You are on page 1of 2

‫اْلغّريد‬

‫سلسلة أدبية‬
‫تأليف‬
‫الكاتب المصري‬
‫حسن صالح أبو لمعاطي محمد الشعراوي‬
‫‪hasansalehsharawy@yahoo.com‬‬

‫‪((1‬‬

‫روضة البؤساء‬

‫تأليف‬

‫حسن شعراوي‬

‫وبعد مسيرة طالت قرابة نصف الليل جال بخاطري أن أستريح حتى ينبلج الفجر‪ ،‬وعن قرب لحت لي‬
‫مئذنة فاتجهت نحوها على مهل رويًدا رويدا حتى وصلت غى باب المسجد‪ ،‬فدخلت وحييت المسجد‬
‫بركعتين‪ ،‬ثم نظرت من حولي عّلي أجد مكاًنا أستريح فيه من عناء السفر‪ ،‬فتنحيت جانًبا من المسجد‬
‫وتوسدت ذراعي وما هي إل لحظات كنت فيها ضحية لمواج النوم العنيفة‪.‬‬
‫وفجأة دخل رجل‪ ،‬وقد بدا عليه الِهَرم ‪ ،‬شعره قد اشتعل شيًبا ‪ ،‬وجسمه نحل واتسع عليه جلده‪ ،‬وبدت‬
‫في يديه رعشة ل تفارقه‪ ،‬وتقدم هذا الشيخ نحو القبلة وتقدم هذا الشيخ نحو القبلة في بطء وهدوء وكأنه‬
‫يسير على حافة جرف هاٍر يخشى أن يهوي به ثم جثا على ركبيتيه وسجد سجدة طويلة‪ ،‬حسبت روحه‬
‫قد فاضت‪ ،‬فحاولت القتراب منه‪ ،‬عّلي أطمئن عليه وبينا أنا ذا إذ بأنين كأنين الثكلى وبكاء فاق بكاء‬
‫الرضيع على أمه‪ ،‬فسقطت عبراته من عينيه على وجهي كأنها الشظايا‪ ،‬وأصماني أنينه بسهم نافذ‪،‬‬
‫فانفطر قلبي لذا البكاء من هذا العجوز البائس؛ ودعاني حزني عليه وإشفاقي لحاله أن أسأله عّم به‪،‬‬
‫وقبل أن أخطو خطوة نحوه ‪ ،‬رأيته يرفع يديه نحو السماء ويناجي ربه في مرارة وألم وانكسار ومذلة‬
‫شديدة ويقول‪ :‬اللهم يا من فاق ملكه كل ملك‪ ،‬وجاوزت عظمتك كل عظيم ‪ ،‬اللهم يا غافر الذنب ‪ ..‬هل‬
‫لثم مثلي مكان في أحضان رحمتك؟ ‪ ..‬ثم وضع أسه بين كفيه وانفجرت الدموع من عينيه حتى بللت‬
‫لحيته فكانت كعين ماء انبجثت من الرض‪.‬‬
‫ل‪ :‬إلهي إنك بذنبي أعلم وبما ارتكبت من خطيئة أحفظ‪ ،‬فاللهمك افتح لي أبواب‬ ‫ثم عاود ابتهالته قائ ً‬
‫المتاب‪ ،‬فإني قد طواني الدهر بين صفحاته وحطتني الدنيا في أرذل مكان‪ ،‬أتيتك يا إلهي تائًبا مما فعلته‬
‫خّ‬
‫ي‬ ‫بأخي وأولده من بعده‪ ،‬ولم يكمل لقد اختنق لسانه بسيل من العبرات‪ ،‬ثم قال وهو يناجي أخاه ‪ُ :‬أ َ‬
‫ي ها هو حال تبدل من بعد قوة ضعًفا ‪ ،‬ومن بعد الغنى فقر‬ ‫خّ‬ ‫ها أ‪،‬ا ذا قد ذلني الزمن وأهانني المال‪ُ ،‬أ َ‬
‫وضياع‪....‬آٍه ها أنا اليوم أتيت نِدًما فهل أنت غافر لي‪ ..‬هل أنت قابلها مني‪...‬؟ ثم وضع رأسه بين كفيه‬
‫وأخذ يبكي ويصرخ ‪ :‬واحسرتاه‪ ...‬واندماه‪....‬‬
‫وبدا لي كأن أخاه قد مات وهو تذكر ذلك الن فقط وهو لم يعد يسمعه ولن يسمعه ولن يقبل منه اعتذاره‬
‫وندمهه ‪ .‬وشتان بين الحساس بالخ وهو حي وبين وهو ميت لقد فات الوان!‬
‫ثم ُأفيق من بكائه وقال وكأنه يتحدث إلى أخيه ثانية ‪:‬‬
‫سامحني يا ُأخي بعد أ‪ ،‬تركنا أبونا وتوفاه ال وترك لنا ثروة هائلة‪ ،‬لكنه قبل وفاته اهتم بأن يوصينا‬
‫بالخلص لبعضنا والتحاب وعدم الغدر والخيانة ‪ ،‬غير أني خالفت الوصية ووقعت في شرك‬
‫الشيطان؛ إذ زورت في أوراق الشركة وحولتها كلها باسمي وتركتك ل تملك م حطام الدنيا شيًئا‪ ،‬ويوم‬
‫أتيتت تعاتبني وتذكرني بوصية أبينا‪ ،‬لم تجد مني غير الجفوة والهانة‪ ،‬وكأننا لم نكن أبناء ماٍء واحد‪،‬‬
‫وأذكر وقتها أنك بكيت نعم بكيت كثيًرا ورجوتني أن أترك لك شيًئا ولو شيء يسير من التركة لتربي‬
‫ل من الهم والحزن ما يجعل‬ ‫بها أولدك الصغار‪ ،‬فلم تجد مني إل الجفاء والكبر ولم تعد لبنائك إل حام ً‬
‫الجبال تتصدع‪ ،‬وعدت وعيناك تموج فيهما بحور من عبرات اللم‪ ،‬ولم تزل على ذلك حتى فاضت‬
‫روحك‪.‬‬

You might also like