You are on page 1of 191

‫سلسلة كتب المام الحداد )‪(2‬‬

‫***************************‬
‫مة‬
‫مة و الّتذك َِرة العا ّ‬
‫دعوة الّتا ّ‬
‫ال ّ‬
‫***************************‬
‫تأليف‪:‬‬
‫المام شيخ السلم قطب الدعوة والرشاد‬
‫عبد الله بن علوي بن محمد بن أحمد الحداد‬
‫الحسيني الحضرمي الشافعي‬
‫رحمه الله تعالى‬
‫)‪1044-1132‬هـ(‬

‫الناشر‪ :‬دار الحاوي للطباعة والنشرو‬


‫التوزيع‬
‫الطبعة الرابعة سنة ‪1421‬هـ‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬

‫ن{‬
‫مِني َ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ع ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ن الذّك َْرى َتن َ‬
‫ف ُ‬ ‫وذَك ّْر َ‬
‫فإ ِ ّ‬ ‫} َ‬

‫ول حول ول قوة إل بالله العلي العظيم‪ .‬سبحانك ل علم‬


‫لنا إل ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم‪.‬‬
‫الحمد لله ذي الجلل والكرام‪ ،‬الملك القدوس السلم‪،‬‬
‫ن علينا بأن هدانا إلى‬‫المؤمن المهيمن العلم‪ .‬الذي م ّ‬
‫اليمان والسلم‪ ،‬وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس‬
‫والنام‪ ،‬وبّين لنا في كتابه العزيز المبين‪ ،‬على لسان‬
‫دين من الحدود والحكام‪،‬‬ ‫رسوله الصادق المين‪ ،‬شرائعَ ال ّ‬
‫ومناهج الحلل والحرام‪ ،‬ومّيز لنا بين الحقّ والباطل‪،‬‬
‫والهدى والضللة‪ ،‬والطاعات والثام؛ فوضحت بذلك‬
‫المحجة للسالكين المهتدين‪ ،‬وقامت به الحجة على‬
‫التاركين المعتدين‪.‬‬
‫وله سبحانه وتعالى النعمة السابغة‪ ،‬والحجة البالغة على‬
‫جميع العالمين من كل خاص وعام‪ .‬خلق الخلق لما يشاء‪،‬‬
‫) ‪(1/9‬‬

‫ل‪ ،‬وحكمة وعد ً‬


‫ل‪،‬‬ ‫واستعملهم فيما يشاء رحمة وفض ً‬
‫وعهم في ذلك وفي غيره من أحوالهم وأفعالهم‬ ‫ون ّ‬
‫ورهم على أنواع‪ ،‬وقسمهم فيه على أقسام؛‬ ‫وسيرهم‪ ،‬وص ّ‬
‫ليدل بذلك على عظيم قدرته الباهرة‪ ،‬وعلمه المحيط‪،‬‬
‫ومشيئته القاهرة‪ ،‬وشؤونه الباطنة والظاهرة‪ .‬وليس في‬
‫شيء من ذلك بجائر على عبيده ول بظلم‪ .‬ل يسأل عما‬
‫يفعل وهم يسألون‪ .‬خلق الجنة وخلق لها أهل؛ فهم بعمل‬
‫أهل الجنة يعملون‪ .‬وخلق النار وخلق لها أهل؛ فهم بعمل‬
‫أهل النار يعملون‪ .‬وهم في جميع ذلك ل يخلقون شيئا ً‬
‫وهم يخلقون‪ ،‬ول يملكون لنفسهم ضرا ً ول نفعًا‪ ،‬ول موتا ً‬
‫ول حياة‪ ،‬ول نشورًا‪ .‬وليسوا بذلك في حال تقصيرهم عن‬
‫القيام بحقه‪ ،‬والمتثال لمره‪ ،‬والوفاء بعهده‪ ،‬ول في‬
‫ارتكاب نهيه‪ ،‬والعمل بمعصيته يعذرون؛ مهما كانوا‬
‫مختارين وغير مستكرهين ول مقهورين ول مجبورين‪ .‬وقد‬
‫هلك المتنطعون والمتعمقون‪ ،‬والمترخصون المحتجون‬
‫ن إ ِل ّ‬
‫على ربهم‪ ،‬الذين قال فيهم عز من قائل‪ِ } :‬إن ي َت ّب ُِعو َ‬
‫ن { )‪(1‬‬
‫صو َ‬ ‫م إ ِل ّ ي َ ْ‬
‫خُر ُ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫الظ ّ ّ‬
‫ن وَإ ِ ْ‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬يكذبون‪.‬‬
‫) ‪(1/10‬‬

‫فله سبحانه الحول و الطول)‪ ،(1‬والفضل والحسان‪،‬‬


‫والمن والنعام‪ .‬وصلى الله على سيدنا ومولنا محمد‬
‫عبده ورسوله‪ ،‬الذي أرسله رحمة للعالمين‪ ،‬وختم به‬
‫النبيين‪ ،‬وجعله سيد المرسلين‪ ،‬وأكرم السابقين والحقين‪،‬‬
‫وأول الشافعين والمشفعين‪ ،‬وعلى أهل بيته الطاهرين‬
‫الكرام‪ ،‬وعلى أصحابه الئمة العلم‪ ،‬وعلى التابعين لهم‬
‫بإحسان إلى يوم البعث والقيام‪ ،‬والحشر إلى الله‬
‫والحساب والوزن‪ ،‬والعبور على الجسر الذي تثبت عليه‬
‫مُنوا ْ ِبال َْقوْ ِ‬
‫ل‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫ت الل ّ ُ‬
‫أقدام وتزل عنه أقدام } ي ُث َب ّ ُ‬
‫ن‬‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬‫ه ال ّ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ض ّ‬ ‫خَرةِ وَي ُ ِ‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا وَِفي ال ِ‬ ‫ت ِفي ال ْ َ‬ ‫الّثاب ِ ِ‬
‫َ‬
‫ة الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬‫ن ب َد ُّلوا ْ ن ِعْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬ ‫شاُء { } أل َ ْ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫وَي َْفعَ ُ‬
‫َ‬
‫وارِ { والسخط والنتقام‪،‬‬ ‫داَر ال ْب َ َ‬‫م َ‬ ‫مه ُ ْ‬‫حّلوا ْ قَوْ َ‬ ‫ك ُْفرا ً وَأ َ‬
‫من‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫ت َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ْ ال ّ‬ ‫مُنوا ْ وَعَ ِ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫خ َ‬ ‫} وَأ ُد ْ ِ‬
‫م {‪.‬‬ ‫سل َ ٌ‬ ‫م ِفيَها َ‬ ‫حي ّت ُهُ ْ‬‫م تَ ِ‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬‫ن ِفيَها ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫حت َِها ال َن َْهاُر َ‬ ‫تَ ْ‬
‫اللهم إن بك العياذ واللياذ‪ ،‬والستعانة والعتصام‪ .‬نعوذ بك‬
‫اللهم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا‪ ،‬ومن شر كل‬
‫شيطان مارد‪ ،‬وجبار معاند‪ ،‬وباغ وحاسد‪ ،‬ومن شر ما يلج‬
‫في الرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج‬
‫فيها‪،‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬الحول )بسكون الواو(‪ :‬القدرة‪ .‬والطول )بفتح‬
‫الطاء(‪ :‬الغنى والسعة‪.‬‬
‫) ‪(1/11‬‬

‫وأنت الرحيم الغفور‪ ،‬تجير ول يجار عليك‪ ،‬ول منجا منك‬


‫إل إليك‪ .‬اللهم اهدنا بهداك‪ ،‬واجعلنا ممن يسارع في‬
‫رضاك‪ ،‬ول تولنا وليا سواك‪ ،‬ول تجعلنا ممن خالف أمرك‬
‫وعصاك‪ .‬وحسبنا الله ونعم الوكيل‪ .‬ول حول ول قوة إل‬
‫ما ت َوِْفيِقي إ ِل ّ ِبالل ّهِ عَل َي ْهِ ت َوَك ّل ْ ُ‬
‫ت‬ ‫بالله العلي العظيم‪ } .‬وَ َ‬
‫صيرا ً {‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ب {‪ } ،‬وَك ََفى ِبالل ّهِ وَل ِي ّا ً وَك ََفى ِبالل ّهِ ن َ ِ‬ ‫وَإ ِل َي ْهِ أِني ُ‬
‫صيُر {‬ ‫موَْلى وَن ِعْ َ‬
‫م الن ّ ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫} ن ِعْ َ‬
‫م {‪ ،‬الذي تفرد بالقدم‪ ،‬وتوحد‬ ‫ي ال َْقّيو ُ‬ ‫ح ّ‬‫ه إ ِل ّ هُوَ ال ْ َ‬ ‫‪ } ،‬ل َ إ ِل َ َ‬
‫بالبقاء والدوام‪.‬‬
‫أما بعد _ فهذا مؤلف مبارك إن شاء الله‪ ،‬ومجموع‬
‫جمعناه بعون الله‪ ،‬ذكرنا فيه نبذا وأطرافا من النصائح‬
‫والوصايا‪ ،‬والداب العلمية والعملية‪ ،‬التي يتعين أو يتأكد‬
‫الخذ بها والتصاف بحقائقها ومعانيها‪ ،‬وقصدنا بذلك‬
‫النصيحة والوصية والتأديب لنفسنا ولخواننا في الدين من‬
‫المؤمنين والمسلمين‪ .‬وفقنا الله وإياهم لمرضاته‪ ،‬وجعلنا‬
‫وإياهم ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته‪ ،‬ويشكره ويذكره‬
‫ذكرا كثيرا‪ ،‬ويسبحه بكرة وأصيل‪ .‬والعمال بالنيات‪ ،‬ولكل‬
‫امرئ ما نوى‪ ،‬والمرء حيث قصده ل حيث جسمه‪،‬‬
‫) ‪(1/12‬‬

‫َ‬ ‫شاكل َت ِه فَربك ُ َ‬


‫دى‬ ‫ن هُوَ أهْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م بِ َ‬ ‫م أعْل َ ُ‬‫ل عََلى َ ِ ِ َ ّ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ل ي َعْ َ‬ ‫و} ك ُ ّ‬
‫ن {‪،‬‬ ‫ما ي ُعْل ُِنو َ‬
‫م وَ َ‬ ‫دوُرهُ ْ‬ ‫ص ُ‬‫ن ُ‬ ‫ما ت ُك ِ ّ‬ ‫م َ‬‫ك ي َعْل َ ُ‬
‫سِبيل {‪ } ،‬وََرب ّ َ‬ ‫َ‬
‫هَ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫خَرةِ وَل ُ‬‫مد ُ ِفي الولى َوال ِ‬ ‫ح ْ‬
‫ه ال َ‬ ‫ه إ ِل هُوَ ل ُ‬ ‫ه ل إ ِل َ‬ ‫} وَهُوَ الل ُ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫جُعو َ‬ ‫م وَإ ِل َي ْهِ ت ُْر َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫حك ْ ُ‬
‫وقد قال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬إن الله ل ينظر إلى‬
‫صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ()‬
‫‪ (1‬الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬من غزا وهو ل ينوي إل‬
‫عقال ً فله ما نوى (‪(2)،‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬أكثر شهداء أمتي أصحاب‬
‫الفُرش)‪ ،(3‬ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته (‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬إن الله ليؤيد هذا الدين‬
‫خلقَ لهم ()‪(4‬‬‫بالرجل الفاجر‪ ،‬وبأقوام ل َ‬
‫اللهم اجعل ما علمتنا حجة لنا‪ ،‬ومحجة إلى رضاك وجنتك‪،‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬رواه مسلم وابن ماجه واللفظ له‪ ،‬عن أبي هريرة‪.‬‬
‫)‪ - (2‬رواه أحمد في مسنده عن عبادة بن الصامت‪.‬‬
‫والمراد‪ :‬أنه ل ينوي إل الغنيمة‪.‬‬
‫)‪ - (3‬أي الذين يموتون على فرشهم‪ ،‬وهم على نية‬
‫الجهاد في سبيل الله‪ .‬أويموتون في طاعون‪ ،‬أو بغرق أو‬
‫حرق‪ ،‬أو داء بطن‪.‬‬
‫)‪ - (4‬رواه الطبراني في الكبير عن عمرو بن النعمان‬
‫بدون قوله‪) :‬بأقوام ل خلق لهم (‪ .‬وفي رواية له عن ابن‬
‫عمرو‪) :‬إن الله ليؤيد السلم برجال ماهم من أهله (‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ل خلق لهم (‪ :‬أي ل نصيب لهم في الخير‪.‬‬
‫) ‪(1/13‬‬

‫ول تجعله حجة علينا‪ ،‬ول سبيل إلى سخطك ول إلى النار‬
‫التي هي دار عقوبتك‪ .‬اللهم انفعنا بما علمتنا‪ ،‬وعلمنا ما‬
‫ينفعنا‪ .‬والحمد لله على كل حال‪ ،‬ونعوذ بالله من أحوال‬
‫مينا هذا التأليف‪:‬‬‫س ّ‬
‫أهل النار‪ .‬وقد َ‬
‫‪ .....‬الدعوة التامة والتذكرة النافعة‪.....‬‬
‫ورّتبناه على مقدمة‪ ،‬وذكر ثمانية أصناف‪ ،‬وخاتمة‪.‬‬
‫فأما المقدمة‪:‬‬
‫فنذكر فيها شرح الدعوة إلى الله وإلى دينه وسبيله‪.‬‬
‫وأما الصناف‪:‬‬
‫‪ ...‬فالصنف الول ‪ -‬العلماء‪.‬‬
‫‪ ...‬والصنف الثاني ‪ -‬أهل الزهد والعبادة‪.‬‬
‫‪ ...‬والصنف الثالث ‪ -‬أهل الملك والسلطنة ونحوهم‪.‬‬
‫‪ ...‬والصنف الرابع ‪ -‬أهل التجارات والصناعات ونحوهم‪.‬‬
‫‪ ...‬والصنف الخامس ‪ -‬أهل الفقر والضعف والمسكنة‪.‬‬
‫) ‪(1/14‬‬

‫‪ ...‬والصنف السادس‪ -‬التباع من الولد والنساء‬


‫والمماليك‪.‬‬
‫‪ ...‬والصنف السابع ‪ -‬أهل الطاعة وأهل المعصية من‬
‫العامة‪.‬‬
‫‪ ...‬والصنف الثامن ‪ -‬من لم يستجب لدعوة الله ورسوله‬
‫ولم يؤمن بالله واليوم الخر‪.‬‬
‫وأما الخاتمة‪:‬‬
‫فتكاد تنعطف على نصيحة هؤلء الصناف الثمانية على‬
‫وجه وجيز‪ ،‬وعلى نصائح ومواعظ ورقائق‪ ،‬وبتمامها يتم‬
‫الكتاب‪ ،‬والله هو الهادي إلى الحق والصواب‪ ،‬ومنه نسأل‬
‫العون والتأييد‪ ،‬ونستمد التوفيق والتسديد؛ هو ربي ل إله‬
‫إل هو عليه توكلت وإليه متاب‪.‬‬
‫وهذا أوان الشروع في المقصود‪ ،‬وبالله الستعانة وعليه‬
‫البلغ‪ ،‬ل إله غيره ول رب سواه‪ ،‬ول معبود ول مقصود إل‬
‫إياه‪ ،‬وله الفضل والحسان والنعمة والمتنان‪ ،‬أول وآخرا‪،‬‬
‫و‬ ‫ظاهُِر َوال َْباط ِ ُ‬
‫ن وَهُ َ‬ ‫خُر َوال ّ‬ ‫وظاهرا وباطنا } هُوَ اْل َوّ ُ‬
‫ل َواْل ِ‬
‫م {‪.‬‬‫يٍء عَِلي ٌ‬
‫ش ْ‬ ‫ب ِك ُ ّ‬
‫ل َ‬
‫***‬
‫) ‪(1/15‬‬

‫) ‪(1/16‬‬

‫المقدمة‬
‫*****‬
‫… ونذكر فيها الدعوة إلى الله تعالى وإلى دينه وسبيله‪،‬‬
‫والمر بذلك وفضله والحث عليه‪ .‬وفيها التنبيه على‬
‫مسائل مهمة‪ ،‬وفوائد جمة‪.‬‬
‫***‬
‫… قال الله العلي العظيم‪ ،‬القوي المتين في كتابه العزيز‬
‫ك‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫المبين‪ ،‬لرسوله الصادق المين‪ } :‬اد ْعُ إ ِِلى َ‬
‫َ‬
‫ن‬‫ن إِ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫يأ ْ‬ ‫جادِل ُْهم ِبال ِّتي هِ َ‬ ‫سن َةِ وَ َ‬‫ح َ‬ ‫عظ َةِ ال ْ َ‬ ‫مو ْ ِ‬‫مةِ َوال ْ َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ِبال ْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن {‪،‬‬ ‫دي َ‬ ‫مهْت َ ِ‬ ‫م ِبال ْ ُ‬ ‫سِبيل ِهِ وَهُوَ أعْل َ ُ‬ ‫عن َ‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫من َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ك هُوَ أعْل َ ُ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫ة‬
‫صيَر ٍ‬ ‫عو إ َِلى الل ّهِ عََلى ب َ ِ‬ ‫سِبيِلي أ َد ْ ُ‬ ‫ل هَذِهِ َ‬ ‫وقال تعالى‪ } :‬قُ ْ‬
‫َ‬ ‫أ َن َا ْ‬
‫ن {‪،‬‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ما أن َا ْ ِ‬
‫م َ‬ ‫ن الل ّهِ وَ َ‬ ‫حا َ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫ن ات ّب َعَِني وَ ُ‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫ملَ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عا إ ِلى اللهِ وَعَ ِ‬ ‫من د َ َ‬ ‫م ّ‬ ‫ن قوْل ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫وقال تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫كن‬ ‫ن {‪ ،‬وقال تعالى‪ } :‬وَل ْت َ ُ‬ ‫مي ْ َ‬‫سل ِ ِ‬‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ل إ ِن ِّني ِ‬ ‫صاِلحا ً وََقا َ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال َ‬ ‫مُرو َ‬ ‫خي ْرِ وَي َأ ُ‬ ‫ن إ ِلى ال َ‬ ‫عو َ‬ ‫ة ي َد ْ ُ‬‫م ٌ‬‫مأ ّ‬ ‫منك ْ‬ ‫ّ‬
‫) ‪(1/17‬‬

‫ن {‪.‬‬‫حو َ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫مْفل ِ ُ‬ ‫منك َرِ وَأ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ك هُ ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫ن عَ ِ‬
‫وَي َن ْهَوْ َ‬
‫فالدعاء إلى الله وإلى سبيله ودينه وطاعته‪ ،‬وصف النبياء‬
‫والمرسلين ودأبهم وبه وله بعثهم الله وأمرهم وأوصاهم‪،‬‬
‫وعليه حثهم وحرضهم‪ ،‬وعلى ذلك اتبعهم واقتدى بهم‬
‫ورثتهم من العلماء العاملين والولياء والصالحين من عباد‬
‫الله المؤمنين؛ فلم يزالوا على كل حال وفي كل زمان‬
‫وحين يدعون الناس إلى سبيل الله وطاعته‪ ،‬بأقوالهم‬
‫وأفعالهم‪ ،‬على غاية من التشمير والجد في ذلك؛ ابتغاء‬
‫لمرضاة الله‪ ،‬وشفقة على عباد الله‪ ،‬ورغبة في ثواب‬
‫الله‪ ،‬واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم‪ .‬وقد قال‬
‫عليه الصلة والسلم‪ ) :‬من دعا إلى هدى كان له من‬
‫الجر مثل أجور من اتبعه ل ينقص ذلك من أجورهم شيئا‪،‬‬
‫ومن دعا إلى ضللة كان عليه من الثم مثل آثام من اتبعه‬
‫ل ينقص ذلك من آثامهم شيئا ()‪ (1‬وقد قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪ ) :‬الدال على الخير كفاعله ()‪.(2‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬رواه ابن ماجه عن أبي هريرة‪.‬‬
‫)‪ - (2‬رواه البزاز عن ابن مسعود‪ ،‬والطبراني عنه‪ ،‬وعن‬
‫سهل بن سعد‪.‬‬
‫) ‪(1/18‬‬

‫وما ورد من اليات والخبار والثار في المر بالدعاء إلى‬


‫الله وإلى سبيله وفي فضل ذلك كثيرة شهيرة‪.‬‬
‫وكل ما ورد في فضل نشر العلم وتعلمه‪ ،‬وفي فضل‬
‫الوعظ والتذكير‪ ،‬بل وفي فضل الجهاد في سبيل الله‬
‫والمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل ومندرج في‬
‫فضل الدعاء إلى الله تعالى وإلى سبيله؛ فإن جميع ذلك‬
‫من أنواعه وأقسامه‪.‬‬
‫صر عن الدعاء إلى الله وإلى دينه من المتأهلين له‬ ‫ومن ق ّ‬
‫مع التمكن منه‪ ،‬فإنه داخل تحت عموم الوعيد الوارد في‬
‫حق من كتم ما أنزل الله من البينات والهدى وفي ذلك‬
‫وعيد شديد‪ ،‬وعذاب وبيل‪ ،‬وذم من الله بليغ؛ قال الله‬
‫َ‬
‫دى‬‫ت َوال ْهُ َ‬ ‫ن ال ْب َي َّنا ِ‬‫م َ‬ ‫ما أنَزل َْنا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ُ‬
‫م الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ك َيلعَن ُهُ ُ‬ ‫ب أول َئ ِ َ‬ ‫س ِفي ال ْك َِتا ِ‬ ‫ما ب َي ّّناهُ ِللّنا ِ‬ ‫من ب َعْدِ َ‬ ‫ِ‬
‫ما‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ُ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫ن {‪ ،‬وقال تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬ ‫عُنو َ‬ ‫م الّل ِ‬ ‫وَي َل ْعَن ُهُ ُ‬
‫ما‬ ‫ك َ‬ ‫منا ً قَِليل ً ُأول َئ ِ َ‬ ‫ن ب ِهِ ث َ َ‬ ‫شت َُرو َ‬ ‫ب وَي َ ْ‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫َأنَز َ‬
‫ن ِفي ب ُ ُ‬ ‫ْ‬
‫ما‬‫م إ ِل ّ الّناَر { إلى قوله تعالى‪ } :‬فَ َ‬ ‫طون ِهِ ْ‬ ‫ي َأك ُُلو َ‬
‫م عََلى الّنارِ {‪.‬‬ ‫َ‬
‫صب ََرهُ ْ‬ ‫أ ْ‬
‫وقد أخذ الله المواثيق والعهود على الذين آتاهم كتابه‬
‫وعلمه وحكمته في أن يدعوا عباده إلى ذلك‪ ،‬ويبينوه لهم؛‬
‫خذ َ الل ّه ميَثاقَ ال ّذي ُ‬ ‫كما قال تعالى‪ } :‬وَإ ِذ َ أ َ َ‬
‫ب‬‫ن أوُتوا ْ ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ُ ِ‬
‫شت ََروْا ْ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫ذوهُ وََراء ظ ُُهورِهِ ْ‬ ‫ه فَن َب َ ُ‬‫مون َ ُ‬ ‫س وَل َ ت َك ْت ُ ُ‬ ‫ل َت ُب َي ّن ُن ّ ُ‬
‫ه ِللّنا ِ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫شت َُرو َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫س َ‬ ‫منا ً قَِليل ً فَب ِئ ْ َ‬ ‫ب ِهِ ث َ َ‬
‫) ‪(1/19‬‬

‫وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ) :‬من سئل عن‬
‫علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار ()‪.(1‬‬
‫والسؤال بلسان المقال ظاهر جلي‪ ،‬ول يبعد أن يكون‬
‫السؤال بلسان الحال مثله أو قريبا ً منه‪ ،‬وقد قيل‪ ) :‬لسان‬
‫الحال أفصح من لسان المقال(‪.‬‬
‫فإذا رأى ونظر العالم بدين الله‪ ،‬المذكر بأيام الله‪،‬‬
‫الداعي إلى سبيل الله إلى الجاهلين بالعلم‪ ،‬الغافلين عن‬
‫الخرة‪ ،‬المقبلين على الدنيا‪ ،‬لم يسعه إل أن يبين لهم ما‬
‫يجب عليهم من حق الله‪ ،‬ويلزمهم من طاعته وإقامة‬
‫أمره‪ ،‬واجتناب معصيته وركوب نهيه‪.‬‬
‫صرون‪ ،‬الذين قد غلب عليهم التفريط‬ ‫فأما العلماء المق ّ‬
‫والتخليط فليس يهمهم ذلك‪ ،‬وربما لم يخطر لهم على‬
‫بال؛ لنهم قد شاركوا الجهال في الضاعة والهمال‪،‬‬
‫وسيئ العمال والقوال‪ .‬فليسوا يتميزون عليهم إل‬
‫بصورة العلم ورسومه‪ ،‬التي على ألسنتهم وظواهرهم‬
‫فليس أولئك من‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬رواه أحمد عن أبي هريرة‪.‬‬
‫) ‪(1/20‬‬

‫أئمة الهدى‪ ،‬ول من دعاة الخير‪ ،‬ول أدلء الطريق إلى الله‬
‫الملك العظيم‪ .‬بل قد يكون من يكون هو السبب في‬
‫جراءة العامة وتجاسرهم‪ ،‬واسترسالهم فيما ل خير فيه‬
‫من القوال والفعال التي تسخط الله ورسوله‪ .‬وذلك أن‬
‫العامة إذا رأوا المنسوبين إلى العلم والدين‪ ،‬يتهاونون‬
‫ويتساهلون في إقامة أمر الله وفرائضه‪ ،‬ول يسارعون‬
‫في طاعته بما حملهم ذلك على الهمال والضاعة لمور‬
‫الدين؛ بل ربما جرأهم ذلك على الوقوع في المهلكات‬
‫والجرائم الموبقات؛ فصار العلماء الكائنون بهذه المثابة‬
‫من دعاة الشر وأئمة الضللة‪ ،‬من حيث يعلمون أو من‬
‫حيث ل يعلمون‪ .‬فنعوذ بالله من النعكاس والنتكاس‪،‬‬
‫ونسأله العافية من كل محذور وباس لنا ولحبابنا‬
‫وللمسلمين‪ ،‬والعاقبة للمتقين‪ ،‬ول عدوان إل على‬
‫الظالمين‪.‬‬
‫ثم إنه ليس يسع أهل الحق والدين من العلماء الراسخين‪،‬‬
‫الناصحين لله ورسوله وللمسلمين‪ ،‬بعد ما قد رأوا‬
‫وشاهدوا بالعيان من إعراض العامة عن العلم والهدى‪،‬‬
‫وعن إقامة المور اللهية‪ ،‬والفرائض الدينية‪ ،‬وركوب‬
‫المحرمات الشرعية والرضا بالجهل بدل ً من العلم‪،‬‬
‫والضللة عوضا ً عن الهدى‪،‬‬
‫) ‪(1/21‬‬

‫والباطل خلفا ً عن الحق؛ مع الكباب على الشهوات‪،‬‬


‫والسعي في نيل الحظوظ الفانيات‪ ،‬وإيثار الدنيا على‬
‫الخرة‪ ،‬والرضا بما يذهب ويفنى بدل عما يدوم ويبقى أن‬
‫يسكتوا عن أمرهم ونصيحتهم‪ ،‬وإقامة أمر الله فيهم‪،‬‬
‫ودعوتهم إلى الهدى والخير‪ ،‬ونهيهم عن الشر والمنكر‪.‬‬
‫وأن يبذلوا في ذلك وسعهم واستطاعتهم‪ ،‬ويستفرغوا في‬
‫ذلك جهدهم وطاقتهم؛ فإن ذلك واجب عليهم إما على‬
‫العيان‪ ،‬وإما على الكفاية؛ ليس لهم في ذلك عذر‪ ،‬ول‬
‫في تركه سعة‪ ،‬وقد علمهم الله علمه‪ ،‬واستحفظهم دينه‪،‬‬
‫وأورثهم كتابه وسنة رسوله‪ ،‬وقد قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪ ) :‬العلماء ورثة النبياء‪ .‬إن النبياء لم ي ُوَّرثوا دينارا ً‬
‫ول درهما ً وإنما وَّرثوا العلم ()‪ (1‬الحديث‪.‬‬
‫وفي حديث آخر‪ ) :‬علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ()‪.(2‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬روى عن أنس كما في الجامع الصغير‪) :‬العلماء‬
‫ورثة النبياء(‪ .‬روى أحمد والربعة وآخرون عن أبي‬
‫الدرداء مرفوعا ما رواه المصنف‪ ،‬وصححه ابن حبان‬
‫والحاكم‪ ،‬وحسنه بعضهم‪ ،‬وضعفه آخرون لضطراب‬
‫سنده؛ لكن له شواهد وله طرق يعرف بها أن له أصل؛‬
‫كما قاله الحافظ ابن حجر ‪ -‬اه‪ .-‬عجلوني‪.‬‬
‫)‪ - (2‬جزم بأنه حديث الفخر الرازي وابن قدامة‬
‫والسنوي والبازري وآخرون‪ .‬ولكن قال السيوطي في‬
‫الدرر وابن حجر‪ :‬ل أصل له ‪ -‬اه‪ .-‬عجلوني‪.‬‬
‫) ‪(1/22‬‬
‫وكان يبعث في بني إسرائيل النبي بعد النبي مجددين‬
‫لشريعة موسى على نبينا وعليه أفضل الصلة والسلم‬
‫وداعين لهم إلى إقامتها ومحرضين على العمل بها‪،‬‬
‫ومخوفين لهم من إضاعة أمر الله وركوب نهيه‪ ،‬وذلك‬
‫بوحي من الله يوحيه إليهم‪ ،‬كما يعرف ذلك من نظر في‬
‫أخبارهم وقصصهم‪ ،‬إلى أن بعث الله عيسى بن مريم‬
‫على نبينا وعليه أفضل الصلة والسلم بشريعة ناسخة‬
‫لشريعة موسى عليه السلم فكفر به بنو إسرائيل‬
‫وكذبوه‪ ،‬وبهتوا أمه عليها السلم()‪.(1‬ثم وقعت الفترة بعد‬
‫عيسى عليه السلم‪ ،‬إلى أن بعث الله عبده ورسوله‬
‫محمدا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم بالقرآن‬
‫والشريعة الجامعة الناسخة لما تقدمها من الشرائع‪،‬‬
‫فكفرت به اليهود والنصارى‪ ،‬وكذبوه إل من شاء الله‬
‫منهم‪.‬‬
‫ولما جعل الله محمدا صلوات الله وسلمه عليه خاتم‬
‫مد ٌ‬
‫ح ّ‬‫م َ‬‫ن ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫النبيين والمرسلين‪ ،‬فقال عز من قائل‪ّ } :‬‬
‫ل الل ّهِ وَ َ‬ ‫َ َ‬
‫ن‬
‫كا َ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫م الن ّب ِّيي َ‬‫خات َ َ‬ ‫سو َ‬ ‫م وَل َ ِ‬
‫كن ّر ُ‬ ‫جال ِك ُ ْ‬
‫من ّر َ‬‫حدٍ ّ‬ ‫أَبا أ َ‬
‫يٍء عَِليما ً { فختم به النبوة والرسالة‪،‬‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬‫ه ب ِك ُ ّ‬‫الل ّ ُ‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬كذبوا عليها بأقوال باطلة‪.‬‬
‫) ‪(1/23‬‬

‫وجعله كمالها وتمامها‪ .‬كما قد جعل به ابتدائها وافتتاحها‬


‫جعل به انتهائها وختامها‪ ،‬فليس بعده نبي ول رسول جعل‬
‫بفضله وجميل طوله وامتنانه من علماء أمته الذين هم‬
‫من ورثته وخلفاؤه وحملة شريعته‪ ،‬والهم في دينه‪ ،‬من‬
‫يشبه أنبياء بني إسرائيل من بعض الوجوه أو من أكثرها‬
‫وإن كانت النبوة ل سبيل إليها‪ ،‬ول مطمع فيها بعد رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم بحال والسبيل إليها مسدود‬
‫وأيضا فالكتساب والجتهاد ل يوصل إليها‪ ،‬ول تنال به ول‬
‫في الوقت الممكن وقوعها فيه‪ ،‬وذلك من قبل بعث‬
‫محمد صلوات الله عليه‪ ،‬وقد ختم النبوة والرسالة به‪.‬‬
‫فحيث كان المر على حسب ما قد لمت وسمعت‪ ،‬جعل‬
‫الله في هذه المة المحمدية الدعاة إلى الهدى‪،‬‬
‫والمجددين لما اندرس من أعلم الدين‪ ،‬وانطمس من‬
‫معالم اليقين‪ ،‬ووقع التقصير فيه والغفلة عنه من إقامة‬
‫الوامر اللهية والنواهي الشرعية‪.‬‬
‫وإلى ذلك يشير ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه‬
‫قال‪) :‬إن الله يبعث لهذه المة من يجدد لها دينها على‬
‫رأس كل مائة سنة(‪.‬‬
‫قال العلماء رحمة الله عليهم‪ :‬فكان على رأس المائة‬
‫الولى الخليفة الصالح )عمر بن عبد العزيز الموي‬
‫القرشي(‬
‫) ‪(1/24‬‬

‫‪ -‬رحمه الله ‪.(1) -‬‬


‫وعلى رأس المائة الثانية المام )محمد بن إدريس‬
‫الشافعي المطلبي( رحمه الله)‪.(2‬‬
‫وعلى رأس المائة الثالثة المام )ابن سريج الشافعي()‪(3‬‬
‫أو الشيخ )أبو الحسن الشعري()‪.(4‬‬
‫وعلى رأس المائة الرابعة القاضي )أبوبكر الباقلني‬
‫المالكي ()‪ (5‬أو الشيخ )أبو حامد السفرايني الشافعي()‬
‫‪.(6‬‬
‫وعلى رأس المائة الخامسة المام حجة السلم )أبو حامد‬
‫الغزالي()‪.(7‬‬
‫ووقع الخلف في المجدد على رأس المائة السادسة‪،‬‬
‫والسابعة‪ ،‬والثامنة‪ ،‬و التاسعة‪ ،‬والعاشرة التي بتمامها يتم‬
‫اللف من حين هجرته صلى الله عليه وسلم‪،‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬المتوفى سنة ‪101‬ه‪.-‬‬
‫)‪ - (2‬المتوفى سنة ‪204‬ه‪.-‬‬
‫)‪ - (3‬وهو الملقب بالباز الشهب المتوفى سنة ‪306‬ه‪.-‬‬
‫ببغداد‪.‬‬
‫)‪ - (4‬المتوفى سنة ‪324‬ه‪.-‬‬
‫)‪ - (5‬المتوفى سنة ‪403‬ه‪.-‬‬
‫)‪ - (6‬المتوفى سنة ‪406‬ه‪.-‬‬
‫)‪ - (7‬المتوفى سنة ‪505‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/25‬‬

‫وبها وقع ابتداء التاريخ في خلفة أمير المؤمنين )عمر بن‬


‫الخطاب( بإشارة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي‬
‫الله عنهما‪.‬‬
‫وكذا وقع اختلف في المجدد على رأس المائة الثالثة‬
‫والمائة الرابعة‪ ،‬كما أشرنا إلى بعض ذلك‪ .‬وذكر الحافظ‬
‫السيوطي رحمه الله تعالى في كلم له على معنى هذا‬
‫الخبر الوارد فيمن يجدد لهذه المة دينها على رأس كل‬
‫مائة سنة‪ ،‬أنه محتمل أن يكون المجددون على رأس كل‬
‫مائة سنة جماعة من العلماء الئمة‪ ،‬يحصل بمجموعهم‬
‫التجديد للدين‪ .‬وهذا الذي ذكره محتمل من حيث اللفظ‬
‫والمعنى‪ .‬وحيث لم يذكر السلف الصالح فيمن قد عينوه‬
‫وعرفوه لتجديد القرون الول سوى واحد على احتمال‬
‫فيه أو مع اختلف؛ فصار ما ذكره الحافظ السيوطي مما‬
‫يتوقف فيه وقد طال العهد بالوقوف على ما ذكره‪ .‬والذي‬
‫يظهر ويقع في الخاطر أن هذا حاصله‪ ،‬والله هو العليم‬
‫الخبير‪.‬‬
‫ويكون هذا التجديد من خواص هذه المة المحمدية‪ ،‬لكون‬
‫نبيهال نبي بعده ول رسول )صلوات الله وسلمه عليه‬
‫وعلى جمع النبياء والمرسلين( وقد بلغنا أنه لما قبض‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي بموته‬
‫) ‪(1/26‬‬

‫‪ ،‬شكت الرض إلى ربها أنه ل يمشي عليها بعده نبي؛‬


‫فجعل في هذه المة الوتاد والبدال‪ ،‬وأمثالهم من أولياء‬
‫الله وأهل معرفته الذين هم ورثة النبياء وخلفاؤهم‪ ،‬حتى‬
‫إنه قد ورد‪ :‬أن منهم من قلبه على مثل قلب إبراهيم‬
‫الخليل عليه السلم وغيره من أنبياء الله وملئكته عليهم‬
‫السلم‪ ،‬على وفق ما ورد في الخبار والثار الواردة في‬
‫هذا الباب‪.‬‬
‫وفي الحديث‪) :‬ل تزال طائفة من أمتي ظاهرين على‬
‫الحق ل يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على‬
‫ذلك(‪ ،‬وفيه )ليجدن ابن مريم قوما من أمتي هم مثل‬
‫حوارييه( الخبر‪.‬‬
‫وفي كلم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه‪ .‬اللهم ل‬
‫تخلو الرض من قائم لك بحجة‪ ،‬إما ظاهر مشهور‪ ،‬أو‬
‫خامل مقهور‪ ،‬إلى آخر ما روي عنه‪.‬‬
‫فدل ما ذكرناه وما لم نذكره مما في معناه على أنه‪ :‬ل‬
‫يزال في هذه المة من يدعوا إلى الله وإلى سبيله‪،‬‬
‫وإقامة دينه وحفظ أمره في كل زمان ومكان‪ .‬وإن فسد‬
‫الزمان وغلب الباطل‪ ،‬وتظاهر أهل البغي والعدوان‪،‬‬
‫) ‪(1/27‬‬

‫ن مؤي ّد ٌ بتأييد الله‪ ،‬وظاهٌر بإظهار الله‪ ،‬كما قال‬ ‫فإن الدي َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫دى وَِدي ِ‬ ‫ه ِبال ْهُ َ‬‫سول َ ُ‬‫ل َر ُ‬ ‫س َ‬‫ذي أْر َ‬ ‫عز من قائل‪ } :‬هُوَ ال ّ ِ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫كو َ‬‫شرِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ك ُل ّهِ وَل َوْ ك َرِهَ ال ْ ُ‬ ‫حقّ ل ِي ُظ ْهَِرهُ عََلى ال ّ‬
‫دي ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ثم إنه ل عذر للجاهل في ترك طلب ما فرض الله عليه‬
‫من العلم؛ كما قال صلوات الله وسلمه عليه‪) :‬طلب‬
‫العلم فريضة على كل مسلم(‪ ،‬ول عذر لعالم في ترك‬
‫تعليم ما علمه الله من العلم المفروض تعلمه‪ ،‬إما على‬
‫العين وإما على الكفاية‪.‬‬
‫والعلم الذي في ذكره ونشره النفع للخاص والعام‪ :‬هو‬
‫العلم الذي يدعو من الدنيا إلى الخرة‪ ،‬ومن المعصية إلى‬
‫الطاعة‪ ،‬ومن الغفلة إلى اليقظة‪ .‬ويكون ذكر ذلك وإيراده‬
‫مقرون بالوعظ والتذكير‪ ،‬والتخويف والتحذير‪ ،‬وبيان الوعد‬
‫والوعيد‪ ،‬وما أعد الله من أنواع المثوبات لهل الطاعات‬
‫والحسان‪ ،‬ومن أنواع العقوبات لهل الساءة والعصيان‪،‬‬
‫على نحو ما شرحه الله وبينه في آيات القرآن‪ ،‬وعلى‬
‫لسان رسوله المبعوث بالهدى و البيان؛ فبمثل ذلك ترق‬
‫القلوب وتخشع‪ ،‬وتنقاد النفوس وتخضع؛ قال الله تعالى‪:‬‬
‫من ك ُ ّ‬
‫ل فِْرقَةٍ‬ ‫ة فَل َوْل َ ن ََفَر ِ‬ ‫كآفّ ً‬‫ن ل َِينِفُروا ْ َ‬‫مُنو َ‬‫مؤ ْ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫كا َ‬‫ما َ‬ ‫}و َ َ‬
‫جُعوا ْ‬ ‫م إِ َ‬
‫ذا َر َ‬ ‫مه ُ ْ‬‫ن وَل ُِينذُِروا ْ قَوْ َ‬ ‫ة ل ّي َت ََفّقُهوا ْ ِفي ال ّ‬ ‫م َ‬
‫دي ِ‬ ‫طآئ َِف ٌ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ّ‬
‫ن {‪،‬‬ ‫حذ َُرو َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م لعَلهُ ْ‬ ‫َ‬
‫إ ِلي ْهِ ْ‬
‫) ‪(1/28‬‬

‫وفي حديث حنظلة رضي الله عنه قال لرسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم‪ :‬نكون عندك فت ُذ َك َّرنا بالجنة والنار‪ ،‬حتى‬
‫كأنا نراها رأي عين ما ي ُن َّبه على ذلك‪.‬‬
‫فترى كتاب الله وسنة رسوله مشحونين بذكر الترغيب‬
‫والترهيب‪ ،‬والتبشير والتحذير في خلل اليات والحاديث‬
‫التي فيها‪ ،‬وشرح الحكام وبيانها‪.‬‬
‫وكانت مجالس العلماء العاملين والئمة المهتدين معمورة‬
‫بذلك‪ ،‬وكان منهم جماعة يقعدون على الكراسي ويجتمع‬
‫عليهم الجم الغفير من المسلمين‪ ،‬فيعظونهم ويذكرونهم‬
‫بأيام الله وبآلئه‪ ،‬ويحثونهم على إقامة أوامره واجتناب‬
‫نواهيه‪ .‬وكان الناس ينتفعون بذلك‪ ،‬وتظهر عليهم الثار‬
‫المحمودة من الخوف والبكاء‪ ،‬والمسارعة إلى التوبة‬
‫والرجوع إلى الله‪ ،‬و ذلك معروف ومشهور من سيرهم‬
‫سلفا وخلفا؛ مثل‪ :‬الجنيد بن محمد )‪ (1‬سيد الطائفة في‬
‫زمنه‪ ،‬وأبي جمرة البغدادي‪ ،‬ويحيى بن معاذ الرازي )‪(2‬‬
‫‪-‬من المتقدمين ‪.-‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬المتوفى ببغداد سنة ‪297‬ه‪.-‬‬
‫)‪ - (2‬المتوفى بنيسابور سنة ‪258‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/29‬‬

‫ومثل‪ :‬المام الغزالي‪ ،‬والشيخ محيي الدين عبد القادر‬


‫الجيلني )‪ ،(1‬والشيخ السهروردي)‪ (2‬صاحب العوارف‬
‫)من المتأخرين( وأمثال هؤلء من أئمة الدين ودعاة الخير‬
‫وأدلء الطريق‪ ،‬إلى ضعف هذا المر‪ ،‬وقلت الدعوة إلى‬
‫الله؛ فغلبت الغفلة على العامة‪ ،‬واستولى عليهم العراض‬
‫عن الخرة‪ ،‬والقبال على الدنيا وزخارفها؛ لقلة المذكرين‪،‬‬
‫والدعاة إلى الله على البصيرة واليقين‪ ،‬حتى صارت‬
‫مجالس المنسوبين إلى العلم والدين في مثل مجالس‬
‫الغافلين المعرضين المشغولين بحديث الدنيا وذكر أحوال‬
‫أهلها؛ فلذلك عم البلء‪ ،‬واستطال الداء‪ ،‬وخرست ألسن‬
‫المذكرين بالله‪ ،‬وغلب الجهل والغفلة على عامة الناس‪،‬‬
‫حتى توهم من ليس له علم بأحوال من مضى من أهل‬
‫الحق والهدى‪ :‬أن الشأن على مثل ذلك كان‪ ،‬وهيهات‬
‫هيهات ل ِل ّهِ ول مرد لما قد ذهب وفات ل ِل ّهِ ذهب العلم‬
‫بذهاب أهله وذهاب الطالبين له والراغبين فيه‪ ،‬وفي‬
‫الحديث الصحيح‪) :‬إن الله ل يقبض العلم انتزاعا ينتزعه‬
‫من الناس‪ ،‬ولكن يقبض العلم بقبض أهله؛ __________‬
‫)‪ - (1‬المتوفى ببغداد سنة ‪561‬ه‪.-‬‬
‫)‪ - (2‬المتوفى سنة ‪632‬ه‪ .-‬ببغداد‪ .‬ويكنى أبا حفص‪.‬‬
‫) ‪(1/30‬‬

‫حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهال‪ ،‬إذا سئلوا‬
‫أفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا( )‪.(1‬‬
‫فانظر كيف صار نطق هؤلء الجهال المترسمين أضر‬
‫على الناس من سكوتهم! تعرف به فرقا بين علماء الدين‬
‫الذين هم ورثة النبياء وأئمة الهدى‪ ،‬وبين الجهال‬
‫المتشبهين بهم والمترسمين برسومهم في رأي العين‬
‫وظواهر الحوال هؤلء ينفعون الناس بعلمهم‪ ،‬ويهدون‬
‫الناس بهديهم‪ ،‬ويبينون للناس سبيل ربهم وما فيه فوزهم‬
‫ونجاتهم في معادهم ومماشهم‪ .‬والخرون يضلون الناس‬
‫بفتواهم‪ ،‬ويلبسون عليهم أمرهم‪.‬‬
‫وسيأتي فيما بعد مزيد شرح في أحوال الجهال‬
‫المترسمين المتشبهين بالعلماء في ظواهر أحوالهم مع‬
‫إفلسهم عن حقائق العلم والتقوى‪ ،‬وإخفاقهم من بضائع‬
‫الدين والهدى من طوائف المغرورين الذين غرتهم الحياة‬
‫الدنيا‪ ،‬وغلي عليهم اتباع الهوى المشار إليه بقوله عز من‬
‫خسري َ‬ ‫َ‬
‫ض ّ‬
‫ل‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مال ً ال ّ ِ‬ ‫م ِباْل ْ َ ِ َ‬
‫ن أعْ َ‬ ‫ل ن ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬ ‫قائل‪ } :‬قُ ْ‬
‫ل هَ ْ‬
‫صْنعا ً‬ ‫سعيهم في ال ْحياة الدنيا وهُم يحسبو َ‬
‫ن ُ‬
‫سُنو َ‬
‫ح ِ‬ ‫م يُ ْ‬ ‫ن أن ّهُ ْ‬‫َ َ ِ َّْ َ ْ َ ْ َ ُ َ‬ ‫َ ُُْ ْ ِ‬
‫{‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬رواه أصحاب السنن عن ابن عمر‪.‬‬
‫) ‪(1/31‬‬

‫وقد ظهرت البدع والمحدثات‪ ،‬وفشت المنكرات‪،‬‬


‫واستولت الغفلة والعراض عن الله وعن الدار الخرة‬
‫على الخاص والعام؛ فلم يبق عذر لهل الحق والدين من‬
‫أهل العلم واليقين في السكوت عن بيان الحق والهدى‪،‬‬
‫والدعاء إلى الله وإلى سبيله بالقوال والفعال‪ ،‬والسعي‬
‫بكل مستطاع وممكن في إماتة البدع والمحدثات وإزالة‬
‫المنكرات؛ وقد قال عليه الصلة والسلم‪) :‬إذا ظهرت‬
‫ه؛‬
‫م ُ‬‫م عل َ‬ ‫ب أصحابي فل ْي ُظ ْهِرِ العال ُ‬‫س ّ‬
‫الفتن )أو قال البدع( و ُ‬
‫ل ذلك فعليه لعنة الله والملئكة والناس‬ ‫فمن لم يفع ْ‬
‫ل( )‪.(1‬‬ ‫أجمعين‪ ،‬ل يقبل الله منه صرفا ً ول عد ً‬
‫ده عن‬ ‫وقد تعرض لبعض أهل العلم أوهام فتمنعه وتص ّ‬
‫الدعوة إلى الحق والنشر للعلم‪.‬‬
‫منها‪ :‬أن يقول إني غير عامل بعلمي‪ ،‬فكيف أعلمه وأدعو‬
‫ه‪ ،‬وقد ورد من الوعيد في ذلك ما ل يزيد عليه؛‬ ‫إليه لل ِ‬
‫فيقال له‪ :‬التعليم للعلم من جملة العمل به‪ ،‬والذي ي ُعَل ّ ُ‬
‫م‬
‫مل ول ي ُعَّلم‪ ،‬وإذا‬ ‫ول يعمل بعلمه خير بكثير من الذي ل َيع َ‬
‫لم تقدر على الخير كّله فل تعجز عن القيام ببعضه‪،‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬الصرف التوبة والعدل الفدية وقيل غير ذلك‪.‬‬
‫) ‪(1/32‬‬

‫وعليك أن تعلم‪ ،‬وعليك أن تجتهد وتعزم على العمل بما‬


‫تعلم‪ .‬ول شك أن الوعيد الوارد في حق من يعلم الناس‬
‫ول يعمل بما يعلم هو ألزم وأجدر بالذي ل يعلم ول يعلم؛‬
‫لن الول فرض الله عليه فريضتين فقام بأحدهما وقصر‬
‫عن الخرى‪ ،‬والثاني ترك الفريضتين جميعا فهو بالوعيد‬
‫أولى وبالعقوبة أحرى‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن يقول في نفسه‪ :‬إن الدعاء إلى الله والرشاد‬
‫لعباد الله تعالى مرتبة رفيعة‪ ،‬ومنزلة شريفة‪ ،‬هي من‬
‫شأن أئمة الهدى والدين ووظيفتهم‪ ،‬وأنا لست كذلك ول‬
‫من أهله للهِ فيحمله استصغاره لنفسه‪ ،‬واحتقاره لها‪،‬‬
‫وتواضعه وانخفاضه على السكوت عن الدعاء إلى الله‬
‫هم أن ذلك من التواضع‬ ‫والقيام بوظيفة الرشاد‪ ،‬ويتو ّ‬
‫ده‬
‫المحمود ومعرفة النسان بقدر نفسه ووقوفه عند ح ّ‬
‫للهِ وهذا من التوهمات الفاسدة ل ِل ّهِ لن الحق ل يمنع عن‬
‫الحق‪ ،‬والخير ل يصرف عن الخير؛ فعليه أن يجتهد ويشمر‬
‫في الدعاء إلى الهدى‪ ،‬والدللة على الخير مع التواضع‬
‫والخضوع‪ ،‬والستشعار للخشية والخشوع‪ ،‬والعتراف‬
‫بالتقصير واحتقار النفس؛ وذلك هو الكمال‪ ،‬والجمع‬
‫دهم وساوس الشيطان‬ ‫لوصاف الرجال الذين ل تص ّ‬
‫) ‪(1/33‬‬

‫ول تصرفهم تخيلته وتلبيساته‪ ،‬وترويجه للشّر في معرض‬


‫الخير‪.‬‬
‫سه وأوقاِته‬
‫م نف َ‬ ‫شغ ِ َ‬
‫ل العال ُ‬ ‫ومنها ‪ -‬أعني تلك الوهام‪ :-‬أن ي ُ ْ‬
‫بمواصلة الوراد‪ ،‬وتتابع الوظائف من العبادات‪ :‬من تلوة‬
‫وذكر ونحو ذلك‪ .‬ويرى أن ذلك أفضل له وأولى من الدعاء‬
‫إلى الله وسبيله‪ ،‬ونشر العلم النافع في الدين‪.‬‬
‫والحق أن الدعوة إلى الله‪ ،‬والنشر للعلم النافع مع‬
‫الخلص لله فيه‪ ،‬أفضل من العبادات اللزمة من نوافل‬
‫الصلوات والذكار؛ لما في العلم من تعدي النفع واحتياج‬
‫الخاص والعام والصغير والكبير إليه‪ ،‬وفي الحديث )فضل‬
‫العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي( )‬
‫‪.(1‬‬
‫وفي حديث آخر‪) :‬فضل العلم على العابد كفضل القمر‬
‫ليلة البدر على سائر الكواكب()‪.(2‬‬
‫ومع ذلك فل ينبغي للعالم الداعي إلى الله أن يهجر‬
‫الوراد ويقصر عن وظائف العبادات؛ بل ينبغي له أن‬
‫صها‪__________ ،‬‬‫يجعل لها أوقاتا ً تخ ّ‬
‫)‪ - (1‬رواه الترمذي عن أبي إمامة‪.‬‬
‫)‪ - (2‬رواه أبو نعيم في الحلية عن معاذ‪.‬‬
‫) ‪(1/34‬‬

‫ويحسن التفرغ للعبادات فيها خصوصا بالليل وأوقات‬


‫النهار التي ل ينشط فيها لنشر العلم‪ ،‬أو ل يحضر فيها‬
‫الطالبون المستفيدون‪ ،‬وقد قال المام مالك رحمه الله‪:‬‬
‫اطلبوا هذا العلم طلبا ل يضر بالعبادة‪ ،‬واطلبوا هذه‬
‫العبادة‪ ،‬طلبا ل يضر بالعلم‪ .‬وقد كان المام الشافعي‬
‫رحمه الله تعالى يقسم الليل أثلثًا‪ :‬ثلثا ً للصلة‪ ،‬وثلثا ً‬
‫لدراسة العلم‪ ،‬وثلثا ً للنوم‪ ،‬وقد ذكر حجة السلم رحمه‬
‫الله تعالى في كتاب ترتيب الوراد في الحياء كيفية في‬
‫ترتيب أوقات للعالم وتوزيعا تخصه؛ فليتمسك العالم بما‬
‫ذكره هنالك‪ ،‬وليعمل عليه‪ .‬والله يتولى هداه‪.‬‬
‫وهمات التي ذكرناها وما في معناها مما لم‬ ‫وهذه الت ّ‬
‫نذكره قد يقع لبعض العلماء العاملين الموصوفين بتقوى‬
‫الله وخشيته‪.‬‬
‫وأما التوهمات والحسبانات التي تقع للعلماء المترسمين‪،‬‬
‫الذين لم يتحققوا بتقوى الله وخشيته‪ ،‬لم يحرصوا على‬
‫العمل بعلمهم فأمور كثيرة‪ ،‬كلها ترجع إلى أحوال أهل‬
‫الغفلة والتخليط‪ ،‬فتصدهم عن الدعوة إلى سبيل الله‪،‬‬
‫وعن نشر العلم ابتغاء وجه الله؛ مثل الشتغال بأحوال‬
‫دنياهم‬
‫) ‪(1/35‬‬

‫وأمور معاشهم‪ ،‬ومداهنة أهل الباطل من وجوه أهل الدنيا‬


‫جَية الوقات من حين إلى‬
‫ومراعاتهم‪ ،‬ومثل التسويف وتْز ِ‬
‫حين)‪ ،(1‬ومثل البقاء منهم على ستر أحوالهم وتقصيرهم‬
‫فيتوهمون أنهم إذا دعوا إلى الله وإلى الدار الخرة وهم‬
‫على خلف ذلك تبين للناس نقصهم وسوء أفعالهم وقبيح‬
‫سيرهم؛ فيسقطون بسبب ذلك من أعين الناس‪ ،‬وتنحط‬
‫منازلهم عندهم‪ ،‬فل يبقى لهم جاه ول مقدار عند الخلق‪،‬‬
‫وهم أحرص شيء على إقامة جاههم ومنزلتهم في قلوب‬
‫الناس؛ لشدة رغبتهم في الرياسة التي هي من أقوى‬
‫لذات الدنيا وأغلب الشهوات على النفوس المتبعة للهوى‪.‬‬
‫ومن العلماء المترسمين من تكون العلوم التي هو‬
‫مشتغل بها محصل لها ليست هي من علوم الدعوة إلى‬
‫الله وإلى سبيله‪ ،‬والتذكير به وبأيامه وآلئه‪ ،‬وبوعده‬
‫ووعيده وصاحبها يعد نفسه عالما‪ ،‬ويعده كذلك من هو‬
‫في مثل حاله من الجهال‪ ،‬وذلك مثل الذي يكون علمه‬
‫في دقائق علم الكلم والتقعر فيه‪ ،‬ومجرد الفروع النادرة‬
‫الوقوع من الفقه‪ ،‬والفتاوى الكائنة‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬تزجية الوقات‪ :‬دفعها من وقت إلى آخر وإضاعتها‪.‬‬
‫) ‪(1/36‬‬

‫بهذه المثابة‪ ،‬ومثل الذي يكون علمه بمجرد علوم اللت‬


‫اللغوية والدوات الدبية‪ .‬فهذه العلوم وأمثالها ليست هي‬
‫من علوم الدعوة إلى الله وإلى طريقه‪ ،‬ول المخوفة‬
‫بلقائه ووعده ووعيده‪ ،‬ول المحذرة من إضاعة أمره‬
‫وركوب نهيه‪ ،‬وإن كانت تعد من العلوم في الجملة؛ ولكنها‬
‫ليست من العلوم النافعة للخاص والعام‪ ،‬ول التي تدعو‬
‫إليها حاجة الناس في دينهم وأمر آخرتهم‪ ،‬وقد قيل‪:‬‬
‫العلوم كثيرة وما كلها بنافعة‪ ،‬والعلوم بمنزلة الطعمة‬
‫والدوية يكون بعضها نافعا ومهما في حق كل أحد‪،‬‬
‫وبعضها للبعض دون البعض‪ ،‬وبعضها مضرا للبعض أو‬
‫للكل‪ ،‬وفي ذلك تفصيل يطول ذكره‪.‬‬
‫فكل من يكون علمه مجرد هذه العلوم التي ليست بنافعة‬
‫ومهمة في الدين‪ ،‬كان إطلق اسم العالم عليه صورة ل‬
‫حقيقة لها وربما كان علمه ذلك سببا لوقوعه في سخط‬
‫ربه‪ ،‬وهلك نفسه‪ ،‬وذهاب آخرته‪ .‬فينبغي أن يضيف العالم‬
‫بها إليها العلم بالعلوم الدينية الخروية‪ ،‬التي تقارنها‬
‫المخافة والخشية لله‪ ،‬ويكثر فيها ذكر الوعد والوعيد‪،‬‬
‫والتزهيد في الدنيا والترغيب في الخرة‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫) ‪(1/37‬‬

‫فهذه هي العلوم التي قال فيها سفيان الثوري)‪ (1‬رحمه‬


‫الله‪ :‬طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إل لله‪.‬‬
‫وكما قال المام حجة السلم رحمه الله في معنى ذلك‪.‬‬
‫وكما أنه قد تعرض للعالم التقي وللعالم المخلط أوهام‬
‫وظنون‪ ،‬فتثبطه وتعوقه عن الدعوة إلى الله والدللة على‬
‫الخير‪ ،‬والنشر للعلم‪ ،‬فقد يقع للجاهل أوهام فتصده‬
‫وتصرفه عن طلب العلم والتبصر في الدين؛ مثل أن‬
‫يتوهم أنه إن طلب العلم وعرفه توجهت عليه حقوق لله‬
‫ولعباده‪ ،‬ولزمه القيام بأوامر الله فيه‪ ،‬واجتناب نواه‬
‫ومعاص‪ ،‬فهو يحسب بجهله أنه إن لم يعرف العلم ويطلبه‬
‫سلم من تلك المطالبات وخلص‪.‬وهذا ظن فاسد وعذر‬
‫بارد‪ ،‬حتى أنك ترى بعض الجهال قد يمتننع عن حضور‬
‫مجالس أهل الحق والدعوة إلى الله‪ ،‬ويعدل عنها مخافة‬
‫أن يسمع مايلزمه العمل به من طاعة الله‪ ،‬والجتناب لما‬
‫حرم الله من معصيته‪ ،‬أومن الزهد في الدنيا وشهواتها‬
‫التي قد استولت عليه وأخذت بمخنقه أومن الوعد‬
‫والوعيد بثواب الله وعقابه‪ ،‬ويحسب أنه ينجو من ذلك‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬سيد أهل زمانه في علوم الدين‪ ،‬وأمير المؤمنين‬
‫في الحديث‪ .‬ولد ونشأ بالكوفة‪ ،‬وتوفي بالبصرة سنة‬
‫‪161‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/38‬‬

‫ويسلم من المطالبة بما هناك بسبب جهله وعدوله عن‬


‫الحق وأهله‪ ،‬وهيهات هيهات لله فإن الله ل يعذره بجهله‪،‬‬
‫ول يزيده بذلك إل ُبعدا ً وعذابًا‪ ،‬و خزيا ً ونكا ً‬
‫ل‪.‬‬
‫وقد شغل الجاهل عن طلب الحق ومعرفة الدين طلب‬
‫الدنيا‪ ،‬واستغراق الوقات في الشتغال بها‪ ،‬والغترار‬
‫بزخارفها‪ ،‬والجمع لحطامها‪ ،‬حتى ليبقى له وقت‪ ،‬ول‬
‫يصفو له زمن لطلب الحق والدين‪ .‬فيكون حظه الدنيا‪،‬‬
‫والشغل بجمعها ومنعها‪ ،‬والتمتع بشهواتها ولذاتها‪ ،‬فل‬
‫يكون له في الدنيا والخرة من خلق ول نصيب‪ ،‬وهو‬
‫يتوهم لعظم جهله وفرط غفلته أن طلب الدنيا أهم في‬
‫حقه وأوجب عليه وأولى به من طلب معرفة الدين‪،‬‬
‫والتبصر فيه‪ ،‬والعلم بأوامر الله ونواهيه‪.‬‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫هرا ً ّ‬‫ظا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫وفي أمثال هؤلء يقول الله تعالى‪ } :‬ي َعْل َ ُ‬
‫ن {‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫غافُِلو َ‬ ‫م َ‬ ‫خَرةِ هُ ْ‬ ‫ن اْل ِ‬
‫ِ‬ ‫م عَ‬ ‫ال ْ َ‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا وَهُ ْ‬
‫ن آَيات َِنا‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ها‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ا‬ ‫نو‬ ‫} ورضوا ْ بال ْحياة الدنيا واط ْمأ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ ِ َّْ َ‬ ‫ََ ُ‬
‫ن * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون{‪.‬‬ ‫غافُِلو َ‬ ‫َ‬
‫والحق أن الشتغال بطلب معرفة الدين‪ ،‬والتبصر في‬
‫العلم والقيام بحق الله علما ً وعمل ً هو الصل والساس‬
‫والرأس والذي عليه التعويل‪،‬‬
‫) ‪(1/39‬‬

‫وأمور الدنيا كلها إنما هي تابعة أعني المهم منها‪ ،‬وأما ما‬
‫ليس بمهم فمنهي عنه ومزهد فيه‪ .‬فانظر كيف يعكس‬
‫الجاهل الغافل المور بجهله‪ ،‬ويرد الرأس ذنبا والذنب‬
‫رأس‪ ،‬والتابع متبوع‪ ،‬والمزهود فيه والمرغوب عنه مرغوبا‬
‫فيه تعرف بذلك شؤم الجهل ومضرته‪ ،‬وكونه بلء وخزيا‬
‫على أهله في الدنيا والخرة؛ ولذلك قيل‪:‬‬
‫ما يبلغ العداء من جاهل‪ ...‬ما يبلغ الجاهل من نفسه‬
‫وقيل أيضا‪:‬‬
‫وفي الجهل قبل الموت موت لهله‪ ...‬فأجسادهم قبل‬
‫القبور قبوُر‬
‫وقد غلب الجهل‪ ،‬واستولى على أهل هذا الزمان السيئ‬
‫حاله‪ ،‬وذهب بهم كل مذهب؛ حتى صار الكثير منهم أو‬
‫الكثر ل يعلم ول يدري بالحق والدين ما هو ول بالخرة‬
‫والمصير إلى الله كيف هو‪ .‬فصارت تلك بلية عظيمة عم‬
‫ضررها الجاهل والعالم‪ ،‬والعام والخاص‪.‬‬
‫فأما تضّرر الجاهل بها فليس بخفي؛ لنه قد أضاع بسببها‬
‫ما فرض الله عليه من معرفة دينه وتعلم أحكامه‪.‬‬
‫) ‪(1/40‬‬

‫وأما تضرر العالم بها فلتقصيره في الدعاء إلى سبيل الله‪،‬‬


‫وتعليمه الناس ما يجهلونه من أحكام دينه مع تمكنه من‬
‫ذلك‪ .‬فإذا صار الجهال بحيث ل يعلمون وجوب طلب ما‬
‫فرض الله عليهم طلبه من علم الدين‪ ،‬وجب على العلماء‬
‫تعريفهم بذلك‪ ،‬وحرم عليهم السكوت عنه‪ ،‬ولم يعذرهم‬
‫الله في ترك ابتداء الجهال بالتعريف‪ ،‬والتعليم للجاهل‬
‫الذي يكون هذا وصفه‪ ،‬وللعلماء في ذلك شغل شاغل عن‬
‫كثير من مهماتهم‪.‬‬
‫***‬
‫واعلم أن في السلم فترات والناس اليوم في بعضها؛ إذ‬
‫قد صار كثير ممن تشتمل عليه دائرة السلم ل يعلمون‬
‫ما فرض الله عليهم من طاعته‪ ،‬وما حرم عليهم من‬
‫معصيته‪ ،‬ول يعلمون بوجوب طلب علم ذلك عليهم ثم‬
‫العمل به‪ ،‬فمتى ينتهضون لذلك‪ ،‬ويأخذون في طلبه وهم‬
‫ل يعلمون بوجوب ذلك عليهم ؟ فتعينت المطالبة على‬
‫أهل العلم والدعوة إلى الله في حقهم‪ ،‬بأن يعرفوهم‬
‫بوجوب ذلك عليهم‪ ،‬ويحثوهم على طلبه ابتداء منهم؛ فإن‬
‫من ل يعرف ول يعلم ل يمكن منه الطلب والتعرف‪.‬‬
‫) ‪(1/41‬‬

‫وهذه الفترات التي تكون في السلم‪ ،‬وتقع بين الدعاة‬


‫إلى الله وإلى دينه تشبه الفترات التي تكون بين الرسل‬
‫من بعض الوجوه‪ .‬وقد أشار إلى ذلك الشيخ العارف عبد‬
‫الوهاب بن أحمد الشعراني)‪ (1‬رحمه الله في أول كتابه‬
‫المسمى‪) :‬تنبيه المغترين( أواخر القرن العاشر‪.‬وهي غير‬
‫الغربة التي تكون للدين في آخر الزمان‪ ،‬واقتراب الساعة‬
‫التي قال فيها عليه الصلة والسلم‪) :‬بدأ الدين غريبا‬
‫وسيعود غريبا كما بدأ‪ ،‬فطوبى للغرباء الذين يحيون ما‬
‫أمات الناس في سنتي( الحديث‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬دخل الناس في هذا الدين أفواجا‪ ،‬وسيخرجون‬
‫منه أفواجا كما دخلوا(‪.‬‬
‫فمن أهل هذا الزمان من ل يعرف الحق والدين‪ ،‬ول‬
‫يعرف أن معرفة ذلك واجبة عليه‪.‬‬
‫ومنهم من يعرف وجوب ذلك ولكنه ل يطلب معرفته‬
‫تساهل وتغافل‪ .‬أو تشاغل بأمور الدنيا واستغراقا في‬
‫جمعها والتمتع بشهواتها‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬هو المام العارف بالله أبو محمد عبد الوهاب بن‬
‫أحمد بن علي الشعراني؛ نسبة إلى قرية ساقية أبي‬
‫شعرة من قرى المنوفية بالوجه البحري بمصر؛ وهي التي‬
‫نشأ بها‪ .‬وتوفي بمصر سنة ‪983‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/42‬‬

‫ومنهم من عرف ذلك وطلب معرفته‪ ،‬ولكنه لم يعمل بما‬


‫عرفه وعلمه‪.‬‬
‫ومنهم من عرفه وعمل به‪ ،‬ولكنه لم يخلص لله في ذلك؛‬
‫بل علم وعمل لغراض دنياوية وحظوظ فانية‪.‬‬
‫وكل هذه الصناف ضاّلون مفتونون؛ غير أن بعضهم أضل‬
‫من بعض وأشد فتنة؛ وما أحسن ما قال بعض الئمة من‬
‫السلف الصالح رحمهم الله‪ :‬الناس كلهم موتى إل‬
‫العلماء‪ ،‬والعلماء كلهم موتى إل العاملون‪ ،‬والعاملون‬
‫كلهم موتى إل المخلصون‪ ،‬والمخلصون كلهم موتى إل‬
‫الوجلون‪ ،‬والوجلون على خطر عظيم‪ .‬انتهى بمعناه‪.‬‬
‫فقد علمت بما تقدم ذكره من إعراض العامة عن معرفة‬
‫الدين والطلب للحق‪ ،‬ورضاهم بالجهل والعمى بدل عن‬
‫العلم والهدى‪ ،‬أنه قد تضاعفت المؤونة‪ ،‬وعظمت‬
‫المطالبة على أهل الدعوة إلى الله والبصيرة بدينه‪،‬‬
‫والمعرفة بعلمه حيث تعين عليهم كمال القيام‪ ،‬والحرص‬
‫على إرشاد الخاص والعام‪ ،‬وبدايتهم بذلك‪ ،‬وإشاعته فيهم‪،‬‬
‫ونشره بين أظهرهم؛ ليعرف ذلك من لم يعرفه ويعلمه‪،‬‬
‫فتتضح محجة الله للسالكين‪ ،‬وتقوم حجة الله على‬
‫الهالكين‪.‬‬
‫) ‪(1/43‬‬

‫وعلى الدعاة إلى الله والعلماء بدينه أن يكونوا على نهاية‬


‫وغاية من الرحمة والشفقة على المسلمين‪ ،‬ومن الحرص‬
‫والرغبة في إرشادهم وهدايتهم‪ ،‬ودعائهم إلى ما فيه‬
‫نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والخرة‪ .‬وأن يكونوا على‬
‫نهاية من الصبر والحتمال‪ ،‬وسعة الصدر ولين الجانب‪،‬‬
‫وخفض الجناح وحسن التأليف؛ قال الله تعالى لرسوله‬
‫ن {‪،‬‬ ‫مِني َ‬‫مؤ ْ ِ‬‫ك ل ِل ْ ُ‬‫ح َ‬ ‫جَنا َ‬
‫ض َ‬ ‫خِف ْ‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪َ } :‬وا ْ‬
‫ت فَظ ّا ً‬ ‫كن َ‬ ‫م وَل َوْ ُ‬ ‫ت ل َهُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ ِلن َ‬ ‫م َ‬ ‫مة ٍ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ما َر ْ‬ ‫وقال تعالى‪ } :‬فَب ِ َ‬
‫ك { الية‪ .‬وإن احتاجوا إلى‬ ‫حوْل ِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ضوا ْ ِ‬ ‫لنَف ّ‬ ‫ب َ‬ ‫ظ ال َْقل ْ ِ‬ ‫غَِلي َ‬
‫شيء من الشدة والغلظة مع من ل يصلحه إل ذلك‪،‬‬
‫فيكون ذلك في الظاهر دون الباطن‪ ،‬وعلى وجه ل‬
‫يقتضي ول يفضي إلى تنفير وفرقة‪.‬‬
‫وإن دخل عليهم )أعني أهل الحق والدعاة إلى الله( شيء‬
‫من الذى من الجاهلين بسبب ذلك‪ ،‬كان عليهم أن يصبروا‬
‫ويعرضوا ويقولوا خيرا؛ قال الله تعالى لنبيه عليه الصلة‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬‫ض عَ ِ‬ ‫ف وَأعْرِ ْ‬ ‫مْر ِبال ْعُْر ِ‬ ‫خذِ ال ْعَْفوَ وَأ ُ‬ ‫والسلم‪ُ } :‬‬
‫ن‬‫شو َ‬ ‫م ُ‬‫ن يَ ْ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م ِ‬‫ح َ‬ ‫عَباد ُ الّر ْ‬ ‫ن {‪ ،‬وقال تعالى‪ } :‬وَ ِ‬ ‫جاهِِلي َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫سَلما ً {‪.‬‬ ‫عََلى اْل َ‬
‫ن َقاُلوا َ‬ ‫جاهُِلو َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫خاط َب َهُ ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫ونا ً وَإ ِ َ‬
‫ض هَ ْ‬‫ِ‬ ‫ر‬‫ْ‬
‫فقد قاست النبياء والمرسلون من أتباعهم من أئمة الحق‬
‫والهدى‪،‬‬
‫) ‪(1/44‬‬

‫من طوائف الجاهلين والمعرضين من الذى أمرا عظيما‪،‬‬


‫فصبروا واحتسبوا‪ ،‬ولم يزدهم ذلك إل حرصا على‬
‫إرشادهم وهدايتهم إلى سبيل الله تعالى‪ ،‬ونصيحتهم في‬
‫دين الله‪ ،‬وحثهم وتحريضهم على إقامة أمر الله واجتناب‬
‫نهيه‪.‬‬
‫هذا الذي درج عليه أنبياء الله ورسله والئمة من أممهم‪،‬‬
‫والدعاة إلى دينهم من هذه المة المحمدية وغيرها من‬
‫المم السالفة‪.‬‬
‫وأما إذا لم يقابل الداعي إلى الله وإلى دينه بالرد الصريح‬
‫وباليذاء‪ ،‬ولكنه لم يسمع منه ولم يقبل دعاؤه‪ ،‬أو قبل‬
‫منه وأجيب‪ ،‬ولكن لم يظهر على المستجيبين آثار‬
‫الستجابة من الخذ بالحق والعمل به‪ ،‬فليس له مع ذلك‬
‫عذر في ترك الدعاء إلى الله وإلى سبيله‪ ،‬ولو أن‬
‫يستجيب له في الزمن الطويل العدد القليل‪.‬‬
‫ومثل هذا الحال الذي وصفناه‪ ،‬يكون حال الداعي الناصح‬
‫في أكثر الجهات السلمية في هذه الزمنة)‪ ،(1‬أنه ل‬
‫يؤذى ول يرد ّ عليه الرد ّ الصريح؛ بل ُيقب َ ُ‬
‫ل الحقّ منه أو ل‬
‫ُيقبل‪،‬‬
‫) ‪(1/45‬‬

‫ويعمل بما يدعو إليه أو ل يعمل‪ .‬وربما يجيء زمان بعد‬


‫هذه الزمنة‪ ،‬وأيام بعد هذه اليام‪ ،‬يشتد فيها التكبر‪،‬‬
‫ويعظم فيها الذى على من يدعو إلى الحق وينصح في‬
‫الدين‪ .‬فليغتنم الداعي إلى الله وإلى الهدى في هذه اليام‬
‫الدعاء إلى الله فيها وإلى دينه والحال ما وصفناه‪ ،‬من‬
‫قبل أن يأتي زمان آخر‪ ،‬وناس آخرون يرد فيه الحق على‬
‫أهله ردا صريحا‪ ،‬ويؤذون على ذلك أذى قبيحا؛ بل ربما‬
‫يبادؤون بالذى من قبل أن يدعوا إلى الحق والهدى‪ ،‬وذلك‬
‫عند اقتراب الساعة وظهور أشراطها وأماراتها العامة‪.‬‬
‫كما يعرف ذلك من نظر في الخبار والثار‪.‬‬
‫ومن نعم الله على الداعين إلى الله وإلى دينه في هذا‬
‫الزمان أنهم إذا دعوا ونصحوا باللسان العام‪ ،‬لم ي َُرد ّ‬
‫صوا‪ ،‬اللهم إل أن يكون ذلك‬ ‫عليهم ولم ُيؤ َ‬
‫ذوا‪ .‬وأيضا إذا خ ّ‬
‫من بعض الجبارين والمتكبرين من أمراء الجور وولة‬
‫السوء‪ .‬فليتق الدعاة إلى الله التخصيص والتعيين ليسلموا‬
‫من سوء ردهم وفتنتهم وأذيتهم؛ فإنهم ربما ضعفوا عن‬
‫احتمال ذلك‪ ،‬وضاقت صدورهم وضجروا وتبرموا‪ ،‬وجعلوا‬
‫ما يلقونه من هؤلء المفتونين حجة لهم في السكوت عن‬
‫النصيحة‪،‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬توفي المؤلف عام ‪1132‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/46‬‬

‫ورخصة في المساك عن الدعاء إلى الحق والدين‪.‬‬


‫وليتأسوا بسيد النبيين وإمام الناصحين )محمد صلى الله‬
‫عليه وسلم( فإنه كان إذا بلغه عن أحد ما يكرهه ل يصرح‬
‫بذكره؛ ولكن يقول‪) :‬ما بال أقوام يقولون كذا ويفعلون‬
‫كذا( كما في الحاديث‪ .‬وذلك تألفا منه ورفقا‪ ،‬وتلطفا‬
‫وسترا‪ .‬وقد قال في وصفه عليه الصلة والسلم ربه عز‬
‫ما‬
‫ظيم ٍ {‪ } ،‬وَ َ‬ ‫ق عَ ِ‬ ‫ك ل ََعلى ُ ُ‬ ‫من قائل كريم‪ } :‬وَإ ِن ّ َ‬
‫خل ٍ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ل ّ‬ ‫سو ٌ‬ ‫م َر ُ‬ ‫جاءك ُ ْ‬ ‫ن {‪ } ،‬ل ََقد ْ َ‬ ‫مي َ‬ ‫ة ل ّل َْعال َ ِ‬ ‫م ً‬ ‫ك إ ِّل َر ْ‬
‫ح َ‬ ‫سل َْنا َ‬‫أْر َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫مِني َ‬ ‫كم ِبال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫ص عَل َي ْ ُ‬‫ري ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫م َ‬
‫ما عَن ِت ّ ْ‬ ‫زيٌز عَل َي ْهِ َ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫أنُف ِ‬
‫م { صلوات الله وسلمه عليه‪ ،‬وزاده شرفا‬ ‫حي ٌ‬ ‫ف ّر ِ‬ ‫ؤو ٌ‬ ‫َر ُ‬
‫وكرامة لديه‪ ،‬ورزقنا كمال التباع له وحسن التأسي؛ كما‬
‫ُ‬
‫ة‬
‫سن َ ٌ‬‫ح َ‬ ‫سوَةٌ َ‬ ‫ل الل ّهِ أ ْ‬ ‫سو ِ‬‫م ِفي َر ُ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫قال تعالى‪ } :‬ل ََقد ْ َ‬
‫ه ك َِثيرا ً {‪.‬‬ ‫خَر وَذ َك ََر الل ّ َ‬ ‫م اْل ِ‬ ‫ه َوال ْي َوْ َ‬ ‫جو الل ّ َ‬ ‫ن ي َْر ُ‬‫كا َ‬ ‫من َ‬ ‫لّ َ‬
‫فقد تبين واتضح بما ذكرناه‪ :‬أنه ل عذر ول رخصة للعلماء‬
‫بالدين في ترك الدعوة إلى الله‪ ،‬وبذل النصيحة‬
‫للمسلمين‪ ،‬وتعريفهم بما يجب من طاعة الله واجتناب‬
‫معاصيه‪ ،‬وأنه ل عذر ول حجة لهل الجهل في ترك القبول‬
‫منهم‪ ،‬والستجابة لهم‪ ،‬والخذ عنهم‪ ،‬بل عليهم أن يطلبوا‬
‫ذلك‬
‫) ‪(1/47‬‬
‫دموه على كل شغل ومهم من مهمات‬ ‫ويحرصوا عليه‪ ،‬ويق ّ‬
‫معاشهم؛ فإن قصروا في طلب ذلك والسعي له‪ ،‬لم يسع‬
‫العلماء بالدين‪ ،‬والدعاة إلى سبيل الله رب العالمين‪:‬أن‬
‫يسكتوا كما سكتوا‪ ،‬أو يتركوا كما تركوا‪ ،‬فيكونوا سواء‬
‫في الضاعة والهمال‪ ،‬والتهاون بحق الله الكبير المتعال‪.‬‬
‫قال حجة السلم رحمه الله تعالى‪) :‬في آخر الكتاب‬
‫الثالث من كتاب المر بالمعروف والنهي عن المنكر من‬
‫الحياء(‪ :‬اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان‪ ،‬فليس خاليا‬
‫في هذا الزمان عن منكر؛ من حيث التقاعد عن إرشاد‬
‫الناس وتعليمهم‪ ،‬وحملهم على المعروف‪ .‬فأكثر الناس‬
‫جاهلون بالشرع في شروط الصلة في البلد؛ فكيف في‬
‫الُقرى والبوادي ؟‪ .‬ومنهم العراب والكراد‪ ،‬والتركمانية‬
‫وسائر أصناف الخلق‪.‬‬
‫وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه‬
‫يعلم الناس دينهم‪ ،‬وكذا في كل قرية‪ .‬وواجب على كل‬
‫فقيه فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية‪ :‬أن يخرج‬
‫إلى من يجاور بلده من أهل السواد‪ ،‬أو من العرب‬
‫والكراد وغيرهم‪ ،‬ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم‪،‬‬
‫ويستصحب مع نفسه زادا يأكله ول يأكل من أطعمتهم؛‬
‫) ‪(1/48‬‬

‫فإن أكثرها تكون شبهة مغصوبة‪ ،‬فإن قام به واحد سقط‬


‫الحرج عن الخرين‪ ،‬وإل عم الحرج الكافة أجمعين‪ .‬أما‬
‫العالم فلتقصيره في ترك الخروج‪ .‬وأما الجاهل فلتقصيره‬
‫في ترك التعلم‪ .‬وكل عامي عرف شروط الصلة فعليه‬
‫أن يعرف غيره وإل فهو شريكه في الثم‪.‬‬
‫ومعلوم أن النسان ل يولد عالما بالشرع‪ ،‬وإنما يجب‬
‫التبليغ على أهل العلم وكل من تعلم مسألة واحدة فهو‬
‫من أهل العلم بها‪.‬‬
‫ولعمري؟ إن الثم على الفقهاء أشد‪ ،‬لن قدرتهم فيه‬
‫أظهر‪ ،‬وهو ببضاعتهم أليق‪ ،‬لن المحترفين لو تركوا‬
‫حرفتهم لبطلت المعايش‪ ،‬فهم قد تقلدوا أمرا ل بد منه‬
‫في صلح الخلق‪ .‬وشأن الفقيه وحرفته تبليغ ما بلغه عن‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن العلماء ورثة‬
‫النبياء‪ ،‬وليس للنسان أن يقعد في بيته ول يخرج إلى‬
‫المسجد‪ ،‬لنه يرى الناس ل يحسنون الصلة‪ ،‬بل إذا علم‬
‫ذلك وجب عليه الخروج للتعليم والنهي‪.‬‬
‫وكذلك كل من تيقن أن في السوق منكرا يجري على‬
‫الدوام أو في وقت بعينه وهو قادر على تغييره فل يجوز‬
‫له أن يسقط ذلك عن نفسه بالقعود في البيت بل يلزمه‬
‫الخروج‪.‬‬
‫) ‪(1/49‬‬

‫فإن كان ل يقدر على تغيير البعض وهو يحترز عن‬


‫مشاهدته ويقدر على البعض‪ ،‬لزمه الخروج‪ ،‬لن خروجه‬
‫إذا كان لجل تغيير ما يقدر عليه فل تضره مشاهدة ما ل‬
‫يقدر عليه‪،‬وإنما يمتنع الحضور لمشاهدة المنكر من غير‬
‫غرض صحيح‪.‬‬
‫فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة‬
‫على الفرائض وترك المحرمات ‪ ,‬ثم يعلم ذلك أهل بيته‪,‬‬
‫ثم يتعدى عند الفراغ منهم إلى جيرانه ‪ ,‬ثم إلى أهل‬
‫محلته ‪ ,‬ثم إلى أهل بلده ‪ ,‬ثم إلى أهل السواد المكتنف‬
‫لبلده ‪ ,‬ثم إلى أهل البوادي من الكراد والعرب وغيرهم ‪,‬‬
‫وهكذا إلى أقصى العالم ‪ ,‬فإن قام به الدنى سقط عن‬
‫البعد‪ ,‬وإل حرج به كل قادر عليه قريبا كان أو بعيدا ‪ ,‬ول‬
‫يسقط الحرج ما دام يبقى على وجه الرض جاهل بفرض‬
‫من فروض دينه‪ ،‬وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه أو‬
‫بغيره فيعلمه فرضه‪ ،‬وهذا شغل شاغل لمن يهمه أمر‬
‫دينه يشغله عن تزجية الوقات‪ ،‬أي إضاعتها في التفريعات‬
‫النادرة‪ ،‬والتعميق في دقائق العلوم التي هي من فروض‬
‫الكفايات‪ ،‬ول يتقدم على هذا إل فرض عين أو فرض‬
‫كفاية هو أهم منه والسلم انتهى ما ذكره رحمه الله‬
‫تعالى‪.‬‬
‫وليكن ذلك آخر الكلم في المقدمة المباركة‪ ،‬ونشرع الن‬
‫مستعينين بالله ومعتمدين عليه في ذكر الصناف الثمانية‪:‬‬
‫) ‪(1/50‬‬

‫****************‬
‫الصنف الول‬
‫دعوة العلماء بالدين‬
‫****************‬
‫) ‪(1/51‬‬

‫) ‪(1/52‬‬

‫الصنف الول‬
‫العلماء بالدين والقول في نصيحة العلماء‬
‫وتذكيرهم وتخويفهم وتحذيرهم‬
‫***‬
‫اعلم أن العلماء هم الرؤوس من الناس والوجوه فيهم‪،‬‬
‫ومثلهم منهم مثل الملح من الطعام‪ ،‬يصلح الطعام‬
‫بصلحه‪ ،‬ويفسد بفساده‪ ،‬ولذلك قيل‪:‬‬
‫يامعشر القراء ياملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد‬
‫فالقراء هم العلماء‪ ،‬وقد كان يطلق هذا السم عليهم في‬
‫الزمنة السالفة‪ ،‬فإن حملة القرآن كانوا هم العلماء بدين‬
‫الله وبأمره وأحكامه حيث كانوا إذا قرأوا القرآن تفقهوا‬
‫فيه‪ ،‬وعلموا آمره وناهيه‪ ،‬وواعظه وزاجره‪ ،‬وما ينبغي‬
‫الوقوف عنده منه‪ ،‬ولذلك عز من جمع القرآن من‬
‫أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى أنه قبض‬
‫صلوات الله وسلمه عليه عن ألوف كثيرة من الصحابة‪.‬‬
‫لم يجمع القرآن منهم إل نفر قليل‪،‬‬
‫) ‪(1/53‬‬
‫قيل‪ :‬أربعة‪ ،‬وقيل‪ :‬سبعة على خلف في ذلك‪ .‬وكان من‬
‫يحفظ سورة )البقرة( وسورة )آل عمران( يعد من‬
‫علمائهم وفقهائهم‪ ،‬وفي الحديث )من استظهر القرآن‬
‫فقد أدرجت النبوة بين جنبيه‪ ،‬غير أنه ل يوحى إليه(‪،‬‬
‫ومعنى استظهر القرآن‪ :‬أي حفظه عن ظهر قلب‪ ،‬وهو‬
‫الحفظ بالغيب‪ .‬فالقرآن تنزيل عظيم من رب عظيم‪،‬‬
‫على رسول كريم قد جمع الله فيه علم الولين والخرين‪،‬‬
‫وأخبار السابقين واللحقين‪ ،‬كما قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬فيه نبأ من قبلكم‪ ،‬ونبأ من بعدكم‪ ،‬وحكم ما‬
‫بينكم‪ ،‬من قال به صدق‪ ،‬ومن حكم به عدل‪ ،‬ومن التمس‬
‫الهدى من غيره أضله الله( الحديث‪.‬‬
‫فقد آل المر إلى أقوام يقرأ القرآن أحدهم من فاتحته‬
‫إلى خاتمته ل يدري ما هو‪ ،‬ول فيم أنزل‪ ،‬ول لي شيء‬
‫أنزل‪ ،‬ثم إنه ل يهمه أنه ل يعلم ول يدري حتى تنبعث منه‬
‫داعية لن يطلب علم ذلك ومعرفته؛ وذلك من فرط‬
‫غفلته‪ ،‬وشدة انصراف قلبه عن فهم كتاب ربه استغراقا‬
‫بالدنيا‪ ،‬ورغبة في شهواتها‪ ،‬واغترارا بزخارفها؛ فمن أضل‬
‫ممن هذا الوصف وصفه ؟ وهذا الشأن شأنه؟ } أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ك‬
‫م ال َْغافُِلو َ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫ل أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ك هُ ُ‬ ‫ض ّ‬ ‫ل هُ َ‬
‫مأ َ‬‫ْ‬ ‫كال َن َْعام ِ ب َ ْ‬
‫َ‬

‫) ‪(1/54‬‬

‫فقد علمت أن القرآن العظيم أصل العلوم ومعدنها ل ِل ّ ِ‬


‫ه‬
‫ومجمعها وموطنها؛ قال الله تعالى لنبيه عليه الصلة‬
‫دى‬ ‫يٍء وَهُ ً‬
‫ش ْ‬ ‫ب ت ِب َْيانا ً ل ّك ُ ّ‬
‫ل َ‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬‫والسلم‪ } :‬وَن َّزل َْنا عَل َي ْ َ‬
‫ما فَّرط َْنا‬ ‫ن {‪ ،‬وقال تعالى‪ّ } ::‬‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬‫م ْ‬ ‫شَرى ل ِل ْ ُ‬ ‫ة وَب ُ ْ‬‫م ً‬
‫ح َ‬
‫وََر ْ‬
‫يٍء {‪.‬‬ ‫ش ْ‬ ‫من َ‬ ‫ب ِ‬ ‫ِفي الك َِتا ِ‬
‫فإذا رأيت الرجل يقرأ القرآن ول يرتله‪ ،‬ول يتدبره ول‬
‫يفهم فيه‪ ،‬ورأيته يحضر عند تلوته وهو يلهو ويلغو‪ ،‬فل‬
‫تشكن في أنه غافل محجوب‪ ،‬مصروف عن آيات الله‪ ،‬قد‬
‫حل به من الله مقت وسخط‪ ،‬وقد ٌاقفل الله على قلبه؛‬
‫قال تعالى‪ } :‬أ َفََل يتدبرون ال ُْقرآ َ‬
‫م عََلى قُُلو ٍ‬
‫ب‬ ‫نأ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََ َُّ َ‬
‫أ َقَْفال َُها { ول يغرنك أنه يقرأ القرآن وقد ورد‪) :‬أن أكثر‬
‫منافقي هذه المة قراؤها( وما ينفعه ذلك‪ ،‬وقد أصبح‬
‫القرآن حجة الله عليه‪ ،‬كما قال عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫)والقرآن حجة لك أو عليك(‪ ،‬وفي الحديث الخر‪) :‬من‬
‫جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة‪ ،‬ومن ساقه خلف‬
‫ظهره قاده إلى النار(‪.‬‬
‫فتبين أن من أخذ بالقرآن إيمانا وعلما وعمل فاز وسعد‬
‫في الدنيا والخرة‪ ،‬ومن ضيعه وتعدى حدوده خاب وخسر‪،‬‬
‫وضل عن سواء السبيل‪،‬‬
‫) ‪(1/55‬‬

‫وصار ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها‪ ،‬وممن كذب‬


‫زي‬‫ج ِ‬
‫سن َ ْ‬
‫بآيات الله وصدف عنها)‪ (1‬قال الله تعالى‪َ } :‬‬
‫كاُنوا ْ‬
‫ما َ‬‫ب بِ َ‬ ‫سوَء ال ْعَ َ‬
‫ذا ِ‬ ‫ن آَيات َِنا ُ‬ ‫صدُِفو َ‬
‫ن عَ ْ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن {‪ .‬وقد قال عليه الصلة والسلم‪) :‬إن الله يرفع‬ ‫صدُِفو َ‬‫يَ ْ‬
‫بهذا القرآن أقواما ويضع به آخرين(‪.‬‬
‫فاجتهد أيها القارئ أن تكون ممن يرفعه الله بالقرآن‪ ،‬بأن‬
‫تقرأه كما أنزل وأن تتلوه حق تلوته‪ ،‬فترتله وتتدبر‬
‫معانيه‪ ،‬وتقف عند كل آية منه وتنظر فيها‪ :‬هل أنت بها‬
‫عالم‪ ،‬وهل أنت بها عامل ؟ فإن كانت من آيات المر‬
‫نظرت‪ :‬هل أنت لذلك المر ممتثل ؟ وإن كانت من آيات‬
‫النهي نظرت‪ :‬هل أنت لذلك النهي مجتنب؟ وكذلك في‬
‫بقية اليات‪ .‬وإن مرت بك آية فوجدت أنك ل تعلم علمها‬
‫سألت عنها من يعلمه؛ فبذلك تصير من التالين لكتاب الله‬
‫كما يحب ويرضى إن شاء الله تعالى‪.‬‬
‫ن هذ ّ الشعر‪،‬‬ ‫ول تكن ممن يقرأ ول يدري‪ ،‬ويهذ ّ القرآ َ‬
‫وينثره نثر الد َّقل)‪(2‬؛ فيصبح من النادمين‪ ،‬ويكون في‬
‫الخرة من الخاسرين‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬صدف‪ :‬أعرض‪.‬‬
‫)‪ - (2‬الهذ‪ -‬بالذال المعجمة‪ :-‬سرعة القراءة‪ .‬والدقل ‪-‬‬
‫محركا‪ :-‬أردأ التمر‪.‬‬
‫) ‪(1/56‬‬

‫وإذا كنت ممن حفظ القرآن وتله‪ ،‬ثم لم تعد ولم تذكر‬
‫في علماء الدين‪ :‬فلست تحفظه ولست تتلوه حقيقة‪،‬‬
‫وإنما ذلك مجاز ل ِل ّهِ أو صورة تقوم به عليك الحجة فقط‬
‫ل ِل ّهِ فإن القراء هم العلماء مهما كانوا‪ ،‬يقرأون القرآن كما‬
‫أمروا ويتلونه كما وصفوا؛ حسبما تقدم من البيان‪ .‬والله‬
‫الهادي إلى الصواب‪.‬‬
‫وقد طال الكلم وامتد في شأن حملة القرآن ‪,‬وأنهم كانوا‬
‫هم العلماء فيما قد مضى من العمار والزمان حيث كانوا‬
‫يحملونه مع العلم به والعمل بما فيه ‪ ,‬إلى أن صاروا‬
‫بحيث ل يعدون من أهل العلم ول يوصفون به ل ِل ّهِ فانظر‬
‫رحمك الله تفاوت ما بين من مضى ومن بقي‪.‬‬
‫ثم اعلم أنه قد غلب على أهل العلم الغرور والفتن ‪,‬‬
‫واستولى عليهم العراض والغفلة ‪ ,‬وتركوا العمل بالعلم ‪,‬‬
‫وصار العلم على ألسنتهم دون قلوبهم ‪ ,‬وفي أقوالهم‬
‫دون أفعالهم ‪ ,‬فصار العلم بذلك حجة الله عليهم ‪ ,‬كما‬
‫قال عليه الصلة والسلم‪) :‬العلم علمان‪ :‬علم في القلب‬
‫فذلك هو العلم النافع‪ .‬وعلم على اللسان وذلك حجة الله‬
‫على ابن آدم (‪ .‬وفي دعائه عليه الصلة والسلم‪ ) :‬الّله ّ‬
‫م‬
‫إني أسألك علما نافعا ً (‬
‫) ‪(1/57‬‬

‫‪ ,‬واستعاذ صلوات الله عليه وسلمه من علم ل ينفع ‪,‬‬


‫وقلب ل يخشع‪.‬‬
‫فتبين بذلك انقسام العلم إلى نافع وغير نافع ‪ ,‬وانقسام‬
‫أهل العلم إلى منتفع به وغير منتفع؛ حتى إن العلم قد‬
‫يكون من العلوم النافعة ول ينتفع به صاحبه إذا كان يعمل‬
‫على خلف علمه‪ ،‬فيكون حاله كحال الناء الخبيث إذا‬
‫جعل فيه الطعام الطيب خبثه‪ .‬وقد قال بعض العلماء‬
‫رحمه الله‪ :‬زيادة العلم في الرجل السوء كزيادة في أصل‬
‫شجرة الحنظل؛ كلما ازدادت ريا ازدادت مرارة‪ .‬وأراد‬
‫بشجرة الحنظل شجرة الحدج؛ وعلى هذا فيكون كلما قل‬
‫ريه بالماء قلت مرارته؛ فيكون العالم السوء كلما قل‬
‫علمه قلت فتنته وفساده ومضرته‪ ،‬ول تستبعد هذا‪ ،‬فإن‬
‫مثل بني آدم في طباعهم واختلفها‪ ،‬مثل والشجار‬
‫والراضي في اختلف طبائعها وجواهرها‪ ،‬فإن من‬
‫الشجار والرضين ما يحسن وينمو ويطيب بوصول الماء‬
‫إليه وريه منه‪ .‬ومنها ما يكون على الضد من ذلك‪ ،‬مثل‬
‫الشجار المرة وذوات الشوك؛ ومثل الراضي السبخة‬
‫والقيعان المعطلة التي يزيدها الماء مرارة وشوكا‪،‬‬
‫وملوحة وفسادًا‪.‬‬
‫) ‪(1/58‬‬

‫ومن عجائب ما ذكر‪ :‬أن مطر الربيع يقع بالمواضع التي‬


‫يكون فيها الدر واللؤلؤ فتفغر له الصداف أفواهها وتنطبق‬
‫عليه؛ فيصير فيها بإذن الله تعالى درا ولؤلؤا‪ .‬وتفغر له‬
‫الفاعي أفواهها فيكون فيها سما نافعا ؟ وهو مطر واحد‬
‫في حين واحد؛ فيختلف إلى هذه الغاية باختلف مواضعه‪،‬‬
‫والمحال القابلة له‪.‬‬
‫فل تستبعد بعد هذا مصير العلم في الرجل السوء ضارا أو‬
‫غير نافع‪ .‬والعلم إنما هو عرض يقوم بغيره‪ ،‬وآلة صالحة‬
‫للصلح والنفع إذا وقع عند أهل الصلح والنتفاع‪ ،‬وبضد‬
‫ذلك إذا وقع عند أهل الفساد والضرار‪.‬‬
‫ثم إن العلم الذي يكون عند العالم السوء ليس هو العلم‬
‫الحقيقي الديني ‪ ,‬بل هو صورته وقالبه ‪ ,‬وهو على لسانه‬
‫و ظاهره ليس في قلبه ول في باطنه شيء منه‪ .‬قال‬
‫المام مالك رحمه الله‪ :‬ليس العلم بكثرة الرواية‪ ،‬وإنما‬
‫العلم نور يقذفه الله تعالى في القلب‪ ،‬وفي كلم ابن‬
‫مسعود رضي الله عنه مثله‪ ،‬وقال‪ :‬إنما العلم خشية‪.‬‬
‫وفي بعض الثار‪ :‬العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإل‬
‫ارتحل‪ :‬أي يرتحل معناه وحقيقته‪،‬‬
‫) ‪(1/59‬‬

‫ونوره وبركته‪ .‬ويبقى رسمه وصورته‪ ،‬تقوم به الحجة على‬


‫صاحبه‪.‬‬
‫وللمام الشافعي رحمه الله نظما‪:‬‬
‫شكوت إلى وكيع سوء حفظي‪ ...‬فأرشدني إلى ترك‬
‫المعاصي‬
‫وأخبرني بأن العلم نور‪ ...‬ونور الله ل يهدى لعاصي‬
‫يشير بذلك إلى حقيقة العلم وروحه‪ ،‬على مثل ما قررناه‬
‫وبيناه‪.‬‬
‫وقال عمر رضي الله عنه‪ :‬أخوف ما أخاف عليكم أو قال‬
‫على هذه المة فاجر عليم اللسان‪.‬‬
‫وقال علي رضي الله عنه‪ :‬قصم ظهري رجلن‪ :‬عالم‬
‫متهتك‪ ،‬وجاهل متنسك‪ ،‬هذا ينفر الناس بتهتكه‪ ،‬وهذا يغر‬
‫الناس بتنسكه‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫***‬
‫فقد تبين واتضح‪ :‬أن العالم التقي المصلح خير كله‪ ،‬ونفع‬
‫وصلح لنفسه وللمسلمين‪ ،‬وأنه العالم الذي ل يتقي الله‬
‫ول يخشاه شر كله‪ ،‬وبلء وفتنة على نفسه وعلى‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫ل‪ ،‬وقد ُتروى عن عيسى‬ ‫وقد ضربوا للعلماء السوء أمثا ً‬
‫ابن مريم عليه السلم‪:‬‬
‫) ‪(1/60‬‬

‫)أحدهما(‪ :‬أن مثلهم مثل قناة الحش‪ ،‬ظاهرها جص‬


‫وباطنها نتن‪.‬‬
‫)والثاني(‪ :‬أم مثلهم مثل القبور‪ ،‬ظاهرها معمور وباطنها‬
‫عظام الموتى‪.‬‬
‫)وثالثها(‪ :‬مثل البيت المظلم وعلى ظهره المصباح‪،‬‬
‫الضياء على ظاهره والظلمة على باطنه‪ .‬وأشد من هذا‬
‫كله وأشنع‪ :‬ما ضرب الله المجيد في كتابه العزيز للعلماء‬
‫السوء من المثال‪ ،‬حيث شبههم بأخس الدواب‪ :‬الحمير‬
‫مُلوا‬ ‫ح ّ‬‫ن ُ‬‫ذي َ‬‫ل ال ّ ِ‬ ‫مث َ ُ‬
‫والكلب؛ حيث يقول عز من قائل‪َ } :‬‬
‫سَفارا ً {‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ل ال ْ ِ‬ ‫مُلو َ‬
‫لأ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ح ِ‬‫مارِ ي َ ْ‬‫ح َ‬ ‫ِ‬ ‫ها ك َ َ‬
‫مث َ‬ ‫ح ِ‬‫م يَ ْ‬ ‫م لَ ْ‬‫الت ّوَْراةَ ث ُ ّ‬
‫سل َ َ‬ ‫َ‬
‫خ‬ ‫م ن َب َأ ال ّذِيَ آت َي َْناهُ آَيات َِنا َفان َ‬ ‫ل عَل َي ْهِ ْ‬‫وقال تعالى‪َ } :‬وات ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ل‬ ‫ح ِ‬ ‫ب ِإن ت َ ْ‬ ‫ل ال ْك َل ْ ِ‬ ‫ه كَ َ‬
‫مث َ ِ‬ ‫مث َل ُ ُ‬‫من َْها { إلى قوله تعالى‪ } :‬فَ َ‬ ‫ِ‬
‫ه ي َل َْهث {‪.‬‬ ‫َ‬ ‫عَل َي ْهِ ي َل ْهَ ْ‬
‫ث أوْ ت َت ُْرك ْ ُ‬
‫ول شك أن الدواب والبهائم أحسن حال ً ممن نبذ كتاب‬
‫الله وضّيع أمره‪ ،‬واستهان بحقه؛ فإن البهائم والدواب‬
‫تموت ثم تصير إلى التراب‪ ،‬وهو يصير إلى النار والعذاب‬
‫والبوار‪ ،‬وقد قال عليه الصلة و السلم‪ ) :‬أشد ّ الناس‬
‫) ‪(1/61‬‬

‫عذابا ً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه()‪ (1‬وقال‬


‫عليه الصلة والسلم‪) :‬من ازداد علما ولم يزدد هدى لم‬
‫يزدد من الله إل بعدا( )‪ (2‬وقال عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫)يؤمر العالم إلى النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها في‬
‫النار كما يدور الحمار بالرحا( الحديث‪ .‬والقتاب‪ :‬هي‬
‫المعاء‪.‬‬
‫***‬
‫ثم إن العلوم فنون وأنواع كثيرة‪ ،‬والعلماء أصناف كثيرة‬
‫وعلى مراتب ومنازل متفاوتة‪.‬‬
‫فأما العلوم الدينية الشرعية فيجب وجوبا متأكدا أن ل‬
‫يريد العالم بها والمتعلم لها بتعليمها وتعلمها إل وجه الله‬
‫والدار الخرة‪ ،‬ويجب ويتأكد العمل بها ونشرها‪ ،‬والدعاء‬
‫إليها لوجه الله والدار الخرة‪ .‬وقد وعد الله على القيام‬
‫بذلك رضاه وثوابه العظيم‪،‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬رواه الطبراني في الصغير وابن عدي في الكامل‪،‬‬
‫والبيهقي في شعب اليمان عن أبي هريرة‪.‬‬
‫)‪ (2‬في الجامع الصغير‪ :‬رواه الديلمي في مسند‬
‫الفردوس عن علي‪ ،‬ولكن بلفظ )من ازداد علما ً ولم يزدد‬
‫في الدنيا زهدا ً لم يزدد من الله إل بعدًا(‪.‬‬
‫) ‪(1/62‬‬

‫وتوعد على ترك ذلك والتقصير فيه‪ ،‬بسخطه وعذابه‬


‫الليم‪.‬‬
‫ومن العلوم ما ليس بديني ول شرعي بحكم الصالة‪،‬‬
‫كعلوم اللغة والحساب والطب‪ ،‬فيجوز أن تعلم هذه‬
‫العلوم وتتعلم لقصد المور الدنياوية المباحة‪ ،‬ولو قصد‬
‫العالم بها والمتعلم لها أمر الدين وذلك فيما يصلح‬
‫التوسل به إلى الدين‪ ،‬ويتوصل به إليه ويستعان عليه كان‬
‫له في ذلك ثواب عظيم‪ ،‬وأجر من حيث أن للوسائل حكم‬
‫المقاصد‪.‬‬
‫وأما العلماء فأفضلهم وأرفعهم عند الله منزلة من يتعلم‬
‫العلم ويعمل به‪ ،‬ويعلمه ابتغاء وجه الله والدار الخرة‪ ،‬من‬
‫غير أن يكون له قصد في ذلك‪ ،‬ول غرض آخر من أغراض‬
‫الدنيا البتة‪ ،‬أولئك هم المفلحون الفائزون برضوان الله‬
‫وجواره في دار كرامته‪ ،‬والسائرون على سبيل أنبيائه‬
‫ورسله‪ ،‬والوارثون لهم الذين قال فيهم صلى الله عليه‬
‫وسلم‪) :‬العلماء ورثة النبياء( عليهم السلم‪.‬‬
‫ومن أهل العلم من تكون نيته في تعلمه العلم وتعليمه‬
‫مقصورة على الدنيا ونيل الجاه والمال‪ ،‬والمنزلة عند‬
‫الناس‪ ،‬وأشباه ذلك من الحظوظ الفانية‪ ،‬ولكنه يستشعر‬
‫في نفسه سوء حاله‪،‬‬
‫) ‪(1/63‬‬

‫وخسة قصده ونيته‪ ،‬وشؤم تقصيره؛ فذلك على خطر‬


‫وعاقبته مخوفة‪ ،‬ومع ذلك فالتوبة مرجوة له‪،‬والنتباه من‬
‫غفلته وسوء نيته‪.‬‬
‫ومن أهل العلم من يكون نيته وقصده بعلمه المنافسة‬
‫والمباهاة‪ ،‬والمجادلة والمماراة‪ ،‬والتمكن من حظوظ‬
‫الدنيا ونيل الوليات فيها‪ ،‬وحصول المنزلة عند أهلها‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك من حظوظ الدنيا الخسيسة‪ ،‬وهو مع ذلك يضمر في‬
‫نفسه ويستشعر فيها أنه على حالة مرضية‪ ،‬ونية محمودة‪،‬‬
‫ومنزلة عند الله رفيعة لترسمه برسوم العلماء في الزي‬
‫والمنطق وظواهر الحوال‪ .‬فهذا العالم بأشر المنازل‪،‬‬
‫وأوضع المراتب‪ ،‬ويكاد يدخل في عموم قوله تعالى‪:‬‬
‫خسري َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫سعْي ُهُ ْ‬
‫ل َ‬‫ض ّ‬
‫ن َ‬ ‫ل* ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ما ً‬ ‫ن أعْ َ‬‫م ِباْل ْ َ ِ َ‬
‫ل ن ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬ ‫} قُ ْ‬
‫ل هَ ْ‬
‫صْنعا ً {‪.‬‬ ‫في ال ْحياة الدنيا وهُم يحسبو َ‬
‫ن ُ‬ ‫سُنو َ‬
‫ح ِ‬ ‫م يُ ْ‬
‫ن أن ّهُ ْ‬‫َ َ ِ َّْ َ ْ َ ْ َ ُ َ‬ ‫ِ‬
‫قال حجة السلم رحمه الله فيمن هذا وصفه‪ :‬فهذا من‬
‫الهالكين‪ ،‬ومن الحمقى المغرورين؛ إذ الرجاء منقطع عن‬
‫توبته لظنه أنه من المحسنين‪ ،‬وهو ممن قال فيهم رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم‪) :‬أنا من غير الدجال أخوف‬
‫عليكم من الدجال( قيل‪ :‬فما هو يا رسول الله؟‪ .‬قال‪:‬‬
‫)العلماء السوء( انتهى‪.‬‬
‫) ‪(1/64‬‬

‫وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪) :‬من طلب‬
‫علما مما يبتغي به وجه الله ل يطلبه إل لينال به عرضا‬
‫من الدنيا لم يجد عرفا من الجنة يوم القيامة( وعرف‬
‫الجنة‪ :‬ريحها؛ وهو كما في الحديث‪):‬يوجد من مسيرة‬
‫خمسمائة عام(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬من طلب العلم ليجادل به‬
‫العلماء ويماري به السفهاء‪ ،‬ويصرف به وجوه الناس إليه‬
‫أدخله الله النار(‪.‬‬
‫وذكر في بعض الخبار‪ :‬أن رجل صحب موسى عليه‬
‫السلم‪ ،‬ولزمه حتى أخذ عنه العلم‪ ،‬ثم جعل يقول‪ :‬حدثنا‬
‫موسى كليم الله‪ ،‬حدثنا موسى صفي الله؛ حتى أثرى‪،‬‬
‫وكثر ماله‪ ،‬ثم فقده موسى‪ ،‬فجعل يسأل عنه فل يسمع‬
‫له بخبر‪ ،‬إلى أن جاءه رجل وفي يده خنزير‪ ،‬وفي عنقه‬
‫حبل أسود؛ فسأله موسى عنه هل رآه؟ فقال له‪ :‬نعم!‬
‫هو هذا الخنزير‪ .‬فسأل موسى عليه السلم ربه أن يعيده‬
‫إلى صورته ليسأله عما أصابه فأوحى الله إليه‪ :‬لو سألتني‬
‫بما سألني به آدم فمن بعده لم أعده إلى صورته‪ ،‬ولكن‬
‫أخبرك عن هلم صنعت به هذا؟ إنه كان يطلب الدنيا‬
‫بالدين‪.‬‬
‫وأغلظ من هذا ما روي عن معاذ بن جبل ‪-‬رضي الله عنه‪-‬‬
‫موقوفا ً‬

‫) ‪(1/65‬‬

‫ومرفوعا ً في رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬


‫قال‪) :‬من فتنة العالم أن يكون الكلم أحب إليه من‬
‫الستماع(‪ ،‬وفي الكلم تنميق وزيادة‪ ،‬ول يؤمن على‬
‫صاحبه الخطأ‪ ،‬وفي الصمت سلمة وعلم‪ .‬انتهى الثر‬
‫والخبر المذكور إلى آخره‪.‬‬
‫وفيه تشديد عظيم حذفناه اختصارا‪ ،‬ذكر فيه طبقات النار‪،‬‬
‫وأن في كل طبقة منها صنفا من العلماء السوء‪ ،‬وصفهم‬
‫بأوصاف قبيحة منكرة‪ ،‬ذكرها في كتاب العلم من الحياء‪.‬‬
‫فالصل الذي ينبغي لطالب العلم أن يعول عليه‪ :‬هو‬
‫إصلح النية في أول طلبه‪ ،‬وهو أن يريد به محبة الله‬
‫والدار الخرة؛ فإن النية هي الساس الذي يبنى عليه‪،‬‬
‫فإذا صلح واستقام صلح البناء واستقام؛ فليعتن طالب‬
‫العلم بذلك أشد العتناء‪ ،‬وليحرص عليه أتم الحرص‪ ،‬وقد‬
‫قال عليه الصلة والسلم‪) :‬إنما العمال بالنيات( الحديث‪.‬‬
‫وقد ذكر المام الغزالي رحمه الله في أول بداية الهداية‬
‫تنبيها ً جامعًا‪ ،‬نّبه به طالب العلم على ما هو الفاسد من‬
‫النّيات والصحيح منها‪ ،‬وما ينبغي ومال ينبغي منها‪ ،‬وذلك‬
‫قوله‪ :‬أما بعد فاعلم أيها الحريص على اقتباس العلم‪،‬‬
‫المظهر من نفسه صدق الرغبة فيه‪،‬‬
‫) ‪(1/66‬‬

‫وفرط التعطش إليه‪ ،‬أنك إن كنت تقصد بطلب العلم‪...‬‬


‫إلى قوله‪ :‬وحيتان البحر تستغفر لك إذا سعيت‪.‬‬
‫ثم إن العالم الفاضل المحمود حاله الرفيعة درجته عند‬
‫ربه‪ ،‬المرفوعة منزلته الفائز في آخرته‪ ،‬و العالم العامل‬
‫بعلمه‪ ،‬الذي ينشر العلم ويدعو إليه‪ ،‬ويعلمه لعباد الله‬
‫ابتغاء وجه الله ومرضاته‪ ،‬ورغبة فيما عنده من ثواب‬
‫الخرة‪.‬‬
‫ثم يليه العالم الذي يعمل بعلمه لله‪ ،‬ولكنه لم يتصد‬
‫لتعليم عباد الله؛ فأن كان الحامل له على ترك التعليم‬
‫البخل بالعلم‪ ،‬والرغبة في كتمانه عن أهله‪ ،‬فهو بذلك آثم‬
‫ومذموم عند الله ورسوله‪ .‬وإن كان الحامل له على ذلك‬
‫شغله بنفسه‪ ،‬واستغراقه بوظائف دينه‪ ،‬والعمل لخرته‪،‬‬
‫وقد استغنى الناس عن تعليمه؛ لقيام غيره من العلماء‬
‫بتعليم العلم ونشره للناس‪ ،‬فل باس بما فعل‪ ،‬فقد أخذ‬
‫بمثل ذلك جماعة من السلف الصالح‪ ،‬والخلف المبارك‪،‬‬
‫سيما في علوم الحكام والفتاوى ونحوها‪ .‬وسيأتي زيادة‬
‫بيان لهذا المر في ذكر أوصاف المتجردين لعبادة الله‪،‬‬
‫والمتفرغين لها من علماء الدين وعباد الله الصالحين‪ .‬إن‬
‫شاء الله‪.‬‬
‫) ‪(1/67‬‬

‫ثم يلي هذا العالم من العلماء‪ :‬العالم الذي ل يجد ول‬


‫يشمر في العمل بما يعلم‪ ،‬ولكنه يعلم الناس وينشر العلم‬
‫لهم‪ ،‬ويكون الحامل له على ترك العمل بالعلم مع التعليم‬
‫إما الكسل والتسويف‪ ،‬وإما أنه يستثقل العمل لمعنى آخر‬
‫من معاني تسويلت النفس‪ ،‬ويستخف التعليم لما فيه من‬
‫الشهرة والذكر بين الناس والمنزلة عندهم‪ ،‬وقد شبهوا‬
‫هذا العالم بالبرة التي تكسو الناس وهي عارية‪،‬‬
‫وبالشمعة التي تضئ للناس وهي تحترق في نفسها‪،‬‬
‫وبالمسن الذي يستحد غيره وهو ل يقطع؛ وصاحب هذا‬
‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫الحال داخل في عموم قوله تعالى‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫ما َل‬ ‫َ‬
‫عند َ الل ّهِ أن ت َُقوُلوا َ‬ ‫مْقتا ً ِ‬ ‫ن ك َب َُر َ‬‫ما َل ت َْفعَُلو َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ت َُقوُلو َ‬
‫لِ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫سو ْ َ‬‫س ِبال ْب ِّر وََتن َ‬‫ن الّنا َ‬‫مُرو َ‬ ‫ن {‪ ،‬وقوله تعالى‪ } :‬أت َأ ُ‬ ‫ت َْفعَُلو َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن {‪ ،‬وقوله عليه‬ ‫ب أفَل َ ت َعِْقُلو َ‬ ‫ن ال ْك َِتا َ‬
‫م ت َت ُْلو َ‬
‫م وَأنت ُ ْ‬‫سك ُ ْ‬
‫أنُف َ‬
‫الصلة والسلم‪) :‬يؤمر بالعالم إلى النار فتندلق أقتاب‬
‫بطنه فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرحا‪ ،‬فيطيف‬
‫به أهل النار فيقولون ما بالك؟ فيقول كنت آمر بالخير ول‬
‫آتيه‪ ،‬وأنهى عن الشر وآتيه(‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫)تعلموا ما شئتم‪ ،‬فو الله ل يقبل ذلك منكم حتى تعملوا‬
‫به(‪.‬‬
‫ويلي هذا العالم من يعلم ثم إنه ل يعمل بعلمه ول يعّلمه‬
‫الناس؛‬
‫) ‪(1/68‬‬

‫ل‪ ،‬وإما شغل ً واستغراقا ً بأمور الدنيا‬ ‫إما كسل ً واستثقا ً‬


‫وحظوظها‪ ،‬وقد مّثلوا هذا العالم بالصخرة التي تقع في‬
‫فم النهر‪ ،‬فل هي تشرب الماء‪ ،‬ول هي تترك الماء يخرج‬
‫فيشرب منه الناس وينتفعون به‪ .‬وجميع ما ورد من‬
‫الوعيد في حقّ من ل يعمل بعلمه يتناول هذا العالم‪ ،‬ثم‬
‫يزيد عليه الوعيد الوارد في حق من ل يعلم العلم لعباد‬
‫ما‬‫ن َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫الله ويكتمه‪ ،‬مثل قوله تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫س ِفي‬‫ما ب َي ّّناهُ ِللّنا ِ‬ ‫من ب َعْدِ َ‬ ‫ت َوال ْهُ َ‬
‫دى ِ‬ ‫ن ال ْب َي َّنا ِ‬ ‫أنَزل َْنا ِ‬
‫م َ‬
‫ب { الية‪.‬‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫***‬
‫وأسوأ حال من هذا العالم هو العالم الذي ل يعمل بعلمه‬
‫ول يعلمه الناس‪،‬‬
‫ثم يدعو مع ذلك إلى الشر والضللة‪ ،‬وترويج الشر في‬
‫معرض الخير‪ ،‬وتصوير الباطل بصورة الحق‪ ،‬إما على نية‬
‫المداهنة والمحاباة للظالمين والجاهلين؛ لينال بذلك الجاه‬
‫والمنزلة عندهم‪ ،‬ويصيب من أموالهم وما في أيديهم من‬
‫متاع الدنيا‪ ،‬وإما عنادا لله ورسوله‪ ،‬وبغيا في المراض‬
‫وفسادا‪ ،‬أولئك من خلفاء الشياطين‪ ،‬ونواب الدجال‬
‫الكذاب اللعين‪ ،‬وهم أسوأ العلماء حال وأخسرهم مآل‪،‬‬
‫وعليهم أوزارهم وأوزار من أضلوه من عباد‬
‫الله ودعوه إلى الضللة؛‬
‫) ‪(1/69‬‬
‫كما قال عليه الصلة والسلم‪) :‬من دعا إلى ضللة كان‬
‫عليه من الثم مثل آثام من اتبعه من غير أن ينقص من‬
‫آثامهم شيء(‪.‬‬
‫وقد يموت هذا العالم السوء‪ ،‬وتبقى بعده ذنوبه وزلته‬
‫وضللته؛ فيعذب بها في قبره‪ .‬وتلحقه آثامها بعد موته؛‬
‫لبقاء العاملين بها‪ ،‬المتبعين له عليها الزمنة المتطاولة؛‬
‫فطوبى من إذا مات ماتت معه ذنوبه‪ ،‬كما قال بعض‬
‫العلماء المحققين‪.‬‬
‫ومثل العالم السوء لو انتبه من غفلته‪ ،‬وأراد التوبة إلى‬
‫ربه من زلته‪ ،‬فربما تتعسر وتتعذر التوبة عليه؛ كما بلغنا‪:‬‬
‫أن بعض علماء بني إسرائيل الذين كانوا يدعون إلى‬
‫الضلل‪ ،‬ندم على صنيعه وقصد التوبة من ضللته؛ فجاء‬
‫إلى نبي زمانه فأخبره ليشفع فيه إلى ربه ليقبله؛ فأوحى‬
‫الله إلى ذلك النبي أن قال لو كانت ذنوبه فيما بيني وبينه‬
‫لغفرتها له‪ ،‬فكيف بعبادي الذين قد أضلهم وأدخلهم النار؟‬
‫أي باتباعه على ضللته‪.‬‬
‫وبلغنا‪ :‬أن الله تعالى أوحى إلى داؤد عليه السلم ) ياداؤد‪،‬‬
‫ل تسأل عني عالما قد أسكرته الدنيا فيصدك عن سبيلي‪،‬‬
‫أولئك قطاع الطريق على عبادي(‪.‬‬
‫) ‪(1/70‬‬

‫وذكر أن النواويص )‪ (1‬شكت إلى الله من نتن جيف‬


‫الكفار فقيل لها‪ :‬إن بطون علماء السوء أشد ّ مما أنتم‬
‫فيه‪.‬‬
‫وقال بعض السلف الصالح رحمهم الله‪ :‬ينظر أحدكم إلى‬
‫الشرطي فيستعيذ بالله من مثل حاله‪ ،‬وعلماء السوء‬
‫أشر منه حال‪ ،‬أو كما قال‪.‬‬
‫وفي كلم لمير المؤمنين علي رضي الله عنه يذكر فيه‬
‫علماء السوء‪ ،‬قال آخره‪ :‬أولئك الجبارون أعداء الرحمن‪،‬‬
‫وإنما صاروا بهذه المثابة من الشر لنهم عكسوا المر‬
‫فانعكسوا وانتكسوا؛ حيث كان أحدهم يمكنه أن يكون‬
‫داعيا وهاديا إلى سبيل الرحمن‪ ،‬وصار ضال مضل‪ ،‬يدعو‬
‫ويهدي إلى سبيل الشيطان‪.‬‬
‫وقد سمعت ما قال الله العزيز الدّيان في شأن بلعام بن‬
‫َ‬
‫م ن َب َأ ال ّذِيَ آت َي َْناهُ‬‫ل عَل َي ْهِ ْ‬ ‫باعوراء حيث يقول سبحانه‪َ } :‬وات ْ ُ‬
‫َ‬
‫ن{‬ ‫ن ال َْغاِوي َ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ن فَ َ‬ ‫طا ُ‬ ‫شي ْ َ‬
‫ه ال ّ‬‫من َْها فَأت ْب َعَ ُ‬ ‫سل َ َ‬
‫خ ِ‬ ‫آَيات َِنا َفان َ‬
‫ن{‬ ‫م ي َت ََفك ُّرو َ‬ ‫ص ل َعَل ّهُ ْ‬
‫ص َ‬ ‫ص ال َْق َ‬ ‫ص ِ‬ ‫إلى قوله‪َ } :‬فاقْ ُ‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬النوص‪ :‬الناخر وهو ما ينخر في الجيف‪.‬‬
‫) ‪(1/71‬‬

‫فكذلك يكون حال العالم الطالب بعلمه الدنيا‪ ,‬المتبع‬


‫الهوى‪ ,‬المضل للناس بما يزين لهم من الضللة وإلغواء‪.‬‬
‫ومن شأن علماء الدين أن يكونوا هم المفزع والمرجع‬
‫لعموم المسلمين عندما تشتبه عليهم المور‪ ,‬وتشكل‬
‫عليهم الشياء؛ فإذا رجعوا إليهم وجدوا عندهم إزاحة‬
‫الشبهات‪ ,‬وإيضاح المور المشكلت‪ ,‬بما آتاهم الله من‬
‫اليات والبينات‪,‬وأودع لديهم من العلم بالسنن الواضحات‪.‬‬
‫فقد صار الكثير من المترسمين بالعلم من أهل هذا‬
‫الزمان بلء وفتنة‪ ,‬ومضرة وضللة‪ ,‬إذا رجعت إليهم‬
‫العامة أضلوهم وفتنوهم‪ ,‬وفتحوا لهم أبواب الحيل‬
‫والمخادعات التي يتوصلون بها إلى أبطال الحقوق‪ ,‬وأكل‬
‫أموال الناس بالباطل؛ فالله المستعان‪ ,‬ول حول ول قوة‬
‫إل بالله العلي العظيم ل ِل ّهِ وقد أحدث مثل ذلك علماء بني‬
‫إسرائيل فيما حكى الله عنهم من أخبارهم؛ فضرب الله‬
‫بقلوب بعضهم على بعض‪ ,‬وجعلهم نكال وموعظة لمن‬
‫بعدهم‪.‬‬
‫وقد وردت الحاديث بأن أهل الضللة من هذه المة‬
‫يتبعونهم عن ضللتهم؛ حتى قال رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم‪) :‬لتتبعن من قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضب‬
‫لدخلتم من ورائهم(‪.‬‬
‫) ‪(1/72‬‬
‫من ؟(‬‫قالوا‪ :‬يارسول الله‪ ،‬اليهود والنصارى؟ قال‪) :‬ف َ‬
‫وفي رواية )حتى لو كان منهم من أتى أمه لكان منكم‬
‫من يفعله( الحديث‪ .‬وقد ظهرت أمثال هذه الحيل‬
‫والمخادعات في بني إسرائيل‪ ,‬مثل ما وقع لهل القرية‬
‫الذين استحّلوا الصطياد يوم السبت بتلك الحيلة‪ ,‬ومثل‬
‫قصة صاحب العصا الذي جعل فيها الجوهرة التي كانت‬
‫مودعة عنده؛ فلم تغن عنهم تلك المخادعات من الله‬
‫ل بهم مقت الله وسخطه‪.‬‬ ‫شيئًا‪ ,‬وح ّ‬
‫فإذا كان العالم يكون بحيث إنه هو الذي يرخص للعامي‪,‬‬
‫) ‪(1/73‬‬

‫ويوسع له فيما ل رخصة له فيه من الله ول سعة‪ ,‬فأي‬


‫شيء يكون حاله عند الله! وأي شيء تكون منزلته؟‬
‫وليتوقع من الله عقابا وسخطا يحل به‪.‬‬
‫فالذي ينبغي للعالم إن كان من علماء الدين الذي ينفع‬
‫الله بهم المسلمين‪ ,‬إ ذا رجع العامة إليه وسألوه بلسان‬
‫مقالهم أو لسان حالهم‪ .‬أن يدلهم على ما فيه نجاتهم‬
‫وسعادتهم في الدار الخرة‪ ,‬ويشرح لهم سبيل الورع‪,‬‬
‫ويفتح لهم أبواب الحتياط في الدين‪ ,‬ويحذرهم من أكل‬
‫أموال الناس بالباطل‪ ,‬والوقوع فيما حرم الله عليهم مع‬
‫مجانبة الشبهات والشياء المشكلت‪ ,‬فإنه بذلك ومثله‪,‬‬
‫يعد من علماء الدين‪ ,‬وهداة المسلمين‪.‬‬
‫فأما أن يوسع لهم ما ضيقه الله عليهم‪ ,‬ويصور لهم‬
‫الباطل بصورة الحق‪ ,‬ويحسن لهم الوقوع في الشبهات؛‬
‫فليس ذلك من شأن العلماء بدين الله‪ ,‬الذين يخشون الله‬
‫ويتقونه‪ ,‬وينصحون لنفسهم‪ .‬ولخوانهم من المسلمين‪.‬‬
‫بل هو من شأن الشياطين‪ ,‬والئمة المضلين‪ ,‬الذين‬
‫يدعون إلى النار ويوم القيامة ل ينصرون‪ .‬وفي حديث‬
‫حذيفة رضي الله عنه لما سأل رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم فقال‪ :‬إنا كنا في جاهلية فأتانا الله بهذا الخير‪،‬‬
‫) ‪(1/74‬‬
‫فهل بعد هذا الخير من شّر؟ فذكر الحديث بطوله إلى أن‬
‫قال عليه الصلة والسلم‪) :‬نعم‪ ،‬دعاة على أبواب جهنم‪،‬‬
‫من أجابهم إليها قذفوه فيها( وفي بعض الخبار‪) :‬إن‬
‫الناس تنزل بهم نازلة فيفزعون إلى علمائهم فيجدونهم‬
‫قد مسخوا قردة وخنازير( قال بعض المحققين‪ :‬المراد‬
‫مسخ صورهم الباطنة‪ ،‬وقد مسخت من زمان‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫فمن يكون علمه بلء عليه وعلى المسلمين‪ ،‬وفتنة وضللة‬
‫فليس بعالم‪ ،‬بل هو شيطان مارد‪ ،‬وفاجر معاند لله‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫دو َ‬‫حا ّ‬
‫ن يُ َ‬‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬‫ورسوله‪ ،‬قال الله تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ك في ال َذ َّلين ك َتب الل ّه َل َغْل ِب َ‬ ‫ورسول َ ُ‬
‫ن‬
‫سِلي إ ِ ّ‬‫ن أَنا وَُر ُ‬‫َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ه أوْل َئ ِ َ ِ‬
‫ََ ُ ُ‬
‫ه قَوِيّ عَ ِ‬
‫زيٌز {‪.‬‬ ‫الل ّ َ‬
‫***‬
‫واعلم أن العامة محتاجون إلى من يصلحهم ويرشدهم‪،‬‬
‫ويعظهم ويخوفهم بالله‪ ،‬ويذكرهم بوعده ووعيده؛ لن في‬
‫الغالب عليهم الغفلة عن الله وعن الدار الخرة‪ ،‬والميل‬
‫إلى الدنيا ومتاعها ولذاتها وحظوظها العاجلة‪ .‬فإذا صار‬
‫الذي يسمى عالما بألسنة الجاهلين يفتنهم ويضلهم‪،‬‬
‫ويوسع لهم المور التي ضيقها الله عليهم من أمور الدين؛‬
‫بحيث يلقنهم الدعاوي الباطلة‪،‬‬
‫) ‪(1/75‬‬

‫والشهادات الزور‪ ،‬وجيل الربا والنذور‪ ،‬التي يعرف هو‬


‫وإياهم أنهم لم يريدوا بها وجه الله تعالى وثوابه بوجه‪.‬‬
‫ويقول لمن جاءه ليكتب له وصية غير جائزة لوارث مثل‪:‬‬
‫إن الوصية لوارث غير جائزة‪ ،‬اجعلها بصيغة نذر أو إقرار‪.‬‬
‫ولمن يريد أن يعطي ماله بعض ورثته ويحرم الباقين‬
‫منهم‪ :‬اجعله بطريق القرار والنذر؛ حتى يصح ذلك في‬
‫ظاهر الحكم‪ .‬وأشباه ذلك من المور المستبشعة‪ ,‬والحيل‬
‫والمخادعات الفاسدة! فما هذا العالم المترسم‪,‬‬
‫محال )‪(1‬‬ ‫الموصوف بهذه الحوال إل من أئمة الضلل وال ِ‬
‫ودعاة النار والبوار‪ ,‬الذين جعلهم الله عارا ً وخزيًا‪ ,‬وبلًء‬
‫وفتنة على أنفسهم ‪ ,‬وعلى من أخذ بزخارفهم واتبعهم‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ب َينَقل ُِبو َ‬ ‫منَقل َ ٍ‬‫موا أيّ ُ‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫سي َعْل َ ُ‬‫على ضللتهم‪ } :‬وَ َ‬
‫ما‬
‫ن إ ِن ّ َ‬
‫مو َ‬ ‫ل ال ّ‬
‫ظال ِ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ما ي َعْ َ‬‫غافِل ً عَ ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫سب َ ّ‬‫ح َ‬‫{‪ } .‬وَل َ ت َ ْ‬
‫صاُر {‪.‬‬ ‫َ‬ ‫م ل ِي َوْم ٍ ت َ ْ‬ ‫ي ُؤَ ّ‬
‫ص ِفيهِ الب ْ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫خُرهُ ْ‬
‫وكان العلماء المتقون إذا تكلموا مع عامة المسلمين‪,‬‬
‫دثوهم بالرخص‪,‬‬ ‫واستفتوهم العامة في شيء لم يح ّ‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬المحل‪ :‬المكر والكيد‪.‬‬
‫) ‪(1/76‬‬

‫ولم يخبروهم باختلف العلماء فيما يوهم الترخص‪ .‬وكانوا‬


‫يخبرونهم بما يقتضي الحتياط في الدين‪ ,‬والبعد عن‬
‫المور المشتبهة‪ ,‬ويقولون‪ :‬العامة نضيق عليهم وهم‬
‫يوسعون لنفسهم؛ لما هو الغالب عليهم من الغفلة‬
‫والنقياد للشهوات والحظوظ الدنياوية‪ .‬فإن وسعت عليهم‬
‫وحدثتهم بالرخص‪ ,‬خرجوا منها إلى المحرمات‪ ,‬لن‬
‫أكثرهم في مثل أحوال البهائم؛ وفي الحديث‪) :‬من وقع‬
‫في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول‬
‫الحمى يوشك أن يقع فيه(‪.‬‬
‫وقد بلغنا أن بعض ملوك المغرب جامع في نهار شهر‬
‫رمضان‪ ,‬فجمع العلماء الذين عنده ليسألهم عن حكم‬
‫ذلك‪ ,‬فلما اجتمعوا عنده وسألهم‪ ,‬قال له واحد منهم وكان‬
‫المقدم فيهم بالعلم والفضل‪ :‬عليك أن تصوم شهرين‬
‫متتابعين‪ .‬فلما خرجوا من عنده قالوا لذلك العالم‪ :‬كيف‬
‫تفتيه بأن عليه شهرين متتابعين‪ ،‬وأنت تعلم أن مذهب‬
‫المام مالك رحمه الله تعالى‪ :‬التخيير في كفارة المجامع‬
‫في نهار رمضان‪ :‬بين إعتاق الرقبة‪ ،‬والصوم‪ ،‬والطعام‪،‬‬
‫وكانوا مالكية؟ فقال لهم‪ :‬لو أخبرته بالعتاق والطعام‬
‫لهان عليه ذلك‪ ،‬وجامع في كل يوم من رمضان‪ ،‬والصوم‬
‫يشتد عليه مشقته فيكون أقرب إلى زجره وردعه‪.‬‬
‫) ‪(1/77‬‬
‫وكان المام أحمد بن موسى بن عجيل رحمه الله تعالى ل‬
‫يقرأ كتاب اليلء والظهار واللعان في حضرة العامة‪ .‬وكان‬
‫يأمر القارئ إذا انتهى إليها بحضرتهم أن يتجاوزها‪ ،‬ويقريه‬
‫إياها خاليا ً لئل يسمعوها فيسارعوا فيها فيقعوا في الحرج‬
‫والعنت‪.‬‬
‫هكذا كانت سيرة علماء الدين في كمال شفقتهم‪ ،‬وحسن‬
‫سياستهم لعامة المسلمين‪ .‬قال ابن عباس رضي الله‬
‫عنهما لبعض من أراد أن يسأله عن شيء استحى من‬
‫ذكره‪ :‬إنما العالم بمنزلة الوالد‪ ،‬فما تفضي به إلى والدك‬
‫فافض به إلي‪ .‬وقد سبقه إلى ذلك إمام المتقين‪ ،‬وسيد‬
‫الناصحين صلوات الله وسلمه عليه؛ حيث قال‪) :‬إنما أنا‬
‫لكم بمنزلة الوالد(‪.‬‬
‫وقد كان صلوات الله وسلمه عليه إذا جاء من يسأله‬
‫أرشده إلى ما فيه تقوى الله‪ ،‬والنجاة من عذابه‪،‬‬
‫والتعظيم لحرماته‪ .‬والحتياط في دينه‪.‬‬
‫فمن ذلك حديث النصاري الذي أراد أن يعطي بعض‬
‫أولده غلما؛ فلما سأله عليه الصلة والسلم‪) :‬هل‬
‫أعطيت سائر أولدك مثله؟ فقال ل؛ فأمره برد الغلم(‪.‬‬
‫) ‪(1/78‬‬

‫وفي رواية )أنه سأل منه عليه الصلة والسلم أن يشهد‬


‫على ذلك؛ فقال‪ :‬هذا جور وأنا ل أشهد على الجور(‬
‫الحديث‪.‬‬
‫ومن ذلك حين رأى صلى الله عليه وسلم التمر الذي‬
‫جيء به من خيبر فرآه جيدا )فسأل أكل تمر خيبر هكذا(‬
‫فقالوا‪ :‬ل‪ ،‬ولكنا نأخذ الصاع من هذا بصاعين من الردئ‪،‬‬
‫فقال عليه الصلة والسلم‪) :‬هذا من الربا‪ ،‬ولكن بيعوا‬
‫الصاعين من الردئ بدرهم‪ ،‬واشتروا بالدرهم صاعا من‬
‫الجيد( أو كما قال عليه الصلة والسلم‪ .‬فأرشدهم إلى ما‬
‫يصح وما يحل‪ ،‬ونهاهم عما ل يصح ول يحل‪.‬‬
‫ولما سأله عتبة بن الحرث رضي الله عنه عن امرأة تزوج‬
‫بها؛ فجاءته امرأة سوداء فأخبرته‪ :‬أنها قد أرضعته‬
‫وأرضعت المرأة التي تزوجها‪ ،‬وقال‪ :‬يا رسول الله إنما‬
‫هي سوداء! فقال له عليه الصلة والسلم‪) :‬دعها ?أي‬
‫المرأة التي تزوجها?‪ ،‬فل خير لك فيها( الحديث‪.‬‬
‫***‬
‫وهكذا كان شأن علماء الدين الناصحين لله ورسوله‬
‫وللمسلمين‪ ،‬إنما يدلونهم على ما فيه النجاة والفوز‪ ،‬من‬
‫البعد عن الشبهات والمور المشكلت‪ ،‬وما يوهم التساهل‬
‫في الدين‪،‬‬
‫) ‪(1/79‬‬

‫والترخص المذموم الذي ل يأخذ به إل كل متهاون‬


‫متساهل في دينه‪ ،‬متعرض للوقوع فيما يسخط ربه‪،‬‬
‫ويضره في آخرته‪.‬‬
‫ولم يزل علماء الخرة من أهل اليقين والخشية والزهد‬
‫في الدنيا‪ ،‬يحذرون الناس من علماء الشر المفتونين‬
‫الراغبين في الدنيا‪ ،‬ويبينون لهم أمرهم وأحوالهم‪،‬‬
‫ويصفونهم لهم بأوصافهم المعرفة المميزة بينهم وبين‬
‫علماء الخرة‪ ،‬الدعاة إلى الله وإلى دينه‪.‬‬
‫وقد ذكر المام حجة السلم رحمه الله في كتاب العلم‬
‫من الحياء ما فيه الغنية والكفاية‪ ،‬وقد سبق إلى نحو من‬
‫ذلك المام الحارث بن أسد المحاسبي)‪ (1‬رحمه الله في‬
‫كتبه‪ ،‬والمام أو طالب المكي )‪ (2‬رحمه الله في كتاب‬
‫قوت القلوب‪ ،‬وغير هؤلء كثير من السلف والخلف‬
‫الصالح‪،‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬أبو عبد الله‪ .‬من علماء مشايخ القوم بعلوم الظاهر‬
‫وعلوم المعاملت والصول‪ .‬وهو أستاذ أكثر البغداديين‪.‬‬
‫بصري الصل‪ .‬مات ببغداد سنة ‪243‬ه‪.-‬‬
‫)‪ - (2‬هو محمد بن علي بن عطية الحارثي‪ ،‬الفقيه الزاهد‬
‫الواعظ‪ ،‬المتوفى ببغداد سنة ‪386‬ه‪ .-‬وهو من أهل الجبل‬
‫بين واسط وبغداد‪.‬‬
‫) ‪(1/80‬‬

‫من الذين كانوا يحذرون علماء السوء ويخوفونهم بالله‪،‬‬


‫ويحذرون الناس منهم ومن فتنتهم‪ ،‬ويفرقون للناس بينهم‬
‫وبين علماء الخرة بالعلمات والدللت‪ .‬وقد ذكر المام‬
‫الغزالي رحمه الله في كتاب العلم بابا ذكر فيه علمات‬
‫علماء الخرة‪ ،‬وعد من ذلك اثنتي عشرة علمة‪ .‬فلينظر‬
‫فيه من أراده‪ ،‬ورغب في الوقوف عليه‪ ،‬رحمة الله عليه‬
‫ورضوانه‪ ،‬وعلى جميع علماء الدين الناصحين للمسلمين‪.‬‬
‫قال رحمه الله‪) :‬بعد ما عد ّ علمات علماء الخرة المميزة‬
‫بينهم وبين علماء الدنيا(‪ :‬فهذه اثنتا عشرة علمة من‬
‫علمات علماء الخرة‪ ،‬تجمع كل واحدة منها جمل من‬
‫أخلق علماء السلف‪ .‬فكن أحد رجلين‪ :‬إما متصفا بهذه‬
‫الصفات‪ ،‬أو معترفا بالتقصير مع القرار به‪ ،‬وإياك أن‬
‫تكون الثالث فتلبس على نفسك بأن تلقب آلة الدنيا‬
‫بالدين‪ ،‬وسيرة البطالين بسيرة العلماء الراشدين‬
‫الراسخين في الدين؛ فتلتحق بجهلك وإنكارك بزمرة‬
‫الهالكين اليسين‪ ،‬نعوذ بالله من خدع الشيطان‪ ،‬فيها هلك‬
‫الجمهور‪ .‬فنسأل الله أن يجعلنا ممن ل تغره الحياة الدنيا‪،‬‬
‫ول يغره بالله الغرور )انتهى(‪.‬‬
‫) ‪(1/81‬‬

‫واعلم أن للعلم وأهله‪ ،‬والمعّلمين له والمتعّلمين‪ ،‬الذين‬


‫يريدون بذلك وجه الله تعالى والدار الخرة فضل عظيما‪،‬‬
‫وشأنا جسيما‪ ،‬وثوابا كريما‪ .‬وقد ورد في ذلك من اليات‬
‫والخبار والثار ما يطول ذكره‪ ،‬ويتعذر حصره؛ قال تعالى‪:‬‬
‫ما ً‬ ‫شهد الل ّه أ َنه ل َ إل َه إل ّ هُو وال ْمل َئ ِك َ ُ ُ‬
‫ة وَأوُْلوا ْ ال ْعِل ْم ِ َقآئ ِ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫ُ ّ ُ‬ ‫} َ ِ َ‬
‫م {‪ .‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬‫زيُز ال ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ه إ ِل ّ هُوَ ال ْعَ‬ ‫ط ل َ إ ِل َ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ِبال ِْق ْ‬
‫} يرفَع الل ّه ال ّذين آمنوا منك ُم وال ّذي ُ‬
‫ت‬ ‫جا ٍ‬ ‫م د ََر َ‬‫ن أوُتوا ال ْعِل ْ َ‬ ‫ِ ْ َ ِ َ‬ ‫ُ ِ َ َ ُ‬ ‫َْ ِ‬
‫وي‬ ‫ست َ ِ‬‫ل يَ ْ‬ ‫ل هَ ْ‬ ‫خِبيٌر {‪ ،‬وقال تعالى‪ } :‬قُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫ما ي َت َذ َك ُّر أ ُوُْلوا‬
‫ن إ ِن ّ َ‬
‫مو َ‬ ‫ن َل ي َعْل َ ُ‬ ‫ن َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ي َعْل َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ب {‪.‬‬‫اْلل َْبا ِ‬
‫وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪) :‬العلماء ورثة‬
‫النبياء‪ .‬إن النبياء لم يوّرثوا دينارا ً ول درهمًا‪ ،‬وإنما وّرثوا‬
‫العلم‪ ،‬فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬من يرد الله به خيرا لم‬
‫يفقهه في الدين‪ ،‬ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين‬
‫الفقه‪ .‬ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬طلب العلم فريضة على كل‬
‫مسلم(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬من سلك طريقا يلتمس فيه‬
‫علما سهل الله له طريقا إلى الجنة‪ .‬وإن الملئكة لتضع‬
‫أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع‪.‬‬
‫) ‪(1/82‬‬

‫وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الرض‬


‫حتى الحيتان في الماء‪ .‬وفضل العالم على العابد كفضل‬
‫القمر )ليلة البدر( على سائر الكواكب( الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬أقرب الناس من درجة النبوة‬
‫أهل العلم والجهاد(‪ .‬أما أهل العلم فدلوا الناس على ما‬
‫جاءت به الرسل‪ .‬وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم على‬
‫ما جاءت به الرسل‪.‬‬
‫وأوحى الله إلى إبراهيم عليه السلم‪) :‬يا إبراهيم‪ ،‬إني‬
‫عليم أحب كل عليم(‪.‬‬
‫وقال علي كرم الله وجهه لكميل بن زياد‪ :‬يا كميل‪ ،‬العلم‬
‫خير من المال‪ .‬العلم يحرسك وأنت تحرس المال‪ .‬والعلم‬
‫حاكم والمال محكوم عليه‪ .‬والمال تنقصه الصدقة والعلم‬
‫يزكو على النفاق‪.‬‬
‫وقال لقمان‪ :‬الحكمة تزيد الشريف شرفًا‪ ،‬وترفع‬
‫المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك‪.‬‬
‫وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى‪ :‬يوزن مداد‬
‫العلماء بدم الشهداء‪ ،‬فيرجح مداد العلماء على دم‬
‫الشهداء‪.‬‬
‫) ‪(1/83‬‬

‫وقال أبو السود رحمه الله‪ :‬ليس شيء أعز من العلم‪.‬‬


‫الملوك حكام على الناس‪ ،‬والعلماء حكام على الملوك‪.‬‬
‫وقال ابن مسعود رضي الله عنه‪ :‬عليكم بالعلم قبل أن‬
‫يرفع‪ ،‬ورفعه أن تهلك رواته‪ .‬فو الذي نفسي بيده‪ ،‬ليودن‬
‫رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء‬
‫لما يرون من كرامتهم‪ .‬وإن أحدا لم يولد عالما‪ ،‬وإنما‬
‫العلم بالتعلم‪.‬‬
‫وقد ذكرنا هذه النبذة اليسيرة من فضل العلم وأهله‪،‬‬
‫تبركا وتنبيها‪.‬‬
‫وفضل العلم مجموع مخصوص بفضل الله ورحمته‬
‫للعلماء الذين تعلموا وعملوا‪ ،‬وعلموا العلم ابتغاء وجه‬
‫الله ومرضاته والدار الخرة‪ .‬فأما علماء السوء المفتونون‬
‫فليس لهم فضل؛ بل قد ورد في ذمهم وتوبيخهم ما‬
‫يطول ويهول‪ ،‬كما ذكرنا شيئا من ذلك فيما تقدم‪ .‬نسأل‬
‫الله العافية من كل شر وفتنة‪ ،‬وبلء ومحنة في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬لنا ولحبابنا وللمسلمين‪ ،‬ونسأل الله علما نافعا‪،‬‬
‫وعمل متفبل‪ ،‬ونعوذ بالله من علم ل ينفع‪ ،‬وقلب ل يخشع‪،‬‬
‫وأن يختم لنا بالحسنى والحسان في لطف وعافية‪ ،‬إنه‬
‫أرحم الراحمين‪.‬‬
‫***‬
‫) ‪(1/84‬‬

‫****************‬
‫الصنف الثاني‬
‫دعوة العباد والزهاد‬
‫*****************‬
‫) ‪(1/85‬‬
‫) ‪(1/86‬‬

‫الصنف الثاني‬
‫هاد‪ ،‬وأهل الجد ّ والجتهاد‪ ،‬والمتبّتلون إلى الله‪،‬‬ ‫العّباد والز ّ‬
‫والمتفّرغون لطاعته وعبادته‪ ،‬وخدمته وحسن معاملته‬
‫والقول في نصيحتهم وتذكيرهم وتنبيههم وتحذيرهم‬
‫***‬
‫اعلم أن هذا الصنف من الناس هم صفوة الله من عباده‪،‬‬
‫وموضع نظره من خلقه‪ ،‬ومعادن أنواره وخزائن أسراره‪،‬‬
‫وكثيرا ما يوجد منهم ويعرف فيهم أولياء الله وأصفياؤه‬
‫من الوتاد والبدال‪ ،‬والنقباء والنجباء من الرجال‪ ،‬وفيهم‬
‫ومنهم تتعرف وتؤخذ حقائق الخلص والصدق‪ ،‬والتوكل‬
‫والزهد‪ ،‬وأشباهها من مقامات اليقين‪ ،‬وأسرار معاملت‬
‫الدين‪ .‬أولئك هم الصوفية الصفياء‪ ،‬البرياء التقياء‪ ،‬أهل‬
‫الحق والحقيقة‪ ،‬العالمون السالكون‪ ،‬الذائقون لسرار‬
‫ن بركاتهم‬
‫م ِ‬
‫الطريقة‪ ،‬وأرباب الولية والرعاية‪ ،‬الذين بي ُ ْ‬
‫سَتكفى الذّيات‪،‬‬ ‫دفع البليات‪ ،‬وت ُ ْ‬
‫ومستجاب دعواتهم ُتست َ ْ‬
‫) ‪(1/87‬‬

‫ويرحم الحاضر والباد‪ ،‬ويغاث العباد والبلد‪ ،‬نفعنا الله بهم‪،‬‬


‫وأعاد من سرهم وبركاتهم علينا وعلى أحبابنا والمسلمين‪.‬‬
‫ثم اعلم أنه قد يفتدي بهؤلء ويتأسى بأسوتهم‪ ،‬ويقصد‬
‫سلوك طرائقهم من شاء الله من المبتدئين والطالبين‪،‬‬
‫فيحتاجون إلى التعريف والتنبيه‪ ،‬والتعليم والتذكير‪ ،‬فنحن‬
‫نذكر من ذلك ما يسره الله‪ ،‬كما أنا قد أسلفنا في شرح‬
‫أحوال الصنف الول الذين هم العلماء بالدين ما يسر الله‬
‫ذكره‪ ،‬فنسأل الله العظيم أن يبارك لنا ولهم في ذلك‪،‬‬
‫وفي جميع ما أعطانا وأعطاهم من فضله وإحسانه‪ ،‬وأن‬
‫يوفقنا وإياهم لشكر نعمه الموجب للمزيد من كرمه؛ فإنه‬
‫الجواد الكريم‪ ،‬الرؤوف الرحيم‪ ،‬ول حول ول قوة إل بالله‬
‫العلي العظيم‪ ،‬وهو حسبنا ونعم الوكيل‪.‬‬
‫***‬
‫اعلم رحمك الله أن من أراد سلوك طريق الله‪ ،‬وعزم‬
‫على التفرغ لعبادته والنقطاع إليه سبحانه وتعالى‪ ،‬وعلى‬
‫التجرد عن كل ما يشغل عن التفرغ لهذا الشأن من أي‬
‫شأن كان يتعين عليه ويتأكد جدا أن ينظر‪ :‬فإن كان قد‬
‫حصل من علوم اليمان وعلوم السلم ما ل بد منه‪ ،‬أخذ‬
‫في العبادة‬
‫) ‪(1/88‬‬

‫بالتفرغ عن كل ما يشغله عنها‪ ،‬وجد في قطع العلئق‬


‫وصرف العوائق‪ ،‬وأقبل بظاهره وباطنه على الله وعلى‬
‫الدار الخرة‪ ،‬وإن كان لم يحصل ما ل بد له منه من هذه‬
‫العلوم‪ ،‬وجب عليه أن يحصل القدر الذي يتعين عليه‬
‫علمه؛ فإن ذلك فرض عليه مقدم على الخذ في العبادة‬
‫وعلى سلوك طريق التأله والزهادة‪ ،‬وقد قال رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪) :‬طلب العلم فريضة على كل‬
‫مسلم(‪ ،‬وفي الخبر أو الثر )من عبد الله بجهل كان ما‬
‫يضره { أي من عبادته } أكثر مما ينفعه(‪ .‬فعلى الراغب‬
‫في سلوك طريق الله أن يتعلم من العلوم اليمانية‬
‫والعلوم السلمية ما يصحح به معتقده في معرفة الله عز‬
‫وجل ومعرفة صفاته‪ ،‬ومن اليمان بالرسل وباليوم الخر‪،‬‬
‫ومن علوم السلم العلم بالطهارة والصلة والصوم‪،‬‬
‫والزكاة والحج‪.‬‬
‫وبالجملة‪ ،‬فل يدخل في شيء من العبادات‪ ،‬ول يتلبس‬
‫بشيء من العادات كالنكحة والمبايعات حتى يعلم حكم‬
‫الله تعالى فيه‪ ،‬وإل وقع في الحرج من حيث يدري ومن‬
‫حيث ل يدري من غير أن يعذر بذلك‪.‬‬
‫ويكفيه في معرفة علوم اليمان‪ :‬أن يعرف ويعلم بعض‬
‫عقائد الئمة المجمع على علمهم‪ ،‬وأمانتهم وصلحهم‪،‬‬
‫) ‪(1/89‬‬
‫مثل المام حجة السلم‪ ،‬وعقيدته التي أوردها في أول‬
‫كتاب قواعد العقائد من كتب إحياء علوم الدين كفاية في‬
‫ذلك ونهاية‪ .‬وقد ذكرنا في أوائل كتاب )إتحاف السائل(‬
‫وفي خاتمة كتاب )النصائح الدينية( عقائد مختصرة‬
‫جامعة‪ ،‬فيها الكفاية للسالك الناسك‪.‬‬
‫وأما علوم السلم المترجم عنها بعلوم الحكام فيكفي‬
‫السالك أن يعلم منها ما أورده حجة السلم رحمه الله‬
‫في )بداية الهداية( غير أنه لم يذكر فيها من علوم الزكاة‬
‫وعلوم الحج ما تدعو إليه الحاجة‪ .‬وقد أحال مريد ذلك‬
‫على كتاب )إحياء علوم الدين(‪ ،‬وفيما ذكره الفقيه العلمة‬
‫عبد الله بن عبد الرحمن بن الحاج أبي فضل)‪ (1‬رحمه‬
‫الله في كتاب )المختصر اللطيف( ما يكفي الناسك‪ ،‬فإن‬
‫احتاج إلى مزيد عليه فلينظر في مختصره الكبير الذي‬
‫شرحه الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي)‪ (2‬رحمه الله‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬ولد بتريم بحضرموت سنة ‪850‬ه‪ -‬وتوفي بالشحر‬
‫سنة ‪918‬ه‪ -‬وهو فقيه شافعي‪ ،‬انتهت إليه رياسة الفقه‬
‫في عصره‪.‬‬
‫)‪ (2‬هو المام أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي‬
‫السعدي النصاري الشافعي‪ .‬ولد بمصر في إحدى قراها‬
‫سنة ‪909‬ه‪ -‬وتوفي بمكة سنة ‪974‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/90‬‬

‫وإن ساعدت القدار‪ ،‬وامتدت اليام‪ ،‬وضعنا كتابا يشتمل‬


‫على ما يحتاجه أهل النسك والعبادة وعامة المسلمين من‬
‫علوم اليمان‪ ،‬وعلوم السلم‪ ،‬وعلوم الحسان‪ .‬ونجعله‬
‫كالشرح لحديث جبريل عليه السلم‪ ،‬الذي سأل به رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم عن هذه العلوم‪.‬‬
‫وأما التبحر والتساع في العلوم فليس ذلك بواجب على‬
‫العيان‪ ،‬بل هو خاص بالمتفرغين المتأهلين له من أئمة‬
‫الدين وأعلم الملة‪ ،‬الذين أقامهم الحق وأهلهم لنفع‬
‫عباده وإرشادهم‪ ،‬وبيان أحكام أحوال معاشهم ومعادهم‪.‬‬
‫وقد يجمع الله لبعض الخواص من المؤمنين بين العلوم‬
‫الباطنة والظاهرة‪ ،‬ويؤهله لنفع الخاصة والعامة‪ ،‬وعلم‬
‫الشريعة وسلوك الطريق وشهود الحقيقة‪ .‬وكان على هذا‬
‫القدم وعلى مثل هذا الوصف جماعة من السلف الصالح‬
‫مثل سيدنا المام زين العابدين علي بن الحسين بن علي‬
‫أمير المؤمنين‪ ،‬وولده المام أبي جعفر محمد الباقر‪،‬‬
‫وولده المام جعفر الصادق بن محمد‪ ،‬ومثل الخليفة‬
‫الصالح عمر بن عبد العزيز الموي‪ ،‬ومثل أبي سعيد‬
‫الحسن بن يسار‬
‫) ‪(1/91‬‬

‫البصري)‪ (1‬وجماعة يكثر عددهم‪ ،‬ومن بعدهم مثل الشيخ‬


‫الحارث بن أسد المحاسبي‪ ،‬والشيخ الجنيد بن محمد )‪،(2‬‬
‫ومن بعدهم مثل الشيخ أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن‬
‫القشيري)‪ (3‬صاحب الرسالة‪ ،‬ومثل المام حجة السلم‬
‫أبي حامد الغزالي‪ ،‬ومثل الشيخ محيي الدين عبد القادر‬
‫بن أبي صالح الشريف الحسني الجيلني‪ ،‬ومثل الشيخ‬
‫أبي حفص عمر بن محمد السهروردي صاحب )العوارف()‬
‫‪ ،(4‬وعمه الشيخ أبي النجيب السهروردي)‪ (5‬إلى غير‬
‫هؤلء من الئمة العلم‪ .‬ومن السادات آل أبي علوي‬
‫الشراف الحسينيين جماعة كثيرة كانوا على هذا الوصف‪،‬‬
‫وعلى هذا القدم من الجمع بين العلم الظاهر والعلم‬
‫الباطن‪،‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬المام التابعي المتوفى سنة ‪110‬ه‪.-‬‬
‫)‪ (2‬أبي القاسم‪ .‬أصله من نهاوند‪ ،‬ومولده ومنشؤه‬
‫بالعراق‪ .‬وهو إمام القوم وسيد الطائفة‪ .‬توفي ببغداد سنة‬
‫‪297‬ه‪.-‬‬
‫)‪ (3‬المتوفى سنة ‪465‬ه‪ -‬بنيسابور‪ .‬وهو شيخ خراسان‬
‫في عصره‪.‬‬
‫)‪ (4‬المتوفى سنة ‪632‬ه‪ -‬ببغداد‪ ،‬وهو قرشي تيمي بكري؛‬
‫وفقيه شافعي‪ ،‬مفسر صوفي واعظ‪.‬‬
‫)‪ (5‬عبد القادر الملقب بضياء الدين‪ .‬ينتهي نسبه إلى أبي‬
‫بكر الصديق رضي الله عنه انعقد على فضله إجماع‬
‫العلماء‪ ،‬وتخرج بصحبته جماعة من الكابر‪ .‬سكن بغداد‬
‫إلى أن مات بها سنة ‪ 563‬ه‪ -‬بمدرسته على شاطئ‬
‫دجلة‪.‬‬
‫) ‪(1/92‬‬

‫والشريعة والطريقة والحقيقة‪ ،‬مثل شيخ الشيوخ الفقيه‬


‫المقدم محمد بن علي الشريف الحسيني التريمي)‪(1‬‬
‫‪ ،‬ومثل الشيخ المعظم السقاف عبد الرحمن بن محمد)‬
‫‪ (2‬وولده الشيخ القدوة عمر المحضار)‪ (3‬وولد ولده‬
‫الشيخ القطب عبد الله بن الشيخ أبي بكر العيدروس)‪،(4‬‬
‫وأخيه الشيخ الجامع علي بن أبي بكر)‪.(5‬‬
‫ومن أهل البيت السادة آل أبي علوي جماعة يطول‬
‫تعدادهم كانوا على ذلك الوصف‪ ،‬يعرف ذلك من نظر في‬
‫سيرهم وطالع في أخبارهم ومناقبهم‪ .‬نفعنا الله بهم‬
‫وبسائر الصالحين‪ ,‬وأفاض علينا من بركاتهم‪ ,‬وحفظنا‬
‫بأسرارهم من الشر والشرار والفتن والمفتونين؛ إنه‬
‫جواد كريم‪ ,‬قريب مجيب‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬ولد بتريم بحضرموت وتوفي بها سنة ‪653‬ه‪ -‬ويلقب‬
‫بالستاذ العظم‪ ،‬والفقيه المقدم‪.‬‬
‫)‪ - (2‬هو المام عبد الرحمن بن محمد مولى الدويله بن‬
‫علي بن علوي المتوفى بتريم سنة ‪819‬ه‪.-‬‬
‫)‪ - (3‬ولد بتريم وحفظ القرآن بها وتلقى العلوم الدينية‬
‫وكان كثير الكرامات توفي سنة ‪833‬ه‪ -‬وهو ساجد في‬
‫صلته‪.‬‬
‫)‪ - (4‬ولد بتريم وحفظ القرآن بها وتلقى العلوم الدينية‬
‫وهو إمام أهل وقته والمقدم على أهل زمانه‪ .‬توفي سنة‬
‫‪865‬ه‪ -‬وعمره ‪ 54‬سنة‪.‬‬
‫)‪ - (5‬ولد بتريم وحفظ القرآن بها وتلقى العلوم الدينية‬
‫واشتهر بكثرة العبادة والصلح مثل آبائه العلويين‪ .‬توفي‬
‫سنة ‪895‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/93‬‬

‫ومن رجال هذه الطريقة من كان شأنه القتصار من العلم‬


‫على ما ل بد منه‪ ,‬والخذ في العبادة والتبتل إلى الله‬
‫والنقطاع إليه‪ ,‬والتفرغ عن كل ما يشغله عنه سبحانه‬
‫وعن طاعته‪ ,‬والنقباض عن الناس والفرار منهم؛ مثل‬
‫أويس القرني‪ ,‬ومالك بن دينار)‪ ،(1‬وعبد الواحد بن زيد)‬
‫‪ ،(2‬وعتبة الغلم)‪ ،(3‬والربيع بن خيثم)‪ ،(4‬وثابت البناني)‬
‫‪،(5‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬هو أبو يحيى الزاهد‪ .‬كان يكتب المصاحف بالجرة‪،‬‬
‫ويتقوت بأجرته‪ ،‬مات سنة ‪127‬ه‪ -‬وقيل سنة ‪ .123‬وفي‬
‫الطبقات سنة ‪131‬ه‪.-‬‬
‫)‪ (2‬أدرك الحسن البصري المتوفى سنة ‪110‬ه‪ -‬واستمر‬
‫يصلي الغداة بوضوء العشاء أربعين سنة‪.‬‬
‫)‪ (3‬هو عتبة بن أبان‪ .‬وسمي بالغلم لنه كان في العبادة‬
‫كأنه غلم رهبان؛ ل لصغر سنه‪ .‬كان يأوي إلى المقابر‬
‫والصحاري ويخرج إلى السواحل فيقيم فيها؛ فإذا كان يوم‬
‫الجمعة دخل البصرة فيشهد الجمعة؛ ثم يأتي إخوانه‬
‫فيسلم عليهم‪ .‬مات رضي الله عنه شهيدا ً في قتال‬
‫الروم‪) .‬طبقات ص ‪ 40‬ج ‪.(1‬‬
‫)‪ (4‬ابن عائذ الكوفي‪ ،‬مات رضي الله عنه سنة ‪67‬ه‪ -‬أيام‬
‫معاوية‪.‬‬
‫)‪ (5‬هو ثابت بن أسد البناني‪ .‬قيل لما مات كان الناس‬
‫يسمعون من قبره تلوة القرآن‪.‬‬
‫) ‪(1/94‬‬

‫وحبيب العجمي)‪ ،(1‬وإبراهيم بن أدهم)‪ ،(2‬والفضيل بن‬


‫عياض)‪ ،(3‬ووهيب بن الورد)‪ ،(4‬وداود الطائي)‪،(5‬‬
‫ومعروف الكرخي)‪ ،(6‬وبشر الحافي)‪ ،(7‬وسري‬
‫السقطي)‪ ،(8‬وسهل‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬هو أبو محمد حبيب بن محمد العجمي البصري‪ .‬كان‬
‫عابدا فاضل‪ ،‬ورعا تقيا‪ .‬مجاب الدعوة‪) .‬تهذيب(‪.‬‬
‫)‪ (2‬هو أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور‪ ،‬من أهل‬
‫بلخ‪ .‬كان من أبناء الملوك والمياسير‪ ،‬وخرج للصيد فهتف‬
‫به هاتف أيقظه من غفلته! فترك طريقته في التزين‬
‫بالدنيا‪ ،‬ورجع إلى طريقة أهل الزهد والورع‪ ،‬وخرج إلى‬
‫مكة فصحب سفيان الثوري وأضرابه‪ ،‬ودخل الشام فكان‬
‫يعمل فيه ويأكل من عمل يده‪ ،‬ومات بالشام‪ .‬سنة‬
‫‪161‬ه‪.-‬‬
‫)‪ (3‬التميمي اليربوعي‪ .‬خراساني من ناحية )مرو(‪ .‬مات‬
‫بالحرم الشريف سنة ‪.187‬‬
‫)‪ (4‬وهيب بن الورد بن أبي الورد القرشي‪ .‬اسمه عبد‬
‫الوهاب‪ ،‬و)وهيب( لقب‪ .‬كان من العباد المتجردين لترك‬
‫الدنيا )تهذيب(‪.‬‬
‫)‪ (5‬هو أبو سليمان داود بن نصير الكوفي‪ ،‬كان كبير‬
‫الشأن في باب الزهد والورع‪ .‬توفي سنة ‪160‬ه‪ -‬وقيل‬
‫‪) 165‬تهذيب(‪.‬‬
‫)‪ (6‬يلقب بالزاهد‪ .‬وهو من جملة المشائخ وقدمائهم‪،‬‬
‫المعروفين بالورع والفتوة‪ ،‬مجاب الدعوة‪ .‬وهو من موالي‬
‫علي بن موسى الرضا‪ ،‬مات ببغداد ودفن بها سنة‬
‫‪200‬ه‪.-‬‬
‫)‪ (7‬هو بشر بن الحارث أبو نصير‪ .‬قال الخطيب فيه‪ :‬كان‬
‫ممن فاق أهل عصره في الورع والزهد‪ .‬وتفرد بوفور‬
‫العقل‪ ،‬وحسن الطريقة واستقامة المذهب سكن بغداد‬
‫ومات بها سنة ‪227‬ه‪.-‬‬
‫)‪ (8‬هو أبو الحسن سري بن المغلس السقطي‪ .‬إمام‬
‫البغداديين وشيخهم في وقته‪ ،‬وأول من تكلم بلسان‬
‫التوحيد وحقائق الحوال مات سنة ‪251‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/95‬‬
‫التستري)‪ (1‬رحمهم الله‪.‬‬
‫وكان شأن هؤلء النقباض عن الناس وقلة المخالطة‪،‬‬
‫وخروج الكثير منهم إلى الجبال والشعاب‪ ،‬والسياحة في‬
‫الفيافي والقفار؛ رياضة للنفس‪ ،‬وقطعا لعوائدها‬
‫ومألوفاتها‪ ،‬وتصحيحا ً لمقامات اليقين‪ :‬من التوكل على‬
‫الله‪ ،‬والخلص له‪ ،‬والزهد في الدنيا‪ ،‬وفي المال والجاه‪،‬‬
‫والمنزلة في قلوب الناس‪.‬‬
‫وكان الكثر من رجال الله على مثل هذا الوصف وهذا‬
‫السبيل‪ .‬وكان من ظهر للناس منهم أو جالسهم‪ ،‬إنما‬
‫يجلس مع الخاصة‪ ،‬ويخوض معهم في العلوم الخاصة‪.‬‬
‫وكان أحدهم إذا كثر عليه الناس يترك الجلوس ويقوم‬
‫عنهم‪ ،‬وربما أمر بعضهم بغلق الباب عليه وعلى أصحابه‬
‫من الخاصة؛ لدقة العلوم التي يتذاكرون بها‪ ،‬ويتفاوضون‬
‫فيها بينهم‪.‬‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬هو أبو محمد سهل بن عبد الله التستري‪ .‬أحد أئمة‬
‫القوم ومن أكابر علمائهم المتكلين في علوم الرياضيات‬
‫والخلص وعيوب الفعال‪ .‬توفي سنة ‪283‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/96‬‬

‫وكانوا يفّرون من الشهرة‪ ،‬ومن نصب أنفسهم للفتيا‪،‬‬


‫وتقلد الوليات والحكام‪ ،‬والجلوس لعامة الناس شغل ً‬
‫منهم لنفسهم‪ ،‬وحرصا ً على سلمة دينهم وصلح قلوبهم‪.‬‬
‫ولما لقي هرم بن حيان)‪ (1‬أويسا ً القرني رحمهما الله‬
‫بشاطئ الفرات بعد أن طلبه مدة قال له‪ :‬حدثني بحديث‬
‫أحفظه عنك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فقال‬
‫له أويس‪ :‬إني لم ألقَ رسول الله )بأبي وأمي رسول‬
‫الله( ولكني لقيت رجال ً رأوه‪ ،‬وقد بلغني من حديثه‪،‬‬
‫وأكره أن أفتح على نفسي هذا الباب! لي شغل شاغل‬
‫ب أن أكون محدثا ً ول مفتيا ً ول قاضيًا‪ ،‬أو‬
‫في نفسي! ل أح ّ‬
‫كما قال رحمه الله‪ ،‬والقصة في ذلك مشهورة‪.‬‬
‫وكان يقال‪ :‬مثل بشر بن الحارث مثل العين العذبة‪ ،‬يردها‬
‫الواحد بعد الواحد‪ .‬ومثل أحمد بن حنبل مثل دجلة‪ ،‬يردها‬
‫البر والفاجر‪.‬‬
‫وقال بشر رحمه الله‪ :‬فضلني أحمد بن حنبل رحمه الله‬
‫بثلث‪ :‬ذكر منها أنه نصب إماما ً للعامة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬العبدي الزدي‪ ،‬من بني عبد القيس من كبار‬
‫النساك من التابعين كان أمير عبد القيس في الفتوح‪.‬‬
‫ولي بعض الحروب في أيام عمر وعثمان بأرض فارس‪،‬‬
‫وكان من سكان البصرة‪ .‬وعده ابن أبي حاتم في الزهاد‬
‫الثمانية من كبار التابعين‪ .‬مات في إحدى غزواته بعد سنة‬
‫‪26‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/97‬‬

‫وكان أحمد يقول في بشر‪ :‬إنه قعد على مثل حد السيف‬


‫)أي من الورع والحتياط للدين‪ ،‬والتقلل من الدنيا(‪.‬‬
‫فانظر رحمك الله إلى هؤلء الئمة‪ ،‬كل منهم يفضل‬
‫صاحبه على نفسه‪ ،‬ويشهد له بالسبق والتقدم‪.‬‬
‫وقال بشر‪ :‬أشتهي أن أحدث‪ ،‬ولو ذهبت عني شهوة‬
‫دثت‪ .‬وروى أنه دفن بضعة عشر ما بين‬ ‫الحديث لح ّ‬
‫مطر)‪ (1‬من الكتب‪.‬‬ ‫قوصرة وق ّ‬
‫ورئي المام محمد بن يوسف الصفهاني وهو يدفن كتبه‬
‫ويقول‪ :‬كنت محدثا ً فكان ماذا! كنت مفتيا ً فكان ماذا!‬
‫كنت قاضيا ً فكان ماذا! أو كما قال‪.‬‬
‫ومثل ذلك كان شأن رجال أقبلوا على الله وعلى الدار‬
‫الخرة‪ ،‬واشتغلوا بخاصة أنفسهم‪ ،‬وتجردوا لعبادة ربهم‪،‬‬
‫وفيهم يصدق قول من قال‪ :‬كان العلماء إذا علموا عملوا‪،‬‬
‫فإذا عملوا شغلوا فإذا شغلوا فقدوا‪ ،‬فإذا فقدوا طلبوا‪،‬‬
‫فإذا ط ُِلبوا هربوا )أي فرارا ً بدينهم‪ ،‬واحترازا ً عمن‬
‫يشغلهم عن عبادة ربهم(‪.‬‬
‫_________________‬
‫)‪ (1‬القوصرة‪ -‬بتشديد الراء وتخفف‪ :-‬وعاء التمر‪.‬‬
‫والقمطر‪ -‬بتشديد الميم المفتوحة وتخفيفها‪ :‬ما ُتصان به‬
‫الكتب‪.‬‬
‫) ‪(1/98‬‬

‫…وكان العلماء في تلك الزمنة متكاثرين ومتوافرين‪.‬‬


‫وكان القيام بفرض الكفاية من تعليم من ليس يعلم‬
‫حاصل بالبعض منهم وقائما به‪ .‬فتفرغ أمثال هؤلء الذين‬
‫ذكرناهم للعمل والعبادة‪ ،‬والعتزال عن الناس‪ ،‬والقبال‬
‫بكنه الهمة على الدار الخرة‪ ،‬وترك ما يشغلهم عن ربهم‬
‫وعن طاعته‪ ،‬والتجرد لعبادته كائنا ذلك ما كان‪.‬‬
‫ثم إن من أهم المهمات على سالكي هذه الطريق بعد‬
‫أخذ ما ل بد ّ لهم من العلم‪ ،‬التحّري البالغ‪ ،‬والحرص التام‬
‫على تناول الحلل‪ ،‬ثم على القتصار منه على قدره؛‬
‫كضرورة الحاجة من المطعم والملبس‪ ،‬ونحو ذلك من‬
‫الحاجات المعاشية‪ ,‬وأن ل يتساهلوا في ذلك‪ ،‬ول يأخذوا‬
‫فيه بالرخصة وما يجوز مما هو شأن العامة؛ بل يجتهدوا‬
‫في طلب الحلل المطلق الصافي عن جميع الشوائب‪.‬‬
‫فإن صفا لهم ذلك وتيسر وهم بين ظهراني الناس‪ ،‬وإل‬
‫خرجوا في طلبه إلى حيث يوجد‪ ،‬ويتيسر من المواضع‬
‫التي يوجد ذلك فيها من الجبال والبراري التي يكثر فيها‬
‫وجود الشياء المباحة المقتاتة ولو من الحشيش‪.‬‬
‫وقد أخذ بذلك واعتمده كثير من رجال الله‪ ،‬الذين لهم‬
‫عناية بصفاء قلوبهم‬
‫) ‪(1/99‬‬

‫وصلحها واستعدادها لمعرفة الله‪ ،‬والمكاشفة بأسراره‬


‫وغيوبه في ملكه وملكوته‪ -‬رضي الله عنهم أجمعين‪-‬‬
‫فبلغنا عن بعضهم أنه كان يقتات الحشيش حتى اخضر‬
‫جسده‪ ،‬وكان بعضهم إذا لم يجد الحلل المطلق يستف‬
‫من الرمل اليام الكثيرة؛ نقل ذلك عن سفيان الثوري‬
‫وغيره‪ ،‬رحمهم الله تعالى‪.‬‬
‫وأما ما يقوله العلماء رحمة الله عليهم‪ :‬إن الحلل هو‬
‫الذي ل يعلم النسان سببا ً ظاهرا ً في تحريمه‪ ،‬وإن من‬
‫أكثر ماله حلل تجوز معاملته‪ ،‬فذلك صحيح‪ ،‬وهو الذي‬
‫سر لهم‪ ،‬وما جعل الله عليهم‬
‫يسع عامة المسلمين ويتي ّ‬
‫في الدين من حرج ولكن الجائز والمباح‪ ،‬وموضع الرخصة‬
‫والسعة غير الورع والحتياط والخذ بعزائم الدين‪ ،‬ولكل‬
‫مقام رجال‪ ،‬ولكل حال مقال‪.‬‬
‫وقد بالغ رجال من هذا الصنف في القتصار من الحلل‬
‫الصافي‪ ،‬على ما ل بد منه في حفظ القوة التي ل بد منها‬
‫في إقامة أمر الله وفرائض دينه‪ .‬وانتهى بعضهم إلى‬
‫القتصار على حد الضرورة من ذلك‪ .‬ولهم في ذلك سير‬
‫وأقوال معروفة عن سهل بن عبد الله التستري وغيره‬
‫من أئمتهم‪.‬‬
‫) ‪(1/100‬‬

‫وقد شرح ذلك المام حجة السلم رحمه الله في كتاب‬


‫)كسر الشهوتين من الحياء( وفي غيره من كتبه التي‬
‫ألفها في علومهم وشرح طرائقهم‪.‬‬
‫وقد كان أبو سليمان الداراني)‪ (1‬رحمه الله يقول‪ :‬أحلى‬
‫ما تكون العبادة إذا التصق بطني بظهري‪ .‬وقال أيضًا‪ :‬لن‬
‫ي من قيام ليلة‪ .‬وأقوالهم‬ ‫ب إل ّ‬
‫أترك لقمة من عشاي أح ّ‬
‫في ذلك كثيرة مشهورة‪.‬‬
‫وقد رد ّ بعضهم أصول هذه الطريقة إلى أربعة‪ :‬قلة‬
‫الطعام‪ ،‬وقلة المنام‪ ،‬وقلة الكلم‪ ،‬واعتزال النام‪ .‬قال‪:‬‬
‫ل‪ ،‬وهي أركان بيت الولية‪ ،‬وفي ذلك‬ ‫وبها صار البدال أبدا ً‬
‫يقول قائلهم‪:‬‬
‫مت أركاَنه ‪ ...‬سادُتنا فيه من البدال‬ ‫س َ‬
‫بيت الولية ق ّ‬
‫ل دائم ٍ ‪ ...‬و الجوع والسهر النزيه‬ ‫ت واعتزا ٍ‬
‫ما بين صم ٍ‬
‫العالي‬

‫__________‬
‫)‪ - (1‬هو أبو سليمان عبد الرحمن بن عطية الداراني‪.‬‬
‫و)داريا(‪ :‬قرية من قرى دمشق كان كبير الشأن في علوم‬
‫الحقائق والورع‪ ،‬توفي سنة ‪215‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/101‬‬

‫وقد نظمناها في بيت من آخر التائية وهو‪:‬‬


‫وكن في طعام والمنام وخلطة ‪ ...‬ونطق على حد اقتصار‬
‫وقِل ّ ِ‬
‫ة‬
‫وفي الرائية التي مطلعها‪:‬‬
‫يا زائري حين ل واش من البشرِ ‪.............................‬‬
‫وبالرياضة من صمت ومخمصة ‪ ...‬مع التخلي عن الضداد‬
‫ر‬
‫والسه ِ‬
‫ومن آخر العينية أيضًا‪:‬‬
‫والنفس رضها باعتزال دائم ‪ ...‬والصمت مع سهر الدجى‬
‫وتجوِّع‬
‫وقد قال حاتم الصم )‪(1‬رحمه الله تعالى‪ :‬من أراد‬
‫طريقنا هذا فليوطن نفسه على أربعة ألوان من الموت‪:‬‬
‫موت أبيض وهو الجوع‪ ،‬وموت أحمر وهو مجاهدة النفس‪،‬‬
‫وموت أخضر وهو طرح الرقاع بعضها إلى بعض‪ ،‬وموت‬
‫أسود وهو احتمال الذى من الخلق‪ ،‬أو كما قال‪.‬‬
‫وقال الجنيد رحمه الله تعالى‪ :‬ل يصلح طريقنا هذا إل‬
‫ست بأرواحهم المزابل )أي من تذّللهم لله‪،‬‬ ‫لقوام ك ُن ِ َ‬
‫وتواضعهم لعباده‪ ،‬وخضوعهم وخشوعهم لعظمته(‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬هو أبو عبد الرحمن حاتم بن عنوان بن يوسف الصم‪.‬‬
‫من قدماء مشايخ خراسان من أهل بلخ مات سنة‬
‫‪237‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/102‬‬

‫واعلم أن الصادقين من أهل هذا الطريق قد قلوا وعزوا‪،‬‬


‫حتى صاروا أعز من الكبريت الحمر‪ ،‬حتى قال بعض‬
‫المحققين بفقدهم وخلوا الرض منهم؛ وفي كلمه نظر‪.‬‬
‫وقد يعبر عما قل وعز وجوده بالمفقود‪ ،‬والرض ل تخلو‬
‫عن قائم لله بحججه‪ ،‬وفي الحديث‪) :‬ل تزال طائفة من‬
‫أمتي ظاهرين على الحق ل يضرهم من خذلهم حتى يأتي‬
‫أمر الله وهم على ذلك(‪ ،‬وفي الحديث الخر‪) :‬ليجدن ابن‬
‫مريم من أمتي رجال ً هم مثل حوارييه وخير منهم(‪ ،‬أو كما‬
‫قال عليه الصلة والسلم‪ .‬ولكنهم يقلون ويستترون عند‬
‫فساد الزمان وعموم الفتن‪ ،‬وغلبة الغفلة والعراض عن‬
‫الله )فمنهم( من يعتزل الناس مع القامة بين أظهرهم‪.‬‬
‫)ومنهم( من يستتر عنهم بحرفة ونحوها‪) .‬ومنهم( من‬
‫يخرج إلى البراري والقفار؛ فرارا ً إلى الله بدينه‪ ،‬واحترازا ً‬
‫من الفتن والمفتونين‪.‬‬
‫قال بعض العارفين‪ :‬إنما خرج أهل الحق من بين أظهر‬
‫الناس إلى القفار والبراري؛ لنهم ل يطيقون النظر إلى‬
‫علماء السوء‪ ،‬الذين هم علماء عند أنفسهم‪ ،‬وجّهال عند‬
‫أهل الله تعالى من رجال الحق‪ .‬انتهى ما ذكره بمعناه‪.‬‬
‫) ‪(1/103‬‬

‫فأهل هذه الطريقة أحرص الناس على الستتار والخمول‪،‬‬


‫والفرار عن الناس خصوصا عند فساد الزمان‪ .‬وإلى أهل‬
‫هذه الطائفة الشارة بمثل قوله عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫)كم من أشعث أغبر ذي طمرين ل يؤبه به‪ ،‬لو أقسم على‬
‫الله لبره( )‪ (1‬منهم البراء بن مالك‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬إن الله يحب العبد التقي‬
‫الغني الخفي()‪ (2‬يعني بالغني‪ :‬غني النفس القنوع‪.‬‬
‫قال رجل‪ :‬يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال‪) :‬مؤمن‬
‫يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله(‪ .‬قال‪ :‬ثم من؟ قال‪:‬‬
‫)رجل معتزل في شعب)‪ (3‬من الشعاب يعبد الله‪ ،‬ويدع‬
‫الناس من شره(‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬يوشك أن‬
‫يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف)‪ (4‬الجبال‬
‫ومواقع القطر‪ ،‬يفر بدينه من الفتن(‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬روى هذا الحديث الحاكم في المستدرك‪ ،‬وأبو نعيم‬
‫عن أبي هريرة بلفظ )رب أشعث ذي طمرين تنبو عنه‬
‫أعين الناس‪ ،‬لو أقسم على الله لبره( والشعث‪ :‬المغبر‬
‫الرأس‪ ،‬أو المتلبد الشعر‪ .‬والغبر‪ :‬ما لونه الغبرة‪ ،‬وهي‬
‫التراب‪ .‬والطمر‪ :‬الثوب البالي‪.‬‬
‫)‪ - (2‬رواه أحمد في مسنده عن سعد بن ابي وقاص‪.‬‬
‫)‪ - (3‬الشعب‪ -‬بكسر أوله‪ :-‬الطريق‪ ،‬أو الجبل‪.‬‬
‫)‪ - (4‬شعف الجبال‪ :‬رؤوسها؛ جمع شعفة‪.‬‬
‫) ‪(1/104‬‬

‫وعن معاذ رضي الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم‪) :‬اليسير من الرياء شرك‪ ,‬ومن عادى أولياء‬
‫الله فقد بارز الله بالمحاربة‪ .‬إن الله يحب من عباده‬
‫البرار التقياء الخفياء‪ ,‬الذين إذا غابوا لم يفقدوا‪ ,‬وإن‬
‫حضروا لم يعرفوا‪ ,‬قلوبهم مصابيح الهدى‪ ,‬يخرجون من‬
‫كل غبراء مظلمة(‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬أغبط‬
‫الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ‪ ,‬ذو حظ من صلة‪ ,‬وكان‬
‫رزقه كفافا وصبر عليه حتى لقي الله‪ ,‬وأحسن عبادة ربه‪,‬‬
‫ل ُتراثه‪ ,‬وقّلت‬ ‫وكان غامضًا)‪ (1‬في الناس عجلت منيته‪,‬وق ّ‬
‫بواكيه( وفي مثله أنشدوا‪:‬‬
‫أخص الناس باليمان عبد ‪ ...‬خفيف الحاذ مسكنه القفاُر‬
‫له بالليل حظ من صلة ‪ ...‬ومن صوم إذا طلع النهاُر‬
‫عّفة وبه خمو ٌ‬
‫ل ‪ ...‬إليه بالصابع ل ُيشاُر‬ ‫وفيه ِ‬
‫وقل الباكيات عليه لما ‪ ...‬قضى َنحبا ً وليس له يساُر‬
‫قال الشيخ المام عبد الله بن أسعد اليافعي اليمني)‪(2‬‬
‫رحمه الله تعالى‬
‫______________‬
‫)‪ - (1‬خفيف الحاذ‪ :‬خفيف الظهر غامصا‪ :‬محتقرا مهانا‪.‬‬
‫)‪ (2‬نسبة إلى بني يافع من حمير‪ .‬ولد ونشأ في عدن‪.‬‬
‫وتوفي سنة ‪768‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/105‬‬
‫)في كتابه روض الرياحين في الحكاية الخامسة والربعين‬
‫بعد المائة منه(‪ :‬روي أن أويسا ً القرني)‪ (1‬رضي الله عنه‪,‬‬
‫كان يقتات من المزابل ويكتسي منها‪ ,‬فنبحه كلب على‬
‫مزبلة؛ فقال له أويس‪ :‬كل مما يليك‪ ،‬وأنا آكل مما يليني‬
‫ت الصراط فأنا خير منك‪ ،‬وإل فأنت‬ ‫ول تنبحني‪ .‬فإن جز ُ‬
‫خير مني‪ .‬وكان أهله يقولون‪ :‬هو مجنون‪ .‬وأقاربه به‬
‫يستهزئون‪ ،‬والصغار به يتولعون‪ ،‬وبالحجارة يرمون‪ ،‬وفيه‬
‫أقول‪:‬‬
‫سقى الله قوما ً من شراب وداده ‪ ...‬فهاموا به ما بين بادٍ‬
‫ر‬
‫وحاض ِ‬
‫ب على‬ ‫ح ّ‬
‫ن سوى ُ‬ ‫جّنوا وما بهم ‪ ...‬جنو ٌ‬
‫يظنهم الجهال ُ‬
‫ر‬
‫القوم ظاه ِ‬
‫سقوا بكوؤس الحب راحا ً من الهوى ‪ ...‬فراحوا سكارى‬
‫ر‬
‫بالحبيب المسام ِ‬
‫يناجونه في ظلمة الليل عندما ‪ ...‬به قد خلوا منهم أويس‬
‫ر‬
‫بن عام ِ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬هو ابن عامر بن جزء‪ .‬من بني قرن )بفتحتين‪ ،‬بطن‬
‫من مراد( من سادات التابعين‪ ،‬ومن أكابر الزهاد رث‬
‫البيت قليل المتاع‪ .‬يرجح أنه قتل في وقعة صفين مع‬
‫علي كرم الله وجهه سنة ‪37‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/106‬‬

‫وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‪ :‬قال‬


‫رسول الله صلى الله عليه وسلم‪) :‬إن الله عز وجل يحب‬
‫من خلقه الصفياء الخفياء البرياء‪ ,‬الشعثة رؤوسهم‪,‬‬
‫المغبرة وجوههم‪ ,‬المخمصة بطونهم‪ ,‬الذين إذا استأذنوا‬
‫على المراء لم يؤذن لهم‪ ,‬وإذا خطبوا المتنعمات لم‬
‫ينكحوا‪ ,‬وإذا غابوا لم يفتقدوا‪ ,‬وإن طلعوا لم يفرح‬
‫بطلعتهم‪ ,‬وإن مرضوا لم يعادوا‪ ,‬وإن ماتوا لم يشهدوا(‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬كيف لنا برجل منهم؟ قال‪) :‬ذاك‬
‫أويس القرني(‪ .‬قالوا‪ :‬وما أويس القرني؟ قال‪) :‬أشهل ذو‬
‫صهوبة‪ ،‬بعيد ما بين المنكبين‪ ،‬معتدل القامة‪ ،‬آدم شديد‬
‫الدمة‪ ،‬ضارب بذقنه إلى صدره‪ ،‬رام ببصره إلى موضع‬
‫سجوده‪ ،‬واضع يمينه على شماله‪ ،‬يبكي على نفسه‪ ،‬ذو‬
‫طمرين ل ثوب له‪ ،‬متزر بإزار صوف ورداء صوف‪،‬‬
‫مجهول في أهل الرض‪ ،‬معروف في أهل السماء‪ ،‬لو‬
‫أقسم على الله لبر قسمه‪ ،‬أل وإن تحت منكبه اليسر‬
‫لمعة بيضاء‪ ،‬أل وإنه إذا كان يوم القيامة قيل للعباد ادخلوا‬
‫شّفعه الله في مثل‬ ‫الجنة‪ ،‬وقيل لويس‪ :‬قف فاشفع؛ في ُ َ‬
‫ربيعة ومضر‪ ،‬يا عمر‪ ،‬يا علي‪ ،‬إذا أنتما لقيتماه فاطلبا منه‬
‫أن يستغفر لكما يغفر الله لكما(‪.‬‬
‫) ‪(1/107‬‬

‫قال‪ :‬فمكثا يطلبانه عشر سنين ل يقدران عليه؛ فلما كان‬


‫في آخر السنة التي توفي فيها عمر‪ ،‬قام على أبي قيس‬
‫فنادى بأعلى صوته‪ :‬يأهل اليمن‪ ،‬أفيكم أويس؟ فقام شيخ‬
‫كبير طويل اللحية‪ ،‬فقال‪ :‬إنا ل ندري ما أويس! ولكن ابن‬
‫أخ لي يقال له أويس‪ ،‬وهو أخمل ذكرا‪ ،‬وأقل مال‪ ،‬وأهون‬
‫أمرا من أن نرفعه إليك! وإنه ليرعى إبلنا‪ ،‬حقير بين‬
‫أظهرنا‪ .‬فعمى عليه عمر كأنه ل يريده‪ .‬وقال‪ :‬أين ابن‬
‫اخيك هذا؟ أبحرمنا هو؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬وأين يصاب؟‬
‫قال‪ :‬بأراك عرفات‪ .‬قال‪ :‬فركب عمر وعلي رضي الله‬
‫عنهما‪ ،‬وأسرعا إلى عرفات؛ فإذا هو قائم يصلي إلى‬
‫شجرة والبل حوله ترعى فشدا حماريهما‪ ،‬ثم أقبل عليه‪،‬‬
‫وقال‪ :‬السلم عليك ورحمة الله وبركاته؛ فخفف أويس‬
‫من الصلة‪ ،‬ثم رد عليهما السلم فقال‪ :‬من الرجل؟‬
‫فقال‪ :‬راعي إبل وأجير قوم‪ .‬فقال‪ :‬لسنا نسألك عن‬
‫الرعاية والجارة‪ ،‬ما اسمك؟ قال‪ :‬عبد الله‪ ،‬قال‪ :‬قد علمنا‬
‫أن أهل السموات والرض كلهم عبيد الله؛ فما اسمك‬
‫الذي سمتك به أمك؟ قال‪ :‬يا هذان‪ ،‬ما تريدان بي؟ قال‪:‬‬
‫وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم أويسا ً القرني‪ ،‬فقد‬
‫عرفنا الصهوبة والشهولة‪ ،‬وأخبرنا أن تحت منكبه اليسر‬
‫لمعة بيضاء‪،‬‬
‫) ‪(1/108‬‬

‫فأوضحها لنا‪ ،‬فإن كانت بك فأنت هو‪ .‬فأوضح لهما منكبه‪،‬‬


‫فإذا لمعة فابتدرا يقبلنه وقال‪ :‬نشهد أنك أويس القرني‪،‬‬
‫فاستغفر لنا يغفر الله لك فقال‪ :‬ما أخص باستغفاري‬
‫نفسي ول أحدا ً من ولد آدم‪ ،‬ولكنه في البر والبحر‬
‫للمؤمنين والمؤمنات‪ ،‬والمسلمين والمسلمات‪ .‬يا هذان‬
‫قد شهر الله لكما حالي وعرفكما أمري؛ فمن أنتما؟ قال‬
‫علي‪ :‬أما هذا فعمر أمير المؤمنين‪ ،‬وأما أنا فعلي ابن أبي‬
‫طالب؛ فاستوى أويس قائما ً وقال‪ :‬السلم عليك يا أمير‬
‫المؤمنين ورحمة الله وبركاته‪ ،‬وأنت يا بن أبي طالب‪،‬‬
‫فجزاكما الله عن هذه المة خيرا ً قال‪ :‬وأنت فجزاك الله‬
‫عن نفسك خيرًا‪ .‬فقال له عمر‪ :‬مكانك حتى أدخل مكة‪،‬‬
‫فآتيك بنفقة من عطائي‪ ،‬وفضل كسوة من ثيابي‪ ،‬هذا‬
‫المكان ميعاد بيني وبينك؛‬
‫فقال‪ :‬ل ميعاد بيني وبينك يا أمير المؤمنين‪ ،‬ول أراك بعد‬
‫اليوم‪ .‬تعرفني ما أصنع بالنفقة؟ ما أصنع بالكسوة؟ أما‬
‫ترى على إزارين من صوف‪ ،‬متى تراني أبليهما! أما تراني‬
‫قد أخذت من رعايتي أربعة دراهم‪ ،‬متى تراني آكلها؟ يا‬
‫أمير المؤمنين‪ ،‬إن بين يدي ويديك عقبة كئودا ل يجاوزها‬
‫إل كل ضامر مخف مهزول‪ ،‬فأخف رحمك الله فلما سمع‬
‫عمر ذلك‬
‫) ‪(1/109‬‬

‫ضرب بدرته الرض‪ .‬ثم نادى بأعلى صوته‪ :‬أل ليت عمر‬
‫لم تلده أمه! أل ليتها كانت عقيما ً لم تعالج حملها! أل من‬
‫يأخذها بما فيها ولها )يعني الخلفة(‪ .‬ثم قال‪ :‬يا أمير‬
‫المؤمنين‪ ،‬خذ أنت ههنا حتى آخذ أنا ههنا‪ .‬فولى عمر‬
‫ناحية مكة‪ ،‬وساق أويس إبله فوافى القوم فأعطاهم إّياها‬
‫وخلى الرعاية‪ ،‬وأقبل على العبادة حتى لحق بالله تعالى‪.‬‬
‫وفي صحيح مسلم‪ :‬أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه‬
‫قال‪ :‬سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫)يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من‬
‫مراد‪ ،‬ثم من قرن‪ ،‬كان به برص فبرأ منه إل موضع درهم‪،‬‬
‫له والدة هو بها بّر‪ ،‬لو أقسم على الله لبّره‪ ،‬فإن‬
‫ت أن يستغفر لك فافعل( وساق الحديث‪ ..‬إلى أن‬ ‫استطع َ‬
‫ذكر اجتماع عمر به وقوله‪ :‬فاستغفر لي فاستغفر له‪،‬‬
‫فقال له أين تريد؟ قال الكوفة‪ ،‬قال‪ :‬أل أكتب لك إلى‬
‫ي‪ ..‬وهذا بعض‬ ‫ب إل ّ‬
‫عاملها؟ قال أكون في غبراء الناس أح ّ‬
‫الحديث‪.‬‬
‫وفي رواية مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه‬
‫قال‪ :‬سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‪) :‬إن‬
‫خير التابعين رجل يقال له أويس‪ ،‬وكان له والدة هو بها بّر‬
‫مروه فليستغفْر لكم(‪.‬‬
‫وكان به بياض ف ُ‬
‫) ‪(1/110‬‬

‫قول أويس )غبراء الناس(‪ ،‬هو بفتح الغين المعجمة‬


‫وإسكان الباء الموحدة وبالمد‪ :‬وهم فقراؤهم وصعاليكهم‪،‬‬
‫ومن ل تعرف عينه من أخلطهم‪.‬‬
‫وروي عن علقمة بن يزيد رضي الله عنه قال‪ :‬انتهى‬
‫الزهد إلى ثمانية من التابعين‪ ،‬منهم أويس القرني‪ ،‬ظن‬
‫أهله أنه مجنون فبنوا له بيتا على باب دارهم وكانت تأتي‬
‫عليه السنون ل يرون له وجها‪ ،‬وكان طعامه مما يلتقطه‬
‫من النوى؛ فإذا أمسى باعه لفطاره‪ .‬فلما ولى عمر بن‬
‫الخطاب رضي الله عنه قال في الموسم‪ :‬أيها الناس‪،‬‬
‫قوموا فقاموا‪ ،‬فقال‪ :‬اجلسوا إل من كان من اليمن‬
‫فجلسوا‪ .‬فقال‪ :‬اجلسوا إل من كان من أهل مراد‬
‫فجلسوا‪ ،‬فقال اجلسوا إل من كان من قرن‪ ،‬فجلسوا إل‬
‫رجل وكان عم أويس؛ فقال له عمر‪ :‬أقرني أنت؟ قال‬
‫نعم‪ .‬قال‪ :‬أتعرف أويسًا؟ قال أو تسأل عن ذلك يا أمير‬
‫ن ول أجوع منه‪،‬‬ ‫المؤمنين؟ فو الله ما فينا أحمق ول أج ّ‬
‫ت رسول الله صلى‬ ‫ه‪ ،‬سمع ُ‬ ‫فبكى عمر‪ .‬ثم قال‪ .‬ب َ‬
‫ك ل بِ ِ‬
‫ل ربيعة‬ ‫الله عليه وسلم يقول‪) :‬يدخل الجنة بشفاعته مث ُ‬
‫ومضر(‪.‬‬
‫وروي عن عمار بن يوسف الضبي قال‪ :‬قال رجل لويس‬
‫القرني‪:‬‬
‫) ‪(1/111‬‬

‫كيف أصبحت؟ قال‪ :‬أصبحت أحب الله‪ ،‬وأمسيت أحمد‬


‫الله‪ ،‬وما تسأل عن حال رجل إذا أصبح ظن أنه ل يمسي‪،‬‬
‫وإذا أمسى ظن أنه ل يصبح‪ ،‬إن الموت وذكره لم يدع‬
‫لمؤمن فرحًا‪ .‬وإن حق الله تعالى في مال المسلم لم يدع‬
‫له في ماله فضة ول ذهبًا‪ ،‬وإن المر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر لم يدع لمؤمن صديقًا‪ ،‬كنا نأمرهم بالمعروف‬
‫ويشتمون أعراضنا‪ ،‬ويجدون على ذلك أعوانا ً من‬
‫الفاسقين؛ حتى والله لقد رموني بالعظائم‪ ،‬وايم الله ل‬
‫أدع أن أقوم لله فيهم بحّقه ثم أخذ الطريق )يعني‬
‫يمشي( وخلني‪.‬‬
‫وروي عن هرم بن حيان رضي الله عنه قال‪ :‬بلغني حديث‬
‫أويس فقدمت الكوفة‪ ،‬فلم يكن لي هم إل طلبه‪ ،‬حتى‬
‫سقطت عليه جالسا على شاطئ الفرات نصف النهار‬
‫يتوضأ؛ فعرفته بالنعت الذي نعت لي‪ .‬فإذا رجل نحيل‬
‫شديد الدمة أشعث‪ ،‬محلوق الرأس مهيب المنظر؛‬
‫فسلمت عليه فرد علي ونظر لي‪ ،‬ومددت يدي لصافحه‬
‫فأبى أن يصافحني‪.‬‬
‫)قلت(‪ :‬وفي انقباض أويس رضي الله عنه‪ ،‬وما كان عليه‬
‫فيه من رثاثة الحال والتوحش والنعزال‪ ،‬وما نسب إليه‬
‫الجّهال من الجنون والختلل‪،‬‬
‫) ‪(1/112‬‬

‫وما كان فيه من التقشف والبتذال‪ ،‬وغير ذلك من سائر‬


‫الحوال‪ .‬أظهر دليل لمن نحا ذلك النحو من الفقراء‬
‫الصادقين‪ ،‬ول مبالة بإنكار من ينكر عليهم؛ بزعم أن ذلك‬
‫خلف السنة‪ ،‬ولم يدرِ أن السّنة العظمى هي ترك الدنيا‬
‫والعراض عن الورى‪ ،‬والقبال على المولى سبحانه‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫ت يرحمك الله يا أويس‪ ،‬وغفر لك؟ كيف‬ ‫قال هرم‪ :‬فقل ُ‬
‫أنت؟ وخنقتني العبرة من حبي إياه‪ ،‬ورقتي عليه لما رأيت‬
‫من حاله حتى بكيت وبكى‪ .‬قال‪ :‬وأنت فحياك الله يا هرم‬
‫بن حيان! فكيف أنت يا أخي من دلك علي؟ قلت‪ :‬الله‪.‬‬
‫قال‪ :‬ل إله إل الله‪ ،‬سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعول‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن أين عرفت اسمي واسم أبي وما رأيتك قبل‬
‫اليوم ول رأيتني؟ قال‪ :‬أنبأني العليم الخبير‪ ،‬وعرفت‬
‫روحي روحك‪ ،‬حتى كلمت نفسي نفسك‪ ،‬إن المؤمنين‬
‫يعرف بعضهم بعضا‪ ،‬ويتحابون بروح الله وإن لم يلتقوا‪،‬‬
‫وإن نأت بهم الدار وتفرقت بهم المنازل‪ ،‬قلت‪ :‬حدثني‬
‫رحمك الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ .‬قال‪:‬‬
‫إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن‬
‫لي معه صحبة! بأبي وأمي رسول الله! ولكني قد رأيت‬
‫) ‪(1/113‬‬

‫ب أن أفتح على‬ ‫ت أح ّ‬‫رجال رأوه وبلغني من حديثه‪ ،‬ولس ُ‬


‫نفسي هذا الباب أن أكون محدثًا‪ ،‬أو قاضيًا‪ ،‬أو مفتيًا‪ ،‬في‬
‫نفسي شغل شاغل عن الناس‪.‬‬
‫ي آيات من كتاب الله تعالى‬ ‫فقلت‪ :‬أي أخي‪ ،‬اقرأ عل ّ‬
‫أسمعها منك‪ ،‬وأوصني بوصية أحفظها عنك؛ فإني أحّبك‬
‫في الله‪ ،‬فأخذ بيدي‪ ،‬فقال‪ :‬أعوذ بالله السميع العليم من‬
‫الشيطان الرجيم‪ .‬قال ربي‪ ،‬وأحقّ القول قول ربي‬
‫خل َْقَنا‬
‫ما َ‬ ‫وأصدق الحديث حديث ربي‪ ،‬ثم قرأ‪ } :‬وَ َ‬
‫ما إ ِّل‬ ‫َ‬
‫خل َْقَناهُ َ‬
‫ما َ‬ ‫ن‪َ .‬‬‫عِبي َ‬
‫ما ل ِ‬‫ما ب َي ْن َهُ َ‬ ‫ت َواْلْر َ‬
‫ض وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬‫ال ّ‬
‫م { فشهق شهقة وأنا‬ ‫حي ُ‬
‫زيُز الّر ِ‬‫حقّ { إلى قوله‪ } :‬ال ْعَ ِ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫ي عليه‪.‬‬ ‫ش َ‬ ‫أحسبه قد غُ ِ‬
‫ثم قال‪ :‬يابن حيان مات أبوك حيان‪،‬ويوشك أن تموت‬
‫أنت‪ ،‬فإما إلى الجنة وإما إلى النار‪ ،‬ومات أبوك آدم‪،‬‬
‫وماتت أمك حواء يابن حيان‪ ،‬ومات نوح نبي الله‪ ،‬ومات‬
‫إبراهيم خليل الله‪ ،‬ومات موسى كليم الله‪ ،‬ونجي الله‪،‬‬
‫ومات داود خليفة الله‪ ،‬ومات محمد صلى الله عليه وسلم‬
‫وعلى جميع النبياء‪ ،‬ومات أبو بكر خليفة رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم‪ ،‬ومات أخي وصديقي عمر بن الخطاب!‬
‫فقلت له‪ :‬يرحمك الله! إن عمر لم يمت‪ .‬قال‪ :‬بلى قد‬
‫نعاه إلي ربي ونعى إلي نفسي‪،‬‬
‫) ‪(1/114‬‬

‫وأنا وأنت في الموتى‪ ،‬ثم صّلى على النبي صلى الله عليه‬
‫خَفاف‪.‬‬
‫وسلم ودعا بدعوات ِ‬
‫ثم قال‪ :‬هذه وصيتي إياك‪ :‬كتاب الله‪ ،‬ونعي المرسلين‪،‬‬
‫ونعي صالحي المؤمنين؛ فعليك بذكر الموت‪ ،‬ول يفارقن‬
‫قلبك طرفة عين ما بقيت‪ ،‬وأنذر قومك إذا رجعت إليهم‪،‬‬
‫وأنصح المة جميعا‪ .‬وإياك أن تفارق الجماعة فتفارق‬
‫دينك وأنت ل تعلم فتدخل النار‪ ،‬وادع لي ولنفسك‪ .‬ثم‬
‫قال‪ :‬اللهم إن هذا زعم أنه يحبني فيك‪ ،‬وزارني من‬
‫أجلك؛ فعرفني وجهه في الجنة‪ ،‬وأدخله علي دارك دار‬
‫السلم‪ ،‬واحفظه ما دام في الدنيا حيا‪ ،‬وأرضه في الدنيا‬
‫باليسير‪ ،‬واجعله لما أعطيته من نعمتك من الشاكرين‪،‬‬
‫واجزه عني خيرا‪ ،‬ثم قال‪ :‬السلم عليك ورحمة الله‬
‫وبركاته‪ ،‬ل أراك بعد اليوم ‪ -‬يرحمك الله ‪ -‬تطلبني؛ فإني‬
‫أكره الشهرة وأحب الوحدة‪ ،‬لني كثير الغم ما دمت مع‬
‫هؤلء الناس حيا‪ ،‬فل تسأل عني ول تطلبني‪ .‬واعلم أنك‬
‫على بال وإن لم أرك وترني‪ ،‬واذكرني وادع لي فإني‬
‫سأدعو لك وأذكرك إن شاء الله تعالى فخذ أنت ههنا حتى‬
‫آخذ أنا ههنا‪ .‬فحرصت أن أمشي معه ساعة فأبى علي‪،‬‬
‫وفارقته يبكي وأبكي! وجعلت أنظر إليه‬
‫) ‪(1/115‬‬

‫حتى دخل بعض السكك‪ .‬ثم سألت عنه بعد ذلك وطلبته‬
‫فلم أجد أحدا ً يخبرني عنه‪ ،‬وما أتت علي جمعة إل وأنا‬
‫أراه في منامي مرة أو مرتين‪.‬‬
‫وروي عن أصبغ رضي الله عنه قال‪ :‬كان أويس رضي‬
‫الله عنه إذا أمسى يقول‪ :‬هذه ليلة الركوع‪ ،‬ويركع حتى‬
‫يصبح‪ ،‬ويقول‪ :‬هذه ليلة السجود فيسجد حتى يصبح‪ ،‬كان‬
‫إذا أمسى يتصدق بما في بيته من الطعام والثياب ثم‬
‫يقول‪ :‬اللهم من مات جوعانا فل تؤاخذني به‪ ،‬ومن مات‬
‫عريانا فل تؤاخذني به‪.‬‬
‫وروي عن النضر بن شميل)‪ (1‬رحمه الله تعالى‪ .‬قال‪:‬‬
‫كان أويس يلتقط الكسر من المزابل فيغسلها فيتصدق‬
‫ببعضها ويأكل بعضها ويقول اللهم إني أبرأ إليك من كل‬
‫كبد جائع‪.‬‬
‫وروي عن عبد الله بن سلمة رضي الله عنه قال‪ :‬غزونا‬
‫أذربيجان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأويس‬
‫القرني معنا فلما رجعنا مرض فحملناه فلم يستمسك‬
‫فمات‪،‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬النضر بن شميل بن خرشه المازني التميمي‪ .‬أحد‬
‫العلم بمعرفة أيام العرب ورواية الحديث وفقه اللغة‪.‬‬
‫ولد بمرو من بلد خراسان واتصل بالمأمون العباسي‬
‫فأكرمه وقربه‪ .‬وتوفي بمرو سنة ‪203‬ه‪-‬‬
‫) ‪(1/116‬‬

‫فنزلنا فإذا قبر محفور‪ ،‬وماء مسكوب‪ ،‬وكفن وحنوط‪،‬‬


‫فغسلناه وكفناه‪ ،‬وصليت عليه )يعني ودفناه( ومشينا‪ .‬قال‬
‫بعضنا لبعض‪ :‬لو رجعنا فعلمنا قبره‪ ،‬فرجعنا فإذا ل قبر ول‬
‫أثر‪.‬‬
‫وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى‬
‫قال‪ :‬نادى مناد يوم صفين‪ :‬أو في القوم أويس القرني؟‬
‫فوجد في القتلى من أصحاب علي رضي الله عنه وعنهم‬
‫أجمعين‪ .‬والله أعلم‪ .‬انتهى ما ذكره اليافعي رحمه الله‬
‫تعالى مع حذف يسير‪.‬‬
‫وعن ذي النون)‪ (1‬المصري رحمه الله قال‪ :‬بينما أنا‬
‫ببعض سواحل الشام‪ ،‬إذ أنا بامرأة مقبلة؛ فقلت لها‪ :‬من‬
‫أين؟ فقالت‪ :‬من رجال ل تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر‬
‫الله‪ .‬فقلت لها‪ :‬وإلى أين؟ فقالت‪ :‬إلى قوم تتجافى‬
‫ت لها‪ :‬صفيهم لي‪ ،‬فأنشأت‬‫جنوبهم عن المضاجع؛ فقل ُ‬
‫تقول‪:‬‬
‫م بالله قد علقت ‪ ...‬فما لهم همم تسمو إلى‬ ‫مه ُ‬
‫م همو ُ‬‫قو ٌ‬
‫أحدِ‬
‫________________‬
‫)‪ (1‬أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم المصري الخميمي‪.‬‬
‫وكان أبوه إبراهيم نوبيًا‪ .‬وكان رضي الله عنه رجل نحيفا‬
‫تعلوه حمرة‪ .‬توفي سنة ‪245‬ه‪ -‬ورأى الناس طيورا خضرا‬
‫ترفرف على جنازته حتى وصلت إلى قبره‪.‬‬
‫) ‪(1/117‬‬

‫فمطلب القوم مولهم وسيدهم ‪ ...‬يا حسن مطلبهم‬


‫للواحد الصمدِ‬
‫ما أن تنازعهم دنيا ول شرف ‪ ...‬من المطاعم واللذات‬
‫والولدِ‬
‫ول لباس لثوب فائق أنق ‪ ...‬ول لروح سرور حل في بلدِ‬
‫فهم رهائن غدران وأودية ‪ ...‬وفي الشواهق تلقاهم مع‬
‫الَبددِ‬
‫وقيل للجنيد رحمه الله تعالى‪ :‬إن أبا سعيد الخراز)‪ (1‬كان‬
‫كثير التواجد عند وفاته‪ ،‬فقال‪ :‬ليس بعجب أن تطير روحه‬
‫ل‪ .‬وكان في حالته تلك ينشد هذه‬ ‫اشتياقا ً إلى الله عّز وج ّ‬
‫البيات‪.‬‬
‫حنين قلوب العارفين إلى الذكرِ ‪ ...‬وتذكارهم عند‬
‫المناجاة للسّر‬
‫م ‪ ...‬فاغفوا عن الدنيا كإغفاء‬ ‫ُ‬
‫س للمنايا عليه ُ‬‫أِديَرت كئو ٌ‬
‫ر‬
‫ذي السك ِ‬
‫همومهم جوالة بمعسكر ‪ ...‬ومن أهل ود الله كالنجم‬
‫ر‬
‫الّزه ِ‬
‫فأجسادهم في الرض قتلى بحّبه ‪ ...‬وأرواحهم في‬
‫الحجب نحو الُعل تسري‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز‪ .‬من أهل بغداد‪.‬‬
‫وهو من أئمة القوم وجلة مشايخهم‪ .‬قيل‪ :‬إنه أول من‬
‫تكلم في علم الفناء والبقاء‪ .‬مات سنة ‪279‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/118‬‬

‫فما عرسوا إل بقرب حبيبهم ‪ ...‬وما عرجوا عن مس‬


‫بؤس ول ضر‬
‫ولما حضرت الجنيد رحمه الله الوفاة دخل عليه أبو محمد‬
‫الجريري)‪ (1‬رحمه الله فقال‪ :‬ألك حاجة؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬إذا‬
‫ي‪ ،‬فبكى الجريري وبكى‬ ‫ل عل ّ‬ ‫ت فاغسلني وك َّفني و َ‬
‫ص ّ‬ ‫م ّ‬
‫ِ‬
‫الناس معه‪ .‬ثم قال الجنيد‪ :‬وحاجة أخرى‪ ،‬فقال‪ :‬ما هي؟‬
‫فقال‪ :‬تتخذ لصحابنا طعام الوليمة؛ فإذا انصرفوا من‬
‫الجنازة رجعوا إلى ذلك حتى ل يقع لهم تشتت فبكى‬
‫الجريري ثم قال‪ :‬والله لئن فقدنا هاتين العينين ل اجتمع‬
‫مّنا اثنان أبدًا! قال أبو جعفر الفرغاني‪ :‬فكان كذلك المر‬
‫بعد وفاة الجنيد‪ ،‬وإنما كان ذلك الجتماع ببركة الشيخ‬
‫رضي الله عنه‪.‬‬
‫قال الجريري رضي الله عنه‪ .‬وكان في جوار الجنيد رضي‬
‫الله عنه مصاب في خربة‪ ،‬فلما مات الجنيد رحمه الله‬
‫ودفناه ورجعنا من جنازته‪ ،‬فقدمنا ذلك المصاب فصعد‬
‫موضعا ً عاليًا‪،‬‬
‫______________‬
‫)‪ (1‬هو أبو محمد أحمد بن محمد بن الحسين الجريري‪.‬‬
‫كان من كبار أصحاب الجنيد أقعد بعد الجنيد في محله‬
‫لتمام وصحة طريقته وغزارة علمه‪ .‬وتوفي سنة ‪311‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/119‬‬

‫وقال لي‪ :‬يا أبا محمد‪ ،‬أتراني أرجع إلى تلك الخربة وقد‬
‫فقدت ذلك السيد ثم أنشأ يقول‪:‬‬
‫ووا أسفي من فراق قوم ‪ ...‬هم المصابيح والحصون‬
‫والمدن والمزن والرواسي ‪ ...‬والخصب والمن والسكون‬
‫لم تتغير لنا الليالي ‪ ...‬حتى توفتهم المنون‬
‫فكل جمر لنا قلوب ‪ ...‬وكل ماء لنا عيون‬
‫ثم قال‪ :‬غاب عّنا‪ ،‬ذلك آخر العهد به رحمة الله عليهم‪.‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬رأيت المام الغزالي رضي الله عنه‬
‫في البرية وعليه مرقعة وبيده عكاز وركوة‪ ،‬فقلت له‪ :‬يا‬
‫ي‬
‫إمام‪ ،‬أليس التدريس ببغداد أفضل من هذا؟ فنظر إل ّ‬
‫شزرا ً وقال‪ :‬لما بزغ بدر السعادة في فلك الرادة‪،‬‬
‫وظهرت شمس أصول الوصول‪.‬‬
‫ل ‪ ...‬وعدت إلى مصحوب‬ ‫تركت هوى ليلى وسعدى بمعز ِ‬
‫ل‬
‫أّول منز ِ‬
‫ونادت بي الشواق مهل ً فهذه ‪ ...‬منازل من تهوى رويدك‬
‫ل‬
‫فانز ِ‬
‫وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في وصف رجال‬
‫الله‬
‫) ‪(1/120‬‬

‫وخلفائه في أرضه من عباده‪ :‬أولئك هم القلون عددا‪،‬‬


‫العظمون عند الله قدرا؛ بهم يدفع الله عن حججه حتى‬
‫يؤدوها إلى نظرائهم‪ ،‬ويزرعوها في قلوب أشباههم‪ ،‬هجم‬
‫بهم العلم على حقيقة المر فاستلنوا ما استوعره‬
‫المترفون‪ ،‬وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون‪ ،‬هيجوا‬
‫الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمنظر العلى‪ ،‬أولئك خلفاء‬
‫الله تعالى في بلده‪ ،‬ودعاته إلى دينه‪ ،‬هاه هاه شوقا إلى‬
‫رؤيتهم؟!‪ .‬انتهى‪ .‬رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين‪،‬‬
‫ونفعنا والمسلمين بهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫} أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ن{‬‫حو َ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫مْفل ِ ُ‬ ‫ب الل ّهِ هُ ُ‬
‫حْز َ‬ ‫ب الل ّهِ أَل إ ِ ّ‬
‫ن ِ‬ ‫حْز ُ‬
‫ك ِ‬

‫***‬
‫) ‪(1/121‬‬
‫) ‪(1/122‬‬

‫***********************‬
‫الصنف الثالث‬
‫دعوة المراء والسلطين‬
‫وولة أمور المسلمين‬
‫**********************‬
‫) ‪(1/123‬‬

‫) ‪(1/124‬‬

‫الصنف الثالث‬
‫وهم المراء والسلطين والملوك والولة لمور المسلمين‬
‫القول في نصيحتهم وتذكيرهم‪ ،‬وتنبيههم وتحذيرهم‬
‫***‬
‫اعلم أن الولة ل بد منهم‪ ،‬ول غنى للناس عنهم‪ ،‬والولية‬
‫أمر خطير والولة في غاية الخطر؛ فإنهم إن قاموا بما‬
‫يلزمهم من حق عباده تعبوا ونصبوا‪ ،‬وإن ضيعوا ذلك‬
‫هلكوا وعطبوا‪ ،‬وقد قال رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم‪) :‬كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته( الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬إنكم ستحرصون على‬
‫المارة‪ ،‬وإنها ستكون ندامة يوم القيامة( وقال عليه‬
‫الصلة والسلم‪) :‬اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق‬
‫عليهم فاشقق عليه‪ ،‬ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق‬
‫ل‬‫بهم فارفق به(‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬ما من وا ٍ‬
‫على الناس إل جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى‬
‫ه(‪،‬‬ ‫كه عدل ُ ُ‬
‫ه أو أوبقه جوُر ُ‬ ‫عنقه‪ ،‬ف ّ‬

‫) ‪(1/125‬‬
‫ل لو أن ذوائبهم‬ ‫ن رجا ٌ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬لي َوَد ُ ّ‬
‫معلقة بالثريا ولم يلوا من أمر الناس شيئًا(‪.‬‬
‫وض في مال الله‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬كم من متخ ّ‬
‫تعالى بغير حقّ له النار يوم القيامة(‪.‬‬
‫والوعيد الوارد في حق من ولي أمر الناس‪ ،‬ثم لم يأخذ‬
‫بالعدل والنصاف‪ ،‬ويجتنب الظلم والجور شديد‪ ،‬هائل‪،‬‬
‫ولذلك زهد فيها المتقون‪ .‬وفر منها المشمرون الذين هم‬
‫من خشية ربهم مشفقون‪ ،‬ومن ابتلي منهم بذلك ولم يجد‬
‫بدا مما هنالك‪ ،‬كان على غاية من الخوف والشفاق‪،‬‬
‫والتحفظ والحتياط‪ ،‬حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله‬
‫عنه مع ما كان عليه من كمال العدل ونهاية الحتراز‪ :‬من‬
‫يأخذها بما فيها )يعني المارة( وددت أن أنجو منها كفافًا‪،‬‬
‫ي ول لي‪ ،‬وكان من شدة خوفه من الضاعة لشيء‬ ‫ل عل ّ‬
‫من أمور المسلمين وحسن النظر فيها ل ينام إل خفقانا ً‬
‫ت بالنهار ضّيعت أمور المسلمين‪،‬‬ ‫وهو قاعد ويقول‪ :‬إن نم ُ‬
‫ت بالليل ضّيعت نفسي؛ فكيف لي بالنوم بين‬ ‫وإن نم ُ‬
‫هاتين؟!‬
‫وكان علي ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬إذا اجتمع في بيت‬
‫المسلمين المال؛‬
‫) ‪(1/126‬‬

‫دعاهم ففّرقه عليهم حتى ل يبقى فيه درهم ‪ ،‬ثم يأمر‬


‫بكنسه و نضحه بالماء ‪ ،‬و يصلي فيه ‪ ،‬ويقول‪ :‬كما يشهد‬
‫ي بجمع المال فيه يشهد لي بالصلة فيه‪.‬‬‫عل ّ‬
‫ولما ولي المر عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سمع‬
‫في داره بكاء كثير‪ ،‬فسألوا عن ذلك فقيل‪ :‬إنه خير نساؤه‬
‫وجواريه بين أن ل يأتيهن أو الفراق‪ ،‬وقال‪ :‬إني قد شغلت‬
‫عنكن بما كلفته من القيام بأمر المسلمين؛ فاخترن‬
‫القامة معه‪ .‬فروي أنه لم يغتسل من جنابة مدة خلفته‬
‫إل مرتين‪ ،‬وكانت خلفته قريبا ً من سنتين ونصف)‪.(1‬‬
‫وأراد مرة أن يغتسل فأتي بقمقمة من نحاس فيها ماء‬
‫حار وكان برد شديد؛ فسأل‪ :‬على أي شيء سخنتم هذا‬
‫الماء؟ فقيل له‪ :‬على مطبخ العامة‪ ،‬فأبى أن يغتسل به‪،‬‬
‫وأراد أن يغتسل بماء بارد‪ ،‬فقال له الخادم‪ :‬إن اغتسلت‬
‫بهذا الماء البارد أصبح الناس ول خليفة لهم )يعني تموت‬
‫من شدة البرد(‪ .‬فقال‪ :‬كيف أصنع وهذا الماء ل يحل لي؟‬
‫فقال الخادم‪ :‬تقوم الحطب الذي يوقد به على مثل هذا‬
‫ومه ورّده في‬‫الماء وتجعله في بيت مال المسلمين‪ ،‬فق ّ‬
‫بيت المال‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬وليها سنة ‪99‬ه‪ -‬وتوفي سنة ‪101‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/127‬‬

‫وسير الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم في أمثال ذلك‬


‫معروفة ومنتشرة‪ ،‬يطول ذكرها ولكنه لم يتم ذلك ويثبت‬
‫على وجهه كما يجب وينبغي إل للخلفاء الربعة‪ :‬أبي بكر‬
‫الصديق‪ ،‬وعمر الفاروق‪ ،‬وعثمان الشهيد‪ ،‬وعلي المرتضى‬
‫رضوان الله عليهم‪ ،‬وكانت مدة خلفتهم هي المدة التي‬
‫قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم‪) :‬إن هذا المر‬
‫بدأ نبوة ورحمة‪ ،‬ثم يكون خلفة ورحمة ثم يكون ملكا ً‬
‫عضوضًا)‪ ( (1‬الحديث‪.‬‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم‪) :‬الخلفة بعدي ثلثون سنة(‬
‫فكانت هذه المدة هي مدة الخلفاء الربعة‪ ،‬مضافا إليها‬
‫اليام التي استخلف فيها الحسن بن علي سبط رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم وهي نحو من ستة أشهر؛‬
‫فتمت بها الثلثون سنة من حين توفي رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم إلى أن صالح الحسن بن علي رضي الله‬
‫عنهما معاوية بن أبي سفيان وبايع حين رأى ما رأى‪،‬‬
‫وأبصر الذي أبصر‪ ،‬وتم فيه رضي الله عنه ما وعد به جده‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه؛ حيث قال‬
‫عليه الصلة والسلم‪) :‬إن ابني هذا سيد‪ ،‬ولعل الله أن‬
‫يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين( __________‬
‫)‪ - (1‬عضوضًا‪ :‬شديدًا؛ أي يصيب الرعية فيه عسف‬
‫ضًا‪.‬‬
‫ضون فيه ع ّ‬
‫وظلم‪ .‬كأنهم ي ُعَ ّ‬
‫) ‪(1/128‬‬

‫فلم يكن في مدة السلم من حين توفي رسول الله‬


‫صلى الله عليه وسلم إلى أيامنا هذه‪ .‬أيام‪ ،‬ول زمان فيه‬
‫من العدل والحسان وإماتة الجور والعدوان وإقامة الحق‬
‫والدين‪ ،‬وجهاد الكافرين والمعتدين‪ ،‬تشبه ول تقارب مدة‬
‫خلفة الخلفاء الراشدين المهتدين‪ ،‬التي هي الثلثون سنة‬
‫المنصوصة في حديثه عليه أفضل الصلة والسلم‪.‬‬
‫نعم؟! قد سار بنحو من سيرتهم وقريبا ً منها جدا ً الخليفة‬
‫الصالح )عمر بن عبد العزيز الموي( رحمه الله تعالى‪،‬‬
‫ولكنها قصرت مدة خلفته‪ ،‬ولقي من الناس ومن أهل‬
‫بيته خصوصا ً مشقة وتعبًا‪ ،‬وشدة ومعاناة ومقاساة‪ ،‬لن‬
‫الناس قد بعد بهم العهد عن زمان العدل وإقامة الحق‪،‬‬
‫وذلك من حين صالح الحسن بن علي وبايع لمعاوية رضي‬
‫الله عنهم‪ ،‬إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز‪ ،‬وذلك نحو‬
‫من ستين سنة‪ ،‬فاندرست في هذه المدة أكثر سنن‬
‫العدل والنصاف وظهرت شعائر الظلم والجور‪ ،‬ومال‬
‫سر ذلك وصعب على عمر بن‬ ‫الناس عن الصواب‪ ،‬فتع ّ‬
‫عبد العزيز رحمه الله إعادتهم وإرجاعهم إلى مثل ما كان‬
‫عليه الحال‪ ،‬والعهد به من أيام‬
‫) ‪(1/129‬‬

‫الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين‪ ،‬حتى إنه‬


‫بلغنا أن عمر بن عبد العزيز سأل من بعض عباد الله‬
‫الصالحين أن يدعو له بالموت لما اشتد عليه أمر الناس‪،‬‬
‫وثقل عليه القيام بالحق والعدل كما ينبغي؛ فتخير الموت‬
‫والنتقال إلى الدار الخرة التي هي خير وأبقى‪ ،‬وليس‬
‫ذلك منه عن جزع وتبرم‪ ،‬ولكن خوفا وإشفاقا من أن‬
‫يستقبله الكارهون لمر الله تعالى‪ ،‬وإقامة العدل في‬
‫عباده من المحبين للجور والظلم‪ ،‬وأكل أموال الناس‬
‫بالباطل‪ ،‬بأمر ل يطاق‪ ،‬ويؤول إلى فتنة واختلف وفرقة؛‬
‫فتخير ما عند الله على ذلك‪.‬‬
‫وقد سبقه إلى ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب‬
‫كرم الله وجهه؛ حيث اختلف عليه أهل العراق‪ ،‬ورأى‬
‫منهم ما رأى من التباطؤ عن نصرة الحق‪ ،‬ومجاهدة أهل‬
‫البغي؛ حتى روي أنه قال‪ :‬اللهم أرحني منهم وأرحهم‬
‫مني؛ ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام‪،‬‬
‫فشكا إليه ما لقي من المة من الختلف والمنازعة؛‬
‫فقال له عليه الصلة والسلم‪) :‬أدع الله عليهم( فقال‬
‫م أبدلني خيرا ًَ منهم‪ ،‬وأبدلهم‬
‫علي رضي الله عنه‪ :‬الله ّ‬
‫شّرا ً مني‪.‬‬
‫ولما بلغت ملك الروم وفاة عمر بن عبد العزيز رحمه الله‬
‫شق عليه ذلك‪،‬‬
‫) ‪(1/130‬‬

‫وقال فيه كلما ً حسنا ً يثني به عليه‪ ،‬وقال في آخره‪ :‬ولكن‬


‫ل يبقى أهل الخير مع أهل الشّر إل قليل ً أو كما قال‪.‬‬
‫ثم إنه لم يكن فيمن استخلف على المسلمين بعد الخلفاء‬
‫الربعة رضي الله عنهم وبعد عمر بن عبد العزيز رحمه‬
‫الله تعالى من سار بالسيرة المرضية المحمودة‬
‫المستقيمة ل من بني أمية ول من بني العباس رضي الله‬
‫عنه‪ .‬إل أن بني أمية كانوا أضيع لمر الله وأشد تهاونا ً‬
‫ل تعظيما ً لشعائره من بني العباس‪ ،‬وبينهم‬ ‫بحرماته‪ ،‬وأق ّ‬
‫في تلك تفاوت بعيد وتباين بّين‪ ،‬وإلى الله العظيم مآل‬
‫الجميع‪ ،‬وعليه حسابهم‪ ،‬وهو عليم بما يفعلون‪ ،‬وسيجزيهم‬
‫َ‬
‫ن {‪.‬‬‫ب َينَقل ُِبو َ‬‫منَقل َ ٍ‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬
‫موا أيّ ُ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫سي َعْل َ ُ‬
‫بما يفعلون } وَ َ‬
‫وحيث قد صار متعذرا أو متعسرا على من ولي شيئا من‬
‫أمور المسلمين‪ ،‬أن يسير فيهم بسيرة أهل العدل‬
‫والحسان‪ ،‬المجانبين للظلم والعدوان‪ ،‬فيتعين على كل‬
‫من كان منهم حريصا على ابتغاء رضوان ربه وثوابه‪،‬‬
‫ومشفقا من سخطه وعقابه‪ ،‬أن يكون في سيرته وفي‬
‫جميع أفعاله وأقواله مقتديا ومتأسيا بأئمة الحق والهدى‪،‬‬
‫والعدل والنصاف‪ ،‬ما وجد إلى ذلك‬
‫) ‪(1/131‬‬

‫سبيل‪ ،‬باذل فيه ما يمكنه ويستطيعه‪ ،‬من غير ميل إلى‬


‫اتباع الهوى وإيثار الدنيا على العقبى‪ ،‬وأقل ذلك أن يكون‬
‫في سيرته في جميع أموره إلى ولة العدل والحسان‬
‫أقرب وأشبه منه بولة الجور والطغيان‪ ،‬والظلم‬
‫والعدوان‪ ،‬وليكن معترفا بتقصيره‪ ،‬وخائفا مشفقا على‬
‫نفسه من تخليطه وتفريطه‪ ،‬غير مغتر بربه ول معجبا‬
‫بنفسه‪ ،‬ول ظانا ول متوهما أن له قدما مع ولة العدل‬
‫والحق والنصاف؛ فلعله بذلك يتخلص وينجو‪ ،‬وإن كان‬
‫النجاة والخلص من أبعد شيء وأعزه في حق ولة هذه‬
‫الزمان والعصار‪.‬‬
‫على أنه قد يغلب على كثير منهم العجاب بأنفسهم‬
‫والغترار بربهم‪ ،‬وإن كانت سيرتهم قبيحة‪ ،‬وأعمالهم‬
‫سيئة منكرة‪ ،‬وذلك من شؤم تلبيس الشيطان عليهم‬
‫وسوء خداعه‪ ،‬وخفي سعيه في هلكهم؛ فإنهم لو شهدوا‬
‫تقصيرهم واعترفوا بتخليطهم‪ ،‬وأنهم ل يقومون بما يجب‬
‫عليهم من حق ربهم وحق من استرعاهم من عباده‬
‫وولهم أمرهم من خلقه‪ ،‬لربما رجعوا إليه وتابوا مما هم‬
‫فيه‪ ،‬واستغفروا ربهم لذنوبهم‪ ،‬فأقل ما يجب عليهم‬
‫العتراف بالقتراف والتقصير‪ ،‬والعزم على التوبة منه إلى‬
‫الله تعالى‪.‬‬
‫) ‪(1/132‬‬

‫‪ ...‬ومن أهم المهمات على من ولي شيئا ً من أمور‬


‫المسلمين‪ ،‬أن يتبصر في الدين ويتعّلم ما ل بد ّ له من‬
‫علمه من علوم اليمان وعلوم السلم ليعرف ما فرض‬
‫الله عليه من طاعته‪ ،‬وما حّرم عليه من معصيته‪ ،‬وما‬
‫أوجب عليه سبحانه وتعالى من حقّ ربوبيته في نفسه‪،‬‬
‫وفي حقّ من وله أمرهم من عباده‪ ،‬فإن العالم يعرف‬
‫ذلك ويهدي إليه‪ ،‬والجاهل بصدد كل شّر وإضاعة‪ ،‬والجهل‬
‫قبيح بكل واحد؛ ولكنه برؤساء الناس وأرباب المراتب‬
‫منهم أشر وأقبح؛ لنهم لنفسهم ولغيرهم‪.‬‬
‫…ثم على الوالي أن يكون من أحرص الناس على إقامة‬
‫فرائض الله تعالى‪ .‬واجتناب محارمه‪ ،‬وتعظيم شعائر دينه‬
‫وحرماته‪.‬‬
‫وعليه أن يأمر رعيته بذلك ويحثهم عليه؛ فإن الله تعالى‬
‫ما وله أمر عباده إل ليقيم فيهم دينه‪ ،‬وما أمر به من‬
‫طاعته؛ وحرمه من معصيته‪ ،‬وأما ما يدور على الولة من‬
‫أمور الدنيا والمعاش فهو تابع لذلك ولحق به‪ .‬والصل هو‬
‫السعي في إقامة الدين وأمر الله في عباده‪.‬‬
‫وعلى الوالي أن يحرص على إزالة المنكرات ومحو‬
‫آثارها‪،‬‬
‫) ‪(1/133‬‬

‫كن أحدا ً من التظاهر بها‪ .‬ومن أظهر من شيئا ً زجره‬ ‫م ّ‬


‫ول ي ُ َ‬
‫أبلغ الزجر‪ ،‬وعاقبه أشد ّ العقوبة على حسب ما يقتضيه‬
‫الشرع الشريف أو السياسة السلطانية‪ ،‬كل ذلك مع أهله‬
‫وفي محّله‪.‬‬
‫وعليه أن يقيم حدود الله على عباده إذا قامت الحجة‬
‫وصحت بها البينة‪ ،‬مثل حد الشرب للخمر والسرقة‬
‫وغيرهما‪ ،‬ول يتساهل في ذلك ول يقصر عنه‪ .‬وفي‬
‫الحديث‪) :‬حد ّ ُيعمل به في الرض خير لهل الرض من أن‬
‫يمطروا أربعين صباحًا(‪.‬‬
‫وفي إقامة حدود الله على المعتدين لهم ولغيرهم من‬
‫الزجر عن الباطل والمنكر‪ ،‬ما ل مزيد عليه‪ ،‬وبذلك تصلح‬
‫أحوالهم‪ ،‬وتحسن طرائقهم‪ .‬وفيه من إخافة الظالمين ورد‬
‫المعتدين‪ ،‬وردع الفاسقين ما تحمد عواقبه‪ ،‬وتحسن آثاره‬
‫قال عثمان بن عفان رضي الله عنه‪ :‬إن الله يزع‬
‫بالسلطان ما ل يزع بالقرآن‪ :‬أي إن الذين يمنعهم القرآن‬
‫عن محارم الله هم الذين بحيث لو لم يكن سلطان لكان‬
‫تقواهم لله وخوفهم منه يمنعهم من ترك ما فرض عليهم‬
‫من حق ربهم‪ ،‬ويردعهم عن الوقوع فيما حرمه عليهم‬
‫وأخذ ما ليس لهم‪ .‬وأما الكثير من الناس فهم الذين‬
‫يرّدهم خوف السلطان عن التعدي‪،‬‬
‫) ‪(1/134‬‬

‫وأخذ ما ليس لهم بحق‪ ،‬ولول خوفهم من السيف‬


‫والسوط ونحوهما لم ينكفوا ولم يرعووا؛ لقصور نظرهم‬
‫على أمور الدنيا وأحوال المعاش؛ وقد قيل‪ :‬الدين أس‬
‫والسلطان حارس‪ ،‬وما ل أس له فمهدوم‪ ،‬وما ل حارس‬
‫له فضائع‪ ،‬وقيل أيضا‪ :‬الدين والملك توأمان‪.‬‬
‫ثم إن كان السلطان الذي هو قائم بالملك عادل صالحا‪،‬‬
‫كانت أخوة ملكه للدين صحيحة‪ .‬سليمة وإن كان‬
‫السلطان إنما رغب في الملك وتقلده‪ ،‬وحرص عليه‬
‫ليحصل لنفسه الرياسة والرفعة على الناس‪ ،‬وليكون نافذ‬
‫المر مسموع الكلمة رغبة في الدنيا وشهواتها‪ ،‬كانت‬
‫أخوة الملك الذي هو صاحب للدين غير صحيحة ول‬
‫حقيقة؛ بل هي صورية مجازية‪ ،‬وما يتفق ويقع من الملك‬
‫الذي هذا وصفه في حفظ أمور الدين‪ ،‬وحماية أمور‬
‫المسلمين‪ ،‬وأمنهم على أنفسهم وأموالهم فذلك بحكم‬
‫التفاق والتبعية لتوقف استقامة الملك والرياسة الذي هو‬
‫بصددها على ذلك‪.‬‬
‫وافهم ههنا قوله عليه الصلة والسلم‪ ) :‬إن الله يؤيد هذا‬
‫الدين بالبر والفاجر(‪ ،‬وفي رواية )بالرجل الفاجر(‪ ،‬وفي‬
‫رواية ) بأقوام ل خلق لهم(‪ ،‬وفي رواية ) برجال ما هم‬
‫من أهله(‪.‬‬
‫) ‪(1/135‬‬

‫وأكثر ملوك هذه الزمنة بل وأزمنة قد خلت‪ ،‬إنما نيتهم‬


‫الدنيا ونيل الرياسات فيها‪ ،‬والتمتع بالشهوات منها‪ ،‬وقد‬
‫ارتبط بقيامهم في ذلك خيرات كثيرة‪ ،‬ومصالح دينية‬
‫ودنياوية من أمن البلد والعباد‪ ،‬وقهر أهل الفساد والبغي‬
‫والعناد؛ فسبحان الله العليم الحكيم‪ ،‬المدبر العظيم‪ .‬وقد‬
‫م‬
‫ضه ُ ْ‬ ‫س ب َعْ َ‬ ‫قال عز من قائل كريم‪ } :‬وَل َوْل َ د َفْعُ الل ّهِ الّنا َ‬
‫ل عََلى‬ ‫َ‬
‫ض ٍ‬ ‫ذو فَ ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ض وَل َك ِ ّ‬‫ت الْر ُ‬ ‫سد َ ِ‬ ‫ض ل َّف َ‬ ‫ب ِب َعْ ٍ‬
‫س‬‫ن {‪ ،‬وفي الية الخرى‪ } :‬وَل َوَْل د َفْعُ الل ّهِ الّنا َ‬ ‫مي َ‬ ‫ال َْعال َ ِ‬
‫جد ُ ي ُذ ْك َُر‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫وا ٌ‬ ‫صل َ َ‬‫معُ وَب ِي َعٌ وَ َ‬ ‫وا ِ‬‫ص َ‬‫ت َ‬ ‫م ْ‬ ‫ض ل ّهُد ّ َ‬
‫ضُهم ب ِب َعْ ٍ‬ ‫ب َعْ َ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫صُرهُ إ ِ ّ‬‫من َين ُ‬ ‫ه َ‬‫ن الل ّ ُ‬ ‫صَر ّ‬ ‫م الل ّهِ ك َِثيرا ً وَل ََين ُ‬ ‫س ُ‬ ‫ِفيَها ا ْ‬
‫زيٌز {‪ .‬وذلك عام فيمن نيته الخرة والدين من‬ ‫ل ََقوِيّ عَ ِ‬
‫الدافعين‪ ،‬و فيمن نيته الدنيا والرياسات والشهوات‬
‫َ‬
‫م أعْل َ ُ‬
‫م‬ ‫شاك ِل َت ِهِ فََرب ّك ُ ْ‬ ‫ل عََلى َ‬ ‫م ُ‬ ‫ل ي َعْ َ‬‫ل كُ ّ‬ ‫العاجلة الفانية } قُ ْ‬
‫سِبيل ً { وأعمالهم وأقوالهم وظواهر‬ ‫َ‬
‫دى َ‬ ‫ن هُوَ أهْ َ‬ ‫م ْ‬‫بِ َ‬
‫ن‬
‫ما ت ُك ِ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ك ي َعْل َ ُ‬
‫أحوالهم تدل على نياتهم وضمائرهم } وََرب ّ َ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫ما ي ُعْل ُِنو َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫دوُرهُ ْ‬ ‫ص ُ‬‫ُ‬
‫وينبغي للسلطان )وفقه الله تعالى( أن يكون شفيقا ً رفيقا ً‬
‫في موضع الرفق‪ ،‬ومع من يحسن معه ذلك من الضعفاء‬
‫والمساكين‪،‬‬
‫) ‪(1/136‬‬

‫والمظلومين وذوي الحاجات‪ .‬وأن يكون فيه شيء من‬


‫الشدة والغلظة على الظالمين والمتجّبرين‪ ،‬وأهل البغي‬
‫دي حتى تقوم له الهيبة في صدورهم‪ ،‬وُتقّيد من‬ ‫والتع ّ‬
‫خوف السطوة أيديهم‪ .‬ويكون ذلك كّله من الرفق‬
‫والشدة بقدره في مواضعه ومع أهله‪ ،‬وذلك من حسن‬
‫السياسة؛ فليكن السلطان )أصلحه الله( عارفا ً بطرائقها‬
‫ومواقعها‪.‬‬
‫***‬
‫…فعلى حسن السياسة والعلم بها مدار كبير في أمور‬
‫الوليات‪ ،‬واستصلح الرعايا‪ ،‬وهي من ثمرات العقول‬
‫الراجحة والعلوم الغزيرة؛ ولذلك ل يحسنها ول يقوم بها‬
‫كما ينبغي‪ ،‬إل من كمل في علمه وعقله‪ ،‬وبصيرته‬
‫وصبره‪ ،‬ولذلك لم يوصف به من الملوك والسلطين‬
‫إسلما وجاهلية إل الحاد منهم والفراد‪ .‬قال المام‬
‫الشافعي رحمه الله تعالى‪ :‬سياسة الناس أشد من‬
‫سياسة الدواب‪ ،‬وذلك بين لخفاء به‪.‬‬
‫***‬
‫سّهل‬
‫وعلى السلطان ‪-‬أصلحه الله‪ -‬أن يفتح الباب وي ُ َ‬
‫الحجاب؛‬
‫) ‪(1/137‬‬

‫سر الوصول إليه لمن أراده‪ ،‬ورغب فيه من‬ ‫ليتي ّ‬


‫المتظلمين وذوي الحاجات‪ .‬ثم ما أمكنه المباشرة له من‬
‫ذلك بنفسه باشره‪ ،‬وما لم يمكنه مباشرته لشغل هو أهم‬
‫منه وأصلح للمسلمين‪ ،‬فينبغي له أن يقيم فيه ويستكفي‬
‫من يثق به في دينه وكفايته من وزرائه ووجوه دولته‪.‬‬
‫***‬
‫وعليه‪ :‬أن ل يوسط بينه وبين رعيته‪ ،‬ول يستعمل عليهم‬
‫إل أهل الخير والدين‪ ،‬والمانة والصيانة؛ فإن السلطان‬
‫بوسائطه وعماله الذين يكونون بينه وبين الناس‪ .‬فمهما‬
‫كانوا أخيارا وأمناء بلغوا عنه وبلغوا إليه المور على ما‬
‫هي عليه من غير تغيير ول زيادة ول نقصان‪ ،‬ومهما كانوا‬
‫أشرارا مفسدين خونة بلغوا إليه المور على حسب‬
‫أهوائهم‪ ،‬ووفق أغراضهم الفاسدة؛ فتلتبس بسبب ذلك‬
‫المور‪ ،‬وتضطرب الحوال‪ ،‬وينسب ما يصدر منهم إلى‬
‫السلطان مما يستحسن أو يستقبح‪ .‬فليتحرز السلطان‬
‫غاية التحرز‪ ،‬وليتحّفظ نهاية التحّفظ من وسائط السوء‪،‬‬
‫وعمال السوء‪.‬‬
‫***‬
‫) ‪(1/138‬‬

‫وعليه )أيده الله تعالى(‪ :‬أن يظهر من نفسه الرغبة في‬


‫الخير والطاعة‪ ،‬وإقامة أمر الله في عباده‪ ،‬ومحبة العدل‬
‫والنصاف‪ ،‬وكراهية الظلم والجور؛ حتى يتقرب إليه‬
‫أعوانه‪ ،‬والمتصلون به بفعل مثل ذلك‪ ،‬وإظهار العمل به‪،‬‬
‫ويرفعون إليه ما عرفوا منه الرغبة فيه‪ ،‬وحب القيام به‬
‫من تلك الخيرات والمبرات‪ ،‬فقد قالوا‪) :‬السلطان‬
‫كالسوق‪ ،‬يجلب إليها ما ينفق فيها( ومعناه‪ :‬أنه إن عرف‬
‫منه الميل إلى العمل بالحق والخير أكثر أعوانه من ذكر‬
‫ذلك عنده‪ ،‬وتقربوا إليه بالمعاونة‪ .‬وإن عرف منه ضد ذلك‬
‫كان المر منهم على وفق ما يناسبه وينفق عنده‪ .‬وهذا‬
‫المر قد عرف بالمشاهدة والتجربة‪ ،‬وفي قريب منه قيل‪:‬‬
‫)الناس على دين ملوكهم(‪.‬‬
‫***‬
‫ماله حسن النصيحة‬ ‫ثم من ظهر له من وسائطه وع ّ‬
‫والمانة والكفاية‪ ،‬زاد في تقريبه وإكرامه وإعلء منزلته‪.‬‬
‫ذره من ذلك‬ ‫ش وخيانة وإضاعة‪ ،‬ح ّ‬ ‫ومن ظهر منه ِغ ّ‬
‫ط منزلته وعزله وأبعده؛ فإنه ل‬ ‫دده؛ فإن انزجر وإل ح ّ‬‫وه ّ‬
‫ش والخيانة والضاعة‪ ،‬بل هم السبب في‬ ‫خير في أهل الغ ّ‬
‫تخريب الممالك‪ ،‬و هلك الرعايا‪ ،‬واجتراء العداء‪.‬‬
‫***‬
‫) ‪(1/139‬‬

‫ل‪ ،‬صالحا ً ناصحًا‪،‬‬ ‫وليتخذ السلطان ‪-‬أيده الله‪ -‬وزيرا ً عاق ً‬


‫وفي الحديث‪) :‬إذا أراد الله بالمير خيرا ً جعل له وزيرا ً‬
‫كره‪ ،‬وإن ذكر أعانه‪ .‬وإذا أراد به سوءا ً‬ ‫صالحًا‪ ،‬إن نسي ذ ّ‬
‫كره‪ ،‬وإن ذكر لم‬ ‫جعل له وزيرا ً غير صالح‪ ،‬إن نسي لم يذ ّ‬
‫ُيعنه(‪.‬‬
‫وليحترز والي المر من الظلم فإنه أساس الخراب وأصل‬
‫الفساد‪ ،‬وسبب الدمار والبوار‪ .‬وإذا عرف به وانتشر عنه‬
‫كرهته الرعية ونفرت عنه‪ ،‬وأحبت زواله وهلكه‪،‬‬
‫وانطلقت ألسنتها بذمه والدعاء عليه‪ ،‬قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬خير أمرائكم الذين تحبونهم ويحبونكم‪ ،‬وتصلون‬
‫عليهم ويصلون عليكم‪ ،‬وشر أمرائكم الذين تبغضونهم‬
‫ويبغضونكم‪ ،‬وتلعنونهم ويلعنونكم( الحديث‪ .‬ومعنى الصلة‬
‫ههنا‪ :‬الدعاء لهم‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬يد الله‬
‫على المير ما لم يجر؛ فإذا جار رفع الله عنه يده( وقال‬
‫طبا ً {‬
‫ح َ‬ ‫س ُ‬ ‫َ‬
‫م َ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫ن فَ َ‬
‫كاُنوا ل ِ َ‬ ‫طو َ‬ ‫ما ال َْقا ِ‬
‫تعالى‪ } :‬وَأ ّ‬
‫والقاسطون‪ :‬هم الجائرون‪ .‬وأما المقسطون‪ :‬فهم أهل‬
‫العدل والنصاف‪.‬‬
‫) ‪(1/140‬‬

‫ل له في أموال‬ ‫وليعلم السلطان ‪-‬أصلحه الله‪ :-‬أنه ل يح ّ‬


‫المسلمين قليل ول كثير‪ ،‬وأن الضرائب المضروبة عليهم‬
‫من الجبايات والمكوس والعشور كلها من الظلم‬
‫ل له ولعوانه‪:‬‬ ‫الفاحش‪ ،‬والجور الشنيع‪ .‬والموال التي تح ّ‬
‫إنما هي أمور المصالح من الموال التي ل مالك لها معين‪،‬‬
‫ومن مات ول وارث له‪ ،‬وما يؤخذ من أهل الذمة من‬
‫الجزية ونحوها‪ ،‬وأشباه ذلك من الموال‪.‬‬
‫…وقد ذكر المام حجة السلم )رحمه الله تعالى( في‬
‫كتاب الحلل والحرام من الحياء‪ :‬وجوه الدخل التي منها‬
‫يكون أموال السلطين‪ ،‬وحصرها في عشرة أقسام‪،‬‬
‫وبينها بينا حسنا‪.‬‬
‫وعليه )أصلحه الله( أن يجتنب السراف والتبذير‪ ،‬حتى ل‬
‫تدعوه الحاجة إلى أخذ أموال المسلمين واستلب ما في‬
‫أيديهم‪ ،‬والله تعالى إنما ملكه ووله عليهم ليحفظ‬
‫أنفسهم وأموالهم‪ ،‬ويحرسها من الظالمين والمعتدين؛‬
‫فإذا ظلمهم هو واغتصبهم ما في أيديهم‪ ،‬فمن الذي‬
‫يحفظ ويرد ّ أهل العدوان! وقد صار الحافظ معتديًا‪،‬‬
‫والحارس ضعيفًا؛ فل حول ول قوة إل بالله العلي‬
‫العظيم ‪.‬‬
‫) ‪(1/141‬‬

‫وعلى والي المر ‪-‬أصلحه الله تعالى‪ :-‬أن يحرص ك ّ‬


‫ل‬
‫الحرص على نصرة المظلوم‪ ،‬والقيام مع الضعيف حتى‬
‫يأخذ له حّقه من القوي‪ .‬وليجتهد في ذلك كل الجتهاد‪.‬‬
‫وأن يكون ناصحا ً لرعيته‪ ،‬باذل ً وسعه في حمايتهم والذ ّ‬
‫ب‬
‫شهم ول يطمع فيهم‪ ،‬ول يستكثر لهم ما في‬ ‫عنهم‪ ،‬ول يغ ّ‬
‫أيديهم‪.‬‬
‫ب لنفسه من الخير‪ ،‬ويكره لهم ما‬ ‫ب لهم ما يح ّ‬‫وأن يح ّ‬
‫يكره لنفسه من الشر‪ ،‬ويحرص كل الحرص على إيصال‬
‫النفع لهم‪ ،‬ودفع الضر عنهم فيما يتعلق بأمور دينهم وأمر‬
‫معاشهم؛ فإن الله تعالى إنما أقامه لذلك‪ ،‬وفي الحديث‪:‬‬
‫)أيما وال ولي ولم يحط رعيته بالنصيحة إل حرم الله عليه‬
‫الجنة( الحديث‪.‬‬
‫***‬
‫ومهما كان الوالي مصلحا ً حسن الرعاية جميل السيرة‪،‬‬
‫كان على الرعية أن يعينوه بالدعاء له‪ ،‬والثناء عليه بالخير‪.‬‬
‫ومهما كان مفسدا ً مخلطًا‪ ،‬كان عليهم أن يدعوا له‬
‫مه‬
‫بالصلح والتوفيق والستقامة‪ ،‬وأل يشغلوا ألسنتهم بذ ّ‬
‫والدعاء عليه؛‬
‫) ‪(1/142‬‬

‫فإن ذلك يزيد في فساده واعوجاجه‪ ،‬ويعود وبال ذلك‬


‫عليهم‪ .‬قال الفضيل رحمه الله‪ :‬لو كانت لي دعوة‬
‫مستجابة لم أجعلها إل للمام؛ لن الله إذا أصلح المام‬
‫أمن العباد والبلد‪ .‬وفي بعض الثار عن الله تعالى أنه‬
‫قال‪) :‬أنا الملك وقلوب الملوك بيدي؛ فمن أطاعني‬
‫جعلتهم عليه نعمة‪ ،‬ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة‪ .‬فل‬
‫تشغلوا أنفسكم بسب الملوك‪ .‬وسلوني أعطف قلوبهم‬
‫عليكم( الثر بمعناه‪.‬‬
‫ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجور‬
‫وقيل له‪ :‬أفل ننابذهم يا رسول الله؟ قال‪) :‬ل‪ ،‬ما أقاموا‬
‫فيكم الصلة( وقال‪) :‬إن أحسنوا فلكم ولهم‪ ،‬وإن أساؤوا‬
‫فلكم وعليهم( وفي حديث آخر‪) :‬أدوا الذي عليكم واسألوا‬
‫الله الذي لكم(‪ .‬وإنما نهى عليه الصلة والسلم عن‬
‫منابذتهم ونزع اليد من طاعتهم؛ لما يترتب على تلك من‬
‫الفتن‪ ،‬والبليا العامة التي يكون فيها هلك النفس‬
‫والموال‪ .‬وقيل‪ :‬سلطان غشوم خير من فتنة تدوم‪.‬‬
‫ومن الوليات المخطرة تولي القضاء بين الناس؛ فعلى‬
‫من يلي ذلك أن يتأنى ويتثبت‪ ،‬ويجتهد ويحكم بين عباد‬
‫الله بما أنزل الله‪ ،‬ول يتبع الهوى فيضله عن سبيل الله‪،‬‬
‫) ‪(1/143‬‬

‫ح بغير سكين(‪.‬‬ ‫وفي الحديث‪) :‬من جعل قاضيا ً فقد ذ ُب ِ َ‬


‫ض في الجنة‪:‬‬ ‫ً‬
‫وفي الحديث أيضا‪) :‬قاضيان في النار وقا ٍ‬
‫ض قضى‬ ‫ض قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة‪ .‬وقا ٍ‬ ‫قا ٍ‬
‫بالباطل وهو ل يعلم أو يعلم فهما في النار(‪ .‬فليتحّفظ‬
‫القاضي ‪-‬أرشده الله‪ -‬غاية التحّفظ من المحاباة‬
‫والمداهنة‪ ،‬ومراعاة خواطر الناس‪ .‬وليراقب الله تعالى‬
‫ض بالحق الذي أراه الله؛ فإن التبس عليه أمر‬ ‫وحده‪ ،‬وليق ِ‬
‫فليتثبت حتى يتبين له الحق‪ ،‬فإن استبان وإل فيعدل عن‬
‫القضاء في تلك الواقعة إلى الصلح الواقع على التراضي‬
‫والختيار‪ ،‬من غير إكراه ول إجبار‪.‬‬
‫وليعلم أن أمر القضاء خطر مخوف إلى الغاية‪ ،‬ولذلك‬
‫حذر منه الئمة العلم من السلف الصالح مثل المام‬
‫سفيان الثوري‪ ،‬والمام أبي حنيفة وأشباههما‪ ،‬وعرضوا‬
‫أنفسهم بسبب المتناع للضرب والحبس والفرار في‬
‫البلد‪ ،‬وذلك مشهور من سيرهم‪ .‬ولم يزل أهل الحزم‬
‫والحتياط من أهل العلم يفرون من تولي القضاء‪،‬‬
‫ويمتنعون منه أشد المتناع؛ خوفا على أنفسهم‪ ،‬واحتياطا‬
‫لدينهم‪ .‬وقد ولي قاضي القضاة الشيخ المحقق إسماعيل‬
‫) ‪(1/144‬‬

‫بن محمد الحضرمي اليمني)‪ ،(1‬ووّلى بعض أصهاره زبيد‪،‬‬


‫ثم إنه دخل عليه في بعض اليام فرأى عنده ثيابا ً لم يكن‬
‫يراها عنده قبل أن يول َّيه القضاء‪ ،‬فقال له‪ :‬من أين لك‬
‫هذا؟ فقال له‪ :‬من بركتك يا أبا الذبيح‪ .‬فقال له‪ :‬ذبحني‬
‫ه إن لم أعزلك! فعزله‪ .‬وحكاياتهم في مثل ذلك كثيرة‬ ‫الل ُ‬
‫مشهورة‪ .‬وفي تخويف القضاة وتحذيرهم قيل‪:‬‬
‫ن في القضاءِ‬ ‫إذا خان الميُر وكاتباهُ ‪ ...‬وقاضي الرض داه َ‬
‫فويل للمير وكاتبيه ‪ ...‬وقاضي الرض من قاضي السماءِ‬
‫وليحذر كل الحذر من قبول الرشوة على الحكام؛ فإن‬
‫ذلك من أعظم الثام‪ .‬وقد لعن رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم‪) :‬الراشي والمرتشي والرائش( والرائش‪ :‬هو‬
‫الساعي بينهما‪.‬‬
‫ومن الوليات المخطرة التولي على أموال اليتام‬
‫وأشباهها من الوقاف والصدقات؛ قال عليه الصلة‬
‫والسلم لبي ذر‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬هو قطب الدين‪ ،‬فقيه شافعي حضرمي‪ ،‬مولده‬
‫حي )كَفِتي( من أعمال المهجم‬ ‫ض ِ‬
‫ووفاته في قرية ال ّ‬
‫التابعة لزبيد‪ ،‬وتوفي سنة ‪676‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/145‬‬

‫‪-‬رضي الله عنه‪) (1):-‬يا أبا ذر‪ ،‬إني أراك ضعيفًا‪ ،‬وإني‬
‫أحب لك ما أحب لنفسي‪ ،‬ل تأمرن على اثنين‪ ،‬ول تولين‬
‫مال يتيم( وقد عليه الصلة والسلم أكل مال اليتيم من‬
‫ما َ‬
‫ل‬ ‫الكبائر الموبقات؛ وقال الله تعالى‪ } :‬وَل َ ت َْقَرُبوا ْ َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫ن {‪ ،‬وقال تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬ ‫ُ‬ ‫س‬
‫ح َ‬
‫يأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ال ْي َِتيم ِ إ ِل ّ ِبال ِّتي هِ‬
‫م َنارا ً‬ ‫ن ِفي ب ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫يأ ْك ُُلو َ‬
‫طون ِهِ ْ‬ ‫ما ي َأك ُُلو َ‬
‫مى ظ ُْلما ً إ ِن ّ َ‬ ‫ل ال ْي ََتا َ‬
‫وا َ‬
‫م َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سِعيرا ً {‪.‬‬ ‫ن َ‬ ‫صل َوْ َ‬ ‫سي َ ْ‬
‫وَ َ‬
‫وأما الوقاف والصدقات فينبغي للشفيق على دينه أن‬
‫يتباعد عنها‪ ،‬وأل يتولى على شيء منها؛ فإن بلي بشيء‬
‫من ذلك فليتق الله فيه‪ ،‬وليبالغ في حفظها وحسن القيام‬
‫والنظر عليها أول‪ .‬ثم يصرفها في مصارفها‪ ،‬ويضعها في‬
‫مواضعها؛ فإنه قد يأثم من المتمولين لنحو الوقاف‬
‫والصدقات من ل يخون فيها ول يأخذ منها شيئا‪ ،‬ولكنه‬
‫يضيعها ول يحسن الحفظ لها؛ فل بد في ذلك مع المانة‬
‫من حسن الحفظ والكفاية‪ ،‬فالمضيع والخائن سيان في‬
‫الثم والتعدي‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬أبو ذر الغفاري كان يظل نهاره أجمع يتفكر فيما هو‬
‫صائر إليه‪ .‬وكان يرى تحريم ادخار ما زاد على نفقة اليوم‪.‬‬
‫توفي رضي الله عنه بالربذة سنة ‪31‬ه‪ -‬أو ‪32‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/146‬‬

‫ثم إن الوالي المتصف بالعدل والحسان‪ ،‬السائر في‬


‫رعيته بالسيرة الحسنة المرضية‪ ،‬عند الله بمكان‪ ،‬له في‬
‫حسن قيامه بذلك من الله الثواب العظيم والجزاء‬
‫الكريم؛ فليصلح في ذلك نيته‪ ،‬وليقم فيها صابرا محتسبا‬
‫لوجه الله تعالى‪ .‬وقد قال رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم‪) :‬سبعة يظلهم الله في ظله يوم ل ظل إل ظله‪:‬‬
‫إمام عادل‪ ،‬وشاب نشأ في عبادة الله( الحديث‪ .‬وقال‬
‫عليه الصلة والسلم‪) :‬من إجلل الله تعالى إجلل ذي‬
‫الشيبة المسلم‪ ،‬وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي‬
‫عنه‪ ،‬والسلطان المقسط(‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫)يوم من سلطان عادل أفضل من عبادة ستين سنة(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬السلطان ظل الله في أرضه‬
‫يأوي إليه المظلومون(‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫)المقسطون على منابر من نور يوم القيامة‪ :‬الذين‬
‫يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا(‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬ثلثة ل ترد دعوتهم‪ :‬الصائم حتى يفطر‪ ،‬والمام‬
‫العادل‪ ،‬ودعوة المظلوم(‪.‬‬
‫وأما إذا جار المام وظلم فإنه بأشر المنازل وأسوأ‬
‫الحوال! وعليه يتضاعف العقاب والعذاب بعدد من‬
‫ظلمهم من خلق الله‪،‬‬
‫) ‪(1/147‬‬

‫وأضاع حقوقهم وأهمل أمورهم‪ ،‬ولم يمنع بعضهم من‬


‫ظلم بعض‪ ،‬إلى غير ذلك من الذنوب التي يتعرض لها ولة‬
‫السوء وأمراء الجور‪ .‬وقد قال عليه الصلة والسلم‪) :‬هذا‬
‫المر في قريش ما إذا استرحموا رحموا‪ ،‬وإذا حكموا‬
‫عدلوا؛ فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملئكة‬
‫والناس أجمعين؛ ل يقبل الله منهم صرفا ول عدل(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬يجاء بالمام الجائر يوم‬
‫جون عليه )‪ (1‬فيقال له‬ ‫القيامة فتخاصمه الرعية‪ ،‬فيفل ُ ُ‬
‫سد ّ ركنا ً من أركان جهنم(‪.‬‬
‫ِ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬إنه سيكون من بعدي أمراء‬
‫من صدقهم بكذبهم‪ ،‬وأعانهم على ظلمهم فليس مني‬
‫ولست منه‪ ،‬وليس بوارد علي الحوض‪ .‬ومن لم يصدقهم‬
‫بكذبهم‪ ،‬ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه‪ ،‬وهو‬
‫وارد علي الحوض(‪.‬‬
‫فإذا كان هذا حال من صدقهم بكذبهم وأعانهم على‬
‫ظلمهم في الشر‪ ،‬فكيف يكون حال هؤلء المراء في‬
‫أنفسهم! نعوذ بالله من البلء‪ ،‬ونسأله العافية في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬وأن يجعلنا من أهل العدل والحسان؛ العاملين‬
‫بطاعته وما يرضيه في السر والعلن‪.‬‬
‫***‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬يغلبونه‪.‬‬
‫) ‪(1/148‬‬

‫واعلم‪ -‬أنه كما يجب ويتعين على من ولي أمرا من أمور‬


‫المسلمين‪ :‬أن يعدل فيمن وله الله أمرهم‪ ،‬وأن ينصح‬
‫لهم؛ فكذلك يجب على كل أحد أن يعدل في رعيته‬
‫الخاصة به من أهله وأولده وما ملكت يمينه‪ ،‬وقد قال‬
‫عليه الصلة والسلم‪) :‬كلكم راع وكلكم مسؤول عن‬
‫رعيته(‪ .‬وقد ورد أن النسان يكتب جبارا وما يملك إل أهل‬
‫بيته؛ أي فيجور عليهم‪ .‬وورد أيضا‪) :‬أن أهل النسان وولده‬
‫يتعلقون به يوم القيامة فيقولون‪ :‬يا ربنا‪ ،‬خذ لنا حقنا منه‪،‬‬
‫فإنه لم يعرفنا ما يجب علينا من حقك(‪.‬‬
‫فعليه أن يعلمهم ما يلزمهم من طاعة الله وفرائضه‪،‬‬
‫واجتناب محارمه‪ ،‬ويحملهم على القيام بذلك فعل وتركا‪.‬‬
‫وعليه أل يظلمهم حقوقهم التي جعلها الله عليه لهم‪ ،‬وأل‬
‫يمكن بعضهم من ظلم بعض‪ ،‬ويأخذ للمظلوم منهم من‬
‫ظالمه‪.‬‬
‫وأما المملوك فعليه أن يقوم له بطعامه وكسوته‪ ،‬وأل‬
‫يكله من العمل والخدمة ما ل يطيق‪ ،‬وأل يضربه ول‬
‫يشتمه بغير حق؛ فإنه إن فعل ذلك اقتص له منه يوم‬
‫القيامة؛ كما وردت بذلك الخبار‪.‬‬
‫) ‪(1/149‬‬

‫وإن كان في ملكه شيء من البهائم وجب عليه أن‬


‫يتعهده‪ ،‬ويحسن النظر عليه في علفه وسقيه ونحو ذلك‪،‬‬
‫يتولى ذلك بنفسه أو يوليه من يثق به من أولده وخدمه‪.‬‬
‫وفي الحديث‪) :‬اتقوا الله في هذه البهائم اركبوها‬
‫صالحة ()‪ (1‬أو كما قال‪ .‬وورد في الخبر‪) :‬أن امرأة‬
‫دخلت النار في هرة ربطتها حتى ماتت‪ ،‬ل هي أطعمتها‬
‫وسقتها‪ ،‬ول هي تركتها تأكل من خشاش الرض( )‪(2‬‬
‫وبالله التوفيق والعانة‪ ،‬وعليه التكلن‪ ،‬ول حول ول قوة‬
‫إل بالله تبارك وتعالى‪.‬‬
‫***‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬رواه أحمد في مسنده عن سهل بن الحنضلية‬
‫بلفظ)اتقوا الله في البهائم المعجمة فاركبوها صالحة‬
‫وكلوها صالحة( اه‪ .-‬من الجامع الصغير‪.‬‬
‫)‪ - (2‬رواه احمد في مسنده عن أبي هريرة‪ .‬وخشاش‬
‫الرض‪ :‬هوامها وحشراتها‪.‬‬
‫) ‪(1/150‬‬

‫************************‬
‫الصنف الرابع‬
‫دعوة التجار والزراع والصناع‬
‫************************‬
‫) ‪(1/151‬‬
‫) ‪(1/152‬‬

‫الصنف الرابع‬
‫وهم التجار والزراع‪ ،‬والصناع والمحترفون‪ ،‬وأشباههم من‬
‫المباشرين لحوال المعاش والمشغولين بالسعي له‪،‬‬
‫وبعض هذه الشياء تعد في فروض الكفايات المعاشية‬
‫والمعادية؛ سيما ما هو منها بمثابة الصول كالزراعة‬
‫والحياكة ونحوهما‪ ،‬القول في نصيحتهم وتذكيرهم‬
‫وتنبيههم وتحذيرهم‪.‬‬
‫***‬
‫جعَل َْنا‬ ‫َ‬
‫ض وَ َ‬‫م ِفي الْر ِ‬ ‫مك ّّناك ُ ْ‬ ‫قال الله تبارك وتعالى‪ } :‬وَل ََقد ْ َ‬
‫ن‬
‫ح ُ‬ ‫ن {‪ ،‬وقال تعالى‪ } :‬ن َ ْ‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫ش قَِليل ً ّ‬
‫ما ت َ ْ‬ ‫مَعاي ِ َ‬ ‫م ِفيَها َ‬ ‫ل َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا وََرفَعَْنا ب َعْ َ‬
‫ضه ُ ْ‬ ‫م ِفي ال ْ َ‬ ‫مِعي َ‬
‫شت َهُ ْ‬ ‫مَنا ب َي ْن َُهم ّ‬
‫س ْ‬‫قَ َ‬
‫ت { الية؛ فسعي النسان على نفسه‬ ‫جا ٍ‬‫ض د ََر َ‬‫فَوْقَ ب َعْ ٍ‬
‫وعلى من يلزمه السعي عليه من أهل وولد لطلب الحلل‬
‫مأمور به‪ ،‬وفي الحديث‪) :‬طلب الحلل فريضة بعد‬
‫الفريضة( وفيه أيضا‪) :‬من أمسى كال ّ من عمل الحلل‬
‫أمسى مغفورا ً له( وفي الخبر أو الثر‪) :‬إن الله يحب‬
‫ل الذي ل هو في عمل‬ ‫سب َهْل َ َ‬
‫المؤمن المحترف‪ ،‬ويبغض ال ّ‬
‫الدنيا ول في عمل الخرة(‪.‬‬
‫) ‪(1/153‬‬

‫وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم السعي على‬
‫نفسه ليكفها عن مسألة الناس وعلى أهله وأولده‬
‫الضعفاء كالمجاهد في سبيل الله‪ ،‬وفي الحديث‪):‬التاجر‬
‫الصدوق المين يحشر مع النبيين والصديقين(‪.‬‬
‫ولكن على التاجر في تجارته‪ ،‬والصانع في صناعته‬
‫وظائف يلزمه القيام بها؛ إما فرضا وإما ندبا متأكدا‪.‬‬
‫فأول ذلك أن يتعلم من العلم ما يعرف به ما فرض الله‬
‫عليه وندبه إليه في تجارته أو حرفته وصناعته‪ ،‬وإل وقع‬
‫في المحرمات والشبهات‪،‬وصار بذلك في سبيل الشيطان‬
‫وليس في سبيل الرحمن‪.‬‬
‫فعلى التاجر أن يتعلم من أحكام البيع والشراء‪ ،‬والربا‬
‫والسلم‪ ،‬والقرض والرهن‪ ،‬والجارات ونحوها‪ ،‬والمعاملت‬
‫التي تقع له كثيرا ما ل بد له من علمه‪ ،‬ول يباشر شيئا من‬
‫المعاملت حتى يعلم حكم الله فيه‪.‬‬
‫وكذلك يجب على الصانع المحترف أن يتعلم حكم الله‬
‫في صناعته وحرفته‪ ،‬وما يجب عليه فيها من النصيحة‬
‫للمسلمين؛ وإل أثم ووقع في الحرج‪.‬‬
‫) ‪(1/154‬‬

‫وليجتنب الكذب والخلف في الوعد؛ فإنه قد ورد‪) :‬ويل‬


‫للتاجر من )ل والله(‪) ،‬وبل والله(‪ .‬وويل للمحترف من غد‬
‫وبعد غد(‪.‬‬
‫ومما ينبغي ويتأكد على التجار والمحترفين إصلح النية‬
‫فيما يباشرونه ويتعاطونه من أسباب التجارات‬
‫والصناعات‪ ،‬وأن تكون نياتهم في ذلك العفاف وتحصيل‬
‫الكفاف‪ ،‬وكف النفس عن مسألة الناس‪ ،‬والتشوف إلى‬
‫ما بأيديهم‪ ،‬والقيام بمن يلزمهم القيام بهم من الهل‬
‫والولد ونحوهم‪ ،‬ليكونوا بهذه النيات من العاملين بطاعة‬
‫الله تعالى‪ ،‬والساعين في ابتغاء مرضاته وثوابه‪ .‬وأن‬
‫يقصدوا مع ذلك صلة الرحام‪ ،‬والتصدق على الفقراء‬
‫والمحتاجين‪ ،‬وإعانة الضعفاء والمساكين بما فضل الله‬
‫عن حاجاتهم وحاجات من يلزمهم القيام بهم؛ فنية‬
‫المؤمن خير من عمله‪ .‬وقد يبلغ بالنية إذا صلحت ما ل‬
‫يبلغه بالعمال‪ ،‬والنية تتيسر لكل أحد إذ ل كبير مؤونة‬
‫فيها‪ .‬والعمال قد يتعسر القيام بها في بعض الحيان‪.‬‬
‫فإن نوى التاجر والمحترف بتجارته وحرفته إعانة‬
‫المسلمين‪،‬‬
‫) ‪(1/155‬‬
‫وتسهيل الوصول إلى الشياء التي هو بسبيلها وساع فيها‬
‫لم يخل من ثواب‪ ،‬وإن إنما يعطيهم ذلك بمقابلة‬
‫ومعاوضة منهم‪ ،‬فإن فضل الله واسع‪ ،‬وإكرامه فائض‪.‬‬
‫ومن المهم المتعين على أهل التجارات والصناعات أن ل‬
‫يشتغلوا بها عن إقامة الصلة المفروضة؛ بحيث يخرجونها‬
‫عن أوقاتها‪ ،‬أو يصلونها باستعجال واستيفاز يحصل به‬
‫إخلل بما يجب من إتمام ركوع أو سجود ونحوهما من‬
‫أركانها؛ فإن البعض منهم قد تحمله شدة الحرص على‬
‫سرعة العود إلى تجاراتهم وصناعاتهم على مثل ذلك‪ ،‬وهو‬
‫من المحرمات المحظورة في الدين‪.‬‬
‫بل ومن المتأكد عليهم أل يؤخروا الصلوات عن أوائل‬
‫أوقاتها‪ ،‬وعن فعلها في الجماعات‪ ،‬فإن ذلك كله )أي‬
‫تأخير الصلة عن أوائل الوقات وتفويت الجماعات( من‬
‫الخسران في الدين‪ ،‬الذي ل تقابله الدنيا كلها لو أعطيها‬
‫أحدهم‪ .‬وأل يقصروا في رواتب الصلوات‪ ،‬ووظائف‬
‫الخيرات ونوافل العبادات التي يمكنهم المداومة عليها‪،‬‬
‫وأن يكون في حين مباشرته لتجارته أو صناعته تاليا‬
‫للقرآن أو ذاكرا لله‪ ،‬ل يشغله عن ذلك إل أمر مهم‪ ،‬ليس‬
‫اللهو واللغو‪،‬‬
‫) ‪(1/156‬‬

‫والستغراق بحديث الدنيا؛ فإن الجمع بين التلوة للقرآن‬


‫والذكر لله وبين مباشرة أسباب التجارة والصناعة ممكن‬
‫ومتيسر في أكثر الحوال أو الكثير منها؛ لمن وفقه الله‬
‫تعالى وأهمه أمر دينه وأحوال آخرته ومعاده‪.‬‬
‫ومن الواجب المتأكد على أهل التجارات والحرف‬
‫والصناعات اجتناب الكذب والغش في تجاراتهم‬
‫وصناعاتهم؛ فقد قال صلوات الله وسلمه عليه‪) :‬من‬
‫غشنا فليس منا( حين رأى الصبرة من الطعام وأدخل يده‬
‫الشريفة فيها فأصابت بلل فقال‪) :‬يا صاحب الطعام ما‬
‫هذا؟( فقال‪ :‬أصابته السماء يا رسول الله ‪-‬يعني المطر‪-‬؛‬
‫شنا فليس‬‫فقال‪) :‬هل جعلته ظاهرا ينظره الناس‪ .‬من غ ّ‬
‫مّنا(‪.‬‬
‫***‬
‫ومن الكذب الشديد التحريم على التجار وأرباب‬
‫الصناعات أن يقول أحدهم‪ :‬أخذته بكذا وأعطيت به كذا؛‬
‫شه؛ فربما صدقه‬ ‫وهو كاذب يخدع بذلك أخاه المسلم ويغ ّ‬
‫الخذ منه ثقة به فيظلمه ويأكل ماله بالباطل‪.‬‬
‫***‬
‫) ‪(1/157‬‬

‫وعليهم أن ل يكثروا الحلف بالله على سلعهم وصنائعهم‬


‫وإن كانوا في ذلك صادقين؛ فإن الله أعز وأجل من أن‬
‫يحلف باسمه على أمر من أمور الدنيا‪ :‬وأما الحلف بالله‬
‫تعالى مع الكذب والفجور فذلك من الكبائر‪ ،‬وفي‬
‫الحديث‪) :‬إن الله يبغض البياع الحلف‪ ،‬وإن الذي يحلف‬
‫بالله فاجرا ليروج بذلك متاعه أحد الثلثة الذين ل يكلمهم‬
‫الله ول ينظر إليهم يوم القيامة‪ ،‬ول يزكيهم‪ ،‬ولهم عذاب‬
‫أليم(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬اليمين منفقة للسلعة‪،‬‬
‫ممحقة البركة( وفي رواية )للكسب(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬البيعان بالخيار ما لم يتفرقا‪،‬‬
‫فإن صدقا وبينا بورك لهما‪ ،‬وإن كذبا وكتما محقت بركة‬
‫بيعهما(‪.‬‬
‫فعلى أهل التجارات والصناعات أن يبينوا ما فيها من‬
‫العيوب التي ل تعرف إل بتعريفهم وبيانهم؛ فإن لم يبينوا‬
‫فقد غشوا وظلموا‪ .‬ومهما عاملوا من ل يحسن المعاملة‬
‫لغباوته أو ضعفه فعليهم أن ينظروا له ويبالغوا له في‬
‫النصيحة‪ ،‬ويعاملوه معاملة من يحسن المعاملة من أهل‬
‫الحذق والمعرفة بأمور ذلك المبتاع الذي يرغب فيه ذلك‬
‫الضعيف الذي ل يحسن‪ ،‬ل يسعهم إل ذلك ول يسلمون‬
‫من سخط الله إل به‪،‬‬
‫) ‪(1/158‬‬
‫ول يجعلوا ذلك الضعيف الذي ل يحسن فرصة ينتهزونها‪،‬‬
‫وغنيمة يغتنمونها؛ كما يقع في ذلك من ل يخشى الله ول‬
‫يتقيه من الصناع والتجار‪.‬‬
‫وليحذر التجار كل الحذر من تطفيف الكيل وبخس‬
‫الميزان؛ فإن ذلك من المحرمات الشنيعة‪ ،‬قال الله‬
‫ُ ْ َ‬ ‫ن‪ .‬ال ّ ِ‬‫مط َّفِفي َ‬‫ل ل ّل ْ ُ‬
‫ذا اك َْتالوا عَلى الّنا ِ‬
‫س‬ ‫ن إِ َ‬‫ذي َ‬
‫َ‬
‫تعالى‪ } :‬وَي ْ ٌ‬
‫ن { إلى قوله‬ ‫سُرو َ‬‫خ ِ‬ ‫م يُ ْ‬ ‫م أو وَّزُنوهُ ْ‬ ‫كاُلوهُ ْ‬‫ذا َ‬ ‫ن‪ .‬وَإ ِ َ‬ ‫ست َوُْفو َ‬
‫يَ ْ‬
‫ن {‪ .‬وقال عليه‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫س ل َِر ّ‬‫م الّنا ُ‬ ‫م ي َُقو ُ‬ ‫تعالى‪ } :‬ي َوْ َ‬
‫الصلة والسلم‪) :‬يا معشر التجار‪ ،‬إنكم وليتم أمرا هلكت‬
‫فيه المم من قبلكم‪ :‬المكيال والميزان(‪ .‬أو كما قال عليه‬
‫الصلة والسلم‪.‬‬
‫وكان بعض السلف إذا وزن لغيره أرجح حبة‪ ،‬وإذا وزن‬
‫لنفسه نقص حبة‪ :‬أي من النقد‪ ،‬وكان يقول‪ :‬ل أشتري‬
‫الويل من الله بحبة‪.‬‬
‫وليحذر التاجر من الحتكار‪ ،‬ومن ترويج النقد الزائف على‬
‫الناس‪ ،‬ومن المعاملت الباطلة والبيوع المكروهة؛ فإن‬
‫ذلك إن نفعه في دنياه فإنه سوف يضره في دينه وآخرته‬
‫ضررا عظيما‪ .‬ثم إنه يؤول به في دنياه إلى المحق‬
‫والهلك‪ ،‬وسوء العواقب في جميع أحواله‪.‬‬
‫***‬
‫) ‪(1/159‬‬

‫فأما الحتكار فهو أن يشتري الطعام ونحوه في حين‬


‫حاجة الناس إليه بنية الدخار له إلى حين يغلو‪ ،‬ورد )أن‬
‫المحتكر ملعون‪ ،‬والجالب مرزوق( وهو الذي يشتري ليبيع‬
‫في وقته وينتفع بربح يسير‪.‬‬
‫وورد )أن من احتكر الطعام أربعين يوما ً ثم تصدق به لم‬
‫يكن تصدقه به كفارة لثم احتكاره(‪ .‬وورد )أن المحتكرين‬
‫يحشرون مع قتلة النفوس(‪ ،‬وقد أحرق أمير المؤمنين‬
‫علي بن أبي طالب رضي الله عنه طعام المحتكر‪.‬‬
‫وأما ترويج النقد الزائف فهو من الغش المحرم‪ ،‬والخداع‬
‫المحظور في الدين‪ ،‬إل أن يكون هو النقد الذي يتعامل‬
‫الناس عليه في البلد؛ فهو وإن غش من نحاس ونحوه‬
‫فيجوز المعاملة عليه مهما كان هو النقد الرائج في البلد‪،‬‬
‫ولكن متى خالفه البعض منه بزيادة الغش فيه‪ ،‬أو بكونه‬
‫نحاسا ً خالصا ً لم يجز له أن يرّوجه على الناس‪ ،‬ويدخله‬
‫في جملة النقد الذي يتعاملون عليه؛ فإن ذلك منه غش‬
‫ومخادعة‪ .‬وعلى من وقع إليه شيء من النقد الذي هذه‬
‫صفته أن يتلفه‪ ،‬بأن يلقيه في بئر ونحو ذلك من وجوه‬
‫التلف‪ ،‬أو يذهب به إلى من يستخلص مقدار الفضة منه‪،‬‬
‫وما بقي من النحاس ونحوه يكون له قيمة على قدره؛‬
‫وأما الذي يكون في أصله نحاسا خالصا فل يدخله بين‬
‫الدراهم التي تكون فيها الفضة مما يتعامل عليه الناس؛‬
‫) ‪(1/160‬‬

‫َ‬
‫سُهم‬‫ن إ ِل ّ أنُف َ‬ ‫عو َ‬ ‫خد َ ُ‬ ‫ما ي َ ْ‬‫ش وخدع }وَ َ‬ ‫فإن فعل ذلك فقد غ ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫وأما المعاملت الباطلة فأقبحها وأفحشها المعاملة بالربا؛‬
‫فإن المعامل به متعرض لحرب الله ورسوله‪ ،‬كما قال عز‬
‫َ‬
‫ي‬
‫ما ب َِق َ‬ ‫ه وَذ َُروا ْ َ‬ ‫مُنوا ْ ات ُّقوا ْ الل ّ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫َ‬ ‫من قائل‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي‬
‫ْ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫ب ّ‬ ‫حْر ٍ‬ ‫م ت َْفعَُلوا ْ فَأذ َُنوا ْ ب ِ َ‬ ‫ن‪،‬فَِإن ل ّ ْ‬ ‫َ‬ ‫مِني‬‫مؤ ْ ِ‬‫كنُتم ّ‬ ‫ن الّرَبا ِإن ُ‬ ‫م َ‬‫ِ‬
‫ْ‬
‫ن الّرَبا ل َ‬ ‫ن ي َأك ُُلو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫سول ِهِ {‪ ،‬وقال تعالى‪ } :‬ال ّ ِ‬ ‫الل ّهِ وََر ُ‬
‫مس‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫طا ُ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫خب ّط ُ ُ‬ ‫ذي ي َت َ َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫ما ي َُقو ُ‬‫ن إ ِل ّ ك َ َ‬‫مو َ‬ ‫ي َُقو ُ‬
‫صد ََقا ِ‬
‫ت‬ ‫ه ال ّْرَبا وَي ُْرِبي ال ّ‬ ‫حقُ الل ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ّ { إلى قوله تعالى‪ } :‬ي َ ْ‬
‫ل ك َّفارٍ أ َِثيم ٍ {‪ .‬وقد لعن رسول الله صلى‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل َ يُ ِ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫الله عليه وسلم‪) :‬آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده(‪،‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬الربا بضع وسبعون شعبة‬
‫أدناها مثل أن يأتي الرجل أمه( الحديث‪ .‬وما ورد في الربا‬
‫من التشديد والتغليظ كثير منتشر‪.‬‬
‫والربا من الكبائر‪ .‬وجملة القول فيه‪ ،‬أنه ل يحل بيع النقد‬
‫بالنقد‪ ،‬ول الطعام بالطعام الذي هو نوعه إل يدا بيد‪ ،‬سواء‬
‫بسواء؛ فإن اختلف النوع كالذهب بالفضة‪ ،‬والحنطة‬
‫بالذرة‪ ،‬جازت المفاضلة‪ ،‬ووجب التقابض في الحال من‬
‫غير تأخير ول نسيئة‪.‬‬
‫) ‪(1/161‬‬

‫والحيلة في الربا من الربا‪ ،‬وقد قال كثير من العلماء بعدم‬


‫جوازها‪ ،‬وأنها ل تفيد شيئا سوى زيادة المقت والسخط‪،‬‬
‫وخشية الحتيال على الله في استحلل ما حرمه بغير‬
‫حجة ول وجه مسوغ‪ .‬ومنهم من قال بجوازها بالنسبة إلى‬
‫أحكام الدنيا دون أحكام الخرة‪ .‬وهذا أيضا شديد لمن‬
‫تأمله؛ فإن أحكام الدنيا قد تناط من حيث الظواهر بأمور‬
‫قريبة مع كونها في الباطن‪ ،‬وبالنسبة إلى أمور الخرة من‬
‫المور الهائلة المسخطة لله تعالى‪ ،‬الموجبة لمقته وشديد‬
‫عقابه‪ .‬وأنظر إلى حال المنافق الذي يظهر اليمان‬
‫ويضمر الكفر؛ كيف تجري أموره الظاهرة كلها على مثل‬
‫أمور المؤمنين‪ ،‬ثم يكون في الخرة أسوأ حال‪ ،‬وأشد‬
‫عذابا من الكافرين الذين أظهروا الكفر؛ وذلك لمخادعته‬
‫الله واحتياله عليه‪ ،‬فل يأمن المحتال بالحيل التي يستحل‬
‫بها ما حرم الله عليه أن يكون أسوأ حال ً ممن تعاطى ذلك‬
‫المحرم ظاهرا من غير احتيال‪ ،‬فلعل الله أن يتجاوز عنه‬
‫أو يوفقه للتوبة‪ .‬وأما هذا المحتال فمتى يتوب من شيء‬
‫يرى أنه ليس بذنب ول محرم عليهل ِل ّهِ وذلك من أعظم‬
‫مكائد الشيطان‪ ،‬يوقع النسان في بعض مساخط الله‪ ،‬ثم‬
‫يوهمه ويلبس عليه بأن ذلك من الطاعات أو من‬
‫المباحات؛‬
‫) ‪(1/162‬‬

‫فليحذر المسلم من أمثال ذلك وليحذر من تغرير‬


‫الشيطان فإنه من اتخذ الشيطان ولي ّا ً من دون الله فقد‬
‫خسر خسرانا ً مبينًا‪ ،‬يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان‬
‫إل غرورًا‪.‬‬
‫فالمحتال في استحلل الربا الذي حرمه الله عليه بنذر أو‬
‫إقرر ونحو ذلك‪ ،‬وهو يعلم من باطنه أنه لم يقصد بذلك‬
‫النذر والقرار إل ليجيزه في الظاهر على من ل يعلم‬
‫بالباطن من المخلوقين مغرر مخادع لله القوي الظاهر‬
‫الذي ل يخفى عليه شيء في الرض ول في السماء‪.‬‬
‫والذي يكتب لهؤلء المحتالين والذي يشهد لهم بذلك مهما‬
‫علموا ببواطن أمورهم‪ ،‬وغلب على ظنهم قصدهم ذلك‬
‫بقرائن أحوالهم شركاؤهم في باطلهم وغرورهم‪ ،‬وما‬
‫يترتب على ذلك من التعرض لعقاب الله وعذابه‬
‫َ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫منَقل َ ٍ‬
‫ب َينَقل ُِبو َ‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬
‫موا أيّ ُ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫سي َعْل َ ُ‬
‫} وَ َ‬
‫ثم اعلم أن مداخل الربا كثيرة‪ .‬وعلى التاجر أن يتعلم من‬
‫ذلك ما يكثر وقوعه‪ ،‬ويكثر تعاطي الناس له‪ ،‬وما أشكل‬
‫عليه بعد ذلك سأل عنه أهل العلم الذين يخشون الله‬
‫ويتقونه‪ ،‬دون العلماء المترخصين المتأولين‪ ،‬الخذين من‬
‫العلم بظواهر أكثرها ل يصح‪،‬‬
‫) ‪(1/163‬‬

‫ول يستقيم عند العلماء بكتاب الله وسنة رسوله وسير‬


‫السلف الصالح!‬
‫واعلم أن الربا وشبهه من المعاملت الفاسدة قد عمت‬
‫في هذا الزمان وفشت جدا ً ودخل فيها الخاص والعام إل‬
‫من حفظه الله وقليل ما هم‪ ،‬وهذا شيء قد وعد به‬
‫الصادق المين صلوات الله عليه وسلمه فإنه قال‪) :‬يأتي‬
‫على الناس زمان ل يبقى أحد إل أكل الربا فإن لم يأكله‬
‫أصابه من غباره( الحديث‪.‬‬
‫***‬
‫ثم ينبغي للتاجر أن يأخذ في جميع معاملته بالعدل‬
‫والحسان‪ ،‬الذين أمر الله بهما في قوله تبارك وتعالى‪:‬‬
‫} إن الل ّ ْ‬
‫ن { الية‪.‬‬
‫سا ِ‬
‫ح َ‬ ‫مُر ِبال ْعَد ْ ِ‬
‫ل َوال ِ ْ‬ ‫ه ي َأ ُ‬
‫َ‬ ‫ِ ّ‬
‫أما العدل فباجتناب الظلم والغش‪ ،‬وكتمان العيوب‬
‫وبخس المكيال والميزان‪ ،‬وسائر ما يحرم عليه في بيعه‬
‫وشرائه؛ مع القيام بما يجب عليه من النصيحة والمانة‬
‫والوفاء‪.‬‬
‫) ‪(1/164‬‬

‫…وأما الحسان فبأن يأخذ بالفضل والبر والمعروف‪ ،‬من‬


‫إقالة النادم بيعته بعد لزوم البيع؛ فقد قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬من أقال نادما صفقته أقال الله عثرته(‪ .‬وأن‬
‫يكون سمحا إذا باع‪ ،‬سمحا إذا اشترى‪ ،‬سمحا إذا قضى‪،‬‬
‫سمحا إذا اقتضى‪ .‬قال عليه الصلة والسلم‪) :‬رحم الله‬
‫عبدا سمحا إذا باع‪ ،‬سمحا إذا اشترى‪ ،‬سمحا إذا قضى‪،‬‬
‫سمحا إذا اقتضى(‪ .‬وأن يقنع بالربح اليسير‪ ،‬سيما مع‬
‫صديقه وقريبه‪ ،‬والضعفاء من عباد الله من الفقراء‬
‫والمساكين‪ .‬وأن يكثر من الصدقات واصطناع المعروف‪،‬‬
‫ويغتنم ذلك ما دام يمكنه ويستطيعه‪.‬‬
‫وللسلف الصالح المباشرين للسباب سير حسنة معروفة‬
‫في ذلك‪ ،‬ذكر المام الغزالي منها نبذة صالحة في كتاب‬
‫آداب الكسب والمعاش من الحياء‪.‬‬
‫وعلى الصانع والمحترف أن يأخذ بنحو ذلك من العدل‬
‫والحسان في صناعته وحرفته‪ :‬من اجتناب الظلم‬
‫والغش‪ ،‬والخذ بالنصيحة والمانة‪ ،‬والصدق والوفاء‪ ،‬وما‬
‫شاكل ذلك من أفعال أهل التقوى والحسان‪ ،‬الذين أخبر‬
‫ع‬
‫م َ‬
‫ه َ‬‫ن الل ّ َ‬
‫الله تعالى في كتابه بأنه معهم حيث يقول‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ن {‪.‬‬‫سُنو َ‬
‫ح ِ‬
‫م ْ‬
‫هم ّ‬
‫ن ُ‬ ‫ن ات َّقوا ْ ّوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫) ‪(1/165‬‬

‫وينبغي للتجار والصناع إذا عاملهم من ل يحسن المعاملة‬


‫لغباوة أو حاجة شديدة أل يغتنموه ويغبنوه‪ ،‬بل ينظروا له‬
‫الصلح‪ ،‬ويقدروا أنه يحسن المعاملة والنظر لنفسه‪،‬‬
‫وكونه من أعرف الناس بها‪ ،‬فيعاملوه على ذلك التقدير‪،‬‬
‫وإل وقعوا في بأس وحرج‪ ،‬وكانوا به من مؤثري الدنيا‬
‫على الخرة‪ ،‬وممن ل يحب لخيه المسلم ما يحب لنفسه‪،‬‬
‫وقد قال عليه الصلة والسلم‪) :‬ل يؤمن أحدكم حتى يحب‬
‫لخيه ما يحب لنفسه(‪.‬‬
‫وبلغنا عن بعض السلف الصالح رضوان الله عليهم‬
‫أجمعين‪ :‬أنه كان يبيع حلل قيمة البعض كل واحدة منها‬
‫ألف درهم‪ ،‬وقيمة البعض منها كل واحدة خمسمائة درهم‪،‬‬
‫فاتفق أنه قام من دكانه وخلف فيه ولد أخيه‪ ،‬فجاء‬
‫أعرابي يطلب حلة فعرض عليه من التي قيمتها خمسمائة‬
‫درهم‪ ،‬فاشتراها منه بألف درهم وأعطاه الدراهم وأخذ‬
‫الحلة ومضى؛ فوجده الرجل الصالح صاحب الدكان في‬
‫طريقه والحلة معه؛ فقال‪ :‬بكم أخذت هذه؟ فقال له‪:‬‬
‫بألف درهم‪ ،‬قال له‪ :‬إنما قيمتها خمسمائة‪ ،‬فقال له‪ :‬قد‬
‫رضيت‪ ،‬فقال‪ :‬وإن رضيت فإنا ل نرضى‪ ،‬ولكن ارجع‬
‫معي‪،‬‬
‫) ‪(1/166‬‬

‫فإما أن تأخذ من التي قيمتها ألف بدراهمك‪ ،‬وإما أن تأخذ‬


‫خمسمائة وهذه الحلة التي قد أخذت‪ ،‬وإل خذ دراهمك‬
‫ودع لنا حللنا‪ .‬فانطلق معه وأخذ خمسمائة درهم والحلة‬
‫التي قد أخذها أو ً‬
‫ل‪.‬‬
‫وعن السري السقطي )رحمه الله( أنه أخذ أيام كان يتجر‬
‫شيئا ً من اللوز بستين دينارًا‪ ،‬وكتب عليه الربح ثلثة دنانير‪:‬‬
‫فمكث أياما ً قلئل ثم جاء الدلل ليأخذ منه اللوز وقال له‬
‫بكم؟ فقال‪ :‬بثلثة وستين دينارًا‪ .‬فقال له الدلل‪ :‬قد‬
‫صارت قيمته في هذا الحين تسعين دينارًا‪ .‬فقال السري‪:‬‬
‫إني قد نويت أل أربح فيه إل ثلثة دنانير‪ .‬وقال الدلل‪ :‬إني‬
‫ش أحدا ً ول أغبن مسلمًا؛ فامتنع‬ ‫قد عاهدت الله أن ل أغ ّ‬
‫السري من البيع وامتنع الخر من الشراء‪ .‬وحكاياتهم في‬
‫نحو ذلك كثيرة‪ .‬وذكر المام الغزالي رحمه الله منها طرفا ً‬
‫صالحًا‪ ،‬وهاتان الحكايتان من جملة ما ذكره‪.‬‬
‫وهؤلء وأشباههم من العاملين في دنياهم لخرتهم‬
‫والزيادة في دينهم وحسناتهم‪ .‬قال الله تعالى فيهم‪:‬‬
‫صَل ِ‬
‫ة‬ ‫عن ذِك ْرِ الل ّهِ وَإ َِقام ِ ال ّ‬‫جاَرةٌ وََل ب َي ْعٌ َ‬ ‫م تِ َ‬‫ل ّل ت ُل ِْهيهِ ْ‬‫جا ٌ‬
‫} رِ َ‬
‫َ‬
‫ب َواْلب ْ َ‬
‫صاُر‪.‬‬ ‫ب ِفيهِ ال ُْقُلو ُ‬‫وما ً ت َت ََقل ّ ُ‬ ‫خاُفو َ‬
‫ن يَ ْ‬ ‫كاةِ ي َ َ‬‫وَِإيَتاء الّز َ‬
‫مُلوا‬ ‫ل ِيجزيهم الل ّ َ‬
‫ما عَ ِ‬‫ن َ‬ ‫س َ‬ ‫ح َ‬‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ َُِ ُ‬
‫) ‪(1/167‬‬

‫ب {‪.‬‬‫سا ٍ‬
‫ح َ‬ ‫من ي َ َ‬
‫شاُء ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫ضل ِهِ َوالل ّ ُ‬
‫ه ي َْرُزقُ َ‬ ‫من فَ ْ‬
‫هم ّ‬
‫زيد َ ُ‬
‫وَي َ ِ‬
‫وقد قال عليه الصلة والسلم‪) :‬التاجر المين الصدوق‬
‫المسلم مع الشهداء يوم القيامة(‪.‬‬
‫***‬
‫وأما الزراع وأهل الحرث المشغولون بذلك فإنهم على‬
‫خير من ربهم وسعي لحوال معاشهم إذا أصلحوا في ذلك‬
‫نياتهم‪ ،‬واتقوا الله ربهم‪ ،‬ولم يشتغلوا بما هم فيه من ذلك‬
‫عن إقامة صلواتهم‪ ،‬واجتناب ما حرم الله عليهم من‬
‫المعاملت المحظورة عليهم في دينهم من الربا ونحوه؛‬
‫فإن الزراعين كثيرا ما يأخذون بالمعاملة التي ل تصح‪،‬‬
‫يحوجهم إلى ذلك حضور الحاجة في إقامة أنفسهم‬
‫وعيالهم ومؤن زرائعهم‪ ،‬ثم إن الذي يحصل لهم من‬
‫الزرائع ل يحضر إل بعد وقت متراخ؛ لن حين الحصاد‬
‫يتأخر مدة عن حين إقامة الزرائع‪ ،‬وحاجة الزراع حاضرة‬
‫إلى المؤن التي يقيمون بها أمر زراعتهم من البذر وغيره‪،‬‬
‫فيرجعون إلى أهل التجارات ونحوهم يطلبون منهم ما‬
‫يحتاجون إليه إلى أجل تحضرهم فيه فوائد زرائعهم‪ ،‬فل‬
‫يعطونهم إل بالربا المحرم‪ ،‬حرصا على أرباح الدنيا‬
‫وزياداتها‪ ،‬ومنافعها التي تضرهم في دينهم‬
‫) ‪(1/168‬‬

‫وآخرتهم؛ فيشترك المعطي والخذ في الحرام والثام‪،‬‬


‫والنتهاك والقتحام للربا الذي هو من الكبائر الموبقات‪.‬‬
‫وإن كان الخذ عن ضرورة أو حاجة شديدة أعذر من‬
‫المعطي له لطلب الربح والزيادة من تلك الغراض‬
‫الخبيثة‪ ،‬التي ربحها خسران وزيادتها نقصان؛ قال الله‬
‫ب‬
‫ح ّ‬ ‫ت َوالل ّ ُ‬
‫ه ل َ يُ ِ‬ ‫ه ال ّْرَبا وَي ُْرِبي ال ّ‬
‫صد ََقا ِ‬ ‫حقُ الل ّ ُ‬
‫م َ‬
‫تعالى‪ } :‬ي َ ْ‬
‫ل ك َّفارٍ أ َِثيم ٍ { وفي البيع نسيئة وإلى أجل‪ ،‬وفي عقد‬ ‫كُ ّ‬
‫السلم بشروطه مندوحة وسعة عن الخذ بهذا الربا‬
‫المحظور المذموم‪ ،‬وعن حيله التي قد قيل فيها ما قيل‬
‫وفق ما تقدم قريبا‪.‬‬
‫وليكن الزارع طيب النفس‪ ،‬محتسبا للثواب من الله فيما‬
‫يصاب به في زرعه من نقص أو آفة‪ ،‬وما يأكله ذي كبد‬
‫رطبة من آدمي أو بهيمة أو طائر؛ فإن ذلك في صحائفه‬
‫وموازين حسناته‪ ،‬مهما احتسبه وأراد به وجه ربه‪ ،‬وما‬
‫عنده من حسن الجر وعظيم الثواب؛ قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬في كل كبد رطبة أجر( وقد ورد في ذلك‬
‫الخبار‪.‬‬
‫وليحرص على إخراج الزكاة من زرعه مهما وجبت عليه‪،‬‬
‫وليفرقها على مستحقيها من الفقراء والمساكين‪ ،‬وبقية‬
‫الصناف الموجودين الذين ذكرهم الله في كتابه العزيز‬
‫حيث‬
‫) ‪(1/169‬‬

‫ت ل ِل ُْفَقَراء‬
‫صد ََقا ُ‬
‫ما ال ّ‬
‫يقول سبحانه وتعالى‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫ن { الية‪ ،‬وليعمهم بها إن اتسع لهم القدر الذي‬ ‫كي ِ‬
‫سا ِ‬ ‫َوال ْ َ‬
‫م َ‬
‫يخرجه‪ ،‬وإل فل يخرجها عنهم ويعطيها لغيرهم ممن ليس‬
‫من الصناف المذكورة في الية الكريمة‪ ،‬فإن المتعدي‬
‫في الصدقة كمانعها كما ورد‪.‬‬
‫وعلى أرباب الثمار والمواشي والنقود من الذهب والفضة‬
‫والتجارات أن يخرجوا زكواتهم التي أوجبها الله عليهم في‬
‫أوقاتها‪ ،‬وأن يفرقوها على المستحقين لها الذين سماهم‬
‫الله في كتابه‪ ،‬وأن يقصدوا بذلك امتثال أمر الله وابتغاء‬
‫وجه ثوابه الذي وعدهم به في الخرة‪ ،‬ول يقصروا عن‬
‫ذلك‪ ،‬ول يتساهلوا فيه بترك الخراج رأسا والعياذ بالله! أو‬
‫بإخراج البعض منها أو بإعطائها غير أهلها؛ فكل ذلك من‬
‫الثام والمحظورات المتعرض متعاطيها للوقوع في سخط‬
‫الله وسخط رسوله وإن تفاوتوا في ذلك بحسب ما وقعوا‬
‫فيه من تلك المهالك‪ .‬فإن المقصر في الخراج رأسا ً إثمه‬
‫عظيم‪ ،‬وعصيانه لله فاحش فظيع!‪.‬‬
‫وقد قرن الله بين الصلة والزكاة في غير موضع في كتابه‬
‫العزيز‪ :‬وقاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه العراب‬
‫الذين منعوا الزكاة‪.‬‬
‫) ‪(1/170‬‬

‫وقال رضي الله عنه‪ :‬لقاتلن من فّرق بين الزكاة‬


‫والصلة‪ ،‬ولو منعوني عناقًا)‪) (1‬أو قال عقا ً‬
‫ل( كانوا يؤدونه‬
‫إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه‪.‬‬
‫وقد ورد في السنة المطهرة في معاني الزكاة تشديدات‬
‫هائلة‪ ،‬عقوبات عظيمة ل نطول بذكرها‪ ،‬وهي معروفة في‬
‫حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫وفي منع الزكاة مضار عاجلة أيضًا؛ قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬ما خالطت الناس مال إل محقته‪ ،‬وما هلك مال‬
‫في بر ول في بحر إل بمنع الزكاة(‪ ،‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬حصنوا أموالكم بالزكاة‪ ،‬وداووا مرضاكم‬
‫بالصدقة‪ ،‬وأعدوا للبلء الدعاء(‪.‬‬
‫وعلى أهل التجارات والزراعات وغيرهم من أهل الموال‬
‫أن يتعلموا من أحكام الزكاة ما ل بد لهم من علمه‪ ،‬وما‬
‫أشكل عليهم بعد ذلك فليسألوا عنه أهل العلم الذين‬
‫يخشون الله‪ .‬والقول في أحكام الزكاة وأدائها طويل‬
‫منتشر‪ ،‬ومحل بسطه كتب الفقه فليطلب مريد ذلك منها‪.‬‬
‫__________‬
‫حاب‪ :-‬النثى من ولد المعز‪.‬‬ ‫س َ‬
‫)‪ (1‬العََناق ‪-‬ك َ‬
‫) ‪(1/171‬‬

‫ثم إن من أبرك وأعود ما يأخذ فيه النسان من أسباب‬


‫المعاش )التجارة( مع الصدق والوفاء‪ ،‬والمانة والنصيحة‬
‫للمسلمين )ثم الماشية( قال عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫)تسعة أعشار الرزق في التجارة‪ ،‬وعشرة في الماشية(‬
‫)وكذا الزراعة( مع أن التعب فيها كثير‪ ،‬والجر والثواب‬
‫لمن حسنت نيته واتقى ربه فيها عظيم‪ ،‬وفي الحديث‪:‬‬
‫)التمسوا الرزق في خبايا الرض( فيقال‪ :‬إنه حث على‬
‫الزراعة‪ .‬وقال عمر رضي الله عنه‪ :‬المتوكلون هم الزراع‬
‫الذين يبثون بذرهم في الرض‪ ،‬ويبقون منتظرين لفضل‬
‫الله‪ ،‬أو كما قال رضي الله عنه‪.‬‬
‫ومن أطيب المكاسب وأحلها الحتطاب والصطياد‪ ،‬وأخذ‬
‫الحشيش من المواضع المباحة‪ ،‬ومهما روعيت أسباب‬
‫الحل مع الورع والحتياط في أخذ هذه الشياء وفي بيعها‬
‫كانت من أحل ما يكتسبه النسان ويأكله‪ .‬وقد أخذ بذلك‬
‫كثير من عباد الله الصالحين سلفا ً وخلفًا‪.‬‬
‫…ومن المستحب التبكير في طلب الرزق‪ ،‬قال عليه‬
‫الصلة والسلم‪) :‬اللهم بارك لمتي في بكورها(‪.‬‬
‫وكان عليه الصلة والسلم إذا بعث جيشا ً أو سرية بعثهم‬
‫من أول النهار‪.‬‬
‫) ‪(1/172‬‬

‫وكان ابن وداعة الغامدي الصحابي رضي الله عنه وهو‬


‫راوي هذا الحديث تاجرًا‪ ،‬وكان يبعث تجارته من أول‬
‫النهار فأثرى وكثر ماله‪.‬‬
‫***‬
‫ومن المستحب المتأكد الكثار من ذكر الله في السوق‪،‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم‪) :‬من دخل السوق فقال ل إله‬
‫إل الله وحده ل شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد‪ ،‬يحيي‬
‫ويميت وهو حي ل يموت‪ ،‬بيده الخير‪ ،‬وهو على كل شيء‬
‫قدير‪ :‬كتب الله له ألف ألف حسنة‪ ،‬ومحا عنه ألف ألف‬
‫سيئة‪ ،‬ورفع له ألف ألف درجة(‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬التاجر الصدوق المين يحشر مع النبيين‬
‫والصديقين والشهداء(‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬إن‬
‫دثوا لم يكذبوا‪،‬‬‫جار‪ ،‬الذين إذا ح ّ‬ ‫أطيب الكسب كسب الت ّ‬
‫وإذا اتمنوا لم يخونوا‪ ،‬وإذا وعدوا لم يخلفوا‪ ،‬وإذا اشتروا‬
‫لم يذموا‪ ،‬وإذا باعوا لم يمدحوا‪ ،‬وإذا كان عليهم دين لم‬
‫سروا()‪ (1‬وقال عليه الصلة‬ ‫يمطلوا‪ ،‬وإذا كان لهم لم ي ُعَ ّ‬
‫والسلم‪) :‬يوشك أن يكون مال المسلم غنما يتبع بها‬
‫شعف الجبال ومواقع القطر‪ ،‬يفر بدينه من الفتن(‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬رواه البيهقي عن معاذ‪ .‬وعسر الغريم وأعسره‪ :‬طلب‬
‫منه الدين على عسرة‪ ،‬ولم يرفق به إلى ميسرته‪.‬‬
‫) ‪(1/173‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬من خير المعاش لهم رجل‬


‫ممسك بعنان فرسه‪ ،‬يطير على متنه كّلما سمع هيعة)‪(1‬‬
‫أو فزعة طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانه‪ ،‬ورجل‬
‫في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف‪ ،‬أو بطن واد‬
‫من هذه الودية يقيم الصلة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى‬
‫يأتيه اليقين‪ ،‬ليس من الناس إل في خير(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬من زرع زرعا ً فأكل منه طير‬
‫أو عافية كانت له صدقة)‪ (2‬والعافية‪ :‬هي الوحوش‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬سبع يجري للعبد أجرهن وهو‬
‫في قبره بعد موته‪ :‬من عّلم علمًا‪ ،‬أو أجرى نهرًا‪ ،‬أو حفر‬
‫ل‪ ،‬أو بنى مسجدًا‪ ،‬أو ورث مصحفًا‪،‬أو‬ ‫بئرًا‪ ،‬أو غرس نخ ً‬
‫ترك ولدا ً يستغفر له بعد موته()‪.(3‬‬
‫_______________‬
‫)‪ (1‬الهيعة‪ :‬الصوت الذي تفزع منه وتخافه من عدو‪.‬‬
‫)‪ (2‬رواه ابن خزيمة عن خلد السائب‪.‬‬
‫)‪ (3‬رواه البزاز عن أنس‪.‬‬
‫) ‪(1/174‬‬

‫وعن فاطمة رضي الله عنها قالت‪ :‬مر بي رسول الله‬


‫صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجعة؛ فحّركني برجله ثم‬
‫قال‪) :‬يا بنية قومي اشهدي رزق ربك ول تكوني من‬
‫الغافلين؛ فإن الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع‬
‫الفجر إلى طلوع الشمس(‪.‬‬
‫***‬
‫) ‪(1/175‬‬
‫) ‪(1/176‬‬

‫****************************‬
‫الصنف الخامس‬
‫دعوة الفقراء والضعفاء وأهل البلء‬
‫***************************‬
‫) ‪(1/177‬‬

‫) ‪(1/178‬‬

‫الصنف الخامس‬
‫وهم أهل الفقر والضعف والمسكنة ونحوهم من أهل‬
‫المراض والبلء‬
‫القول في نصيحتهم وتذكيرهم وتنبيههم وتحذيرهم‬
‫***‬
‫اعلم أن الفقر والضعف والمسكنة من المور التي جعل‬
‫الله فيها ابتلء واختبارا لعباده؛ لينظر صبرهم عليها‬
‫ورضاهم بقضائه فيها‪ ،‬فمن صبر كان له أجر الصابرين‪،‬‬
‫ومن سخط وجزع كان عند الله من الخاطئين‪ ،‬قال الله‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ص ّ‬ ‫جوِع وَن َْق ٍ‬ ‫ف َوال ْ ُ‬ ‫خو ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬‫يٍء ّ‬ ‫ش ْ‬ ‫م بِ َ‬ ‫تعالى‪ } :‬وَل َن َب ْل ُوَن ّك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ن { إلى قوله‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬ ‫شرِ ال ّ‬ ‫ت وَب َ ّ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫س َوالث ّ َ‬ ‫والنُف ِ‬ ‫ل َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ال َ‬
‫ن {‪ .‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫دو َ‬ ‫مهْت َ ُ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫تعالى‪ } :‬وَُأول َئ ِ َ‬
‫ن وَن َب ْل ُ َ‬
‫و‬ ‫ري َ‬‫صاب ِ ِ‬
‫م َوال ّ‬ ‫منك ُ ْ‬ ‫ن ِ‬‫دي َ‬ ‫جاهِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫حّتى ن َعْل َ َ‬ ‫م َ‬ ‫} وَل َن َب ْل ُوَن ّك ُ ْ‬
‫م { فالصبر على البلء من الشدائد‪ ،‬والثواب عليه‬ ‫خَباَرك ُ ْ‬ ‫أَ ْ‬
‫ن‬
‫صاب ُِرو َ‬ ‫ما ي ُوَّفى ال ّ‬ ‫لمن صبر عظيم‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫ب {‪.‬‬ ‫َ‬
‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫هم ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫جَر ُ‬ ‫أ ْ‬
‫) ‪(1/179‬‬
‫وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪) :‬من يرد الله به‬
‫خيرا ً يصب منه()‪.(1‬‬
‫ب قوما ً‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬إن الله إذا أح ّ‬
‫ابتلهم‪ ،‬فمن رضي فله الرضا‪ ،‬ومن سخط فله السخط(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬الدنيا سجن المؤمن وجنة‬
‫الكافر( وإنما جعلها الله سجن المؤمن ليزهد فيها ول‬
‫يرغب في طول القامة بها‪.‬‬
‫قال ابن عطاء الله)‪(2‬رحمه الله‪ :‬إنما جعل الله الدنيا‬
‫محل للكدار‪ ،‬ومعدنا لورود الغيار تزهيدا لك فيها علم‬
‫أنك ل تقبل النصح المجرد فذوقك من ذواقها ما يسهل‬
‫عليك وجوه فراقها انتهى‪.‬‬
‫مّري لوليائي‪ ،‬ل َتحِلي‬ ‫ومما ورد عن الله تعالى‪) :‬يا دنيا ُ‬
‫لهم فتفتنيهم( وورد أيضًا‪) :‬إن الله إذا أقبل على عبده‬
‫بوجهه كله صرف عنه الدنيا كلها(‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬رواه البخاري عن أبي هريرة‪.‬‬
‫)‪ (2‬هو الشيخ تاج الدين بن عطاء اله السكندري‪ ،‬الزاهد‬
‫الكبير‪ ،‬تلميذ أبي العباس المرسي والشيخ يلقوت‪ .‬كان‬
‫ينفع الناس بإشارته‪ ،‬ولكلمه حلوة في النفوس وجللة‪.‬‬
‫له الكثير من المؤلفات‪ :‬توفي سنة ‪707‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/180‬‬

‫وأوحى الله إلى موسى عليه السلم‪) :‬يا موسى‪ ،‬إذا رأيت‬
‫الغنى مقبل فقل ذنب عجلت عقوبته‪ ،‬وإذا رأيت الفقر‬
‫مقبل فقل مرحبا بشعار الصالحين(‪.‬‬
‫وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‪ :‬إني أحبك‪،‬‬
‫فقال له‪) :‬إن كنت كما قلت فأعد للفقر تجفافًا)‪ (1‬فإن‬
‫الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه(‪.‬‬
‫فالفقر مع الصبر حلية النبياء‪ ،‬وزينة الصفياء‪.‬‬
‫وفي الحديث‪) :‬الفقراء الصبراء جلساء الله يوم القيامة(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬الله يذود عبده المؤمن عن‬
‫الدنيا كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع العرة()‪.(2‬‬
‫وورد أيضا‪) :‬أن الله يحمي عبده المؤمن من الدنيا كما‬
‫يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب( ومعناه‪ :‬أن أهل‬
‫المريض قد يمنعونه بعض الطعمة وبعض الشربة خشية‬
‫أن تضره‪ .‬وفي الحديث )الحمية أصل الدواء(‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬التجفاف‪ -‬بكسر أوله ‪ :-‬ما جلل به الفرس من‬
‫سلح وآلة تقيه الجراح‪.‬‬
‫)‪ - (2‬العرة والعر بضم العين المهملة وتشديد الراء‪:‬‬
‫الجرب‪ .‬والمراد بمراقع العرة‪ :‬مواضع الهلكة‪.‬‬
‫) ‪(1/181‬‬

‫ولما كانت الدنيا عند الله بأوضع المنازل‪ ،‬وأحقر الشياء‬


‫صان أولياءه وأحباءه عنها‪ ،‬ورفعهم عن الميل إليها‬
‫والتمتع بها‪.‬‬
‫وقد بلغنا أن الله تعالى حين أرسل موسى وهارون عليهما‬
‫الصلة والسلم إلى فرعون اللعين قال لهما‪ :‬ل يروعنكما‬
‫ما تريان عليه من زينة الدنيا‪ ،‬فلو أردت لزينتكما بزينة‬
‫يعلم فرعون أن مقدرته تعجز عنها‪ ،‬ولكني أرغب بكما‬
‫عن ذلك‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬لو كانت الدنيا تزن‬
‫عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء(‪.‬‬
‫فانظر )رحمك الله تعالى( ما أحقرها عند الله‪ ،‬وما أهوتها‬
‫عليه‪.‬‬
‫ب‪ ،‬اجعلني‬ ‫وقد ورد‪) :‬أن الدنيا تقول يوم القيامة لربها يار ّ‬
‫لدنى أوليائك‪ ،‬فيقول لها سبحانه اسكتي يا ل شيء(‪.‬‬
‫فقد علمت أنه سبحانه ما زوى عنهم نعيم الدنيا‪ ،‬وحماهم‬
‫عن التمتع بشهواتها الفانية‪ ،‬وحذرهم منها إل لخستها‬
‫وهوانها‪ ،‬وكرامتهم عليه ورفعتهم لديه لئل يتدنسوا‬
‫بأقذارها ويشتغلوا بمتاعها عما هو خير لهم وأنفع وأبقى‬
‫وأرفع من كرامته التي ادخرها لهم عنده في الدار الباقية‬
‫التي‬
‫) ‪(1/182‬‬
‫هم لها سابقون‪ ،‬وفيها مخلدون )تلك الجنة التي وعد‬
‫المتقون( وقد قال عليه الصلة والسلم‪) :‬يدخل الفقراء‬
‫الجنة قبل الغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام(‬
‫فيكونون في سرور وحبور‪ ،‬وروح وريحان‪ .‬والغنياء‬
‫محبوسون للحساب‪ ،‬ومرددون بين تلك المخاوف‬
‫والهوال الصعاب‪ ،‬بسبب ما نالوه وتمتعوا به من لذات‬
‫الدنيا وشهواتها‪.‬‬
‫***‬
‫ثم اعلم أن الفقراء الزاهدين في الدنيا المتجردين عنها‬
‫على أقسام‪:‬‬
‫قسم منهم يفرون من الدنيا وإن عرضت عليهم عفوا‬
‫صفوا فليس يرغبون فيها اغتباطا بفقرهم‪ ،‬وتفرغا عن‬
‫الدنيا لطاعة ربهم وعبادته‪ ،‬وذكره ومناجاته‪ .‬وقد ذكر عن‬
‫إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى‪ :‬أنه جاءه شخص‬
‫بعشرة آلف درهم فلم يقبلها منه‪ ،‬وقال له‪ :‬تريد أن‬
‫تمحو اسمي من ديوان الفقراء بهذه العشرة اللف؟ ل‬
‫أفعل ل ِل ّ ِ‬
‫ه‬
‫وعن بعضهم قال‪ :‬رأيت فقيرا قاعدا على سجادة في‬
‫المسجد الحرام‪ ،‬وكان معي شيء من الدراهم فوضعتها‬
‫على سجادته‪ ،‬وسألته أن يقبلها فنظر إلي‬
‫) ‪(1/183‬‬

‫شزرا ً وقال‪ :‬يا هذا‪ ،‬اشتريت هذه الجلسة مع الله تعالى‬


‫على الفراغ بكذا وكذا ألفا ً غير العقارات والمستغلت‪،‬‬
‫فتريد أن تخدعني عنها بدراهمك هذه؟ ثم قام ونفض‬
‫سجادته ومضى؛ فتبددت الدراهم وجعلت ألتقطها‪ .‬فلم أَر‬
‫ل مني حين بقيت ألتقط‬ ‫أعّز منه حين ذهب وتركها‪ ،‬وأذ ّ‬
‫الدراهم! )الحكاية بمعناها(‪ .‬وحكاياتهم في مثل ذلك كثيرة‬
‫معروفة‪.‬‬
‫ومن وصف أهل هذا القسم‪ :‬الفرار من الدنيا ومن دخولها‬
‫في أيديهم إذا أقبلت عليهم‪ ،‬وربما قيل لبعضهم‪ :‬خذه‬
‫وتصدق به فيأبى‪ ،‬فيقول‪ :‬من جمعه أولى بتفريقه‪ ،‬تكون‬
‫العهدة عليه في الجمع والتفريق‪.‬‬
‫والقسم الثاني ل يفرون من الدنيا إذا عرضت عليهم‬
‫وأقبلت إليهم‪ ،‬ولكنهم يقبلونها ويفرقونها على المستحقين‬
‫والمحتاجين في الحال الحاضر من غير انتظار ول تأخير‪،‬‬
‫وهؤلء هم القوياء من حزب الله وخلفائه في عباده‪،‬‬
‫ولهم السوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛‬
‫فإنه صلوات الله عليه وسلمه لم يفر من الدنيا حين‬
‫أقبلت‪ ،‬ولكنه أنفقها في سبيل الله‪ ،‬ووضعها حيث أمر‬
‫الله‪ .‬فكان يعطي الرجل الواحد المائة من البل‪ ،‬وأعطى‬
‫رجل ً غنما ً بين جبلين‪ ،‬وأعطى العباس رضي الله عنه من‬
‫المال‬
‫) ‪(1/184‬‬

‫ما عجز عن حمله‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬وما‬


‫يسرني أن لي مثل أحد ذهبا(‪ ،‬تمضي علي ثلثة أيام‬
‫وعندي منه قيراط إل أن أقول)‪ (1‬به في عباد الله هكذا‬
‫وهكذا( الحديث‪.‬‬
‫وكانت هذه سيرته عليه الصلة والسلم‪ .‬وكان يعيش هو‬
‫وأهل بيته عيش الفقراء على التمر والماء‪ ،‬وعلى خبز‬
‫الشعير الغير المنخول‪.‬‬
‫وكذلك كانت سيرة الخلفاء الراشين من بعده‪ :‬أبي بكر‬
‫وعمر وعثمان وعلي )رضي الله عنهم أجمعين(‪ ،‬لم يفروا‬
‫من الدنيا حين جاءت إليهم‪ ،‬ولم يمسكوها للتمتع‬
‫بشهواتها؛ بل أخرجوها في الحال‪ ،‬وبقوا على ما كانوا‬
‫عليه من التقلل والتقشف‪ ،‬وسيرهم في ذلك مأثورة‬
‫ومعروفة‪ .‬وقد بلغنا أن ابن الزبير أرسل لعائشة رضي‬
‫الله عنها بمائة ألف درهم فأنفقتها من ساعتها وكانت إذ‬
‫ما قربت لها الجارية الفطور وكان خبزا ً‬ ‫ذاك صائمة؛ فل ّ‬
‫وزيتًا‪ ،‬قالت لها‪ :‬ألم يمكنك فيما‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬العرب تجعل القول عبارة عن جميع الفعال‪،‬‬
‫وتطلقه على غير الكلم واللسان؛ فتقول‪ :‬قال بيده‪ :‬أي‬
‫أخذ‪ .‬وقال برجله‪ :‬أي مشى‪ .‬وذلك على سبيل المجاز‬
‫والتساع‪.‬‬
‫) ‪(1/185‬‬

‫فّرقت اليوم أن تشتري بدرهم لحما ً تفطرين عليه‪،‬‬


‫فقالت‪ :‬لو ذكرتيني لفعلت‪.‬‬
‫والقسم الثالث‪ :‬قد يطلبون الدنيا ويسعون لها‪ ،‬ولكن لم‬
‫يقدر لهم منها‪ ،‬ولم يقسم لهم فيها إل مقدار الكفاية وأقل‬
‫من ذلك‪ .‬ولكن رضوا به وقنعوا وصبروا معرفة منهم‬
‫بحسن الختيار‪ ،‬وعلما بأن الله ما زوى عنهم فضول الدنيا‬
‫إل لخير أرادهم به‪ ،‬وقد قال عليه الصلة والسلم‪) :‬قد‬
‫أفلح كم من هدي إلى السلم وكان رزقه كفافا وقنع به(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم في دعائه‪) :‬اللهم ارزقني ما‬
‫يكفيني‪ ،‬وامنع عني ما يطغيني(‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬من رضي من الله بالسير من الرزق‪ ،‬رضي‬
‫منه باليسير من العمل(‪.‬‬
‫فأما من طلب الدنيا وجد وشمر في السعي لها لكي‬
‫يتمتع بشهواتها ويتنعم بلذاتها فذلك من طلب الدنيا‪،‬‬
‫وأرباب الحرص عليها‪ ،‬وأمره محظور ويخشى عليه‪ .‬فإن‬
‫الطالب للدنيا على هذه الرادة معدود من المؤثرين للدنيا‬
‫الراغبين في متاعها‪ ،‬سواء حصل له ما طلبه وأمله منها‬
‫أم لم يحصل له‪.‬‬
‫وإذا كان الطالب للدنيا ليبر بها ويتصدق منها‪ ،‬يقال له‪ :‬يا‬
‫طالب الدنيا لتبر بها تركك لها أبر وأبر!‬
‫) ‪(1/186‬‬

‫فكيف يكون المر في حق من يطلبها للتمتع بالشهوات‬


‫واللذات الفانيات!!‬
‫… فالنجاة في طلب الدنيا أن يطلبها العبد للعفاف‬
‫والكفاف؛ فإن دخل في يده أكثر من ذلك من وجهه قدمه‬
‫لخرته‪ ،‬وادخره لنفسه عند ربه‪.‬‬
‫… وأما الفقير الذي يطلب الدنيا‪ ،‬فإن وجدها جمعها‬
‫ومنعها‪ ،‬وإن لم يجدها تحسر عليها‪ ،‬واشتد حزنه وتأسفه‬
‫على فقدها؛ فذلك مذموم الحال‪ ،‬وغير معدود من‬
‫الفائزين في المآل سيما إذا اشتغل بطلبها والسعي لها‬
‫عن طاعة ربه وحسن التزود لخرته‪ ،‬ويخشى عليه أن‬
‫يكون من الذين قيل فيهم‪ :‬أشقى الشقياء من جمع الله‬
‫عليه فقر الدنيا وعذاب الخرة!!‬
‫…فالفقر مع الصبر والقناعة بما قسم الله‪ ،‬والرضا بما‬
‫قضاه لعبده من اختيار القلة على الكثرة‪ ،‬والضيق على‬
‫السعة من الدنيا من أعظم النعم وأفضل الفضائل‪.‬‬
‫… وأما الفقر مع السخط والحزن‪ ،‬والتبرم والتضجر‬
‫فذلك من أعظم البليات‪ ،‬وقد استعاذ رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم من الفقر الذي يكون صاحبه على مثل‬
‫تلك الصفة‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬كاد الفقر أن‬
‫يكون كفرًا(‪ .‬فإن السخط لقضاء الله‪ ،‬وعدم الرضا بما‬
‫قسمه‪،‬‬
‫) ‪(1/187‬‬

‫من الذنوب المهلكة‪ ،‬والمعاصي الفظيعة الهائلة؛ فليحذر‬


‫الفقير من ذلك غاية الحذر‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫)يا معشر الفقراء‪ ،‬أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا‬
‫بثواب فقركم‪ ،‬وإل فل(‪.‬‬
‫…وأما المراض والعاهات‪ ،‬وأنواع المصائب والبليات التي‬
‫يوجهها الله إلى بعض عباده فإن فيها لهم من الجر‬
‫والثواب‪ ،‬وحسن العواقب وكريم المآب مهما صبروا‬
‫عليها‪ ،‬ولم يسخطوا قضاء الله عليهم بها‪ ،‬ولم يتبرموا ولم‬
‫ن‬
‫م َ‬‫يٍء ّ‬‫ش ْ‬ ‫م بِ َ‬‫يجزعوا‪ ،‬وقد قال الله تعالى‪ } :‬وَل َن َب ْل ُوَن ّك ُ ْ‬
‫ل { إلى قوله تعالى‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ف َوال ْ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫وا ِ‬‫م َ‬‫ن ال َ‬ ‫م َ‬‫ص ّ‬‫ٍ‬ ‫جوِع وَن َْق‬ ‫خو ْ‬
‫م‬ ‫ة وَُأول َئ ِ َ‬
‫ك هُ ُ‬ ‫م ٌ‬
‫ح َ‬ ‫م وََر ْ‬ ‫من ّرب ّهِ ْ‬ ‫ت ّ‬ ‫صل َ َ‬
‫وا ٌ‬ ‫م َ‬ ‫ك عَل َي ْهِ ْ‬‫} ُأول َئ ِ َ‬
‫ن {‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬ليتمنين أهل‬ ‫دو َ‬ ‫مهْت َ ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫العافية يوم القيامة أن لو قرضت أجسادهم بالمقاريض‬
‫لما يرون من ثواب أهل البلء(‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬ما يصيب المؤمن من نصب ول وصب ول هم‬
‫ول حزن ول أذى حتى الشوكة يشاكها إل كفر الله بها من‬
‫خطاياه(‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬عظم الجزاء مع‬
‫عظم البلء( وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬يؤتى بأهل البلء‬
‫يوم القيامة فل ُينصب لهم ميزان‬
‫) ‪(1/188‬‬

‫ب عليهم الثواب صب ّا ً وُيفَرغ لهم‬


‫ول ينشر لهم ديوان‪ ،‬ويص ّ‬
‫إفراغًا( الحديث‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬ل يبرح‬
‫البلء بالمؤمن حتى يمشي على الرض وما عليه خطيئة(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬إذا أحب الله عبدا وأراد أن‬
‫يصافيه صب عليه البلء صبا وسحه سحا؛ فإذا دعا العبد‬
‫وقال يا رباه‪ ،‬قال لبيك عبدي‪ ،‬ل تسألني شيئا إل أعطيتك‪،‬‬
‫إما أني أعجله لك‪ ،‬وإما أني أدخره لك(‪.‬‬
‫… وما ورد في ثواب البلء مع الصبر والحتساب كثير‬
‫منتشر‪ ،‬ومع ذلك فليس ينبغي للنسان أن يسأل الله‬
‫البلء ويدعو به‪ ،‬فإنه ل يدري ما يكون منه عند نزول البلء‬
‫عليه‪ ،‬فلعله يجزع ويسخط فيقع في الثم والحرج؛ بل‬
‫ينبغي له أن يسأل الله العافية‪ ،‬ويكثر من سؤالها؛ ففي‬
‫الحديث‪) :‬ما أوتي النسان بعد اليقين أفضل من العافية‪،‬‬
‫وما سئل الله تعالى شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية(‪،‬‬
‫فهذا الذي ينبغي للعبد ويليق بضعفه‪ ،‬فإن وجه الله إليه‬
‫بلء‪ ،‬وأراده به كان عليه أن يصبر ويحتسب‪ ،‬ويرضى‬
‫بقضاء الله تعالى‪ ،‬ويسأل ربه اللطف به والعافية والتثبيت‬
‫والتأييد‪.‬‬
‫) ‪(1/189‬‬

‫…وكذلك ل ينبغي لحد أن يتمنى الموت لضر نزل به من‬


‫مرض أو فقر أو نحوه من شدائد الدنيا؛ فقد قال عليه‬
‫الصلة والسلم‪) :‬ل يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به‪،‬‬
‫فإن كان ل بد فاعل فليقل‪ :‬اللهم أحيني ما كانت الحياة‬
‫خيرا لي‪ ،‬وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي( فإن خاف‬
‫فتنة في دينه لم يكن عليه في ذلك بأس ول حرج )أعني‬
‫تمني الموت(؛ فقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة‬
‫والسلف الصالح رضوان الله عنهم أجمعين‪.‬‬
‫…ومن الصبر المحمود الذي يعظم الثواب عليه‪ -‬الصبر‬
‫على المصائب والفاقات وشدائد الدنيا‪ ،‬قال ابن عباس‬
‫رضي الله عنهما‪ :‬الصبر في القرآن على ثلث منازل‪:‬‬
‫صبر على طاعة الله وله ثلثمائة درجة‪ ،‬وصبر عن‬
‫معاصي الله تعالى وله ستمائة درجة‪ ،‬وصبر على‬
‫المصائب وله تسعمائة درجة‪ .‬وفي الحديث‪) :‬إنما الصبر‬
‫عند الصدمة الولى( أي عند أول ما يرد عليه العلم بوقوع‬
‫المعصية‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬من أصيب‬
‫بمعصية‪ ،‬فقال‪ :‬إنا لله وإنا إليه راجعون! اللهم أجرني في‬
‫مصيبتي واخلف لي خيرا منها إل آجره الله وأخلفه خيرا‬
‫منها(‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬قال الله تعالى ما‬
‫جزاء من قبضت صفيه من أهل الدنيا فصبر إل الجنة(‪.‬‬
‫) ‪(1/190‬‬

‫…ومن الصبر المحمود ‪ -‬الصبر على ما يقع من أذى‬


‫الناس بأقوالهم وأفعالهم‪ ،‬وهو أعلى الصبر‪ ،‬والصبر على‬
‫ذلك من شأن الكابر والئمة‪ ،‬وأهل الختصاص من النبياء‬
‫والصديقين والولياء والصالحين‪ ،‬قال الله تعالى لرسوله‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬
‫ض عَ ِ‬ ‫ف وَأعْرِ ْ‬ ‫مْر ِبال ْعُْر ِ‬ ‫خذِ ال ْعَْفوَ وَأ ُ‬ ‫المين‪ُ } :‬‬
‫ن‬
‫مَنافِِقي َ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬ ‫ري َ‬ ‫ن {‪ ،‬وقال تعالى‪ } :‬وََل ت ُط ِِع ال ْ َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫جاهِِلي َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫م {‪ .‬وقال تعالى إخبارا عن الرسل عليهم الصلة‬ ‫ذاهُ ْ‬‫وَد َعْ أ َ َ‬
‫سب ُل ََنا‬
‫داَنا ُ‬ ‫ل عََلى الل ّهِ وَقَد ْ هَ َ‬ ‫ما ل ََنا أ َل ّ ن َت َوَك ّ َ‬‫والسلم‪ } :‬وَ َ‬
‫موَنا { الية‪ .‬وقال تعالى حكاية عن‬ ‫ما آذ َي ْت ُ ُ‬‫ن عََلى َ‬ ‫صب َِر ّ‬ ‫وَل َن َ ْ‬
‫ُ‬
‫من قَب ْ ِ‬
‫ل‬ ‫قوم موسى عليه الصلة والسلم‪َ } :‬قاُلوا ْ أوِذيَنا ِ‬
‫جئ ْت ََنا { الية‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ما ِ‬ ‫من ب َعْدِ َ‬ ‫أن ت َأِتيَنا وَ ِ‬
‫…فعلى من ابتلي بشيء من أذى الناس أن يصبر‬
‫ويحتمل‪ ،‬ول يكافئ ول يقابل بمثل ذلك‪ ،‬وإن كان قد أبيح‬
‫له ورخص له فيه‪ ،‬وليرض بنصر الله له‪ ،‬ول يدع على من‬
‫ظلمه ول يسبه ول يشتمه؛ فقد ورد‪) :‬من دعا على من‬
‫ظلمه فقد انتصر( ‪.‬‬
‫وورد‪) :‬إن المظلوم ليدعو على ظالمه حتى يكافئه ثم‬
‫يبقى للظالم عليه زيادة يطالبه بها يوم القيامة‪ ،‬فيعود‬
‫الظالم مظلومًا‪ ،‬والمظلوم ظالمًا(‪.‬‬
‫) ‪(1/191‬‬

‫…وأفضل من ذلك أن يعفو ويصفح من غير حقد ول محبة‬


‫َ‬
‫صل َ َ‬
‫ح‬ ‫ن عََفا وَأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫شر‪ ،‬ول بلء لمن آذاه‪ ،‬قال الله تعالى‪ } :‬فَ َ‬
‫ب ال ّ‬ ‫َ‬
‫ن {‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬
‫جُرهُ عََلى الل ّهِ إ ِن ّ ُ‬ ‫فَأ ْ‬
‫حبو َ‬ ‫َ‬
‫م َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬‫ن أن ي َغِْفَر الل ّ ُ‬ ‫حوا أَل ت ُ ِ ّ َ‬ ‫صَف ُ‬ ‫} وَل ْي َعُْفوا وَل ْي َ ْ‬
‫م {‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬ينادي مناد‬ ‫غَُفوٌر ّر ِ‬
‫حي ٌ‬
‫يوم القيامة ليقم من أجره على الله؛ فيقوم العافون عن‬
‫الناس(‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪ :‬من أعطي فشكر‪،‬‬
‫ومنع فصبر‪ ،‬وظلم فغفر‪ ،‬وظلم فاستغفر ثم سكت‪،‬‬
‫فقالوا ماذا له يا رسول الله؟ فقال عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫)أولئك لهم المن وهم مهتدون( الحديث‪.‬‬
‫…وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬ما أحد أصبر على أذى‬
‫يسمعه من الله؛ إنهم ليدعون له ولدا ويجعلون له أندادا‬
‫وهو مع ذلك يعافيهم ويرزقهم(‪.‬‬
‫…وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬لقد أوذيت وما يؤذى أحد‪،‬‬
‫ولقد أخفت وما يخاف أحد‪ ،‬ولقد أتت علي ثلثون ما بين‬
‫يوم وليلة وما لي ولبلل طعام يأكله ذي كبد إل شيئا‬
‫يواريه إبط بلل(‪ .‬وذكر القشيري في الرسالة بإسناده‬
‫قال‪ :‬أتت فاطمة رضي الله عنها إلى رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم بكسرة خبز ؛‬
‫) ‪(1/192‬‬

‫فقال‪) :‬ما هذا يا فاطمة؟( قالت‪ :‬قرص خبزته فلم تطب‬


‫نفسي حتى آتيك به‪ ،‬فقال‪) :‬أما إنه أول طعام دخل فم‬
‫أبيك منذ ثلث(‪.‬‬
‫ولما شكت إليه صلى الله عليه وسلم ما تلقاه من‬
‫الطحن وحمل الماء وغير ذلك من خدمة البيت وسألته‬
‫خادما‪ ،‬فقال لها‪) :‬كيف أعطيك خادما وأدع أهل الصفة(‬
‫ثم أمرها هي وعليا ً رضي الله عنهما إذا أخذا مضجعهما‬
‫من الليل‪) :‬أن يسبحا ثلثا ً وثلثين‪ ،‬ويحمدا ثلثا ً وثلثين‪،‬‬
‫ويكّبرا أربعا ً وثلثين‪ ،‬ثم قال‪ :‬وذلكما خير لكما من خادم(‬
‫الحديث‪.‬‬
‫…وقد كان يأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫وعلى أهله الهلل والهلل في شهرين ل توقد في أبياتهم‬
‫نار لطعام ول غيره‪ ،‬إنما يكونون على السودين التمر‬
‫والماء‪ .‬وقال أبو هريرة رضي الله عنه‪) :‬ما شبع آل محمد‬
‫من طعام ثلثة أيام حتى قبض(‪ .‬وقال ابن عباس رضي‬
‫الله عنهما‪) :‬كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت‬
‫الليالي المتتابعة وأهله طاوين ل يجدون عشاء‪ ،‬وكان أكثر‬
‫خبزهم الشعير(‪ .‬وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال‪:‬‬
‫)خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل‬
‫بعض حيطان النصار فجعل يلتقط من التمر ويأكل؛‬
‫فقال‪) :‬يا بن عمر‪ ،‬مالك ل تأكل؟ قلت‪ :‬ل أشتهيه يا‬
‫رسول الله‪،‬‬
‫) ‪(1/193‬‬

‫قال لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة منذ لم أذقْ طعامًا‪،‬‬


‫ل فأعطاني ملك كسرى‬ ‫ت لدعوت ربي عّز وج ّ‬ ‫ولو شئ ُ‬
‫وقيصر‪ ،‬فكيف بك يا بن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون‬
‫رزق سنتهم ويضعف اليقين‪ .‬فو الله ما برحنا حتى نزلت‪:‬‬
‫و‬ ‫ه‬‫و‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫يا‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫ها‬ ‫ُ‬ ‫ق‬‫ز‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ق‬‫ز‬ ‫ر‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫م‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ة‬ ‫ب‬‫دا‬ ‫من‬ ‫ين‬ ‫} وك َأ َ‬
‫ُ‬
‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م {‪ .‬فقل رسول الله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫ْ‬
‫ميعُ العَِلي ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ال ّ‬
‫إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا‪ ،‬ول باتباع الشهوات؛ فمن‬
‫كنز دينارا يريد به حياة باقية فإن الحياة بيد الله عز وجل‪،‬‬
‫أل وإني ل أكنز دينارا ول درهما‪ ،‬ول أخبئ رزقا لغد(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬عرض علي ربي ليجعل لي‬
‫بطحاء مكة ذهبا قلت ل يا رب! ولكن أشبع يوما وأجوع‬
‫يوما؛ فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك‪ ،‬وإذا شبعت‬
‫شكرتك وحمدتك(‪.‬‬
‫وعن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال‪ :‬كان رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم يواسي الناس بنفسه)‪،(1‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬أي بما يعمله في شأن نفسه خاصة ليتأسوا به‪.‬‬
‫) ‪(1/194‬‬

‫دم‪ ،‬وما كان يجمع بين عشاء‬ ‫حتى جعل يرقع إزاره بال َ َ‬
‫ل‪ ،‬صّلى الله‬
‫وغداء ثلثة أيام ِولء حتى لحق بالله عّز وج ّ‬
‫عليه وسّلم وزاده شرفا ً وكرامة لديه‪.‬‬

‫***‬
‫) ‪(1/195‬‬

‫) ‪(1/196‬‬

‫***************************‬
‫الصنف السادس‬
‫دعوة التباع‬
‫من الولد والنساء والمماليك‬
‫**************************‬
‫) ‪(1/197‬‬

‫) ‪(1/198‬‬

‫الصنف السادس‬
‫وهم التباع من الولد والباء‪ ,‬والنساء مع الزواج‪,‬‬
‫والمماليك مع المالكين لهم‬
‫القول في نصيحتهم وتذكيرهم وتنبيههم وتحذيرهم‬
‫***‬
‫اعلم أن هؤلء يكونون في الجملة في تبعية غيرهم‪,‬‬
‫وتكون الحقوق اللهية المتوجهة عليهم أكثر وآكد من‬
‫الحقوق التي لهم على الذين يكونون في تبعيتهم من‬
‫الباء والزواج والملك‪ ,‬وإن كانت أيضا لهم حقوق في‬
‫الجملة على ا لمتبوعين لهم‪.‬‬
‫***‬
‫أما الولد مع الوالدين من الباء والمهات فقد قال الله‬
‫عز وجل‪ } :‬وقَضى رب َ َ‬
‫ن‬ ‫دوا ْ إ ِل ّ إ ِّياهُ وَِبال ْ َ‬
‫وال ِد َي ْ ِ‬ ‫ك أل ّ ت َعْب ُ ُ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ما فَل َ ت َُقل‬ ‫ما أوْ ك ِل َهُ َ‬ ‫حد ُهُ َ‬‫ك الك ِب ََر أ َ‬ ‫عند َ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ما ي َب ْل ُغَ ّ‬ ‫سانا ً إ ِ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫إِ ْ‬
‫ض ل َهُ َ‬
‫ما‬ ‫خِف ْ‬ ‫ريمًا‪َ .‬وا ْ‬ ‫ما قَوْل ً ك َ ِ‬ ‫ما وَُقل ل ّهُ َ‬ ‫ف وَل َ ت َن ْهَْرهُ َ‬ ‫ما أ ُ ّ‬ ‫ل ّهُ َ‬
‫ما َرب َّياِني‬ ‫ما ك َ َ‬‫مه ُ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ب اْر َ‬ ‫مةِ وَُقل ّر ّ‬ ‫ح َ‬
‫ن الّر ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ح الذ ّ ّ‬ ‫جَنا َ‬ ‫َ‬
‫شْيئا ً‬‫كوا ْ ب ِهِ َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ه وَل َ ت ُ ْ‬ ‫دوا ْ الل ّ َ‬‫صِغيرا ً {‪ ،‬وقال تعالى‪َ } :‬واعْب ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ً‬
‫سانا {‪،‬‬ ‫ح َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫ْ‬
‫وال ِد َي ْ ِ‬
‫وَِبال َ‬
‫) ‪(1/199‬‬

‫َ‬
‫صيُر {‪،‬‬ ‫م ِ‬ ‫ي ال ْ َ‬
‫ك إ ِل َ ّ‬ ‫شك ُْر ِلي وَل ِ َ‬
‫وال ِد َي ْ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫وقال تعالى‪ }:‬أ ِ‬
‫ه‬ ‫وقال تعالى‪ }:‬ووصينا اْلنسان بوال ِديه إحسانا ً حمل َت ُ‬
‫م ُ‬‫هأ ّ‬ ‫َ َ ْ ُ‬ ‫ِ َ َ ِ َ َْ ِ ِ ْ َ‬ ‫َ َ ّ َْ‬
‫ك‬‫ت إ ِل َي ْ َ‬
‫ه ك ُْرها ً { إلى قوله تعالى‪ } :‬إ ِّني ت ُب ْ ُ‬ ‫ك ُْرها ً وَوَ َ‬
‫ضعَت ْ ُ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬
‫وَإ ِّني ِ‬
‫وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال‪ :‬سألت رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ :‬أي العمال أحب إلى الله؟ قال‪:‬‬
‫)الصلة على وقتها( قلت‪ :‬ثم أي؟ قال‪) :‬بر الوالدين(‬
‫قلت‪ :‬ثم أي؟ قال‪) :‬الجهاد في سبيل الله(‪ ،‬وقال عليه‬
‫الصلة والسلم‪) :‬ل يجزي ولد والده إل أن يجده مملوكا‬
‫فيشتريه فيعتقه(‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬رضا الله‬
‫في رضا الوالدين‪ ،‬وسخطه في سخط الوالدين(‪.‬‬
‫ويروى عنه تبارك وتعالى أنه قال‪) :‬من أصبح مرضيا‬
‫لوالديه مسخطا لي فأنا عنه راض‪ ،‬ومن أصبح مرضيا لي‬
‫مسخطا لوالديه فأنا عنه ساخط(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬الوالد وسط أبواب الجنة؛‬
‫فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه(‪.‬‬
‫وقال رجل‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬ما حق الوالدين على ولدهما؟‬
‫فقال عليه الصلة والسلم‪) :‬هما جنتك ونارك(‪.‬‬
‫) ‪(1/200‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬من سّره أن يمد ّ له في‬


‫عمره‪ ،‬ويزاد َ له في رزقه فليبّر والديه وليصل رحمه(‪.‬‬
‫وقال رجل يا رسول الله‪ :‬إن أبي أراد أخذ مالي! فقال‬
‫عليه الصلة والسلم‪) :‬أنت ومالك لبيك(‪.‬‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم‪) :‬بروا آباءكم تبركم أبناؤكم‪.‬‬
‫وعفوا تعف نساؤكم(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬رغم أنف ثم رغم أنف ثم‬
‫رغم أنف! قيل‪ :‬يا رسول الله من؟ قال‪ :‬من أدرك والديه‬
‫عند الكبر أحدهما أو كلهما ثم لم يدخل الجنة(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬أكبر الكبائر ثلث‪ :‬الشراك‬
‫بالله‪ ،‬وعقوق الوالدين‪ ،‬وقول الزور أو وشهادة الزور(‬
‫الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬ملعون من عقّ والديه(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬كل الذنوب يؤخر الله منها ما‬
‫شاء إلى يوم القيامة إل عقوق الوالدين فإنه يعجله‬
‫لصاحبه في الحياة قبل الممات(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬يا معشر المسلمين‪ ،‬اتقوا‬
‫الله وصلوا أرحامكم؛ فإنه ليس من ثواب أسرع من صلة‬
‫الرحم‪ ،‬وإياكم والبغي فإنه ليس من عقوبة أسرع من‬
‫عقوبة البغي‪.‬‬
‫) ‪(1/201‬‬

‫وإياكم وعقوق الوالدين فإن ريح الجنة يوجد من مسيرة‬


‫ألف عام‪ ،‬والله ل يجدها عاق لوالديه‪ ،‬ول قاطع رحم‪ ،‬ول‬
‫شيخ زان ول جار إزاره خيلء‪ ،‬إنما الكبرياء لله رب‬
‫العالمين‪ .‬والكذب كله إثم إل ما نفعت به مؤمنا أو دفعت‬
‫به عن دين(‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬ثلثة حرم الله‬
‫تعالى عليهم الجنة‪ :‬مدمن الخمر‪ ،‬والعاق لوالديه‪،‬‬
‫والديوث الذي يقر الخبث في أهله(‪.‬‬
‫واعلم أن حق الوالدين من أعظم الحقوق‪ ،‬وبرهما من‬
‫أهم المهمات‪ ،‬وأقرب القربات وأفضل الطاعات لله رب‬
‫العالمين‪ .‬وأن عقوقهما والضاعة لحقهما من أفحش‬
‫المعاصي‪ ،‬وأكبر الكبائر وأقبح المحرمات‪ .‬فعليك رحمك‬
‫الله بمعرفة حق والديك وحسن القيام ببرهما‪ .‬واحذر كل‬
‫الحذر من عقوقهما والتهاون بحقهما‪ .‬واحرص كل الحرص‬
‫على ابتغاء مرضاتهما ولزوم طاعتهما‪ ،‬وإدخال السرور‬
‫على قلوبهما بكل وجه تستطيعه وتقدر عليه؛ مع الحسان‬
‫ومنع كل أمر يسوءهما ويشق عليهما ويجر إلى سخطهما‪.‬‬
‫ما‬
‫صب َُروا وَ َ‬
‫ن َ‬ ‫ها إ ِّل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ما ي ُل َّقا َ‬
‫واستعن بالله واصبر } وَ َ‬
‫ظيم ٍ {‪.‬‬
‫ظ عَ ِ‬‫ح ّ‬
‫ذو َ‬ ‫ها إ ِّل ُ‬
‫ي ُل َّقا َ‬
‫ل سبب ذلك ما‬ ‫م يزيد على بّر الب‪ ،‬ولع ّ‬ ‫واعلم أن ب ِّر ال ّ‬
‫تقاسيه من‬
‫) ‪(1/202‬‬

‫مشقة الحمل والوضع‪ ،‬وزيادة الشفقة والحنان‪ ،‬وما‬


‫تحمله من مؤونة الرضاع والتربية ونحو ذلك‪ ،‬وقد قال‬
‫عليه الصلة والسلم للسائل الذي سأله‪ :‬من أحق الناس‬
‫بحسن الصحبة؟ فقال له‪) :‬أمك ثم أمك ثم أمك‪ ،‬ثم‬
‫أبوك‪ ،‬ثم أدناك فأدناك( الحديث‪.‬‬
‫ومن تمام بر الوالدين ‪ -‬صلة أرحامهما وأصدقائهما وأهل‬
‫مودتهما‪ ،‬وقد قال عليه الصلة والسلم‪) :‬أبر البر أن يصل‬
‫الرجل أهل ود أبيه( وفي الحديث الخر‪) :‬من حسن بر‬
‫الوالدين صلة الرحم التي ل توصل إل بهما(‪.‬‬
‫ومما ينبغي للوالدين وخصوصا في هذه الزمنة فشا فيها‬
‫العقوق‪ ،‬وقل فيها البر والبارون أن يعينوا أولدهم على‬
‫برهم بالمسامحة‪ ،‬وترك الستقصاء في طلب الحقوق‬
‫والقيام بكمال البر؛ لئل يحرجوهم ويوقعوهم في سخط‬
‫الله‪ ،‬وليغتنموا دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫حيث يقول‪) :‬رحم الله والدا أعان ولده على بره(‪.‬‬
‫وينبغي ويتأكد عليهم أن يحسنوا تربية أولدهم وتعليمهم‬
‫وتأديبهم‪ ،‬وأن يحفظوهم من قرناء السوء وخلطاء‬
‫الفساد‪ ،‬وأن يغرسوا في نفوسهم معرفة الحق والدين‪،‬‬
‫ومحبة الخير وأهله‪،‬‬
‫) ‪(1/203‬‬

‫والحرص على العمل به‪ ،‬وبغض أهل الباطل والفساد‪،‬‬


‫والشر وأهله ليقع نشوءهم على ذلك‪ ،‬فيشتد حرصهم‬
‫ورغبتهم إذا كبروا وأدركوا على الخير والصلح والبر‪،‬‬
‫ومجانبة الشر والفساد‪.‬‬
‫وكما يجب ويتأكد على النسان أن يبر والديه ويحذر من‬
‫عقوقهما فعليه أيضا أن يصل أرحامه وأقاربه‪ ،‬فإن صلة‬
‫الرحام من المور المهمة في الدين‪ ،‬وهي )أعني الرحم(‬
‫مما أمر الله به أن يوصل في قوله عز وجل من قائل‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ن َرب ّهُ ْ‬ ‫شو ْ َ‬ ‫خ َ‬ ‫ل وَي َ ْ‬ ‫ص َ‬ ‫ه ب ِهِ أن ُيو َ‬ ‫مَر الل ّ ُ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ن َ‬ ‫صُلو َ‬ ‫ن يَ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫ب {‪.‬‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫سوَء ال ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫وَي َ َ‬
‫وقد لعن الله سبحانه وتعالى القاطعين لرحامهم في‬
‫دوا ِفي‬ ‫ل عَسيتم إن تول ّيت َ‬ ‫قوله تعالى‪ } :‬فَهَ ْ‬
‫س ُ‬‫م أن ت ُْف ِ‬ ‫َ ُْ ْ ِ َ َ ُْ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫اْل َ‬
‫م‬
‫مه ُ ْ‬
‫ص ّ‬ ‫ه فَأ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ن ل َعَن َهُ ُ‬
‫ذي َ‬‫ك ال ّ ِ‬
‫م‪.‬أوْل َئ ِ َ‬ ‫مك ُ ْ‬ ‫حا َ‬‫ض وَت َُقط ُّعوا أْر َ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ‬
‫م { الية‪.‬‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫صا‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫مى‬ ‫َ‬
‫ْ َ َ ُ ْ‬ ‫وَأعْ َ‬
‫وفي الحديث عن الله تعالى‪) :‬هي الرحم وأنا الرحمن‬
‫شققت لها اسما ً من اسمي‪ ،‬فمن وصلها وصلته‪ ،‬ومن‬
‫قطعها قطعته( وأنه تعالى قال للرحم حين قامت فقالت‬
‫هذا مقام العائذ بك من القطيعة(‪ :‬أما ترضين أن أصل‬
‫من وصلك وأقطع من قطعك(‪،‬‬
‫) ‪(1/204‬‬

‫أن ُينسأ له في‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬من سّره‬


‫وليص ْ‬
‫ل رحمه(‪.‬‬ ‫ه‬
‫ق الل َ‬
‫أجله‪ ،‬ويبسط له في رزقه؛ فليت ِ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬ل يدخل الجنة قاطع رحم(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬ل تنزل الرحمة على قوم‬
‫فيهم قاطع رحم(‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬صلوا‬
‫أرحامكم ولو بالسلم(‪.‬‬
‫وقال صلوات الله عليه وسلمه‪) :‬أفضل الصدقة على ذي‬
‫الرحم الكاشح‪ ،‬وهو الذي يضمر العداوة لقريبه المحسن‬
‫إليه(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬الصدقة على القرابة صدقة‬
‫وصلة(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬من كان يؤمن بالله واليوم‬
‫الخر فليصل رحمه(‪.‬‬
‫***‬
‫وأما النساء من الزواج ‪ -‬فإن حقوقهم عليهن مهمة‬
‫وكثيرة‪ ،‬وإن كان الحال من الرجال والنساء على ما‬
‫وصف الله في كتابه العزيز حيث يقول تبارك وتعالى‪:‬‬
‫ة‬
‫ج ٌ‬ ‫ن د ََر َ‬‫ل عَل َي ْهِ ّ‬ ‫جا ِ‬ ‫ف وَِللّر َ‬ ‫معُْرو ِ‬‫ن ِبال ْ َ‬‫ذي عَل َي ْهِ ّ‬ ‫ل ال ّ ِ‬‫مث ْ ُ‬
‫ن ِ‬ ‫} وَل َهُ ّ‬
‫ن عََلى‬ ‫مو َ‬ ‫وا ُ‬ ‫ل قَ ّ‬ ‫جا ُ‬ ‫م {‪ ،‬وقال تعالى‪ } :‬الّر َ‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ُ‬ ‫زيٌز َ‬ ‫ِ‬ ‫ه عَ‬‫َوالل ّ ُ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ما أنَفُقوا ْ ِ‬ ‫ض وَب ِ َ‬ ‫ضه ُ ْ َ‬
‫م عَلى ب َعْ ٍ‬ ‫ه ب َعْ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬‫ض َ‬ ‫ما فَ ّ‬ ‫ساء ب ِ َ‬ ‫الن ّ َ‬
‫َ‬
‫ظ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫حِف َ‬ ‫ما َ‬ ‫ب بِ َ‬ ‫ت ل ّل ْغَي ْ ِ‬ ‫حافِ َ‬
‫ظا ٌ‬ ‫ت َ‬ ‫ت َقان َِتا ٌ‬ ‫حا ُ‬‫صال ِ َ‬ ‫م َفال ّ‬ ‫وال ِهِ ْ‬ ‫م َ‬
‫أ ْ‬
‫{ الية‪.‬‬
‫) ‪(1/205‬‬

‫وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪) :‬لو كان ينبغي‬
‫لبشر أن يسجد لبشر لمرت المرأة أن تسجد لزوجها إذا‬
‫دخل عليها لما فضله الله عليها( الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬إذا صلت المرأة خمسها‬
‫وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها‬
‫ادخلي من أي أبواب الجنة شئت(‪ ،‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت‬
‫الجنة(‪.‬‬
‫وجاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫فقالت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إني رسولة النساء إليك‪ ،‬وما منهن‬
‫امرأة علمت أو تعلم إل وهي تهوى مخرجي إليك‪ ،‬الله‬
‫رب الرجال والنساء‪ ،‬وأنت رسول الله إلى الرجال‬
‫والنساء‪ ،‬كنب الله على الرجال الجهاد فإن أصابوا أجروا‬
‫وأثروا‪ ،‬وإن استشهدوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون؛ فما‬
‫يعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة؟ قال‪) :‬طاعة‬
‫أزواجهن والمعرفة بحقوقهم‪ .‬وقليل منكن من يفعله(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬والذي نفس محمد بيده‪ ،‬ل‬
‫تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها‪ ،‬ولو سألها‬
‫نفسها وهي على ظهر قتب بعير لم تمنعه(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬ل ينظر الله تبارك وتعالى‬
‫) ‪(1/206‬‬

‫إلى امرأة ل تشكر زوجها‪ ،‬وهي ل تستغني عنه( ‪.‬‬


‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬إذا دعا الرجل امرأته إلى‬
‫فراشها فلم تأته فبات عليها غضبان لعنتها الملئكة حتى‬
‫تصبح(‪.‬‬
‫ومن حقه عليها أل تأذن في بيته لمن يكرهه‪ ،‬وأل تخرج‬
‫من البيت إل بإذنه‪ ،‬وأل تصوم تطوعا إل بإذنه‪ ،‬وأن‬
‫تحفظه في نفسها وفي ماله‪ ،‬وأن تحسن النظر على‬
‫أولده وخدمه‪ ،‬وأن تحفظ موضع سمعه وبصره وأنفه‬
‫منها؛ فل يسمع منها إل خيرا‪ ،‬ول يبصر إل حسنا‪ ،‬ول يشم‬
‫إل طيبا‪ ،‬وأن تكون مستعدة لن يستمتع بها في أي وقت‬
‫أراد‪ ،‬ل تمنعه نفسها إل بعذر شرعي من حيض أو مرض‬
‫أو نحو ذلك‪ ،‬وأن تكون شفيقة رفيقة متعطفة على أقاربه‬
‫والمتصلين به‪.‬‬
‫وحقوق الزوج على زوجته كثيرة ومهمة‪.‬‬
‫وكما أن عليها له حقوقا فلها عليه حقوق أيضا في القيام‬
‫بالنفقة والكسوة والمعاشرة بالمعروف‪ ،‬وقد قال عليه‬
‫الصلة والسلم‪) :‬خياركم خياركم لنسائهم(‪ ،‬وقال عليه‬
‫الصلة والسلم‪) :‬خيركم خيركم لهله‪ ،‬وأنا خيركم‬
‫لهلي(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬استوصوا بالنساء خيرا فإنما‬
‫) ‪(1/207‬‬

‫هن عوان)‪ (1‬عندكم‪ ،‬أخذتموهن بأمانة الله تعالى‪،‬‬


‫واستحللتم فروجهن بكلمة الله( الحديث‪ ،‬وفي الحديث‬
‫الخر‪) :‬إن المرأة خلقت من ضلع أعوج‪ ،‬وأن أعوج ما في‬
‫الضلع أعله؛ فإن ذهبت تقيمه كسرته‪ ،‬وإن استمتعت به‬
‫على عوجه‪ .‬فاستوصوا بالنساء خيرا(‪ .‬وقد تكرر منه عليه‬
‫الصلة والسلم الوصية بهن في غير ما حديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬لن يفرك مؤمن مؤمنة‪ .‬إن‬
‫كره منها خلقا رضي منها بآخر( ومعنى يفرك‪ :‬يبغض‪.‬‬
‫فيحتاج النسان في معاشرتهن إلى صبر وتغافل وحسن‬
‫مداراة‪ ،‬فإنهن خلقن من ضعف‪ .‬وقد وصفهن عليه الصلة‬
‫والسلم بنقصان العقل والدين‪ ،‬فقال‪) :‬ما رأيت أغلب‬
‫للرجل الحازم منكن( أو كما قال صلوات الله عليه‬
‫وسلمه‪ .‬وقد قال‪) :‬الصبر عنهن خير من الصبر عليهن‪،‬‬
‫والصبر عليهن خير من الصبر على النار(‪.‬‬
‫فينبغي أن يسامحها الرجل بما يعسر عليها القيام به من‬
‫حقوقه‪ .‬ول يسامحها بالتساهل بحقوق الله اللزمة عليها‬
‫من الصلوات المكتوبات‪،‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬قوله )عوان( أي مقهورات مأسورات‪ .‬وواحدة‬
‫العواني‪ :‬عانية‪ ،‬يقول‪ :‬إنما هن عندكم بمنزلة السرى‪.‬‬
‫) ‪(1/208‬‬

‫والغتسال من الجنابة‪ ،‬والتصون من الرجال الجانب‪،‬‬


‫والتبرج بالزينة لغير الزوج والمحارم؛ فإن الرجل الكامل‬
‫هو الذي يسامح بحقوقه ول يسامح بحقوق الله‪ ،‬والتهاون‬
‫بدينه وحفظ حرماته‪ ،‬والرجل الناقص هو الذي يكون على‬
‫العكس من ذلك؛ فاعتبر هذا في نفسك وفي غيرك‪.‬‬
‫ثم إنه قد غلب على النساء في هذه الزمنة المفتونة من‬
‫التبرج‪ ،‬وقلة الحياء والتصون ما ل يخفى‪ ،‬فينبغي لكل‬
‫مسلم يخشى الله ويتقيه أن يبالغ في حفظهن وصيانتهن‪،‬‬
‫ول يقصر في ذلك عن شيء يمكنه ويستطيعه‪.‬‬
‫وينبغي لكل متدّين شفيق على دينه ؛ أن يصون نفسه و‬
‫صن بها فرجه ‪ ،‬و‬ ‫ف بها نفسه‪ ،‬و يح ّ‬ ‫دينه بزوجة صالحة ي َعِ ّ‬
‫ليتمّثل قول رسول الله صّلى الله عليه وسّلم ‪ ) :‬يا‬
‫معشَر الشباب ‪ :‬من استطاع منكم الباءة ‪ -‬يعني النفقة ‪-‬‬
‫ن للفرج‪ ،‬و من‬ ‫ض للبصر‪ ،‬و أحص ُ‬ ‫فعليه بالنكاح ؛ فإنه أغ ّ‬
‫جاء(‬
‫لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِ َ‬
‫سَيما في‬
‫كد في هذه الزمنة‪ِ ،‬‬ ‫وهذا هو الذي ينبغي ويتأ ّ‬
‫حق الشباب الذين تكون الشهوة هي الغالبة عليهم‪ .‬وأما‬
‫أهل النسك والدين من الذين غلب عليهم التجرد للعبادة‪،‬‬
‫والشتغال بمهمات الدين من العلوم والعمال‬
‫) ‪(1/209‬‬

‫فليس يخفى عليهم ما يكون من الولى والحسن في‬


‫حقهم من التأهل أو تركه‪ ،‬فإن عندهم من البصيرة بدين‬
‫الله ما يكشف لهم عما هو الحسن والولى بهم من ذلك‪،‬‬
‫ويكون عندهم من رياضات النفوس وتأدب الجوارح ما‬
‫يأمنون به على نفوسهم من الوقوع فيما يسخط الله‬
‫تعالى عليهم‪.‬‬
‫والنسان على نفسه بصيرة‪ ،‬والزمان قد عظم فساده‬
‫وتفاحش‪ ،‬وخرج أهله عن شاكلة الصواب والستقامة‬
‫على جادة الحق والدين إل من شاء الله‪ ،‬وقليل ما هم؛‬
‫فالله المستعان‪ ،‬ول حول ول قوة إل بالله ل ِل ّ ِ‬
‫ه‬
‫وفي الحديث‪) :‬يأتي على الناس زمان يكون هلك الرجل‬
‫فيه على يد أبويه‪ ،‬فإن لم يكن له أبوان فعلى يد زوجته‬
‫وأولده‪ ،‬يعيرونه بالفقر حتى يدخل مداخل السوء( أو كما‬
‫ورد‪.‬‬
‫قال الحسن البصري رحمه الله‪ :‬ما أصبح رجل يطيع‬
‫امرأته فيما تهواه إل أكبه الله في النار‪ ،‬ولما سئل عليه‬
‫الصلة والسلم وقيل له‪ :‬إذا أنت مت فظهر الرض خير‬
‫لنا أو بطنها؟ فقال عليه الصلة والسلم‪) :‬إذا كان‬
‫أمراؤكم خياركم‪ ،‬وأغنياؤكم سمحاءكم‪ ،‬وأموركم شورى‬
‫بينكم‪ ،‬فظهر الرض خير لكم من بطنها‪ .‬وإذا كان‬
‫أمراؤكم أشراركم‪،‬‬
‫) ‪(1/210‬‬

‫وأغنياؤكم بخلءكم‪ ،‬وأموركم إلى نسائكم فبطن الرض‬


‫خير لكم من ظهرها(‪.‬‬
‫فقد تبين أن المرأة الصالحة عون على الدين‪ .‬والمرأة‬
‫الغير الصالحة شغل عن الدين؛ وقد قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬فاظفر بذات الدين تربت يداك( الحديث‪ .‬وقال‬
‫عليه الصلة والسلم‪) :‬الدنيا متاع‪ ،‬وخير متاعها المرأة‬
‫الصالحة‪ ،‬التي إن نظرت إليها سرتك‪،‬وإن غبت عنها‬
‫حفظتك في مالك وفي نفسها(‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬أعظم النساء بركة أخفهن مؤونة(‪.‬‬
‫فمهما وجد النسان المرأة الصالحة التي تعينه على دينه‬
‫وعلى أمر آخرته‪ ،‬كان التزوج أولى به وأفضل له‪ ،‬وإل كان‬
‫الترك لذلك والتفرغ لعبادة الله‪ ،‬والتخفف عن مؤونة‬
‫النساء أحسن وأحمد عاقبة‪ ،‬وقد ورد في الحديث‪:‬‬
‫)خيركم بعد المائتين الخفيف الحاذ‪ ،‬الذي ل أهل له ول‬
‫ولد(‪ .‬وكانت المرأة الصالحة من السلف الصالح تقول‬
‫لزوجها إذا رأته مهموما‪ :‬إن كان اهتمامك لمر الخرة‬
‫فطوبى لك! وإن كان لمر الدنيا فإنا لم نكلفك ما ل تقدر‬
‫عليه‪.‬‬
‫وكانت رابعة الشامية امرأة أحمد بن أبي الحواري)‬
‫‪(1‬رحمهما الله تعالى‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬أبو الحواري هو عبد الله بن ميمون من أهل دمشق‬
‫وأحمد ابنه صحب أبا سليمان الداراني‪ ،‬وسفيان بن عيينة‪،‬‬
‫وجماعة من المشايخ‪ .‬وكان من العارفين الورعين‪ .‬وبيتهم‬
‫بيت الورع والزهد‪ .‬ولقبه الجنيد بريحانة الشام‪ .‬توفي‬
‫سنة ‪240‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/211‬‬

‫تطعمه الطعام الطيب وتطيبه وتقول‪ :‬اذهب بنشاطك إلى‬


‫أهلك؛ وكان له امرأة غيرها‪ ،‬وكان إذا كان بعد صلة‬
‫العشاء تطيبت ولبست ثيابها‪ ،‬وأتت إلى فراشه وقالت له‪:‬‬
‫ألك حاجة؟ فإن كان له حاجة معها وإل نزعت ثيابها‬
‫وانتصبت في مصلها حتى تصبح‪ .‬وكانت هي التي دعت‬
‫ابن أبي الحواري إلى التزويج بها لنه كان لها زوج قبله‬
‫فمات عنها وورثت منه مال‪ ،‬فأرادت ابن أبي الحواري‬
‫يتصدى لنفاق ذلك المال على أهل الدين والخير في‬
‫إطعام الطعام ونحوه؛ لن الرجل أوقف لذلك من المرأة‬
‫وأقوم به‪ ،‬فلذلك دعته لن يتزوج بها رحمة الله عليهما‪.‬‬
‫وأخبار النساء الصالحات من السلف في أمثال ذلك‬
‫كثيرة‪.‬‬
‫وبلغنا أن فتحا الموصلي)‪(2‬رحمه الله كان إذا سافر إلى‬
‫الحج أو غيره دخل النساء على زوجته وجعلن يتحنن‬
‫ويتشفقن عليها لغيبته عنها وعن عياله فقالت لهن‪ :‬إن‬
‫فتحا ً لم يكن رزاقًا‪،‬‬
‫_________________‬
‫)‪ - (2‬هو أبو محمد الفتح بن سعيد الموصلي من أقران‬
‫بشر الحافي‪ ،‬وسري السقطي‪ .‬وكان كبير الشأن في باب‬
‫الورع والمعاملت‪.‬‬
‫) ‪(1/212‬‬

‫وإنما كان يأكل الرزق‪ ،‬فقد غاب من يأكل الرزق‪ ،‬وبقي‬


‫من يرزق وهو الله تعالى‪ ،‬وبالله التوفيق والستعانة‪.‬‬
‫***‬
‫وأما المماليك والرقاء‪ -‬فمن آكد الشياء عليهم‪ ،‬وأهمها‬
‫في حقهم بعد ما يجب عليهم من حق الله وفرائض دينه‬
‫اللزمة طاعة ملكهم وخدمتهم‪ ،‬والنصيحة لهم من عباد‬
‫الله الذسن ملكهم الله رزقهم‪ ،‬وجعلهم لهم عبيدا وخول‪،‬‬
‫ولهم في القيام بذلك لملكهم الثواب العظيم‪ ،‬وعليهم في‬
‫تركه وإضاعته الثم الكبير‪.‬‬
‫وقد وردت بذلك الحاديث وكثرت فيه الثار؛ قال عليه‬
‫الصلة والسلم‪) :‬المملوك الذي يؤدي حق ربه تعالى‬
‫وحق سيده يؤتى أجره مرتين(‪ .‬وقال أبو هريرة رضي‬
‫الله عنه‪ :‬لول الحج والجهاد وبر أمي لحببت أن أكون‬
‫مملوكا‪ .‬يريد لما في ذلك من عظيم الثواب‪ .‬فعلى‬
‫المملوك حسن النصيحة لسيده‪ ،‬وكمال المانة فيما ائتمنه‬
‫عليه من ماله‪ ،‬والقيام بما يستطيعه من خدمته من غير‬
‫تكاسل ول تقصير‪.‬‬
‫وعلى المالك أن يقوم له بنفقته وكسوته‪ ،‬وأل يكلفه من‬
‫العمل ما ل يطيق‪ ،‬وأن ل يشتمه ول يضربه إل بحق‪.‬‬
‫) ‪(1/213‬‬

‫ومتى احتاج إلى ضربه لمر يترتب عليه صلحه واستقامته‬


‫في دينه أو فيما يتعلق بالخدمة اللزمة له فليكن ذلك‬
‫على وجه لطيف‪ ،‬ل يعظم مشقته ول يشتد تعبه على‬
‫المملوك؛ فإنه إن تجاوز في ذلك القدر المأذون فيه يأثم‬
‫ويحرج‪ ،‬ويقتص لمملوكه منه في الدار الخرة كما ورد‬
‫في الحديث‪ ،‬وإن عفا وصفح كان ذلك أفضل وأحسن؛ إل‬
‫أن تكون في الضرب والتأديب مصلحة بينة‪ ،‬وتكون في‬
‫تركه مفسدة ظاهرة تعود على السيد أو على المملوك‪.‬‬
‫وقد سئل عليه الصلة والسلم‪:‬كم يعفى عن المملوك‬
‫في كل يوم؟ فقال‪) :‬سبعين مرة( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬لخادم قصر في شيء‪) :‬لول‬
‫خوف القصاص لوجعتك بهذا السواك(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬للمملوك نفقته وكسوته‪ ،‬وأل‬
‫يكلف ما يغلبه( يعني من الخدمة‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬هم إخوانكم ملككم الله‬
‫إياهم‪ ،‬ولو شاء لملكهم إياكم؛ فمن كان أخوه تحت يده‬
‫فليطعمه مما يأكل‪ ،‬وليلبسه مما يلبس‪ ،‬ول يكلفه من‬
‫العمل ما يغلبه؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم ول تعذبوا خلق‬
‫الله( الحديث‪.‬‬
‫وقد وردت بنحوه أحاديث وآثار كثيرة‪.‬‬
‫) ‪(1/214‬‬

‫ومما يحرم على المملوك الباق على سيده‪ ،‬وقد ورد فيه‬
‫وعيد شديد‪ ،‬قال صلى الله عليه وسلم‪) :‬إذا أبق العبد لم‬
‫تقبل له صلة( وفي رواية )فقد كفر حتى يرجع إليه( أي‬
‫إلى سيده‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬أيما عبد مات‬
‫في إباقة دخل النار وإن كان قتل في سبيل الله(‪ .‬وقال‬
‫عليه الصلة والسلم‪) :‬أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر‬
‫حتى يرجع إليهم(‪.‬‬
‫وذكر الشيخ العلمة أحمد بن حجر الهيتمي رحمه الله في‬
‫كتابه )الزواجر عن اقتحام الكبائر( قال‪ :‬قد روى المام‬
‫أحمد بن حنبل رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها‪) :‬أن‬
‫رجل ً قعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫فقال‪ :‬إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني‪،‬‬
‫وأشتمهم وأضربهم‪ ،‬فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪) :‬إذا كان يوم القيامة يحسب ما‬
‫خانوك وعصوك وكذبوك‪ ،‬فإن كان عقابك إياهم بقدر‬
‫ذنوبهم كان كفافا ل لك ول عليك‪ .‬وإن كان عقابك إياهم‬
‫حى الرجل وجعل‬ ‫فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل فتن ّ‬
‫يهتف ويبكي‪ .‬فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‪) :‬أما‬
‫ن ال ِْق ْ َ‬ ‫ضع ُ ال ْ َ‬
‫سط ل ِي َوْم ِ‬ ‫واِزي َ‬
‫م َ‬ ‫تقرأ قول الله تعالى‪ } :‬وَن َ َ‬
‫ن{‬ ‫سِبي َ‬ ‫حا ِ‬‫مةِ { الية إلى قوله تعالى‪ } :‬وَك ََفى ب َِنا َ‬ ‫ال ِْقَيا َ‬
‫فقال الرجل‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬ما أجد ُ لي ولهم خيرا ً من‬
‫مفارقتهم‪ ،‬أشهدك أنهم أحرار‪.‬‬
‫***‬
‫) ‪(1/215‬‬

‫واعلم أن من المتبوعين الذين يتأكد على التباع حقوقهم‬


‫وكمال الدب معهم ‪ -‬المعلمين للقرآن والعلم‪ ،‬والمشايخ‬
‫والساتذة الذين يربون السالكين‪ ،‬ويرشدون الطالبين؛‬
‫فيتعين ويتأكد على المتعلمين منهم‪ ،‬والسالكين المتربين‬
‫بحسن نظرهم تعظيمهم وتوقيرهم‪ ،‬وإجللهم واحترامهم‪،‬‬
‫وحسن الدب معهم‪ ،‬وكمال المتثال لما يشيرون به‪،‬‬
‫ويرشدون إليه من العلم والدب؛ وقد قال بعضهم‪ :‬إن‬
‫للمعلمين والمرشدين على المتعلمين والمسترشدين من‬
‫الحق والطاعة والبر‪ ،‬مثل أو قريبا مما للوالدين على‬
‫الولد‪ ،‬بل قال بعضهم‪ :‬حق المعلم والمرشد آكد من حق‬
‫الوالد؛ لن الوالد يحفظ الولد من الفات التي يخشى‬
‫عليه منها في جسمه ودنياه‪ ،‬ويتسبب له في تحصيل ما‬
‫يلتذ به‪ ،‬وتستريح إليه نفسه في أحوال معاشه‪ .‬والمعلم‬
‫والمرشد بتعليمه وإرشاده مما يضره في آخرته ومعاده‪،‬‬
‫ويكون سببا له وسبيل له في الوصول إلى دخول الجنة‬
‫ونعيمها الدائم‪ ،‬والفوز بلقاء الله الذي هو غاية السعادات‬
‫وأجلها‪.‬‬
‫وقد درج الخيار من السلف والخلف على تعظيم‬
‫المعلمين والساتذة‪،‬‬
‫) ‪(1/216‬‬

‫ومعرفة حقهم‪ ،‬وكمال الدب معهم‪ ،‬حتى قال الربيع بن‬


‫سليمان)‪ :(1‬ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر‬
‫إلي هيبة منه‪.‬‬
‫وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه‪ :‬من حقّ العالم‬
‫عليك أن تسلم على الناس عامة وتخصه دونهم بالتحية‪،‬‬
‫ن‬
‫ن عنده بيدك‪ ،‬ول تغمز ّ‬ ‫وأل تجلس أمامه‪ ،‬ول تشير ّ‬
‫ن عنده‬ ‫ن قال فلن خلفا ً لقولك‪ ،‬ول تغتاب ّ‬ ‫بعينك‪ ،‬ول تقول ّ‬
‫أحدًا‪ ،‬ول تساّر جليسك في مجلسه‪ ،‬ول تأخذ بثوبه إذا قام‬
‫ح عليه إذا كسل ‪ ،‬و ل تعرض أي ل تشبع من‬ ‫‪ ،‬و ل تل ّ‬
‫طول صحبته‪.‬‬
‫وقد ذكر المام النووي ‪-‬رحمه الله تعالى‪ -‬في كتاب‬
‫)التبيان( نبذة صالحة من آداب المتعلم مع المعلم في‬
‫آخر الباب الرابع‪.‬‬
‫وذكر المام الغزالي رحمه الله في كتاب )بداية الهداية(‬
‫من ذلك طرفا ً صالحًا‪.‬‬
‫***‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬هو الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي‪ ،‬أبو‬
‫محمد لمصري‪ .‬صاحب الشافعي ورواية كتبه عنه‪ :‬توفي‬
‫سنة ‪270‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/217‬‬

‫‪ ...‬واعلم أن من أجل المتبوعين وأكرمهم وأعظمهم‪،‬‬


‫وألزمهم حقا ً على كافة المسلمين رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فإنه المام العظم على الطلق‪ ،‬والمتبوع‬
‫الكبر بالجماع والتفاق‪ .‬فحقه أعظم الحقوق بعد حق‬
‫الله‪ ،‬والدب معه آكد الداب‪ ،‬وطاعته ألزم الطاعات؛ فإن‬
‫من أحبه وعظمه فقد أحب الله‪ ،‬ومن أطاعه فقد أطاع‬
‫ه َفات ّب ُِعوِني‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫حّبو َ‬ ‫م تُ ِ‬ ‫كنت ُ ْ‬ ‫ل ِإن ُ‬ ‫الله‪ ،‬قال الله تعالى‪ } :‬قُ ْ‬
‫م {‪ ،‬وقال‬ ‫حي ٌ‬ ‫ه غَُفوٌر ّر ِ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫م ذ ُُنوب َك ُ ْ‬ ‫ه وَي َغِْفْر ل َك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حب ِب ْك ُ ُ‬ ‫يُ ْ‬
‫َ‬
‫ه {‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫طاعَ الل ّ َ‬ ‫ل فََقد ْ أ َ‬ ‫سو َ‬ ‫ن ي ُط ِِع الّر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫تعالى‪ّ } :‬‬
‫ه َفانت َُهوا َوات ُّقوا‬ ‫م عَن ْ ُ‬ ‫ما ن ََهاك ُ ْ‬ ‫ذوهُ وَ َ‬ ‫خ ُ‬‫ل فَ ُ‬ ‫سو ُ‬ ‫م الّر ُ‬ ‫ما آَتاك ُ ُ‬ ‫} وَ َ‬
‫حذ َِر‬ ‫ب {‪ ،‬وقال تعالى‪ } :‬فَل ْي َ ْ‬ ‫ديد ُ ال ْعَِقا ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫الل ّ َ‬
‫خال ُِفون عَن أ َمره َأن تصيبهم فتن ٌ َ‬
‫ب‬
‫ذا ٌ‬‫م عَ َ‬ ‫صيب َهُ ْ‬ ‫ة أو ْ ي ُ ِ‬ ‫ُ ِ َُ ْ ِ َْ‬ ‫ْ ْ ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ما ي َُباي ُِعو َ‬ ‫ك إ ِن ّ َ‬ ‫ن ي َُباي ُِعون َ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م {‪ ،‬وقال تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬ ‫أِلي ٌ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫م { الية‪ ،‬وقال تعالى‪َ } :‬فال ّ ِ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ه ي َد ُ الل ّهِ فَوْقَ أي ْ ِ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه‬
‫مع َ ُ‬ ‫ل َ‬ ‫صُروهُ َوات ّب َُعوا ْ الّنوَر ال ّذِيَ ُأنزِ َ‬ ‫مُنوا ْ ب ِهِ وَعَّزُروهُ وَن َ َ‬ ‫آ َ‬
‫َ‬ ‫أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫مُنوا‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن {‪ ،‬وقال تعالى‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬ ‫حو َ‬ ‫مْفل ِ ُ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬
‫َ‬
‫ه ِبال َْقوْ ِ‬
‫ل‬ ‫جهَُروا ل َ ُ‬ ‫ي وََل ت َ ْ‬ ‫ت الن ّب ِ ّ‬ ‫صو ْ ِ‬ ‫م فَوْقَ َ‬ ‫وات َك ُ ْ‬ ‫ص َ‬ ‫َل ت َْرفَُعوا أ ْ‬
‫م َل‬ ‫َ‬ ‫ك َجهر بعضك ُم ل ِبعض َأن تحب َ َ‬
‫م وَأنت ُ ْ‬ ‫مال ُك ُ ْ‬ ‫ط أعْ َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ ْ ِ َْ ِ ْ َْ ٍ‬
‫ن { والية التي تليها‪.‬‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫تَ ْ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬ل يؤمن أحدكم حتى أكون‬
‫أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه(‪،‬‬
‫) ‪(1/218‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬ل يؤمن أحدكم حتى يكون‬
‫هواه تبعا لما جئت به(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬لو كان موسى وعيسى حيين‬
‫لم يسعهما إل اتباعي( الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬من أطاعني فقد أطاع الله‪،‬‬
‫ومن عصاني فقد عصى الله(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬كلكم يدخل الجنة إل من‬
‫أبى؛ فقالوا‪ :‬ومن يأبى؟ فقال عليه الصلة والسلم‪ :‬من‬
‫أطاعني دخل الجنة‪ ،‬ومن عصاني فقد أبى(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬من آذاني فقد آذى الله‪, ،‬‬
‫ومن آذى الله أدخله النار( الحديث‪.‬‬
‫‪ ...‬ومن تمام حبه وتعظيمه‪ ،‬وحسن الدب معه عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ -‬محبة أهل بيته وأصحابه رضي الله‬
‫عنهم‪ ،‬وتعظيمهم واحترامهم‪ ،‬قال الله تعالى‪ُ } :‬قل ّل‬
‫موَد ّةَ ِفي ال ُْقْرَبى {‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫َ‬ ‫أَ َ‬
‫جرا ً إ ِّل ال ْ َ‬ ‫م عَل َي ْهِ أ ْ‬ ‫سأل ُك ُ ْ‬
‫ْ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ذي َ‬
‫صارِ َوال ِ‬ ‫ن َوالن َ‬ ‫ري َ‬‫ج ِ‬‫مَها ِ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫ن الوّلو َ‬ ‫ساب ُِقو َ‬ ‫} َوال ّ‬
‫ه { الية‪،‬‬ ‫ضوا ْ عَن ْ ُ‬
‫م وََر ُ‬‫ه عَن ْهُ ْ‬ ‫ي الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬‫ن ّر ِ‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫هم ب ِإ ِ ْ‬ ‫ات ّب َُعو ُ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬أحبوا الله لما يغذوكم به من‬
‫نعمه‪ ،‬وأحبوني لحب الله‪ ،‬وأحبوا أهل بيتي لحبي(‪،‬‬
‫) ‪(1/219‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم للعباس رضي الله عنه‪) :‬ل‬


‫يدخل قلب أحد اليمان حتى يحبكم لله ولقرابتكم مني(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم لفاطمة وعلي والحسن‬
‫والحسين رضي الله عنهم‪) :‬أنا حرب لمن حاربتم‪ ،‬وسلم‬
‫لمن سالمتم(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم في حديث زيد بن أرقم رضي‬
‫الله عنه‪) :‬وعترتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي(‬
‫الحديث‪ .‬وقال أبو بكر رضي الله عنه‪) :‬أرقبوا محمدا ً في‬
‫أهل بيته(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬احفظوني في أصحابي‪ ،‬ل‬
‫تتخذوهم غرضًا)‪(1‬من بعدي‪ ،‬من أحبهم فبحبي أحبهم‪،‬‬
‫ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم‪ ،‬ومن آذاهم فقد آذاني‪،‬‬
‫ومن آذاني فقد آذى الله‪ ،‬ومن آذى الله فيوشك أن‬
‫يأخذه(‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬ل تسبوا أصحابي‪ ،‬فوا الذي‬
‫نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد ّ‬
‫أحدهم ول نصيفه(‪.‬‬
‫فليحذر المسلم المشفق على دينه من بغض أحد من أهل‬
‫بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أصحابه‪،‬‬
‫__________‬
‫دفا ً ‪.‬‬
‫)‪ - (1‬غََرضًا‪ :‬هَ َ‬
‫) ‪(1/220‬‬

‫فإن ذلك يضره في دينه وآخرته‪ ،‬ويعد به مسيئا إلى نبيه‪،‬‬


‫ومؤذيا له صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وليحبهم ويئن عليهم‬
‫بالخير كما أثنى الله به ورسوله عليهم‪.‬‬
‫ومما ينبغي ويتأكد ‪ -‬كف اللسان عن كثرة الخوض فيما‬
‫شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده‬
‫ووقع بينهم من الحروب والفتن‪ .‬ومن أهول ذلك وأعظمه‬
‫إشكال‪ ،‬مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله‬
‫عنه‪ ،‬ثم ما وقع بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب‬
‫رضي الله عنه وبين طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين‬
‫رضي الله عنهم يوم الجمل)‪.(1‬وبين أمير المؤمنين علي‬
‫بن أبي طالب رضي الله عنه‪ ،‬وبين معاوية بن أبي سفيان‬
‫وعمرو بن العاص رضي الله عنهم بصفين)‪.(2‬‬
‫فليلتمس المؤمن الشفيق على دينه لصحاب رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم في أمثال ذلك أحسن المخارج‪،‬‬
‫ويحملهم فيه على أجمل المحامل اللئقة بفضلهم وجللة‬
‫أقدارهم؛ فإنهم رضي الله عنهم عدول أخيار أمناء‪.‬‬
‫___________‬
‫)‪ (1‬كان في جماد الخرة سنة ‪36‬ه‪.-‬‬
‫)‪ (2‬صفين ‪ -‬بكسر الصاد وتشديد الفاء المكسورة‪:-‬‬
‫موضع قرب الرقة بشاطئ الفرات‪ ،‬وكانت غرة صفر‬
‫سنة ‪37‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/221‬‬

‫فليكن المؤمن المتبع لهم بإحسان على مثل ما وصف‬


‫م ي َُقوُلو َ‬
‫ن‬ ‫من ب َعْدِهِ ْ‬ ‫ؤوا ِ‬ ‫جا ُ‬
‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫الله في قوله سبحانه‪َ } :‬وال ّ ِ‬
‫ل ِفي‬‫جع َ ْ‬‫ن وََل ت َ ْ‬ ‫ما ِ‬
‫لي َ‬‫سب َُقوَنا ِبا ْ ِ‬‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫وان َِنا ال ّ ِ‬
‫خ َ‬‫َرب َّنا اغِْفْر ل ََنا وَِل ِ ْ‬
‫م {‪ .‬وقد روي‬ ‫حي ٌ‬‫ف ّر ِ‬ ‫ؤو ٌ‬ ‫ك َر ُ‬‫مُنوا َرب َّنا إ ِن ّ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫قُُلوب َِنا ِغّل ً ل ّل ّ ِ‬
‫عنه عليه الصلة والسلم أنه قال‪) :‬إذا ذكر أصحابي‬
‫فأمسكوا(‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬أصحابي‬
‫كالنجوم‪ ،‬بأيهم اقتديتم اهتديتم(‪ ،‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬خير القرون قرني‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين‬
‫يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم( الحديث‪ ،‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬احفظوني في أصحابي وأصهاري‪ ،‬فمن حفظني‬
‫فيهم حفظه الله في الدنيا والخرة‪ .‬ومن تخلى الله عنه‬
‫أوشك أن يأخذه( وبالله العانة والتوفيق‪.‬‬

‫***‬
‫) ‪(1/222‬‬

‫*********************‬
‫الصنف السابع‬
‫دعوة المشغولين بطاعة الله‬
‫ودعوة الملبسين لمعصية الله‬
‫*********************‬
‫) ‪(1/223‬‬

‫) ‪(1/224‬‬
‫الصنف السابع‬
‫وهم المشغولون بطاعة الله تعالى والملزمون لها من‬
‫عامة المسلمين‪،‬‬
‫وكذلك الملبسون لمعاصي الله والواقعون فيها من‬
‫العامة أيضا ً‬
‫***‬
‫القول في تذكير المشغولين بطاعة الله من العامة‬
‫***‬
‫…اعلم أنه قد تقدم في ذكر الصنف الثاني الذين هم‬
‫الخاصة من عباد الله نبذة من التعريفات والتنبيهات‬
‫اللئقة بأحوال تلك الخاصة من أولياء الله والمنقطعين‬
‫إليه‪ ،‬نفعنا الله بهم وبارك لنا ولكافة المسلمين فيهم‪ ،‬ول‬
‫حرمنا بركاتهم ومستجاب دعواتهم‪.‬‬
‫…فعلى العامي الملزم لطاعة الله تعالى والمداوم عليها‪،‬‬
‫أن يتعلم ما ل بد منه من العلم الذي ل يصح ول تتم‬
‫طاعته إل به من العلوم الظاهرة‪ :‬مثل أحكام الطهارة‬
‫والصلة والصيام وما في معنى ذلك‪.‬‬
‫…وعليه أيضا أن يعرف من علوم اليمان العتقادية ما‬
‫يحصن به معتقده من العلم بالله وصفاته وملئكته وكتبه‬
‫ورسله‪،‬‬
‫) ‪(1/225‬‬

‫والعلم باليوم الخر من البعث والحشر والميزان‪،‬‬


‫والصراط‪ ،‬والجنة والنار‪ ،‬فيحصل من العلوم اليمانية‪،‬‬
‫والعلوم السلمية ما يصح به إيمانه وإسلمه‪ ،‬ويتمان‬
‫ويكملن به‪ ،‬فذلك مقدم على اشتغاله بالعبادات‬
‫ومواظبته عليها‪ ،‬فإن العلم كالساس‪ ،‬والعبادة كالبنيان‪،‬‬
‫وما ل أساس له ل ثبات له‪ .‬وربما اشتغل المتعبد بطاعات‬
‫وعبادات يستغرق بها أوقاته‪ ،‬ويتعب فيها نفسه وهو فيها‬
‫غير محمود ول مأجور‪ .‬بل ربما كان ملوما ً ومأزورا ً إذا‬
‫كان لم يعلم بما ل بد له من علمه في إقامة عباداته‬
‫وصحتها‪ ،‬وكمالها من العلوم اليمانية والسلمية‪ ،‬فليكن‬
‫المتعبد في نهاية العتناء بذلك‪ ،‬والهتمام به‪ ،‬والتفرغ له‪.‬‬
‫وقد قيل‪ :‬من عبد الله بغير علم كان الضرر العائد عليه‬
‫من عبادته أكثر من النتفاع بها‪ .‬وذلك صحيح؛ فإن بعض‬
‫المتعبدين الذين ل علم لهم قد يوقعون بعض العبادات‬
‫على غير الوجه المشروع فيأثمون‪ ،‬ولو أنهم تركوا تلك‬
‫العبادة لم يأثموا بتركها مهما كانت نافلة‪ ،‬فإن العلم هو‬
‫المهم المقدم على الخذ في العبادة والتفرغ لها‪.‬‬
‫…وعلى المتعبد أن يتحرى الحلل في مطعمه وملبسه‪،‬‬
‫ن العبادة مع أكل‬
‫وسائر ما يحتاجه من أحوال معاشه؛ فإ ّ‬
‫الحرام ولبسه غير مقبولة‪،‬‬
‫) ‪(1/226‬‬

‫ن {‪ .‬وقد قيل‪:‬‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مت ِّقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫ما ي َت ََقب ّ ُ‬
‫لقوله تعالى‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫العبادة مع أكل الحرام كالبناء على السرجين)‪ ،(1‬وقال‬
‫عليه الصلة والسلم‪) :‬كل لحم نبت من سحت فالنار‬
‫أولى به(‪ .‬فليكن في غاية من التحري والحتياط والحتراز‬
‫في مطعمه وملبسه‪ ،‬وسائر ما يحتاجه عن الحرام‬
‫والشبهات‪ ،‬وإل كانت عبادته مدخولة معلولة وغير مرضية‬
‫ول مقبولة‪.‬‬
‫…وعلى المتعبد أن يصلح نيته ويتفقدها من أول أمره‬
‫ومبتدأ تعبده‪ ،‬فتكون نيته في ذلك مقصورة على إرادة‬
‫وجه الله تعالى والدار الخرة‪ ،‬وقصد التقرب إلى الله‬
‫والخدمة له دون غرض آخر من الغراض الدنيوية‪،‬‬
‫والحظوظ النفسانية‪ :‬من حصول جاه أو مال‪ ،‬أومحبة عند‬
‫الناس‪ ،‬أو تعظيم أو ثناء منهم‪.‬‬
‫…وليحذر كل الحذر من مراءاة الناس بعلمه‪ ،‬والتصنع‬
‫لهم بعبادته فيحبط بذلك عمله‪ ،‬ويخيب سعيه‪ ،‬ويبطل‬
‫أجره وثوابه‪ ،‬وربما حصل له مع ذلك من الله العقاب‬
‫وأليم العذاب؛ فإن الرياء من أعظم الجرائم الموبقات‪،‬‬
‫__________‬
‫)‪ - (1‬السرجين ‪ -‬بكسر السين ‪ :-‬الزبل‪.‬‬
‫) ‪(1/227‬‬

‫وقد سماه عليه الصلة والسلم‪) :‬الشرك الخفي‪،‬‬


‫والشرك الصغر( وذكر أن القارئ لكتاب الله‪ ،‬والشهيد‬
‫في سبيله‪ ،‬والمنفق لماله إذا أرادوا مع ذلك المحمدة من‬
‫الناس‪ ،‬والذكر عندهم أنه سبحانه وتعالى يكذبهم ويسخط‬
‫عليهم‪ ،‬ويأمر بهم فيسحبون إلى النار( الحديث‪.‬‬
‫…ولما حدث به بعض السلف رحمه الله تعالى بكى بكاء‬
‫ن‬
‫كا َ‬ ‫من َ‬ ‫شديدا وقال‪ :‬صدق الله تعالى حيث يقول‪َ } :‬‬
‫ف إل َيه َ‬
‫م‬
‫م ِفيَها وَهُ ْ‬ ‫مال َهُ ْ‬
‫م أعْ َ‬ ‫حَياةَ الد ّن َْيا وَِزين َت ََها ن ُوَ ّ ِ ْ ِ ْ‬ ‫ريد ُ ال ْ َ‬
‫يُ ِ‬
‫ُ‬
‫خَرةِ إ ِل ّ‬‫م ِفي ال ِ‬ ‫س ل َهُ ْ‬‫ن ل َي ْ َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ن‪.‬أوْل َئ ِ َ‬‫سو َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ِفيَها ل َ ي ُب ْ َ‬
‫الّناُر { الية‪.‬‬
‫…وليس الرياء المحظور هو الخواطر التي تقع في قلب‬
‫النسان من قبل الخلق‪ ،‬وهو غير مختار لها ول مطمئن‬
‫إليها؛ فإذا كانت هي الباعثة له على العبادة فقد أحبطت‬
‫العبادة من أصلها‪ ،‬وإن كان له مع ذلك باعث ديني كان‬
‫في ذلك تفصيل‪ ،‬وقد شرحه المام الغزالي رحمه الله‬
‫تعالى وغيره من الئمة‪ ،‬والكل محظور منهي عنه‪ ،‬وفيه‬
‫خطر وذم كثير‪ ،‬وردت به اليات القرآنية والحاديث‬
‫الصحيحة؛ مثل قوله عليه الصلة والسلم عن ربه تبارك‬
‫وتعالى‪) :‬أنا أغنى الغنياء عن الشرك‪ ،‬فمن عمل لي عمل ً‬
‫أشرك فيه غيري فنصيبي لشريكي وأنا منه بريء(‪.‬‬
‫) ‪(1/228‬‬

‫وورد‪) :‬أنه يقال للمرائين إذا التمسوا ثواب أعمالهم يوم‬


‫القيامة‪ :‬اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم في الدنيا‬
‫فانظروا هل تجدون عندهم ثواب أعمالكم(‪ .‬وورد )أن‬
‫أدنى الرياء شرك‪ ،‬وأن المرائي ينادى يوم القيامة بأربعة‬
‫أسماء‪ :‬يا مرائي‪ ،‬يا غادر‪ ،‬يا خاسر‪ ،‬يا فاجر‪ ،‬اذهب فخذ‬
‫أجرك ممن عملت له فل أجر لك عندنا(‪.‬‬
‫…فليحذر المسلم المتقي لربه‪ ،‬المشفق على دينه‬
‫وآخرته كل الحذر من الرياء بجميع أنواعه وعلى جميع‬
‫وجوهه‪ ،‬وليحترز من ذلك أتم الحتراز‪ ،‬وإن وقع له شيء‬
‫من خواطره وعوارضه فليجتهد في نفيها عن نفسه‬
‫بإمكانه‪ ،‬وليكره ذلك‪ ،‬ثم يستغفر الله منها ويستعيذ بالله‬
‫من شرها‪.‬‬
‫…وليحذر من التكبر على الناس بعبادته‪ ،‬واستعظام نفسه‬
‫عليهم بطاعته؛ فإن ذلك مما يسخط الرب‪ ،‬ويحبط ثواب‬
‫العمال الصالحة‪ ،‬وفي الحديث‪) :‬ل يدخل الجنة من في‬
‫قلبه مثقال ذرة من كبر(‪ .‬وقد قال صاحب الحكم رحمه‬
‫الله‪ :‬رب معصية أورثت صاحبها ذل وانكسارا‪ ،‬خير من‬
‫طاعة أورثت صاحبها عزا واستكبارا فمن شأن المطيع‬
‫المحسن أن يزداد بطاعته خشوعا لله‪ ،‬وخضوعا وتواضعا‬
‫لعباده المؤمنين؛ وذلك من أفضل الطاعات‪.‬‬
‫) ‪(1/229‬‬

‫…وكذلك فليحذر من العجب بنفسه وبطاعاته؛ فإن ذلك‬


‫من المحبطات‪ .‬وليعلم أن المنة لله عليه حيث استعمله‬
‫بطاعته ورضيه لخدمته‪ ،‬مع أنه عبد حقير ذليل فقير‪ ،‬فقد‬
‫شرفه سبحانه وأجله حيث جعله ممن يعبده ويطيعه‪،‬‬
‫ويذكره ويشكره‪ ،‬فالفضل والمنة له تبارك وتعالى أول‬
‫وآخرا‪ ،‬وظاهرا وباطنا‪ ،‬وعاجل وآجل‪.‬‬
‫…وليعلم أن حق الله على عباده ولزوم طاعته‪ ،‬ووجوب‬
‫عبادتهم إياه‪ ،‬وخدمتهم له من المور التي ل يستطيع أحد‬
‫من العباد أن يقوم بالبعض منها‪ ،‬ولو بلغ في الطاعة‬
‫والعبادة ما عسى أن يبلغ‪ ،‬واجتهد وجد وشمر‪ ،‬حتى‬
‫يستوفي إمكانه ويستفرغ استطاعته ووسعه‪ ،‬فليعترف‬
‫العبد بتقصيره عما يجب عليه القيام به من عبادة ربه‪،‬‬
‫وليعترف بمنة الله عليه فيما وفقه له من طاعته وخدمته‪،‬‬
‫ول يعجب بنفسه ول بعمله فيهلك من حيث يرجو النجاة‪،‬‬
‫ويخسر من حيث يأمل الربح؛ وقد قال عز من قائل‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫كم ّ‬‫من ُ‬ ‫ما َز َ‬
‫كا ِ‬ ‫ه َ‬‫مت ُ ُ‬‫ح َ‬ ‫ل الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م وََر ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫عظيم‪ } :‬وَل َوَْل فَ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م {‪.‬‬‫ميعٌ عَِلي ٌ‬‫س ِ‬‫ه َ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬‫من ي َ َ‬ ‫كي َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ي َُز ّ‬ ‫حدٍ أَبدا ً وَل َك ِ ّ‬
‫أ َ‬
‫) ‪(1/230‬‬

‫وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪) :‬لن يدخل الجنة‬
‫أحد بعمله‪ ،‬قيل‪ :‬ول أنت يا رسول الله؟ قال‪ :‬ول أنا إل أن‬
‫يتغمدني الله برحمته هذا مع ما كان عليه صلى الله عليه‬
‫وسلم من نهاية الجد والتشمير‪ ،‬والجتهاد في عبادة الله‬
‫حتى قام من الليل إلى أن تورمت قدماه‪ ،‬مع ما له من‬
‫المكانة والمنزلة عند الله التي ل يساويه فيها أحد من‬
‫عباد الله المكرمين‪ ،‬وأصفيائه المقربين‪ ،‬صلوات الله‬
‫وسلمه عليه وعليهم أجمعين‪ .‬وحديث الرجل العابد الذي‬
‫عبد الله خمسمائة سنة في الجزيرة‪ ،‬وأنه يوقف بين يدي‬
‫الله‪ ،‬فيقول له سبحانه وتعالى‪) :‬يا عبدي ادخل الجنة‬
‫برحمتي‪ ،‬فيقول بل بعملي يا رب‪ ،‬فيأمر الله به‪ ،‬فيحاسب‬
‫بنعمة البصر فتستغرق جميع عباداته خمسمائة عام وتبقى‬
‫نعم الله عليه كثيرة‪ ،‬فيأمر الله به سبحانه إلى النار‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬يا رب‪ ،‬أدخلني الجنة برحمتك فيأمر‬
‫الله به سبحانه إلى الجنة برحمته( وفي الحديث طول‪.‬‬
‫***‬
‫…فليعلم العبد المتعبد لله‪ ،‬أن الفضل لله عليه أول‬
‫وآخرا‪ ،‬وباطنا وظاهرا‪ ،‬وعلى كل حال وفي كل موطن‪،‬‬
‫وكيفما تقلبت به الحوال فليحمد الله ويشكره‪ ،‬وليعترف‬
‫بالمنة له والنعمة‪،‬‬
‫) ‪(1/231‬‬

‫وبالقصور والتقصير عما يجب له من الحق‪ ،‬ومن العبادة‬


‫والخدمة‪ ،‬ولو بلغ من ذلك ما بلغ‪ ،‬وانتهى فيه إلى ما‬
‫عسى أن ينتهي‪ .‬وقد بلغنا‪) :‬أن لله ملئكة منذ خلقهم الله‬
‫تعالى وهم في عبادته‪ ،‬منهم القائم ل يركع‪ ،‬والراكع ل‬
‫يسجد‪ ،‬والساجد ل يرفع إلى يوم القيامة؛ فإذا كان ذلك‬
‫اليوم رفعوا رؤوسهم إلى ربهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬سبحانك‪ .‬ما‬
‫عبدناك حق عبادتك( الثر في ذلك بهذا المعنى أو قريب‬
‫منه‪.‬‬
‫…وعلى المشغول بعبادة الله تعالى أن يكون في عبادته‬
‫خاشعا لله وخاضعا‪ ،‬حاضر القلب ل يغفل عن الله‪ ،‬ول‬
‫يكون مشغول الظاهر بعبادته تعالى‪ ،‬ومشغول القلب‬
‫بحديث النفس في أمور الدنيا وأحوال المعاش وذكر‬
‫الناس؛ فيكون بذلك سيئ الدب مع ربه حيث يعبده‪،‬‬
‫ويعمل له بظاهره دون باطنه‪ ،‬وبجسمه دون قلبه‪ ،‬وفي‬
‫الحديث‪) :‬إن الله ل ينظر إلى صوركم وأعمالكم‪ ،‬ولكن‬
‫ينظر إلى قلوبكم(‪.‬‬
‫…وكذلك يحذر من العمل مع العجلة فيه‪ ،‬وقلة التأني‬
‫حتى ل يتمكن مع ذلك من إعطاء العبادة حقها من واجب‬
‫أو مسنون متأكد‪ ،‬مثل الذي ل يرتل في قراءته ول يتدبر‪،‬‬
‫ول يطمئن في ركوعه واعتداله وسجوده وجلوسه؛ فل‬
‫يحصل بسبب ذلك من صلواته وقراءته على طائل ول‬
‫نافع‪،‬‬
‫) ‪(1/232‬‬

‫وربما تبطل العبادة بسبب ذلك من أصلها إذا أخل منها‬


‫بواجب؛ فيكون قد تلبس بعبادة غير صحيحة‪ ،‬فيخرج منها‬
‫مأزورا غير محمود ول مأجور‪.‬‬
‫…وعليه أيضا أن يتفقد في عبادته‪ ،‬ويقتصر منها على‬
‫القدر الذي يقدر على المداومة عليه من غير مللة ول‬
‫فتور‪ .‬وقد قال عليه الصلة والسلم‪) :‬تكلفوا من العمال‬
‫ما تطيقون‪ ،‬فإن الله ل يمل حتى تملوا(‪ .‬وقال عليه‬
‫الصلة والسلم‪) :‬القصد القصد تبلغوا(‪ ،‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪) :‬أحب العمال إلى الله أدومها وإن قل(‪ .‬فعلم‬
‫أن القليل من العمل يداوم عليه صاحبه خير من الكثير‬
‫الذي ل يداوم عليه‪ .‬ومن شأن الشيطان لعنه الله‪ :‬أن‬
‫يغري النسان في أول المر بالستكثار من العبادة‬
‫والفراط فيها‪ ،‬لكي يرجع في آخر المر‪ :‬إما إلى الترك‬
‫والمللة‪ ،‬وإما إلى فعلها مع العجلة فيها‪ ،‬التي ل يتمكن‬
‫معها من إقامتها على وجهها من الخشوع والخضوع مع‬
‫الله فيها‪ .‬فيصير حاله كحال من لم يعمل أو أدنى؛ فرب‬
‫فعل ل يحسنه صاحبه يكون التارك له أحسن حال ً منه‪،‬‬
‫كما هو معروف ومشاهد من حال من يعمل ول يحسن‪،‬‬
‫مل ً {‪،‬‬ ‫وقد قال الله تعالى‪ } :‬إنا َل نضيع أ َجر م َ‬
‫ن عَ َ‬‫س َ‬
‫ح َ‬
‫نأ ْ‬‫ُ ِ ُ ْ َ َ ْ‬ ‫ِّ‬
‫) ‪(1/233‬‬

‫َ‬ ‫وقال تعالى‪ } :‬ول َنجزينه َ‬


‫مُلو َ‬
‫ن‬ ‫كاُنوا ْ ي َعْ َ‬
‫ما َ‬‫ن َ‬ ‫س ِ‬ ‫ح َ‬‫هم ب ِأ ْ‬‫جَر ُ‬ ‫مأ ْ‬ ‫َ َ ْ َُِّ ْ‬
‫{‪.‬‬
‫…فانظر كيف يخص الحسان ويشترطه في العمال‪،‬‬
‫تعلم به أن الحسان في العمل أهم من العمل نفسه‪،‬‬
‫وفي الحديث‪) :‬إن الله كتب الحسان على كل شيء( فإذا‬
‫عملت طاعة فتأن فيها وتثبت وأحسن‪ ،‬وأعط كل جزء‬
‫منها ما يكمل به ويتم‪ :‬من الخشوع والحضور مع الله فيه‬
‫تكن من المحسنين‪ ،‬ويكون الله سبحانه وتعالى معك إذ‬
‫هم‬‫ن ُ‬ ‫ن ات َّقوا ْ ّوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ذي َ‬‫مع َ ال ّ ِ‬‫ه َ‬‫ن الل ّ َ‬
‫يقول تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ن {‪.‬‬
‫سُنو َ‬
‫ح ِ‬ ‫م ْ‬
‫ّ‬
‫…وعليك أل يمر بك وقت ول ساعة ول نفس غل ويكون‬
‫لك وظيفة من الخير تستغرقها به من صلة أو تلوة قرآن‬
‫أو ذكر الله‪ ،‬أو مطالعة علم نافع‪ ،‬أو تفكر في أمر ديني‬
‫أخروي‪ ،‬أو شغل بمعاش ل تستغني عنه في الستعانة‬
‫على معادك وآخرتك؛ من غير ترخص ول تأويل ول تعلل‪.‬‬
‫بل يكون وجه الستعانة به بينا ظاهرا‪ ،‬والله يتولى هداك‬
‫وإعانتك‪ ،‬ويأخذ بناصيتك إلى ما يحبه ويرضاه‪ ،‬ويقّرب إليه‬
‫ف لديه فإنه الولي المعين‪ ،‬وحسبنا الله ونعم الوكيل‪.‬‬ ‫ويْزل ِ ُ‬
‫***‬
‫) ‪(1/234‬‬

‫ل في تذكير الملبسين للمعاصي من عامة المسلمين‬‫القو ُ‬


‫وتخويفهم وتحذيرهم‬
‫***‬
‫…اعلم أن المعاصي أقذار وأرجاس‪ ،‬وأوساخ وأدناس؛ قد‬
‫عصم الله منها رسله وأنبياءه‪ ،‬وحفظ منها أولياءه‬
‫وأصفياءه وابتلى بها العداء والشقياء‪ ،‬والمطرودين‬
‫والبعداء من الذين حّقت عليهم الكلمة‪ ،‬وتخل َّفت عنهم‬
‫العناية‪.‬‬
‫…ثم إن من أولئك الطوائف من تداركته الرحمة‪ ،‬ووفق‬
‫للتوبة فلحق بأهل الطاعات‪ ،‬و ) التائب من الذنب كمن ل‬
‫ذنب له ( و ) من تاب تاب الله عليه (‪ .‬و )إن الله يقبل‬
‫العبد ما لم ُيغرِغر ( أي تبلغ روحه الحلقوم من الموت‪.‬‬
‫…منهم من أصّر على المخالفة‪ ،‬وتمادى على المعصية‪،‬‬
‫حتى خرج من الدنيا وصار إلى الدار الخرة‪ ،‬فلقي ربه‬
‫طخا ً بقاذورات المخالفات‪ ،‬فكان أمره على نهاية‬ ‫ِدنسا ً مل ّ‬
‫من الخطر‪ ،‬وغاية من الشكال والضرر‪ ،‬وخصوصا ً إن كان‬
‫صر عليه من الكبائر الموبقات؛‬ ‫الذي مات وهو م ّ‬
‫) ‪(1/235‬‬

‫مثل ترك الصلة المكتوبة‪ ،‬ومنع الزكاة المفروضة‪ ،‬ومثل‬


‫الزنا وشرب الخمر‪ ،‬وظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل‪،‬‬
‫ومثل عقوق الوالدين‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬وأشباه ذلك من‬
‫المعاصي الموبقات‪ ،‬والذنوب المهلكات‪.‬‬
‫…وعلى الجملة فالشرور كلها والبليات بجملتها‬
‫جِلبة للعقوبات والمهلكات العاجلة والجلة‪ ،‬الدنيوية‬ ‫المست َ ْ‬
‫والخروية‪ ،‬الظاهرة والباطنة‪ ،‬إنما سببها الوقوع في‬
‫الذنوب والمخالفات‪ ،‬خلف أمره وركوب نهيه‪ .‬قال الله‬
‫صبا ً‬ ‫ذنبه فَمنهم م َ‬ ‫تعالى‪ } :‬فَك ُّل ً أ َ َ‬
‫حا ِ‬ ‫سل َْنا عَل َي ْهِ َ‬ ‫ن أْر َ‬ ‫ّ ْ‬ ‫خذ َْنا ب ِ َ ِ ِ ِ ْ ُ‬
‫ض‬ ‫َ‬
‫سْفَنا ب ِهِ اْلْر َ‬ ‫خ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫من ُْهم ّ‬ ‫ة وَ ِ‬‫ح ُ‬ ‫صي ْ َ‬
‫ه ال ّ‬ ‫خذ َت ْ ُ‬ ‫ن أَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫من ُْهم ّ‬ ‫وَ ِ‬
‫َ‬
‫كاُنوا‬ ‫كن َ‬ ‫م وَل َ ِ‬ ‫مه ُ ْ‬ ‫ه ل ِي َظ ْل ِ َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن أغَْرقَْنا وَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫من ُْهم ّ‬ ‫وَ ِ‬
‫َ‬
‫ن { ] العنكبوت‪ ،[29/40 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ي َظ ْل ِ ُ‬ ‫سه ُ ْ‬ ‫أنُف َ‬
‫َ‬ ‫} وما أ َ‬
‫عن‬ ‫م وَي َعُْفو َ‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫صيب َةٍ فَب ِ َ‬ ‫م ِ‬ ‫من ّ‬ ‫كم ّ‬ ‫صاب َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫مْ َ‬‫ك َِثيرٍ { ] الشورى‪ [42/30 :‬وقال تعالى‪ } :‬أفَأ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت َأن ي َ ْ‬
‫م‬
‫ض أوْ ي َأت ِي َهُ ُ‬ ‫م الْر َ‬ ‫ه ب ِهِ ُ‬‫ف الل ّ ُ‬ ‫س َ‬ ‫خ ِ‬ ‫سي َّئا ِ‬ ‫مك َُروا ْ ال ّ‬ ‫َ‬
‫ن { ]النحل‪ [16/45:‬إلى قوله‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫ث ل َ يَ ْ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫ذا ُ‬ ‫الع َ َ‬‫ْ‬
‫م { ]النحل‪.[16/47 :‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫ف ّر ِ‬ ‫ؤو ٌ‬ ‫م َلر ُ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫تعالى‪ } :‬فَإ ِ ّ‬
‫…فعلى المؤمن الخائف من ربه‪ ،‬المشفق على نفسه‬
‫دق بالرجوع إلى‬‫المص ّ‬
‫) ‪(1/236‬‬

‫الله‪ ،‬وأنه ملقيه أن يجتنب الذنوب والمعاصي كل‬


‫الجتناب‪ ،‬ويحترز منها غاية الحتراز ويبتعد عنها غاية‬
‫البعد‪ ،‬وي ُن َّزلها في الجتناب لها بمنزلة السموم القاتلة‪،‬‬
‫والمياه المغرقة‪ ،‬والنيران المحرقة‪ ،‬فإن الملبسة لها‬
‫والوقوع فيها أشد من ذلك كله من وجوه كثيرة‪ ،‬كما‬
‫سَير عباد الله‬ ‫يعرف ذلك من له بصيرة في الدين‪ ،‬وعلم ب ِ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫هم ّ‬ ‫ب وَ ُ‬ ‫ن َرب ُّهم ِبال ْغَي ْ ِ‬ ‫خ َ‬
‫شو ْ َ‬ ‫ن يَ ْ‬‫ذي َ‬ ‫المؤمنين المتقين‪ } ،‬ال ّ ِ‬
‫ن ي َظ ُّنو َ‬
‫ن‬ ‫ذي َ‬ ‫ن { ] النبياء‪ } [21/49 :‬ال ّ ِ‬ ‫فُقو َ‬ ‫م ْ‬
‫ش ِ‬ ‫ساعَةِ ُ‬
‫ال ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن { ] البقرة‪.[2/46 :‬‬ ‫جُعو َ‬ ‫م إ ِل َي ْهِ َرا ِ‬ ‫مل َُقوا َرب ّهِ ْ‬
‫م وَأن ّهُ ْ‬ ‫أن ُّهم ّ‬
‫…وليحذر كل الحذر مهما وقع في شيء منها من‬
‫الحتجاج بسبق القضاء والقدر عليه من الله بالوقوع فيها‪،‬‬
‫وأن ذلك مكتوب عليه‪ ،‬وليس له محيص عنه؛ فإن ذلك‬
‫من الحجج الداحضة التي ل تغني عن صاحبها شيئا ً ول‬
‫تنفعه‪ ،‬بل تضره وتزيده من الله ُبعدًا‪ ،‬وتعّرضه للمقت‬
‫والسخط من الله‪.‬‬
‫ره وشّره واجب في‬ ‫وعلى الجملة‪ ،‬فاليمان بالقدر خي ِ‬
‫أصل عَْقد اليمان‪ ،‬والحتجاج به على الله غير جائز‪ ،‬بل‬
‫ذلك من المور المخطرة الشنيعة‪ ،‬وما دام النسان‬
‫سعة في أن يترك‬ ‫واختياره معه فليس له رخصة ول َ‬
‫أوامر الله ويرتكب نواهَِيه‪،‬‬
‫) ‪(1/237‬‬

‫ي‪ .‬ومن أين‬‫ي وقد كتب عل ّ‬


‫ض ّ‬
‫وليس ينفعه قوله‪ :‬هذا مق ِ‬
‫له علم ذلك ؟‪ .‬ومسألة القدر هذه مسألة مشكلة‪ ،‬وفيها‬
‫سر العلم بها على الخاصة فضل ً عن‬
‫أغوار بعيدة يتع ّ‬
‫العامة‪.‬‬
‫من أضّر الشياء على الواقعين في معاصي‬ ‫‪ ...‬وكذلك ِ‬
‫الله تعالى وترك أوامره أماني المغفرة‪ ،‬وقوله‪ ) :‬إن الله‬
‫كريم رحيم‪ ،‬يغفر الذنوب للعصاة ول يبالي ( وذلك صحيح‬
‫وحق ل ِل ّهِ ولكن ل بد للعبد من امتثاله لمر سيده الكريم‬
‫الرحيم‪ ،‬واجتنابه لما نهاه عنه‪ ،‬وعليه أن يبذل جهده‬
‫واستطاعته في ذلك‪ ،‬ويستفرغ فيه طاقته وإمكانه‪ ،‬ثم‬
‫يرجو بعد ذلك غفران ربه ورحمته‪ ،‬ول يتمنى ول يغتر من‬
‫جد ّ ول سعي؛ فيكون بذلك ممن قال فيهم تبارك‬ ‫غير ِ‬
‫ْ‬
‫ن‬
‫ذو َ‬‫خ ُ‬‫ب ي َأ ُ‬‫ف وَرُِثوا ْ ال ْك َِتا َ‬‫خل ْ ٌ‬‫م َ‬ ‫من ب َعْدِهِ ْ‬‫ف ِ‬ ‫خل َ َ‬‫وتعالى‪ } :‬فَ َ‬
‫سي ُغَْفُر ل ََنا { ] العراف‪:‬‬ ‫ن َ‬ ‫ذا الد َْنى وَي َُقوُلو َ‬ ‫ض هَ َ‬
‫عََر َ‬
‫خل ْ ٌ‬
‫ف‬ ‫م َ‬ ‫من ب َعْدِهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫خل َ َ‬
‫‪ [7/169‬الية‪ ،‬وقال تعالى } فَ َ‬
‫ن غَي ّا ً {‬ ‫َ‬
‫ف ي َل َْقوْ َ‬
‫سو ْ َ‬ ‫ت فَ َ‬ ‫وا ِ‬‫شه َ َ‬‫صَلةَ َوات ّب َُعوا ال ّ‬‫عوا ال ّ‬ ‫ضا ُ‬
‫أ َ‬
‫] مريم‪.[19/59 :‬‬
‫من‬‫وقال رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪) :-‬الكّيس َ‬
‫ن نفسه وعمل لما بعد الموت‪ ،‬والعاجز من أْتبع نفسه‬ ‫دا َ‬
‫هواها وتمنى على الله الماني ( ومعنى دان نفسه‪:‬‬
‫حاسبها‪.‬‬
‫وقال عمر ‪ -‬رضي الله عنه ‪ :-‬حاسبوا أنفسكم قبل أن‬
‫تحاسبوا‪ ،‬وزنوها قبل توَزنوا‪ ،‬وتأهبوا للعرض الكبر على‬
‫الله تعالى‪.‬‬
‫) ‪(1/238‬‬

‫ب‬
‫وقال أبو عبيدة عامر بن الجراح ‪ -‬رضي الله عنه‪ :-‬أل ُر ّ‬
‫رم لنفسه وهو لها‬‫مك ْ ِ‬
‫ب ُ‬‫س لدينه‪ ،‬أل ُر ّ‬
‫مبّيض لثيابه مدن ّ ٌ‬
‫مهين‪ .‬بادروا السيئات القديمات بالحسنات الجديدات؛ فلو‬
‫أن أحدكم عمل من السيئات ما بينه وبين السماء‪ ،‬وعلم‬
‫حسنة َلعَلت فوق سيئاته حتى تقهرها‪.‬‬
‫وقال الحسن البصري ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬إن أماني المغفرة‬
‫قد لعبت بأقوام حتى خرجوا من الدنيا مفاليس ) يقول‪:‬‬
‫من العمال الصالحة (‪ .‬وقال أيضًا‪ :‬وإياكم وهذه الماني‬
‫فإنها أودية الّنوكى أي ) الحمقى (‪.‬‬
‫واعلم أن الله تعالى لم يذكر الرحمة والمغفرة في وصفه‬
‫لنفسه بذلك‪ ،‬إل ّ وقّيد ذلك بقيود وشرطه بشرائط‪ .‬مثل‬
‫صاِلحا ً‬ ‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫ن وَعَ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ب َوآ َ‬‫من َتا َ‬ ‫قوله تعالى‪ } :‬وَإ ِّني ل َغَّفاٌر ل ّ َ‬
‫مُنوا ْ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫دى { ] طه‪ ،[82 :‬وقوله تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬ ‫م اهْت َ َ‬ ‫ثُ ّ‬
‫ُ‬
‫ل الل ّهِ أوْل َئ ِ َ‬
‫ن‬
‫جو َ‬ ‫ك ي َْر ُ‬ ‫دوا ْ ِفي َ‬
‫سِبي ِ‬ ‫جاهَ ُ‬‫جُروا ْ وَ َ‬ ‫ها َ‬‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َوال ّ ِ‬
‫م { ] البقرة‪ [218 :‬ونحو ذلك‬ ‫حي ٌ‬‫ه غَُفوٌر ّر ِ‬ ‫ت الل ّهِ َوالل ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ح َ‬ ‫َر ْ‬
‫من اليات‪ ،‬وما وجد منها مطلقا ً فيحمل على المقيد منها‪،‬‬
‫ً‬
‫حوا‬ ‫جت ََر ُ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫س َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م َ‬ ‫وقد قال عّز من قائل كريم‪ } :‬أ ْ‬
‫ّ‬
‫ت{‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫كال ّ ِ‬
‫م َ‬ ‫جعَل َهُ ْ‬ ‫ت أن ن ّ ْ‬ ‫سي َّئا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫] الجاثية‪ [21:‬الية‪،‬‬
‫) ‪(1/239‬‬

‫َ‬
‫ت‬‫حا ِ‬ ‫مُلوا ال ّ‬
‫صال ِ َ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬‫جع َ ُ‬
‫م نَ ْ‬ ‫وقال تعالى‪ } :‬أ ْ‬
‫َ‬ ‫دين ِفي اْل َ‬
‫جارِ { ]ص‪:‬‬ ‫كال ُْف ّ‬
‫ن َ‬ ‫ل ال ْ ُ‬
‫مت ِّقي َ‬ ‫جع َ ُ‬‫م نَ ْ‬ ‫ضأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫س ِ َ‬
‫مْف ِ‬‫كال ْ ُ‬
‫َ‬
‫م وَتبّين أن الرجاء بل عمل ول سعي غرور‬ ‫‪ ،[28‬فقد عُل ِ َ‬
‫وأماني‪ .‬ومع ذلك العمل والسعي رجاء وحسن ظن‪.‬‬
‫ثم إنا وقد بسطنا الكلم في بيان هاتين المسألتين‪:‬‬
‫الحتجاج بالقدر عند الضاعة لمر الله‪ ،‬وأماني المغفرة‬
‫مع ركوب المخالفة وتسويف التوبة في الكتاب المسمى‬
‫ب‪ ) -‬النصائح الدينية ( فينظره من أراد المزيد على ما‬
‫هنا‪ ،‬والكل شاف كاف بعون الله وبركات رسوله لمن اّتبع‬
‫الهدى واجتنب الردى‪ ،‬وما توفيقي إل ّ بالله عليه توكلت‬
‫وإليه أنيب‪.‬‬
‫وكذلك ينبغي للنسان أل ّ يحدث نفسه بالتوبة من الذنب‬
‫قبل الوقوع فيه؛ فإن ذلك يسّهل عليه الوقوعَ فهي ن‬
‫ب له؛ فيكون مثاله مثال الذي‬ ‫ون على قلبه الرتكا َ‬ ‫ويه ّ‬
‫يتناول الطعام المسموم اعتمادا ً على أنه يتناول الدواء‬
‫الشافي منه‪ ،‬فيكون ذلك سبب هلكه أو مرضه؛ لن‬
‫الدواء ربما يتناوله من غير استجماع لشرائط التناول له‪،‬‬
‫وربما تعرض عوارض ُأخر تمنعه من تناول الدواء من‬
‫تسويف وتأخير‪ ،‬وقصد معاودة وغير ذلك‪.‬‬
‫) ‪(1/240‬‬
‫واعلم أن الجتناب للذنب والتباعد عن المعاصي أسهل‬
‫وأيسر من التوبة منها بعد الوقوع فيها من وجوه كثيرة‪.‬‬
‫وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالتوبة من الذنوب إذا‬
‫وقعوا فيها‪ ،‬ورغبهم في ذلك ووعدهم بقبولها فضل ً منه‪،‬‬
‫و‬
‫ووصف نفسه بذلك في كتابه العزيز‪ ،‬فقال تعالى‪ } :‬وَهُ َ‬
‫ما‬‫م َ‬ ‫ت وَي َعْل َ ُ‬‫سي َّئا ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫عَبادِهِ وَي َعُْفو عَ ِ‬
‫ن ِ‬
‫ة عَ ْ‬
‫ل الت ّوْب َ َ‬‫ذي ي َْقب َ ُ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ب‬
‫ذن ِ‬ ‫غافِرِ ال ّ‬ ‫ن { ] الشورى‪ [42/25 :‬وقال تعالى‪َ } :‬‬ ‫ت َْفعَُلو َ‬
‫ب { ] غافر‪ [40/3 :‬الية‪.‬‬ ‫ل الت ّوْ ِ‬ ‫وََقاب ِ ِ‬
‫…ثم إن للتوبة شرائط ل تتم إل ّ بها‪ ،‬ول تصير أهل ً لن‬
‫ُتقَبل إل ّ باجتماعها‪ ،‬والتيان بها على وجهها‪.‬‬
‫فأّول ذلك وأوله الندم الصادق على ما سلف منه من‬
‫الذنوب‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬الندم توبة ( المعنى‪:‬‬
‫أنه إذا صح الندم وكان صادقا ً كاد أن يتضمن ويجمع‬
‫شرائط التوبة كلها‪.‬‬
‫…ومن شرائطها‪ :‬أن يعزم على أن ل يعود إلى الذنب‬
‫الذي تاب منه ما عاش‪ ،‬وأن ل يكون في حال توبته‬
‫ملبسا ً ول مصرا ً على شيء من الذنوب التي تاب عنها‪.‬‬
‫) ‪(1/241‬‬

‫‪...‬وعلى التائب أيضًا‪ :‬أن يخرج من مظالم العباد التي كان‬


‫عرض أو مال‪ ،‬وأن يبالغ في ذلك‬ ‫ظلمهم بها في نفس أو ِ‬
‫نهاية إمكانه واستطاعته‪ ،‬وأن يقضي ما فاته من فرائض‬
‫الله المكتوبة عليه من الصلة والزكاة والصيام وغير ذلك‪،‬‬
‫م توبته ولتصير أهل ً للقبول من الله حتى يأتي‬
‫فإنها ل تت ّ‬
‫بجميع ذلك وما ضاق عنه الوقت الحاضر أخذ فيه وعزم‬
‫سب المكان والستطاعة‪ ،‬من غير‬ ‫على التدارك ح َ‬
‫تسويف ول تكاسل‪.‬‬
‫ثم إنه ل يزال بين الخوف والرجاء‪ :‬يخاف أن ل تقبل منه‬
‫التوبة لتقصيره عن القيام بشرائطها وما يلزمه فيها‪،‬‬
‫وبته)‪،(1‬‬
‫ح ْ‬
‫ويرجو من فضل ربه قبول توبته وغفران َ‬
‫والعفو عن ذنبه بمحض جوده وكرمه‪ ،‬فإنه أرحم‬
‫الراحمين‪ ،‬وأكرم الكرمين‪.‬‬
‫ومن علمات التائب الصادق في توبته‪ :‬ملزمة الحزن‬
‫والنكسار‪ ،‬وكثرة البكاء والتضّرع والستغفار‪ ،‬وهجران‬
‫المواطن التي عصا الله فيها‪ ،‬ومفارقة قرناء السوء‬
‫وخلطاء الفساد من الفجار‪.‬‬
‫‪...‬ثم إن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر‪ ،‬ول بد ّ في‬
‫جميعها من التوبة‪__________ ،‬‬
‫وب ‪ -‬بضمها ‪ :-‬الثم‪.‬‬ ‫ح ْ‬
‫)‪ (1‬الحوبة ‪ -‬بفتح الحاء‪ .‬وال ُ‬
‫) ‪(1/242‬‬

‫غير أنها من الكبائر أوجب وآكد‪ ،‬وقد ت ُك َّفر الصغائر‬


‫بالصلوات والجماعات والحسنات‪ ،‬كما قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪ ) :‬الصلة إلى الصلة كّفارة لما بينها إذا اجتنبت‬
‫الكبائر‪ ،‬والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينها إذا اجتنبت‬
‫الكبائر‪ ،‬ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إذا اجتنبت‬
‫ة‬
‫الكبائر (‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬وأتبع السيئ َ‬
‫حَها (‪.‬‬ ‫ة تم ُ‬
‫الحسن َ‬
‫سي َّئا ِ‬
‫ت‬ ‫ت ي ُذ ْهِب ْ َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫سَنا ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ح َ‬ ‫وقال مولنا جّلت قدرته‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ن { ] هود‪.[11/114 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫ك ذِك َْرى ِلل ّ‬
‫ذاك ِ ِ‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫وقد اختلف العلماء ‪ -‬رحمهم الله تعالى ‪ -‬في تعريف‬
‫دها حتى قال بعضهم‪ :‬إنهما مبهمة في الذنوب؛‬ ‫الكبائر وع ّ‬
‫ليكون النسان على نهاية التحفظ والحتراز من المعاصي‬
‫كلها‪ ،‬و ذلك على نحو ما قالوه في اسم الله العظم في‬
‫أسمائه تعالى‪ ،‬وفي ساعة الجمعة في ساعات يومها‪،‬‬
‫وليلة القدر في ليالي شهر رمضان‪ ،‬وذلك له وجه‪ ،‬ولكن‬
‫حت به الحاديث في تعريف أمثال ذلك هو المعتمد‬ ‫ما ص ّ‬
‫والمأخوذ به‪ ،‬وبالله التوفيق‪.‬‬
‫) ‪(1/243‬‬

‫وقد قال رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ) :-‬أل أنبئكم‬
‫بأكبر الكبائر ؟ قالوا‪ :‬بلى يا رسول الله قال‪ :‬الشراك‬
‫بالله‪ ،‬وعقوق الوالدين‪ ،‬وقول الزور وشهادة الزور (‬
‫الحديث‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬اجتنبوا السبع‬
‫الموبقات‪ :‬الشرك بالله‪ ،‬والسحر‪ ،‬وقتل النفس التي حرم‬
‫الله إل ّ بالحق‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬وأكل الربا والتولي يوم‬
‫الزحف‪ ،‬وقذف المحصنات الغافلت ( والحاديث بنحو‬
‫ذلك كثيرة‪.‬‬
‫…وقد ألف الشيخ المام أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي‬
‫ماه ) الزواجر عن‬‫‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬كتابا ً حافل ً س ّ‬
‫اقتحام الكبائر ( فعَد ّ فيه منها ما يزيد على الربعمائة‬
‫ولكنه قد يقّيد في أول تراجمها بقيود وينّبه في آخرها‬
‫بتنبيهات يكاد يسلم بذلك من العتراض عليه في عد ّ ذلك‬
‫من الكبائر‪.‬‬
‫…وقد ذكر الشيخ أبو طالب المكي ‪ -‬ر حمه الله تعالى ‪-‬‬
‫في كتاب ) قوت القلوب( أن الكبائر سبع عشرة‪ ،‬ثم‬
‫دها فقال‪ :‬الكبائر سبعُ عشرة‪ ،‬أربع في القلب‪ :‬الشرك‬ ‫ع ّ‬
‫بالله‪ ،‬والصرار على المعصية‪ ،‬والقنوط من رحمة الله‪،‬‬
‫والمن من مكر الله‪ .‬وأربع في اللسان‪ :‬القذف‪ ،‬وشهادة‬
‫ن أو شيئا ً من‬
‫الزور‪ ،‬والسحر ‪ -‬وهو كل كلم يغّير النسا َ‬
‫أعضائه ‪-‬‬
‫) ‪(1/244‬‬

‫طل بها حّقا أو يثِبت بها‬


‫واليمين الغموس وهي التي ُيب ِ‬
‫ل‪ .‬وثلث في البطن‪ :‬أكل مال اليتيم ظلمًا‪ ،‬وأكل‬ ‫باط ً‬
‫الربا‪ ،‬وشرب كل مسكر‪ .‬واثنتان في الفرج‪ :‬الزنى‪،‬‬
‫واللواط‪ .‬واثنتان في اليد‪ :‬القتل‪ ،‬والسرقة‪ .‬وواحدة في‬
‫ل‪ :‬الفرار من الزحف‪ .‬وواحدة في جميع البدن‪:‬‬ ‫ج ِ‬‫الّر ْ‬
‫عقوق الوالدين‪ .‬انتهى‪ ،‬وهو كلم حسن جامع ل يكاد‬
‫دف مثُله في بابه‪.‬‬ ‫يصا َ‬
‫…فعليك ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬بالحتراز من جميع الذنوب من‬
‫ب صغيرة قد تكون على صاحبها‬ ‫صغائرها وكبائرها؛ فر ّ‬
‫أضّر من كبيرة‪ .‬والذنوب كالنار قد تحرق الشرارة منها‬
‫القرية الواسعة‪.‬‬
‫…وعن زين العابدين علي بن الحسين ‪ -‬رضي الله عنهما‬
‫‪ -‬أنه قال‪ :‬إن الله سبحانه خّبأ ثلثا ً في ثلث‪ :‬خّبأ رضاه‬
‫ل رضاه‬ ‫في طاعته‪ ،‬فل تحتقروا من الطاعة شيئا ً فلع ّ‬
‫سبحانه يكون فيه‪ .‬وخّبأ سخطه في معصيته‪ ،‬فل‬
‫ل سخطه سبحانه يكون‬ ‫تستحقروا شيئا ً من المعاصي‪ ،‬فلع ّ‬
‫فيه‪ .‬وخّبأ وليته في خلقه‪ ،‬فل تستحقروا منهم أحدا ً فلعّله‬
‫أن يكون ولّيا لله تعالى‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وقد ورد‪ ) :‬ل صغيرة مع إصرار‪ ،‬ول كبيرة مع استغفار (‪.‬‬
‫) ‪(1/245‬‬

‫وقال بعض السلف‪ :‬المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه‬


‫كالمستهزئ بربه‪ .‬وقال غيره‪ :‬الستغفار من غير إقلع‬
‫ذابين‪ .‬وقال آخر‪ :‬إن كنت تعصي الله وأنت ترى‬ ‫توبة الك ّ‬
‫أنه يراك فأنت مستهزئ بنظر الله‪ .‬وإن كنت تعصيه وأنت‬
‫ترى أنه ل يراك فأنت كافر‪ .‬وقال آخر‪ :‬من عصى الله‬
‫فهو وهو يضحك دخل النار وهو يبكي‪ .‬وقال آخر‪ :‬المؤمن‬
‫ل ساعة‬ ‫يرى ذنبه كالذي ينحت في أصل جبل وهو تحَته‪ ،‬ك ّ‬
‫يخاف أن يقع عليه‪ .‬والمنافق يرى ذنبه كذباب وقع على‬
‫ملنا‬
‫أنفه‪ ،‬فقال بيده هكذا فأطاره‪ .‬نسأل الله أن يج ّ‬
‫ستره‪ ،‬ويسترنا بعافيته‪ ،‬ويعافَينا من مخالفته وعصيانه‬ ‫ب َ‬
‫وإضاعة أمره‪ ،‬فإنه نعم المستعان وعليه الّتكلن‪ ،‬ول حول‬
‫ول قوة إل ّ بالله العلي العظيم‪.‬‬

‫***‬
‫) ‪(1/246‬‬

‫***********************‬
‫الصنف الثامن‬
‫مشركين وأهل الكفر‬‫دعوة ال ُ‬
‫***********************‬
‫) ‪(1/247‬‬
‫) ‪(1/248‬‬

‫ن‬‫م ُ‬ ‫ف الثا ِ‬ ‫صن ُ‬ ‫ال ّ‬


‫وهم المشركون اّلذين يدعون مع الله إلها ً آخَر‪ ،‬تعالى عما‬
‫دعون علوّا ً كبيرًا‪ ،‬وهم أصناف‪ :‬منهم‬ ‫ما ي ّ‬ ‫يقولون وع ّ‬
‫طلون والجاحدون‪ ،‬إلى غير ذلك‪.‬‬ ‫المشركون‪ ،‬ومنهم المع ّ‬
‫وكلهم في ضللة وظلمات بعضها فوق بعض‪ ،‬غير أن‬
‫البعض منهم أشد ضللة وكفرا‪ ،‬وأكثر بهتانا ً وافتراًء وليس‬
‫جة ول برهان بوجه من الوجوه‪ .‬القول في‬ ‫لحدٍ منهم ح ّ‬
‫دعوتهم إلى الله وإلى توحيده‪ ،‬والقرار له سبحانه‬
‫باللوهّية والربوبية من غير شريك له في ذلك ول منازع‪.‬‬
‫***‬
‫…قال الله تعالى‪َ } :‬فاعْل َ َ‬
‫ه { ] محمد‪:‬‬ ‫ه إ ِّل الل ّ ُ‬
‫ه َل إ ِل َ َ‬ ‫م أن ّ ُ‬‫ْ‬
‫ه إ ِّل هُ َ‬
‫و‬ ‫ذي َل إ ِل َ َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬‫م الل ّ ُ‬ ‫ما إ ِل َهُك ُ ُ‬
‫‪ ،[19‬وقال تعالى‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫ما‬‫عْلما ً {] طه‪ ،[98 :‬وقال تعالى‪ } :‬إ ِن ّ َ‬ ‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫سع َ ك ُ ّ‬ ‫وَ ِ‬
‫ه وَل َد ٌ {]النساء‪[71:‬‬ ‫َ‬
‫ن لَ ُ‬‫كو َ‬ ‫ه أن ي َ ُ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫حد ٌ ُ‬ ‫ه َوا ِ‬‫ه إ ِل َ ٌ‬‫الل ّ ُ‬
‫) ‪(1/249‬‬

‫ن‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ه إ ِل ّ هُوَ الّر ْ‬ ‫حد ٌ ل ّ إ ِل َ َ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫م إ ِل َ ٌ‬‫وقال تعالى‪ } :‬وَإ ِل َهُك ُ ْ‬


‫ه لَ‬ ‫شهد الل ّ َ‬
‫ه أن ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫م { ]البقرة‪ ،[63 :‬وقال تعالى‪َ ِ َ } :‬‬ ‫حي ُ‬ ‫الّر ِ‬
‫ُ‬
‫ه إ ِل ّ‬ ‫ط ل َ إ ِل َ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ما ً ِبال ِْق ْ‬ ‫ة وَأوُْلوا ْ ال ْعِل ْم ِ َقآئ ِ َ‬ ‫مل َئ ِك َ ُ‬ ‫ه إ ِل ّ هُوَ َوال ْ َ‬ ‫إ ِل َ َ‬
‫م { ] آل عمران‪ ،[18 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيُز ال ْ َ‬ ‫هُوَ ال ْعَ ِ‬
‫ه ب ِهِ { ] المؤمنون‪:‬‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫ها َ‬ ‫خَر َل ب ُْر َ‬ ‫معَ الل ّهِ إ َِلها ً آ َ‬ ‫من ي َد ْعُ َ‬ ‫} وَ َ‬
‫ه إ ِّل‬ ‫خَر َل إ ِل َ َ‬ ‫معَ الل ّهِ إ َِلها ً آ َ‬ ‫‪ ،[117‬وقال تعالى‪ } :‬وََل ت َد ْعُ َ‬
‫ن{‬ ‫جُعو َ‬ ‫م وَإ ِل َي ْهِ ت ُْر َ‬ ‫حك ْ ُ‬ ‫ه ال ْ ُ‬‫ه لَ ُ‬ ‫جه َ ُ‬‫ك إ ِّل وَ ْ‬ ‫هال ِ ٌ‬ ‫يٍء َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫هُوَ ك ُ ّ‬
‫شَر َ‬
‫ك‬ ‫ه ل َ ي َغِْفُر َأن ي ُ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫]القصص‪ [88 :‬وقال تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ك ِبالل ّهِ فََقدِ‬ ‫شرِ ْ‬ ‫من ي ُ ْ‬ ‫شاُء وَ َ‬ ‫من ي َ َ‬ ‫ك لِ َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫ب ِهِ وَي َغِْفُر َ‬
‫ظيما ً { ] النساء‪ ،[48 :‬وقال تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫افْت ََرى إ ِْثما ً عَ ِ‬
‫ه‬
‫م { ]لقمان‪ [13 :‬وقال تعالى‪ } :‬إ ِن ّ ُ‬ ‫ظي ٌ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫ك ل َظ ُل ْ ٌ‬ ‫شْر َ‬ ‫ال ّ‬
‫ْ‬
‫ما‬
‫مأَواهُ الّناُر وَ َ‬ ‫ة وَ َ‬‫جن ّ َ‬ ‫ه عََليهِ ال ْ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حّر َ‬ ‫ك ِبالل ّهِ فََقد ْ َ‬ ‫شرِ ْ‬ ‫من ي ُ ْ‬ ‫َ‬
‫صارٍ { ]المائدة‪.[72 :‬‬ ‫َ‬ ‫ِلل ّ‬
‫ن أن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬
‫‪ ...‬وإذا كان هذا التشديد العظيم الهائل‪ ،‬والوعيد الفظيع‬
‫الشنيع‪ ،‬في حق من يدعو مع الله إلها ً آخر‪ ،‬ويشرك به‬
‫سواه في اللوهية‪ ،‬مع أنه ي ُِقّر ويعترف لله باللوهية‬
‫والربوبية؛ فيكف يكون الحال‪ ،‬وعظيم الوبال والنكال في‬
‫حق من ينكر أنه ليس للعالم إله من المعطّلة‪ ،‬أو يقول‪:‬‬
‫إن له إلها ً غير الله تعالى وتقدس عن قوله وافترائه‬
‫ض ّ‬
‫ل‬ ‫ل هُ َ‬‫كال َن َْعام ِ ب َ ْ‬ ‫} أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ك َ‬
‫مأ َ‬‫ْ‬
‫) ‪(1/250‬‬

‫ن { ] العراف‪ .[179:‬والنعام والبهائم‪،‬‬ ‫م ال َْغافُِلو َ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫أ ُوْل َئ ِ َ‬


‫بل والنباتات والجمادات مقّرة ومعترفة وشاهدة لخالقها‬
‫وموجدها باللوهية والوحدانية والربوبية‪ ،‬ولو كانت تنطق‬
‫ح‬
‫سب ّ ُ‬ ‫لعربت عن ذلك وأفصحت به‪ ،‬قال الله تعالى‪ } :‬ت ُ َ‬
‫َ‬
‫يٍء إ ِل ّ‬ ‫ش ْ‬ ‫من َ‬ ‫ن وَِإن ّ‬ ‫من ِفيهِ ّ‬ ‫ض وَ َ‬ ‫سب ْعُ َوالْر ُ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫ماَوا ُ‬ ‫س َ‬‫ه ال ّ‬ ‫لَ ُ‬
‫َ‬
‫مد َهِ { ] السراء‪ [44 :‬الية‪ ،‬وقال تعالى‪ } :‬أوَ ل َ ْ‬
‫م‬ ‫ح ْ‬ ‫ح بِ َ‬ ‫سب ّ ُ‬ ‫يُ َ‬
‫ُ‬
‫ن‬ ‫مي ِ‬ ‫ن ال ْي َ ِ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫يٍء ي َت ََفي ّأ ظ ِل َل ُ ُ‬ ‫ش ْ‬ ‫من َ‬ ‫ه ِ‬ ‫خل َقَ الل ّ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ي ََروْا ْ إ َِلى َ‬
‫ن { ]النحل‪ [48 :‬إلى‬ ‫خُرو َ‬ ‫دا ِ‬ ‫م َ‬ ‫جدا ً ل ِل ّهِ وَهُ ْ‬ ‫س ّ‬ ‫ل ُ‬ ‫مآئ ِ ِ‬ ‫ش َ‬ ‫َوال ْ ّ‬
‫ما‬‫ن َ‬ ‫م وَي َْفعَُلو َ‬ ‫من فَوْقِهِ ْ‬ ‫ن َرب ُّهم ّ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫قوله تعالى‪ } :‬ي َ َ‬
‫ن { ]النحل‪.[50 :‬‬ ‫مُرو َ‬ ‫ي ُؤْ َ‬
‫ُ‬
‫…ولما كانت العرب قد أعطيت من التمييز‪ ،‬وأّيدت من‬
‫المعقول بما لم يؤّيد به غيُرها من المم لم يصدر عنها‬
‫النكار لوجود الحق سبحانه وتعالى؛ بل أقرت بوجوده‪،‬‬
‫وبكون الخالق لكل شيء والرازق له‪ ،‬كما حكى الله ذلك‬
‫عنها في غير ما آية من كتابه‪ ،‬مثل قوله تعالى‪ } :‬وَل َِئن‬
‫َ‬
‫ه { ] الزخرف‪ ،[87:‬وقوله‪:‬‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫م ل َي َُقول ُ ّ‬ ‫خل ََقهُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫مَْ‬ ‫سأل ْت َُهم ّ‬ ‫َ‬
‫خَر‬ ‫س ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ض وَ َ‬ ‫ت َوالْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫خلقَ ال ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫سألت َُهم ّ‬ ‫}وَلِئن َ‬
‫ه { ] العنكبوت‪ ،[61:‬وقوله‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫مَر ل َي َُقول ُ ّ‬ ‫س َوال َْق َ‬ ‫م َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬
‫ن*‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫من ِفيَها ِإن ُ‬ ‫ض وَ َ‬ ‫ن اْلْر ُ‬ ‫ِ‬ ‫تعالى‪ُ } :‬قل ل ّ َ‬
‫م‬
‫سيُقوُلون ل ِل ّه قُ ْ َ‬
‫ن { ] المؤمنون‪[ 85 - 84:‬‬ ‫ل أَفل ت َذ َك ُّرو َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫إلى غير ذلك من اليات المصّرحات بما ذكرناه عن‬
‫مشركي العرب‪.‬‬
‫) ‪(1/251‬‬

‫ويبين ذلك ما حكى الله عنهم في قوله تعالى أنهم قالوا‬


‫م إ ِّل ل ِي َُقّرُبوَنا إ َِلى‬‫ما ن َعْب ُد ُهُ ْ‬ ‫فيما أشركوا به من دون الله } َ‬
‫الل ّهِ ُزل َْفى { ]الزمر‪ [3:‬أي أنهم جعلوها وسائل ووسائط‪،‬‬
‫يقصدون بعبادتهم التقّرب إلى الله فأخطأوا في ذلك‪،‬‬
‫ولكنهم أقّروا بوجود الحق وبكون الخالق لهم ولكل شيء‪،‬‬
‫وأنهم إنما عبدوا ما عبدوه من الصنام لتكون وسائل لهم‬
‫عنده‪ ،‬ومقّربات لهم إليه؛ وكانوا ‪ -‬أعني مشركي العرب ‪-‬‬
‫يرجعون إلى الله في الشدائد‪ ،‬وكشف المهمات‬
‫والمصائب‪ ،‬ول يطلبون ذلك ول يسألونه إل ّ منه‪ ،‬كما أخبر‬
‫ذا‬‫الله بذلك في كتابه عنهم في مثل قوله تعالى‪ } :‬وَإ ِ َ‬
‫ن إ ِل ّ إ ِّياهُ {‬ ‫عو َ‬ ‫من ت َد ْ ُ‬ ‫ل َ‬‫ض ّ‬
‫حرِ َ‬‫ضّر ِفي ال ْب َ ْ‬
‫م ال ْ ّ‬‫سك ُ ُ‬‫م ّ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م َ‬‫مة ٍ ف َ ِ‬‫من ن ّعْ َ‬ ‫كم ّ‬ ‫ما ب ِ ُ‬‫] السراء‪ [67 :‬وقوله تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫ذا مسك ُم الضر فَإل َيه ت َ‬
‫ن { ] النحل‪ [53 :‬أي‬ ‫جأُرو َ‬ ‫ّ ّ ِ ْ ِ َ ْ‬ ‫م إِ َ َ ّ ُ‬ ‫الل ّهِ ث ُ ّ‬
‫ن َوتستغيثون‪.‬‬ ‫تتضرعو َ‬
‫ولما قال رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬لبعضهم‪) :‬‬
‫كم لكم من إلهٍ ؟ قال‪ :‬عشرة‪ .‬فقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪ :‬إلى أّيهم ترجع عند الشدائد ؟ فقال إلى الله‪،‬‬
‫فقال‪) :‬أسلم يا فلن فإنه ليس لك من إله غير الله(‬
‫الحديث‪،‬‬
‫) ‪(1/252‬‬

‫دله على الله‪ ) :‬هو‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم لخر وهو ي ّ‬
‫دها‬
‫هر ّ‬‫الذي إذا ضّلت راحلتك وأنت بأرض فلة فد َعَوْت َ ُ‬
‫ه أ َن ْب َت ََها لك (‪.‬‬
‫سنة فد َعَوْت َ ُ‬
‫م َ‬
‫عليك‪ .‬وإذا أصابك عا ُ‬
‫…وما أحسب أن أحدا ً يعقل إل ّ وهو متأّله إلى إله‪ ،‬تقضي‬
‫عليه بذلك فطرته التي فطره عليها‪ ،‬وتشهد له بربوبيته‬
‫ه التي خلق عليها‪ ،‬أصاب في ذلك من أصاب‪ ،‬وأخطأ‬ ‫خل َْقت ُ ُ‬
‫ِ‬
‫من أخطأ وما من إله الله العزيز الحكيم‪.‬‬
‫…فمصنوعاته سبحانه‪ ،‬ومخلوقاته ومبتدعاته التي مل بها‬
‫ضه وسمواِته‪ ،‬شاهدة له باللوهية‪ ،‬وناطقة له‬ ‫أر َ‬
‫بالوحدانية‪ ،‬وقد أجاد وأحسن القائل الذي يقول‪:‬‬
‫ه ‪ ...‬أم كيف يجحدهُ الجاحد ُ‬ ‫أيا عجبا ً كيف َيعصي الل َ‬
‫ولله في كل تحريكة ‪ ...‬وتسكينة أثٌر شاهد ُ‬
‫وفي كل شيء له آية ‪ ...‬تدل على أنه واحد ُ‬
‫عي أصحاب الكهف إلى عبادة غيره سبحانه‬ ‫ولما د ُ ِ‬
‫وتعالى‪ ،‬وأن يعترفوا بالربوبية للعبد المربوب‪ ،‬الذي ليس‬
‫ما قذف الله‬ ‫بأهل لذلك أنكروا ولم ي ُِقّروا‪ ،‬ولم يعترفوا‪ ،‬ل ِ َ‬
‫في قلوبهم من النور‪ ،‬وألقى فيها من التصديق و اليمان‬
‫َْ‬
‫ض َلن ن ّد ْعُ َ‬
‫و‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬ ‫به تعالى‪}:‬فََقاُلوا َرب َّنا َر ّ‬
‫ب ال ّ‬
‫دون ِهِ إ َِلها ً‬‫من ُ‬ ‫ِ‬
‫) ‪(1/253‬‬

‫ططا ً { ] الكهف‪ .[18/14:‬إلى قوله تعالى‪:‬‬ ‫ش َ‬ ‫ل ََقد ْ قُل َْنا ِإذا ً َ‬


‫كم م َ‬
‫كم‬ ‫مرِ ُ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ئ لَ ُ ّ ْ‬ ‫من ّرحمته وي ُهَي ّ ْ‬ ‫كم ّ‬ ‫م َرب ّ ُ‬ ‫شْر ل َك ُ ْ‬ ‫} َين ُ‬
‫مْرَفقا ً { ] الكهف‪.[18/16 :‬‬ ‫ّ‬
‫…وكذلك شأن السحرة الذين جاء بهم فرعون اللعين‪،‬‬
‫ليدفع بسحرهم وكيدهم ‪ -‬بزعمه ‪ -‬الحقّ والبرهان الذي‬
‫ُبعث به موسى وهارون عليهما السلم‪ ،‬فعندما عرفوا‬
‫وتحققوا أن المر الذي ب ُِعث به موسى وهارون عليهما‬
‫السلم‪ ،‬أمر سماوي إلهي ل يطاق له دفاع‪ ،‬ول يستطيع‬
‫أحد أن يرده ول يغالبه‪ ،‬أقروا بالحق واستسلموا‪ ،‬وأسلموا‬
‫ب‬
‫ن ‪َ -‬ر ّ‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫وآمنوا بالله وحده فقالوا‪َ } :‬قاُلوا ْ آ َ‬
‫مّنا ب ِرِ ّ‬
‫دهم‬ ‫ن { ] العراف‪ [122 - 121:‬ولم ير ّ‬ ‫هاُرو َ‬ ‫سى وَ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ُ‬
‫عن ذلك‪ ،‬ولم يصرفهم عنه ما توعدهم به فرعون لعنه‬
‫صلِبهم على‬ ‫الله‪ ،‬من قطع اليدي والرجل من خلف‪ ،‬و َ‬
‫جذوع النخل؛ بل قالوا في الرد عليه والستهانة بما‬
‫ذي‬‫ت َوال ّ ِ‬ ‫ن ال ْب َي َّنا ِ‬‫م َ‬
‫جاءَنا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ك عََلى َ‬‫عدهم به‪َ } :‬لن ن ّؤْث َِر َ‬ ‫تو ّ‬
‫َ‬ ‫فَط ََرَنا َفاقْ‬
‫ض { ] طه‪ [ 72:‬إلى قوله تعالى‪:‬‬ ‫ت َقا ٍ‬ ‫ما أن َ‬ ‫ض َ‬ ‫ِ‬
‫خي ٌْر وَأ َب َْقى { ] طه‪.[ 73:‬‬ ‫ه َ‬ ‫} َوالل ّ ُ‬
‫مك ِْنه أن يرد ّ عليهم‪ ،‬ول‬ ‫سْعه ولم ي ُ ْ‬‫…ثم إنه لعنه الله لم ي َ َ‬
‫أن يدفعهم عن اليمان بالله؛ لنه عرف وتبّين له بأن ل‬
‫حجة له بذلك‪ ،‬ول قوة له على الدفع؛‬
‫) ‪(1/254‬‬

‫فعدل إلى قول لهم‪ } :‬آمنتم به قَب َ َ‬


‫م{‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬
‫ل أن آذ َ َ‬ ‫َ ُ ِ ِ ْ‬
‫] العراف‪ [ 7/123 :‬تكبرا ً منه‪ ،‬ومدافعة بما ل ينفعه ول‬
‫يقوم له به حجة؛ لن اليمان بالله‪ ،‬والتوحيدِ له هيبة ل‬
‫يمكن لحد يعقل أن يدفع أحدا ً عنه‪ ،‬ول يجادله فيه؛ لنه‬
‫المر الواضح البّين‪ ،‬الذي قامت به الحجج‪ ،‬واتفقت عليه‬
‫الدلة القاطعة من السمعيات والعقليات‪.‬‬
‫مله؛ فإنه أمر مهم ويكاد يشار‬ ‫…فاعلم ذلك وتأمله حق تأ ّ‬
‫إليه بما ذكره الله تعالى في آيات عديدة مثل قوله تعالى‪:‬‬
‫ه ب ِهِ { ]المؤمنون‪:‬‬ ‫ن لَ ُ‬‫ها َ‬ ‫خَر َل ب ُْر َ‬ ‫معَ الل ّهِ إ َِلها ً آ َ‬ ‫من ي َد ْعُ َ‬ ‫} وَ َ‬
‫َ‬
‫ماء‬ ‫س َ‬‫دون ِهِ إ ِل ّ أ ْ‬ ‫من ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ت َعْب ُ ُ‬ ‫‪ ،[23/117‬وقوله تعالى‪َ } :‬‬
‫ن{‬ ‫طا ٍ‬‫سل ْ َ‬ ‫من ُ‬ ‫ه ب َِها ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما َأنَز َ‬ ‫كم ّ‬ ‫م َوآَبآؤُ ُ‬ ‫سميتمو َ َ‬
‫ها أنت ُ ْ‬ ‫َ ّ ُْ ُ‬
‫] يوسف‪ [12/40 :‬الية‪ ،‬وقوله تعالى إخبارا ً عن أصحاب‬
‫ْ‬
‫ة ل ّوَْل ي َأُتو َ‬
‫ن‬ ‫دون ِهِ آل ِهَ ً‬ ‫من ُ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬‫مَنا ات ّ َ‬‫الكهف‪ } :‬هَؤَُلء قَوْ ُ‬
‫ذبا ً‬
‫ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َ ِ‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ن أ َظ ْل َ‬ ‫م ْ‬‫ن فَ َ‬ ‫سل ْ َ‬
‫عَل َي ِْهم ب ِ ُ‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ن ب َي ّ ٍ‬
‫طا ٍ‬
‫{ ] الكهف‪.[ 18/15 :‬‬
‫دعاه حجة البتة؛‬ ‫دعي مع الله إلها ً آخر ل تقوم له بما ا ّ‬ ‫فالم ّ‬
‫دل‬ ‫جته بذلك بينة البطلن والستحالة‪ ،‬فلذلك يع ِ‬ ‫بل ح ّ‬
‫المدعي لها إلى غير ذلك‪ ،‬كما عدل إليه فرعون لعنه الله‪.‬‬
‫) ‪(1/255‬‬

‫جته إبراهيم‬ ‫وكذلك نمرود فيما حكى الله عنه من محا ّ‬


‫الخليل عليه‬
‫َ‬
‫ج‬
‫حآ ّ‬
‫ذي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬ ‫الصلة والسلم في قوله تعالى‪ } :‬أل َ ْ‬
‫مل ْ َ‬ ‫َ‬
‫ك { ]البقرة‪ [258:‬إلى‬ ‫ه ال ْ ُ‬
‫ن آَتاهُ الل ّ ُ‬
‫م ِفي رِب ّهِ أ ْ‬‫هي َ‬ ‫إ ِب َْرا ِ‬
‫دي ال َْقوْ َ‬
‫م‬ ‫ه ل َ ي َهْ ِ‬ ‫ذي ك ََفَر َوالل ّ ُ‬ ‫ت ال ّ ِ‬
‫قوله تعالى‪ } :‬فَب ُهِ َ‬
‫ن { ]البقرة‪.[258:‬‬ ‫مي َ‬ ‫ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬
‫…ثم اعلم أن التوحيد أعظم النعم وأكبرها‪ ،‬وأنفعها لهله‬
‫في الدنيا والخرة فعلى من أنعم الله به عليه وأكرمه به‬
‫أن يعرف قَد َْر نعمةِ الله بذلك‪ ،‬وأن يسعى في حفظها‬
‫ودوام الشكر والغتباط بها‪ ،‬وأن يجتهد في تقوية توحيده‪،‬‬
‫وثباته وتأكيده بملزمة الخلق الحسنة والعمال الصالحة‪،‬‬
‫والطاعات الخالصة التي هي من فروع التوحيد وثمرات‬
‫اليمان مع الحتراز والجتناب لضداد ذلك من الخلق‬
‫ضِعفات اليمان‪،‬‬ ‫م ْ‬‫السيئة والعمال المنكرة التي هي من ُ‬
‫جبات تزلزله واضطرابه حال ً ومآل ً سّيما عند الموت؛‬ ‫ومو ِ‬
‫سوَأى َأن‬ ‫سا ُ‬
‫ؤوا ال ّ‬
‫ة ال ّذي َ‬
‫نأ َ‬ ‫عاقِب َ َ ِ َ‬
‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫م َ‬‫قال الله تعالى‪ } :‬ث ُ ّ‬
‫ست َهْزُِئون { ] الروم‪.[10:‬‬ ‫كاُنوا ب َِها ي َ ْ‬‫ت الل ّهِ وَ َ‬
‫ك َذ ُّبوا ِبآَيا ِ‬
‫وقال ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ) :-‬ل يزني الزاني حين‬
‫يزني وهو مؤمن‪ ،‬ول يسرق السارق حين يسرق وهو‬
‫مؤمن‪ ،‬ول يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن (‪.‬‬
‫) ‪(1/256‬‬

‫وكان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يقولون‪ :‬المعاصي‬


‫ذل المؤمن نهاية جهده وإمكانه في حفظ‬ ‫بريد الكفر؛ فْليب ُ‬
‫إيمانه وتقويته‪ ،‬وتأكيده وتثبيت أركانه‪ ،‬وليستعن بالله‬
‫وليصبر على ذلك‪ ،‬ويداوم عليه حتى يأتيه اليقين‪.‬‬
‫‪ ...‬ثم اعلم أن اليمان هو أصل الصول‪ ،‬وأنفس النفائس‪،‬‬
‫وأعز الشياء‪ .‬وهو مع ذلك أشدها خطرًا‪ ،‬وأشقها حفظًا‪،‬‬
‫وأحوجها إلى حسن التعّهد والتفقد‪ ،‬وحسن النظر‬
‫والحتياط‪ ،‬وكل عزيز ونفيس فعلى مثل ذلك يكون‬
‫ويوجد‪ .‬ول يزال المؤمن الشفيق على دينه‪ ،‬المحتاط‬
‫ليمانه ويقينه سائل ً من الله ومتضرعا ً غليه‪ :‬في أن ي ُث َب ّْته‬
‫على دينه وإيمانه‪ ،‬وأن ل ُيزيغ قلبه بعد إذ هداه إلى‬
‫توحيده ومعرفته‪ ،‬وأن يكون خائفا ً من سلب ذلك وتزلزله‪.‬‬
‫ن أحد على‬ ‫َ‬
‫م َ‬
‫وقد كان بعض السلف يحلف بالله إنه ما أ ِ‬
‫كر عن إبليس ‪-‬لعنه الله‪ -‬أنه‬ ‫سل َِبه‪ ،‬وذ ُ ِ‬ ‫إيمانه أن ُيسل َب َ ُ‬
‫ه إل ّ ُ‬
‫قال‪ :‬قصم ظهري الذي يسأل الله حسن الخاتمة؟ أقول‬
‫جب هذا بعمله؛ أخشى أنه قد فطن‪.‬‬ ‫متى ُيع َ‬
‫فالمر الذي عليه المدار والتعويل والذي ل ينبغي لعاقل‬
‫من أهل اليمان أن يكون أعظم اهتماما ً به وأشد ّ حرصا ً‬
‫عليه وسعيا ً له من سلمة التوحيد وحفظ اليمان حتى‬
‫يموت ويخرج من الدنيا على ذلك بفضل الله وحسن‬
‫تأييده وتثبيته؛‬
‫) ‪(1/257‬‬

‫فإنه إن خرج من الدنيا على ذلك سلم من الشّر كله وفاز‬


‫بالخير كله دائما ً أبدًا‪ .‬وإن خرج من الدنيا على خلف ذلك‬
‫ه‪.‬‬ ‫خسر خسرانا ً مبينًا‪ ،‬وهلك هلكا ً مؤبدا ً والعياذ بالله ل ِل ّ ِ‬
‫فََفْقد ُ التوحيد واليمان هو الذي ل ينفع مع فقده شيء‬
‫بحال كائنا ً ذلك الشيء ما كان‪ ،‬ولو كان عمل الولين‬
‫ده وإيمانه وسِلما له‪،‬‬ ‫والخرين‪ ،‬وحيث بقي مع العبد توحي ُ‬
‫ضره شيء ولو كان عاصيا ً مذنبًا‪ ،‬فإما أن يغفر‬ ‫فليس ي ّ‬
‫الله له أو يعفو عنه‪ ،‬وإن عاقبه على ذنبه كانت عقوبة‬
‫مخّلدة ول مؤبدة؛ فإنه ل ُيخّلد في النار‬ ‫منقضية غير ُ‬
‫مؤمن‪ ،‬بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذّرة من‬
‫إيمان‪.‬‬
‫وقد أمر الله عباده المؤمنين بأن يموتوا على اليمان‬
‫والسلم‪ ،‬ووصف أنبياءه ورسله والصالحين من عباده‪:‬‬
‫صون به حرصا ً عليه‬ ‫بأنهم يسألونه ذلك‪ ،‬ويدعونه به‪ ،‬ويتوا َ‬
‫مُنوا ْ‬ ‫َ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وإعظاما ً له واغتباطا ً به؛ فقال تعالى‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن { ] آل‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫ن إ ِل ّ وَأنُتم ّ‬ ‫موت ُ ّ‬ ‫حقّ ت َُقات ِهِ وَل َ ت َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ات ُّقوا ْ الل ّ َ‬
‫ه‬
‫م ب َِني ِ‬ ‫هي ُ‬ ‫صى ب َِها إ ِب َْرا ِ‬ ‫عمران‪ ،[102 :‬وقال تعالى‪ } :‬وَوَ ّ‬
‫ن إ َل ّ‬ ‫موت ُ ّ‬ ‫ن فَل َ ت َ ُ‬ ‫دي َ‬‫م ال ّ‬ ‫صط ََفى ل َك ُ ُ‬ ‫ها ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ي إِ ّ‬ ‫ب َيا ب َن ِ ّ‬ ‫وَي َعُْقو ُ‬
‫ن { ]البقرة‪ [132:‬وقال تعالى حكاية عن‬ ‫َ‬
‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫وَأنُتم ّ‬
‫ت وَل ِّيي ِفي الد ّن َُيا‬ ‫َ‬
‫يوسف عليه الصلة والسلم‪ } :‬أن َ‬
‫ن { ] يوسف‪:‬‬ ‫حي َ‬‫صال ِ ِ‬
‫حْقِني ِبال ّ‬ ‫سِلما ً وَأ َل ْ ِ‬‫م ْ‬‫خَرةِ ت َوَفِّني ُ‬ ‫َوال ِ‬
‫‪،[101‬‬
‫) ‪(1/258‬‬
‫وقال تعالى إخبارا ً عن المؤمنين من السحرة حين‬
‫َ‬
‫مّنا‬
‫نآ َ‬‫مّنا إ ِل ّ أ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما َتنِق ُ‬ ‫توعدهم فرعون لعنه الله‪ } :‬وَ َ‬
‫صْبرا ً وَت َوَفَّنا‬ ‫َ‬
‫جاءت َْنا َرب َّنا أفْرِغْ عَل َي َْنا َ‬ ‫ت َرب َّنا ل َ ّ‬
‫ما َ‬ ‫ِبآَيا ِ‬
‫ن { ] العراف‪.[7/126 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬
‫ُ‬
‫…وقد وردت عن رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪-‬‬
‫الحاديث الكثيرة الشهيرة في بشارة أهل التوحيد‬
‫واليمان‪ ،‬ومن مات وهو ل يشرك بالله شيئا ً بالنجاة من‬
‫النار والفوز بالجنة وغير ذلك من الخيرات والدرجات‪ .‬قال‬
‫رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ) :-‬من شهد أن ل إله‬
‫إل الله وأن محمدا ً عبده ورسوله‪ ،‬وأن عيسى عبد الله‬
‫ح منه‪ ،‬والجّنة حق‬ ‫ورسوله وكلمته‪ ،‬ألقاها إلى مريم ورو ٌ‬
‫والناَر حقّ أدخله الله الجّنة على ما كان من العمل (‪.‬‬
‫وفي رواية لمسلم‪) :‬من شهد أن ل إله إل ّ الله وأن محمدا ً‬
‫رسول الله حّرم الله عليه النار (‪.‬‬
‫وجاء أعرابي إلى النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ،-‬فقال‪:‬‬
‫يا رسول الله‪ ،‬ما الموجبتان ؟ قال‪ ) :‬من مات ل يشرك‬
‫بالله شيئا ً دخل الجنة‪ ،‬ومن مات يشرك بالله شيئا ً دخل‬
‫النار (‪.‬‬
‫وقال ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬لمعاذ‪ ) :‬يا معاذ‪ ،‬ما من‬
‫عبد يشهد أن ل إله إل ّ الله وأن محمدا ً عبده ورسوله‪،‬‬
‫صادقا ً من قلبه إل ّ حّرمه الله تعالى على النار (‬
‫) ‪(1/259‬‬

‫قال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أفل أخبر الناس فيستبشروا ؟ قال‪:‬‬


‫) إذا يّتكلوا ( فأخبر بها معاذ عند موته تأّتما ( أي مخافة‬
‫من الثم في كتمان هذا العلم‪.‬‬
‫…وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬إن الله حّرم على النار‬
‫من قال ل إله إل الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى (‪ ،‬وقال‬
‫عليه الصلة والسلم لبي هريرة رضي الله عنه‪ ) :‬اذهب‬
‫فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن ل إله إل الله‬
‫مستيقنا ً بها قلُبه فب ِ ّ‬
‫شره بالجّنة (‪.‬‬
‫…وقال عليه الصلة والسلم لمعاذ بن جبل ‪ -‬رضي الله‬
‫عنه ‪ ) :-‬يا معاذ‪ ،‬هل تدري ما حقّ الله على العباد‪ ،‬وما‬
‫حقّ العباد على الله ؟ قلت‪ :‬الله ورسوله أعلم‪ ،‬قال‬
‫ن حق الله على العباد أن يعبدوه ول يشركوا به شيئًا‪.‬‬ ‫) فإ ّ‬
‫ذب من ل يشرك به شيئا ً ل ِل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫وحق العباد على الله أن ل يع ّ‬
‫فقلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أفل أبشر الناس ؟ قال‪ ) :‬ل‬
‫كلوا (‪.‬‬ ‫شرهم فيت ّ ِ‬ ‫تب ّ‬
‫وقال ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ) :-‬المسلم إذا سئل في‬
‫القبر يشهد أن ل إله إل الله وأن محمدا ً رسول الله فذلك‬
‫ت ِفي‬ ‫مُنوا ْ ِبال َْقوْ ِ‬
‫ل الّثاب ِ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ت الل ّ ُ‬‫قوله تعالى‪ } :‬ي ُث َب ّ ُ‬
‫خَرةِ { ] إبراهيم‪،[27:‬‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا وَِفي ال ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫) ‪(1/260‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬أتاني جبريل‪ ،‬فقال‪ :‬بشر‬


‫أمتك أنه من مات ل يشرك بالله دخل الجنة‪ ،‬قلت يا‬
‫جبريل‪ ،‬وإن سرق وإن زنى ل ِل ّهِ ؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬وإن‬
‫سرق وإن زنى ؟ ل ِل ّهِ قال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬وإن سرق وإن زنى‬
‫ل ِل ّهِ ؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬وإن سرق وإن زنى ؟!‪ :‬قال نعم‬
‫وإن شرب الخمر (‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬أتاني آت من عند رّبي‬
‫فخّيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة‪،‬‬
‫فاخترت الشفاعة‪ ،‬وهي لمن مات ل يشرك بالله شيئا ً (‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬قال الله تعالى‪ :‬يا بن آدم‪،‬‬
‫إنك ما دعوتني ورجوَتني غفرت لك على ما كان منك ول‬
‫عنان السماء ثم‬ ‫أبالي‪ ،‬يا بن آدم‪ ،‬لو بلغت ذنوبك َ‬
‫استغفرتني غفرت لك‪ ،‬يا بن آدم لو أتيتني ب ُِقراب الرض‬
‫خطايا ثم لقيتني ل تشرك بي شيئا ً لتيتك بقرابها‬
‫مغفرة (‪.‬‬
‫وحديث الرجل من هذه المة الذي يصاح به فتنشر له‬
‫جل ً من الخطايا كل سجل مد ّ البصر؛‬ ‫تسعة وتسعون س ّ‬
‫فتطرح في كّفه الميزان فيقول الله تعالى‪ ) :‬إن لك عندنا‬
‫حسنة وإنه ل ظلم عليك اليوم ( فتخرج له بطاقة فيها‬
‫شهادة أن ل إله إل ّ الله فيقول الرجل‪ :‬ما هذه البطاقة‬
‫في جنب هذه السجلت فيقول الله تبارك وتعالى‪ ) :‬إنك‬
‫ل ُتظلم (‪.‬‬
‫) ‪(1/261‬‬

‫فتطرح البطاقة الك ِّفة فيرجح بها الميزان وتطيش تلك‬


‫السجلت ‪ .‬قال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬ول يثقل مع اسم‬
‫الله شيء ( ‪ -‬حديث مشهور‪.‬‬
‫وبلغنا أن رجل ً كان بعرفات وقت الحج‪ ،‬أنه أخذ سبع‬
‫حصيات فأشهدها أنه يشهد أن ل إله إل ّ الله‪ ،‬فرأى بعد‬
‫ذلك في النوم أنه وقف بين يدي الله للحساب وأنه‬
‫حوسب وأمر به إلى النار‪ ،‬فما جيء به إلى باب من‬
‫أبوابها إل ّ وجاء حجر فسد ذلك الباب‪ ،‬وقيل له‪ :‬إن هذه‬
‫هي الحجار التي أشهدتها بأنك تشهد أن ل إله إل الله‪ ،‬ثم‬
‫أمر به إلى الجنة‪ ،‬فجاءت ل إله إل الله ففتحت له أبواب‬
‫الجنة بفضل الله ورحمته(‪.‬‬
‫والحمد لله رب العالمين‪.‬‬

‫***‬
‫) ‪(1/262‬‬

‫****************‬
‫الخاتمة‬
‫مواعظ ومذكرات‬
‫****************‬
‫) ‪(1/263‬‬

‫) ‪(1/264‬‬
‫الخاتمة‬
‫ض الَغافِ ُ‬
‫ل‬ ‫معر ُ‬ ‫ظ بَها ال ُ‬ ‫ست َْيق ُ‬ ‫ت يَ ْ‬ ‫كرا ٍ‬ ‫مذ ّ‬ ‫ظ وَ ُ‬ ‫واع َ‬ ‫م َ‬‫في َ‬
‫مل على‬ ‫ه تعالى َتشت َ ِ‬ ‫شاَء الل ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ب الَعاِقل إ ِ ْ‬ ‫َويَتذك ُْر ب َِها اللبي ُ‬
‫حديث رسول الله ‪-‬‬ ‫ب الله وأحاديث من َ‬ ‫ت من ك َِتا ِ‬ ‫آيا ٍ‬
‫ب‬‫حا َ‬ ‫ص َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫صلى الله عليه وسلم ‪ ،-‬وعلى آثار تؤثر م َ‬
‫صالحين‪.‬‬ ‫ن‪ ،‬وَعََباد الله ال ّ‬ ‫ملي َ‬ ‫ماء الَعا ِ‬ ‫عن الُعل َ‬ ‫ن‪ .‬وَ َ‬ ‫َوالّتابعي َ‬
‫***‬
‫ل‬‫سِبي ِ‬ ‫…قال تبارك وتعالى لرسوله المين‪ } :‬اد ْعُ إ ِِلى َ‬
‫سن َةِ { ] النحل‪ [125:‬وقال‬ ‫ح َ‬ ‫عظ َةِ ال ْ َ‬ ‫مو ْ ِ‬‫مةِ َوال ْ َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ك ِبال ْ ِ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫ف‬‫سل َ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ه َ‬ ‫ى فَل َ ُ‬ ‫من َّرب ّهِ َفانت َهَ َ‬ ‫ة ّ‬ ‫عظ َ ٌ‬ ‫مو ْ ِ‬ ‫جاءهُ َ‬ ‫من َ‬ ‫تعالى‪ } :‬فَ َ‬
‫ُ‬
‫عاد َ فَأوْل َئ ِ َ‬ ‫َ‬
‫م ِفيَها‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬
‫كأ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫مُرهُ إ َِلى الل ّهِ وَ َ‬ ‫وَأ ْ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫ن { ] البقرة‪ ،[275:‬وقال تعالى‪ُ } :‬أول َئ ِ َ‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫م وَُقل ل ّهُ ْ‬
‫م‬ ‫عظ ْهُ ْ‬ ‫م وَ ِ‬ ‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫م فَأعْرِ ْ‬ ‫ما ِفي قُُلوب ِهِ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ي َعْل َ ُ‬
‫َ‬
‫م قَوْل ً ب َِليغا ً { ] النساء‪ [63:‬وقال تعالى‪ } :‬وَل َ ْ‬
‫و‬ ‫سه ِ ْ‬‫ِفي أنُف ِ‬
‫شد ّ ت َث ِْبيتا ً ‪-‬‬ ‫م وَأ َ َ‬ ‫خْيرا ً ل ّهُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ن ب ِهِ ل َ َ‬ ‫ظو َ‬ ‫ما ُيوعَ ُ‬ ‫م فَعَُلوا ْ َ‬ ‫أن ّهُ ْ‬
‫َ‬
‫صَراطا ً‬ ‫َ‬
‫م ِ‬ ‫ظيما ً ‪ -‬وَل َهَد َي َْناهُ ْ‬ ‫جرا ً عَ ِ‬ ‫من ل ّد ُّنا أ ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫وَِإذا ً ّلت َي َْنا ُ‬
‫ست َِقيما ً { ]النساء‪.[ 68 - 66:‬‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫) ‪(1/265‬‬

‫وقال رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ) :-‬تركت فيكم‬


‫ت؛ فأما الناطق فكتاب الله‪ ،‬وأما‬ ‫واعظين ناطقٌ وصام ٌ‬
‫الصامت فالموت (‪.‬‬
‫ض بن سارية ‪ -‬رضي الله عنه ‪ :-‬وعظنا‬ ‫وقال العِْرَبا ُ‬
‫ت منها‬ ‫جل َ ْ‬
‫رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬موعظة وَ ِ‬
‫القلوب‪ ،‬وذ ََرفت منها العيون؛ فقلنا‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬كأنها‬
‫صنا‪ .‬فقال عليه الصلة والسلم‪:‬‬ ‫دع فأو ِ‬
‫موعظة مو ّ‬
‫مر عليكم‬ ‫) أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة‪ ،‬وإن تأ ّ‬
‫عبد حبشي‪ ،‬وإنه من يعش منكم فسيرى اختلفا ً كثيرًا؛‬
‫ضوا عليها‬ ‫فعليكم بسّنتي وسّنة الخلفاء المهتدين عَ ّ‬
‫ت المور‪ ،‬فإن كل بدعة ضللة (‬ ‫بالنواجذ‪ ،‬وإّياكم ومحدثا ِ‬
‫ن الموت فيها على غيرنا‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬كأ ّ‬
‫ن الذي نشّيع‬ ‫جب‪ ،‬وكأ ّ‬‫ن الحق فيها على غيرنا و َ‬ ‫كتب‪ ،‬وكأ ّ‬ ‫ُ‬
‫سفر )‪ (1‬عما قليل راجعون‪ ،‬نبوُّئهم أجداَثهم‪،‬‬ ‫من الموات َ‬
‫مخّلدون من بعدهم‪ ،‬قد نسينا كل‬ ‫ونأكل ُتراثهم )‪(2‬؛ كأّنا ُ‬
‫مّنا كل جائحة (‪.‬‬ ‫موعظة‪ ،‬وأ ِ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬من خاف أدلج ومن أدلج بلغ‬
‫سْلعة الله غالية‪ ،‬أل إن سلعة الله الجنة (‪.‬‬ ‫المنزل‪ ،‬أل إن ِ‬
‫__________‬
‫سْفر ‪ -‬بفتح فسكون ‪ :-‬المسافر‪ .‬يقال‪ :‬رجل سفر‬ ‫)‪ (1‬ال ّ‬
‫وقوم سفر‪.‬‬
‫)‪ (2‬الجداث‪ :‬القبور والتراث ما يخلفه الميت‪.‬‬
‫) ‪(1/266‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬يا أيها الناس‪ ،‬توبوا إلى الله‬
‫قبل أن تموتوا‪ ،‬وبادروا بالعمال الصالحة قبل أن ُتشغلوا‪،‬‬
‫صلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له (‪.‬‬ ‫و ِ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬إن روح القدس نفيث في‬
‫ُروعي‪ :‬عش ما عشت فإنك ميت‪ ،‬وأحِبب من أحببت‬
‫فإنك مفارقه‪ ،‬واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به (‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬كن في الدنيا كأنك غريب أو‬
‫سك من أهل القبور (‪.‬‬ ‫عابر سبيل‪ ،‬وعُد ّ نف َ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬اغتنم خمسا ً قبل خمس‪:‬‬
‫شبابك قبل هََرمك‪ ،‬وصحتك قبل سقمك وغناك بل فقرك‪،‬‬
‫وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك (‪.‬‬
‫طع‬‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬بادروا بالعمال فِت ًَنا كق َ‬
‫الليل المظلم‪ ،‬يصبح الرجل فيها مؤمنا ً ويمسي كافرًا‪،‬‬
‫ويمسي مؤمنا ً ويصبح كافرًا‪ ،‬يبيع دينه بعََرض يسير من‬
‫الدنيا (‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬كفى بالموت واعظًا‪ ،‬كفى‬
‫باليقين ِغًنى‪ ،‬وكفى بالعبادة شغل ً ( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬لو تعلمون ما أعلم َلضحكتم‬
‫قليل ً وَلبكيتم كثيرًا‪ ،‬وما تلذذتم بالنساء على الفرش‪،‬‬
‫دات تجأرون إلى الله (‪ .‬والصعدات‪:‬‬ ‫صع ُ َ‬
‫ولخرجتم إلى ال ّ‬
‫هي الطرق‪ .‬وتجأرون‪ :‬أي تتضرعون‪.‬‬
‫) ‪(1/267‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬ما من صباح يصبح العباد‬


‫ط منِفقا ً‬‫فيه إل ّ وملكان ينزلن فيقول أحدهما‪ :‬اللهم اع ِ‬
‫ط ممسكا ً تلفا ً (‪.‬‬ ‫م أع ِ‬‫خَلفًا‪ ،‬ويقول الخر‪ :‬الّله ّ‬ ‫َ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬استحيوا من الله حق‬
‫الحياء‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنا نستحي والحمد لله‪ ،‬فقال عليه الصلة‬
‫س‬
‫ظ الرأ َ‬ ‫حِف َ‬
‫والسلم‪ ) :‬من استحيى من الله حق الحياء َ‬
‫عى‪ ،‬وحفظ البطن وما حوى‪ ،‬وذكر الموت والب َِلى‪.‬‬ ‫وما و َ‬
‫ومن أراد الخرة ترك زينة الحياة الدنيا‪ ،‬ومن فعل ذلك‬
‫فقد استحيا من الله حق الحياء (‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬ما منكم من أحد إل ّ سيكّلمه‬
‫ن منه فل يرى إل ّ‬ ‫م َ‬ ‫ربه ليس بينه وبينه ترجمان‪ ،‬فينظر أي ْ َ‬
‫دم‪ ،‬وينظر أشأم منه فل يرى إل ّ ما قدم‪ ،‬وينظر بين‬ ‫ما ق ّ‬
‫شق‬ ‫يديه فل يرى إل ّ النار تلقاء وجهه؛ فاتقوا النار ولو ب ِ‬
‫تمرة (‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬بادروا بالعمال سبعًا‪ ،‬هل‬
‫مْنسًيا‪ ،‬أو غنى مطغيًا‪ ،‬أو مرضا ً مفسدًا‪،‬‬ ‫تنتظرون إل ّ فقرا ً ُ‬
‫مجِهزًا‪ ،‬أو الدجال فشر غائب‬ ‫مفندًا‪ ،‬أو موتا ً ُ‬ ‫أو هرما ً ُ‬
‫ينتظر‪ ،‬أو الساعة فالساعة أدهى وأمر (‪،‬‬
‫) ‪(1/268‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬أنا النذير والموت المغير‬


‫والساعة الموعد (‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم لعقبة بن عامر رضي الله عنه‪:‬‬
‫) أمسك عليك لسانك‪ ،‬وْليسعك بيُتك‪ ،‬واب ْ ِ‬
‫ك على‬
‫خطيئتك (‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬قد أفلح من أسلم وُرِزق‬
‫كفافا ً وقّنعه بما آتاه (‪.‬‬
‫ت ثلث‪ :‬أهله‪،‬‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬يتبع المي َ‬
‫وماله‪ ،‬وعمله‪ .‬فيرجع اثنان ويبقى واحد‪ ،‬يرجع أهله وماله‪،‬‬
‫ويبقى عمله (‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬يقول العبد مالي مالي ؟‬
‫وإنما له من ماله ثلث‪ :‬ما أكل فأفنى‪ ،‬أو لبس فأبلى‪ ،‬أو‬
‫أعطى فأبقى وما سوى ذلك فهو ذاهب وتارك للناس (‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬الدنيا داُر من ل دار له‪،‬‬
‫ومال من ل مال له ولها يجمع من ل عقل له (‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬ل تزول قدما عبد يوم‬
‫القيامة حتى ُيسأل عن أربع‪ :‬عن عمره فيم أفناه‪ ،‬وعن‬
‫عمله ماذا عمل فيه‪ ،‬وعن ماله من أين اكتسبه‪ ،‬وفيم‬
‫أنفقه‪ ،‬وعن جسمه فيم أبله (‪.‬‬
‫حفت‬ ‫حّفت الجنة بالمكاره و ُ‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم‪ُ ) :‬‬
‫النار بالشهوات(‬
‫) ‪(1/269‬‬

‫ت قريب‪ ،‬والبعيد ما‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬كل آ ٍ‬


‫ليس بآت (‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪ ) :‬ما بعد الموت‬
‫من مستعتب‪ ،‬وما بعد الدنيا من دار إل ّ الجنة أو النار (‪.‬‬
‫صديق ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬لما اسُتخِلف‪ :‬إني‬ ‫وقال أبوبكر ال ّ‬
‫قد وليت أمركم ولست بأخيركم‪ ،‬وإن أقواكم عندي‬
‫ف حتى آخذ له الحق‪ ،‬وأضعَفكم عندي القويّ حتى‬ ‫الضعي ُ‬
‫آخذ الحق منه‪ :‬فإذا أحسنت ‪ -‬أو قال استقمت ‪-‬‬
‫وموني‪.‬‬ ‫فأعينوني‪ ،‬وإذا رأيتموني زغت فق ّ‬
‫ت نفسه في ذات الله عّز‬ ‫مَق َ‬
‫وقال ‪ -‬رضي الله عنه ‪ :-‬من َ‬
‫منه الله من مقته‪.‬‬ ‫وج ّ‬
‫لأ ّ‬
‫وعن أم المؤمنين حفصة بنت عمر ‪ -‬رضي الله عنهما ‪-‬‬
‫أنها قالت لبيها‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬ما عليك لو لبست ثوبا ً‬
‫ألين من ثوبك هذا ؟ أو أكلت طعاما ً غير هذا وقد فتح الله‬
‫عليك الرض‪ ،‬وأوسع لك الرزق ؟ فقال‪ :‬إني سأخاصمك‬
‫إلى نفسك أما تعلمين ما كان يلقى رسول الله ‪ -‬صلى‬
‫كرها حتى‬ ‫الله عليه وسلم ‪ -‬من شدة العيش ؟ فما زال ُيذ ّ‬
‫ك إنه كان لي صاحبان سلكا طريقًا‪،‬‬ ‫أبكاها ثم قال‪ :‬قلت ل ِ‬
‫سِلك بي غير طريقهما‪،‬‬ ‫وإني إن سلكت غير طريقهما ُ‬
‫) ‪(1/270‬‬

‫وإني والله لشركّنهما في مثل عيشهما الشديد َلعّلي‬


‫ي‪ ،‬يعني بصاحبيه‪ :‬رسول الله ‪ -‬صلى‬ ‫خ ّ‬‫أدرك عيشهما الر ِ‬
‫الله عليه وسلم ‪ ،-‬وأبا بكر ‪ -‬رضي الله عنه ‪.-‬‬
‫وعن أنس ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬قال‪ :‬لما َقتل البغاة‬
‫المعتدون عثمان بن عفان ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬دخلوا‬
‫خزائنه‪ ،‬فوجدوا فيها صندوقًا‪ ،‬فقالوا‪ :‬هذا ما اختاره من‬
‫ة فقالوا‪ :‬فيها‬ ‫َفيْء المسلمين‪ ،‬فكسروه فوجدوا فيه ُ‬
‫حّق ً‬
‫جواهر‪ ،‬فكسروها‪ ،‬فوجدوا فيها ورقة مكتوبا ً فيها‪ :‬عثمان‬
‫يشهد أن ل إله إل ّ الله وحده ل شريك له وأن محمدا ً عبده‬
‫ورسوله‪ ،‬وأن الساعة آتية ل ريب فيها‪ ،‬وأن الله يبعث من‬
‫في القبور‪ ،‬عليها نحيا وعليها نموت‪ ،‬ووجدوا في ظهرها‬
‫مكتوبًا‪:‬‬
‫سها حتى‬ ‫س حتى يك ُّفها ‪ ...‬وإن م ّ‬ ‫ِغَنى النفس ُيغِني النف َ‬
‫يضّر بها الفقُر‬
‫من بعدها‬ ‫عسرةٌ فاصب ِْر لها إن ل َِقي ْت ََها ‪ ...‬بكائنةٍ إل ّ و ِ‬ ‫فما ُ‬
‫سُر‬
‫يُ ْ‬
‫قط في أيدي القوم‪ .‬وقال عبد الله بن سلم ‪-‬‬ ‫ُ‬
‫قال‪ :‬فأس ِ‬
‫حط عثمان في الموت‬ ‫رضي الله عنه ‪ -‬لمن حضر تش ّ‬
‫حط في الموت ؟‬ ‫حين جرح‪ :‬ماذا قال عثمان وهو يتش ّ‬
‫م اجمع محمد ‪ -‬صلى الله عليه‬ ‫قالوا‪ :‬سمعناه يقول‪ :‬الله ّ‬
‫وسلم ‪ ،-‬ثلثًا؛ ثم قال‪ :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬لو قال‪ :‬ل‬
‫يجتمعون أبدًا‪ ،‬ما اجتمعوا إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫) ‪(1/271‬‬

‫وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ‪ -‬كّرم الله وجهه‬


‫‪ :-‬ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ؟ ولكن الخير أن يكثر‬
‫علمك ويعظم عملك‪ ،‬وأن ل تباهي الناس بعبادة ربك‪:‬‬
‫فإن أحسنت حمدت الله‪ ،‬وإن أسأت استغفرت الله‪ ،‬ول‬
‫خير في الدنيا إل لحد رجلين‪ ،‬رجل أذنب ذنبا ً فهو يتدارك‬
‫ذلك‪ ،‬ورجل يسارع في الخير‪.‬‬
‫…وقال ‪ -‬رضي الله عنه ‪ :-‬احفظوا عني خمسا ً فلو ركبتم‬
‫موهن )‪ (1‬قبل أن تدركوهن‪ :‬ل‬ ‫البل في طلبهن لنضيت ُ‬
‫يرجو عبد إل ّ ربه‪ ،‬ول يخاف إل ّ ذنبه‪ ،‬ول يستحي جاهل أن‬
‫يسأل‪ ،‬ول يستحي عالم إذا سئل عما ل يعلم أن يقول‪:‬‬
‫الله أعلم‪ ،‬والصبر من اليمان بمنزلة الرأس من الجسد‪،‬‬
‫ول إيمان لمن ل صبر له‪.‬‬
‫وقال ‪ -‬رضي الله عنه ‪ :-‬التقوى ترك الصرار على‬
‫المعصية‪ ،‬وترك الغترار بالطاعة‪.‬‬
‫__________‬
‫َ‬
‫)‪ (1‬أنضيتموهن‪ :‬أهزلتموهن‪.‬‬
‫) ‪(1/272‬‬

‫وقال ‪ -‬رضي الله عنه ‪ :-‬أشد ّ العمال ثلثة‪ :‬إعطاء الحق‬


‫من نفسك‪ ،‬وذكر الله على كل حال‪ ،‬ومواساة الخ‬
‫بالمال‪.‬‬
‫وقال ضرار بن ضمرة الكناني ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في وصفه‬
‫حين وصف لمعاوية‪ :‬وأشهد بالله لقد رأيته في بعض‬
‫سدوَله وغارت نجومه‪ ،‬يتململ‬ ‫ل ُ‬‫مواقفه‪ ،‬وقد أرخى اللي ُ‬
‫في محرابه‪ ،‬قابضا ً على لحيته تململ السليم )‪ (1‬ويبكي‬
‫بكاء الحزين‪ ،‬وكأني أسمعه الن وهو يقول‪ :‬يا ربنا‪ ،‬يا ربنا‪،‬‬
‫ي‬
‫ت أم إل ّ‬
‫ي وتعرض ِ‬ ‫يتضرع إليه‪ .‬ثم يقول‪ :‬يا دنيا إل ّ‬
‫ك ثلثا ً‬ ‫ت ؟ هيهات هيهات ل ِل ّهِ غُّري غيري‪ ،‬قد طلقت ِ‬ ‫تشوف ِ‬
‫ك كثير‪.‬‬ ‫ك حقير وخطر ِ‬ ‫ك قصير‪ ،‬وعيش ِ‬ ‫ل َرجعة فيها؛ فعمر ِ‬
‫آه آه من قلة الزاد‪ ،‬وبعد السفر ووحشة الطريق‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ت دموع معاوية على لحيته ما يمِلكها‪.‬‬ ‫فوك ََف ْ‬
‫وعن عمر ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬قال‪ :‬نظر النبي ‪ -‬صلى الله‬
‫عمير مقبل ً وعليه إهاب‬ ‫مصعب بن ُ‬ ‫عليه وسلم ‪ -‬إلى ُ‬
‫كبش قد تمنطق به‪ ،‬فقال النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم‬
‫ور الله قلبه ل ِل ّهِ لقد‬‫‪ ) :-‬انظروا إلى هذا الرجل الذي قد ن ّ‬
‫رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشرب‪ ،‬فدعاه‬
‫حب الله وحب رسوله إلى ما ترون (‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬السليم‪ :‬الملدوغ‪.‬‬
‫) ‪(1/273‬‬

‫ت )‪ - (1‬رضي الله عنه ‪ -‬فعاده نفر‬ ‫َ‬


‫ومرض خّباب بن الَر ْ‬
‫من الصحابة ‪ -‬رضوان الله عليهم أجمعين ‪ ،-‬فقالوا‪ :‬أبشر‬
‫كى وقال‪ :‬أما‬ ‫يا أبا عبد الله‪ .‬إخوانك تقدم عليهم غدًا؛ فب َ َ‬
‫كرتموني أقواما ً وسميتم لي‬ ‫إنه ليس بي جزع‪ ،‬لكن ذ ّ‬
‫إخوانًا‪ ،‬وإن أولئك مضوا بأجورهم كما هي‪ ،‬وإني أخاف أن‬
‫يكون ثواب ما تذكرون من تلك العمال ما أوتيناه من‬
‫بعدهم ) يريد من أمور الدنيا (‪.‬‬
‫وقال‪ :‬عبد الله بن مسعود )‪ - (2‬رضي الله عنه ‪ :-‬حّبذا‬
‫م الله! إن هو إل الغنى و‬ ‫المكروهان ‪ :‬الموت والفقر‪ ،‬و أي ُ‬
‫الفقر‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬ابن جندلة‪ .‬أسلم سادس ستة‪ .‬وعذب لسلمه عذابا ً‬
‫شديدًا‪ ،‬وشهد المشاهد كلها‪ .‬ونزل الكوفة ومات بها سنة‬
‫ي‪ .‬وكان‬‫‪ 37‬منصرف علي من صفين‪ ،‬وصلى عليه عل ّ‬
‫مرضه شديدا ً حتى كاد أن يتمنى الموت لول النهي عنه‪.‬‬
‫)‪ (2‬أسلم قديمًا‪ ،‬وهاجر الهجرتين؛ وشهد بدرا ً والمشاهد‬
‫دث عنه‬ ‫بعدها‪ ،‬ولزم النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ،-‬وح ّ‬
‫كثيرًا‪ ،‬وكان صاحب سره وسواكه ونعليه وطهوره في‬
‫السفر‪ .‬وكان يشبه النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬في‬
‫هديه وسمته‪ ،‬وهو أول من جهر بالقرآن‪ ،‬وأجهز على أبي‬
‫جهل يوم بدر‪ ،‬وتوفي بالمدينة سنة ‪32‬هـ‪.‬‬
‫) ‪(1/274‬‬

‫وما أبالي بأيهما ب ُِليت! ل ِل ّهِ إن حق الله في كل واحد عنها‬


‫واجب ل ِل ّهِ إن كان الغنى إ ّ‬
‫ن فيه العطف‪ ،‬وإن كان الفقر‬
‫ن فيه الصبر‪ ،‬وقال‪ :‬وما أبالي إذا رجعت إلى أهلي على‬ ‫إ ّ‬
‫أي حال أراهم بسّراء أم بضّراء‪ ،‬وما أصبحت على حالة‬
‫فتمنيت أني على سواها‪.‬‬
‫وقال‪ :‬إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه ِديُنه‪ ،‬فيخرج‬
‫ول دين له‪ .‬فقيل له‪ :‬لم ذلك ؟ قال‪ :‬لنه يرضيه بما‬
‫ه تعالى‪.‬‬
‫خط الل َ‬‫ُيس ِ‬
‫وقال المام الغزالي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ :-‬وذلك لن‬
‫الداخل على السلطان معّرض لن يعصي الله تعالى‪ ،‬إما‬
‫بفعله وإما بسكوته وإما باعتقاده‪ ،‬ول ينفك عن أحد هذه‬
‫المور‪.‬‬
‫مار بن ياسر)‪ - (1‬رضي الله عنهما ‪ -‬طوي َ‬
‫ل‬ ‫وكان ع ّ‬
‫الصمت‪_________________ ،‬‬
‫)‪ (1‬من بني ثعلبة بن عوف‪ .‬من السابقين الولين‪ .‬وقد‬
‫عذب لسلمه هو َوأبوه وأمه‪ .‬وكان ‪ -‬صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ -‬يمر بهما وهما يعذبان فيقول‪ :‬صبرا ً آل ياسر‬
‫موعدكم الجنة (‪ .‬شهد المشاهد كلها‪ ،‬واستعمله عمر‬
‫على الكوفة‪ .‬وهو الذي أخبره الرسول ‪ -‬صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ -‬بأنه ستقتله الفئة الباغية‪ .‬وقد قتل مع علي‬
‫بصفين في شهر ربيع سنة ‪ 37‬ه‪ -‬عن ‪ 93‬سنة‪ .‬رضي الله‬
‫عنه‪.‬‬
‫) ‪(1/275‬‬

‫ل الحزن والبكاء‪ ،‬وكان عامة كلمه عياذا ً بالله من‬ ‫طوي َ‬


‫الفتنة‪.‬‬
‫ولما بنى عبد الله بن مسعود ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬داره قال‬
‫مار ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬هلم انظر إلى ما بنيت؛ فانطلق‬ ‫لع ّ‬
‫ملت بعيدًا‪ ،‬وتموت‬ ‫مار فنظر إليه فقال‪ :‬بنيت مشيدًا‪ ،‬وأ ّ‬ ‫ع ّ‬
‫قريبًا‪.‬‬
‫ودخل معاذ بن جبل )‪ - (1‬رضي الله عنه ‪ -‬على رسول‬
‫الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ،-‬فقال له‪ ) :‬كيف أصبحت يا‬
‫معاذ ؟ فقال‪ :‬أصبحت بالله مؤمنًا‪ ،‬فقال إن لكل قول‬
‫مصداقًا‪ ،‬ولكل حق حقيقة‪ ،‬فما مصداق ما تقول ؟ فقال‪:‬‬
‫يا رسول الله ‪ -‬ما أصبحت صباحا ً قط إل ّ ظننت أني ل‬
‫ُأمسي‪ ،‬ول أمسيت مساًء قط إل ّ ظننت أني ل ُأصبح‪ ،‬ول‬
‫خطوةً قط إل ّ ظننت أني ل أتبعها أخرى‪ ،‬وكأني‬ ‫خطوت ُ‬
‫ة تدعى إلى كتابها‪ ،‬معها نبّيها‬ ‫أنظر إلى كل أمة‪ ،‬جاثي ً‬
‫ل‪ ،‬وكأني‬ ‫وأوثانها التي كانت تعبد من دون الله عّز وج ّ‬
‫أنظر إلى عقوبة أهل النار وثواب أهل الجنة؛ فقال صلى‬
‫م (‪.‬‬
‫ت فالَز ْ‬‫الله عليه وسلم ‪) :‬قد عرف َ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬النصاري الخزرجي‪ ،‬المام المقدم في علم الحلل‬
‫مره رسول الله ‪ -‬صلى‬ ‫والحرام‪ .‬شهد المشاهد كلها‪ ،‬وأ ّ‬
‫الله عليه وسلم ‪ -‬على اليمن‪ .‬وهو ممن جمع القرآن‬
‫توفي بالطاعون في الشام سنة ‪17‬هـ عن ‪34‬سنة‪.‬‬
‫) ‪(1/276‬‬

‫وقال عتبة بن غزوان )‪ (1‬في خطبته بالبصرة‪ :‬إن الدنيا‬


‫صبابة‬‫صْرم‪ ،‬وولت حذاء )‪ ،(2‬ولم يبق منها إل ّ ُ‬ ‫تب َ‬‫قد آذن َ‬
‫كصبابة الناء يتصاّبها صاحبها‪ ،‬وإنكم منتقلون منها إلى دار‬
‫قرار‪ ،‬فانتقلوا بخير ما يحضرّنكم‪ .‬ولقد بلغني أن ما بين‬
‫مصراعين من مصاريع الجّنة مسيرة أربعين عامًا‪ .‬وليأتين‬
‫عليه يوم وهو كظيظ من الزحام‪ ،‬ولقد بلغني أن صخرة‬
‫لو هوت من شفير جهنم هوت سبعين خريفا ً أفعجبتم ؟‬
‫ولقد رأيُتني وسعد َ بن مالك وإني لسابع سبعة مع رسول‬
‫الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬ما لنا طعام إل ّ ورق‬
‫صبت ُبردة فشققتها بيني‬ ‫َ‬
‫الشجر‪ ،‬حتى قرحت أشداقنا‪ ،‬وأ َ‬
‫وبين سعد بن مالك‪ ،‬فما من أولئك السبعة إل ّ أمير على‬
‫صر‪ .‬أل وإنكم ستجّربون المراء بعدي‪ .‬وفي رواية‪ :‬إني‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬
‫أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما ً وفي أنفس الناس‬
‫صغيرًا‪ ،‬وستجربون المراء بعدي‪ .‬قال الحسن‪ :‬فجربناهم‬
‫فوجدناهم أنتانًا‪.‬‬
‫سعد بن مالك‪ :‬هو سعد بن أبي وقاص ‪ -‬رضي الله عنه‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬ابن جابر الحارثي المازني‪ ،‬باني البصرة‪ .‬أسلم قديمًا‪.‬‬
‫وهاجر إلى الحبشة‪ ،‬وشهد بدرا ً والقادسية‪ .‬وولي البصرة‬
‫صَرها‪ .‬توفي سنة ‪ 17‬ه‪.-‬‬ ‫فم ّ‬
‫)‪ (2‬آذنت‪ :‬أعلمت وأخبرت‪ .‬وصرم ‪ -‬بفتح فسكون ‪:-‬‬
‫انقطاع‪ .‬وحذاء‪ :‬بمعناه‪.‬‬
‫) ‪(1/277‬‬

‫وقال سلمان الفارسي )‪ - (1‬رضي الله عنه ‪ :-‬ثلث‬


‫أعجبتني حتى ضحكت‪ :‬مؤمل الدنيا والموت يطلبه‪،‬‬
‫وغافل وليس مغفول ً عنه‪ ،‬وضاحك ملء فيه ول يدري‬
‫أساخط رب العالمين أم راض‪ .‬وثلث أحزنتني حتى‬
‫ه‪ ،‬وهول‬ ‫رين وحزب ِ ِ‬
‫بكيت‪ :‬فراق محمد سيد الولين والخ ِ‬
‫ل‪ ،‬ول أدري‬ ‫المطلع‪ ،‬والوقوف بين يدي الله عّز وج ّ‬
‫ف بي إلى الجنة أم إلى النار‪.‬‬
‫صر ُ‬‫أين َ‬
‫وقال حذيفة بن اليمان )‪ - (2‬رضي الله عنه ‪ :-‬إن الرجل‬
‫َليدخل المدخل الذي يجب عليه أن يتكلم فيه لله تعالى‬
‫فل يتكلم‪ ،‬فل يعود قلبه إلى ما كان عليه أبدًا‪ .‬وقال ليأتي ّ‬
‫ن‬
‫على الناس زمان ل ينجو فيه إل ّ من دعا بدعاء كدعاء‬
‫الغريق‪.‬‬
‫وقال رجل لبي الدرداء )‪ - (3‬رضي الله عنه ‪ :-‬أوصني؛‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬هو سلمان الخير‪ .‬كان عالما ً زاهدًا‪ .‬شهد الخندق‬
‫وبقية المشاهد وفتوح العراق‪ ،‬وولي المدائن‪ ،‬كان يأكل‬
‫من كسب يده ويتصدق بعطائه‪ .‬توفي سنة ‪36‬هـ‪.‬‬
‫)‪ (2‬العبسي‪ :‬من كبار الصحابة‪ .‬أسلم هو وأبوه‪.‬‬
‫واستعمله عمر على المدائن وتوفي بها سنة ‪ 36‬ه‪.-‬‬
‫)‪ (3‬اسمه عويمر‪ ،‬أو عامر النصاري الخزرجي‪ .‬أسلم يوم‬
‫بدر‪ ،‬وشهد أحدا ً وأبلى فيها‪ ،‬وقال ‪ -‬صلى الله عليه وسلم‬
‫س عويمر‪ .‬وتولى قضاء دمشق في عهد‬ ‫‪ِ :-‬نعم الفار ُ‬
‫عمر‪ ،‬وتوفي سنة ‪32‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/278‬‬

‫ل في السراء يذكرك في الضراء‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬اذكر الله عّز وج ّ‬


‫وإذا أشرفت على شيء من الدنيا فانظر إلى ماذا يصير‪.‬‬
‫م الكياس وإفطارهم‪،‬‬ ‫وقال ‪ -‬رضي الله عنه ‪ :-‬حبذا نو ُ‬
‫مهم ل ِل ّهِ وَلذرة من ذي‬‫كيف يغبنون سهَر الحمقى وصيا َ‬
‫يقين وتقوى من الّبر‪ ،‬خير من أمثال الجبال من أعمال‬
‫المغترين‪.‬‬
‫ولما مات زين العابدين علي بن الحسين )‪ - (1‬رضي الله‬
‫ل بيت‪ ،‬وكان إذا أقرض‬ ‫عنهما ‪ -‬وجدوه يعول مائة أه ِ‬
‫قرضا ً لم يستعده‪ ،‬وإذا أعار ثوبا ً لم يرجعه‪ ،‬وإذا وعد‬
‫إنسانا ً ل يأكل ول يشرب حتى يوفي بوعده‪ ،‬وإذا مشى‬
‫في حاجة فوقفت قضاها من ماله‪ ،‬وكان يحج ويغزو ول‬
‫يضرب راحلته‪ ،‬وكان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة‪.‬‬
‫وقال الباقر محمد بن علي )‪ - (2‬رضي الله عنهما ‪ :-‬ما‬
‫الدنيا وما عسى أن تكون؟ هل هي إل ّ ثوب لبسَته‪،‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬هو المام علي بن الحسين سبط رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم توفي بالمدينة سنة ‪94‬هـ‪ ،‬ودفن بجانب‬
‫قبر عمه الحسن‪ ،‬رضي الله عنهما‪.‬‬
‫)‪ (2‬هو المام محمد بن علي زين العابدين‪ .‬كان من‬
‫ساك‪ .‬توفي سنة ‪114‬هـ ودفن بالمدينة‪.‬‬ ‫الن ّ‬
‫) ‪(1/279‬‬

‫أو مركب ركبته‪ ،‬أو امرأة أصبَتها !؟ وقال ‪ -‬رحمه الله ‪:-‬‬
‫ظمه‬ ‫كان لي صاحب وكان عظيما ً في عيني‪ ،‬وكان الذي ع ّ‬
‫في عيني صغر الدنيا في عينه‪.‬‬
‫ل والضجَر‪،‬‬ ‫ي‪ ،‬إياك والكس َ‬ ‫وقال ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬لبنه‪ :‬يا ُبن ّ‬
‫فإنهما مفتاح كل شر؛ فإنك إذا كسلت لم تؤد حًقا‪ ،‬وإذا‬
‫ضجرت لم تصبر على حق‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى لجعفر الصادق‬
‫دثنا‪ ،‬فقال‪ :‬إذا أنعم عليك بنعمة‬ ‫رضي الله عنه ‪ :‬ح ّ‬
‫فأحببت بقاءها فأكثر من الحمد والشكر عليها لله عّز‬
‫َ‬ ‫ل؛ قال الله تعالى‪ } :‬ل َِئن َ‬
‫م{‬ ‫م لِزيد َن ّك ُ ْ‬ ‫شك َْرت ُ ْ‬ ‫وج ّ‬
‫] إبراهيم‪ .[7 :‬وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الستغفار؛‬
‫ل‬
‫س ِ‬ ‫ن غَّفاًرا * ي ُْر ِ‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫ست َغِْفُروا َرب ّك ُ ْ‬
‫م إ ِن ّ ُ‬ ‫قال الله تعالى‪ } :‬ا ْ‬
‫َ‬
‫جع َ ْ‬
‫ل‬ ‫ن وَي َ ْ‬
‫ل و ب َِني َ‬
‫وا ٍ‬ ‫م َ‬
‫م ب ِأ ْ‬‫مدِد ْك ُ ْ‬‫مد َْراًرا * وَي ُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ماَء عَل َي ْك ُ ْ‬
‫س َ‬‫ال ّ‬
‫َ‬
‫م أن َْهاًرا { ] نوح‪ .[ 12 -10:‬وإذا‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬
‫جع َ ْ‬‫ت وَي َ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬
‫م َ‬‫ل َك ُ ْ‬
‫أحزنك أمر من السلطان أو غيره فأكثر من ) ل حول ول‬
‫قوة إل ّ بالله العلي العظيم ( فإنها مفتاح الفرج‪ ،‬وكنز من‬
‫جب‬ ‫ُ‬
‫كنوز الجنة وقال ‪ -‬رضي الله عنه ‪ :-‬عجبت لمن أع ِ‬
‫بأمر نفسه‪ ،‬كيف ل يقول ما شاء الله ل قوة إل بالله ؟‬
‫ه َل‬ ‫شاء الل ّ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ت َ‬‫ك قُل ْ َ‬ ‫جن ّت َ َ‬
‫ت َ‬ ‫خل ْ َ‬ ‫والله يقول‪ } :‬وَل َوَْل إ ِذ ْ د َ َ‬
‫قُوّةَ إ ِّل ِبالل ّهِ { ] الكهف‪ [18/39 :‬وعجبت لمن خاف قوما ً‬
‫كيف ل يقول‪ :‬حسبنا الله ونعم الوكيل‪،‬‬
‫) ‪(1/280‬‬

‫س قَد ْ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫س إِ ّ‬ ‫م الّنا ُ‬ ‫ل ل َهُ ُ‬ ‫ن َقا َ‬ ‫ذي َ‬ ‫والله تعالى يقول‪ } :‬ال ّ ِ‬
‫م { ] آل عمران‪ [ 173:‬إلى قوله‬ ‫شوْهُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫م َفا ْ‬ ‫مُعوا ْ ل َك ُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫َ‬
‫سوٌء { ] آل عمران‪.[ 174:‬‬ ‫م ُ‬ ‫سه ُ ْ‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ّ‬
‫تعالى‪ } :‬ل ْ‬
‫ري إ َِلى‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م ِ‬‫ضأ ْ‬ ‫كر به كيف ل يقول‪ } :‬وَأفَوّ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫وعجبت لمن ُ‬
‫صيٌر ِبال ْعَِباد ِ { ] غافر‪ [44:‬إلى قوله تعالى‪:‬‬ ‫ه بَ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫الل ّهِ إ ِ ّ‬
‫مك َُروا { ] غافر‪.[ 45:‬‬ ‫ما َ‬ ‫ت َ‬ ‫سي َّئا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫} فَوََقاهُ الل ّ ُ‬
‫َ‬
‫ت‬ ‫ه إ ِّل أن َ‬ ‫م كيف ل يقول‪ّ } :‬ل إ ِل َ َ‬ ‫وعجبت لمن أصابه غ ّ‬
‫ن { ] النبياء‪ [ 87:‬إلى‬ ‫مي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫كن ُ‬ ‫ك إ ِّني ُ‬ ‫حان َ َ‬‫سب ْ َ‬ ‫ُ‬
‫ن{‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬‫جي ال ْ ُ‬ ‫ك ُنن ِ‬‫م وَك َذ َل ِ َ‬ ‫ن ال ْغَ ّ‬ ‫م َ‬‫جي َْناهُ ِ‬ ‫قوله تعالى‪ } :‬وَن َ ّ‬
‫] النبياء‪.[88 :‬‬
‫وقال رجل لعمَر ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ :-‬أوصني‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ل التي ل يقبل غيرها‪ ،‬ول يرحم‬ ‫أوصيك بتقوى الله عّز وج ّ‬
‫ب إل ّ عليها‪ ،‬فإن الواعظين بها كثير‪،‬‬ ‫إل ّ أهلها‪ ،‬ول يثي ُ‬
‫والعاملين بها قليل‪ .‬وقال ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬في خطبته‪ :‬أما‬
‫ب الهالكين‪ ،‬وسيتركها‬ ‫بعد‪ ،‬فإن ما في أيديكم أسل ُ‬
‫الباقون كما تركها الماضون‪ ،‬أل ترون أنكم في كل يوم‬
‫وليلة تشيعون غاديا ً ورائحا ً إلى الله تعالى‪ ،‬وتضعونه في‬
‫سد‪ ،‬قد خلع السباب‬ ‫صدع من الرض غير ممهد ول مو ّ‬ ‫َ‬
‫وفارق الحباب‪،‬‬
‫) ‪(1/281‬‬
‫ي‬ ‫ُ‬
‫كن التراب وواجه الحساب‪ ،‬فقير لما قدم أمامه‪ ،‬غن ّ‬ ‫وأس ِ‬
‫عما ترك بعدن‪ .‬أما والله إني لقول لكم هذا وما أعرف‬
‫من أحد من الناس مثل ما أعرف من نفسي‪ .‬ثم قال‬
‫بطرف ثوبه على عينيه وبكى؛ فكانت هذه آخَر خطبة‬
‫خطبها‪.‬‬
‫وام‬
‫وقال الحسن البصري ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬إن المؤمن ق ّ‬
‫ف الحساب‬ ‫ل‪ ،‬إنما خ ّ‬ ‫على نفسه يحاسب نفسه لله عّز وج ّ‬
‫يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا‪ ،‬وإنما‬
‫يشق الحساب على قوم أخذوا هذا المر من غير‬
‫محاسبة‪ .‬إن المؤمن يفجؤهُ الشيء يعجبه فيقول‪ :‬والله‬
‫إني لحبك وإني محتاج إليك‪ ،‬ولكن والله ما من ُوصلة‬
‫إليك‪ ،‬وهيهات‪ ،‬حيل بيني وبينك‪ .‬ويفُرط منه الشيء‬
‫فيرجع إلى نفسه فيقول‪ :‬ما أردت بهذا‪ ،‬مالي ولهذا؛ والله‬
‫ل أعود إلى مثل هذا أبدا ً إن شاء الله تعالى‪ ،‬وإن‬
‫المؤمنين قد أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هل َك َِتهم‪،‬‬
‫وإن المؤمن أسيٌر في الدنيا يسعى في فكاك رقبته‪ ،‬ل‬
‫يأمن شيئا ً حتى يلقى الله تعالى‪ ،‬يعلم أنه مأخوذ عليه في‬
‫سمعه وبصره‪ ،‬ولسانه وجوارحه‪.‬‬
‫وقال ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬إنك ل تصيب حقيقة اليمان حتى ل‬
‫تعيب الناس بعيب هو فيك‪ ،‬وحتى تبدأ بصلح ذلك العيب‬
‫من نفسك فتصلحه‪،‬‬
‫) ‪(1/282‬‬

‫ت ذلك لم تصلح عيبا ً إل ّ وجدت عيبا ً آخر لم‬


‫فإذا فعل َ‬
‫تصلحه‪ ،‬فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك‪،‬‬
‫وأحب العباد إلى الله تعالى من كان كذلك‪ ،‬وما سمع‬
‫الخلئق بيوم قط أكثر عورةٍ بادية ول عين باكيةٍ من يوم‬
‫القيامة‪.‬‬
‫وقال ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬ويحك يا ابن آدم هل لك بمحاربة الله‬
‫طاقة ل ِل ّهِ إنه من عصى الله فقد حاربه‪ .‬والله لقد أدركت‬
‫سبعين بدريا ً أكثر لباسهم الصوف‪ ،‬لو رأيتموهم قلتم‬
‫خلق‪ ،‬ولو‬ ‫مجانين؛ ولو رأوا خياركم لقالوا ما لهؤلء من َ‬
‫رأوا شراركم‪ :‬ما يؤمن هؤلء بيوم الحساب‪ .‬والله لقد‬
‫رأيت أقواما ً كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب‬
‫تحت قدمه‪ .‬ولقد رأيت أقواما ً يمسي أحدهم ول يجد عنده‬
‫إل ّ قوته‪ ،‬فيقول‪ :‬ل أجعل هذا كله في بطني‪ ،‬لجعلن‬
‫ج إليه ممن‬ ‫بعضه لله‪ ،‬فيتصدق ببعض وإن كان هو أحو َ‬
‫يتصدق به عليه‪.‬‬
‫وقال ثابت الب َُناني ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬إن أهل ذكر الله عّز‬
‫ل يجلسون لذكر الله تعالى وعليهم من الثام مثل‬ ‫وج ّ‬
‫الجبال؛ فإذا ذكروا الله تعالى يقومون من مجلسهم بعد‬
‫ذكر الله عُط ُل ً من الذنوب‪ ،‬ما عليهم منها شيء‪.‬‬
‫) ‪(1/283‬‬

‫وقال ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬إذا وضع المؤمن في قبره احتوشته‬


‫أعماله‪.‬‬
‫وقال‪ :‬إن المؤمن إذا بعث من قبره تلقاه الملكان اللذان‬
‫كانا معه في الدنيا يقولن له‪ :‬ل تخف ول تحزن‪ ،‬وأبشر‬
‫ت ُتوعد‪.‬‬
‫بالجنة التي كن َ‬
‫جد ّ في‬
‫عد ّ زادك و ِ‬‫وقال الربيع بن خيثم ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬أ َ ِ‬
‫ي نفسك‪ .‬وقال‪ :‬إن الناس خافوا الله في‬ ‫جهازك وكن وص ّ‬ ‫َ‬
‫ذنوب الناس‪ ،‬وأمنوا منه سبحانه وتعالى على ذنوبهم‪.‬‬
‫ولما أصابه الفالج قيل له‪ :‬لو تداويت ؟ فقال‪ :‬قد عرفت‬
‫أن الدواء حق‪ ،‬ولكني ذكرت عادا ً وثمود وأصحاب الّرس‬
‫وقرونا ً بين ذلك كثيرا ً كانت فيهم الوجاع وكانت لهم‬
‫الطباء؛ فما بقي المداَوى ول المداِوي‪.‬‬
‫وقال مالك بن دينار ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬ما َتنّعم المتنعمون‬
‫بمثل ذكر الله سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ديقين إذا قرئ عليهم القرآن طربت قلوبهم‬ ‫وقال‪ :‬إن الص ّ‬
‫ديقين حتى‬ ‫إلى الخرة‪ .‬وقال‪ :‬ل يبلغ الرجل منزلة الص ّ‬
‫يترك زوجته كأنها أرملة‪ ،‬ويأوي إلى منازل الكلب‪.‬‬
‫) ‪(1/284‬‬
‫وقال‪ :‬نظرت في أصل كل إثم فوجدته حب الدنيا؛ فمن‬
‫ألقى حبها استراح‪.‬‬
‫ل يقول‪:‬‬‫وقال‪ :‬رأيت في بعض الكتب‪ :‬أن الله عّز وج ّ‬
‫)) إن أهون ما أنا صانع بالعاِلم إذا أحب الدنيا أن أخرج‬
‫حلوة ذكري من قلبه ((‪.‬‬
‫رب‪ ،‬كما إذا لم يكن‬ ‫نخ ِ‬ ‫حز ٌ‬
‫وقال‪ :‬إذا لم يكن في القلب ُ‬
‫في البيت ساكن فإنه يخَرب‪.‬‬
‫وقال‪ :‬سفيان الثوري ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬العمال السيئة داء‬
‫والعلماء دواء؛ فإذا فسد العلماء فمن يشفي الداء ؟‪.‬‬
‫دين؛ فإذا جر‬ ‫دين‪ ،‬والدرهم داء ال ّ‬ ‫وقال‪ :‬العاِلم طبيب ال ّ‬
‫الطبيب الداء إلى نفسه فمتى يداوي غيره‪.‬‬
‫وكان يقول‪ :‬ما طاق أحد العبادة ول قوي عليها إل ّ بشدة‬
‫من َثم‬ ‫ه به‪ ،‬ف ِ‬ ‫الخوف‪ .‬وقال‪ :‬إنما ُيطَلب العلم لي ُت َّقى الل ُ‬
‫ضل‪ ،‬ولو ل ذلك لكان كسائر الشياء‪.‬‬ ‫فُ ّ‬
‫وقال المام أحمد بن حنبل)‪ - (1‬رحمه الله ‪ :-‬وجدت‬
‫الخلوةَ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬الشيباني‪ .‬أحد الئمة الربعة‪ .‬ولد ببغداد‪ ،‬فنشأ مك ًِبا‬
‫على طلب العلم‪ ،‬وسافر في سبيله إلى الكوفة والبصرة‬
‫ذب في مسألة‬ ‫حبس وعُ ّ‬ ‫ومكة والمدينة والشام والثغور و ُ‬
‫القول بخلق القرآن‪ .‬توفي ببغداد سنة ‪214‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/285‬‬

‫ح لقلبي‪ ،‬وقال‪ :‬العافية عشرة أجزاء كلها في‬ ‫أصل َ‬


‫التغافل‪ .‬وقال له ولده عبد الله وهو صبي‪ :‬يا أبت‪ ،‬هب‬
‫م ل يملك‬ ‫لي قطعة؛ فقال‪ :‬أبوك ما يملك قطعة ل ِل ّهِ ويو ٌ‬
‫فيه قطعة أحب إليه من يوم يملك فيه قطعة‪ .‬والقطعة‬
‫شيء قليل جدا ً من الفضة‪.‬‬
‫خذ الله‬
‫وقال إبراهيم بن أدهم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ :-‬ات ِ‬
‫صاحبًا‪ ،‬وذر الناس جانبًا‪ .‬وقال ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬أيضًا‪ :‬من‬
‫عرف ما يطُلب هان عليه ما يبذل‪ ،‬ومن أطلق بصره طال‬
‫أسفه‪ ،‬ومن طال أمله ساء علمه‪ ،‬ومن َأطلق لسانه قتل‬
‫نفسه‪.‬‬
‫ه عبد أحب الشهرة‪.‬‬ ‫وقال ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬ما أصدق الل َ‬
‫وقال رجل لداود الطائي‪ :‬أوصني‪ .‬فقال له‪ :‬صم عن‬
‫الدنيا‪ ،‬واجعل فطرك الموت‪ ،‬وفّر من الناس كما تفّر من‬
‫السد‪.‬‬
‫وكان سفيان الثوري ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬يقول‪ :‬اللهم سّلم‬
‫سّلم‪ .‬وكان داود الطائي يقول‪ :‬اللهم خّلص خّلص‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬إنما يسأل السلمة من لم يقع؛ وأما من وقع فإنما‬
‫يسأل الخلص‪.‬‬
‫س؟‬‫من النا ُ‬‫وسئل ابن المبارك )‪ - (1‬رحمه الله تعالى ‪َ :-‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي‪ ،‬شيخ‬
‫السلم الحافظ المجاهد التاجر‪ .‬مات سنة ‪181‬هـ لما‬
‫رجع من غزو الروم‪ ،‬ودفن بـ ) هيت ( مدينة معروفة على‬
‫الفرات‪ .‬وكانت إقامته بخراسان‪.‬‬
‫) ‪(1/286‬‬

‫قال العلماء‪ ،‬قيل‪ :‬فمن الملوك ؟ قال‪ :‬الزهاد‪ .‬قيل‪ :‬فمن‬


‫دينه‪ .‬وقال ‪ -‬رحمه الله ‪:-‬‬ ‫السفلة ؟ فقال‪ :‬الذي يأكل ب ِ ِ‬
‫الُعجب أن ترى عندك شيئا ً ليس عند غيرك‪ ،‬والكبر أن‬
‫تزدري الناس‪.‬‬
‫وقال الفضيل بن عياض ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬لم ُيدِرك عندنا من‬
‫أدرك بكثرة صيام ول صلة‪ ،‬وإنما أدرك بسخاء النفس‬
‫وسلمة الصدور والنصح للمة‪ .‬وقال ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬لم‬
‫يتزين الناس بشيء أفضل من الصدق الصدق وطلب‬
‫الحلل‪ .‬وقال ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬التواضع أن تخضع للحق‬
‫وتنقاد له‪ ،‬وتقبل الحق من كل من تسمعه منه‪ .‬وقال‪ :‬أبى‬
‫الله أن ل يجعل أرزاق المّتقين إل ّ من حيث ل يحتسبون‪.‬‬
‫وقال أبو عبد الله خادم محمد بن أسلم الطوسي )‪- (1‬‬
‫رحمه الله ‪ :-‬دخلت على محمد بن أسلم قبل موته بأربعة‬
‫شرك بما صنع‬ ‫أيام بنيسابور‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا عبد الله‪ ،‬تعا َ‬
‫ل أب ّ‬
‫الله بأخيك من الخير‪،‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬هو محمد بن أسلم بن سالم الطوسي‪ .‬من حفاظ‬
‫الحديث‪ ،‬اشتهر بالصلح‪ ،‬ونعته الذهبي ب‪ ) -‬شيخ‬
‫المشرق (‪ .‬توفي سنة ‪242‬هـ ‪.‬‬
‫) ‪(1/287‬‬

‫ي أنه ليس عندي‬ ‫ن الله عل ّ‬


‫وقد نزل بي الموت‪ ،‬وقد م ّ‬
‫درهم يحاسبني الله عليه‪ ،‬وقد علم الله ضعفي وأني ل‬
‫أطيق الحساب‪ ،‬فلم يدع عندي شيئا ً يحاسبني عليه‪ .‬ثم‬
‫ي لحد حتى أموت‪ ،‬واعلم‬ ‫قال‪ :‬أغلق الباب ول تأذن عل ّ‬
‫أني أخرج من الدنيا وليس أدعُ ميراثا ً غير كسائي ولبدي‬
‫وإنائي الذي أتوضأ منه‪ ،‬وكتبي هذه‪ ،‬ل تكلف الناس‬
‫مؤونة‪ ،‬وكانت معه صرة فيها ثلثون درهمًا‪ ،‬فقال‪ :‬هذا‬
‫لبني أهداه له قريب له‪ ،‬ول أعلم شيئا ً أحل لي منه؛ لن‬
‫النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬قال‪ ) :‬أنت ومالك لبيك (‪،‬‬
‫وقال‪ ) :‬أطيب ما يأكل الرجل من كسبه‪ ،‬ووَل َد ُهُ من‬
‫كسبه( كفنوني منه؛ فإن أصبتم بعشرة دراهم ما يستر‬
‫عورتي فل تشتروا بخمسة عشر‪ ،‬وابسطوا على جنازتي‬
‫طوا على جنازتي كسائي‪ ،‬وتصدقوا بإنائي‬ ‫لبدي‪ ،‬وغ ّ‬
‫أعطوه مسكينا ً يتوضأ منه‪ .‬ثم مات اليوم الرابع‪ ،‬فعجبت‬
‫أن قال لي ذلك بين وبينه‪ ،‬فلما خرجت جنازته جعلن‬
‫النساء يقلن من فوق السطوح‪ :‬يا أيها الناس‪ ،‬هذا العاِلم‬
‫الذي خرج من الدنيا وهذا ميراثه الذي على جنازته‪ ،‬ليس‬
‫مثل علمائنا هؤلء الذين هم عبيد بطونهم‪ ،‬يجلس أحدهم‬
‫للعلم سنتين أو ثلثا ً فيشتري الضياع ويستفيد المال‪.‬‬
‫) ‪(1/288‬‬

‫خي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬لرجل‪ :‬توكل على‬


‫وقال معروف الكر ِ‬
‫الله حتى يكون هو معك وأنيسك وموضع شكواك؛ وليكن‬
‫سك ل يفارقك‪ ،‬واعلم أن شفاء كل بلء‬‫ذكر الموت جلي َ‬
‫نزل بك كتمانه‪ ،‬فإن الناس ل ينفعونك ول يضرونك ول‬
‫يمنعونك‪.‬‬
‫وقال معروف‪ :‬إنما الدنيا ِقدر يغلي‪ ،‬وكنيف يمل ويرمى‬
‫به‪ .‬وقال‪ :‬إذا أراد الله بعبد خيرا ً فتح عليه أبواب العمل‬
‫وأغلق عليه أبوب الجدل‪ .‬وقال‪ :‬كلم العبد فيما ل يعنيه‬
‫ل‪ .‬وجاء حجام يأخذ من شارب‬ ‫خذل من الله عّز وج ّ‬
‫معروف وكان معروف يسّبح‪ ،‬فقال الحجام‪ :‬ل يمكن أخذ‬
‫الشارب وأنت تسّبح ل ِل ّهِ فقال‪ :‬أنت تعمل وأنا ل أعمل‬
‫ه‪.‬‬‫ل ِل ّ ِ‬
‫وقال أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي ‪ -‬رحمه الله‬
‫تعالى ‪ :-‬فقدنا ثلثة أشياء ل نجدها‪ :‬حسن الوجه مع‬
‫الصيانة‪ ،‬وحسن القول مع الديانة‪ ،‬وحسن الخاء مع‬
‫المانة‪ .‬وقال‪ :‬من زّين باطنه بالمراقبة والخلص‪ ،‬زين‬
‫الله ظاهره بالمجاهدة واّتباع السّنة؛ لقوله تعالى‪:‬‬
‫سب ُل ََنا { ]العنكبوت‪،[69 :‬‬ ‫دوا ِفيَنا ل َن َهْدِي َن ّهُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫جاهَ ُ‬
‫ن َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ل‪ ،‬كيف تجيب‬‫وقال‪ :‬إذا أنت ل تسمع نداء الله عّز وج ّ‬
‫داعي الله تعالى‪.‬‬
‫وقال بشر بن الحارث ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬يأتي على الناس‬
‫زمان ل تَقر فيه عين حكيم‪ ،‬ويأتي على الناس زمان تكون‬
‫فيه الدولة للحمقى على الكياس‪.‬‬
‫) ‪(1/289‬‬

‫وقال ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬إنك ل تجد حلوة العبادة حتى تجعل‬


‫بينك وبين الشهوات حائطا ً من حديد‪.‬‬
‫وقال الحسن المسوحي‪ :‬رآني بشر بن الحارث يوما ً وأنا‬
‫ي وقال‪:‬‬ ‫أرتعد من البرد؛ فنظر إل ّ‬
‫م‬
‫م تحت رواق اله ّ‬ ‫ق ‪ ...‬والنو ُ‬ ‫قَط ْعُ الليالي مع اليام في َ َ‬
‫خل ِ‬
‫ق‬
‫والَقل ِ‬
‫ت الغنى‬ ‫ل غدا ً ‪ ...‬إني التمس ُ‬ ‫أحرى وأجدُر بي من أن يقا َ‬
‫ق‬ ‫ف ممَتل ِ‬‫من ك ّ‬
‫ت بذا‪ ،‬قلت الُقنوعُ رضا ً ‪ ...‬ليس الغنى كثرةَ‬ ‫قالوا قنع َ‬
‫سرٍ ‪...‬‬
‫عسر وفي ي ُ ُ‬ ‫ت بالله في ُ‬ ‫ق رضي ُ‬‫الموال والورِ ِ‬
‫ح الطرق‬ ‫ك إل ّ أوض َ‬ ‫فلست َأسل ُ ُ‬
‫ري السقطي ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬من أراد أن يسلم‬ ‫س ِ‬
‫وقال ال ّ‬
‫مه فليعتزل الناس؛ لن‬ ‫لغ ّ‬ ‫دينه‪ ،‬ويستريح قلبه وبدنه‪ ،‬ويق ّ‬
‫هذا زمان عزلة ووحدة‪.‬‬
‫سل َِبها من حيث ل يعلم‪.‬‬
‫وقال‪ :‬من لم يعرف قدر الّنعم ُ‬
‫ل‬‫ة‪ ،‬خير من كثير في بدعة‪ ،‬وكيف يق ّ‬ ‫سن ّ ٍ‬
‫وقال‪ :‬قليل في ُ‬
‫ه‪.‬‬‫عمل مع تقوى ل ِل ّ ِ‬
‫) ‪(1/290‬‬

‫وقال ابن أبي داود‪ :‬دخلت يوما ً على السري وهو يبكي‬
‫ودورقه مكسور‪ ،‬فقلت له‪ :‬ما لك ؟ فقال‪ :‬انكسر‬
‫الدورق‪ ،‬فقلت له‪ :‬أنا أشتري لك بدله‪ ،‬فقال له‪ :‬من أين‬
‫تشتري لي بدله وأنا أعرف الدانق الذي اشُتري به‬
‫من أين ُأخذ طينه‪ ،‬وأيّ شيء أكل‬ ‫مله و ِ‬
‫من عَ ِ‬ ‫الدورق‪ ،‬و َ‬
‫عامُله حتى فرغ من عمله ؟ ل ِل ّ ِ‬
‫ه‪.‬‬
‫وسئل ذو النون المصري عن المحبة ل ِل ّهِ فقال‪ :‬أن تحب‬
‫ما أحب الله‪ ،‬وُتبغض ما أبغض الله‪ ،‬وتفعل الخير كله‪،‬‬
‫شغَُلك عن الله‪ ،‬وأن ل تخاف في الله لومة‬ ‫وترفض ما ي َ ْ‬
‫لئم‪ ،‬مع العطف للمؤمنين‪ ،‬والغلظة للكافرين‪ ،‬واّتباع‬
‫رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬في الدين‪ .‬وقال ‪-‬‬
‫رحمه الله ‪ :-‬قال تعالى‪ ) :‬من لي مطيعا ً كنت له وليًا‪،‬‬
‫ي فوعّزتي وجللي لو سألني زوال‬ ‫فليثق بي وليحكم عل ّ‬
‫الدنيا لزلتها (‪ .‬وقال ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬كان الرجل من أهل‬
‫العلم يزداد بعلمه بغضا ً للدنيا وتركا ً لها‪ ،‬فاليوم يزداد‬
‫الرجل بعلمه للدنيا حبا ً لها وطلبًا‪ .‬وكان الرجل ينفق ماله‬
‫ل‪ ،‬وكان ُيرى على‬ ‫على علمه‪ ،‬ويكسب اليوم بعلمه ما ً‬
‫طالب العلم زيادة في باطنه وظاهره فاليوم ُيرى على‬
‫كثير من أهل العلم فساد الباطن والظاهر‪ .‬وقال‪ :‬النس‬
‫بالله نور ساطع‪ ،‬والنس بالخلق غم واقع‪.‬‬
‫) ‪(1/291‬‬
‫وقال سهل بن عبد الله التستري ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬إن الله‬
‫ل قال لدم عليه الصلة والسلم‪ :‬يا آدم‪ ،‬أنا الله ل‬ ‫عّز وج ّ‬
‫إله إل ّ أنا‪ ،‬فمن رجا غيَر فضلي وخاف غير عدلي لم‬
‫ل على‬ ‫يعرفني‪ .‬وقال سهل‪ :‬البلوى من الله عّز وج ّ‬
‫وجهين‪ :‬بلوى رحمة‪ ،‬وبلوى عقوبة؛ فبلوى الرحمة تبعث‬
‫صاحبها على إظهار فقره وفاته إلى الله سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫وترك تدبير نفسه واختيارها‪ ،‬وبلوى العقوبة تبعث صاحبها‬
‫على اختيارات نفسه وتدبيرها‪ ،‬وقال سهل‪ :‬استجِلب‬
‫حلوة الزهد بُقصر المل‪ ،‬واقطع أسباب الطمع بصحة‬
‫اليأس‪ ،‬وتعّرض لرقة القلب بمجالسة أهل الذكر‪ ،‬وتزّين‬
‫ف‬
‫ل بالصدق في الحوال كلها‪ ،‬وإياك والتسوي َ‬ ‫لله عّز وج ّ‬
‫رق الهلكى‪ ،‬وإياك والغفلة ل ِل ّهِ فإن‬‫ل ِل ّهِ فإن التسويف ُيغ ِ‬
‫فيها سواد القلب واستجلب زيادة النعم بُعظم الشكر‬
‫ت بالغا ً منه شيئًا‪.‬‬
‫ولس َ‬
‫وقال سهل‪ :‬الغضب أشد على البدن من المرض؛ لنه إذا‬
‫غضب دخل عليه من اللم أكثر مما يدخل من المرض‪،‬‬
‫ولهذا قال ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ )) :-‬لتغضب(( وكّرر‬
‫مرارًا‪.‬‬
‫وقال سهل‪ :‬يأتي على الناس زمان يذهب الحلل من‬
‫أيدي أغنياءهم‪ ،‬وتكون أموالهم من غير حلها‪ ،‬فيسلط الله‬
‫بعضهم على بعض فتذهب لذة عيشهم ويلزم قلوَبهم‬
‫ف فقر الدنيا‪،‬‬ ‫خو ُ‬
‫) ‪(1/292‬‬

‫وخوف شماتة العداء‪ ،‬ول يجد لذة العيش إل ّ عبيدهم‬


‫ومماليكم‪ ،‬ويكون ساداتهم في بلء وشقاء وعناء‪ ،‬وخوف‬
‫من الظالمين‪ ،‬ول يستلذ بعيش يومئذ إل ّ منافق ل يبالي‬
‫من أين أخذ ول فيم أنفق‪ ،‬ول كيف أهلك نفسه ل ِل ّهِ وحينئذ‬
‫تكون رتبة القراء رتبة الجهال‪ ،‬وعيشهم عيش الفجار‪،‬‬
‫حيرة والضلل‪.‬‬
‫وموتهم موت أهل ال َ‬
‫وقال الجنيد بن محمد ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬البلء سراج‬
‫العارفين‪ ،‬ويقظة المريدين‪ ،‬وهلك الغافلين‪ .‬وسئل الجنيد‬
‫عن الشفقة ؟ فقال‪ :‬أن تعطي الناس من نفسك ما‬
‫ملهم ما ل يطيقون‪ ،‬ول تخاطبهم بما ل‬ ‫يطلبونه‪ ،‬ول تح ّ‬
‫يعلمون‪ .‬وقال‪ :‬إذا صحت المودة سقطت شروط الدب‪.‬‬
‫دوا قبل أن تعجزوا‪ ،‬واجتهدوا‬ ‫وقال‪ :‬يا معشر الشباب‪ ،‬ج ّ‬
‫قبل أن تطلبوا أثرا ً بعد عين؛ فإني تذكرت مجاهدات كانت‬
‫لي تقّبح في عيني َبطالتي اليوم‪ .‬قال منصور بن علي‪:‬‬
‫وكانت حالته إذ ذاك من أعظم أنواع المجاهدات‪.‬‬
‫وقال الحسن البصري ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬الناس في هذه‬
‫الدنيا على خمسة أصناف‪ :‬العلماء هم ورثة النبياء‪،‬‬
‫لء‪ ،‬والغزاة هم أسياف الله‪ ،‬والتجار هم‬‫والزهاد هم الد ّ‬
‫أمناء الله‪،‬‬
‫) ‪(1/293‬‬

‫والملوك هم رعاة الخلق‪ ،‬فإذا أصبح العاِلم طامعًا‪،‬‬


‫دى ؟ وإذا أصبح الزاهد راغبا ً‬ ‫وللمال جامعًا‪ ،‬فبمن ُيقت َ َ‬
‫فبمن ُيستدل ويهتدى ؟ وإذا أصبح الغازي مرائيا ً والمرائي‬
‫ل عمل له فبمن ُيظَفر بالعدا ؟ وإذا كان التاجر خائنا ً‬
‫فبمن يؤمن وُيرتضى؟ وإذا أصبح الملك ذئبا ً فمن يحفظ‬
‫س إل ّ العلماء‬ ‫الغنم ويرعى ؟ فو الله ما أهلك النا َ‬
‫المداهنون‪ ،‬والزهاد الراغبون‪ ،‬والغزاة المراؤون‪ ،‬والتجار‬
‫َ‬
‫ي‬
‫موا أ ّ‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫سي َعْل َ ُ‬
‫الخائنون‪ ،‬والملوك الظالمون } وَ َ‬
‫ن { ]الشعراء‪.[26/227 :‬‬ ‫ب َينَقل ُِبو َ‬ ‫منَقل َ ٍ‬ ‫ُ‬
‫وأنشد الشيخ الصالح عبد العزيز الديريني ‪ -‬رحمه الله ‪-‬‬
‫لنفسه في هذا المعنى‪:‬‬
‫ه‬ ‫ت من السلم ُثل َ‬
‫م ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ُذو علم ٍ وتقوى ‪ ...‬فقد ث ُل ِ َ‬ ‫إذا ما َ‬
‫ه‬
‫م ْ‬‫س َ‬ ‫مرآه للسرار ن َ ْ‬ ‫ص ‪ ...‬ففي َ‬ ‫ي نق ٌ‬ ‫مرض ّ‬‫ت العابدِ ال َ‬ ‫ومو ُ‬
‫ة‬
‫ص ٌ‬‫منق َ‬ ‫ت العاِدل المِلك الموَّلى ‪ ...‬بحكم الحق َ‬ ‫ومو ُ‬
‫ه‬
‫م ْ‬ ‫وَقص َ‬
‫دت له بالنصر‬ ‫م ‪ ...‬فكم شهِ َ‬ ‫ضرغام هَد ْ ٌ‬ ‫ت الفارس ال ّ‬ ‫ومو ُ‬
‫مه‬
‫عَْز َ‬
‫) ‪(1/294‬‬
‫مه‬
‫ب ون ِعْ َ‬
‫خص ٌ‬ ‫ل ‪ ...‬فإن بَقاءه ِ‬ ‫ح ٌ‬
‫م ْ‬
‫جودِ َ‬
‫ت فًتى كثيرِ ال ُ‬ ‫ومو ُ‬
‫ت الغير تخفيف‬ ‫ة ُيبكى عليهم ‪ ...‬ومو ُ‬ ‫فحسبك خمس ٌ‬
‫ه‬
‫م ْ‬ ‫ح َ‬‫وَر ْ‬
‫روي‪ :‬أنه قدم على رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪-‬‬
‫س بن ساعدة؟ فقالوا هلك‪.‬‬ ‫وفد من إياد‪ ،‬فسألهم عن قُ ّ‬
‫فقال‪ - :‬رحمه الله ‪ ،-‬كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على‬
‫جمل أحمر‪ ،‬وهو يقول‪ :‬أيها الناس‪ ،‬اجتمعوا‪ ،‬واستمعوا‬
‫عوا‪ ،‬فإن من عاش مات‪ ،‬ومن مات فات‪ ،‬وكل ما هو‬ ‫و ُ‬
‫خَبر‪ ،‬وإن في الرض‬ ‫آت آت‪ ،‬أما بعد‪ :‬فإن في السماء ل َ َ‬
‫ل َعَِبر‪ ،‬أْبحٌر تمور‪ ،‬ونجوم تغور‪ ،‬وسقف مرفوع‪ ،‬ومهاد‬
‫موضوع‪ ،‬أقسم قسم بالله قسمًا‪ :‬إن لله دينا ً أ َْرضى من‬
‫ن أنتم عليه ل ِل ّهِ ما بال الناس يذهبون ول يرجعون ؟‬ ‫َدي ٍ‬
‫ضوا فأقاموا‪ ،‬أم ُتركوا فناموا‪ ،‬سبيل مؤتلف‪ ،‬وعمل‬ ‫أَر ُ‬
‫مختلف‪ .‬ثم قال أبياتا ً ل أحفظها (! فقال أبوبكر ‪ -‬رضي‬
‫الله عنه ‪ :-‬أنا أحفظها يا رسول الله‪ ،‬فقال‪ ) :‬هاتها (‬
‫فقال‪:‬‬
‫ن ‪ ...‬من القرون لنا بصائْر‬ ‫في الذاهبين الّولي َ‬
‫ت مواِردا ً ‪ ...‬للموت ليس لها مصادْر‬ ‫لما رأي ُ‬
‫ضي الصاغُر والكابْر‬ ‫وها ‪ ...‬تم ِ‬ ‫ت قومي نح َ‬ ‫ورأي ُ‬
‫) ‪(1/295‬‬

‫جعُ الماضي إل َ ّ‬
‫ي ‪ ...‬ول من الباقين غاب ِْر‬ ‫ل َير ِ‬
‫ة ‪ ...‬حيث صاَر القوم صائْر‬ ‫حال َ‬ ‫َ‬
‫ت أني ل م َ‬‫أيَقن ْ ُ‬
‫فقال رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ :-‬رحم الله قُ ّ‬
‫سا‬
‫ل ِل ّهِ إني لرجو أن يبعه الله أمة وحده‪.‬‬

‫***‬
‫) ‪(1/296‬‬
‫خاتمة الخاتمة‬
‫***‬
‫خِتمت بها‬‫كة بالحاديث التي ُ‬ ‫مَبار َ‬
‫ة ال ُ‬‫م ُ‬
‫خات َ‬
‫خِتم هذهِ ال َ‬ ‫َولن َ ْ‬
‫الك ُُتب السبعة‬
‫شريعة‬‫مهات ال ّ‬ ‫دين َوالسلم َوأ ّ‬ ‫صول ال ّ‬ ‫يأ ُ‬ ‫التي ه َ‬
‫والحكام ِ‬
‫سول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪،-‬‬ ‫مًنا َوتبّركا ً بحديث َر ُ‬ ‫تي ّ‬
‫ي‪:‬‬
‫من الله حسن الختام‪ ،‬وَهِ َ‬ ‫جًيا َ‬‫َوتَفاؤُل ً وَتر ّ‬
‫كتاب )) الموطأ (( للمام مالك بن أنس )‪ (1‬رحمه الله‪،‬‬
‫وكتاب ) الجامع الصحيح ( للمام محمد بن إسماعيل‬
‫البخاري رحمه الله )‪ ،(2‬وكتاب )الجامع الصحيح( للمام‬
‫مسلم بن الحجاج النيسابوري رحمه الله تعالى )‪(3‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬إمام دار الهجرة‪ ،‬مالك بن أنس الصبحي‪ ،‬ولد‬
‫بالمدينة وتوفي بها سنة ‪179‬ه‪.-‬‬
‫)‪ (2‬إمام الئمة وأمير المؤمنين في الحديث‪ .‬ولد ببخارى‬
‫سنة ‪ 194‬ه‪ -‬وتوفي ليلة الفطر سنة ‪256‬ه‪.-‬‬
‫)‪ (3‬كتابه أصح الكتب بعد البخاري‪ .‬أخذ عن البخاري‬
‫وشاركه في كثير من الحاديث من شيوخه‪ ،‬ولد بنيسابور‪،‬‬
‫ورحل إلى القطار السلمية‪ ،‬وتوفي بظار نيسابور سنة‬
‫‪261‬ه‪.-‬‬
‫) ‪(1/297‬‬

‫وكتاب )السنن( للمام أبي داود سليمان بن الشعث‬


‫السجستاني رحمه الله )‪ ،(1‬وكتاب ) الجامع ( للمام أبي‬
‫عيسى محمد بن سورة الترمذي رحمه الله )‪ ،(2‬وكتاب )‬
‫السنن ( للمام أبي عبد الرحمن أحمد ابن شعيب‬
‫النسائي )‪ (3‬رحمه الله‪ ،‬وكتاب ) السنن ( للمام محمد‬
‫بن يزيد بن ماجه )‪ (4‬رحمه الله‪.‬‬
‫وقد اجتمعت هذه الكتب المعظمة عندنا والحمد لله وذلك‬
‫مّنه‪.‬‬
‫من فضل الله و َ‬
‫سبحانه ل نحصي ثناء عليه‪ ،‬هو كما أثنى على نفسه‪ ،‬غير‬
‫أن الذي صار إلينا من سنن النسائي هو ) المجتبى ( من‬
‫السنن الكبيرة له‪.‬‬
‫___________________‬
‫خب‬‫)‪ (1‬أحد أئمة الدنيا حفظا ً وفقها ً وعلما ً وورعًا‪ .‬انت َ َ‬
‫كتابه السنن من خمسمائة ألف حديث‪ ،‬توفي بالبصرة‬
‫سنة ‪275‬هـ‪.‬‬
‫)‪ (2‬إمام جليل في علوم الحديث‪ .‬تتلمذ للبخاري وشاركه‬
‫ضرب به‬ ‫في أكثر شيوخه‪ ،‬وكتب عنه البخاري‪ .‬كان ي ُ َ‬
‫المثل في الحفظ‪ .‬مات بترمذ سنة ‪289‬هـ‪.‬‬
‫)‪ (3‬الخراساني‪ :‬ثم البصري أحد الئمة المبرزين في‬
‫الحديث‪ ،‬حتى قال الذهبي‪ :‬هو أحفظ من مسلم توفي‬
‫سنة ‪303‬هـ‪.‬‬
‫)‪ (4‬القزويني‪ ،‬أحد الئمة العلم في علم الحديث‪ .‬له‬
‫مصنفات في السنن والتفسير والتاريخ‪ ،‬توفي سنة‬
‫‪273‬هـ‪.‬‬
‫) ‪(1/298‬‬

‫جبير بن مطِعم‬ ‫‪ ...‬خاتمة كتاب ) الموطأ (‪ ،‬عن محمد بن ُ‬


‫)‪ (1‬عن أبيه جبير بن مطعم ‪ -‬رضي الله عنه ‪ :-‬أن النبي‬
‫‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬قال‪ ) :‬لي خمسة أسماء‪ :‬أنا‬
‫ي الكفر‪،‬‬ ‫محمد‪ ،‬وأنا أحمد‪ ،‬وأنا الماحي الذي يمحو الله ب ِ َ‬
‫وأنا الحاشر الذي ُيحشر الناس َقدمي‪ ،‬وأنا العاقب (‪.‬‬
‫‪ ...‬خاتمة ) صحيح ( البخاري؛ عن أبي ُزرعة )‪ (2‬عن أبي‬
‫هريرة ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬قال‪ :‬قال رسول الله ‪ -‬صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ ) :-‬كلمتان حبيبتان إلى الرحمن‪،‬‬
‫خفيفتان على اللسان‪ ،‬ثقيلتان في الميزان‪ :‬سبحان الله‬
‫وبحمده‪ ،‬سبحان الله العظيم (‪.‬‬
‫‪ ...‬خاتمة ) صحيح ( مسلم‪ ،‬عن قيس بن عبادة )‪ (3‬قال‪:‬‬
‫موا‬
‫ص ُ‬
‫خت َ َ‬
‫نا ْ‬ ‫ما ِ‬
‫ص َ‬
‫خ ْ‬
‫ن َ‬ ‫سما ً أن } هَ َ‬
‫ذا ِ‬ ‫سم قَ َ‬
‫سمعت أبا ذر ُيق ِ‬
‫م { ]الحج‪ [19 :‬أنها نزلت في الذين برزوا يوم‬ ‫ِفي َرب ّهِ ْ‬
‫بدر‪ :‬حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث )‪ (4‬رضي الله عنهم‬
‫أجمعين وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬المدني‪ .‬كان أعلم قريش بأحاديثها‪ .‬وكان أبوه من‬
‫أنسب قريش لقريش وللعرب قاطبة‪ .‬ذكره ابن سعد في‬
‫الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة توفي في خلفة‬
‫سليمان بن عبد الملك‪.‬‬
‫)‪ (2‬هو أبو زرعة بن عمرو بن جرير البجلي الكوفي‪،‬‬
‫التابعي قيل‪ :‬اسمه كنيته‪ ،‬رأى علي ًّا‪ ،‬وكان انقطاعه إلى‬
‫أبي هريرة‪.‬‬
‫)‪ (3‬أبو عبد الله من ثقات التابعين قدم المدينة في خلفة‬
‫جاج‬‫عمر وسكن البصرة‪ ،‬وخرج مع ابن الشعث فقتله الح ّ‬
‫سنة ‪85‬ه‪.-‬‬
‫)‪ (4‬ابن المطلب بن مناف من أبطال قريش في الجاهلية‬
‫والسلم ومن السابقين في السلم استشهد ببدر‪.‬‬
‫) ‪(1/299‬‬

‫‪ ...‬خاتمة‪ ) :‬سنن ( أبي داود‪ ،‬عن وهب بن منّبه عن أخيه‬


‫عن معاوية ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬قال‪ :‬قال رسول الله ‪-‬‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ) :-‬اشفعوا تؤجروا‪ ،‬فإني لريد‬
‫المر أؤخره كيما تشفعوا فتؤجروا (‪.‬‬
‫مقُبري )‪ (1‬عن أبي‬ ‫‪ ...‬خاتمة ) جامع ( الترمذي‪ ،‬عن ال َ‬
‫هريرة ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬أن رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ -‬قال‪ ) :‬قد أذهب الله عنكم عيبة الجاهلية وفخرها‬
‫بالباء‪ :‬مؤمن تقي وفاجر شقي‪ ،‬والناس بنو آدم وآدم من‬
‫تراب ( هذا حديث حسن‪ .‬وعن المغيرة )‪ (2‬بن أبي قرة‬
‫السدوسي قال‪ :‬سمعت أنسا ً ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬قال‪ :‬قال‬
‫كل‪ ،‬أو أ ُط ْل ُِقها وأتوكل ؟‬ ‫رجل‪ :‬يا رسول الله َأعِقلها وأ َت َوَ ّ‬
‫قلها وتوكل (‪.‬‬ ‫قال‪ ) :‬اعْ ِ‬
‫‪ ...‬خاتمة ) سنن ( النسائي‪ ،‬عن الشعبي)‪ (3‬عن أم سَلمة‬
‫رضي الله عنها‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬هو سعيد بن أبي سعيد‪ .‬والمقبري‪ :‬نسبة إلى مقبرة‬
‫بالمدينة‪ ،‬كان مجاورا ً لها‪ ،‬اختلف في وفاته ما بين سنة‬
‫‪126 - 117‬ه‪.-‬‬
‫)‪ (2‬في الصل‪ ) :‬أبي فروة ( وهو تحريف‪ ،‬كان كاتب يزيد‬
‫بن المهلب‪ ،‬وفتح معه جرجان في أيام سليمان بن عبد‬
‫الملك‪.‬‬
‫)‪ (3‬هو عامر بن شراحيل الحميري الكوفي‪ .‬قال ابن‬
‫شبرمة‪ :‬سمعت الشعبي يقول‪ :‬ما كتبت سوداء في‬
‫دثني رجل‬‫دثني رجل بحديث إل ّ حفظته ول ح ّ‬ ‫بيضاء‪ .‬ول ح ّ‬
‫ي‪ .‬اختلف في وفاته وكانت‬ ‫بحديث فأحببت أن يعيده عل ّ‬
‫ت سنين خلت من خلفة عمر‪.‬‬ ‫ولدته لس ّ‬
‫) ‪(1/300‬‬

‫أن النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬كان إذا خرج من بيته‬
‫ل أو‬‫ض ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫قال‪ ) :‬باسمك ربي أعوذ بك أن أِزل أو أَزل‪ ،‬أو أ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫جَهل علي (‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬أو أظِلم أو أظَلم‪ ،‬أو أجهل أو ي ُ ْ‬ ‫ض ّ‬
‫أ َ‬
‫‪ ...‬خاتمة ) سنن ( ابن ماجه‪ ،‬عن يزيد بن أبي مريم عن )‬
‫‪ (1‬أنس ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬قال‪ :‬قال رسول الله ‪ -‬صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ ) :-‬من سأل الله الجنة ثلث مرات‪ ،‬قالت‬
‫الجنة‪ :‬اللهم أدخله الجنة‪ .‬ومن استجار من النار ثلث‬
‫مرات‪ ،‬قالت النار‪ :‬اللهم أجره من النار (‪.‬‬
‫…وعن أبي صالح )‪ (2‬عن أبي هريرة ‪ -‬رضي الله عنه ‪-‬‬
‫قال‪ :‬قال رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ) :-‬ما‬
‫منكم من أحد إل ّ له منزلن‪ :‬منزل في الجنة ومنزل في‬
‫النار‪ ،‬فإذا مات الرجل ودخل النار ورث أهل الجنة منزله؛‬
‫ن { ]المؤمنون‪:‬‬ ‫وارُِثو َ‬‫م ال ْ َ‬ ‫فذلك قوله تعالى‪ } :‬أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ك هُ ُ‬
‫‪.[23/10‬‬
‫***‬
‫_______________‬
‫)‪ (1‬في الصل‪ ) :‬يزيد عن أبي مريم ( هو خطأ‪ .‬مولى‬
‫سهل بن الحنظلية النصاري‪ ،‬كان إمام الجامع بدمشق‪.‬‬
‫قال أبو حاتم‪ :‬من ثقات أهل الشام‪ .‬مات سنة ‪ 44‬هـ‪.‬‬
‫وقيل بعد سن ‪ 45‬هـ‪.‬‬
‫)‪ (2‬أبو صالح‪ :‬هو ذكوان أبو صالح السمان المدني‪ .‬وثقه‬
‫أحمد بن حنبل‪ .‬مات سنة ‪101‬هـ‪.‬‬
‫) ‪(1/301‬‬

‫…تمت خواتم هذه الكتب الشريفة من الحاديث النبوية‬


‫المنيفة‪ ،‬وبتمامها يتم الكتاب‪ ،‬والله الهادي إلى الحق‬
‫والصواب‪ .‬ونسأله حسن الختام وحسن المآب وهو حسبنا‬
‫ونعم الوكيل‪ ،‬ول حول ول قوة إل بالله العلي العظيم‪.‬‬
‫والحمد لله الذي هدانا لهذا‪ ،‬وما كنا لنهتدي لو ل أن هدانا‬
‫ة‬
‫ب العز ِ‬‫الله‪ ،‬لقد جاءت رسل ربنا بالحق‪ .‬سبحان رّبك ر ّ‬
‫ما يصفون‪ ،‬وسلم على المرسلين والحمد لله رب‬ ‫ع ّ‬
‫العالمين‪.‬‬
‫‪ ...‬قال مؤلفه‪:‬‬
‫وكان الفراغ من تأليفه بعون الله وتيسيره بكرة يوم‬
‫الجمعة السابع أو الثامن والعشرين من شهر المحرم سنة‬
‫أربع عشرة ومائة وألف من الهجرة النبوية‪ ،‬على صاحبها‬
‫أفضل الصلة وأزكى التحية‪ ،‬وعلى آله الطاهرين وأصحابه‬
‫الكرمين‪ ،‬والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين آمين‪.‬‬

‫***‬
‫) ‪(1/302‬‬

‫فهرس الكتاب ‪:‬‬


‫خطبة الكتاب‬
‫المقدمة‬
‫الصنف الول دعوة العلماء بالدين‬
‫الصنف الثاني دعوة العباد والزهاد‬
‫الصنف الثالث دعوة المراء والسلطين وولة أمور‬
‫المسلمين‬
‫الصنف الرابع دعوة التجار والزراع والصناع‬
‫الصنف الخامس دعوة الفقراء والضعفاء وأهل البلء‬
‫الصنف السادس دعوة التباع من الولد والنساء‬
‫والمماليك‬
‫الصنف السابع دعوة المشغولين بطاعة الله ودعوة‬
‫الملبسين لمعصية الله‬
‫القول في تذكير المشغولين بطاعة الله من العامة‬
‫القول في تذكير الملبسين للمعاصي من عامة المسلمين‬
‫الصنف الثامن دعوة المشركين وأهل الكفر‬
‫الخاتمة مواعظ ومذكرات‬
‫خاتمة الخاتمة‬
‫) ‪(1/303‬‬

You might also like