You are on page 1of 154

‫فى الطب النبوى‬

‫ل من َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى المغازى والسير والبعوث والسرايا‪ ،‬والرسائل‪،‬‬


‫جمَ ٍ‬
‫وقد أتينا على ُ‬
‫والكتب التى كتب بها إلى الملوك ونوابهم‪.‬‬

‫ونحن نُتْبع ذلك بذكر فصول نافعة فى َهدْيه فى الطب الذى تطبّب به‪ ،‬ووصفه لغيره‪ ،‬ونبيّنُ ما فيه من‬
‫ل أكثرِ الطباء عن الوصول إليها‪ ،‬وأن نسبة طِبهم إليها كنِسبة طِب العجائز إلى طِبهم‪،‬‬ ‫الحِكمة التى َتعْجَزُ عقو ُ‬
‫فنقول وبال المستعان‪ ،‬ومنه نستمد الحَوْل والقوة‪:‬‬

‫المرض نوعان‪ :‬مرضُ القلوب‪ ،‬ومرضُ البدان‪ .‬وهما مذكوران فى القرآن‪.‬‬

‫شهْوة وغَىّ‪ ،‬وكلهما فى القرآن‪ .‬قال‬


‫ومرض القلوب نوعان‪ :‬مرض شُبهة وشك‪ ،‬ومرض َ‬
‫ل مَرَضاً}[البقرة ‪. ]10 :‬‬
‫ض فَزَادَهُمُ ا ُ‬
‫تعالى فى مرض الشّبهة‪{ :‬فِى قُلُو ِبهِم مَّرَ ٌ‬

‫ن فِى قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ وَا ْلكَافِرُونَ مَاذَا أَرَا َد الُ ِب َهذَا َمثَلً}[المدثر ‪.]31:‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬وَِليَقُولَ اّلذِي َ‬

‫ق من دُعى إلى تحكيم القرآن والسّـنّة‪ ،‬فأبَى وأعرض‪{ :‬وَإذَا دُعُواْ إلَى الِ َورَسُولِهِ‬ ‫وقال تعالى فى حَ ّ‬
‫عنِينَ * َأفِى قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ َأمِ ا ْرتَابُو ْا أَمْ‬
‫ق يَ ْأتُواْ إَليْهِ ُمذْ ِ‬
‫ق ّم ْنهُمْ ّمعْرِضُونَ * وَإن َيكُن ّلهُمُ ا ْلحَ ّ‬
‫حكُ َم َبيْ َنهُ ْم إذَا فَرِي ٌ‬
‫ِليَ ْ‬
‫ن أَن يَحِيفَ الُ عََل ْيهِ ْم وَ َرسُولُهُ‪ ،‬بَلْ أُوَل ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ}[النور ‪ ،]50-48 :‬فهذا مرض الشّبهات‬ ‫يَخَافُو َ‬
‫والشكوك‪.‬‬

‫ضعْنَ بِالْقَ ْولِ‬


‫ل تَخْ َ‬
‫ن اتّ َق ْيتُنّ فَ َ‬
‫حدٍ مّنَ النّسَاءِ‪ ،‬إ ِ‬
‫ستُنّ كََأ َ‬
‫وأما مرض الشهوات‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬يَا نِسَا َء ال ّنبِىّ لَ ْ‬
‫شهْوة ال ّزنَى‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬ ‫طمَعَ اّلذِى فِى قَ ْلبِهِ مَ َرضٌ}[الحزاب ‪ ،]32 :‬فهذا مرض َ‬‫َفيَ ْ‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫@‬

‫فصل‬

‫فى مرض البدان‬

‫ل عَلَى ا ْلمَرِيضِ‬
‫ج وَ َ‬
‫ل عَلَى الَعْ َرجِ حَرَ ٌ‬
‫عمَى حَ َرجٌ َو َ‬
‫س عَلَى الَ ْ‬
‫وأمّا مرض البدان‪ ..‬فقال تعالى‪َ{ :‬ليْ َ‬
‫حَ َرجٌ} [الفتح ‪[]17 :‬النور‪ .]61 :‬وذكر مرض البدن فى الحج والصومِ والوضوء لس ّر بديع يُبيّن لك عظمة‬
‫القرآن‪ ،‬والستغنا َء به لمن فهمه وعَقَله عن سواه‪ ،‬وذلك أن قواعد طِب البدان ثلثة‪ :‬حِفظُ الصحة‪ ،‬والحِميةُ عن‬
‫المؤذى‪ ،‬واستفراغُ المواد الفاسدة‪ .‬فذكر سبحانه هذه الصول الثلثة فى هذه المواضع الثلثة‪.‬‬

‫ن َأيّا ٍم ُأخَرَ}[البقرة ‪ ،]184 :‬فأباح‬


‫ن مِنكُم مّرِيضاً َأوْ عَلَى سَ َفرٍ َف ِعدّةٌ مّ ْ‬
‫فقال فى آية الصوم‪َ { :‬فمَن كَا َ‬
‫شدّ ِة‬
‫الفِطر للمريض لعذر المرض؛ وللمسافر طلبًا لحفظ صِحته وقوته لئل يُذْهِبهَا الصومُ فى السفر لجتماع ِ‬
‫الحركة‪ ،‬وما يُوجبه من التحليل‪ ،‬وعدم الغذاء الذى يخلف ما تحلّل؛ فتخورُ القوة وتضعُف‪ ،‬فأباح للمسافر الفِطْرَ‬
‫حفظًا لصحته وقوته عما يُضعفها‪.‬‬

‫ص َدقَةٍ أَوْ‬
‫صيَامٍ أَوْ َ‬
‫ن ِمنْكُم مّرِيضاً َأوْ بِ ِه َأذًى مّن رّ ْأسِهِ َف ِفدْيَةٌ مّن ِ‬
‫وقال فى آية الحج‪َ { :‬فمَن كَا َ‬
‫حكّة‪ ،‬أو غيرهما‪ ،‬أن يحلِق رأسه‬ ‫ى من رأسه‪ ،‬من قمل‪ ،‬أو ِ‬ ‫نُسُك}[البقرة ‪ ،]196 :‬فأباح للمريض‪ ،‬ومَن به أذَ ً‬
‫فى الحرام استفراغاً لمادة البخرة الرديئة التى أوجبت له الذى فى رأسه باحتقانها تحتَ الشّعر‪ ،‬فإذا حلق‬
‫رأسه‪ ،‬تفتحت المسامُ‪ ،‬فخرجت تلك البخرة منها‪ ،‬فهذا الستفراغ يُقاس عليه كُلّ استفراغ يؤذى انحباسُهُ‪.‬‬

‫والشياء التى يؤذى انحباسها ومدافعتها عشرة‪ :‬الدّمُ إذا هاج‪ ،‬والمنىّ إذا تبّيغ‪ ،‬والبولُ‪ ،‬والغائطُ‪،‬‬
‫والريحُ‪ ،‬والقىءُ‪ ،‬والعطاسُ‪ ،‬والنومُ‪ ،‬والجوعُ‪ ،‬والعطشُ‪ .‬وكل واحد من هذه العشرة يُوجب حبسُه داء من الدواء‬
‫بحسبه‪.‬‬
‫ب منه؛ كما‬
‫وقد نبّه سبحانه باستفراغ أدناها‪ ،‬وهو البخارُ المحتقِن فى الرأس على استفراغ ما هو أصع ُ‬
‫هى طريقةُ القرآن التنبيهُ بالدنى على العلى‪.‬‬

‫حدٌ مّنكُم مّنَ ا ْلغَائِطِ‬


‫وأما الحِمية‪ ..‬فقال تعالى فى آية الوضوء‪{ :‬وَإن ُك ْنتُم مّرْضَى أَ ْو عَلَى سَفَ ٍر أَ ْو جَاءَ َأ َ‬
‫طيّباً}[النساء ‪[]43 :‬المائدة ‪ ،]6 :‬فأباح للمريض العدول عن‬ ‫صعِيداً َ‬
‫جدُواْ مَاءً َف َت َي ّممُوْا َ‬
‫ستُمُ النّسَاءَ فََلمْ َت ِ‬
‫لمَ ْ‬
‫أَ ْو َ‬
‫الماء إلى التراب حِميةً له أن يُصيبَ جسدَه ما يُؤذيه‪ ،‬وهذا تنبيهٌ على الحِمية عن كل مؤذٍ له من داخل أو خارج‪،‬‬
‫فقد أرشد سُبحانه عِباده إلى أُصول الطب‪ ،‬ومجامعِ قواعده‪ ،‬ونحن نذكرُ َهدْى رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ن َهدْيه فيه أكمل َهدْىٍ‪.‬‬ ‫فى ذلك‪ ،‬ونبيّنُ أ ّ‬

‫فأمّا طبّ القلوب‪ ..‬فمسلّم إلى الرّسلِ صلوات ال وسلمه عليهم‪ ،‬ول سبيل إلى حصوله إل من‬
‫ح القلوب أن تكون عارِفة بربّها‪ ،‬وفاطرِها‪ ،‬وبأسمائه‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وأفعاله‪،‬‬ ‫جهتهم وعلى أيديهم‪ ،‬فإن صل َ‬
‫وأحكامه‪ ،‬وأن تكون مُؤثِرةً لمرضاته ومحابّه‪ ،‬متجنّبةً ل َمنَاهيه و َمسَاخطه‪ ،‬ول صحة لها ول حياةَ ألبتةَ إل بذلك‪،‬‬
‫ن ذلك‪،‬‬‫ل إلى تلقّيه إل من جهة الرّسل‪ ،‬وما يُظن من حصول صِحّة القلب بدون اتّباعهم‪ ،‬فغلط ممن يَظُ ّ‬ ‫ول سبي َ‬
‫وإنما ذلك حياةُ نفسه البهيمية الشهوانية‪ ،‬وصِحّتها وقُوّتها‪ ،‬وحيا ُة قلبه وصحته‪ ،‬وقوته عن ذلك بمعزل‪ ،‬ومَن لم‬
‫يميز بين هذا وهذا‪ ،‬فليبك على حياة قلبه‪ ،‬فإنه من الموات‪ ،‬وعلى نوره‪ ،‬فإنه منغمِسٌ فى بحار الظلمات‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى أنّ طب البدان نوعان‬

‫وأمّا طبّ البدان‪ ..‬فإنه نوعان‪:‬‬

‫نوعٌ قد فطر ال عليه الحيوانَ ناطقَه وبهيمَه؛ فهذا ل يحتاج فيه إلى معالجة طبيب‪ ،‬كطب الجوع‪،‬‬
‫والعطش‪ ،‬والبرد‪ ،‬والتعب بأضدادها وما يُزيلها‪.‬‬

‫والثانى‪ ..‬ما يحتاج إلى فكر وتأمل‪ ،‬كدفع المراض المتشابهة الحادثة فى المزاج‪ ،‬بحيثُ يخرج بها عن‬
‫العتدال‪ ،‬إما إلى حرارة‪ ،‬أو بُرودة‪ ،‬أو يبوسة‪ ،‬أو رطوبة‪ ،‬أو ما يتركب من اثنين منها‪ ،‬وهى نوعان‪ :‬إما‬
‫ق بينهما أنّ أمراضَ الكيفية تكون‬
‫ب مادة‪ ،‬أو بحدوث كيفية‪ ،‬والفر ُ‬‫صبَا ِ‬
‫مادية‪ ،‬وإما كيفية‪ ،‬أعنى إما أن يكون بان ِ‬
‫بعد زوال المواد التى أوجبتها‪ ،‬فتزولُ موادها‪ ،‬ويبقى أثرُها كيفية فى المزاج‪.‬‬

‫وأمراض المادة أسبابها معها تمدّها‪ ،‬وإذا كان سببُ المرض معه‪ ،‬فالنظر فى السبب ينبغى أن يقع أولً‪،‬‬
‫ثم فى المرض ثانياً‪ ،‬ثم فى الدواء ثالثاً‪ .‬أو المراض اللية وهى التى تُخ ِرجُ العضو عن هيئته‪ ،‬إما فى شكل‪ ،‬أو‬
‫تجويفٍ‪ ،‬أو مجرىً‪ ،‬أو خشونةٍ‪ ،‬أو ملسةٍ‪ ،‬أو عددٍ‪ ،‬أو عظمٍ‪ ،‬أو وضعٍ‪ ،‬فإن هذه العضاء إذا تألّفت وكان منها‬
‫ج عن العتدال فيه يسمى تفرقَ التصال‪ ،‬أو المراضِ العامة التى تعم‬ ‫البدن سمى تألّفها اتصالً‪ ،‬والخرو ُ‬
‫المتشابهة واللية‪.‬‬

‫ض المتشابهة‪ :‬هى التى يخرُج بها المزاجُ عن العتدال‪ ،‬وهذا الخروجُ يسمى مرضًا بعد أن‬
‫والمرا ُ‬
‫يَضُرّ بالفعل إضراراً محسوساً‪.‬‬

‫وهى على ثمانية أضرب‪ :‬أربعة بسيطة‪ ،‬وأربعة مركّبة‪ ،‬فالبسيطةُ‪ :‬البارد‪ ،‬والحار‪ ،‬والرّطب‪ ،‬واليابس‪.‬‬
‫والمركّبةُ‪ :‬الحارّ الرّطب‪ ،‬والحار اليابس‪ ،‬والبارد الرّطب‪ ،‬والبارد اليابس‪ ،‬وهى إما أن تكون بانصباب مادة‪ ،‬أو‬
‫بغير انصباب مادة‪ ،‬وإن لم يضر المرض بالفعل يُسمى خروجًا عن العتدال صحة‪.‬‬

‫وللبدن ثلثةُ أحوال‪ :‬حال طبيعية‪ ،‬وحال خارجة عن الطبيعية‪ ،‬وحال متوسطة بين المرين‪ .‬فالولى‪:‬‬
‫بها يكون البدن صحيحاً‪ ،‬والثانية‪ :‬بها يكون مريضاً‪ .‬والحال الثالثة‪ :‬هى متوسطة بين الحالتين‪ ،‬فإن الضد ل‬
‫ينتقل إلى ضدّه إل بمتوسط‪ ،‬وسببُ خروج البدن عن طبيعته‪ ،‬إمّا من داخله‪ ،‬لنه مركّب من الحار والبارد‪،‬‬
‫والرطب واليابس‪ ،‬وإما من خارج‪ ،‬فلن ما يلقاه قد يكونُ موافقاً‪ ،‬وقد يكون غيرَ موافق‪ ،‬والضررُ الذى يلحق‬
‫النسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه عن العتدال‪ ،‬وقد يكون مِن فساد العضو؛ وقد يكون من ضعف فى‬
‫ن ما العتدالُ فى‬
‫ل فى عدم زيادته‪ ،‬أو نقصا ُ‬
‫القُوَى‪ ،‬أو الرواح الحاملة لها‪ ،‬ويرجع ذلك إلى زيادةِ ما العتدا ُ‬
‫ل ما العتدالُ فى تفرّقه‪ ،‬أو امتدادُ ما العتدالُ فى‬
‫ل فى اتصاله‪ ،‬أو اتصا ُ‬
‫ق ما العتدا ُ‬
‫عدم نقصانه‪ ،‬أو تفرّ ِ‬
‫انقباضه؛ أو خروجِ ذى وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث يُخرجه عن اعتداله‪.‬‬

‫ص منه ما يضرّه زيادَته‪،‬‬‫فالطبيب‪ :‬هو الذى يُفرّقُ ما يضرّ بالنسان جمعُه‪ ،‬أو يجم ُع فيه ما يضرّه تفرّقه‪ ،‬أو ينقُ ُ‬
‫أو يزي ُد فيه ما يضرّه نقصُه‪ ،‬فيجلِب الصحة المفقودة‪ ،‬أو يحفظُها بالشكل والشبه؛ ويدفعُ العِلّةَ الموجودة بالضد‬
‫والنقيض‪ ،‬ويخرجها‪ ،‬أو يدفعُها بما يمنع من حصولها بالحِمية‪ ،‬وسترى هذا كله فى َهدْى رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم شافياً كافياً بحَوْل ال وقُوّته‪ ،‬وفضله ومعونته‬

‫فصل‬

‫فى َهدْى النبى صلى ال عليه وسلم فى التداوى والمر به‬

‫فكان من َهدْيِه صلى ال عليه وسلم فعلُ التداوى فى نفسه‪ ،‬والم ُر به لمن أصابه مرض من أهله‬
‫ل هذه الدوية المركّبة التى تسمى ((أقرباذين))‪ ،‬بل‬ ‫وأصحابه‪ ،‬ولكن لم يكن مِن َهدْيه ول َهدْى أصحابه استعما ُ‬
‫طبّ الُمم‬‫سوْرته‪ ،‬وهذا غالبُ ِ‬
‫كان غالبُ أدويتهم بالمفردات‪ ،‬وربما أضافُوا إلى المفرد ما يعاونه‪ ،‬أو َيكْسِر َ‬
‫على اختلف أجناسِها من العرب والتّرك‪ ،‬وأهل البوادى قاطبةً‪ ،‬وإنما عُنى بالمركبات الرومُ واليونانيون‪ ،‬وأكثرُ‬
‫ب الهند بالمفردات‬
‫طِ ّ‬

‫وقد اتفق الطباء على أنه متى أمكن التداوى بالغذاء ل ُي ْعدَل عنه إلى الدواء‪ ،‬ومتى أمكن بالبسيط ل‬
‫ُيعْدَل عنه إلى المركّب‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬وكل داء قدر على دفعه بالغذية والحِمية‪ ،‬لم يُحا َولْ دفعه بالدوية‪.‬قالوا‪ :‬ول ينبغى للطبيب أن‬
‫يولعَ بسقى الدوية‪ ،‬فإنّ الدواء إذا لم يجد فى البدن دا ًء يُحلّله‪ ،‬أو وجد داءً ل يُوافقه‪ ،‬أو وجد ما يُوافقه فزادت‬
‫طبّهم بالمفردات غالباً‪ ،‬وهم‬
‫كميتهُ عليه‪ ،‬أو كيفيته‪ ،‬تشبّث بالصحة‪ ،‬وعبث بها‪ ،‬وأربابُ التجارِب من الطباء ِ‬
‫أحد ِفرَق الطبّ الثلث‪.‬‬

‫ب أغذيتها المفردات‪ ،‬أمراضُها‬


‫والتحقيقُ فى ذلك أن الدوية من جنس الغذية‪ ،‬فالُمة والطائفة التى غال ُ‬
‫ت عليهم الغذيةُ المركّبة يحتاجون إلى الدوية المركّبة‪،‬‬
‫قليلة جداً‪ ،‬وطبّها بالمفردات‪ ،‬وأهلُ المدن الذين غلب ْ‬
‫ب ذلك أنّ أمراضَهم فى الغالب مركّبةٌ‪ ،‬فالدويةُ المركّبة أنفعُ لها‪ ،‬وأمراضُ أهل البوادى والصحارى‬ ‫وسب ُ‬
‫مفردة‪ ،‬فيكفى فى مداواتها الدوية المفردة‪ .‬فهذا برهانٌ بحسب الصناعة الطبية‪.‬‬

‫طبّ الطّرَقية والعجائز إلى طِبهم‪ ،‬وقد‬ ‫ونحن نقول‪ :‬إن ههنا أمرًا آخرَ‪ ،‬نسبةُ طِب الطبّاء إليه كنسبة ِ‬
‫ن ما عندهم من العلم بالطّب منهم مَن يقول‪ :‬هو قياس‪ .‬ومنهم مَن يقول‪ :‬هو‬ ‫حذّاقهم وأئمتُهم‪ ،‬فإ ّ‬
‫اعترف به ُ‬
‫حدْسٌ صائب‪ .‬ومنهم مَن يقول‪ :‬أُخذ كثير منه من الحيوانات‬ ‫تجربة‪ .‬ومنهم مَن يقول‪ :‬هو إلهامات‪ ،‬ومنامات‪ ،‬و َ‬
‫البهيمية‪ ،‬كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذواتِ السموم َت ْع ِمدُ إلى السّرَاج‪َ ،‬فتَلغ فى الزيت تتداوى به‪ ،‬وكما رؤيت‬
‫ت إذا خرجت مِن بطون الرض‪ ،‬وقد عَشيت أبصارُها تأتى إلى ورق الرازيانج‪ ،‬ف ُتمِرّ عيونها عليها‪ .‬وكما‬ ‫الحيّا ُ‬
‫عُهد مِن الطير الذى يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه‪ ،‬وأمثال ذلك مما ذُكِ َر فى مبادئ الطب‪.‬‬

‫وأين يقع هذا وأمثال ُه من الوحى الذى يُوحيه ال إلى رسوله بما ينفعه ويضره‪ ،‬فنسبة ما عندهم مِن‬
‫الطب إلى هذا الوحى كنِسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به النبياء‪ ،‬بل ههنا من الدوية التى تَشفى من‬
‫المراض ما لم يهتد إليها عقولُ أكابر الطباء‪ ،‬ولم تصل إليها عُلومُهم وتجاربهم وأقيستهم‪ ،‬من الدوية القلبية‪،‬‬
‫ل عليه‪ ،‬واللتجاء إليه‪ ،‬والنطراحِ والنكسا ِر بين يديه‪،‬‬
‫والروحانية‪ ،‬وقوة القلب‪ ،‬واعتمادِه على الِ‪ ،‬والتوك ِ‬
‫ن إلى الخلق‪ ،‬وإغاثةِ الملهوف‪ ،‬والتفريجِ عن‬ ‫والتذلّلِ له‪ ،‬والصدقةِ‪ ،‬والدعاءِ‪ ،‬والتوبةِ‪ ،‬والستغفارِ‪ ،‬والحسا ِ‬
‫ن هذه الدوية قد جَ ّربْتها الُممُ على اختلف أديانها ومِللها‪ ،‬فوجدوا لها من التأثير فى الشفاء ما ل‬
‫المكروب‪ ،‬فإ ّ‬
‫يصل إليه علمُ أعلم الطباء‪ ،‬ول تجربتُه‪ ،‬ول قياسُه‪.‬‬

‫سيّة‪ ،‬بل تَصيرُ‬


‫وقد جرّبنا نحن وغيرنا من هذا أُمورًا كثيرةً‪ ،‬ورأيناها تفعلُ ما ل تفعل الدويةُ الح ّ‬
‫سيّة عندها بمنزلة الدوية الطّرَقية عند الطباء‪ ،‬وهذا جا ٍر على قانون الحِكمة الِلَهية ليس خارجاً‬ ‫الدوية الح ّ‬
‫ب متى اتصل برب العالمين‪ ،‬وخالق الداء والدواء‪ ،‬ومدبّر الطبيعة‬ ‫عنها‪ ،‬ولكن السباب متنوعة‪ ،‬فإن القل َ‬
‫ض عنه‪ ،‬وقد عُلِمَ‬ ‫ب البعيدُ منه ال ُمعْرِ ُ‬
‫ومُصرّفها على ما يشاء كانت له أدويةٌ أُخرى غير الدوية التى يُعانيها القل ُ‬
‫ح متى قويت‪ ،‬وقويتْ النفسُ والطبيعةُ تعاونا على دفع الداء وقهره‪ ،‬فكيف يُنكر لمن قويت طبيعتُه‬ ‫أنّ الروا َ‬
‫ج ْمعِها‬
‫حبّها له‪ ،‬وتن ّعمِها بذِكره‪ ،‬وانصرافِ قواها كُلّها إليه‪ ،‬و َ‬
‫ونفسُه‪ ،‬وفرحت بقُربها مِن بارئها‪ ،‬وأُنسِها به‪ ،‬و ُ‬
‫ن ذلك لها من أكبر الدوية‪ ،‬وأن توجب لها هذه القو ُة دفعَ اللم‬ ‫عليه‪ ،‬واستعانتِها به‪ ،‬وتوكلِها عليه‪ ،‬أن يكو َ‬
‫ل الناس‪ ،‬وأغلظهم حجاباً‪ ،‬وأكثفُهم نفساً‪ ،‬وأبعدُهم عن ال وعن حقيقة النسانية‪،‬‬ ‫بالكلية‪ ،‬ول يُنكِ ُر هذا إل أجه ُ‬
‫وسنذكر إن شاء ال السببَ الذى به أزالتْ قراء ُة الفاتحة دا َء الّلدْغَ ِة عن اللّديغ التى رُقى بها‪ ،‬فقام حتى كأنّ ما به‬
‫قَلَبة‪.‬‬

‫فهذان نوعان من الطب النبوى‪ ،‬نحن بحَوْل ال نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة‪ ،‬ومبلغ علومِنا‬
‫القاصرة‪ ،‬ومعارِفنا المتلشية جداً‪ ،‬وبضاعتِنا المُزْجاة‪ ،‬ولكنّا نستو ِهبُ مَن بيده الخي ُر كلّه‪ ،‬ونستمد من فضله‪،‬‬
‫فإنه العزيز الوهّاب‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى الحاديث التى تحث على التداوى وربط السباب بالمسببات‬

‫روى مسلم فى ((صحيحه))‪ :‬من حديث أبى ال ّز َبيْر‪ ،‬عن جابر بن عبد ال‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه‬
‫عزّ وجَلّ))‪.‬‬
‫وسلم أنه قال‪(( :‬لِكلّ داءٍ دواءٌ‪ ،‬فإذا ُأصِيبَ دَوَاءُ الدّاءِ‪ ،‬برأ بإذن الِ َ‬

‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬عن عطاءٍ‪ ،‬عن أبى هريرة قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ما أنزل‬
‫ل مِنْ دا ٍء إل َأنْزَلَ لَهُ شِفَاءً))‪.‬‬
‫ا ُ‬

‫ت عندَ النبىّ‬
‫وفى ((مسند المام أحمد))‪ :‬من حديث زياد بن عِلقة عن أُسامةَ ابن شَريكٍ‪ ،‬قال‪(( :‬كن ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وجاءت العرابُ‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسول ال؛ َأ َن َتدَاوَى ؟ فقال‪:‬‬

‫عزّ وجَلّ لم يضَعْ دا ًء إل َوضَعَ لَهُ شِفا ًء غيرَ داءٍ واحدٍ))‪ ،‬قالوا‪ :‬ما هو ؟ قال‪:‬‬
‫(( َنعَمْ يا عبادَ الِ َتدَاوَوْا‪ ،‬فإنّ الَ َ‬
‫((الهَ َرمُ))‪.‬‬

‫جهِلَهُ))‪.‬‬
‫جهِلَ ُه مَنْ َ‬
‫شفَاءً‪ ،‬عَِلمَ ُه مَنْ عَِلمَهُ و َ‬
‫ل دَاءً إل أنزل له ِ‬
‫ل لم ُينْزِ ْ‬
‫وفى لفظٍ‪(( :‬إنّ ا َ‬

‫ل لَهُ شِفاءً‪ ،‬عَِلمَهُ‬


‫ل عَ ّز وجَلّ لم ُينْزِلْ دا ًء إل أنزَ َ‬
‫وفى ((المسند))‪ :‬من حديث ابن مسعود يرفعه‪(( :‬إنّ ا َ‬
‫جهِلَهُ))‪.‬‬
‫جهِلَهُ مَنْ َ‬
‫مَنْ عَِلمَهُ‪َ ،‬و َ‬

‫ستَ ْرقِيهَا‪ ،‬ودواءً‬


‫وفى ((المسند)) و((السنن))‪ :‬عن أبى خِزَامةَ‪ ،‬قال‪ :‬قلتُ‪ :‬يا رسول الِ؛ أرأيْتَ رُقىً نَ ْ‬
‫نتداوى به‪ ،‬وتُقَا ًة َنتّقِيهَا‪ ،‬هل تَ ُردّ من َقدَرِ الِ شيئاً ؟ فقال‪(( :‬هى من َقدَ ِر ال))‪.‬‬

‫ل مَن أنكرها‪ ،‬ويجوزُ أن يكون‬ ‫فقد تضمّنت هذه الحاديثُ إثبات السباب والمسبّبات‪ ،‬وإبطالَ قو ِ‬
‫قوله((لكل داءٍ دواء))‪ ،‬على عمومه حتى يتناول الدواءَ القاتِلة‪ ،‬والدواء التى ل يُمكن لطبيب أن يُبرئها‪ ،‬ويكون‬
‫طوَى عِلمَها عن البَشَر‪ ،‬ولم يجعل لهم إليه سبيلً‪ ،‬لنه ل عِلم‬ ‫ل قد جعل لها أدويةً تُبرئها‪ ،‬ولكن َ‬‫ال عَزّ وجَ ّ‬
‫للخلق إل ما علّمهم ال‪ ،‬ولهذا علّق النبىّ صلى ال عليه وسلم الشّفا َء على مصادفة الدواء لِلداء‪ ،‬فإنه ل شىءَ من‬
‫ضدّ‪ ،‬وكلّ داء له ضد من الدواء يعالَج بضدّه‪ ،‬فعلّق النبىّ صلى ال عليه وسلم البُرءَ بموافقة‬ ‫المخلوقات إل له ِ‬
‫ن الدواء متى جاوز درجة الداء فى الكيفية‪ ،‬أو زاد فى الكمية‬ ‫الداء للدواء‪ ،‬وهذا قد ٌر زائدٌ على مجرد وجوده‪ ،‬فإ ّ‬
‫على ما ينبغى‪َ ،‬نقَلَه إلى داء آخر‪ ،‬ومتى قصر عنها لم يَفِ بمقاومته‪ ،‬وكان العلج قاصراً‪ ،‬ومتى لم يقع المُداوِى‬
‫على الدواء‪ ،‬أو لم يقع الدواء على الداء‪ ،‬لم يحصُل الشفاء‪ ،‬ومتى لم يكن الزمان صالحًا لذلك الدواء‪ ،‬لم ينفع‪،‬‬
‫ومتى كان البدنُ غيرَ قابل له‪ ،‬أو القوةُ عاجزةً عن حمله‪ ،‬أو ثَمّ مانعٌ يمن ُع من تأثيره‪ ،‬لم يحصل البُرء لعدم‬
‫المصادفة‪ ،‬ومتى تمت المصادفة حصلَ البر ُء بإذن ال ول بُدّ‪ ،‬وهذا أحسنُ المحمَليْن فى الحديث‪.‬‬

‫ف الخارج منه‪،‬‬ ‫والثانى‪ :‬أن يكون مِن العام المراد به الخاصُ‪ ،‬ل سيما والداخل فى اللّفظ أضعاف أضعا ِ‬
‫ن ال لم يضع دا ًء يَ ْقبَلُ الدواء إل وضع له دواء‪ ،‬فل يَدخل فى هذا‬ ‫ن المراد أ ّ‬
‫وهذا يُستعمل فى كل لسان‪ ،‬ويكو ُ‬
‫ىءٍ بَِأمْرِ‬
‫الدواء التى ل تقبل الدواء‪ ،‬وهذا كقوله تعالى فى الرّيح التى سلّطها على قوم عاد‪ { :‬تُ َدمّ ُر كُلّ شَ ْ‬
‫َرّبهَا}[الحقاف ‪ ]25 :‬أى‪ :‬كل شىء يقبلُ التدمير‪ ،‬ومِن شأن الرّيح أن تدمّره‪ ،‬ونظائرُه كثيرة‪.‬‬
‫ط بعضِها‬‫ق الضداد فى هذا العالَم‪ ،‬ومقاومةَ بعضِها لبعض‪ ،‬ودفْعَ بعضِها ببعض‪ ،‬وتسلي َ‬ ‫ومَن تأمّل خلْ َ‬
‫على بعض‪ ،‬تبيّن له كمالُ قدرة الرب تعالى‪ ،‬وحِكمتُه‪ ،‬وإتقانُه ما صنعه‪ ،‬وتف ّردُه بالربوبية‪ ،‬والوحدانية‪ ،‬والقهر‪،‬‬
‫ن كل ما سواه فله ما يُضاده ويُما ِنعُه‪ ،‬كما أنه الغنىّ بذاته‪ ،‬وكُلّ ما سِواه محتاجٌ بذاته‪.‬‬
‫وأ ّ‬

‫وفى الحاديث الصحيح ِة المرُ بالتداوى‪ ،‬وأنه ل ُينَافى التوكل‪ ،‬كما ل يُنافيه دفْع داء الجوع‪ ،‬والعطش‪،‬‬
‫ت لمس ّببَاتها قدراً‬
‫والحرّ‪ ،‬والبرد بِأضدادها‪ ،‬بل ل تتم حقيق ُة التوحيد إل بمباشرة السباب التى نَصَبها ال مقتضيا ٍ‬
‫وشرعاً‪ ،‬وأن تعطيلها ي َقدَحُ فى نفس التوكل‪ ،‬كما يَ ْقدَحُ فى المر والحكمة‪ ،‬ويضعفه من حيث يظن مُعطّلُها أنّ‬
‫ل ما ينفع‬ ‫تركها أقوى فى التوكل‪ ،‬فإن تركها عجزاً يُنافى التوكلَ الذى حقيقتُه اعتمادُ القلب على ال فى حصو ِ‬
‫العبد فى دينه ودنياه‪ ،‬ودفْعِ ما يضرّه فى دينه ودنياه‪ ،‬ول بد مع هذا العتماد من مباشرة السباب؛ وإل كان‬
‫معطّلً للحكمة والشرع‪ ،‬فل يجعل العبدُ عجزه توكلً‪ ،‬ول توكّلَه عجزاً‪.‬‬

‫وفيها رد على مَن أنكر التداوى‪ ،‬وقال‪ :‬إن كان الشفاء قد ُقدّرَ‪ ،‬فالتداوى ل يفيد‪ ،‬وإن لم يكن قد ُقدّرَ‪،‬‬
‫فكذلك‪ .‬وأيضاً‪ ،‬فإنّ المرض حصل ب َقدَر ال‪ ،‬وقدَرُ ال ل ُيدْفَع ول يُرد‪ ،‬وهذا السؤال هو الذى أورده العراب‬
‫ل الصحابة‪ ،‬فأعَلمُ بال وحكمته وصفاتِه من أن يُورِدوا ِمثْلَ‬ ‫على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وأما أفاض ُ‬
‫هذا‪ ،‬وقد أجابهم النبىّ صلى ال عليه وسلم بما شفى وكفى‪ ،‬فقال‪ :‬هذه الدويةُ وال ّرقَى والتّقَى هى مِن َقدَر ال‪،‬‬
‫ل إلى الخروج عن َقدَرِه بوجه ما‪،‬‬ ‫فما خرج شىءٌ عن َقدَره‪ ،‬بل يُ َردّ َقدَرُه ب َقدَرِه‪ ،‬وهذا ال ّردّ مِن َقدَره‪ .‬فل سبي َ‬
‫وهذا كردّ َقدَ ِر الجوع‪ ،‬والعطش‪ ،‬والحرّ‪ ،‬والبرد بأضدادها‪ ،‬وكردّ َقدَرِ العدُوّ بالجهاد‪ ،‬وكلٌ من َقدَرِ ال‪ :‬الدَافِعُ‪،‬‬
‫والمدفوعُ‪ ،‬وال ّدفْعُ‪.‬‬

‫ب عليك أن ل تُباشر سببًا من السباب التى تَجِلبُ بها منفعة‪ ،‬أو َتدَفعُ‬ ‫ويقال لمُوردِ هذا السؤال‪ :‬هذا يُوج ُ‬
‫ل إلى وقوعهما‪،‬‬ ‫بها مضرّة‪ ،‬لن المنفعة والمضرّة إن ُقدّرَتا‪ ،‬لم يكن بدٌ من وقوعهما‪ ،‬وإن لم تُقدّر لم يكن سبي ٌ‬
‫ب الدّين والدنيا‪ ،‬وفسادُ العالَم‪ ،‬وهذا ل يقوله إل دافعٌ للحق‪ ،‬معا ِندٌ له‪ ،‬فيَذكر ال َقدَ َر ليدفعَ حُجةَ‬ ‫وفى ذلك خرا ُ‬
‫عبَ ْدنَا‬
‫ل مَا َ‬
‫ق عليه‪ ،‬كالمشركين الذين قالوا‪{ :‬لَوْ شَاءَ الُ مَا َأشْ َر ْكنَا َولَ آبَا ُؤنَا}[النعام ‪ ،]148 :‬و{ لَوْ شَا َء ا ُ‬ ‫المُح ّ‬
‫حجّة ال عليهم بالرّسُل‪.‬‬ ‫ل آبَا ُؤنَا}[النحل ‪ ،]35 :‬فهذا قالوه دفعاً ل ُ‬ ‫ن َو َ‬
‫ىءٍ نّحْ ُ‬
‫مِن دُونِهِ مِن شَ ْ‬

‫ن ال قَدّر كذا وكذا بهذا السبب؛ فإن أتيتَ‬


‫ب هذا السائل أن يُقال‪ :‬بقى قسمٌ ثالث لم تذكره‪ ،‬وهو أ ّ‬
‫وجوا ُ‬
‫ل المسبّبُ‪ ،‬وإل فل‪.‬‬ ‫بالسّبب حَصَ َ‬

‫فإن قال‪ :‬إن كان َقدّر لى السّببَ‪ ،‬فعلتُه‪ ،‬وإن لم يُقدّره لى لم أتمكن من فعله‪.‬‬

‫ج من عبدِك‪ ،‬وولدِك‪ ،‬وأجيرِك إذا احتَجّ به عليك فيما أمرتَه به‪ ،‬ونهيتَه عنه‬ ‫قيل‪ :‬فهل تقبل هذا الحتجا َ‬
‫فخالَفَك ؟‪ ،‬فإن قبلته‪ ،‬فل تَلُ ْم مَنْ عصاك‪ ،‬وأخذ مالك‪ ،‬وقَذفَ عِ ْرضَك‪ ،‬وضيّع حقوقَك‪ ،‬وإن لم تَقبلْه‪ ،‬فكيف يكونُ‬
‫مقبولً منك فى دفع حُقوق ال عليك ‪ ..‬وقد روى فى أثر إسرائيلى‪(( :‬أنّ إبراهي َم الخليلَ قال‪ :‬يا ربّ؛ ِممّن‬
‫سلُ الدّوَا َء عَلَى يَ َديْهِ ))‬
‫ل أُرْ ِ‬
‫طبِيبِ؟ قال‪َ :‬رجُ ٌ‬
‫الدّاء ؟ قال‪ِ :‬منّى‪ .‬قال‪ :‬ف ِممّنْ الدّوَاءُ ؟ قال‪ :‬منى‪ .‬قال‪َ :‬فمَا بَالُ ال ّ‬

‫ب ذلك‬
‫وفى قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬لكلّ داءٍ دواء))‪ ،‬تقويةٌ لنفس المريضِ والطبيبِ‪ ،‬وحثٌ على طل ِ‬
‫الدوا ِء والتفتيشِ عليه‪ ،‬فإنّ المريض إذا استشعرتْ نفسُه أن لِدائه دوا ًء يُزيله‪ ،‬تعلّق قلبُه بروح الرجاء‪ ،‬وبَردت‬
‫ت حرارتُه الغريزية‪ ،‬وكان ذلك سببًا لقوة‬ ‫ب الرجاء‪ ،‬ومتى قَويتْ نفسُه انبعث ْ‬ ‫عنده حرارة اليأس‪ ،‬وانفتَحَ له با ُ‬
‫ت هذه الرواح‪ ،‬قويت ال ُقوَى التى هى حاملةٌ لها‪ ،‬فقهرت‬ ‫الرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية‪ ،‬ومتى قوي ْ‬
‫ض البدان على‬ ‫ب إذا علم أنّ لهذا الداءِ دوا ًء أمكنه طلبُه والتفتيشُ عليه‪ .‬وأمرا ُ‬
‫ض ودفعتْه‪.‬وكذلك الطبي ُ‬ ‫المر َ‬
‫وِزَانِ أمراض القلوب‪ ،‬وما جعل ال للقلب مرضاً إل جعل له شفا ًء بضده‪ ،‬فإنْ علمه صاحبُ الداء واستعمله‪،‬‬
‫وصادف دا َء قلبِه‪ ،‬أبرأه بإذن ال تعالى‪.‬‬

‫فصل‬

‫في َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى الحتماء من التخم‪ ،‬والزيادة فى الكل على قدر الحاجة‪ ،‬والقانون الذى‬
‫ينبغى مراعاتُه فى الكل والشرب‬

‫حسْبِ‬
‫فى ((المسند)) وغيره‪ :‬عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬ما مَلَ آ َدمِىٌ وِعاءً شَرًا مِنْ بطنٍ‪ ،‬بِ َ‬
‫طعَامِهِ‪ ،‬وثُُلثٌ ِلشَرَابِه‪ ،‬وثُُلثٌ ِلنَفَسِه))‪.‬‬
‫ن كان ل ُبدّ فَاعلً‪َ ،‬فثُُلتٌ ِل َ‬
‫ص ْلبَه‪ ،‬فإ ْ‬
‫ت يُ ِقمْنَ ُ‬
‫ابنِ آد َم لُقيْما ٌ‬
‫ت فى البدن حتى أضرّتْ بأفعاله الطبيعية‪،‬‬ ‫ض مادية تكون عن زيادة مادة أفرط ْ‬ ‫المراض نوعان‪ :‬أمرا ٌ‬
‫ل الطعام على البدن قبل هضم الوّل‪ ،‬والزيادةُ فى القدر الذى يَحتاج إليه‬ ‫ض الكثريةُ‪ ،‬وسببها إدخا ُ‬ ‫وهى المرا ُ‬
‫ل الغذيةِ القليل ِة النفع‪ ،‬البطيئةِ الهضم‪ ،‬وإلكثارُ من الغذية المختلفة التراكيب المتنوعة‪ ،‬فإذا مل‬ ‫البدن‪ ،‬وتناو ُ‬
‫ى بطنه من هذه الغذية‪ ،‬واعتاد ذلك‪ ،‬أورثته أمراضاً متنوعة‪ ،‬منها بطئُ الزوالِ وسريعُه‪ ،‬فإذا توسّط فى‬ ‫الدم ّ‬
‫الغذاء‪ ،‬وتناول مِنه قد َر الحاجة‪ ،‬وكان معتدلً فى كميته وكيفيته‪ ،‬كان انتفاعُ البدن به أكثرَ من انتفاعه بالغذاء‬
‫الكثير ومراتبُ الغذاء ثلثة‪ :‬أحدها‪ :‬مرتبة الحاجة‪ .‬والثانية‪ :‬مرتبة الكفاية‪ .‬والثالثة‪ :‬مرتبة الفضلةُ‪ .‬فأخبر النبىّ‬
‫ص ْلبَه‪ ،‬فل تسقط ق ّوتُه‪ ،‬ول تضعف معها‪ ،‬فإن تجاوزها‪ ،‬فليأكلْ فى‬ ‫ت يُ ِقمْن ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬أنه يكفيه لُقيما ٌ‬
‫ث بطنه‪ ،‬ويدع الثُلُث الخر للماء‪ ،‬والثالثَ للنَفَس‪ ،‬وهذا من أنفع ما للبدن والقلب‪ ،‬فإنّ البطن إذا امتل من‬ ‫ثُلُ ِ‬
‫الطعام ضاق عن الشراب‪ ،‬فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النَفَس‪ ،‬وعرض له الكربُ والتعب بحمله بمنزلة‬
‫ل الجوارح عن الطاعات‪ ،‬وتحركها فى الشهوات‬ ‫حامل الحمل الثقيل‪ ،‬هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب‪ ،‬وكس ِ‬
‫شبَعُ‪ ،‬فامتلءُ البطن من الطعام مضرٌ للقلب والبدن‪ .‬هذا إذا كان دائماً أو أكثرياً‪ .‬وأما إذا كان‬ ‫التى يستلزمها ال ّ‬
‫فى الحيان‪ ،‬فل بأس به‪ ،‬فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبى صلى ال عليه وسلم من اللّبن‪ ،‬حتى قال‪ :‬واّلذِى‬
‫شبِعوا‬
‫ق ل أجدُ له مَسْلَكاً‪ ،‬وأكل الصحابةُ بحضرته مراراً حتى َ‬ ‫بعثكَ بالح ّ‬

‫ن أخصبَه‪ ،‬وإنما يَقوَى ال َبدَنُ بحسب ما َي ْقبَلُ من الغذاء‪ ،‬ل‬


‫شبَعُ المفرط يُضعف ال ُقوَى والبدن‪ ،‬وإ ْ‬
‫وال ّ‬
‫سبِ كثرته‪.‬‬
‫بِحَ َ‬

‫ولما كان فى النسان جز ٌء أرضىّ‪ ،‬وجزءٌ هوائىّ‪ ،‬وجزءٌ مائىّ‪ ،‬قسم النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬طعامَه‬
‫وشرابَه ونَ َفسَه على الجزاء الثلثة فإن قيل‪ :‬فأين حظ الجزء النارى ؟‬

‫سطُ ْقسَاته‪.‬‬
‫قيل‪ :‬هذه مسأل ٌة تكلّم فيها الطباء‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنّ فى البدن جزءاً نارياً بالفعل‪ ،‬وهو أحد أركانه وأ ْ‬

‫ونازعهم فى ذلك آخرون من العقلء من الطباء وغيرهم وقالوا‪ :‬ليس فى البدن جزءٌ نارى بالفعل‪،‬‬
‫واستدلوا بوجوه‪:‬‬

‫أحدُها‪ :‬أنّ ذلك الجزء النارى إما أن يُدعى أنه نزل عن الثير‪ ،‬واختلط بهذه الجزاء المائية والرضية‪،‬‬
‫أو يقال‪ :‬إنه تولّد فيها وتكوّن‪ ،‬والول مستبعَد لوجهين‪ ،‬أحدهما‪ :‬أنّ النار بالطبع صاعدة‪ ،‬فلو نزلت‪ ،‬لكانت‬
‫بقاسِ ٍر من مركزها إلى هذا العالَم‪ .‬الثانى‪ :‬أن تلك الجزاء النارية ل ُبدّ فى نزولها أن تعبُرَ على كُرة الزّمهرير‬
‫التى هى فى غاية البرد‪ ،‬ونحن نشاهد فى هذا العالَم أنّ النار العظيمة تنطفئ بالماء القليل‪ ،‬فتلك الجزاء‬
‫الصغيرة عند مرورها بكُرة الزّمهرير التى هى فى غاية البرد ونهاية العِظَم‪ ،‬أولى بالنطفاء‪.‬‬

‫وأما الثانى‪ :‬وهو أن يقال‪ :‬إنها تكوّنت ههنا فهو أبعد وأبعد‪ ،‬لن الجسم الذى صار نارًا بعد أن لم يكن‬
‫كذلك‪ ،‬قد كان قبلَ صيرورته إما أرضاً‪ ،‬وإما ماءً‪ ،‬وإما هواء لنحصار الركان فى هذه الربعة‪ ،‬وهذا الذى قد‬
‫صار نارًا أولً‪ ،‬كان مختلطاً بأحد هذه الجسام‪ ،‬ومتصلً بها‪ ،‬والجسم الذى ل يكون نارًا إذا اختلط بأجسام‬
‫عظيمة ليست بنار ول واح ٍد منها‪ ،‬ل يكونُ مستعداً لن ينقلب نارًا لنه فى نفسه ليس بنار‪ ،‬والجسام المختلطة‬
‫باردة‪ ،‬فكيف يكون مستعدًا لنقلبه نارًا ؟‬

‫فإن قلتم‪ِ :‬لمَ ل تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الجسام‪ ،‬وتجعلها ناراً بسبب مخالطتها إياها ؟‬

‫قلنا‪ :‬الكلم فى حصول تلك الجزاء النارية كالكلم فىالول‬

‫فإن قلتم‪ :‬إنّا نرى مِن رش الماء على النّوَرَة المطفأة تنفصل منها نار‪ ،‬وإذا وقع شعاعُ الشمس على‬
‫البِلّورة ظهرت النار منها‪ ،‬وإذا ضربنا الحجر على الحديد‪ ،‬ظهرت النار‪ ،‬وكل هذه النارية حدثت عند الختلط‪،‬‬
‫وذلك يُبطل ما قررتموه فى القسم‬

‫الول أيضاً‪.‬‬

‫قال المنكرون‪ :‬نحن ل ُن ْنكِرُ أن تكونَ المُصاكّة الشديدة محدثةً للنار‪ ،‬كما فى ضرب الحجارة على‬
‫س محدثةً للنار‪ ،‬كما فى البِلّورة‪ ،‬لكنّا نستبعد ذلك جداً فى أجرام النبات‬
‫الحديد‪ ،‬أو تكونَ قوةُ تسخين الشم ِ‬
‫والحيوان‪ ،‬إذ ليس فى أجرامها من الصطكاك ما يُوجب حدوثَ النار‪ ،‬ول فيها مِن الصفاء والصّقال ما يبلغ إلى‬
‫حدّ البِلّورة‪ ،‬كيف وشعاعُ الشمس يقع على ظاهرها‪ ،‬فل تتولّد النار ألبتة‪ ،‬فالشّعاع الذى يصل إلى باطنها كيف‬
‫يولد النار ؟‬

‫ب العتيقَ فى غاية السخونة بالطبع‪،‬‬ ‫جمِعون على أن الشرا َ‬ ‫ن الطباء ُم ْ‬


‫الوجه الثانى‪ :‬فى أصل المسألة‪ :‬أ ّ‬
‫فلو كانت تلك السخونة بسبب الجزاء النارية‪ ،‬لكانت محالً إذ تلك الجزاءُ النارية مع حقارتها كيف ُيعْقَل بقاؤها‬
‫فى الجزاء المائية الغالبة دهرًا طويلً‪ ،‬بحيث ل تنطفئ مع أنّا نرى النار العظيمة تُطفأ بالماء القليل‪.‬‬

‫الوجه الثالث‪ :‬أنه لو كان فى الحيوان والنبات جزءٌ نارىٌ بالفعل‪ ،‬لكان مغلوباً بالجزء المائى الذى فيه‪،‬‬
‫وكان الجز ُء النارى مقهوراً به‪ ،‬وغلبةُ بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضى انقلبَ طبيعة المغلوب إلى‬
‫ب تلك الجزاء النارية القليلة جدًا إلى طبيعة الماء الذى هو ضد النار‪.‬‬
‫طبيعة الغالب‪ ،‬فكان يلزمُ بالضرورة انقل ُ‬

‫ن ال سبحانه وتعالى ذكر خَلْق النسان فى كتابه فى مواضع متعددة‪ ،‬يُخبِرُ فى بعضها‬‫الوجه الرابع‪ :‬أ ّ‬
‫أنه خلقه من ماء‪ ،‬وفى بعضها أنه خََلقَ ُه من تراب‪ ،‬وفى بعضها أنه خلقه من المركّب منهما وهو الطين‪ ،‬وفى‬
‫س والرّيح حتى صار صَلصالً كالفَخّار‪،‬‬
‫خلَقَ ُه من صَلصال كال َفخّار‪ ،‬وهو الطينُ الذى ضربته الشم ُ‬
‫بعضها أنه َ‬
‫خبِر فى موضع واحد أنه خلقه من نار‪ ،‬بل جعل ذلك خاصي َة إبليس‪.‬‬ ‫ولم يُ ْ‬

‫ت الملئك ُة من نُورٍ‪ ،‬وخُِلقَ الجانّ‬


‫وثبت فى ((صحيح مسلم))‪ :‬عن النبى صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬خُلِ َق ْ‬
‫ج من نارٍ‪ ،‬وخُلِقَ آدمُ مما ُوصِفَ لكم))‪.‬‬
‫من مَار ٍ‬

‫صفْ لنا سبحانه أنه خلقه من نار‪ ،‬ول أن‬


‫وهذا صريح فى أنه خُِلقَ مما وصفه ال فى كتابه فقط‪ ،‬ولم يَ ِ‬
‫فى مادته شيئًا من النار‬

‫الوجه الخامس‪ :‬أنّ غاية ما يستدلون به ما يُشاهدون مِن الحرارة فى أبدان الحيوان‪ ،‬وهى دليل على‬
‫الجزاء النارية‪ ،‬وهذا ل يدل‪ ،‬فإن أسباب الحرارة أع ّم من النار‪ ،‬فإنها تكون عن النار تارة‪ ،‬وعن الحركة‬
‫أُخرى‪ ،‬وعن انعكاس الشعة‪ ،‬وعن سخونة الهواء‪ ،‬وعن مجاورة النار‪ ،‬وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضاً‪،‬‬
‫وتكون عن أسباب ُأخَر‪ ،‬فل يلزم من الحرارة النار‪.‬‬

‫ن التراب والماء إذا اختلطا فل بد لهما من حرارة تقتضى طبخَهما‬ ‫قال أصحاب النار‪ :‬من المعلوم أ ّ‬
‫وامتزاجَهما‪ ،‬وإل كان كُ ٌل منهما غير ممازج للخر‪ ،‬ول متحداً به‪ ،‬وكذلك إذا أَلقينا البذرَ فى الطين بحيث ل‬
‫س فسد‪ ،‬فل يخلو‪ ،‬إما أن يحصل فى المركّب جسم ُمنْضِج طابخ بالطبع أو ل‪ ،‬فإن‬ ‫يصل إليه الهواءُ ول الشم ُ‬
‫حصل‪ ،‬فهو الجزء النارى‪ ،‬وإن لم يحصل‪ ،‬لم يكن المركّبُ مسخنًا بطبعه‪ ،‬بل إن سخن كان التسخين عرضياً‪،‬‬
‫فإذا زال التسخينُ العَرَضى‪ ،‬لم يكن الشىء حارًا فى طبعه‪ ،‬ول فى كيفيته‪ ،‬وكان بارداً مطلقاً‪ ،‬لكن من الغذية‬
‫والدوية ما يكون حاراً بالطبع‪ ،‬فعلمنا أن حرارتها إنما كانت‪ ،‬لن فيها جوهراً نارياً‪.‬‬

‫وأيضاً‪ ..‬فلو لم يكن فى البدن جزءٌ مسخن لوجب أن يكون فى نهاية البرد‪ ،‬لن الطبيعة إذا كانت‬
‫مقتضية للبرد‪ ،‬وكانت خالية عن المعاون والمعارض‪ ،‬وجب انتها ُء البرد إلى أقصى الغاية‪ ،‬ولو كان كذلك لما‬
‫ل عن مثله‪ ،‬وإذا‬‫حصل لها الحساس بالبرد‪ ،‬لن البرد الواصل إليه إذا كان فى الغاية كان مثلَه‪ ،‬والشى ُء ل ينفعِ ُ‬
‫س به‪ ،‬وإذا لم يحس به لم يتألم عنه‪ ،‬وإن كان دونه فعد ُم النفعال يكون أولى‪ ،‬فلو لم يكن فى‬ ‫لم ينفعِلْ عنه لم يُحِ ّ‬
‫ل مَن يقول‪ :‬الجزاء‬ ‫البدن جزءٌ مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد‪ ،‬ول تألّم به‪ .‬قالوا‪ :‬وأدلتكم إنما ُتبْطِلُ قو َ‬
‫النارية باقية فى هذه المركبات على حالها‪ ،‬وطبيعتها النارية‪ ،‬ونحن ل نقول بذلك‪ ،‬بل نقول‪ :‬إنّ صورتها‬
‫النوعية تفسد عند المتزاج‪.‬‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫قال الخرون‪ِ :‬ل َم ل يجوز أن يُقال‪ :‬إن الرض والماء والهواء إذا اختلطت‪ ،‬فالحرارةُ المنضجة‬ ‫@‬
‫الطابخة لها هى حرارةُ الشمس وسائرِ الكواكب‪ ،‬ثم ذلك المركّب عند كمال نضجه مستعد لقبول الهيئة التركيبية‬
‫بواسطة السخونة نباتاً كان أو حيواناً أو معدناً‪ ،‬وما المانع أن تلك السخونة والحرارة التى فى المركّبات هى‬
‫بسبب خواص وقُوَى يُحدِثها ال تعالى عند ذلك المتزاج ل من أجزاء نارية بالفعل ؟ ول سبيل لكم إلى إبطال‬
‫هذا المكان ألبتة‪ ،‬وقد اعترف جماعة من فضلء الطباء بذلك‬
‫ن فى البدن حرارةً وتسخيناً‪ ،‬ومَن يُنكر ذلك ؟‬
‫وأما حديث إحساس البدن بالبرد‪ ،‬فنقول‪ :‬هذا يدل على أ ّ‬
‫لكن ما الدليلُ على انحصار المسخن فى النار ؟ فإنه وإن كان كل نار مسخناً‪ ،‬فإن هذه القضيةَ ل تنعكس كليةً‬
‫ض المسخن نار‪.‬‬‫بل عكسُها الصادقُ‪ :‬بع ُ‬

‫وأما قولكم بفساد صورة النّار النوعية‪ ،‬فأكثر الطباء على بقاء صورتها النوعية‪ ،‬والقولُ بفسادها قو ٌ‬
‫ل‬
‫ن على بقاء الركان أجمع على‬ ‫ل متأخّرِيكم‪ ،‬فى كتابه المسمى بـ ((الشفاء))‪ ،‬وبرهَ َ‬
‫فاسد قد اعترف بفساده أفض ُ‬
‫طبائعها فى المركّبات‪ ..‬وبال التوفيق‪.‬‬

‫فصول‬

‫[فى علج النبى صلى ال عليه وسلم للمرضى بالدوية الطبيعية وكان علجه صلى ال عليه وسلم للمرض‬
‫ثلثة أنواع]‬

‫أحدها‪ :‬بالدوية الطبيعية‪.‬‬

‫والثانى‪ :‬بالدوية اللهية‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬بالمركّب من المرين‪.‬‬

‫ونحن نذكر النواع الثلثةَ من َهدْيه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فنبدأ بذكر الدوية الطبيعية التى وصفها‬
‫واستعملها‪ ،‬ثم نذكر الدوية اللهية‪ ،‬ثم المركّبة‪.‬‬

‫وهذا إنما نُشير إليه إشارة‪ ،‬فإنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم إنما ُبعِثَ هادياً‪ ،‬وداعيًا إلى ال‪ ،‬وإلى‬
‫خبِرَهم أخبا َر‬
‫جنّته‪ ،‬ومعرّفًا بال‪ ،‬ومبيّنًا للُمة مواقع رضاه وآمراً لهم بها‪ ،‬ومواقِعَ سَخَطِه وناهياً لهم عنها‪ ،‬و ُم ْ‬
‫النبياء والرّسُل وأحوالهم مع أُممهم‪ ،‬وأخبار تخليق العالَم‪ ،‬وأمر المبدأ والمعاد‪ ،‬وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها‪،‬‬
‫وأسباب ذلك‪.‬‬

‫وأما طبّ البدان‪ ..‬فجاء من تكميل شريعته‪ ،‬ومقصوداً لغيره‪ ،‬بحيث إنما يُستعمل عند الحاجة إليه‪ ،‬فإذا‬
‫قدر على الستغناء عنه‪ ،‬كان صرْفُ الهممِ والقُوَى إلى علج القلوب والرواح‪ ،‬وحفظِ صحتها‪ ،‬و َدفْ ِع أسقامِها‪،‬‬
‫ح البدن بدون إصلح القلب ل ينفع‪ ،‬وفسادُ البدن مع‬ ‫سدُها هو المقصودُ بالقصد الول‪ ،‬وإصل ُ‬ ‫وحِمايتها مما يُف ِ‬
‫إصلح القلب َمضَ ّرتُه يسيرة جداً‪ ،‬وهى مَضَرّ ٌة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة‪ ..‬وبال التوفيق‪.‬‬

‫ذكر القسم الول وهو العلج بالدوية الطبيعية‬

‫فصول‬

‫فى علج النبى صلى ال عليه وسلم للمرضى بالدوية الطبيعية‬

‫وكان علجه صلى ال عليه وسلم للمرض ثلثة أنواع‬

‫أحدها‪ :‬بالدوية الطبيعية‪.‬‬

‫والثانى‪ :‬بالدوية اللهية‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬بالمركّب من المرين‪.‬‬

‫ونحن نذكر النواع الثلثةَ من َهدْيه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فنبدأ بذكر الدوية الطبيعية التى وصفها‬
‫واستعملها‪ ،‬ثم نذكر الدوية اللهية‪ ،‬ثم المركّبة‪.‬‬
‫وهذا إنما نُشير إليه إشارة‪ ،‬فإنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم إنما ُبعِثَ هادياً‪ ،‬وداعيًا إلى ال‪ ،‬وإلى‬
‫خبِرَهم أخبارَ‬
‫جنّته‪ ،‬ومعرّفًا بال‪ ،‬ومبيّنًا للُمة مواقع رضاه وآمراً لهم بها‪ ،‬ومواقِعَ سَخَطِه وناهياً لهم عنها‪ ،‬و ُم ْ‬
‫النبياء والرّسُل وأحوالهم مع أُممهم‪ ،‬وأخبار تخليق العالَم‪ ،‬وأمر المبدأ والمعاد‪ ،‬وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها‪،‬‬
‫وأسباب ذلك‪.‬‬

‫وأما طبّ البدان‪ ..‬فجاء من تكميل شريعته‪ ،‬ومقصوداً لغيره‪ ،‬بحيث إنما يُستعمل عند الحاجة إليه‪ ،‬فإذا‬
‫قدر على الستغناء عنه‪ ،‬كان صرْفُ الهممِ والقُوَى إلى علج القلوب والرواح‪ ،‬وحفظِ صحتها‪ ،‬و َدفْ ِع أسقامِها‪،‬‬
‫ح البدن بدون إصلح القلب ل ينفع‪ ،‬وفسادُ البدن مع‬ ‫سدُها هو المقصودُ بالقصد الول‪ ،‬وإصل ُ‬ ‫وحِمايتها مما يُف ِ‬
‫إصلح القلب َمضَ ّرتُه يسيرة جداً‪ ،‬وهى مَضَرّ ٌة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة‪ ..‬وبال التوفيق‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه فى علج الحُمّى‬

‫حمّى أو‬
‫ثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬عن نافع‪ ،‬عن ابن عمرَ‪ ،‬أن النبى صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬إ ّنمَا ال ُ‬
‫حمّى مِنْ فَيحِ جَهنمَ‪ ،‬فَأبْ ِردُوُهَا بِا ْلمَاءِ))‪.‬‬
‫شدّةُ ال ُ‬
‫ِ‬

‫حمّى وعلجِها‪ ،‬ونحن نُبيّنُ‬


‫وقد أشكل هذا الحديثُ على كثير من جهلة الطباء‪ ،‬ورأوه منافياً لدواء ال ُ‬
‫بحَوْل ال وقوته وجهَه وفقهه فنقول‪:‬‬

‫ص ببعضهم‪ ،‬فالول‪ :‬كعامة خطابه‪،‬‬ ‫خطابُ النبى صلى ال عليه وسلم نوعان‪ :‬عامٌ لهل الرض‪ ،‬وخا ٌ‬
‫ستَ ْدبِروهَا‪ ،‬ولكنْ شرّقوا‪ ،‬أ ْو غَ ّربُوا))‪ .‬فهذا ليس‬
‫ل تَ ْ‬
‫ل بَولٍ‪ ،‬و َ‬
‫طوَ‬
‫ستَقْبلُوا القِبلَةَ بغائ ٍ‬
‫والثانى‪ :‬كقوله‪(( :‬لَ تَ ْ‬
‫س ْمتِها‪ ،‬كالشام وغيرها‪ .‬وكذلك قوله‪:‬‬ ‫بخطاب لهل المشرق والمغرب ول العراق‪ ،‬ولكن لهل المدينة وما على َ‬
‫ب قبلَةٌ))‪.‬‬‫ن المَشْ ِرقِ وال َمغْرِ ِ‬
‫((مَا بي َ‬

‫حمّياتِ التى‬
‫وإذا عُرف هذا‪ ،‬فخطابُه فى هذا الحديث خاصٌ بأهل الحجاز‪ ،‬وما والهم‪ ،‬إذ كان أكثرُ ال ُ‬
‫حمّى اليومية العَرَضية الحادثةِ عن شدة حرارة الشمس‪ ،‬وهذه ينفعُها الماء البارد شُرباً‬
‫تَعرض لهم من نوع ال ُ‬
‫ث منه بتوسط الروح والدم فى الشرايين والعروق إلى‬ ‫حمّى حرارةٌ غريبة تشتعل فى القلب‪ ،‬وتنب ّ‬ ‫واغتسالً‪ ،‬فإن ال ُ‬
‫جميع البدن‪ ،‬فتشتعل فيه اشتعالً يضر بالفعال الطبيعية‪.‬‬

‫وهى تنقسم إلى قسمين‪:‬‬

‫عَرَضية‪ :‬وهى الحادثةُ إما عن الورم‪ ،‬أو الحركة‪ ،‬أو إصابةِ حرارة الشمس‪ ،‬أو ال َقيْظ الشديد‪ ...‬ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬

‫ومرضية‪ :‬وهى ثلث ُة أنواع‪ ،‬وهى ل تكون إل فى مادة أُولى‪ ،‬ثم منها يسخن جميع البدن‪ .‬فإن كان مبدأ‬
‫حمّى يوم‪ ،‬لنها فى الغالب تزول فى يوم‪ ،‬ونهايتُها ثلثة أيام‪ ،‬وإن كان مبدأُ تعلقها‬
‫تعلقها بالروح سميت ُ‬
‫بالخلط سميت عفنية‪ ،‬وهى أربعة أصناف‪ :‬صفراوية‪ ،‬وسوداوية‪ ،‬وبلغمية‪ ،‬ودموية‪ .‬وإن كان مبدأ تعلقها‬
‫حمّى دِق‪ ،‬وتحت هذه النواع أصنافٌ كثيرة‪.‬‬ ‫بالعضاء الصلبة الصلية‪ ،‬سميت ُ‬

‫حمّى العفن سبباً‬


‫حمّى يوم و ُ‬
‫حمّى انتفاعاً عظيمًا ل يبلغه الدواء‪ ،‬وكثيرًا ما يكون ُ‬‫وقد ينتفع البدن بال ُ‬
‫س َددٍ لم يكن تصل إليها الدوية المفتحة‪.‬‬
‫ج بدونها‪ ،‬وسبباً لتفتح ُ‬
‫لنضاج موادّ غليظة لم تكن تنضِ ُ‬

‫وأما الرّمدُ الحديثُ والمتقادمُ‪ ،‬فإنها تُبرئ أكثَر أنواعه بُرءًا عجيبًا سريعاً‪ ،‬وتنفع من الفالج‪ ،‬واللّقْوَة‪،‬‬
‫والتشنج المتلئى‪ ،‬وكثيرًا من المراض الحادثة عن الفضول الغليظة‪.‬‬

‫حمّى‪ ،‬كما يستبشر المريض‬ ‫ن كثيراً من المراض نستبشر فيها بال ُ‬


‫وقال لى بعض فضلء الطباء‪ :‬إ ّ‬
‫حمّى فيه أنفَع من شرب الدواء بكثير‪ ،‬فإنها تُنضج من الخلط والمواد الفاسدة ما يضُرّ‬‫بالعافية‪ ،‬فتكون ال ُ‬
‫بالبدن‪ ،‬فإذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئةً للخروج بنضاجها‪ ،‬فأخرجها‪ ،‬فكانت سببًا للشفاء‪.‬‬
‫حمّيات العرضية‪ ،‬فإنها تسكن على المكان‬‫ف هذا‪ ،‬فيجوز أن يكون مرادُ الحديثِ من أقسام ال ُ‬
‫عرِ َ‬
‫وإذا ُ‬
‫بالنغماس فى الماء البارد‪ ،‬وسقى الماء البارد المثلوج‪ ،‬ول يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علج آخر‪ ،‬فإنها مجردُ‬
‫كيفية حارة متعلقة بالرّوح‪ ،‬فيكفى فى زوالها مجردُ وصول كيفية باردة تُسكنها‪ ،‬وتُخمد لهبها من غير حاجة إلى‬
‫استفراغ مادة‪ ،‬أو انتظار نضج‪.‬‬

‫ن الماء البارد ينفع‬


‫حمّيات‪ ،‬وقد اعترف فاضل الطباء ((جالينوس))‪ :‬بأ ّ‬ ‫ويجوز أن يُراد به جميعُ أنواع ال ُ‬
‫خصَب البدن فى وقت‬ ‫فيها‪ ،‬قال فى المقالة العاشرة من كتاب ((حيلة البرء))‪(( :‬ولو أنّ رجلً شاباً حسنَ اللّحم‪ِ ،‬‬
‫حمّى‪ ،‬وليس فى أحشائه ورم‪ ،‬استحمّ بماءٍ بارد‪ ،‬أو سبح فيه‪ ،‬لنتفع بذلك))‪ .‬وقال‪:‬‬ ‫ال َقيْظ‪ ،‬وفى وقت منتهى ال ُ‬
‫((ونحن نأمر بذلك بل توقف))‪.‬‬

‫حمّى حادة جداً‪ ،‬والنضجُ َبيّنٌ ول وَ َرمَ فى‬


‫وقال الرازىّ فى كتابه الكبير‪ (( :‬إذا كانت القوة قوية‪ ،‬وال ُ‬
‫الجوف‪ ،‬ول َفتْقَ‪ ،‬ينفع الماء البارد شرباً‪ ،‬وإن كان العليل خِصَب البدن والزمان حارٌ‪ ،‬وكان معتادًا لستعمال‬
‫الماء البارد من خارج‪ ،‬فليؤذَنْ فيه))‪.‬‬

‫شدّةُ الح ّر مِن َفيْحِ جَهنمَ))‪،‬‬


‫ح جهنَم))‪ ،‬هو شدة لهبها‪ ،‬وانتشارُها‪ ،‬ونظيرُه قوله‪ِ (( :‬‬
‫حمّى مِن َفيْ ِ‬
‫وقوله‪(( :‬ال ُ‬
‫وفيه وجهان‪.‬‬

‫ت من جهنم ليستدلّ بها العبادُ عليها‪ ،‬ويعتبروا بها‪ ،‬ثم إنّ ال‬‫ن ذلك أَنموذَجٌ ورقيقةٌ اش ُتقَ ْ‬
‫أحدهما‪ :‬أ ّ‬
‫سبحانه قدّر ظهورها بأسبابٍ تقتضيها‪ ،‬كما أنّ الروحَ والفرح والسرور واللّذة من نعيم الجنّة أظهرها ال فى هذه‬
‫الدار عِبرةً ودللةً‪ ،‬وقدّر ظهورَها بأسباب توجبها‪.‬‬

‫حمّى ولهبها ب َفيْح جهنم وشبّه شدة الحر به أيضًا تنبيهاً‬


‫شبّه شدة ال ُ‬
‫والثانى‪ :‬أن يكون المراد التشبيه‪ ،‬ف َ‬
‫للنفوس على شدة عذاب النار‪ ،‬وأنّ هذه الحرارة العظيمة مشبهةٌ ب َفيْحها‪ ،‬وهو ما يصيب مَن َقرُب منها من‬
‫حَرّها‪.‬‬

‫صيّرَه‬
‫وقوله‪(( :‬فَابْ ِردُوُها))‪ ،‬رُوى بوجهين‪ :‬بقطع الهمزة وفتحها‪ ،‬رُباعىّ‪ :‬من ((أبْ َردَ الشىءَ))‪ :‬إذا َ‬
‫خنَه))‪ :‬إذا صيّره سخناً‪.‬‬ ‫سَ‬‫بارداً‪ ،‬مثل ((أَ ْ‬

‫ح لغ ًة واستعمالً‪ ،‬والرباعى لغةٌ‬


‫والثانى‪ :‬بهمزة الوصل مضمومةً من ((بَ َردَ الشىءَ َيبْ ُردُه))‪ ،‬وهو أفص ُ‬
‫رديئة عندهم‪ ،‬قال‪:‬‬

‫سقَاءِ القَــــوْ ِم َأ ْبتَ ِردُ‬


‫ت نَحْوَ ِ‬
‫أ ْقبَلْ ُ‬ ‫ب فى كَ ِبدِى‬
‫إذا وَجدْتُ َلهِيبَ ا ْلحُ ّ‬

‫َفمَنْ ِلنَارٍ عَلَى الحْشَــــاءِ َتتّ ِقدُ ؟‬ ‫َه ْبنِى بَ َردْتُ ِببَ ْردِ ا ْلمَـاءِ ظَا ِهرَهُ‬

‫وقوله‪(( :‬بالماء)) فيه قولن‪ ،‬أحدهما‪ :‬أنه كل ماء‪ ،‬وهو الصحيح‪.‬‬

‫جمْ َرةَ‬
‫ب هذا القول بما رواه البخارىّ فى ((صحيحه))‪ ،‬عن أبى َ‬ ‫والثانى‪ :‬أنه ماء زمزمَ‪ ،‬واحتج أصحا ُ‬
‫حمّى فقال‪ :‬أبردها عنك بماءِ زمزمَ‪،‬‬ ‫خذَتْنى الْ ُ‬
‫س بمكةَ‪ ،‬فأ َ‬‫س ابن عبا ٍ‬‫ى قال‪ُ :‬كنْتُ ُأجَاِل ُ‬
‫ضبَع ّ‬
‫ن ال ّ‬
‫نَصْ ِر بن عمرا َ‬
‫ج َهنّم‪ ،‬فأبْردوها بالماء)) أو قال‪(( :‬بماءِ َزمْ َزمَ))‪.‬‬‫حمّى من َفيْحِ َ‬
‫فإنّ رَسولَ ال صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬إن ال ُ‬
‫جزَم به لكان أمراً لهل مكةَ بماء زمزمَ‪ ،‬إذ هو متيسر عندهم‪ ،‬ولغيرهم بما عندهم‬ ‫وراوى هذا قد شك فيه‪ ،‬ولو َ‬
‫من الماء‪.‬‬

‫ف مَن قال‪ :‬إنه على عمومه‪ ،‬هل المراد به الصدقة بالماء‪ ،‬أو استعماله ؟ على قولين‪ .‬والصحيح‬ ‫ثم اختل َ‬
‫حمّى‬
‫ل عليه استعمالُ الماء البارد فى ال ُ‬ ‫ن الذى حمل مَن قال‪ :‬المرادُ الصدقةُ به أنه أشك َ‬ ‫أنه استعمال‪ ،‬وأظن أ ّ‬
‫خمِد لهيب العطش عن الظمآن‬ ‫ولم يَفه ْم وجهه مع أنّ لقوله وجهاً حسناً‪ ،‬وهو أنّ الجزا َء مِن جنس العمل‪ ،‬فكما أُ ْ‬
‫حمّى عنه جزاءً وِفاقاً‪ ،‬ولكن هذا يُؤخد مِن ِفقْه الحديث وإشارته‪ ،‬وأما المراد به‬ ‫ل لهيبَ ال ُ‬
‫بالماء البارد‪ ،‬أخ َمدَ ا ُ‬
‫فاستعماله‪.‬‬
‫ل مِنَ‬
‫ش عليهِ الما َء البا ِردَ ثلثَ ليا ٍ‬
‫ح ُدكُم‪ ،‬فَ ْليُرَ ّ‬
‫س يَرفعه‪(( :‬إذَا حُ ّم أَ َ‬
‫وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنَ ٍ‬
‫السّحَرِ))‪.‬‬

‫عنْكُمْ بالماءِ‬
‫ج َهنّمَ‪َ ،‬فنَحّوهَا َ‬
‫حمّى كِي ٌر مِن كِيرِ َ‬
‫وفى ((سنن ابن ماجَه)) عن أبى هُرير َة يرفعه‪(( :‬ا ْل ُ‬
‫البَاردِ))‪.‬‬

‫ع ْنكُم‬
‫حمّى قطعةٌ من النّارِ‪ ،‬فَأبْ ِردُوهَا َ‬ ‫سمُرَ َة يرفعُه‪(( :‬ا ْل ُ‬ ‫وفى ((المسند)) وغيره‪ ،‬من حديث الحسن‪ ،‬عن َ‬
‫غتَسَلَ‪.‬‬‫غهَا عَلَى رَأْسِه فَا ْ‬‫بالماءِ البارِد))‪ ،‬وكان رسولُ ال صلى ال عليه وسلم إذا حُ ّم دَعَا بِ ِق ْربَة من ماءٍ‪ ،‬فََأفْرَ َ‬

‫سّبهَا‬
‫عنْدَ رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فَ َ‬ ‫حمّى ِ‬ ‫وفى ((السنن))‪ :‬من حديث أبى هرير َة قال‪ :‬ذُكِرَت الْ ُ‬
‫حدِيدِ))‪.‬‬
‫خبَثَ الْ َ‬
‫سّبهَا فإنها َتنْفِى ال ّذنُوبَ‪ ،‬كما َتنْفِى النّارُ َ‬
‫رجلٌ‪ ،‬فقال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬لَ تَ ُ‬

‫حمّى يتبعها حِمية عن الغذية الرديئة‪ ،‬وتناول الغذيةِ والدويةِ النافعة‪ ،‬وفى ذلك إعانةٌ على‬ ‫لما كانت ال ُ‬
‫تنقية البدن‪ ،‬ونَفْى أخباثِه وفضوله‪ ،‬وتصفيته من مواده الردية‪ ،‬وتفعل فيه كما تفعل النارُ فى الحديد فى نَفْىِ‬
‫خَبثه‪ ،‬وتصفيةِ جوهره‪ ،‬كانت أشبهَ الشياء بنار الكير التى تُصَفّى جوهر الحديد‪ ،‬وهذا القدرُ هو المعلوم عند‬
‫أطباء البدان‪.‬‬

‫ب من وسخه ودَرَنه‪ ،‬وإخراجها خبائثَه‪ ،‬فأم ٌر يعلمه أطبا ُء القلوب‪ ،‬ويجدونه كما‬
‫وأما تصفيتها القل َ‬
‫أخبرهم به نبيّهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولكن مرض القلب إذا صار مأيُوساً من برئه‪ ،‬لم ينفع فيه هذا‬
‫العلج‪.‬‬

‫سبّه ظلم وعدوان‪.‬‬


‫حمّى تنفع البدنَ والقلبَ‪ ،‬وما كان بهذه المَثابة ف َ‬
‫فال ُ‬

‫وذكرتُ مرة وأنا محمومٌ قو َل بعض الشعراء يسبّها‪:‬‬

‫تبّا لها مِنْ زَائِــــ ٍر َومُــ َودّعِ‬ ‫ت‬


‫ب َو َودّعَ ْ‬
‫ت ُمكَفّرَ ُة ال ّذنُو ِ‬
‫زَارَ ْ‬

‫جعِى‬
‫مَـاذَا تريدُ ؟ فقُلتُ‪ :‬أن ل تَرْ ِ‬ ‫ت عَلَى تَرْحَالِها‬
‫قَاَلتْ و َق ْد عَ َزمَ ْ‬

‫فقلتُ‪ :‬تبّا له إذ سَبّ ما نهى رسولُ ال صلى ال عليه وسلم عن سَـبّه‪ .‬ولو قال‪:‬‬

‫ع‬
‫‪ :‬أَهْلً بها مِنْ زَائِرٍ َومُـــ َودّ ِ‬ ‫صبّها‬
‫ب لِ َ‬
‫ت ُمكَفّرَ ُة ال ّذنُـو ِ‬
‫زَارَ ْ‬

‫أن ل تُقْلِعى‬ ‫ماذا تري ُد ؟ فقلتُ‪:‬‬ ‫ت عَلَى تَرْحَالِها‬


‫قَاَلتْ و َق ْد عَ َزمَ ْ‬

‫عنّى سريعاً‪.‬‬
‫لكان أولى به‪ ،‬ولقلعت عنه‪ .‬فأقلعت َ‬

‫حمّى تدخل فى‬


‫حمّى يَوْ ٍم كَفّارَةُ سَـنَةٍ ))‪ ،‬وفيه قولن؛ أحدهما‪ :‬أنّ ال ُ‬
‫وقد روى فى أثر ل أعرف حاله‪ُ ((:‬‬
‫كل العضاء والمفاصِل‪ ،‬وعدتُها ثلثمائة وستون مَفْصِلً‪ ،‬فتكفّرُ عنه بعدد كل مفصل ذنوبَ يوم‪.‬‬

‫والثانى‪ :‬أنها تؤثر فى البدن تأثيرًا ل يزول بالكلية إلى سنة‪ ،‬كما قيل فى قوله صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫خمْرَ ل ْم تُ ْقبَلْ ل ُه صَلةٌ أَربعينَ يوْماً))‪ :‬إنّ أثر الخمر يَبقى فى جوف العبد‪ ،‬وعروقه‪ ،‬وأعضائه‬
‫ب ال َ‬
‫شرِ َ‬
‫((مَنْ َ‬
‫أربعين يوماً‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫حمّى‪ ،‬لنها تدخل فى كلّ عض ٍو منّى‪ ،‬وإنّ ال‬


‫ب إلىّ من ال ُ‬
‫ض يُصيبنى َأحَ ّ‬
‫قال أبو هرير َة مَا منْ مَرَ ٍ‬
‫سبحَانهُ ُيعْطى كلّ عضوٍ حظّه مِن الجرِ‪.‬‬

‫حمّى وَإ ّ‬
‫ن‬ ‫حدَكُ ْم ال ُ‬
‫ت َأ َ‬
‫خدِيجٍ يرفعُه‪(( :‬إذا َأصَابَ ْ‬ ‫وقد روى الترمذىّ فى ((جامعه)) من حديث رافِع بن َ‬
‫ل َنهْراً جارياً‪ ،‬فَلْيستقبلْ جَ ْريَةَ المَا ِء بعدَ ال َفجْ ِر و َقبْلَ طُلُوعِ‬
‫ستَقبِ ْ‬
‫حمّى قِطْع ٌة مِنَ النّا ِر فَ ْليُطفئهَا بالمَاءِ البَا ِردِ‪ ،‬ويَ ْ‬
‫ال ُ‬
‫ن بَرِىءَ‪،‬‬
‫ت ثلثةَ أيامٍ‪ ،‬فإ ْ‬
‫غمَسَا ٍ‬
‫ث َ‬
‫صدّقْ َرسُولَك‪ .‬وينغمِسُ فيهِ ثل َ‬
‫عبْ َدكَ‪ ،‬و َ‬
‫ف َ‬
‫ش ْمسِ‪ ،‬وليقلْ‪ :‬بِسْمِ الِ‪ ،‬الّلهُ ّم اشْ ِ‬
‫ال ّ‬
‫وإل ففِى خمسٍ‪ ،‬فإن لمْ يبرَأْ فى خمس‪ ،‬فسبع‪ ،‬فإن لم يبرأ فى سبع فتسع‪ ،‬فإنها ل تكادُ تُجاوز تسعًا بإذنِ الِ))‪.‬‬

‫قلت‪ :‬وهو ينفع فعله فى فصل الصيف فى البلد الحارة على الشرائط التى تقدّمت‪ ،‬فإنّ الماء فى ذلك‬
‫الوقت أبردُ ما يكون ل ُبعْدِه عن ملقاة الشمس‪ ،‬ووفور ال ُقوَى فى ذلك الوقت لما أفادها النوم‪ ،‬والسكون‪ ،‬وبرد‬
‫ب الخالصة‪،‬‬
‫حمّى العَرَضية‪ ،‬أو الغِ ّ‬
‫الهواء‪ ،‬فتجتمع فيه قوةُ القُوَى‪ ،‬وقوةُ الدواء‪ ،‬وهو الماء البارد على حرارة ال ُ‬
‫أعنى التى ل ورم معها‪ ،‬ول شىء من العراض الرديئة والمواد الفاسدة‪ ،‬فيُطفئها بإذن ال‪ ،‬ل سيما فى أحد‬
‫اليام المذكورة فى الحديث‪ ،‬وهى اليام التى يقع فيها بُحرَان المراضُ الحادةُ كثيراً‪ ،‬سيما فى البلد المذكورة‪،‬‬
‫لرّقةِ أخلط سكانها‪ ،‬وسُرعة انفعالهم عن الدواء النافع‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه فى علج استطلق البطن‬

‫خدْرِىّ‪(( ،‬أنّ رجلً أتى النبىّ صلى ال‬ ‫فى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث أبى المتوكّل‪ ،‬عن أبى سعيد ال ُ‬
‫سقِهِ عسلً))‪ ،‬فذهب ثم رجع‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ق بطنُهُ فقال‪ (( :‬ا ْ‬
‫ن أخى يشتكى بطنَه وفى رواية‪ :‬استطل َ‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬إ ّ‬
‫سقِه عَسَلً))‪.‬‬
‫ستِطْلقاً‪ ،‬مرتين أو ثلثًا كل ذلك يقولُ له‪(( :‬ا ْ‬ ‫ن عنه شيئاً وفى لفْظ‪ :‬فلَم ي ِزدْه إل ا ْ‬ ‫قد سقيتُه‪ ،‬فلم يُغ ِ‬
‫ب بَطْنُ َأخِيكَ))‪.‬‬
‫ق الُ‪ ،‬و َكذَ َ‬ ‫صدَ َ‬
‫فقال لهُ فى الثالثةِ أو الرابعةِ‪َ (( :‬‬

‫ت َمعِ َدتُه‪ ،‬والسم‪:‬‬


‫ب بطنُه))‪ ،‬أى فسد هضمُه‪ ،‬واعتلّ ْ‬
‫وفى ((صحيح مسلم)) فى لفظ له‪(( :‬إنّ أخى عَرِ َ‬
‫((العَرَب)) بفتح الراء‪ ،‬و ((الذّرَب)) أيضاً‪.‬‬

‫والعسل فيه مناف ُع عظيمة‪ ،‬فإنه جلءٌ للوساخ التى فى العروق والمعاء وغيرها‪ ،‬محلّلٌ للرطوبات أكلً‬
‫وطِلءً‪ ،‬ناف ٌع للمشايخ وأصحابِ البلغم‪ ،‬ومَن كان مِزاجه بارداً رطباً‪ ،‬وهو م ّغذّ ملين للطبيعة‪ ،‬حافِظ لِ ُقوَى‬
‫ب لكيفيات الدوية الكريهة‪ ،‬منقّ للكبد والصدر‪ُ ،‬مدِرّ للبول‪ ،‬موافقٌ للسعال‬ ‫المعاجين ولما استُودِع فيه‪ُ ،‬مذْهِ ٌ‬
‫الكائن عن البلغم‪ ،‬وإذا شُ ِربَ حاراً بدُهن الورد‪ ،‬نفع من نهش الهوام‪ ،‬وشرب الفيون‪ ،‬وإن شُ ِربَ وحده ممزوجاً‬
‫حفِظَ طراوته ثلثَةَ أشهر‪،‬‬ ‫ل فيه اللّح ُم الطرىّ‪َ ،‬‬
‫جعِ َ‬
‫طرِ القتّال‪ ،‬وإذا ُ‬
‫بماء نفع من عضة الكَ ْلبِ الكَلِبِ‪ ،‬وأكلِ الفُ ُ‬
‫جعِل فيه ال ِقثّاء‪ ،‬والخيارُ‪ ،‬والقرعُ‪ ،‬والباذنجان‪ ،‬ويحفظ كثيرًا من الفاكهة ستة أشهر‪ ،‬ويحفظ جثة‬ ‫وكذلك إن ُ‬
‫صئْبانَه‪ ،‬وطوّل الشّعرَ‪ ،‬وحسّنه‪،‬‬ ‫ظ المين‪ .‬وإذ لطخ به البدن المقمل والشّعر‪ ،‬قتل قَملَه و ِ‬ ‫الموتى‪ ،‬ويُسمى الحاف َ‬
‫حفِظَ صحتَها‪ ،‬وصحة اللّثةِ‪،‬‬ ‫ونعّمه‪ ،‬وإن اكتُحل به‪ ،‬جل ظُلمة البصر‪ ،‬وإن استُنّ به بيّضَ السنان وصقَلها‪ ،‬و َ‬
‫خمْ َل المعدة‪ ،‬ويدفعُ الفضلت عنها‪،‬‬ ‫طمْثَ‪ ،‬ولعقُه على الريق يُذهب البلغم‪ ،‬ويَغسِلَ َ‬ ‫ويفتح أفوا َه العُروقِ‪ ،‬و ُيدِرّ ال ّ‬
‫سدَد الكبد والطحال‬ ‫سدَدَها‪ ،‬ويفعل ذلك بالكبد والكُلَى والمثانة‪ ،‬وهو أقلّ ضرراً ل ُ‬ ‫ويسخنها تسخينًا معتدلً‪ ،‬ويفتح ُ‬
‫من كل حلو‪.‬‬

‫ضرٌ بالعرض للصفراويين‪ ،‬ودفعها بالخلّ ونحوه‪،‬‬


‫ن الغائلة‪ ،‬قليلُ المضار‪ ،‬مُ ِ‬
‫وهو مع هذا كله مأمو ُ‬
‫فيعودُ حينئذ نافعًا له جداً‪.‬‬

‫وهو غِذاء مع الغذية‪ ،‬ودواء مع الدوية‪ ،‬وشراب مع الشربة‪ ،‬وحلو مع الحلوى‪ ،‬وطِلء مع الطلية‪،‬‬
‫ومُفرّح مع المفرّحات‪ ،‬فما خُلِقَ لنا شى ٌء فى معناه أفض َل منه‪ ،‬ول مثلَه‪ ،‬ول قريبًا منه‪ ،‬ولم يكن معوّل القدماء‬
‫ث العهد حدث قريباً‪ ،‬وكان النبى‬ ‫إل عليه‪ ،‬وأكثرُ كتب القدماء ل ذِكر فيها للسكر ألبتة‪ ،‬ول يعرفونه‪ ،‬فإنه حدي ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم يشربه بالماء على الرّيق‪ ،‬وفى ذلك سِ ٌر بديع فى حفظ الصحة ل يُدركه إل الفطن الفاضل‪،‬‬
‫وسنذكر ذلك إن شاء ال عِند ذكر َهدْيه فى حفظ الصحة‪.‬‬

‫شهْرٍ‪ ،‬لَمْ‬
‫ن َلعِقَ العَسَل ثَلثَ غدَوَاتٍ كُلّ َ‬
‫وفى ((سنن ابن ماجه)) مرفوعاً من حديث أبى هريرة‪(( :‬مَ ْ‬
‫صبْه عَظِي ٌم مِنَ البَلءِ))‪ ،‬وفى أثر آخر‪(( :‬عَليْكُم بالشّفَا َءيْنِ‪ :‬ال َعسَلِ والقُرآنِ))‪ ،‬فجمع بين الطب البَشَرى‬
‫يُ ِ‬
‫واللهى‪ ،‬وبين طب البدان‪ ،‬وطب الرواح‪ ،‬وبين الدواء الرضى والدواء السمائى‪.‬‬

‫خمَةٍ‬
‫ق بطنه عن تُ َ‬ ‫إذا عُ ِرفَ هذا‪ ،‬فهذا الذى وصف له النبىّ صلى ال عليه وسلم العَسَل‪ ،‬كان استطل ُ‬
‫ل فيه‬‫أصابته عن امتلء‪ ،‬فأمره بشُرب العسل لدفع الفُضول المجتمعة فى نواحى ال َمعِدَةَ والمعاء‪ ،‬فإن العس َ‬
‫جِلء‪ ،‬ودفع للفضول‪ ،‬وكان قد أصاب ال َمعِدَةَ أخلط َلزِجَةٌ‪ ،‬تمنع استقرارَ الغذاء فيها للزوجتها‪ ،‬فإن ال َمعِدَةَ لها‬
‫خمْلٌ كخمل القطيفة‪ ،‬فإذا علقت بها الخلطُ اللّزجة‪ ،‬أفسدتها وأفسدت الغِذاء‪ ،‬فدواؤها بما يجلُوها من تلك‬
‫َ‬
‫ل مِن أحسن ما عُولج به هذا الداءُ‪ ،‬ل سيما إن مُزج بالماء الحار‪.‬‬
‫ل جِلء‪ ،‬والعس ُ‬‫الخلط‪ ،‬والعس ُ‬

‫وفى تكرار سقيه العسلَ معنى طبى بديع‪ ،‬وهو أن الدوا َء يجب أن يكون له مقدار‪ ،‬وكمية بحسب حال‬
‫الداء‪ ،‬إن قصر عنه‪ ،‬لم يُزله بالكلية‪ ،‬وإن جاوزه‪ ،‬أوهى القُوى‪ ،‬فأحدث ضررًا آخر‪ ،‬فلما أمره أن يسقيَه العسل‪،‬‬
‫سقاه مقدارًا ل يفى بمقاومة الداءِ‪ ،‬ول يبلُغ الغرضَ‪ ،‬فلما أخبره‪ ،‬علم أنّ الذى سقاه ل يبلُغ مقدار الحاجة‪ ،‬فلما‬
‫تكرر تردادُه إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أكّد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء‪ ،‬فلما تكررت‬
‫الشرباتُ بحسب مادة الداء‪ ،‬بَرَأ‪ ،‬بإذن ال‪ ،‬واعتبار مقاديرِ الدوية‪ ،‬وكيفياتها‪ ،‬ومقدار قوة المرض والمريض‬
‫من أكبر قواعد الطب‪.‬‬

‫وفى قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬صدَقَ ال وكذَبَ بطنُ أخيكَ))‪ ،‬إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء‪ ،‬وأن‬
‫ن ل َكذِب البطن‪ ،‬وكثرة المادة الفاسدة فيه‪ ،‬فأمَره بتكرار الدواء لكثرة‬
‫بقاء الداء ليس لِقصور الدواء فى نفسه‪ ،‬ولك ْ‬
‫المادة‪.‬‬

‫ى صلى ال عليه وسلم متيقّنٌ قطع ٌ‬


‫ى‬ ‫ب الطباء‪ ،‬فإن طبّ النب ّ‬ ‫طبّه صلى ال عليه وسلم كطِ ّ‬ ‫وليس ِ‬ ‫@‬
‫حدْسٌ وظنون‪ ،‬وتجارِب‪ ،‬ول ُي ْنكَرُ‬ ‫ب غيرِه أكثرُه َ‬
‫إلهىٌ‪ ،‬صاد ٌر عن الوحى‪ ،‬و ِمشْكا ِة النبوة‪ ،‬وكمالِ العقل‪ .‬وط ّ‬
‫عدمُ انتفاع كثير من المرضى بطبّ النبوة‪ ،‬فإنه إنما ينتف ُع به مَن تلقّاه بالقبول‪ ،‬واعتقاد الشفاء به‪ ،‬وكمال التلقى‬
‫له باليمان والذعان‪ ،‬فهذا القرآنُ الذى هو شفاء لما فى الصدور إن لم يُتلقّ هذا التلقى لم يحصل به شفاءُ‬
‫ب البدان‬ ‫الصّدور مِن أدوائها‪ ،‬بل ل يزيدُ المنافقين إل رجساً إلى رجسهم‪ ،‬ومرضاً إلى مرضهم‪ ،‬وأين يقعُ ط ّ‬
‫ن الطيبة‪ ،‬كما أنّ شِفاء القرآن ل يُناسب إل الرواح الطيبة والقلوب الحية‪،‬‬ ‫منه‪ ،‬فطِب النبوةِ ل يُناسب إل البدا َ‬
‫فإعراضُ الناس عن طِبّ النبوة كإعراضهم عن الستشفاء بالقرآن الذى هو الشفاء النافع‪ ،‬وليس ذلك لقصور فى‬
‫ث الطبيعة‪ ،‬وفساد المحل‪ ،‬وعد ِم قبوله‪ ..‬وال الموفق‪.‬‬ ‫الدواء‪ ،‬ولكن لخُب ِ‬

‫فصل‬

‫ف أَ ْلوَانُهُ فِيهِ شِفَا ٌء لّلنّاسِ} [النحل ‪:‬‬


‫ختَلِ ٌ‬
‫ب مّ ْ‬
‫شرَا ٌ‬
‫ج مِن بُطُونِهَا َ‬
‫وقد اختلف الناس فى قوله تعالى‪{ :‬يَخْرُ ُ‬
‫‪ ،]69‬هل الضمير فى ((فيه)) راجعٌ إلى الشراب‪ ،‬أو راجعٌ إلى القرآن ؟ على قولين؛ الصحيح‪ :‬رجوعُه إلى‬
‫الشراب‪ ،‬وهو قول ابن مسعود‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬والحسن‪ ،‬وقتادة‪ ،‬والكثرين‪ ،‬فإنه هو المذكور‪ ،‬والكلمُ سيق‬
‫ق الُ)) كالصريح فيه‪ ..‬وال تعالى‬ ‫صدَ َ‬
‫لجله‪ ،‬ول ذكرَ للقرآن فى الية‪ ،‬وهذا الحديث الصحيحُ وهو قوله‪َ (( :‬‬
‫أعلم‪.‬‬

‫فصل‬

‫في هديه في الطّاعون‪ ،‬وعلجه‪ ،‬والحتراز منه‬

‫ل أُسَامَةَ بن زيدٍ‪ :‬ماذا‬


‫فى ((الصحيحين)) عن عامر بن سعد بن أبى َوقّاصٍ‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬أنه سمعه يَسأَ ُ‬
‫ت من رسول ال صلى ال عليه وسلم فى الطاعون؟ فقال أُسامةُ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫س ِمعْ َ‬
‫س ِم ْعتُم به بأرضٍ‪ ،‬فَل تَدْخُلوا‬
‫ل عَلَى طائف ٍة من بنى إسرائيلَ‪ ،‬وعَلَى مَن كان َقبْلَكم‪ ،‬فإذا َ‬ ‫جزٌ ُأرْسِ َ‬
‫((الطاعُونُ رِ ْ‬
‫خرُجوا منها ِفرَارًا ِمنْهُ))‪.‬‬
‫ض وأ ْنتُم بها‪ ،‬فل تَ ُ‬
‫عليه‪ ،‬وإذا َوقَعَ بأر ٍ‬

‫حفْصَ َة بنت سِيرِينَ‪ ،‬قالت‪ :‬قال أنسُ ابن مالكٍ‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫وفى ((الصحيحين)) أيضاً‪ :‬عن َ‬
‫ل مُسْلِم))‪.‬‬
‫عليه وسلم‪(( :‬الطّاعُونُ شهادةٌ لك ّ‬

‫الطاعون من حيث اللّغة‪ :‬نوعٌ من الوباء‪ ،‬قاله صاحب ((الصحاح))‪ ،‬وهو عند أهل الطب‪ :‬ورمٌ ردئ‬
‫قتّال يخرج معه تلهّب شديد مؤلم جدًا يتجاوز المقدار فى ذلك‪ ،‬ويصير ما حوله فى الكثر أسود أو أخضر‪ ،‬أو‬
‫لبْط‪ ،‬وخلف الُذن‪ ،‬والرنبة‪،‬‬
‫أكمد‪ ،‬ويؤول أمره إلى التقرح سريعاً‪ .‬وفى الكثر‪ ،‬يحدث فى ثلثة مواضع‪ :‬فى ا ِ‬
‫وفى اللحوم الرخوة‪.‬‬

‫غدّةٌ‬
‫وفى أثر عن عائشة‪ :‬أنها قالت للنبىّ صلى ال عليه وسلم‪ :‬الطعن قد عرفناه‪ ،‬فما الطاعون؟ قال‪ُ (( :‬‬
‫لبْط))‪.‬‬
‫ق وا ِ‬
‫َكغُدّ ِة البَعي ِر يَخْ ُرجُ فى المَرَا ّ‬
‫خرّاجُ فى اللحوم الرخوة‪ ،‬والمغابن‪ ،‬وخلف الُذن والرنبة‪ ،‬وكان من جنس‬ ‫قال الطباء‪ :‬إذا وقع ال ُ‬
‫سدُ العض َو ويُغيّر ما‬
‫سمّىّ‪ ،‬يف ِ‬
‫سمّى طاعوناً‪ ،‬وسببُه دم ردئ مائل إلى العُفونة والفساد‪ ،‬مستحيل إلى جوهر ُ‬ ‫فاسد‪ُ ،‬‬
‫يليه‪ ،‬وربما رَشَح دَماً وصديداً‪ ،‬ويؤدّى إلى القلب كيفية رديئة‪ ،‬فيحدث القىء والخفقان والغَشى‪ ،‬وهذا السم وإن‬
‫ل ورم يؤدى إلى القلب كيفية رديئة حتى يصيرَ لذلك قتّالً‪ ،‬فإنه يختصّ به الحادث فى اللّحم الغُددى‪،‬‬ ‫كان يَعُ ّم كُ ّ‬
‫ف الُذن لقربهما‬ ‫لنه لرداءته ل يقبلُه من العضاء إل ما كان أضعف بالطبع‪ ،‬وأردؤُه ما حدث فى البط وخل َ‬
‫من العضاء التى هى أرأس‪ ،‬وأسلمه الحمر‪ ،‬ثم الصفر‪ .‬والذى إلى السواد‪ ،‬فل يفلت منه أحدٌ‪.‬‬

‫عبّر عنه بالوباء‪ ،‬كما قال الخليل‪ :‬الوباء‪:‬‬


‫ولما كان الطاعون يكثر فى الوباء‪ ،‬وفى البلد الوبيئة‪ُ ،‬‬
‫الطاعون‪ .‬وقيل‪ :‬هو كل مرض يعم‪.‬‬

‫ل وباءٍ طاعوناً‪،‬‬
‫ن وباءٌ‪ ،‬وليس ك ّ‬
‫ن بين الوباء والطاعون عمومًا وخصوصاً‪ ،‬فكلّ طاعو ٍ‬
‫والتحقيقُ أ ّ‬
‫وكذلك المراضُ العامة أع ّم من الطاعون‪ ،‬فإنه واحد منها‪ ،‬والطواعينُ خرّاجات وقروح وأورام رديئة حادثة‬
‫فى المواضع المتقدم ذكرها‪.‬‬

‫قلت‪ :‬هذه القروح‪ ،‬والورام‪ ،‬والجراحات‪ ،‬هى آثار الطاعون‪ ،‬وليست نفسَه‪ ،‬ولكن الطباء لما‬
‫لم تُدرك منه إل الثر الظاهر‪ ،‬جعلوه نفسَ الطاعون‪.‬‬

‫والطاعون ُيعَبّر به عن ثلثة أُمور‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬هذا الثر الظاهر‪ ،‬وهو الذى ذكره الطباء‪.‬‬

‫والثانى‪ :‬الموت الحادث عنه‪ ،‬وهو المراد بالحديث الصحيح فى قوله‪(( :‬الطاعونُ شَهادةٌ لكلّ مُسلمٌ))‪.‬‬

‫ل عَلى َبنِى‬
‫والثالث‪ :‬السبب الفاعل لهذا الداء‪ ،‬وقد ورد فى الحديث الصحيح‪(( :‬أَن ُه بقيةُ رِجز أُرسِ َ‬
‫إسرائيلَ))‪ ،‬وورد فيه‪(( :‬أنهُ َوخْزُ الجنّ))‪ ،‬وجاء‪(( :‬أنهُ دَعوةُ نبىّ))‪.‬‬

‫ل تُخبر بالمور‬ ‫وهذه العلل والسباب ليس عند الطباء ما يدفعها‪ ،‬كما ليس عندهم ما يدل عليها‪ ،‬والرّسُ ُ‬
‫الغائبة‪ ،‬وهذه الثار التى أدركوها من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفى أن تكون بتوسط الرواح‪ ،‬فإن تأثيرَ‬
‫ل الناس بالرواح وتأثيراتِها‪ ،‬وانفعالِ‬‫الرواح فى الطبيعة وأمراضها وهلكها أمر ل ينكره إل مَنْ هو أجه ُ‬
‫الجسام وطبائعها عنها‪ ،‬والُ سبحانه قد يجعل لهذه الرواح تصرفاً فى أجسام بنى آدمَ عند حدوث الوباء‪ ،‬وفسادِ‬
‫الهواء‪ ،‬كما يجعل لها تصرفًا عند بعضِ المواد الرديئة التى تُحدث للنفوس هيئة رديئة‪ ،‬ول سيما عند هيجان‬
‫الدم‪ ،‬والمِرّةِ السوداء‪ ،‬وعند هَيجان المنَىّ‪ ،‬فإنّ الرواح الشيطانية تتمكن مِن فعلها بصاحب هذه العوارض ما ل‬
‫صدَقة‪،‬‬
‫تتمكّن من غيره‪ ،‬ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه السباب من الذّكر‪ ،‬والدعاء‪ ،‬والبتهال والتضرع‪ ،‬وال ّ‬
‫وقراءة القرآن‪ ،‬فإنه يستنزل بذلك من الرواح المَلَكية ما يقهُر هذه الرواح الخبيثَة‪ ،‬ويُبطل شرّها ويدفع‬
‫ل هذه الرواح الطيبة واستجلبِ‬ ‫تأثيرَها‪ .‬وقد جرّبنا نحنُ وغيرُنا هذا مراراً ل يُحصيها إل ال‪ ،‬ورأينا لستنزا ِ‬
‫قُربها تأثيراً عظيمًا فى تقوية الطبيعة‪ ،‬ودفع المواد الرديئة‪ ،‬وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها‪ ،‬ول يكاد ينخرم‪،‬‬
‫فمَن وفّقه ال‪ ،‬بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه السباب التى تدفعها عنه‪ ،‬وهى له من أنفع الدواء‪ ،‬وإذا‬
‫ل إنفاذَ قضائه و َقدَره‪ ،‬أغفل قلبَ العبد عن معرفتها وتصوّرِها وإرادتها‪ ،‬فل يشعر بها‪ ،‬ول‬ ‫عزّ وجَ ّ‬
‫أراد ال َ‬
‫يُريدها‪ ،‬ليقضى ال فيه أمرًا كان مفعولً‪.‬‬

‫وسنزيد هذا المعنى إن شاء ال تعالى إيضاحاً وبياناً عند الكلم على التداوى بال ّرقَى‪ ،‬والعُوَذ النبوية‪،‬‬
‫والذكار‪ ،‬والدعوات‪ ،‬وفعل الخيرات‪ ،‬ونُبيّن أن نِسبة طب الطباء إلى هذا الطب النبوى‪ ،‬كنسبة طب الطرْقية‬
‫حذّاقهم وأئمتهم‪ ،‬ونبين أن الطبيعة النسانية أشد شىء انفعالً عن الرواح‪،‬‬ ‫والعجائز إلى طبهم‪ ،‬كما اعترف به ُ‬
‫وأن قُوَى العُوَذ‪ ،‬وال ّرقَى‪ ،‬والدعوات‪ ،‬فوق قُوَى الدوية‪ ،‬حتى إنها تُبطل قُوَى السموم القاتلة‪.‬‬

‫والمقصود‪ :‬أنّ فساد الهواء جزء من أجزاء السبب التام‪ ،‬والعِلّة الفاعلة للطاعون‪ ،‬فإن فساد جوهر‬
‫ب لحدوث الوباء وفساده‪ ،‬يكون لستحالة جوهره إلى الرداءة‪ ،‬لغلبة إحدى الكيفيات الرديئة عليه‪،‬‬ ‫الهواء الموجِ ُ‬
‫س ّميّة فى أى وقت كان من أوقات السنة‪ ،‬وإن كان أكثر حدوثه فى أواخر الصيف‪ ،‬وفى‬ ‫كالعفونة‪ ،‬وال ّنتَن‪ ،‬وال ّ‬
‫الخريف غالباً لكثرة اجتماع الفضلت المرارية الحادة وغيرها فى فصل الصيف‪ ،‬وعدم تحللها فى آخره‪ ،‬وفى‬
‫الخريف لبرد الجو‪ ،‬و َردْغَة البخرة والفضلت التى كانت تتحلل فى زمن الصيف‪ ،‬فتنحصر‪ ،‬فتسخن‪ ،‬وتعفن‪،‬‬
‫فتحدث المراض العفنة‪ ،‬ول سيما إذا صادفت البدن مستعداً‪ ،‬قابلً‪ ،‬رهِلً‪ ،‬قليل الحركة‪ ،‬كثيرَ المواد‪ ،‬فهذا ل‬
‫يكاد يُفْلِت مِن العطب‪.‬‬

‫ح الفصول فيه فصل الربيع؛ قال ((بقراط))‪ :‬إن فى الخريف أشد ما تكون من المراض‪ ،‬وأقتل‪،‬‬ ‫وأص ّ‬
‫ح الوقات كلها وأقلّها موتاً‪ ،‬وقد جرت عادةُ الصيادلة‪ ،‬ومجهزى الموتى أنهم يستدينونَ‪،‬‬
‫وأما الربيعُ‪ ،‬فأص ّ‬
‫ويتسلّفون فى الربيع والصيف على فصل الخريف‪ ،‬فهو ربيعُهم‪ ،‬وهم أشوقُ شىء إليه‪ ،‬وأفرحُ بقدومه‪.‬‬

‫ل بََلدٍ))‪ .‬وفُسّر بطلوع الثّريا‪ ،‬وفُسّر بطلوع‬


‫وقد روى فى حديث‪(( :‬إذا طَلعَ النّجْمُ ا ْر َت َفعَت ا ْلعَاهَ ُة عن ك ّ‬
‫ن كمال طلوعه وتمامَه يكون فى فصل‬ ‫جدَان} [الرحمن ‪ ،]6 :‬فإ ّ‬ ‫ج ُم وَالشّجَ ُر يَسْ ُ‬
‫النبات زمن الربيع‪ ،‬ومنه‪{ :‬وَالنّ ْ‬
‫الربيع‪ ،‬وهو الفصل الذى ترتفع فيه الفات‪.‬‬

‫وأما الثّريا‪ ،‬فالمراض تكثر وقت طلوعها مع الفجر وسقوطها‪.‬‬

‫قال ال ّتمِيمىّ فى كتاب ((مادة البقاء))‪ :‬أشدّ أوقات السنة فساداً‪ ،‬وأعظُمها بلية على الجساد وقتان‪،‬‬
‫أحدهما‪ :‬وقتُ سقوط الثّريا للمغيب عند طلوع الفجر‪ .‬والثانى‪ :‬وقت طلوعها من المشرِق قبل طلوع الشمس على‬
‫العالَم‪ ،‬بمنزلة من منازل القمر‪ ،‬وهو وقت تصرّ ِم فصل الربيع وانقضائه‪ ،‬غير أن الفسادَ الكائن عند طلوعها أقلّ‬
‫ضررًا من الفساد الكائن عند سقوطها‪.‬‬

‫لبْل‪ ،‬وغروبُها أعْ َوهُ من‬


‫ت إل بعَاهة فى النّاس وا ِ‬
‫وقال أبو محمد بن قتيبة‪ :‬يقال‪ :‬ما طلعت الثّريا ول نأ ْ‬
‫طلوعها‪.‬‬

‫وفى الحديث قولٌ ثالث ولعله أولى القوال به أنّ المراد بالنّجْم‪ :‬الثّريا‪ ،‬وبالعاهة‪ :‬الفة التى تلحق‬
‫الزروع والثمار فى فصل الشتاء وصدر فصل الربيع‪ ،‬فحصل المن عليها عند طلوع الثّريا فى الوقت المذكور‪،‬‬
‫ولذلك نهى صلى ال عليه وسلم عن‬

‫بيع الثمرة وشرائها قبل أن يبدُوَ صلحُها‪ .‬والمقصود‪ :‬الكلم على َهدْيِه صلى ال عليه وسلم عند وقوع‬
‫الطاعون‪.‬‬

‫فصل‬

‫نهى النبى صلى ال عليه وسلم عن الدخول إلى الرض التى هو بها أو الخروج منها‬

‫وقد جمع النبىّ صلى ال عليه وسلم للُمة فى نهيه عن الدخول إلى الرض التى هو بها‪ ،‬ونهيهِ عن‬
‫الخروج منها بعد وقوعه كمالَ التحرز منه‪ ،‬فإنّ فى الدخول فى الرض التى هو بها تعرضاً للبلء‪ ،‬وموافا ًة له‬
‫فى محل سلطانه‪ ،‬وإعانةً للنسان على نفسه‪ ،‬وهذا مخالف للشرع والعقل‪ ،‬بل تجنّبُ الدخول إلى أرضه من باب‬
‫الحِمية التى أرشد ال سبحانه إليها‪ ،‬وهى حِمية عن المكنة‪ ،‬والهوية المؤذية‪.‬‬

‫وأما نهيه عن الخروج من بلده‪ ،‬ففيه معنيان‪:‬‬

‫أحدّهما‪ :‬حمل النفوس على الثقة بال‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬والصبرِ على أقضيته‪ ،‬والرّضَى بها‪.‬‬

‫ج عن بدنه الرطوبات الفضلية‪،‬‬‫خرِ َ‬


‫والثانى‪ :‬ما قاله أئمة الطب‪ :‬أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يُ ْ‬
‫ويُقلّل الغذاء‪ ،‬ويميل إلى التدبير المجفف مِن كل وجه إل الرياضةَ والحمّام‪ ،‬فإنهما مما يجب أن يُحذرا‪ ،‬لن‬
‫البدن ل يخلو غالبًا مِن فضل ردىء كامن فيه‪ ،‬فتثيرُه الرياضة والحمّام‪ ،‬ويخلطانه بالكيموس الجيد‪ .‬وذلك يجلب‬
‫ج من‬‫عِلّة عظيمة‪ ،‬بل يجب عند وقوع الطاعون السكون والدّعة‪ ،‬وتسكين هيجان الخلط‪ ،‬ول يمكن الخرو ُ‬
‫أرض الوباء والسفر منها إل بحركة شديدة‪ ،‬وهى مضرة جداً‪ ،‬هذا كلم أفضل الطباء المتأخرين‪ ،‬فظهر المعنى‬
‫الطبى من الحديث النبوى‪ ،‬وما فيه من علج القلب والبدن وصلحِهما‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬ففى قول النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل تخرجوا فِراراً مِنهُ))‪ ،‬ما يُبطل أن يكون أراد هذا‬
‫ج لعارض‪ ،‬ول يحبس مسافرًا عن سفره ؟‬ ‫المعنى الذى ذكرتموه‪ ،‬وأنه ل يمنع الخرو َ‬
‫قيل‪ :‬لم يقل أحدٌ طبيبٌ ول غيره إنّ الناس يتركون حركاتِهم عند الطواعين‪ ،‬ويصيرون بمنزلة‬
‫الجماداتِ‪ ،‬وإنما ينبغى فيه التقلّل من الحركة بحسب المكان‪ ،‬والفا ّر منه ل موجب لحركته إل مجرد الفِرار‬
‫منه‪ ،‬ودعتُه وسكونُه أنفع لقلبه وبدنه‪ ،‬وأقربُ إلى توكله على ال تعالى‪ ،‬واستسلمه لقضائه‪ .‬وأما مَن ل يستغنى‬
‫عن الحركة كالصُـنّاع‪ ،‬والُجراء‪ ،‬والمسافرين‪ ،‬والبُرُد‪ ،‬وغيرهم فل يقال لهم‪ :‬اتركوا حركاتِكم جملةً‪ ،‬وإن‬
‫أُمروا أن يتركوا منها ما ل حاجة لهم إليه‪ ،‬كحركة المسافر فارّا منه‪ ..‬وال تعالى أعلم‪.‬‬

‫حكَم‪:‬‬
‫وفى المنع من الدخول إلى الرض التى قد وقع بها عدةُ ِ‬

‫أحدها‪ :‬تجنب السباب المؤذية‪ ،‬وال ُبعْد منها‪.‬‬

‫ش والمعاد‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬الخذُ بالعافية التى هى مادةُ المعا ِ‬

‫س َد فيمرضون‪.‬‬
‫ن وفَ َ‬
‫الثالث‪ :‬أن ل يستنشِقُوا الهوا َء الذى قد عَفِ َ‬

‫الرابع‪ :‬أن ل يُجاوروا المرضى الذين قد مَرِضُوا بذلك‪ ،‬فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم‪.‬‬

‫ن مِن القرفِ التلفَ))‪.‬‬


‫وفى ((سنن أبى داود)) مرفوعاً‪(( :‬إ ّ‬

‫ف مداناة الوباء‪ ،‬ومداناة المرضى‪.‬‬


‫قال ابن قتيبة‪ :‬القر ُ‬

‫طيَرَة والعَدوى‪ ،‬فإنها تتأثر بهما‪ ،‬فإن الطّيرة على مَن تطيّرَ بها‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬حِميةُ النفوس عن ال ّ‬

‫ى عن التعرض لسباب التلف‪.‬‬ ‫وبالجملة ففى النهى عن الدخول فى أرضه المرُ بالحذر والحِمية‪ ،‬والنه ُ‬
‫وفى النهى عن الفِرار منه المر بالتوكل‪ ،‬والتسليم‪ ،‬والتفويض‪ ،‬فالولُ‪ :‬تأديب وتعليم‪ ،‬والثانى‪ :‬تفويض وتسليم‪.‬‬

‫غ لَقيه أبو عُبيدة بن الجرّاح‬


‫ن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام‪ ،‬حتى إذا كان بِسَ ْر َ‬ ‫وفى ((الصحيح))‪ :‬أ ّ‬
‫ن الوَبا َء قد وقع بالشام‪ ،‬فاختلفوا‪ ،‬فقال لبن عباس‪ :‬ادعُ لى المهاجرينَ الوّلينَ‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫وأصحابه‪ ،‬فأخبرُوه أ ّ‬
‫فدعوتُهم‪ ،‬فاستشارهم‪ ،‬وأخبرهم أنّ الوباء قد وقع بالشام‪ .‬فاختلفوا‪ ،‬فقال له بعضُهم‪ :‬خرجتَ لَمر‪ ،‬فل نرى أن‬
‫ب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فل نرى أن تُ ْق ِدمَهُم على‬ ‫تَرْجِ َع عنه‪ .‬وقال آخرون‪ :‬معك بقيةُ الناس‪ ،‬وأصحا ُ‬
‫عنّى‪ ،‬ثم قال‪ :‬ادعُ لى النصار‪ ،‬فدعوتُهم له‪ ،‬فاستشارهم‪ ،‬فسلكُوا سبيلَ‬ ‫هذا ال َوبَاء‪ ،‬فقال عمر‪ :‬ارتفعوا َ‬
‫ش من مُهاجرةِ‬ ‫عنّى‪ ،‬ثم قال‪ :‬ادْع لى مَنْ َه ُهنَا من مشيخةِ قري ٍ‬ ‫المهاجرين‪ ،‬واختلفوا كاختلفهم‪ ،‬فقال‪ :‬ارتفعوا َ‬
‫الفتح‪ ،‬فدعوتهم له‪ ،‬فلم يختلف عليه منهم رجلن‪ ،‬قالوا‪ :‬نرى أن ترجِعَ بالناس ول تُ ْق ِد َمهُم على هذا الوباء‪ ،‬فََأذّنَ‬
‫صبِحُوا عليهِ‪ .‬فقال أبو عُبيدة بن الجرّاح‪ :‬يا أمي َر المؤمنين؛ أ ِفرَارًا من‬ ‫ظهْرٍ‪ ،‬فَأ ْ‬
‫عمر فى الناس‪ :‬إنى مُصبحٌ على َ‬
‫َقدَرِ ال تعالى ؟ قال‪ :‬لو غيرُك قالها يا أبا عُبيدة‪ ،‬نعم نَفِ ّر من َقدَ ِر ال تعالى إلى َقدَ ِر ال تعالى‪ ،‬أرأيتَ لو كانَ‬
‫ن رعيتَها الخِصبة رعيتَها بَقدَرِ ال‬ ‫تإْ‬ ‫جدْبة‪ ،‬ألس َ‬‫عدْ َوتَان‪ ،‬إحداهما خِصبة‪ ،‬والُخرى َ‬ ‫ت وَادِياً له ُ‬
‫ل فهبط َ‬ ‫لك إب ٌ‬
‫ن متغيبًا فى بعض‬ ‫تعالى‪ ،‬وإن رعيتها الجدب َة رعيتَها بقدر ال تعالى ؟‪ .‬قال‪ :‬فجاء عبد الرحمن بن عَوْف وكا َ‬
‫ض وأ ْنتُ ْم بها‬‫ت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪(( :‬إذا كان بِأَرْ ٍ‬ ‫ن عندى فى هذا علماً‪ ،‬سمع ُ‬ ‫حاجاتِهِ‪ ،‬فقال‪ :‬إ ّ‬
‫س ِم ْعتُم به بأرضٍ فل تَ ْقدَموا عََليْهِ))‪.‬‬
‫خرُجوا فِرَارًا منه‪ ،‬وإذا َ‬ ‫فل تَ ْ‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى داء الستسقاء وعلجه‬

‫فى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث أنس بن مالك‪ ،‬قال‪:‬‬

‫جتَوَوا المدينة‪ ،‬فشكوا ذلك إلى النّبىّ صلى ال‬‫عكَل على النّبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فا ْ‬ ‫(( َقدِمَ رَهْطٌ من عُ َر ْينَةَ وَ ُ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فقال لو خرجُتم إلى ِإبِل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها‪ ،‬ففعلوا‪ ،‬فلما صحّوا‪ ،‬عمدوا إلى الرّعَاةِ‬
‫خذُوا‪ ،‬فَ َقطَعَ‬
‫فقتلُوهم‪ ،‬واستاقُوا البل‪ ،‬وحاربُوا ال ورسوله‪ ،‬فبعث رسولُ ال صلى ال عليه وسلم فى آثارهم‪ ،‬فُأ ِ‬
‫ع ُي َنهُم‪ ،‬وألقاهم فى الشمس حتى ماتوا))‪.‬‬
‫سمَلَ أ ْ‬‫جَلهُم‪ ،‬و َ‬ ‫أيد َيهُم‪ ،‬وأر ُ‬
‫والدليل على أن هذا المرض كان الستسقاء‪ ،‬ما رواه مسلم فى ((صحيحه)) فى هذا الحديث أنهم قالوا‪:‬‬
‫((إنّا اجتوينا المدينة‪ ،‬فعظمت بطونُنا‪ ،‬وارتهشت أعضاؤنا))‪ ....‬وذكر تمام الحديث‪.‬‬

‫والجَوَى‪ :‬داء من أدواء الجوف والستسقاء‪ :‬مرض مادى سببه مادة غريبة باردة تتخلّل العضاء فتربو‬
‫لها إما العضاء الظاهرة كلها‪ ،‬وإما المواضع الخالية من النواحى التى فيها تدبير الغِذاء والخلط‪ ،‬وأقسامُه‬
‫ى وهو أصعبها وزقىّ‪ ،‬وطبلىّ‪.‬‬ ‫ثلثة‪ :‬لحم ّ‬

‫ق معتدل‪ ،‬وإدرارٌ بحسب‬‫ولما كانت الدوية المحتاجُ إليها فى علجه هى الدوية الجالبة التى فيها إطل ٌ‬
‫الحاجة وهذه الُمور موجودةٌ فى أبوال البل وألبانها‪ ،‬أمرهم النبىّ صلى ال عليه وسلم بشربها‪ ،‬فإنّ فى لبن‬
‫اللّقَاح جل ًء وتلييناً‪ ،‬وإدراراً وتلطيفاً‪ ،‬وتفتيحاً للسدَد‪ ،‬إذ كان أكث ُر رعيِها الشيح‪ ،‬والقيصوم‪ ،‬والبابونج‪،‬‬
‫لذْخِر‪ ،‬وغير ذلك من الدوية النافعة للستسقاء‪.‬‬ ‫والقحوان‪ ،‬وا ِ‬

‫ض ل يكون إل مع آفة فى الكبد خاصة‪ ،‬أو مع مشاركة‪ ،‬وأكثرها عن السدَد فيها‪ ،‬ولبن اللّقاحِ‬ ‫وهذا المر ُ‬
‫العربية ناف ٌع من السدَد‪ ،‬لما فيه من التفتيح‪ ،‬والمنافع المذكورة‪.‬‬

‫قال الرازىّ‪ :‬لبن اللّقاح يشفى أوجاعَ الكبد‪ ،‬وفساد المِزاج‪ .‬وقال السرائيلى‪ :‬لبن اللّقاح أرقّ اللبان‪،‬‬
‫ق البطن‪ ،‬وتفتيح السدَد‪،‬‬‫حدّة‪ ،‬وأقلّها غِذاء‪ .‬فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول‪ ،‬وإطل ِ‬ ‫وأكثرُها مائيّة و ِ‬
‫ص اللبان بتطرِية‬
‫ويدل على ذلك ملوحتُه اليسيرة التى فيه لفراط حرارة حيوانية بالطبع‪ ،‬ولذلك صار أخ ّ‬
‫الكبد‪ ،‬وتفتيح سُددها‪ ،‬وتحليلِ صلبة الطحال إذا كان حديثاً‪ ،‬والنفع من الستسقاء خاصة إذا استُعمل لحرارته‬
‫التى يخرج بها من الضّرْع مع بول الفصيل‪ ،‬وهو حار كما يخرج من الحيوان‪ ،‬فإن ذلك مما يزيد فى ملوحته‪،‬‬
‫وتقطيعه الفضولَ‪ ،‬وإطلقهِ البطن فإن تعذّر انحدارُه وإطلقُه البطن‪ ،‬وجب أن يُطلق بدواء مسهل‪.‬‬

‫قال صاحب القانون‪ :‬ول يُلتفت إلى ما يقال‪ :‬من أن طبيعة اللّبن مضادة لِعلج الستسقاء‪ .‬قال‪ :‬واعلم أنّ‬
‫ن إنساناً‬
‫ن هذا اللّبن شديد المنفعة‪ ،‬فلو أ ّ‬
‫لبن النّوق دواءٌ نافع لما فيه من الجِلء برفق‪ ،‬وما فيه من خاصية‪ ،‬وأ ّ‬
‫ب ذلك فى قوم ُدفِعوا إلى بلد العرب‪ ،‬فقادتهم الضرور ُة إلى ذلك‪،‬‬ ‫جرّ َ‬
‫ى به‪ ،‬وقد ُ‬
‫شفِ َ‬
‫أقام عليه بدل الماء والطعام ُ‬
‫فعُوفوا‪ .‬وأنفعُ البوال‪ :‬بَوْل الجمل العرابى‪ ،‬وهو النجيب‪ ..‬انتهى‪.‬‬

‫وفى القصة‪ :‬دليلٌ على التداوى والتطبّب‪ ،‬وعلى طهارة بول مأكول اللّحم‪ ،‬فإن التداوى بالمحرّمات غير‬
‫جائز‪ ،‬ولم يُؤمروا مع قرب عهدهم بالسلم بغسل أفواههم‪ ،‬وما أصابته ثيابُهم من أبوالها للصلة‪ ،‬وتأخيرُ البيان‬
‫ل يجوزُ عن وقت الحاجة‪.‬‬

‫وعلى مقاتلة الجانى بمثل ما فعل‪ ،‬فإن هؤلء قتلوا الراعىَ‪ ،‬وسملُوا عينيه‪ ،‬ثبت ذلك فى ((صحيح‬
‫مسلم))‪.‬‬

‫وعلى قتل الجماعة‪ ،‬وأخذِ أطرافهم بالواحد‪.‬‬

‫وعلى أنه إذا اجتمع فى حق الجانى ح ٌد وقِصاصٌ استوفيا معاً‪ ،‬فإن النبىّ صلى ال عليه وسلم قطع‬
‫أيديَهم وأرجُلَهم حداً ل على حِرابهم‪ ،‬و َقتََلهُم لقتلهم الراعى‪.‬‬

‫وعلى أن المحارب إذا أخذ المال‪َ ،‬و َقتَل‪ ،‬قُطِعت يده ورجله فى مقام واحد و ُقتِل‪.‬‬

‫ن هؤلء ارتدّوا بعد إسلمهم‪ ،‬وقتلوا النفس‪ ،‬ومثّلُوا‬


‫ن الجنايات إذا تعددت‪ ،‬تغلّظت عقوباتُها‪ ،‬فإ ّ‬
‫وعلى أ ّ‬
‫بالمقتول‪ ،‬وأخذوا المال‪ ،‬وجاهروا بالمحاربة‪.‬‬

‫ل واحد منهم لم يُباشر القتل بنفسه‪،‬‬


‫ن كُ ّ‬
‫وعلى أنّ حكم ردء المحاربين حكم مباشرهم‪ ،‬فإنه من المعلوم أ ّ‬
‫ول سأل النبى صلى ال عليه وسلم عن ذلك‪.‬‬

‫وعلى أن قتل الغِيلةِ يُوجب قتل القاتل حداً‪ ،‬فل يُسقطه العفو‪ ،‬ول تُعتبر فيه المكافأة‪ ،‬وهذا مذهبُ أهل‬
‫المدينة‪ ،‬وأحد الوجهين فى مذهب أحمد‪ ،‬اختاره شيخنا‪ ،‬وأفتى به‪.‬‬
‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج الجُرْح‬

‫ل ال صلى‬ ‫جرْحُ رسو ِ‬


‫ى به ُ‬ ‫ل عما دُوو َ‬ ‫ل بن سعدٍ يسأ ُ‬ ‫سهْ َ‬
‫فى ((الصحيحين)) عن أبى حازم‪ ،‬أنه سمع َ‬
‫شمَت ال َبيْضةُ على رأسه‪ ،‬وكانت فاطم ُة بنتُ‬ ‫سرَت َربَاعيتهُ‪ ،‬و ُه ِ‬ ‫حدٍ‪ .‬فقال‪(( :‬جُ ِرحَ وجهُه‪ ،‬وكُ ِ‬
‫ال عليه وسلم يوم أُ ُ‬
‫ى بن أبى طالب يسكُب عليها با ْلمِجَنّ‪ ،‬فلما رأت فاطمة الدمَ‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم تغسِلُ الدمَ‪ ،‬وكان عل ّ‬
‫ل يزيد إل كَثرةً‪ ،‬أخذت قطعةَ حصيرٍ‪ ،‬فأحرقتْها حتى إذا صارت رَماداً ألصقتهُ بالجُرحِ فاستمسك الدمُ‪ ،‬برمَادِ‬
‫الحصي ِر المعمول من البَ ْردِىّ ))‪ ،‬وله فِعلٌ قوىٌ فى حبس الدم‪ ،‬لن فيه تجفيفاً قوياً‪ ،‬وقِلّ َة لذَع‪ ،‬فإنّ الدوية القوية‬
‫خ وحده‪ ،‬أو مع الخل فى أنف الراعِفِ قطعَ‬ ‫التجفيف إذا كان فيها لذعٌ هيّجت الدمَ وجلبتْه‪ ،‬وهذا الرّمادُ إذا نُفِ َ‬
‫رُعافُه‪.‬‬

‫ى ينفع من النزف‪ ،‬ويمنعه‪ .‬و ُيذَرّ على الجراحات الطرية‪َ ،‬ف َيدْمُلُها‪،‬‬
‫وقال صاحب القانون‪ :‬البَ ْردِ ّ‬
‫س المصرى كان قديمًا يُعمل منه‪ ،‬ومزاجُه بارديابس‪ ،‬ورماده نافع من أَكلَةِ الفم‪ ،‬ويحبسُ نَ َفثَ الدمِ‪،‬‬ ‫والقرطا ُ‬
‫ويمنع القروح الخبيثة أن تسعى‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى العلج بشُرب العسل‪ ،‬والحجامة‪ ،‬والكىّ‬

‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫فى ((صحيحِ البخارى))‪ :‬عن سعيد بن جُبيرٍ‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬عن النّبِ ّ‬
‫جمٍ‪ ،‬و َكيّةِ نارٍ‪ ،‬وأنا أنْهى ُأمّتى عن ا ْل َكىّ))‪.‬‬
‫شرْط ِة مِحْ َ‬
‫ش ْربَةِ عسلٍ‪ ،‬و َ‬
‫((الشّفَاءُ فى ثلثٍ‪ُ :‬‬

‫قال أبو عبد ال الما َزرِى‪ :‬المراض المتلئية‪ :‬إما أن تكون دموية‪ ،‬أو صفراوية‪ ،‬أو بلغمية‪ ،‬أو‬
‫سوداوية‪ .‬فإن كانت دموية‪ ،‬فشفاؤها إخراجُ الدم‪ ،‬وإن كانت من القسام الثلثةِ الباقية‪ ،‬فشفاؤها بالِسهال الذى‬
‫يَليق بكل خِلط منها‪ ،‬وكأنه صلى ال عليه وسلم‪َ :‬نبّهَ بالعسل على المسهلت‪ ،‬وبالحِجامة على الفَصْد‪ ،‬وقد قال‬
‫عيَا الدواءُ‪ ،‬فآخِ ُر الطبّ ا ْلكَىّ‪ .‬فذكره صلى ال‬
‫حجَمٍ))؛ فإذا أ ْ‬
‫ن الفصدَ يدخل فى قوله‪(( :‬شَرْط ِه مِ ْ‬
‫بعض الناس‪ :‬إ ّ‬
‫عليه وسلم فى الدوية‪ ،‬لنه يُستعمل عند غلبة الطباع لقُوى الدوية‪ ،‬وحيث ل ينف ُع الدواءُ المشروب‪ .‬وقوله‪:‬‬
‫ب أن َأ ْكتَوِى))‪ .‬إشار ٌة إلى أن يؤخّرَ العلجَ به حتى‬‫((وأنا أنْهى ُأمّتى عن الكَىّ))‪ ،‬وفى الحديث الخر‪(( :‬وما أُح ّ‬
‫ف من ألم‬‫تَدفَع الضرور ُة إليه‪ ،‬ول يعجل التداوى به لما فيه من استعجال اللم الشديد فى دفع أل ٍم قد يكون أضع َ‬
‫الكَىّ‪ ...‬انتهى كلمه‪.‬‬

‫ض المِزاجية‪ :‬إما أن تكون بمادة‪ ،‬أو بغير مادة‪ ،‬والمادية منها‪ ،‬إما حارةٌ‪ ،‬أو‬
‫وقال بعض الطباءِ‪ :‬المرا ُ‬
‫باردةٌ‪ ،‬أو رَطبةٌ‪ ،‬أو يابسةٌ‪ ،‬أو ما تركّب منها‪ ،‬وهذه الكيفيات الربع‪ ،‬منها كيفيتان فاعلتان‪ :‬وهما الحرارةُ‬
‫والبرودةُ؛ وكيفيتان منفعلتان‪ :‬وهما الرطوبة واليبوسة‪ ،‬ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين الفاعلتين استصحابُ‬
‫كيفية منفعِلَة معها‪ ،‬وكذلك كان لكل واحد من الخلط الموجودة فى البدن‪ ،‬وسائر المركّبات كيفيتان‪ :‬فاعلةٌ‬
‫ومنفعلةٌ‪.‬‬

‫ن أصل المراض المِزاجية هى التابعة لقوى كيفيات الخلط التى هى‬ ‫فحصل مِن ذلك أ ّ‬ ‫@‬
‫الحرار ُة والبرودةُ‪ ،‬فجاء كلم النبوة فى أصل معالجة المراض التى هى الحارة والباردة على طريق التمثيل‪،‬‬
‫فإن كان المرض حاراً‪ ،‬عالجناه بإخراج الدم‪ ،‬بال َفصْد كان أو بالِحجامة‪ ،‬لن فى ذلك استفراغاً للمادة‪ ،‬وتبريداً‬
‫للمِزاج‪ .‬وإن كان بارداً عالجناه بالتسخين‪ ،‬وذلك موجود فى العسل‪ ،‬فإن كان يحتاج مع ذلك إلى استفراغ المادة‬
‫الباردة‪ ،‬فالعسلُ أيضاً يفعل فى ذلك لما فيه من النضاج‪ ،‬والتقطيع‪ ،‬والتلطيف‪ ،‬والجِلء‪ ،‬والتليين‪ ،‬فيحصل بذلك‬
‫استفراغ تلك المادة برفق وأمْنٍ من نكاية المسهلت القوية‪.‬‬

‫ل واحد من المراض المادية‪ ،‬إما أن يكون حادًا فيكون سري َع‬ ‫وأما الكَىّ‪ :‬فلنّ ك ّ‬
‫الفضاء لحد الطرفين‪ ،‬فل يُحتاج إليه فيه‪ ،‬وإما أن يكون ُم ْزمِناً‪ ،‬وأفضلُ علجه بعد الستفراغ الكىّ فى‬
‫العضاء التى يجوز فيها الكَىّ‪ .‬لنه ل يكون مزمنًا إل عن مادة باردة غليظة قد رسخت فى العضو‪ ،‬وأفسدتْ‬
‫مِزاجَه‪ ،‬وأحالتْ جميع ما يصل إليه إلى مشابهة جوهرها‪ ،‬فيشتعل فى ذلك العضو‪ ،‬فيستخرج بالكىّ تلك المادةُ‬
‫ى لتلك المادة‪.‬‬
‫من ذلك المكان الذى هو فيه بإفناء الجزء النارى الموجود بالك ّ‬
‫خذَ معالجة المراض المادية جميعها‪ ،‬كما استنبطنا معالجةَ المراضِ‬ ‫فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أ ْ‬
‫جهَـنّمَ‪ ،‬فأب ِردُوهَا بالماء))‬
‫حمّى مِن َفيْحِ َ‬
‫ن شدةَ ال ُ‬
‫الساذَجةِ من قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إ ّ‬

‫فصل‬

‫ف عن كثير بن سَليم‪،‬‬ ‫جبَارَ َة بن ال ُمغَلّس وهو ضعي ٌ‬‫وأما الحِجَامةُ‪ ،‬ففى ((سنن ابن ماجه)) من حديث ُ‬
‫ى بى بملٍ إل قالُوا‪:‬‬
‫سرِ َ‬
‫ت ليل َة أُ ْ‬
‫س بن مالكٍ يقولُ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬ما مَرَرْ ُ‬ ‫ت َأنَ َ‬ ‫قال‪ :‬سَمع ُ‬
‫يا محمدُ؛ مُ ْر ُأ ّم َتكَ بِالحِجَامَةِ))‪.‬‬

‫حجَامَةِ يا‬
‫وروى الترمذى فى ((جامعه)) من حديث ابن عباس هذا الحديث‪ ،‬وقال فيه‪(( :‬عليكَ بال ِ‬
‫ح ّمدُ))‪.‬‬
‫مُ َ‬

‫ن النبىّ صلى ال عليه وسلم ((احتجَمَ‬


‫وفى ((الصحيحين)) من حديث طَاووس‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬أ ّ‬
‫وأعْطى الحَجّا َم أجْرَه))‪.‬‬

‫ن رسول ال صلى ال عليه وسلم حجمَ ُه أبُو‬ ‫حمَيدٍ الطويل‪ ،‬عن أنس‪ ،‬أ ّ‬ ‫وفى ((الصحيحين)) أيضاً‪ ،‬عن ُ‬
‫خيْ ُر مَا َتدَاويْت ْم بِهِ ا ْلحِجَامَةَ))‪.‬‬
‫ط ْيبَةَ‪ ،‬فأمَ َر ل ُه بصَاعينِ مِن طعامٍ‪ ،‬وكلّمَ مواليهُ‪ ،‬فخفّفُوا عنهُ مِن ضريبتِهِ‪ ،‬وقال‪َ (( :‬‬
‫َ‬

‫س غِلمةٌ ثلثةٌ‬‫ن لبن عبا ٍ‬ ‫عكْرمَةَ يقولُ‪(( :‬كا َ‬‫ت ِ‬‫وفى ((جامع الترمذىّ)) عن عبّاد بن منصور‪ ،‬قال‪ :‬سمِع ُ‬
‫ن عليه‪ ،‬وَعَلَى أهلِهِ‪ ،‬وواحدٌ لحجمِهِ‪ ،‬وحجمِ أهلِهِ‪ .‬قال‪ :‬وقال ابنُ عباسٍ‪ :‬قال نبىّ ال‬ ‫ن يُغل ِ‬ ‫ن اثنَا ِ‬
‫حجّامُون‪ ،‬فكا َ‬
‫َ‬
‫جلُو البَصَرَ))‪ .‬وقال‪ :‬إنّ رَسولَ الِ‬ ‫خفّ الصّ ْلبَ‪ ،‬ويَ ْ‬
‫ب بالدّمِ‪َ ،‬ويُ ِ‬
‫حجّامُ َيذْهَ ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ِ (( :‬نعْ َم العبدُ ال َ‬
‫حجَامَةِ))‪ .‬وقالَ‪:‬‬‫ج بِهِ‪ ،‬ما م ّر عَلَى مَلٍ مِن الملئك ِة إلّ قالُوا‪(( :‬عليكَ بال ِ‬ ‫ث عُرِ َ‬ ‫صلى ال عليه وسلم حي ُ‬

‫خيْرَ ما‬
‫حدَى وَعِشرينَ))‪ ،‬وقال‪(( :‬إنّ َ‬ ‫سبْ َع عَشْرَةَ‪ ،‬ويَوْ َم تِسْ َع عَشْرَةَ‪َ ،‬ويَوْمَ إ ْ‬
‫ن فيهِ يَوْمَ َ‬
‫جمُو َ‬
‫حتَ ِ‬
‫((إنّ خيرَ مَا ت ْ‬
‫سعُوطُ والّلدُودُ والحِجَامَةُ والمَشِىّ‪ ،‬وإنّ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم ُلدّ‪ ،‬فقالَ‪(( :‬مَن َل ّدنِى)) ؟‬ ‫تَدَاو ْيتُ ْم بِهِ ال ّ‬
‫ح ٌد فى ال َبيْتِ إل ُلدّ‪ ،‬إلّ العباسَ))‪ .‬قال‪ :‬هذا حديث غريب‪ ،‬ورواه ابن ماجَه‪.‬‬ ‫َفكُّلهُمْ أمسكُوا‪ .‬فقال‪(( :‬ل يبقَى أ َ‬

‫فصل‬

‫فى منافع الحِجَامَة‬

‫حجَامَة‪ :‬فإنها ُتنَقّى سطح البدن أكث َر من ال َفصْد‪ ،‬والفصدُ لعماق البدن أفضلُ‪ ،‬والحِجَامَةُ‬
‫وأما منافعُ ال ِ‬
‫تستخْ ِرجُ الدّمَ من نواحى الجلد‪.‬‬

‫قلتُ‪ :‬والتحقيقُ فى أمرها وأمْ ِر الفصد‪ ،‬أنهما يختلفان باختلف الزمانِ‪ ،‬والمكانِ‪ ،‬والسنانِ‪ ،‬والمزجةِ‪،‬‬
‫فالبلدُ الحارةُ‪ ،‬والزمنةُ الحارةُ‪ ،‬والمزجة الحارة التى دَمُ أصحابها فى غاية النّضج الحجامةُ فيها أنف ُع من‬
‫ج الحِجَامَةِ ما ل يُخرجه الفصد‪،‬‬‫ق ويخرج إلى سطح الجسد الداخل‪ ،‬فتُخرِ ُ‬ ‫ن الدّ َم ينضج ويَرِ ّ‬
‫الفصد بكثير‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن ل يَقْوَى على الفَصد‪.‬‬
‫ولذلك كانت أنفعَ للصبيان من الفصد‪ ،‬وِلمَ ْ‬

‫ل من الفصد‪ ،‬وتُستحب فى وسط الشهر‪،‬‬ ‫ن البلد الحارةَ الحجام ُة فيها أنفعُ وأفض ُ‬ ‫وقد نص الطباء على أ ّ‬
‫وبعد وسطه‪ .‬وبالجملة‪ ،‬فى الربع الثالث من أرباع الشهر‪ ،‬لن الدم فى أول الشهر لم يكن بعدُ قد هاج و َتبَيّغَ‪،‬‬
‫وفى آخره يكون قد سكن‪ ،‬وأما فى وسطه و ُب َعيْدَه‪ ،‬فيكون فى نهاية التّ َزّيدِ‪.‬‬

‫حجَامة ل فى أول الشهر‪ ،‬لن الخلط ل تكون قد تحرّكت‬ ‫قال صاحب القانون‪ :‬ويُؤمر باستعمال ال ِ‬
‫ط الشهر حين تكون الخلط هائج ًة بالغةً فى تزايدها‬ ‫وهاجت‪ ،‬ول فى آخره لنها تكون قد نقصَت‪ ،‬بل فى وَسَ ِ‬
‫حجَامَة‬
‫خيْرُ ما تداويتم به ال ِ‬
‫لتزيد النور فى جُرم القمر‪ .‬وقد رُوِى عن النبى صلى ال عليه وسلم أنه قال‪َ (( :‬‬
‫خيْرُ الدوا ِء الحِجَامَةُ‬
‫صدُ))‪ .‬وفى حديث‪َ (( :‬‬
‫والفَ ْ‬

‫وال َفصْد))‪ ..‬انتهى‪.‬‬


‫حجَامَة)) إشارة إلى أهل الحجاز‪ ،‬والبلد الحارةِ‪ ،‬لن‬ ‫وقوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬خَير ما تداويتم به ال ِ‬
‫دِماءَهم رقيقةٌ‪ ،‬وهى أميَلُ إلى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد‪ ،‬واجتماعها فى نواحى‬
‫ق اتصالى إرادى يتبعه‬ ‫الجلد‪ ،‬ولن مسا ّم أبدانهم واسعة‪ ،‬وقواهم متخلخِلةٌ‪ ،‬ففى الفصد لهم خطرٌ‪ ،‬والحِجامة تفرّ ٌ‬
‫ل واحد منها نفعٌ خاص‪ ،‬ففصدُ‬ ‫ق التى ل تُفصد كثيراً‪ ،‬ولِفصد كُ ّ‬ ‫استفراغٌ كُلّىٌ من العروق‪ ،‬وخاص ًة العرو َ‬
‫الباسليق‪ :‬ينفع من حرارة الكبد والطحال والورام الكائنةِ فيهما من الدم‪ ،‬وينفع من أورام الرئة‪ ،‬وينفع من‬
‫الشّوْصَة وذات الجنب وجميع المراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الوَرِك‪.‬‬

‫وفصد الكحل‪ :‬ينفع من المتلء العارض فى جميع البدن إذا كان دمويّا‪ ،‬وكذلك إذا كان الدم قد فسد فى‬
‫جميع البدن‪.‬‬

‫وفصد القيفال‪ :‬ينفع من العلل العارضة فى الرأس والرقبة من كثرة الدم أو فساده‪.‬‬

‫وفصد ال َودْجيْنِ‪ :‬ينفع من وجع الطحال‪ ،‬والربو‪ ،‬والبُهْر‪ ،‬ووجع الجبين‪.‬‬

‫والحجامة على الكاهل‪ :‬تنفع من وجع ال َمنْكِبِ والحلق‪.‬‬

‫والحجامة على الخدعين‪ :‬تنفع من أمراض الرأس‪ ،‬وأجزائه‪ ،‬كالوجه‪ ،‬والسنان‪ ،‬والذنين‪ ،‬والعينين‪،‬‬
‫والنف‪ ،‬والحلق إذا كان حدوث ذلك عن كثرة الدّم أو فساده‪ ،‬أو عنهما جميعاً‪.‬‬

‫خدَعَيْن والكَاهِلِ))‪.‬‬
‫قال أنس رضى ال تعالى عنه‪(( :‬كان رسولُ ال صلى ال عليه وسلم يحتجمُ فى ال ْ‬

‫وفى ((الصحيحين)) عنه‪(( :‬كان رسولُ ال صلى ال عليه وسلم يحتجم ثلثاً‪ :‬واحدةً علىكاهله‪ ،‬واثْنتين‬
‫عيْن))‬
‫خدَ َ‬
‫على ال ْ‬

‫وفى ((الصحيح)) عنه‪(( :‬أنه احتجم وهو محرمٌ فى رأسه لِصداع كان به))‪.‬‬

‫خدَعَيْنِ‬
‫وفى ((سنن ابن ماجه)) عن علىّ‪(( :‬نزل جبريلُ على النبى صلى ال عليه وسلم بحجامة ال ْ‬
‫والكَا ِهلِ))‪.‬‬

‫وفى ((سنن أبى داود)) من حديث جابر‪(( :‬أنّ النبىّ صلى ال عليه وسلم احتجم فى وَركه من وثءٍ كان‬
‫به))‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى مواضع الحِجَامَةِ وأوقاتها‬

‫حدُوَةُ‪.‬‬
‫واختلف الطباءُ فى الحِجَامَ ِة على نُقرةِ القفا‪ ،‬وهى‪ :‬ال َق َم ْ‬

‫حدُوَةِ‪ ،‬فإنها‬
‫حجَامَة فى جَوْ َزةِ القَم ْ‬
‫وذكر أبو نعيم فى كتاب ((الطب النبوىّ)) حديثاً مرفوعاً‪(( :‬عََليْكم بال ِ‬
‫جذَامَ‪.‬‬
‫تشفى من خمسة أَدواءٍ))‪ ،‬ذكر منها ال ُ‬

‫سبْعينَ داءً))‪.‬‬
‫حدُوَةِ‪ ،‬فإنها شفا ٌء من ا ْث َنيْنِ و َ‬
‫حجَامَة فى جَوْ َزةِ ال َقمْ ْ‬
‫وفى حديث آخر‪(( :‬عليكم بال ِ‬

‫حظِ العَيْن‪ ،‬وال ّنتُوءِ العارض فيها‪ ،‬وكثير من أمراضها‪،‬‬


‫فطائفةٌ منهم استحسنته وقالت‪ :‬إنها تنف ُع من جَ ْ‬
‫ومن ثِقل الحاجبين والجَفن‪ ،‬وتنفع من جَرَبه‪.‬‬

‫وروى أنّ أحمد بن حنبل احتاج إليها‪ ،‬فاحتجم فى جانبى قفاه‪ ،‬ولم يحتجم فى النّقرة‪.‬‬

‫وممن كرهها صاحب ((القانون))‪ ،‬وقال‪ :‬إنها تُورث النّسيان حقاً‪ ،‬كما قال سيدنا ومولنا وصاحب‬
‫شريعتنا محمدٌ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإنّ مؤخّر الدماغ موضع الحفظ‪ ،‬والحِجَامَة تُذهبه‪ ..‬انتهى كلمه‪.‬‬
‫حجَامَ ِة إنما تُضعف مؤخّرَ الدماغ إذا استُعمِلَتْ‬
‫ث ل يَثبُت‪ ،‬وإن ثبت فال ِ‬
‫وردّ عليه آخرون‪ ،‬وقالوا‪ :‬الحدي ُ‬
‫لغير ضرورة‪ ،‬فأما إذا استُعملت لغلبة الدم عليه‪ ،‬فإنها نافعة له طبًا وشرعاً‪ ،‬فقد ثبت عن النبىّ صلى ال عليه‬
‫ل فى ذلك‪ ،‬واحتَجَمَ فى غير القفا بحسب ما دعت‬ ‫ن مِن قفاه بحسب ما اقتضاه الحا ُ‬‫وسلم أنه اح َتجَ َم فى عدةِ أماك َ‬
‫إليه حاجتُه‪.‬‬

‫فصـــل‬

‫والحِجَامَةُ تحت الذقن تنف ُع من وجع السنان والوجه والحلقوم‪ ،‬إذا اس ُت ْعمِلَت فى وقتها؛ وتُنقّى الرأس‬
‫وال َف ّكيْن‪.‬‬

‫صدِ الصّافِنِ؛ وهو عِرق عظيم عند الكعب‪ ،‬وتنفع من قروح‬ ‫ب عن فَ ْ‬ ‫والحِجَامَةُ على ظهر القدم تَنو ُ‬
‫ل ْن َثيَيْنِ‪.‬‬
‫حكّةِ العارِضة فى ا ُ‬
‫طمْثِ‪ ،‬وال ِ‬
‫الفَخِذين والساقين‪ ،‬وانقطاعِ ال ّ‬

‫والحِجَامةُ فى أسفل الصدر نافع ٌة من دماميل الفخذِ‪ ،‬وجَ َربِه‪ ،‬و ُبثُورِه‪ ،‬ومن النّقْرِس‪ ،‬والبواسيرِ والفِيل‬
‫حكّةِ الظهر‪.‬‬
‫وِ‬

‫فصل‬

‫حجَامة‬
‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى أوقات ال ِ‬

‫جمُون فيه يَ ْومُ سابعَ‬


‫خيْ َر ما تَحتَ ِ‬
‫روى الترمذى فى ((جامعـه)) من حديث ابن عباس يرفعه‪(( :‬إنّ َ‬
‫حدَى وعِشْرِينَ))‪.‬‬
‫عشَرَةَ‪ ،‬أو تاسِ َع عشرةَ‪ ،‬ويومُ إ ْ‬

‫س ْبعَةَ‬
‫حتَجِ ُم فى الخدَعَين والكاهل‪ ،‬وكان يحتجم لِ َ‬
‫وفيه عن أنس‪(( :‬كان رسولُ ال صلى ال عليه وسلم َي ْ‬
‫حدَى وعِشرِينَ))‪.‬‬
‫عشَرَ‪ ،‬وفى إ ْ‬
‫سعَةَ َ‬
‫عَشَرَ‪ ،‬وتِ ْ‬

‫عشَرَ‪ ،‬أو‬
‫سعَةَ َ‬
‫شرَ‪ ،‬أو تِ ْ‬
‫س ْبعَةَ عَ َ‬
‫حجَامة فَ ْل َيتَحَرّ َ‬
‫وفى ((سنن ابن ماجه)) عن أنس مرفوعاً‪(( :‬مَنْ أراد ال ِ‬
‫ح ِدكُم الدّمُ‪ ،‬فيقتلَه))‪.‬‬
‫حدَى وعِشرِينَ‪ ،‬ل َي َتبَيّغ بأ َ‬
‫إْ‬

‫شرَة‪ ،‬أو‬
‫عشْرَةَ‪ ،‬أو تِسْ َع عَ ْ‬
‫سبْع َ‬‫جمَ لِ َ‬
‫حتَ َ‬
‫وفى ((سنن أبى داود)) مِن حديث أبى هريرة مرفوعاً‪(( :‬مَن ا ْ‬
‫شرِينَ‪ ،‬كانَتْ شِفا ًء من كلّ داءٍ))‪ ،‬وهذا معناه من كل دا ٍء سببه غلبة الدّم‪.‬‬
‫حدَى وعِ ْ‬
‫إْ‬

‫ن الحِجَامَة فى النصف الثانى‪ ،‬وما يليه من الرّبع الثالث‬


‫وهذه الحاديث موافقة لما أجمع عليه الطباء‪ ،‬أ ّ‬
‫ت عند الحاجة إليها نفعت أى وقت كان من أول الشهر وآخره‪.‬‬ ‫من أرباعه أنفع من أوله وآخره‪ ،‬وإذا اس ُتعْمِلَ ْ‬

‫قال الخَلل‪ :‬أخبرنى عصمةُ بن عصام‪ ،‬قال‪ :‬حدّثنا حَنبل‪ ،‬قال‪ :‬كان أبو عبد ال أحمد بن حنبل يحتجِمُ‬
‫ى ساعة كانت‪.‬‬
‫أىّ وقت هاج به الدّم‪ ،‬وأ ّ‬

‫وقال صاحب ((القانون))‪ :‬أوقاتُها فى النهار‪ :‬الساعة الثانية أو الثالثة‪ ،‬ويجب توقيها بعد الحمّام إل فيمن‬
‫دَمُه غليظ‪ ،‬فيجب أن يستحِمّ‪ ،‬ثم يستجم ساعة‪ ،‬ثم يحتجم‪ ..‬انتهى‪.‬‬

‫سدَداً وأمراضاً رديئة‪ ،‬ول سيما إذا كان الغذاء‬


‫حجَامَة على الشبع‪ ،‬فإنها ربما أورثت ُ‬
‫وتُكره عندهم ال ِ‬
‫رديئًا غليظاً‪ .‬وفى أثر‪(( :‬الحجامةُ على الرّيق دواء‪ ،‬وعلى الشبع داء‪ ،‬وفى سبعة عشر من الشهر شفاء))‪.‬‬

‫واختيار هذه الوقات للحِجَامة‪ ،‬فيما إذا كانت على سبيل الحتياط والتحرز من الذى‪ ،‬وحفظًا للصحة‪.‬‬
‫ج إليها وجب استعمالها‪.‬‬
‫وأما فى مُداواة المراض‪ ،‬فحيثما وُجد الحتيا ُ‬

‫وفى قوله‪(( :‬ل َيتَ َبيّغْ بأحدِكم الدّ ُم فيقتلَهُ))‪ ،‬دللة على ذلك‪ ،‬يعنى لئل َي َتبَيّغ‪ ،‬فحذف حرف الجر مع‬
‫((أَن))‪ ،‬ثم حُذفت‬
‫((أَن))‪ .‬و ((ال ّت َبيّغُ))‪ :‬ال َهيْجُ‪ ،‬وهو مقلوب البغى‪ ،‬وهو بمعناه‪ ،‬فإنه بغى الدم وهيجانه‪ .‬وقد تقدّم أنّ المام أحمد‬
‫ى وقتٍ احتاج من الشهر‪.‬‬ ‫كان يحتجم أ ّ‬

‫فصل‬

‫وأما اختيارُ أيام السبوع للحِجَامة‪ ،‬فقال الخَلّل فى ((جامعه))‪ :‬أخبرنا حرب بن إسماعيل‪ ،‬قال‪ :‬قلت‬
‫لحمد‪ :‬تُكره الحِجَامة فى شىء من اليام ؟ قال‪ :‬قد جاء فى الربعاء والسبت‪.‬‬

‫ى وقت تُكره ؟ فقال‪ :‬فى يوم السبت‪،‬‬


‫وفيه‪ :‬عن الحسين بن حسّان‪ ،‬أنه سأل أبا عبد ال عن الحِجَامة‪ :‬أ ّ‬
‫ويوم الربعاء؛ ويقولون‪ :‬يوم الجمعة‪.‬‬

‫حتَجَمَ يو َم الر ِبعَاء‬


‫وروى الخَلل‪ ،‬عن أبى سلمةَ وأبى سعيد المقبُرى‪ ،‬عن أبى هريرة مرفوعاً‪(( :‬مَن ا ْ‬
‫ن إل نَ ْفسَهُ))‪.‬‬
‫سبْتِ‪ ،‬فأصابَهُ بياضٌ أو بَرَصٌ‪ ،‬فل يَلُومَ ّ‬
‫أو يومَ ال ّ‬

‫سئِلَ أحمد عن‬


‫ن يعقوب بن بختان‪ ،‬حدّثهم‪ ،‬قال‪ُ (( :‬‬ ‫وقال الخَلل‪ :‬أخبرنا محمد بن على بن جعفر‪ ،‬أ ّ‬
‫النّورَ ِة والحِجَامةِ يوم السبت ويوم الربعاء ؟ فكرهها‪ .‬وقال‪ :‬بلغنى عن رجل أنه َتنَوّرَ‪ ،‬واحتجم يعنى يوم‬
‫ن بالحديث ؟ قال‪ :‬نعم ))‪.‬‬
‫الربعاء فأصابه البَرَصُ‪ .‬فقلت له‪ :‬كأنه تهاوَ َ‬

‫وفى كتاب ((الفراد)) للدّا َرقُطْنىّ‪ ،‬من حديث نافع قال‪ :‬قال لى عبد ال ابن عمر‪َ (( :‬ت َبيّغَ بى الدم‪ ،‬فابْغِ‬
‫لى حجّاماً؛ ول يكن صبيّا ول شيخًا كبيراً‪ ،‬فإنى سمعتُ رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪(( :‬الحِجَامَةِ تزِيدُ‬
‫حدَ‪،‬‬‫سبْتَ‪ ،‬وال َ‬ ‫ج ُمعَةَ‪ ،‬وال ّ‬‫خمِيسَ‪ ،‬وال ُ‬ ‫جمُوا ال َ‬
‫حتَ ِ‬
‫جمُوا على اسم ال تعالى‪ ،‬ول ت ْ‬ ‫حتَ ِ‬
‫حفْظاً‪ ،‬والعاقِلَ عقلً‪ ،‬فا ْ‬
‫الحَافِظَ ِ‬
‫جمُوا ال ْث َنيْن‪ ،‬وما كان من جُذا ٍم ول بَرَصٍ‪ ،‬إل نزلَ يوم الربعاء))‪ .‬قال الدّا َرقُطْنى‪ :‬تَفَ ّر َد به زيا ُد بن‬ ‫ح َت ِ‬
‫وا ْ‬
‫جمُوا يوم الربعاء))‪.‬‬ ‫حتَ ِ‬
‫جمُــوا يومَ ال ْث َنيْن والثّلثَاء‪ ،‬ول تَ ْ‬
‫حتَ ِ‬
‫يحيى‪ ،‬وقد رواه أَيوب عن نَافع‪ ،‬وقال فيه‪(( :‬وا ْ‬

‫حجَامَة يَوْ َم الثّلثَاء‪ ،‬وقال‪ :‬إنّ‬


‫وقد روى أبو داود فى ((سننه)) من حديث أبى بكرةَ‪ ،‬أنه كان يكره ال ِ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪(( :‬يو ُم الثّلثَاء يوم الدّ ِم وفيه ساع ٌة ل يَ ْر َقأُ فِيهَا الدّمُ))‪.‬‬

‫فصل‬

‫حجَامة‪ ،‬وأنها تكون فى الموضع الذى‬ ‫وفى ضمن هذه الحاديث المتقدمَةِ استحبابُ التداوى‪ ،‬واستحبابُ ال ِ‬
‫يقتضيه الحالُ؛ وجوا ُز احتجامِ ا ْلمُحْرِم‪ :‬وإنْ آل إلى قطع شىء من الشّعر‪ ،‬فإن ذلك جائز‪ .‬وفى وجوب الفديةِ‬
‫عليه نظر‪ ،‬ول يَقوَى الوجوبُ‪ ،‬وجوازُ احتجا ِم الصائم‪ ،‬فإنّ فى ((صحيح البخارىّ)) أَنّ رسول ال صلى ال‬
‫ح َتجَمَ وهو صائم))‪ ،‬ولكن‪ :‬هل يُفطِ ُر بذلك‪ ،‬أم ل ؟ مسألة أُخرى‪ ،‬الصوابُ‪ :‬الفِطرُ بالحِجامة‪،‬‬ ‫عليه وسلم ((ا ْ‬
‫لصحته عن رسول ال صلى ال عليه وسلم من غير معارضٍ‪ ،‬وأصحّ ما يعا َرضُ به حديثُ حِجَامته وهو صائم‪،‬‬
‫ن الصوم كان فرضاً‪ .‬الثانى‪ :‬أنه كان مقيماً‪ .‬الثالث‪:‬‬ ‫ولكنْ ل يَدلّ على عدم الفِطر إل بعد أربعة أُمور‪ .‬أحدها‪ :‬أ ّ‬
‫جمُ‬
‫ن هذا الحديث متأخرٌ عن قوله‪(( :‬أفطَرَ الحا ِ‬ ‫أنه لم يكن به مرضٌ احتاج معه إلى الحِجَامة‪ .‬الرابع‪ :‬أ ّ‬
‫والمحجُومُ))‪.‬‬

‫ت هذه المقدّمات الربعُ‪ ،‬أمكن الستدللُ بفعله صلى ال عليه وسلم على بقاء الصوم مع‬ ‫فإذا ثبتَ ْ‬
‫حجَامة وغيرها‪ ،‬أو مِن رمضان لكنه فى‬ ‫حجَامة‪ ،‬وإل فما المانعُ أن يكونَ الصومُ نفلً يجوز الخروجُ منه بال ِ‬ ‫ال ِ‬
‫ض إلى الفِطر‪ ،‬أو يكونَ‬
‫حضَر‪ ،‬لكن دعت الحاج ُة إليها كما تدعو حاجة مَن بِهِ مر ٌ‬ ‫السّفر‪ ،‬أو مِن رمضان فى ال َ‬
‫حضَر من غير حاجة إليها‪ ،‬لكنه مُبقّى على الصل‪ .‬وقوله‪َ(( :‬أ ْفطَر الحاجمُ‬ ‫فرضًا من رمضانَ فى ال َ‬
‫والمحجومُ))‪ ،‬ناقل ومتأخّر‪ .‬فيتعيّن المصيرُ إليه‪ ،‬ول سبيل إلى إثبات واحدة من هذه المقدمات الربع؛ فكيف‬
‫بإثباتها كلها‪.‬‬

‫وفيها‪ :‬دليلٌ على استئجار الطبيبِ وغيره مِن غير عقد إجارة‪ ،‬بل يُعطيه أُجرة المِثل‪ ،‬أو ما يُرضيه‪.‬‬

‫وفيها‪ :‬دليلٌ على جواز التكسّبِ بصناعة الحِجَامة‪ ،‬وإن كان ل يَطيب للحُ ّر أكلُ أُجرتِ ِه من غير تحريم‬
‫ن النبىّ صلى ال عليه وسلم أعطاه أجرَه‪ ،‬ولم َي ْمنَعه من أكله‪ ،‬وتسميتُهُ إياه خبيثًا كَتسميته للثوم والبصل‬ ‫عليه‪ ،‬فإ ّ‬
‫خبيثين‪ ،‬ولم يلزم مِن ذلك تحريمُهما‪.‬‬
‫ن للعبد أن‬
‫ل الخراجَ على عبده كُلّ يومٍ شيئًا معلوماً بقدر طاقته‪ ،‬وأ ّ‬
‫وفيها‪ :‬دليلٌ على جواز ضرب الرج ُ‬
‫سبُه كلّه خراجاً ولم يكن لتقديره فائدة‪ ،‬بل ما زاد‬ ‫يتصرّف فيما زاد على خراجه‪ ،‬ولو ُمنِع من التصرف‪ ،‬لكان ك ْ‬
‫على خراجه‪ ،‬فهو تمليكٌ من سيده له يتصرّف فيه كما أراد‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫فصل‬

‫في هَديهِ صلى ال عليه وسلم في قَطع العُرُوق والكي‬

‫ى بن كعب‬
‫ن النبىّ صلى ال عليه وسلم بعَثَ إلى ُأبَ ّ‬
‫ثبت فى ((الصحيح)) من حديث جابر بن عبد ال‪ ،‬أ ّ‬
‫طَبيباً‪ ،‬ف َقطَعَ له عِرْقاً وكَواه عليه‪.‬‬

‫سمَهُ النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم و ِرمَت‪ ،‬فحسَمهُ الثانية‪.‬‬


‫ولما ُرمِى سعدُ بن معاذٍ فى أكْحَلِهِ ح َ‬
‫و((الحَسْمُ)) هو‪ :‬الكَىّ‪.‬‬

‫شقَصٍ‪ ،‬ثم حسمَهُ سعد‬


‫ن النبىّ صلى ال عليه وسلم كَوَى سعدَ بن مُعاذٍ فى أ ْكحَلِهِ ِبمِ ْ‬
‫وفى طريق آخر‪ :‬أ ّ‬
‫بن مُعاذٍ أو غيرُه من أصحابه‪.‬‬

‫ل من النصار ُرمِى فى أكْحَلِه ِبمِشْقَصٍ‪ ،‬فأمر النبىّ صلى ال عليه وسلم به‬
‫وفى لفظ آخر‪ :‬أنّ رج ً‬
‫فكُوِىَ‪.‬‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫ضفُوهُ))‪.‬‬
‫ت له الكَىّ‪ ،‬فقال‪(( :‬اكْوُو ُه وارْ ِ‬
‫ل ُنعِ َ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم برج ٍ‬ ‫وقال أبو عُبيدٍ‪ :‬وقد ُأتِىَ النب ّ‬ ‫@‬
‫قال أبو عُبيدةَ‪ :‬الرّضْفُ‪ :‬الحجارة تُسخّنُ‪ ،‬ثم يُكمدُ بها‪.‬‬

‫وقال الفضل بن دُكَين‪ :‬حدّثنا سُفيانُ‪ ،‬عن أبى الزّبير‪ ،‬عن جابرٍ‪ :‬أنّ النبىّ صلى ال عليه وسلم كَواهُ فى‬
‫أكْحَلِه‪.‬‬

‫حىٌ‪.‬‬
‫ب والنّبىّ صلى ال عليه وسلم َ‬
‫جنْ ِ‬
‫وفى ((صحيح البخارى)) من حديث أنس‪ ،‬أنه كُ ِوىَ من ذاتِ ال َ‬

‫وفى الترمذى‪ ،‬عن أنسٍ‪ ،‬أنّ النّبىّ صلى ال عليه وسلم‬

‫س َعدَ بن زُرَارَةَ من الشّ ْوكَةِ))‪.‬‬


‫((كَوَى أ ْ‬

‫ب أن‬
‫ق عليه وفيه‪(( :‬ومَا أُحِ ّ‬
‫وقد تقدّم الحديث المتفَ ُ‬

‫َأكْتوِى))‪ ،‬وفى لفظ آخرَ‪(( :‬وأنا أ ْنهَى ُأ ّمتِى عن ا ْلكَىّ))‪.‬‬

‫ن النّبىّ صلى ال عليه وسلم َنهَى عن الكَىّ‬ ‫ن بن حصينٍ‪ ،‬أ ّ‬ ‫وفى ((جامع الترمذى)) وغيره عن عِمرا َ‬
‫ن ول أ ْنجَحْنَ‪.‬‬
‫قال‪ :‬فا ْبتُلِينَا فاكْتويْنا فما أفلحْنا‪ ،‬ول أنجحنا‪ .‬وفى لفظ‪ُ :‬نهِينا عن الكَىّ وقال‪ :‬فما أفْلَحْ َ‬

‫ى مستعملٌ فى‬
‫ف ف َيهِْلكَ‪ .‬والك ّ‬
‫قال الخطابىّ‪ :‬إنما كَوى سعداً ليَ ْر َقأَ الدمُ من جُرحه‪ ،‬وخاف عليه أنْ َينْزِ َ‬
‫هذا الباب‪ ،‬كما ُيكْوَى مَن تُقطع يدُه أو رِجلُه‪.‬‬

‫ى عن الكىّ‪ ،‬فهو أن يَكتوىَ طلبًا للشفاء‪ ،‬وكانوا يعتقدون أنه متى لم يَكتو‪َ ،‬هلَك‪ ،‬فنهاهم عنه‬
‫وأما النه ُ‬
‫لجل هذه النيّةِ‪.‬‬

‫صيْنٍ خاصةً‪ ،‬لنه كان به ناصُورٌ‪ ،‬وكان موضعه خطِراً‪ ،‬فنهاه عن‬
‫وقيل‪ :‬إنما نَهى عنه عِمران بن حُ َ‬
‫ى منصرفًا إلى الموضع المخوف منه‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬ ‫ن النه ُ‬
‫شبِهُ أن يكو َ‬
‫كيّه‪ ،‬فيُ ْ‬
‫ى الصحيح لئل يَعتلّ‪ ،‬فهذا الذى قيل فيه‪(( :‬لمْ يتوكلْ مَن اكتوَى))‪ ،‬لنه‬
‫وقال ابن قتيبة‪ :‬الكىّ جنسانِ‪ :‬ك ّ‬
‫يُريد أن يَدفعَ ال َقدَرَ عن نفسه‪.‬‬

‫والثانى‪ :‬كىّ الجرْح إذا َنغِلَ‪ ،‬والعُض ِو إذا قُطعَ‪ ،‬ففى هذا الشفاءُ‪.‬‬

‫وأما إذا كان الكىّ للتداوى الذى يجو ُز أن ينجَع‪ ،‬ويجوز أن ل ينجع‪ ،‬فإنه إلى الكراهة أقربُ‪ ..‬انتهى‪.‬‬

‫نل‬
‫وثبت فى ((الصحيح)) فى حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنّةَ بغير حساب أنهم ((الذي َ‬
‫ستَرقُونَ‪ ،‬ول يكتوُونَ‪ ،‬ول يتطيّرُونَ‪ ،‬وعَلَى رب ِهمْ يتوكّلُونَ))‪.‬‬
‫يَ ْ‬

‫ت أحاديثُ الكىّ أربعةَ أنواع‪ ،‬أحدُها‪ :‬فعلُه‪ ،‬والثانى‪ :‬عد ُم محبته له‪ ،‬والثالث‪ :‬الثناء على مَن‬‫فقد تضمن ْ‬
‫تركه‪ ،‬والرابع‪ :‬النهى عنه‪ ،‬ول َتعَارُض بينها بحمدِ ال تعالى‪ ،‬فإنّ فِعلَه يدلّ على جوازه‪ ،‬وعدمَ محبتِه له ل يدلّ‬
‫ى عنه‪ ،‬فعلى سبيل الختيار‬ ‫على المنع منه‪ .‬وأما الثناءُ على تاركِه‪ ،‬فيدلّ على أنّ تَ ْركَه أولى وأفضلُ‪ .‬وأما النه ُ‬
‫ج إليه‪ ،‬بل يفعل خوفًا من حدوث الداء‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬ ‫والكراهة‪ ،‬أو عن النوع الذى ل يُحتا ُ‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج الصّرْع‬

‫أخرجا فى ((الصحيحين)) من حديث عطاء بن أبى رباح‪ ،‬قال‪ :‬قال ابنُ عباسٍ‪ :‬ألَ ُأرِيكَ امْرَأَ ًة مِن أَهْلِ‬
‫جنّةِ ؟ قلتُ‪ :‬بَلَى‪ .‬قَالَ‪َ :‬هذِهِ المَرْأَ ُة السّ ْودَاءُ‪َ ،‬أتَت النبىّ صلى ال عليه وسلم فقَالَتْ‪ :‬إنّى أُصْ َرعُ‪ ،‬وَإنّى َأ َتكَشّفُ؛‬
‫الْ َ‬
‫ك أن يُعا ِف َيكِ))‪ ،‬فقالت‪ :‬أصبرُ‪ .‬قالتْ‪:‬‬ ‫لل ِ‬
‫تا َ‬
‫شئْتِ دعو ُ‬
‫صبَرْتِ وَلكِ الجنّةُ؛ وإنْ ِ‬ ‫شئْتِ َ‬ ‫فَا ْدعُ ال لى‪ ،‬فقَالَ‪(( :‬إنْ ِ‬
‫فإنى أتكشّفُ‪ ،‬فَادعُ ال أن ل أتكشّف‪ ،‬فدعا لها‪.‬‬

‫ط الرديئة‪ .‬والثانى‪ :‬هو‬


‫ص ْرعٌ من الخل ِ‬
‫ع من الرواح الخبيثة الرضية‪ ،‬و َ‬
‫قلت‪ :‬الصّرع صرعان‪ :‬صَ ْر ٌ‬
‫الذى يتكلم فيه الطباء فى سببه وعِلجه‪.‬‬

‫ص ْرعُ الرواح‪ ،‬فأئْمتُهم وعقلؤهم يعترفون به‪ ،‬ول يدفعونه‪ ،‬ويعترفون بأنّ علجه بمقابلةُ‬ ‫وأما َ‬
‫الرواحِ الشريفةِ الخيّر ِة العُلْويّة لتلك الرواح الشّريرة الخبيثة‪ ،‬فتدافع آثارها‪ ،‬وتعارضُ أفعالَها وتُبطلها‪ ،‬وقد‬
‫ض عِلج الصّ ْرعِ‪ ،‬وقال‪ :‬هذا إنما ينفع من الصّرْع الذى س َببُه‬ ‫نص على ذلك ((بقراط)) فى بعض كتبه‪ ،‬فذكر بع َ‬
‫الخلط والمادة‪ .‬وأما الصّرْع الذى يكون من الرواح‪ ،‬فل ينفع فيه هذا العلج‪.‬‬

‫وأما جهل ُة الطباء وَس َقطُهم وسفَلتُهم‪ ،‬ومَن يعت ِقدُ بالزندقة فضيلة‪ ،‬فأُولئك يُنكِرون صَ ْرعَ الرواح‪ ،‬ول‬
‫يُقرون بأنها تُؤثر فى بدن المصروع‪ ،‬وليس معهم إل الجهلُ‪ ،‬وإل فليس فى الصناعة الطبية ما يَدفع ذلك‪،‬‬
‫والحِسّ والوجودُ شاهدٌ به‪ ،‬وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الخلط‪ ،‬هو صادق فى بعض أقسامه ل فى كلّها‪.‬‬

‫وقدما ُء الطباء كانوا يُسمون هذا الصّ ْرعَ‪ :‬المرضَ اللهى‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنه من الرواح‪.‬‬

‫وأما ((جالينوس)) وغيرُه‪ ،‬فتأوّلُوا عليهم هذه التسمية‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنما سمّوه بالمرض اللهى لكون هذه‬
‫العِلّة تَحدُث فى الرأس‪ ،‬فَتضُرّ بالجزء اللهى الطاهر الذى مسكنُه الدماغُ‪.‬‬

‫وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الرواح وأحكامِها‪ ،‬وتأثيراتها‪ ،‬وجاءت زنادقةُ الطباء فلم يُثبتوا‬
‫ط وحده‪.‬‬
‫إل صَرْع الخل ِ‬

‫حكُ من جهل هؤلء وضعف عقولهم‬


‫ومَن له عقل ومعرفة بهذه الرواح وتأثيراتِها يض َ‬

‫ج هذا النوع يكون بأمرين‪ :‬أمْ ٍر من جهة المصروع‪ ،‬وأمْرٍ من جهة المعالِج‪ ،‬فالذى من جهة‬‫وعِل ُ‬
‫صدْقِ توجهه إلى فاطر هذه الرواح وبارئها‪ ،‬والتعوّذِ الصحيح الذى قد تواطأ‬
‫المصروع يكون بقوةِ نفسه‪ ،‬و ِ‬
‫ع محاربةِ‪ ،‬والمحَارب ل يتمّ له النتصاف من عدوه بالسلح إل بأمرين‪ :‬أن‬ ‫ن هذا نو ُ‬
‫عليه القلبُ واللّسان‪ ،‬فإ ّ‬
‫يكون السلح صحيحاً فى نفسه جيداً‪ ،‬وأن يكون الساعدُ قوياً‪ ،‬فمتى تخلّف أحدُهما لم يُغن السلح كثيرَ طائلٍ‪،‬‬
‫فكيف إذا عُدِمَ المران جميعاً‪ :‬يكونُ القلب خراباً من التوحيد‪ ،‬والتوكل‪ ،‬والتقوى‪ ،‬والتوجه‪ ،‬ول سلحَ له‪.‬‬

‫ن مَن يكتفى بقوله‪:‬‬


‫ن من المعالجي َ‬
‫والثانى‪ :‬من جهة المعالِج‪ ،‬بأن يكون فيه هذان المران أيضاً‪ ،‬حتى إ ّ‬
‫س ِم ال))‪ ،‬أو بقول‪(( :‬ل حَوْل ول قُوّة إل بال))‪ ،‬والنبىّ صلى ال عليه وسلم كان‬
‫ج منه))‪ ،‬أو بقول‪(( :‬بِ ْ‬ ‫((اخرُ ْ‬
‫عدُوّ الِ‪ ،‬أنا رَسُولُ الِ))‪.‬‬
‫ج َ‬
‫خرُ ْ‬
‫يقولُ‪(( :‬ا ْ‬

‫ك الشيخُ‪ :‬اخرُجى‪ ،‬فإنّ‬


‫ح التى فيه‪ ،‬ويقول‪ :‬قال ل ِ‬‫ب الرو َ‬
‫ل إلى المصروع مَن يخاط ُ‬ ‫وشاهدتُ شيخنَا يُرسِ ُ‬
‫ح مارِدةً فيُخرجُها بالضرب‪ ،‬فيُفيق‬
‫هذا ل َيحِلّ لكِ‪ ،‬فيُفِيقُ المصروعُ‪ ،‬وربما خاطبها بنفسه‪ ،‬وربما كانت الرو ُ‬
‫المصروعُ ول يُحِس بألم‪ ،‬وقد شاهدنا نحن وغيرُنا منه ذلك مراراً‪.‬‬

‫ن }[المؤمنون ‪:‬‬
‫جعُو َ‬
‫عبَثًا وََأّنكُمْ إَل ْينَا لَ تُرْ َ‬
‫س ْبتُ ْم َأّنمَا خََل ْقنَاكُ ْم َ‬
‫وكان كثيرًا ما يَقرأ فى أُذن المصروع‪َ{ :‬أفَحَ ِ‬
‫‪.]115‬‬

‫وحدّثنى أنه قرأها مرة فى أُذن المصروع‪ ،‬فقالت الروح‪ :‬نعمْ‪ ،‬ومد بها صوته‪ .‬قال‪ :‬فأخذتُ له عصا‪،‬‬
‫ت لذلك الضرب‪ .‬ففى‬ ‫شكّ الحاضرون أنه يمو ُ‬ ‫ى من الضرب‪ ،‬ولم يَ ُ‬ ‫وضربتُه بها فى عروق عنقه حتى كَلّتْ يدَا َ‬
‫ت لها‪ :‬هو ل يُرِيدُ أَنْ َيحُجّ‬‫ن أحُجّ به‪ .‬فقل ُ‬
‫ت لها‪ :‬هو ل يحبك‪ .‬قالتْ‪ :‬أنَا أُريد أ ْ‬ ‫حبّه‪ ،‬فقل ُ‬
‫أثناء الضرب قالت‪ :‬أَنا أُ ِ‬
‫ج منه‪ ،‬قال‪ :‬ف َقعَد‬‫َم َعكِ‪ ،‬فقالتْ‪ :‬أنا أدَعُه كَرامةً لكَ‪ ،‬قال‪ :‬قلتُ‪ :‬ل ولكنْ طاع ًة لِ ولرسولِه‪ ،‬قالتْ‪ :‬فأنا أخرُ ُ‬
‫ب كُلّه ؟ فقال‪ :‬وعلى‬ ‫المصروعُ يَلتفتُ يمينًا وشمالً‪ ،‬وقال‪ :‬ما جاء بى إلى حضرة الشيخ ؟ قالوا له‪ :‬وهذا الضر ُ‬
‫ب ألبتة‪.‬‬
‫أى شىء يَض ِربُنى الشيخ ولم ُأ ْذنِبْ‪ ،‬ولم يَشعُرْ بأنه وقع به الضر ُ‬

‫وكان يعالِجُ بآية الكرسىّ‪ ،‬وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومَن يعالجه بها وبقراءة المعوّذتين‪.‬‬

‫وبالجملة‪ ..‬فهذا النوعُ من الصّرْع‪ ،‬وعلجه ل يُنكره إل قليلُ الحظ من العلم والعقل والمعرفة‪ ،‬وأكثرُ تسلطِ‬
‫الرواح الخبيثةِ على أهل ِه تكون من جهة قِلّ ِة دينِهم‪ ،‬وخرابِ قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذّكرِ‪ ،‬والتعاويذِ‪،‬‬
‫ل ل سلح معه‪ ،‬وربما كان عُريانًا فيُؤثر فيه‬ ‫ح الخبيثةُ الرجلَ أعز َ‬
‫ت النبوية والِيمانيّة‪َ ،‬فتَلْقَى الرو ُ‬
‫والتحصّنا ِ‬
‫هذا‪.‬‬

‫ت أكثرَ النفوسِ البَشَريةِ صَرْعَى هذه الرواحِ الخبيثةِ‪ ،‬وهى فى أسرِها وقبضتِها‬
‫ف الغِطاء‪ ،‬لرأي َ‬
‫ولو كُشِ َ‬
‫تسوقُها حيثُ شاءتْ‪ ،‬ول يُمكنُها المتناعُ عنها ول مخالفتها‪ ،‬وبها الصّ ْرعُ العظمُ الذى ل يُفيقُ صاحبُه إل عند‬
‫المفارق ِة والمعاينةِ‪ ،‬فهناك يتَحقّقُ أنه كان هو المصروعَ حقيقةً‪ ،‬وبال المستعان‪.‬‬

‫ج هذا الصّرْع باقتران العقل الصحيح إلى اليمان بما جاءتْ به الرّسُل‪ ،‬وأن تكون الجنّةُ والنا ُر‬ ‫وعل ُ‬
‫ت والفات بهم‪ ،‬ووقوعَها خلل ديارهم كمواقع‬ ‫ل الدنيا‪ ،‬وحلول ال َمثُول ِ‬
‫ب عينيه وقِبلَة قَ ْلبِه‪ ،‬ويستحضر أه َ‬
‫نُص َ‬
‫ث ل يرى إل مصروعاً‪،‬‬ ‫عمّتِ البليّةُ به بحي ُ‬
‫القَطْر‪ ،‬وهُم صَرعَى ل يُفيقون‪ ،‬وما أشدّ داءَ هذا الصّ ْرعِ‪ ،‬ولكن لما َ‬
‫ب خلفه‪.‬‬‫عيْنَ المستنكَرِ المستغرَ ِ‬
‫لم يَص ْر مستغرَبًا ول مستنكراً‪ ،‬بل صار لكثرة المصروعين َ‬

‫فإذا أراد ال بعبدٍ خيرًا أفاقَ من هذه الصّرْعة‪ ،‬ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حولَه يميناً وشما ً‬
‫ل‬
‫ق به الجنونُ‪ ،‬ومنهم مَن يُفيق أحيانًا قليلةً‪ ،‬ويعودُ إلى جنونه‪ ،‬ومنهم مَن‬ ‫ف طبقاتهم‪ ،‬فمنهم مَن أطبَ َ‬ ‫على اختل ِ‬
‫عمَل أهلِ الفاقةِ والعقل‪ ،‬ثم ُيعَا ِودُه الصّ ْرعُ فيق ُع فى التخبط‪.‬‬
‫عمِل َ‬‫ن أُخرى‪ ،‬فإذا أفاق َ‬‫يُفيق مرةً‪ ،‬ويُجَ ّ‬

‫فصل‬

‫فى صرع الخلط‬

‫ب منعاً غير تام‪،‬‬


‫ص ْرعُ الخلط‪ ،‬فهو عِلّةٌ تمنع العضاء النفسية عن الفعال والحركةِ والنتصا ِ‬ ‫وأما َ‬
‫ط غليظ لزج يسدّ منافذ بطون الدماغ سدة غي َر تامة‪ ،‬فيمتنعُ نفوذُ الحس والحركة فيه وفى العضاء‬ ‫وسببُه خل ٌ‬
‫س فى منافذ الروح‪ ،‬أو بُخارٍ ردىء‬ ‫نفوذاً تاماً من غير انقطاع بالكُلية‪ ،‬وقد تكون لسباب ُأخَر كريح غليظ يحتب ُ‬
‫ج فى جميع العضاء‪،‬‬ ‫ض الدماغُ لدفع المؤذى‪ ،‬فيتبعُه تشنّ ٌ‬ ‫يرتف ُع إليه من بعض العضاء‪ ،‬أو كيفي ٍة لذعة‪ ،‬فينقبِ ُ‬
‫ول يُمكن أن يبقى النسان معه منتصباً‪ ،‬بل يسقُطُ‪ ،‬ويظه ُر فى فيه ال ّز َبدُ غالباً‪.‬‬
‫وهذه العِلّةُ ُت َعدّ من جملة المراض الحادة باعتبار وقت وجوده المؤلم خاصة‪ ،‬وقد ُت َعدّ من جملة‬
‫عسْ ِر بُرئها‪ ،‬ل سيما إن تجاوز فى السن خمسًا وعشرين سنة‪ ،‬وهذه‬ ‫المراض المُزْمنةِ باعتبار طول مُكثِها‪ ،‬و ُ‬
‫ن الصّ ْرعَ يَبقَى فى‬
‫ع هؤلء يكون لزماً‪ .‬قال ((أبقراط))‪ :‬إ ّ‬
‫العِلّة فى دماغه‪ ،‬وخاصةً فى جوهره‪ ،‬فإنّ ص ْر َ‬
‫هؤلء حتى يموتوا‪.‬‬

‫ع وتتكشّفُ‪ ،‬يجوز أن يكون صَرْعُها من‬ ‫إذا عُرِف هذا‪ ،‬فهذه المرأة التى جاء الحديث أنها كانت تُص َر ُ‬
‫هذا النوع‪ ،‬فوعدها النبىّ صلى ال عليه وسلم الجنّة بصبرها على هذا المرض‪ ،‬ودعا لها أن ل تتكشّف‪،‬‬
‫وخيّرها بين الصبر والجنّة‪ ،‬وبين الدعاء لها بالشفاء مِن غير ضمان‪ ،‬فاختارت الصبرَ والجنّةَ‪.‬‬

‫ت والتوجّهِ إلى ال يفع ُ‬


‫ل‬ ‫وفى ذلك دليلٌ على جواز ترك المعالجةِ والتداوى‪ ،‬وأنّ علجَ الرواح بالدعوا ِ‬
‫ن تأثيرَه وفعلَه‪ ،‬وتأثّ َر الطبيعةِ عنه وانفعالها أعظ ُم من تأثي ِر الدويةِ البدنيةِ‪ ،‬وانفعالِ‬
‫ما ل ينالُه علجُ الطباء‪ ،‬وأ ّ‬
‫الطبيعة عنها‪ ،‬وقد جرّبنا هذا مرارًا نحن وغيرُنا‪ ،‬وعقلءُ الطباء معترفون بأنّ لفعل القُوَى النفسيةِ‪ ،‬وانفعالتِها‬
‫فى شفاء المراض عجائبَ‪ ،‬وما على الصناعة الطبّيةِ أض ّر من زنادقة القوم‪ ،‬وسِفْلتِهم‪ ،‬وجُهالهم‪.‬‬

‫والظاهر‪ :‬أنّ صَرْع هذه المرأة كان من هذا النوع‪ ،‬ويجو ُز أن يكون من جهة الرواح‪ ،‬ويكون رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم قد خيّرها بين الصبر على ذلك مع الجنّة‪ ،‬وبين الدعاء لها بالشفاء‪ ،‬فاختارت الصبرَ‬
‫والسّترَ‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج عِرْق النّسَا‬

‫روى ابن ماجه فى ((سننه)) من حديث محمد بن سِيرين‪ ،‬عن أنس بن مالك‪ ،‬قال‪ :‬سمعتُ رسول ال‬
‫عرَا ِبيّةٍ ُتذَابُ‪ ،‬ث ّم تُجزُّأ ثلثةَ أجزاءٍ‪ ،‬ثُ ّم يُشْ َربُ على‬
‫ق النّسَا أ ْليَةُ شاةٍ أ ْ‬
‫عرْ ِ‬
‫صلى ال عليه وسلم يقول‪(( :‬دواءُ ِ‬
‫ق فى كلّ يومٍ جُ ْزءٌ))‪.‬‬
‫الرّي ِ‬

‫ق النّسَاء‪ :‬وج ٌع يبتدى ُء مِن مَ ْفصِل ال َورِك‪ ،‬وينزل مِن خلفٍ على الفخذ‪ ،‬وربما على الكعب‪ ،‬وكلما‬
‫عِرْ ُ‬
‫خذُ‪ ،‬وهذا الحديثُ فيه معنى لّغوى‪ ،‬ومعنى طبى‪.‬‬
‫طالت مدتُه‪ ،‬زاد نزولُه‪ ،‬وتُه َزلُ معه الرجلُ وال َف ِ‬

‫فأما المعنى اللّغوى‪ :‬فدليلٌ على جواز تسمية هذا المرض بِعرْقِ النّسَا خلفاً لمن منع هذه التسمية‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫النّسَا هو العِ ْرقُ نفسه‪ ،‬فيكونُ من باب إضافة الشىء إلى نفسه‪ ،‬وهو ممتنعٌ‪.‬‬

‫ن العِرْق أع ّم من النّسَا‪ ،‬فهو من باب إضافة العام إلى الخاص‬


‫وجواب هذا القائل من وجهين؛ أحدهما‪ :‬أ ّ‬
‫نحو‪ :‬كُل الدراهم أو بعضها‪.‬‬

‫ض الحالّ بالعِرْق؛ والضافة فيه من باب إضافة الشىء إلى محلّ ِه وموضعه‪.‬‬‫الثانى‪ :‬أنّ النّسَا هو المر ُ‬
‫ق ممتد من مفْصل الورك‪ ،‬وينتهى إلى آخر القدم وراءَ‬
‫قيل‪ :‬وسمى بذلك لن ألمه يُنسِى ما سواه‪ ،‬وهذا العِرْ ُ‬
‫الكعب من الجانب الوحشى فيما بين عظم الساق والوتر‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم نوعان؛ أحدهما‪ :‬عامٌ بحسب‬


‫وأما المعنى الطبى‪ :‬فقد تقدّم أنّ كلم رسولِ ا ِ‬
‫الزمان‪ ،‬والماكن‪ ،‬والشخاص‪ ،‬والحوال‪.‬‬

‫ن هذا خطابٌ للعرب‪ ،‬وأهل‬ ‫والثانى‪ :‬خاصٌ بحسب هذه الُمور أو بعضها‪ ،‬وهذا من هذا القِسم‪ ،‬فإ ّ‬
‫ج من أنفع العلج لهم‪ ،‬فإنّ هذا المرض يَحدث‬ ‫ن هذا العِل َ‬
‫الحجاز‪ ،‬ومَن جاوَرَهم‪ ،‬ول سيما أعراب البوادى‪ ،‬فإ ّ‬
‫من ُيبْس‪ ،‬وقد يحدث من مادة غليظة لَ ِزجَة‪ ،‬فعلجُها بالسهال و((ال ْليَةُ)) فيها الخاصيّتان‪ :‬النضاج‪ ،‬والتليين‪،‬‬
‫ض يَحتاج عِلجُه إلى هذين المرين‪.‬‬ ‫ففيها النضاج‪ ،‬والخراج‪ .‬وهذا المر ُ‬

‫وفى تعيينِ الشاةِ العرابيةِ لقِل ُة فضولِها‪ ،‬وصِغرُ مقدارِها‪ ،‬ولُطف جوهرها‪ ،‬وخاصيّةُ مرعاها لنها‬
‫ت إذا تغذّى بها الحيوانُ‪ ،‬صار فى لحمه‬ ‫ب البَرّ الحارةَ‪ ،‬كالشّيحِ‪ ،‬وال َقيْصُوم‪ ،‬ونحوهما‪ ،‬وهذه النباتا ُ‬‫ترعى أعشا َ‬
‫ف منها‪ ،‬ول سيما اللية‪ ،‬وظهو ُر فعل هذه النباتاتِ فى‬ ‫من طبعِها بعد أن يُلَطّفَها تغذيةً بها‪ ،‬ويُكسبَها مزاجاً ألطَ َ‬
‫اللّبن أقوى منه فى اللّحم‪ ،‬ولكنّ الخاصيةَ التى فى اللية من النضاج والتّ ْليِين ل تُوجد فى اللّبن‪ .‬وهذا كما تقدّم‬
‫أنّ أدويةَ غالب الُمم والبوادى هى بالدوية المفردة‪ ،‬وعليه أطباءُ الهند‪.‬‬

‫وأما الروم واليونانُ‪ ،‬فيَع َتنُون بالمركّبة‪ ،‬وهم متفِقون كُلّهم على أنّ مِن مهارة الطبيب أن يداوى بالغِذاء‪،‬‬
‫فإن عجز فبالمُفرد‪ ،‬فإن عجز‪ ،‬فبما كان أقلّ تركيباً‪.‬‬

‫وقد تقدّم أنّ غالب عاداتِ العرب وأهل البوادى المراضُ البسيطةُ‪ ،‬فالدوية البسيطة ُتنَاسبها‪ ،‬وهذا‬
‫ث عن تركيب الغذية وتنوعها واختلفِها‪،‬‬ ‫ض المركّبة‪ ،‬فغالباً ما تحد ُ‬
‫لبساطةِ أغذيتهم فى الغالب‪ .‬وأما المرا ُ‬
‫فاختيرت لها الدوية المركّبة‪ ..‬وال تعالى أعلم‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج يبس الطبع واحتياجه إلى ما يُمشيه ويُلينه‬

‫عمَيْسٍ‪ ،‬قالت‪ :‬قال رسول‬


‫روى الترمذىّ فى ((جامعه)) وابن ماجه فى ((سننه)) من حديث أسماء بنت ُ‬
‫شبْرُم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫س َتمْشِينَ)) ؟ قالت‪ :‬بال ّ‬
‫ت تَ ْ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬بماذا كُن ِ‬

‫شفِى من الموتِ لكانَ السّنا))‪.‬‬


‫((حَارٌ جَارٌ))‪ .‬قالت‪ :‬ثم استمشيْتُ بالسّنا‪ ،‬فقال‪(( :‬لو كان شىءٌ يَ ْ‬

‫ت عبد ال ابن أُم حرام‪ ،‬وكان قد صلّى مع‬ ‫وفى ((سنن ابن ماجه)) عن إبراهيم بن أبى عَبلة‪ ،‬قال‪ :‬سمع ُ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ال ِقبْلتين يقول‪ :‬سمعتُ رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪(( :‬عليكم بالسّنا‬
‫سنُوت‪ ،‬فإنّ فيهما شفا ًء مِنْ كلّ دا ٍء إل السّامَ))‪ ،‬قيل‪ :‬يا رسول ال؛ وما السّـــامُ ؟ قال‪:‬‬
‫وال ّ‬

‫((الموتُ))‪.‬‬

‫ت تستمشين)) ؟ أى‪ :‬تلينين الطبع حتى يمشى‪ ،‬ول يصير بمنزلة الواقف‪ ،‬فيؤذى‬ ‫قوله‪(( :‬بماذا كن ِ‬
‫شيّا على وزن فعيل‪ .‬وقيل‪ :‬لن المسهول يكثر المشى والختلف‬
‫باحتباس النّجْوِ‪ .‬ولهذا سمى الدوا ُء المسهل مَ ِ‬
‫للحاجة‪.‬‬

‫عرْق‬‫شبْرُم‪ ،‬وهو من جملة الدوية اليتوعية‪ ،‬وهو‪ :‬قِشر ِ‬ ‫وقد روى‪(( :‬بماذا تستشفين)) ؟ فقالت‪ :‬بال ّ‬
‫حمْرة‪ ،‬الخفيفُ الرقيقُ الذى يُشبه الجلد‬
‫شجرة‪ ،‬وهو حارٌ يابس فى الدرجة الرابعة‪ ،‬وأجودُه المائل إلى ال ُ‬
‫الملفوف‪ ،‬وبالجملة فهو من الدوية التى أوصى الطبا ُء بترك استعمالها لخطرها‪ ،‬وفرطِ إسهالها‪.‬‬

‫عبَيد‪ :‬وأكثر كلمهم بالياء‪.‬‬


‫وقوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬حَا ٌر جَارٌ)) ويُروى‪(( :‬حَا ٌر يَارٌ)) قال أبو ُ‬
‫قلت‪ :‬وفيه قولن‪ ،‬أحدهما‪ :‬أنّ الحا ّر الجارّ بالجيم‪ :‬الشديدُ السهال؛ فوصفه بالحرارة‪ ،‬وشد ِة السهال وكذلك‬
‫هو‪ ..‬قاله أبو حنيف َة الدّينوَ ِرىّ‪.‬‬

‫ن هذا من التباع الذى يُقصد به تأكيد الول‪ ،‬ويكون بين التأكيد اللّفظى والمعنوى‪،‬‬ ‫والثانى وهو الصواب ‪ :‬أ ّ‬
‫ن بالقاف‪.‬‬
‫ن قَسَ ٌ‬
‫ن بَسَنٌ‪ ،‬أى‪ :‬كامل الحُسْن‪ .‬وقولهم‪ :‬حَسَ ٌ‬
‫ولهذا يُراعون فيه إتباعه فى أكثر حروفه‪ ،‬كقولهم‪ :‬حَسَ ٌ‬
‫ن َليْطانٌ‪ ،‬وحارٌ جارٌ‪ ،‬مع أنّ فى الجار معنى آخر‪ ،‬وهو الذى يجر الشىء الذى يُصيبه من شدة‬ ‫شيْطا ٌ‬
‫ومنه‪َ :‬‬
‫حرارته وج ْذبِه له‪ ،‬كأنه ينزعه ويسلخهُ‪ .‬و((يار)) إما لغة فى ((جار)) كقولهم‪ :‬صِهرى وصِهريج‪ ،‬والصهارى‬
‫والصهاريج‪ ،‬وإما إتباع مستقل‪.‬‬

‫وأما ((السّنا))‪ ،‬ففيه لغتان‪ :‬المد والقصر‪ ،‬وهو نبت حِجازى أفضلُه المكىّ‪ ،‬وهو دواء شريف مأمون‬
‫سهِلُ الصفراءَ والسوداءَ‪ ،‬ويقوّى جِ ْرمَ القلب‪ ،‬وهذه‬‫ب من العتدال‪ ،‬حارٌ يابس فى الدرجة الولى‪ ،‬يُ ْ‬‫الغائلة‪ ،‬قري ٌ‬
‫فضيلة شريفة فيه‪ ،‬وخاصيته النف ُع من الوسواس السوداوى‪ ،‬ومن الشّقاق العارض فى البدن‪ ،‬ويفتح ال َعضَل‬
‫حكّة‪ ،‬والصّرْع‪ ،‬وشرب مائه‬ ‫وينفع من انتشار الشعر‪ ،‬ومن ال ُقمّل والصّداعَ العتيق‪ ،‬والجرب‪ ،‬والبثور‪ ،‬وال ِ‬
‫طبِخَ معه شىء‬ ‫مطبوخًا أصلحُ مِن شربه مدقوقاً‪ ،‬ومقدا ُر الشربة منه ثلثة دراهمَ‪ ،‬ومن مائه‪ :‬خمسة دراهم‪ .‬وإن ُ‬
‫من زهر البنفسج والزبيب الحمر المنزوع العَجَم‪ ،‬كان أصلحَ‪.‬‬
‫حكّة‪ .‬والشّربةُ مِن‬
‫قال الرازىّ‪ :‬السّناء والشاهترج يُسْهلن الخلط المحترقة‪ ،‬وينفعان من الجرب وال ِ‬
‫كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم‪.‬‬

‫وأما ((السّنوتُ)) ففيه ثمانية أقوال‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أنه العسل‪.‬‬

‫ب عُكة السمن يخرجُ خططاً سوداء على السمن‪.‬‬


‫والثانى‪ :‬أنه رُ ّ‬

‫سكِىّ‪.‬‬
‫س ْك َ‬
‫عمْرو بن بكر ال ّ‬
‫حكاهما َ‬

‫ب يُشبه الكمون وليس به‪ ،‬قاله ابن العرابى‪.‬‬


‫الثالث‪ :‬أنه حَ ٌ‬

‫الرابع‪ :‬أنه الكّمون الكرمانىّ‪.‬‬

‫الخامس‪ :‬أنه الرازيانج‪.‬‬

‫ى عن بعض العراب‪.‬‬
‫حكاهما أبو حنيف َة الدّينَوَرِ ّ‬

‫السادس‪ :‬أنه الشّبتّ‪.‬‬

‫السابع‪ :‬أنه التمر‪.‬‬

‫سنّى الحافظ‪.‬‬
‫حكاهما أبو بكر بن ال ّ‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫الثامن‪ :‬أنه العَسل الذى يكون فى زِقاق السمن‪ ،‬حكاه عبد اللّطيف البغدادى‪.‬‬ ‫@‬

‫قال بعض الطباء‪ :‬وهذا أجدر بالمعنى‪ ،‬وأقرب إلى الصواب؛ أى‪ :‬يخلط السّناء مدقوقًا بالعسل المخالط‬
‫للسمن‪ ،‬ثم يُلعق فيكون أصلحَ من استعماله مفرداً لما فى العسل والسمن من إصلح السّنا‪ ،‬وإعانته له على‬
‫السهال‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫سعُوطُ والّلدُودُ‬
‫خيْ َر مَا َتدَاوَيتُم به ال ّ‬
‫وقد روى الترمذىّ وغيره من حديث ابن عباس يرفعه‪(( :‬إنّ َ‬
‫والحِجَامةُ وال َمشِىّ))‪.‬‬

‫سهّلُ خُروجَ الخارِج‪.‬‬


‫شىّ‪ :‬هو الذى يمشى الطب َع َويُليّنُه ويُ َ‬
‫والمَ ِ‬

‫فصل‬

‫حكّة الجسم وما يولد القَمْل‬


‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج ِ‬

‫فى ((الصحيحين)) من حديث قَتادةَ‪ ،‬عن أنس بن مالك قال‪(( :‬رخّص رسولُ الِ صلى ال عليه وسلم‬
‫س الحري ِر لِحكّ ٍة كانت بهما))‪.‬‬
‫لعبد الرّحمن بن عَ ْوفٍ‪ ،‬وال ّز َبيْر بن العوّام رضى ال تعالى عنهما فى ُلبْ ِ‬

‫ل إلى‬
‫وفى رواية‪(( :‬أنّ عبدَ الرّحمن بن عَوْف‪ ،‬وال ّزبَير بن العوّام رضى ال تعالى عنهما‪ ،‬ش َكوْا ال َقمْ َ‬
‫ص الحرير‪ ،‬ورأيتُه عليهما))‪.‬‬
‫النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فى غَزاةٍ لهما‪ ،‬فَرَخّص لهما فى ُقمُ ِ‬

‫ث يتعلق به أمران؛ أحدُهما‪ :‬فِقْهى‪ ،‬والخر‪ :‬طِبى‪.‬‬


‫هذا الحدي ُ‬
‫فأما الفقهى‪ :‬فالذى استقرت عليه سُـنّته صلى ال عليه وسلم إباح ُة الحرير للنساء مطلقاً‪ ،‬وتحريمه على‬
‫جدُ غيرَه‪ ،‬أو ل يجدُ سُترةً سواه‪ .‬ومنها‪:‬‬
‫شدّة البرد‪ ،‬ول يَ ِ‬
‫الرجال إل لحاجةٍ ومصلحةٍ راجحةٍ‪ ،‬فالحاجة إمّا من ِ‬
‫ل عليه حديث أنس هذا الصحيح‪.‬‬ ‫لباسه للجرب‪ ،‬والمرض‪ ،‬والحِكةِ‪ ،‬وكثرة ال َقمْل كما د ّ‬

‫والجواز‪ :‬أصح الروايتين عن المام أحمدَ‪ ،‬وأصحُ قولى الشافعى‪ ،‬إذ الصلُ عد ُم التخصيص‪،‬‬
‫جدَ فيه ذلك المعنى‪ ،‬إذ الحك ُم َيعُم ب ُعمُوم‬
‫ل مَن وُ ِ‬
‫ت إلى كُ ّ‬
‫ق بعض الُمة لمعنى تعدّ ْ‬
‫والرخص ُة إذا ثبتت فى ح ّ‬
‫سببه‪.‬‬

‫ث الرّخصةِ يُحتمل اختصاصُها بعبد الرّحمن بن‬‫ومَن منع منه‪ ،‬قال‪ :‬أحاديثُ التّحريم عامةٌ‪ ،‬وأحادي ُ‬
‫عَوف وال ّزبَيْر‪ ،‬ويُحتمل تَعديها إلى غيرهما‪ .‬وإذا اح ُتمِلَ المران‪ ،‬كان الخذ بالعموم أولى‪ ،‬ولهذا قال بعض‬
‫ت الرّخص ُة مَنْ بعدهما‪ ،‬أم ل ؟‬
‫الرواة فى هذا الحديث‪ :‬فل أدرى أبَلغ ِ‬

‫والصحيح‪ :‬عمو ُم الرّخصة‪ ،‬فإنه عُرْف خطاب الشرع فى ذلك ما لم يُصرّحْ بالتخصيص‪ ،‬وعدم إلحاق‬
‫غير مَن رخّص له أوّل به‪ ،‬كقوله لبى بُرْدة فى تضحيته بالجذعة من ال َمعْز‪:‬‬

‫((تجزيكَ ولن تَجْزىَ عن أح ٍد َبعْدَك))‪ ،‬وكقوله تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم فى نكاح مَن وهبتْ نفسَها له‪:‬‬
‫{خَالِصَ ًة ّلكَ مِن دُونِ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ}[الحزاب ‪.]50 :‬‬

‫وتحري ُم الحرير‪ :‬إنما كان سداً للذرِيعة‪ ،‬ولهذا أُبيح للنساء‪ ،‬وللحاجة‪ ،‬والمصلح ِة الراجحة‪ ،‬وهذه قاعدةُ ما‬
‫حرُمَ النظر سدًا لذريعة الفعل‪ ،‬وأُبيح منه ما‬ ‫حُرّم لسد الذرائع‪ ،‬فإنه يُباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة‪ ،‬كما َ‬
‫تدعو إليه الحاجةُ والمصلحةُ الراجحة‪ ،‬وكما حَ ُرمَ التنفلُ بالصلة فى أوقات النهى سداً لذريعة المشابهة‬
‫الصوريةِ ب ُعبّاد الشمس‪ ،‬وأبيحت للمصلحة الراجحة‪ ،‬وكما حَرُمَ رِبا الفضلِ سدًا لذريعةِ رِبا النّسيئة‪ ،‬وأُبيح منه‬
‫حبِير ِلمَا‬
‫ل ويَحْ ُرمُ من لباس الحرير فى كتاب‪(( :‬التّ ْ‬‫ما تدعو إليه الحاجة من العَرَايا‪ ،‬وقد أش َبعْنا الكلم فيما يَحِ ّ‬
‫ل َويَحْ ُرمُ من لِباس الحَريرِ))‪.‬‬
‫يَح ّ‬

‫فصل‬

‫فى المر الطبى للحرير‬

‫ن الحرير من الدوية المتخَذةِ من الحيوان‪ ،‬ولذلك ُيعَد فى الدوية الحيوانية‪،‬‬ ‫وأما المر الطبىّ‪ :‬فهو أ ّ‬
‫ل الموقع‪ ،‬ومِن خاص ّيتِه تقويةُ القلب‪ ،‬وتَفريحُه‪ ،‬والنفع من كثير‬ ‫لن مخرجَه من الحيوان‪ ،‬وهو كثيرُ المنافع‪ ،‬جلي ُ‬
‫حلَ به‪ ،‬والخا ُم منه وهو‬ ‫من أمراضه‪ ،‬ومِن غلبة المِرّةِ السوداء‪ ،‬والدوا ِء الحادثة عنها‪ ،‬وهو مُقوٍ للبصر إذا اكتُ ِ‬
‫خ َذ منه‬
‫المستعمَلُ فى صناعة الطب حار يابس فى الدرجة الولى‪ .‬وقيل‪ :‬حار رطب فيها‪ .‬وقيل‪ :‬معتدل‪ .‬وإذا اتّ ِ‬
‫ملبوسٌ كان معتدل الحرارة فى مزاجه‪ ،‬مسخّنًا للبدن‪ ،‬وربما برد البدن بتسمينه إياه‪.‬‬

‫ل لباس خشن‪ ،‬فإنه يُهزِلُ‪،‬‬


‫قال الرازىّ‪ :‬البْ َريْسَ ُم أسخنُ من ال َكتّان‪ ،‬وأبردُ من القطن‪ ،‬يُربى اللحمَ‪ ،‬وك ّ‬
‫ويصلب البَشْرة وبالعكس‪.‬‬

‫قلتُ‪ :‬والملبسُ ثلثة أقسام‪ :‬قسمٌ يُسخن البدن ويُدفئه‪ ،‬وقسمٌ يُدفئه ول يُسخنه‪ ،‬وقسمٌ ل يُسخنه ول يدُفئُه‪،‬‬
‫وليس هناك ما يُسخنه ول يُدفئه‪ ،‬إذ ما يُسخنه فهو أولى بتدفئته‪ ،‬فملبسُ الوبار والصواف تُسخن وتُدفىء‪،‬‬
‫ب الصوف حارة يابسة‪،‬‬ ‫وملبسُ ال َكتّان والحرير والقطن تُدفى ُء ول تُسخن‪ .‬فثياب ال َكتّان باردة يابسة‪ ،‬وثيا ُ‬
‫ن من القطن وأقل حرار ًة منه‪.‬‬ ‫ب القطنِ معتدلةُ الحرارة‪ ،‬وثيابُ الحرير ألي ُ‬‫وثيا ُ‬

‫قال صاحب ((المنهاج))‪(( :‬وُلبْسه ل يُسخن كالقُطن‪ ،‬بل هو معتدل‪ ،‬وكُلّ لباس أملسَ صقيلٍ‪ ،‬فإنه أقلّ‬
‫حرَى أن يُلبسَ فى الصيف‪ ،‬وفى البلد الحارة))‬‫إسخانًا للبدن‪ ،‬وأقلّ عونًا فى تحلل ما يتحلل منه‪ ،‬وأ ْ‬

‫ب الحرير كذلك‪ ،‬وليس فيها شىء من ال ُيبْس والخشونة الكائنين فى غيرها‪ ،‬صارت نافعة‬ ‫ولمّا كانت ثيا ُ‬
‫س وخشونةٍ‪ ،‬فلذلك رخّص رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫حكّة ل تكونُ إل عن حرارة ويب ٍ‬ ‫حكّة‪ ،‬إذ ال ِ‬
‫من ال ِ‬
‫ب الحرير أبعدُ عن توّلدِ القمل فيها‪ ،‬إذ كان مِزَاجُها‬
‫حكّةِ‪ ،‬وثيا ُ‬‫لل ّز َبيْر وعبدِ الرّحمن فى لباس الحرير لمداوا ِة ال ِ‬
‫مخالفاً لِمزاج ما يتوّلدُ منه القمل‪.‬‬
‫وأما القسمُ الذى ل يُدفىء ول يُسخن‪ ،‬فالمتخَذ من الحديدِ‪ ،‬والرصاص‪ ،‬والخشب‪ ،‬والتّراب‪ ...‬ونحوها‪،‬‬
‫س الحرير أعدلَ اللباس وأو َفقَه للبدن‪ ،‬فلماذا حرّمتْه الشريعة الكامل ُة الفاضلةُ التى أباحت‬
‫فإن قيل‪ :‬فإذا كان لبا ُ‬
‫الطيباتِ‪ ،‬وحرّمت الخبائث؟‬

‫حكَم والتّعليلِ لمّا رُفعِت‬


‫ب عنه كلّ طائفةٍ من طوائف المسلمين بجوابٍ‪ ،‬ف ُمنْكِرُو ال ِ‬
‫قيل‪ :‬هذا السؤال يجي ُ‬
‫ل من أصلها لم يحتاجوا إلى جواب عن هذا السؤال‪.‬‬ ‫قاعدةُ التعلي ِ‬

‫ب عن هذا بأن الشريعةَ حرّمته لتَصبِرَ النفوسُ عنه‪،‬‬


‫حكَم وهم الكثرون منهم مَن يُجي ُ‬
‫و ُمثْ ِبتُو التعليلِ وال ِ‬
‫وتَت ُركَه ل‪ ،‬فتُثاب على ذلك ل سيما ولها عوضٌ عنه بغيره‪.‬‬

‫ومنهم مَن يُجيبُ عنه بأن خُلِقَ فى الصل للنساء‪ ،‬كالحلية بالذهب‪ ،‬فَحَ ُرمَ على الرجالِ لما فيه من مَفسدةِ‬
‫شبّه الرجالِ بالنساء‪.‬‬
‫تَ َ‬

‫خيَلء والعُجْب‪.‬‬
‫ومنهم مَن قال‪ :‬حَ ُرمَ لما يُورثُه من الفَخْر وال ُ‬

‫خنّثِ‪ ،‬وضدّ الشّهامة والرجولةِ‪ ،‬فإن ُلبْسه‬ ‫ومنهم مَن قال‪ :‬حَ ُرمَ لما يُورثه بملمسته للبدن من الُنوثةِ والتّ َ‬
‫يُكسبُ القلبَ صفة من صفات الناث‪ ،‬ولهذا ل تكاد تجدُ مَن يَلبَسُه فى الكثر إل وعلى شمائله من التخنّثِ‬
‫والتأنّثِ‪ ،‬والرّخَاو ِة ما ل يَخفى‪ ،‬حتى لو كان من أشهم الناس وأكثرِهم فحوليةِ ورُجولية‪ ،‬فل بد أن َينْقُصَه ُلبْسُ‬
‫الحرير منها‪ ،‬وإن لم يُذه ْبهَا‪َ ،‬ومَن غَلُظتْ طِباعُه و َكثُ َفتْ عن فهم هذا‪ ،‬فليُسَلّم للشارع الحكيم‪ ،‬ولهذا كان أصح‬
‫القولين‪ :‬أنه يَحرم على الولى أن يُلبسه الصبىّ لما يَنشأ عليه من صفات أهل التأنيث‪.‬‬

‫ى من حديث أبى موسى الشعرىّ‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬إنّ الَ‬ ‫وقد روى النسائ ّ‬
‫أحلّ لِناثِ ُأ ّمتِى الحري َر والذّهبَ‪ ،‬وحَ ّرمَه عَلى ُذكُورِها))‪.‬‬

‫ل لِنا ِثهِم))‪.‬‬
‫وفى لفظٍ‪(( :‬حُرّ َم لِباسُ الحَري ِر والذّهَبِ عَلى ذُكو ِر ُأمّتى‪ ،‬وأُحِ ّ‬

‫حذَيفة‪ ،‬قال‪(( :‬نهى رسولُ ال صلى ال عليه وسلم عن ُلبْس الحرير‬ ‫وفى ((صحيح البخارى)) عن ُ‬
‫خرَة))‪.‬‬
‫س عليه))‪ ،‬وقال‪(( :‬هُو لهم فى الدّنيا‪ ،‬ولكم فى ال ِ‬
‫والدّيباجِ‪ ،‬وأن يُجلَ َ‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج ذاتِ الجنب‬

‫روى الترمذى فى ((جامعه)) من حديث زيد بن أرقمَ‪ ،‬أنّ النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪(( :‬تَدَاوَوْا مِنْ‬
‫ط البَحْرى وال ّزيْتِ))‪.‬‬
‫جنْبِ بالقُسْ ِ‬
‫ذاتِ ال َ‬

‫وذاتُ الجنب عند الطباء نوعان‪ :‬حقيقى وغيرُ حقيقى‪ .‬فالحقيقى‪ :‬ورمٌ حار يَعْ ِرضُ فى نواحى الجَنب‬
‫ب عن رياح غليظة مؤذيةٍ‬ ‫ض فى نواحى الجن ِ‬‫فى الغشاء المستبطن للضلع‪ .‬وغير الحقيقى‪ :‬ألم يُشبهه َيعْرِ ُ‬
‫حدِث وجعاً قريباً من وجع ذات الجنب الحقيقى‪ ،‬إل أن الوجعَ فى هذا القسم ممدودٌ‪ ،‬وفى‬‫تحتقِن بين الصّفاقات‪ ،‬فتُ ْ‬
‫الحقيقى ناخسٌ‪.‬‬

‫قال صاحبُ ((القانون))‪ :‬قد يعرِضُ فى الجنبِ‪ ،‬والصّفاقات‪ ،‬والعَضَل التى فى الصدر‪ ،‬والضلع‪،‬‬
‫ت الجنب‪ .‬وقد تكون أيضًا أوجاعًا فى هذه‬ ‫ونواحيها أورا ٌم مؤذية جداً موجِعةٌ‪ ،‬تسمى شَوْصةً َوبِرساماً‪ ،‬وذا َ‬
‫العضاء ليست من ورم‪ ،‬ولكن من رياح غليظة‪ ،‬فيظن أنها من هذه العِلّة‪ ،‬ول تكون منها‪.‬‬

‫ت الجنب اشتقاقًا من مكان اللم‪ ،‬لن معنى ذات الجنب‪:‬‬ ‫ن كُلّ وجع فى الجنب قد يُسمى ذا َ‬ ‫قال‪ :‬واعلم أ ّ‬
‫ب إليه‪ ،‬وعليه‬
‫ن نُسِ َ‬
‫عرَضَ فى الجنب ألمٌ عن أى سبب كا َ‬ ‫ض به ههنا َوجَعُ الجنب‪ ،‬فإذا َ‬
‫صاحبةُ الجنب‪ ،‬والغر ُ‬
‫ل مَن به وجعُ جنب‪،‬‬ ‫حمّام‪ .‬قيل‪ :‬المراد به ك ّ‬
‫ب ذات الجنبِ ينتفعون بال َ‬
‫حمِلَ كلم ((بقراط)) فى قوله‪ :‬إنّ أصحا َ‬‫ُ‬
‫حمّى‪.‬‬
‫أو وجعُ رِئة من سوء مِزاج‪ ،‬أو من أخلط غليظة‪ ،‬أو لذاعة من غير ورم ول ُ‬
‫قال بعضُ الطباء‪ :‬وأما معنى ذات الجنب فى لغة اليونان‪ ،‬فهو ورمُ الجَنب الحار‪ ،‬وكذلك ور ُم كل‬
‫واحد من العضاء الباطنة‪ ،‬وإنما سمى ذاتَ الجنب ور ُم ذلك العضو إذا كان ورماً حارًا فقط‪.‬‬

‫حمّى‪ ،‬والسعال‪ ،‬والوجع الناخس‪ ،‬وضيق النّفَس‪،‬‬


‫ت الجنب الحقيقى خمس ُة أعراض‪ ،‬وهى‪ :‬ال ُ‬
‫ويلزم ذا َ‬
‫والنبضُ المنشارى‪.‬‬

‫والعلج الموجود فى الحديث‪ ،‬ليس هو لهذا القسم‪ ،‬لكن للقسم الثانى الكائن عن الريح الغليظة‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن‬
‫ق دقاً ناعماً‪،‬‬
‫ط البحرى وهو العود الهندى على ما جاء مفسّراً فى أحاديث ُأخَر صِنفٌ من ال ُقسْط إذا دُ ّ‬ ‫القُسْ َ‬
‫ل لمادته‪،‬‬ ‫وخُلِط بالزيت المسخن‪ ،‬ودُِلكَ به مكانُ الريح المذكور‪ ،‬أو ُلعِق‪ ،‬كان دوا ًء موافقاً لذلك‪ ،‬نافعًا له‪ ،‬محلّ ً‬
‫مُذْهِباً لها‪ ،‬مقويًا للعضاء الباطنة‪ ،‬مفتحاً للسّدد‪ ،‬والعودُ المذكور فى منافعه كذلك‪.‬‬

‫س البطن‪ ،‬ويُقوى العضاء الباطنة‪ ،‬ويطرُد الريح‪ ،‬ويفتح‬ ‫قال المسيحىّ‪ :‬العود‪ :‬حار يابس‪ ،‬قابض يحب ُ‬
‫السّدد‪ ،‬ناف ٌع من ذات الجنب‪ ،‬ويُذهب فضلَ الرطوبة‪ ،‬والعُود المذكور جيد للدماغ‪ .‬قال‪ :‬ويجوز أن ينفع القُسْط‬
‫مِن ذات الجنب الحقيقيةِ أيضاً إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية‪ ،‬ل سيما فى وقت انحطاط العِلّة‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫وذاتُ الجنب‪ :‬من المراض الخطرة‪ ،‬وفى الحديث الصحيح‪ :‬عن أُم سلمةَ‪ ،‬أنها قالت‪ :‬بدأ رسولُ ال‬
‫خفّ عليه‪ ،‬خرجَ وصلّى بالناس‪ ،‬وكان كلّما وَجَد ثِقَلً‪،‬‬ ‫صلى ال عليه وسلم بمرضِه فى بيت ميمُونةَ‪ ،‬وكان كلّما َ‬
‫غمِرَ عليه مِن شدةِ الوجع‪ ،‬فاجتمع عنده نساؤه‪ ،‬وعمّه‬ ‫صلّ بالناس))‪ ،‬واشتد شكواه حتى ُ‬ ‫قال‪(( :‬مُرُوا أبا بكرٍ فليُ َ‬
‫ع َميْس‪ ،‬فتشاوروا فى لدّهِ‪ ،‬فَلدّوه وهو مغمورٌ‪ ،‬فلما أفاق قال‪:‬‬ ‫العباس‪ ،‬وُأمّ الفضل بنت الحارث‪ ،‬وأسماءُ بنت ُ‬
‫جئْنَ من ههُنا))‪ ،‬وأشار بيده إلى أرضِ الحبشةِ‪ ،‬وكانت أُ ّم سلمةَ وأسماءُ‬ ‫((مَن فعل بى هذا ؟ هذا من عمل نساءٍ ِ‬
‫َلدّتاهُ‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسولَ ال؛ خشِينَا أن يكون بكَ ذاتُ الجنب‪ .‬قال‪َ (( :‬فبِ َم َل َددْ ُتمُونى)) ؟ قالوا‪ :‬بالعُودِ الهندىّ‪،‬‬
‫ت عليكم أنْ ل‬ ‫ل ِليَ ْق ِذ َفنِى بذلك الدّاءِ))‪ ،‬ثم قال‪(( :‬عَ َزمْ ُ‬
‫ت من زيت‪ .‬فقال‪(( :‬ما كان ا ُ‬ ‫س وقَطِرَا ٍ‬‫وشى ٍء من َورْ ٍ‬
‫عمّىَ ال َعبّاس))‪.‬‬
‫َيبْقى فى البيتِ أحدٌ إل ُلدّ إل َ‬

‫وفى ((الصحيحين)) عن عائشةَ رضى ال تعالى عنها قالت‪َ :‬لدْدنَا رسولَ ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فأشار أن ل تَُلدّونِى‪ ،‬فقلنا‪ :‬كراهِيةُ المريض للدواءِ‪ ،‬فلما أفاق قال‪(( :‬ألم أ ْن َهكُمْ أن تَُلدّونِى‪ ،‬ل َيبْقَى منكم أحدٌ إل‬
‫ش َه ْدكُم))‪.‬‬
‫عمّى العباس‪ ،‬فإنّه َلمْ يَ ْ‬
‫غيْ َر َ‬
‫ُلدّ َ‬

‫قال أبو عبيد عن الصمعىّ‪ :‬الّلدُودُ‪ :‬ما يُسقى النسان فى أحد شِقّى الفم‪ُ ،‬أخِذ من َلدِيدَى الوادى‪ ،‬وهما‬
‫جانباه‪ .‬وأما الوَجُورُ‪ :‬فهو فى وسط الفم‪.‬‬

‫قلت‪ :‬واللّدود بالفتح ‪ :‬هو الدواءُ الذى يَُلدّ به‪ .‬والسّعوطُ‪ :‬ما أُدخل من أنفه‪.‬‬

‫وفى هذا الحديث من الفقه معاقبةُ الجانى بمثل ما فعل سواء‪ ،‬إذا لم يكن فِعلُه محرماً لحق ال‪ ،‬وهذا هو‬
‫ب المقطوع به لبضعةَ عشر دليلً قد ذكرناها فى موضع آخر‪ ،‬وهو منصوص أحمد‪ ،‬وهو ثابت عن‬ ‫الصوا ُ‬
‫الخلفاء الراشدين‪ ،‬وترجمة المسألة بالقِصاص فى اللّطمة والضربة‪ ،‬وفيها عدةُ أحاديث ل مُعا ِرضَ لها ألبتة‪،‬‬
‫ل بها‪.‬‬
‫فيتعين القو ُ‬

‫فصل‬

‫صدَاع والشقيقة‬
‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج ال ّ‬

‫صدِع‪ ،‬غَلّفَ‬
‫روى ابن ماجه فى ((سننه)) حديثاً فى صحته نظر‪ :‬أنّ النبى صلى ال عليه وسلم كان إذا ُ‬
‫ن ال من الصّداعِ))‪.‬‬
‫رأسَه بالحنّاءِ‪ ،‬ويقول‪(( :‬إنّ ُه نافعٌ بإذ ِ‬

‫شقّى الرأس لزمًا يُسمّى شقيقةً؛ وإن‬


‫صدَاع‪ :‬ألم فى بعض أجزاء الرأس أو كله‪ ،‬فما كان منه فى أحد ِ‬ ‫وال ّ‬
‫ل لجميعه لزماً‪ ،‬يسمى بَيضْةً وخُودَةً تشبيهاً ِب َبيْضَة السلح التى تشتمل على الرأس كلّه‪ ،‬وربما كان‬
‫كان شام ً‬
‫فى مؤخّر الرأس أو فى مقدمه‪.‬‬
‫وأنواعه كثيرة‪ ،‬وأسبابه مختلفة‪ .‬وحقيقة الصّداع‪ :‬سخونةُ الرأس‪ ،‬واحتماؤه لما دار فيه مِن البخار يطلُب‬
‫ى إذا حمى ما فيه وطلب النفوذ‪ ،‬فكل شىء رطب‬ ‫النفوذ من الرأس‪ ،‬فل يجد منفذاً‪ ،‬فيصدَعُه كما يصدع الوَع ُ‬
‫إذا حمى‪ ،‬طلب مكانًا أوسع من مكانه الذى كان فيه‪ ،‬فإذا عرض هذا البخار فى الرأس كله بحيث ل يمكنه‬
‫التّ َفشّى والتحلل‪ ،‬وجال فِى الرأس‪ ،‬سمى‪ :‬السّدرَ‪.‬‬

‫والصّداع يكون عن أسباب عديدة‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬من غلبة واحد من الطبائع الربعة‪.‬‬

‫والخامس‪ :‬يكون من قروح تكون فى المعدة‪ ،‬فيألم الرأس لذلك الورم لتصال العصب المنحدر من‬
‫الرأس بالمعدة‪.‬‬

‫والسادس‪ :‬من ريح غليظة تكون فى المعدة‪ ،‬فتص َعدُ إلى الرأس فتصدعه‪.‬‬

‫س بألم المعدة للتصال الذى بينهما‪.‬‬


‫والسابع‪ :‬يكون من ورم فى عروق المعدة‪ ،‬فيألمُ الرأ ُ‬

‫والثامن‪ :‬صُداع يحصل من امتلء المعدة من الطعام‪ ،‬ثم ينحدر ويبقى بعضُه نيئاً‪ ،‬فيصدَع الرأس ويثقله‪.‬‬

‫جمَاع لتخلخل الجسم‪ ،‬فيصل إليه مِن حر الهواء أكث ُر من قدر‪.‬‬


‫والتاسع‪ :‬يعرض بعد ال ِ‬

‫والعاشر‪ :‬صداع يحصُل بعد القىء والستفراغ‪ ،‬إما لغلبة اليبس‪ ،‬وإما لتصاعد البخرة من المعدة إليه‪.‬‬

‫ض عن شدة الحر وسخونة الهواء‪.‬‬


‫والحادى عشر‪ :‬صُداع يعرِ ُ‬

‫حلّلها‪.‬‬
‫ض من شدة البرد‪ ،‬وتكاثفِ البخرة فى الرأس وعدم ت َ‬
‫والثانى عشر‪ :‬ما َيعْرِ ُ‬

‫والثالث عشر‪ :‬ما يحدُث مِن السهر وعدم النوم‪.‬‬

‫والرابع عشر‪ :‬ما يحدُث مِن ضغط الرأس وحمل الشىء الثقيل عليه‪.‬‬

‫والخامس عشر‪ :‬ما يحدُث مِن كثرة الكلم‪ ،‬فتضعف قو ُة الدماغ لجله‪.‬‬

‫والسادس عشر‪ :‬ما يحدُث مِن كثرة الحركة والرياضة المفرطة‪.‬‬

‫والسابع عشر‪ :‬ما يحدُث من العراض النفسانية‪ ،‬كالهموم‪ ،‬والغموم‪ ،‬والحزان‪ ،‬والوساوس‪ ،‬والفكار‬
‫الرديئة‪.‬‬

‫والثامن عشر‪ :‬ما يحدُث من شدة الجوع‪ ،‬فإن البخرة ل تجد ما تعمل فيه‪ ،‬فتكثر وتتصاعد إلى الدماغ‬
‫فتؤلمه‪.‬‬

‫ضرَب بالمطارق على رأسه‪.‬‬


‫والتاسع عشر‪ :‬ما يحدُث عن ورم فى صِفاق الدماغ‪ ،‬ويجد صاحبُه كأنه يُ ْ‬

‫حمّى لشتعال حرارتها فيه فيتألم‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬


‫والعشرون‪ :‬ما يحدُث بسبب ال ُ‬

‫فصل‬

‫فى سبب صُداع الشقيقة‬


‫وسبب صُداع الشقيقة مادة فى شرايين الرأس وحدها حاصلة فيها‪ ،‬أو مرتقية إليها‪ ،‬فيقبلُها الجانب‬
‫الضعف من جانبيه‪ ،‬وتلك المادةُ إما بُخارية‪ ،‬وإما أخلط حارة أو باردة‪ ،‬وعلمتُها الخاصة بها ضرَبان‬
‫ضبِطت بالعصائب‪ ،‬و ُمنِعت من الضّربَان‪ ،‬سكن الوجع‪.‬‬‫الشرايين‪ ،‬وخاصة فى الدموى‪ .‬وإذا ُ‬

‫ن هذا النوع كان يُصيب النبى صلى ال عليه وسلم‪،‬‬


‫وقد ذكر أبو نعيم فى كتاب ((الطب النبوى)) له‪ :‬أ ّ‬
‫فيمكث اليوم واليومين‪ ،‬ول يخرج‪.‬‬

‫عصَبَ رأسه بعِصَابةٍ‪.‬‬


‫وفيه‪ :‬عن ابن عباس قال‪ :‬خطبنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد َ‬

‫عصْبُ‬
‫وفى ((الصحيح))‪ :‬أنه قال فى مرض موته‪(( :‬وَا َرأْسَاهُ))‪ .‬وكان يُعصّبُ رأسه فى مرضه‪ ،‬و َ‬
‫الرأس ينفع فى وجع الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس‪.‬‬

‫@‬

‫فصل‬

‫فى علج صُداع الشقيقة‬

‫وعِلجه يختلف باختلف أنواعه وأسبابه‪ ،‬فمنه ما علجُه بالستفراغ‪ ،‬ومنه ما علجُه بتناول الغذاء‪،‬‬
‫ومنه ما عِلجُه بالسّكون والدّعة‪ ،‬ومنه ما عِلجُه بالضّمادات‪ ،‬ومنه ما علجُه بالتبريد‪ ،‬ومنه ما علجُه‬
‫بالتسخين‪ ،‬ومنه ما عِلجُه بأن يجتنب سماعَ الصواتِ والحركات‪.‬‬

‫حنّاء‪ ،‬هو جزئى ل كُلّى‪ ،‬وهو علج نوع من أنواعِه‪،‬‬ ‫إذا عُ ِرفَ هذا‪ ،‬فعِلجُ الصّداع فى هذا الحديث بال ِ‬
‫حنّاء نفعاً ظاهراً‪ ،‬وإذا دُقّ‬
‫فإن الصّداع إذا كان من حرارة ملهبة‪ ،‬ولم يكن من مادةٍ يجب استفراغها‪ ،‬نفع فيه ال ِ‬
‫ض ّمدَ به‪ ،‬سكنت أوجاعُه‪ ،‬وهذا ل‬ ‫ت به الجبهةُ مع الخل‪ ،‬سكن الصّداع‪ ،‬وفيه قوة موافقة للعصب إذا ُ‬ ‫ض ّمدَ ْ‬
‫و ُ‬
‫ض ّمدَ به موض ُع الورم الحار‬ ‫شدّ به العضاء‪ ،‬وإذا ُ‬‫يختصّ بوجع الرأس‪ ،‬بل يعُ ّم العضاءَ‪ ،‬وفيه قبض تُ َ‬
‫والملتهب‪ ،‬سكّنه‪.‬‬

‫ل ال صلى ال عليه وسلم ما شَكا‬ ‫وقد روى البخارى فى ((تاريخه))‪ ،‬وأبو داود فى ((السنن)) أنّ رسو َ‬
‫حنّاء))‪.‬‬
‫ضبْ بال ِ‬
‫ختَ ِ‬
‫جمْ))‪ ،‬ول شَكى إليه وجَعاً فى رجَليْه إل قال له‪(( :‬ا ْ‬
‫حتَ ِ‬
‫إليه أحدٌ وجَعاً فى رأسِهِ إل قال له‪(( :‬ا ْ‬

‫ب النبىّ صلى‬
‫وفى الترمذى‪ :‬عن سَ ْلمَى أُمّ راف ٍع خادمِة النبى صلى ال عليه وسلم قالتْ‪ :‬كان ل يُصي ُ‬
‫حنّا َء‬
‫ال عليه وسلم قرح ٌة ول شَوْكةٌ‪ ،‬إل َوضَع عليها ال ِ‬

‫فصل‬

‫حنّاء ومنافعه وخواصه‬


‫فى ال ِ‬

‫حنّاء وأغصانها مُركّبةٌ من قوة محللة اكتسبتْها‬


‫س فى الثانية‪ ،‬وقوةُ شجر ال ِ‬
‫حنّاءُ بار ٌد فى الُولى‪ ،‬ياب ٌ‬
‫وال ِ‬
‫من جوهر فيها مائى‪ ،‬حار باعتدال‪ ،‬ومِن قوة قابضة اكتسبتْها من جوهر فيها أرضى بارد‪.‬‬

‫ض ّمدَ به‪ ،‬وينفع إذا ُمضِغ من‬


‫ومن منافعه أنه محلّلٌ نافع من حرق النار‪ ،‬وفيه قوةٌ موافقة للعصب إذا ُ‬
‫قُروح الفم والسّلق العارض فيه‪ .‬ويبرى ُء القُلع الحادث فى أفواه الصبيان‪ ،‬والضّماد به ينفعُ مِن الورام‬
‫الحارة الملهبة‪ ،‬ويفعَلُ فى الجراحات فِعل دم الخوَين‪ ،‬وإذا خُِلطَ نَوْرُه مع الشمع المصفّى‪ ،‬ودُهن الورد‪ ،‬ينفع‬
‫من أوجاع الجنب‪.‬‬

‫ضبَت أسافل رجليهِ بحنّاءٍ‪ ،‬فإنه يُؤمَنُ على عينيه أن‬


‫خ ِ‬
‫ومن خواصه أنه إذا بدأ الجُدرِىّ يخرج بصبى‪ ،‬ف ُ‬
‫جعِل نَوْرُه بين طى ثياب الصوف طيّبها‪ ،‬ومنع‬ ‫يخرُج فيها شىء منه‪ ،‬وهذا صحيح مُجرّب ل شك فيه‪ .‬وإذا ُ‬
‫عصِرَ وشُ ِربَ من صفوه أربعين يومًا كلّ يوم عشرون‬ ‫السوس عنها‪ ،‬وإذا نُقِعَ ورقُه فى ما ٍء عذب يغمُره‪ ،‬ثم ُ‬
‫درهماً مع عشرة دراهم سكر‪ ،‬ويُغذّى عليه بلحم الضأن الصغير‪ ،‬فإنه ينفع من ابتداء الجُذام بخاصيةٍ فيه‬
‫عجيبة‪.‬‬

‫وحُكى أنّ رجلً تشقّ َقتْ أظافي ُر أصابِع يده‪ ،‬وأنه بذل لمن يُبرئه مالً‪ ،‬فلم يجد‪ ،‬فوصفت له امرأة‪ ،‬أن‬
‫يشرب عشرة أيام حِناء‪ ،‬فلم يُ ْقدِم عليه‪ ،‬ثم نقعه بماء وشربه‪ ،‬فبرأ ورجعت أظافيرُه إلى حسنها‪.‬‬

‫ضمّ َد به بقايا الورام الحارة‬‫ت به الظفار معجوناً حسّنها ونفعها‪ ،‬وإذا عُجِنَ بالسمن و ُ‬‫حنّاء إذا أُل ِزمَ ْ‬
‫وال ِ‬
‫التى تَرْشَحُ ما ًء أصفر نفعها‪ ،‬ونفع من الجرَب المتقرّح المزمن منفعة بليغة‪ ،‬وهو ُينْبت الشع َر ويقويه‪ ،‬و ُيحَسّنه‪،‬‬
‫ويُقوّى الرأس‪ ،‬وينفع من النّفّاطات‪ ،‬والبُثور العارضة فى الساقين والرّجْلين‪ ،‬وسائر البدن‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى معالجة المرضى بترك إعطائهم ما يكرهونه من الطعام والشراب‪ ،‬وأنهم ل‬
‫يُكرَهون على تناولهما‬

‫ج َهنِى‪ ،‬قال‪ :‬قال رسولُ ال صلى ال‬ ‫روى الترمذى فى ((جامعه))‪ ،‬وابنُ ماجه‪ ،‬عن عقبة بن عامر ال ُ‬
‫ط ِع ُمهُم و َيسْقِيهمْ))‪.‬‬
‫ل يُ ْ‬
‫ل عَزّ وجَ ّ‬
‫عليه وسلم‪(( :‬ل ُتكْرِهوا مَرضاكُم عَلَى الطّعامِ والشّرابِ‪ ،‬فإنّ ا َ‬

‫سيّما للطباء‪،‬‬ ‫قال بعضُ فضلء الطباء‪ :‬ما أغزرَ فوائدَ هذه الكلمة النبوية المشتملة على حِكم إلهية‪ ،‬ل ِ‬
‫ض إذا عاف الطعامَ أو الشراب‪ ،‬فذلك لشتغال الطبيعة بمجاهدة المرض‪،‬‬ ‫ولمن يُعالِج المرضى‪ ،‬وذلك أنّ المري َ‬
‫أو لسقوط شهوته‪ ،‬أو نُقْصانها لضعف الحرارة الغريزية أو خمودها‪ ،‬وكيفما كان‪ ،‬فل يجوز حينئذ إعطا ُء الغِذاء‬
‫فى هذه الحالة‪.‬‬

‫ض ما يتحلل منها‪ ،‬فتجذب‬ ‫ف الطبيعة به عليها عِو َ‬ ‫ن الجوعَ إنما هو طلبُ العضاء للغذاء لتُخلِ َ‬ ‫واعلم أ ّ‬
‫ب الغِذاء‪،‬‬ ‫حسّ النسان بالجوع‪ ،‬فيطل ُ‬ ‫ب إلى المعدة‪ ،‬فيُ ِ‬
‫العضاء القصوى من العضاء الدنيا حتى ينتهىَ الجذ ُ‬
‫جدَ المرض‪ ،‬اشتغلت الطبيعةُ بمادته وإنضاجها وإخراجها عن طلب الغذاء‪ ،‬أو الشراب‪ ،‬فإذا ُأكْرِهَ‬ ‫وإذا وُ ِ‬
‫ت به الطبيعة عن فعلها‪ ،‬واشتغلت بهضمه وتدبيره عن إنضاج مادة‬ ‫المريضُ على استعمال شىء من ذلك‪ ،‬تعطلّ ْ‬
‫سيّما فى أوقات البُحْران‪ ،‬أو ضعفِ الحار الغريزى أو‬ ‫المرض ودفعه‪ ،‬فيكون ذلك سببًا لضرر المريض‪ ،‬ول ِ‬
‫خمودِه‪ ،‬فيكون ذلك زيادةً فى البلية‪ ،‬وتعجيل النازلة المتوقّعةَ‪ .‬ول ينبغى أن يُسـتعمل فى هذا الوقتِ والحال إل‬
‫ف قِوامه من الشربة‬ ‫ن بما َلطُ َ‬
‫ظ عليه قوّته ويُقويها مِن غير استعمال مزعج للطبيعة ألبتة‪ ،‬وذلك يكو ُ‬ ‫ما يحف ُ‬
‫ل مِزاجه كشراب اللّينوفر‪ ،‬والتفاح‪ ،‬والورد الطّرِى‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ ،‬ومن الغذية مرق‬ ‫والغذية‪ ،‬واعتد َ‬
‫طرَة الموافقة‪ ،‬والخبار السارة‪ ،‬فإنّ الطبيبَ خادمُ‬ ‫الفراريج المعتدلة الطيبة فقط‪ ،‬وإنعاش قواه بالراييح العَ ِ‬
‫الطبيعة‪ ،‬ومعينها ل معيقها‪.‬‬

‫واعلم أنّ الدم الجيد هو ال ُمغَذّى للبدن‪ ،‬وأنّ البلغم دم فج قد نضج بعضَ النضج‪ ،‬فإذا كان بعض‬
‫غذّت به‬
‫عدِم الغذاءُ‪ ،‬عطفت الطبيعةُ عليه‪ ،‬وطبخته‪ ،‬وأنضجته‪ ،‬وصيّرته دماً‪ ،‬و َ‬‫المرضى فى بدنه بلغم كثير‪ ،‬و ُ‬
‫العضاء‪ ،‬واكتفت به عما سواه‪ ،‬والطبيعةُ هى القوة التى وكلها ال سبحانه بتدبير البدن وحفظه وصحته‪،‬‬
‫وحراسته مدة حياته‪.‬‬

‫واعلم أنه قد يُحتاج فى النّدرة إلى إجبار المريض على الطعام والشراب‪ ،‬وذلك فى المراض‬
‫ق الذى قد دلّ على‬
‫التى يكون معها اختلطُ العقل‪ ،‬وعلى هذا فيكونُ الحديثُ من العامّ المخصوص‪ ،‬أو من المُطْلَ ِ‬
‫تقييده دليلٌ‪ ،‬ومعنى الحديث‪ :‬أنّ المريضَ قد يعيش بل غذاء أيامًا ل يعيش الصحيحُ فى مثلها‪.‬‬

‫ف زائد على ما‬ ‫وفى قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬فإنّ ال يُط ِعمُهم و َيسْقِيهِم)) معنى لطي ٌ‬
‫ل الطبيعة‬ ‫ذكره الطبا ُء ل يعرفُه إل مَن له عناية بأحكام القُلوب والرواح‪ ،‬وتأثيرها فى طبيعة البَدن‪ ،‬وانفعا ِ‬
‫س إذا حصل لها ما يشغَلُها مِن‬ ‫عنها‪ ،‬كما تنفعل هى كثيراً عن الطبيعة‪ ،‬ونحن نُشير إليه إشارةً‪ ،‬فنقول‪ :‬النّ ْف ُ‬
‫س بجوع ول عطش‪ ،‬بل ول حر‬ ‫ت به عن طلب الغِذاء والشراب‪ ،‬فل تُحِ ّ‬ ‫محبوبٍ أو مكرو ٍه أو مَخُوف‪ ،‬اشتغلَ ْ‬
‫حسّ به‪ ،‬وما من أحد إل وقد وجدَ فى نفسه ذلك أو‬ ‫ول برد‪ ،‬بل تشتغل به عن الحساس المؤلم الشديد اللم‪ ،‬فل تُ ِ‬
‫ى التفريح‪،‬‬
‫شيئًا منه‪ ،‬وإذا اشتغلتْ النفس بما دهمها‪ ،‬وورد عليها‪ ،‬لم تُحِسّ بألم الجوع‪ ،‬فإن كان الوارد مفرّحاً قو ّ‬
‫ت به‪ ،‬وانتعشتْ قُواها‪ ،‬وتضاعفَت‪ ،‬وجرت الدمويةُ فى الجسد حتى تظهر فى سطحه‪،‬‬ ‫قام لها مَقا َم الغِذاء‪ ،‬فشبع ْ‬
‫ئ به‪ ،‬فل تطلبُ‬ ‫فيُشرِقُ وجهه‪ ،‬وتظهر دمويتهُ‪ ،‬فإنّ الفرح يُوجبُ انبساطَ دم القلب‪ ،‬فينبعثُ فى العروق‪ ،‬فتمتل ُ‬
‫ظفِ َرتْ بما‬
‫ب إليها‪ ،‬وإلى الطبيعة منه‪ ،‬والطبيعةُ إذا َ‬
‫العضاءُ حَظّها من الغذاءِ المعتاد لشتغالها بما هو أح ّ‬
‫تُحبّ‪ ،‬آثرتْه على ما هو دونه‪.‬‬

‫وإن كان الواردُ مؤلماً أو محزناً أو مخوفاً‪ ،‬اشتغلتْ بمحاربتِه ومُقاومتِه ومُدافعته عن طلب الغذاء‪ ،‬فهى‬
‫ت فى هذا الحرب‪ ،‬انتعشت قواها‪ ،‬وأخلَفت عليها‬ ‫فى حال حربها فى شغل عن طلب الطعام والشراب‪ .‬فإن ظفر ْ‬
‫نظيرَ ما فاتها من قوة الطعام والشراب‪ ،‬وإن كانت مغلوبةً مقهورة‪ ،‬انحطّتْ قواها بحسب ما حصل لها من ذلك‪،‬‬
‫ب بينها وبين هذا العدوّ سِجالً‪ ،‬فالقو ُة تظهرُ تار ًة وتختفى أُخرى‪ ،‬وبالجملة فالحربُ بينهما على‬
‫وإن كانت الحر ُ‬
‫مثال الحرب الخارج بين العدوين المتقاتلين‪ ،‬والنصرُ للغالبِ‪ ،‬والمغلوب إما قتيل‪ ،‬وإما جريح‪ ،‬وإما أسير‪.‬‬

‫فالمريض‪ :‬له مَددٌ مِنَ ال تعالى يُغذيه به زائداً على ما ذكره الطباء من تغذيته بالدم‪ ،‬وهذا المَددُ بحسب‬
‫عزّ وجَلّ‪ ،‬فيحصُل له من ذلك ما يُوجب له قُرباً من ربه‪ ،‬فإنّ العبدَ‬‫ضعفِه وانكسارِه وانطِراحِه بين يدى ربه َ‬
‫أقربُ ما يكون من ربه إذا انكسر قلبُهُ‪ ،‬ورحمةُ ربه عندئذٍ قريبة منه‪ ،‬فإن كان وليًا له‪ ،‬حصل له من الغذية‬
‫ش به قواه أعظ َم مِن قوتها‪ ،‬وانتعاشها بالغذية البدنية‪ ،‬وكلما قَوى إيمانُه‬
‫القلبية ما تَقْوى به قُوَى طبيعته‪ ،‬وتَنتع ُ‬
‫جدَ فى نفسه من هذه‬ ‫حبّه لربه‪ ،‬وأُنسُه به‪ ،‬وفرحُه به‪ ،‬وقَوى يقينه بربه‪ ،‬واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه‪ ،‬و َ‬ ‫وُ‬
‫القوة ما ل ُيعَبّ ُر عنه‪ ،‬ول يُدركُه وصف طبيب‪ ،‬ول يَنالُه علمه‪.‬‬

‫ومَن غَلُظ طبعُه‪ ،‬و َكثُفتْ نفسُه عن فهم هذا والتصديق به‪ ،‬فلينظرْ حالَ كثير من عُشّاقِ الصور الذين قد‬
‫س من هذا عجائبَ فى‬ ‫امتلتْ قلوبُهم بحُب ما يعشَقوُنه من صُورةٍ‪ ،‬أو جاهٍ‪ ،‬أو مال‪ ،‬أو علم‪ ،‬وقد شاهد النا ُ‬
‫أنفسهم وفى غيرهم‪.‬‬

‫وقد ثبت فى ((الصحيح))‪ :‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه كان يُواصلُ فى الصّيام اليامَ‬
‫ظلّ يُط ِعمُنى َربّى ويَسْقِينى))‪.‬‬
‫ت َكهَ ْي َئ ِتكُمْ إنى أَ َ‬
‫ت العددِ‪ ،‬وينهَى أصحابه عن الوِصال ويقول‪(( :‬لس ُ‬
‫ذوا ِ‬

‫ن بفمه‪ ،‬وإل لم يكن مواصلً‪ ،‬ولم‬


‫ن هذا الطعام والشراب ليس هو الطعام الذى يأكله النسا ُ‬ ‫ومعلو ٌم أ ّ‬
‫سقِينى))‪.‬‬
‫ط ِعمُنى َربّى ويَ ْ‬
‫ل يُ ْ‬
‫يتحقق الفرق‪ ،‬بل لم يكن صائماً‪ ،‬فإنه قال‪(( :‬أَظَ ّ‬

‫وأيضاً فإنه فرق بينه وبينهم فى نفس الوِصال‪ ،‬وأنه يَقدِ ُر منه على ما ل يقدِرُون عليه‪ ،‬فلو كان يأكلُ‬
‫ن قَلّ نصيبُه من غذاء الرواح والقلوب‪،‬‬ ‫ستُ َك َه ْيئَ ِتكُم ))‪ ،‬وإنما َفهِ َم هذا من الحديث مَ ْ‬
‫ويشرب بفمه‪ ،‬لم يَقُلْ‪(( :‬لَ ْ‬
‫ق تأثير الغِذاء الجسمانىّ‪ ..‬وال الموفق‪.‬‬ ‫وتأثيرِهِ فى القوة وإنعاشِها‪ ،‬واغتذائها به فو َ‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج ال ُعذْرة وفى العلج بالسّعوط‬

‫ط البَحْ ِرىّ‪ ،‬ول ُتعَ ّذبُوا‬


‫حجَامةُ‪ ،‬وال ُقسْ ُ‬
‫خيْرُ مَا َتدَا َو ْيتُم به ال ِ‬
‫ثبت عنه فى ((الصحيحين)) أنه قال‪َ (( :‬‬
‫صبْيا َنكُمْ بال َغمْزِ من ال ُعذْرَةِ))‪.‬‬
‫ِ‬

‫ل ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫وفى ((السنن)) و((المسند)) عنه من حديث جابر بن عبد ال قال‪ :‬دَخَلَ رسو ُ‬
‫ل مَنخرا ُه دماً‪ ،‬فقال‪(( :‬ما هذا)) ؟ فقالوا‪ :‬به العُذرةُ‪ ،‬أو وَجعٌ فى رأسه‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫صبِىٌ يَسِي ُ‬
‫على عائشة‪ ،‬وعِندَها َ‬
‫حكّه بماءٍ‪ ،‬ثم‬
‫خ ْذ قُسْطاً ِه ْن ِديّاً فَ ْلتَ ُ‬
‫عذْرَةٌ أو َوجَعٌ فى رأسِه‪ ،‬فَ ْلتَأ ُ‬
‫ب وََلدَها ُ‬
‫ن أَوْل َدكُنّ‪ ،‬أيّما امرأةٍ أصا َ‬
‫((وَيلكُنّ‪ ،‬ل تَ ْقتُل َ‬
‫صنِعَ ذلك بالصبىّ‪ ،‬فبَرَأَ‪.‬‬
‫ت عائشةُ رضى ال عنها ف ُ‬ ‫سعِطْهُ إيّاهُ)) فأمَر ْ‬ ‫تُ ْ‬

‫عذِ َر به‪ ،‬فهو‬


‫قال أبو عُبيدٍ عن أبى عُبيدَةَ‪ :‬ال ُعذْرَةُ‪ :‬تهيّجٌ فى الحَلْق من الدم‪ ،‬فإذا عُولج منه‪ ،‬قيل‪ :‬قد ُ‬
‫معذورٌ‪ ..‬انتهى‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬ال ُعذْرَةُ‪ :‬قرحة تخرج فيما بين الذُن والحلق‪ ،‬وتَعرض للصبيان غالباً‪.‬‬

‫وأما نفعُ السّعوط منها بال ُقسْط المحكوك‪ ،‬فلن ال ُعذْرَةُ مادتُها دم يغلب عليه البلغمُ‪ ،‬لكن تولده فى أبدان‬
‫شدّ اللّهاةَ ويرفعها إلى مكانها‪ ،‬وقد يكون نفعُه فى هذا الداء بالخاصية‪ ،‬وقد‬‫ف يَ ُ‬
‫الصبيان أكثر‪ ،‬وفى ال ُقسْط تجفي ٌ‬
‫ينفع فى الدواء الحارة‪ ،‬والدوية الحارة بالذات تارة‪ ،‬وبالعرض أُخرى‪ .‬وقد ذكر صاحب ((القانون)) فى‬
‫معالجة سُقوط الّلهَاة‪ :‬القُسطَ مع الشّب اليمانىّ‪ ،‬وبذر المـرو‪.‬‬

‫ى المذكور فى الحديث‪ :‬هو العود الهندى‪ ،‬وهو البيض منه‪ ،‬وهو حلو‪ ،‬وفيه منافعُ عديدة‪.‬‬ ‫ط البحر ّ‬
‫والقُسْ ُ‬
‫وكانوا يُعالجون أولدَهم بغَمز اللّهاة‪ ،‬وبالعِلَق‪ ،‬وهو‪ :‬شىء يُعلّقونه على الصبيان‪ ،‬فنهاهم النبىّ صلى ال عليه‬
‫ل عليهم‪.‬‬ ‫وسلم عن ذلك‪ ،‬وأرشدهم إلى ما هو أنفعُ للطفال‪ ،‬وأسه ُ‬

‫ب فى النف‪ ،‬وقد يكون بأدوية مفردة ومُركّبة ُتدَق وتُنخل وتُعجن وتُجفف‪ ،‬ثم تُحَلّ‬ ‫والسّعوطُ‪ :‬ما يُصَ ّ‬
‫عند الحاجة‪ ،‬ويُسعط بها فى أنف النسان‪ ،‬وهو مستلقٍ على ظهره‪ ،‬وبين كتفيه ما يرفعُهما لتنخفض رأسُه‪،‬‬
‫ط من الوصول إلى دماغه‪ ،‬ويُستخرج ما فيه من الداء بالعطاس‪ ،‬وقد مدح النبى صلى ال عليه‬ ‫فيتمكن السّعو ُ‬
‫وسلم التداوىَ بالسّعوط فيما يُحتاج إليه فيه‪.‬‬

‫ستَعطَ))‪.‬‬
‫ن النبىّ صلى ال عليه وسلم ا ْ‬
‫وذكر أبو داودَ فى ((سننه))‪(( :‬أ ّ‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج المفؤود‬

‫ت مرضاً‪ ،‬فأتَانِى رسولُ ال‬ ‫روى أبو داود فى ((سننه)) من حديث مُجاهدٍ‪ ،‬عن سعد‪ ،‬قال‪(( :‬مَرض ُ‬
‫ل مَفْؤُودٌ‬
‫حتّى َوجَدتُ بَ ْردَها على فؤادى‪ ،‬وقال لى‪ :‬إ ّنكَ رجُ ٌ‬ ‫صلى ال عليه وسلم َيعُودنى‪ ،‬فَ َوضَعَ َيدَه بين ثَديَىّ َ‬
‫ن بِنَواهُنّ‪ ،‬ثم‬
‫خ ْذ سبعَ َتمَراتٍ من عَجْوَ ِة المدينةِ‪ ،‬ف ْليَجأْهُ ّ‬
‫ث بن كََلدَةَ من ثَقِيفٍ‪ ،‬فإنّه رج ٌل يتطبّبُ‪ ،‬فلْيأْ ُ‬
‫ف ْأتِ الحارَ َ‬
‫ِليَُل ّدكَ ِبهِنّ))‪.‬‬

‫المفؤود‪ :‬الذى أُصيب فؤادُه‪ ،‬فهو يشتكيه‪ ،‬كالمبطون الذى يشتكى بطنه‪.‬‬

‫ن من أحد جانبى الفم‪.‬‬


‫والّلدُود‪ :‬ما يُسقاه النسا ُ‬

‫وفى ال ّتمْر خاصيّةٌ عجيب ٌة لهذا الداء‪ ،‬ول سِـيّما تم َر المدينة‪ ،‬ول سِـيّما العجوة منه‪ ،‬وفى كونها سبعاً‬
‫خاصيةٌ أُخرى‪ ،‬تُدرَك بالوحى‪ ،‬وفى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث عامر بن سعد بن أبى َوقّاصٍ‪ ،‬عن أبيه قال‪:‬‬
‫سمٌ ول‬
‫ضرّهُ ذلك اليومَ َ‬
‫ت من َتمْ ِر العَاِليَة لم يَ ُ‬
‫صبّحَ بسبعِ َتمَرَا ٍ‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬مَنْ َت َ‬
‫حرٌ))‪.‬‬
‫سِ ْ‬

‫ضرّهُ سَ ٌم حتى ُيمْسِى))‪.‬‬


‫ن يُصبحُ‪ ،‬لم يَ ُ‬
‫ت ممّا بَيْن لَ َب َتيْها حي َ‬
‫سبْعَ تمرا ٍ‬
‫وفى لفظ‪(( :‬مَن أكل َ‬

‫ل حاف ٌ‬
‫ظ‬ ‫ب فيها‪ .‬وقيل‪ :‬معتدل‪ ،‬وهو غذاءٌ فاض ٌ‬ ‫وال ّتمْرُ حا ٌر فى الثانية‪ ،‬يابس فى الُولى‪ .‬وقيل‪ :‬رط ٌ‬
‫سيّما لمن اعتاد ال ِغذَا َء به‪ ،‬كأهل المدينة وغيرهم‪ ،‬وهو من أفضل الغذية فى البلد الباردةِ والحارةِ‬ ‫للصحة ل ِ‬
‫التى حرارتُها فى الدرجة الثانية‪ ،‬وهو لهم أنف ُع منه لهل البلد البارِدةِ‪ ،‬لبرودةِ بواطن سكانها‪ ،‬وحرارةِ بواطن‬
‫سكان البلد الباردة‪ ،‬ولذلك يُكثِرُ أهلُ الحجاز واليمن والطائف‪ ،‬وما يليهم مِن البلد المشابهةِ لها من الغذية‬
‫ضعُون فى أطعمتهم من الفُلْفُل وال ّزنْجبيل‪ ،‬فوقَ ما‬
‫الحارة ما ل يتَأتّى لغيرهم‪ ،‬كال ّتمْر والعسل‪ ،‬وشاهدناهم يَ َ‬
‫ت من َيتَنَقّل‬ ‫يضعه غيرُهم نح َو عشرة أضعاف أو أكثر‪ ،‬ويأكلون ال ّزنْجبيل كما يأكل غيرُهم الحَلْوى‪ ،‬ولقد شاهد ُ‬
‫به منهم كما يتنقل بالنّقْلِ‪ ،‬ويوافقهم ذلك ول يضرّهم لبرودةِ أجوافهم‪ ،‬وخروج الحرارة إلى ظاهر الجسد‪ ،‬كما‬
‫تُشا َهدُ ميا ُه البار تب ُردُ من الصيف‪ ،‬وتسخن فى الشتاء‪ ،‬وكذلك تُنضج المعدة من الغذية الغليظة فى الشتاء ما‬
‫ل تُنضجه فى الصيف‪.‬‬

‫وأما أهل المدينة‪ ،‬فال ّتمْر لهم يكاد أن يكونَ بمنزلة الحِنطة لغيرهم‪ ،‬وهو قوتُهم ومادتُهم‪ ،‬وتمرُ العاليةِ مِن‬
‫أجود أصناف تمرهم‪ ،‬فإنه متينُ الجسم‪ ،‬لذيذُ الطعم‪ ،‬صادق الحلوة‪ ،‬وال ّتمْر يدخل فى الغذية والدوية‬
‫والفاكهة‪ ،‬وهو يُوافق أكثر البدان‪ ،‬مقوّ للحار الغريزى‪ ،‬ول يتولّد عنه من الفَضلت الرديئة ما يتولّد عن غيره‬
‫من الغذية والفاكهة‪ ،‬بل يمنع لمن اعتاده مِن تعفن الخلط وفسادِها‪.‬‬
‫ن للمكنة اختصاصًا‬ ‫بأّ‬‫ل المدينة ومَن جاوَرَهم‪ ،‬ول ري َ‬
‫وهذا الحديثُ من الخطاب الذى أُريد به الخاصّ‪ ،‬كأه ِ‬
‫ينفع كثير من الدوية فى ذلك المكان دونَ غيره‪ ،‬فيكون الدواء الذى قد ينبت فى هذا المكان نافعًا من الداء‪ ،‬ول‬
‫يوجد فيه ذلك النف ُع إذا نبت فى مكان غيره لتأثير نفس التّربة أو الهواء‪ ،‬أو هما جميعاً‪ ،‬فإنّ للرض خواص‬
‫وطبائع يُقارب اختلفُها اختلفَ طبائع النسان‪ ،‬وكثي ٌر من النبات يكون فى بعض البلد غذا ًء مأكولً‪ ،‬وفى‬
‫ب أدويةٍ لقوم أغذية لخرين‪ ،‬وأدوية لقوم من أمراض هى أدويةٌ لخرينَ فى أمراض‬ ‫سمّا قاتلً‪ ،‬ورُ ّ‬
‫بعضها ُ‬
‫سواها؛ وأدوية لهل بلدٍ ل تُناسب غيرهم‪ ،‬ول تنفعهم‪.‬‬

‫جلّ السّمواتِ سبعاً‪ ،‬والرضَينَ سبعاً‪،‬‬


‫سبْعِ‪ ،‬فإنها قد وقعت قدْرًا وشرعاً‪ ،‬فخلق ال عَ ّز وَ َ‬ ‫وأمّا خاصية ال ّ‬
‫واليام سبعاً‪ ،‬والنسان كمل خلقه فى سبعة أطوار‪ ،‬وشرع ال سبحانه لعباده الطواف سبعاً‪ ،‬والسعى بين الصفا‬
‫والمروة سبعاً‪ ،‬ورمىَ الجمارِ سبعاً سبعاً‪ ،‬وتكبيراتِ العيدين سبعاً فى الولى‪ .‬وقال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫خيّ َر بين أبويه)) فى رواية‪.‬‬‫سنِينَ ُ‬
‫سبْعُ ِ‬
‫سبْعٍ))‪(( ،‬وَِإذَا صَا َر للغُلمِ َ‬
‫((مُرُوهم بالصّلةِ ل َ‬

‫ق به)) وأمر النبىّ صلى ال عليه وسلم فى‬ ‫ق به من ُأمّهِ))‪ ،‬وفى ثالثة‪ُ(( :‬أمّهُ أحَ ّ‬
‫وفى رواية أخرى‪(( :‬أبُوه أح ّ‬
‫ب عليه من سبعِ قِ َربٍ‪ ،‬وسَخّر ال الريحَ على قوم عادٍ سبع ليال‪َ ،‬ودَعَا النبىّ صلى ال عليه وسلم‬ ‫مرضه أن يُصَ ّ‬
‫حبّةٍ أنبتت سبعَ‬ ‫ق بِ َ‬
‫ص َدقَةَ المتصدّ ِ‬
‫عفُ به َ‬
‫ل على قومه بسب ٍع كسبعِ يوسف‪ ،‬و َمثّلَ الُ سبحانه ما يُضا ِ‬ ‫أن يُعينَه ا ُ‬
‫حبّةٍ‪ ،‬وَالسّنابل التى رآها صاحبُ يوسفَ سبعاً‪ ،‬والسنين التى زرعوها دأْباً سبعاً‪،‬‬ ‫سنابل فى كلّ سُنبلة مائة َ‬
‫لمّة بغير حساب سبعون ألفاً‪.‬‬ ‫عفُ الصدقة إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة‪ ،‬ويدخل الجنَّة من هذه ا ُ‬ ‫وتُضا َ‬

‫شفْعٌ‬
‫ى العدد كله وخواصه‪ ،‬فإن العددَ َ‬ ‫ن لهذا العدد خاصيّة ليست لغيره‪ ،‬والسبعة جمعت معان َ‬ ‫فل ريب أ ّ‬
‫شفْع‪ :‬أول وثان‪ .‬وال َوتْر‪ :‬كذلك‪ ،‬فهذه أربع مراتب‪ :‬شفع أول‪ ،‬وثان‪ .‬ووتر أول‪ ،‬وثان‪ ،‬ول تجتمع هذه‬ ‫و َوتْرٌ‪ .‬وال َ‬
‫شفْع وال َوتْر‪ ،‬والوائل‬
‫ل مِن سبعة‪ ،‬وهى عدد كامل جامع لمراتب العدد الربعة‪ ،‬أعنى ال َ‬ ‫المراتبُ فى أق ّ‬
‫شفْع الول الثنين‪ ،‬وبالثانى الربعة‪ ،‬وللطباء‬ ‫والثوانى‪ ،‬ونعنى بال َوتْر الول‪ ،‬الثلثة‪ ،‬وبالثانى الخمسة؛ وبال َ‬
‫سيّما فى البحارين‪ .‬وقد قال ((بقراط))‪ :‬كل شىء فى هذا العالَم فهو مقدّر على سبعة‬ ‫اعتناءٌ عظيم بالسبعة‪ ،‬ول ِ‬
‫أجزاء‪ ،‬والنجوم سبعة‪ ،‬واليام سبعة‪ ،‬وأسنان الناس سبعة‪ ،‬أولها طفل إلى سبع‪ ،‬ثم صبى إلى أربع عشرة‪ ،‬ثم‬
‫مُراهِقٌ‪ ،‬ثم شابٌ‪ ،‬ثم كهلٌ‪ ،‬ثم شيخٌ‪ ،‬ثم هَ ِرمٌ إلى منتهى العمر‪ ،‬وال تعالى أعلم بحكمته وشرعه‪ ،‬وقدره فى‬
‫تخصيص هذا العدد‪ ،‬هل هو لهذا المعنى أو لغيره ؟‬

‫ونفع هذا العدد مِن هذا ال ّتمْر من هذا البلد من هذه البقعة بعينها من السّم والسّحر‪ ،‬بحيث تمنع إصابته‪،‬‬
‫من الخواصّ التى لو قالها ((بقراط)) و((جالينوس)) وغيرهما من الطباء‪ ،‬لتلقّاها عنهم الطباءُ بالقبول‬
‫حدْسُ والتخمين والظنّ‪ ،‬فمَن كلمُه كلّه يقينٌ‪ ،‬وقطعٌ وبرهانٌ‬
‫ن القائل إنما معه ال َ‬
‫والذعان والنقياد‪ ،‬مع أ ّ‬
‫ووحىٌ‪ ،‬أولى أن تُتلقى أقوالُه بالقبول والتسليم‪ ،‬وترك العتراض‪ .‬وأدوية السّموم تارة تكون بالكيفية‪ ،‬وتارة‬
‫تكون بالخاصية كخواص كثير من الحجار والجواهر واليواقيت‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫فصل‬

‫ث مِن العام المخصوص‪ ،‬ويجوز نفعُه‬ ‫ويجوز نف ُع ال ّتمْر المذكور فى بعض السموم‪ ،‬فيكونُ الحدي ُ‬
‫ن مِن شرط انتفاع‬ ‫لخاصية تلك البلد‪ ،‬وتلك التّرْبة الخاصة من كل سُمّ‪ ،‬ولكن ههنا أمر ل بد من بيانه‪ ،‬وهو أ ّ‬
‫ن كثيرًا من المعالجات‬ ‫العليل بالدواء قبولَه‪ ،‬واعتقاد النف ُع به؛ فتقبله الطبيعة‪ ،‬فتستعين به على دفع العِلّة‪ ،‬حتى إ ّ‬
‫حسْن القبول‪ ،‬وكمال التلقّى‪ ،‬وقد شاهد الناس من ذلك عجائب‪ ،‬وهذا لن الطبيعة يشتد قبولُها‬ ‫ينفع بالعتقاد‪ ،‬و ُ‬
‫له‪ ،‬وتفرحُ النفس به‪ ،‬فتنتعشُ القُوّة‪ ،‬ويقوى سلطانُ الطبيعة‪ ،‬وينبعثُ الحار الغريزى‪ ،‬فيُساعد على دفع المؤذى‪،‬‬
‫وبالعكس يكون كثير من الدوية نافعاً لتلك العِلّة‪ ،‬فيقطعُ عملَه سوءُ اعتقاد العليل فيه‪ ،‬وعد ُم أخذ الطبيعة له‬
‫بالقبول‪ ،‬فل يجدى عليها شيئاً‪ .‬واعتب ْر هذا بأعظم الدوية والشفية‪ ،‬وأنفعِها للقلوب والبدان‪ ،‬والمعاش والمعاد‪،‬‬
‫والدنيا والخرة‪ ،‬وهو القرآن الذى هو شفا ٌء مِن كل داء‪ ،‬كيف ل ينفع القلوب التى ل تعتقد فيه الشفاء والنفع‪ ،‬بل‬
‫ل يزيدها إل مرضاً إلى مرضها‪ ،‬وليس لِشفاء القلوب دواءٌ قَطّ أنف َع مِن القرآن‪ ،‬فإنه شفاؤها التام الكامل الذى ل‬
‫يُغادر فيها سقماً إل أبرأه‪ ،‬ويحفظ عليها صحتها المطلقة‪ ،‬ويحميها الحمية التامة من كل مؤذٍ ومُضرٍ‪ ،‬ومع هذا‬
‫فإعراضُ أكث ِر القلوب عنه‪ ،‬وعدم اعتقادها الجازم الذى ل ريب فيه أنه كذلك‪ ،‬وعد ُم استعماله‪ ،‬والعدول عنه‬
‫إلى الدوية التى ركبها بنو جنسها حال بينها وبين الشفاء به‪ ،‬وغلبت العوائدُ‪ ،‬واشتد العراض‪ ،‬وتمكنت العللُ‬
‫والدوا ُء المزمنة من القلوب‪ ،‬وتربّى المرضى والطباء على علج بنى جنسهم وما وضعه لهم شيوخُهم‪ ،‬ومَنْ‬
‫ل أعيَا عليهم عِلجُها‪،‬‬ ‫يُعظمونه ويُحسنون به ظنونهم‪ ،‬فعظم المصابُ‪ ،‬واستحكم الداءُ‪ ،‬وتركّبت أمراضٌ وعل ٌ‬
‫وكلمّا عالجوها بتلك العلجات الحادثة تفاقَمَ أمرها‪ ،‬وقويت‪ ،‬ولسانُ الحال يُنادى عليهم‪:‬‬
‫ب الشّفَا ِء وما إليهِ وصولُ‬
‫قُرْ ُ‬ ‫جمّةٌ‬
‫ب والعَجائِبُ َ‬
‫ومِنَ العَجائِ ِ‬

‫ل‬
‫ظهُورِهَا مَحْمو ُ‬
‫والماءُ فوق ُ‬ ‫كَا ْلعِيسِ فى الْبيْدَا ِء يَ ْقتُُلهَا الظّما‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى دفع ضرر الغذية والفاكهة وإصلحها بما يدفع ضررها‪ ،‬ويُقوّى نفعَها‬

‫طبَ‬
‫ثبت فى ((الصحيحين)) من حديث عبد ال بن جعفر‪ ،‬قال‪(( :‬رأيتُ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم يأكل الرّ َ‬
‫بال ِقثّاء))‪.‬‬

‫والرّطب‪ :‬حارٌ رَطْبٌ فى الثانية‪ُ ،‬يقَوّى ال َم ِعدَة الباردة‪ ،‬ويُوافقها‪ ،‬ويزيد فى الباه‪ ،‬ولكنه سريعُ التعفّن‪ ،‬معطّش‬
‫صدّع مُوَلّد للسّدد‪ ،‬ووجع المثانة‪ ،‬ومُضِرٌ بالسنان‪ ،‬والقثاء بارد رطب فى الثانية‪ ،‬مسكن للعطش‪،‬‬ ‫ُمعَكّر للدم‪ ،‬مُ َ‬
‫جفّف بزره‪ ،‬ودُقّ واستُحِْلبَ‬
‫منعِش للقُوَى بشمه لما فيه من العطرية‪ ،‬مُطفى ُء لحرارة ال َمعِدَة الملتهبة‪ ،‬وإذا ُ‬
‫بالماء‪ ،‬وشُرِب‪ ،‬سكّن العطش‪ ،‬وأدرّ البول‪ ،‬ونفع من وجع المثانة‪ .‬وإذا دُقّ و ُنخِل‪ ،‬ودُلك به السنان‪ ،‬جلها‪،‬‬
‫ختَج‪ ،‬نفع من عضة الكلب الكَلِب‪.‬‬ ‫عمِل منه ضماد مع ال َم ْيبَ ْ‬
‫وإذا دُقّ ورقُه و ُ‬

‫وبالجملة‪ :‬فهذا حار‪ ،‬وهذا بارد‪ ،‬وفى كل منهما صلحُ الخر‪ ،‬وإزالة لكثر ضرره‪ ،‬ومقاومة كل كيفية بضدها‪،‬‬
‫ودفع سَوْرتِها بالُخرى‪ ،‬وهذا أصل العِلج كله‪ ،‬وهو أصل فى حفظ الصحة‪ ،‬بل علم الطب كله يُستفاد من هذا‪.‬‬
‫ضرّة لما‬
‫ح لها وتعديلٌ‪ ،‬ودفعٌ لما فيها من الكيفيات المُ ِ‬
‫وفى استعمال ذلك وأمثالِهِ فى الغذية والدوية إصل ٌ‬
‫سمّنونى بكلّ شىء‪ ،‬فلم‬ ‫يُقابلها‪ ،‬وفى ذلك عَوْنٌ على صحة البدن‪ ،‬و ُقوّته وخِصبِه‪ ،‬قالت عائشة رضى ال عنها‪َ :‬‬
‫سمّنونى بال ِقثّاء والرّطَب‪ ،‬فسمنت‪.‬‬
‫سمْن‪ ،‬ف َ‬
‫أَ‬

‫ل أحدِهما‬
‫وبالجملة‪ :‬فدفعُ ضررِ البارد بالحار‪ ،‬والحار بالبارد‪ ،‬والرّطبِ باليابس‪ ،‬واليابس بالرّطب‪ ،‬وتعدي ُ‬
‫سنُوت‪ ،‬وهو العسل الذى‬ ‫بالخر من أبلغ أنواع العلجات‪ ،‬وحفظ الصحة‪ .‬ونظي ُر هذا ما تقدّم من أمره بالسّنا وال ّ‬
‫سنَا‪ ،‬ويُعدله‪ ،‬فصلوات ال وسلمه على مَن بُعث بعمارة القلوب والبدان‪،‬‬ ‫ح به ال ّ‬
‫فيه شىء من السمن يصل ُ‬
‫وبمصالح الدنيا والخرة‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى الحِميـة‬

‫الدواء كله شيئان‪ :‬حِمي ٌة وحفظ صحة‪ .‬فإذا وقع التخليطُ‪ ،‬احتِيجَ إلى الستفراغ الموافق‪ ،‬وكذلك مدارُ الطب كله‬
‫على هذه القواعد الثلثة‪.‬‬

‫والحِمية حِميتان‪ :‬حِمية عمّا يجلِبُ المرض‪ ،‬وحِمية عما يزيده‪ ،‬فيقف على حاله‪ ،‬فالولى‪ :‬حِمية الصحاءِ‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬حِمية المرضى‪ .‬فإنّ المريض إذا احتمى‪ ،‬وقف مرضُه عن التزايد‪ ،‬وأخذت ال ُقوَى فى دفعه‪ .‬والصل‬
‫جدُوا‬
‫ستُ ُم النّسَا َء فََلمْ تَ ِ‬
‫لمَ ْ‬
‫حدٌ مّنكُم مّنَ ا ْلغَائِطِ أَوْ َ‬
‫سفَ ٍر أَوْ جَا َء َأ َ‬
‫فى الحِمية قوله تعالى‪{ :‬وَإن ُك ْنتُم مّ ْرضَى أَ ْو عَلَى َ‬
‫ض من استعمال الماء‪ ،‬لنه يضرّه‪.‬‬ ‫حمَى المري َ‬ ‫طيّباً} [المائدة ‪َ ،] 6:‬ف َ‬ ‫صعِيداً َ‬
‫مَا ًء َف َت َيمّمُواْ َ‬

‫ل علىّ رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وفى ((سنن ابن ماجه)) وغيره‪ ،‬عن أُ ّم المنذِر بنت قيس النصارية‪ ،‬قالت‪ :‬دَخَ َ‬
‫ى ناقِ ٌه من مرض‪ ،‬ولنا دوالى مُعلّقة‪ ،‬فقام رسولُ ال صلى ال عليه وسلم يأكل منها‪ ،‬وقام‬ ‫وسلم ومعه علىّ‪ ،‬وعل ٌ‬
‫حتّى كفّ‪ .‬قالت‪ :‬وصنعت‬ ‫ل ال صلى ال عليه وسلم يقول لعلىّ‪(( :‬إنك ناقِةٌ)) َ‬ ‫ى يأكل منها‪ ،‬فط ِفقَ رسو ُ‬ ‫عل ّ‬
‫صبْ‪ ،‬فإنه أنف ُع َلكَ))‪ ،‬وفى لفظ فقال‪:‬‬ ‫شعيراً وسِلْقاً‪ ،‬فجئت به‪ ،‬فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم لعلىّ‪(( :‬مِنْ هذا أَ ِ‬
‫ق َلكَ))‪.‬‬‫صبْ‪ ،‬فإنه أوفَ ُ‬
‫((مِنْ هذا فَأ ِ‬

‫ت على النبىّ صلى ال عليه وسلم وبين يديه خبزٌ وتمرٌ‪،‬‬ ‫صهَيْبٍ‪ ،‬قال‪ :‬قدمِ ُ‬
‫وفى ((سنن ابن ماجه)) أيضًا عن ُ‬
‫فقال‪(( :‬ادْنُ َفكُلْ))‪ ،‬فأخذتُ تمرًا فأكلتُ‪ ،‬فقال‪(( :‬أتأكُلُ تمرًا و ِبكَ َرمَدٌ)) ؟ فقلت‪ :‬يا رسول ال؛ أمضُ ُغ مِنَ‬
‫الناحية الخرى‪ ،‬فتبسّم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ح ُدكُم‬
‫حمِى أ َ‬
‫وفى حديث محفوظ عنه صلى ال عليه وسلم‪ (( :‬إنّ الَ إذا أحبّ عبداً‪ ،‬حماه مِنَ الدّنيا‪ ،‬كما يَ ْ‬
‫طعَامِ والشّرابِ))‪.‬‬
‫مريضَه عَنِ ال ّ‬

‫عبْدَه المؤمِنَ مِنَ الدّنيا))‪.‬‬


‫حمِى َ‬
‫ل يَ ْ‬
‫@ وفى لفظ‪(( :‬إنّ ا َ‬

‫ل جسم ما‬ ‫س الدواءِ‪ ،‬وال َم ِعدَةُ بيتُ الداءِ‪ ،‬وع ّودُوا ك ّ‬


‫ث الدائرُ على ألسن ِة كثير من الناس‪(( :‬الحِميةُ رأ ُ‬
‫وأما الحدي ُ‬
‫اعتاد)) فهذا الحديث إنما هو من كلم الحارث ابن كَلدَةَ طبيب العرب‪ ،‬ول يصحّ رفعُه إلى النبى صلى ال عليه‬
‫ن ال َم ِعدَةَ حوضُ البدن‪،‬‬
‫وسلم‪ ،‬قاله غي ُر واحد من أئمة الحديث‪ .‬ويُذكر عن النبى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أ ّ‬
‫ت ال َمعِدَةُ‪ ،‬صدرت العروقُ‬ ‫س ِقمَ ِ‬‫والعُروق إليها واردةٌ‪ ،‬فإذا صحّت ال َم ِعدَةُ صدرت العروقُ بالصحة‪ ،‬وإذا َ‬
‫بالسقم))‪.‬‬

‫ب الحِمية‪ ،‬والحِمية عندهم للصحيح فى المضرة بمنزلة التخليط للمريض والنّاقِه‪ ،‬وأنف ُع‬
‫س الطّ ّ‬
‫وقال الحارث‪ :‬رأ ُ‬
‫ما تكون الحِمية للنّاق ِه من المرض‪ ،‬فإنّ طبيعته لم ترجع بعدُ إلى قُوّتها‪ ،‬والقوة الهاضمة ضعيفة‪ ،‬والطبيعة قابلة‪،‬‬
‫والعضاء مستعدة‪ ،‬فتخليطُه يُوجب انتكاسَها‪ ،‬وهو أصعب من ابتداءِ مرضه‪.‬‬

‫ن الدّوالىَ‬
‫ى من الكل من الدّوالى‪ ،‬وهو ناقِ ٌه أحسنَ التدبير‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ن فى منع النبىّ صلى ال عليه وسلم لعل ّ‬ ‫واعلم أ ّ‬
‫طبُ تعُلّقُ فى البيت للكل بمنزلة عناقي ِد ال ِعنَب‪ ،‬والفاكهةُ تضرّ بالناقِه من المرض لسُرعة‬
‫َأ ْقنَا ٌء من الرّ َ‬
‫استحالتها‪ ،‬وضعف الطبيعة عن دفعها‪ ،‬فإنها لم تتمكن بعد من قُوّتها‪ ،‬وهى مشغولةٌ بدفع آثار العِلّة‪ ،‬وإزالتها مِن‬
‫البدن‪.‬‬

‫وفى الرّطَبِ خاص ًة نوع ثقلٍ على ال َمعِدَة‪ ،‬فتشتغل بمعالجتِه وإصلحه عما هى بصدده من إزالة بقية المرض‬
‫ق والشعيرُ‪ ،‬أمره أن يُصيب منه‪ ،‬فإنه‬ ‫وآثاره‪ ،‬فإما أن تقف تلك البقية‪ ،‬وإما أن تتزايدَ‪ ،‬فلمّا وُضع بين يديه السّلْ ُ‬
‫ف والتليين‪ ،‬وتقوي ِة الطبيعة ما هو أصلَح‬
‫من أنفع الغذية للناقِه‪ ،‬فإنّ فى ماء الشعير من التبريد والتغذية‪ ،‬والتلطي ِ‬
‫طبِخَ بأُصول السّلق‪ ،‬فهذا مِن أوفق الغذاء لمن فى َم ِعدَتِهِ ضعفٌ‪ ،‬ول يتولّد عنه من الخلط‬ ‫سيّما إذا ُ‬
‫للناقِه‪ ،‬ول ِ‬
‫ما يُخاف منه‪.‬‬

‫عمَرُ رضى ال عنه مريضاً له‪ ،‬حتى إنه من شدة ما حماه كان َيمَصّ النّوَى‪.‬‬
‫حمَى ُ‬
‫وقال زيدُ بن أسلم‪َ :‬‬

‫وبالجملة‪ :‬فالحِمية من أنفع الدوية قبل الداء‪ ،‬فتمنع حصولَه‪ ،‬وإذا حصل‪ ،‬فتمنع تزايدَه وانتشارَه‪.‬‬

‫فصل‬

‫ن كثيرًا مما يُحمى عنه العليلُ والناقِه والصحيحُ‪ ،‬إذا اشتدت الشهوة إليه‪ ،‬ومالت إليه‬ ‫ومما ينبغى أن يُعلم أ ّ‬
‫الطبيعة‪ ،‬فتناول منه الشىءَ اليسي َر الذى ل َتعْجِ ُز الطبيعةُ عن هضمه‪ ،‬لم يضرّه تناوُله‪ ،‬بل ربما انتفع به‪ ،‬فإنّ‬
‫الطبيعة وال َمعِدَة تتلقيانه بالقبول والمحبّة‪ ،‬فيُصلحان ما يُخشى مِن ضرره‪ ،‬وقد يكون أنف َع مِن تناول ما تكرهه‬
‫ل ال ّتمَرَاتِ اليسيرة‪،‬‬
‫ص َهيْبًا وهو أرمدُ على تناو ِ‬
‫الطبيعةُ‪ ،‬وتدفعهُ من الدواء‪ ،‬ولهذا أقرّ النبىّ صلى ال عليه وسلم ُ‬
‫ضرّه‪.‬‬
‫وعلم أنها ل تَ ُ‬

‫ى النبىّ صلى ال‬ ‫ن يَدَ ْ‬


‫ومن هذا ما يُروى عن علىّ أنه دخل عَلى رسولِ ال صلى ال عليه وسلم وهو أر َمدُ‪ ،‬و َبيْ َ‬
‫سبْعاً‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫حتّى َرمَى إليه َ‬ ‫عليه وسلم تمرٌ يأكلُه‪ ،‬فقال‪(( :‬يا علىّ؛ تشتهِيهِ)) ؟ وَ َرمَى إليه بتمرة‪ ،‬ثم بأُخرى َ‬
‫س ُبكَ يا علىٌ))‪.‬‬
‫((حَ ْ‬

‫ن النبىّ صلى ال عليه وسلم عادَ‬ ‫عكْ ِرمَةَ‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬أ ّ‬‫ومن هذا ما رواه ابن ماجه فى ((سننهِ)) من حديث ِ‬
‫خبْ َز بُرّ وفى لفظٍ‪ :‬أش َتهِى َك ْعكَاً فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫رَجُلً‪ ،‬فقال له‪(( :‬ما تَش َتهِى)) ؟ فقال‪ :‬أش َتهِى ُ‬
‫ط ِعمْهُ))‪.‬‬
‫ض أح ِدكَم شيئاً‪ ،‬فَ ْليُ ْ‬
‫ن عندَهُ خُب ُز بُرّ‪ ،‬فَليبعَثْ إلى أخيه))‪ ،‬ثم قال‪(( :‬إذا اش َتهَى مري ُ‬
‫((مَن كا َ‬
‫ض إذا تناول ما يشتهيه عن جُوع صادق طبيعى‪ ،‬وكان فيه ضررٌ‬ ‫ففى هذا الحديث سرٌ طبىٌ لطيف‪ ،‬فإنّ المري َ‬
‫حبَة الطبيعة يدفع‬
‫صدْق شهوتِهِ‪ ،‬وم َ‬
‫ما‪ ،‬كان أنفعَ وأقلّ ضرراً مما ل يشتهيه‪ ،‬وإن كان نافعاً فى نفسه‪ ،‬فإنّ ِ‬
‫ضررَه‪ ،‬وبُغض الطبيعة وكراهتها للنافع‪ ،‬قد يَجِْلبُ لها منه ضرراً‪.‬‬

‫سيّما عند انبعاثِ النفس إليه‬


‫ضمُه على أح َمدِ الوجوه‪ِ ،‬‬
‫ل الطبيعةُ عليه بعناية‪ ،‬فته ِ‬
‫وبالجملة‪ :‬فاللذيذُ المش َتهَى تُقبِ ُ‬
‫بصدْقِ الشهوة‪ ،‬وصح ِة القوة‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج الرّم ِد بالسكون‪ ،‬والدّعةِ‪ ،‬وت ْركِ الحركةِ‪ ،‬والحِميةِ مما يَهيج الرّمد‬

‫حمَى عليًا من‬


‫ص َهيْبًا من التّمْر‪ ،‬وأنكر عليه أكْلَه‪ ،‬وهو أرمدُ‪ ،‬وَ َ‬
‫حمَى ُ‬
‫وقد تقدّم أنّ النبىّ صلى ال عليه وسلم َ‬
‫ب لـمّا أصابه الرّمدُ‪.‬‬
‫الرّطَ ِ‬

‫وذكر أبو ُنعَيْم فى كتاب ((الطب النبوى))‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم ((كان إذا َر ِمدَتْ عينُ امرأ ٍة من نسائه لم‬
‫حتّى تَبرََأ عينُها))‪.‬‬
‫يأ ِتهَا َ‬

‫ب أحد الخلط‬‫الرّمدُ‪ :‬ورمٌ حار يَعرِضُ فى الطبقة الملتحمة من ال َعيْن‪ ،‬وهو بياضُها الظاهر‪ ،‬وسببُه انصبا ُ‬
‫ث منها قِسطٌ إلى جَوْهر ال َعيْن‪ ،‬أو ضرب ٌة تُصيب‬
‫الربعة‪ ،‬أو ريحٌ حارة تكثُر كميتها فى الرأس والبدن‪ ،‬فينبعِ ُ‬
‫ض لها‪ ،‬ولجل ذلك يَرِمُ‬
‫عرَ َ‬ ‫ال َعيْن‪ ،‬فتُرسل الطبيعةُ إليها مِن الدّم والروح مقدارًا كثيراً‪ ،‬تَرُو ُم بذلك شفاءَها مما َ‬
‫س يوجب ضده‪.‬‬ ‫العضو المضروب‪ ،‬والقيا ُ‬

‫واعلم أنه كما يرتفعُ من الرض إلى الجو بُخاران‪ ،‬أحدهما‪ :‬حار يابس‪ ،‬والخرُ‪ :‬حارٌ رَطب‪ ،‬فينعقدان سحاباً‬
‫متراكماً‪ ،‬ويمنعان أبصارَنا مِن إدراك السماء‪ ،‬فكذلك يرتف ُع من قعر ال َمعِدَة إلى منتهاها مِثلُ ذلك‪ ،‬فيمنعانِ‬
‫شتّى‪ ،‬فإن قويت الطبيعةُ على ذلك ودفعته إلى الخياشيم‪ ،‬أحدث الزّكامَ‪ ،‬وإن دفعته إلى‬ ‫النظرَ‪ ،‬ويتولّد عنهما عِلَلٌ َ‬
‫جنْبِ‪ ،‬أحدث الشّوْصةَ‪ ،‬وإن دفعتْه إلى الصدر‪ ،‬أحدث النّزلةَ‪،‬‬ ‫اللّهاة وال َمنْخِرَين‪ ،‬أحدث الخُناقَ‪ ،‬وإن دفعتْه إلى ال َ‬
‫خبْطَةَ‪ ،‬وإن دفعته إلى ال َعيْن‪ ،‬أحدث رمداً‪ ،‬وإن انحدر إلى الجوف‪ ،‬أحدث‬ ‫وإن انحدر إلى القلب‪ ،‬أحدث ال َ‬
‫سيَلنَ‪ ،‬وإن دفعته إلى منازل الدّماغ‪ ،‬أحدث النّسيانَ‪ ،‬وإن ترطبت أوعيةُ الدماغ منه وامتلت به عروقُه‪،‬‬ ‫ال ّ‬
‫أحدث النو َم الشديد‪ ،‬ولذلك كان النوم رَطباً‪ ،‬والسهرُ يابساً‪ .‬وإن طلب البخارُ النفوذَ من الرأس‪ ،‬فلم يقدِرْ عليه‪،‬‬
‫سطَ‬
‫شقّى الرأس‪ ،‬أعقبه الشقيقة‪ ،‬وإن ملك ِقمّةَ الرأس وو َ‬ ‫أعقبه الصّداع والسهر‪ ،‬وإن مال البخار إلى أحد ِ‬
‫ت منه أرياحٌ‪ ،‬أحدث العُطاسَ‪،‬‬ ‫الهامة‪ ،‬أعقبه داءُ البَيْضة‪ ،‬وإن برد منه حِجابُ الدماغ أو سخن أو ترطّب وهاج ْ‬
‫وإن أهاج الرطوبة البلغمية فيه حتى غلب الحار الغريزى‪ ،‬أحدث الغماءَ والسّكاتَ‪ ،‬وإن أهاج المِرّ َة السوداءَ‬
‫حتى أظلم هوا ُء الدماغ‪ ،‬أحدث الوسواس‪ ،‬وإن فاض ذلك إلى مجارى العَصَب‪ ،‬أحدث الصّرْع الطبيعىّ‪ ،‬وإن‬
‫ترطبت مجام ُع عصب الرأس وفاض ذلك فى مجاريه‪ ،‬أعقبه الفالِج‪ ،‬وإن كان البُخار من مِرّةٍ صفرا َء ملتهبة‬
‫محمية للدماغ‪ ،‬أحدث البِرْسامَ‪ ،‬فإن شَرَكه الصد ُر فى ذلك‪ ،‬كان سرساماً‪ ،‬فافهم هذا الفصلَ‪.‬‬

‫ل ال ّرمَد‪ ،‬والجِماعُ مما يَزيد حركتَها وثَوَرانَها‪،‬‬


‫والمقصودُ‪ :‬أنّ أخلط البدن والرأس تكون متحركة هائجة فى حا ِ‬
‫فإنّه حرك ٌة كلية للبدن والروح والطبيعة‪ .‬فأمّا البدن‪ ،‬فيسخُنُ بالحركة ل محالة‪ ،‬والنفس تشتدّ حركتها طلباً للذة‬
‫ن أول تعلق الروح من البدن بالقلب‪ ،‬ومنه ينشأ‬ ‫ح تتحرك تبعًا لحركة النفس والبدن‪ ،‬فإ ّ‬
‫واستكمالها‪ ،‬والرو ُ‬
‫الروحُ‪ ،‬وتَنبثّ فى العضاء‪ .‬وأما حرك ُة الطبيعة‪ ،‬فلجل أن تُرسِلَ ما يجب إرسالُه مِن ال َمنِىّ على المقدار الذى‬
‫ب إرسالُه‪.‬‬
‫يج ُ‬

‫ع حركة كلية عامة يتحرّك فيها البدن وقُواه‪ ،‬وطبيعته وأخلطه‪ ،‬والروحُ والنفس‪ ،‬فكلُ حركة‬ ‫وبالجملة‪ :‬فالجِما ُ‬
‫فهى مثيرة للخلط مرققةٌ لها تُوجب دفعَها وسيلنها إلى العضاء الضعيفة‪ ،‬وال َعيْنُ فى حال رمدها أضعفُ ما‬
‫جمَاع‪.‬‬
‫تكون‪ ،‬فأضرّ ما عليها حركةُ ال ِ‬

‫ن الحركة ُتثَوّ ُر البدان‪ .‬هذا مع أنّ فى الرّمد‬


‫قال ((بقراط)) فى كتاب ((الفصول))‪ :‬وقد َيدُلّ ركوبُ السفُن أ ّ‬
‫منافعَ كثيرة‪ ،‬منها ما يستدعيه مِن الحِمية والستفراغ‪ ،‬وتنقيةِ الرأس والبدن من فضلتهما وعُفوناتهما‪ ،‬والكفّ‬
‫ت العنيفة‪ ،‬والعمال الشاقة‪ .‬وفى أثر سَلَفىّ‪ :‬ل‬ ‫عما يُؤذى النفس والبدن من الغضب‪ ،‬والهم والحزن‪ ،‬والحركا ِ‬
‫تَكرهوا الرّمدَ‪ ،‬فإنه يقطع عروق ال َعمَى‪.‬‬
‫ك مس ال َعيْن والشتغال بها‪ ،‬فإنّ أضداد ذلك يُوجب انصبا َ‬
‫ب‬ ‫ومن أسباب علجه ملزمةُ السكون والراحة‪ ،‬وتر ُ‬
‫ك مَسّها‪ .‬وقد رُوى فى حديث‬ ‫ل ال َعيْن‪ ،‬ودَوَا ُء ال َعيْنِ تَ ْر ُ‬
‫ح ّمدٍ َمثَ ُ‬
‫صحَابِ مُ َ‬ ‫المواد إليها‪ .‬وقد قال بعضُ السّلَف‪ :‬مَثلُ أ ْ‬
‫ن الماء‬ ‫مرفوع‪ ،‬ال أعلم به‪(( :‬علجُ الرّمد تَقطي ُر الماءِ البار ِد فى ال َعيْن)) وهو من أنفع الدوية للرّمد الحار‪ ،‬فإ ّ‬
‫دواء بارد يُستعان به على إطفاء حرار ِة الرّمد إذا كان حاراً‪ ،‬ولهذا قال عبدُ ال بن مسعود رضى ال عنه‪،‬‬
‫ل رسول ال صلى ال عليه وسلم كان خيرًا لكِ وأجدَرَ أن‬ ‫ت كما َفعَ َ‬
‫ت عينُها‪ :‬لو فَعل ِ‬
‫ب وقد اشتَك ْ‬‫لمرأتِه زين َ‬
‫شفَاؤك‪،‬‬ ‫ب النّاس‪ ،‬واشْفِ أنتَ الشّافِى‪ ،‬ل شِفاءَ إل ِ‬ ‫تُشْفى‪َ ،‬تنْضَحِينَ فى عي ِنكِ الماءَ‪ ،‬ثم تقولينَ‪(( :‬أَذهِبْ الب ْأسَ ر ّ‬
‫ص ببعض البلد‪ ،‬وبعضِ أوجاع ال َعيْن‪ ،‬فل يُجعل كلمُ النبوّة‬ ‫سقَماً))‪ .‬وهذا مما تقدّم مرارًا أنه خا ٌ‬ ‫شِفاءً ل يُغادِرُ َ‬
‫الجزئىّ الخاص كُلياً عاماً‪ ،‬ول الكُلىّ العام جزئياً خاصاً‪ ،‬فيقعَ من الخطإ‪ ،‬وخلف الصواب ما يقعُ‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫فصل‬

‫خدَران ال ُكلّى الذى يَجْ ُم ُد معه البدنُ‬


‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج ال َ‬

‫عبَ ْيدٍ فى ((غريب الحديث)) من حديث أبى عثمانَ ال ّنهْدِىّ‪ :‬أنّ قومًا مرّوا بشجرةٍ فأكلُوا منها‪ ،‬فكأنما‬ ‫ذكر أبو ُ‬
‫شنَانِ‪ ،‬وصُـبّوا عليهم فيما بين‬‫ت بهم ريحٌ‪ ،‬فأجمد ْتهُم‪ ،‬فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬قَرّسُوا الماءَ فى ال ّ‬ ‫مرّ ْ‬
‫عبَيْد‪(( :‬قَرّسُوا))‪ :‬يعنى بَرّدوا‪ .‬وقولُ الناس‪ :‬قد قَ َرسَ البردُ‪ ،‬إنما هو من هذا بالسين ليس‬ ‫الذا َنيْن))‪ ،‬ثم قال أبو ُ‬
‫جدُ ِد لنها‬
‫ن دون ال ُ‬
‫بالصاد‪ .‬والشّنان‪ :‬السقِيةُ والقِ َربُ الخُلقانُ‪ :‬يُقال للسّقاء‪ :‬شَنٌ‪ ،‬وللقِربة‪ :‬شَـنّة‪ .‬وإنما ذكر الشّنا َ‬
‫أشدّ تبريداً للماء‪ .‬وقوله‪(( :‬بين الذَانَين))‪ ،‬يعنى‪ :‬أذانَ الفجر والقامة‪ ،‬فسمى القامة أذاناً‪ ..‬انتهى كلمه‪.‬‬

‫ل علج هذا الداء إذا كان وقوعُه‬‫ج مِن النبىّ صلى ال عليه وسلم من أفض ِ‬ ‫قال بعضُ الطباء‪ :‬وهذا العل ُ‬
‫بالحجاز‪ ،‬وهى بلد حارة يابسةٌ‪ ،‬والحارُ الغريزىّ ضَعيف فى بواطن سكانها‪ ،‬وصبّ الماء البارد عليهم فى‬
‫جمْعَ الحار الغريزى المنتشر فى البدن الحامل لجميع قُواه‪ ،‬فيقوى‬
‫الوقت المذكور وهو أبردُ أوقاتِ اليوم يوجبُ َ‬
‫القوة الدافعة‪ ،‬ويجتمعُ من أقطار البدن إلى باطنه الذى هو محلّ ذاك الداء‪ ،‬ويستظهر بباقى القُوَى على دفع‬
‫جلّ‪،‬‬
‫المرض المذكور‪ ،‬فيدفعه بإذن ال عَزّ و َ‬

‫جبُوا من‬
‫ضعَتْ له الطباءُ‪ ،‬وعَ ِ‬
‫خ َ‬
‫ولو أن ((بقراط)) أو ((جالينوس)) أو غيرَهما‪ ،‬وصف هذا الدواء لهذا الداء‪ ،‬ل َ‬
‫كمال معرفته‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى إصلح الطعام الذى يقع فيه الذّباب وإرشاده إلى دفع مَضَرّات السموم‬
‫بأضدادها‬

‫فى ((الصحيحين)) من حديث أبى هُريرة‪ ،‬أنّ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬إذا وقَعَ اّلذَبابُ فى إناءِ‬
‫شفَاءً))‪.‬‬
‫ح ِدكُم‪ ،‬فامْقُلُوه‪ ،‬فإنّ فى أحد جنَاحيهِ داءً‪ ،‬وفى الخرِ ِ‬
‫أَ‬

‫حدُ جَناحَى الذّبابِ‬


‫خدْرىّ‪ ،‬أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬أ َ‬ ‫ن أبى سعيد ال ُ‬‫وفى ((سنن ابن ماجه)) ع ِ‬
‫طعَام‪ ،‬فامْ ُقلُوه‪ ،‬فإنه يُ َقدّ ُم السّمّ‪ ،‬ويُ َؤخّرُ الشّفَاءَ))‪.‬‬
‫خرُ شِفَاءٌ‪ ،‬فإذا َوقَعَ فى ال ّ‬
‫سَمٌ‪ ،‬وال َ‬

‫طبّىٌ‬
‫هذا الحديث فيه أمران‪ :‬أمرٌ فقهىٌ‪ ،‬وأمرٌ ِ‬

‫ن الذّباب إذا مات فى ماء أو مائع‪ ،‬فإنه ل يُنجّسه‪ ،‬وهذا قول‬ ‫فأما الفقهى‪ ..‬فهو دليلٌ ظاهر الدللةِ جدًا على أ ّ‬
‫ن النبىّ صلى ال عليه وسلم أمر‬ ‫جمهور العلماء‪ ،‬ول يُعرف فى السّلَف مخالفٌ فى ذلك‪ .‬ووَجهُ الستدلل به أ ّ‬
‫سيّما إذا كان الطعامُ حاراً‪ .‬فلو كان يُنجسه لكان‬
‫بمَقْلِهِ‪ ،‬وهو غمسُه فى الطعام‪ ،‬ومعلو ٌم أنه يموت من ذلك‪ ،‬ول ِ‬
‫ى هذا الحكمُ إلى كل ما ل نفس له‬ ‫عدّ َ‬
‫أمرًا بإفساد الطعام‪ ،‬وهو صلى ال عليه وسلم إنما أمر بإصلحه‪ ،‬ثم ُ‬
‫سائلة‪ ،‬كالنحلة وال ّز ْنبُور‪ ،‬والعنكبوت‪ ،‬وأشباهِ ذلك‪ .‬إذ الحك ُم َيعُمّ بعُموم عِّلتِه‪ ،‬وينتفى لنتفاء سببه‪ ،‬فلما كان سبب‬
‫التنجيس هو الدم المحتقن فى الحيوان بموته‪ ،‬وكان ذلك مفقوداً فيما ل دم له سائل انتفى الحكم بالتنجيس لنتفاءِ‬
‫عِلّّته‪.‬‬
‫ثم قال مَن لم يحكم بنجاسة عظم الميتةِ‪ :‬إذا كان هذا ثابتاً فى الحيوان الكامل مع ما فيه من الرّطوبات‪،‬‬
‫والفضلت‪ ،‬وعدم الصلبة‪ ،‬فثبوته فى العظم الذى هو أبعدُ عن الرّطوبات والفضلت‪ ،‬واحتقان الدم أولى‪ ،‬وهذا‬
‫فى غاية القوة‪ ،‬فالمصيرُ إليه أولى‪.‬‬

‫ى وعنه تلقاها‬
‫وأول مَن حُفظ عنه فى السلم أنه تكلّم بهذه اللّفظة‪ ،‬فقال‪ :‬ما ل نفسَ له سائلة؛ إبراهيم النخَع ّ‬
‫الفقهاءُ والنفس فى اللّغة‪ُ :‬يعَبّر بها عن الدم‪ ،‬ومنه نَفَست المرأة بفتح النون إذا حاضت‪ ،‬ونُفِست بضمها إذا‬
‫ولدت‪.‬‬

‫ع َبيْد‪ :‬معنى ((امْقُلُوه))‪ :‬اغمسوه ليخرج الشفاء منه‪ ،‬كما خرج الداءُ‪ ،‬يقال للرجلين‪:‬‬
‫وأما المعنى الطبىّ‪ ،‬فقال أبو ُ‬
‫هما يَتمَاقلن‪ ،‬إذا تغاطّا فى الماء‪.‬‬

‫حكّة العارِضة عن لسعِه‪ ،‬وهى بمنزلة السّلح‪ ،‬فإذا‬ ‫سمّـيّ ًة يدل عليها الورم‪ ،‬وال ِ‬
‫ن فى الذّباب عندهم قُوّةً ُ‬
‫واعلم أ ّ‬
‫سقط فيما يؤذيه‪ ،‬اتقاه بسلحه‪ ،‬فأمر النبىّ صلى ال عليه وسلم أن يُقابلَ تلك السّمية بما أودعه ال سبحانه فى‬
‫س كُلّه فى الماء والطعام‪ ،‬فيقابل المادةَ السّمية المادة النافعة‪ ،‬فيزول ضررُها‪.‬‬ ‫جناحه الخر من الشفاء‪ ،‬فيُغم َ‬
‫ب ل يهتدى إليه كبار الطباء وأئمتهم‪ ،‬بل هو خارجٌ من مِشكاة النُبوّة‪ ،‬ومع هذا فالطبيب العالِم العارِف‬ ‫ط ٌ‬ ‫وهذا ِ‬
‫الموفّق يخضع لهذا العلج‪ ،‬ويُ ِقرّ لمن جاء به بأنه أكملُ الخلق على الطلق‪ ،‬وأنه مُ َؤيّد بوحى إلهى خارج عن‬
‫القُوَى البَشَرية‪.‬‬

‫وقد ذكر غي ُر واحد من الطباء أن لسع الزّنبور والعقرب إذا دُِلكَ موضعه بالذّباب نفع منه نفعاً بيّناً‪ ،‬وسكّنه‪،‬‬
‫شعْرَة بعد قطع‬ ‫ك به الورمُ الذى يخرج فى شعر ال َعيْن المسمّى َ‬ ‫وما ذاك إل للمادة التى فيه من الشفاء‪ ،‬وإذا دُِل َ‬
‫رؤوس الذّباب‪ ،‬أبرأه‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج البَثْرَة‬

‫ل ال صلى ال‬
‫ذكر ابن السّنى فى كتابه عن بعض أزواج النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قالت‪ :‬دخل علىّ رسو ُ‬
‫عنْ َدكِ ذَرِيرةٌ)) ؟ قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫عليه وسلم وقد خرج فى أصبعى َبثْرَةٌ‪ ،‬فقال‪ِ (( :‬‬

‫صغّ ْر مَا بِى))‪.‬‬


‫صغِيرِ‪َ ،‬‬
‫صغّرَ ال َكبِيرِ‪ ،‬ومُكبّ َر ال َ‬
‫قال‪(( :‬ضَعيها عليها))‪ ،‬وقُولى‪(( :‬الّلهُمّ ُم َ‬

‫الذّرِيرةُ‪ :‬دواء هندى يُتخذ من قَصب الذّريرة‪ ،‬وهى حارة يابسة تنف ُع مِن أورام ال َم ِعدَة وال َكبِدِ والستسقاء‪ ،‬وتُقوّى‬
‫القلب لطيبها‪،‬‬

‫وفى ((الصحيحين)) عن عائشة أنها قالت‪ :‬ط ّيبْتُ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم بيَدِى بذَرِيرةٍ فى حَجّةِ الوَداع‬
‫حلّ والحْرَامِ‪.‬‬
‫لل ِ‬

‫وال َبثْرَة‪ :‬خُراج صغير يكون عن مادة حارة تدفعها الطبيعة‪ ،‬فتسترقّ مكانًا من الجسد تخرج منه‪ ،‬فهى محتاجة‬
‫ن فيها إنضاجًا وإخراجًا مع طِيب رائحتها‪ ،‬مع أنّ‬
‫إلى ما يُنضجها ويُخرجها‪ ،‬والذّريرةُ أحدُ ما يفعل بها ذلك‪ ،‬فإ ّ‬
‫فيها تبريداً للنارية التى فى تلك المادة‪ ،‬ولذلك قال صاحب ((القانون))‪ :‬إنه ل أفضل لحرق النار من الذّرِيرة‬
‫بدُهنِ الوردِ والخل‪.‬‬

‫فصل‬

‫[فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج الورام والخُرَاجات التى تبرأ بال َبطّ والبَ ْزلِ]‬

‫ت مع رسول ال صلى ال عليه وسلم على رجل يعودُه بظهره ورمٌ‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا‬ ‫يُذكر عن علىّ أنه قال‪ :‬دخل ُ‬
‫رسول ال؛ بهذه ِمدّةٌ‪ .‬قال‪(( :‬بُطّوا عنه))‪ ،‬قال علىّ‪ :‬فما بَرِحتُ حتى بُطّتْ‪ ،‬والنبىّ صلى ال عليه وسلم شاهدٌ‪.‬‬
‫جوَى البطن‪ ،‬فقيل‪ :‬يا رسول‬
‫ط بطن رجل أ ْ‬
‫ن النبىّ صلى ال عليه وسلم أمر طبيبًا أن َيبُ ّ‬
‫ويُذكر عن أبى هريرة‪ :‬أ ّ‬
‫طبّ؟‬
‫ال؛ هل ينفع ال ّ‬

‫قال‪(( :‬الذى أنْزَلَ الداء‪ ،‬أنزل الشّفَاء‪ ،‬فِيمَا شاء))‪.‬‬

‫ب إليه‪ ،‬ويُوجد فى أجناس المراض كُلّها‪ ،‬والموادُ‬ ‫الورم‪ :‬مادة فى حجم العضو لفضل مادة غيرِ طبيعية تنص ّ‬
‫ل ورم حار يؤول‬ ‫خرَاجاً‪ ،‬وك ّ‬
‫التى تكون عنها من الخلط الربعة‪ ،‬والمائية‪ ،‬والريح‪ ،‬وإذا اجتمع الورمُ سُمى ُ‬
‫أمره إلى أحد ثلثة أشياء‪ :‬إما تحلل‪ ،‬وإما جمع ِمدّة‪ ،‬وإما استحالةٍ إلى الصّلبة‪ .‬فإن كانت القوة قوية‪ ،‬استولت‬
‫ح الحالت التى يؤول حالُ الورم إليها‪ ،‬وإن كانت دون ذلك‪ ،‬أنضجت المادة‪،‬‬ ‫على مادة الورم وحلّلته‪ ،‬وهى أصل ُ‬
‫وأحالتها مِدّ ًة بيضاءَ‪ ،‬وفتحت لها مكانًا أسالتها منه‪ .‬وإن نقصَت عن ذلك أحالت المادة ِمدّةً غير مستحكمة‬
‫النّضج‪ ،‬وعجزت عن فتح مكان فى العضو تدفعُها منه‪ ،‬فيُخاف على العضو الفساد بطُول لبثها فيه‪ ،‬فيحتاجُ‬
‫حينئذ إلى إعانة الطبيب بالبَطّ‪ ،‬أو غيره لخراج تلك المادة الرديئة المفسدة للعضو‪.‬‬

‫ط فائدتان؛ إحداهما‪ :‬إخراج المادة الرديئة المفسدة‪.‬‬


‫وفى البَ ّ‬

‫والثانية‪ :‬منع اجتماع مادة أُخرى إليها تقوّيها‪.‬‬

‫ن منها‪:‬‬
‫جوَى البطن))‪ ،‬فالجَوى يُقال على معا ٍ‬
‫ط بطن رجل أ ْ‬ ‫وأما قوله فى الحديث الثانى‪(( :‬إنه أمر طبيبًا أن َيبُ ّ‬
‫الماءُ ال ُمنْتِنُ الذى يكون فى البطن يحدُث عنه الستسقاءُ‪.‬‬

‫وقد اختلف الطباء فى بزله لخروج هذه المادة‪ ،‬فمنعته طائف ٌة منهم لخطرِه‪ ،‬وبُع ِد السلمة معه‪ ،‬وجوّزته طائفةٌ‬
‫طبْلىّ‪:‬‬
‫أُخرى‪ ،‬وقالت‪ :‬ل علج له سواه‪ ،‬وهذا عندهم إنما هو فى الستسقاء الزّقىّ‪ .‬فإنه كما تقدم ثلثة أنواع‪َ :‬‬
‫وهو الذى ينتفخ معه البطن بمادة ريحية إذا ضُربت عليه سُمع له صوتٌ كصوت الطّبل‪ ،‬ولحمىّ‪ :‬وهو الذى‬
‫يربُو معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية تفشُو مع الدم فى العضاء‪ ،‬وهو أصعبُ من الول‪ ،‬و ِزقّىّ‪ :‬وهو الذى‬
‫يجتمع معه فى البطن السفل مادةٌ رديئة يُسمع لها عند الحركة خَضخض ٌة كخضخضةِ الماء فى الزّق‪ ،‬وهو أردأ‬
‫أنواعه عند الكثرين من الطباء‪ .‬وقالت طائفة‪ :‬أردأ أنواعه ((اللّحْمىّ)) لعموم الفة به‪.‬‬

‫ومن جملة علج الزّقى إخراج ذلك بالبَزْل‪ ،‬ويكون ذلك بمنزلة فصد العروق لخراج الدم الفاسد‪ ،‬لكنه خطِرٌ‬
‫كما تقدّم‪ ،‬وإن ثبت هذا الحديث‪ ،‬فهو دليلٌ على جواز بزله‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫فصل‬

‫ف ما اعتاده من الغذية‬
‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى تغذية المريض بألط ِ‬

‫ت من أهلِها‪ ،‬واجتمع لذلك النساءُ‪ ،‬ثم‬ ‫ت المي ُ‬


‫فى ((الصحيحين)) من حديثِ عُرْوةَ‪ ،‬عن عائشةَ‪ :‬أنها كانتْ إذا ما َ‬
‫طبِخَتْ‪ ،‬وصنعت ثريداً‪ ،‬ثم صبّت التلبينةُ عليه‪ ،‬ثم قالت‪ :‬كُلوا منها‪،‬‬ ‫ت ببُ ْرمَةٍ من تَلْبينةٍ ف ُ‬
‫تف ّرقْنَ إلى أهلهن‪ ،‬أمر ْ‬
‫ب ببعضِ الحُزْن))‪.‬‬
‫ض تَذه ُ‬‫فإنى سمعتُ رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪(( :‬التّ ْلبِينَةُ مَجمّةٌ لفؤادِ المري ِ‬

‫ض النّافع‬
‫وفى ((السنن)) من حديث عائشة أيضاً‪ ،‬قالت‪ :‬قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬عليكُمْ بالبَغي ِ‬
‫ل البُرْمةُ على النارِ حتى‬‫التّ ْلبِينِ))‪ ،‬قالت‪ :‬وكان رسولُ ال صلى ال عليه وسلم إذا اشتكَى أح ٌد من أهله لم تَز ْ‬
‫ينتهىَ أحدُ ط َر َفيْهِ‪ .‬يَعنى َيبْرَأ أو يموت‪.‬‬

‫طعَامَ‪ ،‬قال‪(( :‬عََل ْيكُم بالتّ ْلبِينَةِ‬


‫طعَمُ ال ّ‬
‫ن فلنَا َوجِعٌ ل ي ْ‬ ‫وعنها‪ :‬كان رسولُ ال صلى ال عليه وسلم إذا قيل له‪ :‬إ ّ‬
‫سلُ إحداكُنّ وجهَها مِنَ الوَسَخ))‪.‬‬ ‫فحُسّوه إيّاها))‪ ،‬ويقول‪(( :‬والذى نفْسى بيدِه إ ّنهَا َتغْسِلُ بَطْنَ أح ِدكُم كما تَغ ِ‬

‫التّلْبين‪ :‬هو الحِسَا ُء الرقيقُ الذى هو فى قِوَام اللّبن‪ ،‬ومنه اشتُق اسمُه‪ ،‬قال ال َهرَوىّ‪ :‬سميت تَلبينةً لشبهها باللّبن‬
‫ت أن تعرِفَ فضل‬ ‫ق النضيج ل الغليظ النّىءُ‪ ،‬وإذا شئ َ‬ ‫لبياضِها ورقتِها‪ ،‬وهذا الغِذَاءُ هو النافع للعليل‪ ،‬وهو الرقي ُ‬
‫ف فضل ماء الشعير‪ ،‬بل هى ماءُ الشعير لهم‪ ،‬فإنها حِساء متّخذ من دقيق الشعير بنُخالته‪ ،‬والفرق‬ ‫التّلْبينَةِ‪ ،‬فاعر ْ‬
‫بينها وبين ماء الشعير أنه يُطبخ صِحاحاً‪ ،‬والتّلبينَة تُطبخ منه مطحوناً‪ ،‬وهى أنفع منه لخروج خاصيّ ِة الشعير‬
‫بالطحن‪ ،‬وقد تقدّم أنّ للعاداتِ تأثيراً فى النتفاع بالدوية والغذية‪ ،‬وكانت عادةُ القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه‬
‫مطحونًا ل صِحاحاً‪ ،‬وهو أكث ُر تغذيةً‪ ،‬وأقوى فعلً‪ ،‬وأعظمُ جلءً‪ ،‬وإنما اتخذه أطباءُ المدن منه صِحَاحًا ليكونَ‬
‫ل ماءِ الشعير‬
‫ق وألطفَ‪ ،‬فل يَثقُل على طبيعة المريض‪ ،‬وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورَخاوتِها‪ ،‬وثِق ِ‬ ‫أر ّ‬
‫المطحون عليها‪ .‬والمقصودُ‪ :‬أنّ ماء الشعير مطبوخاً صِحاحاً يَن ُفذُ سريعاً‪ ،‬ويَجلُو جَل ًء ظاهراً‪ ،‬ويُغذى غِذاءً‬
‫لطيفاً‪ .‬وإذا شُرِب حاراً كان جلؤه أقوى‪ ،‬ونفوذُه أسرَع‪ ،‬وإنْماؤه للحرارة الغريزية أكثرَ‪ ،‬وتلميسُه لسطوح‬
‫ال َم ِعدَة أوفق‪.‬‬

‫وقولُه صلى ال عليه وسلم فيها‪(( :‬مجمةٌ لفؤاد المريض))‪ ،‬يُروى بوجهين؛ بفتح الميم والجيم‪ ،‬وبضم الميم‪،‬‬
‫وكسر الجيم‪ .‬والول‪ :‬أشهر‪ .‬ومعناه‪ :‬أنها مُريح ٌة له‪ ،‬أى‪:‬‬

‫حزْن))‪ ،‬هذا وال أعلم لن الغم والحزن‬


‫تُريحهُ وتس ّكنُه من ((الِجْمـام)) وهو الراحة‪ .‬وقولُه‪(( :‬تُذهب ببعض ال ُ‬
‫ُيبَرّدان المزاجَ‪ ،‬ويُضعفان الحرار َة الغريزية لميلِ الروح الحامل لها إلى جهة القلب الذى هو منشؤها‪ ،‬وهذا‬
‫ل أكثرَ ما عرض له من الغم والحزن‪.‬‬‫الحساءُ يُقوّى الحرارة الغريزية بزيادته فى مادتها‪ ،‬فتزي ُ‬

‫ص الغذية المفرِحَة‪ ،‬فإنّ من‬


‫ب ‪ :‬إنها تَذهبُ ببعض الحُزن بخاصيّةٍ فيها من جنس خوا ّ‬
‫وقد يُقال وهو أقر ُ‬
‫الغذية ما يُفرِح بالخاصية‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫ن قُوى الحزين تَضعُفُ باستيلء اليُبْس على أعضائه‪ ،‬وعلى َمعِدته خاص ًة لتقليل الغذاء‪ ،‬وهذا‬ ‫وقد يُقال‪ :‬إ ّ‬
‫ض كثيرًا ما يجتمع فى َم ِعدَته خَلْطٌ‬‫حسَاء يرطبها‪ ،‬ويقويها‪ ،‬ويغذّيها‪ ،‬ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض‪ ،‬لكن المري َ‬ ‫ال ِ‬
‫حدُره‪ ،‬ويُميعُه‪ ،‬ويُعدّل كيفيتَه‪،‬‬
‫حسَاءُ يَجلُو ذلك عن ال َمعِدَة و َيسْرُوه‪ ،‬ويَ ْ‬
‫مرارى‪ ،‬أو بَ ْل َغمِى‪ ،‬أو صَديدى‪ ،‬وهذا ال ِ‬
‫سيّما ِلمَن عادتُه الغتذاءُ بخبز الشعير‪ ،‬وهى عادة أهل المدينة إذ ذاك‪ ،‬وكان هو‬ ‫ويَكسِرُ سَوْرَته‪ ،‬فيُريحها ول ِ‬
‫غالبَ قُوتِهم‪ ،‬وكانت الحِنطةُ عزيزة عندهم‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج المرضى بتطييب نفوسهم وتقوية قلوبهم‬

‫روى ابن ماجه فى ((سننه)) من حديث أبى سعيد الخُدرىّ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إذا‬
‫ب نَفْسَ المريضِ))‪.‬‬
‫طيّ ُ‬
‫ن ذَِلكَ ل يَ ُردّ شيئاً‪ ،‬وَهُ َو يُ َ‬
‫دَخَ ْلتُم على المَرِيضِ‪َ ،‬ف َنفّسوا لَهُ فى الجَلِ‪ ،‬فإ ّ‬

‫س العليل من الكلم‬
‫وفى هذا الحديث نوعٌ شريفٌ جدًا من أشرف أنواع العلج‪ ،‬وهو الرشاد إلى ما يُطيّبُ نف َ‬
‫الذى تقوى به الطبيعة‪ ،‬وتنتعشُ به القُوّة‪ ،‬وينبعِثُ به الحا ّر الغريزى‪ ،‬فيتساعدُ على دفع العِلّة أو تخفيفها الذى‬
‫هو غايةُ تأثير الطبيب‪.‬‬

‫خفّتها‪ ،‬فإنّ‬
‫ل ما يسُرّه عليه‪ ،‬له تأثيرٌ عجيب فى شفاء عِلّته و ِ‬
‫وتفريح نفس المريض‪ ،‬وتطييبُ قلبه‪ ،‬وإدخا ُ‬
‫عدُ الطبيعة على دفع المؤذى‪ ،‬وقد شاهد الناس سكثيرًا من المرضى تنتعِ ُ‬
‫ش‬ ‫الرواح وال ُقوَى تقوى بذلك‪ ،‬فتُسَا ِ‬
‫قواه بعيادة مَن يُحبونه‪ ،‬ويُعظّمونه‪ ،‬ورؤيتهم لهم‪ ،‬ولُطفهم بهم‪ ،‬ومكالمتهم إياهم‪ ،‬وهذا أح ُد فوائد عيادة المرضى‬
‫ع يعود على العائد‪ ،‬ونوعٌ يعود‬ ‫التى تتعلق بهم‪ ،‬فإنّ فيها أربعة أنواع من الفوائد‪ :‬نوعٌ يرجع إلى المريض‪ ،‬ونو ٌ‬
‫على أهل المريض‪ ،‬ونوعٌ يعود على العامة‪.‬‬

‫@ وقد تقدّم فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم أنه كان يسأل المريض عن شكواه‪ ،‬وكيف يجده ويسأله عما يشتهيه‪،‬‬
‫جبْهته‪ ،‬وربما وضعها بين ثد َييْه‪ ،‬ويدعو له‪ ،‬ويصف له ما ينفعه فى عِلّته‪ ،‬وربما توضّأ وصَبّ‬
‫ويضع يده على َ‬
‫طهُورٌ إنْ شَاءَ ال))‪ ،‬وهذا من كمال اللّطف‪،‬‬
‫ض من وَضوئه‪ ،‬وربما كان يقولُ للمريض‪(( :‬ل بَأْس‪َ ،‬‬ ‫على المري ِ‬
‫وحُسن العلج والتدبير‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج البدان بما اعتادته من الدوية والغذية‪ ،‬دون ما لم َتعْ َتدْه‬
‫ث يظن أنه‬ ‫ض من حي ُ‬ ‫هذا أصلٌ عظيمٌ من أُصول العِلج‪ ،‬وأنفعُ شىء فيه‪ ،‬وإذا أخطأه الطبيبُ‪ ،‬أضرّ المري َ‬
‫ينفعه‪ ،‬ول َي ْعدِلُ عنه إلى ما يجدهُ من الدوية فى كُتب الطب إل طبيب جاهل‪ ،‬فإن ملءمةَ الدوية والغذية‬
‫للبدان بحسب استعدادها وقبولها‪ ،‬وهؤلء أهل البوادى والكارُون وغيرُهم ل ينجَ ُع فيهم شراب اللينوفر والوردِ‬
‫حضَر وأهل الرّفاهيةَ ل تجدى عليهم‪،‬‬ ‫طرّى ول المغلى‪ ،‬ول يُؤثر فى طباعهم شيئاً‪ ،‬بل عامةُ أدوية أهلِ ال َ‬ ‫ال َ‬
‫والتجربة شاهدة بذلك‪،‬ومَن تأمل ما ذكرناه من العلج النبوىّ‪ ،‬رآه كُلّه موافقًا لعادةِ العليل وأرضه‪ ،‬وما نشأ‬
‫عليه‪ .‬فهذا أصلٌ عظيمٌ من أُصول العلج يجب العتناءُ به‪ ،‬وقد صرّح به أفاضلُ أهل الطب حتى قال طبيبُ‬
‫طبّهم الحارثُ ابن كََلدَةَ‪ ،‬وكان فيهم كأبقراط فى قومه‪ :‬الحِميةُ رأس الدواء‪ ،‬وال َمعِدةُ بيتُ الداء؛‬‫العرب بل أ َ‬
‫ك عن الكل يَعنى به الجوع‪ ،‬وهو من‬ ‫عتَاد‪ .‬وفى لفظ عنه‪ :‬الزْ ُم دَوَاءٌ‪ ،‬والزم‪ :‬المسـا ُ‬
‫وع ّودُوا كُ ّل بدنٍ ما ا ْ‬
‫ف من‬‫ل فى عِلجها من المستفرغات إذا لم يُخَ ْ‬ ‫أكبر الدوية فى شــفاء المراض المتلئية كلّها بحيثُ إنه أفض ُ‬
‫حدّتها وغليانها‪.‬‬
‫كثرة المتلء‪ ،‬و َهيَجانِ الخلط‪ ،‬و ِ‬

‫ب من ثلث طبقات‪ ،‬مؤلّفةٍ‬ ‫ت الداء))‪ .‬ال َم ِعدَةُ‪ :‬عضو عصبىٌ مجوّفٌ كال َقرْعَةِ فى شكلها‪ ،‬مُركّ ٌ‬‫وقوله‪(( :‬ال َمعِدَ ُة بي ُ‬
‫ف إحدى الطبقات بالطول‪ ،‬والُخرى بالعَرْض‪،‬‬ ‫من شظايا دقيقةٍ عصبية تُسمى اللّيفَ‪ ،‬ويُحيط بها لحم‪ ،‬ولي ُ‬
‫خمْل‪ ،‬وهى محصورة فى وسط البطن‪،‬‬ ‫والثالثةِ بال َورْب‪ ،‬وف ُم ال َم ِعدَة أكثر عصباً‪ ،‬وقعرُها أكثر لحماً‪ ،‬فى باطنها َ‬
‫ت على هذه الصفة لحكمةٍ لطيفة من الخالق الحكيم سبحانه‪ ،‬وهى بيتُ الداء‪،‬‬ ‫وأميَلُ إلى الجانب اليمن قليلً‪ ،‬خُِلقَ ْ‬
‫ج الغذاء وينحدِرُ منها بعد ذلك إلى ال َكبِد والمعاء‪ ،‬ويتخلّف منه فيها‬ ‫ل للهضم الول‪ ،‬وفيها يَنضَ ُ‬ ‫وكانت مَحَ ً‬
‫ت قد عجزت القو ُة الهاضمة عن تمام هضمها‪ ،‬إما لكثرةِ الغذاء‪ ،‬أو لرداءته‪ ،‬أو لسو ِء ترتيبٍ فى‬ ‫فضل ٌ‬
‫استعماله‪ ،‬أو لمجموع ذلك‪ ،‬وهذه الشياء بعضُها مما ل يتخلّص النسان منه غالباً‪ ،‬فتكونُ ال َم ِعدَة بيت الداء‬
‫لذلك‪ ،‬وكأنه يُشير بذلك إلى الحثّ على تقليل الغذاء‪ ،‬ومنْعِ النفس مِن اتّباع الشهوات‪ ،‬والتحرّ ِز عن الفضلت‪.‬‬

‫وأما العادةُ‪ ..‬فلنها كالطبيعة للنسان؛ ولذلك يُقال‪(( :‬العاد ُة طبعٌ ثانٍ))‪ ،‬وهى قو ٌة عظيمة فى البدن‪ ،‬حتى إن‬
‫أمرًا واحداً إذا قيس إلى أبدان مختلفة العادات‪ ،‬كان مختلِف النسبة إليها‪ .‬وإن كانت تلك البدانُ متفقةً فى الوجوه‬
‫ل الشياء الحارة‪ ،‬والثانى‪ :‬عُ ّودَ‬
‫ن ثلثة حارةُ المزاج فى سن الشباب‪ ،‬أحدُها‪ :‬عُ ّودَ تناوُ َ‬ ‫الُخرى مثالُ ذلك أبدا ٌ‬
‫ل الشياء المتوسطة‪ ،‬فإن الول متى تناول عسلً لم يضر به‪ .‬والثانى‪:‬‬ ‫ل الشياء الباردة‪ .‬والثالث‪ :‬عُ ّودَ تناوُ َ‬
‫تناوُ َ‬
‫متى تناوله‪ ،‬أضرّ به‪ .‬والثالث‪ :‬يض ّر به قليلً‪ .‬فالعاد ُة ركنٌ عظيم فى حفظ الصحة‪ ،‬ومعالج ِة المراض‪ ،‬ولذلك‬
‫جاء العلجُ النبوىّ بإجراء كل بدن على عادته فى استعمال الغذية والدوية وغيرِ ذلك‪.‬‬

‫فصل‬

‫سمّ الذى أصابه بخَ ْيبَر من اليهود‬


‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج ال ّ‬

‫ت إلى‬
‫ذكر عبد الرزّاق‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن الزّهْرىّ‪ ،‬عن عبد الرحمن بن كعب ابن مالك‪ :‬أنّ امرأ ًة يهوديةً أهدَ ْ‬
‫صدَقة‪،‬‬
‫ن ال ّ‬
‫حذِرَتْ أن تقولَ‪ :‬مِ َ‬
‫خيْبَر‪ ،‬فقال‪(( :‬ما هذه)) ؟ قالتْ‪ :‬هَديّةٌ‪ ،‬و َ‬
‫النبىّ صلى ال عليه وسلم شا ًة مَصِْليّ ًة بِ َ‬
‫سكُوا))‪ ،‬ثم قال للمرأة‪(( :‬هل‬ ‫ل منها‪ ،‬فأكل النبِىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأكل الصحابةُ‪ ،‬ثُم قال‪(( :‬أم ِ‬ ‫فل يأك ُ‬
‫ت هذه الشّاة)) ؟ قالتْ‪ :‬مَن أخبَرَك بهذا ؟ قال‪(( :‬هذا العظ ُم لساقها))‪ ،‬وهو فى يده‪ ،‬قالتْ‪ :‬نعمْ‪ .‬قال‪:‬‬ ‫س َممْ ِ‬
‫َ‬
‫ت نبيّا لم يَضرّك‪ ،‬قال‪ :‬فاحتَجَم النبىّ صلى‬ ‫((لِمَ)) ؟ قالتْ‪ :‬أردتُ إن كنتَ كاذبًا أن يَستريحَ منك النّاسُ‪ ،‬وإن كن َ‬
‫جمُوا؛ فاحتَجَموا‪ ،‬فمات بعضُهم‪.‬‬ ‫ال عليه وسلم ثلثةً على الكا ِهلِ‪ ،‬وأ َمرَ أصحابَه أن يَحت ِ‬

‫جمَه‬
‫حَ‬‫ل من الشّاة‪َ ،‬‬ ‫وفى طريق أُخرى‪(( :‬واح َتجَمَ رسولُ ال صلى ال عليه وسلم على كا ِهلِه مِنْ أجْل الذى أكَ َ‬
‫أبو هِندٍ بالقَرْنِ والشّفْرة‪ ،‬وهو مولىً لبنى َبيَاضَ َة من النصار‪ ،‬وبقى بعد ذلك ثلثَ سنين حتى كان وجعُه الذى‬
‫ل ْبهَرِ‬
‫ن انْقِطَاعِ ا َ‬
‫خ ْيبَرَ حتى كان هذا أوا َ‬ ‫لكْلَةِ التى أكَ ْلتُ مِن الشّاةِ يومَ َ‬
‫جدُ من ا ُ‬
‫تُوفى فيه‪ ،‬فقال‪(( :‬ما زِ ْلتُ أ ِ‬
‫ِمنّى))‪ ،‬فتُوفى رسول ال صلى ال عليه وسلم شهيداً‪ ،‬قاله موسى بن عُقبةَ‪.‬‬

‫معالج ُة السّ ّم تكونُ بالستفراغات‪ ،‬وبالدوية التى تُعارض فعل السّم وتُبطله‪ ،‬إما بكيفياتها‪ ،‬وإما بخواصها‪ .‬فمَن‬
‫عدِمَ الدواءَ‪ ،‬فليبادر إلى الستفراغ الكُلّى وأنفعُه الحجامةُ‪ ،‬ول سيما إذا كان البلد حاراً‪ ،‬والزمانُ حاراً‪ ،‬فإن القوة‬
‫َ‬
‫ل إلى القلب‪ ،‬فيكون الهلكُ‪ ،‬فالدمُ هو المنفذ‬ ‫س ِميّةَ تَسرى إلى الدم‪ ،‬فتَنبعِثُ فى العروق والمجارى حتى تصِ َ‬ ‫ال ّ‬
‫س ِميّة التى‬
‫الموصل للسّم إلى القلب والعضاء‪ ،‬فإذا بادر المسمُومُ وأخرج الدم‪ ،‬خرجتْ معه تلك الكيفيةُ ال ّ‬
‫خالطتْه‪ ،‬فإن كان استفراغاً تاماً لم يَضرّه السّم‪ ،‬بل إما أن يَذهبَ‪ ،‬وإما أن يَضعفَ فتقوى عليه الطبيعة‪ ،‬فتُبطل‬
‫فعلَه أو تُضعفه‪.‬‬
‫ولما احتجم النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬احتجمَ فى الكاهل‪ ،‬وهو أقربُ المواضع التى يمكن فيها الحجامة إلى‬
‫س ِميّة مع الدم ل خُروجًا كُليّا‪ ،‬بل بَقِىَ أثرُها مع ضعفه لما يُريد ال سبحانه من تكميلِ‬ ‫القلب‪ ،‬فخرجت المادةُ ال ّ‬
‫ى الُ أمراً كان‬ ‫ب الفضل كُلّها له‪ ،‬فلما أراد ال إكرامَه بالشهادة‪ ،‬ظهر تأثيرُ ذلك الثر الكامِن من السّم ليَقض َ‬ ‫مرات ِ‬
‫س َتكْبَ ْرتُ ْم فَ َفرِيقاً‬
‫سكُمُ ا ْ‬
‫مفعولً‪ ،‬وظهر سِرّ قوله تعالى لعدائه من اليهود‪َ{ :‬أ َفكُّلمَا جَا َءكُمْ رَسُولٌ ِبمَا لَ َتهْوَى َأنْ ُف ُ‬
‫كَ ّذ ْبتُمْ َوفَرِيقًا تَ ْقتُلُونَ}[البفرة ‪ ،]87 :‬فجاء بلفظ ((كَذّبتم)) بالماضى الذى قد وقع منه‪ ،‬وتحقق‪ ،‬وجاء بلفظ‪:‬‬
‫((تَقتلُون)) بالمستقبل الذى يتوقّعونه ويَنتظرونه‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج السّحر الذى سحرته اليهودُ به‬

‫قد أنكر هذا طائفةٌ من الناس‪ ،‬وقالوا‪ :‬ل يجو ُز هذا عليه‪ ،‬وظنوه نقصاً وعيباً‪ ،‬وليس المرُ كما زَعَموا‪ ،‬بل هو‬
‫من جنس ما كان يَعتَريه صلى ال عليه وسلم من السقام والوجاع‪ ،‬وهو مرض من المراض‪ ،‬وإصابتُه به‬
‫حرَ رسولُ‬‫كإصابته بالسّ ّم ل فرقَ بينهما‪.‬وقد ثبت فى ((الصحيحين)) عن عائشة رضى ال عنها‪ ،‬أنها قالت‪(( :‬سُ ِ‬
‫ل إليه أنه يأتى نِساءه‪ ،‬ولم يَأ ِتهِنّ))‪ ،‬وذلك أشدّ ما يكون مِن السّحر‪.‬‬
‫خيّ ُ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم حتى إنْ كان َليُ َ‬

‫ض من العلل يجوز عليه صلى ال عليه وسلم كأنواع‬ ‫ض من المراض‪ ،‬وعار ٌ‬ ‫عيَاض‪ :‬والسّحر مر ٌ‬ ‫قال القاضى ِ‬
‫ح فى نُبوته‪ ،‬وأمّا كونُه يُخيّل إليه أنه فعل الشىء ولم يفعله‪ ،‬فليس فى هذا ما‬
‫المراض ممّا ل يُنكَرُ‪ ،‬ول يَقدَ ُ‬
‫يدخل عليه داخلةً فى شىء من صدقه‪ ،‬لقيام الدليل والجماعِ على عصمته من هذا‪ ،‬وإنّما هذا فيما يجوز طُرُوّه‬
‫عليه فى أمر دنياه التى لم يُبعث لسببها‪ ،‬ول فُضّل مِن أجلها‪ ،‬وهو فيها عُرض ٌة للفات كسائر البَشَر‪ ،‬فغي ُر بعيد‬
‫أنه يُخيّ َل إليه من أُمورها ما ل حقيق َة له‪ ،‬ثم يَنجلى عنه كما كان‪.‬‬

‫والمقصود‪ :‬ذِكرُ َه ْديِه فى علج هذا المرض‪ ،‬وقد رُوى عنه فيه نوعان‪:‬‬

‫ح عنه صلى ال عليه وسلم أنه سأل ربّه سبحانه فى ذلك؛ فدُلّ‬ ‫أحدهما وهو أبلغُهما ‪ :‬استخراجُه وإبطاله‪ ،‬كما ص ّ‬
‫جفّ طَ ْلعَةِ َذكَر‪ ،‬فلمّا استَخْرَجه‪ ،‬ذهب ما به‪ ،‬حتى كأنّما‬ ‫شطٍ و ُمشَاطَةٍ‪ ،‬و ُ‬
‫عليه‪ ،‬فاستَخْرَجه من بئر‪ ،‬فكان فى مِ ْ‬
‫طبُوبُ‪ ،‬وهذا بمنزلة إزال ِة المادة الخبيثة وق ْلعِها مِن الجسد‬‫ط من عِقال‪ ،‬فهذا من أبلغ ما يُعالَجُ به المَ ْ‬
‫ُأنْشِ َ‬
‫بالستفراغ‪.‬‬

‫ل إليه أذى السّحر‪ ،‬فإنّ للسّحر تأثيراً فى الطبيعة‪ ،‬و َهيَجانِ‬


‫والنوع الثانى‪ :‬الستفراغُ فى المحل الذى يَصِ ُ‬
‫أخلطها‪ ،‬وتشويشِ مِزاجها‪ ،‬فإذا ظهر أث ُرهُ فى عضو‪ ،‬وأمكن استفراغُ المادة الرديئة من ذلك العضو‪ ،‬نَفَع جداً‪.‬‬

‫ى صلى ال‬
‫وقد ذكر أبو عُبيدٍ فى كتاب ((غريب الحديث)) له بإسناده‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبى َليْلَى‪ ،‬أنّ النب ّ‬
‫طبّ‪ ،‬قال أبو عُبيد‪ :‬معنى طُبّ‪ :‬أى‪ :‬سُحِرَ‪.‬‬
‫حتَجمَ على رأسه ب َقرْنٍ حين ُ‬
‫عليه وسلم ا ْ‬

‫ل علمُه‪ ،‬وقال‪ :‬ما للحجامة والسّحرِ ؟ وما الرابط ُة بين هذا الداء وهذا الدواء ؟ ولو وَجد‬ ‫وقد أشكَل هذا على مَن قَ ّ‬
‫ل والتسليم‪ ،‬وقال‪ :‬قد‬
‫ل ((أبقراطَ))‪ ،‬أو ((ابنَ سينا)) أو غيرَهما قد نَصّ على هذا العلجِ‪َ ،‬لتَلقّاه بالقبو ِ‬ ‫هذا القائ ُ‬
‫ك فى معرفته وفضله‪.‬‬ ‫شّ‬‫نَصّ عليه مَن ل يُ َ‬

‫فاعلم أنّ مادة السّحر الذى أُصيب به صلى ال عليه وسلم انتهت إلى رأسه إلى إحدى قُواه التى فيه بحيث كان‬
‫يُخيّل إليه أنه يفعل الشى َء ولم يفعله‪ ،‬وهذا تصرّف من الساحر فى الطبيعة والمادة الدموية بحيث غلبت تلك‬
‫المادة على البطن المقدم منه‪ ،‬فغيّرت مِزاجه عن طبيعته الصلية‪.‬‬

‫والسّحر‪ :‬هو مركّب من تأثيرات الرواح الخبيثة‪ ،‬وانفعال القُوَى الطبيعية عنها وهو سحر التمريحات وهو أشدّ‬
‫ل الحجام ِة على ذلك المكان الذى‬
‫ما يكون من السّحر‪ ،‬ول سيّما فى الموضع الذى انتهى السّحرُ إليه‪ ،‬واستعما ُ‬
‫ت على القانون الذى ينبغى‪.‬‬ ‫تضررت أفعالُه بالسّحر من أنفع المعالجة إذا اس ُتعْمِل ْ‬

‫ل بالشياء التى‬
‫ستَفْ َرغَ يجب أَن تُستفرغ من المواضع التى هى إليها أمي ُ‬
‫قال ((أبقراط))‪ :‬الشيا ُء التى ينبغى أن تُ ْ‬
‫تصلُح لستفراغها‪.‬‬
‫وقالت طائفة من الناس‪ :‬إنّ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم لما أُصيب بهذا الداءِ‪ ،‬وكان يُخيّل إليه أنه فعل‬
‫الشىء ولم يفعله‪،‬ظَنّ أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها مالت إلى جهة الدماغ‪ ،‬وغلبت على البطن المقدّم منه‪،‬‬
‫فأزالت مِزاجه عن الحالة الطبيعية له‪ ،‬وكان استعمالُ الحجامة إذ ذاك مِن أبلغ الدوية‪ ،‬وأنفع المعالجة‪ ،‬فاحتجم‪،‬‬
‫سحِرَ‪ ،‬عدل إلى‬ ‫ن ذلك من السّحر‪ ،‬فلما جاءه الوحىُ من ال تعالى‪ ،‬وأخبره أنه قد ُ‬ ‫وكان ذلك قبل أن يُوحى إليه أ ّ‬
‫العلج الحقيقىّ وهو استخراجُ السّحر وإبطالُه‪ ،‬فسأل ال سبحانه‪ ،‬فدلّه على مكانه‪ ،‬فاستخرجه‪ ،‬فقام كأنما ُأنْشِطَ‬
‫من عِقال‪ ،‬وكان غايةُ هذا السّحر فيه إنما هو فى جسده‪ ،‬وظاهِر جوارحه‪ ،‬ل على عقلِه وقلبِه‪ ،‬ولذلك لم يكن‬
‫يعتقدُ صحة ما يُخيّل إليه من إتيان النساء‪ ،‬بل يعلم أنه خيال ل حقيقة له‪ ،‬ومثلُ هذا قد يَحدُثُ من بعض‬
‫المراض‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫فصل‬

‫ن الدوية اللهية هى أنفع علجات السّحر‬


‫فى أ ّ‬

‫ومن أنفع علجات السّحر الدوية اللهية‪ ،‬بل هى أدويتُه النافعة بالذات‪ ،‬فإنه من تأثيرات الرواح الخبيثة‬
‫ت التى تُبْطِلُ فعلها وتأثيرها‪،‬‬
‫السّفْلية‪ ،‬ودفعُ تأثيرها يكون بما يُعا ِرضُها ويُقاومها من الذكار‪ ،‬واليات‪ ،‬والدعوا ِ‬
‫ع ّدتُه وسلحُه‪،‬‬
‫ل واحدٍ منهما ُ‬ ‫وكلما كانت أقوى وأشدّ‪ ،‬كانت أبلغَ فى النّشْرةِ‪ ،‬وذلك بمنزلة التقاءِ جيشين مع ك ّ‬
‫ب إذا كان ممتلئاً من ال مغمورًا بذكره‪ ،‬وله من التوجّهات‬ ‫فأيّهما غلب الخر‪ ،‬قهره‪ ،‬وكان الحكم له‪ ،‬فالقل ُ‬
‫ل به يُطابق فيه قلبه لسانه‪ ،‬كان هذا مِن أعظم السباب التى تمنع‬ ‫والدعوات والذكار والتعوّذات وردٌ ل يُخِ ّ‬
‫إصابة السّحر له‪ ،‬ومن أعظم العلجات له بعد ما يُصيبه‪.‬‬

‫وعند السّحَرَة‪ :‬أنّ سِحرَهم إنما َيتِمّ تأثيره فى القلوب الضعيفة المنفعِلة‪ ،‬والنفوس الشهوانية التى هى معلّقةٌ‬
‫ضعُف حظّه من الدين‬ ‫جهّال‪ ،‬وأهل البوادى‪ ،‬ومَن َ‬ ‫بالسّفليات‪ ،‬ولهذا فإن غالب ما يؤثّر فى النساءِ‪ ،‬والصبيان‪ ،‬وال ُ‬
‫ب له من الوراد اللهية والدعوات والتعوّذات النبوية‪.‬‬ ‫والتوكل والتوحيد‪ ،‬ومَن ل نصي َ‬

‫وبالجملة‪ ..‬فسلطانُ تأثيرِه فى القُلوب الضعيفة المنفعلة التى يكون ميلُها إلى السّفليات‪ ،‬قالوا‪ :‬والمسحورُ هو الذى‬
‫يُعين على نفسه‪ ،‬فإنّا نجد قلبه متعلقاً بشىء كثير اللتفات إليه‪ ،‬فيتسلّط على قلبه بما فيه مِن الميل واللتفات‪،‬‬
‫والرواح الخبيثة إنما تتسلّطُ على أرواح تلقاها مستعِدّة لتسلّطِها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك الرواح الخبيثة‪،‬‬
‫عدّة معها‪ ،‬وفيها مَيلٌ إلى ما‬
‫وبفراغِها من القوة اللهية‪ ،‬وعدم أخذها للعُدّة التى تُحاربها بها‪ ،‬فتجدها فارغة ل ُ‬
‫يُناسبها؛ فتتسلّط عليها‪ ،‬ويت َمكّن تأثيرُها فيها بالسّحر وغيره‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى الستفراغ بالقىء‬

‫ن النبى صلى ال عليه وسلم قاءَ‪،‬‬ ‫روى الترمذىّ فى ((جامعه)) عن مَعدان بن أبى طلحةَ‪ ،‬عن أبى الدرداء‪ :‬أ ّ‬
‫ص َببْتُ له َوضُوءَه‪ .‬قال الترمذى‪ :‬وهذا‬
‫صدَقَ‪ ،‬أنا َ‬
‫فتوضّأ فلقيتُ ثَوْبان فى مسجد دِمَشق‪ ،‬فذكرتُ له ذلك‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫أصح شىء فى الباب‪.‬‬

‫القىءُ‪ :‬أحد الستفراغات الخمسة التى هى أُصول الستفراغ‪ ،‬وهى‪ :‬السهال‪ ،‬والقىء‪ ،‬وإخراج الدم‪ ،‬وخروج‬
‫البخرة والعَرق‪ .‬وقد جاءت بها السّـنّة‪.‬‬

‫شىّ)) وفى حديث ((السّنا))‪ .‬وأما إخراج الدم‪ ..‬فقد‬


‫فأما السهال‪ ..‬فقد م ّر فى حديث‪(( :‬خيرُ ما تداويتم به المَ ِ‬
‫تقدّم فى أحاديث الحِجامة‪.‬‬

‫وأما استفراغ البخرة‪ ..‬فنذكره عقيبَ هذا الفصل إن شاء ال‪.‬‬

‫وأما الستفراغ بالعَرق‪ ..‬فل يكون غالباً بالقصد‪ ،‬بل بدفع الطّبيعة له إلى ظاهر الجسد‪ ،‬فيُصادف المسا ّم مفتّحةً‪،‬‬
‫فيخرج منها‪.‬‬

‫غ من أعل ال َم ِعدَة‪ ،‬والحُقنة من أسفلها‪ ،‬والدواءُ من أعلها وأسفلها‪.‬‬


‫والقىءُ استفرا ٌ‬
‫والقىءُ نوعان‪ :‬نوعٌ بالغَلَبة والهَيجان‪ ،‬ونوعٌ بالستدعاء والطلب‪.‬‬

‫فأما الول‪ :‬فل يَسُوغُ حبسُه ودفعه إل إذا أفرط وخِيف منه التلفُ‪ ،‬فيُقطع بالشياء التى تُمسكه‪ .‬وأما الثانى‪:‬‬
‫فأنفعُه عند الحاجة إذا رُوعى زمانُه وشروطه التى تُذكر‪.‬‬

‫وأسباب القىء عشرة‪..‬‬

‫أحدها‪ :‬غلبة المِرّة الصفراء‪ ،‬وطُفوّها على رأس المعدة‪ ،‬فتطلب الصعودَ‪.‬‬

‫ج قد تحرّك فى ال َمعِدَة‪ ،‬واحتاج إلى الخروج‪.‬‬


‫الثانى‪ :‬من غلبة بلغم َلزِ ٍ‬

‫الثالث‪ :‬أن يكون مِن ضعف ال َمعِدَة فى ذاتها‪ ،‬فل َتهْضم الطعام‪ ،‬فتقذفه إلى جهة فوق‬

‫الرابع‪ :‬أن يُخالطها خلط ردىء ينصبّ إليها‪ ،‬فيسىء هضمَها‪ ،‬ويُضعف فعلها‬

‫الخامس‪ :‬أن يكون من زيادة المأكول أو المشروب على القدر الذى تحتمله ال َم ِعدَة‪ ،‬فتعجز عن إمساكه‪ ،‬فتطلب‬
‫دفعه وقذفه‪.‬‬

‫السادس‪ :‬أن يكون مِن عدم موافقة المأكول والمشروب لها‪ ،‬وكراهِتها له‪ ،‬فتطلب دفعه وقذفه‪.‬‬

‫السابع‪ :‬أن يحصُل فيها ما يُثوّر الطعا َم بكيفيته وطبيعته‪ ،‬فتقذف به‪.‬‬

‫ن النفس و َتهَوّعِها‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬القَرَف‪ ،‬وهو مُوجِب غثَيا ِ‬

‫التاسع‪ :‬من العراض النفسانية‪ ،‬كاله ّم الشديد‪ ،‬والغم‪ ،‬والحزن‪ ،‬وغلبة اشتغال الطبيعة وال ُقوَى الطبيعية به‪،‬‬
‫واهتمامها بوروده عن تدبير البدن‪ ،‬وإصلح الغِذاء‪ ،‬وإنضاجه‪ ،‬وهضمه‪ ،‬فتق ِذفُه ال َمعِدَة‪ ،‬وقد يكون لجل تحرّك‬
‫الخلط عند تخبّط النفس‪ ،‬فإن كل واحد من النفس والبدن ينفعل عن صاحبه‪ ،‬ويؤثر فى كيفيته‪.‬‬

‫العاشر‪ :‬نقل الطبيعة بأن يرى مَن يتقيأ‪ ،‬فيغلبه هو القىء من غير استدعاء‪ ،‬فإن الطبيعة نَقّالة‪.‬‬

‫حذِق فى الكحْل‪ ،‬فجلس كحّالً‪ .‬فكان إذا فتح عينَ الرجل‪،‬‬ ‫حذّاق الطباء‪ ،‬قال‪ :‬كان لى ابن أُخت َ‬
‫وأخبرنى بعض ُ‬
‫ل الطبيعة‪ ،‬فإنها‬
‫ب ذلك ؟ قال‪ :‬نق ُ‬
‫ت له‪ :‬فما سب ُ‬
‫ورأى الرّمد وكحّله‪َ ،‬رمِد هو‪ ،‬وتكرر ذلك منه‪ ،‬فترك الجلوسَ‪ .‬قل ُ‬
‫نَقّالة‪ ،‬قال‪ :‬وأعرِفُ آخرَ‪ ،‬كان رأى خُراجًا فى موضع من جسم رجل يحكّه‪ ،‬فحك هو ذلك الموضع‪ ،‬فخرجت‬
‫فيه خُراجة‪.‬‬

‫قلتُ‪ :‬وكلّ هذا ل بد فيه من استعداد الطبيعة‪ ،‬وتكون المادة ساكن ًة فيها غير متحركة‪ ،‬فتتحرك لسبب من هذه‬
‫السباب‪ ،‬فهذه أسبابٌ لتحرك المادة ل أنها هى الموجبة لهذا العارض‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى أنّ القىء أنفع فى البلد الحارة والسهال أنفع فى البلد الباردة‬

‫ولما كانت الخلط فى البلد الحارة‪ ،‬والزمنة الحارة تَ ِرقّ وتنجذب إلى فوق‪ ،‬كان القىء فيها أنفع‪ .‬ولما كانت‬
‫فى الزمنة الباردة والبلد الباردة تغلُظ‪ ،‬ويصعب جذبها إلى فوق‪ ،‬كان استفراغُها بالسهال أنفع‪.‬‬

‫ب يكون من أبعد الطُرُق‪ ،‬والستفراغُ مِن أقربها‪،‬‬


‫وإزالة الخلط ودفعها تكون بالجذب والستفراغ‪ ،‬والجذ ُ‬
‫والفرق بينهما أنّ المادة إذا كانت عاملة فى النصباب أو الترقى لم تستقر بعد‪ ،‬فهى محتاجة إلى الجذب‪ ،‬فإن‬
‫ت مِن فوق‪ ،‬وأما إذا استقرت فى موضعها‪ ،‬استُفرغت‬ ‫صبّة جذبَ ْ‬
‫ت من أسفل‪ ،‬وإن كانت من َ‬
‫كانت متصاعدة جذبَ ْ‬
‫مِن أقرب الطرق إليها‪ ،‬فمتى أضرّت المادة بالعضاء العليا‪ ،‬اجتُذبت من أسفل‪ ،‬ومتى أضرّت بالعضاء‬
‫السفلى‪ ،‬اجتُذبت من فوق‪ ،‬ومتى استقرت‪ ،‬استُفرغت من أقرب مكان إليها‪ ،‬ولهذا احتجم النبىّ صلى ال عليه‬
‫وسلم على كاهِله تارة‪ ،‬وفى رأسه أُخرى‪ ،‬وعلى ظهر قدمه تارة‪ ،‬فكان يستف ِرغُ مادة الدم المؤذى من أقرب‬
‫مكان إليه‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى بعض فوائد القىء‬

‫حدّ البصر‪ ،‬ويزيل ثقل الرأس‪ ،‬وينفع قروح الكُلَى‪ ،‬والمثانة‪ ،‬والمراض‬ ‫والقىءُ يُنقّى ال َمعِدَة ويُقوّيها‪ ،‬ويُ ِ‬
‫المزمنة‪ :‬كالجذام‪ ،‬والستسقاء‪ ،‬والفالِج‪ ،‬والرّعشة‪ ،‬وينفع اليَرَقان‪.‬‬

‫وينبغى أن يستعمله الصحيح فى الشهر مرتين متواليتين من غير حفظ دور‪ ،‬ليتداركَ الثانى ما قصر عنه الول‪،‬‬
‫وينقى الفضلتِ التى انصبّت بسببه‪ ،‬والكثا ُر منه يَضر ال َم ِعدَة‪ ،‬ويجعلها قابلة للفضول‪ ،‬ويضر بالسنان‬
‫ف فى الصدر‪ ،‬أو دقيقُ‬
‫ص َدعَ عَرَقاً‪ ،‬ويجب أن يجتنبه مَن به ورمٌ فى الحلق‪ ،‬أو ضع ٌ‬ ‫والبصر والسمع‪ ،‬وربما َ‬
‫سرُ الجابة له‪.‬‬‫الرقبة‪ ،‬أو مستعدٌ لنَفْث الدم‪ ،‬أو عَ ِ‬

‫وأمّا ما يفعله كثير ممن يسىء التدبير‪ ،‬وهو أن يمتلئ من الطعام‪ ،‬ثم يَق ِذفَه‪ ،‬ففيه آفاتٌ عديدة؛ منها‪ :‬أنه ُيعَجّ ُ‬
‫ل‬
‫ل المَرَاقّ‪،‬‬‫ف الحشاء‪ ،‬وهُزا ِ‬‫الهَرَم‪ ،‬ويُوقع فى أمراض رديئة‪ ،‬ويَجعل القى َء له عادة‪ .‬والقى ُء مع اليُبوسة‪ ،‬وضع ِ‬
‫ف المُستقىء خطرٌ‪.‬‬
‫أو ضع ِ‬

‫صبَ العينين‪ ،‬ويقمط البطن‪،‬‬ ‫وأح َمدُ أوقاتِه الصيفُ والربيع دون الشتاء والخريف‪ ،‬وينبغى عند القىء أن يَعْ ِ‬
‫طكَى‪ ،‬وماءُ الورد ينفعه‬
‫صَ‬‫ل الوجه بماء بارد عند الفراغ؛ وأن يشرب عقيبه شراب التفاح مع يسير من مُ ْ‬ ‫ويغسِ َ‬
‫نفعًا بيّناً‪.‬‬

‫والقىء يستفرغ من أعلى المعدة‪ ،‬ويجذب من أسفل‪ ،‬والسهال بالعكس‪ ،‬قال ((أبقراط))‪ :‬وينبغى أن يكون‬
‫الستفراغ فى الصيف من فوق أكثرَ من الستفراغ بالدواء‪ ،‬وفى الشتاء من أسفل‪.‬‬

‫فصل‬

‫طبِي َبيْن‬
‫حذَق ال ّ‬
‫@فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى الرشاد إلى معالجة أ ْ‬

‫ذكر مالك فى ((موطئه))‪ :‬عن زيد بن أسلمَ‪ ،‬أنّ رجلً فى زمان رسول ال صلى ال عليه وسلم أصابه جُ ْرحٌ‪،‬‬
‫ل ال صلى ال عليه‬ ‫فاحتَقَن الجُ ْرحُ الدّم‪ .‬وأن الرجلَ دعا رجَُليْن من بنى أنمار‪ ،‬فنَظَرا إليه فزعما أنّ رسو َ‬
‫ل ال ؟ فقال‪(( :‬أنزلَ الدواءَ الذى أنزلَ الداء))‪.‬‬
‫وسلم‪ ،‬قال لهما‪َ(( :‬أيّكما أطَبّ))؟ فقال‪ :‬أوَ فى الطّبّ خيرٌ يا رسو َ‬

‫ق مَنْ فيها فالحذق‪ ،‬فإنه إلى الصابة أقربُ‪.‬‬


‫ففى هذا الحديث أنه ينبغى الستعانةُ فى كل عِلم وصِناعة بأحذ ِ‬

‫ب إصاب ًة ممّن هُوَ دُونَه‪.‬‬


‫ل به بالعلم فالعلم‪ ،‬لنه أقر ُ‬
‫وهكذا يجب على المُستفتى أن يستعينَ على ما نَز َ‬

‫ت عليه ال ِقبْلةُ‪ ،‬فإنه يُقّلدُ أعل َم مَن يَجدُه‪ ،‬وعلى هذا فَطَر ال عبادَه‪ ،‬كما أن المسافر فى البرّ والبحر‬
‫وكذلك مَن خَفي ْ‬
‫صدُ‪ ،‬وعليه يَعتمِدُ‪ ،‬فقد اتفقتْ على هذا الشريعةُ‬
‫ق الدليَليْن وأخبَرِهما‪ ،‬وله يَق ِ‬
‫إنّما سكونُ نفسه‪ ،‬وطمأنينتُه إلى أحْذ ِ‬
‫والفِطر ُة والعقلُ‪.‬‬

‫وقولُه صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أنزل الدواءَ الذى أنزلَ الداءَ))‪ ،‬قد جاء مثلُه عنه فى أحاديث كثيرةٍ‪ ،‬فمنها ما رواه‬
‫عمرو بن دِينا ٍر عن هِلل بن يِسَافٍ‪ ،‬قال‪(( :‬دخلَ رسولُ ال صلى ال عليه وسلم على مريض يَعودُه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫((أرسِلُوا إلى طَبيبٍ))‪ ،‬فقال قائلٌ‪ :‬وأنتَ تقولُ ذلك يا رسولَ ال ؟‬
‫ل لم ُينْزِلْ دا ًء إلّ أن َزلَ له دَواءً))‪.‬‬
‫ن ال عَزّ وجَ ّ‬
‫قال‪(( :‬نعمْ‪ ،‬إ ّ‬

‫وفى ((الصحيحين)) من حديث أبى هريرةَ يَرفعُه‪(( :‬ما أنزلَ الُ من دا ٍء إل أنزلَ له شفاء))‪ ،‬وقد تقدّم هذا‬
‫الحديثُ وغيرُه‪.‬‬

‫واختُِلفَ فى معنى ((أنزل الدا َء والدواء))‪ ،‬فقالت طائفةٌ‪ :‬إنزالُه إعل ُم العِباد به‪ ،‬وليس بشىء‪ ،‬فإن النبىّ صلى‬
‫ال عليه وسلم أخب َر بعموم النزال لكل دا ٍء ودوائه‪ ،‬وأكث ُر الخلق ليعلمون ذلك‪ ،‬ولهذا قال‪(( :‬عَِلمَه مَن عَِلمَه‪،‬‬
‫جهِلَه))‪.‬‬
‫جهِلَه مَن َ‬
‫وَ‬

‫ن ال لم يَضعْ دا ًء إلّ َوضَعَ له‬


‫ضعُهما فى الرض‪ ،‬كما فى الحديث الخر‪(( :‬إ ّ‬ ‫وقالت طائفةٌ‪ :‬إنزالُهما‪ :‬خَ ْلقُهما وو ْ‬
‫ص من لفظة ((الخلق)) و((الوضع))‪ ،‬فل‬ ‫دواءً))‪ ،‬وهذا وإن كان أقربَ مِن الذى قبله‪ ،‬فلَفْظةُ ((النزال)) أخ ّ‬
‫ينبغى إسقاطُ خصوصيةِ اللّفظة بل موجِب‪.‬‬

‫ن الملئكة موكّلَةٌ‬ ‫وقالت طائفةٌ‪ :‬إنزالُهما بواسطةِ الملئكة الموكلين بمباشرة الخلق من داء ودواء وغي ِر ذلك‪ ،‬فإ ّ‬
‫بأمر هذا العالَم‪ ،‬وأمر النوع النسانىّ من حين سقوطِه فى رَحِم ُأمّه إلى حين موتِه‪ ،‬فإنزالُ الداء والدواء مع‬
‫ث من‬ ‫ن عامة الدواء والَدوية هى بواسطة إنزال ال َغيْ ِ‬ ‫ب من الوجهين قبله‪ .‬وقالت طائفةٌ‪ :‬إ ّ‬
‫الملئكة‪ ،‬وهذا أقر ُ‬
‫السماء الذى تَتولّد به الغذيةُ‪ ،‬والَقواتُ‪ ،‬والدويةُ‪ ،‬والدواءُ‪ ،‬وآلتُ ذلك كله‪ ،‬وأسبابُه ومكمّلتُه؛ وما كان منها‬
‫مِن المعادن العُلوية‪ ،‬فهى تَنزل مِن الجبال‪ ،‬وما كان منها من الودية والنهار والثمار‪ ،‬فداخلٌ فى اللّفظ على‬
‫ب والكتفاءِ عن الفعلين بفعل واحد يتضمنهما‪ ،‬وهو معروف من لغة العرب‪ ،‬بل وغيرها من الُمم‪،‬‬ ‫طريق التغلي ِ‬
‫كقول الشاعر‪:‬‬

‫ع ْينَاهَـا‬
‫غدَتْ َهمّالَةً َ‬
‫حتّى َ‬
‫عَل ْفتُها ِتبْنًا َومَاءً بارداً َ‬

‫وقول الخر‪:‬‬

‫سيْفـًا َو ُرمْحَــا‬
‫غدَا ُمتَقَلّداً َ‬
‫ك قَ ْد َ‬
‫وَرَأيْتُ َزوْج ِ‬

‫وقول الخر‪:‬‬

‫ب وَا ْل ُعيُونا‬
‫ن يَوْماً َوزَجّجْنَ الْحَواجِ َ‬
‫ت بَرَزْ َ‬
‫إذَا مَا الغَانِيا ُ‬

‫ن مما قبله من الوجوه‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬


‫وهذا أحس ُ‬

‫جلّ‪ ،‬وتمامِ ربوبيته‪ ،‬فإنه كما ابتلى عبادَه بالدواء‪ ،‬أعانهم عليها بما يسّرَهُ لهم‬
‫ب عَزّ و َ‬
‫وهذا من تمام حكمة الر ّ‬
‫من الدوية‪ ،‬وكما ابتلهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة‪ ،‬والحسناتِ الماحية والمصائب المكفّرة‪ ،‬وكما ابتلهم‬
‫ج ْندٍ من الرواح الطيبة‪ ،‬وهم الملئكة‪ ،‬وكما ابتلهم بالشهوات‬ ‫بالرواح الخبيثةِ من الشياطين‪ ،‬أعانهم عليها ب ُ‬
‫أعانهم على قضائها بما يسّرَ ُه لهم شرعًا وقدْرًا مِن المشتهيات اللّذيذة النافعة‪ ،‬فما ابتلهم سُبحانه بشىء إل‬
‫أعطاهم ما يستعينُون به على ذلك البلء‪ ،‬ويدفعُونه به‪ ،‬ويبقى التفاوتُ بينهم فى العلم بذلك‪ ،‬والعلم بطريق‬
‫حصوله والتوصل إليه‪ ..‬وبال المستعان‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى تضمين مَن طبّ الناس وهو جَاهِلٌ بالطّب‬

‫روى أبو داود‪ ،‬والنسائىّ‪ ،‬وابن ماجه‪ ،‬من حديث عمرو ابن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ُال‬
‫ب َقبْلَ ذلك‪ ،‬فهو ضَامِنٌ))‪.‬‬
‫ب ولم يُعْلَم ِمنْهُ الطّ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪(( :‬مَنْ تطبّ َ‬

‫هذا الحديث يتعلق به ثلثة أُمور‪ :‬أم ٌر لُغوى‪ ،‬وأم ٌر فِقهى‪ ،‬وأمرٌ طبى‪.‬‬
‫فالطّب بكسر الطاء فى لغة العرب‪ ،‬يقال على معانٍ‪ .‬منها الصلح‪ .‬يقال‪ :‬طببتُه‪ :‬إذا أصلحته‪ .‬ويقال‪ :‬له طِبٌ‬
‫بالمور‪ .‬أى‪ :‬لُطفٌ وسياسة‪ .‬قال الشاعر‪:‬‬

‫ب لَها بِرَ ْأىٍ ثَا ِقبٍ‬


‫ن َتمِي ٍم َأمْرُها ُكنْتَ الطّبي َ‬
‫وإذَا تغيّرَ مِ ْ‬

‫حذْق بالشياء والمهارة‬


‫ب عند العرب‪ ،‬قال أبو عبيد‪ :‬أصل الطّب‪ :‬ال ِ‬
‫ق طبي ٌ‬
‫ومنها‪ :‬الحِذق‪ .‬قال الجوهرىّ‪ :‬كلّ حاذ ٍ‬
‫بها‪ .‬يقال للرجل‪ :‬طب وطبيب‪ :‬إذا كان كذلك‪ ،‬وإن كان فى غير علج المريض‪ .‬وقال غيرُه‪ :‬رجل طبيبٌ؛ أى‪:‬‬
‫حاذقٌ‪ ،‬سمى طبيباً لحِذقه وفِطْنته‪ .‬قال علقمة‪:‬‬

‫طبِيبُ‬
‫خبِيرٌ ِبَأدْوَا ِء النّسَاءِ َ‬
‫ن تَسْأَلُونى بِالنّسَـــا ِء فَإنّنى َ‬
‫فَإ ْ‬

‫ن نَصِيبُ‬
‫ل مَالُـه فََل ْيسَ لَ ُه مِنْ ُودّهِ ّ‬
‫إذَا شَابَ َرأْسُ ا ْلمَ ْرءِ َأوْ قَ ّ‬

‫وقال عنترةُ‪:‬‬

‫ستَ ْلئِمِ‬
‫خذِ الْفَا ِرسِ ا ْلمُ ْ‬
‫ب بِأَ ْ‬
‫ع فَإ ّننِى طَ ٌ‬
‫إنْ ُت ْغ ِدفِى دُونى ا ْلقِــنَا َ‬

‫ق بأخذ الفارس الذى قد لبس لَمةَ‬


‫أى‪ :‬إن تُرخى عنى قِناعك‪ ،‬وتَستُرى وجهك رغبةً عنى‪ ،‬فإنى خبيرٌ حاذ ٌ‬
‫حربه‪.‬‬

‫طبّى‪ ،‬أى‪ :‬عادتى‪ ،‬قال فَرْوةُ بن ُمسَيكٍ‪:‬‬


‫ومنها‪ :‬العادة‪ ،‬يقال‪ :‬ليس ذلك ب ِ‬

‫ن وََلكِن َمنَايَانَا َودَوْلَ ُة آخَرِينَا‬


‫جبْ ٌ‬
‫طبّنَا ُ‬
‫َفمَا إِنْ ِ‬

‫وقال أحمد بن الحسين المتنبى‪:‬‬

‫غيْرَ َأّننِى َبغِيضٌ إلَىّ ا ْلجَا ِهلُ ا ْل ُمتَعَاقِلُ‬


‫طبّى فِيهِ ُم َ‬
‫َومَا التّيهُ ِ‬

‫ومنها‪ :‬السّحر؛ يقال‪ :‬رجل مطبوب‪ ،‬أى‪ :‬مسحور‪ ،‬وفى ((الصحيح)) من حديث عائشة لـمّا سحرت يهودُ رسولَ‬
‫ع ْندَ رأسه وعند رجليه‪ ،‬فقال أحدهما‪ :‬ما بالُ الرّجُلِ ؟ قال الخر‪:‬‬
‫ن ِ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وجلس المَلكَا ِ‬
‫طبّه ؟ قال‪ :‬فلن اليهودىّ‪.‬‬ ‫طبُوبٌ‪ .‬قال‪ :‬مَن َ‬
‫مَ ْ‬

‫ب عن السّحر‪ ،‬كما كنّوا عن اللّديغ‪ ،‬فقالوا‪ :‬سلي ٌم‬


‫طبُوب؛ لنهم كنّوْا بالطّ ّ‬
‫قال أبو عبيد‪ :‬إنما قالوا للمسحور‪ :‬مَ ْ‬
‫تفاؤلً بالسلمة‪ ،‬وكما كنّوا بالمفازة عن الفلة المُهلكة التى ل ماء فيها‪ ،‬فقالوا‪ :‬مفازة تفاؤلً بالفوز من الهلك‪.‬‬
‫ب لنفس الداء‪ .‬قال ابْنُ أبى السلت‪:‬‬
‫ويقال الطّ ّ‬

‫جنُونُ ؟‬
‫ك أَمْ ُ‬
‫طّب َ‬
‫حرٌ كَانَ ِ‬
‫عنّى أَسِ ْ‬
‫ن َ‬
‫حسّا َ‬
‫ن ُمبْلِغٌ َ‬
‫َألَ مَ ْ‬

‫وأما قول الحماسى‪:‬‬

‫ئ السّحْرُ‬
‫ت َه َكذَا وإن ُكنْتَ َمسْحُوراً فل بَرِ َ‬
‫طبُوبًا فَل زِلْ َ‬
‫فإن ُكنْتَ مَ ْ‬

‫فإنه أراد بالمطبوب الذى قد سُحِر‪ ،‬وأراد بالمسحور‪ :‬العليل بالمرض‪.‬‬

‫حبّك أسألُ‬
‫قال الجوهرى‪ :‬ويقال للعليل‪ :‬مسحور‪ .‬وأنشد البيت‪ .‬ومعناه‪ :‬إن كان هذا الذى قد عرانى منكِ ومِن ُ‬
‫ل دوامه‪ ،‬ول أريدُ زواله‪ ،‬سواء أكان سحرًا أو مرضاً‪.‬‬
‫ا َ‬

‫ب يقال له‪ :‬طَب أيضاً‪ .‬والطّبّ‪ :‬بكسر‬


‫والطبّ‪ :‬مثلثُ الطاء‪ ،‬فالمفتوح الطاءُ‪ :‬هو العالِم بالُمور‪ ،‬وكذلك الطبي ُ‬
‫الطاء‪ِ :‬فعْلُ الطبيب‪ ،‬والطّبّ بضم الطاء‪ :‬اسم موضع‪ .‬قاله ابن السّيد‪ ،‬وأنشد‪:‬‬
‫ب طي ُنهَــا‬
‫فَقُ ْلتُ هَل ا ْنهَ ْلتُم بِطُبّ ِركَا َبكُ ْم بِجَائِ َزةِ الماءِ التى طَا َ‬

‫طبّبَ)) ولم يقل‪ :‬مَن طَبّ‪ ،‬لن لفظ التّفعل يدل على تكلّف الشىء والدخول‬ ‫ن تَ َ‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬مَ ْ‬
‫فيه بُعسر وكُلفة‪ ،‬وأنه ليس من أهله‪ ،‬كتَحَلّم وتشجّع وتصبّر ونظائرِها‪ ،‬وكذلك َبنَوْا تكلّف على هذا الوزن‪ ،‬قال‬
‫الشاعر‪:‬‬

‫ن ومَنْ تَ َقيّسَا *‬
‫عيْل َ‬
‫س َ‬
‫* َوقَي َ‬

‫وأما المر الشرعىّ‪ :‬فإيجابُ الضمان على الطبيب الجاهل‪ ،‬فإذا تعاطى عِلمَ الطّب وعمله‪ ،‬ولم يتقدم له به‬
‫غرّ َر بالعليل‪ ،‬فيلزمه‬
‫معرفة‪ ،‬فقد هَجم بجهله على إتلفِ النفس‪ ،‬وأ ْقدَم بالتهوّر على ما لم يعلمه‪ ،‬فيكون قد َ‬
‫الضمانُ لذلك‪ ،‬وهذا إجماع من أهل العلم‪.‬‬

‫قال الخطّابىّ‪ :‬ل أعلم خلفاً فى أن المعالِج إذا تعدّى‪ ،‬فتَلِفَ المريضُ كان ضامناً‪ ،‬والمتعاطى علمًا أو عملً ل‬
‫يعرفه متعد‪ ،‬فإذا تولّد من فعله التلف ضمن الدية‪ ،‬وسقط عنه القَودُ‪ ،‬لنه ل يست ِبدّ بذلك بدون إذن المريض‬
‫وجناي ُة المُتطبب فى قول عامة الفقهاء على عاقَِلتِه‪.‬‬

‫قلت‪ :‬القسام خمسة‬

‫أحدها‪ :‬طبيب حاذق أعطى الصنعةَ حقّها ولم تجن يده‪ ،‬فتولّد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع‪ ،‬ومن جهة‬
‫ن فيه‪ ،‬وهذا كما إذا‬ ‫مَن يطبّه تلفُ العضو أو النفس‪ ،‬أو ذهابُ صفةٍ‪ ،‬فهذا ل ضمان عليه اتفاقاً‪ ،‬فإنها سِراية مأذو ٍ‬
‫ختَنَ الصبىّ فى وقت‪ ،‬وسِـنّه قابل للختان‪ ،‬وأعطى الصنعةَ حقّها‪َ ،‬فتَلِفَ العضو أو الصبىّ‪ ،‬لم يضمن‪ ،‬وكذلك إذا‬ ‫َ‬
‫ف به‪ ،‬لم يضمن‪ ،‬وهكذا سِراية كُلّ‬ ‫بَطّ مِن عاقل أو غيرِه ما ينبغى بطّه فى وقته على الوجه الذى ينبغى َفتَلِ َ‬
‫مأذون فيه لم يتعدّ الفاعل فى سببها‪ ،‬كسِراية الحدّ بالتفاق‪ .‬وسِراي ِة القِصاص عند الجمهور خلفاً لبى حنيفة فى‬
‫إيجابه الضمان بها‪ ،‬وسِراية التعزير‪ ،‬وضربِ الرجل امرأته‪ ،‬والمُعلّم الصبىّ‪ ،‬والمستأجر الدابة‪ ،‬خلفاً لبى‬
‫ب الدابة‪ .‬وقاعد ُة الباب إجماعاً ونزاعاً‪ :‬أنّ‬ ‫ضرْ َ‬ ‫حنيفة والشافعى فى إيجابهما الضمانَ فى ذلك‪ ،‬واستثنى الشافعى َ‬
‫سِراية الجناية مضمونةٌ بالتفاق‪ ،‬وسِراية الواجب ُم ْهدَرةٌ بالتفاق‪ ،‬وما بينهما ففيه النزاع‪ .‬فأبو حنيفة أوجب‬
‫ى بين المقدّر‪ ،‬فأهدر ضمانه‪ ،‬وبين غي ِر ال ُم َقدّر فأوجبَ‬ ‫ق الشافع ّ‬
‫ضمانَه مطلقاً‪ ،‬وأحمد ومالكٌ أهدرا ضمانه‪ ،‬وفرّ َ‬
‫ن الذن‬ ‫ضمانه‪ .‬فأبو حنيفة نظر إلى أن الذن فى الفعل إنما وقع مشروطاً بالسلمة‪ ،‬وأحمد ومالك نظرا إلى أ ّ‬
‫ن ال ُم َقدّر ل يمكن النقصان منه‪ ،‬فهو بمنزلة النص‪ ،‬وأما غيرُ المُ َقدّر‬ ‫أسقط الضمانَ‪ ،‬والشافعىّ نظر إلى أ ّ‬
‫ظنّة العُدوان‪.‬‬ ‫ف بها‪ ،‬ضمن‪ ،‬لنه فى مَ ِ‬ ‫كالتّعزيرات‪ ،‬والتأديبات فاجتهاديةٌ‪ ،‬فإذا تَلِ َ‬

‫فصل‬

‫ف به‪ ،‬فهذا إن علم المجنىّ عليه أنه جاهل ل عِلْ َم له‪ ،‬وَأذِنَ‬
‫طبّه‪ ،‬فتَلِ َ‬
‫ل باشرت يدُه مَن يَ ُ‬
‫القسمُ الثانى‪ :‬متطبّبٌ جاهِ ٍ‬
‫ل على أنه غرّ العليل‪،‬‬ ‫له فى طِبه لم يضمن‪ ،‬ول تُخالف هذه الصورة ظاه َر الحديث‪ ،‬فإنّ السّياق وقوة الكلم يد ّ‬
‫ضمِنَ الطبيبُ ما‬ ‫ض أنه طبيب‪ ،‬وأذن له فى طِبه لجل معرفته‪َ ،‬‬ ‫وأوهمه أنه طبيب‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬وإن ظنّ المري ُ‬
‫ف به‪ ،‬ضمنه‪،‬‬ ‫حذْقه فتَلِ َ‬
‫ل يظن أنه وصفه لمعرفته و ِ‬
‫جنت يده‪ ،‬وكذلك إن وصف له دواء يستعملُه‪ ،‬والعلي ُ‬
‫والحديثُ ظاهر فيه أو صريح‪.‬‬

‫فصل‬

‫ب حاذِق‪ ،‬أُذن له‪ ،‬وأعطى الصّنعة حقها‪ ،‬لكنه أخطأت يدُه‪ ،‬وتعدّت إلى عضو صحيح فأتلفه‪،‬‬ ‫القسم الثالث‪ :‬طبي ٌ‬
‫جنَايةُ خطإٍ‪ ،‬ثم إن كانت الثّلُث فما زاد‪ ،‬فهو على‬
‫مِثل‪ :‬أن سبقت يدُ الخاتن إلى ال َكمَرَةِ‪ ،‬فهذا يضمَنُ‪ ،‬لنها ِ‬
‫عاقَِلتِه‪ ،‬فإن لم تكن عاقلةٌ‪ ،‬فهل تكون الدّيَة فى ماله‪ ،‬أو فى بيت المال ؟ على قوليْن‪ ،‬هما روايتان عن أحمد‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن كان الطبيب ذِمّيا‪ ،‬ففى ماله؛ وإن كان مسلماً‪ ،‬ففيه الروايتان‪ ،‬فإن لم يكن بيتُ المال‪ ،‬أو تعذّر تحميلُه‪،‬‬
‫فهل تسقط ال ّديَة‪ ،‬أو تجب فى مال الجانى ؟ فيه وجهان أشهرهما‪ :‬سقوطها‪.‬‬

‫فصل‬
‫ب الحاذِق الماهر بصناعته‪ ،‬اجتهد فوصف للمريض دواءً‪ ،‬فأخطأ فى اجتهاده‪ ،‬فقتله‪ ،‬فهذا‬ ‫القسم الرابع‪ :‬الطبي ُ‬
‫ن دِيةَ المريض فى بيت المال‪ .‬والثانية‪ :‬أنها على عاقلة الطبيب‪ ،‬وقد نص‬
‫يُخرّج على روايتين؛ إحداهما‪ :‬أ ّ‬
‫عليهما المامُ أحمد فى خطإ المام والحاكم‪.‬‬

‫فصل‬

‫القسم الخامس‪ :‬طبيبٌ حاذق‪ ،‬أعطى الصنعةَ حقها‪ ،‬فقطع سِ ْلعَ ًة من رجل أو صبى‪ ،‬أو مجنون بغير إذنه‪ ،‬أو إذن‬
‫ل غير مأذون فيه‪ ،‬وإن أذن له‬‫ختَنَ صبيًا بغير إذن وَليّه َفتَلِفَ‪ ،‬فقال أصحابُنا‪ :‬يضمن‪ ،‬لنه تولّد من فع ٍ‬
‫وَليّه‪ ،‬أو َ‬
‫ل أنْ ل يضمَن مطلقًا لنه محسنٌ‪ ،‬وما على المُحسنين من‬ ‫البالغ‪ ،‬أو وَِلىّ الصبى والمجنون‪ ،‬لم يضمن‪ ،‬ويحتمِ ُ‬
‫ى فى إسقاطِ الضمان‪ ،‬وإن لم يكن متعدّياً‪ ،‬فل وجه لضمانه‪.‬‬ ‫سبيلٍ‪ .‬وأيضًا فإنه إن كان متعدّياً‪ ،‬فل أثر لذن الول ّ‬

‫فإن قلتَ‪ :‬هو متعدّ عند عدم الذن‪ ،‬غير متع ّد عند الذن‪.‬‬

‫قلتُ‪ :‬العُدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو‪ ،‬فل أثر للذن وعدمه فيه‪ ،‬وهذا موضع نظر‪.‬‬

‫فصل‬

‫خصّ باسم الطّبائعى‪ ،‬وبمرْ َودِهِ وهو‬


‫ب فى هذا الحديث يتناول مَن يطب بوصفه وقوله‪ ،‬وهو الذى يُ َ‬ ‫والطبي ُ‬
‫الكحّال‪ ،‬وبِمبضَعه ومراهِمه وهو الجرائحىّ‪ ،‬وبمُوساه وهو الخاتِن‪ ،‬وبريشته وهو الفاصد‪ ،‬وبمَحاجمه ومِشْرَطِه‬
‫خ ْلعِه و َوصْله ورِباطه وهو المجبّر‪ ،‬وبمكواته وناره وهو الكوّاء‪ ،‬وبقِربته وهو الحاقن‪.‬‬
‫وهو الحجّام‪ ،‬وب َ‬

‫ص الناس‬
‫وسواء أكان طبه لحيوان بهيمٍ‪ ،‬أو إنسان‪ ،‬فاسمُ الطبيب يُطلق لغةً على هؤلء كلهم‪ ،‬كما تقدّم‪ ،‬وتخصي ُ‬
‫له ببعض أنواع الطباء عُرْفٌ حادث‪ ،‬كتخصيص لفظ الدابة بما يخصّها به كُلّ قوم‪.‬‬

‫فصل‬

‫والطبيب الحاذق‪ :‬هو الذى يراعى فى علجه عشرين أمراً‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬النظر فى نوع المرض من أى المراض هو ؟‬

‫ب حدوثه ما هى ؟‬
‫الثانى‪ :‬النظر فى سببه من أى شىء حدث‪ ،‬والعِلّةُ الفاعلةُ التى كانت سب َ‬

‫ف منه ؟ فإن كانت مقاومةً للمرض‪ ،‬مستظهرة عليه‪،‬‬


‫الثالث‪ :‬قوة المريض‪ ،‬وهل هى مقاومة للمرض‪ ،‬أو أضع ُ‬
‫ك بالدواء ساكناً‪.‬‬
‫تركها والمرض‪ ،‬ولم يُحَ ّر ْ‬

‫الرابع‪ :‬مزاج البدن الطبيعى ما هو ؟‬

‫ج الحادث على غير المجرى الطبيعى‪.‬‬


‫الخامس‪ :‬المزا ُ‬

‫ن المريض‪.‬‬
‫السادس‪ :‬سِ ّ‬

‫السابع‪ :‬عادته‪.‬‬

‫الثامن‪ :‬الوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به‪.‬‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫@ التاسع‪ :‬بلدُ المريض وتُربتُه‪.‬‬

‫العاشر‪ :‬حال الهواء فى وقت المرض‪.‬‬


‫الحادى عشر‪ :‬النظر فى الدواء المضاد لتلك العِلّة‪.‬‬

‫الثانى عشر‪ :‬النظر فى قوة الدواء ودرجته‪ ،‬والموازنة بينها وبين قوة المريض‪.‬‬

‫ب منها‪ ،‬فمتى‬
‫ل قصده إزالة تلك العِلّة فقط‪ ،‬بل إزالتُها على وج ٍه يأمن معه حدوث أصع َ‬
‫الثالث عشر‪ :‬أل يكون ك ّ‬
‫ب منها‪ ،‬أبقاها على حالها‪ ،‬وتلطيفها هو الواجب‪ ،‬وهذا‬
‫علّةٍ أُخرى أصع َ‬ ‫كان إزالتها ل يأمن معها حدوث ِ‬
‫ب منه‪.‬‬
‫كمرض أفواه العروق‪ ،‬فإنه متى عُولج بقطعه وحبسه خِيف حدوث ما هو أصع ُ‬

‫ل من العلج بالغذاء إلى الدواء إل عند تعذّرِه‪ ،‬ول ينت ِقلُ إلى‬
‫الرابع عشر‪ :‬أن يُعالِج بالسهل فالسهل‪ ،‬فل يَنتقِ ُ‬
‫الدواء المركّب إل عند تعذرِ الدواء البسيط‪ ،‬فمن حذق الطبيب علجُه بالغذية بدل الدوية‪ ،‬وبالدوية البسيطة‬
‫بدل المركّبة‪.‬‬

‫الخامس عشر‪ :‬أن ينظر فى العِلّة‪ ،‬هل هى مما يمكن علجُها أو ل ؟ فإن لم يُمكن علجُها‪ ،‬حفظ صِناعته‬
‫وحُرمتَه‪ ،‬ول يحمِلُه الطمع على علج ل يفيد شيئاً‪ .‬وإن أمكن علجها‪ ،‬نظر هل يمكن زوالُها أم ل ؟ فإن علم‬
‫أنه ل يمكن زوالُها‪ ،‬نظر هل يمكن تخفيفُها وتقليلُها أم ل ؟ فإن لم يمكن تقليلُها‪ ،‬ورأى أنّ غاية المكان إيقافُها‬
‫وقط ُع زيادتها‪ ،‬قصد بالعلج ذلك‪ ،‬وأعان القوة‪ ،‬وأضعف المادة‬

‫السادس عشر‪ :‬أل يتعرّض للخلط قبل نُضجه باستفراغ‪ ،‬بل يقصد إنضاجه‪ ،‬فإذا تمّ نضجُه‪ ،‬بادر إلى استفراغه‪.‬‬

‫خبْرة باعتلل القلوب والرواح وأدويتها‪ ،‬وذلك أصل عظيم فى علج البدان‪ ،‬فإنّ‬ ‫السابع عشر‪ :‬أن يكون له ِ‬
‫انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمرٌ مشهود‪ ،‬والطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح‬
‫ل البدن‬
‫خبْرة له بذلك وإن كان حاذقًا فى علج الطبيعة وأحوا ِ‬‫وعلجهما‪ ،‬كان هو الطبيبَ الكاملَ‪ ،‬والذى ل ِ‬
‫ل طبيب ل يداوى العليل‪ ،‬بتفقّد قلبه وصلحه‪ ،‬وتقويةِ روحه وقُواه بالصدقة‪ ،‬وفعل الخير‪،‬‬ ‫ف طبيب‪ .‬وك ّ‬
‫نص ُ‬
‫ب قاصر‪ .‬ومن أعظم علجات المرض فعلُ‬ ‫والحسان‪ ،‬والقبال على ال والدار الخرة‪ ،‬فليس بطبيب‪ ،‬بل متطبّ ٌ‬
‫الخير والحسان والذّكر والدعاء‪ ،‬والتضرع والبتهال إلى ال‪ ،‬والتوبة‪ ،‬ولهذه الُمور تأثيرٌ فى دفع العلل‪،‬‬
‫وحصول الشفاء أعظ ُم من الدوية الطبيعية‪ ،‬ولكن بحسب استعداد النفس وقبولِها وعقيدتِها فى ذلك ونفعه‪.‬‬

‫الثامن عشر‪ :‬التلطفُ بالمريض‪ ،‬والرّفق به‪ ،‬كالتلطّف بالصبى‪.‬‬

‫التاسع عشر‪ :‬أن يستعمل أنواع العِلجات الطبيعية واللهية‪ ،‬والعلج بالتخييل‪ ،‬فإنّ لِحذّاق الطباء فى التخييل‬
‫أُمورًا عجيبة ل يصل إليها الدواء‪ ،‬فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل مُعين‪.‬‬

‫ستّة أركان‪ :‬حفظ الصحة الموجودة‪ ،‬وردّ‬ ‫العشرون‪ :‬وهو مِلك أمر الطبيب أن يجعل علجَه وتدبيرَه دائراً على ِ‬
‫ل أدنى المفسد َتيْن لزالة‬
‫الصحة المفقودة بحسب المكان‪ ،‬وإزالة العِلّة أو تقليلها بحسب المكان‪ ،‬واحتما ُ‬
‫ل طبيب ل‬ ‫أعظمهما‪ ،‬وتفويتُ أدنى المصلح َتيْن لتحصيل أعظمهما‪ ،‬فعلى هذه الُصول السّـتّة مدارُ العلج‪ ،‬وك ّ‬
‫خيّته التى يرجع إليها‪ ،‬فليس بطبيب‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬
‫تكون هذه أ ِ‬

‫فصل‬

‫ولما كان للمرض أربعةُ أحوال‪ :‬ابتداءٌ‪ ،‬وصُعودٌ‪ ،‬وانتهاءٌ‪ ،‬وانحطاطٌ؛ تعيّن على الطبيب مراعا ُة كل حال من‬
‫أحوال المرض بما يُناسبها ويليق بها‪ ،‬ويستعمِلُ فى كل حال ما يجبُ استعمالُه فيها‪ .‬فإذا رأى فى ابتداء المرض‬
‫أنّ الطبيعة محتاجة إلى ما يُحَرّك الفضلت ويستفرِغُها لنضجها‪ ،‬بادر إليه‪ ،‬فإن فاته تحريك الطبيعة فى ابتداء‬
‫المرض لعائق منع من ذلك‪ ،‬أو لضعف القوة وعدم احتمالها للستفراغ‪ ،‬أو لبرودة الفصل‪ ،‬أو لتفريط وقع‪،‬‬
‫حذَ َر كل الحَذ ِر أن يفعل ذلك فى صعود المرض‪ ،‬لنه إن فعله‪ ،‬تحيّرت الطبيعة لشتغالها بالدواء‪،‬‬ ‫فينبغى أن يَ ْ‬
‫وتخلّت عن تدبير المرض ومقاومته بالكلية‪ ،‬ومثاله‪ :‬أن يجى َء إلى فارس مشغول بمواقعة عدوه‪ ،‬فيشغله عنه‬
‫بأمر آخر‪ ،‬ولكن الواجب فى هذه الحال أن يُعين الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه‪.‬‬

‫فإذا انتهى المرض ووقف وسكن‪ ،‬أخذ فى استفراغه‪ ،‬واستئصال أسبابه‪ ،‬فإذا أخذ فى النحطاط‪ ،‬كان أولى‬
‫بذلك‪ .‬ومثالُ هذا مثال العدو إذا انتهت قُوّته‪ ،‬وفرغ سِلحُه‪ ،‬كان أخذُه سهلً‪ ،‬فإذا ولّى وأخذ فى الهرب‪ ،‬كان‬
‫شوْكتُه إنما هى فى ابتدائه‪ ،‬وحال استفراغه‪ ،‬وسعة قُوّته‪ ،‬فهكذا الداء والدواء سواء‪.‬‬
‫حدّته و َ‬
‫أسهلَ أخذاً‪ ،‬و ِ‬
‫فصل‬

‫ل إلى الصعب‪ ،‬ويتدّرج من الضعف إلى القوى إل‬ ‫َومِن حِذق الطبيب أنه حيث أمكن التدبير بالسهل‪ ،‬فل َيعْدِ ُ‬
‫أن يخاف فَوتَ القُوّة حينئذ‪ ،‬فَيجبُ أن يبتدىء بالقوى‪ ،‬ول يُقيم فى المعالجة على حال واحدة فتألفُها الطبيعة‪،‬‬
‫جسُر على الدوية القوية فى الفصول القوية‪ ،‬وقد تقدّم أنه إذا أمكنه العِلجُ بالغذاء‪ ،‬فل‬ ‫ويَقِلّ انفعالُها عنه‪ ،‬ول تَ ْ‬
‫ض أحا ٌر هو أم بارد ؟ فل يقدم حتى يتبيّن له‪ ،‬ول يُجرّبه بما يخاف عاقبته‪،‬‬ ‫يُعالِج بالدواء‪ ،‬وإذا أشكل عليه المر ُ‬
‫ول بأس بتجرِبته بما ل يضرّ أثرُه‪.‬‬

‫وإذا اجتمعت أمراض‪ ،‬بدأ بما تخصه واحدة من ثلث خصال‪:‬‬

‫إحداها‪ :‬أن يكون بُرء الخر موقوفاً على بُرئه كالورم والقُرحة‪ ،‬فإنه يبدأ بالورم‪.‬‬

‫حمّى العَفِنة‪ ،‬فإنه يبدأ بإزالة السبب‪.‬‬


‫الثانية‪ :‬أن يكون أحدهُما سبباً للخر‪ ،‬كالسّدة وال ُ‬

‫الثالثة‪ :‬أن يكون أحدهما أه َم من الخر‪ ،‬كالحاد والمزمن‪ ،‬فيبدأ بالحاد‪ .‬ومع هذا فل يغفُلُ عن الخر‪ .‬وإذا اجتمع‬
‫المرض والعَرَض‪ ،‬بدأ بالمرض‪ ،‬إل أن يكون العَ َرضُ أقوى كالقُولنج‪ ،‬فيُسكن الوجع أولً‪ ،‬ثم يُعالج السّدة‪ .‬وإذا‬
‫ض عن المعالجة بالستفراغ بالجوع أو الصوم أو النوم‪ ،‬لم يستفرغه‪ ،‬وكُلّ صحة أراد حفظها‪،‬‬ ‫أمكنه أن يعتا َ‬
‫ل منها‪ ،‬نقلها بالضد‪.‬‬
‫حفظها بالمثل أو الشبه‪ ،‬وإن أراد نقلها إلى ما هو أفض ُ‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى التحرز من الدواء المعدية بطبعها‪ ،‬وإرشاده الصحاءَ إلى مجانبة أهلها‬

‫ثبت فى ((صحيح مسلم)) من حديث جابر بن عبد ال‪ ،‬أنه كان فى َوفْد َثقِيف رجلٌ مجذومٌ‪ ،‬فأرسل إليه النبىّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ (( :‬ا ْرجِعْ َف َقدْ با َي ْعنَاكَ))‪.‬‬

‫وروى البخارى فى ((صحيحه)) تعليقاً مِن حديث أبى هريرة‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬فِ ّر مِنَ‬
‫سدِ))‪.‬‬
‫جذُو ِم َكمَا تَفِ ّر مِنَ ال َ‬
‫ا ْلمَ ْ‬

‫ى صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬ل ُتدِيمُوا النّظَ َر إلى‬


‫وفى ((سنن ابن ماجه)) من حديث ابن عباس‪ ،‬أنّ النب ّ‬
‫جذُومِين))‪.‬‬
‫ا ْلمَ ْ‬

‫ض عَلَى‬
‫وفى ((الصحيحين)) من حديث أبى هُريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل يُو ِردَنّ ُممْرِ ٌ‬
‫مُصِحّ))‪.‬‬

‫حيْنِ))‪.‬‬
‫جذُومَ‪َ ،‬وبَ ْينَك َو َب ْينَهُ قِيدُ ُرمْحٍ أَوْ ُرمْ َ‬
‫ويُذكر عنه صلى ال عليه وسلم‪(( :‬كَلّمْ ا ْلمَ ْ‬

‫ج العضاء وهيئتُها وشكلُها‪ ،‬ورُبما‬


‫جذَام‪ :‬عِلّة رديئة تحدثُ من انتشار المِرّ ِة السّوداء فى البدن كُلّه‪ ،‬فيفسُد مِزا ُ‬
‫ال ُ‬
‫فسد فى آخره اتصالُها حتى تتأكّلَ العضاء وتسقط‪ ،‬ويُسمى داءَ السد‪.‬‬

‫ن هذه العِلّة تُجهّم وجهَ‬


‫وفى هذه التسمية ثلثةُ أقوال للطباء؛ أحدها‪ :‬أنها لِكثرة ما تعترى السد‪ .‬والثانى‪ :‬ل ّ‬
‫س السد‪.‬‬ ‫س مَن يقرُبه‪ ،‬أو يدنو منه بدائه افترا َ‬
‫صاحبها وتجعلُه فى سُحنةَ السد‪ .‬والثالث‪ :‬أنه يفترِ ُ‬

‫ب السّل يَسْقَ ُم برائحته‪ ،‬فالنب ّ‬


‫ى‬ ‫وهذه العِلّة عند الطباء من العلل المُعدية المتوارثة‪ ،‬ومقا ِربُ المجذوم‪ ،‬وصاح ِ‬
‫صلى ال عليه وسلم لكمال شفقته على الُمة‪ ،‬ونُصحه لهم نهاهم عن السباب التى تُعرّضهم لوصول العيب‬
‫والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم‪ ،‬ول ريب أنه قد يكون فى البدن تهيّؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء‪ ،‬وقد تكون‬
‫الطبيعةُ سريعة النفعال قابل ًة للكتساب من أبدان مَن تُجاوِرُه وتُخالطه‪ ،‬فإنها نقّالة‪ ،‬وقد يكون خوفُها من ذلك‬
‫ووهمهُا مِن أكبر أسباب إصابة تلك العِلّة لها‪ ،‬فإنّ الوهم فعّال مستَوْلٍ على ال ُقوَى والطبائع‪ ،‬وقد تَصِلُ رائحة‬
‫العليل إلى الصحيح فتُسقمه‪ ،‬وهذا معايَن فى بعض المراض‪ ،‬والرائح ُة أحدُ أسباب العدوى‪ ،‬ومع هذا كله فل بد‬
‫ل بها‪،‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم امرأةً‪ ،‬فلما أراد الدخو َ‬
‫من وجود استعدادِ البدن وقبوله لذلك الداء‪ ،‬وقد تزوّج النب ّ‬
‫وجَد بكَشْحها بياضاً‪ ،‬فقال‪(( :‬الْحَقِى بأهِْلكِ))‪.‬‬

‫ن هذه الحاديث معارَضةٌ بأحاديثَ ُأخَر تُبطلها وتُناقضها‪ ،‬فمنها‪ :‬ما رواه الترمذى‪،‬‬ ‫وقد ظنّ طائفة مِن الناس أ ّ‬
‫صعَةِ‪،‬‬
‫جلٍ مجذومٍ‪ ،‬فأدخلها معه فى ال َق ْ‬
‫من حديث عبد ال بن عمر (ان رسول ال صلى ال عليه وسلم أخذ ب َيدِ ر ُ‬
‫ل عليه))‪ ،‬ورواه ابن ماجه‪.‬‬
‫وقال‪(( :‬كُلْ باسم ال‪ ،‬ثِقَ ًة بال‪ ،‬وتوكّ ً‬

‫طيَرَة))‪.‬‬
‫وبما ثبت فى ((الصحيح))‪ ،‬عن أبى هُريرة‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬ل عَدوَى ول ّ‬

‫ونحن نقول‪ :‬ل تعارُض بحمد ال بين أحاديثه الصحيحة‪ .‬فإذا وقع التعارضُ‪ ،‬فإما أن يكون أحدُ الحديثين ليس‬
‫ط فيه بعضُ الرواة مع كونه ثق ًة ثَبتاً‪ ،‬فالثقةُ َيغْلَطُ‪ ،‬أو يكونُ أح ُد الحديثين‬ ‫مِن كلمه صلى ال عليه وسلم وقد غَلِ َ‬
‫ل النسخ‪ ،‬أو يكونُ التعارضُ فى فهم السامع‪ ،‬ل فى فى نفس كلمه صلى ال عليه‬ ‫ناسخًا للخر إذا كان مما يَ ْقبَ ُ‬
‫وسلم‪ ،‬فل بُ ّد مِن وجه من هذه الوجوه الثلثة‪ .‬وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان مِن كل وجه‪ ،‬ليس‬
‫جدَ فى كلم الصادق المصدوق الذى ل يخرج من‬ ‫ل أن يُو َ‬
‫أحدُهما ناسخًا للخر‪ ،‬فهذا ل يُوجد أصلً‪ ،‬ومعاذَ ا ِ‬
‫بين شفتيه إل الحقّ‪ ،‬والفةُ مِن التقصير فى معرفة المنقول‪ ،‬والتمييز بين صحيحه ومعلوله‪ ،‬أو من القُصور فى‬
‫فهم مُراده صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وحمل كلمه على غير ما عناه به‪ ،‬أو منهما معاً‪ .‬ومن ههنا وقع من الختلف‬
‫والفساد ما وقع‪ ..‬وبال التوفيق‪.‬‬

‫قال ابن قتيبة فى كتاب ((اختلف الحديث)) له حكايةً عن أعداء الحديث وأهله‪ :‬قالوا ‪ :‬حديثان متناقضان رويتُم‬
‫ن النّ ْقبَةَ تقع بمِشْ َفرِ البَعي ِر ‪،‬‬
‫طيَرَة)) ‪ .‬وقيل له ‪ :‬إ ّ‬
‫عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪(( :‬ل عَدوَى ول ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫ب لذلك الب ُ‬
‫فيجرَ ُ‬

‫قال ‪(( :‬فما أعدَى الولَ)) ؟ ‪ ،‬ثم رويتُم ‪(( :‬ل يُوردُ ذو عاهة على مُصِحّ)) و((وفِ ّر من المجذو ِم فِرارَك من‬
‫سدِ)) ‪ ،‬وأتاه رجل مجذوم ليُبايَعه بَيْعة السلم ‪ ،‬فأرسل إليه ال َبيْعةَ ‪ ،‬وأمَره بالنصراف ‪ ،‬ولم يأذن له ‪ ،‬وقال‬ ‫ال َ‬
‫ف ل يُشبه بعضُه بعضاً ‪.‬‬ ‫‪(( :‬الشّؤ ُم فى المرأة والدا ِر والدّابةِ)) ‪ ..‬قالوا ‪ :‬وهذا كُلّه مختلِ ٌ‬

‫ت وموضع ‪ ،‬فإذا ُوضِع موضعَه‬


‫قال أبو محمد ‪ :‬ونحن نقول ‪ :‬إنه ليس فى هذا اختلفٌ ‪ ،‬ولكل معنى منها وق ٌ‬
‫زال الختلف‬

‫والعدوى جنسان ؛ أحدهما ‪ :‬عدوى الجُذام ‪ ،‬فإنّ المجذوم تشتدّ رائحتُه حتى يُسْ ِقمُ مَن أطال مجالسته ومحادثته ‪،‬‬
‫ج ِذمَتْ ‪ ،‬وكذلك‬ ‫جعُه فى شِعا َر واحد ‪ ،‬فيُوصِل إليها الذى ‪ ،‬وربما ُ‬ ‫وكذلك المرأةُ تكونُ تحتَ المجذوم ‪ ،‬فتُضا ِ‬
‫ق ونُ ْقبٌ ‪ .‬والطباء تأمر أل يُجالَس المسلول ول‬ ‫سلٌ ودِ ٌ‬
‫ولدُه يَنزِعُون فى الكِبر إليه ‪ ،‬وكذلك مَن كان به ِ‬
‫المجذُوم ‪ ،‬ول يُريدون بذلك معنى العدوى ‪ ،‬وإنما يُريدون به معنى تغيّرِ الرائحة ‪ ،‬وأنها قد تُسْ ِقمْ مَن أطال‬
‫ب فإذا‬‫اشتمامَها ‪ ،‬والطباء أبع ُد الناس عن اليمان بيُمن وشُؤم ‪ ،‬وكذلك النّقْبةُ تكون بالبعير وهو جَ َربٌ رَط ٌ‬
‫خالط البلَ أو حاكّها ‪ ،‬وأوَى فى مَباركها ‪ ،‬وصل إليها بالماء الذى يَسيل منه‪ ،‬وبالنّطف نحو ما به ‪ ،‬فهذا هو‬
‫المعنى الذى قال فيه النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬ل يُو َردُ ذو عاهة على مُصِح)) ‪ ،‬كَرِ َه أن يُخالط ال َمعْيُوه‬
‫حكّته نحو مما به ‪.‬‬
‫الصحيحَ ‪ ،‬لئل ينالَه مِن نَطَفه و ِ‬

‫ف العدوى ‪ ،‬وقد قال صلى ال‬ ‫س الخرُ من العدوى ‪ ،‬فهو الطاعونُ ينز ُل ببلد ‪ ،‬فيخرُج منه خو َ‬ ‫قال ‪ :‬وأما الجن ُ‬
‫خرُجُوا‬
‫خرُجُوا ِمنْه ‪ ،‬وإذا كان ِببَلَ ٍد ‪ ،‬فل تَدْخُلُوه)) ‪ .‬يريد بقوله ‪ :‬ل تَ ْ‬
‫عليه وسلم ‪(( :‬إذا وقَعَ ِببََلدٍ وأ ْنتُم به ‪ ،‬فل تَ ْ‬
‫ن الفِرا َر مِن َقدَر ال يُنجيكم من ال ‪ ،‬ويُريد بقوله ‪:‬‬ ‫مِن البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أ ّ‬

‫ب لعيشكم ‪،‬‬
‫((وإذا كان ببلد فل تدخلوه)) ‪ ،‬أى ‪ :‬مُقامُكم فى الموضع الذى ل طاعون فيه أسْكنُ لقلوبكم ‪ ،‬وأطي ُ‬
‫ل مكروةٌ أو جائح ٌة ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أعدتْنى بشؤمها ‪ ،‬فهذا هو‬‫ومن ذلك المرأ ُة تُعرف بالشؤم أو الدارُ ‪ ،‬فينال الرج َ‬
‫عدْوَى)) ‪.‬‬
‫العدوى الذى قال فيه رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬ل َ‬

‫وقالت فِرْقة أُخرى ‪ :‬بل الم ُر باجتنابِ المجذوم والفِرار منه على الستحباب ‪ ،‬والختيار ‪ ،‬والرشاد ‪ .‬وأما‬
‫ن هذا ليس بحرام ‪.‬‬ ‫الكل معه ‪ ،‬ففَعلُه لبيانِ الجواز ‪ ،‬وأ ّ‬
‫ب بهذين الخطابين جزئى ل كلى ‪ .‬فكلّ واحد خاطبه النبىّ صلى ال عليه وسلم‬ ‫وقالت فِرْقة أُخرى ‪ :‬بل الخطا ُ‬
‫ى التوكل تدفع قوةُ توكله قُوّ َة العدوى ‪ ،‬كما تدفع قوةُ‬
‫ى اليمان ‪ ،‬قو ّ‬‫ض الناس يكون قو ّ‬
‫بما يليق بحاله ‪ ،‬فبع ُ‬
‫الطبيعة قو َة العِلّة فتُبطلها ‪ ،‬وبعضُ الناس ل يَقوى على ذلك ‪ ،‬فخاطبه بالحتياط والخذ بالتحفظ ‪ ،‬وكذلك هو‬
‫صلى ال عليه وسلم فَعل الحالتين معًا ‪ ،‬لتقتدى به الُمة فيهما ‪ ،‬فيأخذ مَن قَوى من أُمته بطريقة التوكل والقُوّة‬
‫والثقة بال ‪ ،‬ويأخذ مَن ضَعف منهم بطريقة التحفظ والحتياط ‪ ،‬وهما طريقان صحيحان ‪ .‬أحدهما ‪ :‬للمؤمن‬
‫القوى ‪ ،‬والخر ‪ :‬للمؤمن الضعيف ‪ ،‬فتكون لكل واحد من الطائفتين حُجّ ٌة وقُدوةٌ بحسب حالهم وما يناسبهم ‪،‬‬
‫ى ‪ ،‬وقرن تركَه بالتوكل ‪ ،‬وتَ َركَ الطّيرة ‪ ،‬ولهذا‬ ‫وهذا كما أنه صلى ال عليه وسلم كَوى ‪ ،‬وأثنَى على تارِك الك ّ‬
‫نظائ ُر كثيرة ‪ ،‬وهذه طريقة لطيفةٌ حسنة جداً مَن أعطاها حقّها ‪ ،‬ورُزِق فقْه نَفْسه فيها ‪ ،‬أزالت عنه تعارضاً‬
‫كثيرًا يظنه بالسّـنّةِ الصحيحة ‪.‬‬

‫ل الداء منه بواسطة الملمسة‬ ‫ن المر بالفِرار منه ‪ ،‬ومجانبتِه لمر طبيعى ‪ ،‬وهو انتقا ُ‬
‫وذهبت فِرقة أُخرى إلى أ ّ‬
‫والمخالطة والرائحة إلى الصحيح ‪ ،‬وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملمسة له ‪ ،‬وأما أكلُه معه مقداراً يسيراً‬
‫من الزمان لمصلحة راجحة ‪ ،‬فل بأس به ‪ ،‬ول تحصُل العدوى مِن مرّ ٍة واحدة ولحظة واحدة ‪ ،‬فنَهى سداً‬
‫ض بين المرين ‪.‬‬ ‫للذريعة ‪ ،‬وحِمايةً للصحة ‪ ،‬وخالطه مخالطةً ما للحاجة والمصلحة ‪ ،‬فل تعارُ َ‬

‫ن هذا المجذومُ الذى أكل معه به من الجُذام أمرٌ يسير ل يُعدى مثله ‪ ،‬وليس‬‫وقالت طائفة أُخرى ‪ :‬يجوز أن يكو َ‬
‫ج ْذمَى كُلّهم سواءً ‪ ،‬ول العدوى حاصلة من جميعهم ‪ ،‬بل منهم مَن ل تضرّ مخالطته ‪ ،‬ول تُعدى ‪ ،‬وهو مَن‬ ‫الْ َ‬
‫أصابه من ذلك شىء يسير ‪ ،‬ثم وقف واستمر على حاله ‪ ،‬ولم ُي ْعدِ بقيةَ جسمه ‪ ،‬فهو أن ل يعدِىَ غيره أولى‬
‫وأحرى ‪.‬‬

‫ن المراض المعدية تُعدى بطبعها من غير إضافة إلى ال‬ ‫وقالت فِرقة أُخرى ‪ :‬إنّ الجاهلية كانت تعتقد أ ّ‬
‫سبحانه ‪ ،‬فأبطل النبىّ صلى ال عليه وسلم اعتقادَهم ذلك ‪ ،‬وأكل مع المجذوم ل ُيبَيّنَ لهم أنّ ال سبحانه هو الذى‬
‫يُمرض ويَشفى ‪ ،‬ونهى عن القُرب منه ليتبينَ لهم أنّ هذا من السباب التى جعلها ال مُفضية إلى مسبباتها ‪ ،‬ففى‬
‫ل بشىء ‪ ،‬بل الربّ سبحانه إن شاء سلبها قواها ‪ ،‬فل تؤثر شيئاً‬ ‫نهيه إثباتُ السباب ‪ ،‬وفى فعله بيان أنها ل تستقِ ّ‬
‫‪ ،‬وإن شاء أبقى عليها قُواها فأثّرت ‪.‬‬

‫حكِمَ‬
‫وقالت فِرقة أُخرى ‪ :‬بل هذه الحاديث فيها الناسخ والمنسوخ ‪ ،‬فيُنظر فى تاريخها ‪ ،‬فإن عُلِ َم المتأخر منها ‪ُ ،‬‬
‫بأنه الناسخ ‪ ،‬وإل توقفنا فيها ‪.‬‬

‫عدّوى)) ‪ ،‬وقالت ‪:‬‬‫وقالت فِرقة أُخرى ‪ :‬بل بعضُها محفوظ ‪ ،‬وبعضها غي ُر محفوظ ‪ ،‬وتكلمت فى حديث ‪(( :‬ل َ‬
‫ك فيه فتركه ‪ ،‬وراجعوه فيه ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬سمعناك تُحدّث به ‪ ،‬فأبى أن يُحدّث‬
‫ل ‪ ،‬ثم ش ّ‬
‫قد كان أبو هريرة يرويه أ ّو ً‬
‫به ‪.‬‬

‫قال أبو سلمة ‪ :‬فل أدرى ‪ ،‬أنسىَ أبو هريرة ‪ ،‬أم نَسخَ أحدُ الحديثين الخَر ؟‬

‫ث ل يثبت ول‬ ‫ى صلى ال عليه وسلم أخذ بيدِ مجذوم ‪ ،‬فأدخلها معه فى القصعة‪ ،‬فحدي ٌ‬ ‫وأما حديثُ جابر ‪ :‬أنّ النب ّ‬
‫حسّنه ‪ .‬وقد قال شعبة وغيرُه ‪ :‬اتقوا هذه‬ ‫صحّحْه ولم يُ َ‬
‫يَصِحّ ‪ ،‬وغاية ما قال فيه الترمذى ‪ :‬إنه غريب ‪ ،‬لم يُ َ‬
‫ب ‪ .‬قال الترمذى‪ :‬ويُروى هذا من فعل عمر ‪ ،‬وهو أثبت ‪ ،‬فهذا شأنُ هذين الحديثين اللّذين عُورض بهما‬ ‫الغرائ َ‬
‫ح عن رسول ال صلى ال‬ ‫ث النهى ‪ ،‬أحدهما ‪ :‬رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره ‪ ،‬والثانى ‪ :‬ل يَصِ ّ‬ ‫أحادي ُ‬
‫ل من هذا ‪ ..‬وبال‬ ‫عليه وسلم ‪ ،‬وال أعلم ‪ ،‬وقد أشبعنا الكلم فى هذه المسألة فى كتاب ((المفتاح)) ‪ ،‬بأطو َ‬
‫التوفيق‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى المنع من التداوى بالمحرّمات‬

‫روى أبو داود فى ((سننه)) من حديث أبى الدرداء رضى ال عنه قال ‪ :‬قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫حرّم)) ‪.‬‬
‫ل ِلكُلّ داءٍ دواءً ‪َ ،‬فتَدَاوَوْا ‪ ،‬ول َتدَاوَوْا بِا ْلمُ َ‬
‫جعَ َ‬
‫((إنّ الَ َأنْزَلَ الدّا َء وَالدّوَاء ‪ ،‬وَ َ‬

‫وذكر البخارى فى ((صحيحه)) عن ابن مسعود ‪:‬‬


‫جعَلْ شِفَا َءكُ ْم فِيمَا حَرّمَ عليكم)) ‪.‬‬
‫((إنّ الَ لَ ْم يَ ْ‬

‫خبِيثِ ‪.‬‬
‫ن الدّوَاءِ ال َ‬
‫وفى ((السنن)) عن أبى هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم عَ ِ‬

‫سوَيد الجُعفىّ ‪ ،‬أنه سأل النبىّ صلى ال عليه وسلم عن الخمر ‪ ،‬فنهاه ‪ ،‬أو‬ ‫وفى ((صحيح مسلم)) عن طارق بن ُ‬
‫كَرِ َه أن يص َنعَها ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنما أصنعُها للدواء ‪ ،‬فقال ‪(( :‬إنّه َليْسَ ِبدَوَا ٍء ولكنّهُ دَاءٌ )) ‪.‬‬

‫ت بِالدّوَاءِ))‬
‫جعَل فى الدّواء ‪ ،‬فقال ‪(( :‬إ ّنهَا دَاءٌ ولَيسَ ْ‬
‫وفى ((السنن)) أنه صلى ال عليه وسلم سُئل عن الخمر يُ ْ‬
‫رواه أبو داود ‪ ،‬والترمذى‪.‬‬

‫صرُها‬
‫وفى ((صحيح مسلم)) عن طارق بن سُويدٍ الحضرمى ؛ قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ؛ إنّ بأرضنا أعنابًا نَعت ِ‬
‫شفَاءٍ َوَل ِكنّهُ دَاءٌ)) ‪.‬‬
‫س بِ ِ‬
‫ن ذَِلكَ َليْ َ‬
‫ت ‪ :‬إنّا نستشفى للمريض قال ‪(( :‬إ ّ‬
‫فنشرب منها ‪ ،‬قال ‪(( :‬ل)) ‪ .‬فراجعتُه ‪ ،‬قل ُ‬

‫ن طبيباً ذَكر ضِ ْفدَعاً فى دوا ٍء عند رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فنهاه عن َقتْلِها ‪.‬‬
‫وفى ((سنن النسائى)) أ ّ‬

‫خمْرِ ‪ ،‬فَل شَفَاهُ الُ)) ‪.‬‬


‫ويُذكر عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪(( :‬مَنْ َتدَاوَى بِا ْل َ‬

‫ل ‪ ،‬فهو‬ ‫ع فما ذكرْنا من هذه الحاديثِ وغيرها ‪ .‬وأمّا العق ُ‬ ‫ل وشرعًا ‪ ،‬أمّا الشر ُ‬ ‫المعالجة بالمحرّمات قبيحةٌ عق ً‬
‫أنّ الَ سبحانه إنما حرّمه لخُبثه ‪ ،‬فإنه لم يُحَرّم على هذه الُمة طَيباً عقوب ًة لها ‪ ،‬كما حرّمه على بنى إسرائيلَ‬
‫ت َلهُمْ}[النساء ‪ ،]160 :‬وإنما حرّم على هذه الُمة ما‬ ‫ت أُحِلّ ْ‬
‫طّيبَا ٍ‬
‫ن هَادُواْ حَ ّر ْمنَا عََل ْيهِمْ َ‬
‫بقوله ‪َ { :‬فبِظُ ْلمٍ مّنَ اّلذِي َ‬
‫ب أن يُطَلبَ به الشّفا ُء من السقام والعِلل ‪،‬‬
‫س ُ‬
‫حَرّم لخبثه ‪ ،‬وتحريمُه له حِمية لهم ‪ ،‬وصيانة عن تناوله ‪ ،‬فل يُنا ِ‬
‫فإنه وإن أثّر فى إزالتها ‪ ،‬لكنه ُيعْ ِقبُ سَقَمًا أعظمَ منه فى القلب بقوة الخُبث الذى فيه ‪ ،‬فيكون ال ُمدَاوَى به قد سعى‬
‫سقْم القلب ‪.‬‬ ‫فى إزالة سُقْم البدن ب ُ‬

‫ض على الترغيب فيه وملبسته ‪،‬‬ ‫وأيضاً فإنّ تحريمه يقتضى تجنّبه والبُعدَ عنه بكُلّ طريق ‪ ،‬وفى اتخاذه دواء ح ٌ‬
‫ص عليه صاحبُ الشريعة ‪ ،‬فل يجوز أن يُتخذ دواءً ‪.‬‬
‫ضدّ مقصود الشارع ‪ ،‬وأيضًا فإنه داء كما ن ّ‬ ‫وهذا ِ‬

‫ل عن كيفية الدواء انفعالً َبيّناً ‪ ،‬فإذا كانت‬


‫ب الطبيعة والروح صف َة الخبث ‪ ،‬لن الطبيعة تنفعِ ُ‬ ‫وأيضاً فإنه ُيكْسِ ُ‬
‫كيفيتُه خبيثةً ‪ ،‬اكتسبت الطبيعةُ منه خُبثًا ‪ ،‬فكيف إذا كان خبيثًا فى ذاته ‪ ،‬ولهذا حرّم ال سبحانه على عباده‬
‫س من هيئة الخبث وصفته ‪.‬‬ ‫الغذيةَ والشربةَ والملبِسَ الخبيثة ‪ ،‬لما تُكسب النف َ‬

‫سيّما‬
‫س تميل إليه ذريعةً إلى تناوله للشهوة واللّذة ‪ ،‬ل ِ‬‫سيّما إذا كانت النفو ُ‬
‫وأيضاً فإنّ فى إباحة التداوى به ‪ ،‬ول ِ‬
‫ع سدّ الذريعة إلى‬ ‫ب لِشفائها ‪ ،‬فهذا أحبّ شىءٍ إليها ‪ ،‬والشار ُ‬‫إذا عرفت النفوسُ أنه نافع لها مزيلٌ لسقامِها جال ٌ‬
‫ن بينَ س ّد الذريعة إلى تناوله ‪ ،‬و َفتْحِ الذريعة إلى تناوله تناقضًا وتعارضًا ‪.‬‬
‫بأّ‬
‫تناوله بكُ ّل ممكن ‪ ،‬ول ري َ‬

‫وأيضاً فإنّ فى هذا الدواء المحرّم من الدواء ما يزيدُ على ما يُظَن فيه من الشّفاء ‪ ،‬ولنفرضْ الكلم فى ُأمّ‬
‫الخبائث التى ما جعل ال لنا فيها شفاءً َقطّ ‪ ،‬فإنها شديدةُ المضرّة بالدماغ الذى هو مركزُ العقل عند الطباء ‪،‬‬
‫وكثير من الفقهاء والمتكلمين ‪.‬‬

‫قال ((أبقراط)) فى أثناء كلمه فى المراض الحادة ‪ :‬ضرر الخمرة بالرأس شديد ‪ .‬لنه يُسرع الرتفاع إليه ‪.‬‬
‫ويرتفع بارتفاعه الخلط التى تعلو فى البدن ‪ ،‬وهو لذلك يضر بالذهن ‪.‬‬

‫وقال صاحب ((الكامل)) ‪ :‬إنّ خاصية الشّراب الضرا ُر بالدماغ والعَصَب ‪.‬‬

‫وأمّا غيرُه من الدوية المحرّمة فنوعان ‪:‬‬

‫ث لمساعدته الطبيعةُ على دفع المرض به كالسموم ‪ ،‬ولحوم الفاعى وغيرها من‬ ‫أحدهما ‪ :‬تعافُه النفس ول تنبعِ ُ‬
‫ل لها ‪ ،‬فيصير حينئذ دا ًء ل دواء ‪.‬‬
‫المستقذرات ‪ ،‬فيبقى كَلً على الطبيعة مثق ً‬
‫والثانى ‪ :‬ما ل تَعافُه النفس كالشراب الذى تستعمِلُه الحوامل مثلً ‪ ،‬فهذا ضررُه أكث ُر من نفعه ‪ ،‬والعقلُ يقضى‬
‫بتحريم ذلك ‪ ،‬فالعقلُ والفِطرةُ مطابقٌ للشرع فى ذلك ‪.‬‬

‫ط الشفاء بالدواء تلقّيه بالقبول ‪ ،‬واعتقادُ منفعته ‪،‬‬ ‫وهاهنا سِرٌ لطيف فى كون المحرّمات ل يُستشفَى بها ‪ ،‬فإنّ شر َ‬
‫ك من الناس أينما‬‫وما جعل ال فيه من بركة الشفاء ‪ ،‬فإنّ النافعَ هو المبارَك ‪ ،‬وأنف ُع الشياءِ أبركُها ‪ ،‬والمبا َر ُ‬
‫ل بينه وبين اعتقاد بركتها‬ ‫حلّ ‪ ،‬ومعلوم أنّ اعتقاد المسلم تحريمَ هذه ال َعيْن مما يَحو ُ‬ ‫كان هو الذى يُنتفَع به حيث َ‬
‫ومنفعتها ‪ ،‬وبين حُسن ظنه بها ‪ ،‬وتلقّى طبعه لها بالقبول ‪ ،‬بل كلّما كان العبدُ أعظمَ إيمانًا ‪ ،‬كان أكره لها وأسوأ‬
‫ل اعتقادُ‬
‫اعتقادًا فيها ‪ ،‬وطبعُه أكره شىء لها ‪ ،‬فإذا تناولها فى هذه الحال ‪ ،‬كانت داءً له ل دواء إل أن يزو َ‬
‫ط إل على وجه داء‬ ‫الخُبث فيها ‪ ،‬وسو ُء الظن والكراهةُ لها بالمحبة ‪ ،‬وهذا يُنافى اليمان ‪ ،‬فل يتناولها المؤمن قَ ّ‬
‫‪ ..‬وال أعلم ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج ال َقمْلِ الذى فى الرأس وإزالته‬

‫ل الِ صلى ال عليه‬ ‫حمِ ْلتُ إلى رسو ِ‬


‫فى ((الصحيحين)) عن كعب بن عُجْر َة ‪ ،‬قال ‪ :‬كان بى أذىً مِن رأسى ‪ ،‬فَ ُ‬
‫ج ْهدَ قد بَلَ َغ ِبكَ ما أرَى)) ‪ ،‬وفى رواية ‪ :‬فأمَرَه أن‬
‫ت أَرى ال َ‬
‫ل يَتناثَرُ على وجهى ‪ ،‬فقال ‪(( :‬ما كن ُ‬ ‫وسلم وال َقمْ ُ‬
‫يَحْلِقَ رأسَه ‪ ،‬وأن يُطعِمَ فَرقًا َبيْنَ سِـتّ ٍة ‪ ،‬أو يُهدِىَ شاة ‪ ،‬أو يَصُومَ ثلثةَ أيا ٍم ‪.‬‬

‫ل فيه ‪ ،‬فالخارجُ ‪ :‬الوسخُ والدنس المتراكم فى‬ ‫القمل يتولّد فى الرأس والبدن من شيئين ‪ :‬خارج عن البدن وداخ ٍ‬
‫سطح الجسد ‪ ،‬والثانى ‪ :‬من خلط ردىء عفن تدفعُه الطبيعة بين الجلد واللّحم ‪ ،‬فيتعفّنُ بالرّطوبة الدموية فى‬
‫البَشَ َرةِ بعد خُروجها من المسام ‪ ،‬فيكون مِنه القملُ ‪ ،‬وأكث ُر ما يكون ذلك بعد العلل والسقام ‪ ،‬وبسبب الوساخ ‪،‬‬
‫ق النبىّ‬
‫وإنما كان فى رؤوس الصبيان أكثر لكثرة رطوباتهم وتعاطيهم السباب التى تُولّد القمل ‪ ،‬ولذلك حَلَ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم رؤوسَ بنى جعفر ‪.‬‬

‫ومن أكبر عِلجه حَ ْلقُ الرأس لِتنفتح مسامّ البخرَة ‪ ،‬فتتصاعد البخرة الرديئة ‪ ،‬فتضعفُ مادة الخلط ‪ ،‬وينبغى‬
‫أن يُطلى الرأس بعد ذلك بالدوية التى تقتل القمل ‪ ،‬وتمنع تولّده ‪.‬‬

‫وحلقُ الرأس ثلثة أنواع ؛ أحدها ‪ :‬نُسُك وقُربة ‪ .‬والثانى ‪ :‬بِدعة وشرك ‪ .‬والثالث ‪ :‬حاجة ودواء ‪.‬‬

‫ج أو العُمرة ‪.‬‬
‫فالول ‪ :‬الحلق فى أحد النّسُكين ‪ ،‬الح ّ‬

‫ق الرأس لغير ال سبحانه ‪ .‬كما يحلِقها المريدُون لشيوخهم ‪ ،‬فيقول أحدهم ‪ :‬أنا حلقتُ رأسى لفلن ‪،‬‬ ‫والثانى ‪ :‬حل ُ‬
‫ع وعُبودية وذُل ‪ ،‬ولهذا كان‬ ‫وأنت حلقتَه لفلن ‪ ،‬وهذا بمنزلة أن يقول ‪ :‬سجدتُ لفلن ‪ ،‬فإنّ حَ ْلقَ الرأس خضو ٌ‬
‫ن من أركانه ل يَتِ ّم إل به ‪ .‬فإنه وضعُ النواصى بين يدى ربها‬ ‫من تمام الحجّ ‪ ،‬حتى إنه عند الشافعى رك ٌ‬
‫ل لعِزّته ‪ ،‬وهو من أبلغ أنواع العبودية ‪ ،‬ولهذا كانت العربُ إذا أرادت إذللَ السير‬ ‫خضوعًا لعظمته ‪ ،‬وتذل ً‬
‫خ الضلل والمزاحِمون للربوبية الذين أساسُ مشيختهم على‬ ‫عتْقَه ‪ ،‬حلقوا رأسه وأطلقُوه ‪ ،‬فجاء شيو ُ‬ ‫منهم و ِ‬
‫الشّرك والبدعة ‪ ،‬فأرادوا مِن مريديهم أن يتعبّدوا لهم ‪ ،‬فزيّنوا لهم حَلْقَ رؤوسهم لهم ‪ ،‬كما زيّنوا لهم السجودَ‬
‫ن السجود ل هو وض ُع الرأس‬ ‫لهم ‪ ،‬وسمّوه بغير اسمه ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬هو وض ُع الرأس بين يدى الشيخ ‪ ،‬ولعَمرُ ال إ ّ‬
‫بين يديه سبحانه ‪ ،‬وزيّنوا لهم أن ينذُروا لهم ‪ ،‬ويتوبُوا لهم ‪ ،‬ويَحِلفُوا بأسمائهم ‪ ،‬وهذا هو اتخاذُهم أرباباً وآلهةً‬
‫عبَاداً لّى مِن‬‫ل لِلنّاسِ كُونُوْا ِ‬ ‫حكْ َم وَال ّنبُوّ َة ثُمّ َيقُو َ‬
‫ب وَالْ ُ‬
‫شرٍ أَن يُ ْؤ ِتيَهُ الُ ا ْل ِكتَا َ‬
‫مِن دُونِ ال ‪ ،‬قال تعالى ‪{ :‬مَا كَانَ ِلبَ َ‬
‫لئِكَةَ‬
‫خذُواْ ا ْلمَ َ‬
‫ن * َولَ َي ْأمُ ُركُ ْم أَن َتتّ ِ‬ ‫ل وََلكِن كُونُواْ َربّانِيّينَ ِبمَا ُكنْتُ ْم ُتعَّلمُونَ ا ْل ِكتَابَ َوبِمَا ُك ْنتُمْ َتدْرُسُو َ‬
‫دُونِ ا ِ‬
‫وَال ّن ِبيّينَ أَ ْربَابًا ‪َ ،‬أيَ ْأمُ ُركُم بِا ْلكُ ْفرِ َب ْعدَ إذْ َأ ْنتُم مّسِْلمُونَ}[آل عمران‪.]80-79 :‬‬

‫ف العبودية عبوديةُ الصلة ‪ ،‬وقد تقاسمها الشيوخُ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة ‪ ،‬فأخذ الشيوخُ منها‬ ‫@ وأشر ُ‬
‫أشرفَ ما فيها ‪ ،‬وهو السجود ‪ ،‬وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوعَ ‪ ،‬فإذا لقىَ بعضُهم بعضًا ركع له كما‬
‫يركع ال ُمصَلّى لربه سواء ‪ ،‬وأخذ الجبابر ُة منهم القيا َم ‪ ،‬فيقوم الحرار والعبيد على رؤوسهم عبوديةً لهم ‪ ،‬وهم‬
‫جلوس ‪ ،‬وقد نهى رسولُ ال صلى ال عليه وسلم عن هذه الُمور الثلثة على التفصيل ‪ ،‬فتعاطِيها مخالفةٌ‬
‫حدٍ)) ‪ .‬وأنكر على ُمعَاذٍ َلمّا سَجد له‬
‫جدَ ل َ‬
‫سُ‬‫حدٍ أنْ يَ ْ‬
‫لَ‬‫صريحة له ‪ ،‬فنَهى عن السجود لغير ال وقال ‪(( :‬ل يَنْبغِى َ‬
‫جوّزه لغير ال مُراغمَ ٌة لِ ورسوله ‪،‬‬ ‫وقال ‪(( :‬مَهْ)) ‪ .‬وتحري ُم هذا معلوم من دينه بالضرورة ‪ ،‬وتجوي ُز مَن َ‬
‫وهو من أبلَ ِغ أنواع العبودية ‪ ،‬فإذا جَوّز هذا المُش ِركُ هذا النوعَ للبَشَر ‪ ،‬فقد جوّز العبودية لغير الِ ‪ ،‬وقد صَ ّ‬
‫ح‬
‫حنِى له ؟ قال ‪(( :‬ل)) ‪ .‬قيل ‪َ :‬أيَ ْلتَ ِزمُه و ُي َقبّلُهُ ؟ قال ‪(( :‬ل)) ‪ .‬قيل ‪َ :‬أيُصافِحُه ؟‬
‫ل يَلقَى أخاه َأ َينْ َ‬
‫أنه قيل له ‪ :‬الرّجُ ُ‬
‫قال ‪(( :‬نعم)) ‪.‬‬

‫وأيضاً ‪ ..‬فالنحنا ُء عند التحية سجود ‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪:‬‬

‫{وَادْخُلُواْ ا ْلبَابَ سُجّداً}[البقرة ‪ ]58 :‬أى ‪ :‬منحنين ‪ ،‬وإل فل يُمكن الدخول على الجباه ‪ ،‬وصَحّ عنه النهىُ عن‬
‫القيام ‪ ،‬وهو جالس ‪ ،‬كما ُتعَظّم العاج ُم بعضُها بعضًا ‪ ،‬حتى منع مِن ذلك فى الصلة ‪ ،‬وأمرَهم إذا صَلّى جالساً‬
‫أن ُيصَلّوا جلوسًا ‪ ،‬وهم أصحاء ل عُذرَ لهم ‪ ،‬لئل يقوموا على رأسه وهو جالس ‪ ،‬مع أنّ قيامَهم ل ‪ ،‬فكيف إذا‬
‫كان القيا ُم تعظيمًا وعبودي ًة لغيره سبحانه ‪.‬‬

‫ن النفوس الجاهلة الضالة أسقطتْ عبوديةَ ال سبحانه ‪ ،‬وأشركت فيها مَن ُتعَظّمه مِن الخلق ‪،‬‬ ‫والمقصود ‪ ..‬أ ّ‬
‫ت لغيره ‪ ،‬وحَلَ َقتْ لغيره ‪،‬‬ ‫فسجدت لغير ال ‪ ،‬وركعت له ‪ ،‬وقامت بين يديه قيامَ الصلة ‪ ،‬وحلفت بغيره ‪ ،‬ونذرَ ْ‬
‫ق ‪ ،‬بل‬ ‫عظّمته بالحب ‪ ،‬والخوف ‪ ،‬والرجاء ‪ ،‬والطاعة ‪ ،‬كما ُيعَظّم الخال ُ‬ ‫وذبحت لغيره ‪ ،‬وطافت لِغير بيته ‪ ،‬و َ‬
‫ب العالمين ‪ ،‬وهؤلء هم المضادون لدعوة الرّسُل ‪ ،‬وهم الذين بربهم‬ ‫ت مَن تعبُده من المخلوقين بر ّ‬ ‫أشد ‪ ،‬وسوّ ْ‬
‫سوّيكُم بِ َربّ‬
‫ل إن ُكنّا لَفِى ضَلَلٍ ُمبِينٍ إذْ نُ َ‬ ‫يَعدِلون ‪ ،‬وهم الذين يقولون وهم فى النار مع آلهتهم يختصمون ‪{ :‬تَا ِ‬
‫ل‪،‬‬‫حبّو َنهُ ْم كَحُبّ ا ِ‬
‫خذُ مِنْ دُونِ الِ َأنْدَاداً يُ ِ‬ ‫س مَن َيتّ ِ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ}[الشعراء ‪ ، ]98 :‬وهم الذين قال ال فيهم ‪َ {:‬ومِنَ النّا ِ‬
‫ك به ‪ .‬فهذا فصل معترض‬ ‫ن يُشْ َر َ‬
‫حبّا لِ}[البقرة ‪]165 :‬وهذا كُلّه مِن الشّرك ‪ ،‬وال ل يغفر أَ ْ‬ ‫شدّ ُ‬
‫وَاّلذِينَ آ َمنُوا أَ َ‬
‫صدَ الكلم فيه ‪ ..‬وال الموفق ‪.‬‬ ‫فى َهدْيه فى حلق الرأس ‪ ،‬ولعله أه ّم مما ُق ِ‬

‫فصول‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى العلج بالدوية الروحانية اللهية المفردة ‪ ،‬والمركّبة منها ‪ ،‬ومن الدوية‬
‫الطبيعية‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج المصاب بالعَيْنِ‬

‫ق ولو كان‬
‫روى مسلم فى ((صحيحه)) عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬ال َعيْنُ حَ ٌ‬
‫سبَقتْ ُه ال َعيْنُ)) ‪.‬‬
‫ق ال َقدَرِ ‪ ،‬لَ َ‬
‫ىءٌ سَابَ َ‬
‫شَ ْ‬

‫حمَةِ‪ ،‬وال َعيْنِ‬


‫وفى ((صحيحه)) أيضًا عن أنس ‪(( :‬أنّ النبى صلى ال عليه وسلم رخّصَ فى الرّقية مِن ال ُ‬
‫والنّملةِ))‬

‫حقٌ)) ‪.‬‬
‫وفى ((الصحيحين)) من حديث أبى هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬ال َعيْنُ َ‬

‫ن‪.‬‬
‫وفى ((سنن أبى داود)) عن عائشة رضى ال عنها ‪ ،‬قالت ‪ :‬كان يُؤمَرُ العائِنُ فيتوضّأ ‪ ،‬ثم َي ْغتَسِلُ منه ال َمعِي ُ‬

‫ى من ال َعيْن ‪.‬‬
‫ستَ ْرقِ َ‬
‫وفى ((الصحيحين)) عن عائشة قالت ‪ :‬أمرنى النبىّ صلى ال عليه وسلم أو َأمَرَ أن نَ ْ‬

‫عيَين َة ‪ ،‬عن عمرو بن دينار ‪ ،‬عن عروة بن عامر ‪ ،‬عن عُبيد بن رفاعة‬ ‫وذكر الترمذى ‪ ،‬من حديث سفيان بن ُ‬
‫ع َميْس قالت ‪ :‬يا رسولَ ال ؛ إنّ َبنِى جعفر تُصيبُهم العَينُ ‪ ،‬أفأست ْرقِى لهم ؟ فقال ‪:‬‬
‫ى ‪ ،‬أنّ أسماء بنت ُ‬ ‫الزّرَق ّ‬
‫سبَ َقتْهُ ال َعيْنُ)) قال الترمذى ‪ :‬حديث حسن صحيح ‪.‬‬ ‫سبِقُ القضاءَ ل َ‬
‫شىْ ٌء يَ ْ‬
‫((نعم فَلَوْ كان َ‬

‫سهْلَ‬
‫وروى مالك رحمه ال ‪ ،‬عن ابن شهابٍ ‪ ،‬عن أبى أُمامةَ بن سهل بن حنيفٍ ‪ ،‬قال ‪ :‬رأى عامرُ بن ربيعة َ‬
‫سهْلٌ ‪ ،‬فأتى رسولُ ال صلى ال‬ ‫خبّأة ‪ ،‬قال ‪ :‬فُلبِطَ َ‬ ‫ت كاليوم ول جِ ْل َد مُ َ‬ ‫ل ‪ ،‬فقال ‪ :‬والِ ما رأي ُ‬ ‫حنَيف يغتسِ ُ‬
‫بن ُ‬
‫ل له)) ‪ ،‬فغسل له عامرٌ‬‫غتَسِ ْ‬
‫ت؟اْ‬
‫ظ عليه ‪ ،‬وقال ‪(( :‬عَل َم يَ ْقتُلُ أح ُدكُم أخا ُه ؟ ألَ بَ ّركْ َ‬‫عليه وسلم عامراً ‪ ،‬فتَ َغيّ َ‬
‫ح مع الناس ‪.‬‬
‫ب عليه ‪ ،‬فرا َ‬ ‫وجهَه ويديه ومِرفَ َقيْه ورُكبتيه ‪ ،‬وأطرافَ رِجليه ‪ ،‬وداخِلَة إزاره فى قدح ‪ ،‬ثم ص ّ‬
‫وروى مالك رحمه ال أيضًا عن محمد بن أبى أُمامة بن سهل ‪ ،‬عن أبيه هذا الحديث ‪ ،‬وقال فيه ‪(( :‬إنّ العيْنَ‬
‫ق ‪ ،‬توضّ ْأ لهُ)) ‪ ،‬فتوضّأ له ‪.‬‬
‫حٌ‬

‫ق ال َقدَرَ‬
‫ق ‪ ،‬ولو كان شىءٌ سَابَ َ‬
‫وذكر عبد الرزّاق ‪ ،‬عن َم ْعمَرٍ ‪ ،‬عن ابن طاووس ‪ ،‬عن أبيه مرفوعًا ‪(( :‬ال َعيْنُ حَ ٌ‬
‫ح‪.‬‬ ‫س ُتغْسِلَ أحدُك ْم ‪ ،‬فَ ْل َي ْغتَسِلْ)) ‪ ،‬ووصْله صحي ٌ‬
‫سبَ َقتْهُ ال َعيْنُ ‪ ،‬وإذا ا ْ‬
‫‪َ ،‬ل َ‬

‫قال الزّهْرى ‪ :‬يُ ْؤمَر الرجل العائن بقدح ‪ ،‬فيُدخِلُ كفّه فيه ‪ ،‬فيتمضمض ‪ ،‬ثم َيمُجّه فى القدح ‪ ،‬ويغسِلُ وجهه فى‬
‫ب على رُكبته اليُمنى فى ال َقدَح ‪ ،‬ثم يُدخِ ُل يده اليُمنى ‪ ،‬فيصُبّ على رُكبته‬
‫القدح ‪ ،‬ثم يُدخِل يده اليُسرى ‪ ،‬فيصُ ّ‬
‫خلَة إزارِ ِه ‪ ،‬ول يُوضع ال َقدَحُ فى الرض ‪ ،‬ثم يُصَبّ على رأس الرجل الذى تُصيبه العينُ‬ ‫اليُسرى ‪ ،‬ثم َيغْسِلُ دا ِ‬
‫من خلفه صبةً واحد ًة ‪.‬‬

‫جنّية ‪ .‬فقد صح عن ُأمّ سلمةَ ‪ ،‬أنّ النبىّ صلى ال عليه وسلم رأى فى بيتها‬ ‫عيْنٌ ِ‬
‫عيْنٌ إنسية ‪ ،‬و َ‬ ‫عيْنان ‪َ :‬‬
‫وال َعيْن َ‬
‫ستَْرقُوا لها ‪ ،‬فإنّ بها النّظرَة)) ‪.‬‬
‫جاريةً فى وجهها سَ ْفعَ ٌة ‪ ،‬فقال ‪(( :‬ا ْ‬

‫س ْفعَة)) أى ‪ :‬نظرة ‪ ،‬يعنى من الجن‪ ،‬يقول ‪ :‬بها عينٌ أصابْتها من نظَرِ‬


‫قال الحسين بن مسعود الفرّاء ‪ :‬وقوله (( َ‬
‫الجن أنف ُذ من أسّـنَة الرِماح ‪.‬‬

‫ل ال ِقدْرَ)) ‪.‬‬
‫جمَ َ‬
‫جلَ ال َقبْ َر ‪ ،‬وال َ‬
‫خلُ الر ُ‬
‫ن لتُدْ ِ‬
‫ويُذكر عن جابر يرفعه ‪(( :‬إنّ ال َعيْ َ‬

‫عيْن النسان ‪.‬‬


‫وعن أبى سعيد ‪ ،‬أنّ النبىّ صلى ال عليه وسلم كان يتعوّذ من الجان ‪ ،‬ومن َ‬

‫ل نصيبُهم مِن السمع والعقل أمْ َر ال َعيْن ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنما ذلك أوها ٌم ل حقيق َة لها ‪ ،‬وهؤلء مِن‬ ‫فأبطلت طائف ٌة ممن ق ّ‬
‫س‪،‬‬
‫أجهل الناس بالسّم ِع والعقل ‪ ،‬ومِن أغلظهم حِجابًا ‪ ،‬وأكثفِهم طِباعًا ‪ ،‬وأبعدِهم معرف ًة عن الرواح والنفو ِ‬
‫وصفاتها وأفعالِها وتأثيراتها ‪ ،‬وعقلءُ الُمم على اختلفِ مِللهم ونِحلهم ل تدفَعُ أمر ال َعيْن ‪ ،‬ول تُنكره ‪ ،‬وإن‬
‫اختلفوا فى سببه وجهة تأثير ال َعيْن ‪.‬‬

‫سمّيةٌ تتصل بال َمعِين ‪ ،‬فيتضرر ‪.‬‬


‫فقالت طائفة ‪ :‬إنّ العائن إذا تكيّفت نفسُه بالكيفية الرديئة ‪ ،‬انبعث مِن عينه ُقوّةٌ ُ‬
‫سمّية من الفعى تتصل بالنسان ‪ ،‬فيهلكِ ‪ ،‬وهذا أمر قد‬ ‫قالوا ‪ :‬ول يُستنكر هذا ‪ ،‬كما ل يُستنكر انبعاثُ قوة ُ‬
‫ن‪.‬‬‫اش ُتهِ َر عن نوع من الفاعى أنها إذا وقع بصرُها على النسان هلك ‪ ،‬فكذلك العائ ُ‬

‫ض الناس جواهِ ُر لطيفة غي ُر مرئية ‪ ،‬فتتصل بال َمعِين ‪،‬‬


‫عيْن بع ِ‬
‫ث من َ‬‫وقالت فِرقة أُخرى ‪ :‬ل يُستبعد أن ينبعِ َ‬
‫وتتخلل مسامَ جسمه ‪ ،‬فيحصل له الضررُ ‪.‬‬

‫عيْنِ العائن لمن َيعِينه مِن غير أن‬


‫وقالت فِرقة أُخرى ‪ :‬قد أجرى ال العادةَ بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة َ‬
‫ل ‪ ،‬وهذا مذهبُ منكرى السباب والقُوَى والتأثيرات فى العالَم ‪ ،‬وهؤلء‬ ‫ب ول تأثيرٌ أص ً‬‫يكون منه قو ٌة ول سب ٌ‬
‫ب العِلل والتأثيرات والسباب ‪ ،‬وخالفوا العقلء أجمعين ‪.‬‬
‫قد سدّوا على أنفسهم با َ‬

‫ص وكيفياتٍ‬ ‫ل سبحانه خلق فى الجسام والرواح قُوَى وطبائع مختلفة ‪ ،‬وجعل فى كثير منها خوا ّ‬ ‫ول ريب أنّ ا َ‬
‫مؤثرة ‪ ،‬ول يمكن لعاقل إنكا ُر تأثير الرواح فى الجسام ‪ ،‬فإنه أمر مُشا َهدٌ محسوس ‪ ،‬وأنت ترى الوج َه كيف‬
‫شمُه ويَستحى منه ‪ ،‬ويصفرّ صُفرة شديدة عند نظر مَن يخافُه إليه ‪ ،‬وقد‬ ‫يحمَرّ حُمر ًة شديدة إذا نظر إليه مَن يحت ِ‬
‫شاهد الناسُ مَن يَسقَم من النظر وتضعُف قواه ‪ ،‬وهذا كُلّه بواسطة تأثير الرواح ‪ ،‬ولشدة ارتباطها بال َعيْن يُنسب‬
‫الفعل إليها ‪ ،‬وليست هى الفاعلة ‪ ،‬وإنما التأثيرُ للرّوح ‪ .‬والرواحُ مختلفة فى طبائعها وقواها وكيفياتها‬
‫ل سبحانه رسولَه أن يستعيذَ به من شره ‪.‬‬ ‫ح الحاسد مؤذية للمحسود أذىً بيّناً ‪ .‬ولهذا أمر ا ُ‬ ‫وخواصها ‪ ،‬فرو ُ‬
‫وتأثيرُ الحاسد فى أذى المحسود أم ٌر ل يُنكره إل مَن هو خارج عن حقيق ِة النسانية ‪ ،‬وهو أصل الصابة بال َعيْن‬
‫ف بكيفية خبيثة ‪ ،‬و ُتقَابِلُ المحسود ‪ ،‬فتؤثّ ُر فيه بتلك الخاصّية ‪ ،‬وأشبهُ الشياء‬ ‫‪ ،‬فإنّ النفس الخبيثة الحاسدة تتكيّ ُ‬
‫ت بكيفية خبَيثةٍ‬ ‫ت عدوّها ‪ ،‬انبعثت منها قوة غضبية ‪ ،‬وتكيّف ْ‬ ‫بهذا الفعى ‪ ،‬فإن السّمّ كامِنٌ فيها بالقوة ‪ ،‬فإذا قابل ْ‬
‫مؤذية ‪ ،‬فمنها ما تشتدّ كيفيتُها وتقوى حتى تؤثر فى إسقاط الجنين ‪ ،‬ومنها ما تؤثر فى طمس البصر ‪ ،‬كما قال‬
‫حبَلَ)) ‪.‬‬ ‫ل ْبتَر ‪ ،‬وذى الطّ ْف َيتَيْن مِنَ الحيّات ‪(( :‬إنّهمَا يَل َتمِسَان ال َبصَ َر ‪ ،‬ويُسقطان ال َ‬
‫النبىّ صلى ال عليه وسلم فى ا َ‬
‫ث تلك النفس ‪ ،‬وكيفيتها الخبيثة‬ ‫خبْ ِ‬‫ومنها ‪ :‬ما تُؤثر فى النسان كيفيتُها بمجرد الرؤية من غير اتصال به ‪ ،‬لشدة ُ‬
‫ل علمُه ومعرفته بالطبيعة والشريعة ‪،‬‬ ‫المؤثرة ‪ ،‬والتأثيرُ غيرُ موقوف على التصالت الجسمية ‪ ،‬كما يظنّه مَن ق ّ‬
‫بل التأثيرُ يكون تارةً بالتصال ‪ ،‬وتارةً بالمقابلة ‪ ،‬وتارةً بالرؤية ‪ ،‬وتار ًة بتوجه الرّوح نح َو مَن يُؤثر فيه ‪ ،‬وتارةً‬
‫بالدعية وال ّرقَى والتعوّذات ‪ ،‬وتارةً بالوهم والتخيّل ‪ ،‬ونفسُ العائن ل يتوقفُ تأثيرُها على الرؤية ‪ ،‬بل قد يكون‬
‫أعمى ‪ ،‬فيُوصف له الشىء ‪ ،‬فتؤثّرُ نفسه فيه ‪ ،‬وإن لم يره ‪ ،‬وكثي ٌر من العائنين يُؤثر فى ال َمعِين بالوصف من‬
‫س ِمعُو ْا ال ّذكْرَ} [القلم ‪]51 :‬وقال‬ ‫غير رؤية ‪ ،‬وقد قال تعالى لنبيه‪{:‬وَإن َيكَادُ اّلذِينَ كَ َفرُو ْا َليُزِْلقُو َنكَ بَِأبْصَارِهِ ْم َلمّا َ‬
‫ت فِى ا ْلعُ َقدِ * َومِن شَرّ‬
‫شرّ النّفّاثَا ِ‬‫ق إذَا َو َقبَ * َومِن َ‬ ‫ق * مِن شَ ّر مَا خَلَقَ * َومِن شَ ّر غَاسِ ٍ‬ ‫‪ { :‬قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ا ْلفَلَ ِ‬
‫س َد } فكلّ عائنٌ حاس ٌد ‪ ،‬وليس كلّ حاسد عائناً‬ ‫سدٍ إذَا حَ َ‬‫حَا ِ‬

‫فلمّا كان الحاسد أعمّ من العائن ‪ ،‬كانت الستعاذ ُة منه استعاذةً من العائن ‪ ،‬وهى سهام تخرج من نفس الحاسد‬
‫والعائن نحوَ المحسود وال َمعِين تُصيبُه تارةً وتُخطئه تارة ‪ ،‬فإن صادفْته مكشوفًا ل وِقاية عليه ‪ ،‬أثّرتْ فيه ‪ ،‬ول‬
‫حذِراً شاكىَ السّلح ل منفذَ فيهِ للسهام ‪ ،‬لم تُؤثر فيه ‪ ،‬وربما ُردّتْ السهامُ على صاحبها ‪،‬‬ ‫بُ ّد ‪ ،‬وإن صادفته َ‬
‫حسّىّ سواء ‪ ،‬فهذا مِن النفوس والرواح ‪ ،‬وذاك مِن الجسام والشباح ‪ .‬وأصلُه مِن إعجاب‬ ‫وهذا بمثابة الرمى ال ِ‬
‫سمّها بنظرة إلى ال َمعِين ‪ ،‬وقد َيعِينُ الرجلُ‬
‫العائن بالشىء ‪ ،‬ثم تتبعه كيفيةُ نفسِه الخبيثة ‪ ،‬ثم تستعينُ على تنفيذ ُ‬
‫ن من النوع النسانى ‪ ،‬وقد قال أصحابُنا وغيرُهم‬ ‫نفسَه ‪ ،‬وقد يَعينُ بغير إرادته ‪ ،‬بل بطبعه ‪ ،‬وهذا أردأ ما يكو ُ‬
‫ق عليه إلى الموت ‪ ،‬وهذا هو الصوابُ قطعاً ‪.‬‬ ‫ن مَن عُ ِرفَ بذلك ‪ ،‬حبَسه الما ُم ‪ ،‬وأجرَى له ما يُنفِ ُ‬
‫من الفقهاء ‪ :‬إ ّ‬

‫فصل‬

‫فى أنواع المقصود بالعلج النبوى لهذه العِلّة‬

‫حنَيفٍ ‪ ،‬قال‬‫ع ‪ ،‬وقد روى أبو داود فى ((سننه)) عن سهل بن ُ‬ ‫ى لهذه العِلّة ‪ ،‬وهو أنوا ٌ‬‫والمقصودُ ‪ :‬العلجُ النبو ّ‬
‫ى ذلك إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬ ‫ل ‪ ،‬فدخلتُ ‪ ،‬فاغتسلتُ فيه ‪ ،‬فخرجتُ محموماً ‪ ،‬فنُمِ َ‬ ‫‪ :‬مررْنا بَسيْ ٍ‬
‫س ‪ ،‬أو‬‫ت ‪ :‬يا سيدى ؛ وال ّرقَى صالحة ؟ فقال ‪(( :‬ل رُقيةَ إل فى نَفْ ٍ‬
‫ت َيتَعَ ّوذُ)) ‪ .‬قال ‪ :‬فقل ُ‬
‫فقال ‪(( :‬مُرُوا أبا ثاب ٍ‬
‫حمَ ٍة ‪ ،‬أو َلدْغَةٍ)) ‪.‬‬
‫ُ‬

‫عيْن ‪ .‬والنافِس ‪ :‬العائن ‪ .‬والّلدْغة بدال مهملة وغين معجمة‬


‫والنّفْس ‪ :‬ال َعيْن ‪ ،‬يقال ‪ :‬أصابت فلنًا نفسٌ ‪ ،‬أى ‪َ :‬‬
‫وهى ضربةُ العقرب ونحوها ‪.‬‬

‫ب ‪ ،‬وآيةِ الكُرسى ‪ ،‬ومنها التعوذاتُ النبوية ‪.‬‬


‫فمن التعوّذاتِ وال ّرقَى الكثارُ من قراءة المعوّذتين ‪ ،‬وفاتحةِ الكتا ِ‬

‫ت مِن شرّ ما خَلق)) ‪.‬‬


‫نحو ‪(( :‬أعوذُ بكلماتِ الِ التامّا ِ‬

‫عيْنٍ لمّةٍ)) ‪.‬‬


‫ل َ‬
‫ن وهامّةٍ ‪ ،‬ومِن كُ ّ‬
‫ونحو ‪(( :‬أعو ُذ بكلماتِ الِ التامّةِ ‪ ،‬مِن كُلّ شيطا ٍ‬

‫ونحو ‪(( :‬أعو ُذ بكلماتِ الِ التّامّاتِ التى ل يُجَا ِوزُهُنّ بَ ٌر ول فاجرٌ ‪ ،‬مِن شَرّ ما خلق وذرَأ وبرَأ ‪ ،‬ومِن شَرّ ما‬
‫ش ّر‬
‫شرّ ما يخرُج مِنها ‪ ،‬ومِن َ‬‫شرّ ما ذرأ فى الرض ‪ ،‬ومِن َ‬ ‫ج فيها ‪ ،‬ومِن َ‬ ‫ينزلُ من السماء ‪ ،‬ومِن شَ ّر ما يَعرُ ُ‬
‫ل ‪ ،‬إل طارقًا يَطرُق بخير يا رحمن)) ‪.‬‬ ‫ل والنهار ‪ ،‬ومِن شَرّ طَوَارق اللي ِ‬ ‫ِفتَنِ اللي ِ‬

‫ومنها ‪(( :‬أَعُوذُ بكلماتِ الِ التامّ ِة مِن غضبه وعِقَابه ‪ ،‬ومِن شرّ عباده ‪ ،‬ومِن َهمَزات الشياطينِ وأن‬
‫يَحضُرونِ)) ‪.‬‬

‫ت تكشِفُ‬
‫خذٌ بناصيته ‪ ،‬الّلهُمّ أن َ‬
‫ت من شرّ ما أنت آ ِ‬
‫ج ِهكَ الكريم ‪ ،‬وكلماتِك التامّا ِ‬
‫ومنها ‪(( :‬الّلهُ ّم إنى أعوذُ بو ْ‬
‫ج ْن ُدكَ ‪ ،‬ول يُخَلفُ وعدُك ‪ ،‬سبحانَك وبحمدِك)) ‪.‬‬
‫المأثَ َم وال َمغْرَمَ ‪ ،‬الّل ُهمّ إنه ل ُيهْزَمُ ُ‬

‫ومنها ‪(( :‬أَعُوذُ بوجه الِ العظي ِم الذى ل شى َء أعظ ُم منه ‪ ،‬وبكلماتِه التامّات التى ل يُجاوزُِهن بَ ٌر ول فاجرٌ ‪،‬‬
‫شرّ كُلّ ذى ش ّر ل أُطيق‬‫ت منها وما لم أعلم ‪ ،‬مِن شَرّ ما خلق وذرَأ وبرأ ‪ ،‬ومن َ‬ ‫سنَى ‪ ،‬ما علم ُ‬‫حْ‬ ‫وأسماءِ ال ال ُ‬
‫ن ربّى على صِراط مستقيم))‪.‬‬ ‫خذٌ بناصيته ‪ ،‬إ ّ‬
‫تآِ‬
‫ل ذى شَرّ أن َ‬
‫شرّ كُ ّ‬‫شرّه ‪ ،‬ومِن َ‬
‫ل كان ‪ ،‬وما لم‬ ‫ش العظيم ‪ ،‬ما شاء ا ُ‬ ‫ت ‪ ،‬عليك توكلتُ ‪ ،‬وأنتَ ربّ العر ِ‬ ‫ومنها ‪(( :‬الّلهُمّ أنت ربّى ل إله إل أن َ‬
‫ن ال قد أحاط بكل شىء علماً ‪،‬‬ ‫ل على كُلّ شىء قدي ٌر ‪ ،‬وأ ّ‬‫حوْلَ ول قُوّة إل بال ‪ ،‬أعلم أنّ ا َ‬ ‫يش ْأ لم يكن ‪ ،‬ل َ‬
‫ل دابةٍ أنتَ‬
‫شرّ نفسى ‪ ،‬وشَرّ الشيطانِ وشِرْكه ‪ ،‬ومِن شَ ّر كُ ّ‬‫ك مِن َ‬ ‫وأحصَى كُلّ شى ٍء عدداً ‪ ،‬الّلهُ ّم إنى أعوذُ ِب َ‬
‫ن ربّى على صِراط مستقيم)) ‪.‬‬ ‫آخذٌ بناصيتها ‪ ،‬إ ّ‬

‫ل شىء ‪،‬‬‫ت بربى وربّ كُ ّ‬ ‫وإن شاء قال ‪(( :‬تحصّنتُ بالِ الّذى ل إله إل ُهوَ ‪ ،‬إلهى وإله كُلّ شىء ‪ ،‬واعتصم ُ‬
‫ل ‪ ،‬حسبىَ‬ ‫حوْلَ ول قُوّ َة إل بال ‪ ،‬حسبىَ الُ و ِنعْ َم الوكي ُ‬
‫ت ‪ ،‬واستَ ْدفَعتُ الشرّ بل َ‬
‫ى الذى ل يمو ُ‬
‫وتوكلتُ على الح ّ‬
‫ى الذى هو حسبى ‪ ،‬حسبىَ‬ ‫ق مِنَ المرزوق ‪ ،‬حسب َ‬ ‫ى الخَالِقُ من المخلوق ‪ ،‬حسبىَ الراز ُ‬ ‫الربّ مِن العباد ‪ ،‬حسب َ‬
‫سمِعَ ال لمنْ دعا ‪ ،‬ليس وراء الِ‬ ‫الذى بيده ملكوتُ كُلّ شى ٍء ‪ ،‬وهو يُجي ُر ول يُجَا ُر عليه ‪ ،‬حسبىَ ال و َكفَى ‪َ ،‬‬
‫ب العرشِ العظيم)) ‪.‬‬ ‫ت ‪ ،‬وهُوَ ر ّ‬‫مرمَى ‪ ،‬حسبىَ ال ل إله إل ُهوَ ‪ ،‬عليه توكل ُ‬

‫شدّةَ الحاجةِ إليها ‪ ،‬وهى تمنعُ وصول أثر العائن ‪،‬‬


‫ف مِقدار منفعتها ‪ ،‬و ِ‬
‫ومَن جرّب هذه الدعوات والعُ َوذَ ‪ ،‬عَرَ َ‬
‫ت قلبه ‪ ،‬فإنها سلح ‪،‬‬
‫وتدفعُه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها ‪ ،‬وقوةِ نفسه ‪ ،‬واستعداده ‪ ،‬وقوةِ توكله وثبا ِ‬
‫والسلحُ بضاربه ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى ما يُدفع به إصابة العَيْن‬

‫ك عليه ‪ ،‬كما قال النبى‬ ‫وإذا كان العائنُ يخشى ضررَ عينه وإصابتهَا للمَعين ‪ ،‬فليدفع شرّها بقوله ‪ :‬الّلهُ ّم بَا ِر ْ‬
‫ت ‪ :‬الّل ُهمّ با ِركْ عليه ‪.‬‬
‫ت )) أى ‪ :‬قل َ‬ ‫صلى ال عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حُنيف‪(( :‬أل ب ّركْ َ‬

‫ومما يُدفع به إصابةَ ال َعيْن قولُ ‪(( :‬ما شاء ال ل قُوّة إل بال)) ‪ ،‬روى هشام ابن عروة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬أنه كان إذا‬
‫جبُه ‪ ،‬أو دخل حائطًا مِن حِيطانه‪ ،‬قال ‪(( :‬ما شاء ال ‪ ،‬ل قُوّة إل بال)) ‪.‬‬
‫رأى شيئًا يُع ِ‬

‫ومنها ُرقْـيَةُ جِبريل عليه السّل ُم للنبىّ صلى ال عليه وسلم التى رواها مسلم فى ((صحيحه)) ‪(( :‬باسمِ الِ َأ ْرقِيكَ‬
‫ل يَشفِيكَ ‪ ،‬باس ِم الِ أ ْرقِيكَ)) ‪.‬‬
‫عيْنِ حَاسدٍ ا ُ‬
‫س أو َ‬
‫ك ‪ ،‬مِنْ شَ ّر كُلّ نف ٍ‬
‫شىْ ٍء يُؤذي َ‬
‫‪ ،‬مِنْ كُلّ َ‬

‫ت مِن القرآن ‪ ،‬ثم يشربَها ‪ .‬قال مجاهد ‪ :‬ل بأس أن يكتُبَ القرآنَ ‪،‬‬ ‫ورأى جماعة من السّلَف أن تُكتب له اليا ُ‬
‫ض ‪ ،‬ومثلُه عن أبى قِلبَةَ ‪ .‬ويذكر عن ابن عباس ‪ :‬أنه أمر أن ُيكَتبَ لمرأة َتعَسّ َر عليها‬‫ويغسِلَه ‪َ ،‬ويْس ِقيَه المري َ‬
‫وِلدُها أث ٌر من القرآن ‪ ،‬ثم يُغسل وتُسقى ‪ .‬وقال أيوب ‪ :‬رأيتُ أبا قِلبَ َة كتب كتابًا من القرآن ‪ ،‬ثم غسله بماء ‪،‬‬
‫وسقاه رجلً كان به وج ٌع ‪.‬‬

‫فصل‬

‫خلَةِ إزاره‬
‫فى أمر العائن بغسل مَغابنِهِ وأطرافه ودا ِ‬

‫ن بغسل مَغابنِهِ وأطرافه وداخِلَ ِة إزاره ‪ ،‬وفيه قولن ؛ أحدهما ‪ :‬أنه فرجُه ‪ .‬والثانى ‪ :‬أنه‬ ‫ومنها ‪ :‬أن يُؤمر العائِ ُ‬
‫طرفُ إزاره الداخل الذى يلى جسدَه من الجانب اليمن ‪ ،‬ثم يُصَبّ على رأس ال َمعِين مِن خلفه بغتة ‪ ،‬وهذا مما‬
‫ن ذلك‬
‫شكّ فيه ‪ ،‬أو فعله مجرّبًا ل يعتقد أ ّ‬
‫ج الطباء ‪ ،‬ول ينتفِعُ به مَن أنكره ‪ ،‬أو سَخِ َر منه ‪ ،‬أو َ‬ ‫ل ينالُه عِل ُ‬
‫ينفعُه ‪.‬‬

‫وإذا كان فى الطبيعة خواصٌ ل َتعْرِفُ الطبا ُء عِلَلَها ألبتةَ ‪ ،‬بل هى عندهم خارج ٌة عن قياس الطبيعة تفعل‬
‫ن فى المعالجة بهذا الستغسال‬ ‫بالخاصّية ‪ ،‬فما الذى يُنكره زنادقتهم وجهلتُهم من الخواص الشرعية ‪ ،‬هذا مع أ ّ‬
‫ج تأثير النفس‬‫سمّ الحيّة فِى لحمها ‪ ،‬وأنّ عل َ‬
‫ن تِرياق ُ‬
‫ل الصحيحة ‪ ،‬و ُتقِ ّر لمناسبته ‪ ،‬فاعلم أ ّ‬ ‫ما تشه ُد له العقو ُ‬
‫الغضَبية فى تسكين غضبها ‪ ،‬وإطفاء ناره بوضع يَ ِدكَ عليه ‪ ،‬والمسح عليه ‪ ،‬وتسكينِ غضبه ‪ ،‬وذلك بمنزلة‬
‫ت ‪ ،‬ولذلك ُأمِرَ‬
‫ت عليها الماء ‪ ،‬وهى فى يده حتى طُفئ ْ‬ ‫رجل معه شُعلة من نار ‪ ،‬وقد أراد أن يَق ِذفَك بها ‪ ،‬فصبِبِ َ‬
‫ن إلى ال َمعِين ‪ ،‬فإنّ دواء‬
‫ن أن يقول ‪(( :‬الّل ُهمّ با ِركْ عََليْه)) ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء الذى هو إحسا ٌ‬ ‫العائِ ُ‬
‫ضدّه ‪ .‬ولما كانت هذه الكيفيةُ الخبيثة تظهر فى المواضِع الرقيقة من الجسد ‪ ،‬لنها تطلب النفوذَ ‪ ،‬فل‬ ‫الشىء ب ِ‬
‫سيّما إن كان كنايةً عن ال َفرْج ‪ ،‬فإذا غُسَِلتْ بالماء ‪ ،‬بطل تأثيرها‬
‫تجد أرقّ مِن المغابن ‪ ،‬وداخِلَةِ الزار ‪ ،‬ول ِ‬
‫وعملها ‪ ،‬وأيضًا فهذه المواضع للرواح الشيطانية بها اختصاص ‪.‬‬

‫سمّية ‪.‬‬
‫ب بتلك ال ّ‬
‫والمقصود ‪ :‬أنّ غسلها بالماء يُطفىء تلك النارية ‪ ،‬ويَذه ُ‬

‫ق المواضع وأسرعها تنفيذاً ‪ ،‬فيُطفىء تلك النارية‬ ‫وفيه أمر آخر ‪ ،‬وهو وُصول أثرِ الغسل إلى القلب من أر ّ‬
‫خفّ أث ُر اللسعة عن‬ ‫سمّية بالماء ‪ ،‬فيشفى ال َمعِين ‪ ،‬وهذا كما أنّ ذواتِ السموم إذا ُقتِلت بعد لَسعها ‪َ ،‬‬
‫وال ّ‬
‫ف اللم ‪ ،‬وهذا‬‫الملسوع ‪ ،‬ووَجد راحة ‪ ،‬فإن أنفسَها تمدّ أذاها بعد لَسعها ‪ ،‬وتُوصِله إلى الملسوع ‪ .‬فإذا ُقتَِلتْ ‪ ،‬خَ ّ‬
‫مُشَاهَد ‪ .‬وإن كان من أسبابه فرحُ المَلسوع ‪ ،‬واشتفاءُ نفسه بقتل عدوّه ‪ ،‬فتقوى الطبيعة على اللم ‪ ،‬فتدفعه ‪.‬‬

‫ف نفسه بتلك الكيفية ‪.‬‬


‫وبالجملة ‪ ..‬غسل العائن يُذهِبُ تلك الكيفية التى ظهرت منه ‪ ،‬وإنما ينفع غسلُه عند تكيّ ِ‬

‫ب ذلك الماء على ال َمعِين ؟‬


‫فإن قيل ‪ :‬فقد ظهرت مناسبةُ الغسل ‪ ،‬فما مناسبةُ ص ّ‬

‫قيل ‪ :‬هو فى غاية المناسبة ‪ ،‬فإنّ ذلك الماء ماء طُفىء به تلك النارية ‪ ،‬وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل ‪،‬‬
‫فكما طُفئت به النارية القائمة بالفاعِل طُفئت به ‪ ،‬وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملبسته للمؤثر العائِن ‪ ،‬والماءُ‬
‫عدّة طبيعية ذكرها الطباء ‪ ،‬فهذا الذى طُفىء به نارية العائِن ‪ ،‬ل يُستنكر‬
‫الذى يُطفأ به الحدي ُد يدخُل فى أدوية ِ‬
‫أن يدخل فى دواء يُناسب هذا الداء ‪.‬‬

‫وبالجملة ‪ ..‬فطب الطبائعية وعلجُهم بالنسبة إلى العلج النبوىّ ‪ ،‬كطب الطّرقية بالنسبة إلى طبهم ‪ ،‬بل أقل ‪،‬‬
‫ت الذى بينهم وبين النبياء أعظ ُم ‪ ،‬وأعظ ُم من التفاوت الذى بينهم وبين الطّرقية بما ل يُد ِركُ النسان‬
‫ن التفاو َ‬
‫فإ ّ‬
‫مقداره ‪ ،‬فقد ظهر لك عقدُ الخاء الذى بين الحِكمة والشرع ‪ ،‬وعدمُ مناقضة أحدهما للخر ‪ ،‬والُ يهدى مَن‬
‫حجّة البالغة ‪.‬‬
‫يشاء إلى الصواب ‪ ،‬ويفتحُ لمن أدام قرعَ باب التوفيق منه كُلّ باب ‪ ،‬وله النعمة السابغة ‪ ،‬وال ُ‬

‫فصل‬

‫فى ستر محاسن مَن يُخاف عليه العَيْن بما يردها عنه‬

‫ومن علج ذلك أيضاً والحتراز منه سترُ محاسن مَن يُخاف عليه ال َعيْن بما يردّها عنه ‪ ،‬كما ذكر البغوىّ فى‬
‫سمُوا نُو َنتَه ‪ ،‬لئل تُصيبه ال َعيْن ‪،‬‬
‫ن عثمان رضى ال عنه رأى صبياً مليحًا ‪ ،‬فقال ‪ :‬دَ ّ‬
‫كتاب ((شرح السّـنّة)) ‪ :‬أ ّ‬
‫سمُوا نونته)) أى ‪ :‬سَ ّودُوا نونته ‪ ،‬والنونة ‪ :‬النّقرة التى تكون فى ذقن الصبىّ‬ ‫ثم قال فى تفسيره ‪ :‬ومعنى ((د ّ‬
‫الصغير ‪.‬‬

‫وقال الخطّابى فى ((غريب الحديث)) له عن عثمان ‪ :‬إنه رأى صبياً تأخذه ال َعيْن ‪ ،‬فقال ‪ :‬دسّموا نونته ‪ .‬فقال‬
‫أبو عمرو ‪ :‬سألت أحمد بن يحيى عنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬أراد بالنونة ‪ :‬النّقرة التى فى ذقنه ‪ .‬والتدسيمُ ‪ :‬التسويد ‪ .‬أراد ‪:‬‬
‫سَ ّودُوا ذلك الموضع من ذقنه ‪ ،‬ليرد ال َعيْن ‪ .‬قال ومن هذا حديثُ عائش َة ان رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫خطب ذاتَ يومٍ ‪ ،‬وعلى رأسهِ عِمامةٌ دَسْماء أى ‪ :‬سوداء أراد الستشهاد على اللّفظة ‪ ،‬ومن هذا أخذ الشاعرُ‬
‫قَوله ‪:‬‬

‫ب يُ َوقّيـهِ مِـنَ ا ْل َعيْنِ‬


‫مَا كَانَ أَحْ َوجَ ذَا ا ْل َكمَالِ إلَى عَي ٍ‬

‫فصل‬

‫فى ال ّرقَى التى ترد ال َعيْن‬

‫ومن ال ّرقَى التى تردّ ال َعيْن ما ذُكر عن أبى عبد ال السّاجى ‪ ،‬أنه كان فى بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة‬
‫فارِهَةٍ ‪ ،‬وكان فى الرفقة رجل عائن ‪ ،‬قلّما نظر إلى شىء إل أتلفه ‪ ،‬قيل لبى عبد ال ‪ :‬احفَظْ ناقَتكَ مِنَ العائِن ‪،‬‬
‫خبِرَ العائِنُ بقوله ‪ ،‬فتَحيّنَ غَيبة أبى عبد ال ‪ ،‬فجاء إلى رَحْله ‪ ،‬فنَظر إلى‬
‫فقال ‪ :‬ليس له إلى ناقتى سبيل ‪ ،‬فُأ ْ‬
‫خبِرَ أنّ العائِنَ قد عانها ‪ ،‬وهى كما ترى ‪ ،‬فقال ‪ :‬دُلّونى‬
‫الناق َة ‪ ،‬فاضطربتْ وسقطت ‪ ،‬فجاء أبو عبد ال ‪ ،‬فُأ ْ‬
‫ب قا ِبسٌ ‪ ،‬ردّت عين العائن عليه‬ ‫س ‪ ،‬وشِها ٌ‬ ‫حجَ ٌر يابِ ٌ‬
‫حبْسٌ حابسٌ ‪ ،‬و َ‬ ‫ل ‪ ،‬فوقف عليه‪ ،‬وقال ‪ :‬بسمِ الِ ‪َ ،‬‬ ‫عليه ‪ .‬فدُ ّ‬
‫صرُ‬
‫صرَ كَ ّر َتيْنِ َينْقَِلبْ إَل ْيكَ ا ْلبَ َ‬
‫ل تَرَى مِن فُطُو ٍر * ثُمّ ارْجِعِ ا ْلبَ َ‬
‫‪ ،‬وعلى أحبّ الناس إليه ‪{ ،‬فَا ْرجِعِ ا ْلبَصَ َر هَ ْ‬
‫س بها ‪.‬‬ ‫ح َدقَتا العائنِ ‪ ،‬وقامت الناقةُ ل بأ َ‬ ‫حسِيرٌ}[الملك ‪ ]4-3 :‬فخرجتْ َ‬ ‫خَاسِئًا وَهُوَ َ‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى العلج العام لكل شكوى بالرّقية اللهية‬

‫روى أبو داود فى ((سننه)) ‪ :‬من حديث أبى الدرداء ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعتُ رسولَ الِ صلى ال عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫س ُمكَ ‪َ ،‬أمْ ُركَ فى السّماء‬
‫ل ‪َ :‬ربّنا الَ الذى فى السّماء ‪ ،‬تقدّسَ ا ْ‬ ‫خ له فلْيقُ ْ‬
‫((مَن اشتكى منكم شيئاً ‪ ،‬أو اشتكاهُ أ ٌ‬
‫طّيبِين ‪،‬‬
‫ب ال ّ‬
‫ح َمتُك فى السّماءِ ‪ ،‬فاجعل رحمتكَ فى الرض ‪ ،‬واغفر لنا حُ ْو َبنَا وخطايانا أنتَ ر ّ‬ ‫ض كما رَ ْ‬
‫والر ِ‬
‫أنْزِلْ رحم ًة من رحمتك ‪ ،‬وشفا ًء من شفائك على هذا الوَجَع ‪ ،‬ف َيبْرأ بإذْنِ الِ)) ‪.‬‬

‫خدْرِى ‪ ،‬أنّ جبريلَ عليه السلم أتى النبىّ صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬يا‬ ‫وفى ((صحيح مسلم)) عن أبى سعيد ال ُ‬
‫ك ‪ ،‬مِن شَرّ‬
‫ل شى ٍء يُؤذي َ‬
‫ل أَرقيكَ مِن كُ ّ‬
‫ل عليه السلم ‪(( :‬باس ِم ا ِ‬‫ت ؟ فقال ‪(( :‬نعم)) ‪ .‬فقال جبري ُ‬ ‫محمدُ ؛ أشتكيْ َ‬
‫ل أرقيكَ)) ‪.‬‬‫ل يَشفيكَ ‪ ،‬باسمِ ا ِ‬
‫عيْن حاسدٍ ا ُ‬
‫س أو َ‬
‫كُلّ نفْ ٍ‬

‫حمَةُ ‪ :‬ذوات‬
‫حمَةٍ)) ‪ ،‬وال ُ‬
‫عيْنٍ‪ ،‬أو ُ‬
‫فإن قيل ‪ :‬فما تقولون فى الحديث الذى رواه أبو داود ‪(( :‬ل رُقيةَ إل من َ‬
‫السّموم كلها ؟‬

‫فالجواب ‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم لم يُ ِردْ به نفىَ جواز الرّقية فى غيرها ‪ ،‬بل المرادُ به ‪ :‬ل رُقية أولى وأنفعُ‬
‫ن سهل ابن حُنيف قال له لما أصابته ال َعيْن ‪ :‬أوَ فى ال ّرقَى‬
‫حمَة ‪ ،‬ويدل عليه سياقُ الحديث ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫منها فى ال َعيْن وال ُ‬
‫خير ؟ فقال ‪(( :‬ل رُقيةَ إل فى َنفْسٍ‬

‫حمَةٍ)) ويدل عليه سائ ُر أحاديث ال ّرقَى العامة والخاصة ‪ ،‬وقد روى أبو داود من حديث أنس قال ‪ :‬قال رسولُ‬ ‫أو ُ‬
‫حمَةٍ ‪ ،‬أو دَ ٍم يَرْقأُ)) ‪.‬‬
‫عيْنٍ ‪ ،‬أو ُ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬ل ُر ْقيَ َة إل مِن َ‬

‫حمَةِ‬
‫وفى ((صحيح مسلم)) عنه أيضاً ‪((:‬رخّص رسولُ الِ صلى ال عليه وسلم فى الرّقية من ال َعيْن وال ُ‬
‫وال ّنمْلَةِ)) ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى رُ ْقيَة الّلدِيغ بالفاتحة‬

‫@ أخرجا فى ((الصحيحين)) من حديث أبى سعيد الخدرى ‪ ،‬قال ‪(( :‬انْطَلقَ نَ َفرٌ من أصحابِ النبىّ صلى ال‬
‫ضيّفُوهُم ‪ ،‬فُل ِدغَ‬ ‫ستَضَافوهم ‪ ،‬فأبَوْا أن يُ َ‬
‫عليه وسلم فى سفرةٍ سافرُوها حتى نزلوا على حىّ مِن أحياءِ العرب ‪ ،‬فا ْ‬
‫ط الذين نزلوا لعلهم أن‬ ‫سعَوْا له بكُلّ شىء ل َينْ َفعُه شىء ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬لو أتيتُم هؤلءِ الرّه َ‬ ‫ى ‪َ ،‬ف َ‬‫سّيدُ ذلك الح ّ‬‫َ‬
‫سّيدَنا ُلدِغَ ‪ ،‬وسَعينا له بكُلّ شىء ل َينْ َفعُهُ ‪َ ،‬فهَلْ‬ ‫ط ؛ إنّ َ‬
‫يكون عند بعضهم شىء ‪ .‬فأتوهم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا أ ّيهَا الرّه ُ‬
‫ستَضَفْنا ُكمْ ‪ ،‬فلم تَضيّفُونَا ‪ ،‬فما أنا بَرَاقٍ‬
‫ل إنى لَرْقى ‪ ،‬ولكن ا ْ‬ ‫عنْدَ أحدٍ منكم من شىء ؟ فقال بعضُهم ‪ :‬نعم وا ِ‬ ‫ِ‬
‫ح ْمدُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‪،‬‬ ‫ل ‪ ،‬فصالَحُوهم على قطيعٍ من الغنم ‪ ،‬فانطَلقَ َيتْفُل عليه ‪ ،‬ويقرأ ‪{ :‬ال َ‬ ‫جعْ ً‬‫جعَلُوا لنا ُ‬
‫حتى تَ ْ‬
‫جعَْلهُم الذى صالحوهم عليه ‪ ،‬فقال بعضُهم ‪:‬‬ ‫ل ‪ ،‬فانطلق يمشى وما به قََلبَةٌ‪ ،‬قال ‪ :‬فأوفَوْهُم ُ‬ ‫ط من عِقَا ٍ‬ ‫فكأنما أُنشِ َ‬
‫سمُوا ‪ ،‬فقال الذى َرقَى ‪ :‬ل تفعلوا حتى نأتىَ رسولَ الِ صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فنذكُ َر له الذى كان ‪ ،‬فننظُرَ ما‬ ‫اقت ِ‬
‫يأمرُنا ‪َ ،‬ف َقدِمُوا على رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فذكروا له ذلك ‪ ،‬فقال ‪(( :‬وما ُيدْريكَ أنّها ُر ْقيَةٌ)) ؟ ‪ ،‬ثم‬
‫سمُوا واضْرِبوا لى َم َعكُم سهماً)) ‪.‬‬ ‫ص ْبتُم ‪ ،‬اق ِ‬
‫قال ‪(( :‬قد أ َ‬

‫خيْ ُر الدّوَاءِ‬
‫وقد روى ابن ماجه فى ((سننه)) من حديث على قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪َ (( :‬‬
‫القُرآنُ)) ‪.‬‬
‫ب العالمين ‪ ،‬الذى فَضْلُ ُه على كل‬ ‫ن بكلم ر ّ‬ ‫ص ومناف ُع مُجرّبة ‪ ،‬فما الظ ّ‬ ‫ومن المعلوم أنّ بعض الكلم له خوا ّ‬
‫كلمٍ كفضلِ الِ على خلقه الذى هو الشفاءُ التام ‪ ،‬والعِصْمةُ النافعة ‪ ،‬والنورُ الهادى ‪ ،‬والرحمة العامة ‪ ،‬الذى لو‬
‫حمَةٌ‬
‫ن مَا هُوَ شِفَا ٌء َورَ ْ‬
‫ل مِنَ ا ْلقُرْآ ِ‬
‫ص ّدعَ من عظمته وجللته ‪ .‬قال تعالى ‪َ { :‬و ُننَزّ ُ‬ ‫أُنزِلَ على جبل لتَ َ‬
‫ح القولين ‪ ،‬كقوله تعالى ‪{ :‬وَعَدَ‬ ‫لّ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ}[السراء ‪ . ]82 :‬و((مِن)) ههنا لبيان الجنس ل للتبعيض ‪ ،‬هذا أصَ ّ‬
‫ت ِمنْهُم ّمغْفِرَ ًة وََأجْرًَا عَظِيماً}[الفتح ‪ ]29:‬وكُّلهُ ْم مِن الذين آمنوا وعملوا‬ ‫عمِلُواْ الصّالِحَا ِ‬
‫الُ اّلذِينَ آ َمنُواْ وَ َ‬
‫الصالحات ‪ ،‬فما الظنّ بفاتحة الكتاب التى لم يُنزل فى القرآن ‪ ،‬ول فى التوراة ‪ ،‬ول فى النجيل ‪ ،‬ول فى‬
‫الزّبور مِثلُها ‪ ،‬المتضمنة لجميع معانى كتب ال ‪ ،‬المشتملة على ذكر أُصول أسماء الرب تعالى ومجامعها ‪،‬‬
‫وهى ‪ :‬ال ‪ ،‬والرّب ‪ ،‬والرحمن ‪ ،‬وإثبات المعاد‪ ،‬وذك ِر التوحيدين ‪ :‬توحيدِ الربوبية ‪ ،‬وتوحيدِ اللهية ‪ ،‬وذكر‬
‫الفتقار إلى الربّ سُبحانه فى طلبِ العانة وطلب الهداية ‪ ،‬وتخصيصه سبحانه بذلك ‪ ،‬وذكر أفضل الدعاء على‬
‫الطلق وأنفعِهِ وأف َرضِه ‪ ،‬وما العبادُ أحوج شى ٍء إليه ‪ ،‬وهو الهدايةُ إلى صِراطه المستقيم ‪ ،‬المتضمن كمالَ‬
‫معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أم َر به ‪ ،‬واجتنابِ ما َنهَى عنه ‪ ،‬والستقامة عليه إلى الممات ‪ ،‬ويتضمن ِذكْر‬
‫أصنافِ الخلئق وانقسامهم إلى ُمنْعمٍ عليه بمعرفة الحق ‪ ،‬والعمل به ‪ ،‬ومحبته ‪ ،‬وإيثاره ‪ ،‬ومغضوب عليه‬
‫بعدُوله عن الحق بعد معرفته له ‪ ،‬وضال بعدم معرفته له‪ .‬وهؤلء أقسامُ الخليقة مع تضمنها لثبات ال َقدَر ‪،‬‬
‫والشرع ‪ ،‬والسماء ‪ ،‬والصفات ‪ ،‬والمعاد ‪ ،‬والنبوات ‪ ،‬وتزكيةِ النفوس ‪ ،‬وإصلح القلوب ‪ ،‬وذكر عدل ال‬
‫وإحسانه ‪ ،‬وال ّردّ على جميع أهل البدع والباطل ‪ ،‬كما ذكرنا ذلك فى كتابنا الكبير ((مدارج السالكين)) فى‬
‫شرحها ‪ .‬وحقيقٌ بسور ٍة هذا بعضُ شأنها ‪ ،‬أن يُستشفى بها من الدواء ‪ ،‬ويُرقَى بها اللّديغُ ‪.‬‬

‫ض المر كُلّه إليه ‪ ،‬والستعانة‬ ‫ل ‪ ،‬وتفوي ِ‬ ‫وبالجملة ‪ ..‬فما تضمنته الفاتح ُة مِن إخلص العبودية والثناء على ا ِ‬
‫ب ال ّنعَم ‪ ،‬وتدفَعُ النّقَم ‪ ،‬من أعظم الدوية‬
‫به ‪ ،‬والتوكل عليه ‪ ،‬وسؤاله مجامع ال ّنعَم كُلّها ‪ ،‬وهى الهداية التى تجل ُ‬
‫الشافية الكافية ‪.‬‬

‫ب أنّ هاتين الكلمتين من‬


‫س َتعِينُ}[الفاتحة ‪ ، ]4 :‬ول ري َ‬
‫وقد قيل ‪ :‬إنّ موضع ال ّر ْقيَة منها ‪{:‬إيّاكَ َن ْعبُدُ وَإيّاكَ نَ ْ‬
‫أقوى أجزاء هذا الدواء ‪ ،‬فإنّ فيهما من عموم التفويض والتوكل ‪ ،‬واللتجاء والستعانة ‪ ،‬والفتقارِ والطلبِ ‪،‬‬
‫ب وحده ‪ ،‬وأشرف الوسائل وهى الستعانةُ به على عبادته ما ليس‬ ‫والجمع بين أعلى الغايات ‪ ،‬وهى عبادةُ الر ّ‬
‫س ِقمْتُ فيه ‪ ،‬و َف َقدْتُ الطبيبَ والدواء ‪ ،‬فكنت أتعالج بها ‪ ،‬آخذ شربةً من ماء‬ ‫فى غيرها ‪ ،‬ولقد م ّر بى وقت بمكة َ‬
‫زمزم ‪ ،‬وأقرؤها عليها مرارًا ‪ ،‬ثم أشربه ‪ ،‬فوجدتُ بذلك البر َء التام ‪ ،‬ثم صِرتُ أعتمد ذلك عند كثير من‬
‫الوجاع ‪ ،‬فأنتفع بها غايةَ النتفاع ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى أنّ لتأثير الرّقَى بالفاتحة وغيرها سراً بديعاً فى علج ذواتِ السّموم‬

‫ت السموم أثّرت بكيفيات نفوسِها‬ ‫سرٌ بديع ‪ ،‬فإنّ ذوا ِ‬


‫وفى تأثير ال ّرقَى بالفاتحة وغيرها فى علج ذواتِ السّموم ِ‬
‫الخبيثة ‪ ،‬كما تقدّم ‪ ،‬وسِلحها حُماتها التى تل َدغُ بها ‪ ،‬وهى ل تلدغ حتى تغضَب ‪ ،‬فإذا غضبت ‪ ،‬ثار فيها السّ ّم ‪،‬‬
‫ل فى نفس المرقى ‪،‬‬ ‫فتقذفه بآلتها ‪ ،‬وقد جعل الُ سبحانه لكل داءٍ دواءً ‪ ،‬ولكل شىءٍ ضِداً ‪ ،‬ونفس الراقى تفع ُ‬
‫س الراقى وقُوّته بالرّقية على ذلك الداء ‪،‬‬ ‫فيقعُ بين نفسيهما فعلٌ وانفعالٌ ‪ ،‬كما يقع بين الداء والدواء ‪ ،‬فتقوى نف ُ‬
‫فيدفعُه بإذن الِ ‪ ،‬ومدارُ تأثير الدوية والدواء على الفعل والنفعال ‪ ،‬وهو كما يقع بين الداء والدواء‬
‫الطبيعيين ‪ ،‬يقع بين الداء والدواء الروحانيين ‪ ،‬والروحانى ‪ ،‬والطبيعى ‪ ،‬وفى النّفْث والتّفل استعانة بتلك‬
‫الرطوبة والهواء ‪ ،‬والنفس المباشر للرّقية ‪ ،‬وال ِذكْر والدعاء ‪ ،‬فإنّ الرّقية تخرُج مِن قلب الراقى وفمه ‪ ،‬فإذا‬
‫صاحبها شى ٌء من أجزاء باطنه من الرّيق والهواء والنّفَس ‪ ،‬كانت أتمّ تأثيرًا ‪ ،‬وأقوى فعلً ونفوذاً ‪ ،‬ويحصُل‬
‫بالزدواج بينهما كيفي ٌة مؤثرة شبيه ٌة بالكيفية الحادثة عند تركيب الدوية ‪.‬‬

‫وبالجملة ‪ ..‬فن ْفسُ الراقى تُقابل تلك النفوس الخبيثة ‪ ،‬وتزيدُ بكيفية نفسه ‪ ،‬وتستعين بالرّقية وبالنفثِ على إزالة‬
‫ذلك الثر ‪ ،‬وكلّما كانت كيفيةُ نَفَس الراقى أقوى ‪ ،‬كانت الرّقيةُ أت ّم ‪ ،‬واستعانتُهُ بنفْثه كاستعانة تلك النفوسِ‬
‫الرديئة بلسعها ‪.‬‬

‫وفى النفث سِ ٌر آخر ‪ ،‬فإنه مما تستعين به الرواح الطيبة والخبيثة ‪ ،‬ولهذا تفعلُه السّحَر ُة كما يفعلَهُ أهلُ اليمان ‪.‬‬
‫ل أنفاسَها‬
‫ف بكيفية الغضب والمحاربة ‪ ،‬وتُرسِ ُ‬ ‫ت فِى ا ْلعُ َقدِ}‪ ،‬وذلك لن النفْس تتكيّ ُ‬
‫شرّ النّفّاثَا ِ‬
‫قال تعالى ‪َ { :‬ومِن َ‬
‫سِهاماً لها ‪ ،‬وتمدّها بالنفْث والتفْل الذى معه شىء مِن الرّيق مصاحب لكيفية مؤثرة ‪ ،‬والسواحِ ُر تستعين بالنفث‬
‫استعانةً بيّنةً ‪ ،‬وإن لم تتصل بجسم المسحور ‪ ،‬بل تنفثُ على العُقدة وتعقِدها ‪ ،‬وتتكلم بالسّحْر ‪ ،‬فيعمل ذلك فى‬
‫المسحور بتوسط الرواح السّفلية الخبيثة ‪ ،‬فتقابِلُها الرّوح الزكية الطيبة بكيفية الدفع والتكلم بالرّقية ‪ ،‬وتستعينُ‬
‫بالنفث ‪ ،‬فأ ّيهُما َقوِىَ كان الحك ُم له ‪ ،‬ومقابلةُ الرواح بعضها لبعض ‪ ،‬ومحاربتُها وآلتها مِن جنس مقابلة الجسام‬
‫ل فى المحاربة والتقابلِ للرواح والجسام آلتها وجندها ‪ ،‬ولكن مَن غلب‬ ‫‪ ،‬ومحاربتها وآلتها سواء ‪ ،‬بل الص ُ‬
‫حسّ عليه ‪ ،‬و ُب ْعدِهِ من عالَم‬
‫س ل يشعرُ بتأثيرات الرواح وأفعاِلهَا وانفعال ِتهَا لستيلء سُلطان ال ِ‬‫عليه الحِ ّ‬
‫الرواح ‪ ،‬وأحكامها ‪ ،‬وأفعالها ‪.‬‬

‫ت بمعانى الفاتحة ‪ ،‬واستعانت بالنفث والتفْل ‪ ،‬قابلت ذلك الثَر الذى‬‫ن الرّوح إذا كانت قوي ًة وتكيّف ْ‬
‫والمقصود ‪ ..‬أ ّ‬
‫حصل من النفوس الخبيثة ‪ ،‬فأزالته ‪ ..‬وال أعلم ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج لدغة العقرب بالرّقْيَة‬

‫ل الِ صلى ال عليه وسلم‬ ‫ش ْيبَةَ فى ((مسنده)) ‪ ،‬من حديث عبد ال بن مسعود ‪ ،‬قال ‪ :‬بينا رسو ُ‬ ‫روى ابن أبى َ‬
‫ل ال َعقْرَبَ‬
‫يُصلّى ‪ ،‬إذ سجد فََلدَغَتْه عقربٌ فى أُصبعه ‪ ،‬فانصرفَ رسولُ الِ صلى ال عليه وسلم وقال ‪َ(( :‬لعَنَ ا ُ‬
‫جعَلَ يَضَعُ موضِ َع اللّدغة فى الماء والمِلحِ ‪ ،‬ويقرأُ‬
‫غيْرَه)) ‪ ،‬قال ‪ :‬ثُ ّم دعا بإنا ٍء فيه ماء ومِلح ‪َ ،‬ف َ‬
‫ما تَ َدعُ نبيّا ول َ‬
‫حدٌ ‪ ،‬وال ُمعَ ّو َذتَيْن} حتى سكنتْ ‪.‬‬
‫ل أَ َ‬
‫ل هُوَ ا ُ‬
‫‪{ :‬قُ ْ‬

‫ى ‪ ،‬فإنّ فى سورة الخلص مِن كمال‬ ‫ن المرين ‪ :‬الطبيعىّ والله ّ‬ ‫ففى هذا الحديث العلجُ بالدواء المركّب مِ َ‬
‫ى كُلّ شركة عنه ‪ ،‬وإثباتِ الصّمديّةِ المستلزمةِ‬ ‫ل ‪ ،‬المستلزِمة نف َ‬
‫ح ِديّة ِ‬
‫التوحيد العِلمى العتقادى ‪ ،‬وإثبات ال َ‬
‫صدُه الخليق ُة ‪ ،‬وتتوجه إليه‪ ،‬عُلويّها‬
‫ل كمال له مع كونِ الخلئق تَص ُمدُ إليه فى حوائجها ‪ ،‬أى ‪ :‬تق ِ‬ ‫لثبات كُ ّ‬
‫فءِ عنه المتضمن لنفى الصل‪ ،‬والفرع والنظير ‪ ،‬والمماثل مما اختصّت به‬ ‫وسُفليّها ‪ ،‬ونفى الوالد والولد ‪ ،‬والكُ ْ‬
‫ث القرآن ‪ ،‬ففى اسمه ((الصمد)) إثباتُ كل الكمال ‪ ،‬وفى نفى الكُفْ ِء التنزيهُ عن الشبيه‬ ‫وصارت تعدِلُ ثُلُ َ‬
‫والمثال ‪ .‬وفى ((الحد)) نفىُ كُلّ شريك لذى الجلل ‪ ،‬وهذه الُصول الثلثة هى مجام ُع التوحيد ‪.‬‬

‫شرّ ما خلق َتعُمّ كُلّ شَ ّر يُستعاذ‬


‫ن الستعاذَة مِن َ‬
‫ل ‪ ،‬فإ ّ‬
‫وفى المعوّذتين الستعاذ ُة مِن كل مكروه جملةً وتفصي ً‬
‫منه ‪ ،‬سواء أكان فى الجسام أو الرواح ‪ ،‬والستعاذَةَ مِن شَ ّر الغاسق وهو اللّيل ‪ ،‬وآيتِهِ وهو القمر إذا غاب ‪،‬‬
‫شرُ فيه من الرواح الخبيثة التى كان نورُ النهار يحو ُل بينها وبين النتشار ‪،‬‬ ‫تتضمن الستعاذةَ مِن شَ ّر ما ينت ِ‬
‫فلما أظلم الليل عليها وغاب القمرُ ‪ ،‬انتشرت وعاثت ‪.‬‬

‫شرّ السواحر وسِحرهن ‪.‬‬


‫والستعاذة مِن شَرّ النفاثات فى العُقد تتضمن الستعاذة من َ‬

‫والستعاذة مِن شَ ّر الحاسد تتضمن الستعاذَة مِن النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها ‪.‬‬

‫والسور ُة الثانية ‪ :‬تتضمن الستعاذة مِن شَ ّر شياطين النس والجن ‪ ،‬فقد جمعت السورتان الستعاذة من كُلّ‬
‫شَ ّر ‪ ،‬ولهما شأنٌ عظيم فى الحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها ‪ ،‬ولهذا أوصى النبىّ صلى ال عليه‬
‫ى فى ((جامعه)) وفى هذا سِرٌ عظيم فى استدفاع‬ ‫ب كُلّ صلةٍ ‪ ،‬ذكره الترمذ ّ‬ ‫عقِ َ‬
‫وسلم عُقبةَ بن عامر بقراءتهما َ‬
‫الشرو ِر من الصلة إلى الصلة ‪ .‬وقال ‪ :‬ما َتعَوّذ المتعوّذون بمثلهما ‪ .‬وقد ذُكر أنه صلى ال عليه وسلم سُحِرَ‬
‫فى إحدى عشرةَ عُقدة ‪ ،‬وأنّ جبريلَ نزل عليه بهما ‪ ،‬فجعَلَ كُلّما قرأ آية منهما انحلّتْ عُقدة ‪ ،‬حتى انحلّتْ العُقَد‬
‫عقَال ‪.‬‬
‫ط من ِ‬
‫كُلّها ‪ ،‬وكأنما ُأنْشِ َ‬

‫سيّما لدغة العقرب ‪ ،‬قال صاحب‬ ‫وأما العلج الطبيعى فيه ‪ ،‬فإنّ فى المِلح نفعاً لكثير من السّموم ‪ ،‬ول ِ‬
‫((القانون)) ‪ :‬يُضمّد به مع بذر الكتان للسع العقرب ‪ ،‬وذكره غيرُه أيضًا ‪ .‬وفى المِلح من القوة الجاذبة المحلّلة‬
‫ما يَجذِبُ السّموم ويُحللها ‪ ،‬وَلمّا كان فى لسعها قو ٌة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج جمع بين الما ِء المبرد‬
‫ب وإخراج ‪ ،‬وهذا أتم ما يكون من العلج وأيسره وأسهله ‪ ،‬وفيه تنبيه على أنّ‬ ‫لنار اللّسعة ‪ ،‬والمِلح الذى فيه جذ ٌ‬
‫علج هذا الداء بالتبريد والجذب والخراج ‪ ..‬وال أعلم ‪.‬‬
‫وقد روى مسلم فى ((صحيحه)) عن أبى هُريرة قال ‪ :‬جاء رجلٌ إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا‬
‫ت مِنْ‬
‫ل التّامّا ِ‬
‫تا ِ‬
‫سيْتَ ‪ :‬أعُوذُ بكلما ِ‬
‫ت مِنْ عقربٍ َلدَغْتنى البارحةَ فقال ‪(( :‬أما لو ُقلْتَ حِينَ أ ْم َ‬
‫رسول ال ؛ ما لقي ُ‬
‫خلَقَ ‪،‬‬
‫شَرّ ما َ‬

‫لم تَضُرّك)) ‪.‬‬

‫ن الدوية الطبيعية اللهية تنف ُع مِن الداء بعد حصوله ‪ ،‬وتمنَعُ من وقوعه ‪ ،‬وإن وقع لم يقع وقوعاً مضراً‬ ‫واعلم أ ّ‬
‫‪ ،‬وإن كان مؤذيًا ‪ ،‬والدوية الطبيعية إنما تنف ُع ‪ ،‬بعد حصول الداء ‪ ،‬فالتعوّذاتُ والذكار ‪ ،‬إما أن تمنعَ وقوعَ‬
‫هذه السباب ‪ ،‬وإما أن تحو َل بينها وبين كمالِ تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه ‪ ،‬فال ّرقَى والعُوَذ‬
‫ستَعمل لحفظ الصحة ‪ ،‬ولزالة المرض ‪ ،‬أما الول ‪ :‬فكما فى ((الصحيحين)) من حديث عائشة كان رسولُ الِ‬ ‫تُ ْ‬
‫ح بهما وجهه ‪ ،‬وما‬ ‫ح ٌد وال ُمعَ ّوذَ َتيْن ‪ .‬ثم يمس ُ‬
‫ل أَ َ‬
‫ل هُوَ ا ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم إذا أوى إلى فراشِهِ نَ َفثَ فى َك ّفيْهِ ‪{ :‬قُ ْ‬
‫بلغت يدُه من جسده}‪.‬‬

‫ب العَرْ ِ‬
‫ش‬ ‫وكما فى حديث عُوذة أبى الدرداء المرفوع ‪(( :‬الّلهُمّ أنت َربّى ل إله إل أنت عليكَ تَ َوكّلْتُ وأنتَ رَ ّ‬
‫صبْه‬
‫صبْ ُه مُصيبة حتى يُمسى ‪ ،‬ومَن قالها آخر نهارِ ِه لم تُ ِ‬ ‫العظيم)) ‪ ،‬وقد تقدّم وفيه ‪(( :‬مَن قالها أوّل نهارِ ِه لم تُ ِ‬
‫صبِح)) ‪.‬‬
‫مُصيبةٌ حتى يُ ْ‬

‫وكما فى ((الصحيحين)) ‪(( :‬مَن قَرََأ ال َيتَيْن مِن آخرِ سُور ِة البقرةِ فى َليْلَةٍ كَ َفتَاهُ)) ‪.‬‬

‫ل التّامّاتِ‬
‫ل فقال ‪ :‬أَعُوذُ بكلمات ِا ِ‬
‫ل مَنْ ِز ً‬
‫وكما فى ((صحيح مسلم)) عن النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬مَن نَزَ َ‬
‫ل مِن َمنْزِل ِه ذِلكَ)) ‪.‬‬
‫حتّى يَ ْرتَحِ َ‬
‫ق ‪ ،‬لم َيضُرّهُ شَىءٌ َ‬
‫مِن شرَّ ما خَلَ َ‬

‫وكما فى ((سنن أبى داود)) أنّ رسولَ الِ صلى ال عليه وسلم كان فى السفر يقول باللّيل ‪((:‬يا أرضُ ؛ َربّى‬
‫حيّةِ‬
‫سدٍ وأسْ َودٍ ‪ ،‬ومِن ال َ‬
‫ل مِن أ َ‬
‫ل مِن شَ ّركِ وشَ ّر ما فِيكِ ‪ ،‬وشَ ّر ما َيدُبّ عليكِ ‪ ،‬أعوذُ با ِ‬ ‫و َرّبكِ الُ ‪ ،‬أَعُوذُ با ِ‬
‫ن البََلدِ ‪ ،‬ومن والدٍ وما وََلدَ)) ‪.‬‬
‫ب ‪ ،‬ومِن ساك ِ‬ ‫والعقر ِ‬

‫وأما الثانى ‪ :‬فكما تقدّم من الرّقية بالفاتحة ‪ ،‬والرّقية للعقرب وغيرها مما يأتى ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى ُرقْيَة النّ ْملَة‬

‫حمَةِ وال َعيْنِ‬


‫قد تقدّم من حديث أنس الذى فى ((صحيح مسلم)) أنه صلى ال عليه وسلم ((رخّص فى ال ّر ْقيَ ِة مِنَ ال ُ‬
‫وال ّنمْلَةِ)) ‪.‬‬

‫وفى ((سنن أبى داود)) عن الشّفَاء بنت عبد ال ‪ ،‬قالت ‪ :‬دخل علىّ رسول ال صلى ال عليه وسلم وأنا عِند‬
‫حفْصَة ‪ ،‬فقال ‪(( :‬أل ُتعَلّمينَ هذه رُقية ال ّنمْلةِ كما عَّل ْمتِيها الكتابةَ)) ‪.‬‬
‫َ‬

‫ن نملة َتدِبّ‬
‫حبَه يُحس فى مكانه كأ ّ‬
‫سمّى نملةً ‪ ،‬لن صا ِ‬
‫ال ّنمْلَة ‪ :‬قُروح تخرج فى الجنبين ‪ ،‬وهو داء معروف ‪ ،‬و ُ‬
‫خطّ‬
‫عليه وَتعضّه ‪ ،‬وأصنافها ثلثة ‪ ،‬قال ابن قتيبة وغيرُه ‪ :‬كان المجوسُ يزعمون أنّ ولد الرجل من أُخته إذا ُ‬
‫شفِىَ صاحبها ‪ ،‬ومنه قول الشاعر‪:‬‬
‫على النّملَةِ ‪ُ ،‬‬

‫ط عَلَى ال ّنمْلِ‬
‫شرٍ كِرا ٍم وََأنّا لَ نَخُ ّ‬
‫غيْ َر عُ ْرفٍ ِل َمعْ َ‬
‫ب فِينَا َ‬
‫عيْ َ‬
‫َولَ َ‬

‫ن الشّفَاء بنتَ عبد ال كانت تَرقى فى الجاهلية من ال ّنمْلَة ‪ ،‬فلمّا هاجرت إلى النبىّ صلى ال‬ ‫وروى الخَلّل ‪ :‬أ ّ‬
‫عليه وسلم وكانت قد بايعته بمكة ‪ ،‬قالت ‪ :‬يا رسول ال ؛ إنّى كنت أرقى فى الجاهلية من النّمْلَة ‪ ،‬وإنى أُري ُد أن‬
‫ضهَا عليكَ ‪ ،‬فعرضت عليه فقالت ‪ :‬بسم الِ ضَلّت حتى تعود مِن أفواهها ‪ ،‬ول تَضُرّ أحدًا ‪ ،‬الّلهُمّ اكشف‬ ‫أعْ ِر َ‬
‫ل خَمرٍ‬ ‫صدُ مَكاناً نظيفًا ‪َ ،‬و َتدُْلكُهُ على حجر بخَ ّ‬
‫ب الناسِ ‪ ،‬قال ‪ :‬ترقى ِبهَا عَلَى عُودٍ سب َع مَرات ‪ ،‬وتق ِ‬‫البأسَ ر ّ‬
‫حاذق ‪ ،‬و َتطْلِيه على النّمْلَ ِة ‪ .‬وفى الحديث ‪ :‬دليلٌ على جواز تعليم النساء الكتابة ‪.‬‬
‫فصل‬

‫حيّة‬
‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى ُر ْقيَة ال َ‬

‫حمَة ‪ :‬بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها ‪.‬‬


‫حمَةٍ)) ‪ ،‬ال ُ‬
‫ن ‪ ،‬أو ُ‬
‫عيْ ٍ‬
‫قد تقدّم قوله ‪(( :‬ل ُر ْقيَةَ إل فى َ‬

‫وفِى ((سنن ابن ماجه)) من حديث عائشة ‪(( :‬رخّص رسولُ الِ صلى ال عليه وسلم فى ال ّر ْقيَة من الحيّةِ‬
‫والعقرب)) ‪.‬‬

‫حيّ ٌة ‪ ،‬فقال النبى‬ ‫غ بعض أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم َ‬ ‫ويُذكر عن ابن شهاب الزّهْرى ‪ ،‬قال ‪َ :‬لدَ َ‬
‫حيّ ِة ‪ ،‬فلما‬
‫ل مِن رَاقٍ)) ؟ فقالوا ‪ :‬يا رسول ال ؛ إن آل حزم كانوا يَ ْرقُون رُقيةَ ال َ‬
‫صَلى ال عليه وسلم ‪(( :‬هَ ْ‬
‫ت عن ال ّرقَى تركوها ‪ ،‬فقال ‪(( :‬ادْعُو عُمارة بن حزم)) فدعوه ‪ ،‬فعرضَ عليه رُقاه ‪ ،‬فقال ‪(( :‬ل بأسَ بها))‬ ‫َنهَيْ َ‬
‫فأذن له فيها فرقاه ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى رُ ْقيَة القَرْحة والجُرْح‬

‫أخرجا فى ((الصحيحين)) عن عائشة قالت ‪(( :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا اشتكى النسانُ أو كانت‬
‫ل ‪ ،‬تُ ْربَةُ‬
‫ن سبّابَتَهُ بالرض ‪ ،‬ثم رفعها وقال ‪(( :‬بسْ ِم ا ِ‬
‫به قَرحةٌ أو جُرحٌ ‪ ،‬قال بأصبعه ‪ :‬هكذا ووضع سفيا ُ‬
‫سقِيمُنا بإذنِ َربّنا)) ‪.‬‬
‫شفَى َ‬
‫أرضِنا بِرِيقَةِ بعضِنا ‪ ،‬يُ ْ‬

‫سيّما عند‬ ‫هذا من العلج الميسر النافع المركّب ‪ ،‬وهى معالجة لطيفة يُعالج بها القُروحُ والجِراحات الطرية ‪ ،‬ل ِ‬
‫ن طبيعة التراب الخالص باردةٌ يابسة مجفّفةٌ‬ ‫عدم غيرِها من الدوية إذ كانت موجودة بكل أرض ‪ ،‬وقد عُِلمَ أ ّ‬
‫سيّما فى البلد الحارّة ‪،‬‬‫لرطوبات القروح والجراحات التى تمنع الطبيعةُ من جودة فعلها ‪ ،‬وسرع ِة اندمالها ‪ ،‬ل ِ‬
‫ج حا ٍر ‪ ،‬فيجتمِعُ حرارة‬
‫وأصحاب المزجة الحارّة ‪ ،‬فإنّ القُروح والجِراحات يتبعُها فى أكثر المر سوءُ مزا ٍ‬
‫البلد والمزاجُ والجِراحُ ‪ ،‬وطبيعةُ التراب الخالص باردة يابسة أشدّ مِن برودة جميع الدوية المفردة الباردة ‪،‬‬
‫ف ‪ ،‬ويتبعها أيضاً كثر ُة الرطوبات‬ ‫جفّ َ‬
‫غسِلَ و ُ‬
‫سيّما إن كان الترابُ قد ُ‬
‫ل برودةُ الترابِ حرار َة المرض ‪ ،‬ل ِ‬ ‫فتُقَابِ ُ‬
‫ف لها ‪ ،‬مُزِيلٌ لشدة يبسه وتجفيفه للرطوبة الرديئة المانعة من برئها ‪،‬‬ ‫الرديئة ‪ ،‬والسيلن ‪ ،‬والتّراب ُمجَفِ ٌ‬
‫ويحصل به مع ذلك تعديلُ مزاج العضو العليل ‪ ،‬ومتى اعتدل مزاج العضو قويت قواه المدبرة ‪ ،‬ودفعت عنه‬
‫اللم بإذن ال ‪.‬‬

‫ومعنى الحديث ‪ :‬أنه يأخذ مِن ريق نفسه على أصبعه السبابة ‪ ،‬ثم يضعها على التراب ‪ ،‬فيعلَق بها منه شىء ‪،‬‬
‫فيمسح به على الجُرح ‪ ،‬ويقول هذا الكلم لما فيه من بركة ذكر اسم ال ‪ ،‬وتفويض المر إليه ‪ ،‬والتوكل عليه ‪،‬‬
‫ضمّ أحدُ العلجين إلى الخر ‪ ،‬فَيقْوَى التأثير ‪.‬‬
‫فين َ‬

‫وهل المراد بقوله ‪(( :‬تُ ْربَةُ أَرضِنا)) جميع الرض أو أرضُ المدينة خاصة ؟ فيه قولن ‪ ،‬ول ريبَ أنّ مِن‬
‫التُربة ما تكون فيه خاصية ينفع بخاصيته من أدواءٍ كثيرة ‪ ،‬ويشفى بها أسقامًا رديئة ‪.‬‬

‫قال ((جالينوس)) ‪ :‬رأيتُ بالسكندرية مَطحُولين ‪ ،‬ومُستسقين كثيرًا ‪ ،‬يستعملون طين مصر ‪ ،‬ويطلُون به على‬
‫سُوقهم ‪ ،‬وأفخاذهم ‪ ،‬وسواعدهم ‪ ،‬وظهورهم ‪ ،‬وأضلعهم ‪ ،‬فينتفعون به منفعة َبيّنة ‪ .‬قال ‪ :‬وعلى هذا النحو فقد‬
‫ينفع هذا الطلء للورام العفنة والمترهّلة الرخوة ‪ ،‬قال ‪ :‬وإنّى لعرفُ قوماً ترهّلَت أبدانُهم كُلّها من كثرة‬
‫استفراغ الدم من أسفل ‪ ،‬انتفعوا بهذا الطين نفعاً َبيّناً ‪ ،‬وقومًا آخرين شَفَوْا به أوجاعًا مزمنة كانت متمكنة فى‬
‫ل‪.‬‬‫بعض العضاء تمكنًا شديدًا ‪ ،‬فبرأت وذهبت أص ً‬

‫وقال صاحب ((الكتاب المسيحى)) ‪ :‬قُوّة الطين المجلوب من ((كنوس)) وهى جزيرة المصطكى قوة تجلو‬
‫وتغسل ‪ ،‬وتُنبت اللحمَ فى القروح ‪ ،‬وتختم القُروح ‪ ..‬انتهى ‪.‬‬

‫ب تُربة على وجه الرض وأبركها ‪ ،‬وقد خالطت ريقَ رسولِ ال‬ ‫وإذا كان هذا فى هذه التُرْبات ‪ ،‬فما الظنّ بأطي ِ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وقارنت رُقيته باسم ربه ‪ ،‬وتفويض المر إليه ‪ ،‬وقد تقدم أن قُوَى ال ّر ْقيَة وتأثيرَها بحسب‬
‫الراقى ‪ ،‬وانفعال المرقى عن ُر ْقيَته ‪ ،‬وهذا أمر ل يُنكره طبيب فاضل عاقل مسلم ‪ ،‬فإن انتفى أحد الوصاف ‪،‬‬
‫فليقل ما شاء ‪.‬‬

‫فصل‬

‫في هديه صلى ال عليه وسلم في علج الوجع بالرقية‬

‫روى مسلم في ((صحيحه)) عن عثمان بن أبي العاص ‪(( ،‬أنه شكى إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وجعاً‬
‫سمِ ال‬
‫س ِدكَ وقُل ‪ :‬بِ ْ‬
‫يجده في جسده منذ أسلم ‪ ،‬فقال النبيّ صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬ضع يَ َدكَ عَلَى الّذي َتأَلّ َم مِنْ جَ َ‬
‫ل سبع مرات ‪ :‬أعوذُ ِبعِزّ ِة ال وقُدرَتهِ منْ شَ ّر مِا أجدُ وأُحَاذِر)) ففي هذا العلج من ذكر ال ‪،‬‬ ‫ثلثًا ‪ ،‬وقُ ْ‬
‫والتفويض إليه ‪ ،‬والستعاذة بعزته وقدرته من شر اللم ما يَذهب به ‪ ،‬وتكراره ليكونَ أنجعَ وأبلغ ‪ ،‬كتكرار‬
‫الدواء لخراج المادة ‪ ،‬وفي السبع خاصية ل توجد في غيرها ‪ ،‬وفي ((الصحيحين)) ‪ :‬أن النبي صلى ال عليه‬
‫س ‪ ،‬واشفِ أنت‬ ‫ب الناس ‪ ،‬أَذهِب الباَ َ‬ ‫وسلم ‪(( ،‬كان يعوّذُ بعض أهله ‪ ،‬يمسح بيده اليمنى ‪ ،‬ويقول ‪(( :‬اللهمّ رَ ّ‬
‫شفَاء إل شفاؤُك ‪ ،‬شفا ًء ل يغادرُ سَقَماً)) ‪ .‬ففي هذه الرُقية توسل إلى ال بكمال زبوبيته ‪ ،‬وكما‬ ‫الشّافي ‪ ،‬ل ِ‬
‫رحمته بالشفاء ‪ ،‬وأنه وحده الشافي ‪ ،‬وأنه ل شفاء إل شِفاؤُه ‪ ،‬فتضمنت التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته‬
‫‪.‬‬

‫فصل‬

‫في هديه صلى ال عليه وسلم في علج حر المصيبة وحزنها‬

‫قال تعالى ‪{ :‬وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا ‪ :‬إنا ل وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من‬
‫ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}[البقرة‪ . ]155 :‬وفي ((المسند)) عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪(( :‬ما من‬
‫جعُونَ ‪ ،‬اللهم أجرنِي في مُصيبَتى وأخلفْ لي خيراً منهَا ‪ ،‬إل‬
‫ل ‪ :‬إنّا ل وإنّا إليه رَا ِ‬
‫حدٍ تصيبُه مصِيبَةٌ فيقو ُ‬
‫أَ َ‬
‫ف لهُ خَيرًا منها))‪.‬‬‫أجاَرَه ال في مصِي َبتِهِ ‪ ،‬وأخل َ‬

‫وهذه الكلمة من أبلغ علج المصاب ‪ ،‬وأنفعه له في عاجلته وآجلته ‪ ،‬فأنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق‬
‫العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته‪.‬‬

‫أحدهما ‪ :‬أن العبد وأهله وماله ملك ل عز وجل حقيقة ‪ ،‬وقد جعله عند العبد عارية ‪ ،‬فإذا أخذه منه ‪ ،‬فهو‬
‫كالمعير يأخذ متاعه من المستعير ‪ ،‬وأيضا فإنه محفوف ِبعَدَمينِ ‪ :‬عدم قبله ‪ ،‬وعدم بعده ‪ ،‬وملك العبد له متعة‬
‫معارة في زمن يسير ‪ ،‬وأيضا فإنه ليس الذي أوجده من عدمه‪ ،‬حتى يكون ملكه حقيقةً‪ ،‬ول هو الذي يحفظه من‬
‫الفات بعد وجوده ‪ ،‬ول يبقى عليه وجوده ‪ ،‬فليس له فيه تأثير ‪ ،‬ول ملك حقيقي ‪ ،‬وأيضا فإنه متصرف فيه‬
‫بالمر تصرف العبد المأمور المنهي ‪ ،‬ل تصرف الملك ‪ ،‬ولهذا ل يباح له من التصرفات فيه إل ما وافق أمر‬
‫مالكه الحقيقي ‪.‬‬

‫والثاني ‪ :‬أن مصير العبد ومرجعه إلى ال موله الحق ‪ ،‬ول بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره ‪ ،‬ويجيء ربه فرداً‬
‫كما خلقه أول مرة بل أهل ول مال ولعشيرة ‪ ،‬ولكن بالحسنات والسيئات ‪ ،‬فإذا كانت هذه بداية العبد وما خُوّله‬
‫ونهايته ‪ ،‬فكيف يفرح بموجود ‪ ،‬أو يأسى على مفقود ‪ ،‬ففكره فى مبدئه ومعاده من أعظم علج هذا الداء ‪ ،‬ومن‬
‫ن ما أصابه لم يكن ليُخطئه ‪ ،‬وما أخطأه لم يكن ليُصيبه ‪ .‬قال تعالى ‪{ :‬مَا َأصَابَ مِن‬ ‫علجه أن يعلم علم اليقين أ ّ‬
‫ل تَأْسَوْ ْا عَلَى مَا‬
‫ل يَسِيرٌ * ّلكَيْ َ‬
‫ك عَلَى ا ِ‬
‫ل أَن ّنبْرَأَهَا ‪ ،‬إنّ ذَِل َ‬
‫ب مّن َقبْ ِ‬‫ل فِى ِكتَا ٍ‬‫سكُ ْم إ ّ‬
‫ل فِى َأنْفُ ِ‬
‫ض َو َ‬‫مّصِيبَةٍ فِى الَرْ ِ‬
‫ختَالٍ َفخُورٍ}[الحديد ‪.]22 :‬‬ ‫ب كُلّ مُ ْ‬‫ح ّ‬
‫ل لَ يُ ِ‬ ‫فَا َتكُ ْم َولَ تَ ْفرَحُو ْا ِبمَا آتَاكُ ْم * وَا ُ‬

‫ب به ‪ ،‬فيجد ربه قد أبقى عليه مثله ‪ ،‬أو أفضل منه ‪ ،‬وادّخر له إن صبرَ‬
‫ومن علجه أن ينظر إلى ما أُصي َ‬
‫ى ما هو أعظ ُم من فوات تِلك المصيبةِ بأضعافٍ مُضاعفة ‪ ،‬وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هى ‪.‬‬‫ورضِ َ‬

‫ومن عِلجه أن يُطفئَ نا َر مصيبته ببرد التأسّى بأهل المصائب ‪ ،‬وليعلم أنه فى كل وادٍ بنو سعد ‪ ،‬ولينظر َيمْن ًة ‪،‬‬
‫فهل يرى إل مِحنةً ؟ ثم ليعطف يَسْر ًة ‪ ،‬فهل يرى إل حسر ًة ؟ ‪ ،‬وأنه لو فتّش العالَم لم ير فيهم إل مبتلىً ‪ ،‬إما‬
‫ت قليلً ‪ ،‬أبكتْ‬
‫ل ‪ ،‬إن أضحك ْ‬ ‫بفوات محبوب ‪ ،‬أو حصول مكروه ‪ ،‬وأنّ شرو َر الدنيا أحلمُ نوم أو كظلّ زائ ٍ‬
‫عبْرة‬
‫ل ‪ ،‬وما ملت داراً خير ًة إل ملتها َ‬
‫ت قليلً ‪ ،‬منعت طوي ً‬
‫ت دهراً ‪ ،‬وإن َمتّع ْ‬
‫ت يومًا ‪ ،‬ساء ْ‬
‫كثيرًا ‪ ،‬وإن سَرّ ْ‬
‫‪ ،‬ول سرّته بيومِ سرور إل خبأتْ له يو َم شرور ‪.‬‬

‫قال ابن مسعود رضى ال عنه ‪ :‬لكل فرح ٍة تَرْحة ‪ ،‬وما مُلِىءَ بيتٌ فرحاً إل مُلِى َء تَرحًا ‪.‬‬

‫ك قَطٌ إل كان من بعده بُكاء ‪.‬‬


‫وقال ابن سيرين ‪ :‬ما كان ضح ٌ‬

‫ب الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن‬


‫وقالت هند بنت النّعمان ‪ :‬لقد رأيتُنا ونحن مِن أعزّ الناس وأشدّهم مُلكًا ‪ ،‬ثم لم تَغِ ِ‬
‫خيْرة إل ملها عَبرة ‪.‬‬
‫ل الناس ‪ ،‬وأنه حقٌ على ال أل يمل داراً َ‬ ‫أق ّ‬

‫حدّثه عن أمرها ‪ ،‬فقالت ‪ :‬أصبحنا ذا صباح ‪ ،‬وما فى العرب أحدٌ إل يرجونا ‪ ،‬ثم أمسينا وما‬‫وسألها رجلٌ أن تُ َ‬
‫فى العرب أحد إل يرحمُنا ‪.‬‬

‫عزّها ‪ ،‬فقيل لها ‪ :‬ما يُبكيكِ ‪ ،‬لعل أحدًا آذاك ؟ قالت ‪ :‬ل ‪،‬‬
‫وبكت أختها حُرقَ ُة بنت النّعمان يومًا ‪ ،‬وهى فى ِ‬
‫ت غَضارة فى أهلى ‪ ،‬وقلّما امتلت دارٌ سرورًا إل امتلت حُزنًا ‪.‬‬ ‫ولكن رأي ُ‬

‫ت لها ‪ :‬كيف رأيتِ عبراتِ الملوك ؟ فقالت ‪ :‬ما نحنُ فيه اليومَ‬
‫ت عليها يومًا ‪ ،‬فقل ُ‬‫قال إسحاق بنُ طلحة ‪ :‬دخل ُ‬
‫جدُ فى الكتب أنه ليس مِن أهل بيت يعيشون فى خيْرة إل سيُعقَبون بعدها عَبرة ‪،‬‬ ‫خي ٌر مما كنا فيه المس ‪ ،‬إنّا ن ِ‬
‫وأنّ الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إل بَطَن لهم بيوم يكرهونه ‪ ،‬ثم قالت ‪:‬‬

‫ن فِيهِمْ سُوقَةٌ َن َتنَصّفُ‬


‫لمْرُ َأمْ ُرنَا إذَا نَحْ ُ‬
‫س وَا َ‬
‫س النّا َ‬
‫َفبَ ْينَا نَسُو ُ‬

‫ل يَدُو ُم َنعِي ُمهَـا تَقَلّبُ تَارَاتٍ ِبنَا َوتَصَرّفُ‬


‫ف ِل ُد ْنيَا َ‬
‫فَأُ ّ‬

‫ن الجزع ل يردها ‪ ،‬بل يُضاعفها ‪ ،‬وهو فى الحقيقة من تزايد المرض ‪.‬‬


‫ومِن عِلجها ‪ :‬أن يعلم أ ّ‬

‫ومِن عِلجها ‪ :‬أن يعلم أنّ فوت ثواب الصبر والتسليم ‪ ،‬وهو الصلةُ والرحمة والهداية التى ض ِمنَها ال على‬
‫الصبر والسترجاع ‪ ،‬أعظ ُم مِن المصيبة فى الحقيقة ‪.‬‬

‫ن الجَ َزعَ يُشمت عدوه ‪ ،‬ويسوء صديقه ‪ ،‬ويُغضب ربه ‪ ،‬ويَس ّر شيطانه ‪ ،‬ويُحبط‬ ‫ومِن عِلجها ‪ :‬أن يعلم أ ّ‬
‫أجره ‪ ،‬ويُضعف نفسه ‪ ،‬وإذا صبرَ واحتسب أنضى شيطانه ‪ ،‬وردّه خاسئًا ‪ ،‬وأرضى ربه ‪ ،‬وس ّر صديقه ‪،‬‬
‫ت والكمال العظم ‪ ،‬ل لط ُم الخدودِ‬ ‫وساء عدوه ‪ ،‬وحمل عن إخوانه ‪ ،‬وعزّاهم هو قبل أن ُيعَزّوه ‪ ،‬فهذا هو الثبا ُ‬
‫‪ ،‬وشقّ الجيوب ‪ ،‬والدعاءُ بال َويْل والثّبور ‪ ،‬والسخَطُ على المقدور ‪.‬‬

‫ن ما يُعقبه الصبرُ والحتساب من اللّذة والمسرّة أضعافُ ما كان يحصُل له ببقاء ما‬ ‫ومِن عِلجها ‪ :‬أن يعلم أ ّ‬
‫ت الحمد الذى يُبنى له فى الجنّة على حمده لربه واسترجاعه ‪ ،‬فلينظرْ‬‫ب به لو بقى عليه ‪ ،‬ويكفيه من ذلك بي ُ‬ ‫أُصي َ‬
‫ت الحمد فى جنّة الخلد ؟‬
‫‪ :‬أىّ المصيبتين أعظمُ ؟ مصيب ُة العاجلة ‪ ،‬أو مصيبةُ فواتِ بي ِ‬

‫وفى الترمذى مرفوعًا ‪(( :‬يَ َودّ ناسٌ يَ ْومَ القيامة أنّ جُلُودَهُم كانت تُقْ َرضُ بالمقارِيض فى الدّنيا لما يَرَوْنَ من‬
‫ثوابِ أهلِ البلءِ)) ‪.‬‬

‫ب الدنيا لو َردْنا القيامة مفاليس ‪.‬‬


‫وقال بعضُ السّلَف ‪ :‬لول مصائ ُ‬

‫ل شىء عِوَض إل ال ‪ ،‬فما مِنه عِوَضٌ‬


‫ف من ال ‪ ،‬فإنه من كُ ّ‬
‫ومِن عِلجها ‪ :‬أن يُ َروّح قلبه برَوْح رجاء الخَلَ ِ‬
‫كما قيل ‪:‬‬

‫ضّيعْتَ ُه عِوَضُ‬
‫ل إنْ َ‬
‫ضيّ ْعتَهُ عِ َوضٌ َومَا مِنَ ا ِ‬
‫ى ٍء إذَا َ‬
‫مِنْ كُلّ شَ ْ‬

‫ومن عِلجها ‪ :‬أن يعلم أنّ حظه من المصيبة ما تُحدثه له ‪ ،‬فمن رضى ‪ ،‬فله الرّضى ‪ ،‬ومن سخِط ‪ ،‬فله‬
‫السّخَط ‪ ،‬فحظّك منها ما أحدثته لك ‪ ،‬فاختر خيرَ الحظوظ أو شرّها ‪ ،‬فإن أحدثت له سخطاً وكفرًا ‪ُ ،‬كتِب فى‬
‫ب فى ديوان‬ ‫ديوان الهالكين ‪ ،‬وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً فى ترك واجب ‪ ،‬أو فى فعل ُمحَرّم ‪ُ ،‬كتِ َ‬
‫ت له اعتراضاً على ال ‪،‬‬ ‫ب فى ديوان المغبونين ‪ ،‬وإن أحدث ْ‬ ‫المفرّطين ‪ ،‬وإن أحدثتْ له شكايةً وعدم صب ٍر ‪ُ ،‬كتِ َ‬
‫ب فى ديوان الصابرين ‪،‬‬ ‫وقدحًا فى حكمته ‪ ،‬فقد قرع باب الزندقة أو ولَجه ‪ ،‬وإن أحدثت له صبراً وثباتًا ل ‪ُ ،‬كتِ َ‬
‫ب فى ديوان‬ ‫ب فى ديوان الراضين ‪ ،‬وإن أحدثت له الحمدَ والشك َر ‪ُ ،‬كتِ َ‬ ‫وإن أحدثت له الرّضى عن ال ‪ُ ،‬كتِ َ‬
‫ب فى ديوان‬‫الشاكرين ‪ ،‬وكان تحتَ لواء الحمد مع الحمّادين ‪ ،‬وإن أحدثت له محبةً واشتياقاً إلى لقاء ربه ‪ُ ،‬كتِ َ‬
‫المُحبّين المخلصين ‪.‬‬

‫ث محمود بن لبيد يرفعه ‪(( :‬إنّ الَ إذا أحبّ قوماً ابتلهُم ‪ ،‬فمَن‬ ‫وفى ((مسند المام أحمد)) والترمذىّ ‪ ،‬من حدي ِ‬
‫ع )) ‪.‬‬
‫ى فَلَهُ الرّضى ‪ ،‬ومَن سَخِط فَلَهُ السّخْطُ)) ‪ .‬زاد أحمد ‪(( :‬ومَن جَزِع فَلَ ُه الجَ َز ُ‬
‫ضَ‬‫رَ ِ‬

‫خرُ أمره إلى صبر الضطرار ‪ ،‬وهو غي ُر محمود ول‬ ‫ومِن عِلجها ‪ :‬أن يعلم أنه وإن بلغ فى الجَزَع غايتَه ‪ ،‬فآ ِ‬
‫مُثاب ‪ ،‬قال بعض الحكماء ‪ :‬العاقلُ يفعل فى أوّل يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام ‪ ،‬ومَن لم يصبْر‬
‫صبْ َر الكِرَام ‪ ،‬سل سُلُوّ البهائم‬
‫َ‬

‫ص ْدمَةِ الُولى)) ‪.‬‬


‫صبْرُ عند ال ّ‬
‫وفى ((الصحيح)) مرفوعًا ‪(( :‬ال ّ‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫سلَوْتَ سُُلوّ البهائِم ‪.‬‬


‫@ وقال الشعث بن قيس ‪ :‬إنك إن صبرتَ إيمانًا واحتسابًا ‪ ،‬وإل َ‬

‫سرّها‬
‫ن أنفع الدوية له موافق ُة ربه وإلهه فيما أحبّه ورضيه له ‪ ،‬وأن خاصيّة المحبة و ِ‬
‫ومِن عِلجها ‪ :‬أن يعلم أ ّ‬
‫ب ما يُسخطه ‪ ،‬فقد شهد على نفسه بكذبه ‪،‬‬
‫حبّه ‪ ،‬وأح ّ‬
‫ط مَا يُ ِ‬
‫موافقةُ المحبوب ‪ ،‬فمَن ادّعى محبة محبوب ‪ ،‬ثم سَخِ َ‬
‫ت إلى محبوبه ‪.‬‬
‫وتَمقّ َ‬

‫ن ال إذا قضى قضا ًء ‪ ،‬أحب أن يُرضَى به ‪.‬‬


‫وقال أبو الدرداء ‪ :‬إ ّ‬

‫حبّهُ إليه ‪ ،‬وكذلك قال أبو العالية ‪.‬‬


‫ىأَ‬
‫حبّهُ إل ّ‬
‫وكان عِمران بن حصين يقول فى عِلّته ‪ :‬أ َ‬

‫وهذا دواءٌ وعِلجٌ ل يَعمل إل مع المُحبّين ‪ ،‬ول يُمكن كُلّ أحد أن يتعالج به ‪.‬‬

‫ومِن عِلجها ‪ :‬أن يُوازِن بين أعظم اللّذتين والتمتعين ‪ ،‬وأدْ َومِهما ‪ :‬لذّ ِة تمتعه بما أُصيب به ‪ ،‬وَلذّ ِة تمتّعه بثواب‬
‫ح مِن كل وجه ‪ ،‬فليعلم‬ ‫ح ‪ ،‬فليحمدِ ال على توفيقه ‪ ،‬وإن آثر المرجو َ‬ ‫ال له ‪ ،‬فإن ظهر له الرجحان ‪ ،‬فآثر الراجِ َ‬
‫أنّ مصيبتَه فى عقله وقلبه ودينه أعظمُ مِن مصيبته التى أُصيب بها فى دنياه‬

‫ن الذى ابتله بها أحك ُم الحاكمين ‪ ،‬وأرحمُ الراحمين ‪ ،‬وأنه سبحانه لم يُرسل إليه البل َء‬
‫ومِن عِلجها ‪ :‬أن يعلم أ ّ‬
‫ليُهلكه به ‪ ،‬ول ليُعذبه به ‪ ،‬ول ليَجْتاحَه ‪ ،‬وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه ‪ ،‬وليسمع تضرّعه‬
‫ص الشكوى إليه ‪.‬‬
‫وابتهالَه ‪ ،‬وليراه طريحًا ببابه ‪ ،‬لئذاً بجنابه ‪ ،‬مكسورَ القلب بين يديه ‪ ،‬رافعاً قص َ‬

‫قال الشيخ عبد القادر ‪ :‬يا ُبنَىّ ؛ إنّ المصيبةَ ما جاءت ِلتُهِل َككَ ‪ ،‬وإنّما جاءت لتمتحِنَ صبرك وإيمانَك ‪ ،‬يا ُبنَىّ ؛‬
‫سبُعُ ل يأكل الميت َة ‪.‬‬
‫سبُ ٌع ‪ ،‬وال ّ‬
‫ال َقدَرُ َ‬

‫خبَثاً‬
‫والمقصود ‪ :‬أنّ المصيبة كِيرُ العبدِ الذى يُسبَك به حاصله ‪ ،‬فإما أن يخرج ذهبًا أحمر ‪ ،‬وإما أن يخرج َ‬
‫كله ‪ ،‬كما قيل ‪:‬‬

‫حدِيدِ‬
‫خبَثِ ا ْل َ‬
‫جيْناً فَأ ْبدَى ا ْلكِيرُ عَنْ َ‬
‫س َب ْكنَاه و َنحْسِبـــُ ُه لُ َ‬
‫َ‬

‫فإن لم ينفعه هذا الكِيرُ فى الدنيا ‪ ،‬فبيْنَ يديه الكِيرُ العظم ‪ ،‬فإذا علم العبد أنّ إدخاله كِيرَ الدنيا ومَسبكَها خي ٌر له‬
‫من ذلك الكِير والمسبك ‪ ،‬وأنه ل بد من أحد الكِيرَين ‪ ،‬فليعلم قد َر نعمة ال عليه فى الكِير العاجل ‪.‬‬
‫ومِن عِلجها ‪ :‬أن يعلم أنه لول ِمحَنُ الدنيا ومصائبُها ‪ ،‬لصاب العب َد مِن أدْواء ال ِكبْ ِر والعُجب والفرعنة وقسوة‬
‫ل ‪ ،‬فمن رحمةِ أرحم الراحمين أن يتفقّده فى الحيان بأنواع من أدوية‬ ‫ب هلكه عاجلً وآج ً‬ ‫القلب ما هو سب ُ‬
‫المصائب ‪ ،‬تكون حِمية له من هذه الدواء ‪ ،‬وحِفظًا لصحة عُبوديتهِ ‪ ،‬واستفراغًا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة‬
‫ن مَن يرحمُ ببلئه ‪ ،‬ويبتلى بنعمائه كما قيل‪:‬‬ ‫منه ‪ ،‬فسبحا َ‬

‫ل بعْضَ ا ْلقَـوْ ِم بِال ّنعَمِ‬


‫ظ َمتْ َو َي ْبتَلِى ا ُ‬
‫ل بِا ْلبَلْوَى وَإنْ عَ ُ‬
‫َقدْ ُينْعِمُ ا ُ‬

‫عتَوْا ‪ ،‬والُ سبحانه إذا أراد بعبد‬ ‫طغَوا ‪ ،‬و َبغَوْا ‪ ،‬و َ‬
‫فلول أنه سبحانه يداوى عباده بأدوية المحن والبتلء ‪ ،‬ل َ‬
‫خيراً سقاه دوا ًء من البتلء والمتحان على قدر حاله يستف ِرغُ به من الدواء المهلكة ‪ ،‬حتى إذا هذّبه ونقّاه‬
‫ف مراتب الدنيا ‪ ،‬وهى عبوديتُه ‪ ،‬وأرفع ثواب الخرة ‪ ،‬وهو رؤيتُه وقُربه ومِن عِلجها ‪:‬‬ ‫وصفّاه ‪ ،‬أهّلَه لشر ِ‬
‫أن يعلم أنّ مرارةَ الدنيا هى بعينها حلوةُ الخرة ‪ ،‬يَقِلبُها ال سبحانه كذلك ‪ ،‬وحلوة الدنيا بعينها مرارةُ‬
‫ى عليك هذا ‪ ،‬فانظر‬ ‫خفِ َ‬
‫الخرة ‪ ،‬ولَنْ ينتقل مِن مرارة منقطعة إلى حلوة دائمة خيرٌ له من عكس ذلك ‪ .‬فإن َ‬
‫شهَواتِ))‬
‫جنّةُ بال َمكَار ِه ‪ ،‬وحُفّتِ النّارُ بال ّ‬
‫إلى قول الصادق المصدوق ‪(( :‬حُفّتِ ال َ‬

‫وفى هذا المقام تفاوتت عقولُ الخلئق ‪ ،‬وظهرت حقائقُ الرجال ‪ ،‬فأكثرُهم آثرَ الحلوةَ المنقطعة على الحلوة‬
‫الدائمة التى ل تزول ‪ ،‬ولم يحتمل مرار َة ساعةٍ لِحلوة البد ‪ ،‬ول ذُلّ ساع ٍة لِعزّ البد ‪ ،‬ول مِحنةَ ساع ٍة لعافيةِ‬
‫ن الحاضر عنده شهادةٌ ‪ ،‬والمنتظر غيبٌ ‪ ،‬واليمان ضعيفٌ ‪ ،‬وسلطانُ الشهوة حاكم ‪ ،‬فتوَلّد من ذلك‬ ‫البد ‪ ،‬فإ ّ‬
‫إيثا ُر العاجلة ‪ ،‬ورفضُ الخرة ‪ ،‬وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الُمور ‪ ،‬وأوائلها ومبادئها ‪ ،‬وأما النظر‬
‫ن آخ ُر ‪.‬‬
‫الثاقب الذى يَخرِق حُجُب العاجلة ‪ ،‬ويُجاوزه إلى العواقب والغايات ‪ ،‬فله شأ ٌ‬

‫فادع نفسك إلى ما أع ّد ال لوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم ‪ ،‬والسعادة البدية ‪ ،‬والفوز الكبر ‪ ،‬وما أعدّ‬
‫ق بك ‪ ،‬وكُلٌ َي ْعمَلُ‬
‫ى القس َميْن ألي ُ‬
‫لهل البطالة والضاعة من الخزى والعقاب والحسرات الدائمة ‪ ،‬ثم اخترْ أ ّ‬
‫طلْ هذا العلج ‪ ،‬فشدةُ الحاجة إليه‬ ‫عَلَى شَاكَِلتِهِ ‪ ،‬و ُكلّ أحد يصبُو إلى ما يُناسبه ‪ ،‬وما هو الَوْلَى به ‪ ،‬ول تست ِ‬
‫من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه ‪ ،‬وبال التوفيق‪.‬‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج الكرب والهم والغم والحزن‬

‫أخرجا فى ((الصحيحين)) من حديث ابن عباس ‪ ،‬أنّ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم كان يقول عند الكَرْب ‪:‬‬
‫سبْع ‪ ،‬و َربّ‬
‫سمَواتِ ال ّ‬
‫ش العَظِي ُم ‪ ،‬ل إل َه إل الُ َربّ ال ّ‬
‫حلِيمُ ‪ ،‬ل إلهَ إل الُ ربّ العر ِ‬
‫ل العَظِيمُ ال َ‬
‫((ل إل َه إل ا ُ‬
‫الرْض‬

‫ش الكَرِيمُ)) ‪.‬‬
‫ب ال َعرْ ِ‬
‫رَ ّ‬

‫وفى ((جامع الترمذىّ)) عن أنس ‪ ،‬أنّ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم ‪(( ،‬كان إذا حَ َزبَهُ أم ٌر ‪ ،‬قال ‪(( :‬يا حَىّ يا‬
‫َقيّو ُم برحم ِتكَ أستغيثُ)) ‪.‬‬

‫لمْرُ ‪ ،‬رفع طرفه إلى السماء فقال ‪:‬‬


‫ن النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬كان إذا أهمّ ُه ا َ‬ ‫وفيه عن أبى هُريرة ‪(( :‬أ ّ‬
‫ى يا َقيّومُ)) ‪.‬‬
‫سبْحَانَ ال العظيمِ)) ‪ ،‬وإذا اجتهد فى الدعاء قال ‪(( :‬يا حَ ّ‬
‫(( ُ‬

‫ب‪:‬‬
‫صدّيق ‪ ،‬أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪(( :‬دَعَواتُ المكرو ِ‬ ‫وفى ((سنن أبى داود)) ‪ ،‬عن أبى بكر ال ّ‬
‫ح لى شَأنى كُلّهُ ‪ ،‬ل إله إل أنْتَ)) ‪.‬‬
‫عيْنٍ ‪ ،‬وأصْلِ ْ‬
‫ح َم َتكَ أرجُو ‪ ،‬فَل َتكِ ْلنِى إلى نَفْسى طَ ْرفَ َة َ‬
‫الّلهُمّ َر ْ‬

‫ت تقوليهِنّ‬
‫عمَيس قالت ‪ :‬قال لى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬أل أُعّل ُمكِ كلما ٍ‬
‫وفيها أيضًا عن أسماء بنت ُ‬
‫عنْدَ الكَرْبِ أو فى الكَ ْربِ‪:‬‬
‫ِ‬

‫((الُ َربّى ل ُأشْ ِركُ به شيئاً)) ‪.‬‬


‫وفى رواية أنها تُقال سب َع مرات ‪.‬‬

‫ب عبدًا هَ ٌم ول‬ ‫وفى ((مسند المام أحمد)) عن ابن مسعود ‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم قال ‪(( :‬ما أصا َ‬
‫ى قضاؤكَ ‪،‬‬ ‫ح ْك ُمكَ ‪ ،‬عَدْلٌْ ف ّ‬
‫ض فِىّ ُ‬
‫صيَتى بيَ ِدكَ ‪ ،‬مَا ٍ‬‫عبْ ِدكَ ‪ ،‬ابنُ أم ِتكَ ‪ ،‬نا ِ‬‫ن َ‬ ‫ع ْب ُدكَ ‪ ،‬اب ُ‬
‫ن فقال ‪ :‬الّلهُ ّم إنّى َ‬‫حُزْ ٌ‬
‫ت به فى عِ ْلمِ‬ ‫خلْقِك ‪ ،‬أو استأثَرْ َ‬ ‫ك ‪ ،‬أو أنز ْلتَه فِى ِكتَا ِبكَ ‪ ،‬أو عَّل ْمتَهُ أحدًا من َ‬
‫سَ‬‫ت به نَفْ َ‬
‫س ّميْ َ‬
‫سمٍ هُ َو لكَ َ‬ ‫اسأُلكَ بكل ا ْ‬
‫ب َهمّى ‪ ،‬إل أذْهَبَ الُ‬ ‫صدْرى ‪ ،‬وجِلءَ حُزنى ‪ ،‬وذَهَا َ‬ ‫جعَل القُرْآنَ العظيم رَبيعَ قَ ْلبِى ‪ ،‬ونُورَ َ‬ ‫عنْ َدكَ ‪ :‬أن تَ ْ‬‫ب ِ‬ ‫ال َغيْ ِ‬
‫حُ ْزنَه و َهمّهُ ‪ ،‬وأ ْبدَلَهُ مكانَهُ فرحاً)) ‪.‬‬

‫ل ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬دعو ُة ذى النّون إذْ‬ ‫وفى ((الترمذىّ)) عن سعد بن أبى َوقّاص ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسو ُ‬
‫سبْحَا َنكَ إنّى كُنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ ‪َ ،‬لمْ َي ْدعُ بها رجلٌ مسلمٌ فى شىءٍ‬
‫دَعَا َربّهُ وهو فى بَطْنِ الحُوتِ ‪{ :‬لَ إل َه إل أَنتَ ُ‬
‫ستُجِيبَ له)) ‪.‬‬
‫ط إل ا ْ‬‫قَ ّ‬

‫وفى رواية ‪(( :‬إنّى لعل ُم كِ ْلمَةً ل يقوُلهَا مكْروبٌ إل فرّج ال عنه ‪ :‬كَِلمَةَ أخى يُونُس)) ‪.‬‬

‫وفى ((سنن أبى داود)) عن أبى سعيد الخدرى ‪ ،‬قال ‪ :‬دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم ذات يوم المسجد ‪،‬‬
‫غيْرِ َو ْقتِ‬‫ك فى المسجدِ فى َ‬ ‫ل له ‪ :‬أبو ُأمَامة ‪ ،‬فقال ‪(( :‬يا أبا أُمامة ؛ ما لى أرَا َ‬ ‫فإذا هو برجل من النصار يُقا ُ‬
‫ل عَزّ‬‫ك كلماً إذا أنت قُ ْلتَهُ أذهبَ ا ُ‬ ‫ل ال ‪ ،‬فقال ‪(( :‬أل أُعَّل ُم َ‬ ‫الصّلةِ)) ؟ فقال ‪ :‬هُمومٌ َل ِز َمتْنى ‪ ،‬وديونٌ يا رسو َ‬
‫ت ‪ :‬الّلهُ ّم إنّى‬
‫سيْ َ‬
‫حتَ وَإذَا أمْ َ‬‫صبَ ْ‬‫ت ‪ :‬بلى يا رسول ال‪ ،‬قال ‪(( :‬قُلْ إذا أ ْ‬ ‫جلّ َه ّمكَ وقَضَى َديْ َنكَ)) ؟ قال ‪ :‬قل ُ‬ ‫وَ‬
‫ل ‪ ،‬وأعُوذُ ِبكَ من غََلبَةِ‬ ‫ن والبُخْ ِ‬ ‫جبْ ِ‬
‫ل ‪ ،‬وأعوذُ ِبكَ من ال ُ‬ ‫ن ‪ ،‬وأعو ُذ ِبكَ من ال َعجْ ِز والكَسَ ِ‬ ‫أعُوذُ ِبكَ من الهَمّ والحَزَ ِ‬
‫ل َهمّى ‪ ،‬وقَضى عنى َديْنِى ‪.‬‬ ‫ت ذلك ‪ ،‬فأذهب ال عَ ّز وجَ ّ‬ ‫ال ّديْنِ َو َقهْرِ الرّجَال)) ‪ ،‬قال ‪ :‬ففعل ُ‬

‫وفى ((سنن أبى داود)) ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬مَن لَزِ َم الستغفا َر ‪،‬‬
‫حتَسِب))‬
‫حيْثُ ل يَ ْ‬
‫خرَجاً ‪ ،‬ور َزقَ ُه مِن َ‬
‫ق مَ ْ‬
‫ل هَ ّم فَرَجاً ‪ ،‬ومِن كُلّ ضِي ٍ‬
‫ل لَ ُه من ك ّ‬
‫جعَلَ ا ُ‬
‫َ‬

‫ح َزبَه أم ٌر ‪َ ،‬ف ِزعَ إلى الصّلة ‪ ،‬وقد قال تعالى ‪:‬‬


‫وفى ((المسند)) ‪ :‬أنّ النبىّ صلى ال عليه وسلم كان إذا َ‬
‫صبْرِ وَالْصّلَة}‬
‫س َتعِينُواْ بِال ّ‬
‫{وَا ْ‬

‫س الهَ ّم والغَمّ)) ‪.‬‬


‫ل به عن النّفُو ِ‬
‫جنّةِ ‪ ،‬يدفعُ ا ُ‬
‫ب ال َ‬
‫جهَادِ ‪ ،‬فإنّه بابٌ مِن أبوا ِ‬
‫وفى ((السنن)) ‪(( :‬عََل ْيكُم بال ِ‬

‫غمُومُ ُه ‪ ،‬فَ ْل ُي ْكثِرْ مِنْ َقوْلِ ‪ :‬ل‬


‫ت ُهمُومُهُ و ُ‬
‫ويُذكر عن ابن عباس ‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬مَن َكثُرَ ْ‬
‫حَ ْولَ وَل قُوّ َة إلّ بالِ)) ‪.‬‬

‫جنّة ‪.‬‬
‫وثبت فى ((الصحيحين)) ‪ :‬أنها كَنزٌ من كنوز ال َ‬

‫جنّة ‪.‬‬
‫ب من أبواب ال َ‬
‫وفى ((الترمذى)) ‪ :‬أنها با ٌ‬

‫هذه الدوية تتضمّن خمسةَ عشرَ نوعاً من الدواء ‪ ،‬فإن لم تقو على إذهاب دا ِء الهَ ّم والغَمّ والحزن ‪ ،‬فهو دا ٌء قد‬
‫استحكم ‪ ،‬وتمكنت أسبابه ‪ ،‬ويحتاج إلى استفراغ كُلّى ‪..‬‬

‫الول ‪ :‬توحيد الرّبوبية ‪.‬‬

‫الثانى ‪ :‬توحيد اللهية ‪.‬‬

‫الثالث ‪ :‬التوحيد العلمى العتقادى ‪.‬‬

‫الرابع ‪ :‬تنزيه الرّب تعالى عن أن يظلم عبده ‪ ،‬أو يأخذه بل سبب من العبد يُوجب ذلك ‪.‬‬

‫الخامس ‪ :‬اعتراف العبد بأنه هو الظالم ‪.‬‬


‫السادس ‪ :‬التوسّل إلى الرّب تعالى بأحبّ الشياء ‪ ،‬وهو أسماؤه وصفاته ‪ ،‬ومن أجمعها لمعانى السماء‬
‫ى ال َقيّوم ‪.‬‬
‫والصفات ‪ :‬الح ّ‬

‫السابع ‪ :‬الستعانة به وحده ‪.‬‬

‫الثامن ‪ :‬إقرار العبد له بالرجاء ‪.‬‬

‫ن ناصيتَه فى يده ‪ ،‬يُص ّرفُه كيف يشاء ‪ ،‬وأنه‬


‫ف له بأ ّ‬
‫ض إليه ‪ ،‬والعترا ُ‬
‫ل عليه ‪ ،‬والتفوي ِ‬
‫ق التوك ِ‬
‫التاسع ‪ :‬تحقي ُ‬
‫ض فيه حُكمُه ‪ ،‬عدلٌ فيه قضاؤه ‪.‬‬‫ما ٍ‬

‫ستَضِىءَ به فى ظُلُماتِ الشّبهات‬


‫العاشر ‪ :‬أن يَرتَعَ قلبُه فى رياض القرآن ‪ ،‬ويجعلَه لقلبه كالربيع للحيوان ‪ ،‬وأن يَ ْ‬
‫ى به من أدواء صدره ‪ ،‬فيكونُ‬ ‫والشّهوات ‪ ،‬وأن يَتسلّى به عن كل فائت ‪ ،‬ويَتعزّى به عن كل مصيبة ‪ ،‬ويَستش ِف َ‬
‫غمّه ‪.‬‬
‫جِلءَ حُ ْزنِه ‪ ،‬وشفاءَ همّه و َ‬

‫الحادى عشر ‪ :‬الستغفار ‪.‬‬

‫الثانى عشر ‪ :‬التوبة ‪.‬‬

‫الثالث عشر ‪ :‬الجهاد ‪.‬‬

‫الرابع عشر ‪ :‬الصلة ‪.‬‬

‫الخامس عشر ‪ :‬البراءة من الحَوْل وال ُقوّة وتفويضُهما إلى مَن هُما بيدِه ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى بيان جهة تأثير هذه الدوية فى هذه المراض‬

‫خلق ال سبحانه ابن آدمَ وأعضاءَه ‪ ،‬وجعل لكل عُضو منها كمالً إذا فقده أحسّ باللم ‪ ،‬وجعل ِلمَلِكها وهو القلب‬
‫كمالً ‪ ،‬إذا فقده ‪ ،‬حضرتْه أسقامُه وآلمُه من الهموم والغموم والحزان ‪.‬‬

‫سمْع ‪ ،‬واللّسَانُ ما خُِلقَ له‬


‫ت له مِن قوة ال ّ‬
‫خلِق ْ‬
‫ت له مِن قوة البصار ‪ ،‬وفقدت الُذنُ ما ُ‬‫فإذا فقدت ال َعيْنُ ما خُِلقَ ْ‬
‫مِن قُوّة الكلم ‪ ،‬فقدتْ كمالَها‬

‫ق لمعرفةِ فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به ‪ ،‬والبتهاج بحبه ‪ ،‬والرضى عنه ‪ ،‬والتوكل عليه ‪،‬‬ ‫ب ‪ :‬خُلِ َ‬
‫والقل ُ‬
‫ب إليه مِن كل ما سواه ‪،‬‬ ‫والحب فيه ‪ ،‬والبغض فيه ‪ ،‬والموالة فيه ‪ ،‬والمعاداة فيه ‪ ،‬ودوام ذكره ‪ ،‬وأن يكون أح ّ‬
‫جلّ فى قلبه مِن كل ما سواه ‪ ،‬ول نعيمَ له ول سرو َر ول لذّ َة ‪ ،‬بل ول حياة إل‬
‫وأ ْرجَى عنده مِن كل ما سواه ‪ ،‬وأ َ‬
‫بذلك ‪ ،‬وهذا له بمنزلة الغِذاء والصحة والحياة ‪ ،‬فإذا فَ َقدَ غذاءه وصحته وحياته ‪ ،‬فالهمومُ والغموم والحزان‬
‫ن مقيم عليه ‪.‬‬
‫ب إليه ‪ ،‬ورهْ ٌ‬
‫مسارعةٌ مِن كل صَوْ ٍ‬

‫ك التفويض إليه ‪ ،‬وقِلّ ُة العتماد‬


‫ب والغفلةُ والستهانةُ ِبمَحابّه ومَراضيه ‪ ،‬وتر ُ‬
‫ومن أعظم أدوائه ‪ :‬الشّركُ والذنو ُ‬
‫ك فى وعده ووعيده ‪.‬‬ ‫ن إلى ما سوا ُه ‪ ،‬والسخطُ بمقدوره ‪ ،‬والش ّ‬ ‫عليه ‪ ،‬والركو ُ‬

‫ت هذه الُمور وأمثالها هى أسبابُها ل سببَ لها سِواها ‪ ،‬فدواؤه الذى ل دواءَ له‬
‫وإذا تأملتَ أمراض القلب ‪ ،‬وجد َ‬
‫ض يُزال بالضد ‪ ،‬والصّحةُ‬‫سواه ما تضمنتْهُ هذه العلجات النبوية من الُمور المضادة لهذه الدواء ‪ ،‬فإنّ المر َ‬
‫تُحفظ بالمِثْل ‪ ،‬فصحتُه تُحفظ بهذه الُمور النبوية ‪ ،‬وأمراضُه بأضدادها ‪.‬‬
‫ب الخير والسرور واللّذة والفرح والبتهاج ‪ ،‬والتوبةُ استفراغٌ للخلط والمواد الفاسدة‬ ‫فالتوحيد ‪ ..‬يفتح للعبد با َ‬
‫ب أسقامه ‪ ،‬وحِميةٌ له من التخليط ‪ ،‬فهى ُتغْلِق عنه بابَ الشرور ‪ ،‬فيُفتَح له بابُ السعادة والخير‬‫التى هى سب ُ‬
‫بالتوحيد ‪ ،‬و ُيغْلَق باب الشرور بالتوبة والستغفار ‪.‬‬

‫قال بعض المتقدمين من أئمة الطب ‪ :‬مَن أراد عافية الجسم ‪ ،‬فليقلّلْ مِن الطعام والشراب ‪ ،‬ومَن أراد عافية‬
‫القلب ‪ ،‬فليت ُركْ الثام ‪.‬‬

‫وقال ثابت بن ُقرّةَ ‪ :‬راحةُ الجسم فى قِلّة الطعام ‪ ،‬وراحةُ الرّوح فى قِلّة الثام‪ ،‬وراحةُ اللّسان فى قِلّة الكلم ‪.‬‬

‫والذنوبُ للقلب ‪ ،‬بمنزلة السّموم ‪ ،‬إن لم تُهلكْه أضعفتْه ‪ ،‬ول بُدّ ‪ ،‬وإذا ضعُفت قوته ‪ ،‬لم يقدرْ على مقاومة‬
‫المراض ‪ ،‬قال طبيبُ القلوب عبدُ ال ابن المُبارَك ‪:‬‬

‫ل إدْمَانُهـَا‬
‫ث الذّ ّ‬
‫ب ُتمِيتُ ا ْلقُلـُوبَ َو َق ْد يُورِ ُ‬
‫ت الذنُو َ‬
‫رََأيْ ُ‬

‫صيَا ُنهَا‬
‫ك عِ ْ‬
‫ب َوخَيرٌ ِل َنفْسِــ َ‬
‫حيَاةُ الْقُلـُو ِ‬
‫ب َ‬
‫َوتَ ْركُ الذّنُو ِ‬

‫فالهوى أكب ُر أدوائها ‪ ،‬ومخالفتُه أعظ ُم أدويتها ‪ ،‬والنفس فى الصل خُِلقَتْ جاهلة ظالمة ‪ ،‬فهى لجهلِها تظن‬
‫طبُها ‪ ،‬ولظلمِها ل تقبل مِن الطبيب الناصح ‪ ،‬بل تضَعُ الداء موضِعَ‬ ‫شِفاءَها فى اتباع هواها ‪ ،‬وإنما فيه تلفُها وع َ‬
‫الدواء فتعتمده ‪ ،‬وتضعُ الدواء موضع الداء فتجتنبه ‪ ،‬فيتوّلدُ مِن بين إيثارِها للداء ‪ ،‬واجتنابِها للدواء أنواعٌ من‬
‫ب ذلك على ال َقدَر ‪،‬‬
‫السقام والعِلل التى تُعيِى الطباء ‪ ،‬ويتعذّرُ معها الشفاء ‪ .‬والمصيب ُة العظمى ‪ ،‬أنها تُ َركّ ُ‬
‫ح به اللّسان ‪.‬‬
‫فتُبرّىء نفسَها ‪ ،‬وتلو ُم ربّها بلسان الحال دائمًا ‪ ،‬وَيقوَى اللّومُ حتى يُصرّ َ‬

‫وإذا وصل العليلُ إلى هذه الحال ‪ ،‬فل يُطمَع فى بُرئه إل أن تتداركه رحمة من ربه ‪ ،‬فيُحييه حياةً جديدة ‪،‬‬
‫ويرزقُه طريقةً حميدة ‪ ،‬فلهذا كان حديث ابن عباس فى دُعاء الكرب مشتملً على توحيد اللهية والربوبية ‪،‬‬
‫ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم ‪ ،‬وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القُدرة والرحمة ‪ ،‬والحسان‬
‫ى ‪ ،‬والعرش الذى هو سقفُ المخلوقات وأعظمها ‪.‬‬ ‫ى والسّفل ّ‬
‫والتجاوز ‪ ،‬ووصفِه بكمال ربوبيته للعالَم العُلو ّ‬
‫والرّبوبية التامة تستل ِزمُ توحيدَه ‪ ،‬وأنه الذى ل تنبغى العبادةُ والحبّ والخوفُ والرجاء والجلل والطاعة إل له‬
‫ب كل نقص وتمثيل عنه ‪ .‬وحِلمُه يستلزم كمال رحمته‬ ‫‪ .‬وعظمتُه المطلقة تستلزمُ إثباتَ كل كمال له ‪ ،‬وسل َ‬
‫وإحسانه إلى خلقه ‪.‬‬

‫فعِلْمُ القلب ومعرفتُه بذلك توجب محبته وإجلله وتوحيدَه ‪ ،‬فيحصل له من البتهاج واللّذة والسرور ما يدفع عنه‬
‫ألم الكرب والهم والغم ‪ ،‬وأنت تجدُ المريض إذا ورد عليه ما يسرّ ُه ويُفرحه ‪ ،‬ويُقوّى نفسه ‪ ،‬كيف تقوى الطبيعة‬
‫ل هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى ‪.‬‬‫على دفع المرض الحسّى ‪ ،‬فحصو ُ‬

‫ثم إذا قابلتَ بين ضيق الكرب وسعة هذه الوصاف التى تضمّنها دعاءُ الكرب ‪ ،‬وجدته فى غاية المناسبة لتفريج‬
‫هذا الضيق ‪ ،‬وخروج القلب منه إلى سعَةِ البهجة والسرور ‪ ،‬وهذه الُمورُ إنما يُصدّق بها مَن أشرقت فيه‬
‫أنوارُها ‪ ،‬وباشر قلبُه حقائقَها ‪.‬‬

‫ى يا َقيّو ُم ‪ ،‬برحمتِك أستغيثُ)) فى دفع هذا الداء مناسبة بديعة ‪ ،‬فإنّ صفة الحياة‬ ‫وفى تأثير قوله ‪(( :‬يا ح ّ‬
‫متضمّن ٌة لجميع صفات الكمال ‪ ،‬مستلزمة لها ‪ ،‬وصفة ال َقيّومية متضمنة لجميع صفات الفعال ‪ ،‬ولهذا كان اسمُ‬
‫حىّ ال َقيّوم ‪ ،‬والحياة التامة تُضاد جميعَ‬
‫سئِلَ به أعطى ‪ :‬هو اسمُ ال َ‬ ‫ى به أجاب ‪ ،‬وإذا ُ‬ ‫ال العظ ُم الذى إذا دُع َ‬
‫ن ول شىء من الفات ‪ .‬ونقصانُ‬ ‫جنّة لم يلحقهم هَ ٌم ول غَ ٌم ول حَزَ ٌ‬
‫السقام واللم ‪ ،‬ولهذا َلمّا َكمُلَتْ حياة أهل ال َ‬
‫ى المطلق التام الحياة ل يفوتُه صِفة‬ ‫ل القيومية لكمال الحياة ‪ ،‬فالح ّ‬ ‫الحياة تضر بالفعال ‪ ،‬وتنافى القيومية ‪ ،‬فكما ُ‬
‫ل ممكنٌ ألبتة ‪ ،‬فالتوسل بصفة الحياة وال َقيّومية له تأثيرٌ فى إزالة ما يُضادّ‬ ‫الكمال ألبتة ‪ ،‬وال َقيّوم ل يتعذّ ُر عليه فع ٌ‬
‫الحياة ‪ ،‬ويضُ ّر بالفعال ‪.‬‬

‫ل أن يَه ِديَه لما اختُِلفَ‬


‫ونظير هذا توسلُ النبى صلى ال عليه وسلم إلى ربه بربوبيته لجبريلَ ومِيكائيلَ وإسرافي َ‬
‫فيه من الحق بإذنه ‪ ،‬فإنّ حياة القلب بالهداية ‪ ،‬وقد وكّل ال سبحانه هؤلء الملك الثلثة بالحياة ‪ ،‬فجبريلُ‬
‫موّكلٌ بالوحى الذى هو حياةُ القلوب ‪ ،‬وميكائيل بالقَطْر الذى هو حياةُ البدان والحيوان ‪ ،‬وإسرافيل بالنّفْخ فى‬
‫الصّور الذى هو سببُ حيا ِة العالَم وعَودِ الرواح إلى أجسادها ‪ ،‬فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الرواح‬
‫العظيمة الموكلة بالحياة ‪ ،‬له تأثير فى حصول المطلوب ‪.‬‬

‫والمقصود ‪ :‬أن لسم الحىّ ال َقيّوم تأثيراً خاصاً فى إجابة الدعوات ‪ ،‬وكشف الكُربات ‪.‬‬

‫حدٌ ‪ ،‬ل إلهَ‬


‫ل العْظَم فى ها َتيْنِ اليتين ‪{ :‬وَإل ُهكُمْ إل ٌه وَا ِ‬ ‫وفى ((السنن)) و((صحيح أبى حاتم)) مرفوعًا ‪(( :‬اسمُ ا ِ‬
‫حمَنُ الرّحِيمُ}[البقرة ‪ ،]163 :‬وفاتح ِة آلِ عمران ‪ { :‬آلم * الُ لَ إل َه إلّ هُوَ ا ْلحَىّ ا ْل َقيّومُ}[آل عمران ‪:‬‬
‫إلّ هُ َو الرّ ْ‬
‫ى ‪ :‬حديث صحيح‬ ‫‪ ،]2-1‬قال الترمذ ّ‬

‫ن رجلً دعا ‪ ،‬فقال ‪ :‬الّلهُ ّم إنّى أسأُلكَ بأنّ َلكَ‬ ‫حبّان)) أيضًا ‪ :‬من حديث أنس أ ّ‬ ‫وفى ((السنن)) و((صحيح ابن ِ‬
‫ض ‪ ،‬ياذا الجلل والكرام ‪ ،‬يا حىّ يا َقيّو ُم ‪ ،‬فقال النبى‬ ‫ن ‪ ،‬بديعُ السّمواتِ والر ِ‬ ‫ت المنّا ُ‬
‫ح ْمدَ ‪ ،‬ل إلَهَ إل أن َ‬
‫الْ َ‬
‫ل به أعْطَى)) ‪.‬‬ ‫سئِ َ‬
‫ب ‪ ،‬وإذا ُ‬
‫ل باسمِهِ العْظَم الذى إذا دُعِىَ به أجا َ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬لقد دَعَا ا َ‬

‫ى يا َقيّومُ)) ‪.‬‬
‫ولهذا كان النبىّ صلى ال عليه وسلم إذا اجتهد فى الدعاء ‪ ،‬قال ‪(( :‬يَا ح ّ‬

‫عيْنٍ ‪ ،‬وأصْلِحْ لى شأنى كُلّ ُه ل إلهَ إلّ أنتَ)) من‬


‫ط ْرفَةَ َ‬
‫ح َم َتكَ أرْجُو ‪ ،‬فل َتكِلْنى إلى نفسى َ‬
‫وفى قوله ‪(( :‬الّلهُمّ رَ ْ‬
‫تحقيق الرجاء لمن الخي ُر كُلّهُ بيديه والعتمادُ عليه وحده ‪ ،‬وتفويضُ المر إليه ‪ ،‬والتضرع إليه ‪ ،‬أن يتولّى‬
‫إصلح شأنه ‪ ،‬ول َيكِلَه إلى نفسه ‪ ،‬والتوسّل إليه بتوحيده مما له تأثي ٌر قوى فى دفع هذا الداء ‪ ،‬وكذلك قوله ‪:‬‬
‫شيْئاً)) ‪.‬‬
‫ل ربّى ل ُأشْ ِركُ بِه َ‬ ‫((ا ُ‬

‫عبْ ِدكَ)) ‪ ،‬ففيه من المعارف اللهية ‪ ،‬وأسرارِ العبودية ما ل‬


‫ن َ‬
‫عبْ ُدكَ ابْ ُ‬
‫وأما حديث ابن مسعود ‪(( :‬الّلهُ ّم إنّى َ‬
‫ف بعبوديته وعبودية آبائه وأُمهاته ‪ ،‬وأنّ ناصيته بيده يُصرّفها كيف يشاء ‪،‬‬ ‫يتّسِعُ له كتاب ‪ ،‬فإنه يتضمّن العترا َ‬
‫فل يملِك ُ العبدُ دونه لنفسه نفعاً ول ضراً ‪ ،‬ول موتاً ول حياةً ‪ ،‬ول نُشورًا ‪ ،‬لنّ مَن ناصيتُه بيد غيره ‪ ،‬فليس‬
‫ن فى قبضته ‪ ،‬ذليل تحت سلطان قهرِه ‪.‬‬ ‫إليه شىءٌ من أمره ‪ ،‬بل هو عا ٍ‬

‫ن لصلين عظيمين عليهما مدا ُر التوحيد ‪.‬‬


‫ى قضاؤكَ)) متضم ٌ‬
‫عدْلٌ فِ ّ‬
‫ح ْك ُمكَ َ‬
‫وقوله ‪(( :‬ماضٍ فىّ ُ‬

‫ت ال َقدَر ‪ ،‬وأنّ أحكام الرّبّ تعالى نافذةٌ فى عبده ماضيةٌ فيه ‪ ،‬ل انفكاكَ له عنها ‪ ،‬ول حِيلةَ له فى‬
‫أحدهما ‪ :‬إثبا ُ‬
‫دفعها ‪.‬‬

‫ل فى هذه الحكام ‪ ،‬غير ظالم لعبده ‪ ،‬بل ل يخرُج فيها عن موجب العدل والحسان ‪،‬‬ ‫والثانى ‪ :‬أنه سبحانه عد ٌ‬
‫فإنّ الظلم سببه حاجةُ الظالم ‪ ،‬أو جهلُه ‪،‬أو سفهُه ‪ ،‬فيستحيلُ صدور ُه ممن هو بكل شىء علي ٌم ‪ ،‬ومَن هو غنىٌ‬
‫ن هو أحكم الحاكمين ‪ ،‬فل تخرُج ذَرّ ٌة مِن مقدوراته عن حِكمته‬ ‫ل شىء فقي ٌر إليه ‪ ،‬ومَ ْ‬ ‫عن كل شىء ‪ ،‬وك ّ‬
‫ت مشيئته وقُدرته ‪ ،‬ولهذا قال نبىّ ال هودٌ‬ ‫وحمده ‪ ،‬كما لم تخرج عن قُدرته ومشيئته ‪ ،‬فحِكمته نافذة حيثُ نفذ ْ‬
‫ش ِركُونَ *مِن‬ ‫ش َهدُواْ َأنّى بَرِى ٌء ّممّا تُ ْ‬‫شهِدُ الَ وَا ْ‬‫سلّم ‪ ،‬وقد خَوّفه قومُه بآلهتهم ‪{:‬إنّى ُأ ْ‬ ‫صَلّى ال على نبينا وعليه و َ‬
‫ص َي ِتهَا ‪ ،‬إنّ‬
‫خذٌ ِبنَا ِ‬
‫جمِيعًا ثُمّ ل ُتنْظِرُونِ * إنّى تَ َوكّ ْلتُ علَى الِ َربّى وَ َرّبكُم * مّا مِن دَابّ ٍة إلّ هُ َو آ ِ‬
‫دُونِهِ ‪َ ،‬فكِيدُونِى َ‬
‫ستَقِيمٍ}[هود ‪ ، ]57-54 :‬أى مع كونه سبحانه آخذاً بنَواصى خلقه وتصريفهم كما يشاء ‪،‬‬ ‫ط مّ ْ‬
‫صرَا ٍ‬
‫َربّى عَلَى ِ‬
‫ف فيهم إل بالعدل والحكمة ‪ ،‬والحسان والرحمة ‪ .‬فقوله ‪(( :‬ماضٍ فىّ‬ ‫فهو على صراطٍ مستقيمٍ ل يتصرّ ُ‬
‫ل فِىّ قضاؤكَ)) ‪ ،‬مطابقٌ لقوله ‪:‬‬ ‫عدْ ٌ‬
‫ص َي ِتهَا} ‪ ،‬وقولُه ‪َ (( :‬‬
‫خذٌ ِبنَا ِ‬
‫ح ْك ُمكَ)) ‪ ،‬مطابقٌ لقوله ‪{ :‬مَا مِن دَابّةٍ إلّ ُهوَ آ ِ‬ ‫ُ‬

‫ل إلى ّربّه بأسمائه التى سمّى بها نفسه ما عَلِ َم العبادُ منها‬ ‫ستَقِيمٍ} [هود ‪ ، ]57 :‬ثم توسّ َ‬
‫علَى صِرَاطٍ مّ ْ‬
‫{إنّ َربّى َ‬
‫ل ‪ ،‬وهذه‬ ‫وما لم يعلموا ‪ .‬ومنها ‪ :‬ما استأثره فى علم الغيب عنده ‪ ،‬فلم يُطلع عليه مَلَكاً مُقرّبًا ‪ ،‬ول نبيّا مرس ً‬
‫الوسيلةُ أعظمُ الوسائل ‪ ،‬وأحبّها إلى ال ‪ ،‬وأقربُها تحصيلً للمطلوب ‪.‬‬

‫ن ربيعُ القلوب ‪ ،‬وأن يجعلَه شفاءَ‬‫ثم سأله أن يجعلَ القرآن لِقلبه كالربيع الذى يرتَع فيه الحيوانُ ‪ ،‬وكذلك القرآ ُ‬
‫ل الداء ‪ ،‬ويُعيدُ البدن إلى صحته واعتداله ‪ ،‬وأن يجعله لحُزنه‬ ‫غمّه ‪ ،‬فيكونُ له بمنزلة الدواء الذى يستأصِ ُ‬
‫َهمّه و َ‬
‫ل عنه‬‫حرَى بهذا العلج إذا صدق العليل فى استعماله أن يُزي َ‬ ‫كالجِلء الذى يجلو الطّبوعَ والصديةَ وغيرها ‪ ،‬فأ ْ‬
‫داءه ‪ ،‬ويُعقبه شفاءً تامًا ‪ ،‬وصحةً وعافيةً ‪ ..‬وال الموفق ‪.‬‬
‫ف العبد بظلمه وذنبه ما هو من‬ ‫ب تعالى ‪ ،‬واعترا ِ‬
‫ن فيها من كمال التوحيد والتنزيه للر ّ‬ ‫وأما دعوةُ ذى النون ‪ ..‬فإ ّ‬
‫ب والهَمّ والغَ ّم ‪ ،‬وأبلغِ الوسائل إلى ال سبحانه فى قضاء الحوائج ‪ ،‬فإنّ التوحي َد والتنزيه‬
‫أبلغ أدوي ِة الكَر ِ‬
‫ب كُلّ نقصٍ وعيب وتمثيل عنه ‪ .‬والعترافُ بالظلم يتضمّن إيمانَ العبد‬ ‫يتضمنان إثبات كل كمال لِ ‪ ،‬وسل َ‬
‫ف بعبوديته ‪،‬‬‫بالشرع والثواب والعقاب ‪ ،‬ويُوجب انكسارَه ورجوعَه إلى ال ‪ ،‬واستقالته عثرتَه ‪ ،‬والعترا َ‬
‫وافتقاره إلى ربه ‪ ،‬فههنا أربعةُ أُمور قد وقع التوسلُ بها ‪ :‬التوحيد ‪ ،‬والتنزيه ‪ ،‬والعبودية ‪ ،‬والعتراف ‪.‬‬

‫ك مِنَ الهَ ّم والحَزَنِ)) ‪ ،‬فقد تضمّن الستعاذة من ثمانية أشياء ‪ ،‬كُ ّ‬


‫ل‬ ‫وأما حديث أبى أمامة ‪(( :‬الّلهُ ّم إنّى أعوذُ ِب َ‬
‫ل أَخوان ‪ ،‬وضَلَعُ‬ ‫ن والبُخ ُ‬
‫حزَنُ أَخوان ‪ ،‬والعجزُ والكسلُ أخوان ‪ ،‬والجُب ُ‬ ‫اثنين منها قَرينان مزدوجان ‪ ،‬فالهمّ وال َ‬
‫ال ّديْن وغلبةُ الرجال أخوان ‪ ،‬فإنّ المكروه المؤلم إذا ورد على القلب ‪ ،‬فإما أن يكون سببهُ أمرًا ماضياً ‪ ،‬فيُوجب‬
‫له الحزن ‪ ،‬وإن كان أمراً متوقعاً فى المستقبل ‪ ،‬أوجب الهم ‪ ،‬وتخلفُ العبد عن مصالحه وتفويتها عليه ‪ ،‬إما أن‬
‫يكون مِن عدم القُدرة وهو العجز ‪ ،‬أو من عدم الرادة وهو الكسل ‪ ،‬وحبسُ خيره ونفعه عن نفسه وعن بنى‬
‫ضلَعُ‬
‫جنسه ‪ ،‬إما أن يكونَ منعَ نفعه ببدنه ‪ ،‬فهو الجُبن ‪ ،‬أو بماله ‪ ،‬فهو البخل ‪ ،‬وقه ُر النّاس له إما بحق ‪ ،‬فهو َ‬
‫ث الستعاذة من كل شَ ّر ‪.‬‬
‫ال ّديْن ‪ ،‬أو بباطل فهو غَلبَةُ الرّجال ‪ ،‬فقد تضمّن الحدي ُ‬

‫ل أُمة أنّ‬ ‫وأما تأثيرُ الستغفار فى دفع الهّمّ والغَمّ والضّـيق ‪ ،‬فِلمَا اشت َركَ فى العلم به أهلُ الملل وعقلءُ كُ ّ‬
‫ن أهلها إذا‬ ‫المعاصىَ والفسا َد تُوجب الهَ ّم والغَمّ ‪ ،‬والخوفَ والحُزن ‪ ،‬وضيقَ الصدر ‪ ،‬وأمراض القلب ‪ ،‬حتى إ ّ‬
‫جدُونه فى صدورهم من الضيق والهَ ّم والغَ ّم ‪ ،‬كما‬ ‫قضَوْا منها أوطارَهم ‪ ،‬وسئمتها نفوسُهم ‪ ،‬ارتكبوها دفعًا لما يَ ِ‬
‫قال شيخُ الفسوق‪:‬‬

‫ت ِمنْهَا ِبهَا‬
‫ت عَلَى َلذّةٍ َوأُخْرَى َتدَا َويْ ُ‬
‫َوكَ ْأسٍ شَ ِربْ ُ‬

‫وإذا كان هذا تأثير الذنوب والثام فى القلوب ‪ ،‬فل دواءَ لها إل التوبةُ والستغفار‬

‫ل القلب‬‫وأما الصّلةُ ‪ ..‬فشأنها فى تفريح القلب وتقويته ‪ ،‬وشرحِه وابتهاجه ولذّته أكبرُ شأن ‪ ،‬وفيها من اتصا ِ‬
‫ل جميع البدن وقُواه‬‫ف بين يديه ‪ ،‬واستعما ِ‬
‫ج بمناجاته ‪ ،‬والوقو ِ‬
‫والروح بال ‪ ،‬وقربه والتنعم بذكره ‪ ،‬والبتها ِ‬
‫وآلته فى عبوديته ‪ ،‬وإعطاء كل عضو حظّه منها ‪ ،‬واشتغالهِ عن التعلّق بالخلق وملبستهم ومحاوراتهم ‪،‬‬
‫ب قُوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره ‪ ،‬وراحتِه من عدوّه حالةَ الصلة ما صارت به من أكبر الدوية‬ ‫وانجذا ِ‬
‫ب العليلة ‪ ،‬فهى كالبدان ل تُناسبها إل‬
‫والمفرّحات والغذية التى ل تُلئم إل القلوبَ الصحيحة ‪ .‬وأمّا القلو ُ‬
‫الغذية الفاضلة ‪.‬‬

‫فالصلةُ من أكبر العَوْن على تحصيل مصالح الدنيا والخرة ‪ ،‬ودفع مفاسد الدنيا والخرة ‪ ،‬وهى منها ٌة عن الثم‬
‫‪ ،‬ودافعةٌ لدواء القلوب ‪ ،‬ومَطْ َردَةٌ للدا ِء عن الجسد ‪ ،‬ومُنوّر ٌة للقلب ‪ ،‬ومُبيّضَةٌ للوجه ‪ ،‬ومُنشّطةٌ للجوارح‬
‫والنفس ‪ ،‬وجالِبةٌ للرزق ‪ ،‬ودافعةٌ للظلم ‪ ،‬وناصِر ٌة للمظلوم ‪ ،‬وقامِعةٌ لخلط الشهوات ‪ ،‬وحافِظةٌ للنعمة ‪،‬‬
‫ودافِعةٌ للنّقمة ‪ ،‬ومُنزِل ٌة للرحمة ‪ ،‬وكاشِفة لل ُغمّة ‪ ،‬ونافِعةٌ من كثير من أوجاع البطن ‪.‬‬

‫ل ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫وقد روى ابن ماجه فى ((سننه)) من حديث مجاهد ‪ ،‬عن أبى هريرة قال ‪ :‬رآنى رسو ُ‬
‫ل ال ‪ ،‬قال‬
‫ش َكمَتْ دَ ْردْ)) ؟ قال ‪ :‬قلتُ ‪ :‬نعم يا رسو َ‬
‫وأنا نائم أشكو مِن وجع بطنى ‪ ،‬فقال لى ‪(( :‬يا أبا هُ َريْرَة ؛ أ ِ‬
‫صلّ ‪ ،‬فإنّ فى الصّلةِ شِفَاءً)) ‪.‬‬
‫‪(( :‬قُ ْم فَ َ‬

‫@ وقد رُوى هذا الحديثُ موقوفاً على أبى هُرَير َة ‪ ،‬وأنه هو الذى قال ذلك لمجاهد ‪ ،‬وهو أشب ُه ‪ .‬ومعنى هذه‬
‫ك بط ُنكَ ؟‬
‫اللفظةِ بالفارسى ‪ :‬أيوج ُع َ‬

‫فإن لم ينشرح صد ُر زنديق الطباء بهذا العلج ‪ ،‬فيُخاطَبُ بصناعة الطب ‪ ،‬ويقالُ له ‪ :‬الصل ُة رياضة النفس‬
‫والبدن جميعًا ‪ ،‬إذ كانت تشتمِلُ على حركات وأوضاع مختلفة مِن النتصاب ‪ ،‬والركوع ‪ ،‬والسجود ‪،‬‬
‫والتورّك ‪ ،‬والنتقالت وغيرها من الوضاع التى يتحرّك معها أكثرُ المفاصل ‪ ،‬وينغمِزُ معها أكث ُر العضاء‬
‫ن فى هذه الحركات تقويةٌ وتحليلٌ‬ ‫الباطنة ‪ ،‬كال َمعِدَة ‪ ،‬والمعاء ‪ ،‬وسائر آلت النّفَس ‪ ،‬والغذاء ‪ ،‬فما يُنكر أن يكو َ‬
‫سيّما بواسطة قوةِ النفس وانشراحِها فى الصلة ‪ ،‬فتقوى الطبيعة ‪ ،‬فيندفع اللم ‪.‬‬ ‫للمواد ‪ ،‬ول ِ‬

‫ض عنه باللحاد داءٌ ليس له دواء إل نا ٌر تَلَظّى لَ‬


‫ل ‪ ،‬والتّعوّ ِ‬
‫ولكن داء الزندقةِ والعراض عما جاءت به الرّس ُ‬
‫ب َوتَوَلّى‬
‫يَصْلَهَا إلّ الشْقَى اّلذِى َكذّ َ‬
‫وأمّا تأثيرُ الجها ِد فى دفع الهم والغم ‪ ،‬فأمرٌ معلوم بالوجدان ‪ ،‬فإنّ النفس متى تركتْ صائِلَ الباطل وصَوْلته‬
‫ن فرحاً ونشاطاً‬ ‫واستيلءَه ‪ ،‬اشتد همّها وغمّها ‪ ،‬وكربُها وخوفها ‪ ،‬فإذا جاهدته ل أبدل ال ذلك اله ّم والحُزْ َ‬
‫صدُو َر قَوْ ٍم مُ ْؤ ِمنِينَ* َوُيذْهِبْ‬
‫وقو ًة ‪ ،‬كما قال تعالى ‪{ :‬قَاتِلُوهُ ْم ُي َعذّ ْبهُمُ الُ ِبَأيْدِيكُمْ َوُيخْزِهِ ْم َويَنصُ ْركُ ْم عََل ْيهِ ْم َويَشْفِ ُ‬
‫غمّه و َهمّه وحُزنه من الجهاد ‪ ..‬وال المستعان ‪.‬‬ ‫ب لجوَى القلب و َ‬ ‫غيْظَ قُلُو ِبهِمْ}[التوبة ‪ ،]15-14 :‬فل شىءَ أذه ُ‬ ‫َ‬

‫وأمّا تأثيرُ ((ل حَ ْولَ ول قُوّ َة إل بال)) فى دفع هذا الدا ِء ‪ ،‬فلِما فيها من كمالِ التفويضِ ‪ ،‬والتبرّى من الحَوْل‬
‫والقُوّة إل به ‪ ،‬وتسلي ِم المر كله له ‪ ،‬وعدمِ منازعته فى شىء منه ‪ ،‬وعموم ذلك لكلّ تحوّلٍ من حَال إلى حال‬
‫ل وحدَه ‪ ،‬فل يقوم لهذه الكلمة شىء ‪.‬‬ ‫ى ‪ ،‬والقو ِة على ذلك التحول ‪ ،‬وأنّ ذلك كُلّه با ِ‬ ‫ى والسّفل ّ‬
‫فى العالَم العُلو ّ‬

‫ل مََلكٌ من السماء ‪ ،‬ول يَصعَدُ إليها إل بـ ((لَ حَ ْولَ ول قُوّ َة إلّ بال)) ‪ ،‬ولها تأثيرٌ‬
‫وفى بعض الثار ‪ :‬إنه ما ينزِ ُ‬
‫عجيب فى طرد الشيطان ‪ ..‬وال المستعان ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علجِ الفَزَع ‪ ،‬والرَقِ المانِع من النوم‬

‫روى الترمذىّ فى ((جامعه)) عن بُريدةَ قال ‪ :‬شكى خالدٌ إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول ال ؛‬
‫ق ‪ ،‬فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬‫ما أنام الليل مِن الرَ ِ‬

‫ت ‪ ،‬ور ّ‬
‫ب‬ ‫ت ‪ ،‬ورَبّ ال َرضِينَ ‪َ ،‬ومَا َأقَلّ ْ‬ ‫سمَواتِ السّـبْع َومَا أظَلّ ْ‬ ‫ك فَ ُقلْ ‪ :‬الّلهُمّ َربّ ال ّ‬
‫شَ‬‫((إذا أ َويْتَ إلى فِرَا ِ‬
‫عزّ‬
‫ى‪َ ،‬‬‫ى عَلَ ّ‬
‫ى أحدٌ ِم ْنهُمْ ‪ ،‬أَ ْو يَبْغ َ‬
‫ن يَفْرُطَ عل ّ‬
‫ن لَى جارًا مِنْ شَرّ خَ ْل ِقكَ كُّلهِ ْم جميعًا أ ْ‬ ‫ت ‪ ،‬كُ ْ‬‫شيَاطينِ وما أضَلّ ْ‬ ‫ال ّ‬
‫غيْرُك)) ‪.‬‬‫جلّ َثنَـا ُؤكَ ‪ ،‬ول إل َه َ‬ ‫جَارُك ‪ ،‬و َ‬

‫وفيه أيضًا ‪ :‬عن عمرو بن شُعيب ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده أنّ رسولَ الِ صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬كان ُيعَّلمُهم مِنَ‬
‫ن ‪ ،‬وأعُو ُذ ِبكَ رَبّ‬‫شيَاطِي ِ‬
‫عبَادِه ‪َ ،‬ومِنْ َهمَزَاتِ ال ّ‬
‫عقَابِ ِه ‪ ،‬وَش ّر ِ‬
‫الفَ َزعِ ‪(( :‬أعُوذُ ِبكَِلمَاتِ الِ التامّ ِة مِنْ غَضِب ِه ‪ ،‬و ِ‬
‫ن مَن عَ َقلَ من بنيه ‪ ،‬ومَن لم َيعْ ِقلْ كتبه ‪ ،‬فأعلقه عليه ‪،‬‬ ‫عمْرو ُيعَّلمُه ّ‬ ‫أنْ يَحضُرُونِ)) ‪ ،‬قال ‪ :‬وكان عبد ال بن َ‬
‫ول يخفى مناسب ُة هذه العُوذَةِ لعلج هذا الدا ِء ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى علج داء الحريق وإطفائه‬

‫يُذكر عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده قال ‪ :‬قال رسولُ الِ صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬إذَا رَأيتُمُ الحَرِيقَ‬
‫ن التكبي َر يُط ِفئُهُ)) ‪.‬‬
‫َف َكبّروا ‪ ،‬فإ ّ‬

‫ق منها ‪ ،‬وكان فيه من الفساد العام ما ُينَاسب الشيطان‬ ‫لما كان الحريقُ سببهُ النا ُر ‪ ،‬وهى مادةُ الشيطان التى خُلِ َ‬
‫ب بطبعها العل َو والفسادَ ‪ ،‬وهذان المران‬ ‫بمادته وفعلِه ‪ ،‬كان للشيطان إعانةٌ عليه ‪ ،‬وتنفيذ له ‪ ،‬وكانت النارُ تطل ُ‬
‫وهما العلوّ فى الرض والفسادُ هما َهدْىُ الشيطان ‪ ،‬وإليهما يدعو ‪ ،‬وبهما يُهِلكُ بنى آدم ‪ ،‬فالنار والشيطان كل‬
‫ن وفِعلَ ُه ‪.‬‬
‫ل تَقمَعُ الشيطا َ‬
‫عزّ وجَ ّ‬‫منهما يُريد العلو فى الرض والفسادَ ‪ ،‬وكبرياءُ الرب َ‬

‫ل ل يقوم لها شىء ‪ ،‬فإذا كبّر‬‫عزّ وجَ ّ‬


‫ل عَزّ وجَلّ له أثرٌ فى إطفاء الحريق ‪ ،‬فإنّ كبرياء ال َ‬
‫ولهذا كان تكبيرُ ا ِ‬
‫ق ‪ ،‬وقد جرّبنا نحن‬
‫المسلمُ ربّه ‪ ،‬أثّر تكبيرُه فى خمودِ النار وخمودِ الشيطان التى هى مادته ‪ ،‬فيُطفى ُء الحري َ‬
‫وغيرُنا هذا ‪ ،‬فوجدناه كذلك ‪ ..‬وال أعلم ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى حفظ الصحة‬

‫ل البدن وصحته وبقاؤه إنما هو بواسطة الرطوبة المقاوِمةِ للحرارة ‪ ،‬فالرطوبة مادته ‪ ،‬والحرارةُ‬
‫لما كان اعتدا ُ‬
‫جهَا ‪ ،‬وتدفع فضلتِها ‪ ،‬وتُصلحها ‪ ،‬وتلطفها ‪ ،‬وإل أفسدتْ البدن ولم يمكن قيامُه ‪ ،‬وكذلك الرطوبةُ هى‬
‫تُنضِ ُ‬
‫ل واحدة منهما بصاحبتها ‪ ،‬وقِوام‬ ‫ستْه وأفسدته ‪ ،‬فقِوامُ كُ ّ‬ ‫غِذاءُ الحرارة ‪ ،‬فلول الرطُوبة ‪ ،‬لحرقتْ البدن وأيبَ َ‬
‫البدنِ بهما جميعًا ‪ ،‬وكُ ٌل منهما مادة للُخرى ‪ ،‬فالحرارة مادة للرطوبة تحفظها وتمنعها من الفساد والستحالة ‪،‬‬
‫والرطوبة مادة للحرارة تغذُوها وتحمِلُها ‪ ،‬ومتى مالتْ إحداهما إلى الزيادة على الُخرى ‪ ،‬حصل لمزاج البدن‬
‫النحرافُ بحسب ذلك ‪ ،‬فالحرار ُة دائماً تُحَلّلُ الرطوبة ‪ ،‬فيحتاجُ البدن إلى ما به يُخلَف عليه ما حلّلتْه الحرارة‬
‫ت الحرارةُ عن تحليل فضلته ‪،‬‬ ‫ل ‪ ،‬ضعُف ِ‬ ‫لضرورة بقائهِ وهو الطعامُ والشرابُ ‪ ،‬ومتى زاد على مقدار التحل ِ‬
‫ض المتنوعة بحسب تنوّع موادّها ‪ ،‬وقبولِ‬ ‫ت فى البدن ‪ ،‬وأفسدتْ ‪ ،‬فحصلت المرا ُ‬ ‫فاستحالتْ موا ّد رديئة ‪ ،‬فعاث ْ‬
‫س ِرفُواْ}[العراف ‪، ]31 :‬‬‫العضاء واستعدادِها ‪ ،‬وهذا كُلّه مستفَادٌ من قوله تعالى ‪َ { :‬وكُلُواْ وَاشْ َربُو ْا َولَ تُ ْ‬
‫فأرشدَ عِباده إلى إدخالِ ما يُقِي ُم البدنَ من الطعام والشراب عِوَضَ ما تحلّل منه ‪ ،‬وأن يكون بقدر ما ينتفعُ به‬
‫البدنُ فى الكمّية والكيفية ‪ ،‬فمتى جاوز ذلك كان إسرافًا ‪ ،‬وكلهما مانعٌ من الصحة جالبٌ للمرض ‪ ،‬أعنى عدم‬
‫الكل والشرب ‪ ،‬أو السراف فيه ‪.‬‬

‫فحفظ الصحة كله فى هاتين الكلمتين اللهيتين ‪ ،‬ول ريب أنّ البدن دائماً فى التحلل والستخلف ‪ ،‬وكُلّما كثر‬
‫التحلّل ضعفت الحرارة لفناء مادتها ‪ ،‬فإنّ كثرةَ التحلل تُفنى الرطوبة ‪ ،‬وهى مادة الحرارة ‪ ،‬وإذا ضعفت‬
‫ف الهضم ‪ ،‬ول يزال كذلك حتى تَفنى الرطوب ُة ‪ ،‬وتنطفئ الحرارة جمل ًة ‪ ،‬فيستكملُ العبدُ الجلَ‬ ‫الحرارة ‪ ،‬ضع َ‬
‫ل إليه ‪.‬فغايةُ علج النسان لنفسه ولغيره حراس ُة البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة ‪ ،‬ل‬ ‫ل له أن يَصِ َ‬
‫الذى كتب ا ُ‬
‫ل لبَشَر فى‬‫أنه يستلزمُ بقاءَ الحرارة والرطوبة اللّتين بقاءُ الشباب والصحة والقوّة بهما ‪ ،‬فإنّ هذا مما لم يحصُ ْ‬
‫هذه الدار ‪ ،‬وإنما غايةُ الطبيب أن يحمىَ الرطوبةَ عن مفسداتها من العفونة وغيرها ‪ ،‬ويحمىَ الحرارة عن‬
‫ن به قامت السمواتُ والرضُ‬ ‫مُضعِفاتها ‪ ،‬ويعدل بينهما بالعدل فى التدبير الذى به قام بدنُ النسان ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫وسائرُ المخلوقات ‪ ،‬إنما قوامُها بالعدل‬

‫ى النبىّ صلى ال عليه وسلم وجده أفضلَ َهدْى يُمكن حِفظُ الصّحة به ‪ ،‬فإنّ حفظها موقوفٌ على‬ ‫ومَن تأمّل َهدْ َ‬
‫حُسن تدبير المطعم والمشرب ‪ ،‬والملبس والمسكن ‪ ،‬والهواء والنوم ‪ ،‬واليقظة والحركة ‪ ،‬والسكون والمَنكَح ‪،‬‬
‫ت هذه على الوجه المعتدل الموافق الملئم للبدن والبلد والسّنّ والعادة ‪ ،‬كان‬
‫والستفراغ والحتباس ‪ ،‬فإذا حصَل ْ‬
‫أقربَ إلى دوام الصحة أو غلبتها إلى انقضاء الجل‬

‫ل ِنعَم ال على عبده ‪ ،‬وأجزل عطاياه ‪ ،‬وأوفر مِنحه ‪ ،‬بل العافيةُ المطلقة أجَلّ‬
‫ولـمّا كانت الصحةُ والعافيةُ من أجَ ّ‬
‫ال ّنعَمِ على الطلق ‪ ،‬فحقيق لمن رُزق حظاً مِن التوفيق مراعاتها وحِفظها وحمايتُها عمّا يُضادها ‪.‬‬

‫وقد روى البخارىّ فى ((صحيحه)) من حديث ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫ن فيهما كثي ٌر مِنَ الناس ‪ :‬الصّحّةُ والفَرَاغُ)) ‪.‬‬
‫ن َمغْبُو ٌ‬
‫(( ِنعْ َمتَا ِ‬

‫ع َبيْد ال بن مِحصَن النصارى ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫وفى ((الترمذى)) وغيره من حديث ُ‬
‫ت لَ ُه الدّنيا)) ‪ .‬وفى ((الترمذى))‬ ‫ت يَ ْومِهِ ‪ ،‬فكأنما حِيزَ ْ‬
‫عنْدَ ُه قُو ُ‬
‫سدِهِ ‪ ،‬آمناً فى سِ ْربِهِ ‪ِ ،‬‬
‫صبَحَ ُمعَافىً فى جَ َ‬ ‫‪(( :‬مَن أ ْ‬
‫ل ما يُسْألُ عنه ال َعبْدُ يومَ القيامَ ِة مِنَ‬
‫أيضًا من حديث أبى هريرة ‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪(( :‬أوّ ُ‬
‫س َمكَ ‪ ،‬ونُ َر ّوكَ مِنَ الماءِ البارد)) ‪ .‬ومن هاهنا قال مَن قال مِن السّلَف فى‬ ‫جْ‬ ‫ال ّنعِيم ‪ ،‬أن يُقال له ‪ :‬أََل ْم نُصِحّ َلكَ ِ‬
‫سئَلُنّ يَ ْو َم ِئذٍ عَنِ ال ّنعِيمِ}[التكاثر ‪ ]8 :‬قال ‪ :‬عن الصحة‬ ‫قوله تعالى ‪{ :‬ثُ ّم َلتُ ْ‬

‫سلِ‬
‫ل؛ َ‬
‫ن النبىّ صلى ال عليه وسلم قال للعباس ‪ (( :‬يا عباس ‪ ،‬يا عَ ّم رسول ا ِ‬
‫وفى ((مسند المام أحمد)) ‪ :‬أ ّ‬
‫خرَة)) ‪.‬‬‫الَ العافِيةَ فى الدّ ْنيَا وال ِ‬

‫صدّيق ‪ ،‬قال ‪ :‬سمعتُ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪(( :‬سَلُوا الَ اليَقينَ والمُعافا َة ‪،‬‬‫وفيه عن أبى بكر ال ّ‬
‫فما أُوتِىَ أحدٌ َب ْعدَ اليقينِ خَيرًا من‬

‫العافية)) ‪ ،‬فجمع بين عافيتى الدّينِ والدنيا ‪ ،‬ول َيتِمّ صلح العبد فى الدارين إل باليقين والعافية ‪ ،‬فاليقين يدفع‬
‫عنه عقوبات الخرة ‪ ،‬والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا فى قلبه وبدنه ‪.‬‬
‫ى أحدٌ َب ْعدَ‬
‫وفى ((سنن النسائى)) من حديث أبى هريرة يرفعه ‪(( :‬سَلُوا الَ العَفْوَ والعافي َة والمُعافاة ‪ ،‬فما أُوتِ َ‬
‫يقينٍ خيراً من مُعافاةٍ)) ‪ .‬وهذه الثلثة تتضمّن إزالة الشرور الماضية بالعفو ‪ ،‬والحاضرة بالعافية ‪ ،‬وَالمستقبلة‬
‫بالمعافاة ‪ ،‬فإنها تتضمن المداومةَ والستمرارَ على العافية ‪.‬‬

‫سئِلَ الُ شيئًا أحبّ إَليْهِ من العافيةِ)) ‪.‬‬


‫وفى ((الترمذى)) مرفوعًا ‪(( :‬ما ُ‬

‫ى من أن‬
‫وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى ‪ :‬عن أبى الدرداء ‪ ،‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ؛ لن أُعافَى فأشكُر أحبّ إل ّ‬
‫ب َم َعكَ العا ِفيَةَ)) ‪.‬‬
‫ل يُحِ ّ‬
‫أُبتََلى فأصبر ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬ورسولُ ا ِ‬

‫ل ال بعد الصلواتِ‬ ‫ويُذكر عن ابن عباس أنّ أعرابياً جاء إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال له ‪ :‬ما أسأ ُ‬
‫ل العَافِي َة فى الدّنيا والخرَة)) ‪.‬‬
‫لا َ‬
‫الخمس ؟ فقال ‪(( :‬سَلِ الَ العافيةَ)) ‪ ،‬فأعاد عليه ‪ ،‬فقال له فى الثالثة ‪(( :‬سَ ِ‬

‫وإذا كان هذا شأنَ العافية والصح ِة ‪ ،‬فنذكُرُ من َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى مراعاة هذه الُمور ما يتبيّنُ لمن‬
‫ن‪،‬‬
‫ل َهدْى على الطلق ينال به حفظَ صح ِة البدن والقلب ‪ ،‬وحياة الدّنيا والخرة ‪ ،‬وال المستعا ُ‬ ‫نظر فيه أنه أكم ُ‬
‫ل ول قُوّة إل بال ‪.‬‬
‫وعليه التّكلن ‪ ،‬ول حَوْ َ‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى المطعم والمشرب‬

‫س على نوع واحد من الغذية ل‬ ‫فأما المطعمُ والمشرب ‪ ،‬فلم يكن مِن عادته صلى ال عليه وسلم حبسُ النف ِ‬
‫ن ذلك يضر بالطبيعة جدًا ‪ ،‬وقد سيتعذّر عليها أحيانًا ‪ ،‬فإن لم يتناول غيرَه ‪ ،‬ضعفَ أو‬ ‫يتعدّاه إلى ما سواه ‪ ،‬فإ ّ‬
‫هلكَ ‪ ،‬وإن تناول غيره ‪ ،‬لم تقبله الطبيعة ‪ ،‬واسْتضرّ به ‪ ،‬فقصرها على نوع واحد دائماً ولو أنه أفضل الغذية‬
‫خطرٌ مُضر‪.‬بل كان يأكل ما جرت عادةُ أهل بلده بأكله مِنَ اللّحم ‪ ،‬والفاكهة ‪ ،‬والخُبز ‪ ،‬والتمر ‪ ،‬وغيره مما‬
‫ذكرناه فى َهدْيه فى المأكول ‪ ،‬فعليك بمراجعته هناك‬

‫ل ‪ ،‬كسَرها وعدلها بضدها إن أمكن ‪ ،‬كتعديل حرارة‬


‫وإذا كان فى أحد الطعامين كيفيةٌ تحتاجُ إلى كس ٍر وتعدي ٍ‬
‫ب بالبطيخ ‪ ،‬وإن لم يجد ذلك ‪ ،‬تناوَله على حاجة وداعيةٍ من النفس من غير إسراف ‪ ،‬فل تتضرر به‬ ‫الرّطَ ِ‬
‫الطبيعة‬

‫وكان إذا عافت نفسُه الطعامَ لم يأكله ‪ ،‬ولم يُحمّلْها إيّاه على كُره ‪ ،‬وهذا أصل عظيم فى حفظ الصحة ‪ ،‬فمتى أكل‬
‫النسان ما تعافه نفسه ‪ ،‬ول تشتهيه ‪ ،‬كان تضرّره به أكثر من انتفاعه ‪ .‬قال أنس ‪ :‬ما عابَ رسولُ ال صلى ال‬
‫ل منه ‪ .‬ولمّا ُقدّ َم إليه الضّبّ المشوىّ لم يأك ْل منه ‪،‬‬‫ط ‪ ،‬إن اشتهاه أكلَه ‪ ،‬وإل تركه ‪ ،‬ولم يأك ْ‬
‫عليه وسلم طعاماً قَ ّ‬
‫جدُنى أعافُه)) ‪ .‬فراعى عادتَه وشهوتَه ‪ ،‬فلمّا‬ ‫ض قَوْمى ‪ ،‬فأ ِ‬‫فقيل له ‪ :‬أهو حرامٌ ؟ قال ‪(( :‬ل ‪ ،‬ولكنْ لم يكن بأر ِ‬
‫سكَ عنه ‪ ،‬ولم يَمنع مِن أكله مَن يشتهيه ‪ ،‬ومَنْ عادتُه‬ ‫لم يكن يعتادُ أكله بأرضه ‪ ،‬وكانت نفسُه ل تشتهيه ‪ ،‬أم َ‬
‫أكلُه ‪.‬‬

‫س ّم فيه ‪.‬وفى ((الصحيحين)) ‪ُ(( :‬أتِىَ رسولُ ال‬ ‫ع ‪ ،‬ومقدم الشاة ‪ ،‬ولذلك ُ‬ ‫وكان يحبّ اللّحم ‪ ،‬وأحبّه إليه الذرا ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم بلحم ‪ ،‬ف ُرفِع إليه الذراع ‪ ،‬وكانت تُعجبُه)) ‪.‬وذكر أبو عُبيدة وغيره عن ضباعَة بنت‬
‫ن أط ِعمِينا من شاتكم ‪ ،‬فقالت‬ ‫ت فى بيتها شا ًة ‪ ،‬فأرسل إليها رسولُ ال صلى ال عليه وسلم أ ْ‬ ‫الزّبير ‪ ،‬أنها ذَبح ْ‬
‫للرسول ‪ :‬ما بقىَ عندَنا إلّ الرّقب ُة ‪ ،‬وإنى لستحى أنْ أُرسلَ بها إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فرجع‬
‫خيْر ‪ ،‬وأبعدُها مِنَ‬‫ل لها ‪َ :‬أرْسِلى ِبهَا ‪ ،‬فإنّها هاديةُ الشّاةِ وأقْ َربُ إلى ال َ‬
‫ل فأخبره ‪ ،‬فقال ‪(( :‬ارْجِعْ إليها فق ْ‬‫الرسو ُ‬
‫الذَى)) ول ريب أن أخفّ لح ِم الشاة لحمُ الرقبة ‪ ،‬ولحمُ الذراع والعَضُد ‪ ،‬وهو أخفّ على ال َمعِدَة ‪ ،‬وأسرعُ‬
‫انهضامًا ‪ ،‬وفى هذا مراعا ُة الغذية التى تجمع ثلثةَ أوصاف ؛ أحدها ‪ :‬كثر ُة نفعها وتأثيرها فى ال ُقوَى ‪ .‬الثانى‬
‫خ ّفتُها على ال َم ِعدَة ‪ ،‬وعدمُ ثقلها عليها ‪ .‬الثالث ‪ :‬سرع ُة هضمها ‪ ،‬وهذا أفضل ما يكون من الغِذاء ‪ .‬والتغذّى‬ ‫‪ِ :‬‬
‫باليسير من هذا أنفعُ من الكثير من غيره ‪.‬‬

‫ل ‪ ،‬وهذه الثلثة أعنى ‪ :‬اللّحم والعسل والحلواء من أفضل الغذية ‪ ،‬وأنفعها للبدن‬ ‫وكان يُحب الحَلْواءَ والعس َ‬
‫وال َكبِد والعضاء ‪ ،‬وللغتذاء بها نفعٌ عظيم فى حفظ الصحة والقوة ‪ ،‬ول ينفِ ُر منها إل مَن به عِلّ ٌة وآفة ‪ .‬وكان‬
‫جدَ له إدامًا ‪ ،‬فتار ًة يَأ ِدمُه باللّحم ويقول ‪(( :‬هُوَ سَـّيدُ طعامِ أهلِ الدّنيا والخرةِ)) رواه ابن‬
‫يأكُلُ الخبز مأدُومًا ما وَ َ‬
‫ماجه وغيره ((وتارة بالبطيخ ‪ ،‬وتار ًة بالتمر ‪،‬فإنه وضع تمرة على كِسْرة شعير ‪ ،‬وقال ‪(( :‬هذا إدا ُم هذه)) ‪.‬‬
‫وفى هذا من تدبير الغذاء أنّ خبز الشعير بارد يابس ‪ ،‬والتمر حار رطب على أصح القولين ‪ ،‬فأَدمُ خبزِ الشعير‬
‫ل ‪ ،‬ويقول ‪ِ (( :‬نعْ َم الدَامُ الخَلّ)) ‪،‬‬
‫سيّما لمن تلك عادتُهم‪ ،‬كأهل المدينة ‪ ،‬وتارةً بالخَ ّ‬ ‫به من أحسن التدبير‪ ،‬ل ِ‬
‫ل ‪ ،‬وسببُ الحديث أنه‬ ‫جهّا ُ‬ ‫وهذا ثناءٌ عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر ‪ ،‬ل تفضيلٌ له على غيرِه ‪ ،‬كما يظن ال ُ‬
‫ع ْن َدكُم مِن إدَامٍ)) ؟ قالوا ‪ :‬ما عِندَنا إلّ خَل ‪ .‬فقال ‪ِ (( :‬نعْمَ‬
‫دخَلَ على أهله يوماً ‪ ،‬فقدّموا له خبزًا ‪ ،‬فقال‪(( :‬هَل ِ‬
‫ن أكل الخبز مأدومًا من أسباب حِفظ الصحة ‪ ،‬بخلف القتصار على أحدهما‬ ‫الدامُ الخَلّ)) ‪ .‬والمقصود ‪ :‬أ ّ‬
‫س ِمىَ الُد ُم أُدماً ‪ :‬لصلحه الخبزَ ‪ ،‬وجعلِه ملئمًا لحفظ الصحة ‪ .‬ومنه قوله فى إباحته للخاطب النظرَ‬ ‫وحده ‪ .‬و ُ‬
‫ب إلى اللتئام والموافقة ‪ ،‬فإنّ الزوجَ يدخل على بصيرة ‪ ،‬فل يندَم ‪.‬‬ ‫‪(( :‬إنه أحْرَى أنْ يُؤدَ َم بيْنَهما)) ‪ ،‬أى ‪ :‬أقر ُ‬

‫وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها ‪ ،‬ول يَحتمِى عنها ‪ ،‬وهذا أيضاً من أكبر أسباب حفظ الصحة ‪ ،‬فإنّ ال‬
‫سبحانه بحكمته جعل فى كل بلد ٍة من الفاكهة ما ينتفِ ُع به أهلُها فى وقتِ ِه ‪ ،‬فيكونُ تناولُه من أسباب صحتِهم‬
‫وعافيتِهم ‪ ،‬ويُغنى عن كثير من الدوية ‪ ،‬و َقلّ مَن احتَمى عن فاكهة بلده خشيةَ السّقم إل وهو مِن أسقم الناس‬
‫جسماً ‪ ،‬وأبعدِهم من الصحة والقوة ‪.‬وما فى تلك الفاكهة من الرطوبات ‪ ،‬فحرار ُة الفصل والرض ‪ ،‬وحرارةُ‬
‫ح َتمِله ‪ ،‬ولم يُفسد بها‬
‫سرِفْ فى تناولها ‪ ،‬ولم يُحمّلْ منها الطبيعةَ فوق ما تَ ْ‬
‫جهَا وتدفع شرها إذا لم يُ ْ‬
‫ال َم ِعدَة تُنضِ ُ‬
‫سدَها بشرب الماء عليها ‪ ،‬وتناولِ الغذاء بعد التحلّى منها ‪ ،‬فإن القُوَلنْج كثيرًا ما يَحدث‬ ‫الغذاء قبل هضمه ‪ ،‬ول أف َ‬
‫عند ذلك ‪ ،‬فمَن أكل منها ما ينبغى فى الوقت الذى ينبغى على الوجه الذى ينبغى ‪ ،‬كانت له دواءً نافعاً ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى هيئة الجلوسِ للكل‬

‫ل كما يأكُ ُل العبدُ)) ‪.‬‬


‫ح عنه أنه قال ‪(( :‬ل آكُلُ ُمّتكِئاً)) ‪ ،‬وقال ‪(( :‬إنما أجِْلسُ كما يَجِْلسُ العبدُ ‪ ،‬وآكُ ُ‬
‫صّ‬

‫ل الرج ُل وهو منبطحٌ على وجهه ‪.‬وقد فُسّر التكاءُ بالتربّع ‪ ،‬وفُسّر‬ ‫وروى ابن ماجه فى ((سننه)) أنه نَهى أن يأك َ‬
‫بالتكاء على الشىء ‪ ،‬وهو العتمادُ عليه ‪ ،‬و ُفسّر بالتكاء على الجنب ‪ .‬والنواعُ الثلثة من التكاء ‪ ،‬فنوعٌ‬
‫منها يض ّر بالكل ‪ ،‬وهو التكاء على الجنب ‪ ،‬فإنه يمنعُ مجرَى الطعام الطبيعى عن هيئته ‪ ،‬ويَعوقُه عن سرعة‬
‫نفوذه إلى ال َم ِعدَة ‪ ،‬ويضغطُ ال َمعِدَةَ ‪ ،‬فل يستحكم فتحُها للغذاء ‪ ،‬وأيضًا فإنها تميل ول تبقى منتصبة ‪ ،‬فل يصل‬
‫ل كما‬
‫الغذاء إليها بسهولة ‪ .‬وأما النوعان الخران ‪ :‬فمن جلوس الجبابرة المنافى للعبودية ‪ ،‬ولهذا قال ‪(( :‬آكُ ُ‬
‫ن قدمِه‬
‫ل العبد)) وكان يأكل وهو ُمقْعٍ ‪ ،‬ويُذكر عنه أنه كان يجلس للكل ُمتَورّكاً على ركبتيه ‪ ،‬ويضعُ بط َ‬ ‫يأكُ ُ‬
‫ل ‪ ،‬وأدبًا بين يديه ‪ ،‬واحتراماً للطعام وللمؤاكِل ‪ ،‬فهذه‬
‫اليُسْرى على ظهر قدمه اليمنى تواضعاً لربه عَ ّز وجَ ّ‬
‫ن العضاء كلها تكون على وضعها الطبيعى الذى خلقها ال سبحانه عليه‬ ‫الهيئة أنف ُع هيئات الكل وأفضلُها ‪ ،‬ل ّ‬
‫مع ما فيها من الهيئة الدبية ‪ ،‬وأجودُ ما اغتذى النسان إذا كانت أعضاؤه على وضعها الطبيعى ‪ ،‬ول يكون‬
‫ب الطبيعى ‪ ،‬وأردأ الجلسات للكل التكاءُ على الجنب ‪ ،‬لما تقدم من‬ ‫كذلك إل إذا كان النسان منتصباً النتصا َ‬
‫أن المَرِىء ‪ ،‬وأعضاء الزدراد تضيقُ عند هذه الهيئة ‪ ،‬وال َم ِعدَةُ ل تبقى على وضعها الطبيعى ‪ ،‬لنها تنعصر‬
‫مما يلى البطن بالرض ‪ ،‬ومما يلى الظهر بالحجاب الفاصل بين آلت الغذاء ‪ ،‬وآلت التنفس‬

‫وإن كان المراد بالتكاء العتماد على الوسائد والوطاء الذى تحت الجالس ‪ ،‬فيكون المعنى أَنى إذا أكلت لم أقعد‬
‫ل بُلْغةً كما يأكل العبد ‪.‬‬
‫متكئاً على الوْطِية والوسائد ‪ ،‬كفعل الجبابرة ‪ ،‬ومَن يُرِيد الكثار من الطعام ‪ ،‬لكنى آكُ ُ‬

‫فصل‬

‫وكان يأ ُكلُ بأصابعه الثّلث ‪ ،‬وهذا أنف ُع ما يكون من الكلت ‪ ،‬فإنّ الكل بأصبع أو أُصبعين ل يَستلذّ به الكل ‪،‬‬
‫ول يُمريه ‪ ،‬ول يُشبعه إل بعدَ طول ‪ ،‬ول تفرحُ آلتُ الطعام وال َمعِدَ ُة بما ينالها فى كل أكلة ‪ ،‬فتأخذَها على‬
‫ض ‪ ،‬كما يأخذ الرجل حقّه حبّةً أو ح ّبتَين أو نح َو ذلك ‪ ،‬فل يلتذّ بأخذه ‪ ،‬ول يُسَ ّر به ‪ ،‬والكل بالخمسة‬
‫إغما ٍ‬
‫والراح ِة يُوجب ازدحا َم الطعام على آلته ‪ ،‬وعلى ال َمعِدَةُ ‪ ،‬وربما انسدّت اللت فمات ‪ ،‬وتُغصبُ اللتُ على‬
‫دفعه ‪ ،‬وال َم ِعدَةُ على احتماله ‪ ،‬ول يجد له لذةً ول استمرا ًء ‪ ،‬فأنفعُ الكل أكلُه صلى ال عليه وسلم وأكلُ مَن‬
‫اقتدى به بالصابع الثلث ‪.‬‬
‫فصل‬

‫ط بين لبن وسمك ‪ ،‬ول بين لبن وحامض‬ ‫ومَن تدبّر أغذيته صلى ال عليه وسلم وما كان يأكل ُه ‪ ،‬وجَده لم يجمع قَ ّ‬
‫‪ ،‬ول بين غذائين حارّين ‪ ،‬ول بارِدين ‪ ،‬ول لَ ِزجَين ‪ ،‬ول قابضين ‪ ،‬ول مُسهلين ‪ ،‬ول غليظين ‪ ،‬ول مُرخيين ‪،‬‬
‫ول مستحيلين إلى خلط واحد ‪ ،‬ول بين مختلفَين كقابض ومسهل ‪ ،‬وسريع الهضم وبطيئه ‪ ،‬ول بين شَوىّ‬
‫ى وقَديد‪،‬ول بين لبن وبيض ‪ ،‬ول بين لحم ولبن ‪ ،‬ولم يكن يأكل طعاماً فى وقت شدة‬ ‫وطبيخ ‪ ،‬ول بين طَر ّ‬
‫حرارته ‪ ،‬ول طبيخاً بائتًا يُسخّن له بالغد ‪ ،‬ول شيئًا من الطعمة العَ ِفنَ ِة والمالحة ‪ ،‬كالكَوامخ والمخلّلت ‪،‬‬
‫والملوحات ‪ .‬وكل هذه النواع ضار موّلدٌ لنواع من الخروج عن الصحة والعتدال ‪.‬وكان يُصلح ضرر بعض‬
‫ل ‪ ،‬فيكسرُ حرار َة هذا ببرودة هذا ‪ ،‬ويُبوس َة هذا برطُوبة هذا ‪ ،‬كما فعل فى‬ ‫الغذية ببعض إذا وَجد إليه سبي ً‬
‫ت الغذية‬ ‫ب نقيع التمر يُلطّف به َك ْيمُوسا ِ‬
‫س ‪ ،‬ويشر ُ‬ ‫حيْ ُ‬
‫ال ِقثّاء والرّطَب ‪ ،‬وكما كان يأكل التمر بالسّمن ‪ ،‬وهو ال َ‬
‫ف من تمر ‪ ،‬ويقول ‪(( :‬تَ ْركُ العَشاءِ َمهْرَمةٌ)) ‪ ،‬ذكره الترمذىّ فى‬ ‫الشديدة وكان يأمر بالعَشاء ‪ ،‬ولو بك ّ‬
‫((جامعه)) ‪ ،‬وابن ماجه فى ((سننه))‬

‫وذكر أبو نُعيم عنه أنه كان ينهى عن النوم على الكل ‪ ،‬ويذكر أنه يُقسى القلب ‪ ،‬ولهذا فى وصايا الطباء لمن‬
‫عقِبه ‪ ،‬فإنه مضر جدًا ‪ ،‬وقال‬ ‫ت ولو مِائة خطوة ‪ ،‬ول ينام َ‬ ‫ى بعد العَشاء خُطوا ٍ‬
‫أراد حفظ الصحة ‪ :‬أن يمش َ‬
‫مسلموهم ‪ :‬أو يُصلّى عقيبَه ليستقرّ الغِذاء بقعرِ ال َمعِدَة ‪ ،‬فيسهلَ هضمه ‪ ،‬ويجودَ بذلك ‪ .‬ولم يكن من َهدْيه أن‬
‫سيّما إن كان الماء حاراً أو بارداً ‪ ،‬فإنه ردى ٌء جداً ‪ .‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫ب على طعامه فيُفسده ‪ ،‬ول ِ‬ ‫يشر َ‬

‫حمّـا ِم تَـشربُ مَاءَ‬


‫ن َوبَ ْردٍ وَدخُولِ الْ َ‬
‫ع ْندَ َأكْلِ سُخْ ٍ‬
‫ل تَكنْ ِ‬

‫ت فِىالْجَ ْوفِ داءَ‬


‫حيِي َ‬
‫ج َت َنبْتَ ذلـكَ حَقّا لَ ْم تَخَفْ ما َ‬
‫فَإذَا مـا ا ْ‬

‫ب أكل الفاكهة ‪،‬‬ ‫جمَاع ‪ ،‬وعقيبَ الطعامِ وقبله ‪ ،‬وعقي َ‬‫ب الرياضة ‪ ،‬والتعبِ ‪ ،‬وعقيبَ ال ِ‬ ‫ويُكره شرب الماء عقي َ‬
‫ف لحفظ‬
‫ل مِن بعض ‪ ،‬وعقب الحمّام ‪ ،‬وعند النتباه من النوم ‪ ،‬فهذا كُلّهُ منا ٍ‬ ‫ب بعضِها أسه َ‬ ‫وإن كان الشربُ عقي َ‬
‫الصحة ‪ ،‬ول اعتبار بالعوائد ‪ ،‬فإنها طبائع ثوانٍ ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى الشراب‬

‫ج بالماء البارد ‪ ،‬وفى‬ ‫وأما َهدْيه فى الشراب ‪ ،‬فمن أكمل َهدْىٍ يحفظ به الصحة ‪ ،‬فإنه كان يشرب العسلَ الممزو َ‬
‫ل الطباء ‪ ،‬فإنّ شُربه ولعقَه على الرّيق يُذيب البلغم ‪،‬‬‫هذا مِن حفظ الصحة ما ل يَهتدى إلى معرفته إل أفاض ُ‬
‫خمْل ال َمعِدَة ‪ ،‬ويجلُو لزوجتها ‪ ،‬ويدفع عنها الفضلت ‪ ،‬ويُسخنها باعتدال ‪ ،‬ويفتحُ سددها ‪ ،‬ويفعل مثل‬ ‫ويغسِلُ َ‬
‫ذلك بال َكبِد والكُلَى والمثَانة ‪ ،‬وهو أنفع لل َمعِدَة من كل حلو دخلها ‪ ،‬وإنما يضر بالعَرَض لصاحب الصّفراء لح ّدتِه‬
‫ل ‪ ،‬فيعودُ حينئذ لهم نافعًا جداً ‪ ،‬وشربه أنفع من كثير من‬ ‫حدّة الصفراء ‪ ،‬فربما هيّجها ‪ ،‬ودفعُ مضرّته لهم بالخ ّ‬
‫وِ‬
‫سيّما لمن لم يعتد هذه الشربة ‪ ،‬ول أِلفَها طبعُه ‪ ،‬فإنه إذا شربها ل‬ ‫الشربة المتخذة من السكر أو أكثرِها ‪ ،‬ول ِ‬
‫ل ‪ ،‬وتبنى أُصولً‬ ‫تلئمه ملءمةَ العسل ‪ ،‬ول قريبًا منه ‪ ،‬والمحكّ ُم فى ذلك العادة ‪ ،‬فإنها تهدم أُصو ً‬

‫صفَىْ الحلوة والبرودة ‪ ،‬فمن أنفع شىء للبدن ‪ ،‬ومن أكبر أسباب حفظ الصحة ‪،‬‬ ‫جمَعَ و ْ‬
‫وأما الشراب إذا َ‬
‫ن ‪ ،‬حصَلتْ به التغذيةُ‬
‫وللرواح والقُوى ‪ ،‬والكبد والقلب ‪ ،‬عشقٌ شديدٌ له ‪ ،‬واستمدادٌ منه ‪ ،‬وإذا كان فيه الوصفا ِ‬
‫‪ ،‬وتنفيذُ الطعام إلى العضاء ‪ ،‬وإيصاله إليها أتمّ تنفيذ ‪.‬‬

‫والماء البارد رطب يقمع الحرارة ‪ ،‬ويحفظ على البدن رطوباته الصلية ‪ ،‬ويرد عليه بدل ما تحلّل منها ‪،‬‬
‫ق الغِذاء ويُنفِذه فى العروق ‪.‬‬
‫ويُرقّ ُ‬

‫واختلف الطباء ‪ :‬هل يُغذّى البدن ؟ على قولين ‪ :‬فأثبتت طائف ٌة التغذية به بنا ًء على ما يشاهدونه من النمو‬
‫سيّما عند شدة الحاجة إليه ‪.‬‬
‫والزيادة والقوة فى البدن به ‪ ،‬ول ِ‬
‫ن والنبات قد ٌر مشترك مِن وجوه عديدة منها ‪ :‬النموّ والغتذا ُء والعتدال ‪ ،‬وفى النبات قوةُ‬‫قالوا ‪ :‬وبينَ الحيوا ِ‬
‫حسّ تُناسبه ‪ ،‬ولهذا كان غِذا ُء النبات بالماء ‪ ،‬فما يُنكر أن يكون للحيوان به نوعُ غذاء ‪ ،‬وأن يكون جزءًا من‬ ‫ِ‬
‫غذائه التام ‪.‬‬

‫ن قوة الغذاء ومعظمه فى الطعام ‪ ،‬وإنما أنكرنا أن ل يكون للماء تغذية ألبتة ‪ .‬قالوا ‪:‬‬ ‫قالوا ‪ :‬ونحن ل ننكر أ ّ‬
‫وأيضاً الطعام إنما يُغذّى بما فيه من المائية ‪ ،‬ولولها لما حصلت به التغذي ُة ‪.‬قالوا ‪ :‬ولن الماء مادة حياة‬
‫الحيوان والنبات ‪ ،‬ول ريب أنّ ما كان أقربَ إلى مادة الشىء ‪ ،‬حصلت به التغذية ‪ ،‬فكيف إذا كانت مادته‬
‫ل التغذية بما هو‬
‫ىءٍ حَىّ}[النبياء ‪ ،]30 :‬فكيف ننكِرُ حصو َ‬ ‫جعَ ْلنَا مِنَ ا ْلمَا ِء كُلّ شَ ْ‬
‫الصلية ‪ ،‬قال ال تعالى ‪{ :‬وَ َ‬
‫مادة الحياة على الطلق ؟‬

‫قالوا ‪ :‬وقد رأينا العطشان إذا حصل له الرّىّ بالماء البارد ‪ ،‬تراجعت إليه قواه ونشاطُه وحركته ‪ ،‬وصب َر عن‬
‫ن ل ينتفِعُ بالقد ِر الكثير مِن الطعام ‪ ،‬ول يجد به القوة‬
‫الطعام ‪ ،‬وانتفع بالقدر اليسير منه ‪ ،‬ورأينا العطشا َ‬
‫ن الماءَ يُن ِفذُ الغذاء إلى أجزاء البدن ‪ ،‬وإلى جميع العضاء ‪ ،‬وأنه ل يتم أمر الغذاء‬ ‫والغتذاءَ ‪ ،‬ونحن ل ننكِ ُر أ ّ‬
‫إل به ‪ ،‬وإنما ننكر على مَن سلب قو َة التغذية عنه ألبتة ‪ ،‬ويكاد قولُه عندنا يدخُل فى إنكار الُمورالوجدانية ‪.‬‬

‫وأنكرت طائفةٌ أُخرى حصولَ التغذية به ‪ ،‬واحتجّت بأُمور يرجعُ حاصِلُها إلى عدم الكتفاء به ‪ ،‬وأنه ل يقو ُم‬
‫مقام الطعام ‪ ،‬وأنه ل يزيد فى نموّ العضاء ‪ ،‬ول يخلف عليها بدل ما حلّلتْه الحرارةُ ‪ ،‬ونحو ذلك مما ل ينكره‬
‫أصحاب التغذية ‪ ،‬فإنهم يَجعلون تغذيته بحسب جوهره ‪ ،‬ولطافته ورقته ‪ ،‬وتغذيةُ كل شىء بحسبه ‪ ،‬وقد شُوهد‬
‫الهواءُ الرّطب البارد اللّين اللّذيذ يُغذّى بحسبه ‪ ،‬والرائحة الطيبة تُغذّى نوعاً من الغذاء ‪ ،‬فتغذية الماء أظهر‬
‫وأظهر ‪.‬‬

‫والمقصودُ ‪ :‬أنه إذا كان بارداً ‪ ،‬وخالطه ما يُحليه كالعسل أو الزبيب ‪ ،‬أو التمر أو السكر ‪ ،‬كان من أنفع ما‬
‫ظ عليه صحته ‪ ،‬فلهذا كان أحبّ الشرابِ إلى رسولِ ال صلى ال عليه وسلم البا ِردَ الحلوَ ‪.‬‬ ‫يدخل البدن ‪ ،‬وحفِ َ‬
‫والماءُ الفاتِ ُر ينفخ ‪ ،‬ويفعل ض ّد هذه الشياء ‪.‬‬

‫ولما كان الماء البائت أنف َع من الذى يُشرب وقتَ استقائه ‪ ،‬قال النبىّ صلى ال عليه وسلم وقد دخل إلى حائط‬
‫ل من ماءٍ بات فى شَـنّة)) ؟ فأتاه به‪ ،‬فشرب منه ‪ ،‬رواه البخارى ولفظُه ‪(( :‬إنْ كان‬ ‫أبى الهيثم بن التيهان ‪(( :‬هَ ْ‬
‫عنَا)) ‪.‬والماء البائت بمنزلة العجين الخمير ‪ ،‬والذى شُرِب لوقته بمنزلة الفطير ‪،‬‬ ‫شنّة وإلّ كَرَ ْ‬
‫عنْ َدكَ ماءٌ باتَ فى َ‬
‫ِ‬
‫س َت ْعذَبُ له‬
‫ن ال ّنبِىّ صلى ال عليه وسلم كان يُ ْ‬
‫وأيضاً فإنّ الجزاء الترابية والرضية تُفارقه إذا بات ‪ ،‬وقد ُذكِر أ ّ‬
‫الماء ‪ ،‬ويَختار البائت منه ‪ .‬وقالت عائشة ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يُستقى له الماء العذب مِن بئر‬
‫السقيا ‪.‬‬

‫سيّما أسقيةَ‬
‫والماء الذى فى ال ِقرَب والشنان ‪ ،‬ألذّ من الذى يكون من آنية الفَخّار والحجار وغيرهما ‪ ،‬ول ِ‬
‫س النبىّ صلى ال عليه وسلم ماءً بات فى شَـنّة دون غيرها من الوانى ‪ ،‬وفى الماء إذا وُضع‬ ‫الدمَ ‪ ،‬ولهذا التَم َ‬
‫فى الشّنان ‪ ،‬وقِرب الدم خاصةٌ لطيف ٌة لما فيها من المسامّ المنفتحةِ التى يرشَح منها الماء ‪ ،‬ولهذا كان الماء فى‬
‫الفَخّار الذى يرشح ألذّ منه ‪ ،‬وأبردُ فى الذى ل يرشَح ‪ ،‬فصلةُ ال وسلمه على أكمل الخلق ‪ ،‬وأشرفهم نفسًا ‪،‬‬
‫وأفضلهم َهدْيًا فى كل شىء ‪ ،‬لقد دَلّ أُمته على أفضل الُمور وأنفعها لهم فى القلوب والبدان ‪ ،‬والدّنيا والخرة‬

‫قالت عائشةُ ‪ :‬كان أحبّ الشرابِ إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم الحُلوَ البا ِردَ ‪ .‬وهذا يحتمل أن يريد به الماءَ‬
‫العذبَ ‪ ،‬كمياه العيون والبار الحلوة ‪ ،‬فإنه كان يُستعذَب له الماء ‪ .‬ويحتملُ أن يريد به الما َء الممزوجَ بالعسل ‪،‬‬
‫ب ‪ .‬وقد يُقال وهو الظهر ‪ :‬يعمّهما جميعاً‬
‫أو الذى نُقِعَ فيه التمرُ أو الزبي ُ‬

‫عنَا)) ‪ ،‬فيه دليلٌ على جواز الكَرْع ‪ ،‬وهو‬ ‫وقولُه فى الحديث الصحيح ‪(( :‬إن كان عندكَ ماء باتَ فى شَنٍ وإل كَرَ ْ‬
‫عيْن دعت الحاج ُة فيها إلى الكَرْع بالفم ‪ ،‬أو‬ ‫ض وال ِمقْراةِ ونحوها ‪ ،‬وهذه وال أعلم واقع ُة َ‬ ‫الشرب بالفم من الحو ِ‬
‫ح ّرمُه ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬إنه يَُض ّر بال َم ِعدَة ‪ ،‬وقد رُوى‬‫ن يكرهُه ‪ ،‬والطبا ُء تكادُ تُ َ‬ ‫قاله مبيّنًا لجوازه ‪ ،‬فإنّ مِن الناس مَ ْ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم نهانا أنْ نشرب على بطوننا ‪ ،‬وهو‬ ‫فى حديث ل أدرى ما حالُه عن ابن عمر ‪ ،‬أنّ النب ّ‬
‫ف باليد الواحدة وقال ‪:‬‬
‫ن نغترِ َ‬‫ع ‪ ،‬ونهانا أ ْ‬‫الكَ ْر ُ‬
‫خمّراً ))‬
‫ن يكونَ مُ َ‬
‫حتّى يَختبِرَه إل أ ْ‬
‫ب ‪ ،‬ول يَشْرَبْ بالّليْلِ مِن إنَاءٍ َ‬
‫(( ل يَلَغْ أح ُدكُم َكمَا يَلَغُ الكل ُ‬

‫ض بينهما ‪ ،‬إذ لعلّ الشربَ باليد لم يكن يمكن حينئذٍ ‪ ،‬فقال‬


‫ح ‪ ،‬فل تعارُ َ‬
‫ح من هذا ‪ ،‬وإن ص ّ‬
‫وحديثُ البخارى أص ّ‬
‫‪(( :‬وإل كَرَعْنا)) ‪ ،‬والشربُ بالفم إنما يض ّر إذا انكبّ الشارِبُ على وجهه وبطنه ‪ ،‬كالذى يشربُ من النهر‬
‫ق بين أن يشرب بيده أو بفمه ‪.‬‬
‫والغدِير ‪ ،‬فأمّا إذا شرب مُنتصِباً بفمه من حوض مرتفع ونحوِه ‪ ،‬فل فَرْ َ‬

‫فصل‬

‫وكان من َهدِْيه الشّربُ قاعداً ‪ ،‬هذا كان هديَه المعتادَ‬

‫ح عنه أنه شرب‬


‫ستَقىءَ ‪ ،‬وصَ ّ‬
‫ح عنه أنه نهى عن الشّرب قائمًا ‪ ،‬وصحّ عنه أنه أمر الذى شرب قائمًا أن يَ ْ‬
‫وص ّ‬
‫قائمًا ‪.‬‬

‫ك الوْلى ‪،‬‬‫ى ليس للتحريم ‪ ،‬بل للرشاد وتر ِ‬ ‫فقالت طائفةٌ ‪ :‬هذا ناسخٌ للنهى ‪ ،‬وقالت طائف ٌة ‪ :‬بل مبيّنٌ أنّ النه َ‬
‫ل ‪ ،‬فإنه إنما شَ ِربَ قائماً للحاجة ‪ ،‬فإنه جاء إلى زمز َم ‪ ،‬وهم يَستَقُون‬
‫ض بينهما أص ً‬
‫وقالت طائف ٌة ‪ :‬ل تعارُ َ‬
‫منها ‪ ،‬فاستَقَى فناولُوه الدّل َو ‪ ،‬فشرب وهو قائم ‪ ،‬وهذ كان موضعَ حاجة ‪.‬‬

‫سمَه الكبدُ على‬


‫ت عديدة منها ‪ :‬أنه ل يحصل به الرّىّ التام ‪ ،‬ول يستَقِ ّر فى ال َم ِعدَة حتى يَ ْق ِ‬‫وللشرب قائمًا آفا ٌ‬
‫حدّة إلى ال َم ِعدَة ‪ ،‬فيُخشى منه أن يُبردَ حرارتَها ‪ ،‬ويُشوشها ‪ ،‬ويُسرع النفوذ إلى‬ ‫العضاء ‪ ،‬وينزلُ بسرعة وَ ِ‬
‫ضرّ بالشارب ‪ ،‬وأمّا إذا فعله نادراً أو لحاجة ‪ ،‬لم يَضره ‪ ،‬ول يُعترض‬ ‫ل هذا يَ ُ‬
‫أسفل البدن بغير تدريج ‪ ،‬وك ّ‬
‫ن العوائد طبائعُ ثوانٍ ‪ ،‬ولها أحكا ٌم أُخرى ‪ ،‬وهى بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء ‪.‬‬ ‫بالعوائد على هذا ‪ ،‬فإ ّ‬

‫@ فصل‬

‫وفى ((صحيح مسلم)) من حديث أنس بن مالك ‪ ،‬قال ‪ :‬كان رسولُ ال صلى ال عليه وسلم يَتنفّسُ فى الشّراب‬
‫ل ‪(( :‬إنه أرْوَى وأمْرَُأ وأبْرَأُ)) ‪.‬الشراب فى لسان الشارع وحمَلَةِ الشرع ‪ :‬هو الماء ‪ ،‬ومعنى تنفّسِه‬ ‫ثلثاً ‪ ،‬ويقو ُ‬
‫فى الشراب ‪ :‬إبانتُه ال َقدَح عن فيه ‪ ،‬وتنفّسُه خارجَه ‪ ،‬ثم يعود إلى الشراب ‪ ،‬كما جاء مصرّحاً به فى الحديث‬
‫ح ‪ ،‬ولكنْ ِل ُيبِنِ الناءَ عن فيهِ))‬
‫ح ُدكُم فَل يَتنفّسْ فى ال َقدَ ِ‬
‫شرِبَ أ َ‬
‫الخر ‪(( :‬إذا َ‬

‫جمّة ‪ ،‬وفوائ ٌد مهمة ‪ ،‬وقد نبّه صلى ال عليه وسلم على مَجامِعها ‪ ،‬بقوله ‪(( :‬إنه أروَى‬ ‫وفى هذا الشرب حِكمٌ َ‬
‫ل من البُرء ‪ ،‬وهو الشّفاء ‪ ،‬أى يُبرىء من شدة‬ ‫وأمرَأ وأبرأ)) فأروَى ‪ :‬أشدّ ريّاً ‪ ،‬وأبلغُه وأنفعُه ‪ ،‬وأبرُأ ‪ :‬أفع ُ‬
‫سكّن الدفعةُ الثانية ما عجزت الُولى عن تسكينه ‪ ،‬والثالثةُ‬ ‫العطش ودائه لتر ّددِه على ال َمعِدَة الملتهبة دفعاتٍ ‪ ،‬فتُ َ‬
‫ما عجزت الثانية عنه ‪ ،‬وأيضًا فإنه أسل ُم لحرارة ال َم ِعدَة ‪ ،‬وأبقَى عليها من أن يَهجُم عليها الباردُ وَهْلةً واحدة ‪،‬‬
‫و َنهْلةً واحدة ‪.‬وأيضاً فإنه ل يُروِى‬

‫حدّتُها ‪ ،‬وإن انكسرتْ لم تبطل بالكلية‬


‫لمصادفته لحرارة العطش لحظةً ‪ ،‬ثم يُقلع عنها ‪ ،‬ولما تُكسَرْ سَوْرتُها و ِ‬
‫بخلف كسرِها على التمهّل والتدريج ‪.‬‬

‫وأيضاً فإنه أسل ُم عاقبةً ‪ ،‬وآمنُ غائلةً مِن تناوُل جميع ما يُروِى دفعةً واحدة ‪ ،‬فإنه يُخاف منه أن يُطفىء الحرارة‬
‫الغريزية بشدة برده ‪ ،‬وكثرةِ كميته ‪ ،‬أو يُضعفَها فيؤدّى ذلك إلى فساد مزاج ال َمعِدَة وال َكبِد ‪ ،‬وإلى أمراض رديئة‬
‫‪ ،‬خصوصاً فى سكان البلد الحارة ‪ ،‬كالحجاز واليمن ونحوهما ‪ ،‬أو فى الزمنة الحارة كشدة الصيف ‪ ،‬فإن‬
‫ن الحار الغريزى ضعيف فى بواطن أهلها ‪ ،‬وفى تلك الزمنة الحارة‬ ‫الشرب وَهْلَ ًة واحدةً مَخُوفٌ عليهم جدًا ‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪.‬‬

‫ب فى بدنه ‪ :‬إذا دخله ‪ ،‬وخالطه بسهولة ولذة ونفع ‪ .‬ومنه‬ ‫وقوله ‪(( :‬وأ ْمرَأُ)) ‪ :‬هو أفعلُ مِن مَرِئ الطعامُ والشرا ُ‬
‫‪َ { :‬فكُلُو ُه َهنِيئًا مّرِيئاً}[النساء ‪ ، ]4 :‬هنيئًا فى عاقبته ‪ ،‬مريئًا فى مذاقه ‪ .‬وقيل ‪ :‬معناه أنه أسرعُ انحدارًا عن‬
‫المَرِىء لسهولته وخفته عليه ‪ ،‬بخلف الكثير ‪ ،‬فإنه ل يسهُل على المرىء انحدارُه ‪.‬‬

‫ص به ‪،‬‬
‫ومن آفات الشرب َنهْلَةً واحدة أنه يُخاف منه الشّرَق بأن ينسدّ مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه ‪ ،‬فيغَ ّ‬
‫ن من ذلك ‪.‬‬
‫فإذا تنفّس رُويداً ‪ ،‬ثم شرب ‪ ،‬أمِ َ‬
‫ومن فوائده ‪ :‬أنّ الشارب إذا شرب أول مرة تصاعد البخا ُر الدخانىّ الحارّ الذى كان على القلب والكبد لورود‬
‫ل الماء البارد ‪ ،‬وصعودُ البخار ‪،‬‬ ‫جتْه الطبيع ُة عنها ‪ ،‬فإذا شرِب مر ًة واحدةً ‪ ،‬اتفق نزو ُ‬
‫الماء البارد عليه ‪ ،‬فأخر َ‬
‫ب بالماء ‪ ،‬ول يُمرئُه ‪ ،‬ول يتم ِريّه ‪.‬‬
‫فيتدافعان ويتعالجان ‪ ،‬ومن ذلك يحدُث الشَرقُ والغصّة ‪ ،‬ول يهْنأ الشار ُ‬

‫ب أحدُكُم فَ ْل َيمَُصّ‬
‫ى ‪ ،‬وغيرُهما عن النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬إذا شَرِ َ‬ ‫وقد روى عبد ال بن المبارك ‪ ،‬وال َب ْيهَق ّ‬
‫الماءَ َمصًّا ‪ ،‬ول َيعُبّ عبّا ‪ ،‬فإنّه مِن ال ُكبَادِ)) ‪.‬وال ُكبَاد بضم الكاف وتخفيف الباء هو وجع الكبد ‪ ،‬وقد عُلم‬
‫بالتجرِبة أنّ ورود الماء جمل ًة واحدة على الكبد يؤلمها ويُضعفُ حرارتَها ‪ ،‬وسببُ ذلك المضادةُ التى بين‬
‫حرارتها ‪ ،‬وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود وكميته ‪ .‬ولو ورد بالتدريج شيئاً فشيئًا ‪ ،‬لم يضاد حرارتَها ‪،‬‬
‫صبّه قليلً قليلً ‪.‬‬
‫ب الماء البارد على ال ِقدْر وهى تفور ‪ ،‬ل يضرّها َ‬ ‫ص ّ‬
‫ولم يُضعفْها ‪ ،‬وهذا مثالُه َ‬

‫وقد روى الترمذىّ فى ((جامعه)) عنه صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬ل تَشْ َربُوا نَفَساً واحدًا كَشُ ْربِ البَعي ِر ‪ ،‬ولكن‬
‫غتُمْ)) ‪.‬‬‫ح َمدّوا إذَا أنتُمْ فَرَ ْ‬
‫ش ْرِبُتم وا ْ‬
‫اش َربُوا َم ْثنَى وثُلثَ ‪ ،‬وسمّوا إذا أنتم َ‬

‫ضرّته ‪.‬‬
‫وللتسمية فى أول الطعام والشراب ‪ ،‬وحمد ال فى آخره تأثيرٌ عجيب فى نفعه واستمرائه ‪ ،‬ودفع مَ َ‬

‫حمِ َد الُ فى آخره ‪ ،‬وكثرتْ‬


‫قال المام أحمد ‪ :‬إذا جمع الطعام أربعاً ‪ ،‬فقد َكمُل ‪ :‬إذا ذُكِ َر اسمُ ال فى أوله ‪ ،‬و ُ‬
‫حلّ ‪.‬‬
‫عليه اليدى ‪ ،‬وكان من ِ‬

‫فصل‬

‫س ِمعْتُ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫وقد روى مسلم فى ((صحيحه)) من حديث جابر بن عبد ال ‪ ،‬قال ‪َ :‬‬
‫ل فِيهَا وِبا ٌء ل َيمُ ّر بإناءٍ ليس عليه غِطَاءٌ ‪ ،‬أو‬
‫سنَ ِة َليْلَةً ينزِ ُ‬
‫يقول ‪(( :‬غطّوا النا َء ‪ ،‬وَأ ْوكُوا السّقاءَ ‪ ،‬فإنّ فى ال ّ‬
‫سِقاءٍ ليس عليه وِكا ٌء إل َوقَعَ فيه من ذلك الدّاء)) ‪.‬‬

‫وهذا مما ل تنالُه علوم الطباء ومعارفُهم ‪ ،‬وقد عرفه مَن عرفه من عقلء الناس بالتجربة ‪ .‬قال اللّيث بن سعد‬
‫أحدُ رواة الحديث ‪ :‬العاج ُم عندنا يتّقون تلك الليلة فى السنة ‪ ،‬فى كانُونَ الول منها ‪.‬‬

‫ض عليه عُوداً ‪ .‬وفى عرض العود عليه من الحكمة ‪ ،‬أنه ل ينسى‬ ‫ح عنه أنه أم َر بتخمير الناء ولو أن يَعرِ َ‬‫وصَ ّ‬
‫تخميرَه ‪ ،‬بل يعتادُه حتى بالعود ‪ ،‬وفيه ‪ :‬أنه ربما أراد الدّ َبيّب أن يسقط فيه ‪ ،‬فيم ّر على العود ‪ ،‬فيكون العودُ‬
‫جسرًا له يمنعه من السقوط فيه‪.‬‬

‫ن ذِكْر اسم ال عند تخمير الناء يطرد عنه الشيطان ‪،‬‬


‫ح عنه أنه أم َر عند إيكاءِ الناء بذكر اسم ال ‪ ،‬فإ ّ‬
‫وصَ ّ‬
‫وإيكاؤُه يطرد عنه الهَوا ّم ‪ ،‬ولذلك أمر بذكر اسم ال فى هذين الموضعين لهذين المعنيين ‪.‬‬

‫ن رسولَ ال صلى ال عليه وسلم نهى عن الشّرب مِنْ‬


‫وروى البخارى فى ((صحيحه)) من حديث ابن عباس ‪ ،‬أ ّ‬
‫في السّقاء ‪.‬‬

‫ب عديدة ‪ ،‬منها ‪ :‬أنّ تر ّددَ أنفاس الشارب فيه يُكسبه زُهومة ورائحة كريهة يُعاف لجلها ‪ .‬ومنها ‪:‬‬ ‫وفى هذا آدا ٌ‬
‫أنه ربما غلب الداخِلُ إلى جوفه من الماء ‪ ،‬فتضرّر به ‪ .‬ومنها ‪ :‬أنه ربما كان فيه حيوان ل يشعر به‪،‬فيؤذيه ‪.‬‬
‫ن الشرب كذلك يمل‬ ‫ومنها ‪ :‬أنّ الماء ربما كان فيه قَذاةٌ أو غيرُها ل يراها عند الشرب ‪ ،‬فتَلِج جوفه ‪ .‬ومنها ‪ :‬أ ّ‬
‫حكَم‪.‬‬
‫البطن من الهواء ‪ ،‬فيضيقُ عن أخذ حظّه من الماء ‪ ،‬أو يُزاحمه ‪ ،‬أو يؤذيه ‪ ،‬ولغير ذلك من ال ِ‬

‫فإن قيل ‪ :‬فما تصنعون بما فى ((جامع الترمذي)) ‪ :‬أنّ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم دعا بإداوة يو َم ُأحُد ‪،‬‬
‫ب منها مِن َفيّها ‪.‬قلنا ‪ :‬نكتفى فيه بقول الترمذى ‪ :‬هذا حديثٌ ليس إسناده‬
‫شرِ َ‬
‫خُنثْ َفمَ الدَاوَة)) ‪ ،‬ثُمّ َ‬
‫فقال ‪(( :‬ا ْ‬
‫ف من قِبلِ حفظه ‪ ،‬ول أدرى سمع من عيسى ‪ ،‬أو ل ‪ ...‬انتهى ‪.‬‬ ‫ى يُضعّ ُ‬‫بصحيح ‪ ،‬وعبد ال ابن عمر العُمر ّ‬
‫يريد عيسى بن عبد ال الذى رواه عنه ‪ ،‬عن رجل من النصار ‪.‬‬

‫فصل‬
‫ى ‪ ،‬قال ‪(( :‬نهى رسولُ ال صلى ال عليه وسلم عن الشّرب‬ ‫وفى ((سنن أبى داود)) من حديث أبى سعيد الخُدر ّ‬
‫ح ‪ ،‬وأن ينفُخَ فى الشّراب)) ‪ .‬وهذا من الداب التى تتم بها مصلح ُة الشارب ‪ ،‬فإن الشّرب من ثُ ْلمِة‬
‫من ثُ ْلمَةِ ال َقدَ ِ‬
‫عدّةُ مفاسد ‪:‬‬
‫ال َقدَح فيه ِ‬

‫ن ما يكون على وجه الماء من قَذىً أو غيره يجتمع إلى الثّلْمة بخلف الجانب الصحيح ‪.‬‬
‫أحدها ‪ :‬أ ّ‬

‫الثانى ‪ :‬أنّه ربما شوّش على الشارب ‪ ،‬ولم يتمكن من حسن الشرب من الثّلْمة ‪.‬‬

‫الثالث ‪ :‬أنّ الوسخ والزّهومة تجتمِ ُع فى الثّلْمة ‪ ،‬ول يصل إليها الغَسلُ ‪ ،‬كما يصل إلى الجانب الصحيح ‪.‬‬

‫ل العيب فى ال َقدَح ‪ ،‬وهى أردأُ مكان فيه ‪ ،‬فينبغى تجنّبه ‪ ،‬وقصدُ الجانب الصحيح ‪ ،‬فإنّ‬
‫ن الثّلْمة مح ّ‬
‫الرابع ‪ :‬أ ّ‬
‫الردىء من كل شىء ل خير فيه ‪ ،‬ورأى بعض السّلَف رجلً يشترى حاجة رديئة ‪ ،‬فقال ‪ :‬ل تفعل ‪ ،‬أما عَلِمتَ‬
‫أنّ الَ نزع البركة من كل ردىء ‪.‬‬

‫الخامس ‪ :‬أنّه ربما كان فى الثّلْمة شقٌ أو تحديدٌ يجرح فم الشارب ‪ ،‬ولغي ِر هذه من المفاسد ‪.‬‬

‫سيّما إن كان متغيّرَ الفم ‪.‬‬


‫سبُه من فم النافخ رائح ٌة كريهةٌ يُعاف لجلها ‪ ،‬ول ِ‬ ‫وأما النفخ فى الشراب ‪ ..‬فإنه يُك ِ‬
‫وبالجملة ‪ :‬فأنفاس النافخ تُخالطه ‪ ،‬ولهذا جمع رسولُ ال صلى ال عليه وسلم بين النهى عن التنفّس فى الناء‬
‫ى وصحّحه ‪ ،‬عن ابن عباس رضى ال عنهما ‪ ،‬قال ‪ :‬نهى رسول ال‬ ‫والنفخ فيه ‪ ،‬فى الحديث الذى رواه الترمذ ّ‬
‫خ فيه ‪.‬‬
‫صلى ال عليه وسلم أن يُتنفّسَ فى الناء ‪ ،‬أو ُينْفَ َ‬

‫فإن قيل ‪ :‬فما تصنعون بما فى ((الصحيحين)) من حديث أنس ‪(( ،‬أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم كان‬
‫يتنفّسُ فى الناء ثلثاً)) ؟ ‪.‬‬

‫قيل ‪ :‬نُقابلُه بالقبول والتسليم ‪ ،‬ول مُعارضة بينه وبين الول ‪ ،‬فإن معناه أنه كان يتنفس فى شربه ثلثًا ‪َ ،‬وذَكَرَ‬
‫النا َء لنه آلة الشرب ‪ ،‬وهذا كما جاء فى الحديث الصحيح ‪ :‬أنّ إبراهيم ابن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫مات فى الّثدْى ‪ ،‬أى ‪ :‬فى مُدة الرّضاع ‪.‬‬

‫فصل‬

‫وكان صلى ال عليه وسلم يشرب اللّبن خالصاً تار ًة ‪ ،‬ومُشَوباً بالماء أُخرى ‪ .‬وفى شرب اللّبن الحلو فى تلك‬
‫سيّما اللبنَ الذى‬
‫ب البدن ‪ ،‬و َرىّ الكبد ‪ ،‬ول ِ‬
‫البلد الحارة خالصًا ومَشوباً نفعٌ عظيم فى حفظ الصحة ‪ ،‬وترطي ِ‬
‫ترعى دوابّه الشيحَ وال َقيْصو َم والخُزَامَى وما أشبهها ‪ ،‬فإن لبنها غذا ٌء مع الغذية ‪ ،‬وشرابٌ مع الشربة ‪ ،‬ودواءٌ‬
‫مع الدوية ‪.‬‬

‫طعِمنا‬
‫ك لنا فيه ‪ ،‬وأ ْ‬
‫ل ‪ :‬الّلهُمّ با ِر ْ‬‫وفى جامع ((الترمذى)) عنه صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬إذا أكل أحدكم طعاماً فيلقُ ْ‬
‫ئ منَ الطعام والشرابِ إلّ‬ ‫جزِ ُ‬ ‫ك لنا فيه ‪ ،‬و ِزدْنا منه ‪ ،‬فإنه ليس شى ٌء يُ ْ‬
‫خيرًا منه ‪ ،‬وإذا سُقى لبنًا فليقل ‪ :‬الّلهُمّ با ِر ْ‬
‫اللبنُ)) ‪ .‬قال الترمذى ‪ :‬هذا حديث حسن ‪.‬‬

‫فصل‬

‫وثبت فى ((صحيح مسلم)) أنه صلى ال عليه وسلم كان ُينْ َبذُ له أوّل الليل ‪ ،‬ويشربُه إذا أصبح يومَه ذلك ‪،‬‬
‫والليلةَ التى تجى ُء ‪ ،‬والغَد ‪ ،‬واللّيلةَ الُخرى ‪ ،‬والغَد إلى العصر ‪ ،‬فإن بقى منه شىءٌ سقاه الخادِمَ ‪ ،‬أو أمر به‬
‫ب‪.‬‬ ‫فَصُ ّ‬

‫وهذا النبيذ ‪ :‬هو ما يُطرح فيه تم ٌر يُحليه ‪ ،‬وهو يدخل فى الغذاء والشراب ‪ ،‬وله نفع عظيم فى زيادة القوة ‪،‬‬
‫وحفظِ الصحة ‪ ،‬ولم يكن يشربه بع َد ثلث خوفًا من تغيّره إلى السكار ‪.‬‬

‫فصل‬
‫فى تدبيره صلى ال عليه وسلم الملبس‬

‫وكان من أتم ال َهدْى ‪ ،‬وأنفعه للبدن ‪ ،‬وأخفّه عليه ‪ ،‬وأيسره لُبسًا وخَلعًا ‪ ،‬وكان أكثر لُبسه الردية والُزُر ‪ ،‬وهى‬
‫س القميص ‪ ،‬بل كان أحبّ الثياب إليه ‪.‬‬ ‫أخفّ على البدن من غيرها ‪ ،‬وكان يلب ُ‬

‫سعُها ‪ ،‬بل كانت كُ ّم قميصه إلى‬


‫وكان هَديُه فى لُبسه لما يلبَسُه أنفَعُ شىء للبدن ‪ ،‬فإنه لم يكن يُطيل أكمامه ‪ ،‬ويُو ِ‬
‫خفّة الحركة والبطش ‪ ،‬ول تقصُ ُر عن هذه ‪ ،‬فتبرز للحر‬ ‫الرّسْغ ل يُجاوز اليد ‪ ،‬فتشق على لبسها ‪ ،‬وتمنعُه ِ‬
‫والبرد ‪.‬‬

‫ى الماشى ويَؤُوده ‪ ،‬ويجعله كالمقيّد ‪،‬‬


‫ل قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين لم يتجاوز الكعبين ‪ ،‬فيؤذ َ‬ ‫وكان ذي ُ‬
‫ولم يقصُ ْر عن عَضلة ساقيه ‪ ،‬فتنكشفَ ويتأذّى بالحر والبرد ‪.‬‬

‫ولم تكن عِمامته بالكبيرة التى يؤذى الرأس حملُها ‪ ،‬ويضعفُه ويجعله عُرْضةً للضعف والفات ‪ ،‬كما يُشَاهَد من‬
‫حال أصحابها ‪ ،‬ول بالصغيرة التى تقص ُر عن وقاية الرأس من الحر والبرد ؛ بل وَسَطًا بين ذلك ‪ ،‬وكان يُدخلها‬
‫سيّما عِند ركوب الخيل‬‫تحت حَنكه ‪ ،‬وفى ذلك فوائدُ عديدة ‪ :‬فإنها تقى العنق الحر والبرد ‪ ،‬وهو أثبت لها ‪ ،‬ول ِ‬
‫والبل ‪ ،‬والك ّر والف ّر ‪ ،‬وكثير من الناس اتخذ الكلَليب عوضًا عن الحنك ‪ ،‬ويا بُعدَ ما بينهما فى النفع والزينة ‪،‬‬
‫وأنت إذا تأملت هذه اللّبسة وجدتها من أنفع اللّبسات وأبلغِها فى حفظ صحة البدن وقوته ‪ ،‬وأبعدها من التكلف‬
‫والمشقة على البدن ‪.‬‬

‫وكان يلبسُ الخِفاف فى السفر دائماً ‪ ،‬أو أغلب أحواله لِحاجة الرّجلين إلى ما يقيهما من الحر والبرد ‪ ،‬وفى‬
‫حضَر أحياناً ‪.‬‬
‫ال َ‬

‫حبَرَة ‪ ،‬وهى ‪ :‬البرود المحبّرة ‪.‬‬


‫ض ‪ ،‬وال ِ‬
‫وكان أحبّ ألوان الثياب إليه البيا َ‬

‫ولم يكن مِن َهدْيه لُبس الحمر ‪ ،‬ول السود ‪ ،‬ول المصبّغ ‪ ،‬ول المصقول‬

‫وأما الحُلّة الحمراء التى لبسها ‪ ،‬فهى الرداءُ اليمانىّ الذى فيه سوادٌ وحُمرة وبياض ‪ ،‬كالحُلّ ِة الخضراء ‪ ،‬فقد‬
‫لبس هذه وهذه ‪ ،‬وقد تقدّم تقري ُر ذلك ‪ ،‬وتغليطُ مَن زعم أنه لبس الحمر القانى بما فيه كفاية ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى تدبيره صلى ال عليه وسلم لمر المسكن‬

‫ل عنها‬‫ل فيها ُمدّة عمره ‪ ،‬ثم ينتق ُ‬


‫لـمّا علم صلى ال عليه وسلم أنه على ظهرِ سي ٍر ‪ ،‬وأن الدنيا مرحلةُ مساف ٍر ينز ُ‬
‫إلى الخرة ‪ ،‬لم يكن من هَديه وهَدى أصحابه ومن تبعه العتناءُ بالمساكن وتشييدها ‪ ،‬وتعليتها وزَخرفتها‬
‫وتوسِيعها ‪ ،‬بل كانت من أحسن منازل المسافر تقى الحر والبرد ‪ ،‬وتست ُر عن العيون ‪ ،‬وتمنعُ من ولوج‬
‫ب ‪ ،‬ول يُخاف سقوطُها لفرطِ ثقلها ‪ ،‬ول تُعشش فيها الهوام لِسعتها ول تعتَوِرُ عليها الهوية والرياح‬ ‫الدوا ّ‬
‫ى ساكنها ‪ ،‬ول فى غاية الرتفاع عليها ‪ ،‬بل وسط ‪ ،‬وتلك أعدلُ‬ ‫المؤذية لرتفاعها ‪ ،‬وليست تحت الرض فتؤذ َ‬
‫ق عن ساكنها ‪ ،‬فينحصِر ‪ ،‬ول تفضل عنه بغير منفعة ول‬ ‫المساكن وأنفعُها ‪ ،‬وأقلّها حراً وبرداً ‪ ،‬ول تضي ُ‬
‫فائدة ‪ ،‬فتأوَى الهوامّ فى خلوها ‪ ،‬ولم يكن فيها ُكنُفٌ تُؤذى ساكنها برائحتها ‪ ،‬بل رائحتها من أطيب الروائح لنه‬
‫كان يُحبّ الطيب ‪ ،‬ول يزال عنده ‪ ،‬وريحه هو من أطيب الرائحة ‪ ،‬وعَ َرقُه من أطيب الطيب ‪ ،‬ولم يكن فى‬
‫ظ صحته ‪.‬‬ ‫ف تظهر رائحتُه ‪ ،‬ول ريبَ أنّ هذه من أعدل المساكن وأنفعها وأوفقها للبدن ‪ ،‬وحف ِ‬ ‫الدار َكنِي ٌ‬

‫فصل‬

‫فى تدبيره صلى ال عليه وسلم لمر النوم واليقظة‬


‫مَن تدبّر نومه ويقظَته صلى ال عليه وسلم وجدَه أعدلَ نوم ‪ ،‬وأنفعَه للبدن والعضاء والقُوى ‪ ،‬فإنه كان ينام‬
‫ل الليل ‪ ،‬ويستيقظ فى أول النصف الثانى ‪ ،‬فيقو ُم ويَستاك ‪ ،‬ويتوضأ ويُصَلّى ما كتبَ الُ له ‪ ،‬فيأخذُ البدن‬ ‫أوّ َ‬
‫والعضاء والقُوَى حظّها من النوم والراحة ‪ ،‬وحظّها من الرياضة مع وُفورِ الجر ‪ ،‬وهذا غايةُ صلح القلب‬
‫والبدن ‪ ،‬والدنيا والخرة ‪ .‬ولم يكن يأخذ من النوم فوقَ القدر المحتاج إليه ‪ ،‬ول يمنع نفسه من القدر المحتاج‬
‫شقّه اليمن ‪ ،‬ذاكراً ال حتى‬ ‫إليه منه ‪ ،‬وكان يفعلُه على أكمل الوجوه ‪ ،‬فينا ُم إذا دعتْه الحاج ُة إلى النوم على ِ‬
‫ض ‪ ،‬ول متخذٍ للفُرش المرتفعة ‪،‬‬ ‫تغلبه عيناه ‪ ،‬غيرَ ممتلئ البدنِ من الطعام والشراب ‪ ،‬ول مباش ٍر بجنبه الر َ‬
‫بل له ضِجَاع من أُدم حشو ُه ليف ‪ ،‬وكان يَضطجع على الوِسادة ‪ ،‬ويضع يده تحت خدّه أحيانًا ‪ .‬ونحن نذكر‬
‫فصلً فى النوم ‪ ،‬والنافع منه والضار‬

‫فنقول ‪ :‬النوم حالة للبدن يَتبعُها غوْر الحرارةِ الغريزية والقُوى إلى باطن البدن لطلب الراحة ‪ ،‬وهو نوعان ‪:‬‬
‫طبيعى ‪ ،‬وغيرُ طبيعى ‪.‬‬

‫حسّ والحركة الرادية ‪ ،‬ومتى أمسكتْ هذه القُوَى‬ ‫فالطبيعى ‪ :‬إمساك القُوى النفسانية عن أفعالها ‪ ،‬وهى قُوَى ال ِ‬
‫ستَرخى ‪ ،‬واجتمعتْ الرطوباتُ والبخرةُ التى كانت تتحلّل وتتفرّق بالحركات واليقظة فى‬ ‫عن تحريك البدن ا ْ‬
‫الدماغ الذى هو مبدأ هذه القُوَى ‪ ،‬فيتخدّ ُر ويَسترخِى ‪ ،‬وذلك النومُ الطبيعى ‪.‬‬

‫ت على الدماغ استيل ًء ل تقدِرُ‬‫وأمّا النومُ غي ُر الطبيعى ‪ ،‬فيكونُ لعَرض أو مرض ‪ ،‬وذلك بأن تستولىَ الرطوبا ُ‬
‫ل الدماغ‬‫ب المتلء مِن الطعام والشراب ‪ ،‬فتُثقِ ُ‬ ‫اليقظ ُة على تفريقها ‪ ،‬أو تصعد أبخرةٌ رَطبة كثيرة كما يكون عقي َ‬
‫ك القُوَى النفسانية عن أفعالها ‪ ،‬فيكون النوم ‪.‬‬
‫وتُرخيه ‪ ،‬فَيتخدّرَ ‪ ،‬ويقع إمسا ُ‬

‫س مِن‬
‫وللنوم فائدتان جليلتان ‪ ،‬إحداهما ‪ :‬سكونُ الجوارح وراحتُها مما يَعرض لها من التعب ‪ ،‬فيُريح الحوا ّ‬
‫نَصَب اليقظة ‪ ،‬ويُزيل العياء والكَلل ‪.‬‬

‫والثانية ‪ :‬هضم الغذاء ‪ ،‬ونُضج الخلط لن الحرارة الغريزية فى وقت النوم تَغور إلى باطن البدن ‪ ،‬فتُعين‬
‫على ذلك ‪ ،‬ولهذا يبرد ظاهره ويحتاج النائم إلى فضل ِدثَار ‪.‬‬

‫وأنفعُ النوم ‪ :‬أن ينا َم على الشّق اليمن ‪ ،‬ليستقرّ الطعام بهذه الهيئة فى ال َمعِدَة استقراراً حسناً ‪ ،‬فإن ال َم ِعدَة أميَ ُ‬
‫ل‬
‫ل ليُسرعَ الهضم بذلك لستمالة ال َم ِعدَة على ال َكبِد ‪ ،‬ثم‬ ‫إلى الجانب اليسر قليلً ‪ ،‬ثم يَتحوّل إلى الشّق اليسر قلي ً‬
‫يَستق ّر نومُه على الجانب اليمن ‪ ،‬ليكون الغِذاء أسرعَ انحداراً عن ال َم ِعدَة ‪ ،‬فيكونُ النوم على الجانب اليمن‬
‫بُداءة نومه ونهايتَه ‪ ،‬وكثرةُ النوم على الجانب اليسر مضرٌ بالقلب بسبب ميل العضاء إليه ‪ ،‬فتنصبّ إليه‬
‫المواد ‪.‬‬

‫وأردأُ النو ِم النومُ على الظهر ‪ ،‬ول يَضرّ الستلقاء عليه للراحة من غير نوم ‪ ،‬وأردُأ منه أن ينامَ منبطحاً على‬
‫وجهه ‪ ،‬وفى ((المسند)) و((سنن ابن ماجه)) ‪ ،‬عن أبى أُمامةَ قال ‪ :‬م ّر النبىّ صلى ال عليه وسلم على رجُلٍ‬
‫ج َهّن ِميّةٌ)) ‪.‬‬
‫نائم فى المسجد منبطح على وجهه ‪ ،‬فضرَبه برجله ‪ ،‬وقال ‪(( :‬قُمْ أ ِو ا ْقعُ ْد فإ ّنهَا نومةٌ َ‬

‫قال ((أبقراطٌ)) فى كتاب ((التّقدِمة)) ‪ :‬وأما نومُ المريض على بطنه من غير أن يكون عادتُه فى صحته جرتْ‬
‫بذلك ‪ ،‬فذلك يدلّ على اختلط عقل ‪ ،‬وعلى أل ٍم فى نواحى البطن ‪ ،‬قال الشُرّاح لكتابه ‪ :‬لنه خالف العادة الجيدة‬
‫إلى هيئة رديئة من غير سبب ظاهر ول باطن ‪.‬‬

‫والنو ُم المعتدل ممكّنٌ للقُوَى الطبيعية من أفعالها ‪ ،‬مريحٌ للقوة النفسانية ‪ُ ،‬مكْثرٌ من جوهر حاملها ‪ ،‬حتى إنه‬
‫ل ‪ ،‬ويُفسد‬
‫ض الرطوبية والنواز َ‬ ‫ئ يُورث المرا َ‬
‫ربّما عاد بإرخائه مانعًا من تحلّل الرواح ‪ .‬ونومُ النهار رد ٌ‬
‫ت الهاجِرة ‪،‬‬
‫ب ‪ ،‬ويُكسل ‪ ،‬ويُضعف الشهوة ‪ ،‬إلّ فى الصّيفِ وق َ‬ ‫اللّون ‪ ،‬ويُورث الطّحال ‪ ،‬ويُرخى العص َ‬
‫وأردؤه نو ُم أول النهار ‪ ،‬وأردُأ منه النو ُم آخره بعدَ العصر ‪ ،‬ورأى عبد ال بن عباس ابنًا له نائماً نومة‬
‫ص ْبحَةِ ‪ ،‬فقال له ‪ :‬قم ‪ ،‬أتنام فى الساعة التى تُقسّ ُم فيها الرزاق ؟‬
‫ال ّ‬

‫ق ‪ ،‬وحُرق ‪ ،‬وحُمق ‪ .‬فالخُلق ‪ :‬نومة الهاجرة ‪ ،‬وهى خُلق رسول ال صلى ال‬ ‫وقيل ‪ :‬نوم النهار ثلثة ‪ :‬خُل ٌ‬
‫عليه وسلم ‪ .‬والحُرق ‪ :‬نومة الضحى ‪ ،‬تُشغل عن أمر الدنيا والخرة ‪ .‬والحُمق ‪ :‬نومة العصر ‪ .‬قال بعض‬
‫س عَقلُه ‪ ،‬فل يلومنّ إل نفسه ‪ .‬وقال الشاعر ‪:‬‬
‫السّلَف ‪ :‬مَن نام بعد العصر ‪ ،‬فاختُلِ َ‬
‫جنُونُ‬
‫صيْـرِ ُ‬
‫خبَالً َونَ ْومَاتُ ا ْلعُ َ‬
‫ن نَ ْومَاتِ الضّحَى تُورِثُ ا ْل َفتَى َ‬
‫َألَ إ ّ‬

‫ت قسمة الرزاق ‪ ،‬فنومُه‬ ‫ت تطلبُ فيه الخليقةُ أرزاقَها ‪ ،‬وهو وق ُ‬


‫ونوم الصّبحة يمنع الرزق ‪ ،‬لن ذلك وق ٌ‬
‫حرمانٌ إل لعارض أو ضرورة ‪ ،‬وهو مضر جدًا بالبدن لرخائه البدن ‪ ،‬وإفسادِه للفضلت التى ينبغى تحليلُها‬
‫ل ال َمعِدَة بشىء ‪ ،‬فذلك‬
‫عيّا وضَعفاً ‪ .‬وإن كان قبل التبرّز والحركة والرياضة وإشغا ِ‬ ‫بالرياضة ‪ ،‬فيُحدث تكسّرًا وَ ِ‬
‫الداء العُضال المولّد لنواع من الدواء ‪.‬‬

‫والنومُ فى الشمس يُثير الدا َء الدّفين ‪ ،‬ونومُ النسان بعضُه فى الشمس ‪ ،‬وبعضُه فى الظل ردىء ‪ ،‬وقد روى أبو‬
‫داود فى ((سننه)) من حديث أبى هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬إذا كان أحدكم فى‬
‫س و َبعْضُهُ فى الظّل ‪ ،‬فَ ْل َيقُمْ)) ‪.‬‬
‫شمْ ِ‬
‫ص عنه الظّلّ ‪ ،‬فصار َبعْضُهُ فى ال ّ‬
‫ش ْمسِ َفقَلَ َ‬
‫ال ّ‬

‫حصَيب ‪(( ،‬أنّ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم نهى أنْ‬ ‫وفى ((سنن ابن ماجه)) وغيره من حديث بُريدَةَ بن ال ُ‬
‫يق ُعدَ الرّجُ ُل بين الظّلّ والشمس))‪ ،‬وهذا تنبيه على منع النوم بينهما ‪.‬‬

‫ج َعكَ‬
‫ضَ‬‫ت مَ ْ‬
‫ب ‪ ،‬أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪(( :‬إذا أ َتيْ َ‬ ‫وفى ((الصحيحين)) عن البَرَاء بن عازِ ٍ‬
‫جهْتُ‬
‫ت نَفْسِى إليكَ ‪ ،‬ووَ ّ‬ ‫ك اليمنِ ‪ ،‬ثم قل ‪ :‬الّلهُمّ إنّى أسْلم ُ‬
‫ك للصّلة ‪ ،‬ثم اضطّجِعْ على شِ ّق َ‬ ‫فتوضّ ْأ ُوضُو َء َ‬
‫ظهْرى إليكَ ‪ ،‬رَغبةً ورَهبةً إليكَ ‪ ،‬ل ملجَأ ول َمنْجا منك إلّ‬ ‫ك ‪ ،‬وألج ْأتُ َ‬‫ك ‪ ،‬وفَوّضْتُ أمرى إلي َ‬ ‫ى إلي َ‬
‫وجْه ِ‬
‫ت مِن ليلتِك ‪ِ ،‬متّ على‬ ‫إليكَ ‪ ،‬آمَنتُ بكتا ِبكَ الذى أنْزَ ْلتَ ‪ ،‬ونب ّيكَ الذى أرْسلتَ ‪ .‬واجع ْلهُنّ آخر كل ِمكَ ‪ ،‬فإن مِ ّ‬
‫الفِطْرة)) ‪.‬‬

‫وفى ((صحيح البخارى)) عن عائشة أنّ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم ‪(( ،‬كان إذا صلّى ركعتى الفجرِ يعنى‬
‫سُـ ّنتَها اضْطّجَعَ على شِقّه اليمنِ)) ‪.‬‬

‫وقد قيل ‪ :‬إنّ الحكمة فى النوم على الجانب اليمـن ‪ ،‬أن ل يستغرقَ النائم فى نومه ‪ ،‬لن القلب فيه ميلٌ إلى جهة‬
‫اليسار ‪ ،‬فإذا نام على جنبه اليمن ‪ ،‬طلب القلبُ مُستقَرّه من الجانب اليسر ‪ ،‬وذلك يمنع من استقرار النائم‬
‫واستثقاله فى نومه ‪ ،‬بخلف قراره فى النوم على اليسار ‪ ،‬فإنه مُست َقرّه ‪ ،‬فيحصُل بذلك الدّع ُة التامة ‪ ،‬فيستغرق‬
‫النسان فى نومه ‪ ،‬ويَستثقِل ‪ ،‬فيفوتُه مصالح دينه ودنياه ‪.‬‬

‫ى الذى ل يموت ‪ ،‬وأهلُ الجنّة ل‬ ‫ولما كان النائ ُم بمنزلة الميت ‪ ،‬والنو ُم أخو الموت ولهذا يستحيل على الح ّ‬
‫س بدنه أيضاً‬ ‫ض لها من الفات ‪ ،‬ويح ُر ُ‬ ‫ينامون فيها كان النائم محتاجاً إلى مَن يحرُس نفسه ‪ ،‬ويحفظُها مما َيعْرِ ُ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم النائ َم أن‬ ‫من طوارق الفات ‪ ،‬وكان ربّه وفاطرُه تعالى هو المتولى لذلك وحدَه ‪ .‬علّم النب ّ‬
‫ى بها كمال حفظِ ال له ‪ ،‬وحراسته لنفسه وبدنه ‪،‬‬ ‫ل كلماتِ التفويضِ واللتجاء ‪ ،‬والرغبة والرهبة ‪ ،‬ليَستدع َ‬‫يقو َ‬
‫وأرشده مع ذلك إلى أن يَستذكِ َر اليمانَ ‪ ،‬وينا َم عليه ‪ ،‬ويجعلَ التكلّمَ به آخرَ كلمه ‪ ،‬فإنه ربما توفاه ال فى‬
‫منامه ‪ ،‬فإذا كان اليمانُ آخِ َر كلمه دخل الجنّة ‪ ،‬فتضمّن هذا ال َهدْىُ فى المنام مصالحَ القلب والبدن والروح فى‬
‫ت به أُمتُه كُلّ خير‬
‫النوم واليقظة ‪ ،‬والدنيا والخرة ‪ ،‬فصلواتُ ال وسلمُه على مَن نال ْ‬

‫وقوله ‪(( :‬أسلَمتُ نفْسى إليكَ)) ؛ أى ‪ :‬جعلتُها مُسّلمَةً لك تسلي َم العبدِ المملوك نفسَه إلى سيده ومالكه ‪.‬‬

‫وتوجيهُ وجهه إليه ‪ :‬يتضمّن إقبالَه بالكلّية على ربه ‪ ،‬وإخلص القصد والرادة له ‪ ،‬وإقراره بالخضوع والذل‬
‫ى لِ َومَنِ ا ّت َبعَنِ ‪ .‬وذكر الوج َه إذ هو أشرفُ ما فى‬
‫جهِ َ‬
‫ل أَسَْل ْمتُ َو ْ‬
‫والنقياد ‪ ،‬قال تعالى ‪{ :‬فَإنْ حَاجّوكَ َفقُ ْ‬
‫جمَ ُع الحواس‪ ،‬وأيضاً ففيه معنى التوجّهِ والقصدِ من قوله ‪:‬‬ ‫النسان ‪ ،‬ومَ ْ‬

‫صيَهُ رَبّ ا ْل ِعبَادِ إَليْهِ ا ْلوَجْ ُه وَا ْل َعمَلُ‬


‫ت مُحْ ِ‬
‫ل ذَنبًا َلسْ ُ‬
‫س َتغْفِرُ ا َ‬
‫أْ‬

‫وتفويض المر إليه ‪ :‬ردّ ُه إلى ال سبحانه ‪ ،‬وذلك يُوجب سُكون القلب وطمأنينتَه ‪ ،‬والرّضى بما يقضيه ويختارُه‬
‫له مما يحبه ويرضاه ‪ ،‬والتفويضُ من أشرف مقامات العبودية ‪ ،‬ول عِلّة فيه ‪ ،‬وهو من مقامات الخاصة خلفاً‬
‫لزاعمى خلف ذلك ‪.‬‬

‫ن مَن‬
‫ضمّنُ قو َة العتماد عليه ‪ ،‬والثقة به ‪ ،‬والسكونَ إليه ‪ ،‬والتوكلَ عليه ‪ ،‬فإ ّ‬
‫وإلجاءُ الظّهر إليه سبحانه ‪ :‬يَت َ‬
‫ط‪.‬‬‫ق ‪ ،‬لم يخف السقو َ‬ ‫أسند ظهره إلى ركن وثي ٍ‬
‫ولـمّا كان للقلب قوّتان ‪ :‬قوة الطلب ‪ ،‬وهى الرغبة ‪ ،‬وقوة الهرب ‪ ،‬وهى الرهبة ‪ ،‬وكان العبد طالباً لمصالحه ‪،‬‬
‫هارباً من مضارّه ‪ ،‬جمع المرين فى هذا التفويض والتوجّه ‪ ،‬فقال ‪(( :‬رغبةً ورهبةً إليك)) ‪.‬‬

‫جيَه من نفسه ‪،‬‬ ‫ثم أثنى على ربه ‪ ،‬بأنه ل مَلجأ للعبد سواه ‪ ،‬ول منجا له منه غيره ‪ ،‬فهو الذى يلجأ إليه العب ُد ليُن ِ‬
‫ك من عُقُو َب ِتكَ ‪ ،‬وأعوذُ ِبكَ ِم ْنكَ)) ‪ ،‬فهو سبحانه‬ ‫ك ‪ ،‬وب ُمعَافَا ِت َ‬‫طَ‬ ‫ك مِن سَخَ ِ‬ ‫كما فى الحديث الخر ‪(( :‬أَعُوذُ بِ ِرضَا َ‬
‫الذى يُعيذ عبدَه ويُنجيه من بأسه الذى هو بمشيئته وقُدرته ‪ ،‬فمنه البلءُ ‪ ،‬ومنه العان ُة ‪ ،‬ومنه ما يُطلب النجاةُ‬
‫ب كل‬‫ى مما منه ‪ ،‬ويُستعا ُذ به مما منه ‪ ،‬فهو ر ّ‬ ‫منه ‪ ،‬وإليه اللتجا ُء فى النجاة ‪ ،‬فهو الذى يُلجأ إليه فى أن يُنج َ‬
‫ل مَن ذَا‬‫ل هُوَ}[النعام ‪ { ،]17 :‬قُ ْ‬ ‫ف لَهُ إ ّ‬
‫ل كَاشِ َ‬
‫ضرّ فَ َ‬ ‫سكَ الُ بِ ُ‬ ‫شىء ‪ ،‬ول يكون شىء إل بمشيئته ‪{ :‬وَإن َيمْسَ ْ‬
‫حمَةً }[الحزاب ‪]17 :‬‬ ‫ن َأرَادَ ِبكُمْ سُوءًا َأوْ َأرَادَ ِبكُمْ رَ ْ‬
‫صمُكُم مّنَ الِ إ ْ‬
‫اّلذِى َيعْ ِ‬

‫ثُمّ ختم الدعاءَ بالقرار باليمان بكتابه ورسوله الذى هو مَلكُ النجاة ‪ ،‬والفوز فى الدنيا والخرة ‪ ،‬فهذا َه ْديُه فى‬
‫نومه ‪.‬‬

‫ل َلكَا نَ شَا ِهدٌ فِى َه ْديِهِ َينْطِقُ‬


‫ل إنّى َرسُو ٌ‬
‫لَ ْو لَ ْم يَقُ ْ‬

‫فصل‬

‫ل تعالى ويُكبّره ‪ ،‬ويُهلّله ويدعوه ‪،‬‬


‫وأمّا َهدْيُه فى يقظته ‪ ،‬فكان يَستيقظ إذا صاح الصّارخُ وهو الدّيك ‪ ،‬فيح َمدُ ا َ‬
‫ف للصلة بين َيدَى ربه ‪ ،‬مُناجيًا له بكلمه ‪ ،‬مُثنيًا عليه ‪ ،‬راجياً له ‪،‬‬‫ثم يَستاك ‪ ،‬ثم يقوم إلى وضُوئه ‪ ،‬ثم يَقِ ُ‬
‫ظ لصحةِ القلب والبدن ‪ ،‬والرّوح والقُوَى ‪ ،‬ولنعيم الدنيا والخرة فوقَ هذا ‪.‬‬ ‫راغباً راهبًا ‪ ،‬فأىّ حف ٍ‬

‫فصل‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫@‬

‫وأمّا تدبيرُ الحركة والسكون ‪ ،‬وهو الرياضة ‪ ،‬فنذك ُر منها فصلً يُعلم منه مطابقةُ َه ْديِه فى ذلك لكملِ أنواعِه‬
‫وأحمدِها وأصوبِها ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬

‫من المعلوم افتقا ُر البدن فى بقائه إلى الغذاء والشراب ‪ ،‬ول يَصير الغذا ُء بجملته جزءاًمن البدن ‪ ،‬بل ل بد أن‬
‫ضرّ بكميته‬‫يبقى منه عند كل هضم بقية ما ‪ ،‬إذا كثُرتْ على ممر الزمان اجتمع منها شىء له كمي ٌة وكيفية ‪ ،‬في ُ‬
‫س ِميّة ‪ ،‬ول‬
‫ل البدن ‪ ،‬ويُوجبَ أمراضَ الحتباس ‪ ،‬وإن استفرغ تأذّى البدن بالدوية ‪ ،‬لن أكثرها ُ‬ ‫بأن يسد ويُثق َ‬
‫تخلو من إخراج الصالح المنتفَع به ‪ ،‬ويضر بكيفيته ‪ ،‬بأن يسخن بنفسه ‪ ،‬أو بالعَفِن ‪ ،‬أو يبردُ بنفسه ‪ ،‬أو يضعف‬
‫الحرارة الغريزية عن إنضاجه ‪.‬‬

‫غتْ ‪ ،‬والحركةُ أقوى السباب فى منع توّلدِها ‪ ،‬فإنها تُسخّن‬ ‫وسدد الفضلت ل محال َة ضار ٌة ‪ ،‬تُ ِركَتْ أو استُفرِ َ‬
‫العضاء ‪ ،‬وتُسيل فضلتِها ‪ ،‬فل تجتمعُ على طول الزمان ‪ ،‬وتُع ّودُ البدنَ الخف َة والنشاط ‪ ،‬وتجعلُه قابلً للغذاء ‪،‬‬
‫ت ‪ ،‬وتُؤمن جميعَ المراض المادية وأكثر المراض المِزاجية إذا‬ ‫وتُصلّب المفاصِل ‪ ،‬وتُقوّى الوتارَ والرباطا ِ‬
‫استُعمِلَ القد ُر المعتدل منها فى وقته ‪ ،‬وكان باقى التدبير صواباً ‪.‬‬

‫ت الرياضة بعدَ انحدار الغذاء ‪ ،‬وكمال الهضم ‪ ،‬والرياض ُة المعتدلة هى التى تحم ّر فيها البَشْرة ‪ ،‬وتربُو‬ ‫ووق ُ‬
‫ت رياضتُه قَ ِوىَ ‪ ،‬وخصوصاً على‬ ‫و َيتَ َندّى بها البدنُ ‪ ،‬وأما التى يلزمُها سيلنُ العرق فمفرِط ٌة ‪ ،‬وأىّ عضو كثر ْ‬
‫ن مَن استكثَر من الحفظ قويتْ حافِظتُه ‪ ،‬ومَن استكث َر من الفكر‬ ‫ل قوة فهذا شأنُها ‪ ،‬فإ ّ‬
‫نوع تلك الرياضة ‪ ،‬بل ك ّ‬
‫ت قُ ّوتُه المفكّرة ‪ ،‬ولكل عضو رياضةٌ تخصّه ‪ ،‬فللصدرِ القراء ُة ‪ ،‬فليبتدئ فيها من الخِفية إلى الجهر‬ ‫قوي ْ‬
‫بتدريج ‪ ،‬ورياضةُ السمع بسمعِ الصوات ‪ ،‬والكلم بالتدريج ‪ ،‬فينتقل من الخف إلى الثقل ‪ ،‬وكذلك رياضةُ‬
‫اللّسان فى الكلم ‪ ،‬وكذلك رياض ُة البصر ‪ ،‬وكذلك رياضةُ المشى بالتدريج شيئاً فشيئاً ‪.‬‬

‫ع ‪ ،‬والمسابقةُ على القدام ‪ ،‬فرياض ٌة للبدن كلّه ‪ ،‬وهى قالعة‬


‫وأمّا ركوبُ الخيل ‪ ،‬ورمىُ النّشّاب ‪ ،‬والصرا ُ‬
‫لمراض مُزمنةٍ ‪ ،‬كالجُذام والستسقاء والقولنج ‪.‬‬
‫ورياضةُ النفوس بالتعلّم والتأدّب ‪ ،‬والفرح والسرور ‪ ،‬والصبر والثبات ‪ ،‬والقدام والسماحة ‪ ،‬و ِفعْل الخير ‪،‬‬
‫س ‪ ،‬ومن أعظم رياضتها ‪ :‬الصبرُ والحب ‪ ،‬والشجاعة والحسان ‪ ،‬فل تزالُ‬ ‫ونحو ذلك مما تَرْتاض به النفو ُ‬
‫تَرتاض بذلك شيئاً فشيئاً حتى تَصي َر لها هذه الصفاتُ هيآتٍ راسخ ًة ‪ ،‬ومَلَكاتٍ ثابت ًة ‪.‬‬

‫ظ للصحة والقُوَى ‪ ،‬ونافعٍ فى المعاش‬


‫ل َهدْىٍ حاف ٍ‬
‫وأنت إذا تأمّلت َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى ذلك ‪ ،‬وجدتَه أكم َ‬
‫والمعاد ‪.‬‬

‫ن الصلة نفسَها فيها من حِفظِ صحة البدن ‪ ،‬وإذابةِ أخلطه وفضلته ‪ ،‬ما هو من أنفع شىء له سوى‬ ‫ول َريْبَ أ ّ‬
‫ما فيها مِن حفظِ صحة اليمان ‪ ،‬وسعاد ِة الدنيا والخرة ‪ ،‬وكذلك قيامُ الليل مِن أنفع أسباب حفظ الصحة ‪ ،‬ومن‬
‫أمنع الُمور لكثير من المراض المزمنة ‪ ،‬ومن أنشط شىء للبدن والروح والقلب ‪ ،‬كما فى ((الصحيحين)) عن‬
‫ع َقدٍ ‪ ،‬يَضربُ‬ ‫ث ُ‬ ‫حدِكُم إذا هو نامَ ثل َ‬ ‫سأَ‬‫شيْطَانُ على قا ِفيَةِ رأ ِ‬
‫النبى صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬أنه قال ‪(( :‬يَع ِقدُ ال ّ‬
‫ت عُ ْقدَةٌ‬
‫ن تَوَضَّأ ‪ ،‬انحلّ ْ‬
‫ع ْقدَةٌ ‪ ،‬فإ ْ‬
‫ل ‪ ،‬فار ُقدْ ‪ ،‬فإنْ هو استيقَظ ‪ ،‬فذكَرَ الَ انحلّتْ ُ‬ ‫ل عُ ْقدَةٍ ‪ :‬عََل ْيكَ َليْلٌ طوي ٌ‬
‫على كُ ّ‬
‫س كَسْلنَ)) ‪.‬‬ ‫خبِيثَ النّفْ ِ‬
‫صبَحَ َ‬‫ع ْقدُهُ كُّلهَا ‪ ،‬فأصبحَ نشيطاً طَـيّبَ الن ْفسِ ‪ ،‬وإلّ أ ْ‬
‫ثانيةٌ ‪ ،‬فإنْ صَلّى انحلّتْ ُ‬

‫وفى الصوم الشرعى من أسبابِ حفظ الصحة ورياضةِ البدن والنفس ما ل يدفعُه صحيحُ الفطرة ‪.‬‬

‫وأما الجهادُ وما فيه من الحركات الكلية التى هى من أعظم أسباب القوة ‪ ،‬وحفظ الصحة ‪ ،‬وصلب ِة القلب والبدن‬
‫ج ‪ ،‬وفعلُ‬‫‪ ،‬ودفعِ فضلتهما ‪ ،‬وزوالِ الهم والغم والحزن ‪ ،‬فأمر إنّما يعرفه مَن له منه نصيبٌ ‪ ،‬وكذلك الح ّ‬
‫المناسك ‪ ،‬وكذلك المسابق ُة على الخيل ‪ ،‬وبالنّصال ‪ ،‬والمشىُ فى الحوائج ‪ ،‬وإلى الخوان ‪ ،‬وقضاءُ حقوقهم ‪،‬‬
‫جمُعات والجماعات ‪ ،‬وحركةُ الوضوء‬ ‫وعيادة مرضاهم ‪ ،‬وتشييعُ جنائزهم ‪ ،‬والمشىُ إلى المساجد لل ُ‬
‫والغتسال ‪ ،‬وغير ذلك ‪.‬‬

‫ظ الصحة ‪ ،‬ودفع الفضلت ‪ ،‬وأما ما شُرع له من التوصّل به إلى‬ ‫وهذا أقلّ ما فيه الرياضةُ المعينة على حف ِ‬
‫خيرات الدنيا والخرة ‪ ،‬ودفع شرورهما ‪ ،‬فأمرٌ وراء ذلك ‪.‬‬

‫ب البدان والقلوب ‪ ،‬وحفظِ صحتها ‪ ،‬ودفع أسقامهما ‪ ،‬ول مزيدَ على ذلك‬
‫ن َه ْديَه فوق كل َهدْىٍ فى ط ّ‬
‫فعلمتَ أ ّ‬
‫لمن قد أحضر رشده ‪ ..‬وبال التوفيق ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى الجِماع والباه و َهدْى النبى صلى ال عليه وسلم فيه‬

‫ل َهدْىٍ ‪ ،‬يحفَظ به الصحة ‪ ،‬وتتمّ به اللّذةُ وسرور النفس ‪ ،‬ويحصل به‬


‫وأما الجِماعُ والبا ُه ‪ ،‬فكان َه ْديُه فيه أكم َ‬
‫جمَاع وُضِعَ فى الصل لثلثة أُمور هى مقاصدُه الصلية ‪:‬‬ ‫مقاصدُه التى وُضع لجلها ‪ ،‬فإن ال ِ‬

‫ل العُدة التى قدّر ال بروزَها إلى هذا العالَم ‪.‬‬


‫ظ النسل ‪ ،‬ودوا ُم النوع إلى أن تتكام َ‬
‫أحدها ‪ :‬حف ُ‬

‫الثانى ‪ :‬إخراجُ الماء الذى يضر احتباسُه واحتقانُه بجملة البدن ‪.‬‬

‫ل هناك‬
‫الثالث ‪ :‬قضاءُ الوَطر ‪ ،‬ونيلُ اللّذة ‪ ،‬والتمتعُ بالنعمة ‪ ،‬وهذه وحدَها هى الفائدةُ التى فى الجنّة ‪ ،‬إذ ل تناسُ َ‬
‫ل‪.‬‬ ‫‪ ،‬ول احتقانَ يستفرِغُه النزا ُ‬

‫جمَاع من أحد أسـباب حفظ الصحة ‪ .‬قال ((جالينوسُ)) ‪ :‬الغالبُ على جوهر‬ ‫ن ال ِ‬
‫وفضـلءُ الطباء ‪ :‬يرون أ ّ‬
‫ى النّا ُر والهوا ُء ‪ ،‬ومِزاجُه حار رطب ‪ ،‬لن كونه من الدم الصافى الذى تغتذى به العضاءُ الصلية ‪ ،‬وإذا‬ ‫ال َمنِ ّ‬
‫ثبت فضلُ ال َمنِىّ ‪ ،‬فاعلم أنه ل ينبغى إخراجُه إل فى طلب النسل ‪ ،‬أو إخراجُ المحتقن منه ‪ ،‬فإنه إذا دام‬
‫س والجنون ‪ ،‬والصّرْع ‪ ،‬وغي ُر ذلك ‪ ،‬وقد يُبرئ استعمالُه من‬‫احتقانُه ‪ ،‬أحدث أمراضًا رديئة ‪ ،‬منها ‪ :‬الوسوا ُ‬
‫سمّية تُوجب أمراضًا رديئة كما ذكرنا ‪،‬‬ ‫هذه المراض كثيراً ‪ ،‬فإنه إذا طال احتباسُه ‪ ،‬فسد واستحال إلى كيفية ُ‬
‫جمَاع ‪.‬‬
‫ولذلك تدفعُه الطبيعةُ بالحتلم إذا كثر عندها من غير ِ‬
‫ى ‪ ،‬فإن احتاج إليه يوماً قدَر عليه ‪،‬‬ ‫وقال بعض السّلَف ‪ :‬ينبغى للرجل أن يتعاهد من نفسه ثلثًا ‪ :‬أن ل يدعَ المش َ‬
‫ح ‪ ،‬ذهب ماؤها ‪.‬‬ ‫جمَاعَ ‪ ،‬فإن البئر إذا لم تُنز ْ‬
‫وينبغى أن ل يدَع الكل ‪ ،‬فإن أمعاءه تضيق ‪ ،‬وينبغى أن ل يدَع ال ِ‬

‫ت قُوى أعصابه ‪ ،‬وانسدّت مجاريها ‪ ،‬وتقلّص ذَكرُه‬ ‫جمَاعَ مدةً طويلة ‪ ،‬ضعف ْ‬ ‫وقال محمد بن زكريا ‪ :‬مَن ترك ال ِ‬
‫ت عليهم كآبةٌ بل‬
‫سرَتْ حركا ُتهُم ‪ ،‬ووقع ْ‬
‫ت أبدا ُنهُم ‪ ،‬وعَ ُ‬
‫‪ .‬قال ‪ :‬ورأيتُ جماعة تركوه لنوع من التقشف ‪ ،‬فب ُردَ ْ‬
‫ت شهوا ُتهُم وهض ُمهُم ‪ ..‬انتهى ‪.‬‬
‫سبب ‪ ،‬وقَلّ ْ‬

‫ل ذلك للمرأة ‪ ،‬فهو ينفع‬‫ومن منافعه ‪ :‬غضّ البصر ‪ ،‬وكفّ النفس ‪ ،‬والقدر ُة على العِفّة عن الحرام ‪ ،‬وتحصي ُ‬
‫ب إلىّ مِن‬
‫حبّ َ‬
‫نفسه فى دنياه وأُخراه ‪ ،‬وينفع المرأة ‪ ،‬ولذلك كان صلى ال عليه وسلم يتعاهدُه ويُحبُه ‪ ،‬ويقول ‪ُ (( :‬‬
‫دُ ْنيَاكُ ُم ‪ :‬النّسَاءُ والطّيبُ)) ‪.‬‬

‫وفى كتاب ((الزهد)) للمام أحمد فى هذا الحديث زيادةٌ لطيفة ‪ ،‬وهى ‪(( :‬أصبرُ عن الطعام والشراب ‪ ،‬ول‬
‫أصب ُر عنهنّ )) ‪.‬‬

‫ل َممَ)) ‪.‬‬
‫وحثّ على التزويج ُأمّته ‪ ،‬فقال ‪(( :‬تَزَوّجوا ‪ ،‬فإنّى مُكاث ٌر ِبكُمُ ا ُ‬

‫وقال ابن عباس ‪ :‬خيرُ هذه الُمة أكثرُها نِسا ًء ‪.‬‬

‫غبَ عن سُـنّتى فليس منّى)) ‪.‬‬


‫طرُ ‪ ،‬فمن رَ ِ‬
‫ج النسا َء ‪ ،‬وأنامُ وأقومُ ‪ ،‬وَأصُومُ وأُف ِ‬
‫وقال ‪(( :‬إنّى أتزوّ ُ‬

‫حفَظُ للْ ِفرْج ‪ ،‬ومَن لم‬


‫ب ؛ مَن استطاعَ منكم البا َءةَ ف ْل َيتَزَوّجْ ‪ ،‬فإنه أغضّ للبص ِر ‪ ،‬وأ ْ‬ ‫وقال ‪(( :‬يا معشرَ الشبا ِ‬
‫يستطعْ ‪ ،‬فعليه بالصو ِم ‪ ،‬فإنه له وِجاءٌ))‬

‫عبُكَ)) ‪.‬‬
‫ل ِبكْرًا تُلعِبُها وتُل ِ‬
‫ولما تزوج جابر ثيّبًا قال له ‪(( :‬هَ ّ‬

‫وروى ابن ماجه فى ((سننه)) من حديث أنس بن مالك قال ‪ ،‬قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬مَن أراد‬
‫طهّرًا ‪ ،‬فَ ْل َيتَزَوّج الحَرَائِرَ)) ‪ .‬وفى ((سننه)) أيضاً من حديث ابن عباس يرفعه ‪ ،‬قال ‪(( :‬لم‬
‫أنْ يَ ْلقَى الَ طاهرًا مُ َ‬
‫نَرَ لل ُمتَحا ّبيْن ِمثْلَ النّكاحِ)) ‪.‬‬

‫ع‪،‬‬
‫وفى ((صحيح مسلم)) من حديث عبد ال بن عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬الدّنيا َمتَا ٌ‬
‫خيْ ُر متاع الدّنْيا المرأ ُة الصّاِلحَةُ)) ‪.‬‬
‫وَ‬

‫ت الدين ‪ ،‬وفى ((سنن النسائى)) عن‬ ‫وكان صلى ال عليه وسلم يُحرّض أُمته على نكاح البكار الحسان ‪ ،‬وذوا ِ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أىّ النساءِ خير ؟ قال ‪(( :‬التى تَسُرّهُ إذا نَظَ َر ‪ ،‬وتُطِيعُهُ‬ ‫أبى هريرةَ قال ‪ :‬سُئل رسو ُ‬
‫إذا َأمَ َر ‪ ،‬ول تُخَالِفُه فيما يَكَرَ ُه فى نفسِها ومالِهِ)) ‪.‬‬

‫جمَالِها ‪،‬‬
‫سبِها ‪ ،‬ولِ َ‬
‫وفى ((الصحيحين)) عنه ‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪(( :‬تُنكَحُ المرأةُ لمالِها ‪ ،‬وِلحَ َ‬
‫ت َيدَاكَ)) ‪.‬‬
‫ت الدّين ‪ ،‬تَ ِربَ ْ‬
‫وِلدِي ِنهَا ‪ ،‬فاظْ َفرْ بذا ِ‬

‫وكان يَحثّ على نكاح الوَلُود ‪َ ،‬ويَكرهُ المرأة التى ل تلد ‪ ،‬كما فى ((سنن أبى داودَ)) عن َمعْقِل بن يَسار ‪ ،‬أنّ‬
‫حسَبٍ وجمالٍ ‪ ،‬وإنّها لَ تَِلدُ ‪،‬‬ ‫ل جاء إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنى أصَبتُ امرأ ًة ذاتَ َ‬ ‫رج ً‬
‫َأفََأتَزَوّجُها ؟ قال ‪(( :‬ل)) ‪ ،‬ثم أتاه الثاني َة ‪َ ،‬ف َنهَاه ‪ ،‬ثم أتاه الثالثةَ ‪ ،‬فقال ‪(( :‬تَزَوّجُوا ال َودُودَ الوَلُو َد ‪ ،‬فإنّى ُمكَاثِرٌ‬
‫ِبكُمْ)) ‪.‬‬

‫حنّاءُ)) ‪ .‬رُوى فى‬


‫ح ‪ ،‬والسّواكُ ‪ ،‬وال ّتعَطّرُ وال ِ‬
‫وفى ((الترمذى)) عنه مرفوعًا ‪(( :‬أَ ْربَعٌ من سُنن ال ُمرْسَلِينَ ‪ :‬النّكا ُ‬
‫ن من‬
‫ختَان ‪ ،‬وسقطت النو ُ‬ ‫((الجامع)) بالنون و والياء ‪ ،‬وسمعتُ أبا الحجّاج الحافظَ يقول ‪ :‬الصواب ‪ :‬أنه ال ِ‬
‫ى عن شيخ أبى عيسى الترمذى ‪.‬‬ ‫الحاشية ‪ ،‬وكذلك رواه المَحَامِل ّ‬

‫وممّا ينبغى تقد ُيمُه على الجِماع ملعبةُ المرأة ‪ ،‬وتقبيلُها ‪ ،‬ومصّ لِسانها ‪ ،‬وكان رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬يُلعبُ أهله ‪ ،‬ويُقَبلُها‬
‫ص لِسَانَها)) ‪.‬‬
‫وروى أبو داود فى ((سننه)) ‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم ((كان يُقبّلُ عائش َة ‪ ،‬ويم ّ‬

‫عبَةِ)) ‪.‬‬
‫ويُذكر عن جابر بن عبد ال قال ‪َ (( :‬نهَى رسولُ ال صلى ال عليه وسلم عن المُواقع ِة قبلَ المُلَ َ‬

‫ل عند كل واحدة منهن ‪ ،‬فروى‬ ‫وكان صلى ال عليه وسلم ربما جامع نساءَه كُلّهن بغُسل واحد ‪ ،‬وربما اغتَسَ َ‬
‫سلٍ واحد ‪.‬‬
‫ن النبىّ صلى ال عليه وسلم كان يَطوفُ على نسائه بغُ ْ‬ ‫مسلم فى (( صحيحه )) عن أنس أ ّ‬

‫وروى أبو داود فى ((سننه)) عن أبي رافع مولَى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬أنّ رسولَ ال صلى ال عليه‬
‫ت ‪ :‬يا رسول ال ؛ لو اغتسلتَ غُسلً‬
‫ل ‪ ،‬فقل ُ‬
‫ل عند كلّ امرأةٍ منهنّ غُس ً‬‫وسلم طاف على نسائه فى ليلة ‪ ،‬فاغتَسَ َ‬
‫طيَبُ)) ‪.‬‬
‫طهَرُ وأ ْ‬
‫واحدًا ‪ ،‬فقال ‪(( :‬هذا أزكى وأ ْ‬

‫عيْن ‪ ،‬كما روى مسلم فى ((صحيحه)) من حديث‬ ‫جمَا َ‬


‫وشُرع للمُجامِع إذا أراد العَودَ قبل الغُسل الوضوء بين ال ِ‬
‫أبى سعيد الخدرىّ ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬إذا أتى أح ُدكُم أَهْلَ ُه ‪ ،‬ثم أرادَ أن يعودَ‬
‫ف ْل َيتَوَضأ)) ‪.‬‬

‫طهْر‬
‫ب النفس ‪ ،‬وإخلفِ بعض ما تحلّل بالجِماع ‪ ،‬وكمالِ ال ُ‬ ‫سلِ والوضوء بعد الوطء من النشاطِ ‪ ،‬وطي ِ‬ ‫وفى الغُ ْ‬
‫ل النظافة التى يُحبها ال ‪،‬‬‫والنظافة ‪ ،‬واجتماع الحار الغريزى إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجِماع ‪ ،‬وحصو ِ‬
‫ويُبغض خلفها ما هو مِن أحسن التدبير فى الجِماع ‪ ،‬وحفظ الصحة والقُوَى فيه ‪.‬‬

‫فصل‬

‫وأنف ُع الجِماع ‪ :‬ما حصلَ بعد الهضم ‪ ،‬وعند اعتدال البدن فى حرّه وبرده ‪ ،‬ويُبوسته ورطوبته ‪ ،‬وخَلئه‬
‫ل وأقل من ضرره عند خُلوّه ‪ ،‬وكذلك ضررُه عند كثرة الرطوبة أقلّ‬ ‫وامتلئه ‪َ .‬وضَرَرُه عند امتلء البدن أسه ُ‬
‫منه عند اليبوسة ‪ ،‬وعند حرارته أقلّ منه عند برودته ‪ ،‬وإنما ينبغى أن يُجامِعَ إذا اشتدتْ الشهو ُة ‪ ،‬وحصَلَ‬
‫النتشا ُر التام الذى ليس عن تكلّفٍ ‪ ،‬ول فكرٍ فى صورة ‪ ،‬ول نظ ٍر متتابع ‪.‬‬

‫ى‪،‬‬ ‫ت به كثر ُة ال َمنِ ّ‬


‫ول ينبغى أن يستدعىَ شهو َة الجِماع ويتكلفها ‪ ،‬ويحمل نفسه عليها ‪ ،‬وليُبادْر إليه إذا هاج ْ‬
‫شبَقُهُ ‪ ،‬وليحذرْ جِماعَ العجوز والصغير ِة التى ل يُوطُأ مثلُها ‪ ،‬والتى ل شهوة لها ‪ ،‬والمريضةِ ‪ ،‬والقبيحةِ‬ ‫واشتد َ‬
‫المنظ ِر ‪ ،‬والبَغيضة ‪ ،‬فوط ُء هؤلء يُوهن القُوَى ‪ ،‬ويُضعف الجِماع بالخاصّية ‪ ،‬وغلط مَن قال من الطباء ‪ :‬إن‬
‫ظ للصحة ‪ ،‬وهذا من القياس الفاسد ‪ ،‬حتى ربما حذّر منه بعضُهم ‪ ،‬وهو‬ ‫جِماع الثيّب أنف ُع من جِماع البكر وأحف ُ‬
‫ت عليه الطبيعةُ والشريعة ‪.‬‬
‫س ‪ ،‬ولِما اتفق ْ‬
‫مخالف لِما عليه عقلءُ النا ِ‬

‫ل التعلّق بينها وبين مُجامعها ‪ ،‬وامتلءِ قلبها من محبته ‪ ،‬وعدم تقسيم هواها‬ ‫وفى جِماع البِكر من الخاصّية وكما ِ‬
‫ت بِكراً )) ‪ ،‬وقد‬ ‫ل تَزوّج َ‬
‫بينه وبين غيره ‪ ،‬ما ليس لل َثيّب ‪ .‬وقد قال النبىّ صلى ال عليه وسلم لجابر ‪ (( :‬ه ّ‬
‫ن له ‪ ،‬من أهل‬ ‫جعِلْ َ‬
‫ط ِم ْثهُنّ أحدٌ قبلَ مَن ُ‬
‫جعل ال سبحانه من كمالِ نساء أهل الجنّة من الحُور العين ‪ ،‬أنّهن لم يَ ْ‬
‫ت بشجرةٍ قد أُ ْرتِعَ فيها ‪ ،‬وشجرةٍ لم يُ ْرتَعْ فيها ‪،‬‬ ‫الجنّة ‪ .‬وقالت عائش ُة للنبىّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أرأيْتَ لو مَ َررْ َ‬
‫ففى أيّهما كنتَ تُرتِ ُع بعيرَك ؟ قال ‪ (( :‬فى التى لم يُ ْرتَعْ فيها )) ‪ .‬تريد أنه لم يأخذ بكرًا غيرَها ‪.‬‬

‫ل البدن ‪،‬‬ ‫ى ‪ ،‬وجماع البغيضة يُحِ ّ‬


‫وجِماعُ المرأة المحبوبة فى النفس يَقِلّ إضعافُهُ للبدن مع كثرةِ استفراغه لل َمنِ ّ‬
‫حذّر‬
‫ويُوهن القُوَى مع قِلّةِ استفراغه ‪ ،‬وجِماعُ الحائض حرامٌ طبعاً وشرعًا ‪ ،‬فإنه مض ٌر جدًا ‪ ،‬والطباء قاطب ًة تُ َ‬
‫منه ‪.‬‬

‫ل الجِماع أن يعلوَ الرجلُ المرأ َة ‪ ،‬مُستفرِشًا لها بعدَ المُلعبة والقُبلة ‪ ،‬وبهذا سُميت المرأة فِراشاً ‪،‬‬
‫وأحسنُ أشكا ِ‬
‫كما قال صلى ال عليه وسلم ‪ (( :‬الوَلدُ لِلفِراش )) ‪ ،‬وهذا من تمام قَوّامية الرجل على المرأة ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫ن عَلَى النّسَاءِ} [النساء‪ ، ]34 :‬وكما قيل ‪:‬‬ ‫ل قَوّامُو َ‬
‫{الرّجَا ُ‬

‫ع ْندَ فَرَاغِى خَادِ ٌم َيتَمَلّقُ‬


‫ت فِرَاشًَا يُقِّلنِى وَ ِ‬
‫إذَا ُرمْ ُتهَا كَانَ ْ‬
‫س ّلهُنّ} [البقرة‪ ، ]187 :‬وأكملُ اللّباس وأس َبغُه على هذه الحال ‪ ،‬فإن‬
‫س َلكُ ْم وََأ ْنتُمْ ِلبَا ٌ‬
‫وقد قال تعالى ‪{ :‬هُنّ ِلبَا ٌ‬
‫ل الفاضلُ مأخوذٌ من هذه الية ‪ ،‬وبه يَحسن‬ ‫س لها ‪ ،‬فهذا الشك ُ‬
‫ف المرأة لبا ٌ‬‫س له ‪ ،‬وكذلك ِلحَا ُ‬ ‫فِراش الرجل لبا ٌ‬
‫موقعُ استعارةِ اللّباس من كل من الزوجين للخر ‪.‬‬

‫وفيه وجه آخ ُر ‪ ،‬وهو أنها تَنعطِفُ عليه أحياناً ‪ ،‬فتكونُ عليه كاللّباس ‪ ،‬قال الشاعر ‪:‬‬

‫ت عََليْهِ ِلبَاسَا‬
‫ت َفكَانَ ْ‬
‫إذَا مَا الضّجِي ُع ثَنَى جِيدَها َتثَنّ ْ‬

‫وأردأُ أشكاله أن تعلُوَهُ المرأ ُة ‪ ،‬ويُجا ِمعَها على ظهره ‪ ،‬وهو خلفُ الشكل الطبيعى الذى طبع ال عليه الرجل‬
‫ن ال َمنِىّ يتعسّرُ خروجُه كلّه ‪ ،‬فربما بقى فى العضو منه‬
‫ع الذكر والُنثى ‪ ،‬وفيه من المفاسد ‪ ،‬أ ّ‬
‫والمرأة ‪ ،‬بل نو َ‬
‫ن ويفسد ‪ ،‬فيضر ‪.‬‬ ‫فيتعف ُ‬

‫وأيضاً ‪ :‬فربما سال إلى الذّكر رطوباتٌ من ال َفرْج ‪.‬‬

‫وأيضاً ‪ :‬فإنّ الرّحِم ل يتمكن من الشتمال على الماء واجتماعِهِ فيه ‪ ،‬وانضمامِهِ عليه ل َتخْلِيقِ الولد ‪.‬‬

‫ل بها طبعاً وشرعاً ‪ ،‬وإذا كانت فاعلة خالفتْ مقتضى الطبع والشرع ‪.‬‬
‫وأيضاً ‪ :‬فإنّ المرأة مفعو ٌ‬

‫ف ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬هو أيس ُر للمرأة ‪.‬‬


‫حرْ ٍ‬
‫وكان أهل الكتاب إنما يأتون النساء على جُنوبهن على َ‬

‫ت اليهو ُد عليهم ذلك ‪ ،‬فأنزل ال عَ ّز وجَلّ ‪{ :‬نِسَا ُؤ ُكمْ‬


‫ح النّساءَ على أ ْقفَائِهن ‪ ،‬فعابَ ِ‬
‫وكانت قريش والنصار تَشْرَ ُ‬
‫ش ْئتُمْ} [البقرة‪.]223 :‬‬ ‫ث ّلكُ ْم فَ ْأتُواْ حَ ْر َثكُ ْم َأنّى ِ‬
‫حَ ْر ٌ‬

‫ل امرأتَه من ُدبُرِها فى ُقبُلِها ‪ ،‬كان‬


‫وفى (( الصحيحين )) عن جابر ‪ ،‬قال ‪ :‬كانت اليهود تقولُ ‪ :‬إذا أتى الرج ُ‬
‫ش ْئتُمْ} [البقرة‪.]223 :‬‬
‫ح ْر َثكُمْ َأنّى ِ‬
‫ث ّلكُ ْم فَ ْأتُواْ َ‬
‫حرْ ٌ‬
‫جلّ ‪{ :‬نِسَا ُؤكُمْ َ‬
‫الول ُد أَح َولَ ‪ ،‬فأنزل ال عَزّ و َ‬

‫صمِامٍ واح ٍد )) ‪.‬‬


‫ن ذلك فى ِ‬
‫غيْ َر أ ّ‬
‫جّيبَة ‪َ ،‬‬
‫جّبيَة ‪ ،‬وإن شاء غير مُ َ‬
‫وفى لفظ لمسلم ‪ (( :‬إن شاء مُ َ‬

‫جّببَة )) ‪ :‬ال ُم ْن َكبّة على وجهها ‪ ،‬و((الصمام الواحد)) ‪ :‬ال َفرْج ‪ ،‬وهو موضع الح ْرثِ والولد ‪.‬‬
‫و(( المُ َ‬

‫ى من النبياء ‪ ،‬ومَن نسب إلى بعض السّلَف إباحة وطء الزوجة فى‬
‫وأما الدّبرُ ‪ :‬فلم ُيبَحْ قَطّ على لسان نب ّ‬
‫دُبُرها ‪ ،‬فقد غلط عليه ‪.‬‬

‫ن مَن أتى المرأةَ‬


‫وفى (( سنن أبى داود )) عن أبى هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ (( :‬ملعو ٌ‬
‫فى دُبُرِها )) ‪.‬‬

‫وفى لفظ لحمد وابن ماجه ‪(( :‬ل َينْظُرُ الُ إلى َرجُلٍ جَامَعَ امرأتَه فى ُدبُرِها))‪.‬‬

‫ص ّدقَهُ ‪ ،‬فقد كَفَ َر بما ُأنْزِلَ على‬


‫وفى لفظ للترمذى وأحمد ‪(( :‬مَن أتى حائضًا ‪ ،‬أو امرأةً فى ُدبُرِها ‪ ،‬أوْ كاهناً َف َ‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم)) ‪.‬‬

‫ل والنّسَا ِء فى الدبار فقد كفر))‪.‬‬


‫وفى لفظ للبيهقى ‪(( :‬مَنْ أتى شيئًا مِنَ الرّجَا ِ‬

‫وفى (( مصنّف وكِيع )) ‪ :‬حدثنى زمْعة بن صالح ‪ ،‬عن ابن طاووس ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عمرو بن دينار ‪ ،‬عن‬
‫عبد ال بن يَزيد ؛ قال ‪ :‬قال عمر بن الخطاب رضى ال عنه ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ (( :‬إنّ الَ‬
‫ن )) ‪.‬‬
‫ن )) ‪ ،‬وقال مَرّة ‪ (( :‬فى أدبارِهِ ّ‬
‫ق ‪ ،‬ل تأتُوا النّسَاءَ فى أعجازِهِ ّ‬
‫ستَحْيى من الح ّ‬
‫ل يَ ْ‬

‫طلْق ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ (( :‬ل تأتوا النّسَاءَ فى‬
‫وفى (( الترمذى )) ‪ :‬عن على بن َ‬
‫ق )) ‪.‬‬
‫ن ‪ ،‬فإن ال ل يستحى من الح ّ‬
‫أعجازِهِ ّ‬
‫ى ‪ ،‬قال ‪ :‬حدّثنا محمد بن‬ ‫عدِى ‪ :‬من حديثه عن المحامِلى ‪ ،‬عن سعيد بن يحيى المو ّ‬ ‫وفى (( الكامل )) لبن َ‬
‫ن ))‬
‫حمزَ َة ‪ ،‬عن زيد بن رَفيع ‪ ،‬عن أبى عُبيدة ‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود يرفعه ‪ (( :‬ل تأتوا النّسَاءَ فى أعْجَازِهِ ّ‬
‫‪.‬‬

‫ى ‪ ،‬عن أبى ذرّ مرفوعًا ‪ (( :‬مَنْ أتى الرّجَال والنّسَاءَ فى أ ْدبَارِهنّ ‪،‬‬
‫وروينا فى حديث الحسن بن على الجوهر ّ‬
‫فقد َكفَ َر )) ‪.‬‬

‫حيُوا‬
‫ستَ ْ‬
‫وروى إسماعيل بن عيّاش ‪ ،‬عن سُهيل بن أبى صالح ‪ ،‬عن محمد ابن ال ُم ْنكَدِر ‪ ،‬عن جابر يرفعه ‪ (( :‬ا ْ‬
‫ن )) ‪.‬‬‫شهِ ّ‬
‫ق ‪ ،‬ل ت ْأتُوا النّسَاءَ فى حُشُو ِ‬
‫ستَحيى مِنَ الح ّ‬
‫مِنَ ال ‪ ،‬فإنّ الَ ل يَ ْ‬

‫ل مَ ْأتَاك النّسَاءَ فى‬


‫ستَحيى مِنَ الحق ‪ ،‬ل يَح ّ‬
‫ن ال ل يَ ْ‬
‫ى من هذه الطريق ‪ ،‬ولفظه ‪ (( :‬إ ّ‬
‫ورواه الدارقُطنِ ّ‬
‫شهِنّ )) ‪.‬‬
‫حُشُو ِ‬

‫حدّثنى‬
‫سئِل قتادة عن الذى يأتى امرأته فى ُدبُرِها ؛ فقال ‪َ :‬‬
‫وقال البغوىّ ‪ :‬حدثنا ُه ْدبَةُ ‪ ،‬حدثنا همّام ‪ ،‬قال ‪ُ :‬‬
‫صغْرى )) ‪.‬‬‫طيّةُ ال ّ‬
‫شعَيب ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ ،‬أنّ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ (( :‬تلك اللّو ِ‬ ‫عمرو بن ُ‬

‫شعَيب ‪،‬‬
‫وقال أحمد فى (( مسنده )) ‪ :‬حدّثنا عبد الرحمن ‪ ،‬قال ‪ :‬حدّثنا همّام ‪ ،‬أُخبِرنا عن قتادَ َة ‪ ،‬عن عمرو بن ُ‬
‫عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ ،‬فذكره ‪.‬‬

‫ث ّلكُمْ} [البقرة‪ ]223 :‬فى أُناسٍ من‬


‫وفى (( المسند )) أيضًا ‪ :‬عن ابن عباس ‪ :‬أنزلت هذه الية ‪{ :‬نِسَا ُءكُمْ حَ ْر ٌ‬
‫النصار ‪ ،‬أتَوْا رسولَ ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فسألوه ‪ ،‬فقال ‪ (( :‬ا ْئتِها على كُلّ حال إذا كان فى الفَرْج )) ‪.‬‬

‫وفى (( المسند )) أيضًا ‪ :‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬جاء عم ُر بنُ الخطاب إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫ت ‪ .‬فقال ‪ (( :‬وما الذى أهل َككَ )) ؟ قال ‪ :‬حَوّ ْلتُ رَحْلى البا ِرحَةَ ‪ ،‬قال ‪ :‬فلم يَ ُردّ عليه‬ ‫فقال ‪ :‬يا رسول ال ‪ :‬هلك ُ‬
‫ش ْئتُمْ} [البقرة‪َ ]223 :‬أ ْقبِلْ وَأ ْدبِرْ ‪ ،‬واتّقِ‬
‫شيئًا ‪ ،‬فأوحى ال إلى رسوله‪{ :‬نِسَا ُءكُمْ حَ ْرثٌ ّل ُكمْ َف ْأتُواْ حَ ْر َثكُ ْم َأنّى ِ‬
‫ح ْيضَةَ والدّبُ َر )) ‪.‬‬
‫ال َ‬

‫وفى (( الترمذى )) ‪ :‬عن ابن عباس مرفوعًا ‪ (( :‬ل َينْظُرُ الُ إلى َرجُلٍ أتى رَجُلً أو امرأ ًة فى ال ّدبُ ِر )) ‪.‬‬

‫وروينا من حديث أبى على الحسن بن الحسين بن دُومَا ‪ ،‬عن البَراء بن عازِب يرفعه ‪ (( :‬كَ َفرَ بالِ العظيم‬
‫سعَ ًة‬
‫جدَ َ‬‫ث ‪ ،‬وناكحُ المرأةِ فى ُدبُرِها ‪ ،‬ومانِعُ الزكا ِة ‪ ،‬ومَن وَ َ‬ ‫عشر ٌة من هذه الُمة ‪ :‬القاتِلُ ‪ ،‬والسّاحِ ُر ‪ ،‬وال ّديّو ُ‬
‫حرَمٍ‬
‫ب ‪ ،‬ومَن نكَح ذَاتَ مَ ْ‬ ‫ح من أهلِ الحر ِ‬ ‫خمْرِ ‪ ،‬والسّاعِى فى ال ِفتَنِ ‪ ،‬وبائعُ السّل ِ‬ ‫ب ال َ‬‫ج ‪ ،‬وشار ُ‬ ‫ت ولم يَحُ ّ‬
‫فما َ‬
‫منه )) ‪.‬‬

‫وقال عبد ال بن وهب ‪ :‬حدّثنا عبد ال بن لَهيعةَ ‪ ،‬عن مِشرَح بن هاعانَ ‪ ،‬عن عقبةَ بن عامر ‪ ،‬أنّ رسولَ ال‬
‫ن )) ؛ يعنى ‪ :‬أ ْدبَارِهِنّ ‪.‬‬
‫شهِ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم قال ‪ (( :‬مَ ْلعُونٌ مَن يأتى النّسَاءَ فى محا ّ‬

‫وفى (( مسند الحارث بن أبى أُسامة )) من حديث أبى هريرة ‪ ،‬وابن عباس قال ‪ :‬خطبنا رسولُ ال صلى ال‬
‫جلّ ‪ ،‬وعظنا فيها وقال ‪ (( :‬مَن‬ ‫عليه وسلم قبل وفاته ‪ ،‬وهى آخِرُ خُطب ٍة خطبها بالمدينة حتى لحق بال عَ ّز وَ َ‬
‫ص ِبيًّا ‪ ،‬حُشِ َر يَوْ َم القيامة ‪ ،‬وريحُ ُه أ ْنتَنُ مِنَ الجِيف ِة يتأذّى به النّاسُ حتى يَدْخُلَ‬
‫َنكَحَ امرأَ ًة فى ُدبُرِها أو رجلً أو َ‬
‫شدّ عليه مَسامي ُر من‬
‫ت من نارٍ ‪ ،‬ويُ َ‬ ‫ل أجرَ ُه ‪ ،‬ول يَ ْقبَلُ منه صَرْفاً ول عدلً ‪ ،‬و ُيدْخَلُ فى تابو ٍ‬ ‫حبَطَ ا ُ‬
‫النّار ‪ ،‬وأَ ْ‬
‫نارٍ)) ‪ ،‬قال أبو هريرة ‪ :‬هذا لمن لم يتب‪.‬‬

‫ستَحي مِنَ الحَق ‪ ،‬ل تأتوا النّساَء‬


‫ن ال ل يَ ْ‬
‫وذكر أبو نعيم الصبهاني ‪ ،‬من حديث خزيمة بن ثابت يرفعه ‪(( ،‬إ ّ‬
‫في أَعْجاَزِهِنّ))‪.‬‬

‫وقال الشافعي ‪ :‬أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع ‪ ،‬قال ‪ :‬أخبرني عبد ال بن علي بن السائب ‪ ،‬عن عمرو‬
‫بن أحيحة بن الجلح ‪ ،‬عن خزيمة بن ثابت ‪ ،‬أن رجل سأل النبي صلى ال عليه وسلم عن إتيان النساء في‬
‫ي الخُ ْر َبتَينِ ‪ ،‬أو في أي الخَ ْر َزتَينِ ‪ ،‬أو‬
‫أدبارهن ‪ ،‬فقال‪(( :‬حلل)) ‪ ،‬فلما ولى ‪ ،‬دعاه فقال ‪(( :‬كيف قُلتَ ‪ ،‬في أ ّ‬
‫ستَحيِي مِنَ الحَق ‪ ،‬ل‬
‫ن ال ل يَ ْ‬
‫ن دُبُرِهاَ في ُدبُرِهَا ‪ ،‬فل ‪ ،‬إ ّ‬
‫ن أمنْ ُدبُرهَا في ُقبُلهَا ؟ َف َنعَم ‪ .‬أم مِ ْ‬
‫ص َفتَي ِ‬
‫ي الخَ ْ‬
‫في أ ّ‬
‫تأتوا النّساَء في أَدبارهِنّ))‪.‬‬

‫قال الربيع‪ :‬فقيل للشافعي ‪ :‬فما تقول ؟ فقال ‪ :‬عمي ثقة ‪ ،‬وعبد ال بن علي ثقة ‪ ،‬وقد أثنى على النصاري خيراً‬
‫‪ ،‬يعني عمرو بن الجلح ‪ ،‬وخزيمة ممن ل يشك في ثقته ‪ ،‬فلست أرخص فيه ‪ ،‬بل انهي عنه‪.‬‬

‫قلت ‪ :‬ومن هاهنا نشأ الغلط على من نقل عنه الباحة من السلف والئمة ‪ ،‬فإنهم أباحوا أن يكون الدّبر طريقًا‬
‫إلى الوطء في الفرج ‪ ،‬فيطأ من الدبر ل في الدبر ‪ ،‬فاشتبه على السامع ((من)) بـ ((في)) ولم يظن بينهما فرقًا ‪،‬‬
‫فهذا الذي أباحه السلف والئمة ‪ ،‬فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه‪.‬‬

‫عبّاس عن قوله تعالى ‪:‬‬


‫ت ابن َ‬
‫حيْثُ َأمَ َركُمُ ال} [البقرة‪ ]222 :‬قال مجاهد ‪ :‬سأل ُ‬
‫ن مِنْ َ‬
‫وقد قال تعالى‪{ :‬فَ ْأتُوهُ ّ‬
‫ث َأمَ َركُمُ ال} [البقرة‪ ، ]222 :‬فقال ‪ :‬تأتيها من حيث أمرت أن تعتزلها يعني في الحيض ‪ .‬وقال‬ ‫حيْ ُ‬
‫{فَ ْأتُوهُنّ مِنْ َ‬
‫علي بن أبي طلحة عنه يقول ‪ :‬في الفرج ‪ ،‬ول تعدُه إلى غيره ‪.‬‬

‫وقد دلت الية على تحريم الوطء في دُبرها من وجهين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬أنه أباح إتيانها في الحرث ‪ ،‬وهو موضع‬
‫حيْثُ َأمَ َركُمُ ال} [البقرة‪:‬‬
‫ش الذي هو موضع الذى ‪ ،‬وموضع الحرث هو المراد من قوله ‪{ :‬مِنْ َ‬ ‫الولد ل في الحُ ّ‬
‫ش ْئتُمْ} [البقرة‪ ]223 :‬وإتيانُها في قبلها مِن دبرها مستفادٌ من الية أيضا ‪،‬‬
‫‪ ]222‬الية قال ‪َ { :‬ف ْأتُواْ حَ ْر َثكُ ْم َأنّى ِ‬
‫لنه قال ‪ :‬أنى شئتم ‪ ،‬أي ‪ :‬من أين شئتم من أمام أو من خلف ‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬فأتوا حرثكم ‪ ،‬يعني ‪ :‬الفرج ‪.‬‬

‫ش الذي هو محل الذى اللزم مع‬ ‫وإذا كان ال حرّم الوطءَ في الفرج لجل الذى العارض ‪ ،‬فما الظنّ بالح ّ‬
‫زيادة المفسدة بالتعرض لنقطاع النسل والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان‪.‬‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫طرَها ‪ ،‬ول‬
‫@ وأيضًا ‪ :‬فللمرأة حق على الزوج في الوطء ‪ ،‬ووطؤها في دُبرها يفوّتُ حقها ‪ ،‬ول يقضي و َ‬
‫يُحَصّل مقصودها‪.‬‬

‫وأيضاً ‪ :‬فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ‪ ،‬ولم يخلق له ‪ ،‬وإنما الذي هيئ له الفرج ‪ ،‬فالعادلون عنه إلى ال ّدبُر‬
‫خارجون عن حكمة ال وشرعه جميعاً ‪.‬‬

‫وأيضاً ‪ :‬فإن ذلك مضر بالرجل ‪ ،‬ولهذا ينهي عنه عقل ُء الطباء منِ الفلسفة وغيرهم ‪ ،‬لن للفرج خاصية في‬
‫اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه والوط ُء فى ال ّدبُر ل يعين على اجتذاب جميع الماء ‪ ،‬ول يخرج كلّ‬
‫المحتقن لمخالفته للمر الطبيعى ‪.‬‬

‫وأيضاً ‪ :‬يضر من وجه آخَر ‪ ،‬وهو إحواجُه إلى حركات متعبةٍ جدًا لمخالفته للطبيعة ‪.‬‬

‫جوِ ‪ ،‬فيستقبلُه الرّجل بوجهه ‪ ،‬ويُلبسه ‪.‬‬


‫وأيضاً ‪ :‬فإنه محل القذر والنّ ْ‬

‫وأيضاً ‪ :‬فإنه يضرّ بالمرأة جدًا ‪ ،‬لنه واردٌ غريب بعيدٌ عن الطباع ‪ ،‬مُنافر لها غايةَ المنافرة ‪.‬‬

‫وأيضاً ‪ :‬فإنه يُحِدثُ الهمّ والغم ‪ ،‬والنفر َة عن الفاعل والمفعول ‪.‬‬

‫س ّودُ الوجه ‪ ،‬ويُظلم الصدر ‪ ،‬ويَطمِسُ نور القلب ‪ ،‬ويكسو الوجه وحش ًة تصير عليه كالسّيماء‬
‫وأيضاً ‪ :‬فإنه يُ َ‬
‫يع ِرفُها مَن له أدنى فراسة ‪.‬‬

‫وأيضاً ‪ :‬فإنه يُوجب النّفرة والتباغض الشديد ‪ ،‬والتقاطع بين الفاعل والمفعول ‪ ،‬ول بُ ّد ‪.‬‬

‫وأيضاً ‪ :‬فإنه يُفسد حال الفاعل والمفعول فسادًا ل يكادُ يُرجَى بعده صلح ‪ ،‬إل أن يشاءَ ال بالتوبة النصوح ‪.‬‬
‫ضدّها ‪ .‬كما يُذهب بالمَ َودّة بينهما ‪ ،‬ويُبدلهما بها تباغضاً‬
‫ب بالمحاسن منهما ‪ ،‬ويكسوهما ِ‬
‫وأيضاً ‪ :‬فإنه يُذه ُ‬
‫وتلعُناً ‪.‬‬

‫وأيضاً ‪ :‬فإنه من أكبر أسباب زوال ال ِنعَم ‪ ،‬وحُلول النِقَم ‪ ،‬فإنه يوجب اللّعنةَ والمقتَ من ال ‪ ،‬وإعراضه عن‬
‫فاعله ‪ ،‬وعدم نظره إليه ‪ ،‬فأىّ خير يرجوه بعد هذا ‪ ،‬وأىّ شر يأمنُه ‪ ،‬وكيف حياة عبد قد حلّتْ عليه لعنة ال‬
‫ومقته ‪ ،‬وأعرض عنه بوجهه ‪ ،‬ولم ينظر إليه ‪.‬‬

‫وأيضاً ‪ :‬فإنه يُذهب بالحياءِ جمل ًة ‪ ،‬والحياءُ هو حياة القلوب ‪ ،‬فإذا فقدها القلبُ ‪ ،‬استحسَن القبيح ‪ ،‬واستقبحَ‬
‫الحسن ‪ ،‬وحينئذٍ فقد استَحكَم فسادُه ‪.‬‬

‫ن عن طبعه إلى طبع لم يُركّب ال عليه شيئًا من‬ ‫وأيضاً ‪ :‬فإنهُ يُحيل الطباعَ عما َر ّكبَها ال ‪ ،‬ويُخرج النسا َ‬
‫الحيوان ‪ ،‬بل هو طبع منكوس ‪ ،‬وإذا ُنكِسَ الطبعُ انتكس القلب ‪ ،‬والعمل ‪ ،‬والهدى ‪ ،‬فيستطيبُ حينئذٍ الخبيثَ من‬
‫العمال والهيئات ‪ ،‬ويفسد حاله وعملُه وكلمه بغير اختياره ‪.‬‬

‫وأيضاً ‪ :‬فإنه يُورِث مِنَ الوقاحة والجُرأة ما ل يُورثه سواه ‪.‬‬

‫وأيضاً ‪ :‬فإنه يُورث مِنَ المهانة والسّفال والحقَارة ما ل يورثه غيره ‪.‬‬

‫وأيضاً ‪ :‬فإنه يكسو العبدَ مِن حُلّة المقت والبغضاء ‪ ،‬وازدراءِ الناس له ‪ ،‬واحتقارِهم إيّاه ‪ ،‬واستصغارِهم له ما‬
‫ك الدنيا‬
‫س ‪ ،‬فصلة ال وسلمه على مَن سعاد ُة الدنيا والخرة فى َهدْيِه واتباعِ ما جاء به ‪ ،‬وهل ُ‬ ‫هو مشا َهدٌ بالح ّ‬
‫والخرة فى مخالفة َه ْديِه وما جاء به ‪.‬‬

‫فصل‬

‫والجِماع الضار ‪ :‬نوعان ؛ ضا ٌر شرعًا ‪ ،‬وضارٌ طبعًا ‪.‬‬

‫ب بعضُها أشدّ من بعض ‪ .‬والتحري ُم العارض منه أخفّ من اللزم ‪،‬‬ ‫فالضار شرعًا ‪ :‬المحرّم ‪ ،‬وهو مرات ُ‬
‫كتحريم الحرام ‪ ،‬والصيام ‪ ،‬والعتكاف ‪ ،‬وتحريم المُظاهِ ِر منها قبل التكفير ‪ ،‬وتحريمِ وطء الحائض ‪ ...‬ونحو‬
‫جمَاع ‪.‬‬
‫ذلك ‪ ،‬ولهذا ل ح ّد فى هذا ال ِ‬

‫جمَاع ‪ ،‬وهو يُوجب القتل‬


‫وأما اللز ُم ‪ :‬فنوعان ؛ نوعٌ ل سبيل إلى حِلّه ألبتة ‪ ،‬كذواتِ المَحارم ‪ ،‬فهذا من أضر ال ِ‬
‫حداً عند طائفة من العلماء ‪ ،‬كأحمد ابن حنبلٍ رحمه ال وغيرِه ‪ ،‬وفيه حديث مرفوع ثابت ‪.‬‬

‫ق لِ ‪ ،‬وحقّ للزوج‬
‫حقّان ‪ :‬ح ّ‬
‫ل ‪ ،‬كالجنبية ‪ ،‬فإن كانت ذاتَ زوج ‪ ،‬ففى وطئها َ‬‫والثانى ‪ :‬ما يمكن أن يكون حل ً‬
‫ب يلحقهم العارُ بذلك صار فيه أربعةُ حقوق ‪،‬‬
‫‪ .‬فإن كانت مُكرَهة ‪ ،‬ففيه ثلثةُ حقوق ‪ ،‬وإن كان لها أهل وأقار ُ‬
‫ضرّةُ هذا النوع بحسب درجاته فى التحريم ‪.‬‬
‫فإن كانت ذات َمحْرَم منه ‪ ،‬صار فيه خمسةُ حقوق ‪ .‬فمَ َ‬

‫وأما الضار طبعًا ‪ ،‬فنوعان أيضًا ‪ :‬نوعٌ ضار بكيفيته كما تقدّم ‪ ،‬ونوعٌ ضار بكميته كالكثار منه ‪ ،‬فإنه يُسقط‬
‫القُوّة ‪ ،‬ويُضر بالعصب ‪ ،‬ويُحدث الرّعش َة ‪ ،‬والفالج ‪ ،‬والتشنج ‪ ،‬ويُضعف البصر وسائ َر القُوَى ‪ ،‬ويُطفئُ‬
‫ى ‪ ،‬ويجعلها مستعدة للفضلت المؤذية ‪.‬‬ ‫الحرارةَ الغريزية ‪ ،‬ويُوسع المجار َ‬

‫ن معتدلٍ ل على جوع ‪ ،‬فإنه يُضعف الحار‬ ‫وأنفعُ أوقاته ‪ ،‬ما كان بعد انهضام الغذاء فى ال َمعِدَة وفى زما ٍ‬
‫الغريزى ‪ ،‬ول على شبع ‪ ،‬فإنه يُوجب أمراضًا شديدةً ‪ ،‬ول على تعب ‪ ،‬ول إثْ َر حمّام ‪ ،‬ول استفراغٍ ‪ ،‬ول‬
‫انفعالٍ نفسانى كالغمّ والهمّ والحزنِ وشدةِ الفرح ‪.‬‬

‫وأجودُ أوقاته بعد َهزِيع من الليل إذا صادف انهضا َم الطعام ‪ ،‬ثم يغتسل أو يتوضأ ‪ ،‬وينا ُم عليه ‪ ،‬وينا ُم عقبه ‪،‬‬
‫َفتَراجَ ُع إليه قواه ‪ ،‬وليحذ ِر الحركة والرياضة عقبه ‪ ،‬فإنها مضرة جدًا ‪.‬‬

‫فصل‬
‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى عِلج العشق‬

‫ف لسائر المراض فى ذاته وأسبابه وعِلجه ‪ ،‬وإذا تمكّنَ واستحكم ‪ ،‬ع ّز‬ ‫ض من أمراض القلب ‪ ،‬مخال ٌ‬ ‫هذا مر ٌ‬
‫ل سبحانه فى كتابه عن طائفتين من الناس ‪ :‬من النّسَاء ‪،‬‬ ‫ل داؤُه ‪ ،‬وإنّما حكاه ا ُ‬ ‫على الطباء دواؤه ‪ ،‬وأعيا العلي َ‬
‫ف ‪ ،‬وحكاه عن قوم لوط ‪ ،‬فقال تعالى إخباراً‬ ‫وعشاقِ الصبيان المُرْدان ‪ ،‬فحكاه عن امرأة العزيز فى شأن يوس َ‬
‫ل تَ ْفضَحُونِ * وَاتّقُواْ‬ ‫ن هَؤُل ِء ضيفىَ فَ َ‬ ‫لإّ‬ ‫ن * قَا َ‬
‫س َتبْشِرُو َ‬
‫عنهم لـمّا جاءت الملئكةُ لوطًا ‪َ { :‬وجَاءَ أَ ْهلُ ا ْلمَدِينَةِ يَ ْ‬
‫سكْ َر ِتهِمْ‬
‫ك إ ّنهُمْ َلفِى َ‬
‫ل هَؤُل ِء َبنَاتِى إن ُك ْنتُمْ فَاعِلِينَ * َل َعمْ ُر َ‬ ‫خزُونِ * قَالُو ْا أَ َو َلمْ َن ْن َهكَ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ *قَا َ‬‫ل َولَ تُ ْ‬
‫ا َ‬
‫َيعْ َمهُونَ}[الحجر ‪. ]73-68 :‬‬

‫ى به فى شأن زينب بنت جَحْش ‪،‬‬ ‫ق قدره أنه ابتُلِ َ‬ ‫ض مَن لم يقدرسولَ ال صلى ال عليه وسلم ح ّ‬ ‫وأمّا ما زعمه بع ُ‬
‫سكْها)) حتى أنزل‬ ‫ن مُقَلّبِ القُلُوبِ)) ‪ .‬وأخذتْ بقلبه ‪ ،‬وجعل يقول لزيد بن حارث َة ‪(( :‬أمْ ِ‬ ‫وأنه رآها فقال ‪(( :‬سُبحا َ‬
‫سكَ مَا الُ‬ ‫خفِى فِى نَ ْف ِ‬ ‫جكَ وَاتّقِ الَ َوتُ ْ‬ ‫ك عََل ْيكَ زَ ْو َ‬ ‫س ْ‬‫ت عََليْهِ َأمْ ِ‬
‫ل عََليْهِ وََأ ْن َعمْ َ‬
‫ل لِّلذِى َأ ْنعَمَ ا ُ‬
‫ال عليه ‪{ :‬وَإذْ تَقُو ُ‬
‫ن ذلك فى شأن العشق ‪ ،‬وصنّف‬ ‫ق أَن تَخْشَاهُ}[الحزاب ‪ ، ]37 :‬فظنّ هذا الزاعمُ أ ّ‬ ‫خشَى النّاسَ وَالُ َأحَ ّ‬ ‫ُمبْدِيهِ َوتَ ْ‬
‫ل هذا القائل بالقرآن‬ ‫بعضهم كتاباً فى العشق ‪ ،‬وذكر فيه عشق النبياء ‪ ،‬وذكر هذه الواقعة ‪ ،‬وهذا من جه ِ‬
‫وبالرّسُل ‪ ،‬وتحمِيلهِ كلمَ ال ما ل يحتمِلُه ‪ ،‬ونسبتِه رسولَ ال صلى ال عليه وسلم إلى ما برّأَه ال منه ‪ ،‬فإنّ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم قد تبنّاه ‪ ،‬وكان يُدعى ((زيد‬ ‫ت زيدِ بن حارث َة ‪ ،‬وكان رسو ُ‬ ‫زينبَ بنت جحش كانت تح َ‬
‫بن محمد)) ‪ ،‬وكانت زينبُ فيها شَممٌ وترفّع عليه ‪ ،‬فشاور رسولَ ال صلى ال عليه وسلم فى طلقها ‪ ،‬فقال له‬
‫ق ال)) ‪ ،‬وأخفى فى نفسه أن يتزوّجَها إن طلّقها‬ ‫ك واتّ ِ‬ ‫جَ‬ ‫سكْ عليكَ زو َ‬ ‫رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ‪َ(( :‬أمْ ِ‬
‫زيد ‪ ،‬وكان يخشى من قالةِ الناس أنه تزوّج امرأة ابنه ‪ ،‬لن زيداً كان يُدعى ابنَه ‪ ،‬فهذا هو الذى أخفاه فى‬
‫نفسه ‪ ،‬وهذه هى الخشية من الناس التى وقعت له ‪ ،‬ولهذا ذكر سبحانه هذه الية ُيعَ ّددُ فيها نعمه عليه ل يُعاتبه‬
‫حلّه له‬‫ل أحق أن يخشاه ‪ ،‬فل يتحرّج ما أ َ‬ ‫نا َ‬ ‫ل ال له ‪ ،‬وأ ّ‬ ‫س فيما أح ّ‬ ‫فيها ‪ ،‬وأعلمه أنه ل ينبغى له أن يخشى النا َ‬
‫ى ُأ ّمتُه به فى ذلك ‪ ،‬ويتزوج‬ ‫لجل قول الناس ‪ ،‬ثم أخبره أنه سبحانه زوّجه إيّاها بعد قضاء زيدٌ وطرَه منها لتقتد َ‬
‫ل َأ ْبنَا ِئكُمُ اّلذِينَ مِنْ‬
‫لئِ ُ‬
‫الرجل بامرأ ِة ابنه من التبنّى ‪ ،‬ل امرأ ِة ابنه ِلصُلبه ‪ ،‬ولهذا قال فى آية التحريم ‪{ :‬وَحَ َ‬
‫حدٍ مّن رّجَاِلكُمْ}[الحزاب ‪ ، ]40 :‬وقال فى‬ ‫ح ّمدٌ َأبَا أَ َ‬
‫ل ِبكُمْ}[النساء ‪ ، ]23:‬وقال فى هذه السورة ‪{ :‬مَا كَانَ مُ َ‬ ‫أَصْ َ‬
‫ب عن رسول ال‬ ‫ل هذا الذ ّ‬ ‫ل َأدْعِيَا َءكُ ْم َأ ْبنَا َءكُ ْم ‪ ،‬ذَِلكُ ْم قَوُْلكُم بَِأفْوَا ِه ُكمْ} [الحزاب ‪ ، ]4 :‬فتأمّ ْ‬ ‫جعَ َ‬ ‫أولها ‪َ { :‬ومَا َ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬و َدفْع طعنِ الطاعنين عنه ‪ ،‬وبال التوفيق ‪.‬‬

‫ب نساءه ‪ ،‬وكان أحبّهن إليه عائشةُ رضى ال عنها ‪ ،‬ولم تكن تبلُغُ‬ ‫نعم ‪ ..‬كان رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ُيحِ ّ‬
‫خذْتُ‬
‫ت ُمتّخِذاً من أهل الرض خليلً لتّ َ‬
‫محبتُه لها ول لحد سِوَى ربه نهايةَ الحب ‪ ،‬بل صح أنه قال ‪(( :‬لو كن ُ‬
‫حمَن)) ‪.‬‬
‫ح َبكُم خَلِيلُ الرّ ْ‬
‫أبا بكرٍ خليلً)) ‪ ،‬وفى لفظ ‪(( :‬وإنّ صَا ِ‬

‫فصل‬

‫صوَر إنما تُبتلى به القلوبُ الفارغة مِن محبة ال تعالى ‪ ،‬ال ُمعْرِضةُ عنه ‪ ،‬المتعوّض ُة بغيره عنه ‪ ،‬فإذا‬ ‫وعشقُ ال ّ‬
‫امتلَ القلبُ من محبة ال والشوق إلى لقائه ‪ ،‬دفَع ذلك عنه مرضَ عشق الصور ‪ ،‬ولهذا قال تعالى فى حقّ‬
‫عبَا ِدنَا ا ْلمُخَْلصِينَ}[يوسف ‪ ، ]24 :‬فدلّ على أن‬
‫عنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَا َء ‪ ،‬إنّ ُه مِنْ ِ‬
‫ف َ‬
‫ك ِلنَصْرِ َ‬
‫يوسف ‪{ :‬كَذَِل َ‬
‫ب عليه من السوء والفحشاء التى هى ثمرتُه ونتيجتُه ‪ ،‬فصرفُ المسبب‬ ‫ب لدفع العشق وما يترتّ ُ‬ ‫الخلص سب ٌ‬
‫ف لسببه ‪ ،‬ولهذا قال بعضُ السّلَف ‪ :‬العشقُ حركة قلب فارغ ‪ ،‬يعنى فارغاً مما سوى معشوقه ‪ .‬قال تعالى ‪:‬‬ ‫صر ٌ‬
‫صبَحَ فُؤَا ُد أُ ّم مُوسَى فَارِغاً}[القصص ‪ ،]11 :‬إن كَادَتْ َلتُ ْبدِى بِ ِه أى ‪ :‬فارغاً من كل شىء إل من موسى‬ ‫{وََأ ْ‬
‫ط محبتها له ‪ ،‬وتعلّقِ قلبها به‬ ‫لفر ِ‬

‫ق‪،‬‬
‫والعشق مُ َركّب من أمرين ‪ :‬استحسانٍ للمعشوق ‪ ،‬وطمع فى الوصول إليه ‪ ،‬فمتى انتفى أحدهُما انتفى العش ُ‬
‫ت عِلّ ُة العشق على كثير من العقلء ‪ ،‬وتكلم فيها بعضهم بكلم يُرغَب عن ذكره إلى الصواب ‪.‬‬ ‫وقد أعي ْ‬

‫جلّ فى خلقه وأمره على وقوع التناسب والتآلف بين الشباه ‪ ،‬وانجذا ِ‬
‫ب‬ ‫فنقول ‪ :‬قد استقرت حكمة ال عَزّ و َ‬
‫الشىء إلى مُوافقه ومجانسه بالطبعِ ‪ ،‬وهُروبه من مخالفه ‪ ،‬ونُفرته عنه بالطبع ‪ ،‬فسِ ّر التمازج والتصال فى‬
‫ق ‪ ،‬وسِ ّر التباين والنفصال ‪ ،‬إنما هو بعدم التشاكل‬ ‫ل ‪ ،‬والتواف ُ‬ ‫العالم العُلوى والسّفلى ‪ ،‬إنما هو التناسبُ والتشاك ُ‬
‫ضدّ عن ضده هارب ‪ ،‬وعنه‬ ‫ل إلى مثلِه مائلٌ ‪ ،‬وإليه صائرٌ ‪ ،‬وال ّ‬ ‫والتناسب ‪ ،‬وعلى ذلك قام الخلق والمر ‪ ،‬فالمِثْ ُ‬
‫سكُنَ إَل ْيهَا} [العراف ‪،]189 :‬‬
‫جهَا ِليَ ْ‬
‫ل ِمنْهَا َزوْ َ‬
‫جعَ َ‬
‫حدَ ٍة وَ َ‬
‫خلَ َقكُم مّن نّ ْفسٍ وَا ِ‬
‫ناف ٌر ‪ ،‬وقد قال تعالى ‪{ :‬هُوَ اّلذِى َ‬
‫فجعل سُبحانه عِلّةَ سكون الرّجل إلى امرأته كونَها مِن جنسه وجوهره ‪ ،‬فعِلّةُ السكون المذكور وهو الحب كونُها‬
‫منه ‪ ،‬فدل على أن العِلّة ليست بحُسن الصورة ‪ ،‬ول الموافقة فى القصد والرادة ‪ ،‬ول فى الخلق وال ُهدَى ‪ ،‬وإن‬
‫كانت هذه أيضاً من أسباب السكون والمحبة ‪.‬‬

‫ف منها‬
‫جنّدةٌ ‪ ،‬فما تَعارَ َ‬
‫جنُودٌ مُ َ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪(( :‬الرْواحُ ُ‬ ‫وقد ثبت فى ((الصحيح)) عن النب ّ‬
‫ن امرأة بمكةَ‬‫ختََلفَ)) ‪ .‬وفى ((مسند المام أحمد)) وغيره فى سبب هذا الحديث ‪ :‬أ ّ‬ ‫ائْتلَف ‪ ،‬وما تَناكَرَ منها ا ْ‬
‫س ‪ ،‬فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬ ‫ك الناسَ ‪ ،‬فجاءت إلى المدينة ‪ ،‬فنزلتْ على امرأة تُضِحكُ النا َ‬ ‫كانت تُضِح ُ‬
‫ث‪.‬‬
‫جّندَةٌ)) ‪ ...‬الحدي َ‬
‫جنُودٌ مُ َ‬
‫((الرواحُ ُ‬

‫ق شريعته بين متماثلين أبداً ‪ ،‬ول تجم ُع بين‬ ‫ح ْكمُ مثله ‪ ،‬فل ُتفَرّ ُ‬
‫ت شريعتُه سُبحانه أنّ حُكم الشىء ُ‬
‫وقد استقر ْ‬
‫مضادّين ‪ ،‬ومَن ظنّ خِلف ذلك ‪ ،‬فإمّا لِقلّة علمه بالشريعة ‪ ،‬وإما لِتقصيره فى معرفة التماثُل والختلف ‪ ،‬وإمّا‬
‫لنسبته إلى شريعته ما لم يُنزلْ به سلطانًا ‪ ،‬بل يكونُ من آراء الرجال ‪ ،‬فبحكمتِه وعدلِه ظهر خَلقُه وشرعُه ‪،‬‬
‫وبالعدل والميزان قام الخلقُ والشرع ‪ ،‬وهو التسوي ُة بين المتمائَليْن ‪ ،‬والتفريق بين المختل َفيْن ‪.‬‬

‫جهُ ْم َومَا كَانُواْ‬


‫ظَلمُواْ وَأَزْوَا َ‬
‫حشُرُواْ اّلذِينَ َ‬
‫وهذا كما أنه ثابت فى الدنيا ‪ ،‬فهو كذلك يومَ القيامة ‪ .‬قال تعالى ‪{ :‬ا ْ‬
‫ل فَا ْهدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ }[الصافات ‪.]22 :‬‬
‫َيعْ ُبدُونَ *مِن دُونِ ا ِ‬

‫قال عمر بن الخطاب رضى ال عنه وبعدَه الما ُم أحمد رحمه ال ‪ :‬أزواجهم أشباهُهم ونُظراؤهم ‪.‬‬

‫ل صاحب عملٍ بشكله ونظيره ‪ ،‬ف ُقرِن بين‬ ‫وقال تعالى ‪{ :‬وَإذَا النّفُوسُ ُزوّجَتْ}[التكوير ‪ ]7 :‬أى ‪ :‬قُرِن ك ّ‬
‫جنّة ‪ ،‬وقُرِن بين المتحابّين فى طاعة الشيطان فى الجحيم ‪ ،‬فالمرءُ مع مَن َأحَبّ شاء أو‬ ‫المتحابّين فى ال فى ال َ‬
‫حبّ المَر ُء قَوْمًا إلّ حُشِ َر َم َعهُم))‬
‫أبَى ‪ ،‬وفى ((مستدرك الحاكم)) وغيره عن النبى صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬ل يُ ِ‬
‫‪.‬‬

‫والمحبة أنواع متعددة ؛ فأفضلها وأجلّها ‪ :‬المحبةُ فى ال ول ؛ وهى تستل ِزمُ محب َة ما أحبّ الُ ‪ ،‬وتستلزِ ُم محبةَ‬
‫ال ورسوله ‪.‬‬

‫ومنها ‪ :‬محبة التفاق فى طريق ٍة ‪ ،‬أو دين ‪ ،‬أو مذهب ‪ ،‬أو نِحْلة ‪ ،‬أو قرابة ‪ ،‬أو صناعة ‪ ،‬أو مرادٍ ما ‪.‬‬

‫ومنها ‪ :‬محبةٌ ل َنيْل غرض من المحبوب ‪ ،‬إمّا مِن جاهه أو من ماله أو مِن تعليمه وإرشاده ‪ ،‬أو قضاء وطر‬
‫ن مَن َودّك لمر ‪ ،‬ولّى عنك عند انقضائه ‪.‬‬
‫منه ‪ ،‬وهذه هى المحبة العَرَضية التى تزول بزوال مُوجِبها ‪ ،‬فإ ّ‬

‫ل إل لعارض يُزيلها ‪ ،‬ومحبةُ‬


‫وأمّا محبةُ المشاكلة والمناسبة التى بين المحب والمحبوب ‪ ،‬فمحبةٌ لزمة ل تزو ُ‬
‫العشق مِن هذا النوع ‪ ،‬فإنها استحسانٌ روحانى ‪ ،‬وامتزاج نفسانى ‪ ،‬ول يَعرِض فى شىء من أنواع المحب ِة من‬
‫ض مِن العشق ‪.‬‬
‫شغْلِ البال ‪ ،‬والتلفِ ما يعر ُ‬
‫ال َوسْواس والنّحول ‪ ،‬و َ‬

‫فإن قيل ‪ :‬فإذا كان سببُ العشق ما ذكرتم من التصال والتناسب الروحانى ‪ ،‬فما بالُه ل يكون دائمًا مِنَ الطرَفين‬
‫ج الروحانى ‪ ،‬لكانت المحبةُ‬ ‫ل النفسى والمتزا َ‬ ‫‪ ،‬بل تجدُه كثيراً من طرف العاشق وحده ‪ ،‬فلو كان سببُه التصا َ‬
‫مشتركة بينهما ‪.‬‬

‫ف عنه مسبّبه لفوات شرط ‪ ،‬أو لوجود مانع ‪ ،‬وتخلّف المحبة من الجانب الخر ل‬
‫فالجواب ‪ :‬أنّ السبب قد يتخلّ ُ‬
‫بد أن يكون لحد ثلثة أسباب ‪:‬‬

‫عرَضية ل ذاتية ‪ ،‬ول يجب الشتراكُ فى المحبة العَرَضية ‪ ،‬بل قد يلزمها‬


‫الول ‪ :‬عِلّ ٌة فى المحبة ‪ ،‬وأنها محبة َ‬
‫نُفر ٌة من المحبوب ‪.‬‬

‫خلْقِ ِه أو َهدْيه أو فعله ‪ ،‬أو هيئته أو غير‬


‫الثانى ‪ :‬مانعٌ يقوم بالمحِب يمنع محبة محبوبه له ‪ ،‬إما فى خُلُقه ‪ ،‬أو َ‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫ب فى محبته ‪ ،‬ولول ذلك المانعُ ‪ ،‬لقام به من المحبة لمحبه مث َ‬
‫ل‬ ‫الثالث‪ :‬مانعٌ يقوم بالمحبوب يمنعُ مشاركته للمح ِ‬
‫ط إل من الجانبين ‪ ،‬ولول مانعُ ال ِكبْر‬
‫ت هذه الموان ُع ‪ ،‬وكانت المحبة ذاتيةً ‪ ،‬فل يكون قَ ّ‬‫ما قام بالخر ‪ ،‬فإذا انتف ْ‬
‫ب إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم ‪ ،‬ولما زال هذا‬ ‫ل أح ّ‬ ‫والحسد ‪ ،‬والرياسة والمعاداة فى الكفار ‪ ،‬لكانت الرّسُ ُ‬
‫ق محبة النفس والهل والمال ‪.‬‬ ‫المان ُع من قلوب أتباعهم ‪ ،‬كانت محبتُهم لهم فو َ‬

‫فصل‬

‫والمقصود ‪ :‬أنّ العشق لما كان مرضاً مِن المراض ‪ ،‬كان قابلً للعلج ‪ ،‬وله أنواع مِن العِلج ‪ ،‬فإن كان مما‬
‫للعاشق سبيلٌ إلى وصل محبوبه شرعًا وقدْرًا ‪ ،‬فهو علجه ‪ ،‬كما ثبت فى‬

‫((الصحيحين)) من حديث ابن مسعود رضى ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬يا معشر‬
‫شبَاب ؛ مَن استطاع منكم الباء َة فلْيتزوّج ‪ ،‬ومَن لم يستطِ ْع فعليه بالصّوْم ‪ ،‬فإنّه له وِجَاءٌ)) ‪ .‬فدَل المحبّ على‬ ‫ال ّ‬
‫ل عنه إلى‬
‫علجين ‪ :‬أصلىّ ‪ ،‬وبدلىّ ‪ .‬وأمره بالصلى ‪ ،‬وهو العلج الذى وُضع لهذا الداء ‪ ،‬فل ينبغى العدو ُ‬
‫غيره ما وَجد إليه سبيلً ‪.‬‬

‫وروى ابن ماجه فى ((سننه)) عن ابن عباس رضى ال عنهما ‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪َ(( :‬ل ْم‬
‫نَرَ للمُتحا ّبيْنِ ِمثْلَ النّكاح)) ‪ .‬وهذا هو المعنى الذى أشار إليه سبحانه عقيب إحلل النساء حرائرِهن وإمائهن عند‬
‫ضعِيفاً}[النساء ‪ ]28 :‬فذكرُ تخفيفِه فى هذا الموضع ‪،‬‬ ‫ق النْسَانُ َ‬
‫عنْكُ ْم ‪ ،‬وَخُلِ َ‬
‫ف َ‬
‫خفّ َ‬
‫الحاجة بقوله ‪{ :‬يُرِيدُ الُ أَن يُ َ‬
‫وإخبارُه عن ضعف النسان يدل على ضعفه عن احتمال هذه الشهوة ‪ ،‬وأنه سبحانه خفّف عنه أمرها بما أباحه‬
‫ت يمينُه ‪ ،‬ثم أباح له أن يتزوّج بالماء إن‬
‫ع ‪ ،‬وأباح له ما شاء مما ملك ْ‬ ‫له من أطايب النساء مَثْنى وثُلثَ ورُبا َ‬
‫احتاج إلى ذلك علجًا لهذه الشهوة ‪ ،‬وتخفيفًا عن هذا الخُلق الضعيف ‪ ،‬ورحمةً به ‪.‬‬

‫فصل‬

‫وإن كان ل سبيلَ للعاشق إلى وِصال معشوقه قدْراً أو شرعًا ‪ ،‬أو هو ممتنع علي ِه من الجهتين ‪ ،‬وهو الداء‬
‫ن النفسَ متى يئستْ من الشىء ‪ ،‬استراحت منه ‪ ،‬ولم تلتفت‬ ‫س منه ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫العُضال ‪ ،‬فمِن علجه ‪ ،‬إشعارُ نفسه اليأ َ‬
‫ض العشق مع اليأس ‪ ،‬فقد انحرف الطبعُ انحرافًا شديداً ‪ ،‬فينتقل إلى عِلج آخ َر ‪ ،‬وهو‬ ‫إليه ‪ ،‬فإن لم يَزلْ مر ُ‬
‫ن تعلّق القلب بما ل مطمع فى حصوله نوعٌ من الجنون ‪ ،‬وصاحبه بمنزلة مَن يعشق‬ ‫علجُ عقله بأن يعلم بأ ّ‬
‫ن معها فى فلكها ‪ ،‬وهذا معدودٌ عند جميع العقلء فى زُمرة‬ ‫الشمس ‪ ،‬وروحُه متعلقة بالصعود إليها والدّوَرا ِ‬
‫المجانين ‪.‬‬

‫وإن كان الوِصال متعذراً شرعاً ل قدراً ‪ ،‬فعِلجُه بأن يُنزله منزلة المتعذر قدرًا ‪ ،‬إذ ما لم يأذن فيه ال ‪ ،‬فعِلجُ‬
‫العبد ونجاتُه موقوف على اجتنابه ‪ ،‬فليُشعرْ نفسَه أنه معدوم ممتنع ل سبيلَ له إليه ‪ ،‬وأنه بمنزلة سائر‬
‫ب إليه ‪،‬‬‫المحالت ‪ ،‬فإن لم تُجبْه النّ ْفسُ المّارة ‪ ،‬فليتركْه لحد أمرين ‪ :‬إما خشية ‪ ،‬وإما فواتِ محبوب هو أح ّ‬
‫ن بين َنيْل محبوب سريع الزوال بفوات‬ ‫وأنفع له ‪ ،‬وخير له منه ‪ ،‬وأدْوَ ُم َلذّةً وسروراً ‪ ،‬فإن العاقل متى وازَ َ‬
‫ت ‪ ،‬فل تبعْ َلذّة البد التى ل خطرَ لها بلذّة‬‫محبوب أعظمَ منه ‪ ،‬وأدو َم ‪ ،‬وأنفعَ ‪ ،‬وألذّ أو بالعكس ‪ ،‬ظهر له التفاو ُ‬
‫ساعة تنقلبُ آلمًا ‪ ،‬وحقيقتُها أنها أحلمُ نائم ‪ ،‬أو خيالٌ ل ثبات له ‪ ،‬فتذهبُ اللّذة ‪ ،‬وتبقى التبع ُة ‪ ،‬وتزولَ الشهوة‬
‫‪ ،‬وتبقَى الشّقوة ‪.‬‬

‫الثانى ‪ :‬حصولُ مكروه أشقّ عليه مِن فوات هذا المحبوب ‪ ،‬بل يجتمع له المران ‪ ،‬أعنى ‪ :‬فوات ما هُو أح ّ‬
‫ب‬
‫إليه من هذا المحبوب ‪ ،‬وحصولُ ما هو أكر ُه إليه من فوات هذا المحبوب ‪ ،‬فإذا تيقّن أنّ فى إعطاء النفسِ حظّها‬
‫ل من صبره عليهما بكثير ‪،‬‬ ‫ن صبره على فوته أسه ُ‬ ‫من هذا المحبوب هذين المرين ‪ ،‬هان عليه تركُه ‪ ،‬ورأى أ ّ‬
‫فعقلُه ودينه ‪ ،‬ومروءته وإنسانيته ‪ ،‬تأمُره باحتمال الضرر اليسير الذى ينقِلبُ سريعًا لذّةً وسروراً وفرحاً لدفع‬
‫هذين الضررين العظيمين ‪ .‬وجَهلُه وهواه ‪ ،‬وظلمه وطيشه ‪ ،‬وخفته يأمره بإيثار هذا المحبوب العاجل بما فيه‬
‫جالبًا عليه ما جلب ‪ ،‬والمعصو ُم مَن عصمه ال ‪.‬‬

‫ب عليه هذه الشهو ُة مِن مفاسد عاجِلته ‪،‬‬


‫فإن لم تقبل نفسُه هذا الدواء ‪ ،‬ولم تُطاوعه لهذه المعالجة ‪ ،‬فلينظر ما تجل ُ‬
‫ب شىء لمفاسد الدنيا ‪ ،‬وأعظمُ شىء تعطيلً لمصالحها ‪ ،‬فإنها تحول بين‬ ‫وما تمنعه مِن مصالحها ‪ ،‬فإنها أجل ُ‬
‫العبد وبين رُشده الذى هو مِلكُ أمره ‪ ،‬وقِوامُ مصالحه ‪.‬‬
‫فإن لم تقبل نفسُه هذا الدواء ‪ ،‬فليتذكر قبائحَ المحبوب ‪ ،‬وما يدعوه إلى النّفرة عنه ‪ ،‬فإنه إن طلبها وتأملها ‪،‬‬
‫ف محاسنه التى تدعو إلى حبه ‪ ،‬وليسأل جيرانَه عما خفى عليه منها ‪ ،‬فإنّ المحاسن كما هى داعيةُ‬ ‫وجدها أضعا َ‬
‫ض والنّفرة ‪ ،‬فليوازن بين الداع َييْن ‪ ،‬وليُحبّ أسبَقهما وأق َربَهما منه بابًا ‪،‬‬
‫الحبّ والرادة ‪ ،‬فالمساوئ داعيةُ البغ ِ‬
‫غرّه لونُ جمال على جسم أبرصَ مجذوم وليُجاوِ ْز بصره حُسنَ الصورة إلى قبح الفعل ‪ ،‬و ْليَعبُرْ‬ ‫ول يكن ممن َ‬
‫مِن حُسن المنظر والجسم إلى قبح المخبر والقلب ‪.‬‬

‫فإن عجزت عنه هذه الدوية كلها لم يبق له إل صِدقُ اللجأ إلى مَن يُجيب المضطَر إذا دعاه ‪ ،‬وليطرح نفسه بين‬
‫ق لذلك ‪ ،‬فقد قرع باب التوفيق ‪ ،‬فل َيعِفّ‬‫يديه على بابه ‪ ،‬مستغيثاً به ‪ ،‬متضرعاً ‪ ،‬متذللً ‪ ،‬مستكينًا ‪ ،‬فمتى ُوفّ َ‬
‫ب بذكر المحبوب ‪ ،‬ول يفضحْه بين الناس ويُعرّضه للذى ‪ ،‬فإنه يكون ظالماً متعديًا ‪.‬‬ ‫شبّ ْ‬
‫وليكتُم ‪ ،‬ول يُ َ‬

‫ول يغترّ بالحديث الموضوع على رسول ال صلى ال عليه وسلم الذى رواه سُويد بن سعيد ‪ ،‬عن علىّ بن‬
‫مُسْه ٍر ‪ ،‬عن أبى يحيى ال َقتّات ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس رضى ال عنهما ‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫ورواه عن أبى مسهر أيضًا ‪ ،‬عن هشام بن عروةَ ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عائشة ‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫جشُون ‪ ،‬عن عبد العزيز بن أبى حازم ‪ ،‬عن ابن‬ ‫ورواه ال ّز َبيْر بن َبكّار ‪ ،‬عن عبد الملك ابن عبد العزيز بن الما ِ‬
‫شقَ‬
‫أبى نجيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس رضى ال عنهما ‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪(( :‬مَنْ عَ ِ‬
‫ل لَهُ ‪ ،‬وأدخَلَ ُه الجنّة)) ‪.‬‬
‫ن عَشِقَ وكتم وعفّ وصب َر ‪ ،‬غفر ا ُ‬ ‫ف ‪ ،‬فماتَ فهو شهيدٌ)) وفى رواية ‪(( :‬مَ ْ‬ ‫‪ ،‬فعَ ّ‬

‫ن الشهادة‬
‫ث ل يصِحّ عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ول يجوز أن يكونَ من كلمه ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ن هذا الحدي َ‬ ‫فإ ّ‬
‫حصُولها ‪ ،‬وهى نوعان ‪:‬‬ ‫صدّيقية ‪ ،‬ولها أعمال وأحوال ‪ ،‬هى شرط فى ُ‬
‫درج ٌة عالية عند ال ‪ ،‬مقرون ٌة بدرجة ال ّ‬
‫عام ٌة وخاص ٌة ‪.‬‬

‫فالخاصة ‪ :‬الشهادةُ فى سبيل ال ‪.‬‬

‫ق واحداً منها ‪ .‬وكيف يكون العشقُ الذى هو شِ ْركٌ فى‬ ‫س مذكورة فى ((الصحيح)) ليس العش ُ‬ ‫والعامةُ خم ٌ‬
‫المحبة ‪ ،‬وفراغُ القلب عن ال ‪ ،‬وتمليكُ القلب والروح ‪ ،‬والحب لغيره تُنال به درج ُة الشهادة ‪ ،‬هذا من المحال ‪،‬‬
‫ق كل إفساد ‪ ،‬بل هو خمرُ الروح الذى يُسكرها ‪ ،‬ويصدّها عن ذكر ال وحبّه ‪،‬‬ ‫ن إفساد عشق الصور للقلب فو َ‬ ‫فإ ّ‬
‫ق ُلبّ‬
‫س به ‪ ،‬ويُوجب عبودية القلب لغيره ‪ ،‬فإنّ قلبَ العاشق ُمتَعّبدٌ لمعشوقه ‪ ،‬بل العش ُ‬
‫والتلذذِ بمناجاته ‪ ،‬والن ِ‬
‫العبودية ‪ ،‬فإنها كمال الذل ‪ ،‬والحب والخضوع والتعظيم ‪ ،‬فكيف يكون تعبّد القلب لغير ال مما تُنال به درجةُ‬
‫س ‪ ،‬كان غلطاً ووهمًا ‪ ،‬ول‬ ‫أفاضل الموحّدين وساداتهم ‪ ،‬وخواص الولياء ‪ ،‬فلو كان إسنادُ هذا الحديث كالشم ِ‬
‫يُحفظ عن رسول ال صلى ال عليه وسلم لفظُ العشق فى حديث صحيح ألبتة ‪.‬‬

‫ل ‪ ،‬ومنه حرا ٌم ‪ ،‬فكيف يُظَن بالنبىّ صلى ال عليه وسلم أنه يحكم على كُلّ عاشقٍ يكتُم‬ ‫ثم إنّ العشق منه حل ٌ‬
‫و َيعِفّ بأنه شهيد ‪ ،‬فترَى مَن يعشق امرأةَ غيره ‪ ،‬أو يعشق المُرْدانَ والبغَايا ‪ ،‬يَنال بعشقه درج َة الشهداء ‪ ،‬وهل‬
‫ق مرض من المراض التى جعل‬ ‫ف المعلوم من دينه صلى ال عليه وسلم بالضرورة ؟ كيف والعش ُ‬ ‫هذا إل خل ُ‬
‫ستَحَب‬‫ل سبحانه لها الدويةَ شرعاً وقدراً ‪ ،‬والتداوى منه إما واجب إن كان عشقاً حراماً ‪ ،‬وإما مُ ْ‬ ‫ا ُ‬

‫وأنت إذا تأملت المراضَ والفاتِ التى حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم لصحابها بالشهادة ‪ ،‬وجدتها من‬
‫ق ‪ ،‬والغرِيقِ ‪ ،‬وموتِ المرأة يقتُلها‬
‫المراض التى ل علج لها ‪ ،‬كالمطعون ‪ ،‬والمَبْطُون ‪ ،‬والمجنون ‪ ،‬والحري ِ‬
‫ج لها ‪ ،‬وليست أسبابُها محرّمة ‪ ،‬ول يترتب‬ ‫ن هذه بليَا من ال ل صُنع للعبد فيها ‪ ،‬ول عِل َ‬ ‫ولدُها فى بطنها ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ف هذا فى إبطال نسبة هذا الحديثِ إلى‬ ‫عليها مِن فساد القلب وتعبّده لغير ال ما يترتب على العشق ‪ ،‬فإن لم يك ِ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقّلدْ أئمةَ الحديث العالمين به وبعلله ‪ ،‬فإنه ل يُحفظ عن إمام واحد منهم َقطّ أنه‬
‫شهد له بصحة ‪ ،‬بل ول بحُسن ‪ ،‬كيف وقد أنكروا على سُويدٍ هذا الحديث ‪ ،‬ورموه لجله بالعظائم ‪ ،‬واستحلّ‬
‫عدِىّ فى ((كامله))‪ :‬هذا الحديث أحدُ ما أُنكر على سُويد ‪ ،‬وكذلك قال‬ ‫بعضُهم غزوَه لجله ‪ .‬قال أبو أحمد بن َ‬
‫ال َبيْهقى ‪ :‬إنه مما أُنكر عليه ‪ ،‬وكذلك قال ابن طاهر فى ((الذخيرة)) وذكره الحاكم فى ((تاريخ نيسابور)) ‪،‬‬
‫وقال ‪ :‬أنا أتعجب من هذا الحديث ‪ ،‬فإنه لم يحدّث به عن غير سُويد ‪ ،‬وهو ثقة ‪ ،‬وذكره أبو الفرج بن الجوزى‬
‫ق يرفعه أ ّولً عن سُويد ‪ ،‬فعُوتب فيه ‪ ،‬فأسقط النبىّ صلى ال‬ ‫فى كتاب ((الموضوعات)) ‪ ،‬وكان أبو بكر الزر ُ‬
‫عليه وسلم وكان ل يُجاوِ ُز به ابنَ عباس رضى ال عنهما ‪.‬‬

‫ل هذا الحديث من حديث هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن عائشة رضى ال‬ ‫ومن المصائب التى ل تُحتمل جع ُ‬
‫ل أن‬
‫ل هذا البتة ‪ ،‬ول يحتمِ ُ‬
‫عنها ‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪ .‬ومَن له أدنى إلمام بالحديث وعلله ‪ ،‬ل يحتمِ ُ‬
‫يكونَ من حديث الماجشون ‪ ،‬عن ابن أبى حازم ‪ ،‬عن ابن أبى نَجيح ‪ ،‬عن مجاهد ‪ ،‬عن ابن عباس رضى ال‬
‫س سويدَ بن سعيد راوىَ هذا الحديث‬
‫عنهما مرفوعاً ‪ ،‬وفى صحته موقوفًا على ابن عباس نظ ٌر ‪ ،‬وقد رمى النا ُ‬
‫بالعظائم ‪ ،‬وأنكره عليه يحيى بن َمعِين وقال ‪ :‬هو ساقط كذّاب ‪ ،‬لو كان لى فرس ورمح كنت أغزوه ‪ ،‬وقال‬
‫المام أحمد ‪ :‬متروك الحديث ‪ .‬وقال النسائى ‪ :‬ليس بثقة ‪ ،‬وقال البخارى ‪ :‬كان قد عمىَ فيلقن ما ليس من حديثه‬
‫حبّان ‪ :‬يأتى بالمعضلت عن الثقات يجبُ مجانبةُ ما روى ‪ ..‬انتهى ‪.‬‬
‫‪ ،‬وقال ابن ِ‬

‫ى ‪ :‬هو ثقة غير أنه لما‬


‫ى ‪ :‬إنه صدُوق كثير الّتدْليس ‪ ،‬ثم قولُ الدّا َرقُطن ّ‬‫وأحسنُ ما قيل فيه قولُ أبى حاتم الراز ّ‬
‫َكبِرَ كان ربما قُرئ عليه حديثٌ فيه بعضُ النكارة ‪ ،‬فيُجيزه ‪ ..‬انتهى ‪.‬‬

‫وعِيبَ على مسلم إخراجُ حديثه ‪ ،‬وهذه حالُه ‪ ،‬ولكن مسلم روى من حديثه ما تابعه عليه غيرُه ‪ ،‬ولم ينف ِر ْد به ‪،‬‬
‫ولم يكن منكراً ول شاذاً بخلف هذا الحديث ‪ ..‬وال أعلم ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى حفظ الصحة بالطيب‬

‫ح مطيةُ القُوَى ‪ ،‬والقُوَى تزداد بالطيب ‪ ،‬وهو ينفعُ الدماغَ‬ ‫لما كانت الرائحةُ الطيبة غذاءَ الروح ‪ ،‬والرو ُ‬
‫ح ‪ ،‬وهو أصدقُ شىء للروح ‪،‬‬ ‫ط الرو َ‬ ‫ح القلب ‪ ،‬و َيسُرّ النفس ويَبسُ ُ‬
‫والقلب ‪ ،‬وسائر العضاء الباطنية ‪ ،‬ويُفرّ ُ‬
‫طيّبين‬
‫وأشدّه ملءمةً لها ‪ ،‬وبينه وبين الروح الطيبة نِسب ٌة قريبة ‪ .‬كان أح َد المحبو َبيْن من الدنيا إلى أطيب ال َ‬
‫صلوات ال عليه وسلمه ‪.‬‬

‫ب‪.‬‬
‫وفى (( صحيح البخارى )) ‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم كان ل يَ ُردّ الطّي َ‬

‫طيّبُ الرّيح ‪،‬‬


‫عرِضَ عليه َريْحانٌ ‪ ،‬فل يَ ُردّ ُه فإنه َ‬
‫وفى (( صحيح مسلم )) عنه صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬من ُ‬
‫حمِلِ))‪.‬‬
‫خفِيفُ المَ ْ‬
‫َ‬

‫وفى ((سنن أبى داود)) و((النسائي)) ‪ ،‬عن أبى هرير َة رضى ال عنه ‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬مَن‬
‫طيّبُ الرّائِحَةِ))‪.‬‬
‫حمِلِ َ‬
‫خفِيفُ المَ ْ‬
‫ض عَلَيهِ طِيبٌ ‪ ،‬فَل يَ ُردّ ُه ‪ ،‬فَإنّهُ َ‬
‫عُرِ َ‬

‫ف يُحِبّ‬
‫ب ‪ ،‬نَظِي ٌ‬ ‫حبّ الطّي َ‬ ‫ب يُ ِ‬
‫طيّ ٌ‬
‫وفى ((مسند البزّار)) ‪ :‬عن النبيّ صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪ (( :‬إنّ الَ َ‬
‫ج َمعُون الكُبّ‬
‫شّبهُوا بِال َيهُودِ يَ ْ‬
‫حبّ الجُو َد ‪َ ،‬فنَظّفُوا أ ْفنَا َءكُم وسَاحَا ِتكُم ‪ ،‬ول تَ َ‬
‫حبّ الكَرَ َم ‪ ،‬جَوادٌ يُ ِ‬
‫النّظَافَ َة ‪َ ،‬كرِيمٌ يُ ِ‬
‫فى دُورِهِمْ))‪ .‬الكُب ‪ :‬الزبالة ‪.‬‬

‫طيّب منها ‪.‬‬


‫سكّ ٌة َيتَ َ‬
‫وذكر ابن أبى شيبة ‪ ،‬أنه صلى ال عليه وسلم كان لَهُ ُ‬

‫س ِمنْهُ))‪.‬‬
‫ب أَنْ َيمَ ّ‬
‫ن لَهُ طِي ٌ‬
‫ن كَا َ‬
‫س ْبعَةِ أيّا ٍم ‪ ،‬وَإ ْ‬
‫ل فِى كُلّ َ‬
‫ن َيغْتَسِ َ‬
‫ل مُسْلِ ٍم أَ ْ‬
‫حقّا عَلَى كُ ّ‬
‫ن لِ َ‬
‫ح عنه أنه قال ‪(( :‬إ ّ‬
‫وصَ ّ‬

‫ن الملئكة تُحبه ‪ ،‬والشياطين تنفِ ُر عنه ‪ ،‬وأحبّ شيءٍ إلى الشياطين الرائح ُة المنتنة‬
‫وفى الطيب من الخاصية ‪ ،‬أ ّ‬
‫حبّ الرائحة الخبيثة ‪ ،‬وكل روح تميل إلى‬ ‫ح الخبيثة تُ ِ‬
‫حبّ الرائحة الطيبة ‪ ،‬والروا ُ‬‫ح الطيبة تُ ِ‬
‫الكريهة ‪ ،‬فالروا ُ‬
‫ت للطيبين ‪ ،‬والطيبون للطيبات ‪ ،‬وهذا وإن كان‬ ‫ما يناسبها ‪ ،‬فالخبيثات للخبيثين ‪ ،‬والخبيثون للخبيثات ‪ ،‬والطيبا ُ‬
‫فى النساء والرجال ‪ ،‬فإنه يتناولُ العمالَ والقوالَ ‪ ،‬والمطاعم والمشارب ‪ ،‬والملبس والروائح ‪ ،‬إما بعموم‬
‫لفظه ‪ ،‬أو بعموم معناه ‪.‬‬

‫فى َهدْيه صلى ال عليه وسلم فى حفظ صحة العَيْن‬


‫روى أبو داود فى ((سننه))‪ :‬عن عبد الرحمن بن النّعمان بن معبد بن هَ ْوذَ َة النصارى ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده‬
‫ع ْندَ النّ ْومِ وقال ‪(( :‬ليتّقِ ِه الصّائِمُ)) ‪ .‬قال‬
‫ل ْث ِمدِ المُروّحِ ِ‬
‫رضى ال عنه ‪ ،‬أنّ رسولَ الِ صلى ال عليه وسلم َأ َمرَ با ِ‬
‫أبو عبيد ‪ :‬المروّح ‪ :‬المطيّب بالمسك ‪.‬‬

‫وفى ((سنن ابن ماجه)) وغيره عن ابن عباس رضى ال عنهما قال ‪ :‬كانت للنبىّ صلى ال عليه وسلم ُمكْحُلَةٌ‬
‫عيْنٍ ‪.‬‬
‫ل َ‬
‫ل مِنها ثلثًا فى كُ ّ‬
‫َيكْتَحِ ُ‬

‫وفى ((الترمذي)) ‪ :‬عن ابن عباس رضى ال عنهما ‪ ،‬قال ‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا اكتحَلَ‬
‫يجعلُ فى اليمنَى ثلثاً ‪ ،‬يبتدىء بها ‪ ،‬ويختم بها ‪ ،‬وفى اليُسْرى ثنتين ‪.‬‬

‫ل ف ْليُوتِرْ)) ‪ .‬فهل الوترُ بالنسبة إلى العينين كلتيهما ‪،‬‬


‫وقد روى أبو داود عنه صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬مَنْ ا ْكتَحَ َ‬
‫عيْن ‪ ،‬فيكون‬
‫فيكون فى هذه ثلث ‪ ،‬وفى هذه ثنتان ‪ ،‬واليُمنى أولى بالبتداء والتفضيل ‪ ،‬أو هو بالنسبة إلى كُلّ َ‬
‫فى هذه ثلث ‪ ،‬وفى هذه ثلث ‪ ،‬وهما قولن فى مذهب أحمد وغيره‪.‬‬

‫ف للمادة الرديئة ‪ ،‬واستخراجٌ لها‬


‫ل حفظ لصحة ال َعيْن ‪ ،‬وتقويةٌ للنور الباصر ‪ ،‬وجِلءٌ لها ‪ ،‬وتلطي ٌ‬
‫@ وفى الكُحْ ِ‬
‫ل ‪ ،‬وسكونها عقيبه عن الحركة‬ ‫مع الزينة فى بعض أنواعه ‪ ،‬وله عند النوم مزيدُ فضل لشتمالها على الكُحْ ِ‬
‫المضرة بها ‪ ،‬وخدمةِ الطبيعة لها ‪ ،‬وللثْمد مِن ذلك خاصيّة ‪.‬‬

‫ت الشّعرَ)) ‪.‬‬
‫وفى ((سنن ابن ماجه)) عن سالم ‪ ،‬عن أبيه يرفعه ‪(( :‬عََل ْيكُم بال ْثمِ ِد ‪ ،‬فإنّ ُه يَجْلُو البَصَر ‪ ،‬و ُينْبِ ُ‬

‫وفى كتاب أبى نُعيم ‪(( :‬فإنه َم ْنبَتَةٌ للشّعر ‪ ،‬مذهبة للقذَى ‪ ،‬مصْفاة للبصر)) ‪.‬‬

‫وفى ((سنن ابن ماجه)) أيضًا ‪ :‬عن ابن عباس رضى ال عنهما يرفعه ‪(( :‬خي ُر أكْحالِكم الثمد ‪ ،‬يجلُو البَصَ َر ‪،‬‬
‫ويُنبت الشّعرَ)) ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى ذكر شىء من الدوية والغذية المفردة التى جاءت على لسانه صلى ال عليه وسلم مرتبة على حروف‬
‫المعجم‬

‫حرف الهمزة‬

‫إ ْثمِدٌ‪ :‬هو حجر الكحل السود‪ ،‬يُ ْؤتَى به من أصبِهانَ‪ ،‬وهو أفضلُه‪ ،‬ويؤتَى به من جهة المغرب أيضاً‪ ،‬وأجودُه‬
‫س ليس فيه شىء من الوساخ‪.‬‬ ‫السريعُ التفتيتِ الذى لفُتاته بصيصٌ‪ ،‬وداخلُه أمل ُ‬

‫ومزاجُه بارد يابس ينفعُ العين ويُقوّيها‪ ،‬ويشد أعصابَها‪ ،‬ويحفظُ صِحتها‪ ،‬ويُذهب اللّحم الزائد فى القُروح‬
‫ويُدملها‪ ،‬ويُنقّى أوساخها‪ ،‬ويجلوها‪ ،‬ويُذهب الصداع إذا اكتُحل به مع العسل المائى الرقيق‪ ،‬وإذا دُقّ وخُِلطَ‬
‫شكَرِيشةٌ‪ ،‬ونفع من التنفّط الحادث بسببه‪ ،‬وهو‬ ‫ببعض الشحوم الطرية‪ ،‬ولُطخ على حرق النار‪ ،‬لم تعرض فيه خُ ْ‬
‫جعِ َل معه شى ٌء من المسك‪.‬‬
‫سيّما للمشايخ‪ ،‬والذين قد ضعفت أبصارُهم إذا ُ‬ ‫أجود أكحال العين ل ِ‬

‫ُأتْرُج‪ :‬ثبت فى ((الصحيح))‪ :‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال‪َ (( :‬مثَلُ المؤمن الذى يقرأ القرآن‪ ،‬ك َمثَلِ‬
‫طيّبٌ))‪.‬‬
‫طيّبٌ‪ ،‬وريحُها َ‬
‫لتْرُجّةِ‪ ،‬ط ْعمُها َ‬
‫اُ‬

‫وفى الُترج منافع كثيرة‪ ،‬وهو مركّب من أربعة أشياء‪ :‬قشر‪ ،‬ولحم‪ ،‬وحمض‪ ،‬وبزر‪ ،‬ولكل واحد منها مِزاج‬
‫يخصّه‪ ،‬فقشره حار يابس‪ ،‬ولحمُه حار رطب‪ ،‬وحمضُه بارد يابس‪ ،‬وبزرُه حار يابس‪.‬‬

‫ب ال ّن ْكهَةَ إذا‬
‫ح فسادَ الهواء والوباء‪ ،‬ويُطيّ ُ‬
‫ومن منافع قشره‪ :‬أنه إذا جُعل فى الثياب منع السوسَ‪ ،‬ورائحتُهُ تُصْلِ ُ‬
‫جعِلَ فى الطعام كالبازِير‪ ،‬أعان على الهضم‪ .‬قال صاحب ((القانون))‪:‬‬ ‫أمسكه فى الفم‪ ،‬ويُحلّل الرياح‪ ،‬وإذا ُ‬
‫ضمَادَاً‪ ،‬وحُرَاقةُ قِشره طِل ٌء جيد للبَرَص‪ ..‬انتهى‪.‬‬ ‫وعُصَارة قشره تنفع مِن نهْش الفاعى شرباً‪ ،‬وقِشرُه ِ‬
‫وأمّا لحمه‪ :‬فملطّف لحرارة ال َم ِعدَة‪ ،‬نافعٌ لصحاب المِرّة الصفراء‪ ،‬قامِعٌ للبخارات الحارة‪ .‬وقال الغافِقىّ‪ :‬أكل‬
‫لحمه ينفع البواسير‪ ..‬انتهى‪.‬‬

‫وأمّا حمضُه‪ :‬فقابضٌ كاسر للصفراء‪ ،‬ومسكنٌ للخفقان الحار‪ ،‬ناف ٌع من اليَ َرقَان شربًا واكتحالً‪ ،‬قاط ٌع للقىء‬
‫سكّن غِ ْلمَ َة النساء‪،‬‬
‫الصفراوى‪ُ ،‬مشَهّ للطعام‪ ،‬عاقل للطبيعة‪ ،‬نافع من السهال الصفراوى‪ ،‬وعُصَارَ ُة حمضه يُ َ‬
‫وينفع طِلَ ًء من الكََلفِ‪ ،‬ويُذهب بالقَوْباء‪ ،‬ويُستدَل على ذلك مِن فعله فى الحِبر إذا وقَعَ فى الثياب قََلعَه‪ ،‬وله قوةٌ‬
‫حدّة المِرّة الصفراء‪ ،‬وتُزِيلُ الغ ّم العارض‬ ‫تُلطّف‪ ،‬وتقطع‪ ،‬وتبرد‪ ،‬وتُطفئُ حرارة الكبد‪ ،‬وتُقوّى ال َمعِدَة‪ ،‬وتمنع ِ‬
‫منها‪ ،‬وتسكن العطش‪.‬‬

‫حبّه‪ ،‬النفع من السموم القاتلة إذا شُ ِربَ منه وز ُ‬


‫ن‬ ‫وأمّا بزره‪ :‬فله قوة محلّلة مجففة‪ .‬وقال ابن ماسويه‪ :‬خاصية َ‬
‫طيّبٌ‬
‫مثقال مقشّراً بماء فاتر‪ ،‬وطِلء مطبوخ‪ .‬وإن دُقّ ووضع على موضع اللّسعة‪ ،‬نفع‪ ،‬وهو مَُليّنٌ للطبيعة‪ ،‬مُ َ‬
‫للنكْهة‪ ،‬وأكثر ُهذا الفعل موجودٌ فى قشره‪.‬‬

‫ب منه وزنُ مثقالين مقشرًا بماء فاتر‪ ،‬وكذلك إذا دُقّ‬


‫حبّه النفع مِن لَسعات العقارب إذا شُرِ َ‬
‫وقال غيرُه‪ :‬خاصية َ‬
‫ووُضِ َع على موضع اللّدغة‪.‬‬

‫حبّه يصلُح للسّموم كُّلهَا‪ ،‬وهو نافع من لدغ الهوام كلها‪.‬‬


‫وقال غيره‪َ :‬‬

‫ضبَ على قوم من الطباء‪ ،‬فأمر بحبسهم‪ ،‬وخيّرهم أُدماً ل يزيد لهم عليه‪ ،‬فاختارُوا‬ ‫ن بعض الكاسرة غَ ِ‬ ‫و ُذكِرَ أ ّ‬
‫الترج‪ ،‬فقيل لهم‪ِ :‬لمَ اخترتموه على غيره ؟ فقالوا‪ :‬لنه فى العاجل ريحانٌ‪ ،‬ومنظره مفرح‪ ،‬وقشرُه طيب‬
‫حمْضُه أُدم‪ ،‬وحبّه تِرياق‪ ،‬وفيه دُهنٌ‪.‬‬
‫الرائحة‪ ،‬ولحمه فاكهة‪ ،‬و َ‬

‫حبّ‬
‫شبّ َه به خلصةُ الوجود‪ ،‬وهو المؤمن الذى يقرأ القرآن‪ ،‬وكان بعضُ السّلَف يُ ِ‬
‫وحقيقٌ بشىء هذه منافعه أن يُ َ‬
‫النظر إليه لما فى منظره من التفريح‪.‬‬

‫ل ‪ ،‬لكان‬
‫أَ ُرزّ ‪ :‬فيه حديثان باطلن موضوعان على رسولِ ال صلى ال عليه وسلم ؛ أحدهما ‪ :‬أنه ((لو كان رج ً‬
‫حليماً)) ‪ ،‬الثانى ‪(( :‬كُلّ شىء أخرجتْه الرضُ ففيه دا ٌء وشفا ٌء إل الَ ُرزّ ‪ :‬فإنه شفا ٌء ل داءَ فيه)) ذكرناهما‬
‫تنبيهاً وتحذيرًا من نسبتهما إليه صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬

‫حنْطَة ‪ ،‬وأحمدُها خلطًا ‪ ،‬يَشدّ البطن شدّا يسيرًا ‪ ،‬و ُيقَوّى‬


‫ب بعد ال ِ‬
‫غذَى الحُبو ِ‬
‫وبعد ‪ ..‬فهو حار يابس ‪ ،‬وهو أ ْ‬
‫طبِخَ بألبان البقر ‪ ،‬وله تأثيرٌ‬
‫ث فيها ‪ .‬وأطبا ُء الهند تزعم أنه أحمدُ الغذية وأنفعُها إذا ُ‬ ‫ال َم ِعدَة ‪ ،‬ويَدبغُها ‪ ،‬ويمك ُ‬
‫ى ‪ ،‬وكثر ِة التغذية ‪ ،‬وتصفيةِ اللون ‪.‬‬‫فى خِصب البدن ‪ ،‬وزيادةِ ال َمنِ ّ‬

‫ل المُؤمِنِ َمثَلُ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم فى قوله‪َ (( :‬مثَ ُ‬ ‫صنَ ْوبَر‪ .‬ذكره النب ّ‬ ‫أَ ْرزٌ بفتح الهمزة وسكون الراء ‪ :‬وهو ال ّ‬
‫ل قائمةً على‬ ‫ق َمثَلُ الَ ْرزَ ِة ل تَزَا ُ‬
‫ل ال ُمنَافِ ِ‬
‫الخامَةِ من الزرع‪ ،‬تُفيئُها الرّياحُ‪ ،‬تُقي ُمهَا َمرّةً‪ ،‬وتُميُلهَا أُخْرى‪ ،‬و َمثَ ُ‬
‫جعَافُها مَرّ ًة واحدةً))‪.‬‬‫ن انْ ِ‬
‫أصْلِها حتى يكو َ‬

‫حبّه حار رطب‪ ،‬وفيه إنضاجٌ وتليين‪ ،‬وتحليل‪ ،‬ولذعٌ يَذهب بنقعه فى الماء‪ ،‬وهو عَسِرُ الهضم‪ ،‬وفيه تغذيةٌ‬ ‫وَ َ‬
‫ب الرّمان المُزّ‪.‬‬
‫كثيرةٌ‪ ،‬وهو جيدٌ للسّعال‪ ،‬ولتنقيةِ رطوبات الرّئة‪ ،‬ويَزِيدُ فى ال َمنِىّ‪ ،‬ويُوِلدُ مغصاً‪ ،‬وتِ ْريَاقُه حَ ّ‬

‫إذْخِرٌ‪ :‬ثبت فى ((الصحيح))‪ ،‬عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال فى مكةَ‪(( :‬ل يُختَلَى خَلَها))‪ ،‬قال له العباس‬
‫رضى ال عنه‪ :‬إل الذْخِرَ يا رسولَ الِ؛ فإنه لِ َق ْينِهم ولبيوتِهِم‪ ،‬فقال‪(( :‬إل الذْخِرَ))‪.‬‬

‫طمْث‪ ،‬ويُ َفتّ ُ‬


‫ت‬ ‫س فى الُولى‪ ،‬لطيف مفتح للسّددِ‪ ،‬وأفواه العروقُ‪ ،‬يُدرّ البَوْل وال ّ‬ ‫والذْخِرُ حا ٌر فى الثانية‪ ،‬ياب ٌ‬
‫الحصى‪ ،‬ويُحلّل الورام الصلبة فى ال َم ِعدَة وال َكبِد والكُ ْليَتين شرباً وضِماداً‪ ،‬وأصلُه يُقوّى عمودَ السنان وال َم ِعدَة‪،‬‬
‫ويسكن الغَثَيان‪ ،‬و َي ْعقِلُ البطن‪.‬‬

‫حرف الباء‬
‫سرُ‬
‫بِطّيخٌ‪ :‬روى أبو داود والترمذىّ‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه كان يأكل البِطيخَ بالرّطَبِ‪ ،‬يقول‪َ (( :‬نكْ ِ‬
‫حَ ّر َهذَا ببَ ْردِ هذا‪ ،‬و َب ْردَ هَذا بِحَ ّر هذا))‪.‬‬

‫ح منها شىء غي ُر هذا الحديث الواحد‪ ،‬والمرادُ به الخضر‪ ،‬وهو باردٌ رطب‪،‬‬ ‫وفى البِطّيخ عد ُة أحاديث ل يَصِ ّ‬
‫وفيه جِلءٌ‪ ،‬وهو أسرعُ انحدارًا عن ال َمعِدَة من ال ِقثّاء والخيار‪ ،‬وهو سري ُع الستحالة إلى أى خلط كان صادفه‬
‫فى ال َم ِعدَة‪ ،‬وإذا كان آكَلُ ُه مَحْرُورًا انتفع به جداً‪ ،‬وإن كان َمبْروداً دفع ضررُه بيسير من ال ّزنْجَبيل ونحوه‪،‬‬
‫غثّى وقيّأَ‪ .‬وقال بعض الطباء‪ :‬إنه قبل الطعام يَغسلُ البطن غسلً‪،‬‬ ‫وينبغى أكلُه قبل الطعام‪ ،‬و ُيتْبَعُ به‪ ،‬وإلّ َ‬
‫ويُذهب بالداء أصلً‪.‬‬

‫بَلَحٌ‪ :‬روى النسائى وابن ماجه فى ((سننهما))‪ :‬من حديث هشام ابن عروةَ‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن عائشةَ رضى ال عنها‬
‫ل البَلَحَ‬
‫ن إذا نظرَ إلى ابنِ آد َم يأكُ ُ‬
‫ح بال ّتمْرِ‪ ،‬فإنّ الشيطا َ‬
‫قالت‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ (( :‬كُلُوا البل َ‬
‫ث بال َعتِيق ))‪.‬‬
‫ل الحَدي َ‬
‫ى ابنُ آدمَ حتى أكَ َ‬
‫بالتمْرِ يقولُ‪َ :‬بقِ َ‬

‫ش ابنُ آدمَ حتى أكل الجَديدَ‬


‫شيْطانَ يحزَنُ إذا رأى ابنَ آد َم يأكُلُهُ يقولُ‪ :‬عا َ‬
‫وفى رواية‪(( :‬كُلُوا البَلَحَ بالتّمَرِ‪ ،‬فإنّ ال ّ‬
‫خلَقِ)) رواه البزار فى ((مسنده))‪ ،‬وهذا لفظه‪.‬‬ ‫بال َ‬

‫قلت‪ :‬الباءُ فى الحديث بمعنى (( مع ))؛ أى‪ :‬كُلُوا هذا معَ هذا‪ .‬قال بعض أطباء السلم‪ :‬إنّما أمر النبىّ صلى ال‬
‫عليه وسلم بأكل البلح بالتمر‪ ،‬ولم يأمُرْ بأكل البُسْر مع التمر‪ ،‬لن البلحَ بارد يابس‪ ،‬والتمرَ حار رطب‪ ،‬ففى كُلّ‬
‫ن كُلّ واحد منهما حارٌ‪ ،‬وإن كانت حرارةُ التمر أكثر‪ ،‬ول‬ ‫منهما إصلحٌ للخر‪ ،‬وليس كذلك البُسْر مع ال ّتمْرِ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ينبغى من جهة الطّبّ الجم ُع بين حارّين أو باردَين‪ ،‬كما تقدّم‪.‬‬

‫وفى هذا الحديث‪ :‬التنبيهُ على صحةِ أصل صناعة الطب‪ ،‬ومراعا ِة التدبير الذى يصلُح فى دفع كيفيات الغذية‬
‫والدوية بعضِها ببعض‪ ،‬ومراعا ِة القانون الطبى الذى تُحفظ به الصحة‪.‬‬

‫وفى البلح برودةٌ ويبوسةٌ‪ ،‬وهو ينفع الفمَ والّلثَة وال َم ِعدَة‪ ،‬وهو ردىءٌ للصدر والرّئة بالخشونة التى فيه‪ ،‬بطى ٌء‬
‫صرِم لشجرة العنب‪ ،‬وهما جميعاً يُولّدان رياحاً‪ ،‬و َقرَاقِرَ‪ ،‬ونفخاً‪ ،‬ول‬ ‫فى ال َم ِعدَة يسي ُر التغذية‪ ،‬وهو للنخلة كالحِ ْ‬
‫سيّما إذا شُرب عليهما الماء‪ ،‬ودفعُ مضرتهما بال ّتمْر‪ ،‬أو بالعسل والزّبد‪.‬‬ ‫ِ‬

‫ن أبا الهيثم بن ال ّتيْهان‪ ،‬لما ضافه النبىّ صلى ال عليه وسلم وأبو بكر وعمر‬ ‫بُسْرٌ‪ :‬ثبت فى ((الصحيح))‪ :‬أ ّ‬
‫ت لنا من رُطَبهِ)) فقال‪:‬‬
‫ق وهو من النخلة كال ُعنُقودِ من العنب فقال له‪(( :‬هلّ انت َقيْ َ‬ ‫رضى ال عنهما‪ ،‬جاءهم بِعذْ ٍ‬
‫طبِهِ‪.‬‬
‫سرِهِ ورُ َ‬
‫ت أنْ َت ْنتَقُوا من بُ ْ‬
‫أحبب ُ‬

‫البُسْر‪ :‬حار يابس‪ ،‬ويُبسه أكثرُ من حرّه‪ ،‬يُنشّفُ الرطوبةَ‪ ،‬و َيدْبَ ُغ المعدة‪ ،‬وَيحبِسُ البطن‪ ،‬وينفع اللّثة والفم‪،‬‬
‫وأنفعه ما كان هشّاً وحُلواً‪ ،‬وكثر ُة أكله وأكل البَلح يُحدث السّدد فى الحشاء‪.‬‬

‫ن نبياً من النبياء شكى إلى ال سبحانه الضعفَ‪ ،‬فأمره‬


‫ب اليمان)) أثراً مرفوعاً‪ :‬أ ّ‬
‫شعَ ِ‬
‫َبيْضٌ‪ :‬ذكر البيهقى فى (( ُ‬
‫بأكل البيض‪ .‬وفى ثبوته نظرٌ‪.‬‬

‫ض الدّجاج على سائر بيض الطير‪ ،‬وهو معتدل يميل إلى البرودة‬
‫ث على العتيق‪ ،‬وبي ُ‬
‫يُختار من البيض الحدي ُ‬
‫قليلً‪.‬‬

‫قال صاحب ((القانون))‪ :‬ومُحّهُ‪ :‬حار رطب‪ ،‬يُولّد دماً صحيحًا محموداً‪ ،‬ويُغذى غذاءً يسيراً‪ ،‬ويُسرعُ النحدارَ‬
‫من المعدة إذا كان رِخواً‪.‬‬

‫وقال غيره‪ :‬مُحّ البيض‪ :‬مسكن لللم‪ ،‬مملسٌ للحلق وقصبة الرئة‪ ،‬نافع للحلق والسّعال وقُروح الرئة والكُلَى‬
‫خذَ بدُهن اللّوز الحلو‪ ،‬ومنضجٌ لما فى الصدر‪ ،‬ملين له‪ ،‬مسهل لخشونة‬ ‫سيّما إذا أُ ِ‬
‫والمثانة‪ ،‬مذهِبٌ للخشونة‪ ،‬ل ِ‬
‫ق النار أو ما‬ ‫الحلق‪ ،‬وبياضه إذا قُطِ َر فى العين الوارمة ورماً حاراً‪ ،‬برّده‪ ،‬وسكّن الوجع‪ ،‬وإذا لُطخ به حر ُ‬
‫ط بال ُكنْدُر‪ ،‬ولُطخ‬
‫خلِ َ‬
‫يعرض له‪ ،‬لم يدَعه يتنفّط‪ ،‬وإذا لُطخ به الوجع‪ ،‬منع الحتراق العارض من الشمس‪ ،‬وإذا ُ‬
‫على الجبهة‪ ،‬نفع من النزلة‪.‬‬
‫وذكره صاحب ((القانون)) فى الدوية القلبية‪ ،‬ثم قال‪ :‬وهو وإن لم يكن من الدوية المطلقة فإنه مما له مدخل‬
‫فى تقوية القلب جداً‪ ،‬أعنى الصفرةَ‪ ،‬وهى تجمع ثلثة معان‪ :‬سرعة الستحالة إلى الدم‪ ،‬وقِلّة الفضلة‪ ،‬وكون الدم‬
‫المتولّد منه مجانسًا للدم الذى يغذو القلبَ خفيفًا مندفعًا إليه بسرعة‪ ،‬ولذلك هو أوفقُ ما يُتلفى به عاديةُ المراض‬
‫المحلّلة لجوهر الروح‪.‬‬

‫سئَِلتْ عن البصل‪ ،‬فقالت‪(( :‬إنّ آخ َر طعام‬


‫بَصَلٌ‪ :‬روى أبو داو َد فى ((سننه))‪ :‬عن عائشةَ رضى ال عنها‪ ،‬أنها ُ‬
‫أكلَهُ رسولُ ال صلى ال عليه وسلم كان فيه بَصَلٌ))‪.‬‬

‫جدِ))‪.‬‬
‫وثبت عنه فى ((الصحيحين))‪(( :‬أنه منع آكِلَه من دُخُولِ المَسْ ِ‬

‫والبصل‪ :‬حار فى الثالثة‪ ،‬وفيه رطوبة فَضليّة ينفعُ من تغير المياه‪ ،‬ويدف ُع ريحَ السموم‪ ،‬ويفتّق الشهوة‪ ،‬ويقوّى‬
‫ال َم ِعدَة‪ ،‬و ُيهَيج الباه‪ ،‬ويزيد فى ال َمنِىّ‪ ،‬ويُحسّن اللّون‪ ،‬ويقطع البلغم‪ ،‬ويجلُو ال َمعِدَة‪ ،‬وبِزره يُذهب ال َبهَق‪ ،‬ويدلّك به‬
‫شمّهُ مَن شَرِب دوا ًء مسهلً منعه من القىء والغثيان‬ ‫حول داء الثعلب‪ ،‬فينفع جداً‪ ،‬وهو بالملح يقلع الثآلِيل‪ ،‬وإذا َ‬
‫ط بمائه‪ ،‬نَقّى الرأس‪ ،‬ويُقطّر فى الُذن لثقَل السمع والطّنين والقيح‪ ،‬والماء‬ ‫وأذهب رائحة ذلك الدواء‪ ،‬وإذا اس ُتعِ َ‬
‫الحادث فى الُذنين‪ ،‬وينفع فى الماء النازل فى العينين اكتحالً يُكتَحَل ببزره مع العسل لبياض العين‪ ،‬والمطبوخ‬
‫منه كثي ُر الغذاء ينفع مِن اليَرَقانِ والسّعال‪ ،‬وخشونةِ الصدر‪ ،‬و ُيدِرّ البَوْل‪ ،‬ويلين الطبع‪ ،‬وينفع مِن عضة الكلب‬
‫سذَاب‪ ،‬وإذا احتُمل‪ ،‬فتح أفواهَ البواسير‪.‬‬ ‫ل عليها ماؤه بملح و َ‬ ‫غير الكَلِب إذا نُطِ َ‬

‫وأما ضررُه‪ :‬فإنه يورث الشّقِيقة‪ ،‬ويُصدّع الرأس‪ ،‬ويُولّد أرياحاً‪ ،‬ويُظلم البصر‪ ،‬وكثر ُة أكله تُورث النسيان‪،‬‬
‫ويُفسد العقل‪ ،‬ويُغيّر رائحةَ الفم وال ّنكْهة‪ ،‬ويُؤذى الجليسَ‪ ،‬والملئكة‪ ،‬وإماتتُه طبخاً تُذهب بهذه المضرّاتِ منه‪.‬‬

‫ل الثّومِ أن يُمي َتهُما طبخاً))‪.‬‬


‫وفى السنن‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم (( أ َمرَ آكِلَه وآكِ َ‬

‫سذَاب عليه‪.‬‬
‫ويُذهب رائحته مض ُغ ورق ال ّ‬

‫با ِذنْجان‪ :‬فى الحديث الموضوع المختلَق على رسـول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫ل عن النبياء‪ ،‬وبعد‪ ..‬فهو‬ ‫ل له))‪ ،‬وهذا الكلم مما يُستقبح نسبته إلى آحاد العقلء‪ ،‬فض ً‬‫((الباذِنجانُ لما ُأكِ َ‬
‫نوعان‪ :‬أبيضُ وأسودُ‪ ،‬وفيه خلف‪ ،‬هل هو بارد أو حار ؟ والصحيحُ‪ :‬أنه حار‪ ،‬وهو مُوَلّد للسوداء والبواسير‪،‬‬
‫والسّدد والسرطان والجُذام‪ ،‬ويُفسد اللّون ويُسوّده‪ ،‬ويُضر بنتن الفم‪ ،‬والبيضُ منه المستطيل عا ٍر من ذلك‪.‬‬

‫حرف التاء‬

‫سبْعِ َتمَراتٍ)) وفى لفظٍ‪ (( :‬مِن َتمْر العَاليةلم‬


‫صبّحَ بِ َ‬
‫َتمْرٌ‪ :‬ثبت فى ((الصحيح)) عنه صلى ال عليه وسلم‪(( :‬مَن تَ َ‬
‫يَضُرّه ذلك اليَ ْومَ سُ ٌم ول سِحْرٌ))‪.‬‬

‫ع أهْلُهُ))‪.‬‬
‫جيَا ٌ‬
‫وثبت عَنه أنه قال‪(( :‬بيتٌ ل َتمْرَ فيه ِ‬

‫وثبتَ عنه أنه أكل التّمرَ بالزّبدِ‪ ،‬وأكل ال َتمْرَ بالخبز‪ ،‬وأكله مفرداً‪.‬‬

‫وهو حار فى الثانية‪ ،‬وهل هو رَطب فى الُولى‪ ،‬أو يابس فيها ؟‪ .‬على قولين‪ .‬وهو مق ّو للكبد‪ ،‬مُليّن للطبع‪ ،‬يزيد‬
‫صنَوْبر‪ ،‬ويُبرىء من خشونة الحلق‪ ،‬ومَن لم يعتدْه كأهل البلد الباردة فإنهُ يُورث‬ ‫حبّ ال ّ‬
‫سيّما مع َ‬
‫فى الباه‪ ،‬ول ِ‬
‫خشْخاش‪ ،‬وهو من أكثر الثمار تغذيةً للبدن‬ ‫لهم السّدد‪ ،‬ويُؤذى السنان‪ ،‬ويهيج الصّداع‪ .‬ودفعُ ضرره باللّوز وال َ‬
‫بما فيه من الجوهر الحار الرطب‪ ،‬وأكلُه على الريق يقتُل الدود‪ ،‬فإنه مع حرارته فيه قو ٌة تِرْياقيّة‪ ،‬فإذا ُأدِيمَ‬
‫استعمالُه على الريق‪ ،‬خفّف مادة الدود‪ ،‬وأضعفه وقلّله‪ ،‬أو قتله‪ ،‬وهو فاكهة وغذاء‪ ،‬ودواء وشراب وحَلوى‪.‬‬

‫ن أرضَه تُنافى أرضَ النخل‪ ،‬ولكن‬


‫ت له ذكرٌ فى السّـنّة‪ ،‬فإ ّ‬ ‫تِينٌ‪ :‬لما لم يكن التينُ بأرض الحجاز والمدينة‪ ،‬لم يأ ِ‬
‫ن المُ ْقسَ َم به‪ :‬هو التينُ المعروف‪.‬‬
‫قد أقسم ال به فى كتابه‪ ،‬لكثرة منافعه وفوا ِئدِهِ‪ ،‬والصحيح‪ :‬أ ّ‬
‫وهو حارٌ‪ ،‬وفى رطوبته ويبوسته قولن‪ ،‬وأجوده‪ :‬البيض الناضج القشر‪ ،‬يجلُو رملَ الكّلَى والمثانة‪ ،‬ويُؤمّن من‬
‫ل ال َكبِدَ والطّحَال‪،‬‬‫غذَى من جميع الفواكه وينفع خشونَةَ الحلق والصدر‪ ،‬وقصبة الرئة‪ ،‬ويغسِ ُ‬ ‫السّموم‪ ،‬وهو أ ْ‬
‫ط البلغمىّ من ال َم ِعدَة‪ ،‬ويَغذُو البدن غِذاءً جيداً‪ ،‬إل أنه يُوّلدُ القملَ إذا أُكثر منه جداً‪.‬‬
‫ويُنقّى الخَلْ َ‬

‫ويابسُه يغذىوينفـ ُع العصب‪ ،‬وهو مع الجَـوْز واللّوز محمـودٌ‪ .‬قال‬

‫ظ من الضرر))‬
‫حفِ َ‬
‫سذَاب قبْلَ أخذِ السّمّ القاتل‪ ،‬نفع‪ ،‬و َ‬
‫((جالينوسُ))‪(( :‬وإذا أُكل مع الجَوْز وال ّ‬

‫ويُذكر عن أبى الدّرْداء‪ :‬أُ ْهدِى إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم طبقٌ من تينٍ‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫عجَمٍ‪ ،‬فكُلُوا منها‬


‫ت هذه‪ ،‬لنّ فاكهة الجنّةِ بل َ‬
‫ن فاكهةً نزلتْ من الجنّة قل ُ‬
‫((كُلُوا))‪ ،‬وأكل منه‪ ،‬وقال‪ (( :‬لو قُ ْلتُ‪ :‬إ ّ‬
‫فإنها تَقْطَ ُع البَوَاسير‪ ،‬وتنف ُع من الن ْقرِس))‪ .‬وفى ثبوت هذا نظرٌ‪.‬‬

‫سعَال المُزْمن‪ ،‬و ُيدِرّ‬


‫واللّح ُم منه أجودُ‪ ،‬و ُيعَطّش المحرورين‪ ،‬ويسكن العطش الكائن عن البلغم المالح‪ ،‬وينف ُع ال ّ‬
‫البَوْل‪ ،‬ويفتحُ س َددَ الكبد والطّحَال‪ ،‬ويُوافق الكُلَى والمثانة‪ ،‬ولكلِه على الريق منفعة عجيبة فى تفتيح مجارى‬
‫ب منه‪ ،‬لكنه أقلّ‬ ‫الغذاء‪ ،‬وخصوصاً باللّوز والجَوْز‪ ،‬وأكلُه مع الغذية الغليظة ردى ٌء جداً‪ ،‬والتّوت البيض قري ٌ‬
‫تغذيةً وأض ّر بال َم ِعدَة‪.‬‬

‫شعِير الصحيح‪.‬‬
‫تَلبينةٌ‪ :‬قد تقدّم أنها ما ُء الشّعير المطحون‪ ،‬وذكرنا منافعها‪ ،‬وأنها أنف ُع لهل الحجاز من ماء ال ّ‬

‫حرف الثاء‬

‫ى بالماءِ والثّلْجِ‬
‫ثَلْجٌ‪ :‬ثبت فى ((الصحيح)) عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬الّلهُمّ اغْسِلْنى مِنْ خطايا َ‬
‫والبَ َردِ))‪.‬‬

‫ن الداء يُداوَى بضده‪ ،‬فإنّ فى الخطايا من الحرارة والحريق ما يُضاده الثلجُ والبَ َردُ‪،‬‬‫وفى هذا الحديث من الفقه‪ :‬أ ّ‬
‫ن فى الماء البارد من تصليب الجسم وتقويته ما‬ ‫والماءُ البارد‪ ،‬ول يقال‪ :‬إنّ الماء الحار أبلغُ فى إزالة الوسخ‪ ،‬ل ّ‬
‫ب مداواتها بما ينظّفُ القلب و ُيصّْلبُهُ‪ ،‬فذكر‬
‫ليس فى الحار‪ ،‬والخطايا تُوجب أثرين‪ :‬التدنيس والرخاء‪ ،‬فالمطلو ُ‬
‫الماء البارد والثلج والبَرَد إشارةٌ إلى هذين المرين‪.‬‬

‫غلِطَ مَن قال‪ :‬حارٌ‪ ،‬وشُبهته تَولّد الحيوان فيه‪ ،‬وهذا ل يدل على حرارته‪ ،‬فإنه‬‫وبعد‪ ..‬فالثلجُ بارد على الصح‪ ،‬و َ‬
‫يتولّد فى الفواكه الباردة‪ ،‬وفى الخَلّ‪ ،‬وأما تعطيشه‪ ،‬فلتهييجه الحرارةَ ل لحرارتِه فى نفسه‪ ،‬ويض ّر ال َمعِدَة‬
‫سكّنها‪.‬‬
‫ن من حرارة مفرطة‪َ ،‬‬ ‫والعصب‪ ،‬وإذا كان وجعُ السنا ِ‬

‫طبْخاً))‪ .‬وأُهدى إليه طعا ٌم فيه ثومٌ‪ ،‬فأرسل به‬‫ثُومٌ‪ :‬هو قريب من البصل‪ ،‬وفى الحديث‪(( :‬مَن أكََلهُما ف ْليُ ِم ْت ُهمَا َ‬
‫ى أُناجى مَنْ ل ُتنَاجِى))‬
‫ل به إلىّ ؟ فقال‪(( :‬إن ّ‬
‫إلى أبى أيوب النصارىّ‪ ،‬فقال‪ :‬يارسولَ ال؛ َتكْرهه وتُ ْرسِ ُ‬

‫وبعد فهو حار يابس في الرابعة‪ ،‬يسخن تسخنياً قوياً‪ ،‬ويجفف تجفيفاً بالغاً‪ ،‬نافع للمبرودين‪ ،‬ولمن مزاجه بلغمي‪،‬‬
‫ولمن أشرف على الوقوع في الفالج‪ ،‬وهو مجفف للمني‪ ،‬مفتح للسدد‪ ،‬محلل للرياح الغليظة‪ ،‬هاضم للطعام‪،‬‬
‫قاطع للعطش‪ ،‬مطلق للبطن‪ ،‬مدر للبول‪ ،‬يقوم في لسع الهوام وجميع الورام الباردة مقام الترياق‪ ،‬وإذا دق‬
‫وعمل منه ضماد على نهش الحيات‪ ،‬أو على لسع العقارب‪ ،‬نفعها وجذب السموم منها‪ ،‬ويسخن البدن‪ ،‬ويزيد في‬
‫حرارته‪ ،‬ويقطع البلغم‪ ،‬ويحلل النفخ‪ ،‬ويصفي الحلق‪ ،‬ويحفظ صحة أكثر البدان‪ ،‬وينفع من تغير المياه‪،‬‬
‫والسعال المزمن‪ ،‬ويؤكل نيئًا ومطبوخاً ومشوياً‪ ،‬وينفع من وجع الصدر من البرد‪ ،‬ويخرج العلق من الحلق وإذا‬
‫دق مع الخل والملح والعسل‪ ،‬ثم وضع على الضرس المتأكل‪ ،‬فتته وأسقطه‪ ،‬وعلى الضرس الوجع‪ ،‬سكن‬
‫وجعه‪ .‬وإن دق منه مقدار درهمين‪ ،‬وأخذ مع ماء العسل‪ ،‬أخرج البلغم والدود‪ ،‬وإذا طلي بالعسل على البهق‪،‬‬
‫نفع‪.‬‬

‫ومن مضاره‪ :‬أنه يصدع‪ ،‬ويضر الدماغ والعينين‪ ،‬ويضعف البصر والباه‪ ،‬ويعطش‪ ،‬ويهيج الصفراء‪ ،‬ويجيف‬
‫رائحة الفم‪ ،‬ويذهب رائحته أن يمضغ عليه ورق السذاب‪.‬‬
‫ثريد‪ :‬ثبت في ((الصحيحين)) عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على‬
‫سائر الطعام))‪.‬‬

‫والثريد وإن كان مركباً‪ ،‬فإنه مركب من خبز ولحم‪ ،‬فالخبز أفضل القوات‪ ،‬واللحم سيد الدام‪ ،‬فإذا اجتمعا لم‬
‫يكن بعدهما غاية‪.‬‬

‫وتنازع الناس أيهما أفضل ؟ والصواب أن الحاجة إلى الخبز أكثر وأعم‪ ،‬واللحم أجل وأفضل‪ ،‬وهو أشبه بجوهر‬
‫البدن من كل ما عداه‪ ،‬وهو طعام أهل الجنة‪ ،‬وقد قال تعالى لمن طلب البقل‪ :‬والقثاء‪ ،‬والفوم‪ ،‬والعدس‪ ،‬والبصل‪:‬‬
‫{أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} [البقرة‪ ،]62 :‬وكثير من السلف على أن الفوم الحنطة‪ ،‬وعلى هذا‬
‫فالية نص على أن اللحم خير من الحنطة‪.‬‬

‫حرف الجيم‬

‫جمار‪ :‬قلب النخل‪ ،‬ثبت في ((الصحيحين))‪ :‬عن عبد ال بن عمر قال‪ :‬بينا نحن عند رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم جلوس‪ ،‬إذ أتي بجمار نخلة‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إن من الشجر شجرة مثل الرجل المسلم ل‬
‫يسقط ورقها‪ ..‬الحديث))‪ .‬والجمار‪ :‬بارد يابس في الولى‪ ،‬يختم القروح‪ ،‬وينفع من نفث الدم‪ ،‬واستطلق البطن‪،‬‬
‫وغلبه المرة الصفراء‪ ،‬وثائرة الدم‪ ،‬وليس برديء الكيموس‪ ،‬ويغذو غذاء يسيراً‪ ،‬وهو بطيء الهضم‪ ،‬وشجرته‬
‫كلها منافع‪ ،‬ولهذا مثلها النبي صلى ال عليه وسلم بالرجل المسلم لكثرة خيره ومنافعه‪.‬‬

‫جبن‪ :‬في ((السنن)) عن عبد ال بن عمر قال‪(( :‬أتي النبي صلى ال عليه وسلم بجبنة في تبوك‪ ،‬فدعا بسكين‪،‬‬
‫وسمى وقطع)) رواه أبو داود‪ ،‬وأكله الصحابة رضي ال عنهم بالشام‪ ،‬والعراق‪ ،‬والرطب منه غير المملوح جيد‬
‫للمعدة‪ ،‬هين السلوك في العضاء‪ ،‬يزيد في اللحم‪ ،‬ويلين البطن تليينًا معتدلً‪ ،‬والمملوح أقل غذاء من الرطب‪،‬‬
‫وهو رديء للمعدة‪ ،‬مؤذ للمعاء‪ ،‬والعتيق يعقل البطن‪ ،‬وكذا المشوي‪ ،‬وينفع القروح ويمنع السهال‪ .‬وهو بارد‬
‫رطب‪ ،‬فإن استعمل مشوياً‪ ،‬كان أصلح لمزاجه‪ ،‬فإن النار تصلحه وتعدله‪ ،‬وتلطف جوهره‪ ،‬وتطيب طعمه‬
‫ورائحته‪ .‬والعتيق المالح‪ ،‬حار يابس‪ ،‬وشيه يصلحه أيضاً بتلطيف جوهره‪ ،‬وكسر حرافته لما تجذبه النار منه‬
‫من الجزاء الحارة اليابسة المناسبة لها‪ ،‬والمملح منه يهزل‪ ،‬ويولد حصاة الكلى والمثانة‪ ،‬وهو رديء للمعدة‪،‬‬
‫وخلطة بالملطفات أردأ بسبب تنفيذها له إلى المعدة‪.‬‬

‫حرف الحاء‬

‫حناء‪ :‬قد تقدمت الحاديث في فضله‪ ،‬وذكر منافعه‪ ،‬فأغنى عن إعادته‪.‬‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫@حبة السوداء‪ :‬ثبت في ((الصحيحين))‪ :‬من حديث أبي سلمة‪ ،‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ ،‬أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬عليكم بهذة الحبة السوداء‪ ،‬فإن فيها شفاء من كل داء إل السام))‪ .‬السام‪ :‬الموت‪.‬‬

‫الحبة السوادء‪ :‬هي الشونيز في لغة الفرس‪ ،‬وهي الكمون السود‪ ،‬وتسمى الكمون الهندي‪ ،‬قال الحربي‪ ،‬عن‬
‫الحسن‪ :‬إنها الخردل‪ ،‬وحكى الهروي‪ :‬أنها الحبة الخضراء ثمرة البطم‪ ،‬وكلهما وهم‪ ،‬والصواب‪ :‬أنها الشونيز‪.‬‬

‫وهي كثيرة المنافع جداً‪ ،‬وقوله‪(( :‬شفاء من كل داء))‪ ،‬مثل قوله تعالى‪{ :‬تدمر كل شيء بأمر ربها} [الحقاف‪:‬‬
‫‪ ]25‬أي‪ :‬كل شيء يقبل التدمير ونظائره‪ ،‬وهي نافعة من جميع المراض الباردة‪ ،‬وتدخل في المراض الحارة‬
‫اليابسة بالعرض‪ ،‬فتوصل قوى الدوية الباردة الرطبة إليها بسرعة تنفيذها إذا أخذ يسيرها‪.‬‬

‫وقد نص صاحب ((القانون)) وغيره‪ ،‬على الزعفران في قرص الكافور لسرعة تنفيذه وإيصاله قوته‪ ،‬وله نظائر‬
‫يعرفها حذاق الصناعة‪ ،‬ول تستبعد منفعة الحار في أمراض حارة بالخاصية‪ ،‬فإنك تجد ذلك في أدوية كثيرة‪،‬‬
‫منها‪ :‬النزروت وما يركب معه من أدوية الرمد‪ ،‬كالسكر وغيره من المفردات الحارة‪ ،‬والرمد ورم حار باتفاق‬
‫الطباء‪ ،‬وكذلك نفع الكبريت الحار جدًا من الجرب‪.‬‬
‫والشونيز حار يابس في الثالثة‪ ،‬مذهب للنفخ‪ ،‬مخرج لحب القرع‪ ،‬نافع من البرص وحمى الربع‪ ،‬والبلغمية مفتح‬
‫للسدد‪ ،‬ومحلل للرياح‪ ،‬مجفف لبلة المعدة ورطوبتها‪ .‬وان دق وعجن بالعسل‪ ،‬وشرب بالماء الحار‪ ،‬أذاب‬
‫الحصاة التي تكون في الكليتين والمثانة‪ ،‬ويدر البول والحيض واللبن إذا أديم شربه أياماً‪ ،‬وإن سخن بالخل‪،‬‬
‫وطلي على البطن‪ ،‬قتل حب القرع‪ ،‬فإن عجن بماء الحنظل الرطب‪ ،‬أو المطبوخ‪ ،‬كان فعله في إخراج الدود‬
‫أقوى‪ ،‬ويجلو ويقطع‪ ،‬ويحلل‪ ،‬ويشفي من الزكام البارد إذا دق وصير في خرقة‪ ،‬واشتم دائماً‪ ،‬أذهبه‪.‬‬

‫ودهنه نافع لداء الحية‪ ،‬ومن الثآليل والخيلن‪ ،‬وإذا شرب منه ثقال بماء‪ ،‬نفع من البهر وضيق النفس‪ ،‬والضماد‬
‫به ينفع من الصداع البارد‪ ،‬وإذا نقع منه سبع حبات عدداً في لبن امرأة‪ ،‬وسعط به صاحب اليرقان‪ ،‬نفعه نفعاً‬
‫بليغاً‪.‬‬

‫وإذا طبخ بخل‪ ،‬وتمضمض به‪ ،‬نفع من وجع السنان عن برد‪ ،‬وإذا استعط به مسحوقاً‪ ،‬نفع من ابتداء الماء‬
‫العارض في العين‪ ،‬وإن ضمد به مع الخل‪ ،‬قلع البثور والجرب المتقرح‪ ،‬وحلل الورام البلغمية المزمنة‪،‬‬
‫والورام الصلبة‪ ،‬وينفع من اللقوة إذا تسعط بدهنه‪ ،‬وإذا شرب منه مقدار نصف مثقال إلى مثقال‪ ،‬نفع من لسع‬
‫الرتيلء‪ ،‬وإن سحق ناعمًا وخلط بدهن الحبة الخضراء‪ ،‬وقطر منه في الذن ثلث قطرات‪ ،‬نفع من البرد‬
‫العارض فيها والريح والسدد‪.‬‬

‫وإن قلي‪ ،‬ثم دق ناعماً‪ ،‬ثم نقع في زيت‪ ،‬وقطر في النف ثلث قطرات أو أربع‪ ،‬نفع من الزكام العارض معه‬
‫عطاس كثير‪.‬‬

‫وإذا أحرق وخلط بشمع مذاب بدهن السوسن‪ ،‬أو دهن الحناء‪ ،‬وطلي به القروح الخارجة من الساقين بعد غسلها‬
‫بالخل‪ ،‬نفعها وأزال القروح‪.‬‬

‫وإذا سحق بخل‪ ،‬وطلي به البرص والبهق السود‪ ،‬والحزاز الغليظ‪ ،‬نفعها وأبرأها‪.‬‬

‫وإذا سحق ناعماً‪ ،‬واستف منه كل يوم درهمين بماء بارد من عضه كلب كلب قبل أن يفرغ من الماء‪ ،‬نفعه نفعاً‬
‫بليغاً‪ ،‬وأمن على نفسه من الهلك‪ .‬وإذا استعط بدهنه‪ ،‬نفع من الفالج والكزاز‪ ،‬وقطع موادهما‪ ،‬وإذا دخن به‪،‬‬
‫طرد الهوام‪.‬‬

‫وإذا أذيب النزروت بماء‪ ،‬ولطخ على داخل الحلقة‪ ،‬ثم ذر عليها الشونيز‪ ،‬كان من الذرورات الجيدة العجيبة‬
‫النفع من البواسير‪ ،‬ومنافعه أضعاف ما ذكرنا‪ ،‬الشربة منه درهمان‪ ،‬وزعم قوم أن الكثار منه قاتل‪.‬‬

‫حرير‪ :‬قد تقدم أن النبي صلى ال عليه وسلم أباحه للزبير‪ ،‬ولعبد الرحمن بن عوف من حكة كانت بهما‪ ،‬وتقدم‬
‫منافعه ومزاجه‪ ،‬فل حاجة إلى إعادته‪.‬‬

‫حرف‪ :‬قال أبو حنيفة الدينوري‪ :‬هذا هو الحب الذي يتداوى به‪ ،‬وهو الثفاء الذي جاء فيه الخبر عن النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬ونباته يقال له‪ :‬الحرف‪ ،‬وتسميه العامة‪ :‬الرشاد‪ ،‬وقال أبو عبيد‪ :‬الثفاء‪ :‬هو الحرف‪.‬‬

‫قلت‪ :‬والحديث الذي أشار إليه‪ ،‬ما رواه أبو عبيد وغيره‪ ،‬من حديث ابن عباس رضي ال عنهما‪ ،‬عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬ماذا في المرين من الشفاء ؟ الصبر والثفاء)) رواه أبو داود في المراسيل‪.‬‬

‫وقوته في الحرارة واليبوسة في الدرجة الثالثة‪ ،‬وهو يسخن‪ ،‬ويلين البطن‪ ،‬ويخرج الدود وحب القرع‪ ،‬ويحلل‬
‫أورام الطحال‪ ،‬ويحرك شهوة الجماع‪ ،‬ويجلو الجرب المتقرح والقوباء‪.‬وإذا ضمد به مع العسل‪ ،‬حلل ورم‬
‫الطحال‪ ،‬وإذا طبخ مع الحناء أخرج الفضول التي في الصدر‪ ،‬وشربه ينفع من نهش الهوام ولسعها‪ ،‬وإذا دخن‬
‫به في موضع‪ ،‬طرد الهوام عنه‪ ،‬ويمسك الشعر المتساقط‪ ،‬وإذا خلط بسويق الشعير والخل‪ ،‬وتضمد به‪ ،‬نفع من‬
‫عرق النسا‪ ،‬وحلل الورام الحارة في آخرها‪.‬‬

‫وإذا تضمد به مع الماء والملح أنضج الدماميل‪ ،‬وينفع من السترخاء في جميع العضاء‪ ،‬ويزيد في الباه‪،‬‬
‫ويشهي الطعام‪ ،‬وينفع الربو‪ ،‬وعسر التنفس‪ ،‬وغلظ الطحال‪ ،‬وينقي الرئة‪ ،‬ويدر الطث‪ ،‬وينفع من عرق النّسا‪،‬‬
‫ووجع حقّ الوَرِك مما يخرج من الفضول‪ ،‬إذا شرب أو احتقن به‪ ،‬ويجلو ما في الصدر والرئة من البلغم اللزج‪.‬‬
‫وإن شرب منه بعد سحقه وزن خمسة دراهم بالماء الحار‪ ،‬أسهل الطبيعة‪ ،‬وحلل الرياح‪ ،‬ونفع من وجع القولنج‬
‫البارد السبب‪ ،‬وإذا سحق وشرب‪ ،‬نفع من البرص‪.‬‬

‫وإن لطخ عليه وعلى البهق البيض بالخل‪ ،‬نفع منهما‪ ،‬وينفع من الصداع الحادث من البرد والبلغم‪ ،‬وإن قلي‪،‬‬
‫وشرب‪ ،‬عقل الطبع ل سيما إذا لم يسحق لتحلل لزوجته بالقلي‪ ،‬وإذا غسل بمائه الرأس‪ ،‬نقاه من الوساخ‬
‫والرطوبات اللزجة‪.‬‬

‫قال جالينوس‪ :‬قوته مثل قوة بزر الخردل‪ ،‬ولذلك قد يسخن به أوجاع ال َورِك المعروفة بالنّسا‪ ،‬وأوجاع الرأس‪،‬‬
‫وكل واحد من العلل التي تحتاج إلى تسخين‪ ،‬كما يسخن بزر الخردل‪ ،‬وقد يخلط أيضًا في أدوية يسقاها أصحاب‬
‫الربو من طريق أن المر فيه معلوم أنه يقطع الخلط الغليظة تقطيعاً قوياً‪ ،‬كما يقطعها بزر الخردل‪ ،‬لنه شبيه‬
‫به في كل شيء‪.‬‬

‫حلبة‪ :‬يذكر عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي ال عنه بمكة‪ ،‬فقال‪ :‬ادعوا لي‬
‫طبيباً‪ ،‬فدعي الحارث بن كلدة‪ ،‬فنظر إليه فقال‪ :‬ليس عليه بأس‪ ،‬فاتخذوا له فريقة‪ ،‬وهي الحلبة مع تمر عجوة‬
‫رطب يطبخان‪ ،‬فيحساهما‪ ،‬ففعل ذلك‪ ،‬فبرئ وقوة الحلبة من الحرارة في الدرجة الثانية‪ ،‬ومن اليبوسة في‬
‫الولى‪ ،‬وإذا طبخت بالماء‪ ،‬لينت الحلق والصدر والبطن‪ ،‬وتسكن السعال والخشونة والربو‪ ،‬وعسر النفس‪،‬‬
‫وتزيد في الباه‪ ،‬وهي جيدة للريح والبلغم والبواسير‪ ،‬محدرة الكيموسات المرت ِبكَة في المعاء‪ ،‬وتحلل البلغم‬
‫اللزج من الصدر‪ ،‬وتنفع من الدبيلت وأمراض الرئة‪ ،‬وتستعمل لهذا الدواء في الحشاء مع السمن والفانيذ‪.‬‬

‫وإذا شربت مع وزن خمسة دراهم فُوةٍ‪ ،‬أدرت الحيض‪ ،‬وإذا طبخت‪ ،‬وغسل بها الشعر جعدته‪ ،‬وأذهبت‬
‫الحزاز‪.‬ودقيقها إذا خلط بالنطرون والخل‪ ،‬وضمد به‪ ،‬حلل ورم الطحال‪ ،‬وقد تجلس المرأة في الماء الذي‬
‫طبخت فيه الحلبة‪ ،‬فتنتفع به من وجع الرحم العارض من ورم فيه‪ .‬وإذا ضمد به الورام الصلبة القليلة الحرارة‪،‬‬
‫نفعتها وحللتها‪ ،‬وإذا شرب ماؤها‪ ،‬نفع من المغص العارض من الرياح‪ ،‬وأزلق المعاء‪.‬‬

‫وإذا أكلت مطبوخة بالتمر‪ ،‬أو العسل‪ ،‬أو التين على الريق‪ ،‬حللت البلغم اللزج العارض في الصدر والمعدة‪،‬‬
‫ونفعت من السعال المتطاول منه‪.‬‬

‫وهي نافعة من الحصر‪ ،‬مطلقة للبطن‪ ،‬وإذا وضعت على الظفر المتشنج أصلحته‪ ،‬ودهنها ينفع إذا خلط بالشمع‬
‫من الشقاق العارض من البرد‪ ،‬ومنافعها أضعاف ما ذكرنا‪.‬‬

‫ويذكر عن القاسم بن عبد الرحمن‪ ،‬أنه قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬استشفوا بالحلبة)) وقال‬
‫بعض الطباء‪ :‬لو علم الناس منافعها‪ ،‬لشتروها بوزنها ذهباً‪.‬‬

‫حرف الخاء‬

‫خبْ َزةً واحدةً‬


‫ض يَوْمَ ال ِقيَامَةِ ُ‬
‫ن الَر ُ‬
‫خبْزٌ‪ :‬ثبت فى ((الصحيحين))‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه قال‪(( :‬تكو ُ‬ ‫ُ‬
‫خبْ َزتَه فى السّفَر نُ ُزلً لهل الجنّةِ))‪.‬‬
‫ح ُدكُم ُ‬
‫َيتَكَفّؤُها الجبّا ُر بيده كما َيكْفُ ُؤ أَ َ‬

‫ب الطعا ِم إلى رسولِ ال‬


‫وروى أبو داود فى ((سننه))‪ :‬من حديث ابن عباس رضى ال عنهما‪ ،‬قال‪(( :‬كان أح ّ‬
‫حيْس‪.‬‬
‫صلى ال عليه وسلم الثري ُد مِن الخُبز))‪،‬والثريدُ من ال َ‬

‫وروى أبو داود فى (سننه) أيضا‪ ،‬من حديث ابن عمر رضى ال عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ل من القوم فاتخذه‪ ،‬فجاء به‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫سمْنٍ ولَبنٍ))‪ ،‬فقام رج ٌ‬‫سمْراءَ مَُلبّقَةٍ ب َ‬
‫خبْزَ ًة بَيضا َء من بُرّةٍ َ‬
‫ن عندى ُ‬
‫تأّ‬
‫(( َودِدْ ُ‬
‫ضبّ‪ .‬فقال‪(( :‬ار َفعْهُ))‪.‬‬‫عكّةِ َ‬ ‫سمْنُ)) ؟ فقال‪ :‬فى ُ‬ ‫((فى أىّ شى ٍء كان هذا ال ّ‬

‫خبْزَ‪ ،‬ومِنْ كرامتِه أن ل يُنتظ َر به الدامُ))‪.‬‬


‫وذكر البيهقى من حديث عائشة رضى ال عنها ترفعه‪(( :‬أك ِرمُوا ال ُ‬
‫شبَهُ‪ ،‬فل يثبت رفعُه‪ ،‬ول رفعُ ما قبله‪.‬‬
‫والموقوف أ ْ‬

‫ث النهى عن قطع الخبز بالسكين‪ ،‬فباطل ل أصل له عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإنما‬ ‫وأما حدي ُ‬
‫ح أيضاً‪.‬‬
‫سكّين‪ ،‬ول يَصِ ّ‬
‫المروىّ‪ :‬النهى عن قطع اللّحم بال ّ‬
‫ت أحمد عن حديث أبى معشرٍ‪ ،‬عن هشام بن عروة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن عائشة رضى ال عنها‪ ،‬عن‬ ‫قال ُم َهنّا‪(( :‬سأل ُ‬
‫ل العاجِم))‪ .‬فقال‪ :‬ليس بصحيح‪ ،‬ول‬ ‫سكّين‪ ،‬فإن ذلك من ِفعْ ِ‬ ‫حمَ بال ّ‬
‫النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل تقطعوا اللّ ْ‬
‫ث المغيرة يعنى بحديث عمرو بن أُمية‪ :‬كان النبىّ صلى‬ ‫يُعرف هذا‪ ،‬وحديثُ عمرو بن أُميّةَ خلف هذا‪ ،‬وحدي ُ‬
‫جنْبٍ فشُوِىَ‪ ،‬ثم أخذَ الشّ ْفرَةَ‪ ،‬فجعل‬
‫ال عليه وسلم يحت ّز مِن لحم الشاة‪ .‬وبحديث المغيرة أنه لمّا أضافه أمَ َر بِ َ‬
‫يَحُزّ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى أنواع الخبز‬

‫وأحمدُ أنواع الخبز أجودُها اختماراً وعجناً‪ ،‬ثم خبزُ ال ّتنّور أجودُ أصنافه‪ ،‬وبعدَه خبزُ الفرن‪ ،‬ثم خب ُز المَلّة فى‬
‫خذَ من الحنطة الحديثة‪.‬‬‫المرتبة الثالثة‪ ،‬وأجودُه ما اتّ ِ‬

‫شكَار‪.‬‬
‫وأكثرُ أنواعه تغذيةً خبزُ السّميذ‪ ،‬وهو أبطؤها هضماً لِقلّة نخالته‪ ،‬ويتلُوه خبز الحُوّارَى‪ ،‬ثم الخُ ْ‬

‫ن منه أكثر تلييناً وغذاءً وترطيباً وأسرع انحداراً‪ ،‬واليابسُ‬


‫خبِ َز فيه‪ ،‬والليّ ُ‬
‫وأحمدُ أوقات أكله فى آخِر اليوم الذى ُ‬
‫بخلفه‪.‬‬

‫ب من العتدال فى الرطوبة وال ُيبُوسة‪ ،‬واليُبسُ َيغْلِبُ‬


‫ومزاج الخبز من البُرّ حار فى وسط الدرجة الثانية‪ ،‬وقري ٌ‬
‫على ما جفّ َفتْه النا ُر منه‪ ،‬والرطوبة على ضده‪.‬‬

‫حنْطة خاصيّةٌ‪ ،‬وهو أنه يُسمّن سريعاً‪ ،‬وخبز القطائف يُوَلّد خلطاً غليظاً‪ ،‬والفَتيتُ نفّاخ بطى ُء الهضم‪،‬‬
‫وفى خبز ال ِ‬
‫والمعمول باللّبن مسدّد كثير الغذاء‪ ،‬بطىء النحدار‪.‬‬

‫حنْطة‪.‬‬
‫وخب ُز الشعير بارد يابس فى الُولى‪ ،‬وهو أقل غذاءً من خب َز ال ِ‬

‫ل ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫خَلٌ‪ :‬روى مسلم فى ((صحيحه))‪ :‬عن جابر بن عبد ال رضى ال عنهما‪ ،‬أنّ رسو َ‬
‫خلّ))‪.‬‬
‫خلٌ‪ ،‬فدعا به‪ ،‬وجعل يأكُلُ ويقول‪ِ (( :‬نعْمَ الدَا ُم الخَلّ‪ِ ،‬نعْ َم الدَامُ ال َ‬
‫سأل أهلَه الدَامَ‪ ،‬فقالوا‪ :‬ما عندنَا إل َ‬

‫وفى ((سنن ابن ماجه)) عن أُ ّم سعد رضى ال عنها عن النبىّ صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫ت فيه الخَلّ))‪.‬‬
‫خلّ‪ ،‬فإنه كان إدا َم النبياء قبلى‪ ،‬ولَ ْم يَ ْفتَقِر بي ٌ‬
‫(( ِنعْمَ الدَا ُم الخَلّ‪ ،‬الّلهُ ّم بَا ِركْ فى ال َ‬

‫ى التجفيف‪ ،‬يمنع من انصباب المواد‪،‬‬ ‫ب عليه‪ ،‬وهو يابس فى الثالثة‪ ،‬قو ّ‬ ‫الخَل‪ :‬مركّب من الحرارة‪ ،‬والبرودة أغل ُ‬
‫ضرَر الدوية القتّالة‪ ،‬ويُحَلّل اللّبنَ‬ ‫ويُلطّف الطبيعة‪ ،‬وخَلّ الخمر ينفع المعدة الملتهبة‪ ،‬و َي ْقمَعُ الصّ ْفرَاء‪ ،‬ويدفع َ‬
‫ل البطن‪ ،‬ويقط ُع العطش‪ ،‬ويمنع الور َم حيث يُريد‬ ‫جمَدا فى الجوف‪ ،‬وينفع الطّحَالَ‪ ،‬ويدبغ ال َمعِدة‪ ،‬ويَعقِ ُ‬
‫والدم إذا َ‬
‫أن يحدث‪ ،‬ويُعين على الهضم‪ ،‬ويُضاد البلغم‪ ،‬ويُلطّف الغذية الغليظة‪ ،‬و ُيرِقّ الدم‪.‬‬

‫وإذا شُرِب بالملح‪ ،‬نفع من أكل الفُطُر القتّال‪ ،‬وإذا احتُسى‪ ،‬قطع العلق المتعلق بأصل الح َنكِ‪ ،‬وإذ تُمضمض به‬
‫مُسَخّناً‪ ،‬نفع من وجع السنان‪ ،‬وقوّى الّلثَة‪.‬‬

‫ى به‪ ،‬والنملةِ والورام الحارة‪ ،‬وحرق النار‪ ،‬وهو مُشَهّ للكل‪ ،‬مُطيّب لل َمعِدة‪ ،‬صَالح‬
‫طلِ َ‬
‫وهو نافع للدّاحِس‪ ،‬إذا ُ‬
‫للشباب‪ ،‬وفى الصيف لسكان البلد الحارة‪.‬‬

‫ى يرفعه‪:‬‬
‫خِلَلٌ‪ :‬فيه حديثان ل يَثبُتان‪ ،‬أحدهما‪ :‬يُروى من حديث أبى أيوب النصار ّ‬

‫طعَامِ))‪ ،‬وفيه واصلُ‬


‫طعَام‪ ،‬إنه ليس شى ٌء أشدّ على المََلكِ من بَقيّةٍ َتبْقَى فى الفم من ال ّ‬
‫حّبذَا ال ُمتَخَلّلونَ من ال ّ‬
‫((يا َ‬
‫بن السائب‪ ،‬قال البخارى والرازى‪ :‬منكر الحديث‪ ،‬وقال النسائى والَ ْزدِى‪ :‬متروك الحديث‪.‬‬
‫ى يقال‬
‫الثانى‪ :‬يُروى من حديث ابن عباس‪ ،‬قال عبد ال بن أحمد‪ :‬سألت أبى عن شيخ روى عنه صالحٌ الوُحَاظ ّ‬
‫له‪ :‬محمد بن عبد الملك النصارى‪ ،‬حدّثنا عطا ُء عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن‬
‫ت محمد ابن عبد الملك وكان أعمى‬ ‫جذَام))‪ ،‬فقال أبى‪ :‬رأي ُ‬
‫ق ال ُ‬
‫ُيتَخَلَلَ باللّيط والس‪ ،‬وقال‪(( :‬إنهما يسقيان عُرو َ‬
‫يضعُ الحديث ويكذب‪.‬‬

‫خذَ من عيدان الخِلة‪،‬‬


‫ل نافع لِلّثة والسنان‪ ،‬حافظ لصحتها‪ ،‬نافع من تغير النكهة‪ ،‬وأجودُه ما اتّ ِ‬
‫وبعد‪ ..‬فالخِل ُ‬
‫وخشب الزيتون والخِلف‪ ،‬والتخللُ بالقصب والس والرّيحان والباذروج مُضِرٌ‪.‬‬

‫حرف الدال‬

‫دُهْنٌ‪ :‬روى الترمذى فى كتاب ((الشمائل)) من حديث أنس بن مالك رضى ال عنهما‪ ،‬قال‪(( :‬كان رسول ال‬
‫ح لِحيته‪ ،‬وُي ْكثِرُ ال ِقنَاعَ كأن ثَ ْوبَه ثَوْبُ َزيّاتٍ))‪.‬‬
‫صلى ال عليه وسلم يُكثِ ُر دُهْنَ رأسِهِ‪ ،‬وتسري َ‬

‫طبَهُ‪ ،‬وإن‬
‫ل بعد الغتسال بالماء الحار‪ ،‬حسّنَ البدنَ ور ّ‬
‫الدّهن يسد مسا َم البدن‪ ،‬ويمنع ما يتحلّل منه‪ ،‬وإذا اس ُت ْعمِ َ‬
‫ت عنه‪.‬‬
‫صبَةِ‪ ،‬ودفع أكثر الفا ِ‬ ‫دُهن به الشّعر حسّنه وطوّله‪ ،‬ونفع من الحَ ْ‬

‫ت وادّ ِهنُوابه))‪ ..‬وسيأتى إن شاء ال‬


‫وفى الترمذى‪ :‬من حديث أبى هريرة رضى ال عنه مرفوعاً‪(( :‬كُلُوا ال ّزيْ َ‬
‫تعالى‪.‬‬

‫والدّهْن فى البلد الحارة كالحجاز ونحوه من آكد أسباب حفظ الصحة وإصلح البدن‪ ،‬وهو كالضرورى لهم‪،‬‬
‫ج إليه أهلُها‪ ،‬واللحاح به فى الرأس فيه خط ٌر بالبصر‪.‬‬
‫وأما البلدُ الباردة‪ ،‬فل يحتا ُ‬

‫شيْرَج‪.‬‬
‫وأنفع الدهان البسيطة‪ :‬الزيت‪ ،‬ثم السمن‪ ،‬ثم ال ّ‬

‫ب الدماغ‪،‬‬
‫وأما المركّبة‪ :‬فمنها بارد رطب‪ ،‬كدُهن البنفسج ينفع من الصّداع الحار‪ ،‬ويُنوّم أصحاب السهر‪ ،‬ويُرطّ ُ‬
‫سهّلُ حركة المفاصل‪،‬‬‫حكّة اليابسة فينفعُها‪ ،‬ويُ َ‬
‫وينفعُ مِن الشّقاق‪ ،‬وغلبة اليبس‪ ،‬والجفاف‪ ،‬ويُطلَى به الجرب‪ ،‬وال ِ‬
‫ويصلح لصحاب المزجة الحارة فى زمن الصيف‪ ،‬وفيه حديثان باطلن موضوعان على رسول ال صلى ال‬
‫ل دُهن ال َبنَفْسَج على سائر الدهان‪ ،‬كَفَضْلى على سائرِ الناس))‪ .‬والثانى‪(( :‬فضلُ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬أحدُهما‪(( :‬فض ُ‬
‫دُهن البنفسَج على سائر الدهان‪ ،‬كفضل السلم على سائر الديان))‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬حارٌ رطب‪ ،‬كدُهْن البان‪ ،‬وليس دُهنَ زهره‪ ،‬بل دُهن يُستخرج من حبّ أبيض أغبرَ نحو ال ُفسْتق‪ ،‬كثيرِ‬
‫ل بلغماً‬
‫سهّ ُ‬ ‫الدّهنية والدسم‪ ،‬ينفع من صلبة العصب‪ ،‬ويُليّنه‪ ،‬وينفع من البَرَش‪ ،‬وال ّنمَش‪ ،‬والكَلَفِ‪ ،‬وال َبهَقِ‪ ،‬ويُ َ‬
‫غليظاً‪ ،‬ويُلين الوتار اليابسة‪ ،‬ويُسخّن العصب‪ ،‬وقد رُوى فيه حديث باطل مختلَق ل أصل له‪(( :‬ادّ ِهنُوا بالبانِ‪،‬‬
‫فإنه أحظى لكم عند نسائكم))‪.‬ومن منافعه أنه يَجلو السنان‪ ،‬ويُكسبَها بهجةً‪ ،‬و ُينَ ّقيَها من الصدأ‪َ ،‬ومَن مسح به‬
‫حقْوَه ومذَاكِيره وما والها‪ ،‬نفع من برد الكُل َيتَين‪،‬‬ ‫ى ول شُقاق‪ ،‬وإذا دهن به ِ‬‫وجهَه وأطرافه لم يُصبه حص ً‬
‫وتقطير البَوْل‪.‬‬

‫حرف الذال‬

‫طيّبتُ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم‬


‫ذَرِيرَةٌ‪ :‬ثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬عن عائشة رضى ال عنها قالت‪َ (( :‬‬
‫حلّه وإحرامِهِ))‪.‬‬
‫حجّةِ ال َودَاع لِ َ‬
‫بيدى‪ ،‬بذَرِيرَةٍ فى َ‬

‫تقدم الكلم فى الذّريرة ومنافعها وماهِيتها‪ ،‬فل حاجة لعادته‪.‬‬

‫ذُبَابٌ‪ :‬تقدّم فى حديث أبى هريرة المتفق عليه فى أمره صلى ال عليه وسلم ِب َغمْسِ الذّباب فى الطعام إذا سقط‬
‫فيه لجل الشّفَاء الذى فى جناحه‪ ،‬وهو كالتّرْياق للسّمّ الذى فى الجناح الخر‪ ،‬وذكرنا منافع الذّباب هناك‪.‬‬
‫ذَهَبٌ‪ :‬روى أبو داود‪ ،‬والترمذى‪(( :‬أنّ النبىّ صلى ال عليه وسلم رَخّص ل َع ْرفَجَ َة ابن أسعدَ َلمّا قُطع أنفُهُ يومَ‬
‫خذَ أنفًا من ذَهبٍ))‪ .‬وليس‬ ‫خذَ أنفًا من وَ ِرقٍ‪ ،‬فَأنْتَن عليه‪ ،‬فأمَرَه النبىّ صلى ال عليه وسلم أن َيتّ ِ‬
‫الكُلب‪ ،‬واتّ َ‬
‫لعَ ْرفَجَ َة عندهم غي ُر هذا الحديث الواحد‪.‬‬

‫سرّ الِ فى أرضه‪ ،‬ومزاجُه فى سائر‬


‫الذهبُ‪ :‬زين ُة الدنيا‪ ،‬وطِلّسْمُ الوجود‪ ،‬ومفرّح النفوس‪ ،‬ومقوّى الظّهور‪ ،‬و ِ‬
‫الكيفيات‪ ،‬وفيه حرارةٌ لطيفة تدخل فى سائر المعجونات اللطيفة والمفرحات‪ ،‬وهو أعدل المعادن على الطلق‬
‫وأشرفُها‪.‬‬

‫ومن خواصه أنه إذا ُدفِنَ فى الرض‪ ،‬لم يضره الترابُ‪ ،‬ولم يَنقُصه شيئاً‪ ،‬وبُرَادتُهُ إذا خُلِطت بالدوية‪ ،‬نفعتْ‬
‫جفَان العارض من السوداء‪ ،‬وينفع من حديث ال َنفْس‪ ،‬والحزن‪ ،‬والغم‪ ،‬والفزع‪ ،‬والعشق‪،‬‬ ‫من ضعف القلب‪ ،‬والرّ َ‬
‫جذَام‪ ،‬وجمي ِع الوجاعِ والمراض‬ ‫ويُسمّن البدن‪ ،‬ويُقوّيه‪ ،‬ويُذهب الصفار‪ ،‬ويُحسّنِ اللّون‪ ،‬وينفع من ال ُ‬
‫السّ ْودَا ِويّةِ‪ ،‬ويَدخل بخاصيّة فى أدوية داء الثعلب‪ ،‬وداء الحية شُرباً وطِلءً‪ ،‬ويجلو ال َعيْن ويُقوّيها‪ ،‬وينفع من‬
‫كثير من أمراضها‪ ،‬ويُقوّى جميع العضاء‪.‬‬

‫ضعُهُ‪َ ،‬ويَبر ْأ سريعاً‪،‬‬


‫وإمساكُهُ فى الفم يُزيل البَخر‪َ ،‬ومَن كان به مرض يَحتاج إلى الَكىّ‪ ،‬وكُ ِوىَ به‪ ،‬لم يتنفطْ مو ِ‬
‫ى به قَوَادِ ُم أجنحةِ‬
‫حلَ به‪ ،‬قَوّى ال َعيْن وجَلها‪ ،‬وإن اتّخذ منه خاتمٌ َفصّه منه وأُحمىَ‪ ،‬وكُوِ َ‬‫وإن اتّخذ منه ميلً واكتَ َ‬
‫ل عنها‪.‬‬‫الحمَام‪ ،‬ألِ َفتْ أبراجَها‪ ،‬ولم تنتقِ ْ‬

‫وله خاصيّة عجيبة فى تقوية النفوس‪ ،‬لجلِها ُأبِيحَ فى الحرب والسّلحِ منه ما أُبيح‪ ،‬وقد روى الترمذى من‬
‫حديث مَزِيدَة العَصَرى رضى ال عنه‪ ،‬قال‪ :‬دخل رسولُ الِ صلى ال عليه وسلم يومَ ال َفتْح‪ ،‬وعلى سيفِ ِه ذَهَبٌ‬
‫وفِضةٌ‪.‬‬

‫س حُبّ‬
‫ن لِلنّا ِ‬
‫ت به‪ ،‬سلها عن غيره من محبوباتِ الدنيا‪ ،‬قال تعالى‪ُ {:‬زيّ َ‬ ‫ظفِرَ ْ‬
‫وهو معشوقُ النفوس التى متى َ‬
‫ل المُسَ ّومَ ِة وَال ْنعَا ِم وَا ْلحَرْثِ}[آل‬
‫خيْ ِ‬
‫ب وَا ْلفِضّ ِة وَالْ َ‬
‫ت مِنَ النّسَا ِء وَا ْل َبنِينَ وَا ْل َقنَاطِيرِ ا ْل ُم َقنْطَرَ ِة مِنَ الذّهَ ِ‬
‫شهَوَا ِ‬
‫ال ّ‬
‫عمران ‪.]14 :‬‬

‫ب لبْ َتغَى إليه ثانياً‪ ،‬ولو كان‬


‫ن آدَمَ وادٍ من ذَه ٍ‬
‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬لو كان لب ِ‬
‫ب الُ عَلى مَن تابَ))‪.‬‬ ‫ف ابنِ آدَ َم إلّ التّرَابُ‪ ،‬وَيتو ُ‬
‫له ثانٍ‪ ،‬لبتَغَى إليه ثالثاً‪ ،‬ول يَملُ جَو َ‬

‫طعَتِ‬
‫ى الُ به‪ ،‬وبه قُ ِ‬
‫صَ‬‫ل بيْنَ الخلِيقةِ وبيْنَ فوزِهَا الكبر يومَ َمعَادها‪ ،‬وأعظمُ شىء عُ ِ‬ ‫هذا وإنه أعظم حائ ٍ‬
‫ت المحارمُ‪ ،‬و ُم ِنعَتِ الحقوق‪ ،‬وتَظَالَ َم العباد‪ ،‬وهو المُرَغّب فى الدنيا وعاجِلِها‪،‬‬
‫حلّ ِ‬
‫ت الدّماءُ‪ ،‬واستُ ِ‬
‫الرحامُ‪ ،‬وأُرِيق ِ‬
‫ى به من باطلٍ‪ ،‬ونُصِ َر به ظالمٌ‪،‬‬‫ت به من حقّ‪ ،‬وأُحيِ َ‬‫والْمزَهّد فى الخرة وما أعدّه الُ لوليائه فيها‪ ،‬فكم ُأمِي َ‬
‫و ُقهِ َر به مظلومٌ‪ .‬وما أحسن ما قال فيه الحَرِيرىّ‪:‬‬

‫جهَيْـنِ كا ْل ُمنَافِـقِ‬
‫َتبّاً لَ ُه مِنْ خَـا ِدعٍ ُممَـــاذِقِ أصْ َفرَ ذِى َو ْ‬

‫ق وَلَوْنِ عاشِــــقِ‬
‫ن ِلعَينِ الرّامِـقِ زِينَة مَعشُو ٍ‬
‫َيبْـدُو بوَصْ َفيْ ِ‬

‫سخْـطِ الْخالِقِ‬
‫ق َيدْعُو إلى إ ْر ِتكَابِ ُ‬
‫عنْدَ ذَوِى ا ْلحَقَائِـــ ِ‬
‫حبّ ُه ِ‬
‫وَ ُ‬

‫ت مَظِْلمَ ٌة مـن فاسِــقِ‬


‫ل بَدَ ْ‬
‫لَ ْولَ ُه لَ ْم تُقْطَ ْع يَمينُ السّـا ِرقِ َو َ‬

‫ل مَطْلَ ا ْلعَائِقِ‬
‫ل مِنْ طَــا ِرقِ َولَ اشتكى ا ْل َممْطُو ُ‬
‫َولَ اشْمأَ ّز باخِ ٌ‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫لئِقِ‬
‫ق وَشَ ّر ما فِيهِ مِنَ الْخَـــــ َ‬
‫س ُتعِيذَ من حَسُودٍ رَاشِـ ِ‬
‫@وَل ا ْ‬
‫ل إذَا َفرّ فِــــرَارَ البـِـقِ‬
‫عنْكَ فى ا ْلمَضَـايِقِ إ ّ‬
‫أنْ ل ْيسَ ُي ْغنِى َ‬

‫حرف الراء‬

‫عيْنًا }‬
‫ج ِنيّا * َفكُلِى وَاشْ َربِى َوقَرّى َ‬
‫ط عََل ْيكِ ُرطَباً َ‬
‫ج ْذعِ النّخْلَةِ تُسَاقِ ْ‬
‫طبٌ‪ :‬قال ال تعالى لمريَمَ‪{ :‬وَ ُهزّى إَل ْيكِ بِ ِ‬
‫رُ َ‬
‫[مريم ‪.]25 :‬‬

‫ل ال ِقثّاءَ بالرّطَبِ))‪.‬‬
‫وفى ((الصحيحين)) عن عبد ال بن جعفر‪ ،‬قال‪(( :‬رأيتُ رسول ال صلى ال عليه وسلم يأكُ ُ‬

‫ل أن ُيصَلّىَ‪،‬‬
‫طرُ على رُطَباتٍ َقبْ َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم يُفْ ِ‬ ‫وفى ((سنن أبى داود))‪ ،‬عن أنس قال‪(( :‬كان رسو ُ‬
‫ت من ماءٍ))‪.‬‬
‫ن لم تكُنْ رُطباتٍ فتمراتٍ‪ ،‬فإن لم تكن َتمَراتٍ‪ ،‬حَسَا حسْوَا ٍ‬
‫فإ ْ‬

‫ب البدنَ‪ ،‬ويوافق‬
‫طبِ طبعُ المياه حار رَطب‪ ،‬يُقوّى المعدة الباردة ويُوافقها‪ ،‬ويزيد فى الباه‪ ،‬ويُخصِ ُ‬ ‫طبْعُ الرّ َ‬
‫أصحابَ المزجة الباردة‪ ،‬ويَغذُو غِذا ًء كثيراً‪.‬‬

‫ل المدينة وغيرِها من البلد التى هو فاكهتُهم فيها‪ ،‬وأنفعها للبدن‪ ،‬وإن كان مَن‬
‫وهو مِن أعظم الفاكهة موافق ًة له ِ‬
‫صدَاعٌ وسوداءٌ‪ ،‬ويُؤذى‬
‫لم َي ْعتَدْهُ يُسرعُ التعفّن فى جسده‪ ،‬ويَتوّلدُ عنه دم ليس بمحمود‪ ،‬ويحدث فى إكثاره منه ُ‬
‫جبِين ونحوه‪.‬‬ ‫أسنانه‪ ،‬وإصلحُه بالسّكنْ َ‬

‫ف جداً‪ ،‬فإن الصوم‬ ‫وفى فِطر النبى صلى ال عليه وسلم من الصوم عليه‪ ،‬أو على التمر‪ ،‬أو الماء تدبيرٌ لطي ٌ‬
‫جدُ الكبدُ فيها ما تَج ِذبُه وتُرسله إلى القُوَى والعضاء‪ ،‬والحل ُو أسرع شىء وصولً‬ ‫يُخلى المعدة من الغذاء‪ ،‬فل تَ ِ‬
‫سيّما إن كان رطباً‪ ،‬فيشتدّ قبولها له‪ ،‬فتنتفع به هى وال ُقوَى‪ ،‬فإن لم يكن‪ ،‬فالتمرُ‬
‫إلى الكبد‪ ،‬وأحبّه إليها‪ ،‬ول ِ‬
‫ب المعدة‪ ،‬وحرارة الصوم‪ ،‬فتنتبهُ بعده للطعام‪ ،‬وتأخذه‬ ‫ت الماء تُطفىء لهي َ‬‫لحلوته وتغذيته‪ ،‬فإن لم يكن‪ ،‬فحسوا ُ‬
‫بشهوة‪.‬‬

‫ت نَعِي ٍم }[الواقعة ‪ .]88 :‬وقال تعالى‪:‬‬


‫جنّ ُ‬
‫ح وَ َريْحَانٌ َو َ‬
‫ن مِنَ المُقَ ّربِينَ * فَرَ ْو ٌ‬
‫َريْحانٌ‪ :‬قال تعالى‪{ :‬فََأمّا إن كَا َ‬
‫ف وَال ّريْحَانُ}[الرحمن ‪]12 :‬‬ ‫حبّ ذُو ا ْلعَصْ ِ‬
‫{ وَالْ َ‬

‫حمِلِ‬
‫ف ال َم ْ‬
‫عرِضَ عليه َريْحَانٌ‪ ،‬فَل يَ ُردّهُ‪ ،‬فإنّه خَفي ٌ‬
‫وفى ((صحيح مسلم)) عن النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬مَن ُ‬
‫ب الرّائِحَةِ))‪.‬‬
‫طَـيّ ُ‬

‫شمّرٌ‬‫وفى ((سنن ابن ماجه))‪ :‬من حديث أُسامةَ رضى ال عنه‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬أل مُ َ‬
‫خطَرَ لها‪ ،‬هى وربّ ال َكعْبَةِ‪ ،‬نُو ٌر َيتَلْلُ‪ ،‬وَ َريْحَانَ ٌة َتهْتَزّ‪ ،‬وقَصْ ٌر مَشِيدٌ‪ ،‬و َنهْرٌ مُطّ ِردٌ‪َ ،‬و َثمَرَ ٌة‬ ‫جنّ َة ل َ‬
‫جنّةِ‪ ،‬فإنّ ال َ‬
‫لل َ‬
‫حبْرَةٍ َونَضْرَةٍ‪ ،‬فى دُورٍ عالية سليمة بهيّة))‪ ،‬قالوا‪:‬‬ ‫جمِيلةٌ‪ ،‬وحَُللٌ كثيرةٌ فِى َمقَامٍ َأبَداً‪ ،‬فى َ‬
‫سنَا ُء َ‬
‫حْ‬‫نَضِيجَةٌ‪َ ،‬وزَوْجةٌ َ‬
‫ن شاء ال‪.‬‬ ‫نعمْ يا رسول ال‪ ،‬نحن المشمّرون لها‪ ،‬قال‪(( :‬قولوا‪ :‬إنْ شاء ال تعالى))‪ ،‬فقال القوم‪ :‬إ ْ‬

‫ل أهل بلد يخصونه بشىء من ذلك‪ ،‬فأهلُ الغرب يخصونه بالس‪ ،‬وهو الذى‬ ‫الرّيحان كلّ نبت طيّب الريح‪ ،‬فك ّ‬
‫حبَق‪.‬‬
‫يع ِرفُه العرب من الرّيحان‪ ،‬وأهلُ العراق والشام يخصّونه بال َ‬

‫فأما السُ‪ ،‬فمزاجُه بارد فى الُولى‪ ،‬يابس فى الثانية‪ ،‬وهو مع ذلك مركّب من قُوَى متضادة‪ ،‬والكث ُر فيه‬
‫الجوهرُ الرضىّ البارد‪ ،‬وفيه شىءٌ حار لطيف‪ ،‬وهو يُجفّف تجفيفاً قوياً‪ ،‬وأجزاؤه متقارب ُة القُوّة‪ ،‬وهى قوةٌ‬
‫قابضة حابسة من داخل وخارج معاً‪.‬‬

‫وهو قاطع للسهال الصفراوىّ‪ ،‬دافع للبخار الحار الرّطب إذا شُمّ‪ ،‬مفرّح للقلب تفريحًا شديداً‪ ،‬وشمّه مانع‬
‫للوباء‪ ،‬وكذلك افتراشُه فى البيت‪.‬‬

‫ويُبرىء الورام الحادثة فى الحاِل َبيْن إذا وُضع عليها‪ ،‬وإذا دُقّ ورقُه وهو غَضٌ وضُ ِربَ بالخل‪ ،‬و ُوضِعَ على‬
‫حقَ ورقه اليابس‪ ،‬وذُ ّر على القروح ذواتِ الرطوبة نفعها‪ ،‬ويُقوّى العضاء‬ ‫الرأس‪ ،‬قطع الرّعاف‪ ،‬وإذا سُ ِ‬
‫ضمّ َد به‪ ،‬وينفع داء الداحِس‪ ،‬وإذا ذُرّ على البثورِ والقروحِ التى فى اليدين والرّجْلين‪ ،‬نفعها‪.‬‬
‫الواهية إذا ُ‬
‫ف الرطوباتِ الفضلية‪ ،‬وأذهب َنتْنَ البط‪ ،‬وإذا جُلس فى طبيخه‪ ،‬نفع من‬ ‫ك به البدنُ قطع العَرَق‪ ،‬ونشّ َ‬
‫وإذا دُِل َ‬
‫صبّ على كسور العِظام التى لم تَلتحِمْ‪ ،‬نفعها‪.‬‬
‫خراريج المَقْعدة والرّحم‪ ،‬ومن استرخاء المفاصل‪ ،‬وإذا ُ‬

‫ب عليه‬
‫سكُ الشعر المتساقط ويُسَ ّودُه‪ ،‬وإذا دُقّ ورقُه‪ ،‬وصُ ّ‬
‫ويجلو قشورَ الرأس وقروحَه الرّطبة‪ ،‬وبُثورَه‪ ،‬ويُم ِ‬
‫حمْرة‪ ،‬والورام‬
‫ض ّمدَ به‪ ،‬وافق القُروح الرّطبة والنملة وال ُ‬
‫ماء يسير‪ ،‬وخُِلطَ به شىءٌ من زيت أو دُهن الورد‪ ،‬و ُ‬
‫الحادة‪ ،‬والشرى والبواسير‪.‬‬

‫وحَـبّه نافع من نفْث الدم العارض فى الصدر والرّئة‪ ،‬دابغٌ لل َم ِعدَة وليس بضا ّر للصدر ول الرئة لجلوته‪،‬‬
‫ستِطلق البطن مع السّعال‪ ،‬وذلك نادر فى الدوية‪ ،‬وهو ُمدِ ٌر للبَوْل‪ ،‬نافع من لذع المثانة‪،‬‬ ‫وخاصيتُه النفعُ من ا ْ‬
‫وعضّ ال ّر َتيْلء‪ ،‬ولسْع العقارب‪ ،‬والتخلل بعِرْقه مُضِر‪ ،‬فليُحذَر‪.‬‬

‫ش عليه‬‫حبَق‪ ،‬فحارٌ فى أحد القولين‪ ،‬ينفع شمّه من الصّداع الحار إذا رُ ّ‬


‫ى الذى يُسمّى ال َ‬ ‫ن الفارس ّ‬‫وأما الرّيحا ُ‬
‫الماء‪ ،‬ويبرد‪ ،‬ويرطب بالعرض‪ ،‬وباردٌ فى الخر‪ ،‬وهل هو رطب أو يابس ؟ على قولين‪ .‬والصحيحُ‪ :‬أنّ فيه‬
‫سكّن للمغص‪ُ ،‬مقَوّ للقلب‪ ،‬نافع‬
‫ب النوم‪ ،‬وبزره حابس للسهال الصفراوىّ‪ ،‬و ُم َ‬ ‫من الطبائع الربع‪ ،‬و َيجْلِ ُ‬
‫للمراض السوداويّة‪.‬‬

‫ل وَ ُرمّانٌ}[الرحمن ‪]68 :‬‬


‫ُرمّانٌ‪ :‬قال تعالى‪{:‬فِي ِهمَا فَا ِكهَةٌ َونَخْ ٌ‬

‫جنّةِ))‬
‫ح بحبّةٍ من ُرمّانِ ال َ‬ ‫ويُذكر عن ابن عباس موقوفاً ومرفوعاً‪(( :‬ما مِن ُرمّانٍ من ُرمّانِكم هذا إل وهو مُلقّ ٌ‬
‫غ ال َم ِعدَةِ))‪.‬‬
‫حمِه‪ ،‬فإنه دبا ُ‬
‫ى أنه قال‪(( :‬كُلُوا ال ّرمّانَ بِش ْ‬
‫ب وغيره عن عل ّ‬
‫شبَهُ‪ .‬وذكر حَر ٌ‬
‫والموقوفُ أ ْ‬

‫حل ُو ال ّرمّان حار رطب‪ ،‬جيدٌ لل َمعِدَة‪ ،‬مقوٍ لها بما فيه من قبْضٍ لطيف‪ ،‬نافع للحلق والصدر والرّئة‪ ،‬جيدٌ للسّعال‪،‬‬
‫وماؤه مَُليّن للبطن‪َ ،‬يغْذى البدن غِذا ًء فاضلً يسيراً‪ ،‬سريعُ التحلّل ل ّرقّته ولطافته‪ ،‬ويُولّد حرارة يسيرة فى المعدة‬
‫حمُومين‪ ،‬وله خاصيّة عجيبة إذا أُكل بالخبز يمنعه من الفساد فى‬ ‫وريحاً‪ ،‬ولذلك يُعين على الباه‪ ،‬ول يصلح لل َم ْ‬
‫المعدة‪.‬وحامضه بارد يابس‪ ،‬قابض لطيف‪ ،‬ينفع ال َمعِدَة الملتهبة‪ ،‬و ُيدِ ّر البَوْل أكثرَ من غيره من ال ّرمّان‪ ،‬ويُسكّنُ‬
‫الصّفْراء‪ ،‬ويقطع السهال‪ ،‬ويمنع القىء‪ ،‬ويُلطّف الفضول‪ ،‬ويُطفىءُ حرارة الكبد‪ ،‬ويُ َقوّى العضاء‪ ،‬نافع من‬
‫ئ المِرّة‬
‫خفَقان الصّفراوى‪ ،‬واللم العارضة للقلب‪ ،‬وفم المعدة‪ ،‬ويُقوّى ال َم ِعدَة‪ ،‬ويدفع الفُضول عنها‪ ،‬ويُطف ُ‬ ‫ال َ‬
‫الصفراء والدم‬

‫حلَ به‪ ،‬قطع الصفرة من ال َعيْن‪،‬‬ ‫طبِخَ بيسير من العسل حتى يصير كالمرهم‪ ،‬واكتُ ِ‬ ‫وإذا استُخرجَ ماؤه بشَحْمه‪ ،‬و ُ‬
‫ونقّاها من الرطوبات الغليظة‪ ،‬وإذا لُطخ على الّلثَة‪ ،‬نفع من الَكلة العارضة لها‪ ،‬وإن استُخرج ماؤهما‬
‫ت ال َع ِفنَةَ المُرّية‪ ،‬ونفع مِن حُميّات الغب المُتطاوِلة‪.‬‬
‫حدَر الرّطوبا ِ‬
‫بشحمهما‪ ،‬أطلَق البطن‪ ،‬وأ ْ‬

‫ب ال ّرمّان مع‬
‫وأما ال ّرمّان المزّ‪ ،‬فمتوسط طبعًا وفعلً بين النوعين‪ ،‬وهذا أ ْميَلُ إلى لطافة الحامض قليلً‪ ،‬وحَ ّ‬
‫العسل طِلءٌ للداحِس والقروح الخبيثة‪ ،‬وأقماعُه للجراحات‪ ،‬قالوا‪ :‬ومَن ابتلع ثلثةً من جُن ُبذِ ال ّرمّان فى كل سنة‪،‬‬
‫أمِنَ مِنَ الرّمد سنته كلّها‪.‬‬

‫حرف الزاي‬

‫سسْهُ‬
‫غ ْر ِبيّةٍ َيكَادُ َز ْي ُتهَا يُضِى ُء وََلوْ َلمْ َتمْ َ‬
‫ش ْر ِقيّةٍ َولَ َ‬
‫شجَرَ ٍة ّمبَا َركَةٍ َز ْيتُونَ ٍة ل َ‬
‫َزيْتٌ‪ :‬قال تعالى‪{ :‬يُوقَدُ مِن َ‬
‫نَارٌ}[النور ‪]35 :‬‬

‫ى وابن ماجه من حديث أبى هريرة رضى ال عنه‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬كُلُوا‬ ‫وفى الترمذ ّ‬
‫شجَرَ ٍة ُمبَارَكةٍ))‪.‬‬
‫ت وادّ ِهنُوا به‪ ،‬فإنّه من َ‬
‫الزّي َ‬

‫ولل َب ْيهَقِى وابن ماجه أيضاً‪ :‬عن ابن عمر رضى ال عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ا ْئتَ ِدمُوا‬
‫جرَةٍ ُمبَارَكةٍ))‪.‬‬
‫بالزّيتِ‪ ،‬وادّ ِهنُوا به‪ ،‬فإنه من شَ َ‬

‫ت حار رطب فى الُولى‪ ،‬وغَلِط مَن قال‪ :‬يابسٌ‪ ،‬والزّيت بحسب زيتونه‪ ،‬فالمعتصَ ُر من النّضيج أعدلُه‬ ‫ال ّزيْ ُ‬
‫ط بين الزّي َتيْن‪ ،‬ومن السود يُسخّن ويُرطّب‬
‫ج فيه برودةٌ ويُبوسة‪ ،‬ومن الزيتون الحمر متوس ٌ‬
‫وأجوده‪ ،‬ومن الفَ ّ‬
‫باعتدال‪ ،‬وينفع من السّموم‪ ،‬ويُطلق البطن‪ ،‬ويُخرج الدود‪ ،‬والعتيقُ منه أشد تسخيناً وتحليلً‪ ،‬وما استُخْ ِرجَ منه‬
‫شيْب‪.‬‬
‫بالماء‪ ،‬فهو أقلّ حرارةً‪ ،‬وألطفُ وأبلغ فى النفع‪ ،‬وجميعُ أصنافه مليّنة للبَشْرة‪ ،‬وتُبطىءُ ال َ‬

‫وماء الزّيتون المالح يمنع من تنفّط حرق النار‪ ،‬ويَشُد الّلثَةَ‪ ،‬وورقهُ ينفع من الحُمرة‪ ،‬والنّملة‪ ،‬والقُروح الوَسِخة‪،‬‬
‫والشّرَى‪ ،‬ويمنع العَرَق‪ ،‬ومنافعه أضعاف ما ذكرنا‪.‬‬

‫ى بُسْ ٍر السّلَميّيْن رضى ال عنهما‪ ،‬قال‪ :‬دخل علينا رسولُ ال صلى‬ ‫ُز ْبدٌ‪ :‬روى أبو داود فى ((سننه))‪ ،‬عن ابنَ ْ‬
‫ب الزّبدَ وال ّتمْرَ‪.‬‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬فقدّمنا له زُبداً وتمراً‪ ،‬وكان يُحِ ّ‬

‫لذُ َنيْن‬
‫الزّبد حار رطب‪ ،‬فيه منافعُ كثيرة‪ ،‬منها النضاجُ والتحليل‪ ،‬ويُبرىء الورامَ التى تكون إلى جانب ا ُ‬
‫ض فى أبدان النّساء والصبيان إذا استُعمِلَ وحده‪ ،‬وإذا ُلعِقَ منه‪،‬‬
‫والحاِل َبيْن‪ ،‬وأورام الفم‪ ،‬وسائر الورام التى تَعرِ ُ‬
‫ج الَورام العارضة فيها‬‫نفع في نفْث الدّم الذى يكون مِن الرئة‪ ،‬وأنضَ َ‬

‫وهو مَُليّن للطبيعة والعصب والورام الصلبة العارضة من المِرّة السوداء والبلغم‪ ،‬ناف ٌع من اليُبس العارض فى‬
‫ى به على منابت أسنان الطفل‪ ،‬كان معيناً على نباتها وطلوعها‪ ،‬وهو نافع من السّعال العارض‬ ‫طلِ َ‬
‫البدن‪ ،‬وإذا ُ‬
‫من البرد واليبس‪ ،‬ويُذهب القُوباء والخشونة التى فى البدن‪ ،‬ويَُليّن الطبيعة‪ ،‬ولكنه يُضْعف شهوة الطعام‪ ،‬ويذهب‬
‫ح كل منهما‬
‫بوخامته الحلو‪ ،‬كالعسل والتمر‪ ،‬وفى جمعه صلى ال عليه وسلم بين التمر وبينه من الحكمة إصل ُ‬
‫بالخر‬

‫ب يُطيّبُ ال ّنكْهَةَ‪ ،‬ويُذيبُ البلغم))‪ .‬والثانى‪:‬‬ ‫صحّان‪ .‬أحدهما‪ِ (( :‬نعْمَ الطعامُ ال ّزبِي ُ‬ ‫‪.‬زَبيبٌ‪ :‬رُوى فيه حديثان ل يَ ِ‬
‫ب ال ّنكْهةَ))‪ .‬وهذا‬
‫شدّ ال َعصَبَ‪ ،‬ويُطفىء الغضَبَ‪ ،‬ويُصفّى اللّونَ‪ ،‬ويُطيّ ُ‬ ‫(( ِنعْمَ الطعا ُم الزّبيبُ يُذهبُ النَصَبَ‪ ،‬ويَ ُ‬
‫سمِن شحمه‬ ‫أيضًا ل يصح فيه شىء عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وبعد‪ ..‬فأجودُ الزّبيب ما َكبُر جسمه‪ ،‬و َ‬
‫حبّه‪.‬وجُرْم الزبيب حارٌ رطب فى الُولى‪ ،‬وحَـبّه بارد يابس‪ ،‬وهو‬ ‫صغُرَ َ‬
‫جمُه‪ ،‬و َ‬‫ق قشره‪ ،‬ونُزِع عَ َ‬ ‫ولحمه‪ ،‬ورَ ّ‬
‫كالعنب المتّخَذ منه‪ :‬الحلوُ منه حار‪ ،‬والحامضُ قابض بارد‪ ،‬والبيضُ أشد قبضًا من غيره‪ ،‬وإذا ُأكِلَ لحمُه‪،‬‬
‫وافق قصبة الرّئة‪ ،‬ونفع من السّعال‪ ،‬ووجع الكُلَى‪ ،‬والمثَانة‪ ،‬و ُيقَوّى ال َم ِعدَة‪ ،‬ويَُليّن البَطْن‪.‬‬

‫ل غِذا ًء من التّين اليابس‪ ،‬وله قوةٌ منضِجة هاضمة قابضة محلّلة باعتدال‪،‬‬‫غذَا ًء مِن العنب‪ ،‬وأق ّ‬ ‫والحلو اللّح ِم أكثرُ ِ‬
‫وهو بالجملة يُقَوّى ال َمعِدَة وال َكبِد والطّحال‪ ،‬ناف ٌع من وجع الحلق والصدر والرّئة والكُلَى والمثانة‪ ،‬وأعدلُه أن‬
‫عجَمه‪.‬‬ ‫يؤكل بغير َ‬

‫جمِه كان أكثر نفعاً لل َمعِدَة وال َك ِبدْ والطّحال‪،‬‬


‫وهو يُغذّى غِذاءً صالحاً‪ ،‬ول يسدّد كما يفعل ال ّتمَرُ‪ ،‬وإذا أُكل منه بعَ َ‬
‫عجَ َم له نافعٌ لصحاب الرّطوبات‬ ‫وإذا لُصِقَ لحمُه على الظافير المتحركة أسرع قلعَها‪ ،‬والحل ُو منه وما ل َ‬
‫والبلغم‪ ،‬وهو يُخصب الكَ ِبدَ‪ ،‬وينفعُها بخاصيّته‪.‬‬

‫وفيه نف ٌع للحفظ‪ :‬قال الزّهْرى‪ :‬مَن أحبّ أن يحفظ الحديث‪ ،‬فليأكل الزبيبَ‪ .‬وكان المنصور يذكر عن جده عبد‬
‫جمُه داء‪ ،‬ولحمُه دواء‪.‬‬
‫ال بن عباس‪ :‬عَ َ‬

‫جبِيلً}[النسان ‪]17:‬‬
‫جهَا َزنْ َ‬
‫ن مِزَا ُ‬
‫ن فِيهَا كَأْسًا كَا َ‬
‫سقَوْ َ‬
‫جبِيلٌ‪ :‬قال تعالى‪َ { :‬ويُ ْ‬
‫َزنْ َ‬

‫ى رضى ال عنه قال‪ :‬أهدى ملك الرّوم‬‫وذكر أبو نُعيم فى كتاب ((الطب النبوى)) من حديث أبى سعيد الخُدر ّ‬
‫إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم جَرّةَ زَنجبيلٍ‪ ،‬فأطع َم كلّ إنسان قطعة‪ ،‬وأطعمنى قطعة‪.‬‬

‫الزنجبيل حا ٌر فى الثانية‪ ،‬رطب فى الُولى‪ ،‬مُسْخّن مُعين على هضم الطعام‪ ،‬مَُليّن للبطن تليينًا معتدلً‪ ،‬نافع من‬
‫سدد ال َكبِ ِد العارِض ِة عن البرد والرّطوبة‪ ،‬ومن ظُلمة البصر الحادثة عن الرّطوبة أكلً واكتحالً‪ ،‬مُعين على‬
‫جمَاع‪ ،‬وهو مُحلّل للرياح الغليظة الحادثة فى المعاء وال َمعِدَة‪.‬‬
‫ال ِ‬

‫ن درهمين بالماء الحار‪ ،‬أسهلَ‬


‫خذَ منه مع السكر وز ُ‬
‫وبالجملة‪ ..‬فهو صالح لل َكبِد وال َم ِعدَة الباردتَى المزاج‪ ،‬وإذا ُأ ِ‬
‫ل لَ ِزجَةً لُعابية‪ ،‬ويقع فى المعجونات التى تُحلّل البلغم وتُذيبه‪.‬‬ ‫فُضو ً‬
‫جمَاع‪ ،‬ويزيدُ فى ال َمنِىّ‪ ،‬وُيسخّن ال َم ِعدَة والكَبِد‪ ،‬ويُعين على الستمراء‪ ،‬ويُنشّف‬
‫والمُزّىّ منه حارٌ يابس يهيج ال ِ‬
‫البلغم الغالب على البدن‪ ،‬ويزيد فى الحفظ‪ ،‬ويُوافق ب ْر َد ال َكبِد وال َمعِدة‪ ،‬ويُزيل بلتها الحادثة عن أكل الفاكهة‪،‬‬
‫ويُطيّب ال ّنكْهة‪ ،‬ويُدفع به ضرر الطعمة الغليظة الباردة‪.‬‬

‫حرف السين‬

‫سنّوت)) أيضاً‪ ،‬وفيه سبعة أقوال‪:‬‬


‫سَـنا‪ :‬قد تقدّم‪ ،‬وتقدّم (( َ‬

‫حبٌ يُشبه ال َكمّون‪،‬‬ ‫سمْن‪ .‬الثالث‪ :‬أنه َ‬ ‫سمْن يخرج خططًا سوداءَ على ال ّ‬ ‫عكّة ال ّ‬
‫ب ُ‬ ‫أحدها‪ :‬أنه العسل‪ .‬الثانى‪ :‬أنه رُ ّ‬
‫شبِتّ‪ .‬السادس‪ :‬أنه ال ّتمْر‪ .‬السابع‪ :‬أنه الرّا ْزيَانج‪.‬‬
‫وليس بكمون‪ .‬الرابع‪ :‬الكمونُ الكِ َرمْانىّ‪ .‬الخامس‪ :‬أنه ال ّ‬

‫جلٌ‪ :‬روى ابن ماجه فى ((سننه))‪ :‬من حديث إسماعيل ابن محمد الطلحى‪ ،‬عن نقيب بن حاجب‪ ،‬عن أبى‬ ‫سفَرْ َ‬
‫َ‬
‫سعيدِ‪ ،‬عن عبد الملك الزّبيرى‪ ،‬عن طلحة بن عُبيد ال رضى ال عنه قال‪ :‬دخلتُ على النبىّ صلى ال عليه‬
‫جمّ الفُؤادَ))‪.‬‬
‫وسلم وبيدِه سَفَ ْرجَلة‪ ،‬فقال‪(( :‬دُو َنكَها يا طَ ْلحَةُ‪ ،‬فإنها تُ ِ‬

‫ت النبىّ صلى ال عليه وسلم وهو فى جماعةٍ من أصحابه‪ ،‬وبيده‬ ‫ى من طريق آخرَ‪ ،‬وقال‪(( :‬أتي ُ‬ ‫ورواه النسائ ّ‬
‫ب النّفْسَ‪ ،‬وتَذهَبُ‬
‫شدّ القَ ْلبَ‪ ،‬وتُطيّ ُ‬
‫ت إليه‪ ،‬دحَا بها إِلىّ ثم قال‪(( :‬دُو َنكَها أبا ذَرٍ؛ فإنّها تَ ُ‬
‫سفرجلة يُقّلبُها‪ ،‬فلمّا جلس ُ‬
‫صدْرِ))‬
‫بِطَخَاءِ ال ّ‬

‫ث أُخر‪ ،‬هذه أمثَلُها‪ ،‬ول تصح‪.‬‬


‫وقد رُوى فى السفرجل أحادي ُ‬

‫ل برودة‬ ‫ف فى ذلك باختلف طعمه‪ ،‬وكلّه بارد قابض‪ ،‬جيد لل َم ِعدَة‪ ،‬والحل ُو منه أق ّ‬ ‫والسفرجل بارد يابس‪ ،‬ويختل ُ‬
‫سكّن العطشَ والقىء‪ ،‬ويُدِ ّر البَوْل‪،‬‬ ‫ويُبساً‪ ،‬وأ ْميَلُ إلى العتدال‪ ،‬والحامِضُ أشدّ قبضاً ويُبساً وبرودة‪ ،‬وكُلّه يُ َ‬
‫عدِ البخرة إذا‬ ‫ل الطبع‪ ،‬وينفع من قرحة المعاء‪ ،‬ونفْث الدّم‪ ،‬والهيْضَة‪ ،‬وينف ُع من ال َغثَيان‪ ،‬ويمنع من تصا ُ‬ ‫ويَعقِ ُ‬
‫اس ُت ْعمِلَ بعد الطعام‪ ،‬وحُرَاقةُ أغصانه وورقه المغسولة كالتوتياء فى فعلها‪.‬‬

‫وهو قبل الطعام يقبض‪ ،‬وبعده يُليّن الطبع‪ ،‬ويُسرع بانحدار الثفل‪ ،‬والكثارُ منه ُمضِرٌ بالعصب‪ ،‬مُولّد للقُوَلنْج‪،‬‬
‫ويُطْفىء المِرّة الصفراء المتولدة فى المعدة‪.‬‬

‫طيّنَ جُرمُه بالعجين‪،‬‬


‫ل فيه العسلُ‪ ،‬وَ ُ‬
‫جعِ َ‬
‫ل لخشونته‪ ،‬وأخفّ‪ ،‬وإذا قُوّ َر وسطُه‪ ،‬ونُ ِزعَ حبّه‪ ،‬و ُ‬ ‫وإن شُ ِوىَ كان أق ّ‬
‫وأُودِع الرماد الحارّ‪ ،‬نفع نفعًا حسناً‪.‬‬

‫وأجودُ ما ُأكِلَ مشوياً أو مطبوخًا بالعسل‪ ،‬وحَـبّه ينفع من خشونة الحلق‪ ،‬وقصبة الرّئة‪ ،‬وكثير من المراض‪،‬‬
‫ودُهنه يمنع العَرَق‪ ،‬ويُقَوّى ال َم ِعدَة‪ ،‬والمربّى منه ُيقَوّى ال َم ِعدَة والكَبِد‪ ،‬ويشد القلب‪ ،‬ويُطيّب النّفَس‪.‬‬

‫جمّ الفؤاد‪ :‬تُريحه‪ .‬وقيل‪ :‬تفتحُه وتوسعه‪ ،‬مِن جمام الماءِ‪ ،‬وهو اتساعه وكثرته‪ ،‬والطّخاء للقلبُ مِثلُ‬ ‫ومعنى تُ ِ‬
‫غشْى‪ ،‬تقول‪ :‬ما فى السماء طخاءٌ‪ ،‬أى‪ :‬سحابٌ وظُلمة‪.‬‬ ‫ال َغيْم على السماء‪ .‬قال أبو عُبيدٍ‪ :‬الطّخاء ثِ َقلٌ و َ‬

‫لمَ ْر ُتهُمْ بالسّواكِ عند كُلّ‬


‫سِوَاكٌ‪ :‬فى ((الصحيحين)) عنه صلى ال عليه وسلم‪(( :‬لَوْل أن َأشُقّ على ُأمّتى َ‬
‫صلةٍ))‪.‬‬

‫وفيهما‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم كان إذا قا َم من اللّيل يَشُوصُ فَاهُ بالسّوَاكِ‪.‬‬

‫طهَ َرةٌ ِللْ َفمِِ‪ ،‬مَرْضَاةٌ للرّبّ))‪.‬‬


‫وفى ((صحيح البخارى)) تعليقاً عنه صلى ال عليه وسلم‪(( :‬السّوَاكُ مَ ْ‬

‫وفى ((صحيح مسلم))‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم كان إذا دَخَلَ بيته‪ ،‬بدأ بِالسّوَاكِ‪.‬‬

‫ح عنه‬
‫ث فيه كثيرة‪ ،‬وصَحّ عنه من حديث أنه استاك عند موته بسواك عبد الرحمن بن أبى بكر‪ ،‬وصَ ّ‬ ‫والحادي ُ‬
‫أنه قال‪(( :‬أ ْكثَ ْرتُ عََل ْيكُم فى السّوَاكِ))‪.‬‬
‫خذَ السّواكُ من خشب الراك ونحوه‪ ،‬ول ينبغى أن يُؤخذ من شجرة مجهولة‪ ،‬فربما كانت سُماً‪،‬‬ ‫وأصلح ما اتُ ِ‬
‫وينبغى القصدُ فى استعماله‪ ،‬فإن بالغ فيه‪ ،‬فربما أذهب طَلَوةَ السنان وصقالتها‪ ،‬وهيأَها لقبولِ البخرة‬
‫المتصاعدة من ال َم ِعدَة والوساخ‪ ،‬ومتى استُعمل باعتدال‪ ،‬جل السنان‪ ،‬وقوّى العمود‪ ،‬وأطلق اللّسَان‪ ،‬ومنع‬
‫شهّى الطّعام‪.‬‬
‫حفَر‪ ،‬وطيّب النّكهة‪ ،‬ونقّى الدّمَاغ‪ ،‬و َ‬ ‫ال َ‬

‫وأجود ما استُعمل مبلولً بماء الورد‪ ،‬ومن أنفعه أُصولُ الجَوْز‪ .‬قال صاحب ((التيسير))‪(( :‬زعموا أنه إذا استاك‬
‫حدّ الذهنَ))‬
‫س من اليام‪ ،‬نقّى الرأس‪ ،‬وصفّى الحواسّ‪ ،‬وأ َ‬
‫به المستاك كلّ خام ٍ‬

‫ح ال َم ِعدَة‪،‬‬
‫وفى السّوَاك عدة منافع‪ :‬يُطيّب الفم‪ ،‬ويشد الّلثَةَ‪ ،‬ويقطع البلغم‪ ،‬ويجلو البصرَ‪ ،‬ويُذهب بالحَفَر‪ ،‬ويُص ّ‬
‫ط للقراءة‪ ،‬والذّكر والصلة‪ ،‬ويطرُد‬ ‫سهّل مجارى الكلم‪ ،‬و ُينَشّ ُ‬
‫ويُصفّى الصوت‪ ،‬ويُعين على هضم الطعام‪ ،‬و ُي َ‬
‫ب الملئكة‪ ،‬ويُكثر الحسنات‪.‬‬ ‫النوم‪ ،‬ويُرضى الرّبّ‪ ،‬و ُيعْجِ ُ‬

‫ب كلّ وقت‪ ،‬ويتأكد عند الصلة والوضوء‪ ،‬والنتباهِ من النوم‪ ،‬وتغيير رائحة الفم‪ ،‬ويُستَحب للمفطر‬ ‫ويُستحَ ّ‬
‫والصائم فى كل وقت لعموم الحاديث فيه‪ ،‬ولحاجة الصائم إليه‪ ،‬ولنه مرضاةٌ للرّبّ‪ ،‬ومرضاتُه مطلوبة فى‬
‫طهَرَ ٌة للفم‪ ،‬والطهور للصائم من أفضل أعماله‪.‬‬
‫الصوم أشدّ من طلبِها فى الفِطر‪ ،‬ولنه مَ ْ‬

‫وفى ((السنن))‪ :‬عن عامر بن ربيعة رضى ال عنه‪ ،‬قال‪ :‬رأيتُ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم ما ل ُأحْصى‬
‫يَستاكُ‪ ،‬وهو صائمٌ‪.‬‬

‫ك أول النّهار وآخره‪.‬‬


‫وقال البخارىّ‪ :‬قال ابن عمرَ‪ :‬يستا ُ‬

‫وأجمع الناسُ على أنّ الصائم يتمضمض وجوبًا واستحباباً‪ ،‬والمضمض ُة أبل ُغ مِنَ السّواك‪ ،‬وليس ل غرضٌ فى‬
‫التقرّب إليه بالرائحة الكريهة‪ ،‬ول هى من جنس ما شُ ِرعَ التعّبدُ به‪ ،‬وإنما ذكر طِيب الخُلوف عند ال يوم القيامة‬
‫حثّا منه على الصوم؛ ل حثاً على إبقاء الرائحة‪ ،‬بل الصائمُ أحوجُ إلى السّوَاك من المْفطرِ‪.‬‬

‫وأيضاً فإنّ رضوان ال أكبرُ من استطابتِه لخلوف فم الصائم‪.‬‬

‫وأيضاً فإنّ محبّته للسّوَاك أعظمُ من محبته لبقاء خُلوف فم الصائم‪.‬‬

‫ك عند ال يوم القيامة‪ ،‬بل يأتى الصائمُ يوم القيامة‪،‬‬ ‫ف الذى يُزيله السّوَا ُ‬
‫ب الخُلُو ِ‬
‫وأيضاً فإنّ السّوَاك ل يمنعُ طي َ‬
‫ن الجريحَ يأتى يوم القيامة‪ ،‬ولو ُ‬
‫ن‬ ‫ب من المسك علمةً على صيامه‪ ،‬ولو أزاله بالسّوَاك‪ ،‬كما أ ّ‬ ‫ف فمِه أطي ُ‬‫وخُلو ُ‬
‫ح المسك‪ ،‬وهو مأمور بإزالته فى الدنيا‪.‬‬ ‫دم جُرحه لونُ الدم‪ ،‬وريحُه ري ُ‬

‫وأيضاً فإنّ الخُلوف ل يزولُ بالسّوَاك‪ ،‬فإنّ س َببَه قائم‪ ،‬وهو خُلو ال َم ِعدَة عن الطعام‪ ،‬وإنما يزولُ أثره‪ ،‬وهو‬
‫المنع ِقدُ على السنان والّلثَة‪.‬‬

‫ستَحب لهم فى الصيام‪ ،‬وما يُكره لهم‪ ،‬ولم يجعلِ السّوَاكَ من‬
‫ى صلى ال عليه وسلم علّم ُأمّته ما يُ ْ‬
‫وأيضاً فإنّ النب ّ‬
‫القسم المكروه‪ ،‬وهو يعلم أنهم يفعلونه‪ ،‬وقد حضّهم عليه بأبلغ ألفاظِ العموم والشمول‪ ،‬وهم يُشاهدونه يَستاك وهو‬
‫صائم مرارًا كثيرة تَفُوتُ الحصاء‪ ،‬ويعلم أنهم يقتدون به‪ ،‬ولم يقل لهم يومًا من الدهر‪ :‬ل تستاكوا بعد الزوال‪،‬‬
‫وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬

‫سَـمْنٌ‪ :‬روى محمـد بن جرير الطبرى بإســناده‪ ،‬من حديث صُهيب يرفعُه ((عليكم بألبان البقَرِ‪ ،‬فإنها شفاءٌ‪،‬‬
‫س ْمنُها دَواءٌ‪ ،‬ولُحومُها داء)) رواه عن أحمد بن الحسن الترمذى‪ ،‬حدّثنا محمد ابن موسى النسائى‪ ،‬حدّثنا دَفّاع‬
‫وَ‬
‫ل السّـدوسى‪ ،‬عن عبد الحميد بن صَيفى بن صُهيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬ول يثبت ما فى هذا السناد‪.‬‬ ‫ابن دَغْفَ ٍ‬

‫والسمن حار رطب فى الُولى‪ ،‬وفيه جِلء يسير‪ ،‬ولطافة وتفشية الورام الحادثة مِن البدان الناعمة‪ ،‬وهو أقوى‬
‫من الزّبد فى النضاج والتليين‪ ،‬وذكر ((جالينوس))‪ :‬أنه أبرأ به الورامَ الحادثة فى الُذن‪ ،‬وفى الرنبة‪ ،‬وإذا‬
‫دُِلكَ به موضعُ السنان‪ ،‬نبتت سريعاً‪ ،‬وإذا خُِلطَ مع عسل ولَ ْوزٍ مُرّ‪ ،‬جل ما فى الصدر والرئة‪ ،‬والكَيموساتِ‬
‫سيّما إذا كان مزاجُ صاحبها بلغمياً‪.‬‬‫الغليظة اللّزِجة‪ ،‬إل أنه ضار بال َمعِدَة‪ِ ،‬‬
‫ب مع العسل نفع من شرب السّمّ القاتل‪ ،‬ومِن لدغ الحيّات والعقارب‪ ،‬وفى‬
‫شرِ َ‬
‫وأما سمن البقر وال َمعِزِ‪ ،‬فإنه إذا ُ‬
‫س بشىءٍ أفضل مِنَ السمن‪.‬‬‫كتاب ابن السّنى‪ :‬عن على بن أبى طالب رضى ال عنه قال‪ :‬لم يَسْتشفِ النا ُ‬

‫س َمكٌ‪ :‬روى المام أحمد بن حنبل‪ ،‬وابن ماجه فى ((سننه))‪ :‬من حديث عبد ال بن عمر‪ ،‬عن النبىّ صلى ال‬ ‫َ‬
‫س َمكُ والجَرَادُ‪ ،‬وال َكبِدُ والطّحَالُ))‪.‬‬
‫ن و َدمَانِ‪ :‬ال ّ‬
‫عليه وسلم أنه قال‪(( :‬أُحِلّتْ لنا َم ْيتَتا ِ‬

‫ق القشر‪ ،‬ولم يكن صل َ‬


‫ب‬ ‫سمَك كثيرة‪ ،‬وأجودُه ما لذّ طعمه‪ ،‬وطابَ ريحُه‪ ،‬وتوسّط مقدارُه‪ ،‬وكان رقي َ‬
‫أصنافُ ال ّ‬
‫اللّحم ول يابسه‪ ،‬وكان فى ماءٍ عذب جارٍ على الحصباء‪ ،‬ويتغذّى بالنبات ل القذار‪ ،‬وأصلح أماكنه ما كان فى‬
‫نهر جيد الماء‪ ،‬وكان يأوِى إلى الماكن الصخرية‪ ،‬ثم الرملية‪ ،‬والمياه الجارية العذبة التى ل قذرَ فيها‪ ،‬ول‬
‫حمأة‪ ،‬الكثيرة الضطراب والتموج‪ ،‬المكشوفة للشمس والرّياح‪.‬‬

‫عسِر النهضام‪ ،‬يُولّد بلغماً كثيراً‪ ،‬إل‬


‫سمَك البحرى فاضل‪ ،‬محمود‪ ،‬لطيف‪ ،‬والطرى منه بارد رطب‪َ ،‬‬ ‫وال ّ‬
‫صبُ البدن‪ ،‬ويزيد فى المَنِىّ‪ ،‬ويُصلح المزجة‬‫البحرىَ وما جرى مجراه‪ ،‬فإنه يُولّد خلطًا محموداً‪ ،‬وهو يُخْ ِ‬
‫الحارة‪.‬‬

‫ب العهد بالتملّح‪ ،‬وهو حار يابس‪ ،‬وكلما تقادم عهدُه ازداد حرّه ويبسه‪ ،‬والسّلور‬ ‫وأما المالح‪ ،‬فأجودُه ما كان قري َ‬
‫جرّىّ‪ ،‬واليهودُ ل تأكله‪ .‬وإذا ُأكِلَ طريّا‪ ،‬كان مليّنًا للبطن‪ ،‬وإذا مُلّحَ وعتق وُأكِلَ‪،‬‬‫منه كثير اللزوجة‪ ،‬ويسمى ال ِ‬
‫ق وَ ُوضِعَ مِن خارجٍ‪ ،‬أخرج السّلَى والفضول من عُمق البدن من‬ ‫صفّى قصبة الرئة‪ ،‬وجوّد الصوتَ‪ ،‬وإذا دُ ّ‬
‫ن له قوة جاذبة‪.‬‬
‫طريق أ ّ‬

‫وماء ملح الجِرّىّ المالح إذا جلسَ فيه مَن كانت به قرحة المعاء فى ابتداء العِلّة‪ ،‬وافقه بجذبه الموادّ إلى ظاهر‬
‫ن به‪ ،‬أبرأ من عِرْق النّسَا‪.‬‬
‫البدن‪ ،‬وإذا احتُقِ َ‬

‫ى السمين منه يُخصب البدن لحمُه و َودَكُه‪.‬‬


‫سمَك ما قرُب من مؤخرها‪ ،‬والطر ّ‬
‫وأجودُ ما فى ال ّ‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫ى صلى ال عليه وسلم فى‬ ‫@ وفى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث جابر بن عبد ال رضى ال عنه قال‪(( :‬بعثنا النب ّ‬
‫خبَطَ‪ ،‬فألقى لنا‬
‫ع شديد‪ ،‬حتى أكلنا ال َ‬ ‫حلَ‪ ،‬فأصابنا جو ٌ‬
‫ثلثمائة راكب‪ ،‬وأميرُنا أبو عُبيدة بن الجرّاح‪ ،‬فأتينا السا ِ‬
‫البح ُر حوتاً يقال لها‪ :‬عنبر‪ ،‬فأكلنا منه نِصفَ شهرٍ‪ ،‬وائتدمنا ب َودَكِه حتى ثابت أجسامُنا‪ ،‬فأخذ أبو عبيدة ضلعًا من‬
‫أضلعه‪ ،‬وحمل َرجُلً على بعيره‪ ،‬ونصبه‪ ،‬فمرّ تحته))‪.‬‬

‫ى وأبو داود‪ ،‬عن ُأمّ المُنذِر‪ ،‬قالت‪ :‬دخل علىّ رسولُ الِ صلى ال عليه وسلم ومعه على‬ ‫سِلْقٌ‪ :‬روى الترمذ ّ‬
‫رضى ال عنه‪ ،‬ولنا دَوَالٍ معلّقةٌ‪ ،‬قالت‬

‫ى معه يأكُلُ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬مَهْ يا‬ ‫‪ :‬فجعل رسولُ الِ صلى ال عليه وسلم يأكُلُ وعل ٌ‬
‫صبْ من هذا‪،‬‬ ‫ى فإ ّنكَ ناقِهٌ))‪ ،‬قالت‪ :‬فجعلتُ لهم سِلْقاً وشعيراً‪ ،‬فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬يا علىّ؛ فأ ِ‬
‫عل ّ‬
‫ق َلكَ))‪ .‬قال الترمذىّ‪ :‬حديثٌ حسن غريب‪.‬‬ ‫فإنه أوفَ ُ‬

‫ب منهما‪ ،‬وفيه برود ٌة ملطّفة‪ ،‬وتحليلٌ‪ ،‬وتفتيحٌ‪ .‬وفى‬ ‫السّلق حار يابس فى الُولى‪ ،‬وقيل‪ :‬رطب فيها‪ ،‬وقيل‪ :‬مُ َركّ ٌ‬
‫ى بمائه‪ ،‬ويقتل القمل‪ ،‬ويُطلَى به‬‫السود منه قبضٌ ونف ٌع من داء الثعلب‪ ،‬والكَلَف‪ ،‬والحَزَارِ‪ ،‬والثآليل إذا طُِل َ‬
‫س َددَ ال َك ِبدِ والطّحال‪.‬‬
‫القُ َوبَاء مع العسل‪ ،‬ويفتح ُ‬

‫سيّما مع العدس‪ ،‬وهما رديئان‪ ،‬والبيضُ‪ :‬يَُليّن مع العدس‪ ،‬ويُحْقَن بمائه للسهال‪،‬‬ ‫ل البطن‪ ،‬ول ِ‬ ‫وأسودُه يَعقِ ُ‬
‫ى والتّوَابِل‬
‫وينفع من القُوَلنْج مع المَرِ ّ‬

‫وهو قليل الغذاء‪ ،‬ردىء ال َكيْمُوس‪ ،‬يحرق الدمَ‪ ،‬ويُصلحه الخل والخَ ْردَل‪ ،‬والكثار منه يُولّد القبض والنفخ‪.‬‬

‫حرف الشين‬
‫شُونيزٌ‪ :‬هو‪ :‬الحبّة السوداء‪ ،‬وقد تقدّم فى حرف الحاء‪.‬‬

‫شبْرُمٌ‪ :‬روى الترمذىّ وابن ماجه فى‬


‫ُ‬

‫ع َميْس‪ ،‬قالت‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬


‫((سننهما))‪ :‬من حديث أسماء بنت ُ‬

‫شبْرُمِ‪ .‬قال‪(( :‬حارٌ جارٌ))‪.‬‬


‫س َتمْشِينَ)) ؟ قالت‪ :‬بال ّ‬
‫ت تَ ْ‬
‫‪(( :‬بماذا ُكنْ ِ‬

‫جمّ ٌة مِن‬
‫شبْ ُرمُ شجر صغير وكبير‪ ،‬كقامة الرجل وأرجح‪ ،‬له قُضبانٌ حُمر ملمّعة ببياض‪ ،‬وفى رؤوس قضبانه ُ‬ ‫ال ّ‬
‫ب صغير مثل البُطْم‪ ،‬فى قدره‪،‬‬‫وَرق‪ ،‬وله نَوْرٌ صِغار أصفرُ إلى البياض‪ ،‬يسقط ويخلفه مراودُ صِغار فيها حَ ٌ‬
‫ق عليها قُشورٌ حُمر‪ ،‬والمستعمَل منه ِقشْرُ عرُوقه‪ ،‬ولبنُ قضبانه‪.‬‬
‫أحم ُر اللّون‪ ،‬ولها عرو ٌ‬

‫سهّلُ السوداء‪ ،‬وال َك ْيمُوسات الغليظة‪ ،‬والما َء الصفر‪ ،‬والبلغم‪ُ ،‬مكْ ِربٌ‪،‬‬ ‫وهو حارٌ يابس فى الدرجة الرابعة‪ ،‬و ُي َ‬
‫ل أن يُنقَعَ فى اللّبن الحليب يومًا وليلة‪ ،‬ويُغيّ َر عليه اللّبنُ فى اليوم‬ ‫ُمغَثّ‪ ،‬والكثا ُر منه يقتل‪ ،‬وينبغى إذا استُعمِ َ‬
‫ط معه الورود وال َكثِيراءُ‪ ،‬ويُشرب بماء العسل‪ ،‬أو عصير‬ ‫مرتين أو ثلثاً‪ ،‬ويُخْرَج‪ ،‬ويُجفّفُ فى الظل‪ ،‬ويُخلَ ُ‬
‫شبْرُم‪ ،‬فل خي َر فيه‪،‬‬ ‫ن ال ّ‬
‫ح َنيْن‪ :‬أمّا لب ُ‬
‫ال ِعنَب‪ ،‬والشّ ْربَ ُة مِنه ما بيْنَ أربع دوانِق إلى دانِ َقيْن على حسب القوة‪ ،‬قال ُ‬
‫ت كثيرًا من الناس‬‫ول أرى شُربه ألبتة‪ ،‬فقد َقتَلَ به أطبا ُء الطّرقا ِ‬

‫شعِيرٌ‪ :‬روى ابن ماجه‪ :‬من حديث عائشة‪ ،‬قالت‪ :‬كان رسولُ ال صلى ال عليه وسلم إذا أخذ أحدًا من أهْلِهِ‬ ‫َ‬
‫سوْا ِمنْهُ‪ ،‬ثم يقول‪(( :‬إنّه ل َي ْرتُو فُؤادَ الحزينِ ويَسْرُو فُؤادَ‬
‫صنِعَ‪ ،‬ثم أمرهم فَحَ َ‬‫عكُ‪ ،‬أ َمرَ بالحَسَا ِء مِنَ الشّعيرِ‪ ،‬ف ُ‬
‫الوَ ْ‬
‫ج ِههَا))‪.‬‬
‫سرُو إحداكُنّ الوَسَخَ بالماءِ عن وَ ْ‬‫السّقِيم كما تَ ْ‬

‫ف ويُزِيلُ‪.‬‬
‫شدّه ويُقوّيه‪ .‬و ((يَسرو))‪ :‬يكشِ ُ‬
‫ومعنى ((يرتوه))‪ :‬ي ُ‬

‫وقد تقدّم أنّ هذا هو ماء الشعير المغلى‪ ،‬وهو أكث ُر غِذاءً من سويقه‪ ،‬وهو نافع للسّعال‪ ،‬وخشونةِ الحلق‪ ،‬صالح‬
‫حدّة الفُضول‪ ،‬مُدِ ٌر للبَوْلِ‪ ،‬جَلء لما فى ال َمعِدَة‪ ،‬قاطِ ٌع للعطش‪ ،‬مُطْفِى ٌء للحرارة‪ ،‬وفيه قوة يجلو بها ويُلَطّف‬
‫ل َقمْع ِ‬
‫ويُحَلّل‪.‬‬

‫وصفته‪ :‬أن يُؤخذ مِن الشعير الجيدِ المرضوضِ مقدارٌ‪ ،‬ومن الماء الصافى العذبِ خمس ُة أمثاله‪ ،‬ويُلقى فى ِقدْر‬
‫خمُساه‪ ،‬ويُصفّى‪ ،‬ويُستعملَ منه مقدار الحاجة مُحَلً‪.‬‬
‫نظيف‪ ،‬ويُطبخ بنار معتدلة إلى أن يَبقى منه ُ‬

‫حنِيذٍ}[هود ‪:‬‬
‫شِــوَاءٌ‪ :‬قال ال تعالى فى ضيافة خليـله إبراهيم عليه السلم لضيافه‪َ { :‬فمَا َلبِثَ أَن جَاءَ ِبعِجْلٍ َ‬
‫‪]79‬‬

‫حنِيذ))‪ :‬المشوى على الرّضْفِ‪ ،‬وهى الحجارةُ المحماة‪.‬‬


‫و((ال َ‬

‫وفى الترمذى‪ :‬عن أُمّ سلمة رضى ال عنها‪(( ،‬أنها قرّبت إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم جنباً مشوياً‪ ،‬فأكل‬
‫منه ثم قام إلى الصلة ولم يتوضأ))‪ .‬قال الترمذى‪ :‬حديثٌ صحيح‪.‬‬

‫وفيه أيضاً‪ :‬عن عبد ال بن الحارث‪ ،‬قال‪ :‬أكلنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم شِواءً فى المسجد‪.‬وفيه أيضاً‪:‬‬
‫ت مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ذات ليلة‪ ،‬فأمر بجنبٍ‪ ،‬فشُوِىَ‪ ،‬ثم أخذ‬ ‫عن المغيرَة بن شُعبة قال‪(( :‬ضِف ُ‬
‫ت يَدَاهُ))‪.‬‬
‫الشّفْرَة‪ ،‬فجعل يَحُ ّز لى بها منه‪ ،‬قال‪ :‬فجاء بلل يُؤذّن للصلة‪ ،‬فألقى الشّفْرَة فقال‪(( :‬مَا لَه تَ ِربَ ْ‬

‫أنفع الشِواء شِواء الضأن الحَوْلىّ‪ ،‬ثم العِجلِ اللّطيف السمين‪ ،‬وهو حارٌ رطب إلى اليبوسة‪ ،‬كثيرُ التوليد للسّوداء‪،‬‬
‫وهو من أغذية القوياء والصحاء والمرتاضين‪ ،‬والمطبوخُ أنفع وأخف على المعدة‪ ،‬وأرطبُ منه‪ ،‬ومن‬
‫المُطجّن‪.‬‬

‫حنِيذ‪.‬‬
‫وأردؤه المشوى فى الشمس‪ ،‬والمشوى على الجمر خير من المشوى باللّهب‪ ،‬وهو ال َ‬
‫شعِيرِ‪،‬‬
‫ن يهوديًا أضاف رسولَ ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقدّم له خُبزَ َ‬ ‫حمٌ‪ :‬ثبت فى ((المسند)) عن أنس(( أ ّ‬ ‫شَ ْ‬
‫سنِخَةُ))‪ :‬المتغيرة‪.‬‬
‫سنِخَةً))‪ ،‬و((الهالة))‪ :‬الشّحْم المذاب‪ ،‬واللْية‪ .‬و((ال ّ‬
‫وإهالَةً َ‬

‫لل‬
‫خ ْيبَرَ‪ ،‬فالتزمتُه وقلتُ‪ :‬وا ِ‬
‫حمٍ يَ ْومَ َ‬
‫وثبت فى ((الصحيح))‪ :‬عن عبد ال بن ُمغَفّل‪ ،‬قال‪ ((:‬دُلّى جِرَابٌ من شَ ْ‬
‫حكُ‪ ،‬ولم يقل شيئاً))‪.‬‬ ‫أُعطى أحداً منه شيئاً‪ ،‬فالتفتّ‪ ،‬فإذا رسولُ الِ صلى ال عليه وسلم َيضْ َ‬

‫أجود الشح ِم ما كان مِن حيوان مكتمل‪ ،‬وهو حارٌ رطب‪ ،‬وهو أقلّ رطوبةً من السمن‪ ،‬ولهذا لو أُذيب الشحمُ‬
‫والسمن كان الشَح ُم أسرعَ جموداً‪.‬‬

‫وهو ينفع من خشونة الحلق‪ ،‬ويُرخى ويعفن‪ ،‬ويُدفع ضرره بالّليْمون المملُوح‪ ،‬والزنجبيل‪ ،‬وشح ُم المَعز أقبضُ‬
‫الشحوم‪ ،‬وشحم التّيوس أشدّ تحليلً‪ ،‬وينفع مِن قروح المعاء‪ ،‬وشح ُم العَنز أقوى فى ذلك‪ ،‬ويُحتقَن به للسّحَج‬
‫والزّحِير‪.‬‬

‫حرف الصاد‬

‫شعِينَ }[البقرة ‪]45 :‬‬


‫صبْ ِر وَالصّلَةِ‪ ،‬وَإ ّنهَا َلكَبِيرَ ٌة إلّ عَلَى الْخَا ِ‬
‫س َتعِينُو ْا بِال ّ‬
‫ل تعالى‪ { :‬وَا ْ‬
‫صَلَةٌ‪ :‬قال ا ُ‬

‫ل مَعَ الصّابِرِينَ}[البقرة ‪.]44 :‬‬


‫صبْ ِر وَالصّلَةِ‪ ،‬إنّ ا َ‬
‫ستَعِينُواْ بِال ّ‬
‫وقال‪{ :‬يَا َأّيهَا اّلذِينَ آ َمنُو ْا ا ْ‬

‫سئَُلكَ رِزْقاً‪ ،‬نّحْنُ نَ ْر ُز ُقكَ‪ ،‬وَا ْلعَا ِقبَةُ لِلتّ ْقوَى}[طه ‪]132 :‬‬
‫ل نَ ْ‬
‫طبِ ْر عََل ْيهَا‪َ ،‬‬
‫ك بِالصّلَةِ وَاصْ َ‬
‫وقال تعالى‪{ :‬وَ ْأمُ ْر أَهَْل َ‬

‫وفى ((السنن))‪(( :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا حَ َزبَهُ أ ْمرٌ‪ ،‬فَ ِزعَ إلى الصّلةِ))‪.‬‬

‫وقد تقدّم ذكر الستشفاء بالصلة من عامة الوجاع قبل استحكامها‪.‬‬

‫والصلة مجلبةٌ للرزق‪ ،‬حافظة للصحة‪ ،‬دافعة للذى‪ ،‬مطردة للَدواء‪ ،‬مقوّية للقلب‪ ،‬مبيّضة للوجه‪ ،‬مُ ْفرِحةٌ‬
‫للنفس‪ ،‬مُذهبة للكسل‪ ،‬منشّطةٌ للجوارح‪ ،‬ممدّة للقُوَى‪ ،‬شارحِة للصّدر‪ ،‬مغذّية للروح‪ ،‬مُنوّرة للقلب‪ ،‬حافِظةٌ‬
‫للنعمة‪ ،‬دافعة للنقمة‪ ،‬جالِبة للبركة‪ ،‬مُبعِدة من الشيطان‪ ،‬مُقرّبة من الرحمن‪.‬‬

‫وبالجملة‪ ..‬فلها تأثير عجيب فى حفظ صحة البدن والقلب‪ ،‬وقواهما‪ ،‬ودفع المواد الرديئة عنهما‪ ،‬وما ابتُلى‬
‫ظ المُصَلّى منهما أقلّ‪ ،‬وعاقبتُه أسلم‪.‬‬
‫رجلن بعاهةٍ أو داءٍ أو مِحنةٍ أو بَليةٍ إل كان ح ّ‬

‫سيّما إذا أُعطيت حقها من التكميل ظاهراً وباطناً‪ ،‬فما استُ ْد ِفعَتْ‬‫وللصلة تأثي ٌر عجيب فى دفع شُرور الدنيا‪ ،‬ول ِ‬
‫ل عَزّ وجَلّ‪ ،‬وعلى‬ ‫ن الصلة صِلةٌ با ِ‬‫ح ُهمَا بمثل الصلة‪ ،‬وسِ ّر ذلك أ ّ‬
‫جِلبَت مصاِل ُ‬
‫شرو ُر الدّنيا والخرة‪ ،‬ول استُ ْ‬
‫ض عليه‬ ‫ل تُفتح عليه من الخيرات أبوابَها‪ ،‬وتُقط ُع عنه من الشرور أسبابَها‪ ،‬وتُفِي ُ‬ ‫قدر صِلَةِ العبد بربه عَزّ وجَ ّ‬
‫موادَ التوفيق مِن ربه عَزّ وجَلّ‪ ،‬والعافية والصحة‪ ،‬والغنيمة والغِنى‪ ،‬والراحة والنعيم‪ ،‬والفراح والمسرّات‪،‬‬
‫كلها محضرةٌ لديه‪ ،‬ومسارِع ٌة إليه‪.‬‬

‫ف اليمان))‪ ،‬فإنّهُ ما ِهيّة مُركّبة من صبر وشكر‪ ،‬كما قال بعضُ السّلَف‪ :‬اليمانُ نصفان‪:‬‬ ‫صبْرٌ‪(( :‬الصبر نِص ُ‬
‫َ‬
‫شكُورٍ}[إبراهيم ‪.]5 :‬‬
‫صبّارٍ َ‬
‫ت ِلكُلّ َ‬
‫ن فِى ذَِلكَ ليَا ٍ‬
‫صبْرٌ‪ ،‬ونِصفٌ شكرٌ‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬إ ّ‬
‫نِصفٌ َ‬

‫ضّيعُها‪ ،‬وصبرٌ‬ ‫صبْرٌ على فرائض ال‪ ،‬فل يُ َ‬ ‫سدِ‪ ،‬وهو ثلثةُ أنواع‪َ :‬‬
‫جَ‬‫صبْرُ من اليمان بمنزلة الرأسِ مِنَ ال َ‬
‫وال ّ‬
‫عن مَحارمه‪ ،‬فَل يرتكِبُها‪ ،‬وصبرٌ على أقضيته وأقداره‪ ،‬فل يتسخّطُها‪ ،‬ومَن استكمَلَ هذهِ المراتبَ الثلث‪،‬‬
‫استكمَل الصبرَ‪ .‬ولذةُ الدنيا والخرة ونعيمها‪ ،‬والفوزُ والظف ُر فيهما‪ ،‬ل يَصِل إليه أحدٌ إل على جِسْر الصبر‪ ،‬كما‬
‫صبْرِ‪.‬‬
‫ل أحد إلى الجنّةِ إل على الصّراطِ‪ ،‬قال عم ُر ابن الخطاب رضى ال عنه‪ :‬خي ُر عيشٍ أدركناه بال ّ‬ ‫ل يَصِ ُ‬

‫صبْرِ‪ ،‬وإذا تأملتَ النّقصان الذى ُيذَمّ صاحبُه‬


‫ب الكمال المكتسَب فى العالَم‪ ،‬رأيتَها كلها َمنُوطةً بال ّ‬
‫ت مراتِ َ‬
‫وإذا تأمل َ‬
‫ت قُدرته‪ ،‬رأيتَه كله مِن عدمِ الصبر‪ ،‬فالشجاع ُة والعِفّةُ‪ ،‬والجودُ واليثارُ‪ ،‬كلّه صبرُ ساعة‪.‬‬ ‫عليه‪ ،‬ويدخُل تح َ‬

‫سمَ فَا َز ِبكَنْزِهِ‬


‫ل ذَا الطّلّ ْ‬
‫سمٌ عَلَى َكنْزِ ا ْلعُلَى مَنْ حَ ّ‬
‫صبْرُ طِلّ ْ‬
‫فال ّ‬
‫صبْر‪،‬‬ ‫صحَةُ القلوب والبدان والرواح بمثل ال ّ‬ ‫وأكثرُ أسقام البدن والقلب‪ ،‬إنما تنشأ من عدم الصبر‪ ،‬فما حُ ِفظَتْ ِ‬
‫ن ال مع الصابرين ومحبتُه لهم‪،‬‬ ‫ل مع أهله‪ ،‬فإ ّ‬ ‫فهو الفاروق الكبر‪ ،‬والتّرياق العظم‪ ،‬ولو لم يكن فيه إل معيةُ ا ِ‬
‫خيْرٌ‬
‫صبَ ْرتُ ْم َلهُوَ َ‬
‫صبْر‪ ،‬وإنه خير لهله‪{ ،‬وََلئِن َ‬ ‫ن النصرَ مع ال ّ‬ ‫ن ال يُحب الصابرين‪ ،‬ونصرُهُ لهله‪ ،‬فإ ّ‬ ‫فإ ّ‬
‫ل َلعَّلكُمْ‬‫صبِرُو ْا وَصَابِرُو ْا وَرَابِطُواْ وَاتّقُو ْا ا َ‬
‫ن آ َمنُوا ا ْ‬‫لّلصّابِرِينَ}[النحل ‪ ،]126 :‬وإنه سببُ الفلح‪{ :‬يَا َأّيهَا اّلذِي َ‬
‫تُفْلِحُونَ}[آل عمران ‪]200 :‬‬

‫ل الِ صلى ال عليه‬


‫صبِرٌ‪ :‬روى أبو داود فى كِتاب ((المَرَاسيل)) من حديث قيس ابن رافع ال َقيْسىّ‪ ،‬أنّ رسو َ‬ ‫َ‬
‫صبِ ُر والثّفّاءُ))‪.‬‬
‫لمَ ّريْن من الشّفَاءِ ؟ ال ّ‬
‫وسلم قال‪(( :‬ماذا فى ا َ‬

‫ى أبو‬
‫ل الِ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حين تُوفّ َ‬‫ل علىّ رسو ُ‬ ‫وفى ((السنن)) لبى داود‪ :‬من حديث ُأمّ سََلمَة‪ ،‬قالت‪ :‬دخ َ‬
‫ل الِ‪ ،‬ليس فيه طيِبٌ‪،‬‬‫صبِرٌ يا رسو َ‬
‫صبِرَاً‪ ،‬فقال‪(( :‬ماذا يا ُأمّ سلمةَ)) ؟ فقلت‪ :‬إنما هو َ‬
‫ت علىّ َ‬
‫سلمةَ‪ ،‬وقد جعل ُ‬
‫شبّ الوَجْهَ‪ ،‬فَل تجعليه إل بالليل)) ونَهى عنه بالنهار‪.‬‬ ‫قال‪(( :‬إنّهُ يَ ُ‬

‫سيّما الهندىّ منه‪ ،‬يُنقّى الفُضول الصفراوية التى فى الدماغ وأعصابِ البصر‪ ،‬وإذا طُلِ َ‬
‫ى‬ ‫صبِ ُر كثيرُ المنافع‪ ،‬ل ِ‬
‫ال ّ‬
‫صدَاع‪ ،‬وينفع من قُروح النف والفمِ‪ ،‬ويُسهل السّوداء والمالِيخُولْيا‪.‬‬
‫على الجبهة والصّدغ بدُهن الورد‪ ،‬نفع من ال ّ‬

‫ب منه‬
‫صبِرُ الفارسى يُذكى العقل‪ ،‬و ُيمِدّ الفؤاد‪ ،‬ويُنقّى ال ُفضُول الصفراويةَ والبلغميّةَ مِن ال َمعِدَة إذا شُرِ َ‬
‫وال ّ‬
‫مِلْعقتان بماء‪ ،‬ويردّ الشهوةَ الباطلة والفاسدة‪ ،‬وإذا شُرِب فى البرد‪ ،‬خِيف أن يُسهل دماً‬

‫جنّ ٌة من أدواء الروح والقلب والبدن‪ ،‬منا ِفعُه تفوت الحصاء‪ ،‬وله تأثيرٌ عجيب فى حفظ الصحة‪،‬‬ ‫صَ ْومٌ‪ :‬الصوم ُ‬
‫سيّما إذا كان باعتدالٍ وقصدٍ فى أفضلِ أوقاته شرعاً‪،‬‬
‫س عن تناول مؤذياتها‪ ،‬ول ِ‬
‫وإذابةِ الفضلتِ‪ ،‬وحبْسِ النف ِ‬
‫وحاجَ ُة البدنِ إليه طبعاً‪.‬‬

‫ظ عليها قُواها‪ ،‬وفيه خاصي ٌة تقتضى إيثارَه‪ ،‬وهى تفريحُه للقلب‬


‫ثم إنّ فيه من إراحة ال ُقوَى والعضاء ما يحف ُ‬
‫عاجلً وآجلً‪ ،‬وهو أنفعُ شى ٍء لصحاب المزجة البارِدةِ والرطبة‪ ،‬وله تأثيرٌ عظيم فى حفظ صحتهم‪.‬‬

‫وهو يدخلُ فى الدوية الروحانية والطبيعية‪ ،‬وإذا راعى الصائ ُم فيه ما ينبغى مراعاتُه طبعًا وشرعاً‪ ،‬عظُمَ انتفاعُ‬
‫قلبه وبدنه به‪ ،‬وحبس عنه الموادّ الغريبةَ الفاسدةَ التى هو مستعدٌ لها‪ ،‬وأزال الموادّ الرديئة الحاصلة بحسب‬
‫ظ منه‪ ،‬ويُعينه على قيامه بمقصود الصوم وسرّه وعلته‬ ‫كماله ونقصانه‪ ،‬ويحفظ الصائ َم مما ينبغى أن يُتحفّ َ‬
‫ص من بين العمال بأنه‬ ‫الغائية‪ ،‬فإن القصدَ منه أمر آخر ورا َء تركِ الطعام والشراب‪ ،‬وباعتبار ذلك المر اختُ ّ‬
‫جنّ ًة بين العبد وبين ما يؤذى قلبه وبدنه عاجلً وآجلً‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬يَا َأّيهَا اّلذِينَ‬ ‫ل سبحانه‪ ،‬ولـمّا كان وقايةً و ُ‬
‫ب عَلَى اّلذِينَ مِنْ َقبِْلكُ ْم َلعَّلكُ ْم تَتّقُونَ}[البقرة ‪ .]188 :‬فأحدُ مقصودَى الصيام‬
‫صيَامُ َكمَا ُكتِ َ‬
‫ب عََل ْيكُمُ ال ّ‬
‫آ َمنُوا ُكتِ َ‬
‫جنّةُ والوِقاية‪ ،‬وهى حِمية عظيمةُ النفع‪ ،‬والمقصودُ الخر‪ :‬اجتماعُ القلب والهم على ال تعالى‪ ،‬وتوفيرُ قُوَى‬ ‫ال ُ‬
‫النفس على محابّه وطاعته‪ ،‬وقد تقدّم الكلمُ فى بعض أسرار الصوم عند ذكر َهدْيه صلى ال عليه وسلم فيه‪.‬‬

‫حرف الضاد‬

‫ل صلى ال عليه وسلم سُئل عنه لمّا ُقدّم‬ ‫ضَـبٌ‪ :‬ثبت فى ((الصحيحين)) من حــديث ابن عباس‪ ،‬أنّ رسولَ ا ِ‬
‫ل بين يديه وعلى‬ ‫ج ُدنِى أَعَافُهُ‪ ،‬وُأكِ َ‬
‫ض قَ ْومِى‪ ،‬فأ ِ‬
‫إليه‪ ،‬وامتنعَ من أكله‪ :‬أحرا ٌم هو ؟ فقال‪(( :‬ل‪ ،‬ولكنْ لم يكن بأر ِ‬
‫مائدته وهو َينْظُرُ))‬

‫وفى ((الصحيحين)) من حديث ابن عمر رضى ال عنهما‪ ،‬عنه صلى ال عليه وسلم قال‪:‬‬

‫((ل ُأحِلّه ول ُأحَ ّرمُه))‪.‬‬

‫وهو حارٌ يابس‪ ،‬يُقوّى شهوة الجِماع‪ ،‬وإذا دُقّ‪ ،‬و ُوضِعَ على موضع الشّوْكة اجتذَبها‪.‬‬

‫ض ْفدِعٌ‪ :‬قال المام أحمدُ‪ :‬الضّف َدعُ ل يَحِل فى الدواء‪ ،‬نهى رسولُ ال صلى ال عليه وسلم عن قتلها‪ ،‬يري ُد‬
‫ِ‬
‫ن طبيباً ذكر ضِفدعاً فى‬ ‫الحديثَ الذى روا ُه فى ((مسنده)) من حديث عثمان بن عبد الرحمن رضى ال عنه(( أ ّ‬
‫دواء عندَ رسول ال صلى ال عليه وسلم فنهاه عن قتلها))‪.‬‬
‫قال صاحب القانون‪ :‬مَن أكل مِن دم الضّ ْفدَع أو جُرمه‪ ،‬ورِم بدنُه‪ ،‬و َك َمدَ لونُه‪ ،‬وقذف ال َمنِىّ حتى يموت‪ ،‬ولذلك‬
‫ترك الطباءُ استعماله خوفاً من ضرره‪.‬‬

‫وهى نوعان‪ :‬مائيّة وتُرابيّة‪ ،‬والترابية يقتل أكلُها‪.‬‬

‫حرف الطاء‬

‫ت قُرّةُ‬
‫ى من دُنياكُم‪ :‬النّساءُ والطّيبُ‪ ،‬وجُعل ْ‬
‫حبّبَ إل ّ‬
‫طِيبٌ‪ :‬ثبت عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ُ (( :‬‬
‫عيْنى فى الصّلة))‪.‬‬
‫َ‬

‫ق عليه‪.‬‬
‫وكان صلى ال عليه وسلم يُكثِ ُر التطيّبَ‪ ،‬وتشتدّ عليه الرائحةُ الكريهة‪ ،‬وتَشُ ّ‬

‫غذَا ُء الروح التى هى مطيةُ القُوَى‪ ،‬والقُوَى تتضاعف وتزيدُ بالطّيبِ‪ ،‬كما تزيدُ بالغذاء والشراب‪،‬‬ ‫والطّيبُ ِ‬
‫سرّ غَيبتُه‪ ،‬ويَثقُلُ على الروح‬ ‫ث الُمور المحبوبة‪ ،‬وغَيبةِ مَن تَ ُ‬ ‫والدّعَةِ والسرورِ‪ ،‬ومعاشرةِ الحبةِ‪ ،‬وحدو ِ‬
‫حمّى للبدن‪،‬‬ ‫ن القُوَى‪ ،‬وتَجلب الهم والغم‪ ،‬وهى للروح بمنزلة ال ُ‬ ‫مشاهدتُه‪ ،‬كالثّقلء وال ُبغَضاء‪ ،‬فإنّ مُعاشرتهم تُوهِ ُ‬
‫ب ال سبحانَه الصحابةَ بنهيُهم عن التخلّق بهذا الخُلُق فى معاشرة‬ ‫وبمنزلة الرائحة الكريهة‪ ،‬ولهذا كان مما حبّ َ‬
‫حدِيثٍ‬
‫س َت ْأنِسِينَ لِ َ‬
‫ط ِع ْمتُمْ فَا ْنتَشِرُو ْا َولَ مُ ْ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم لتأذّيه بذلك‪ ،‬فقال‪{ :‬إذَا دُعِيتُ ْم فَادْخُلُو ْا فَإذَا َ‬
‫ى مِنَ الْحَقّ}[الحزاب‪]53-52 :‬‬ ‫ل يَسْـتَحْ ِ‬
‫حىِ ِم ْنكُمْ‪ ،‬وَالُ َ‬
‫ى َفيَسْـتَ ْ‬
‫ن يُ ْؤذِى النّبِ ّ‬
‫* إنّ ذِلكُ ْم كَا َ‬

‫ن الطّيب كان من أحبّ الشياء إلى رسولِ الِ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وله تأثيرٌ فى حفظ الصحة‪،‬‬ ‫والمقصود أ ّ‬
‫ودفع كثير من اللم وأسبابها‪ ،‬بسبب قوة الطبيعة به‪.‬‬

‫ح منها شىء مثل حديث‪(( :‬مَنْ أكل الطّينَ‪ ،‬فقد أعانَ على قتلِ نفسِه))‪،‬‬ ‫طِينٌ‪ :‬ورد فى أحاديث موضوعة ل يَصِ ّ‬
‫ح َميْراء؛ ل تأكلى الطّينَ فإنه يَعصِ ُم البَطْنَ‪ ،‬و ُيصَفّ ُر اللّونَ‪ ،‬ويُذهِبُ بَهاءَ الوَجْهِ))‪.‬‬
‫ومثلُ حديث‪(( :‬يا ُ‬

‫سدّ‬
‫ل له عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إل أنه ردى ٌء مؤذٍ‪ ،‬ي ُ‬ ‫وكلّ حديث فى الطين فإنه ل يصح‪ ،‬ول أص َ‬
‫ح الفم‪.‬‬‫ق البطن‪ ،‬ويُوجب ن ْفثَ الدّم وقرو َ‬
‫ى التجفيف‪ ،‬ويمنع استطل َ‬
‫مجارى العروق‪ ،‬وهو بارد يابس‪ ،‬قو ّ‬

‫ح مّنضْ ُودٍ}[الواقعة‪ ،]29 :‬قال أكثر المفسّرين‪ :‬هو المَوْز‪ .‬و((المنضودُ))‪ :‬هو الذى قد‬
‫طَلْحٌ‪ :‬قال تعالى‪{ :‬وَطَلْ ٍ‬
‫ضدَ بعضُه على بعض‪ ،‬كالمُشْط‪ .‬وقيل‪:‬‬ ‫نُ ّ‬

‫ضدَ بعضُه إلى بعض‪ ،‬فهو مثل الموز‪،‬‬


‫ن كل شَوْكة ثمرة‪ ،‬فثمرُه قد نُ ّ‬
‫ضدَ مكا َ‬
‫((الطلحُ))‪ :‬الشج ُر ذو الشّوْك‪ ،‬نُ ّ‬
‫ل أصح‪ ،‬ويكون مَن ذكر الموزَ من السّلَف أراد التمثيل ل التخصيصَ‪ ..‬وال أعلم‪.‬‬ ‫وهذا القو ُ‬

‫وهو حارٌ رطب‪ ،‬أجودُه النضيج الحلو‪ ،‬ينفع مِن خشونة الصدر والرئة والسّعال‪ ،‬وقروح الكُلْي َتيْن‪ ،‬والمثانة‪،‬‬
‫و ُيدِرّ البَوْل‪ ،‬ويزيد فى ال َمنِىّ‪ ،‬و ُيحَ ّركُ الشهوة للجِماع‪ ،‬ويُليّن البطن‪ ،‬ويُؤكل قبل الطعام‪ ،‬ويَضر ال َم ِعدَة‪ ،‬ويزيد‬
‫سقَاتٍ ّلهَا طَلْ ٌع نَضِيدٌ}[ق‪:‬‬
‫ل بَا ِ‬
‫فى الصفراء والبلغم‪ ،‬ودفعُ ضرره بالسكر أو العسل طَلْعٌ‪ :‬قال تعالى‪{ :‬وَالنّخْ َ‬
‫خلٍ طَ ْل ُعهَا َهضِيمٌ}[الشعراء ‪]148 :‬‬
‫‪ ، ]10‬وقال تعالى‪َ { :‬ونَ ْ‬

‫ضدَ‬
‫طل ُع النخل‪ :‬ما يبدو من ثمرته فى أول ظهوره‪ ،‬وقشرُه يسمى الكُفُرّى‪ ،‬و((النضيدُ))‪ :‬ال َمنْضود الذى قد نُ ّ‬
‫بعضُه على بعض‪ ،‬وإنما يُقال له‬

‫((نضيدٌ)) ما دام فى ُكفُرّاه‪ ،‬فإذا انفتح فليس بنضيد‪.‬‬

‫ق ال ُكفُرّى عنه‪.‬‬
‫وأما ((الهضيم))‪ :‬فهو المنضم بعضُه إلى بعض‪ ،‬فهو كالنضيد أيضاً‪ ،‬وذلك يكون قبل تَشَقّ ِ‬

‫ل دقيق الحِنطة فيُجعل فى الُنثى‪ ،‬وهو‬


‫والطلع نوعان‪ :‬ذكرٌ وأُنثى‪ ،‬والتلقيح هو أن يُؤخَذ من الذكر وهو مث ُ‬
‫((الت ْأبِير))‪ ،‬فيكون ذلك بمنزلة اللقاح بين الذكر والُنثى‪.‬‬
‫ت مع رسول ال صلى ال‬ ‫وقد روى مسلم فى ((صحيحه))‪ :‬عن طلح َة بن عُبيد ال رضى ال عنه‪ ،‬قال‪(( :‬مرر ُ‬
‫عليه وسلم فى نخلٍ‪ ،‬فرأى قومًا يُلَقّحُونَ‪ ،‬فقال‪(( :‬ما يصنعُ هؤلء)) ؟ قالوا‪ :‬يأخُذون من الذكر فيجعلونه فى‬
‫الُنثى‪ .‬قال‪:‬‬

‫ن ذلك يُغنى شيئاً))‪ ،‬فبلغهم‪ ،‬فتركوه‪ ،‬فلم يَصْلُحْ‪ ،‬فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إنما هُوَ ظَنٌ‪ ،‬فإن‬ ‫((ما أَظُ ّ‬
‫جلّ‪،‬‬
‫ن ال عَزّ و َ‬ ‫ئ ويُصيبُ‪ ،‬ولكنْ ما قلتُ لكم ع ِ‬
‫ن يُخطِ ٌ‬
‫شرٌ ِمثُْلكُمْ‪ ،‬وإنّ الظَ ّ‬
‫كان يُغنى شيئاً‪ ،‬فاصنَعوهُ‪ ،‬فإنّما أنا بَ َ‬
‫فلن أكذِبَ على الِ))‪ ..‬انتهى‪.‬‬

‫حبَل‬
‫طل ُع النخل ينفع من الباه‪ ،‬ويَزيد فى المُباضَعة‪ .‬ودقيقُ طلعه إذا تحمّلتْ به المرأةُ قبل الجِماع أعان على ال َ‬
‫سكّن ثائرة الدم مع غلظةٍ‬
‫إعان ًة بالغة‪ ،‬وهو فى البرودة واليُبوسة فى الدرجة الثانية‪ُ ،‬يقَوّى ال َم ِعدَة ويُجفّفها‪ ،‬ويُ َ‬
‫وبط ِء هضم‪.‬‬

‫ول يحتمِلُه إل أصحابُ المزجة الحارّة‪ ،‬ومَن أكثرَ منه فإنه ينبغى أن يأخذ عليه شيئًا من الجُوَراشات الحارّة‪،‬‬
‫جمّارُ يجرى مجراه‪ ،‬وكذلك البلحُ‪ ،‬والبُسْرُ‪ ،‬والكثا ُر منه يض ّر بال َم ِعدَة‬ ‫ل الطبع‪ ،‬ويُقوّى الحشاء‪ ،‬وال ُ‬
‫وهو يَعقِ ُ‬
‫والصدر‪ ،‬وربما أورث القُوَلنْج‪ ،‬وإصلحُه بالسمن‪ ،‬أو بما تقدّم ذكرُه‪.‬‬

‫حرف العين‬

‫عنَبٌ‪ :‬فى ((ال َغيْلنيّات)) من حديث حَبيب بن يَسَار‪ ،‬عن ابن عباس رضى ال عنه قال‪ :‬رأيتُ رسـولَ ال صلى‬
‫ِ‬
‫ل العِنبَ خَرْطاً‪.‬‬
‫ال عليه وسلم يأك ُ‬

‫قال أبو جعفر العقيلىّ‪ :‬ل أصلَ لهذا الحديث‪ ،‬قلتُ‪ :‬وفيه داودُ بن عبد الجبار أبو سُلَيم الكوفىّ‪ ،‬قال يحيى بن‬
‫مَعين‪ :‬كان يكذب‪.‬‬

‫ب والبِطيخَ‪.‬‬
‫ب العن َ‬
‫ويُذكر عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬أنه كان يُح ّ‬

‫وقد ذكر ال سبحانه ال ِعنَبَ فى ستة مواضع مِن كتابه فى جملة نعمه التى أنعم بها على عباده فى هذه الدار وفى‬
‫جنّة‪ ،‬وهو من أفضلِ الفواكه وأكثرِها منافعَ‪ ،‬وهو يُؤكل رطباً ويابساً‪ ،‬وأخضرَ ويانعاً‪ ،‬وهو فاكهةٌ مع الفواكه‪،‬‬ ‫ال َ‬
‫حبّات‪ :‬الحرارة‬ ‫ب مع الشربة‪ ،‬وطبعُه طبعُ ال َ‬‫ت مع القواتِ‪ ،‬وأُدمٌ مع الدام‪ ،‬ودواءٌ مع الدوية‪ ،‬وشرا ٌ‬ ‫وقو ٌ‬
‫والرطوبةُ‪ ،‬وجيدُه ال ُكبّارُ المائىّ‪ ،‬والبيضُ أحمدُ من السود إذا تساويا فى الحلوة‪ ،‬والمتروكُ بعد قطفه يومين‬
‫أو ثلثة أحمدُ من المقطوف فى يومه‪ ،‬فإنه مُنفِخ مُطلِق للبطن‪ ،‬والمعلّقُ حتى يَضمُرَ قشره جيدٌ للغذاء‪ ،‬مقوّ‬
‫عجَ ُم ال ِعنَب كان أكثر تليينًا للطبيعة‪ ،‬والكثارُ منه مصدع للرأس‪،‬‬
‫للبدن‪ ،‬وغِذاؤه كغذاء التّين والزّبيب‪ ،‬وإذا أُلقَى َ‬
‫ودفع مضرته بال ّرمّان المُزّ‪.‬‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫سمّن‪ ،‬ويَغذو جيدُه غِذاءً حسناً‪ ،‬وهو أحدُ الفواكه الثلث التى هى ملوك‬
‫سهّل الطبع‪ ،‬ويُ َ‬
‫@ ومنفعةُ ال ِعنَب يُ َ‬
‫الفواكه‪ ،‬هو والرّطَب والتين‪.‬‬

‫عَسَلٌ‪ :‬قد تقدّم ذكر منافعه‪.‬‬

‫قال ابن جُ َريْج‪ :‬قال الزّهرىّ‪ :‬عليك بالعسل‪ ،‬فإنه جيد للحفظ‪.‬‬

‫ل على ما يُؤخذ من‬


‫حدّة‪ ،‬وأصدقه حلوةً‪ ،‬وما يُؤخذ من الجبال والشجر له فض ٌ‬
‫وأجودُه أصفاه وأبيضُه‪ ،‬وألينُه ِ‬
‫الخليا‪ ،‬وهو بحسب مرعَى نَحْلِه‬

‫عَجْوَةٌ‪ :‬فى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث سعد بن أبى وقّاص رضى ال عنه‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫حرٌ))‪.‬‬
‫ت عَجْوَةٍ‪ ،‬لَ ْم يَضُرّهُ ذلك اليومَ سُ ٌم ول سِ ْ‬
‫سبْ ِع َتمَرا ٍ‬
‫صبّحَ بِ َ‬
‫قال‪(( :‬مَن تَ َ‬
‫وفى ((سنن النسائى)) وابن ماجه‪ :‬من حديث جابر‪ ،‬وأبى سعيد رضى ال عنهما‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه‬
‫شفَاءٌ لِ ْل َعيْنِ))‪.‬‬
‫ن ‪ ،‬وماؤها ِ‬
‫جنّةِ‪ ،‬وهى شِفا ٌء مِنَ السّمّ‪ ،‬وال َكمْأ ُة مِنَ المَ ّ‬
‫وسلم‪(( :‬ال َعجْوَ ُة مِنَ ال َ‬

‫ن هذا فى عجوة المدينة‪ ،‬وهى أحدُ أصناف التمر بها‪ ،‬ومن أنفع تمر الحجاز على الطلق‪ ،‬وهو‬ ‫وقد قيل‪ :‬إ ّ‬
‫صِنف كريم‪ ،‬ملذذ‪ ،‬متين للجسم والقوة‪ ،‬مِن ألين التمر وأطيبه وألذه‪.‬‬

‫وقد تقدّم ذك ُر التمر وطبعه ومنافعه فى حرف التاء‪ ،‬والكل ُم على دفع العَجْوَة للسّمّ والسّحْر‪ ،‬فل حاجة لعادته‪.‬‬

‫عَنبَرٌ‪ :‬تقدّم فى ((الصحيحين)) من حديث جابر‪ ،‬فى قصة أبى عُبيدةَ‪ ،‬وأكلِهم من العنبر شهراً‪ ،‬وأنهم تز ّودّوا من‬
‫لحمه وشَائِقَ إلى المدينة‪ ،‬وأرسلوا منه إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو أح ُد ما يدل على أنّ إباحة ما فى‬
‫البحر ل يَختصّ بالسمك‪ ،‬وعلى أن ميتته حلل‪.‬‬

‫ن البحر ألقاه حياً‪ ،‬ثم جَزَ َر عنه الماء‪ ،‬فمات‪ ،‬وهذا حلل‪ ،‬فإنّ موتَه بسبب مفارقته للماء‪،‬‬‫ض على ذلك بأ ّ‬ ‫واعتُرِ َ‬
‫وهذا ل يَصِحّ‪ ،‬فإنهم إنما وجدوه ميتاً بالساحل‪ ،‬ولم يُشاهدوه قد خرج عنه حيّاً‪ ،‬ثم جَ َزرَ عنه الماء‪.‬‬

‫ف إلى ساحله الميتَ من‬


‫ن البحرَ إنما يقذِ ُ‬
‫وأيضاً‪ :‬فلو كان حياً لما ألقاه البحر إلى ساحله‪ ،‬فإنه من المعلوم أ ّ‬
‫ى منها‪.‬‬‫حيواناته ل الح ّ‬

‫ل ما ذكروه لم يجز أن يكون شرطاً فى الباحة‪ ،‬فإنه ل يُباح الشىء مع الشك فى سبب‬ ‫وأيضاً‪ :‬فلو ُقدّرَ احتما ُ‬
‫إباحته‪ ،‬ولهذا َمنَعَ النبىّ صلى ال عليه وسلم من أكل الصيد إذا وجده الصا ِئدُ غريقاً فى الماء للشك فى سبب‬
‫موته‪ ،‬هل هو اللة‬

‫أم الماء ؟‬

‫وأما العنبرُ الذى هو أحدُ أنواع الطّيب‪ ،‬فهو مِن أفخر أنواعه بعد المسك‪ ،‬وأخطأ مَن قدّمه على المسك‪ ،‬وجعله‬
‫طيَبُ الطّيب))‪ ،‬وسيأتى إن‬ ‫سيدَ أنواع الطّيب‪ ،‬وقد ثبت عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال فى المِسْك‪(( :‬هُوَ أ ْ‬
‫جنّة‪ ،‬والكُثبانُ التى هى مقاعدُ‬‫ص بها المسكُ‪ ،‬حتى إنه طِيبُ ال َ‬
‫شاء ال تعالى ذكرُ الخصائص والمنافع التى خُ ّ‬
‫ك ل من عَنبرٍ‪.‬‬
‫سٍ‬‫صدّيقين هناك مِن مِ ْ‬
‫ال ّ‬

‫ل على أنه أفضل من‬


‫والذى غَ ّر هذا القائل أنه ل يدخله التغير على طول الزمان‪ ،‬فهو كالذهب‪ ،‬وهذا ل يَدُ ّ‬
‫المسك‪ ،‬فإنه بهذه الخاصية الواحدة ل يُقاوِم ما فى المسك من الخواص‪.‬‬

‫وبعد‪ ..‬فضروبُه كثيرة‪ ،‬وألوانه مختلفة‪ ،‬فمنه البيضُ‪ ،‬والشهبُ‪ ،‬والحمرُ‪ ،‬والصفرُ‪ ،‬والخضرُ‪ ،‬والزرقُ‪،‬‬
‫والسودُ‪ ،‬وذو اللوان‪.‬‬

‫وأجودُه‪ :‬الشهب‪ ،‬ثم الزرق‪ ،‬ثم الصفر‪ .‬وأردؤه‪ :‬السود‪.‬‬

‫ت منه‬
‫س فى عُنصره‪ ،‬فقالت طائفة‪ :‬هو نبات يَنبُت فى قعر البحر‪ ،‬فيبتِلعُه بعض دوابه‪ ،‬فإذا َثمِلَ ْ‬ ‫وقد اختلف النا ُ‬
‫َقذَفتْه رَجِيعاً‪ ،‬فيقذِفُه البحر إلى ساحله‪.‬‬

‫طلٌ ينزل من السماء فى جزائر البحر‪ ،‬فتُلقيه المواج إلى الساحل‪.‬‬


‫وقيل‪َ :‬‬

‫ث دابة بحرية تُشبه البقرة‪.‬‬


‫وقيل‪َ :‬روْ ُ‬

‫وقيل‪ :‬بل هو جُفَاء من جُفَاء البحر‪ ،‬أى‪َ :‬ز َبدٌ‪.‬‬

‫ث دابة‬
‫عيْن فى البحر‪ ،‬والذى يُقال‪ :‬إنه َزبَد البحر‪ ،‬أو رو ُ‬
‫وقال صاحب ((القانون))‪ :‬هو فيما يُظَن ينبع مِن َ‬
‫بعيدٌ‪ ..‬انتهى‪.‬‬
‫ومزاجه حار يابس‪ ،‬مق ّو للقلب‪ ،‬والدماغ‪ ،‬والحواس‪ ،‬وأعضاء البدن‪ ،‬نافع من الفالج واللّقْوة‪ ،‬والمراض‬
‫البلغمية‪ ،‬وأوجاع ال َمعِدَة الباردة‪ ،‬والرياح الغليظة‪ ،‬ومن السّدد إذا شُرب‪ ،‬أو طُِلىَ به من خارج‪ ،‬وإذا ُتبُخّر به‪،‬‬
‫نفع من الزّكام‪ ،‬والصّداع‪ ،‬والشّقِيقة الباردة‪.‬‬

‫عُودٌ‪ :‬العود الهندى نوعان؛ أحدهما‪ :‬يُستعمل فى الدوية وهو الكُسْت‪ ،‬ويقال له‪ :‬القُسْط‪ ،‬وسيأتى فى حرف‬
‫القاف‪.‬‬

‫الثانى‪ :‬يُستعمل فى الطّيب‪ ،‬ويقال له‪ :‬الَلُوّة‬

‫جمِ ُر بالَلُوّة غير مُطرّاة‪،‬‬


‫ستَ ْ‬
‫وقد روى مسلم فى ((صحيحه))‪ :‬عن ابن عمر رضى ال عنهما‪(( ،‬أنه كان يَ ْ‬
‫وبكافُور يُطْ َرحُ معها))‪ ،‬ويقول‪ :‬هكذا كان يستجمرُ رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وثبت عنه فى صفة نعيم‬
‫جنّة‪(( :‬مجامِرُ ُهمُ الُلوّةُ))‪.‬‬
‫أهل ال َ‬

‫جمَرٍ؛ وهو ما يُتجمّر به مِن عود وغيره‪ ،‬وهو أنواع‪ :‬أجودُها‪ :‬الهندى‪ ،‬ثم الصّينى‪ ،‬ثم‬
‫و((المجامر))‪ :‬جمع مِ ْ‬
‫القَمارى‪ ،‬ثم المنْدَلى‪.‬‬

‫ف وطفا على الماء‪.‬‬


‫وأجوده‪ :‬السود والزرق الصّلب الرزينُ الدسم‪ ،‬وأقلّه جودة‪ :‬ما خ ّ‬

‫ويقال‪ :‬إنه شجر يُقطع ويُدفن فى الرض سنة‪ ،‬فتأكل الرض منه ما ل ينفع‪ ،‬ويبقى عودُ الطّيب‪ ،‬ل تعمل فيه‬
‫ب فيه‪.‬‬
‫الرض شيئاً‪ ،‬ويتعفّن منه قِشرُه وما ل طِي َ‬

‫وهو حارٌ يابس فى الثالثة‪ ،‬يفتح السّدد‪ ،‬ويكسر الرياح‪ ،‬ويُذهب بفضل الرّطوبة‪ ،‬ويُقوّى الحشاء والقلب‬
‫س البطن‪ ،‬وينفع مِن سَلَس البَوْل الحادث عن برد المثانة‪.‬‬
‫ويُفرحه‪ ،‬وينفع الدماغ‪ ،‬ويُقوّى الحواس‪ ،‬ويحبِ ُ‬

‫قال ابن سمجون‪ :‬العود ضروب كثيرة يجمعها اسم الَلُوّة‪ ،‬ويُستعمل من داخل وخارج‪ ،‬ويُتجمّرُ به مفردًا ومع‬
‫غيره‪ ،‬وفى الخلط للكافور به عند التجمير معنى طبى‪ ،‬وهو إصلحُ كل منهما بالخر‪ ،‬وفى التجمّر مراعاةُ‬
‫ح البدان‪.‬‬
‫جوهر الهواء وإصلحُه‪ ،‬فإنه أحدُ الشياء الستة الضرورية التى فى صلحها صل ُ‬

‫عدَسٌ‪ :‬قد ورد فيه أحاديثُ كُّلهَا باطلة على رسولِ ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لم يَقُلْ شيئًا منها‪ ،‬كحديث‪ (( :‬إنه‬
‫َ‬
‫ن سبعين نبيًا ))‬‫ُقدّس على لسا ِ‬

‫وحديث‪ (( :‬إنه يرق القلب‪ ،‬و ُيغْزِ ُر الدّمعة‪ ،‬وإنه مأكول الصالحين))‪ ،‬وأرفع شىء جاء فيه وأصحه‪ ،‬أنه شهوةُ‬
‫اليهود التى قدّموها على المنّ والسلوَى‪ ،‬وَهُو قَرِينُ الثوم والبصل فى الذكر‪.‬‬

‫ل الطبيعة‪ .‬والخرى‪ :‬يُطلقها‪ ،‬وقشره حار‬ ‫وطبعه طب ُع المؤنث‪ ،‬بارد يابس‪ ،‬وفيه قوتان متضادّتان‪ .‬إحداهما‪ :‬يَعقِ ُ‬
‫يابس فى الثالثة‪ ،‬حِرّيف مُطْلِق للبطن‪ ،‬وترِياقُه فى قشره‪ ،‬ولهذا كان صِحاحهُ أنفعَ من مطحونه‪ ،‬وأخفّ على‬
‫ضرّ بالماليخوليا ضرراً‬
‫ال َم ِعدَة‪ ،‬وأقلّ ضرراً‪ ،‬فإنّ ُلبّه بطىءُ الهضم لبرودته ويُبوسته‪ ،‬وهو مولّد للسّوداء‪ ،‬ويَ ُ‬
‫بيّناً‪ ،‬ويَضُ ّر بالعصاب والبصر‪.‬‬

‫ب السوداء‪ ،‬وإكثارهم منه يُولّد لهم أدواء رديئة‪ :‬كالوسواس‪ ،‬والجذام‪،‬‬ ‫وهو غليظُ الدم‪ ،‬وينبغى أن يتجنبه أصحا ُ‬
‫حمّى الربّع‪ ،‬ويُقلل ضرره السلقُ‪ ،‬والسفاناخ‪ ،‬وإكثار الدّهن‪ ،‬وأردأ ما ُأكِلَ بالنمكسود‪ ،‬وليُتجنب خلط الحلوة‬ ‫وُ‬
‫جبُ الورام الباردة‪ ،‬والرياحَ‬
‫به‪ ،‬فإنه يُورث سُدداً كبديّة‪ ،‬وإدمانه يُظلم البصر لشدة تجفيفه‪ ،‬و ُيعَسّر البَوْل‪ ،‬ويُو ِ‬
‫الغليظة‪ .‬وأجودُه‪ :‬البيضُ السمينُ‪ ،‬السريع النّضج‪.‬‬

‫ط الخليل الذى يُقدّمه لضيافه‪َ ،‬ف َكذِبٌ مفترَى‪ ،‬وإنما حكى الُ عنه الضيافَة‬
‫ل أنه كان سِما َ‬ ‫جهّا ُ‬
‫وأما ما يظنّه ال ُ‬
‫حنِيذ‪.‬‬
‫بالشّوَاء‪ ،‬وهو العِجل ال َ‬

‫وذكر البيهقى عن إسحاق قال‪ :‬سُئل ابنُ المبارك عن الحديث الذى جاء فى ال َعدَس‪ ،‬أنه ُقدّسَ على لسان سبعين‬
‫نبيّا‪ ،‬فقال‪ :‬ول على لسان نبى واحد‪ ،‬وإنّه لمؤذ منفخ‪ ،‬مَن حدثكم به ؟ قالوا‪ :‬سَلم بن سالم‪ ،‬فقال‪ :‬عمّن ؟ قالوا‪:‬‬
‫عنك‪ .‬قال‪ :‬وعنى أيضاً‪،،‬؟‬
‫حرف الغين‬

‫غيْثٌ‪ :‬مذكور فى القرآن فى عِدة مواضع‪ ،‬وهو لذيذ السم على السمع‪ ،‬والمسمّى على الروح والبدن‪ ،‬تبتهجُ‬ ‫َ‬
‫سيّما إذا كان مِن‬
‫ل المياه‪ ،‬وألط ُفهَا وأنف ُعهَا وأعظ ُمهَا بركة‪ ،‬ول ِ‬
‫ع بذكره‪ ،‬والقلوب بوروده‪ ،‬وماؤُه أفض ُ‬
‫السما ُ‬
‫سحاب راعد‪ ،‬واجتمع فى مستنقعات الجبال‪.‬‬

‫ب من سائر المياه‪ ،‬لنه لم تَطُلْ ُمدّته على الرض‪ ،‬فيَكتسب من يُبوستها‪ ،‬ولم يُخالطه جوهر يابس‪،‬‬
‫وهو أرط ُ‬
‫ولذلك يتغيّر ويتعفّن سريعاً للطافته وسرعة انفعاله‪.‬‬

‫ف من الشتوى أو بالعكس ؟ فيه قولن‪.‬‬


‫وهل ال َغيْثُ الرّبيعى ألط ُ‬

‫قال مَن رجّح ال َغيْث الشتوى‪ :‬حرار ُة الشمس تكون حينئذ أقلّ‪ ،‬فل تجتذِب من ماء البحر إل ألْطفَه‪ ،‬والجوّ صافٍ‬
‫ل من البخرة الدخانيّة‪ ،‬والغبار المخالط للماء‪ ،‬وكُلّ هذا يوجب لطفه وصفاءه‪ ،‬وخُلوّه من مخالط‪.‬‬ ‫وهو خا ٍ‬

‫ف بذلك الماء‪،‬‬
‫وقال مَن رجّح الرّبيعى‪ :‬الحرارة تُوجب تحلّلَ البخرة الغليظة‪ ،‬وتُوجب رِقة الهواء ولطافته‪ ،‬فيخِ ّ‬
‫ل أجزاؤه الرضية‪ ،‬وتُصادِف وقتَ حياة النبات والشجار وطِيب الهواء‬ ‫وتَقِ ّ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم‪،‬‬ ‫وذكر الشافعى رحمه ال عن أنس بن مالك رضى ال عنهما‪ ،‬قال‪ُ :‬كنّا مع رسولِ ا ِ‬
‫عهْدٍ بِ َربّه))‪ ،‬وقد تقدّم فى َهدْيه‬
‫ث َ‬‫حدِي ُ‬
‫فأصابنا مطرٌ‪َ ،‬فحَسَر رسولُ ال صلى ال عليه وسلم ثوبَه‪ ،‬وقال‪(( :‬إنّهُ َ‬
‫ل مجيئه‪.‬‬ ‫فى الستسقاء ذكر استمطاره صلى ال عليه وسلم وتبركه بماء ال َغيْث عند أوّ َ‬

‫حرف الفاء‬

‫فَاتِحَةُ ا ْلكِتاب‪ :‬وُأمّ القرآن‪ ،‬والسبعُ المثانى‪ ،‬والشفا ُء التام‪ ،‬والدواءُ النافع‪ ،‬والرّقي ُة التامة‪ ،‬ومفتاح ال ِغنَى والفلح‪،‬‬
‫وحافظةُ القوة‪ ،‬ودافعةُ الهم والغم والخوف والحزن لمن عرف مقدارَها وأعطاها حقّها‪ ،‬وأحسنَ تنزيلها على‬
‫دائه‪ ،‬وعَرَفَ وج َه الستشفاء والتداوى بها‪ ،‬والسرّ الذى لجله كانت كذلك‪.‬‬

‫ولما وقع بعضُ الصحابة على ذلك‪ ،‬رقى بها اللّديغ‪ ،‬فبرأ لوقته‪ .‬فقال له النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬وما أدراك‬
‫أنّها ُر ْقيَة))‪.‬‬

‫ومَن ساعده التوفيق‪ ،‬وأُعين بنور البصيرة حتى وقف على أسرارِ هذه السورة‪ ،‬وما اشتملت عليه مِنَ التوحيد‪،‬‬
‫ومعرفةِ الذات والسماء والصفات والفعال‪ ،‬وإثباتِ الشرع وال َقدَر والمعاد‪ ،‬وتجريدِ توحيد الربوبية واللهية‪،‬‬
‫وكمال التوكل والتفويض إلى مَن له المر كُلّه‪ ،‬وله الحمدُ كُلّه‪ ،‬وبيده الخي ُر كُلّه‪ ،‬وإليه يرجع الم ُر كُلّه‪،‬‬
‫ط معانيها بجلب مصالحهما‪ ،‬ودفع‬ ‫والفتقار إليه فى طلب الهداية التى هى أصلُ سعادة الدارين‪ ،‬وعَلِمَ ارتبا َ‬
‫مفاسدهما‪ ،‬وأنّ العاقبةَ المطلقة التامة‪ ،‬والنعمةَ الكاملة مَنوط ٌة بها‪ ،‬موقوفةٌ على التحقق بها‪ ،‬أغنته عن كثير من‬
‫الدوية والرّقى‪ ،‬واستفتح بها من الخير أبوابه‪ ،‬ودفع بها من الشر أسبابَه‪.‬‬

‫ل ل تجدُ مقالةٌ فاسدة‪ ،‬ول بدعةٌ باطلة إل‬


‫ث فِطر ٍة أُخرى‪ ،‬وعقلٍ آخر‪ ،‬وإيمانٍ آخر‪ ،‬وتا ِ‬ ‫وهذا أم ٌر يحتاجُ استحدا َ‬
‫طرُق‪ ،‬وأصحّها وأوضحِها‪ ،‬ول تجدُ باباً من أبواب المعارف‬ ‫وفاتح ُة الكتابِ متضمّنة لردها وإبطالها بأقرب ال ُ‬
‫ل القلوب وأدويتها مِن عللها وأسقامها إل وفى فاتحة الكتاب مفتاحُه‪ ،‬وموض ُع الدللة عليه‪ ،‬ول‬ ‫اللهية‪ ،‬وأعما ِ‬
‫ب العالمين إل وبدايتُه ونهايتُه فيها‪.‬‬
‫منزلً من منازل السائرين إلى ر ّ‬

‫ق ذلك‪ .‬وما تحقّق عبدٌ بها‪ ،‬واعتصم بها‪ ،‬وعقل عمن تكلّم بها‪،‬‬
‫ول َعمْرُ ال إنّ شأنها لعظ ُم من ذلك‪ ،‬وهى فو َ‬
‫وأنزلها شفاءً تاماً‪ ،‬وعِصمةً بالغةً‪ ،‬ونورًا مبيناً‪ ،‬وفهمها وفهم لوازمَها كما ينبغى ووقع فى بدعةٍ ول شِركٍ‪ ،‬ول‬
‫ض من أمراض القلوب إل لِماماً‪ ،‬غيرَ مستقر‪.‬‬ ‫أصابه مر ٌ‬
‫جنّة‪ ،‬ولكن ليس كل واحد يُحسن الفتح بهذا‬ ‫هذا‪ ..‬وإنها المفتاح العظم لكنوز الرض‪ ،‬كما أنها المفتاحُ لكنوز ال َ‬
‫المفتاح‪ ،‬ولو أنّ طُلبَ الكنوز وقفوا على سر هذه السورة‪ ،‬وتحقّقُوا بمعانيها‪ ،‬وركّبوا لهذا المفتاح أسناناً‪،‬‬
‫وأحسنُوا الفتح به‪ ،‬لوصلوا إلى تناول الكُنو ِز من غير معاوِق‪ ،‬ول ممانع‪.‬‬

‫ن ل تعالى حكمةٌ بالغة فى إخفاء هذا السر عن نفوس أكثر‬ ‫ولم نقل هذا مجازفةً ول استعارةً؛‪ ،‬بل حقيقةً‪ ،‬ولك ْ‬
‫ح خبيثة‬
‫العالَمين‪ ،‬كما لَه حكمة بالغة فى إخفاء كنوز الرض عنهم‪ .‬والكنو ُز المحجوبة قد استُخدمَ عليها أروا ٌ‬
‫ح عُلْوية شريفة غالبة لها بحالها اليمانى‪ ،‬معها منه أسلحةٌ‬ ‫ل بين النس وبينها‪ ،‬ول تقهرُها إلّ أروا ٌ‬ ‫شيطانية تحو ُ‬
‫ل تقومُ لها الشياطين‪ ،‬وأكثرُ نفوس الناس ليست بهذه المَثابة‪ ،‬فل يُقا ِومُ تلك الرواح ول يَ ْقهَرُها‪ ،‬ول ينال من‬
‫سلبِها شيئاً‪ ،‬فإنّ مَن قتل قتيلً فله سلبه‬

‫شعَب اليمان)) من حديث عبد‬ ‫حنّاء‪ ،‬وهى من أطيب الرياحين‪ ،‬وقد روى البيهقى فى كتابه (( ُ‬‫غيَةٌ‪ :‬هى نَوْ ُر ال ِ‬
‫فَا ِ‬
‫غيَةُ))‪ ،‬وروى فيه أيضاً‪،‬‬ ‫ال بن بُريدَة‪ ،‬عن أبيه رضى ال عنه يرفعه‪ (( :‬سيدُ الرّياحين فى الدنيا والخرة الفا ِ‬
‫غيَةُ))‪ .‬وال‬
‫حبّ الرّياحين إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم الفا ِ‬ ‫عن أنس بن مالك رضى ال عنه‪ ،‬قال‪(( :‬كان أ َ‬
‫أعلم بحال هذين الحديثين‪ ،‬فل نشهد على رسول ال صلى ال عليه وسلم بما ل نعلم صِحته‪.‬‬

‫ت بين طىّ ثياب الصوف حفظتْها من السوس‪،‬‬


‫ضعَ ْ‬
‫ض القبض‪ ،‬وإذا وُ ِ‬
‫وهى معتدلةٌ فى الحر وال ُيبْس‪ ،‬فيها بع ُ‬
‫وتدخل فى مراهم الفالج والتمدد‪ ،‬ودُهنها يُحلّل العضاء‪ ،‬ويَُليّن العصب‪.‬‬

‫فِضّةٌ‪ :‬ثبت أنّ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم كان خا ِتمُه من فِضّة‪ ،‬وفَصّه منه‪ ،‬وكانت َقبِيعةُ سيفِه فِضّة‪ ،‬ولم‬
‫ح عنه المنع من الشّرب فى آنيتها‪ ،‬وبابُ‬ ‫يصح عنه فى المنع من لباس الفِضّة والتحلّى بها شى ٌء البتة‪ ،‬كما صَ ّ‬
‫ق من باب اللباس والتحلى‪ ،‬ولهذا يُباح للنساء لباسًا وحليةً ما يحرُم عليهن استعمالُه آنيةً‪ ،‬فل يلزم من‬ ‫النية أضي ُ‬
‫تحريم النية تحريمُ اللباس والحلية‪.‬‬

‫ج إلى دليل يُبينه‪ ،‬إما نصٌ أو إجماع‪ ،‬فإن ثبت‬


‫وفى ((السنن)) عنه‪ (( :‬وأما ال ِفضّ ُة فالعبوا بها َلعْباً))‪ .‬فالمنع يحتا ُ‬
‫أحدُهما‪ ،‬وإل ففى القلب من تحريم ذلك على الرجال شىء‪ ،‬والنبىّ صلى ال عليه وسلم أمسك بيده ذهباً‪،‬‬
‫ل لناثهم))‪.‬‬‫وبالخرى حريراً‪ ،‬وقال‪(( :‬هذان حرامٌ على ذُكُور ُأمّتى‪ ،‬حِ ٌ‬

‫ق بالعيون‬
‫ن أهل الدنيا بينهم‪ ،‬وصاحبُها مرمو ٌ‬ ‫والفِضّة سِ ٌر من أسرار ال فى الرض وطلسم الحاجات‪ ،‬وإحسا ُ‬
‫ل مجالستُه‪ ،‬ول معاشرتُه‪ ،‬ول‬ ‫بينهم‪ ،‬معظّمٌ فى النفوس‪ ،‬مُصدّرٌ فى المجالس‪ ،‬ل تُغلق دونه البواب‪ ،‬ول تُمَ ّ‬
‫سمِ َع قوله‪ ،‬وإن شَفَ َع ُقبِلَتْ شفاعتُه‪ ،‬وإن‬
‫يُستثقل مكانه‪ ،‬تُشير الصابعُ إليه‪ ،‬وتعقِد العيون نِطاقها عليه‪ ،‬إن قال ُ‬
‫ب فكُفء ل يُعاب‪ ،‬وإن كان ذا شيبة بيضاء فهى أجمل عليه من حِلية الشباب‪.‬‬ ‫خطَ َ‬‫ت شهادتُه‪ ،‬وإن َ‬
‫شهد ُزكّي ْ‬

‫وهى من الدوية المفرحة النافعةِ من الهمّ والغمّ والحزن‪ ،‬وضعف القلب وخفقانه‪ ،‬وتدخُلُ فى المعاجين ال ُكبّار‪،‬‬
‫وتجتذب بخاصيتها ما يتولّد فى القلب من الخلط الفاسدة‪ ،‬خصوصًا إذا أُضيفت إلى العسل المصفّى‪،‬‬
‫والزعفران‪.‬‬

‫جنَانُ التى أعدّها ال عَ ّز وجَلّ‬


‫ومزاجُها إلى اليبُوسة والبُرودة‪ ،‬ويتولّد عنها مِن الحرارة والرّطوبة ما يتولّد‪ ،‬وال ِ‬
‫لوليائه يومَ يلقونه أربعٌ‪ :‬جنّتانِ من ذهب‪ ،‬وجنّتان مِن ِفضّة‪ ،‬آنيتهُما وحليتهما وما فيهما‪.‬‬

‫وقد ثبت عنه صلى ال عليه وسلم‬

‫طنِهِ نارَ‬
‫ب فى آنيةِ الذّهَب وال ِفضّة إنما يُجَ ْرجِ ُر فى بَ ْ‬
‫فى ((الصحيح)) من حديث أُم سلمة أنه قال‪(( :‬الذى يشر ُ‬
‫ج َهنّمَ))‪.‬‬
‫َ‬

‫ح عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬ل تشربوا فى آنيةِ الذّهبِ والفِضّةِ‪ ،‬ول تأكُلُوا فى صِحَافِهما‪ ،‬فإنها َلهُم‬ ‫وص ّ‬
‫فى ال ّدنْيا ولكم فى الخِرَةِ))‪.‬‬

‫ى فاتت الحِكمةُ التى وُضعت لجلها من قيام مصالح بنى‬‫خذَتْ أوان َ‬


‫فقيل‪ :‬عِلّةُ التحريم تضييقُ النقود‪ ،‬فإنها إذا اتّ ِ‬
‫آدم‪ ،‬وقيل‪ :‬العِلّةُ الفخر والخُيلَء‪ .‬وقيل‪ :‬العِلّةُ كسرُ قلوب الفقراء والمساكين إذا رأوها وعاينوها‪.‬‬
‫ن التعليل بتضييق النقود يمنع من التحلى بها وجعلِها سبائكَ ونحوَها مما ليس بآنيةٍ‬ ‫وهذه العللُ فيها ما فيها‪ ،‬فإ ّ‬
‫ط له‪ ،‬فإنّ قُلوبَهم تنكسر بالدّور‬
‫ول ن ْقدٍ‪ ،‬والفخرُ والخيلءُ حرام بأى شىء كان‪ ،‬وكسر قلوب المساكين ل ضاب َ‬
‫ب الفارهة‪ ،‬والملبس الفاخرة‪ ،‬والطعمة اللذيذة‪ ،‬وغير ذلك من المباحات‪،‬‬ ‫الواسعة‪ ،‬والحدائق المعجبة‪ ،‬والمراك ِ‬
‫ل منتقَضة‪ ،‬إذ تُوجد العِلّةُ‪ ،‬و َيتَخلّف معلولُها‪.‬‬‫ل هذه عل ٌ‬ ‫وكُ ّ‬

‫ن العِلّة وال أعلم ما ُيكْسِب استعمالُها القلبَ من الهيئة‪ ،‬والحالة المنافية للعبودية منافا ًة ظاهرة‪ ،‬ولهذا‬
‫فالصواب أ ّ‬
‫عَلّل النبىّ صلى ال عليه وسلم بأنها للكفار فى ال ّدنْيا‪ ،‬إذ ليس لهم نصيب مِن العبودية التى ينالون بها فى الخرة‬
‫ى بالدنيا وعاجِلهَا‬
‫نعيمها‪ ،‬فل يصلُح استعمالُها لعبيد ال فى الدنيا‪ ،‬وإنما يستعمِلُها مَنْ خرج عن عبوديته‪ ،‬ورَضِ َ‬
‫من الخرة‪.‬‬

‫حرف القاف‬

‫حمَ ٌة لّ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} [السراء‪] 82 :‬‬


‫شفَاءٌ َورَ ْ‬
‫ن مَا هُوَ ِ‬
‫ل مِنَ ا ْلقُرْآ ِ‬
‫قُرْآنٌ‪ :‬قال ال تعالى‪َ { :‬و ُننَزّ ُ‬

‫ن ((من)) ههنا لبيان الجنس ل للتبعيض‪.‬‬


‫والصحيح‪ :‬أ ّ‬

‫صدُورِ}[يونس‪. ]57 :‬‬


‫س َقدْ جَا َء ْتكُم مّوْعِظَ ٌة مّن ّربّكُ ْم َوشِفَا ٌء ِلمَا فِى ال ّ‬
‫وقال تعالى‪{ :‬يَا َأّيهَا النّا ُ‬

‫ل أحدٍ يُؤهّل ول يُوفّق‬


‫فالقرآنُ هو الشّفاء التام مِن جميع الدواء القلبية والبدنية‪ ،‬وأدوا ِء الدنيا والخرة‪ ،‬وما كُ ّ‬
‫للستشفاء به‪ ،‬وإذا أحسن العليل التداوىَ به‪ ،‬ووضعَه على دائه بصدقٍ وإيمان‪ ،‬وقبولٍ تام‪ ،‬واعتقادٍ جازم‪،‬‬
‫واستيفاءِ شروطه‪ ،‬لم يُقا ِومْهُ الدا ُء أبداً‪.‬‬

‫عهَا‪ ،‬أو على الرض‪ ،‬لقطعها‪،‬‬ ‫صدَ َ‬


‫وكيف تُقا ِومُ الدواءُ كلمَ ربّ الرض والسماءِ الذى لو نزل على الجبال‪ ،‬ل َ‬
‫ل الدللة على دوائه وسببه‪ ،‬والحِمية منه لمن‬‫ب والبدان إل وفى القُرآن سبي ُ‬
‫ض من أمراض ال ُقلُو ِ‬ ‫فما مِن مر ٍ‬
‫رزقه ال فهماً فى كتابه‪.‬‬

‫ظ الصحة‬
‫وقد تقدّم فى أول الكلم على الطب بيانُ إرشاد القرآن العظيم إلى أُصوله ومجامعه التى هى حف ُ‬
‫والحِميةُ‪ ،‬واستفراغُ المؤذى‪ ،‬والستدللُ بذلك على سائر أفراد هذه النواع‪.‬‬

‫ب أدوائها وعلجها‪ .‬قال‪ { :‬أَ َو َلمْ َيكْ ِفهِ ْم َأنّا َأنْزَ ْلنَا عََل ْيكَ‬
‫وأما الدوية القلبية‪ ،‬فإنه يذكرها مُفصّلةً‪ ،‬ويذكر أسبا َ‬
‫ب ُيتْلَى عََل ْيهِمْ}[العنكبوت‪ ، ]51 :‬فمَن لم يَشْفِه القرآنُ‪ ،‬فل شفاه ال‪ ،‬ومَن لم يَكفِه‪ ،‬فل كفاه ال‪.‬‬ ‫ا ْل ِكتَا َ‬

‫ِقثّاءٌ‪ :‬فى ((السنن))‪ :‬من حديث عبد ال بن جعفر رضى ال عنه ((أنّ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم كان يأكلُ‬
‫ى وغيره‪.‬‬
‫ال ِقثّاءَ بالرّطب))‪ .‬ورواه الترمذ ّ‬

‫ال ِقثّاء بارد رطب فى الدرجة الثانية‪ ،‬مطفى ٌء لحرارة ال َم ِعدَة الملتهبة‪ ،‬بطىء الفساد فيها‪ ،‬نافعٌ من وجع المثانة‪،‬‬
‫ورائحتُه تنفع من الغَشْى‪ ،‬وبِزرُه ُيدِرّ البَوْل‪ ،‬وورقهُ إذا اتّخِذ ضِماداً‪ ،‬نفع من عضة الكلب‪.‬‬

‫وهو بطىءُ النحدار عن ال َمعِدة‪ ،‬وبرده مُضِ ٌر ببعضها‪ ،‬فينبغى أن يُستعم َل معه ما يُصلحه ويكسر برودته‬
‫ورطوبته‪ ،‬كما فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم إذ أكله بالرّطب‪ ،‬فإذا أُكل بتمر أو زبيب أو عسل عدّله‪.‬‬

‫ط وكُسْت‪:‬‬
‫قُسْ ٌ‬

‫بمعنى واحد‪ .‬وفى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث أنس رضى ال عنه‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬خيرُ ما‬
‫سطُ البَحْرِىّ))‪.‬‬
‫تدا َو ْيتُم به الحِجامةُ والقُ ْ‬

‫وفى ((المسند))‪ :‬من حديث أُ ّم قيـس‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬عليكم بهذا العُود الهندىّ‪ ،‬فإنّ فيه سَـ ْبعَةَ‬
‫جنْبِ))‪.‬‬
‫أشْــفِيةٍ منها ذاتُ ال َ‬
‫ض الذى يُقَال له‪ :‬البحرىّ‪ .‬والخر‪ :‬الهندىّ‪ ،‬وهو أشدّهما حراً‪ ،‬والبيضُ ألينهُما‪،‬‬
‫القُسْط‪ :‬نوعان‪ .‬أحدهما‪ :‬البي ُ‬
‫ومنافعُهما كثيرة جداً‪.‬‬

‫وهما حاران يابسان فى الثالثة‪ ،‬يُنشّفان البلغم‪ ،‬قاطعانِ للزّكام‪ ،‬وإذا شُ ِربَا‪ ،‬نفعا من ضعف ال َكبِدِ وال َمعِدَة ومن‬
‫سمُوم‪ ،‬وإذا طُِلىَ به الوجهُ معجوناً بالماء‬ ‫حمّى الدّوْرِ والرّبع‪ ،‬وقطعا وج َع الجنب‪ ،‬ونفعا مِن ال ّ‬ ‫بردهما‪ ،‬ومِن ُ‬
‫والعسل‪ ،‬قَلَ َع الكَلَف‪.‬‬

‫جنْبين‪ ،‬ويقتل حَبّ ال َقرَع‪.‬‬


‫وقال ((جالينوسُ))‪ :‬ينفع من الكُزَاز‪ ،‬ووجع ال َ‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫ل بهذا النقل عن‬‫جنْب‪ ،‬فأنكروه‪ ،‬ولو ظَفِر هذا الجاه ُ‬‫ت ال َ‬


‫جهّال الطباء نفعُه من وجِعَ ذا ِ‬‫@ وقد خفىَ على ُ‬
‫ص كثي ٌر من الطباء المتقدمين على أنّ ال ُقسْطَ يصلحُ للنوع البلغمىّ‬
‫((جالينوس)) لنزّله منزل َة النص‪ ،‬كيف وقد ن ّ‬
‫جهْم‪.‬‬
‫ى عن محمد بن ال َ‬ ‫من ذات الجنب‪ ،‬ذكره الخطّاب ّ‬

‫ب الطباء‪ ،‬وأنّ‬
‫ب النبياء أقلّ من نسبةِ طِب الطّرقيّة والعجائز إلى طِ ّ‬ ‫ب الطباء بالنسبة إلى طِ ّ‬ ‫وقد تقدّم أنّ طِ ّ‬
‫بيْن ما يُلقّى بالوحى‪ ،‬وبيْن ما يُلَقّى بالتجربة‪ ،‬والقياسِ من الفرْق أعظ َم مما َبيْن ال َقدَم والفرق‪.‬‬

‫جهّال وجدوا دوا ًء منصوصاً عن بعض اليهود والنصارى والمشركين من الطباء‪ ،‬لتلقّوْه‬ ‫ولو أنّ هؤلء ال ُ‬
‫بالقبول والتسليم‪ ،‬ولم يتوقّفُوا على تجربته‪.‬‬

‫ق ممن‬
‫نعم‪ ..‬نحن ل ننكِ ُر أنّ للعادة تأثيراً فى النتفاع بالدواء وعدمه‪ ،‬فمَن اعتاد دواءً وغذاءً‪ ،‬كان أنفعَ له‪ ،‬وأوف َ‬
‫لم يَعتدْه‪ ،‬بل ربما لم ينتفع به مَن لم يعتده‪.‬‬

‫وكلمُ فضلء الطباء وإن كان مطلَقًا فهو بحسب المزجة والزمنة‪ ،‬والماكن والعوائد‪ ،‬وإذا كان التقييدُ بذلك‬
‫ل يقدح فى كلمهم ومعارفهم‪ ،‬فكيف يقدح فى كلم الصادق المصدوق‪ ،‬ولكن نفوس البَشَر مركبةٌ على الجهل‬
‫والظلم‪ ،‬إل مَن أيّده ال بروح اليمان‪ ،‬ونَوّ َر بَصيرته بنور ال ُهدَى‪.‬‬

‫سكّرِ‪ :‬جاء فى بعض ألفاظ السّـنّة الصحيحة فى الحَوض‪(( :‬ماؤه أحلى من السكّر )) ول أعرف‬
‫ب ال ّ‬
‫قَصَ ُ‬
‫((السكر)) فى الحديث إل فى هذا الموضع‪.‬‬

‫والسكر حادث لم يتكلم فيه متقدّمو الطباء‪ ،‬ول كانوا يعرفونه‪ ،‬ول يَصِفونه فى الشربة‪ ،‬وإنما يعرفون العسل‪،‬‬
‫ويُدخلونه فى الدوية‪.‬‬

‫وقصبُ السكر حارٌ رطب ينفع من السّعال‪ ،‬ويجلو الرطوبةَ والمثانة‪ ،‬وقصبةَ الرّئة‪ ،‬وهو أشدّ تليينًا من السكر‪،‬‬
‫ب السكر بعد‬‫ن مَصّ قص َ‬ ‫وفيه معونةٌ على القىء‪ ،‬و ُيدِ ّر البَوْل‪ ،‬ويزيد فى الباه‪ .‬قال عفان بن مسلم الصفّار‪ :‬مَ ْ‬
‫طعامه‪ ،‬لم يزل يومَه أجمعَ فى سرور‪ ..‬انتهى‪.‬‬

‫وهو ينفع من خشونة الصدر والحلق إذا شُوِىَ‪ ،‬ويُولّد رياحاً دفعُها بأن يُقشّ َر ويُغسل بماء حار‪.‬‬

‫ف من جديده‪ ،‬وإذا‬ ‫طبَرْزَد‪ ،‬وعَتيقُه ألط ُ‬


‫والسكر حارٌ رطب على الصح‪ ،‬وقيل‪ :‬بارد‪ .‬وأجودُه‪ :‬البيض الشفاف ال ّ‬
‫عتْ رغوتُه‪ ،‬سكّن العطشَ والسّعال‪ ،‬وهو يضر ال َم ِعدَة التى تتولّد فيها الصفراءُ لستحالته إليها‪ ،‬ودفعُ‬ ‫طبِخَ ونُزِ َ‬
‫ُ‬
‫ضرره بماء اللّيمون أو النا َرنْجِ‪ ،‬أو الرّمان اللــفّان‪.‬‬

‫ن منافع العسل أضعا ُ‬


‫ف‬ ‫وبعضُ الناس يُفضّلُه على العسل ل ِقلّة حرارته ولينه‪ ،‬وهذا تحامل منه على العسل‪ ،‬فإ ّ‬
‫منافع السكر‪ ،‬وقد جعله ال شِفا ًء ودواءً‪ ،‬وإداماً وحلوةً‪ ،‬وأين نفعُ السكر مِن منافع العسل‪ :‬مِن تقوي ِة ال َم ِعدَة‪،‬‬
‫وتليين الطبع‪ ،‬وإحدادِ البصر‪ ،‬وجِلءِ ظُلمته‪ ،‬ودفعِ الخوانيق بالغرغر ِة به‪ ،‬وإبرائِهِ من الفالج واللّقْوة‪ ،‬ومِن جميع‬
‫العلل الباردة التى تَحدُث فى جميع البدن من الرطوبات‪ ،‬فيجذِبُها من قعر البدن‪ ،‬ومن جميع البدن‪ ،‬وحفظِ صحته‬
‫وتسمينه وتسخينه‪ ،‬والزيادةِ فى الباه‪ ،‬والتحليلِ والجِلءِ‪ ،‬وفتح أفوا ِه العروق‪ ،‬وتنقي ِة ال ِمعَى‪ ،‬وإحدا ِر الدّود‪ ،‬ومنعِ‬
‫التخم وغيره من العفن‪ ،‬والُدم النافع‪ ،‬وموافقةِ مَن غلب عليه البلغ ُم والمشايخ وأهلِ المزجة الباردة‪ ..‬وبالجملة‪:‬‬
‫فل شىء أنف ُع منه للبدن‪ ،‬وفى العلج وعجز الدوية‪ ،‬وحفظِ قواها‪ ،‬وتقويةِ ال َمعِدة إلى أضعاف هذه المنافع‪ ،‬فأين‬
‫ب منها ؟‬
‫سكّ ِر مثلُ هذه المنافع والخصائص أو قري ٌ‬
‫لل ّ‬

‫حرف الكاف‬

‫حمّى رقعةً فيها‪ :‬بسم ال الرحمن‬ ‫حمّى‪ :‬قال المرْوَ ِزىّ‪ :‬بَلَغَ أبا عبد ال أنى حُممتُ‪ ،‬فكتب لى من ال ُ‬ ‫ب لِل ُ‬
‫ِكتَا ٌ‬
‫لمًَا عَلَى إبْرَاهِيمَ *وََأرَادُواْ بِ ِه َكيْداً‬
‫الرحيم‪ ،‬بسم ال‪ ،‬وبال‪ ،‬محمدٌ رسول ال‪{ ،‬قُ ْلنَا يَا نَارُ كُونِى بَرْداً َوسَ َ‬
‫ب هذا الكتابِ‬ ‫لخْسَرِينَ}[النبياء ‪ ،]70-69 :‬الّلهُمّ ربّ جبرائيلَ‪ ،‬وميكائيلَ‪ ،‬وإسرافيلَ‪ ،‬اشفِ صاح َ‬ ‫جعَ ْلنَا ُهمُ ا َ‬
‫فَ َ‬
‫جبَرُو ِتكَ‪ ،‬إلهَ الحق آمين‪.‬‬
‫بِحَوْلِك وقُ ّو ِتكَ و َ‬

‫حبّانَ‪ ،‬قال‪ :‬سألتُ‬


‫قال المَرْوزىّ‪ :‬وقرأ على أبى عبد ال وأنا أسم ُع أبو المُنذر عمرُو بن مجمع‪ ،‬حدّثنا يونسُ بن ِ‬
‫ف به ما‬
‫ى ال فعلّقْه واستَش ِ‬
‫ق ال َتعْويذَ‪ ،‬فقال‪ :‬إن كان من كتاب ال أو كلم عن نب ّ‬
‫أبا جعفر محمد بن على‪ ،‬أن أُعلّ َ‬
‫ى نعم‪.‬‬
‫حمّى الرّبع‪ :‬باسم ال‪ ،‬وبال‪ ،‬ومحمد رسول ال‪ ....‬إلى آخره ؟ قال‪ :‬أ ْ‬ ‫ب هذه من ُ‬ ‫استطعتَ‪ .‬قلتُ‪ :‬أكت ُ‬

‫وذكر أحم ُد عن عائشة رضى ال عنها وغيرها‪ ،‬أنهم سهّلُوا فى ذلك‪.‬‬

‫قال حربٌ‪ :‬ولم يُشدّ ْد فيه أحمد بن حنبل‪ .‬قال أحمد‪ :‬وكان ابن مسعود يكرهه كراهةً شديدة جدّا‪ .‬وقال أحمد وقد‬
‫سئِل عن التمائ ُم ُتعَلّق بعد نزول البلء ؟ قال‪ :‬أرجو أن ل يكونَ به بأس‪.‬‬
‫ُ‬

‫حمّى بعد وقوع البلء‪.‬‬


‫قال الخَلّل‪ :‬وحدّثنا عبد ال بن أحمد‪ ،‬قال‪ :‬رأيتُ أبى يكتب التعويذَ للذى يف َزعُ‪ ،‬ولل ُ‬

‫كتاب لعُسْر الولدة‪ :‬قال الخَلل‪ :‬حدّثنى عبدُ ال بن أحمد‪ ،‬قال‪ :‬رأيتُ أبى يكتب للمرأة إذا عَسُ َر عليها ولدُتها‬
‫فى جا ٍم أبيض‪ ،‬أو شىء نظيف‪ ،‬يكتُبُ حديث ابن عباس رضى ال عنه‪ :‬ل إله إل ال الحليمُ الكريمُ‪ ،‬سبحان ال‬
‫ن لَ ْم يَ ْل َبثُواْ إلّ سَاعَ ًة مّنْ َنهَارٍ‪،‬‬
‫ن مَا يُوعَدُو َ‬
‫ح ْمدُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِين‪َ { :‬كَأنّهُ ْم يَوْ َم يَرَوْ َ‬ ‫ربّ العرش العظيم‪ ،‬الْ َ‬
‫ضحَاهَا}[النازعات‪]46 :‬‬ ‫شيّةً أَوْ ُ‬‫عِ‬‫لغٌ}[الحقاف‪{ ، ]35 :‬كََأّنهُ ْم يَوْ َم يَرَ ْو َنهَا َل ْم يَ ْلبَثُوا إلّ َ‬ ‫بَ َ‬

‫سرَ عليها‬
‫ن أبا عبد ال جاءه رجل فقال‪ :‬يا أبا عبد ال؛ تكتبُ لمرأة قد عَ ُ‬‫قال الخَلل‪ :‬أنبأنا أبو بكر المَرْوزىّ‪ :‬أ ّ‬
‫ولدُها منذ يومين ؟ فقال‪ :‬قُلْ له‪ :‬يَجِئ بجامٍ واسِع‪ ،‬وزعفرانٍ‪ ،‬ورأيتُهُ يكتب لغير واحد‪.‬‬

‫ويُذكر عن عِكرمةَ‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬مَرّ عيسى صلّى ال على نبيّنا وعليه وسَلّم على بقرة قد اعتَرَضَ‬
‫س مِنَ النفسِ‪ ،‬ويا‬‫ق النف َ‬
‫ولدُها فى بطنها‪ ،‬فقالت‪ :‬يا كلمةَ ال؛ ادعُ ال لى أن يُخَلّصَنى مما أنا فيه‪ .‬فقال‪ :‬يا خال َ‬
‫شمّه‪ .‬قال‪:‬‬
‫ت بولدها‪ ،‬فإذا هى قائمة تَ ُ‬‫صهَا‪ .‬قال‪ :‬فرم ْ‬ ‫خلّ ْ‬
‫ن النفسِ‪َ ،‬‬
‫ج النفسَ مِ َ‬
‫خرِ َ‬
‫س مِنَ النفسِ‪ ،‬ويا مُ ْ‬
‫ص النف َ‬
‫مخلّ َ‬
‫عسُ َر عَلى المرأة ولدُها‪ ،‬فاكتبْه لها‪ .‬وكل ما تقدم من الرقى‪ ،‬فإن كتابته نافعة‪.‬‬ ‫فإذا َ‬

‫ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه‪ ،‬وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل ال فيه‪.‬‬

‫كتاب آخر لذلك‪ :‬يكتب في إناء نظيف‪{ :‬إذا السماء انشقت * وأذنت لربها وحقت * وإذا الرض مدت * وألقت‬
‫ما فيها وتخلت} [النشقاق‪ ،]4-1 :‬وتشرب منه الحامل‪ ،‬ويرش على بطنها‪.‬‬

‫كتاب للرعاف‪ :‬كان شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال يكتب على جبهته‪{ :‬وقيل يا أرض ابلعي ماءك‪ ،‬ويا سماء‬
‫أقلعي وغيض الماء وقضي المر} [هود‪ .]44 :‬وسمعته يقول‪ :‬كتبتها لغير واحد فبرأ‪ ،‬فقال‪ :‬ول يجوز كتابتها‬
‫بدم الراعف‪ ،‬كما يفعله الجهال‪ ،‬فإن الدم نجس‪ ،‬فل يجوز أن يكتب به كلم ال تعالى‪.‬‬

‫كتاب آخر له‪ :‬خرج موسى عليه السلم برداء‪ ،‬فوجد شعيباً‪ ،‬فشده بردائه {يمحو ال ما يشاء ويثبت وعنده أم‬
‫الكتاب} [الرعد‪.]39 :‬‬

‫كتاب آخر للحزاز‪ :‬يكتب عليه‪{ :‬فأصابها إعصار فيه نار‪ ،‬فاحترقت} [البقرة‪ ]266 :‬بحول ال وقوته‪.‬‬

‫كتاب آخر له‪ :‬عند اصفرار الشمس يكتب عليه‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا اتقوا ال وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من‬
‫رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به‪ ،‬ويغفر لكم وال غفور رحيم} [الحديد‪.]28 :‬‬
‫كتاب آخر للحمى المثلثة‪ :‬يكتب على ثلث ورقات لطاف‪ :‬بسم ال فرّت‪ ،‬بسم ال مرت‪ ،‬بسم ال قلت‪ ،‬ويأخذ كل‬
‫يوم ورقة‪ ،‬ويجعلها في فمه‪ ،‬ويبتلعها بماء‪.‬‬

‫كتاب آخر لعرق النسا‪ :‬بسم ال الرحمن الرحيم‪ ،‬اللهم رب كل شيء‪ ،‬ومليك كل شيء‪ ،‬وخالق كل شيء‪ ،‬أنت‬
‫خلقتني‪ ،‬وأنت خلقت النّسا‪ ،‬فل تسلطه علي بأذى‪ ،‬ول تسلطني عليه بقطع‪ ،‬واشفني شفاء ل يغادر سقماً‪ ،‬ل‬
‫شافي إل أنت‪.‬‬

‫كتاب للعرق الضارب‪ :‬روى الترمذي في ((جامعه))‪ :‬من حديث ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم كان يعلمهم من الحمى‪ ،‬ومن الوجاع كلها أن يقولوا‪(( :‬بسم ال الكبير‪ ،‬أعوذ بال العظيم‬
‫من شر كل عرق نعار‪ ،‬ومن شر حر النار))‪.‬‬

‫كتاب لوجع الضرس‪ :‬يكتب على الخد الذي يلي الوجع‪ :‬بسم ال الرحمن الرحيم‪{ :‬قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم‬
‫السمع والبصار والفئدة قليلً ما تشكرون} [النحل‪ ،]78 :‬وإن شاء كتب‪{ :‬وله ما سكن في الليل والنهار وهو‬
‫السميع العليم} [النعام‪.]13 :‬‬

‫كتاب للخراج‪ :‬يكتب عليه‪{ :‬ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفًا فيذرها قاعاً صفصفًا ل ترى فيها عوجاً‬
‫ول أمتاً} [طه‪.]105 :‬‬

‫كمأة‪ :‬ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين))‪ ،‬أخرجاه في‬
‫((الصحيحين))‪.‬‬

‫قال ابن العرابي‪ :‬الكمأة‪ :‬جمع‪ ،‬واحده كمء‪ ،‬وهذا خلف قياس العربية‪ ،‬فإن ما بينه وبين واحده التاء‪ ،‬فالواحد‬
‫منه بالتاء‪ ،‬وإذا حذفت كان للجمع‪ .‬وهل هو جمع‪ ،‬أو اسم جمع ؟ على قولين مشهورين‪ ،‬قالوا‪ :‬ولم يخرج عن‬
‫هذا إل حرفان‪ :‬كمأة وكمء‪ ،‬وجبأة وجبء‪ ،‬وقال غير ابن العرابي‪ :‬بل هي على القياس‪ :‬الكمأة للواحد‪ ،‬والكمء‬
‫للكثير‪ ،‬وقال غيرهما‪ :‬الكمأة تكون واحداً وجمعاً‪.‬‬

‫واحتج أصحاب القول الول بأنهم قد جمعوا كمئاً على أكمؤ‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬

‫ولقد جنيتك أكمؤا وعساقل ولقد نهيتك عن بنات الوبر‬

‫وهذا يدل على أن ((كمء)) مفرد‪(( ،‬وكمأة)) جمع‪.‬‬

‫والكمأة تكون في الرض من غير أن تزرع‪ ،‬وسميت كمأة لستتارها‪ ،‬ومنه كمأ الشهادة‪ :‬إذا سترها وأخفاها‪،‬‬
‫والكمأة مخفية تحت الرض ل ورق لها‪ ،‬ول ساق‪ ،‬ومادتها من جوهر أرضي بخاري محتقن في الرض نحو‬
‫سطحها يحتقن ببرد الشتاء‪ ،‬وتنميه أمطار الربيع‪ ،‬فيتولد ويندفع نحو سطح الرض متجسداً‪ ،‬ولذلك يقال لها‪:‬‬
‫جدري الرض‪ ،‬تشبيهاً بالجدري في صورته ومادته‪ ،‬لن مادته رطوبة دموية‪ ،‬فتندفع عند سن الترعرع في‬
‫الغالب‪ ،‬وفي ابتداء استيلء الحرارة‪ ،‬ونماء القوة‪.‬‬

‫وهي مما يوجد في الربيع‪ ،‬ويؤكل نيئاً ومطبوخاً‪ ،‬وتسميها العرب‪ :‬نبات الرعد لنها تكثر بكثرته‪ ،‬وتنفطر عنها‬
‫الرض‪ ،‬وهي من أطعمة أهل البوادي‪ ،‬وتكثر بأرض العرب‪ ،‬وأجودها ما كانت أرضها رملية قليلة الماء‪.‬‬

‫وهي أصناف‪ :‬منها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة يحدث الختناق‪.‬‬

‫وهي باردة رطبة في الدرجة الثالثة‪ ،‬رديئة للمعدة‪ ،‬بطيئة الهضم‪ ،‬وإذا أدمنت‪ ،‬أورثت القولنج والسكتة والفالج‪،‬‬
‫ووجع المعدة‪ ،‬وعسر البول‪ ،‬والرطبة أقل ضررًا من اليابسة ومن‬

‫صعْتر‪ ،‬ويأكلها بالزيت والتوابِل الحارّة‪ ،‬لن جوهرها‬


‫أكلها فليدفنها فى الطين الرّطب‪ ،‬ويَسلِقها بالماء والملح وال ّ‬
‫أرضى غليظ‪ ،‬وغِذاءها ردىء‪ ،‬لكن فيها جوهر مائى لطيف يدل على خفتها‪ ،‬والكتحال بها نافع من ظلمة‬
‫ن ماءها يجلو ال َعيْن‪ .‬وممن ذكره المسيحىّ‪ ،‬وصاحب‬ ‫البصر والرّمد الحار‪ ،‬وقد اعترف فضلء الطباء بأ ّ‬
‫القانون‪ ،‬وغيرهما‪.‬‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم‪ (( :‬ال َكمْأَة من المَنّ))‪ ،‬فيه قولن‪:‬‬

‫ن المنّ الذى أُنزل على بنى إسرائيل لم يكن هذا الحلو فقط‪ ،‬بل أشياءُ كثيرة مَنّ ال عليهم بها من‬ ‫أحدهما‪ :‬أ ّ‬
‫النبات الذى يُوجد عفوًا من غير صنعة ول عِلج ولحرث‪ ،‬فان المن مصدر بمعنى المفعول أى ((ممنون)) به‬
‫فكل ما رزقه ال العبد عفوا بغير كسب منه ول علج‪ ،‬فهو مَنٌ محضٌ‪ ،‬وإن كانت سائر نعمه َمنّا منه على‬
‫ن بل واسطة العبد‪ ،‬وجعل سبحانه قُوتَهم‬ ‫ص منها ما ل كسب له فيه‪ ،‬ول صُنعَ باسم ((المنّ))‪ ،‬فإنه مَ ٌ‬
‫عبده‪ ،‬فخ ّ‬
‫بالتّيه ((الكمأة))‪ ،‬وهى تقومُ مقام الخبز‪ ،‬وجعل أُدمهم ((السّلْوى))‪ ،‬وهو يقوم مقام اللّحم‪ ،‬وجعل حَلواهم‬
‫((الطلّ)) الذى ينزلُ على الشجار يقوم لهم مقام الحلوى‪ .‬ف َكمُل عيشهُم‪.‬‬

‫وتأمل قوله صلى ال عليه وسلم‪ (( :‬الكمأة من المنّ الذى أنزله ال على بنى إسرائيل)) فجعلها من جملته‪ ،‬وفرداً‬
‫ن عليه عُرْفاً حادثاً‪.‬‬
‫من أفراده‪ ،‬والترنْجبين الذى يسقط على الشجار نوع من المَنّ‪ ،‬ثم غلب استعمال المَ ّ‬

‫ن ال ُمنَزّل من السماء‪ ،‬لنه يُجمع من غير تعب ول كلفة ول زرع بِزر ول‬
‫شبّهَ الكمأ َة بالمَ ّ‬
‫والقول الثانى‪ :‬أنه َ‬
‫سقى‪.‬‬

‫ل هذا الضرر فيها‪ ،‬ومن أين أتاها ذلك ؟‬


‫فإن قلت‪ :‬فإذا كان هذا شأنَ الكمأة‪ ،‬فما با ُ‬

‫ل سبحانه أتقن كُلّ شىء صنعه‪ ،‬وأحسن كُلّ شىء خلقه‪ ،‬فهو عند مبدإ خلقه برى ٌء من الفات والعلل‪،‬‬ ‫فاعلم أنّ ا َ‬
‫ت بعد ذلك بأُمور أُخَر من مجاورة‪ ،‬أو امتزاج واختلط‪،‬‬
‫ق له‪ ،‬وإنما تعرِضُ له الفا ُ‬ ‫تا ّم المنفعة لما هُيىء وخُلِ َ‬
‫أو أسباب أُخَر تقتضى فسادَه‪ ،‬فلو تُ ِركَ على خِلقته الصلية من غير تعلق أسباب الفساد به‪ ،‬لم يفسد‪.‬‬

‫ن جميع الفساد فى جَوّه ونباته وحيوانه وأحوالِ أهله‪ ،‬حادثٌ بعد‬ ‫ومَنْ له معرفة بأحوال العالَم ومبدئه يعرِف أ ّ‬
‫خلقه بأسباب اقتضت حدوثَه‪ ،‬ولم تزل أعمالُ بنى آدَم ومخالفتُهم للرّسُل تُحدث لهم من الفساد العام والخاص ما‬
‫يجلب عليهم من اللم‪ ،‬والمراض‪ ،‬والسقام‪ ،‬والطواعين‪ ،‬والقحوط‪ ،‬والجدوب‪ ،‬وسلب بركات الرض‪،‬‬
‫ضهَا بعضاً‪.‬‬
‫وثمارها‪ ،‬ونباتها‪ ،‬وسلب منافعها‪ ،‬أو نقصانها أُموراً متتابعة يتلو بع ُ‬

‫سبَتْ َأيْدِى النّاسِ}[الروم ‪،]41:‬‬


‫ظهَرَ الْ َفسَادُ فِى ا ْلبَرّ وَا ْلبَحْ ِر ِبمَا كَ َ‬
‫فإن لم َيتّسِعْ علمك لهذا فاكتفِ بقوله تعالى‪َ { :‬‬
‫ت والعلل كل وقت فى‬‫ونَزّل هذه الية على أحوالِ العالَم‪ ،‬وطابِقْ بين الواقع وبينها‪ ،‬وأنت ترى كيف تحدث الفا ُ‬
‫خرُ متلزمة‪ ،‬بعضُها آخذ برقاب بعض‪ ،‬وكُلّما‬ ‫ت أُ َ‬ ‫الثمار والزرع والحيوان‪ ،‬وكيف يحدُث من تلك الفات آفا ٌ‬
‫أحدث الناسُ ظلماً وفجوراً‪ ،‬أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الفات والعلل فى أغذيتهم وفواكههم‪ ،‬وأهويتهم‬
‫ومياههم‪ ،‬وأبدانهم وخلقهم‪ ،‬وصُورهم وأشكالهم وأخلقهم من النقص والفات‪ ،‬ما هو موجب أعمالهم وظلمهم‬
‫وفجورهم‪.‬‬

‫ولقد كانت الحبوب من الحِنطة وغيرها أكبرَ مما هى اليوم‪ ،‬كما كانت البركةُ فيها أعظمَ‪ .‬وقد روى المام أحمد‬
‫ب عليها‪ :‬هذا كان ينبُت أيا َم‬
‫بإسناده‪ :‬أنه وجد فى خزائن بعض بنى أميةَ صرة فيها حِنط ٌة أمثال نوى التمر مكتو ٌ‬
‫العدل‪ .‬وهذه القصة‪ ،‬ذكرها فى ((مسنده)) على أثر حديث رواه‬

‫صدَةٌ لمن بقيت‬


‫ت به الُم ُم السالفة‪ ،‬ثم بقيت منها بقية مُر َ‬
‫عذّب ْ‬
‫وأكثرُ هذه المراض والفات العامة بقيةُ عذاب ُ‬
‫عليه بقي ٌة من أعمالهم‪ ،‬حكمًا قسطاً‪ ،‬وقضا ًء عدلً‪ ،‬وقد أشار النبىّ صلى ال عليه وسلم إلى هذا بقوله فى‬
‫الطاعون‪ (( :‬إنّه بقيةُ رجز أو عذاب أُرسِلَ على بنى إسرائيلَ))‪.‬‬

‫ل وثمانيةَ أيام‪ ،‬ثم أبقَى فى العالَم منها بقيةً فى تلك اليام‪،‬‬


‫وكذلك سلّط الُ سبحانه وتعالى الريحَ على قو ٍم سبعَ ليا ٍ‬
‫وفى نظيرها عِظ ًة وعِبرة‪.‬‬

‫ل سبحانه أعمال البَرّ والفاجر مقتضياتٍ لثارها فى هذا العالَم اقتضاءً ل بد منه‪ ،‬فجعل منعَ الحسان‬ ‫وقد جعل ا ُ‬
‫جدْبِ‪ ،‬وجعَلَ ظل َم المساكين‪ ،‬والبخسَ فى المكاييل‬
‫ط وال َ‬
‫والزكاة والصدقة سبباً لمنع ال َغيْث من السماء‪ ،‬والقح ِ‬
‫ستُرْحِموا‪ ،‬ول‬
‫والموازين‪ ،‬وتعدّى القَوّىّ على الضعيف سببًا لجَوْر الملوك والولة الذين ل يَرحمون إن ا ْ‬
‫َيعْطِفُون إن استُعطِفُوا‪ ،‬وهم فى الحقيقة أعمالُ الرعايا ظهرت فى صور وُلتهم‪ ،‬فإنّ الَ سبحانه بحكمته وعدله‬
‫يُظهِرُ للناس أعمالَهم فى قوالِب وصو ٍر تناسبها‪ ،‬فتارةً بقحط وجدب‪ ،‬وتارة بعدوّ‪ ،‬وتارةً بولة جائرين‪ ،‬وتارةً‬
‫بأمراضٍ عامة‪ ،‬وتار ًة بهُموم وآلم وغموم تحضُرها نفوسُهم ل ينفكّونَ عنها‪ ،‬وتار ًة بمنع بركات السماء‬
‫ق عليهم الكلمة‪ ،‬وليصي َر كل‬
‫والرض عنهم‪ ،‬وتار ًة بتسليط الشياطين عليهم تَؤُزّهم إلى أسباب العذاب أزّاً‪ِ ،‬لتَحِ ّ‬
‫سيّر بصيرته بين أقطار العالَم‪ ،‬فيُشاهدُه‪ ،‬وينظر مواقعَ عدل ال وحكمته‪ ،‬وحينئذ‬ ‫ق له‪ .‬والعاقل يُ َ‬‫منهم إلى ما خُلِ َ‬
‫عهُم خاصةً على سبيل النجاة‪ ،‬وسائر الخلق على سبيل الهلك سائرون‪ ،‬وإلى دار البَوار‬ ‫َيتَبيّنُ له أنّ الرّسُلَ وأتبا َ‬
‫ب لحكمه‪ ،‬ول رادَ لمره‪ ..‬وبال التوفيق‬ ‫صائرون‪ ،‬والُ بالغُ أمرِه‪ ،‬ل ُمعَقّ َ‬

‫ن )) فيه ثلثة أقوال‪:‬‬


‫وقوله صلى ال عليه وسلم فى الكمأة‪ (( :‬وماؤها شفاء لل َعيْ ِ‬

‫أحدها‪ :‬أنّ ماءَها يُخلَط فى الدوية التى يُعالَج بها ال َعيْنُ‪ ،‬ل أنه يُستعمل وحده‪ ،‬ذكره أبو عُبيد‪.‬‬

‫ب فضلتِه ورطوبتَه‬
‫الثانى‪ :‬أنه يُستعمل بحْتًا بعد شَـيّها‪ ،‬واستقطار مائها‪ ،‬لنّ النار تُلطّفه وتُنضجه‪ ،‬وتُذِي ُ‬
‫المؤذية‪ ،‬وتُبقى المنافع‪.‬‬

‫ن المراد بمائها الماءُ الذى يحدث به من المطر‪ ،‬وهو أولُ َقطْر ينزل إلى الرض‪ ،‬فتكون الضافة‬
‫الثالث‪ :‬أ ّ‬
‫إضافةَ اقتران‪ ،‬ل إضافة جزء‪ ،‬ذكره ابن الجوزى‪ ،‬وهو أبعدُ الوجوه وأضعفها‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إن استُعمل ماؤها لتبريد ما فى ال َعيْن‪ ،‬فماؤها مجرّداً شفاء‪ ،‬وإن كان لغير ذلك‪ ،‬فمركّب مع غيره‪.‬‬

‫ن به الثمِد واكتُحِلَ به‪ ،‬ويُقوّى أجفانها‪ ،‬ويزيدُ الروحَ‬


‫وقال الغافقى‪ :‬ماء الكمأة أصلح الدوية لل َعيْن إذا عُجِ َ‬
‫حدّة‪ ،‬ويدفع عنها نزول النوازل‪.‬‬ ‫الباصرة قوةً و ِ‬

‫ل الِ صلى ال عليه‬


‫َكبَاثٌ‪ :‬فى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث جابر بن عبد ال رضى ال عنه‪ ،‬قال‪ُ :‬كنّا مع رسو ِ‬
‫جنِى الكَباثَ‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وسلم َن ْ‬

‫ط َيبُه))‪.‬‬
‫((عليكم بالسْ َودِ ِمنْهُ‪ ،‬فإنّه أ ْ‬

‫الكَباث بفتح الكاف‪ ،‬والباء الموحدة المخففة‪ ،‬والثاء المثلثة ثمرُ الراك‪ .‬وهو بأرض الحجاز‪ ،‬وطبعُه حار يابس‪،‬‬
‫ومنافعُه كمنافع الراك‪ :‬يُقَوّى المعدة‪ ،‬ويُجيدُ الهضمَ‪ ،‬ويجلُو البلغمَ‪ ،‬وينفعُ مِن أوجاع الظهر‪ ،‬وكثي ٍر من الدواء‪.‬‬
‫قال ابن جُلْجُل‪ :‬إذا شُ ِربَ طحينُه‪ ،‬أدرّ البَوْلَ‪ ،‬ونقّى المثانة‪ ،‬وقال ابنُ رضوان‪ :‬يُ َقوّى ال َمعِدَة‪ ،‬ويُمسكُ الطبيعة‪.‬‬

‫َكتَمٌ‪ :‬روى البخارىّ فى ((صحيحه))‪ :‬عن عثمان بن عبد ال ابن مَوْهَب‪ ،‬قال‪ :‬دخلنا على ُأمّ سَلَمة رضى ال‬
‫حنّاء وال َكتَمِ‪.‬‬
‫عنها‪ ،‬فأخرجت إلينا شعَرًا من شعر رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإذا هو مخضوبٌ بال ِ‬

‫حنّاءُ‬
‫ب ال ِ‬
‫شيْ َ‬
‫ن أحسنَ ما غيّ ْرتُم به ال ّ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬إ ّ‬
‫وفى ((السنن الربعة))‪ :‬عن النب ّ‬
‫وال َكتَمُ))‪.‬‬

‫حنّاءِ وال َكتَمِ‪.‬‬


‫ن أبا بكر رضى ال عنه اختَضب بال ِ‬
‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬عن أنس رضى ال عنه‪ ،‬أ ّ‬

‫ل قد‬
‫وفى ((سنن أبى داود))‪ :‬عن ابن عباس رضى ال عنهما‪ ،‬قال‪ :‬مَرّ على النبىّ صلى ال عليه وسلم رج ٌ‬
‫حنّاء‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫خضَبَ بال ِ‬
‫َ‬

‫ضبَ‬
‫خرُ قد خَ َ‬
‫ن من هذا))‪ ،‬فمرّ آ َ‬
‫حنّاءِ وال َكتَم‪ ،‬فقال‪(( :‬هذا أحس ُ‬
‫ضبَ بال ِ‬ ‫حسَنَ هذا)) ؟‪ ،‬فم ّر آخرُ قد خَ َ‬
‫((ما أ ْ‬
‫ن من هذا كُلّهِ))‪.‬‬‫بالصّفرة‪ ،‬فقال‪ (( :‬هذا أحس ُ‬

‫ق القامة‪ ،‬وله ثمر َقدْرَ حَ ّ‬


‫ب‬ ‫ت ينبُت بالسهول‪ ،‬ورقُه قريب مِن ورق ال ّزيْتون‪ ،‬يعلُو فو َ‬ ‫قال الغافِقى‪(( :‬ال َكتَ ُم نب ٌ‬
‫ب منها قدرُ أُوقية‪َ ،‬قيَّأ قيئًا شديداً‪،‬‬
‫شرِ َ‬
‫ت عُصارة ورقه‪ ،‬و ُ‬ ‫الفُلفُل‪ ،‬فى داخله نوى‪ ،‬إذا ُرضِخَ اسودّ‪ ،‬وإذا استُخرجَ ْ‬
‫وينفع عن عضة الكلب‪ .‬وأصلُه إذا طبِخَ بالماء كان منه مِدادٌ يُكتب به‪.‬‬

‫وقال الكِندى‪ :‬بزر الكَتَم إذا اكتُحِلَ به‪ ،‬حلّل الماء النازل فى العين وأبرأها‪.‬‬
‫وقد ظن بعض الناس أنّ ال َكتَمَ هو الوَسْمة‪ ،‬وهى ورق النّيل‪ ،‬وهذا وهَمٌ‪ ،‬فإن الوَسْمة غير ال َكتَم‪ .‬قال صاحب‬
‫ت له ورق طويل يَضرِبُ‬ ‫((الصحاح))‪(( :‬ال َكتَم بالتحريك‪ :‬نبت يُخلط بالوَسْمة يُختضَب به‪ .‬قيل‪ :‬وال َوسْمة نبا ٌ‬
‫لونه إلى الزرقة أكب ُر من ورق الخِلف‪ ،‬يُشبه ورق اللّوبياء‪ ،‬وأكبرُ منه‪ ،‬يُؤتى به من الحجاز واليمن‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬قد ثبت فى ((الصحيح)) عن أنس رضى ال عنه‪ ،‬أنه قال‪(( :‬لم يختضِب النبىّ صلى ال عليه وسلم))‪.‬‬

‫ش ِهدَ به غيرُ أنس رضى ال عنه على النبىّ صلى ال عليه وسلم‬
‫ل عن هذا وقال‪ :‬قد َ‬ ‫قيل‪ :‬قد أجاب أحمد بن حنب ٍ‬
‫شهِدَ بمنزلة مَن لم يشهدْ‪ ،‬فأحمدُ أثبتَ خِضاب النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومعه جماعة‬
‫أنه خَضَبَ‪ .‬وليس مَنْ َ‬
‫من المحدّثين‪ ،‬ومالك أنكره‪.‬‬

‫ى به ورأسُه ولحيتُه‬
‫ى عن الخِضاب بالسواد فى شأن أبى قُحاف َة لمّا ُأتِ َ‬ ‫فإن قيل‪ :‬قد ثبت فى ((صحيح مسلم)) النه ُ‬
‫جّنبُوهُ السّوَاد))‪ .‬والكت ُم يُسَوّد الشعرَ‪.‬‬
‫شيْبَ و َ‬
‫غيّرُوا هذا ال ّ‬
‫كال ّثغَامة بياضاً‪ ،‬فقال‪َ (( :‬‬

‫حنّاء شى ٌء آخرُ‪ ،‬كال َكتَم‬


‫فالجواب من وجهين‪ ،‬أحدهما‪ :‬أنّ النهى عن التسويد البحت‪ ،‬فأمّا إذا أُضيف إلى ال ِ‬
‫حنّاء يجعل الشعر بيْن الحمر والسود بخلف الوَسْمة‪ ،‬فإنها تجعلُه أسود‬ ‫ن ال َكتَمَ وال ِ‬
‫ونحوه‪ ،‬فل بأس به‪ ،‬فإ ّ‬
‫فاحماً‪ ،‬وهذا أصح الجوابين‪.‬‬

‫ب التدليس‪ ،‬كخِضاب شعر الجارية‪ ،‬والمرأةِ الكبيرة تغرّ‬‫خضَاب بالسّوَاد المنهى عنه خِضا ُ‬ ‫الجواب الثانى‪ :‬أنّ ال ِ‬
‫خضَاب الشيخ َيغُرّ المرأ َة بذلك‪ ،‬فإنه من الغش والخِداع‪ ،‬فأما إذا لم يتضمن تدليساً ول‬
‫الزوج‪ ،‬والسيدَ بذلك‪ ،‬و ِ‬
‫خِداعاً‪ ،‬فقد صحّ عن الحسن والحسين رضى ال عنهما أنهما كانا يخضِبان بالسّواد‪ ،‬ذكر ذلك ابن جرير عنهما‬
‫فى كتاب ((تهذيب الثار))‪ ،‬وذكره عن عثمان ابن عفان‪ ،‬وعبد ال بن جعفر‪ ،‬وسعد بن أبى وقاص‪ ،‬وعُقب َة بن‬
‫عامر‪ ،‬والمغيرة بن شعبة‪ ،‬وجرير بن عبد ال‪ ،‬وعمرو بن العاص‪.‬‬

‫وحكاه عن جماعة من التابعين‪ ،‬منهم‪ :‬عمرو بن عثمان‪ ،‬وعلى بن عبد ال بن عباس‪ ،‬وأبو سلمة بن عبد‬
‫الرحمن‪ ،‬وعبد الرحمن بن السود‪ ،‬وموسى بن طلحة‪ ،‬والزّهْرى‪ ،‬وأيوب‪ ،‬وإسماعيل بن معدى كرب‪.‬‬

‫وحكاه ابن الجوزى عن محارب بن دِثار‪ ،‬ويزيد‪ ،‬وابن جُريج‪ ،‬وأبى يوسفَ‪ ،‬وأبى إسحاق‪ ،‬وابن أبى ليلى‪،‬‬
‫وزياد بن عَلقة‪ ،‬وغَيلن بن جامع‪ ،‬ونافع بن جُبير‪ ،‬وعمرو بن على المُ َقدّمى‪ ،‬والقاسم بن سلم‬

‫@‬

‫حبَلَةُ‪ ،‬ويُكره تسميتها كَرْماً‪ ،‬لما روى مسلم فى ((صحيحه)) عن النبىّ صلى ال عليه‬ ‫كَرْمٌ‪ :‬شجرة ال ِعنَب‪ ،‬وهى ال َ‬
‫ل المُسِْلمُ))‪ .‬وفى رواية‪(( :‬إنما الكَرْ ُم قَ ْلبُ المُ ْؤمِنِ))‪،‬‬
‫وسلم أنه قال‪(( :‬ل يقولَنّ أح ُدكُمْ لل ِعنَبِ الكَرْمَ‪ ،‬الكَرْمُ‪ :‬الرّجُ ُ‬
‫حبَلَةُ))‪.‬‬
‫وفى أُخرى‪(( :‬ل تقولوا‪ :‬الكرمُ‪ ،‬وقُولُوا‪ :‬ال ِعنَبُ وال َ‬

‫وفى هـذا معنيـان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أنّ العرب كانت تُسمى شجرة ال ِعنَب الكَرْمَ‪ ،‬لكثرة منافعها وخيرها‪ ،‬فكره النبىّ صلى ال عليه وسلم‬
‫تسميَتها باسم يُهيّج النفوس على محبتها ومحبة ما يُتخذ منها من المسكر‪ ،‬وهو أُمّ الخبائث‪ ،‬فكره أن يُسمّى أصلُه‬
‫بأحسن السماء وأجمعها للخير‪.‬‬

‫س المِسْكينُ بالطّوّافِ))‪ .‬أى‪ :‬أنكم تُسمون شجر َة‬ ‫شدِيدُ بالصّرَعَةِ))‪ ،‬و((َليْ َ‬‫والثانى‪ :‬أنه من باب قوله‪َ(( :‬ليْسَ ال ّ‬
‫ب المؤمن أو الرجل المسلم أولى بهذا السم منه‪ ،‬فإنّ المؤمنَ خي ٌر كُلّه ونفع‪ ،‬فهو‬ ‫ال ِعنَب كَرْمًا لكثرة منافعه‪ ،‬وقل ُ‬
‫من باب التنبيه والتعريف لما فى قلب المؤمن من الخير‪ ،‬والجود‪ ،‬واليمان‪ ،‬والنور‪ ،‬والهدى‪ ،‬والتقوى‪،‬‬
‫حبَلَةِ باردة يابسة‪ ،‬وورقُها‬
‫حبَلَة له‪.‬وبعد‪ ..‬فقو ُة ال َ‬ ‫والصفات التى يستحق بها هذا السم أكث ُر من استحقاق ال َ‬
‫صدَاع سكنته‪ ،‬ومن الورام‬ ‫ض ّمدَ بها من ال ّ‬ ‫وعلئقها وعرمُوشها مبرد فى آخر الدرجة الُولى‪ ،‬وإذا ُدقّت و ُ‬
‫شرِبت سكّنت القىء‪ ،‬وعقلت البطن‪ ،‬وكذلك إذا مُضغت قلوبها‬ ‫الحارة والتهاب المعدة‪ .‬وعُصارةُ قضبانه إذا ُ‬
‫الرطبة‪ .‬وعُصارةُ ورقها‪ ،‬تنفع من قروح المعاء‪ ،‬ونفْث الدم وقيئه‪ ،‬ووجع ال َمعِدَة‪ .‬ودمعُ شجره الذى يُحمل على‬
‫ب والجَ َربَ المتقرح وغيره‪ ،‬وينبغى غسل‬ ‫خ به‪ ،‬أبرأ القُوَ َ‬ ‫ب أخرج الحصاة‪ ،‬وإذا لُطِ َ‬ ‫القضبان‪ ،‬كالصمغ إذا شُرِ َ‬
‫العضو قبل استعمالها بالماء والنّطْرون‪ ،‬وإذا تمسّح بها مع الزيت حلق الشعر‪ ،‬ورمادُ قضبانه إذا تُض ّمدَ به مع‬
‫الخل ودُهْن الورد والسّذاب‪ ،‬نفع من الورم العارض فى الطّحال‪ ،‬وقو ُة دُهْن زهرة الكَرْم قابضة شبيهةٌ بقوة دُهْن‬
‫الورد‪ ،‬ومنافعها كثيرة قريبة من منافع النخلة‪.‬‬

‫ح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه قال‪(( :‬مَن أكَلَهُ ثم نا َم عليه‪ ،‬نام‬ ‫كَ َرفْس‪ :‬روى فى حديث ل يصِ ّ‬
‫طيّبةٌ‪ ،‬وينامُ آمناً من وَجَعِ الضراسِ والسنانِ))‪ ،‬وهذا باطل على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولكن‬ ‫و َنكْهتُهُ َ‬
‫ى منه يُطيّب النكهة جدّا‪ ،‬وإذا عُلّق أصله فى الرقبة نفع من وجع السنان‪.‬‬
‫البُسْتان ّ‬

‫وهو حارٌ يابس‪ ،‬وقيل‪ :‬رطب مفتّح لسُداد ال َكبِد والطّحال‪ ،‬وورقُه رطبًا ينف ُع ال َمعِدَة وال َك ِبدَ الباردة‪ ،‬و ُيدِرّ البَوْل‬
‫حبّه أقوى فى ذلك‪ ،‬ويُهيّج الباه‪ ،‬وينف ُع مِن البَخَر‪ .‬قال الرازىّ‪ :‬وينبغى أن يُجتنب‬ ‫طمْث‪ ،‬ويُفتّت الحصاة‪ ،‬و َ‬
‫وال ّ‬
‫ف من لدغ العقارب‪.‬‬‫أكله إذا خِي َ‬

‫ل ال ُكرّاث ثم نامَ‬
‫ح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم بل هو باطل موضوع‪(( :‬مََن َأكَ َ‬ ‫كُرّاثٌ‪ :‬فيه حديث ل يصِ ّ‬
‫عتَزَلَهُ الملَكُ ِل َنتَنِ نَ ْك َهتِه حتى يُصْبحَ))‪.‬‬
‫عليه نام آمنًا مِنْ ريح البَوَاسيرِ وا ْ‬

‫ى وشامىّ‪ ،‬فالنبطىّ‪ :‬البقلُ الذى يوضع على المائدة‪ .‬والشامىّ‪ :‬الذى له رؤوس‪ ،‬وهو حار يابس‬ ‫وهو نوعان‪َ :‬نبَط ّ‬
‫عجِنَ ب َقطِرَانٍ‪ ،‬و ُبخّرَت به‬
‫ق بزره‪ ،‬و ُ‬
‫مُصدّع‪ ،‬وإذا طُبخَ وُأكِلَ‪ ،‬أو شُرِب ماؤه‪ ،‬نفع من البواسير الباردة‪ .‬وإن سُحِ َ‬
‫س التى فيها الدودُ نثرها وأخرجها‪ ،‬ويُسكّن الوجع العارض فيها‪ ،‬وإذا دُخنت المقعد ُة ببزره خَفّت‬ ‫الضرا ُ‬
‫البواسير‪ ،‬هذا كله فى الكُرّاث ال َنبَطى‪.‬‬

‫صدّع‪ ،‬ويُرى أحلمًا رديئةً‪ ،‬ويُظلم البصر‪ ،‬ويُنتن النّكهة‪ ،‬وفيه إدرارٌ للبَوْل‬
‫وفيه مع ذلك فساد السنان والّلثَة‪ ،‬و ُي َ‬
‫والطّمث‪ ،‬وتحريكٌ للباه‪ ،‬وهو بطىءُ الهضم‪.‬‬

‫حرف اللم‬

‫طيْ ٍر ّممّا‬
‫ش َتهُونَ}[الطور ‪ ،]22 :‬وقال‪ { :‬وََلحْمِ َ‬
‫حمٌ‪ :‬قال ال تعالى‪{ :‬وََأ ْم َددْنَاهُم ِبفَا ِكهَةٍ َولَحْ ٍم ّممّا يَ ْ‬
‫لَ ْ‬
‫ش َتهُونَ}[الواقعة‪. ]21 :‬‬‫يَ ْ‬

‫طعَامِ أ ْهلِ الدّنيا‬


‫سيّدُ َ‬
‫وفى ((سنن ابن ماجه)) من حديث أبى الدرداء‪ ،‬عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪َ (( :‬‬
‫خرَةِ اللّحْمُ))‪.‬‬
‫خيْ ُر الدَا ِم فِى الدّنيا وال ِ‬
‫جنّةِ اللّحْمُ))‪ .‬ومن حديث بُريدةَ يرفعه‪َ (( :‬‬
‫ل ال َ‬
‫وأهْ ِ‬

‫طعَامِ))‪.‬‬
‫وفى ((الصحيح)) عنه صلى ال عليه وسلم‪((:‬فضلُ عائشةَ على النّساءِ كفضلِ الثّريدِ على سا ِئرِ ال ّ‬

‫و((الثريد))‪ :‬الخبز واللّحم‪ .‬قال الشاعر‪:‬‬

‫إذَا مَا الْخبْ ُز تَ ْأدِمُـ ُه بِلَحْ ٍم َفذَاكَ َأمَانَــةَ الِ الثّريـــدُ‬

‫وقال الزّهْرى‪ :‬أكل اللّحْم يَزي ُد سبعين قوّة‪ ،‬وقال محمد بن واسع‪ :‬اللّحْم يزيد فى البصر‪ ،‬ويُروى عن على بن‬
‫أبى طالب رضى ال عنه‪:‬‬

‫ص البَطْنَ‪ ،‬و ُيحَسّنُ الخُُلقَ))‪ ،‬وقال نافع‪ :‬كان ابن عمر إذا كان رمضانُ لم‬
‫خمِ ُ‬
‫صفّى اللّوْنَ‪ ،‬ويُ ْ‬
‫((كُلُوا اللّحْمَ‪ ،‬فإنه يُ َ‬
‫يَ ُفتْه اللّحْم‪ ،‬وإذا سافر لم يفته اللّحْمَ‪ .‬ويُذكر عن علىّ‪ :‬مَن تركه أربعين ليلة ساء خُلُقه‪.‬‬

‫صنِيع‬
‫طعُوا اللّحْمَ بالسكّين‪ ،‬فإنه من َ‬
‫وأما حديث عائشة رضى ال عنها‪ ،‬الذى رواه أبو داود مرفــوعاً‪(( :‬ل َتقْ َ‬
‫سكِين فى‬
‫ح عنه صلى ال عليه وسلم مِن قَطعِه بال ّ‬ ‫العَاجِم‪ ،‬وانْهشُوهُ‪ ،‬فإنه أَ ْهنَأُ وأمرأُ))‪ .‬فرده المام أحمد بما ص ّ‬
‫حديثين‪ ،‬وقد تقدّما‪.‬‬

‫ف أُصولِهِ وطبائعه‪ ،‬فنذكرُ حُك َم كل جنس وطبعَه ومنفعَته ومضرّته‪.‬‬


‫واللّحمُ أجناس يختلِفُ باختل ِ‬

‫لحم الضأن‪ :‬حار فى الثانية‪ ،‬رطب فى الُولى‪ ،‬جيده الحَوْلىّ‪ ،‬يُوّلدُ الدم المحمود القوى لمن جاد هضمُه‪ ،‬يصلح‬
‫لصحاب المزجة الباردة والمعتدلة‪ ،‬ولهل الرياضات التامة فى المواضع والفصول الباردة‪ ،‬نافع لصحاب‬
‫ف ردىء‪ ،‬وكذلك لح ُم النّعاج‪ ،‬وأجوده‪ :‬لحمُ ال ّذكَر‬
‫المِرّة السوداء‪ ،‬يُقوّى الذهن والحفظ‪ .‬ولحم الهَ ِر ِم والعَجي ِ‬
‫السود منه‪ ،‬فإنه أخف وألذ وأنفع‪ ،‬والخصىّ أنفعُ وأجود‪ ،‬والحمر من الحيوان السمين أخفّ وأجو ُد غذاءً‪،‬‬
‫ع مِن ال َمعْز أقل تغذية‪ ،‬ويطفو فى ال َم ِعدَة‪.‬‬
‫جذَ ُ‬
‫وال َ‬

‫وأفضل اللّحْم عائذه بالعظم‪ ،‬واليمن أخف وأجود من اليسر‪ ،‬والمقدم أفضل من المؤخر‪ ،‬وكان أحبّ الشاة إلى‬
‫ل ما عل منه سوى الرأس كان أخفّ وأجود مما سَفَل‪ ،‬وأعطى‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم مقدمها‪ ،‬وك ّ‬
‫ن الداء فيهما))‪.‬‬
‫الفرزدقُ رجلً يشترى له لحماً وقال له‪(( :‬خذ المقدّم‪ ،‬وإياك والرأسَ والبطنَ‪ ،‬فإ ّ‬

‫ولحم العنق جيد لذيذ‪ ،‬سري ُع الهضم خفيف‪ ،‬ولحم الذراع أخفّ اللّحْم وألذّه وألطفه وأبعدُه من الذى‪ ،‬وأسرعُه‬
‫انهضاماً‪.‬‬

‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬أنه كان يُعجِب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ظهْرِ))‪.‬‬
‫حمُ ال ّ‬
‫طيَبُ اللّحْ ِم لَ ْ‬
‫ظهْر كثير الغذاء‪ ،‬يُولّد دماً محموداً‪ .‬وفى ((سنن ابن ماجه)) مرفوعاً‪(( :‬أ ْ‬
‫ولحم ال ّ‬

‫لحمُ ال َمعْز‪ :‬قليل الحرارة‪ ،‬يابس‪ ،‬وخِلْطُه المتولد منه ليس بفاضل وليس بجيد الهضم‪ ،‬ول محمود الغذاء‪ .‬ولحمُ‬
‫ال ّتيْس ردى ٌء مطلقاً‪ ،‬شديد اليُبس‪ ،‬عَسِ ُر النهضام‪ ،‬مُولّد للخلط السوداوى‪.‬‬

‫قال الجاحظ‪ :‬قال لى فاضل من الطباء‪ :‬يا أبا عثمان؛ إياك ولح َم ال َمعْز‪ ،‬فإنه يُورث الغم‪ ،‬ويُحرّك السوادءَ‪،‬‬
‫خبِلُ الولد‪.‬‬
‫ل يَ ْ‬
‫ويُورث النسيان‪ ،‬ويُفسد الدم‪ ،‬وهو وا ِ‬

‫سيّما للمُسنّين‪ ،‬ول رداءةَ فيه لمن اعتاده‪ .‬و‬


‫وقال بعض الطباء‪ :‬إنما المذمو ُم منه ال ُمسِنّ‪ ،‬ول ِ‬

‫ى منه من الغذية المعتدلة المعدّلة لل َكيْموس المحمود‪ ،‬وإناثُه أنف ُع من ذكوره‪.‬‬


‫((جالينوس)) جعل الحَوْل ّ‬

‫عزِ وأمِيطُوا عنها الذى‪،‬‬


‫حسِنوا إلى الما ِ‬
‫وقد روى النسائى فى ((سننه))‪ :‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أ ْ‬
‫جنّةِ))‪ .‬وفى ثبوت هذا الحديث نظرٌ‪.‬‬
‫ب ال َ‬
‫فإنها من دوا ّ‬

‫ى عام‪ ،‬وهو بحسب ال َم ِعدَة الضعيفة‪ ،‬والمزجة الضعيفة التى‬


‫وحك ُم الطباء عليه بالمضرّة حكمٌ جزئىٌ ليس بكل ّ‬
‫لم تعتده‪ ،‬واعتادت المأكولت اللطيفة‪ ،‬وهؤلء أهل الرفاهية من أهل المدن‪ ،‬وهم القليلون من الناس‪.‬‬

‫ب العهد بالوِلدة‪ ،‬وهو أسرعُ هضمًا لما فيه‬‫جدْى‪ :‬قريب إلى العتدال‪ ،‬خاصةً ما دام رَضيعاً‪ ،‬ولم يكن قري َ‬ ‫لحم ال َ‬
‫من قُوّة اللّبن‪ ،‬مُليّن للطبع‪ ،‬موافق لكثر الناس فى أكثر الحوال‪ ،‬وهو ألطفُ مِن لحم الجمل‪ ،‬والد ُم المتولد عنه‬
‫معتدل‪.‬‬

‫ل ال َكدّ والتعب‬
‫لحم البَقَر‪ :‬بارد يابس‪ ،‬عَسِ ُر النهضام‪ ،‬بطىءُ النحدار‪ ،‬يُوَّلدُ دماً سوداوياً‪ ،‬ل يصلُح إل له ِ‬
‫الشديد‪ ،‬ويُورث إدمانُه المراضَ السوداوية‪ ،‬كال َبهَق والجَرَب‪ ،‬والقُوباء والجُذام‪ ،‬وداء الفيل‪ ،‬والسّرَطانِ‪،‬‬
‫حمّى الرّبع‪ ،‬وكثير من الورام‪ ،‬وهذا لمن لم يعتده‪ ،‬أو لم يَدفعْ ضررَه بالفُلفُل والثّوم والدارصينى‬ ‫والوسواس‪ ،‬و ُ‬
‫والزنجبيل ونحوه‪َ ،‬و َذكَرُه أقلّ بُرودةً‪ ،‬وأُنثاه أقلّ يبساً‪.‬‬

‫ولح ُم العِجل ول سِـيّما السمينَ مِن أعدل الغذية وأطيبِها وألذها وأحمدِهَا‪ ،‬وهو حار رطب‪ ،‬وإذا انهضم غذّى‬
‫غذاءً قوياً‪.‬‬

‫لحم الفَـرَس‪ :‬ثبت فى ((الصحيح)) عن أسماءَ رضى ال عنها‪ ،‬قالت‪ :‬نَحرْنا فرساً فأكلناه على عهدِ رسول ال‬
‫حمُرِ‪ .‬أخرجاه‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬وثبت عنه صلى ال عليه وسلم أنه أذن فى لحوم الخيل‪ ،‬ونَهى عن لحوم ال ُ‬
‫فى الصحيحين‪.‬‬

‫ول يثبت عنه حديثُ المِقدام بن معدى كرب رضى ال عنه أنه نهى عنه‪ .‬قاله أبو داود وغيره من أهل الحديث‬
‫واقترانُه بالبغالِ والحَميرِ فى القرآن ل يدل على أنّ حكم لحمه حكم لحومها بوجه من الوجوه‪ ،‬كما ل يدُلّ على‬
‫أنّ حكمها فى السهم فى الغنيمة حك ُم الفَرَس‪ ،‬وال سبحانه يَ ْقرِنُ فى الذّكْ ِر بين المُتماثِلت تارةً‪ ،‬وبين المختلفات‪،‬‬
‫وبين المتضادّات‪ ،‬وليس فى قوله‪ِ{ :‬لتَ ْر َكبُوهَا} ما يمنع من أكلها‪ ،‬كما ليس فيه ما يمن ُع من غير الركوب من‬
‫ض لهما‪.‬‬
‫ل منافعها‪ ،‬وهو الركوبُ‪ ،‬والحديثان فى حِلّها صحيحان ل ُمعَارِ َ‬ ‫وجوه النتفاع‪ ،‬وإنما نَصّ على أج ّ‬

‫ى مُضِ ٌر ل يصلح للَبدان اللّطيفة‪.‬‬


‫وبعد‪ ..‬فلح ُمهَا حا ٌر يابس‪ ،‬غليظٌ سوداو ّ‬

‫ق ما بين الرافضة وأهل السّـنّة‪ ،‬كما أنه أحد الفروق بين اليهود وأهل السلم‪ .‬فاليهود والرافضة‬ ‫لحم الجَمل‪َ :‬فرْ ُ‬
‫ل الِ صلى ال عليه وسلم‬‫تَ ُذمّه ول تأكله‪ ،‬وقد عُلِمَ بالضطرار من دين السلم حِلّه‪ ،‬وطالَما أكله رسو ُ‬
‫سفَراً‬
‫حضَراً و َ‬ ‫وأصحابُه َ‬

‫ولحم الفَصيل منه مِن ألذّ اللّحوم وأطيبها وأقواها غِذاءً‪ ،‬وهو لمن اعتاده بمنزلة لحم الضأن ل يضرّهم ألبتة‪ ،‬ول‬
‫ن فيه‬
‫يُولّد لهم داء‪ ،‬وإنما ذمّه بعضُ الطباء بالنسبة إلى أهل الرفاهية مِن أهل الحَضَر الذين ل يعتادوه‪ ،‬فإ ّ‬
‫سرُ النهضام‪ ،‬وفيه قو ٌة غيرُ محمودة‪ ،‬لجلها أمر النبىّ صلى ال عليه‬ ‫حرارة و ُيبْساً‪ ،‬وتوليداً للسّوداء‪ ،‬وهو عَ ِ‬
‫وسلم بالوضوء مِن أكله فى حديثين صحيحين ل معارض لهما‪ ،‬ول يصح تأويل ُهمَا بغسل اليد‪ ،‬لنه خلفُ‬
‫المعهود من الوضوء فى كلمه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لتفريقه بينه وبين لحم الغنم‪ ،‬فخيّر بين الوضوء وتركه‬
‫ل على ذلك فى قوله‪(( :‬مَن‬ ‫حمِ َ‬
‫حمِلَ الوضوءُ على غسل اليد فقط‪ ،‬ل ُ‬
‫منها‪ ،‬وحتّم الوضوء من لحوم البل‪ .‬ولو ُ‬
‫س فَرْجَ ُه فَ ْل َيتَوَضَأ))‪.‬‬
‫م ّ‬

‫ل يده‪ ،‬فهو عبث‪ ،‬وحملٌ لكلم‬


‫ن آكَِلهَا قد ل يباشر أكلها بيده بأن يوضع فى فمه‪ ،‬فإن كان وضوؤه غس َ‬
‫وأيضاً‪ :‬فإ ّ‬
‫عرْفه‪ ،‬ول َيصِحّ معارضته بحديث‪(( :‬كان آخ ُر المرين من رسول ال صلى ال‬ ‫الشارع على غير معهوده و ُ‬
‫عليه وسلم ترك الوضوء مما‬

‫مسّت النار)) لعدة أوجه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أنّ هذا عامٌ‪ ،‬والمر بالوضوء منها خاص‪.‬‬

‫الثانى‪ :‬أنّ الجهة مختلفة‪ ،‬فالمرُ بالوضوء منها بجهة كونها لح َم إبل سواء أكان نِيئاً‪ ،‬أو مطبوخاً‪ ،‬أو قديداً‪ ،‬ول‬
‫ن مَسّ النارِ ليس بسبب للوضوء‪ ،‬فأينَ‬ ‫نأّ‬
‫تأثيرَ للنار فى الوضوء‪ .‬وأمّا تركُ الوضوء مما مسّتِ النّار‪ ،‬ففيه بيا ُ‬
‫أحدُهما مِن الخر ؟ هذا فيه إثباتُ سبب الوضوء‪ ،‬وهو كونُه لح َم إبل‪ ،‬وهذا فيه نفىٌ لسبب الوضوء‪ ،‬وهو كونُه‬
‫ض بينهما بوجه‪.‬‬
‫س النار‪ .‬فل تعار َ‬
‫ممسو َ‬

‫ن هذا ليس فيه حكايةُ لفظ عام عن صاحب الشرع‪ ،‬وإنما هو إخبا ٌر عن واقعة فعل فى أمرين‪ ،‬أحدهما‪:‬‬ ‫الثالث‪ :‬أ ّ‬
‫متقدّم على الخر‪ ،‬كما جاء ذلك مبيّناً فى نفس الحديث‪(( :‬أنهم قرّبوا إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم لحماً‪ ،‬فأكل‪،‬‬
‫ثم حضرتِ الصلة‪ ،‬فتوضأ فصلّى‪ ،‬ثم قرّبوا إليه فأكل‪ ،‬ثم صلّى‪ ،‬ولم يتوضأ‪ ،‬فكان آخِ ُر المرين منه تركَ‬
‫الوضو ِء مما مسّت النارُ))‪ ،‬هكذا جاء الحديثُ‪ ،‬فاختصره الراوى لمكان الستدللِ‪ ،‬فأين فى هذا ما يصلُح لنسخ‬
‫المر بالوضوء منه‪ ،‬حتى لو كان لفظاً عامًا متأخراً مقاوِماً‪ ،‬لم يصلح للنسخ‪ ،‬ووجب تقدي ُم الخاص عليه‪ ،‬وهذا‬
‫فى غاية الظهور‪.‬‬

‫لحم الضّب‪ :‬تقدّم الحديثُ فى حِلّه‪ ،‬ولحمه حار يابس‪ ،‬يُقوّى شهوة الجِماع‪.‬‬

‫ح الصيد وأحمدُه لحماً‪ ،‬وهو حارٌ يابس‪ ،‬وقيل‪ :‬معتدل جداً‪ ،‬نافع للبدان المعتدلة‬
‫ل أصــل ُ‬
‫ـ لحم الغـزال‪ :‬الغزا ُ‬
‫الصحيحة‪ ،‬وجيّده الخِشْف‪.‬‬

‫ـ لحم الظّبى‪ :‬حارٌ يابس فى الُولى‪ ،‬مجفّف للبدن‪ ،‬صالح للبدان الرطبة‪.‬‬

‫قال صاحب ((القانون))‪ :‬وأفضلُ لحومِ الوحش لح ُم الظّبىِ مع ميله إلى السوداوية‪.‬‬

‫سعَوْا فى طلبها‪ ،‬فأخذوها‪،‬‬


‫جنَا أرنبًا فَ َ‬
‫ـ لحم الرانب‪ :‬ثبت فى ((الصـحيحين))‪ :‬عن أنـس بن مالك‪ ،‬قال‪ ((:‬أ ْنفَ ْ‬
‫فبعث أبو طلحة بِوَ ِر ِكهَا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فَ َقبِلَهُ))‪.‬‬
‫لحم الرنب‪ :‬معتدل إلى الحرارة واليبوسة‪ ،‬وأطيبُها َو ِر ُكهَا‪ ،‬وأحمدُهُ أكل لحمها مشوياً‪ ،‬وهو يَعقِل البطن‪ ،‬و ُيدِرّ‬
‫البَوْل‪ ،‬ويُفتّت الحصى‪ ،‬وأكلُ رؤوسها ينف ُع مِن الرّعشة‪.‬‬

‫ـ لحم حمار ال َوحْش‪ :‬ثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث أبى قتادة رضى ال عنه‪(( :‬أنهم كانوا مع رسولِ ال‬
‫حمَا َر وحش‪ ،‬فأمَرُهم النبىّ صلى ال عليه وسلم بأكله وكانوا‬
‫عمَرِهِ‪ ،‬وأنه صادَ ِ‬
‫صلى ال عليه وسلم فى بعض ُ‬
‫مُحْ ِرمِين‪ ،‬ولم يكن أبو قتادة ُمحْرِماً))‪.‬‬

‫حمُرَ الوحش))‪.‬‬
‫وفى ((سنن ابن ماجه))‪ :‬عن جابر قال‪(( :‬أكلْنا زمنَ خيبرَ الخيلَ و ُ‬

‫لحمه حار يابس‪ ،‬كثيرُ التغذية‪ ،‬مُولّد دماً غليظاً سوداوياً‪ ،‬إل أنّ شحمَه نافع مع دُهْن القُسط لوجع الظّهر والرّيح‬
‫الغليظة المرخية للكُلَى‪ ،‬وشحمُه جيد لِ ْلكَلَفِ طِلءً‪ ،‬وبالجملة فلحومُ الوحوش كُّلهَا تُولّد دماً غليظاً سوداوياً‪،‬‬
‫وأحمدُه الغزال‪ ،‬وبعده الرنب‪.‬‬

‫جنِين َذكَاةُ‬
‫جنّة‪ :‬غير محمودة لحتقان الدم فيها‪ ،‬وليست بحرام لقوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ذَكَاةُ ال َ‬
‫لحوم ال ِ‬
‫ُأمّهِ))‪.‬‬

‫حيّا ف ُيذّكيه‪ ،‬وأوّلوا الحديثَ على أن المراد به أنّ ذكاته كذكاة ُأمّه‪ .‬قالوا‪:‬‬ ‫ل العراق مِن أكله إل أن ُيدْ ِركَه َ‬
‫ومنعَ أه ُ‬
‫ل الِ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقالُوا‪ :‬يا‬ ‫فهو حُجّة على التحريم‪ ،‬وهذا فاسد‪ ،‬فإنّ أول الحديث أنهم سألوا رسو َ‬
‫ن ذكاتَهُ ذَكا ُة ُأمّهِ))‪.‬‬
‫شئْتُم فإ ّ‬
‫رسولَ ال؛ نذبحُ الشاةَ‪ ،‬فنجدُ فى بطنها جنيناً‪ ،‬أفنأكلهُ ؟ فقال‪(( :‬كُلُوهُ إنْ ِ‬

‫ل فهو جزء من أجزاء الُم‪ ،‬فذكا ُتهَا ذكاةٌ لجميع أجزائها‪ ،‬وهذا هو‬ ‫حمْ ً‬
‫وأيضاً‪ :‬فالقياسُ يقتضى حِلّهُ‪ ،‬فإنه ما دامَ َ‬
‫ت عنه‬
‫الذى أشار إليه صاحبُ الشرع بقوله‪(( :‬ذكاتُه ذكا ُة ُأمّه))‪ ،‬كما تكون ذكاتُها ذكاةَ سائر أجزائها‪ ،‬فلو لم تأ ِ‬
‫حلّه‪.‬‬
‫السّـنّةُ الصريحة بأكله‪ ،‬لكان القياسُ الصحيحُ يقتضى ِ‬

‫ت لرسولِ ال صلى ال عليه وسلم شاةً‬


‫لحم ال َقدِيد‪ :‬فى ((السنن))‪ :‬من حديث ثوبان رضى ال عنه قال‪ :‬ذبح ُ‬
‫حمَها)) فلم أزل أُطِعمُه منه إلى المدينة‪.‬‬
‫ح لَ ْ‬
‫ونحن مسافرون‪ ،‬فقال‪(( :‬أصْلِ ْ‬

‫حكّة‪ ،‬ودفعُ ضرره بالبازير الباردة الرطبة‪ ،‬ويُصلح‬


‫القديدُ‪ :‬أنفع من النمكسود‪ ،‬ويُقوّى البدان‪ ،‬ويُحدثُ ِ‬
‫المزجة الحارة‪.‬‬

‫والنمكسودُ‪ :‬حارٌ يابس مجفّف‪ ،‬جّيدُه من السمين الرطب‪ ،‬يضرّ بالقُولنْج‪ ،‬ودفعُ مضرّته طبخُه باللّبن والدّهْن‪،‬‬
‫ويصلح للمزاج الحار الرطب‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى لحوم الطير‬

‫ش َتهُونَ}[الواقعة‪.]21 :‬‬
‫طيْ ٍر ّممّا يَ ْ‬
‫حمِ َ‬
‫قال ال تعالى‪ { :‬وَلَ ْ‬

‫شتَهيهِ‪ ،‬فيَخِ ّر مشويّا بين َيدَ ْيكَ))‪.‬‬


‫جنّةِ‪َ ،‬فتَ ْ‬
‫طيْرِ فى ال َ‬
‫ظرُ إلى ال ّ‬
‫وفى ((مسند البزّار)) وغيره مرفوعاً‪(( :‬إ ّنكَ َلتَنْ ُ‬

‫جيَـفَ كالنّسْر‪ ،‬والرّخَـم‪،‬‬ ‫ل ال ِ‬


‫ومنه حلل‪ ،‬ومنه حرام‪ .‬فالحرامُ‪ :‬ذو المِخلَب‪ ،‬كالصّقرِ والبازى والشـاهِين‪ ،‬وما يأك ُ‬
‫ى عن قتله كالهُدهُـدِ‪ ،‬والصّ َردِ‪ ،‬وما ُأمِ َر بقتله‬
‫لبْقع‪ ،‬والسـود الكبير‪ ،‬وما نُه َ‬
‫واللّقْـلَق‪ ،‬والعَـقْـعَـق‪ ،‬والغُـراب ا َ‬
‫كالحِـدَأة والغراب‪.‬‬

‫والحللُ أصناف كثيرة‪ ،‬فمنه‪:‬‬

‫الدّجاج‪ :‬ففى ((الصحيحين)) من حديث أبى موسى ((أنّ النبىّ صلى ال عليه وسلم أكل لحمَ الدّجاجِ))‪.‬‬
‫خلْطِ‪ ،‬يَزيد فى الدِماغ وال َمنِىّ‪ ،‬ويُصف ّ‬
‫ى‬ ‫وهو حارٌ رطب فى الُولى‪ ،‬خفيفٌ على ال َم ِعدَة‪ ،‬سريعُ الهضم‪ ،‬جيدُ ال َ‬
‫ن مداومَة أكله تُورث‬ ‫الصوت‪ ،‬و ُيحَسّنُ اللّون‪ ،‬ويُقَوّى العقل‪ ،‬ويُ َولّد دماً جيداً‪ ،‬وهو مائل إلى الرطوبة‪ ،‬ويقال‪ :‬إ ّ‬
‫النّقْرس‪ ،‬ول يثبت ذلك‪.‬‬

‫ق منه دواء ينفع القُولنج والرّبو والرّياح الغليظة إذا طُبخَ بماء‬
‫ولح ُم الديك‪ :‬أسخنُ مزاجاً‪ ،‬وأقلّ رطوبة‪ ،‬والعتي ُ‬
‫صيّها محمودُ الغِذَاء‪ ،‬سريعُ النهضام‪ ،‬والفَراريجُ سريعة الهضمِ‪ ،‬مُليّنة للطبع‪ ،‬والدّ ُم المتولد‬
‫شبْث‪ ،‬وخ ِ‬
‫القُرْطُم وال ّ‬
‫منها دمٌ لطيف جيد‪.‬‬

‫حدّ البصر‪.‬‬
‫ف لطيف‪ ،‬سري ُع النهضام‪ ،‬مُولّد للدم المعتدل‪ ،‬والكثا ُر منه يُ ِ‬
‫لحم الدّرّاج‪ :‬حارٌ يابس فى الثانية‪ ،‬خفي ٌ‬

‫حجَل‪ :‬يُوَلّد الدم الجيد‪ ،‬سري ُع النهضام‪.‬‬


‫لحم ال َ‬

‫ـ لحم ال َوزّ‪ :‬حارٌ يابس‪ ،‬ردىء الغذاء إذا أُعتِيد‪ ،‬وليس بكثير الفضول‪.‬‬

‫عسِ ُر النهضام‪ ،‬غيرُ موافق لل َم ِعدَة‪.‬‬


‫ـ لحم البَطّ‪ :‬حارٌ رطب‪ ،‬كثيرُ الفضول‪َ ،‬‬

‫حبَارَى‪ :‬فى ((السنن)) من حديث بُ َريْهِ بن عمر بن سَفينةَ‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جدّه رضى ال عنه قال‪ ((:‬أكلتُ‬‫ـ لحم ال ُ‬
‫حبَارَى))‪.‬‬ ‫حمَ ُ‬
‫مع رسول ال صلى ال عليه وسلم لَ ْ‬

‫عسِ ُر النهضام‪ ،‬نافِعٌ لصحاب الرياضة والتعب‪.‬‬


‫وهو حارٌ يابس‪َ ،‬‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫س خفيف‪ ،‬وفى حرّه وبرده خلفٌ‪ ،‬يُوَلّد دماً سوداوياً‪ ،‬ويصلُح لصحاب الكَ ّد والتعب‪،‬‬ ‫@ لحم الكُرْكىّ‪ :‬ياب ٌ‬
‫وينبغى أن يُترك بعد ذبحه يوماً أو يومين‪ ،‬ثم يؤكل‪.‬‬

‫ن النبىّ‬
‫ـ لحم العصافير وال َقنَابِر‪ :‬روى النسائِى فى ((سننه))‪ :‬من حديث عبد ال بن عمرو رضى ال عنه‪ ،‬أ ّ‬
‫ل عنها))‪ .‬قيل‪:‬‬ ‫ن يَ ْقتُل عُصفورًا فما فوقَهُ بغير حَقّ ِه إلّ سألَهُ الُ عَ ّز وجَ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬ما من إنسا ٍ‬
‫يا رسول ال؛ وما حقّه ؟ قال‪(( :‬تَذْبحُه فتأكُلُهُ‪ ،‬ول َتقْطَعُ رأس ُه وتَرْمى به))‪.‬‬

‫ت رسولَ ال صلى ال عليه وسلم يقول‪(( :‬مَنْ‬ ‫وفى ((سننه)) أيضاً‪ :‬عن عمرو بن الشّريد‪ ،‬عن أبيه قال‪ :‬سمع ُ‬
‫عبَثاً‪ ،‬ولم يَ ْقتُلْنى ِل َمنْ َفعَةٍ))‪.‬‬
‫ن فُلنًا َقتََلنِى َ‬
‫عبَثاً‪ ،‬عَجّ إلى ال يقولُ‪ :‬يا ربّ؛ إ ّ‬
‫عصْفُوراً َ‬
‫َقتَلَ ُ‬

‫ت أدمغتها‬
‫ل للطبيعة‪ ،‬يَزيدُ فى الباه‪ ،‬ومرقُه يَُليّن الطبع‪ ،‬وينفع المفاصِل‪ ،‬وإذا ُأكِلَ ْ‬
‫ولحمُه حارٌ يابس‪ ،‬عاقِ ٌ‬
‫بالزنجبيل والبصل‪ ،‬هيّجَتْ شهوَة الِجماع‪ ،‬وخَلطُها غير محمود‪.‬‬

‫حمَام‪ :‬حارٌ رطب‪ ،‬وحشـيّه أقل رطوبةً‪ ،‬وفراخُه أرطب خاصية‪ ،‬ما ُربّى فى الدّور وناهضُه أخف لحماً‪،‬‬ ‫ـ لحم ال َ‬
‫خدَرِ والسّكتة والرّعشة‪ ،‬وكذلك شَ ّم رائحة أنفاسها‪ .‬وأكلُ‬ ‫وأحمدُ غذاءً‪ ،‬ولح ُم ذكورها شفا ٌء من السترخاء وال َ‬
‫جيّد للكُلَى‪ ،‬يزيدُ فى الدم‪ ،‬وقد روى فيها حديثٌ باطل ل أصل له عن رسول ال‬ ‫فِراخها معينٌ على النساء‪ ،‬وهو َ‬
‫خذْ زوجًا مِن الحَمام))‪ .‬وأجودُ من هذا الحديث أنه‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬أنّ رجلً شكى إليه الوَحدة‪ ،‬فقال‪(( :‬اتّ ِ‬
‫شيْطَانَةً))‪.‬‬
‫ن َيتْبَعُ َ‬
‫شيْطا ٌ‬‫صلى ال عليه وسلم رأى رجلً يتبعُ حمامةً‪ ،‬فقال‪َ (( :‬‬

‫وكان عثمان بن عفان رضى ال عنه فى خطبته يأمر بقتل الكلب وذبح الحمام‪.‬‬

‫ـ لحم القَطَا‪ :‬يابس‪ ،‬يُولّد السوداء‪ ،‬ويحبِسُ الطبع‪ ،‬وهو من شر الغذاء‪ ،‬إل أنه ينفع من الستسقاء‪.‬‬

‫سفَرَة‪ ،‬وينبغى أن‬


‫ل والكُ ْ‬
‫سمَانى‪ :‬حارٌ يابس‪ ،‬ينف ُع المفاصل‪ ،‬ويضُ ّر بال َك ِبدِ الحار‪ ،‬ودفعُ مضّرته بالخَ ّ‬
‫ـ لحم ال ّ‬
‫يُجتنبَ مِن لحوم الطير ما كان فى الجام والمواضع ال َعفِنة‪.‬‬
‫ولحومُ الطير كلها أسرعُ انهضاماً من المواشى‪ ،‬وأسرعُها انهضاماً أقلّها غذاءً‪ ،‬وهى الرّقاب والجنحة‪،‬‬
‫وأدمغتُها أحمد من أدمغة المواشى‪.‬‬

‫ـ الجــراد‪ :‬فى ((الصحيحين))‪ :‬عن عبد ال بن أبى أ ْوفَى قال‪(( :‬غزونا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم سبعَ‬
‫ل الجَرَادَ))‪.‬‬
‫غَزَواتٍ‪ ،‬نأكُ ُ‬

‫ن و َدمَانِ‪ :‬الحُوتُ والجرادُ‪ ،‬وال َكبِدُ والطّحالُ))‪ .‬يُروى مرفوعًا وموقوفاً‬


‫ت لنا َميْ َتتَا ِ‬
‫وفى ((المسند)) عنه‪ُ(( :‬أحِلّ ْ‬
‫على ابن عمر رضى ال عنه‪.‬‬

‫وهو حارٌ يابس‪ ،‬قليل الغذاء‪ ،‬وإدامةُ أكله تُورث الهزال‪ ،‬وإذا ُتبُخّ َر به نفع من تقطير البَوْل وعُسرِه‪ ،‬وخصوصاً‬
‫للنساء‪ ،‬ويُتبخّر به للبواسير‪ ،‬وسِمانُه يُشوى ويُؤكل للسع العقرب‪ ،‬وهو ضار لصحابِ الصّرع‪ ،‬ردىء الخَلط‪.‬‬

‫ف فى إباحة ميتته إذا مات بسبب‪،‬‬


‫حلّه‪ ،‬وحرّمه مالك‪ ،‬ول خِل َ‬
‫وفى إباحة ميتته بل سبب قولن‪ :‬فالجمهور على ِ‬
‫س والتحريق ونحوه‪.‬‬
‫كالكب ِ‬

‫فصل‬

‫فى ضرر المداومة على أكل اللّحم‬

‫وينبغى أن ل يُداوَمَ على أكل اللّحم‪ ،‬فإنه يُورث المراض الدموية والمتلئية‪ ،‬والحمّيات الحادّة‪ ،‬وقال عمر بن‬
‫ن ال يبغض أهل البيت اللّحمى‪ .‬ذكره‬ ‫ضرَاوةً كضراوة الخَمر‪ ،‬وإ ّ‬
‫الخطاب رضى ال عنه‪ :‬إياكم واللّحم‪ ،‬فإنّ له َ‬
‫مالك فى الموطأ عنه‪.‬‬

‫وقال ((أبقراط))‪ :‬ل تجعلوا أجوافكم مقبر ًة للحيوان‬

‫فصل‪ :‬فى اللبان‬

‫ث َودَمٍ ّلبَناً خَالِصاً سَائِغاً‬


‫لنْعَامِ َل ِعبْرَةً‪ ،‬نّسْقِيكُم ّممّا فِى بُطُونِهِ مِن بيْنِ َفرْ ٍ‬
‫ن َلكُ ْم فِى ا َ‬
‫ـ اللّبن‪ :‬قال ال تعالى‪ { :‬وَإ ّ‬
‫لّلشّارِبينَ } [النحل‪.]66 :‬‬

‫ط ْعمُهُ }[محمد‪]15 :‬‬


‫ن لّ ْم َيتَ َغيّرْ َ‬
‫ن وََأ ْنهَا ٌر مّن ّلبَ ٍ‬
‫غيْرِ آسِ ٍ‬
‫وقال فى الجنّة‪ { :‬فِيهَا أ ْنهَا ٌر مّن مّا ٍء َ‬

‫ل لبناً‪،‬‬
‫ط َعمَهُ الُ طَعامًا فَ ْليَقُلْ‪ :‬الّلهُ ّم بَا ِركْ لنا فيه‪ ،‬وار ُزقْنا خَيرًا منه‪َ ،‬ومَن سقاه ا ُ‬
‫وفى ((السنن)) مرفوعاً‪(( :‬مَن أ ْ‬
‫ب إل الّلبَن))‪.‬‬
‫جزِئ من الطعام والشرا ِ‬ ‫ك لنا فيه‪ ،‬و ِزدْنا منه‪ ،‬فإنى ل أعلم ما يُ ْ‬ ‫فَ ْليَقُلْ‪ :‬الّلهُ ّم بَا ِر ْ‬

‫ج ْبنِيةِ‪،‬‬
‫اللّبن‪ :‬وإن كان بسيطاً فى الحس‪ ،‬إل أنه مُركّب فى أصل الخِلقة تركيباً طبيعيًا من جواه َر ثلثةٍ‪ :‬ال ُ‬
‫ج ْبنِيةُ‪ :‬باردة رطبة‪ ،‬مُغذّية للبدن‪ .‬والسّمنيةُ‪ :‬معتدلة الحرارة والرطوبة ملئمة للبدن‬‫والسّمنيةِ‪ ،‬والمائيّةِ‪ .‬فال ُ‬
‫النسانى الصحيح‪ ،‬كثيرةُ المنافع‪ .‬والمائيةُ‪ :‬حارة رطبة‪ ،‬مُطْلِقة للطبيعة‪ ،‬مُرطّبة للبدن‪ .‬واللّبنُ على الطلق‬
‫ب مِنَ المعتدل‪ .‬وقيل‪ :‬ق ّوتُه عند حلبه الحرارةُ والرطوبةُ‪ ،‬وقيل‪ :‬معتدل فى الحرارة والبرودة‪.‬‬ ‫أبردُ وأرط ُ‬

‫ل برودةً‪،‬‬
‫وأجودُ ما يكون اللّبن حين يُحلب‪ ،‬ثم ل يزال تنقصُ جُودتُه على ممر الساعات‪ ،‬فيكونُ حين يُحلب أق ّ‬
‫وأكثرَ رطوبةً‪ ،‬والحامِض بالعكس‪ ،‬ويُختار اللّبن بعد الولدة بأربعين يوماً‪ ،‬وأجودُه ما اشتد بياضُه‪ ،‬وطاب‬
‫ريحُه‪ ،‬ولذّ طعمُه‪ ،‬وكان فيه حلوةٌ يسيرة‪ ،‬ودُسومةٌ معتدِلة‪ ،‬واعتدل قِوَامه فى الرّقة والغِلَظِ‪ ،‬وحُِلبَ من حيوان‬
‫فتيٍ صحيح‪ ،‬معتدِلِ اللّحم‪ ،‬محمودِ المرعَى والمَشربَ‪.‬‬

‫غذَاءً حسناً‪ ،‬وينفع مِن الوَسواس والغم والمراض‬ ‫وهو محمودٌ يُوَلّد دمًا جيداً‪ ،‬ويُرَطّب البدنَ اليابس‪ ،‬ويغذو ِ‬
‫ب مع العسل نقّى القُروح الباطنة من الخلط العفنة‪ .‬وشُربُه مع السكر يُحسّنُ اللّون جداً‪.‬‬ ‫شرِ َ‬‫السوداويّة‪ ،‬وإذا ُ‬
‫والحليب يتدارك ضرر الجِماع‪ ،‬ويُوافق الصدر والرئة‪ ،‬جيد لصحاب السّل‪ ،‬ردىء للرأس وال َم ِعدَة‪ ،‬والكبد‬
‫والطّحال‪ ،‬والكثا ُر منه مضرٌ بالسنان والّلثَة‪ ،‬ولذلك ينبغى أن يُتمضمض بعدَه بالماء‪ ،‬وفى ((الصحيحين))‪ :‬أ ّ‬
‫ن‬
‫النبىّ صلى ال عليه وسلم شرب لبناً‪ ،‬ثم دعا بماء فتمضمض وقال‪(( :‬إنّ لَ ُه دَسَماً))‪.‬‬

‫وهو ردىء للمحمومين‪ ،‬وأصحاب الصّداع‪ ،‬مؤذٍ للدماغ‪ ،‬والرأس الضعيف‪ .‬والمُداومةُ عليه تُحدث ظلمة البصر‬
‫والغِشاء‪ ،‬ووجع المفاصل‪ ،‬وسُدة الكبد‪ ،‬والنفخ فى المعدة والحشاء‪ ،‬وإصلحُه بالعسل والزنجبيل المربى‬
‫ونحوه‪ ،‬وهذا كُلّ ُه لمن لم يعتدْه‪.‬‬

‫ـ لبن الضّأْن‪ :‬أغلظُ اللبان وأرط ُبهَا‪ ،‬وفيه من الدّسومة والزّهومة ما ليس فى لبن الماعِز والبقر‪ ،‬يُوَّلدُ فضو ً‬
‫ل‬
‫بلغميّا‪ ،‬ويُحدِث فى الجل ِد بياضًا إذا أُدمن استعمالُه‪ ،‬ولذلك ينبغى أن يُشاب هذا اللّبنُ بالماء ليكون ما نال البدنُ‬
‫منه أقل‪ ،‬وتسكينُه للعطش أسرع‪ ،‬وتبريدُه أكثر‪.‬‬

‫ـ لبن ال َمعْز‪ :‬لطيف معتدل‪ ،‬مُطْلِق للبطن‪ ،‬مُرَطّب للبدن اليابس‪ ،‬نافع مِن قروح الحلق‪ ،‬والسّعال اليابس‪ ،‬ونفث‬
‫الدم‪.‬‬

‫واللّبنُ المطلَقُ أنف ُع المشروبات للبدن النسانىّ لما اجتمع فيه من التغذية والدّموية‪ ،‬ولعتيادِهِ حالَ الطفولية‪،‬‬
‫وموافقتِ ِه للفطرة الصلية‪.‬‬

‫ح من َلبَنٍ‪،‬‬
‫خمْرٍ‪ ،‬و َقدَ ٍ‬‫ح من َ‬ ‫ى به ب َقدَ ٍ‬‫سرِ َ‬
‫ى ليل َة أُ ْ‬
‫وفى ((الصحيحين))‪(( :‬أنّ رسولَ ال صلى ال عليه وسلم أُت َ‬
‫ت ُأ ّمتُكَ))‪ .‬والحامض‬‫خمْرَ‪ ،‬غَ َو ْ‬
‫خذْتَ ال َ‬ ‫ل الذى َهدَاك لِلفِطْ َرةِ‪ ،‬لو أ َ‬
‫فنظر إليهما‪ ،‬ثم أخذ اللّبنَ‪ ،‬فقال جبريل‪ :‬الحمدُ ِ‬
‫ضمُهُ وتنتفعُ به‪.‬‬ ‫منه بطىء الستمراء‪ ،‬خامُ الخِلط‪ ،‬وال َم ِعدَة الحارة ته ِ‬

‫ـ لبن البَقَر‪ :‬يَغذُو البدن‪ ،‬ويُخصبه‪ ،‬ويُطلق البطن باعتدال‪ ،‬وهو من أعدل اللبان وأفضلها بين لبن الضأن ولبن‬
‫المعز‪ ،‬فى ال ّرقَة والغِلظ والدّسم‪.‬‬

‫وفى ((السنن))‪ :‬من حديث عبد ال بن مسعود يرفعه‪(( :‬عليكم بألبانِ البَقَرِ‪ ،‬فإنها تَ ُر ّم من كُلّ الشّجَرِ))‪.‬‬

‫ـ لبن البلِ‪ :‬تقدّم ذكره فى أول الفصل‪ ،‬وذكر منافعه‪ ،‬فل حاجة لعادته‪.‬‬

‫ص ْعتَرِ))‪ ،‬ول يصحّ‬‫ـ ُلبَانٌ‪ :‬هو ال ُك ْندُرُ‪ :‬قد ورد فيه عن النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬بَخّروا ُبيُوتَكُم باللّبان وال ّ‬
‫ب بالنّسيان‪.‬‬
‫عنه‪ ،‬ولكن يُروى عن علىّ أنه قال لرجل شكا إليه النسيانَ‪ :‬عليك باللّبان‪ ،‬فإنه يُشَجّع القلبَ‪ ،‬ويَذْهَ ُ‬
‫سكّر على الريق جيدٌ للبَوْل والنّسيان‪ .‬ويُذكر عن أنس‬ ‫ويُذكر عن ابن عباس رضى ال عنهما أنّ شُربه مع ال ّ‬
‫خذْ منه شربةً‬‫رضى ال عنه أنه شكا إليه رجلٌ النسيانَ‪ ،‬فقال‪ :‬عليك بال ُكنْدُر وان َقعْ ُه مِن اللّيل‪ ،‬فإذا أصبحتَ‪ ،‬ف ُ‬
‫جّيدٌ للنّسيان‪.‬‬
‫على الرّيق‪ ،‬فإنه َ‬

‫ظ ما ينطبعُ‬
‫ولهذا سبب طبيعى ظاهر‪ ،‬فإن النّسيانَ إذا كان لسوء مزاج بارد رطب يغلبُ على الدماغ‪ ،‬فل يحفَ ُ‬
‫فيه‪ ،‬نفع منه اللّبان‪ ،‬وأمّا إذا كان النّسيانُ لغلبة شىء عارض‪ ،‬أمكن زوالُه سريعًا بالمرطبات‪ .‬والفرق بينهما أنّ‬
‫ى يتبعه سهر‪ ،‬وحفظ الُمور الماضية دون الحالية‪ ،‬والرّطوبى بالعكس‪.‬‬ ‫اليبوس ّ‬

‫سفُرَة الرطبة‪ ،‬والتفاحِ الحامض‪ ،‬وكثرةِ‬‫ن أكل الكُ ْ‬


‫ث النّسيانَ أشياءُ بالخاصية‪ ،‬كحجام ُة نُقْرة القفا‪ ،‬وإدما ِ‬ ‫وقد يُحدِ ُ‬
‫ل فيه‪ ،‬والنظر إلى المَصلوب‪ ،‬والكثارِ من قراءة ألواح القُبور‪،‬‬ ‫الهَ ّم وال َغمّ‪ ،‬والنظرِ فى الماء الواقف‪ ،‬والبَوْ ِ‬
‫جمَلين مقطُورَين‪ ،‬وإلقاء القملِ فى الحياض‪ ،‬وأكل سُؤْر الفأر‪ ،‬وأكثَ ُر هذا معروف بالتجربة‪.‬‬ ‫والمشى بين َ‬

‫والمقصود‪ :‬أنّ اللّبان مسخّن فى الدرجة الثانية‪ ،‬ومجفّف فى الُولى‪ ،‬وفيه قبض يسير‪ ،‬وهو كثي ُر المنافع‪ ،‬قليل‬
‫ط ُردُ‬
‫ضمُ الطعام‪ ،‬وي ْ‬
‫المضار‪ ،‬فمن منافعه‪ :‬أن ينفع مِن قذف الدم ونزفه‪ ،‬ووجع ال َمعِدَة‪ ،‬واستطلق البطن‪ ،‬ويه ِ‬
‫الرّياح‪ ،‬ويجلُو قروح ال َعيْن‪ ،‬ويُنبت اللّحم فى سائر القروح‪ ،‬ويُ َقوّى ال َم ِعدَة الضعيفة‪ ،‬ويُسخّنها‪ ،‬ويُجفف البلغم‪،‬‬
‫و ُينَشّف رطوباتِ الصدر‪ ،‬ويجلو ظُلمة البصر‪ ،‬ويمنع القروح الخبيثة من النتشار‪ ،‬وإذا ُمضِغَ وحدَه‪ ،‬أو مع‬
‫صعْتر الفارسىّ جلب البلغم‪ ،‬ونفع من اعتقالِ اللّسان‪ ،‬ويزيدُ فى الذهن ويُذكيه‪ ،‬وإن بُخّ َر به ماء‪ ،‬نفع من‬ ‫ال ّ‬
‫الوباء‪ ،‬وطيّبَ رائحة الهواء‪.‬‬
‫حرف الميم‬

‫سّيدُ الشّراب‪ ،‬وأحد أركان العالَم‪ ،‬بل ركنُه الصلى‪ ،‬فإنّ السمواتِ خُلِ َقتْ من بُخَارِه‪،‬‬
‫ماءٌ‪ :‬مادةُ الحياة‪ ،‬و َ‬
‫ض مِن َزبَده‪ ،‬وقد جعل ال منه كُلّ شىءٍ حىّ‪.‬‬ ‫والر َ‬

‫وقد اختُلِف فيه‪ :‬هل يَغذُو‪ ،‬أو يُنفذ الغذاءَ فقط ؟ على قولين‪ ،‬وقد تقدّما‪ ،‬وذكرنا القول الراجح ودليله‪.‬‬

‫وهو بارد رطب‪ ،‬يَقمعُ الحرارة‪ ،‬ويحفظ على البدن رطوباتِهِ‪ ،‬ويرُد عليه بدلَ ما تحلّلَ منه‪ ،‬ويُرقّق الغذاء‪،‬‬
‫ويُنفذه فى العروق‪.‬‬

‫وتُعتبر جود ُة الماء من عشرة طرق‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬مِن لونه بأن يكون صافياً‪.‬‬

‫الثانى‪ :‬مِن رائحته بأن ل تكون له رائحة البتة‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬مِن طعمه بأن يكون عذبَ الطعم حُلوَه‪ ،‬كماء النّيل والفُرَات‪.‬‬

‫ق القِوام‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬مِن وزنه بأن يكون خفيفاً رقي َ‬

‫ب المجرى والمسلك‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬مِن مجراه‪ ،‬بأن يكون طيّ َ‬

‫السادس‪ :‬مِن م ْنبَعه بأن يكون بعيدَ المنبع‪.‬‬

‫السابع‪ :‬مِن برُوزه للشمس والرّيح‪ ،‬بأن ل يكون مختفياً تحت الرض‪ ،‬فل تتمكن الشمس والريح من قُصارته‪.‬‬

‫الثامن‪ :‬مِن حركته بأن يكونَ سريع الجرى والحركة‪.‬‬

‫ت المخالطة له‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬مِن كثرته بأن يكونَ له كثرة يدفع الفضل ِ‬

‫العاشر‪ :‬مِن مصبه بأن يكون آخذاً من الشّمال إلى الجنوب‪ ،‬أو من المغرب إلى المشرق‪.‬‬

‫جيْحونَ‪.‬‬
‫سيْحونَ‪ ،‬و َ‬
‫وإذا اعتبرتَ هذه الوصاف‪ ،‬لم تجدها بكمالها إل فى النهار الربعة‪ :‬النيلِ‪ ،‬والفُرات‪ ،‬و َ‬

‫سيْحَانُ‪،‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪َ (( :‬‬
‫وفى ((الصحيحين)) من حديث أبى هُريرة رضى ال عنه قال‪ :‬قال رسو ُ‬
‫ل من أنها ِر الجنّة))‪.‬‬
‫جيْحَانُ‪ ،‬والنّيلُ‪ ،‬والفُرَاتُ‪ ،‬كُ ٌ‬
‫وَ‬

‫وتُعتبر خِفة الماء من ثلثة أوجه‪ ،‬أحدها‪ :‬سُرعة قبوله للحر والبرد‪ .‬قال ((أبقراط))‪ :‬المَاء الذى يسخُن سريعاً‪،‬‬
‫ف المياه‪.‬‬
‫ويبرُد سريعًا أخ ّ‬

‫الثانى‪ :‬بالميزان‪.‬‬

‫ن بماءين مختلفين‪ ،‬ثم يُجففا بالغاً‪ ،‬ثُم توزنا‪ ،‬فأيتهما كَانت أخفّ‪ ،‬فماؤها‬
‫الثالث‪ :‬أن ُتبَل قُطنتان متساويتا الوز ِ‬
‫كذلك‪.‬‬

‫والماءُ وإن كان فى الصل بارداً رطباً‪ ،‬فإن قُوّته تنتقِلُ وتتغيّرُ لسباب عارضة تُوجب انتقالها‪ ،‬فإن الماء‬
‫ف للشّمال المستورَ عن الجهات الُخَر يكون بارداً‪ ،‬وفيه يبس مكتسب من ريح الشّمال‪ ،‬وكذلك الحكمُ‬ ‫المكشو َ‬
‫لخَر‪.‬‬
‫على سائر الجهات ا ُ‬

‫والما ُء الذى ينبُع من المعادن يكونُ على طبيعة ذلك ال َمعْدِنِ‪ ،‬ويؤثر فى البدن تأثيره‪.‬‬
‫جمَاع‪،‬‬‫والما ُء العذب نافع للمرضى والصحاء‪ ،‬والباردُ منه أنف ُع وألذّ‪ ،‬ول ينبغى شربُه على الريق‪ ،‬ول عَقيبَ ال ِ‬
‫ول النتبا ِه من النوم‪ ،‬ول عَقيبَ الحمّام‪ ،‬ول عَقيبَ أكل الفاكهة‪ ،‬وقد تقدّم‪ .‬وأما على الطعام‪ ،‬فل بأس به إذا‬
‫اضطّر إليه‪ ،‬بل يتعيّنُ ول يُكثر منه‪ ،‬بل يتمصّصُه مصّا‪ ،‬فإنه ل يضرّه ألبتة‪ ،‬بل يُقَوّى المعدة‪ ،‬ويُنهض الشهوة‪،‬‬
‫ويُزيل العطش‪.‬‬

‫ض ّد ما ذكرناه‪ ،‬وبائتُه أجودُ مِن طريّه وقد تقدّم‪ .‬والباردُ ينفع من داخل أكث َر مِن نفعه‬
‫والماء الفاتر ينفخ ويفعل ِ‬
‫من خارج‪ ،‬والحارّ بالعكسِ‪ ،‬وينف ُع الباردُ مِن عفونة الدم‪ ،‬وصعود البخرة إلى الرأس‪ ،‬ويدفع العفوناتِ‪ ،‬ويُوافق‬
‫المزجةَ والسنان والزمانَ والماكنَ الحارّة‪ ،‬ويضر على كل حالة تحتاج إلى نُضج وتحليل‪ ،‬كالزكام‬
‫ن عليه يُحدث انفجارَ الدّم والنزلتِ‪ ،‬وأوجاعَ الصدر‪.‬‬ ‫والورام‪ ،‬والشديدُ البرودةِ منهُ يُؤذى السنان‪ ،‬والدما ُ‬

‫والبارد والحار بإفراط ضارّان للعصب ولكثر العضاء‪ ،‬لن أحدَهما محلّل‪ ،‬والخر ُم َكثّف‪ ،‬والماء الحار‬
‫سكّن لذع الخلط الحادة‪ ،‬ويُحلّل ويُنضج‪ ،‬ويُخرج الفضول‪ ،‬ويُرطّب وُيسَخّن‪ ،‬ويُفسد الهضمَ شربُه‪ ،‬ويَطفُو‬ ‫يُ َ‬
‫بالطعام إلى أعلى المعدة ويُرخيها‪ ،‬ول يُسرع فى تسكين العطش‪ ،‬ويُذبل البدن‪ ،‬ويُؤدى إلى أمراض رديئة‪،‬‬
‫ويضرّ فى أكثر المراض على أنه صالح للشيوخ‪ ،‬وأصحاب الصّ ْرعِ‪ ،‬والصّداع البارد‪ ،‬والرّمد‪ .‬وأنفعُ ما‬
‫استُعمل مِن خارج‪.‬‬

‫ول يصحّ فى الماء المسخّن بالشمس حديثٌ ول أثر‪ ،‬ول كرهه أح ٌد من قدماء الطباء‪ ،‬ول عابوه‪ ،‬والشديدُ‬
‫السخونةِ يُذيب شحم الكُلَى‪.‬‬

‫وقد تقدّم الكلم على ماء المطار فى حرف الغين‪.‬‬

‫ج والبَرَد‪ :‬ثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه كان يدعو فى الستفتاح وغيره‪:‬‬ ‫ـ ماء الثّلْ ِ‬
‫((الّلهُ ّم اغْسِلنى من خطاياى بماءِ الثّلْجِ والبَ َردِ))‪.‬‬

‫الثلج له فى نفسه كيفية حادة دُخانية‪ ،‬فماؤه كذلك‪ ،‬وقد تقدّم وجهُ الحكمة فى طلب الغسل مِن الخطايا بمائه لما‬
‫ب البدان والقلوب‪ ،‬ومعالجةُ أدوائها‬
‫ب من التبريد والتّصْلِيب والتقوية‪ ،‬ويُستفاد من هذا أصلُ ط ّ‬
‫يحتاج إليه القل ُ‬
‫بضدها‪.‬‬

‫جمَد وهو الجليد فبحسب أصله‪.‬والثلج يكتسب كيفية الجبا ِ‬


‫ل‬ ‫وماء البَرَد ألطف وألذّ من ماء الثلج‪ ،‬وأما ما ُء ال َ‬
‫جمَاع‪،‬‬
‫ب الماء المثلوج عقيبَ الحمّام وال ِ‬
‫ض التى يسقُط عليها فى الجودة والرداءة‪ ،‬وينبغى تجنّب شر ِ‬ ‫والر ِ‬
‫سعَال‪ ،‬ووجع الصدر‪ ،‬وضعف ال َكبِد‪ ،‬وأصحاب المزجة الباردة‪.‬‬ ‫والرياضة والطعام الحار‪ ،‬ولصحاب ال ّ‬

‫ن ل يخلو‬ ‫ى المدفونة تحت الرض ثقيل‪ ،‬لن أحدهما محتقِ ٌ‬ ‫ماء البار وال ُقنِىّ‪ :‬مياهُ البار قليلة اللّطافة‪ ،‬وماء ال ُقنِ ّ‬
‫ب عن الهواء‪ ،‬وينبغى أل يُشربَ على الفور حتى يصمدَ للهواء‪ ،‬وتأتىَ عليه ليلةٌ‪،‬‬ ‫عن تعفّن‪ ،‬والخر محجو ٌ‬
‫سيّما إذا كانت تر ُبتَها رديئَةٌ‪ ،‬فهذا الماء وبىءٌ‬
‫وأردؤه ما كانت مجاريه مِن رَصاص‪ ،‬أو كانت بئره معطّلة‪ ،‬ول ِ‬
‫وخيم‪.‬‬

‫سهَا عند الناس‪ ،‬وهو َه ْزمَةُ‬


‫ماء زمزمَ‪ :‬سّيدُ المياه وأشر ُفهَا وأجّلهَا قدراً‪ ،‬وأحبّها إلى النفوس وأغلها ثمناً‪ ،‬وأنَفَ ُ‬
‫جبريلَ‪ ،‬وسُقيَا ال إسماعيلَ‪.‬‬

‫وثبت فى ((الصحيح))‪ :‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه قال لبى ذَ ّر وقد أقام بين الكعبة وأستارِهَا أربعينَ‬
‫ط ْعمٍ))‪ .‬وزاد غيرُ مسلم‬
‫طعَامُ ُ‬
‫ما بين يومٍ وليلةٍ‪ ،‬ليس له طعامٌ غيرُه؛ فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إنها َ‬
‫سقْمٍ))‪.‬‬
‫بإسناده‪(( :‬وشفاءُ ُ‬

‫وفى ((سنن ابن ماجه))‪ :‬من حديث جابر بن عبد ال‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬ماءُ َزمْ َز َم لِما‬
‫شُ ِربَ له))‪ .‬وقد ضعّف هذا الحديثَ طائفةٌ بعبد ال ابن المؤمّل راويه عن محمد بن المنكدر‪ .‬وقد روينا عن عبد‬
‫ن ابن أبى الموالى حدّثنا عن محمد بن ال ُم ْن َكدِر‪ ،‬عن جابر‬ ‫ال بن المبارَك‪ ،‬أنه لمّا حَجّ‪ ،‬أتى َزمْ َزمَ‪ ،‬فقال‪ :‬الّلهُ ّم إ ّ‬
‫رضى ال عنه‪ ،‬عن نبيّك صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬ماءُ زمزمَ لما شُ ِربَ له))‪ ،‬وإنّى أشربُه لظمإ يوم‬
‫القيامة‪ ..‬وابن أبى الموالى ثقة‪ ،‬فالحديث إذاً حسن‪ ،‬وقد صحّحه بعضُهم‪ ،‬وجعله بعضُهم موضوعاً‪ ،‬وكِل القولين‬
‫فيه مجازفة‪.‬‬
‫وقد جربتُ أنا وغيرى من الستشفاء بماء زمز َم أُموراً عجيبة‪ ،‬واستشفيتُ به من عدة أمراض‪ ،‬فبرأتُ بإذن ال‪،‬‬
‫ف مع الناس‬‫جدُ جوعاً‪ ،‬ويطو ُ‬
‫ت العدد قريباً من نصف الشهر‪ ،‬أو أكثر‪ ،‬ول ي ِ‬‫وشاهدتُ مَن يتغذّى به اليامَ ذوا ِ‬
‫كأحدهم‪ ،‬وأخبرنى أنه ربما بقى عليه أربعين يوماً‪ ،‬وكان له قو ٌة يجامع بها أهله‪ ،‬ويصوم‪ ،‬ويطوف مراراً‪.‬‬

‫ـ ماء النّيل‪ :‬أحد أنها ِر الجنّة‪ ،‬أصلُه مِن وراء جبال القمر فى أقصى بلد الحبشة مِن أمطار تجتمِعُ هناك‪ ،‬وسيول‬
‫يمدّ بعضُها بعضاً‪ ،‬فيسوقُه ال تعالى إلى الرض الجُ ُرزِ التى ل نبات لها‪ ،‬فيُخرج به زرعاً‪ ،‬تأكل منه النعام‬
‫والنام‪ .‬ولما كانت الرضُ التى يسوقه إليها إبْليزًا صلبة‪ ،‬إن أُمطرت مطر العادة‪ ،‬لم ترو‪ ،‬ولم تتهيأ للنبات‪،‬‬
‫ش والمصالح‪ ،‬فأمط َر البلدَ البعيدة‪ ،‬ثم ساق‬
‫ت المساكنَ والسّاكِن‪ ،‬وعطّلتْ المعاي َ‬
‫وإن أُمطرت فوق العادة‪ ،‬ضرّ ْ‬
‫تلك المطارَ إلى هذه الرض فى نهر عظيم‪ ،‬وجعل سبحانه زيادَته فى أوقات معلومة على قدرِ ِرىّ البلد‬
‫وكِفايتها‪ ،‬فإذا أروى البلدَ وعمّها‪ ،‬أذن سبحانَه بتناقُصِ ِه وهُبوطه لتتم المصلح ُة بالتمكن مِن الزرع‪ ،‬واجتمع فى‬
‫هذا الماء المورُ العشرة التى تقدّم ذكرُها‪ ،‬وكان من ألطف المياه وأخفها وأعذبها وأحلها‪.‬‬

‫ل َميْـتَتُه))‪ .‬وقد جعله‬


‫ماء البحر‪ :‬ثبت عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال فى البحر‪(( :‬هو الطّهورُ ماؤُ ُه الحِ ّ‬
‫ال سبحانه مِلْحاً أُجَاجًا مُرّا زُعَاقًا لتمام مصالح مَنْ هو على وجه الرض مِن الدميين والبهائم‪ ،‬فإنه دائ ٌم راكدٌ‬
‫ت فيه كثيرًا ول يُقبر‪ ،‬فلو كان حلوًا لنتَنَ من إقامته وموت حيواناته فيه وأجافَ‪ ،‬وكان‬ ‫كثي ُر الحيوان‪ ،‬وهو يمو ُ‬
‫ب منه ذلك‪ ،‬وينتُن ويجيف‪ ،‬فيفسُد العاَلمِ‪ ،‬فاقتضت حكمةُ الرّب سبحانه وتعالى أن‬ ‫الهواءُ المحيطُ بالعالَم يكتسِ ُ‬
‫جيَفَ العالَم كلّها وأنتانُه وأمواتُه لم تُغيره شيئاً‪ ،‬ول يتغير على مُكث ِه مِن حين‬
‫ى فيه ِ‬
‫جعله كالملحة التى لو أُلقِ َ‬
‫سبِخَةً‬
‫ن أرضِه َ‬‫خُلق‪ ،‬وإلى أن يَطْ ِوىَ الُ العالَم‪ ،‬فهذا هو السبب الغائي الموجب لملوحته‪ .‬وأمّا الفاعلىّ‪ ،‬فكو ُ‬
‫مالحةً‪.‬‬

‫وبعد‪ ..‬فالغتسالُ به نافع من آفات عديدة فى ظاهر الجلد‪ ،‬وشربُه مُضِ ٌر بداخله وخارجه‪ ،‬فإنه يُطلق البطن‪،‬‬
‫حكّة وجرباً‪ ،‬ونفخاً وعطشاً‪ ،‬ومَن اضطر إلى شربه فله طرق من العلج يدفعُ به مضرتَه‪.‬‬ ‫ويُهزل‪ ،‬ويُحدث ِ‬

‫(يتبع‪)...‬‬

‫@ منها‪ :‬أن يُجعل فى قدِر‪ ،‬ويُجعل فوق القِدر قصباتٌ وعليها صوفٌ جديد منفوش‪ ،‬ويُوقد تحت القِدر حتى‬
‫يرتفع بخارُها إلى الصّوف‪ ،‬فإذا كثُر عَصَره‪ ،‬ول يزال يفعل ذلك حتى يجتمع له ما يريد‪ ،‬فيحصل فى الصّوف‬
‫عذُبَ‪ ،‬ويبقى فى ال ِقدْرِ الزّعاق‪.‬‬
‫من البُخار ما َ‬

‫ومنها‪ :‬أن يُحفر على شاطئه حُفرة واسعة يرشُح ماؤه إليها‪ ،‬ثم إلى جانبها قريبًا منها أُخرى ترشَح هى إليها‪ ،‬ثم‬
‫ب الماءُ‪ .‬وإذا ألجأتْه الضرورةُ إلى شُرب الماء ال َكدِرِ‪ ،‬فعِلجُه أن يُلقَى فيه نَوى المِشمش‪ ،‬أو‬ ‫ثالثةٌ إلى أن يعذُ َ‬
‫ب إلى أسفل‪.‬‬ ‫ن كُدرته ترس ُ‬
‫قطعة من خشب الساج‪ ،‬أو جمرًا ملتهبًا يُطفُأ فيه‪ ،‬أو طيناً أ ْر َمنِيّا‪ ،‬أو سَويقَ حِنطة‪ ،‬فإ ّ‬

‫مِسْـكٌ‪ :‬ثبت فى ((صحيح مسلم))‪ ،‬عن أبى سعيد الخُدرىّ رضى ال عنه‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫سكُ))‪.‬‬
‫قال‪(( :‬أطيبُ الطّيبِ المِ ْ‬

‫حرِمَ ويومَ‬
‫ب النبىّ صلى ال عليه وسلم قبل أن يَ ْ‬
‫وفى ((الصحيحين)) عن عائشة رضى ال عنها‪(( :‬كنتُ أُطيّ ُ‬
‫سكٌ))‪.‬‬
‫ب فيه مِ ْ‬
‫النّحْ ِر قبل أن يطوفَ بالبيت بطي ٍ‬

‫شبّه به غيرُه‪ ،‬ول يُشبّه بغيره‪،‬‬


‫ك أنواعِ الطيب‪ ،‬وأشرُفهَا وأط ُيبَها‪ ،‬وهو الذى تُضرب به المثال‪ ،‬ويُ َ‬ ‫المِسك‪ :‬مَِل ُ‬
‫وهو كُثبان الجنّة‪ ،‬وهو حارٌ يابس فى الثانية‪ ،‬يَسُ ّر النفس و ُيقَوّيها‪ ،‬و ُيقَوّى العضاء الباطنة جميعها شُرباً وشمّا‪،‬‬
‫سيّما زمن الشتاء‪ ،‬جيد للغَشْى والخفقانِ‪ ،‬وضعف القوة‬ ‫والظاهر َة إذا وُضِ َع عليها‪ .‬نافع للمشايخ‪ ،‬والمبرودين‪ ،‬ل ِ‬
‫ض العين‪ ،‬ويُنشّف رطوبتها‪ ،‬و َيفُشّ الرياح منها ومن جميع العضاء‪،‬‬ ‫بإنعاشه للحرارة الغريزية‪ ،‬ويجلو بيا َ‬
‫ل السموم‪ ،‬وينف ُع مِن َنهْش الفاعى‪ ،‬ومنا ِفعُه كثيرة جداً‪ ،‬وهو أقوى المفرّحات‪.‬‬ ‫ويُبطل عم َ‬

‫مَرْ َزنْجُوش‪ :‬ورد فيه حديث ل نعلم صحته‪(( :‬عليكم با ْلمَرْ َزنْجُوش‪ ،‬فإنه جيدٌ لِلخُشامِ))‪ .‬و((الخُشام))‪ :‬الزّكام‪.‬‬

‫وهو حارٌ فى الثالثة يابس فى الثانية‪ ،‬ينفع شمّه من الصّداع البارد‪ ،‬والكائن عن البلغم‪ ،‬والسوداء‪ ،‬والزّكام‪،‬‬
‫والرياح الغليظة‪ ،‬ويفتح السّدد الحادثة فى الرأس والمنخرين‪ ،‬ويُحلّل أكثرَ الورام الباردة‪ ،‬فينف ُع مِن أكثر‬
‫حبَل‪ ،‬وإذا دُقّ ورقُه اليابس‪ ،‬و ُك ِمدَ به‪،‬‬
‫الورام والوجاع الباردة الرّطبة‪ ،‬وإذا اح ُتمِل‪ ،‬أد ّر الطّمث‪ ،‬وأعان على ال َ‬
‫ضمّد به مع الخل‪ ،‬نفع لسعة العقرب‪ .‬ودُهنه نافع لوجع الظهر‬ ‫أذهب آثا َر الدّم العارض تحت ال َعيْن‪ ،‬وإذا ُ‬
‫ط بمائه مع دُهن اللّوز المُر‪،‬‬
‫والرّكبتين‪ ،‬ويُذهب بالعياء‪ ،‬ومَن أ ْدمَن شمّه لم ينزل فى عينيه الماء‪ ،‬وإذا اس ُتعِ َ‬
‫فتح سُدد المنخرين‪ ،‬ونفع مِن الريح العارضة فيها‪ ،‬وفى الرأس‬

‫مِلحٌ‪ :‬روى ابن ماجه فى ((سننه))‪ :‬من حديث أنس يرفعه‪(( :‬سَـيّدُ إدا ِمكُم المِلحُ))‪ .‬وسيد الشىء‪ :‬هو الذى‬
‫يُصلحه‪ ،‬ويقومُ عليه‪ ،‬وغالبُ الدام إنما يصلح بالملح‪.‬‬

‫طعَا ُم إل‬
‫ح ال ّ‬
‫طعَام‪ ،‬ول يَصلُ ُ‬
‫شكُ أن تكونوا فى النّاس ِمثْلَ المِلْحِ فى ال ّ‬
‫سيُو ِ‬
‫وفى ((مسند البزّار)) مرفوعاً‪َ (( :‬‬
‫بالمِلْحِ))‪.‬‬

‫ت من‬
‫ن الَ أنزلَ أربعَ بركا ٍ‬
‫ى فى ((تفسيره))‪ :‬عن عبد ال بن عمر رضى ال عنهما مرفوعاً‪(( :‬إ ّ‬ ‫وذكر البغو ّ‬
‫حدِيدَ‪ ،‬والنارَ‪ ،‬والماءَ‪ ،‬والمِلْحَ))‪ .‬والموقوف أشبَهُ‪.‬‬
‫سمَاء إلى ال ْرضِ‪ :‬ال َ‬
‫ال ّ‬

‫ح يُصلِح أجسام الناس وأطعمتهم‪ ،‬ويُصلِح كُلّ شىء يُخالطه حتى الذّهبَ وال ِفضّة‪ ،‬وذلك أن فيه قوةً تزيدُ‬ ‫المِلْ ُ‬
‫الذهبَ صُفرةً‪ ،‬وال ِفضّ َة بياضاً‪ ،‬وفيه جِلءٌ وتحليل‪ ،‬وإذهابٌ للرطوبات الغليظة‪ ،‬وتنشيفٌ لها‪ ،‬وتقويةٌ للبدان‪،‬‬
‫ق الظّفَرَة‪.‬‬ ‫ل به‪ ،‬قلع اللّحم الزائد من ال َعيْن‪ ،‬ومحَ َ‬ ‫ومنعٌ من عفونتها وفسادها‪ ،‬ونفعٌ من الجرب المتقرّح‪ .‬وإذا اكتُحِ َ‬
‫ن أصحابِ‬ ‫ك به بطو ُ‬ ‫ح الخبيثة من النتشار‪ ،‬ويُحدِرُ البراز‪ ،‬وإذا دُِل َ‬ ‫والندرانى أبل ُغ فى ذلك‪ ،‬ويمنعُ القرو َ‬
‫شدّ اللّثة ويُقويها‪ ،‬ومنافعه كثيرة جدّا‬ ‫الستسقاء‪ ،‬نفعهم‪ ،‬ويُنقى السنانَ‪ ،‬ويدفعُ عنها العُفُونة‪ ،‬وي ُ‬

‫حرف النون‬

‫نَخْلٌ‪ :‬مذكور فى القرآن فى غير موضع‪ ،‬وفى ((الصحيحين))‪ :‬عن ابن عمر رضى ال عنهما‪ ،‬قال‪ :‬ب ْينَا نحن‬
‫ن مِن الشّجَرِ‬ ‫جمّارِ نخلة‪ ،‬فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إ ّ‬ ‫عند رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إذ ُأتِىَ ب ُ‬
‫خبِرُونى ما ِهىَ ؟ فوقع الناسُ فى شجر البوادى‪ ،‬فوقع فى‬ ‫ط وَ َرقُها‪ ،‬أ ْ‬
‫شَجَر ًة َمثَلُها َمثَلُ الرّجُلِ المسلِ ِم ل يَسقُ ُ‬
‫سنّا‪ ،‬فسكتّ‪ ،‬فقال رسول ال صلى‬ ‫ت فإذا أنا أصغرُ القوم ِ‬ ‫نفسى أنها النخلة‪ ،‬فأردتُ أن أقول‪ :‬هى النخلة‪ ،‬ثم نظر ُ‬
‫ب إلىّ من كذا وكذا‪ .‬ففى هذا‬ ‫ن قُ ْل َتهَا أح ّ‬
‫ن تكو َ‬
‫ت ذلك لعمرَ‪ ،‬فقال‪ :‬لَ ْ‬ ‫ال عليه وسلم‪(( :‬هى النّخْلَةُ))‪ ،‬فذكر ُ‬
‫الحديث إلقاءُ العالِ ُم المسائلَ على أصحابه‪ ،‬وتمرينُهم‪ ،‬واختبا ُر ما عندهم‪.‬‬

‫ب المثال والتشبيه‪.‬‬
‫وفيه ضر ُ‬

‫وفيه ما كان عليه الصحابةُ من الحياء من أكابرهم وإجللهم وإمساكهم عن الكلم بين أيديهم‪ .‬وفيه فرحُ الرجل‬
‫ف بحضرة أبيه‪ ،‬وإن لم يَعرفه البُ‪،‬‬‫ب بما َيعْرِ ُ‬
‫بإصابة ولده‪ ،‬وتوفيقه للصواب وفيه أنه ل يُكره للولد أن يُجي َ‬
‫وليس فى ذلك إساءةُ أدب عليه‪.‬وفيه ما تضمنه تشبيهُ المسلم بالنخلة من كثرة خيرها‪ ،‬ودوامِ ظلها‪ ،‬وطيبِ‬
‫ثمرها‪ ،‬ووجودِهِ على الدوام‪.‬‬

‫وثمرُها يؤكل رطبًا ويابساً‪ ،‬وبلحاً ويانعاً‪ ،‬وهو غذاء ودواء وقوت وحَلْوى‪ ،‬وشرابٌ وفاكهة‪ ،‬وجذُوعها للبناء‬
‫واللت والوانى‪ ،‬ويُتخَذ مِن خُوصها الحُصُر والمكاتِل والوانى والمراوح‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬ومن ليفها الحبالُ‬
‫ل ثمرتها ونباتها وحسنُ‬‫ف للبل‪ ،‬ويدخل فى الدوية والكحال‪ ،‬ثم جما ُ‬‫والحشايا وغيرها‪ ،‬ثم آخر شىء نواها عل ٌ‬
‫هيئتها‪ ،‬وبهج ُة منظرها‪ ،‬وحسنُ نضد ثمرها‪ ،‬وصنعته وبهجته‪ ،‬ومسرّةُ النفوس عند رؤيته‪ ،‬فرؤيتها مذكّرة‬
‫ل قدرته‪ ،‬وتما ِم حكمته‪ ،‬ول شىء أشبَهُ بها من الرجل المؤمن‪ ،‬إذ هو خيرٌ‬
‫لفاطرها وخالقها‪ ،‬وبديع صنعته‪ ،‬وكما ِ‬
‫كُلّهُ‪ ،‬ونف ٌع ظاهرٌ وباطن‪.‬‬

‫وهى الشجرة التى حَنّ جِذعُها إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم لما فارقه شوقًا إلى قُربه‪ ،‬وسماع كلمه‪،‬‬
‫ت عيسى عليه السلم‪.‬‬
‫وهى التى نزلتْ تحتها مريمُ لما ولد ْ‬

‫خلِ َقتْ من الطّين الذى خُلق منه آدَمُ))‪.‬‬


‫ع ّمتَكُم النخلَةَ‪ ،‬فإنها ُ‬
‫وقد ورد فى حديث فى إسناده نظرٌ‪(( :‬أك ِرمُوا َ‬

‫ل بينهما فى كتابه فى غير موضع‪،‬‬


‫حبْلَةِ أو بالعكس على قولين‪ ،‬وقد قرن ا ُ‬
‫س فى تفضيلها على ال َ‬
‫وقد اختلف النا ُ‬
‫وما أقْربَ أحدَهما من صاحبه‪ ،‬وإن كان كُلّ واحد منهما فى محل سلطانه ومَنبِته‪ ،‬والرض التى توافقه أفضلَ‬
‫وأنفعَ‪.‬‬
‫حبّةَ الجنونِ والجُذام والبَ َرصِ‪ ،‬ل يقطعُها إل‬
‫نرجس‪ :‬فيه حديث ل يصح‪(( :‬عليكم بِشَـمّ النّرجِس فإنّ فى القَ ْلبِ َ‬
‫ش ّم النّرجِسِ))‪.‬‬

‫طبِخَ‬
‫وهو حارٌ يابس فى الثانية‪ ،‬وأصلُه يُدمل القروحَ الغائرة إلى العَصَب‪ ،‬وله قوة غَسّالة جَاِليَةٌ جَابِذَةٌ‪ ،‬وإذا ُ‬
‫سنّة والعسل‪ ،‬نقّى‬ ‫طبِخَ مع الكِرْ ِ‬ ‫شرِبَ ماؤه‪ ،‬أو ُأكِلَ مسلوقاً‪َ ،‬هيّج القىء‪ ،‬وجذبَ الرطوبة من قعر ال َم ِعدَة‪ ،‬وإذا ُ‬ ‫وُ‬
‫سرَةِ النضج‪.‬‬
‫ت العَ ِ‬
‫خ القُروح‪ ،‬وفجّر ال ّدبَيْلَ ِ‬
‫أوسا َ‬

‫وزهرُه معتدل الحرارة‪ ،‬لطيفٌ ينفع الزّكام البارد‪ ،‬وفيه تحليل قوى‪ ،‬ويفتحُ سُدد الدماغ والمنخرين‪ ،‬وينف ُع من‬
‫غرِسَ‪ ،‬صار‬ ‫شقّ بصلُه صَلِيباً‪ ،‬و ُ‬
‫ق منه إذا ُ‬
‫حرَ ْ‬
‫الصّداع الرطب والسّوداوى‪ ،‬ويص َدعُ الرؤوس الحارة‪ ،‬والمُ ْ‬
‫مضاعَفاً‪ ،‬ومَن أ ْدمَن شمّه فى الشتاء أمِنَ من البِرْسام فى الصيف‪ ،‬وينف ُع مِن أوجاع الرأس الكائنة من البلغم‬
‫ب والدماغ‪ ،‬وينف ُع من كثير من أمْراضها‪ .‬وقال صاحب‬ ‫والمِرّة السوداء‪ ،‬وفيه من العِطرية ما يُقوّى القل َ‬
‫((التيسير))‪(( :‬شمّه يُذهب بصَرْع الصبيان))‪.‬‬

‫ى صلى ال عليه وسلم كان إذا اطَّلى بدأ‬ ‫نُوَرةٌ‪ :‬روى ابن ماجه‪ :‬من حديث أُمّ سلمة رضى ال عنها‪ ،‬أنّ النب ّ‬
‫بعورتِه‪ ،‬فطَلَها بالنّوَرة‪ ،‬وسائِرَ جسدِه أهلُه‪ ،‬وقد ورد فيها عدةُ أحاديث هذا أمثَلُها‪.‬‬

‫ن بن داودَ‪.‬‬
‫ص ِنعَتْ له النّوَرةُ‪ :‬سليما ُ‬
‫ل مَن دخل الحمّام‪ ،‬و ُ‬
‫وقد قيل‪ :‬إنّ أو َ‬

‫وأصلُها‪ :‬كِ ْلسٌ جزآن‪ ،‬وزِرْنيخ جزء‪ ،‬يُخلطان بالماء‪ ،‬ويُتركان فى الشمس أو الحمّام بقدر ما َتنْضَجُ‪ ،‬وتشتد‬
‫حنّاء لذهاب‬ ‫زُرقته‪ .‬ثم يُطلى به‪ ،‬ويجلِس ساعة َريْثَما يعمل‪ ،‬ول ُيمَس بماء‪ ،‬ثم يُغسل‪ ،‬ويُطلى مكانها بال ِ‬
‫نار ّيتِها‪.‬‬

‫ط إلى الرض كان أولَ شىء أكل مِن‬


‫َنبِقٌ‪ :‬ذكر أبو نعيم فى كتابه ((الطب النبوى)) مرفوعاً‪(( :‬إنّ آد َم َلمّا أُ ْهبِ َ‬
‫ثمارها ال ّنبِقُ))‪.‬‬

‫سدْرَة المُنتهى ليلةَ أُسْ ِرىَ به‪،‬‬


‫وقد ذكر النبىّ صلى ال عليه وسلم ال ّنبِقَ فى الحديث المتفق على صحته‪ :‬أنه رأى ِ‬
‫وإذا َنبِقُها ِمثْلُ قِللِ َهجَرٍ‪.‬‬

‫سكّن الصفراء‪ ،‬ويَغذو البدنَ‪،‬‬ ‫وال َنبِق‪ :‬ثمر شجر السدر يعقِل الطبيعة‪ ،‬وينفع من السهال‪ ،‬ويدبُغ ال َمعِدَة‪ ،‬ويُ َ‬
‫صلِحُ‬
‫ويُشهّى الطّعام‪ ،‬ويُولّد بلغماً‪ ،‬وينفع الذّرَب الصفراوىّ‪ ،‬وهو بطىء الهضم‪ ،‬وسَويقُه يُقوّى الحشا‪ ،‬وهو يُ ْ‬
‫المزجة الصفراوية‪ ،‬وتُدفع مضرتُه بالشهد‪ .‬واختُلِفَ فيه‪ ،‬هل هو رطب أو يابس ؟ على قولين‪ .‬والصحيح‪ :‬أنّ‬
‫رطبه بارد رطب‪ ،‬ويابسه بارد يابس‪.‬‬

‫حرف الهاء‬

‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول يثبُت مثلها‪ ،‬بل هى موضوعة‪..‬‬ ‫ح عن رسول ا ِ‬ ‫ِهنْ َدبَا‪ :‬ورد فيها ثلثةُ أحاديث ل تصِ ّ‬
‫جنّةِ تَقْطُر عليه))‪ .‬الثانى‪(( :‬مَن‬‫ت من ال َ‬ ‫أحدها‪(( :‬كُلُوا الهِن َدبَا َء ول َتنْفُضُوهُ فإنه ليس يو ٌم مِنَ اليام إل وقَطَرا ٌ‬
‫ق ال ِهنْدبَاء إل وعليها قَطْ َرةٌ‬
‫سمٌ ول سِحرٌ))‪ .‬الثالث‪(( :‬ما مِنْ َورَقةٍ من وَرَ ِ‬‫ل فيهِ َ‬‫ل الهِندبَاء‪ ،‬ثم نام عليها لم يَحِ ّ‬ ‫أكَ َ‬
‫جنّةِ))‪.‬‬
‫من ال َ‬

‫وبعد‪ ..‬فهى مستحيلة المزاج‪ ،‬منقلبةٌ بانقلب فصول السنة‪ ،‬فهى فى الشتاء باردة رطبة‪ ،‬وفى الصيف حارة‬
‫ف معتدِلة‪ ،‬وفى غالب أحوالِها تميلُ إلى البرودة وال ُيبْس‪ ،‬وهى قابضة مبردةٌ‪ ،‬جيد ٌة‬ ‫يابسة‪ ،‬وفى الرّبيعِ والخري ِ‬
‫ى منها‪ ،‬فهى أجود لل َمعِدَة‪ ،‬وأشد قبضاً‪ ،‬وتنفع مِن‬
‫طبِخَت وأُكلت بِخَلّ‪ ،‬عقَلتِ البطن وخاصةٌ البَر ّ‬
‫لل َم ِعدَة‪ ،‬وإذا ُ‬
‫ضعفها‪.‬‬

‫وإذا تُضمّد بها‪ ،‬سلبت اللتهاب العارض فى ال َم ِعدَة‪ ،‬وتنفع من النقْرس‪ ،‬ومن أورام ال َعيْن الحارة‪ .‬وإذا تُضمّد‬
‫بَوَ َرقِها وأُصولها‪ ،‬نفعت من لسع العقرب‪.‬وهى تُ َقوّى ال َمعِدَة‪ ،‬وتفتح السّدد العارضة فى ال َكبِد‪ ،‬وتنفع مِن أوجاعها‬
‫سدَد الطّحال والعروق والحشاء‪ ،‬و ُتنَقّى مجارى الكُلَى‪.‬‬‫حارّها وباردِها‪ ،‬وتفتح ُ‬
‫سيّما إذا خُلِط به ماء الرّا َزيَانَج الرطب‪،‬‬
‫وأنف ُعهَا لل َك ِبدِ أمرّها‪ ،‬وماؤها المعتَصَر ينفع من اليَرَقان السدَدى‪ ،‬ول ِ‬
‫وإذا دُقّ ورقُها‪ ،‬و ُوضِع على الورام الحارة برّدها وحلّلها‪ ،‬ويجلو ما فى ال َم ِعدَة‪ ،‬ويُطفئُ حرارة الدّم والصفراء‪.‬‬

‫وأصلحُ ما أُكلت غير مغسولة ول منفوضة‪ ،‬لنها متى غُسلت أو نُفِضَت‪ ،‬فارقتها قُ ّوتُها‪ ،‬وفيها مع ذلك قوة‬
‫تِرياقية تنف ُع مِن جميع السموم‪.‬‬

‫حلَ بمائها‪ ،‬نفع من العَشَا‪ ،‬ويدخل ورقُها فى الترياق‪ ،‬وينف ُع من لدغ العقرب‪ ،‬ويُقاوِم أكثرَ السموم‪ ،‬وإذا‬
‫وإذا اكتُ ِ‬
‫ب عليه الزيتُ‪ ،‬خلّص من الدوية القتّالة‪ ،‬وإذا اعتُصِرَ أصُلهَا‪ ،‬وشُرِبَ ماؤه‪ ،‬نفع من لسع‬ ‫اعتُصِرَ ماؤها‪ ،‬وصُ ّ‬
‫الفاعى‪ ،‬ولسع العقرب‪ ،‬ولسع الزنبور‪ ،‬ولبن أصلها يجلو بياضَ العَيْن‪.‬‬

‫حرف الواو‬

‫وَ ْرسٌ‪ :‬ذكر الترمذى فى ((جامعه))‪ :‬من حديث زيد بن أرْقمَ‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم (( أنه كان ينعَتُ‬
‫جنْبِ))‪ ،‬قال قتادةُ‪ :‬يَُلدّ به‪ ،‬ويَُلدّ من الجانبِ الذى يشتكِيه‪.‬‬
‫ت والوَ ْرسَ من ذات ال َ‬
‫ال ّزيْ َ‬

‫ل الِ صلى ال عليه وسلم مِن‬


‫وروى ابن ماجه فى ((سننه)) من حديث زيد بن أرقم أيضاً‪ ،‬قال‪(( :‬نعتَ رسو ُ‬
‫ب وَرْسًا وقُسْطاً وزيتًا يَُلدّ به))‪.‬‬
‫جنْ ِ‬
‫ذَاتِ ال َ‬

‫سهَا أربعينَ يوماً‪ ،‬وكانت إحدانا تَطْلى‬


‫ح عن أُمّ سلمة رضى ال عنها قالت‪(( :‬كانت النّفَسَا ُء تَ ْق ُعدُ بعدَ نِفا ِ‬ ‫وصَ ّ‬
‫ج ِههَا من الكَلَف))‪.‬‬
‫ال َورْسَ على وَ ْ‬

‫ض العربِ‪ ،‬ول مِن أرض‬ ‫س يُزرع زرعاً‪ ،‬وليس ببَرّىّ‪ ،‬ولستُ أعرفه بغيرِ أر ِ‬ ‫قال أبو حنيفة اللّغوىّ‪ :‬ال َورْ ُ‬
‫العرب بغير بلد اليمن‪ .‬وقوتُه فى الحرارة واليُبوسة فى أوّل الدرجة الثانية‪ ،‬وأجودُه الحم ُر الّليّن فى اليد‪،‬‬
‫ى به‪ ،‬وله قوةٌ قابضة صابغة‪ ،‬وإذا‬ ‫حكّة‪ ،‬والبثور الكائنة فى سطح البدن إذا طُِل َ‬
‫القليلُ النّخالة‪ ،‬ينفع من الكَلَفِ‪ ،‬وال ِ‬
‫ب من منافع القُسْط البحرىّ‪،‬‬ ‫شُ ِربَ نفع مِن ال َوضَحِ‪ ،‬ومقدا ُر الشربة منه وزنُ درهم‪.‬وهو فى مزاجه ومنافعه قري ٌ‬
‫حكّة والبثورِ والسّفعة نفع منها‪ ،‬والثوبُ المصبوغ بال َورْس يُقوّى على الباه‪.‬‬ ‫وإذا لُطخ به على ال َبهَق وال ِ‬

‫سمَةً‪ :‬هى‪ :‬ورق النيل‪ ،‬وهى تُسوّد الشعر‪ ،‬وقد تقدّم قريباً ذكرُ الخلف فى جواز الصبغ بالسواد ومَن فعله‪.‬‬
‫وْ‬

‫حرف الياء‬

‫يَقْطِينٌ‪ :‬وهو ال ّدبّاء والقرع‪ ،‬وإن كان اليقطينُ أعمّ‪ ،‬فإنه فى اللّغة‪ :‬كل شجر ل تقومُ على ساق‪ ،‬كالبّطيخ والقِثاء‬
‫شجَرَ ًة مّن يَ ْقطِينٍ }[الصافات‪]146:‬‬
‫والخيار‪ .‬قال ال تعالى‪{ :‬وََأ ْنبَ ْتنَا عََليْهِ َ‬

‫شجَرَ ًة مّن‬
‫فإن قيل‪ :‬ما ل يقومُ على ساق يُسمى نَجْماً ل شجراً‪ ،‬والشجر‪ :‬ما له ساق قاله أهل اللّغة فكيف قال‪َ { :‬‬
‫يَقْطِينٍ}[الصافات‪ ]146:‬؟‪.‬فالجواب‪ :‬أنّ الشجر إذا أُطلِقَ‪ ،‬كان ما له ساق يقوم عليه‪ ،‬وإذا ُقّيدَ بشى ٍء تقيّد به‪،‬‬
‫ق بين المطلقَ والمقيّد فى السماء باب مهمٌ عظيم النفع فى الفهم‪ ،‬ومراتب اللّغة‪.‬‬
‫فالفر ُ‬

‫واليقطين المذكور فى القرآن‪ :‬هو نبات ال ّدبّاء‪ ،‬وثمره يُسمى الدّبّاء والق ْرعَ‪ ،‬وشجرة اليقطين‪.‬وقد ثبت فى‬
‫((الصحيحين))‪ :‬من حديث أنس بن مالك‪ ،‬أنّ خياطاً دعا رسولَ الِ صلى ال عليه وسلم لطعام صنَعه‪ ،‬قال أنسٌ‬
‫ت مع رسولِ ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقرّب إليه خُبزًا من شعير‪ ،‬ومرَقًا فيه ُدبّا ٌء و َقدِيدٌ‪،‬‬ ‫رضى ال عنه‪ :‬فذهب ُ‬
‫حبّ الدّبّا َء من ذلك‬ ‫حفَةِ‪ ،‬فلم أزل أُ ِ‬
‫قال أنس‪ :‬فرأيتُ رسولَ الِ صلى ال عليه وسلم يَتتبّ ُع ال ّدبّاء من حَوالى الصّ ْ‬
‫ك من شجرةٍ ما‬ ‫ت على أنس بن مالك رضى ال عنه‪ ،‬وهو يأكل القَرْع‪ ،‬ويقول‪ :‬يا ل ِ‬ ‫اليوم‪.‬وقال أبو طالُوتَ‪ :‬دخل ُ‬
‫حبّ رسول ال صلى ال عليه وسلم إيّاكِ‪.‬‬ ‫أحبّك إلىّ ل ُ‬

‫وفى ((ال َغيْلنيّات))‪ :‬من حديث هشام بن عروة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن عائشةَ رضى ال عنها قالت‪ :‬قال لى رسولُ ال‬
‫ب الحَزِين))‪.‬‬
‫شدّ قَلْ َ‬
‫ختُم ِقدْراً‪ ،‬فأكثِروا فيها من ال ّدبّاء‪ ،‬فإ ّنهَا تَ ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪(( :‬يا عائشةُ؛ إذا ط َب ْ‬
‫اليقطين‪ :‬بارد رطب‪ ،‬يغذو غِذاءً يسيراً‪ ،‬وهو سريعُ النحدارِ‪ ،‬وإن لم يفسُد قبل الهضم‪ ،‬تولّد منه خِ ْلطٌ محمود‪،‬‬
‫خرْدل‪ ،‬تولّد منه خِلطٌ حِرّيف‪ ،‬وبالملح‬
‫ومِن خاصيته أنه يتولّد منه خِلط محمود مجانس لما يصحبُه‪ ،‬فإن ُأكِلَ بال َ‬
‫غذَا البدن غِذا ًء جيداً‪.‬‬
‫خِلطٌ مالح‪ ،‬ومع القابض قابضٌ‪ ،‬وإن طُبخَ بالسفرجل َ‬

‫ب عليهم البلغمُ‪،‬‬‫ى يغذو غذاءً رطبًا بلغمياً‪ ،‬وينفع المَحْرورين‪ ،‬ول يُلئم ال َمبْرودين‪ ،‬ومَن الغال ُ‬ ‫وهو لطيفٌ مائ ٌ‬
‫سلَ به الرأسُ‪ ،‬وهو مُليّن للبطن كيف اس ُت ْعمِل‪ ،‬ول‬ ‫ب أو غُ ِ‬
‫ب الصّداع الحار إذا شُرِ َ‬
‫وماؤه يقطعُ العطش‪ ،‬ويُذه ُ‬
‫يتداوَى المحرورون بمثله‪ ،‬ول أعج َل منه نفعاً‪.‬ومن منافعه‪ :‬أنه إذا ُلطِخَ بعجين‪ ،‬وشُوِىَ فى الفرن أو ال ّتنّور‪،‬‬
‫حمّى الملتهبة‪ ،‬وقطع العطش‪ ،‬وغذّى غِذاءً‬ ‫سكّن حرارة ال ُ‬ ‫ب ببعض الشربة اللّطيفة‪َ ،‬‬ ‫خرِج ماؤه وشُرِ َ‬
‫واستُ ْ‬
‫حسناً‪ ،‬وإذا شُ ِربَ بترنْجبين وسَفَ ْرجَل مربّى أسهل صفراءَ محضةً‪.‬‬

‫عمِلَ منه‬
‫قوُ‬
‫ب ماؤه بشى ٍء من عسل‪ ،‬وشىءٍ من نَطْرون‪ ،‬أحدَرَ بلغمًا ومِرّة معاً‪ ،‬وإذا دُ ّ‬‫طبِخَ القرعُ‪ ،‬وشُرِ َ‬
‫وإذا ُ‬
‫ضِمادٌ على اليافوخ‪ ،‬نفع من الورام الحارة فى الدماغ‪.‬‬

‫ت مِن الورام الحارة‪ ،‬وجُرادتُه‬


‫عصِرَت جُرَادتُه‪ ،‬وخُِلطَ ماؤها بدُهن الورد‪ ،‬و ُقطِر منها فى الُذن‪ ،‬نفع ْ‬ ‫وإذا ُ‬
‫نافعة من أورامِ ال َعيْن الحارة‪ ،‬ومن النّقْرِس الحار‪.‬وهو شديدُ النفع لصحاب المزجة الحارة والمحمومين‪ ،‬ومتى‬
‫صادف فى ال َم ِعدَة خِلطاً رديئاً‪ ،‬استحال إلى طبيعته‪ ،‬وفسد‪ ،‬وولّد فى البدن خِلْطاً رديئاً‪ ،‬ودفعُ مضرته بالخلّ‬
‫عهَا انفعالً‪ ،‬ويُذكر عن أنس رضى ال عنه أنّ رسولَ الِ‬ ‫والمُرّى‪ .‬وبالجملةِ‪ ..‬فهو من ألطفِ الغذيةِ‪ ،‬وأسر ِ‬
‫صلى ال عليه وسلم كان يُكثرُ مِن أكلِه‪.‬‬

‫فصول متفرقة‬

‫من الوصايا النافعة فى العِلج والتدبير‬

‫وقد رأيتُ أن أخ ِتمَ الكلمَ فى هذا البابِ بفصلٍ مختصر عظيمِ النفع فى المحاذِرِ‪ ،‬والوصايا الكلية النافعةِ لِتتمّ‬
‫منفعةُ الكتاب‬

‫ل أربعين يومًا وكَلِفَ‪ ،‬فل‬


‫ت لبن ماسَ َويْه فصلً فى كتاب ((المحاذير)) نقلتُه بلفظه‪ ،‬قال‪((:‬مَن أكل البص َ‬ ‫ورأي ُ‬
‫يلومَنّ إل نفسَه‪.‬ومَن افتَصد‪ ،‬فأكل مالِحاً فأصابه َبهَقٌ أو جَ َربٌ‪ ،‬فل يلومَنّ إل نفسَه‪.‬‬

‫ومَن جمع فى َم ِعدَته البيض والسمكَ‪ ،‬فأصابه فالِج أو لَقْوةٌ‪ ،‬فل يلومَنّ إل نفسَه‪.‬‬

‫ن إل نفسه‪.‬‬
‫ل الحمّا َم وهو ممتلئ‪ ،‬فأصابه فالجٌ‪ ،‬فل يلومَ ّ‬
‫ومَن دخ َ‬

‫ن إل نفسَه‪.‬‬
‫ومَن جمع فى َمعِدته اللّبنَ والسّمكَ‪ ،‬فأصابه جُذام‪ ،‬أو بَرَصٌ أو ِنقْرِسٌ‪ ،‬فل يلومَ ّ‬

‫ص أو نِ ْقرِسٌ‪ ،‬فل يلومَنّ إل نفسَه‪.‬‬


‫ومَن جمع فى َم ِعدَتِهِ اللّبنَ والنّبيذَ‪ ،‬فأصابه بَرَ ٌ‬

‫ن إل نفسَه‪.‬‬
‫خبّلً‪ ،‬فل يلومَ ّ‬
‫ومَن احتَلَم‪ ،‬فلم يغتسلْ حتى َوطِىءَ أهلَه‪ ،‬فولدتْ مجنونًا أو مَ َ‬

‫صبِر حتى ُيفْ ِرغَ‪،‬‬


‫ومَن أكل َبيْضاً مسلوقاً بارداً‪ ،‬وامتل منه‪ ،‬فأصابه رَبوٌ‪ ،‬فل يلومَنّ إل نفسَه‪ .‬ومَن جامَعَ‪ ،‬فلم َي ْ‬
‫فأصابه حصاة‪ ،‬فل يلومَنّ إل نفسَه‪.‬‬

‫ن إلّ نفسَه))‪.‬‬
‫ومَن نظر فى المرآة ليلً‪ ،‬فأصابه لَقْوة‪ ،‬أو أصابه داء‪ ،‬فل يلومَ ّ‬

‫فصل‬

‫فى التحذير من الجمع بين البَيْض والسّمَك‬

‫خ َتيَشُوع‪(( :‬احذ ْر أن تجمعَ ال َبيْضَ والسّمكَ‪ ،‬فإنهما يُورثان القُولنْج والبواسير‪ ،‬ووج َع الضراس))‬
‫وقال ابن بَ ْ‬
‫سمَك المالح والفتصاد بعد الحمّام يُولّد ال َبهَق‬
‫وإدامةُ أكل ال َبيْض يُوَلّد الكَلَف فى الوجه‪ ،‬وأكلُ الملوحة وال ّ‬
‫والجَرَب‪.‬‬

‫إدامةُ أكل كُلَى الغنم يَعقِ ُر المثانة‪.‬‬

‫ى يُوّلدُ الفالج‪.‬‬
‫س َمكِ الطر ّ‬
‫الغتسالُ بالماء البارد بعد أكل ال ّ‬

‫وطءُ المرأة الحائض يُوّلدُ الجُذام‪.‬‬

‫الجماعُ من غير أن ُيهَرِيقَ الماء عقيبَه يُولّد الحصاة‪.‬‬

‫ل المُكث فى المَخْرج يُولّد الداءَ الدّوِىّ ))‪.‬‬


‫((طو ُ‬

‫وقال أبقراط‪(( :‬القلل مِن الضار‪ ،‬خي ٌر مِن الكثار من النافع))‪ ،‬وقال‪(( :‬استديموا الصحة بتركِ التكاسل عن‬
‫ك المتلء من الطعام والشراب))‪.‬‬ ‫التعب‪ ،‬وبتر ِ‬

‫وقال بعضُ الحكماء‪(( :‬مَن أراد الصّحة‪ ،‬فليجوّد الغِذاء‪ ،‬وليأكل على نقاء‪ ،‬وليشرب على ظمإٍ‪ ،‬وليُقلّلْ مِن شُرب‬
‫ش بعدَ العَشاء‪ ،‬ول ينم حتى َيعْرِضَ نفسَه على الخَلء‪ ،‬وليحذر دخول الحمّام‬ ‫الماء‪ ،‬ويتم ّددْ بعد الغداء‪ ،‬و َيتَم ّ‬
‫ل القديد اليابس بالليل ُمعِينٌ على الفناء‪،‬‬
‫ب المتلء‪ ،‬ومرةٌ فى الصيف خي ٌر من عشرٍ فى الشتاء‪ ،‬وأك ُ‬ ‫عقي َ‬
‫ومجامعةُ العجائز ُتهْ ِرمُ أعمارَ الحياءِ‪ ،‬وتُسقِم أبدان الصحاء))‪.‬‬

‫ى رضى ال عنه‪ ،‬ول َيصِحّ عنه‪ ،‬وإنما بعضُه مِن كلم الحارث بن كلَدَ َة طبيبِ العرب‪،‬‬
‫ويُروى هذا عن عل ّ‬
‫وكلمِ غيره‪.‬‬

‫وقال الحارث‪ (( :‬مَن سَرّه البقاء ول بقاء فليُباكِرِ الغَداء‪ ،‬ول ُيعَجّل العَشَاء‪ ،‬وليُخفّف الرّداء‪ ،‬ول ُيقِلّ غِشيان‬
‫النساء))‪.‬‬

‫ل الحمّام على المتلء‪ ،‬وأكلُ القديد‪،‬‬ ‫وقال الحارث‪(( :‬أربعةُ أشيا َء تهدِ ُم البدن‪ :‬الجِماعُ على البِطْنة‪ ،‬ودخو ُ‬
‫وجِماعُ العجوز))‪.‬ولما اح ُتضِرَ الحارث اجتمع إليه الناسُ‪ ،‬فقالوا‪ :‬مُرْنا بأمر ننتهى إليه مِن بعدك‪ .‬فقال‪(( :‬ل‬
‫تتزوجوا من النساء إل شابةً‪ ،‬ول تأكلوا من الفاكهة إل فى أوان نُضجها‪ ،‬ول يتعالجَنّ أحدُكم ما احتمل بدنه‬
‫الداء‪ ،‬وعليكم بتنظيف ال َمعِدَة فى كل شهر‪ ،‬فإنها مُذيبة للبلغم‪ ،‬مُهلكة للمِرّة‪ ،‬مُنبتة للحم‪ ،‬وإذا تَغدّى أحدكم‪ ،‬فلينم‬
‫ش أربعين خطوةً))‪.‬‬ ‫على إثر غدائه ساعة‪ ،‬وإذا تعشّى فليم ِ‬

‫صفْ لى صِفة آخذُها عنك‪ ،‬فقال‪(( :‬ل تنكِحْ إل شابةً‪ ،‬ول تأكُلْ‬ ‫وقال بعض الملوك لطبيبه‪ :‬لعلّك ل تبقَى لى‪ ،‬ف ِ‬
‫جدْ مض َغ الطعام‪ ،‬وإذا‬ ‫ل الفاكهةَ إل فى نُضجها‪ ،‬وأ ِ‬ ‫ب الدواء إل من عِلّة‪ ،‬ول تأكُ ِ‬ ‫مِن اللّحم إل َفتّياً‪ ،‬ول تشر ِ‬
‫ت ليلً فل تنم حتى تمشىَ ولو خمسين خطوة‪ ،‬ول تأكلنّ حتى تجوع‪ ،‬ول‬ ‫أكلتَ نهارًا فل بأس أن تنامَ‪ ،‬وإذا أكل َ‬
‫خذَ منك‪ ،‬ول تأكلَنّ طعاماً وفى َم ِع َدتِك طعامٌ‪،‬‬
‫حمّام قبلَ أن يأ ُ‬‫جمَاع‪ ،‬ول تحبِس البَوْل‪ ،‬وخُذ مِن ال َ‬‫تتكارَهَنّ على ال ِ‬
‫ع بقيئة تُنقّى‬
‫ك أن تأكل ما تعجز أسنانُك عن مضغِه‪ ،‬فتعجِزَ َم ِع َدتُك عن هضمه‪ ،‬وعليك فى كل أسبو ٍ‬ ‫وإيا َ‬
‫جسمَك‪ ،‬و ِنعْ َم الكنزُ الدمُ فى جسدك‪ ،‬فل تُخْ ِرجْه إل عند الحاجة إليه‪ ،‬وعليك بدخول الحمّام‪ ،‬فإنه يُخرج مِن‬
‫صلُ الدوية إلى إخراجه))‪.‬‬ ‫الطباق ما ل تَ ِ‬

‫س ال َكتّان))‬
‫ل مِن غير جِماع‪ ،‬وُلبْ ُ‬
‫@ وقال الشافعى‪(( :‬أربعةٌ تُقوّى البدن‪ :‬أكلُ اللّحم‪ ،‬وشمّ الطّيب‪ ،‬وكثرةُ الغس ِ‬

‫وأربعةُ تُوهِن البدن‪ :‬كثرةُ الجِماع‪ ،‬وكثرةُ الهم‪ ،‬وكثرةُ شرب الماء على الرّيق‪ ،‬وكثرةُ أكل الحامِض‪.‬‬

‫ل عند النوم‪ ،‬والنظرُ إلى الخُضرة‪ ،‬وتنظيف المجلس‪.‬‬


‫س حِيا َل الكعبة‪ ،‬والكح ُ‬
‫وأربعةُ تُقوّى البصر‪ :‬الجلو ُ‬

‫ن البصر‪ :‬النظرُ إلى القذَرِ‪ ،‬وإلى المصلوبِ‪ ،‬وإلى فَرْجِ المرأة‪ ،‬والقعو ُد مستدبِرَ ال ِقبْلَة‪.‬‬
‫وأربعةُ توهِ ُ‬

‫ستُق‪ ،‬والخرّوب‪.‬‬
‫جمَاع‪ :‬أكلُ العصافير‪ ،‬والطْرِيفل‪ ،‬والفُ ْ‬
‫وأربعةُ تزيدُ فى ال ِ‬
‫ك الفُضول مِن الكلم‪ ،‬والسّواكُ‪ ،‬ومجالس ُة الصّالحين‪ ،‬ومجالس ُة العلماء))‪.‬‬
‫وأربعةُ تزيد فى العقل‪ :‬تَ ْر ُ‬

‫حبّة‪ ،‬وتجرّع المغايظ‪ ،‬وردّ النصح‪،‬‬


‫ت اليد‪ ،‬وِفراقُ ال ِ‬
‫ن وربما قتلن‪ :‬قِصَ ُر ذا ِ‬
‫ن البد َ‬
‫س يُذب َ‬
‫وقال أفلطون‪(( :‬خم ٌ‬
‫وضحكُ ذوى الجهل بالعُقلء))‪.‬‬

‫ل مَنْ حَفِظَها فهو جديرٌ أن ل يعتلّ إل عِلّة الموت‪ :‬ل تأكُلْ طعاماً وفى‬
‫ب المأمون‪(( :‬عليك بخصا ٍ‬ ‫وقال طبي ُ‬
‫ك وكثرةَ‬
‫َمعِ َدتِك طعام‪ ،‬وإيّاكَ أن تأكل طعاماً ُي ْتعِبُ أضراسكَ فى مضغه‪ ،‬فتعجزُ َم ِع َدتُك عن هضمه‪ ،‬وإيا َ‬
‫الجِماع‪ ،‬فإنه يُطفىء نور الحياة‪ ،‬وإياك ومجامعة العجوز‪ ،‬فإنه يُورث موت ال َفجْأة‪ ،‬وإياكَ والفصدَ إل عند‬
‫الحاجة إليه‪ ،‬وعليك بالقىء فى الصّيف))‪.‬‬

‫ل كثي ٍر فهو مُعادٍ للطبيعة))‪.‬‬


‫ومن جوامع كلمات أبقراط قوله‪(( :‬كُ ّ‬

‫وقيل لجالينوسَ‪ :‬ما َلكَ ل تمرَضُ ؟ فقال‪ (( :‬لنى لم أجمع بين طعامَين رديئين‪ ،‬ولم ُأدْخِلْ طعاماً على طعام‪،‬‬
‫حبِسُ فى ال َمعِدَة طعامًا تأذّيتُ به))‪.‬‬
‫ولم َأ ْ‬

‫فصل‬

‫فى أن أربعة أشياء تُمرض الجسم‬

‫وأربعةُ أشياء تُمرض الجسم‪ :‬الكل ُم الكثير‪ ،‬والنومُ الكثير‪ ،‬والكلُ الكثير‪ ،‬والجِماعُ الكثير‪.‬‬

‫خ الدّماغ ويُضعفه‪ ،‬ويُعجّل الشيب‪.‬‬


‫فالكل ُم الكثير‪ :‬يُقلّل م ّ‬

‫ت فى البدن‪.‬‬
‫ل عن العمل‪ ،‬ويُولّد الرطوبا ِ‬
‫والنو ُم الكثير‪ :‬يُصفّرُ الوجه‪ ،‬ويُعمى القلب‪ ،‬ويُهيّجُ العَيْن‪ ،‬ويُكسِ ُ‬

‫ف الجسم‪ ،‬ويُوّلدُ الرياح الغليظة‪ ،‬والدواء العَسِرة‪.‬‬


‫ضعِ ُ‬
‫سدُ فمَ ال َمعِدَة‪ ،‬ويُ ْ‬
‫والكلُ الكثيرُ‪ :‬يُف ِ‬

‫ف القُوَى‪ ،‬ويُجفّف رطوباتِ البدن‪ ،‬ويُرخى العصبَ‪ ،‬ويُورث السّدد‪ ،‬و َيعُمّ‬
‫والجِماعُ الكثير‪َ :‬ي ُهدّ البدن‪ ،‬ويُضع ُ‬
‫ص الدماغ لكثرة ما يتحلّل به من الروح النفسانىّ‪ ،‬وإضعافُه أكثر من إضعاف جميع‬ ‫ضررُه جميعَ البدن‪ ،‬ويخ ّ‬
‫المستفرِغات‪ ،‬ويَستفرغ مِن جوهر الروح شيئًا كثيراً‪.‬‬

‫ن الشّبوبية‪ ،‬وحرارةِ المزاج‬


‫ل مع سِ ّ‬‫وأنف ُع ما يكون إذا صادف شهو ًة صادقة مِن صورة جميلة حديثةِ السّنِ حل ً‬
‫ورطوبته‪ ،‬وبُعدِ العهد به وخَل ِء القلب من الشواغل النفسانية‪ ،‬ولم يُفْرطْ فيه‪ ،‬ولم يُقارنه ما ينبغى تركُه معه مِن‬
‫امتلء مفرط‪ ،‬أو خَوَاء‪ ،‬أو استفراغ‪ ،‬أو رياضة تامة‪ ،‬أو حَ ّر مفرِط‪ ،‬أو بردٍ مفرِط‪ ،‬فإذا راعى فيه هذه الُمور‬
‫ت كلّها أو أكثرها‪ ،‬فهو الهلك‬ ‫العشرة‪ ،‬انتف َع به جداً‪ ،‬وأيّها ُف ِقدَ فقد حصلَ له من الضرر بحسبه‪ ،‬وإن فُ ِقدَ ْ‬
‫المعجّل‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى أنّ الحِ ْميَة المفرطة فى الصحة كالتخليط فى المرض‬

‫ح ْميَةُ المعتدلة نافعة‪ .‬وقال جالينوسُ لصحابه‪(( :‬اجتنِبوا‬‫ح ْميَةُ المفرطة فى الصحة‪ ،‬كالتخليط فى المرض‪ .‬وال ِ‬ ‫وال ِ‬
‫ثلثاً‪ ،‬وعليكم بأربع‪ ،‬ول حاج َة بكم إلى طبيب‪ :‬اجتنبوا الغُبار‪ ،‬والدخان‪ ،‬والنّتن‪ ،‬وعليكم بالدّسم‪ ،‬والطّيب‪،‬‬
‫والحَلْوى‪ ،‬والحمّام‪ ،‬ول تأكلوا فوقَ شِبعكم‪ ،‬ول تتخلّلوا بالباذَرُوج والرّيحان‪ ،‬ول تأكلوا الجَوزَ عند المساء‪ ،‬ول‬
‫ى مَن افتَصد‪ ،‬فإنه مخاطر ُة الموت‪ ،‬ول‬ ‫ينمْ مَن به زُكمةٌ على قفاه‪ ،‬ول يأكل مَن به غَ ٌم حامِضاً‪ ،‬ول يُسرعِ المش َ‬
‫حمّى الباردة فى الشمسِ‪ ،‬ول تق َربُوا‬ ‫ب ال ُ‬
‫يتقيّأ مَن تؤلمه عينُه‪ ،‬ول تأكلُوا فى الصيف لحماً كثيراً‪ ،‬ول ينمْ صاح ُ‬
‫ن من العلل‪ ،‬ومَن دََلكَ جسمه‬ ‫الباذَنجان العتيق المبزر‪ ،‬ومَن شرب كُلّ يوم فى الشتاء قدحًا من ماء حار‪ ،‬أمِ َ‬
‫صطَكى رومى‪،‬‬ ‫حكّة‪ ،‬ومَن أكل خمسَ سَوْسنات مع قليل من مُ ْ‬ ‫ن الجرَب وال ِ‬ ‫فى الحمّام بقشُور ال ّرمّان أمِنَ مِ َ‬
‫ف َم ِعدَتُه ول تفسُد‪ ،‬ومَن أكل بِزر البطّيخ مع السكر‪ ،‬نظّف‬
‫ل عمره ل تضعُ َ‬ ‫وعودٍ خام‪ ،‬ومسك‪ ،‬بقى طو َ‬
‫حصَى مِن َم ِعدَته‪ ،‬وزالت عنه حُرْقة البَوْل))‪.‬‬ ‫ال َ‬
‫فصل‬

‫فى بعض المحاذر والوصايا الطبية‬

‫أربعةٌ تَهدِم البدن‪ :‬الهمّ‪ ،‬والحزنُ‪ ،‬والجوعُ‪ ،‬والسهرُ‪.‬‬

‫وأربعةٌ تُفرح‪ :‬النظ ُر إلى الخُضرةِ‪ ،‬وإلى الما ِء الجارى‪ ،‬والمحبوب‪ ،‬والثمار‪.‬‬

‫وأربعةٌ تُظلم البصر‪ :‬المشىُ حافياً‪ ،‬والتصبّحُ والتمسى بوجه البغيض والثقيل والعدو‪ ،‬وكثرةُ البكاء‪ ،‬وكثرةُ النظر‬
‫فى الخط الدقيق‪.‬‬

‫شمّ الروائح‬
‫ل الطعام الحلو والدّسم‪ ،‬و َ‬
‫وأربعةٌ تُقوّى الجسم‪ُ :‬لبْسُ الثوب الناعم‪ ،‬ودخولُ الحمّام المعتدل‪ ،‬وأك ُ‬
‫الطيبة‪.‬‬

‫وأربعةٌ تُيبس الوجه‪ ،‬وتُذهب ماءه وبهجته وطلوته‪ :‬ال َكذِبُ‪ ،‬والوقاحةُ‪ ،‬وكثرةُ السؤال عن غير علم‪ ،‬وكثرةُ‬
‫الفجور‬

‫ب البغضاء والمقت‪ :‬الكِبرُ‪،‬‬


‫وأربعةٌ تَزيد فى ماء الوجه وبهجتِهِ‪ :‬المروءةُ‪ ،‬والوفاءُ‪ ،‬والكرمُ‪ ،‬والتقوى‪ .‬وأربعةٌ تَجلِ ُ‬
‫سدُ‪ ،‬وال َكذِبُ‪ ،‬والنّميمةُ‪.‬‬
‫والحَ َ‬

‫صدَقة‪ ،‬وال ِذكْرُ أولَ النها ِر وآخرَه‪.‬‬


‫وأربعةٌ تَجلِبُ الرّزق‪ :‬قيامُ اللّيل‪ ،‬وكثر ُة الستغفار بالسحار‪ ،‬وتعا ُهدُ ال َ‬

‫ن أكل‬
‫ضرّ بالفهم والذهن‪ :‬إدما ُ‬
‫صبْحة‪ ،‬وقِلّ ُة الصلة‪ ،‬والكَسَلُ‪ ،‬والخيانةُ‪ .‬وأربعةٌ تَ ُ‬‫وأربعةٌ تمنع الرّزق‪ :‬نومُ ال ّ‬
‫الحامض والفواكه‪ ،‬والنومُ على القفا‪ ،‬والهمّ‪ ،‬والغمّ‪.‬‬

‫وأربعةٌ تَزيد فى الفهم‪ :‬فراغُ القلب‪ ،‬و ِقلّةُ التملّى من الطعام والشراب‪ ،‬وحُسنُ تدبير الغذاء بالشياء الحُلوة‬
‫والدّسِمة‪ ،‬وإخراجُ الفَضلت ال ُمثْقِلَ ِة للبدن‪.‬‬

‫وممّا يضرّ بالعقل‪ :‬إدمانُ أكل البصل‪ ،‬والباقِل‪ ،‬والزّيتون‪ ،‬والباذِنجان‪ ،‬وكَثرةُ الجِماع‪ ،‬والوحدةُ‪ ،‬والفكارُ‪،‬‬
‫سكْرُ‪ ،‬و َكثْر ُة الضّحِك‪ ،‬والغم‪.‬‬
‫وال ّ‬

‫ت من أكل الباذنجان فى أحد‬


‫س ‪ ،‬فلم أجِد لذلك عِلّ ًة إلّ أنى أكثر ُ‬
‫قال بعضُ أهل النظر ‪(( :‬قُطِعتُ فى ثلث مجال َ‬
‫تلك اليام ‪ ،‬ومن الزيتون فى الخر ‪ ،‬ومن الباقِل فى الثالث)) ‪.‬‬

‫فصل‬

‫فى أسرار وحقائق ل يعرف مقدارها إل مَن حَسُن فهمه‬

‫ل الناظ َر ل يظف ُر بكثير منها إل فى هذا الكتاب‪،‬‬


‫ى والعملىّ‪ ،‬لع ّ‬
‫قد أ َتيْنا على جُملة نافعة من أجزاء الطبّ العلم ّ‬
‫ل مِن نسبة طب العجائز‬‫ب الطبائعيين إليه أق ّ‬
‫ب ما بينها وبينَ الشريعة‪ ،‬وأنّ الطبّ النبوى نسبةُ طِ ّ‬
‫وأ َريْناك قُر َ‬
‫إلى طبهم‪.‬‬

‫والمر فوق ما ذكرناه‪ ،‬وأعظمُ مما وصفناه بكثير‪ ،‬ولكن فيما ذكرناه تنبيهٌ باليسير على ما وراءه‪ ،‬ومَن لم‬
‫يرزُقه الُ بصيرة على التفصيل‪ ،‬فليعل ْم ما بيْنَ القوّةِ المؤيّدةِ بالوحى من عند الِ‪ ،‬والعلو ِم التى رزقها الُ‬
‫ل والبصائر التى منحهم ال إياها‪ ،‬وبين ما عند غيرهم‪.‬‬ ‫النبياءَ‪ ،‬والعقو ِ‬

‫ولعل قائلً يقولُ‪ :‬ما ل َهدْىِ الرسولِ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وما لِهذا الباب‪ ،‬وذكْرِ قُوى الدوية‪ ،‬وقوانين العِلج‪،‬‬
‫ن هذا‬‫وتدبيرِ أمر الصحة ؟ وهذا مِن تقصير هذا القائل فى فهم ما جاء به الرسولُ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن الفهم عن ال ورسوله‬
‫وأضعافَه وأضعافَ أضعافه مِن فهم بعض ما جاء به‪ ،‬وإرشادِه إليه‪ ،‬ودللته عليه‪ ،‬وحُس ُ‬
‫ن يشاءُ من عباده‪.‬‬
‫ل به على مَ ْ‬
‫مَنٌ َيمُنّ ا ُ‬

‫فقد أوجدناك أُصولَ الطّب الثلثة فى القرآن‪ ،‬وكيف تُنكر أن تكونَ شريعةُ المبعوث بصلح الدنيا والخرة‬
‫مشتملةً على صلح البدان‪ ،‬كاشتمالها على صلح القلوب‪ ،‬وأنها مُرشدة إلى حِفظ صحتها‪ ،‬ودفع آفاتها بطُرق‬
‫كُليّة قد ُوكِلَ تفصيلُها إلى العقل الصحيح‪ ،‬والفِطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه واليماء‪ ،‬كما هو فى كثير من‬
‫ق العبدُ تضلّعًا مِن كتاب ال وسُـنّة رسوله‪ ،‬وفهماً‬
‫مسائل فروع الفقه‪ ،‬ول تكن ممن إذا جهل شيئاً عاداه‪ .‬ولو رُزِ َ‬
‫ل كَلمٍ سواه‪ ،‬ولستنبَطَ جميعَ العلو ِم الصحيحة منه‪.‬‬ ‫تاماً فى النصوص ولوازمها‪ ،‬لستغنَى بذلك عن كُ ّ‬

‫فمدا ُر العلوم كلها على معرفة ال وأمره وخَلْقِه‪ ،‬وذلك مُسْلّم إلى الرّسُل صلوات ال عليهم وسلمه‪ ،‬فهم أعلمُ‬
‫الخلق بال وأمرِه وخَ ْلقِه وحِكمته فى خلقه وأمره‪.‬‬

‫ب أتباع خاتمهم وسيدهم وإمامهم محمّد بن عبد ال صلوات ال‬


‫وطبّ أتباعهم‪ :‬أصحّ وأنف ُع مِن طبّ غيرهم‪ ،‬وطِ ّ‬
‫ل الطّب وأصحّه وأنفعُه‪.‬‬
‫وسلمه عليه وعليهم‪ :‬أكم ُ‬

‫طبّهم‪ ،‬ثم وازن بينهما‪ ،‬فحينئذٍ يظهُر له التفاوتُ‪ ،‬وهم أصَ ّ‬


‫ح‬ ‫ب الناسِ سواهم و ِ‬ ‫ف هذا إل مَن عرف ط ّ‬ ‫ول َيعْرِ ُ‬
‫حقّ لنهم خِيرة ال من الُمم‪ ،‬كما أنّ رسولهم‬ ‫الُمم عقولً وفِطَراً‪ ،‬وأعظمُهم علماً‪ ،‬وأقربُهم فى كل شىء إلى ال َ‬
‫خيرتُه مِن الرّسُل‪ ،‬والعل ُم الذى وهبهم إيّاه‪ ،‬والحلمُ والحكمةُ أم ٌر ل يدانيهم فيه غيرُهم‪.‬‬

‫وقد روى الما ُم أحمد فى ((مسنده))‪ :‬من حديث َبهْز بن حكيم‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده رضى ال عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال‬
‫ظهَر أث ُر كرامتها‬‫رسـول ال صلى ال عليه وسلم ‪(( :‬أنتُمْ تُ َوفّون سبعين ُأمّةً أنتُم خَيرُها وأكْ َرمُها على الِ)) ‪ .‬ف َ‬
‫ت عليهم علومُ الُمم قبلَهم‬‫ض ْ‬
‫على ال سبحانه فى علومهم وعقولهم ‪ ،‬وأحلمهم و ِفطَرهم ‪ ،‬وهم الذين عُرِ َ‬
‫ل إلى ما أفاض الُ سبحانه وتعالى عليهم مِن‬ ‫وعقولهم ‪ ،‬وأعمالُهم ودرجاتُهم ‪ ،‬فازدادوا بذلك عِلمًا وحلماً وعقو ً‬
‫علمه وحلمه‬

‫ولذلك كانت الطبيعة الدمويّةُ لهم‪ ،‬والصفراويّ ُة لليهود‪ ،‬والبلغميّةُ للنصارى‪ ،‬ولذلك غََلبَ على النصارى البلدةُ‪،‬‬
‫ل والشجاعةُ‬
‫ب على اليهود الحزنُ والهمّ والغمّ والصّغار‪ ،‬وغَلَبَ على المسلمين العق ُ‬ ‫وقِلّةُ الفهم والفِطنةِ‪ ،‬وغَلَ َ‬
‫والفهمُ والنجدةُ‪ ،‬والفرحُ والسرور‪.‬‬

‫طفَ ذِهنُه‪ ،‬وغَ ُزرَ عِلمُه‪ ،‬وعرف ما عند الناس‪..‬‬


‫ن فهمُه‪ ،‬ولَ ُ‬
‫وهذه أسرارٌ وحقائق إنما يَعرِفُ مقدارَها مَنْ حَسُ َ‬
‫وبال التوفيق‪.‬‬

‫ولذلك كانت الطبيعة الدمويّ ُة لهم ‪ ،‬والصفراويّةُ لليهود ‪ ،‬والبلغميّةُ للنصارى ‪ ،‬ولذلك غََلبَ على النصارى البلدةُ‬
‫ب على اليهود الحزنُ والهمّ والغمّ والصّغار ‪ ،‬وغََلبَ على المسلمين العقلُ والشجاعةُ‬
‫‪ ،‬وقِلّ ُة الفهم والفِطنةِ ‪ ،‬وغَلَ َ‬
‫والفهمُ والنجدةُ ‪ ،‬والفرحُ والسرور ‪.‬‬

‫غزُ َر عِلمُه ‪ ،‬وعرف ما عند الناس ‪..‬‬


‫ف ذِهنُه ‪ ،‬و َ‬
‫ن فهمُه ‪ ،‬ولَطُ َ‬
‫وهذه أسرارٌ وحقائق إنما يَعرِفُ مقدارَها مَنْ حَسُ َ‬
‫وبال التوفيق ‪.‬‬

You might also like