Professional Documents
Culture Documents
-2-
الحقوق كافة
مـحــــفــــوظـة
لتـحــاد الـكـتـاب
الــعـرب
unecriv@net.sy E- البريد اللكتروني:
: mail
aru@net.sy
موقع اتحاد الكّتاب العرب على شبكة النترنت
http:/www.awu-dam.com
-3-
الدكتور رشيد ياسين
دعــــوة
إلـى وعـي الـذات
-فصول في نظرية الدراما والنقد
المسرحي -
-4-
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
2000
-5-
بسم الله الرحمن
الرحيم
-6-
توطئـــة..
يمر المسرح العربي ،منذ سنوات طويلة ،بحالة من الضياع
والتخبط وقفت بينه وبين التحول إلى متعة ثقافية جماهيرية،
كما هو شأنه في بلدان العالم المتقدم .ومرد هذه الحالة إلى
عوامل متعددة ،لعل أخطرها ضحالة الثقافة المسرحية
السليمة لدى كثير من العاملين عندنا في المسرح وضعف
اتصالهم بالمسرح العالمي المتطور .ول يغير من هذه الحقيقة
أن لدينا الكثير من النصوص الدرامية المترجمة عن اللغات
الخرى ،فالنصوص الدرامية وحدها ل تكفي لخلق المثقف
المسرحي الذي نحتاجه .ولبد لفنان المسرح ،قبل كل شيء،
من اللمام الكافي بأصول حرفته ،شأنه في ذلك شأن
العاملين في مجالت الفن الخرى .ويبدو لي أن معاهد
المسرح عندنا ،على اختلف مستوياتها ،ل تؤدي مهمة إعداد
الكوادر المسرحية على الوجه المطلوب .وقد ترسخ عندي هذا
النطباع بعد أن تابعت النشاط المسرحي في العديد من
القطار العربية على مدى أكثر من ربع قرن ،وبعد أن نهضت-
أو حاولت النهوض ،على القل -بمسؤوليات عديدة خلل عملي
الطويل في المؤسسة العامة للسينما والمسرح في العراق.
وثمة سبب آخر من أسباب أزمتنا المزمنة في مجال
المسرح ،هو افتقار مسرحنا العربي ،بدرجة أو أخرى ،إلى
جمهور مستنير ،يستطيع تمييز الصحيح من الزائف ويساعد
فنان المسرح على معرفة مدى توفيقه أو إخفاقه من خلل
القبال على عمله أو النصراف عنه .وهذا الواقع المؤسف
ليس إل نتيجة منطقية لرداءة العمال المسرحية ،التي تعرض
على الجمهور ،ولكنه في الوقت نفسه سبب يساعد على
استمرار تردي المسرح وتفاقم أزمته.
ول يسعنا أن نغفل عامل ً سلبيا ً آخر يتمثل في طائفة من
النقاد المزعومين ،الذين انتهزوا فرصة خلو الساحة وغياب
المقاييس السليمة فاندفعوا إلى ممارسة ما يتوهمونه نقدا ً
مسرحيًا ،تسوقهم أهواؤهم الشخصية تارة وقلة حظهم من
الثقافة المسرحية تارة أخرى .ومن غريب ما لحظته أن بين
هؤلء النقاد من لم يدرسوا الفن المسرحي في معاهد
متخصصة ولم يمارسوا العمل الفعلي في المسرح ،ومع ذلك
فإن الصحافة ل تبخل عليهم بمساحات يدلون فيها بآرائهم،
التي هي أشبه بوصفات يكتبها أطباء دجالون .وتبرز خطورة
هذه المسألة إذا تذكرنا أن النقد هو البوصلة التي يهتدي بها
فنانو المسرح في البلدان ذات التقاليد العريقة في هذا
المضمار.
ويكفي أن نشير إلى أن الفرق المسرحية في برودواي –
ل -تسهر ليلة العرض الول لمسرحية جديدة حتى الفجر مث ُ
لتطلع على ما يقوله نقاد الصحف في عملها الجديد ،لن نجاح
المسرحية أو فشلها يتوقفان بالدرجة الولى على رأي النقاد
فيها.
إن هذه العوامل الثلثة التي ذكرناها أدت إلى بقاء
المسرح العربي عموما ً على حالته الراهنة ،التي يتجاذبها
تياران أساسيان:
-7-
تيار المسرح الكوميدي التجاري ،الذي يراد به اجتذاب
الناس البسطاء إلى شباك التذاكر ،وهو تيار يغلب عليه التهريج
والتفاهة والنكات الفجة ،والماجنة أحيانًا ،وتيار المسرح
التجريبي ،الذي يحفل –في الغالب -بصنوف البدع ومحاولت
التجديد الساذجة التي ل علقة لها بفن المسرح الحقيقي.
ول أريد أن أقول إن المحاولت الجادة ،التي تسندها
الموهبة والفهم الصائب لطبيعة فن المسرح ،ل وجود لها في
مسرحنا العربي ،فقد شاهدت أكثر من عمل مسرحي مهم
للكاتب الراحل سعد الله ونوس ،ورأيت أعمال ً ممتعة للمخرج
التونسي المنصف السويسي ،وحضرت بعض العمال الجيدة
للفرقة القومية المصرية ،ولكن هذه ليست إل ومضات عابرة
في ليل المسرح العربي الدامس ،الذي يطغى عليه التياران
المذكوران :تيار التهريج وتيار التجريب.
على خلفية هذا الواقع ،الذي وصفته بمنتهى اليجاز ،وخلل
كتبت مواد هذافترات متباعدة من العقود الثلثة الخيرةُ ،
الكتاب .وبعضها-كما سيرى القارئ -يتعرض لواقعنا المسرحي
كما تجسده بعض العمال المسرحية التي حضرتها ،ول سيما
في العراق ،بينما يتصل بعضها الخر بنظرية الدراما وتطورها،
وبأوضاع المسرح العالمي المعاصر ،الذي أتيح لي أن أتابعه
من خلل العروض الكثيرة التي شاهدتها في بلدان أجنبية
عديدة .وقد كنت أتمنى أن يضم هذا الكتاب كل ما نشرته في
هذا المجال لول أن ظروفي الشخصية الراهنة ل تسمح بجمع
هذه المواد المبعثرة في صحافة أكثر من بلد عربي.
ويهمني قبل النتهاء من هذه التوطئة أن أتوقف قليل ً عند
بعض المور التي قد تعين القارئ على فهم طبيعة الكتاب
الذي بين يديه .وأولها أن هذا الكتاب ليس دراسة منهجية في
نظرية الدراما أو في أوضاع المسرح العربي المعاصر ،بل هو
جملة أبحاث ومقالت متفرقة أملتها مناسبات معينة ،ولكن
هناك خيطا ً واحدا ً ينتظم هذه المقالت ،هو السعي إلى إيضاح
بعض ما بدا لي أنه ملتبس من أسس التأليف الدرامي وتصحيح
ما وجدته شططا ً وانحرافا ً في مسار المسرح العربي
المعاصر.
وثانيها أن معظم مواد هذا الكتاب قد نشر ،ل في الصحافة
الثقافية المتخصصة ،وإنما في الصحف اليومية والمجلت
السبوعية الواسعة النتشار ،فقد كان يهمني أن يصل صوتي،
ل إلى النخبة المثقفة وحسب ،بل إلى جمهور القراء العريض،
الذي ل يعرف الكثير عن خفايا فن المسرح .وهذا العتبار-
الذي وضعته دوما ً في حسابي -هو الذي دفعني إلى توخي
البساطة في عرض أفكاري ،وشرح المصطلحات الجنبية
والفنية حيثما وردت ،والبتعاد قدر المكان عن اللغة الجافة،
المتحذلقة ،التي أصبحت طابعا ً سائدا ً في الكتابات الثقافية
هذه اليام.
وسيلحظ القارئ أن الكتاب يكاد يخلو من الهوامش -على
كثرة ما فيه من إشارات إلى كتاب ومفكرين أجانب .ويبدو لي
أن هذا أمر غني عن اليضاح ،فمعظم مواد الكتاب قد ظهرت-
كما أسلفت -في جرائد يومية أو مجلت أسبوعية ،وليس
مألوفا ً في مثل هذه الحوال أن يذيل الكاتب مقالته
بالهوامش ،ول سيما ما كان منها بلغات أخرى غير العربية .وقد
يكون هذا نقصًا ،ولكني عاجز عن تداركه في الوقت الحالي،
فالمظان التي رجعت إليها عند كتابة هذه المواد ليست في
متناول يدي الن ولعل الظروف تسمح في المستقبل بتلفي
هذا النقص في طبعة لحقة ،إذا قدر لهذا الكتاب أن يجد
الرواج الذي يتمناه كل مؤلف .وأود بهذه المناسبة أن أضيف
-8-
أن جميع ما تضمنه الكتاب من آراء منسوبة إلى كتاب أجانب
هو من ترجمتي شخصيا ً باستثناء مواضيع قليلة قد ل تعدو
موضعا ً أو موضعين.
وبعد فإن قصارى ما أتمناه أن يفلح هذا الكتاب المتواضع
في حمل البعض على إعادة النظر في تصوراتهم عن المسرح.
ءءءء ءءءءء -ءءءءء
ءءءءء ءءءءءء 1999
-9-
دعوة..
إلى وعي الذات
خلل السنوات الخيرة كتبت أكداس من البحوث
والمقالت حول قضية التراث والمعاصرة في البداع الفني.
ورغم فوارق النتماء الفكري والفني ،فقد كان الذين عالجوا
هذا الموضوع من النقاد والفنانين العرب متفقين على أن الفن
مطالب بالتوفيق بين التراث والمعاصرة .وهذا طبيعي تمامًا ،إذ
ليس بوسع أحد –مهما بلغت حماسته للتجديد -أن يدعو إلى
فصل الدب والفن عن جذورهما القومية ،كما ل يسع أحدًا-
مهما بلغ به التزمت -أن يدعو إلى تجاهل تيارات العصر
وقضاياه والتجاهات الفنية السائدة فيه.
ولكن اتفاقنا على المبدأ العام ل يعني أننا قطعنا شوطا ً
بعيدا ً في الطريق إلى حل المشكلة ،فقد ظلت تواجهنا
مجموعة من السئلة المعقدة التي تتعلق بوضع هذا المبدأ
موضع التطبيق:
مـــاذا نعنـــي بـــالتراث؟ ومـــا هـــي مســـتلزمات
المعاصــرة؟ مـاذا نأخـذ مـن تراثنـا ومـاذا نـدع؟ كيــف
نحــافظ علــى شخصــيتنا القوميــة دون أن نقــع فــي
العزلة والجمود؟ ..الخ.
ومن المؤسف أن هذه السئلة وغيرها مما يتصل بموضوع
التراث والمعاصرة في الفن والدب لم تعالج حتى الن معالجة
نظرية شاملة تنير الطريق للفنانين والباحثين ،ولذلك يظل
الموضوع ،على كثرة ما كتب فيه ،مفتوحا ً للنقاش.
ما الذي يجعل قضية التراث والمعاصرة تستأثر بكل هذا
القدر من الهتمام؟
إن السبب واضح ،فنحن لم نوفق حتى الن إلى إقامة
علقة متوازنة بيننا وبين الثقافة العالمية المعاصرة ،وأعني
بالعلقة المتوازنة تلك التي تضعنا في مستوى عصرنا من جهة
وتحفظ لنا أصالتنا القومية من جهة أخرى .ويبدو لي أن في
مقدورنا أن نميز مرحلتين مختلفتين من مراحل العلقة بيننا
وبين الثقافة العالمية )الوربية الغربية بوجه خاص(:
الولى هي المرحلة التي امتدت حتى منتصف
القرن الحالي على وجه التقريب ،وقد قصرنا خللها
عن الرتفاع إلى مستوى العصر ،والثانية هي
مرحلتنا الحالية ،وقد عجزنا خللها عن الحتفاظ
بقدر كاف من الصالة القومية.
- 10 -
ونا من الثقافة العالمية متهيبا ً خلل المرحلة الولى كان دن ّ
يشوبه الحذر ،ويحد ّ منه خوف مزدوج :خوف من انتهاك قداسة
التراث والخروج على أشكاله وتقاليده الفنية ،وخوف من
اقتحام ميادين إبداعية جديدة لم يطرقها أسلفنا من قبل ول
نعرف عنها الشيء الكثير .ولذلك اتسمت حركة التجديد الدبي
والفني عندنا خلل هذه الفترة بالتحفظ والعتدال ،فوقفت
الرواية العربية عند حدود واقعية القرن التاسع عشر ،وظل
شعراؤنا المجددون حتى نهاية الحرب العالمية الخيرة وبعدها
بقليل يتتلمذون على الشعر الرومانسي النكليزي والفرنسي
)لمارتين ،دوفيني ،جون كيتس الخ( .أما فنانونا التشكيليون
فقد كان أول اتصال جدي لهم باتجاهات الفن الوروبي الحديث
في أيام الحرب الخيرة ،عندما قدم إلى العراق بعض
الرسامين البولونيين )على ما رواه فائق حسن وجواد سليم
وغيرهما من جيل الرواد الوائل في هذا المجال( رغم أن
أوروبا كانت قد عرفت التكعيبية والدادية والسوريالية وغيرها
من مدارس الفن الحديث منذ الربع الول من القرن الحالي.
ولكن منتصف القرن شهد ما يمكن أن نسميه انقلبا ً من
موقفنا من الثقافة العالمية ،فقد تخلت الحركة البداعية
العربية عن تهيبها واعتدالها واندفعت إلى ألوان من التجديد
الجريء شملت كل أوجه الخلق الفني وغيرت بالتدريج معالم
الثقافة العربية .وغني عن القول أن هذا النقلب كان استجابة
منطقية لحاجة تاريخية ،فقد تطورت الحياة العربية ،بشقيها
المادي والروحي ،منذ الحرب الخيرة حتى الن إلى حد لم تعد
تستوعبه أو تلئمه أشكال التعبير الفني التي كانت سائدة من
قبل .ولكن ما حدث بعد ذلك كان مفارقة مبكية ،فقد ساقتنا
حماستنا للتجديد إلى تقليد نماذج فنية أجنبية تنتمي إلى سياق
حضاري مختلف ،وأفضت بنا رغبتنا في إنهاء غربتنا عن العصر
إلى نوع من الغربة عن الذات ،وتحولت ثورتنا على المقاييس
البالية ،في أحيان كثيرة ،إلى "عدمية" ترفض كل المقاييس.
لماذا سار تطورنا الفني والدبــي -ول ســيما منــذ
أوائل العقد الماضي -في هذا التجاه؟
إن الجابة تكمن-في رأيي -في عقدة النقص التي نحسها
إزاء الحضارة الغربية ،فبدافع من هذه العقدة سارعنا إلى تبني
تيارات الفن الحديث في الغرب وراح بعض مثقفينا يرددون،
بكثير من التبجح والعتزاز ،آراء نقاد الفن الغربيين المحدثين
ويحكمون من خللها على أعمالنا الدبية والفنية.
ولم يلتفت هؤلء المثقفون إلى واقع صارخ ،هو أن
الحضارة الغربية تمر اليوم بطور انحلل وضياع ،وأنها بالتالي
ليست النموذج المناسب لما نبغيه لنفسنا من رقي حضاري.
فالحضارة الغربية الراهنة قد انقلبت على نفسها وبدأت
تقوض ،بنوع من اليأس والنزق الجامح ،كل الركائز الفكرية
والمفاهيم الجمالية التي أقامتها لنفسها خلل عصور متعاقبة،
لتقف في نهاية المطاف وسط النقاض والخرائب مبشرة
باللشكل واللمعنى.
وليست هذه ،بالطبع ،محاولة للغض من قيمة
الحضارة الغربية التي أعطت العالم الكثير من
العمال والمثل الفنية العظيمة ،ول هي دعوة إلى
تجاهل منجزات الخرين ،فمن تحصيل الحاصل أن
الثقافة القومية –ول سيما في أيامنا هذه -ل يمكن
أن تعيش وتزدهر بمعزل عن الثقافة العالمية،
ولكنها دعوة إلى وعي الذات ،دعوة إلى إعادة النظر
في منحى تطور الثقافة العربية المعاصرة وتقصي
جذور المفاهيم التي تسترشد بها الجيال الجديدة
- 11 -
من أدبائنا وفنانينا.
إن مراجعة ما كتبه النقاد العرب في نظرية الفن وفي
النقد التطبيقي خلل السنوات الخيرة وما يكتبه نقاد الصحافة
عندنا وفي بقية أرجاء الوطن العربي تعليقا ً على ما يصدر من
أعمال أدبية وفنية ستقودنا إلى ملحظة أن حركتنا البداعية
)أي فنوننا وآدابنا( ظلت خلل العقدين الخيرين تدور في إطار
عدد من المفاهيم التي استقر في أذهان الكثير أنها مسلمات ل
ل -أن على الفنان الحديث أن تحتاج إلى نقاش .فنحن نقرأ –مث ً
يتجه إلى السطورة والرمز ،وأن وظيفة الفن هي خلق عوالم
خاصة ل علقة لها بالواقع ولذلك فالعمل الفني يفسر من
الداخل وبمعزل عن العالم الموضوعي ،وإن الفن يرفض
الترابط والوضوح والعقل ،وإن على الفن أن يحطم كل
الشكال والقواعد المتعارف عليها متخطيا ً نفسه باستمرار.
وهذه المفاهيم التي يتسابق بعض مثقفينا إلى ترويجها هي-
بالضبط -مرتكزات نظرية الفن الوربي الغربي في عصر
الثورة العلمية -التكنولوجية.
ولكن ما هي الخلفية التاريخية التي قادت الفكر الجمالي
الغربي إلى هذا الموقف؟ لماذا يلتفت الفنان الغربي إلى
السطورة؟ لماذا يرفض العقلنية والوضوح؟ لماذا يصر على
فصم كل وشيجة بين الفن والواقع؟ ربما كان من الفضل أن
نبحث لدى المفكرين الغربيين أنفسهم عن إجابة عن هذه
التساؤلت.
في دراسة حول "جذور التعبير الرمزي" يقول الباحث
المريكي سيغفريد غديون ،مفسرا ً لجوء الفنان الحديث إلى
السطورة والرمز:
"إن القاسم المشترك في العقيدة والطقوس ،الذي كان
يشد النسان إلى النسان فيما مضى ،قد فقد سلطانه اليوم.
فبعد أن كان السحر والسطورة والدين ،في العهود البدائية،
تمد النسان بدرع روحي في وجه بيئة معادية ،أمسى يقف
اليوم مجردا ً عاريًا .وبغية التعويض كان عليه أن يخلق من ذاته
رموزا ً وصورا ً داخلية".
ويقول أورلي هولتان في كتابه القيم "مدخل إلى المسرح
بوصفه مرآة للطبيعة" متحدثا ً عن أزمة الحضارة الغربية
المعاصرة:
"أن تراكم الدلة العلمية والصدمات العاطفية
التي أحدثتها الحرب العالمية الثانية وما تلها قد
جعل من الصعب على النسان أن يحتفظ بإيمانه
الديني القديم وأن يظن نفسه طفل ً للرب .ولكن إذا
لم يكن النسان طفل ً للرب فماذا يكون؟ وإذا هو لم
يكن أكثر من واقعة كونية أو قرد بل شعر ،فماذا
سيحل بكل بنيان القيم والتقاليد التي عاش عليها
منذ العصور الوسطى؟ هذا هو السؤال الذي وجد
كثير من المفكرين والفنانين المرهفي الحس
أنفسهم يطرحونه مع اقتراب القرن الحالي من
نهايته".
ً
ويقول الفنان السوريالي الفرنسي جان آرب مدافعا عن
اللعقلنية في فنه:
"في رأيي أن العقل ل يقدم إل جزءا ً يسيرا ً جدا ً
من السعادة النسانية .إن أشد ثمار العقل إثارة
للدهشة قد جلبت للبشرية تعاسة ل حدَ لها .وأنا أجد
معظم مكتشفات عصرنا العظيمة مرعبة وكريهة.
- 12 -
ويقول آلن روب غرييه ،أحد رواد ما يسمى بالرواية
الجديدة ،مفسرا ً انفصال فنه عن الواقع:
"إن معاني العالم الذي حولنا الن ليست إل
جزئية ومؤقتة ومتناقضة وقابلة دائما ً للنقاش
والبحث ،فكيف يستطيع العمل الفني إذن أن يدعي
تصوير معنى معروف مسبق مهما كان هذا المعنى؟
هل للواقع معنى؟ إن الفنان المعاصر ل يستطيع أن
يجيب عن هذا السؤال .إنه ل يعرف شيئا ً عن هذا".
إن هذه الشهادات -وسنكتفي بها لئل نقع في استطراد
مخل -تدلنا على المنابع الساسية للفن الوروبي الحديث.
فانهيار قيم الحضارة البورجوازية الغربية ،ول سيما بعد الحرب
العالمية الخيرة ،وحالة الغتراب والقلق التي يعانيها المثقف
في المجتمع الرأسمالي المتطور هما اللذان يغريانه باللجوء
إلى السطورة والخرافة بحثا ً عن درع روحي يحتمي به .لقد
فقد المثقف البورجوازي الغربي إيمانه بالنهج العقلني الذي
اختطته الحضارة الوربية اعتقادا ً منه بأن هذا الّنهج هو الذي
قاده إلى ما يعانيه اليوم من ضياع ويأس .وكفر بالعلم الحديث
حين رأى أن هذا العلم قد أثمر من وسائل البادة والتدمير ما
يكفي للقضاء على الجنس البشري بأسره .وهو –أي المثقف
البورجوازي الغربي حائر أمام هذا اللغز لغز العقل الذي يقود
أصحابه إلى التعاسة والتقدم الذي يتمخض عن صنوف جديدة
مرعبة من القسوة والبربرية وحيرة المثقف البورجوازي
الغربي أمام ما يجري في مجتمعه يرافقها إحساس أليم
بالعجز عن الفعل والتغيير .فهو أمام القوى الجبارة التي
تتحكم بحركة المجتمع أشبه بأبطال صاميويل بيكيت الذين
شدهم الشلل إلى مقاعدهم أو دفنوا حتى خصورهم في
الرمال .وهو لهذا كله يدير ظهره لواقع يعجز عن فهمه ويعجز
عن تغييره ،ليصوغ لنفسه ،من خلل الفن ،واقعا ً آخر جديدا ً ل
يخضع إل لمنطق هواه ونزواته ،أويعود إلى الساطير باحثا ً عن
خلصه في حكمة العصور الخوالي ،كما عبر غديون في مكان
آخر من دراسته المارة الذكر.
ما هي أوجه التماثل أو اللتقاء بين معاناتنا ،نحن
المثقفين العــرب ،وبيــن أزمــة المثقــف البورجــوازي
الغربي ،كما تبدو من خلل الشهادات التي أوردناها؟
لعلي في غنى عن الجابة ،فالهموم التي تؤرق المثقف
ل -ذات طبيعة مختلفة تمامًا .إن العربي-والنسان العربي إجما ً
خصومتنا ليست مع العقل بل مع الوضاع والممارسات
والمفاهيم اللعقلنية في حياتنا ،وليست مع العلم ،لننا نعرف
جيدا ً أن العلم يمنحنا القوة ويمدنا بأسباب الرقي المادي
والروحي .ونحن ل نعاني في فهم الواقع مشقة كتلك التي
يعانيها آلن روب غرييه ،فواقعنا واضح المعالم :إنه واقع
الحتلل الجنبي والتجزئة والتسلط القطاعي والرأسمالي
والتخلف الحضاري .ولسنا يائسين من تغيير هذا الواقع ،رغم
الهزائم والخفاقات ،لننا نقتنع يوميا ً من خلل التجارب بأننا
قادرون على تغييره بالفعل .ونحن ل نشغل أنفسنا كثيرا ً
بالتساؤلت الميتافيزيقية حول معنى الحياة والموت-كما يفعل
ل -ل لن الموت ل يخيفنا ،ول لنا وجدنا الجواب بيكيت مث ً
القاطع عن هذه التساؤلت ،وإنما لن همومنا الواقعية وقضايانا
الملحة ل تدع مجال ً لهذه الرياضة الذهنية العقيمة.
هذه ،إذن ،هي القضايا الساسية التي تشغل مثقفينا
الثوريين في المرحلة الراهنة من تاريخنا القومي ،وهي التي
تؤلف بالتالي مضمون نتاجاتنا الفنية والدبية في هذه المرحلة.
أفليس غريبًا ،بعد ذلك ،أن نستورد لهذا المضمون أشكال ً فنية
- 13 -
وجدت أساسا ً للتعبير عن مضمون آخر مختلف نوعيًا؟ ثم
أليس من دواعي التهكم أن نتحدث ،في الوقت نفسه ،عن
الصالة والترابط العضوي بين المضمون والشكل؟
إن هذه المقدمة-وقد طالت -كانت ضرورية قبل
النتقال إلى قضية التراث والمعاصرة في المسرح
العربي ،فتطور المسرح مرتبط بمجمل تطور حياتنا
الثقافية ،وقد كان من الطبيعي ،وقد انساقت آدابنا
وفنونا خلل ربع القرن الخير مع النزعة "العدمية"
السائدة في الفن الوربي الحديث ،أن ينساق معها
المسرح كذلك ،وإن اتخذ انسياقه هذا في بعض
الحيان مظهر الحرص الشديد على الصالة القومية.
وقد تبدو الفكرة الخيرة غريبة ومتناقضة ولكني
سأوضحها في مكانها من السياق.
لبد لنا ونحن نتحدث عن التراث والمعاصرة في مسرحنا
العربي من أن نشير أول ً إلى أن العلقة مع التراث تتخذ في
هذا المجال شكل ً آخر غير الشكل الذي تتخذه في مجال
ل .فالمسرح من الفنون الحديثة النشأة عندنا ،إذ ل الشعر مث ً
يذهب تأريخه إلى أبعد من القرن الماضي .ومن الثابت أننا
أخذنا مفهوم المسرح وقواعده وتقاليده عن الوروبيين،
وبخاصة عن المسرح الفرنسي الكلسيكي والرومانسي
)كورني وموليير وهوغو ودوما… الخ( ،الذي أتيح لرواد مسرحنا
الوائل ،كمارون النقاش وأبي خليل القباني ومحمد عثمان
جلل ،أن يتصلوا به ويتعلموا منه .ولم يكن ذلك خطأ )كما
زعم الكاتب السوري الدكتور سلمان قطاية في كتابه
"المسرح العربي ..من أين وإلى أين"؟( ول تفريطا ً بالصالة،
فقد أخذت المم الوروبية بدورها فن المسرح عن الغريق
ولم تبتدعه ابتداعًا ،ولكن هذا ل يقلل ،بطبيعة الحال ،من
أصالة مسرح شكسبير أو ثربانتس أو غوغول أو غيرهم من
كبار الكتاب المسرحيين الوروبيين.
وخلل السنوات الخيرة قيل كلم كثير حول الشواهد
الدالة على أن الحضارات القديمة في وادي الرافدين ومصر
والحضارة العربية السلمية قد عرفت في طقوسها وشعائرها
الدينية ونصوصها الدبية واحتفالتها الدنيوية بعض عناصر
المسرح .وليس لهذا في الواقع كبير أهمية ،فما من شعب في
الدنيا لم يمارس طقوسا ً وشعائر ذات شبه بالمسرح ،وما من
أدب قومي في الدنيا ل يضم حكايات وشخصيات ومواقف
يمكن اتخاذها مادة لعرض مسرحي .بل إن بين علماء الجتماع
من يذهب إلى أن الحياة نفسها مسرح كبير ،يتقمص فيه
الناس ،في كثير من الحوال ،شخصيات غير شخصياتهم
الحقيقية وينطقون فيه بكلم أعدوه من قبل .وهكذا فإن وجود
عناصر درامية في تراثنا ل يعني أننا عرفنا المسرح ،لن هذه
العناصر بقيت في طورها الجنيني ولم تتطور لتصبح فنا ً
مستقل ً له نظريته ونماذجه وكّتابه ،كما كان المر مع المسرح
الغريقي القديم.
ماذا نعني ،إذن ،حين نتحدث عن ضرورة ربط
المسرح بالتراث؟ إننا نعني ،بالدرجة الولى ،أن
يلتفت كتابنا المسرحيون إلى تاريخنا وأدبنا
ومأثوراتنا الشعبية يستمدون منها موضوعات
وأفكارا ً وشخصيات لعمالهم المسرحية على نحو ما
فعل شعراء المسرح الغريقي الكلسيكي حين
استقوا مادة مسرحهم من تراثهم الشعبي العظيم.
ولكن الرتباط بالتراث يتخذ عند بعض المعنيين بالمسرح
عندنا مدلول ً آخر ،فهم يريدون للمسرح-باسم الصالة القومية-
- 14 -
أن يتخلى عن كل ركائز الدراما الرسطوطاليسية )الحبكة،
الشخصيات ،وحدة الفعل ،الحوار ..الخ( وأن يستعيض عنها
بركائز أخرى يستمدها من التراث .وكثيرا ً ما يشار في هذا
الصدد إلى كتابات الجاحظ ومقامات الهمذاني وخيال الظل
كمصادر لهذا المسرح "الصيل" المقترح .وتتخذ هذه الدعوة
صورة متطرفة في كتاب الدكتور قطاية الذي سبقت الشارة
إليه ،فبعد مناقشة سطحية ومليئة بالمغالطات لعناصر
المسرح الوروبي التقليدي ،يخلص المؤلف إلى أن وجود النص
الدرامي والجمهور غير ضروري للمسرح وأن التمثيل هو
العنصر الضروري الوحيد لكي يكون المسرح مسرحًا! وبدل ً
من هذه العناصر غير الضرورية يقترح قطاية مسرحا ً جديدا ً
يعتمد على المقامات وخيال الظل وحلقات الذكر ورقص
السماح وصندوق الدنيا!
قد يتبادر إلى الذهن ،للوهلة الولى ،أن دعوة الدكتور
قطاية هذه وليدة المغالة في الحرص على الصالة ،ولكن
القارئ الذي أتيح له أن يطلع على نظريات المسرح الوروبي
الحديث سرعان ما سيكتشف أن ثورة الدكتور قطاية على
الدراما الرسطوطاليسية ليست إل صدى متأخرا ً للراء التي
نادى بها الممثل الفرنسي انتونين آرتو منذ أربعين عاما ً في
كتابه المسرح وبديله .فقد دعا آرتو في كتابه هذا ،الذي أصبح
على حد تعبير أحد النقاد الغربيين إنجيل المسرح الجديد بعد
الحرب العالمية الثانية ،إلى تحرير المسرح من طغيان الكلمة
ونبذ روائع الماضي والعودة إلى ما سماه آرتو بالمحاكاة
السحرية لحركات الجسم البشري .وهذا ما عنيته حين قلت إن
النسياق مع النزعة العدمية في الفن البورجوازي الغربي
تنتحل لنفسها أحيانا ً مظهر الحرص الشديد على الصالة
القومية.
وليست الدعوة إلى بناء نظرية جديدة للمسرح
العربي قوامها مقامات بديع الزمان ورقص
الدراويش وخيال الظل وما أشبه إل رافدا ً واحدا ً من
مجموعة روافد فكرية جديدة تخللت الحياة المسرحية
العربية في السنوات الخيرة .وهي روافد تنتهي
جميعا ً إلى مصب واحد :رفض الدراما
الرسطوطاليسية والبحث عن أشكال جديدة
للمسرح.
وحين نتقصى هذه الروافد فسنجد أنها جميعا ً
ذات منابع أوروبية .وسنجد –وهذا هو الهم -أنها
انبثقت ضمن سياق اجتماعي وعقلي مختلف.
ولعل أبرز التيارات المناوئة للمسرح الرسطوطاليسي
في الوطن العربي اليوم تيار المسرح الملحمي .ويستمد
المسرح الملحمي نفوذه الكاسح في بلدنا من كونه مسرحا ً
سياسيا ً ملتزما ً بالضافة إلى كونه بدعة جديدة في المسرح.
ومع أن تلمذة بريشت في بلدنا كثيرون ،إل أن المرء يكتشف،
وكله دهشة ،أن نظرية المسرح الملحمي التي أسهب
بريشت في شرحها ليست واضحة تماما ً في أذهان دعاتها.
ويحضرني مثال قريب ،ففي الذكرى الثمانين لميلد برتولد
بريشت ،التي مرت بنا مؤخرًا ،كتب أكثر من فنان مسرحي
عراقي حول ارتباط مفهوم التغريب عند بريشت بمفهوم
التغريب عند ماركس .والواقع أن المفهومين مختلفان تماما ً
والعلقة الوحيدة بينهما هي أن بريشت كان ماركسيًا! ول
تسمح طبيعة هذا المقال بالتوسع في شرح فكرة التغريب
عند ماركس )وقد درجنا على ترجمتها بكلمة استلب( واختلفها
عن فكرة التغريب البريشتي )التي يفضل البعض ترجمتها
- 15 -
بكلمة إبعاد( ،ولكنا سنكتفي بالشارة إلى أن الستلب عند
ماركس هو مفهوم فلسفي تمتد جذوره إلى فلسفة هيغل،
أما التغريب عند بريشت فهو تقنية مسرحية يراد بها عزل
المتفرج عاطفيا ً عما يجري على منصة المسرح والحيلولة بينه
وبين الندماج في جو المسرحية .وقد رأى بريشت أنه يستطيع
سرد الروائي تحقيق التغريب الذي يريده باستخدام وسائل ال ّ
على المسرح ،ومن هنا جاءت تسمية المسرح الملحمي
التي يبدو أنها ،هي الخرى ،ليست واضحة تماما ً في بعض
الذهان.
وإذ نعود إلى كتابات بريشت النظرية تتكشف لنا العوامل
التي دفعته إلى رفض القواعد الرسطوطاليسية ،فقد لحظ
بريشت –كما لحظ انتونين آرتو في الفترة نفسها تقريبًا -أن
معظم الروائع الكلسيكية التي تقدم على المسرح ل تعطي
المتفرج المعاصر فكرة صادقة عن حياته ومشاكله ،فهي
مكتوبة لزمنة أخرى غير زماننا )في رأي آرتو( ،أو هي مكتوبة
من وجهة نظر الطبقات التي سيطرت على المجتمع في
مراحل تطوره المختلفة )في رأي بريشت( .وقد رأى انتونين
آرتو أن يحسم المشكلة بالدعوة إلى نبذ النصوص المسرحية
القديمة جملة ،فرفع شعاره المشهور "ل روائع قديمة بعد
اليوم" ،أما بريشت فقد وجد للمشكلة علجا ً آخر هو إعادة
كتابة الروائع القديمة وعرضها بطريقة تكشف عن جوانب
الواقع التي أغفلها المؤلف وتساعد المتفرج على رؤية
الحقيقة .ولبرتولد بريشت تجارب طريفة في هذا الصدد
فعندما فكر في تقديم مسرحية شكسبير العظيمة "روميو
وجولييت" على المسرح أضاف إليها ما يكشف عن الوجه
الخر لبطلها ويبدد الهالة الرومانسية التي أحاطه بها المؤلف،
إذ نرى روميو في أحد المشاهد يهدد فلحا ً بائسا ً بالطرد من
أرضه لنه عاجز عن دفع المبلغ الذي يريد روميو جمعه من
الفلحين لشراء هدية ثمينة لحبيبته جولييت!
على أن بريشت ،وقد التقى بانتونين آرتو في
تشخيص مشكلة النص المسرحي القديم ،ل يلبث أن
يسير في طريق مختلف تمامًا .فإذا كان آرتو يعترض
على الدراما الرسطوطاليسية ،فإنه يتفق مع
أرسطو على أن غاية المسرح هي التطهير أو ما
يشابهه ،فمسرح القسوة الذي دعا إليه آرتو هو
مسرح يكشف للناس عن نوازع الشر الكامنة في
نفوسهم ،وبذلك يساعدهم على كبحها والسيطرة
عليها .أما بريشت فيرفض مبدأ "التطهير"
الرسطوطاليسي واضعا ً مكانه مبدأ "التعليم" .وهو
لذلك ل يريد للمتفرج أن يندمج في المسرحية ،أو هو
على القل ل يريد له أن يندمج فيها ذلك الندماج
الذي ينسيه نفسه ويمنعه من التفكير في القضية
المعروضة أمامه.
وإلى هنا تبدو المشكلة التي واجهها كل من بريشت وآرتو
متعلقة بمدى صدق النطباع الذي ينقله المسرح عن الواقع،
فقد لحظ الرجلان )وكلهما بنى نظريته في فترة ما بين
الحربين العالميتين( أن المسرح الوروبي مشغول بنصوص
قديمة ليست لها علقة وثيقة ،أو ل علقة لها على الطلق،
بالحقائق المقلقة التي كانت تزخر بها الحياة الوربية في تلك
الفترة .وهذا ما نلمسه بوضوح في صرخة أنتونين آرتو
الحتجاجية "إننا لسنا أحرارًا ،فقد تنقض السماء فوق
رؤوسنا في أية لحظة .والمسرح إنما وجد ليعلمنا
هذا قبل كل شيء".
- 16 -
وهنا يخطر للمرء أن يتساءل :ما العلقة بين قوانين
الدراما الرسطوطاليسية وبين عجز المسرح الوروبي في
الفترة المشار إليها عن التجاوب مع مشكلت الواقع؟ هل
اتسعت الحياة الحديثة وتعقدت إلى الحد الذي ل تستطيع
الدراما ،بقواعدها المقررة ،احتواءه ،أم أن المسرح قام منذ
البداية على أسس خاطئة؟
وهذه ،بالطبع أسئلة ل يمكن حسمها بكلمة عابرة .ولكننا
نستطيع أن نتذكر في هذا السياق أن مسرح هنريك ابسن
)الذي كان صارما ً في تقيده بقواعد الدراما الرسطوطاليسية(
أحدث دويا ً هائل ً في أوروبا بأسرها في الربع الخير من القرن
الماضي عندما وجه ضربات عنيفة إلى أقوى المؤسسات
الجتماعية وأرسخها :الكنيسة ،النظام الرأسمالي ،الصحافة،
السرة ..الخ .وما يقال عن مسرح ابسن يصدق إلى حد كبير
على مسرح برناردشو الذي عالج قضايا عصرنا بكثير من لعمق
والذكاء ،وقد كان شو أسبق من بريشت إلى توكيد ضرورة
المناقشة الفكرية في المسرح الحديث ،ولكنه لم يجابه *صعوبة
في إدارة هذه المناقشة ضمن الطار الدرامي المألوف.
ومن المثلة القريبة العهد في هذا الصدد مسرحية جون
أوزبورن المعروفة أنظر وراءك بغضب ،فهذه المسرحية
ذات البناء الرسطوطاليسي التقليدي لم تكن حدثا ً مسرحيا ً
وحسب ،بل كانت في الوقت نفسه حدثا ً اجتماعيا ً ساعد على
تفتيت التزمت الجتماعي النكليزي وجعل المواقف
الخلقية في المجتمع أكثر تسامحا ً -على حد تعبير
الناقد مارتن إيسلن.
هل نمضي في تعداد المثلة؟ ل ضرورة لذلك ،بالتأكيد،
فرجل المسرح يستطيع أن يستحضر إلى ذاكرته ،دون عناء،
الكثير ،من العمال المسرحية الحديثة التي لم تمنعها حبكتها
الرسطوطاليسية من استيعاب قلق العصر وأزماته وصراعاته.
كما أنه يستطيع أن يتذكر الكثير من "الروائع" الكلسيكية التي
مازلنا ،رغم اختلف البيئة والعصر ،نجد فيها نفوسنا وقضايانا،
ولول ذلك لما بقيت حية متجددة على خشبات المسارح.
وهكذا فليس سهل ً أن نسلم مع بريشت بأن الدراما
الرسطوطاليسية لم تعد تلئمنا وأن رسم صورة دقيقة للعالم-
على حد تعبيره -يستلزم نوعا ً جديدا ً من التأليف للمسرح.
والواقع أن بريشت ،الذي كان –خلفا ً لرتو -كاتبا ً دراميا ً
عظيما ً قد نقض بكتاباته المسرحية جوهر نظريته حول
التغريب ،إذ خلق-خلفا ً لرادته -شخصيات درامية حية ل يملك
المرء إل أن يتجاوب معها عاطفيًا.
ومهما يكن من أمر فإن من الغلو في الدعاء أن يقول
قائل إن الشكل الدرامي الرسطوطاليسي قد ضاق عما نريد
تقديمه على المسرح ،لننا لم نستنفد إمكانات هذا الشكل كما
استنفدها الكتاب الوروبيون ،ولم نبلغ فيه ذروة تسمح لنا
بالنتقال إلى غيره من الشكال .بل إننا لم نقدم إلى الجمهور
حتى الن من ألوان المسرح الدرامي الرسطوطاليسي ما
يسمح له بالموازنة والحكم على التجارب الجديدة التي نقدمها
إليه.
*
وووو وووووو وووو وووووو ووو وووو وووو و .وو:
. The Quintessence of Ibsenism
- 17 -
لماذا سارعنا ،إذن ،إلى تبني نظرية المسرح الملحمي
بكل هذا الندفاع؟ إنها –أعيد القول -نزعة النسياق مع كل تيار
جديد في الثقافة الوروبية .ونزعة الهدم المستمر التي تسود
ثقافة العالم الرأسمالي في أيامنا هذه .ول ينبغي أن نغفل
عامل ً آخر مهما ً هو أن الشكال الجديدة -أو اللأشكال ،إذا شئنا
الدقة في التعبير -تعفي الفنان ،أيا ً كان المجال الذي يعمل
فيه ،من المحاسبة ،لن المحاسبة متعذرة مع غياب أية معايير
متفق عليها.
إن هذه الوقفة عند بعض الروافد الغربية التي تسربت إلى
حركتنا المسرحية في السنوات الخيرة قد تطول كثيرا ً إذا
حاولنا أن نستقصي كل الروافد ونردها إلى منابعها .وربما كان
مسرح العبث الوجودي جديرا ً بأن نتوقف عنده ،لن بعض
مفاهيمه قد تسللت إلى أدبنا وممارستنا المسرحية ،وإن لم
يتحول إلى تيار ذي شأن في نشاطنا المسرحي .ولكن هذه
الكلمة ل تطمح إلى الشمول ،وإنما هي مجرد دعوة إلى إعادة
النظر ،دعوة إلى وعي الذات.
ءءءءء 1978
- 18 -
ملمح أساسية
في كتاب "فن الشعر" لرسطوطاليس
- 20 -
فهذه غاية يصعب إدراكها في نطاق بحث محدود كهذا ،وإنما
يهمنا أن نقف وقفة متريثة أمام ثلث ركائز أساسية تقوم
عليها نظرية الدراما عند أرسطوطاليس ،وهي :المحاكاة،
الوحدة العضوية ،التطهير.
ءءءءءء.
)( وووو ووووو وووووو وو وووو "وو ووووو" 12
ووووووووووو.
)( وووو وو وووو "ووو" وو وووو ووو ووووووووووووووووو 13
- 24 -
مديدة ،ول سيما منذ أواخر عصر النهضة الوربية ،وذهبوا في
تفسيرها مذاهب مختلفة .وكان الشاعر اللماني الكبير غوته
أحد الذين أدلوا بدلوهم في هذا الموضوع .ويتلخص رأي غوته
الضرورية لكل
)(15
في أن التطهير يراد به الذروة الحاسمة،
دراما ولجميع النتاجات الشعرية في الواقع.
ل :إذا كان الشاعر قد ويمضي غوته في تفسير رأيه قائ ً
قام ،من جانبه ،بمهمته ،بأن أثار قضايا مهمة
وحسمها على نحو مقبول ،فإن أفكارا ً مماثلة
]لفكاره[ ستخطر للمتفرج في هذه الحالة.(16).
وكان الفيلسوف اليطالي كروتشه ممن تطرقوا إلى فكرة
ل ،بل اكتفى بقوله" :ل التطهير ولكنه لم يتوقف عندها طوي ً
يمكننا أن ننكر بالمرة أنه )أي أرسطوطاليس( يمكن أن
من(17الفكرة الحديثة حول ما يكون قد استشف شيئا ً
للفن من طاقة تحريرية )".وهذا رأي ل يخلو من
الستعلء المألوف في كتابات كروتشه.
ويخرج علينا الباحث البلغاري الكسندر نيتشيف برأي
آخر ،خلصته أن المتفرج يتعاطف مع البطال التراجيديين
ويعتريه الخوف على مصائرهم لنه يتوهم في بداية المر أنهم
أبرياء ل يستحقون المصير الذي ينتظرهم ،ولكن الفعل
التراجيدي يتطور باستمرار ليكتشف في النهاية ،بما ل يقبل
التأويل ،أن البطال مذنبون وأن المشاعر اليجابية التي أحسها
المشاهد حيالهم ل ترتكز إلى أساس .وهنا تحدث لحظة
التطهير ،أي لحظة التحرر من الرثاء والخوف .ويدعم
الدكتور نيتشيف رأيه هذا بشواهد عديدة يستمدها من كتاب
الفصل الثالث عشر من فن الشعر نفسه ،ول سيما ما ورد في
الكتاب حول الغلطة التراجيدية للبطل (18).ولكن رغم كل
الشواهد التي يوردها نيتشيف فإن تفسيره لفكرة التطهير
يبدو غير مقبول ،إذ ما من أحد ،حتى أرسطوطاليس نفسه،
يمكن أن يوافق على أن أوديب ،الذي كتب عليه مصيره الفاجع
حتى قبل ولدته ،أو انتيغونا التي رفضت أن تترك جثة أخيها
القتيل مرمية في العراء ،قد نال العقاب الذي يستحقانه وأن
تعاطفنا معهما يقوم على تصورات خاطئة .وليس لدينا ما
يدعونا إلى العتقاد بأن سوفوكليس قد قصد إلى هذه الغاية.
ولعل أصدق التفاسير التي قدمها المعاصرون وأقربها إلى
وظيفة الفن الساسية هو رأي المريكي وليم كاوفمان الذي
يقول" :عندما تفصح المعاناة عن نفسها في شعر
رائع يتملكنا إحساس بالتحرر ،لن حزننا الخرس،
إلى( أقصى الحدود ،يجد تعبيره ويحلق )19
والمبهم
بجناحين".
ونحن مياليون إلى الخذ بهذا التفسير ،لن التراجيديا
الغريقية ،التي استنبط أرسطوطاليس منها أحكامه ،تستثير
تلك المشاعر الليمة الكامنة وراء تخوم الوعي ،والتي ينطوي
عليها كل البشر .والتراجيديا الغريقية عميقة في واقعيتها،
رغم قشرتها الميثولوجية الخارجية ،ذلك أنها تستمد موضوعاتها
من المعاناة والمحن النسانية الزلية ،كالتحول المفاجئ من
)( ووووGoethe, Supplement to Aristotle,s poeties- Tarnslated by E. : 15
.(L. Wenning (the Great critics, p 840
)( وووووو ووووو و .841 16
- 25 -
السعادة إلى الشقاء ،وكفاح النسان من أجل تفادي ما تجيء
به القدار ،وصراعه المأساوي مع القوى الغاشمة التي تتحكم
في مصيره ،وبطلن المجد الدنيوي وغير ذلك من المتحانات
القاسية التي لزمت النسان عبر تاريخه .وقلق المرء إزاء هذه
المحن المحتملة ،أو المؤكدة ،هو جزء من الحياة الداخلية
العميقة لجميع الناس ،وإن كان انشغالهم بهمومهم اليومية
الصغيرة قد ينسيهم ،في الغالب ،الطابع المأساوي لحياتهم.
لكنهم حين يشاهدون عرضا ً تراجيديا ً فإنهم يجدون في كلمات
الشاعر تعبيرا ً بليغا ً عن أحزانهم ومخاوفهم المكبوتة
الخرساء .وهم بتعاطفهم مع البطل التراجيدي وخوفهم على
مصيره إنما يتيحون لهذه الحزان والمخاوف الكامنة في
أعماقهم فرصة الفصاح عن نفسها ،وبذلك يتحرون منه مؤقتًا،
وهذا ما يعنيه أرسطوطاليس بكلمة التطهير ).(Catharsis
وثمة تفسير آخر قد يساعدنا على فهم ما عناه الفيلسوف
اليوناني بالتطهير .فالمشاهد الذي غادر المسرح لتوه بعد أن
حضر مسرحية تراجيدية سرعان ما يثوب إلى نفسه ويفطن
إلى أن الحداث المأساوية ،التي عايشها وشارك فيها بتعاطفه
وخوفه ،ليست في الواقع سوى أحداث متخيلة ل تمس سلمته
الشخصية .وإذا كان مقدرا ً له أن يواجه في حياته شيئا ً مما رآه
في المسرح فهذا أمر بعيد ،ونحن -كما يقول أرسطوطاليس
نفسه في الفصل الثاني من كتاب الخطابة -ل نخاف المور
فجميعنا(20نعلم أننا سنموت ،ولكن لن هذا ليس البعيدة جدًا،
قريبا ً فإننا ل نخافه ).وهذا كله مدعاة للشعور بالتحرر
والرتياح.
وما دمنا نتحدث عن تضارب الراء حول التطهير
الرسطوطاليسي فمن المناسب أن نشير إلى أن أكثر
الباحثين الذين تصدوا لهذه المشكلة لم يفطنوا إلى أن
أرسطوطاليس قد تطرق إلى مفهوم التطهير بمزيد من
السهاب والوضوح في كتاب السياسة ،وذلك في معرض حديثه
عن وظائف الموسيقى وأثرها في السامعين .وقد نواجه هنا
اعتراضا ً يقول ،إن أثر الموسيقى في النفوس يختلف عن أثر
التراجيديا ،وبالتالي فإن التطهير الذي ينجم عن سماعها هو
شيء آخر غير التطهير التراجيدي .غير أننا نستشف من
كتاب السياسة أن المر واحد في الحالتين ،فالمؤلف يعدنا في
الفصل الثامن من الكتاب المذكور بأنه سيتناول موضوع
التطهير بمزيد التفصيل في كتابه عن فن الشعر .ول ندري
هل نسي أرسطوطاليس ما وعد به ،أم أنه لم يجد شيئا ً جديدا ً
يضيفه إلى ما قاله في كتاب السياسة ،فهو –كما لحظنا -لم
يشر في فن الشعر إلى التطهير إل إشارة عابرة ،غامضة،
حار فيها المفسرون .ولنعد الن لنقرأ ما كتبه الفيلسوف في
السياسة حول تأثير الموسيقى والتطهير الذي ينجم عنه:
"إن العواطف التي تؤثر بقوة في بعض النفوس
موجودة لدى الجميع بدرجات متفاوتة ،كالرثاء )(eleos
ل ،وكذلك النشوة .وبعض الناس والخوف ) (phobosمث ً
يستجيبون لهذه الخيرة بوجه خاص ،فنحن نراهم
يهدأون تحت تأثير الموسيقى والناشيد الدينية ،التي
تدفع النفوس إلى الجنون ،كما لو كانوا قد عولجوا
طبيا ً وتطهروا ) .(Katharseosولبد أن الناس الميالين
إلى الشعور بالرثاء والخوف ،والناس العاطفيين
ل ،وغيرهم ممن تخامرهم عواطف مماثلة، إجما ً
يتأثرون بالطريقة نفسها .فهم جميعا ً لبد أن يحسوا
)( ووووووووووو وووووووو ووووو وووووو )ووووووو 20
)( .G. M. A. Grube, on poetry and Style, 15 f, New York, 1958 21
- 28 -
في ميدان المسرح ،ول أدل على ذلك ومن قلة حفول فناننا
المسرحي بالدب وتطيره من النصوص الدرامية العالمية
والعربية ،وانكماشه أمام العربية الفصحى وعجزه –في
الغالب -عن أدائها بطلقة ويسر .ول أظنني أجانب الواقع إذا
قلت إن من النادر أن نجد بين ممثلينا من يؤدي النصوص
المكتوبة بالفصحى أداء طبيعيا ً سلسا خاليا ً من المشقة
والعثار.
ومن أدلة ضعف الصلة عندنا بين المسرح والدب غياب
الدراما الشعرية غيابا ً تاما ً عن منصة مسرحنا الوطني .ويكفي
ن مسارح العاصمة لم لتصوير فداحة هذا الغياب أن نلحظ أ ّ
تشهد خلل السنوات العشر الخيرة سوى مسرحية شعرية
واحدة جاءت بها فرقة الموصل المسرحية إلى بغداد ولم
تعرض للجمهور –على ما أذكر -سوى مرة واحدة!
وينبغي أن نضيف إلى ذلك أن زهد شعرائنا في الكتابة
للمسرح ل يقل عن زهد مسرحيينا في الشعر والدب ،فكل
الفريقين قد أدار ظهره للخر غير ملتفت إلى ما بين هذين
الفنين من أواصر النسب الوثيق .ولو حاولنا استعراض ما كتبه
شعراؤنا من أعمال شعرية للمسرح منذ نشأته عندنا في أواخر
القرن الماضي حتى الن لخرجنا بحصيلة مؤسفة حقًا ،فليس
لدينا في هذا الباب إل محاولت قليلة يشكو معظمها من قلة
الخبرة وضعف الصياغة الدرامية وإن كان بعضها قد أصاب
حظا ً من التوفيق.
وقد يقال في تفسير عزوف شعرائنا عن الكتابة للمسرح
أن المسرحية الشعرية فن صعب يتطلب ،بالضافة إلى
الموهبة ،معرفة جيدة بأصول الفن الدرامي وأنها –فوق ذلك-
فن أرستقراطي ل يستهوي إل فئات محدودة من الجمهور.
وهذان سببان وجيهان دون شك ،ولكنهما لم يحول دون ظهور
الدراما الشعرية وتطورها إلى حد ما في بلدان عربية أخرى-
ل -مما يجعلنا نرجح أن السبب الساسي في عزوف كمصر مث ً
شعرائنا عن ولوج هذا الميدان هو ما ذكرناه من تقطع الوشائج
وبعد الشقة عندنا بين الدب والمسرح ،وهي شقة تزداد عمقا ً
واتساعا ً مع اليام.
وقد يعن للمرء أن يتساءل ما الذي أدى إلى كل هذا
التباعد عندنا بين الدب والمسرح ،وهذا حديث قد أعود إليه
في فرصة أخرى -وهو حديث ذو شجون على أية حال -أما الن
فإني أريد الوقوف عند موضوع آخر ،هو غياب المسرح
الشعري عن حياتنا الثقافية وما ينطوي عليه هذا الغياب من
معان سلبية .ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن أن ثمة مفارقة
حادة في غياب المسرح الشعري عن بلد كان الشعر دوما ً في
طليعة اهتماماته الثقافية وكان شعراؤه دوما ً من المبرزين بين
الشعراء العرب .ولكن المسألة أبعد من ذلك في الواقع،
فالدراما الشعرية -والتراجيديا الشعرية بالتحديد -هي أنسب
الشكال الدبية للتعبير عن الهموم الكبيرة في حياة المم
وأكثرها اتصال ً بتاريخها القومي ووجدانها الحضاري وطبيعة
إحساسها بالعالم ،حتى ليمكن القول بأن المم العريقة وجدت
ذاتها في التراجيديا الشعرية كما لم تجدها في أي فن آخر.
وهذا ما تؤكده تجربة المسرح الغريقي في القرن الخامس
قبل الميلد وتجربة المسرح النجليزي في العصر الليزابثي.
فليس بين فنون العالم القديم ما يستأثر بالهتمام أكثر من
التراجيديا الغريقية وليس بين فنون عصر النهضة ما يستأثر
بالهتمام أكثر من التراجيديا الشكسبيرية .ويمكننا ونحن
نتقصى الوشائج بين التراجيديا الشعرية وخلفيتها التاريخية
خلل هاتين الفترتين أن نضع أيدينا على الكثير من المور ذات
- 29 -
الدللة .ولعل أول ما تجدر ملحظته في هذا الصدد أن مولد
التراجيديا العظيمة في هاتين الفترتين جاء عقب امتحانات
تاريخية عصبية ،خرج الشعب منها منتصرًا ،موفور الثقة بنفسه
وبقدرته على مجابهة التحديات .فقد ولدت التراجيديا الغريقية
بعد أن انتصر اليونانيون على جيوش المبراطورية الفارسية
الغازية في ثلث مواقع فاصلة ،أولها موقعة الماراثون
الشهيرة )عام 490ق.م( التي تمكنت فيها أثينا بمفردها من
إلحاق الهزيمة بعدو يفوقها كثيرا ً في العدة والعدد .وولدت
التراجيديا الشكسبيرية بعد انتصار النجليز على السبان )عام
588م( وتحطيمهم أسطول الرمادا الشهير قرب السواحل
البريطانية .ومن السهل أن نتبين العلقة بين الهول والمعاناة
والجلل المأساوي التي هي أبرز سمات التراجيديا الشعرية
وبين نظائرها في هذه الحداث التاريخية التي سبقت ظهور
التراجيديا .كما أن من السهل أن نتبين ،في ملمح
"برومثيوس" الذي يتحدى كبير اللهة "زفس" )في تراجيديا
اسخيلوس المعروفة( شخصية المقاتل الثيني الذي تحدى
عتو المبراطور الفارسي وهزمه في سهل الماراثون .ولو
مضينا في المقارنة بين الفترتين المذكورتين لوجدنا أن كلتيهما
كانت تتسم بحيوية فكرية شديدة ونشاط إبداعي متعدد
الجوانب ،وإن الدراما الشعرية لم تزدهر فيهما بمحض الصدفة
بل جاءت ضمن سياق حضاري هيأ السباب لنشأتها وازدهارها.
فقد ظهرت التراجيديا الغريقية بعد أن قطع الغريق القدامى
أشواطا ً متناسقة في ميادين الفلسفة والعلوم والفنون والتربية
السياسية والجتماعية ،فكان شعرهم التراجيدي تعبيرا ً عن
مرحلة ناضجة من مراحل وعيهم الحضاري .وقد أشار
اسخيلوس نفسه إلى عمق ارتباط التراجيديا بالتراث حين
قال ،في عبارة مأثورة ،إن كتاباته وكتابات زملئه من الشعراء
التراجيديين ليست إل فتاتا ً من موائد هوميروس العظيمة.
والشيء نفسه يمكن أن يقال عن التراجيديا الشكسبيرية ،التي
ولدت هي الخرى في عصر تميز بالتعطش إلى المعرفة
وبتراكم الخبرة البداعية ،فقد بدأ شكسبير من حيث انتهى
كريستوفر مارلو وأفاد مما هيأه له عصره من أسباب الطلع
على التاريخ والتصال بثقافات المم الخرى .ومما ل شك فيه
أن شكسبير ما كان ليجد المادة التاريخية الضرورية لكتابة
يوليوس قيصر وكوريولنوس وأنطوني وكليوباترا لو لم يجد في
متناول يده كتاب بلوتارك عن حياة عظماء الغريق والرومان
مترجما ً إلى النكليزية بقلم السرتوماس نورث ،وما كان ليكتب
مكبث وريتشارد الثالث وبقية مسرحياته المستمدة من التاريخ
النجليزي لو لم يمهد له رافاييل هولنشيد السبل بما كتبه
عن تاريخ إنجلترا واسكوتلندا .ول ينبغي ،ونحن نتحدث عن
أوجه التماثل بين عصر أثينا الذهبي والعصر الليزابثي ،أن
تفوتنا الشارة إلى ما شهده كل العصرين من تحولت دينية
وسياسية وما زخرا به من تناقضات وصراعات فكرية حادة بين
قوى اجتماعية استنفدت دورها التاريخي وأخرى فتية تسعى
إلى تثبيت قيمها الجديدة وإدارة دفة التطور الجتماعي في
التجاه الذي تريده .لقد كان كل هذين العصرين عصر تحد
واستجابة وقلق وصراع وتحول ،وكان ذلك كله خليقا ً بأن
يستفز الذهان ويدفعها إلى إعادة النظر في نسق القيم التي
تقوم عليها العلقات النسانية وفي النظم السياسية
والمعتقدات الدينية ،وإلى تأمل التجربة النسانية بمختلف
أبعادها والبحث عن الحوافز العميقة للسلوك البشري وما
ينجم عنه من خير أو شر .وقد انهمكت التراجيديا ،كما انهمك
الفكر الفلسفي خلل هذين العصرين ،في بحث هذه القضايا
النسانية الكبرى .ولكن التراجيديا تميزت عن الفلسفة في إنها
لم تحول مشكلت الوجود النساني إلى تصورات ميتافيزيقية
- 30 -
مجردة ،بل تناولتها بصورتها العيانية الملموسة ووضعت
النسان بكل أشواقه وطموحاته وهمومه ومخاوفه في صميم
تجربة الوجود .ومن هنا كانت التراجيديا ظاهرة شغلت
صوها بكثير من التأمل والتحليل. الفلسفة أنفسهم فخ ّ
ويمكننا أن نلحظ مما تقدم-على ما فيه من إيجاز
وابتسار -أن الخلفية التاريخية لمولد التراجيديا وازدهارها قد
تميزت بثلث سمات أساسية:
-1ووووو ووووو وووو ووووووو ووووووو.
و -وووووو ووووووو وووووو ووووو وووو
وووووو وووو.
و -وووووو وووووووو ووووووو ووووووووو
ووووووووو وووووو وووو ووووو وووووووو
وووووووووو ووووووو.
ومن السهل أن نرى أن هذه الخلفية التاريخية بأركانها
الثلثة –العراقة والتحدي والتحول –شاخصة في واقعنا العربي
الراهن .ولعل الهتمام الجزئي الذي حظيت به المسرحية
الشعرية في بعض أقطار الوطن العربي ،ول سيما في مصر،
بعد ظهور حركة الشعر الحديث في أواسط القرن كان من
بعض وجوهه استجابة لهذا الواقع التاريخي ،وإن يكن من ناحية
أخرى غير مقطوع الصلة بمحاولت إحياء المسرح الشعري في
أوروبا وتعاظم الهتمام –من جانب النقاد الغربيين بوجه خاص-
بمسرحيات ت.س .اليوت وكريستوفر فراي ولوركا وغيرهم
من شعراء المسرح المعاصر.
وظاهرة انبعاث المسرح الشعري في أوروبا بعد احتجاب
طويل هي بحد ذاتها ظاهرة جديرة بالتأمل ،فهذه العودة إلى
الدراما الشعرية )وإلى التراجيديا بوجه خاص( ليست وليدة
الميل الفردي عند هذا الشاعر أو ذاك بمقدار ما هي وليدة
الحساس بأن المسرحية الطبيعية ،المكتوبة بلغة الحياة
اليومية لم تعد الشكل المناسب لطرح القضايا الكبرى التي
تقلق ضمير العصر .وهذا الحساس الذي برز بقوة منذ نهاية
الحرب العالمية الخيرة يمكن تفسيره بأن الدراما
"البورجوازية" الحديثة ،التي ظلت لزمن طويل اللون الطاغي
على المسرح ،قد أسرفت في القتراب من الواقع والتفرس
في جزئياته وتفاصيله إلى الحد الذي باتت معه غير قادرة على
أن تنظر إلى النسان والوجود تلك النظرة الفلسفية
الشمولية التي نجدها في المسرح الغريقي أو في مسرحيات
من طراز فاوست والملك لير.
ول ريب أن اقتراب الدراما الحديثة من الواقع اليومي
المباشر وانصرافها إلى معالجة قضايا الناس العاديين من أبناء
الطبقات الوسطى والكادحة كان تطورا ً ثوريا ً هاما ً فرضته
التحولت التاريخية نفسها ،وهو تطور أغنى المسرح بكثير من
الروائع ،ولكنه –في الوقت عينه -قاد المسرح في أحيان كثيرة
إلى التنازل عن طبيعته الخاصة التي تتطلب بعدا ً معينا ً عن
الحياة.
وليس المقصود بهذا البعد أن ينسلخ المسرح عن الحياة
ويسترسل في الخيال والتجريب ،وإنما يقصد به الحتفاظ
بمسافة معينة بينه وبين الواقع العياني المباشر ليتسنى له أن
يرى هذا الواقع بصورته الكلية وليغدو –كما عبر جورج
لوكاتش -تعبيرا ً مركزا ً عن اتجاهات معينة في الحياة نفسها.
وتاريخ الدراما نفسه يؤكد طبيعتها هذه ،فقد ولدت الدراما
- 31 -
الوروبية في أحضان الشعر ولزمته على مدى أكثر من
عشرين قرنًا .وغني عن القول أن الشعر ،بشكله ومضمونه،
يبعد المسرح عن الواقع بالمعنى الذي أشرنا عليه ،فمن حيث
الشكل ،ثمة اختلف جوهري بين لغة الشعر الرفيعة وأخيلته
وإيقاعه وبين الحديث اليومي الذي يتداوله الناس في حياتهم،
أما من حيث المضمون فإن الشعر أقرب إلى الفلسفة وأجدر
بالهتمام من التاريخ ،لنه يتكلم عن الكليات ،بينما يتكلم
التاريخ عن الجزئيات –كما وصفه أرسطوطاليس في معرض
حديثه عن الشعر التراجيدي –وهذا ما يجعله بالطبع بعيدا ً عن
لغة التخاطب العفوي بين الناس .ولكن الشعر إذ يسمو
بالمسرح فوق صورة الحياة المألوفة فإنه يتيح له من عمق
الستيعاب وشمول النظرة وتعدد مستويات الدللة ما ل
تستطيع المسرحية النثرية بلوغه ،فالشعر في المسرح –كما
يقول د.أي .جونس في كتابه مسرحيات ت.س اليوت –
ليس مجرد زخرف خارجي ،وليست مسرحيات شكسبير
شعرية لمجرد أنها تشتمل على مقاطع من الوصف الجميل أو
التأمل العميق ،بل هي شعرية لنها تعكس المفهوم الكلي
للذي تستند إليه .وبعبارة أخرى ،فهي شعرية لنها تعكس
نظرة شعرية –فلسفية إلى العالم ،وقد عبر اليوت عن هذا
المعنى بطريقة أخرى حين كتب إلى صديقه عزرا باوند يقول
"إذا كتبت مسرحية شعرية فينبغي أن يكون الشعر واسطة
ننظر من خللها ،ل ديكورا ً جميل ً ننظر إليه".
إن هذا النظر الشعري الفلسفي الذي يتخطى الجزئيات
والوقائع العابرة إلى ماهو أبقى وأشمل هو بالتحديد ما يميز
المسرحية الشعرية عن مسرحية النثر ،وهو بالذات ما جعل
أرسطوطاليس يتلمس القرابة بين الشعر والفلسفة .ولهذا
فإن أعظم المسرحيات التي نعرفها –كما يؤكد رونالد بيكوك
في كتابه "فن الدراما" –هي جميعا ً مسرحيات شعرية.
ومن العوامل المهمة التي تفسر انتعاش المسرح الشعري
في أوروبا في عصرنا الراهن تعاظم الميل لدى المفكرين
الغربيين إلى تبين موقع النسان المعاصر في سياق التاريخ
والحضارات المتعاقبة ،وهذا ميل ناشئ إلى حد كبير عن تطور
بعض فروع المعرفة النسانية التي ظلت متخلفة إلى زمن
قريب ،كعلم النفس والنثروبولوجي ،وعلم الجتماع وعلم
اللغة الحديث ،ول ينبغي أن ننسى كذلك تزعزع ركائز الحضارة
الغربية المسيحية مما يدفع المفكرين والباحثين إلى إعادة
النظر فيها وتقصي منابعها في أساطير المم القديمة وفي
التراث الديني والفلسفي والفني .ول يصعب أن نلحظ
اهتمام الثقافة الغربية المعاصرة بعبادات المم القديمة
وأساطيرها وفنونها ،وانعكاس ذلك كله في نتاجات الفن
الوروبي الحديث .وربما كان الشاعر النكليزي ت.س اليوت
من أبرز ممثلي هذا التجاه الحضاري الشمولي في النظر إلى
النسان ،ففي قصيدته الرض اليباب ،التي كتبها متأثرا ً
بالدراسات النثروبولوجية الحديثة حول العبادات وطقوس
الخصب لدى الشعوب البدائية ،تتداخل الزمنة ،والثقافات
والشخصيات على نحو جعل هذه القصيدة لغزا ً من اللغاز.
واليوت –في الوقت نفسه -من رواد المسرح الشعري في
النصف الول من القرن ،وقد كان اتجاه اليوت إلى المسرح
الشعري أمرا ً منطقيًا ،ل لمجرد أنه شاعر ،بل لن المسرح
الشعري هو الشكل المناسب لستيعاب هذا التجاه الحضاري
الشمولي الذي نتحدث عنه.
وقد أعاد اليوت اكتشاف الحقيقة القديمة بأن المسرحية
الشعرية أرحب أفقا ً وأشمل تعبيرا ً من المسرحية النثرية .ومما
كتبه في معرض التمييز بين هذين الشكلين قوله:
- 32 -
"من المحتمل أن ما يميز الدراما الشعرية عن
النثرية هو نوع من الزدواج في الفعل ،كما لو كانت
تجري على صعيدين في وقت واحد .وهي لهذا
تختلف عن المجاز الذي يكون فيه التجريد شيئا ً
يتصوره المرء ،ل شيئا ً يحسه بطريقة مختلفة ،وعن
الرمزية كما في مسرحيات مترلنك التي يتقلص فيها
العالم المحسوس بطريقة متعمدة ،لن الرمزية
والمجاز كليهما من عمليات الذهن الواعي المخطط.
وقد يكون ما يظهر من تفكك معين في الدراما
الشعرية من أعراض هذا الزدواج ،أو أن الدراما لها
قالب تحتي أقل ظهورا ً من القالب المسرحي".
بعد هذه اللمامة الوجيزة بطبيعة المسرح الشعري
والظروف التاريخية التي أحاطت بنشأته وازدهاره يمكننا أن
نعود إلى نقطة البدء لنتبين –ربما بوضوح أكبر -عمق الخسارة
التي لحقت بمسرحنا جراء انصرافه التام عن الدراما الشعرية،
ولنستعرض بعض العوامل المباشرة التي تجعل المسرح
الشعري إحدى حاجاتنا الثقافية الملحة.
وأول هذه العوامل ،في نظرنا ،هو ضرورة أن يتحرر
المسرح العربي من السطحية وضيق الفق ويتحول فعل ً إلى
شكل فني قادر على التعبير عن معاناة المة ومثلها
وطموحاتها .وهذا مرتبط إلى حد كبير بمواهب كتابنا
المسرحيين ،بطبيعة الحال ،ولكنه مرتبط في الوقت ذاته
بالشكل الدرامي .ففي المسرحية النثرية ذات النزعة الواقعية
كثيرا ً ما يجد الكاتب صعوبة في تخطي الدللت المحدودة
المباشرة لحداث المسرحية والوصول إلى تعميمات فكرية
ذات مغزى إنساني أو قومي .ويتدارك بعض كتاب المسرح هذا
النقص بوضع أفكار أو خطب منفصلة عن سياق الفعل
المسرحي على ألسنة بعض أبطالهم ،أو يتداركونه بإضافة
راوية يقف إلى جانب المسرح ليعلق على الحداث ويفلسفها.
وهذه ظاهرة ملحوظة في المسرح العراقي ،الذي تتحول
منصته أحيانا ً إلى منبر للخطابة يستعيض بالرنين اللفظي عن
التأثير الدرامي الحقيقي .والمسرحية الشعرية تستطيع –إذا
توافرت لها موهبة الشعر والدراما معًا -أن تحل هذا الشكال
لنها ،بفضل هذا الزدواج الذي تحدث عنه اليوت ،يمكن أن
تجمع بين الدللة القريبة للحداث وبين المعنى الكبير الكامن
وراءها دونما تعسف أو إخلل بشروط البناء الدرامي .ول يعني
هذا ،بالطبع ،أننا ندعو إلى إهمال المسرحية الواقعية النثرية
والكتفاء بالمسرحية الشعرية ،فكل اللونين ضروري ،وكلهما
يؤدي الوظيفة التي تسمح بها طبيعته وأدواته التعبيرية.
والشعر هو الداة المناسبة للمسرحية التاريخية .ولعلي
في غنى عن التوسع في شرح هذه النقطة ،فهي من تحصيل
الحاصل ،كما يقال .ومع أن كتابنا المسرحيين ،ولسيما
الشعراء منهم ،قد استلهموا تاريخنا القومي في بعض ماكتبوه،
فإن هذا التاريخ الحافل بالشخصيات والحداث ظل في
معظمه بعيدا ً عن دائرة اهتمامهم فلم يفيدوا منه ول أفاد منهم
على النحو المطلوب.
وتبدو عودة المسرح العربي إلى التاريخ ،أو لنقل
استحضار التاريخ العربي على المسرح ،مهمة ملحة في
اللحظة الراهنة ،ل لمجرد أن هذا التاريخ منجم يزخر بالمادة
الخام ينشدها الكاتب الدرامي ،بل –وهذا هو الهم -لتلمس
الخيط الذي يشد حاضر المة بماضيها ،واستنباط المعاني من
تراثها الفكري والخلقي ،وإبراز الملمح الصيلة للشخصية
العربية بما لها وما عليها .وهذه المهام الملقاة على عاتق
- 33 -
المسرحية التاريخية تشدها إلى الشعر بقوة عظيمة ،فمن
الصعب أن نستحضر صورة الحياة العربية أو نجسد الشخصية
العربية النموذجية بمعزل عن الشعر ،الذي كان على الدوام
ركنا ً أساسيا ً من أركان حياتنا العقلية والوجدانية.
ومن الجلي تماما ً أن الشاعر المسرحي العربي في أيامنا
هذه قد تهيأت له ظروف موضوعية أفضل بكثير من تلك
الظروف التي كتب فيها شوقي مسرحياته الشعرية الرائدة،
بفضل ماتحقق لنا خلل نصف القرن الفائت من تطور حضاري
واتصال بالثقافة العالمية المعاصرة ،أقدر ممن سبقوه على
اللمام بأصول الصنعة الدرامية والفادة من روائع أعمال
المسرح العالمي.
هذا من ناحية ،أما الناحية الخرى التي قد تفوقها أهمية
فهي الطفرة النوعية التي حققها الشعر العربي منذ أواسط
القرن بانتقاله من نظام العروض التقليدي القائم على التناظر
المطلق بين البيات أو الشطار في القصيدة إلى نظام جديد
يقوم أساسا ً على التفعيلة كوحدة إيقاعية مما يسمح للشاعر
الدرامي بالتحكم في طول الجملة الشعرية ويعفيه من
الوقفات التي كان يفرضها عليه النظام العروضي التقليدي،
والتي تضعف كثيرا ً من حيوية الشعر الدرامي وانسيابه
الطبيعي.
ءءءءء 1985
- 34 -
دور المخرج
في المسرح الحديث
- 36 -
النرويج "هوراشيو" –وهو من شخصيات المسرحية -وأقنع بها
المير هاملت ليوقع الضطراب في بلط الدانيمارك ويسهل
بذلك للجيش النرويجي احتللها ،كما يحدث فعل ً في ختام
المسرحية .وجدير بالشارة أن المخرج الروماني –كما ذكرت
الصحف -قدم تفسيره الطريف هذا دون أن يتلعب بالنص
الشكسبيري .كل مافي المر أنه استعان بما يمتلكه المسرح
من وسائل تعبيرية وبأداء ممثليه ليروي حكاية هاملت على
الوجه الذي أراد.
وترجع الصعوبة في تحديد دللت النص ،عادة ،إلى أن
المؤلف المسرحي البارع ل يفصح بشكل مباشر عن الفكرة
الساسية في عمله ،كما يفعل بعض المؤلفين الصغار ،الذي
يضعون الخطب الرنانة على ألسنة أبطالهم ،بل يدع للمخرج
أن يستنبط ذلك من النص بمجمله .وقد يتضمن النص الدرامي
أكثر من فكرة جديرة بالهتمام .وتعود بي الذاكرة الن إلى
"ايكرمان" ،الذي كان سكرتيرا ً لغوته في سنواته الخيرة ،فهو
يخبرنا أنه سأل الشاعر العظيم ذات مرة عن الفكرة الساسية
في مسرحية "فاوست" فأجابه هذا بأن عمل ً ضخما ً كهذا ل
يمكن اختزاله في فكرة واحدة مهما بلغت أهميتها.
وخلصة القول إن على المخرج أن يفهم بوضوح مايريد
النص أن يقوله وأن يعين منذ البداية اللحظات التي ينبغي
إبرازها بقوة على المسرح ،وإل كان كمن يخبط في ظلمة
دامسة .ومن الحماقة أن يتصدى مخرج لتجسيد نص لم تتبين
له أبعاده الفكرية .أذكر مرة –وكنت يومها أعمل في مؤسسة
السينما والمسرح في العراق -أنني حضرت "بروفة" مسرحية
للكاتب الروسي المعروف "أربوزوف" .وكان المشهد الذي
يجري التدريب عليه يتضمن حوارا ً متوترا ً بين سيدة في
الخمسين من عمرها وبين مدير مصح للمراض الصدرية في
الستين من عمره .ولم يكن المخرج قد وضع يده على
"الثيمة" الساسية في النص ،فذهب به الظن إلى أن
المسألة تتعلق بخلف بين امرأة مشاكسة ،غريبة الطوار،
ومدير حريص على استتباب النظام في المؤسسة التي يديرها.
ولم يكن هذا الفهم صحيحًا ،ولذلك بدا المشهد مقطوع الصلة
بسياق المسرحية ،وبدا واضحا ً للعيان أن ممثل دور المدير
ورفيقه لم يكونا على علم بكنه الشخصية التي يؤديها كل
منهما .ولكن الحيرة تبددت عندما تأتى للمخرج والممثلين أن
يفهموا ما أراده المؤلف ،فأربوزوف يريد أن يقول ،على لسان
بطلة المسرحية ،أن الكهولة ليست نهاية الحياة ،وأن امرأة
في الخمسين ورجل ً في الستين يمكن أن يتحابا ويجدا في
حبهما من السعادة ما يجد الشبان .ولم يكن المشهد الذي
ذكرناه يصور امرأة غريبة الطوار –كما توهم المخرج أول
المر -بل امرأة عاشقة تؤنب الرجل الذي أحبته لنه ل يريد
أن يفهم أنها تحبه وأن من حقه أن يحب رغم بلوغه الستين.
ولننتقل الن إلى دور المخرج بوصفه قائدا ً للعمل ،وهذه
نقطة قد ل تحتاج إلى كثير من التوسع ،فالمسرح –كما سبق
أن قلنا -فن مركب تلتقي فيه معظم الفنون التي نعرفها ،إن
لم نقل كلها .إنه حصيلة اقتران الدب )ممثل ً في النص( بفن
التمثيل ،والفن التشكيلي بالموسيقى والزياء والنارة
والمؤثرات الفنية المختلفة .وغني عن اليضاح أن هذه الفنون
المتعددة يجب أن تلغي وجودها المستقل وتندمج في بعضها
وه العام ،فالوحدة لتؤلف عمل ً موحدا ً في أسلوبه وإيقاعه وج ّ
شرط ضروري لكل عمل فني .ولعل أوجز تعريف لهذه الوحدة
تلك العبارة المأثورة التي وصف به غوته أوبرا موتسارت
المعروفة "دون جوان"" :إنها إبداع روحي تتخلل أجزاءه ،كما
تتخلله بمجموعه ،روح واحدة وأنفاس حياة واحدة" .والمخرج
- 37 -
هو الرجل الذي يحقق هذه الوحدة ،وهو الذي يوجه زملءه من
الفنانين المشاركين في العمل المسرحي إلى ما يتوجب عليهم
عمله .ول يعني هذا ،بالطبع ،أن هؤلء الفنانين قد تنازلوا عن
ذواتهم المبدعة وتحولوا إلى أدوات خرساء بيد المخرج ،وإنما
يعني –تحديدًا -العمل بانسجام وتوافق ضمن التصور العام
الذي وضعه المخرج أساسًا .وهنا تكمن الصعوبة الستثنائية في
عمل المخرج المسرحي ،فهو كالرسام الذي يبدع لوحة
مترامية البعاد ،ولكنه ل يتعامل كالرسام مع ألوان طيعة ،بل
مع فنانين لكل منهم أسلوبه وشخصيته الفنية المستقلة .ولبد
لنجاح المخرج المسرحي في مهمته هذه من توافر شرطين
أساسيين :أولهما أن يعمل مع فريق منسجم ،يتقيد بأخلقيات
المسرح ويتحاشى أفراده النسياق مع النانية الفردية التي قد
تغري هذا الفنان أو ذاك بالسعي إلى توكيد حضوره الشخصي
على حساب العمل نفسه .وثانيهما أن يكسب ثقة العاملين
معه واحترامهم لكي يصهر هذه المواهب كلها في بوتقة
واحدة .وليس من النادر أن يغيب أحد هذين الشرطين أو
كلهما ،ولسيما في البلدان التي ل تتمتع بتقاليد عريقة في هذا
المجال .فقد يحدث أحيانا ً أو يحاول أحد الممثلين الستئثار
بمقدمة المسرح أو الخروج إلى دائرة الضوء في لحظة غير
مناسبة ليستقطب انتباه الجمهور ،دون أن يضع في حسابه أن
سلوكا ً كهذا قد يشتت ذهن المتفرج ويصرفه عن تركيز انتباهه
على بؤرة العمل الدرامي .ومن الظواهر المؤسفة التي
لحظتها في المسرح العراقي بوجه خاص خروج بعض
الممثلين عن النص أو ارتجالهم النكات لستدرار ضحك
الجمهور وتحويل انتباهه إليهم .وقد يجوز هذا إلى حد ما في
الملهي الشعبية البسيطة التي تتوخى تسلية المتفرجين
وإضحاكهم ،ولكنه ل يجوز قطعا ً مع النصوص الدرامية الرصينة.
ومع أن المسؤولية المباشرة في مثل هذه الحوال تقع على
عاتق الممثل الذي تجاوز حدوده المرسومة ،إل أننا ل نستطيع
إعفاء المخرج من المسؤولية ،لنه قائد العمل والمسؤول
الول عن نجاحه أو سقوطه.
وعمل المخرج يتطلب دقة متناهية في بناء المشاهد
وتوزيع مساحة العرض وضبط اليقاع ،لن أي خطأ في التقدير
قد يؤدي إلى فشل المسرحية وانصراف الجمهور عنها ،وفي
ذلك ما فيه من خسائر معنوية ومادية .ولكن فشل مسرحية ما
ل يعني بالضرورة أن المخرج قد أخفق في عمله ،فقد ينصرف
الجمهور عن مسرحية جيدة لنها تخاطبه بلغة رفيعة ل يفهمها،
أو لنها تعالج قضايا ل تثير اهتمامه .ولتدارك فشل كهذا يتوجب
على المخرج ،والقوامين على المسرح بوجه عام ،أن يضعوا
مستوى ثقافة الجمهور والقضايا التي تعنيه في حسابهم عند
اختيار النصوص التي يقدمونها إليه .ول يعني هذا أن علينا أن
ندير ظهورنا للعمال الدرامية الرفيعة التي ل يتجاوب معها
الجمهور البسيط ،فتعدد المستويات الثقافية لجمهور المسرح
مشكلة عالمية ،وقد عالجتها المم المتقدمة بتخصيص مسارح
محدودة المقاعد للنخبة القادرة على تذوق مثل هذه العمال.
على أن أخطر مايواجه المخرج المسرحي في عمله هو
اختلل توازن العرض بطغيان بعض عناصره على البعض الخر،
ل -عنصر ل غنى عنه في خلق الجو فالموسيقى التصويرية –مث ً
العام للمسرحية ،ولكن الموسيقى ل ينبغي أن تطغى على
الحوار بحيث يعجز المشاهد عن تتبع الخيط الذي ينتظم
حلقات المسرحية .والديكور هو الخر له دوره البارز في
استحضار بيئة المسرحية وأجوائها واليماء إلى دللتها المهمة،
ولكن الديكور الباذخ ،الذي يتخطى بفخامته الحدود الضرورية،
قد ينقلب إلى عامل سلبي فيستأثر باهتمام المشاهد ويصرفه،
- 38 -
ولو لفترة وجيزة ،عن متابعة مايجري أمامه .والواقع أن
المسرح المعاصر يميل عموما ً إلى التقشف في الديكور
والقتصار على الحد الدنى منه .وأذكر ،بهذه المناسبة ،أنني
حضرت في صوفيا مسرحية "عطيل" للمخرج اليطالي الشهير
"زفاريللي" ،فوجدت ديكورها يقتصر على جدران القلعة التي
تدور فيها الحداث والسرير الذي خنقت فيه بطلة المسرحية.
وحضرت في مسرح "لماما" الشهير في نيويورك مسرحية
"منطق الطير" للمخرج البريطاني المعروف "بيتر بروك"،
وكان الديكور كله مؤلفا ً من سجادتين فارسيتين ،علقت
إحداهما في خلفية المسرح وفرشت الثانية على الرض .وكان
العرض مع ذلك في منتهى الروعة.
- 39 -
ستانسلفسكي
وفن الممثل المسرحي
- 44 -
الصغيرة التي تتألف منها حياة الناس اليومية ،مستعينا ً في ذلك
بمخيلته وما تحفل به ذاكرته من صور وانطباعات .وقد تستلزم
طبيعة الدور أن يخرج الممثل إلى المجتمع ليراقب عن كثب
أناسا ً يماثلون بطله في المهنة أو الوضع الجتماعي أو الحالة
الصحية أو غير ذلك.
ً
وباختصار فإن على الممثل –وفقا لمنهج ستانسلفسكي-
أن يؤلف ،في ضوء ما لديه من معطيات" ،سيرة كاملة"
للشخصية التي يؤديها ،وأن يحمل في ذهنه صورة حسية دقيقة
لسائر ظروفها المرتبطة بما يجري على المسرح ولو ارتباطا ً
غير مباشر .وهذه مهمة صعبة .ولكنها ممكنة إذا اكتملت في
الممثل شروط العداد المهني التي تحدثنا عنها.
لنفترض أن ممثل ً ما اطلع بدور "كارستون بيرنك" في
مسرحية "أعمدة المجتمع" لهنريك ابسن ،فما هي العناصر
التي يمكنه أن يستمدها من النص المسرحي وماذا يستطيع أن
يضيف إليها؟
إن بيرنك –كما يقدمه إلينا المؤلف في الفصل الول –
رأسمالي نرويجي في نحو الربعين من عمره ،يتمتع بسمعة
اجتماعية عالية كرب أسرة مثالي ،ذي أخلق رصينة محافظة.
ولكن وصول قريبين للعائلة من أميركا على نحو مفاجئ
يكشف لنا عن ماضي الرجل ،فنعرف أن ثروته الكبيرة قامت
على عملية اختلس اقترفها في شبابه ،وأنه تخلى عن المرأة
من له مزيدا ً من النجاح فيالتي يحب ليتزوج من أخرى تؤ ّ
المجتمع ،وأنه كان طرفا ً في فضيحة أخلقية تنصل منها
ونسبها إلى أخلص أصدقائه .ونرى بيرنك في الفصول التالية
وهو يجاهد للحتفاظ بمجده القائم على الختلس والرياء
والغدر ،ولقصاء شبح الماضي الذي انبعث بغتة في شخص
قريبيه العائدين من أميركا .وهو في سبيل ذلك ل يتورع حتى
عن التورط في جريمة رهيبة .وفي ختام المسرحية نرى
بيرنك ،وقد ارتد إليه ضميره ،يقف أمام المل ليزيح بنفسه
الستار عن خطايا ماضيه .وقد يبدو لنا هذا التطور الخير في
شخصية بيرنك مفتعل ً وغير مقنع .كما بدا فعل ً لبعض النقاد،
ولكن علينا أن ندخله في حسابنا عند تحليل الدور.
ولنحاول الن ،وقد تابعنا تطور شخصية "كارستون بيرنك"
ضمن حدود النص ،أن نجيب عن هذين السؤالين:
-من هو بيرنك؟ وماذا يريد؟
ويمكننا –تمثيل ً ل حصرًا -أن نجيب عن السؤال الول بما
يلي:
-إن بيرنك شخصية مرائية ذات سلوك مزدوج ،ولبد أنه
يعيش في حالة قلق دائم من افتضاح أمره.
-إنه بارع جدا ً في إخفاء دوافعه الحقيقية ،فحتى زوجته
تظل مخدوعة به حتى النهاية.
-لبد أن يكون بيرنك على قدر كبير من الجاذبية وقوة
الشخصية ،فقد أحبه عدد من النساء ،وضحى أحد أصدقائه
بسمعته من أجله ،وأحاطه المجتمع بكثير من الحترام والثقة.
-من الواضح أن الثراء والجاه هما القيمة الكبرى في حياة
بيرنك ،فقد ضحى من أجلهما بمن يحب وأهمل من أجلهما
واجبه تجاه ابنه الوحيد.
-إن بيرنك ،كما لحظ أحد النقاد الغربيين ،هو "ماكبث"
معاصر ،قوي الشكيمة ،شديد الطموح ،ل يحجم –وقد بنى
- 45 -
مجده بالجريمة -عن اقتراف سلسلة جرائم أخرى دفاعا ً عما
بناه.
-رغم سقوط بيرنك الخلقي فإنه ظل يحمل في أعماقه
بعض القيم الخيرة ،وهذا ماتدل عليه خاتمة المسرحية،
وبالتالي فإن الصراع بين الضمير ومقتضيات المصلحة
الشخصية يشكل جزءا ً من أزمته الداخلية.
ولنكتف بهذا القدر من الجابة عن السؤال الول وننتقل
إلى السؤال الثاني" :ماذا يريد؟" .وينبغي أن نشير هنا إلى أن
الجابة الدقيقة عن هذا السؤال هي أهم ما يواجه الممثل
المسرحي ،لنها تكشف عن جوهر الصراع الذي تخوضه
الشخصية المسرحية ،وتحدد العلئق بينها وبين بقية
الشخصيات .والجابة ،في المثال الذي اخترناه ،واضحة جدًا،
فكارستون بيرنك يريد أن يبقي ،بأي ثمن ،على الكذوبة التي
كانت أساسا ً لسمعته وثرائه .ولكننا نخطئ إذا تصورنا أننا
نستطيع بالسهولة نفسها أن نعرف دوما ً مايريده بطل
مسرحية ما أو غيره من شخصياتها.
وليس اللمام بعناصر الشخصية المسرحية وتحديد غايتها
الساسية إل بمثابة الخطوط العامة لصورة مازالت تفتقر إلى
الكثير من التفاصيل .وعلى الممثل أن يكمل هذه الصورة.
وثمة وسيلتان لذلك :المعرفة والخيال .ففي المثال الذي
أوردناه يتوجب على الممثل أن يلم على قدر المكان بطابع
الحياة ومظاهر السلوك الجتماعي البورجوازي في بلدة
نرويجية صغيرة خلل النصف الثاني من القرن الفائت .وعليه
من الناحية الخرى أن يتخذ من بعض الشارات العابرة في
المسرحية منطلقا ً لتصور حياة كارستون بيرنك في شتى
مراحلها وإغناء هذا التصور بأقصى ما يمكن من الجزئيات.
ولنأخذ ،على سبيل المثال ،واقعة الختلس الذي أقدم عليه
بيرنك في شبابه ،فالنص ل يعطينا عنها أية تفاصيل رغم أنها
عنصر هام في نسج عقدة المسرحية .وواجب الممثل هنا أن
يصوغ لنفسه هذه التفاصيل بعناية ودقة ليكون قادرا ً على
"تذكر" هذه الواقعة كشيء حدث بالفعل .وهذا النوع من
الوقائع والظروف التي ل نشاهدها على المسرح رغم أنها ذات
ارتباط وثيق بما يجري أمامنا من أحداث هي التي يسميها
ستانسلفسكي "بالظروف المفترضة" أو "الظروف المسبقة".
فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى المرحلة الثالثة –مرحلة معاناة
الدور ،جاز لنا أن نقول إنها فترة صيرورة الدور بكل عناصره
الدبية وجزئياته وظروفه المفترضة جزء من العالم الداخلي
للممثل .وقد سبق أن أوضحنا أن هذا ل يعني ذوبان الممثل
كليا ً في دوره ،بل يعني المتزاج والتكامل بين الممثل والدور.
فكما أن الممثل يتكيف ليلئم دوره ،كذلك فإن الخير يتلون
بشخصية الممثل .ولعل القارئ الذي شاهد الممثل الروسي
"بندرتشوك" والممثل النكليزي "لورنس أوليفييه" يؤديان دور
"عطيل" على الشاشة ،يتذكر كيف أن كل ً من هذين الفنانين
البارعين قد أدى دوره أداًء مختلفا ً ومهره بأسلوبه الخاص،
دون أن يخرج عن الصورة التي رسمها شكسبير.
ول يصل الممثل دفعة واحدة إلى مستوى المعاناة
الحقيقية للدور ،بل يصل إليه من خلل العمل الدائب
والمحاولة المتكررة والحتشاد الذهني الطويل .ومن الخطأ
العتقاد بأن جهد الممثل في هذه المرحلة مقصور على
المشاركة في التدريبات مع الممثلين الخرين ،فهو مطالب في
الوقت ذاته بأن يواصل إعداد دوره على انفراد .باحثا ً عن
أنسب الشكال والوسائل التعبيرية لكل جزء من أجزائه ،وهو
ول سيرة البطل المسرحي إلى "سيرة ذاتية" مطالب بأن يح ّ
- 46 -
وأن يتحسس "الضرورة" الكامنة وراء كل عبارة يقولها البطل
أو تصرف يأتيه .وخلل التدريبات التي تجري مع بقية الممثلين
تحت إشراف المخرج يتبلور إحساس الممثل بالدور وتزداد
معاناته عمقًا ،ويكتسب أداؤه اليقاع المنسجم مع إيقاع
المسرحية العام ،وتنضج لديه بالتدريج الشكال الفنية المناسبة
للتعبير عن عالم بطله الداخلي .ومن هنا كان تركيز
ستانسلفسكي على أهمية التدريبات المتواصلة المضنية.
أما المرحلة الخيرة )تجسيد الدور( فهي أهم المراحل
بالطبع ،لنها الصورة المكتملة التي تقدم إلى الجمهور .وقد
كان ستانسلفسكي –كما أسلفنا -يطمح إلى خلق حياة حقيقية
على المسرح ،ترتبط فيها العناصر الروحية والجسدية ارتباطا ً
تلقائيا ً طبيعيًا ،كما في الحياة نفسها ،وهذا ل يتحقق إل إذا ظل
الممثل "يحترق" كل ليلة على خشبة المسرح ويعيش أحداث
المسرحية وكأنه يواجهها للمرة الولى .أما إفراغ الدور في
قالب ثابت ،حتى وإن كان هذا القالب حصيلة مرحلة سابقة
من المعاناة الفعلية ،فلن يخلق الحياة المرجوة على
المسرح ،لن الممثل –مهما كان بارعا ً في تقنيته -ل يمكن أن
يثير عواطف الجمهور ،بينما هو نفسه فارغ القلب ،ساكن
العماق.
ولبد للممثل ،إذا أراد التزام الصدق في الداء ،من أن
يدخل المسرح وهو ل يحمل في ذهنه إل صورة "الماضي"،
ماضي الشخصية التي يمثلها .أما ما ينتظره من محن أو
مسرات فينبغي أن يكون "مفاجأة" له ،مثلما هو مفاجأة
ل ،يجب أن ينسى لجمهور المتفرجين .إن ممثل دور "لير" ،مث ً
تماما ً أنه سيكابد الويلت من عقوق ابنتيه الكبيرتين ،لنه إن لم
ينس ذلك فسيصعب عليه تصديق ما أظهرتا له من ولء في
الفصل الول من المسرحية.
وممثل "روميو" يجب أن ينسى الحب المأساوي العظيم
الذي ينتظره وإل فلن يتهيأ لـه ،في الفصل الول من
المسرحية ،أن يعبر بالحرارة اللزمة عن حبه لروزالين.
وأخيرا ً فإن على الممثل أن ينسى أنه ممثل أمام جمهور
سيحكم له أو عليه ،وأل يحاول التصرف على النحو الذي يكفل
له التصفيق الحاد عند إسدال الستار ،بل يجب أن يحصر همه
في أمر واحد ،هو أن "يعيش" بكل قلبه وجوارحه على منصة
المسرح.
ءءءء 1973
- 47 -
إبسن
رائد المسرح الحديث
)ءءءءءءء ءءءءءء ءءءءءء ءءءءءءءء ءءءءءءء(
ءءءءء 1978
- 52 -
اتجاهات وأسماء
في المسرح المعاصر
لم يشهد فن المسرح ،طوال خمسة وعشرين قرنا ً من
تأريخه ،مثل هذا التنوع اللمحدود الذي شهده عصرنا الراهن،
وهو تنوع يشمل مناهج التأليف الدرامي مثلما يشمل أساليب
العرض المسرحي .وتكفينا التفاتة سريعة إلى تأريخ المسرح
لندرك أن المر لم يكن كذلك في الماضي ،فقد كان للمسرح
في مراحل ازدهاره المعروفة طرق معبدة واضحة يسلكها،
وكانت الحياة المسرحية تتميز في كل مرحلة من هذه
المراحل بتجانس كبير مرده إلى المثل الفنية الواحدة التي
يهتدي بها فنانو تلك المرحلة .وهكذا يمكننا أن نتحدث بوثوق
واطمئنان عن العراف والمفاهيم التي سادت المسرح
الفرنسي خلل القرنين السابع عشر والثامن عشر ،وعن
ملمح التراجيديا في عصر الملكة اليزابيث ،وعن المثال
الرومانسي الذي هيمن على المسرح الوروبي الغربي خلل
النصف الول من القرن الماضي .ولكننا ل نستطيع أن نتحدث
بالوثوق نفسه عن مسرح القرن العشرين ،فأمامنا عدد ل
يحصى من التجاهات والساليب ووجهات النظر التي يصل
الختلف بينها أحيانا ً إلى حد التعارض المطلق ،وبين أيدينا من
النصوص والنتاجات المسرحية المعاصرة ما يصعب حصره
وتصنيفه .وتطور المسرح في عصرنا هذا ل ينفصل عن تطور
الحضارة جملة ،فهو شكل من أشكال عديدة ابتدعها الوعي
البشري للتعبير عن ذاته .ومع تراكم التحولت والحداث
الجسام في عصرنا وتسارع وتائر التطور الجتماعي واتساع
آفاق المعرفة النسانية ،كان على الوعي أن يعيد النظر في
الشكال الفنية الموروثة التي أخذت تكشف ،بصورة متزايدة،
عن قصورها عن استيعاب هواجس العصر .من هنا جاء هذا
التيار العارم الذي نطلق عليه اسم الحداثة والذي زلزل
القواعد الراسخة لشتى الفنون ،ومنها المسرح .ومن المؤكد
أن للحداثة إضافاتها وإنجازاتها الخطيرة في الفنون المعاصرة،
ولكن لها بالمقابل عيوبها الخطيرة كذلك ،فقد جاءت بالكثير
من البدع والنزعات المتطرفة التي توهجت برهة من الزمن ثم
انطفأت مثلما تنطفئ السهم النارية دون أن تترك وراءها أثرًا.
ويكفي أن نتذكر التعبيرية التي كانت تيارا ً قويا ً في المسرح
الوروبي خلل عشرينيات القرن الحالي ،فمن يعبأ بها اليوم؟
وماذا تبقى من الدادية ،أو المستقبلية مث ً
ل؟!
وما من ضرورة للتطرق إلى مختلف المدارس والنظريات
التي جاءت بها الحداثة ،فهي معروفة ،ولكن ما نحتاج أن
نشير إليه في مقدمة هذا الحديث هو أن تطور الفنون في
- 53 -
عصرنا الراهن وثيق الصلة ببعض التيارات الفكرية القوية التي
كان لها أثرها العميق في صياغة وجدان النسان المعاصر.
ومن هذه التيارات التي يمكن رصد انعكاساتها الواضحة على
اتجاهات الدب والفن في عصرنا مفهوم الديمومة عند
برغسون ،ومنهج التحليل النفسي ونظرية تفسير الحلم عند
فرويد ،والتفسير المادي للتاريخ عند ماركس ،ووجودية سارتر
–بنحو خاص .وسنلحظ بعض هذه النعكاسات ونحن نستعرض
ما اخترناه من نماذج الدراما الحديثة.
على أن التنوع الهائل في مسرح القرن العشرين ل ينبغي
أن يحجب عن أعيننا حقيقة مهمة ،هي أن المنهج الواقعي –
الذي بلغ ذروته الكلسيكية في أواخر القرن المنصرم وأوائل
القرن الحالي
عند هنريك إبسن وبرناردشو وأنطون تشيخوف وغيرهم
من كبار الواقعيين –ل يزال التيار الساسي الطاغي على
المسرح العالمي ،أما التجاهات الخرى فل تعدو أن تكون ،في
الغالب ،سوى روافد صغيرة ،قد تفيض وتلفت إليها النظار
أحيانًا ،ولكنها سرعان ما تختفي وتندثر إذا لم تستمد حياتها
وديمومتها من هذا التيار الكبير.
وليس صعبا ً على المتأمل أن يلحظ أن الواقعية في
المسرح )وفي الفنون العصرية المتفرعة عنه كالسينما
والدراما التلفزيونية( ظلت في عصرنا هذا أقوى بكثير مما هي
عليه في سائر الفنون الخرى.
ويعود هذا ،بالدرجة الولى ،إلى طبيعة المسرح نفسه.
فإذا كانت الفنون أنواعا ً من المحاكاة –كما ذهب أرسطو
طاليس -فإن المسرح يحاكي الواقع محاكاة شاملة ،ل جزئية
ل -يحول الواقع كما في الفنون الخرى .إن كاتب القصة –مث ً
إلى صورة ذهنية تنقلها الكلمات ،والرسام يحوله إلى صور
بصرية ساكنة ذات بعدين ،أما المسرح فيقدم إلينا الواقع
بصورته العيانية وبأبعاده الثلثة وبحركته الدائبة التي ل تنقطع.
وإذا كانت وسيلة الكاتب في تصوير النسان هي الكلمة،
ووسيلة الرسام هي الخط واللون ،فإن وسيلة المسرح
الساسية في تصوير النسان هي النسان نفسه بلحمه ودمه
وبكل عنفوان الحياة في كيانه .من هنا يستمد المسرح قدرته
البالغة على التأثير ،وهنا تكمن خصوصية المسرح التي تجتذبه
بقوة إلى الواقعية كلما دفعته بعض التيارات بعيدا ً عنها.
ولكن ما هي هذه الواقعية التي نتحدث عنها؟ إن مفهوم
الواقعية كثيرا ً ما يختلط في الذهان بمفهوم آخر يقاربه من
بعض الوجوه ،وأعني الطبيعية التي بشر بها الكاتب الفرنسي
إميل زول في النصف الثاني من القرن الماضي ،وكان
سترندبرغ وهاوبتمان ألمع ممثليها في حقل التأليف الدرامي.
ول مجال للتوسع في شرح الفوارق بين المفهومين ،بل يكفينا
القول بأن الطبيعية ،في أوجز تعريفاتها ،هي السعي إلى
محاكاة الواقع حرفيا ً وبدون تمييز ،بينما تعني الواقعية غربلة
الواقع واصطفاء ملمحه النموذجية ولحظاته المكثفة لبلوغ ما
يقتضيه الفن من عمق وصدق وتركيز.
والواقعية ،بهذا المعنى ،ليست ظاهرة فنية حديثة العهد،
بل هي قديمة قدم المسرح نفسه ،لقد كان يوربيدس واقعيا ً
كبيرا ً رغم أن اللهة تتدخل أحيانا ً بشكل مباشر –كما في
مسرحية ميديا مثل ً –لحسم مصائر البشر في مسرحياته.
وكان شكسبير واقعيا ً كبيرا ً هو الخر رغم ما يطالعنا في
مسرحياته من جن وسحرة وأشباح .ولكن واقعية القرن التاسع
عشر هي غير الواقعية الكلسيكية .إنها واقعية شديدة اللتصاق
- 54 -
بالواقع الملموس ،حريصة على التقيد بمظهره الخارجي
ومنطقه المألوف إلى الحد الذي يبدو فيه العمل المسرحي
سلسلة محكمة من السباب والنتائج.
وقد بلغ من حرص هنريك إبسن –وهو إمام هذا المنهج في
مجال المسرح -على التقيد بمظهر الواقع أنه امتنع في
مسرحياته الواقعية امتناعا ً تاما ً عن استخدام المناجاة
الذاتية ) (soliloquyوالعبارات التي تغمغم بها الشخصيات
الدرامية لنفسها أحيانا ً ) ،(asideرغم أن هذه من العراف
الراسخة في المسرح ،ولكن إبسن نفسه بدا في المرحلة
الخيرة من حياته وكأنه ضاق ذرعا ً بواقعيته الصارمة ،فإذا
كانت هذه الواقعية هي الطار المثل لمسرحيات الحتجاج
الجتماعي أو الدراما العائلية –كما في بيت الدمية والشباح
ل -فإنها بالمقابل لم تكن الطار المناسب لمعالجة تلك مث ً
المشكلة الوجودية التي شغلت إبسن في العهد الخير من
حياته ،أعني مشكلة تمزق الفنان بين الواقع الممض وبين
المثال الذي ل يدرك .وهكذا كان إبسن في مسرحياته الخيرة
أول من كسر الطار الواقعي الصلب الذي صنعه بنفسه.
ومهما يكن من أمر فإن ظهور إبسن وجيل الواقعيين الكبار
في أواخر القرن الماضي كان بداية لهيمنة المنهج الواقعي
على المسرح في القرن الحالي .ولم يكن ذلك اعتباطا ً بل كان
استجابة لحاجة تاريخية .وفي هذا يقول الناقد المريكي
المعروف أريك بنتلي:
"لم تكن الواقعية نتيجة التلهف على الجديد بأي
ثمن ،بل كانت نتيجة –ورديفا -لهيمنة المدينة واللة
على الحياة ،وهذا أمر ل يمكن تجاهله أيا ً كان رأينا
فيه ،وكان نتيجة –ورديفا -للصلح الجتماعي
والنشغال الجديد بأوضاع الشعب .وكان نتيجة –
ورديفا -لنهضة العلوم الفيزيائية التي ترمي إلى
السيطرة على الطبيعة بمعرفة مساراتها".
ولكن الشعور الذي خامر هنريك إبسن في شيخوخته حول
قصور المنهج الواقعي ظل يخامر كتاب المسرح وفنانيه ،ويعبر
عن نفسه بأشكال مختلفة وصلت إلى حد التمرد العنيف خلل
الزمات والكوارث الجتماعية وفي أعقاب التحولت التاريخية
التي شهدها القرن العشرون .ولقد كانت المستقبلية ،التي
ولدت في إيطاليا في نهاية العقد الول من هذا القرن والتي
تبناها فلديمير ماياكوفسكي وغيره من الكتاب والفنانين
الروس في أعقاب ثورة أكتوبر ،تعبيرا ً عن هذا الشعور .وكان
مسرح بريشت الملحمي هو الخر تعبيرا ً عن الحساس بأن
الواقعية التقليدية لم تعد قادرة على أداء المهمات الثورية
المنوطة بالمسرح .وكانت المسرحية الشعرية التي كتبها ت.
س .إليوت وكريستوفر فراي في إنكلترا وماكسويل
أندرسون في الوليات المتحدة المريكية محاولت للخروج
بالدراما من اهتماماتها الواقعية المحدودة إلى آفاق إنسانية
ل .وربما كان مسرح العبث ،الذي استهله أكثر رحابة وشمو ً
يوجين يونسكو في منتصف القرن الحالي بمسرحيته الشهيرة
المغنية الصلعاء أخطر تحد واجهته الواقعية في عصرنا ،فقد
قام على فكرة مؤداها أن الواقعية تزيف العالم لنها تضفي
عليه معقولية ليس لها وجود .وقد بدت هذه الدعوة ،التي
انبثقت أساسا ً عن فكرة العبث عند سارتر ،مقنعة في عصر
تداعى فيه كثير من المعتقدات والمثل التي قامت عليها
الحضارة الوروبية الغربية .ولكن هذه التجاهات لم تعش
طويل ً رغم المواهب الكبيرة التي وقفت وراءها ،وإن تكن
نبهت إلى قصور الواقعية التقليدية وهيأت الذهان لنوع جديد
من الواقعية بدأ يسود المسرح في النصف الثاني من القرن
- 55 -
الحالي.
إن هذه الواقعية الجديدة هي مدار حديثنا اليوم .ولسنا
نطمح إلى تقديم تصور شامل عن نشأتها وتطورها وأعلمها،
فالمجال ل يتسع لذلك كله ،وإنما نريد اللمام السريع ببعض
الملمح الساسية لهذا التجاه الجديد والوقوف عند بعض
السماء البارزة والعمال الدرامية المهمة التي لم يتسن
لغلب المعنيين بالمسرح عندنا الطلع عليها لن ما نقل منها
إلى العربية ل يزال قليل ً حتى الن.
والواقعية الجديدة التي نتحدث عنها واقعية ل يعنيها كثيرا ً
أن تحقق التماثل التام بين ما يجري في الواقع وما يجري على
منصة المسرح ول تلتزم ذلك المنطق الصارم الذي التزمه
إبسن في مسرحياته الجتماعية ،بل هي واقعية يعنيها جوهر
الواقع أكثر مما يعنيها مظهره الملموس ،ول تتردد في التضحية
بهذا المظهر في سبيل إبراز المحتوى الفعلي للعلقات
النسانية والكشف عن أخفى دوافع السلوك البشري .وهي ل
ترفض التجاهات الخرى ،كالمسرح الملحمي ومسرح
العبث مث ً
ل ،بل تفيد منها هنا وهناك بوصفها تقنيات تتيح
للكاتب حرية أكبر في معالجة موضوعاته وإيصال أفكاره ،كما
أنها تتخذ من كشوف العلم واستبصارات الفكر الفلسفي
المعاصر مداخل إلى فهم التجربة النسانية المعقدة .إننا ،إذن،
أمام مسرح جديد يختلف كثيرا ً عن المسرح الواقعي الذي
نعرفه ،ولكنه هو الخر واقعي في جوهره لنه يتناول النسان
ضمن علقاته الجتماعية التاريخية ويتصدى بعمق وجرأة
لهمومه وقضاياه ومؤسساته الكبرى ،كالدين والعائلة والجنس
والنظام السياسي ،ويسعى إلى تسليط الضوء على الزوايا
الخفية في النفس البشرية.
ولهذه الدراما الواقعية الجديدة ممثلون مرموقون اخترنا
منهم لحديثنا هذا ثلثة :الكاتب البريطاني بيتر شافر،
والكاتبين المريكيين سام شبرد وبرنارد بوميرانس.
وهؤلء الكتاب الثلثة يمثلون اتجاهات مختلفة في الكتابة
للمسرح –كما سنرى في ما بعد -ولكنهم يلتقون ضمن هذا
المنحى الجديد الذي نتحدث عنه.
ينتمي "بيتر شافر" ،المولود عام ،1926إلى جيل
الكتاب الذين نهضوا بالمسرح البريطاني في عقدي
الخمسينات والستينات .ومن المعروف أن هذه النهضة
الشاهقة ،التي قارنها بعض النقاد بنهضة المسرح النكليزي في
العصر الليزابيثي ،بدأت بظهور مسرحية جون أوزبورن
الشهيرة انظر وراءك بغضب عام .1956ولكن أوزبورن لم
يستطع الحتفاظ بنجاحه المبكر الباهر فتراجع إلى الخلف
مفسحا ً المجال لجيل من كتاب الدراما اللمعين ،بينهم
هارولد بنتر وتوم ستوبارد وبيتر شافر وروبرت بولت
وآخرون.
بدأ شافر الكتابة للمسرح والتلفزيون منذ الخمسينات
وظهر له أكثر من عمل ناجح خلل تلك الحقبة ،ولكنه قفز إلى
صف كبار الكتاب بمسرحيته الصيد الملكي للشمس The
Royal Hunt of The Sunالتي ظهرت عام ،1964وهي تصور
سقوط إمبراطورية النكا في بيرو عام 1532على أيدي حفنة
ضئيلة من المرتزقة السبان يقودهم جنرال أمي اسمه
فرنشسكو بيزارو .وفي عام 1973نشر شافر مسرحيته
السايكولوجية الحصان ) . (Equusوقد أحدثت هذه
المسرحية دويا ً هائل ً وأثارت ردود فعل متباينة واستمر عرضها
على المسرح في نيويورك أكثر من ثلث سنوات متواصلة.
- 56 -
وفي عام 1979أصدر شافر ثالثة مسرحياته الكبرى،
أماديوس ،التي تناولت العلقة الغريبة بين المؤلف
الموسيقي العظيم موتسارت وبين معاصره الموسيقي
أنطونيو سالييري.
ويمكننا أن نرى من طول الفواصل الزمنية بين مسرحية
وأخرى أن بيتر شافر من الكتاب الذين يعملون بتأن وحرص.
وهو يقول في مقدمة كتبها لمسرحياته الثلث هذه إن تأليف
المسرحية الواحدة يكلفه سنوات عديدة من البحث والتحضير
وإعادة الكتابة مرة بعد مرة حتى يأخذ العمل بين يديه الصورة
التي يرتضيها ويطمئن إليها .وتتميز مسرحيات شافر بأنها
تستند إلى خلفية ثقافية واسعة ،إذ تتخلل نسيجها الفني
المتشابك معارف شتى تمتد من الميثولوجيا الغريقية إلى
تاريخ الستعمار الغربي الحديث ،ومن أصول التأليف
الموسيقي إلى أصول العلج النفسي .وهذه إحدى سمات
الدراما المعاصرة ،التي تواجه بالمعرفة العلمية المتعمقة كثيرا ً
من المشكلت التي كان مسرح العصور الماضية يواجهها
بالحدس أو التأمل المحض .وحين يعود الكاتب المسرحي
المعاصر إلى شخصيات التأريخ وأحداثه فإنه يتزود سلفا ً بكل
ما تقتضيه هذه المهمة من معرفة علمية دقيقة .أما في
الماضي فقد كان الكاتب المسرحي يبني عمله أحيانا ً على
معرفة جزئية بالتأريخ ،وقد يستعين بخياله لسد النقص الكبير
في معارفه التاريخية ،كما فعل الكاتب الفرنسي فولتير حين
كتب مسرحيته المعروفة عن النبي محمد )ص( .وتنفعنا في
هذا الصدد مقارنة سريعة يبن مسرحية أماديوس لبيتر
شافر وبين مسرحية شعرية صغيرة حول الموضوع نفسه
كتبها الشاعر الروسي الكبير الكسندر بوشكين بعنوان
موتسارت وسالييري .ففي مسرحية بوشكين تطالعنا صورة
رومانسية زائفة لموتسارت هي من نسج خيال الشاعر قطعًا،
أما في مسرحية شافر فنحن أمام موتسارت الحقيقي –كما
تصوره رسائله الشخصية -بغروره ونزقه وولعه بالنكات
السخيفة وضائقته المادية البدية .ومع أن صورة موتسارت في
مسرحية أماديوس عارية تماما ً من الجلل السطوري الذي
نرسمه في أذهاننا لعظام الفنانين ،فل أحسب إل أنها أحب إلى
نفوسنا بكثير من صورته في مسرحية بوشكين ،لنها أصدق
وأكثر امتلء بالحياة وأقرب إلى ما نعرفه بالتجربة الحية عن
ضعف النسان ونزواته وحماقاته.
وغني عن القول أن شافر لم يكن يريد بكتابة هذه
المسرحية أن يصحح الصورة المرتسمة في الذهان عن
موتسارت ،فهذه مهمة الدارس وليست مهمة الفنان ،وإنما
أراد أن يتخذ من الصراع بين سالييري وموتسارت وسيلة
للتعبير عما سماه في مقدمته التي أشرنا إليها باعتراض
النسان على التعسف اللهي .فسالييري يعذبه شعور موجع
بأن العدالة اللهية قد ظلمته عندما أسبغت العبقرية على
موتسارت ،رغم بذاءته وحماقاته الصبيانية ،وضنت بها عليه ،هو
الرجل المجتهد الوقور ،الذي يريد تمجيد قدرة الله في فنه.
وإذ يرى موتسارت ينتقل من نجاح إلى نجاح وهو عاجز عن
مجاراته ،يستولي عليه اعتقاد بأن هذا الفتى العبقري النزق
اللهي ليس سوى أداة يريد بها الله إذلله وتحطيمه ،وتمتلئ
نفسه بالموجدة والكراهية ويصمم على تحطيم هذه الداة.
وتتحقق لسالييري أمنيته الشريرة فيموت موتسارت في
شبابه ،ويخلو له الجو ،ولكنه سرعان ما يكتشف أنه هزم مرة
أخرى .لقد ذهب موتسارت وبقي فنه العظيم ،أما هو –
سالييري -فقد عاش ليرى اسمه ينطفئ شيئا ً فشيئا ً ويغيب عن
ذاكرة التاريخ.
- 57 -
إن سالييري في مسرحية أماديوس شخصية يسوقها
دافع هدام ،ومع ذلك فهي ل تشبه الشخصيات الشريرة التي
ألفناها في المسرح ،فنحن نفهم معاناته ول نملك إل أن
نتعاطف معه في بعض المواقف .إننا نراه يحاول التقرب من
موتسارت فيصطدم باستخفاف الخير ول مبالته ،بل إننا نرى
موتسارت يتخذ منه مادة للهزء والتندر أحيانًا .وهكذا تبقى
عواطفنا موزعة بين طرفي الصراع ،لن لكل منهما حقه
النساني ومبرراته.
ويخامرنا إحساس مماثل ونحن نتابع مسرحية شافر
الخرى المسماة الصيد الملكي للشمس وهي تقوم –
كالمسرحية السابقة -على الصراع بين شخصيتين مركزيتين،
هما آتا هوالبا ملك إمبراطورية النكا الغنية الذي يؤلهه
شعبه ،والجنرال بيزارو الذي يغزو هذه المبراطورية
الشاسعة ويستولي عليها بجيش من المغامرين المرتزقة
قوامه مائة وسبعة وستون شخصا ً بينهم اثنان من المبشرين
المسيحيين .والضحية في هذه المسرحية هو الملك الشاب آتا
هوالبا ،ابن الشمس ،الذي يستدعي قائد هذه الحفنة من
الغزاة إلى لقائه ،وحين يتم اللقاء يبادر الملك بسذاجة متناهية
إلى إظهار حسن نيته فيأمر حرسه المؤلف من ثلثة آلف
مقاتل بإلقاء سلحهم .ويغتنم الغزاة هذه الفرصة فيقتلون أتباع
الملك العزل ويأخذونه رهينة لديهم.
ول يبدو على الملك ،الذي تعود على الثقة بالنسان ،أنه
استخلص الدرس الضروري من هذه المذبحة الوحشية ،فهو
يساوم آسريه على حريته وحين يعلم أنهم جاؤوا من أجل
الذهب يعرض عليهم أن يمل لهم حجرة سجنه ذهبا ً مقابل
إطلق سراحه ،مكتفيا ً بعهد مكتوب يقدمه إليه بيزارو .ويفي
الملك بوعده فيأمر بجلب الذهب من كل مكان وتتراكم في
الحجرة التحف الفنية النفسية التي تنتزع من المعابد والقصور.
وعندما تمتلئ الحجرة تماما ً يأمر بيزارو بصهر هذه التحف،
غير ملتفت إلى قيمتها الفنية ،وتحويلها إلى سبائك يتقاسمها
مع أتباعه .ويطلب آتا هوالبا وقد أنجز وعده بأن يفي الطرف
الخر بما وعد به ،ولكن بيزارو يخشى انتقام الملك فيشترط
عليه التعهد بتركه وأتباعه يغادرون البلد بسلم .ولن الملك لم
يألف الخديعة والمناورة فإنه يرفض إعطاء مثل هذا التعهد ،ول
يبقى أمام الغزاة سوى التخلص منه للنجاة بأنفسهم .وترتفع
الصوات منادية بقتل الملك ،ولكن بيزارو ،الذي نشأت بينه
وبين آتا هوالبا مودة صادقة خلل فترة سجنه ،يصحو ضميره
وتتحرك في نفسه بقية من نوازع الفروسية فيرفض قتله ،وإذ
يعجز أتباعه عن إقناعه بذلك يتمردون عليه ويقيمون محكمة
دينية يترأسها المبشران المسيحيان ويحاكمون الملك ويقضون
بإعدامه بتهمة الكفر ومعاداة المسيح واغتصاب الملك من
أخيه! ويستقبل آتا هوالبا الحكم مطمئنًا ،فهو ابن الشمس
الخالد الذي ل يموت ،وإذا لم يكن أبوه الشمس يريده إلى
جواره فسيبعث من جديد في فجر اليوم التالي! وأمام هذه
الطمأنينة يبدو بيزارو الشيخ الذي يقترب من نهايته الموحشة
بقلب خال من اليمان ،ميال ً إلى تصديق المعجزة .إنه يقول
لتابعه مارتن:
-أنظر إليه :إنه هادئ على الدوام كما لو أن أنياب الحياة
لم تنهشه أبدًا… ول أنياب الموت .ماذا لو أن المر كان صحيحا ً
حقا ً يا مارتن؟ أن أكون ذهبت لصطياد اللهة فظفرت بواحد
منها؟ بكائن يستطيع أن يجدد حياته مرة بعد مرة؟
ويتساءل مارتن مندهشًا:
-ولكن كيف يستطيع ذلك يا سيدي؟ كيف يستطيعه أي
- 58 -
إنسان؟
-ويجيبه بيزارو:
-بالعودة مرة بعد مرة إلى مصدر الحياة-إلى الشمس!
ويشنق الملك الشاب بوحشية ،وعندما يؤتى بجثته ويلقى
بها عند قدمي بيزارو ينحني عليها هذا غير مصدق ،حتى إذا
أيقن أنها خالية من الحياة وانقطع في يده خيط اليمان الواهي
الذي كان يتشبث به ،ضربها بقوة صارخًا:
-خديعة! لقد خدعني! خديعة..
وارتمى منتحبا ً للمرة الولى في حياته.
هنا ،مرة أخرى ،نتعاطف مع الضحية ول نخلو في الوقت
نفسه من تعاطف مع الجاني ،لن ثمة توازنا ً كبيرا ً بين
الشخصيتين المتصارعتين ،فلكل منهما منطقها ودوافعها ،ولكل
منهما عيوبها وجوانبها النسانية .إن آتا هوالبا ليس بريئا ً كل
البراءة ،فهو يعترف بأنه قتل أخاه واستولى على ملكه ،وهو
من هذه الناحية مكافئ للجندي المرتزق بيزارو الذي جاء
سعيا ً إلى الستحواذ على ملك الخرين .ولكن لتا هوالبا عيبا ً
تراجيديا ً خطيرًا ،هو ثقته بالخرين وتعففه عن الكذب
والمراوغة ،وهي صفات ل تأتلف مع فن السياسة والحكم.
ولول ذلك لما استطاعت حفنة بائسة من المرتزقة أن تهزم
إمبراطورية شديدة الغنى يقطنها أربعة وعشرون مليونا ً من
البشر.
إن مسرحية الصيد الملكي للشمس تقيم مواجهة
مأساوية بين عالمين مختلفين :الغرب الستعماري بجشعه
واقتحاميته وريائه الديني والخلقي ،والدول التي نطلق عليها
في أيامنا هذه اسم العالم الثالث ،بسلبيتها وسكونها
ومعتقداتها الغيبية وسذاجتها السياسية.
والمسرحية مليئة بالمفارقات الحادة التي حفلت بها عهود
الستعمار القديم ،والتي ل تزال تحفل بمثلها السياسات
الدولية المعاصرة وإن اختلفت الظروف والشكال ،فالسبان
المتحضرون ،الذين ألفوا الكتب في قواعد الفروسية ،ل
يتورعون عن قتل آلف من الهنود العزل الذين كانت كل
جريرتهم أنهم أرادوا إظهار حسن النية والرغبة في السلم!
والمبشرون الذين جاؤوا إلى هذه البقعة النائية يحملون صليب
المسيح وتعاليمه النسانية يباركون النهب ويحضون على سفك
الدماء لقاء أن تنال الكنيسة حصتها من الذهب المسروق! ول
يكتفي شافر بإبراز هذا التناقض الصارخ بين جوهر المسيحية
وبين العمال الهمجية التي ارتكبت باسمها ،بل يتناول
المفاهيم اللهوتية المسيحية نفسها بتهكم لذع ،ففي مناظرة
بين أحد الكهنة الهنود وبين مبشر مسيحي ممن يرافقون حملة
بيزارو ،يدور الحوار التالي:
المبشر :قل لي ،كيف يمكن أن يكون للشمس ولد؟
الكاهن الهندي :وكيف يمكن أن يكون لربكم ولد ،ما دمتم
تقولون إنه بل جسد؟
المبشر :إنه روح-في داخلنا.
الكاهن الهندي :ربكم في داخلكم؟ وكيف يكون ذلك؟
وهنا يتدخل الملك آتا هوالبا مجيبا ً على السؤال:
-إنهم يأكلونه .إنه يتحول في البداية إلى كعك ثم يأكلونه.
- 59 -
لقد رأيت هذا .فهم يقولون في صلتهم هذا جسد إلهنا .ثم
يشربون دمه بعد ذلك .إنه لمر سيء جدًا .هنا في
إمبراطوريتي ل نأكل الناس .لقد منعت أسرتي ذلك منذ زمن
بعيد.
وفي مسرحية الحصان –وهي ذات موضوع معاصر ،خلفا ً
للمسرحيتين السابقتين -يدور الصراع مرة أخرى بين
شخصيتين مركزيتين ،هما الطبيب النفساني مارتن دايزرت
والشاب المراهق ألن سترانغ ،الذي جيء به إلى مستشفى
المراض العقلية بعد أن سمل عيون ستة جياد بمسمار كبير.
ويصطدم الطبيب بادئ المر بتكتم ألن وتهربه من الجابة
وصلفه وخشونته ،ولكنه يستدرجه بالصبر والحيلة إلى الفضاء
بما في نفسه بالتدريج فنكتشف أن انحرافه يعود أساسا ً إلى
التناقضات الحادة في بيئته المنزلية ،فقد نشأ بين أم مسيحية
شديدة التدين وأب يدين بالمادية والفكر الشتراكي على
تزمت وضيق أفق .ونكتشف أن ألن –بتأثير من الكتاب
المقدس الذي كانت أمه تتلوه على مسامعه في صغره –اتبع
ذات يوم صورة تمثل السيد المسيح وهو يسير إلى الجلجلة
مكبل ً بالغلل ،وعلقها فوق سريره .ولكن والده لم يطق هذه
الصورة ولم يشأ لولده أن ينشأ في أجواء المسيحية فرفعها
من مكانها .وعندما ألفى ولده محزونا ً لفقد الصورة جاءه
بصورة أخرى تمثل حصانا ً يطل من سياج حديقة وألصقها
مكانها .وقد تضافرت هذه الصورة مع انطباعات عديدة أخرى.
ل يسمح المجال بذكرها ،على خلق قناعة لدى الصبي بألوهية
الحصان ،فصار يركع أمام صورته في الليالي ويناديه باسم “
”Equusوهي التسمية اللتينية للحصان -ويبتدع له سللة
شبيهة بسللة المسيح الواردة في النجيل.
وتشاء الصدفة أن يلتقي ألن فتاة جميلة اسمها جل،
تعمل في إسطبل للخيل ،فتساعده على العمل هناك مرة في
السبوع .ويغتنم ألن هذه الفرصة ليتسلل في الليل ،بين حين
وآخر ،مع أحد الخيول إلى ركن منعزل في مزرعة قريبة،
يمارس فيه طقوسا ً غريبة يتجرد خللها من ثيابه ويعتلي
الحصان في نشوة وهوس ل يخلوان من تفجر الشواق
الجنسية المكبوتة.
وذات مساء تدعوه صديقته جل إلى مشاهدة فلم جنسي
في إحدى دور العرض ،ثم تقنعه بالذهاب معها إلى السطبل،
حيث يستطيعان ممارسة الحب بعيدا ً عن الرقباء ،وحين يرقد
معها على القش ويعانقها يداهمه شعور بأنه يخون معها معبوده
“ ”Equusوأن أحداق الخيل تراقبه باستياء من وراء الباب
المغلق ،فيقلع عن محاولته ويطرد الفتاة بخشونة ،ثم يركع
أمام الخيل يسألها الصفح والمغفرة .ولكن عيون الخيل تواصل
التحديق إليه حتى يدركه اليأس ويعتريه الغضب فيتناول قطعة
معدنية حادة ويفقأ أعينها الواحدة تلو الخرى ،ثم يرتمي على
الرض صارخا ً مولو ً
ل.
ليست هذه ،في الواقع ،سوى خلصة باهتة لهذه
المسرحية المعقدة ،الغنية بما فيها من فكر واستشفاف لخفايا
النفس البشرية وأنماط استجابتها لمؤثرات العالم الخارجي.
ونلحظ هنا كذلك ما سبق أن لحظناه من توازن بين قطبي
الصراع في مسرحيات بيتر شافر ،فالطبيب مارتن
دايزرت ،الذي يفترض أنه الطرف اليجابي في الصراع ،يعاني
من الواقع من تناقضات داخلية عميقة ،إنه رجل غير سعيد
بمهنته التي يمارسها ول بحياته الخاصة .وهو يهرب من ركود
حياته ،التي ل يطيقها ول يملك القدرة على تغييرها ،إلى كتب
التاريخ وإلى ذكريات فترة أمضاها في إحدى القرى اليونانية.
- 60 -
ويبدو دايزرت -وقد أوكلت إليه مهمة معالجة ألن سترانغ-
مرتابا ً في جدوى عمله ،فلماذا يجرد الفتى من هذه السطورة
التي تلهب خياله ووجدانه؟ إنه يرى في عبادة ألن للخيل
وطقوسه المحمومة التي يؤديها معها توهجا ً ونشوة تفتقر
إليهما حياته هو .وهو غير واثق من أنه يفعل خيرا ً حين يشفي
هذا الفتى من خباله ويرده إلى الحياة الخاوية الرتيبة التي
يحياها الناس السوياء .ويلخص لنا دايزرت محنته منذ بدء
المسرحية حين يقول مخاطبا ً الجمهور:
-المسألة أنني يائس .إنني شخصيا ً أحمل ،كما ترون ،رأسا ً
كرأس ذلك الحصان .هذا هو إحساسي .إنني مشدود إلى
اللغة القديمة والفتراضات القديمة ،أستجمع قواي لثب
بحوافر نظيفة إلى مسار للحياة جديد كليًا ،أحدس وجوده
مجرد حدس… ولكنني ل أستطيع القفز لن اللجام يمنعني
ولن قوتي الساسية –أو قدرتي الحصانية إن شئتم -أقل مما
ينبغي..
ومن المهم ،وقد ألممنا بمضمون هذه المسرحيات الثلث،
أن نتوقف عند الجوانب التقنية في أعمال بيتر شافر ..ولعل
أول ما يلفت النتباه في هذا المجال أن الراوية المستعار من
مسرح بريشت الملحمي موجود في جميع المسرحيات التي
ذكرناها .ويتضح هذا التأثير البريشتي بنحو خاص .في مسرحية
"الحصان" ،حيث نرى الطبيب النفسي يتوجه بين حين وآخر
بخطاب مباشر إلى الجمهور الذي يجلس قسم منه على
منصة المسرح نفسها.
وتتخذ مسرحية الصيد الملكي للشمس شكل ذكريات
يرويها العجوز مارتن الذي رافق الجنرال بيزارو في حملته
على بيرو ،وكان أيامها حدثا ً في مقتبل العمر .وثمة مشاهد
عديدة نرى فيها مارتن الشيخ يعلق على الحداث ،بينما نرى
في الوقت عينه مارتن الشاب يشارك فيها .ولعلها المرة
الولى التي يؤدي فيها ممثلن مختلفان شخصية واحدة في
وقت واحد على منصة المسرح!.
وللراوية في مسرح بيتر شافر وظيفة تشبه من بعض
وجوهها وظيفته في مسرح بريشت ،فهو يسرد ويفسر
ويعلق ،داعيا ً المتفرج إلى تأمل الحداث
التي تعرض أمامه .ولكن الراوية هنا ليس مجرد مراقب أو
مشاهد ،كما في المسرح الملحمي ،بل هو طرف أساسي
في الصراع ،أو أحد المشاركين فيه على القل ،وهو بالتالي ل
ينطق بلسان المؤلف ،بل بلسان الشخصية التي يؤديها.
على أن مهمة الراوية في مسرحيات شافر ل تقف عند
هذا الحد ،بل هو في الواقع جزء أساسي من تقنية يستخدمها
شافر لغراض متعددة .فمن مزايا هذه التقنية أنها تتيح
للكاتب أن يبدأ قصته من النهاية ويضع أمامنا حصيلة الحداث
قبل وقوعها على المسرح ،وبذلك تتحول بؤرة الهتمام عند
المتفرج من التساؤل عما سيحدث أخيرا ً إلى التساؤل عن سر
ما حدث بالفعل .وفي ذلك ما فيه من شحذ اهتمام المتفرج
وإثارة فضوله .ومما يضاعف من هذا الهتمام والفضول أن
المقدمات والنتائج في مسرح بيتر شافر تبدو للوهلة الولى
شديدة التنافر ومنافية لمنطق الشياء ،فكيف يقدم –مث ً
ل-
صبي يعشق الخيل ويؤلهها تأليها ً على سمل عيونها؟ وكيف
تقهر حفنة بائسة من المغامرين إمبراطورية بأسرها؟! إن
غرابة الواقعة وغموض أسبابها يدفعان المتفرج إلى متابعة ما
يجري أمامه بتركيز مضاعف لمعرفة السر الذي يمضي
المؤلف كاشفا ً عنه بتمهل حتى يعريه تماما ً في المشهد الخير
من المسرحية.
- 61 -
ومن مزايا هذه التقنية كذلك أنها تعطي القصة التدفق
المستمر ،فليس ثمة فواصل تقتضيها تغيرات الزمان والمكان،
لن مسرح الحداث هو ذاكرة الراوية نفسه ،وبالتالي فلسنا
أمام فعل يجري في أمكنة وأزمنة مختلفة ،بل نحن أمام تيار
من الوعي المتصل .ورغم أن شافر يقسم مسرحياته إلى
فصول ومشاهد ،كما هي العادة ،إل أنه يحرص في مقدمات
مسرحياته على الشارة إلى أن الفعل الدرامي متصل منذ
بداية المسرحية حتى نهايتها .ولعل هذا ما دعاه إلى جعل
الممثلين في مسرحية الحصان يلزمون منصة العرض طوال
الوقت ليبرزوا إلى دائرة الضوء عندما يأتي دورهم .وليست
هذه ،على أي حال ،صفة ينفرد بها بيتر شافر ،فالواقع أن
تدفق الفعل المسرحي بل انقطاع من المور التي يحرص
عليها كتاب الدراما المعاصرون انطلقا ً من فكرة الديمومة
البرغسونية ،التي أشرنا إليها في مطلع الحديث.
ونلمس في مسرحية الحصان لمحة أخرى من ملمح
المسرح الملحمي عندما نرى ممثلي أدوار الخيل ينهضون
من مقاعدهم ويلبسون أقنعتهم أمام الجمهور.
ويولي بيتر شافر أهمية كبيرة لعناصر العرض
المسرحي ،فهو من المؤلفين الذين يؤكدون دوما ً أن الكلمات
وحدها ل تكفي وأن المسرح هو رؤية يشترك في صياغتها
المؤلف والمخرج .وهو ل يميل إلى رسم البيئة رسما ً واقعيا ً
ل -ل على منصة المسرح ،فأحداث مسرحية "الحصان" –مث ً
تجري في مستشفى للمراض العقلية ،كما يفترض ،بل ضمن
مساحات هندسية يغلب عليها التجريد ،وكأنه يريد بذلك أن
يقول إن مخيلة المثقف الغربي باتت أسيرة القوالب الجامدة
التي فرضها تقدم العلم والتكنولوجيا على حياة المجتمعات
المتطورة .وفي الصيد الملكي للشمس نرى قرصا ً معدنيا ً
كبيرًا ،يرمز إلى شمس النكا ،يتدلى وسط المسرح ،ونرى هذا
القرص الوهاج ينطفئ عندما يبدأ الغزاة السبان بالستيلء
على الذهب.
ولننتقل بعد ذلك إلى الكاتب المريكي سام شبرد،
وسنتوخى اليجاز في الحديث عنه بعد أن طالت وقفتنا عند
مسرحيات بيتر شافر .وشبرد يمثل وجها ً آخر من أوجه
الواقعية الحديثة في الدراما ،فهو من الكتاب الذين يخلطون
الواقع بالرمز ،والمعقول باللمعقول والغريب ،إلى الحد الذي
يضفي على أعماله مسحة من الغموض ويرشحها لكثر من
تفسير واحد .ويذكرنا شبرد من الناحية التقنية بالكاتب
البريطاني المعروف هارولد بنتر ،بينما يذكرنا من حيث
الفكر والمواقف بزميله الميركي إدوارد أولبي ،فهما يلتقيان
في رفضهما قيم المجتمع الميركي وإدانة ما يتصف به هذا
المجتمع من نفعية وقسوة وخواء روحي .وسام شبرد كاتب
غزير صدر له حتى الن أكثر من عشرين مسرحية .وسنقصر
الحديث هنا على واحدة من أهم مسرحياته ،وهي الطفل
المدفون ،الحائزة على جائزة بوليتزر.
تقدم إلينا مسرحية الطفل المدفون أسرة غريبة مؤلفة
من أب عجوز سكير يلزم أريكة قديمة في صالة المنزل،
وزوجة ثرثارة تتحدث بل انقطاع عن أيامها وابنها الراحل الذي
ما كان ليموت شابا ً لول أنه تزوج من امرأة كاثوليكية ،ومن
ولدهما تلدن البله الذي عاد إلى بيت أبيه بعد أن طرد من
نيومكسيكو لسبب غامض ،وبرادلي الفظ ذي الكتفين
القويتين والساق الخشبية .ويدور الحديث في المشاهد الولى
حول مزرعة السرة التي أهملت منذ عشرات السنين .وفجأة
يعود حفيد السرة الغائب فنس ومعه خطيبته المريكية-
- 62 -
اللتينية شيلي التي جاء بها لتتعرف إلى أهله .ولكن الجد
السكير ينكر حفيده ول يتذكره رغم المحاولت التي يبذلها
الشاب لبتعاث صورة الماضي في ذاكرته .وحين يعود تلدن –
ولد فنس -إلى المنزل فإنه هو الخر ل يحفل بوجود ابنه ول
يلقي إليه أي اهتمام .ويساور الفتاة الشك في حقيقة انتساب
فنس إلى هذه السرة ،وتحاول إقناعه بمغادرة البيت ولكنه
يصر على البقاء .وعندما يكثر إلحاح الجد العجوز على الجميع
بأن يبتاعوا له قنينة من الخمر يتطوع فنس لداء المهمة
ويغادر المنزل فتنتهز شيلي هذه الفرصة لتسأل تلدن عن
هوية خطيبها فيجيبها هذا بأنه ليس له أولد وأن ولده الوحيد قد
قتله الجد وهو طفل رضيع .ويحاول العجوز منع تلدن من
الستمرار في سرد القصة فيسقط من أريكته إلى الرض
ويظل رابضا ً هناك .وخلل ذلك يدخل برادلي الفظ منتهرا ً
تلدن فيهرب هذا مذعورا ً منه .ويتقدم برادلي من الفتاة
ويأمرها بفتح فمها ثم يدس أصابعه فيه!.
وفي الفصل الخير من المسرحية نرى برادلي نائما ً على
أريكة والده القديمة وقد تدثر بدثاره ووضع ساقه الخشبية إلى
جانبه بينما الب لم يزل مستلقيا ً على الرض .ونرى الم وقد
عادت إلى المنزل بصحبة كاهن بروتستانتي عجوز يدعى الب
دويس ،أما فنس الذي خرج لشراء الخمر فل نلمح له أثرًا.
وتعود الفتاة إلى الستفسار عن قصة الطفل المقتول فيزجرها
برادلي الذي يستيقظ من نومه منزعجًا ،ولكنها تختطف ساقه
الخشبية وتتركه عاجزا ً عن الحركة .وتتدخل الم عبثا ً لسكات
الفتاة الفضولية .وأخيرا ً يقرر العجوز أن يتكلم فيعترف بأنه
قتل الطفل ودفنه في الرض المجاورة للمنزل لنه كان طفل ً
غير شرعي حملت به زوجه سفاحًا ،ولم يكن يريد لهذه الغلطة
أن تدمر كل ما بناه.
ً
ويعود فنس أخيرا وقد أفرط في السكر وجاء معه بكل
القناني التي أفرغها في جوفه ،ويقتحم المنزل مترنما ً بأغنية
من أغاني الحرب ،ويبدأ بقذف القناني الفارغة وكأنه يخوض
معركة بالقنابل اليدوية .وإذا ذاك فقط تتذكر الجدة أن هذا
حفيدها فتسأل:
-فنسنت؟ أهذا أنت فنسنت؟
ً
ويعتدل برادلي في جلسته على الريكة متوعدا فنس
ثم ينزلق إلى الرض زاحفا ً لسترداد ساقه الخشبية ،ولكن
زحفه المضني يطول بل جدوى لن فنس يركل الساق
الخشبية بقدمه كلما اقترب عمه منها .وأخيرا ً يعلن الجد ،قبل
أن يلفظ أنفاسه ،أنه يترك المنزل بما فيه لحفيده فنسنت،
وأدوات الحراثة لبنه تلدن ،ويتناول فنس ساق عمه الخشبية
ويرمي بها خارج المنزل .وتلتفت شيلي قبل رحيلها إلى فنس
فتسأله:
-أتريد أن تبقى هنا؟ فيجيبها :ل بد لــي مــن البقــاء لتســتمر
السرة ولتظل المور تسير في مجراها.
وفي ختام المسرحية نرى تلدن يعود من خارج المنزل،
وقد غطاه الوحل حتى ركبتيه حامل ً بين ذراعيه بقايا طفل
ميت ،ويعبر الصالة ببطء ويرتقي السلم وعيناه مثبتتان على
الجثة الملطخة بالوحل ،وفي الوقت نفسه نسمع الم تخاطب
زوجها العجوز وهي تهبط السلم:
-دوج؟ أهذا أنت يا دوج؟ أتدري؟ لقد كان تلدن محقا ً
بشأن الذرة .لم أر مثل هذه الذرة من قبل .هل ألقيت عليها
نظرة مؤخرًا؟ إنها بطول قامة الرجل منذ الن .في هذا
- 63 -
الوقت المبكر من السنة .وثمة جزر كذلك .وبطاطا .وبازلء.
شيء شبيه بالفردوس في الخارج ،يا دوج .يجب أن تلقي
نظرة .معجزة .لم أر لها شبيها ً من قبل .لعل المطر فعل شيئًا.
لعله المطر.
هذه ،بالخطوط العامة ،هي قصة مسرحية الطفل
المدفون ،ويمكننا أن نلحظ القرابة الفنية بينها وبين أعمال
هارولد بنتر وصاميويل بيكيت ،التي تنقلنا بصورة مفاجئة من
الجواء والتفاصيل الواقعية المألوفة إلى أجواء كابوسية تبدو
فيها التصرفات والقوال غريبة وغير مترابطة .ولكن شخصيات
شبرد أكثر امتلء بالحياة من شخصيات مسرح بيكيت ،وهو
أكثر انشغال ً بالهموم الجتماعية من بنتر .ورغم أن المستوى
الرمزي في أعمال سام شبرد ل يفصح عن نفسه بسهولة،
فإنه يتميز بالثارة الذهنية وقوة اليحاء .ولنا أن نفترض أن
مسرحية الطفل المدفون تصور لنا صراع الجيال في
المجتمع الميركي ،وأن هذا الشاب الذي عاد إلى منزل جده
بعد غيبة طويلة فجوبه بالتجاهل والنكار هو رمز للجيال الفتية
الباحثة عن النتماء في مجتمع منحل تخلى عن مثله القديمة.
أما هذا الطفل الذي اغتيل ودفن تخلصا ً من العار فقد يكون
المؤلف أراد به حلم الحرية والعدالة الجتماعية الذي اغتالته
الرجعية المريكية في أواسط القرن بعد أن لمست في بقائه
خطرا ً يهدد كل ما بنته –على حد تعبير العجوز دوج في
المسرحية المذكورة ،وعندما نفهم مسرحيات شبرد على هذا
النحو تتضح لنا مراميه ويغدو معقول ً ومؤثرا ً ما بدا للوهلة
الولى غريبا ً ومجافيا ً للمعقول.
وسنتوقف أخيرا ً عند مسرحية كان لها دويها الكبير في
الوليات المتحدة وبريطانيا منذ سنوات ،تلك هي مسرحية
الرجل الفيل التي كتبها مؤلف أميركي شاب يدعى برنارد
بوميرانس .وقد فازت في حينها بجائزة نقاد المسرح في
نيويورك وعدد من الجوائز الخرى.
والرجل الفيل ليس شخصية صنعها خيال المؤلف بل هو
إنسان حقيقي يدعى جون ميرك عاش في لندن في أواخر
القرن الماضي ،وكان له تكوين مشوه يثير الفزع .وقد عثر
عليه جراح شاب يدعى فريدرك تريفز عندما كان أحد الفاقين
يعرضه للفرجة في أحد الدكاكين لقاء قروش ،فنقله إلى
مستشفى وايت تشابل في لندن ووفر له المن والعيش
الكريم .وقد ترك لنا الدكتور تريفز كتابا ً عن جون ميرك ،ول
يزال هيكله العظمي وصوره الفوتوغرافية محفوظة حتى
اليوم .وتشير المصادر التي بين أيدينا إلى أن ميرك كان ذا
رأس كبير بشكل استثنائي ،وكان له في جبهته نتوء عظمي
هائل يكاد يغطي إحدى عينيه ،وفي مؤخرة رأسه كيس من
الجلد المنتفخ ،وكانت شفته العليا مقلوبة إلى الخارج بفعل
نتوء عظمي آخر في فكه العلى .وكان ظهره مغطى بكتلة
من اللحم الكريه تمتد إلى منتصف فخذه وتنبعث منها رائحة
مقززة ،بينما تتدلى من صدره كتلة مماثلة من اللحم .وكانت
ذراعه اليمنى ضخمة مشوهة ،أما اليسرى فكانت جميلة،
أنثوية التكوين –كما يقول تريفز .ولكن هذا المظهر المروع
كان يخفي وراءه – كما اكتشف الطبيب في ما بعد -نفسا ً
رقيقة حساسة تتوق إلى الحنان والصداقة كسائر البشر.
وقد سعى تريفز إلى إقناع بعض شخصيات المجتمع
اللندني بزيارة ميرك في ملذه المنعزل في المستشفى،
وسرعان ما اكتشف هؤلء ذكاءه ورهافة حسه فصاروا
يترددون عليه ويقدمون إليه الهدايا ويمدون المستشفى
بالعانات المالية للنفاق عليه .وتهيأ لميرك -وقد أحيط بكل
- 64 -
هذه الرعاية -أن يقرأ وأن يشرع في تحقيق حلم كان يساوره،
وهو وضع تصميم لكنيسة القديس فيليب في لندن.
وقد أتم هذا التصميم بالفعل ،ولكن وضعه الجديد أيقظ
في نفسه رغبات وأحاسيس كانت دفينة في الماضي ،فقد
اشتد به التوق إلى المرأة على علمه باستحالة الوصول إليها،
وصار يتحرق شوقا ً إلى ممارسة حياة طبيعية كالخرين .وذات
يوم فكر ميرك –الذي كان ينام جالسا ً لن تكوينه الغريب ل
يسمح له بالنوم الطبيعي -أن يضع رأسه على الوسادة كأي
إنسان آخر ،ولكن ثقل رأسه الهائل أدى إلى كسر رقبته
واختناقه.
هذه قصة الرجل الفيل كما يرويها أكثر من كتاب ،وقد
نقلها برنارد بوميرانس إلى المسرح بأمانة وبأسلوب واقعي
صارم ،ولكنه عدل عن النهج المألوف في الكتابة ،فلم يقسم
ل ،بل كتبها فيمسرحيته إلى فصول ولم يجعل لها عقدة وح ً
واحد وعشرين مشهدا ً قصيرا ً وجعل لكل من هذه المشاهد
عنوانا ً يشير إلى محتواه .ول نعثر في مسرحية بوميرانس على
الصراع الدرامي المألوف الذي تطرقنا إلى بعض أشكاله ونحن
نتحدث عن مسرحيات بيتر شافر ،فالصراع الساسي في
الرجل الفيل يدور بين ميرك وقدره القاسي ،ل بينه وبين
أطراف أخرى تظهر على المسرح .وهو صراع محسوم منذ
البداية ،فميرك ل أمل له في الخلص من محنته ومصيره،
ولذلك فإن الفعل الدرامي ل يجنح إلى الصعود ،بل يسير
باتجاه أفقي حتى النهاية .وقد تعيد شخصية جون ميرك إلى
أذهاننا صورة غريغور سامسا في رواية كافكا المعروفة
المسخ ،فكلتا الشخصيتين محكومة منذ اللحظة الولى بقدر
رهيب لفكاك منه ،ولذلك فهي ل تخوض صراعا ً من أجل
الخلص وليس في يدها أن تخوض مثل هذا الصراع ،بل
قصارى ما تستطيعه هو أن تحاول التكيف مع الواقع المرعب
الذي فرض عليها.
وتمثل هذه المحاولة الليمة اليائسة البؤرة التي تستقطب
اهتمام المتفرج في مسرحية الرجل الفيل.
وفي هذه المسرحية نجد أنفسنا مرة أخرى أمام مجرى
متصل من الفعل الدرامي ،فالمسرحية –كما أسلفنا -ل تتألف
من فصول تسدل الستارة بعد كل منها ،بل من مجموعة
لوحات تتعاقب وكأنها صفحات من قصة يقرأها المرء دون
توقف .ونجد أنفسنا كذلك أمام لغة درامية جديدة ،يمكن أن
ندعوها باللغة المقطرة ،فالكاتب المسرحي المعاصر ميال إلى
القتصاد في اللغة وتشذيب العبارة من كل الزوائد التي يمكن
الستغناء عنها ،بل وإلى بترها أحيانا ً إذا كانت تتمتها يمكن أن
تفهم من سياق الحديث .ولعل الكاتب البريطاني هارولد بنتر
أشهر مثال في هذا الباب .وعلى العموم فإن المسرح
الحديث ل يميل إلى السهاب في القول أو التصنع في العبارة،
أو النسياق مع انثيالت الفكار والعواطف إل في الحوال التي
تقتضيها ضرورة درامية واضحة.
وبعد فهذه بعض التجاهات البارزة في ما أسميناه
بالواقعية الجديدة في المسرح المعاصر .وقد آثرنا أن نقتصر
على نماذج قليلة ليتسنى لنا أن نقف عند كل منها وقفة كافية،
فذلك أجدى من تعداد السماء –وهي كثيرة -والكتفاء
بملحظات عامة ل تقربها إلى الذهن أمثلة ملموسة .ولعل في
هذه اللمامة المتواضعة ما يساعدنا على تشخيص واقع الحركة
المسرحية عندنا وتبين موقعها من مسارات تطور المسرح
العالمي المعاصر.
- 65 -
ءءءءء – 1986
- 66 -
الدور الغوالي
في المسرح الحتفالي!
ءءءءء 1985
- 71 -
الملك لير
المأســاة الــتي تحــولت إلــى
نكتة!
- 73 -
العظيم .والمسألة ،بعد ذلك ،ليست مسألة قصة ألم المشاهد
بمعظم فصولها وبات من حقه أن يعرف نهايتها وحسب ،وإنما
هي كذلك مسألة الثر السايكولوجي الذي يفترض في
المسرح –والفن عمومًا -أن يحدثه في جمهوره .وليس في
نيتي هنا أن أتطرق إلى فكرة التطهير الرسطو طاليسية
)لن أرسطو طاليس أصبح عتيقًا ،كما صرح أحد جهابذة
المسرح عندنا منذ فترة وجيزة( ،ولكنني أود أن أشير ،بمنتهى
البساطة ،إلى أن هزيمة الشر ،ممثل ً في أدموند وغونريل
وريغن ،هو درس أخلقي بمقدار ما هو عامل انفراج نفسي
عند المشاهد .وهذا سبب آخر للعتراض على حذف الفصل
الخامس من المسرحية.
ولنعد الن –وقد أحطنا ببعض ما تضمنه الفصل المحذوف
من لير -لنرى كيف عوض عنه المخرج بالصورة الصامتة.
إن هذه الصورة ،التي يتحدث عنها المخرج بزهو واضح،
تتلخص في أنه وضع كورديليا على منصة صغيرة في مؤخرة
المسرح وجعل لير يتقدم نحوها وسط المواج ،ولكنه ل يفلح
في الوصول إليها! وغني عن الذكر أن هذه الصورة
)المتواضعة على المستوى التقني( ل تتضمن شيئا ً على
الطلق من الوقائع والمعاني التي أشرنا إليها .ولكن أسوأ ما
في المر أن هذه الصورة بنيت ،أساسًا ،على قصور في الفهم،
أو على فهم مقلوب –إذا شئنا الدقة في التعبير .ولو عاد
المخرج إلى المشهدين الثالث والسادس من الفصل الرابع
وقرأهما بشيء من العناية لكتشف أن لير لم يجاهد قط من
أجل الوصول إلى كورديليا ،بل كان –على عكس ذلك تمامًا-
يتهرب منها ويرفض النصياع لرؤيتها على حد تعبير "كنت" في
الفصل المذكور لنه كان خجل ً مما ارتكبه في حقها من قسوة
وظلم .و بالمقابل ،كانت كورديليا هي التي عبرت البحر لتنقذ
أباها من محنته،وهي التي دفعت حياتها ثمنا ً لهذه المحاولة
النبيلة .ولو كان المخرج قد فهم النص الذي تصدى لخراجه
)وهذا في ظننا المتواضع أحد شروط الخراج( لجعل كورديليا
هي التي تصارع المواج لنقاذ لير الغارق ،وهي التي تغرق بعد
أن فشلت في إنقاذه.
ومهما يكن من أمر ،فإن من مقتضيات النصاف أن
نعترف بأن الجمهور الذي حضر مسرحية الملك لير ،سواء
عند عرضها في أكاديمية الفنون الجميلة أو على مسرح
الرشيد ،لم يفطن إلى أن الفصل الخامس من المسرحية قد
حذف .لنه في الواقع لم يفهم شيئا ً من الفصول الربعة
الولى .ول يستثنى من ذلك أولئك الذين قرأوا المسرحية
بنصها النجليزي أو ترجمتها العربية .والسبب في غاية
الوضوح .فالمخرج لم يكن ينوي أن يقدم لير إلى الناس كما
كتبها مؤلفها ،بل كانت له طموحات أخرى ،أوجزها في حديثه
المنشور في جريدة المهرجان بقوله:
"إن الذهاب إلى الصورة الخراجية يقتضي
القلع من مطار الزمن إلى سماء الفلسفة ،وهذا
بدوره يستوجب استقراء الروح!"
وقد تمثلت سماء الفلسفة هنا في بضعة توابيت صفها
المخرج على المسرح وفي كفن كبير من الخام البيض غطى
به الجزء الكبر من منصة العرض وأجبر ممثليه ،معظم الوقت،
على أن يلتفوا به ويزحفوا تحته ،هذا إذا لم يجبرهم على
الوقوف كالمومياءات الفرعونية داخل التوابيت! ولعل أطرف
ما رأيناه خلل هذا العرض العجيب أن أحد الممثلين استلقى
تحت الكفن ورفع ساقيه إلى أعلى ،ولبث كذلك فترة من
الوقت حتى أخذتنا به الشفقة وخشينا عليه من الختناق .ول
- 74 -
أظن أحدا ً من المتفرجين فهم ما رمى إليه المخرج )فالقلع
من مطار الزمن إلى سماء الفلسفة ليس أمرا ً هينا ً على أي
حال!( ولكننا شغلنا بهذه اللعيب عن شكسبير وشعره وعن
لير ومأساته ،ولم نخرج إل بنتيجة واحدة ،هي أن المخرج كان
سخيا ً جدا ً في ما قدم إلينا من قماش على المسرح وكان
ن للمرءفقيرا ً جدا ً في ما قدم من فن وفكر وموهبة! وإذا ع ّ
أن يتساءل عن سماء الفلسفة التي حلق إليها المخرج
فسيجد أن جناحه الهزيل لم يحلق به بعيدًا ،فليست التوابيت
ول أكداس الخام البيض التي زحم بها منصة المسرح سوى
رموز للموت المخيم على شخصيات المسرحية…
ولكن أي جديد في هذا؟ أليس الموت مصير البطال
التراجيديين في معظم الحوال؟ أل يخيم الموت على هاملت
وماكبث ،وأوفيليا وديدمونة ،وبروتوس وكوريولنوس ،مثلما
يخيم على كورديليا ولير وغلوستر؟ أن اكتشافا ً كهذا ل يتطلب
ل ما يتطلبه في القلع من مطار الزمن أو أي مطار آخر ،بل ك ّ
الواقع هو اللمام الولي بمفهوم التراجيديا.
هذا على الصعيد الفلسفي ،أما على الصعيد التقني –
المسرحي ،فقد كانت لهذا الكتشاف عواقبه الوخيمة ،لن
المخرج الذي اكتشف )في لحظة إلهام ،دون شك!( أن أبطال
مسرحيته يخيم عليهم الموت ،مل وسط المسرح بالكفان
والتوابيت ولم يدع لممثليه فسحة يؤدون عليها أدوارهم .وأكثر
من ذلك أنه تعامل مع الممثلين وكأنهم قطع ديكور يوزعها
على خشبة المسرح ليصنع منها ما يتوهم أنه صورة مسرحية،
وهكذا ضاعت منه فرصة الفادة من الممثلين الموهوبين الذين
عملوا معه.
وإذا فتشنا عن سر هذا التخبط كله فسنجد أمامنا أمرين:
أولهما اعتقاد المخرج بأنه يستطيع النسياق مع نزوات خياله
دون حدود أو ضوابط ،وثانيهما طموحه إلى تأسيس مدرسة
جديدة في الخراج المسرحي تحمل اسم مسرح الصورة.
وسنتريث قليل ً عند كل من هاتين النقطتين.
من تحصيل الحاصل أن الخيال إحدى الملكات الساسية
التي تسهم في إبداع العمال الفنية ،والمخرج المسرحي –
كغيره من الفنانين -يحتاج إلى الخيال لتحويل النص الدرامي
إلى حياة ملموسة نابضة على خشبة المسرح .ولكن ثمة فرقا ً
نوعيا ً بين الخيال البداعي والخيال الباثولوجي ،أو ما أصطلح
على تسميته بالهلوسة.
ففي الحالة الولى يكتشف الذهن المبدع ،في لحظة من
لحظات التجلي ،وجها ً أو أوجها ً عديدة للعلقة بين أشياء تبدو
للوهلة الولى بعيدة بعضها عن البعض الخر .وهنا ،بالدرجة
الولى ،تكمن المفاجآت التي تصادفنا في الشعر العظيم.
ومأساة الملك لير حافلة بهذا النوع من الخيلة المذهلة،
التي يستطيع القارئ المعني أن يجدها في كل صفحة من
صفحات المسرحية .أما النوع الخر من الخيال )الذي وصفناه
بالخيال الباثولوجي( فقوامه الرابط العشوائي بين ظواهر
وصور متنافرة ل تجمعها أية علقة سيميولوجية ،أي ل تجمعها
علقة يمكن للذهن السوي أن يقبلها على وجه من الوجوه.
وينتمي خيال المخرج الذي نحن بصدده إلى هذا النوع
الخير ،فهو خيال مضطرب ،قائم على ربط العناصر والظواهر
المختلفة ببعضها ربطا ً عشوائيًا ،اعتباطيًا ،ل يخضع لي نظام
سيميولوجي قابل للدراك .وتتجلى هذه السمة الباثولوجية ،ل
في عمله على منصة المسرح وحسب ،بل حتى في كتابته،
ولنعد إلى بعض ما كتبه في العدد الثاني من جريدة المهرجان
- 75 -
حول معنى الصورة في لير:
البهلول يعزف على آلة الكونترباس ،لقد شاخ وهرم .هنا
أضيف زمن آخر للبهلول… البهلول تورمت ساقه وقطعت،
ونمت ساق أخرى ،يموت ويبعث حيًا ،يهرم ويعود فتيًا .الزمن
عنده مضاف ومسترجع… البهلول انتحر مرتين أي عاش تجربة
الموت مرتين وعرف أسرار العالم الخر… الخ!
إن هذه العينة الطريفة تعطينا فكرة عن طبيعة عمل
المخيلة عند مخرج الملك لير .فبدل ً من أن يستخدم خياله
لستكمال صورة البهلول ،كما رسمها شكسبير في مسرحيته،
والكشف عن أبعادها النسانية ودللتها الفكرية ،راح يحدثنا عن
كائن خرافي ل علقة له بالنص الشكسبيري ..كائن مات مرتين
وبعث مرتين ،وقطعت ساقه ونمت لـه ساق أخرى ،وعرف
أسرار العالم الخر ..إلى آخر هذه التهويمات التي ليس لها
معنى في حد ذاتها ،وليست لها علقة ،من قريب أو بعيد،
بالدراما الشكسبيرية التي تقوم على بناء واقعي سايكولوجي
عميق للشخصيات والعلقات النسانية.
لقد استأثرت شخصية البهلول باهتمام كبير من دارسي
مأساة الملك لير ،ومن بواعث هذا الهتمام أنها شخصية
ليس لها ما يماثلها في التراجيديات الشكسبيرية الخرى .وقد
ذهب وولتر رولي ،وهو من أبرز دارسي شكسبير ،إلى أن
الشاعر العظيم زج بهذه الشخصية الكوميدية في مأساة
الملك لير انصياعا ً لرغبات جمهوره ،بينما ذهب آخرون إلى
أن وظيفة البهلول
الساسية كانت التخفيف من وطأة المأساة على المشاهدين،
وهذه حيلة كان يلجأ إليها شكسبير أحيانًا ،مدفوعا ً بحسه
الدرامي الدقيق .ونستطيع أن نمضي إلى أبعد من ذلك
فنفترض أن شكسبير وضع البهلول إلى جانب لير ليرينا صواب
المثل الشعبي القائل خذوا الحكمة من أفواه المجانين وليقنعنا
بأن الحاكم المغتر بسلطته وجبروته قد يعجز عن رؤية ما يراه
حتى الحمقى والبهاليل من أتباعه ،فالبهلول يدرك منذ البداية
ما عجز لير عن إدراكه ،وهو أن المرء ل يستطيع أن يتخلى عن
السلطة الفعلية وأن يحتفظ بكل امتيازاتها في آن واحد .وأيا ً
كان المر ،فإن البهلول في مأساة الملك لير ما هو إل
شخصية كوميدية .إنه المهرج الذي تنحصر مهمته في إضحاك
الملك والترويح عنه .وقد كان من عادة الملوك على أيام
شكسبير أن يتخذوا لنفسهم مهرجين يسلونهم بألعيبهم
ونكاتهم.
وبهلول لير يجمع بين الذكاء والوفاء لولي نعمته ،فهو يعي
ما يجري أمامه ويدرك الحماقة التي ارتكبها سيده عندما وضع
نفسه تحت رحمة ابنتيه الجاحدتين .وهو يأسى لما آلت إليه
حال الملك الشيخ ،ول يتوانى عن تقريعه برفق لما فعله
بنفسه ،ولكنه ل يملك سوى أن يمضي في دوره كمهرج غايته
الترفيه عن الملك وإضحاكه .وحتى عندما تحل النكبات
بالملك لير ويجد نفسه شريدا ً في ليلة ثلجية عاصفة ،فإن
البهلول يواصل تهريجه وغناءه ليخفف من عذاب الملك
التعس ،وإن كانت تعليقاته ونكاته تشف عن حزن دفين.
وباختصار ،فإن البهلول ليس حكيما ً هنديا ً ول عرافا ً إفريقيًا-
كما بدا لمخرجنا اللوذعي -وإنما هو مهرج ذكي القلب ،يمارس
دوره في ظروف مأساوية ،ويقول النكتة بينما قلبه يقطر دمًا.
ولو فطن المخرج إلى ذلك لما أناط الدور بممثل زنجي
الملمح ،ذي وجه يطفح بالكآبة ،وجعله يؤدي كلمات دوره
بنبرات بطيئة متفجعة –خلفا ً لما يتطلبه الدور من خفة وحيوية
ومرح مصطنع .ولو أن سوء فهم المخرج وقف عند هذا الحد
- 76 -
لهان الخطب ،ولكن خياله الخصب أوحى إليه أن يضيف إلى
هذا البهلول الزنجي الثقيل الظل ساقا ً خشبية طويلة احتلت
جانبا ً ل يستهان به من مقدمة المسرح ،فكانت أشبه بنكتة
غليظة نابية في جو يفترض أنه مأساوي.
ويبلغ تطرف المخيلة عند المخرج أقصاه في مشهد
العاصفة الشهير في الفصل الثالث من مأساة الملك لير.
وأذكر أن مشهد العاصفة -عندما حضرت المسرحية في
أكاديمية الفنون الجميلة ،بدعوة من المخرج -كان مصحوبا ً
بعزف رقيق على الكمان ،أما في مسرح الرشيد ،فقد حل
الكونتراباس محل الكمان .وفي كلتا الحالتين بدا لي المر
شاذا ً وغير مفهوم ،فالطبيعة في الملك لير ذات معان تتصل
بالجبروت والقسوة والعنف .وسواء فهمنا الطبيعة في هذه
المسرحية بوصفها النوازع والطماع النسانية الكاسرة التي
تسوق النسان إلى الغدر والعنف –كما في حال أدموند
وغونريل وريغن -أو فهمناها بوصفها النواميس القاسية التي
تحكم حياة البشر وتقرر مصائرهم ،أو أخذناها بهذين المعنيين
كليهما ،فإن آلة الكمان أو الكونتراباس هي آخر ما يصلح
للتعبير عن هذه المعاني وخلق النطباع المراد خلقه عند
المشاهد .واختيار إحدى هاتين الليتين لمصاحبة هذا المشهد –
الذي يفترض أن تبدو فيه الطبيعة في أوج عنفها وجبروتها-ل
يعني سوى أن المخرج عاجز تماما ً عن المساك بدللت النص،
أو أنه مسوق -بحافز شعوري أو ل شعوري -إلى مخالفة ما هو
منطقي وطبيعي ومألوف.
ولنقف أخيرا ً وقفة سريعة عند ما يسميه المخرج بمسرح
الصورة ،وسنجد بقليل من التأمل أن هذه التسمية خالية من
المعنى في الواقع ،فالمسرح في كل أحواله ،وعبر تاريخه
الطويل ،ل يعدو أن يكون صورة مرئية –مسموعة ،وحين ندعو
إلى مسرح قوامه الصورة فإن ذلك ل يختلف كثيرًا ،في الواقع،
ل! ولكن الصورة في عن دعوتنا إلى شعر قوامه الكلمات مث ً
المسرح هي غير اللوحة التشكيلية بالطبع .فالولى –أي
الصورة المسرحية -دينامية ،متغيرة باستمرار ،بينما الخيرة
ستاتيكية ثابتة .الولى تمتد في الزمان والمكان ،بينما ليس
للخيرة سوى امتدادها في المكان .الولى عمل فني يصنع
أمام أنظارنا مباشرة ،وينمو ويتكامل بالتدريج خلل فترة زمنية
محددة ،بينما الخيرة عمل جاهز مكتمل يطرح نفسه أمامنا
دفعة واحدة .وهذه الفوارق العميقة بين طبيعة الصورة في
المسرح وطبيعتها في الفن التشكيلي هي ،بالضبط ،ما لم
يفطن إليه مخرج الملك لير .فقد توهم هذا المخرج أنه
يستطيع أن يمارس دور الرسام أو النحات على المسرح ،ناسيا ً
أن لكل فن خصوصيته وتقنياته ووسائله التعبيرية المختلفة.
وكانت النتيجة أننا لم نر الفعل الدرامي في ترابطه وانسيابه
المألوفين ،بل رأينا الممثلين وهم ينقلون من وضع إلى آخر،
بميكانيكية ظاهرة ،ليؤلفوا الصورة التي رسمها لهم المخرج.
وهكذا ضاع منا المسرح ولم نكسب بالمقابل أي إنجاز
تشكيلي ذي شأن .والواقع أن المخرج ل يتمتع بقدرات
ملحوظة
حتى على المستوى التشكيلي المحض .فوسائله ل تعدو بضعة
توابيت
وقطعة كبيرة من القماش البيض ،إضافة إلى بعض الطارات
المعدنية
التي لم نفهم لها وظيفة أو معنى .وليته كان ممن يعرفون
استخدام
النارة المتطورة والتقنيات المعاصرة في المسرح ،إذن
لستطاع على القل أن يعوضنا على صعيد الصورة عما فقدناه
- 77 -
على صعيد الدراما والشعر والفكر.
وبعد فقد أطلت ولم يكن في نيتي ذلك .فالعمل نفسه
ليس جديرا ً بأن يقف عنده المرء هذه الوقفة الطويلة ،بل هو
غير جدير بالهتمام على الطلق لول أنه دخل ،على نحو ما،
ضمن العمال التي مثلت العراق في مهرجان بغداد المسرحي
الول .ولكن ما يضطرني إلى الطالة هو القلق على مصير
المسرح العراقي ،الذي طال تخبطه وكثرت إخفاقاته في
العوام الخيرة ،لنه مسرح ل يحفل بالمقاييس السليمة ،ولنه
مسرح يفتقر إلى الثقافة المسرحية الرصينة مثلما يفتقر إلى
الناقد المثقف النزيه ،الذي يقف ليصرخ بأعلى صوته :رويدكم!
ما هكذا يكون المسرح ،وليس هذا هو النموذج المشرف الذي
يفترض في الفنان العراقي ،ذي التراث العريق ،أن يقدمه إلى
العالم!
ءءءءء 1985
- 78 -
هل كان
للسومريين مسرح؟
ءءءءء 1989ء.
- 82 -
حول مسرحية "الباب")(1
هــــل بــــدأت الــــدراما المحليــــة
بالنتعاش؟
- 85 -
أحق بالتمسك من أي مبدأ آخر ،إنه باختصار شخصية ذات
نزعة ابيقورية عنيفة ترى في اللذة مبدأها السمى التي تهزم
أمامه سائر العتبارات الخرى .وبالتالي فهو بطل عار من
البطولة ،بطل ليس له من قضية سوى أن يعيش ويستمتع
بحياته!..
وهذه النزعة البيقورية عند بطل مسرحية "الباب"
تفصح عن نفسها بطريقة فظة في حديثه عن حبه لزوجته
الراحلة ،فهو يعلن أمام المحكمة أنه أحبها إلى آخر لحظة من
حياتها ،ولكن حبه طار وتبخر فجأة عندما وجدها ميتة بين
يديه .لقد أحس فجأة بأنه ل يعرفها ،وامتلت روحه اشمئزازا ً
وأصابه رعب وغثيان .هكذا يقول صاحبنا بالحرف الواحد .وحين
يسأله رئيس المحكمة عن سر هذا الشعور يجيبه ببساطة:
ـ هل سبق لك ياسيدي ،أن جربت تقبيل جثة؟ هل استطاع
أحد ممن أحبوا أن ينام مع جثة التي أحبها؟
وحسبنا هذه الجابة لندرك أن الحب الذي يتحدث عنه
بطل المسرحية ليس في واقع المر إل تعلقا ً شهوانيا ً خاليا ً من
أي تواصل إنساني عميق .لقد كانت زوجته مجرد جسد يمنحه
اللذة ،وحين انطفأت الحياة في هذا الجسد وتحول إلى جثة
هامدة ل سبيل إلى تقبيلها أو النوم معها طار الحب وتبخر ،بل
انقلب إلى اشمئزاز وغثيان ،تماما ً كما لو أن هذه الزوجة كانت
مائدة شهية فاحت منها علىحين غرة رائحة كريهة ..فأين الحب
في هذا كله؟ إننا إزاء علقة ليس لها من الحب سوى بعده
البيولوجي الخالص ،أما أبعاده النسانية الكبيرة الخرى فل أثر
لها على الطلق .إن صاحبنا لم يفجع بوفاة الزوجة الحبيبة بل
أصابه رعب واشمئزاز ،ولم يخسر حنانها أو وفاءها أو طيبتها
أو إيثارها أو أية صفة أخرى مما يميز العلقات الحميمة بين
البشر عن العلقة البيولوجية بين أي ذكر وأنثى في الطيبعة،
بل خسر جسدا ً كان يستمتع به.
وحين يستعيد ماكانت عليه هذه الزوجة قبل موتها فإنه ل
يتذكر سوى أنها كانت مليئة بالرغبة ،مستجيبة،
متفهمة ،مشاركة ،متلذذة ،ولم تعد كذلك الن! ولهذا كله
دللته الواضحة على أن بطل مسرحية الصائغ لم يعرف الحب
بأبعاده النسانية العميقة ،ولم يفهم من العلقات النسانية
ذاتها سوى أنها مصدر للمتع الحسية .ولهذا كان من المنطقي
تماما ً أن يحنث شخص كهذا بقسمه ،فقد كان التعلق بملذات
الحس دافعه الساسي إلى اللتزام بالعهد الذي أخذ به نفسه،
وكان هذا التعلق ذاته هو الدافع إلى تنصله من هذا العهد.
وهكذا يكشف لنا التحليل أن بطل المسرحية كان منسجما ً مع
نفسه في الحالين ،وأن ما بدا تناقضا ً في سلوكه ليس في
الواقع إل متابعة لهدف ثابت واحد ـ هو المتعة الحسية ،كما
أسلفنا ـ في ظرفين مختلفين أشد الختلف.
ليس لنا إذن أن نعترض ،من الوجهة الفنية المحضة ،على
رسم شخصية بطل المسرحية فهي شخصية حية ومتسقة إلى
أبعد الحدود ،وهي في الواقع شخصية نصادفها في حياتنا كل
يوم ،بل هي:
ـ إن أردنا مزيدا ً من الدقة ـ شخصية المثقف العربي
المعاصر في مواجهة الخيارات القاسية التي يطرحها عصره،
ولكن اعتراضنا ذو طبيعة فكرية ،فليس بطل "الباب" هو
المثال الخلقي الذي نحتاج إليه في زمن يتطلب منا الكثير من
الشجاعة ونكران الذات لحماية وجودنا ذاته.
ومهما يكن من أمر ،فإن ما حققه يوسف الصائغ على
- 86 -
مستوى البناء الفني أمر جدير بكل ثناء وهو بدء انتعاش
للدراما المحلية نأمل أن يتواصل ويتطور .وقد كنا نتمنى أن
يأخذ هذا النص الجميل صورته المناسبة على منصة المسرح،
ولكن تمنياتنا هذه منيت بإحباط ذريع ،لن الخراج المسرحي
قصر عن مستوى النص بأشواط بعيدة ،وهذا ما سنعالجه
تفصيل ً في الحلقة التالية من هذا الحديث.
ءءءءء .1986
- 87 -
حول مسرحية " الباب " ).(2
عنــدما يوضــع النــص المســرحي فــي قــالب غيــر
مناسب:
ءءءءء .1986
- 93 -
مسرح الشباب
والنسياق مع التقاليد السيئة
ءءءء 1973
ءءءءء 1977
ءءءءء .1977
ءءءءء 1986
ءءءء 1973