You are on page 1of 82

‫سلسلة كتب المام الحداد )‪(5‬‬

‫دكار‬
‫************** سبيل ال ّ‬
‫*************‬
‫والعتبار بما يمّر بالنسان و ينقضي له من‬
‫العمار‬
‫**************************************‬

‫تأليف‪:‬‬
‫المام شيخ السلم قطب الدعوة والرشاد‬
‫عبد الله بن علوي بن محمد بن أحمد الحداد‬
‫الحسيني الحضرمي الشافعي‬
‫رحمه الله تعالى‬
‫)‪1044-1132‬هـ(‬

‫الناشر دار الحاوي للطباعة والنشرو‬


‫التوزيع‬
‫الطبعة الولى سنة ‪1413‬هـ‬
‫الطبعة الثانية سنة ‪1418‬هـ‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬

‫و ل حول و ل قوة إل بالله العلي العظيم‬


‫)سبحانك ل علم لنا إل ما عّلمتنا إنك أن َ‬
‫ت العليم الحكيم(‬
‫الحمد لله الواحد القهار‪ ،‬العزيز الغفار‪ ،‬مدبر المور‪،‬‬
‫ومقدر القدار‪ ،‬مولج النهار في الليل‪ ،‬ومولج الليل في‬
‫النهار‪ ،‬تبصرة وذكرى لولى البصائر والبصار‪.‬‬
‫فسبحانه وتعالى وتقدس‪ ،‬من ملك عظيم متكبر جبار‪،‬‬
‫قديم أزلي دائم أبدي‪ ،‬حي قيوم‪ ،‬قضى وحكم على خلقه‬
‫بالفناء والنقضاء‪ ،‬والموت والبلء‪ ،‬والتحول من حال إلى‬
‫حال‪ ،‬والنتقال من دار إلى دار‪ ،‬وتفرد بالدوام والبقاء‬
‫على تطاول الدهور‪ ،‬وامتداد العصار ‪ ،‬وتغاير الطوار‪،‬‬
‫وانصرام العمار‪.‬‬
‫مد َ به نفسه‪ ،‬وبما حمده به عباده المخلصون‬ ‫ح ِ‬
‫أحمده بما َ‬
‫البرار‪ ،‬من ملئكته المقربين‪ ،‬وأنبيائه والمرسلين‪ ،‬وعباده‬
‫الصالحين الخيار‪.‬‬
‫والصلة والسلم على عبده ورسوله‪ ،‬سيدنا ومولنا‬
‫محمد‪ ،‬المصطفى المختار‪ ،‬الذي أرسله رحمة للعالمين‪،‬‬
‫) ‪(1/9‬‬

‫وختم به النبيين‪ ،‬وعلى أهل بيته الطيبين الطهار‪،‬‬


‫وأصحابه المهاجرين و النصار‪ ،‬والتابعين لهم بإحسان إلى‬
‫يوم الدين والجزاء‪ ،‬وانقسام الناس إلى فريقين‪ ،‬فريق‬
‫في الجنة وفريق في النار‪.‬‬
‫أما بعد‪ ،‬فهذا مؤلف مبارك إن شاء الله‪ ،‬ألفناه لقصد‬
‫التذكر والعتبار‪ ،‬بما يمر بالنسان من العمار‪ ،‬ويحول به‬
‫من الحوال‪ ،‬ويختلف عليه من الطوار من حين ينتقل من‬
‫صلب إلى رحم‪ ،‬إلى أن يستقر في إحدى الدارين ‪ :‬الجنة‬
‫أو النار‪.‬‬
‫وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتذكير‬
‫ووصفه به‪ ،‬وجعل التذكر من وصف المؤمنين‪ ،‬أهل النابة‬
‫كر فإن‬‫والخشية والقلوب والشهادة‪ .‬قال تعالى‪ ] :‬وذ ّ‬
‫الذكرى تنفع المؤمنين[ الذاريات ‪ . 51/55‬وقال تعالى‪:‬‬
‫كر فما أنت بنعمة رّبك بكاهن ول مجنون [ الطور‪:‬‬ ‫] فذ ّ‬
‫كر إن نفعت الذكرى ‪ .‬سيذ ّ‬
‫كر‬ ‫‪ .52/29‬وقا ل تعالى‪ ] :‬فذ ّ‬
‫من يخشى[ العلى‪ . 10-87/9:‬قال تعالى‪] :‬فذكر إنما‬
‫أنت مذكر لست عليهم بمصيطر [ الغاشية‪. 22-88/21:‬‬
‫كر إل من ينيب [ غافر‪.40/13:‬‬ ‫وقال تعالى‪ ] :‬وما يتذ ّ‬
‫وقال تعالى‪ ] :‬إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو‬
‫ألقى السمع و هو شهيد [ ق‪. 50/37:‬‬
‫وقد بلغنا أنه لما نزل قوله تعالى‪ ] :‬فتول عنهم فما أنت‬
‫بملوم [ الذاريات‪ .51/54:‬حزن رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم حزنا ً شديدًا‪ ،‬وخاف أنه دنا عذابهم ووقع‬
‫كر فإن‬‫الياس من هدايتهم‪ ،‬فأنزل الله على إثرها ] وذ ّ‬
‫الذكرى تنفع المؤمنين [ الذاريات‪.51/55:‬‬
‫) ‪(1/10‬‬

‫سّريَ عنه‪،‬‬ ‫سّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك‪ ،‬و ُ‬
‫ف ُ‬
‫وذلك كله لما جبله الله عليه‪ ،‬وحققه به‪ ،‬من الرحمة‬
‫والشفقة على العالمين‪ ،‬والحرص البالغ على نصحهم‪،‬‬
‫وقبولهم للحق والهدى لن الله سبحانه وتعالى أرسله‬
‫رحمة لهم‪ ،‬ووصفه بذلك في كتابه فقال تعالى‪ ] :‬لقد‬
‫جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص‬
‫عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [ التوبة‪.9/128:‬‬
‫وقد كان صلى الله عليه وسلم يشتد عليه إباؤهم وردهم‬
‫للحق و الهدى‪ ،‬يشير إلى ذلك قوله تعالى‪ ] :‬فلعّلك باخع‬
‫نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ً [‬
‫الكهف‪ 18/6:‬أي مهلك نفسك ‪.‬‬
‫ثم إن العمر هو‪ :‬المدة المتمادية من الزمان‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى‪ ] :‬قل لو شاء الله ما تلوته عليكم و ل أدراكم به‬
‫فقد لبثت فيكم عمرا ً من قبله أفل تعقلون [ يونس‪:‬‬
‫‪ .10/16‬وكان ذلك العمر أربعين سنة‪ ،‬من حين مولده‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ ،‬إلى حين بعثه الله رسول ً وهو‬
‫مقيم مع قومه بمكة المشرفة‪.‬‬
‫وقد استحسنا أن نقسم مدة النسان هذه المتطاولة‪،‬‬
‫المتباعدة الطرفين‪ ،‬إلى خمسة أعمار‪ ،‬مع أن للنسان‬
‫في كل من هذه العمار أحوال ً وأطوارا ً ليست له في‬
‫العمر الخر‪ ،‬وله فيها نشأة مختلفة‪ ،‬فيما يعلم وفيما ل‬
‫يعلم كما قال تعالى‪ ] :‬وننشئكم فيما ل تعلمون [ الواقعة‪:‬‬
‫‪ .56/61‬مع أنه بحقيقته التي هي حقيقته هو هو‪ ،‬ليست‬
‫هي غيره‪ ،‬وإن اختلفت به الحوال‪ ،‬وتعاقبت عليه‬
‫الطوار‪ ،‬وله شعور بنفسه‪ ،‬و بما يجري عليه من خير‬
‫وشر‪ ،‬وثواب وعقاب‪.‬‬
‫) ‪(1/11‬‬

‫وقد خطر لنا وضع هذا التأليف من مدة‪ ،‬ثم خطر لنا‬
‫تأخيره إلى أن تمضي الثالثة والستون من العمر‪ ،‬التي‬
‫هي مدة عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬على‬
‫الصحيح كما ورد في ذلك‪ .‬وقيل ستون سنة ‪ .‬وقيل‬
‫خمس وستون سنة‪.‬‬
‫وقد مضت هذه المدة من السنين‪ .‬وهي الن في السابعة‬
‫والستين‪ ،‬وقد مضت أشهر منها فنسأل الله خير ذلك‬
‫وبركته‪ ،‬وحسن ختامه ونعوذ بالله من شره وفتنته وسوء‬
‫عواقبه؛ فإنه خير مسؤول وأكرم مأمول ‪.‬‬
‫ونسأله سبحانه ونبتهل إليه‪ ،‬أن يحيينا ما كانت الحياة خيرا ً‬
‫لنا‪ ،‬ويتوفانا ما كانت الوفاة خيرا ً لنا‪.‬‬
‫م إنا نسألك‬‫م ل تقدمنا لعذاب‪ ،‬ول تؤخرنا لفتنة‪ ،‬الله ّ‬ ‫الله ّ‬
‫خير الحياة وخير الوفاة‪ ،‬وخير ما بين ذلك‪ ،‬ونعوذ بك من‬
‫شر الحياة وشر الوفاة‪ ،‬وشّر ما بين ذلك‪ ،‬أحينا حياة‬
‫ب بقاءه‪ ،‬وتوَّفنا وفاة الشهداء ‪،‬‬ ‫السعداء‪ ،‬حياة من تح ّ‬
‫ب لقاءه ‪.‬‬
‫وفاة من تح ّ‬
‫واختم لنا بالحسنى والحسان في لطف وعافية‪ ،‬وأحبابنا‬
‫ومحبينا‪ ،‬وأوليائنا فيك‪ ،‬والمسلمين‪ ،‬يا أرحم الراحمين‪،‬‬
‫آمين‪.‬‬
‫) ‪(1/12‬‬

‫دكار والعتبار بما يمر‬


‫واسم هذا المؤلف ‪ )):‬سبيل ال ّ‬
‫بالنسان وينقضي له من العمار(( ‪.‬‬
‫نسأل الله تعالى عموم النفع به‪ ،‬وأن يجعله خالصا ً لوجهه‬
‫الكريم‪ ،‬ومقربا ً من رضاه ومجاورته في جنات النعيم‪،‬‬
‫بفضله ورحمته‪ ،‬وجوده و كرمه‪ ،‬إنه الجواد الكرم البر‬
‫الرحيم‪.‬‬
‫وهذا أوان الشروع في المقصود من الكتاب‪ ،‬والله‬
‫الميسر والمعين‪ ،‬والهادي إلى الحق والصواب‪ .‬وما‬
‫توفيقي إل بالله عليه توكلت وإليه أنيب‪ ،‬وهو ربي ل إله‬
‫إل هو عليه توكلت و إليه المتاب‪.‬‬
‫***‬
‫واعلم أّنا نظرنا في جملة العمار التي تمّر على ابن آدم‬
‫و يمّر عليها‪ ،‬فوجدناها ترجع إلى خمسة‪ ،‬لكل واحد منها‬
‫ور فيها‪،‬‬‫أجل‪ ،‬وللنسان في كل واحد منها أطوار‪ ،‬يتط ّ‬
‫ل عليه‪ .‬وللناس في ذلك‬ ‫حو ُ‬‫وينتقل منها‪ ،‬وأحوال ت ُ‬
‫اختلف‪ ،‬وتوافق و تباين ‪.‬‬
‫العمر الول منها‪ :‬من حين خلق الله آدم عليه السلم‪،‬‬
‫وضمن ظهره الذرية السعداء منهم والشقياء‪ .‬فلم تزل‬
‫تنتقل من صلب إلى رحم‪ ،‬ومن رحم إلى صلب‪ ،‬إلى أن‬
‫خرج كل واحد منهم من أبيه وأمه‪.‬‬
‫والعمر الثاني ‪ :‬من حين خروج النسان من بين أبويه إلى‬
‫الدنيا‪ ،‬إلى وقت موته‪ ،‬وخروجه من الدنيا‪.‬‬
‫) ‪(1/13‬‬

‫والعمر الثالث ‪ :‬من حين خروج النسان من الدنيا‬


‫بالموت‪ ،‬إلى أن يبعثه الله بالنفخ في الصور‪ ،‬وتلك مدة‬
‫البرزخ‪.‬‬
‫والعمر الرابع ‪ :‬من حين خروج النسان من قبره‪ ،‬أو من‬
‫حيث شاء الله بالنفخ في الصور‪ ،‬ليوم البعث والنشور‪،‬‬
‫إلى الحشر إلى الله‪ ،‬والوقوف بين يديه للوزن والحساب‪،‬‬
‫والمرور على الصراط وأخذ الكتاب‪ ،‬إلى غير ذلك من‬
‫مواقف القيامة وأحوالها‪ ،‬وشدائدها وأهوالها‪.‬‬
‫و العمر الخامس ‪ :‬من وقت دخول النسان في الجنة إلى‬
‫البد‪ .‬وهذا هو العمر الذي ل انقضاء له و ل غاية‪ ،‬أو من‬
‫حين دخول أهل النار إلى النار ‪.‬‬
‫وأحوالهم مختلفة في ذلك‪ ،‬فمنهم الخالد المؤبد بل غاية‬
‫ول نهاية‪ ،‬وهم كافرون على اختلف أنواعهم‪ ،‬ومنهم‬
‫الخارجون منها‪ ،‬وهم عصاة الموحدين إما بالشفاعة وإما‬
‫بغيرها‪ ،‬على حسب ما يأتي من التفصيل‪ ،‬عند شرح ذلك‬
‫العمر الذي هو العمر الخامس‪.‬‬
‫ونحن نشرح كل واحد من هذه العمار شرحا ً وجيزًا‪ ،‬يليق‬
‫بالزمان والمكان‪ ،‬من غير تطويل وإسهاب‪ ،‬ول إيجاز مخل‬
‫س‬
‫بحصول الفوائد المقصودة التي يقع عنها السؤال‪ ،‬وتم ّ‬
‫الحاجة إلى شرحها‪ ،‬فأما التفصيل الكلي‪ ،‬فل مطمع فيه‪،‬‬
‫لنه يستدعي شرحا ً طويل ً وبسطا ً مم ً‬
‫ل‪.‬‬
‫) ‪(1/14‬‬

‫******************‬
‫******************‬
‫**** الُعمُر الوّ ُ‬
‫ل ****‬
‫******************‬
‫******************‬
‫) ‪(1/15‬‬

‫******************‬
‫******************‬
‫**** ****‬
‫******************‬
‫******************‬
‫) ‪(1/16‬‬

‫الُعمُر الوّ ُ‬
‫ل‬
‫دع‬‫لم‪َ .‬وأو َ‬ ‫م عَل َي ْهِ ال َ‬
‫س َ‬ ‫خلق الله آد َ َ‬ ‫حين َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫َوهوَ ِ‬
‫مال‬ ‫ل ال ّ‬
‫ش َ‬ ‫ل الَيمين َوأهْ َ‬ ‫صلبه المَبارك ‪ .‬أهْ َ‬ ‫الذرِّية في ُ‬
‫سَتين‬
‫دين اليمنيين المّقد َ َ‬ ‫ن الي َ َ‬‫م َ‬
‫ضَتين ِ‬
‫ل الَقب َ‬‫م أه ْ ُ‬
‫وَهُ ْ‬
‫وقد استخرج الله هذه الذرية من ظهر آدم‪ ،‬بعد أن أودعها‬
‫فيه‪ ،‬حين أخرجهم دفعة واحدة‪ ،‬لخذ الميثاق عليهم‪،‬‬
‫بالقرار بالوحدانية والربوبية‪ ،‬وذلك بنعمان‪ :‬واد قريب من‬
‫عرفات‪ ،‬كما ورد ذلك في قوله تعالى‪ ] :‬وإذ أخذ ربك من‬
‫بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم‬
‫ألست برّبكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا‬
‫كنا عن هذا غافلين[ العراف‪ 7/172:‬والية التي تليها‪.‬‬
‫وفي الخبر أو الثر‪ :‬أنه سبحانه لما أخذ عليهم ذلك‬
‫الميثاق‪ ،‬كتب عليهم به كتابًا‪ ،‬وألقمه الحجر السود‪ .‬وذلك‬
‫معنى قول المستلم للحجر‪ ،‬عند الطواف بالبيت العتيق‪:‬‬
‫اللهم إيمانا ً بك‪ ،‬ووفاًء بعهدك‪ ،‬وتصديقا ً بكتابك ‪.‬‬
‫ول شك أن ذلك يقتضي أن للذرية‪ ،‬وجودا ً سمعا ً ونطقًا‪،‬‬
‫ولكنه في مرتبة أخرى من مراتب الوجود‪ ،‬ليست هذه‬
‫المرتبة من الوجود الدنيوي‪.‬‬
‫) ‪(1/17‬‬

‫ومراتب الوجود كثيرة‪ ،‬كما يعرف ذلك أهل العلم به وبها‪.‬‬


‫وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬أنه‬
‫كان نبيا ً وآدم بين الماء والطين‪ ،‬وبين الروح والجسد‪ ،‬وأنه‬
‫هبط مع آدم حين أهبط‪ ،‬وكان مع نوح حين ركب السفينة‬
‫ومع إبراهيم حين ألقي في نار النمرود (( ‪.‬‬
‫وهذا وإن كان عاما ً في جميع الذرية‪ ،‬التي كانت في‬
‫أصلب هؤلء النبيين المذكورين‪ ،‬عليهم الصلة والسلم‪،‬‬
‫فلرسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬من ذلك وجود أتم‬
‫وأكمل‪.‬‬
‫ولعل ذلك كان بعلم منه‪ ،‬وشعور بقي معه في تلك‬
‫الحال‪،‬صلى الله عليه وسلم إلى حين ظهوره في العالم‬
‫الدنيوي‪ ،‬وقوله ذلك ليتميز‪ ،‬عليه الصلة والسلم من‬
‫غيره‪ ،‬بما خص به نفسه‪ ،‬ونّبه به على خصوصيته‪.‬‬
‫وأما غيره من الذرية‪ ،‬فيحتمل أنه كان لهم شعور ما في‬
‫تلك الحوال سيما عند أخذ الميثاق‪ ،‬ولكنه لم يبق لهم‬
‫ذلك‪ ،‬ل علما ً ول شعورًا‪ ،‬كما بقي له صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪.‬‬
‫وقد كانت الذرية في ظهر آدم ل محالة حتى في الجنة‪،‬‬
‫ويدل عليه ما ذكر في حديث الشفاعة "وهل أخرجكم من‬
‫الجنة إل خطيئة أبيكم آدم"‪.‬‬
‫جة موسى لدم عليهما السلم ‪ " :‬أنت الذي‬ ‫وفي محا ّ‬
‫أخرجت الناس من الجنة بخطيئتك" الحديث ‪.‬‬
‫) ‪(1/18‬‬

‫وورد أيضًا‪ :‬إن الله تعالى لما استخرج الذرية من ظهر‬


‫آدم عليه السلم‪ ،‬فرأتهم الملئكة عليهم السلم‪ ،‬وقد‬
‫ملئوا السهل والوعر‪ ،‬قالوا‪ :‬يا ربنا ل تسعهم الدنيا‪ ،‬فقال‬
‫الله تعالى‪ ":‬إني جاعل موتا ً "‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إذا ً ل يهنؤهم‬
‫العيش‪ ،‬فقال تعالى‪" :‬إني جاعل أمل ً " ‪.‬‬
‫وورد أيضًا‪ :‬أن الله لما استخرج الذرية من ظهر آدم عليه‬
‫السلم‪ ،‬فرأى منهم واحدا ً جميل الصورة‪ ،‬فسأل عنه‬
‫فقيل له‪ :‬هو ولدك داود عليه السلم‪ ،‬فسأل آدم ربه‪ :‬كم‬
‫كتبت لداود من العمر؟ قال تعالى ‪ :‬ستين سنة‪ .‬فسأل‬
‫ربه تعالى له الزيادة من العمر فقال سبحانه وتعالى‪ :‬هذا‬
‫الذي كتبت له‪ .‬فقال آدم عليه السلم ‪ :‬أزد له من عمري‬
‫أربعين سنة‪ ،‬وكان الله سبحانه قد كتب لدم من العمر‬
‫ألف سنة‪ .‬والحديث معروف ومشهور‪.‬‬
‫ولما رأى موسى عليه السلم في التوراة‪ ،‬أمة موصوفة‬
‫بأوصاف حميدة‪ ،‬ومنعوتة بنعوت كريمة‪ ،‬سأل عن تلك‬
‫المة ربه‪ :‬من هي؟ وأي نبي نبيها؟ وأن يجعلها أمته‪ .‬فقال‬
‫الله تعالى ‪ :‬هي أمة أحمد‪ ،‬صلوات الله وسلمه عليهما‪.‬‬
‫فسأل ربه‪ :‬أن يظهر تلك المة له‪ .‬فأظهرها له سبحانه‬
‫ل هذا الخبر يأتي بتمامه في آخر هذا العمر‪.‬‬ ‫وتعالى‪ .‬ولع ّ‬
‫وهو مذكور في بعض التفاسير عند قوله ‪) :‬وما كنت‬
‫بجانب الطور إذ نادينا ( القصص‪ .28/46:‬الية ‪.‬‬
‫) ‪(1/19‬‬
‫فتبين بما ذكرناه‪ ،‬وبما لم نذكره‪ ،‬مما في معناه‪ :‬أن‬
‫للذرية وجودا ً قبل بروزها إلى هذا العالم الدنيوي‪ .‬وأن‬
‫لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجودا ً وظهورا ً في ذلك‬
‫أتم وأكمل‪.‬‬
‫وقد أشار إليه العباس عم رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ورضي عنه‪ ،‬في أبيات له يمتدح بها رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ .‬منها‪ :‬قوله‪:‬‬
‫من قبلها طبت في الظلل وفي ‪ ...‬مستودع حيث يخصف‬
‫ق‬
‫الور ُ‬
‫ق‬
‫ثم هبطت البلد ل بشر ‪ ...‬أنت ول مضغة و ل عل ُ‬
‫بل نطفة تركب السفين وقد ‪ ...‬ألجم نسرا ً وأهله الغر ُ‬
‫ق‬
‫ق‬
‫م بدا طب ُ‬‫تنقل من صلب إلى رحم ‪ ...‬إذا مضى عال ٌ‬
‫إلى أن قال ‪:‬‬
‫حتى احتوى بيتك المهيمن من ‪ ...‬خندف علياء دونها‬
‫ق‬
‫النط ُ‬
‫ونسر‪ :‬من أصنام قوم نوح عليه السلم‪ .‬وخندف‪ :‬امرأة‬
‫إلياس بن مضر‪ ،‬وهي جدة رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫وروي أن آدم صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬كان يسمع تسبيح‬
‫نور رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬نشيشا ً في ظهره‬
‫كنشيش الطائر‪ .‬فلما حملت حواء بشيث‪ ،‬عليهما السلم‪،‬‬
‫انتقل ذلك إليها‪ ،‬ثم إلى شيث عليه السلم‪ ،‬ثم لم يزل‬
‫ينتقل ذلك النور في الصلب الطاهرة‪ ،‬والرحام الزاهرة‪،‬‬
‫إلى أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬من بين‬
‫أبويه الكريمين‪ ،‬لم يصبه شئ من أدناس الجاهلية‬
‫وأقذارها‪ ،‬وقد كانت لهم أنكحة باطلة‪ ،‬طهره الله منها‬
‫صلوات الله عليه‪ ،‬كما قال عليه الصلة والسلم‪ :‬خرجت‬
‫من نكاح ولم أخرج من سفاح ‪.‬‬
‫) ‪(1/20‬‬

‫وفي تفسير قوله تعالى ‪ ] :‬الذي يراك حين تقوم وتقلبك‬


‫في الساجدين [ الشعراء‪ 219-26/218:‬عن ابن عباس‬
‫رضي الله عنهما‪ :‬أن ذلك انتقاله عليه أفضل الصلة‬
‫والسلم‪ ،‬من صلب نبي إلى نبي آخر‪ ،‬مثل إسماعيل‬
‫وإبراهيم ونوح وشيث وآدم‪ ،‬عليهم السلم‪ .‬وهذا ل خلف‬
‫فيه‪.‬‬
‫وأما التقاؤه صلوات الله وسلمه عليه بآدم في السماء‬
‫الدنيا‪ ،‬فذلك ليلة المعراج‪ ،‬وهو صلوات الله عليه في‬
‫عمره الدنيوي‪ ،‬وآدم في البرزخ‪.‬‬
‫وأما السودة التي رآها عن يمين آدم وعن شماله‪ ،‬فسأل‬
‫عنها قيل‪ :‬إنها نسم بنيه‪ .‬فيحتمل أنهم الذين قد ماتوا‬
‫وظهرت أعمالهم المميزة لهم ويحتمل غير ذلك‪.‬‬
‫جه‪ ،‬فيحتمل‬ ‫وأما التقاء موسى عليه السلم بآدم‪ ،‬حيث حا ّ‬
‫أن يكون وهما في البرزخ جميعًا‪ ،‬ويحتمل غيره‪ .‬والله‬
‫أعلم بحقيقة الحال‪.‬‬
‫***‬
‫) ‪(1/21‬‬

‫خاتمة هذا العمر‬


‫فيما وقع به الوعد من إيراد ذلك الخبر أو الثر المذكور‬
‫بتمامه ‪ ،‬في صفة المة المحمدية ‪.‬‬
‫قال وهب بن منبه‪ ،‬رحمة الله‪ :‬لما قرأ موسى عليه‬
‫السلم اللواح‪ ،‬وجد فيها فضيلة أمة محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا رب ما هذه المة المحمدية التي أجدها في اللواح‬
‫؟‬
‫قال‪ :‬هم أمة أحمد‪ ،‬يرضون مني باليسير من الرزق‬
‫أعطيهم إياه‪ ،‬وأرضى منهم باليسير من العمل‪ ،‬أدخل‬
‫أحدهم الجنة بشهادة أن ل إله إل الله‪.‬‬
‫ة يحشرون يوم القيامة‪،‬‬ ‫قال‪ :‬فإني أجد في اللواح أم ً‬
‫وجوههم على صورة القمر ليلة البدر‪ ،‬فاجعلهم أمتي‪.‬‬
‫قال‪ :‬هم أمة أحمد‪ ،‬أحشرهم يوم القيامة غّرا ً محجلين‬
‫من آثار الوضوء و السجود‪.‬‬
‫ة أرديتهم على‬ ‫ب إني أجد في اللواح أم ً‬‫قال ‪ :‬يا ر ّ‬
‫ل ويقين‪،‬‬‫ظهورهم‪ ،‬وسيوفهم على عواتقهم‪ ،‬أصحاب توك ّ ٍ‬
‫ي ُك َّبرون على رؤوس الصوامع‪ ،‬يطلبون الجهاد بكل حقّ ‪،‬‬
‫جال فاجعلهم أمتي‪.‬‬
‫حتى يقاتلون الد ّ‬
‫) ‪(1/22‬‬

‫قال‪ :‬هم أمة أحمد ‪.‬‬


‫ة يصلون في اليوم و‬ ‫قال‪:‬يا رب إني أجد في اللواح أم ً‬
‫الليلة خمس صلوات‪ ،‬في خمس ساعات من النهار‪،‬‬
‫وتفتح لهم أبواب السماء‪ ،‬وتنزل عليهم الرحمة‪ ،‬فاجعلهم‬
‫أمتي‪.‬‬
‫قال ‪ :‬هم أمة أحمد ‪.‬‬
‫قال‪:‬يا رب إني أجد في اللواح أمة‪ ،‬تكون الرض لهم‬
‫مسجدا ً وطهورًا‪ ،‬وتحل لهم الغنائم‪ ،‬فاجعلهم أمتي‪.‬‬
‫قال ‪ :‬هم أمة أحمد ‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا رب إني أجد في اللواح أمة يصومون لك شهر‬
‫رمضان‪ ،‬فتغفر لهم ما كان قبل ذلك‪ ،‬فاجعلهم أمتي‪.‬‬
‫قال ‪ :‬هم أمة أحمد ‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا رب إني أجد في اللواح أمة يحجون لك البيت‬
‫الحرام‪ ،‬ل يقضون منه وطرًا‪ ،‬يعجون بالبكاء عجيجًا‪،‬‬
‫ويضجون بالتلبية ضجيجًا‪ ،‬فاجعلهم أمتي ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬هم أمة أحمد ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فما تعطيهم على ذلك؟‬
‫قال ‪ :‬أزيدهم المغفرة‪ ،‬وأشفعهم فيمن وراءهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا رب إني أجد في اللواح أمة سفهاء‪ ،‬قليلة‬
‫أحلمهم‪ ،‬يعلفون البهائم‪ ،‬ويستغفرون من الذنوب‪ ،‬يرفع‬
‫أحدهم اللقمة إلى فيه‪ ،‬فل تستقر في جوفه حتى يغفر‬
‫له‪ ،‬يفتتحها باسمك‪ ،‬ويختمها بحمدك‪ ،‬فاجعلهم أمتي ‪.‬‬
‫) ‪(1/23‬‬

‫قال ‪ :‬هم أمة أحمد ‪.‬‬


‫قال ‪ :‬يا رب إني أجد في اللواح أمة هم السابقون يوم‬
‫القيامة‪ ،‬وهم الخرون في الخلق‪ ،‬رب اجعلهم أمتي ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬هم أمة أحمد ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬يا رب إني أجد في اللواح أمة أناجيلهم في الصدور‬
‫يقرءونها‪ ،‬فاجعلهم أمتي ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬هم أمة أحمد ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬يا رب إني أجد في اللواح أمة‪ ،‬إذا هم أحدهم‬
‫بحسنة يعملها‪ ،‬فلم يعملها‪ ،‬كتبت له حسنة واحدة‪ .‬إن‬
‫عملها كتب له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف‪ ،‬فاجعلهم‬
‫أمتي‪.‬‬
‫قال ‪ :‬تلك أمة أحمد ‪.‬‬
‫هم أحدهم‬‫قال ‪ :‬يا رب إني أجد في اللواح أمة إذا ّ‬
‫بالسيئة‪ ،‬ثم لم يعملها لم تكتب عليه‪ ،‬وإن عملها كتبت‬
‫سيئة واحدة‪ ،‬فاجعلهم أمتي ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬تلك أمة أحمد ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬يا رب إني أجد في اللواح أمة هم خير الناس ‪،‬‬
‫يأمرون بالمعروف ‪ ،‬وينهون عن المنكر‪ ،‬فاجعلهم أمتي ‪.‬‬
‫) ‪(1/24‬‬

‫قال ‪ :‬هم أمة أحمد ‪.‬‬


‫قال ‪ :‬يا رب إني أجد في اللواح أمة‪ ،‬يحشرون يوم‬
‫القيامة على ثلث ثلل ‪ :‬ثلة يدخلون الجنة بغير حساب‪،‬‬
‫وثلة يحاسبون حسابا ً يسيرا ً ‪ ،‬وثلة يمحصون ثم يدخلون‬
‫الجنة ‪ ،‬فاجعلهم أمتي ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬هم أمة أحمد ‪.‬‬
‫قال موسى ‪ :‬يا رب بسطت هذا الخير لحمد و أمته‪،‬‬
‫فاجعلني من أمته ‪.‬‬
‫قال الله ‪ :‬يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي‬
‫و بكلمي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين‪.‬‬
‫وعن ابن عباس ‪ ،‬رضي الله عنهما قال ‪ :‬قال رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬يوما ً لصحابه ‪ :‬ما تقولون في‬
‫الية ‪ ] :‬وما كنت بجانب الطور إذ نادينا [‪ .‬القصص‬
‫‪28/46‬‬
‫فقالوا ‪ :‬الله ورسوله أعلم ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬لما كلم الله موسى عليه السلم قال ‪ :‬يا رب هل‬
‫خلقت خلقا ً أكرم عليك مني ؟ اصطفيتني على البشر ‪،‬‬
‫وكلمتني بطور سيناء ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬يا موسى أما علمت أن علمت أن محمدا ً أكرم عل ّ‬
‫ي‬
‫من جميع خلقي ‪ .‬وإني نظرت في قلوب عبادي ‪ ،‬فلم‬
‫أجد قلبا ً أشد ّ تواضعا ً من قلبك ‪.‬‬
‫) ‪(1/25‬‬

‫فلذلك اصطفيتك على الناس برسالتي و بكلمي فمت‬


‫على التوحيد و على حب محمد صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫قال موسى ‪ :‬يا رب فهل في المم أكرم عليك من أمتي‪،‬‬
‫ظللت عليهم الغمام ‪ ،‬وأنزلت عليهم المن و السلوى ‪.‬‬
‫فقال الله تعالى ‪ :‬يا موسى أما علمت أن فضل أمة‬
‫محمد على سائر المم ‪ ،‬كفضلي على جميع خلقي‪.‬‬
‫قال موسى ‪ :‬يا رب أفأراهم ؟‬
‫قال ‪ :‬لم تراهم ‪ ،‬ولكن إن أحببت أن تسمع كلمهم فعلت‬
‫‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فإن أحب ذلك ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬الله تعالى ‪ :‬يا أمة محمد ‪ .‬فأجابوا كلهم بصيحة‬
‫واحدة يقولون ‪ :‬لبيك اللهم لبيك ‪ ،‬وهم في أصلب‬
‫آبائهم ‪.‬‬
‫ثم قال الله تعالى ‪ :‬صلتي وسلمي عليكم ‪ ،‬ورحمتي‬
‫سبقت غضبي ‪ ،‬وعفوي سبق عذابي ‪ .‬وإني قد غفرت‬
‫لكم قبل أن تستغفروني‪ ،‬واستحببت لكم قبل أن تدعوني‬
‫‪ ،‬وأعطيتكم قبل أن تسألوني ‪ .‬فمن لقيني منكم يشهد أن‬
‫ل إله إل الله وأن محمدا ً رسول الله‪ ،‬غفرت له ذنوبه ‪،‬‬
‫ي بذلك ‪ ،‬فقال تعالى ‪ ] :‬وما كنت‬‫فأراد الله أن يمن عل ّ‬
‫بجانب الطور إذ نادينا [ القصص ‪ 28/46‬أمتك حتى‬
‫أسمعنا موسى كلمهم ‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫ذكره الشيخ العارف عبد العزيز الديريني رحمة الله في‬
‫طهارة القلوب ‪.‬‬
‫) ‪(1/26‬‬

‫******************‬
‫******************‬
‫**** الُعمُر الثاني ****‬
‫******************‬
‫******************‬
‫) ‪(1/27‬‬

‫******************‬
‫******************‬
‫**** ****‬
‫******************‬
‫******************‬
‫) ‪(1/28‬‬

‫الُعمُر الّثاني‬
‫ضِع‬
‫مه بالوَ ْ‬‫سان من َبطن أ ّ‬ ‫خروج الن َ‬ ‫حين ُ‬
‫ن ِ‬‫م ْ‬
‫َوهوَ ِ‬
‫موت‪.‬‬ ‫دنَيا بال َ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫خروجهِ ِ‬
‫حين ُ‬ ‫إلى ِ‬
‫وهذا هو أوسط العمار و مقصودها ‪ ،‬وفيه مدة التكليف‬
‫بالمر و النهي اللهين اللذين عليهما يترتب الثواب و‬
‫العقاب و النعيم المؤبد ‪ ،‬في جوار الله عز وجل‪ ،‬أو‬
‫العذاب المخلد والبعد عن الله عز وجل ‪.‬‬
‫والناس مختلفون في هذا العمر اختلفا ً كثيرا ً ‪ ،‬من حيث‬
‫المدة بالطول و القصر من حيثيات أخر‪ ،‬ولهذا العمر‬
‫مقدمة تشبه البرزخ الخروي ‪ ،‬الذي تظهر فيه جمل أمور‬
‫الخرة ‪ ،‬التي يقع بها التفضيل بعد البعث ‪ ،‬ويبقى فيه‬
‫شئ من معاني أمور الدنيا التي كانت مع النسان قبل‬
‫موته ‪.‬‬
‫وهذه المقدمة التي ذكرناها لهذا العمر ‪ ،‬هي مدة الحمل ‪،‬‬
‫لنه يظهر فيه شئ من معاني أمور الدنيا التي تظهر على‬
‫النسان‪ ،‬بعد خروجه من بطن أمه ‪ ،‬ويبقى فيه شئ من‬
‫معاني النسان في الصلب و الرحام ‪ ،‬التي كان ينتقل‬
‫فيها من قبل ظهوره في بطن أمه بالحمل ‪.‬‬
‫وقد ذكر الله هذا المر‪ ،‬أعني الحمل وما فيه من تلك‬
‫المظاهر و الطوار في‬
‫) ‪(1/29‬‬

‫غير ما آية من كتابه العزيز‪ .‬قال الله تعالى ‪ ] :‬ولقد خلقنا‬


‫ة في قرار‬‫النسان من سلسة من طين ثم جعلناه نطف ً‬
‫مكين ثم خلقنا النطفة علقة [ إلى قوله عز من قائل ‪:‬‬
‫] فتبارك الله أحسن الخالقين[ المؤمنون ‪14-23/12‬‬
‫وقال تعالى‪ ] :‬يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث‬
‫فإنا خلقناكم من تراب ثم نطفة ثم من علقة ثم من‬
‫مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبّين لكم ونقّر في الرحام ما‬
‫نشاء إلى أجل مسمى [ ‪ .‬الحج ‪.22/5‬‬
‫ووردت أحاديث في ذلك كثيرة ‪ ،‬عن الرسول صلوات الله‬
‫وسلمه عليه‪ ،‬ومن أجمعها أو هو أجمعها‪ ،‬حديث عبد الله‬
‫بن مسعود رضي الله عنه ‪ ،‬المذكور في الصحيحين قال ‪:‬‬
‫حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وهو الصادق‬
‫المصدوق ‪ )) :‬أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين‬
‫يوما ً نطفة ‪ ،‬ثم يكون علقة مثل ذلك ‪ ،‬ثم يكون مضغة‬
‫مثل ذلك ‪ ،‬ثم يرسل الله إليه الملك ‪ ،‬فينفخ فيه الروح‪.‬‬
‫ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه‪ ،‬وأجله ‪ ،‬و عمله ‪ ،‬وشقي‬
‫أو سعيد ‪ .‬فوالذي ل إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل‬
‫الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إل ذراع ‪ ،‬فيسبق عليه‬
‫الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها‪ ،‬وإن أحدكم ليعمل‬
‫بعمل أهل النار ‪ ،‬حتى ما يكون بينه وبينها إل ذراع‪،‬‬
‫فيسبق عليه كتاب ‪ ،‬فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ((‬
‫رواه البخاري و المسلم ‪.‬‬
‫وفي هذا الحديث الصحيح‪ ،‬ما يوجب عظيم الخوف‬
‫للمطيعين المحسنين‪ ،‬فضل ً عن العاصين المسيئين ‪.‬‬
‫) ‪(1/30‬‬

‫ثم إن النسان يمكث في بطن أمه إلى وقت أن يشاء‬


‫الله خروجه منها لقل الحمل أو أكثره أو غالبه وهو تسعة‬
‫أشهر فإذا خرج من بطن أمه فذلك أول عمره الدنيوي ‪.‬‬
‫وقد ذكر الله ابتداء هذا العمر في كتابه ‪ ،‬وتنقل النسان‬
‫فيه من طور إلى طور‪ ،‬ومن حال إلى حال‪ .‬قال الله‬
‫تعالى ‪ ] :‬ثم نخرجكم طفل ً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من‬
‫يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيل يعلم من بعد‬
‫علم شيئا ً [ الحج ‪ .22/5‬وفي الية الخرى ‪ ] :‬ثم لتكونوا‬
‫شيوخا ً ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجل ً مسمى‬
‫ولعلكم تعقلون [‪ .‬غافر ‪ 67 /40‬واليات في هذا المعنى‬
‫كثيرة ‪.‬‬
‫فالنسان في هذا العمر‪ ،‬ينتقل من حال طفولية إلى حال‬
‫بلوغ بالسن أو الحتلم‪ ،‬ثم إلى حال شباب‪ ،‬ثم حال‬
‫كهولة‪ ،‬ثم حال شيخوخة وكبر إلى ما شاء الله ‪ ،‬من حال‬
‫هرم وخرف ‪ ،‬على وفق ما ذكر الله في كتابه ‪.‬‬
‫فإذا وضع النسان من بطن أمه‪ ،‬استهل صارخًا‪ .‬وذلك من‬
‫لكزة الشيطان لعنة الله‪ ،‬التي لم يسلم منها إل عيسى‬
‫بن مريم وأمه عليهما السلم ‪ ،‬وذلك أن الله أعاذهما منها‬
‫‪ ،‬بقول أم مريم‬
‫زوجة عمران ‪] :‬وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان‬
‫الرجيم [ آل عمران ‪ .3/36‬كما ذكر ذلك في الحديث‪،‬‬
‫وإن إبليس جاء ليطعن فوقعت طعنته في الحجاب ‪.‬‬
‫) ‪(1/31‬‬

‫ومن السنة المأمور بها ‪ :‬أن يؤذن في أذن المولود‬


‫اليمنى‪ ،‬ويقام للصلة في أذنه اليسرى‪ ،‬تذكيرا له‬
‫بالفطرة التي فطر الله الناس عليها ‪ ،‬وهي التوحيد‪ .‬قال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ :‬كل مولود يولدعلى‬
‫الفطرة ‪ ،‬فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه‪ .‬وقال‬
‫الله تعالى ‪ ] :‬فأقم وجهك للدين حنيفا ً فطرة الله التي‬
‫فطر الناس عليها [ ‪ .‬الروم ‪30/30‬‬
‫فمن المر المؤكد على البوين‪ :‬أن يحفظا المولود من‬
‫كل شئ يخرج به عن حد الفطرة ‪ ،‬ويحسنا تربيته ‪،‬‬
‫ويجتهدا في ذلك‪ ،‬ويجنباه المراضع السوء ؛ فإن الرضاع‬
‫يغير الطباع كما في الحديث ‪.‬‬
‫وعليهما أن يغرسا في قلبه تعظيم شعائر الدين ‪،‬‬
‫وحرمات الله ومحبة الخير ‪ ،‬ومحبة العمل به ‪ ،‬ومحبة‬
‫أهله ‪ ،‬ويرغباه فيه ‪ ،‬ويحثاه عليه ‪ ،‬ويبغضا إليه الشر‬
‫والعمل به ويبغضا إليه أهله والعاملين به ‪ ،‬وأن ل يزرعا‬
‫في قلبه حب الدنيا و شهواتها ‪ ،‬والميل إلى التنعم بها ‪،‬‬
‫ول يعيناه على ذلك ‪ ،‬ول يساعداه عليه‪ ،‬ول يسعفاه به ‪.‬‬
‫فإن ذلك من الساءة إليه و العدول به عن شاكلة‬
‫الستقامة ‪.‬‬
‫وعليهما أن يأمراه بالصلة‪ ،‬وبما أطاق من الصوم‪ ،‬إذا بلغ‬
‫سبع سنين‪ ،‬ويضرباه على ترك ذلك إذا بلغ عشر سنين‪،‬‬
‫ويمنعاه من قرناء السوء وخلطاء الشر‪ ،‬ومن الغالب عليه‬
‫الفضول و الغفلة‪ ،‬من صغير أو كبير‪،‬‬
‫) ‪(1/32‬‬

‫ويزيدا في تعهده‪ ،‬وحسن النظر عليه‪ ،‬مهما ظهرت فيه‬


‫مخايل التميز ‪ ،‬ول يدعاه يقول ول يفعل إل المليح‬
‫المستحسن‪ ،‬ليقع نشوءه على ذلك ‪ ،‬ويرسخ فيه تعود‬
‫العادات الحسنة ‪ ،‬فيتيسر عليه العمل بذلك في كبره؛‬
‫فإن الخير عادة‪ ،‬وأكثر وظائف هذا الحين من هذا العمر ‪،‬‬
‫يتعلق القيام بها بالباء و الولياء ‪.‬‬
‫ومن المهم حفظ الصبي من الصبيان الذين ليسوا من‬
‫أولد أهل الخير‪ ،‬ول من المغارس الطيبة‪ .‬فقد قيل ‪ :‬أكثر‬
‫فساد الصبيان من بعضهم لبعض ‪.‬‬
‫وقد ذكر المام حجة السلم رحمة الله في كتاب رياضة‬
‫النفس من الحياء بيانا ً كافيا ً شافيا ً في رياضة الصبيان‪،‬‬
‫وكيفية العمل في حسن تربيتهم ‪.‬‬
‫وهذا الوقت الذي هو من حين الوضع إلى حين البلوغ‪،‬‬
‫حال تخفيف من الله عز وجل ‪ ،‬ليس فيه تكليف على‬
‫الصبيان‪ ،‬بصلة ول بصوم‪ ،‬ول بغيرهما من التكاليف‬
‫الشرعية ‪ ،‬إل ما كان على الولياء من المر بذلك ‪.‬‬
‫وفي الحديث ‪ )) :‬رفع القلم عن ثلثة‪ ،‬عن الصبي حتى‬
‫يبلغ ‪ ،‬وعن النائم حتى يستيقظ‪ ،‬وعن المجنون حتى يفيق‬
‫(( ‪.‬‬
‫ن من الله وفضل ولطف وتخفيف ‪.‬‬ ‫وذلك م ّ‬
‫وأعمال الطفل من الطاعات التي تكون قبل البلوغ في‬
‫صحائف أبويه من المسلمين ‪.‬‬
‫) ‪(1/33‬‬

‫ومهما أحسنا في تربيته والقيام عليه كما ينبغي فالمرجو‬


‫من فضل الله أن ل يخيبهما من ثواب أعماله الصالحه‬
‫وطاعاته بعد البلوغ ‪ ،‬بل المرجو من فضل الله أن يكون‬
‫لهما منها مثل ثوابه ‪.‬‬
‫ويشهد لذلك ما ورد من الحاديث في الدعاء إلى الهدى‬
‫والدللة على الخير فإنهما قد دعواه إلى الهدى‪ ،‬ودله‬
‫على الخير‪ ،‬مهما أخذا في حقه بنحو ما ذكرناه من‬
‫الحسان في تربيته‪ ،‬وأمره بالخير‪ ،‬وترغيبه فيه ‪ ،‬ونهيه‬
‫عن الشر وزجره عنه والله أعلم ‪.‬‬
‫فإذا بلغ الطفل وهو عاقل ‪ ،‬فقد صار مكلفا ً ‪ ،‬وتوجه عليه‬
‫الخطاب ‪ ،‬والمطالبه من الله ‪ ،‬بالمر والنهي ‪ ،‬والوعد‬
‫والوعيد ‪ ،‬والثواب والعقاب ‪ ،‬وأمر الله الحافظين‬
‫الكريمين من الملئكة ‪ ،‬أن يكتبا له الحسنات ‪ ،‬وعليه‬
‫السيئات ‪ ،‬أحدهما عن يمينه ‪ ،‬وهو صاحب الحسنات ‪،‬‬
‫والخر عن شماله وهو صاحب السيئات ‪.‬‬
‫قال الله تعالى ‪ ] :‬وإن عليكم لحافظين كراما ً كاتبين‬
‫يعلمون ما تفعلون[ النفطار ‪ ،12-82/10:‬وقال الله‬
‫تعالى ‪] :‬إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد‬
‫ما يلفظ من قول إل لديه رقيب عتيد[ ق ‪،18-50/17:‬‬
‫وقد أمرا أن يحفظا عليه جميع أقواله وأفعاله‪ ،‬من الخير‬
‫والشر مدة حياته إلى أن يموت ‪ ،‬ثم يحضرا معه يوم‬
‫القيامة ‪ ،‬حين يقف بين يدي الله فيشهدا له وعليه‪ ،‬قال‬
‫الله تعالى ‪]:‬وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد[ ق ‪:‬‬
‫‪. 50/21‬‬
‫) ‪(1/34‬‬

‫وعلى الب والولي إذا بلغ الطفل‪ ،‬أن يجددا عليه التذكير‬
‫بعلوم اليمان ‪ ،‬وعلم المر والنهي‪ ،‬إن كان قد سبق عليه‬
‫منهم التعريف لذلك ‪ ،‬والتذكير به قبل البلوغ فإن هذا‬
‫الذي صار إليه طور آخر ‪ .‬وله فيه شأن آخر ‪.‬‬
‫وهو إن كان قد بلغ وصار مكلفا ً ومخاطبا ً بأمر الله ‪ ،‬فهو‬
‫محتاج مع ذلك إلى زيادة الحث منهما ‪ ،‬والتذكير والتعريف‬
‫بما ذكر ‪ ،‬وبما في معناه من المور التي قد توجهت‬
‫عليه ‪ ،‬من وجوب الفرائض ‪ ،‬من الصلوات والصيام ‪،‬‬
‫وترك المحارم ‪ ،‬من الزنا واللواط ‪ ،‬وشرب الخمر ‪ ،‬وأكل‬
‫أموال الناس بالباطل ‪ ،‬من الربا والغصب والخيانة ‪ ،‬وغير‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫وإن كانت هذه الشياء مما يلزم البالغ العاقل طلب علمها‬
‫بنفسه ‪ ،‬إن لم يكن قد علمها من قبل البلوغ فإنه بقي‬
‫على الباء والولياء ‪ ،‬أن يحثوه ويحرضوه على علم ذلك‬
‫وعلى العمل به تذكيرا ونصيحة إما على الوجوب وإما‬
‫على الندب المتأكد يختلف ذلك باختلف أحوال الباء‬
‫وأحوال الولد ‪.‬‬
‫فإذا بلغ الطفل فقد دخل ببلوغه في أول طور الشباب‬
‫من العمر ‪ ،‬وهو منه حال نشاط وإقبال القوة ‪ ،‬وأقمنها‬
‫وأجدرها باكتساب الحسنات ‪ ،‬والعمل بالصالحات ‪،‬‬
‫وإجتناب السيئات والعمال المنكرات‪ ،‬لما فيه من توافر‬
‫النشاط واستكمال القوة وإقبال العمر ‪ ،‬ولكنه شأن‬
‫مخطر وحال‬
‫) ‪(1/35‬‬
‫مخوف‪ ،‬الغالب فيه على كثير من الشباب أو أكثرهم‬
‫الميل إلى الشهوات‬
‫الدنيوية ‪ ،‬واليثار للذات العاجلة والتكاسل عن الطاعات‬
‫والخيرات ‪ ،‬والعمال الصالحات ‪.‬‬
‫ويعّز من الشباب وجود المستقيم على الطاعة ‪ ،‬الراغب‬
‫في العمال الصالحة ‪ ،‬التارك لشهوات الدنيا ولذاتها‬
‫الفانية ‪.‬‬
‫ب ل صبوة‬ ‫ولذلك ورد في الحديث ‪ :‬عجب رّبك من شا ّ‬
‫له‪.‬‬
‫وعد ّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبعة اللذين‬
‫ل إل ظّله ‪ ،‬شابا ً نشأ في‬
‫يظلهم الله في ظله يوم ل ظ ّ‬
‫عبادة الله ‪.‬‬
‫وروي عن الله أنه قال ‪ :‬أيها الشاب التارك شهوته من‬
‫أجلي‪ ،‬أنت عندي كبعض ملئكتي‪ ،‬فيتعين على الشاب ‪،‬‬
‫ويتأكد غاية التأكد أن يتحفظ على شبابه أن يوقعه في‬
‫سخط الله وأليم عقابه ‪ ،‬وليجعله وسيلة له وسلما ً ‪،‬‬
‫موصل ً إلى نيل رضوان الله وعظيم ثوابه ‪ ،‬وليمتثل وصية‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أشفق علينا وأرحم‬
‫بنا من أنفسنا وآبائنا وأمهاتنا‪ ،‬حيث يقول ‪ )) :‬اغتنم خمسا ً‬
‫قبل خمس ‪ :‬شبابك قبل هرمك ‪ ،‬وصحتك قبل سقمك ‪،‬‬
‫وفراغك قبل شغلك ‪ ،‬وغناك قبل فقرك‪ ،‬وحياتك قبل‬
‫موتك (( ‪.‬‬
‫وقال صلوات الله عليه ‪)) :‬ل تزول قدما عبد ‪ ،‬أي من‬
‫موقف القيامة ‪ ،‬حتى يسئل عن خمس ‪ :‬عن عمره فيما‬
‫أفناه ؟ وعن شبابه فيما أبله ؟ وعن ماله من أين اكتسبه‬
‫؟ وفيما أنفقه ؟(( الحديث ‪.‬‬
‫) ‪(1/36‬‬

‫والشباب هو الزمن الذي يمكن فيه تحصيل الفضائل ‪،‬‬


‫واقتناص العلوم ‪ ،‬ونيل مراتب السيادة والرياسة الدينية‬
‫وغيرها ‪ ،‬حتى قال القائل ‪ ،‬مشيرا ً إلى ذلك ‪:‬‬
‫إذا بلغ الفتى عشرين عاما ً ‪ ...‬وأعجزه الفخار فل فخار‬
‫وقال آخر ‪:‬‬
‫ت من‬ ‫ع ْ‬
‫ش َ‬ ‫ت ما ِ‬ ‫ب ‪َ ...‬فل ُ‬
‫سد ْ َ‬ ‫سد ْ في ليالي الشبا ْ‬
‫إذا لم ت َ ُ‬
‫ه‬
‫ب َعْد َهُن ّ ْ‬
‫وهل جل عمرك إل الشباب ‪ ...‬خذ الحظ منه ول تهملنه‬
‫وكان الرجال من السلف الصالح اللذين طالت أعمارهم‬
‫في سبيل الله وطاعته‪ ،‬يحضون الشباب ‪ ،‬ويحثونهم على‬
‫اغتنام شبابهم ‪ .‬ويقولون لهم ‪ :‬اغتنموا شبابكم من قبل‬
‫أن تصيروا إلى مثل حالنا هذا ‪ ،‬يعنون الكبر والضعف‬
‫والعجز ‪ ،‬عن كثير من العمال الصالحة‪ ،‬مع أنهم في‬
‫أحوالهم تلك‪ ،‬كانوا يسبقون الشباب في السعي إلى‬
‫الله ‪ ،‬والجد والتشمير في طاعته ‪.‬‬
‫ثم ينتقل الشاب من حال الشباب إلى حال الكهولة‪ ،‬وفي‬
‫هذا الحال استواء العمر ‪ ،‬وبلوغ الشد ‪.‬‬
‫وقد قسم ابن الجوزي العمر إلى خمسة مواسم فقال ‪:‬‬
‫الموسم الول ‪ :‬الصبا ‪ ،‬وهو إلى أن يبلغ النسان خمس‬
‫عشرة سنة ‪.‬‬
‫) ‪(1/37‬‬

‫والثاني ‪ :‬الشباب ‪ ،‬وهو إلى أن يبلغ النسان خمس‬


‫وثلثين سنة ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬الكهولة ‪ ،‬وهو إلى أن يبلغ النسان خمسين سنة‬
‫‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬الشيخوخة ‪ ،‬وهو إلى أن يبلغ النسان سبعين‬
‫سنة ‪.‬‬
‫والخامس ‪ :‬الكبر ‪ ،‬وهو إلى آخر العمر ‪ .‬انتهى بمعناه ‪.‬‬
‫وقد قسم غيره من العلماء رحمهم الله تعالى‪ ،‬إلى قريب‬
‫أو نحو ما ذكره ‪.‬‬
‫وبعد بلوغ الشد واستواء العمر ‪ ،‬ينتظر من الله إتيان‬
‫الحكم والعلم لهله ‪ ،‬وتغلب النابة والرجوع إلى الله ‪،‬‬
‫على العبد الموفق ‪ ،‬الملحوظ بعين الله ‪ ،‬قال الله‬
‫تعالى ‪] :‬ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما ً وعلما ً وكذلك‬
‫نجزي المحسنين[ القصص ‪ .28/14‬وقال الله تعالى ‪:‬‬
‫]حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال ‪ :‬رب أوزعني‬
‫ي وعلى والديّ وأن أعمل‬ ‫أن أشكر نعمتك التي أنعمت عل ّ‬
‫صالحا ً ترضاه[ الية الحقاف ‪.46/15‬‬
‫وعلى رأس الربعين من سن رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬أوحى الله إليه‪ ،‬وأرسله كافة للناس بشيرا ً ونذيرا ً‬
‫‪.‬‬
‫ويكاد يتبين في هذا السن الذي هو سن الكهولة‪ ،‬ما‬
‫النسان مراد به وله ‪ ،‬من الخير والشر والصلح‬
‫والفساد ‪ ،‬بأمارات وعلمات تلوح على‬
‫) ‪(1/38‬‬

‫النسان‪ ،‬وتغلب عليه ‪ ،‬حتى إنه بلغنا أن النسان إذا بلغ‬


‫الربعين ولم يغلب خيُرهُ شّره‪ ،‬يمسح الشيطان وجهه‬
‫ويقول‪ :‬بأبي وجه ل يفلح ‪.‬‬
‫ويقال أيضا ً ‪ :‬من بلغ الربعين ولم يغلب خيره شره‪،‬‬
‫فليتجهز إلى النار ‪.‬‬
‫َ‬
‫والربعون ‪ :‬هو العمر الذي قال الله تعالى فيه ‪] :‬أوَل َ ْ‬
‫م‬
‫ذيُر [ )فاطر‪:‬‬ ‫جاَءك ُ ُ‬
‫م الن ّ ِ‬ ‫ن ت َذ َك َّر وَ َ‬ ‫ما ي َت َذ َك ُّر ِفيهِ َ‬
‫م ْ‬ ‫مْرك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ن ُعَ ّ‬
‫ح‪.‬‬
‫ج َ‬
‫‪ (37‬في أحد القوال‪ .‬وقيل ‪ :‬هو الستون ‪ .‬وُر ّ‬
‫وقال الشيخ العارف عبد الوهاب بن أحمد الشعراني في‬
‫) البحر المورود ( ‪ :‬أخذ علينا العهود إذا بلغنا من العمر‬
‫أربعين سنة أن نطوي فراش النوم إل غلبة‪ .‬ول نغفل عن‬
‫كوننا مسافرين إلى الخرة في كل نفس‪ ،‬حتى ل يكون لنا‬
‫في الدنيا قرار قط‪ .‬وأن نرى الذرة الواحدة من عمرنا‬
‫بعد بلوغ الربعين‪ ،‬تعدل مائة عام قبل ذلك‪ .‬وكذلك ل‬
‫يكون لنا بعد الربعين راحة‪ ،‬ول مزاحمة على وظيفة‪ ،‬ول‬
‫فرح بشىء من الدنيا ‪ .‬كل ذلك لضيق العمر بعد الربعين‪،‬‬
‫وعدم مناسبة الغفلة والسهو واللعب لمن أشرف على‬
‫معترك المنايا ‪.‬‬
‫وقد كان المام مالك يقول ‪ :‬أدركنا الناس وهم يتفقهون‬
‫إلى الربعين‪ ،‬فإذا بلغوا أربعين سنة‪ ،‬اشتغلوا بالعمل بما‬
‫علموا ‪ ،‬ولم يبق لهم فراغ إلى اللتفات لشيء من الدنيا ‪.‬‬
‫) ‪(1/39‬‬

‫ولما بلغ المام الشافعي رحمه الله أربعين سنة‪ ،‬صار‬


‫يمشي على العصا‪ ،‬فإذا قيل له في ذلك يقول ‪ :‬لذكر أني‬
‫مسافر‪ .‬انتهى‪ .‬ووالله إني صرت أرى نفسي الن مثل‬
‫الطائر المحبوس في القفص‪ ،‬فخرج كله من القفص إلى‬
‫الهواء‪ ،‬وصار معوقا ً بكعبه في القفص فقط‪ ،‬فحكمي الن‬
‫كذلك ليس عندي بقايا شهوة للقامة في الدنيا‪ ،‬وليس‬
‫أحد من أصحابي في حل أن يعطيني شيئا ً من الدنيا‬
‫صدقة‪ ،‬أو يذكر لي شيئا ً من أحوالها‪ ،‬إل ما يلزمني شرعًا‪،‬‬
‫وبيني وبينه الله‪ ،‬إن ذكر لي شيئا ً منها غير ما لزمني‪،‬‬
‫وأقول ‪ :‬حسبي الله والله يجعل كل إخواني كذلك ‪،‬‬
‫آمين ‪ .‬انتهى ‪.‬‬
‫وقال وهب بن منبه رحمه الله تعالى‪ :‬قرأت في بعض‬
‫الكتب ‪ :‬أن مناديا ينادي من السماء الرابعة كل صباح ‪:‬‬
‫أبناء الربعين أنتم زرع قد دنا حصاده‪ ،‬أبناء الخمسين ماذا‬
‫خرتم ؟ ‪ ،‬أبناء الستين ل عذر لكم‪ ،‬ليت‬ ‫قدمتم ؟ وماذا أ ّ‬
‫الخلق لم يخلقوا‪ ،‬وإذا خلقوا علموا لماذا خلقوا‪ ،‬قد أتتكم‬
‫الساعة خذوا حذركم ‪.‬‬
‫ثم ينتقل الكهل من حال الكهولة إلى حال الشيخوخة‪.‬‬
‫وهو من الخمسين إلى السبعين على ما ذكره ابن‬
‫م‬‫م ط ِْفًل ث ُ ّ‬‫جك ُ ْ‬‫خرِ ُ‬ ‫م يُ ْ‬‫الجوزي ‪ .‬وقد قال الله تعالى ‪] :‬ث ُ ّ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ن ي ُت َوَّفى ِ‬‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫خا وَ ِ‬ ‫شُيو ً‬ ‫كوُنوا ُ‬‫م ل ِت َ ُ‬‫م ثُ ّ‬ ‫ل ِت َب ْل ُُغوا أ َ ُ‬
‫شد ّك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ن[ )غافر‪. (67 :‬‬ ‫م ت َعِْقُلو َ‬ ‫مى وَل َعَل ّك ُ ْ‬‫س ّ‬‫م َ‬ ‫جًل ُ‬ ‫ل وَل ِت َب ْل ُُغوا أ َ‬
‫قَب ْ ُ‬
‫) ‪(1/40‬‬

‫وفي هذا السن من هذا العمر‪ ،‬تظهر على النسان أوائل‬


‫الضعف‪ ،‬وتراجع القوى‪ ،‬والتراجع‪ :‬رجوع الشيء إلى‬
‫ورائه فيرجع بعد القوة إلى الضعف‪ ،‬وفيه الوقت الذي‬
‫سماه صلى الله عليه وسلم معترك المنايا وهو من‬
‫الستين إلى السبعين ‪.‬‬
‫وقد قال الله عليه الصلة والسلم ‪ :‬حصاد أمتي بين‬
‫الستين والسبعين ‪ .‬وفي ذلك السن قبض رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فإنه صلوات الله وسلمه عليه‬
‫توفي وسنه ثلث وستون على الصحيح‪ .‬وكذلك أبو بكر‬
‫وعمر وعلي رضي الله عنهم ‪.‬‬
‫وأما عثمان رضي الله عنه فعاش إلى أن جاوز الثمانين ‪.‬‬
‫كر فيه من‬ ‫وقد قال الله تعالى ‪ ] :‬أولم نعمركم ما يتذ ّ‬
‫تذكر وجاءكم النذير[ فاطر ‪ 35/37‬فقيل ‪ :‬إن ذلك العمر‬
‫هو الستون كما سبق ‪.‬‬
‫و النذير هو القرآن أو الرسول أو الشيب‪ .‬وفي الحديث ‪:‬‬
‫أعذر الله إلى امرئ أخر الله أجله حتى بلغ الستين‪.‬‬
‫ومعنى أعذر الله إليه ‪ ،‬أي لم يترك له عذرا ً يعتذر به في‬
‫أنه عاجله الجل‪ ،‬وقصرت به مدة العمر ‪.‬‬
‫ثم إن هذه المة من أقصر المم أعمارًا‪ ،‬وقد كان الرجل‬
‫من المم السابقة يعمر اللف وما قاربها أو زاد عليها‪.‬‬
‫قال بعض العلماء ‪ :‬كان المحتلم من المم السالفة ل‬
‫يحتلم حتى يجاوز الثمانين ‪.‬‬
‫حمت‬ ‫وروي أن بعض بني آدم توفي لمائتي سنة ‪ ،‬فتَر ّ‬
‫مرِهِ ‪.‬‬
‫صرِ عُ ْ‬
‫عليه الخلئق لِق َ‬
‫) ‪(1/41‬‬

‫وروي أن إبراهيم الخليل عليه السلم اختتن وهو ابن‬


‫ثمانين سنة‪ ،‬حين أمره الله بالختنان ‪.‬‬
‫ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استقصر‬
‫أعمار أمته من بين سائر المم‪ ،‬سأل الله لهم وتضرع‬
‫إليه‪ ،‬من حيث إنه إذا قصرت أعمارهم ‪ ،‬لم تطل أيامهم‬
‫في طاعة الله‪ ،‬أي والعمل لخرتهم ‪ ،‬فتقل بسبب ذلك‬
‫حظوظهم من ثواب الله والدرجات العل ‪ ،‬فأطاعاه الله‬
‫ليلة القدر ‪ ،‬التي هي خير من ألف شهر ‪ ،‬تطويل ً‬
‫لعمارهم ‪ ،‬وتضعيفا ً لثوابهم وحسناتهم ‪ ،‬حتى يصير‬
‫الواحد منهم إذا قام فيها بطاعة الله يصير كأنه قام ألف‬
‫شهر‪ ،‬وذلك أكثر من ثمانين سنة ‪.‬‬
‫فمن قام في ليلة القدر اثنتى عشرة سنة‪ ،‬كان كمن‬
‫عاش في طاعة الله ألف سنة أو أكثر‪ ،‬فتأمل حساب‬
‫ذلك‪ ،‬فإنه ظاهر وذلك الذي أعطاه الله هذه المة ببركات‬
‫رسوله‪ ،‬وعظم كرامته عليه ومن شدة اعتنائه صلى الله‬
‫عليه وسلم بأمته وحرصه على حب الخير لها ‪.‬‬
‫وفي هذا السن الذي هو الشيخوخة‪ ،‬يغلب على النسان‬
‫الرجوع إلى الله‪ ،‬وشدة العناية بالتزود للخر‪ ،‬والزهد في‬
‫الدنيا وغاية التشمير‪ ،‬والجد في العمل بالطاعة لمن وفقه‬
‫الله‪ ،‬وهو وقت الوقار و الخشوع‪ ،‬و مجانبة اللهو والهزل‬
‫بالمرة ‪.‬‬
‫ولذلك كان الذي يميل من المشايخ إلى خلف ذلك‪،‬‬
‫مستقبح الحال سيء الطريقة ‪ ،‬مستنكر السيرة ‪.‬‬
‫) ‪(1/42‬‬

‫وفي الحديث الصحيح ‪ ":‬ثلثة ل يكلمهم الله يوم القيامة‪،‬‬


‫ول ينظر إليهم ول يزكيهم ‪ ،‬ولهم عذاب أليم ‪ .‬فعَد ّ منهم‬
‫الشيخ الزاني"‪.‬‬
‫فصارت هذه الفاحشة القبيحة من كل أحد ‪ ،‬أقبح منه‬
‫وأفحش‪ ،‬لما هو عليه من كبر السن‪ .‬وكونه في مظنة‬
‫الخوف من الله تعالى و الخشية‪ ،‬وحال الوقار و الحياء‬
‫من الله تعالى‪.‬‬
‫وفي هذا السن‪ ،‬يغلب ظهور الشيب ويعم‪ ،‬وهو نور‬
‫المسلم كما ورد ‪ ،‬وفي الحديث ‪ :‬من شاب شيبة في‬
‫السلم كانت له نورا ً ‪.‬‬
‫وقد بلغنا أن أول من شاب إبراهيم الخليل عليه السلم‬
‫ب ما هذا؟ فقال له رّبه ‪ :‬هذا‬ ‫فلما رأى الشيب قال ‪ :‬يا ر ّ‬
‫ب زدني منه ‪.‬‬ ‫هو الوقار‪ ،‬فقال‪ :‬ر ّ‬
‫ي بساط‬ ‫كر بقرب الجل ‪ ،‬وط ّ‬ ‫مذ َ ّ‬ ‫والشيب مذكر‪ ،‬أي ُ‬
‫المل ‪ ،‬ومؤذن بقرب الرحيل ‪ ،‬وسرعة التحويل ‪ .‬ويقال ‪:‬‬
‫الشيب مظنة الجل‪ ،‬وطريدة المل ويقال أيضا ً ‪ :‬ما أقبح‬
‫مم ‪.‬‬
‫مم إذا ألم الشيب بالل ّ‬ ‫غشيان الل ّ‬
‫وقال الخطيب بن نباته ‪ :‬أل إن الشيب ثغر الحياة الذي ل‬
‫يمكن سداده‪ ،‬ول يصلح الدهر فساده‪ ،‬وهو نور طالع‬
‫بأفول النسم سائر بالشخاص إلى محل الرمم‪ ،‬فل‬
‫تحرقوا ‪-‬رحمكم الله ‪ -‬نور مشيبكم بنار ذنوبكم ‪ .‬انتهى ‪.‬‬
‫) ‪(1/43‬‬

‫وقال عليه السلم ‪ )) :‬قال الله تعالى ‪ :‬وعزتي وجللي‬


‫وفاقة خلقي إلي أني لستحي من عبدي وأمتي يشبان‬
‫في السلم أن أعذبهما ‪ ،‬ثم بكى فقيل ‪ :‬ما يبكيك يا‬
‫رسول الله ؟ قال ‪ :‬أبكي ممن يستحيي الله منه‪ ،‬وهو ل‬
‫يستحيي من الله (( ‪.‬‬
‫ومن المندوب إليه توقير ذي الشيبة المسلم ‪ ،‬وقال عليه‬
‫الصلة و السلم‪ )) :‬من إجلل الله إجلل الشيبة المسلم‬
‫وحامل القرآن غير الغالي فيه‪ ،‬ول الجافي عنه‪ ،‬والمام‬
‫المقسط وهو العادل((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة و السلم ‪ )) :‬ليس منا من لم يوقر‬
‫كبيرنا ‪ ،‬ويرحم صغيرنا ‪ ،‬ويأمر بالمعروف وينهي عن‬
‫المنكر (( ‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬ما وقر شاب‬
‫شيخا ً إل قيض الله له في سنه من يوقره (( ‪.‬‬
‫وقال المام الغزالي رحمة الله تعالى ‪ :‬وفي ذلك بشارة‬
‫بطول العمر مع ما فيه من الجر ‪ .‬انتهى ‪.‬‬
‫ويستحب تغيير الشيب و خضابه ‪ :‬إما بالصفرة‪ ،‬وإما‬
‫بالحمرة‪ ،‬ويحرم بالسواد إل لمجاهد في سبيل الله‪ ،‬إرهابا ً‬
‫للكفار‪ ،‬وتهييبا ً لهم ‪.‬‬
‫ثم ينتقل النسان من حال الشيخوخة إلى حال الهرم‬
‫والكبر‪ ،‬وهو من السبعين إلى آخر العمر على ما قاله ابن‬
‫الجوزي‪ ،‬ول يزال يسمى النسان شيخا ً وإن جاوز ذلك‬
‫السن إلى أن يموت ‪.‬‬
‫) ‪(1/44‬‬

‫وفي هذا السن من العمر‪ ،‬يستولي على النسان الضعف‪،‬‬


‫ويغلب عليه وعلى جميع حواسه وجوارحه وقواه‪ .‬قال الله‬
‫ن ب َعْدِ‬
‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫جع َ َ‬ ‫م َ‬ ‫ف ثُ ّ‬ ‫ضع ْ ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫خل ََقك ُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬‫تعالى ‪ ] :‬الل ّ ُ‬
‫ما‬‫خل ُقُ َ‬
‫ة يَ ْ‬‫شي ْب َ ً‬‫ضعًْفا وَ َ‬ ‫ن ب َعْدِ قُوّةٍ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫جع َ َ‬ ‫م َ‬ ‫ف قُوّةً ث ُ ّ‬ ‫ضع ْ ٍ‬ ‫َ‬
‫ديُر [ )الروم‪. (45 :‬‬ ‫م ال َْق ِ‬‫شاُء وَهُوَ ال ْعَِلي ُ‬ ‫يَ َ‬
‫ومنه ُيرد ّ إلى أرذل العمر الذي قال فيه عّز من قائل ‪:‬‬
‫ن ب َعْدِ ِ ْ‬ ‫َ‬
‫ع لم ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫مرِ ل ِك َْيل ي َعْل َ َ‬‫ل ال ْعُ ُ‬‫ن ي َُرد ّ إ َِلى أْرذ َ ِ‬ ‫م ْ‬
‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫]و َ ِ‬
‫شي ًْئا[ )الحج ‪ ، (5:‬وهو الخرف‪ ،‬واضطراب العقل‪ ،‬ومنه‬ ‫َ‬
‫استعاذ عليه السلم فقال في دعائه‪ :‬وأعوذ بك من أن أرد‬
‫إلى أرذل العمر‪ .‬واستعاذ من سوء الكبر في غير ما‬
‫حديث‪.‬‬
‫ويقال في الزبور‪ :‬من بلغ السبعين اشتكى من غير علة‪.‬‬
‫وروي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال قالوا ‪ :‬يا‬
‫رسول الله ما أعمار أمتك ؟ قال ))مصارعهم ما بين‬
‫الستين إلى السبعين((‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول الله فأبناء‬
‫ل من يبلغها من أمتي‪ .‬فرحم الله أبناء‬ ‫السبعين‪ ،‬قال‪ :‬ق ّ‬
‫السبعين‪ .‬ورحم الله أبناء الثمانين‪ .‬وقد قيل ‪:‬‬
‫إذا كانت السبعون داءك لم يكن ‪ ...‬لدائك إل أن تموت‬
‫ب‬ ‫طبي ُ‬
‫وإن أمرءا ً قد سار سبعين حجة ‪ ...‬إلى منهل من ورده‬
‫ب‬‫لقري ُ‬
‫) ‪(1/45‬‬

‫وقيل أيضا ً ‪:‬‬


‫وما صاحب السبعين والعشر بعدها ‪ ...‬بأقرب ممن حن ّك َت ْ ُ‬
‫ه‬
‫القواب ُ‬
‫ل‬
‫ن حقّ وباط ُ‬
‫ل‬ ‫ن للراجي َ‬ ‫ملها الفتى ‪ ...‬وفيه ّ‬ ‫ولكن أمال ً يؤ ّ‬
‫وقيل أيضا ً ‪:‬‬
‫ع‬
‫ه ثقتاهُ السم ُ‬
‫ه ‪ ...‬وخان َ ُ‬
‫م جد ّت َ ُ‬
‫ت اليا ُ‬
‫من عاش أخلق ِ‬
‫والبصُر‬
‫وقيل أيضا ً ‪:‬‬
‫تمر بنا اليام تترى وإنما ‪ ...‬نساق إلى الجداث والعين‬
‫تنظُر‬
‫فل عائد ذاك الشباب الذي مضى ‪ ...‬ول زائل هذا‬
‫المشيب المكد ُّر‬
‫وقيل أيضا ً ‪:‬‬
‫لذة العيش صحة وشباب………فإذا وليا عن المرء ولى‬
‫ل…… الحياة وإنما الضعف مل‬ ‫ف فما م ّ‬
‫وإذا الشيخ قال أ ٍ‬
‫ودخل معن بن زائدة على المأمون‪ .‬فقال له ‪ :‬إلى أي‬
‫حال صيرك الكبر ؟ قال له ‪ :‬إلى أن أعثر ببعرة وتقيدني‬
‫شعرة‪ .‬قال‪ :‬كيف حالك في المأكول و المشروب‬
‫والنوم ؟ قال ‪ :‬إن جعت جردت وإن أكلت ضجرت‪ ،‬وإن‬
‫كنت في مل نعست وإذا صرت إلى فراشي أرقت‪ .‬قال ‪:‬‬
‫كيف حالك مه النساء ؟ قال ‪ :‬أما القباح فلست أريدهن‪،‬‬
‫وأما الملح فلسن يردنني‪ ،‬قال ‪ :‬ل يحل أن يتشاب مثلك‪،‬‬
‫أضعفوا رزقه وألزموه منزله‪ ،‬تركب الناس إليه ول يركب‬
‫إلى أحد‪ .‬انتهى ذكره في ربيع البرار ‪.‬‬
‫) ‪(1/46‬‬

‫وأعلم أن طول العمر في طاعة الله تعالى‪ ،‬محبوب‬


‫غب فيه‪.‬‬ ‫ومر ّ‬
‫قال عليه السلم ‪ )):‬خيركم من طال عمره وحسن‬
‫عمله(( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ل يتمنين أحدكم الموت‪،‬‬
‫إما محسن فلعله يزداد وإما مسئ فلعله يستعتب(( ؛ أي‬
‫يتوب ويعتذر‪.‬‬
‫إل أنه عليه الصلة والسلم قد استعاذ من الرد ّ إلى أرذل‬
‫خَرف واضطراب العقل‪ ،‬كما تقدم ‪.‬‬ ‫العمر‪ ،‬وهو ال َ‬
‫وخير العمر‪ :‬بركته‪ ،‬والتوفيق فيه للعمال الصالحة‪،‬‬
‫والخيرات الخاصة و العامة‪ .‬وقد يبارك الله لبعض عباده‬
‫المصطفين في أعمارهم القصيرة‪ ،‬حتى تكون أكثر خيرا ً‬
‫وأعم نفعا ً من أعمار غيرهم الطويلة‪ .‬مثل المام‬
‫الشافعي رحمه الله‪ ،‬فإنه لم يبلغ من العمر إل أربعا ً‬
‫وخمسين سنة‪ .‬والمام حجة السلم توفي وله من السن‬
‫خمس وخمسون سنة‪ .‬ومثل المام القطب الشريف‬
‫عبدالله بن أبي بكر العيدروس باعلوي توفي وله أربع‬
‫وخمسون سنة‪ .‬ومثل المام النووي فإنه توفي وسنه دون‬
‫الخمسين‪ .‬ومثل المام الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز‬
‫توفي وسنه دون الربعين سنة‪.‬‬
‫وغير هؤلء من الئمة كثير‪ ،‬لم تطل أعمارهم‪ ،‬وقد نشرت‬
‫لهم من الخيرات وجرت على أيديهم من البركات‪ ،‬ما عم‬
‫في البلد والعباد‪ ،‬ونفع الله بهم الحاضر والباد‪ ،‬وذلك‬
‫فضل الله يؤتيه من يشاء ‪.‬‬
‫) ‪(1/47‬‬

‫وهذه المة المحمدية عظيمة البركة‪ ،‬ولها من الله مكانة‬


‫ليست لغيرها من المم‪ ،‬وهي بأسرها قصيرة العمار‬
‫والمدة بالنسبة إلى غيرها من المم الماضية‪ ،‬كما تقدمت‬
‫الشارة إلى ذلك‪.‬‬
‫ثم إن آخر هذا العمر الذي هو الكبر‪ ،‬أن يمرض النسان‬
‫فيموت‪ ،‬هذا هو الغالب‪ ،‬أو يموت بغير مرض‪ .‬وذلك نادر‬
‫وهو مع ندرته واقع‪ ،‬وإنما ندرته بالنسبة إلى غلبة من‬
‫يموت عن مرض ‪.‬‬
‫قال حجة السلم‪ ،‬في أثناء كلم ذكره في الحياء‪ ،‬في‬
‫الحتراز من طول المل‪ ،‬ونسيان قرب الجل‪ :‬فإن قلت ‪:‬‬
‫ل ما يكون‬ ‫فإن الموت في الكثر ل يكون إل عن مرض وق ّ‬
‫فجأة‪ ،‬فاعلم أن الموت قد يكون فجأة‪ ،‬فإن لم تمت‬
‫فجأة فإن المرض ل يكون إل فجأة‪ ،‬وإذا مرضت عجزت‬
‫عن العمال الصالحة التي هي زاد الخرة‪ .‬انتهى بمعناه ‪.‬‬
‫واعلم أن قصر المل‪ ،‬والكثار من ذكر الموت‪ ،‬أمر‬
‫مرغب فيه‪ ،‬مندوب إليه‪ ،‬وأن طول المل‪ ،‬ونسيان الموت‬
‫أمر مكروه‪ ،‬قد ورد التحذير عنه‪ .‬قال الله تعالى ‪ ] :‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا ل تلهكم أموالكم ول أولدكم عن ذكر الله ‪.‬‬
‫ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ‪ .‬وأنفقوا مما‬
‫رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لول‬
‫أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ‪ .‬ولن‬
‫يؤخر الله نفسا ً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون [‬
‫المنافقون‪. 11-63/9 :‬‬
‫) ‪(1/48‬‬

‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬


‫م ل ِذِك ْ ِ‬
‫ر‬ ‫شعَ قُُلوب ُهُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫ن تَ ْ‬‫مُنوا أ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ن ل ِل ّ ِ‬‫م ي َأ ِ‬ ‫وقال تعالى ‪ ] :‬أل َ ْ‬
‫كال ّذي ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫كوُنوا َ ِ َ‬ ‫حقّ َول ي َ ُ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬‫ل ِ‬ ‫ما ن ََز َ‬ ‫الل ّهِ وَ َ‬
‫َ‬
‫م‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫م وَك َِثيٌر ِ‬ ‫ت قُُلوب ُهُ ْ‬ ‫س ْ‬ ‫مد ُ فََق َ‬ ‫م ال َ‬ ‫ل عَل َي ْهِ ُ‬ ‫طا َ‬ ‫ل فَ َ‬ ‫قَب ْ ُ‬
‫ن[ )الحديد ‪.(16 :‬‬ ‫سُقو َ‬ ‫َفا ِ‬
‫ه فَإ ِن ّ ُ‬
‫ه‬ ‫من ْ ُ‬
‫ن ِ‬ ‫ذي ت َِفّرو َ‬ ‫ت ال ّ ِ‬ ‫مو ْ َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫وقال تعالى ‪ ]:‬قُ ْ‬
‫ما‬
‫م بِ َ‬ ‫شَهاد َةِ فَي ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬ ‫ب َوال ّ‬ ‫عال ِم ِ ال ْغَي ْ ِ‬ ‫ن إ َِلى َ‬ ‫دو َ‬ ‫م ت َُر ّ‬‫م ثُ ّ‬ ‫ملِقيك ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫ن[الية )الجمعة‪. (8 :‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫م ت َعْ َ‬‫كنت ُ ْ‬‫ُ‬
‫وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪)) :‬أكثروا من ذكر‬
‫هاذم اللذات (( الحديث ‪.‬‬
‫وسئل عليه السلم ‪ :‬هل يحشر مع الشهداء أحد غيرهم ؟‬
‫فقال ‪)) :‬من يذكر الموت في كل يوم وليلة عشرين‬
‫مرة ((‪.‬‬
‫وسئل عليه السلم عن الكياس من الناس من هم ؟‬
‫فقال‪)) :‬أكثرهم للموت ذكرًا‪ ،‬وأحسنهم له استعدادًا‪.‬‬
‫أولئك الكياس‪ ،‬ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الخرة(( وقال‬
‫عليه السلم‪ )) :‬الموت أقرب غائب ينتظر (( الحديث ‪.‬‬
‫فإذا كان الموت أقرب غائب ينتظر‪ ،‬كان الحزم والخذ‬
‫بالحوط‪ ،‬هو الستعداد له والتهيؤ لمجيئه في كل حال‬
‫ووقت يمكن مجيئه وقدومه فيه‪ ،‬وجميع الحوال و‬
‫الوقات‪ ،‬يمكن مجيئه وهجومه فيها ‪.‬‬
‫قال المام حجة السلم ‪ ،‬رحمه الله في البداية ‪ :‬واعلم‬
‫أن الموت ل يهجم في وقت مخصوص‪ ،‬وحال مخصوص‪،‬‬
‫وسن مخصوص‪ ،‬ولبد من هجومه‪ ،‬فالستعداد له أولى‬
‫من الستعداد للدنيا ‪.‬‬
‫) ‪(1/49‬‬

‫وقال أيضا ً في موضع آخر من البداية ‪ :‬ول تدع عنك‬


‫التفكر في قرب الجل وحلول الموت القاطع للمل‪،‬‬
‫وخروج المر عن الختيار‪ ،‬وحصول الحسرة والندامة‪،‬‬
‫بطول الغترار‪ .‬انتهى ‪.‬‬
‫وقد كان السلف الصالح‪ ،‬من لو قيل له‪ :‬إنك ميت غدًا‪ ،‬لم‬
‫يجد موضعا ً للزيادة من العمل الصالح‪ ،‬لما هو عليه من‬
‫غاية القبال على الخرة‪ ،‬والشتغال بالعمال الصالحة ‪.‬‬
‫وقال بعضهم لبعض من استوصاه‪ :‬انظر فكل شئ تحب‬
‫أن يأتيك الموت وأنت تعمله فالزمه الن‪ ،‬وكل شيء‬
‫تكره أن يلقاك الموت وأنت تعمله‪ ،‬فاتركه الن ‪.‬‬
‫وفي الحديث ‪)) :‬كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر‬
‫سبيل ‪ ،‬وعد نفسك في أهل القبور((‪ .‬وقال عليه السلم ‪:‬‬
‫))مالي وللدنيا‪ ،‬وإنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار‬
‫في يوم صائف‪ ،‬فرفعت له شجرة‪ ،‬فقال تحتها ساعة‪ ،‬ثم‬
‫راح وتركها((‪ .‬الحديث ‪.‬‬
‫وفي الكثار من ذكر الموت‪ ،‬واستشعار قرب نزوله‪ ،‬فوائد‬
‫جليلة‪ ،‬ومنافع كثيرة‪ ،‬منها الزهد في الدنيا‪ ،‬والقناعة‬
‫باليسير منها‪ ،‬وملزمة العمال الصالحة التي هي زاد‬
‫الخرة‪ ،‬ومجانبة السيئات والمخالفات‪ ،‬والمبادرة بالتوبة‬
‫إلى الله تعالى منها‪ ،‬إن كان قد قارفها‪.‬‬
‫) ‪(1/50‬‬

‫وفي نسيان ذكر الموت‪ ،‬وإطالة المل‪ ،‬أضداد هذه‬


‫الفوائد‪ ،‬وهذه المنافع‪ ،‬من شدة الرغبة في الدنيا‪ ،‬وشدة‬
‫الحرص على جمع حطامها‪ ،‬والتمتع بشهواتها‪ ،‬والغترار‬
‫بزخارفها‪ ،‬وتسويف التوبة من الذنوب‪ ،‬والتكاسل عن‬
‫العمال الصالحة‪.‬‬
‫وقد قال السلف الصالح رحمهم الله ‪ :‬من طال أمله ساء‬
‫عمله ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬ينجو أول هذه المة بالزهد‬
‫واليقين ‪ ،‬ويهلك آخرها بالحرص وطول المل (( ‪.‬‬
‫وقال علي كرم الله وجهه ‪ :‬أخوف ما أخاف عليكم اتباع‬
‫الهوى‪ ،‬وطول المل‪ ،‬فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق‪،‬‬
‫وأما طول المل فينسي الخرة‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫ول خير بحال فيما ينسى الخرة من المال‪ ،‬وهو المل‬
‫الذي استعاذ منه عليه الصلة والسلم‪ ،‬فقال ‪ :‬أعوذ بك‬
‫من كل أمل يلهيني‪.‬‬
‫ومن دعائه صلوات الله عليه ‪ :‬وأعوذ بك من دنيا تمنع‬
‫خير الخرة‪ ،‬ومن حياة تمنع خير الممات‪ ،‬ومن أمل يمنع‬
‫خير العمل‪.‬‬
‫فإذا غلب على قلب النسان استشعار طول البقاء في‬
‫الدنيا‪ ،‬غلب عليه الهتمام لها‪ ،‬والسعي لجمعها‪ ،‬حتى‬
‫يغفل عن الخرة وعن التزود لمعاده‬
‫) ‪(1/51‬‬

‫فيبغته الموت وهو على ذلك‪ ،‬فيلقى الله مفلسا ً من‬


‫العمال الصالحة‪ ،‬فيندم ويتحسر‪ ،‬حيث ل ينفعه التحسر‬
‫مت لحياتي [ ‪ ،‬و]رب ارجعون لعلي‬ ‫فيقول ‪ ] :‬يا ليتني قد ّ‬
‫أعمل صالحا ً فيما تركت [ ‪.‬‬
‫ثم إذا مرض النسان فينبغي له أن يأخذ في التوبة‪،‬‬
‫والكثار من الستغفار ومن الذكر لله‪ ،‬والعتذار إليه من‬
‫سالف إساءاته وغفلته‪ ،‬فإنه ل يدري لعله يموت من‬
‫مرضه ذلك‪ ،‬ولعله قد حضره الجل‪ ،‬فيختم عمله وأيام‬
‫عمره بالخيرات فإن العمال بخواتيمها‪.‬‬
‫والمراض مذكرات بالخرة‪ ،‬وبالرجوع إلى الله تعالى‪،‬‬
‫وليوص بما يحتاج إلى الوصية به‪ ،‬مما يهمه من أمور‬
‫آخرته ودنياه‪ ،‬سيما من حقوق الخلق وتبعاتهم‪ ،‬فإنها‬
‫شديدة والخلص منها عسير‪.‬‬
‫وليكن في مرضه على غاية ونهاية من حسن الظن بالله‬
‫تعالى‪ .‬قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ل يموتن أحدكم إل‬
‫وهو يحسن الظن بالله تعالى ((‪ .‬وليكن ذلك هو الغالب‬
‫على قلبه‪ ،‬والمستولي عليه‪ ،‬فإنه تعالى يقول ‪ :‬أنا عند‬
‫ظن عبدي بي‪ ،‬وأنا معه حين يذكرني ‪.‬‬
‫ودخل صلوات الله وسلمه عليه على مريض شاب يعوده‬
‫فقال ‪ :‬كيف تجدك ؟ فقال ‪ :‬أرجو ربي‪ ،‬وأخاف ذنوبي‪،‬‬
‫فقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬ما اجتمعا في قلب مسلم‬
‫في مثل هذا الموطن إل أعطاه الله ما يرجو ‪ ،‬وآمنه مما‬
‫يخاف (( ‪.‬‬
‫) ‪(1/52‬‬

‫ومع ذلك فينبغي أن يكون حال الرجاء هو الغالب على‬


‫المريض ‪ ،‬سيما إذا ظهرت عليه علمات الموت‪ ،‬وقرب‬
‫حضور الجل‪ ،‬ليموت على حسن الظن بالله‪ ،‬وقوة الرجاء‬
‫في كرمه وسعة رحمته وحب لقائه ‪.‬‬
‫وفي الحديث ‪ :‬من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه‪ ،‬ومن‬
‫كره لقاء الله كره الله لقاءه ‪ .‬وقد جاء في معناه ‪ :‬أن‬
‫العبد المسلم إذا حضره الموت بشر برحمة الله وفضله‬
‫فأحب لقاء الله ‪ ،‬وأحب الله لقاءه‪ ،‬وأن المنافق إذا‬
‫حضره الموت بشر بعذاب الله ‪ ،‬فكره لقاء الله ‪ ،‬وكره‬
‫الله لقاءه ‪.‬‬
‫فالمؤمنون المتقون يبشرون برحمة الله عند خروجهم‬
‫من الدنيا ‪ ،‬فتكاد أرواحهم أن تطير من أجسادهم شوقا ً‬
‫إلى ربهم وحب لقائه ‪ ،‬حين تسلم عليهم الملئكة ‪،‬‬
‫وتبشرهم بدخول الجنة ‪ ،‬وأن ل خوف عليهم ول هم‬
‫يحزنون‪ .‬قال الله تعالى ‪ ] :‬الذين تتوفاهم الملئكة طيبين‬
‫يقولون ‪ :‬سلم عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ ‪.‬‬
‫وقال تعالى ‪ ] :‬إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل‬
‫عليهم الملئكة أل تخافوا ول تحزنوا وأبشروا بالجنة التي‬
‫كنتم توعدون [ إلى قوله تعالى ‪ ] :‬نزل من غفور‬
‫رحيم [ ‪.‬‬
‫) ‪(1/53‬‬

‫وينبغي للمريض أن يحترز من النجاسات أن تصيبه في‬


‫بدنه أو في ثيابه‪ ،‬فتمنعه من الصلة ‪ ،‬وليحذر كل الحذر‬
‫من ترك الصلة‪ ،‬وليصل على حسب حاله‪ ،‬قاعدا ً أو‬
‫مضطجعا ً ‪ ،‬أو كيف أمكنه‪ ،‬ول يختم عمله بالضاعة لعماد‬
‫الدين الذي هو الصلة ‪.‬‬
‫وينبغي لمن حضره من أهله وأصحابه أن يحثوه على ذلك‪،‬‬
‫ويعاونوه ويذكروه به ‪.‬‬
‫وليعلم أن فرض الصلة ل يسقط عنه ما دام عقله معه‪.‬‬
‫وليكثر من قول ‪ :‬ل إله إل أنت سبحانك إني كنت من‬
‫الظالمين‪ ،‬فقد ورد أن من قالها أربعين مرة ومات من‬
‫مرضه ذلك ‪ ،‬مات شهيدا ً ‪ .‬وليكثر من قراءة سورة‬
‫الخلص ‪.‬‬
‫ومن الكلمات التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ :‬أن من قالها في مرضه ثم مات من ذلك المرض‬
‫لم تطعمه النار‪ ،‬وهي ل إله إل الله ‪ ،‬والله أكبر ‪ ،‬ل إله إ‬
‫الله وحده ل شريك له ‪ ،‬ل إله إل الله له الملك وله الحمد‬
‫‪ ،‬ل إله إل الله ‪ ،‬ول حول ول قوة إل بالله ‪.‬‬
‫ثم إن المريض إذا غلب عليه المرض‪ ،‬وظهرت عليه‬
‫أمارات قرب الموت‪ ،‬كان الذي ينبغي لحاضريه من أهله‬
‫وأقاربه ‪ :‬أن ينظروا فإن رأوا عليه شيئا ً من مخايل‬
‫الجزع‪ ،‬وشدة الخوف ‪ ،‬فليذكروا له محاسن عمله‪ ،‬وسعة‬
‫رحمة ربه‪ ،‬وعظيم عفوه عن المذنبين ‪ ،‬وتجاوزه عن‬
‫المقصرين ‪ ،‬فقد كان السلف يستحسنون مثل ذلك‪ ،‬مع‬
‫المحتضرين من حاضريه‪ ،‬وربما التمس المحتضر منهم‬
‫مثل ذلك من حاضريه ‪.‬‬
‫) ‪(1/54‬‬

‫…ومن المتأكد المأمور به ‪ ،‬أن يلقنوه ل إله إل الله لقوله‬


‫عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬لقنوا موتاكم ل إله إل الله ‪.‬‬
‫فمن كان آخر كلمه ل إله إل الله دخل الجنة (( ‪ .‬فإذا‬
‫قالها فل ينبغي أن يعاد عليه‪ ،‬إل إن تكلم بكلم آخر ‪.‬‬
‫وينبغي أن يقرأ عليه سورة يس المباركة‪ ،‬لقوله عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ )) :‬اقرءوا على موتاكم سورة يس (( ‪.‬‬
‫يقال ‪ :‬إن ذلك يسهل طلوع الروح ‪ .‬وللموت كرب‬
‫وسكرات ‪ .‬وقد تسهل وتهون على بعض المؤمنين ‪.‬‬
‫وفيما يروي عن ملك الموت عليه السلم أنه قال ‪ :‬إني‬
‫بكل مؤمن شفيق رفيق ‪ .‬وقد يحضر الموتى في حال‬
‫قبضهم أنواع من الفتن والعياذ بالله ‪.‬‬
‫فلذلك ينبغي الكثار لمن يحضرهم ‪ ،‬من قراءة القرآن ‪،‬‬
‫وأحاديث الرجاء وذكر أحوال الصالحين عند خروجهم من‬
‫الدنيا ‪.‬‬
‫وفي بعض الثار ‪ ،‬أن الشيطان لعنه الله ‪ ،‬أقرب ما يكون‬
‫من العبد عند وفاته حرصا ً منه على أن يفتنه‪ ،‬ولكن ]إنما‬
‫سلطانه على اللذين يتولونه واللذين هم به مشركون [‬
‫]يثبت الله اللذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا‬
‫وفي الخرة ‪ .‬ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء[‪.‬‬
‫) ‪(1/55‬‬

‫وقد اشتد خوف السلف الصالح ‪ ،‬رحمهم الله ‪ ،‬من سوء‬


‫الخاتمة ‪ ،‬ولهم في ذلك أخبار وحكايات ‪ ،‬يطول ذكرها ‪.‬‬
‫وقد ورد في ذلك ما يقتضي الخوف البالغ ‪ ،‬مثل قوله‬
‫عليه السلم ‪)) :‬فوالذي لإله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل‬
‫أهل الجنة ‪ ،‬حتى ما يكون بينه وبينها إل ذراع ‪ ،‬فيسبق‬
‫عليه الكتاب‪ ،‬فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها‪ ،‬وإن أحدكم‬
‫ليعمل بعمل أهل النار ‪ ،‬حتى ما يكون بينه وبينها إل ذراع‬
‫فيسبق عليه الكتاب ‪ ،‬فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ((‬
‫الحديث ‪.‬‬
‫وقال عليه السلم‪ )) :‬إن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ‪،‬‬
‫فيما يبدو للناس ‪ ،‬وهو من أهل النار‪ ،‬وإن الرجل ليعمل‬
‫بعمل أهل النار ‪ ،‬فيما يبدو للناس ‪ ،‬وهو من أهل الجنة ((‬
‫ومثل ذلك كثير ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وأكثر من يخشى عليه سوء الخاتمة ‪ ،‬والعياذ‬
‫بالله ‪ ،‬المتهاون بالصلة ‪ ،‬والمدمن لشرب الخمر ‪ ،‬والعاق‬
‫لوالديه ‪ ،‬والذي يؤذي المسلمين ‪ ،‬وكذلك المصرون على‬
‫الكبائر والموبقات ‪ ،‬الذين لم يتوبوا إلى الله منها ‪ ،‬ويكاد‬
‫يدل لذلك قوله تعالى ‪ ] :‬ثم كان عاقبة الذين أساءوا‬
‫السوآى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون [ ‪.‬‬
‫) ‪(1/56‬‬
‫فينبغي للمسلم ‪ :‬أن يرجو من فضل الله ‪ ،‬أن ل يسلبه‬
‫نعمة السلم ‪ ،‬من بعد أن أنعم عليه بها ابتداء من غير‬
‫وسيلة منه ‪ ،‬ويخاف مع ذلك من التغير ‪ ،‬لتقصيره في‬
‫الشكر على هذه النعمة التي هي أعظم النعم ‪.‬‬
‫وقد كان بعض السلف يحلف بالله ‪ :‬أنه ما آمن أحد على‬
‫إسلمه أن يسلبه إل سلبه ‪ .‬وينبغي أن ل يزال سائل ً من‬
‫الله تعالى ‪ ،‬متضرعا ً إليه ‪ ،‬أن يرزقه حسن الخاتمة ‪.‬‬
‫وقد ذكر عن إبليس ‪ ،‬لعنه الله أنه قال ‪ :‬قصم ظهري‬
‫الذي يسأل الله حسن الخاتمة ‪ ،‬أقول ‪ :‬متى يعجب هذا‬
‫بعمله أخشى أنه قد فطن‪.‬‬
‫اللهم إنا نسألك بنور وجهك ‪ ،‬وبحقك عليك ‪ ،‬حسن‬
‫الخاتمة عند الممات ‪ ،‬لنا ولحبابنا وللمسلمين‪ ،‬يا أرحم‬
‫الراحمين ربنا ل تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ‪ ،‬وهب لنا من‬
‫لدنك رحمة ‪ ،‬إنك أنت الوهاب ‪ ،‬ربنا أفرغ علينا صبرا ً‬
‫وتوفنا مسلمين ‪.‬‬
‫ومن السنة أن يضجع المحتضر على يمينه ‪ ،‬مستقبل‬
‫القبلة ‪ ،‬فإذا قضى نحبه ‪ ،‬فينبغي أن تغمض عيناه ‪ ،‬فإنه‬
‫يشخص ببصره عند ذلك ‪ ،‬وفي الحديث ‪ :‬إن البصر يتبع‬
‫الروح ‪ ،‬ويكثر عند ذلك حاضروه من الستغفار له ‪،‬‬
‫والترحم عليه ‪ ،‬والدعاء فإن الملئكة يؤمنون على ما‬
‫يقولون ‪ ،‬وفي البكاء رخصة ‪ ،‬والصبر خير منه ‪ ،‬وأفضل ‪.‬‬
‫) ‪(1/57‬‬

‫وأما النياحة والندب‪ ،‬وهو التعديد ‪ ،‬وطرح التراب على‬


‫الرأس ‪ ،‬ولطم الخدود‪ ،‬وشق الجيوب ‪ ،‬فجميع ذلك محرم‬
‫شديد التحريم وقد وردت الحاديث الصحيحة بالنهي عنه ‪،‬‬
‫والوعيد عليه ‪.‬‬
‫ويكره تمني الموت والدعاء به ‪ ،‬لضر ينزل بالنسان ‪ ،‬من‬
‫مرض أو فقر أو نحو ذلك من شدائد الدنيا فإن خاف فتنة‬
‫في دينه جاز له تمنيه‪ ،‬وربما ندب ‪ ،‬وقد قال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ )) :‬ل يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ‪ ،‬فإن‬
‫كان لبد فاعل ً فليقل ‪ :‬اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا ً‬
‫لي‪ ،‬وتوفني إن كانت الوفاة خيرا ً لي (( ‪ .‬وقال عليه‬
‫السلم ‪ )) :‬ل يتمنين أحدكم الموت إما محسن فلعله‬
‫يزداد‪ ،‬وإما مسئ فلعله يستعتب (( أي يتوب ويعتذر ‪.‬‬
‫ثم إن الموت أمر مكتوب على جميع النام‪ ،‬وقضاء محتوم‬
‫بين الخاص والعام‪ ،‬وقد سوى الله فيه بين القوي‬
‫والضعيف‪ ،‬والوضيع والشريف‪ ،‬وقهر به الجبابرة ‪ ،‬وقصر‬
‫به القياصرة ‪ ،‬وكسر به الكاسرة‪ .‬وجعله للمؤمنين‬
‫المتقين تحفة‪ ،‬وأي تحفة‪ ،‬وزلفة وأي زلفة‪ ،‬وللكافرين‬
‫والمنافقين حسرة‪ ،‬وأي حسرة وأخذة وأي أخذة ‪.‬‬
‫فسبحانه من ملك جبار منفرد قهار ‪ ،‬قد توحد بالدوام‬
‫والبقاء ‪ ،‬وتنزه عن الموت والفناء ‪ ،‬فهو الول بل ابتداء‬
‫والخر بل انتهاء ‪،‬‬
‫) ‪(1/58‬‬

‫قال عّز من قائل ‪] :‬كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو‬
‫الجلل والكرام [ ‪.‬‬
‫وقال تعالى ‪] :‬كل شيء هالك إل وجهه له الحكم وإليه‬
‫ترجعون [‬
‫وقال تعالى ‪] :‬كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون‬
‫أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة‬
‫فقد فاز ‪ ،‬وما الحياة الدنيا إل متاع الغرور[‬

‫***‬
‫) ‪(1/59‬‬

‫خاتمة هذا العمر‬


‫في أشياء تتصل بما تقدم وتنعطف عليه‬
‫عن أنس رضي الله عنه قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ )) :‬المولود حتى يبلغ الحنث‪ ،‬ما عمله من‬
‫حسنة كتبت لوالديه‪ ،‬وإن عمل سيئة لم تكتب عليه ول‬
‫على والديه‪ ،‬فإذا بلغ الحنث وجرى عليه القلم ‪ ،‬أمر الله‬
‫سبحانه الملكين اللذين معه يحفظانه ويسددانه‪ ،‬فإذا بلغ‬
‫الربعين سنة في السلم ‪ ،‬آمنه الله من ثلث ‪ :‬الجنون‬
‫والجذام والبرص‪ ،‬فإذا بلغ خمسين سنة‪ ،‬خفف الله عنه‬
‫حسابه‪ ،‬فإذا بلغ ستين سنة‪ ،‬رزقه الله النابة إليه فيما‬
‫يحب‪ ،‬فإذا بلغ سبعين سنة‪ ،‬أحبه أهل السماء فإذا بلغ‬
‫ثمانين سنة‪ ،‬كتب الله سبحانه حسناته وتجاوز عن‬
‫سيئاته ‪ ،‬فإذا بلغ تسعين سنة ‪ ،‬غفر الله له من ذنبه ما‬
‫تقدم وما تأخر ‪ ،‬وشفعه في أهل بيته ‪ ،‬وكان أسير الله‬
‫في الرض‪ ،‬فإذا بلغ أرذل العمر لكيل يعلم من بعد علم‬
‫شيئا ً ‪ ،‬كتب الله له ما كان يعمل في صحته من الخير‪،‬‬
‫وإن عمل سيئة‪ ،‬لم تكتب عليه(( ‪.‬‬
‫ذكر هذا الحديث الشيخ أحمد بن علي بن أبي القاسم‬
‫اليمني ‪ ،‬في الربعين التي جمعها‪ ،‬في غفران ما تقدم من‬
‫الذنوب وما تأخر ‪.‬‬
‫) ‪(1/60‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬يموت المرء على ما عاش‬


‫عليه ‪ ،‬ويبعث على ما مات عليه((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إذا أراد الله بالعبد خيرا ً‬
‫غسله ؟ قال ‪ :‬يوفقه لعمل صالح قبل‬ ‫سله ‪ ،‬قيل ‪ :‬وما َ‬ ‫غ ّ‬
‫موته (( الحديث ‪.‬‬
‫مّر عليه بجنازة ‪:‬‬‫وقال عليه الصلة والسلم‪ ،‬وقد ُ‬
‫مستريح ومستراح منه‪ .‬قالوا يا رسول الله ما‬
‫ح منه ؟ فقال ‪ :‬العبد المؤمن‬ ‫مست ََرا ُ‬‫ح ؟ وما ال ُ‬
‫المستري ُ‬
‫يستريح من تعب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله ‪ ،‬والفاجر‬
‫يستريح منه العباد والبلد ‪ ،‬والشجر والدواب ‪.‬‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم لبي ذر ‪ :‬يا أبا ذر إن الدنيا‬
‫سجن المؤمن‪ ،‬والقبر أمنه‪ ،‬والجنة مصيره‪ ،‬يا أبا ذر إن‬
‫الدنيا جنة الكافر ‪ ،‬والقبر عذابه‪ ،‬والنار مصيره ‪.‬‬
‫وقال ابن عباس رضي الله عنهما ‪ :‬إذا رأيتم بالرجل‬
‫الموت فبشروه‪ ،‬ليلقى ربه وهو حسن الظن به‪ ،‬وإذا كان‬
‫حيا ً فخوفوه‪.‬‬
‫وعن علي رضي الله عنه قال ‪ :‬إن المؤمن إذا مات بكى‬
‫عليه مصله من الرض ومصعد عمله من السماء ‪ ،‬ثم تل‪:‬‬
‫]فما بكت عليهم السماء والرض[ ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬من وافق موته عند‬
‫انقضاء رمضان دخل الجنة ‪ ،‬ومن وافق موته عند انقضاء‬
‫عرفة‪ ،‬دخل الجنة‪ ،‬ومن وافق موته عند انقضاء صدقته‬
‫دخل الجنة (( ‪.‬‬
‫وقال عليه السلم ‪)) :‬من مات ليلة الجمعة أو يوم‬
‫الجمعة ‪ ،‬أجير من عذاب القبر‪ ،‬وجاء يوم القيامة وعليه‬
‫طابع الشهداء((‪.‬‬

‫***‬
‫) ‪(1/61‬‬

‫) ‪(1/62‬‬

‫******************‬
‫******************‬
‫**** الُعمُر الّثالث ****‬
‫******************‬
‫******************‬
‫) ‪(1/63‬‬

‫******************‬
‫******************‬
‫**** ****‬
‫******************‬
‫******************‬
‫) ‪(1/64‬‬
‫ث‬‫الُعمُر الّثال ِ ُ‬
‫موت‪،‬‬‫دنَيا بال َ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫سان ِ‬
‫خروج الن َ‬ ‫ن حين ُ‬ ‫َوهوَ م ْ‬
‫صور ‪.‬‬ ‫من َقبرهِ بالّنفخ في ال ّ‬ ‫ث ِ‬‫حين ُيبعَ ُ‬ ‫إلى ِ‬
‫خ إلى‬ ‫وهذا هو البرزخ‪ ،‬قال الله تعالى‪] :‬ومن ورائهم ب َْرَز ٌ‬
‫يوم ُيبعثون[ ‪.‬‬
‫فإذا مات العبد المسلم‪ ،‬وتحقق موته فينبغي الخذ في‬
‫تجهيزه إلى قبره‪ ،‬بغسله وتكفينه ‪ ،‬والصلة عليه‪ ،‬وينبغي‬
‫أن يراعى في ذلك التباع والخذ بما ورد في السنة‬
‫النبوية ‪.‬‬
‫وينبغي أن يعلم بموته أهله وأقاربه وجيرانه وأصحابه ‪،‬‬
‫حموا عليه‪ ،‬ويشهدوا‬ ‫وأهل الخير والصلح ‪ ،‬ليدعوا له ويتر ّ‬
‫الصلة على جنازته ‪.‬‬
‫ويستحب لمن بلغه موت أخيه المسلم ‪ ،‬أن يقول بعد‬
‫م اجعل كتابه في عليين‪ ،‬واكتبه عندك‬ ‫السترجاع ‪ :‬الله ّ‬
‫من المحسنين‪ ،‬واخلفه في أهله في الغابرين‪ ،‬واغفر لنا‬
‫ب العالمين ‪.‬‬ ‫وله يا ر ّ‬
‫ويدعو له ويثني عليه بالخير‪ ،‬فقد قال عليه الصلة و‬
‫السلم ‪ )) :‬اذكروا محاسن موتاكم ‪ ،‬وك ُّفوا عن‬
‫مساويهم ((‬
‫) ‪(1/65‬‬

‫وقال عليه السلم ‪ )) :‬أنتم شهداء الله في الرض ‪ ،‬فمن‬


‫أثنيتم عليه خيرًا‪ ،‬كان كذلك (( ‪ .‬الحديث بمعناه ‪.‬‬
‫ول ينبغي الفراط في الثناء والمجازفة فيه بما يوقع في‬
‫الكذب وما يقاربه ‪.‬‬
‫ثم إن البرزخ منزل بين الدنيا والخرة‪ .‬وهو بالخرة أشبه‬
‫بل هو منها‪ ،‬ولكنه موطن الغلبة فيه والظهور للارواح‪،‬‬
‫وللمور الروحانية‪ ،‬والجسام فيه تابعة‪ ،‬ومندرجة في‬
‫الزواح وهي أعني الجسام مشاركة للرواح‪ ،‬فيما هي‬
‫فيه من نعيم وسرور‪ ،‬أو عذاب وغموم‪.‬‬
‫والرواح باقية‪ ،‬وأما الجسام فتبلى وتتلشى‪ ،‬ل يبقى منها‬
‫إل عجب الذنب‪ ،‬ومنه يركب الخلق عند البعث‪ ،‬كما ورد‬
‫في الحديث ‪.‬‬
‫وقد استثني من ذلك أجساد النبياء عليهم الصلة‬
‫والسلم‪ ،‬فإنهم أحياء في قبورهم‪ ،‬وكذلك الشهداء في‬
‫سبيل الله قال الله تعالى‪] :‬ول تحسبن اللذين قتلوا في‬
‫سبيل الله أمواتا ً بل أحياء عند ربهم يرزقون[ ‪.‬‬
‫وفي الخبار الصحيحة ‪ :‬أن أرواحهم تكون في أجواف‬
‫طير خضر‪ ،‬تسرح في الجنة ‪ ،‬وتأوى إلى قناديل معّلقة‬
‫بالعرش‪.‬‬
‫وورد أن نسمات المؤمنين تكون في طير بيض‪ ،‬تعلف من‬
‫ثمر الجنة‪.‬‬
‫) ‪(1/66‬‬

‫وفي تشييع جنازة المسلم‪ ،‬والصلة عليه‪ ،‬وحضور دفنه‬


‫فضل وثواب كثير‪ .‬وفي الحديث الصحيح ‪)) :‬إن من شيع‬
‫جنازة مسلم حتى يصلي عليها‪ ،‬كان له قيراط من الجر ‪.‬‬
‫فإن بقي معها ‪ ،‬حتى يحضر دفنها ‪ ،‬كان له قيراطان ‪،‬‬
‫والقيراط مثل جبل أحد(( ‪ .‬الحديث ‪.‬‬
‫وورد أن من شيع جنازة أخيه المسلم ‪ ،‬أمر الله الملئكة‬
‫أن تشيع جنازته وتصلي عليه إذا مات ‪.‬‬
‫وينبغي السراع بالميت وتعجيله إلى قبره ‪ .‬فقد قال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪)) :‬إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال‬
‫فإن كانت صالحة قالت ‪ :‬قدموني قدموني ‪ ،‬وإذا كانت‬
‫غير صالحة قالت ‪ :‬ياويلها إلى أين تذهبون بها ؟(( وقال‬
‫عليه الصلة والسلم ‪)) :‬أسرعوا بالجنازة ‪ ،‬فإن تكن‬
‫صالحة فخير تقدمونها إليه‪ .‬وإن تكن سوى ذلك ‪ ،‬فشر‬
‫تضعونه عن رقابكم(( ‪.‬‬
‫وللميت شعور ومعرفة ‪ ،‬بمن يغسله ويكفنه ‪ ،‬ويدليه في‬
‫قبره ‪.‬‬
‫وقد ورد أن روحه بيد ملك ‪ ،‬يقف بها بالقرب منه ‪،‬‬
‫ويمشي بها مع جنازته ‪ .‬وأنه يسمع ما يثنى به عليه من‬
‫خير أو شر‪ ،‬فإذا وضع الميت في قبره فمن المستحب أن‬
‫مّلة رسول الله‪،‬‬
‫يقول الذي يضعه فيه ‪ :‬باسم الله وعلى ِ‬
‫وأن يحثو من يدنو من القبر ثلث حثيات ‪ ،‬ويقول مع‬
‫الولى‪ ] :‬منها خلقناكم[ ومع الثانية‪] :‬وفيها نعيدكم[ ومع‬
‫الثالثة‪] :‬ومنها نخرجكم تارة أخرى[ ‪.‬‬
‫) ‪(1/67‬‬

‫وي عليه‬ ‫ويصب عليه التراب قليل ً قليل ً برفق‪ ،‬فإذا ُ‬


‫س ّ‬
‫التراب‪ ،‬فينبغي أن يمكث عنده الحاضرون ساعة‪ ،‬يتلون‬
‫القرآن‪ ،‬ويستغفرون للميت‪ ،‬ويدعون له بالتثبيت‪ ،‬فإنه‬
‫حينئذ يسأل كما في الحديث‪ ،‬أي يسأله الملكان ‪ :‬منكر‬
‫ونكير ‪ ،‬اللذان هما فتانا القبر‪ ،‬يسألن الميت بعدما يدفن‬
‫على الثر‪ :‬من ربك ؟ وما دينك ومن نبيك ؟‬
‫م ديني ‪ ،‬ومحمد ٌ‬ ‫ه ربي ‪ ،‬والسل ُ‬ ‫ه قال ‪ :‬الل ُ‬‫فمن ثّبته الل ُ‬
‫نبيي ‪ .‬ومن أزاغه الله حار وتردد ‪ ،‬على وفق ما كان عليه‬
‫في الدنيا‪ ،‬من الشك والزيغ والضاعة لمر الله‪ ،‬وارتكاب‬
‫محارمه‪ ،‬فيقول ‪ :‬هاه ‪ ،‬هاه ل أدري‪ .‬كما ورد في‬
‫الحاديث الصحيحة‪ ،‬فعند ذلك يضربانه ‪ ،‬ويضيق عليه‬
‫قبره ‪ ،‬ويمل عليه عذابا ً ‪.‬‬
‫وأما المؤمن المثبت‪ ،‬المستقيم على اليمان والطاعة في‬
‫حياته‪ ،‬فإنهما يبشرانه و يوسع له في قبره‪ ،‬ويمل عليه‬
‫نورا ً ونعيمًا‪ ،‬وتحيط به أعماله الصالح ‪ ،‬من الصلة‬
‫والصدقة والصيام‪ ،‬وقراءة القرآن‪ ،‬وذكر الله تعالى ‪،‬‬
‫فيدفعن عنه ما يقصده من المخاوف ولهوال ‪.‬‬
‫وقد قال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬القبر إما روضة من‬
‫رياض الجنة‪ ،‬وإما حفرة من حفر النار (( ‪ ،‬وقال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ )) :‬ما رأيت منظرا ً إل والقبر أفظع‬
‫منه (( ‪.‬‬
‫) ‪(1/68‬‬

‫وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه‪ ،‬إذا حضر القبر‬


‫يبكي‪ ،‬حتى تبتل لحيته‪ ،‬فقيل له ‪ :‬إنك تذكر الجنة والنار‪،‬‬
‫فل تبكي هذا البكاء‪ ،‬فقال ‪ :‬إني سمعت رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم يقول ‪ )) :‬القبر أول منزل من منازل‬
‫الخرة‪ ،‬فإن نجي منه صاحبه ‪ ،‬فما بعده أيسر منه وإن لم‬
‫ينج منه ‪ ،‬فما بعده أشد منه (( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ :‬إن للقبر ضغطة‪ ،‬ولونجي أحد‬
‫منها لنجى سعد بن معاذ‪ ،‬وهو الذي اهتز لموته عرش‬
‫الرحمن‪.‬‬
‫ويقال ‪ :‬إن أكثر عذاب القبر من ثلثة أشياء ‪ :‬الغيبة‬
‫والنميمة‪ ،‬وقلة التحفظ من البول‪ ،‬وفي الحديث ‪ ":‬عامة‬
‫عذاب القبر من البول" ‪ ،‬وحديث الرجلين اللذين سمعهما‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ ،‬يعذبان في قبرهما وأمر بجريدة‬
‫خّفف‬ ‫من النخل فجعلت على قبريهما‪ ،‬وقال ‪ ":‬لعّله ي ُ َ‬
‫ذبان في‬ ‫ذبان ‪ ،‬وما ي ُعَ ّ‬
‫عنهما ما دامتا رطبتين‪ ،‬وأنهما ي ُعَ ّ‬
‫كبير‪ ،‬أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة‪ ،‬وأما الخر كان ل‬
‫يستبرئ من البول" ‪ ،‬الحديث ‪ .‬وهو حديث صحيح مشهور‬
‫‪.‬‬
‫وكان صّلى الله عليه وسّلم ُيكثر الستعاذةَ من عذاب‬
‫القبر‪ ،‬وأمر بها في الدعاء الذي بعد التشهد من كل صلة‪،‬‬
‫وفي أذكار المساء والصباح ‪ .‬فعذاب القبر حق‪ ،‬ونعيمه‬
‫كذلك ‪.‬‬
‫) ‪(1/69‬‬

‫فالنعيم في القبر لهل اليمان والطاعة‪ ،‬والعذاب في‬


‫القبر لهل الكفر والنفاق والفجور والمعصية ‪ .‬وكل من‬
‫الفريقين يتفاوتون في النعيم والعذاب‪ ،‬تفاوتا ً كثيرًا‪ ،‬على‬
‫حسب تفاوتهم فيما كانوا عليه في الدنيا‪ ،‬من موجبات‬
‫النعيم والثواب‪ ،‬أو موجبات العذاب والعقاب ‪.‬‬
‫غير أن تعلق نعيم القبر أو عذابه بالرواح‪ ،‬ووقوعه عليها‪،‬‬
‫أكثر وأظهر من تعلقه بالجسام‪ ،‬ووقوعه عليها مع أنهما‬
‫أعني الروح والجسم ‪ ،‬يشتركان في نعيم القبر أوعذابه ‪.‬‬
‫وفي المسألة إشكال واختلف‪ ،‬والحق فيها ما ذكرناه من‬
‫اشتراك الروح والجسد في نعيم القبر وعذابه إن شاء‬
‫الله تعالى ‪.‬‬
‫ومما ينفع الله به الميت في قبره‪ ،‬ويدفع به عنه الدعاء‬
‫له ‪ ،‬والستغفار ‪ ،‬والتصدق عنه ‪ .‬وقد وردت في ذلك‬
‫الخبار والثار الكثيرة ‪ ،‬ورؤيت فيه المنامات الصالحة عن‬
‫الصالحين والخيار ‪.‬‬
‫وفي الحديث ‪ :‬إن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال‬
‫لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ :‬إن أمي انفلتت‬
‫نفسها‪ ،‬ولو تكلمت لتصدقت‪ ،‬فهل ينفعها أن أتصدق‬
‫عنها ؟ فقال عليه السلم ‪ :‬نعم ‪ .‬فحفر بئرا ً وقال ‪ :‬هذه‬
‫عن أم سعد ‪ .‬الحديث ‪.‬‬
‫وقال رجل ‪ :‬يا رسول الله إن أبويّ قد ماتا‪ ،‬فهل بقي‬
‫شيء أ َب ُّرهما به ؟ قال ‪ " :‬أربع ‪ :‬الدعاء لهما والستغفار‪،‬‬
‫وإنفاذ عهدهما‪ ،‬وب ِّر أصدقائهما‪ ،‬وصلة الرحم التي ل‬
‫توصل إل بواسطتهما "‪.‬‬
‫) ‪(1/70‬‬

‫وروي عنه عليه الصلة والسلم لول الحياء لهلكت‬


‫الموات ‪ .‬أي لما يصل إليهم‪ ،‬من دعائهم‪ ،‬واستغفارهم‪،‬‬
‫والترحم عليهم ‪ .‬وقال عليه السلم ‪ )) :‬أمتي أمة‬
‫مرحومة ‪ ،‬تدخل قبورها بذنوب كالجبال‪ ،‬وتخرج من‬
‫القبور‪ ،‬وقد غفر لها باستغفار الحياء للموات((‪ .‬الحديث ‪.‬‬
‫ويروي أن هدايا الحياء للموات‪ ،‬من الصدقات‪ ،‬والدعاء‪،‬‬
‫وقراءة القرآن تأتيهم بها الملئكة في أطباق من نور‪،‬‬
‫مخمرة بمناديل من سندس‪ ،‬وتقول لحدهم ‪ :‬هذه الهدية‬
‫بعث بها إليك فلن ‪ ،‬فيسّره ذلك ويفرح به ‪.‬‬
‫وبلغنا أنه رؤي بعض الموتى في المنام فسئل عن حاله‬
‫فقال ‪ :‬استقبلني ملك بشهاب من نار ليحرق به وجهي‪،‬‬
‫ئ ذلك‬‫ه فلنًا؛ فط ُِف َ‬
‫م الل ُ‬
‫ح َ‬
‫فقال فلن من الحياء ‪َ :‬ر ِ‬
‫الشهاب ‪.‬‬
‫ومن أعظم ما يهدى إلى الموتى بركة وأكثر نفعا ً قراءة‬
‫القرآن العظيم وإهداء ثوابه إليهم ‪.‬‬
‫وقد أطبق على العمل بذلك المسلمون‪ ،‬في العصار‬
‫والمصار‪ ،‬وقال به الجماهير من العلماء والصالحين‪ ،‬سلفا ً‬
‫وخلفًا‪ ،‬ورويت فيه أحاديث غير أنها ضعيفة ‪،‬كما قال‬
‫الحافظ السيوطي رحمة الله‪ ،‬والحاديث الضعيفة يعمل‬
‫بها في فضائل العمال؛ وذلك منها أي من الفضائل ‪.‬‬
‫) ‪(1/71‬‬

‫ومن أنفع ما يهدي للموتى من القرآن‪ ،‬وكل القرآن نافع‬


‫مبارك‪ ،‬إحدى عشرة من سورة الخلص المعظمة ‪ .‬وقد‬
‫رؤي في ذلك منامات مباركة ‪.‬‬
‫فينبغي للنسان أن يقرأ هذا العدد‪ ،‬من هذه السورة‬
‫الشريفة‪ ،‬إما كل ليلة أو كل يوم‪ ،‬أو أكثر من ذلك‪ ،‬أو‬
‫أقل‪ ،‬ولو في كل ليلة جمعة‪ ،‬ويهدي ثواب ذلك لوالديه‬
‫ومشايخه وذوي الحقوق عليه ‪.‬‬
‫ول ينسى موتاه من دعائه واستغفاره وصدقاته؛ فينساه‬
‫ن‬
‫من بعده‪ ،‬إذا مات وصار إلى ما صار إليه من قبله؛ فإ ّ‬
‫ف‪ ،‬والله ل‬‫سل َ ٌ‬
‫سي ‪ ،‬والب ِّر َ‬ ‫سي ن ُ ِ‬ ‫من ذ َك ََر ذ ُ ِ‬
‫كر ‪ ،‬ومن ن َ ِ‬
‫ضيعُ أجَر من أحسن عمل ً ‪.‬‬ ‫يُ ِ‬
‫واعلم أن زيارة القبور أمر مندوب إليه‪ ،‬وقد أذن فيها‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما نهى عنها‪ ،‬وفيها‬
‫منافع وفوائد للحي الزائر‪ ،‬وللميت المزور ‪ .‬قال عليه‬
‫كر الموت (( ‪ ،‬وقال عليه‬ ‫السلم ‪ )) :‬زوروا القبور فإنها ت ُذ َ ّ‬
‫السلم ‪ )) :‬كنت نهيتكم عن زيارة القبور ‪ ،‬أل فزوروها ‪،‬‬
‫كر الخرة (( ‪.‬‬ ‫هد في الدنيا‪ ،‬وُتذ ّ‬ ‫فإنها ت َُز ّ‬
‫وقال عليه السلم ‪ )) :‬ما من رجل يزور قبر أخيه ‪،‬‬
‫ويجلس إليه ال استأنس به وردت عليه روحه حتى‬
‫يقوم (( ‪،‬‬
‫) ‪(1/72‬‬

‫وقال عليه السلم ‪ )) :‬آنس ما يكون الميت في قبره‪ ،‬إذا‬


‫زاره من كان يحبه في دار الدنيا (( ‪.‬‬
‫فينبغي للزائر إذا دخل المقبرة أو مّر بها أن يقول ‪:‬‬
‫جلون‪ ،‬وأتاكم ما‬ ‫السلم عليكم دار قوم مؤمنين‪ ،‬غدا ً ُ‬
‫مؤ َ ّ‬
‫توعدون‪ ،‬و إنا إن شاء الله بكم لحقون ‪ .‬أنتم لنا سلف‪،‬‬
‫ونحن لكم تبع ‪ .‬أسأل الله لنا ولكم العافية ‪ .‬اللهم اغفر‬
‫لنا ولهم ‪.‬‬
‫ويتأكد ندبا ً الزيارة ليلة الجمعة ويومها‪ ،‬وكذلك ليلة‬
‫السبت إلى طلوع الشمس من يومه‪ ،‬وكذلك يوم الثنين‪،‬‬
‫فإنه يقال‪ :‬إن أرواح الموتى ترجع إلى قبورهم في هذه‬
‫الوقات‪ ،‬وقد ورد في ذلك آثار‪.‬‬
‫وينبغي للزائر للقبور‪ ،‬أن يكثر لهم في حال زيارته إياهم‬
‫سر من‬ ‫من الستغفار والدعاء والترحم عليهم‪ ،‬ويقرأ ما يتي ّ‬
‫القرآن ‪ ،‬ويهدي ثوابه إليهم‪ ،‬وأن يعتبر ويتعظ بهم‪ ،‬ويتذكر‬
‫أنه عن قريب صائر إلى مثل ما صاروا إليه ‪.‬‬
‫وإذا أتى قبر والديه وأقربائه وذوي الحقوق عليه‪ ،‬فينبغي‬
‫له أن يطمئن عندهم ويستكثر من الستغفار والدعاء لهم؛‬
‫سّرون به ‪.‬‬‫فإنهم يفرحون بذلك‪ ،‬وي ُ َ‬
‫وكذلك إذا زار قبور الصالحين‪ ،‬فيكثر من الدعاء عندها‪،‬‬
‫جّرب‬‫فإن منهم من يكون الدعاء عند قبره مستجابا ً ‪ ،‬وقد ُ‬
‫مون قبر السيد المام‬ ‫ذلك ‪ ،‬حتى إن أهل بغداد ُيس ّ‬
‫موسى بن المام جعفر الصادق ‪ ،‬الِترياق المجّرب ‪ ،‬أي‬
‫لستجابة الدعوات ‪ ،‬وانكشاف المهمات ‪ .‬وكذلك قبر‬
‫مي؛ لذلك‪ ،‬وهو ببغداد أيضا ً ‪.‬‬ ‫س ّ‬
‫معروف الكرخي ُ‬
‫) ‪(1/73‬‬

‫ومن السادة آل أبي علوي‪ ،‬من كان يجلس عند قبر سيدنا‬
‫الفقيه المقدم‪ ،‬الجلوس الطويل ‪ ،‬وهو في حّر الشمس‪،‬‬
‫بحيث لو عصرت ثيابه من كثرة العرق لخرج منها‪ ،‬وهو ل‬
‫يشعر بذلك من كثرة الستغراق في الدعاء‪ ،‬نقل ذلك عن‬
‫الشيخ عبد الله بن علوي وغيره ‪.‬‬
‫ب؛ بل هو‬
‫ح ّ‬
‫مست َ َ‬
‫سح بالقبور‪ ،‬والتقبيل لها فغير ُ‬
‫م ّ‬
‫وأما الت ّ َ‬
‫مكروه‪ ،‬وأشد ّ كراهة منه الطواف بها ‪.‬‬
‫وذكر بعضهم ‪ :‬أنه إذا لم يمكن للزائر الوقوف تجاه وجه‬
‫الميت ‪ ،‬كان الوقوف جهة رأسه أولى‪ ،‬وزعم أن الميت‬
‫يشعر بالواقف تجاه وجهه‪ ،‬أكثر من شعوره به إذا وقف‬
‫في جهة رأسه أو غيرها‪ .‬والله اعلم ‪.‬‬
‫واعلم أن أعمال الحياء تعرض على الموتى‪ ،‬من أهليهم‬
‫وأقاربهم‪ ،‬فإن رأوا خيرا ً فرحوا به واستبشروا‪ ،‬ودعوا لهم‬
‫بالتثبيت والستقامة ‪ .‬وإن رأوا غير ذلك حزنوا وساءهم ما‬
‫رأوه‪ ،‬ودعوا لهم بالهداية والتوفيق للخير والعمل الصالح ‪.‬‬
‫وقد قال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬إن أعمالكم تعرض‬
‫على أقاربكم و عشائركم من الموات فإن كان خيرًا؛‬
‫استبشروا وإن كان غير ذلك؛‬
‫) ‪(1/74‬‬

‫متهم حتى تهديهم كما هديتنا (( ‪.‬‬ ‫م ل تُ ِ‬


‫قالوا ‪ :‬الله ّ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ :‬تعرض العمال يوم الثنين‬
‫والخميس على الله‪ ،‬وتعرض على النبياء وعلى الباء‬
‫والمهات يوم الجمعة‪ ،‬فيفرحون بحسناتهم‪ ،‬وتزداد‬
‫وجوههم نورا ً وإشراقًا‪ ،‬فاتقوا الله ول تؤذوا موتاكم ‪.‬‬

‫***‬
‫) ‪(1/75‬‬

‫خاِتمة هذا الُعمُر‬


‫َ‬
‫ه‬
‫صل ب ِ‬‫دم وتت ّ ِ‬ ‫في أشَياء تتعَّلق ب َ‬
‫ما َتق ّ‬
‫اعلم أن الخلق يجتمعون في البرزخ‪ ،‬في الوقت الذي بين‬
‫النفختين‪ ،‬لنه ل يبقى في ذلك الوقت من الخلئق‪ ،‬إل من‬
‫ل يموت‪ .‬قال الله تعالى ‪ ] :‬ونفخ في الصور فصعق من‬
‫في السماوات ومن في الرض إل ّ من شاء الله [ ‪.‬‬
‫وهذه هي النفخة الولى‪ ،‬التي يموت بها كل حي من‬
‫المخلوقين ‪ ،‬ول يبقى إل الله الحي القيوم الذي ل يموت‪،‬‬
‫وهذه هي القيامة الول ‪ ،‬وبعدها تكون القيامة الثانية التي‬
‫ل يحيى بها كل ميت بإذن الله تعالى‪ ،‬وذلك قوله تعالى ‪:‬‬
‫]ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون[ وبين النفختين‬
‫أربعون سنة‪.‬‬
‫وأما الذين استثناهم الله في قوله ‪ ] :‬إل من شاء الله [‬
‫فقد اختلفت فيهم أقوال المفسرين فقيل ‪ :‬هم الملئكة ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬النبياء وقيل ‪ :‬الشهداء ‪ ،‬ورجح هذا القول وقيل‬
‫غير ذلك ‪.‬‬
‫مِتي فيمكث‬ ‫ُ‬
‫وقال عليه السلم ‪َ " :‬يخرج الدجال في أ ّ‬
‫أربعين " ‪،‬‬
‫قال الراوي ‪ :‬ل أدري أربعين يوما ً أو أربعين شهرا ً أو‬
‫أربعين عامًا‪،‬‬
‫) ‪(1/76‬‬

‫فيبعث الله عيسى بن مريم عليه الصلة والسلم كأنه‬


‫عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه‪ ،‬فيطلبه فيهلكه ‪.‬‬
‫ثم يمكث الناس سبع سنين‪ ،‬ليس بين اثنين عداوة ‪.‬‬
‫ثم يرسل الله ريحا ً باردة من قبل الشام‪ ،‬فل يبقى على‬
‫وجه الرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير‪ ،‬أو قال ‪:‬‬
‫إيمان‪ ،‬إل قبضته‪ ،‬حتى لو أن أحدهم دخل في كبد جبل‪،‬‬
‫لدخلت عليه‪ ،‬حتى قبضته‪ ،‬فيبقى شرار الناس في خفة‬
‫الطير‪ ،‬وأحلم السباع ‪ ،‬ل يعرفون معروفا ً ‪ ،‬ول ينكرون‬
‫منكرًا‪ ،‬فيمثل لهم الشيطان فيقول ‪ :‬أل تستحيون ‪،‬‬
‫فيقولون ‪ :‬فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الوثان ‪ ،‬وهم في‬
‫ذلك دارا ً رزقهم حسن عيشهم ‪.‬‬
‫ثم ينفخ في الصور فل يسمعه أحد ‪ ،‬إل أصغى ِليتا ورفع‬
‫ض إبله‪ ،‬قال ‪:‬‬ ‫ل من يسمعه رجل يلوط حو َ‬ ‫ليتا ‪ .‬فأوّ ُ‬
‫فيصعق الناس ‪ .‬قال ‪ :‬ثم يرسل الله‪ ،‬أي ينزل مطرا ً كأنه‬
‫الطل‪ ،‬فتنبت منه أجساد الناس‪.‬‬
‫ثم ينفخ فيه أخرى‪ ،‬فإذا هم قيام ينظرون ‪ ،‬ثم ُيقال ‪ :‬يا‬
‫موا إلى ربكم‪ ،‬وقفوهم إنهم مسؤولون ‪.‬‬ ‫أيها الناس هَل ُ ّ‬
‫م؟‬ ‫م كَ ْ‬‫من ك َ ْ‬ ‫ثم ُيقال ‪ :‬أخرجوا بعث النار‪ ،‬فيقال ‪ِ :‬‬
‫فيقال ‪ :‬من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫عن‬‫ف َ‬ ‫ش ُ‬ ‫م ي ُك ْ َ‬
‫شيًبا[ ‪ ،‬وذلك ]ي َوْ َ‬
‫ن ِ‬ ‫ل ال ْوِل ْ َ‬
‫دا َ‬ ‫جع َ ُ‬
‫ما ي َ ْ‬‫فذلك ] ي َوْ ً‬
‫ق[‪.‬‬
‫سا ٍ‬
‫َ‬
‫) ‪(1/77‬‬

‫الّليت ‪ :‬صفحة العنق‪ ،‬ويلوط حوضا إبله ‪ :‬أي يكينه‬


‫ويصلحه ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬ل تقوم الساعة على أحد‬
‫يقول ‪ :‬الله الله (( ‪ .‬وفي الحديث آخر ‪ )) :‬فيبقى أشرار‬
‫يتهارجون فيها تهارج الحمر‪ ،‬فعليهم تقوم الساعة (( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ :‬يقبض الله الرض يوم‬
‫القيامة‪ ،‬ويطوي السماء بيمينه ‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أنا الملك ‪ ،‬أين‬
‫ملوك الرض ؟! وقال عليه الصلة والسلم ‪ :‬يطوي الله‬
‫السماوات يوم القيامة‪ ،‬ثم يأخذن بيده اليمنى‪ ،‬ثم يقول ‪:‬‬
‫أنا الملك ‪ ،‬أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي‬
‫الرض بشماله ثم يقول ‪ :‬أنا الملك‪ ،‬أين الجّبارون ؟ أين‬
‫المتكبرون ؟‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ :‬يدرس السلم كما يدرس‬
‫الثوب‪ ،‬حتى ل ي ُد َْرى ما صيام ول صلة ول نسك ول صدقة‬
‫‪ ،‬ويشتري بكتاب الله تعالى في ليلة ‪ ،‬فل يبقى في‬
‫الرض آية ‪ ،‬ويبقى طوائف من الناس منهم الشيخ الكبير‬
‫والعجوز يقولون ‪ :‬أدركنا آباءنا على هذه الكلمة ل إله إل‬
‫الله‪ ،‬فنحن نقولها ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ :‬إنكم ل ترون الساعة حتى‬
‫ترون قبلها عشر آيات‪ ،‬أولها طلوع الشمس من مغربها‪،‬‬
‫ثم الدخان‪ ،‬ثم الدجال ‪ ،‬ثم الدابة‪،‬‬
‫) ‪(1/78‬‬

‫ثم ثلثة خسوف ‪ :‬خسف بالمشرق ‪ ،‬وخسف بالمغرب‪،‬‬


‫وخسف بجزيرة العرب‪ ،‬وخروج عيسى‪ ،‬وخروج يأجوج‬
‫ومأجوج ‪ ،‬ويكون آخر ذلك نارا ً تخرج من اليمن من قعر‬
‫عدن ‪.‬‬
‫واعلم أن وقت مجيء الساعة أمر تفرد الله تعالى بعلمه‪،‬‬
‫فليس يعلمه إل هو‪ ،‬كما قال تعالى‪ ] :‬قل إنما علمها عند‬
‫ربي ل يجليها لوقتها إل هو [ وقال تعالى‪ ] :‬وعنده علم‬
‫الساعة [ ‪.‬‬
‫وإنما يتعلق علم الخلئق بأماراتها وأشراطها التي تدل‬
‫على اقترابها‪ ،‬وهي كثيرة جاءت بها الحاديث الصحيحة‪،‬‬
‫وقد ظهر الكثير منها‪ ،‬ولم يبق فيما يظهر إل اليات العامة‬
‫منها‪ ،‬مثل طلوع الشمس من مغربها‪ ،‬والدجال لعنه الله ‪،‬‬
‫ودابة الرض‪ ،‬ونزول عيسى عليه السلم وأمثال ذلك ‪.‬‬

‫***‬
‫) ‪(1/79‬‬

‫) ‪(1/80‬‬

‫******************‬
‫******************‬
‫**** الُعمُر الّرابع ****‬
‫******************‬
‫******************‬
‫) ‪(1/81‬‬

‫******************‬
‫******************‬
‫**** ****‬
‫******************‬
‫******************‬
‫) ‪(1/82‬‬

‫ع‬
‫الُعمُر الّراب ُ‬
‫من قَْبره للب َعْ ِ‬
‫ث‬ ‫سان ِ‬
‫خروج الن َ‬
‫حين ُ‬ ‫ن ِ‬‫م ْ‬
‫َوهوَ ِ‬
‫ة‪،‬‬
‫دخول أهل الجن ّةِ في الجن ّ ِ‬ ‫حين ُ‬ ‫شور‪ ،‬إلى ِ‬ ‫َوالن ّ ُ‬
‫دخول أهل الّنار في الّنار‬ ‫وَ ُ‬
‫وذلك أنه يأمر الله عز وجل إسرافيل عليه السلم أن‬
‫ينفخ في الصور النفخة الثانية‪ .‬قال الله تعالى ‪ ] :‬وَن ُِف َ‬
‫خ‬
‫ن[‪.‬‬ ‫سُلو َ‬ ‫م َين ِ‬ ‫ث إ َِلى َرب ّهِ ْ‬ ‫دا ِ‬ ‫ج َ‬‫ن اْل َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫هم ّ‬ ‫ذا ُ‬ ‫صورِ فَإ ِ َ‬ ‫ِفي ال ّ‬
‫وقال تعالى ‪ ] :‬ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون [‪.‬‬
‫ل ب ََلى‬ ‫ن ك ََفُروا َأن ّلن ي ُب ْعَُثوا قُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫وقال تعالى ‪َ ] :‬زعَ َ‬
‫ك عََلى الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م وَذ َل ِ َ‬ ‫مل ْت ُ ْ‬
‫ما عَ ِ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫م ل َت ُن َب ّؤُ ّ‬ ‫ن ثُ ّ‬ ‫وََرّبي ل َت ُب ْعَث ُ ّ‬
‫سيٌر [ ‪.‬‬ ‫يَ ِ‬
‫م َول ب َعْث ُك ُ ْ ّ‬ ‫خل ُْقك ُ ْ‬
‫ن‬
‫حد َةٍ إ ِ ّ‬ ‫س َوا ِ‬ ‫م إ ِل ك َن َْف ٍ‬ ‫ما َ‬ ‫وقال تعالى‪ّ ] :‬‬
‫صيٌر[‬ ‫ميعٌ ب َ ِ‬ ‫س ِ‬‫ه َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫َ‬
‫م ي ُِعيد ُهُ‬ ‫خل ْقَ ث ُ ّ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫ف ي ُب ْدِئُ الل ّ ُ‬ ‫م ي ََرْوا ك َي ْ َ‬ ‫وقال تعالى‪ ] :‬أوَل َ ْ‬
‫ض َفانظ ُُروا‬ ‫َْ‬ ‫سيٌر * قُ ْ‬ ‫ك عََلى الل ّهِ ي َ ِ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬
‫روا ِفي الْر ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫سي‬‫ل ِ‬
‫َ‬
‫إِ ّ‬
‫ه عََلى‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫خَرةَ إ ِ ّ‬ ‫شأةَ اْل ِ‬ ‫ئ الن ّ ْ‬ ‫ش ُ‬ ‫ه ُين ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫خل ْقَ ث ُ ّ‬ ‫ف ب َد َأ ال ْ َ‬ ‫ك َي ْ َ‬
‫ديٌر [ ‪.‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ل َ‬
‫ش‬ ‫كُ ّ‬
‫َ‬ ‫وقال تعالى‪ ] :‬ذ َل َ َ‬
‫موَْتى‬ ‫ي ال ْ َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ه يُ ْ‬ ‫حقّ وَأن ّ ُ‬ ‫ه هُوَ ال ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ك ب ِأ ّ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ب ِفيَها‬ ‫ة ل َري ْ َ‬ ‫ة آت ِي َ ٌ‬ ‫ساعَ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ديٌر * وَأ ّ‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫وَأن ّ ُ‬
‫ن ِفي ال ُْقُبورِ [ ‪.‬‬ ‫َ‬
‫م ْ‬ ‫ث َ‬ ‫ه ي َب ْعَ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫وَأ ّ‬
‫) ‪(1/83‬‬

‫ة فَإ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫شع َ ً‬‫خا ِ‬ ‫ض َ‬ ‫َ‬
‫ك ت ََرى الْر َ‬ ‫ن آَيات ِهِ أ َن ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وقال تعالى‪ ] :‬وَ ِ‬
‫ي‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ها‬
‫َ‬ ‫يا‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ت‬ ‫ب‬‫ر‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ز‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ه‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫ما‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ها‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫نا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ز‬ ‫َ‬
‫أن‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ديٌر[ ‪.‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫موَْتى إ ِن ّ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫وقال تعالى‪ ] :‬وضرب لنا مثل ً ونسي خلقه قال من يحيى‬
‫العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو‬
‫بكل خلق عليم [ ‪.‬‬
‫وعن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا‬
‫رسول الله كيف يعيد الله الخلق ‪ ،‬وما آية ذلك في‬
‫خلقه ؟ قال ‪ :‬أو ما مررت بوادي قومك جدبا ‪ ،‬ثم مررت‬
‫به يهتز خضرا ً ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬قال ‪ :‬فتلك آيته في خلقه ‪.‬‬
‫وذكر القرطبي رحمه الله في كتاب التذكرة‪ ،‬في حديث‬
‫طويل‪ ،‬عن أبي هريرة رضي الله عنه‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ونحن في طائفة من أصحابه‬
‫ل ثناؤه‪ ،‬وتقدست‬ ‫وساق الحديث بطوله‪ ،‬إلى قوله ج ّ‬
‫أسماؤه ‪ )) :‬لله الواحد القهار‪ ،‬يوم تبدل الرض غير‬
‫الرض والسموات(( فيبسطها بسطًا‪ ،‬ثم يمدها مد الديم‬
‫العكاظي‪ ،‬ل ترى فيه عوجا ً ول أمتا ً ‪.‬‬
‫ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة‪ ،‬فإذا هم في الرض‬
‫المبدلة‪ ،‬في مثل ما كانوا فيه من الول‪ .‬من كان في‬
‫بطنها كان في بطنها‪ ،‬ومن كان على ظهرها كان على‬
‫ظهرها ‪.‬‬
‫) ‪(1/84‬‬

‫ثم ينزل الله عليكم ماء من تحت العرش يقال له ‪:‬‬


‫الحيوان؛ فتمطر السماء عليكم أربعين يومًا‪ ،‬حتى يكون‬
‫الماء من فوقكم اثني عشر ذراعا ً ‪.‬‬
‫ثم يأمر الله بالجساد فتنبت كنبات الطراثيث ‪ ،‬وكنبات‬
‫البقل ‪ ،‬حتى إذا تكاملت أجسادكم‪ ،‬فكانت كما كانت‪،‬‬
‫يقول الله تعالى ‪ :‬ليحيى حملة العرش ‪ ،‬فيحيون ‪.‬‬
‫ثم يقول ‪ :‬ليحيى جبريل وميكائيل وإسرافيل‪ ،‬فيأمر الله‬
‫إسرافيل‪ ،‬فيأخذ الصور‪ ،‬ثم يدعو الله تعالى الرواح فيؤتى‬
‫بها تتوهج أرواح المسلمين نورًا‪ ،‬والخرى مظلمة فيأخذها‬
‫الله فيلقيها في الصور‪.‬‬
‫ثم يقول لسرافيل ‪ :‬انفخ نفخة البعث‪ ،‬فينفخ فتخرج‬
‫الرواح كأمثال النحل قد ملت ما بين السماء والرض‪،‬‬
‫فيقول الله عز وجل ‪ :‬وعز تي وجللي‪ ،‬ليرجعن كل روح‬
‫إلى جسده‪ ،‬فتدخل الرواح في الرض إلى الجساد‪ ،‬ثم‬
‫تدخل في الخياشيم‪ ،‬فتمشي في الجساد مشي السم‬
‫في اللديغ ‪.‬‬
‫ل من تنشق الرض عنه‪،‬‬ ‫ثم تنشق الرض عنكم ‪ .‬وأنا أوّ ُ‬
‫فتخرجون منها شبابا ً أبناء ثلث وثلثين‪.‬‬
‫ن[‪،‬‬ ‫سُلو َ‬ ‫واللسان يومئذ بالسريانية‪ ،‬سراعا ً ] إ َِلى َرب ّهِ ْ‬
‫م َين ِ‬
‫سٌر [‬‫م عَ ِ‬ ‫ن هَ َ‬
‫ذا ي َوْ ٌ‬ ‫كافُِرو َ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫ن إ َِلى ال ّ‬
‫داِع ي َُقو ُ‬ ‫مهْط ِِعي َ‬
‫] ُ‬
‫) ‪(1/85‬‬

‫شرناهُم فَل َم نَغادر منه َ‬


‫دا[ ‪...‬‬ ‫ح ً‬ ‫مأ َ‬ ‫ْ ُ ِْ ِ ُْ ْ‬ ‫ح َ ْ َ ْ‬ ‫ذلك يوم الخروج‪] ،‬وَ َ‬
‫الحديث " ‪.‬‬
‫والصور ‪ :‬قرن عظيم من نور‪ ،‬ل يعلم قدر عظمه إل الله‬
‫تعالى‪ ،‬والطراثيث‪ ،‬جمع طرثوث‪ ،‬نبات يؤكل ‪.‬‬
‫ل شيء إل عظما ً‬ ‫وفي الحديث ‪ :‬أنه يبلى من النسان ك ّ‬
‫ب‬
‫ج ُ‬ ‫كب الخلق‪ ،‬وعَ ْ‬ ‫ب‪ ،‬ومنه ي َُر ّ‬ ‫ب الذ ّن َ ِ‬ ‫ج ُ‬ ‫واحدًا‪ ،‬وهو عَ ْ‬
‫م صغير جدا ً في آخر الصلب ‪.‬‬ ‫ب عظ ٌ‬ ‫الذ ّن َ ِ‬
‫فإذا أراد الله جلت قدرته أن يبعث الخلق أمطر السماء‬
‫مطرا ً غزيرًا‪ ،‬يشبه مني الرجال‪ ،‬فينبتون من حيث دفنوا‪،‬‬
‫كما ينبت الزرع‪ ،‬ثم يبعث الله إسرافيل عليه السلم‪،‬‬
‫ويأمره ان ينفخ في الصور نفخة البعث‪ ،‬فترجع الرواح‬
‫إلى أجسادها فيحيون بإذن الله تعالى‪ ،‬وينشرون‪ ،‬وتنشق‬
‫عنهم الرض‪ ،‬وتبعثر القبور‪ ،‬ثم تحشر الجساد والرواح‬
‫إلى الله تعالى‪ ،‬إلى موقف يوم القيامة ‪.‬‬
‫َ‬
‫ض َبارَِزةً‬ ‫ل وَت ََرى الْر َ‬ ‫جَبا َ‬‫سي ُّر ال ْ ِ‬ ‫م نُ َ‬ ‫قال الله تعالى ‪ ]:‬وَي َوْ َ‬
‫ضوا عََلى َرب ّ َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫دا * وَعُرِ ُ‬ ‫ح ً‬‫مأ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫م ن َُغادِْر ِ‬ ‫م فَل َ ْ‬ ‫شْرَناهُ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م أل ّ ْ‬ ‫مت ُ ْ‬
‫ل َزعَ ْ‬ ‫مّرةٍ ب َ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫م أو ّ َ‬ ‫خل َْقَناك ُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫موَنا ك َ َ‬ ‫جئ ْت ُ ُ‬‫صّفا ل ََقد ْ ِ‬ ‫َ‬
‫دا [ اليات‪.‬‬ ‫ع ً‬‫مو ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ل لك ُ ْ‬ ‫جع َ َ‬ ‫نَ ْ‬
‫شٌر‬ ‫ح ْ‬ ‫ك َ‬ ‫عا ذ َل ِ َ‬‫سَرا ً‬ ‫م ِ‬ ‫َ‬ ‫م تَ َ‬
‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫شّققُ الْر ُ‬ ‫وقال تعالى ‪ ] :‬ي َوْ َ‬
‫سيٌر[‪.‬‬ ‫عَل َي َْنا ي َ ِ‬
‫وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪)) :‬يموت المرء‬
‫ث على ما مات عليه((‪،‬‬ ‫على ما عاش عليه ‪ ،‬وي ُب ْعَ ُ‬
‫) ‪(1/86‬‬

‫عراة‬‫حفاة ُ‬‫وقال صّلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬يحشر الناس ُ‬


‫غرل ً ‪ ،‬النساء مختلطات بالرجال (( ‪ ،‬قالت عائشة رضي‬ ‫ُ‬
‫الله عنها‪ ":‬واسوأتاه ‍ ينظر بعضهم إلى بعض"؛ ‍ فقال‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ":‬المر أشد ّ من أن يهمهم ذلك" ‪.‬‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬يحشر الناس أجوع ما‬
‫كانوا قط ‪ ،‬وأعطش ما كانوا قط ‪ ،‬وأعرى ما كانوا قط‬
‫وأنصب ما كانوا قط ‪ ،‬فمن أطعم لله أطعمه الله ‪ ،‬ومن‬
‫سقى لله سقاه الله ‪ ،‬ومن كسا لله كساه الله ‪ ،‬ومن‬
‫عمل لله كفاه الله ‪ ،‬فإذا خرجوا من قبورهم ‪ ،‬أمروا‬
‫بالمسير إلى أرض المحشر ‪ ،‬وبقال ‪ :‬أنها الرض المباركة‬
‫والرض المقدسة بالشام ‪ ،‬فتسوقهم الملئكة إليها (( ‪.‬‬
‫وقد ورد أن الله عز وجل يبعث نارا ً من قعر عدن‪،‬‬
‫فتسوق الناس إلى أرض المحشر‪ ،‬وقيل ‪ :‬من برهوت واد‬
‫أسفل حضرموت‪ ،‬فتسير تلك النار معهم حيث ساروا‪،‬‬
‫وتقيل معهم حيث قالوا‪ ،‬وتمسي معهم حيث أمسوا‪،‬‬
‫وتصبح معهم حيث أصبحوا‪ ،‬ويكون سيرها كسير البل‪،‬‬
‫وتتمثل للناس عند ذلك أعمالهم من صالح‪ ،‬فيتبع صاحبه‪،‬‬
‫ي عمله فيوحشه ويوبخه ‪،‬‬ ‫ويؤنسه ويكون معه‪ ،‬ومن س ْ‬
‫وربما ركبه وكلفه أن يحمله على ظهره‪ ،‬قال الله تعالى ‪:‬‬
‫ن[‪.‬‬ ‫] يحمُلون أ َوزارهُم عََلى ظ ُهوره َ‬
‫ما ي َزُِرو َ‬ ‫ساَء َ‬‫م أل َ‬ ‫ُ ِ ِ ْ‬ ‫َ َْ َ ْ‬ ‫َ ْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سأل ُ ّ‬
‫ن‬ ‫م وَل َي ُ ْ‬ ‫م وَأث َْقاًل َ‬
‫معَ أث َْقال ِهِ ْ‬ ‫ن أث َْقال َهُ ْ‬
‫مل ُ ّ‬ ‫وقال تعالى‪] :‬وَل َي َ ْ‬
‫ح ِ‬
‫ن[‪.‬‬ ‫كاُنوا ي َْفت َُرو َ‬ ‫ما َ‬ ‫م ال ِْقَيا َ‬
‫مة ِ ع َ ّ‬ ‫ي َوْ َ‬
‫) ‪(1/87‬‬

‫ي مع كل إنسان حفظته من الملئكة الذين كانوا‬ ‫ويج ْ‬


‫يحفظون عليه عمله في حياته الدنيا ‪.‬‬
‫د[ ‪.‬‬ ‫سائ ِقٌ وَ َ‬
‫شِهي ٌ‬ ‫معََها َ‬
‫س َ‬ ‫ت كُ ّ‬
‫ل ن َْف ٍ‬ ‫جاَء ْ‬
‫قال الله تعالى ‪ ] :‬وَ َ‬
‫وتظهر على المجرمين دللة أعمالهم السيئة التي كانوا‬
‫عملوها في الدنيا‪ ،‬وماتوا ولم يتوبوا منها إلى ربهم‬
‫تعالى ‪.‬‬
‫حتى ورد أن أكلة الربا‪ ،‬تعظم بطونهم جدًا‪ ،‬فيقومون‬
‫تارة‪ ،‬ويقعون أخرى من عظم بطونهم‪ ،‬وأن الزناة تعظم‬
‫فروجهم‪ ،‬حتى يسحبونها على الر ‪ ،‬وشربة الخمر‬
‫يحشرون وكؤوسها في أيديهم ‪.‬‬
‫وأهل الكذب والغيبة والنميمة‪ ،‬تطول ألسنتهم حتى تبلغ‬
‫صدورهم‪ ،‬ومانعي الزكاة‪ ،‬تتمثل لهم أموالهم في صور‬
‫حّيات هائلة‪ ،‬يطوقون بها ‪.‬‬
‫ويحشر المتكبرون على الناس في صور الذ ّّر‪ ،‬يطؤهم البر‬
‫والفاجر‪ ،‬إلى غير ذلك ‪.‬‬
‫م فَي ُؤْ َ‬
‫خذ ُ‬ ‫ماهُ ْ‬
‫سي َ‬
‫ن بِ ِ‬
‫مو َ‬‫جرِ ُ‬ ‫ف ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫قال الله تعالى‪ ] :‬ي ُعَْر ُ‬
‫م[ ‪.‬‬ ‫صي َوال َقْ َ‬
‫دا ِ‬ ‫وا ِ‬
‫ِبالن ّ َ‬
‫وفي الحديث ‪ :‬إن الناس يحشرون على ثلث طوائف ‪:‬‬
‫ركبان‪ ،‬ومشاة على أقدامهم‪ ،‬وعلى وجوههم ‪ .‬قال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ :‬إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر‬
‫على أن يمشيهم على وجوههم ‪.‬‬
‫) ‪(1/88‬‬

‫وروي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال ‪:‬‬


‫قلت ‪ ،‬يا رسول الله أرأيت قول الله عز وجل ‪] :‬يوم ينفخ‬
‫في الصور فتأتون أفواجًا[ فقال النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم يا معاذ بن جبل لقد سألت عن أمر عظيم ‪.‬‬
‫ثم أرسل عينيه بالبكاء‪ ،‬ثم قال ‪ :‬يحشر عشرة أصناف‬
‫من أمتي أشتاتًا‪ ،‬قد ميزهم الله من جماعات المسلمين‪،‬‬
‫وبدل صورهم‪ ،‬فمنهم على صورة القردة‪ ،‬وبعضهم على‬
‫صورة الخنزير‪ ،‬وبعضهم منكسون أرجلهم أعلهم‪،‬‬
‫عمي يترددون‪،‬‬ ‫ووجوههم يسحبون عليها‪ .‬وبعضهم ُ‬
‫م ل يعقلون‪ ،‬وبعضهم يمضغون ألسنتهم‬ ‫م بك ٌ‬
‫وبعضهم ص ّ‬
‫مدلة على صدورهم‪ ،‬يسيل القيح من أفواههم لعابًا‪،‬‬
‫يقذرهم أهل الجمع‪ ،‬وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم‪،‬‬
‫وبعضهم مصلبون على جذوع من النار‪ ،‬وبعضهم أشد‬
‫نتنًامن الجيفة‪ ،‬وبعضهم يلبسون جلليب سابغة من‬
‫القطران ‪.‬‬
‫فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني‬
‫النمام ‪ .‬وأما الذين على صورة الخنازير‪ ،‬فأهل السحت‬
‫والحرام والمكس‪ .‬وأما المنكسون على رؤوسهم‬
‫ووجوههم فأكلة الربا‪ .‬وأما العمي‪ ،‬فمن يجور في الحكم‪،‬‬
‫وأما الصم البكم‪ ،‬فالذين يعجبون بأعمالهم ‪ .‬وأما الذين‬
‫يمضغون ألسنتهم ‪،‬‬
‫) ‪(1/89‬‬

‫فالعلماء والقضاة الذين يخالف قولهم فعلهم وأما‬


‫المقطعة أيديهم وأرجلهم ‪ ،‬فالذين يؤذون الجيران‪ .‬وأما‬
‫المصلبون على جذوع من النار‪ ،‬فالسعاة بالناس إلى‬
‫السلطين ‪ .‬وأما الذين أشد نتنا ً من الجيفة‪ ،‬فالذين‬
‫يتمتعون بالشهوات واللذات‪ ،‬ويمنعون حق الله من‬
‫أموالهم‪ ،‬وأما الذين يلبسون الجلليب‪ ،‬فأهل الكبر والفخر‬
‫والخيلء ‪ .‬انتهى ‪ .‬ذكر هذا الحديث القرطبي ‪ ،‬رحمة الله‬
‫في التذكرة ‪.‬‬
‫وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬يحشر الناس‬
‫على أرض بيضاء غراء كقرص النقى ‪ ،‬ليس فيها علم لحد‬
‫(( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬يحشر الناس في صعيد‬
‫واحد ‪ ،‬يسمعهم الداعي ‪ ،‬وينفدهم البصر(( الحديث ‪.‬‬
‫وذلك هو موقف القيامة‪ ،‬فإذا اجتمع فيه الخلئق‪ ،‬من‬
‫الجن والنس والشياطين والبهائم والوحوش والسباع‪ ،‬ثم‬
‫تنزلت الملئكة عليهم السلم بأمر الله‪ ،‬وأحاطوا بأهل‬
‫الجمع‪ ،‬صفا خلف صف‪ ،‬فل يستطيع المجرمون‬
‫والظالمون هربا ً ول فرارًا‪ ،‬ول يجدون إلى ذلك سبيل ً ‪،‬‬
‫شر ال ْجن والنس إن استط َعت َ‬
‫ن‬
‫مأ ْ‬ ‫ِ ّ َ ِ ِ ِ ِ ْ َ ُْ ْ‬ ‫مع ْ َ َ‬‫قال الله تعالى‪َ ]:‬يا َ‬
‫ن إ ِّل‬‫ذو َ‬ ‫ذوا ل َتنُف ُ‬ ‫ض َفانُف ُ‬ ‫َ‬ ‫ن أ َقْ َ‬ ‫َتنُف ُ‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫وا ِ‬‫م َ‬
‫س َ‬‫طارِ ال ّ‬ ‫م ْ‬‫ذوا ِ‬
‫ن[ ‪.‬‬ ‫س َفل َتنت َ ِ‬
‫صَرا ِ‬ ‫حا ٌ‬
‫ن[ إلى قوله تعالى ‪] :‬وَن ُ َ‬ ‫سل ْ َ‬
‫طا ٍ‬ ‫بِ ُ‬
‫ويزدحم أهل الموقف‪ ،‬ويموج بعضهم في بعض‪ ،‬وتدنو‬
‫ل‪.‬‬ ‫مي ٍ‬‫الشمس من رؤوسهم حتى تكون على قَد ْرِ ِ‬
‫) ‪(1/90‬‬

‫قال الراوي ‪ :‬ل أدري أهو ميل المسافة من الرض‪ ،‬أو‬


‫الميل الذي يكتحل به‪ .‬فحينئذ ينزل بالناس من الكرب‬
‫والحر والعطش‪ ،‬ما ل يعلمه إل الله‪ ،‬ويبلغ منهم عظيمًا‪،‬‬
‫ويعرق الناس‪ ،‬حتى يذهب عرقهم في الرض أربعين‬
‫ذراعا ً ‪.‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم ‪ :‬تدنو الشمس من الرض يوم‬
‫القيامة‪ ،‬فيعرق الناس‪ ،‬فمن الناس من يبلغ عرقه كعيبه‪،‬‬
‫ومنهم من يبلغ نصف ساقيه‪ ،‬ومنهم من يبلغ ركبتيه ومنهم‬
‫من يبلغ فخذيه‪ ،‬ومنهم من يبلغ خاصرته‪ ،‬ومنهم من يبلغ‬
‫فاه‪ ،‬وأشار بيده فألجمها فاه ومنهم من يغطيه عرقه‪،‬‬
‫ومر بيده على رأسه صلى الله عليه وسلم هكذا ‪.‬‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم‪ ":‬المرء في ظل صدقته يوم‬
‫القيامة" ‪ ،‬وقال صلى الله عليه وسلم ‪ ":‬سبعة يظلهم‬
‫الله في ظله يوم القيامة يوم ل ظل إل ظله‪:‬‬
‫إمام عادل‪ ،‬وشاب نشأ في عبادة الله‪ ،‬ورجل قلبه معلق‬
‫بالمساجد‪ ،‬ورجلن تحابا في الله اجتمعا عليه وتفارقا‬
‫عليه‪ ،‬ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال ‪ :‬إني‬
‫أخاف الله‪ ،‬ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى ل تعلم‬
‫شماله ما نتفق يمينه‪ ،‬ورجل ذكر الله خاليا ً ففاضت‬
‫ل عرشه ‪.‬‬ ‫عيناه" ‪ .‬معنى في ظّله ‪ :‬أي في ظ ّ‬
‫وقال صّلى الله عليه وسّلم ‪ )) :‬من أنظر معسرا ً أو وضع‬
‫له ‪ ،‬أظّله الله في ظّله ((‬
‫) ‪(1/91‬‬

‫وقال صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬من سّره أن ينظر إلى‬


‫ماُء‬
‫س َ‬ ‫ت [‪ ،‬و ] إ ِ َ‬
‫ذا ال ّ‬ ‫س ك ُوَّر ْ‬‫م ُ‬ ‫ذا ال ّ‬
‫ش ْ‬ ‫يوم القيامة فليقرأ ] إ ِ َ‬
‫ت [ ((‪.‬‬ ‫ماُء ان َ‬
‫شّق ْ‬ ‫س َ‬‫ذا ال ّ‬ ‫انَفط ََر ْ‬
‫ت[ ‪ ،‬و ] إ ِ َ‬
‫فإذا طال الوقوف على أهل الموقف‪ ،‬وعظم الكرب‬
‫عليهم‪ ،‬تشاورا فيما بينهم‪ ،‬فيمن يأتونه فيشفع لهم إلى‬
‫ربهم‪ ،‬في أن يفصل بينهم‪ ،‬ويريحهم مما هم فيه فيأتون‬
‫إلى آدم عليه السلم‪ ،‬فيحيلهم على نوح عليه السلم‪،‬‬
‫ويحيلهم نوح على إبراهيم عليه السلم‪ ،‬ويحيلهم إبراهيم‬
‫على موسى عليه السلم‪ ،‬ويحيلهم موسى على عيسى‬
‫عليه السلم‪ ،‬ويحيلهم عيسى على محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فيقول صلوات الله وسلمه عليه ‪ :‬أنا لها أنا لها‪،‬‬
‫ويذهب إلى ربه فيستأذن ثم يسجد له ويحمده‪ ،‬ثم يؤمر‬
‫بأن يرفع رأسه‪ ،‬وأن يشفع فيشفع‪.‬‬
‫والحاديث في ذلك كثيرة صحيحة ومشهورة‪ .‬ويقال ‪ :‬إن‬
‫ذلك هو المقام المحمود‪ ،‬الذي يغبطه فيه الولون‬
‫ما‬ ‫ك َرب ّ َ‬
‫ن ي َب ْعَث َ َ‬ ‫َ‬
‫مَقا ً‬
‫ك َ‬ ‫سى أ ْ‬
‫والخرون ‪ .‬قال تعالى ‪ ] :‬عَ َ‬
‫دا [ ‪.‬‬
‫مو ً‬
‫ح ُ‬
‫م ْ‬
‫َ‬
‫وبلغنا أن أطفال المسلمين‪ ،‬الذين ماتوا قبل أن يبلغوا‬
‫الحلم‪ ،‬يؤذن لهم أن يسقوا آباءهم فيتخللون الجمع لطلب‬
‫آبائهم‪ ،‬ليسقوهم‪ ،‬وبالناس من العطش ما ل مزيد عليه ‪.‬‬
‫) ‪(1/92‬‬

‫حتى إن بعض الصاحين كان قد عزم على ترك الزواج‪،‬‬


‫فرأى في منامه أنه في وقف القيامة‪ ،‬وبه من العطش ما‬
‫يجل عن الوصف‪ ،‬ورأى أطفال ً وبأيديهم آنية وفيها الماء‬
‫وهم يسقون واحدًا‪ ،‬ويدعون واحدا ً ‪ .‬فاستسقاهم فقالوا ‪:‬‬
‫إنما نسقي آباءنا فلما أصبح طلب التزوج على رجاء أن‬
‫يرزقه الله ولدًا‪ ،‬فيموت في حال طفولته‪ ،‬ليكون ممن‬
‫ُيسقي في ذلك الموقف العظيم كربه وأهواله ‪.‬‬
‫نسأل الله اللطف والعافية بفضله آمين ‪.‬‬
‫ويشتد الكرب‪ ،‬وتعظم الهوال على أهل الموقف‪ ،‬حتى‬
‫بلغنا أن الكافر يقول ‪ :‬رب ارحني ولو إلى النار ‪.‬‬
‫فإذا شفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه‪ ،‬في‬
‫أن يفصل بين عباده‪ ،‬ويريحهم مما هم فيه‪ ،‬أمر الله‬
‫الملئكة الذين هم حملة العرش العظيم‪ ،‬فيحملون عرش‬
‫الرحمن إلى الموقف ويجاء بالجنة فتجعل عن يمين‬
‫العرش‪ ،‬ويؤمر بالنار أعاذنا الله منها فتجعل على يسار‬
‫العرش‪ ،‬وتعرض الخلئق على الله تعالى للحساب‪.‬‬
‫فمنهم من ل يحاسب‪ ،‬وهم السابقون‪ ،‬ومنهم من يحاسب‬
‫حسابا ً يسيرًا‪ ،‬ومنهم من يناقش في الحساب‪ ،‬ومن‬
‫ذب‪ .‬ويعطى الناس كتبهم بأيمانهم ‪،‬‬ ‫نوقش الحساب عُ ّ‬
‫وبشمائلهم ‪ ،‬ومن وراء ظهورهم ‪.‬‬
‫) ‪(1/93‬‬
‫ويسأل الله تعالى المرسلين عن تبليغ الرسالة إلى أممهم‬
‫ويسأل المم ‪ :‬هل بلغهم المرسلون ما أرسلوا به إليهم؟‬
‫ل إل َيهم ول َن َ‬ ‫قال الله تعالى ‪ ] :‬فَل َنسأ َل َن ال ّذي ُ‬
‫سأل َ ّ‬
‫ن‬ ‫س َ ِ ِْ ْ َ َ ْ‬ ‫ن أْر ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ ْ ّ‬
‫ن[ ‪ .‬وحينئذ‬ ‫غائ ِِبي َ‬ ‫ما ك ُّنا َ‬ ‫م ب ِعِل ْم ٍ وَ َ‬ ‫ن عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ص ّ‬‫ن * فَل َن َُق ّ‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ض‬‫م ت َب ْي َ ّ‬ ‫جوه ‪ .‬قال الله تعالى ‪ ] :‬ي َوْ َ‬ ‫سوَد ّ وُ ُ‬ ‫جوهٌ وَت َ ْ‬ ‫ض وُ ُ‬ ‫ت َب ْي َ ّ‬
‫مةِ الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ح َ‬ ‫جوه ٌ [ إلى قوله تعالى ‪ ] :‬فَِفي َر ْ‬ ‫سوَد ّ وُ ُ‬ ‫جوهٌ وَت َ ْ‬ ‫وُ ُ‬
‫ن[ ‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬‫م ِفيَها َ‬ ‫هُ ْ‬
‫وما من أحد إل ويوقفه الله بين يديه‪ ،‬فيسأله عن عمله‪.‬‬
‫قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إل‬
‫سيكلمه الله كفاحا ً ليس بينه وبينه ترجمان‪ ،‬فينظر أيمن‬
‫منه‪ ،‬فل يرى إل ما قدم‪ ،‬وينظر شماله‪ ،‬فل يرى إل ما‬
‫قدم‪ ،‬وينظر بين يديه‪ ،‬فل يرى إل النار تلقاء وجهه‪ .‬فاتقوا‬
‫النار ولو بشق تمرة ‪.‬‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم ‪ " :‬ل تزول قدما عبد حتى‬
‫يسأل عن أربع ‪ :‬عن شبابه فيما أبله ؟ وعن عمره فيما‬
‫أفناه ؟ وعن ماله من أين أكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ " ‪ ،‬وفي‬
‫رواية ‪" :‬وعن علمه فيما عمل فيه ؟ " ‪.‬‬
‫وفي ذلك الموطن‪ ،‬تشهد على الناس ألسنتهم وأيديهم‬
‫وأرجلهم وجلودهم بما عملوا بها‪ .‬وفي بعض وجوه‬
‫م‬‫التفسير ‪ :‬أن الجلود هي الفروج ‪ .‬قال الله تعالى ‪ ] :‬ي َوْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫شهد عَل َيه َ‬
‫ن[‬ ‫مُلو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫ما َ‬ ‫جل ُهُ ْ‬
‫م بِ َ‬ ‫م وَأْر ُ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫م وَأي ْ ِ‬ ‫سن َت ُهُ ْ‬‫م أل ْ ِ‬ ‫ِْ ْ‬ ‫تَ ْ َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ديهِ ْ‬ ‫مَنا أي ْ ِ‬ ‫م وَت ُك َل ّ ُ‬‫واهِهِ ْ‬ ‫م عََلى أفْ َ‬ ‫خت ِ ُ‬
‫م نَ ْ‬ ‫‪ ،‬وقال تعالى ‪ ] :‬ال ْي َوْ َ‬
‫ن[ ‪ ،‬وقال تعالى ‪ ] :‬وََقاُلوا‬ ‫َ‬
‫سُبو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫جل ُهُ ْ‬‫شهَد ُ أْر ُ‬ ‫وَت َ ْ‬
‫ذي أنط َقَ ك ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫م عَل َي َْنا َقاُلوا أنط ََقَنا الل ّ ُ‬ ‫شهِد ْت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫م لِ َ‬ ‫جُلودِهِ ْ‬ ‫لِ ُ‬
‫يٍء [ ‪.‬‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫) ‪(1/94‬‬

‫وكذلك تشهد بقاع الرض بما عملوا عليها من خير أو شر‬


‫قال الله تعالى ‪ ] :‬يومئذ تحدث أخبارها[ قال رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬أتدرون ما أخبارها ؟ هو أن‬
‫تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل عليها‪ ،‬فتقول ‪ :‬عمل‬
‫كذا في يوم كذا(( ‪ .‬الحديث ‪.‬‬
‫وقال ابن عمر رضي الله عنهما ‪ :‬قال رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ :‬يدني الله العبد المؤمن‪ ،‬حتى يضع عليه‬
‫كنفه‪ ،‬فيقرره بذنوبه‪ ،‬حتى إذا خاف أنه قد هلك ‪ .‬قال له‬
‫سبحانه ‪ :‬قد سترتها عليك في الدنيا‪ ،‬وأنا أغفرها لك‬
‫اليوم‪ .‬ثم إن يوم القيامة وإن كان كما وصف من الطول‬
‫والشدة‪ ،‬فقد يهونه الله‪ ،‬ويخففه على المؤمن التقي‪،‬‬
‫حتى يكون كمقدار الصلة المكتوبة يصليها ‪ .‬وفي راوية ‪:‬‬
‫كمقدار ما بين الظهر والعصر‪ .‬كذلك ورد في الحديث ‪.‬‬
‫ومن أشد المواطن كربا على أهل الموقف‪ ،‬حين يأمر الله‬
‫بالنار فيؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام‪ ،‬مع كل زمام‬
‫سبعون ألف ملك‪ ،‬فإذا دنت من أهل الموقف ‪ ،‬سمعوا لها‬
‫زفيرا ً وشهيقا ً ‪ ،‬وزمجرة وأصواتا ً مزعجة هائلة ‪ ،‬فعند ذلك‬
‫يجثوا الخلئق على الركب‪ ،‬ويشفق النبياء‪ ،‬ويخاف البراء‪،‬‬
‫حتى إن‬
‫) ‪(1/95‬‬

‫كل ً من الرسل الكرام‪ ،‬عليهم السلم يقول ‪ :‬يا رب‬


‫نفسي نفسي‪ ،‬ل أسألك غيرها‪ ،‬إل رسول الله صلى الله‬
‫مِتي(( ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مِتي أ ّ‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬فإنه ل يزال يقول ‪ )) :‬أ ّ‬
‫ويروي ‪ :‬أنه يتقدم إلى النار فيزجرها عن الخلئق‪ ،‬وأنها‬
‫تؤمر بأن تطيع له‪ ،‬فتعود إلى النقياد على الملئكة‬
‫الخذين بأزمتها‪ ،‬حتى يجعلوها بأمر الله‪ ،‬عن يسار عرش‬
‫الله كما تقدم ‪.‬‬
‫ويحرر الحساب ويقتص حتى فيما بين البهائم ‪ .‬كما ورد ‪:‬‬
‫أنه يقاد للشاة الجماء من القرناء ‪.‬‬
‫وورد أن الله تعالى إذا اقتص للبهائم بعضها من بعض‪،‬‬
‫يقول لها ‪ :‬كوني ترابا ً وعند ذلك يقول الكافر‪ :‬يا ليتني‬
‫كنت ترابًا‪ ،‬كما في الية الكريمة ‪.‬‬
‫ع‬
‫ض ُ‬
‫ثم ينصب الميزان لوزن العمال‪ .‬قال الله تعالى ‪ ]:‬وَن َ َ‬
‫شي ًْئا وَإ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫س َ‬ ‫مةِ َفل ت ُظ ْل َ ُ‬
‫م ن َْف ٌ‬ ‫ط ل ِي َوْم ِ ال ِْقَيا َ‬‫س َ‬‫ن ال ِْق ْ‬
‫واِزي َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫م َ‬
‫خرد َ‬
‫ن[‪.‬‬ ‫سِبي َ‬ ‫ل أت َي َْنا ب َِها وَك ََفى ب َِنا َ‬
‫حا ِ‬ ‫ن َ ْ َ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫حب ّةٍ ِ‬
‫ل َ‬ ‫مث َْقا َ‬
‫ن ِ‬‫كا َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫واِزين ُ ُ‬
‫م َ‬‫ت َ‬ ‫ن ث َُقل َ ْ‬‫ْ‬ ‫حقّ فَ َ‬
‫م‬ ‫مئ ِذٍ ال ْ َ‬ ‫وقال تعالى ‪َ ] :‬وال ْوَْز ُ‬
‫ن ي َوْ َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ه فَأ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ك ال ّ ِ‬ ‫واِزين ُ ُ‬ ‫م َ‬
‫ت َ‬ ‫خّف ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن * وَ َ‬ ‫حو َ‬ ‫مْفل ِ ُ‬‫م ال ْ ُ‬
‫ك هُ ُ‬‫فَأ ُوْل َئ ِ َ‬
‫َ‬
‫ن [‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫كاُنوا ِبآَيات َِنا ي َظ ْل ِ ُ‬‫ما َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫سه ُ ْ‬‫سُروا أنُف َ‬ ‫خ ِ‬ ‫َ‬
‫فتوزن الحسنات والسيئات‪ .‬فمن رجحت حسناته على‬
‫سيئاته فاز وسعد‪ ،‬ومن رجحت سيئاته على حسناته خاب‬
‫وخسر‪ ،‬ومن استوت حسناته وسيئاته‪ ،‬فقيل ‪ :‬يوقف على‬
‫العراف بين الجنة والنار‪ ،‬ثم يصير إلى الجنة برحمة الله‬
‫تعالى ‪.‬‬
‫) ‪(1/96‬‬

‫وورد أن ملكا ً واقف على الميزان‪ .‬فإذا رجح ميزان العبد‪،‬‬


‫نادى ‪ :‬أل إن فلن بن فلن رجح ميزانه‪ ،‬وسعد سعادة ل‬
‫يشقى بعدها أبدًا‪ .‬وإذا خف ميزان العبد‪ ،‬نادى ‪ :‬أل إن‬
‫فلن بن فلن خف ميزانه‪ ،‬وشقي شقاوة ل يسعد بعدها‬
‫أبدا ً ‪.‬‬
‫وحديث صاحب التسعة والتسعين سجل ً من الخطايا‪ .‬وهو‬
‫من هذه المة مشهور ‪.‬‬
‫وينصب الصراط على متن جهنم‪ ،‬ويؤمر الناس بالجواز‬
‫عليه‪ .‬وقد ورد أنه أحد من السيف‪ ،‬وأدق من الشعر‪.‬‬
‫فيجوز الناس بأعمالهم‪ .‬فمن كان أكمل إيمانا ً وأسرع في‬
‫طاعة الله‪ ،‬خف على الصراط‪ ،‬وجاز كالبرق الخاطف‪،‬‬
‫وكالريح وكالطير‪ ،‬وكأجود الخيل والركاب‪ ،‬وكأشد رجل‬
‫تجري بهم أعمالهم‪ .‬ومنهم من يحبو‪ ،‬ومنهم من يزحف‪،‬‬
‫ومنهم من تلفحه النار‪ ،‬ومنهم من يقع فيها‪.‬‬
‫وأول من يجوزه‪ ،‬الرسل عليهم الصلة والسلم‪ ،‬وكل‬
‫منهم يومئذ يقول ‪ :‬رب سلم سلم‪ .‬وأول من يجوز منهم ‪:‬‬
‫محمد صلى الله عليه وسلم‪ .‬ومن المم ‪ :‬أمته ‪.‬‬
‫وترسل المانة والرحم‪ ،‬فتقومان حول الصراط‪ ،‬وفيه‬
‫مَزّلة‪ ،‬وكلليب كشوك السعدان‪ ،‬تأخذ من أمرت‬ ‫ضو َ‬‫ح ٌ‬ ‫دَ َ‬
‫بأخذه ‪.‬‬
‫) ‪(1/97‬‬
‫ويرد المؤمنون حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫فيشربون منه‪ ،‬فيذهب ما بهم من العطش‪ .‬وماؤه أشد‬
‫بياضا ً من اللبن‪ ،‬وأطيب من المسك‪ ،‬وأحلى من العسل‪.‬‬
‫فيه ميزابان‪ ،‬يصبان من الكوثر‪ ،‬عرضه مسيرة شهر‪،‬‬
‫وطوله كذلك‪ ،‬وحوله أباريق كعدد نجوم السماء من شرب‬
‫منه شربة ل يظمأ بعدها أبدا ً ‪.‬‬
‫واختلف العلماء ‪ :‬هل الحوض بعد الصراط‪ ،‬وقبل دخول‬
‫الجنة‪ ،‬أو هو قبل الميزان والصراط‪ ،‬والمر محتمل‪.‬‬
‫وتعرف هذه المة من بين سائر المم‪ ،‬لنهم غر محجلون‬
‫من آثار الوضوء‪ .‬كذلك قال رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪.‬‬
‫ويذاذ عن الحوض أقوام‪ ،‬بعد ما يراهم رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم ويعرفهم‪ ،‬ويؤخذ بهم ذات الشمال‪.‬‬
‫فيقول عليه الصلة والسلم ‪ :‬إنهم من أصحابي فيقال‬
‫له ‪ :‬إنك ل تدري ما أحدثوا بعدك ‪.‬‬
‫ويؤذن في الشفاعة‪ ،‬فيشفع النبيون والصديقون‪ ،‬والعلماء‬
‫والصالحون والمؤمنون كل على حسب جاهه ومنزلته عند‬
‫الله تعالى‪ ،‬حتى إنه يشفع رجل من هذه المة‪ ،‬في مثل‬
‫ربيعة ومضر‪ .‬ويشفع الرجل‪ ،‬في الرجل والرجلين ‪.‬‬
‫وأول من يؤذن له في الشفاعة ‪ :‬محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬أنا أول شافع وأول‬
‫مشفع (( الحديث‪.‬‬
‫) ‪(1/98‬‬

‫فهو أعظم النبياء شفاعة وجاها عند ربه وله شفاعات‬


‫كثيرة ‪.‬‬
‫وأولها وأعظمها شفاعته صلى الله عليه وسلم في فصل‬
‫القضاء قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ل أزال أشفع حتى‬
‫أعطى صكاكا ً برجال قد أمر بهم إلى النار (( ‪ .‬وقال عليه‬
‫ل لي ‪ :‬مالك‬‫الصلة والسلم ‪ )) :‬ل أزال أشفع ‪ ،‬حتى ُيقا َ‬
‫ل تدع لغضب ربك في أمتك من بقية((‪.‬‬
‫فمن شفاعاته صلى الله عليه وسلم ‪ :‬أن يشفع لقوم من‬
‫أمته قد دخلوا النار‪ ،‬فيخرجون منها ولقوم منهم‪ ،‬في‬
‫زيادة رفع درجات من الجنة إلى غير ذلك من الشفاعات‪،‬‬
‫حتى يقول لربه‪ ،‬ائذن لي فيمن قال ‪ :‬لإله إل الله‪ ،‬فيقول‬
‫له سبحانه ‪ :‬إن ذلك ليس إليك‪ ،‬ولكن وعزتي ل أجعل من‬
‫آمن بي يوما ً من الدهر‪ ،‬كمن لم يؤمن بي ولعل المشار‬
‫إليهم بذلك ‪ :‬أهل القبضة التي يقبضها أرحم الراحمين من‬
‫النار‪ .‬والله أعلم ‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‪ ،‬قلت ‪ :‬يا رسول‬
‫الله‪ ،‬من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ فقال‬
‫صلوات الله عليه ‪" :‬أسعد الناس بشفاعتي‪ ،‬من قال ‪ :‬ل‬
‫إله إل الله خالصا ً من قبل نفسه" ‪.‬‬
‫وعن زيد بن أرقم‪ ،‬رضي الله عنه قال ‪ :‬قال رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ " :‬من قال لإله إل الله مخلصا ً‬
‫دخل الجنة"‪ .‬قيل ‪ :‬يا رسول الله وما إخلصها؟ قال ‪" :‬‬
‫أن تحجزه عن محارم الله "‪.‬‬
‫) ‪(1/99‬‬

‫وعن أنس رضي الله عنه قال ‪ :‬سألت رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة‪ ،‬فقال‪ :‬أنا فاعل‬
‫ذلك إن شاء الله‪ .‬قال ‪ :‬فأين أطلبك؟ قال ‪ :‬أول ما‬
‫تطلبني عند الصراط‪ ،‬قال‪ :‬فإن لم ألقك على الصراط ؟‬
‫قال ‪ :‬اطلبني عند الميزان‪ ،‬قلت‪ :‬فإن لم ألقك عند‬
‫الميزان ؟ قال فاطلبني عند الحوض‪ ،‬فإني ل أخطىء هذه‬
‫الثلثة المواضع ‪.‬‬
‫واعلم أن من أشد الشياء وأشقها في موقف يوم القيامة‬
‫‪ :‬ظلم العباد‪ ،‬فإنه الظلم الذي ليتركه الله‪ ،‬وفي‬
‫الحديث ‪ :‬الظلم ثلثة ‪ :‬ظلم ل يغفره الله‪ ،‬وهو الشرك‪،‬‬
‫وظلم ل يتركه الله‪ ،‬وهو ظلم الناس بعضهم لبعض ‪.‬‬
‫وظلم ل يعبأ الله به‪ ،‬وهو ظلم العبد لنفسه فيما بينه وبين‬
‫ربه ‪.‬‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم ‪ :‬أتدرون من المفلس من‬
‫أمتي؟ فقالوا ‪ :‬المفلس فينا من ل درهم له ول متاع‪،‬‬
‫فقال عليه السلم ‪ :‬المفلس من أمتي من يأتي يوم‬
‫القيامة بصلة وزكاة وصيام‪ ،‬ويأتي وقد شتم هذا‪ ،‬وقذف‬
‫هذا‪ ،‬وأكل مال هذا‪ ،‬وسفك دم هذا‪ ،‬وضرب هذا‪ ،‬فيعطي‬
‫هذا من حسناته‪ ،‬وهذا من حسناته‪ ،‬فإن فنيت حسناته‪،‬‬
‫ت عليه‪،‬‬‫ح ْ‬ ‫ضي ما عليه أ ُ ِ‬
‫خذ َ من خطاياهم‪ ،‬فط ُرِ َ‬ ‫قبل أن َيق ِ‬
‫ح في النار‪.‬‬ ‫م ط ُرِ َ‬
‫ث ّ‬
‫) ‪(1/100‬‬

‫وورد أن النسان يسره يوم القيامة أن يكون له الحق‬


‫على أبيه أو ابنه‪ ،‬حتى يأخذ منه ويقاضيه فيه‪ .‬وفي‬
‫الحديث ‪" :‬من كانت عليه لخيه مظلمة‪ ،‬فليتحّللها منه‪،‬‬
‫من قبل أن يأتي يوم ل دينار فيه ول درهم‪ ،‬إنما هي‬
‫الحسنات والسيئات‪ ،‬إن كانت له حسنات أخذ من‬
‫حسناته‪ ،‬وإل أخذ من سيئاتهم‪ ،‬فطرح فوق سيئاته‪ ،‬ثم‬
‫طرح في النار" ‪.‬‬
‫ثم اعلم أن يوم القيامة يوم عظيم‪ ،‬كما قال تعالى ‪ ] :‬ألَ‬
‫يظ ُن ُأول َئ ِ َ َ‬
‫م‬
‫م يقو ُ‬
‫ظيم ٍ * َيو َ‬ ‫مب ُْعوُثو َ‬
‫ن * لَيوم ٍ عَ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ك أن ّهُ ْ‬ ‫َ ّ‬
‫ن[ ‪ ،‬وفيه مواقف طويلة ثقيلة‪ ،‬وأهوال‬ ‫مي َ‬ ‫ب الَعال َ ِ‬ ‫س لَر ّ‬ ‫الّنا ُ‬
‫شديدة‪.‬‬
‫وقد وصف الله في كتابه العزيز‪ ،‬من أحوال ذلك اليوم‬
‫وأهواله‪ ،‬ما يطول ويهول‪ .‬ووصف رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ ،‬في حديثه من ذلك كذلك‪ ،‬ووصف السلف‬
‫الصالح‪ ،‬من أمر ذلك اليوم على حسب ما بلغهم عن الله‬
‫ورسوله ‪.‬‬
‫وقد جمع العلماء في كتبهم ومؤلفاتهم التي ألفوها في‬
‫أخبار يوم القيامة وأحواله وأهواله شيئا ً كثيرا ً كذلك‪ .‬مثل‬
‫كتاب ذكر الموت وما بعده من الحياء لحجة السلم‬
‫الغزالي رحمة الله‪ ،‬وكتاب الدرة الفاخرة في كشف علوم‬
‫الخرة‪ ،‬له أيضا ً ‪.‬‬
‫وكتاب التذكرة للقرطبي رحمه الله‪ .‬كتاب شرح الصدور‬
‫في أحوال الموتى والقبور‪ ،‬وكتاب البدور السافرة في‬
‫أحوال الخرة‪ ،‬للحافظ السيوطي رحمه الله ‪.‬‬
‫) ‪(1/101‬‬

‫وقد ذكرنا من ذلك غرره وعيونه وجمله‪ ،‬وما ل غنى عن‬


‫الطلع عليه والعلم به‪ ،‬فمن اكتفى به كفاه‪ ،‬ومن أراد‬
‫زيادة الطلع عليه والتساع في ذلك العلم‪ ،‬فعليه بالنظر‬
‫في هذه الكتب التي ذكرناها‪ ،‬وما في معناها‪ ،‬مما لم‬
‫نذكره من المؤلفات التي ألفت في هذه العلوم‪ ،‬على‬
‫انفرادها أو مع غيرها‪ ،‬وبالله العانة والتوفيق ‪.‬‬

‫***‬
‫) ‪(1/102‬‬

‫مر‬
‫خاِتمة هذا العُ ْ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫صل ب ِ‬
‫دم‪َ ،‬وتت ّ ِ‬ ‫في أشَياء تتعَّلق ب َ‬
‫ما َتق ّ‬
‫قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ )) :‬من نّفس عن‬
‫مسلم كربة من كرب الدنيا نّفس الله عنه كربة من كرب‬
‫يوم القيامة‪ ،‬ومن ستر مسلما ً ستره الله في الدنيا‬
‫والخرة (( ‪ .‬الحديث ‪.‬‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم‪ )) :‬لكل نبي دعوة مستجابة‬
‫قد دعا بها ‪ ،‬وإني اختبأت دعوتي شفاعة لمتي ‪ ،‬وهي‬
‫نائلة إن شاء الله من مات ل يشرك بالله شيئا ً (( ‪.‬‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬إن شئتم أنبأتكم بأول ما‬
‫يقول الله تعالى للمؤمنين يوم القيامة ‪ ،‬وبأول ما يقولون‬
‫له ‪ .‬قالوا ‪ :‬نعم يا رسول الله ‪ ،‬قال ‪ :‬يقول الله تعالى‬
‫للمؤمنين ‪ :‬هل أحببتم لقائي ؟ فيقولون ‪ :‬نعم يا ربنا‪ .‬قال‬
‫‪ :‬وما حملكم على ذلك؟ فيقولون ‪ :‬رجاء عفوك ورحمتك‬
‫ورضوانك‪ .‬فيقول ‪ :‬فإني قد أوجبت لكم رحمتي (( ‪.‬‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم‪ )) :‬لما خلق الله الجنة‪ ،‬أرسل‬
‫جبريل إلى الجنة‪ ،‬فقال ‪ :‬انظر إليها وإلى ما أعددت فيها‬
‫فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله فيها لهلها‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫فرجع إليه‪ ،‬وقال ‪ :‬فوعزتك ل يسمع بها أحد إل دخلها‪،‬‬
‫فأمر بها فحفت بالمكاره‪ ،‬فقال ‪ :‬فارجع إليها ‪،‬‬
‫) ‪(1/103‬‬

‫فانظر ما أعددت فيها لهلها ‪ ،‬قال ‪ :‬فرجع إليها فإذا هي‬


‫عّزتك لقد خفت‬ ‫حّفت بالمكاره ‪ ،‬فرجع إليه فقال ‪ :‬فو ِ‬‫قد ُ‬
‫أن ل يدخلها أحد‪ ،‬قال‪ :‬اذهب إلى النار‪ ،‬فانظر إليها وإلى‬
‫ما أعددت فيها لهلها‪ ،‬فإذا هي تركب بعضها بعضًا‪ ،‬فرجع‬
‫إليه فقال ‪ :‬وعزتك ل يسمع بها أحدا ً فيدخلها‪ ،‬فأمرها‬
‫فحفت بالشهوات‪ ،‬فقال ‪ :‬ارجع إليها ‪ ،‬فقال ‪ :‬فوعزتك‬
‫لقد خشيت أن ل ينجو منها أحد (( ‪.‬‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬يؤتى بأنعم أهل الدنيا من‬
‫أهل النار يوم القيامة فيضع في النار أصبعه ‪ ،‬ثم يقال ‪ :‬يا‬
‫ابن آدم هل رأيت خيرا ً قط ؟ هل مّر بك نعيم قط ؟‬
‫فيقول ل والله يا رب ‪ ،‬ويؤتى بأشد الناس بؤسا ً في الدنيا‬
‫‪ ،‬من أهل الجنة ‪ ،‬فيضع أصبعه في الجنة فيقال له ‪ :‬يا‬
‫ابن آدم هل رأيت بؤسا ً قط ؟ وهل مّر بك شدة قط ؟‬
‫فيقول ل والله ما مّر بي بؤس قط ‪ ،‬ول رأيت شدة‬
‫قط (( ‪.‬‬
‫وعن عائشة رضي الله عنها‪ ،‬أنها ذكرت النار فبكت فقال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك؟ فقالت‪:‬‬
‫ذكرت النار فبكيت‪ ،‬فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟‬
‫فقال‪ )) :‬أما في ثلثة مواطن‪ ،‬فل يذكر أحد أحدا ً عند‬
‫الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أو يثقل‪ ،‬وعند الكتاب‬
‫حين ُيقال‪ :‬هاؤم اقرءوا كتابيه‪ ،‬حتى يعلم أين يقع كتابه‬
‫أفي يمينه؟ أم في شماله ؟ أم من وراء ظهره! وعند‬
‫الصراط إذا وضع بين ظهراني جهنم(( ‪.‬‬
‫) ‪(1/104‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬وإذا صار أهل الجنة إلى‬
‫الجنة ‪ ،‬وأهل النار إلى النار ‪ ،‬جيء بالموت حتى يجعل‬
‫بين الجنة والنار ‪ ،‬ثم يذبح ‪ ،‬ثم ينادي منادٍ ‪ :‬يا أهل الجنة‬
‫ل موت ‪ ،‬ويا أهل النار ل موت‪ .‬فيزداد أهل الجنة فرحا ً‬
‫إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا ً إلى حزنهم((‬
‫وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪)) :‬أهل الجنة‬
‫عشرون ومائة صنف ‪ :‬ثمانون من هذه المة ‪ ،‬وأربعون‬
‫من سائر المم ((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬لم أر كالجنة نام طالبها ‪،‬‬
‫ول كالنار نام هاربها (( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬من خاف أدلج ‪ ،‬ومن أدلج‬
‫بلغ المنزل ‪ ،‬إل إن سلعة الله غالية‪ ،‬أل إن سلعة الله‬
‫الجنة (( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬أنا أول الناس خروجا ً إذا‬
‫بعثوا ‪ ،‬وأنا قائدهم إذا وفدوا ‪ ،‬وأنا خطيبهم إذا أنصتوا ‪،‬‬
‫وأنا شفيعهم إذا حبسوا ‪ ،‬وأنا مبشرهم إذا أيسوا ‪،‬‬
‫الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدي ‪ ،‬ولواء الحمد يومئذ بيدي ‪،‬‬
‫ي ألف خادم ‪،‬‬ ‫وأنا أكرم ولد آدم على ربي ‪ ،‬يطوف عل ّ‬
‫كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور ((‪.‬‬
‫صّلى الله عليه وسّلم ‪ ،‬وزاده فضل ً وشرفا ً ‪ ،‬وكرامة‬
‫لديه ‪.‬‬

‫***‬
‫) ‪(1/105‬‬

‫) ‪(1/106‬‬

‫******************‬
‫******************‬
‫**** الُعمُر الخامس ****‬
‫******************‬
‫******************‬
‫) ‪(1/107‬‬

‫******************‬
‫******************‬
‫**** ****‬
‫******************‬
‫******************‬
‫) ‪(1/108‬‬

‫س‬
‫م ُ‬
‫الُعمُر الخا ِ‬
‫هل الّنارِ في الّناِر‪،‬‬ ‫دخول أ ْ‬ ‫حين ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫َوهوَ ِ‬
‫ة‪ ،‬إلى الب َدِ‬
‫جن ّ ِ‬
‫هل الجّنة في ال َ‬ ‫دخول أ ْ‬ ‫وَ ُ‬
‫اّلذي ل َ غاَية له وَل َ ن َِهاَية‬
‫وهذا العمر أطول العمار مطلقًا‪ ،‬وهو أحسن العمار‬
‫وأطيبها‪ ،‬وخيرها وأنعمها في حق أهل الجنة‪ ،‬وأشر‬
‫العمار وأنكدها وأتعبها وأشقاها في حق أهل النار‪.‬‬
‫ونبدأ في هذا العمر‪ ،‬بذكر النار وأهلها‪ ،‬لن عليها ورود‬
‫المؤمنين المتقين قبل دخولهم إلى الجنة‪.‬‬
‫قال الله تعالى ‪ ] :‬وإن منكم إل واردها كان على ربك‬
‫حتما ً مقضيا ً ‪ ،‬ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها‬
‫جثيا ً [ ‪.‬‬
‫وقال تعالى ‪ ] :‬يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم‬
‫نارا ً وقودها الناس والحجارة عليها ملئكة غلظ شداد ل‬
‫يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ ‪.‬‬
‫وقال تعالى ‪ ] :‬سأصليه سقر ‪ ،‬وما أدراك ما سقر ل تبقي‬
‫ول تذر [ ‪.‬‬
‫وقال تعالى ‪ ] :‬فأنذرتكم نارا ً تلظى ‪ .‬ل يصلها إل الشقى‬
‫الذي كذب وتولى [ ‪.‬‬
‫) ‪(1/109‬‬

‫وقال تعالى ‪ ] :‬كل لينبذن في الحطمة ‪ ،‬وما أدراك ما‬


‫الحطمة ‪ .‬نار الله الموقدة التي تطلع على الفئدة‪ ،‬إنها‬
‫عليهم مؤصدة في عمد ممدة [ ‪.‬‬
‫وقال تعالى‪ ] :‬إنا أعتدنا للظالمين نارا ً أحاط بهم سرادقها‬
‫وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس‬
‫الشراب وساءت مرتفقا‪[.‬‬
‫وقال تعالى‪ ] :‬إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا ً‬
‫كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا ً غيرها ليذوقوا العذاب‬
‫إن الله كان عزيزا ً حكيما ً [ ‪.‬‬
‫ضى‬‫وقال تعالى ‪ ] :‬والذين كفروا لهم نار جهنم ل يْق َ‬
‫عليهم فيموتوا ول يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي‬
‫كل كفور ‪ ،‬وهم يصطرخون فيها ‪ ،‬ربنا أخرجنا نعمل‬
‫ذكر فيه‬‫صالحا ً غير الذي كنا نعمل ‪ .‬أو لم نعمركم ما يت ّ‬
‫من تذكر وجاءكم النذير [ ‪.‬‬
‫وقال تعالى ‪ ] :‬ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا‬
‫أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها‬
‫كالحون [‬
‫إلى قوله تعالى ‪ ] :‬اخسئوا فيها ول تكلمون [ ‪.‬‬
‫وقال تعالى ‪ ] :‬إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون ‪.‬‬
‫ليفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ إلى قوله تعالى ‪ ] :‬إنكم‬
‫ماكثون [ ‪.‬‬
‫) ‪(1/110‬‬

‫واليات في ذكر النار‪ ،‬ووصف أحوال أهلها فيها كثيرة‬


‫منتشرة جدًا‪ ،‬نشير منها إلى شيء يسير لقصد التنبيه‬
‫والتذكير‪.‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬ناركم هذه جزء من سبعين‬
‫جزءا ً من نار جهنم ‪ ،‬قيل ‪ :‬يا رسول الله إن كانت‬
‫لكافية ‪ ،‬قال ‪ :‬فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا ً ‪،‬‬
‫كلهن مثل حرها ((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬أوقد على النار جهنم ألف‬
‫سنة حتى احمرت ‪ ،‬ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ‪،‬‬
‫ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت ‪ ،‬فهي سوداء‬
‫مظلمة (( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ :‬إن أهون أهل النار عذابا ً ‪:‬‬
‫)) من له نعلن وشراكان من نار ‪ ،‬يغلي منهما دماغه ‪،‬‬
‫كما يغلي المرجل ‪ ،‬ما يرى أن أحدا ً أشد منه عذابا ً ‪ ،‬وإنه‬
‫لهونهم عذابا ً (( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬منهم من تأخذه النار إلى‬
‫كعبيه ‪ ،‬ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه‪ ،‬ومنهم من‬
‫تأخذه النار إلى حجزته‪ ،‬ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته‬
‫(( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬يا أيها الناس ابكوا‪ ،‬فإن لم‬
‫تبكوا فتباكوا ‪ ،‬فإن أهل النار يبكون في النار‪ ،‬حتى تسيل‬
‫دموعهم على وجوههم ‪ ،‬كأنها جداول‪ ،‬حتى تنقطع الدموع‬
‫فتسيل الدماء‪ ،‬فتتقرح العيون ‪ ،‬فلو أن سفنا ً أجريت فيها‬
‫لجرت (( ‪.‬‬
‫) ‪(1/111‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬يلقى على أهل النار‬


‫الجوع ‪ ،‬فيعدل ما هم فيه من العذاب‪ ،‬فيستغيثون‬
‫فيغاثون بطعام من ضريع ‪ ،‬ل يسمن ول يغني من جوع ‪،‬‬
‫فيستغيثون بطعام ‪ ،‬فيغاثون ذي غصة ‪ ،‬فيذكرون أنهم‬
‫كانوا يتجرعون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون‬
‫بالشراب ‪ ،‬فيرفع إليهم الحميم ‪ ،‬بكلليب الحديد ‪ ،‬فإذا‬
‫دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم ‪،‬‬
‫قطعت ما في بطونهم ‪ .‬فيقولون ‪ :‬ادعوا خزنة جهنم ‪.‬‬
‫ت ‪َ .‬قاُلوا ب ََلى ‪.‬‬ ‫فيقولون ‪ ]:‬أ َو ل َم ت ُ ْ‬
‫م ِبال ْب َي َّنا ِ‬
‫سل ُك ُ ْ‬
‫م ُر ُ‬‫ك ت َأِتيك ُ ْ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ل[ ‪ .‬قال ‪:‬‬ ‫ضل ٍ‬ ‫ن إ ِّل ِفي َ‬ ‫ري َ‬
‫كافِ ِ‬‫عاُء ال ْ َ‬ ‫ما د ُ َ‬
‫عوا وَ َ‬ ‫َقاُلوا َفاد ْ ُ‬
‫ض عَل َي َْنا‬
‫ك ل ِي َْق ِ‬ ‫فيقولون ‪ :‬ادعوا مالكا ً ‪ ،‬فيقولون ‪َ ] :‬يا َ‬
‫مال ِ ُ‬
‫ن[ (( ‪.‬‬ ‫ماك ُِثو َ‬ ‫م َ‬ ‫ل إ ِن ّك ُ ْ‬‫ك ‪َ ،‬قا َ‬‫َرب ّ َ‬
‫ت أن بين دعائهم وإجابة ملك إّياهم‬ ‫قال العمش ‪ :‬ن ُب ّئ ْ ُ‬
‫ألف عام ‪.‬‬
‫قال فيقولون ‪ :‬ادعوا ربكم ‪ ،‬فل أحد خير لكم من رّبكم‪،‬‬
‫ن*‬‫ضاّلي َ‬ ‫ت عَل َي َْنا ِ‬
‫شْقوَت َُنا وَك ُّنا قَوْ ً‬
‫ما َ‬ ‫فيقولون ‪َ ] :‬رب َّنا غَل َب َ ْ‬
‫ن[ قال ‪ :‬فيجيبهم‬ ‫مو َ‬‫ظال ِ ُ‬‫ن عُد َْنا فَإّنا َ‬
‫ِ‬ ‫من َْها فَإ ِ ْ‬ ‫جَنا ِ‬ ‫َرب َّنا أ َ ْ‬
‫خرِ ْ‬
‫ن[‪ .‬قال ‪ :‬فعند ذلك‬ ‫سُئوا ِفيَها َول ت ُك َل ّ ُ‬
‫مو ِ‬ ‫خ َ‬‫تعالى ‪ ]:‬ا ْ‬
‫ييأسون من كل خير‪ ،‬وعند ذلك يأخذون في الزفير‬
‫والحسرة والويل ‪.‬‬
‫) ‪(1/112‬‬

‫وقد ورد أن في النار حيات مثل أعناق البخت‪ ،‬وهي البل‬


‫الخرسانية‪ ،‬وعقارب أمثال البغال الموكفة‪ ،‬تلسع اللسعة‪،‬‬
‫فيجد ألم حمتها أربعين خريفا ً ولو أن دلوا من الغساق‬
‫أهريق في الدنيا لنتن أهل الدنيا‪ ،‬ولو قطرة من الزقوم‬
‫قطرت في الدنيا‪ ،‬لفسدت على أهل الدنيا معايشهم‪ ،‬ولو‬
‫أن رجل ً من أهل النار خرج إلى الدنيا‪ ،‬لمات أهل الدنيا‬
‫من نتن ريحه وتشويه خلقه‪.‬‬
‫وإن أبواب النار سبعة كما قال سبحانه وتعالى ‪ ] :‬ل ََها‬
‫م [ وهي سبع‬ ‫ب ل ِك ُ ّ‬ ‫سبع ُ َ‬
‫سو ٌ‬
‫مْق ُ‬
‫جْزٌء َ‬
‫م ُ‬‫من ْهُ ْ‬
‫ب ِ‬
‫ل َبا ٍ‬ ‫وا ٍ‬
‫ة أب ْ َ‬ ‫َ َْ‬
‫طبقات‪ ،‬بعضها فوق بعض ‪.‬‬
‫الولى منها‪ :‬جهنم ويقال ‪ :‬إنها لعصاة الموحدين‪ .‬والثانية ‪:‬‬
‫سقر ‪ .‬والثالثة ‪ :‬لظى‪ .‬والرابعة ‪ :‬الحطمة‪ .‬الخامسة ‪:‬‬
‫السعير‪ .‬والسادسة ‪ :‬الجحيم ‪ .‬والسابعة ‪ :‬الهاوية وهي‬
‫السفلى ‪ ،‬وليس لها قعر ول منتهى ‪.‬‬
‫وقد حشيت الطبقات السبع بالعذاب الشديد‪ ،‬والنكال‬
‫الفظيع‪ ،‬والخزي الوبيل‪ .‬وإن كانت متفاوتة في ذلك بحيث‬
‫إن كل طبقة أشد عذابا ً من التي فوقها أعاذنا الله منها‬
‫ووالدينا وأحبابنا والمسلمين بمّنه وكرمه‪.‬‬
‫ثم اعلم أن أهل النار قسمان‪ :‬قسم منهما هم الذين‬
‫يدخلونها من عصاة أهل التوحيد‪ .‬وهذا القسم ل يخلدون‬
‫في النار‪ ،‬بل يخرجون منها بالشفاعة‪ ،‬وبرحمة الله تعالى‬
‫بعضهم قبل تمام العقوبة‪ ،‬وبعضهم بعد ذلك‪ ،‬وهم‬
‫متفاوتون ‪.‬‬
‫) ‪(1/113‬‬

‫وُيرَوى أن آخرهم خروجا ً منها‪ ،‬وأطولهم فيها مكثًا‪ ،‬يخرج‬


‫بعد سبعة آلف سنة ‪ ،‬وذلك عمر الدنيا فيما ي َُقال ‪.‬‬
‫حد ٌ الب َّتة‪ ،‬بل يخرج منها من كان في‬ ‫ول يخلد في النار مو ّ‬
‫قلبه مثقال ذرة من إيمان ‪ ،‬كما في الحاديث الصحيحة ‪.‬‬
‫والقسم الخر من أهل النار هم الكافرون باله ‪،‬‬
‫والمشركون والمنافقون الذين يظهرون اليمان بألسنتهم‪،‬‬
‫ويضمرون الكفر في قلوبهم ‪.‬‬
‫وأنواع الكافرين بالله كثيرة‪ ،‬فمنهم اليهود والنصارى‬
‫والمجوس وغيرهم‪ ،‬وكلهم خالدون في النار أبد البدين‪،‬‬
‫ك‬‫م ك ُّفاٌر أ ُوْل َئ ِ َ‬ ‫ماُتوا وَهُ ْ‬ ‫ن ك ََفُروا وَ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قال الله تعالى ‪ ] :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫ن ِفيَها‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫ن* َ‬ ‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬ ‫سأ ْ‬ ‫ملئ ِك َةِ َوالّنا ِ‬ ‫ة الل ّهِ َوال ْ َ‬ ‫م ل َعْن َ ُ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫ن[‪.‬‬ ‫م ُينظ َُرو َ‬ ‫ب َول هُ ْ‬ ‫ذا ُ‬ ‫م ال ْعَ َ‬ ‫ف عَن ْهُ ُ‬ ‫خّف ُ‬ ‫ل يُ َ‬
‫َ‬
‫ما‬‫ك ب ِهِ وَ ي َغِْفُر َ‬ ‫شَر َ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫ه ل ي َغِْفُر أ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫وقال تعالى ‪ ] :‬إ ِ ّ‬
‫ك ِبالل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫شرِ ْ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬‫ه َ‬ ‫شاُء[ وقال تعالى ‪ ]:‬إ ِن ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك لِ َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ُ‬
‫ما ِلل ّ‬ ‫ْ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫مأَواهُ الّناُر وَ َ‬ ‫ة وَ َ‬ ‫ه عَل َي ْهِ ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حّر َ‬ ‫فََقد ْ َ‬
‫صاٍر[‪.‬‬ ‫َ‬
‫أن َ‬
‫ن الّناِر[‪.‬‬ ‫ن ال ْمَنافِِقين ِفي الد ّر ِ َ‬
‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫سَف ِ‬ ‫ك ال ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وقال تعالى‪ ] :‬إ ِ ّ‬
‫) ‪(1/114‬‬

‫وقد ورد أن ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد‪ ،‬وغلظ‬


‫جلده اثنان وأربعون ذراعًا‪ ،‬وأن الكافر يسحب لسانه‬
‫الفرسخ والفرسخين يطؤه الناس‪ ،‬يعظم الله أجساد‬
‫الكافرين في النار حتى يضاعف لهم العذاب‪ ،‬ويعظم‬
‫عليهم النكال والعقاب‪.‬‬
‫ثم إذا خرج عصاة الموحدين من النار‪ ،‬ولم يبق فيها أحد‬
‫من أهل التوحيد أغلقت أبوابها على الكافرين وأطبقت‬
‫مدٍ‬
‫صد َةٌ * في عَ َ‬
‫مو َ‬ ‫عليهم ‪ ،‬قال الله تعالى ‪ ]:‬إ ِن َّها عَل َي ْهِ ْ‬
‫م ُ‬
‫ة[ ‪.‬‬
‫مد ّ ٍ‬
‫م َ‬
‫ُ‬
‫ومنهم من ُيجعل في تابوت يمل عليه نارًا‪ ،‬ثم ي ُغَْلق عليه‪،‬‬
‫فل يزالون كذلك أبدا ً سرمدًا‪ ،‬مخلدين في عذاب الله‬
‫وغضبه وسخطه‪ ،‬إلى غير نهاية ول غاية‪ ،‬نسأل الله‬
‫العافية ‪ ،‬والوفاة على السلم‪ ،‬ونعوذ بالله من أحوال أهل‬
‫النار ‪.‬‬

‫***‬
‫) ‪(1/115‬‬

‫مها‬ ‫جن ّةِ وََنعي َ‬ ‫ذكُر ال َ‬


‫واع الكَرامة‬ ‫ن أن َ‬ ‫ه لهْل َِها فيَها م ْ‬ ‫ما أعَد ّ الل ُ‬ ‫وَ َ‬
‫اعلم أن اليات والخبار في ذكر الجنة كثيرة ومنتشرة‪ ،‬ل‬
‫يأخذها الحصر ول يأتي عليها الذكر‪ ،‬فنشير إلى طرف‬
‫منها قريب موجز‪ ،‬يحصل به التذكير والتعريف‪ ،‬بجمل ذلك‬
‫َ‬
‫ن‬
‫تأ ّ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫شرِ ال ّ ِ‬ ‫‪ :‬قال تعالى ‪ ] :‬وَب َ ّ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫من َْها ِ‬ ‫ما ُرزُِقوا ِ‬ ‫حت َِها الن َْهاُر ك ُل ّ َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫ل َهُ ْ‬
‫ل [ إلى قوله تعالى‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬‫ذي ُرزِقَْنا ِ‬ ‫ذا ال ّ ِ‬ ‫مَرةٍ رِْزًقا َقاُلوا هَ َ‬ ‫ثَ َ‬
‫ن[‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫م ِفيَها َ‬ ‫‪ ]:‬وَهُ ْ‬
‫مًرا [‬ ‫جن ّةِ ُز َ‬ ‫م إ َِلى ال ْ َ‬ ‫وا َرب ّهُ ْ‬ ‫ن ات َّق ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫سيقَ ال ّ ِ‬ ‫وقال تعالى ‪] :‬وَ ِ‬
‫ن[ وقال‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ‬ ‫ح ْ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫إلى قوله تعالى ‪]:‬وَِقي َ‬
‫ن [ إلى قوله تعالى ‪:‬‬ ‫جن َّتا ِ‬‫م َرب ّهِ َ‬ ‫مَقا َ‬ ‫ف َ‬ ‫خا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫تعالى ‪ ]:‬وَل ِ َ‬
‫ل َوال ِك َْرام ِ [ ‪.‬‬ ‫جل ِ‬ ‫ك ِذي ال ْ َ‬ ‫م َرب ّ َ‬ ‫س ُ‬ ‫كا ْ‬ ‫] ت ََباَر َ‬
‫ن*‬ ‫مَقّرُبو َ‬ ‫ك ال ْ ُ‬ ‫ن * أ ُوْل َئ ِ َ‬ ‫ساب ُِقو َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ساب ُِقو َ‬ ‫وقال تعالى‪َ] :‬وال ّ‬
‫ن* وَث ُل ّ ٌ‬
‫ة‬ ‫َ‬
‫ن الوِّلي‬ ‫م‬
‫ة ِ‬ ‫م[ إلى قوله تعالى ‪] :‬ث ُل ّ ٌ‬ ‫ت الن ِّعي‬ ‫جّنا ِ‬ ‫في َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫س‬‫ن ك َأ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫شَرُبو َ‬ ‫ن ال َب َْراَر ي َ ْ‬ ‫ن [ وقال تعالى‪ ] :‬إ ِ ّ‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫سعْي ُك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫كاُفوًرا[ إلى قوله تعالى ‪ ] :‬وَ َ‬ ‫جَها َ‬ ‫مَزا ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫كوًرا[‪.‬‬ ‫ش ُ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫) ‪(1/116‬‬
‫َ‬ ‫خُلوا ال ْجن َ َ‬
‫ن[ إلى‬ ‫حب َُرو َ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫جك ُ ْ‬ ‫م وَأْزَوا ُ‬ ‫ة أن ْت ُ ْ‬ ‫َ ّ‬ ‫وقال تعالى ‪ ] :‬اد ْ ُ‬
‫ْ‬
‫ن[ وقال‬ ‫من َْها ت َأك ُُلو َ‬ ‫ة ك َِثيَرةٌ ِ‬ ‫م ِفيَها َفاك ِهَ ٌ‬ ‫قوله تعالى‪ ] :‬ل َك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ن[‬‫ت وعُُيو ٍ‬ ‫ن * في جّنا ٍ‬ ‫مي ٍ‬ ‫مَقام ٍ أ ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫مت ِّقي َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫تعالى ‪ ] :‬إ ِ ّ‬
‫م[‬‫ظي ُ‬ ‫ك هُوَ ال َْفوُْز ال ْعَ ِ‬ ‫ك ذ َل ِ َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ضل ً ِ‬ ‫إلى قوله تعالى‪ ] :‬فَ ْ‬
‫ن[ إلى قوله‬ ‫مت ُّقو َ‬ ‫عد َ ال ْ ُ‬ ‫جن ّةِ ال ِّتي وُ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫مث َ ُ‬‫وقال تعالى‪َ ] :‬‬
‫م[ )محمد ‪.(15:‬‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫مغِْفَرةٌ ِ‬ ‫تعالى‪] :‬وَ َ‬
‫َ‬
‫ساوَِر‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬‫ن ِفيَها ِ‬ ‫حل ّوْ َ‬ ‫خُلون ََها ي ُ َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬ ‫ت عَد ْ ٍ‬ ‫جّنا ُ‬ ‫قال تعالى ‪َ ] :‬‬
‫ب [ وقال‬ ‫سَنا ِفيَها ل ُُغو ٌ‬ ‫م ّ‬ ‫ب [ إلى قوله تعالى‪َ] :‬ول ي َ َ‬ ‫ن ذ َهَ ٍ‬‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫ن غَي َْر ب َِعيدٍ [ إلى قوله‬ ‫مت ِّقي َ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬ ‫جن ّ ُ‬‫ت ال ْ َ‬ ‫تعالى ‪ ] :‬وَأْزل َِف ِ‬
‫ت‬‫جّنا ٍ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫مت ِّقي َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫د[ وقال تعالى ‪ ] :‬إ ِ ّ‬ ‫زي ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫تعالى‪] :‬وَل َد َي َْنا َ‬
‫مْقت َدِرٍ [ ‪.‬‬ ‫ك ُ‬ ‫مِلي ٍ‬ ‫عن ْد َ َ‬ ‫ق ِ‬ ‫صد ْ ٍ‬‫مْقعَدِ ِ‬ ‫وَن َهَرٍ * ِفي َ‬
‫ت‬ ‫وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬أعْد َد ْ ُ‬
‫ن سمعت‪ ،‬ول‬ ‫ن رأت ‪ ،‬ول أذ ٌ‬ ‫لعبادي الصالحين ما ل عي ٌ‬
‫خط ََر على قلب بشر ((‪ .‬واقرءوا إن شئتم ‪َ ] :‬فل ت َعْل َ ُ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫كاُنوا‬‫ما َ‬ ‫جَزاًء ب ِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن قُّرةِ أعْي ُ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ي ل َهُ ْ‬ ‫خِف َ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن َْف ٌ‬
‫ن [ وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬جّنتان من فضة‬ ‫مُلو َ‬
‫ي َعْ َ‬
‫آنيتهما وما فيهما‪ ،‬و جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما‪ .‬وما‬
‫بين القوم وبين أن يروا رّبهم إل رداء الكبرياء على وجهه‬
‫في جنة عدن ((‪.‬‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬إن في الجنة مائة درجة ‪،‬‬
‫ما بين كل‬
‫) ‪(1/117‬‬

‫درجتين كما بين السماء والرض (( ‪ .‬والفردوس أعلها‬


‫درجة‪ ،‬منها تتفجر أنهار الجنة الربعة‪ ،‬ومن فوقها يكون‬
‫العرش‪ ،‬فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬لموضع سوط أحدكم من‬
‫الجنة خير من الدنيا وما فيها ‪ .‬ولو أن امرأة من نساء‬
‫أهل الجنة إطلعت على أهل الرض ‪ ،‬لضاءت ما بينها ‪،‬‬
‫ولملت ما بينها ريحا ً ‪ ،‬ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا‬
‫وما فيها (( النصيف ‪ :‬الخمار ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬في الجنة لشجرة يسير‬
‫الراكب في ظلها مائة عام وما يقطعها ‪ ،‬ولقاب قوس‬
‫أحدكم من الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو‬
‫تغرب(( وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إن للمؤمن في‬
‫الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة ‪ ،‬طولها ستون ميل ً‬
‫في كل زاوية منها للمؤمن أهل ل يرى بعضهم بعضا ً ‪،‬‬
‫يطوف عليهم المؤمن (( ‪.‬‬
‫وقال أبو هريرة ‪ ،‬رضي الله عنه ‪ :‬قلت يا رسول الله ‪:‬‬
‫خل ِقَ الخلق؟ قال ‪ :‬من الماء ‪ .‬قلت‪ :‬الجنة ما بناؤها ؟‬‫م ُ‬
‫م ّ‬
‫ِ‬
‫ملطها المسك‬ ‫قال‪ :‬لبنة من ذهب ولبنة من فضة‪ ،‬و ِ‬
‫الذفر ‪ ،‬وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ‪ ،‬وتربتها الزعفران‪،‬‬
‫من يدخلها ينعم ول يبأس‪ ،‬ويخلد ول يفنى ول يموت‪ ،‬ول‬
‫تبلى ثيابه ‪ ،‬ول يفنى شبابه ‪ .‬والملط هو الطين الذي‬
‫يجعل بين اللبنتين ‪.‬‬
‫) ‪(1/118‬‬

‫وقال عليه السلم ‪ )) :‬أول زمرة يدخلون الجنة وجوههم‬


‫على مثل القمر ليلة البدر ‪ .‬والزمرة الثانية على مثل‬
‫أحسن كوكب دري في السماء لكل رجل منهم زوجتان ‪،‬‬
‫على كل واحدة منهما سبعون حلة ‪ ،‬يرى مخ ساقها من‬
‫ورائها ‪ .‬وقال عليه السلم ‪ :‬يدخل أهل الجنة الجنة مردا ً‬
‫جردا ً مكحلين أبناء ثلثين سنة أو ثلث وثلثين سنة (( ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫مروا للجنة ‪،‬‬
‫ش ّ‬ ‫ً‬
‫وقال عليه السلم يوما لصحابه ‪)) :‬أل َ‬
‫ب الكعبة نوٌر يتلل‪ ،‬وريحانه‬ ‫ن الجنة ل خطر لها هي ور ّ‬ ‫فإ ّ‬
‫رد‪ ،‬وفاكهة كثيرة نضيجة ‪،‬‬ ‫مط ّ ِ‬
‫مشّيد ‪ ،‬ونهر ُ‬
‫تهتّز ‪ ،‬وقصر ُ‬
‫وزوجة حسناء جميلة‪ ،‬وحلل كثيرة‪ ،‬في مقام أبدي في‬
‫حياة ونضرة‪ ،‬في دار عالية‪ ،‬سليمة بهية (( قالوا ‪ :‬نحن‬
‫مرون لها يا رسول الله‪ .‬قال ‪ )):‬قولوا ‪ :‬إن شاء الله‬ ‫المش ّ‬
‫تعالى ((‪.‬‬
‫وقال عليه السلم ‪)) :‬نخل الجنة ‪ ،‬جذوعها من زمرد‬
‫أخضر ‪ ،‬وكرمها ذهب أحمر ‪ ،‬وسعفها كسوة لهل الجنة ‪،‬‬
‫منها مقطعاتهم وحللهم ‪ ،‬وثمرها أمثال القلل والدلء ‪،‬‬
‫أشد بياضا ً من اللبن وأحلى من العسل ‪ ،‬وألين من الزبد ‪،‬‬
‫ليس فيها عجم ((‪.‬‬
‫وقال عليه السلم ‪)) :‬إن أهل الجنة يأكلون ويشربون ‪،‬‬
‫خطون (( ‪.‬‬ ‫وطون ‪ ،‬ول ي ََتم ّ‬ ‫ول يتُفلون ‪ ،‬ول يبولون ‪ ،‬ول َيتغ ّ‬
‫ح‬ ‫ح كَر َ‬
‫ش ِ‬ ‫ش ٌ‬ ‫شاٌء وَر َ‬
‫ج َ‬‫قالوا ‪ :‬فما بال الطعام ؟ قال ‪ُ )):‬‬
‫س والتحميد َ ((‪ .‬وفي‬ ‫ح والتقدي َ‬ ‫مون التسبي َ‬‫المسك ‪ُ ،‬يلهَ ُ‬
‫رواية ‪ )) :‬التكبيَر كما يلهمون النفس(( ‪.‬‬
‫) ‪(1/119‬‬

‫وقال عليه السلم ‪)) :‬إن الرجل من أهل الجنة يعطى‬


‫قوة مائة رجل ‪ ،‬في الكل والشرب الجماع والشهوة(( ‪.‬‬
‫وقال عليه السلم ‪ )) :‬ينادي منادٍ يا أهل الجنة‪ :‬إن لكم‬
‫أن تصحوا فل تسقموا أبدا ً ‪ ،‬وإن لكم أن تحيوا فل تموتوا‬
‫أبدا ً ‪ ،‬وإن لكم أن تشبوا فل تهرموا أبدا ً وإن لكم أن‬
‫َ‬
‫ن‬
‫دوا أ ْ‬‫تنعموا فل تبئسوا أبدًا(( ‪ .‬وذلك قوله تعالى ‪]:‬وَُنو ُ‬
‫ت ِل ْك ُم ال ْجن ُ ُ‬
‫مُلو َ‬
‫ن[ ‪.‬‬ ‫م ت َعْ َ‬ ‫ما ُ‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫ها ب ِ َ‬ ‫ة أورِث ْت ُ ُ‬
‫مو َ‬ ‫َ ّ‬ ‫ُ‬
‫وسئل عليه الصلة والسلم ‪ :‬ما الكوثر ؟ قال‪ )) :‬ذاك نهر‬
‫أعطانيه الله ‪ -‬يعني ‪ :‬في الجنة‪ -‬أشد بياضا ً من الّلبن ‪،‬‬
‫جُزر (( ‪،‬‬ ‫وأحلى من العسل ‪ ،‬فيه طير أعناقها كأعناق ال ُ‬
‫قال عمر ‪ :‬إن هذه لناعمة‪ ،‬قال رسول الله صلى الله‬
‫م منها ((‪.‬‬ ‫عليه وسلم ‪ )):‬آكلها أنع ُ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬لقيت إبراهيم عليه السلم‬
‫ليلة ُأسرِيَ بي فقال ‪ :‬يا محمد أقرئ أمتك مني السلم ‪،‬‬
‫وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة ‪ ،‬عذبة الماء ‪ ،‬وأنها‬
‫قيعان ‪ ،‬وأن غراسها ‪ :‬سبحان الله ‪ ،‬والحمد لله ‪ ،‬ول إله‬
‫إل الله ‪ ،‬والله أكبر ((‪.‬‬
‫) ‪(1/120‬‬

‫ن في الجنة لغرفا ً ‪ُ ،‬يرى ظاهرها‬


‫وقال عليه السلم ‪)) :‬إ ّ‬
‫من باطنها وباطنها من ظاهرها ‪ ،‬فقام إليه أعرابي فقال ‪:‬‬
‫لمن يا رسول الله ؟ قال لمن أطاب الكلم ‪ ،‬وأطعم‬
‫الطعام ‪ ،‬وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام(( ‪.‬‬
‫وقال عليه السلم ‪)) :‬إن الله يقول لهل الجنة ‪ :‬يا أهل‬
‫الجنة ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬لبيك رّبنا وسعديك‪ ،‬والخير في يديك ‪،‬‬
‫فيقول ‪ :‬هل رضيتم ؟ فيقولون ‪ :‬وما لنا ل نرضي يا رب‪،‬‬
‫وقد أعطيتنا ما لم تعط أحد من خلقك ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أفل‬
‫أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون ‪ :‬يا رب أي شئ أفضل‬
‫من ذلك؟ فيقول ‪ :‬أحل عليكم رضواني ‪ ،‬فل أسخط‬
‫عليكم أبدا ً ((‪.‬‬
‫وقد ورد أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم‬
‫بنصف يوم‪ ،‬و هوخمسمائة سنة‪ ،‬وأن أنهار الجنة تجري‬
‫من غير أخدود على وجه أرضه‪ ،‬وأن طول كل واحد منهم‬
‫ستون ذرعا ً ‪ ،‬على طول أبيهم آدم ‪ ،‬وإن أدنى أهل الجنة‬
‫من يعطى مثل الدنيا عشر مرات ‪ ،‬ويكون له ألف خادم ‪،‬‬
‫واثنتان وسبعون زوجة من الحور العين ‪ ،‬وينظر في نعيمه‬
‫وما أعد الله له من الكرامة‪ ،‬مقدار ألف سنة وإن ساق‬
‫كل شجرة في الجنة من ذهب‪ ،‬وإن أبواب الجنة ثمانية‪،‬‬
‫وعدد درجاتها بعدد آيات القرآن الكريم‪.‬‬
‫جعلنا الله بفضله وكرمه من أهلها آمين ‪.‬‬
‫***‬
‫) ‪(1/121‬‬

‫خاتمة هذا العمر‬


‫وبها نختم الكتاب إن شاء الله تعالى‪ ،‬في رؤية المؤمنين‬
‫لرّبهم تبارك وتعالى في الجنة‪ ،‬وفي ذكر شئ مما ورد‬
‫في سعة رحمة الله الرؤوف الرحيم‪ ،‬الجواد الكريم ‪.‬‬
‫قال الله تعالى ‪ ] :‬ل ِل ّذي َ‬
‫سَنى وَزَِياد َةٌ [ جاء‬ ‫ح ْ‬‫سُنوا ال ْ ُ‬ ‫ح َ‬‫نأ ْ‬ ‫ِ َ‬
‫في تفسيرها أن الحسنى هي الجنة‪ ،‬وأن الزيادة هي‬
‫النظر إلى الله عز وجل‪.‬‬
‫ضَرةٌ * إ َِلى َرب َّها َناظ َِر ٌ‬
‫ة[‬ ‫مئ ِذٍ َنا ِ‬
‫جوهٌ ي َوْ َ‬‫وقال الله تعالى ‪ ] :‬وُ ُ‬
‫‪.‬‬
‫وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬إذا دخل أهل‬
‫الجنة الجنة قال تبارك وتعالى‪ :‬تريدون شيئا ً أزيدكم ؟‬
‫فيقولون ‪ :‬ألم تبيض وجوهنا‪ ،‬ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من‬
‫النار‪ ،‬قال ‪ :‬فيكشف الحجاب‪ ،‬فما أعطوا شيئا ً أحب إليهم‬
‫من النظر إلى رّبهم عز وجل (( ‪ ،‬وفي رواية ‪ :‬ثم تل هذه‬
‫الية ‪ ] :‬ل ِل ّذي َ‬
‫ة[ ‪.‬‬
‫سَنى وَزَِياد َ ٌ‬ ‫سُنوا ال ْ ُ‬
‫ح ْ‬ ‫ح َ‬
‫نأ ْ‬‫ِ َ‬
‫وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال‪ :‬كنا عند رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فنظرنا إلى القمر ليلة البدر‪،‬‬
‫فقال‪ )) :‬إنكم سترون رّبكم عيانا ً كما ترون هذا القمر ل‬
‫تضامون في رؤيته‪ .‬فإن استطعتم أن ل تغلبوا على صلة‬
‫قبل طلوع الشمس‪ ،‬وصلة قبل غروبها فافعلوا (( ‪،‬‬
‫) ‪(1/122‬‬

‫س وَقَب ْ َ‬
‫ل‬ ‫م ِ‬ ‫ل ط ُُلوِع ال ّ‬
‫ش ْ‬ ‫مدِ َرب ّ َ‬
‫ك قَب ْ َ‬ ‫ح ْ‬
‫ح بِ َ‬
‫سب ّ ْ‬
‫ثم قرأ‪ ] :‬وَ َ‬
‫غُُروب َِها [ ‪ .‬ويعني بالصلتين ‪ :‬صلة الصبح وصلة العصر ‪.‬‬
‫وعن أبي رزين العقيلي قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول الله أكلنا‬
‫نرى الله مخليا ً به يوم القيامة؟ قال ‪ :‬نعم‪ .‬قلت ‪ :‬وما آية‬
‫ذلك في خلقه؟ قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر‬
‫ليلة البدر مخليا ً به ؟ قلت‪ :‬بلى‪ .‬قال ‪ :‬فالله أعظم ‪ ،‬إنما‬
‫هو خلق من خلق الله عز وجل ‪ ،‬يعني القمر ‪.‬‬
‫ن أهل الجنة إذا دخلوها‪،‬‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ :‬إ ّ‬
‫نزلوا فيها بفضل أعمالهم‪ ،‬ثم يؤذن لهم في مقدار يوم‬
‫الجمعة من أيام الدنيا ‪ ،‬فيزورون رّبهم‪ ،‬ويبرز لهم عرشه‪،‬‬
‫ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة‪ ،‬فتوضع لهم منابر‬
‫من نور‪ ،‬ومنابر من لؤلؤ ‪ ،‬ومنابر من ياقوت‪ ،‬ومنابر من‬
‫زبرجد‪ ،‬ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ‪ .‬ويجلس أدناهم‬
‫_ وما فيهم أدنى _ على كثبان المسك والكافور وما يرون‬
‫أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسًا‪.‬‬
‫قال أبو هريرة‪ :‬يا رسول الله هل نرى رّبنا؟ قال ‪ :‬نعم‪،‬‬
‫هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ؟ قلنا ‪ :‬ل‪ .‬قال ‪:‬‬
‫كذلك ل تمارون في رؤية رّبكم ‪ ،‬ول يبقى في ذلك‬
‫المجلس أحد إل حاضره الله محضرة‪ ،‬حتى يقول للرجل‬
‫منهم ‪ :‬يا فلن ابن فلن ‪ ،‬أتذكر يوم قلت كذا و كذا ‪،‬‬
‫فيذكره بعض عثراته في‬
‫) ‪(1/123‬‬

‫الدنيا‪ ،‬فيقول ‪ :‬أفلم تغفر لي ؟ فيقول ‪ :‬بلى ‪ .‬فبسعة‬


‫مغفرتي بلغت منزلتك هذ ‪ .‬فبينما هم كذلك إذ غشيتم‬
‫سحابة من فوقهم‪ ،‬فأمطرت عليهم طيبا ً لم يجدوا مثل‬
‫ريحه شيئا ً قط‪ .‬فيقول رّبنا ‪ :‬قوموا إلى ما أعددت لكم‬
‫من الكرامة‪ ،‬فخذوا ما شئتم ‪ ،‬فيأتون سوقا ً قد حفت به‬
‫الملئكة لم تنظر العيون إلى مثله‪ ،‬ولم تسمع الذان‪ ،‬ولم‬
‫يخطر على القلوب ‪ ،‬فنحمل ما اشتهينا‪ ،‬ليس يباع فيه ول‬
‫يشترى‪ ،‬وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة‪ ،‬فيلقى من هو‬
‫دونه _ وما فيهم أدنى _ فيروعه ما يرى عليه من اللباس‪،‬‬
‫فما ينقضي آخر حديثهما‪ ،‬حتى يخلع عليه ما هو أحسن‬
‫منه‪ ،‬وذلك أنه ل ينبغي لحد أن يحزن فيها ‪ .‬ثم ننصرف‬
‫إلى منازلنا‪ ،‬فتتلقانا أزواجنا‪ ،‬فيقلن ‪ :‬مرحبا ً وأهل ً لقد‬
‫جئت وإن بك من الجمال أكثر مما فارقتنا عليه‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار‪ ،‬وحق لنا أن ننقلب بمثل ما‬
‫انقلبنا‪.‬‬
‫وأعظم النعيم وأفضله وأجّله وأكمله‪ :‬النظر إلى وجه الله‬
‫الكريم‪ ،‬في دار الكرامة والنعيم ‪.‬‬
‫ن الله علينا بذلك فضله وكرمه‪ ،‬وجوده وإحسانه‬ ‫م ّ‬
‫ووالدينا‪ ،‬وأحبابنا والمسلمين برحمته‪ ،‬إنه أرحم‬
‫الراحمين ‪.‬‬
‫***‬
‫) ‪(1/124‬‬

‫مةِ اللهِ‬ ‫ح َ‬‫سعَةِ َر ْ‬


‫ما وََرد َ ِفي ِ‬ ‫م ّ‬
‫يٍء ِ‬ ‫ذكر َ‬
‫ش ْ‬
‫يٍء [ )العراف‪:‬‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫ت كُ ّ‬ ‫سع َ ْ‬ ‫مِتي وَ ِ‬
‫ح َ‬
‫قال الله تعالى‪ ] :‬وََر ْ‬
‫‪.(156‬‬
‫م [)الحجر‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عَباِدي أّني أَنا ال ْغَُفوُر الّر ِ‬
‫حي ُ‬ ‫ئ ِ‬ ‫وقال تعالى‪ ] :‬ن َب ّ ْ‬
‫‪. (49‬‬
‫م‬
‫سل ٌ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ِبآَيات َِنا فَُق ْ‬‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬‫جاَء َ‬ ‫ذا َ‬ ‫وقال تعالى ‪ ] :‬وَإ ِ َ‬
‫ة [ )النعام‪ (54:‬الية‪.‬‬ ‫م َ‬ ‫ح َ‬ ‫سهِ الّر ْ‬ ‫م عََلى ن َْف ِ‬ ‫ب َرب ّك ُ ْ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م ك َت َ َ‬
‫َ‬ ‫عبادي ال ّذي َ‬
‫مل‬ ‫سه ِ ْ‬ ‫سَرُفوا عََلى أن ُْف ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ل َيا ِ َ ِ َ ِ َ‬ ‫وقال تعالى‪ ] :‬قُ ْ‬
‫و‬
‫ه هُ َ‬ ‫ميًعا إ ِن ّ ُ‬ ‫ج ِ‬‫ب َ‬ ‫ه ي َغِْفُر الذ ُّنو َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫مةِ الل ّهِ إ ِ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬ ‫م ْ‬
‫طوا ِ‬ ‫ت َْقن َ ُ‬
‫م [ )الزمر‪. (53:‬‬ ‫حي ُ‬ ‫ال ْغَُفوُر الّر ِ‬
‫َ‬
‫ه ثُ ّ‬
‫م‬ ‫س ُ‬‫سوًءا أوْ ي َظ ْل ِم ِ ن َْف َ‬ ‫ل ُ‬ ‫م ْ‬‫ن ي َعْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وقال تعالى ‪ ] :‬وَ َ‬
‫ما [ )النساء‪.(110:‬‬ ‫حي ً‬‫ه غَُفوًرا َر ِ‬ ‫جدِ الل ّ َ‬ ‫ه يَ ِ‬ ‫ست َغِْفرِ الل ّ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ )) :‬إن لله مائة‬
‫رحمة ‪ ،‬أنزل منها رحمة واحدة ‪ ،‬بين النس والجن‬
‫والطير والبهائم والهوام ‪ ،‬فبها يتعاطفون ‪ ،‬وبها يتراحمون‬
‫‪ ،‬وادخر تسعة رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة (( ‪.‬‬
‫ويروي ‪ :‬أنه إذا كان يوم القيامة‪ ،‬أخرج الله كتابا ً من تحت‬
‫العرش فيه ‪ )) :‬إن رحمتي سبقت غضبي‪ ،‬وأنا أرحم‬
‫الراحمين‪ ،‬فيخرج من النار مثل أهل الجنة ((‪.‬‬
‫ل لنا‬ ‫…وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬يتجّلى الله عّز وج ّ‬
‫يوم القيامة ضاحكا ً فيقول‪ :‬أبشروا يا معشر المسلمين‪،‬‬
‫فإنه ليس منكم واحد‪ ،‬إل‬
‫) ‪(1/125‬‬

‫وقد جعلت مكانه في النار يهوديا ً أو نصرانيًا(( ‪.‬‬


‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬إن الله أرحم بعبده‬
‫المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها (( ‪.‬‬
‫وقال عليه السلم ‪ )) :‬ليغفرن الله مغفرة ‪ ،‬يتطاول لها‬
‫إبليس رجاء أن تناله (( يعني يوم القيامة‪ .‬وإبليس لعنة‬
‫الله‪ ،‬ل تناله مغفرة الله بحال‪ ،‬لنه من القانطين اليسين‬
‫من مغفرة الله ورحمته‪ ،‬وهو رأس المشركين ومقدمهم ‪.‬‬
‫َ‬
‫ما‬ ‫شَر َ‬
‫ك ب ِهِ وَي َغِْفُر َ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ل ي َغِْفُر أ ْ‬ ‫وقد قال تعالى ‪ ] :‬إ ِ ّ‬
‫شاُء [ الية )النساء‪.(48:‬‬ ‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬
‫ك لِ َ‬ ‫دو َ‬
‫ُ‬
‫وقال عليه السلم ‪ )) :‬من شهد أن ل إله إل الله ‪ ،‬وأن‬
‫محمدا ً رسول الله ‪ ،‬حرم الله عليه النار (( ‪.‬‬
‫وقال عليه السلم ‪ :‬ينادي مناد من تحت العرش يوم‬
‫القيامة‪ :‬يا أمة محمد‪ ،‬أما ما كان لي قَِبلكم فقد وهبته‬
‫لكم‪ ،‬وبقيت التبعات التي بينكم‪ ،‬فتواهبوها وادخلوها الجنة‬
‫برحمتي ‪.‬‬
‫) ‪(1/126‬‬

‫وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذا المؤلف المبارك إن شاء‬


‫الله تعالى والبركة من الله‪ ،‬والفضل والخير بيد الله‪،‬‬
‫والمر كله لله‪ .‬ول حول ول قوة إلى بالله العلي العظيم‪.‬‬
‫وحسبنا الله ونعم الوكيل‪.‬‬
‫ب عَل َي َْنا‬ ‫ل منا إن َ َ‬
‫م [ ‪ ] ،‬وَت ُ ْ‬ ‫ميعُ ال ْعَِلي ُ‬ ‫س ِ‬‫ت ال ّ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫] َرب َّنا ت ََقب ّ ْ ِ ّ ِ ّ‬
‫م[ ‪َ ] ،‬رب َّنا ل ت ُزِغْ قُُلوب ََنا ب َعْد َ إ ِذ ْ هَد َي ْت ََنا‬ ‫إن َ َ‬
‫حي ُ‬ ‫ب الّر ِ‬ ‫وا ُ‬ ‫ت الت ّ ّ‬‫ك أن ْ َ‬ ‫ِّ‬
‫َ‬ ‫ت ال ْوَ ّ‬ ‫َ‬ ‫ن ل َد ُن ْ َ‬
‫ب [‪َ ] ،‬رب َّنا أفْرِغْ‬ ‫ها ُ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫ة إ ِن ّ َ‬
‫م ً‬ ‫ح َ‬‫ك َر ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ل ََنا ِ‬‫وَهَ ْ‬
‫ن[‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬‫م ْ‬ ‫صب ًْرا وَت َوَفَّنا ُ‬ ‫عَل َي َْنا َ‬
‫ه على سيدنا ومولنا محمد عبد الله ورسوله ‪،‬‬ ‫وصّلى الل ُ‬
‫المين على وحيه و تنزيله ‪.‬‬
‫وعلى آله الطيبين الطاهرين‪ ،‬وعلى أصحابه الهداة‬
‫المهتدين‪ ،‬وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين‪.‬‬
‫وعلينا معهم وفيهم ‪ ،‬برحمتك يا أرحم الراحمين ‪.‬‬
‫ّتم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه ‪.‬‬
‫وكان الفراغ من إملئه ‪ ،‬بكرة يوم الحد التاسع‬
‫والعشرين من شهر شعبان سنة )‪ (1110‬عشر ومائة بعد‬
‫اللف من الهجرة على مهاجرها أفضل الصلة ‪ ،‬وأزكى‬
‫السلم ‪.‬‬
‫ب العالمين ‪.‬‬ ‫والحمد لله ر ّ‬
‫*******‬
‫) ‪(1/127‬‬

‫دكار ((‪:‬‬
‫فهرس كتاب )) سبيل ال ّ‬
‫المقدمة‬
‫العمر الول‬
‫خاتمة هذا العمر‬
‫العمر الثاني‬
‫خاتمة هذا العمر‬
‫العمر الثالث‬
‫خاتمة هذا العمر‬
‫العمر الرابع‬
‫خاتمة هذا العمر‬
‫العمر الخامس‬
‫ذكر الجنة ونعيمها‬
‫خاتمة هذا العمر‬
‫ذكر شيء مما ورد في سعة رحمة الله‬
‫) ‪(1/128‬‬

You might also like