهو مطالب من ناحية بأن ينقل إلينا أبرز سمات هذا النموذج‬
‫كما أنه مطالب من ناحية أخرى بأن يكون له أسلوبه الخاص‪.‬‬
‫وهذا بالضبط ما عناه ستانسلفسكي عندما أوصى ممثلي‬
‫*‬
‫وووووو وووووووو وووووو ووووو‪.‬‬
‫‪- 41 -‬‬
‫فرقته بقوله‪:‬‬
‫"كن أنت نفسك في كل دور تؤديه‪ ،‬ولكن كن مختلفا ً في‬
‫كل مرة‪ .‬فما دامت بيئتك مختلفة‪ ،‬وقصة حياتك مختلفة‪ ،‬فإن‬
‫ذهنيتك هي الخرى يجب أن تختلف وكذلك سلوكك وإحساسك‬
‫بالقيم"‪.‬‬
‫وعندما نفهم وظيفة الممثل على هذا المستوى يبدو‬
‫واضحا ً أن الموهبة الفطرية وحدها ل تكفي لخلق الممثل إل‬
‫ل‪ ،‬لخلق المؤلف‬ ‫بمقدار ما تكفي الذن الحساسة وحدها‪ ،‬مث ً‬
‫الموسيقي‪ .‬فإلى جانب الموهبة –وهي شرط ل غنى عنه لي‬
‫فنان‪ -‬يستلزم فن التمثيل شروطا ً عديدة أخرى‪ ،‬أهمها أن‬
‫يكون الممثل ذا ثقافة واسعة‪ ،‬متعددة الجوانب‪ ،‬ول سيما في‬
‫مجال المسرح والفنون الخرى ذات العلقة‪ ،‬وأن تكون له‬
‫معرفة واسعة بطبائع البشر وعاداتهم وعلقاتهم وأنماط‬
‫تفكيرهم وسلوكهم‪ ،‬وأن يبذل جهودا ً منتظمة للحتفاظ بمرونة‬
‫جسمه وطلقة صوته‪ ،‬وأن يتحلى بأخلق مهنية عالية‪.‬‬
‫ويبدو لي أن من غير الضروري أن نتوسع في شرح أهمية‬
‫كل من هذه الشروط فقد يكفي أن نعيد إلى الذهان أن‬
‫الدراما هي أعقد صور الدب العالمي وأرقاها‪ ،‬وإن نقلها إلى‬
‫المسرح بكل ما تنطوي عليه من عمق فلسفي وما تزخر به‬
‫من مواقف ونماذج إنسانية هو أمر يتطلب الكثير من الدراية‬
‫والستعداد‪.‬‬
‫ً‬
‫ويجدر بنا أن نتوقف قليل عند مسألة "الخلق المهنية"‬
‫التي أولها ستانسلفسكي وتلمذته قسطا ً كبيرا ً من الهتمام‪.‬‬
‫ومرد ذلك إلى أن المسرح فن جماعي قوامه الجهود‬
‫المتناسقة التي يبذلها حشد كبير من الفنانين‪ ،‬وهذا ما يجعل‬
‫الفنان في المسرح أقل حرية مما هو عليه في بعض مجالت‬
‫ل‪ ،‬يستطيع أن يكتب قصيدته متى‬ ‫الفن الخرى‪ .‬فالشاعر‪ ،‬مث ً‬
‫أراد‪ ،‬وأن يعيد كتابتها المرة تلو المرة حتى يعثر على القالب‬
‫الذي يرضيه‪ ،‬وقد ل يعنيه كثيرا ً أن يرضى الخرون عما كتب‪.‬‬
‫أما الممثل فهو مرتبط بمواعيد عمل معينة يجب التقّيد بها‪،‬‬
‫وهو يقوم بتجاربه ومحاولته على مشهد من الخرين‪ ،‬وهو‬
‫مطالب بالنسجام مع الخط العام الذي حدده المخرج ومع‬
‫زملئه الخرين في المسرحية‪.‬‬
‫وهكذا فإن طبيعة عمل الممثل تستوجب منه نكران الذات‬
‫والنضباط الدقيق واحترام الزملء وكبح شهوة الظهور على‬
‫حساب الغير أو على حساب العمل المسرحي نفسه‪ .‬وقد ترك‬
‫ستسانسلفسكي وصايا كثيرة في هذا الصدد‪ ،‬منها عبارته‬
‫المأثورة "ل تحبوا أنفسكم في الفن‪ ،‬بل أحبوا الفن في‬
‫أنفسكم"‪ .‬وكان إذا احتج أحد الممثلين على دور صغير أسند‬
‫إليه يرد عليه بقوله "ل توجد أدوار صغيرة‪ ،‬بل يوجد ممثلون‬
‫صغار"‪.‬‬
‫وتشهد الذكريات التي رواها عنه زملؤه وتلمذته على‬
‫مدى تقيده شخصيا ً بالخلق المهنية‪ .‬وإليكم هذه الواقعة التي‬
‫رواها عنه الممثل "فسيفولود فيربيتسكي"‪ ،‬أحد أعضاء فرقة‬
‫مسرح موسكو الفني‪:‬‬
‫"عندما أعفاه فلديمير"‪ .‬ايفاونوفتش ‪-‬دانتشكنكو من دور‬
‫*‬
‫العقيد روستانيف بعد البروفة الخيرة لمسرحية "قرية‬
‫ستيبانتشيكوفو**وأسند الدور إلى "ماساليتنوف"‪ ،‬شهق أفراد‬
‫الفرقة وحبسوا أنفاسهم خائفين في انتظار ما سيحدث‪ .‬ولكن‬
‫*‬
‫وووو ووووو وووو ووووو ووو وو ووووووووووو وووو‬
‫ووووو ووووو‪.‬‬
‫‪- 42 -‬‬
‫لم يحدث شيء‪ .‬فقد أذعن لمشيئة المخرج دون أن ينبس‬
‫بحرف‪ ،‬رغم أنه كان يعتبر دور روستانيف‪ ،‬كدور الدكتور‬
‫ستوكما***من أفضل الدوار التي أداها في حياته‪ .‬ولم نسمع‬
‫منه أية نأمة احتجاج أو كلمة استياء حول الموضوع‪ .‬فما دام‬
‫فلديمير ايفانوفتش يعتقد أنه ل يصلح للدور فمعنى ذلك أنه ل‬
‫يصلح"‪.‬‬
‫ولعل خير ما نوضح به مفهوم ستانسلفسكي عن إعداد‬
‫الممثل لنفسه وضخامة الجهد الذي ينبغي عليه بذله في هذا‬
‫السبيل‪ ،‬أن نقتطف الفقرة التالية من ذكريات الممثل‬
‫"توبوركوف"‪ ،‬الذي سلفت الشارة إليه‪:‬‬
‫"كان إذا شكونا إليه من أن نتاجاتنا المسرحية قليلة جدا ً‬
‫وأننا ننفق في إعدادها سنين طويلة‪ ،‬يوافقنا على أن هذا غير‬
‫حسن‪ ،‬ثم يضيف مستدركًا‪ :‬ولكن إذا أردنا أن نقدم كل شهر‬
‫مسرحية جديدة‪ ،‬فيستوجب علينا أن نغلق المسرح لبضع‬
‫سنوات ونطور تقنياتنا‪ .‬وبعد أن يكون الممثلون قد حذقوا‬
‫تقنيات المسرح‪ ،‬فإن المخرج لن يحتاج إلى كل هذا الوقت‬
‫الطويل لخراج مسرحية‪.‬‬
‫"افترضوا أن شخصا ً ما أتاني وأخبرني بأنه يريد أن يتعلم‬
‫أغنية‪ .‬وحين شرعت في تعليمه اكتشفت أن صوته لم يصقل‪،‬‬
‫ي قبل أن أعلمه الغنية أن أعطيه دروسا ً صوتية‪ .‬في‬ ‫وأن عل ّ‬
‫هذه الحالة سيكون لبد من إرجاء الغنية ريثما أدّربه على‬
‫الغناء‪ .‬وأعتقد أنكم تقدرون كم يتطلب ذلك من الوقت‪."..‬‬
‫هذا عن إعداد الممثل لنفسه‪ .‬بيد أن الثورة الحقيقية التي‬
‫أحدثها ستانسلفسكي في الممارسة المسرحية إنما هي‬
‫منهجه في "إعداد الممثل لدوره"‪.‬‬
‫لقد كتب الكثير عن منهج ستانسلفسكي وصيغت له‬
‫تعريفات عديدة‪ ،‬قد يكون أقربها إلى الدقة أن يقال أنه منهج‬
‫"بناء الدور المسرحي من الداخل" أو "خلق المقدمات‬
‫السايكولوجية اللزمة لولدة الدور بصورة عفوية على خشبة‬
‫المسرح"‪.‬‬
‫وقد أوجز نميروفتش دانشينكو‪ ،‬في إحدى مقالته‪ ،‬الغاية‬
‫التي رمى إليها ستانسلفسكي على النحو التالي‪:‬‬
‫"كان ستانسلفسكي يحلم بإبداع فن يمكن الممثلين من‬
‫أداء أدوارهم في المسرحية بحرية‪ ،‬كما لو كانوا يؤدونها للمرة‬
‫الولى‪ ،‬دون أن يلجؤوا إلى اليماءات والوسائل المستهلكة‬
‫التي ترافق عرض المسرحية للمرة الربعين أو الخمسين أو‬
‫المائتين‪ .‬كان يحلم‪ ،‬إذا جاز التعبير‪ ،‬بأن يتحول كل عرض‬
‫الجاهزة‬ ‫مسرحي إلى إبداع جديد‪ ،‬ل يخلو من "الكليشيهات"‬
‫وحسب‪ ،‬بل ويزخر بالمفاجآت حتى بالنسبة للمثل نفسه…"*‪.‬‬

‫ماذا يعني بناء الدور من الداخل؟‬


‫إنه يعني –خلفا ً للتمثيل الحرفي الذي يخضع الدور لعدد‬
‫من التعبيرات المبتذلة المعدة سلفا –أن يتبنى الممثل‬
‫"منطق" الشخصية الدرامية وأن "يعاني" مشكلتها على خشبة‬
‫* وووووو وووووو وو ووووو وووووووووو ووووووو "وووو‬ ‫*‬
‫ووووووووووووو ووووووو"‪.‬‬
‫** ووو وووووو "ووو ووووو" ووووو‪.‬‬ ‫*‬
‫*‬
‫وو وووو ووووووووو –وووووووو وووووو "ووووو‬
‫وووووو"‪.‬‬
‫‪- 43 -‬‬
‫المسرح معاناة حقيقية متجددة‪ ،‬تاركا ً لعاطفته فرصة التجسد‬
‫التلقائي الحر ضمن شروط المسرح‪ .‬وهذه الغاية تتطلب بناء‬
‫دقيقا ً متأنيا ً للدور‪ ،‬أو لنستعرض عبارات ستانسلفسكي ذاتها‬
‫فنقول إنها تتطلب إنماء الدور وتطويره من مجرد "بذرة" إلى‬
‫نبتة حية‪ ،‬دانية القطوف‪.‬‬
‫وبوسعنا أن نحدد لعملية إنماء الدور هذه أربع مراحل‬
‫متتابعة‪:‬‬
‫‪-‬ءءءءءء ءءء ءءءءء‪.‬‬
‫‪-‬ءءءءءء‪.‬‬
‫‪-‬ءءءءءءء‪.‬‬
‫‪-‬ءءءءءء‪.‬‬
‫ولكل من هذه المراحل أثرها الحاسم في بلوغ النتيجة‬
‫التي كان يحلو لستانسلفسكي أن يسميها "بالكشف عن حياة‬
‫النفس البشرية" على المسرح‪.‬‬
‫إن التعرف على الدور يعني قراءته أول مرة‪ .‬وكما أن‬
‫انطباعات لقائنا الول مع شخص غريب قد تلزمنا لفترة طويلة‬
‫بعد ذلك‪ .‬وقد تصبح أساسا ً ل شعوريا ً لموقفنا منه أو علقتنا‬
‫به‪ ،‬كذلك فإن القراءة الولى للنص المسرحي تترك في‬
‫النفس عادة‪ ،‬انطباعات يصعب تغييرها‪.‬‬
‫ومن المعروف أن النص المسرحي ل يتضمن إلى جانب‬
‫الحوار سوى النزر السير من المعلومات والتفاصيل‪ ،‬وهذا ما‬
‫يجعل القارئ يمل فجوات النص –بصورة ل إرادية‪ -‬ببعض‬
‫الصور المختزنة في ذاكرته‪ .‬وهكذا فنحن في أثناء القراءة‬
‫الولى نتخيل مشاهد المسرحية وملمح أبطالها وهيئاتهم‬
‫العامة وحركاتهم ونبرات أصواتهم‪ .‬ولكن تصوراتنا هذه ليست‬
‫صحيحة في كل الحوال‪ ،‬فالقراءة الولى قد ل تتيح لنا فهما ً‬
‫شامل ً للمسرحية‪ .‬وقد نكتشف‪ ،‬ونحن نتقدم في القراءة‬
‫وتتجلى لنا الحبكة بمزيد من الوضوح‪ ،‬أننا أخطأنا في تصور‬
‫بعض الشخصيات‪ .‬وبالتالي فإن انطباعات القراءة الولى يجب‬
‫أن تدرس وتغربل في المرحلة الثانية من إعداد الدور‪ ،‬أي‬
‫مرحلة التحليل‪.‬‬

‫كيف يحلل الممثل دوره؟‬


‫إن تحليل الدور يعني استجلء مختلف المقومات الخلقية‬
‫والعقلية والجتماعية التي تتكون منها الشخصية الدرامية‪.‬‬
‫وأفضل سبيل إلى الحاطة بمقومات هذه الشخصية أن نحاول‪،‬‬
‫عن طريق استقراء النص‪ ،‬الجابة عن هذين السؤالين‪:‬‬
‫ءء ءء ءءء ءءءءءءءء ءءءءء ءءءءء‬
‫ومن الطبيعي أننا لن نجد في أي نص مسرحي إجابة‬
‫مفصلة وافية عن السؤال الول‪ .‬ولكن إذا أحسنا قراءة النص‬
‫فسنجد فيه دون شك المعطيات الساسية الكافية لبناء الدور‪،‬‬
‫أما الجزئيات والتفاصيل فهي متروكة لتصوراتنا نحن‪.‬‬
‫وتشمل الجابة عن السؤال الول معرفة عمر البطل‬
‫المسرحي وجنسيته ومهنته وانتمائه الطبقي ومركزه‬
‫الجتماعي ووضعه العائلي ونوعية علقاته بالخرين ومزاجه‬
‫ومنطقه ودوافعه النفسية الخ‪ ..‬وعلى أساس هذه المعرفة‬
‫يستطيع الممثل أن يكمل النص بشتى الوقائع والجزئيات‬

‫‪- 44 -‬‬
‫الصغيرة التي تتألف منها حياة الناس اليومية‪ ،‬مستعينا ً في ذلك‬
‫بمخيلته وما تحفل به ذاكرته من صور وانطباعات‪ .‬وقد تستلزم‬
‫طبيعة الدور أن يخرج الممثل إلى المجتمع ليراقب عن كثب‬
‫أناسا ً يماثلون بطله في المهنة أو الوضع الجتماعي أو الحالة‬
‫الصحية أو غير ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫وباختصار فإن على الممثل –وفقا لمنهج ستانسلفسكي‪-‬‬
‫أن يؤلف‪ ،‬في ضوء ما لديه من معطيات‪" ،‬سيرة كاملة"‬
‫للشخصية التي يؤديها‪ ،‬وأن يحمل في ذهنه صورة حسية دقيقة‬
‫لسائر ظروفها المرتبطة بما يجري على المسرح ولو ارتباطا ً‬
‫غير مباشر‪ .‬وهذه مهمة صعبة‪ .‬ولكنها ممكنة إذا اكتملت في‬
‫الممثل شروط العداد المهني التي تحدثنا عنها‪.‬‬
‫لنفترض أن ممثل ً ما اطلع بدور "كارستون بيرنك" في‬
‫مسرحية "أعمدة المجتمع" لهنريك ابسن‪ ،‬فما هي العناصر‬
‫التي يمكنه أن يستمدها من النص المسرحي وماذا يستطيع أن‬
‫يضيف إليها؟‬
‫إن بيرنك –كما يقدمه إلينا المؤلف في الفصل الول –‬
‫رأسمالي نرويجي في نحو الربعين من عمره‪ ،‬يتمتع بسمعة‬
‫اجتماعية عالية كرب أسرة مثالي‪ ،‬ذي أخلق رصينة محافظة‪.‬‬
‫ولكن وصول قريبين للعائلة من أميركا على نحو مفاجئ‬
‫يكشف لنا عن ماضي الرجل‪ ،‬فنعرف أن ثروته الكبيرة قامت‬
‫على عملية اختلس اقترفها في شبابه‪ ،‬وأنه تخلى عن المرأة‬
‫من له مزيدا ً من النجاح في‬‫التي يحب ليتزوج من أخرى تؤ ّ‬
‫المجتمع‪ ،‬وأنه كان طرفا ً في فضيحة أخلقية تنصل منها‬
‫ونسبها إلى أخلص أصدقائه‪ .‬ونرى بيرنك في الفصول التالية‬
‫وهو يجاهد للحتفاظ بمجده القائم على الختلس والرياء‬
‫والغدر‪ ،‬ولقصاء شبح الماضي الذي انبعث بغتة في شخص‬
‫قريبيه العائدين من أميركا‪ .‬وهو في سبيل ذلك ل يتورع حتى‬
‫عن التورط في جريمة رهيبة‪ .‬وفي ختام المسرحية نرى‬
‫بيرنك‪ ،‬وقد ارتد إليه ضميره‪ ،‬يقف أمام المل ليزيح بنفسه‬
‫الستار عن خطايا ماضيه‪ .‬وقد يبدو لنا هذا التطور الخير في‬
‫شخصية بيرنك مفتعل ً وغير مقنع‪ .‬كما بدا فعل ً لبعض النقاد‪،‬‬
‫ولكن علينا أن ندخله في حسابنا عند تحليل الدور‪.‬‬
‫ولنحاول الن‪ ،‬وقد تابعنا تطور شخصية "كارستون بيرنك"‬
‫ضمن حدود النص‪ ،‬أن نجيب عن هذين السؤالين‪:‬‬
‫‪-‬من هو بيرنك؟ وماذا يريد؟‬
‫ويمكننا –تمثيل ً ل حصرًا‪ -‬أن نجيب عن السؤال الول بما‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪-‬إن بيرنك شخصية مرائية ذات سلوك مزدوج‪ ،‬ولبد أنه‬
‫يعيش في حالة قلق دائم من افتضاح أمره‪.‬‬
‫‪-‬إنه بارع جدا ً في إخفاء دوافعه الحقيقية‪ ،‬فحتى زوجته‬
‫تظل مخدوعة به حتى النهاية‪.‬‬
‫‪-‬لبد أن يكون بيرنك على قدر كبير من الجاذبية وقوة‬
‫الشخصية‪ ،‬فقد أحبه عدد من النساء‪ ،‬وضحى أحد أصدقائه‬
‫بسمعته من أجله‪ ،‬وأحاطه المجتمع بكثير من الحترام والثقة‪.‬‬
‫‪-‬من الواضح أن الثراء والجاه هما القيمة الكبرى في حياة‬
‫بيرنك‪ ،‬فقد ضحى من أجلهما بمن يحب وأهمل من أجلهما‬
‫واجبه تجاه ابنه الوحيد‪.‬‬
‫‪-‬إن بيرنك‪ ،‬كما لحظ أحد النقاد الغربيين‪ ،‬هو "ماكبث"‬
‫معاصر‪ ،‬قوي الشكيمة‪ ،‬شديد الطموح‪ ،‬ل يحجم –وقد بنى‬
‫‪- 45 -‬‬
‫مجده بالجريمة‪ -‬عن اقتراف سلسلة جرائم أخرى دفاعا ً عما‬
‫بناه‪.‬‬
‫‪-‬رغم سقوط بيرنك الخلقي فإنه ظل يحمل في أعماقه‬
‫بعض القيم الخيرة‪ ،‬وهذا ماتدل عليه خاتمة المسرحية‪،‬‬
‫وبالتالي فإن الصراع بين الضمير ومقتضيات المصلحة‬
‫الشخصية يشكل جزءا ً من أزمته الداخلية‪.‬‬
‫ولنكتف بهذا القدر من الجابة عن السؤال الول وننتقل‬
‫إلى السؤال الثاني‪" :‬ماذا يريد؟"‪ .‬وينبغي أن نشير هنا إلى أن‬
‫الجابة الدقيقة عن هذا السؤال هي أهم ما يواجه الممثل‬
‫المسرحي‪ ،‬لنها تكشف عن جوهر الصراع الذي تخوضه‬
‫الشخصية المسرحية‪ ،‬وتحدد العلئق بينها وبين بقية‬
‫الشخصيات‪ .‬والجابة‪ ،‬في المثال الذي اخترناه‪ ،‬واضحة جدًا‪،‬‬
‫فكارستون بيرنك يريد أن يبقي‪ ،‬بأي ثمن‪ ،‬على الكذوبة التي‬
‫كانت أساسا ً لسمعته وثرائه‪ .‬ولكننا نخطئ إذا تصورنا أننا‬
‫نستطيع بالسهولة نفسها أن نعرف دوما ً مايريده بطل‬
‫مسرحية ما أو غيره من شخصياتها‪.‬‬
‫وليس اللمام بعناصر الشخصية المسرحية وتحديد غايتها‬
‫الساسية إل بمثابة الخطوط العامة لصورة مازالت تفتقر إلى‬
‫الكثير من التفاصيل‪ .‬وعلى الممثل أن يكمل هذه الصورة‪.‬‬
‫وثمة وسيلتان لذلك‪ :‬المعرفة والخيال‪ .‬ففي المثال الذي‬
‫أوردناه يتوجب على الممثل أن يلم على قدر المكان بطابع‬
‫الحياة ومظاهر السلوك الجتماعي البورجوازي في بلدة‬
‫نرويجية صغيرة خلل النصف الثاني من القرن الفائت‪ .‬وعليه‬
‫من الناحية الخرى أن يتخذ من بعض الشارات العابرة في‬
‫المسرحية منطلقا ً لتصور حياة كارستون بيرنك في شتى‬
‫مراحلها وإغناء هذا التصور بأقصى ما يمكن من الجزئيات‪.‬‬
‫ولنأخذ‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬واقعة الختلس الذي أقدم عليه‬
‫بيرنك في شبابه‪ ،‬فالنص ل يعطينا عنها أية تفاصيل رغم أنها‬
‫عنصر هام في نسج عقدة المسرحية‪ .‬وواجب الممثل هنا أن‬
‫يصوغ لنفسه هذه التفاصيل بعناية ودقة ليكون قادرا ً على‬
‫"تذكر" هذه الواقعة كشيء حدث بالفعل‪ .‬وهذا النوع من‬
‫الوقائع والظروف التي ل نشاهدها على المسرح رغم أنها ذات‬
‫ارتباط وثيق بما يجري أمامنا من أحداث هي التي يسميها‬
‫ستانسلفسكي "بالظروف المفترضة" أو "الظروف المسبقة"‪.‬‬
‫فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى المرحلة الثالثة –مرحلة معاناة‬
‫الدور‪ ،‬جاز لنا أن نقول إنها فترة صيرورة الدور بكل عناصره‬
‫الدبية وجزئياته وظروفه المفترضة جزء من العالم الداخلي‬
‫للممثل‪ .‬وقد سبق أن أوضحنا أن هذا ل يعني ذوبان الممثل‬
‫كليا ً في دوره‪ ،‬بل يعني المتزاج والتكامل بين الممثل والدور‪.‬‬
‫فكما أن الممثل يتكيف ليلئم دوره‪ ،‬كذلك فإن الخير يتلون‬
‫بشخصية الممثل‪ .‬ولعل القارئ الذي شاهد الممثل الروسي‬
‫"بندرتشوك" والممثل النكليزي "لورنس أوليفييه" يؤديان دور‬
‫"عطيل" على الشاشة‪ ،‬يتذكر كيف أن كل ً من هذين الفنانين‬
‫البارعين قد أدى دوره أداًء مختلفا ً ومهره بأسلوبه الخاص‪،‬‬
‫دون أن يخرج عن الصورة التي رسمها شكسبير‪.‬‬
‫ول يصل الممثل دفعة واحدة إلى مستوى المعاناة‬
‫الحقيقية للدور‪ ،‬بل يصل إليه من خلل العمل الدائب‬
‫والمحاولة المتكررة والحتشاد الذهني الطويل‪ .‬ومن الخطأ‬
‫العتقاد بأن جهد الممثل في هذه المرحلة مقصور على‬
‫المشاركة في التدريبات مع الممثلين الخرين‪ ،‬فهو مطالب في‬
‫الوقت ذاته بأن يواصل إعداد دوره على انفراد‪ .‬باحثا ً عن‬
‫أنسب الشكال والوسائل التعبيرية لكل جزء من أجزائه‪ ،‬وهو‬
‫ول سيرة البطل المسرحي إلى "سيرة ذاتية"‬ ‫مطالب بأن يح ّ‬
‫‪- 46 -‬‬
‫وأن يتحسس "الضرورة" الكامنة وراء كل عبارة يقولها البطل‬
‫أو تصرف يأتيه‪ .‬وخلل التدريبات التي تجري مع بقية الممثلين‬
‫تحت إشراف المخرج يتبلور إحساس الممثل بالدور وتزداد‬
‫معاناته عمقًا‪ ،‬ويكتسب أداؤه اليقاع المنسجم مع إيقاع‬
‫المسرحية العام‪ ،‬وتنضج لديه بالتدريج الشكال الفنية المناسبة‬
‫للتعبير عن عالم بطله الداخلي‪ .‬ومن هنا كان تركيز‬
‫ستانسلفسكي على أهمية التدريبات المتواصلة المضنية‪.‬‬
‫أما المرحلة الخيرة )تجسيد الدور( فهي أهم المراحل‬
‫بالطبع‪ ،‬لنها الصورة المكتملة التي تقدم إلى الجمهور‪ .‬وقد‬
‫كان ستانسلفسكي –كما أسلفنا‪ -‬يطمح إلى خلق حياة حقيقية‬
‫على المسرح‪ ،‬ترتبط فيها العناصر الروحية والجسدية ارتباطا ً‬
‫تلقائيا ً طبيعيًا‪ ،‬كما في الحياة نفسها‪ ،‬وهذا ل يتحقق إل إذا ظل‬
‫الممثل "يحترق" كل ليلة على خشبة المسرح ويعيش أحداث‬
‫المسرحية وكأنه يواجهها للمرة الولى‪ .‬أما إفراغ الدور في‬
‫قالب ثابت‪ ،‬حتى وإن كان هذا القالب حصيلة مرحلة سابقة‬
‫من المعاناة الفعلية‪ ،‬فلن يخلق الحياة المرجوة على‬
‫المسرح‪ ،‬لن الممثل –مهما كان بارعا ً في تقنيته‪ -‬ل يمكن أن‬
‫يثير عواطف الجمهور‪ ،‬بينما هو نفسه فارغ القلب‪ ،‬ساكن‬
‫العماق‪.‬‬
‫ولبد للممثل‪ ،‬إذا أراد التزام الصدق في الداء‪ ،‬من أن‬
‫يدخل المسرح وهو ل يحمل في ذهنه إل صورة "الماضي"‪،‬‬
‫ماضي الشخصية التي يمثلها‪ .‬أما ما ينتظره من محن أو‬
‫مسرات فينبغي أن يكون "مفاجأة" له‪ ،‬مثلما هو مفاجأة‬
‫ل‪ ،‬يجب أن ينسى‬ ‫لجمهور المتفرجين‪ .‬إن ممثل دور "لير"‪ ،‬مث ً‬
‫تماما ً أنه سيكابد الويلت من عقوق ابنتيه الكبيرتين‪ ،‬لنه إن لم‬
‫ينس ذلك فسيصعب عليه تصديق ما أظهرتا له من ولء في‬
‫الفصل الول من المسرحية‪.‬‬
‫وممثل "روميو" يجب أن ينسى الحب المأساوي العظيم‬
‫الذي ينتظره وإل فلن يتهيأ لـه‪ ،‬في الفصل الول من‬
‫المسرحية‪ ،‬أن يعبر بالحرارة اللزمة عن حبه لروزالين‪.‬‬
‫وأخيرا ً فإن على الممثل أن ينسى أنه ممثل أمام جمهور‬
‫سيحكم له أو عليه‪ ،‬وأل يحاول التصرف على النحو الذي يكفل‬
‫له التصفيق الحاد عند إسدال الستار‪ ،‬بل يجب أن يحصر همه‬
‫في أمر واحد‪ ،‬هو أن "يعيش" بكل قلبه وجوارحه على منصة‬
‫المسرح‪.‬‬

‫ءءءء ‪1973‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 47 -‬‬
‫إبسن‬
‫رائد المسرح الحديث‬
‫)ءءءءءءء ءءءءءء ءءءءءء ءءءءءءءء ءءءءءءء(‬

‫لم يثر كاتب مسرحي في زمانه من ردود الفعل العنيفة‬


‫ومن التضارب بين العجاب العميق والسخط العارم ما أثاره‬
‫الكاتب النرويجي هنريك ابسن عندما نشر سلسلة مسرحياته‬
‫الجتماعية المعروفة في الربع الخير من القرن الماضي‪ .‬فقد‬
‫انقسمت الوساط الثقافية والمهتمون بالمسرح في أوروبا‬
‫بأسرها إلى فريقين‪ ،‬أحدهما يصفق له والخر يصب عليه‬
‫اللعنات‪ ،‬ولعل أبلغ صور هذا النقسام ماحدث في بريطانيا‬
‫عام ‪ .1891‬فبينما كانت الصحافة البريطانية المحافظة تصب‬
‫جام غضبها على ابسن "المخبول"‪" ،‬الغريب الطوار" وتصف‬
‫مسرحية الشباح –وقد عرضت في لندن آنذاك عرضا ً خاصا ً‬
‫وعلى نطاق ضيق –بأنها شيء يثير القرف وبالوعة مكشوفة‪،‬‬
‫نشر برنارد شو كتابه الشهير "جوهر البسنية" الذي أعلن فيه‬
‫بجسارة أن ابسن أعظم من شكسبير‪ .‬وكانت حجة شو في‬
‫هذا الحكم المسرف أن شكسبير لم يصور أوضاعنا الفعلية‬
‫على المسرح وإن يكن صور أشخاصنا‪ .‬أما ابسن فقد عرض لنا‬
‫أشخاصنا وأوضاعنا في وقت واحد‪ .‬وعظمة ابسن –في رأي‬
‫شو‪ -‬ل تقف عند هذا الحد‪ ،‬بل إن أعماله ولسيما بيت الدمية‬
‫هي‪ ،‬في الوقت ذاته‪ ،‬نقطة تحول في بناء الدراما‪ .‬فقد كانت‬
‫الدراما حتى ظهور ابسن تتألف من تمهيد وحبكة وختام‪ .‬أما‬
‫اليوم‪ ،‬وبعد أن جاء ابسن‪ ،‬فقد صارت الدراما تتألف من تمهيد‬
‫وحبكة ونقاش‪ .‬وكان شو يشير بذلك إلى المناقشة الفكرية‬
‫المثيرة بين نورا‪ ،‬بطلة مسرحية بيت الدمية‪ ،‬وبين زوجها في‬
‫الفصل الخير من المسرحية‪.‬‬
‫وسواء جارينا برناردشو في حماسته المفرطة لمؤلف بيت‬
‫الدمية أو لم نجاره‪ ،‬فإن الخلف الصاخب حول عظمة هنريك‬
‫ابسن قد حسم منذ زمن طويل‪ ،‬واحتل الرجل مكانة غير‬
‫منازع إلى جانب أكبر كتاب المسرح العالميين‪ :‬شكسبير‬
‫وشعراء المسرح التراجيدي الغريقي‪.‬‬
‫أين تكمن عظمة ابسن؟ وما سـر الضـجة الكـبيرة‬
‫التي أحدثها بين معاصريه؟‬
‫من السهل أن يقال أن ابسن أثار فزع المحافظين عندما‬
‫جعل نورا تهجر بيت الزوجية وتتخلى عن أطفالها الثلثة‬
‫احتجاجا ً على معاملتها كدمية بل عقل‪ ،‬أو أنه خدش الحشمة‬
‫البورجوازية الكاذبة عندما تطرق‪ ،‬للمرة الولى على خشبة‬
‫‪- 48 -‬‬
‫المسرح‪ ،‬إلى قضايا فاضحة كالسفلس الوراثي وجناية الباء‬
‫على البناء‪ .‬ولكن هذا وحده ل يفسر لنا كل ذلك الجدل الذي‬
‫احتدم حول كتابات ابسن‪ ،‬والذي شارك فيه مفكرون من وزن‬
‫برناردشو وجورج بليخانوف‪ .‬كما أنه ل يفسر لنا خلود ابسن‬
‫وتجدد الهتمام بأعماله المسرحية رغم أن أوضاع المجتمع‬
‫الوروبي الراهن لم تعد تشبه الوضاع التي ندد بها في‬
‫مسرحياته‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والواقع أننا لن نفهم أهمية ابسن فهما كامل إل حين نتبين‬
‫أن عمله هو النقطة الفاصلة بين مرحلتين من تاريخ فن‬
‫الدراما‪ ،‬فبظهور دعائم المجتمع وبيت الدمية والشباح‬
‫وعدو الشعب والبطة البرية‪ ،‬بلغت الدراما الواقعية‬
‫الحديثة‪ ،‬التي بشر بها ليسنغ وديدرو منذ أواسط القرن الثامن‬
‫عشر‪ ،‬درجة عالية من النضج والشاعرية وإحكام البناء‪ .‬ولهذا‬
‫يحتل هنريك ابسن‪ ،‬بحق‪ ،‬الفصل الول في أي دراسة عن‬
‫المسرح الحديث‪.‬‬
‫ويمكن القول دونما غلو أن تطور ابسن ككاتب مسرحي‬
‫كان‪ ،‬على نحو ما‪ ،‬تلخيصا ً لتاريخ تطور الفن الدرامي ذاته‪ .‬فقد‬
‫استهل عمله الدبي بكتابة المسرحية الشعرية الرومانسية‬
‫التي تستلهم –في الغالب‪ -‬أحداث الماضي البعيد‪ ،‬ثم انتقل في‬
‫المرحلة الثانية من حياته البداعية إلى كتابة المسرحية النثرية‬
‫الواقعية‪ ،‬التي كانت سببا ً في شهرته المدوية‪ .‬أما في الطور‬
‫الخير من حياته فقد ابتعد بالتدريج عن المنحى الواقعي‬
‫الجتماعي واتجه إلى المسرحية السايكولوجية –الرمزية‬
‫مستوحيا ً تجربته الذاتية في الحياة والفن‪ .‬وكان هذا نوعا ً من‬
‫العودة إلى المسرح الشعري‪ ،‬بالمدلول الواسع للكلمة‪ .‬ولعلنا‬
‫نستطيع أن نلحظ أن هذه‪ ،‬على وجه التقريب‪ ،‬هي المراحل‬
‫التي مر بها أدب الدراما في تاريخه الطويل‪ .‬فقد بدأ شعريا ً‬
‫يأخذ مادته من التاريخ والتراث‪ ،‬ثم انتقل إلى النثر مع انتقاله‬
‫إلى معالجة الموضوعات المعاصرة‪ ،‬واتجه أخيرا ً إلى تأمل‬
‫علقة الفنان نفسه بالعالم وإلى استخدام أشكال تعبيرية أكثر‬
‫التصاقا ً بالذات‪.‬‬
‫ولكل مرحلة من هذه المراحل الثلث في تطور الفن‬
‫الدرامي عند ابسن أهميتها ونتاجاتها العظيمة‪ ،‬كما أن هذه‬
‫المراحل ليست منفصلة عن بعضها كما قد يبدو للوهلة الولى‪،‬‬
‫فروح الصرار والتشبث بالمثل العلى‪ ،‬التي نجدها عند براند –‬
‫وهي نفسها التي تواجهنا عند لونا هيسل في مسرحية دعائم‬
‫المجتمع التي تنتمي إلى المرحلة الواقعية‪ ،‬وهي نفسها الروح‬
‫المسيطرة على سولنس في سيد البنائين‪ ،‬إحدى روائع‬
‫المرحلة الرمزية‪ ،‬أي المرحلة الخيرة في حياة ابسن‪ ،‬ومع‬
‫ذلك فليس من المجازفة أن يقال إن ابسن الواقعي‪ ،‬ل‬
‫الرومانسي أو الرمزي‪ ،‬هو الذي استأثر ومازال يستأثر باهتمام‬
‫فناني المسرح وجمهوره طوال القرن الخير‪ ،‬وأن المسرحيات‬
‫الخمس التي سبقت الشارة إليها هي التي بوأته مكانته‬
‫الباذخة في تاريخ أدب المسرح‪.‬‬
‫نشر ابسن أولى مسرحياته في عام ‪ ،1850‬وكانت‬
‫مسرحية شعرية بعنوان كاتالينا استوحاها من تاريخ النرويج‬
‫وكتبها متأثرا ً بشعر الفروسية والحب وبالمناخ الثوري الذي‬
‫ساد أوروبا برمتها في تلك الفترة‪ .‬وكان ابسن –يوم نشر تلك‬
‫المسرحية متخفيا ً وراء اسم مستعار –شابا ً في الثانية‬
‫والعشرين من عمره‪ ،‬قدم إلى العاصمة كريستيانا )أوسلو‬
‫الحالية( ليدرس الطب بعد سنوات سبع عجاف أمضاها يعمل‬
‫مساعد صيدلي في بلدة غريمشتاد الساحلية الصغيرة‪.‬‬
‫ول يستطيع دارس ابسن أن يتجاهل هذه الفترة من حياة‬
‫‪- 49 -‬‬
‫الكاتب العظيم‪ .‬فهنا‪ ،‬في هذه البلدة النائية المعزولة عن‬
‫العالم‪ ،‬التي ذهب إليها الفتى هنريك ابسن طالبا ً للرزق بعد أن‬
‫تدهورت أحوال أبيه المالية على نحو مفاجئ‪ ،‬أتيح له أن يختزن‬
‫في ذاكرته الكثير من صور النغلق والتزمت والرياء‬
‫الجتماعي‪ ،‬التي أصبحت فيما بعد مادة لمسرحياته الجتماعية‪.‬‬
‫ولم يلبث هنريك ابسن أن تخلى عن فكرة دراسة الطب‬
‫وغادر أوسلو ليصبح مساعدا ً لمدير مسرح مدينة بيرغن‪ .‬ثم‬
‫حصل على منحة سفر لدراسة الخراج المسرحي في‬
‫الدانمارك وألمانيا‪ ،‬وبعد عودته مارس الخراج في مسرح‬
‫بيرغن ثم في المسرح القومي في العاصمة‪ .‬ولهذه الخبرة‬
‫العملية أثرها العميق في وصول ابسن إلى ذلك التقان‬
‫المذهل في الصنعة الدرامية‪ .‬فقد أتاح له اشتغاله بالمسرح‬
‫في تلك الفترة أن يلم بأسرار المسرحية المتقنة الصنع التي‬
‫كانت شديدة الرواج في المسارح الوروبية يومذاك‪ ،‬وكان أبرز‬
‫مؤلفيها الفرنسيان يوجين سكريب وفكتوريين ساردو‪.‬‬
‫ويمكننا أن نلمس أثر المسرحية المتقنة الصنع في نتاجات‬
‫ابسن الباكرة‪ ،‬مثل قبر المحارب )‪ (1850‬وليلة القديس‬
‫يوحنا )‪ (1853‬والليدي انغر من اوسترات )‪ (1855‬و‬
‫وليمة سولهاوغ‪ (1856) .‬والفايكنغ في هلغلند )‬
‫‪ (1858‬فجميع هذه المسرحيات من النوع الميلودرامي الذي‬
‫كان سائدا ً آنذاك‪ ،‬أما موضوعاتها فهي مستمدة من التاريخ‬
‫القومي والحكايات الشعرية الشعبية‪ .‬ورغم ذلك فقد حملت‬
‫تلك المسرحيات بعض الملمح الساسية التي تميزت بها‬
‫أعمال ابسن الناضجة في الفترات اللحقة كعودة الشباح من‬
‫الماضي‪ ،‬والصراع بين المثالية والواقع‪ ،‬والهتمام بالقضايا‬
‫الجتماعية‪ ،‬والبراعة في رسم الشخصية المسرحية من‬
‫جوانبها المختلفة‪.‬‬
‫في عام ‪ 1864‬غادر ابسن وطنه ليمضي معظم سنوات‬
‫حياته التالية في إيطاليا وألمانيا‪ .‬ومع أنه لم يكن مغمورا ً حين‬
‫غادر النرويج‪ ،‬فإن الشهرة الواسعة جاءته مع صدور مسرحيته‬
‫الشعرية العظيمة براند في عام ‪ .1866‬ولم تعد عليه براند‬
‫بالشهرة وحدها بل عادت عليه كذلك بمعاش ثابت من‬
‫الحكومة النرويجية‪ ،‬بالضافة إلى حقوقه المادية كمؤلف‪.‬‬
‫وبذلك انتهت المتاعب المالية التي رافقته حتى ذلك الوقت‪.‬‬
‫ويسجل عام ‪ 1869‬تحول ً خطيرا ً في عمل ابسن‪ ،‬إذ‬
‫يهجر الشعر إلى النثر‪ ،‬والسطورة إلى الواقع والشخصيات‬
‫التاريخية إلى الشخصيات المعاصرة الحية التي عرفها في‬
‫مجتمعه‪ :‬الرأسمالي والكاهن وعمدة البلدة والصحفي‬
‫والطبيب والعامل وربة البيت الخ‪ .‬وقد استهل ابسن هذا الطور‬
‫الواقعي الجديد بمسرحية عصبة الشباب التي عاد بعدها إلى‬
‫الشعر مرة واحدة في مسرحية المبراطور والجليلي‪ ،‬قبل‬
‫أن يهجره إلى البد‪ .‬وبعد ذلك بسنوات كتب ابسن إلى أيدموند‬
‫غوس‪ ،‬يفسر له تحوله إلى استخدام النثر في المسرح‪:‬‬
‫"أنت تشعر أنه كان من الفضل لو أني كتبت مسرحيتي‬
‫شعرًا‪ ،‬وهذا ما ل أستطيع الموافقة عليه‪ .‬لبد أنك لحظت أن‬
‫هذه مسرحية واقعية‪ ..‬ولقد أردت أن أجعل القارئ يحس أنه‬
‫ينظر إلى شيء حدث بالفعل‪ ..‬ليس المر كما لو كنا مازلنا‬
‫نعيش في أيام شكسبير‪ ..‬لقد أردت أن أرسم كائنات بشرية‬
‫عادية‪ .‬فكيف أستطيع أن أدعهم يتكلمون لغة اللهة؟‪.‬‬
‫ولكن ابسن لم يتخل عن الشعر إل من حيث هو قواف‬
‫وأوزان‪ ،‬أما روح الشعر فقد ظلت قوية في كل أعماله‬
‫اللحقة‪ ،‬بل إنها بلغت في مرحلة إنتاجه الواقعي مالم تبلغه‬
‫‪- 50 -‬‬
‫في مرحلته الرومانسية‪ .‬وربما كان هنريك ابسن الوحيد بين‬
‫مؤلفي المسرح الحديث الذي يرتفع إلى جلل المأساة‬
‫الغريقية دون أن يتخلى عن واقعيته الصارمة‪ .‬فالعبارة‬
‫المسرحية عنده غالبا ً ما تحمل‪ .‬إلى جانب مدلولها الواقعي‬
‫ل‪ .‬وحين ندرس العبارة البسنية‬ ‫المباشر‪ ،‬مدلول ً رمزيا ً شام ً‬
‫فإنها تدهشنا بكثافتها ووظائفها المتعددة‪ ،‬فهي ليست مجرد‬
‫عبارة تنبثق من الفعل الدرامي وتمهد له‪ ،‬ولكنها ضوء ينتشر‬
‫في اتجاهات مختلفة لينير شخصية المتكلم والمخاطب‬
‫وليكشف عن الماضي ويشير إلى المستقبل‪.‬‬
‫ويمكن القول بأن مسرحية دعائم المجتمع التي نشرت‬
‫عام ‪ 1877‬هي البداية الحقيقية للمرحلة الواقعية من عمل‬
‫ابسن‪ ،‬فقد أحرزت نجاحا ً جماهيريا ً كبيرا ً وعززت ثقته بصواب‬
‫الجديد الذي اختاره‪ .‬وبطل المسرحية رأسمالي نرويجي يبني‬
‫ثروته ومركزه الجتماعي المرموق على الكذب والخيانة‪،‬‬
‫ولكنه يكتشف فيما بعد أن المرء ل يمكن أن يبني سعادة‬
‫حقيقية على أساس كهذا‪ ،‬ويدفعه هذا الوعي الجديد إلى إعلن‬
‫الحقيقة أمام الجميع‪.‬وقد ختم ابسن مسرحيته هذه بعبارة‬
‫تلخص القضية التي ناضل من أجلها طوال حياته‪ :‬إن روح‬
‫الحقيقة وروح الحرية هما دعامتا المجتمع‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1879‬نشر ابسن مسرحية بيت الدمية التي‬
‫سلفت الشارة إليها‪ ،‬وقد قوبلت هذه المسرحية‪ ،‬لسيما في‬
‫ألمانيا‪ ،‬بعاصفة من الحتجاج‪ ،‬واضطر مؤلفها –رغم عناده‬
‫المأثور‪ -‬أن يضع لها خاتمة أخرى إرضاء للجمهور اللماني الذي‬
‫وجد فيها تهديدا ً لطمأنينته العائلية‪ .‬وقد لحظ برناردشو –وكان‬
‫محقًا‪ -‬أن روعة بيت الدمية إنما تكمن في نهايتها غير المألوفة‪،‬‬
‫ولول هذه النهاية لما كانت تختلف عن أي مسرحية ميلودرامية‬
‫من مسرحيات تلك اليام‪ .‬وقصة بيت الدمية‪ -‬باختصار‪ -‬هي‬
‫قصة الزوجة التي تقرر فصم العلقة الزوجية حين تكتشف أن‬
‫زوجها ل يكن لها احتراما ً حقيقيا ً ول يؤمن بحقها في أن تفكر‬
‫أو تتخذ أي قرار‪ .‬وقد وجد ابسن أن خير رد يوجهه إلى أولئك‬
‫الذين أغضبتهم بيت الدمية أن يكتب مسرحية أخرى تكشف‬
‫عن العواقب التي تنجم عن إذعان المرأة لمصيرها وموافقتها‬
‫على معايشة زوج ل يحبها ول يحترم حقوقها‪ .‬وهكذا كتب‬
‫مسرحيته العظيمة "الشباح" التي صدرت في عام ‪.1891‬‬
‫ولم يكن ابسن يجهل أن مسرحيته الجديدة ستثير استياء بعض‬
‫الوساط فقد كتب إلى ناشر أعماله هيغل يقول‪:‬‬
‫ً‬
‫"من المحتمل أن تسبب "الشباح" شيئا من عــدم‬
‫الرتياح في أوساط معينة‪ ،‬ولكن إذا لــم تســبب ذلــك‬
‫فما الحاجة إلى كتابتها؟"‪.‬‬
‫ولكن ردة الفعل كانت أعنف بكثير مما توقع ابسن‪ .‬فقد‬
‫هاج لها الرأي العام الوروبي وماج‪ ،‬وهبطت مبيعات كتب‬
‫ابسن وكان يعول عليها أكثر من تعويله على العروض‬
‫المسرحية‪ ،‬ولم يجسر أي مسرح في البلدان السكندنافية‬
‫على تقديمها‪ ،‬ومرت ثلث سنوات قبل أن يجرؤ أحد على‬
‫ترجمتها إلى اللغة اللمانية‪.‬‬
‫ولكن لماذا أثارت الشباح كل هذا الغضب العنيف؟ إن‬
‫القارئ المعاصر يصعب أن يعثر على الجواب‪ ،‬فالمسرحية ل‬
‫تشتمل على كلمة بذيئة واحدة‪ ،‬وكل مافي المر أن بطلها‬
‫أوسوالد ضحية لمرض السفلس الذي ورثه عن أبيه‪ .‬وقد قدمه‬
‫ابسن إلى الناس بوصفه الثمرة المنطقية لعلقة زوجية ينقصها‬
‫الحب والحترام‪.‬‬
‫ولم ينكمش هنريك ابسن أمام العاصفة‪ ،‬بل أمعن في‬
‫‪- 51 -‬‬
‫تحدي "الكثرية الحمقاء" فكتب مسرحيته التالية عدو الشعب‬
‫التي ألهب فيها الصحافة والحزاب والرأي العام بسوط‬
‫احتقاره‪ ،‬معلنا ً أن الرأي القائل بأن الكثرية دوما ً على حق هو‬
‫إحدى الكاذيب الجتماعية التي يتوجب على الرجل‬
‫المستقل الريب أن يكافح ضدها‪ .‬وقد خرج ابسن عن‬
‫عادته هذه المرة فكتب عدو الشعب في سنة واحدة‪ ،‬عوضا ً‬
‫عن سنتين‪ ،‬وهي المدة التي كان يمضيها في كتابة المسرحية‬
‫الواحدة‪ .‬وفوجئ ابسن مرة أخرى عندما وجد أن الجمهور‬
‫الذي قصد إلى إهانته واستفزازه بهذه المسرحية قد استقبلها‬
‫بحماسة شديدة!‬
‫وتأتي مسرحية البطة البرية لتختم المرحلة الجتماعية من‬
‫عمل ابسن ولتمهد للمرحلة الرمزية –السايكولوجية‪ .‬وقد‬
‫حيرت هذه المسرحية المعقدة البناء نقاد ابسن ووجد فيها‬
‫أكثرهم نقضا ً لفكاره السابقة حول الحقيقة فالمسرحية تندد‬
‫بالمثالية الفجة في شخص بطلها غريغر فيرله‪ ،‬الذي يجر‬
‫الخراب على عائلة بأسرها عندما يحطم الوهم الذي تعيش‬
‫فيه‪.‬‬
‫وينتمي إلى المرحلة الثالثة والخيرة من حياة ابسن‬
‫البداعية عدد من روائعه الشهيرة‪ ،‬أبرزها هيدا غابلر )‪(1890‬‬
‫وسيد البنائين )‪ (1892‬وايولف الصغير )‪ (1894‬وعندما‬
‫نستيقظ نحن الموتى (‪ (1899‬وبهذه المسرحية الخيرة ختم‬
‫هنريك ابسن‪ ،‬وهو في الحادية والسبعين من عمره‪ ،‬حياة‬
‫فكرية وفنية خصبة استمرت زهاء نصف قرن‪.‬‬
‫وكان ابسن قد عاد من منفاه الختياري إلى وطنه في عام‬
‫‪ 1891‬تحف به شهرته العالمية‪ .‬وحين بلغ السبعين من عمره‬
‫احتفلت به النرويج احتفال ً رسميا ً ضخمًا‪ .‬ومات في عام ‪1906‬‬
‫تاركا ً وراءه ولدا ً واحدًا‪ ،‬هو سيغورد ابسن الذي مارس هو‬
‫الخر الكتابة للمسرح دون أن يصيب فيها نجاحا ً يذكر‪.‬‬

‫ءءءءء ‪1978‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 52 -‬‬
‫اتجاهات وأسماء‬
‫في المسرح المعاصر‬
‫لم يشهد فن المسرح‪ ،‬طوال خمسة وعشرين قرنا ً من‬
‫تأريخه‪ ،‬مثل هذا التنوع اللمحدود الذي شهده عصرنا الراهن‪،‬‬
‫وهو تنوع يشمل مناهج التأليف الدرامي مثلما يشمل أساليب‬
‫العرض المسرحي‪ .‬وتكفينا التفاتة سريعة إلى تأريخ المسرح‬
‫لندرك أن المر لم يكن كذلك في الماضي‪ ،‬فقد كان للمسرح‬
‫في مراحل ازدهاره المعروفة طرق معبدة واضحة يسلكها‪،‬‬
‫وكانت الحياة المسرحية تتميز في كل مرحلة من هذه‬
‫المراحل بتجانس كبير مرده إلى المثل الفنية الواحدة التي‬
‫يهتدي بها فنانو تلك المرحلة‪ .‬وهكذا يمكننا أن نتحدث بوثوق‬
‫واطمئنان عن العراف والمفاهيم التي سادت المسرح‬
‫الفرنسي خلل القرنين السابع عشر والثامن عشر‪ ،‬وعن‬
‫ملمح التراجيديا في عصر الملكة اليزابيث‪ ،‬وعن المثال‬
‫الرومانسي الذي هيمن على المسرح الوروبي الغربي خلل‬
‫النصف الول من القرن الماضي‪ .‬ولكننا ل نستطيع أن نتحدث‬
‫بالوثوق نفسه عن مسرح القرن العشرين‪ ،‬فأمامنا عدد ل‬
‫يحصى من التجاهات والساليب ووجهات النظر التي يصل‬
‫الختلف بينها أحيانا ً إلى حد التعارض المطلق‪ ،‬وبين أيدينا من‬
‫النصوص والنتاجات المسرحية المعاصرة ما يصعب حصره‬
‫وتصنيفه‪ .‬وتطور المسرح في عصرنا هذا ل ينفصل عن تطور‬
‫الحضارة جملة‪ ،‬فهو شكل من أشكال عديدة ابتدعها الوعي‬
‫البشري للتعبير عن ذاته‪ .‬ومع تراكم التحولت والحداث‬
‫الجسام في عصرنا وتسارع وتائر التطور الجتماعي واتساع‬
‫آفاق المعرفة النسانية‪ ،‬كان على الوعي أن يعيد النظر في‬
‫الشكال الفنية الموروثة التي أخذت تكشف‪ ،‬بصورة متزايدة‪،‬‬
‫عن قصورها عن استيعاب هواجس العصر‪ .‬من هنا جاء هذا‬
‫التيار العارم الذي نطلق عليه اسم الحداثة والذي زلزل‬
‫القواعد الراسخة لشتى الفنون‪ ،‬ومنها المسرح‪ .‬ومن المؤكد‬
‫أن للحداثة إضافاتها وإنجازاتها الخطيرة في الفنون المعاصرة‪،‬‬
‫ولكن لها بالمقابل عيوبها الخطيرة كذلك‪ ،‬فقد جاءت بالكثير‬
‫من البدع والنزعات المتطرفة التي توهجت برهة من الزمن ثم‬
‫انطفأت مثلما تنطفئ السهم النارية دون أن تترك وراءها أثرًا‪.‬‬
‫ويكفي أن نتذكر التعبيرية التي كانت تيارا ً قويا ً في المسرح‬
‫الوروبي خلل عشرينيات القرن الحالي‪ ،‬فمن يعبأ بها اليوم؟‬
‫وماذا تبقى من الدادية‪ ،‬أو المستقبلية مث ً‬
‫ل؟!‬
‫وما من ضرورة للتطرق إلى مختلف المدارس والنظريات‬
‫التي جاءت بها الحداثة‪ ،‬فهي معروفة‪ ،‬ولكن ما نحتاج أن‬
‫نشير إليه في مقدمة هذا الحديث هو أن تطور الفنون في‬
‫‪- 53 -‬‬
‫عصرنا الراهن وثيق الصلة ببعض التيارات الفكرية القوية التي‬
‫كان لها أثرها العميق في صياغة وجدان النسان المعاصر‪.‬‬
‫ومن هذه التيارات التي يمكن رصد انعكاساتها الواضحة على‬
‫اتجاهات الدب والفن في عصرنا مفهوم الديمومة عند‬
‫برغسون‪ ،‬ومنهج التحليل النفسي ونظرية تفسير الحلم عند‬
‫فرويد‪ ،‬والتفسير المادي للتاريخ عند ماركس‪ ،‬ووجودية سارتر‬
‫–بنحو خاص‪ .‬وسنلحظ بعض هذه النعكاسات ونحن نستعرض‬
‫ما اخترناه من نماذج الدراما الحديثة‪.‬‬
‫على أن التنوع الهائل في مسرح القرن العشرين ل ينبغي‬
‫أن يحجب عن أعيننا حقيقة مهمة‪ ،‬هي أن المنهج الواقعي –‬
‫الذي بلغ ذروته الكلسيكية في أواخر القرن المنصرم وأوائل‬
‫القرن الحالي‬
‫عند هنريك إبسن وبرناردشو وأنطون تشيخوف وغيرهم‬
‫من كبار الواقعيين –ل يزال التيار الساسي الطاغي على‬
‫المسرح العالمي‪ ،‬أما التجاهات الخرى فل تعدو أن تكون‪ ،‬في‬
‫الغالب‪ ،‬سوى روافد صغيرة‪ ،‬قد تفيض وتلفت إليها النظار‬
‫أحيانًا‪ ،‬ولكنها سرعان ما تختفي وتندثر إذا لم تستمد حياتها‬
‫وديمومتها من هذا التيار الكبير‪.‬‬
‫وليس صعبا ً على المتأمل أن يلحظ أن الواقعية في‬
‫المسرح )وفي الفنون العصرية المتفرعة عنه كالسينما‬
‫والدراما التلفزيونية( ظلت في عصرنا هذا أقوى بكثير مما هي‬
‫عليه في سائر الفنون الخرى‪.‬‬
‫ويعود هذا‪ ،‬بالدرجة الولى‪ ،‬إلى طبيعة المسرح نفسه‪.‬‬
‫فإذا كانت الفنون أنواعا ً من المحاكاة –كما ذهب أرسطو‬
‫طاليس‪ -‬فإن المسرح يحاكي الواقع محاكاة شاملة‪ ،‬ل جزئية‬
‫ل‪ -‬يحول الواقع‬ ‫كما في الفنون الخرى‪ .‬إن كاتب القصة –مث ً‬
‫إلى صورة ذهنية تنقلها الكلمات‪ ،‬والرسام يحوله إلى صور‬
‫بصرية ساكنة ذات بعدين‪ ،‬أما المسرح فيقدم إلينا الواقع‬
‫بصورته العيانية وبأبعاده الثلثة وبحركته الدائبة التي ل تنقطع‪.‬‬
‫وإذا كانت وسيلة الكاتب في تصوير النسان هي الكلمة‪،‬‬
‫ووسيلة الرسام هي الخط واللون‪ ،‬فإن وسيلة المسرح‬
‫الساسية في تصوير النسان هي النسان نفسه بلحمه ودمه‬
‫وبكل عنفوان الحياة في كيانه‪ .‬من هنا يستمد المسرح قدرته‬
‫البالغة على التأثير‪ ،‬وهنا تكمن خصوصية المسرح التي تجتذبه‬
‫بقوة إلى الواقعية كلما دفعته بعض التيارات بعيدا ً عنها‪.‬‬
‫ولكن ما هي هذه الواقعية التي نتحدث عنها؟ إن مفهوم‬
‫الواقعية كثيرا ً ما يختلط في الذهان بمفهوم آخر يقاربه من‬
‫بعض الوجوه‪ ،‬وأعني الطبيعية التي بشر بها الكاتب الفرنسي‬
‫إميل زول في النصف الثاني من القرن الماضي‪ ،‬وكان‬
‫سترندبرغ وهاوبتمان ألمع ممثليها في حقل التأليف الدرامي‪.‬‬
‫ول مجال للتوسع في شرح الفوارق بين المفهومين‪ ،‬بل يكفينا‬
‫القول بأن الطبيعية‪ ،‬في أوجز تعريفاتها‪ ،‬هي السعي إلى‬
‫محاكاة الواقع حرفيا ً وبدون تمييز‪ ،‬بينما تعني الواقعية غربلة‬
‫الواقع واصطفاء ملمحه النموذجية ولحظاته المكثفة لبلوغ ما‬
‫يقتضيه الفن من عمق وصدق وتركيز‪.‬‬
‫والواقعية‪ ،‬بهذا المعنى‪ ،‬ليست ظاهرة فنية حديثة العهد‪،‬‬
‫بل هي قديمة قدم المسرح نفسه‪ ،‬لقد كان يوربيدس واقعيا ً‬
‫كبيرا ً رغم أن اللهة تتدخل أحيانا ً بشكل مباشر –كما في‬
‫مسرحية ميديا مثل ً –لحسم مصائر البشر في مسرحياته‪.‬‬
‫وكان شكسبير واقعيا ً كبيرا ً هو الخر رغم ما يطالعنا في‬
‫مسرحياته من جن وسحرة وأشباح‪ .‬ولكن واقعية القرن التاسع‬
‫عشر هي غير الواقعية الكلسيكية‪ .‬إنها واقعية شديدة اللتصاق‬
‫‪- 54 -‬‬
‫بالواقع الملموس‪ ،‬حريصة على التقيد بمظهره الخارجي‬
‫ومنطقه المألوف إلى الحد الذي يبدو فيه العمل المسرحي‬
‫سلسلة محكمة من السباب والنتائج‪.‬‬
‫وقد بلغ من حرص هنريك إبسن –وهو إمام هذا المنهج في‬
‫مجال المسرح‪ -‬على التقيد بمظهر الواقع أنه امتنع في‬
‫مسرحياته الواقعية امتناعا ً تاما ً عن استخدام المناجاة‬
‫الذاتية )‪ (soliloquy‬والعبارات التي تغمغم بها الشخصيات‬
‫الدرامية لنفسها أحيانا ً )‪ ،(aside‬رغم أن هذه من العراف‬
‫الراسخة في المسرح‪ ،‬ولكن إبسن نفسه بدا في المرحلة‬
‫الخيرة من حياته وكأنه ضاق ذرعا ً بواقعيته الصارمة‪ ،‬فإذا‬
‫كانت هذه الواقعية هي الطار المثل لمسرحيات الحتجاج‬
‫الجتماعي أو الدراما العائلية –كما في بيت الدمية والشباح‬
‫ل‪ -‬فإنها بالمقابل لم تكن الطار المناسب لمعالجة تلك‬ ‫مث ً‬
‫المشكلة الوجودية التي شغلت إبسن في العهد الخير من‬
‫حياته‪ ،‬أعني مشكلة تمزق الفنان بين الواقع الممض وبين‬
‫المثال الذي ل يدرك‪ .‬وهكذا كان إبسن في مسرحياته الخيرة‬
‫أول من كسر الطار الواقعي الصلب الذي صنعه بنفسه‪.‬‬
‫ومهما يكن من أمر فإن ظهور إبسن وجيل الواقعيين الكبار‬
‫في أواخر القرن الماضي كان بداية لهيمنة المنهج الواقعي‬
‫على المسرح في القرن الحالي‪ .‬ولم يكن ذلك اعتباطا ً بل كان‬
‫استجابة لحاجة تاريخية‪ .‬وفي هذا يقول الناقد المريكي‬
‫المعروف أريك بنتلي‪:‬‬
‫"لم تكن الواقعية نتيجة التلهف على الجديد بأي‬
‫ثمن‪ ،‬بل كانت نتيجة –ورديفا‪ -‬لهيمنة المدينة واللة‬
‫على الحياة‪ ،‬وهذا أمر ل يمكن تجاهله أيا ً كان رأينا‬
‫فيه‪ ،‬وكان نتيجة –ورديفا‪ -‬للصلح الجتماعي‬
‫والنشغال الجديد بأوضاع الشعب‪ .‬وكان نتيجة –‬
‫ورديفا‪ -‬لنهضة العلوم الفيزيائية التي ترمي إلى‬
‫السيطرة على الطبيعة بمعرفة مساراتها"‪.‬‬
‫ولكن الشعور الذي خامر هنريك إبسن في شيخوخته حول‬
‫قصور المنهج الواقعي ظل يخامر كتاب المسرح وفنانيه‪ ،‬ويعبر‬
‫عن نفسه بأشكال مختلفة وصلت إلى حد التمرد العنيف خلل‬
‫الزمات والكوارث الجتماعية وفي أعقاب التحولت التاريخية‬
‫التي شهدها القرن العشرون‪ .‬ولقد كانت المستقبلية‪ ،‬التي‬
‫ولدت في إيطاليا في نهاية العقد الول من هذا القرن والتي‬
‫تبناها فلديمير ماياكوفسكي وغيره من الكتاب والفنانين‬
‫الروس في أعقاب ثورة أكتوبر‪ ،‬تعبيرا ً عن هذا الشعور‪ .‬وكان‬
‫مسرح بريشت الملحمي هو الخر تعبيرا ً عن الحساس بأن‬
‫الواقعية التقليدية لم تعد قادرة على أداء المهمات الثورية‬
‫المنوطة بالمسرح‪ .‬وكانت المسرحية الشعرية التي كتبها ت‪.‬‬
‫س‪ .‬إليوت وكريستوفر فراي في إنكلترا وماكسويل‬
‫أندرسون في الوليات المتحدة المريكية محاولت للخروج‬
‫بالدراما من اهتماماتها الواقعية المحدودة إلى آفاق إنسانية‬
‫ل‪ .‬وربما كان مسرح العبث‪ ،‬الذي استهله‬ ‫أكثر رحابة وشمو ً‬
‫يوجين يونسكو في منتصف القرن الحالي بمسرحيته الشهيرة‬
‫المغنية الصلعاء أخطر تحد واجهته الواقعية في عصرنا‪ ،‬فقد‬
‫قام على فكرة مؤداها أن الواقعية تزيف العالم لنها تضفي‬
‫عليه معقولية ليس لها وجود‪ .‬وقد بدت هذه الدعوة‪ ،‬التي‬
‫انبثقت أساسا ً عن فكرة العبث عند سارتر‪ ،‬مقنعة في عصر‬
‫تداعى فيه كثير من المعتقدات والمثل التي قامت عليها‬
‫الحضارة الوروبية الغربية‪ .‬ولكن هذه التجاهات لم تعش‬
‫طويل ً رغم المواهب الكبيرة التي وقفت وراءها‪ ،‬وإن تكن‬
‫نبهت إلى قصور الواقعية التقليدية وهيأت الذهان لنوع جديد‬
‫من الواقعية بدأ يسود المسرح في النصف الثاني من القرن‬
‫‪- 55 -‬‬
‫الحالي‪.‬‬
‫إن هذه الواقعية الجديدة هي مدار حديثنا اليوم‪ .‬ولسنا‬
‫نطمح إلى تقديم تصور شامل عن نشأتها وتطورها وأعلمها‪،‬‬
‫فالمجال ل يتسع لذلك كله‪ ،‬وإنما نريد اللمام السريع ببعض‬
‫الملمح الساسية لهذا التجاه الجديد والوقوف عند بعض‬
‫السماء البارزة والعمال الدرامية المهمة التي لم يتسن‬
‫لغلب المعنيين بالمسرح عندنا الطلع عليها لن ما نقل منها‬
‫إلى العربية ل يزال قليل ً حتى الن‪.‬‬
‫والواقعية الجديدة التي نتحدث عنها واقعية ل يعنيها كثيرا ً‬
‫أن تحقق التماثل التام بين ما يجري في الواقع وما يجري على‬
‫منصة المسرح ول تلتزم ذلك المنطق الصارم الذي التزمه‬
‫إبسن في مسرحياته الجتماعية‪ ،‬بل هي واقعية يعنيها جوهر‬
‫الواقع أكثر مما يعنيها مظهره الملموس‪ ،‬ول تتردد في التضحية‬
‫بهذا المظهر في سبيل إبراز المحتوى الفعلي للعلقات‬
‫النسانية والكشف عن أخفى دوافع السلوك البشري‪ .‬وهي ل‬
‫ترفض التجاهات الخرى‪ ،‬كالمسرح الملحمي ومسرح‬
‫العبث مث ً‬
‫ل‪ ،‬بل تفيد منها هنا وهناك بوصفها تقنيات تتيح‬
‫للكاتب حرية أكبر في معالجة موضوعاته وإيصال أفكاره‪ ،‬كما‬
‫أنها تتخذ من كشوف العلم واستبصارات الفكر الفلسفي‬
‫المعاصر مداخل إلى فهم التجربة النسانية المعقدة‪ .‬إننا‪ ،‬إذن‪،‬‬
‫أمام مسرح جديد يختلف كثيرا ً عن المسرح الواقعي الذي‬
‫نعرفه‪ ،‬ولكنه هو الخر واقعي في جوهره لنه يتناول النسان‬
‫ضمن علقاته الجتماعية التاريخية ويتصدى بعمق وجرأة‬
‫لهمومه وقضاياه ومؤسساته الكبرى‪ ،‬كالدين والعائلة والجنس‬
‫والنظام السياسي‪ ،‬ويسعى إلى تسليط الضوء على الزوايا‬
‫الخفية في النفس البشرية‪.‬‬
‫ولهذه الدراما الواقعية الجديدة ممثلون مرموقون اخترنا‬
‫منهم لحديثنا هذا ثلثة‪ :‬الكاتب البريطاني بيتر شافر‪،‬‬
‫والكاتبين المريكيين سام شبرد وبرنارد بوميرانس‪.‬‬
‫وهؤلء الكتاب الثلثة يمثلون اتجاهات مختلفة في الكتابة‬
‫للمسرح –كما سنرى في ما بعد‪ -‬ولكنهم يلتقون ضمن هذا‬
‫المنحى الجديد الذي نتحدث عنه‪.‬‬
‫ينتمي "بيتر شافر"‪ ،‬المولود عام ‪ ،1926‬إلى جيل‬
‫الكتاب الذين نهضوا بالمسرح البريطاني في عقدي‬
‫الخمسينات والستينات‪ .‬ومن المعروف أن هذه النهضة‬
‫الشاهقة‪ ،‬التي قارنها بعض النقاد بنهضة المسرح النكليزي في‬
‫العصر الليزابيثي‪ ،‬بدأت بظهور مسرحية جون أوزبورن‬
‫الشهيرة انظر وراءك بغضب عام ‪ .1956‬ولكن أوزبورن لم‬
‫يستطع الحتفاظ بنجاحه المبكر الباهر فتراجع إلى الخلف‬
‫مفسحا ً المجال لجيل من كتاب الدراما اللمعين‪ ،‬بينهم‬
‫هارولد بنتر وتوم ستوبارد وبيتر شافر وروبرت بولت‬
‫وآخرون‪.‬‬
‫بدأ شافر الكتابة للمسرح والتلفزيون منذ الخمسينات‬
‫وظهر له أكثر من عمل ناجح خلل تلك الحقبة‪ ،‬ولكنه قفز إلى‬
‫صف كبار الكتاب بمسرحيته الصيد الملكي للشمس ‪The‬‬
‫‪ Royal Hunt of The Sun‬التي ظهرت عام ‪ ،1964‬وهي تصور‬
‫سقوط إمبراطورية النكا في بيرو عام ‪ 1532‬على أيدي حفنة‬
‫ضئيلة من المرتزقة السبان يقودهم جنرال أمي اسمه‬
‫فرنشسكو بيزارو‪ .‬وفي عام ‪ 1973‬نشر شافر مسرحيته‬
‫السايكولوجية الحصان )‪ . (Equus‬وقد أحدثت هذه‬
‫المسرحية دويا ً هائل ً وأثارت ردود فعل متباينة واستمر عرضها‬
‫على المسرح في نيويورك أكثر من ثلث سنوات متواصلة‪.‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫وفي عام ‪ 1979‬أصدر شافر ثالثة مسرحياته الكبرى‪،‬‬
‫أماديوس‪ ،‬التي تناولت العلقة الغريبة بين المؤلف‬
‫الموسيقي العظيم موتسارت وبين معاصره الموسيقي‬
‫أنطونيو سالييري‪.‬‬
‫ويمكننا أن نرى من طول الفواصل الزمنية بين مسرحية‬
‫وأخرى أن بيتر شافر من الكتاب الذين يعملون بتأن وحرص‪.‬‬
‫وهو يقول في مقدمة كتبها لمسرحياته الثلث هذه إن تأليف‬
‫المسرحية الواحدة يكلفه سنوات عديدة من البحث والتحضير‬
‫وإعادة الكتابة مرة بعد مرة حتى يأخذ العمل بين يديه الصورة‬
‫التي يرتضيها ويطمئن إليها‪ .‬وتتميز مسرحيات شافر بأنها‬
‫تستند إلى خلفية ثقافية واسعة‪ ،‬إذ تتخلل نسيجها الفني‬
‫المتشابك معارف شتى تمتد من الميثولوجيا الغريقية إلى‬
‫تاريخ الستعمار الغربي الحديث‪ ،‬ومن أصول التأليف‬
‫الموسيقي إلى أصول العلج النفسي‪ .‬وهذه إحدى سمات‬
‫الدراما المعاصرة‪ ،‬التي تواجه بالمعرفة العلمية المتعمقة كثيرا ً‬
‫من المشكلت التي كان مسرح العصور الماضية يواجهها‬
‫بالحدس أو التأمل المحض‪ .‬وحين يعود الكاتب المسرحي‬
‫المعاصر إلى شخصيات التأريخ وأحداثه فإنه يتزود سلفا ً بكل‬
‫ما تقتضيه هذه المهمة من معرفة علمية دقيقة‪ .‬أما في‬
‫الماضي فقد كان الكاتب المسرحي يبني عمله أحيانا ً على‬
‫معرفة جزئية بالتأريخ‪ ،‬وقد يستعين بخياله لسد النقص الكبير‬
‫في معارفه التاريخية‪ ،‬كما فعل الكاتب الفرنسي فولتير حين‬
‫كتب مسرحيته المعروفة عن النبي محمد )ص(‪ .‬وتنفعنا في‬
‫هذا الصدد مقارنة سريعة يبن مسرحية أماديوس لبيتر‬
‫شافر وبين مسرحية شعرية صغيرة حول الموضوع نفسه‬
‫كتبها الشاعر الروسي الكبير الكسندر بوشكين بعنوان‬
‫موتسارت وسالييري‪ .‬ففي مسرحية بوشكين تطالعنا صورة‬
‫رومانسية زائفة لموتسارت هي من نسج خيال الشاعر قطعًا‪،‬‬
‫أما في مسرحية شافر فنحن أمام موتسارت الحقيقي –كما‬
‫تصوره رسائله الشخصية‪ -‬بغروره ونزقه وولعه بالنكات‬
‫السخيفة وضائقته المادية البدية‪ .‬ومع أن صورة موتسارت في‬
‫مسرحية أماديوس عارية تماما ً من الجلل السطوري الذي‬
‫نرسمه في أذهاننا لعظام الفنانين‪ ،‬فل أحسب إل أنها أحب إلى‬
‫نفوسنا بكثير من صورته في مسرحية بوشكين‪ ،‬لنها أصدق‬
‫وأكثر امتلء بالحياة وأقرب إلى ما نعرفه بالتجربة الحية عن‬
‫ضعف النسان ونزواته وحماقاته‪.‬‬
‫وغني عن القول أن شافر لم يكن يريد بكتابة هذه‬
‫المسرحية أن يصحح الصورة المرتسمة في الذهان عن‬
‫موتسارت‪ ،‬فهذه مهمة الدارس وليست مهمة الفنان‪ ،‬وإنما‬
‫أراد أن يتخذ من الصراع بين سالييري وموتسارت وسيلة‬
‫للتعبير عما سماه في مقدمته التي أشرنا إليها باعتراض‬
‫النسان على التعسف اللهي‪ .‬فسالييري يعذبه شعور موجع‬
‫بأن العدالة اللهية قد ظلمته عندما أسبغت العبقرية على‬
‫موتسارت‪ ،‬رغم بذاءته وحماقاته الصبيانية‪ ،‬وضنت بها عليه‪ ،‬هو‬
‫الرجل المجتهد الوقور‪ ،‬الذي يريد تمجيد قدرة الله في فنه‪.‬‬
‫وإذ يرى موتسارت ينتقل من نجاح إلى نجاح وهو عاجز عن‬
‫مجاراته‪ ،‬يستولي عليه اعتقاد بأن هذا الفتى العبقري النزق‬
‫اللهي ليس سوى أداة يريد بها الله إذلله وتحطيمه‪ ،‬وتمتلئ‬
‫نفسه بالموجدة والكراهية ويصمم على تحطيم هذه الداة‪.‬‬
‫وتتحقق لسالييري أمنيته الشريرة فيموت موتسارت في‬
‫شبابه‪ ،‬ويخلو له الجو‪ ،‬ولكنه سرعان ما يكتشف أنه هزم مرة‬
‫أخرى‪ .‬لقد ذهب موتسارت وبقي فنه العظيم‪ ،‬أما هو –‬
‫سالييري‪ -‬فقد عاش ليرى اسمه ينطفئ شيئا ً فشيئا ً ويغيب عن‬
‫ذاكرة التاريخ‪.‬‬
‫‪- 57 -‬‬
‫إن سالييري في مسرحية أماديوس شخصية يسوقها‬
‫دافع هدام‪ ،‬ومع ذلك فهي ل تشبه الشخصيات الشريرة التي‬
‫ألفناها في المسرح‪ ،‬فنحن نفهم معاناته ول نملك إل أن‬
‫نتعاطف معه في بعض المواقف‪ .‬إننا نراه يحاول التقرب من‬
‫موتسارت فيصطدم باستخفاف الخير ول مبالته‪ ،‬بل إننا نرى‬
‫موتسارت يتخذ منه مادة للهزء والتندر أحيانًا‪ .‬وهكذا تبقى‬
‫عواطفنا موزعة بين طرفي الصراع‪ ،‬لن لكل منهما حقه‬
‫النساني ومبرراته‪.‬‬
‫ويخامرنا إحساس مماثل ونحن نتابع مسرحية شافر‬
‫الخرى المسماة الصيد الملكي للشمس وهي تقوم –‬
‫كالمسرحية السابقة‪ -‬على الصراع بين شخصيتين مركزيتين‪،‬‬
‫هما آتا هوالبا ملك إمبراطورية النكا الغنية الذي يؤلهه‬
‫شعبه‪ ،‬والجنرال بيزارو الذي يغزو هذه المبراطورية‬
‫الشاسعة ويستولي عليها بجيش من المغامرين المرتزقة‬
‫قوامه مائة وسبعة وستون شخصا ً بينهم اثنان من المبشرين‬
‫المسيحيين‪ .‬والضحية في هذه المسرحية هو الملك الشاب آتا‬
‫هوالبا‪ ،‬ابن الشمس‪ ،‬الذي يستدعي قائد هذه الحفنة من‬
‫الغزاة إلى لقائه‪ ،‬وحين يتم اللقاء يبادر الملك بسذاجة متناهية‬
‫إلى إظهار حسن نيته فيأمر حرسه المؤلف من ثلثة آلف‬
‫مقاتل بإلقاء سلحهم‪ .‬ويغتنم الغزاة هذه الفرصة فيقتلون أتباع‬
‫الملك العزل ويأخذونه رهينة لديهم‪.‬‬
‫ول يبدو على الملك‪ ،‬الذي تعود على الثقة بالنسان‪ ،‬أنه‬
‫استخلص الدرس الضروري من هذه المذبحة الوحشية‪ ،‬فهو‬
‫يساوم آسريه على حريته وحين يعلم أنهم جاؤوا من أجل‬
‫الذهب يعرض عليهم أن يمل لهم حجرة سجنه ذهبا ً مقابل‬
‫إطلق سراحه‪ ،‬مكتفيا ً بعهد مكتوب يقدمه إليه بيزارو‪ .‬ويفي‬
‫الملك بوعده فيأمر بجلب الذهب من كل مكان وتتراكم في‬
‫الحجرة التحف الفنية النفسية التي تنتزع من المعابد والقصور‪.‬‬
‫وعندما تمتلئ الحجرة تماما ً يأمر بيزارو بصهر هذه التحف‪،‬‬
‫غير ملتفت إلى قيمتها الفنية‪ ،‬وتحويلها إلى سبائك يتقاسمها‬
‫مع أتباعه‪ .‬ويطلب آتا هوالبا وقد أنجز وعده بأن يفي الطرف‬
‫الخر بما وعد به‪ ،‬ولكن بيزارو يخشى انتقام الملك فيشترط‬
‫عليه التعهد بتركه وأتباعه يغادرون البلد بسلم‪ .‬ولن الملك لم‬
‫يألف الخديعة والمناورة فإنه يرفض إعطاء مثل هذا التعهد‪ ،‬ول‬
‫يبقى أمام الغزاة سوى التخلص منه للنجاة بأنفسهم‪ .‬وترتفع‬
‫الصوات منادية بقتل الملك‪ ،‬ولكن بيزارو‪ ،‬الذي نشأت بينه‬
‫وبين آتا هوالبا مودة صادقة خلل فترة سجنه‪ ،‬يصحو ضميره‬
‫وتتحرك في نفسه بقية من نوازع الفروسية فيرفض قتله‪ ،‬وإذ‬
‫يعجز أتباعه عن إقناعه بذلك يتمردون عليه ويقيمون محكمة‬
‫دينية يترأسها المبشران المسيحيان ويحاكمون الملك ويقضون‬
‫بإعدامه بتهمة الكفر ومعاداة المسيح واغتصاب الملك من‬
‫أخيه! ويستقبل آتا هوالبا الحكم مطمئنًا‪ ،‬فهو ابن الشمس‬
‫الخالد الذي ل يموت‪ ،‬وإذا لم يكن أبوه الشمس يريده إلى‬
‫جواره فسيبعث من جديد في فجر اليوم التالي! وأمام هذه‬
‫الطمأنينة يبدو بيزارو الشيخ الذي يقترب من نهايته الموحشة‬
‫بقلب خال من اليمان‪ ،‬ميال ً إلى تصديق المعجزة‪ .‬إنه يقول‬
‫لتابعه مارتن‪:‬‬
‫‪-‬أنظر إليه‪ :‬إنه هادئ على الدوام كما لو أن أنياب الحياة‬
‫لم تنهشه أبدًا… ول أنياب الموت‪ .‬ماذا لو أن المر كان صحيحا ً‬
‫حقا ً يا مارتن؟ أن أكون ذهبت لصطياد اللهة فظفرت بواحد‬
‫منها؟ بكائن يستطيع أن يجدد حياته مرة بعد مرة؟‬
‫ويتساءل مارتن مندهشًا‪:‬‬
‫‪-‬ولكن كيف يستطيع ذلك يا سيدي؟ كيف يستطيعه أي‬
‫‪- 58 -‬‬
‫إنسان؟‬
‫‪-‬ويجيبه بيزارو‪:‬‬
‫‪-‬بالعودة مرة بعد مرة إلى مصدر الحياة‪-‬إلى الشمس!‬
‫ويشنق الملك الشاب بوحشية‪ ،‬وعندما يؤتى بجثته ويلقى‬
‫بها عند قدمي بيزارو ينحني عليها هذا غير مصدق‪ ،‬حتى إذا‬
‫أيقن أنها خالية من الحياة وانقطع في يده خيط اليمان الواهي‬
‫الذي كان يتشبث به‪ ،‬ضربها بقوة صارخًا‪:‬‬
‫‪-‬خديعة! لقد خدعني! خديعة‪..‬‬
‫وارتمى منتحبا ً للمرة الولى في حياته‪.‬‬
‫هنا‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬نتعاطف مع الضحية ول نخلو في الوقت‬
‫نفسه من تعاطف مع الجاني‪ ،‬لن ثمة توازنا ً كبيرا ً بين‬
‫الشخصيتين المتصارعتين‪ ،‬فلكل منهما منطقها ودوافعها‪ ،‬ولكل‬
‫منهما عيوبها وجوانبها النسانية‪ .‬إن آتا هوالبا ليس بريئا ً كل‬
‫البراءة‪ ،‬فهو يعترف بأنه قتل أخاه واستولى على ملكه‪ ،‬وهو‬
‫من هذه الناحية مكافئ للجندي المرتزق بيزارو الذي جاء‬
‫سعيا ً إلى الستحواذ على ملك الخرين‪ .‬ولكن لتا هوالبا عيبا ً‬
‫تراجيديا ً خطيرًا‪ ،‬هو ثقته بالخرين وتعففه عن الكذب‬
‫والمراوغة‪ ،‬وهي صفات ل تأتلف مع فن السياسة والحكم‪.‬‬
‫ولول ذلك لما استطاعت حفنة بائسة من المرتزقة أن تهزم‬
‫إمبراطورية شديدة الغنى يقطنها أربعة وعشرون مليونا ً من‬
‫البشر‪.‬‬
‫إن مسرحية الصيد الملكي للشمس تقيم مواجهة‬
‫مأساوية بين عالمين مختلفين‪ :‬الغرب الستعماري بجشعه‬
‫واقتحاميته وريائه الديني والخلقي‪ ،‬والدول التي نطلق عليها‬
‫في أيامنا هذه اسم العالم الثالث‪ ،‬بسلبيتها وسكونها‬
‫ومعتقداتها الغيبية وسذاجتها السياسية‪.‬‬
‫والمسرحية مليئة بالمفارقات الحادة التي حفلت بها عهود‬
‫الستعمار القديم‪ ،‬والتي ل تزال تحفل بمثلها السياسات‬
‫الدولية المعاصرة وإن اختلفت الظروف والشكال‪ ،‬فالسبان‬
‫المتحضرون‪ ،‬الذين ألفوا الكتب في قواعد الفروسية‪ ،‬ل‬
‫يتورعون عن قتل آلف من الهنود العزل الذين كانت كل‬
‫جريرتهم أنهم أرادوا إظهار حسن النية والرغبة في السلم!‬
‫والمبشرون الذين جاؤوا إلى هذه البقعة النائية يحملون صليب‬
‫المسيح وتعاليمه النسانية يباركون النهب ويحضون على سفك‬
‫الدماء لقاء أن تنال الكنيسة حصتها من الذهب المسروق! ول‬
‫يكتفي شافر بإبراز هذا التناقض الصارخ بين جوهر المسيحية‬
‫وبين العمال الهمجية التي ارتكبت باسمها‪ ،‬بل يتناول‬
‫المفاهيم اللهوتية المسيحية نفسها بتهكم لذع‪ ،‬ففي مناظرة‬
‫بين أحد الكهنة الهنود وبين مبشر مسيحي ممن يرافقون حملة‬
‫بيزارو‪ ،‬يدور الحوار التالي‪:‬‬
‫المبشر‪ :‬قل لي‪ ،‬كيف يمكن أن يكون للشمس ولد؟‬
‫الكاهن الهندي‪ :‬وكيف يمكن أن يكون لربكم ولد‪ ،‬ما دمتم‬
‫تقولون إنه بل جسد؟‬
‫المبشر‪ :‬إنه روح‪-‬في داخلنا‪.‬‬
‫الكاهن الهندي‪ :‬ربكم في داخلكم؟ وكيف يكون ذلك؟‬
‫وهنا يتدخل الملك آتا هوالبا مجيبا ً على السؤال‪:‬‬
‫‪-‬إنهم يأكلونه‪ .‬إنه يتحول في البداية إلى كعك ثم يأكلونه‪.‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫لقد رأيت هذا‪ .‬فهم يقولون في صلتهم هذا جسد إلهنا‪ .‬ثم‬
‫يشربون دمه بعد ذلك‪ .‬إنه لمر سيء جدًا‪ .‬هنا في‬
‫إمبراطوريتي ل نأكل الناس‪ .‬لقد منعت أسرتي ذلك منذ زمن‬
‫بعيد‪.‬‬
‫وفي مسرحية الحصان –وهي ذات موضوع معاصر‪ ،‬خلفا ً‬
‫للمسرحيتين السابقتين‪ -‬يدور الصراع مرة أخرى بين‬
‫شخصيتين مركزيتين‪ ،‬هما الطبيب النفساني مارتن دايزرت‬
‫والشاب المراهق ألن سترانغ‪ ،‬الذي جيء به إلى مستشفى‬
‫المراض العقلية بعد أن سمل عيون ستة جياد بمسمار كبير‪.‬‬
‫ويصطدم الطبيب بادئ المر بتكتم ألن وتهربه من الجابة‬
‫وصلفه وخشونته‪ ،‬ولكنه يستدرجه بالصبر والحيلة إلى الفضاء‬
‫بما في نفسه بالتدريج فنكتشف أن انحرافه يعود أساسا ً إلى‬
‫التناقضات الحادة في بيئته المنزلية‪ ،‬فقد نشأ بين أم مسيحية‬
‫شديدة التدين وأب يدين بالمادية والفكر الشتراكي على‬
‫تزمت وضيق أفق‪ .‬ونكتشف أن ألن –بتأثير من الكتاب‬
‫المقدس الذي كانت أمه تتلوه على مسامعه في صغره –اتبع‬
‫ذات يوم صورة تمثل السيد المسيح وهو يسير إلى الجلجلة‬
‫مكبل ً بالغلل‪ ،‬وعلقها فوق سريره‪ .‬ولكن والده لم يطق هذه‬
‫الصورة ولم يشأ لولده أن ينشأ في أجواء المسيحية فرفعها‬
‫من مكانها‪ .‬وعندما ألفى ولده محزونا ً لفقد الصورة جاءه‬
‫بصورة أخرى تمثل حصانا ً يطل من سياج حديقة وألصقها‬
‫مكانها‪ .‬وقد تضافرت هذه الصورة مع انطباعات عديدة أخرى‪.‬‬
‫ل يسمح المجال بذكرها‪ ،‬على خلق قناعة لدى الصبي بألوهية‬
‫الحصان‪ ،‬فصار يركع أمام صورته في الليالي ويناديه باسم “‬
‫‪ ”Equus‬وهي التسمية اللتينية للحصان‪ -‬ويبتدع له سللة‬
‫شبيهة بسللة المسيح الواردة في النجيل‪.‬‬
‫وتشاء الصدفة أن يلتقي ألن فتاة جميلة اسمها جل‪،‬‬
‫تعمل في إسطبل للخيل‪ ،‬فتساعده على العمل هناك مرة في‬
‫السبوع‪ .‬ويغتنم ألن هذه الفرصة ليتسلل في الليل‪ ،‬بين حين‬
‫وآخر‪ ،‬مع أحد الخيول إلى ركن منعزل في مزرعة قريبة‪،‬‬
‫يمارس فيه طقوسا ً غريبة يتجرد خللها من ثيابه ويعتلي‬
‫الحصان في نشوة وهوس ل يخلوان من تفجر الشواق‬
‫الجنسية المكبوتة‪.‬‬
‫وذات مساء تدعوه صديقته جل إلى مشاهدة فلم جنسي‬
‫في إحدى دور العرض‪ ،‬ثم تقنعه بالذهاب معها إلى السطبل‪،‬‬
‫حيث يستطيعان ممارسة الحب بعيدا ً عن الرقباء‪ ،‬وحين يرقد‬
‫معها على القش ويعانقها يداهمه شعور بأنه يخون معها معبوده‬
‫“‪ ”Equus‬وأن أحداق الخيل تراقبه باستياء من وراء الباب‬
‫المغلق‪ ،‬فيقلع عن محاولته ويطرد الفتاة بخشونة‪ ،‬ثم يركع‬
‫أمام الخيل يسألها الصفح والمغفرة‪ .‬ولكن عيون الخيل تواصل‬
‫التحديق إليه حتى يدركه اليأس ويعتريه الغضب فيتناول قطعة‬
‫معدنية حادة ويفقأ أعينها الواحدة تلو الخرى‪ ،‬ثم يرتمي على‬
‫الرض صارخا ً مولو ً‬
‫ل‪.‬‬
‫ليست هذه‪ ،‬في الواقع‪ ،‬سوى خلصة باهتة لهذه‬
‫المسرحية المعقدة‪ ،‬الغنية بما فيها من فكر واستشفاف لخفايا‬
‫النفس البشرية وأنماط استجابتها لمؤثرات العالم الخارجي‪.‬‬
‫ونلحظ هنا كذلك ما سبق أن لحظناه من توازن بين قطبي‬
‫الصراع في مسرحيات بيتر شافر‪ ،‬فالطبيب مارتن‬
‫دايزرت‪ ،‬الذي يفترض أنه الطرف اليجابي في الصراع‪ ،‬يعاني‬
‫من الواقع من تناقضات داخلية عميقة‪ ،‬إنه رجل غير سعيد‬
‫بمهنته التي يمارسها ول بحياته الخاصة‪ .‬وهو يهرب من ركود‬
‫حياته‪ ،‬التي ل يطيقها ول يملك القدرة على تغييرها‪ ،‬إلى كتب‬
‫التاريخ وإلى ذكريات فترة أمضاها في إحدى القرى اليونانية‪.‬‬
‫‪- 60 -‬‬
‫ويبدو دايزرت‪ -‬وقد أوكلت إليه مهمة معالجة ألن سترانغ‪-‬‬
‫مرتابا ً في جدوى عمله‪ ،‬فلماذا يجرد الفتى من هذه السطورة‬
‫التي تلهب خياله ووجدانه؟ إنه يرى في عبادة ألن للخيل‬
‫وطقوسه المحمومة التي يؤديها معها توهجا ً ونشوة تفتقر‬
‫إليهما حياته هو‪ .‬وهو غير واثق من أنه يفعل خيرا ً حين يشفي‬
‫هذا الفتى من خباله ويرده إلى الحياة الخاوية الرتيبة التي‬
‫يحياها الناس السوياء‪ .‬ويلخص لنا دايزرت محنته منذ بدء‬
‫المسرحية حين يقول مخاطبا ً الجمهور‪:‬‬
‫‪-‬المسألة أنني يائس‪ .‬إنني شخصيا ً أحمل‪ ،‬كما ترون‪ ،‬رأسا ً‬
‫كرأس ذلك الحصان‪ .‬هذا هو إحساسي‪ .‬إنني مشدود إلى‬
‫اللغة القديمة والفتراضات القديمة‪ ،‬أستجمع قواي لثب‬
‫بحوافر نظيفة إلى مسار للحياة جديد كليًا‪ ،‬أحدس وجوده‬
‫مجرد حدس… ولكنني ل أستطيع القفز لن اللجام يمنعني‬
‫ولن قوتي الساسية –أو قدرتي الحصانية إن شئتم‪ -‬أقل مما‬
‫ينبغي‪..‬‬
‫ومن المهم‪ ،‬وقد ألممنا بمضمون هذه المسرحيات الثلث‪،‬‬
‫أن نتوقف عند الجوانب التقنية في أعمال بيتر شافر‪ ..‬ولعل‬
‫أول ما يلفت النتباه في هذا المجال أن الراوية المستعار من‬
‫مسرح بريشت الملحمي موجود في جميع المسرحيات التي‬
‫ذكرناها‪ .‬ويتضح هذا التأثير البريشتي بنحو خاص‪ .‬في مسرحية‬
‫"الحصان"‪ ،‬حيث نرى الطبيب النفسي يتوجه بين حين وآخر‬
‫بخطاب مباشر إلى الجمهور الذي يجلس قسم منه على‬
‫منصة المسرح نفسها‪.‬‬
‫وتتخذ مسرحية الصيد الملكي للشمس شكل ذكريات‬
‫يرويها العجوز مارتن الذي رافق الجنرال بيزارو في حملته‬
‫على بيرو‪ ،‬وكان أيامها حدثا ً في مقتبل العمر‪ .‬وثمة مشاهد‬
‫عديدة نرى فيها مارتن الشيخ يعلق على الحداث‪ ،‬بينما نرى‬
‫في الوقت عينه مارتن الشاب يشارك فيها‪ .‬ولعلها المرة‬
‫الولى التي يؤدي فيها ممثلن مختلفان شخصية واحدة في‬
‫وقت واحد على منصة المسرح!‪.‬‬
‫وللراوية في مسرح بيتر شافر وظيفة تشبه من بعض‬
‫وجوهها وظيفته في مسرح بريشت‪ ،‬فهو يسرد ويفسر‬
‫ويعلق‪ ،‬داعيا ً المتفرج إلى تأمل الحداث‬
‫التي تعرض أمامه‪ .‬ولكن الراوية هنا ليس مجرد مراقب أو‬
‫مشاهد‪ ،‬كما في المسرح الملحمي‪ ،‬بل هو طرف أساسي‬
‫في الصراع‪ ،‬أو أحد المشاركين فيه على القل‪ ،‬وهو بالتالي ل‬
‫ينطق بلسان المؤلف‪ ،‬بل بلسان الشخصية التي يؤديها‪.‬‬
‫على أن مهمة الراوية في مسرحيات شافر ل تقف عند‬
‫هذا الحد‪ ،‬بل هو في الواقع جزء أساسي من تقنية يستخدمها‬
‫شافر لغراض متعددة‪ .‬فمن مزايا هذه التقنية أنها تتيح‬
‫للكاتب أن يبدأ قصته من النهاية ويضع أمامنا حصيلة الحداث‬
‫قبل وقوعها على المسرح‪ ،‬وبذلك تتحول بؤرة الهتمام عند‬
‫المتفرج من التساؤل عما سيحدث أخيرا ً إلى التساؤل عن سر‬
‫ما حدث بالفعل‪ .‬وفي ذلك ما فيه من شحذ اهتمام المتفرج‬
‫وإثارة فضوله‪ .‬ومما يضاعف من هذا الهتمام والفضول أن‬
‫المقدمات والنتائج في مسرح بيتر شافر تبدو للوهلة الولى‬
‫شديدة التنافر ومنافية لمنطق الشياء‪ ،‬فكيف يقدم –مث ً‬
‫ل‪-‬‬
‫صبي يعشق الخيل ويؤلهها تأليها ً على سمل عيونها؟ وكيف‬
‫تقهر حفنة بائسة من المغامرين إمبراطورية بأسرها؟! إن‬
‫غرابة الواقعة وغموض أسبابها يدفعان المتفرج إلى متابعة ما‬
‫يجري أمامه بتركيز مضاعف لمعرفة السر الذي يمضي‬
‫المؤلف كاشفا ً عنه بتمهل حتى يعريه تماما ً في المشهد الخير‬
‫من المسرحية‪.‬‬
‫‪- 61 -‬‬
‫ومن مزايا هذه التقنية كذلك أنها تعطي القصة التدفق‬
‫المستمر‪ ،‬فليس ثمة فواصل تقتضيها تغيرات الزمان والمكان‪،‬‬
‫لن مسرح الحداث هو ذاكرة الراوية نفسه‪ ،‬وبالتالي فلسنا‬
‫أمام فعل يجري في أمكنة وأزمنة مختلفة‪ ،‬بل نحن أمام تيار‬
‫من الوعي المتصل‪ .‬ورغم أن شافر يقسم مسرحياته إلى‬
‫فصول ومشاهد‪ ،‬كما هي العادة‪ ،‬إل أنه يحرص في مقدمات‬
‫مسرحياته على الشارة إلى أن الفعل الدرامي متصل منذ‬
‫بداية المسرحية حتى نهايتها‪ .‬ولعل هذا ما دعاه إلى جعل‬
‫الممثلين في مسرحية الحصان يلزمون منصة العرض طوال‬
‫الوقت ليبرزوا إلى دائرة الضوء عندما يأتي دورهم‪ .‬وليست‬
‫هذه‪ ،‬على أي حال‪ ،‬صفة ينفرد بها بيتر شافر‪ ،‬فالواقع أن‬
‫تدفق الفعل المسرحي بل انقطاع من المور التي يحرص‬
‫عليها كتاب الدراما المعاصرون انطلقا ً من فكرة الديمومة‬
‫البرغسونية‪ ،‬التي أشرنا إليها في مطلع الحديث‪.‬‬
‫ونلمس في مسرحية الحصان لمحة أخرى من ملمح‬
‫المسرح الملحمي عندما نرى ممثلي أدوار الخيل ينهضون‬
‫من مقاعدهم ويلبسون أقنعتهم أمام الجمهور‪.‬‬
‫ويولي بيتر شافر أهمية كبيرة لعناصر العرض‬
‫المسرحي‪ ،‬فهو من المؤلفين الذين يؤكدون دوما ً أن الكلمات‬
‫وحدها ل تكفي وأن المسرح هو رؤية يشترك في صياغتها‬
‫المؤلف والمخرج‪ .‬وهو ل يميل إلى رسم البيئة رسما ً واقعيا ً‬
‫ل‪ -‬ل‬ ‫على منصة المسرح‪ ،‬فأحداث مسرحية "الحصان" –مث ً‬
‫تجري في مستشفى للمراض العقلية‪ ،‬كما يفترض‪ ،‬بل ضمن‬
‫مساحات هندسية يغلب عليها التجريد‪ ،‬وكأنه يريد بذلك أن‬
‫يقول إن مخيلة المثقف الغربي باتت أسيرة القوالب الجامدة‬
‫التي فرضها تقدم العلم والتكنولوجيا على حياة المجتمعات‬
‫المتطورة‪ .‬وفي الصيد الملكي للشمس نرى قرصا ً معدنيا ً‬
‫كبيرًا‪ ،‬يرمز إلى شمس النكا‪ ،‬يتدلى وسط المسرح‪ ،‬ونرى هذا‬
‫القرص الوهاج ينطفئ عندما يبدأ الغزاة السبان بالستيلء‬
‫على الذهب‪.‬‬
‫ولننتقل بعد ذلك إلى الكاتب المريكي سام شبرد‪،‬‬
‫وسنتوخى اليجاز في الحديث عنه بعد أن طالت وقفتنا عند‬
‫مسرحيات بيتر شافر‪ .‬وشبرد يمثل وجها ً آخر من أوجه‬
‫الواقعية الحديثة في الدراما‪ ،‬فهو من الكتاب الذين يخلطون‬
‫الواقع بالرمز‪ ،‬والمعقول باللمعقول والغريب‪ ،‬إلى الحد الذي‬
‫يضفي على أعماله مسحة من الغموض ويرشحها لكثر من‬
‫تفسير واحد‪ .‬ويذكرنا شبرد من الناحية التقنية بالكاتب‬
‫البريطاني المعروف هارولد بنتر‪ ،‬بينما يذكرنا من حيث‬
‫الفكر والمواقف بزميله الميركي إدوارد أولبي‪ ،‬فهما يلتقيان‬
‫في رفضهما قيم المجتمع الميركي وإدانة ما يتصف به هذا‬
‫المجتمع من نفعية وقسوة وخواء روحي‪ .‬وسام شبرد كاتب‬
‫غزير صدر له حتى الن أكثر من عشرين مسرحية‪ .‬وسنقصر‬
‫الحديث هنا على واحدة من أهم مسرحياته‪ ،‬وهي الطفل‬
‫المدفون‪ ،‬الحائزة على جائزة بوليتزر‪.‬‬
‫تقدم إلينا مسرحية الطفل المدفون أسرة غريبة مؤلفة‬
‫من أب عجوز سكير يلزم أريكة قديمة في صالة المنزل‪،‬‬
‫وزوجة ثرثارة تتحدث بل انقطاع عن أيامها وابنها الراحل الذي‬
‫ما كان ليموت شابا ً لول أنه تزوج من امرأة كاثوليكية‪ ،‬ومن‬
‫ولدهما تلدن البله الذي عاد إلى بيت أبيه بعد أن طرد من‬
‫نيومكسيكو لسبب غامض‪ ،‬وبرادلي الفظ ذي الكتفين‬
‫القويتين والساق الخشبية‪ .‬ويدور الحديث في المشاهد الولى‬
‫حول مزرعة السرة التي أهملت منذ عشرات السنين‪ .‬وفجأة‬
‫يعود حفيد السرة الغائب فنس ومعه خطيبته المريكية‪-‬‬
‫‪- 62 -‬‬
‫اللتينية شيلي التي جاء بها لتتعرف إلى أهله‪ .‬ولكن الجد‬
‫السكير ينكر حفيده ول يتذكره رغم المحاولت التي يبذلها‬
‫الشاب لبتعاث صورة الماضي في ذاكرته‪ .‬وحين يعود تلدن –‬
‫ولد فنس‪ -‬إلى المنزل فإنه هو الخر ل يحفل بوجود ابنه ول‬
‫يلقي إليه أي اهتمام‪ .‬ويساور الفتاة الشك في حقيقة انتساب‬
‫فنس إلى هذه السرة‪ ،‬وتحاول إقناعه بمغادرة البيت ولكنه‬
‫يصر على البقاء‪ .‬وعندما يكثر إلحاح الجد العجوز على الجميع‬
‫بأن يبتاعوا له قنينة من الخمر يتطوع فنس لداء المهمة‬
‫ويغادر المنزل فتنتهز شيلي هذه الفرصة لتسأل تلدن عن‬
‫هوية خطيبها فيجيبها هذا بأنه ليس له أولد وأن ولده الوحيد قد‬
‫قتله الجد وهو طفل رضيع‪ .‬ويحاول العجوز منع تلدن من‬
‫الستمرار في سرد القصة فيسقط من أريكته إلى الرض‬
‫ويظل رابضا ً هناك‪ .‬وخلل ذلك يدخل برادلي الفظ منتهرا ً‬
‫تلدن فيهرب هذا مذعورا ً منه‪ .‬ويتقدم برادلي من الفتاة‬
‫ويأمرها بفتح فمها ثم يدس أصابعه فيه!‪.‬‬
‫وفي الفصل الخير من المسرحية نرى برادلي نائما ً على‬
‫أريكة والده القديمة وقد تدثر بدثاره ووضع ساقه الخشبية إلى‬
‫جانبه بينما الب لم يزل مستلقيا ً على الرض‪ .‬ونرى الم وقد‬
‫عادت إلى المنزل بصحبة كاهن بروتستانتي عجوز يدعى الب‬
‫دويس‪ ،‬أما فنس الذي خرج لشراء الخمر فل نلمح له أثرًا‪.‬‬
‫وتعود الفتاة إلى الستفسار عن قصة الطفل المقتول فيزجرها‬
‫برادلي الذي يستيقظ من نومه منزعجًا‪ ،‬ولكنها تختطف ساقه‬
‫الخشبية وتتركه عاجزا ً عن الحركة‪ .‬وتتدخل الم عبثا ً لسكات‬
‫الفتاة الفضولية‪ .‬وأخيرا ً يقرر العجوز أن يتكلم فيعترف بأنه‬
‫قتل الطفل ودفنه في الرض المجاورة للمنزل لنه كان طفل ً‬
‫غير شرعي حملت به زوجه سفاحًا‪ ،‬ولم يكن يريد لهذه الغلطة‬
‫أن تدمر كل ما بناه‪.‬‬
‫ً‬
‫ويعود فنس أخيرا وقد أفرط في السكر وجاء معه بكل‬
‫القناني التي أفرغها في جوفه‪ ،‬ويقتحم المنزل مترنما ً بأغنية‬
‫من أغاني الحرب‪ ،‬ويبدأ بقذف القناني الفارغة وكأنه يخوض‬
‫معركة بالقنابل اليدوية‪ .‬وإذا ذاك فقط تتذكر الجدة أن هذا‬
‫حفيدها فتسأل‪:‬‬
‫‪-‬فنسنت؟ أهذا أنت فنسنت؟‬
‫ً‬
‫ويعتدل برادلي في جلسته على الريكة متوعدا فنس‬
‫ثم ينزلق إلى الرض زاحفا ً لسترداد ساقه الخشبية‪ ،‬ولكن‬
‫زحفه المضني يطول بل جدوى لن فنس يركل الساق‬
‫الخشبية بقدمه كلما اقترب عمه منها‪ .‬وأخيرا ً يعلن الجد‪ ،‬قبل‬
‫أن يلفظ أنفاسه‪ ،‬أنه يترك المنزل بما فيه لحفيده فنسنت‪،‬‬
‫وأدوات الحراثة لبنه تلدن‪ ،‬ويتناول فنس ساق عمه الخشبية‬
‫ويرمي بها خارج المنزل‪ .‬وتلتفت شيلي قبل رحيلها إلى فنس‬
‫فتسأله‪:‬‬
‫‪-‬أتريد أن تبقى هنا؟ فيجيبها‪ :‬ل بد لــي مــن البقــاء لتســتمر‬
‫السرة ولتظل المور تسير في مجراها‪.‬‬
‫وفي ختام المسرحية نرى تلدن يعود من خارج المنزل‪،‬‬
‫وقد غطاه الوحل حتى ركبتيه حامل ً بين ذراعيه بقايا طفل‬
‫ميت‪ ،‬ويعبر الصالة ببطء ويرتقي السلم وعيناه مثبتتان على‬
‫الجثة الملطخة بالوحل‪ ،‬وفي الوقت نفسه نسمع الم تخاطب‬
‫زوجها العجوز وهي تهبط السلم‪:‬‬
‫‪-‬دوج؟ أهذا أنت يا دوج؟ أتدري؟ لقد كان تلدن محقا ً‬
‫بشأن الذرة‪ .‬لم أر مثل هذه الذرة من قبل‪ .‬هل ألقيت عليها‬
‫نظرة مؤخرًا؟ إنها بطول قامة الرجل منذ الن‪ .‬في هذا‬

‫‪- 63 -‬‬
‫الوقت المبكر من السنة‪ .‬وثمة جزر كذلك‪ .‬وبطاطا‪ .‬وبازلء‪.‬‬
‫شيء شبيه بالفردوس في الخارج‪ ،‬يا دوج‪ .‬يجب أن تلقي‬
‫نظرة‪ .‬معجزة‪ .‬لم أر لها شبيها ً من قبل‪ .‬لعل المطر فعل شيئًا‪.‬‬
‫لعله المطر‪.‬‬
‫هذه‪ ،‬بالخطوط العامة‪ ،‬هي قصة مسرحية الطفل‬
‫المدفون‪ ،‬ويمكننا أن نلحظ القرابة الفنية بينها وبين أعمال‬
‫هارولد بنتر وصاميويل بيكيت‪ ،‬التي تنقلنا بصورة مفاجئة من‬
‫الجواء والتفاصيل الواقعية المألوفة إلى أجواء كابوسية تبدو‬
‫فيها التصرفات والقوال غريبة وغير مترابطة‪ .‬ولكن شخصيات‬
‫شبرد أكثر امتلء بالحياة من شخصيات مسرح بيكيت‪ ،‬وهو‬
‫أكثر انشغال ً بالهموم الجتماعية من بنتر‪ .‬ورغم أن المستوى‬
‫الرمزي في أعمال سام شبرد ل يفصح عن نفسه بسهولة‪،‬‬
‫فإنه يتميز بالثارة الذهنية وقوة اليحاء‪ .‬ولنا أن نفترض أن‬
‫مسرحية الطفل المدفون تصور لنا صراع الجيال في‬
‫المجتمع الميركي‪ ،‬وأن هذا الشاب الذي عاد إلى منزل جده‬
‫بعد غيبة طويلة فجوبه بالتجاهل والنكار هو رمز للجيال الفتية‬
‫الباحثة عن النتماء في مجتمع منحل تخلى عن مثله القديمة‪.‬‬
‫أما هذا الطفل الذي اغتيل ودفن تخلصا ً من العار فقد يكون‬
‫المؤلف أراد به حلم الحرية والعدالة الجتماعية الذي اغتالته‬
‫الرجعية المريكية في أواسط القرن بعد أن لمست في بقائه‬
‫خطرا ً يهدد كل ما بنته –على حد تعبير العجوز دوج في‬
‫المسرحية المذكورة‪ ،‬وعندما نفهم مسرحيات شبرد على هذا‬
‫النحو تتضح لنا مراميه ويغدو معقول ً ومؤثرا ً ما بدا للوهلة‬
‫الولى غريبا ً ومجافيا ً للمعقول‪.‬‬
‫وسنتوقف أخيرا ً عند مسرحية كان لها دويها الكبير في‬
‫الوليات المتحدة وبريطانيا منذ سنوات‪ ،‬تلك هي مسرحية‬
‫الرجل الفيل التي كتبها مؤلف أميركي شاب يدعى برنارد‬
‫بوميرانس‪ .‬وقد فازت في حينها بجائزة نقاد المسرح في‬
‫نيويورك وعدد من الجوائز الخرى‪.‬‬
‫والرجل الفيل ليس شخصية صنعها خيال المؤلف بل هو‬
‫إنسان حقيقي يدعى جون ميرك عاش في لندن في أواخر‬
‫القرن الماضي‪ ،‬وكان له تكوين مشوه يثير الفزع‪ .‬وقد عثر‬
‫عليه جراح شاب يدعى فريدرك تريفز عندما كان أحد الفاقين‬
‫يعرضه للفرجة في أحد الدكاكين لقاء قروش‪ ،‬فنقله إلى‬
‫مستشفى وايت تشابل في لندن ووفر له المن والعيش‬
‫الكريم‪ .‬وقد ترك لنا الدكتور تريفز كتابا ً عن جون ميرك‪ ،‬ول‬
‫يزال هيكله العظمي وصوره الفوتوغرافية محفوظة حتى‬
‫اليوم‪ .‬وتشير المصادر التي بين أيدينا إلى أن ميرك كان ذا‬
‫رأس كبير بشكل استثنائي‪ ،‬وكان له في جبهته نتوء عظمي‬
‫هائل يكاد يغطي إحدى عينيه‪ ،‬وفي مؤخرة رأسه كيس من‬
‫الجلد المنتفخ‪ ،‬وكانت شفته العليا مقلوبة إلى الخارج بفعل‬
‫نتوء عظمي آخر في فكه العلى‪ .‬وكان ظهره مغطى بكتلة‬
‫من اللحم الكريه تمتد إلى منتصف فخذه وتنبعث منها رائحة‬
‫مقززة‪ ،‬بينما تتدلى من صدره كتلة مماثلة من اللحم‪ .‬وكانت‬
‫ذراعه اليمنى ضخمة مشوهة‪ ،‬أما اليسرى فكانت جميلة‪،‬‬
‫أنثوية التكوين –كما يقول تريفز‪ .‬ولكن هذا المظهر المروع‬
‫كان يخفي وراءه – كما اكتشف الطبيب في ما بعد‪ -‬نفسا ً‬
‫رقيقة حساسة تتوق إلى الحنان والصداقة كسائر البشر‪.‬‬
‫وقد سعى تريفز إلى إقناع بعض شخصيات المجتمع‬
‫اللندني بزيارة ميرك في ملذه المنعزل في المستشفى‪،‬‬
‫وسرعان ما اكتشف هؤلء ذكاءه ورهافة حسه فصاروا‬
‫يترددون عليه ويقدمون إليه الهدايا ويمدون المستشفى‬
‫بالعانات المالية للنفاق عليه‪ .‬وتهيأ لميرك‪ -‬وقد أحيط بكل‬
‫‪- 64 -‬‬
‫هذه الرعاية‪ -‬أن يقرأ وأن يشرع في تحقيق حلم كان يساوره‪،‬‬
‫وهو وضع تصميم لكنيسة القديس فيليب في لندن‪.‬‬
‫وقد أتم هذا التصميم بالفعل‪ ،‬ولكن وضعه الجديد أيقظ‬
‫في نفسه رغبات وأحاسيس كانت دفينة في الماضي‪ ،‬فقد‬
‫اشتد به التوق إلى المرأة على علمه باستحالة الوصول إليها‪،‬‬
‫وصار يتحرق شوقا ً إلى ممارسة حياة طبيعية كالخرين‪ .‬وذات‬
‫يوم فكر ميرك –الذي كان ينام جالسا ً لن تكوينه الغريب ل‬
‫يسمح له بالنوم الطبيعي‪ -‬أن يضع رأسه على الوسادة كأي‬
‫إنسان آخر‪ ،‬ولكن ثقل رأسه الهائل أدى إلى كسر رقبته‬
‫واختناقه‪.‬‬
‫هذه قصة الرجل الفيل كما يرويها أكثر من كتاب‪ ،‬وقد‬
‫نقلها برنارد بوميرانس إلى المسرح بأمانة وبأسلوب واقعي‬
‫صارم‪ ،‬ولكنه عدل عن النهج المألوف في الكتابة‪ ،‬فلم يقسم‬
‫ل‪ ،‬بل كتبها في‬‫مسرحيته إلى فصول ولم يجعل لها عقدة وح ً‬
‫واحد وعشرين مشهدا ً قصيرا ً وجعل لكل من هذه المشاهد‬
‫عنوانا ً يشير إلى محتواه‪ .‬ول نعثر في مسرحية بوميرانس على‬
‫الصراع الدرامي المألوف الذي تطرقنا إلى بعض أشكاله ونحن‬
‫نتحدث عن مسرحيات بيتر شافر‪ ،‬فالصراع الساسي في‬
‫الرجل الفيل يدور بين ميرك وقدره القاسي‪ ،‬ل بينه وبين‬
‫أطراف أخرى تظهر على المسرح‪ .‬وهو صراع محسوم منذ‬
‫البداية‪ ،‬فميرك ل أمل له في الخلص من محنته ومصيره‪،‬‬
‫ولذلك فإن الفعل الدرامي ل يجنح إلى الصعود‪ ،‬بل يسير‬
‫باتجاه أفقي حتى النهاية‪ .‬وقد تعيد شخصية جون ميرك إلى‬
‫أذهاننا صورة غريغور سامسا في رواية كافكا المعروفة‬
‫المسخ‪ ،‬فكلتا الشخصيتين محكومة منذ اللحظة الولى بقدر‬
‫رهيب لفكاك منه‪ ،‬ولذلك فهي ل تخوض صراعا ً من أجل‬
‫الخلص وليس في يدها أن تخوض مثل هذا الصراع‪ ،‬بل‬
‫قصارى ما تستطيعه هو أن تحاول التكيف مع الواقع المرعب‬
‫الذي فرض عليها‪.‬‬
‫وتمثل هذه المحاولة الليمة اليائسة البؤرة التي تستقطب‬
‫اهتمام المتفرج في مسرحية الرجل الفيل‪.‬‬
‫وفي هذه المسرحية نجد أنفسنا مرة أخرى أمام مجرى‬
‫متصل من الفعل الدرامي‪ ،‬فالمسرحية –كما أسلفنا‪ -‬ل تتألف‬
‫من فصول تسدل الستارة بعد كل منها‪ ،‬بل من مجموعة‬
‫لوحات تتعاقب وكأنها صفحات من قصة يقرأها المرء دون‬
‫توقف‪ .‬ونجد أنفسنا كذلك أمام لغة درامية جديدة‪ ،‬يمكن أن‬
‫ندعوها باللغة المقطرة‪ ،‬فالكاتب المسرحي المعاصر ميال إلى‬
‫القتصاد في اللغة وتشذيب العبارة من كل الزوائد التي يمكن‬
‫الستغناء عنها‪ ،‬بل وإلى بترها أحيانا ً إذا كانت تتمتها يمكن أن‬
‫تفهم من سياق الحديث‪ .‬ولعل الكاتب البريطاني هارولد بنتر‬
‫أشهر مثال في هذا الباب‪ .‬وعلى العموم فإن المسرح‬
‫الحديث ل يميل إلى السهاب في القول أو التصنع في العبارة‪،‬‬
‫أو النسياق مع انثيالت الفكار والعواطف إل في الحوال التي‬
‫تقتضيها ضرورة درامية واضحة‪.‬‬
‫وبعد فهذه بعض التجاهات البارزة في ما أسميناه‬
‫بالواقعية الجديدة في المسرح المعاصر‪ .‬وقد آثرنا أن نقتصر‬
‫على نماذج قليلة ليتسنى لنا أن نقف عند كل منها وقفة كافية‪،‬‬
‫فذلك أجدى من تعداد السماء –وهي كثيرة‪ -‬والكتفاء‬
‫بملحظات عامة ل تقربها إلى الذهن أمثلة ملموسة‪ .‬ولعل في‬
‫هذه اللمامة المتواضعة ما يساعدنا على تشخيص واقع الحركة‬
‫المسرحية عندنا وتبين موقعها من مسارات تطور المسرح‬
‫العالمي المعاصر‪.‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫ءءءءء – ‪1986‬‬

‫‪- 66 -‬‬
‫الدور الغوالي‬
‫في المسرح الحتفالي!‬

‫خلل السنوات الخيرة‪ ،‬طغى على المسرح العراقي اتجاه‬


‫غريب أطلق عليه أصحابه ومروجوه اسم المسرح‬
‫الحتفالي أو مسرح الفرجة‪ .‬وتعود جذور هذا التجاه إلى‬
‫محاولت قام بها بعض الفنانين المغاربة لتقديم نصوص من‬
‫التراث العربي ضمن قوالب مسرحية‪ .‬وقد برزت في هذا‬
‫الصدد محاولة الطيب الصديقي الذي أعاد صياغة بعض‬
‫مقامات بديع الزمان الهمذاني وتقديمها في إطار مسرحي‪.‬‬
‫ويبدو أن هذه المحاولت استهوت بعض العاملين في المسرح‬
‫عندنا فعمدوا إلى تقليدها في سلسلة من العمال الرديئة‬
‫المفككة‪ ،‬التي اتكأت على النصوص الدبية التراثية حينًا‪ ،‬وعلى‬
‫الحكاية الشعبية حينا ً آخر‪.‬‬
‫وغني عن القول أن استلهام التراث ليس خطأ في حد‬
‫ذاته‪ ،‬بل ربما كان من عيوب ثقافتنا المعاصرة أنها تشط أحيانا ً‬
‫في البتعاد عن التراث‪ ،‬ولكن مشكلة دعاة المسرح‬
‫الحتفالي هؤلء أنهم يتوهمون أن التكاء على التراث يعفيهم‬
‫من عناء التقيد بأصول التقنية الدرامية ويجيز لهم الستعانة‬
‫بوسائل ومؤثرات غير درامية في جوهرها‪ ،‬كالغناء والخطب‬
‫والمواعظ والمثال الشعبية وغيرها‪.‬‬
‫وهكذا تعاقبت على منصة مسرحنا الوطني أعمال هجينة‬
‫ليس لها من فن المسرح سوى قشرته الخارجية‪ .‬ولو اكتفى‬
‫أصحاب هذا التجاه بمجرد تقديم أعمالهم إلى الجمهور لما‬
‫كان المر جديرا ً بالمناقشة‪ ،‬فما أكثر البدع والتجاهات الغريبة‬
‫التي تطفو على سطح الحياة الفنية والثقافية بين حين وآخر‪،‬‬
‫ثم ما تلبث أن تتوارى تلقائيا ً لنها تفتقر أصل ً إلى مقومات‬
‫البقاء‪ .‬ولكن ما يحدث في مسرحنا اليوم قد تحول إلى ظاهرة‬
‫خطيرة بالفعل‪ ،‬لن هذا التجاه الدخيل على المسرح يقدم‬
‫نفسه إلى الناس بوصفه عودة إلى الملمح والصول المحلية‬
‫الخاصة وتخلصا ً من التبعية الثقافية والمسرحية للمسرح‬
‫الجنبي وبحثا ً عن الهوية الوطنية والقومية‪ ،‬كما أعلن أحد دعاة‬
‫هذا التجاه في الصحافة منذ أمد غير بعيد‪.‬‬
‫وقد يتبادر إلى ذهن المرء‪ ،‬وهو يقرأ تصريحات خطيرة من‬
‫هذا النوع‪ ،‬أن أصحابها لم يخرجوا على أعراف المسرح‬
‫ومفاهيمه الراسخة إل بعد بحث وتأمل وتجريب‪ ،‬ولكنه يفاجأ‪-‬‬
‫وقد يساوره شعور بالمرارة والرثاء‪-‬حين يكتشف أن مصدر‬
‫‪- 67 -‬‬
‫هذه الضجة كلها كتاب صغير بائس‪ ،‬لمؤلف من المغرب‪ ،‬صدر‬
‫عندنا منذ مدة بعنوان الحتفالية في المسرح المغربي الحديث‪.‬‬
‫ليس في نيتي هنا أن استعرض هذا الكتاب‪ ،‬الذي ينبئ عن‬
‫جهل فادح بالمسرح‪ ،‬أدبا ً ونظرية وتأريخًا‪ ،‬ولكن ما تنبغي‬
‫الشارة إليه أن مفهوم المسرح الحتفالي الذي يعرضه هذا‬
‫الكتاب )والذي سارع بعض مسرحيينا إلى اعتناقه والتبشير به(‬
‫يقوم أساسا ً على وهم وقع فيه مؤلفه‪ ،‬وهو وهم مؤّداه أن كل‬
‫مناسبة تجمع عددا ً من الناس في مكان واحد هي شكل من‬
‫أشكال المسرح‪ .‬وهكذا فمواكب الصوفية والمواكب الدينية –‬
‫في نظر المؤلف‪ -‬أشكال مسرحية‪ ،‬وألعاب الصبيان أشكال‬
‫مسرحية‪ ،‬وحلقات المداحين في السواق العربية أشكال‬
‫مسرحية‪ ،‬واللعاب الموسيقية والرياضية‪ ،‬وألعاب خيال الظل‬
‫والحكواتي‪ ،‬والحتفالت الجتماعية والدينية‪ ،‬وحركات الرقص‬
‫واليماء‪ ..‬كل هذه أشكال مسرحية قومية تغنينا‪-‬كما يقول‬
‫المؤلف‪ -‬عن المسرح الحالي القائم على النقل والقتباس!‪.‬‬
‫إن هذا الفهم الساذج لطبيعة فن المسرح –وهو يمثل فهم‬
‫رجل الشارع في مستواه الدنى‪ -‬هو الركيزة النظرية التي‬
‫يقوم عليها المسرح الحتفالي أو مسرح الفرجة‪ ،‬الذي‬
‫بتنا نسمع عنه الكثير في هذه اليام‪ ،‬والذي يتحدث عنه بعض‬
‫العاملين في المسرح عندنا بنبرة عالية متبجحة وكأنهم‬
‫مكتشفوه ورواده!‪.‬‬
‫ولعل أسوأ ما نتج عن شيوع بدعة المسرح الحتفالي‬
‫أنها أعطت فكرة مضللة عن متطلبات الكتابة للمسرح وأغرت‬
‫باقتحامه بعض الغرباء الذين وجدوا فرصتهم في جو العتباط‬
‫والتساهل وتمييع المقاييس‪ ،‬الذي ساد المسرح العراقي في‬
‫سنواته الخيرة‪ .‬ولم يكن غريبًا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أن تجد هذه البدعة‬
‫أصداء سريعة لدى بعض فرق المحافظات‪ ،‬التي اكتشف كتابها‬
‫–بسرور بالغ‪ -‬أن فن المسرح أسهل بكثير مما زعم أرسطو‬
‫طاليس‪ ،‬فما على المرء سوى أن يختار حكاية أو بضع حكايات‬
‫مما تنشره مجلة التراث الشعبي‪ ،‬أو مما كانت ترويه‬
‫عجائزنا في غابر الزمان‪ ،‬ويربطها ببعضها على نحو ما‪ ،‬ثم‬
‫يطرزها بموعظة هنا وأغنية هناك‪ ،‬وبأبيات من الشعر الشعبي‬
‫بين هذه وتلك‪ ،‬ثم يختمها بزفة صاخبة تتخللها الزغاريد وقرع‬
‫الطبول‪ ..‬وهكذا تستوي بين يديه‪ ،‬دون عناء يذكر‪ ،‬مسرحية‬
‫احتفالية مبرأة من وصمة التبعية للمسرح الجنبي!‪.‬‬
‫أقول ليس غريبا ً أن تجد هذه البدعة صداها عند بعض‬
‫مسارح المحافظات التي أغرتها سهولة هذا المسرح المزعوم‬
‫وإدعاءاته الطنانة حول التخلص من التبعية الجنبية‬
‫وتحقيق الهوية الوطنية والقومية الخ‪ ،‬ولكن الغريب حقا ً‬
‫أن يتطوع بعض من يزاولون الكتابة عن المسرح في صحافتنا‬
‫للتبشير بهذا التجاه الخطر ومهاجمة من يتصدى له من‬
‫المثقفين‪ ،‬كما فعل أحدهم في جريدة الجمهورية منذ فترة‪،‬‬
‫وكأن من مظاهر الحرص على مسرحنا الوطني وثقافتنا‬
‫الوطنية أن نهبط بفن المسرح إلى مستوى العراس القروية‪،‬‬
‫وأن نستعيض عن أدب المسرح الرفيع بالتهريج والضجيج‬
‫الفارغ والمواعظ المبتذلة‪ ،‬وأن ندير ظهورنا لكل المعرفة‬
‫البشرية المتراكمة في مجال علم المسرح بدعوى أن‬
‫استيعابها والفادة منها ضرب من التبعية الثقافية!!‪.‬‬
‫لماذا يبدي هؤلء السادة‪ ،‬الذين تحولوا –ول ندري كيف‪،‬‬
‫وعلى أي أساس!‪ -‬إلى خبراء ومنظرين للمسرح‪ ،‬كل هذه‬
‫الحماسة لبدعة ل يعرفون عنها شيئا ً على وجه التقريب؟‬
‫ولماذا يسارعون إلى مباركة هذا الختراع الجديد‪ ،‬الذي لم يقم‬
‫حتى الن أي دليل على سلمة منطلقاته وشرعية انتسابه إلى‬
‫‪- 68 -‬‬
‫فن المسرح؟ إن هذا الموقف ليس له –إذا افترضنا حسن‬
‫النية‪ -‬سوى تفسير واحد‪ ،‬هو أن هؤلء السادة لم يصيبوا من‬
‫الثقافة المسرحية المتخصصة ما يسمح لهم بالتمييز بين‬
‫المسرح الحقيقي وبين ما يلمع دون أن يكون ذهبًا‪ -‬كما تقول‬
‫العبارة الشكسبيرية المأثورة‪ .‬وهم‪ ،‬والحالة هذه‪ ،‬يظلمون‬
‫المسرح والجمهور‪ ،‬ويظلمون ثقافتنا الوطنية نفسها عندما‬
‫يتجاوزون مهمة المخبر الصحفي المحايد إلى مهمة الناقد‬
‫المنحاز‪.‬‬
‫لنتوقف الن –ونأمل أن يتوقف معنا نقاد الصحافة اليومية‬
‫هؤلء‪ -‬أمام اطروحات أصحاب المسرح الحتفالي‪ ،‬وأولها‬
‫أطروحة التخلص من التبعية الثقافية والمسرحية للمسرح‬
‫الجنبي‪ .‬والسؤال هو‪ :‬هل يدخل التعلم والفادة من ثقافات‬
‫الشعوب الخرى في باب التبعية الثقافية أم أن هذه دعوة‬
‫ل؟! إن تاريخ الحضارات ل يعرف‬ ‫إلى التخلص من الثقافة أص ً‬
‫أمة لم تتعلم من تراث المم الخرى ولم تضف بدورها شيئا ً –‬
‫قل أو كثر‪ -‬إلى التراث النساني العام‪ .‬لقد تعلم الغريق‬
‫القدامى من حضارة كريت التي سبقت حضارتهم مثلما تعلموا‬
‫من حضارتي مصر القديمة وبلد ما بين النهرين‪ .‬وتشير‬
‫الدراسات الحديثة إلى أن هوميروس‪ ،‬كبير شعراء اليونان‪ ،‬قد‬
‫تأثر في ملحمته الوذيسية تأثرا ً واضحا ً بملحمة جلجامش‬
‫السومرية‪ ..‬فهل ينتقص هذا من عظمة هوميروس أو من‬
‫أصالة الحضارة اليونانية؟‬
‫وتعلم أجدادنا القدمون بدورهم من التراث الغريقي‪،‬‬
‫الذي ترجموه واستوعبوه وأفادوا منه في علومهم وفلسفتهم‬
‫وأدبهم‪ ،‬فهل كانوا مخطئين إذ فعلوا ذلك؟ وهل ثمة من ينكر‬
‫على الحضارة العربية السلمية أصالتها ودورها التاريخي‬
‫الفريد‪..‬؟ وفي عصر النهضة‪ ،‬حين التفتت أوروبا إلى التراث‬
‫الكلسيكي اليوناني والروماني‪ ،‬كان المسرح ونظرية الدراما‬
‫الرسطو طاليسية ضمن ما تعلمته من هذا التراث‪ .‬ومنذ ذلك‬
‫الحين لم يخرج المسرح الغربي‪ ،‬على كثرة مدارسه واتجاهاته‪،‬‬
‫عن إطار هذه النظرية‪ ،‬التي كشفت عن جوهر الفن الدرامي‬
‫ومرتكزاته الساسية‪ ..‬فهل يصح القول بأن المسرح الغربي‪،‬‬
‫منذ شكسبير حتى أيامنا هذه‪ ،‬كان أسير تبعية ثقافية ما؟ هل‬
‫حالت وحدة السس النظرية دون أن يكون مسرح شكسبير‬
‫إنجليزيا ً‪ ،‬ومسرح إبسن نرويجيًا‪ ،‬ومسرح تشيخوف روسيًا؟‬
‫وهل ثمة من يجرؤ على الدعاء بأن هؤلء الكتاب العظام‬
‫تنقصهم الهوية القومية ول يمثلون الملمح المحلية‬
‫الخاصة لمجتمعاتهم؟!‪..‬‬
‫قد يخطر للبعض أن يتساءل‪ :‬ولماذا يتوجب على المسرح‬
‫أن يظل حبيس هذه المفاهيم النظرية العتيقة؟ وما الذي‬
‫يمنع أن تكون لنا نظريتنا الخاصة في المسرح؟ والجواب على‬
‫ذلك في منتهى البساطة‪ ،‬وهو أن النظريات العلمية ليس لها‬
‫وطن‪ .‬إنها ملك مشاع للنسانية كلها‪ .‬ونحن ل نتخلى عن‬
‫نظرية علمية ما لمجرد أن ذلك يعجبنا‪ ،‬فهذا منطق صبياني‬
‫مضحك‪ ،‬وإنما نتخلى عنها إذا توافرت لنا الدلة على بطلنها‪.‬‬
‫ونظريات الفنون‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬هي شيء آخر غير المناهج الفنية‬
‫وغير التيارات والمدارس والساليب‪ ،‬فقد يتعارض هذا المنهج‬
‫الفني مع ذاك‪ ،‬وقد يتمرد جيل من الفنانين على أعراف جيل‬
‫سابق له‪ ،‬ولكن النظرية الفنية تبقى –في خطوطها الساسية‪-‬‬
‫بعيدة عن اصطراع المناهج والتيارات والجيال‪ .‬وهكذا فمسرح‬
‫شكسبير مثل ً يختلف اختلفا ً كبيرا ً عن مسرح راسين‪ ،‬ويختلف‬
‫الثنان بدورهما عن مسرح فكتور هوغو‪ ،‬ولكن هؤلء الكتاب‬
‫الثلثة ل يختلفون في التزامهم النواميس الثابتة لفن‬
‫الدراما‪ :‬الحبكة‪ ،‬وحدة الفعل‪ ،‬الصراع‪ ،‬رسم الشخصيات‪،‬‬
‫‪- 69 -‬‬
‫وضوح الدوافع الخ‪ ،..‬ذلك أن الدراما إذا لم تتقيد بهذه‬
‫النواميس فإنها تتنكر لخصائصها النوعية وتلغي ذاتها‪ .‬وهذا‬
‫بالضبط ما يفعله دعاة ما يسمى بالمسرح الحتفالي‪ ،‬أو‬
‫مسرح الفرجة‪ .‬ولعل من المناسب أن نورد في هذا الصدد‬
‫ما كتبه ناقد أميركي معروف يدعى براندر ماثيوز‪:‬‬
‫"إن مبادئ التأليف الدرامي هذه ليست مجرد‬
‫قواعد وضعها النقاد النظريون الذين ل يملكون‪ ،‬إل‬
‫نادرًا‪ ،‬أية معرفة بالمسرح الفعلي‪ ،‬وإنما هي قوانين‬
‫متصلة بطبيعة الفن نفسه‪ ،‬وهي قوانين أزلية‪ ،‬ل‬
‫تقل صرامة في يومنا هذا عما كانت عليه في أيام‬
‫سوفوكليس أو شكسبير أو موليير‪ .‬ولن هذه‬
‫القوانين ل تتغير‪ ،‬فإن متابعة المسرح الحديث هي‬
‫عون لنا على فهم مناهج المسرح القديم"‪.‬‬
‫تلك هي المسألة‪ ،‬كما يقال‪ .‬إن قوانين التأليف الدرامي‬
‫قد اكتشفت منذ زمن بعيد‪ ،‬ول سبيل إلى اكتشافها مرة أخرى‪.‬‬
‫وهذه القوانين هي تراث إنساني عام ل يضيرنا ول ينتقص من‬
‫هويتنا الوطنية والقومية أن نتعلمه ونسترشد به في بناء فننا‬
‫المسرحي‪ ،‬كما يفعل الخرون ممن يمتلكون هويات قومية‬
‫مثلنا تمامًا‪ .‬أما إذا كان البعض مصرا ً على النخراط في زمرة‬
‫أصحاب النظريات الجديدة –رغم أن قابلياته المتواضعة ل‬
‫تؤهله لشيء من ذلك‪ -‬فإننا ندعوه‪ ،‬قبل كل شيء‪ ،‬إلى تأمل‬
‫الحقائق التالية‪:‬‬
‫ل سبيل إلى البداع في أي من الفنون خارج‬ ‫أول ً‪-‬‬
‫إطار القوانين الخاصة به‪ .‬ويصدق هذا‪ ،‬ل على‬
‫المسرح وحده‪ ،‬بل على سائر الفنون الخرى كذلك‪.‬‬
‫ويكفي أن نتصور‪ ،‬للحظة واحدة‪ ،‬رقصا ً بل إيقاع‪ ،‬أو‬
‫موسيقى بل سلم موسيقي‪ ،‬أو عمارة بل هندسة‬
‫معمارية!‪.‬‬
‫ثانيا ً ‪-‬ل يمكن للفنون القومية‪ ،‬في عصرنا الراهن‪ ،‬أن‬
‫تنمو وتتطور بمعزل عن المفاهيم والتيارات‬
‫والتقنيات السائدة في العالم‪ ،‬ول سيما حين يتعلق‬
‫المر بفنون حديثة النشأة‪ ،‬ليست لها جذور عميقة‬
‫في التراث القومي‪ ،‬كما هي حال المسرح عندنا‪..‬‬
‫وهذا من تحصيل الحاصل‪ ،‬وإل فما معنى أن تبعث‬
‫الدولة بطلب يدرسون الفنون في الخارج؟ وما‬
‫معنى أن تستقدم خبراء أجانب لتدريب الكوادر‬
‫الوطنية في هذا المجال الفني أو ذاك؟‬
‫وما معنى أن تصدر عندنا مجلة باسم الثقافة الجنبية؟‬
‫وما معنى أن تقام معاهد المسرح عندنا على غرار نظائرها في‬
‫الدول المتقدمة‪ ،‬وتدرس فيها المواد نفسها تقريبًا؟‪ ..‬إن المر‬
‫كله يبدو في غنى عن المناقشة‪ ،‬ومع ذلك فثمة من يدعونا‬
‫)بكثير من الدعاء والتنطع( إلى إسداء الحجب الضيقة بيننا‬
‫وبين العالم‪ ،‬والكتفاء ببعض الموروثات الشعبية الساذجة‪ ،‬لنه‬
‫ل يستطيع )أو ل يريد( أن يرى الفارق الجوهري بين مفهوم‬
‫التواصل الحضاري مع الخرين وبين مفهوم التبعية لهم‬
‫والذوبان فيهم!‬
‫ثالثا ً ‪ -‬ل خلف في أن كل عمل فني حقيقي ل بد أن‬
‫يعكس بالضرورة بعض ملمح البيئة التي ينتمي إليها‪،‬‬
‫ولكن ما هي هذه الملمح التي يعكسها فن كفن‬
‫المسرح؟ أهي الجوانب الفولكلورية من حياة‬
‫الشعب‪ ،‬كالزياء الشعبية‪ ،‬والطقوس التي تمارس‬
‫في المناسبات المختلفة والهوسات والزغاريد‪،‬‬
‫‪- 70 -‬‬
‫والمثال السائرة‪ ،‬وغير ذلك مما يستأثر باهتمام‬
‫الباحث الثنوغرافي؟ أم هي البنية الجتماعية بما‬
‫ينبثق عنها من قضايا وصراعات وبما يسودها من‬
‫قيم وعلقات وأنماط في التفكير والسلوك؟ إن‬
‫القول بأن المسرح يجب أن يتحول إلى معرض‬
‫للجوانب الفولكلورية من حياة الشعب )وهذا في‬
‫الواقع جوهر دعوة القائلين بمسرح الفرجة( هو‬
‫خلط مضحك بين مهمة المسرح وبين مهام فرق‬
‫الرقص الشعبي التي تتخذ من الفولكلور مادة‬
‫لعمالها الفنية‪ .‬ول شيء يمنع بالطبع من إدخال‬
‫بعض العناصر الفولكلورية في نسيج العمال‬
‫المسرحية إذا كان ذلك معقول ً ومكمل ً لصورة البيئة‪،‬‬
‫ولكن معالجة هذه العناصر يجب أن تتم ضمن حدود‬
‫قوانين الدراما التي أشرنا إليها‪ .‬أما أن يتحول‬
‫الفولكلور في المسرح إلى غاية بحد ذاته‪ ،‬وتصبح‬
‫الكتابة للمسرح عملية ترقيع وربط مفتعل لفقرات‬
‫فولكلورية جمعت من هنا وهناك‪ ،‬فهذا مسخ وتشويه‬
‫لفن المسرح‪ ،‬وهو ارتداد بمسرحنا الوطني عن‬
‫المستوى الذي حققه لنفسه خلل عشرات السنين‪.‬‬
‫لقد زعم أحد دعاة المسرح الحتفالي‪ ،‬في سياق‬
‫موجة من الشتائم والدعاءات البائسة‪ ،‬أدلى بها إلى‬
‫الصحافة)!( منذ فترة وجيزة‪ ،‬أن مناوئيه يحملون أفكارا ً قديمة‬
‫عن فن المسرح! ول ندري –ونحن نتابع المسرح العالمي ونقرأ‬
‫منه ما لم يقرأ‪ -‬من أين يستقي صاحبنا أفكاره الجديدة‪ ،‬ولكن‬
‫حكاية الفكار القديمة هذه ذكرتني بموليير ومسرحيته الشهيرة‬
‫الطبيب رغما عنه ففيها موقف مشابه‪ :‬لقد انحنى الطبيب‬
‫المزعوم على الجهة اليمنى من صدر المريض ليفحص قلبه‪،‬‬
‫وعندما قيل له أن القلب يقع في الجهة اليسرى ل اليمنى‪،‬‬
‫صاح ساخرًا‪ :‬أوه! هذه أفكار قديمة!‪.‬‬
‫تلك‪ ،‬على وجه التقريب‪ ،‬هي حكايتنا مع أصحاب المسرح‬
‫الحتفالي!‪.‬‬

‫ءءءءء ‪1985‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫الملك لير‬
‫المأســاة الــتي تحــولت إلــى‬
‫نكتة!‬

‫هل يحق لمخرج ما أن يقطع أوصال نص شكسبيري‬


‫عظيم‪ ،‬كمأساة الملك لير؟‬
‫ذلك سؤال واحد من أسئلة محيرة كثيرة تتبادر إلى ذهن‬
‫المرء وهو يتابع مسرحية الملك لير‪ ،‬التي قدمت ضمن‬
‫مهرجان بغداد المسرحي الول‪ .‬وهو سؤال ل ينتظر جوابًا‪،‬‬
‫فأعراف المسرح في العالم كله ل تجيز مثل هذا العبث‪ .‬نعم‪،‬‬
‫من حق المخرج‪ ،‬بل ومن واجبه‪ ،‬أن يقدم إلينا شكسبير تقديما ً‬
‫معاصرًا‪ ،‬وأن يكشف عما في أعماله من استبصارات عميقة ل‬
‫يبليها الزمن‪ ،‬ولكن ليس من حقه أن يمد إليها يده بالبتر‬
‫والتشويه‪ ،‬فهذا ضرب من الستهانة بالقيم‪ .‬وهذا بالضبط ما‬
‫فعله مخرج هذه المسرحية السيد صلح القصب‪ ،‬فقد تناول‬
‫مشرطه‪ -‬بجرأة ل يحسد عليها‪ -‬فأطار الفصل الخامس من‬
‫مأساة الملك لير برمته بضربة واحدة‪ ،‬ثم انقض على ما‬
‫تبقى من المسرحية تمزيقا ً وتشويها ً حتى أحال هذا البناء‬
‫الشامخ الباذخ‪ ،‬الذي شغل الباحثين والنقاد قرونا ً متعاقبة‪ ،‬إلى‬
‫حطام متناثر فقد روعته وأضاع محتواه!‪.‬‬
‫وإذا كانت فعلة كهذه تنطوي على قدر كبير من الشذوذ‬
‫والغرابة‪ ،‬فإن ما يفوقها غرابة وشذوذا ً أن يمر ذلك دون أن‬
‫يستنكره أو يعترض عليه أحد من دارسي شكسبير أو المعنيين‬
‫بشؤون المسرح‪ ،‬وكأن ثمة اتفاقا ً ضمنيا ً بين الجميع على أن‬
‫منصة المسرح هي منطلق حر للنزوات التي ل تحفل بالمنطق‬
‫والعبث الجامح الذي يتذرع بأصالة مزعومة!‪.‬‬
‫هل من ضرورة للحديث عن مكانة لير في التراث‬
‫المسرحي العالمي؟ لقد وصفت هذه المسرحية بأنها الرائعة‬
‫التي تفوق فيها شكسبير على نفسه وتسنم بها ذروة لم يبلغها‬
‫أحد قبله أو بعده‪ ،‬ولكن المخرج الذي نحن بصدده ل يبدو‬
‫مقتنعا ً بأن شكسبير يجيد الكتابة للمسرح‪ ،‬ولهذا قرر أن يعيد‬
‫كتابة لير بطريقته الخاصة! ولندع المخرج نفسه يشرح لنا هذه‬
‫الطريقة‪ ،‬فقد كتب في العدد الثاني من جريدة مهرجان‬
‫بغداد المسرحي ما نصه‪ :‬ألغيت الحوار والصوت‬
‫وعوضت عنها )كذا( بالصورة‪ .‬فالفصل الخامس‬
‫‪- 72 -‬‬
‫ألغيته تماما ً كحوار وكلمات‪ ،‬مستخدما ً الصورة بكل‬
‫مفرداتها‪.‬‬
‫وبوسعنا أن نستلخص من ذلك أمرين‪ :‬أولهما أن الرجل –‬
‫أعني المخرج‪ -‬وجد الحوار الذي كتبه شكسبير لغوا ً ل طائل‬
‫تحته فألغاه‪ .‬وإذا كان وولتر رولي وصاميويل كولردج ووليم‬
‫هازلت وتشارلز لم واي‪ .‬س‪ .‬برادلي ويان كوت وأعداد ل‬
‫تحصى من كبار النقاد الخرين قد قالوا بخلف ذلك فليذهبوا‬
‫جميعا ً إلى الجحيم!‪.‬‬
‫أما المر الخر الذي اكتشفه المخرج فهو أن حبكة الملك‬
‫لير فضفاضة مهلهلة وأن الفصل الخامس بأكمله يمكن‬
‫اختصاره بصورة صامتة تقدم على المسرح‪ ،‬وهكذا فعل!‪.‬‬
‫والواقع أن المخرج حذف أشياء عديدة أخرى عدا الفصل‬
‫الخامس )وكان مضمون المسرحية نفسه من جملة ما حذف(‪،‬‬
‫ولكننا سنعود إلى هذا الحديث بعد قليل‪ ،‬أما الن فلنتوقف‬
‫قليل ً عند الفصل الخامس المحذوف‪.‬‬
‫من دواعي الستغراب حقا ً أن يعجز مخرج متعلم عن‬
‫النتباه إلى الفوارق البنيوية بين تراجيديا شكسبيرية ومعلقة‬
‫جاهلية‪ .‬ولكن هذا بالضبط ما وقع فيه مخرج لير‪ ،‬فقد توهم أن‬
‫بين يديه معلقة جاهلية يستطيع أن يصطفي من بين أبياتها ما‬
‫يعجبه ويترك الباقي‪ ،‬ولم يفطن إلى أنه إزاء بنيان متراص‬
‫متقن‪ ،‬ل يمكن أن تنتزع منه إحدى ركائزه دون أن يتصدع‬
‫وينهار‪ .‬والواقع أن حذف الفصل الخامس من مأساة الملك‬
‫لير قد جعلها أشبه بجسد فصل عنه رأسه‪ ،‬ولم يعد للفصول‬
‫الربعة المتقدمة من وظيفة مفهومة‪ ،‬لن وظيفتها في الساس‬
‫هي التمهيد للحداث الحاسمة التي تضمنها الفصل الخامس‪.‬‬
‫ول أريد أن أقدم هنا تلخيصا ً وافيا ً لهذه الحداث التي حذفها‬
‫المخرج‪ ،‬وإنما يكفي أن أقول إن الصراعات الضارية التي‬
‫تابعناها في الفصول الربعة الولى تبلغ ذروتها المأساوية في‬
‫الفصل الخير وتنتهي بموت الجميع‪ ،‬الشريرين منهم والخيار‬
‫على السواء‪ ،‬فغونريل‪ ،‬ابنة لير الكبرى‪ ،‬تدس السم لشقيقتها‬
‫ريغن ثم تموت بدورها منتحرة‪ ،‬وأدموند‪ ،‬البن غير الشرعي‬
‫لغلوستر‪ ،‬يخر صريعا ً في المعركة أمام أخيه إدغار‪ .‬وكورديليا‬
‫التي جاءت بجيشها لتنقذ أباها المشرد وتسترد له عرشه‬
‫تخسر المعركة أمام شقيقتيها الغادرتين وتقع أسيرة في يد‬
‫أدموند الذي يوعز بشنقها في السجن‪.‬‬
‫وأخيرا ً يموت الملك لير نفسه بعد أن طال عذابه بسبب‬
‫غلطته التراجيدية الفادحة‪ ،‬المتمثلة في طبعه العنيف المتهور‬
‫واغتراره بالملق الكاذب وعجزه عن استشفاف دخائل أقرب‬
‫الناس إليه‪.‬‬
‫هكذا يتم دولب المقادير دورته الكاملة –كما يقول‬
‫أدموند في لحظات احتضاره‪ -‬وينتهي كل شيء بالدمار‬
‫الشامل‪ .‬لقد دفع لير وغلوستر ثمن حماقتهما وافتقارهما إلى‬
‫الحكمة والتروي‪ ،‬ودفعت كورديليا ثمن تعنتها وكبريائها‪ ،‬أما‬
‫رموز الشر الثلثة‪ ،‬أدموند وغونريل وريغن‪ ،‬فقد ماتوا جميعا ً‬
‫ميتة شائنة لن النوايا الشريرة يفترس بعضها بعضًا‪ ،‬ولن‬
‫النسان كما يقول شكسبير على لسان الملك لير ليس سوى‬
‫دودة أمام نواميس الطبيعة الجبارة‪ ،‬التي صورها شكسبير بكل‬
‫قسوتها وجبروتها في الفصل الثالث من المسرحية‪.‬‬
‫هذه –بمنتهى اليجاز‪ -‬هي مادة الفصل الخامس‬
‫المحذوف‪ ،‬وبدونها تبقى قصة الملك لير مبتورة عديمة‬
‫المعنى‪ ،‬وتطمس الفكار الشمولية التي رمى إليها الشاعر‬

‫‪- 73 -‬‬
‫العظيم‪ .‬والمسألة‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬ليست مسألة قصة ألم المشاهد‬
‫بمعظم فصولها وبات من حقه أن يعرف نهايتها وحسب‪ ،‬وإنما‬
‫هي كذلك مسألة الثر السايكولوجي الذي يفترض في‬
‫المسرح –والفن عمومًا‪ -‬أن يحدثه في جمهوره‪ .‬وليس في‬
‫نيتي هنا أن أتطرق إلى فكرة التطهير الرسطو طاليسية‬
‫)لن أرسطو طاليس أصبح عتيقًا‪ ،‬كما صرح أحد جهابذة‬
‫المسرح عندنا منذ فترة وجيزة(‪ ،‬ولكنني أود أن أشير‪ ،‬بمنتهى‬
‫البساطة‪ ،‬إلى أن هزيمة الشر‪ ،‬ممثل ً في أدموند وغونريل‬
‫وريغن‪ ،‬هو درس أخلقي بمقدار ما هو عامل انفراج نفسي‬
‫عند المشاهد‪ .‬وهذا سبب آخر للعتراض على حذف الفصل‬
‫الخامس من المسرحية‪.‬‬
‫ولنعد الن –وقد أحطنا ببعض ما تضمنه الفصل المحذوف‬
‫من لير‪ -‬لنرى كيف عوض عنه المخرج بالصورة الصامتة‪.‬‬
‫إن هذه الصورة‪ ،‬التي يتحدث عنها المخرج بزهو واضح‪،‬‬
‫تتلخص في أنه وضع كورديليا على منصة صغيرة في مؤخرة‬
‫المسرح وجعل لير يتقدم نحوها وسط المواج‪ ،‬ولكنه ل يفلح‬
‫في الوصول إليها! وغني عن الذكر أن هذه الصورة‬
‫)المتواضعة على المستوى التقني( ل تتضمن شيئا ً على‬
‫الطلق من الوقائع والمعاني التي أشرنا إليها‪ .‬ولكن أسوأ ما‬
‫في المر أن هذه الصورة بنيت‪ ،‬أساسًا‪ ،‬على قصور في الفهم‪،‬‬
‫أو على فهم مقلوب –إذا شئنا الدقة في التعبير‪ .‬ولو عاد‬
‫المخرج إلى المشهدين الثالث والسادس من الفصل الرابع‬
‫وقرأهما بشيء من العناية لكتشف أن لير لم يجاهد قط من‬
‫أجل الوصول إلى كورديليا‪ ،‬بل كان –على عكس ذلك تمامًا‪-‬‬
‫يتهرب منها ويرفض النصياع لرؤيتها على حد تعبير "كنت" في‬
‫الفصل المذكور لنه كان خجل ً مما ارتكبه في حقها من قسوة‬
‫وظلم‪ .‬و بالمقابل‪ ،‬كانت كورديليا هي التي عبرت البحر لتنقذ‬
‫أباها من محنته‪،‬وهي التي دفعت حياتها ثمنا ً لهذه المحاولة‬
‫النبيلة‪ .‬ولو كان المخرج قد فهم النص الذي تصدى لخراجه‬
‫)وهذا في ظننا المتواضع أحد شروط الخراج( لجعل كورديليا‬
‫هي التي تصارع المواج لنقاذ لير الغارق‪ ،‬وهي التي تغرق بعد‬
‫أن فشلت في إنقاذه‪.‬‬
‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن من مقتضيات النصاف أن‬
‫نعترف بأن الجمهور الذي حضر مسرحية الملك لير‪ ،‬سواء‬
‫عند عرضها في أكاديمية الفنون الجميلة أو على مسرح‬
‫الرشيد‪ ،‬لم يفطن إلى أن الفصل الخامس من المسرحية قد‬
‫حذف‪ .‬لنه في الواقع لم يفهم شيئا ً من الفصول الربعة‬
‫الولى‪ .‬ول يستثنى من ذلك أولئك الذين قرأوا المسرحية‬
‫بنصها النجليزي أو ترجمتها العربية‪ .‬والسبب في غاية‬
‫الوضوح‪ .‬فالمخرج لم يكن ينوي أن يقدم لير إلى الناس كما‬
‫كتبها مؤلفها‪ ،‬بل كانت له طموحات أخرى‪ ،‬أوجزها في حديثه‬
‫المنشور في جريدة المهرجان بقوله‪:‬‬
‫"إن الذهاب إلى الصورة الخراجية يقتضي‬
‫القلع من مطار الزمن إلى سماء الفلسفة‪ ،‬وهذا‬
‫بدوره يستوجب استقراء الروح!"‬
‫وقد تمثلت سماء الفلسفة هنا في بضعة توابيت صفها‬
‫المخرج على المسرح وفي كفن كبير من الخام البيض غطى‬
‫به الجزء الكبر من منصة العرض وأجبر ممثليه‪ ،‬معظم الوقت‪،‬‬
‫على أن يلتفوا به ويزحفوا تحته‪ ،‬هذا إذا لم يجبرهم على‬
‫الوقوف كالمومياءات الفرعونية داخل التوابيت! ولعل أطرف‬
‫ما رأيناه خلل هذا العرض العجيب أن أحد الممثلين استلقى‬
‫تحت الكفن ورفع ساقيه إلى أعلى‪ ،‬ولبث كذلك فترة من‬
‫الوقت حتى أخذتنا به الشفقة وخشينا عليه من الختناق‪ .‬ول‬
‫‪- 74 -‬‬
‫أظن أحدا ً من المتفرجين فهم ما رمى إليه المخرج )فالقلع‬
‫من مطار الزمن إلى سماء الفلسفة ليس أمرا ً هينا ً على أي‬
‫حال!( ولكننا شغلنا بهذه اللعيب عن شكسبير وشعره وعن‬
‫لير ومأساته‪ ،‬ولم نخرج إل بنتيجة واحدة‪ ،‬هي أن المخرج كان‬
‫سخيا ً جدا ً في ما قدم إلينا من قماش على المسرح وكان‬
‫ن للمرء‬‫فقيرا ً جدا ً في ما قدم من فن وفكر وموهبة! وإذا ع ّ‬
‫أن يتساءل عن سماء الفلسفة التي حلق إليها المخرج‬
‫فسيجد أن جناحه الهزيل لم يحلق به بعيدًا‪ ،‬فليست التوابيت‬
‫ول أكداس الخام البيض التي زحم بها منصة المسرح سوى‬
‫رموز للموت المخيم على شخصيات المسرحية…‬
‫ولكن أي جديد في هذا؟ أليس الموت مصير البطال‬
‫التراجيديين في معظم الحوال؟ أل يخيم الموت على هاملت‬
‫وماكبث‪ ،‬وأوفيليا وديدمونة‪ ،‬وبروتوس وكوريولنوس‪ ،‬مثلما‬
‫يخيم على كورديليا ولير وغلوستر؟ أن اكتشافا ً كهذا ل يتطلب‬
‫ل ما يتطلبه في‬ ‫القلع من مطار الزمن أو أي مطار آخر‪ ،‬بل ك ّ‬
‫الواقع هو اللمام الولي بمفهوم التراجيديا‪.‬‬
‫هذا على الصعيد الفلسفي‪ ،‬أما على الصعيد التقني –‬
‫المسرحي‪ ،‬فقد كانت لهذا الكتشاف عواقبه الوخيمة‪ ،‬لن‬
‫المخرج الذي اكتشف )في لحظة إلهام‪ ،‬دون شك!( أن أبطال‬
‫مسرحيته يخيم عليهم الموت‪ ،‬مل وسط المسرح بالكفان‬
‫والتوابيت ولم يدع لممثليه فسحة يؤدون عليها أدوارهم‪ .‬وأكثر‬
‫من ذلك أنه تعامل مع الممثلين وكأنهم قطع ديكور يوزعها‬
‫على خشبة المسرح ليصنع منها ما يتوهم أنه صورة مسرحية‪،‬‬
‫وهكذا ضاعت منه فرصة الفادة من الممثلين الموهوبين الذين‬
‫عملوا معه‪.‬‬
‫وإذا فتشنا عن سر هذا التخبط كله فسنجد أمامنا أمرين‪:‬‬
‫أولهما اعتقاد المخرج بأنه يستطيع النسياق مع نزوات خياله‬
‫دون حدود أو ضوابط‪ ،‬وثانيهما طموحه إلى تأسيس مدرسة‬
‫جديدة في الخراج المسرحي تحمل اسم مسرح الصورة‪.‬‬
‫وسنتريث قليل ً عند كل من هاتين النقطتين‪.‬‬
‫من تحصيل الحاصل أن الخيال إحدى الملكات الساسية‬
‫التي تسهم في إبداع العمال الفنية‪ ،‬والمخرج المسرحي –‬
‫كغيره من الفنانين‪ -‬يحتاج إلى الخيال لتحويل النص الدرامي‬
‫إلى حياة ملموسة نابضة على خشبة المسرح‪ .‬ولكن ثمة فرقا ً‬
‫نوعيا ً بين الخيال البداعي والخيال الباثولوجي‪ ،‬أو ما أصطلح‬
‫على تسميته بالهلوسة‪.‬‬
‫ففي الحالة الولى يكتشف الذهن المبدع‪ ،‬في لحظة من‬
‫لحظات التجلي‪ ،‬وجها ً أو أوجها ً عديدة للعلقة بين أشياء تبدو‬
‫للوهلة الولى بعيدة بعضها عن البعض الخر‪ .‬وهنا‪ ،‬بالدرجة‬
‫الولى‪ ،‬تكمن المفاجآت التي تصادفنا في الشعر العظيم‪.‬‬
‫ومأساة الملك لير حافلة بهذا النوع من الخيلة المذهلة‪،‬‬
‫التي يستطيع القارئ المعني أن يجدها في كل صفحة من‬
‫صفحات المسرحية‪ .‬أما النوع الخر من الخيال )الذي وصفناه‬
‫بالخيال الباثولوجي( فقوامه الرابط العشوائي بين ظواهر‬
‫وصور متنافرة ل تجمعها أية علقة سيميولوجية‪ ،‬أي ل تجمعها‬
‫علقة يمكن للذهن السوي أن يقبلها على وجه من الوجوه‪.‬‬
‫وينتمي خيال المخرج الذي نحن بصدده إلى هذا النوع‬
‫الخير‪ ،‬فهو خيال مضطرب‪ ،‬قائم على ربط العناصر والظواهر‬
‫المختلفة ببعضها ربطا ً عشوائيًا‪ ،‬اعتباطيًا‪ ،‬ل يخضع لي نظام‬
‫سيميولوجي قابل للدراك‪ .‬وتتجلى هذه السمة الباثولوجية‪ ،‬ل‬
‫في عمله على منصة المسرح وحسب‪ ،‬بل حتى في كتابته‪،‬‬
‫ولنعد إلى بعض ما كتبه في العدد الثاني من جريدة المهرجان‬
‫‪- 75 -‬‬
‫حول معنى الصورة في لير‪:‬‬
‫البهلول يعزف على آلة الكونترباس‪ ،‬لقد شاخ وهرم‪ .‬هنا‬
‫أضيف زمن آخر للبهلول… البهلول تورمت ساقه وقطعت‪،‬‬
‫ونمت ساق أخرى‪ ،‬يموت ويبعث حيًا‪ ،‬يهرم ويعود فتيًا‪ .‬الزمن‬
‫عنده مضاف ومسترجع… البهلول انتحر مرتين أي عاش تجربة‬
‫الموت مرتين وعرف أسرار العالم الخر… الخ!‬
‫إن هذه العينة الطريفة تعطينا فكرة عن طبيعة عمل‬
‫المخيلة عند مخرج الملك لير‪ .‬فبدل ً من أن يستخدم خياله‬
‫لستكمال صورة البهلول‪ ،‬كما رسمها شكسبير في مسرحيته‪،‬‬
‫والكشف عن أبعادها النسانية ودللتها الفكرية‪ ،‬راح يحدثنا عن‬
‫كائن خرافي ل علقة له بالنص الشكسبيري‪ ..‬كائن مات مرتين‬
‫وبعث مرتين‪ ،‬وقطعت ساقه ونمت لـه ساق أخرى‪ ،‬وعرف‬
‫أسرار العالم الخر‪ ..‬إلى آخر هذه التهويمات التي ليس لها‬
‫معنى في حد ذاتها‪ ،‬وليست لها علقة‪ ،‬من قريب أو بعيد‪،‬‬
‫بالدراما الشكسبيرية التي تقوم على بناء واقعي سايكولوجي‬
‫عميق للشخصيات والعلقات النسانية‪.‬‬
‫لقد استأثرت شخصية البهلول باهتمام كبير من دارسي‬
‫مأساة الملك لير‪ ،‬ومن بواعث هذا الهتمام أنها شخصية‬
‫ليس لها ما يماثلها في التراجيديات الشكسبيرية الخرى‪ .‬وقد‬
‫ذهب وولتر رولي‪ ،‬وهو من أبرز دارسي شكسبير‪ ،‬إلى أن‬
‫الشاعر العظيم زج بهذه الشخصية الكوميدية في مأساة‬
‫الملك لير انصياعا ً لرغبات جمهوره‪ ،‬بينما ذهب آخرون إلى‬
‫أن وظيفة البهلول‬
‫الساسية كانت التخفيف من وطأة المأساة على المشاهدين‪،‬‬
‫وهذه حيلة كان يلجأ إليها شكسبير أحيانًا‪ ،‬مدفوعا ً بحسه‬
‫الدرامي الدقيق‪ .‬ونستطيع أن نمضي إلى أبعد من ذلك‬
‫فنفترض أن شكسبير وضع البهلول إلى جانب لير ليرينا صواب‬
‫المثل الشعبي القائل خذوا الحكمة من أفواه المجانين وليقنعنا‬
‫بأن الحاكم المغتر بسلطته وجبروته قد يعجز عن رؤية ما يراه‬
‫حتى الحمقى والبهاليل من أتباعه‪ ،‬فالبهلول يدرك منذ البداية‬
‫ما عجز لير عن إدراكه‪ ،‬وهو أن المرء ل يستطيع أن يتخلى عن‬
‫السلطة الفعلية وأن يحتفظ بكل امتيازاتها في آن واحد‪ .‬وأيا ً‬
‫كان المر‪ ،‬فإن البهلول في مأساة الملك لير ما هو إل‬
‫شخصية كوميدية‪ .‬إنه المهرج الذي تنحصر مهمته في إضحاك‬
‫الملك والترويح عنه‪ .‬وقد كان من عادة الملوك على أيام‬
‫شكسبير أن يتخذوا لنفسهم مهرجين يسلونهم بألعيبهم‬
‫ونكاتهم‪.‬‬
‫وبهلول لير يجمع بين الذكاء والوفاء لولي نعمته‪ ،‬فهو يعي‬
‫ما يجري أمامه ويدرك الحماقة التي ارتكبها سيده عندما وضع‬
‫نفسه تحت رحمة ابنتيه الجاحدتين‪ .‬وهو يأسى لما آلت إليه‬
‫حال الملك الشيخ‪ ،‬ول يتوانى عن تقريعه برفق لما فعله‬
‫بنفسه‪ ،‬ولكنه ل يملك سوى أن يمضي في دوره كمهرج غايته‬
‫الترفيه عن الملك وإضحاكه‪ .‬وحتى عندما تحل النكبات‬
‫بالملك لير ويجد نفسه شريدا ً في ليلة ثلجية عاصفة‪ ،‬فإن‬
‫البهلول يواصل تهريجه وغناءه ليخفف من عذاب الملك‬
‫التعس‪ ،‬وإن كانت تعليقاته ونكاته تشف عن حزن دفين‪.‬‬
‫وباختصار‪ ،‬فإن البهلول ليس حكيما ً هنديا ً ول عرافا ً إفريقيًا‪-‬‬
‫كما بدا لمخرجنا اللوذعي‪ -‬وإنما هو مهرج ذكي القلب‪ ،‬يمارس‬
‫دوره في ظروف مأساوية‪ ،‬ويقول النكتة بينما قلبه يقطر دمًا‪.‬‬
‫ولو فطن المخرج إلى ذلك لما أناط الدور بممثل زنجي‬
‫الملمح‪ ،‬ذي وجه يطفح بالكآبة‪ ،‬وجعله يؤدي كلمات دوره‬
‫بنبرات بطيئة متفجعة –خلفا ً لما يتطلبه الدور من خفة وحيوية‬
‫ومرح مصطنع‪ .‬ولو أن سوء فهم المخرج وقف عند هذا الحد‬
‫‪- 76 -‬‬
‫لهان الخطب‪ ،‬ولكن خياله الخصب أوحى إليه أن يضيف إلى‬
‫هذا البهلول الزنجي الثقيل الظل ساقا ً خشبية طويلة احتلت‬
‫جانبا ً ل يستهان به من مقدمة المسرح‪ ،‬فكانت أشبه بنكتة‬
‫غليظة نابية في جو يفترض أنه مأساوي‪.‬‬
‫ويبلغ تطرف المخيلة عند المخرج أقصاه في مشهد‬
‫العاصفة الشهير في الفصل الثالث من مأساة الملك لير‪.‬‬
‫وأذكر أن مشهد العاصفة‪ -‬عندما حضرت المسرحية في‬
‫أكاديمية الفنون الجميلة‪ ،‬بدعوة من المخرج‪ -‬كان مصحوبا ً‬
‫بعزف رقيق على الكمان‪ ،‬أما في مسرح الرشيد‪ ،‬فقد حل‬
‫الكونتراباس محل الكمان‪ .‬وفي كلتا الحالتين بدا لي المر‬
‫شاذا ً وغير مفهوم‪ ،‬فالطبيعة في الملك لير ذات معان تتصل‬
‫بالجبروت والقسوة والعنف‪ .‬وسواء فهمنا الطبيعة في هذه‬
‫المسرحية بوصفها النوازع والطماع النسانية الكاسرة التي‬
‫تسوق النسان إلى الغدر والعنف –كما في حال أدموند‬
‫وغونريل وريغن‪ -‬أو فهمناها بوصفها النواميس القاسية التي‬
‫تحكم حياة البشر وتقرر مصائرهم‪ ،‬أو أخذناها بهذين المعنيين‬
‫كليهما‪ ،‬فإن آلة الكمان أو الكونتراباس هي آخر ما يصلح‬
‫للتعبير عن هذه المعاني وخلق النطباع المراد خلقه عند‬
‫المشاهد‪ .‬واختيار إحدى هاتين الليتين لمصاحبة هذا المشهد –‬
‫الذي يفترض أن تبدو فيه الطبيعة في أوج عنفها وجبروتها‪-‬ل‬
‫يعني سوى أن المخرج عاجز تماما ً عن المساك بدللت النص‪،‬‬
‫أو أنه مسوق‪ -‬بحافز شعوري أو ل شعوري‪ -‬إلى مخالفة ما هو‬
‫منطقي وطبيعي ومألوف‪.‬‬
‫ولنقف أخيرا ً وقفة سريعة عند ما يسميه المخرج بمسرح‬
‫الصورة‪ ،‬وسنجد بقليل من التأمل أن هذه التسمية خالية من‬
‫المعنى في الواقع‪ ،‬فالمسرح في كل أحواله‪ ،‬وعبر تاريخه‬
‫الطويل‪ ،‬ل يعدو أن يكون صورة مرئية –مسموعة‪ ،‬وحين ندعو‬
‫إلى مسرح قوامه الصورة فإن ذلك ل يختلف كثيرًا‪ ،‬في الواقع‪،‬‬
‫ل! ولكن الصورة في‬ ‫عن دعوتنا إلى شعر قوامه الكلمات مث ً‬
‫المسرح هي غير اللوحة التشكيلية بالطبع‪ .‬فالولى –أي‬
‫الصورة المسرحية‪ -‬دينامية‪ ،‬متغيرة باستمرار‪ ،‬بينما الخيرة‬
‫ستاتيكية ثابتة‪ .‬الولى تمتد في الزمان والمكان‪ ،‬بينما ليس‬
‫للخيرة سوى امتدادها في المكان‪ .‬الولى عمل فني يصنع‬
‫أمام أنظارنا مباشرة‪ ،‬وينمو ويتكامل بالتدريج خلل فترة زمنية‬
‫محددة‪ ،‬بينما الخيرة عمل جاهز مكتمل يطرح نفسه أمامنا‬
‫دفعة واحدة‪ .‬وهذه الفوارق العميقة بين طبيعة الصورة في‬
‫المسرح وطبيعتها في الفن التشكيلي هي‪ ،‬بالضبط‪ ،‬ما لم‬
‫يفطن إليه مخرج الملك لير‪ .‬فقد توهم هذا المخرج أنه‬
‫يستطيع أن يمارس دور الرسام أو النحات على المسرح‪ ،‬ناسيا ً‬
‫أن لكل فن خصوصيته وتقنياته ووسائله التعبيرية المختلفة‪.‬‬
‫وكانت النتيجة أننا لم نر الفعل الدرامي في ترابطه وانسيابه‬
‫المألوفين‪ ،‬بل رأينا الممثلين وهم ينقلون من وضع إلى آخر‪،‬‬
‫بميكانيكية ظاهرة‪ ،‬ليؤلفوا الصورة التي رسمها لهم المخرج‪.‬‬
‫وهكذا ضاع منا المسرح ولم نكسب بالمقابل أي إنجاز‬
‫تشكيلي ذي شأن‪ .‬والواقع أن المخرج ل يتمتع بقدرات‬
‫ملحوظة‬
‫حتى على المستوى التشكيلي المحض‪ .‬فوسائله ل تعدو بضعة‬
‫توابيت‬
‫وقطعة كبيرة من القماش البيض‪ ،‬إضافة إلى بعض الطارات‬
‫المعدنية‬
‫التي لم نفهم لها وظيفة أو معنى‪ .‬وليته كان ممن يعرفون‬
‫استخدام‬
‫النارة المتطورة والتقنيات المعاصرة في المسرح‪ ،‬إذن‬
‫لستطاع على القل أن يعوضنا على صعيد الصورة عما فقدناه‬
‫‪- 77 -‬‬
‫على صعيد الدراما والشعر والفكر‪.‬‬
‫وبعد فقد أطلت ولم يكن في نيتي ذلك‪ .‬فالعمل نفسه‬
‫ليس جديرا ً بأن يقف عنده المرء هذه الوقفة الطويلة‪ ،‬بل هو‬
‫غير جدير بالهتمام على الطلق لول أنه دخل‪ ،‬على نحو ما‪،‬‬
‫ضمن العمال التي مثلت العراق في مهرجان بغداد المسرحي‬
‫الول‪ .‬ولكن ما يضطرني إلى الطالة هو القلق على مصير‬
‫المسرح العراقي‪ ،‬الذي طال تخبطه وكثرت إخفاقاته في‬
‫العوام الخيرة‪ ،‬لنه مسرح ل يحفل بالمقاييس السليمة‪ ،‬ولنه‬
‫مسرح يفتقر إلى الثقافة المسرحية الرصينة مثلما يفتقر إلى‬
‫الناقد المثقف النزيه‪ ،‬الذي يقف ليصرخ بأعلى صوته‪ :‬رويدكم!‬
‫ما هكذا يكون المسرح‪ ،‬وليس هذا هو النموذج المشرف الذي‬
‫يفترض في الفنان العراقي‪ ،‬ذي التراث العريق‪ ،‬أن يقدمه إلى‬
‫العالم!‬

‫ءءءءء ‪1985‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫هل كان‬
‫للسومريين مسرح؟‬

‫ل أدري ما الذي يجعل بعض مثقفينا يعتقدون أن اقتباسنا‬


‫فن المسرح عن الغريق‪ ،‬شأن غيرنا من المم‪ ،‬خطيئة ينبغي‬
‫علينا اجتنابها‪ ،‬وأن علينا بالتالي أن نبتكر لنفسنا مسرحا ً ل‬
‫علقة له بالمسرح الذي يعرفه الناس في كل أرجاء الدنيا أو‬
‫البحث عن ماضينا البعيد أو القريب لعلنا واجدون فيه شكل ً من‬
‫أشكال المسرح نستغني به عن هذا المسرح الدخيل الذي‬
‫جاءنا من الخارج!‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إنها عقدة ل أجد لها تفسيرا مفهوما‪ ،‬وهي عقدة تخص‬
‫المسرح دون غيره من الفنون! لقد أخذنا فن الرواية‬
‫والقصوصة عن الغربيين ولم نجد في ذلك أي بأس‪ .‬وتعلمنا‬
‫منهم تقنية الرسم باللوان الزيتية والمائية ونقلنا عنهم مناهج‬
‫الرسم الحديث وأساليبه من النطباعية الفرنسية حتى أحدث‬
‫نزعات الحداثة ونزواتها‪ ،‬ولم يعترض على ذلك أحد! بل بدأنا‬
‫نحاكيهم في كتابة الشعر‪ ،‬رغم كل تراثنا الشعري الحافل‪،‬‬
‫وبرز عندنا شعراء مزعومون يكتبون ما اصطلح على تسميته‬
‫بالشعر المنثور أو بقصيدة النثر‪ ،‬على طريقة عزرا باوند وسان‬
‫ففا ً من عناء التزام‬ ‫جون برس وغيرهما‪ ،‬إيثارا ً للسهولة وتخ ّ‬
‫الوزن والقافية‪ ،‬بل وربما عجزا عن التمييز بين الموزون‬
‫والمنثور‪ ،‬ولم يجد هؤلء من يلومهم‪ ،‬بل وجدوا نقادا ً يصفقون‬
‫لهم ويصنفونهم في عداد المجددين والرواد!‬
‫كل ذلك بدا ومايزال يبدو ـ في نظر البعض ـ جائزا ً ومقبول ً‬
‫ول ضير فيه‪ ،‬وكله في نظر هذا البعض من عناوين الحداثة‬
‫ومظاهر مواكبة العصر‪ ،‬إل المسرح فهو الفن الوحيد الذي ل‬
‫يجوز أن نتعلمه من الخرين‪ ،‬بل ينبغي أن نخترعه بأي ثمن‪ ،‬أو‬
‫أن نبحث عنه في قبو أمتعتنا القديمة لعلنا نجد له أثرًا!‬
‫لماذا؟ ل أحد يدري بالتحديد‪ ،‬ولكن بحثا ً محموما ً يجري منذ‬
‫سنوات طويلة للعثور على مسرح عربي‪ ،‬ل يمت بصلة قربى‬
‫ولو من بعيد إلى المسرح الرسطو طاليسي السائد في العالم‬
‫كله‪ ،‬وفي سياق هذا البحث )الذي يتسم بغيرة حميدة على‬
‫الصالة القومية(‪ ،‬تبرز بين حين وآخر دعوات وأفكار ل تخلو‬
‫من طرافة‪ .‬فقد دعا كاتب عربي ذات مرة إلى استيلد مسرح‬
‫عربي أصيل من رقصة السماح وصندوق الدنيا‪ ،‬ورقص‬
‫الدراويش! وظهرت في المغرب مدرسة فنية تقول بأن‬
‫العراس والموالد وتجمعات الناس في السواق كلها أشكال‬
‫‪- 79 -‬‬
‫مسرحية يمكن اتخاذها مادة لخلق المسرح العربي المنشود!‬
‫وسادت عندنا لفترة من الزمن بدعة سيئة دعيت بالمسرح‬
‫الحتفالي أو مسرح الفرجة‪ ،‬ولم تعدم هذه البدعة من‬
‫يتبناها ويروج لها في الصحافة والوساط المسرحية بوصفها فنا ً‬
‫ذا سمات قومية أصيلة‪ ،‬ولكنها سرعان ما انكمشت وذابت‬
‫كأي فقاعة فارغة؟‬
‫وقد شاء أحد الساتذة الفضلء من دارسي الثار البابلية‬
‫والسومرية عندنا‪ ،‬هو الدكتور فوزي رشيد‪ ،‬أن يحسم هذه‬
‫المشكلة المستعصية بطريقة توفر على الباحثين مشقة بحثهم‬
‫المضني عن مسرح ذي هوية قومية‪ ،‬فخرج علينا بنظرية‬
‫طريفة شرحها في حديث نشرته مجلة الحوادث في أحد‬
‫أعدادها الخيرة‪ ،‬وخلصة هذه النظرية الجديدة أن الغريق‬
‫اقتبسوا مسرحهم عن السومريين والبابليين وأن‬
‫اسخيلوس‪ ،‬أبا التراجيديا اليونانية‪ ،‬قد تأثر بمسرحية عراقية‬
‫قديمة عن نزول اللهة إينانا إلى العالم السفلي‪ .‬ول يذكر لنا‬
‫الستاذ الفاضل أين عثر على مخطوطة هذه المسرحية التي‬
‫لم يسمع بها أحد‪ ،‬ولكنه يؤكد لنا أنها متطابقة من حيث‬
‫السس مع أقدم مسرحية يونانية لسخيلوس مائة‬
‫بالمائة!‪..‬‬
‫وغني عن القول أن من دواعي الزهو والغبطة أن نكتشف‬
‫أن فن المسرح ولد في بابل‪ ،‬ل في أثينا كما زعم الزاعمون‪،‬‬
‫وأن اسخيلوس لم يكن أكثر من تلميذ تعلم فن المسرح‬
‫على أيدي أسلفنا السومريين والبابليين‪ ،‬ولكن المشكلة أن‬
‫الستاذ الباحث ل يقيم أي دليل على أطروحته الغريبة هذه‪ ،‬ول‬
‫يبدي من التحفظ والشعور بمسؤولية الكلمة مايفترض في‬
‫رجل العلم أن يبديه‪ ،‬بل يطلق آراءه دون تثبت في شؤون ل‬
‫يبدو أنه أحاط بها إحاطة كافية‪ ،‬ول أدل على ذلك كله‪ ،‬من أنه‬
‫يجري مقارنة بين مسرحية بابلية ل وجود لها أصل ً وأخرى‬
‫يونانية لم يكلف نفسه عناء قراءتها‪ ،‬فلوكان قرأ الوريستيه‬
‫التي أشار إليها في حديثه أكثر من مرة لدرك أنها ليست‬
‫مسرحية واحدة‪ ،‬بل ثلث مسرحيات منفصلة يجمعها موضوع‬
‫عام واحد‪ ،‬وهي‪ :‬أغاممنون‪ ،‬وحاملت القرابين‪ ،‬وربات‬
‫النتقام‪ .‬ولو كان ألم بالمسرح التراجيدي الغريقي‪ ،‬ولو أيسر‬
‫اللمام‪ ،‬لعرف أن ثلثية الوريستية ليست أقدم ما كتبه‬
‫اسخيلوس‪ ،‬بل هي ـ بالتحديد ـ آخر ما وصل إلينا من أعماله‪،‬‬
‫فقد فرغ من كتابتها في عام ‪ 458‬قبل الميلد‪ ،‬أي قبيل وفاته‬
‫بعامين‪ ،‬بينما يعود أقدم أعماله التي بين أيدينا وهي مسرحية‬
‫الضارعات‪ ،‬إلى عام ‪ 490‬قبل الميلد‪.‬‬
‫ولو كان الستاذ الباحث قرأ الوريستية لما قال‪:‬‬
‫"وكذلك في المسرحية اليونانية تقوم اليكترا… بتحدي إرادة‬
‫الله جوبيتر إله الموت والدمار ول تخضع إطلقا ً لرادته"‪،‬‬
‫فالله جوبيتر ل يرد ذكره في الوريستية ول في غيرها من‬
‫أعمال المسرح الغريقي لسبب بسيط جدًا‪ ،‬هو أن "جوبتير"‬
‫تسمية لتينية ل وجود لها عند الغريق‪ ،‬وهي تقابل عندهم‬
‫تسمية الله "زفس"‪ .‬وزفس الغريقي ـ أو جوبيتر اللتيني ـ‬
‫ليس إله الموت والدمار ـ كما زعم صاحبنا الباحث ـ بل هو‬
‫كبير آلهة الولمب وإله الرعد والمطر‪ ،‬وهو الله الذي انتزع‬
‫السلطة من أبيه "كرونوس" وأحل سلطة آلهة الولمب محل‬
‫سلطة آلهة الرض ـ كما تقول الساطير اليونانية القديمة‪.‬‬
‫ولنضف إلى ذلك أن اليكترا ل تتحدى كبير اللهة زفس‬
‫)أو جوبيتر‪ ،‬كما يسميه الباحث( في مسرحية حاملت‬
‫القرابين )وهي الجزء الوحيد من الثلثية‪ ،‬التي تظهر فيه‬
‫اليكترا(‪ ،‬لن زفس ليس من أطراف الصراع في التراجيديا‬
‫‪- 80 -‬‬
‫المذكورة ولم يرد اسمه فيها إل على لسان أوريست وأخته‬
‫وهما يضرعان إليه أن يؤازرهما في القتصاص من قتلة أبيهما‬
‫أغا ممنون!‪..‬‬
‫ول نريد أن نطيل فالمثلة التي ذكرناها تثبت بما ل يقبل‬
‫الشك أن الستاذ الفاضل صاحب هذه النظرية الجديدة لم يقرأ‬
‫الوريستية التي يتحدث عنها بكل هذا السهاب‪ ،‬وأخشى أنه‬
‫لم يقرأ شيئا ً من المسرح الغريقي القديم‪ ،‬بل قرأ عنه بعض‬
‫المعلومات المتفرقة هنا وهناك‪ ،‬وهذه المعرفة المتواضعة ل‬
‫تجيز له أن يخرج برأي على هذه الدرجة من الخطورة!…‬
‫وماذا عن مسرحية نزول اينانا إلى العالم السفلي‪ ،‬التي‬
‫لم نسمع بها قبل اليوم؟! يبدو لي أن المسألة برمتها ل تعدو‬
‫أن تكون وهما ً طاف بذهن الستاذ الفاضل‪ ،‬فقد قرأ في مكان‬
‫ما أن المسرح الغريقي‪ ،‬بشقيه التراجيدي والكوميدي‪ ،‬قد‬
‫انبثق من الطقوس الدينية والشعبية التي كانت تقام في مطلع‬
‫الربيع للله ديوينسوس‪ ،‬إله الخصب والكرم والخمرة عند‬
‫الغريق‪ ،‬فافترض أن كل طقوس دينية لبد أن تفضي في‬
‫النهاية إلى ظهور شكل من أشكال فن المسرح‪ .‬وهذا افتراض‬
‫ل يخلو من سذاجة‪ ،‬فالمم جميعا ً عرفت الطقوس الدينية في‬
‫مراحل وجودها التاريخي الباكر‪ ،‬وبعض هذه الطقوس مازال‬
‫موجودا ً حتى عند المم المتقدمة في أيامنا هذه‪ ،‬ولكن‬
‫الطقوس الدينية لم تتحول إلى مسرح ـ بالمعنى الدقيق‬
‫للكلمة ـ إل عند قدامى اليونانيين‪.‬‬
‫وبالمقابل فإن نشأة المسرح عند بعض الشعوب‪،‬‬
‫كالمسرح الكلسيكي الصيني‪ ،‬ومسرح الكابوكي عند‬
‫اليابانيين‪ ،‬قد اتخذت منحى آخر وكانت في المقام الول‬
‫استجابة لميل النسان الطبيعي إلى رواية الحكايات وتجسيدها‬
‫بصورة من الصور‪.‬‬
‫وأيا ً كان المر فلبد من العتراف بأن الستاذ صاحب هذه‬
‫النظرية الجديدة رجل واسع الخيال‪ ،‬فهو يشير في حديثه‬
‫المنشور في الحوادث ـ وسأنقل عباراته حرفيا ً بما فيه من‬
‫أخطاء نحوية وركاكة ـ إلى أنه عثر في أثناء التنقيب في مدينة‬
‫الوركاء "على بناء متكون من ثلث جدران الواحد‬
‫يحيط الخر وفي الوسط فتحة توحي إلى أنها منبر‬
‫أو باب للنزول إلى العالم السفلي"‪ .‬ويستطرد‬
‫ل‪":‬وعندما رفعنا الغطاء لم نجد‬ ‫الستاذ الفاضل قائ ً‬
‫أي شيء سوى الرض البكر وهذا بالتأكيد كان يمثل‬
‫المدخل إلى العالم السفلي وكانت تمثل في هذا‬
‫المكان…‪.‬الخ"…‬
‫وهكذا فإن صاحبنا يكتشف فتحة في الرض تحيط بها ثلثة‬
‫جدران فيقفز به خياله إلى أن هذا مسرح كانت تقدم فيه إلى‬
‫الجمهور قصة نزول اللهة إينانا إلى العالم السفلي… ولكن‬
‫كيف يسع الجمهور أن يرى نزول إينانا إلى العالم السفلي من‬
‫وراء ثلثة جدران أحدها يحيط بالخر؟! وأي مسرح هذا الذي‬
‫يبنى على هذه الصورة العجيبة؟ هل تتدخل مخيلة الستاذ‬
‫النشيطة لحسم الشكال… لقد كان ثمة راوٍ يجلس على هذه‬
‫الجدران‪ ،‬التي ترتفع عن الرض بحوالي أربعة أمتار ويروي‬
‫للناس مايجري وراءها! ول يشرح لنا الستاذ الفاضل كيف كان‬
‫الراوي يرتقي إلى أعلى هذه الجدران‪ ،‬هل كان يستعين بسلم‬
‫أم يتسلق بالحبال؟ وهل حدث أن سقط أحد الرواة وهو يحاول‬
‫التربع على مقعده الخطر فوق الجدران! ولكنه يحاول أن يبرر‬
‫لنا مسألة الجدار هذه بقوله‪ :‬ولهذا نجد في المسرح في‬
‫الوقت الحاضر الخشبة من أهم مستلزماته أي‬
‫المكان المرتفع عن الرض لن الصل في المسرح‬
‫‪- 81 -‬‬
‫هي الجدران التي يقف عليها الراوي ليشرح للناس‬
‫ماذا يجري…!!…‪.‬‬
‫وليس صحيحا ً مايدعيه الستاذ الفاضل من أن الصل في‬
‫المسرح هي الجدران‪ ،‬فالتمثيل في المسرح اليوناني لم يكن‬
‫يجري على الجدران‪ ،‬بل كان يجري على فسحة من الرض‬
‫يسمونها ‪ skene‬بينما كان الجمهور يطل على الممثلين والجوقة‬
‫من مقاعده الحجرية العالية التي صفت في شكل دائري‪ .‬وإذا‬
‫صح مايدعيه الستاذ من أن الغريق اقتبسوا مسرحهم عن‬
‫السومريين والبابليين فليس للمر عندي غير تفسير واحد‪،‬‬
‫هو أن الممثلين الغارقة خافوا مغبة تسلق الجدران فآثروا أن‬
‫يقدموا أدوارهم على الرض‪ ،‬وتركوا للمتفرجين أن يتسلقوا‬
‫المقاعد العالية معرضين أنفسهم للسقوط … والله أعلم!‪..‬‬

‫ءءءءء ‪1989‬ء‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫حول مسرحية "الباب")‪(1‬‬
‫هــــل بــــدأت الــــدراما المحليــــة‬
‫بالنتعاش؟‬

‫ل أريد أن أدع المناسبة تبتعد كثيرا ً دون أن أقول كلمة في‬


‫الباب‪ .‬تلك المسرحية الجميلة التي كتبها الديب يوسف‬
‫الصائغ وشاهدناها على مسرح المنصور منذ أمد غير بعيد‪.‬‬
‫فليس أمرا ً كثير الحدوث في أيامنا هذه أن يخرج علينا كاتب‬
‫بنص مسرحي جميل‪.‬‬
‫وإذا كان من بواعث الغبطة أن نكسب في شخص يوسف‬
‫الصائغ كاتبا ً مسرحيا ً موهوبا ً يسد بعض ما نعانيه من فقر في‬
‫هذا الجانب من حياتنا الثقافية‪ ،‬فإن مما يضاعف الغبطة أن‬
‫مسرحية الصائغ الولى جاءت على قدر ملحوظ من النضج‬
‫والستواء‪ ،‬ودلت دللة ل تقبل الشك على أن لمؤلفها عدا‬
‫الموهبة إحاطة جيدة بقواعد التأليف الدرامي‪.‬‬
‫صحيح أن الباب بسيطة في حبكتها وليس فيها إل القليل‬
‫من الشخصيات والفعل الخارجي‪ .‬ولكن ما كشفت عنه من‬
‫حس درامي دقيق يعزز علينا المل بأن المؤلف سيكون قادرا ً‬
‫على معالجة موضوعات أكثر تشابكا ً وتعقيدا ً في المستقبل‪.‬‬
‫أين تكمن مزايا هذه المسرحية؟ لعل أول ماتجدر الشارة‬
‫إليه أن شخصيات "الباب" ـ خلفا ً للكثير مما يكتب عندنا‬
‫للمسرح ـ ليست دمى يحركها المؤلف ويضع على لسانها‬
‫مايشاء من أفكار‪ ،‬بل هي كائنات حية من لحم ودم وأعصاب‪،‬‬
‫تعيش معاناة حقيقية وتصدر في تصرفاتها وأقوالها عن دوافع‬
‫واضحة مقنعة‪ ،‬فليس ثمة فعل ل تدعو إليه ضرورة ول ثرثرة‬
‫في غير محلها‪ ،‬ل مواقف فكرية معزولة‪ ،‬عن مجرى الصراع‬
‫في المسرحية‪ .‬إن كل شيء هنا ينبثق ببساطة وتلقائية عن‬
‫المواقف الدرامية التي تمر بها الشخصيات‪ ،‬ويفضي بصورة‬
‫منطقية إلى ردود الفعل التي تليه‪ .‬وهذا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬شرط أولي‬
‫من شروط البناء الدرامي‪ ،‬ولكن غيابه عن الكثير من النصوص‬
‫المسرحية المحلية يجعله مزية تحتسب لهذه المسرحية‪.‬‬
‫ومن المزايا الخرى التي تستحق التنويه في مسرحية‬
‫"الباب" سياقها الدرامي الذي يتميز بالتوازن والحكام‪ ،‬فمع‬
‫أن المؤلف لم يقسم مسرحيته إلى فصول ومشاهد ـ كما‬
‫جرت العادة ـ فإن المسرحية تتألف عمليا ً من ثلثة فصول‬
‫‪- 83 -‬‬
‫تتطابق مع التقسيم الكلسيكي المعروف الذي يشترط لكل‬
‫ل‪ ،‬ويتمثل "العرض" في‬ ‫عمل درامي عرضا ً وعقدة وح ً‬
‫المحاكمة التي تجري لبطل المسرحية‪ .‬بينما تبدأ "العقدة"‬
‫بهبوطه إلى القبر وتصل إلى ذروتها باستسلمه‬
‫للنوم بعد معاناة طويلة وانطفاء الشمعة الوحيدة‬
‫التي تضيء المكان‪ .‬أما مرحلة الحل فتبدأ بنزول "هي"‬
‫إلى القبر وما ينشأ عنه من تقارب طبيعي بينها وبين بطل‬
‫المسرحية التي سبقها في النزول‪ ،‬وتنتهي بتحول هذا التقارب‬
‫بين الثنين إلى حب يتحديان به الرعب والموت ويصلن به ما‬
‫انقطع من أواصر بينهما وبين الحياة‪.‬‬
‫وقد أعطى المؤلف كل ً من هذه المراحل الثلث في‬
‫مسرحيته مداها الكافي دون ترهل أو ابتسار‪ .‬ورغم أن‬
‫المناجاة الذاتية التي انخرط فيها بطل المسرحية حين وجد‬
‫نفسه وحيدا ً في القبر كانت طويلة إلى حد غير مألوف في‬
‫المسرح فل مناص من القول بأنها بلغت من الروعة والتوهج‬
‫ومن التوتر والمتلء ماجعلها ترتفع إلى مستوى التجربة‬
‫الرهيبة التي عاشها بطل المسرحية‪ .‬وأرجو أل أكون مغاليا ً إذا‬
‫قلت إن يوسف الصائغ اجترح في هذا الفصل مأثرة شعرية‬
‫جديرة بالعجاب‪.‬‬
‫ولبد لنا‪ ،‬ونحن نتحدث عن القيمة الفنية لهذا النص‪ ،‬من‬
‫الشارة‪ ،‬بنحو خاص‪ ،‬إلى اللغة الدرامية الرشيقة‪ ،‬المرنة‪ ،‬التي‬
‫كتب بها‪ .‬وليس كثيرا ً على شاعر كيوسف الصائغ أن يستخدم‬
‫اللغة هذا الستخدام الحاذق‪ ،‬ولكن من دواعي الرتياح حقا ً أن‬
‫يوفق إلى هذا الحد في الموازنة بين شاعرية اللغة وواقعيتها‪،‬‬
‫فل يأخذه الشعر بعيدا ً عن بساطة الحديث اليومي وعفويته‪،‬‬
‫ول تسلبه الواقعية قدرته على الداء الشعري الخالي من‬
‫البتذال…‪.‬‬
‫ويمكن القول بأن لغة "الباب" هي تسفيه عملي لنمطين‬
‫سائدين في الكتابة المسرحية‪ :‬النمط الذي يلجأ إلى الجعجعة‬
‫اللفظية واصطناع البلغة ليوحي للقارئ والمتفرج بامتلء‬
‫فكري مزعوم‪ ،‬والنمط الخر‪ ،‬الذي يقرن الواقعية بسوقية‬
‫الفكر وفجاجة التعبير…‬
‫هكذا يمكننا أن نقول أن يوسف الصائغ صمم عمارته‬
‫الدرامية الولى تصميم المهندس الحاذق‪ ،‬ولكن الدراما ليست‬
‫عمارة وحسب‪ ،‬بل هي ـ بالقدر نفسه ـ فكر وموقف‪ ..‬فهل‬
‫وفق الصائغ في رسالته الفكرية توفيقه في صياغته الفنية‪،‬‬
‫وهل جاء مضمون مسرحيته معادل ً لشكلها في القوة والقناع؟‬
‫هنا أجدني اختلفت مع مؤلف "الباب" اختلفا ً جوهريًا‪،‬‬
‫لن "الرسالة" الخلقية التي تنطوي عليها هذه المسرحية مما‬
‫يتعذر علي هضمه‪ .‬والواقع أن مما يضاعف الهتمام بمسرحيته‬
‫"الباب" أنها تطرح للبحث قضية أخلقية بالغة الخطورة‪،‬‬
‫يمكن تلخيصها بالسؤال التالي‪:‬‬
‫ـ هل يتوجب على المرء أن يواجه مسؤولية اختياره الحر‬
‫بصلبة‪ ،‬ولو كان ذلك يعني التضحية بالحياة ذاتها؟ وليس هذا ـ‬
‫قطعا ً ـ السؤال الجديد‪ ،‬فقد طرحه كتاب المسرح التراجيدي‬
‫وأجابوا عليه مرات كثيرة‪ ،‬ول أظننا نقع في تعميم تنقصه الدقة‬
‫إذا ذهبنا إلى أن جوهر التراجيديا نفسه يتمثل ـ أساسا ً ـ في‬
‫الصلبة الخلقية التي تجعل بعض الناس يتحملون مسؤولية‬
‫الموقف الذي اتخذوه عن قناعة‪ ،‬وإن قادهم ذلك إلى التصادم‬
‫مع المؤسسة السياسية أو مشيئة اللهة أو أي قوة أخرى من‬
‫القوى الكبرى التي ل قبل للفرد بمواجهتها‪ .‬ويحسن في هذا‬
‫الصدد أن نعود بالذاكرة إلى انتيغونا بطلة مسرحية‬
‫‪- 84 -‬‬
‫سوفوكليس الشهيرة‪ ،‬فقد حكم عليها هي الخرى بالدفن‬
‫حية‪ ،‬كبطل مسرحية يوسف الصائغ تمامًا‪ ،‬ولكنها تقبلت‬
‫مصيرها الرهيب بشجاعة لنه كان من اختيارها أص ً‬
‫ل‪.‬لقد‬
‫أقدمت انتيغونا على دفن جثة أخيها بولنكس وهي تعلم‬
‫جيدا ً أنها تتحدى بذلك سلطة الطاغية كريون‪ ،‬الذي أمر بترك‬
‫الجثة في العراء‪ ،‬وعندما قبض عليها وجيء بها إلى الحاكم‬
‫الذي تحدت إرادته‪ ،‬لم تحاول التنصل من فعلتها ولم تلتمس‬
‫الصفح‪ ،‬فقد كانت مقتنعة بأنها أدت واجبها‪ ،‬وأن عليها أن‬
‫تتحمل كل مايترتب على ذلك من نتائج‪.‬‬
‫ولم تكن انتيغونا أقل شغفا ً بالحياة من بطل مسرحية‬
‫يوسف الصائغ‪ ،‬فقد كانت شابة في مقتبل العمر ولها خطيب‬
‫يحبها وتحبه‪ ،‬ولكنها كانت تواجه امتحانا ً مأساويًا‪ :‬كان عليها أن‬
‫تختار بين التخلي عن واجبها الخلقي وبين الموت‪ .‬وقد‬
‫اختارت الخير لنها كانت من ذلك المعدن النساني النبيل‬
‫الذي يؤثر الموت على السقوط‪.‬‬
‫ولم تكن انتيغونا تجهل أن من الناس من يغتفر السقوط‬
‫الخلقي ويلتمس له المبررات‪ ،‬وهي لذلك تقول لختها الخائفة‬
‫اسمينا‪:‬‬
‫ـ كان خيارك أن تعيشي‪ ،‬وكان خياري أن أموت‪..‬‬
‫وكان لحكمتك عالم يؤيدها‪ ،‬ولحكمتي عالم آخر‪..‬‬
‫على هذا النحو أجاب سوفوكليس‪ ،‬بلسان انتيغونا‪ ،‬عن‬
‫هذا السؤال الخطير‪ ،‬وهكذا كان منطق التراجيديا عمومًا‪،‬‬
‫ولكن لمؤلف الباب منطقا ً آخر‪ ،‬لعله أقرب إلى روح عصرنا‬
‫المفتقر إلى المثل العليا‪ ،‬فهو يجيز لبطله أن يتنكر للتزامه‬
‫الخلقي لمجرد أن تعلقه بالحياة ونهمه إلى ملذاتها الحسية‬
‫أقوى عنده من كل دواعي اللتزام‪.‬‬
‫وينبغي العتراف أن منطق بطل المسرحية يبدو مقنعا ً‬
‫للوهلة الولى… فما الذي يدعو إنسانا ً عاقل ً إلى التضحية‬
‫بحياته من أجل جثة هامدة ل تنفعه بشيء‪ ،‬ول تنتفع بتضحيته‬
‫أص ً‬
‫ل؟!‬
‫ولكن قليل ً من التأمل قد يقودنا إلى اكتشاف شيء من‬
‫الزيف في هذا المنطق‪ ،‬فبطل المسرحية لم يتمرد على‬
‫مشيئة ظالمة فرضت عليه فرضًا‪ ،‬وإنما تنصل من قرار حر‬
‫اتخذه بملء إرادته‪ ،‬غير جاهل بما يترتب عليه من تبعات‪.‬‬
‫ومما له دللته أن صاحبنا لم يفكر قط في التراجع عن قراره‬
‫هذا إل عندما توجب عليه أن يحول تعهداته المكتوبة إلى فعل‬
‫ملموس‪ .‬فماذا يعني ذلك؟‬
‫إنه يعني‪ ،‬ببساطة‪ ،‬أن للمرء أن يلتزم عندما يكون اللتزام‬
‫مصدر منفعة ومتعة‪ ،‬وله بعد ذلك أن يتنكر للتزامه هذا إذا‬
‫وجد فيه مايهدد سلمته أو ينتقص من متعته‪.‬ومامن فلسفة‬
‫أخلقية تقر مثل هذا المنطق‪.‬نعم‪ ،‬قد يرى البعض في مسلك‬
‫بطل المسرحية تبريرا ً مشروعًا‪ ،‬لرفض التضحية المجانية من‬
‫أجل قضية خاسرة‪ ،‬وقد يجدون فيه دعوة إلى اغتفار الضعف‬
‫البشري أمام ما تفرضه الحياة من امتحانات بالغة القسوة‬
‫أحيانًا‪ ،‬ول يشق علي فهم أي من هذين الدافعين‪ ،‬ولكن ما ل‬
‫أفهمه ول أستسيغه قطعا ً هو عجز بطل يوسف الصائغ عن‬
‫الشعور بصعوبة المأزق الخلقي الذي وجد فيه نفسه‪ .‬فبطل‬
‫المسرحية ل يحس ولو لحظة واحدة بأنه قدخان نفسه‪ ،‬ول‬
‫يعاني أي تمزق داخلي بين واجبه الخلقي من جهة وتشبثه‬
‫بالحياة من جهة أخرى‪ ،‬بل يبدو منسجما ً كل النسجام مع‬
‫ضعفه الدمي‪ ،‬مقتنعا ً كل القناعة بأن حياته ومتعته الشخصية‬

‫‪- 85 -‬‬
‫أحق بالتمسك من أي مبدأ آخر‪ ،‬إنه باختصار شخصية ذات‬
‫نزعة ابيقورية عنيفة ترى في اللذة مبدأها السمى التي تهزم‬
‫أمامه سائر العتبارات الخرى‪ .‬وبالتالي فهو بطل عار من‬
‫البطولة‪ ،‬بطل ليس له من قضية سوى أن يعيش ويستمتع‬
‫بحياته!‪..‬‬
‫وهذه النزعة البيقورية عند بطل مسرحية "الباب"‬
‫تفصح عن نفسها بطريقة فظة في حديثه عن حبه لزوجته‬
‫الراحلة‪ ،‬فهو يعلن أمام المحكمة أنه أحبها إلى آخر لحظة من‬
‫حياتها‪ ،‬ولكن حبه طار وتبخر فجأة عندما وجدها ميتة بين‬
‫يديه‪ .‬لقد أحس فجأة بأنه ل يعرفها‪ ،‬وامتلت روحه اشمئزازا ً‬
‫وأصابه رعب وغثيان‪ .‬هكذا يقول صاحبنا بالحرف الواحد‪ .‬وحين‬
‫يسأله رئيس المحكمة عن سر هذا الشعور يجيبه ببساطة‪:‬‬
‫ـ هل سبق لك ياسيدي‪ ،‬أن جربت تقبيل جثة؟ هل استطاع‬
‫أحد ممن أحبوا أن ينام مع جثة التي أحبها؟‬
‫وحسبنا هذه الجابة لندرك أن الحب الذي يتحدث عنه‬
‫بطل المسرحية ليس في واقع المر إل تعلقا ً شهوانيا ً خاليا ً من‬
‫أي تواصل إنساني عميق‪ .‬لقد كانت زوجته مجرد جسد يمنحه‬
‫اللذة‪ ،‬وحين انطفأت الحياة في هذا الجسد وتحول إلى جثة‬
‫هامدة ل سبيل إلى تقبيلها أو النوم معها طار الحب وتبخر‪ ،‬بل‬
‫انقلب إلى اشمئزاز وغثيان‪ ،‬تماما ً كما لو أن هذه الزوجة كانت‬
‫مائدة شهية فاحت منها علىحين غرة رائحة كريهة‪ ..‬فأين الحب‬
‫في هذا كله؟ إننا إزاء علقة ليس لها من الحب سوى بعده‬
‫البيولوجي الخالص‪ ،‬أما أبعاده النسانية الكبيرة الخرى فل أثر‬
‫لها على الطلق‪ .‬إن صاحبنا لم يفجع بوفاة الزوجة الحبيبة بل‬
‫أصابه رعب واشمئزاز‪ ،‬ولم يخسر حنانها أو وفاءها أو طيبتها‬
‫أو إيثارها أو أية صفة أخرى مما يميز العلقات الحميمة بين‬
‫البشر عن العلقة البيولوجية بين أي ذكر وأنثى في الطيبعة‪،‬‬
‫بل خسر جسدا ً كان يستمتع به‪.‬‬
‫وحين يستعيد ماكانت عليه هذه الزوجة قبل موتها فإنه ل‬
‫يتذكر سوى أنها كانت مليئة بالرغبة‪ ،‬مستجيبة‪،‬‬
‫متفهمة‪ ،‬مشاركة‪ ،‬متلذذة‪ ،‬ولم تعد كذلك الن! ولهذا كله‬
‫دللته الواضحة على أن بطل مسرحية الصائغ لم يعرف الحب‬
‫بأبعاده النسانية العميقة‪ ،‬ولم يفهم من العلقات النسانية‬
‫ذاتها سوى أنها مصدر للمتع الحسية‪ .‬ولهذا كان من المنطقي‬
‫تماما ً أن يحنث شخص كهذا بقسمه‪ ،‬فقد كان التعلق بملذات‬
‫الحس دافعه الساسي إلى اللتزام بالعهد الذي أخذ به نفسه‪،‬‬
‫وكان هذا التعلق ذاته هو الدافع إلى تنصله من هذا العهد‪.‬‬
‫وهكذا يكشف لنا التحليل أن بطل المسرحية كان منسجما ً مع‬
‫نفسه في الحالين‪ ،‬وأن ما بدا تناقضا ً في سلوكه ليس في‬
‫الواقع إل متابعة لهدف ثابت واحد ـ هو المتعة الحسية‪ ،‬كما‬
‫أسلفنا ـ في ظرفين مختلفين أشد الختلف‪.‬‬
‫ليس لنا إذن أن نعترض‪ ،‬من الوجهة الفنية المحضة‪ ،‬على‬
‫رسم شخصية بطل المسرحية فهي شخصية حية ومتسقة إلى‬
‫أبعد الحدود‪ ،‬وهي في الواقع شخصية نصادفها في حياتنا كل‬
‫يوم‪ ،‬بل هي‪:‬‬
‫ـ إن أردنا مزيدا ً من الدقة ـ شخصية المثقف العربي‬
‫المعاصر في مواجهة الخيارات القاسية التي يطرحها عصره‪،‬‬
‫ولكن اعتراضنا ذو طبيعة فكرية‪ ،‬فليس بطل "الباب" هو‬
‫المثال الخلقي الذي نحتاج إليه في زمن يتطلب منا الكثير من‬
‫الشجاعة ونكران الذات لحماية وجودنا ذاته‪.‬‬
‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن ما حققه يوسف الصائغ على‬

‫‪- 86 -‬‬
‫مستوى البناء الفني أمر جدير بكل ثناء وهو بدء انتعاش‬
‫للدراما المحلية نأمل أن يتواصل ويتطور‪ .‬وقد كنا نتمنى أن‬
‫يأخذ هذا النص الجميل صورته المناسبة على منصة المسرح‪،‬‬
‫ولكن تمنياتنا هذه منيت بإحباط ذريع‪ ،‬لن الخراج المسرحي‬
‫قصر عن مستوى النص بأشواط بعيدة‪ ،‬وهذا ما سنعالجه‬
‫تفصيل ً في الحلقة التالية من هذا الحديث‪.‬‬

‫ءءءءء ‪.1986‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 87 -‬‬
‫حول مسرحية " الباب " )‪.(2‬‬
‫عنــدما يوضــع النــص المســرحي فــي قــالب غيــر‬
‫مناسب‪:‬‬

‫عندما يقرأ المرء‪ ،‬نصا ً مسرحيا ً ممتعا ً فمن الطبيعي أن‬


‫يتطلع إلى رؤيته حيا ً على منصة المسرح‪ .‬وفي حالة كهذه‬
‫يذهب المرء إلى المسرح وفي ذهنه تصورات معينة عما‬
‫سيشاهده‪ ،‬فكل قارئ هو مخرج بمعنى من المعاني‪ ،‬ولكنه‬
‫مخرج مسرحه ذهنه وعدته خياله‪.‬‬
‫وهو يصوغ المواقف ويرسم البيئة ويتمثل الشخصيات‬
‫بصورة تلقائية ل واعية خلل انهماكه في قراءة النص‪ .‬وهذه‬
‫إحدى الخصائص التي تميز النص الدبي ـ أيا ً كان جنسه ـ عن‬
‫غيره من النصوص‪ ،‬فالدب ل يكتمل إل بما تضفيه عليه مخيلة‬
‫القارئ‪ ،‬ولهذا يقال في القارئ إنه يعيد خلق النص وأن قراءة‬
‫الديب‪ ،‬هي الخرى‪ ،‬ضرب من البداع‪.‬‬
‫وحين نشاهد على منصة المسرح ـ أو على الشاشة ـ عمل ً‬
‫أدبيا ً سبق لنا أن قرأناه وتنفسنا أجواءه وعايشنا شخصياته‬
‫فإن خيبة أملنا ستكون مضاعفة إذا قدم إلينا مشوها‪ ،‬خاليا ً من‬
‫الحياة‪ .‬ونحن في هذه الحالة نختلف‪ ،‬كثيرا ً أو قليل‪ ،‬عن‬
‫المتفرج الذي لم يسبق له أن قرأ النص‪ ،‬لن بوسعنا أن نقارن‬
‫بين الصورة التي ارتسمت في أذهاننا تلقائيا ً ـ في أثناء القراءة‬
‫ـ وبين الصورة التي رسمها لنا المخرج‪ .‬أما المتفرج الذي جاء‬
‫إلى المسرح وهو ل يحمل أي تصور مسبق عن المسرحية فقد‬
‫ل يستطيع التمييز بسهولة بين النص وعناصر العرض‬
‫المسرحي‪ ،‬وقد يلقي باللوم على المؤلف دون أن يفطن إلىأن‬
‫المخرج هو المسؤول الحقيقي عن الخفاق‪.‬‬
‫أقول هذا وأنا أستعيد تجربتي مع مسرحية "الباب"‪ ،‬فقد‬
‫كانت تجربة من هذا النوع الذي وصفته‪ ،‬لقد ذهبت إلى‬
‫المسرح لرى نصا ً كنت قد استمتعت بقراءته‪.‬ولكن إحساسي‬
‫طوال مدة العرض كان أبعد مايكون عن الستمتاع‪ ،‬فقد رأيت‬
‫النص يشوه أمامي على منصة العرض‪ ،‬ومن غريب‬
‫المفارقات أن المؤلف نفسه كان هناك وقد رافق عملية‬
‫التشويه هذه ـ كما علمت ـ ولم يحل دون وقوعها‪.‬‬
‫ومع ذلك فمن الصعب الدعاء بأن ما رأيته كان مفاجأة‬
‫لي‪ ،‬فما أكثر النصوص التي شوهت على خشبة مسرحنا‬
‫المحلي‪ ،‬وما أكثر الروائع الدبية التي حولها بعض مخرجينا إلى‬
‫عروض مملة‪ ،‬ملفقة‪ ،‬خالية من الحياة! لقد شاهدت على أحد‬
‫‪- 88 -‬‬
‫مسارحنا مأساة شكسبيرية فضحكت‪ ،‬وشاهدت ملهاة‬
‫لموليير فلم أضحك قط‪ ،‬وحضرت دراما واقعية لرثر ملر فلم‬
‫أقتنع بشيء مما رأيته وسمعته! ولهذه الظاهرة الغريبة عوامل‬
‫عديدة ليس هنا مجال الفاضة فيها‪ ،‬ولكن أهمها في اعتقادي‬
‫هو عدم التفات المخرجين إلى حقيقة أولية‪ ،‬مؤداها أن لكل‬
‫مسرحية نمطا تنتمي إليه وأسلوبا ً تتميز به‪ ،‬وأن على مخرج‬
‫المسرحية بالتالي أن يختار لها من الصياغة والداء ماينسجم‬
‫مع نمطها وأسلوبها‪ ،‬فل يصح ـ مثل ً ـ أن نعالج كوميديا‬
‫السلوك مثلما نعالج المهزلة ـ أي الفارس ـ ول أن نقدم‬
‫التراجيديا الغريقية بالطريقة نفسها التي نقدم بها الدراما‬
‫الواقعية الحديثة‪ ،‬لن لكل من هذه النماط مناخها وأسلوبها‬
‫في الداء‪ ،‬وينبغي أن نلحظ كذلك أن بؤرة الهتمام في النص‬
‫المسرحي ليست واحدة في كل الحوال‪ ،‬بل هي تختلف من‬
‫مؤلف إلى آخر‪ ،‬فإذا كانت الحبكة والشخصيات أهم مافي‬
‫مسرح هنريك ابسن فإن الحوار البارع الذكي هو أهم مافي‬
‫مسرحيات أوسكار وايلد‪ ،‬وإذا كان الواقع الجتماعي يحتل‬
‫المكان الول في مسرح غوركي فإن الواقع السايكولوجي‬
‫هو الذي يستأثر أكثر من غيره باهتمام تشيخوف‪.‬‬
‫وهكذا فإن المخرج الملم بحرفته ل يمكن أن يعالج‬
‫مسرحية من طراز الشقيقات الثلث ـ مثل ـ بالطريقة‬
‫نفسها التي يعالج بها مسرحية الحضيض‪ ،‬لن قيمة كل من‬
‫هاتين المسرحيتين تكمن في مكان آخر غير المكان الذي‬
‫تكمن فيه قيمة الخرى‪.‬‬
‫كل هذه حقائق أولية ل ينبغي أن تغيب عن أحد ممن‬
‫درسوا فن المسرح‪ ،‬ومع ذلك فإن المرء مضطر إلى التذكير‬
‫بها‪ ،‬لن بين مخرجينا المسرحيين من يتجاهلها أو يجهلها‪ ،‬وهو‬
‫لذلك يكيف النصوص وقد يعيد تأليفها أحيانا لتلئم أسلوبه في‬
‫الخراج‪ ،‬بدل ً من دراسة النص وفهمه ووضعه في قالبه‬
‫المناسب‪ .‬وهذا بالضبط ما فعله السيد قاسم محمد‪ ،‬مخرج‬
‫مسرحية الباب‪ ،‬فإلى أي نمط تنتمي هذه المسرحية؟ وكيف‬
‫عالجها المخرج؟‬
‫للوهلة الولى قدتبدو "الباب" وكأنها تنتسب إلى النمط‬
‫المعروف بـ الفانتازيا‪ ،‬ففكرتها مستوحاة من إحدى حكايات‬
‫ألف ليلة وليلة‪ ،‬وهي تروي حكاية خيالية عن رجل قضي‬
‫عليه بالدفن حيا ً مع زوجته المتوفاة‪ ،‬ولكن المسرحية ليست‬
‫من نوع الفانتازيا قطعًا‪ ،‬فهذا المدخل الخيالي يفضي بنا‬
‫إلى عمل ذي نسيج واقعي دقيق بكل معاني الكلمة‪ .‬وإذا خطر‬
‫للبعض أن من التناقض أن توصف بالواقعية مسرحية ذات‬
‫مدخل خيالي‪ ،‬فحسبنا أن نعيد إلى الذهان أن مأساة هملت‬
‫تبدأ بظهور شبح‪ ،‬وأن ماكبث تقوم على نبوءة نطقت بها ثلث‬
‫ساحرات‪ ،‬ولست هنا في معرض المقارنة‪ ،‬بطبيعة الحال‪،‬‬
‫ولكن مايهمني إيضاحه أن الباب‪ ،‬رغم الحكاية الخرافية التي‬
‫قامت عليها‪ ،‬تنتمي بشخصياتها‪ ،‬ومواقفها ولغتها وسائر‬
‫مكوناتها الخرى إلى المنهج الواقعي‪ ،‬وهي صارمة في واقعيتها‬
‫إلى الحد الذي يجعل كل مافيها يبدو متمشيا ً مع قوانين الواقع‬
‫ومنطقه المألوف‪ .‬وقد كان حريا ً بالمخرج أن ينقلها إلىمنصة‬
‫المسرح بأسلوب ينسجم مع هذا المنحى الواقعي‪ ،‬ولو أنه‬
‫فعل لكان تأثيرها في المشاهد أعمق من تأثيرها في القارئ‪،‬‬
‫ولكن إخفاقه في تحديد طبيعة المسرحية جعله يفرض عليها‬
‫أسلوبا ً ل يلئمها على الطلق‪ ،‬وهو أسلوب ل أعرف له اسما ً‬
‫بين أساليب الخراج المعاصرة‪ ،‬ولكنه يتسم بشيء غير قليل‬
‫من الفظاظة ومجافاة المعقول‪.‬‬
‫إن المتفرج الذي قرأ المسرحية قبل مشاهدتها سيصدم‬
‫‪- 89 -‬‬
‫منذ الوهلة الولى عندما يكتشف أن المخرج أعاد كتابة مشهد‬
‫المحاكمة‪ ،‬فألغى شخصيات القضاة الثلثة مكتفيا ً بالمدعي‬
‫العام الذي تحول إلى قاض ومدع في آن واحد‪ .‬وهكذا خسر‬
‫العمل سمته الواقعية منذ اللحظة الولى‪ .‬على أن المر لم‬
‫يقف عند هذا الحد‪ ،‬فمنصة القضاء نفسها قد قفزت من مكانها‬
‫المألوف واتخذت شكل سقيفة عالية من الحديد وقف عليها‬
‫المدعي العام ليحاور المتهم الذي قبع تحت السقيفة‬
‫باسترخاء كامل موليا ً إيانا ظهره!‪ ..‬وفوق هذه السقيفة‪ ،‬التي‬
‫يصلها بالرض سلمان حديديان‪ ،‬تدلت كف كبيرة مبسوطة‬
‫صنعت بدورها من قضبان الحديد وأمامها كف مزمومة‪ ،‬وقد‬
‫أضيئت الكفان بضياء أحمر قان فبدتا أشبه بإعلن تجاري‬
‫صارخ عن منجم من قراء الكف!‪..‬‬
‫ماذا يعني هذا كله؟ وماذا أراد المخرج بهذه المحكمة‬
‫العجيبة التي يطل فيها المدعي العام من السطح ليخاطب‬
‫المتهم الجالس في الطابق الرضي؟! أتراه أراد أن يوحي‬
‫إلينا بأنها محكمة متسلطة غاشمة؟ إذا كان هذا حقا ً ما أراده‬
‫فذلك هو البؤس بعينه‪ ،‬لن لدى فنان المسرح من الوسائل‬
‫والتقنيات الفنية المختلفة مايغنيه عن تشويه معالم الواقع إلى‬
‫هذا الحد ويوفر عليه )وعلى الشركة المنتجة(‪ ،‬كل هذه الكمية‬
‫الكبيرة من صفائح الحديد!‬
‫وأيا ً كانت الفكرة التي رمى إليها المخرج فإنه تورط هنا‬
‫في أكثر من خطأ فادح‪ ،‬فقد أضاع المستوى الواقعي الذي‬
‫تقتضيه طبيعة النص‪ ،‬كما أسلفنا‪ ،‬ولم ينجز شيئا ً على مستوى‬
‫الرمز لفجاجة السلوب الذي اتبعه‪ .‬والسوأ من ذلك كله أن‬
‫هذا الديكور الغريب الذي فاجأنا به )بالتنسيق مع المصمم‬
‫بالطبع( قد شغلنا بعض الوقت عن متابعة الصراع الحاسم‬
‫الذي كان يدور في المحكمة وبدد إحساسنا بخطورة المأزق‬
‫الذي كان يواجهه بطل المسرحية‪ .‬وكانت الكفان الحمراوان‬
‫اللتان علقهما المخرج في سقف المسرح )وظل يرفعهما‬
‫ويدليهما بين وقت وآخر( عامل ً إضافيا ً أسهم في تشتيت انتباه‬
‫المتفرج وتحويله بعيدا ً عن بؤرة الفعل الدرامي‪ .‬وأعترف ـ‬
‫بتواضع جم ـ بأني لم أهتد إلى المغزى العميق الذي أراده‬
‫المخرج بهاتين الكفين‪ ،‬ولكن المسألة ل تتعلق بوضوح دللة‬
‫ل‪ ..‬فهل يصح ـ‬ ‫هذا الرمز أو غموضها‪ ،‬وإنما تتعلق بوجوده أص ً‬
‫من وجهة نظر تقنية ـ أن يحول المخرج المسرحي انتباه‬
‫جمهوره عن الفعل الذي يجري أمامه على المنصة برمز‬
‫خارجي يقحمه على المشهد‪ ،‬أيا ً كانت دللة هذا الرمز؟ وهل‬
‫تحتاج مسرحية فيها من وضوح الفكر والموقف مافي مسرحية‬
‫الباب إلى رمز إضافي من هذا النوع؟ أعتقد أن هذين‬
‫السؤالين يحملن في طياتهما الجابة الكافية‪.‬‬
‫ليست هذه كل ملحظاتي على عمل المخرج في الفصل‬
‫الول‪ ،‬ولكني سأكتفي بما ذكرت لفسح مجال ً لملحظاتي‬
‫على الفصلين الخيرين‪.‬‬
‫قلت في الحلقة الولى من هذا الحديث أن الفصل الثاني‬
‫يمثل صعود المسرحية إلى ذروتها‪ ،‬وهو يتألف برمته من‬
‫مناجاة ذاتية طويلة يلقيها بطل المسرحية‪ ،‬الذي دفن حيا ً مع‬
‫جثة زوجته وليس معه سوى بعض الطعام وقناني الخمر‪ .‬وقد‬
‫كان المؤلف موفقا ً في تصوير معاناة بطله حيال هذه التجربة‬
‫المروعة‪ ،‬وأذكر أني قرأت هذا الفصل بكثير من الستغراق‬
‫والستمتاع‪ ،‬ولكن تجسيد موقف كهذا على خشبة المسرح‬
‫ليس أمرا ً هينا ً على أي حال‪ .‬إنه امتحان عسير للمخرج وممثل‬
‫الدور على السواء‪ .‬وقد فشل المخرج في هذا المتحان ـ كما‬
‫توقعت ـ وجر معه الممثل إلى الفشل‪ .‬وليس من الصعب أن‬
‫‪- 90 -‬‬
‫ندرك السبب‪ .‬فالنجاح في مهمة فنية دقيقة كهذه يتوقف على‬
‫أمرين أساسيين‪ ،‬أولهما مدى استيعاب الممثل لبعاد الموقف‬
‫وتفاصيله الدقيقة وعمقه السايكولوجي وثانيهما مدى توفيق‬
‫المخرج في خلق مناخ الرعب والهول الذي يطبق على كائن‬
‫بشري وجد نفسه حبيسا ً في جوف مقبرة‪ .‬ولم يوفر المخرج‬
‫لعمله أيا ً من هذين الشرطين الساسيين‪ .‬وقدكان بوسع‬
‫المخرج أن يهّيئ‪ ،‬في حدود طاقته المناخ الملئم لهذا الموقف‬
‫لو أنه اعتمد الواقعية في بناء ديكور المقبرة‪ .‬وحين أقول‬
‫الواقعية فل أعني المنهج الطبيعي الذي ينقل الواقع بكل‬
‫حذافيره إلى منصة المسرح‪ ،‬بل أعني صورة الواقع بخطوطها‬
‫العريضة الموحية‪ .‬وفي ظني أن بضعة توابيت مجللة بالغبار‬
‫وبقايا هيكل بشري في أحد الركان كانت تكفي )مع النارة‬
‫والموسيقى المناسبتين( لخلق مناخ الرعب والهول الذي‬
‫تحتاجه المسرحية في فصليها الخيرين‪ .‬ولو أن المخرج‬
‫استعان بمثل هذا الديكور الواقعي البسيط لحتفظ للنص بكثير‬
‫من قوته‪ ،‬ولستطاع في الوقت نفسه‪ ،‬أن يجعل من التوابيت‬
‫ذاتها منصات للقضاة في الفصل الول من المسرحية‪ ،‬وفي‬
‫هذا من بلغة التعبير وعمق الدللة والقتصاد في الوسائل‬
‫ماليس في محكمته العجيبة ذات الطابقين‪ .‬ولكن المخرج‬
‫الذي يميل ـ على مايبدو ـ إلى العتقاد بأن الصالة تعني‬
‫مجانبة المألوف بأي ثمن وبصرف النظر عن أي اعتبار آخر‪،‬‬
‫استعاض عن الديكور الواقعي‪ ،‬الذي يهّيئ لنا المناخ‬
‫المطلوب‪ ،‬بديكور مصطنع غلبت عليه النزعة التجريدية واتسم‬
‫بفقر المخيلة وسوء الفهم وضعف اليحاء‪ .‬وتجنبا ً للطالة‬
‫سأوجز ملحظاتي في هذا الصدد بالنقاط التالية‪:‬‬
‫ووو وووووو وووو وووووو وووووو وووووو‬
‫وووووو ووووو وووووووو وووو وو وووو ووووو‬
‫•‬
‫ووووووو وووو وووووو وووو ووووووو ءءءء‬
‫ءءءء ءءءءء ءءءءءءء ءءءءءءء ءءءءءء ءءء‬
‫ءءءءء ءءءءءء ءءءء ءءءء ءءءءءء‪ .‬ءءءء ءءءءءء‬
‫ءء ءءءءءء ءءء ءءء ءءءءءءءء ءءءء ءءءءءءءء‬
‫ءء ءءء ءءء ءء ءءءءءءءءء ءءءءءء ءءءء‬
‫ءءءءءءء!‬
‫وو وووووو وو ووووو وو ووو ووووووو وووو ووو‬
‫ووووووو ووو ووووووووو وو ووو ووووووو وو‬
‫•‬
‫وو ووو ووووووو وووو وو وووووو‬
‫وووو ووو و‬
‫ووووو وووو ووو وووووو وووووو وووو ووو‪.‬‬
‫وووووو وووووووو وووو ووو ووو ووووو وووو!‬
‫وووو وووووووو وووو وووووووو وووووو ووووو‬
‫ووووو وو ووووووو وووووووو وووووووو ووو‬
‫•‬
‫ووووو ووو ووووووو وووووووو ووووو وووو وو‬
‫ووووو وووو ووو وو وووو وووو ووووو وووو وو‬
‫وووو ووووو! ووووووو وو وووووو وووو ووو‬
‫ووووووو ووو ووووووو ووو وووو ووووووو وو‬
‫وووو ووووو ووووو وووو ووووووو وووو وو‬
‫وووو ووووو وووووووو!‬
‫وو ووو‬
‫ووو وو ءءءءء ووووو ووو وووو ووو و‬
‫ووووو ووووووووو ووو وووو وووووو وووووو‬
‫•‬
‫وووو ووو ووو ووووو وووو ووووووو ووو ووو‬
‫وو ووو وووووو وووو وووووو ووووو وووووو‬
‫وووووو! وووو وووووووو وو ووووو ووو وووو وو‬
‫‪- 91 -‬‬
‫ووو وووووووو ووو وو وووو ووووووو وووووووو‬
‫ووو ءءءءءو ووو وووو ووو وو ووووو وووووو‬
‫ووو وووووو ووو وو ووو ووووووو وووو وووو‬
‫وووووووو ووووووو وووووو وو وووو ووووو!‬
‫واكتفى بهذا القدر من الملحظات‪ ،‬ل نتقل إلى الحديث‬
‫عن عمل الممثلين‪ ،‬ولبد في البداية من العتراف بأن‬
‫المخرج كان موفقا ً في اختيار ممثليه‪ ،‬فهم فريق موهوب دون‬
‫شك‪ ،‬ولكن المشكلة أنه لم يحسن استثمار هذه المواهب‪.‬‬
‫ويعود هذا في جزء منه إلى البيئة الزائفة التي وضع فيها‬
‫ممثليه‪ ،‬بينما يعود في جزئه الخر إلى تقصير في دراسة‬
‫الشخصيات والمواقف وإخفاق في تشخيص مواطن القوة في‬
‫النص‪ ،‬ويتجلى الثر السلبي لتوجيهات المخرج‪ ،‬بصورة‬
‫خاصة‪ ،‬في أداء محمود عبد العباس‪ ،‬الذي اتسم عموما ً‬
‫باسترخاء ل يتناسب مع صعوبة المواقف التي يمر بها بطل‬
‫المسرحية‪ ،‬لقد بدا محمود عبد العباس في مشهد المحاكمة‬
‫هادئا ً غير مكترث وكأنه يناقش أمرا ً ل يعنيه‪ ،‬بينما كان عليه أن‬
‫يخوض صراعا ً مستميتا ً للفلت من مصير مفزع ينتظره‪.‬‬
‫وكانت أمام هذا الممثل فرصة ممتازة للتألق والستحواذ على‬
‫حواس المتفرجين في الفصل الثاني‪ ،‬حين يجد بطل المسرحية‬
‫نفسه وحيدا ً في مواجهة الرعب والمجهول‪.‬‬
‫ولكن أداءه في هذا الموقف كان مجرد تقنية خارجية‬
‫اعتمد فيها على خبرته في التمثيل‪ ،‬وليس انفعال ً صادقا ً بالدور‪،‬‬
‫ولعل له العذر‪ ،‬فالمخرج لم يحطه بالجو المناسب الذي‬
‫يساعده على الحساس الصادق بما كان يقوله‪ .‬أما في‬
‫الفصل الخير فقد كان أداؤه خاليا ً من المنطق والقناع‪ ،‬ل‬
‫لنقص في قدرته الشخصية‪ ،‬بل لن المخرج أخفق في بناء‬
‫علقات منطقية مقنعة بين الشخصيات الدرامية أو بينها وبين‬
‫البيئة المحيطة بها‪ .‬وسأكتفي بأمثلة قليلة تغنيني عن إسهاب‬
‫ل ضرورة له‪ ،‬فقد رأينا محمود عبد العباس ـ مثل ً ـ ينهب سلم‬
‫المقبرة وثبا ً أكثر من مرة‪ ،‬وكأنه يرتقي سلم بيته في وضح‬
‫النهار‪ ،‬رغم أن وقائع المسرحية كانت تجري في ظلم يفترض‬
‫أنه دامس مطبق!‪ ،‬ورأينا ها تخاطبه أكثر من مرة فيتجه باحثا ً‬
‫عنها في الوجهة المضادة لمصدر الصوت! وكانت دهشتنا‬
‫شديدة عندما استلقى عبد العباس‪ ،‬خلل حوار مع رفيقته في‬
‫المقبرة‪ ،‬على الرض بارتياح تام واضعا ً يديه تحت رأسه‬
‫كمن يستلقي على عشب ندي في أمسية ربيعية‪ ،‬ناسيا ً أنه‬
‫حبيس في مقبرة كريهة ل يدري إن كان سيخرج منها حيًا‪ ،‬وأن‬
‫الرض التي يفترشها يزحف عليها الدود ويفوح منها نتن‬
‫المقابر… وربما كانت تعج بالحيات والعقارب! لقد كانت هذه‬
‫اللحظة أبرز المفارقات التي حفل بها العرض‪ ،‬ولو تقصينا‬
‫دوافعها لوجدناها صادرة عن تصور ساذج لدى المخرج حول‬
‫وظيفة الحركة في المسرح‪ ،‬فالمخرج ـ وأنا أحتكم هنا إلى‬
‫أعمال سابقة شاهدتها له ـ يتصور أن الممثل يجب أن يظل‬
‫في حركة جسدية دائبة ومتنوعة على منصة المسرح‪ ،‬بقطع‬
‫النظر عن مقتضيات الدور الذي يؤديه‪ ،‬ولعله يعتقد أن هذه‬
‫الحركة الدائبة غير المدروسة هي ما اصطلح على تسميته‬
‫بالفعل الدرامي‪.‬‬
‫ول يسعني‪ ،‬وأنا أتحدث عن عنصر التمثيل في الباب‪ ،‬أن‬
‫أغفل الشارة إلى أحلم عرب‪ ،‬التي أراها للمرة الولى على‬
‫منصة المسرح‪ .‬وأحلم ذات موهبة ل تخطئها العين ولها وجود‬
‫جذاب على المسرح‪ ،‬ولكنها كانت هي الخرى ضحية العوامل‬
‫التي ذكرناها‪ ،‬وقد بدا واضحا ً منذ اللحظة الولى أنها لم‬
‫تستوعب دورها جيدا ً فقد رأيناها تدخل المسرح بطريقة نزقة‬
‫أثارت بعض الضحك المكتوم‪ ،‬بينما كان عليها ـ طبقا ً للنص ـ‬
‫‪- 92 -‬‬
‫أن تدخل بجلل شهيدة صممت على مواجهة الموت وفاء‬
‫للعهد الذي قطعته على نفسها‪.‬‬
‫وبعد‪ ،‬فهذه ليست كل ملحظاتي على العرض‪ ،‬فهناك‬
‫ل‪ ،‬ولي عليهما أكثر من مأخذ‪ ،‬ولكني لن‬ ‫الموسيقى والنارة مث ً‬
‫أدخل في مزيد من التفاصيل مادام القارئ قد ألم ـ كما أرجو‬
‫ـ بالصورة الكلية‪ ،‬وإذا كان ثمة ما أود إضافته في ختام هذا‬
‫الحديث فهو المل في أن نرى هذا النص المحلي الجيد ذات‬
‫يوم بصورة أخرى غير الصورة الشائهة المحزنة التي رأيناه‬
‫عليها‪.‬‬

‫ءءءءء ‪.1986‬‬
‫‪‬‬

‫‪- 93 -‬‬
‫مسرح الشباب‬
‫والنسياق مع التقاليد السيئة‬

‫ل إخال أن من الضروري أن أستهل هذه الوقفة النقدية‬


‫القصيرة‪ ،‬عند مسرحية سور الصين التي قدمتها فرقة‬
‫منتدى الدباء الشباب‪،‬بالحديث عن النص ومؤلفه‪ ،‬فكلهما‬
‫معروف جيدا ً لدى المعنيين بالمسرح‪ ،‬ولكني ل أجد بدا ً من‬
‫الشارة إلى أن المخرج الشاب حيدر منعثر قد ركب مركبا ً‬
‫وعرا ً وقرر بملء إرادته أن يخوض امتحانا ً عسيرا ً عندما وقع‬
‫اختياره على هذه المسرحية الشائكة الغريبة التي تتشابك‬
‫فيها الزمنة والشخصيات والفكار على نحو غير مألوف‪.‬ومن‬
‫المؤكد أن المخرج لم يختر هذا النص بالذات لمجرد أنه نص‬
‫غير تقليدي‪ ،‬أي أنه لم ينطلق من طموحات شكلية محضة‪،‬‬
‫بل اختاره لما يثير من قضايا هي في الصميم من هواجس‬
‫النسان المعاصر وعذاباته‪ ،‬فالمسرحية تحاكم الطغاة وتسخر‬
‫من مزاعمهم وتندد بأمجادهم الدموية‪ ،‬وهي ترينا أن الطغيان‬
‫مهما تباينت عصوره وأساليبه فهو واحد في جوهره ومقاصده‪،‬‬
‫ومن هنا كان هذا التنقل الحر في المسرحية بين الحاضر‬
‫والماضي القريب والبعيد‪ ،‬والموغل في القدم‪ ،‬وإذا كان من‬
‫الصعب على المرء أن يلخص في كلمات معدودة كل هذا‬
‫المضمون الفكري الثري الذي تزخر به المسرحية لن البحر ل‬
‫يصب في قارورة ـ كما يقال ـ فقد يحق لنا القول بأن الثيمة‬
‫الساسية في عمل ماكس فريش هي أن البشرية لم يعد‬
‫بوسعها أن تسمح لطاغية ما بالستئثار بالسلطة المطلقة‪،‬‬
‫ففي ظروف التطور المرعب لوسائل البادة الجماعية في‬
‫عصرنا الراهن بات في مقدور أي حاكم مطلق يملك مثل هذه‬
‫الوسائل أن يضع حدا ً للحياة على كوكبنا الرضي بأسره‪ .‬وقد‬
‫وضع المخرج حيدر منعثر يده على هذا المعنى الساسي‬
‫وأبرزه بقوة عندما استخدم الفانوس السحري في عكس‬
‫صورة النفجار الذري الشبيهة بثمرة متسخة من ثمار‬
‫القرنبيط على مؤخرة المسرح )السايكلوراما(‪ ،‬ولكن توفيق‬
‫المخرج في اقتناص الفكار الساسية للنص ل يعني طبعًا‪ ،‬أن‬
‫العمل كان موفقا ً من كل جوانبه‪،‬فثمة مآخذ عديدة ل يصح‬
‫التغاضي عنها‪ ،‬وإن كنا سنترفق في معالجتها غاية الترفق لن‬
‫للشباب عذرهم في ببعض مايرتكبون من أخطاء‪ ،‬ولن الشباب‬
‫هم المل الذي نعول عليه في الرتقاء بالمسرح العراقي إلى‬
‫ما نتمناه له من التقدم والبداع‪.‬‬
‫وأول ما أود الوقوف عنده في معرض الحديث عن‬
‫‪- 94 -‬‬
‫الجوانب السلبية في هذه المسرحية هو خضوعها ـ شأن الكثير‬
‫من أعمال المسرح العراقي الخرى ـ لبعض التقاليد السيئة‬
‫التي باتت بحكم العادة والتكرار أموارا ً مسلما ً بها في مسرحنا‪.‬‬
‫ولعل أسوأ هذه التقاليد هو مادرج عليه المخرج المسرحي‬
‫عندنا من عدم التقيد بالنص الدرامي‪ ،‬أيا ً كان مؤلفه‪ ،‬فمخرجنا‬
‫المسرحي ل يرعى حرمة كاتب حتى لو كان هذا الكاتب وليم‬
‫شكسبير نفسه‪ .‬وهو يعتقد أن النص الدرامي‪ ،‬مهما كان‬
‫مستواه ليس أكثر من مادة أولية يعيد صياغتها على هواه‬
‫ويحذف منها أو يضيف إليها مايحلو له‪ .‬وقد كتبت عن هذا‬
‫الموضوع أكثر من مرة ول أريد أن أكرر هنا ماسبق أن قلته‬
‫بل سأكتفي بالقول بأن من غير الجائز أن نعالج النصوص‬
‫المسرحية العالمية باستهانة وخفة‪ ،‬وأن الحذف والضافة في‬
‫مثل هذه النصوص ل يمكن القبول بهما‪ ،‬إل إذا قضت بذلك‬
‫ضرورة قاهرة‪ ،‬وقد انساق مخرج هذه المسرحية‪ ،‬الفنان‬
‫حيدرمنعثر‪ ،‬مع هذا العرف الفني السائد فحذف من نص‬
‫ماكس فريش ماحذف‪،‬وأضاف إليه ما أضاف‪ .‬وإذا كنا‬
‫نتسامح معه في ما حذف واضعين في حسابنا العتبارات التي‬
‫دعته إلى ذلك فليس بوسعنا أن نقبل منه الضافة لن هذا‬
‫يجعله شريكا ً للمؤلف في نصه‪ ،‬بينما تنحصر وظيفته‪ ،‬في‬
‫الواقع‪ ،‬في ترجمة نص المؤلف إلى عرض حي على منصة‬
‫المسرح‪.‬‬
‫ثمة ملحظة أخرى‪ ،‬تدخل في إطار التقاليد المتوارثة في‬
‫مسرحنا المحلي‪ ،‬تلك هي الضجيج الفارغ والحركات العنيفة‬
‫المفتعلة التي يلجأ إليها البعض من مخرجينا لبراز معنى‬
‫بسيط كان في المكان إبرازه بإيماءة صغيرة بليغة‪ .‬وهذه في‬
‫الواقع مستشرية في مسرحنا العراقي‪ .‬فنادرا ً ما يرى المرء‬
‫مسرحية محلية ل يركض فيها الممثلون بصخب أو يرتمون‬
‫بصورة هستيرية على أرضية المسرح‪ ،‬أو يصرخون بأصوات‬
‫نابية هي أقرب إلى نداء الدللين في السواق منها إلى التعبير‬
‫الفني المدروس‪ .‬وهنا أرى من المناسب بأن أشير إلى‬
‫نقطتين‪ :‬أولهما أن المشهد المسرحي عمل فني يخضع‬
‫لقوانين الجمال شأن سائر الفنون الخرى‪ ،‬وليس مجرد تعبير‬
‫عفوي كأي تعبير آخر في الحياة اليومية‪ .‬وعندما نتحدث عن‬
‫الطبيعة الفجة في الداء المسرحي )‪ (Naturalism‬فإنما نعني‬
‫هذا اللون من الداء الذي يحاول محاكاة الواقع دون مراعاة‬
‫لمقتضيات الجمال الفني‪ .‬أما النقطة الثانية التي تنبغي‬
‫الشارة إليها في هذا الصدد فهي أن بلغة اليجاز شرط في‬
‫المسرح‪ ،‬كما هي شرط في أي فن آخر‪ .‬وكلما اقتصد‬
‫المسرح في استخدام وسائله التعبيرية كان أقدر على‬
‫الستئثار باهتمام المشاهد وشد انتباهه إلى منصة العرض‪ .‬أما‬
‫هذه الوسائل التي يلجأ إليها بعض المخرجين متوهمين أنهم‬
‫يبتدعون بذلك أساليب جديدة للداء المسرحي كحمل‬
‫المشاعل والشموع ونقر الدفوف والرقص المتشنج على‬
‫منصة المسرح واستخدام ممرات الصالة بوصفها مساحات‬
‫إضافية للعرض المسرحي فليست في نهاية المطاف سوى‬
‫تظاهرات فارغة يراد منها إضفاء بريق خادع على أعمال قيمة‬
‫لها أساسًا‪ .‬ويجدر بنا أن نتذكر هنا أن التهويل والسراف كانا‬
‫سمة الفن السوقي على الدوام‪ .‬ومن المؤسف أن مخرج‬
‫سور الصين قد انساق ـ إلى حد ما ـ مع هذا العرف كذلك‬
‫فنظم تظاهرة للمعوقين دخلت صالة المتفرجين دخول ً صاخبا ً‬
‫واتجهت إلى منصة المسرح وهي تطلق التأوهات فشغلتنا‬
‫بعض الوقت عما يجري على المنصة واضطرتنا أن نلوي‬
‫أعناقنا ليا موجعا ً لنرى مايجري وراء ظهورنا! ولم يكتف‬
‫المخرج بذلك بل جعل ممثليه يتلوون كالديدان على المنصة‬
‫ويركعون في أحد المشاهد فترة ل يستهان بها أمام المبراطور‬
‫‪- 95 -‬‬
‫رافعين مؤخراتهم في وجوهنا‪ ،‬وتلك صورة نابية كان بوسع‬
‫المخرج أن يستعيض عنها بإيماءة موجزة لطيفة ل تجرح‬
‫الذوق‪.‬‬
‫شيء آخر أؤاخذ عليه مخرج المسرحية دون أن أنسى أنه‬
‫جزء من ظاهرة عامة أخذت تتفشى في المسرح العراقي‬
‫خلل السنوات الخيرة‪ ،‬وأعني كثرة الخطاء اللغوية التي‬
‫يرتكبها الممثلون حين يؤدون نصا ً مكتوبا ً باللغة الفصحى‪،‬‬
‫وبعض الخطاء التي سمعناها في مسرحية سور الصين تقع‬
‫على عاتق المخرج نفسه‪ ،‬فقد وجدتها في النص النهائي الذي‬
‫اعتمده في عمله‪ ،‬ولكن معظمها يعود إلىجهل الممثلين‪ ،‬وهم‬
‫كما أعلم من الطلبة وخريجي معهد الفنون الجميلة‪ .‬الذين‬
‫يفترض فيهم اللمام بأبسط قواعد اللغة العربية‪ .‬وأخص‬
‫بالذكر هنا ممثل دور بروتوس الذي أقض مضجع سيبويه‬
‫والكسائي بأخطائه النحوية التي ل تغتفر رغم أنه شاب يتمتع‬
‫بموهبة فنية واضحة‪.‬‬
‫وسأنتقل الن‪ ،‬ودونما إسهاب إلى جانب آخر من جوانب‬
‫العرض‪ ،‬وهو الزياء‪ .‬وينبغي العتراف منذ البداية بأن مهمة‬
‫مصمم الزياء في مسرحية كهذه ليست سهلة على الطلق‪،‬‬
‫فوقائع المسرحية تدور في الصين خلل القرن الثالث قبل‬
‫الميلد وأبطالها ينتمون إلى شتى العصور‪ ،‬فبينهم بروتوس‬
‫ربيب قيصر وأحد قاتليه‪ ،‬وبينهم بيلطس‪ ،‬الحاكم الروماني‬
‫الذي صلب المسيح‪ ،‬وكريستوفر كولومبس ودون جوان‬
‫ونابليون بونابرت ورجل قانون من عصرنا الحاضر وآخرون‪.‬‬
‫ولكن مصمم الزياء وقع في أخطاء فادحة‪ ،‬فثياب بيلطس ل‬
‫تشبه ثياب قائد أو حاكم روماني ـ وقد رأينا مثل هذه الثياب‬
‫في أفلم سينمائية كثيرة ـ بل هي أشبه بثياب حواريي السيد‬
‫المسيح! ومن العجيب أن بعض الكهنة الصينيين كانوا‬
‫يتمنطقون بأحزمة ذات زخارف إغريقية‪ ،‬أما نابليون فإن ثيابه‬
‫لم تذكرنا قطعا ً بهيئته التي نعرفها من لوحات دافيد الشهيرة‪.‬‬
‫ولقد كان بوسع مصمم الزياء أن يتجنب الكثير من الخطاء‬
‫التي وقع فيها لو أنه رجع إلى الكتب المعتمدة في هذا المجال‪،‬‬
‫وهي ليست قليلة على أي حال‪.‬‬
‫ولنعد بعد ذلك إلى أداء الممثلين‪ ،‬الذي أردناه إلى النهاية‬
‫لنه ـ بطبيعة الحال ـ أحق عناصر العرض المسرحي‪،‬‬
‫بالهتمام‪ .‬وسأسارع إلى القول بأن مخرج المسرحية حيدر‬
‫منعثر الذي مثل فيها دور رجل القانون المعاصر هو نجمها‬
‫الول دون منازع‪ ،‬بل هو دون شك أنجح في التمثيل منه في‬
‫الخراج‪ .‬والواقع أن منعثر له ‪ ،‬رغم ضآلته الجسدية‪ ،‬حضور‬
‫ساطع على المنصة‪ ،‬فأنت ل تستطيع أن تحول عنه نظرك‬
‫طوال وجوده على المسرح‪ ،‬ول أدري ماسر ذلك فجاذبية‬
‫الممثل أو عدم جاذبيته لغز ل تفسره أية مواصفات خارجية‬
‫ملموسة‪.‬‬
‫أما بقية الممثلين فتتفاوت حظوظهم من النجاح‪ ،‬وأيا ً كان‬
‫المر فإن من الصعب أن نحكم على مدى إجادة ممثل شاب‬
‫ل ندري مدى صواب التوجيهات التي تلقاها من المخرج‪ .‬وإذ‬
‫نضع في حسابنا كل هذه التحفظات فإن بإمكاننا إن نقول أن‬
‫ممثل دور بيلطس ل يخلو من موهبة‪ ،‬ولكنه لم يفهم طبيعة‬
‫الشخصية التي يؤديها فجاءت أشبه بشخصية قديس مسيحي‬
‫منها بشخصية حاكم روماني‪ .‬أما ممثل بونابرت فقد كان مانعا ً‬
‫ولم يوح إلينا بشيء من جبروت هذه الشخصية التاريخية‬
‫السرة‪ .‬ولم يخل أداء ممثل شخصية المبراطور الصيني من‬
‫القوة ولكن عليه أن يولي نطقه مزيدا ً من الهتمام‪ ،‬فقد كان‬
‫يفتقر أحيانا ً إلى البانة والفصاح‪ .‬وتصدق هذه الملحظة‬
‫‪- 96 -‬‬
‫بصورة أشد على ممثلة دور الميرة مي لن التي لم تكن‬
‫تفتقر إلى جلل أميرة صينية وحسب‪ ،‬بل كانت تهمس‬
‫بكلمات دورها بسرعة ل مبرر لها وبصوت ميكانيكي خافت‬
‫إلى حد جعلني أعجز عن التقاط معظم كلماتها رغم جلوسي‬
‫على مقربة من منصة المسرح‪.‬‬
‫وهذا كله يؤكد حاجة ممثلينا الشبان إلى العناية بأصواتهم‬
‫والتدريب المستمر على وضوح النطق وحسن اللقاء‪.‬‬
‫وبعد فهذه أبرز الملحظات التي يمكن أن تقال عن‬
‫المسرحية التي نحن بصددها في عجالة كهذه‪ .‬ولعل الخوة‬
‫الحاضرين قد لحظوا أنني ركزت على جوانب الضعف في‬
‫المسرحية واكتفيت بأن أشير إلى مزاياها بشكل عابر‪ .‬والواقع‬
‫أن هذا لم يكن لقلة مزاياها‪ ،‬وإنما لحرصي على أن يتجاوز‬
‫مسرحيونا الشباب أنفسهم ويتغلبوا على نواقصهم ليصلوا إلى‬
‫المستوى الذي نريد‪ .‬وإذا كان البعض ممن حضروا هذه‬
‫الندوات قد ضاقوا بما سمعوا من نقد وردوا على النقاد بحدة‬
‫ينقصها التروي والموضوعية فإنني آمل أن أجد لدى مسرحيينا‬
‫الشبان قدرا ً أكبر من الوعي ورحابة الصدر والقدرة على‬
‫يستطيع بدون النقد أن يتدارك عيوبه ‪،‬‬ ‫التعلم‪ ،‬لن الفنان ل‬
‫ويتفوق على نفسه‪.((24)).‬‬

‫‪‬‬

‫))(( ووووو وو وووووو ووووو وووووو وووووو وووووو )‬ ‫‪24‬‬


‫‪.(1989‬‬
‫‪- 97 -‬‬
‫خواطر حول كتاب‬
‫دراســات فــي المســرح العربــي‬
‫المعاصر‬

‫إذا صح ماذكره الدكتور أحمد سليمان الحمد من أن‬


‫مسرحية المروءة والوفاء‪ ،‬التي نشرها الشيخ خليل‬
‫اليازجي في عام ‪ 1876‬هي أول مسرحية شعرية كتبت‬
‫بالعربية فمعنى ذلك أن لمسرحنا الشعري اليوم تاريخا ً يقرب‬
‫من مائة عام‪.‬وليست هذه بالفترة الوجيزة‪ ،‬ومع ذلك فإن‬
‫المكتبة العربية مازالت تفتقر إلى مراجع وافية يعود إليها‬
‫المعنيون بهذا الموضوع‪ .‬ولعل كتاب الدكتور الحمد الذي بين‬
‫ي نشأة هذا‬ ‫أيدينا هو أول محاولة يقوم بها باحث عربي لتقص ّ‬
‫المسرح وتحديد ملمحه البارزة وارتباطه بالقضايا التي أثارها‬
‫تطور المجتمع العربي خلل هذه الحقبة الطويلة من تاريخ‬
‫المة‪.‬‬
‫ومن الطبيعي أل تكون محاولة الدكتور الحمد مبرأة من‬
‫النواقص والثغرات‪ ،‬فقد سلك طريقا ً غير ممهدة‪ ،‬فضل ً عن أن‬
‫مادة البحث هي من الغزارة والتنوع بحيث يصعب باللمام بها‬
‫ضمن دراسة واحدة‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن جهد المؤلف جدير بالثناء‪،‬ول يسع الناقد‬
‫المنصف‪ ،‬رغم ماقد يجد في الكتاب من مآخذ‪ ،‬إل أن ينوه بهذا‬
‫الجهد الملحوظ الذي بذله الدكتور الحمد في مجال تحاماه‬
‫الباحثون والنقاد تجنبا ً لمشقة الستقصاء والتحليل والمقارنة‬
‫والتقويم‪.‬‬
‫انتهج المؤلف في دراسته طريقة تجمع بين المنهج‬
‫التاريخي والمنهج السوسيولوجي‪ ،‬فخصص القسم الول من‬
‫كتابه للشكال المسرحية البدائية التي ظهرت عند العرب‬
‫بالقدمين‪ ،‬وحاول أن يفسر ظاهرة تأخر نشوء المسرح‬
‫العربي‪ ،‬ثم استعرض المراحل التي مرت بها المسرحية‬
‫الشعرية العربية خلل تسعين عاما ً تبدأ بمسرحية المروءة‬
‫والوفاء في عام ‪ 1876‬وتنتهي بعام‪.1966‬‬
‫وتطرق المؤلف في القسم الثاني من كتابه إلى انعكاسات‬
‫الواقع الجتماعي في المسرح الشعري العربي‪ .‬وقد تضمن‬
‫هذا القسم سبعة فصول عن المرأة والصراع بين العادات‬
‫والتجديد‪ ،‬والفئات الجتماعية والشعب والحصار‬
‫‪- 98 -‬‬
‫والهروب والواقع والخيال‪.‬‬
‫وفي القسم الثالث ـ ولعله أمتع وأعمق مافي هذا الكتاب‬
‫ـ يتناول المؤلف مسرحية قدموس للشاعر اللبناني سعيد عقل‬
‫محاول ً استجلء رموزها في ضوء أيديولوجية هذا الشاعر‬
‫ومفاهيمه السياسية المعروفة‪.‬‬
‫أما القسم الخير من الكتاب فيعالج المسرح الشعري‬
‫العربي من حيث هو وثيقة تاريخية تعرض على الجمهور‬
‫العربي قسما ً طيبا ً من تاريخه دون كبير تشويه‪ ،‬على‬
‫حد تعبير المؤلف‪.‬‬
‫هذه هي الخطة العامة التي اعتمدها الدكتور الحمد في‬
‫دراسته‪ ،‬ومن الواضح أنه أغفل جانبا ً عظيم الهمية‪ ،‬هو الجانب‬
‫الجمالي ـ التقني في المسرح الشعري العربي‪ ،‬فلم يتطرق إل‬
‫عرضا ً وفي مواضيع متفرقة إلى مدى إلمام شعرائنا‬
‫المسرحيين بقواعد الفن الدرامي‪ ،‬ومدى نجاحهم في بناء‬
‫الحبكة المسرحية المتماسكة والشخصيات الدرامية الحية التي‬
‫يمكنها أن تصمد لختبار العرض المسرحي‪ ،‬ومدى قدرتهم على‬
‫تسخير أدوات الشعر لتصعيد الفعل الدرامي وإبراز مضمونه‬
‫الساسي والتحكم في إيقاعاته‪ .‬وبالتالي فإن الكتاب لم‬
‫يتضمن أي تصنيف لنتاجات مسرحنا الشعري من حيث القيمة‬
‫الفنية‪ ،‬ويبدو أن المؤلف آثر أن يترك هذا الجانب من الموضوع‬
‫لدراسة أخرى مستقلة أو لباحث آخر يتناولـه‪ .‬ولكنا ل نقّر‬
‫الدكتور الحمد على منهجه هذا‪ ،‬لن القضايا التي خصها‬
‫باهتمامه ل يمكن أن تدرس دراسة علمية وافية بمعزل عن‬
‫القضايا الفنية التي يثيرها المسرح الشعري‪ .‬وسنقتصر هنا‬
‫علىمثال أو مثالين‪ .‬فالدكتور الحمد يلحظ ـ وهو على صواب ـ‬
‫أن شعراءنا المسرحيين لجؤوا إلى التاريخ والسطورة‬
‫وأولوهما اهتماما ً يفوق اهتمامهم بالواقع الجتماعي الحي‪ .‬وهو‬
‫يعزو هذه الظاهرة‪ ،‬في المقام الول‪ ،‬إلى أسباب أيديولوجية‬
‫وسياسية‪ ،‬إذ يراها وليدة الرغبة في العودة إلى التاريخ‬
‫لنتمكن من مد جسر بين الماضي والحاضر‪ ،‬ومواصلة‬
‫السير هكذا نحو المستقبل دون انفصام‪ ،‬ولنعرض‬
‫آراء قد نرى من غير المناسب التعبير عنها بشكل‬
‫مباشر في نطاق واقعي ‪/‬ص ‪ . /196‬أما السبب الفني‬
‫الوحيد الذي يقدمه الدكتور الحمد لهذه الظاهرة فهو أن‬
‫المؤلفين الذين ل يرتكزون إلى تقاليد عريقة في‬
‫هذا المجال يستسهلون خوض مواضيع تاريخية أو‬
‫أسطورية حيث الحداث والمواقف مهيأة‪ ،‬مسلسلة‪،‬‬
‫المر الذي يوفر عليهم جهد الخيال مستفيدين هكذا‬
‫من إطار درامي موجود في الواقع ‪/‬ص‪ ./196‬وهذا‬
‫تفسير غير مقنع بالمرة‪ ،‬فبناء العمل الدرامي على حكاية‬
‫جاهزة ل يعفي الكاتب من جهد الخيال وإل لكان اسخيلوس‬
‫وسوفوكليس وشكسبير أفقر الشعراء خيال ً لن جل ما كتبوه‬
‫كان مستمدا ً من التاريخ والسطورة‪ ،‬بل إن شكسبير بنى عددا ً‬
‫ل(‪ ،‬على أعمال‬ ‫من أعظم مسرحياته )كالملك لير وهاملت مث ً‬
‫درامية سابقة‪ .‬أما السببان الولن فهما معقولن‪ ،‬ولكنهما ل‬
‫يؤلفان تفسيرا ً كافيا ً لهذه الظاهرة‪ .‬ولنأخذ أحمد شوقي مث ً‬
‫ل‪،‬‬
‫فهل يصح القول بأنه لجأ إلى التاريخ ليقول أمورا ً لم يكن من‬
‫المناسب إبداؤها بشكل صريح مباشر؟ ليس ثمة مايبرر‬
‫افتراضا ً من هذا النوع‪ ،‬فشوقي لم يكن شاعرا ً ثوريا ً مناوئا ً‬
‫للسلطة‪ ،‬ولم يكن لديه مايدعوه إلى الخوف من الجهر بآرائه‬
‫الصلحية المعتدلة‪ .‬وإذا أردنا أن نفسر لجوءه إلى التاريخ‬
‫والسطورة فعلينا أن نبحث عن السبب‪ ،‬ل في العتبارات‬
‫السياسية أو الجتماعية‪ ،‬وإنما في العتبارات الفنية‪ .‬وهنا تبرز‬
‫نقطتان أساسيتان‪ ،‬أولهما تتعلق بالمسرح الشعري عمومًا‪،‬‬
‫‪- 99 -‬‬
‫والثانية تتعلق بأحمد شوقي بالذات‪.‬‬
‫إن المسألة الجوهرية التي أغفلها الستاذ الباحث هي أن‬
‫الموضوعات التاريخية أنسب للمسرح الشعري من‬
‫الموضوعات المعاصرة‪ ،‬ولو عدنا إلى تاريخ المسرح الوروبي‬
‫لوجدنا أنه لم يتخل عن الشعر الذي لزمه منذ نشأته إل عندما‬
‫ظهرت الدراما البورجوازية الحديثة )أو الكوميديا الجادة كما‬
‫سماها ديدرو( في أواسط القرن الثامن عشر‪ .‬فقد أدارت‬
‫الدراما الحديثة ظهرها للشعر عندما استعاضت عن التاريخ‬
‫بأحداث الواقع الملموس‪ ،‬وعن الملوك والبطال والشخصيات‬
‫السطورية بأبناء الطبقة البرجوازية الصاعدة‪ ،‬ويبدو هذا‬
‫التحول منطقيا ً ومفهوما ً إلى حد بعيد‪ .‬فإذا كان أمرا ً مقنعا ً‬
‫للقارئ والمتفرج أن يتحدث اللهة والملوك القدامى‬
‫والعرافون السطوريون بلغة الشعر النيقة‪ ،‬فإن مما يضعف‬
‫الصدق والنسجام في الشخصيات المسرحية أن يتكلم التجار‬
‫والسوقة وأشباههم بإيقاعات شعرية ولغة فنية عالية‪ ،‬وقد‬
‫فطن شكسبير ذلك الواقعي العظيم‪ ،‬إلى هذه الحقيقة فجعل‬
‫السوقة في مسرحياته يتكلمون النثر ))كحديث الحارس في‬
‫المشهد الثالث من الفصل الثاني من مسرحية ماكبث مث ً‬
‫ل((‪.‬‬
‫وقد نواجه هنا اعتراضا ً مؤداه أن الكوميديا الشعرية قد‬
‫لجأت إلى الموضوعات المستمدة من الواقع الملموس منذ‬
‫عهد أرستوفان‪،‬‬
‫وأن أبطال موليير كانوا يتخاطبون بالكلم الموزون‬
‫المقفى رغم كونهم من معاصريه‪ .‬وهذا صحيح‪ ،‬ولكن للشعر‬
‫في الكوميديا الضاحكة دورا ً آخر غير دوره في التراجيديا أو‬
‫الكوميديا الجادة)‪ .(25‬ففي الكوميديا الضاحكة يساعد الشعر‬
‫على تعميق عنصر المفارقة في الشخصيات والمواقف‪ ،‬ويؤدي‬
‫الوظيفة التي يؤديها شعر الهجاء‪ .‬ويفتقر الشعر الكوميدي‬
‫إجمال ً إلى ذلك الجلل الذي نحسه في الشعر التراجيدي‬
‫والذي يضاعف عندنا الشعور بعظمة الحدث وخطورة الصراع‬
‫الدائر‪.‬‬
‫إن هذه الحقيقة –وأعني ملءمة الحدث التاريخي أو‬
‫السطوري للدراما الشعرية‪ -‬هي التي جعلت الشاعر العربي‬
‫يلتفت إلى التاريخ باحثا ً عن مادة نتاجاته المسرحية‪ .‬وليس في‬
‫ذلك من ضير مادام الشاعر ل يكتفي بوظيفة المؤرخ‪ ،‬بل يتخذ‬
‫من أحداث الماضي مدخل ً إلى معالجة مشكلت الحاضر‪،‬‬
‫ويقدم إلينا في إطار التاريخ شخصيات وصراعات ماثلة في‬
‫الواقع الحي‪ .‬وهذا ما فعله جميع كتاب المسرحية التاريخية‬
‫الكبار ابتداء من اسخيلوس حتى ت‪ .‬س‪ .‬ايليوت‪ .‬ويتوجب‬
‫هنا التمييز بين عنصرين من عناصر الدراما‪ ،‬هما مادتها )‬
‫‪ (subject‬وموضوعها )‪ .(theme‬فالعنصر الول يدخل ضمن‬
‫مكونات الشكل الدرامي وهو في ذاته ل يدل على القضايا‬
‫التي يثيرها العمل الدرامي‪ ،‬أما الثاني فهو من مكونات‬
‫المضمون وفيه تتمثل القضية الساسية المطروحة‪ .‬ومن‬
‫السذاجة أن يتصور أحد أن مأساة هاملت مثل ً ليست سوى‬
‫صياغة درامية لبعض الحداث الفاجعة التي وقعت في بلط‬
‫الدانمارك خلل العصور الوسطى‪ ،‬فلو كان المر كذلك لما‬
‫حظي هاملت بكل ما أوله إياه نقاد المسرح والدب من‬
‫)( وو ووووووو وو وووو ووو وو وووو ووءءءءء وو ووو‬ ‫‪25‬‬
‫وووووو وو وووووو ووووووو وووووووو وووو ووووو وو‬
‫وووو وووو ووو وو ووو وووو وووو ووو ووووو ووووو‪ .‬ووو‬
‫ووو وووو ووووو وووووو وووووو ووو وووووووووو‬
‫وووووءءءءءو ووووووو ووو ووووو وو وو وووو وووووو‬
‫وووووووو وووووو وووو وووووو‪.‬‬
‫‪- 100 -‬‬
‫اهتمام عظيم‪.‬‬
‫والواقع أن شخصيات المسرح الشكسبيري تحمل وراء‬
‫ملمحها وأزيائها التاريخية هواجس إنسان العصور الحديثة‬
‫وطموحاته وصراعاته الداخلية‪ .‬وهذا يجعل مسرح شكسبير‬
‫قريبا ً إلى نفوسنا‪ ،‬بل ويجعلنا –كما عبر برناردشو‪ -‬نجد فيه‬
‫أنفسنا‪.‬‬
‫هذا عن المسرح الشعري بوجه عام‪ .‬أما في ما يتعلق‬
‫بأحمد شوقي بالذات فقد كان على الستاذ الباحث أن ينتبه‬
‫إلى أن الرجل تلقى ثقافته الجامعية في فرنسا واطلع على‬
‫أعمال قطبي المسرح الكلسيكي الفرنسي كورني وراسين‪.‬‬
‫وثمة مايدعو إلى العتقاد بأنه اطلع على الدراما الشكسبيرية‬
‫في ترجمتها الفرنسية أو العربية‪ ،‬المر الذي يفسر عدم تقيده‬
‫بمبدأ الوحدات الثلث وإدخاله بعض العناصر الكوميدية في‬
‫المأساة‪ ،‬مما يتعارض مع قواعد بوالو التي خضع لها‬
‫المسرح الكلسيكي الفرنسي‪ .‬وقد يكون شاعرنا اطلع كذلك‬
‫على مسرح لوبي دي فيغا وكالديرون في أثناء إقامته‬
‫الطويلة في إسبانيا‪ .‬ولكننا ل نملك أية معلومات حول هذا‬
‫الموضوع‪ .‬بيد أن المر الذي ل شك فيه أن كورني وراسين‬
‫وشكسبير كان لهم أثر حاسم في توجه أحمد شوقي نحو‬
‫المسرحية التاريخية‪.‬‬
‫إن هذا المثال –وهو واحد من أمثلة عديدة‪ -‬كاف للتدليل‬
‫على أن من غير الممكن إغفال المنهج الجمالي والمؤثرات‬
‫الفنية عند دراسة المسرح الشعري العربي‪ ،‬حتى عندما تكون‬
‫غاية هذه الدراسة –كما أراد الدكتور الحمد‪ -‬البحث عن‬
‫انعكاسات قضايا الواقع الجتماعي بفئاته وصراعاته المختلفة‬
‫في نتاجات هذا المسرح‪.‬‬
‫ولنعد الن إلى الكتاب لنتابع آراء الدكتور الحمد في حدود‬
‫المنهج الذي اختاره‪ .‬وسنوجز قدر المكان‪ ،‬لن غايتنا ل تتعدى‬
‫في الواقع رسم الخطوط العامة لهذا البحث دون الدخول في‬
‫الجزئيات والتفاصيل‪.‬‬
‫لقد تناول المؤلف في القسم الول من كتابه بعض‬
‫الشكال "المسرحية" التي سبقت ظهور المسرح عند العرب‬
‫وحاول أن يجيب على هذا السؤال الشائك‪ :‬لماذا تأخر ظهور‬
‫المسرح العربي؟… واحسب أنه كان موفقا ً على العموم في‬
‫تشخيص كثير من الطقوس والعادات العربية القديمة التي‬
‫تشتمل على عناصر مسرحية‪ ،‬ولكنه خلط في موضع أو‬
‫موضعين بين ما يمكن اعتباره شكل ً بدائيا ً من أشكال المسرح‬
‫وبين بعض صور الحياة العربية التي يمكن أن تكون مادة لعمل‬
‫مسرحي بحكم اشتمالها على عناصر درامية‪ .‬ويمكن الفصل‬
‫بين هاتين الظاهرتين على النحو التالي‪:‬‬
‫إن كثيرا ً من الطقوس والعادات التي تمارس في العياد‬
‫والمناسبات الدينية وغيرها كالعراس ولعبة المبارزة والمواكب‬
‫الحسينية التي يطلع فيها بعض الشخاص بأدوار تاريخية معينة‬
‫يمكن إدخالها ضمن الشكال البدائية للمسرح‪ ،‬لنها ترتكز إلى‬
‫مجموعة من الحركات والزياء )وأحيانا ً الحوارات( المعدة سلفا ً‬
‫ولنها تتوخى إيهام جمهرة المتفرجين‪ .‬فالمسرح في جوهره‬
‫هو إعادة عرض وقائع معينة ذات دللة‪ ،‬بغية خلق أثر معين في‬
‫نفس المشاهد‪ ،‬في حين أن الملحمة وماتفرعت عنه من‬
‫أشكال أدبية‪ ،‬كالرواية والقصة‪ ،‬هي سرد وقائع ذات دللة‪.‬‬
‫وأول ما تمتاز به حلبة المسرح أو خشبته هو أنها تنفي نفسها‬
‫فل تعود مسرحًا‪ ،‬بل تتحول في ذهن المتفرج إلى حجرة في‬
‫منزل أو ركن من شارع عام أو ميدان قتال أو أي مكان آخر‬
‫‪- 101 -‬‬
‫يفترض أن أحداث العمل المسرحي وقعت فيه‪ .‬وهكذا فإن‬
‫مشهد الشمر بن ذي الجوشن على ظهر جواده في موكب‬
‫عزاء المام الحسين ومرأى الحسين نفسه وهو ملفوف بأكفان‬
‫بيضاء مضرجة بالدماء هما مشهدان مشتملن على طابع‬
‫مسرحي‪ ،‬لن غايتهما إيهام المتفرج ونقله إلى مكان الحدث‪.‬‬
‫أما مرأى فارس حقيقي يدافع في الصحراء عن فتاته الجميلة‬
‫التي يراد اختطافها منه )وهو من المثلة التي ذكرها الدكتور‬
‫الحمد( فليس له أي طابع مسرحي‪ ،‬لن ما يجري هو معركة‬
‫حقيقية ل إيهام بمعركة‪ .‬وكل ما يمكن قوله حول وقائع من‬
‫هذا النوع أنها تنطوي على عنصر درامي يمكن استخدامه في‬
‫بناء مشهد مسرحي‪.‬‬
‫وفي فصل آخر من الكتاب يطرح المؤلف السؤال القديم‪:‬‬
‫لماذا تأخر ظهور المسرح عند العرب؟‪ ..‬وجوابا ً على ذلك‬
‫يعرض لنا بعض الجتهادات التي توصل إليها الباحثون في هذا‬
‫المضمار‪ ،‬كعدم الستقرار الذي اتسمت به حياة العرب‬
‫القدمين‪ ،‬وغياب المفهوم المأساوي في الحياة عند العرب‬
‫وافتقارهم إلى تلك الساطير والطقوس الدينية الغنية التي‬
‫تمخضت عن المسرح الغريقي‪ .‬ويبدو لي أن هذه الجتهادات‬
‫ل تلقي ضوء كافيا ً على المشكلة‪ ،‬بل إن منها ماهو باطل‬
‫أساسا ً كرأي الدكتور عز الدين اسماعيل حول غياب المفهوم‬
‫المأساوي عند العرب‪ .‬ومن النصاف للستاذ الباحث أن نقول‬
‫إنه لم يتبّين أيا ً من هذه الراء‪ ،‬بل اكتفى بإيرادها والتعليق‬
‫عليها‪ .‬وبقيت المشكلة غير محلولة‪ ،‬وأكبر الظن أنها ستبقى‬
‫كذلك‪.‬‬
‫وفي القسم الثاني من الكتاب يتناول المؤلف القضايا‬
‫الجتماعية التي عالجها المسرح الشعري العربي‪ ،‬مركزا ً‬
‫اهتمامه بالدرجة الولى على مسرح شوقي وعزيز أباظة‬
‫ومسرحية عبد الرحمن الشرقاوي الفتى مهران‪ .‬وهذا‬
‫الهتمام يرتكز إلى اعتبارات وجيهة دون شك‪ ،‬ولكنه ل يبرر‬
‫إغفال المؤلف لعدد من العمال المسرحية الشعرية التي‬
‫تستمد أهميتها من قيمتها الفنية أو من مكانها في مسار تطور‬
‫المسرح الشعري العربي‪ .‬ومن المثلة التي تحضرني في هذا‬
‫الصدد –وهي كثيرة‪ -‬مسرحيتا الشاعر العراقي خالد الشواف‬
‫شمسووالسوار اللتان لم تظفرا من الستاذ الباحث بأكثر‬
‫من إشارة عابرة غير دقيقة‪ ،‬رغم أنهما كانتا محاولة رائدة في‬
‫استيحاء التاريخ البابلي القديم وفي خلق مسرح شعري‬
‫عراقي‪ .‬وإذا كانت شمسوالتي كتبها الشواف في عهد مبكر‬
‫من حياته عمل ً تغلب عليه الركاكة‪ ،‬فإن السوار تمثل نضجا‬
‫ملحوظا ً في البناء الدرامي والصياغة الشعرية إذا قيست‬
‫بغيرها من نتاجات المسرح الشعري الكلسيكي العربي‪ .‬ومن‬
‫المؤسف أن الشواف الذي بدأ بداية طيبة تعد بالكثير قد هجر‬
‫الشعري بعد السوار‪ ،‬ربما لن عمله لم يجد الصدى‬ ‫المسرح‬
‫الذي يستحقه*‪.‬‬
‫بقي أن نتساءل‪ :‬إلى أي حد وفق الدكتور أحمد سليمان‬
‫الحمد في استقصاء القضايا الجتماعية الساسية التي عالجها‬
‫مسرحنا الشعري؟ ثمة أكثر من مأخذ على المنهج الذي اتبعه‬
‫في عرض هذه القضايا وفي تحليله لبعض الشخصيات‬
‫والمواقف الدرامية‪ ،‬ولكنه يصل في نهاية المطاف إلى‬
‫تعميمات صحيحة‪ ،‬منها أن مسرحنا الشعري كان سطحيا ً في‬
‫معالجته لقضايا العصر‪ ،‬وأنه أغفل أحداثا ً جساما ً في تاريخنا‬
‫*‬
‫ووووو ووووووو ووو وو وووووو وو وووو ووو ووووو‬
‫وووووووو وو ووووووو ووووووو ووو ووووووو ووووو‬
‫ووووو وووووو وو ووووووووووو ووووو‪.‬‬
‫‪- 102 -‬‬
‫المعاصر كالحرب العالمية الثانية والعدوان الثلثي على مصر‬
‫عام ‪ 1956‬والتحولت الثورية التي جرت في العالم العربي‬
‫مل التاريخ‬‫خلل السنوات المنصرمة‪ .‬كما أن هذا المسرح ح ّ‬
‫مال يحتمل ولم يتعمق السباب الحقيقية الكامنة وراء أحداثه‪.‬‬
‫ل‪ -‬لم ينتبه إلى العوامل القتصادية والستراتيجية‬ ‫فشوقي –مث ً‬
‫التي جعلت قمبيز يستولي على مصر‪ .‬وكليوباترا في مسرحية‬
‫شوقي المعروفة ل تمت بصلة إلى كليوباترا التي حدثتنا عنها‬
‫كتب التاريخ‪ ،‬بينما نجد عبلة‪ ،‬في مسرحية عنترة لحمد‬
‫شوقي‪ ،‬تخطب في قومها داعية إلى تحرير العرب واتحادهم‬
‫في دولة‪ .‬ومن الطبيعي –كما أشار المؤلف‪ -‬أن مثل هذا‬
‫التفكير والمعالجة لم يكونا واقعين بالنسبة للمكان والزمان‬
‫اللذين تجري فيهما تلك الحداث‪ .‬على أن من الضروري أن‬
‫نشير إلى أن الستاذ الباحث لم يراع دوما ً دقة المصطلح‪ ،‬فهو‬
‫يستخدم كلمة التردد للدللة على ما يسمى عادة في قاموس‬
‫المسرح بـ الصراع الداخلي‪ ،‬أي التمزق الروحي الذي يعانيه‬
‫المرء حين تتنازعه عواطف متضاربة أو حين يجد نفسه أمام‬
‫اختيار صعب بين ماتهواه النفس ومايمليه الواجب‪ .‬وهذا النمط‬
‫من الصراع هو قوام المسرح الكلسيكي الفرنسي وهو عنصر‬
‫أساسي في الكثير من العمال التراجيدية العظيمة‪.‬‬
‫وليس البطل التراجيدي‪ ،‬الذي تتقاذفه تيارات داخلية‬
‫متعارضة‪ ،‬شخصية سلبية مترددة –كما يؤخذ من كلم الدكتور‬
‫الحمد‪ -‬بل هو في الغالب ضحية التناقض بين ما يضطرم في‬
‫نفسه من نوازع إنسانية مشروعة وبين العرف الجتماعي‬
‫الصارم أو الضرورة التاريخية‪ .‬ومن هنا جاءت إدانة المؤلف‬
‫لشخصية ليلى في مسرحية أحمد شوقي المعروفة إدانة غير‬
‫منصفة‪ ،‬فهي في رأيه شخصية سلبية جبانة لنها آثرت الخضوع‬
‫للتقاليد بدل ً من الثورة عليها والقتران بمن تحب‪ .‬والواقع أن‬
‫ليلى في مسرحية شوقي هي بطلة تراجيدية نبيلة ضحت‬
‫بسعادتها وبحياتها إيثارا ً لواجبها نحو أبيها الذي لم ترد أن‬
‫تجلب له العار‪ .‬وبالتالي فإن الدانة يجب أن توجه ل إليها بل‬
‫إلى التقاليد الجائرة التي تحول بين النسان وبين ممارسة حقه‬
‫النساني المشروع‪ ،‬ولعل هذا ما أراده شوقي بالذات‪.‬‬
‫وقبل أن ننتهي من هذا الستعراض لمواد الكتاب –وهو‬
‫ف بالضرورة‪ -‬لبد أن نشير إلى أن الدكتور‬ ‫استعراض غير وا ٍ‬
‫الحمد بلغ أقصى حد من التوفيق في تحليله المقنع لرموز‬
‫مسرحية قدموس للشاعر اللبناني سعيد عقل‪ .‬وما من سبيل‬
‫إلى الجزم بأن الشاعر أودع رموزه هذه المعاني التي‬
‫استخلصها الباحث‪ ،‬ولكن هذه المعاني تبدو وجيهة تماما ً حين‬
‫توضع آراء الخلفية الفكرية لهذا الشاعر اللبناني‪ .‬وقد كنا نود‬
‫لو أن الدكتور الحمد تناول هذه المسرحية من جوانبها الفنية‬
‫الخرى واتخذ منها منطلقا ً لدراسة بعض المشاكل التقنية التي‬
‫يثيرها المسرح الشعري العربي‪ .‬وهنالك الكثير مما يمكن أن‬
‫يقال في هذا الصدد‪ ،‬فهذه المسرحية مكتوبة برمتها على‬
‫البحر الخفيف مع كثير من التدوير واليقاعات البطيئة‪ ،‬فضل ً‬
‫عن التزويق اللفظي الذي عرف به سعيد عقل‪ .‬وهي من هذه‬
‫الناحية أقرب إلى الشعر الغنائي منها إلى الشعر الدرامي‪ ،‬كما‬
‫أنها خطوة إلى الوراء بالقياس إلى مسرحيات شوقي التي‬
‫تمتاز بتعدد البحور مع جنوح ملحوظ إلى استخدام الوزان‬
‫القصيرة ذات اليقاعات الدينامية السريعة التي هي أصلح‬
‫إجمال ً للحوار المسرحي‪ .‬وينبغي هنا أن نتذكر تلك القاعدة‬
‫ح الشاعر النكليزي الكبير أليوت على إيضاحها‬ ‫الذهبية التي أل ّ‬
‫في كتاباته النقدية‪ ،‬وهي أن الشعر في المسرح يجب أن يبرز‬
‫نفسه دراميا ً‪.‬‬
‫ويثير مسرح عبد الرحمن الشرقاوي بدوره إشكالت فنية‬
‫‪- 103 -‬‬
‫جديرة بالدراسة‪ .‬فكثيرا ً ما يتطلب اليقاع الشعري في‬
‫مسرحيات الشرقاوي من الممثل وقفة قصيرة ينتقل بعدها‬
‫إلى البيت التالي‪ ،‬بينما المعنى متصل ل يسمح بالتوقف‪ .‬وهنا‬
‫تتحتم التضحية إما بمقتضيات الداء المسرحي السليم أو‬
‫بسلمة اليقاع‪ .‬وكثيرا ً ما يسف الشعر في مسرح الشرقاوي‬
‫إلى مستوى النثر المهلهل وتصبح علقته بالشعر الدرامي‬
‫مجرد علقة خارجية متمثلة في الوزن‪ .‬وفي هذه الحالة يؤدي‬
‫الشعر في المسرح دورا ً سلبيا ً لنه يخلخل الفعل الدرامي‬
‫ويضعف قدرته على التأثير واليحاء‪ .‬وهذه ليست سوى أمثلة‬
‫قليلة من القضايا التي يطرحها مسرحنا الشعري الناشئ والتي‬
‫تتطلب دراسات جمالية دقيقة تستند إلى العلم والممارسة ل‬
‫إلى الحكام العتباطية المتسرعة‪.‬‬
‫ونعود فنكرر في الختام أن دراسة الدكتور أحمد سليمان‬
‫الحمد على مايشوبها من نواقص هي خطوة محمودة نحو‬
‫دراسة المسرح الشعري العربي‪ ،‬ونأمل أن تتلوها خطوات‬
‫أخرى تسد هذا الفراغ الكبير الذي خلقه تقاعس الباحثين‪.‬‬

‫ءءءء ‪1973‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 104 -‬‬


‫هل نحتاج حقا ً‬
‫إلى المسرح الملحمي؟‬

‫حين يستعرض المرء التيارات والمفاهيم السائدة في‬


‫المسرح العربي المعاصر فلن يصعب عليه أن يلحظ أن‬
‫بريشت ومسرحه الملحمي قد تركا أثرا ً عميقا ً في مجرى‬
‫حياتنا المسرحية‪ .‬وتتبادر إلى الذهن في هذا الصدد تفسيرات‬
‫متعددة منها ما يتصل بمكانة بريشت في المسرح العالمي‬
‫الحديث ومنها ما يتصل بهويته الفكرية والسياسية‪ .‬ولكن أرجح‬
‫هذه التفسيرات عندي هو شيوع العتقاد بأن إضفاء صفة‬
‫الملحمية على عمل مسرحي ما يعفي المؤلف من التقيد‬
‫بأصول الحبكة الدرامية‪ ،‬كما يعفي المخرج والممثل من مشقة‬
‫بناء العرض المسرحي المترابط المقنع‪ .‬ومرد هذا العتقاد إلى‬
‫نظرية بريشت القائلة بضرورة إبطال السحر الذي يمارسه‬
‫المسرح على مشاهديه‪ ،‬هذا السحر الذي يجعلهم يغفلون عن‬
‫أنفسهم وينخرطون عاطفيا ً في الصراعات الدائرة على‬
‫المسرح‪ ،‬ناسين أنها صراعات زائفة تجري بين ممثلين‬
‫حفظوا أدوارا ً مكتوبة وخرجوا لتوهم من غرفة المكياج!‬
‫ولكن لماذا يريد بريشت أن يبطل سحر المسرح؟ لماذا‬
‫يريد لجمهوره أن يظل ساكن النفس‪ ،‬يراقب أحداث‬
‫المسرحية من الخارج دون أن ينغمس فيها؟ إن بريشت نفسه‬
‫يعطينا في كتاباته النظرية إجابة مستفيضة عن هذا السؤال‪.‬‬
‫ول يسعنا‪ ،‬والمجال ضيق‪ ،‬أن نعود الن إلى تلك الكتابات‪ .‬بيد‬
‫أن جوهر المسألة يتلخص في اعتقاد بريشت بأن المسرح‬
‫الرسطوطاليسي التقليدي يخدع جمهوره‪ ،‬فالمسرح‬
‫الرسطوطاليسي –من وجهة نظر بريشت‪ -‬يصنع لجمهوره‬
‫عوالم وهمية تلهيه عن النظر إلى واقعه الحقيقي‪ ،‬ويتلعب‬
‫بعواطفه ليعطل قدرته على التفكير‪ ،‬ويفرض عليه ما يشاء من‬
‫أفكار ومفاهيم دون أن يعطيه فرصة لمناقشتها‪ .‬وهو‪ ،‬بعد‬
‫ذلك‪ ،‬مسرح تغلب عليه السذاجة ول يمتلك من المعارف‬
‫العلمية ما يحتاجه إنسان عصرنا المعقد‪ .‬كما ذهب بريشت إلى‬
‫أن المسرح يجب أن يتحول إلى أداة للتعليم والتغيير بعد أن‬
‫ظل لزمن طويل مقتصرا ً على صنع التسليات والوهام‪ .‬ومن‬
‫هنا كانت دعوته إلى تحطيم هذا السحر الهدام الذي يسلطه‬
‫المسرح على جمهوره‪ ،‬وإزاحة الجدار الرابع الذي اعتاد‬
‫المتفرجون أن يتوهموا أنه موجود وأنهم يرون من خلله أحداثا ً‬
‫فعلية تدور في حجرة مغلقة‪.‬‬

‫‪- 105 -‬‬


‫وبغية عزل المتفرج عاطفيا ً عما يجري على خشبة‬
‫المسرح‪ ،‬لجأ بريشت إلى التقنيات الملحمية )أي الروائية(‪،‬‬
‫فأدخل في أعماله المسرحية عنصري السرد والتعليق وانتهج‬
‫في الكتابة للمسرح أسلوبا ً تبدو معه المسرحية أشبه‬
‫بمجموعة فصول روائية منها بفصول درامية جيدة الحبك‪ .‬وفي‬
‫الخراج غمر بريشت مسرحه بالنور الساطع لئل يدع مجال ً‬
‫للتوهم والندماج‪ ،‬واستعان بالديكور التجريدي واللفتات‬
‫والعروض السينمائية‪ .‬أما في التمثيل فقد ابتدع منهجا ً جديدا ً‬
‫قوامه أن يحتفظ الممثل بمسافة معينة بينه وبين الشخصية‬
‫التي يمثلها‪ ،‬فل يتقمصها ول يعيش حياتها الداخلية –كما يوصي‬
‫منهج ستانسلفسكي‪ -‬وإنما يدرسها ويقدمها إلى الجمهور من‬
‫الخارج‪ ،‬وبأقصى ما يمكن من الدقة‪ .‬وقد تناول بريشت في‬
‫بعض كتاباته النظرية دور الممثل في مسرحه فقال إنه أشبه‬
‫بدور الشاهد الذي رأى في الشارع واقعة اصطدام سيارة‬
‫فوقف يصف ما رآه لحشد من الناس تجمعوا من حوله‪ .‬ومن‬
‫الطبيعي أن الشاهد في مثل هذه الحالة ل يحاول الدعاء بأنه‬
‫ضحية الصطدام‪ ،‬ولكنه يستعين بحركاته ونبرات صوته ليقّرب‬
‫صورة الواقعة إلى أذهان المستمعين الذين تجمعوا لمعرفة‬
‫ماحدث‪ .‬ول أريد أن أسهب في الحديث عن نظرية المسرح‬
‫الملحمي وتقنياته فهذا موضوع معروف في ما أعتقد‪ ،‬ولكني‬
‫أريد التمهيد لهذا السؤال الذي يخامرني منذ فترة طويلة‪:‬‬
‫لماذا يندفع كتابنا وفنانونا المسرحيون إلى تبني نظرية‬
‫المسرح الملحمي بكل هذه الحماسة‪ ،‬بينما يتحفظ إزاءها‬
‫معظم فناني المسرح في العالم؟ أهو ولعنا بكل ماهو خارج‬
‫عن المألوف‪ ،‬أم أن مما يخدم حركتنا المسرحية حقا ً أن نتخلى‬
‫عن قواعد الدراما الرسطوطاليسية؟‬
‫لشك أن نظرية بريشت تستند –كما رأينا‪ -‬إلى مبررات‬
‫قوية‪ ،‬فالمسرح‪ ،‬شأن كل الفنون‪ ،‬ينبغي أن يكون أداة تثقيف‬
‫وتطوير‪ ،‬ل مجرد أداة للتسلية‪ ،‬ولكن من قال إن المسرح ل‬
‫يستطيع النهوض بهذه المهمة إل إذا تجرد من سحره وتخلى‬
‫عن خصائصه الساسية؟ إن ادعاء كهذا سيقودنا لدى التأمل‬
‫إلى نتيجة غريبة جدًا‪ ،‬مؤداها أن العمل الفني يغدو أقل نفعا ً‬
‫للمجتمع كلما كان أمتن بناء وأقدر على إثارة العواطف‪ .‬ومن‬
‫الطبيعي أن هذه النتيجة ل يمكن قبولها‪ ،‬لننا لو قبلنا بها لوجب‬
‫علينا التسليم بأن أية منظومة تعليمية جافة هي أفضل من‬
‫أعمال سوفوكليس وشكسبير‪ .‬والواقع أن المسرح‬
‫الرسطوطاليسي ليس عاجزا ً عن الثارة الفكرية إلى الحد‬
‫الذي يصفه بريشت‪ ،‬فجل العمال المسرحية العظيمة‪ ،‬التي‬
‫عالجت قضايا النسان الساسية والتي تتجدد حياتها على‬
‫منصات المسارح في أرجاء العالم مرة بعد مرة‪ ،‬إنما تنتسب‬
‫إلى هذا النمط من التأليف الذي ينكره بريشت‪ .‬ورغم أن‬
‫القرن العشرين قد شهد –إلى جانب المسرح الملحمي –‬
‫تيارات مختلفة‪ ،‬ألممنا ببعضها في حديث سابق‪ ،‬فقد ظل‬
‫المسرح الرسطوطاليسي التيار المهيمن على الحركة‬
‫المسرحية العالمية حتى اللحظة الراهنة‪ .‬وأحسب أن هذا أمر‬
‫طبيعي تمامًا‪ ،‬فنحن نذهب إلى المسرح سعيا ً وراء المتعة التي‬
‫يوفرها لنا هذا الفن‪ ،‬ل لنستمع إلى جملة من المواعظ التي‬
‫تعترض مجرى المسرحية بين حين وآخر وتشوه بذلك النطباع‬
‫الكلي الموحد الذي يتركه المسرح عادة في نفوس مشاهديه‪.‬‬
‫وثمة من يذهب إلى أن بريشت غالبا ً ما نقض دعوته إلى‬
‫مسرح ملحمي بأعماله المسرحية الرائعة التي تجبر المتفرج‬
‫على النخراط العاطفي في أحداثها‪ ،‬رغم أن مؤلفها قد قصد‬
‫إلى غير ذلك‪ .‬ومما له دللته البليغة في هذا الصدد أن حضور‬
‫المسرح الملحمي قد انكمش منذ وفاة مؤسسه عام‬
‫‪- 106 -‬‬
‫‪ ،1956‬فضل ً عن أن تعاليم بريشت لم تجذب إليها أي مؤلف‬
‫مسرحي ذي شأن‪ ،‬وإن كان بعض كتاب المسرح المعاصرين‬
‫قد أفادوا من تقنياته الملحمية )كظهور الرواية أو المعلق‬
‫ل( دون الخلل بأسس البناء‬ ‫على منصة المسرح‪ ،‬مث ً‬
‫الرسطوطاليسي المتعارف عليها‪ .‬وبالمقابل فقد أثبتت‬
‫المسرحية الخاضعة لهذه السس أنها تتسع –وقد اتسعت‬
‫دومًا‪ -‬لمناقشة الفكار الخطيرة والتنبيه إلى المظالم‬
‫والمخاطر التي تهدد طمأنينة النسان وسلمته‪ ،‬دون أن تمزق‬
‫ي الذي هو قوام كل عمل فني‪ .‬ويحسن بنا أن‬ ‫النسيج الح ّ‬
‫نتوقف قليل ً عند هذه الملحظة الخيرة‪ ،‬التي تلخص في رأيي‬
‫الجانب السلبي في نظرية بريشت الملحمية‪ ،‬فالنص الدبي‬
‫–أيا ً كان نوعه‪ -‬ل يمكن أن يقتصر على مخاطبة العقل وحده‪،‬‬
‫كما أراد الكاتب اللماني الكبير‪ ،‬بل هو يخاطب وجدان المتلقي‬
‫بكل مكوناته‪ ،‬وأهمها الستجابة العاطفية التي يصر بريشت‬
‫على إلغائها‪ .‬وليس عمل ً فنيا ً هذا الذي يعجز عن إثارة عواطفنا‬
‫وشعورنا بالجمال‪ .‬ول يتعارض هذا مع وجود الفكر في العمال‬
‫الفنية‪ ،‬فالفكر جزء من مواجهة النسان لعالمه‪ ،‬هذه المواجهة‬
‫التي تؤلف مادة الفن‪ ،‬ولكنه في النهاية ليس إل جزءا ً واحدا ً‬
‫من استجابتنا المعقدة لعالم الناس والشياء‪ .‬وهكذا فحتى‬
‫أولئك الذين يشايعون بريشت ل يجدون مناصا ً من العتراف‬
‫بأنه كان متطرفا ً في دعوته‪.‬‬
‫مرة أخرى أعود إلى التساؤل‪ :‬هل أفاد مسرحنا العربي‬
‫من مفهوم بريشت الملحمي؟ وفي ظني أن الجواب ل يحتاج‬
‫إلى تنقيب طويل‪ .‬يكفينا أن نتفحص واقعنا المسرحي العربي‬
‫لنكشف أن صفة المسرح الملحمي أصبحت‪ .‬في كثير من‬
‫الحيان‪ ،‬غطاًء يستر رداءة النص وتفكك العمل المسرحي‪.‬‬
‫ويعمد مؤلفونا الملحميون‪ ،‬عادة‪ ،‬إلى التنميق اللفظي‬
‫والعبارات الثورية والمواعظ الخلقية ليعوضوا عن غياب‬
‫الحبكة واضطراب السياق وافتقار الشخصيات إلى ملمح‬
‫إنسانية واضحة‪ .‬ومن الطبيعي أن الثرثرة المنمقة وحدها ل‬
‫تكفي لجتذاب الجمهور إلى المسرح‪.‬‬
‫ولذلك فإن المهمة التعليمية الوحيدة التي أنجزتها هذه‬
‫العمال الملحمية حتى الن هي تعليم الجمهور على البحث‬
‫عن المتعة الثقافية في مكان آخر غير المسرح؟‬

‫ءءءءء ‪1977‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 107 -‬‬


‫حول‬
‫خصائص التأليف الدرامي‬

‫قلت في حديث سابق لي أن الفنان كثيرا ً ما يلجأ إلى‬


‫الكذب البريء ليتمكن من إحداث الثر الذي يريد إحداثه في‬
‫النفوس‪ .‬وقلت إن المسرح ربما كان أشد الفنون إيغال ً في‬
‫الكذب بحكم طبيعته الخاصة‪ .‬ولبد لي قبل أن أغادر هذه‬
‫الفكرة العامة من أن أضيف مستدركا ً أن ما قلته عن الكذب‬
‫الفني ل ينطبق على الفنون كلها‪ ،‬فالفنون ذات الطابع‬
‫التجريدي –كالموسيقى والعمارة مثل ً –ل يمكن أن توصف‬
‫بصدق أو كذب‪ ،‬لنها –على العموم‪ -‬ل تعكس أشكال ً وعلقات‬
‫موجودة في الطبيعة الخارجية‪ ،‬وبالتالي فل تقاس بواقع‬
‫موضوعي مستقل عنها‪ ،‬كما هي الحال في الفنون التشكيلية‬
‫والدرامية والدبية‪.‬‬
‫ويهمني أن أقف اليوم –في حدود مايسمح به المجال‪ -‬عند‬
‫مسألة الكذب الفني في المسرح‪ .‬وهذا موضوع لم أختره‬
‫اعتباطًا‪ ،‬ول هو مجرد مسألة أكاديمية مقطوعة الصلة بواقعنا‬
‫المسرحي ومشكلته‪ ،‬فالواقع أن هذه مسألة وثيقة الرتباط‬
‫بالتجاهات السائدة في مسرحنا المعاصر‪ .‬ذلك أن التجاه نحو‬
‫التغريب عند بعض فنانينا المسرحيين )وقد تطرقت إليه في‬
‫حديث سابق( إنما يستند إلى العتقاد بأن المسرح يجب أن‬
‫يتنزه عن الكذب ويكف عن اليهام‪.‬‬
‫وقد نجم هذا العتقاد عن اللتباس الذي وقع فيه هؤلء‬
‫الفنانون عندما افترضوا أن للكذب الفني مدلول ً أخلقيا ً سلبيًا‪،‬‬
‫ورفضوه على هذا الساس‪ .‬والكذب الفني –كما أسلفت في‬
‫مقالي السابق‪ -‬ل يقبل مثل هذا القياس الخلقي لنه ذو‬
‫محتوى جمالي محض‪ .‬وعليه فهو ل يقاس إل بمقاييس الجمال‬
‫وحدها‪.‬‬
‫والواقع أن هذه المسألة قد حسمت منذ زمن بعيد‪ ،‬فمنذ‬
‫القرن الرابع الميلدي ميز القديس أوغسطين في أكثر من‬
‫كتاب بين الكذب الفني البريء والكذب الذي يراد به تشويه‬
‫الحقيقة بقوله إن النوع الول إن هو إل تعبير مجازي يرمي إلى‬
‫الظاهر‪ ،‬بينما ل يشتمل الخير على معنى آخر غير‬ ‫غير معناه‬
‫معناه المباشر*‪.‬‬
‫ولكن ما الذي يجعلني أعتقد أن المسرح أكثر إمعانا ً في‬
‫*‬
‫وووو وو ووو ووووو‪:‬‬
‫‪- 108 -‬‬
‫الكذب من بقية الفنون؟ وما هي هذه الطبيعة الخاصة التي‬
‫تقتضي أن يكون كذلك؟‬
‫عندما نتحدث عن فن المسرح فنحن في الواقع نعني‬
‫أمرين‪ :‬النص الدبي والعرض المسرحي‪ ،‬أي الصورة الذهنية‬
‫التي رسمها المؤلف على الورق والصورة الحسية التي بناها‬
‫المخرج على خشبة المسرح‪.‬‬
‫ولن أتناول هنا الكذب الفني –أو اليهام المسرحي‪ -‬الذي‬
‫تمارسه عناصر العرض‪ ،‬فكلنا يعرف أن القلع الحصينة التي‬
‫نراها على المسرح أحيانا ً إن هي إل جدران من الورق المقوى‬
‫ل تقوى على تحمل ركلة قدم‪ ،‬وأن عقود الماس التي تتلل‬
‫على صدور الملكات في المسرح ليست في الحقيقة إل قلئد‬
‫ن قارورة السم التي يتجرعها روميو في‬ ‫من زجاج رخيص‪ ،‬وأ ّ‬
‫الفصل الخير من مسرحية شكسبير المعروفة ل تحوي غير‬
‫الماء وقد ل تحوي شيئا ً على الطلق‪.‬‬
‫لن أتناول إذن هذا الجانب المعروف من اليهام‬
‫المسرحي‪ ،‬بل سأتناول جانبا ً آخر ل ينتبه إليه المشاهد عادة‪،‬‬
‫وهو الجانب الذي يكمن بالضرورة في صلب النص المسرحي‬
‫ذاته‪.‬‬
‫تلتقي الدراما )النص المسرحي( بالرواية –كما هو‬
‫معروف‪ -‬في أن كلتيهما تروي قصة ذات دللة‪ ،‬لها بداية‬
‫ووسط وختام‪ .‬ولكن المجال الروائي أرحب بكثير من المجال‬
‫ده أبعاد زمنية ومكانية ضّيقة‪– .‬فالمسرحية‬ ‫الدرامي الذي تح ّ‬
‫التقليدية ذات الفصول الثلثة ل يستغرق عرضها عادة سوى‬
‫ساعتين أو ثلث على أبعد تقدير‪ .‬ويتوجب على المؤلف‬
‫المسرحي أن يقدم إلى الجمهور أبطال قصته وبيئتها وأحداثها‬
‫ضمن هذا الطار الزمني المحدود‪ .‬ويكفي أن نتذكر عدد‬
‫الشخصيات وكثرة الحداث في مسرحية كمأساة الملك لير‬
‫ل‪ -‬لندرك إلى أيّ حد ينبغي على المؤلف المسرحي أن‬ ‫–مث ً‬
‫يراعي القتصاد في تصوير الشخاص والحداث‪ .‬والمؤلف‬
‫مقيد‪ ،‬من الناحية الخرى‪ ،‬بالمساحة الضيقة التي يقدم عليها‬
‫العرض المسرحي‪ ،‬فهو ل يستطيع أن يتابع أبطاله في تنقلتهم‬
‫الواسعة –كما يفعل الكاتب الروائي‪ -‬بل يستنبط الحيل ليأتي‬
‫بهم فرادى أو مجتمعين إلى هذه المساحة الضيقة التي ل‬
‫يستطيع مبارحتها‪ .‬وقد واجه المؤلفون منذ ظهور المسرح هذه‬
‫المشكلة الزمنية –المكانية‪ ،‬فكانت المآسي الغريقية تدور في‬
‫مكان وضمن فترة ل تتعدى في الغالب دورة شمسية واحدة‪.‬‬
‫ومن هنا جاءت نظرية وحدة الزمان والمكان المنسوبة –خطأ‪-‬‬
‫إلى أرسطو‪ .‬ورغم التطور التقني الذي تحقق للمسرح في‬
‫العصر الحديث‪ ،‬مما يتيح إمكان تغيير المشاهد بسرعة‪ ،‬فقد‬
‫ظلت أحداث المسرح‪ ،‬عمومًا‪ ،‬تدور في أمكنة محدودة‪ ،‬وأحيانا ً‬
‫في مكان واحد ل يتغير منذ بداية المسرحية حتى نهايتها‪.‬‬
‫ويجب أن نضيف إلى هذه القيود الزمانية –المكانية شيئا ً آخر‪،‬‬
‫هو غياب عنصري الوصف والتحليل في المسرح‪ ،‬فالمؤلف‬
‫المسرحي ل يستطيع أن يغوص إلى دخائل شخصياته ليكشف‬
‫لنا عن أحاسيسها ودوافعها‪ ،‬كما يفعل كاتب الرواية أو القصة‪،‬‬
‫ول يستطيع أن يصف لنا ماضي هذه الشخصيات مث ً‬
‫ل‪ ،‬إل إذا‬
‫وضع هذا الوصف على لسان أحد أبطال المسرحية‪ .‬ولهذا‬
‫فالمصدر الهم الذي نستمد منه معلوماتنا عن الشخصية‬
‫•‬ ‫‪*Umberto Eco, The Aesthetics of Thomas Aquinas, p. 146, Harvard‬‬
‫‪university press, 1988.‬‬
‫ووووو‪:‬‬
‫•‬ ‫‪Tzvetan Todorov, Theories of the Symbol, New york 1984, p 54.‬‬
‫‪- 109 -‬‬
‫ة‪ -‬هو فعلها الدرامي والكلم الذي يجري‬ ‫المسرحية –عاد ً‬
‫على لسانها‪.‬‬
‫هذا –بمنتهى اليجاز‪ -‬هو مانعنيه عندما نتحدث عن طبيعة‬
‫فن الدراما‪ .‬وهي طبيعة تفرض على النص الدرامي‬
‫مواصفات معينة تنأى به قليل ً أو كثيرا ً عن الصدق بمعناه‬
‫المباشر‪ .‬فالشخصية الدرامية التي تقدم نفسها إلى الجمهور‬
‫دة من‬‫دون وسيط‪ ،‬هي –في العادة‪ -‬أكثر وضوحا ً وح ّ‬
‫الشخصيات التي نلتقي بها في الواقع‪ ،‬وهي شخصية غالبا ً ما‬
‫يهيمن عليها ويتحكم في سلوكها هاجس طاغ معين‪ ،‬أو عاطفة‬
‫جارفة أو طبع مستبد‪ .‬وهذا ما يجعل الشخصية المسرحية‬
‫ترتبط عادة في الذهان بصفة معينة شديدة الوضوح والتميز‪،‬‬
‫فشخصية طرطوف ترتبط بالنفاق وشيلوك بالبخل واللؤم‬
‫وياغو بالكيد والغدر‪ ..‬الخ‪ .‬وهي بذلك تختلف عن الشخصية‬
‫الروائية أو الملحمية التي ل تستطيع دوما ً تشخيصها بهذا‬
‫الوضوح‪ ،‬وهذا ما عناه الفيلسوف هيغل بقوله‪" :‬إن البطال‬
‫الدراميين في معظم الحوال أبسط في ذاتهم من الشخصيات‬
‫الملحمية"‪.‬‬
‫والبطل الدرامي ل يسترسل في ما يسترسل فيه الناس‬
‫من أحاديث فهو مقتصد في الكلم عادة‪ ،‬ل يقول إل مايشف‬
‫عن مقاصده وأحاسيسه‪ .‬وليس من النادر أن يخاطب نفسه‬
‫بصوت مسموع‪ .‬وهذه حيلة يلجأ إليها المؤلفون ليساعدوا على‬
‫معرفة ما يجول في نفوس أبطالهم‪.‬‬
‫والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الحبكة الدرامية‪،‬‬
‫فالمؤلف –كما قلنا‪ -‬يستنبط المبررات ليجمع أبطال مسرحيته‬
‫في مكان واحد أو أمكنة محدودة‪ ،‬وهو مضطر إلى الكتفاء‬
‫بأقل عدد ممكن من الشخصيات وإلى غربلة الحداث وتكثيفها‬
‫بحيث تحسم على المسرح في ساعة أو ساعتين صراعات‬
‫إنسانية كبيرة معقدة‪ ،‬يتطلب حسمها في الحياة الواقعية فترة‬
‫طويلة من الزمن‪.‬‬
‫هذه بعض أشكال "الكذب الفني" التي يستخدمها كتاب‬
‫المسرح بحكم طبيعة الفن الذي يمارسونه‪ .‬ول أظنني بحاجة‬
‫إلى القول بأن هذا النوع من الكذب ل ينطوي في ذاته على أي‬
‫مضمون أخلقي‪ ،‬وبالتالي فمن الخطأ أن نرفضه على هذا‬
‫الساس‪.‬‬

‫ءءءءء ‪.1977‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫"‬ ‫حول مسرحية " التوأمان‬
‫هكذا تصل النصوص العالمية‬
‫إلى جمهورنا المسرحي !‬

‫كيف ارتضيت لنفسك أن تكون طرفا ً في عمل كهذا؟!‬


‫ي كثير من الصدقاء الذين حضروا‬ ‫سؤال ألقاه عل ّ‬
‫مسرحية التوأمان في مسرح المنصورة‪ ،‬أو شاهدوا العلن‬
‫اليومي المنفر الذي كان يظهر عنها في التلفزيون‪ .‬وكان هؤلء‬
‫الصدقاء محقين في تساؤلهم ودهشتهم دون شك‪ ،‬فكيف‬
‫يكون المرء صارما ً في حكمه على الخرين ثم يقبل لنفسه كل‬
‫هذا التساهل؟ كيف يدعو إلى مسرح رفيع متطور ثم يشارك‬
‫في عمل مسرحي يشتمل على كل هذا القدر من التهريج‬
‫والسفاف؟! أليس هذا تناقضا ً بين القول والعمل وبين النظرية‬
‫والتطبيق؟!‪..‬‬
‫والجابة سهلة وميسورة‪ ،‬فالتناقض موجود دون شك حين‬
‫ينظر المرء إلى المسألة من بعيد‪ ،‬أما حين يقترب من الوقائع‬
‫ويلم بالملبسات الخفية الكامنة وراء السطح فإنه لن يجد‬
‫للتناقض أثرًا‪ ،‬بل سيجد –على الضد من ذلك تمامًا‪ -‬أننا كنا‬
‫منسجمين كل النسجام مع مبادئنا ومثلنا الفنية‪ ،‬وأن إخفاق‬
‫هذه التجربة ليس إل دليل ً آخر على صحة ما كتبناه‪ ،‬في‬
‫مناسبات عديدة سابقة‪ ،‬عن مظاهر التردي في مسرحنا‬
‫العراقي‪.‬‬
‫كيف؟ ذلك ما سأرويه‪ ،‬باليجاز الممكن‪ ،‬لكل من يعنيهم‬
‫الموضوع‪.‬‬
‫ي أحد أصدقائي من‬ ‫ّ‬ ‫عل‬ ‫اقترح‬ ‫ونصف‪،‬‬ ‫عام‬ ‫من‬ ‫أكثر‬ ‫منذ‬
‫المخرجين المسرحيين أن أترجم له إحدى المسرحيات‬
‫الكوميدية العالمية ليقدمها بالتعاون مع شركة بابل‪ .‬وكانت‬
‫الشركة قد شرعت آنذاك بإنتاج بعض المسرحيات الكوميدية‬
‫المحلية التي لقيت نجاحا ً شعبيا ً ملحوظا ً رغم مستواها الفني‬
‫المتواضع‪ .‬وهكذا انبثقت في ذهني فكرة ترجمة مسرحية‬
‫توأمان من البندقية للكاتب اليطالي الكبير كارلو‬
‫غولدوني‪ .‬ولم يكن اختياري لهذه المسرحية بالذات محض‬
‫صدفة‪ ،‬فهي من المسرحيات التي أحببتها وقرأتها أكثر من مرة‬
‫لما فيها من براعة البناء وطرافة الشخصيات والمواقف‪ .‬ولم‬
‫يكن صعبا ً بالطبع‪ ،‬أن أختار بدل ً من ذلك مسرحية لكونغريف أو‬
‫‪- 111 -‬‬
‫برنارد شو أو وايلد أو غيرهم من مؤلفي النمط المعروف‬
‫بالكوميديا الرفيعة‪ ،‬أو كوميديا السلوك‪ ،‬ولكنني اعتقدت –‬
‫ول أزال‪ -‬أن ملهاة شعبية من هذا النمط ستكون أقرب إلى‬
‫ذوق جمهور لم يألف بعد المسرحية الجنبية‪ .‬وكنت أؤمل أن‬
‫يساعد هذا النص الممتع جمهورنا المسرحي‪ ،‬الذي أتخم‬
‫بالعمال الملفقة الرديئة‪ ،‬على اكتشاف مباهج المسرح‬
‫الحقيقي‪.‬‬
‫وحين ترجمت النص إلى اللهجة المحلية الدارجة لم يكن‬
‫دافعي الوحيد تقريبه إلى المشاهد البسيط الذي يشق عليه‬
‫فهم الفصحى‪ ،‬بل كنت أستجيب –في المقام الول‪ -‬لضرورة‬
‫فنية‪ ،‬فقد كتب غولدوني مسرحيته هذه بلهجة أهل البندقية‬
‫ولم يكتبها بلغة الدب في زمانه‪ .‬وكنت أحس بأنني سأكون‬
‫أكثر أمانة لروح النص إذا ترجمته بأسلوب يحاكي أسلوبه‬
‫الصلي‪ .‬ومما أكد لي صواب إحساسي هذا أنني في أثناء‬
‫الترجمة‪ ،‬كنت أعثر دومًا‪ ،‬وبصورةٍ عفوية‪ ،‬على تعابير شعبية‬
‫عراقية تماثل تعابير المؤلف نصا ً وروحًا‪.‬‬
‫هل كنت مصيبا ً في تقديري هذا؟ ل أدري فهذه مسألة‬
‫تقبل البحث والنقاش‪ ،‬ولكن الذي أدريه أنني راعيت المانة‬
‫المطلقة في النقل‪ ،‬فلم أسمح لنفسي بأي تحوير أو اجتزاء‬
‫في النص‪ ،‬بل نقلته كما هو مجتهدا ً قدر استطاعتي أن أحفظ‬
‫له تلك النكهة الواقعية التي جعلت غولدوني أول رائد للدراما‬
‫الطبيعية في تأريخ المسرح‪.‬‬
‫ول أريد أن أطيل‪ .‬فالذي حدث بعد ذلك أن شركة بابل‬
‫ابتاعت مني حقوق إنتاج النص وكلفت بإخراجه الفنان إبراهيم‬
‫جلل‪ ،‬الذي اتصل بي مبديا ً رغبته في أن أرافقه شخصيا ً في‬
‫العمل بوصفي خبيرا ً دراميًا‪ .‬وسأجانب الحقيقة لو زعمت أنني‬
‫كنت شديد الثقة بقدرات إبراهيم جلل البداعية‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فلم أتردد طويل ً في القبول‪ ،‬فمادام الرجل يريد أن يستعين‬
‫بي ويستنير بملحظاتي في مجرى العمل‪ ،‬فما المانع؟ إن‬
‫للرجل خبرة طويلة قد أتعلم منها‪ ،‬ولي بالمقابل تصورات‬
‫وآراء قد يفيد منها في عمله‪ ،‬وقد تساعدنا هذه التجربة‪ ،‬الولى‬
‫من نوعها‪ ،‬على إرساء تقليد مثمر في المسرح العراقي‪.‬‬
‫هكذا فكرت‪ ،‬ويبدو لي أني كنت مخطئًا‪ .‬فقد فاتني أن‬
‫إبراهيم جلل جاوز السن التي تسمح له بإعادة النظر في‬
‫مفاهيمه وطريقته في العمل‪ .‬ول أريد أن أقسو على الرجل‬
‫ولكني ل أجد مناصا ً من القول بأن تجربة التعاون معه كانت‬
‫خيبة أمل كبيرة‪ .‬فقد شرع في العمل وليس في ذهنه أي‬
‫تصور مدروس عن المسرحية التي سيخرجها‪ ،‬وأجاز لنفسه‬
‫منذ اليوم الول أن يعبث بالنص ويدخل عليه تعديلت مرتجلة‬
‫ل تأتلف مع السياق‪ .‬ولم يخطر لجلل قطعا ً أن عليه أن يعود‬
‫بادئ المر إلى الكتب –كما يفعل أي مخرج جاد‪ -‬ليعرف شيئا ً‬
‫عن مؤلف المسرحية‪ ،‬وعن بيئته وعصره وعن طرق أداء‬
‫الكوميديا دي لرته التي كان غولدوني مطورا ً لها ووارثا ً‬
‫لتقاليدها‪.‬‬
‫وهذه النقطة الخيرة مهمة بوجه خاص‪ ،‬فالكوميديا دي‬
‫لرته والمسرحيات التي تنتمي إلى نمط الفارس عموما ً‬
‫تتطلب خفة وبراعة خاصتين من الممثل‪ ،‬وقد كتب غولدوني‬
‫مسرحيته هذه لفرقة من فرق الكوميديا دي لرته وكان في‬
‫ذهنه‪ ،‬وهو يكتبها‪ ،‬هذا الطراز من الممثلين‪.‬‬
‫ولعل من المناسب أن نشير إلى أن تسمية الكوميديا دي‬
‫لرته نفسها تعني كوميديا الحرفة أو كوميديا المهارة‪.‬‬
‫وعندما عرضت فرقة مدينة جنوا مسرحية غولدوني هذه –أي‬
‫‪- 112 -‬‬
‫توأمان من البندقية‪ -‬في باريس خلل الستينّيات كانت‬
‫براعة ممثليها حديث الصحافة‪ .‬وقد كتب مراسل صحيفة‬
‫التايمس اللندنية في حينها يقول‪:‬‬
‫"نادرا ً ما ضج مسرح سارة برنارد بكل هــذا القــدر‬
‫من الفكاهة والمــرح‪ ،‬وبمثــل هــذه الحيويــة والبراعــة‬
‫الكوميدية الخالصــة‪ ،‬أو بمثــل هــذه اللباقــة والبتكــار‬
‫في التمثيل"‪.‬‬
‫ومن دواعي النصاف أن نقول هنا إن بعض ممثلينا الذين‬
‫شاركوا في مسرحية التوأمان قد كشفوا عن مواهب ل‬
‫يستهان بها‪ ،‬ولكن المشكلة أن المخرج أظهر عجزا ً مؤسفا ً عن‬
‫استيعاب طبيعة المسرحية‪ ،‬ولم يكن عونا ً لممثليه على فهم‬
‫الشخصيات التي يؤدونها‪ ،‬ولم يفطن إلى مواطن الذكاء‬
‫والنكتة في الحوار‪ .‬ولم يكتف بذلك بل سمح لنفسه ولبعض‬
‫ممثليه بتشويه هذا النص الجميل بما حذفوا منه وما أضافوا‬
‫إليه من فيض قرائحهم!‬
‫وكنت خلل المراحل الولى من العمل أحضر التمرينات‬
‫بانتظام وأدون قوائم طويلة من الملحظات‪ .‬وكان حضوري‬
‫شديد الوطأة على الممثل السيد محمد حسين عبد الرحيم‬
‫بالذات‪ ،‬الذي كان يحس بأن وجودي يحد من حريته في إعادة‬
‫تأليف النص على الوجه الذي يروقه! وكنت في الجتماعات‬
‫الثنائية العديدة التي عقدتها مع المخرج أقول له ملحظاتي‬
‫بالتفصيل وأنبهه إلى أخطائه في تفسير بعض الشخصيات‬
‫والمواقف وفي رسم الحركة المناسبة على المسرح فيوافق‬
‫أو يتظاهر بالموافقة‪ ،‬ولكنه كان ينسى في اليوم التالي ما‬
‫اتفقنا عليه ويعود إلى تكرار أخطائه نفسها‪ .‬وكان طبيعيا ً إزاء‬
‫ذلك أن أفكر بالنسحاب من العمل‪ ،‬وقد فكرت فيه مرارًا‪،‬‬
‫ولكن إبراهيم جلل كان متشبثا ً ببقائي معه‪ ،‬وكان يتراجع كلما‬
‫هممت بالنسحاب ويعد بتدارك أخطائه‪ .‬وحين أيقنت أخيرا ً‬
‫أنني كنت أجهد نفسي دون طائل انسحبت من العمل رسميا ً‬
‫وأبلغت بذلك السيد ممثل الشركة المنتجة‪ ،‬طالبا ً إليه حذف‬
‫اسمي )بوصفي خبيرا ً للمسرحية( من اللفتة الموضوعة أمام‬
‫المسرح‪ ،‬وقد تم حذفه بالفعل‪ .‬أما دليل العرض فكان قد‬
‫طبع في وقت مبكر ولم يكن ثمة سبيل لتغييره‪ ،‬وقد ارتأت‬
‫الشركة عدم توزيعه على المشاهدين‪.‬‬
‫ومع ذلك فلبد من القول بأن الكارثة الحقيقية في هذا‬
‫العمل لم تكن المخرج رغم رداءة عمله‪ ،‬بل هي الممثل محمد‬
‫حسين عبد الرحيم الذي قام بدور التوأمين‪ :‬فهذا الممثل‪ ،‬الذي‬
‫ل يتمتع –علىما يبدو‪ -‬بأية ثقافة فنية ول يعر ف شيئا ً عن‬
‫أخلقيات المسرح‪ ،‬لم يكد يرتقي المنصة في يوم العرض‬
‫الفتتاحي حتى ضرب بالنص عرض الحائط واستعاض عن‬
‫الحوار الذي كتبه غولدوني بهذيانه ونكاته السمجة‪ ،‬غير ملتفت‬
‫إلى التوصيات التي اتخذتها وزارة الثقافة والعلم منذ أمد‬
‫قريب جدا ً بإلزام الممثل بالتقيد بالنص ومحاسبته في حالة‬
‫الخروج عليه‪ .‬ويكفي لدراك فداحة التشويهات التي ألحقها هذا‬
‫الممثل بالمسرحية أن نشير إلى أن كل العبارات التي ظهرت‬
‫في العلن التلفزيوني عن المسرحية كانت من ابتداعه ول‬
‫وجود لها في النص‪ ،‬فليس من المعقول أن يخط كاتب‬
‫كغولدوني كلما ً سوقيا ً مبتذل ً من طراز آني ورطة‪ ،‬المي‬
‫الصافي اخبطه أو كل هالرشاقة وما تتشاقه!! وإذا‬
‫كان لهذا السلوك الشخصي المستهجن من دللت عامة فإن‬
‫دللته المؤسفة الولى هي تدني مستوى الثقافة والذوق‬
‫وغياب التقاليد السليمة في المسرح‪ ،‬وهذه ظواهر تناولناها‬
‫وحذرنا من أخطارها مرات عديدة‪.‬‬
‫‪- 113 -‬‬
‫أحسب أني بهذا قد أجبت إجابة وافية على تساؤلت‬
‫الصدقاء الذين أدهشتهم مشاركتي في مسرحية التوأمان‪،‬‬
‫فالواقع أن هذه المشاركة ل تتعدى ترجمة نص ممتع لم يسبق‬
‫لـه –في حدود علمي‪ -‬أن ترجم إلى العربية‪ .‬ول جريرة لمؤلف‬
‫النص أو لمترجمه إذا كان قد تعرض للمسخ والتشويه قبل‬
‫وصوله إلى الجمهور‪ .‬وليس هذا‪ ،‬على أية حال‪ ،‬أول نص أجنبي‬
‫جميل يشوه على منصة المسرح العراقي‪ ،‬فما أكثر النصوص‬
‫العالمية الرائعة التي تحولت على أيدي مخرجينا إلى أعمال‬
‫مملة فاشلة‪ ،‬رغم ما تلقيه من نجاح في أرجاء الدنيا الواسعة!‬
‫ويقال في تفسير ذلك‪ ،‬عادة‪ ،‬أن جمهورنا المحلي ل يستسيغ‬
‫المسرحية الجنبية‪ ،‬وهذه تهمة لم يقم عليها أي دليل‪.‬‬
‫ن‬‫أما الحقيقة التي ل يريد أن يعترف بها أحد فهي أ ّ‬
‫مسرحنا لم يرتق بعد – رغم الدعاءات التي يطلقها البعض‬
‫دون تحفظ –إلى مستوى معالجة النصوص محكمة البناء‪ ،‬التي‬
‫تتطلب فهما ً دقيقا ً متعمقا ً لسرار الفن الدرامي‪ .‬ولهذا يلجأ‬
‫البعض إلى التستر وراء المسرح الملحمي‪ ،‬ويلجأ البعض‬
‫الخر إلى أكذوبة اسمها المسرح الحتفالي ويلجأ فريق‬
‫ثالث إلى غير ذلك من التسميات‪ ،‬ليموهوا فقرا ً في الثقافة‬
‫وضعفا ً في المواهب‪ .‬ول مخرج لنا من هذه الزمة إل‬
‫بالمواجهة الجريئة الصادقة مع النفس والعتراف بأننا مازلنا‬
‫بعيدين جدا ً عن المسرح الرفيع المتطور الذي نريده‪ ،‬فما زال‬
‫ينقصنا المخرج المثقف الكفء‪ ،‬الملم حقا ً بمتطلبات مهنته‪،‬‬
‫ومازال مستوى التأهيل الذي يتلقاه طلب المعاهد‬
‫والكاديميات الفنية عندنا متدنيا ً جدًا‪ ،‬وماتزال صحافتنا الثقافية‬
‫والفنية تفسح المجال للمتطفلين على النقد المسرحي ممن‬
‫ينقصهم التحصيل الكاديمي والخلفية الثقافية الضرورية‪ ،‬مثلما‬
‫تنقصهم الدوافع النزيهة في كثير من الحيان‪ .‬وإذا كنا نريد‬
‫للمسرح أن ينهض من كبوته حقا ً فإن علينا أن نتدارس السبل‬
‫الكفيلة بمعالجة هذه المشكلت الجوهرية‪ ،‬بعيدا ً عن أية‬
‫مجاملة أو مسايرة أو تمويه‪.‬‬

‫ءءءءء ‪1986‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 114 -‬‬


‫حديث‬
‫عن شجون المسرح‬
‫أعود مرة أخرى إلى الحديث عن المسرح العربي‪ .‬وحديث‬
‫المسرح العربي ذو شجون ل تنتهي‪ ،‬وقد استأثرت هذه‬
‫الشجون باهتمام الوسط الثقافي عندنا‪ ،‬طوال السبوع‬
‫الماضي‪ ،‬بمناسبة عقد اجتماعات اللجنة الدائمة للمسرح‬
‫العربي في بغداد‪.‬‬
‫لقد وجدت اللجنة أمامها أكواما ً من المشكلت المزمنة‬
‫المسرح العربي وتقدمه‪،‬‬ ‫التي حدت وماتزال تحد من انطلق‬
‫ووجدت أمامها‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬أكواما ً من التوصيات‬
‫والتمنيات التي صاغتها ندوات ومؤتمرات سابقة ولم ينفذ منها‬
‫الشيء الكثير‪.‬‬
‫وهذا شأننا مع الكثير من قضايانا الثقافية‪ ،‬نجتمع ونتبادل‬
‫الراء ونتخذ القرارات‪ ،‬ثم نفترق لتعود المور إلى مجراها‬
‫المألوف‪..‬‬
‫اجتماع اللجنة الدائمة‬ ‫أن‬ ‫فنفترض‬ ‫نتشاءم‬ ‫أن‬ ‫نريد‬ ‫ول‬
‫للمسرح العربي في بغداد لن يضيف شيئا ً إلى ما فعلته )أو‬
‫إلى ما لم تفعله( الجتماعات السابقة‪ ،‬ولكن معضلت المسرح‬
‫العربي المعاصر تبدو كالجبال الرواسي التي تصعب زحزتها‪،‬‬
‫وهي مرتبطة بجملة من العوامل المتداخلة‪ ،‬ليس أقلها ضعف‬
‫الكتابة للمسرح والكتابة عن‬ ‫الثقافة المسرحية‪ ،‬مما يضع‬
‫المسرح في مستوى متدن جدًا‪.‬‬
‫والواقع أن ضعف الكتابة للمسرح‪ ،‬أو أزمة النص‬
‫المسرحي العربي –بتعبير آخر‪ -‬هي أولى المعضلت التي‬
‫واجهت اجتماع اللجنة الدائمة للمسرح العربي‪ .‬وقد لجأت‬
‫اللجنة إلى أقرب الحلول‪ ،‬وهو رصد جائزة نقدية سنوية لفضل‬
‫نص مسرحي عربي‪.‬‬
‫وليس في ذلك من بأس‪ ،‬ولكن من المغالة في التفاؤل‬
‫أن نتصور أن ربة اللهام المسرحي ستبادر بالهبوط إلينا بمجرد‬
‫فالمشكلة في الواقع‬ ‫أن نلوح لها برزمة من الوراق النقدية‪.‬‬
‫أكثر تعقيدا ً من ذلك‪ .‬وأرجو أن أكون مصيبا ً في اعتقادي إذا‬
‫قلت إن ضعف التأليف المسرحي عندنا يعود‪ ،‬قبل كل شيء‪،‬‬
‫إلى ضعف اتصالنا بالنماذج المسرحية الجيدة التي يتعلم‬
‫الكاتب منها فن الكتابة للمسرح‪ .‬والفرق بين الكاتب‬
‫المسرحي الوروبي أو الميركي وبين زميله العربي أن الول‬
‫يستمد انطباعاته الباكرة عن المسرح‪ ،‬عادة‪ ،‬من أعمال درامية‬
‫متينة البناء‪ ،‬تقدمها فرق مسرحية لها نصيب كاف من الخبرة‪،‬‬
‫بينما يستمد الخير هذه النطباعات من عروض بدائية ركيكة‪،‬‬
‫تفتقر في الغالب إلى العمق والترابط‪ .‬وليست هذه قاعدة‬
‫مطلقة‪ ،‬بالطبع‪ ،‬ولكنها الصورة العامة للمور‪ ،‬ولعل في هذه‬
‫‪- 115 -‬‬
‫الصورة ما يفسر لنا كيف أن كتابا ً مثل اروين وشو و جون‬
‫أوزبورن استطاعوا أن يقدموا أعمال ً درامية ناضجة‪ ،‬وهم في‬
‫مقتبل العمر‪ ،‬بينما ل نزال ننتظر الكاتب العربي الشاب الذي‬
‫يفاجئنا بعمل مسرحي مرموق‪.‬‬
‫وعندما نضع المور في سياقها المنطقي‪ ،‬فإن النتيجة التي‬
‫ل مفر من التسليم بها هي أن على مسرحنا العربي أن يلتفت‪،‬‬
‫بمزيد من الهتمام‪ ،‬إلى العمال الدرامية العالمية العظيمة‪،‬‬
‫التي هي في الواقع المدرسة الولى لكتاب المسرح وفنانيه‪.‬‬
‫ول يعني هذا‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬أننا ندعو إلى النصراف عن‬
‫النصوص المحلية‪ ،‬فالنص المحلي شرط لبد من توافره لقيام‬
‫مسرح عربي أصيل‪ ،‬ولكننا ندعو إلى إفساح مجال أكبر‬
‫للنصوص الجنبية الممتازة‪ ،‬التي تساعد كتابنا وفنانينا على‬
‫التغلغل في أسرار هذا الفن المعقد‪ ،‬الذي يسمونه فن البناء‬
‫الدرامي‪.‬‬
‫وليس في هذا أدنى تفريط بأصالة مسرحنا أو ثقافتنا‬
‫القومية‪ ،‬فهذا ما تفعله حتى البلدان ذات التراث المسرحي‬
‫العريق‪ .‬إن النجليز ل يكتفون بمشاهدة أعمال شكسبير‬
‫وأوسكار وايلد وهارولد بنتر‪ ،‬بل يشاهدون إلى جانبهم‪،‬‬
‫وفي التحاد‬ ‫وبانتظام‪ ،‬أعمال ابسن وتشيخوف وبريشت‪.‬‬
‫ل‪ ،‬مكانا ً ثابتا ً في ريبوتوار‬
‫السوفيتي تحتل أعمال شكسبير‪ ،‬مث ً‬
‫الفرق المسرحية‪.‬‬
‫ول أريد الستطراد في ذكر المثلة‪ ،‬فهذا ما ل يجهله أحد‬
‫من المهتمين بالمسرح‪ ،‬ولكني أكتفي بالقول بأن إقدام‬
‫مسرحنا القومي على تقديم نصوص عالمية ًرفيعة تتطلب‬
‫عمقا ً في الفهم ودقة في الداء سيقوده حتما إلى الرتقاء‬
‫بقدراته الفنية ويجعل منه مدرسة حقيقية لفناني المسرح‬
‫ورّواده على السواء‪.‬‬
‫ءءءءء ‪1977‬‬
‫‪‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫أهكذا ننصف التراث؟‬

‫"أ" يمثل دور "ب" على مرأى من "ج"‪.‬‬


‫بهذا اليجاز عرف أريك بنتلي فن المسرح في كتابه‬
‫الذائع الصيت الحياة في الدراما‪ .‬ورغم بساطة التعريف‬
‫وإيجازه البالغ فإنه يشتمل على الركان الساسية التي تميز‬
‫المسرح عن غيره من ألوان الخلق الفني‪ .‬ففي المسرح لبد‬
‫ل‪ ،‬ولبد لهذا الممثل من أن ينتحل اسما ً غير‬ ‫من الممثل أو ً‬
‫اسمه وشخصية غير شخصيته الحقيقية‪ .‬وأخيرا ً فلبد له من‬
‫جمهور يتابع أداءه وينفعل معه أو ضده‪ ،‬لن المسرح ل يمكن‬
‫أن يصنع في حجرة مغلقة –كما تصنع القصة أو القصيدة‬
‫الغنائية‪ -‬بل هو فن يخلق أمام أعين الجمهور وتسير فيه عملية‬
‫التذوق جنبا ً إلى جنب مع عملية البداع‪.‬‬
‫والممثل ل يسرد لجمهوره حكاية بل يمارس فعل ً‪ .‬إنه‬
‫ليس كالراوية الذي عرفته مقاهينا القديمة‪ ،‬مجرد وسيط بين‬
‫الجمهور وبين شخصية روائية ما‪ ،‬وإنما هو هذه الشخصية‬
‫بالذات‪ ،‬تقدم نفسها إلى الناس دون وساطة‪ ،‬وتكشف لهم عن‬
‫طبيعتها ونوازعها وأفكارها من خلل الفعل الذي تؤديه على‬
‫المسرح‪ .‬والفارق بين هذا وذاك واضح‪ ،‬وهو فارق جوهري‬
‫وليس مجرد فارق في الشكل‪ ،‬فالراوية الذي يقص على‬
‫ل‪ ،‬ل يدعي أمام سامعيه أنه‬ ‫جمهور المقهى سيرة عنترة مث ً‬
‫عنترة نفسه ول يحاول إيهامهم بأنهم يعيشون في الطار‬
‫الزمني والمكاني للحداث التي أحاطت بهذه الشخصية‪ .‬وإذا‬
‫كان هذا الراوية يستعير من الممثل بعض وسائله التعبيرية‪،‬‬
‫كاليماء وتلوين الصوت وحركات الجسم‪ ،‬فإن غايته ل تتعدى‬
‫إثارة عواطف الجمهور وتقريب صورة الحداث من ذهنه‪ .‬أما‬
‫الممثل الذي يؤدي دور عنترة على المسرح فإنه يواجه‬
‫الجمهور منتحل ً صفة البطل نفسه‪ ،‬وبمجرد ظهوره تتحول‬
‫خشبة المسرح في نظر المتفرج إلى ساحة قتال‪ ،‬أو مضرب‬
‫من مضارب البدو‪ ،‬أو أي مكان آخر تدور فيه وقائع المسرحية‬
‫المعروضة‪ .‬ويحدث شيء مماثل بالنسبة إلى الزمن‪ ،‬فالمسرح‬
‫يضعف عند المتفرج إحساسه الواقعي باللحظة التي هو فيها‬
‫ليثير عنده بالمقابل إحساسا ً داخليا ً باللحظة التاريخية التي‬
‫تدور فيها الحداث‪ ،‬وهذا مال يحدث عند قراءة قصة أو الصغاء‬
‫إلى رواية في مقهى شعبي‪ ،‬لن إحساسنا بالماضي في الحالة‬
‫الخيرة هو إحساس خارجي ل يستغرقنا ذلك الستغراق الذي‬
‫تتلشى معه الحدود بين زماننا وزمان القصة التي نقرأها أو‬
‫الحكاية التي نستمع إليها‪.‬‬
‫ولقد كان أرسطوطاليس أول من فطن إلى خصوصية‬
‫المسرح هذه حين قال في تعريفه الشهير للتراجيديا إنها‬
‫‪- 117 -‬‬
‫محاكاة بالفعل ل بالسرد وكان بذلك يميز فن الدراما‬
‫عن الملحمة‪ ،‬التي تشترك في خصائصها العامة مع الرواية‬
‫الحديثة والقصة والحكاية وغير ذلك مما يدخل في هذا الباب‪.‬‬
‫كل هذه مفاهيم أولية سبق أن تطرقنا إليها مرارا ً عديدة‪.‬‬
‫ولكن المرء ل يجد مناصا ً من تكرارها حين يكثر الحديث في‬
‫الصحافة عن مسرح عربي قديم قوامه نوادر الجاحظ في‬
‫البخلء ومقامات بديع الزمان الهمذاني ورواة السير الشعبية‬
‫في المقاهي وغير ذلك من ألوان التأليف القصصي التي قد‬
‫يحق للدارسين أن يبحثوا فيها عن جذور للقصة العربية‬
‫الحديثة‪ ،‬ولكنهم ل يستطيعون الزعم بأنها مظاهر مسرحية‬
‫وأنها يمكن أن تتخذ بالتالي أساسا ً لبناء نظرية مسرحية عربية‬
‫أصيلة‪ .‬ورغم أن المحاولت المتفرقة التي جرت لثبات هذه‬
‫الفكرة بالتطبيق العملي قد منيت بفشل ذريع ولذ أصحابها‬
‫بالصمت فإن البعض يواصلون ضجيجهم في الصحافة مصّرين‬
‫على مواصلة التنقيب عن كنز تشير الدلئل كلها حتى الن إلى‬
‫أنه غير موجود في الواقع!‬
‫ليست غايتنا من هذا الحديث القطع بأن العرب القدمين‬
‫لم يعرفوا بعض أشكال المسرح‪ ،‬وإن كان التراث الذي بين‬
‫أيدينا ل يشير إلى شيء من ذلك‪ .‬ولكن ما يوجب العتراف هو‬
‫أن هذه المثلة‪ ،‬التي يكثر الستشهاد بها‪ ،‬ضعيفة الصلة بفن‬
‫المسرح‪ ،‬فإذا كان أبو عثمان الجاحظ قد روى لنا بعض‬
‫الحكايات الطريفة في "البخلء" و "البيان والتبيين" وغيرهما‬
‫م بفن الكتابة‬ ‫من مؤلفاته فهذا ل يعني أن الرجل قد أل ّ‬
‫للمسرح‪ .‬وقصارى ما يمكن أن يقال في هذا الشأن أن‬
‫الجاحظ ترك لنا مادة أدبية يستطيع المؤلف المسرحي‬
‫المعاصر أن يفيد منها إذا أراد أن يكتب نصا ً مسرحيا ً عنه أو‬
‫عن بعض معاصريه‪ .‬والشيء نفسه يمكن أن يقال –وبدرجة‬
‫أقل‪ -‬عن مقامات الهمذاني‪ ،‬التي ل تعدو كونها مجموعة من‬
‫الحكايات البسيطة‪ ،‬المكتوبة بأسلوب شديد التكلف والتزويق‪،‬‬
‫وإن كان البعض يغالي في تقدير قيمتها الدبية‪.‬‬
‫إن وجود الحكايات والملمح الشعبية في تراث شعب مال‬
‫يعني قطعا ً أن هذا الشعب قد عرف فن المسرح‪ .‬وجهل‬
‫معظم المم القديمة به لم يمنع أحفادها في العصور الحديثة‬
‫من اقتباسه وتطويره‪.‬‬
‫والمثلة كثيرة يكفيني منها مثال واحد‪ :‬لقد أنجبت روسيا‬
‫في القرن الماضي عددا ً من أكبر كتاب المسرح‪ ،‬حسبنا أن‬
‫نذكر منهم غوغول وأوستروفسكي وتشيخوف وليف‬
‫تولستوي‪ ..‬فماذا كان التراث المسرحي الذي ورثه هؤلء عن‬
‫أسلفهم؟ إن تاريخ الدب الروسي يحدثنا أن الروس لم يعرفوا‬
‫الدب المدون إل في عهود متأخرة جدًا‪ .‬ويكفي أن نعلم أن‬
‫أول قصيدة لشاعر روسي معروف تعود إلى النصف الول من‬
‫القرن الثامن عشر! أما قبل ذلك فليس في تاريخ الدب‬
‫الروسي أي أثر للدراما أو غيرها من فنون الدب سوى ما‬
‫ُيبدعه الشعب البسيط‪ ،‬عادة‪ ،‬من أدب شفاهي‪ .‬ولكن هذا لم‬
‫يمنع الكتاب الروس من اقتباس أصول الكتابة الدرامية عن‬
‫الغربيين وإتقانها والتفوق فيها‪ .‬ولم نسمع عن حملة صاخبة‬
‫قامت للبحث عن أصول هذا الفن في التراث الدبي الروسي‬
‫القديم!‬
‫مالنا إذن نثير كل هذه الضجة الفارغة حول مسرح عربي‬
‫قديم مزعوم؟ وأي ضير في أن نأخذ المسرح عن غيرنا ما‬
‫دمنا ل نجد بأسا ً حتى في استيراد الجبنة من أوروبا ‍‬
‫؟‬
‫إن أسلفنا أنفسهم يجيبوننا عن هذا السؤال‪ ،‬فقد كانوا‬
‫‪- 118 -‬‬
‫عظاما ً في موقفهم من تراث المم الخرى‪ ،‬لم يغرهم‬
‫الستعلء بتجاهله والنصراف عنه ولم تدفعهم عقدة النقص‬
‫إلى النكماش إزاءه والذوبان فيه‪ .‬ويبدو لي أن هذا أول ما‬
‫ينبغي أن نتعلمه من تراثنا‪ ،‬لن موقفنا من حضارة عصرنا‬
‫الراهن كثيرا ً ما يفتقر إلى ذلك التوازن الرائع الذي حققه‬
‫أسلفنا بين الذات والعالم الخارجي‪.‬‬
‫ومرة أخرى أجدني مضطرا ً إلى تكرار ماسبق أن قلته‬
‫مرات عديدة‪ :‬إن انتعاش المسرح عندنا لن يتحقق إل‬
‫باستيعاب السس التي يقوم عليها هذا الفن العريق والفادة‬
‫من تجارب المم الخرى التي سبقتنا في هذا المضمار‪ ،‬أما‬
‫الجتهادات السقيمة التي تتخذ لنفسها مظهر الكتشافات‬
‫الخطيرة فلن تقود مسرحنا الناشئ إل إلى مزيد من التردي‬
‫والسفاف‪.‬‬
‫ءءءءء‪1977 -‬‬ ‫‪‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫الم‬
‫شجاعة وأبناؤها‬

‫ترجمة جيدة ومقدمة تثير الجدل‪..‬‬


‫صدرت ضمن روايات الهلل مؤخرا ً ترجمة جيدة‬
‫لمسرحية برتولد بريشت العظيمة الم شجاعة وأبناؤها‪.‬‬
‫وإذ أقول ترجمة جيدة فل أعني أنها ذات لغة سليمة –وهي‬
‫ل‪ -‬بل أعني‪ ،‬في المقام الول‪ ،‬أنها صيغت‬ ‫سليمة اللغة إجما ً‬
‫بلغة مسرحية رشيقة‪ ،‬مرنة ذات إيقاعات منسجمة مع أحداث‬
‫المسرحية ومنطق أبطالها‪ .‬وهذا شرط هام يغفله بعض من‬
‫يتصدون لترجمة العمال الدرامية العالمية إلى العربية‪ .‬ولم‬
‫يكتف المترجم‪ ،‬الستاذ شفيق مقار‪ ،‬بترجمة المسرحية بل‬
‫مهد لها بمقدمة ضافية تناول فيها تطور المفاهيم اليديولوجية‬
‫والفنية لدى بريشت وتطرق إلى بعض المؤثرات الفنية‬
‫الساسية التي قادته إلى ابتداع مسرحه الملحمي‪ ،‬كالمسرح‬
‫الصيني ومسرح "النو" الياباني‪ ،‬وألقى شيئا ً من الضوء على‬
‫الركائز النظرية لهذا المسرح الذي كانت له انعكاساته‬
‫الواضحة في مجمل تطور الحركة المسرحية المعاصرة‪ .‬ولو‬
‫أن الستاذ المترجم وقف عند هذا الحد لحمدنا له جهده في‬
‫نقل هذه المسرحية المدهشة التي يعتبرها معظم النقاد‬
‫واسطة العقد في إبداعات بريشت المسرحية‪ ،‬بل يذهب‬
‫بعضهم‪ ،‬كروبرت بروستاين‪ ،‬إلى أنها من أروع ما ظهر في‬
‫المسرح الحديث‪ .‬ولكن المترجم شاء أن يتناول عمل بريشت‬
‫من خلل نظرية فلسفية –جمالية يصعب التسليم بصحتها‪ ،‬إن‬
‫لم نقل إنها تفتقر إلى أي أساس علمي‪ .‬وخلصة هذه النظرية‪،‬‬
‫من جانبها الفلسفي‪ ،‬أن النسان له جوهر ثابت يتخطى‬
‫حدود الزمن وأن هذا الجوهر قد لزمه منذ أن كان مخلوقا ً‬
‫مشعرا ً كريه المنظر‪ ،‬حديث عهد بالسير على ساقين‬
‫وسيلزمه مابقيت الحياة النسانية‪.‬‬
‫أما الجانب الجمالي من هذه النظرية‪ ،‬وهو حصيلة‬
‫الفرضية الفلسفية التي قامت عليها‪ ،‬فيتلخص في أن وظيفة‬
‫الفن هي الكشف عن هذا الجوهر النساني الباقي‪،‬‬
‫فالنسان –كما يقول الستاذ مقار‪" -‬قبل أن يكون مخلوق‬
‫العصر والبيئة‪ ،‬كائن ذو جذور وتراث ورواسب تكون في‬
‫مجموعها ما نعرفه بالعموميات النسانية‪ ،‬التي هي مجال الفن‬
‫والدب"‪ .‬وبالتالي فإن الفن‪ ،‬كما يرى الستاذ شفيق مقار‪،‬‬
‫يخون النسان ويضلله عندما يفقد الصلة بجوهر النسان‪ ،‬أبعاد‬
‫‪- 120 -‬‬
‫مأساته كمخلوق مقضي عليه بالموت‪ ،‬وعندما يحد‬
‫نطاق رؤيته بحدود مشكلة أو أخرى تكون ماثلة في‬
‫حياة العصر والبيئة‪.‬‬
‫أين يكمن الخطأ في نظرية الستاذ مقار هذه؟ من الواضح‬
‫أنه يكمن في منطلقها المثالي‪ ،‬فهو يعتبر النسان مقولة‬
‫مجردة لها وجودها خارج الزمنة والبيئات‪ ،‬ومعنى ذلك أنه يرد‬
‫الجوهر النساني إلى جملة خصائص بيولوجية خالصة وثابتة‬
‫ومستقلة عن الشروط المادية التي اكتنفت تطور الجنس‬
‫البشري‪ .‬ولكن كيف يتسنى لنا أن نتحقق من سلمة هذه‬
‫الفرضية ونحن ل نعرف النسان إل في نطاق العصر والبيئة؟‬
‫إن هذا يذكرني بمقولة فلسفية أخرى‪ ،‬هي المادة‪ ،‬فنحن‬
‫نعرف المادة في صورة شجرة أو حزمة من الضوء أو كتلة من‬
‫الرخام‪ ،‬ولكننا ل نعرف المادة من حيث هي مادة وحسب‪.‬‬
‫وكذلك النسان فنحن نعرفه في صورته التاريخية كمركب بالغ‬
‫التعقيد من عناصر بيولوجية واجتماعية‪ ،‬أي أننا ل نعرف‬
‫النسان البيولوجي المحض‪ ،‬وبالتالي فإن الحديث عن الجوهر‬
‫النسان خارج الزمنة والبيئات ليس إل ضربا ً من الجتهاد‬
‫الميتافيزيقي‪ .‬وجدير بالملحظة أن الستاذ مقار يناقض نفسه‬
‫من حيث ل يدري حين يحاول تحديد هذا الجوهر النساني‬
‫الثابت بقوله إن النسان كائن ذو جذور وتراث ورواسب الخ‪.‬‬
‫فمن البداهة أن هذه العناصر ليست شيئا ً أزليا ً رافق النسان‬
‫منذ أول أطوار وجوده )إل إذا سلمنا بالتفسيرات الغيبية‬
‫لكينونة النسان!(‪ ،‬بل هي عناصر روحية تكونت وتراكمت‬
‫تاريخيا ً في مجرى التطور النساني الطويل‪ .‬وهي‪ ،‬من ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬ليست حقائق نهائية ثابتة‪ ،‬وإنما هي ملمح تاريخية‬
‫خاضعة لتغّير الزمنة وأنماط العيش وعلقات النتاج‬
‫الجتماعية‪.‬‬
‫وعليه فالكاتب ل يخون النسان عندما يتناوله في إطار‬
‫العصر والبيئة ومن خلل المشاكل النية المطروحة –كما يزعم‬
‫الستاذ مقار –بل يخونه إن فعل خلف ذلك‪ ،‬لسبب بسيط هو‬
‫أن النسان ل يوجد خارج هذا الطار‪ ،‬ول يمكن فهمه إل من‬
‫خلل علقته الديالكتيكية مع البيئة الخارجية‪.‬‬
‫ولكي يكون الستاذ مقار منسجما ً مع نظريته حول الجوهر‬
‫النساني الثابت وبطلن الفن الذي يحصر اهتمامه في بعض‬
‫مشكلت العصر والبيئة‪ ،‬فقد افترض أن بريشت لم يبلغ في‬
‫الم شجاعة ما بلغه من توفيق إل لنه انسحب تماما ً من‬
‫اللحظة الراهنة ولم يكتبها وهو مستوعب حتى قمة‬
‫الرأس في اهتمامات ومصائب العصر والبيئة‪ .‬وهذا‬
‫افتراض يثير الستغراب حقا ً حين تتعلق المسألة بمسرحية‬
‫كتبت في عشية الحرب العالمية الثانية )‪ (1939-1938‬لتندد‬
‫بالحروب وتكشف عن دوافعها الحقيقية وتبرز وحشيتها ول‬
‫أخلقيتها‪ .‬وأحسب أننا سنكون أدنى إلى الحقيقة لو عكسنا‬
‫رأي الستاذ المترجم فقلنا أن بريشت كتب هذه المسرحية‬
‫وهو في صميم اللحظة الراهنة‪ ،‬وأنه أراد‪ ،‬على وجه التحديد‪،‬‬
‫أن يكشف عن الرتباط الوثيق بين الرأسمالية والحرب‪ ،‬وأن‬
‫يفضح ديماغوجية الشعارات الضخمة التي اتخذتها الحرب على‬
‫الدوام قناعا ً لستر جرائمها‪ ،‬وأن يسخر من أولئك الذين‬
‫يتخذون من الحرب سوقا ً للتجار والكسب دون أن يفطنوا إلى‬
‫ما ستجره عليهم من ويلت‪ .‬وإذا كان بريشت قد انطلق من‬
‫مشكلت اللحظة الراهنة‪ ،‬وشرع في كتابة مسرحيته تحت‬
‫سماء ملبدة بغيوم الحرب الوشيكة الندلع‪ ،‬فإنه استطاع –‬
‫شأن أي فنان عظيم‪ -‬أن يصل إلى تعميمات شعرية رفيعة‪،‬‬
‫وأن ينفذ إلى جوهر الحرب وسماتها الساسية في كل العصور‪.‬‬
‫فالحرب باقية ما بقيت أنظمة الستعباد والتضليل الديماغوجي‪،‬‬
‫‪- 121 -‬‬
‫وأصدقاؤها الحقيقيون هم الباطرة والملوك والبابوات الذين‬
‫يمكن للحرب أن تركن إليهم إذا ألمت بها ضائقة‪.‬‬
‫وطالما كان هناك واحد منهم فليس للحرب أن تقلق‬
‫على مصيرها‪ ،‬إذ يمكنها أن تنظر بتفاؤل إلى المام‬
‫وأن تتوقع مستقبل ً باهرًا!!‪ .‬وفي الحرب تنقلب الفضائل‬
‫النسانية كالشجاعة والمانة واليثار إلى جرائر تقود أصحابها‬
‫إلى الهلك‪ ،‬كما حدث لبناء الم شجاعة الثلثة‪ ،‬بينما يتفاقم‬
‫الجشع والنانية والنوازع الخسيسة‪ ،‬كما في حالة الم شجاعة‬
‫التي تمتنع عن إعطاء بعض القمصان لتتخذ ضمادات توقف‬
‫نزف الدماء وتنقذ حياة الخرين‪ .‬وفي المسرحية سخرية لذعة‬
‫من البطولت العسكرية المزعومة‪ ،‬فالجنرال تيللي يلقى حتفه‬
‫ل لنه استبسل في المعركة‪ ،‬وإنما لنه تاه في الضباب فوصل‬
‫إلى ساحة القتال عن غير قصد! على أن أروع ما في الم‬
‫شجاعة هي تلك الغاني التي تؤلف على الدوام جزءا ً من‬
‫مسرح بريشت الملحمي‪ ،‬فهنا تبلغ عبقريته الشعرية ذراها‪،‬‬
‫وهنا نعثر على المفاتيح الساسية لفهم مرامي هذا العمل‬
‫الملحمي الضخم‪.‬‬
‫وبعد فهذه ليست إل خواطر سريعة عن عمل فني باهر‬
‫يتطلب تحليل ً دقيقا ً مسهبًا‪ .‬ولقد اضطلع الستاذ شفيق مقار‬
‫بجهد يستحق عليه الثناء‪ .‬وحبذا لو وجد المخرج المسرحي‬
‫الكفء الذي يستطيع أن يجسد لنا هذه المسرحية الفريدة‬
‫على خشبة المسرح‪.‬‬

‫ءءءء ‪1973‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 122 -‬‬


‫المحتويات‬
‫توطئـــة‪7..................................................................................................................‬‬
‫دعوة‪10........................................................................................................................‬‬
‫إلى وعي الذات‪10...........................................................................................................‬‬
‫ملمح أساسية ‪19............................................................................................................‬‬
‫في كتاب "فن الشعر" لرسطوطاليس‪19................................................................................‬‬
‫مفهوم المحاكاة عند أرسطوطاليس‪21............................................................................‬‬
‫‪ -2‬مفهوم الوحدة العضوية عند أرسطوطاليس‪23..............................................................‬‬
‫‪ .3‬مفهوم التطهير عند أرسطوطاليس‪24........................................................................‬‬
‫حول‪ ..‬المسرح الشعري‪28.................................................................................................‬‬
‫دور المخرج‪35..............................................................................................................‬‬
‫في المسرح الحديث‪35......................................................................................................‬‬
‫ستانسلفسكي‪40.............................................................................................................‬‬
‫وفن الممثل المسرحي‪40...................................................................................................‬‬
‫كيف يعد الممثل نفسه مهنيًا؟‪41...................................................................................‬‬
‫ماذا يعني بناء الدور من الداخل؟‪43..............................................................................‬‬
‫كيف يحلل الممثل دوره؟‪44........................................................................................‬‬
‫إبسن‪48........................................................................................................................‬‬
‫رائد المسرح الحديث‪48....................................................................................................‬‬
‫اتجاهات وأسماء‪53..........................................................................................................‬‬
‫في المسرح المعاصر‪53....................................................................................................‬‬
‫الدور الغوالي‪67.............................................................................................................‬‬
‫في المسرح الحتفالي!‪67..................................................................................................‬‬
‫الملك لير ‪72..................................................................................................................‬‬
‫المأساة التي تحولت إلى نكتة!‪72..........................................................................................‬‬
‫هل كان ‪79...................................................................................................................‬‬
‫للسومريين مسرح؟‪79......................................................................................................‬‬
‫حول مسرحية "الباب") ‪83.............................................................................................(1‬‬
‫هل بدأت الدراما المحلية بالنتعاش؟‪83..................................................................................‬‬
‫حول مسرحية " الباب " )‪88..........................................................................................(2‬‬
‫عندما يوضع النص المسرحي في قالب غير مناسب‪88..............................................................:‬‬
‫مسرح الشباب‪94............................................................................................................‬‬
‫والنسياق مع التقاليد السيئة‪94............................................................................................‬‬
‫خواطر حول كتاب ‪98......................................................................................................‬‬
‫دراسات في المسرح العربي المعاصر‪98...............................................................................‬‬
‫هل نحتاج حقًا‪105...........................................................................................................‬‬
‫إلى المسرح الملحمي؟‪105.................................................................................................‬‬
‫حول ‪108.....................................................................................................................‬‬
‫خصائص التأليف الدرامي‪108............................................................................................‬‬

‫‪- 123 -‬‬


‫حول مسرحية " التوأمان "‪111...........................................................................................‬‬
‫هكذا تصل النصوص العالمية‪111........................................................................................‬‬
‫إلى جمهورنا المسرحي !‪111.............................................................................................‬‬
‫حديث‪115.....................................................................................................................‬‬
‫عن شجون المسرح‪115....................................................................................................‬‬
‫أهكذا ننصف التراث؟‪117.................................................................................................‬‬
‫الم ‪120.......................................................................................................................‬‬
‫شجاعة وأبناؤها‪120........................................................................................................‬‬
‫المحتويات‪123...........................................................................................................‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 124 -‬‬


‫رقم اليداع في مكتبة السد الوطنية‬

‫دعوة إلى وعي الذات ‪ :‬فصول في نظرية الدراما‬


‫والنقد المسرحي‪ /‬رشيد ياسين‪-‬‬
‫]دمشق[‪ :‬اتحاد الكتاب العرب‪– 2000 ،‬‬
‫‪ 154‬ص؛ ‪25‬سم‪.‬‬

‫‪-2‬‬ ‫‪ 809.2 -1‬ي ا س د‬


‫العنوان‬
‫‪ -3‬ياسين‬

‫مكتبة‬ ‫ع‪-2000/2149/11 -‬‬


‫السد‬

‫‪‬‬

‫‪- 125 -‬‬


‫هذا الكتاب‬

‫ووووو وو وووو وووووو ووووووو وووووووو‬


‫ووو ووووو وووووو وووو وو وووو وو ووووو وو‬
‫ووووووو ووووو ووووووو وووووو وووو وووووو‬
‫ووووو ووو وووو وووو ووووو ووووو وو‬
‫ووووووو وووووو ووووووو ووووووو وو ووو‬
‫وووووو‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 126 -‬‬

You might also like