You are on page 1of 311

‫من أسرار البناء الداخلي‬

‫ف القرآن الكري‬
‫التكاملية نظرة ثانية على القرآن‬
‫ظاهرة النسبية ف القرآن الكري‬
‫الستويات الوضوعية والنفعالية ف القرآن الكري‬
‫هل القرآن عرب؟‬
‫أثر القرآن الكري ف تشكيل الوعي الزمن عند العرب‬
‫استقراء العلوم الطبيعية ف القرآن الكري‬

‫ممد صبحي السويركي‬


‫غزة‪-‬فلسطي‬
‫‪swairky@hotmail.com‬‬

‫الطبعة الول‬

‫‪1‬‬
‫إهداء‬
‫إل‪:‬‬
‫بنات النب‬
‫وزوجاته الطاهرات‪..‬‬
‫والصحابيات الليلت‪..‬‬
‫حبا وقرب ‪..‬‬

‫ث لكل من‪:‬‬
‫الدكتورة أروى ناهض الريّس‪..‬‬
‫الت ملت غزة زهورا قرآنية‬

‫أم نضال فرحات‪..‬‬


‫أم الفلسطينيي جيعا‪ ..‬على طريق الشهادة والفداء‬
‫وإل‪:‬‬
‫كل بنات وأخوات الافظات لكتاب ال ف مدينتنا البيبة‪ ..‬غزة‬
‫وأخيا إل بنات‪:‬‬
‫رزان‪ ،‬ابتهال‪ ،‬آلء‪ ،‬هالة‪..‬‬
‫وإبن الصغيين‪ :‬ممد وصبحي!‬

‫لميعهم ‪ ..‬أهدي هذا الكتاب‬

‫‪2‬‬
‫أين ذكرنا؟‬
‫أين حظّنا ونصيبنا من هذا الكتاب؟!!‬
‫بقلم‪ /‬الشيخ‪ /‬السيد حسي بركة( ♦)‬
‫المد ل رب العالي‪ ،‬والصلة والسلم على أشرف الرسلي سيدنا وحبيبنا وقدوتنا‬
‫ممد بن عبد ال؛ عليه وعلى آله وأصحابه أفضل صلةٍ وأزكى تسليم‪ ..‬وبعد‪..‬‬
‫ل يكن للمرءِ أن يُقبِلَ على كلّ طعامٍ يُدعى له؛ لن الياة –كل الياة‪ -‬فيها اصطفاء‬
‫واختيارٌ يؤكد مسئولية النسان؛ من خلل حقّه ف الختيار‪..‬‬
‫لذلك حينما طلب إلّ الخُ والصديق‪ /‬ممد السويركي أن أقرأ هذا البحث‪ ،‬وأن أق ّد َم‬
‫له؛ شعرتُ بسرورٍ؛ لعرفت بعدن الداعي؛ وطبيعة ما يكن أن يدعون له ‪-‬هذا من جهة‪-‬‬
‫ولنن من عشاق التأمل والغوص والتحليق ‪-‬من جهةٍ أخرى‪ -‬بثا عن فضّ بكارةِ السرار‬
‫ك رموز تلك السرار هو السئول عن اندفاع مياه‬ ‫الت تيط بنا أو تقيمُ فينا‪ ،‬لعتقادي أن ف ّ‬
‫الياة السعيدة ف مساراتا الطبيعية؛ لتصلَ إل بساتي اللقِ دون ركودٍ قد يؤدي إل فساد‬
‫كل شيءٍ إن فسد الاء! ومستقرُ هذه السرار ومستودعُها هو هذا القرآن العظيم‪ ،‬الذي‬
‫يتزن ف طيات نصوصه وكلماته كلّ السنن والسباب والقواني والوازين والناهج؛ الت إنْ‬
‫ننُ وُ ِفقْنا للهتداء إليها نكون قد فزنا بثواب الدنيا وحسن ثواب الخرة‪ ،‬وذلك من خلل‬
‫مارسة الستخلف النموذجي عب مهمة التعمي الت تكون ثرةً لرقى درجات التسخي‪..‬‬

‫السيد بركة من مواليد عام ‪1956‬م‪ ،‬حاصل على ليسانس آداب من كلية الداب بامعة السكندرية عام‬
‫‪1979‬م‪ ،‬مارس مهنة التعليم ف فلسطي والزائر‪ ،‬كتب أهم البيانات الت ساهت ف تفجي النتفاضة الول عام‬
‫‪1987‬م‪ ،‬حيث ل يكن يومها ل إنترنت ول فضائيات؛ وبالتال كان للمنشور دور سحري ف صناعة الدث‪ .‬اعتقل‬
‫الشيخ سيد ث أبعد إل لبنان لدة عشر سنوات بدأت ف ‪1/1/1989‬م‪ ،‬مارس ‪،‬ول يزال‪ ،‬الدعوة والطابة ف لبنان‬
‫وفلسطي‪ ،‬كتب الكثي من القالت حول النتفاضة وفلسطي‪ ،‬ف عام ‪ 1985‬ألف "ملمح الذات النشودة" تت‬
‫اسم مستعار وذلك ف ظل الحتلل الباشر والكامل‪ ..‬وف عام ‪ 1996‬ألف "حق الختلف والختلف ف الق"‪..‬‬
‫ويعتب الشيخ سيد بركة من دعاة التجديد الذي يعيد قراءة الوحي والتاريخ والواقع من أجل التسلح برؤية‬
‫إسلمية معاصرة هدفها رضى ال وسعادة النسان ؛ مطلق النسان‪ ..‬وقد أسس "هيئة علماء فلسطي" وأصدر‬
‫باسها ملة "السراج الني"‪.‬‬
‫وأخيا فقد خاض سيد بركة انتخابات الرئاسة الفلسطينية ف العام ‪ 2005‬ببنامج متلف تت شعار "مرشح‬
‫الصلح والقاومة" حيث كان جوهر البنامج هو فكرة الزاوجة ما بي السياسة والقاومة بعيدا عن عقلية‬
‫"السلوب الوحيد للتحرير"‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫بفضل هذا الشبه (البحث عن فضّ بكارة السرار) قبلتُ دعوةَ أخي وصديقي‪..‬‬
‫ولعل هذه العان ‪،‬وغيها‪ ،‬هو ما عنته اليةُ الكرية {َل َقدْ أَنزَْلنَا إَِليْ ُكمْ ِكتَابًا فِيهِ ِذكْ ُر ُكمْ‬
‫أَفَل َت ْعقِلُونَ}(النبياء‪ ..)10:‬فالسؤال العطّل ف حياة الؤمني هو‪ :‬أين ذكرنا؟ أين حظّنا أو‬
‫نصيبنا من هذا الكتاب (الدليل) الكون؟‬
‫بعن أن‪ :‬لكل جيلٍ سهما أو إرثا ف هذا الكتاب لبد من تديده وتصيله؛ باعتباره‬
‫الرصيد القيمي والفلسفي الذي يكن ‪،‬من خلله فقط‪ ،‬القيام بدور الشهادة النوط بنا‪.‬‬
‫ولعل هذه العان أيضا هي ما تشي إليه الية الكرية‪:‬‬
‫صدٌ َومِنْ ُهمْ‬
‫سهِ َومِنْهُم مّقَْت ِ‬
‫ص َطفَيْنَا ِمنْ ِعبَادِنَا َفمِ ْن ُهمْ ظَاِلمٌ لَّنفْ ِ‬
‫{ُثمّ َأوْرَثْنَا الْكِتَابَ اّلذِينَ ا ْ‬
‫سَاِبقٌ بِاْلخَيْرَاتِ ِبإِذْنِ ال ّلهِ ذَِلكَ ُهوَ اْل َفضْلُ الْ َكِبيُ}(فاطر‪..)32:‬‬
‫ضمن هذا السياق يأت هذا الهد البارك للباحث‪ ،‬ويكفين ‪،‬أخي القارئ‪ ،‬أن أشي إل‬
‫نقطتي ف هذا البحث التجديدي الادّ‪..‬‬
‫الول‪ /‬سُررتُ عاليا وأنا أتابع البحث اللغوي؛ حت ظننت أنن أمام متخصصٍ ف علوم‬
‫اللغة‪ ،‬بالعن التراثي والعاصر ف آن‪ ..‬من خلل اللحظة الدقيقة والعلمية؛ الشفوعة‬
‫بالستشهادات اللزمة‪ ،‬وخصوصا البحث حول "عروبة القرآن" والذي خلص الباحث من‬
‫خلله إل‪ :‬إعطاء اللغة العربية بعدا إنسانيا مرتبطا بالبعد الربّان للغة القرآن؛ باعتباره كلم‬
‫ال الطلق الوجّه ‪،‬على الطلق‪ ،‬للنسان‪ ..‬وهذا يعن أن اللغة العربية الالية (البشرية)‬
‫لبد من أن تتطور إل لغةٍ عربيةٍ عاليةٍ إنسانيةٍ تكون حاملةً للمعادلة الثقافية العالية؛ المر‬
‫الذي سيتم ‪،‬فقط‪ ،‬كتتويج للحظة النضوج القيمي والفلسفي والسلوكي الذي يصل إليه‬
‫َحمَ َلةُ القرآن الكري‪ ،‬وهي اللحظة الت تؤهلهم للشهادة على الناس والعال‪..‬‬
‫هذه هي النقطة الول؛ وهي ف مال العلوم النسانية‪..‬‬
‫أما النقطة الخرى‪ ..‬فهي بث "الذرة ف القرآن الكري" وهي ف مال العلوم الطبيعية‪..‬‬
‫إنن أعتب أن تناول مفردة "الذرة" ومفهومها ف القرآن من خلل إضاءات النظريات‬
‫العلمية العاصرة‪ ..‬يُعتب طرْقَا جريئا لبواب العرفةِ؛ الت يُفترض أن تأخذنا دوما إل فضّ‬
‫بكارة مزيد من السرار الكونية‪ ،‬الت بدورها تعلنا أكثر انفتاحا على الغيب ‪،‬أي على‬
‫الجهول الستور الذي يصنا ليصبح معلوما‪ ،‬أي على النور‪..‬‬

‫‪4‬‬
‫وبالتال؛ يعلنا أكثرَ معرفةً بال لنكون أكثر قربا منه‪ ،‬وأكثر إدراكا لضآلتنا أمام عال‬
‫العرفة التنامية على إطلقها بقدرة وعظمة ال سبحانه وتعال‪.‬‬
‫هذا النمط من العرفة هو السبيل الضمن للتربية والتهذيب والتزكية؛ لننا كلما ازددنا‬
‫معرفةً بأبعاض عظمة الالق ازددنا إقرارا وتسليما بأننا لشيء أمامه أو بدونه‪ ،‬وبالتال؛ فإن‬
‫البل السرّي ‪،‬إن جاز التعبي‪ ،‬الذي يضمن استمرار التغذية هي‪" :‬الشية" و"الشفاق"‬
‫ورفع راية الضعف والعجز الت تؤهلنا للنطلق باتاه مزيدٍ من القوّة والقدرة‪ ،‬عب مزيدٍ‬
‫من العرفة والقرب‪ ..‬وهكذا دواليك‪ ..‬ولعل هذا ما حوته اليةُ العظيمةُ‪:‬‬
‫{ َكذَِلكَ إِّنمَا َيخْشَى ال ّلهَ مِنْ عِبَا ِدهِ اْلعُ َلمَاء إِنّ ال ّلهَ َعزِيزٌ غَفُورٌ}(فاطر‪)28:‬‬
‫ولعل قول العارف "ابن عطاء ال السكندري" يساعد على فهم هذا النمط من العلقة‬
‫حي يقول‪( :‬تقق من أوصافك ينحك أوصافه)!‪..‬‬
‫فبقدر ما نذهب باتاه "القرار الواعي بفقرنا" بقدر "ما ينّ علينا من غناه الطلق" وبذا‬
‫يكون القرار بالضعف والفقر ليسس استسلما سلبيا بقدر ما هو شرط تصيل القوة‬
‫‪1‬‬
‫والقدرة؛ دون الرور بنفق "العندية"( ) الذي إن مررنا به فرّطنا بـ "الرحة"؛ وبالتال ل‬
‫نكون قد خدمنا أنفسنا –إن نن حصلنا‪ -‬بعض القوة والقدرة بعيدا عن الرحة‪..‬‬
‫وهكذا حي ندور ف هذا الفلك نكون أشبه بعاَلمِ الذرة ضعفا وقوةً‪ ،‬ونتحرك دوما دون‬
‫استقرار ف نقطة زمانية (الكان) ودون توقف عن الركة‪ ،‬أي السرعة‪..‬‬
‫لذلك أخي القارئ‪-‬أخت القارئة‪..‬‬
‫أنتم أمام باحثٍ طموحٍ غيورٍ مع رهافة ف الشعور‪ ..‬مصرٍ على أن يطرق ‪،‬بكلتا يديه‬
‫وبكل قوة‪ ،‬أبوابَ الغيبِ أو الستور فينا أو ف الكتاب أو ف الكون؛ كي يساهمَ ف صناعة‬
‫أفق جديد ومتد لذه المة؛ من خلل تلمس دروب غي مرئية‪ ،‬وغي مشية؛ تساعدنا على‬
‫أن نتل الكانة اللئقة تت شس المم!‪..‬‬
‫وآخر دعوانا أن المد ل رب العالي‬
‫السيد حسي بركة‬

‫‪ )(1‬إشارة إل منطق "قارون" الذي ربط النعم والموال بنفسه وليس بال‪ ،‬وذلك ف قوله {قال إنا أوتيته على علمٍ‬
‫عندي} فـ "العندية" تعن ربط النعمة بالخلوق وليس بالالق النعم‪..‬‬

‫‪5‬‬
‫‪ 10‬رمضان ‪1426‬هـ‬
‫الوافق‬
‫‪13/10/2005‬م‬

‫‪6‬‬
‫تقريظ‬
‫الدكتور‪ /‬ممد السقا عيد( )‬
‫‪1‬‬

‫جهورية مصر العربية‬


‫الخ العزيز‪ /‬الباحث ممد صبحي السويركي‬
‫فلسطي البيبة‬
‫السلم عليكم ورحة ال وبركاته‬
‫لقد اطلعت على أجزاء هامة من كتابكم القيم (من أسرار البناء الداخلي‬
‫ف القران الكري) وقد أعجبن ‪،‬بق‪ ،‬هذا الطرح الشيق والديد‪ ،‬وهذا ما‬
‫نتاجه فعلً ف هذه الرحلة‪..‬‬
‫فسر (على بركة ال) هذه الطوات‪ ،‬والت نسأل ال تعال أن يعلها ف‬
‫ميزان حسناتكم‪..‬‬

‫وفقكم ال وسدد خطاكم على طريق الي‬


‫والسلم عليكم ورحة ال وبركاته‬

‫‪)(1‬الدكتور ممد السقا عيد ‪ ،‬من مواليد دمياط عام ‪1963‬م‪ ،‬ترج من كلية طب الزقازيق عام ‪1987‬م‪ ،‬وحصل‬
‫على ماجستي ف طب وجراحة العيون عام ‪1995‬م‪ ،‬عضو المعية الرمدية الصرية‪ ،‬باحث ف الطب السلمي‪،‬‬
‫تتركز كتاباته على الفاهيم الطبية والعلمية لعطيات الكتاب الكري والسنة النبوية الباركة‪ .‬له كتابات عدة ف هذا‬
‫الجال نشرت ف صحف وملت عربية متلفة مثل‪" :‬العال السلمي" "الرابطة" "السجد" "الجلة العربية"‬
‫السعودية‪ .‬و"التوحيد" "الطباء" الصرية‪ .‬ملة "الوعي السلمي" الكويتية‪ .‬ملة "منار السلم" الظبيانية‪ .‬ملة‬
‫"الداية" البحرينية‪ .‬ومن مؤلفاته ‪ :‬حديث الدموع‪ .‬وله تت الطبع ‪" :‬الفقه السلمي‪ ..‬وقضايا طبية معاصرة"‪.‬‬
‫"الاء وريد الياة وشريانا"‪" ،‬البصمة بي العجاز والتحدي"‪" ،‬عجائب اللوان ف عال النسان" وله العديد من‬
‫الباث النشورة على موقع موسوعة العجاز العلمي ف القرآن والسنة‪ ،‬منها‪" :‬العجاز ف جسم النسان"‬
‫"معجزة السمع"‪" ،‬العجزات الربانية ف العي"‪" ،‬القلب ‪ ...‬نبض الياة" "البق وخطف البصر إشارات طبية‬
‫وهندسية" "البصمة بي العجاز والتحدي" "العجاز الطب والدوائي" (عدة أجزاء)‪" ،‬الصيــــام بــي‬
‫الفقــه والطــب" "أسرار البكاء والدموع" و"القتل الرحيم "هل هو رغبة إنسانية أم دعوة شيطانية"؟؟ البيد‬
‫اللكترون للدكتور ممد السقا عيد‪dr_mohamed_60@hotmail.com :‬‬

‫‪7‬‬
‫‪..‬ليست أكثر من ماولة!‪..‬‬

‫المد ل وكفى‪ ،‬وسلم على النب الذي اصطفى‪ ،‬ممدٍ صلى ال عليه وسلم؛ نبّ الرحة الهداة‬
‫والنعمة السداة والسراج الني وعلى آل بيته الطاهرين وصحبه أجعي إل يوم الدين‪ .‬وبعد‬
‫فلكي ل تتلط المور على البعض؛ ينبغي عليّ أن أوضح ‪،‬منذ البداية‪ ،‬أن هذا الكتاب‬
‫ليس ماولة لتفسي القرآن الكري (أو تفسي بعض آياته) ‪،‬وما ينبغي له أن يكون‪ ،‬بقدر ما‬
‫هو ماولة لرصد إشكالية العلقة بي العقل السلم ف هذا الزمن وبي القرآن الكري‪ ..‬لنثبت‬
‫‪،‬من ث‪ ،‬وجود إمكانية لـ "ترميم العقل السلم"(‪ )1‬من خلل إعادة تفاعله مددا مع هذا‬
‫الكتاب الكري‪ ..‬وصولً إل حالة "مشابة" لالة اليل الول الذي تفاعل مع روح النص‬
‫فأبدع حضارة غي مسبوقة ف مالت الفقه والفكر والعمارة والفن‪ ..‬ال‬
‫وهذا يقودنا إل الزمة الت يعان منها السلمون اليوم‪ ،‬فهي وإن بدت أزمة "واقع"‬
‫و"أشياء" إل أنا ف حقيقتها أزمة "عقل" و"فكر" و"مفاهيم"‪ ..‬انعكست على الواقع‬
‫فأفسدته!‪..‬‬
‫لنخلص ‪،‬من ثّ‪ ،‬إل السؤال الوهري ف حياة السلمي اليوم؛ والتعلق بالطريقة الت‬
‫يكن من خللا استعادة مد هذه المة الت باتت اليوم على مفترق طرق تبحث فيه عن‬
‫كيفية النهوض واتقاء الفناء الزري؟؟!!‬
‫إن إياننا بأن هذه المة ما وجدت إل لتسود‪ ،‬وما تتقهقر حينا إل لتعود إل الرتقاء بقية‬
‫الحيان‪ ..‬ليقودنا إل اليار الوحيد التاح أمامنا كأمة‪ :‬خيار النهوض‪ ،‬فالفناء لن يكون ‪،‬‬
‫أبدا‪ ،‬خيارا واقعيا ف حياة أمة كأمة السلم!‪..‬‬
‫وعليه؛ فلم ند إل القرآن الكري دواء لترميم وإعادة تشكيل العقل السلم وتوجيهه‬
‫على الطريق السليم‪ ،‬بعدما استيقنا أن القرآن الكري هو دواء أرواحنا ونفوسنا‪..‬‬

‫‪ )(1‬يضاف إل هذا إطلع غي السلمي على بعض ملمح القرآن الكري كي تكون مدخلً لم للتعرف على الدين‬
‫السلمي من خلل إعمال العقل والتدبر ف آياته‪ ،‬ومن هنا أضفنا مقالي مترجي للنليزية والفرنسية‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫والشكالية اليوم تتمثل ف عدم إدراكنا لهية هذا الانب بشكلٍ كافٍ‪ ،‬ونقصد‪ :‬عدم‬
‫إدراكنا أن الطريقة الوحيدة التاحة أمامنا لعادة ترميم وتشكيل العقل السلم اليوم إنا‬
‫تتمثل ف عودته للتفاعل الواعي مع القرآن الكري؛ ف ظل شروط موضوعية مسبقة نضعها‬
‫للعقل لكي ل يضل ول يشقى‪ ..‬ومن هذه الشروط‪:‬‬
‫♦استعادة الثقة‪..‬‬
‫فغالبية السلمي اليوم ليست لديهم الثقة الكافية بالنفس والت تُمكنهم من النظر ف‬
‫كتاب ال‪ ،‬وأن يكون لم سهمٌ ف فهمه ووعيه‪ ،‬حيث هناك من يعتقد بأن اليل الول‬
‫الذي قام على فهم القرآن الكري وتفسيه كان يتلك مقومات أعلى ما يتلكه بقية البشر!‬
‫مكنته من تقدي رؤاه ووجهات نظره حول القرآن‪ ..‬وف مقابل إعلء اليل الول هناك‬
‫عملية مستمرة للتقليل من قدر الذات‪..‬‬
‫لذا فقد آن الوان لن نفهم ونعي بأن لنا دورا ف ماولة فهم هذا الكتاب الكري‪ ،‬وبأننا‬
‫‪،‬من الناحية الوضوعية على وجه الصوص‪ ،‬نتلك أدوات بث تتفوق على ما امتلكه‬
‫الرعيل الول من الفسرين‪ ،‬وبقي أن نعتن بالانب الذات‪ ،‬وأول ما يب أن نقوم به هو‬
‫التغلب على معتقدنا الدمر بأننا "ل نستطيع"‪ ..‬فمن البديهيات أن من يعتقد بأنه "ل‬
‫يستطيع" هو فعلً إنسان فاقد للقدرة على الفعل والناز! حت لو امتلك فعليا الكثي من‬
‫الهارات‪ ..‬وهنا نؤكد على ضرورة استعادة الثقة‪..‬‬
‫♦القرآن‪ ..‬روعة تتاج لسلمة القلب‪..!..‬‬
‫فقد ساد ف هذا الزمن اعتقاد بأن الختصي فقط هم من يستطيعون فهم القرآن وإدراك‬
‫روع ته وب عد مرام يه‪ ،‬وهذا العتقاد خا طئ من أ ساسه‪ ،‬فضل عن أ نه اعتقاد خط ي‪ ،‬ح يث‬
‫يول القرآن إل كتاب للصـفوة! ولسـاتذة الامعات وطلب الدراسـات العليـا‪ ،‬وهذا‬
‫العتقاد كفيل بعزل الناس عن مصدر قوتم‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫ولن ستمع للشه يد سيد ق طب رح ه ال و هو يعرض هذا ال مر‪ ،‬وا صفا ل نا الرو عة ال ت‬
‫أحـس باـ حيـ سـع القرآن طفلً‪( ..‬تلك أيام‪ ..‬ولقـد مضـت بذكرياتاـ اللوة‪ ،‬وبيالتاـ‬
‫ال ساذجة‪ ،‬ث تلت ها أيا مٌ‪ ،‬ودخل تُ العاهد العلم ية‪ ،‬فقرأت تف سي القرآن ف ك تب التف سي‪،‬‬
‫و سعت تف سيه من ال ساتذة‪ ،‬ولك ن ل أ جد فيما أقرأ أو أ سع ذلك القرآن اللذ يذ الم يل‬
‫الذي كنت أجده ف الطفولة والصبا)!!( )‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫ولعل نا ه نا ن ضع ال يد على أ حد أ سباب عزلة الناس عن دين هم‪ ،‬وقرآن م‪ ،‬ح يث ت التنظ ي‬
‫طويل (ولو على مستوى اللوعي) إل ضعة الجيال الالية ف مقابل اليل الول‪ ،‬وكذلك‬
‫ت التنظ ي كثيا ل ـ "علو قدم التعلم ي والكاديي ي " ف التعا مل مع القرآن الكر ي وتعذر‬
‫ذلك على من عدا هم من الناس العادي ي‪ ..‬وه نا نؤ كد على حقي قة ان التف كر ف اليات‬
‫الكرية هو أمر مطلوب من قبل الميع بل استثناء‪..‬‬
‫♦ل تنقضي عجائبه!‪..‬‬
‫إن الولوج إل عال القرآن من مداخله غي العتادة الألوفة يعلنا نرى جاله وكأننا نراه‬
‫للوهلة الول‪ ،‬وهذا ما وجده "سيد قطب" عندما حاول الولوج إليه من مدخل جديد غي‬
‫معهود‪( :‬ووجدتن أشهد ف نفسي مولد القرآن من جديد‪ ،‬لقد وجدته كما ل أعهده من‬
‫قبل أبدا‪..) ()...‬‬
‫‪2‬‬

‫وعليه فإننا نشي هنا إل ضرورة البحث الدائم والتفاعل الستمر بي عقل النسان‬
‫والقرآن‪ ،‬واللحظة الت ل يضيف فيها النسان إل علمه بالقرآن علما وإل وعيه وعيا هي‬
‫لظة مكررة ل تستحق أن تذكر عند ذكرنا للحياة!‪..‬‬
‫♦ قراءة واعية‪..‬‬

‫‪ )(1‬التصوير الفن ف القرآن‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ص ‪.7‬‬


‫‪ )(2‬التصوير الفن ف القرآن‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ص ‪.8‬‬

‫‪10‬‬
‫فقد وصلنا إل حالةٍ من عدم الثقة بالنفس بتنا معها نستورد ول نصدر‪ ،‬نقلد ول نبدع‪..‬‬
‫وهذا المر تديدا يبدو أكثر ما يكون وضوحا ف علقتنا بـالقرآن الكري‪ ،‬فقد قنع الناس‬
‫من القرآن بالسنات‪ ،‬فتراهم يقرءون ول يعون‪ ،‬ويقطعون الصفحات لكنهم ل يصدون‬
‫من معانيه إل القريب‪ ..‬ذلك أننا فقدنا الشجاعة اللزمة للتفكر‪ ،‬والتدبر‪ ،‬وإعمال النظر!‪..‬‬
‫والطلوب منا قراءة القرآن بوعي‪ ،‬وتدبر وتفكر‪ ،‬والبحث الدائم والدائم عما هو مستتر من‬
‫حرُ ِمدَادًا لّكَ ِلمَاتِ رَبّي لََن ِفدَ اْلبَحْرُ قَبْلَ‬
‫معانيه‪ ،‬رائدنا ف هذا الية الكرية { قُل ّلوْ كَانَ الْبَ ْ‬
‫أَن تَن َفدَ كَ ِلمَاتُ رَبّي وََلوْ جِئْنَا ِب ِمثْ ِلهِ َمدَدًا} (الكهف‪)109:‬‬
‫♦تغيي منظور رؤيتنا للصواب والطأ‬
‫إن من أهم ملمح أزمتنا الراهنة هي اختلط الفاهيم‪ ،‬فقد وضع البعض "الصواب"‬
‫مقابل "الق" و"الطأ" مقابل "الباطل"‪ ..‬وهذا شيء عجيب‪ ،‬ومريع ف نفس الوقت!‪ ..‬فقد‬
‫بتنا ل يصدر كتابٌ أو عملٌ إل ونسمع بعد ذلك حلت التشهي ضد صاحبه‪ ،‬والعجيب أن‬
‫تلك الملت تتم لتفه السباب وأبسط الختلفات‪ ،‬ذلك أن البعض أصبح ل يطيق أن‬
‫يرى خطأ!‪ ..‬ونسي أن الطأ من جبلة النسان‪ ،‬وتناسى أن "خي الطائي التوابون"‪ ..‬وقد‬
‫حدث ذلك نتيجة إحلل الفاهيم مكان بعضها‪ ،‬فما كان "خطأ" (يكن تمله) بتنا نعتبه‬
‫"باطلً" يتوجب علينا الستعاذة بال منه؛ ومقاومته ‪،‬من ثّ‪ ،‬بكل عنف!‪ ..‬وللسف ان هذه‬
‫السياسة المقاء ل تدع لنا ما نعتز به من درر تارينا‪ ،‬فمن الؤسف أن نسمع بعض المقى‬
‫يهاجون رجال السلم‪ ،‬حت أنم ل يتورعوا عن مهاجة رموز سامقة كالمام أب حامد‬
‫الغزال‪ ،‬والشيخ يوسف القرضاوي‪ ،‬والداعية الُجيد عمرو خالد‪ ..‬ف سلسلة لن تنتهي إل‬
‫بدم عُرى هذا الدين عُروة عُروة؛ بالساءة إل رجاله‪.‬‬
‫إن هناك حاجة دائمة للتفاعل الواعي والنصف مع حقائق هذا الدين؛ تفاعلً يكون أكثر‬
‫موضوعيةٍ وعقلنية‪ ،‬تناولً ينبنا الغضب غي البر الذي تعامل من خلله البعض؛ حت بتنا‬
‫يكفر بعضنا بعضا‪ ،‬ونرج بعضنا بعضا من ملة السلم لتفه السباب‪ ،‬وهو ما يتناف مع‬
‫حقيقة الرونة الت أعطانا السلم إياها لنرى الياة من خللا‪..‬‬

‫‪11‬‬
‫وهنا يأت دور كتاب ال الجيد ليقدم لنا القدوة والثل ف هذا الشأن‪ ،‬وهو أقدس نص‪،‬‬
‫وأثبت حقيقة عرفناها‪ ..‬حيث يتمل كتاب ال عز وجل تعدد الجتهادات ف فهمه‪ ،‬وإدامة‬
‫النظر إليه بعيٍ من الفكرِ متجددة‪ ،‬وهو ما فهمه الولون‪.‬‬
‫يقول المام الغزال عن القرآن الكري‪( :‬فتفكر ف القرآن‪ ،‬والتمس غرائبه‪ ،‬لتصادف فيه‬
‫مامِع علم الولي والخرين وجلةَ أوائله‪ ،‬وإنا التفكر فيه للتوصل من جلتهِ إل تفصيله‪،‬‬
‫وهو البحر الذي ل شاطئ له)…‬
‫وهنا يتضح لنا ما يغيب عنا اليوم؛ من ضرورة التفريق والتمييز بي طبيعة النص القرآن‬
‫اللي؛ والذي ل يأتيه الباطل من بي يديه ول من خلفه‪ ،‬وبي طبيعة أي نصٍ بشري عداه‪،‬‬
‫والذي يتمل كل وجوه القصور النسان‪ ،‬فالنص القرآن شيء‪ ،‬وتعليقات الناس‬
‫وشروحاتم عليه شيئ آخر!! وهذا المر يب أن يكون واضحا‪ ،‬بيث يدفع الناس إل‬
‫مزيدٍ من التقبل لحاولت فهم القرآن بعي متجددة‪ ،‬ومزيد من التفاعل مع النص القرآن‬
‫بدون خوف زائد‪ ،‬من أن يؤدي الجتهاد البشري القاصر إل الساءة للنص اللي!‪ ..‬فهذا‬
‫المر لن يدث‪ ،‬لنه من الفهوم مسبقا أن الجتهاد البشري هو بطبيعته اجتهاد قاصر!‬
‫♦تقبل الختلف والتعامل معه بإيابية‪..‬‬
‫إن تارينا السلمي التليد حافلٌ بالختلف حول المور الشرعية‪ ،‬وقد كان هذا المر‬
‫أكثر مدعاة للفخر منه إل أي شيء آخر‪ ،‬فالختلف ف المور الشرعية ‪-‬الباح الختلف‬
‫حولا‪ -‬هو من قبيل التيسي ف أمور الدين‪ ،‬لكنّ الانب الش ّد روعةً ف هذا النهج الراقي‬
‫الذي أتفنا به هذا الدين العظيم؛ هو قدرته على إيادِ منهاجٍ للتعامل بي الناس؛ مكّننا على‬
‫الدوام من استيعاب نقيصة الختلف؛ فحوّلا إل نعمة!!‪..‬‬

‫‪12‬‬
‫ونورد فيما يلي وجها من وجوه الختلف حول قضية ل يكن من السهل الختلف‬
‫حولا! لنتأكد من عظمة هذا الدين وعظمة هذه المة‪ :‬فقد اختلف العلماء حول‪" :‬كيفية‬
‫وحي ال عز وجل إل جبيل بالقرآن الكري"‪ ،‬وقد كان هناك من العلماء من اعتقد بأن‬
‫جبيل قد تلقفه ساعا من ال ‪،‬عزّ وجل‪ ،‬بلفظه الخصوص‪ .‬بينما قال آخرون بأن جبيل‬
‫حفظه من اللوح الحفوظ‪ .‬وف رأيٍ ثالثٍ قيل بأن‪ :‬جبيل أُلقي إليه العن؛ واللفاظ لبيل‪،‬‬
‫أو لحمد صلى ال عليه وسلم؟! ومن الثابت أن الرأي الول هو الصوب‪ ،‬وهو ما عليه أهل‬
‫السنة والماعة( ) ومع ذلك فقد وصلتنا وجهات النظر الخرى الضعيفة بكل احترام!!‬ ‫‪1‬‬

‫فلننظر إل عظمةِ هذا النهج القرآن ف التعامل مع المور؟!‪.‬‬


‫وهنا نود أن نؤكد بأن علينا اليوم أن نقوم بواجب النظر ف كتاب ال عز وجل حت‬
‫وإن جاءت ماولتنا مشفوعة ببعض الخطاء‪ ،‬على اعتبار أننا بشر‪ ..‬وهل يتوقع البعض أن‬
‫يأت العمل البشري كاملً تاما خاليا من الطأ؟! وعليه فيجب على هذه المة أن تعيد النظر‬
‫ف نظرتا للخطاء‪ ،‬وتغيي نظرتا لا واعتبارها جرائم يب رجم أصحابا!‪ ..‬بل يب النظر‬
‫إل الخطاء على أساس أنا رافعة توصل للصواب‪.‬‬
‫وهنا نود التأكيد على طبيعة العمل الذي بي يدي القارئ الكري‪ ،‬فهو عمل مليء‬
‫بالنواقص‪ ،‬حيث هو (أساسا) عبارة عن مموعة من الباث الختصرة(‪ )2‬ولشك أن‬
‫الختصار ف كثي من الحيان يأت ملً‪..‬‬
‫من جانب آخر فإن من عيوب هذا الكتاب أنه كثيا ما لأ إل أسلوب إثارة السئلة‬
‫دون أن يقدم لا إجابات‪ ..‬مكتفيا با يكن أن يققه ذلك من دفعِ القارئ للتفكي الاد‬
‫والعميق فيما يتم طرحه‪ ..‬وعليه فإن كان ل من كلمةٍ أهس با ف أذن القارئ الكري فهي‪:‬‬
‫أن "كن صبورا لدى قراءة هذا الكتاب حت لو اضطررت لقراءته مرتي"!‬

‫‪ )(1‬أنظر كتاب مباحث ف علوم القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪( ،34‬بتصرف بسيط)‪.‬‬
‫‪ )(2‬عدد من الباحث النشورة ف هذا الكتاب تشكل معا كتاب "هل القرآن عرب‪ :‬مقدمة ف البناء الداخلي ف‬
‫القرآن الكري" وهو كتاب جاهز للطباعة منذ عدة أعوام‪ ،‬وقد قدم له ف حينه فضيلة الدكتور يونس السطل‪،‬‬
‫وكذلك سعادة الدكتور عدنان قاسم‪ ..‬لكن الكتاب ل يطبع لعدم توفر القدرة الالية‪ ،‬وعليه ت تلخيصه ف مباحث‬
‫متصرة ت نشرها ف ملت وعلى شبكة العلومات الدولية (النترنت) ولتنشر من ث ضمن هذا الكتاب‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وقبل أن أشرع ف تقدي واجب الشكر لبعض أولئك الذين يتوجب عليّ شكرهم ‪،‬وهم‬
‫كثر‪ ،‬أود أن أقدم نبذة متصرة جدا للموضوعات الت ت تناولا ف هذا الكتاب؛ لعلها تقوم‬
‫مقام التيسي بي يدي الوضوعات ذاتا‪..‬‬
‫ففي الوضوع الول (التكاملية‪ :‬نظرة ثانية على القرآن الكري) حاولنا أن نوضح بأنه‬
‫ولسباب تاريية تتعلق بنشأة علم التفسي فقد ت الهتمام بالقرآن الكري بصورة تزيئية‪،‬‬
‫حيث كان الفسرون الوائل زاهدين ف وضع تفسي للقرآن الكري ل يضعه رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ..‬وقد أدّى ذلك النهج التجزيئي إل ضياع الكثي من الصور الكلية‬
‫الت تتيحها اليات الكرية إذا ما نظر إليها الفسر على أنا مموع واحد يكن ف كثي من‬
‫الواضع أن يشكل صورة كلية واحدة‪ ..‬ومن خلل هذا البحث تعرضنا لثلثة ناذج لصور‬
‫كلية ظهرت لنا بالنظر إل اليات بشكل تكاملي‪..‬‬
‫ث تعرضنا لـ "ظاهرة النسبية ف القرآن الكري" ومن خللا حاولنا التوضيح بأن من‬
‫مظاهر التقصي ف فهمنا للنص الكري؛ أننا نتكم فقط للمعان الصطلحية القريبة والشائعة‬
‫وحدها‪ ..‬ول نتكم إل جلة العان اللغوية الحتملة للفظ؟!‪ ..‬ما يؤدي إل ضياع الكثي من‬
‫الوجوه الحتملة والشروعة لفهم النص‪ ،‬وأوضحنا أن أخذ جلة العان اللغوية "المكنة"‬
‫و"الحتملة" و"التاحة" للفظ معي بالسبان (وهي متعددة كما تبي ذلك معجمات اللغة) إنا‬
‫يفتح آفاقا جديدة للنفتاح على النص الكري‪.‬‬
‫بعد ذلك تعرضنا لتساؤل بدا للبعض بديهيا‪ ،‬وبدا لنا أنه يستتر خلفه معن خطي‪ ..‬هذا‬
‫السؤال هو‪ :‬هل الـقرآن عربّ؟! وقد تعرضنا له لن الكثيين يفهمون "عروبة القرآن‬
‫الكري" وكأنا رديف لعناها القومي‪ ..‬مع أن تطبيق مفهوم "النسبية" الذي تدثنا عنه مع‬
‫بداية الكتاب يعل للعروبة معانٍ إضافية‪ ،‬دون نفي العن القريب (للعروبة) بالطبع‪ ..‬ومن‬
‫الداخل الديدة للعروبة والت أتاحتها أمامنا "ظاهرة النسبية" أمكننا أن نل لغز مموعة‬
‫كبية من الكلمات الواردة ف القرآن الكري (تناهز الائة كلمة) والت اعتبها البعض غي‬
‫عربية!‪ ..‬فهل هي غي عربية حقا؟!‪..‬‬

‫‪14‬‬
‫وف البحث التال تعرضنا لـ "أثر القرآن الكري ف تشكيل الوعي الزمن عند العرب"‬
‫ومن خلله أوضحنا أن السلم ل يكن حدثا عابرا ف حياة العرب‪ ،‬بل كان له مموعة من‬
‫التأثيات الت غيت ف منهجية وطرق التفكي عند العرب‪ ..‬لجل ذلك فقد فاجأ‬
‫السلمون العالَ بناهجهم التأصيلية الفذّة وغي السبوقة‪ ،‬والت استخدموها للحفاظ على‬
‫تراثهم الدين والعلمي‪ ..‬وعليه؛ فقد تعرضنا لبعضٍ من ملمح النقلة النهجية الت نقلها‬
‫القرآن للناس‪ ،‬فغي مفاهيمهم الت رأوا الشياء من خللا‪ ،‬وقد اتذنا نظرتم لفهوم الزمن‬
‫مثال على تلك النقلة‪..‬‬
‫وف البحث الخي "الكيمياء ومنهج استقراء العلوم الطبيعية ف القرآن الكري" قمنا‬
‫باستقراء منهجي للكيمياء وبعض مصطلحاتا الواردة ف القرآن الكري‪ ،‬بيث حاولنا أن‬
‫نقدم نوذجا ‪،‬يكن احتذاؤه‪ ،‬لستقراء العلوم الطبيعية الختلفة ف القرآن الكري‪..‬‬
‫وعليه ‪،‬ومن خلل موضوعات الكتاب متمعة‪ ،‬نكون قد قدمنا مزيا لطيفا ومتنوعا‬
‫لجموعة من العلوم؛ واستقرأنا بعض ما لا من علقة بالقرآن الكري‪ ،‬با يعب عن شوق‬
‫وتشويق غامرين يكن أن يس بما من يقرأ القرآن قراءة واعية عميقة ومتأملة‪..‬‬
‫وهنا أود أن أتقدم بالشكر الزيل لسرة عون داوود رحه ال وأسكنه فسيح جنانه من‬
‫دولة المارات العربية التحدة الشقيقة‪ ،‬والت اختارت أن تبّ فقيدها بطباعة هذا الكتاب‬
‫على نفقتها‪ ،‬داعيا ال عز وجل أن يعل للمغفور له (بإذن ال) ولسرته خي الثواب‪.‬‬
‫وأشكر بإخلص وحرارة كل من‪/‬‬
‫أخي الشيخ سيد بركة على مساعدته ل ف قراءة هذا العمل وتقييمه والتقدي له‪ ،‬شاكرا‬
‫له تشجيعه الستمر ل على طريق البحث والت أفضت أخيا إل طباعة هذا العمل‪.‬‬
‫كما ل يفوتن أن أشكر ‪،‬وبرارة‪ ،‬أخي وصديقي الستاذ‪ /‬فضل ياسي الذين تمل‬
‫الشاق الشديدة لتوفي نفقات طباعة هذا الكتاب‪ ،‬والشكر الزيل أيضا لخي عيسى‬
‫شويدح داعيا ال عز وجل لما ولسرتيهما بالي وأن يعل لما نصيبا من أجر هذا العمل‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫ويسعدن أن أتقدم بالشكر الالص للستاذ الدكتور عدنان قاسم لا غمرن به من علمه‬
‫وتلطفه وسعة صدره لدى مراجعته وتقديه لذه الادة يوم أن كان يمعها كتاب تت‬
‫(هل القرآن عرب‪ :‬مقدمة ف البناء الداخلي ف القرآن الكري) والت ت تضمينها ف هذا‬
‫الكتاب على هيئة أباث متفرقة‪ ،‬فكان لتشجيعه أطيب الثر ف دفعي لناز هذا العمل‪..‬‬
‫كما أقدم شكري الالص لخي الدكتور‪ /‬ممد السقا عيد من جهورية مصر العربية‪،‬‬
‫الذي أتفن وتفضل عليّ بتقريظه الام لذا الكتاب‪ ،‬داعيا ال عز وجل أن يعل الدكتور‬
‫عيد منارة علم وهدى لمة السلم‪..‬‬
‫ول يغيب عن أن أتقدم بالص الشكر لخي الكاتب والباحث (القرآن) صلح الدين‬
‫أبو عرفة (من الناح الشمال لفلسطي) على ما بذله ل من تشجيع ملص لطباعة هذا‬
‫الكتاب ونشره؛ ف وقت كنت فيه متاجا لنصائحه الغالية‪.‬‬
‫وأتقدم بالشكر الاص والالص لكل من الخت الباحثة الدكتورة "إيان بوخبزة" من‬
‫الغرب الشقيق‪ ،‬الت قامت بترجة العديد من أباث هذا الكتاب للفرنسية والشاركة بأحدها‬
‫ف "مؤتر تطوان للعجاز العلمي"(‪ )1‬والشكر الالص كذلك للزميلة الباحثة درية ممد‬
‫مكي من جهورية مصر العربية على ما بذلته من جهد ف قراءة مسودة هذا العمل وإبداء‬
‫العديد من اللحظات التخصصة عليه‪ ..‬كما أتقدم بشكري الالص لطلب قسم اللغة‬
‫النليزية ف كلية اللغات والترجة بامعة المام ممد بن سعود السلمية‪ ،‬الذين قاموا‬
‫بترجة مقال "ظاهرة النسبية ف القرآن الكري" إل النليزية ونشره‪ .‬وإن نسيت فلن أنسى‬
‫أخي الستاذ‪ /‬فراس نور الق (مدير موقع موسوعة العجاز العلمي ف القرآن الكري‬
‫والسنة) من سوريا الشقيقة على ما يبذله ‪،‬باستمرار‪ ،‬من جهد للعناية بالباث القرآنية‪،‬‬
‫وعلى نشره الزء الكب من مادة هذا الكتاب على موقعه التميز‪.‬‬
‫وأشكر برارة إبنت العزيزة أريج البطش على مشاركتها ل همّ إخراج هذا العمل إل‬
‫حيز الوجود‪ ،‬با ف ذلك قراءته وإبداء اللحظات الراقية عليه؛ ما مكنن من تدارك‬
‫بعضها‪ ..‬داعيا ال عز وجل أن ينحها من علمه وبركته ومبته‪.‬‬

‫‪)(1‬عقد الؤتر بدينة تطوان ف الغرب الشقيق بتاريخ ‪ 26‬يونيو ‪.2005‬‬

‫‪16‬‬
‫متمنيا على القراء العزاء أن يزودون بلحظاتم على هذا الكتاب‪ ،‬وذلك بالكتابة ل‬
‫على بريدي اللكترون‪ ،‬فلعلنا نتدارك ف طبعات قادمة بعض ما فاتنا‪ .‬وإن كان ل من أمل‬
‫ورجاء‪ ..‬فأن يرحنا ال؛ وأن يتجاوز عن سيئاتنا‪ ،‬وأن يهدينا صراطا مستقيما‪..‬‬
‫وصلّ اللهم على نبيك الات ممد (صلى ال عليه وسلم) وعلى آل بيته الطهار إل يوم الدين‪.‬‬
‫وتاوز عن أخطائنا وسيئاتنا‪ ،‬وارحم والدينا‪..‬‬
‫وآخر دعوانا أن المد ل رب العالي‪..‬‬

‫ممد صبحي السويركي‬


‫‪swairky@hotmail.com‬‬
‫غزة ف ليلة السابع والعشرين من رمضان ‪1426‬هـ‬
‫الوافق ‪30/10/2005‬م‬

‫‪17‬‬
‫التكاملية‬
‫نظرة ثانية على القرآن الكري!‬

‫ما الذي أردنا قوله ف هذا البحث؟‬

‫(لسباب تاريية ‪،‬تتعلق بنشأة علم التفسي‪ ،‬يكننا‬


‫استيعاب حقيقة اهتمام السلمي بالقرآن الكري بصورة‬
‫تزيئية‪ ،‬حيث كانوا زاهدين ف وضع تفسي للقرآن‬
‫الكري ل يضعه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ..‬وقد‬
‫أدى ذلك النهج التجزيئي إل ضياع الكثي من الصور‬
‫الكلية الت تتيحها اليات الكرية إذا ما نظر إليها الفسر‬
‫على أنا مموع واحد يكن ف كثي من الواضع أن‬
‫يشكل صورة كلية واحدة‪..‬‬
‫هذا البحث يناقش ثلثة ناذج لصور كلية ظهرت لنا‬
‫بالنظر إل اليات بشكل تكاملي)‬

‫‪18‬‬
‫التكاملية(‪)1‬‬
‫نظرة ثانية على القرآن الكري!‬

‫تقدي‬
‫إن من أجلّ النعم الت أنعم ال با علينا أن أرسل إلينا رسول كريا بكتاب كري‪ ،‬ويزيد‬
‫هذا المرَ جللً أن الكتاب الذي أرسل به ممد (صلى ال عليه وسلم) يمل سة "الطلق" بيث‬
‫يكن اعتباره مطلقا من جهة كونه‪ :‬الق‪ ،‬والصدق‪ ،‬والعجاز‪ ..‬فهو هو ما أوحى به ال عز‬
‫وجل‪ ،‬وما بلّغ به المي جبيل‪ ،‬وما تلفّظ به البيب ممد (صلى ال عليه وسلم) على أساع‬
‫كتبة الوحي‪ ،‬وما تناقلته الشفاه الطاهرة جيلً بعد جيل‪ ،‬إل أن وصلنا كما هو‪ :‬مبءا من أية‬
‫زيادة أو نقصان!‪...‬‬
‫إن وجود نص بذه الصفة يُعتب أمرا غي عادي ف حياة البشر‪ ،‬فليست هناك فكرة ف‬
‫حياة شعب من الشعوب أو أمة من المم ‪،‬غي أمة السلم‪ ،‬تاثل أو تقترب من هذه‬
‫الفكرة‪ ،‬وليس لدى حضارة من الضارات الخرى أي لون من ألوان التراث الذي يكن‬
‫أن يتميز بثل هذا الثبات والستمرار دون انقطاع؛ على أصوله الول‪ ،‬كما لدينا من آيات‬
‫وسور‪.‬‬

‫‪ )(1‬نشر هذا البحث ف العدد الادي والربعي من ملة "الوحدة السلمية" (وهي ملة شهرية إسلمية تصدر عن‬
‫تمع العلماء السلمي ف لبنان) وكذلك على صفحتها اللكترونية‬
‫‪http://www.alwahdaalislamyia.net/41/mohammad%20sobhi%20souirky.htm‬‬
‫كذلك نشر هذا البحث على موقع "موسوعة العجاز العلمي ف القرآن والسنة على الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.55a.net/alswerkee/nsbea4.htm‬‬

‫‪19‬‬
‫ولقد تكفل ال عز وجل بفظ هذا الكتاب الطهر {إنا نن نزلنا الذكر وإنا له لافظون}‬
‫بالكيفية الت هو أعلم با‪ ،‬وبضمن ذلك ما قيضه ال عز وجل من جهود قيمة بذلا علماء‬
‫المة وأبناؤها الصطفي لذه الهمة‪ ،‬والذين ل يدخروا من جهدهم جهدا؛ ف سبيل الفاظ‬
‫على هذا القرآن؛ على الصورة الت نزل عليها‪ ،‬ابتداء با ابتدعوه من منهجية علمية فريدة‬
‫اختصوا با القرآن وحده؛ وقد كان القرآن سببا ف نشأة تلك النهجية‪ ،‬والت حاولوا من‬
‫خللا الفاظ على هذا الكن الثمي بعيدا عن الضياع أو النسيان؛ وبعيدا عن شبهة‬
‫التحريف‪ ،‬بيث ظل القرآن على حاله الول {ل يأتيه الباطل من بي يديه ول من خلفه}‪..‬‬
‫وقد أدى ما تتع به أولئك الرجال من حسٍ عالٍ بالسئولية تاه القرآن الكري ‪،‬أدّى بم‬
‫ذلك إل الذر ‪،‬بل الذر الشديد‪ ،‬ف التعامل معه‪ ،‬ول يكن الذر ديدنم وحدهم‪ ،‬بل إن‬
‫الطريقة الت تعامل من خللا رسول ال (صلى ال عليه وسلم)‪‬مع آيات القرآن النلة تباعا إنا‬
‫كانت تدل على قدرٍ عظيم من الرص والذر‪ ،‬إذ حرص رسول ال (صلى ال عليه وسلم) على‬
‫تدوين اليات والسور حال تنلا‪ ،‬وهو ما ل يفعله (صلى ال عليه وسلم) مع الحاديث‬
‫الشريفة‪ ،‬وقد اختط الصحابة الكرام من بعده (صلى ال عليه وسلم) نفس النهج التميز بالذر‪،‬‬
‫فعمد أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان ‪،‬رضي ال عنهما‪ ،‬إل جع القرآن الكري ونسخه‬
‫وتوزيعه ف آفاق الدولة السلمية‪..‬‬

‫‪20‬‬
‫هذا من حيث التعامل الادي مع القرآن الكري‪ ،‬من حيث كونه نصوصا مكتوب ًة ومدونة‬
‫على أوراق أو جلود أو خشب أو حت عظام حيوانات‪ ..‬إل أن الرص قد دفع بم إل اتاذ‬
‫إجراءات أشد؛ لجل الفاظ عليه من ناحية تواتره الصوت‪ ،‬والذي هو جزء ل يتجزأ من‬
‫تواتره بشكل عام(‪ )1‬فقاموا بابتداع التشكيل والتنقيط‪ ،‬وهي العملية الت ضمنت ‪،‬من بعد‬
‫ذلك‪ ،‬للسنة العرب الخذة بالغتراب عن لغتها‪ ..‬ضمنت لا أن تافظ ولو على الدّ‬
‫الدن من الصلة مع مصدر عظمة تلك اللغة‪ ،‬أل وهو القرآن الكري‪...‬‬
‫إن مموعة المثلة الت سنقوم بطرحها ‪،‬ف هذا البحث‪ ،‬قد تمل لنا بعض التوفيق من‬
‫ال عز وجل ف ماولتنا للبهان على أن القرآن الكري الذي أخذ حقه من جهود العرب ف‬
‫سبيل الحافظة عليه من التبديل والتحريف ل يظَ بقه الكامل من التدقيق والجتهاد ف فهم‬
‫معانيه وتقصي مراميه من قبل الجيال التعاقبة‪...‬‬
‫نقول بان النماذج الثلثة الت سنطرحها قد تستطيع التأكيد والبهان على أن ليات‬
‫القرآن الكري ما يكن أن تتفتح عنه من العان الديدة والليلة ف حياة المة اليوم‪ ،‬ولجل‬
‫أن ندرك العلة الت أصابتنا اليوم وكانت سببا ف الد من قدرتنا على فهم القرآن الكري‬
‫وإصابة الزيد من مراميه؛ فلبد من ماولة فهم الطريقة الت تعامل العلماء الوائل من خللا‬
‫مع القرآن الكري‪.‬‬

‫‪ )(1‬لدى ذكر تواتر القرآن فإن فكر البعض يذهب إل عملية تواتره الكتاب والصحفي‪ ،‬إل أن هناك تواترا آخر ل‬
‫يقل أهية عن ذلك‪ ،‬أل وهو التواتر الصوت‪ ،‬فالعلة ف التواتر هي بقاء أصوات القرآن على ما هي عليه‪ ،‬وأشكال‬
‫الكتابة الختلفة من حروف ونقاط وتشكيل إنا الغاية والغرض منها‪ :‬الحافظة على تلك الصوات كما هي‪ ،‬ولبيان‬
‫أهية التواتر الصوت فإن ألفاظا قرآنية مثل كلمة "مريها" على سبيل الثال ف قوله تعال {بسم ال مريها ومرساها}‬
‫ل يكن إظهار تواترها اعتمادا على شكل الكلمة الكتوبة‪ ،‬بل إن لا طريقة خاصة ف قراءتا‪ ،‬فالياء فيها تقع ‪،‬من‬
‫حيث اللفظ‪ ،‬بي اللف والياء‪ ،‬وهي من حيث النطق تشبه حرف ‪ A‬ف النليزية‪ .‬وكما ذكرنا آنفا فإن العلماء‬
‫يؤكدون على عدم جواز حفظ القرآن بصورة منفردة‪ ،‬بل لبد من تلقيه عمن يتقن تواتره‪ ،‬وذلك حفاظا على‬
‫تواتره الصوت‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫ذكرنا أن المة جيعها قد تعاملت مع القرآن الكري بقدر كبي من الرص مافة اختلطه‬
‫بغيه من النصوص‪ ،‬حيث بلغ الرص بالنب (صلى ال عليه وسلم) أن اختص القرآن بالكتابة‬
‫الفورية حال تنل الية أو السورة منه‪ ،‬دون أن يقوم بالمر ذاته مع السنة الطهرة‪ ،‬وقد بلغ‬
‫من حرص السلمي من بعده (صلى ال عليه وسلم) على عدم الجتراء على كتاب ال أن وجدنا‬
‫رجل كأب بكر الصديق رضي ال عنه يقول‪( :‬أي ساء تظلن وأي أرض تقلن إن قلت ف‬
‫كتاب ال ما ل يرد ال)‪..‬‬
‫وقد كانت تلك التحذيرات كافية لعل التعامل مع هذا النص الكري مقتصرا على‬
‫قراءته قراءة صحيحة خالية من عيوب التحريف أو التصحيف‪ ،‬والجتهاد ف فهمه با يوحي‬
‫به ظاهر النص‪ ،‬ولقد كان اهتمامهم ‪،‬رضوان ال عليهم‪ ،‬منصبا على القرآن الكري من‬
‫حيث زمان ومكان وسبب نزول اليات الختلفة‪ ،‬ويُروى أن عليا ‪،‬كرم ال وجهه‪ ،‬كان‬
‫يقول‪( :‬أيها الناس‪ ،‬سلون عن القرآن‪ ،‬فوالذي بعث ممدا بالق ما من آية منه إل وأنا‬
‫أعلم با مت نزلت‪ ،‬وأين نزلت‪ ،‬وفيم نزلت)‪.‬‬
‫فيما بعد؛ وبعد ازدياد غربة العرب عن لغتهم بسبب اختلطهم بالعراق الخرى‪،‬‬
‫وبسبب مقتل وموت العديدين من هم على صلة بالقرآن الكري أوثق من غيهم‪ ..‬بدت‬
‫هناك حاجةٌ ملحةٌ لتوضيح معان القرآن الكري؛ والت بدأت شيئا فشيئا تصبح غريبة على‬
‫أبناء العربية‪ .‬هنا بدأ العلماء بالتعامل مع النص القرآن الكري بالقراءة مضافا إليها بعض‬
‫معان اللفاظ الت يكن أن ُتشْكل على قارئها‪ ،‬مع بقاء حرصهم الشديد على عدم القول ف‬
‫القرآن بآرائهم الاصة‪..‬‬
‫وهنا ‪،‬حسب اعتقادنا‪ ،‬نشأت مشكلة من أهم الشكلت الت أعاقت السلمي فيما بعد‬
‫عن إدراك اللمح الفنية الكلية للقرآن الكري‪ ،‬حيث بقي التعامل مع القرآن الكري منصبا‬
‫على النواحي الفقهية والبلغية‪ ،‬وغلب عليه طابع التعامل الزئي مع الفردات واللفاظ؛‬
‫دون أن يتعداه إل إدراك الوامع الشتركة والصور الكلية الناتة عن تفاعل الفردات مع‬
‫بعضها؛ وبا يشكله ذلك التفاعل من منظومات فنية متكاملة‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫ويصف الشهيد "سيد قطب" الهود الزئية الت بذلت للوصول إل اللمحات الفنية ف‬
‫القرآن الكري بالقول‪( :‬وأيا ما كانت تلك الهود الت بذلت ف التفسي وف مباحث‬
‫البلغة والعجاز فإنا وقفت عند حدود عقلية النقد العرب القدية‪ ،‬تلك العقلية الزئية الت‬
‫تتناول كل نص على حدة‪ ،‬أما مرحلة إدراك الصائص العامة فلم يصلوا إليها أبدا ل ف‬
‫الدب ول ف القرآن‪ ،‬وبذلك بقي أهم مزايا القرآن الفنية مغفل خافيا…) ليخرج "سيد‬
‫قطب" بنتيجة هامة حول الساليب الواجب اتباعها للتعامل مع القرآن الكري فيقول‪…( :‬‬
‫أصبح من الضروري لدراسة هذا الكتاب العجز من منهج جديد‪ ،‬ومن بث عن الصول‬
‫العامة للجمال الفن فيه‪ ،‬ومن بيان للسمات الطردة الت تيز هذا المال عن سائر ما عرفته‬
‫اللغة العربية من أدب‪ ،‬وتفسر العجاز الفن تفسيا يستمد من تلك السمات التفردة ف‬
‫القرآن الكري(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬التصوير الفن ف القرآن‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ص ‪.30‬‬

‫‪23‬‬
‫النموذج الول‪:‬‬
‫دعوة النور‪ ..‬ف متمع ما حول الرسول( ‪!!)1‬‬

‫يعتب الثل أحد أغراض سبعة( ‪ )2‬ف القرآن الكري‪ ،‬والثل الضروب ف القرآن يتد ‪،‬ف‬
‫حقيقة المر‪ ،‬إل أبعد ما يبدو عليه ظاهريا‪ ،‬ونتيجة لعدم إدراكنا لطبيعة ذلك المتداد فإن‬
‫كثيا من الغموض يكن أن يكتنف تفسي بعض اليات الت تشتمل على مثل تلك‬
‫الساليب‪ .‬وسيتضح لنا هذا المر بشكل جليّ من خلل النموذج التال‪..‬‬
‫يؤمنون ختم ال على قلوبم‬
‫‪‬‬ ‫{إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتم أم ل تنذرهم ل‬
‫عظيم ومن الناس من يقول آمنا بال‬
‫‪‬‬ ‫وعلى سعهم‪ ،‬وعلى أبصارهم غشاوة ولم عذاب‬
‫وباليوم الخر وما هم بؤمني‪ ‬يادعون ال والذين آمنوا وما يدعون إل أنفسهم وما‬
‫يشعرون ف قلوبم مرض فزادهم ال مرضا ولم عذاب أليم با كانوا يكذبون‪ ‬وإذا قيل‬
‫‪‬‬
‫لم ل تفسدوا ف الرض قالوا إنا نن مصلحون‪ ‬أل إنم هم الفسدون ولكن ل‬
‫يشعرون وإذا قيل لم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء‪ ،‬أل إنم هم‬
‫‪‬‬
‫يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إل شياطينهم قالوا‬
‫‪‬‬ ‫السفهاء ولكن ل‬
‫مستهزئون ال يستهزئ بم ويدهم ف طغيانم يعمهون‪ ‬أولئك الذين‬
‫‪‬‬ ‫إنا معكم إنا نن‬
‫اشتروا الضللة بالدى فما ربت تارتم وما كانوا مهتدين‪ ،‬مثلهم كمثل الذي استوقد‬
‫يبصرون صم بكم‬
‫‪‬‬ ‫نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب ال بنورهم وتركهم ف ظلمات ل‬
‫عمي فهم ل يرجعون}(البقرة‪)1 8 -6 :‬‬

‫‪ )(1‬نشر هذا البحث ف العدد السادس والربعي من ملة "الوحدة السلمية" ‪-‬بيوت وعلى صفحتها اللكترونية‬
‫على الرابط‪http://www.alwahdaalislamyia.net/46/souwairky.htm :‬‬
‫كذلك فقد نشر على موقع "موسوعة العجاز العلمي ف القرآن والسنة" على شبكة العلومات الدولية‪.‬‬
‫‪ )(2‬المر‪ ،‬والنهي‪ ،‬والوعد‪ ،‬والوعيد‪ ،‬والدل‪ ،‬والقصص‪ ،‬والثل‪ .‬أو من‪( :‬المر‪ ،‬والنهي‪ ،‬واللل‪ ،‬والرام‪،‬‬
‫ب صلى ال‬ ‫والحكم‪ ،‬والتشابه‪ ،‬والمثال) ودليل العلماء على ذلك ما ورد عن ابن مسعود رضي ال عنه؛ عن الن ّ‬
‫ب واحدٍ‪ ،‬وعلى حرفٍ واحد‪ ،‬ونزل القرآ ُن من سبعةِ أبواب‪،‬‬ ‫عليه وسلم أنه قال‪( :‬كان الكتابُ الو ُل ين ُل من با ٍ‬
‫على سبعة أحرف‪ :‬زجرٌ‪ ،‬وأمرٌ‪ ،‬وحللٌ‪ ،‬وحرامٌ‪ ،‬ومكمٌ‪ ،‬ومتشابهٌ‪ ،‬وأمثال) أخرجه الاكم والبيهقي‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫فإذا ما أخذنا قوله تعال {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} فسنجد بأن النظرة التجزيئية‬
‫لليات( ‪ )1‬ستملي علينا الربط بي {الذي استوقد نارا} مع الذين {اشتروا الضللة بالدى}‬
‫ف الية الت سبقتها والت يقول ال عز وجل فيها‪{ :‬أولئك الذين اشتروا الضللة بالدى‬
‫فما ربت تارتم وما كانوا مهتدين}‪ ..‬وعليه يكون الذي "استوقد نارا" إشارة إل أولئك‬
‫الذين "اشتروا الضللة بالدى" أو هكذا سيظن البعض!‪..‬‬
‫ويرتكز الذين قالوا بذا على حقيقة أن التشبيه هنا إنا هو مرد علقة بي رمزين‬
‫مفردين (الشبه والشبه به) لكننا نيل إل العتقاد بأن هذا الفهم إنا أملته القراءة التجزيئية‬
‫للقرآن الكري‪ ،‬أما القراءة التكاملية فيمكن أن يكون لا رأي آخر؟!!‪..‬‬
‫إن النهج التكاملي يعطينا فكرة أوضح عن علقة التشبيه الواردة ف اليات الشار‬
‫إليها‪ ،‬فهي ليست كما تبدو ظاهريا مرد علقة بي طرفي (مشبه ومشبه به) بل هي صورة‬
‫كاملة تقابلها صورةٌ كاملةٌ أخرى‪ ،‬لذا فلم يكن عجيبا أن تتد الصورة التمثيلية إل آيات‬
‫عديدة قبل الية العنية الت ذكرناها حيث تبدأ اليات ف رسم الصورة الكلية!!‪.‬‬
‫ويتعاضد التمثيل القرآن ف المثلة الت سنذكرها( ‪ )2‬لتتضح لنا حقيقة أن بعض أجزاء‬
‫الصورة ف الثل الضروب يكن أن تظل خافية‪ ،‬غي تامة الوضوح! وسنرى أن إشكالية عدم‬
‫الفهم هنا إنا نتجت عن عدم مثول الصورة كاملةً للفهام؛ بل حُذف بعض أجزائها‪،‬‬
‫وتركت الصورة الكاملة ‪،‬لكمة يعلمها ال‪ ،‬تستشف استشفافا من خلل التفكر العميق‪.‬‬
‫من هنا كانت ماولة الوصول إل العان الكاملة لليات أمرا عسيا‪ ،‬إذا ما‪‬ت تاهل‬
‫الجزاء الافية من الصورة الشار إليها‪ ،‬وكثيا ما أدّت ماولت فهم أمثال تلك اليات إل‬
‫إدراك جزئي لعانيها!‪.‬‬

‫‪ )(1‬نقصد بذا الصطلح النظر إل كل آية بفردها وبعزل عن اليات الت تسبقها أو تلحق با‪ ،‬ويقصد به كذلك‪:‬‬
‫النظر إل اليات دون تتبع الصور الكلية الت ترسها‪..‬‬
‫‪ )(2‬أوائل "البقرة" كما ف النموذج الذي ندرسه هنا‪ ،‬وجزء كبي من سورة "العنكبوت" ف النموذج الذي‬
‫سندرسه ف صفحات قادمة‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫وفيما يتعلق بالصورة التمثيلية البثوثة ف بداية سورة "البقرة" وكيفية النظر إليها؛ فلعل‬
‫الصورة الت نن بصددها تبدأ فعليا من قوله تعال‪{ :‬إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتم‬
‫أم ل تنذرهم ل يؤمنون‪ ،‬ختم ال على قلوبم وعلى سعهم‪ ،‬وعلى أبصارهم غشاوة}‪..‬‬
‫وهنا لبد من التوقف عند ما ت فهمه من قبل بعض الفسرين من أن (التم) ف قوله‬
‫تعال{ختم ال على قلوبم}إنا هو صفة للحالة الت أصبح عليها القلب‪ ،‬وأن (الغشاوة)ف‬
‫قوله{وعلى أبصارهم غشاوة}صفة للحالة الت صار عليها كل من السمع والبصر متمعي‪.‬‬
‫وقد جاء هذا الفهم الزئي نتيجة لتجزيء الية إل مقامي موضوعيي ها‪ :‬مقام‬
‫(التم) {ختم ال على قلوبم} (أي‪ :‬طبع ال على قلوبم فل يدخل فيها النور)‪ ،‬والقام‬
‫الثان هو مقام (التغشية) {وعلى سعهم وعلى أبصارهم غشاوة} وقد أضفوا تلك الصفة‬
‫على السمع والبصر متمعي!! (أي‪ :‬وعلى أساعهم وعلى أبصارهم غطاء) وهذا التفسي‬
‫لدلول اللفاظ الشار إليها يتعارض مع القائق العلمية؛ ويتعارض كذلك مع المكانية‬
‫الوحيدة الت تسمح لنا برسم صورة كلية لليات كما سنري لحقا‪ ،‬فضل عن أنه يتعارض‬
‫وبشكل أساسي مع ما جاء ف سورة الاثية‪ ،‬والذي يمل نفس العن‪{:‬أفرأيت من اتذ إله‬
‫هواه وأضله ال على علم وختم على سعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة}(الاثية‪!)2 3 :‬‬
‫فالدلة الت سقناها ‪،‬والدليل الخي تديدا‪ ،‬والستقى من سورة الاثية‪ ،‬توضح كلها‬
‫وبشكل كامل أن التم إنا هو للسمع وللقلب معا‪ ،‬بينما الغشاوة للبصر وحده( ‪ )1‬وهذا‬
‫يتوافق مع القيقة العلمية الصرفة الت سنبينها!!‪ ...‬ويتوافق مع ما يسمح لنا برسم الصورة‬
‫اللطيفة والتكاملة الت نن بصددها!!‪..‬‬

‫‪ )(1‬ف مناسبة قادمة قد يكون من الناسب دراسة هذا المر كتطبيق على اختلف الستويات الوضوعية ف القرآن‬
‫الكري‪ ،‬والت تقتضي إخلف نبة القراءة تبعا لذلك الختلف!!‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫ومن البديهي أن العن السابق ‪،‬با يتضمنه من ضرورة التفريق بي "التم" و"الغشاوة"‪،‬‬
‫ل يتأتيان بدون فهم دقيق لعان اللفاظ‪ ،‬فالقرآن الكري قد فرّق بي نوعي متلفي من‬
‫مبطلت الواس‪ ،‬الول‪ :‬وهو التم (ويعن الغلق الطبق) أما الثان‪ :‬فهو "التغشية" أو‬
‫"الغشاوة" والخي ل يوز فهمه على أساس أنه (إغلق مطبق) ومكم كما التم‪ ،‬بل هو‬
‫(أي الغشاوة) إغلق يسمح للعي أن ترى لكن بشكل ضباب وجزئي‪ ،‬ويرتكز فهمنا هذا‬
‫على جلة العان اللغوية لكلمة "غشاوة" وكذلك استنادا إل جلة معانيها ف الواضع الختلفة‬
‫من القرآن الكري‪ ،‬والت تفيد جيعها أن الغشاوة ل يكن أن تكون تغطية كلية‪ ،‬بل هي حالة‬
‫وسطية (بي حالتي طرفيتي)‪ ،‬وهو ما يتضح ف قوله تعال‪{ :‬إذ يغشيكم النعاس أمنة منه}‬
‫والنعاس هنا هو حالة وسطية بي الصحو والنوم!‪ ..‬ومن هنا يكن فهم النعاس على أنه حالة‬
‫بي الصحو والنوم كما أن الغشاوة على العي هي حالة بي البصار والعمى!!‪.‬‬
‫كذلك فإن الشارة العلمية لكلمة (غشاوة) يكن أن تعزز فهمنا لذه اللفظة والذي‬
‫بسطناه آنفا‪ ،‬على أساس أنا حالة وسطية بي حالتي‪ ،‬فاللفظ "غشاء" كثيا ما يستخدم‬
‫للتعبي عن خاصية "نصف النفاذ"‪ ،‬فغشاء اللية سي غشاء لنه يُنفذُ من جهة وينعُ من‬
‫جهة أخرى! وهناك أنواع من الغشية يكنها أن ترر بعض الزيئات كأيونات الملح‬
‫وتنع مرور بعض الزئيات الخرى( ‪.)1‬‬
‫والن؛ فإنه ومن خلل إدراكنا لليات عمل كل من حاست السمع والبصر‪ ،‬وف ظل‬
‫فهمنا للفروقات بي الذبذبات الت تسمع با الذن (ذبذبة صوتية) واختلفها عن الذبذبات‬
‫الت ترى با العي (ذبذبة ضوئية) فلبد من طرح إمكانية أخرى للتعامل مع النص‪:‬‬

‫‪ )(1‬تت الستفادة من ظاهرة النتشار الغشائي ف صناعة أجهزة الكلى الصناعية لتنقية الدم ف حال الفشل‬
‫الكلوي حيث باستطاعة تلك الجهزة أن تفصل اليونات عن متويات الدم‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫من العروف أن الذن تسمع بواسطة الذبذبات الصوتية العبة عن الصوات‪ ،‬والت‬
‫تنتقل ف الواء بسرعة ‪ 3 2 0‬مترا ف الثانية‪ ،‬وتلك الذبذبات قادرة على النتقال ف‬
‫الواء‪ ،‬والواد السائلة‪ ،‬والصلبة مع وجود فروقات ف سرعة ذلك النتقال‪ ،‬ويكن لتلك‬
‫الذبذبات (الصوتية) أن تصل إل الذن بدون أن يكون للعوائق الت تعترضها كبي تأثي‬
‫عليها أو القدرة على منعها‪ ،‬وعلى سبيل الثال فإن وضع حاجز ما بي الذن ومصدر‬
‫الصوت غي كافٍ لنع عملية السمع!! إل أنه وعلى العكس من ذلك فإن ذبذبات الضوء‬
‫يكن منعها ‪،‬بسهولة‪ ،‬ذلك كون ذبذبات الضوء تسي ف خطوط مستقيمة‪ ،‬ويكفي لنع‬
‫العي من البصار أن نضع بينها وبي مصدر الضوء حاجزا‪ ،‬عندها ستفقد العي قدرتا على‬
‫البصار!‪.‬‬
‫من هنا فإن إبطال حاسة السمع ل يتم بتلك البساطة الت يتم با إبطال حاسة البصر‪،‬‬
‫فبينما يكفي وضع حاجز ما أمام العي لنعها من رؤية الرئيات؛ فإن هناك حاجة لغلق‬
‫مداخل الذني بشكل مكم لنع النسان من السمع‪ ،‬أي أن يتم عليهما!!‪..‬‬
‫من هنا كان لبد لنا من طرح السؤال التال‪ :‬ماذا يكن أن يدث لو فهمنا الية بشكل‬
‫مالف لا فهمه بعض الفسرين‪ ،‬وذلك بأن نعل التم للقلب وللسمع معا {ختم ال على‬
‫قلوبم وعلى سعهم} وعندها ستصبح الغشاوة ‪-‬حسب هذا الفهم‪ -‬للعي وحدها {وعلى‬
‫أبصارهم غشاوة}حيث الغشاوة هنا ليست تامة الجب‪ ،‬ما يعتب تفسيا مقبول إذا ما تأملنا‬
‫الثال الذي نن بصدده (النور والنار) وإل فكيف يكن التيان بذا الثال البصري لقوم ل‬
‫يبصرون أصل؟!!‪..‬‬

‫‪28‬‬
‫ومن الناسب هنا التأكيد على أن الذهاب ف التفسي إل الناحية الت ذهب إليها‬
‫البعض‪ ،‬وت فيها المع بي مقامي "السمع" و"البصر" {وعلى سعهم وعلى أبصارهم‬
‫غشاوة} بيث نعل السمع والبصر مشتركي ‪‬ف مستوى موضوعي واحد (هو الغشاوة) إنا‬
‫يتسبب ف انيار كل الصورة التمثيلية الت نريد إظهارها هنا‪ ،‬والت نرى أن من ضرورات‬
‫تكونا وتشكلها أن يضاف السمع إل القلب {ختم ال على قلوبم وعلى سعهم} ف‬
‫مستوى موضوعي واحد هو "التم" فيما يبقى مقام (التغشية) مقصورا على العي وحدها‬
‫{وعلى أبصارهم غشاوة}!! ويستمر القرآن الكري بعد ذلك ف رسم الصورة التمثيلية‬
‫برسم عناصرها واحدا تلو الخر؛ فكان (الكافرون) عنصرا أساسيا أضيف إل تلك‬
‫الصورة‪{ :‬إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتم أم ل تنذرهم ل يؤمنون} وتواصل اليات‬
‫عرض العناصر الخرى للصورة عنصرا بعد آخر‪ ،‬لتضيف ‪،‬من ث‪ ،‬بعد ذلك عنصر‬
‫(النافقي)‪{:‬ومن الناس من يقول آمنا بال وباليوم الخر وما هم بؤمني‪ ،‬يادعون ال‬
‫والذين آمنوا وما يدعون إل أنفسهم وما يشعرون} ومن الواضح أن القرآن الكري ‪،‬وهو‬
‫هنا‪ ،‬فكأنا يقوم ‪،‬ف واقع الال‪ ،‬برسم صورة‬
‫يسعى حثيثا لستكمال الصورة الرسومة ‪‬‬
‫تدريية لعوامل بشرية توج وتتصارع ف الجتمع البشري ذاته!!‪..‬‬
‫لجل ذلك فقد وجدنا القرآن الكري ‪،‬ولجل إحداث حالة من التوازن ف الصورة‬
‫الرسومة‪ ،‬وجدناه يبدأ بإضافة عناصر جديدة لكنها ذات طبيعة مغايرة هذه الرة! إذ أن‬
‫الجتمع البشري عادة ل يتوي كفارا ومنافقي فقط؛ بل ل بد من وجود قوى أخرى تكون‬
‫خية وفاعلة‪ ،‬فهي ل تفتأ تقدم النصح الدائم لؤلء وهؤلء بالعودة إل طريق الرشاد‪..‬‬
‫ولننظر إل تلك القوى الية وهي تكاد تتوارى ف زاويا الصورة الخصصة للحديث‬
‫عن النافقي وتتراءى لنا ف خلفيتها!! فجاء الديث معبا عنها (القوى الية) بصيغة الفعل‬
‫البن للمجهول (وإذا قيل) وكأنا إشارة إل أن الي إنا هو قيمة بد ذاته بغض النظر عن‬
‫الهة الت تمله أو تقوله به!!‪{ ..‬وإذا قيل لم‪(‬أي للمنافقي) آمنوا كما آمن الناس‪}...‬‬
‫{وإذا قيل لم ل تفسدوا ف الرض قالوا إنا نن مصلحون‪}...‬فمن الذي قال لم وطلب‬
‫منهم؟ إنه النب ذاته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإنم أتباعه الؤمنون اللتفون من حوله‪ ..‬بكل تأكيد!‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫وتظهر صورة الخيار ف الصورة الكلية من خلل نصحهم التكرر للشرار من كفار‬
‫ومنافقي‪{ :‬وإذا قيل لم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} وكأنا ياول‬
‫ال نص الكر ي إظهار حر كة التدا فع التماو جة ف حر كة متمع ية دائ مة ب ي شرٍ طا غِ يقابله‬
‫ن صحٌ دائم‪ ...‬و قد وجد نا ال صورة تعود لتتر كز على النافق ي مرة أخرى{وإذا لقوا الذ ين‬
‫آمنوا قالوا آم نا‪ ،‬وإذا خلوا إل شياطين هم قالوا إ نا مع كم إن ا ن ن م ستهزئون؛ ال ي ستهزئ‬
‫ب م ويد هم ف طغيان م يعمهون} والترك يز ه نا نا بع من كون تلك الفئة إن ا هي العن صر‬
‫الخطر تأثيا والشد فتكا بالجتمعات!!‪...‬‬
‫وع ند هذه النق طة ي ب الذر؛ إذ تو شك الو جة أن تنقلب على أعقاب ا فتأ خذ اتا ها‬
‫آخر!! والشكالية تكمن ف الدقة والرقة والسلسة الت يتم من خللا ذلك النقلب إل‬
‫الدرجة الت نصبح معها باجة إل مزيد من الدقة ف الحاسيس لجل رصد ذلك النقلب‬
‫والشعور به دون أن تعبث به أفهامنا!!‬
‫فبعد أن وصلنا إل توصيف كامل للصورة الجتمعية سالفة الذكر وجدنا القرآن الكري‬
‫يعقب على أحوال الفئة الخية‪ ،‬فجاء تعقيبه على حال النافقي ‪‬بقوله تعال {أولئك الذين‬
‫اشتروا الضللة بالدى فما ربت تارتم وما كانوا مهتدين}‪..‬‬
‫ولننظر إل اسم الشارة "أولئك" العب عن ضمي المع الغائب‪.‬وهنا يب الذر‬
‫والنتباه جيدا!‪ ..‬حيث أعقب هذه الية قوُلهُ تعال{مثلهم كمثل الذي استوقد نارا‪}...‬‬
‫وهي ‪،‬أيضا‪ ،‬حديث عن المع الغائب!! ما قد يلقي ف روع القارئ بأنا تشترك مع الية‬
‫الت سبقتها ف الهة الت يتم الديث عنها (أي النافقون) بينما القيقة متلفة تاما!‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫إن الحك القيقي لدراك البعد غي الظاهر ف القرآن الكري ["العمق" و"التكامل")‬
‫إنا يكمن ف امتلك رهافة السّ بقدر كافٍ للتعامل مع نص بواصفات غي عادية وغي‬
‫بشرية‪ ،‬ما سيمكن القارئ من إدراك لظات النقلب السلسة‪ ،‬ومواضع التغي غي‬
‫الحسوبة‪ ،‬ولو امتلكنا تلك القدرة عندها سندرك أن‪ ‬السياق ف اليات آنفة الذكر قد اتذ‬
‫وجهة أخرى غي تلك الت اتذها السياق العام لليات السابقة‪ ،‬وذلك بعد قوله تعال‬
‫{أولئك الذين اشتروا الضللة بالدى}‪ ..‬حيث يب علينا هنا إقفال القوسي اللذين يضمان‬
‫داخلهما طبقات الجتمع التصارعة فيما بينها‪ ،‬وبإقفال هذين القوسي فيكون علينا أن نفتح‬
‫قوسي جديدين يضمان صورة تثيلية جديدة‪ ،‬وبذا يكن الدراك بأن كلمة "مثلهم" ف قوله‬
‫تعال {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا‪ }...‬ل تعود على الية الت قبلها (أي على النافقي)‬
‫بل تعود على كل أجزاء الصورة ما بي القوسي؟!! وبذا فإن الذي استوقد النار لن يكون‪،‬‬
‫على الطلق‪ ،‬كافرا أو منافقا كما ظن البعض!!‪ ..‬حيث يب النظر إل اليات التالية على‬
‫أساس أنا ضمن قوسي جديدين وبا يتماشى مع الفهوم الديد!!‪.‬‬
‫إن خلل كالذي نعاينه هنا (الرؤية التجزيئية للنص) إنا ينشأ عن عدد من السباب‪،‬‬
‫والت منها‪ :‬تعجل اشتقاق الصورة التمثيلية من قبل البعض‪ ،‬حيث جعلوا من {استوقد نارا}‬
‫امتدادا لـ {أولئك الذين كفروا} ول يتم اللتفات إل التناقض الناشئ عن اختلف‬
‫الضمائر (بل ت تبيره!!) بي ضمي الفرد ف {فلما أضاءت ما "حوله"}( ‪ )1‬وضمي الماعة‬
‫ف {ذهب ال "بنورهم"} مع أن التناقض بينهما بيٌ واضح؟!!‬

‫‪)(1‬لحظ‪ /‬أن القرآن استخدم {فلما أضاءت ما حوله} وهي إشارة إل أن العي ترى الشياء بالضوء الساقط عليها‬
‫وليس بضوء يرج من العي ويسقط على الشياء كما كان يعتقد!‪..‬‬

‫‪31‬‬
‫إن ماولت نا للتعا مل مع هذه ال صورة يأ ت مدفو عا بالرغ بة ف رؤ ية ال نص من زواياه‬
‫الختلفة وليس القتصار على زاوية واحدة منه‪ ،‬وهي الحاولة الت ستمكننا ف ناية الطاف‬
‫من رؤية الجزاء الدقيقة من الصورة والختفية بلط فٍ وإحكام‪ ..‬ولعل تلك الحاولة تشكل‬
‫أمامنا أمل وحيدا يكننا من خلله نفي التناقض الواضح بي الضمائر والذي أشرنا إليه قبل‬
‫قل يل!‪ .‬والنظرة الديدة تقت ضي الن ظر إل الذي {ا ستوقد نارا} على أ ساس أ نه ل يقا بل‬
‫{الذين اشتروا الضللة بالدى} وإنا يقا بل "داعي اليان" الذكور ف ثنايا اليات‪ ،‬والذي‬
‫ل يفتأ ينصح الكافرين‪{ :‬آمنوا كما آمن الناس} وهو بذا إنا يثل ال نب‪ ،‬أو الرسول‪ ،‬أو‬
‫الؤمن بشكل عام!!‪ ..‬ويعزز من توجهنا هذا ف فهم اليات ‪‬ما عُرف عن الكافر بأنه ل يُعهد‬
‫العنعينه الذي تشي به كلمة {استوقد}( ‪ )2‬والت‬
‫‪‬‬ ‫عليه بذل الهد للوصول إل النور! وهو‬
‫تف صح عن بذل ج هد ل ُي ستهان به ليقاد النار للو صول إل النور‪ ،‬و هو ج هد ل ي كن أن‬
‫ينسـب للكافريـن بأي حال‪ ،‬وإناـ يكـن أن يشيـ إل الهـد الهيـد الذي يبذله النـب أو‬
‫الرسول لبلغ الرسالة!‬
‫‪..‬وتنجح الحاولة‪ ،‬وتبدأ الشرارة الصغية بالتحول إل جذوة مشتعلة تنشر النور فيما‬
‫حولا؛ كما يكن لا أن تقدم النار‪ ،‬وهو تشبيه دقيق لا تأت به الرسالت للناس من بشي‬
‫ونذيـر!!‪ ..‬فلمـا أن أضاء هذا النـب لقومـه (وهـم طبقات الجتمـع اللتفيـ مـن حوله) نور‬
‫الداية؛ عندها ذهب ال عز وجل بنور أبصار الضالي منهم {فلما أضاءت ما حوله ذهب‬
‫ال بنور هم} ول يذ هب بنور الر سالة ذات ا!‪ ..‬ل قد ذ هب بنور عيون م وحد هم‪ ،‬فكان أن‬
‫تركهم ف ظلمات ل يبصرون!!‪..‬‬
‫لكن أين يكن لتلك الصورة التمثيلية أن تنتهي؟‪..‬‬

‫‪ )(2‬ما شاع من أساليب اللغة العربية ف التعبي عن مقاصدها الختلفة أن إلاق حرف اللف والسي ف أول الكلمة‬
‫يكن أن يشي إل "الد ف طلب الشيئ"‪ ،‬مثل (إستطعم‪ ،‬إستسقى‪ ،‬إستمطر‪ ،‬إستزل‪ ،‬إستعمر‪ ...‬ال) وعلى هذا‬
‫فإن كلمة "استوقد" يكن أن تفيد‪" :‬طلب الوقود وبذل الهد ف تصيله"‪ .‬وال أعلم‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫إنا تنتهي بقوله تعال‪{ :‬فلما أضاءت ما حوله ذهب ال بنورهم فتركهم ف ظلمات ل‬
‫يبصرون} وهنا تكتمل الصورة الت كانت قد ابتدأت بقوله تعال {ختم ال على قلوبم‬
‫وعلى سعهم وعلى أبصارهم غشاوة}!! وهي النقطة الت بدأنا تليلنا هذا من عندها‪ ،‬حيث‬
‫قلنا بأن التم الكامل إنا يكون على القلوب والساع‪ ،‬بينما‪‬الغشاوة (الغلق الزئي)‬
‫الغشاوةبصيصا غائما كان من المكن أن‬
‫‪‬‬ ‫كانت على البصار فحسب‪ ،‬وقد تركت لم تلك‬
‫يهتدوا به لو حسنت نواياهم! لكن لاجتهم وترددهم جعلهم يفقدون المل الخي ف‬
‫الداية والنجاة‪ ،‬عندها كان التم الطلق على كل حواسهم فكانوا كما قال ال فيهم‬
‫{وتركهم ف ظلمات ل يبصرون‪ ،‬صم بكم عمي فهم ل يرجعون} ‪..‬‬
‫وصدق ال العظيم‬

‫‪33‬‬
‫النموذج الثان‬
‫الفاجأة!!‪ ..‬من فيوضات سورة العنكبوت(‪!!)1‬‬
‫تدثنا ف الصفحات الاضية عن أحد النماذج‬
‫القرآنية الصالة للدللة على ضرورة اتباع منهج‬
‫شول متكامل لفهم القرآن الكري‪ ،‬ونتحدث هنا أيضا‬
‫عن نوذج قرآن مشابه‪ ،‬للدللة على الطبيعة الاصة‬
‫للنص القرآن الكري‪ ،‬وعلى ضرورة تلي قارئ القرآن‬
‫بالعرفة الدقيقة للكيفية الت ينساب النص الكري من‬
‫خللا‪ ،‬من أجل أن يتوصل قارئ القرآن إل الصورة‬
‫المالية والفنية التكاملة الت يطرحها‪ ،‬والت غالبا ما تغيب عن أذهاننا ف حّى تعاملنا‬
‫التجزيئي مع القرآن الكري‪.‬‬
‫واليات الت نن بصددها هنا هي من سورة "العنكبوت" وهي السورة الت تسترعي‬
‫انتباهنا بل وتينا! وتبنا على الوقوف أمامها مبهورين؛ وذلك لغرابة التوظيف القرآن‬
‫لحدى الشرات الغامضة‪ ،‬ذلك التوظيف الثي الذي يتاج إل وقفة تفكر وتأمل‪ .‬حيث‬
‫يقول عز من قائل‪:‬‬

‫‪ )(1‬نشر هذا القال على موقع "موسوعة العجاز العلمي ف القرآن والسنة" على الرابط‪:‬‬
‫‪www.55a.net/firas/arabic/ index.php?page=show_det&id=389‬‬
‫وكذلك ف العدد (‪ )42‬من ملة "الوحدة السلمية" الصادرة ف بيوت‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫حمِل خطاياكُم وما همْ باملي‬
‫{وقالَ الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلَنا ولن ْ‬
‫لكاذبون وليحملن أثقالم وأثقالً مع أثقالِهم وليُسألن‬
‫‪‬‬ ‫من خطاياهم من شيءٍ إنم‬
‫يوم القيامة عما كانوا يفترون‪ ‬ولقد أرسلنا نوحا إل قومهِ فلبث فيهم ألفَ سنةٍ إل‬
‫ظالون‪ ...‬مثلُ الذين اتذوا من دون ال أولياءَ‬
‫‪‬‬ ‫خسي عاما فأخذهم الطوفان وهم‬
‫كمثلِ العنكبوتِ اتذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا‬
‫يعلمون}(العنكبوت‪..)4 1 -1 2 :‬‬
‫والن؛ دعونا نتوقف قليلً أمام هذا السرّ الغريب‪ ،‬والطلسم الغامض‪ ..‬فحيث ل‬
‫يدري الناسُ ما السرّ ف تسمية سورةٍ بأكملها من سور القرآن الكري باسم "العنكبوت"‬
‫ينبغي أن نتوقف‪ ..‬وأن نتفكر‪ ،‬وأن نتأمل!!‪..‬‬
‫والقارئ التأمل يظل متعجبا من الدف الذي أُورد هذا الثال من أجله؛ أو ما الذي‬
‫أريد به‪ ،‬أو الدللة عليه!!‪ ..‬ما عدا العان القريبة والشذرات العلمية الت تفيض من جوانب‬
‫النص!! وقبل أن نوض ف عمق التحليل للنص القرآن الشار إليه؛ فلبد أن نعرض لبعض‬
‫الشارات حول حشرة العنكبوت‪ ،‬وهي الشارات الت قد تُلقي قليلً من الضوء على‬
‫الدف الذي ت من أجله إيرادها على الصورة الت وردت عليها!‪.‬‬

‫خيوط وعناكب!!!‬
‫من العلوم أن العناكب تتبع فصيلة "العنكبوتيات" وهي فئة من اليوانات الناجحة‬
‫والواسعة النتشار‪ ،‬والت تضم العناكب والعقارب وما شابها‪ .‬ومن أشهر "العنكبوتيات"‪:‬‬
‫العناكب‪ ،‬وكثي منها يعيش ف منازلنا أو ف جوارها‪ ،‬وأنسجتها الستديرة معروفة لنا جيدا‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫ومن اللفت ف موضوع العناكب أن الشرات الخرى ل تسلم من شرها ساعة من‬
‫ليل أو نار! فهي دائمة الترصد لفرائسها ف ورديات نارية وليلية! وتبدأ العناكب الليلية‬
‫صيدها بعد انتهاء عمل العناكب النهارية‪ ،‬وقد ابتكرت العناكب طرقا متلفةً لقتناص‬
‫فرائسها‪ ،‬فبعضها ينقض على فريسته انقضاضا مباشرا‪ ،‬إل أن أشهر طرق القتناص لديها‬
‫يتم عن طريق ما تنصبه من شباك تتخايل للفرائس وكأنا زينة تلمع أمامها‪ ،‬فإذا ما اقتربت‬
‫منها وقعت فيها وكانت سببا ف هلكها!!‪..‬‬
‫وتقوم العنكبوت بإنتاج اليوط الريرية من غدد خاصة بذلك وتوزعه مغازلا‬
‫الصغية‪ ،‬وتُنتجُ النواع الختلفة من الغدد أنواعا خاصة با من الرير‪ ،‬وتنسج العناكب‬
‫شباكها بدقة من خيوط حريرية وفقا لتصاميم خاصة لا أشكال متلفة‪.‬‬
‫وقد بث العلماء ف تراكيب الادة الت يفرزها العنكبوت فوصلوا إل ما يدهش‬
‫العقول‪ ،‬فقد رأوا بعض العناكب تنسج خيوطا رقيقةً جدا‪ ،‬وقد وجد أن كل خيط من تلك‬
‫اليوط مؤلف ف حقيقته من أربعة خيوط أدق منه‪ ،‬وكل واحد من تلك اليوط الربعة‬
‫مؤلف من ألف خيط! ووجدوا كذلك أن كل واحد من اللف يرج من قناة مصوصة ف‬
‫جسم العنكبوت‪ ،‬وهذا المر يقود إل العجب‪ ،‬فكيف يتسع جسم العنكبوت إل ألف‬
‫ثقب‪ ،‬يرج من كلٍ منها أربع من خيوط العنكبوت؟!‪.‬‬
‫وعليه؛ فإن خيط العنكبوت يتكون ف ممله من أربعة آلف خيط!!‬
‫وأعجب من ذلك كله أن بعض العلماء اللان قد وجدوا أنه إذا ضم أربعة بليي من‬
‫تلك اليوط إل بعضها البعض فإن سكها لن يتجاوز عندئذٍ سُك شعرةٍ واحدةٍ من شعر‬
‫رأس النسان!!‪ .‬ومن غريب ما نن بصدده من الديث عن بيت العنكبوت ما كشف عنه‬
‫العلم من القوة الكامنة ف خيط العنكبوت‪ ،‬سواء من ناحية دقة غزله‪ ،‬أو قوة تمله ف حال‬
‫جعه إل بعضه بعضا‪ ،‬إل درجة أن تلك اليوط لو ضمت إل بعضها فستصبح حينها أشد‬
‫سمْك! وقد بدأ العلماء بالفعل يفكرون ف الكيفية الت‬
‫قوة من سلك من الفولذ له نفس ال ُ‬
‫يكنهم معها استخدام تلك اليوط لياكة الردية الواقية من الرصاص‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫إن الدهش ف تناول القرآن لذا المر أن جيع القائق الت ت الكشف عنها ل تصطدم‬
‫‪،‬سواء بشكل مباشر أو غي مباشر‪ ،‬مع ما جاء القرآن به‪ ،‬إذ يدهشنا أن القرآن الكري قد‬
‫تدث عن العنكبوت الت اتذت (وليس اتذ) بيتا‪ ،‬فجاء العلم الديث ليخبنا بأن النثى‬
‫بالفعل هي من تقوم باتاذ البيت!‪...‬‬
‫ويدهشنا كذلك أن وجدنا القرآن الكري يتحدث عن ضعف "بيت العنكبوت" ل عن‬
‫ضعف اليط ذاته! وهذا ما أثبتته الباث العلمية بالفعل‪ .‬وعلى الرغم ما يطرحه‬
‫"العنكبوت" و"بيته" من لغز (قد يبدو مناقضا لا هو معلوم لنا من خلل خباتنا ومشاهداتنا‬
‫ف عال الطبيعة) إل أن ما يطرحه القرآن الكري يبدو أشد غرابة؟!‪ ..‬فالنظر بشكل متكامل‬
‫إل اليات القرآنية الت تكي قصة العنكبوت؛ إنا يعطينا فرصة لوضع اليد على سرٍ عجيب‬
‫من أسرار الجتماع البشري على هذه الرض منذ بداية اللق وإل أن يرث ال الرض‬
‫ومن عليها!‪..‬‬
‫ولكي نتوصل إل ذلك السر فلبد من متابعة اليات الكرية بنفس تسلسلها الذي‬
‫تطرحه سورة "العنكبوت" إذ تبتدئ السورة بإحدى عشرة آية مدنية (بعكس بقية السورة‬
‫والت هي مكية) والد بي الدن والكي ف هذه السورة إنا هو الدّ الذي تبتدئ معه‬
‫الصورة الت نن بصددها بالتشكل والرتسام‪ ،‬حيث تبدأ معالها تلوح لنا ابتداء من الية‬
‫رقم(‪( )12‬وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم‪ }...‬وهذه القولة‬
‫بالذات هي عقدة الكاية الت نن بصددها!‪..‬‬
‫وتتحدث اليات الحد عشر الول عن رحلة النسان على الرض‪ ،‬مع ما يرافق ذلك‬
‫الوجود من فتٍ ومرارات {أحسبَ الناسُ أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم ل يُفتنون‪ ،‬ولقد‬
‫فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الُ الذينَ صدقوا وليعلمنّ الكاذبي}‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫ولقد اعتب القرآن الكري تلك الفت علمات ضرورية لثبات الصدق على طريق‬
‫الق‪ .‬وتضع اليات الكرية نقطتي مضيئتي أساسيتي ف رحلة النسان‪ ،‬وها معلمان من‬
‫معال الق ف رحلة النسان على ذلك الطريق‪ ،‬وهاتان النقطتان ها‪ :‬الحسان إل الوالدين‬
‫واجتناب الشرك بال {ووصينا النسانَ بوالديهِ حُسنا‪ ،‬وإن جاهداك لتشركَ ب ما ليس لك‬
‫به علمٌ فل تطعهما}‪..‬‬
‫ث تعود السورة لتلح على أذهاننا بقيقة ذلك الطريق الذي يب علينا أن نسلكه‬
‫{ومن الناسِ من يقو ُل آمنا فإذا أُوذي ف الِ جعلَ فتنةَ الناسِ كعذابِ ال‪ !!}...‬ويبنا‬
‫بالنهاية الت ستئول إليها المور‪{ :‬وليعلمنّ الُ الذين آمنوا وليعلمنّ النافقي}‪..‬‬
‫إذن‪ ..‬فهو توصيف لرحلة النسان على الرض با يتمايز فيه طريق الق عن طريق‬
‫الضلل‪ ..‬وبا ينتج عنه من إيان أو كفر‪ ،‬وبا تنتهي إليه من جنة أو جحيم!!‪..‬‬
‫ونفهم من سياق اليات أن تلك القدمة إنا كانت ضرورة موضوعية ل غن عنها؛‬
‫لعداد وتيئة السامع لا سيتم تقديه من عرض خطي!!‪ ..‬هو رحلة البشرية جيعها‪:‬‬
‫بنماذجها‪ ،‬بشخوصها‪ ،‬بقدماتا وبنتائجها‪ ،‬ببداياتا وبنهاياتا التناقضة‪ :‬فريق ف النة وفريق‬
‫ف السعي!!‪..‬‬
‫وهنا تبتدئ رحلتنا مع النموذج الذي نن بصدده {كمثلِ العنكبوتِ اتذتْ بيتا}‬
‫ولنلحظ أن منهج "التكامل" الذي نتحدث عنه يرصد آية العنكبوت الشار إليها (ورقمها‬
‫‪ )41‬فيجعل بدايتها قبل ذلك بكثي؛ فبدايتها تديدا هي الية(‪ ..)12‬ولكي ل نضيع ف‬
‫التفاصيل فلنتذكر دائما أن كل حلقة من اللقات الت تعرضها السورة إنا تثل رحلة كل‬
‫نب مع قومه‪ ،‬وتعرضها السورة من خلل خسة عناصر أساسية (إل إذا اقتضت خصوصية‬
‫ما عرض الرواية من خلل بعض عناصرها فقط وليس جيعها) والعناصر الت نتحدث عنها‬
‫وتكاد تتكرر ف قصة كل نب مع قومه هي‪:‬‬
‫‪ -1‬وجود انراف بشري عن خط الرسالة اللية؛ نتيجة لا يزينه الشيطان ف صدور‬
‫أوليائه‪ .‬وإرسال الرسل ‪،‬من ثّ‪ ،‬لتقوي ذلك النراف‪.‬‬
‫‪ -2‬تكذيب القوام الختلفة بالرسلي إليهم‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫‪ -3‬إيقاع ال العذاب بالكذبي‪.‬‬
‫‪ -4‬يترك ال عز وجل ف بيوت الكذبي آية تدل على ما حاق بم من عقاب‪.‬‬
‫‪ -5‬يقيم ال عز وجل الجة علينا حي يأمرنا بالنظر ف اليات واستقاء العبة منها!‪..‬‬
‫وضمن السياق العام للعناصر المسة الت أوردناها فسنجد أن الية (‪ )13‬من سورة‬
‫"العنكبوت" (بداية رسم الصورة الفنية بعد أن كانت الية ‪ 12‬مقدمة موضوعية لبد منها)‬
‫وتتحدث الية (‪ )13‬عن حلقة من حلقات السلسلة الرسالية‪ ،‬وواحدة من تارب الرسل‬
‫على هذه الرض‪ ،‬فهي تتحدث عن رسالة نوح عليه السلم‪:‬‬
‫{ولقد أرسلنا نوحا إل قومه فلبثَ فيهم ألفَ سنةٍ إل خسيَ عاما}‪..‬‬
‫وتنتهي قصة قوم نوح عليه السلم بالديث عن النهاية الأساوية للمكذبي‪:‬‬
‫{‪...‬فأخ َذ ُهمُ الطوفا ُن وهم ظالون}‪...‬‬
‫‪..‬ويتم القصد والغرض من إيراد القصة بأن تطلب اليات من يأت من بعد أن يأخذ‬
‫العبة ما حدث‪ ،‬وان يتعظ باليات الت تُركت ف ديار الكذبي‪:‬‬
‫{فأنيناهُ وأصحابَ السفين ِة وجعلناها آيةً للعالي}!!‪..‬‬
‫ويشي القرآن الكري إل العلمات الت تركها العقاب ف ديار الظالي‪ ،‬وتعل اليات‬
‫الكرية من تلك العلمات معال بارزة ف هذه الرواية وف كل رواية ستأت‪ ،‬فهي تعن‪ :‬العبة‬
‫والعظة‪ ،‬وتعن قيام الجة اللية واستمرارها على اللق أجعي ما بقيت تلك العلمات‬
‫واليات‪ ،‬حيث تقتضي العناية اللية قيام الجة قبل وقوع العقاب‪:‬‬
‫{وما كُنا مُعذبيَ حت نبعثَ رسول}!!‪..‬‬
‫وبعد أن يتم إغلق اللف الول (اللقة الول ف السلسلة) يتم فتح ملف آخر‪ ،‬فإذا‬
‫ما رحنا نقرأه بطريقة تكاملية وجدنا أن له ‪،‬تقريبا‪ ،‬نفس اللمح والتقاسيم‪ ،‬بل وله نفس‬
‫العناصر الساسية الت تدثنا عنها‪:‬‬
‫{وإبراهيم إذ قا َل لقومهِ اعبدوا ال واتقوه‪..}...‬‬
‫وهذا هو العنصر الول من العناصر المسة الت ترسم ملمح الرواية النسانية!‪..‬‬

‫‪39‬‬
‫{فما كان جواب قومه إل أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه} وهذا هو العنصر الثان‪ ..‬حيث‬
‫التكذيب با ييء به الرسل!‪..‬‬
‫وهنا يدر بنا التوقف قليلً لنتعرف على خاصية مهمة يتميز با النص القرآن الكري‪،‬‬
‫وهي الاصية الت كانت سببا ‪،‬ف كثي من الحيان‪ ،‬ف إعاقة العقل البشري ‪،‬بقدراته‬
‫الحدودة‪ ،‬عن التابعة الدقيقة لا يلقيه النص ف الروع من معان‪ ،‬با يشي إل أن "الركة‬
‫التركيبية للنص القرآن الكري هي أسرع ‪،‬وبا ل يقاس‪ ،‬من الركة التفسيية للعقل‬
‫البشري"!‪ ..‬وتشتمل الركة التركيبية الفريدة للنص القرآن على مموعة من عمليات‬
‫التفرع عن الصل الواحد أو ما نطلق عليه بـ البتعاد عن "السياق" الصلي ث العودة إل‬
‫ذلك السياق مرة أخرى‪ .‬ويكمن عجز العقل البشري ف‪ :‬عدم قدرته على التمييز بي نقاط‬
‫التفرع عن الصل ونقاط العودة إليه!!(‪ ..)1‬ما يعل النص (من وجهة نظر العقل) وكأنه‬
‫مموعة غي متجانسة من اليات؛ الت تعطي مموعة غي متناسقة من الشارات‪ ..‬ما ينتج‬
‫عنه ‪،‬ف كثي من الحيان‪ ،‬ضياع اليط الصلي الذي يشد أزر الرواية ويدد اتاهاتا!!‪..‬‬
‫وإذا ما طبّقنا مقولتنا حول "تفرع النص وعودته للتجمع من جديد" على اليات‬
‫الواقعة بي الية رقم (‪ )16‬والية رقم (‪ )23‬من السورة {وإبراهيم إذ قالَ لقو ِمهِ اعبدوا ال‬
‫واتقوه ذلكم خيٌ لكم إنْ كُنتم تعلمون}(الية ‪ )16‬إنا تعبدون من دون ال أوثانا‪)17(...‬‬
‫وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم‪ )18(...‬أول يروا كيف يبدئ ال اللق ث يعيده(‪)19‬‬
‫قل سيوا ف الرض فانظروا كيف بدأ اللق‪ )20(...‬يعذب من يشاء ويرحم من يشاء‪(...‬‬
‫‪ )21‬وما أنتم بعجزين ف الرض‪ )22(...‬والذين كفروا بآيات ال ولقائه أولئك يئسوا من‬
‫رحت‪ )23(...‬فما كان جواب قومه إل أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأناه ال من النار‪)24(..‬‬
‫وبالنظر لليات الشار إليها فسنجد أنا تتحدث عن أمور فرعية ليست من أصل‬
‫الرواية‪ ،‬لكنها ضرورية لرسم ملمها على كل حال!!‪..‬‬

‫‪ )(1‬نعتقد بأن هذا الوضوع يتاج لدراسة منفصلة نظرا لهيته‪ ،‬ولا له من تأثي ف فهم النص أو إعاقة فهمه! إذا ل‬
‫يتم النتباه إل هذه الاصية بشكل كافٍ‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫ولنتابع حركة اليات ف حلقتها الثانية‪ ،‬والت تتحدث عن نب ال إبراهيم‪ ،‬لتكون لنا‬
‫نوذجا هاديا ف كيفية استقراء اليات‪ ..‬ومن استقرائنا لليات التفرعة سنلحظ أمرين ف‬
‫غاية الهية‪:‬‬
‫أولما‪ :‬هو أن التفاصيل الدقيقة الواردة ف تربة نب ال إبراهيم إنا هي مرد مثال‬
‫يكن أن ينطبق على تارب الخرين من أنبياء ال ورسله الكرام‪ ،‬لذا فلن تكون هناك حاجة‬
‫لتكرار ذكرها ف التجارب التية‪.‬‬
‫وثان تلك المور‪ :‬هو أن اليات التفرعة عن السياق الصلي تتوي ف كثي من‬
‫الحيان على إشارات ل يكن فهمها إذا ما انتزعت من سياقها‪ ،‬بل يتأتى ذلك فقط ف حالة‬
‫النظر إليها ضمن السياق العام الذي تطرحه اليات‪ ،‬وهو المر الذي سنقوم به ف سياق‬
‫تعاملنا مع النموذج الذي بي أيدينا‪ ..‬على سبيل الثال فإن الية الكرية‪{ :‬قل سيوا ف‬
‫الرض فانظروا كيف بدأ اللق‪(}...‬الية ‪ )20‬وكذلك الية الكرية {وزين لم الشيطان‬
‫أعمالم فصدّهم عن السبيل وكانوا مستبصرين}((‪ )38‬ل يكن فهمهما إل ضمن السياق‬
‫العام الذي سنخلص إليه ف ناية هذا التحليل!!‪..‬‬
‫وبعد أن يكون التفرع ف قصة إبراهيم قد أبعدنا قليل عن البكة الساسية للقصة؛‬
‫فسنجد النص وقد عاد ليلتحم وليتوحد مع خطه الساسي من جديد‪{ :‬فما كان جواب‬
‫قومه إل أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه‪ ،‬إن ف ذلك لياتٍ لقومٍ يؤمنون}(‪...!!!)24‬‬
‫وهنا وجدنا أن العناصر المسة الت تدثنا عنها آنفا ل تكتمل هنا‪ ،‬ذلك أن الرواية‬
‫ستعود للتفرع مرة أخرى!!‪.‬‬
‫{وقال إنا اتذت من دون ال أوثانا مودة بينكم‪(}...‬الية‪..)25:‬‬
‫بل إن النص الكري يأخذُ منحىً مدهشا وذلك حي يقوم بإيراد تربة أخرى ضمن‬
‫تربة ل ينتهِ الديث عنها بعد!! {فآمن له لوط‪ }..‬وند هنا نوذجا من النماذج التركيبية‬
‫الفريدة‪ ،‬فقد أُشرك لوطٌ وإبراهيم ف حبكة قصصية واحدة‪ ،‬ولعل ذلك بسبب أن زمانما‬
‫واحد‪ ،‬ومكانيهما متقاربان!‪...‬‬

‫‪41‬‬
‫ويستمر الستطراد ف رسم اليوط الثانوية للرواية وذلك من خلل رسم اللمح‬
‫الثانوية(‪ )1‬ف حياة الرسل أنفسهم من حيث هم بشر يتزوجون‪ ،‬ويتناسلون‪{ ،‬ووهبنا له‬
‫إسح َق ويعقوب‪{ )27(}..‬ولوطا إذ قا َل لقومِهِ إنكم لتأتونَ الفاحشةَ‪ )28(}...‬إل أن تلتقي‬
‫الرواية الزدوجة لبراهيم ولوط بنهايتها الطبيعية والتمية‪:‬‬
‫{فما كان جواب قومه إل أن قالوا ائتنا بعذابِ ال إن كنتَ من الصادقي‪ ،‬قال ربّ‬
‫انصرن على القوم الفسدين‪{ )30(}...‬ولا جاءت رسُلُنا إبراهيمَ بالبشرى قالوا إنّا مهلكو‬
‫أهلِ هذه القرية‪{ ..)31(}...‬إنا مُنلون على أهلِ هذه القرية رجزا من السماء با كانوا‬
‫يفسقون}(‪{ )34‬ولقد تركنا منها آيةً بين ًة لقومٍ يعقلون}‪..‬‬
‫وباستقرار آية العقاب ف ديار الالكي تكون العناصر المسة للرواية قد اكتملت‪،‬‬
‫عندما ترك ال عز وجل اليات لقوم يعقلون!!‪...‬‬
‫وبعد كل هذا الستطراد ف رسم ملمح قصة إبراهيم ولوط مع قومهما‪ ،‬يكون القرآن‬
‫الكري قد أكمل ثلث حلقات من السلسلة الرسالية (نوح‪ ،‬وإبراهيم‪ ،‬ولوط)‪ ...‬لينتقل‬
‫النص ‪،‬بعد ذلك‪ ،‬إل حلقة جديدة هي قصة أهل مدين ونبيهم شعيب‪ ..‬وف هذا يقول عز‬
‫من قائل‪{ :‬وإل َمدَْينَ أخاهم شُعيبا‪(}...‬الية‪{ ...)36:‬فكذّبوه فأخذتمُ الرجفةُ فأصبحوا ف‬
‫دارهم جاثي}(الية‪...)37:‬‬
‫ولدهشتنا فإن قصة شعيب مع قومه تنتهي بسرعة‪ ،‬حت دون أن تكتمل عناصرها‬
‫المسة‪ ،‬بل يُعطف عليها (وبكلمات معدودة) قصة عاد وثود‪ ،‬والت تأت ‪،‬هي كذلك‪ ،‬ف‬
‫منتهى الختصار‪ ،‬لنفاجأ بالعودة إل عنصر رئيس من عناصر كل رواية أل وهو النهاية‬
‫التمية‪ ،‬تلك النهاية الت تنطبق هنا على اللقتي والقصتي معا‪:‬‬
‫{وعادا وثودا وقد تبي لكم من مساكنهم‪..)38(}...‬‬
‫ولعل المع بي اللقتي ف رواية واحدة قد جاء نتيجة لشتراكهما ‪،‬هذه الرة‪ ،‬ف‬
‫نوع العقاب الذي أوقعه ال بما!!‪..‬‬

‫‪ )(1‬هي ملمح ثانوية قياسا على بنية الرواية القرآنية‪ ،‬وقياسا على الط الصلي الذي تتحدث عنه‪ ،‬ول يعن ذلك‬
‫ثانوية الوضوعات الت تتحدث عنها‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫ومشهد غريب هو ذلك الذي تنتهي به الية (‪!! )38‬‬
‫{وعادا وثودا وقد تبي لكم من مساكنهم وزََينَ لم الشيطانُ أعمالَهم‬
‫فصدّهم عن السبيل وكانوا مستبصرين}(‪)38‬‬
‫فبشكل خاطف وجدنا اليات تنعطف انعطافا حادا لتتحدث عن الشيطان وزينته الت‬
‫يوقع الناس من خللا ف شرّ أعمالم‪ ،‬دون أن يكون السياق العام لليات يوحي أو ينبئ‬
‫بذه النعطافة الفاجئة‪ ،‬ولتنتهي الية بشكل أكثر غرابة {فصدّهم عن السبيلِ وكانوا‬
‫مُستبصرين}(‪..)38‬‬
‫وكأن اليات تسخر من أولئك الذين وقع العقاب عليهم‪ ،‬حيث كانوا منقادين إل‬
‫أقدارهم بعيون مفتوحة‪ ،‬دون أن يكونوا قادرين على رؤية الخطار الت كانت مدقة بم‪..‬‬
‫إذ ل يكونوا مبصرين!‪ ..‬بل كانوا مستبصرين‪ ،‬أي مر ّد مدّعي بصية!!‪...‬‬
‫ولنلحظ أنه ل تكن هناك حاجة لبراز العنصر الامس من عناصر هذه الرواية الشوقة‬
‫(المر بالنظر ف اليات الت أبقاها ال ف بيوت الظالي) وذلك لسبب غاية ف البساطة! إذ‬
‫ل تعد تلك اليات والعلمات قادرة على الثبات والبقاء ف وجه عوامل الزمن‪ ،‬وعوامل‬
‫التعرية اليولوجية‪ ،‬وكل العوامل الخرى الت يكسبها النسان بيديه!‪ ...‬فحيث يتطاول‬
‫الزمن فتنهد له البال هدا‪ ،‬وحيث تنكشف الرض كل يوم عن وجه جديد‪ ،‬وحيث يسلب‬
‫النسان أخاه النسان قدرته على التحرك برية فتتاح له فرصة النظر ف اليات‪ ..‬ساعتها‬
‫يكون النسان قد سُلب ‪،‬عمليا‪ ،‬قدرته على النظر ف اليات النتشرة ف أرجاء الرض!‪..‬‬
‫ما يترتب عليه سؤال ف غاية الهية‪:‬‬
‫هل تسقط ‪،‬والالة هذه‪ ،‬حجة ال على الناس‪ ،‬وهو الكم‪ ،‬العدل‪ ،‬الذي يقول ف‬
‫مكم التنيل‪{ :‬وما كُنا مُعذبي حت نبعثَ رسول}؟!!…‬

‫‪43‬‬
‫من هنا فإن تأمل للنموذج الخي الذي عرضناه (مدين‪ ،‬وعاد‪ ،‬وثود) يكاد يكشف‬
‫عن قرب طرح الفاجأة الت تكاد تلجم الفواه‪ ،‬بل تكاد تذهب بالعقول؟!! لكن وقبل ذلك‬
‫كله تأت اليات بلقة أخية متصرة (تربة نب ال موسى عليه السلم مع كل من قارون‬
‫وفرعون وهامان)‪ ،‬لتأت اليات بعد ذلك بإجال لهم وأبرز ما ت عرضه ف اللقات‬
‫السابقة؛ كلون من ألوان العرض الخي قبل طرح الفاجأة‪:‬‬
‫{وقارونَ وفرعونَ وهامان‪ ،‬ولقد جاءهم موسى بالبيّناتِ فاستكبوا ف الرض‬
‫وما كانوا سابقي}‪..‬‬
‫ونلحظ هنا أن اليات الكرية ل تد حاجةً لستكمال العناصر المسة؛ بل اكتفت‬
‫بإيراد جزءٍ منها‪ ،‬ذلك أنه ل فائدة من طرح عناصر لن يكون لا فائدة عملية ف حياة‬
‫الناس! فاليات قد ذهبت‪ ،‬والشواهد قد اندثرت‪ ،‬والدلئل كلها انقرضت‪ ،‬فماذا يكون‬
‫حال الناس؟‬
‫‪..‬لكن وقبل أن تُطرح الكلمةُ الفصل؛ فإن القرآن الكري يمل كل ما تقدم من نايات‬
‫أليمة ف حياة القوام السالفي بالقول‪{ :‬فكلً أخذنا بذنِبهِ‪ ،‬فمنهم من أرسلنا عليهِ حاصبا‪،‬‬
‫ومنهم من أ َخ َذْتهُ الصيحةُ‪ ،‬ومنهم منْ خسفنا به الرضَ‪ ،‬ومنهم من أغرقنا‪ ،‬وما كانَ الُ‬
‫ليظلمهم ولكن كانوا أنفسَهُم يظلمون}(الية‪.)40:‬‬
‫وهنا تأت مفاجأة هذه السورة؟؟!!‬
‫لتوضح لنا سر ذلك الختيار العجيب لتلك الشرة؛ كي تكون مورا تدور حوله‬
‫أحداث السورة وتكون اسا لا‪:‬‬
‫{مثل الذين اتذوا من دون ال أولياء كمثل العنكبوت اتذت بيتا}(الية‪..)41:‬‬

‫‪44‬‬
‫والصورة التمثيلية الرسومة ابتداء من الية (‪ )41‬إنا يقصد من ورائها أن تكون صورة‬
‫فنية تقابل أختها الت رستها اليات الحصورة بي اليات(‪ )40-14‬وعليه؛ فهي ليست مرد‬
‫إشارة عابرة ككل الشارات الت سبقتها‪ ..‬بل قصد منها أن تكون خلصة اللصات‪،‬‬
‫وناية النهايات‪ ،‬وعبة العب!… فمن ل تالفه قدرته وأقداره على النظر ف اليات الت‬
‫تركها ال ف بيوت الظالي ‪،‬لي سبب كان‪ ،‬فإن حجة ال عز وجل لن تسقط عنه‪ ،‬ذلك‬
‫أن ال عز وجل (كرما منه ورحة) قد بثها كاملة غي منقوصة ف بيت العنكبوت!!‬
‫فمن منّا من ل يرّ العنكبوت من قبل (يقابله الشيطان)؟!‪..‬‬
‫من منا من ل يرَ الشرات الخدوعات (يقابلها أولياء الشيطان) وقد تايلت لا زينة‬
‫بيت العنكبوت من بعيد (يقابلها ما يزينه الشيطان لوليائه)‪..‬‬
‫ومن منا من ل يلمح الشرة وهي تقترب مبصرةً على غي بصية (وكانوا مستبصرين)‬
‫إل أن تقع ف حبائل العنكبوت وزينته (حبائل الشيطان بالنسبة للنسان)؟؟‬
‫ومن منا من ل يأتِ بيت العنكبوت بعد عدة أيام ليشاهد فيه آيات العذاب الت حلت‬
‫بالخدوعي!!‬
‫إن التأمل ف سورة العنكبوت يكشف عن عمق اللحمة الت ترسها هذه السورة‪ ،‬والت‬
‫هي عينها ملحمةُ مستمرة تؤرخ لنضال الرسل ومآل الرسالت‪..‬‬
‫وآية العنكبوت(‪ )1‬هي تلخيص معجز وبليغ لتلك النتيجة‪ ..‬والت تفيد أمرا واحدا ف‬
‫غاية البلغة والهية أل وهو أن حجة ال على عباده كانت‪ ،‬ول زالت‪ ،‬وستبقى قائمة!‪..‬‬

‫ومن أراد أن يتأكد فلينظر إل بيت العنكبوت!!‬

‫‪ )(1‬أخرج أبو داود ف مراسيله عن يزيد بن مرثد قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬العنكبوت شيطان‬
‫مسخها ال فمن وجدها فليقتلها"‪ .‬وأخرج ابن أب حات عن مزيد بن ميسرة قال‪ :‬العنكبوت شيطان‪ .‬وروى‬
‫القرطب ف تفسيه عن علي أيضا أنه قال‪ :‬طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه ف البيت يورث الفقر‪.‬‬

‫‪45‬‬
46
‫النموذج الثالث‬
‫بي خلق الرض ودحوها‪ ..‬اللقة الفقودة!!(‪)1‬‬
‫من خلل نوذج قرآن آخر؛ نواصل حديثنا عن‬
‫الضرورة القصوى الت تقضي بالنظر إل آيات القرآن‬
‫الكري نظرة تكاملية شاملة‪ ،‬بيث يتسن لقارئ‬
‫القرآن أن يتمتع با تتضمنه تلك اليات من جوانب‬
‫فنية؛ يهددها الضياع إن ل يتم النظر إل اليات‬
‫الكرية من خلل هذا النهج التكاملي والشمول‬
‫الذي نتحدث عنه‪..‬‬
‫والنموذج الثالث الذي نتحدث عنه هنا يتناول قضية خلق الرض‪ ،‬وهي السألة الت‬
‫تعرض لا القرآن الكري ف عددٍ كبيٍ من آياته‪ ،‬حيث جاء الكثي منها مُجمل‪ ،‬بينما جاء‬
‫البعض منها مُفصل‪ .‬ومن بٍديع ما قيل ف شأن خلق الرض وتكونا ما تناولته اليات الت‬
‫نن بصددها‪ ،‬حيث يقول عز من قائل‪:‬‬
‫{أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها‪ ،‬رفع سكها فسواها‪ ،‬وأغطش ليلها وأخرج‬
‫ضحاها‪ ،‬والرض بعد ذلك دحاها}(النازعات‪.)31-28:‬‬
‫وتفاجئنا اليات بترتيب حلقاتا‪ ،‬وتدهشنا بشدة رونقها وروعة ألقها وجالا؛ ذلك أنا‬
‫‪،‬ورغم كونا موجهة بشكل أساسي للحديث عن خلق الرض؛ إل أنا ل تدخل إل صميم‬
‫الوضوع بصورة مباشرة!‪ ..‬لكنها التفت على هذا المر التفافا لفتا فيه الكثي من العجب‬
‫والدهاش‪ .‬فعلى الرغم من أن الوضوع الساسي ف هذه اليات هو الديث عن خلق‬
‫الرض؛ إل أن الرض ل تشكل الولوية الول ف الطرح! إذ ابتدأت اليات بالديث عن‬
‫خلق السماء‪ ،‬وعن العجاز ف خلقها على الصورة الت هي عليها وذلك بقوله عز وجل‪:‬‬
‫‪ )(1‬منشور على موقع "موسوعة العجاز العلمي ف القرآن الكري والسنة" وكذلك ف العدد (‪ )43‬من ملة‬
‫"الوحدة السلمية" الصادرة ف بيوت‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫{أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها‪ ،‬رفع سكها فسواها‪ ،‬وأغطش ليلها وأخرج ضحاها}‬
‫وعلى عكس ما قد يتبادر إل الذهن فإن الديث هنا ل يدور عن السماء بعناها‬
‫‪2‬‬
‫الشامل( ) والت تضم بي جنباتا النجوم والكواكب؛ وهو العن عينه الذي تناولته آيات‬
‫أخرى مثل‪{ :‬ولقد زينا السماء الدنيا بصابيح وجعلناها رجوما للشياطي} نقول‪ :‬بأن العن‬
‫ف اليات الت نن بصددها {أم السماء بناها} إنا تتحدث عن مضمون للسماء متلف‬
‫تاما‪ ،‬فهي تتناول السماء بعن "الغلف الوي"‪ ،‬حيث تعتب السماء بذا العن (الغلف‬
‫الوي) جزءا من الرض وليس شيئا مستقلً خارجا عنها!!‪..‬‬
‫ول يعنينا هنا الدخول ف تفاصيل الية بقدر ما يعنينا إظهار اللتفاتة المالية الكرية‬
‫فيها‪ ..‬فكما نرى فإن الية بدأت توصيفها للرض وخلقها بالديث عن بناء السماء‬
‫(الغلف الوي)! {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها‪ }...‬لتعرج بعد ذلك على الوضوع‬
‫الصلي أل وهو خلق الرض ذاتا‪:‬‬
‫{والرض بعد ذلك دحاها‪ ،‬أخرج منها ماءها ومرعاها‪ ،‬والبال أرساها}‬
‫ومن عجيب هذه اليات أنا تتحدث عن {الرض بعد ذلك} لكنها ل تفصح لنا عن‬
‫حال الرض "قبل ذلك"؟!!‬
‫وكأنا تقفز عن حلقة هامة من تاريخ هذا الكوكب الميل‪ ،‬لجل أن يلها النسان‬
‫بعلمه وبفكره وخياله؛ أو أن يكتشفها من خلل إنازاته العلمية على امتداد العصور؛ حيث‬
‫تكن النسان أخيا من اكتشاف الكثي من التفاصيل الديدة حول خلق الرض والكيفية‬
‫الت ت ذلك اللق وفقها‪..‬‬
‫ولستجلء بعض مقاصد القرآن الكري من وراء هذا الوصف الغريب لتاريخ خلق‬
‫الرض وتكونا؛ فعلينا أن نعرض بقليل من التفصيل إل نظرة النسان للرض على مر‬
‫العصور‪ ،‬حيث رآها النسان القدي تنبسط أمامه فسماها البسيطة! وما درى أنا عندما‬
‫تطول على سطحها السافات فإنا تتكور!‬

‫‪ )(2‬سيتم تناول هذا المر بشكل تفصيلي ف موضوع "ظاهرة النسبية ف القرآن الكري"‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫إل أن النسان بدأت تتجمع لديه ف عصوره التأخرة أدلة كثية تشي إل "كروية"‬
‫الرض؛ ومع ذلك فقد واجهت النسان ‪،‬ف عصوره الول‪ ،‬صعوبة بالغة للقتناع بتلك‬
‫القيقة‪..‬‬
‫وعلى الرغم من أن بعض فلسفة الغريق كانوا قد قالوا بدوران الرض إل أن الناس‬
‫قد ظلوا غي مصدقي‪ ،‬وظلوا على غي قناعة بركة الرض ودورانا حول نفسها؛ لدة ألفي‬
‫سنة إضافية! أي إل أن جاء العال البولندي "كوبرنيكس" ف القرن السادس عشر فأحيا‬
‫النظرية القدية‪.‬‬
‫على أن نظرية "كوبرنيكس" (والقائلة بدوران الرض حول نفسها) ل تشِع شيوعا‬
‫كبيا إل عندما جاء العال "جاليليو" فكشف الكثي من القائق الت عززت تلك النظرية‪،‬‬
‫وقد بقيت تلك القيقة (دوران الرض حول نفسها) ف حكم النظرية إل أن ت إثباتا‬
‫بطريقة عملية على يد عال الفيزياء الفرنسي "فوكو" وقد استغرق البشرية مئات السني‬
‫لتبدأ قناعة الناس بكروية الرض!‪..‬‬
‫لكن ما كادت نظرية "كروية الرض" تستقر حت عادت إل الهتزاز من جديد! فقد‬
‫تبي ‪،‬لحقا‪ ،‬أن تلك الكروية ليست كاملة التكور! وأن الشكل القيقي للرض إنا هو‬
‫بيضاوي وليس كروي!‪...‬‬
‫لكن كيف تدث القرآن الكري عن هذا المر قبل تلك الساجلت بئات السني؟!‬
‫كما بينّا فقد ابتدأت اليات ‪،‬الت نن بصددها‪ ،‬الديث عن (السماء وبنائها) ول تبدأ‬
‫بالديث عن الرض ودحوها‪ ..‬أي جعلها بيضاوية(‪ ..)1‬والدقق ف اليات يدها تروي‬
‫قصة كوكب الرض ف بداية تكونه وتلقه‪ ،‬إل أن تلك الرواية غلفتها بعض العناصر الفنية!‬

‫‪ )(1‬توضح العاجم اللغوية أن كلمة دحاها تؤدى معن أنه جعلها كالدحية أي كالبيضة لن الدحوة معناها بيضة‬
‫النعام أو مكان بيض النعام ويكون عادة مستدير الشكل‪ ،‬ول شك أن هذا يطابق شكل الرض القيقي الذي تدل‬
‫عليه الباهي النظرية والعملية‪ ،‬كما تؤكده الصور الت سجلتها آلت التصوير أثناء رحلت القمار الصناعية ف‬
‫الفضاء‪ ،‬ولفظ دحا يدل على شيئي ها البسط مع التساع والتكوير ف التكوين‪ ،‬وهذه روعة ف التعبي عن أن‬
‫الرض الت نراها أمامنا ف الظاهر مبسوطة فسيحة الرجاء هي ف واقع المر مستديرة كالبيضة‪ ،‬وهذا تقدير‬
‫العزيز الكيم الذي أتقن كل شئ خلقه‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫فقد أغفلت تلك الرواية حلقتي من سلسلة حلقات خلق الرض‪ ،‬أما اللقة الول‬
‫الفقودة فهي تلك التعلقة بالوضوع الساسي (خلق الرض) وكما أسلفنا فقد ابتدأت‬
‫اليات حديثها عن السماء وليس عن الرض‪ ،‬وهذه اللقة مفهومة ضمنا!‪..‬‬
‫أما اللقة الثانية الفقودة فهي تتعلق بالالة الت كانت عليها الرض قبل أن يدحوها‬
‫ال عز وجل! فاليات تتحدث عن {والرض بعد ذلك دحاها} وبذا تكون قد أغفلت‬
‫الالة الت سبقت "ذلك" ول تعطنا اليات فكرةً عما كانت عليه الرض "قبل ذلك"؟!‪.‬‬
‫وكأن اليات قد اختصرت جزءا كبيا من الرواية الت نن بصددها‪ ،‬وذلك عندما تدثت‬
‫عما آلت إليه حال الرض (إل الشكل البيضاوي) دون الديث عما كانت عليه (الشكل‬
‫الكروي) ذلك أن القرآن الكري قد ترك للنسان مهمة استكمال بعض اللقات الفقودة‪،‬‬
‫من خلل ما يبلغه ف شت مالت العلوم!‪...‬‬
‫وفيما يلي ناول إلقاء بعض الضوء على اللقة الفقودة؛ وذلك بالستعانة ببعض‬
‫الفاهيم الفيزيائية الديثة‪ ،‬والت ستوضح لنا الكيفية الت تولت الرض من خللا الرض‬
‫من شكلها الكروي إل شكلها البيضاوي!!‪..‬‬

‫الشمس أصل للكواكب جيعا‬


‫هناك نظريات شت تتحدث عن الكواكب السيارة ونشأتا‪ ،‬وهي تتفق على أن الشمس‬
‫إنا هي أم للكواكب الت نعرفها وأصل تكوّنا!‪ ..‬ومن هذا النظور فإن الرض إنا هي‬
‫إحدى بنات الشمس!‪.‬‬
‫ومن النظريات الت حاولت تفسي نشأة الكواكب‪ :‬نظرية "التصادم"؛ وتفترض هذه‬
‫النظرية اصطدام جرم ساوي بالشمس؛ ما نتج عنه تناثر بعض الادة الشمسية النصهرة‬
‫حولا‪ ،‬وقد استمرت تلك الجزاء التناثرة ف الدوران حول الشمس (با للشمس من تأثي‬
‫جاذب) وقد تبن هذا الرأي العال الفرنسي الكونت "دي بيفون"‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫أما نظرية "النكماش الشمسي" ومبتدعها الفيلسوف اللان "عمانويل كنت" فقد‬
‫زعمت أن أصل منشأ الكواكب هو الشمس بالفعل‪ ،‬لكن دون حدوث تصادم؛ وتزعم هذه‬
‫النظرية أن الكواكب السيارة قد نشأت نتيجة البود التدريي للشمس وتقلص حجمها‪.‬‬
‫وأيا كانت القيقة حول الكيفية الت تكونت الجموعة الشمسية وفقها؛ فإن هناك شبه‬
‫اتفاق على أن أصل تلك الكواكب إنا هو الشمس بالفعل‪ ،‬وأن الكواكب أول ما تكونت‬
‫كانت مادة منصهرة‪..‬‬
‫لكن ما الذي يعنيه كل هذا؟!‪..‬‬
‫قبل أن نيب على السؤال الطروح دعونا نتوقف عند تساؤل من نوعٍ آخر‪ :‬هل‬
‫شاهدت ذات مرة قطرة ماء وهي تسقط من فوهة الصنبور؟ أو قطرة الزئبق وهي تتدحرج‬
‫على سطحٍ أملس وكأنا كرة من معدن؟‪ ...‬فإذا كنت ‪،‬عزيزي القارئ‪ ،‬قد شاهدت ذلك‬
‫بالفعل فالمر يتاج إل تعليل؛ فلماذا اتذت قطرة الاء وقطرة الزئبق الشكل الكروي ول‬
‫تتخذ أي شكل آخر؟!‪...‬‬
‫إن الجابة عن هذا السؤال يقدمها لنا علم الفيزياء؛ حيث من العلوم أن الواد ‪،‬بشكل‬
‫عام‪ ،‬ترتبط جزيئاتا فيما بينها بقوى تسمى "قوى التماسك" وتكون قوى التماسك تلك‬
‫أكب ما يكن ف الواد الصلبة؛ وتكون أقل ما يكن ف الغازات‪ ،‬بينما تكون متوسطة القوة‬
‫ف الواد السائلة‪..‬‬
‫من ناحية أخرى تتأثر جزيئات الواد السائلة بنوع آخر من القوى؛ والت تدعى "قوى‬
‫التلصق" وهي القوى التبادلة بي سطحي غي متجانسي‪ ،‬كالاء والواء‪ ،‬أو الاء وجدران‬
‫الكأس الذي يوي الاء على سبيل الثال‪ .‬وهذا النوع من القوى هو التسبب ف جعل سطح‬
‫الاء ف الكأس ل يكون مستويا تاما‪ ،‬بل يرتفع عند الوانب وينخفض ف الوسط!!‪..‬‬

‫‪51‬‬
‫وف كل من حالت قطرة الاء وقطرة الزئبق فإن قوى التماسك "الشدّ" بي جزيئات‬
‫الادة نفسها تكون أكب من القوى التبادلة بي جزيئات الادة وما يلمسها من هواء‪ ،‬فتكون‬
‫مصلة ذلك نشوء توتر ما داخل قطرة السائل؛ وتدعى قوى التوتر تلك بـ "التوتر‬
‫السطحي"‪ ،‬وهذا يعن أن تاول قطرة السائل النكماش على نفسها؛ وتقليل مساحة‬
‫سطحها إل أقل مساحة مكنة‪ ،‬ويعتب الشكل الكروي شكل مثاليا ف هذه الالة‪ ،‬إذ أنه‬
‫القل مساحة سطح بي الشكال الخرى‪ ..‬وهو ما يفسر ميل القطرة السائلة لن تتخذ‬
‫شكل الكرة!!‪..‬‬
‫إننا ومن خلل هذا الدخل نكون قد وصلنا إل ما نريد الوصول إليه‪ ..‬وهو أن‬
‫كوكب الرض إنا كان ف أول نشأته وانفصاله عن الشمس على هيئة صهي اتذ شكل‬
‫الكرة كاملة الكروية‪ ،‬والت كان شكلها بالضبط كشكل قطرة الاء الساقطة من فوهة‬
‫الصنبور!‪..‬‬
‫لكن ما الذي حدث بعد ذلك لتتحول الرض عن كرويتها‪ ،‬ولتصبح بيضاوية؟!‬
‫وليصبح طول الحور الواصل بي قطبيها الشمال والنوب يعادل ‪ 7900‬ميل‪ ،‬فيما قطرها‬
‫الستوائي (وهو التعامد على الحور الول) طوله ‪ 7926‬ميل‪ ،‬بعن أن‪ :‬القطر الستوائي‬
‫يزيد على القطر القطب بقدار ‪ 26‬ميل؟!‪..‬‬
‫ولتفسي هذا التباين بي أطوال قطب الكرة الرضية فلبد من الستعانة ‪،‬مرة أخرى‪،‬‬
‫بأحد قواني علم الفيزياء‪ ،‬وهو قانون "القوى الطاردة الركزية" فمن العلوم أن كل جسم‬
‫يدور حول مركزه (مثل الكرة الرضية) فإنه يكتسب قوة‪ ،‬وتعمل تلك القوة على طرد‬
‫كتلة الرض بعيدا عن الركز وباتاه الطراف‪ ،‬يشبهها ف ذلك أنك إذا ما أمسكت طرف‬
‫خيط ف نايته ثقل وبدأت تركه حركة دورانية فإن اليط يبدأ بالستقامة‪ ،‬ويبدأ الثقل‬
‫بالدوران حولك؛ ماول الفلت منك‪ ،‬وإذا ما حدث ذلك فإن الثقل الربوط باليط سوف‬
‫يطرد نفسه بعيدا عنك بفعل القوة الت اكتسبها‪..‬‬

‫‪52‬‬
‫وبتطبيق قانون "القوة الطاردة الركزية" على حالة الرض الدوارة فإن ميط الرض‬
‫عند خط الستواء يكون النطقة الشد تعرضا لتأثي القوة الطاردة الركزية‪ ،‬بينما تقل تلك‬
‫القوة كلما اتهنا ناحية القطبي‪ ،‬إل أن تنعدم عند القطبي ذاتما‪ .‬ونتيجة لتلك القوة فإن‬
‫الثقال عند خط الستواء تكون مدفوعة إل الارج بقوة أكب من تلك الوجودة عند‬
‫القطبي؛ ما يعن اندفاع مادة الرض نو الارج‪ ،‬ويكون ذلك الندفاع أكب ما يكن عند‬
‫خط الستواء وشبه معدوم عند القطبي‪ ،‬وتكون النتيجة زيادة ف طول القطر الستوائي‬
‫للرض وانضغاط القطر القطب ف الوقت ذاته؟!‪..‬‬
‫وإذا ما أضفنا إل ذلك حقيقة أن سرعة دوران الرض حول نفسها عند نشأتا كانت‬
‫أضعاف سرعتها الالية! حيث كانت الرض ف ذلك الوقت تكمل دورتا حول نفسها ف‬
‫زمن قدره أربع ساعات فقط! عوضا عن أربع وعشرين ساعة ف يومنا هذا‪..‬‬
‫وإذا ما وضعنا ف اعتبارنا أن الرض وقت نشأتا كانت مثل كرة من عجي‪ ،‬مادتا‬
‫الصخر النصهر‪ ،‬قبل أن تتجمد قشرتا‪ ،‬فإن هذا يعن أن قوى الطرد الركزي ف ذلك‬
‫الوقت كانت تعادل القوى الالية عدة أضعاف‪ ..‬وهنا يكننا أن نتخيل تأثي قوى الطرد‬
‫الركزي على كرة من الصخور النصهرة الت اتذت لنفسها شكل الكرة‪ ..‬لقد كانت‬
‫نتيجة ذلك أن أصبحت الرض بيضاوية بعد أن كان كروية!‪.‬‬
‫إن هذا التحول الغريب ف حياة الرض ل يرصده بذا الشكل الفن الرائع إل القرآن‬
‫الكري؛ حيث لص الالة كلها تلخيصا معجزا عندما قال جل وعل‪{ :‬والرض بعد ذلك‬
‫دحاها} فهذه العبارة؛ وعلى الرغم من قصرها ومدودية عدد كلماتا إل أنا تتوي على‬
‫معنيي إعجازيي‪:‬‬
‫الول‪ :‬وهو ظاهر ويتحدث عن بيضاوية الرض‪ ،‬واستقرارها على ذلك الال‪.‬‬
‫الثان‪ :‬فهو معن متفِ بشكل مكمٍ لطيف‪ ،‬حيث ت الديث عن أن الرض ‪،‬وقبل أن‬
‫تصبح بيضاوية‪ ،‬كانت على حالة أخرى‪ ،‬فجاءت بيضاويتها لتكون {بعد ذلك} أي بعد‬
‫ذلك الال الذي كانت عليه ف بداية تلقها!!‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫فسبحان ربنا ف كل ما خلق‪ ،‬إليه أنبنا‪ ،‬وهو رب العرش العظيم‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫ظاهرة النسبية ف القرآن الكري‬

‫ما الذي أردنا قوله ف هذا البحث؟‬

‫(عند نظرنا ف آيات القرآن الكري‪ ..‬لاذا‬


‫نتكم للمعان الصطلحية القريبة والشائعة‬
‫وحدها‪ ..‬ول نتكم إل جلة العان اللغوية‬
‫الحتملة للفظ؟!‪..‬‬
‫إن أخذ جلة العان اللغوية "المكنة"‬
‫و"الحتملة" و"التاحة" للفظ معي بالسبان‬
‫(وهي متعددة كما تبي ذلك معجمات‬
‫اللغة) إنا يفتح آفاقا جديدة للنفتاح على‬
‫النص الكري)‬

‫‪55‬‬
‫بي يدي الظاهرة‬

‫مع ازدياد تعقيدات الياة وتشعباتا تزداد حاجتنا لفهم أنفسنا‪ ،‬ولفهم الواقع من حولنا‪،‬‬
‫وهي الهمة الت يكن أن نوكلها لنفسنا بدارة إن نن أحسنا التعامل مع كتاب ال تعال‪،‬‬
‫لكن ذلك التعامل يتاج منا إمعان نظر‪ ،‬بيث ل تبقى معارفنا الدينية مرد تكرار لعارف‬
‫آبائنا وأجدادنا(‪..)1‬‬
‫ولدى تعننا ف آيات كتاب ال فقد جذب انتباهنا جانب اعتبناه ف حينه جديرا‬
‫بالدراسة‪ ،‬بل اعتقدنا بأنه يفي خلفه ظاهرة أصيلة من الظواهر الت يوحي با النص القرآن‬
‫الكري‪ ،‬وتلك الظاهرة هي "ظاهرة النسبية"‪ ..‬لكن وقبل أن نوض ف أمر تلك الظاهرة ؛‬
‫فلبد من بعض التقدي بي يديها‪..‬‬

‫القرآن‪ :‬كلمُ ال‬


‫يُعرّف القرآن الكري بأنه "كلمُ ال العربّ الثبت ف اللوح الحفوظ للنزال‪ ،‬ث النّل‬
‫بواسطة جبيل المي على سيدنا ممد(صلى ال عليه وسلم) للهداية والعجاز‪ ،‬وهو النقولُ‬
‫إلينا بالتواتر؛ والكتوب ف الصاحف"‪.‬‬
‫وف تعريف مبسط له يكن القول بأنه‪:‬‬
‫"كلم ال النّل على ممدٍ (صلى ال عليه وسلم)؛ التعبد بتلوته"‪.‬‬
‫والقرآنُ لغةً‪ :‬مشتقٌ من مادة الفعل "قرأ"(‪ )2‬والذي يأت بعن‪ :‬المع والضمّ‪.‬‬

‫‪ )(1‬هنا يثل أمامنا أحد التحديات الت تواجه العقل السلم ف عال اليوم‪ ..‬وحسب اعتقادنا فإن القيمة النهجية‬
‫للنص القرآن ف عال اليوم ل تقل أهية عن الفوائد الخرى الت يكن أن ينيها السلم لدى قراءته للقرآن‪ ،‬فللنص‬
‫القرآن قدرة عجيبة على إعادة بناء منهجية العقل‪ ،‬لا يتلكه النص الكري من سات تعل منه النص الوحيد ذا‬
‫السمات الطلقة القابلة للقياس عليها‪.‬‬
‫‪ )(2‬قرأ الشيء‪ :‬جعه وضم بعضه إل بعض‪ .‬قرأ قراءةً وقرآنا‪ ،‬واقترأ الكتاب‪ :‬أي نطق بالكتوب فيه أو ألقى النظر‬
‫عليه وطالَعَه‪ ،‬أقرأَ الرجلَ‪ :‬أي جعله يقرأ‪ .‬استقرأ فلنا‪ :‬أي طلب إليه أن يقرأ‪ ،‬واستقرأ المور‪ :‬أي تتبعها لعرفة‬
‫أحوالا وخواصها‪(.‬النجد ف اللغة والدب والعلوم‪،‬ص ‪.)616‬‬

‫‪56‬‬
‫والقراءةُ هي‪ :‬ضمّ الروفِ والكلماتِ إل بعضها‪ .‬والقرآن ف الصل كالقراءة‪ ،‬مصدر‪:‬‬
‫قرأ؛ قراءة؛ وقرآنا‪ .‬قال تعال‪{ :‬إنّ علينا جعه وقرآنه‪ ،‬فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}(القيامة‪-17:‬‬
‫‪ )18‬أي قراءته‪ .‬وهو مصدرٌ على وزن "فُعلن" (بالضم) كالغُفران‪ ،‬والشُكران‪ .‬تقول‪:‬‬
‫قرأته قرءا وقُرآنا‪ ،‬بعن واحد‪.‬‬
‫ويُطلقُ "القرآن" بالشتراك اللفظي على مموع القرآن‪ ،‬وكذلك على ك ّل آيةٍ من آياته‪،‬‬
‫فإذا سعتَ من يتلو آيةً من القرآن الكري صحّ أن تقول‪ :‬إنه يقرأُ القرآن‪ ،‬مثال ذلك قوله‬
‫تعال‪{ :‬وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}(العراف‪.)204:‬‬
‫وقد ذُكر كذلك بأن تسميته "قرآنا" إنا جاءت لم ِعهِ ثرةَ كتبِ ال كلِها‪ ،‬ولم ِعهِ ثرةَ‬
‫جيعِ العلوم‪ ،‬كما أشار إل ذلك قوله تعال‪:‬‬
‫{ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء}(النحل‪..)89:‬‬
‫وقد سُمي القرآنُ "قرآنا" كونه متلوا باللسنة‪ ،‬كما روعي ف تسميته "كتابا" كونه‬
‫مدونا بالقلم‪ .‬وللعلماء ف تعريفِ "القرآن" قولً ييزه عن غيه من الكتب النّلة‪ ،‬فهو‬
‫(كلمُ ال النّل على ممد(صلى ال عليه وسلم)‪ ،‬التعبد بتلوته)‪.‬‬

‫إعجازُ القرآن الكري وسح ُر بيانه‬


‫وللقرآن الكري وجوه من العجاز الت ل تعد ول تصى بيث تعجز الكلمات عن‬
‫الحاطة بكل تلك الوجوه‪ ،‬لكنّ بعضا من الكلمات الت أوجزت ف وصفه تناولت "الغاية‬
‫الوضوعية" الت جاء القرآن الكري لجل تقيقها‪ ،‬فهو ‪،‬من هذا التناوَل‪ ،‬حجةُ ال على‬
‫العالي‪ ،‬والستندُ الكبُ لشريعة السلم‪ ،‬وبثبوت حجة ال على البشر ثبتت الجةُ بضرورة‬
‫العمل‪..‬‬
‫وقد ثبتت حجةُ ال على البشر بثبوتِ إعجاز القرآن الكري لكل من تداهم ال من‬
‫العقلء‪ ،‬وهذه الجة ل تقتصر على من نزل القرآن الكري فيهم ف العصر الول للنبوة‪ ،‬بل‬
‫ثبتت كذلك ف حق من نُقل إليهم فيما بعد ‪،‬بالتواتر‪ ،‬وإل يومنا هذا‪ .‬وقد ثبتت حجة ال‬
‫عزّ وجلّ على البشر بثبوت عجزهم أمامه وحيتم ف مواجهته‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫و"العجز" حسبما هو مُتعارفٌ عليه‪ :‬اسمٌ للقصور وعدم الستطاعة عن فعل الشيء‪.‬‬
‫وهو ضد "القدرة"‪ ،‬وإذا ثبت العجاز ظهرت قدرة الُعجِز‪ ،‬ويكون الدف من العجاز‪:‬‬
‫إظهارُ صدق النبّ (صلى ال عليه وسلم) ف دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته ف‬
‫معجزته الالدة؛ وهي القرآن الكري‪ ،‬وعجز الجيال التتابعة من بعدهم‪ ،‬فالقرآن الكري ‪،‬‬
‫من هذه الناحية‪ ،‬جاء بالتحدي الدائم والستمر إل يوم القيامة؛ ف مواجهة النّ والنس؛‬
‫وذلك عندما تداهم أن يأتوا بثله‪{ :‬وإن كنتم ف ريبٍ ما نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من‬
‫مثله‪ ،‬وادعوا شهداءكم من دون ال إن كنتم صادقي}(البقرة‪ ..)23:‬كذلك فقد تدّاهم أن‬
‫يأتوا ببعضٍ من مثله‪{ :‬قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفتريات}(هود‪..)13:‬‬
‫وعندما ثبتَ عجزُهم أمام هذا التحدي؛ كان القول الفصل‪{ :‬قل لئن اجتمعت النس‬
‫والنّ على أن يأتوا بثلِ هذا القرآن ل يأتون بثله ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيا}(السراء‪:‬‬
‫‪)88‬‬
‫وأمام هذا العجاز؛ وذلك التحدّي‪ ..‬تعددت الراء حول إعجاز القرآن الكري؛ والقدرِ‬
‫العجز منه‪ ،‬فقد ذهب العتزلةُ إل أن العجاز يتعلق بميع القرآن الكري ل ببعضه أو بكل‬
‫سورة برأسها‪ .‬لكنّ آخرين ذهبوا إل أن القليل والكثي منه مُعجِز؛ دون تقييد بسورة معينة‪،‬‬
‫لقوله تعال‪{ :‬فليأتوا بديثٍ مثله}(الطور‪.)34:‬‬
‫وذهبت فئةٌ ثالثةٌ إل أن العجازَ يتعلقُ بسورةٍ تامةٍ ولو كانت قصية‪ ،‬أو قدْرِها من‬
‫الكلم؛ كآيةٍ واحدةٍ أو آيات‪.‬‬
‫كذلك وجدنا من ذهب إل أن إعجاز القرآن الكري ل يقعُ ف قد ٍر معيٍ منه فحسب؛‬
‫بل ند ذلك العجاز ف (أصواتِ حروفِه‪ ،‬ووقعِ كلماتِه‪ ،‬كما نده ف الية والسورة‪،‬‬
‫فالقرآن كلم ال وكفى)(‪ ..)1‬وهي حجةٌ ‪،‬ول شكّ قوية تسترعي النتباه إل حقيقةٍ ف غاية‬
‫الهية؛ وهي أن إعجاز القرآن الكري ل يقتصر ‪ ،‬فقط‪ ،‬على القائق الوضوعية الت‬
‫يطرحها‪ ،‬ول ف قدراته البلغية وحسب‪ ،‬بل ف تتعه كذلك بإعجازٍ غيِ عاديّ حت على‬
‫مستوى تناسقِ حروفِ الكلمة الواحدة!‪.‬‬

‫‪ )(1‬مباحث ف علوم القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.297‬‬

‫‪58‬‬
‫سح ٌر يأخذ بالقلوب واللباب‬
‫لقد كان تأثيُ القرآن الكري على كلّ من سعه تأثيا عجيبا؛ إذ سحرت(‪ )1‬كلماتُه‬
‫قلوبَهم؛ وسلبتهم عقولم وألبابم‪ ،‬وكان أعجب ما فيه أن خاصيته تلك كانت بالنسبة لم‬
‫ي مفهومةِ‬
‫أمرا غامضا غيَر معتاد‪ ،‬ووجدوا فيه ظاهرةً تكاد تكون ‪،‬بالنسبة لم‪ ،‬غ َ‬
‫السباب!!‪..‬‬
‫(ونزل القرآن فظنّه العربُ أولّ وهلةٍ من كلم النبّ (صلى ال عليه وسلم) وروحوا عن‬
‫أنفسهم بانتظار ما َأمِلوا أن يطلعوا عليه ف آياته البيّنات‪)2()..‬‬
‫ول يكن عجيبا حينها أن تتباينَ ردودُ أفعالِم تاهه‪ ،‬فمنهم من اطمأن إليه فآمن به‪،‬‬
‫لبَرْ!‪.‬‬
‫ومنهم من جحد فكفر‪ ،‬ومنهم من ل يسم المر فآثر النتظار لعل اليام تأت با َ‬
‫ولقد أثار القرآن الكري ‪،‬ومنذ بداياته الول‪ ،‬ردودَ فعلٍ تيزت بالية‪ ،‬فلم يكن من‬
‫ب حقيقة إرسال نبّ افترضوا وجوب أن يكون واحدا من أرفعِهم‬
‫السهل ‪،‬بدايةً‪ ،‬استيعا ُ‬
‫مكانةً‪ ،‬أو أكثرِهم مالً وولدا!!‪ ..‬أما ممد (صلى ال عليه وسلم) وما تيز به من مكانةٍ رفيعةٍ ‪،‬‬
‫سواءً من حيث َنسَبِه أو أخلقه ‪،‬والت ل يعرفوا لا مثيلً‪ ،‬فقد كان بالنسبة لم آخر من‬
‫يصلح لتلك الهمة!‬
‫{وقالوا لول نُزّل هذا القرآن على رجلٍ من القريتي عظيم}(الزخرف‪...)31:‬‬

‫‪ )(1‬السحر الشار إليه هنا هو السحر بعناه الطيب‪ ،‬وهو السحر الكلمي والذي يقصد به‪( :‬غرابة الكلم ولطافته‬
‫الؤثرة ف القلوب؛ الحوِلة إياها من حالٍ إل حال) (النجد ف اللغة والدب والعلوم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.)323‬‬
‫‪ )(2‬إعجاز القرآن والبلغة النبوية‪ ،‬مصطفى صادق الرافعي‪ ،‬ط ‪ ،3‬ص ‪.221‬‬

‫‪59‬‬
‫ول يكن مهما ‪،‬بالنسبة لبعضهم‪ ،‬ما كان يتمتعُ به ممدٌ (صلى ال عليه وسلم) من رفيعِ‬
‫صدْقِ حديث‪ ،‬إذ أضمروا له التكذيب حت وإن كان صادقا! (ومرّوا ينتظرون‬
‫خصالٍ و ِ‬
‫وهم ُم ِعدّون له التكذيب‪ ،‬مُتربصون به حالةً من تلك الحوال؛ فإذا هو قَبِيلٌ(‪ )1‬غيُ قبيلِ‬
‫الكلم‪ ،‬وطبعٌ غيُ طبعِ الجسام‪ ،‬وديباجةٌ كالسماء ف استوائها ل وهيٌ ول صدعٌ‪ ،‬وإذا‬
‫عصم ٌة قويةٌ‪ ،‬وجرةٌ متوقدةٌ‪ ،‬وأمرٌ فوق المر‪ ،‬وكلمٌ يارون فيه بدءا وعاقبة)(‪.)2‬‬
‫وباختصار؛ فإن الشكّ ف تلك اللحظات كان شريعةَ الميع ‪،‬إل من رحم ربُك‪ ،‬والشكُ‬
‫‪،‬ف حدّ ذاته‪ ،‬حقٌ مشروعٌ يكن من خلله التمييز بي الصيل وبي ما كان ادعاءً‪ ،‬لذا؛ فلم‬
‫يكن مستغربا أن يمعَ الشكُ تاه ممد (صلى ال عليه وسلم) ودعوته بي عمر بن الطاب‬
‫والوليد بن الغية!! إضافة إل ما أصابما من صدعٍ وذهول نتيجة التأثي الحكم ليات‬
‫القرآن الكري!‪.‬‬
‫وتنقلُ لنا كتبُ التاريخ روايتي متشابتي تؤرخان لسلم عمر بن الطاب ‪،‬رضي ال‬
‫عنه وأرضاه‪ ،‬الول منهما لعطاء وماهد‪ ،‬نقلها ابن إسحق وقد جاء فيها على لسانه‪( :‬كنتُ‬
‫للسلم مُباعدا‪ ،‬وكنتُ صاحبَ خرٍ ف الاهلية أحبها وأشربا‪ ،‬وكان لنا ملسٌ يتمعُ فيه‬
‫رجال قريش‪ ..‬فخرجتُ أريدُ جلسائي أولئك فلم أجد منهم أحدا‪ .‬فقلت‪ :‬لو أنن جئت‬
‫فلنا المّار‪ .‬فخرجتُ فجئته‪ ،‬فلم أ ِجدْه‪ .‬قلت‪ :‬لو أنن جئتُ الكعبةَ فطفتُ با سبعا أو‬
‫سبعي‪ ،‬فجئتُ السجدَ أريدُ أن أطوف بالكعبة‪ ،‬فإذا رسول ال(صلى ال عليه وسلم) قائمٌ‬
‫يصلي‪ ،‬وكان إذا صلّى استقبلَ الشام‪ ،‬وجعل الكعبة بينه وبي الشام‪ ،‬واتذ مكانه بي‬
‫الركني‪ :‬الركن السود والركن اليمان‪ .‬فقلت حي رأيته‪ :‬وال لو أن استمعتُ لحمدٍ الليلةَ‬
‫حت أسعَ ما يقول‪ .‬وقام بنفسي أنن لو دنوتُ منه أسع؛ لروّعنه (أي لخيفنه) فجئتُ من‬
‫قِبَل الِجْر؛ فدخلتُ تت ثيابِها‪ ،‬وما بين وبينه إل ثياب الكعبة‪ ،‬فلما سعتُ القرآنَ رقّ له‬
‫قلب فبكيت ودخلن السلم!‪.‬‬

‫‪ )(1‬قبيل غي قبيل الكلم‪ :‬أي ليس مثل الكلم البشري‪ ،‬ول يشابه‪.‬‬
‫‪ )(2‬إعجاز القرآن والبلغة النبوية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ط ‪ ،3‬ص ‪.221‬‬

‫‪60‬‬
‫والرواية الخرى تشي إل أن عمر ‪،‬رضي ال عنه‪ ،‬خرجَ مُتوشحا سيفه؛ يريدُ رسولَ‬
‫ال(صلى ال عليه وسلم) ورهطا من أصحابه قد اجتمعوا ف بيتٍ عند الصفا‪ ،‬وهم قريبٌ من‬
‫أربعي بي رجالٍ ونساء‪ ،‬وف الطريق لقيه نعيم بن عبد ال فسأله عن وجهته؛ فأخبه‬
‫بغرضه‪ ،‬فحذّره (أي نعيم) بن عبد مناف‪ ،‬ودعاه أن يرجع إل بعض أهله؛ خِتنه(‪ )1‬سعيد بن‬
‫زيد بن عمرو‪ ،‬وأخته فاطمة بنت الطاب زوج سعيد‪ ،‬فقد صبئا عن دينهما‪ .‬فذهب إليهما‬
‫عمر‪ ،‬وهناك سع "خَبّابا" يتلو عليهما القرآن‪ ،‬فاقتحم الباب‪ ،‬وبطشَ ِبخِتِْنهِ سعيد‪ ،‬وشجّ‬
‫أخته فاطمة‪ ..‬ث أخذ الصحيفة (بعد حوار) وفيها سورة "طه"‪ ،‬فلما قرأ صدرا منها قال‪( :‬ما‬
‫أحسن هذا الكلم وأكرمه) ث ذهب إل النبّ (صلى ال عليه وسلم) فأعلن إسلمه‪ ،‬فكبّر النبّ‬
‫(صلى ال عليه وسلم) تكبيةً عرف أهلُ البيتِ من أصحابِه أن عمرا قد أسلم(‪.)2‬‬
‫كذلك فقد واجهت العاندين والستكبين من قريش مواقفُ مشابة‪ ،‬وذلك من خلل ما‬
‫أحدثه القرآنُ الكريُ من تأثيٍ مزلزلٍ ف نفوسهم‪ ،‬فقد حدثَ مثلُ ذلك مع الوليد بن الغية؛‬
‫سحْرِها وأََلقِها(‪ )3‬فانصرفَ مقهورا مُنساقا تت وطأة تأثيها‪ ،‬حت‬
‫والذي أذهلته الياتُ بِ ِ‬
‫وجدناه ل يقوى على إنكار ما أصابه! ووجدناه يصفُ القرآنَ الكريَ واليةُ تأخذُ بلبّه‬
‫وجنانه‪ ،‬فأصبح ل يتلك لنفسه حولً ول قوة‪ ،‬وسعناه يُقرُ مُعترفا‪:‬‬
‫(فوا ل ما منكم رجلٍ أعلمَ من بالشعر ول بِرَ َجزِهِ ول بقصيده‪ ،‬ول بأشعار الن‪ ..‬وال‬
‫ما يشبهُ الذي يقولُه شيئا من هذا‪ ،‬وال إنّ لقوله للوة‪ ،‬وإن عليه لطلوة‪ ،‬وإنه ليحطم ما‬
‫تته‪ ،‬وإنه ليعلو وما يُعلى عليه)!!‪.‬‬

‫‪ )(1‬ختنه‪ :‬بكسر الاء وتسكي التاء‪ ،‬أي‪ :‬زوج أخته‪.‬‬


‫‪ )(2‬عن سية ابن هشام‪ ،‬نقل عن التصوير الفن ف القرآن‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ )(3‬تألقها‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫لكنّ اعترافه هذا ل يكن ليقنعَ قريشا‪ ،‬فهو ‪،‬أي الوليد‪ ،‬ل يذمّ القرآن‪ ،‬بل امتدحه!!‪..‬‬
‫فلما زادوا عليه من ضغوطهم؛ ل يدْ مرجا إل أن يلويَ أعناقَ اللفاظ‪ ،‬وأن يتلعب‬
‫بالكلمات‪ ،‬فبدلً من أن يعترف بأن هذا السحر إنا يدل ‪،‬بالضرورة‪ ،‬على عدم بشرية‬
‫مصدره‪ ،‬وجدناه يتجاوب مع دعوة أب جهلٍ له؛ والت حرضه فيها بالقول‪( :‬وال ل يرضى‬
‫قومُك حت تقول فيه)(‪..)1‬‬
‫ف حقيقةٍ ما‬
‫وهنا تتجلّى قدرةُ بعض البشر على التحايل! واتباع الساليبِ اللتويةِ لوص ِ‬
‫بغيِ ما يبُ أن توصفَ به!‪ ..‬فجاءَ ردّ الوليد هذه الرة‪( :‬دعن أفكر فيه)‪ .‬فلما أنْ فكّر‬
‫قال‪( :‬إنْ هذا إل سحرٌ يؤثر‪ ،‬أما رأيتموه يفرق بي الرجل وأهله ومواليه)؟!‪.‬‬
‫وبذا الرد يكون الوليد قد أفشى لنا ‪،‬عن غي قصدٍ بالطبع‪ ،‬سرا من السرار الت‬
‫استأثر با القرآنُ الكري دون غيه من كلم العرب‪ ،‬ذلك هو الستحواذُ الغريب؛ والسطوةُ‬
‫الت ل تردّ؛ لكلمات ال على كلّ من سعها‪ ،‬بل لعل الوليد ف استخدامه لتلك اللفاظ قد‬
‫أسدى لنا خدمةً أخرى كبية‪ ،‬فهو باستخدامه للفاظٍ من قبيل "سِحْرْ" قد أشار إل ذلك‬
‫الصدر الغامض؛ والجهول لسحر القرآن الكري‪ ،‬والذي ل يكن إل أن يكون وجها من‬
‫الوجوه الت استأثر با القرآن الكري؛ فتميزت به لغته عن لغة البشر!‪.‬‬
‫وف قولٍ (يكنُ تعميمه والبناء عليه) فإن ذلك التأثي الستحواذي السيطر للقرآن‬
‫الكري ل يكن أمرا مقصورا على عمر بن الطاب رضي ال عنه‪ ،‬أو الوليد بن الغية‪ ،‬فلطالا‬
‫ارتبط ذلك النفعال تاه القرآن الكري بعلقةٍ جدليةٍ مع عامل آخر كان له أبلغ الثر ف‬
‫تلية تلك اليزة وذلك السحر‪ ،‬ول يكن ذلك العامل إل تلك القدرةِ اللغويةِ العالية الت طالا‬
‫تيزّ با العرب ف ذلك الوقت‪ ،‬والت مكّنت لم ُسبُلَ التفريق بي الصيل وما هو غي ذلك‪،‬‬
‫تلك القدرة الت لو ل تُوجد ‪،‬ف حينه‪ ،‬لا أمكن لنا ‪،‬أبدا‪ ،‬أن نشعر بإعجاز القرآن الكري‪،‬‬
‫ولستوى لدينا حينها الغث والسمي!‪..‬‬

‫‪ )(1‬أي ف القرآن‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫وأمام تلك السطوة الثية للنفعال؛ فلم يكن أمام بعض الستكبين إل اختراع الجج؛‬
‫الواحدة تلو الخرى‪ ،‬وشقّ سُبُلِ النكار‪ ،‬سبيلً ف إثر آخر؛ فاته البعضُ لوصف القرآن‬
‫الكري بأنه‪{ :‬أساطي الولي اكتتبها فهي تلى عليه بكرةً وأصيل}(الفرقان‪..)5:‬‬
‫لكنهم ‪،‬هنا أيضا‪ ،‬ل يفلحوا ف إخفاء الثر العميق الذي أحدثه القرآن الكري ف‬
‫نفوسهم‪ ..‬فبوصفهم للقرآن الكري بـ "الساطي" (بعد أن أطلقوا عليه صفة "السحر")‬
‫وجدناهم قد أثبتوا عج َزهُم عن ردّه إل أصلٍ بّي ٍن واضح‪ ،‬فهو بالنسبة لم سحرٌ غي معلوم‬
‫الصدر! أو أسطورةٌ تأتيهم من أعماق التاريخ الجهول‪ ،‬فهم ل يلكون لا ردّا‪ ،‬ول يعرفون‬
‫لا تفسيا!‪.‬‬

‫بيانٌ يورثُ الية‬


‫من هنا؛ فقد تدرجت بم اليلةُ لبتداعِ الطرقِ الكفيلةِ بالتغلب على هذا السحر‬
‫ومواجهة سطوته‪ ،‬وعلى تلك الساطي ‪،‬بزعمهم‪ ،‬والتغلب عليها‪ ،‬وقادهم ذلك إل تفكيٍ‬
‫جديد‪ :‬فما دام تأثيهُ غامضا ل يدي معه التعامل العقلي البحت؛ فليكن السبيل لواجهته‬
‫عدمُ الستماعِ إليه أصلً!!‪:‬‬
‫{وقال الذين كفروا ل تسمعوا لذا القرآن‪ ،‬والغَوْا فيه لعلكم تغلبون}(فصلت‪)26:‬‬
‫فغايةُ غَلَِب ِهمْ هنا أن يعلوا أصابعهم ف آذانم فِرارا منه‪ ..‬وإنه لغلبٌ؛ وأي غلب؟!‪.‬‬
‫باختصار؛ فقد تلت اليةُ ف كلّ ردود الفعال الت فوجئت بِنَ ْظ ِمهِ البديع‪ ،‬فمن آمن‬
‫كان ف حيةٍ من أمره؛ قبل أن يشرح ال صدره لليان‪ ،‬ولعل من آمن ‪،‬فيما بعد‪ ،‬كان‬
‫دائم التساؤل مُتعجبا‪ :‬ما الذي فعله القرآن ب؟!…‬

‫‪63‬‬
‫ومن كذب على نفسه وخدعها (بوصفه للقرآن بالسحر ليخلُص إل نتيجة مفادها أن‬
‫س َهدّا(‪)1‬‬
‫ممدا ليس أكثر من ساحر) كان ف حيةٍ من أمرهِ كذلك‪ ،‬ولعله قضى لياليه مُ َ‬
‫متعجبا يسائل نفسه‪ :‬أيةُ قوةٍ تلك الت سيطرت عليّ فجعلتن أذهب إل ما ذهبت إليه؟!…‬
‫صوّرَها ف حيتا‬
‫وقد بيّن القرآنُ الكري ‪،‬ف لقطاتٍ نادرةٍ‪ ،‬ردودَ أفعال الفئة الخية‪َ ،‬ف َ‬
‫ل تكاد تثبت على حال‪ ،‬فهي متقلبةُ الفكر‪ ،‬مبلبلةُ الاطر والوجدان‪ ،‬تتناوشها الوساوسُ؛‬
‫وتتلطُ عليها الفكارُ بغي ما انضباط!‪..‬‬
‫‪..‬ولننظر إل اللقطات النفسية العجيبة الت عرضها القرآن‪ ،‬والت تلت ف حججهم‬
‫البتورة‪{:‬قد سعنا‪{}...‬لو نشاء لقلنا مثل هذا‪{}...‬إن هذا إل أساطي الولي‪(}...‬النفال‪:‬‬
‫‪{)31‬أضغاث أحلم‪{}...‬بل افتراه‪{}...‬بل هو شاعر}(النبياء‪)5:‬‬
‫لمَلِ القصيةِ؛ والعباراتِ القلقةِ الت صوّرت حالم‪ ،‬فهي ل تكاد تقذفها‬
‫ولنتأمل ا ُ‬
‫اللسِنةُ حت تنقطع!!… وكأن القرآن الكري ‪،‬وهو يرسم لنا ردود أفعالم تلك؛ إنا يصوّر‬
‫لنا حالةً تنطبقُ على البشرِ جيعا عندما يتنكرون لا هو واضحٌ جليّ‪ ،‬تلك الالة الت إذا ما‬
‫تلبست قوما حوّلتهم إل حالةٍ من القلق تُفقدهم توازنم‪ ،‬فنراهم يتلجلجون ف الوصف‬
‫على غيِ هدىً‪{ :‬قد سعنا‪{ ...}...‬لو نشاء لقلنا مثل هذا‪ ...}...‬ال‪..‬‬
‫لكنهم ما إن يبدءوا باستعادة توازنم‪ ،‬والسيطرة على انفعالتم؛ حت ندَهم يبدءون‬
‫مرحلةً جديدةً من مراحل ال َك ِذبِ؛ لكنه كذب صُراح هذه الرة؛ كذبٌ مع سبق الصرار؛‬
‫وبغي ما خجلٍ أو حياء!‪ ..‬وهي الرحلة الت انتهى إليها بعض من تنكر للرسالة الحمدية ف‬
‫مراحلها الول؛ حيث لأوا إل الدعاء ببشرية الصدر الذي أُخذ عنه القرآن الكري‪،‬‬
‫والدعاء بعدم اختلفه عن أقوال البشر ف شيء؟!‪:‬‬
‫{فقال إن هذا إل سحرٌ يؤثر‪ ،‬إن هذا إل قول البشر}(الدثر‪..)25-24:‬‬

‫سهَدا‪ ،‬أي بات مؤرقا وقد جافاه النوم‪.‬‬


‫‪ )(1‬باتَ مُ َ‬

‫‪64‬‬
‫من هنا أمكننا أن ندرك عُمق ما أحدثه القرآن الكري من تأثيٍر غي مسبوق ف النفس‬
‫التلقية لياته‪ ،‬تلك الت آمنت‪ ،‬أو هاتيك الت َكفَ َرتْ به على حدٍ سواء‪ ،‬لكن تظلُ أشدّ‬
‫صورِ ذلك التأثي وضوحا تلك الية الكاملة؛ وذلك الهل الطبق باهية السرّ الذي مكّنّ‬
‫للقرآن أن يُحدث كلّ ذلك الثر‪ ،‬ولعل ذلك السرّ هو ما ترك الميع يتساءلون وهم‬
‫حائرون‪ :‬أين يكمن السر؟!‪..‬‬

‫أين يكمن السر؟!‬


‫ت لغويةٍ رفيعة؛ ذاتِ‬
‫فأين يكمنُ سرّ تلك الزلزلة الت أحدثها القرآن الكري ف كيانا ٍ‬
‫حسّ جالّ مُرهف؟!‪..‬‬
‫‪..‬فهل كان السرّ كامنا ف الوضوعات ذاتا؛ والت تناولا القرآن الكري ف أول‬
‫عهده؟!‪ ..‬أم كان السرّ ف صُلب التشريعات الت أرساها؟‪..‬‬
‫‪..‬أو لعله كان موجودا ف تلك النبوءات الستقبلية الت تنبأ با قبل حدوثها بسنوات؟!‪.‬‬
‫فإذا ما رحنا نستقرئُ الياتِ الكريةِ الول الت تنّلت ف مكة فلن ند فيها هذا ول‬
‫ذاك‪ ،‬فهي ل تكن تتوي تشريعا مُحكما‪ ،‬ول علوما كونيةً سابقة(‪ )1‬ولن ند فيها إخبارا‬
‫بالغيب يقع بعد سني‪ ،‬مثل ذلك الذي ورد ف سورة "الروم"(‪..)2‬‬
‫يب إذنْ (أن نبحث عن "منبع السحر ف القرآن" قبل التشريع الحكم‪ ،‬وقبل النبوءة‬
‫الغيبية‪ ،‬وقبل العلوم الكونية‪ ،‬وقبل أن يصبح وحدةً مكتملةً تشمل هذا كله)(‪...)3‬‬
‫وهنا لبد لنا من إعادة السؤال كَرّةً أخرى‪ :‬ما الذي احتواه القرآن الكري من أسرار‬
‫مكّنَتْ له كلّ ذلك التأثي الذي ل يردّ؛ وجعلت له تلك السطوة الت ل تقهر؟!‪..‬‬

‫‪ )(1‬إل إشارةً خفيف ًة ف السورة الول الت تدثت عن خلق النسان من علق‪.‬‬
‫‪ )(2‬وهي السورة الرابعة والثمانون من حيث ترتيب النول‪.‬‬
‫‪ )(3‬التصوير الفن ف القرآن‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ص ‪.16‬‬

‫‪65‬‬
‫لعل ما أحدث كلّ ذلك كان يتمثل ف شحناتِ النفعال الت دفعتها الياتُ الكرية ف‬
‫قلوب من استمع إليها‪ ،‬بغضّ النظر عن الوضوع الراد الخبار عنه!!‪..‬‬
‫‪..‬ولعله كان متمثلً ف أسلوب الداء القرآن غي السبوق‪ ،‬فحيث كان القومُ ف مكة‬
‫أهلَ مُماراةٍ ولُاجةٍ ف القول عن فصاحةٍ وبيان‪ ،‬تدُ ف مكيّ القرآن الكري ألفاظا شديدةَ‬
‫القرعِ على السامع‪ ،‬تقذفُ حروفُها شَررَ الوعيدِ وألسِنةَ العذاب‪ ،‬وكلّ ذلك قد حدث‬
‫بشكل استعصى على الفهم‪ ،‬فضلً عن التحليل والتفسي‪( :‬وما درى عربّ واحدٌ من‬
‫أولئك‪ِ :‬لمَ جعلَ الُ ف كتابه هذه العان الختلفة‪ ،‬وهذه الفنون التعددة الت يُهيجُ بعضُها‬
‫النظر‪ ،‬ويشحذُ بعضُها الفكر‪ ،‬ويُ ِكنّ بعضُها اليقي‪ ،‬ويبعثُ بعضُها على الستقصاء)(‪...)1‬‬
‫وكان هذا كلُه يقال‪ ،‬وذلك كلُه يقعُ و (القومَ ف شغلٍ عن بيانِ هذه الصورة با يتملونه‬
‫منها ف نفوسِهم‪ ،‬وما يُسونه منها ف شُعورِهم‪ ،‬وهم حَيارى مُضطربون‪ ،‬أو مُلبون‬
‫مهطِعون)(‪.)2‬‬
‫ولعل الصورةَ الن قد بدأت بالتضاح‪ ،‬فكلّ ذلك القدر من التأثي الذي أحدثه القرآن‬
‫الكري ‪،‬ومنذ اللحظة الول‪ ،‬ل يكن إل استجابةً لذلك السمّو القرآن‪ ،‬والذي أمكن‬
‫إدراكه؛ وتذوقه؛ والنفعال به‪ ..‬بفضل ما كان للعرب ‪،‬ف ذلك الوقت‪ ،‬من إتقانٍ لفنونِ‬
‫القراءةِ والستماع‪ ،‬ما مكن للنص القرآن أن يُظهرَ كلّ ُقدُراتِه الكامنة‪ ،‬وتلياتِه اللطيفة‪،‬‬
‫وأحاسيسه الدافقة!‪.‬‬

‫‪ )(1‬إعجاز القرآن والبلغة النبوية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ط ‪ ،3‬ص ‪.152‬‬


‫‪ )(2‬التصوير الفن ف القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.23‬‬

‫‪66‬‬
‫واستمرت ماولت العلماء ‪،‬على مرّ العصور‪ ،‬للتعامل مع النص القرآن بثا عن‬
‫السرار الخبوءة فيه‪ ،‬وذلك عب ماولتم الجابة على بعض التساؤلت التعلقة بأسرار‬
‫العجاز البثوثة فيه‪ ،‬وفيما إذا كان ذلك العجاز كامنا ف حروفه‪ ،‬أو ف كلماته‪ ،‬أو هو ف‬
‫مموع آياته؟!‪ ..‬ليستقر بم الطاف ‪،‬أخيا‪ ،‬إل أن كلّ ما ف القرآن عجيب‪ ،‬لكنهم‬
‫استقروا على أن مناط التحدي والعجاز ف القرآن الكري إنا هو ف ناحيته البلغية‪ ،‬وهي‬
‫الناحية الت تدّى القرآن الكري با العرب!‪..‬‬

‫بعض أشكال استعلء القرآن‬


‫ولتجلية هذا الانب العجيب من جوانب استعلء القرآن الكري على ما عداه من كلم‬
‫البشر؛ وجدنا أبا بكرٍ الباقلن يتناولُ النواحي البيانية فيه‪ ،‬مقارنا بي نَ ْظمِ القرآن الكري‬
‫ونَ ْظمِ ما عداه من الكلم قائلً فيه‪( :‬والذي يشتملُ عليه بديعُ نظمه التض ِمنُ للعجاز‬
‫وجوهٌ‪ :‬منها ما يرجع إل الُجملة‪ ،‬وذلك أنّ نظمَ القرآن ‪،‬على تصرفِ وجوههِ؛ واختلفِ‬
‫مذاهبهِ‪ ،‬خارجٌ عن العهودِ من نظام جيع كلمهم‪ ،‬ومُباينٌ للمألوفِ من ترتيبِ خطابِهم‪ ،‬وله‬
‫أسلوبٌ يتص به؛ ويتميزُ ف تصرفه عن أساليب الكلم العتاد‪ ،‬وذلك أن الطرق الت يتقيدُ‬
‫با الكلمُ البديعُ النظومُ تنقسمُ إل‪ :‬أعاريض الشعر على اختلف أنواعه‪ ،‬ث إل‪ :‬أنواعِ‬
‫سجَع‪ ،‬ث إل معدلٍ موزونٍ غيِ‬
‫الكلمِ الوزونِ غيِ الُقفى‪ ،‬ث إل أصنافِ الكلمِ العدّل الُ ْ‬
‫مُسجع‪ ،‬ث إل ما يُرسلُ إرسالً‪ ،‬فتُطلبُ فيه الصابةُ والفادةُ وإفهامُ العان العترِضة على‬
‫وجهٍ بديعٍ؛ وترتيبٍ لطيفٍ‪ ،‬وإن ل يكن معتدلً ف وزنه‪ ،‬وذلك شبيهٌ بملة الكلم الذي ل‬
‫يَُت َعمّلُ يُتصنعُ له‪ )..‬ليقرر ‪،‬الباقلن‪ ،‬من ثّ‪( :‬وقد علِمنا أن القرآنَ خارجٌ عن هذه الوجوه‪،‬‬
‫ومُباينٌ لذه الطرق‪ ،‬فليس من بابِ السجعِ‪ ،‬وليس من قبيلِ الشعرِ‪ ،‬وتبيّن ‪،‬بروجهِ عن‬
‫أصنافِ كلمهم وأساليبِ خطابم‪ ،‬أنه خارجٌ عن العادة‪ ،‬وأنه معجزٌ‪ ،‬وهذه خصوصيةٌ ترجعُ‬
‫إل جلةِ القرآنِ وتيزٌ حاصِلٌ ف جيعِه)(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬نقل عن كتاب مباحث ف علوم القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.301‬‬

‫‪67‬‬
‫وكان المام "عبد القاهر الرجان" واحدا من تدثوا عن إعجاز القرآن الكري‪ ،‬وعن‬
‫تعلّق ذلك العجاز بنظم القرآن ذاته؛ وذلك ف كتابه "دلئل العجاز"‪ .‬ونظرا لهود‬
‫المام "الرجان" ف استقراء العجاز القرآن؛ فقد اعتُبِر القرنُ الامس عصرا ذهبيا‬
‫للعجاز‪ ،‬وقد كان النتصار قَبْ َلهُ ِللَفظِ على العن؛ وذلك ف القضية الدلية "اللفظ والعن"‬
‫ف أيهما تكون الفصاحة والبلغة؟!‪.‬‬
‫ولـ "ابن عطية" مقولةٌ رائعةٌ حول إعجاز ألفاظ القرآن الكري يقول فيها‪( :‬وكتاب ال‬
‫لو نُزعت منه لفظةٌ‪ ،‬ث أُديرَ لسانُ العربِ على لفظةٍ أحسنَ منها ل يوجدْ! ونن يتبيُ لنا‬
‫الباعةُ ف أكثره‪ ،‬ويفى علينا وجهُها ف مواضع‪ ،‬لقصورنا عن مرتبة العرب ‪،‬يومئذ‪ ،‬ف‬
‫سلمةِ الذوق وجودةِ القرية)(‪.)1‬‬
‫وكان "مصطفى صادق الرافعي" ‪،‬رحه ال‪ ،‬معتقدا بأن مظاهر العجاز ف نظم القرآن‬
‫لمَل وكلماتا(‪.)2‬‬
‫الكري تتمثل ف ثلثةِ وجوه‪ :‬الروف وأصواتا‪ ،‬الكلمات وحروفها‪ ،‬وا ُ‬
‫أما الدكتور "ممد عبد ال دراز" فقد قسّم ألفاظَ القرآن الكري إل قسمي‪ :‬الصّدف؛‬
‫وساه "القشرة السطحية"‪ ،‬واللؤلؤة؛ وساها "لب البيان القرآن"‪ ،‬ولا تكلم عن "القشرة‬
‫السطحية" لمال اللفظ القرآن لحظ أنا تتألف من عنصرين مؤثرين‪:‬‬
‫الول‪ :‬المال التوقيعي‪ :‬ويتمثلُ ف توزيعِ حركاتِ ألفاظِ القرآن الكري وسكناتِها‪،‬‬
‫ومدّاتِها وغُنّاتِها‪.‬‬
‫أما الثان‪ :‬فالمال التنسيقي‪ :‬ويتمثل ف رصف الروف ف الكلمات وتأليفها معا(‪.)3‬‬

‫‪ )(1‬البيان ف إعجاز القرآن‪ ،‬د‪.‬صلح الالدي‪،‬دار عمّار‪،‬ص ‪،114‬نقل عن "فكرة إعجاز القرآن‪ ،‬ص ‪.95‬‬
‫‪ )(2‬البيان ف إعجاز القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.124‬‬
‫‪ )(3‬البيان ف إعجاز القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.125-124‬‬

‫‪68‬‬
‫وحول العجزة البيانيّة ف القرآن الكري يقول الدكتور "عدنان زرزور"‪( :‬إن الكلم‬
‫والبيان هو ما امتاز به النسان‪ ..‬فجاءت معجزةُ ممد (صلى ال عليه وسلم) بيانية‪ ،‬للشارة إل‬
‫أن هذه الرسالة هي رسالة النسان‪ ،‬حيث كان النسان‪ ،‬وف أي زمانٍ وُجد‪ ...‬ول يكن‬
‫البيانُ وقفا على لغةٍ من اللغات‪ ،‬أو أمةٍ من المم‪ ،‬لكنّ اختيا َر لغةِ العربِ لينلَ با القرآن؛‬
‫وليحملَ با إل العاَلمِ رسالةَ النسان؛ يشيُ إل فضيلةٍ بيانيةٍ جامعةٍ؛ امتاز با اللسانُ العربّ‬
‫على كلّ لسان)(‪.)4‬‬
‫من هنا؛ فقد أجع الدارسون لذا الانب من علومِ القرآن على رأيٍ ل يتلفوا حوله! أل‬
‫وهو فضيلةُ اللغةِ الت تنّل با القرآن الكري على ما عداها‪ ،‬وعلى تيّزِ القرآن الكري‬
‫وبلغتهِ من هذه الناحية‪..‬‬
‫ويقودنا هذا الجاع إل البحث عن أسرار هذا البيان؛ وذلك عب الغوص ف أعماقِ‬
‫السئلةِ الباحثةِ عن سرّ اللغة؛ الت شرّفها ال عزّ وجلّ بأن حّلها كلماتِه إل عباده!‪.‬‬
‫ولئن كان من الستحيل تناول وحصر كل أسرار السمو اللغوي الوجود ف القرآن‬
‫الكري من خلل كتابٍ واحد؛ فإننا نصص الصفحات التالية لتناول ظاهرة لغوية فريدة‪،‬‬
‫يكن تبيُنُها وتََتُبعُها ف ألفاظ القرآن الكري؛ بيث باتت ذات أثر كبي ف تديد معانيه‪..‬‬
‫وهذه هي "ظاهرة النسبية" ف القرآن الكري‪..‬‬

‫‪ )(4‬علوم القرآن الكري‪ ،‬عدنان زرزور‪ ،‬ص ‪ ،254‬بتصرف(نقل عن البيان ف إعجاز القرآن)‪ ،‬م سابق‪ ،‬ص‬
‫‪.142‬‬

‫‪69‬‬
‫النسبية‪ :‬ظاهرة لغوية أصيلة!‬

‫إن من غرائبِ مفردات الكلم البشري‪ :‬احتمال احتوائِها على وجوه متعددةٍ من العان‪،‬‬
‫لذلك تصدقُ عليها مقولة أنا مبنيةٌ وفق قاعدة "الحتوى النسب التدرج للمعان"‪ ..‬والت‬
‫يقصد با‪" :‬إمكان احتواء اللفظ الواحد ف اللغة على أكثر من معنً واحد‪ ،‬ولربا احتوى‬
‫ت متفاوتةٍ من العان‪ ،‬ما هو قريب فأبعد؛ فالبعد؛ والت يمعُ بينها‬
‫اللفظُ الواحدُ على درجا ٍ‬
‫جامعٌ لغويٌ مشترك‪ ،‬كإطلقنا لفظةَ "يد" للتعبي عن عددٍ كبيٍ من العان‪ ،‬إذ يعب هذا‬
‫اللفظ تعبيا صادقا عن مسمياتٍ عديد ٍة ومعانٍ متفاوتة‪ ،‬كأن يصلح للتعبي عن "يد‬
‫النسان"‪ ،‬ويصلح ‪،‬كذلك‪ ،‬للتعبي عن ناحية تشريية بيولوجية لكثي من الكائنات الية؛‬
‫مهما علت ف رتبتها أو َسفُلَتْ‪ ،‬وهو صالٌ كذلك للتعبي عن معان مردة مثل‪" :‬التفضل‬
‫بالنعمة" و"القدرة على الفعل"‪...‬‬
‫و"ظاهرة النسبية ف القرآن الكري"؛ نسب(‪ )1‬أنا تشكلُ قانونا عاما يكمُ ألفاظ القرآن‬
‫الكري‪ ..‬فاللفظ ‪،‬بطبيعته‪ ،‬يكنه أن يتدرج ف قدرته على استيعاب العان‪ ،‬حيث يكن للفظٍ‬
‫ما (من الناحية النظرية على القل) أن يأخذ من العان القيم من صفر إل ما ل ناية!!‪..‬‬
‫فكلمة‪َ :‬يدْ‪ ،‬أو رِجْلْ أو عَ ْينْ‪ ...‬ال هي من اللفاظ الت يكن أن ننسبَها إل أدن الكائنات‬
‫الية‪ ،‬فنقول‪ :‬يد القرد‪ ،‬وعي الفراشة‪..‬ال‪ ،‬لكن يكن لا ‪،‬ف الوقت ذاته‪ ،‬أن تأخذ قيما‬
‫مطلقةً‪ ،‬كقوله تعال‪{ :‬يدُ الِ فوقَ أيديهم}(الفتح‪ )10:‬وكذلك قوله عز من قائل‪{ :‬ولتصنع‬
‫على عين}(طه‪ )39:‬فاللفظ هنا واحد‪ ،‬لكنّ شتان بي دللته الختلفة!!‬
‫ول تقتصر "النسبية" على الدلولت الادية‪ ،‬بل تتعداها للقيم العنوية‪ ،‬مثل العدل‪،‬‬
‫والرحة‪ ،‬والقدرة‪ ..‬فهي صفات يكن أن يتمتع النسان بنصيبٍ وافرٍ منها‪ ،‬إل أن قيمها‬
‫الطلقة مقصورة على ال عز وجل!‪..‬‬

‫‪ )(1‬ل يصلح ما نورده ف هذا الكتاب للدللة القاطعة على صحة "ظاهرة النسبية ف القرآن الكري"‪ ،‬إل أننا نتمن‬
‫أن تثبت صحتها إما من خلل كتاب منفصل يصص لذه الغاية‪ ،‬وإما من خلل دراسات متخصصة يقوم با‬
‫باحثون متخصصون ف الدراسات القرآنية‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫ولعل اللغة العربيّة هي واحدة من أشدّ اللغات قبولً لصفة الرونة‪ ،‬حيث تعتب مرونتها‬
‫معيارا لصوبة هذه اللغة وقدرتا على الستيعاب‪ .‬فاللفظُ الواحدُ ف العربيّة يكن أن‬
‫تتنازعه عدةُ معانٍ‪ ،‬والت منها ما هو قريبٌ ما تعارف عليه الناس ف حياتم العملية‬
‫ونشاطاتم اليومية‪ ،‬وأن يكون له ف الوقت ذاته معنً ‪،‬أو عدة معانٍ‪ ،‬أخرى ما هو مستترٌ‬
‫خلف العن العُرفّ الشائع‪ .‬وتعتب الحتمالت النظرية لعان لفظٍ ما (والوجودة ف معجمات‬
‫اللغة) معان متملة له‪.‬‬
‫فلفظة "الشريعة" ‪،‬على سبيل الثال‪ ،‬ف معناها الشائع الذي تعارف عليه الناس‪ :‬ما شرعَ‬
‫ال لعباده من أمرِ الدين(‪ .)1‬بينما تتقبل من العان اللغوية الحتملة معن‪ :‬الطريقة‪ ،‬أو‬
‫النهج‪ ..‬وهي جعُ شرائع؛ والت تعن مورد الشاربة‪.‬‬
‫كذلك؛ فإنّ "الفقه" يعن عُرفا واصطلحا‪( :‬العلم بالحكام الشرعية العملية الكتسبة‬
‫من أدلتها التفصيلية) بينما له من وجوه العان اللغوية الحتملة معان‪ :‬العلم بالشيء؛ والفهم‬
‫له‪ ،‬وكذلك‪ :‬الذق‪ ،‬والفطنة‪ ..‬وشتان ما بي العن الصطلحي(‪ )2‬وبي العان اللغوية ذات‬
‫البعاد‪ :‬التدرجة ف اتساعها؛ والتعددة ف مدلولتا؛ وحت الطلقة ف كثيٍ من الحيان!‪..‬‬
‫وتعتب "ظاهرة النسبية" ‪،‬بشكل عام‪ ،‬الوجه القابل لشكلةٍ كثيا ما أعاقت قدرتنا على‬
‫الفهم السليم لراد الخرين من كلمهم (وهي صحيحة بالنسبة لكتاب ال عز وجل بوجه‬
‫خاص) إذ كثيا ما أحدث الخذُ بالعان القريبة ‪،‬للفظٍ ما‪ ،‬خللً ف الفهم لدى من يستمع‪،‬‬
‫ث معنً بعيدا‪ ،‬ويفهمُ السامعُ العن القريب!‪..‬‬
‫حيث يَقصدُ التحد ُ‬
‫ومن المور الديرة باللحظة أنّ العن اللغوي الحدد والقصود للفظ ما؛ كثيا ما‬
‫فهمت دللته الحددةَ نتيجةَ اقترانه بقرينةٍ تُعطي إياءً ما حول العن القصود من بي جلة‬
‫الحتمالت المكنة لذلك اللفظ‪..‬‬

‫‪ )(1‬من أمرٍ‪ ،‬ونيٍ‪ ،‬وحللٍ‪ ،‬وحرامٍ‪ ،‬وفرائض‪ ،‬وحدود‪..‬‬


‫‪ )(2‬الذي يشيعُ عادةً ف زمانٍ ومكانٍ معيني‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫لجل ذلك‪ ،‬وبغرض فهم المور على حقيقتها؛ وعلى كلّ أوجهها التاحة‪ ،‬كان ل بد لنا‬
‫‪،‬ونن نتعامل مع العان القريبة للفظٍ ما؛ عدم تاهل جلة معانيه الخرى المكنة ما هو‬
‫مستترٌ أو بعيد!‪.‬‬
‫إنَ حاجَتَنا إل تلك الرونة ف فهم معان اللفاظ (وهو جوهر ظاهرة النسبية) ل تقتصر‬
‫على اللفاظ الستخدمة ف تعاملتنا اليومية؛ ومطالعاتنا العلمية‪ ،‬بل تتجلى ‪،‬أشد ما تتجلى‪،‬‬
‫لدى تعاملنا مع القرآن الكري‪ ،‬حيث مرونةُ اللغةِ وقدرتُها اللنائية على الستيعاب تثلُ‬
‫واحدةً من أهم خصائص النص القرآن الكري؛ ولعل بعض آيات(‪ )1‬القرآن الكري قد‬
‫أشارت إل تلك الاصية‪.‬‬
‫ومن الدير باللحظة أنه وبدون قدرة اللفظ الواحد على استيعاب العان التعددة؛ فإن‬
‫النصّ القرآن يكن أن يفقدَ ميْزَتَه اللية! والتمثلة ف القدرة غي الحدودة للنص على‬
‫احتواء الضامي واستيعابا‪ ،‬وقدرة اللفاظ على اختراق حواجز الزمان والكان‪ ،‬تلك اليزة‬
‫الت يكن أن ُتقْتَل بي أيدي الناس إذا ما نواْ إل تديد معان ألفاظ القرآن الكري؛ وقَصرها‬
‫على وجوه مددة ومدودة؛ هي بعضُ الوجوه الت يكنُ للنصّ القرآن أن يتملها!‪.‬‬
‫وف اعتقادنا فإن تلك "الرونة" أو "القدرة على الستيعاب" أو "ظاهرة النسبية" ‪،‬سّها ما‬
‫شئت؛ ليست أمرا عارضا ندُه ف بعض الواضع ف القرآن الكري دون غيها(‪ )2‬بل هي‬
‫سُنّة من سُننه الصيلة الت ل تنفصل عنه‪ ،‬وصفةٌ ملتصقة به التصاق الفردات بعانيها‬
‫اللغوية!‪..‬‬
‫وسنحاولُ فيما يلي البهنة على وجود ظاهرة "النسبية ف القرآن الكري" (كظاهرة عامة‬
‫ل تقتصر على ألفاظه فحسب) وذلك من خلل إيرادنا لجموعةٍ من المثلة؛ والت نعتقد‬
‫بانطباق مفهوم "النسبية" عليها‪ ،‬وهي أمثلة معروضةٌ هنا على سبيل الثال ل الصر‪:‬‬

‫‪{ )(1‬قل لو كان البحرُ مدادا لكلمات رب لنَفِ َد البحرُ قبل أن تنفدّ كلماتُ رب}(الكهف‪)109:‬‬
‫‪ )(2‬أو هكذا يبدو لنا؛ إل أن يتم إثبات هذا المر أو نفيه‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫يتعرضُ القرآنُ الكري لفهوم "السماء" ف آياتٍ كثية‪ ،‬لكن الدقق فيها سيلحظ أنا ل‬
‫تشيُ دائما إل نفس العن والضمون‪ ،‬حيث تأخذ تلك اللفظة معان متدرجة من الدن إل‬
‫العلى‪ ،‬وما هو قريب إل ما هو أبعد!‪.‬‬
‫فالسماء ‪،‬ف واحد ٍة من حالتا القريبةِ الت يطرحها القرآن الكري‪ ،‬هي‪ :‬مكانُ نزول‬
‫الطر‪{ :‬وأنزل من السماء ماء}(البقرة‪..)22:‬‬
‫ث تبدأ معانيها بالتساعِ لتشيَ إل معنً أرحب هو الغلفُ الويّ الحيط بالرض‪:‬‬
‫ص ّعدُ ف السماء}(النعام‪..)125:‬‬
‫{ومن يُرد أن يض َلهُ يعل صدره ضَيّقا حرجا كأنا َي ّ‬
‫ث يبدأ القرآن الكري بإعطاء لفظة "السماء" معانٍ إضافية أبعد من كل ما ذكرناه(‪)1‬‬
‫تكون فيه السماء ذات معن شامل مُتسع‪ ،‬وذلك عندما يتحدثُ القرآنُ الكري عن "ساءٍ"‬
‫ترتبطُ بعلقةٍ مكانية مع "النجم الثاقب" وف هذا يقول ال عز وجل‪{ :‬والسماء والطارق‬
‫وما أدراك ما الطارق‪ ،‬النجم الثاقب}(الطارق‪ )3-1:‬ول يفى أن العلقة الكانية الت تربط‬
‫بي "السماء" من جهة و"النجم الثاقب" من الهة الخرى هي علقة احتواء‪ ،‬فالسماء هنا‬
‫هي اليّز الكان الذي تتواجد فيه النجوم‪ ،‬وهي القرينةُ الت تشيُ إل العن القصود للسماء‬
‫ف هذه الية‪ ...‬وهو معن مقارب لا ورد ف الية الكرية {ولقد زيّنا السماء الدنيا بصابيح‬
‫وجعلناها رجوما للشياطي}(اللك‪...)5:‬‬

‫‪ )(1‬نود هنا أن نعقد صلة بي مفهوم "الحتوى النسب" وبي مقدار الد اللزم ف اللفاظ الت فيها مد متصل كما‬
‫ف لفظ ساء كما ف قوله تعال {وَالسّمَاءِ وَمَا َبنَاهَا}(سورة الشمس الية‪ )5:‬وكذلك ف كلمات مثل‪{ :‬جَآءَ}‪،‬‬
‫{ ُقرٌوءٍ}‪َ { ،‬هؤُلءِ}‪..‬فمن العروف أن الد فيها هو مد متصل (وهو ما جاء فيه بعد حرف الد هز متصل به) أما‬
‫حكمه فهو الوجوب‪ ،‬لجاع القراء على مده زيادة على ما فية من الطبيعي وإن تفاوت القراء ف مقدار هذه‬
‫ل ووقفا ‪ ،‬وست حركات إذا كانت هزته متطرفة ‪ .‬ونود هنا أن‬ ‫الزيادة‪ .‬ويد من أربع إل خس حركات وص ً‬
‫نقترح ربط مقدار الد (أربع أو خس أو ست) بالحتوى النسب للفظ‪ ،‬فالعن القريب (لكلمة ساء على سبيل‬
‫الثال) يد أربعا‪ ،‬والبعد فالبعد خسا أو ستا‪ ..‬وهو اقتراح ل يغي من جوهر أو قيمة الد بقدر ما يعل عملية‬
‫الختيار أكثر وعيا‪ ،‬وخاضعة للمعن التحصل للقارئ!‪ .‬وال بعد هذا اعلم‬

‫‪73‬‬
‫ث تتدُ "السماء" ف معناها إل ماهيّ ٍة مهولةٍ‪ ،‬كما ف قوله تعال‪{ :‬ث استوى إل السماءِ‬
‫وهي دُخان فقال لا وللرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعي‪ ،‬فقضاهنّ سبعَ سواتٍ ف‬
‫يومي‪ ،‬وأوحى ف كلّ ساءٍ أمرها}(فصلت‪ )10:‬وهو معنً باجة إل كثيٍ من التدقيق‬
‫لدراكه على وجهه الصحيح!‪..‬‬
‫كذلك فإن لفظة "أرض" ف القرآن الكري نَحَت نفس النحى‪ ،‬ونسجت على نفس‬
‫النوال‪ ،‬فقد وردت "الرض" ف أحد معانيها لتشي إل مكانٍ مدودٍ صالٍ للرعي‪ ،‬وذلك ف‬
‫قوله تعال‪{ :‬فذروها تأكلُ ف أرض ال}(هود‪ )64:‬والقرينة الوضحة للمعن هنا هي‪ :‬اليّز‬
‫الكان الذي يكن أن ترعى فيه الدابّة!‪.‬‬
‫ث وجدنا معانيها تتدُ لتتسعَ لعن‪ :‬الرض الزراعية لبلدٍ ما‪ ،‬كما ف قوله تعال‪{ :‬وإذ‬
‫قلتم يا موسى لن نصبَ على طعامٍ واحد فادعُ لنا ربك يُخرجُ لنا ما تنبتُ الرض}(البقرة‪:‬‬
‫‪ ..)61‬والرضُ هنا ذات معنً أبعد وأرحب منها ف الثال الول‪..‬‬
‫ث وجدنا مدلولا يتسعُ متجاوزا البلدَ الواحدَ ليفيدَ معن‪" :‬البلد" وذلك كما ف قوله‬
‫تعال‪{ :‬أل تكن أرضُ الِ واسعةً فتهاجروا فيها}(النساء‪ )97:‬والقرينة هنا هي الفعل‬
‫"فتهاجروا" والذي يعن التنقل من مكان إل مكان‪ ،‬ومن بلدٍ إل أخرى‪..‬‬
‫ث وجدنا مضمونا يأخذُ مدىً أوسع عندما أفاد مُصطلحا فلكيا حديثا هو "الكرة‬
‫الرضية" أو "كوكب الرض" وذلك كما ف قوله تعال‪{ :‬هو الذي خلق لكم ما ف الرض‬
‫جيعا ث استوى إل السماء}(البقرة‪..)29:‬‬
‫والقرينة الشية إل هذا العن هي اقتران الرض بالسماء‪ ،‬والذي يعن كل كوكب‬
‫الرض با ييط به من ساء‪ ،‬كذلك يكن أن تكون طبيعة الطاب ف قوله تعال {خلق‬
‫لكم} ‪،‬وهي موجهة للعموم‪ ،‬قرينةً أخرى توضح العن القصود‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫ويكن للفظت "ساء" و "أرض" أن تردا لتفيدا معنً إضافيا غاية ف التساع‪ ،‬كما ف‬
‫قوله تعال‪{:‬إن ف خلقِ السموات والرض واختلفِ الليلِ والنهارِ لياتٍ لول‬
‫اللباب}(آل عمران‪ )190:‬فمضمون الية الكرية يكن أن ينطبق على الكرة الرضية وما‬
‫ط با من ساء‪ ،‬لكن يكن له كذلك أن يتجاوز ذلك العن لينطبق على أرض كلّ كوكب‬
‫يي ُ‬
‫سيّار من أمثال‪ :‬أرض الريخ‪ ،‬أرض الزهرة‪ ،‬وأرض الشتري‪...‬ال با ييطُ بكلٍ منها من‬
‫سا ٍء خاصةٍ به‪ ،‬وبذا فإن الفاضلة ف الية الكرية (اختلف ظاهرت الليل والنهار) يكن أن‬
‫تتجاوز الفاضلة بي الليل والنهار على كوكب الرض لتنطلق إل مفاضلةٍ ومقارنةٍ أرحبَ‬
‫وأوسعَ بي ليل ونار الكواكب الختلفة فيما بينها‪ ،‬حيث لكل أرض (كوكب) ساؤها‬
‫الاصة با‪ ،‬ولعل السماوات هنا قد جاءت جعا لتشي إل اختلف ساء كل كوكب (أي‬
‫غلفه الوي) عن غيها من سوات الكواكب الخرى‪ ،‬أما الرض فقد جاءت مفردة لنا‬
‫تشي إل جنس الرض‪ ،‬وقد يكون ف ذلك إشارة إل الصل الواحد لا جيعا؟!(‪..)1‬‬
‫ولعل أعجب الواضع الت وردت فيها لفظتا "السماء" و "الرض" الوارد ف سورة‬
‫"هود"‪{ :‬فأما الذين شقوا ففي النار لم فيها شهيق وزفي‪ ،‬خالدين فيها مادامت السموات‬
‫والرض إل ما شاء ربك}(هود‪ ..)107-106:‬فأية سوات وأية أرض تلك الت ستكون‬
‫موجودة والناس يعذبون ف النار خالدين فيها؟!‪..‬‬
‫كذلك من المثلة الت يكن ضَرْبُها لنسبية العان ف القرآن الكري مفهوم ُأمِيّة الرسول‬
‫(صلى ال عليه وسلم) فقد عبّت اليات الكرية عن تلك الصفة النبوية وذلك ف قوله‬
‫تعال‪{:‬الذين يَتَبِعونَ الرسولَ النبّ الميّ الذي يدونه مكتوبا عندهم ف التوراة‬
‫والنيل}(العراف‪..)157 :‬‬
‫و"الميةُ" بعناها التعارفُ عليه ف عالِ اليوم هي أميةٌ تستمدّ معناها من "المومة" فيقال‪:‬‬
‫رجلٌ أميّ؛ بعن‪ :‬أنه ل يعرف شيئا وكأنه يوم ولدته أمه!‪ ،‬وهي ف معناها الشائع تعبّرُ عن‬
‫العن القابل لتقان القراءة والكتابة‪ ..‬فهل أرادت اليات الكرية أن تشي إل عدم قدرة‬
‫النب (صلى ال عليه وسلم) على القراءة والكتابة؟!‪..‬‬

‫‪ )(1‬أصل الكواكب جيعا هو الشمس‪ ،‬فهن بناتا وهي أمهن!!‬

‫‪75‬‬
‫إنّ الفارقة ستزدادُ وضوحا إِذا علمنا أن صفةَ "المية" قد أُشي إليها هنا ف معرضِ‬
‫خطاب ربّ العزة لبن إسرائيل {الذين يتبعون الرسول النب المي الذي يدونه مكتوبا‬
‫عندهم ف التوراة والنيل}(العراف‪)157:‬؟!‪ ..‬وهي قرينة ف غاية الهية!!‬
‫حيث يتبي لنا من سياق الية أن "المية" ف هذا الوضع إنا هي علمةٌ أعطاها ال لبن‬
‫ممد (صلى ال عليه وسلم)‬ ‫إسرائيل ليتعرفوا با على نبّ آخر الزمان!!‪ ..‬فهل تُعتبُ أميّة النبّ‬
‫(بعن عدم القراءة والكتابة) علمة ميزة يكنُ أن يَستدلّ با بنو إسرائيل على النبّ الات‪،‬‬
‫نبّ آخر الزمان؟!‪ ..‬وقد وردت لفظة "أمي" كذلك ف قوله تعال‪{ :‬قل يا أيها الناس إن‬
‫رسول ال إليكم جيعا‪ ،‬الذي له ملك السموات والرض ل إله إل هو ييي وييت فآمنوا‬
‫بال ورسوله النب الميّ الذي يؤمن بال وكلماته واتبعوه لعلكم تتدون}(العراف‪..)158:‬‬
‫وف هذا الوضع يكن ملحظة الفهوم العالي الذي يتحدث القرآن الكري من خلله‪،‬‬
‫حيث يو َجهُ الديث إل الناس كافة‪ ،‬ويؤكدها بـ كلمة "جيعا" وكأن مفهوم "المية" هنا‬
‫يقابل نفس الفهوم النسان العام‪..‬‬
‫إن مفهوم "النسبية" (الذي نناقشه هنا) يسمحُ لنا أنْ نلقيَ نظرةً أبعدَ مدىً‪ ،‬وأن ننسبَ‬
‫ُأمِّيةَ النبّ (صلى ال عليه وسلم) إل لفظةِ "ُأمّة" ل إل لفظة "أم"! وبالتال فإنّ صفة النبّ الميّ‬
‫تكتسبُ معنً جديدا هو‪" :‬نبّ المة"‪ ،‬أو "نب المم جيعا"‪ ..‬وتصبح دللةً على النب ّالات‬
‫الُرسل للناسِ كافة‪ ،‬وللعالي جيعا‪ ،‬وهو مفهومُ متأصل ف القرآن الكري‪ .‬فكثيةٌ هي‬
‫اليات الت تملُ هذا الضمون؛ ومنها‪{ :‬وما أرسلناك إل كافة للناس بشيا ونذيرا}(سبأ‪:‬‬
‫‪ .)28‬وكذلك قوله تعال‪{ :‬وما أرسلناك إل رحةً للعالي}(النبياء‪)107:‬‬
‫ل واضحا‬
‫وبذه الدللة فقط يتسن لُميّة النب ممد (صلى ال عليه وسلم) أن تصبح دلي ً‬
‫يستعي به بنو إسرائيل للتعرف على النب الات! فهو من هذه الناحية نبٌ مرسلٌ للناسِ جيعا‬
‫بعد أن كان النبياءُ يُبعثون لقوامهم خاصة!!!‪..‬‬

‫‪76‬‬
‫ونضربُ مثالً إضافيا واضحا على "ظاهرة النسبية" ف القرآن الكري وذلك باللفظ‬
‫" َكفَرَ" والذي ورد ف القرآن الكري بعانٍ متعددةٍ؛ كان العن اللغوي لا(‪ )1‬قاسا مُشتركا‬
‫بينها جيعا(‪..)2‬‬
‫لقد ورد اللفظ " َكفَرَ" ف قوله تعال‪{ :‬أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لوتي مالً‬
‫وولدا}(مري‪ ..)77:‬وهي تشي هنا إل العن الصطلحي الدارج للكفر‪ ،‬والتعارف عليه بي‬
‫الناس‪ ،‬والستمد لغويا من معنيي‪" :‬التغطية" و"الستر"‪ ،‬وما سُمي الكافرُ كافرا إل لتغطيته‬
‫وإخفائه ال ْن ُعمِ الت أنعمَ الُ با عليه؛ وعدم اعترافه با!‪..‬‬
‫لكن ليس كلّ كافرٍ كافرا؟!!‪..‬‬
‫فقد وردت اللفظة عينها ف القرآن الكري لتفيدَ معنً آخر وذلك ف قوله تعال‪:‬‬
‫{فاستوى على سوقِه يعجبُ الزُرَاعَ ليغيظَ بم ال ُكفَار}(الفتح‪)29:‬‬
‫وكذلك ف قوله تعال‪{ :‬كمثلِ غيثٍ أعجبَ الكُفارَ نباتُه}(الديد‪)20:‬‬
‫فالكفار القصودون هنا هم الزُراع‪ ،‬والقرينة هنا واضحة حيث السياق كله يتحدث عن‬
‫النبات والزراعة والطر‪ ..‬لكن لاذا سُمي الزارع كافرا ف هذا الوضع؟!‪..‬‬
‫لقد سي كذلك لنه هو منْ يكفرُ البذرةَ (أي يغطيها) بالتراب!‪..‬‬
‫لكنّ اللفظ ذاته ورد ف موضعٍ ثالثٍ ليشيَ إل معنً نظنه مُختلفا عن سابقيه! وذلك ف‬
‫قوله تعال‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا ل تتولوا قوما غضب ال عليهم‪ ،‬قد يئسوا من الخرة كما‬
‫يئسَ الكُفارُ من أصحاب القبور}(المتحنة‪..)13:‬‬

‫‪ )(1‬كفر‪ :‬كُفرا‪ ،‬كفر الشيء‪ :‬أي ستره وغطاه‪ ،‬يقال‪ :‬كفر درعه بثوبه‪ :‬أي غطاها به ولبسه فوقها‪( .‬النجد ف اللغة‬
‫والدب والعلوم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.)691‬‬
‫‪ )(2‬نؤكد مرة أخرى أن "ظاهرة النسبية" إنا تتعامل مع جلة معان اللفظ ف العجم‪ ،‬والت تأت عادة متفاوتة من‬
‫القريب إل البعيد فالبعد‪ ،‬وتتمل جلة من العان (نظريا على القل) تتراوح بي الصفر واللناية!!‬

‫‪77‬‬
‫فمن هم الكفار القصودون ف هذه الية(‪)1‬؟!‪ ..‬هل هم الكفار بالعن الول للفظ‪ ..‬أي‬
‫من يغطي ِن َعمَ ال ويفيها ول يعترف با؟! ولاذا اختُص الكافر باليأس من الوتى مع أن‬
‫الؤمنَ أيضا يكنه أن ييأس من أصحاب القبور كالكافر تاما؛ ذلك أننا أمام حقيقة إنسانية‬
‫عامة ل يكن نكرانا هي الوت!‪..‬‬
‫أم أن اللفظ يشي إل الكفر بعناه الثان والذي يعن تغطية‪ :‬البذرة بالتراب انتظارا‬
‫لنباتا؟!‪ ..‬أم أن هناك معنً ثالثا يكن أن نضيفه إل سابقيه؟!!‪..‬‬
‫من الواضح أن نظرةً متسرعةً نلقيها على الية الكرية الشارُ إليها سوف تدفعنا باتاه‬
‫العن الول لكلمة "كافر" وهو العن الكثر شيوعا؛ والكثر تعارفا عليه بي الناس‪ ..‬لكن‬
‫هل يكن أن يوجد لذا اللفظ معنً ثالثا يكون مُشتقا من الصل اللغوي‪ ،‬ول يكون مرد‬
‫إسقاطٍ لعنً على آخر؟!‪..‬‬
‫لنبحث عن القرينة الت تدثنا عنها سابقا‪ ،‬والت يكنها أن تفيدنا ف تديد أي وجوه‬
‫معان اللفظ الذكور هي القصودة‪ ،‬ولنسأل أنفسنا سؤالً‪ :‬من هم أصحاب القبور؟!‪..‬‬
‫والواب‪ :‬هم الموات بالطبع!!‪..‬‬
‫ونسألُ أنفسنا مرةً أخرىً‪ :‬فما علقة الكُفار بالموات؟!‪..‬‬
‫والواب‪ :‬أن من يَدفن(‪ )2‬ميتا فهو كافرٌ له‪ ،‬وهو أكثرُ الناسِ علما بقيقةِ موته‪ ،‬فهو‬
‫الذي يدفعه ف حفرته‪ ،‬ويغطيه ‪،‬من ثّ‪ ،‬ليهيل عليه التراب بعد ذلك!!‪ ..‬والعن هنا يشترك‬
‫مع غيه من العان سالفةِ الذكر (تغطية أنعم ال وسترها‪ ،‬وتغطية البذرة بالتراب) ف أن‬
‫جيعها تشترك ف الصل اللغوي الذي انبثقت عنه‪ ،‬أل وهو التغطية والستر؟!!‪ ..‬وهي‬
‫وجوهُ معانٍ متعددة‪ ،‬وذات مضامي نسبية للفظ لغويّ واحد!!‪..‬‬

‫‪ )(1‬قال السن البصري ف تفسيها‪ :‬الكفار الحياء قد يئسوا من الموات‪ ،‬وقال قتادة‪ :‬كما يئس الكفار أن يرجع‬
‫إليهم أصحابُ القبور الذين ماتوا‪ ،‬وكذا قال الضحاك‪(.‬تفسي القرآن العظيم‪،‬ج ‪ ،4‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.)457‬‬
‫‪ )(2‬أو هو الانوت بلهجة إخواننا الصريي‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫ومع اعتقادنا بأن ظاهرة "النسبية" ف القرآن الكري هي قانون عام؛ إل أننا نظن بأنا‬
‫تناسب الصطلحات الاصة بالزمن بشكلٍ خاص؛ حيث ل يدد القرآنُ الكري قيما مددةً‬
‫لكثيٍ من اللفاظ ذات الدللة الزمنية؛ والتداولةٌ بشكلٍ واسعٍ ف حياتنا اليومية‪ ،‬ونعب من‬
‫خللا عن قيم مددةٍ ثابتةٍ تتص بالوقت‪.‬‬
‫فالقرآن الكري يتحدث عن "اليوم" لكنه ل يقصدُ ‪،‬دائما‪ ،‬اليوم الذي نعرفه‪ ،‬والذي‬
‫حدده النسان حديثا بقدار الزمن الذي تستغرقه الكرة الرضية لكي تكمل دورةً كاملةً‬
‫حول نفسها‪ ،‬والقدّر بأربعٍ وعشرين ساعة من زمننا الرضي‪ .‬وُجلّ حديثِ القرآن الكري‬
‫ف هذا الشأن (حول كلمة يوم) يتمحورُ حول مفهوم "اليوم الخر"‪{ :‬يوم ترى الؤمني‬
‫والؤمنات يسعى نورُهم بي أيديهم وبأيْانِهِم‪ ،‬بُشْرا ُكمُ اليومَ جناتٍ تري من تتها النارُ‬
‫خالدين فيها}(الديد‪..)12:‬‬
‫وكذلك ف قوله‪{:‬لن تنفعكم أرحامُكم ول أولدُكم يوم القيامة يفصل بينكم}(المتحنة‪:‬‬
‫‪ )3‬والقرينة الوضحة للمعن القصود واضحةٌ ف سياق اليتي الذكورتي‪.‬‬
‫لكنّ كلمة "يوم" ف القرآن الكري ل يقتصر ورودها على الواضع غي مددة الضمون‬
‫كيوم القيامة‪ ،‬إذ يكن أن يطال معناها ما تعارفنا عليه ف حياتنا اليومية من معانٍ‪ ،‬وذلك‬
‫باقترانا بقرينةٍ تُقيدها على وجهٍ يفيدُ هذا الفهم‪ ،‬وذلك كما ف قوله تعال‪{ :‬إذا نودي‬
‫للصل ِة من يومِ المعة فاسعوا إل ذكر ال}(المعة‪ )9:‬وقد ُحدِد مفهومُ كلمةِ "يوم" هنا من‬
‫خلل اقترانا بكلمة "المعة" فهو إذن أحد أيام السبوع على كوكب الرض؟!‪ ..‬وهو‬
‫عينه العن الراد ف قوله تعال‪{ :‬فانطلقوا وهم يتخافتون‪ ،‬أن ل يدخلنها اليوم عليكم‬
‫مسكي}(القلم‪ )24:‬والقرينة ف الثال الخي واضحةٌ‪ ،‬فهو حديثُ البشرِ للبشر عما هم‬
‫متعارفون عليه من أيام السبوع!‪..‬‬
‫أما الطلقات العجيبة لكلمة "يوم" ف القرآن الكري فهي تعل منه مدةً زمنيةً حائرة؟!‬
‫فهي ليست ما تعارفنا عليه ننُ سكان كوكب الرض‪ ،‬كما أنا ل تمل قيمةً مددةً ف حدّ‬
‫ذاتا‪ ،‬بل جاءت لتحملَ قيمةً نسبيةً(‪ )1‬وذلك كما ف قوله تعال‪:‬‬

‫‪ )(1‬بالقياس إل مدة اليوم على كوكب الرض!‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫{تعرجُ اللئكةُ والروحُ إليه ف يومٍ كان مقدارُه خسيَن ألف سنة)(العارج‪..)4:‬‬
‫وكذلك قوله تعال‪{ :‬وإن يوما عند ربك كألفِ سنةٍ ما تعدون}(الج‪...)47:‬‬
‫وهنا تبدو اليات الكرية وكأنا تملُ إشاراتٍ واضحةً لفاهيم فيزيائية حديثة حول‬
‫"نسبية الزمن" والت ناقشتها نظريةُ النسبية لينشتاين بعد ذلك بئات السني!!‪..‬‬
‫كذلك فإن مصطلح "الساعة" كان من الفاهيم الزمنية الت تدث عنها القرآن الكري‪،‬‬
‫لكنه ل يقصد به ‪،‬على الطلق‪ ،‬ما نتداوله اليوم من معانيها‪ ،‬فهو ل يقصد الفترة الزمنية‬
‫الكونة من ستي دقيقة!‪ ..‬بل قصد من ورائه ‪،‬ف بعض الواضع‪ ،‬فترةً زمنيةً قصيةً نسبيا؛‬
‫وذلك كما ف قوله تعال‪{ :‬لقد تاب ال على النبّ والهاجرين والنصار الذين اتبعوه ف‬
‫ساعة العسرة}(التوبة‪ ،)117:‬وكذلك قوله تعال‪{ :‬فإذا جاء أجلهم ل يستأخرون ساعة ول‬
‫يستقدمون}(العراف‪..)34:‬‬
‫وهي ل تأتِ ف كلّ الواضع لتعبَ عن نفس القيمة الزمنية القصية‪ ،‬بل إن أكثر إطلقاتا‬
‫قد جاءت لتخبَ عن يوم الول العظيم‪{ :‬ويوم تقومُ الساعةُ يومئذ يتفرقون}(الروم‪)14:‬‬
‫كذلك قوله تعال‪{ :‬حت إذا جاءتم الساعة بغتةً قالوا يا حسرتنا}(النعام‪..)31:‬‬
‫وقد يبدو لنا ‪،‬ف كثيٍ من الواضع القرآنية‪ ،‬تلشي واختفاء الدود الزمنية العهودة‬
‫لدينا‪ ،‬فنرى ف بعض الواضع أن اليات تتحدث عن الستقبل بصيغة الاضي‪ ،‬وتتحدثُ عما‬
‫سيأت كما لو أنه قد َتمّ بالفعل! كما ف قوله تعال‪{ :‬إذا السماءُ انفطرت‪ ،‬وإذا الكواكبُ‬
‫انتثرت‪ ،‬وإذا البحار فجّرت}(النفطار‪ )3-1:‬وقوله تعال‪{:‬إذا السماء انشقت}(النشقاق‪:‬‬
‫‪ )1‬والية الكرية‪{:‬وسيق الذين اتقواْ ربم إل النة زمرا‪ ،‬حت إذا جاءوها وفُتحت أبوابُها‬
‫وقال لم خزنتها سلمٌ عليكم طبتم فادخلوها خالدين}(الزمر‪ )73:‬وهي ‪،‬بل شك‪ ،‬ظاهرةٌ‬
‫تستحقُ التوقف عندها من خلل دراسةٍ متأنيةٍ واعية تفرد لذا الغرض‪.‬‬
‫ولعل من ملمح "ظاهرة النسبية" ف القرآن الكري استخدام بعض الدوات اللغوية ‪،‬ف‬
‫بعض الواضع‪ ،‬للتعبي عن معانٍ غي تلك الت شاع استخدام تلك الدوات للتعبي عنها!!‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫فالفعل "كان" ‪،‬على سبيل الثال‪ ،‬والذي شاع استخدامه للتعبي عن حدوث فعلٍ ما ف‬
‫الزمن الاضي‪ ،‬قد ورد ف مواضعَ معينةٍ من القرآن الكري للتعبي عن‪" :‬القيقة الثابتة" والت‬
‫ل علقة لا بالتحولت الزمنية؛ كقوله تعال‪:‬‬
‫{وكان ال غفورا رحيما}(الحزاب‪)50:‬‬
‫وكذلك قوله تعال‪{ :‬كنتم خي أمةِ أُخرجت للناس}(آل عمران‪)110:‬‬
‫حيث أشي إل أن القصود من ورائها هو وجودُ شيءٍ ما ف زمانٍ ماضٍ على سبيل‬
‫البام‪ ،‬وليس فيه دليلٌ على َع َدمٍ سابق‪ ،‬ول على انقطاع طارئ‪.‬‬
‫كذلك من ملمح ظاهرة النسبية‪ ،‬استخدام الرف "ث" ‪،‬ذو الدللة الزمنية العروفة(‪)1‬؛‬
‫واستعماله بشكل غي مألوف‪ ،‬ففي الوقت الذي يردُ فيه هذا الرف ف بعض الواضع‬
‫لتكونَ له دللةٌ زمنيةٌ واضحةٌ كما ف قوله تعال‪:‬‬
‫{وإذ واعدنا موسى أربعي ليلةً ث اتذت العجلَ من بعده وأنتم ظالون}(البقرة‪)52-51:‬‬
‫وجدناه ف مواضع أخرى يفتقرُ إل تلك الدللة‪ ،‬وليتجاوزَ مهمة "التعبي عن الزمن" إل‬
‫مهمةٍ جديدةٍ هي‪" :‬التعبي عن الربط الوضوعي" بي كياني موضوعيي‪ ،‬ولتصبح الدللة‬
‫الزمنية (وفق الستخدام الديد) ذات قيمة هامشية غي ذات أهية!‪.‬‬
‫مثالُ ذلك‪ :‬التعبي غي الألوف ف قوله تعال‪{ :‬وأوحى ربك إل النحل أن اتذي من البال‬
‫بيوتا ومن الشجر وما يعرشون (ث) كُلي من كلّ الثمرات}(النحل‪)68:‬‬
‫فحرف (ث) هنا إنا يقوم بهمة الربط الوضوعي بي مقامي موضوعيي ها مقام (اتاذ‬
‫البيوت) و مقام (الكل) ولو دققنا النظر فسنجدُ أنْ ليست هناك علقة تراتُبٍ زمنٍ بي‬
‫عملية (اتاذ البيوت) وبي عملية (الكل)‪ ،‬إذ ل يُعقلْ أن يظَلّ النحلُ بدون أكل إل أن‬
‫ينتهي من عملية اتاذ البيوت! وهي العملية الت يُعتقد أنا استنفدت آلف السني لتستقرَ‬
‫على حالا النهائي؛ بعد تنقلها من البال‪ ،‬إل الشجر‪ ،‬وإل ما يعرشون!!‪..‬‬

‫‪ )(1‬يستخدم حرف "ث" عادةً للتعبي عن تعاقُب حدثي من الناحية الزمنية‪ ،‬كأن نقول‪ :‬دخل التلمي ُذ الفص َل ث‬
‫تبعهم الدرس‪ ،‬وتفيد التعاقب مع التراخي‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫إن النظر إل حرف (ث) من خلل النظور الديد (الذي ل يشترط الدللة الزمنية فيه)‬
‫من شأنه أن يلقي مزيدا من الضوء على بعض الواضع ف القرآن الكري غي كاملة الوضوح‬
‫بالنسبة لنا كبشر‪ ،‬ف الطار الزمن الذي نعيش فيه وذلك مثل قوله تعال ‪{ :‬الذي خلق‬
‫السموات والرض وما بينهما ف ستة أيام (ث) استوى على العرش الرحن فاسأل به‬
‫خبيا}(الفرقان‪..)59:‬‬
‫بقي أن نذكر أنّ "ظاهرة النسبية" ف القرآن الكري هي البر الوحيد لصلحية ألفاظنا‬
‫"الحدودة" للتعبي عن معانٍ "مطلقة" فالدين ‪،‬أي دين‪ ،‬مالُه عال الغيب "الطلق" لكن ذلك‬
‫ل يعن انفصاله عن عال الواقع "النسب والحدود" وهو ف الوقت الذي يتناولُ فيه غيَ‬
‫الُدرَك من العان الطلقة؛ فإنه يتعامل ف الوقت ذاته مع الدرك والحسوس ف حياة الناس‪،‬‬
‫لذلك كان من النطقي أن يقرِن القرآنُ الكري بي هاتي القيقتي فيأت بما ف آيةٍ واحدة‪:‬‬
‫{الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلة}(البقرة‪)3:‬‬
‫فاليان هنا يس عال الغيب‪ ،‬بينما الصلة حقيقةٌ من حقائق الواقع الحسوس!‪ ..‬وهو ما‬
‫يوضح حقيقةَ أن‪ :‬العان الحتملة للفظٍ ما يكن أن تكون جدّ متباعدة عن بعضها؛ وذلك‬
‫إذا ما ت استخدام تلك اللفظة للتعبي عن معنيي من عالي متلفي يفصل بينهما كلّ ذلك‬
‫التباعد‪ ،‬كأن يكون الول غيبيا والخر مسوس!‪..‬‬
‫من هنا فقد زادت الاجة لدينا للتفريق بي الوجوه التعددة والحتملة للفظٍ ما‪ ،‬لن‬
‫اللط بي تلك الوجوه كثيا ما كان يؤدي إل خلل خطي ف الفهم‪ ..‬مثال ذلك ما كان‬
‫يدث عندما يتم فهم صفات ال عز وجل (وهي غيب) على ضوء فهمنا وإدراكنا لعان‬
‫تلك الصفات ف عالنا الادي الحسوس!‪.‬‬
‫الهم هنا هو أننا أصبحنا الن ندركُ جيدا مدى حاجتنا إل إرساء قاعدة "الحتوى النسب‬
‫التدرج لللفاظ" والت بدونا ل يكن لنا أن نقترب من فهم النص القرآن على وجهه‬
‫الصحيح‪..‬‬

‫‪82‬‬
‫إن ما يبدو لنا واضحا الن هو أن تاهل قاعدة "النسبية" ف القرآن الكري؛ إنا سيجعل‬
‫الرءَ أسيا للمعان القريبة لللفاظ‪ ،‬با ينعكس سلبا على طريقة إدراكنا لعان اليات فيحدّ‬
‫من آفاقها!‪ ..‬ولعلنا ندرك اليوم حاجتنا إل إفراد تلك الظاهرة بدراسة خاصة با‪ ،‬تلي‬
‫معناها‪ ،‬وتقدم مزيدا من الشرح والتوضيح لمثلتها‪ ،‬وهو العمل الذي يتاج إل الكثي من‬
‫الهد والوقت‪.‬‬
‫وفيما يلي نورد ترجة مقتضبة باللغة النليزية لذا البحث؛ الذي قامت على ترجته إل‬
‫النليزية قسم اللغة النليزية ف كلية اللغات والترجة بامعة المام ممد بن سعود‬
‫السلمية‪ .‬وقد نقلنا الترجة حرفيا‪.‬‬

‫‪83‬‬
Al-Imam Mohammed Bin Saud Islamic University
College of Languages and translation
Department of English

The Phenomenon of Relativism(1)


One of the miracles of human speech is that one word might
bear various possibilities in meanings. They match to the idea that they
are built upon the rule: “relative content of meaning” which means that
one word or expression might bear more than one meaning, a near and
a far one. The sole utterance might possess different degrees of the same
meaning; the near, the far, the farther and the farthest. It the same in
the use of the word “hand” to express and refer to a variety of truthful
meanings. It might be referring to a human hand, or to a certain
anatomic biological field of knowledge referring to certain living objects
or creatures whether high or low in ranking. The same word might also
refer to bounty, awarding, power or capability to act.
The words a “hand”, a “leg” or an “eye” etc… among other
words and expressions that refer to the mere living creatures. We say
hand of the monkey, leg of the bee, eye of the butterfly ..etc. In the same
time they can be used to address ultimate values.
Allah The Almighty says “ ……the hand of Allah is over their hands”
(Fath , verse 10)
Allah The Almighty says “ ……in order that you may be brought up
under my eye” (Taha, verse: 20)
The same word is used to refer to two far fetched meanings.
Relativity is not limited to material significances but they ascend to
moral values such as justice, compassion and capability…etc. They are
attributes which man can enjoy the most of which. However, the
ultimate values refer only to God The Almighty.

‫() قام على ترجة هذا الزء من بث "ظاهرة النسبية ف القرآن الكري" قسم اللغة النليزية ف كلية اللغات‬1
.‫ وقد نقلنا الترجة حرفيا‬.‫والترجة بامعة المام ممد بن سعود السلمية‬

84
Arabic language id one of the most flexible meanings. Flexibility
is considered a standard criterion of this language and its ability to
overwhelm meanings. The sole utterance in Arabic can be used in
different usages of meaning among which are the near one that is used
and known by people in their practical activities of life, and the far one
or ones hidden under the letters of the common word. The possible
meanings of a certain word in lexicons are considered possible not
ultimate meanings.
In the following lines we are going to identify the presence of the
phenomenon of “Relativity in the Glorious Quran” as a general
phenomenon that is not limited to its wording. It will be possible
through the following examples we are going to provide and which we
consider to be applicable to the concept of relativity. They include but
not limited to the following:
The Glorious Quran uses the concept of “ the sky’ in many
verses. Yet, contemplating and auditing in them, we conclude that they
do not mean the same implication in all cases. This word takes grading
meanings from near to far and from lower to higher levels.
The sky in one of the near cases set in the Glorious Quran is the place
(clouds) from which rain falls.
Allah The Almighty says “ ……and sent down water (rain) from the
sky” (Baqara, verse: 22)
The meanings begin to enlarge to refer to atmosphere surrounding the
earth:
Allah The Almighty says “ …… and whomsoever He wills to send a
stray, He makes his breast closed and constricted asif he is climbing up
to the sky…..” (Ana’m , verse 125)
The word “sky” is then given wider and vaster additional
meanings far from what is mentioned above to refer to vast and
comprehensive one. It is expressed in the relation between the sky and
the stars as Allah The Almighty says “ ……By the heaven, and At Taeik
(the night –comer) i.e. the bright star * and what will make you know
what At Tarik (the night- comer) is? * it is the star of piercing bright )
(Tarik , verse 1-3)
It is clear that the relation of place represented in these verses
joins between the sky and the stars on one hand. On the other hand, the
sky is the limit of place in which the star might range and exist. It is also
the evidence that refer to the meaning of the verse…..i.e. the one
approaching the other meaning represented in the following verse:

85
Allah The Almighty says “ ……and indeed we have adorned
thenearest heaven with lamps and we have made such lamps (as)
missiles to drive way the Shayateen (Devils)and have prepared for them
the torment of blazing fire.” (Mulk , verse 5)
That meaning of the sky is extended to an unknown entity as
Allah The Almighty says “ ……then he rose over (Istawa) towards the
heaven when it was smoke , and said to it and the earth; “Come both
for your willing or unwillingly. “They both said, “ We come willingly”
(Fussilat, verse 11)
This meaning needs a lot of contemplation so as to recognize
them in perfect way.
One of the examples of relativism of the meanings of the
Glorious Quran is the concept of Illiteracy of the Prophet. The Glorious
verses of the Quran expressed this verse.
Allah The Almighty says “ ……those who follow the message of
the Messenger, the Prophet, who can neither read nor write (i.e.
Mohammed) whom they find written in the Torah and the Gospel
“ (A’raf , verse 157)
Illiteracy in the full meaning of today’s concept derives its
meaning from motherhood “relation of some one to his mother” it is
said that an illiterate person to refer to someone who does not know any
thing as if he were just delivered to life by his mother. Similarly, the
word is used to express the opposite meaning of perfection in reading
and writing. Does the Glorious Verse want to refer to in ability of the
Messenger (SSAS) to read or write? This will be better obvious if we
know that the attribute of illiteracy is used in addressing the Children
of Israel by Allah The Almighty saying : “those who follow the message
of the Messenger, the Prophet, who can neither read nor write (i.e.
Mohammed) whom they find written in the Torah and the Gospel
“ (A’raf , verse 157)
Therefore it is clear that illiteracy in this respect is a sign given
by Allah to the Children of Israel by which they might recognize the
Prophet of the Last of times.?!
The term illiterate is mentioned in Allah The Almighty says “ …
…Say (O Mohammed) O mankind ! Verily, I am sent to you all as the
Messenger of Allah to whom belongs the domain of the heaven and the
earth. None has the right to be worshipped but He. It is He who gives
life and causes death. So believe in Allah and His Messenger
(Mohammed) the Prophet who can neither read nor write.” (A’raf ,
verse 158)

86
In this position, the international concept dealt with in the verses
of the Glorious Quran, can be noticed. All human beings are addressed
by this speech. This is emphasized by the use of the term “all”
The concept of As Sa’ah (The Hour) is one of the time concepts
used in the glorious Quran to refer not only to the current use of the
word which is relatively short duration of sixty minutes but to shorter
periods of time as said in Allah The Almighty says “….. and every
nation has its appointed term ; when their term comes, neither can they
delay it it nor can they advance it an hour (or a
moment)”(A’raf,verse34)
It did not express the same relatively small time duration in all
positions. It is more ultimate as it also came to express the enormous
panic of the Day of Judgment.
Allah The Almighty says “ ……until of a sudden, the Hour (signs
of death) is on them, and they say: ‘ Alas for us! We gave no thought to
it’” (An’am , verse 31)

87
‫الوضوعي والنفعال ف القرآن الكري‬
‫(مقدمة ف العجاز الصوت ف القرآن الكري)‬

‫ما الذي أردنا قوله ف هذا البحث؟‬

‫إذا ما رجعنا إل النص القرآن الكري لنحاول استشفاف‬


‫الاصية البشرية التعلقة باليل البشري إل اللغة النفعالية؛‬
‫واستجابة القرآن الكري بشكل مطلق لتلك الناحية‪ ..‬فسنجد‬
‫عندها أن النص القرآن الكري ‪،‬بالفعل‪ ،‬ل يتنل ليلب متطلبات‬
‫الانب الوضوعي وحسب‪ ،‬بل جاء مُشربا ‪،‬بشكل عجيب‪،‬‬
‫بالقيمة الوجدانية والنفعالية!! إل الدرجة الت يكن معها‬
‫القرار بأن النص القرآن (وف نوذج وحيد) قد أشبع ‪،‬بالفعل‪،‬‬
‫كل أشواقنا وتطلعاتنا الشعورية والنفعالية!! بالضافة إل قيامة‬
‫بإشباع الناحية الوضوعية‍‍!‪..‬‬
‫ومن أجل الوفاء بذين الانبي (الوضوعي والنفعال) فلبد‬
‫وأن يرتل القرآن الكري بطريقة صحيحة وجيلة تظهر ما فيه من‬
‫تفاوت بي مستوياته الوضوعية والنفعالية الختلفة!‬

‫‪88‬‬
‫الوضوعي والنفعال ف القرآن الكري‬

‫(ما الذي يعنيه تواتر القرآن)؟‬

‫يتميز القرن الكري على ما عداه من نصوص ف كونه معجزا‪ ،‬ومن جهة كونه منقول‬
‫إلينا بالتواتر‪ ،‬ما يعن عدم حدوث أية تغييات عليه مهما كانت طفيفة‪ ،‬وإن من شأن ذلك‬
‫أن يثبت حجية القرآن ف حق متبعي الرسالة الحمدية إل يومنا هذا‪ ،‬ومن الفيد هنا أن‬
‫النب (صلى‬ ‫نذكر "التواتر" ف معناه الصطلحي‪ ،‬والذي يفيد‪( :‬أن يأخذه ‪،‬أي القرآن‪ ،‬عن‬
‫ال عليه وسلم) جعٌ يستحيل أن يتوافقوا على الكذب‪ ،‬ث يأخذه عنهم جع كذلك؛ حت يصلوا‬
‫به إلينا وإل من بعدنا من الجيال اللحقة)‪.‬‬

‫التواتر الكتاب (الصحفي)‬


‫لقد كان أول ما فعله النب (صلى ال عليه وسلم) لدى تنل آيات القرآن عليه أنه أمر‬
‫قال (صلى ال‬ ‫بكتابتها(‪ )1‬وما يُروى عن الباء أنه قال‪ :‬لا نزلت آية {ل يستوي القاعدون}‬
‫عليه وسلم) ‪( :‬أدعُ ل زيدا‪ ،‬وليجئ باللوح(‪ )2‬والدواة ‪-‬ث قال‪ -‬اكتب‪{ :‬ل يستوي‬
‫القاعدون}‪ .‬وقد كان من نتيجة ذلك أن حُفظ القرآن الكري ف عهده (صلى ال عليه وسلم) ف‬
‫الصحف‪ ،‬والت جُمعت ف عهد أب بكر الصدّيق رضي ال عنه ورتبت‪.‬‬

‫‪ )(1‬ذكروا أنه صلى ال عليه وسلم قال لعاوية‪( :‬ألق الدواة‪ ،‬وحرف القلم‪ ،‬وانصب الياء‪ ،‬وفرّق السي‪ ،‬ول تعور اليم‪،‬‬
‫وحسّن ال‪ ،‬ومدّ الرحن‪ ،‬وجوّد الرحيم‪ ،‬وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر له)‪ ،‬و نقل ابن البارك عن‬
‫شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال‪( :‬ما للصحابة ول لغيهم ف رسم القرآن ول شعرة واحدة) وقد التمس العلماء‬
‫للرسم العثمان أسرارا دللة على معان خفية دقيقة كزيادة "الياء" ف كتابة "أييد" من قوله تعال {والسماء بنيناها‬
‫بأييد وإنا لوسعون}(الذاريات‪ )47:‬إذ كتبت "بأييد" وذلك للياء إل تعظيم قوة ال الت بن با السماء‪ ،‬وأنا ل‬
‫تشبهها قوة على ح ّد القاعدة الشهورة‪ ،‬وهي‪" :‬زيادة البن تدل على زيادة العن")!‪.‬‬
‫‪ )(2‬اللوح‪ :‬هو ما كان يكتب عليه من حجر رقيق‪ ،‬وعظم مسطح‪ ،‬وجريد‪ ...‬ال‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫وقد حل السلمون القرآن ف صدورهم ف عال ازدحم بالهاد والواجهة؛ حيث استشهد‬
‫الكثيون من حفظة القرآن‪ ،‬إل أن اشتداد القتل بالقراء يوم اليمامة كان أشد ما دفع عمر‬
‫بن الطاب للشارة على أب بكر الصدّيق (رضي ال عنهما) بمع الصحف الت كتب عليها‬
‫القرآن الكري‪ ،‬حيث أنيطت تلك الهمة بالصحاب "زيد" رضي ال عنه؛ وقد جاء ف كتاب‬
‫التكليف من أب بكر لزيد ما يلي ‪" :‬إنك شابٌ عاقلٌ ل نتهمك‪ ،‬وقد كنت تكتب الوحي‬
‫لرسول ال (صلى ال عليه وسلم) فتتبع القرآن فاجعْه"‪.‬‬
‫وهنا يشرح "زيد" طبيعة الهمة الت أنيطت به فيقول‪" :‬فتتبعت القرآن أجعُهُ من العصب‬
‫واللخاف(‪ )1‬وصدور الرجال"!‪ .‬وقد أتاح العمل الذي قام به "زيد" للمسلمي فرصة‬
‫الحافظة عل النص الكتوب؛ لكن الشكلة الت واجهها السلمون كانت انصار الستفيدين‬
‫من ذلك العمل ف مكان واحد هو الدينة النورة‪ ،‬أما الفاق الخرى للدولة السلمية‬
‫مترامية الطراف فقد بدأت تعان من مشكلة عدم تطابق قراءة القارئي مع النص الكتوب‪،‬‬
‫وقد أدى ذلك إل اشتداد اختلف الناس ف قراءة القرآن!‪..‬‬

‫‪ )(1‬العصب‪ :‬جريد النخل‪ ،‬واللخاف‪ :‬الجارة البيضاء الرقيقة‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫وكما أشار "عمر بن الطاب" من قبل على "أب بكر الصديق" بأن يمع الصحف ف‬
‫مصحف واحد فقد أشار "حذيفة" على "عثمان بن عفان" رضي ال عنهما بالسارعة إل‬
‫إدراك الناس قبل أن يتلفوا حول القرآن نتيجة للوضاع الت استجدت‪ .‬فأرسل عثمان‬
‫لفصة رضي ال عنها(‪ )1‬وأمر "زيدا بن ثابت" و"سعيدا ابن العباس" و"عبد ال بن الزبي"‬
‫و"عبد الرحن بن الارث بن هشام" فنسخوها‪ ،‬ث أرسل إل كل أفقٍ من الفاق الستة(‪)2‬‬
‫بصحف ما نسخوا‪ ،‬واستبقى مصحفا ف الدينة‪ ،‬وأمر با سِوى تلك النسخ من صحيفة أو‬
‫مصحف أن يرق‪ ،‬وقد كانت تلك النسخ الستة من الصحف سند القرآن الكيد؛ حيث ل‬
‫يكتب فيها غيه‪ ،‬بل وصل المر بم حدا أن جرّدوا معه تلك النسخ من "الستعاذة"‬
‫و"آمي" فلما توارثه اللف عن السلف كان هذا تواترا قاطعا بأن ما فيه هو القرآن‪ ،‬وما‬
‫ليس فيه فليس بقرآنً!!‪.‬‬
‫وقد ت التمام لا قام به "عثمان" رضي ال عنه من جع القرآن وذلك با قام به "أبو‬
‫السود الدؤل" بأمر من "علي بن أب طالب" كرّم ال وجهه‪ ،‬حيث قام الول بوضع قواعد‬
‫النحو صيانة وسلمة للنطق‪ ،‬وضبطا للقرآن الكري‪ ،‬حيث اعتب ذلك بدايةً لعلم "إعراب‬
‫القرآن"‪ .‬وتعتب الصاحف التداولة بي أيدينا اليوم نسخة طبق الصل عن الصحف الصلي‬
‫الذي جعة أبو بكر‪ ،‬ونسخه عثمان‪ ،‬إذا ما استثنينا من ذلك بعض الضافات الشكلية‬
‫كوضع النقاط على الروف ووضع علمات التشكيل‪.‬‬

‫التواتر السمعي للقرآن الكري‬

‫‪ )(1‬وقد كان عندها صحف القرآن الكري الت ت جعها‪.‬‬


‫‪ )(2‬مكة‪ ،‬والشام‪ ،‬والبصرة‪ ،‬والكوفة‪ ،‬واليمن‪ ،‬والبحرين‪ ،‬والدينة‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫وفيما يتعلق بتواتر القرآن فقد اتضح أن كل الهود الت بذلت واستثمرت ف عملية جع‬
‫القرآن ونسخه والحافظة على شكله الكتاب ل تكن كافية لعل الجيال التلحقة تافظ‬
‫على قرآنا سليما خاليا من التحريف‪ ،‬فقد اتضح أن كل ذلك ل يضمن الطريقة الثلى‬
‫للقراءة؛ حيث أن للقرآن طريقة توقيفية ف قراءته نقلت عن النب (صلى ال عليه وسلم) مثلها‬
‫مثل هيئة كتابته؛ ل تتم القراءة الصحيحة له دون إدراكها‪ ،‬وتعتب جزءا ل يتجزأ من‬
‫إعجازه‪.‬‬
‫وما يؤكد أصالة ذلك الانب (التواتر السمعي) أن الرسول (صلى ال عليه وسلم) كان يقرأ‬
‫النب (صلى ال عليه‬ ‫على صحابته ما تنل عليه من القرآن ليتقنوا ساعهم له‪ ،‬كذلك فلم يكن‬
‫وسلم) يكتفي بالقراءة لساع صحابته (القراءة الشفهية)‪ ،‬بل كان ‪،‬أيضا‪ ،‬يب أن يستمع‬
‫(صلى ال‬ ‫إليه من أفواه صحابته؛ تعويدا لم على قراءته بالشكل الصحيح؛ من ذلك أنه طلب‬
‫عليه وسلم) من "ابن مسعود" ذات يوم أن يقرأ عليه‪ ،‬فقرأ عليه سورة "النساء"حت وصل إل‬
‫قوله تعال{فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلء شهيدا}(النساء‪)41:‬‬
‫فقال عندها (صلى ال عليه وسلم)‪(:‬حسبك الن)فإذا عيناه (صلى ال عليه وسلم) تذرفان(‪.)1‬‬
‫وتتضح الهية القصوى لذا الانب التوقيفي (التواتر السمعي) من حقيقة أن جبيل‬
‫عليه السلم كان يعارض(‪ )2‬النب (صلى ال عليه وسلم) القرآن مرة ف العام‪ ،‬وعارضه ف العام‬
‫الخي من حياته مرتي؛ بذلك أخب رسول ال (صلى ال عليه وسلم) ابنته فاطمة رضي ال عنها‬
‫قائلً لا‪( :‬كان جبيل يعارضن بالقرآن كل سنة‪ ،‬وإنه عارضن مرتي‪ ،‬ول أراه إل حضر‬
‫أجلي)! وكأن ف ذلك تأكيد عل أهية التواتر السمعي وأصالته!‪ .‬وكان الناس إبان صحة‬
‫ألسنتهم‪ ،‬وتوارث ضبطهم للقرآن الكري بالسليقة ل يتاجون لن يضبط لم قراءتم‪ ،‬حت‬
‫فسدت اللسنة آخر القرن الول‪..‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪ )(2‬العارضة هي أن يقرأ أحدها ويستمع الخر‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫لجل ذلك فقد قام ف كل عصرٍ أئمةٌ من اجتمع فيهم حفظ القرآن بقراءته؛ والفهم‬
‫الصحيح لعناه‪ ،‬والعرفة الكاملة بلغة العرب‪ ،‬فتصدوا لضبط ألفاظه‪ ،‬ووضعوا قواعد‬
‫لقراءته‪ ،‬فكان كل إمام يقرأ با تواتر عنده من القراءات‪ ،‬وكل تلك القراءات التواترة‬
‫مسموع من النب (صلى ال عليه وسلم) وداخل ف نطاق الحرف السبعة الت نزل القرآن با‪.‬‬
‫لكن التواتر الكتوب "الصحفي" وإن كان قد منع كل ما أمكن أن يلحق بالقرآن الكري‬
‫من تريفٍ وتزوير وحذف وإضافة على النسخ الكتوبة‪ ،‬فإن ماطر إضافية ظلت مدقة؛ أل‬
‫وهي اللحن فيه‪ ،‬وتغيي هيئات اللفاظ وإزاحتها عن اليئة الت تنّلت عليها‪ ،‬وقد ساهت‬
‫حالة الضعف الت أصابت العرب ‪،‬من جهة ارتباطهم بلغتهم‪ ،‬ف زيادة حجم تلك الخاطر‪،‬‬
‫وقد أحال ‪،‬ذلك الضعف‪ ،‬قراءة القرآن واستيعاب مراميه إل مهمة مفوفة بالخاطر؛ وهنا‬
‫نشأت الاجة إل وضع الزيد من الضوابط الت يتم من خللا الحافظة على تواتر القرآن‬
‫الكري‪ ،‬لكن من الناحية السمعية هذه الرة‪ ،‬فكانت قواعد التلوة والتجويد الت حددت‬
‫مواقع تلك الحكام(‪ )1‬وجعلت منها أساسا قابلً للدرس والفظ يكن تناقله وتعلمه من‬
‫جيلٍ إل جيل‪.‬‬

‫‪)(1‬حسبما حددتا التلوة الصحيحة التواترة عن النب (صلى ال عليه وسلم)‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫وقد كان العرب الوائل بغي ما حاجة إل تنقيط الط العرب‪ ،‬أو تشكيله‪ ،‬اكتفاء با‬
‫تكوّن لديهم من معارف لغوية بالسليقة‪ ،‬إل إن الجيال الديدة فقدت تلك السليقة‪ ،‬وعلى‬
‫أثر ذلك فقدت المة قدرتا على التعامل الرن مع لغة تيزت دائما برونتها وروعتها‪ ،‬بل إن‬
‫عصور النطاط قد قادت المة إل غربة كاملة عن تلك الفاهيم‪ ،‬فلجأ الريصون على‬
‫ذلك التراث إل إياد قواعد جديدة للغة‪ ،‬فتم تنقيط الروف للتمييز بينها‪ ،‬ث ت تشكيلها‪،‬‬
‫وبالثل؛ فقد ت تقعيد أحكام التلوة على هيئة قواعد تدرس مثل كل العلوم الخرى‪ ،‬لكن؛‬
‫وعلى الرغم من كل تلك الهود؛ فقد ظلت الشكلة قائمة‪ ،‬وتثلت ف حقيقة أن العلم‬
‫بتلك الحكام قد أصبح أمرا ضروريا لقراءة القرآن وفهمه‪ ،‬وهو المر الذي ل يكن متوفرا‬
‫ف كل الحيان‪ ،‬بالضافة إل أن العلم بتلك الحكام كثيا ما اتذ لنفسه هيئة جامدة ل‬
‫يُعلم الكمة من ورائها‪ ،‬فأصبحت تارس من قبيل التقليد‪ ،‬لذا فقد فقدت عملية قراءة‬
‫القرآن الزء الكب من قدرتا على إعطاء الثمرة الطلوبة منها‪ ،‬وقد غدت تلك الحكام‬
‫(الت ل يعد يفهمها على وجهها الصحيح إل التعلم والثقف) شرطا أساسيا للفهم‪ ،‬وبالتال ل‬
‫تعد مهمة فهم القرآن قابلة للتحقق بجرد القراءة‪ ،‬بل صار لزاما علينا أن نوفر شروطا‬
‫موضوعية أخرى‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫وبوضع تلك الضوابط والداومة على تطبيقها بشكلها الصحيح؛ فقد تعاون "التواتر‬
‫السماعي" و"التواتر الصحفي" على حفظ القرآن الكري‪ ،‬وساهم ف انتقاله متواترا جيل بعد‬
‫جيل‪ .‬لكن التواتر السماعي كان عليه العوّل ف تديد كيفية النطق بألفاظ القرآن الكري؛‬
‫وكيفية أدائه على قواعد القراءة؛ الت دونا العلماء فيما بعد على هيئة أحكام ضابطة‬
‫للتلوة والترتيل‪ ..‬من هنا كان العوّل بالنسبة للقرآن الكري على السماع والقراءة معا!‬
‫بلف الديث الشريف؛ لن المر ف القرآن الكري يتعلق بالعن وبكيفية أداء اللفظ‪،‬‬
‫بعكس الديث ‪،‬الشريف‪ ،‬الذي توز روايته بالعن بشروطٍ عرّفها الحدثون‪ .‬ومن هنا‬
‫أمكن إدراك الكمة ف "عدم جواز الفظ من الصحف من غي معلم" يصحح للقارئ نطقه‬
‫وأداءه؛ كما يقوم به الناس الن حول الكعبة وف الساجد‪ ،‬فما تواتر هو القرآن‪ ،‬وما ل‬
‫يتواتر ‪-‬ما ا ُدعِيَ أنه قرآن‪ -‬فليس بقرآن! بل هو قراءة شاذة وإن توفرت فيها صحة السند‬
‫وموافقة خط الصحف المام واللغة العربية)!(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬تواتر القرآن الكري وتبعاته وثراته‪ ،‬الدكتور أحد فهمي أبو سنّة‪ ،‬كتاب ندوة الحاضرات‪ ،‬رابطة العال‬
‫السلمي‪.1392 ،‬‬

‫‪95‬‬
‫ولعل هذا النهج الرتكز على رؤيةٍ وتصورٍ واضحي للغة(‪ )1‬هو ما يفسر لنا النهج العرب‬
‫ف جع اللغة واستقرائها عن طريق "الرواية" و"الشافهة"؛ وحديثهم الستفيض عن‬
‫"السماع"‪ ،‬ومنهج علم القراءات ف التلقي والعرض‪ ،‬وهو يفسر لنا أيضا تصيصهم كتبا‬
‫تعال قضية "التصحيف والتحريف" مع ما تلفت إليه العبارة من الشتقاق من "الصحف"‬
‫و"الروف" لنا أخطاء ناجة عن "الكتابة" وكذلك ذمّهم من يأخذ اللغة عن طريق‬
‫"الصحف" ل عن طريق السماع(‪.)2‬‬
‫ويبدو أن الرأي السابق والتعلق بتعلم القرآن الكري كان نابعا من إدراك الولي لقيقة‬
‫اللغة العربية‪ ..‬لغة القرآن الكري‪ ..‬وإل أن العبة والعوّل بالنسبة للعربية إنا هو الانب‬
‫السمعي ل الكتاب‪ ،‬بيث ت التأكيد على وسائل التعلم الت يتحقق من خللا ضبط ذلك‬
‫الانب والحافظة عليه‪.‬‬
‫يقول "ابن فارس" ف باب "القول ف مأخذ اللغة"‪( :‬تؤخذ اللغة اعتيادا كالصبّ العرب‬
‫يسمع أبويه وغيها‪ ،‬فهو يأخذ اللغة عنهم على مر الوقات‪ ،‬وتؤخذ تلقنا من ملقّن‪،‬‬
‫وتؤخذ ساعا من الرواة الثقات ذوي الصدق والمانة وُتقى الظنون)(‪..)3‬‬
‫وبالملة‪ ،‬فإن التعبد بفهم معان القرآن الكري يب أن يكون مقرونا بالتعبد ف تصحيح‬
‫ألفاظه‪ ،‬وإقامة حروفه على الصفة التلقاة من أئمة القراءة التصلة بالنب (صلى ال عليه وسلم)‪.‬‬

‫‪ )(1‬على أنا‪" :‬أصوات" ملفوظة قبل أن تكون حروفا مكتوب ًة ومنظورةً!‪.‬‬


‫‪ )(2‬فقه اللغة ف الكتب العربية‪ ،‬د‪ .‬عبد ال الراجحي‪ ،1974 ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪ )(3‬الصاحب‪ ،‬ابن فارس‪.)63-62 ،‬‬

‫‪96‬‬
‫وكما ذكرنا سابقا فقد ت ضبط الانب السمعي للقرآن الكري بتمييز تلك اليئات من‬
‫القراءة‪ ،‬واعتبار تلك (غي الائزة على شروط التواتر السماعي والصحفي) قراءةً شاذة‪..‬‬
‫من هنا فقد تصدى لذا المر علماء اعتبوا القراءات(‪ )1‬علما أفرغوا فيه جهدهم‪،‬‬
‫حيث اعتبوا التواتر من القراءات ما تقق فيها شرط موافقتها للمصحف المام؛ لنه كتب‬
‫من غي نقط وشكل‪ ،‬وأمكن أن يسعها جيعها‪ ،‬وإنا عرف التمييز بينها بالسماع‪.‬‬
‫والتواتر لبد منه فيما يرجع إل "جوهر اللفظ" (أي حروفه؛ وحركاته؛ وسكناته) وما‬
‫يرجع إل "كيفية الداء" لن الذين نقلوا القرآن الكري نطقوا بالنوعي جيعا وأُخذ عنهم‪،‬‬
‫وزعم "ابن الزري" و"الشوكان" أنه ل يشترط التواتر ف قرآنية القراءات‪ ،‬بل يكتفى‬
‫بصحة السند وموافقتها لط الصحف المام واللغة العربية‪ ،‬وهذا رأيٌ حادث على خلف‬
‫ما أجع عليه القدامى من علماء السلمي‪.‬‬
‫من هنا كان لزاما علينا اللتفات إل حقيقة أن‪ :‬القصود بالتواتر على وجهه الصحيح‬
‫ليس ‪،‬فقط‪ ،‬مرد التواتر الكتاب (أو الصحفي)؛ بل "التواتر السماعي" أيضا‪ ،‬والذي يعن‪:‬‬
‫"ضرورة تلوة القرآن الكري كما تنل على ممد (صلى ال عليه وسلم)" والتواتر الول‬
‫(الصحفي) يسهل ضبطه‪ ،‬فالصحف قد تكفل ال بفظه سورا وآيات‪ ،‬حيث ت تواتر‬
‫الصحف بشكل متصل ومستمر منذ اللحظة الت تنل فيها وإل يومنا هذا بطريق الكتابة‪..‬‬

‫‪ )(1‬القراءات هي اختلف أوجه النطق بالقرآن سواء أكان ف جوهر اللفظ كالروف والركات‪ ،‬أو ف كيفية‬
‫الداء كالد‪ ،‬والقر والتفخيم‪ ،‬والترقيق‪ ،‬والفتح‪ ،‬والمالة‪ .‬والعلماء على أن القراءات هي‪ :‬متواترة‪ ،‬وآحاد‪،‬‬
‫وشاذة‪ ،‬وجعلوا السبعة متواترة‪ ،‬والحاد الثلث التممة لعشرها‪ ،‬ث ما يكون من قراءات الصحابة رضي ال عنهم‬
‫ما ل يوافق ذلك‪ ،‬وما بقي منها فهو شاذ‪ ،‬والقراءات الت تواترت هي‪ :‬قراءة نافع بن نعيم من أتباع التابعي قارئ‬
‫مكة الكي‪ ،‬وعبد ال بن كثي التابعي قارئ الدينة‪ ،‬وأب عمرو بن العلء الازن من أتباع التابعي قارئ البصرة‪،‬‬
‫وعبد ال بن عمر التابعي قارئ الشام‪ ،‬وعاصم بن أب النجود التابعي‪ ،‬وحزة بن حبيب الزيات‪ ،‬وعلي بن حزة‬
‫الكسائي من قرّاء الكوفة‪ ،‬وأب جعفر يزيد بن القعقاع‪ ،‬وييعقوب بن أسحق الضرمي‪ ،‬وخلف بن هشام‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫أما التواتر السماعي ‪،‬والذي يعتب سرا من أسرار القرآن‪ ،‬فهو أكثر صعوبة‪ ،‬إذ ل تكن‬
‫الوسيلة (الت تتكفل بنقل ذلك التواتر جيلً إل جيل) موجودةً باستمرار‪ ،‬لذا فقد أحاطَ‬
‫قدرٌ كبيٌ من الضبابية بذا الانب من التواتر‪ ،‬حت بتنا ننظر إل مسألة تويد القرآن وترتيله‬
‫وكأن القصود منها فقط "إضفاء مزيد من المال اللفظي والداء الفن على كتاب ال‬
‫الكري"!! مع أن ترتيل القرآن يب النظر إليه كواحد من وجوه العجاز الت تُضفي مزيدا‬
‫من الوضوح على الانب الوضوعي والزيد من المال على الداء الفن‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫وبرسوخ قاعدة التواتر على وجهيها (الصحفي والسمعي) فقد صار القرآن الكري حجةً‬
‫قطعيةً ف حق من ل يسمعه مباشرة من النب (صلى ال عليه وسلم)‪ ،‬وحجية ذلك التواتر ‪،‬سواء‬
‫من ناحية الوهر أو الكيفية الت يتم الداء وفقها‪ ،‬إنا تأت لتسدّ الباب أمام إمكانية تريف‬
‫كلماته وحروفه؛ سواء أكان ذلك من جهة مارجها أو من جهة صفاتا‪ ،‬فقد ضبط علماء‬
‫القراءة مرج كل حرف وصفاته‪ ،‬فبيّنوا مثلً أن المزة ترج من أقصى اللق‪ ،‬والاء ترج‬
‫من وسطه‪ ،‬والباء من بي الشفتي‪ ،‬وبينوا صفة كل حرف من تفخيم وترقيق وقلقلة‬
‫واستطالة‪..‬ال‪ ،‬إل الدرجة الت دعت العلماء إل اعتبار القراءةَ بغي تويدٍ لنا!(‪..)1‬‬

‫‪)(1‬اللحن خلل يطرأ على اللفاظ‪ ،‬منه اللي ومنه الفي‪ ،‬واللي‪ :‬هو ما يل باللفظ إخلل ظاهرا يشترك ف‬
‫معرفته علماء القراءة وغيهم‪ ،‬وذلك كالطأ العراب أو الصرف‪ .‬أما الفي‪ :‬فهو ما يل باللفظ إخلل يتص‬
‫بعرفته علماء القراءة وأئمة الداء الذين تلقوه من أفواه العلماء وضبطوه من ألفاظ الداء‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫من هنا؛ يكننا أن ندرك الضرورة القصوى لعرفة الشكل الصحيح الذي يب أن يؤدى‬
‫القرآن به(‪ )1‬سواء فيما يتعلق بالتواتر الصحفي أو الانب الخر (الذي قد يفوق الول‬
‫أهية) والتعلق بالتواتر السمعي(‪ )2‬وهذا يفتح أمامنا مالً للفتراض بأن ضررا حقيقيا يكن‬
‫أن يلحق بنا إذا ما انتهينا إل وضع ننسى معه حقيقة أن "التواتر السمعي" إنا هو جانب‬
‫توقيفي أصيل ف القرآن الكري(‪ )3‬وإذا ما نسينا تلك القيقة فستصبح أحكام التلوة ‪،‬‬
‫حينها‪ ،‬مرد هيئات صوتية ل تدل على أية مضامي؟! وإن من شأن الخلل بتلك اليئة أن‬
‫يل بضامي القرآن ذاته‪ ،‬ويصبح الترتيل ‪،‬عندها‪ ،‬مرد موسيقى مصاحبة للنص ل نعرف لا‬
‫فائدة!!‪ ..‬ونتوقف عند هذا التساؤل لنتعرف على بعض الباحث اللغوية التعلقة بإعجاز‬
‫القرآن الكري‪ ،‬ذلك أن إعجاز القرآن الكري إنا يرتبط برباط ل ينفصم مع اللغة ذاتا‪..‬‬

‫‪ )(1‬فيما يتعلق بذا المر فقد شاعت بعض القراءات الت هي أبعد ما يكون عن الداء الصحيح للقرآن‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫"الترعيد" وهو أن يرعد القارئ صوته‪ ،‬حت أنم وصفوا من يقوم به وكأنه يرعد من البد أو الل‪ ،‬ومنه "الترقيص"‬
‫وهو أن يروم السكوت على الساكن ث ينقر مع الركة وكأنه ف عدوٍ أو هرولة‪ ،‬و "التطريب" وهو أن يترن‬
‫بالقرآن ويتنغم به فيمد ف غي مواضع الد‪ ،‬ويزيد ف الدّ إن أصاب موضعه‪ ،‬ومنه كذلك "التحزين" وهو أن يأت‬
‫بالقراءة على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع‪ ،‬ومنه "الترديد" وهو ر ّد الماعة على القارئ ف ختام‬
‫قراءته بلحنٍ واح ٍد على وج ٍه من تلك الوجوه‪.‬‬
‫‪ )(2‬القصود به اللحن ف قراءة القرآن‪ .‬وإن من القراءات الت اعتبت لنا ما أدخل عليها من ألان الداء والغناء‬
‫والرهبانية‪ ،‬فمنهم من كان يدس من ذلك دسا خفيا‪ ،‬ومنهم من كان يهر به حت يسلخه‪ ،‬فمن هذا قراءة اليثم‬
‫{أما السفينة فكانت لساكي}(الكهف) فإنه كان يتلس ال ّد اختلسا يرجه عن طبيعته‪ ،‬فكان يقرأها (لِمَسَكيَ)‪،‬‬
‫وإنا سلخه من صوت الغناء كهيئة اللحن ف قول الشاعر‪:‬‬
‫نعتا يوافق عندي بعض (مفيها)‬ ‫أما القطاة فإنّي سوف أنعتها‬
‫وهو يقصد بالطبع (ما فيها) فإن كان ذلك يصلح غناء فهو بالقطع ل يصلح ف قراءة القرآن لن الد وقدره إنا هو‬
‫جزء من العن‪ ،‬فضل عن أنه أمر توقيفي ل يوز النقص منه أو الزيادة عليه‪.‬‬
‫‪ )(3‬يعتب رسم القرآن الكري وثيقة هامة تتضح من خللا خصائص الط العرب ف صدر السلم‪ ،‬وفيه ند‬
‫كلمات مثل (الرحن‪ ،‬طه‪ ،‬اسحق‪ ،‬هرون) مكتوبة دون حروف مد‪ ،‬وتعكس طريقة كتابة هذه الساء النهج العرب‬
‫القدي ف تدوين الصوامت فقط دون تدوين الركات الطويلة والقصية‪ ،‬لكن كتابة هذه الكلمات على هذا النحو‬
‫ل تعكس كيفية نطقها‪ ،‬وهي ل تنطق آنذاك إل كما وصلت إلينا ف القراءات القرآنية‪ ،‬ومن هنا نبعت أهية الانب‬
‫السمعي على الانب الكتوب الذي ل يعب ‪،‬ف كثي من الحيان‪ ،‬عن الطلوب نطقه ف النص‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫لغة القرآن الكري‪ :‬صوتية أم مكتوبة؟!‬

‫لقد عرّف اللغوي العرب”ابن جن” (‪392‬هـ) اللغة بقوله‪( :‬حدّ اللغة أصواتٌ يعب كل‬
‫قوم عن أغراضهم)‪ ..‬وهو تعريف يثي دهشة الباحثي البعيدين عن تطور الياة العلمية‬
‫العربية‪ ،‬لنه يقترب اقترابا شديدا من كثي من تعريفات الحدثي للغة‪ ،‬ولنه يشتمل على‬
‫معظم الوانب الت عرضها "علم اللغة" ف العصر الديث‪.‬‬
‫ويكن اعتبار القرآن الكري (جوانبه الصوتية على وجه الصوص) السبب البرز ف‬
‫ذلك التطور‪ ،‬ومن القائق القررة (أن الدرس الصوت عند العرب من آصل الوانب الت‬
‫تناولوا فيها دراسة اللغة‪ ،‬ومن أقربا إل النهج العلمي؛ ذلك أن أساس هذا الدرس مبن‬
‫على القراءات القرآنية‪ ،‬وهو علم وإن كان متأخرا (من حيث الوضع النظري) عن بعض‬
‫العلوم العربية الخرى كالنحو؛ فإنه أسبق منها من حيث الواقع العملي)(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬فقه اللغة ف الكتب العربية‪ ،‬د‪ .‬عبده الراجحي‪ ،1974 ،‬ص ‪.129‬‬

‫‪101‬‬
‫ويكن القرار ‪،‬بسهولة‪ ،‬أن قراءة القرآن هي الت جعلت علماء العربية القدماء يتأملون‬
‫أصوات اللغة ويلحظونا هذه اللحظة "الذاتية" الت أنتجت ‪،‬ف وقت مبكر جدا‪ ،‬دراسة‬
‫طيبة للصوات العربية ل تبتعد كثيا عما يقرره الحدثون‪ .‬وحي نقول إن "ملحظة‬
‫الصوات ملحظة ذاتية كانت ف فترة مبكرة قد نشأت عن طريق قراءة القرآن" إنا نذكر‬
‫عمل أب السود الدؤل ف ضبط القرآن الكري بالنقط من خلل ملحظة حركة‬
‫الشفتي(‪ .)1‬ول يضي وقت طويل حت يقدم لنا "الليل ابن أحد" أول تصنيف للصوات‬
‫حسب "موضع النطق" أو حسب "الحياز والخارج" وتصنيفه هذا يؤدي به إل تقسيم‬
‫الصوات إل ما يعرف الن بالصوات الصامتة والركات)(‪.)2‬‬
‫ومن الثي للدهشة ف تعريف”ابن جن” للغة هو أنه قد قصرها على "الصوات" وأخرج‬
‫منها "الكتابة"‪ ،‬وهو دليل واضح على أن علماء العربية ل يكونوا يدرسون اللغة باعتبارها‬
‫لغةً "مكتوبة"؛ وإنا باعتبارها لغةً "منطوقةً" قائمةً على "الصوات"‪ ،‬وهو الرأي الذي يتفق‬
‫عليه علماء اللغة الحدثون؛ الذين يعتقدون بأن تعبي "اللغة الكتوبة" هو تعبي ل يكن قبوله‬
‫إلّ على سبيل الجاز‪ ،‬فاللغة ‪،‬علميا‪ ،‬ذات طبيعة صوتية‪ ،‬وهو ما فهمه”ابن جن” وأمثاله من‬
‫علماء اللغة منذ قرون‪..‬‬
‫ومن وجهة نظر اللغويي فإن "اللغة الكتوبة" ليست نوعا آخر من "اللغة الطبيعية"‪ ،‬إنا‬
‫المر عبارة عن رموز بصرية (ناقصة ومُلْبِسة ف كثي من الحوال) للرموز الصوتية‪ ..‬مهما‬
‫كان نوع هذه الرموز البصرية صوريا أو مقطعيا أو فونيميا‪ ،‬فاللغة شيءٌ والكتابة شيءٌ‬
‫آخر)(‪.)3‬‬

‫‪)(1‬بقوله لكاتبه ‪:‬إذا رأيتن قد فتحت فمي بالرف فانقط نقطة فوقه إل أعله‪ ،‬وإن ضممت فمي فانقط نقطة بي‬
‫يدي الرف‪ ،‬وإن كسرت فاجعل النقطة من تت الرف‪.‬‬
‫‪ )(2‬فقه اللغة ف الطتب العربية‪ ،‬د‪ .‬عبه الراجحي‪ ،‬ص ‪.130‬‬
‫‪ )(3‬موجز تاريخ علم اللغة ف‪ ،‬تأليف‪ :‬ر‪ .‬هـ‪ .‬روبن‪ ،‬ترجة‪ :‬د‪ .‬أحد عوض‪ ،‬عال العرفة‪ ،‬ص ‪(9‬الترجم)‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫ومن الواضح أن هناك خلطا كبيا يقع فيه الكثيون حي ل ييزون بي الصوات‬
‫والكتابة‪ ،‬أو بي اللغة ف صورتا السموعة وبي اللغة وقد كتبت بروف‪ ،‬والتفق عليه أن‬
‫اللغة هي ظاهرة صوتية‪ ،‬بعن‪ :‬أن الصل ف اللغة أنا نظام من الرموز الصوتية النطوقة الت‬
‫يتعامل با النسان‪ ،‬وقد تعامل النسان باللغة آلف السني قبل أن يكتبها‪ ..‬فاللغة تقوم‬
‫أساسا على الصوت‪ ،‬وأما الكتابة فهي ظاهرة حضارية)(‪ )1‬وهناك العديد من اللغات الت ل‬
‫يكتبها أبناؤها لغاية اليوم كاللغة الهرية‪ ،‬والنوبية‪ ،‬وكذلك مئات من اللغات الفريقية‪.‬‬

‫‪)(1‬مدخل إل علم اللغة‪ ،‬د‪ .‬ممود فهمي حجازي‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،1978 ،‬ص ‪(31‬بتصرف)‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫ومن الواضح أن الكتابة العربية بتقاليدها العروفة والكتابة الستخدمة ف تدوين اللغات‬
‫الوروبية على النحو العروف لنا‪ ،‬وكذلك كل الكتابات التداولة ف العال قديا وحديثا هي‬
‫مرد ماولة تقريبية لتسجيل الواقع الصوت لذه اللغات)(‪ )1‬وقد يبلغ الختلف بي اللغة‬
‫النطوقة وماولة تدوينها حدا بعيدا ف بعض اللغات كالوروبية العاصرة‪ ،‬حيث ند بعض‬
‫الصوات تدون بأكثر من رمز كتاب واحد‪ ،‬ففي تدوين اللغة النليزية ند ف الكلمات‬
‫‪ Photo‬و ‪ For‬صوتا معينا تبدأ به كلتا الكلمتي‪ ،‬ورغم هذا فتدوين هذا الصوت يتلف ف‬
‫كلتا الكلمتي‪ ،‬ويرجع هذا الختلف إل تاريخ كلتا الكلمتي‪ ،‬فكلمة ‪ For‬ف النليزية هي‬
‫كلمة أصيلة موروثة‪ ،‬لكن كلمة ‪ Photo‬هي كلمة وافدة عليها من اللغة اليونانية(‪ )2‬فالكتابة‬
‫ف حالت كثية ل تثل النطق تثيل مباشرا‪ ،‬ولكنها تعكس جوانب من تاريخ الكلمة‪،‬‬
‫والمر صحيح بالنسبةِ للخط العرب كما نكتبه اليوم‪ ،‬فهناك أحرف تظهر ‪،‬نطقا‪ ،‬ف مواضع‬
‫لتختفي ف مواضع أخرى‪ ،‬وخذ على سبيل الثال كلمة (ابن) والت يظهر فيها حرف اللف‬
‫إذا ما جاءت الكلمة مستقلة‪ ،‬فإذا ما أضيف حرف الفاء إل أول الكلمة مثل (فابن) فإن‬
‫اللف تتفي نطقا وتستقر كتابة‪ ،‬لذلك فقد ت التفريق بي اللف الت ل تظهر ف سياق‬
‫الكلم بصطلح (ألف الوصل) تييزا لا عن هزة القطع الت ل تتفي وتظل دائما ف الكلمة‬
‫العربية‪ ،‬وعليه؛ فإن هناك اختلفا ف النطق بي (قال أحد) و (قال اخرج) ففي العبارة‬
‫الول نلحظ أننا نطقنا بكلمة (قال) الت تنتهي بركة قصية هي الفتحة‪ ،‬ث جئنا بعد ذلك‬
‫بكلمة (أحد) ونطقنا بالمزة باعتبارها أول أصوات هذه الكلمة‪ ،‬لكن على عكس ذلك‬
‫جاءت العبارة الثانية‪ ،‬فالنطق الفصيح لا يعلنا ننطق بعد اللم والفتحة التالية لا صوت‬
‫الاء مباشرة دون أن ننطق باللف‪.‬‬

‫‪)(1‬مدخل إل علم اللغة‪ ،‬د‪ .‬ممود فهمي حجازي‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،1978 ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪)(2‬لعل ف هذا بعض التفسي لختلف الرسم القرآن عن الكتابة العربية العادية‪ ،‬حيث الرسم القرآن يعب عن‬
‫مطابقة الرسم للنطق كما شاء ال وليس كما يعرف البشر!!‬

‫‪104‬‬
‫ويكن القول أن اللغة الكتوبة ما هي إل عبارة عن رموز مرئية يعب كلٌ منها عن "أسرة"‬
‫كاملة (وليس عن وِحدة واحدة) من وحدات أصغر منها هي "الوحدات الصوتية"‪ ،‬و(فقط)‬
‫من خلل هذه الوحدات الصوتية يكن تميل النص الكتوب بشت ألوان العواطف‬
‫والشاعر والحاسيس!! فنبات الفرح‪ ،‬والزن‪ ،‬والسى‪ ،‬والل‪...‬ال والت ل يكن تلمسها‬
‫من خلل النص الكتوب‪ ،‬وتعتب تلك الشاعر والعواطف جزء أساسيا ف أي نص مقروء‪،‬‬
‫ويعتب التعبي عنها أثناء قراءة النص القرآن الكري جزء ل يتجزأ من وفاء القارئ للنص‬
‫حقه‪ ،‬ويب اللتفات كذلك إل أن التعبي بواسطة الروف الكتوبة إنا هو وسيلة ‪،‬ناقصة‬
‫وقاصرة‪ ،‬لدراك اللغة‪ ،‬وذلك إذا ما علمنا أن البدياتُ الكتوبةُ ل تصص رموزا كتابيةً‬
‫لميع الفونيمات النطوقة‪ ،‬ويعتبُ البعضُ أن ذلك المر هو واحد من عيوب تسجيل اللغة‬
‫بواسطة الكتابة‪ ،‬فالجنب الذي يتعلم اللغة العربية بواسطة ال ِكتَاب؛ ل يستطيع أن يدرك‬
‫فروع فونيم حرف النون على سبيل الثال‪ ،‬ولذلك فإنه سينطقها أو ياول نطق كل تفرعاتا‬
‫بطريقة واحدة‪ .‬من هنا أمكن إدراك الكمة ف عدم جواز الفظ من الصحف من غي معلم‬
‫يصحح للقارئ نطقه وأداءه!‪.‬‬
‫وباعتبارنا للغة على أنا أصوات (وليس فقط ما يكتب منها) فإنه يضرنا قول "ماريو‬
‫باي" من أن (عدد الصوات الت يكن لهاز النطق النسان أن ينتجها ل يكن حصره أو‬
‫تقديره على وجه الدقة حت الن‪ ،‬وهذا يرجع إل أن أقل انراف ف الخرج يكن أن يعطي‬
‫نتائج متلفة تدركها الجهزة الساسة مثل السبكتروجراف أو مسجل تردد الوجات‬
‫الصوتية‪ ،‬إن ل تدركها الذن)(‪..)1‬‬

‫‪ )(1‬أسس علم اللغة‪( ،‬هامش الدخل لعلم اللغة‪ ،‬للدكتور رمضان عبد الوهاب‪ ،‬ص ‪.)60‬‬

‫‪105‬‬
‫ومعن قولنا أن اللغة ف أصلها منطوقة أن العتبار إنا هو لكل ما يتم التلفظ به‪ ،‬وليس‬
‫فقط ما تتم كتابته‪ ،‬فكلمة "ممد" على سبيل الثال (والت تتوي ‪،‬من الناحية الكتابية‪ ،‬على‬
‫أربعة أحرف) إنا تتكون ف حقيقة المر من وحدات صوتية أكثر‪ ،‬وهي‪ :‬صوت اليم‪ ،‬ث‬
‫صوت الضمة‪ ،‬ث صوت الاء‪ ،‬ث صوت الفتحة‪ ،‬ث صوت اليم‪ ،‬ث صوت الفتحة‪ ،‬ث‬
‫صوت الدال؛ على الترتيب‪ .‬ولعل كتابة كلمة "ممد" باللغة النليزية أكثر تعبيا عن‬
‫الفونيم من اللغة العربية‪ ،‬ذلك أن العربية تستعيض عن بعض الفونيمات النطوقة بركات‬
‫تشكيل كالفتحة والضمة والكسرة والسكون!‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫من هنا يكننا الفتراض أن اللغة الواحدة والكونة من عدد مدود من الوحدات‬
‫الصوتية(‪ )1‬تكننا من تأليف وتكوين مليي الكلمات الختلفة‪ ،‬وذلك عن طريق النساق‬
‫الختلفة لذه الوحدات الصوتية ف الواقع الختلفة‪ ،‬فالكلمات (كتب)‪( ،‬بكت)‪( ،‬تكب)‪،‬‬
‫(بتك)‪( ،‬تبك)‪( ،‬كبت) كلها ألفاظٌ مكنة من الناحية النظرية‪ ،‬وهي تتكون من نفس‬
‫الوحدات الصوتية ولكنها تتلف ف ترتيب هذه الوحدات داخل الكلمة‪ .‬وبعض هذه‬
‫الكلمات موجودة فعلً ف واقع اللغة العربية؛ والبعض الخر غي موجود مع أنه مكن من‬
‫الناحية النظرية‪ ..‬وهكذا ند أن العدد الحدود من الوحدات الصوتية ‪،‬ف أية لغة‪ ،‬يكن أن‬
‫يكوّن مليي الكلمات‪ ،‬لكنّ كل لغة تتار من هذه الحتمالت المكنة –نظريا‪ -‬عدة‬
‫آلف فقط)(‪ )2‬وهي الكلمات الت ندها ف العجمات اللغوية لتلك اللغة!!‪..‬‬
‫* * *‬
‫وهكذا تتضح لنا أهية "التواتر السمعي" للقرآن الكري‪ ،‬حيث أن أي انراف ف اللفظ‬
‫ينتج شيئا آخر غي القرآن الكري حت لو تشابه معه من الناحية الكتابية!!‪..‬‬

‫‪ )(1‬يتراوح عددها ف أكثر اللغات بي الثلثي والربعي‪ ،‬وهو ما اصطلح عليه بالروف الجائية‪.‬‬
‫‪)(2‬مدخل إل علم اللغة‪ ،‬د‪ .‬ممود فهمي حجازي‪ ،‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪ ،1978 ،‬ص ‪(19‬بتصرف بسيط)‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫‪..‬وهو ما يدفعنا إل استجلء الزيد من النقاط الامة الت تيط بالنص القرآن الجيد‪،‬‬
‫والتعلقة بالنواحي الوضوعية والنفعالية للنص الكري‪ ،‬والت تيب ف ناية الطاف على‬
‫سؤال ف غاية الهية أل وهو‪ :‬لاذا يتوجب علينا أن نرتل القرآن‪ ،‬وإذا ما أردنا إعادة طرح‬
‫السؤال بصيغة أخرى فيتوجب علينا القول‪ :‬ما الذي يضفيه الترتيل على النص الكري‬
‫للتمييز بي الستويات الوضوعية والنفعالية فيه؟‪.‬‬
‫لكن قبل الوض ف تلك الوانب الصيلة ف القرآن الكري فيجب التعرض ولو بقليل‬
‫من التفصيل لنواحي أساسية ف اللغة العربية‪ ،‬وهي النواحي "النطقية" الكتابية‪ ،‬و"النفعالية"‬
‫السماعية‪.‬‬

‫"منطقية" اللغة و "انفعالا"!!‬


‫كما يرى بعض علماء اللغة(‪ )1‬فإن اللغة ف واقع الال ليست لغة واحدة بل اثنتان!‪،‬‬
‫ففيما تعب الول عن لغة "منطقية" تعب الخرى عن لغة "انفعالية" وفيما تعب الول عن‬
‫“القيمة الوضوعية” تعب الثانية عن ”القيمة النفعالية” ف أي نص‪..‬‬

‫‪ )(1‬اللغة لفندريس‪( 185 ،‬هامش الدخل إل علم اللغة ومناهج البحث اللغوي‪ ،‬د‪ .‬رمضان عبد التواب‪ ،‬ص‬
‫‪.)142‬‬

‫‪108‬‬
‫ولعلنا ف مناقشتنا للتواتر الكتاب والسمعي ف القرآن الكري نكون قد وضعنا الناحية‬
‫الكتابية وجها لوجه أمام ما يقابلها؛ أل وهو‪ :‬اللغة "النطقية" أو "الوضوعية"‪ ،‬بينما نكون‬
‫قد وضعنا الناحية السمعية أمام مثيلتها "النفعالية"‪ ،‬وكأنا التعبي الكتوب يكون كافيا‬
‫للتعبي عن الناحية الوضوعية ف النص‪ ،‬بينما النواحي "النفعالية" فيه ل يكن التعبي عنها‬
‫إل من خلل السمات "الصوتية" و"السمعية" للنص!‪.‬‬
‫وند ف بعض اللغات ‪،‬كالفرنسية‪ ،‬أن هناك بونا شاسعا بي اللغة التكلمة واللغة‬
‫الكتوبة‪ ،‬بيث ل يتم التكلم إطلقا با تتم كتابته! ويكن إياز المر وزيادته وضوحا‬
‫بالقول‪ :‬إن عملية النطق بالكتوب كثيا ما تمل معها انفصاما (مقصودا) ف الترتيب‬
‫النطقي للجملة الكتوبة؛ بيث يتحول ترتيبها النطوق إل شكل آخر متلف تاما عنه ف‬
‫الترتيب الكتوب‪ ،‬ويتجلى الفرق بي اللغتي (النطقية) و(النفعالية) عندما نقارن اللغة‬
‫الكتوبة باللغة النطوقة‪ ،‬وهي الشكالية الت كثيا ما يعب عنها بإشكالية "الفصحى"‬
‫و"العامية"‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫وكمثال حيّ على عملية "إعادة الترتيب" الت تر با اللغة الكتوبة أثناء تولا إل الشكل‬
‫النطوق فإنك؛ وبدلً من أن تتوجه إل شخص ما باللغة الفصحى قائل له‪( :‬يب عليك‬
‫الجيء سريعا) فإنك تاطبه بالعامية قائل له‪( :‬تعال بالعجل!)‪ ..‬ال من المثلة‪ ،‬وتتجسد‬
‫الختلفات بي اللغتي "الكتوبة" و"النطوقة" ف فصل وفصم عُرى الترتيب النطقي لجزاء‬
‫الملة الكتوبة؛ وإعادة ترتيبها ‪،‬من ثّ‪ ،‬وفق أولويات جديدة! فل يعود فيها ذلك الترتيب‬
‫النطقي الذي تليه قواعد النحو‪...‬ال‪.‬‬
‫ولكي تتضح الفروقات بي هذا وذاك فلبد من التساؤل حول الغاية الت يسعى إليها‬
‫النسان من وراء "إعادة ترتيب الملة" بنقلها من شكلها الكتوب إل شكلها الديد‬
‫النطوق؟!‬
‫يكن وصف الجابة بأنا غاية ف العمق؛ إل جانب كونا غاية ف البساطة!‪..‬‬

‫‪110‬‬
‫فالشكل الديد (النطوق) عادة ما يكون أكثر استجابة للمنطق النفعال الختزن ف‬
‫النفس!! ففي الشكل الديد؛ ل يتم ترتيب الفكار ترتيبا موضوعيا بل وفقا لهيتها الذاتية‬
‫والنفعالية للمتكلم ذاته؛ وأهية العناصر الختلفة ‪،‬الت يدور الديث عنها‪ ،‬بالنسبةِ له‪ ،‬ومن‬
‫الهية النسبية لتلك العناصر مقارنة ببعضها بعضا تكتسب عملية إعادة تشكيل اللغة ‪،‬بي‬
‫الكتوب والنطوق‪ ،‬جالا ومنطقها وشرعيتها!!‪..‬‬
‫إل أن تلك العملية (إعادة ترتيب ألفاظ الملة) ‪،‬وإن كانت مشروعة ف اللغات ف‬
‫بعض الحيان‪ ، ،‬فإن تلك الاجة تنتفي وتفقد شرعيتها لدى تعاملنا مع نص واحد وحيد‬
‫هو النص القرآن الكري‪ ،‬حيث ل توجد هناك حاجة ‪،‬أصلً‪ ،‬لعادة الترتيب بغرض إبراز‬
‫النواحي النفعالية‪ ،‬فالنص القرآن يبز النواحي النفعالية بقدر ما يتوجب إبرازها‪ ،‬بيث أن‬
‫القارئ له ل يد ف نفسه ميل لتلك العملية!!‬

‫‪111‬‬
‫التنغيم ف اللغة!‪..‬‬

‫‪112‬‬
‫تعتب اللغة ‪،‬بشكل عام‪ ،‬شكل من أشكال التعبي عن درجة رقي متمع ما‪ ،‬لكن وأيا‬
‫كان شكلها (اللغة) فهي ل تعب عن الكمال ف أدوات التواصل بي البشر‪ ،‬فاللغة ف‬
‫الجتمع البدائي غي التحضر ‪،‬على سبيل الثال‪ ،‬تكون مدودة اللفاظ والتراكيب واليال‪،‬‬
‫ول يكون لا من الرونة ما يسمح لا بالتساع لكثي من فنون القول‪ ،‬وهي كثية الفردات‬
‫فيما يتعلق بالشياء الحسوسة والمور الزئية‪ ،‬قليلة اللفاظ الت تدل على العان الكلية‪،‬‬
‫وكثيا ما تلو اللفاظ ف الجتمع البدائي من الدقة؛ بيث يكثر فيها اللبس والبام‪ ،‬وهي‬
‫غالبا ما تعب عن ضرورات الياة اليومية‪ ،‬ولذلك كانت جلها قصية وروابطها قليلة‪،‬‬
‫وتعتمد اعتمادا كبيا على الشارات اليدوية ولغة السم لعطاء العن القصود‪ ،‬حيث تعتب‬
‫الركات والشارات جزءا مكمل للغة النطوقة ليصال العان الراد إيصالا‪.‬‬
‫وقصور اللغة عن التعبي عما ف النفس ليس مقصورا على اللغات البدائية‪ ،‬حيث كثيا‬
‫ما ظهر هذا المر ف الجتمعات الديثة أيضا؛ وذلك حي تعجز اللغة عن حل كافة‬
‫الدللت "الوضوعية" و"النفعالية" الت يريد التكلم إيصالا لن يستمع إليه‪ ،‬عندها يقع‬
‫الرء ف حالة يصعب وصفها‪ ،‬وهي الالة الت تزداد صعوبة إذا ما كان التحدث مستعمل‬
‫لهاز الاتف‪ ،‬أو إذا ما كان متحدثا إل الخرين ف أجواء تسودها الظلمة!!؛ حيث يفتقد‬
‫ساعتها القدرة على إكمال العان اللفظية بركات جسده(‪..)1‬‬
‫وقد تعرض”ابن جن” لثل تلك الالة حي قال‪( :‬وقال ل بعض مشاينا رحه ال‪ :‬أنا ل‬
‫أحسن أن أكلم إنسانا ف الظلمة)؟!(‪.)2‬‬

‫‪ )(1‬أية رسالة اتصالية ناول إيصالا للخرين لا ثلثة وجوه‪ :‬الول‪ :‬هو‪" :‬معن" أو "مضمون" الرسالة‪ .‬والثان هو‬
‫الانب "الصوت" فيها (ارتفاعا وانفاضا وتفصيل لللفاظ عن بعضها‪ ..‬ال) والثالث هو "الرئي" ونقصد به‬
‫(الركات السمية الت يستخدمها التحدث لتوضيح وإكمال رسالته) وقد وجد أن وصول رسائلنا وفهمها بنجاح‬
‫من قبل الخرين إنا يعتمد بنسبة‪ ،%38 ،%7 :‬و ‪ %55‬على كل من‪ :‬جانب الضمون‪ ،‬الانب الصوت‪،‬‬
‫والانب الرئي لرسل الرسالة على التوال‪ ..‬وهي علة إضافية تدفع باتاه ترتيل القرآن وحسن أدائه حيث الترتيل‬
‫هو عناية بالانب الصوت‪ ،‬الذي يتوقف عليه ناح وصول الرسالة بنسة ‪ %38‬ف حال وجود جانب مرئي‪،‬‬
‫ويتجاوز هذه النسبة ليصل إل ‪ %80‬ف حال عدم وجود الانب الرئي‪ ،‬كأن نستمع إل شخص ف الذاعة مثل‪،‬‬
‫فنجاح رسالة هذا الشخص ف الوصول للمستمعي تعتمد بنسبة تقترب من ‪ %80‬على الانب الصوت لديه!‪.‬‬
‫‪ )(2‬الصائص ‪ ،1/247‬هامش الدخل إل علم اللغة ومناهج البحث اللغوي‪ ،‬ص ‪ ،130‬مرجع سابق)‬

‫‪113‬‬
‫والالة الت نن بصددها‪ ،‬والت تعن ف جوهرها قصور اللغة ‪،‬بشكل عام‪ ،‬عن إيصال‬
‫الضامي الوضوعية والنفعالية للخرين تتم علينا التعرف على بعض الوسائل الت‬
‫يستخدمها النسان لكمال الصورة اللفظية الناقصة‪ ،‬وهنا لبد لنا من التعرف على‬
‫مصطلح مهم وهو "التنغيم" والذي يعن (رفع الصوت وخفضه ف أثناء الكلم للدللة على‬
‫العان الختلفة للجملة الواحدة)(‪.)1‬‬
‫وبكلمات أخرى فإن "التنغيم" يعن تميل الكلمات اللفوظات بشحنات انفعالية تدد‬
‫الوجهة الت يرمي إليها التكلم‪ ،‬فنفس الملة يكن أن تستخدم للتعبي عن مموعة من‬
‫الغراض‪ ،‬وما ييز غرض عن آخر هو التنغيم فقط!!‪..‬‬
‫مثال ذلك قولنا‪( :‬ل يا شيخ) وهو تعبي إذا ما أخذ بشكله اليادي (الشكل الكتوب)‬
‫فإنه يصلح للتعبي عن مموعة متعددة من الغراض‪ ،‬مثل دللته على "النفي" أو "التهكم"‬
‫أو "الستفهام" وغي ذلك‪ .‬كذلك فإن للتنغيم القدرة على التمييز بي الغراض "البية"‬
‫عن "الستفهامية" فنغمة الصوت وحدها هي الت تيز بي الغراض اللغوية الختلفة!‪.‬‬
‫والتنغيم ‪،‬بتعبي أدقّ‪ ،‬هو إضافة ظلل للفظ ما (أو مموعة اللفاظ) ليست موجودة فيه‬
‫أصلً!! بيث تستطيع تلك الظلل (الصوتية) أن توجه اللفظ إل اتاهات معنوية جديدة!‬
‫وأنت تس هذا من نفسك إذا تأملته وذلك أن تكون ف مدح إنسان والثناء عليه‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫"كان وال رجل!" فتزيد ف قوة اللفظ "ال" وتتمكن ف تطيط اللم‪ ،‬وإطالة اللفظ با‬
‫وعليها‪ ،‬أي‪ :‬رجلً فاضلً‪ ،‬أو شجاعا‪ ،‬أو كريا‪ ،‬أو نو ذلك‪..‬‬

‫‪ )(1‬الدخل إل علم اللغة ومناهج البحث اللغوي‪ ،‬د‪ .‬رمضان عبد التواب‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1985،‬ص ‪.106‬‬

‫‪114‬‬
‫ومن غرائب ما يضفيه "التنغيم" على اللفظ أنه يعله مُحت ِملً لوجهيه التناقضي!!‪..‬‬
‫فأنت تقول‪" :‬سألناه فوجدناه إنسانا!"‪ .‬وتُم ّكنُ الصوت بـ "إنسان"‪ ،‬فتستغن بذلك عن‬
‫وصفه بقولك‪ :‬إنسانا سحا أو جوادا أو نو ذلك‪ .‬وكذلك إذا ذمته ووصفته بالضيق قلت‬
‫الشيء نفسه‪" :‬سألناه فوجدناه إنسانا!"‪ ..‬لكنك تزوي وجهك وتقطّبه!؟‪ ،‬فيغن ذلك عن‬
‫قولك‪ :‬إنسانا لئيما‪ ،‬أو لِزا‪ ،‬أو مبخّل‪ ،‬أو نو ذلك(‪.)1‬‬
‫وقد ورد مثال ذلك ف القرآن الكري ف قوله تعال {ث صبّوا فوق رأسه من عذاب‬
‫الميم * ذق إنك أنت العزيز الكري}(الدخان‪ )49-48:‬ومن الواضح أن التنغيم هنا أمر ف‬
‫غاية اليوية لتبيي الغرض من الطاب‪ ،‬والذي انصرف عن موضوعه الصلي (التكري) إل‬
‫غرض آخر متلف تاما هو (السخرية)!‪..‬‬
‫ولعل من الغراض الساسية للترتيل أن تتضح أمثال هذه الغراض على حقيقتها!!‪.‬‬
‫لكن “التنغيم" ليس الؤثر الوحيد الذي يكن إضافته ‪-‬وإضفاؤه‪ -‬على النص ليصبح أكثر‬
‫تعبيا عن الشحنة العاطفية والدفق النفعال الرافق للحدث! إذ يكن إضفاء الزيد من‬
‫اليوية على اللفظ ليصبح أكثر ملمسة للمعن؛ وذلك بتغيي نبة الصوت‪ ،‬أو سرعته‪ ،‬أو‬
‫بالتشديد على هذه الكلمة أو تلك دون غيها من سائر الكلم!‪.‬‬

‫‪ )(1‬الفقرات ما بي القواس من كتاب الدخل إل علم اللغة ومناهج البحث اللغوي‪ ،‬د‪ .‬رمضان عبد التواب‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪ ،1985،‬ص ‪.107-106‬‬

‫‪115‬‬
‫ولعل من الغراض الساسية لذه الدراسة هو أن نبي ما للنفعال من أثر أساسي واضح‬
‫ف تبيي وتوضيح الغراض الوضوعية للنص (القرآن الكري على وجه الصوص) فإظهار‬
‫النفعال(‪ )1‬ليس شيئا زائدا يكن التخلي عنه كما يعتقد البعض‪ ،‬بل إن إهاله يلغي جزءا‬
‫كبية من القيمة الوضوعية التضمنة ف النص ذاته‪..‬‬
‫ويدلل "فندريس" على ملزمة النفعال للتعبي عن الفكار ذاتا بقوله‪( :‬فمن النادر‬
‫عندما تتسابق ف ذهننا (ونن بصدد التعبي عن فكرة ما) عدة عبارات متلفة‪ ،‬أن تكون‬
‫إحدى هذه العبارات عقلية مضة‪ ،‬وأن تعب عن استدلل منطقي بت‪ ،‬أو أن تصور حقيقةً‬
‫أو حادثا ما ف بساطته العارية من كل لباس‪ ،‬فإنن أرى حادثا يقع أمامي فأصيح راثيا لال‬
‫صاحبه‪( :‬آه! السكي!)‪ ،‬وأقابل صديقا ل أكن أتوقع لقاءه فأقول له‪( :‬أنت! هنا!)‪..‬ال‬
‫فهذه المل ذات قيمة انفعالية عالية‪ ،‬واضحة كل الوضوح‪ ،‬فإذا صيغت ف لغة النطق‬
‫الدلية صارت‪( :‬أرثي لذا السكي) أو (يدهشن أن أراك هنا)‪.‬‬

‫‪ )(1‬بترتيل القرآن ترتيل صحيحا‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫ومن هذا النطلق فإن اللغة ‪،‬من وجهة نظر علماء النفس‪ ،‬ل يصح أن تدرس على أنا‬
‫أداة عقلية فحسب‪ ،‬لن النسان كما أنه يتكلم ليصوغ أفكاره‪ ،‬فهو يتكلم ليؤثر ف غيه‬
‫من الناس‪ ،‬وليعب عن أحاسيسه ومشاعره وعواطفه‪ ،‬فهو يعب باللغة عن نفسه كما يعب عن‬
‫آرائه‪ ،‬بل إنه يكن القول بأن التعبي عن أية فكرة بتعبي ما (مهما كان ذلك التعبي شائعا أو‬
‫عاميا مبتذلً) ل يلو مطلقا من العناصر النفعالية‪ ،‬إل إذا استثنينا اللغة والتفكي العلميي؛‬
‫حيث يب أن تكون تلك اللغة معبةً عن الفكرة الحضة؛ والقيقة الجردة الالية من‬
‫النفعالت النفسية‪ ..‬فإذا ما قلت مثلً‪( :‬حامد يضربُ عليا) بدا وكأنن أعبُ ‪،‬بكل بساطة‪،‬‬
‫عن علقة بي شخصي يمع بينهما حدث الضرب‪ ،‬وهذا كل ما يزودن به التحليل النطقي‬
‫الزعوم‪ ،‬لكن ف الواقع إن مثل هذه الملة ل يكن مطلقا أن تكون مرد عبارة منطقية يعب‬
‫با عن علقة ما؛ إذ أن أضيف إليها دائما ألوانا انفعالية‪ ،‬فضرب "حامد" لـ "علي" ل يكن‬
‫أن يكون عدي الثر بالنسبةِ ل‪ ،‬إذ لو ل يكن له مساسٌ بنفسي لا قلته‪ ،‬لذا فإن مثل هذه‬
‫الملة ذات قيمة انفعالية تتلف اختلفا كبيا عن تلك القيمة الت تكون لا لو كنت قد‬
‫قرأت تلك العبارة ف كتاب من كتب التاريخ يدور فيه الديث عن ملك ما اسه "حامد"‬
‫وملك آخر اسه "علي" ل يعنين من أمرها شيء‪ ،‬ذلك أن القصص التاريي موضوعي‬
‫دائما‪ ،‬وهذا هو السبب الذي يعل الدارس للتاريخ ل يتأثر بالفظائع الت يرتكبها البشر؛‬
‫لنه يراها تقع ف ماض سحيق‪ ،‬بعكس شعورنا ونن نقرأ خبا لريةٍ وقعت ف مدينتنا!!‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫والعلقة بي "الوضوعي" و"النفعال" (ف القصص القرآن على سبيل الثال) تتلف عما‬
‫هي عليه حي نقرأ قصة من قصص التاريخ‪ ،‬بل ل ناوز القيقة إن نن قلنا بوجوب ذلك‬
‫الختلف! فتجريد الوضوع القرآن من ظلله "النفعالية" يول القرآن الكري إل شيء‬
‫آخر متلف!!‪ ..‬غي الذي أراده ال لنا‪:‬‬
‫شوْنَ رَبّ ُهمْ ُثمّ‬
‫خَ‬‫شعِرّ مِنْهُ ُجلُودُ اّلذِينَ يَ ْ‬
‫حدِيثِ كِتَابًا مّتَشَابِهًا مّثَانِيَ َتقْ َ‬
‫سنَ اْل َ‬
‫{ال ّلهُ َنزّلَ أَ ْح َ‬
‫َتلِيُ جُلُو ُد ُهمْ وَقُلُوبُ ُهمْ إِلَى ِذكْرِ ال ّلهِ ذَِلكَ ُهدَى ال ّلهِ يَ ْهدِي ِبهِ َمنْ يَشَاء َومَن ُيضْلِلْ ال ّلهُ َفمَا‬
‫َلهُ ِمنْ هَادٍ}(الزمر‪..)23:‬‬
‫وحسب رأينا ‪،‬التواضع‪ ،‬فإن قوله تعال {يهدي به من يشاء} هو أمرٌ متعلق بقدرة قارئ‬
‫القرآن على تلوته حق تلوته‪ ،‬والت تقتضي منه تلوين مستوياته الوضوعية بستويات‬
‫انفعالية موافقة ومناسبة لا! ما يترتب عليه تقق واكتمال التأثر بالقرآن عقليا وانفعاليا!‪.‬‬
‫وبكل ارتياح يكننا القول بأن القرآن الكري بطبيعته (من الناحية الشعورية النفعالية) ل‬
‫يقبل "الياد" حت وإن أتى موضوعه ‪،‬ف كثي من الحوال‪ ،‬بصيغة الاضي؛ ما يطال به أزمنة‬
‫غابرة وأقواما سابقي‪ ،‬فالطلوب منا حقا هو تفجي الدفق "النفعال" ف نفس قارئ القرآن؛‬
‫بالتوازي مع قراءته الوضوعية له‪ ،‬ذلك أن كل ما يتويه القرآن الكري من أغراض‬
‫موضوعية إنا يرتبط ‪،‬ف ناية الطاف‪ ،‬بصي النسان ومآله‪ ،‬وهو ما يوجب علينا إيلء‬
‫الناحية النفعالية فيه اهتماما يتناسب مع أهيتها‪ ،‬بيث تعلنا نتناوله تناولً ‪،‬مُتجددا‪ ،‬تتجلى‬
‫فيه تلك القيمة بأصدق تلياتا!!‪..‬‬
‫وإذا ما رجعنا إل النص القرآن الكري لنحاول استشفاف شيء ما يتعلق بتلك الاصية‬
‫البشرية التعلقة بـ "اليل البشري إل اللغة النفعالية" واستجابة القرآن الكري بشكل مطلق‬
‫لا؛ فسنجد عندها إن النص القرآن الكري ‪،‬بالفعل‪ ،‬ل يتنل ليلب متطلبات الانب‬
‫الوضوعي وحسب‪ ،‬بل جاء مُشربا ‪،‬بشكل عجيب‪ ،‬بالقيمة النفعالية!! إل الدرجة الت‬
‫يكن القرار معها بأن النص القرآن‪ ،‬وف نوذج وحيد‪ ،‬قد أشبع ‪،‬بالفعل‪ ،‬كل أشواقنا‬
‫وتطلعاتنا الشعورية والنفعالية!! فل ند ف أنفسنا حاجةً لعادة ترتيب النص؛ تلبية لوانب‬
‫النفعال فينا كما نفعل مع النصوص الخرى!؟؟‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫"القيمة الوضوعية" و "القيمة النفعالية"‬

‫لنعد الن للسؤال الذي كنا قد طرحناه مع بداية موضوعنا هذا‪ ،‬أل وهو‪ :‬لاذا نرتل‬
‫القرآن؟‪ ..‬وللجابة عن هذا السؤال دعونا نفترض أن أية لفظة يكن أن تتوي على نوعي‬
‫من "الحتوى" أو "الضمون"‪..‬‬
‫الول‪ :‬الحتوى (أو الضمون) الوضوعي‪ :‬وهو العب عن العن الوضوعي للفظ‪ ..‬مثال‪:‬‬
‫الكلمات‪ :‬حب‪ ،‬كره‪ ،‬ساء‪ ،‬أرض‪ ،‬غيم‪ ،‬مطر‪ ،‬حرب‪ ..‬ال فكل كلمة منها تمل معن ف‬
‫ذاتا وتستدعيه لدى ذكرها وتدل عليه‪ ،‬ويكن البحث عن العان ف العاجم اللغوية‪.‬‬
‫الثان‪ :‬الحتوى النفعال‪ :‬ويدد نوع ومقدار ما تثيه تلك الكلمة من انفعال وجدان ف‬
‫نفس التلقي‪ ..‬فكل كلمة من الكلمات السابقة تثي مشاعر الطمئنان أو النقباض‪ ..‬ال‬
‫لدى القارئ‪ ،‬وتتناسب شدة تلك الشاعر مع القيمة الوضوعية الت يتضمنها اللفظ‪.‬‬
‫ومن الناحية النظرية؛ يكن للفظ ما أن يمل قيما موضوعية أو انفعالية إيابية أو سلبية‪،‬‬
‫فكلمة "ال‪" ،‬حق" "رحة" و"حب" تمل مضامي تثي ف النفس أحاسيس وجدانية انفعالية‬
‫إيابية مطمئنة ومرية {أل بذكر ال تطمئن القلوب} نظرا لا تتويه من معا ِن موضوعية‬
‫إيابية‪ ،‬بينما كلمات مثل‪" :‬شيطان" "باطل" "حرب" و"شر" تثي ف النفس مشاعر وجدانية‬
‫انفعالية سلبية( ) نظرا لا تمله من معانٍ موضوعية سلبية‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪ )(1‬من المور العجيبة ف هذا الجال ما أثبته العال اليابان "ماسارو إيوتو" من أن بلورات الاء (بعد تميده) تتأثر‬
‫بالشاعر النسانية‪ ،‬حيث قام "إيوتو" بأخذ عينات من الاء من مصادر متلفة وقام بفحص بلوراتا فوجد أن شكل‬
‫البلورة يتلف من مصدر إل آخر‪ ،‬الغريب ف المر أن شكل البلورة قد تأثر بشاعر النسان الوجهة نو الاء‬
‫سواء أكانت إيابية أم سلبية‪ ،‬فإن أنت رحت تقرأ على الاء أو تدثه! بكلمات جيلة مثل‪ :‬حب‪ ،‬تقدير‪ ..‬ال‬
‫تصبح البلورة ف غاية المال‪ ،‬بينما توجيه كلمات سلبية أو نابية للماء كأن تاطبه بقولك‪" :‬أكرهك"‪" ..‬سوف‬
‫أقتلك"‪ ..‬ال يعل من شكل البلورة ف غاية القبح‪ ..‬وهذا المر مثبت وموثق من خلل مؤلفات وصور حقيقية قام‬
‫الؤلف اليابان بنشرها وموجودة أيضا على شبكة العلومات الدولية‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫بينما هناك نوع ثالث من اللفاظ الت تمل مضامي موضوعية وانفعالية حيادية مثل‬
‫حروف الر على سبيل الثال‪ ،‬والت ل تتوي معن تدل عليه بذاتا‪..‬‬
‫وعليه؛ فإننا نفترض هنا أن التلوة الصحيحة للقرآن الكري يب أن تُفصّل وتوضح‬
‫وتظهر الستويات الوضوعية والنفعالية الختلفة بشكلٍ واضح‪ ..‬وأن تعطي كل مستوىً‬
‫موضوعي مستواه النفعال الناسب‪ ..‬وذلك من خلل مستويات صوتية متباينة‪.‬‬
‫‪..‬فل يستوي موضعٌ يُذكر فيه اسم ال وموضع يُذكر فيه الشيطان (ول العزة ولرسوله‬
‫وللمؤمني)‪ ..‬وليس مقامٌ تٌذكر فيه الرحة كمقامٍ يذكرُ فيه العذاب!!‪..‬‬
‫وقارئ القرآن ل يكن له أن يكون حياديا أمام ما تعرضه اليات‪ ،‬فلبد وأن يكون ذا‬
‫موقفٍ واضحٍ تاه ما ير به من موضوعات‪ ،‬وهذا الوقف هو السبب للنفعال نتيجة‬
‫طرح مواقف ومستويات موضوعية متباينة‪ ..‬وهذا الوقف الذهن والعقلي ناشئ أساسا‬
‫عن عوامل داخلية ف النص (وليست خارجه) ولبد لا أن تظهر ف طريقة الداء‪..‬‬
‫فكيف يكن لؤمن أن يكون حياديا تاه هذه القصة على سبيل الثال؟؟‬

‫‪120‬‬
‫{وَاضْ ِربْ لَهُم مَّثلً رّجُ َل ْينِ َجعَلْنَا لَ َح ِد ِهمَا جَنّتَ ْينِ ِمنْ َأعْنَابٍ وَ َحفَفْنَا ُهمَا بَِنخْلٍ وَ َجعَلْنَا‬
‫َبيْنَ ُهمَا َز ْرعًا * كِلْتَا اْلجَنّتَ ْينِ آتَتْ أُ ُكلَهَا وََلمْ تَ ْظ ِلمْ مِ ْنهُ شَيْئًا وَفَجّرْنَا خِللَ ُهمَا نَهَرًا * وَكَانَ َلهُ‬
‫سهِ‬
‫َث َمرٌ َفقَالَ ِلصَاحِِبهِ َوهُوَ ُيحَاوِرُهُ َأنَا َأكْثَرُ مِنكَ مَالً وََأعَزّ َنفَرًا* وَدَخَلَ َجنَّتهُ َوهُوَ ظَاِلمٌ لَّنفْ ِ‬
‫قَالَ مَا َأ ُظنّ أَن تَبِيدَ َهذِهِ َأَبدًا* َومَا أَ ُظنّ السّا َعةَ قَاِئ َمةً وَلَئِن رّدِدتّ إِلَى رَبّي لَ ِجدَنّ خَيْرًا‬
‫مّنْهَا مُنقَلَبًا* قَالَ َلهُ صَاحُِبهُ وَ ُهوَ ُيحَاوِرُهُ َأ َكفَ ْرتَ بِاّلذِي َخ َلقَكَ مِن تُرَابٍ ُثمّ مِن نّ ْط َفةٍ ُثمّ‬
‫َسوّاكَ رَجُلً * لّ ِكنّا ُهوَ ال ّلهُ َربّي وَل أُشْ ِركُ ِبرَبّي أَ َحدًا* وََلوْل إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتكَ ُقلْتَ مَا شَاء‬
‫ال ّلهُ ل ُقوّةَ إِلّ بِال ّلهِ إِن ُترَنِ أَنَا أَقَلّ مِنكَ مَالً َووََلدًا* َفعَسَى رَبّي أَن ُيؤْتَِينِ خَ ْيرًا مّن جَنِّتكَ‬
‫ستَطِيعَ َلهُ‬
‫سمَاء َفُتصْبِحَ صَعِيدًا زََلقًا * َأوْ ُيصْبِحَ مَا ُؤهَا َغوْرًا فَلَن تَ ْ‬
‫وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مّنَ ال ّ‬
‫َطلَبًا * وَأُحِيطَ بَِثمَرِهِ َفَأصْبَحَ ُيقَلّبُ َكفّ ْيهِ عَلَى مَا أَن َفقَ فِيهَا َوهِيَ خَاوَِيةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ‬
‫يَا لَيَْتنِي َلمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَ َحدًا}(الكهف‪)42-32:‬‬
‫فكيف لقارئ القرآن أن يعب عن عدم حياديته‪ ،‬وإعلن انتمائه للقيم العروضة أمامه؟!‬
‫هنا يتضح لنا أن على قارئ القرآن تلوته متأثرا به‪ ،‬وأن يظهر هذا التأثر ف طريقة‬
‫التلوة ذاتا‪ ،‬فعليه أن يتأثر بآيات القرآن وعدا ووعيدا {ويرون للذقان يبكون ويزيدهم‬
‫خشوعا}(السراء‪ )109:‬فيفرح ويسر ليات الوعد كما ف قوله تعال‪:‬‬
‫جّنةُ أُورِثُْتمُوهَا ِبمَا كُنُتمْ‬
‫حقّ وَنُودُواْ أَن تِلْ ُكمُ الْ َ‬
‫{َلقَدْ جَاءتْ رُسُلُ َربّنَا بِاْل َ‬
‫َت ْعمَلُونَ} (العراف‪)43:‬‬
‫ويزن ويبكي ليات الوعيد فزعا ورهب ًة وهولً‪ ،‬كما ف قوله تعال‪:‬‬
‫حنَاجِرِ كَا ِظ ِميَ مَا لِلظّاِلمِيَ مِنْ‬
‫{ وَأَنذِ ْر ُهمْ َي ْومَ الزِ َفةِ إِذِ اْلقُلُوبُ َلدَى الْ َ‬
‫َحمِيمٍ وَل َشفِيعٍ ُيطَاعُ}(غافر‪)18:‬‬

‫‪121‬‬
‫وف حديث ابن مسعود قال‪ :‬قال ل رسول ال صلى ال عليه وسلم (اقرأ عليّ القرآن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا رسول ال؛ أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال‪ :‬نعم‪ ..‬إن أحب أن أسعه من غيي‪،‬‬
‫فقرأت سورة "النساء" حت أتيت إل هذه الية‪{:‬فكيف إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد وجئنا‬
‫بك على هؤلء شهيدا}(النساء‪ )41:‬قال‪:‬حسبك الن‪ .‬فالتفتّ فإذا عيناه تذرفان)( )‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫لقد اعتب البعض التوازن بي الناحيتي الوضوعية والنفعالية للنص القرآن جزءا ل‬
‫يتجزأ من العجاز فيه‪ ،‬ويوجد ذلك (أي العجاز) ف إقناع العقل وإمتاع العاطفة‪ ،‬با يفي‬
‫باجة النفس البشرية تفكيا ووجدانا ف تكافؤٍ واتزان‪ ،‬فل تطغى قوة التفكي على قوة‬
‫الوجدان‪ ،‬ول قوة الوجدان على قوة التفكي( )‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫وف الصفحات القادمة سنتعرض لجموعة من النماذج التحليلية لعدد من اليات‪ ،‬والت‬
‫سنبي من خللا تصاعد خط “القيمة النفعالية” ف النص الجيد‪ ،‬وترافقها مع تصاعد‬
‫“القيمة الوضوعية” له‪..‬‬

‫() أخرجه البخاري وغيه‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() مباحث ف علوم القرآن‪ ،‬مناع القطان‪ ،‬دار الريخ للنشر‪ ،1988 ،‬ص ‪.301‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪122‬‬
‫ناذج تليلية‬
‫نوذج للدللة على‬
‫تأثر القيمة الوضوعية (العن) بالقيمة النفعالية‬
‫(التلوة وتنوع الداء)‬
‫لنأخذ نوذجا للدراسة للدللة على تباين الستويات الوضوعية ف النص القرآن‪ ،‬وكيف‬
‫أن التعبي عن هذا التباين من خلل التلوة الصحيحة يؤثر ف معان اليات‪ ،‬بيث تصبح‬
‫التلوة أمرا جوهريا‪ ،‬ل مرد زينة شكلية‪..‬‬
‫وهو ما نده ف الية الكرية من سورة "آل عمران"‪:‬‬
‫ضعَتْ وَلَيْسَ‬
‫ضعَتْهَا قَالَتْ َربّ إِنّي َوضَعْتُهَا أُنثَى وَال ّلهُ َأ ْع َلمُ ِبمَا وَ َ‬
‫{فَ َلمّا َو َ‬
‫الذّكَرُ كَالُنثَى وَِإنّي َسمّيْتُهَا مَرَْيمَ وِإِنّي ُأعِي ُذهَا ِبكَ وَذُرّيّتَهَا ِمنَ الشّيْطَانِ‬
‫الرّجِيمِ}(آل عمران‪)36:‬‬
‫ففي التفسي (أي لا ولدتا قالت على وجه التحسر والعتذار يا رب إنا أنثى‪ ،‬قال ابن‬
‫عباس‪ :‬إنا قالت هذا لنه ل يكن يُقبل ف النذر إل الذكور‪ ،‬فقبل ال مري؛ قال تعال {وال‬
‫أعلم با وضعت} أي وال أعلم بالشيء الذي وضعت‪ ،‬قالت ذلك أو ل تقله‪{ .‬وليس‬
‫الذكر كالنثى} أي ليس الذكر الذي طلبته كالنثى الت وُهبتها‪ ،‬بل هذه أفضل‪ ،‬والملتان‬
‫معترضتان من كلمه تعال تعظيما لشأن هذه الولودة)( )‪..‬‬
‫‪1‬‬

‫‪ )(1‬صفوة التفاسي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.198‬‬

‫‪123‬‬
‫لكن علمات استفهام ترتسم حول الملتي العتراضيتي؛ وعلى من تعودان؟ خصوصا‬
‫الية الكرية {وليس الذكر كالنثى} وف رأينا التواضع فإن ف الية الذكورة تعميم يطال‬
‫كلّ ذكرٍ وكلّ أنثى؛ وليست مصصة لري كما قال بذلك البعض‪ ،‬ولو كانت من قوله تعال‬
‫(كما ذكر آنفا) لكان فيها شبهة التمييز ضد أحد الطرفي‪ :‬الذكر والنثى‪ .‬وما نعتقده هنا‬
‫ضعَتْ وَلَيْسَ الذّ َكرُ كَالُنثَى وَإِنّي‬
‫أن الية {…قَالَتْ َربّ ِإنّي َوضَعْتُهَا أُنثَى وَال ّلهُ َأ ْع َلمُ ِبمَا َو َ‬
‫َسمّيْتُهَا مَرَْيمَ‪ }..‬ليست جيعها من كلم أم مري‪ ،‬بل جعت الية مستويي موضوعيي متلفي‬
‫عب الول عن كلم أم مري‪ ،‬بينما اعترض كلمَها جلة تعقيبية من ال عز وجل{وال أعلم‬
‫ى موضوعيٍ أعلى‪ ،‬والطورة هنا هي ف عدم تديد‬
‫با وضعت} والت هي بثابة مستو ً‬
‫الدود الفاصلة بي كلم أم مري وكلم ال‪ ،‬فإذا ما اعتقدنا بوحدة الستوى الوضوعي بي‬
‫{وال أعلم با وضعت} {وليس الذكر كالنثى} (بوحدة القائل) أصبحت الية وكأنا‬
‫إقرار من ال عز وجل بعدم تكافؤ الذكر والنثى‪ ،‬لكننا إذا ما رددنا {وليس الذكر‬
‫كالنثى} ليعود على أم مري (أي إلاقها بستوى موضوعي يعود على أم مري) فسيكون ف‬
‫ذلك الكثي من النصاف ف فهم النص‪.‬‬
‫والمر نفسه ينطبق على الية الكرية {وقالوا اتذ ال ولدا‪ ،‬سبحانه}(البقرة‪ )116:‬حيث‬
‫تقع علمة "الوقف أول" بعد كلمة "ولدا"‪ ،‬ما يعن أن التوقف اختياري‪ ،‬مع أولوية‬
‫للتوقف‪ ،‬فإن ل يرد القارئ التوقف فعليه أن يغي ف النبة‪ ،‬وإل تولت كلمة "سبحانه" إل‬
‫قولٍ يعود على من اتذ من دون ال ولدا!!‬
‫وما يهمنا هنا هو أن نشي إل ضرورة إخلف نبة القراءة بي الستويي الذكورين ليعبا‬
‫عن اختلف الستويات الوضوعية الت تدثنا عنها!‪ ..‬فالية {وال أعلم با وضعت} تقرأ‬
‫بطريقة تعب عن مستوى موضوعي يليق بلل القائل‪ :‬وهو ال عز وجل‪ ،‬بينما {وليس‬
‫الذكر كالنثى} تقرأ بطريقة تعب عن مستوى موضوعي آخر متلف يتناسب مع الستوى‬
‫الوضوعي لم مري‪ ..‬وهكذا دواليك‪..‬‬

‫نوذج‪ :‬انيار مفاجئ ف القيمة الوضوعية‬

‫‪124‬‬
‫بتأثي قيمة انفعالية مفاجئة!‬
‫لنتأمل معا الية التالية‪:‬‬
‫{وضرب لنا مثلً ‪،‬ونسي خلقه‪ ،‬قال من ييي العظام وهي رميم}(يس‪)78:‬‬
‫إن “القيمة الوضوعية” ف الية السابقة كان بالمكان أن تكتمل حت لو جاءت الية‬
‫على النحو التال (وضرب لنا مثل‪ ،‬قال‪ :‬من ييي العظام وهي رميم) وهو نص كان بإمكانه‬
‫أن يفي بغرض الخبار؛ لو كان الخبار ‪،‬فقط‪ ،‬هو كل ما قصد إليه القرآن من مرامٍ‪.‬‬
‫لكن ‪،‬وكما هو واضح‪ ،‬فإن “القيمة الوضوعية” ‪،‬الت هدفت اليةُ إل بنائها كلمةً بعد‬
‫كلمة‪ ،‬ترافقت مع ‪،‬قيمة انفعالية متصاعدة‪ ..‬لكن القيمة النفعالية ‪،‬ف حقيقة المر‪ ،‬جاءت‬
‫سابقةً للقيمة الوضوعية‪ ،‬ول تأتِ مترافقةً معها! وقد شكّلت {ونسي خلقه} نقطة الذروة‬
‫للقيمة النفعالية تلك!‪ .‬بيث يكن ان نطلق عليها "نقطة انيار مفاجئ"!!‬
‫وبذا فإن “القيمة النفعالية” الت أضافتها الفردتان {ونسي خلقه} قامت بعملية نسف‬
‫مسبقة للقيمة الوضوعية المثلة لجة الصم‪ ،‬حت قبل أن يتم طرحها!! وكأنا جاءت لتولد‬
‫لدى القارئ شعورا بعدم جدوى الستماع إل بقية ذلك اللغو!‪..‬‬
‫وهنا فإن “القيمة النفعالية” الت يملها النص استطاعت أن تضيف ما ل يكن‬
‫بالمكان إضافته؛ حت من خلل الزيد والزيد من اللفاظ والعبارات؟!‪.‬‬

‫نوذج عدم الستقرار النفسي‬


‫الناشئ عن عدم الستقرار العقائدي!‬
‫يرسم القرآن الكري خلصة الشعور بعدم الستقرار النفسي‪ ،‬الناشئ عن عدم‬
‫الستقرار العقائدي وذلك ف قوله تعال‪:‬‬
‫{ومن الناس من يعبد ال على حرف‪ ،‬فإن أصابه خي اطمأن به‪ ،‬وإن أصابته فتنة‬
‫انقلب على وجهه‪ ،‬خسر الدنيا والخرة}(الج‪)11:‬‬

‫‪125‬‬
‫ل موضوعيا‪-‬انفعاليا فسنجد حينها أن‬
‫فإذا ما رحنا ناول تليل اليات السابقة تلي ً‬
‫الفردات الت تعتب مفاتيح التعبي الوضوعي ف الية هي‪( :‬يعبد‪ ،‬حرف‪ ،‬خي‪ ،‬اطمأن‪ ،‬فتنة‪،‬‬
‫انقلب‪ ،‬وجهه‪ ،‬خسر‪ ..‬وكذلك القابلة بي "الدنيا" و"الخرة")‪..‬‬
‫أما “القيمة النفعالية” ف الية فترتسم نتيجة المع بي (يعبد) (ولا قيمة انفعالية‬
‫إيابية) وكلمة (حرف) (ولا قيمة انفعالية شبه حيادية) فتكون القيمة النفعالية الكلية‬
‫(عبادة على حرف) وهي قيمة انفعالية سلبية!‪.‬‬
‫وتنتج القيمة النفعالية الكلية كذلك من المع بي مفردة (خي) (ولا قيمة انفعالية‬
‫إيابية) و(فتنة) (ولا قيمة انفعالية سلبية)‪ ،‬ومقابلتهما مع مفردة (اطمأن) (لا قيمة انفعالية‬
‫إيابية) و الفردة (انقلب) (لا قيمة انفعالية سلبية) وهي ألفاظ ترسم تذبذبا انفعاليا صاعدا‬
‫وهابطا!‪ ..‬وتزداد "القيمة النفعالية السلبية الجالية" للتعبي الشار إليه بإضافتها إل “القيمة‬
‫النفعالية” التولدة عن كلمة (وجهه) (والت تثل قيمة إيابية أساسا‪ ،‬لن الوجه موضع‬
‫تشريف من النسان) فإذا أضيفت “القيمة النفعالية” الاصة بالوجه إل ما قبلها تضاعفت‬
‫“القيمة النفعالية الكلية” السلبية!‪.‬‬
‫كذلك فإن المع بي القيم النفعالية للمفردات (خسر) (الدنيا) و(الخرة) يعب عن‬
‫قيمة شعورية انفعالية عارمة‪ ،‬حيث تعب عن السران الشامل والبي‪.‬‬

‫نوذج السخرية؛ والدهشة‪ ،‬وعدم التصديق!‬


‫{…بابا من السماء…}!!‪..‬‬
‫يشخص القرآن الكري حالة العناد والكابرة لدى الكافرين وذلك ف قوله تعال‪:‬‬

‫‪126‬‬
‫{ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون‪ ،‬لقالوا‪ :‬إنا سكّرت أبصارنا‪ ،‬بل‬
‫نن قوم مسحورون}(الجر‪)15:‬‬
‫ويثل الشطر الول من الية {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء} ميل ناحية “القيمة‬
‫الوضوعية” على الرغم من أنه ل يلو من قيمة انفعالية تتمثل ف الكلمات (فتحنا) (بضمي‬
‫التكلم العائد على الذات اللية) و(بابا) و(السماء) وهي تثل (متمعةً) مقدار ما يكن أن‬
‫يتحقق من الستجابة اللية‪.‬وهي مفاتيح سوف تقق قيمة انفعالية مضاعفة لا سيأت بعدها‪.‬‬
‫{فظلوا فيه يعرجون} ل تعتب هذه الصورة جزءا من الصورة البية (والط الساسي‬
‫للرواية) الت يريد القرآن أن يبنا با‪ ،‬بل هي صورة جانبية تعقيبية؛ الغرض منها تقيق‬
‫ذروة “القيمة النفعالية” لا سيأت بعدها! وهي توضح أن الستجابة اللية (بفتح "باب ف‬
‫السماء) ل تظلْ ف حيز اليال‪ ،‬أو الوهم‪ ،‬أو النظرية‪ ،‬بل أصبحت حقيقة واقعة ينطلقون‬
‫إليها ليعاينوها ويتبوها بصورة عملية‪ ،‬فها هم قد انطلقوا إل ذلك الباب فهم فيه‬
‫يعرجون!‪ ..‬لكن “القيمة النفعالية” الت تريد الية تقيقها ل تصل ‪،‬حت هذه اللحظة‪ ،‬إل‬
‫ذروتا بعد‪ ،‬وإنا ستأت عندما تتواصل بقية الية فنصل إل‪{ :‬لقالوا‪ :‬إنا سكّرت أبصارنا}!‬
‫{بل نن قوم مسحورون}!!‪..‬‬
‫وتتحقق الدهشة هنا (الت تثل إحدى قمم وذُرى القيمة النفعالية الكلية) وذلك نتيجة‬
‫القابلة بي الشطر الول من الية والشطر الذي نن بصدده هنا‪{ :‬إنا سُكرت أبصارنا}‪..‬‬

‫‪127‬‬
‫وتظل وتية "القيمة النفعالية" تتذبذب صاعدة هابطة لتصل ذروتا الكلية وذلك‬
‫عندما نراهم يتراجعون عن حجتهم تلك‪ ،‬وكأنا أدركوا عدم مناسبتها‪ ..‬ولننظر إل تلك‬
‫الكلمة الميلة "بل" وهي الفردة الت تتلك (منفردة) قيمةً موضوعية وانفعالية حيادية‪،‬‬
‫لكنها هنا ‪،‬وف سياق الية‪ ،‬تساهم ف رسم “القيمة النفعالية” الراد رسها وإبرازها با يفيد‪:‬‬
‫العجب والدهشة من حججهم!!‪ ..‬إذ يقومون هنا هم بأنفسهم بنقض حججهم السابقة‬
‫خيطا خيطا وذلك من خلل استخدام التعبي "بل" والذي يقوم باستدراك ضعف الجة‬
‫السابقة با يفيد نفي (وإن شئت فقل‪ :‬نسف) الجة السابقة لعتقادهم بعدم كفايتها!‪..‬‬
‫لكن الاتة الميلة للية {بل نن قوم مسحورون} تنحو بـ ”القيمة النفعالية” من‬
‫جهة "العجب" و"الدهشة" إل ناحية أخرى هي "الستهزاء" و"السخرية" فحجتهم الديدة‬
‫ل تكن سوى ادعاء أجوف بعدم الول والقوة‪ ،‬فهذه القوة الت تتحكم ف تصرفاتم‬
‫ومصائرهم ليست معلومة الصدر! (حسب ادعائهم)‪ ..‬بل هي سحر غي مفهوم‪.‬‬

‫نوذج الضيق والقلق‬


‫{وجرين بم بريح طيبة}!‪...‬‬

‫‪128‬‬
‫ويستمر القرآن الكري ف تصوير الحاسيس والشاعر البشرية ف كل لظاتا (ولعل‬
‫أعلى نوع من أنواع التناسق تنبهوا إليه (أي العلماء) هو هذا التناسق النفسي بي الطوات‬
‫التدرجة ف بعض النصوص‪ ،‬والطوات النفسية الت تصاحبها)()‪.‬‬
‫وند القرآن الكري هنا يصورها ف لظات الضيق وساعات الطر‪:‬‬
‫{هو الذي يسيكم ف الب والبحر‪ ،‬حت إذا كنتم ف الفلك‪ ،‬وجرين بم بريح طيبة‪،‬‬
‫وفرحوا با‪ ،‬جاءتا ريحٌ عاصفٌ‪ ،‬وجاءهم الوجُ من كل مكان‪ ،‬وظنّوا أنم أُحيط بم‪ ،‬دعوا‬
‫ال ملصي له الدين}(يونس‪)22:‬‬

‫‪129‬‬
‫وهذه الية عجيبة ف إيقاعاتا النفسية‪ ،‬فهي ترسم الشاعر والنفعالت البشرية وهي‬
‫تضيق شيئا فشيئا‪ ،‬فهي ‪،‬لعجبها وغرابتها‪ ،‬ل تبدأ بوصف حالة النسان ابتداء من موطن‬
‫الطر ذاته‪ ،‬بل ابتعدت عنه قليلً لتصوره ‪ ،‬بدايةً‪ ،‬وهو ف حالته الطبيعية‪ ،‬فابتدأت به وهو‬
‫يسرحُ ويرحُ ‪،‬سواء ف الب أو البحر‪ ،‬لتقفز قفزةً موضوعيةً أخرى؛ جاءت مترافقةً مع قفزةٍ‬
‫انفعاليةٍ إضافية‪ ،‬تتمثل ف نقل مسرح الحداث‪ ،‬من سعة الب والبحر إل مدودية الكان‪..‬‬
‫إل الفلك الحمول؟!‪ .‬وهنا تبدأ “القيمة النفعالية” بالتكوّن‪ ،‬فنحن قد انتقلنا من عموم‬
‫النسانية إل خصوص نوعيةٍ مددةٍ منها‪ ،‬وهم تلك الفئة الت ل تعرف ال إل وقت الشدّة!‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫ولحظْ النتقال العجيب ف الية؛ من ضمي الخاطب الذي ياطب العام {حت إذا‬
‫كنتم‪ }..‬إل ضمي الغائب الذي ياطب الاص‪{ ..‬وجرين "بم"} فالطاب القرآن هنا‬
‫حذِرٌ من التعميم‪ ،‬فهذه الالة يقع فيها بعض الناس ل كلهم‪ ..‬ولعل القرآن الكري أراد من‬
‫قلب الضمي (من الخاطب إل الغائب) {"كنتم" ف الفلك‪ ،‬وجرين "بم"}!! ماراة عنصر‬
‫الركة ف النص! فبابتعاد الفُ ْلكِ براكبيها يبدأ النص بالشارة إليهم كغائب مبتعد ل‬
‫كحاضر ماطب؟!‪..‬‬

‫‪131‬‬
‫{وجرين بم بريحٍ طيبة‪ ،‬وفرحوا با…} ومع هذا الريان السلس‪ ،‬والريح الطيبة‬
‫البشرة بكل خي‪ ،‬تتحقق حالة الفرح لديهم‪ ..‬لتبدأ اليات بالعداد لرسم ذروة النفعال‬
‫الت‪ ،‬فيتضاعف الحساس بالضيق إذا ما سبقته السعة! فبعد كل تلك الحاسيس اليابية‬
‫ند قمةً من قمم النفعال؛ والتمثلة ببوب عاصف الريح‪ ،‬لكن تلك القمة ل تكن الذروة!‬
‫فها هو الوج ييئهم من كل مكان ليقذف بم إل كل مكان!! وتتحقق ذروة النفعال عندما‬
‫تستطيع الكلمات أن تمل معها وصفا دقيقا لنتقال حالة الضطراب من ميطهم إل دخيلة‬
‫نفوسهم‪ ..‬وعند هذه اللحظة تتحقق القناعة لديهم {أنم قد أحيط بم}!‪..‬‬

‫‪132‬‬
‫وهنا ند القيم النفعالية "النتشرة" و"النبثة" ف ثنايا الية سرعان ما تتجمع وتتحد ف‬
‫"قيمة انفعالية كلية" تيئ السرح لعرض "القيمة الوضوعية" الرجوة‪ ،‬والتمثلة ف قوله تعال‬
‫{دعوا ال ملصي له الدين} فلول ما رسته الكلمات السابقة من قيم انفعالية جزئية‬
‫(سرعان ما اتدت ف قيمة انفعالية كلية) لا أمكن فهم ذلك الوقف التمثل بانطلق‬
‫ألسنتهم بالدعاء والتضرع إل ال!!‪..‬‬

‫نوذج الطمئنان والسكينة والرضى!‬


‫{يا أيتها النفس الطمئنة…}‬
‫ومن أجل القيم النفعالية ف القرآن الكري ما تصوره اليات من معان الطمئنان‬
‫والرجوع إل ال وذلك ف قوله تعال‪{ :‬يا أيتها النفس الطمئنة‪ ،‬ارجعي إل ربك راضية‬
‫مرضية‪ ،‬فادخلي ف عبادي وادخلي جنت}(الفجر‪)30-27:‬‬
‫ولو دققنا النظر ف الية الشار إليها لوجدنا مموعة من القيم النفعالية الت لن تكون‬
‫حصيلتها إل سيلً من الطمئنان والسكينة‪ ،‬وتتمثل القيمة النفعالية الكلية نتيجة تعاضد‬
‫القيمة النفعالية لكل من‪[ :‬النفس (حيادية)‪ ،‬الطمئنة (إيابية) "النفس الطمئنة" (إيابية)‪،‬‬
‫إرجعي (إياب نوعا ما)‪ ،‬ربك (إياب)‪" ،‬إرجعي إل ربك" (إياب جدا)‪ ،‬أدخلي (إياب‪،‬‬
‫بعكس أخرجي)‪ ،‬عبادي (إياب ولنتوقف عند نسبة العباد ل) "أدخلي ف عبادي" (إياب‬
‫جدا)‪ ،‬جنت (إياب جدا)‪" ،‬وادخلي ف جنت" (إياب جدا)!‬
‫بالضافة إل أسلوب النداء الذي افتتحت به الية‪" ،‬يا أيتها النفس" ولتكون الحصلة‬
‫النفعالية إيابية جدا‪ ،‬والت تساهم ف تقيق الغرض الوضوعي للية‪ ..‬وهو بث السكينة‬
‫والطمئنان!!‬

‫نوذج السران والفقد والعدم!‬


‫{فجعلناه هبا ًء منثورا}!!‪..‬‬

‫‪133‬‬
‫أما عن معان السران‪ ،‬والفقد‪ ،‬وعدم الدوى؛ فيتحدث القرآن الكري واصفا أعمال‬
‫الجرمي بقوله تعال‪:‬‬
‫{وقدمنا إل ما عملوا من عمل فجعلناه هبا ًء منثورا}(الفرقان‪)23:‬‬
‫فقد جاءت كلمة "هباء" لتمثل نقطة ارتكاز أساسية يبلغ التعبي النفعال عندها ذروته‬
‫وغاية مداه‪ ،‬ث ليتم تاوز ذلك الدّ عندما أضيف إليه اللفظ "منثورا"! وبذا فقد تقق للنص‬
‫الغن ف الحتوى الوضوعي والنفعال معا!‪.‬‬
‫وبزيد من التدقيق ف النص السابق نلحظ أن جع وضم اللفاظ إل بعضها بعضا‬
‫يؤدي إل حصيلتي الول‪ :‬موضوعية؛ والخرى انفعالية‪ ،‬وند أن ذروة الشعور بالقيمة‬
‫الوضوعية تكتمل عند كلمة "هباء"‪ ،‬بينما تكون ذروة الحساس بـ“القيمة النفعالية” عند‬
‫كلمة "منثورا"!‪.‬‬
‫وهنا نود ان نشي إل ضرورة أن يشعر قارئ القرآن الكري بذه القيم الوضوعية‬
‫والنفعالية التصاعدة والابطة باستمرار‪ ،‬ف رحلة مستمرة لبناء قيم موضوعية وانفعالية‬
‫كلية‪ ..‬تر على قلب قارئ القرآن مطلقةً كل مشاعر الشوع والعودة إل ال‪..‬‬

‫‪134‬‬
‫هل الـقرآن عربّ؟!‬

‫ما أردنا قوله ف هذا البحث؟‬


‫كثيون يفهمون "عروبة القرآن الكري" وكأنا رديف لعناها‬
‫القومي‪ ..‬مع أن تطبيق مفهوم "النسبية" الذي تدثنا عنه‬
‫آنفا يعل للعروبة معانٍ إضافية‪ ،‬دون نفي العن القريب‬
‫بالطبع‪..‬‬
‫ومن الداخل الديدة للعروبة والت تتيحها أمامنا "ظاهرة‬
‫النسبية" يكننا أن نل لغز مموعة كبية من الكلمات‬
‫الواردة ف القرآن الكري (تناهز الائة كلمة) والت اعتبها‬
‫البعض غي عربية!‪..‬‬
‫فهل هي غي عربية حقا؟!‪..‬‬
‫هذه الدراسة تاول الجابة على هذا السؤال!!‬

‫‪135‬‬
‫هل الـقرآن عربّ؟!‬

‫تهيد‬

‫‪136‬‬
‫"هل القرآن عرب" مادة توقعنا (حي نشرها) أن تثي نوعا من الدل‪ ،‬نظرا لطبيعة صياغة‬
‫العنوان‪ ،‬حيث هال البعض أن يصاغ عنوان البحث ف صيغة استفهامية؛ حيث بدا المر‬
‫وكأننا نضع علمات استفهام حول حقيقة أكيدة من حقائق القرآن الكري أل وهي‬
‫عروبته!‪..‬‬

‫‪137‬‬
‫وهنا يهمنا أن نوضح بأن الستفهام هنا ل يعن النفي بقدر ما يثل دعوة للتوقف قليل‬
‫للتأمل وإعمال الفكر‪ ،‬مستأنسي بالية الكرية {أإلهٌ مع ال} والت ل يقصد با النفي وإنا‬
‫تأكيد حقيقة عدم وجود آلة إل ال‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫إل أنه وعلى الرغم من كل ذلك فإن السألة الوهرية ف هذا الدل لزالت قائمة‪،‬‬
‫وتتمثل ف حقيقة أن هناك الكثي من الواقف السبقة الت يملها الناس تاه أمور معينة ف‬
‫حياتم‪ .‬وعلى الرغم من اختلفنا الواضح مع من يريد "تميد النص" إل أننا ل نشك لظة‬
‫ف طهارة الدوافع؛ وحسن النوايا‪ ،‬ول نشك لظة أن رغبة من يالف إنا هي نابعة (ف‬
‫غالب الحيان) من حرص شديد للحفاظ على هذا النص الكري من عبث العابثي!!‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫إن السألة الكثر أهية هنا هي أن أسلوب الدفاع الستميت ‪،‬من قبل البعض‪ ،‬عما هو‬
‫قائم؛ واليل نو رفض كل جديد؛ إنا هو منهج يتناقض تناقضا تاما مع روح القرآن الكري‪،‬‬
‫الذي يتلك طبيعة خاصة هي أحوج ما تكون إل التفكر الستمر الفضي إل الكتشاف‬
‫الدائم‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫والعنوان هنا (هل القرآن عرب) يتصر السألة الت نطرحها هنا‪ ،‬والت نؤكد من خللا‬
‫على ضرورة العمال الدائم للنظر والتفكر الستمر ف النص‪ .‬من هنا كانت رغبتنا ف‬
‫الحافظة على هذا العنوان الذي بدا للبعض "إشكاليا" ليس عنادا‪ ،‬ول مكابرة؛ بل لنه‬
‫يتصر كل ما أردنا قوله‪ ،‬ويعب عن الشكالية الت أردنا أن نفضي با إل القارئ العزيز‪ ،‬ول‬
‫يكن العنوان ‪،‬على الطلق‪ ،‬ترفا فكريا أو ماولة لذب النتباه!‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫ما أردنا قوله هنا هو أن القائق البديهية ف القرآن الكري (عروبة القرآن كمثال) تتاج‬
‫إل مزيد من التفكر والتدبر‪ ،‬ل لنفي بداهتها‪ ،‬بل بسبب كونا تتلك وجوها أكثر تعقيدا ما‬
‫تبدو عليه للوهلة الول‪ ،‬وأردنا أن نلفت النتباه إل أننا لو تعاملنا مع القرآن الكري على‬
‫أساس أنه نص عادي؛ بسيط‪ ،‬وسهل‪ ..‬فماذا يتبقى من إعجاز النص؟!‪..‬‬

‫‪142‬‬
‫إننا لو تعاملنا مع القرآن الكري بثل تلك الروح (التبسيط الخل) فسنكون ‪،‬ساعتها‪ ،‬قد‬
‫ظلمنا النص القرآن؛ فيما يبدو وكأنه ادعاء من قبلنا بأن ما أراد ال عز وجل أن يوصله‬
‫إلينا من خلل القرآن هو ‪،‬فقط‪ ،‬ما فهمناه نن منه بالفعل!!‪.‬‬
‫فمن يكنه أن يدعي مثل هذا الدعاء؟!‪..‬‬

‫‪143‬‬
‫إن مفهوم "العروبة" ف القرآن الكري هو أحد تلك المثلة الت تبدو للناظرين بصورة‬
‫معينة‪ ،‬فإن رحنا نتأمله بدا بصورة أخرى تثي العجاب‪ ،‬وحاولنا ‪،‬من خلله‪ ،‬إيراد وجهة‬
‫نظرنا حول بعض اللفاظ غي العربية؟!! الت ادعى البعض وجودها ف القرآن الكري‪..‬‬
‫ودعونا من هنا نبدأ!‪..‬‬

‫‪144‬‬
‫عروبة القرآن ف أقوال الفسرين‬

‫‪145‬‬
‫تعددت كتب التفسي منذ تنّل القرآن الكري وإل الن‪ ،‬لكنّ سةً بارزةً تظهرُ واضحةً‬
‫للمقارِن بينها‪ ،‬أل وهي اعتمادُ متأخِرِها على متق ِدمِها ف كثيٍ من الوجوه‪ ،‬بيث يكن‬
‫للباحث أن يلحظ بعضا من التكرار ف تلك الكتب إذا ما راح يبحث عن تفسي لسألةٍ‬
‫بعينها‪ ،‬وهذا ما سنلحظه عندما نتنقل من تفسيٍ لخر لنتعرف على الكيفية الت تناول‬
‫الفسرون معان العروبة ف القرآن من خللا‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫وقد تناول المام القرطب اليةَ الكرية {إنا أنزلناه قرآنا عربيّا لعلكم تعقلون}(يوسف‪:‬‬
‫‪ )2‬وذلك بقوله‪( :‬يوز أن يكون العن‪ :‬إنا أنزلنا القرآن عربيّا ‪...‬‬
‫أي مموعا‪ .‬و"عربيّا" ‪ ،‬أي يُقرأُ بلغتِكم يا معشر العرب)(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬تفسي القرآن العظيم القرطب‪ ،‬ملد ‪ ،5‬ص ‪.105‬‬

‫‪147‬‬
‫أما الية الكرية‪{ :‬وكذلك أنزلناه حكما عربيّا}(الرعد‪ )37:‬فقد تشابت القوال ف‬
‫تفسيها‪ ،‬وقد تناولا البعض بالقول‪( :‬وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الحزاب‪،‬‬
‫صفَه بذلك لنه أنزله على ممد (صلى ال عليه وسلم) وهو‬
‫كذلك أنزلناه حكما عربيّا‪ ،‬وإنا وَ َ‬
‫عربّ‪ .‬وقيل‪ :‬وكما أنزلنا الكُتُبَ على الرسل بلغاتم؛ كذلك أنزلنا إليك القرآن حكما‬
‫عربيّا)(‪..)1‬‬
‫أما عن معن العروبة الوارد ذكرها ف سورة "طه" {وكذلك أنزلناه قرآنا عربيّا وصَرّفنا‬
‫فيه من الوعيد}(طه‪ )113:‬فقد تناولا الفسرون بقولم‪( :‬أي بلغةِ العرب)(‪..)2‬‬

‫‪ )(1‬تفسي القرآن العظيم للقرطب‪ ،‬ملد ‪ ،5‬ص ‪.285‬‬


‫‪ )(2‬تفسي القرآن العظيم للقرطب‪ ،‬ملد ‪ ،6‬ص ‪.162‬‬

‫‪148‬‬
‫أما عن معان العروبة ف سورة "الزمر"‪{ :‬قرآنا عربيّا غي ذي عوج لعلهم‬
‫يتقون}(الزمر‪ )28:‬فقد قال عنها بعضُ علماءِ التفسي‪( :‬أي حال كونه قرآنا عربيّا ل‬
‫اختلفَ فيه بوجهٍ من الوجوه‪ ،‬ول تعارض‪ ،‬ول تناقض)(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬صفوة التفاسي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.78‬‬

‫‪149‬‬
‫أما عن معان العروبة ف سورة "الشورى"‪{ :‬وكذلك أوحينا إليك قرآنا‬
‫عربيّا}(الشورى‪ )7:‬فقد قيل فيها‪( :‬أي وكما أوحينا إليك وإل من قبلك هذه العان؛‬
‫فكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيّا بيّناه بلغة العرب)(‪.)1‬‬
‫وعن معناها الوارد ذكره ف سورة "الزخرف" {إنا جعلناه قرآنا عربيّا لعلكم‬
‫تعقلون}(الزخرف‪ )3:‬قال بعض الفسرين‪( :‬أي أنزلناه بلسان العرب‪ ،‬لن كلّ نبّ أُنزل‬
‫كتابُه بلسا ِن قومه‪ .‬قاله سفيان الثوري وغيه‪ .‬قال مقاتل‪ :‬لسانُ أهل السماء عربّ)(‪.)2‬‬

‫‪ )(1‬تفسي القرآن العظيم للقرطب‪ ،‬ملد ‪ ،8‬ص ‪.7‬‬


‫‪ )(2‬تفسي القرآن العظيم للقرطب‪ ،‬ملد ‪ ،8‬ص ‪.57‬‬

‫‪150‬‬
‫أما الية الكرية {وهذا كتابٌ مصدّقٌ لسانا عربيّا لينذر الذين ظلموا}(الحقاف‪)12:‬‬
‫فقد جاء ف تفسيها‪( :‬وهذا القرآن كتابٌ عظيمُ الشأن‪ ،‬مصدقٌ للكتبِ قبله‪ ،‬بلسانٍ عربّ‬
‫فصيح‪ ،‬فكيف ينكرونه وهو أفصحُ بيانا‪ ،‬وأظهرُ برهانا)(‪)1‬‬
‫وجاء فيها كذلك قولم‪( :‬أي فصيحا بيّنَا واضحا)(‪..)2‬‬

‫‪)(1‬صفوة التفاسي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.195‬‬


‫‪)(2‬تفسي القرآن العظيم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.200‬‬

‫‪151‬‬
‫وإذا ما رحنا نتملّى فيما سبق من تفسيٍ لليات الت تدثت عن معن العروبة ف القرآن‬
‫الكري‪ ،‬فسنجدُها جيعا قد تدثت عن العان القريبة الباشرة للفظة "عربّ" والت تطال‪:‬‬
‫جنسية النبّ ممد صب ال عليه وسلمِ‪ ،‬النسية اللغوية للعرب‪ ،‬وتنّل كلّ كتاب ساوي‬
‫بلسان القوم الذين نُزّل إليهم‪ ،‬وتنل القرآن ‪،‬من ث‪ ،‬بالعربية‪..‬‬
‫لكن‪ ..‬هل هذا كله هو ما أراد القرآن أن يبنا به؟‪..‬‬
‫ولو كان هذا هو كل ما أريد الخبار به؛ فلم كل هذا التكرار ف شأن حقائق بسيطة‬
‫ومباشرة يدركها النسان العادي‪ ،‬حت وإن كان طفلً ف السادسة من عمره؟!!‪..‬‬
‫ليسمح لنا القارئ الكري بأن يظلّ هذا السؤالُ مُعلقا دون إجابة إل أن نتعرف على‬
‫حال العرب والعربيّة قبل تنل القرآن؟!‪..‬‬

‫العربُ والعربيّة قبل تنّل القرآن‬


‫بعد تناولنا لفهوم "العروبة" ف القرآن الكري ‪،‬حسب أقوال بعض الفسرين‪ ،‬يكننا الن‬
‫أن ندد لنفسنا قاعدةً آمنةً نرتكز عليها خلل رحلتنا ف التعامل مع اليات الكرية‬
‫السابقة؛ وتسمح لنا ‪،‬ف الوقت نفسه‪ ،‬بزيدٍ من الستقراء لعان "العروبة" ف القرآن‬
‫الكري‪ .‬ولنفترض بدايةً أن هذه القاعدة يكن أن تنص على ما يلي‪( :‬إن البحث عن معانٍ‬
‫إضافية للفاظ القرآن الكري يب أل يكون هدفه ‪،‬بأي حال من الحوال‪ ،‬نفيّ العان‬
‫الخرى الواردة ف التفاسي الختلفة‪ ،‬ول نفيّ العان القريبة الت يذهب إليها الذهنُ ابتداءً‪،‬‬
‫بل إن هدفه هو استدعاء الزيد من العان البعيدة‪ ،‬الت نظن أن اللفظ القرآن يكن أن‬
‫يتملها ويتسع لا) وهو ما قصدناه لدى حديثنا عن "ظاهرة النسبية ف القرآن الكري"‪..‬‬
‫وإذا ما استقر بنا المرُ على هذا البدأ؛ جازَ لنا حينها أن نسألَ أنفسَنا‪ :‬وهل للعروبة ف‬
‫القرآن معانٍ أخرى يكن أن تذهب إل ما هو أبعد من معانيها القريبة الت تعرّضنا لا؟!‪...‬‬

‫‪152‬‬
‫لنحاول الجابة على هذا التساؤل من خلل استعراضٍ بسيطٍ لا كان يعنيه كلٌ من‬
‫مصطلحيّْ "العروبة" و"العربيّة" على أرض الواقع قبل تنّل القرآن الكري‪ ..‬حيث كان‬
‫العربُ قبل تنّله قد بلغوا مبلغا من الفصاحةِ والبلغةِ ل يُعرف ف تاريهم من قبل؛ فكانوا‬
‫شعْرَ وافتنّوا فيه‪ ،‬وتواف عليه من شعراِئهِم أفرا ٌد معدودون‪ ،‬كان كلّ واحدٍ‬
‫(قد أطالوا ال ّ‬
‫منهم كأنه عصرٌ من تاريه‪ ،‬با زاد ف ماسنهِ وابتدعَ من أغراضِه ومعانيه‪ ،‬وما نفضَ عليه‬
‫من الصبغِ والرونق)(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬إعجاز القرآن والبلغة النبوية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ط ‪ ،3‬ص ‪.205‬‬

‫‪153‬‬
‫ول تكن حالةُ اللغة العربيّة ف ذلك الوقت حالةً عاديةً؛ بل تاوزت ذلك لتكون ف أفضلِ‬
‫حالتِها حت ف العصور الت تلت ذلك‪ ،‬والت بلغ مدُ العرب فيها شأوا بعيدا (ولا بُعث‬
‫فيهم ممد(صلى ال عليه وسلم) وخاطبهم بالقرآن كانوا ف مستوى بيانٍ رفيع؛ بل كانوا ف‬
‫أرفع مستوى ف البيان والفصاحة والبلغة؛ ل يصله أحفادُهم ف عصورِ الدبِ ف عهد‬
‫المويي والعباسيي والندلسيي والماليك)(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬البيان ف إعجاز القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.71‬‬

‫‪154‬‬
‫والعلم ‪،‬بتاريخ العرب وأدب لغتهم (قبل البعثة النبوية الشريفة) يزيدنا معرفةً بقيقة ما‬
‫كانت عليه تلك اللغة من رفعةٍ وسوّ‪ ،‬إذ وصلت العربيّة إل قمة التهذيب ف لسانِها‪،‬‬
‫وجعت خيَ لجاتِها من أسواقِ الدبِ والفاخرة بالشعر والنثر‪ ،‬حت انتهى مصبُ جداول‬
‫الفصاحة‪ ،‬وإدارة الكلم بالبيان؛ ف لغة(‪ )1‬قريش‪.‬‬

‫‪ )(1‬يدر أن يكون واضحا أن كثيا من الواضع الت وردت فيها كلمة "لغة" ف هذه الدراسة إنا قصدنا من ورائها‬
‫معن "اللهجة"‪ ،‬وليس ما نتداوله اليوم من دللتها على لغة كاملة مستقلة كاللغة العربية‪،‬النليزية‪،‬والفرنسية‪.‬ال‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫ولعل كلّ تلك السية إنا كانت تيئةً للنبأ العظيم الذي يوشك أن ترتجّ له أناءُ‬
‫الزيرة العربيّة‪ ،‬ومُرتكزا لظهار إعجازه وارتفاعه (وكل من يبحثُ ف تاريخ العرب‬
‫وآدابم؛ وينفذُ إل ذلك من حيث تنفذُ الفطنة‪ ،‬وتتأتى حكمةُ الشياء؛ فإنه يرى كلّ ما سبق‬
‫على القرآن من أمرِ الكلمِ العربّ وتاريه إنا كان توطيدا له‪ ،‬وتيئةً لظهوره‪ ،‬وتناهيا إليه‪،‬‬
‫ودُربةً لصلحهم به‪ ،‬وليس ف الرض أمةٌ كانت تربيتها لغويةً غي أهل هذه الزيرة‪ ...‬ث‬
‫كان لم من تذيب اللغة‪ ،‬واجتماعهم على نط من القرشية يرونه مثالً لكمال الفطرة‪،‬‬
‫وأ ْخذِهم ف هذا السمْتِ ما جعل الكلمة نافذةً ف أكثرِهم؛ ل يصدّها اختلفٌ من اللسان‪،‬‬
‫ول يعترضُها تناكرٌ ف اللغة‪ ،‬فقامت فيهم بذلك دولةُ الكلم‪ ،‬ولكنها بقيت بل ملك حت‬
‫جاءهم القرآن)(‪.)1‬‬
‫لكن هل يعن ذلك كمالً مطلقا للعربيّة ف ذلك الوقت؟‪ ..‬وهل عن تطابقا كاملً بي‬
‫لغة العرب (أو لغاتم بتعبي أصح) وبي لغة القرآن الكري الت تنّل با فيما بعد؟!!‪..‬‬

‫عروبة؟‪ ..‬لكن بأي معن؟!‬


‫للجابة على هذا السؤال لبد من تناول هذا الوضوع من نفس الزاوية الت بدأنا منها‪،‬‬
‫زاوية تفترضُ‪" :‬إمكانية تعدد العان للفظِ الواحد"‪ ،‬وإذا ما اتذنا لنفسنا هذا النحى؛ فإننا‬
‫سنجد لزاما علينا التفريق بي معنيي متلفي من معان العروبة‪:‬‬
‫الول‪ :‬هو العروبة بعناها "البشري" "القومي" وهو معنً "نسب" أقرب ما يكون إل‬
‫معان الكمال البشري‪ ،‬لكنه ‪،‬وبدون أدن شك‪ ،‬ل يكن نوذجا مطلقا للكمال؟!!‪.‬‬
‫أما العن الثان‪ :‬فهو العروبة بعناها "القرآن"‪ ،‬والذي يثلُ ‪،‬حسب اعتقادنا‪ ،‬الدّ‬
‫"الطلق" من حدود العان المكنة لذا اللفظ(‪ ،)2‬وهو وفق هذا التصور يبتعد ابتعادا كبيا‬
‫عما نعرفه من العان النسبية للعروبة‪.‬‬
‫‪ )(1‬إعجاز القرآن والبلغة النبوية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ط ‪ ،3‬ص ‪.205‬‬
‫‪ )(2‬إن جوهر ما نتحدث عنه هنا هو‪ :‬ما يكن أن نطلق عليه "النسبية"‪ ،‬والت تعن اشتمال اللفظ الواحد على‬
‫مموعة من العان التدرجة ف قيمتها‪ ،‬والت يكن أن تتراوح بي الدّ الدن والد العلى من حيث العن‪ ،‬ويكن‬
‫الرجوع إل العان الحتملة للفظ ف ف معجمات اللغة‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫ووفق هذا التصنيف؛ فإن العربيّة الول (والت كانت موجودةً قبل البعثة الحمدية) ل‬
‫تتطابق تطابقا كاملً مع لغة القرآن‪ ،‬سواءً من ناحيت الكمّ (عدد الفردات) أو الكيف‪.‬‬
‫ويُعتبُ القرآنُ الكري النموذج الشدّ وضوحا ف تسيده للحالة الثانية (اللغة بعناها الطلق)‬
‫إذ امتازت هذه اللغة (العربية القرآنية) ‪،‬دون غيها‪ ،‬باصية العجاز ف ذاتا‪ ،‬سواء أعلمنا‬
‫بقيقة ذلك التميز أم ل نعلم!‪.‬‬
‫من هنا؛ يكن لنا أن نفهم ماهية السرّ الذي اكتنف مسألة وقوف العرب (وهم أهل‬
‫العربيّة) أمام الظاهرة القرآنية وهم عاجزين مبهوري النفاس؛ ل يدركون لتلك الظاهرة‬
‫تعليلً أو تفسيا‪ ،‬وقد كانت حالةُ العجزِ الت أصابتهم مؤشرا ذا مغزى؛ ل على عجز‬
‫ب عن معارضةِ القرآن مع توفر‬
‫جزُ العر ِ‬
‫النسان فحسب‪ ،‬بل على عجز اللغة أيضا‪( :‬وع ْ‬
‫الدواعي؛ عجزٌ للغةِ العربّيةِ ف ريعانِ شبابا‪ ،‬وعنفوان قوتا)!!(‪..)1‬‬
‫من هنا يب الذر من اعتقادٍ خاطئٍ مفاده أن القرآن الكري كان إعجازا وتعجيزا‬
‫للعرب وحدهم‪ ،‬فحقيقة المرِ أنه كان إعجازا وتعجيزا لم وللغتهم ف الوقت ذاته‪ ،‬والت‬
‫إن قدّر لا ‪،‬ف ذلك الوقت‪ ،‬أن تبلغَ حدّ الكمال ف الستجابة لغراض التعبي البشري؛ إل‬
‫أنا كانت ‪،‬بل شك‪ ،‬قاصرةً عن الستجابة لتحدي التيان بنصٍ ياثلُ نص القرآن الكري أو‬
‫يشابه!!‪.‬‬

‫‪ )(1‬مباحث ف علوم القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.292‬‬

‫‪157‬‬
‫وصحيحٌ قولنا‪ :‬إن لغة القرآن الكري كانت عربيّة‪ ،‬لكن الكثر صحةً أنّ لغة القرآن‬
‫الكري كانت (ف تفاصيلها الدقيقة) بعيدةً كلّ البعد عن عربيّة العرب ف ذلك الوقت‪،‬‬
‫وكثيا ما غابت هذه القيقة عن أذهاننا نتيجةً لعدم تفريقنا بي وجهي من وجوه العربيّة‬
‫ها‪ :‬العربيّة البشرية (ببعدها النسب)‪ ،‬والخر الربان (بأبعاده الطلقة)‪ .‬والخي يعن وجود‬
‫كيان متميز للعربيّة يتلفُ تام الختلف عن العربيّة بوجهها البشري العروف‪.‬‬
‫والعربيّة بعناها الطلق تعن وجها آخر هو أشدّ مقدرةً وأكثر تكاملً وجالً(‪...)1‬؟!‪.‬‬
‫ليس اختلفا ف التركيب فحسب؟!‬
‫لقد اعتقد البعض أن تّيزَ "عربيّة القرآن" (بدودها الطلقة) عن "عربيّة العرب" (بدّها‬
‫النسبّ) إنا يكمن ‪،‬فقط‪ ،‬ف الروح التركيبية (الكيفية) الت ميزت النص القرآن على‬
‫الدوام‪ ،‬والت‪( :‬ل تُعرف قط ف كلمٍ عربّ غي القرآن‪ ،‬وبا انفرد نظمُه‪ ،‬وخرج ما يُطيقه‬
‫الناس‪ ،‬ولولها ل يكن بيث هو‪ ،‬كأنا وُضع جلةً واحدةً ليس بي أجزائِها تفاوتٌ أو تباين‪،‬‬
‫إذ تراه ينظرُ ف التركيبِ إل نظمِ الكلمةِ وتأليفها‪ ،‬ث إل تأليف هذا النظم ‪ ...‬وخرج معن‬
‫تلك الروح صفةً واحد ًة هي صفة إعجازه ف جلة التركيب)(‪..)2‬‬

‫‪ )(1‬لعلنا ف اعتبارنا لوجود عربية بأبعادٍ مطلق ٍة تتجاوز العربية البشرية نكون قد ذهبنا نفس الذهب الذي ذهب‬
‫إليه أبو القاسم حاج حد ف "العالية السلمية الثانية" حي طبق نفس العايي على التاريخ النسان فقال‪( :‬مفهوم‬
‫الركة ف التاريخ البشري ل تستوي خصائصه الرحلية ف القرآن على التعاقبات الطبقية التولدة عن بعضها عب‬
‫منهجية الصراع كما هو الال ف تربة الضارة الوروبية‪ .‬بل تستوي كأشكال دائرية بدءا من الشكل "الفردي"‬
‫إل الشكل "القومي" إل الشكل "العالي"‪ .‬أي أن التطور البشري ير عب هذه الراحل الثلث‪ .‬الرحلة الول هي‬
‫الرحلة الدمية‪ ،‬والرحلة الثانية هي الرحلة السرائيلية‪ ،‬والرحلة الثالثة هي الرحلة العربية خارج معن اللفظ‬
‫القومي (أي خارج ما يعنيه العن الصطلحي للعروبة)‪( .‬العالية السلمية الثانية‪ ،‬لب القاسم حاج حد‪ ،‬دار‬
‫السية‪ ،‬ص ‪.)105‬‬
‫‪ )(2‬إعجاز القرآن والبلغة النبوية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ط ‪ ،3‬ص ‪.325‬‬

‫‪158‬‬
‫ونتيجةً لتشابه(‪ )1‬أوليات التركيب (الروف والكلمات) بي وجهي العربية (الربان‬
‫والبشري)؛ فقد نشأ عن ذلك اعتقادٌ ‪،‬نسبه خاطئا‪ ،‬مفاده أن اللغتي ف كلتا الالتي هي‬
‫واحدة؛ وبأن الفارق الوحيد بي الوجهي إنا يكمن ف الناحية التركيبية فحسب‪ ،‬وموطن‬
‫الطأ ف ذلك هو اعتقادهم بأن‪( :‬اللغة الت نزل با القرآنُ معجزا قادرةٌ ‪،‬بطبيعتها‪ ،‬أن‬
‫تتمل هذا القدر الائل من الفارقة بي كلمي‪ :‬كلمٌ هو الغايةُ ف البيان فيما تطيقه القوى‬
‫البشرية ‪،‬وهو كلم العرب‪ ،‬وكلمٌ يقطع هذه القوى البشرية ببيانٍ ظاهر الباينة له من كلّ‬
‫الوجوه‪ ،‬ويعجزها عن معارضته‪ ،‬وهو كلم ال‪...)2()...‬‬
‫ووفق ذلك العتقاد ‪،‬الذي ل نؤيده‪ ،‬فقد ت القفز عن حقيقة التشكيل العجز للغة‬
‫القرآن بذاتا‪ ،‬وتيزها عن الوجه الخر للعربيّة (ببعدها البشري) سواءً من حيث الكم أو‬
‫الكيف‪..‬‬
‫وتكشف هذه الفارقة (العتقاد بتطابق العربيّتي) جانبا من الوانب الت ل يتم التعامل‬
‫معها بالقدر الكاف من الهتمام‪ ،‬حيث ل يتم التمييز بي النصّي ‪،‬القرآن والبشري‪ ،‬إل من‬
‫حيث اختلف النواحي التركيبية والكيفية بينهما؛ دون اللتفات إل حقيقة أن تلك الفوارق‬
‫ل تقتصر على الناحية (التركيبية) فحسب؛ بل تشتملُ ‪،‬كذلك‪ ،‬على فوارق تس الوانب‬
‫الكميّة (من حيث عدد اللفاظ ونوعيتها)‪ .‬وتس كذلك الوانب النوعية (من حيث‬
‫الساليب)(‪ )3‬ف كلّ منهما‪..‬‬
‫من هنا يتضح لنا عدمُ دقة ما ت تداوله؛ من أن القرآن الكري قد جاء فعلً بلغةٍ كانت‬
‫موجودةً ‪،‬بكل تفاصيلها‪ ،‬ف حياة العرب! ويتضح لنا كذلك ضرورة إعادة النظر ف تلك‬
‫القولة لتفيد أن "عربية القرآن هي عربية العرب لكن على وجه الجال"‪.‬‬

‫‪)(1‬حيث الروف هي نفس الروف‪ ،‬والكلمات والساليب تكاد تكون هي نفسها‪.‬‬


‫‪ )(2‬البيان ف إعجاز القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.91‬‬
‫‪ )(3‬نشي هنا إل بعض ما جاء به القرآن الكري وكان مالفا لا تعارفت عليه العرب من أساليب اللغة (وكم من‬
‫ي منهم ول يُعتب إنكارُهم‪ ،‬كإسكان {بارئكم} و {يأمركم} وخفض‬ ‫قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كث ٌ‬
‫{والرحام} ونصب {ليجزي قوما} والفصل بي الضافي ف {قتل أولدهم شركائهم} وغي ذلك)( مباحث ف‬
‫علوم القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.)191‬‬

‫‪159‬‬
‫إننا نعتقد بأنّ دراسة تلك القيقة بشكل مفصل يكن أن يُرسّخَ حقيقةَ وجود فوارق بي‬
‫العربيّة الت تنّل با القرآن الكري وبي عربيّة العرب‪ ،‬وأن تيّزَ كلمِ ال عزّ وجلّ عن كلم‬
‫العرب آنذاك ل يكن كامنا ‪،‬فقط‪ ،‬ف جوانبه البيانية والتركيبة‪ ،‬بل يُضاف إل ذلك تيزه من‬
‫حيث النواحي الكمية أيضا‪ .‬وبغرض البهان على تلك القيقة فلنعدْ إل نفس السؤال‪ :‬هل‬
‫تنّل القرآن الكري ‪،‬حقا‪ ،‬بلغةٍ كانت موجودةً ‪،‬بكل تفاصيلها‪ ،‬ف حياة العرب؟!‪..‬‬

‫أية عربيّة تلك الت كانت قبل القرآن؟!‬


‫من البَديهِيّ القول أن القرآن الكري قد تنّل باللغة العربيّة‪ ،‬وأن العربيّة هي لغةُ العرب‪،‬‬
‫وما من عاقل ينكرُ تلك القيقة!‪ ..‬لكنْ دعونا نتساءل عن‪ :‬ماهيّة اللغة الت نكتب أو‬
‫نتحدث با اليوم؟‪ ..‬وعندها سوف ييبنا البعض‪ :‬إنا العربيّة الفصحى!!‪ .‬ولو أعدنا السؤال‬
‫مرةً أخرى؛ لردّ علينا البعض‪ :‬نن نتكلم بلغة القرآن؟!‪..‬‬
‫فإن كنّا نن اليوم نتكلم باللغة الت تنّل با القرآن الكري؛ فهل كان العرب قبل البعثة‬
‫الحمدية يتكلمون نفس اللغة؟!‪.‬‬
‫قبل ميء السلم كان العربُ قبائلَ متفرقةً‪ ،‬وكانوا يتكلمون لغةً يطلقون عليها‬
‫"العربيّة" لكنّ القبائلَ العربّيةَ الختلفةَ كانت تتلك ألسنةً تتلفُ فيما بينها‪ ،‬والختلف بي‬
‫لسان قبيلة وأخرى كان يكن أن يضيق أو يتسع‪ ،‬فيتشابه لسانٌ مع آخر‪ ،‬حت تكاد تكون‬
‫الفوارق بينهما ل تذكر‪ ،‬وقد يتسعُ الختلفُ بي اللساني حت ليُ َظنّ أن واحدا منهما ل‬
‫يُتُ للعربيّة بصلة!…‬
‫لكنّ ذلك التباين بي ألسنة القبائل العربية ولجاتا ل ينع من أن يكون لا (للقبائل) من‬
‫يتصدرُ صفوفها‪ ،‬فكانت قريشُ هي قلبُ العرب ف شبه الزيرة العربيّة‪ ،‬وكان للسانا (أي‬
‫لجتها) الصدارة بي ألسنة العرب جيعا‪ ،‬فكأنا القاسم الشترك بي تلك اللسنة جيعها‪.‬‬

‫لغة مشتركة‬

‫‪160‬‬
‫ولقد هيأت عد ُة عوامل دينية وتاريية لقريش وللسانا أن يكونا على مثل تلك الهية‪،‬‬
‫وكان من أهم تلك العوامل‪ :‬جوارُ البيت‪ ،‬وسقايةُ الاج‪ ،‬وعمارةُ السجد الرام‪،‬‬
‫والشرافُ على التجارة‪ ..‬لجل ذلك؛ فقد ُأنْزِلت لجةُ قريشٍ بنلةِ البِ للغات العرب‬
‫جيعا‪ ..‬ول يكن ذلك النزال ليت ّم بغي ما سندٍ من خصائص امتازت با لغةُ قريشٍ ذاتُها‪،‬‬
‫فقد كانت قريش أفصح العرب ألسنةً‪ ،‬وأخلصهم لغةً‪ ،‬وأعذبم بيانا‪ ،‬وقد ارتفعت (قريش)‬
‫س ِلمَتْ بذلك لغتُهم؛ بل أصبحت قاسا‬
‫عن لجاتٍ رديئةٍ اعترضت ف مناطق العرب؛ ف َ‬
‫مشتركا يمع شتاتَ العرب ف ذلك الوقت‪..‬‬
‫وقد كان للعامل الدين أبلغَ الثرِ ف جعلِ لغةِ قريشٍ لغةً مشتركةً لكل القبائل العربيّة؛‬
‫لكنه ل يكن عاملً وحيدا ف تشكيل تلك الهية‪ ،‬فالعامل القتصادي ‪،‬كذلك‪ ،‬كان له دورٌ‬
‫هام‪ :‬إذ (كان القرشيون يتمتعون بسلطانٍ اقتصاديٍ كبي؛ لنم كانوا من أمهرِ العناصر‬
‫العربيّة وأنشطِها‪ ،‬وف يدهم جزءٌ كبيٌ من تارة الزيرة العربيّة‪ ،‬وقد أتاح لم هذا النشاطُ‬
‫التجاريّ ثراءً كبيا؛ بيث تسن لم احتضان الدين‪ ..‬المر الذي أعطاهم سلطانا سياسيا‬
‫قويا‪ .‬لذا كله فقد كانت اللغةُ القرشيةُ أقوى اللغاتِ أثرا ف تكوّن اللغة العربيّة‬
‫الشتركة)(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬الدخل إل علم اللغة ومناهج البحث اللغوي‪ ،‬د‪ .‬رمضان عبد التواب‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1985،‬ص ‪168‬‬
‫بتصرف‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫ويتحدث علماء اللغة(‪ )1‬عن "عوامل قيام اللغات الشتركة"‪ ،‬ويُرجعون ذلك إل‪ :‬التفوق‬
‫السياسي؛ والدين؛ والقتصادي؛ والدب؛ والجتماعي‪ ..‬ويضربون لذلك مثلً باللغة‬
‫العربيّة‪ ،‬فقد انقسمت اللغة العربيّة منذ أقدم عصورها إل لجاتٍ كثيةٍ‪ ،‬تتلفُ فيما بينها ف‬
‫كثيٍ من الظواهر الصوتية والدللية‪ ،‬كما اختلفت ف مفرداتا وقواعدها؛ تبعا للقبائل‬
‫حدُ ظروفُها الطبيعيةُ والجتماعيةُ؛ أو حسب تباين تلك الظروف‪ ،‬وهم‬
‫الختلفة الت تََت ِ‬
‫يعتقدون ‪،‬أي علماء اللغة‪ ،‬بأن بروز لغةٍ مشتركةٍ (كلغةِ قريش) بي تلك القبائل؛ إنا جاء‬
‫نتيجةً لفرص الحتكاك الكثية‪ ،‬من تاورِ تلك القبائل‪ ،‬وتارةٍ فيما بينها‪ ،‬وتََنقُلِها ف طلب‬
‫الكل والرعى‪ ،‬أو تمعها ف مواسم الج‪ ،‬والعاملت التجارية ف السواق‪ ،‬واللقاء ف‬
‫الروب الهلية والغزوات وأيام العرب‪ ،‬وما إل ذلك‪ ..‬وعندما اشتبكت تلك اللهجات ف‬
‫صراعٍ لغويٍ؛ كان النصر فيه للغةٍ مشتركةٍ استمدت أبرزَ خصاِئصِها من لجةِ قريش؛ تلك‬
‫شعْرِه ونثره‪ ،‬ولغةَ‬
‫اللهجة الت تفوقت على سائر اللهجات الخرى‪ ،‬فأصبحت لغةَ الدب؛ ب ِ‬
‫الدين‪ ،‬ولغةَ السياسة والقتصاد‪.‬‬
‫ومن الهية بكان أن نذكر هنا أن لسانَ قريش إنا كان القرب (من بي ألسنةِ العرب‬
‫جيعا) إل مفهومنا الاضر حول "العربيّة الفصحى" بيث باتت لغة قريش تعتب (على وجه‬
‫الجال) رديفا للغة العربيّة‪ ،‬ولعل تلك الصالة اللغوية ‪،‬الت حافظ عليها لسانُ قريش‪،‬‬
‫ترجعُ ف كثيٍ من أسبابِها إل الظروف الغرافية الت عاشت عليها قريش‪ ،‬فقد ترعرعت‬
‫بوادٍ غيِر ذي زرعٍ‪ ،‬مكنّ لا الحافظةَ على أصالةِ اللغة‪ ،‬فلم تفقد لغةُ قريش ما تفقده‬
‫اللغاتُ ‪،‬عادةً‪ ،‬من طبائع لغاتا بالختلط مع القوام الخرى‪..‬‬
‫من هنا؛ وكما أن قريشا قد مثّلت القلبَ النابضَ والعاملَ الشترك بي القبائل العربيّة‬
‫جيعها؛ فقد مثلّ لسانُها الدّ الدن الذي أمكن للقبائل العربيةِ أن تتمع عليه‪ ،‬ومثلّ ف‬
‫الوقت ذاته الدّ العلى ما يكن تسميته باللغة العربيّة لكن ببعدها "النسان" و"البشري"‪..‬‬

‫‪ )(1‬الدخل إل علم اللغة ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.167‬‬

‫‪162‬‬
‫وهنا يتأكدُ لنا واضحا ما ذهبنا إليه من أن تنّل القرآن الكري بلغة قريش؛ إنا يُقصد‬
‫به ‪،‬ف حقيقة المر‪ ،‬القول‪( :‬على الغلب) ول يعن انطباق لغة قريش على اللغة العربيّة‬
‫الفصحى انطباقا كاملً (أو العكس) يؤكد هذا المر ما ذكره ابن عبد الب ف "التمهيد"‪:‬‬
‫(قول من قال‪ :‬نزل القرآن بلغة قريش‪ ،‬معناه عندي‪" :‬ف الغلب"؛ لن لغةَ غيِ قريشٍ‬
‫موجودةٌ ف جيع القرآن‪ ،‬من تقيقِ المز ونوه‪ ،‬وقريشُ ل تمز)!(‪.)1‬‬

‫نعم بلغة قريش‪ ...‬ولكن؟!‬


‫إذنْ فلسانُ قريش‪ ،‬كان اللسانَ القربَ للعربيّة الفصحى الت نعرفها اليوم‪ ،‬والت يثلها‬
‫القرآنُ الكريُ خيَ تثيل‪ ،‬لكنّ هذا التقارب الكبي بي لغة قريش واللغة العربيّة الفصحى‬
‫(الت تنّل با القرآن الكري فيما بعد) يب أل ينسيَنا حقيقةَ أن لغة قريش‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫اقترابا الكبي من اللغة العربيّة بفهومها العروف لنا اليوم إل أنما ل تتطابقان مع بعضهما‬
‫تطابقا كاملً! بل ينبغي التشديد هنا على حقيقة أن القرآن الكري عندما تنّل ل يأتِ با‬
‫كان موجودا عند قريش وحدها؛ بل جاء ‪،‬أيضا‪ ،‬مثلً للعديد من لجات العرب وألسنتها‪،‬‬
‫وقد مُثِلت تلك اللهجات ف القرآن الكري بالعديد من مفرداتا وألفاظها؛ لكن بتفاوتٍ‬
‫كبيٍ بي هذه اللغة وتلك‪ ،‬وقد كانت لجةُ قريش الوفر حظا من بي لجات العرب جيعا‪،‬‬
‫وما ل يكن موجودًا ف لغة قريش كان موجودا عند غيها من العرب‪ ،‬وهكذا كان‪.‬‬

‫لغات(‪ )2‬العرب والعربيّة الفصحى‬


‫عندما نطلقُ هذه التسمية (أي‪ :‬لغة الفصحى) على اللغة العربيّة فإن ما نقصده هو ذلك‬
‫اللسان الذي نزل به القرآن الكري‪ ،‬والذي جاء به الديث الشريف‪ ،‬والشعر الاهلي‬
‫كذلك‪ ،‬وهو اللسان ‪،‬عينه‪ ،‬الذي ل نزال ‪،‬حت اليوم‪ ،‬نتخذُ منه لسانَ أدبٍ وعلمٍ ودين‪..‬‬

‫‪ )(1‬البهان للزركشي‪( ،‬هامش الدخل لعلم اللغة‪ ،‬للدكتور رمضان عبد الوهاب‪ ،‬ص ‪.)58‬‬
‫‪ )(2‬عندما نطلق مصطلح "لغة" هنا فإننا نقصد العن الذي كان سائدا قديا‪ ،‬ويكن أن نطلق عليه (اللسان)‬
‫كذلك‪ ،‬وهو مصطلحٌ يقاب ُل ف معناه مصطلح "اللهجة" التداول ف أيامنا‪ ،‬ول نقصد به اللغة بعناها العاصر‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫وقد تُدعى اللغةُ الفصحى ف كثيٍ من الحيان‪ ،‬بـ "القرشية" لغلبة خصائص قريش‬
‫عليها‪ .‬كما تُسمى أحيانا أخرى بـ "الجازية" وذلك لن عامةَ القبائل الجازية ل تكن‬
‫تتلفُ لجاتُها عن لجةِ قريشٍ ف شيءٍ يُذكر‪..‬‬

‫‪164‬‬
‫لكن هل العربيّة الفصحى الت تمعنا اليوم هي لغة قبيلةٍ معينةٍ من قبائل العرب؟‪..‬‬
‫والواب هو بالنفي‪ ،‬فعربيّتنا الفصحى اليوم ليست لجةَ قبيلةٍ بعينها‪ ،‬بل هي مزيجٌ لطيفٌ‬
‫من اختيارٍ أنيقٍ لصائص لجاتٍ عربّيةٍ كثيةٍ‪ ،‬أهها؛ القرشية (الجازية) والتميمية‪ ،‬وقد‬
‫كان ما تيّزت به لغةُ قريشٍ وأهل الجاز أنم كانوا ل ينبون (أي‪ :‬ل يهمزون) ف‬
‫كلمهم‪ ،‬وذلك عكس ما كانت عليه القبائلُ النجدية؛ كقبيلة "تيم"‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫ويلحظُ ‪،‬كذلك‪ ،‬أن تيما كانت تيلُ إل تفخي ِم الصواتِ وتضخيمِها‪ ،‬على حي كانت‬
‫قريش تيلُ إل ترقيقِها‪ ،‬وهذا الختلف أثرٌ من اختلف البيئتي البدوية والضرية‪ ،‬ففي لغة‬
‫أهل الجاز كانت كلمة "ساق" تُنطق (بالسي) بينما تلفظ ف لغة تيم ‪ :‬صاق (بالصاد) وقد‬
‫جاءت الفصحى لتتوافق مع لغة أهل الجاز ولتستقر على "ساق" ف لفظها‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫وبعد هذا الستطراد حول مفهوم "العربيّة الفصحى" وعلقته باللهجات (اللغات) العربيّة‬
‫الت كانت موجودةً قبل تنّل القرآن؛ فإننا (وابتداء من هذه النقطة) يكننا أن نستقر على‬
‫حقيقة وجود وجهي متلفي من وجوه اللغة العربيّة‪.‬‬
‫الول‪ :‬وهو العربيّة ببعدها الطلق وبعناها الغيب القرآن‪.‬‬
‫أما الخر‪ :‬فهو العربيّة ببعدها النسب وبعناها البشري‪ ،‬القومي‪ ،‬والنسان‪..‬‬

‫‪167‬‬
‫ومن الواضح لنا الن أن لجات العرب جيعِها ‪،‬والت كانت موجودةً زمن تنّل القرآن‪،‬‬
‫إنا هي عبارة عن أجزاء من كلّ واحدٍ يثل العن الشل للعروبة‪ ،‬بتفاوت ف كَِبرِ تلك‬
‫الجزاء أو صغرها‪.‬‬

‫عود ٌة إل الصل؟!‪..‬‬

‫‪168‬‬
‫على ممد(صلى ال عليه‬ ‫إن ما أصبح واضحا لنا الن هو أن القرآن الكري عندما تنّل‬
‫وسلم) إنا كان يعيدُ التلحم للغة العربيّة بواقعها التجزيئي القبلي والبشري الذي كان سائدا‬
‫آنذاك؛ وذلك تهيدا لعادتا إل صورةٍ هي أقربُ إل أصلِها القرآن‪ ،‬ذلك التلحم الذي‬
‫أفلح ‪،‬فيما بعد‪ ،‬ف القضاء على عصبية اللسان عند قبائل العرب‪ .‬وهناك دلئلُ كثيةٌ تشيُ‬
‫إل أن اللغة العربيّة الت تنّل القرآن الكري با؛ إنا كانت رابطا جامعا بي اللهجات الت‬
‫كانت موجودةً آنذاك‪ ،‬حيث صارت تلك اللهجات فيما بعد ("عناصر لغوية" تنتسب إل‬
‫قبائل معينة وقد دخلت اللغة الوحدة‪ ،‬وأصبح لا مستوىً من الفصاحة مقررٌ‬
‫ومعروف)(‪...)1‬‬
‫ومن الثابت أن القرآن الكري كان انتقائيا ف تعامله مع تلك اللغات (اللهجات) إذ ل‬
‫تكن لغات العرب متساويةً ف حجم مساهتها ف الكيان اللغوي الديد (لغةِ القرآن)؛ إل‬
‫أن مساهة لغة قريش كان لا اليد الطول ف هذا الجال؛ إل الدرجة الت صحّ معها القول‬
‫أن القرآن الكري قد تنّل بلغة قريش!‪ .‬والعلماء يذكرون أن لكثر هذه اللغات ف القرآن‬
‫الكري الكلمة والكلمتي إل الكلمات القليلة!!‪.‬‬
‫لكن ‪،‬وحسب رأينا‪ ،‬فإنّ العبةَ الت يب استقاؤها ‪،‬من وراء تثيل اللغات (اللهجات)‬
‫العربية الختلفة ف لغة واحدة ‪،‬هي لغة القرآن‪ ،‬ل تكمن (أي العبة) ف عدد اللفاظ الت ت‬
‫استقاؤها من لغةٍ بعينها‪ ،‬بل ف دللة ذلك الستقاء!! فالدللة هنا واضحة؛ وتذهب بنا إل‬
‫أنّ الكيان اللغوي الديد (عربيّة القرآن) إنا هو كيانٌ لغويٌ جامعٌ؛ وهو أعمّ وأشلُ من كلّ‬
‫ما كان موجودا قبله‪.‬‬
‫ويكننا الفتراض أن عمليةُ الدمج الت تت بي العناصر اللغوية الاصة بالقبائل العربيّة‬
‫ف لغةٍ واحدةٍ (هي لغة القرآن) ل يكن يعن ‪،‬بأي حالٍ من الحوال‪ ،‬مرد وراثة لغة القرآن‬
‫للسنة العرب؛ وذلك عب جعها ف لسانٍ واحد‪ ،‬وإنا يعن أن اللغةَ الديدةَ قد جاءت‬
‫لترثَ الصلَ الول؛ الذي انبثقت عنه كلّ تلك اللغات منذ قدي الزمان؟!‪.‬‬

‫‪ )(1‬فقه اللغة ف الكتب العربيّة‪ ،‬د‪ .‬عبده الراجحي‪ 1974،‬ص ‪.110‬‬

‫‪169‬‬
‫بي النسب والطلق‪ :‬نتائج أولية؟!‬
‫ما بسطناه آنفا حول الدّ النسب للعروبة (ألسنة متعددة) والدّ الطلق لا (لسان واحد)‬
‫يكننا أن نلص إل النتائج الولية التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬عندما تنّل القرآنُ الكري بالعربيّة فقد كان هناك بونا شاسعا بي العربيّة الت جاء با وبي‬
‫العربيّة (البشرية) الت كانت سائدة آنذاك‪ ،‬فلم تكن لغةُ القرآن الكري واحدة من تلك‬
‫اللغات بعينها‪ ،‬كما أنا ل تكن مرد "مموعٍ جبيٍ جامدٍ" لتلك اللهجات ف كيانٍ لغويٍ‬
‫جامعٍ جديد!!‪.‬‬
‫‪ -2‬عندما نتحدث عن عروبة القرآن وعربيّته‪ ،‬فنحن ل نقصد مرد المع البي للهجات‬
‫العربيّة الت كانت موجودةً ف ذلك الوقت‪ ،‬إذ إن ِفعْلَ القرآن الكري وتأثيه ل يقتصر على‬
‫مرد إعادة توحيدِ اللغات (اللهجات) العربية ف لغةٍ واحدةٍ؛ بل تعداه إل استكمال جوانب‬
‫النقص ف تلك اللغة (كما سنرى لحقا)‪.‬‬
‫ما يؤكد أن الوضع اللغوي العربّ قبل تنّل القرآن ل يكن هو الصل ف اللغة‪ ،‬وأن عربّيةَ‬ ‫‪-3‬‬

‫القرآن وحدها كانت هي الصل الذي يتوجب التمسك به دائما وأبدا؛ أنه وبجرد‬
‫استقرار اللغة العربيّة ‪،‬بفهومها القرآن‪ ،‬انتفت الاجةُ إل الرخصة الت تسمح بتداو ِل لغةٍ‬
‫جزئيةٍ أقلّ جودة! وقد تثلت تلك النقلة فيما قام به عثمان بن عفان رضي ال عنه عندما‬
‫أمر بكتابة الصحف الشريف على حرفٍ واحدٍ فقط(‪ ،)1‬وتركت القراءة بالحرف الستّة‬
‫الخرى‪ ،‬ما يستبيُ معه أن القراءة بالحرف السبعة(‪ )2‬ليست واجبة‪ ،‬ولو أوجب رسولُ‬
‫ال(صلى ال عليه وسلم) على المة القراءة با جيعا لوجب نقلُ كلّ حرفٍ منها نقلً متواترا‬
‫تقوم به الجّة‪.‬‬

‫س على مصحفٍ واح ٍد وقراءةٍ واحدة‪ ،‬وقد قامَ بإرسال‬


‫‪ )(1‬ما يروى أن عثمان بن عفان رضي ال عنه قد ج َع النا َ‬
‫نسخٍ منها إل كلّ أفق من آفاق دولة السلم‪ ،‬واحتبس بالدينة نسخ ًة واحدةً هي مصحفه السمى "المام"‪ ،‬ث أمرَ‬
‫أن يرقَ ما عدا تلك النسخ من صحيف ٍة أو مصحف‪ .‬وقد أجع الصحابة رضوان ال عليهم على تأييد صنيعه‪،‬‬
‫وتَلَ ّقتْ الم ُة ذلك بالطاعة‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫بالضافة إل مهمته الساسية التمثلة ف توحيد الدين النسان؛ فلم يكن عجبا أن يكون‬ ‫‪-4‬‬

‫للقرآن الكري هدفا آخر أل وهو توحيد اللغة النسانية(‪ !ً)1‬تلك الهمة الت ابتدأها بتوحيد‬
‫اللهجات العربيّة ذاتا‪ ،‬وذلك بتوسيع القاسم الشترك فيما بينها‪ ،‬وليتجاوز لغةَ قريشٍ إل‬
‫لغةٍ أعمّ وأشل تمع بي لغات العرب‪ ،‬وليجعلَ ذلك الفهوم مُنطلقَه نو توحيد البشرية‬
‫كلها تت لواء العروبة القرآنية‪ ،‬والت جاءت لتعلن (إنا العربيّة اللسان) فقد حطم هذا‬
‫الفهوم ما كان سائدا من معانٍ جزئيةٍ للعروبة‪ ،‬فحوّلا عن معناها القبلي البشري إل معناها‬
‫الدين الربان‪ ،‬والذي يتيحُ الفرصةَ لكلّ من يتعلمُ لسانَ القرآن الكري أن يكون عربيّا‬
‫خالصا!‪.‬‬
‫والن‪...‬‬
‫فلعلنا نكون قد أوضحنا أن اللغة الت جاء با القرآن الكري ل تكن متطابقةً مع لغةٍ من‬
‫اللغات العربية الت كانت سائدةً آنذاك تام النطباق‪ ،‬لكنها كانت تتشابه معها ‪،‬مرد‬
‫تشابه‪ ،‬وانفردت عربيّة القرآن عن عربيّة العرب ف كونا لغةً واحد ًة موحدةً غي مزأة‪،‬‬
‫بعكس الواقع اللغوي الذي كان سائدا آنذاك‪.‬‬
‫لكن هل اقتصر دور القرآن الكري على فعله الحلي؛ والذي تثل ف توحيد أشتات‬
‫وفروع اللغة العربيّة‪ ،‬والت كانت أجزاؤها متناثرة بي القبائل العربيّة الختلفة؟‪..‬‬
‫ولو كان القرآن الكري قد اقتصر دوره على ذلك المع لشتات العربية؛ فهل يصلحُ‬
‫ذلك كشاهدٍ على حقيقة اختلف العربيّة القرآنية عن العربيّة البشرية؟‪..‬‬
‫لتبيان حقيقة الدور (العالي) الذي قام به والثر الذي أحدثه القرآن الكري ف مال‬
‫استكمال حقيقة اللغة العربيّة؛ فعلينا أن ننتقل إل زاويةٍ جديدةٍ‪ ،‬ناول من خللا إلقاءَ‬
‫شعاع إضاف من الضوء على هذا الوضوع؟! لكنه شعاع آت من خارج الدائرة العربية هذه‬
‫الرة‪ ،‬فماذا تراه يكون؟!!‪..‬‬
‫‪ )(2‬يب التأكيد هنا على أن القراءات السبع (بل العشر) كلها متواترةٌ تقوم با الجة‪ ،‬أما الشاذة فهي أربع‬
‫قراءات غي متواترة ول تقوم با حجة‪ ،‬مع التأكيد مرة أخرى على حقيقة أن القراءات السبع ل تعن الحرف‬
‫السبعة الت نن بصددها هنا‪ ،‬وأنّ اللفظ "سبعة" هنا إنا هو من قبيل التشابه فقط‪.‬‬
‫‪ )(1‬كما سنرى ف الصفحات القادمة‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫ظاهرة مثية‪ ..‬ووجهة نظر تاول القتراب؟!!‬
‫لو اقتصر دورُ القرآن الكري على توحيد اللهجات العربيّة ف إطارٍ لغوي جامعٍ فما أشبه‬
‫ذلك بأفعالِ البشر!‪ ..‬ولقد ذكرنا ‪،‬فيما مضى‪ ،‬أن القرآن الكري ‪،‬وف سبيل استكمال‬
‫العربيّة لعناها الطلق‪ ..‬قد قام ‪،‬بداية‪ ،‬با يكن أن نطلق عليه (عملية تميع ملية) لشتات‬
‫اللهجات العربيّة‪ ،‬وذلك بدف إرجاعها إل أصلها الذي كانت عليه قبل أن تتفرق إل‬
‫لجات‪ .‬ومع تنل آيات القرآن الكري أمكن ملحظة ظاهرةٍ مثيةٍ أطال العلماء التوقف‬
‫عندها‪ ،‬وقد أكدّت تلك الظاهرة حقيقة أن القرآن الكري ل يقتصرْ دوره على عملية المع‬
‫الحلية لشتات اللغة العربية‪ .‬وقد تثلت تلك الظاهرة ف مموعة من اللفاظ الغامضة الت‬
‫حفل با القرآن الكري‪ ،‬والت ل يعتدِ العربُ على استخدامها! وقد شكلت تلك اللفاظ‬
‫ظاهرةً فريدةً تباينت تاهها الراء؛ واستعصت على كل تفسي مقنع! وقد عدّ العلماء من‬
‫تلك اللفاظ من غي لغات العرب أكثر من مائة لفظة‪ ،‬اعتقدوا أنا ترجعُ ف أصولا إل‬
‫لغات الفرس والروم والنبط والبش والببر والسُريان والعبان والقبط!‪.‬‬
‫ومن أمثلة تلك اللفاظ‪" :‬برهان" وهي لفظةٌ حبشية(‪" )1‬كاهن" وهي لفظةٌ عبية(‪،)2‬‬
‫"قلم" وهي لفظةٌ يونانية‪ ،‬و"زيت" وهي لفظ ٌة آرامية(‪.)3‬‬

‫‪ )(1‬اللغة البشية هي واحدة من لغات الفرع النوب للغة الساميّة‪ ،‬والذي يضم العربيّة الشمالية‪ ،‬و العربيّة‬
‫النوبية‪ ،‬وقد نشأت اللغات الساميّة ف البشة نتيجة لجرة عربيّة جنوبية من جزيرة العرب إل شرق أفريقيا‪.‬‬
‫(مدخل إل علم اللغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪)93-92‬‬
‫‪ )(2‬اللغة العبية هي إحدى اللهجات الكنعانية‪ ،‬تعلمتها مموعة من السيويي عندما هاجروا إل أرض فلسطي‪،‬‬
‫فاكتسبوا لجة كنعانية سائدة ف فلسطي‪ ،‬وذلك ف القرن الثان عشر قبل اليلد‪ ،‬وقد ظلت العبية لغة الياة‬
‫اليومية ف هذه النطقة حوال ستة قرون‪ ،‬إل أن حلت ملها لجات آرامية ف نفس النطقة‪ ،‬وقد ارتبطت اللغة‬
‫العبية بالدين اليهودي بعد أن انتهت من الستخدام ف الياة اليومية‪( .‬نفس الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.)88‬‬
‫‪ )(3‬اللغة الرامية هي واحدة من اللغات الت يمعها الصل الساميّ‪ ،‬وهي معروفة على مدى القرون الثلثي‬
‫الاضية‪ ،‬وليس هناك لغة آرامية موحدة‪ ،‬بل تنوعت ف ك ّل فترة زمنية تنوعا بعيدا‪ ،‬وكان منها‪ :‬آرامية الدولة‪،‬‬
‫السريانية‪ ،‬ولجات آرامية أخرى حديثة‪( .‬نفس الرجع السابق‪ ،‬ص ‪)90‬‬

‫‪172‬‬
‫وف ماولة من قبل البعض لتقدي تفسيٍ لوجود تلك اللفاظ ف القرآن الكري فقد ذهب‬
‫إل أنا إنا (وردت ف القرآن؛ لنه ل يسد مسدّها إل أن تُوضع لعانيها ألفاظٌ جديدة)!(‪..)1‬‬
‫وهذا التعليل (الذي ياول تفسي وجود تلك الكلمات ف القرآن بعلّة افتقار العربيّة إل ما‬
‫يسد مسدّها ف العربية) هو طرحٌ غي جاد!‪ ،‬وغي موفق! حسب اعتقادنا‪ ..‬فكيف بلغةٍ غنيةٍ‬
‫اصطفاها ال عزّ وجل لتحمل كلماته وآخر رسالته أن تعجز كلّ ذلك العجز؟!‪..‬‬
‫تعليلٌ غريب؟!‪...‬‬
‫والتعليل السابق غريبٌ كذلك؛ لن السئلة الت يُثيها إنا هي من ذلك النوع الذي‬
‫يسّ القلبَ فيدميه؛ ويترك فيه أثرا ل يزول‪ ،‬ويدفعنا إل التساؤل القلِق‪ :‬أعجز القرآن‬
‫الكري أن يأتَ بألفاظ عربيّة الصل تفي العن الراد حقه؛ حت يستعيها من لغاتٍ‬
‫أخرى؟!‪...‬‬
‫ول تتوقف السئلة‪ ،‬بل تزداد حيتُنا حي نضطر إل طرح الزيد منها‪ :‬هل تعريب كلمةٍ‬
‫أجنبيةٍ يعلها عربيّة!!؟؟‪ ..‬وإذا افترضنا أن ذلك مكن‪ ،‬وأنا قد أصبحت عربّيةً بالفعل؛ فهل‬
‫يكن أن تصبح تلك اللفظة جزءا من نسيج القرآن الكري الذي قضى ال فيه أن يكون‬
‫حكما عربيا؟؟!!‪ ..‬وهل يكن للفان أن يعب عن الزلّ؟! وهل يكن للتراب أن يصبح بثل‬
‫ذلك الشراق؟! وهل يكن لكل ٍم هو من اصطلح البشر واختراعهم أن يمل للبشرِ مراد‬
‫ال ربّ البشر؟!‪.‬‬
‫ع ومكفولٌ لميعِ البشر‪ ،‬لن التساؤل هو الطريقة‬
‫إن التساؤل ف حد ذاته حقٌ مشرو ٌ‬
‫الُثلى لبلوغ العرفة‪ ،‬ما يفسر بروز (ظاهرة التساؤل) منذ عهد النبوة الول‪ .‬وقد كانت‬
‫تساؤلت مشابة لتساؤلتنا الت نطرحها هنا قد برزت وفرضت نفسها واستوقفت البعض‬
‫زمن النبّ (صلى ال عليه وسلم)‪..‬‬

‫‪ )(1‬إعجاز القرآن‪ ،‬مصطفى صادق الرافعي‪ ،‬طبعة دار الكتاب العرب‪ ،‬ص ‪.72‬‬

‫‪173‬‬
‫فمما يُروى أن أعرابيا قد حضر إل رسول ال(صلى ال عليه وسلم) ليسأله عن بعض ألفاظ‬
‫القرآن الكري الت ل تكن معروفةً للعرب ف ذلك الي‪ ،‬من أمثال الكلمات‪ :‬يهزأ‪،‬‬
‫وقسورة‪ ،‬وكُبَارا‪ ،‬وعُجاب‪ ..‬فما كان من النبّ (صلى ال عليه وسلم) إل أن استبقاه‪ ،‬وبينما هو‬
‫على تلك الال حضر رجلٌ آخر ليسأل رسول ال(صلى ال عليه وسلم) عن أمر ما‪ ،‬فلما تباطأ‬
‫عنه النبّ (صلى ال عليه وسلم) و ّجهَ الرجلُ حديثه للنب قائل له‪" :‬أتزأ ب يا ابن قسورة‬
‫العرب‪ ،‬وأنا شيخٌ كُبّارا‪ ،‬إن هذا لشيءٌ عُجاب"‪ .‬فكان ذلك القول بثابة ردّ غي مباشر‬
‫على تساؤلت العراب‪ ،‬فالنبّ (صلى ال عليه وسلم) ل يتولّ الرد عليها بنفسه‪ ،‬ولعل طريقة‬
‫الرد تلك تُعد من أبدع ما جاء به هذا الدين العظيم‪ ،‬فتلك التساؤلت الت حلها العراب‬
‫كانت آتيةً من زمنٍ آخر غي ذلك الزمن‪ ،‬وتلزمها معرفةٌ أخرى غي العرفة الراهنة آنذاك‪،‬‬
‫ومع ذلك فإنّ النبّ (صلى ال عليه وسلم) ل ينهر العراب قائلً له‪" :‬لقد أخطأت يا أعراب‪ ،‬إنا‬
‫عربيّة مائة بالائة‪ "...‬ول تكن إجابته (صلى ال عليه وسلم) من قبيل‪" :‬إذهب أيها العراب‪ ،‬إن‬
‫هذا السؤال أكب من أن تفهم الجابة عنه"!‪..‬‬
‫وكما كان السؤال عن تلك اللفاظ الغامضة مشروعا فقد ظل ذا إلاح‪ ،‬وبقي يراودُ‬
‫أهلَه على مَرّ السني‪ ،‬ما اضطر البعض ‪،‬ف ماولةٍ منه لتفسي وجودها‪ ،‬إل القول‪ :‬بأن‪:‬‬
‫"المر كله ل يعدو أن يكون تشابا بي العربيّة وغيها"!!‪.‬‬
‫وعُلّلَ المر تارةً أخرى بأن‪" :‬اللغات الخرى هي الت أخذت هذه الكلمات عن‬
‫العربيّة"‪ .‬أما من قال بأن تلك الكلمات عربيّة ‪،‬كابن فارس‪ ،‬فلم يكن له من الدليل إل‬
‫القول‪( :‬فأما قولنا إنه ليس ف كتاب ال تعال شيءٌ بغي لغة العرب فلقوله تعال‪{ :‬إنا جعلناه‬
‫قرآنا عربيّا}‪..‬‬
‫(ويواصل ابن فارس حديثه) وادّعى ناسٌ أن ف القرآن ما ليس بلغةِ العرب؛ حت ذكروا‬
‫لغةَ الرومِ والقبطِ والنبط‪ .‬فحدثن أبو السي ممد بن هارون قال‪ :‬أخبنا عليٌ بن عبد‬
‫العزيز؛ عن عليّ بن الغية الثرم قال‪ :‬قال أبو عبيدة‪ :‬إنا أُنزل القرآنُ بلسانٍ عربّ مبي‪،‬‬
‫فمن َز َعمَ أنّ فيه غي العربيّة فقد أعظم القول)(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬الصاحب‪.60-59 ،‬‬

‫‪174‬‬
‫هل تأخذ اللغات من بعضها؟‪..‬‬
‫وكأن تلك التفسيات ل تكن كافية لظهار المر على حقيقته؛ فحاول علماءٌ آخرون‬
‫تفسي وجود تلك اللفاظ ف القرآن بأن نظروا إل المر من زاويةٍ أخرى تُقرُ مبدأ أ ْخذِ‬
‫اللغات من بعضها؛ فقد ذكر الثعالب ‪،‬على سبيل الثال‪ ،‬ألفاظا دخلت إل العربيّة من‬
‫الفارسية والرومية‪ ،‬وذلك ف قوله‪( :‬فصلٌ ف سياقةِ أساء تفردّت با الفرسُ دون العرب‬
‫فاضطرت العرب إل تعريبها أو تركها كما هي‪ ،‬فمن الوان‪ :‬الكوز‪ ،‬البريق‪ ،‬الطست‪،‬‬
‫الوان‪ ،‬الطبق‪ ..‬وكذلك بعضا ما نسبه بعض الئمة إل اللغة الرومية‪ :‬الفردوس وتعن‪:‬‬
‫البستان(‪ ،)1‬القسطاس وتعن‪ :‬اليزان‪ ،‬السجنجل وتعن‪ :‬الرآة‪ ،‬البطاقة وتعن‪ :‬رقعة فيها رقم‬
‫التاع‪ .)2()..‬وقد سلك "أبو الفتح" نفس السلك حي أقرّ ذلك البدأ‪ ،‬وأشار إل مظاهر‬
‫انتقال الكلمات الجنبية إل العربيّة‪ ،‬وكيفية هذا النتقال‪.‬‬

‫إن ل تكن عربيّة‪ ..‬فماذا تكون إذن؟!‪..‬‬


‫إذا أردنا أن نستبق الحداث فإننا سوف نقرر أن كلّ تبير ذهب إل عدم عروبة تلك‬
‫اللفاظ هو تبيرٌ غي صحيح‪ ،‬فالقيقة الؤكدة هي أن تلك اللفاظ إنا هي عربّيةٌ مائة‬
‫وواحد ف الائة؟!‪ .‬وإن كلّ العتقادات السائدة والت مفادها أنا أتتنا من لغاتٍ أخرى غي‬
‫العربيّة؛ إنا هي اعتقادات خاطئة من أساسها‪ ..‬لكن أين الدليل على ذلك؟!!‪..‬‬

‫ألفاظ غامضة!!‪..‬‬

‫‪ )(1‬الكلمة بعد الشرطة الائلة هي العن القابل ف العربية‪.‬‬


‫‪ )(2‬فقه اللغة‪.146-145 ،‬‬

‫‪175‬‬
‫لقد تعرضنا ف الصفحات السابقة لجموعة من دوائر الفعل القرآن لستكمال حقيقة‬
‫اللغة العربية‪ ،‬با ف ذلك فعله ف الطـار الحلي التمثل ف تميـع فـروع اللغة العربية‬
‫ذاتا‪ ،‬والت كانت متناثرة ف مموعة من اللهجـات‪ ،‬ما يكننا من التوجـه لحاولـة‬
‫تفسيـر وجود مموعة ل بأس با من اللفـاظ الت اعتقد البعض بأنا ألفاظ غامضة‪،‬‬
‫وغريبة‪ ،‬وغي عربية!!‪..‬‬
‫ولحاولة سب أغوار هذه السألة فلنحاولْ التعرف على نوذج من النماذج العبة عن‬
‫تاريخ تطور اللغة النسانية‪ ،‬وذلك بالتعامل مع فرعٍ من فروعها‪ ،‬وأسرةٍ من أُسرها ذات‬
‫الهية الاصة‪ ،‬أل وهي أسرةُ اللغات الساميّة‪ ،‬مع البحث عن العلئق الت تربط بينها وبي‬
‫اللغة العربيّة إن وجدت!‪ ..‬لعلنا بعد ذلك نقدمُ تفسيا لوجود تلك اللفاظ الغامضة!!‪،‬‬
‫والت ادّعى البعض عدم عروبتها؟!…‬

‫‪176‬‬
‫اللغات الساميّة ‪ ..‬أفراد لسرة واحدة!!‬
‫تُطلق كلمةُ "الساميّي" على مموعةٍ من المم الت سكنت أجزاءً من غرب آسيا وشرقَ‬
‫أفريقيا منذ غابر الزمان‪ ،‬وهذه الجزاء هي على سبيل الصر‪ :‬الزيرة العربيّة‪ ،‬والشام‪،‬‬
‫والعراق‪ ،‬وسيناء‪ ،‬وبلد البشة(‪ ..)1‬واللسن الساميّة هي جُلةُ اللسن الت تكلمت با‬
‫الممُ الساميّة؛ الندثرُ منها كالكديّة والسبئية‪ ،‬أو الباقي منها إل يومنا هذا كالعربيّة‬
‫والعبية والسريانية‪.‬‬

‫مهدُ اللغات الساميّة‬


‫تفترضُ نظريةُ "الُسر اللغوية" وحدةَ الصلِ العرقيّ للمم الناطقة بألسنة من أسرةٍ‬
‫واحدة‪ ،‬ما يدعو البعضَ إل العتقاد بوحدة الصل العِرقي الواحد للشعب الساميّ؛ الذي‬
‫انبثقت عنه الشعوب الساميّة‪ .‬وقد اختلف العلماء ف جدلم حول "الهد الصليّ"‬
‫للساميّي‪ ،‬إذ اعتقد البعض بأنه أرض أرمينية بالقرب من حدود كردستان‪ ،‬لكنّ العلمة‬
‫"غويدي" يذهبُ إل أنّ جنوب العراق ‪،‬على نر الفرات‪ ،‬كان الهد الول للساميّي‪ .‬ويزعمُ‬
‫البعضُ أن بلد البشة هي الوطن الول للساميّي‪ ،‬كما يزعم غيهم أن ذلك الوطن إنا‬
‫كان بلد اليمن أو القسم النوب الغرب من جزيرة العرب‪ ..‬وأرجح القوال ‪،‬والت يكاد‬
‫الجاع ينعقد عليها‪ ،‬هو أن جزيرة العرب كانت الوطنَ الصليّ لكل الشعوب الساميّة‪،‬‬
‫ويستدلون على ذلك بأمور عدّة‪ ،‬منها‪ :‬أن التاريخ القدي قد صَ ّرحَ بروج الكثي من المم‬
‫الساميّة من هذه الزيرة‪ ،‬مثل الكديي‪ ،‬والراميي‪ ،‬والكنعانيي‪ ،‬وغيهم‪ ...‬كذلك أن‬
‫جيع المم الساميّة تغلُبُ عليها صفاتُ البداوةِ والخلق والطبائع الصحراوية(‪.)2‬‬

‫‪ )(1‬الوجيز ف فقه الغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.71‬‬


‫‪ )(2‬الوجيز ف فقه اللغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪( 73‬بتصرف)‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫ولنحاول الن أن نتتبعَ الفرضية الت كاد الجاع ينعقد حولا ‪،‬كما أشرنا‪ ،‬والت تشيُ‬
‫إل أن الزيرة العربيّة كانت موطنا أصليا لتلك اللسنة جيعها؛ وذلك من خلل تتبع خط‬
‫سيكل شعاع خرج من الزيرة العربيّة وتديد مكان استقراره بعد ذلك‪ ،‬ولنحاول ‪،‬من ثّ‪،‬‬
‫الوصول إل نتيجةٍ تُوضّحُ نوع العلقة الت ربطت بي تلك اللسنة جيعا‪.‬‬

‫الوامع الشتركة بي اللغات القدية‬


‫يعتب العرب فرعا من فروع العرق الساميّ‪ ،‬وهم سكان شبه الزيرة الت عُرفت باسهم‪،‬‬
‫ول يُعلم بدايةُ الزمنِ الذي سكن فيه العربُ ف ذلك الكان‪ ،‬والظاهر أنم كانوا سكانا‬
‫الصليّي منذ عصور ما قبل التاريخ‪ .‬وما يدر ذكره هنا هو أن مناهل اللغة العربيّة تعودُ ف‬
‫جذورها إل الاضي السحيق لشبه الزيرة العربيّة‪ ،‬وهي‪( :‬أكثر ِقدَماّ من تسمية حَ َلةِ هذا‬
‫اللقب ذاته ‪،‬أي العرب‪ ،‬فقد أطْ َلقَتْ قبائلُ الرّحّلِ ونصفُ الرّحّلِ والضر ‪،‬الت كانت تقطن‬
‫قديا شبه الزيرة العربيّة والباري التاخة لفلسطي وسوريا وما بي الرافدين‪ ،‬على نفسها‬
‫ألقاب سللتا وقبائلها أو اتاداتا القبلية‪ ،‬وكانت الشعوب الجاورة فقط هي الت تطلق‬
‫على هذه القبائل تسميةً عامةً "العرب")(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬دراسات ف تاريخ الثقافة العربيّة‪ ،‬خالدوف وآخرون‪ ،‬دار التقدم‪ ،‬ص ‪.71‬‬

‫‪178‬‬
‫ب هو وصفٌ لكل سكان الزيرة؛ سواءً الاضر منهم والبادي‪ ،‬وينقسمُ اللسانُ‬
‫والعر ّ‬
‫العربّ إل عددٍ كبيٍ من اللهجات الت عاش بعضُها ف النوب‪ ،‬وعاش البعض الخر منها ف‬
‫الشمال‪ ،‬وبعضها باد واندثر‪ ،‬وبعضها لزال حيا إل اليوم‪ .‬ومن لجات العربيّة اللهجة‬
‫الثموديّة‪ ،‬واللحيانيّة‪ ،‬والصفويّة‪ ،‬والاهليّة‪ ،‬والعربيّة النوبيّة‪ ،‬واللهجة الفصحى(‪ :)1‬والت‬
‫تُسمى أحيانا بالقرشية‪ ،‬لغلبةِ خصائصِ لجةِ قريشٍ عليها‪ ،‬كما إنا تُدعى أحيانا بالجازية‪،‬‬
‫وذلك لنّ عامةَ القبائلِ الجازيةِ ل تكنْ تتلفُ عن لجة قريشٍ ف شيء‪ .‬ومهما يكن من‬
‫أمْرِ التسمية؛ فإن ما نعنيه بالفصحى هو تلك اللهجة الت نزل با القرآنُ الكري‪ ،‬والت جاء‬
‫با الديث الشريف‪ ،‬والشعر الاهلي‪ ،‬والت ل نزال ‪،‬حت اليوم‪ ،‬نتخذُ منها لسانَ دينٍ‬
‫وعلمٍ وأدب‪.‬‬
‫وتدر الشارة هنا إل أن الفعل الول للقرآن الكري قد تناول تلك الفروع الحلية‬
‫بالتجميع‪ ،‬حيث تنل بلغة عربية فصحى هي خليط من تلك اللسنة جيعها‪.‬‬
‫اللغات الساميّة من غي العربيّة‬

‫‪ )(1‬تعرضنا لا سابقا‪ ،‬ونتعرض لا هنا باختصار للضرورة الوضوعية‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫تعرّفنا على مموعةٍ من اللهجات الت تنتهي ِبنَسَبِها إل لغةٍ أم واحدة؛ هي العربيّة‪ ،‬والت‬
‫تُعتب ‪،‬بدورها‪ ،‬واحد ًة من لغات السرة الساميّة‪ ،‬وقد لحظنا تارةً ما بي تلك اللهجات (ف‬
‫اللسان العربّ) من فروقات تيّزُها عن بعضها البعض‪ ،‬وكذلك ما يمعُ بينها من تشابه تارةً‬
‫أخرى‪ .‬وقد بات الن ضروريا أن َنعْرِضَ ‪،‬بقليل من التفصيل‪ ،‬للعائلة الكبية‪ ،‬الت تُعتبُ‬
‫العربيّة أحدَ أفرادها‪ ،‬لكي نتبي أن عملية تميع الفروع الحلية للغة قد ترافقت مع عملية‬
‫مشابة‪ ،‬ت بوجبها عملية تميع أخرى ولكن بشكل أقل وضوحا‪ ،‬حيث استعادت اللغة‬
‫العربية بعضا من كنوزها الفقودة!!‪ ..‬وليست تلك العائلة سوى "أسرة اللغات الساميّة"‪.‬‬
‫لقد تناول "علم اللغات القارن" بالدراسة والتحليل مموعةً من اللغات الت تنتمي إل‬
‫أُسرةٍ لغويةٍ واحدة‪ ،‬ويعتمدُ البحثُ القارن على وجودِ تصنيفٍ واضحٍ للغات يتم تقسيمها‬
‫بوجبه إل أُسِر لُغوية‪ ،‬ول تكن القرابةُ بي اللغات معروفةً على نوٍ علميٍ دقيقٍ إل أن‬
‫اكتُشِفت اللغةُ السنسكريتية ف الند‪ ،‬حيث قُورنت مع اليونانية واللتينية؛ فثبت ‪،‬من خلل‬
‫تلك القارنات‪ ،‬وجودُ قراب ٍة لغويةٍ بي تلك اللغات‪ ،‬وأنا ترجع إل أصلٍ قديٍ واحد‪.‬‬
‫وما من خلف حول‪ :‬التناسب التبادل‪ ،‬وحت التقارب الشديد بي لغات الفرع‬
‫الساميّ‪ .‬ويُظهرُ التركيبُ الصوتُ؛ والصرفُ والنحوُ؛ والرصيدُ الساسيُ القاموسيُ لذه‬
‫اللغات ملمحَ تشابه مدهشة‪ ،‬فهناك حوال ‪ 300‬كلمة مشتركة للرصيد الساسي القاموسي‬
‫مُثْبتةً لميع الجموعات الت تنقسمُ إليها اللغات الساميّة الية والهملة(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬دراسات ف تاريخ الثقافة العربيّة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.20‬‬

‫‪180‬‬
‫وتنقسمُ اللغاتُ السامّيةُ إل ثلث مموعاتٍ كبية هي‪ :‬الشمالية الغربية "أو الشمالية"‪،‬‬
‫والشمالية الشرقية "أو الشرقية"‪ ،‬والنوبية الغربية "أو النوبية"‪ .‬وتعدّ اللغات الساميّة من‬
‫أقدم اللغات النسانية الت وصلت إلينا مدونة‪ ،‬فاللغة الكديّة ف أرض النهرين قد دُونت‬
‫ص مدونةُ‬
‫منذ سنة ‪2500‬ق م‪ ،‬وهي بذا من أقدم اللغات الدوّنة‪ ،‬وقد وصلت إلينا نصو ٌ‬
‫بلغاتٍ سامّي ٍة متلفةٍ منذ هذا التاريخ البكر وعَبْرَ ما يقربُ من خسةٍ وأربعي قرنا‪،‬كما يعْرِفُ‬
‫العالُ الديثُ عد َة لغاتٍ ساميّةٍ حيّة أهها‪ :‬العربيّة‪ ،‬والمهرية‪ ،‬ومنها العبية الديثة‪،‬‬
‫واللهجات الرامية الديثة‪ ،‬والُهرية‪ ،‬والتجرية‪ ،‬والتجرينية(‪.)1‬وفيما يلي نلقي بعض الضوء‬
‫على بعضِ اللغات الساميّة‪.‬‬
‫أ‪ -‬الكديون ولسانم‪:‬‬
‫ويُنسبون إل منطقةٍ تقعُ ف جنوب العراق تُدعى (أكدّ) ويسميهم آخرون بالبابليي؛‬
‫نسبةً إل "بابل"؛ وهي الدينة الت بََنوْها وجعلوها عاصمةً لم‪ ،‬كما يسميهم آخرون‬
‫بالكلدانيي؛ نسبةً إل إحدى السر الت حكمت "بابل" خلل تاريها الطويل‪.‬‬
‫أما عن أصل هؤلء القوم (على اختلف الساء الت أطلقت عليهم) فهم قبائلُ ساميّة‬
‫خرجت من الزيرة العربيّة‪ ،‬أو من ناحيةِ سورية ‪،‬على خلفٍ ف ذلك‪ ،‬واستقرت تلك‬
‫القبائل ف العراق وأقامت فيه‪ ،‬وقد كُِتبَت اللغةُ الكديّة بواسطة الط السماري؛ الذي‬
‫استعي من اللسان الشومري‪ ،‬وقد تبي من خلل فحص الط السماري أن أبديته ل تتوي‬
‫إل على ثانية عشر حرفا فقط‪ ،‬أما حروف التضخيم(‪( )2‬والت تُعتبُ من أبرز سات اللسن‬
‫الساميّة) فل أثر لا ف البدية السمارية‪.‬‬
‫أما عن مظاهر التشابه بي اللغتي الكديّة والعربيّة؛ فقد لوحظ احتفاظُ الكدية ببعض‬
‫مظاهر العراب الت يُعتقد أنا من خصائص اللسان الساميّ الول‪ ،‬والذي تلصت منه‬
‫اللسنةُ الساميّة الخرى ما عدا العربيّة الفصحى‪ .‬وحركات العراب ف الكديّة اثنتان ها‬
‫الضمةُ والكسرة‪.‬‬

‫‪)(1‬مدخل إل علم اللغة‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،1978‬ص ‪.83‬‬


‫‪ )(2‬الطاء‪ ،‬الظاء‪ ،‬الضاد‪ ،‬وحروف اللق‪ ،‬والعي‪ ،‬والغي‪ ،‬والاء‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫ب‪ -‬الكنعانيون ولسانم‪:‬‬
‫وهذه القبائل الساميّة يُعتقد بأنا هي أيضا قد خرجت من الزيرة العربيّة؛ وذلك نو‬
‫سنة ‪ 2500‬قبل اليلد‪ ،‬حيث حطّت ف بلد الشام‪ ،‬وقد أسّسوا فيها مموعتي من المالك‪،‬‬
‫الول‪ :‬كانت مموعةً داخليةً انقرضت سريعا بوصول العنصر الرامي والسرائيلي‪ .‬أما‬
‫الثانية‪ :‬فكانت مموعةً ساحليةً ظلّت تقاومُ حت القرن اليلدي الول‪ .‬كما أسسوا لم‬
‫مستعمراتٍ ف الارج؛ كان من أشهرها ملكة "قرت حدش"(‪ )1‬أي (قرطاجنة) والت تقعُ ف‬
‫شال أفريقيا‪ .‬يشار إل أن كلّ آثار اللسان الكنعان ‪،‬سواءً ما وُجد منها ف وطنهم أو ما‬
‫وُجد ف مستعمراتم(‪ )2‬تدل على عِ َظمِ ُق ْربِ اللسان الكنعان من اللسان العبي‪ ،‬وهو ما‬
‫دعا بعضَ العلماءِ إل العتقاد بأن اللسان العبيّ إن هو إل لجةً من لجات اللسان‬
‫الكنعان‪ ،‬أو أن العبي والكنعان لسانٌ واحد ل اثنان(‪..)3‬‬
‫ج‪ -‬العبيون ولسانم‪:‬‬
‫ويُراد بم جلة الشعوب الت ترقى بأنسابا إل نبّ ال إبراهيم الليل عليه السلم‪،‬‬
‫وهم‪ :‬بنو يعقوب‪ ،‬وبنو إساعيل‪ ،‬وبنو مدين‪ ،‬والعمالقة‪ ،‬وآل داود‪ ،‬وأهل مؤاب وعمون‪..‬‬
‫وإذا ما أُطلقت كلمةُ "العبيي" فل تنصرف إل إل أبناء يعقوب وحدهم‪ ،‬أي بن‬
‫إسرائيل(‪ ..)4‬واللسانُ العبيّ شديدُ الشبه باللسان الكنعان‪ ،‬بل إنه ف الزمنة القدية ل‬
‫صحُفُ العهد القدي تنعته باللسان اليهودي مرةً‪ ،‬وباللسان‬
‫يكنْ يُعرفُ بذا السم‪ ،‬ف ُ‬
‫الكنعان مرةً أخرى‪ .‬ومن اللحظ كذلك وجود أوجه شبهٍ كثيةٍ بي اللساني العبي‬
‫والعربّ؛ أكثر منها بي الخي وبي أي لسا ٍن ساميّ آخر‪ ،‬فكثي من قواعد النحو والصرف‬
‫والفردات هي هي ف كل اللساني!!‪.‬‬

‫ل لكلمة "حداش" بالعبية‪ ،‬والت تعن "جديد" ولعل اللفظ‬


‫ظ "حدش" ف اللغة الكنعانية بأنه كان أص ً‬
‫‪ )(1‬يوحي اللف ُ‬
‫ف الكنعانية والعبية مأخوذٌ عن كلمة "حديث" بالعربيّة والت تعن الديد أيضا‪.‬‬
‫‪ )(2‬تقع مستعمرتم "قرطاجنة" بالقرب من تونس حاليا‪.‬‬
‫‪ )(3‬إن القيقة الكثر أهية هنا هي أنه وعلى فرض أن اللساني الكنعان والعبي لسانان متلفان‪ ،‬فهل من النطقي‬
‫ان نتساءل إن كانا قد نشآ من أصل واحد وشجرة واحدة أم ل؟!‪.‬‬
‫‪ )(4‬الوجيز ف فقه اللغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.81‬‬

‫‪182‬‬
‫د‪ -‬الراميون ولسانم‪:‬‬
‫وهم قبائلُ سامّيةٌ هاجرت من الزيرة العربيّة إل نواحي بلد الشام حوال القرن الامس‬
‫عشر قبل اليلد‪ ،‬أي بعد ألفِ سنةٍ من هجرة الكنعانيي الذين سبقوهم‪ ،‬وكما أن أسباب‬
‫هجرة الرهاط الشورية والبابلية والكنعانية من بلد الزيرة العربيّة ل تزال مهولةً إل‬
‫الن‪ ،‬فإننا كذلك ل نعلمُ شيئا عن السباب الت حلت القبائل الرامية التوحشة على‬
‫الروج من بلدهم الُقفرة‪ .‬وقد غدا اللسانُ الرامي لسانَ الدبِ والفِكْر لكل سكان‬
‫العراق والشام وجزءٍ من الناضول لعدة قرون(‪.)1‬‬
‫أما "النبطية" فقد اختلف العلماء ف نسبهم‪ ،‬فقال البعض‪ :‬هم آراميون‪ ،‬بدليل اتاذهم‬
‫الرامية لغةً لم ف نقوشهم‪ ،‬وقال آخرون‪ :‬هم عربٌ؛ بدليل أعلم رجالم وأصنامهم‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫"العزى" و"اللت" و"أمة اللت" و"أذينة" و"أسد" و"أوس" و"عبدة" و"أوس ال"‪...‬ال‪،‬‬
‫ويؤيدُ هؤلء قولَم بدليلٍ آخر‪ :‬هو أن النبط(‪ )2‬انتشروا ف بلدٍ عربّيةٍ؛ حت عرفت ملكتهم‬
‫ف سيناء باسم "بترا" العربيّة‪.‬‬

‫هل يوجد ثّمة علقة؟!‪ ..‬هذا هو السؤال!!‬


‫وبعد هذا الستعراض للسنة السرة الساميّة‪ ..‬فلنعد إل نفسٍ السؤال الذي كنّا قد‬
‫طرحناه من قبل‪ :‬هل يوجد ما هو مشترك بي اللغات الساميّة جيعها؟‬
‫وهل هناك ثّة علقة بي اللسان العربّ واللسنة الساميّة الخرى؟!‪ ..‬وماذا يقول علم‬
‫اللغات القارن عن تلك العلقة؟‬

‫‪ )(1‬الوجيز ف فقه اللغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.86-85‬‬


‫‪)(2‬ويسميهم العرب بالنباط والنبيط أيضا‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫وللجابة على هذه التساؤلت إجابة موضوعية؛ فلبد من العودة إل علم اللغات القارن‬
‫لستفتائه ف هذا المر‪ ،‬حيث يتناول ذلك العلم بالبحث النواحي الصوتية الوجودة ف‬
‫اللغات الختلفة؛ والنتمية إل أسرةٍ لغويةٍ واحدة (كالساميّة مثلً)؛ وذلك بُغية التوصل إل‬
‫قواعد مطردة تفسر التغيّات الصوتية الت طرأت عليها على مدى الزمن‪ ،‬والت أدّت إل‬
‫ت ولغاتٍ كثية؛ انقسمت ‪،‬بدورها‪ ،‬إل فروع لغوية إضافية‪.‬‬
‫انقسام اللغة الواحدة إل لجا ٍ‬
‫ولقد دلّ علم اللغات القارن على أن هناك مموع ًة من الصوات الت استمرت ف كلّ‬
‫لغات السرة الواحدة دون تغييٍ يذكر‪ ،‬فاللغات الساميّة ‪،‬على سبيل الثال‪ ،‬ظلّ با صوت‬
‫"الراء" بدون تغيي‪ .‬وعلى العكس من ذلك فإن هناك أصواتا قد خضعت لتغييات بعيدة‬
‫الدى؛ والت منها صوت "الضاد" الذي اختفى بضي الوقت من كلّ اللغات الساميّة‬
‫باستثناء اللغة العربيّة!‪.‬‬
‫كما يتناول علم اللغات القارن (بالضافة إل الناحية الصوتية) بناءَ الكلمة ذاتا؛ من‬
‫حيث‪ :‬الوزان‪ ،‬والسوابق(‪ ،)1‬واللواحق(‪ )2‬ووظائفها الختلفة‪ ،‬حيث تعتب دراسة الملة‬
‫البية (فعلية كانت أو اسية) موضوعا أساسيا ف اللغات الساميّة‪ ،‬كما ويتناول "علم‬
‫الدللة القارن" ف اللغات الساميّة كلّ ما يتعلق بتاريخ الكلمات وتأصيلها‪ ،‬وقد وُجد أن‬
‫هناك جامعا مشتركا بي كلّ تلك اللغات يتمثل ف عددٍ كبيٍ من الكلمات الشتركة؛ ندها‬
‫ن مقارب‪ .‬ولقد كان العالُ اللغويُ‬
‫ف كلّ اللغات الساميّة؛ تارةً بنفس العن؛ وأخرى بع ً‬
‫"إدوارد سابي" مؤمنا بوجودِ علقةٍ مشتركةٍ بي اللغات‪.‬‬

‫‪ )(1‬السوابق مثل اليم ف العربيّة‪ ،‬وهي تُ َكوّن ‪،‬على سبيل الثال‪ ،‬اسم الفاعل من غي الثلثي مثل‪:‬مُكرِم‪ ،‬واسم‬
‫الفعول منه ‪ :‬مُكرَم‪.‬‬
‫‪ )(2‬اللواحق ف العربيّة كثية‪ ،‬ومنها اللواحق الاصة بمع الذكر السال سواء أكان منتهيا بـ (ون) ف الرفع‪ ،‬أو‬
‫(ين) ف النصب والر‪ ،‬وكذلك جع الؤنث السال والذي ينتهي بالرفي (ـات)‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫وقد عَرفَ العالَُ الديثُ عددا من اللغات الساميّةِ اليةِ؛ والت من أهها‪ :‬العربيّة‪،‬‬
‫والمهرية‪ ،‬والعبية الديثة‪ ،‬واللهجات الرامية الديثة‪ ،‬والُهرية‪ ،‬والتجرية‪ ،‬والتجرينية‪،‬‬
‫حيث يُعتقد بأن كل هذه اللغات قد نشأت ‪،‬عب مراحل من التغي‪ ،‬عن لغةٍ واحدةٍ مشتركةٍ‬
‫ل تصل إلينا نصوصٌ منها‪ ،‬وهي اللغة الت يسميها الباحثون باسم "اللغة الساميّة الول"(‪.)3‬‬
‫وكان العربُ منذ قدي الزمان قد أدركوا وجودَ مثل تلك العلقة‪ ،‬ول تكن اللغات‬
‫الساميّة مهولةً تاما بالنسبة لم‪ ،‬فقد فطنَ الليلُ بن أحد إل العلقة بي الكنعانية والعربيّة‬
‫فقال‪ :‬وكنعان بن سام بن نوح يُنسب إليه الكنعانيون‪ ،‬وكانوا يتكلمون لغةً تضارع العربيّة‪.‬‬
‫كما عرف أبو عبيد القاسم بن سلم اللغةَ السريانية وأداةَ التعريفِ فيها ‪،‬وهي الفتحة‬
‫الطويلة ف أواخر كلماتا‪.‬‬
‫كذلك فقد أدرك ابن حزمٍ الندلسيّ علقةَ القرب بي العربيّة والعبية والسريانية؛ فقال‪:‬‬
‫مَنْ َتدَبَرَ العربيّة والعبانية والسريانية أيقنَ أن اختلفها إنا هو من تبديل ألفاظِ الناس على‬
‫طولِ الزمان‪ ،‬واختلفِ البلدان‪ ،‬وماورةِ المم‪ ،‬وأنا لغةٌ واحدةٌ ف الصل!!‪..‬‬
‫ويقول المام السهيلي‪ :‬وكثيا ما يقعُ التفاقُ بي السريان والعربّ‪ ،‬أو يقاربه ف اللفظ‪.‬‬
‫كما عرف أبو حيان الندلسي اللغة البشية؛ وأدرك العلقة بينها وبي العربيّة‪ ،‬وألّف فيها‬
‫سَبةِ البش؛ ف كتابنا ‪،‬عن هذه اللغة‪،‬‬
‫تأليفا مستقلً‪ ،‬فقال‪( :‬وقد تكلمتُ على كيفية نِ ْ‬
‫السمى بـ "جلء الغبش على لسان البش" وكثيا ما تتوافقُ اللغتان‪ ،‬لغةُ العرب ولغةُ‬
‫البش‪ ،‬ف ألفاظ‪ ،‬وف قواعد من التركيب ْنوَِيةً‪ ،‬كحروفِ الضارعة‪ ،‬وتاءِ التأنيث‪ ،‬وهزةِ‬
‫التعدية)(‪.)1‬‬
‫ونن ندرك اليوم أن العرب الذين عَرَفوا بوجود تلك العلقة؛ ل يصيبوا دائما ف‬
‫تفسيها على الوجه الصحيح!! فوجدنا” ابن فارس” ‪،‬مثل‪ ،‬يتساءل ذات مرة‪ :‬ما هي اللغة‬
‫الت علّمها ال لدم؟ ومت اختلفت اللغات؟ وكيف كان هذا الختلف؟‪..‬‬

‫‪ )(3‬مدخل إل علم اللغة‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،1978‬ص ‪.83‬‬


‫‪ )(1‬هامش كتاب الدخل إل علم اللغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.202+201‬‬

‫‪185‬‬
‫ووجدناه ييبُ عليها بالقول‪ :‬بأن ال عزّ وجل قد ع ّلمَ آدمَ كلّ اللغات‪ ،‬وأن الختلف‬
‫قد حدث بعد الطوفان؟!!‪ .‬وننقل على لسانه‪( :‬يُروى أن أول من كتب الكتاب العربّ‬
‫والسريانّ والكتب كلها آدمُ ‪،‬عليه السلم‪ ،‬قبل موته بثلثائة سنة‪ ،‬كتبها من طيٍ وطبَخَه‪،‬‬
‫فلما أصابَ الرضَ الغرقُ وجد كلّ قومٍ كتابا فكتبوه‪ ،‬فأصاب إساعيلُ ‪،‬عليه السلم‪،‬‬
‫الكتاب العربّ(‪.)1‬‬
‫وقد نقل “ابن جن” مثل هذا الرأي عن آخرين من أصحاب مذهب التوقيف؛ وييل فيه‬
‫إل أن‪( :‬ال سبحانه علّم آدم أساء جيع الخلوقات بميع اللغات‪ ،‬العربيّة‪ ،‬والفارسية‪،‬‬
‫والسريانية‪ ،‬والعبية‪ ،‬والرومية‪ ،‬وغي ذلك من سائر اللغات)(‪..)2‬‬
‫كذلك فقد أدرك الستشرقون وجودَ علقةٍ ما بي لغاتٍ بعينها مثل العربيّة والعبية‬
‫والسريانية‪ .‬وقد بدأت "هولندة" ف القرن الثامن عشر على يد "شولتنس" بقارنة العبية‬
‫بالعربيّة‪ ،‬وجاء بعده كلّ من "إيفالد" و"ألسهورن" فألّفا ف اللغة العبية مستخدمي العربيّة‬
‫ف القارنة‪ ،‬كما حاولَ مثلَ ذلك "نولدكه" ف الرامية‪ .‬وف عام ‪1890‬م ألّف "وليم رايت"‬
‫كتابه "ماضرات ف النحو القارن للغات الساميّة"‪ .‬كما ألّف بعده بعامٍ كلٌ من "لجارد"‬
‫و"بارت" كتابما "بوث ف أبنية الساء الساميّة"‪ .‬وألف "لندبرج" كتاب "النحو القارن‬
‫للغات الساميّة”‪ ،‬وألف "تسمرن" كتابه الذي ساه "النحو القارن للغات الساميّة" ونشره ف‬
‫برلي سنة ‪1898‬م‪ .‬كما كتب ف هذا الفن الستشرقُ "كارل بروكلمان" إذْ ألّفَ كتابه‬
‫الضخم "الساس ف النحو القارن للغات الساميّة" وهو ف جزأين‪.‬‬

‫الصائص الشتركة بي اللغات الساميّة‬

‫‪ )(1‬ابن فارس‪ ،‬الصاحب‪.34 ،‬‬


‫‪ )(2‬الصائص‪.1/41 :‬‬

‫‪186‬‬
‫لقد كان من نتائج استخدامنا لعلم اللغات القارن أن خرجنا بنتيجة هامة مفادها‪ :‬أن‬
‫اللغات الساميّة تتفق فيما بينها ف مموعةٍ من الصائص الصوتية‪ ،‬والصرفية‪ ،‬والنحوية‪،‬‬
‫والدللية‪ ،‬وتكون هذه الصائص أشدّ ما تكون وضوحا ف اللغات الساميّة القدية‪ ،‬ومن‬
‫خلل تلك القارنة يكننا أن نلص إل أن أهم الصائص الشتركة بي اللغات الساميّة هي‪:‬‬
‫أ‪ -‬أننا ند ف اللغات الساميّة مموعةَ أصواتِ اللق(‪ )1‬وهذه الجموعة موجودةٌ ف‬
‫شكلها الكامل ف اللغة العربيّة‪ ،‬وقد حدثت لا تغيياتٌ ف بعض اللغات الساميّة أدّت إل‬
‫تداخل بعضِها‪ ،‬وهذا التداخل واضحٌ ف لغةٍ كالعبية مثلً‪ ،‬إذ حلّ فيها صوت "العَ ْينِ" مل‬
‫صوتي ها "العي" و"الغي" وهذا يعن أن الكلمات العبية الت تتوي على حرف "العي"‬
‫يكن أن يقابلها ف العربيّة ‪،‬من الناحية الشتقاقية‪ ،‬كلماتٌ تضمُ صوتَ العَ ْينِ أو صوت‬
‫الغَيْن؛ حيث ل "غي" ف العبية‪.‬‬
‫ب‪ -‬توجد ف اللغات الساميّة مموع ُة أصواتٍ مطبقة(‪ )2‬والت تشتركُ من الناحية النطقية‬
‫ف ارتفاع اللسان درجةً أثناء النطق با مع اتاذه شكلً مُقعرا‪ ،‬وقد توجد الصوات الطبقة‬
‫ف اللغات الساميّة الخرى بعددٍ أقلّ من العربيّة‪ ،‬فحرف الصاد ف العبية(‪ )3‬يقابلُ ثلثةَ‬
‫أصواتٍ عربّيةٍ هي‪ :‬الصاد‪ ،‬والضاد‪ ،‬والظاء‪ ،‬فأيةُ كلمةٍ عربّيةٍ با صادٌ أو ضادٌ أو ظاء‪،‬‬
‫يكون مقابلها ف اللغة العبية ‪،‬إن وجد‪ ،‬كلمةٌ تضمُ الصادَ العبية‪ ،‬وإذا نظرنا إل اللغات‬
‫الساميّة وجدنا أن الضاد العربيّة تقابلُ صادا ف اللغة الكديّة والوجاريتية والعبية‪ ،‬فكلمةُ‬
‫"أرض" ف العربيّة تقابلها كلمةُ ‪ ersetu‬ف الكديّة‪ ،‬وكلمةُ ‪ ars‬ف الوجاريتية‪ ،‬وكلمةُ‬
‫‪ eres‬ف العبية‪.‬‬

‫‪ )(1‬مموعة أصوات اللق هي‪ :‬العي‪ ،‬الغي‪ ،‬الاء‪ ،‬الاء‪ ،‬الاء‪ ،‬والمزة‪.‬‬
‫‪ )(2‬مموعة الصوات الطبقة هي الصاد‪ ،‬الطاء‪ ،‬الضاد‪ ،‬والظاء‪.‬‬
‫‪ )(3‬الختلف من ناحية النطق عن العربيّة قليل‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫ج‪ -‬تتشابه اللغات السامية فيما بينها ف أن بناءُ الكلمةِ يقوم على أساس الصوامت‬
‫والوزن‪ ،‬ومعن هذا أن العن الساسي يرتبطُ بالصوامت‪ .‬فالكلمات‪َ :‬فعَلَ‪ ،‬و ِفعْلْ‪ ،‬وفاعِل‪،‬‬
‫يرتبط معناها الساسي بالفاء‪ ،‬والعي‪ ،‬واللم؛ وهي الصوامت‪ ،‬أما الوزن (مثل فاعل)‬
‫فيحددُ العن الدقيقَ للكلمة؛ بأن يدل مثلً على من قام بالفعل‪.‬‬
‫د‪ -‬تتشابه اللغات الساميّة ف أنا تنقسمُ ‪،‬من حيث النس النحوي‪ ،‬إل مذكر ومؤنث‪،‬‬
‫ومن حيث العدد إل مفرد ومثن(‪ )1‬وجع‪ ،‬وتتشابه كذلك من ناحية النهايات العرابية وهي‬
‫الرفع‪ ،‬والنصب‪ ،‬والر‪.‬‬
‫هـ‪ -‬تتشابه اللغات الساميّة الساسية فيما بينها من حيث وجود عددٍ كبيٍ من‬
‫الفردات الساسية الشتركة فيما بينها‪ ،‬ويكن تقسيم هذه الفردات إل الجموعات التالية‪:‬‬
‫* ألفاظٌ تتص بسم النسان مثل‪( :‬رأس‪ ،‬عي‪ ،‬يد‪ ،‬رجل‪ ،‬شعر‪ ..‬ال)‪..‬‬
‫* ألفاظٌ خاصةٌ بالنبات واليوان مثل‪( :‬قمح‪ ،‬سنبلة‪ ،‬كلب‪ ،‬ذئب‪ ..‬ال)‪.‬‬
‫* تتشابه كذلك بعض الفعال الساسية مثل‪( :‬وََلدَ‪ ،‬ماتَ‪ ،‬قامَ‪ ،‬زرعَ‪ ..‬ال)‪.‬‬
‫* وتتشابه اللغات الساميّة فيما بينها كذلك ف العداد الساسية (من ‪ )10-2‬وف‬
‫حروف الر الساسية مثل‪ِ (:‬منْ‪ ،‬على‪ ،‬ف)‪.‬‬

‫مربط الفرس!!!‬
‫من هنا‪ ،‬وبعد كل ما استعرضناه‪ ،‬فإن الباحث يكون آمنا حي يقرر‪( :‬انتماء لغاتٍ‬
‫متعددةٍ إل أصلٍ مشتركٍ إذا وَ َجدَ تاثلً كافيا ف تركيباتِها النحوية‪ ،‬ومفرداتِها الساسية‪،‬‬
‫وإذا لحظَ ازديادَ قُربِ بعضِها من بعض كلما اتهنا إل الوراء)(‪.)2‬‬

‫‪ )(1‬حدث تغيي ف بعض اللغات بيث قل فيها استخدام الثن وأصبح استخدامه مقصورا على الشياء الوجودة ف‬
‫الواقع الارجي ف شكل ثنائي مثل اليدين والرجلي‪ ،‬واللغة العبية مثال حي على ذلك‪.‬‬
‫‪ )(2‬حاشية كتاب الدخل إل علم اللغة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.199‬‬

‫‪188‬‬
‫وعلى ضوء ما وجدناه من تشابهٍ كبيٍ بي اللغات الساميّة؛ وف ضوء العلومات التوفرة‬
‫لدينا والت تُشيُ إل أن الزيرة العربيّة كانت أصلً لا جيعا‪ ،‬فل مفرّ من القرار بوجود‬
‫علقةٍ ما بي تلك اللغات جيعها‪ ،‬وأن هناك أصلً مشتركا يمع بينها تكون جيعها قد‬
‫نشأت عنه؟!!‪.‬‬
‫وف الوقت الذي تتمتع فيه مسألة التشابه بي اللغات الساميّة بأهي ٍة معتبةٍ ‪،‬هي أكب من‬
‫أن يتم تاهلها‪ ،‬فإن لا قيم ًة مضاعفةً تنتصب أمامنا عندما نتوقف لنتساءل فيما بيننا وبي‬
‫أنفسنا عن السر الذي اكتنف وجود ألفاظٍ(‪ )1‬بعينها ف القرآن الكري؛ والت اعتبها البعض‬
‫غريبةً عنه وعن لغته العربية!‪ ..‬لكننا الن ‪،‬وف ضوء ما ت طرحه‪ ،‬يتضح لنا بأنا ألفاظٌ‬
‫عربّيةٌ مائة بالائة‪ ،‬وكل ما فعله القرآن الكري هو أنه استعادها بعد أن تناثرت هنا وهناك‬
‫وبعد أن كاد يطويها النسيان؟!!‪.‬‬
‫ولتعزيز هذه النتيجة؛ فلنتأمل الفاجأة الت فاجأنا با القرآن الكري عندما أورد كلمة‬
‫" ُمدّكر"‪ ،‬وذلك ف قوله تعال‪{ :‬فهل من مدّكر}(‪ ..)2‬وكان البعض قد اعتقد أن كلمة‬
‫" ُمدّكِر" هي لتينية؟! لكن يتضح لنا الن أنا عربية أصيلة وتعن "الذكر"!!…‬

‫‪ )(1‬ذكرنا آنفا أن عددها يتجاوز الائة لفظة‪.‬‬


‫‪( )(2‬القمر‪.)15،17،22،32،40،51:‬‬

‫‪189‬‬
‫كذلك فاجأنا مرة أخرى عندما قرأنا قوله تعال‪{ :‬إن أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكةَ‬
‫مُباركا}(آل عمران‪ ،)96:‬حيث ذكر القرآن الكري تلك الدينة هنا باسمٍ لا ل يكن متداولً‬
‫بي العرب‪ ،‬وقد ذكرها ف موضعٍ آخر باسها الذي عُرفت به وقت التنيل‪ ،‬حيث قال عز‬
‫من قائل‪{ :‬وهو الذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطنِ مكةَ من بعد أن أظفركم‬
‫عليهم}(الفتح‪ )24:‬لكنّ الفاجأة سوف تتلشى إذا علمنا أن "بكة" هو السم اليوغليفي‬
‫لكة‪ ،‬وهو السم الناسب للتعبي عن الالة الول الت جاءت لتتحدث عن أول بيت وُضع‬
‫للناس‪ ،‬فهو اسم لكة وقت وضع البيت!! وهو اسمٌ يراعي عربيّة القرآن بقدر ما يراعي‬
‫البعد الزمن والتاريي ف هذا الوضوع!!!‪.‬‬
‫ومن المثلة الت فاجأت العرب كذلك وأثارت دهشتهم ما وجدوه وهم يتلون الية‬
‫الكرية{كأنم حرٌ مستنفرة‪ ،‬فرت من قسورة}(الدثر‪)51-50:‬وسبب الدهشة هو أن‬
‫القسورة اسمٌ للسد لكن ف البشية؟! وحقّ لتلك الدهشة أن تزول؛ وللحية أن تتفي‬
‫بعدما علمنا أن كلمة "قسورة" إنا هي كلمةٌ عربي ٌة صميمةٌ قبل أن تكون حبشية!!‬
‫وعلى نفس النوال؛ يكننا الن إياد تفسياتٍ واضحةٍ لوجود عشرات اللفاظ الشابة‬
‫والت وردت ف القرآن الكري‪ ،‬ما بدا ف حينه غريبا على لغة العرب؛ وذلك من أمثال‬
‫كلمة‪" :‬صابئ"‪ ،‬و"صاب" وهي لفظةٌ هيوغليفية وتعن "مهدي" وقد وردت ف القرآن‬
‫الكري ف قوله تعال‪{ :‬إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئي(‪ )1‬من آمن بال‬
‫واليوم الخر}(البقرة‪.)62:‬‬
‫وتتشابه ‪،‬كذلك‪ ،‬كلمةُ "حنيف" ف اللغتي العربيّة واليوغليفية‪ ،‬والنيف هو "الذي‬
‫أسلم وجهه ل" وهنا ل يقتصرُ التشابه بي اللغتي على مرد التشابه اللغوي‪ ،‬بل يتجاوزه‬
‫إل معنً عقائدي أرحب هو إسلم الوجه ل!‪...‬‬

‫‪ )(1‬اختلفت القوال بصددهم فقال سفيان الثوري‪ :‬الصابئون قوم بي الجوس واليهود والنصارى وليس لم دين‪،‬‬
‫وقال ابن جرير‪ :‬أن الصابئي يصلون إل القبلة ويصلون المس‪ ..،‬وقال أبو جعفر الرازي‪ :‬بلغن أن الصابئي قوم‬
‫يعبدون اللئكة‪ ،‬ويقرءون الزبور ويصلون للقبلة‪ ،‬وقال ابن أب حات‪ :‬الصابئون قوم ما يلي العراق بكوثى‪ ،‬وهم‬
‫يؤمنون بالنبيي كلهم‪ ،‬ويصومون من كلّ سنة ثلثي يوما‪ ،‬ويصلون إل اليمن ك ّل يوم خس صلوات‪..‬ال)(تفسي‬
‫القرآن العظيم‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.)148‬‬

‫‪190‬‬
‫كما أن الكلمة اليوغليفية "مو"(‪ )1‬تتشابه مع كلمة "ماء" بالعربيّة‪ ،‬ما يوحي بالصل‬
‫الواحد لكلتيهما‪ ،‬وقد اشتُق منها اسمُ العَ َلمْ "موشي" والعروفُ جيدا ف العبية‪ ،‬وهو يمعُ‬
‫بي لفظت الاء والسحر‪ ،‬وقد ورد اسم العلم "موسى" ف القرآن الكري (‪ )129‬مرة‪ ،‬كما ف‬
‫قوله تعال‪{ :‬وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تتدون}(البقرة‪...)53:‬‬
‫كذلك تتشابه كلمةُ "حَتَب" ف اليوغليفية مع كلمةِ " َحطَبْ" ف العربيّة‪ ،‬وقد وردت‬
‫الخيةُ ف قوله تعال‪{ :‬وأما القاسطون فكانوا لهنم حطبا}(الن‪.)15:‬‬
‫وهناك ألفاظٌ كثيةٌ أخرى من أمثال‪" :‬الخرت" والت تقابلها "الخرة" ف العربيّة‪،‬‬
‫وكذلك "قرارة" والت تقابلها ف العربيّة "دار القرار"!!‪...‬‬

‫العربية والعبية‪ ..‬الص ٌل والفرع!!‬


‫ي جدا‪ ،‬وهو أكبُ من أن تطئه‬
‫والتشابه بي العربيّة والعبية (على وجه الصوص) كب ٌ‬
‫العيون أو أن تتجاهله اللباب‪ ،‬إل الدرجة الت يكن معها الطمئنان إل وجهةِ النظرِ القائلة‬
‫بأن العبية إن هي إل واحدةً من لجات العرب!!‪ ..‬بل إن العبية ‪،‬وبسبب حالة النغلق‬
‫الت فرضها أهلها على أنفسهم؛ قد تكنت من الحافظة على أصالةِ كثيٍ من اللفاظ ذات‬
‫الصل العربّ! والت هي ف غاية التعبي عن العان القصودة من ورائها؛ كلفظة‪" :‬دين" والت‬
‫تعن ف العبية "القضاء" أو "الساب" وقد وردت كلمة "دين" ف القرآن الكري لتشي إل‬
‫نفس العن‪{ :‬مالك يوم الدين}(الفاتة‪)4:‬أي مالك يوم القضاء والساب‪ .‬ووردت بالعن‬
‫ذاته ف قوله تعال‪{:‬يومئذٍ يوفيهم الُ ديَن ُهمُ الق}(النور‪ )25:‬أي يوفيهم حسابم!‪..‬‬
‫أما كلمة "سِـفِر" ف العبية‪ ،‬والت تعن "كتاب" فهي كلمةٌ معروفةٌ ف العربيّة جيدا؛‬
‫وتُلفظُ " ِسفْر" بتسكي الفاء‪ ،‬وجعها "أسفار"‪ ،‬وقد وردت ف قوله تعال‪{ :‬مَثَلُ الذين ُحمّلوا‬
‫التوراةَ ث ل يملوها كمثلِ المارِ يملُ أسفارا}(المعة‪..)5:‬‬

‫‪ )(1‬ل ترد ف القرآن الكري بذا الشكل الرف‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫أما الكلمة العبية "شِلْتُونْ" والت تعن السلطة والكم؛ فما هي إل اللفظ الحرّف‬
‫للكلمة العربية‪" :‬سلطان"! وقد وردت ف قوله تعال‪{ :‬يا معشر النّ والنس إن استطعتم‬
‫أن تنفذوا من أقطار السموات والرض فانفذوا ل تنفذون إل بسلطان}(الرحن‪..)33:‬‬
‫أما كلمة "عنان" ف العبية والت تعن الغيم‪ ،‬فلها نفس العن ف العربيّة‪ ،‬إل أن كلمة‬
‫"غيم" ف العربيّة هي أكثر شيوعا واستعمالً‪ ،‬لكن التذوقي للغة العربيّة كثيا ما يستخدمون‬
‫هذا اللفظ الفصيح‪ ،‬كما ف قولم‪( :‬عنان السماء)!!‪.‬‬
‫وتتضح عروبةُ اللفاظ الذكورة إذا ما درسناها ف ضوء إمكانية الشتقاق منها‪ ،‬وهو ما‬
‫يدل بشكل قاطع على أنا ألفاظٌ عربّيةٌ أصيلة؛ إذ أنّ اللفاظَ الواردةَ إلينا من لغاتٍ أخرى‬
‫ل تكتسب مَيْ َزةَ الشتقاق منها‪ ،‬فدخولُ كلمة "كمبيوتر" ‪،‬على سبيل الثال‪ ،‬إل اللغة‬
‫العربيّة لتدل على جهاز الاسوب ل يعن أننا نستطيع أن نشتق منها كلماتٍ إضافية‪ ،‬بينما‬
‫يكن الشتقاق من كلماتٍ اعتقدَ البعضُ ‪،‬خطأ‪ ،‬أنا مأخوذةٌ من لغاتٍ أخرى ككلمة‪ :‬قلم‬
‫(قَ ّلمَ‪ُ ،‬يقَ ِلمُ)‪ ،‬و برهان (َب ْر َهنَ‪ ،‬يُبَ ْر ِهنُ) ما يدل دللة قاطعة على عروبتها!!‪..‬‬
‫من هنا فإن النتيجةَ الت نلصُ إليها تطرحُ إمكانيةً جديةً لن تكون اللغات الت نُسبت‬
‫إليها تلك اللفاظ إنا هي ف حقيقتها مردُ فروعٍ لِلّغة العربيّة(‪ )1‬وأنا قد اشتقت جيعها من‬
‫لغة أصليّة هي العربية والت يُحتمل(‪ )2‬أن تكون هي اللغة الصليّة للنسانية جعاء!!‪..‬‬

‫‪ )(1‬صدر ف جهورية مصر العربية قبل عدة سنوات كتاب أثار كثيا من الدل‪ ،‬وهو بعنوان "اليوغليفية تفسر‬
‫القرآن"‪ ،‬ويذهب مؤلفه الباحث سعد عبد الطلب العدل إل أن الحرف القطعة ف القرآن الكري والت تفتتح با‬
‫بعض سورة؛ إنا هي عبارة عن حروف صوتية هيوغليفية‪ ،‬وقد أثار الكتاب كثيا من الدل‪ ،‬إذ أن التسليم بذا‬
‫المر يؤدي بالضرورة إل التسليم بأن القرآن الكري يتوي على ما هو غي عرب!‪ ..‬ومع احترامنا لجتهاد مؤلف‬
‫ذلك الكتاب‪ ،‬وعلى الرغم من عدم قراءتنا له‪ ،‬إل أننا نبقى على رأينا بأن كل ما ف القرآن هو عرب‪ ،‬وبأن العربية‬
‫إنا هي أصل للهيوغليفية وليس العكس!‪..‬‬
‫‪ )(2‬نن هنا ل نزم لن الزم يتاج إل برهان‪ ،‬ونن نعتقد بأن هناك احتمالً ف أن تكون ك ّل اللغات النسانية‬
‫هي من أصل واحد‪ ،‬ويفسر البعد بي السر الختلفة للغات بأن عملية انشقاق اللغة قد حصل ف أوقات مبكرة من‬
‫عمر البشرية‪ ،‬وإل فللمتشكك نطرح سؤالً‪ :‬ما هو التفسي لتشابه بعض اللفاظ حت بي اللغات التباعدة‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫أرض والت تقابلها ‪ EARTH‬ف النليزية‪ ،‬كذلك التشابه بي لفظت فردوس العربيّة و ‪ Paradise‬ف النليزية‬
‫والت تعن النة‪،‬كما أن هناك تشابا بي لفظة "غرس" ف العربيّة ولفظة ‪ GRASS‬والت تعن عشب ف النليزية‪...‬‬
‫وكذلك التشابه ف اسم العلم "آدم" (أبو البشر) بي العربيّة والنليزية‪ ..‬ال‪ ..‬وكلها مرد ناذج قريبة تشي إل‬
‫ضرورة دراسة هذا الحتمال دراسة واعية جادة‪..‬‬

‫‪192‬‬
‫وقد تناول القرآنُ الكريُ الصلَ الشتركَ الذي يمعُ اللقَ كلّهم‪ ،‬وذلك حي تدث‬
‫عن خلقِ البش ِر أمةً واحدة‪ ،‬ث تو ُزعِهم أما متلفة؛ وانشقاق اللغة الواحدة ‪،‬من ثّ‪ ،‬بينهم‪،‬‬
‫وقد عَرَضَ القرآنُ الكريُ لذه القيقة ف قوله تعال‪{ :‬كان الناسُ أمةً واحدةً فبعثَ الُ‬
‫النبيي مبشِرين ومنذرين؛ وأنز َل معهم الكتابَ بالق}(البقرة‪..)213:‬‬
‫وأخيا… فإن ما وصلنا إليه من مفهومٍ جديدٍ للعربيّة؛ والذي (قد) يرشحها لن تكون‬
‫أصلً لكل ما جاء بعدها من لغات؛ إنا يرسي مفهوما جديدا للعروبة الت جاء القرآن‬
‫الكري واصفا نفسه با!‪..‬‬
‫‪ ..‬فعروبةُ القرآن الكري ل يكن القصود منها ‪،‬ف وقتٍ من الوقات‪ ،‬فقط إرساءٍ الفهوم‬
‫قريبٍ والذي يفيد النتماء العرقي لنس العرب‪ ،‬ونعتقد بأن اليات الكرية الت تدثت عن‬
‫عروبة القرآن ل تكن تقصد أن تنسب القرآن للعرب كجنس؛ بقدرِ ما كانت تقصد نسبة‬
‫العربَ أنفسهم للغةِ القرآن الكري؛ لن عروبة الخي هي الصل!!‪.‬‬
‫بل إن القرآن الكري وهو يُر ّسخُ مفهومَ احتوائه على أصلِ لغات البشرية جعاء؛ إنا يُعزز‬
‫احتمالت أن تكون اللغة العربيّة القصودة ف القرآن الكري إنا هي اللغةُ الت أوحاها ال‬
‫عزّ وجلّ لدم عليه السلم {وعلم آدم الساء كلها}(البقرة‪ )31:‬والت توزعت على أمم‬
‫البشرية جعاء فيما بعد‪.‬‬
‫ومن هذا النظور؛ والذي يشي إل أن مموعةً كبيةً من اللغات (الت اعتقدنا خطأً بأنا‬
‫ل تتّ للعربية بصلة) إنا تشكل ‪،‬ف حقيقة المر‪ ،‬روافد لصلٍ لغويٍ واحدٍ هو العربية‬
‫ببعدها الربان؛ وأن عملية إعادة توحيد تلك الروافد ف لغةٍ واحدة (هي ف أصلها من عند‬
‫ال) إنا يضارعُ ف معناه حقيقةَ استكمال الدين ف هذا الوجود!‪ ..‬وذلك عب توحيد‬
‫الرسالت واستكمالا ف رسالةٍ واحدةٍ خاتة‪ ،‬والت قال فيها رسول ال(صلى ال عليه‬
‫وسلم)‪( :‬مثلي ومثلُ النبياءِ من قبلي كمثلِ رجلٍ ابتن بيتا فأحسنه وأجله إل موضعَ لبنةٍ‬
‫من زاوية‪ ،‬فجعلَ الناسُ يطوفون به؛ ويعجبون منه؛ ويقولون‪ :‬لول هذه اللبنة‪ ،‬فأنا اللبنة‪،‬‬
‫وأنا خات النبيي)(متفق عليه)‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫توحيد الدين واللغة‪ ..‬وجهان لقيقة واحدة!!‬
‫وف ضوءِ ما نطرحه هنا يكننا الولوج إل حقيقة هامة مفادها أن توحيد الدين ف رسالةٍ‬
‫خاتةٍ ‪،‬هي السلم‪ ،‬إنا ترافق مع حقيقة أخرى تثلت ف إعادة توحيد اللغةِ أيضا! ليصبحا‬
‫فيما بعد دللةً على جوهرٍ عاليٍ واحدٍ هو رسالة السلم‪ .‬فبتنّل القرآن الكري بالعربيّة ل‬
‫ت ُعدِ العربّيةُ لغةَ العربِ وحدهم‪ ،‬بل أصبحت لغةَ الدين الامع‪ ،‬وهنا حدثَ التحولُ الذي‬
‫أصبح بوجبه كلّ من يتكلمُ العربّيةَ عربيّا؛ حت لو ل تكن الدماءُ العربيةُ تري ف عروقه! إذ‬
‫أصبحت اللغةُ خيارا إنسانيا عاما (وليست خاصة بعرق معي) ومُرادفا ليار للدين‪ .‬وصدق‬
‫رسول ال(صلى ال عليه وسلم) حيث قال‪( :‬إنا العربيّة اللسان)‪.‬‬

‫إرث إنسان مشترك!!‬


‫وإذا ما استقر بنا المرُ على ما وصلنا إليه؛ فإن القرآن الكري ‪،‬بأبعاده الرسالية الختلفة‪،‬‬
‫يكنه أن يفتح لنا آفاقا رحبةً ونواف َذ واسعةً لستشراف العالية الت جاء السلم ليمارس‬
‫وظيفته ف ساحاتا‪ ،‬فالقرآن الكري ‪،‬وفق هذا النطق‪ ،‬يتوي على ألفاظ تمل ف ثناياها كلّ‬
‫معان الدهشة! إذ وعلى الرغم من كونا ألفاظا عربيةً خالصة؛ إل أنا تثلُ ‪،‬ف الوقت ذاته‪،‬‬
‫إرثا أثيا مببا؛ وذكرياتٍ عزيزةً مثيةً للنفعال لدى أقوامٍ آخرين! وتثلُ تلك اللفاظ ‪،‬ف‬
‫الوقت ذاته‪ ،‬بعضا من مسية التاريخ النسان الشترك!؟‪..‬‬
‫لقد آن الوان أن ندرك أنّ عربيّة القرآن الكري تسُ غيَ العرب؛ تاما بقدر مساسها‬
‫للعرب أنفسهم‪ ،‬فورود كلمةٍ واحدةٍ ف القرآن الكري من لغةٍ قدية؛ يُعتب تشريفا لتلك‬
‫اللغة ولهلها جيعا‪ ،‬ذلك أنم وجدوا ‪،‬أخيا‪ ،‬ضالتهم النشودة!! وجدوا لغتهم الضائعة؛‬
‫ولو كان ذلك من خلل كلمةٍ واحدة مبثوثة ف ثنايا اليات هنا أو هناك؟!‪.‬‬

‫العروبة‪ ..‬أبعاد نسبية متعددة!!‪..‬‬

‫‪194‬‬
‫لكن؛ وبعيدا عن الشارات الت يكن أن يوحي با الانبُ اللغويُ ف القرآن الكري؛‬
‫والذي يُعبُ عن العروبة ف مستواها الدن وبعناها التداول ف حياتنا اليومية؛ فإن الستوى‬
‫العلى للعروبة يكن أن يُمثلُ مفهوما مطلقا لا‪ ،‬وقد جاء ذلك الفهوم ل ليكون إخبارا عن‬
‫اللغة الت تنّل با القرآن الكري‪ ،‬بل ليكون صف ًة موضوعيةً مقترنةً بالنص القرآن ذاته‪،‬‬
‫ويكن للعروبة ‪،‬وفق هذا التصور‪ ،‬أن تذهب مذهبا تكون معه صفةً لذلك المع الحكم‬
‫للقرآن الكري‪ ،‬وهو ما ييزُ كلمَ ال عن كلم البشر‪ .‬والعروبة(‪ )1‬وفق هذا التصور تتشابه‬
‫وعروبة العرب بعناها القومي (ذات الضمون النسب) لكنها ل تنطبق عليها انطباقا كاملً‬
‫بأي حالٍ!!‪.‬‬
‫وما يدفع للعتقاد بأن العروبة ف القرآن الكري إنا قُصد با جانب الفصاحة والبيان ول‬
‫يقصد با ‪،‬فقط‪ ،‬العروبة ببعدها القومي؛ ما قاله ابن أب حات(‪( :)2‬حدثنا أب‪ ،‬حدثنا عبد ال‬
‫بن أب بكر العتكي‪ ..‬قال‪ :‬بينما رسول ال(صلى ال عليه وسلم) مع أصحابه ف يوم دجن إذ‬
‫قال لم‪( :‬كيف ترون بواسقها؟) قالوا‪ :‬ما أحسن وأشدّ تراكمها‪ .‬قال‪( :‬فكيف ترون‬
‫قواعدها؟) قالوا‪ :‬ما أحسَنَها وأشدّ تكنَها‪ .‬قال‪( :‬فكيف ترون جونا؟) قالوا‪ :‬ما أحسنه‬
‫وأ َشدّ سواده‪ .‬قال‪( :‬فكيف ترون رحاها استدارت؟) قالوا‪ :‬ما أحسنها وأشدّ استدارتا‪.‬‬
‫قال‪( :‬فكيف ترون َبرْقَهَا‪ :‬أوميضٌ أم َخفْوٌ أم يشقُ شقا؟)‪ .‬قالوا‪ :‬بل يشقُ شقا‪ .‬قال‪( :‬الياء‬
‫الياء إن شاء ال) قال (أي ابن أب حات)‪ :‬فقال رجلٌ‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬بأب وأمي‪ ،‬ما‬
‫أفصحك‪ ،‬ما رأيتُ الذي هو أعربَ منك؟!!‪ ..‬قال‪ :‬فقال‪( :‬حقّ ل؛ وإنا أُنزلَ القرآنُ‬
‫بلسان‪ ،‬وال يقول‪{ :‬بلسانٍ عربّ مُبي}‪..‬‬

‫‪ )(1‬عرب‪ :‬عرب عربا الطعام‪ :‬أكله‪َ ،‬عرُبَ ُعرُوبةً وعروبية و َعرَابة و َعرَبا و ُعرُوبا‪ :‬تكلم بالعربيّة ول يلحن‪ /‬كان‬
‫عربيّا فصيحا‪َ .‬عرِب الرجل‪ :‬فصح بعد لكن ٍة ف لسانه‪َ ،‬عرّب عنه لسانه‪ :‬أبان وأفصح‪ ،‬أعرب كلمه‪ :‬حسّنه‬
‫وأفصح ول يلحن‪ .‬أعربّ بالكلم‪ :‬بينه‪ .‬أعرب الرجل‪ :‬ل يلحن ف الكلم‪ .‬ال ُعرْب و ال َعرَب‪ :‬جيل من الناس‬
‫بلدهم شبه جزيرة شرقي البحر الحر‪ .‬رجل َعرِب‪ :‬فصيح‪ .‬خيل أو إبل عِرابٌ‪ :‬كرائم سالة من الجنة‪ .‬العربيّة‪:‬‬
‫مؤنث العربّ‪ /‬اللغة العربيّة‪ :‬ما نطق به العرب‪( .‬النجد ف اللغة والدب والعلوم‪،‬ص ‪.)495‬‬
‫‪ )(2‬تفسي القرآن العظيم‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ج ‪ ،3‬ص ‪..462‬‬

‫‪195‬‬
‫والربط هنا بي الفصاحة وعروبة القرآن الكري ربطٌ واضحٌ ل لبس فيه!‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫أثر القرآن الكري‬
‫ف تشكيل الوعي الزمن عند العرب‬
‫ما الذي أردنا قوله ف هذا البحث؟‬

‫ل يكن السلم حدثا عابرا ف حياة‬


‫العرب‪ ،‬بل كان له مموعة من التأثيات‬
‫الت غيت ف منهجية التفكي لدى العرب‬
‫وف طرق تفكيهم‪..‬‬
‫لجل ذلك فقد فاجأ السلمون العالَ‬
‫بناهجهم التأصيلية الفذّة‪ ،‬الت استخدموها‬
‫للحفاظ على تراثهم الدين والعلمي‪..‬‬
‫وف هذا القال نرى بعضا من ملمح النقلة‬
‫النهجية الت نقلها القرآن للناس‪ ،‬فغي‬
‫مفاهيمهم الت رأوا الشياء من خللا‪،‬‬
‫وقد اتذنا نظرتم لفهوم الزمن مثال على‬
‫تلك النقلة‪)..‬‬

‫‪197‬‬
‫أثر القرآن الكري‬
‫ف تشكيل الوعي الزمن عند العرب(‪)1‬‬

‫تهيد‬
‫كان الذي يكم العربَ يومها نظرةُ عميقة إل‬ ‫(صلى ال عليه وسلم)‬ ‫عندما بُعث ممد‬
‫داخل ذواتم‪ ،‬وذلك من خلل ذواتٍ متفتحةٍ وأحاسيس مرهفة‪ .‬أعانم على ذلك ما‬
‫جادت به قرائحُهم من ديوان الشعر؛ الذي سجلوا من خلله أدقّ تفاصيل حياتم؛ سواء‬
‫على الستوى الذات (الفردي) أو على الستوى الماعي التمثل بالقبيلة‪..‬‬
‫وشاء ال عز وجل أن يتفضل على هذه المة بنعمة السلم والقرآن‪ ،‬حيث أحدث‬
‫الخي ف نفوس العرب وقلوبم مسارب عميقة‪ .‬ول يقتصر فعله على ما أحدثه من تأثياتٍ‬
‫ظاهرةٍ؛ تثلت ف منظومة الخلق والعبادات والعاملت‪ ،‬لكن اتضح بعد أعوام قليلة أنه‬
‫س عقولم وأفئدتم وطرق تفكيهم فأعاد تشكيلها وصياغتها من جديد!‪..‬‬
‫قد م ّ‬
‫لقد كان للقرآن الكري تأثيا عجيبا‪ ،‬إذ فتح عيون العرب وقلوبم على ما حولم من‬
‫مظاهر كونية خلّقة بعد أن كانت تتجه دائما إل ذواتم‪ ،‬فإذا الرض من حولم غي‬
‫الرض؛ والسماوات‪ ،‬وإذا كلُ الشياء من حولم ليست ما عهدوه‪ ،‬فلم تعد الرض مرابع‬
‫للقبيلة بقدر ما أصبحت مرتعا خصبا للتفكر ولمعان النظر‪ ،‬يدوهم ف رحلتهم تلك قوله‬
‫تعال‪{ :‬قل سيوا ف الرض فانظروا كيف بدأ اللق} ولتُتخذَ (اليات) بعد ذلك مُرتكزا‬
‫لدراسة التاريخ وآثار الغابرين‪..‬كذلك ل تعد السماء ما كانت عليه‪ ،‬إذ ل تعد مرد موطنٍ‬
‫لقمرٍ أشبه ما يكون بوجه البيبة‪ ،‬بل تولت صفحتها إل ساعة زمنية تُسب با أعمار‬
‫الغابرين وعبادات القبلي‪ ..‬فكيف تأت لتلك العقول أن تتأثر بالقرآن الكري بثل ذلك‬
‫القدر! وكيف كان للقرآن الكري مثل ذلك التأثي؟!‪..‬‬

‫‪ )(1‬هذه الدراسة مدينة بالعديد من أفكارها لكتاب "دراسات ف تاريخ الثقافة العربيّة" خالدوف وآخرون‪ ،‬وقد‬
‫وجب التنويه اعترافا بالق لهله‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫النسان وثلثية "عناصر الضارة"‬

‫لقد خلق ال ‪،‬عز وجل‪ ،‬النسان واستخلفه ف الرض ليعمرها‪ ،‬والعمران للرض هو‬
‫عينه ما اصطلح علي تسميته بـ "الضارة" إل أن "العمارة" و "العمران" تتضمن بي ثناياها‬
‫"فضيلة التوجه نو وجه ال الكري" مصداقا لقوله تعال‪:‬‬
‫{اعبدوا ال ما لكم من إله غيه هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها}(هود‪)61:‬‬
‫ولكي ينشأ العمران (أو التحضر) ف مكان ما؛ فلبد من توفر مموعةٍ من العوامل الت‬
‫تعتب أساسية لنشأة أية حضارة‪..‬‬
‫ويعتب "النسان" العنصر الول من العناصر الواجب توافرها لنشأة التحضر والعمران ف‬
‫مكان ما‪ ..‬ويدد القرآن الكري السمتي الساسيتي للعنصر النسان النشئ للحضارة‬
‫وذلك بقوله‪:‬‬
‫{سنريهم آياتنا ف الفاق وف أنفسهم}(فصلت‪)53:‬‬
‫وتصور الية الكرية "إنسان الضارة" بأنه ذلك الكائن مرهف السّ؛ الذي يُرسل عينا‬
‫على ذاته يستبطنها؛ ويرسل الخرى على العال الحيط به؛ ف ماولةٍ منه لكتشاف ذلك‬
‫العال واستكناه أسراره!!‪..‬‬
‫أما العنصر الثان من عناصر الضارة؛ فهو عنصر "التراب"‪ ،‬وهو إطلق مازي يقصد به‬
‫"جيع المكانات الادية اللزمة لنشوء الضارة"‪ ،‬والت تتضمن‪ :‬الصادر الطبيعية والواد‬
‫الام‪ ،‬مصادر الطاقة بأنواعها (متجددة وغي متجددة) البنية التحتية من وسائل اتصال‬
‫ومواصلت‪..‬ال‬
‫وقد تعرض القرآن الكري لبعض تلك المكانات على اختلفها وذلك ف قوله عز وجل‪:‬‬
‫{وسخر لكم الشمس والقمر كل يري لجل مسمى}(الرعد‪)2:‬‬
‫{وسخر لكم الفلك ف البحر بأمره وسخر لكم النار}(إبراهيم‪)32:‬‬
‫{وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره}(النحل‪..)12:‬‬
‫{وسخر لكم ما ف السموات والرض جيعا منه}(الاثية‪..)13:‬‬

‫‪199‬‬
‫وهو تسخي يفيد ‪،‬ف ممله‪ ،‬كافة الوارد الطبيعية اللزمة لقيام الضارة من‪ :‬طاقة‪،‬‬
‫موارد مائية‪ ،‬وسبل مواصلت‪..‬ال‪..‬‬
‫ومن نافل القول أن استثمار تلك المكانات الادية (التراب) إنا يتاج إل إنسانٍ مُبدع‬
‫يستلهم الدور النوط به ف الياة ليحققه‪ ،‬ويعرف معن "التسخي" اللي لتلك الوارد فيقوم‬
‫به؛ وهي العرفة اللزمة لتفاعل النسان والطبيعة من حوله لكي يعل من مواردها معينا له‬
‫على تقيق رسالته‪ ..‬لكن المكانات الادية السخرة لدمة النسان وتقيق أهدافه؛ إنا هي‬
‫عرضةٌ للضياع إن ل تصادف النسان الواعي لدود دوره؛ البدع ف تصوراته؛ والقدّر‬
‫لنعم ال عليه‪..‬‬
‫ومع كل هذا فإن اجتماع هذين العنصرين (النسان والتراب) ل يضمنان إنشاء‬
‫الضارة ونشر العمران‪ ،‬فهما باجةٍ إل رابطٍ أو ناظمٍ ينتظمهما معا‪ ،‬وهذا الرابط ليس ف‬
‫حقيقته إل عنصر "الوقت" ويب أل يطوف ف خيالنا العن البسيط والقريب لذا الصطلح‪،‬‬
‫ذلك أن نظرة النسان للوقت إنا تتوقف عليها كل تصرفاته‪ :‬حيال نفسه؛ وحيال غيه؛‬
‫وحيال كل ما هو موجود من حوله‪ ،‬وقد تضمنت الية الكرية ذلك العن {وسارعوا إل‬
‫مغفرة من ربكم} إشارة هامة إل ضرورة استغلل عنصر الوقت بيث يتم اكتساب أكب‬
‫قدر من العمل ف أقل وقت مكن!!‪.‬‬
‫وسنحاول ف هذه الدراسة التواضعة أن نقوم بتوصيف الدور الريادي الذي قام به‬
‫القرآن الكري ف سبيل "إعادة تشكيل" و"مَنْ َهجَة" العقل العرب ف مال التعامل مع الوقت‪،‬‬
‫وذلك كمقدمة لبد منها لعادة تشكيل بنية الوعي الضاري لسكان شبه الزيرة العربية‪.‬‬
‫بكلمات أخرى‪:‬‬

‫‪200‬‬
‫نريد أن نقوم بعملية استبطان للوعي الذات لدى النسان العرب قبل البعثة؛ وماولة‬
‫توصيف كيفية تعامله مع عنصر الوقت؛ والكيفية الت تغي وفقها ذلك الوعي ‪،‬بعد ذلك‪،‬‬
‫نتيجةً لتفاعل العقل العرب مع القرآن‪.‬‬

‫بي منهجي‪ :‬طبيعي وموضوعي‬


‫يتميز النسان عما حوله من مظاهر الكون الامدة بكونه ملوقا حيا‪ ،‬يأكل‪ ،‬ينام‬
‫يتنفس‪ ،‬يتزاوج‪ ،‬ويتحرك‪ ..‬وجيعها مظاهر لياة ذلك الكائن‪ ..‬ومع ازدياد معرفة النسان‬
‫بذاته بدأ يتضح له بأن جيع العمليات اليوية الت تتم داخل جسده تتم وفق وتية منتظمة؛‬
‫تتكرر كل أربع وعشرين ساعة‪ ،‬يكمها ف ذلك ساعة زمنية بيولوجية دقيقة‪ ،‬تدد ابتداء‬
‫العمليات اليوية؛ وتصاعدها التدرج؛ وصولً إل ذروتا‪ ،‬استعدادا لبلوغها نايتها الطبيعية‪،‬‬
‫ولتبدأ مرة أخرى من جديد‪.‬‬
‫ول يكن غريبا ‪،‬والالة هذه‪ ،‬أن ينام النسان ف وقت مدد؛ وأن يستيقظ ف نفس ميعاد‬
‫استيقاظه كل يوم‪ ..‬ال ليتكرر ذلك النظام اليوي على توال اليام‪ ،‬وإذا ما تغي نظام‬
‫عيش النسان بفعل أي طارئ (كالسفر مثلً‪ ،‬أو العمل ف ورديات مسائية) فإن اضطرابا‬
‫يكن أن يطرأ على عمل تلك الساعة‪ ،‬ويظل ذلك الضطراب قائما ومسيطرا على حياة‬
‫النسان إل أن يعتاد على نظام حيوي جديد تتم عملياته اليوية وفقه‪ ..‬وهذا هو ما نطلق‬
‫عليه اسم "الزمن الطبيعي" أو "اليوي" أو "البيولوجي"‪..‬‬

‫‪201‬‬
‫وما يتميز به الزمن الطبيعي البيولوجي أنه يتكون لدى الكائن الي نتيجة عوامل داخلية‬
‫بتة(‪ )1‬وتؤثر (أو تتأثر) به أحاسيس النسان‪ ،‬فعلى سبيل الثال فإن الالة النفسية للشخص‬
‫تؤثر ف طريقة حسابه لذا النوع من الزمن‪ ..‬سواء ف حالت الفرح أو الزن!‪..‬‬
‫وما يتميز به الزمن الطبيعي ‪،‬كذلك‪ ،‬أنه زمن "فردي"‪ ،‬بعن‪ :‬أن تأثيه يكون مصورا ف‬
‫الشخص ذاته؛ ول يتعداه إل الخرين‪ ،‬وتتلف طريقة الحساس بذا الزمن من شخص‬
‫لخر بفعل الفروقات الفردية التعلقة بالالة الزاجية‪ ،‬وبفعل الالة النفسية كذلك‪ .‬وقد‬
‫وجدنا أن الشاعر العرب امرئ القيس قد تأثرت قدرته على الحساس بذا النوع من الوقت‬
‫نظرا للحالة النفسية والزاجية الصعبة الت عاشها ف لظة من اللحظات‪ ،‬إل الدرجة الت‬
‫أحسّ معها بتوقف الزمن كليا عن الركة؛ وهو ما ظهر ف أبياته الشعرية‪:‬‬
‫بصبح وما الصباح منك بأمثل‬ ‫أل أيها الليل الطويل أل انل‬
‫بك ّل مغار الفتل ُشدّت بيذبـل‬ ‫فيا لك من ليلٍ كأن نومـه‬
‫من هنا؛ فل يعتب الزمن الطبيعي (الفردي) ناظما ‪،‬بطبيعته‪ ،‬لياة الفراد؛ أو باعثا‬
‫ومفزا لركتهم الماعية ف الياة؛ بل يقتصر دوره على كونه مركا لشاعر الفراد تاه ما‬
‫يوج حولم من أحداث‪ ،‬فتأت انعكاسات تلك الحداث على مرايا نفوسهم وقد تلونت‬
‫بطبيعة ذلك الزمن؛ ومتأثرة به!‪..‬‬

‫‪ )(1‬صحيح بأن الزمن البيولوجي هو زمن داخلي بالنسبة للنسان إل أنه أصبح شائعا اليوم ان الضوء تديدا هو ما‬
‫يقوم بتنظيم الساعة البيولوجية للكائنات‪ ،‬فإذا ما تغيت دورة الضوء لسبب من السباب اضطربت حينها الساعة‬
‫البيولوجية للنسان‪ ،‬على سبيل الثال‪ :‬فغن انتشار الضوء الصناعي الذي أحال الليل نارا سبب للنسان الكثي من‬
‫الضطراب ف النوم‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫كذلك فمما يتميز به الزمن (البيولوجي) الطبيعي أنه "غي تراكمي" فهو ‪،‬من هذه‬
‫الناحية‪ ،‬يصلح للتعامل مع عواطف الناس ومشاعرهم؛ لكنه غي صال لتوصيف وقياس‬
‫الظواهر الوضوعية ف حياتم(‪ )1‬والسبب ف عدم صلحيته لذلك ينبع من كون الطبيعة من‬
‫حولنا ذات طبيعة تراكمية مستمرة!! بعن‪ :‬أن أحداثها متدة مستمرة ومتصلة‪ ،‬ويثل‬
‫حاضرها امتدادا طبيعيا لاضيها‪ ،‬ولننظر ‪،‬مثل‪ ،‬إل البال من حولنا؛ حيث تعتب السلسل‬
‫الالية امتدادا طبيعيا لعمليات جيولوجية استغرقت آلف السني ‪،‬ولزالت مستمرة‪ ..‬ال‪،‬‬
‫فكل تلك الظواهر ابتدأت مع ابتداء تلق كوكب الرض أو وجدت ف مرحلة لحقة لتلك‬
‫البداية ول زالت مستمرة ف تكوّنا وانللا حت يومنا هذا‪ ،‬حيث يعتب وجودها الال‬
‫استمرارا لوجودها الاضي‪..‬‬
‫وللدللة على الطبيعة "التراكمية" لزمن الظواهر الطبيعية (الزمن الوضوعي) فإن عينةً من‬
‫اليورانيوم الشع يكن أن تفيدنا ف تقدير عمر الرض؛ وذلك من خلل قياس نسبة‬
‫الرصاص ف العينة؛ والتحول عن الادة الصلية وهي اليورانيوم(‪..)2‬‬
‫أما فيما يتعلق بنشأة الضارات النسانية وتطورها؛ فقد كان الزمن الوضوعي ‪،‬‬
‫باستمرار‪ ،‬عنصرا ل يكن الستغناء عنه لقامة تلك الضارات وتطويرها‪ ،‬حيث أن طريقة‬
‫حساب الوقت ف تلك الالة إنا هي جزء ل يتجزأ من إدراك النسان للقواني الطبيعية‬
‫اللزم معرفتها لدراك كنه الياة وطريقة عملها‪ .‬ويكن القول أن جيع المم الت استطاعت‬
‫أن تنشئ حضارات متميزة خاصة با إنا كان ذلك بفعل التوظيف الصحيح والناجع‬
‫للعناصر الثلثة ‪،‬آنفة الذكر‪ ،‬متمعة‪..‬‬

‫‪ )(1‬على سبيل الثال ل يكن التعامل مع العلوم من خلل الزمن البيولوجي‪ ،‬فالتغيات الطبيعية والتفاعلت‬
‫الكيميائية مثل تتاج لفهوم الزمن الوضوعي للتعامل معها‪..‬‬
‫‪)(2‬ومن العروف أن اليورانيوم ينحل بالشعاع؛ بيث تتحول نصف الكمية منه إل رصاص خلل فترة زمنية معينة‬
‫تدعى "فترة عمر النصف"‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫وعليه؛ فإن المم الت ل يكن لا حظٌ من الضارة والدنية إنا كان مرجع ذلك ‪،‬من جلة‬
‫عوامل أخرى‪ ،‬افتقارها إل التوافق والتناغم بينها وبي الطبيعة من حولا‪ ،‬ففيما تكون نظرة‬
‫أولئك القوم إل أنفسهم وطريقة تفكيهم فيما حولم مكومة بالزمن البيولوجي‪ ،‬فإن العال‬
‫من حولم يتحرك وفق قواني موضوعية بتة!!‪..‬‬
‫لقد كان إحساس النسان العرب ف شبه الزيرة العربية قبل البعثة الحمدية الشريفة‬
‫إحساسا بسيطا‪ ..‬إحساسا بيولوجيا طبيعيا أكثر منه "موضوعيا"‪ .‬ول يكن العرب ف ذلك‬
‫استثناء بي المم‪ ،‬إذ أن الحساس البيولوجي أو "الطبيعي" بالزمن كان ‪،‬ول يزال‪ ،‬السمة‬
‫البارزة الت تيز الجتمعات البدائية والقبلية‪.‬‬
‫ومع استقرارنا على حقيقة أن ما كان يكم السلوك العرب قبل السلم إنا كان أساسه‬
‫إحساس عميق بالذات؛ نتج عنه منهج طبيعي بيولوجي ف مراقبة العال الحيط؛ فيمكننا أن‬
‫نستنتج بأن تلك الطريقة ف مراقبة الياة والتفاعل معها قد ألقت بظللا على مموعة من‬
‫الفاهيم الذهنية الت كانت تراود العرب قبل البعثة الحمدية‪ ،‬حيث كان للحياة ‪،‬بالنسبة‬
‫لم‪ ،‬اعتبارات ذهنية نفعية واضحة‪..‬‬
‫والياة ف عرف النسان العرب قبل البعثة ل تكن تعدو أن تكون امتدادا ذهنيا نابعا من‬
‫الذر اللغوي لكلمة (حيّ) والذي يعن بيولوجيا‪" :‬قيام السم بوظائفه اليوية"‪ ،‬وعليه؛ فإن‬
‫"الياة" ل تكن تتجاوز كونا "وجودا بيولوجيا" للنوع النسان؛ وهي أقدم دللة ‪،‬كما‬
‫يبدو‪ ،‬للحياة‪..‬‬
‫ويكننا هنا القارنة بي "الفهوم النفعي البيولوجي" (الشار إليه آنفا) وبي مفهوم آخر‬
‫يعكس الدراك "التاريي" "الثقاف" لوجود الجموع النسان‪ ،‬وهو مشتق من الذر‬
‫اللغوي " َع َمرَ"‪ ،‬وهي كلمة ترتبط و"العمران" بوثيق صلة‪ ،‬وفيها الكثي من الدللت الت‬
‫تتناول "طبيعة الزمن" و"نط القتصاد"؛ و"الروابط الشتركة" بي الفراد‪ ..‬ومن هذا الذر‬
‫بالذات اشتقت الكلمات الدالة على مظاهر الضارة الزراعية (عامر‪ ،‬عامرة‪ ،‬عمارة‪،‬‬
‫عمران) وقد ورد هذا الصطلح ف القرآن الكري للتعبي عن الياة البشرية بسماتا‬
‫النسانية‪:‬‬

‫‪204‬‬
‫{يود أحدهم لو يعمّر ألف سنة وما هو بزحزحه من العذاب أن يعمر}(البقرة‪)96:‬‬
‫و{وما يعمر من معمر ول ينقص من عمره إل ف كتاب}(فاطر‪)11:‬‬
‫كذلك فقد استخدم القرآن الكري هذا الصطلح لوصف النشاط الجل ف حياة النس‬
‫النسان؛ وهو النشاط التمثل ف بعث الياة ف بيوت ال‪:‬‬
‫{إنا يعمر مساجد ال من آمن بال واليوم الخر}(التوبة‪)18:‬‬
‫ولعل من أسباب تفرد وتيز "العمران" على "الياة" أن الول تأت متضمنةً الثانية؛‬
‫وتتفوق عليها بأنا تأت مشحونة بضمون إنسان واضح!‪.‬‬
‫ومع تركيز القرآن الكري على الطبيعة "الوضوعية" للوجود من حولنا؛ فهو ل ياول أن‬
‫يلغي العتبارات "الذاتية" للحياة النسانية النابضة والستشعرة لذلك الوجود‪ ،‬بل لقد جعل‬
‫من الدراك اللطيف للوجود أمرا مستحيلً بدون ذات إنسانية مرهفة! فالوجود الوضوعي ‪،‬‬
‫من هذه الناحية‪ ،‬إنا هو امتداد طبيعي ومتقدم لدراكنا البيولوجي لطبيعة ذلك الوجود‪،‬‬
‫ولعل الرتباط بي شطر الية الكرية‪{:‬وال خلقكم من تراب ث من نطفة ث جعلكم‬
‫ض َمنْ‬
‫أزواجا‪ ،‬وما تمل كل أنثى ول تضع إل بعلمه‪(}...‬فاطر‪ )11:‬وارتباطها بالوجود الَُت َ‬
‫ف شطرها الخر‪...{ :‬وما يعمر من معمّر ول ينقص من عمره إل ف كتاب}(فاطر‪..)11:‬‬
‫ما يشي إل الصلة الواضحة بي "الدراك البيولوجي" وما يترتب عليه من إدراك‬
‫"موضوعي" "ثقاف" للوجود!‪ .‬والحساس الذات البيولوجي (كما يصوره القرآن الكري)‬
‫يعتب مرحلة سابقة على بدء الدراك الوضوعي الواسع للوجود‪ ،‬لكن الدراك البيولوجي‬
‫يب أل يلغي الدراك الوضوعي بال من الحوال‪..‬‬
‫ومن هنا ندرك أن القرآن الكري قد دمج بي الدراكي‪" :‬الذات" و"الوضوعي"‪..‬‬
‫للوصول إل مزيج لطيف من الدراك الشامل للوجود من حولنا!‪.‬‬

‫من نتائج الدراك البيولوجي للوجود‬


‫(الدراك الحادي)‬

‫‪205‬‬
‫لقد كان من نتائج سيادة مفهوم "الزمن الذات" "البيولوجي" ف حياة النسان العرب قبل‬
‫السلم؛ أن انعدم الوعي الماعي لديهم؛ إلّ ف حدوده الضيقة؛ الت ل تكن تتجاوز القبيلة‬
‫كمفهوم دال على الماعة‪ ،‬ول يوجد ف الثار الخطوطة لرحلة ما قبل السلم (والت تعود‬
‫إل سكان شبه الزيرة العربية با ف ذلك الصابئة المييي) مصطلح يدل على كامل‬
‫مساحة شبه الزيرة‪ ،‬فقد كانت "شبه الزيرة العربية" بالنسبة لكل قبيلة عبارة عن الرض‬
‫الت تقطنها! أو الت تارس خللا وف إطارها عملية الترحال‪ ،‬وقد وقر ف أذهانم أن وراء‬
‫حدود قبيلتهم تقع أراضٍ لقبائل غريبة ‪،‬معادية عادة‪..‬‬
‫كذلك فقد أعاقت السافات الشاسعة لشبه الزيرة العربية تشكل الوعي بوحدة وتكامل‬
‫أرض الزيرة العربية‪ ،‬وقد شكل ذلك الدراك النقوص للجغرافيا سببا مباشرا دفع باتاه‬
‫عدم التفاعل مع تلك الغرافيا‪ ،‬صاحبه تأخر مقابل ف أساليب الستثمار الثلى لياتا‪ ،‬وهو‬
‫ما انعكس ف صورة عجز عن إقامة الضارة؛ اللهم ف حدودها الدنيا التمثلة ف رقيّ كبي‬
‫ف مال الشعر!‪..‬‬
‫وإذا ما أردنا استجلء حقيقة نظرة النسان العرب قبل البعثة إل ما حوله من مظاهر‬
‫الطبيعة‪ ،‬وتبيُن "النظور الزمن الضيق" الذي نظر إل تلك الظواهر من خلله؛ فلن ند‬
‫أفضل من الشعر (ديوان العرب) وسيلة للء تلك القيقة‪ ،‬حيث تثلت شبه الزيرة العربية‬
‫قبل السلم رابطة "ثقافية" واحدة‪ ،‬وتَثَلَ التعبيُ الكثرُ أهية عن هذه الثقافة ف تكوّن اللغة‬
‫الدبية العامة؛ وتطور الشعر الكتوب‪ ،‬والذي اعتُبِر من قبل الميع ‪،‬آنذاك‪ ،‬حِرزا عاما‬
‫للتعبي عن الذات‪.‬‬
‫وعلى الرغم من الصوصية القبلية لكل شاعر من شعراء شبه الزيرة العربية قبل‬
‫السلم؛ إل أنم كانوا جيعا ينظمون شعرا يمل ساتٍ عامة لشبه الزيرة العربية‪ ،‬بيث‬
‫يكون مفهوما لكل قبائلها؛ ويمل السمات العامة والقواسم الشتركة فيما بي قبائلها‪ ،‬وقد‬
‫عكس ذلك توافقا كبيا بي تلك القبائل تاه كل ما يتعلق باللغة‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫ولقد اعتُب الشعرُ منذ القدم أرشيفا للعرب‪ ،‬بيث يكاد يكون الوسيلة الرئيسة‬
‫والوحيدة للتعبي عن الذات ف مرحلة ما قبل الكتابة‪ ،‬ويكن اعتباره النهل الهم ‪،‬والكثر‬
‫موثوقية‪ ،‬ف التعبي عن أوضاع العرب آنذاك‪ .‬لجل ذلك فقد اعتن العرب بشعرائهم عنايةً‬
‫فائقةً ل يدانيها إل عنايتهم بحاربيهم! إذ كثيا ما اضطرت القبائل العربية للدفاع عن‬
‫نفسها ‪،‬ثقافيا‪ ،‬أمام الصوم‪ ،‬ول يكن الدافعون عن حياضها هذه الرة إل الشعراء!!‪..‬‬

‫قضايا واهتمامات‬
‫النسان العرب قبل البعثة‬
‫كان الشعراء العرب قبل البعثة النبوية الشريفة يتناولون ف أشعارهم قضايا ذات مضمون‬
‫ذات قبلي إنسان؛ يسترجع التصورات الروحانية لتراث القبيلة‪ ،‬أو يشرح نشوء عناصر‬
‫الثقافة والعيشة والعادات والشرائع؛ أما العلومات ذات الضمون الكون الوضوعي؛ فلم‬
‫يتم إثباتا ضمن معارفهم القابلة للتناقل من جيلٍ إل جيل!‪.‬‬
‫كذلك فقد كان النسان العرب قبل السلم مرهف الحساس تاه ذاته‪ ،‬شديد النفعال‬
‫تاه واقعه‪ ،‬يُرى ذلك ف أشعارهم الت اهتمت بتصوير تلك الشاعر والحاسيس‪.‬‬
‫وف أبيات "عبده التميمي"(‪ )1‬ند تصويرا صادقا لتلك النفعالت‪:‬‬
‫لقد علمتُ بأن قصري حفرةً‬
‫غـباء يملن إليها شرجـعُ‬
‫فبكى بنات شجوننّ وزوجت‬
‫والقـربون إلّ ث تصدّعـوا‬
‫ومثله قول "طرفة بن العبد"‪:‬‬
‫فإن مـتّ فـانعين با أنا أهله‬
‫وشُقّي عليّ اليبَ يا ابنة معبد‬

‫‪ )(1‬شاعر من النصف الول للقرن السابع اليلدي‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫ول تعلين كـامرئٍ ليس هه‬
‫كهمّي ول يُغن غِنائي ومشهدي‬
‫والتأمل للشعر العرب قبل السلم يد أنه كان انعكاسا أصيلً للنسان ذاته؛ بتركيبته‬
‫النفسية الفعمة بالفرادة والصوصية‪ ،‬إذ كانت أشعارهم تؤصل لحاسيس عارمة بالزمن‬
‫الطبيعي "البيولوجي" شديد الساس بالتحدث ذاته‪ ،‬إل الدرجة الت تول معها الشعر إل‬
‫مهمة "التأريخ للحداث الاصة" ف حياة الشعراء‪.‬‬
‫كذلك فقد رصد النسان العرب ‪،‬قبل البعثة الشريفة‪ ،‬معال الزمن البيولوجي من خلل‬
‫رصده لـ "علمات الياة النسانية" بعمومها‪ ،‬مستخدما ف ذلك مصطلحات تدل على‬
‫النشاط اليوي النسان‪ ،‬أو تتعلق به‪.‬‬
‫ويكن أن نلحظ ف شعر ناية القرن السادس والربع الول من القرن السابع تقوية‬
‫الهتمام ‪،‬تدرييا‪ ،‬بالصائص الزمنية للوصف‪ ،‬حيث باتت أشعارهم مفعمة بالشارات‬
‫"الزمنية" الختلفة‪.‬‬
‫وقد مر تشكل مفهوم الزمن (الذات البيولوجي) لدى النسان العرب قبل السلم بأطوار‬
‫كان الشعر ف حينه دائم الشارة إليها‪ ،‬فكانت الظاهر الطبيعية البيولوجية أشد ما استوقف‬
‫الشعراء ف ذلك الوقت‪ ،‬تلك الظاهر الت تصيب ‪،‬عادة‪ ،‬السد النسان؛ والت يساهم‬
‫الزمن ‪،‬بشكل طبيعي‪ ،‬ف تشكلها‪.‬‬
‫على سبيل الثال فقد حفلت أشعارهم بوصف مظاهر الشيخوخة‪ ،‬وهي العلمات الت‬
‫ترتبط طبيعيا بالزمن؛ فقد وصفوا "الشيب"؛ وأوردوا مظاهر "العجز والفناء"‪ ،‬وتناولوا ‪،‬من‬
‫ث‪" ،‬عدم أزلية الياة"‪ ،‬فخلصوا إل حقيقة أن حياة النسان إنا هي عبارة عن مموعة من‬
‫"الدوار البيولوجية" التتابعة من‪( :‬ولدة‪ ،‬نضج‪ ،‬شيخوخة‪ ،‬عجز‪ ،‬فوفاة‪.)..‬‬
‫ونقرأ ‪،‬كمثال‪ ،‬ما قاله "عمر بن قميئة" لنرى كل تلك الظاهر ولو بصورة مقتضبة‪:‬‬
‫فَ ِزعَت تكتم وقالـت عجبـا‬

‫‪208‬‬
‫أن رأتن تغيّرَ اليوم حــال‬
‫يـا ابنة الي إنا نن رهـنٌ‬
‫لصـروف اليـام بعد الليال‬
‫وما يؤكد مذهبهم "الذات" ف النظر للطبيعة والياة من حولم؛ أنم كانوا يؤرخون‬
‫للعلمات الامة ف حياتم (من ولدة‪ ،‬وموت‪..‬ال) بالدللة عليها با يقترن با من أحداث‬
‫تل بشكل طبيعي ف مرى حياة النسان‪ ..‬وليس أكثر دللة على ذلك من اقتران السنة‬
‫الت ولد فيها النب ممد (صلى ال عليه وسلم) والتأريخ للميلد الشريف مقترنا بعام الفيل!‬

‫الوقف من الياة والوت‬


‫كمؤشر على الوقف من الزمن بشكل عام‬
‫"الوجود هو الياة ذاتا؛ لكنه ل يتعداها‪..!!"..‬‬
‫لقد كان هذا هو اعتقاد العرب قبل البعثة النبوية الشريفة‪ ،‬ما عن لم أن انقضاء‬
‫"الياة" بالوت إنا يعن ‪،‬بالضرورة‪ ،‬انقطاع الزمن وانتهاء "الوجود" ذاته‪ ،‬ذلك الوجود‬
‫الذي غالبا ما كانت تتحدد ملمه بعلمات "الياة" ذاتا عب مراحلها الختلفة‪ ،‬حيث كثيا‬
‫ما استعيض عن الزمن بصطلحات تدل على النشاط اليوي للنسان‪ ،‬أو تتعلق ‪،‬بذلك‬
‫النشاط‪ ،‬على أقل تقدير!‪.‬‬
‫ويكن الفتراض اليوم بأن مفهوم الزمن عند العرب قبل السلم إنا كان تعبيا مقابلً‬
‫ومكافئا لصفة "الوجود" النسان على الرض! دون أن يشمل البعاد "الغيبية" الت كشف‬
‫عنها السلم فيما بعد(‪ )1‬وقد كان النسان العرب قبل البعثة الحمدية الشريفة يؤمن أن‬
‫انتهاء الياة بالوت يوقف الزمنَ بالفعل وينهيه!‪.‬‬

‫‪ )(1‬وهي مراحل وجود غيب قبل الوجود الرضي وبعد انتهاء الياة‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫ويبز مفهومهم للزمن من خلل اهتمام موروثهم الشعري والنثري النقول عن القب‬
‫السابقة للسلم بكل النوعي من الزمن ("الاضي" و "الاضر" على حدٍ سواء) على اعتبار‬
‫أنما أجزاء طبيعية لادة الياة الت يعرفها العرب ويدرك كنهها جيدا‪ ،‬إل أن إدراكهم توقف‬
‫(بل عجز) عن استكناه الزمن ببعده "الستقبلي"!!؛ كون الوت يشكل حائلً وحاجزا بي‬
‫ماضي وحاضر النسان ‪،‬من جهة‪ ،‬وبي مستقبله "ذي الطبيعة الغيبية" من الهة الخرى‪،‬‬
‫حيث يرج ‪،‬الخي‪ ،‬بإحاسيسهم من إطارها "الذات" الذي اعتادوا عليه إل إطار جديد ل‬
‫يعرفون عنه شيئا؛ أل وهو الزمن الغيب "ما وراء الوضوعي"‪ ،‬وهو ما ل يتسنَ للعرب أن‬
‫يدركوه ف ذلك الوقت!‪.‬‬
‫وبنفس النطق الذي تعامل النسان العرب قبل السلم من خلله مع قضية "الوت"‬
‫تعامل من خلله أيضا مع قضية "القدر" حيث يشكل كلها نوعا من الدراك الستقبلي‬
‫للزمن‪ ،‬وقد بقي موقف النسان العرب ‪،‬تاه "القدر" ضبابيا غي واضح!! إذ ظل خاضعا‬
‫لنفس العايي النية السائدة‪ ،‬والت جاء السلم ‪،‬فيما بعد‪ ،‬ليضيف إليها أبعادا إضافية كانت‬
‫غي معروفة حت ذلك الي‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫ويتلخص موقف النسان العرب ‪،‬قبل البعثة‪ ،‬حيال "القدر" ف أنه ظل غي قادر على‬
‫استيعابه (أي استيعاب القدر) لعجزه عن التنبؤ با رسه وبا احتواه ف رحم الغيب‪ ،‬وبقي‬
‫العرب على اعتقاده بأن "القدر يعمل كقوة فطرية عمياء"!!‪.‬‬
‫ول يكننا تفسي موقف النسان العرب من القدر وفهم ذلك الوقف بالشكل الصحيح‬
‫إل على ضوء إدراكنا لقيقة أن الصورة الذهنية للبعد الغيب (ما وراء الوضوعي) كانت‬
‫غائبة عن مداركهم تام الغياب‪ ،‬ولعل ف أبيات "زهي بن أب سلمى" ما يوضح الصورة‬
‫الهتزة والغائمة لوقف النسان العرب تاه "القدار"‪:‬‬
‫رأيت النايا خبط عشواء من تُصب‬
‫تته ومن تطئ يُعمر فـيـهـرم‬
‫ولقد كان موقفهم هذا بعيدا كل البعد عما جاء به السلم لحقا‪ ،‬من أن القدار إنا‬
‫هي إرادة ال ومشيئته الت كتبها على العباد‪ ،‬مصداقا لقوله تعال‪{:‬قل لن يصيبنا إل ما‬
‫كتب ال لنا وعلى ال فليتوكل الؤمنون}(التوبة‪ )51:‬وتقيقا لقوله تعال {إن ال عنده علم‬
‫الساعة‪ ،‬وينل الغيث‪ ،‬ويعلم ما ف الرحام‪ ،‬وما تدري نفس ماذا تكسب غدا‪ ،‬وما تدري‬
‫نفس بأي أرض توت إن ال عليم خبي}(لقمان‪ ..)34:‬وبذا فقد انتفت العشوائية العمياء‬
‫عن مصي النسان؛ لتستقر المور على ما يشاء ال ‪،‬للنسان‪ ،‬ويرضى‪.‬‬

‫النهج العرب قبل السلم‬


‫وآلية تويل "الوضوعي" إل "ذات"‬

‫‪211‬‬
‫إذا ما رحنا نتأمل اللغة ‪،‬أية لغة‪ ،‬فسنجد أن أهم ما ييزها‪ :‬وجود نوعي من العان(‪)1‬‬
‫لكل لفظ من ألفاظها‪ ،‬الول‪ :‬وهو العن اللغوي‪ ،‬حيث كثيا ما تتعدد العان اللغوية للفظ‬
‫الواحد؛ يشهد على ذلك مموعة اللفاظ الوجودة ف معجمات اللغة إذا ما رحنا نبحث‬
‫عن العن اللغوي للفظ من اللفاظ‪..‬‬
‫أما النوع الخر من العان؛ فهو "الصطلحي"‪ ،‬وهو معنً مدد للفظ القصود‪ ،‬ويتميز‬
‫هذا العن بصفت‪ :‬الدقة والوضوح‪ ،‬كما يتميز بكونه يعقد ف أذهان الناس رابطةً ذهنيةً‬
‫شديدة الحكام بي اللفظ ومعناه ف زمانٍ ومكانٍ بعينهما‪..‬‬

‫‪ )(1‬سنتعرض لذا المر بشيء من التفصيل حي نعرض لوضوع "ظاهرة النسبية ف القرآن الكري"‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫ويكن للمعن الصطلحي للكلمة أن يتغي بي وقتٍ وآخر‪ ،‬ومن منطقة لخرى‪ ،‬حيث‬
‫يكن أن ينتشر معنً معي ويشيع من جلة العان اللغوية الحتملة؛ وذلك على حساب العان‬
‫الخرى‪ .‬على سبيل الثال فإن كلمة "عصابة" قد استخدمت فيما سبق للتعبي عن معن‬
‫جيل هو "الماعة" ومنه ما ورد عن رسول ال (صلى ال عليه وسلم) (اللهم إن تلك هذه‬
‫العصابة فلن تعبد ف الرض) لكن تولً قد طرأ على معن ذلك اللفظ ف أيامنا هذه‪،‬‬
‫فأصبح يشي إل العصابة بعن "جاعة الشرار"!!‪..‬‬
‫والديث عن العان اللغوية والعان الصطلحية لللفاظ هو الدخل الطبيعي الذي يكن‬
‫أن ننساب من خلله لنلمس الطريقة الت تعامل با العرب مع مصطلحات زمانم‪ ،‬وعن‬
‫مقاصدهم من وراء استخدامهم للفاظ بعينها‪ ،‬وهل أنم قصدوا من وراء استخدامهم لا ما‬
‫نقصده نن اليوم من معانيها الصطلحية؟!‪..‬‬

‫‪213‬‬
‫إن توقفا متأنيا أمام هذا المر سيفيد بأن العرب ل تكن تنقصهم اللفاظ‪ ،‬ذلك أن لغتهم‬
‫قد تيزت بالقوة والفرادة‪ ،‬وتوفر لم من الفصاحة والبيان ما ل يتوفر لغيهم‪ ،‬لكن يستوقفنا‬
‫أن اللفاظ آنئذ ل تكن تعن لم ‪،‬بالضرورة‪ ،‬ما تعنيه لنا اليوم! بل ظلت تلك اللفاظ ذات‬
‫ارتباط وثيق بذات العرب وطبيعته النفسية‪ ،‬أي أنه قد عاد وأخضع تلك اللفاظ لقاييسه‬
‫الذاتية‪ ،‬ونقلها من مربع "الزمن الوضوعي" إل مربع "الزمن الذات" والبيولوجي أو الطبيعي؛‬
‫شديد التعبي عن نفسه وذاته هو!‪...‬‬

‫‪214‬‬
‫على سبيل الثال؛ فلنأخذ كلمة "يوم" والت تعن لنا اليوم متوىً لفظيا مددا هو‪ :‬زمن‬
‫الدورة الكاملة للرض حول نفسها‪ ،‬والذي يقدر بوال أربع وعشرين ساعة من الزمن‬
‫الرضي‪ .‬فماذا كانت تعن كلمة "يوم" بالنسبة للنسان العرب قبل البعثة؟!‪ ..‬وهل عنت‬
‫لديهم (يوما مقداره أربعا وعشرين ساعة)؟!! بالتأكيد ل؛ لكننا سنجد أن معناه قد مال‬
‫لديهم باتاه العن اللغوي؛ حيث أشارت الكلمة (من جلة ما أشارت إليه) إل‪" :‬زمن اليوم"‬
‫وبشكل خاص الفترات النهارية‪ ،‬وكان الصطلح نفسه يشي كذلك إل‪" :‬فترة من اليوم"‬
‫دون أية علقة بزمن شروق أو غروب الشمس!‪ .‬ومن جلة معان "اليوم" ف معاجم اللغة‪:‬‬
‫"الوقت من طلوع الفجر إل غروب الشمس"‪ .‬وتعن كذلك‪" :‬الوقت مطلقا"‪ ،‬أيام ال‪ :‬أي‬
‫"ِن َع َمهُ ونِ َق َمهُ"‪ ،‬وأيام العرب‪" :‬وقائعها وحروبا"‪.‬‬
‫كذلك فقد استعمل العرب وحدات توقيت أخرى تشتمل على مضاعفات اليوم‪ ،‬وذلك‬
‫وفقا لوحدة ثلثية هي (ثلث ليال) وقد كانت تشكل وحدةً توقيتيةً شائعة الستعمال‪ ،‬وقد‬
‫جعل العرب لكل ثلث ليال من الشهر تسمية خاصة با؛ واحتفلوا باليام الثلثة العتمة‬
‫الخية غي القمرة من كل شهر كنهاية له‪ .‬ولعل ميلهم لستعمال تلك الوحدة قد نبع من‬
‫احتياجات ذاتية بتة‪ ،‬حيث كانت تثل لم قيمة هامة من الناحية الجتماعية‪ ،‬مثل مدة‬
‫ضيافتهم للضيف‪ .‬ومثلت ‪،‬تلك الوحدة‪ ،‬كذلك فترة زمنية ذات مغزى ف قوانينهم النائية‬
‫العشائرية‪..‬‬
‫ول يقتصر تعاملهم الفضفاض مع "التوقيت" على كلمة "يوم" ومضاعفاتا‪ ،‬بل اتذت‬
‫مسألة التوقيت ‪،‬بعمومها‪ ،‬طبيعة ذاتية؛ فضفاضة؛ غي موضوعية‪ .‬على سبيل الثال فقد اتذ‬
‫العرب من موسم الج السنوي علمة من علمات التوقيت‪ ،‬وعليه؛ فقد شاع لديهم‬
‫استخدام مصطلح "حجة" والذي عن لم حينذاك‪" :‬الفترة الزمنية ما بي موسم الج والذي‬
‫يليه" وهي تعادل امتداد سنة قمرية كاملة‪ :‬ومنه قول عمر بن القميئة‪:‬‬
‫كأن وقد جاوزت تسعي حجةً‬
‫خلعت با يومـا عِـذار لامي‬
‫وقول زهي بن أب سلمى‪:‬‬

‫‪215‬‬
‫وقفت با من بعد عشرين حجة‬
‫فليا عرفت الدار بـعد توهم‬
‫من هنا يكن التأكيد على أن اصطلح العرب على تلك اللفاظ لتدلم على مرادٍ زمن‬
‫معي إنا جاء ف سياق ارتباط تلك الفاهيم ارتباطا وثيقا بذواتم؛ ومارساتم؛ وعاداتم الت‬
‫كانوا عليها‪..‬‬
‫على سبيل الثال فإن اصطلحهم على كلمة "حجة" لتمثل "السنة" أو "العام" إنا نبع‬
‫من موسم الج السنوي؛ والذي يعتب من أقدس أيام العرب وأهها على الطلق‪..‬‬
‫وما بي "يوم" و "عام" فقد أقّتّت العرب لياتا بالحداث الامة الت اعترضت لم‪ ،‬وقد‬
‫انقسمت الوحدة الخية (الجة) إل وحدات زمنية أصغر‪ ،‬مع بقاء "العامل الذات" قاسا‬
‫مشتركا يمع بينها جيعا فقد انقسم العام (الجة) لديهم إل اثن عشر شهرا‪ :‬ثانية منها‬
‫مُللة؛ وأربعة منها حُ ُرمْ‪ ،‬وقد اته العرب إل حروبم وغزو بعضهم البعض طوال الشهر‬
‫الثمانية الحللة‪ ،‬إل أنم التزموا بالربعة الخرى وأبقوا عليها كأشهر مرم فيها القتال‪ .‬وقد‬
‫ابتدأت الشهر العربية بالحرم وانتهت بـ "ذي الجة" فجاءت أساؤها مشتقة من صميم‬
‫حياتم وعاداتم‪ .‬ومن استقرائنا للشعر العرب يكننا أن ند أن هذا النوع من التوقيت‬
‫الزمن قد استخدم ف أصقاع متلفة من الزيرة العربية وذلك ف القرن الامس وحت‬
‫منتصف القرن السابع اليلدي‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫شواهد قرآنية‬
‫على الحساس الزمن البيولوجي عند العرب‬
‫عندما تنل القرآن الكري على ممد بن عبد ال (صلى ال عليه وسلم) كان العرب قد‬
‫جدِ‬
‫اشتهروا بفصاحتهم؛ وفروسيتهم؛ ورقة مشاعرهم الت تلت ف أشعارهم الت ل تَ ُ‬
‫البشريةُ بأرقّ منها‪ ،‬وقد تنل القرآن الكري آيات وسور؛ كانت تراعي الستويات النفسية‬
‫والوضوعية لدى من أتت لخاطبتهم‪ ،‬وهو ما يتجلى ف السمات الساسية واللمح العامة‬
‫الت ميزت كل من القرآن الكي والدن‪ ،‬حيث بدا وكأن كلً منهما (الكي والدن) ياطب‬
‫إنسانا متلفا! فحيث كان القوم ف مكة ف جاهلية تعمى وتصم‪ ،‬يعبدون الوثان‪،‬‬
‫ويشركون بال‪ ،‬وينكرون الوحي‪ ،‬ويكذبون بيوم الدين‪..‬ال؛ حيث كان القوم كذلك؛ نزل‬
‫الوحي الكي‪ :‬قوارعَ زاجرةً‪ ،‬وشهبا منذرةً‪.‬‬
‫وعلى العكس من ذلك فقد وجدنا اليات الدنية‪ :‬طويلة القاطع؛ أتت أقل إفعاما‬
‫بالنفعال(‪ )1‬وقد جاءت السور الدنية لتفصل أصول التشريع‪ ،‬وتضع قواعد الجتمع‬
‫والدولة‪ ..‬ال؛ وهذا هو الطابع العام للقرآن الدن‪.‬‬
‫ولعل الفوارق بي القرآن الكي و الدن تسد الفوارق الت طرأت ‪،‬فيما بعد‪ ،‬فميزت‬
‫بي إنسان ما قبل البعثة وإنسان ما بعدها!! ففي حي كان الول مفعما بالعواطف‬
‫والنفعالت الياشة؛ صار الثان إنسانا مفكرا؛ فكان دائم التأمل ف ذاته‪ ،‬كثي النظر ف‬
‫الكون من حوله‪ ،‬ما َأهَ َلهُ لن يصبح صانع حضارة من الطراز الول!‪..‬‬
‫وقبل أن تنجح الدعوة السلمية ف إنتاج نوذجها النسان الفريد؛ كان القرآن الكري‬
‫ياطب القوم ‪،‬الذين نُزّل القرآن فيهم‪ ،‬مراعيا خصوصياتم؛ متمهلً عليهم ف ضعفهم‪،‬‬
‫فخاطبهم على قدر عقولم وقلوبم؛ دون إهالٍ لقتضيات الرسالة الت جاءت لترفعهم إل‬
‫مصافٍِ جديدٍِ ينطلقون منه لتغيي معال الوجود من حولم!!‪..‬‬

‫‪ )(1‬يعتب ِقصَر العبارات مؤشرا على حالة نفسية مفعمة بالنفعال‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫ولقد صور القرآن الكري ما كان عليه العرب قبل البعثة أجل تصوير‪ ،‬فها هو يصور‬
‫منطقهم الرتكز على نظرة مادية خالصة للحياة؛ لقد كانت نظرتم لا حولم نظرة قريبة‬
‫الغور؛ وذات رؤية طبيعية بيولوجية؛ فقد كانت قضايا جدلم الدائم من نوعية‪:‬‬
‫{أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لبعوثون}(الصافات‪()16:‬سورة مكية)‬
‫وادّعوا‪{:‬ما هي إل حياتنا الدنيا نوت ونيا وما يهلكنا إل الدهر}(الاثية‪()24:‬مكية)‬

‫‪218‬‬
‫وكما يشي القرآن الكري فإن العرب ‪،‬قبل البعثة‪ ،‬راقبوا الياة وملمها الساسية من‬
‫خلل ملمها البيولوجية الالصة‪ ،‬وقد رأوا فيها مشهدا سينتهي حتما بالوت!!‪.‬‬

‫الزمن ف القرآن الكري‬

‫‪219‬‬
‫تدثنا فيما مضى عن الزمن البيولوجي وارتباطه بالشاعر والحاسيس الداخلية للنسان‪،‬‬
‫وتدثنا كذلك عن عدم صلحية ذلك النوع من التوقيت لرصد الظواهر الوضوعية الت‬
‫تدث ف الطبيعة من حولنا‪ ،‬ذلك أن الطبيعة نفسها مكومة بزمن موضوعي ذا طبيعة‬
‫تراكمية يكننا من مراقبتها وحسابا بدقة؛ بعكس الزمن البيولوجي الذي يتخذ لنفسه شكل‬
‫الدورات التعاقبة الت تبدأ دائما من نقطة الصفر لتعود إليه!‪..‬‬

‫‪220‬‬
‫وعرفنا كذلك أن الزمن الوضوعي يشكل العلقة بي الفرد وميطه‪ ،‬وهو صال لقياس‬
‫الظواهر الكونية والقائق العلمية؛ كونه ذا طبيعة تراكمية‪ ،‬فهو‪ :‬مستمر؛ متواصل؛ ومتد‬
‫من الاضي عب الاضر وإل الستقبل‪.‬‬
‫أما عن الزمن الطروح قرآنيا فهو "متصل" و "مستمر"‪ ..‬ل ينفصل فيه الاضي عن‬
‫الاضر؛ ول ينفصلن بجموعهما عن الستقبل(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬الستقبل بشقيه‪ :‬سواء الستقبل الرضي‪ ،‬أو الستقبل بعن "ما بعد الوت"‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫لكن العلقة الت تربط بي أجزاء هذا المتداد ل تكن مرد علقة ذهنية موضوعية‬
‫فحسب‪ ،‬بل تاوزت ذلك لتصبح علقة تقرير مصي‪ ،‬فالاضي ليس مرد أحداث تذكر‬
‫بغرض الدراسة الكاديية فحسب‪ ،‬لكنها تتلك قيمة انفعالية وأخلقية عالية؛ يكن أن‬
‫تساهم ف تعديل مسار الاضر لجل مستقبل إنسان أفضل!!‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫ولقد ذُكر الزمن "الاضي" ف القرآن الكري على أساس أنه "ذِكرى" و"عبة" للستفادة‬
‫منها ف الياة الاضرة‪ ،‬بينما ظل الستقبل الوضوعي (الستقبل بصيغته الرضية وليس‬
‫الستقبل الخروي) ذا ساتٍ جدّ عاديةِ!! فلم يتفل القرآن به‪ ،‬ولربا يرجع ذلك إل‬
‫القناعة الت ظل السلم ياول ترسيخها لدى أتباعه‪ ،‬أل وهي أن "الستقبل بيد ال"‪ ،‬وأن‬
‫قدرة النسان على التحكم به هي قدرة مشكوك فيها! لذلك فقد وجدنا القرآن الكري‬
‫يؤكد دائما على أسلوب عيش يرتكز على‪:‬‬

‫‪223‬‬
‫{ول تقولن لشيء إن فاعل ذلك غدا إل أن يشاء ال}(الكهف‪)23:‬‬
‫وقد تأكد هذا العن بقوله تعال‪:‬‬
‫{وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غدا‪ ،‬وما تدري نفسٌ بأي أرض توت}(لقمان‪)34:‬‬

‫‪224‬‬
‫منهج قرآن‬
‫(الذات ف إطار الوضوعي)‬

‫‪225‬‬
‫كما رأينا فيما سبق فإن القرآن الكري قد ساير العرب ف الراحل الختلفة لتطورهم‬
‫الفكري والتصوري‪ ،‬فأورد الجج الت ساقها الغرقون منهم ف النظرة الادية للحياة؛ وقد‬
‫أوردها كما هي‪{:‬أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لبعوثون}(الصافات‪()16:‬مكية)وأورد‬
‫كذلك ادعاءهم‪{:‬ما هي إل حياتنا الدنيا نوت ونيا وما يهلكنا إل الدهر}(الاثية‪)24:‬‬
‫إل أن القرآن الكري سعى ف الوقت ذاته لتقدي "الياة الدنيا" بصورة وارفة ظليلة‪،‬‬
‫وذلك بعرضها من خلل منظورها الدين؛ حيث ل يقدمها للعرب بوجهها الادي السافر‬
‫الذي ما عرفوا غيه‪ ،‬كما ل يقدمها ف صورتا التجريدية البحتة الت ترتفع عن مستوياتم‬
‫العقلية وتصوراتم النية‪ ،‬بل لأ إل تصويرها على الصورة الت خبوها؛ لكن ف سياق‬
‫موضوعي غي ذلك الذي عرفوه واعتادوا عليه!! فلم تعد "الياة" و"الوت" مرد تكرار‬
‫يبدأ لينتهي‪ ،‬كما صوروها حي قالوا‪{ :‬نوت ونيا وما يهلكنا إل الدهر} بل أصبح للحياة‬
‫والوت سياق آخر متلف؛ إذ أصبح لذا التتابع ‪،‬من الياة والوت‪ ،‬نتيجة تراكمية يكن‬
‫ملمستها والبناء عليها!‪..‬‬
‫وف هذا السياق فإن ملحظة هامة تستوقفنا‪ ،‬وهي أن القرآن الكري قد استخدم نفس‬
‫اللفظ الذي استخدموه (الدهر) بفارق أن السياق القرآن قد أتى ضمن إطار موضوعي‬
‫مغاير‪ ،‬فحمل العن إل اتاه آخر متلف غي ذلك الذي كان يقصده العرب!!‬

‫‪226‬‬
‫وبالعودة إل قواميس اللغة فسنجد أن كلمة "دهر" تتمل‪" :‬المد الحدود" كما تتمل‬
‫كذلك‪" :‬الزمان الطويل"! وحسب رأينا فإن السياق وحده هو من سيحدد أي العنيي هو‬
‫الراد‪ ،‬وف الالة الول {نوت ونيا وما يهلكنا إل الدهر} فقد قرنوا "الدهر" بياتم هم‪،‬‬
‫لذا فإن معناه هنا يتجه ناحية "المد الحدود"‪ ،‬أما ف الالة الخرى فقد أوردها القرآن‬
‫الكري مقترنة بياة النسان من حيث هو إنسان (ليس شخصا بعينه) {هل أتى على النسان‬
‫حي من الدهر ل يكن شيئا مذكورا}(النسان‪..)1:‬‬

‫‪227‬‬
‫من هنا فإننا نيل إل أن الالة الثانية هي ذات طبيعة موضوعية تراكمية!‪..‬‬

‫‪228‬‬
‫كذلك فقد سعى السلم ‪،‬من خلل النهجية القرآنية‪ ،‬إل رفع الستوى التصوري‬
‫والعقائدي للعرب؛ حيث بدأ القرآن الكري بالدمج بي طبيعتهم البسيطة قريبة الغور وبي‬
‫القامات ‪،‬الوضوعية‪ ،‬العالية الت يريد أن يرفعهم إليها! وذلك من خلل دمج تصوراتم ‪،‬‬
‫ذات الطبيعة الزئية‪ ،‬ضمن سياقات موضوعية تصورية جديدة‪ ،‬وهنا تبدأ الحداث (الت‬
‫كانت تتراءى لم ف شكلها الزئي) تُعرض لم ضمن سياقات جديدة أعطتها امتدادا‬
‫واضحا! مثال ذلك الية الت جاءت لتعرض الوت والياة ف سياق جديد أكثر امتدادا‪:‬‬

‫‪229‬‬
‫{ول يلكون موتا ول حياة ول نشورا}(الفرقان‪)3:‬‬
‫فلم يعد الوت والياة مرد مظهرين من مظاهر الوجود البشري على الرض؛ بل أصبح‬
‫لذلك الوجود امتدادا إضافيا واسعا؛ يتمثل ف "البعث" و"النشور" وهي من التصورات‬
‫العقائدية الستجدة على حياة العرب!‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫من الدير ذكره هنا أن سورة "الفرقان" الت أضافت هذا المتداد التصوري الديد هي‬
‫سورة مكية وتتل الرتبة (‪ )42‬من حيث ترتيب النول‪ ،‬ولعل ترتيبها ف بداية الثلث الثان‬
‫من القرآن الكري يفسر النقلة الرائعة الت أحدثها القرآن الكري ف حياة العرب! حيث‬
‫نقلهم من التصورات الزئية إل تصورات جديدة أكثر تكامل؛ وكان أشد ما ميز تلك‬
‫التصورات تكونا من أجزاء عديدة لكن ضمن إطار موضوعي واحد يمعها!!‪ ..‬ند تأييدا‬
‫وتأكيدا لذلك فيما ذهب إليه القرآن الكري من تصويره للحقائق الوضوعية الحيطة بالعرب‬
‫بكيفيةٍ تكنهم من فهمها؛ مع ماولة دائبة منه لرفعهم من الدن إل السى‪ ،‬ومن الادي إل‬
‫التجريدي‪..‬‬

‫‪231‬‬
‫ولنتأمل قوله تعال‪:‬‬

‫‪232‬‬
‫{واضرب لم مثل الياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الرض فأصبح‬
‫هشيما تذروه الرياح وكان ال على كل شيء مقتدرا}(الكهف‪)45:‬‬

‫‪233‬‬
‫ففي سورة تقع ف الرتبة (‪ )69‬من حيث ترتيب النول تتجسد الياة كنباتٍ تتتابع‬
‫مراحله الختلفة أمام أعي الناظرين‪ ،‬وهو تصوير قريب من أذهان وعقليات العرب آنذاك‪،‬‬
‫لكن أضيف إل الصورة أبعاد جديدة‪ ،‬وذلك عندما ت تصوير الياة على أنا تلك المتدة‬
‫والستمرة استمرار نزول الطر‪ ،‬مستفتحا الديث عنها بفعل مسند إل الذات اللية‬
‫{أنزلناه} ومتتما باسم ال القدير {وكان ال على كل شيء مقتدرا} وهذا هو السياق‬
‫الصحيح الذي يب النظر إل الياة من خلله!!‪.‬‬
‫إل أن القرآن الكري ‪،‬وعلى الرغم من إقراره لذلك النوع من التعامل مع الطبيعة من‬
‫حولنا (إن أتى ف سياقه الوضوعي الدالّ على قواني السببية) إل أنه أوضح ‪،‬ف الوقت‬
‫ذاته‪ ،‬أن ورود ذلك التعامل ف غي سياقه الوضوعي الصحيح إنا يثل طريقة تعامل‬
‫الجتمعات البدائية غي التحضرة مع الفردات ف عال الشهادة‪ ،‬وهي طريقة تتميز بإنكارها‬
‫لعال الغيب ف كثي من الحيان‪ ،‬وذلك حي قال‪{ :‬وضرب لنا مثلً ونسي خلقه قال من‬
‫ييي العظام وهي رميم}(يس‪..)78:‬‬
‫ما سبق نلص إل القول بأن النسان العرب ‪،‬قبل البعثة وبعدها‪ ،‬قد تنازعته نزعتان‬
‫متلفتان؛ كانت الول منهما تشده إل أعماق ذاته‪ ،‬فتلونت بتأثيها كل مفردات الوجود‬
‫الحيط به‪ ،‬بينما حاولت الخرى أن تذب فكره إل ما ييط به من ظواهر وأشياء؛ يمع‬
‫بينها أنا تسي وفق قواني وسنن موضوعية ل تتأخر ول تتخلف‪.‬‬
‫ما الذي فعله القرآن بالعرب؟!!‬

‫تدثنا فيما مضى عن النقلة النوعية الت أحدثها القرآن الكري ف حياة العرب‪ ،‬ول تكن‬
‫تلك النقلة مقصورة على ما أضافه القرآن الكري من مغزى لياتم‪ ،‬ول تقتصر كذلك على‬
‫مموعة العبادات ونظم العاملت الت قدمها لم‪ ،‬لكن الفعل الهم كان ف مال "النهج"‪،‬‬
‫وندرك اليوم بأن التحولت القيقية ف حياة المم إنا هي تلك القائمة على أساس إياد‬
‫منهج جديد ل على إضافة طقوس جديدة إل حياة الناس!!‪..‬‬

‫‪234‬‬
‫نقلة على مستوى الفاهيم!‬
‫لقد كان القرآن الكري الحرك الول للنقلة الوضوعية الت حدثت ف الجتمع العرب ف‬
‫زمن البعثة؛ فحركت إحاسيسه تأثرا وتأثيا‪ ،‬ونقلته من دائرة الحساس الذات الضيق إل‬
‫دائرة الراقبة الوضوعية الواسعة ‪،‬والواعية ف الوقت ذاته‪ ،‬لا ييط به‪.‬‬
‫وقد ترافقت نقلة القرآن الكري للعرب ما هو "ذات" باتاه ما هو "موضوعي" مع نقلة‬
‫إضافية نقلتهم من مفهوم "القبيلة" الضيق إل مفهوم "المة" التسع والقابل دائما للتساع‪.‬‬
‫وقد ترافقت تلك النقلة مع عملية نت وتوصيف للمصطلحات بشكل يضمن لا معانيها‬
‫الوضوعية‪.‬‬
‫ولقد كان من جلة ما فعله السلم بالعرب أن نقلهم من "النفعال" بالياة من خلل‬
‫الحاسيس الذاتية؛ إل مرحلة "الفعل" وذلك من خلل مراقبة التراكم الزمن الستمر ف‬
‫الظواهر الحيطة‪ ..‬وبساعدة هذا النهج الوضوعي ف النظر إل الياة؛ أصبح الزمن جزءا‬
‫من أية ظاهرة يعايشها النسان‪ ،‬وأصبح واضحا‪ :‬عدم إمكانية إدراك أية ظاهرة إدراكا‬
‫حقيقيا إل من خلله؛ ول يعد الزمن (التوقيت للشياء) مرد انعكاس للظاهرة الحيطة على‬
‫صفحة الحاسيس الذاتية للنسان؛ بل تأريا لبداية الظاهرة والراحل الختلفة لتطورها‪.‬‬
‫وفيما يلي بعض من مظاهر النقلة الوضوعية الت أحدثها القرآن الكري ف حياة العرب‪:‬‬

‫نقلة موضوعية ف مال التدوين !‬


‫تدثنا فيما سبق عما مثله الشعر من قيمة ف حياة العرب بيث غدا ديوانا لم‪ ،‬ذلك أنه‬
‫قام بدور التدوين للحداث الامة ف حياتم‪ ،‬وهي الهمة الت يفترض بالكتابة أن تؤديها وأن‬
‫تقوم با‪ ،‬إل أن الشعر ظل عاجزا عن القيام بهمة التدوين تلك؛ لكونه أداة تدوين‬
‫للنفعالت والحاسيس وليس من طبيعته التدوين لا هو موضوعي‪ ،‬فهو ل يصلح ‪،‬على‬
‫سبيل الثال‪ ،‬لتدوين العلوم أو التأريخ للحداث بصورة موضوعية!‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫وقد ظلت قبائل شبه الزيرة العربية قبل السلم مكتفية بالشعر؛ بيث بقيت عمليا‬
‫دونا كتابة‪ ،‬رغم أنا عاشت قرونا متجاورة مع شعوب ذات حضارات قدية ذات كتابات‬
‫متطورة!‪ .‬وفيما يتعلق بأثر السلم على حركة التدوين فقد كان له أثر حاسم ف ذلك‬
‫التوجه الوضوعي نو التدوين؛ ولدى نظرنا اليوم إل تلك النعطافة الامة ف تاريخ العرب‬
‫سيتشكل لدينا انطباع وكما لو أن العرب قد دخلوا إل مرحلة الكتابة بدون مقدمات!!‬
‫حيث صاروا ‪،‬وخلل وقت قصي جدا‪ ،‬متقني لكتابة متطورة واسعة‪ ،‬بل إن فضيلة "إتقان‬
‫الكتابة" قد تولت من "التجربة الجدية" إل "فضيلة دينية" يشهد على ذلك إطلق سراح‬
‫السرى مقابل تعليم أطفال السلمي القراءة والكتابة‪.‬‬
‫(صلى‬ ‫ولعل الؤثر الهم ف نشأة حركة التدوين والتاه نو الكتابة ما أمر به رسول ال‬
‫ال عليه وسلم) من تدوينٍ للقرآن الكري؛ وقد نشأ عن ذلك التوجه حركة أرشفة واسعة؛‬
‫ساهت ف حفظ التراث العرب قبل السلم (الشعر على وجه الصوص) لكن ما يؤسف له‬
‫أن تلك الركة ل تستطع أن تنقذ إل التراث التأخر القريب من بعثة السلم‪ ،‬فقد كتب‬
‫"هشام الكلب"(‪ )1‬ف هذا الصدد قائلً‪" :‬ل يفظ العرب من أشعارها إل ما كان قبيل‬
‫السلم"‪..‬‬
‫ما نريد قوله هنا هو أن حركة التدوين تلك ل تكن إل وجها من وجوه النقلة النوعية‬
‫والوضوعية الت أحدثها القرآن ف حياة العرب‪ ،‬حيث قادتم تلك النقلة من مرحلة‬
‫"استبطان الذات" إل النطلق الواسع باتاه الحيط‪ ،‬وكذا النفتاح على الطبيعة؛ والذي‬
‫قادهم بدوره إل التفوق ف العلوم الختلفة كالفلك والطبيعة والكيمياء والطب!!ال‪...‬‬

‫نقلة نوعية ف مال التأريخ!‬

‫‪ )(1‬وهو أحد البحاثة العظام لرحلة ما قبل السلم على توم القرني الثامن والتاسع اليلديي‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫وما أضافه القرآن الكري للبنية الثقافية للعرب أن أعطاهم بعدا جديدا للزمن يتمثل ف‬
‫إدراك أعمق لا يثله "الاضي" بالنسبة لم وانعكاسه على حاضرهم ومستقبلهم‪ ،‬فلم تعد‬
‫المور بالنسبة لم مقصورةً على مرد كون التاريخ مزونا للذاكرة النقولة مشافهة (لغياب‬
‫التدوين) إذ أصبح للماضي ‪،‬بفضل القرآن الكري‪ ،‬بعدا موغل ف عمق التاريخ؛ مرتكزا ‪،‬ف‬
‫الوقت ذاته‪ ،‬على قاعدة واسعة من القصص الذي يؤرخ للنسانية ابتداء من آدم عليه‬
‫السلم؛ مرورا بأنبياء ال ورسله عب الراحل الزمنية الختلفة‪.‬‬
‫ول تتوقف الساهة القرآنية ف مال التأريخ عند الانب الكمي للقصص التاريي‪ ،‬بل‬
‫تعدته إل الانب النهجي‪ ،‬إذ قدّم القرآن الكري للنسان العرب منهجا جديدا غي مسبوق‬
‫ف البحث الواعي والنظم عن العرفة التاريية وتراكمها‪ ،‬وقد ارتكزت النهجية الستجدة‬
‫على رؤية حضارية جديدة‪:‬‬
‫{قُلْ ِسيُواْ فِي الَ ْرضِ ُثمّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقَِبةُ اْلمُ َكذّبِيَ}(النعام‪)11:‬‬
‫وقد أصبحت لعملية البحث آلية منهجية يدعمها نشاط موجّه ومنظم‪ ،‬وبدلً من النقل‬
‫عب مزون الذاكرة؛ أصبح النشاط الاص باكتساب العرفة التاريية؛ وحفظها؛ ونقلها من‬
‫ثّ؛ مهنةً ف حدّ ذاتا‪ .‬وف هذا الجال يسب للقرآن الكري منهجه التكامل؛ والذي ت‬
‫بفضله اللام بعلم التأريخ كجزء من عملية متكاملة؛ الدف السى لا إقامة بنيان الدين‬
‫وعمران الياة‪.‬‬
‫التقوي الجري‬
‫كمظهر من مظاهر النقلة النوعية ف حياة العرب‬
‫لقد كان للنقلة النهجية والتصورية ف حياة العرب ثارا حلوةَ الطعم؛ وضعتهم على أول‬
‫درجات التحضر والكتشاف‪ ،‬وذلك تهيدا للنطلق إل نواحي العال الربع؛ متسلحي‬
‫برارة التوجه وبنور الرسالة‪ ..‬ولقد كانت هناك ضرورات ملحة لبتداع أسلوبٍ جديدٍ‬
‫للتقوي‪ ،‬والذي اعتب بدوره أساسا راسخا من أساسات التحضر والعمران‪ ،‬حيث أدرك‬
‫السلمون ضرورة أن يُستقى التقوي الديد من القيم الذاتية للمة الناشئة!‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫وتعتب بداية التقوي الجري ف عهد أمي الؤمني عمر بن الطاب مظهرا من مظاهر تأثر‬
‫العقلية العربية تأثرا منهجيا بالقرآن الكري؛ وبداية تولا من النهج الذات (البيولوجي)‬
‫التمحور حول الذات إل النهج الكون (الوضوعي) التجه إل العال الحيط‪ ،‬ويعتب التقوي‬
‫الجري حدا فاصلً بي مرحلتي من مراحل تطور الوعي العرب ف شبه الزيرة العربية‪.‬‬
‫وبدخول التقوي الجري إل حياة العرب فقد نا نوعٌ من التوافق بي طريقة تفكي النسان‬
‫العرب وبي قواني الكون من حوله‪ ،‬وقد أصبح للتاريخ ‪،‬بفضل التقوي الديد‪ ،‬حصيلة‬
‫تراكمية نفت عنه صفة النقطاع‪ ،‬حيث كانت الصيلة ‪،‬ف التقوي الذات‪ ،‬تتفي دائما ف‬
‫ناية العام لتعاود الظهور ف العام الذي يليه‪ ،‬ولقد مهد التقوي الديد لعملية تدوين ناجحة‪،‬‬
‫ارتكزت على أسلوب تراكمي ف حساب الوقت‪ ،‬وبفضل التقوي الجري فقد أصبح‬
‫للدراسات التاريية قيمة إضافية تعدت كونا مرد أحداث ذات مضامي أخلقية‪ ،‬لتتحول‬
‫إل ناحية التأريخ للحداث ف إطارها الزمن والوضوعي الذي وقعت فيه!‪.‬‬

‫ليعلموا عدد السني والساب!‬


‫كذلك فقد تعامل القرآن الكري مع العرب بكيفية متدرجة ميزت منهجه ف إحداث‬
‫التغيي‪ ،‬وف مال "التراكم الزمن" فإن النهج القرآن ل يرج عن تلك القاعدة‪ ،‬إذ تعامل مع‬
‫العرب ‪،‬بداية‪ ،‬وفق ما درجوا عليه من تكيمٍ لنطباعاتم الذاتية‪{ :‬والقمر قدرناه منازل‬
‫حت عاد كالعرجون القدي}(يس‪ )41()39:‬من حيث ترتيب النول) وكما نلحظ ف هذه‬
‫الية فإن التراكم الزمن منعدم‪ ،‬حيث يتخذ القمر لنفسه ‪،‬ف هذه الالة‪ ،‬مموعة من القيم‬
‫(النازل) الت تقع بي أكب قيمة له (البدر) وأقل قيمة (الحاق)‪ ،‬ما يشكل دورة كاملة تبدأ‬
‫لتنتهي وذلك ف دورات متتابعة مقدارها شهر قمري واحد!!‪..‬‬

‫‪238‬‬
‫كذلك فقد طرحت سورة الفرقان (‪ 42‬من ترتيب النول) مفهوما مشابا {أل تر إل‬
‫ربك كيف مدّ الظلّ ولو شاء لعله ساكنا ث جعلنا الشمس عليه دليل}(الفرقان‪)45:‬‬
‫وتطرح الية توقيتا صالا لزء من النهار‪ ،‬ذلك أنه مرتبط بالفترة الحصورة بي شروق‬
‫الشمس وغروبا‪ ،‬ويعتب هذا التوقيت نوعا من التوقيت "الذات" ل الوضوعي‪ .‬إل أن سورة‬
‫تنلت لحقا حلت دلئل أوضح ف مال النتقال من "الذات" باتاه "الوضوعي"‪ ،‬ومن‬
‫"التكرار" إل "التراكم"!! وذلك حي قال الق تبارك وتعال‪{ :‬هو الذي جعل الشمس‬
‫ضياء والقمر نورا وقدّره منازل ولتعلموا عدد السني والساب}(يونس‪ )51(()5:‬من حيث‬
‫ترتيب النول) فل يكتفي القرآن الكري ف هذه الية بالض على مراقبة الظواهر الكونية‬
‫ف حركتها التكررة (حركة الشمس والقمر) بل يضّ كذلك على بدء النظر إل الصيلة‬
‫التراكمية الناشئة عن مموع تلك الركة {عدد السني} و{الساب}!‪..‬‬
‫وأخيا بدأت المور تتضح وكأنا قد استقرت على المع بي النظرتي (التراكم)‬
‫و(التكرار) وذلك كما يبدو لنا ف قوله تعال‪{ :‬يسألونك عن الهلّة قل هي مواقيت للناس‬
‫والج}(البقرة‪ 87()189:‬من حيث ترتيب النول)‪..‬‬
‫فكأنا "مواقيت للناس" قد أفادت التراكم‪ ،‬ذلك أن "مواقيت" هنا هي كلمة غي معرفة‬
‫تفيد كافة أنواع التوقيت‪ ،‬با ف ذلك التوقيت التراكمي الوضوعي‪ ،‬مثال على ذلك أن‬
‫حاصل جع إثن عشر شهرا من الشهور العربية يعطي سنةً هجريةً واحدة‪ .‬أما قوله تعال‬
‫"والج" (أي مواقيت للحج) فكأنا هي إشارة إل خصوصية شهر "ذي الجة" بي أشهر‬
‫السنة العربية؛ وهو هنا توقيت من النوع الول "الذات" "التكرر"‪..‬‬

‫الزمن الغيب "ما وراء الوضوعي"‬

‫‪239‬‬
‫تدثنا فيما سبق عن نوعي من الزمن‪ ،‬الول‪ :‬الزمن (البيولوجي)؛ والخر‪ :‬أطلقنا عليه‬
‫اسم الزمن (الوضوعي)‪ ،‬وبذا يبقى أن نعرض للنوع الخي؛ وهو الزمن "ما وراء‬
‫الوضوعي"‪ ..‬وهو زمن غي مدد الاهية‪ ،‬ونوعيته غي معتادة ف حياة الناس‪ ،‬تدث عنه‬
‫القرآن الكري فإذا العرب أمام أمرٍ ل يعهدوه من قبل‪ ،‬لكن كان له أكب الثر ف تكوين‬
‫نظرتم للحياة‪..‬‬
‫وقبل أن نتحدث عن هذا النوع من الزمن؛ نب أن نعرض ‪،‬بشيء من الياز‪ ،‬لنظرية‬
‫"النسبية" الاصة بالعلمة آينشتي‪ ،‬والدف من إيرادها هنا أن ستعطي للقارئ الكري فكرة‬
‫ما حول غموض الزمن "ما وراء الوضوعي" حت وفقا للمعايي البشرية!‪..‬‬
‫والنسبية لينشتاين (وإن كانت قد ناقشت الزمن من وجهة نظر موضوعية بتة) إل أنا‬
‫ل تعتبه أمرا يتص بالفاهيم الغيبية غي الدركة بشريا‪ ،‬ورغم ذلك فإن تقديها له (أي تقدي‬
‫النظرية للزمن) ل يلُ من إثارة للحية والغرابة‪ ،‬ويبقى أن القرآن الكري قد سبق كل تلك‬
‫النظريات ف طرحه لثل هذا النوع من الزمن والغريب على أفهامنا‪ ..‬سواء من خلل بعض‬
‫اليات الت عرضت لوضوع الزمن‪ ،‬أو من خلل ما عرضه القرآن الكري حول بعث‬
‫النسان بعد موته‪.‬‬
‫الزمن غي الوضوعي‬
‫ونظرية النسبية(‪ )1‬لينشتي‬
‫ولد ألبت آينشتي ف الرابع عشر من مارس ‪ 1879‬ف مدينة "أول" التابعة للانيا النوبية‬
‫حينذاك‪ ،‬ول يكن الطفل "ألبت" الصغي فذا‪ ،‬بل لقد استغرق تعليمه النطق وقتا طويلً!‪،‬‬
‫حت لقد خشي ذووه أن يكون به جنّة‪ ،‬وقد نشأ وف بنيته ضعف‪ ،‬ما جعله ييل إل حب‬
‫الختلء بنفسه منذ نعومة أظفاره‪..‬‬

‫‪ )(1‬يرجى هنا التفريق بي مفهومي للنسبية‪ ،‬الول‪ :‬ظاهرة النسبية ف القرآن الكري‪ ،‬وهو مفهوم لغوي تدثنا عنه‬
‫ف بداية الكتاب‪ ،‬ويتعلق باحتمال وجود مموعة من العان النسبية للفظ الواحد‪ ،‬أما نسبية آينشتاين فهي نظرية لا‬
‫علقة بعلم الفيزياء‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫ويعتب العام ‪1905‬م عاما ميزا ف تاريخ العال آنذاك‪ ،‬إذ كان كل شيءٍ فيه يوحي بقرب‬
‫اندلع الرب العالية الول‪ ،‬وف تلك السنة وضع آينشتي نظريته "النسبية الاصة"‬
‫ونظريات أخرى‪ ،‬وقد عكف بعد ذلك على تطوير تلك النظرية؛ وحاول عرضها ف الحافل‬
‫العلمية الختلفة‪ ،‬فكان الضور ف كل مرة يهللون ويطربون ويعلو وجوههم الِبشْر‪ ،‬فنشوة‬
‫لقاء آينشتي غايةٌ ف ذاتا؛ حت وإن ل يفهموا نظريته الت يطرحها!‪..‬‬
‫ول يكن آينشتي يُفاجأ بالسئلة الت يطرحها الضور‪ ،‬إل أنا جيعا كانت تشي إل عدم‬
‫فهمهم لتلك النظرية‪ .‬فماذا تعن مقولة "نسبية الزمن"؟ أو "نسبية الكان"؟ ما دفعه ف‬
‫إحدى الرات لن ييبهم مازحا‪( :‬لقد كان الناس من قبل يعتقدون أنه لو اختفت جيع‬
‫الشياء الادية من العال لبقي "الزمان" و"الكان" مع ذلك‪ ..‬وأما نظرية النسبية فإنا ترى أن‬
‫"الزمان" و"الكان" يتفيان أيضا ها وسائر الشياء)!‪..‬‬
‫وعلى الرغم من أن إجابة آينشتي ل تلُ من دعابة؛ إل أنا أوجزت ف وصف مفهوم‬
‫"نظرية النسبية" والت تعن أن الزمن غي موجود وغي قائم بذاته‪ ،‬وأن لكل ظاهرة أو مكان‬
‫ف الكون زمنه الاص!!‪ ..‬حت على الرض فإن الزمن غي منتظم‪ ،‬بعن أن أيام العام ليست‬
‫متساوية‪ ،‬وأن مساواتا إنا ينبع من رغبتنا ف تنظيم حياتنا على كوكب الرض‪ ..‬وهذا يعن‬
‫أن سكان كوكب عطارد ‪،‬لو وُجدوا‪ ،‬فستكون لم فكرة مغايرة عن الزمن؛ تتلف عن‬
‫فكرتنا نن سكان الرض‪ ،‬ذلك أن عطارد (وهو أسرع الكواكب السيارة وأقربا إل‬
‫الشمس) يدور حول الشمس ف ‪ 88‬يوما من أيامنا الرضية‪ ،‬ويدور دورة واحدة حول‬
‫موره ف نفس الدة‪ ،‬وهكذا؛ فإن اليوم والسنة يتساويان على سطح ذلك الكوكب‬
‫السيار!‪ .‬والغريب هو أن الفهوم نفسه كان موجودا عند "أبيقور" قبل أكثر من ألفي عام‪،‬‬
‫وذلك حي أجاب على سؤال حول (هل عسانا أن نفكر بالزمان والكان لو مقت كل‬
‫الشياء الت ننظر إل الزمان والكان من خللا)‪ .‬فكان جوابه‪( :‬ل وجود للزمان بذاته‪ ،‬بل‬
‫وجوده بالشياء الحسوسة وحدها‪ ،‬تلك الشياء الت نشأت عنها فكرة الاضي والاضر‬
‫والستقبل‪ ،‬إن الزمان ل يكن تصوره بذاته مستقلً عن حركة الشياء أو سكونا)‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫نسبية الزمن وعلقتها بسرعة الضوء‬
‫ولنسبية الزمن علقة كبية بسرعة الضوء‪ ،‬فسرعة الضوء هي الت تؤدي إل ذلك‬
‫التداخل الغريب بي كل من مفاهيم الاضي والاضر والستقبل! فلو كانت سرعة الضوء‬
‫لظية بيث تغمر الكون كله دفعةً واحدةً كلمح البصر لكان الزمن مطلقا؛ وواحدا ف كل‬
‫أجزاء الكون؛ لكن ومع حقيقة كون الضوء الوسيلة الوحيدة لنقل ظواهر الطبيعة من حولنا‬
‫من مكان لخر؛ وف ضوء حقيقة أن سرعة الضوء مدودة (‪)300.000‬كم‪/‬ث؛ فإن من شأن‬
‫ذلك أن يعل الزمن نسبيا‪ ،‬لن الضوء الذي ينقل الادثات من مكان إل آخر يستغرق‬
‫وقتا‪ ،‬فلكل عال زمانه الحلي الاص به‪.‬‬

‫التداخل بي‬
‫مفاهيم الاضي والاضر والستقبل‬
‫وللء هذه النقطة الغريبة (تداخل الزمنة) فلنفترض وجود ثلثة كواكب (أ‪ ،‬ب‪ ،‬ج)‬
‫تقع على خط مستقيم واحد‪ ،‬ويفصل بينها مسافات ضوئية معينة (مائة سنة ضوئية بي كل‬
‫كوكب والخر على سبيل الثال)‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫ج‬ ‫ب‬ ‫أ‬

‫‪242‬‬
‫وعلى فرض حدوث انفجار ف الكوكب (أ) فإن الكوكب (ب) باجة إل مائة عام لكي‬
‫تصله ومضة النفجار! ومعن ذلك أن الكوكب (أ) سيظل مرئيا يتلل من قبل سكان‬
‫الكوكب (ب) وذلك لدة مائة عام بعد النفجار! وف اللحظة الت يتم فيها رصد النفجار‬
‫من قبل سكان الكوكب(ب) (بعد مائة عام من حدوثه بالفعل) فستكون تلك اللحظة‬
‫بالذات ماضٍ بالنسبة للكوكب(أ) وحاضرا بالنسبة للكوكب (ب) وستكون حدثا سيحدث‬
‫ف الستقبل بالنسبة للكوكب(ج) والذي ستبلغه ومضة النفجار بعد مائة عام أخرى من‬
‫لظة بلوغها للكوكب(ب)؟! وبعد مائت عام من لظة حدوثها على الكوكب (أ)‪ .‬وهذا‬
‫الثال يعطينا فكرة واضحة عن مفهوم "الزمن الحلي" وحقيقة أن لكل كوكب زمنه الاص‪.‬‬

‫الزمن وعلقته بالسرعة‬


‫ويستتبع القول بفهوم "الزمن الحلي" نتائج يصعب على العقل قبولا! فمعن ذلك أن‬
‫لسم النسان كذلك زمنه الاص‪ ،‬ويدفعنا ذلك إل الستنتاج بأن الشخص التحرك حركة‬
‫بطيئة "يشيخ" قبل الشخص التحرك حركة سريعة! بل إن الشخص الذي يتحرك بسرعة‬
‫الضوء يعيش خارج الزمن!!‪ ..‬وكيما نوضح ذلك بطريقة مسوسة؛ نقتبس الثال التال‪:‬‬
‫لنفترض أن رحالة فلكيا غادر الرض بسرعة تساوي (‪ )1/20.000‬من سرعة الضوء‪ ،‬وقضى‬
‫ذلك الرحالة عامي متنقلً ف سياحة فضائية‪ ،‬الفاجأة ستقع إذا ما عاد ذلك الرحالة إل‬
‫الرض‪ ،‬لنه سيجد ساعتها أن العامي اللذين قضاها ف مركبته يقابلهما قرنان كاملن مرا‬
‫على سكان الرض تبدلت فيهما كل معالها!!‪ ..‬إن هذه الرحلة اليالية ‪،‬بالذات‪ ،‬ستكون‬
‫منطلقنا للدخول إل عال "ما وراء الوضوعي" كما عرضه القرآن الكري‪..‬‬

‫ما وراء الوضوعي ف القرآن الكري‬


‫يصور لنا القرآن الكري حقيقة الوجود كوجهي العملة الواحدة‪ ،‬والوجه الول للوجود‬
‫هو‪" :‬عال الشهود" أما الخر فهو وجودٌ ف "عال الغيب"‪..‬‬

‫‪243‬‬
‫والوجه الول من القيقة يثله وجودنا ف عالنا الرضي؛ بكل ما فيه من موجودات؛‬
‫سواء أوصلت إليها مداركنا أم ل تصل‪ ،‬كذلك يشمل هذا النوع من الوجود كل‬
‫الوجودات الكونية الت لن يقدر للنسان أن يصل إليها أبدا؛ بسبب قصور إمكانياتنا عن‬
‫إدراكها؛ ذلك أنا تظل منتمية إل نفس العال الذي ننتمي إليه ف رحلة الياة الدنيا‪ ،‬وتضع‬
‫لنفس القواني‪...‬‬
‫أما الوجه الخر لقيقة الوجود فهو وجود ف "عال الغيب"‪ ،‬وهو وجود غي مُدرك‬
‫بالنسبة لنا؛ بسبب قصورنا عن إدراك حقيقته‪ ،‬ولعدم امتلكنا ‪،‬أصل‪ ،‬القدرة على التعامل‬
‫معه‪ .‬وما بي حياة النسان على الرض وانتهائها بالوت؛ فإن عالا مهولً كان قبل ذلك‪،‬‬
‫وعالا آخر سيعقبه‪ .‬فالياة الدنيا ف التصور السلمي ليست البداية؛ إذ كان للنسان ‪،‬قبل‬
‫ذلك‪ ،‬وجود ف عال الغيب {وإذ أخذ ربك من بن آدم من ظهورهم ذرياتم}‪ ..‬والياة‬
‫الدنيا لن تكون نايتها العدم؛ ذلك أن وجودا جديدا سيكون ف عال ل ندري عنه شيئا‪.‬‬
‫من هنا فإن القرآن الكري (وف سعيه لتزويد النسان بتصورات متكاملة) وجدناه يدمج‬
‫"الغيب" بركة "الواقع" فشكّل لنا دائرة متكاملة؛ ترسم للنسان نقطت "البدء" و"النتهى"‬
‫ف رحلته نو وجه ال الكري‪{ :‬إن إل ربك الرجعى}(العلق‪{ )8:‬يا أيها النسان إنك كادح‬
‫إل ربك كدحا فملقيه}(النشقاق‪..)6:‬‬
‫ويصور القرآن الكري الضور الكامل للغيب ف عال الشهادة؛ فالنسان (كما يعرضه‬
‫القرآن) ل يترك سدى تتناوشه الوساوس والموم‪ ،‬فقد كان ال قريبا منه دائما‪ ،‬تتنل عليه‬
‫رحاته‪ ،‬وتتنل عليه ملئكته‪ ..‬وهنا نبدأ بالتعرف على بعض ملمح الزمن "ما وراء‬
‫الوضوعي" كما عرضه القرآن الكري‪ ..‬فقد أورد القرآن الكري آيات كرية ل يكن ادعاء‬
‫فهمها إل على ضوء حقيقة ما علمناه ‪،‬أخيا‪ ،‬من أن الكون بالفعل هو مفكك من الناحية‬
‫الزمنية‪ ،‬وبأن لكل ظاهرةٍ (ولكل عالٍ) زمنه الاص؛ غي اللزم للعوال الخرى؛ بيث‬
‫تتداخل تلك العوال دون أن تتعارض! ول يعن توجهنا نو هذه اليات ‪،‬من خلل هذا‬
‫النظور‪ ،‬أننا ناول تقدي تفسي لا‪ ،‬وكل ما نطمح إليه هنا إنا هو ماولة القتراب منها‬
‫وماولة تفهمها‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫لقد تدث القرآن الكري عن عوال متلفة تتم فيها المور بسرعات متلفة كذلك! إذ‬
‫يقول عز من قائل ف هذا الشأن‪{ :‬يدبر المر من السماء إل الرض ث يعرج إليه ف يوم‬
‫كان مقداره ألف سنة ما تعدون}(السجدة‪)5:‬‬
‫ومع أن بعض التأويلت تذهب إل أن اللف سنة إنا القصود با هو يوم القيامة؛ إل أنه‬
‫ل شيء يقطع بأن هذا هو التفسي الوحيد! وهو ما يسري كذلك على قوله عز وجل ف آية‬
‫أخرى‪{ :‬ويستعجلونك بالعذاب ولن يلف ال وعده‪ ،‬وإن يوما عند ربك كألف سنة ما‬
‫تعدون}(الج‪ ..)47:‬والية الشدّ وضوحا فيما يتص بنسبية الزمن هي تلك الت تتحدث‬
‫عن "معراج اللئكة" إل السماء‪ ،‬وذلك ف قوله تعال {تعرج اللئكة والروح إليه ف يوم‬
‫كان مقداره خسي ألف سنة}(العارج‪)4:‬‬
‫ولو طبقنا ما ذهبنا إليه آنفا من أن "خسي ألف سنة" من زمن الرض يقابله يوم واحد‬
‫من زمن "اللئكة والروح" فسسنجد أمامنا عندئذٍ إشارة واضحة تنم عن سرعة مواكبة‬
‫الغيب لركة الواقع ف حياة الناس!!‪..‬‬
‫‪..‬فقد تدث القرآن الكري ‪ ،‬على سبيل الثال‪ ،‬عن الستجابة الربانية السريعة لدعاء‬
‫الؤمني ‪،‬ف بدر‪ ،‬وتنل اللئكة لنصرتم {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أن مدكم‬
‫بألفٍ من اللئكة مردفي}(النفال‪ )9:‬وهنا يكون الستغراب! فكيف تأت استجابة ال عز‬
‫وجل لدعاء الؤمني بذه السرعة مع أن تنل اللئكة الُثَبّتِي سيستغرق ألف سنة ما نعدّه‬
‫نن البشر؟!‪ ..‬والمر يكن النظر إليه من زاوية أخرى‪ ..‬فلو فرضنا أن النسبة بي زمن‬
‫الدث على الرض وزمن تنل اللئكة هو ‪ ،1:50,000‬وأن تنل اللئكة يكن أن يدث‬
‫أسرع بمسي ألف مرة من سرعة استغاثة الؤمني‪ ،‬فلنا أن نتخيل حينها سرعة استجابة ال‬
‫لدعاء الؤمني وتنل اللئكة الثبتي!!‪.‬‬
‫والمر هنا ل يعدو أن يكون مثال إضافيا واضحا على ما أوردناه من تتع العوال الختلفة‬
‫بأزمنتها الاصة الت ل تلتقي مع زمن العوال الخرى ول تتعارض معها‪ ،‬وقد ضربنا له مثالً‬
‫بذلك الرحالة الذي قضى عامي مرتل فلما عاد إل الرض وجد أن قرني من الزمان قد‬
‫مرا عليها‪ ،‬فكيف تسن استيعاب قرني كاملي ف عامي؟!‪..‬‬

‫‪245‬‬
‫من هنا ند أن القرآن الكري قد تدث عن ظاهرة "نسبية الزمن" ف ثناياه‪ ،‬إل أنه كان‬
‫من الصعب آنذاك فهمها على وجهها الصحيح‪ .‬وال أعلم‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫الكيمياء‬
‫ومنهج استقراء العلوم الطبيعية ف القرآن الكري‬

‫ما الذي أردنا قوله ف هذا البحث؟‬

‫(ف هذا البحث قمنا باستقراء منهجي‬


‫للكيمياء وبعض مصطلحاتا الواردة ف‬
‫القرآن الكري‪ ،‬بيث حاولنا أن نقدم‬
‫نوذجا يكن احتذاؤه لستقراء العلوم‬
‫الختلفة ف القرآن الكري)‬

‫‪247‬‬
‫العلوم الطبيعية‬
‫ومنهج تدبر القرآن الكري(‪)1‬‬

‫الولوج للسلم من باب العلم يعتب قصة بد ذاته‪ ،‬كثيا ما تلت من خللا أهية‬
‫الستعانة بالعلوم الطبيعية لقرار اليان وتثبيت الفؤاد‪ ،‬فأمام عاصفة الشك الت يكن أن‬
‫تعصف بإيان الرء يكن أن تكون العلوم الطبيعية ودراستها بابا صالا للولوج منه إل عال‬
‫أكثر استقرارا‪ ..‬وف مثل تلك الجواء العاصفة قد يد الرء من العلوم الطبيعية وسيلة‬
‫صالة لدراك اليقي‪ ،‬وهي الوسيلة القادرة ‪،‬ول شك‪ ،‬على إثبات حقيقة أن ديننا هو من‬
‫عند ال‪ ،‬وبأن ما نزل من عند ال هو الق بالفعل‪.‬‬
‫ولسبب كامن ف طبيعة العصر الذي نيا فيه؛ فقد أمست ماولة الولوج إل اليان من‬
‫باب العلم حاجة ماسة‪ ،‬إذ ل يعد مكنا تاهل كل هذا الكم التراكم من العلومات الت تص‬
‫العلوم الختلفة‪ ،‬ول ذلك التقدم الادي الناتج عن تلك الثورة‪ ،‬والت باتت تواجه إيان‬
‫النسان بالتحدي‪.‬‬
‫ومثلما كانت السمة الادية ف وقت من الوقات‪ ،‬وكذلك الكتشافات العلمية الت‬
‫حققها الغرب ف القرن الخي؛ عقبة ف طريق استقرار اليان بال وبالغيب ف النفوس؛ فقد‬
‫كانت الزية السياسية الاحقة الت أصابت المة السلمية (والتمثلة بسقوط نظامها‬
‫السياسي) دافعا إضافيا باتاه اللجوء إل العلوم الطبيعية وذلك للتغلب على آثار تلك‬
‫الزمة؛ والت تعطل قبلها دماغ المة عن التفكي؛ فتوقفت بعدها ملكاتا عن البداع!‪.‬‬
‫لكل ذلك فقد شكل التاه إل العلوم الطبيعية الختلفة نوعا من التوازن الداخلي ف‬
‫أعماق الفرد والماعة؛ ما مكن الفرد والجتمع ‪-‬ف وقت من الوقات‪ -‬من الحافظة على‬
‫ثقتهم بدينهم وحضارتم‪.‬‬

‫‪ )(1‬هذا البحث عبارة عن تلخيص لكتاب "الكيمياء الديثة ف ضوء القرآن الكري" والصادر عن دار القرآن ف‬
‫القاهرة‪ ،‬وقد قامت الباحثة إيان بو خبزة بترجة العديد من هذه أباثه إل الفرنسية‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫إن حالة "رد الفعل" (الت تثلت ف اتاهنا ف وقت من الوقات ناحية العلوم الطبيعية‬
‫وجعْلِها دليلً على القيقة الدينية) كان يثل حالةً غي عادية‪ ،‬وغي أصيلة‪ ،‬إذ الصل أن‬
‫يُستدل بالقيقة الدينية على ما عداها ل العكس‪ ،‬لكن مع ذلك فقد ساهم التوجه نو تلك‬
‫العلوم ف إياد زوايا جديدة يُنظر للنص القرآن من خلها‪ ،‬ما مكّن ‪،‬ف ناية الطاف‪ ،‬من‬
‫إحداث الثر الطلوب؛ والتمثل ف إدراك الاجة لتجاوز الزمة الضارية‪ ،‬لكن مع كل‬
‫ذلك فقد بقي التوجه للعلوم الطبيعية ‪،‬لثبات صدق القيقة الدينية‪ ،‬بقي مُعبا عن جانب‬
‫غي أصيل‪ ،‬ول يثل "الفعل" بقدر ما يعب عن "رد الفعل"‪ ،‬وظل مُعبا عن الستجابة‬
‫لواجهة حالة الزمة الت لزمت المة خلل القرن الخي‪.‬‬
‫وف الونة الخية فإن اختلفا ما قد طرأ على تلك الالة‪ ،‬حالة "رد الفعل"‪ ،‬إذ بدأنا ‪،‬‬
‫شيئا فشيئا‪ ،‬نستعيدُ الثقة بالذات‪ ،‬وبدأنا ‪،‬شيئا فشيئا‪ ،‬نفقد الثقة ف الضارة الادية برمتها‪،‬‬
‫ابتداء بالفكر الذي وضع الدين موضع التام؛ ورََبطَه بعلقة تناقض ومواجهة مع العلم‪،‬‬
‫وقد بدأ الدين ف استعادة ما فقده من اعتبار؛ وجاء ذلك كنتيجة مباشرة لتضاح حدود‬
‫قدرة أدوات تصيل العرفة‪ ،‬وحدود إمكانيات أدوات الستكشاف‪ ،‬وبالتال فإن العلم قد‬
‫ساهم مساهة مباشرة ف رد العتبار للدوات القترحة من قبل الدين‪ ،‬بل إن العلم قد أثبت‬
‫أن "اليان بالغيب" إنا هو حقيقة "موضوعية" بتة تفرضها مدودية الوسائل‪ ،‬ومدودية‬
‫القدرات البشرية‪ ،‬وذلك حي ت الكشف عن أن ما يكن لواس النسان أن تيط به من‬
‫مسوسات ل يتعدى أن يكون نسبة ضئيلة جدا ما يكن للنسان أن يدركه‪.‬‬
‫والضافة ذات الغزى هنا هي أن القيقة الدينية قد أصبحت مقبولة‪ ،‬ليس فقط من‬
‫وجهة نظر أصحابا (من يؤمنون بالغيب) بل من وجهة نظر علمية بتة كذلك!!‪.‬‬

‫جدلية العلقة بي اليان والوعي‬

‫‪249‬‬
‫حي أنزل ال عز وجل كتابه الكري على نبيه ممد (صلى ال عليه وسلم) وُوجهت دعوة‬
‫السلم بالعارضة التقليدية الت كانت تواجَه با كل دعوة جديدة‪ ،‬وقد حلت دعوةُ‬
‫السلم ف حينه الكثي ما يكن أن يثي حفيظة رجالت الجتمع التقليديي؛ الذين كثيا ما‬
‫حركتهم مصالهم الشخصية‪ ،‬وقد احتج العارضون للدعوة الديدة با ورثوه عن آبائهم‬
‫وأجدادهم من دين‪ ،‬فَنعَى القرآنُ الكري عليهم الحتجاجَ بذلك الياث دون تفكر أو‬
‫تدبر‪ ،‬فقال عز وجل ف مكم التنيل‪:‬‬
‫{وإذا قيل لم اتبعوا ما أنزل ال قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا‪ ،‬أولو كان‬
‫آباؤهم ل يعقلون شيئا ول يهتدون}(البقرة‪)170:‬‬
‫وف آية أخرى يشي القرآن الكري إل حالة الصرار من قبلهم على مواصلة السي على‬
‫ذلك النهج من الضلل {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة‪ ،‬وإنا على آثارهم‬
‫مهتدون}(الزخرف‪)22:‬‬
‫ول يكن ذلك النهج من العاندة فريدا! إذ ووجه به وبثله كلّ نب من النبياء؛ وكل‬
‫رسول من الرسل‪ ،‬بل أصبح سُنةً بشريةً؛ كثيا ما رست صورة العلقة بي اليان ونقيضه‪:‬‬
‫{وكذلك ما أرسلنا من قبلك ف قرية من نذير إل قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا‬
‫على أمة‪ ،‬وإنا على آثارهم مقتدون}(الزخرف‪)23:‬‬
‫فوجدنا اليات الكرية تبي ماهية التباع؛ ووجوب أل يكون إل فيما عُرفت هدايته من‬
‫رسالةٍ أو تن يل‪{ :‬وإذا ق يل لم اتبعوا ما أنزل ال} وقد نعى القرآن الكر ي على نق يض ما‬
‫تنل به القرآن فقال عز من قائل‪:‬‬
‫{وبرزوا ل جيعا فقال الضعفاء للذين استكبوا إنّا كنا لكم تبعا}(إبراهيم‪)21:‬‬
‫ويقول ف آية أخرى‪{ :‬وإذ يتحاجّون ف النار فيقول الضعفاء للذين استكبوا إنا كنا‬
‫لكم تبعا}(غافر‪ )47:‬وهذا التفريق بي معنيي من "التباع" تؤكده اليات الكرية حينما‬
‫تتحدث عن نوع مقابل‪:‬‬
‫{واتبعوا النور الذي أنزل معه‪ ،‬أولئك هم الفلحون}(العراف‪)157:‬‬

‫‪250‬‬
‫وكذلك‪{ :‬قل هذه سبيلي أدعو إل ال على بصية أنا ومن اتبعن‪ ،‬وسبحان ال‪ ،‬وما أنا‬
‫من الشركي}(يوسف‪)108:‬‬
‫فالنموذج الذي تقدمه اليات للتباع القبول هو "اتباع النور" و "اتباع الرسول"‪،‬‬
‫والتباع "على بصية"‪ .‬وقد وجدنا اليات الكرية تقدم نوذجا متكاملً لا يدعوه القرآن‬
‫الكري بـ "السبيل"‪ ،‬والذي يمع الصورة الثُلى لكلٍ من "الداعي" و"الدعوة"‬
‫و"الستجابة"‪ ،‬فهو سبيلٌ تظلله الداية؛ لن هدفه وغايته هو ال‪ ،‬وهو سبيل تسبق فيه‬
‫"البصيةُ" "الدعوةَ" ذاتا‪ ،‬ويسبق فيه الفهمُ والدراكُ الركةَ نفسها‪ ،‬وهذا السبيل من‬
‫التباع هو الذي يرتقي بالمة؛ فيحول الكمّ الهمل فيها إل كيفية فاعلة‪ ،‬ولن يتم كلُ هذا‬
‫إل بالوقوف الدائم والستمر على ضفة اليان مستحضرين كل أدوات "التفكر" و "التدبر"‬
‫و "التبصر"!‪.‬‬
‫فـ "التفكر" و"التدبر" إذن ها أداتان لبلوغ ما هو صواب‪ ،‬لكن الصابة ليست هدفا‬
‫مضمونا ف كل الالت‪ ،‬والمة الت تتوقع الصابة ف كل حالت اجتهادها؛ هي أمة ل‬
‫تدرك حقيقة النسان ودوره ف هذه الياة‪..‬‬

‫‪251‬‬
‫كما أن معرفة المكانيات القيقية للنسان تعزز حقيقة وجود كون خارج الواس؛ وقد‬
‫حبا ال النسان بجموعة من الواس مكّنته من إدراك جزءٍ من القيقة الت تيط به‪ ،‬وما‬
‫ييز تلك الواس هو مدودية قدرتا‪ ،‬فالعي البشرية ‪،‬على سبيل الثال‪ ،‬تدرك الرئيات‬
‫حسب طول الوجة النبعثة منها‪ ،‬وما اللوان الت تراها العي إل تعبيا عن أطوال متلفة‬
‫للموجات النبعثة من تلك الجسام‪ .‬وتقع الوجات الرئية بي (‪ )7600-4000‬أنستروم(‪)1‬‬
‫والت تثلُ ما يكن رؤيته من أشياء‪ ،‬ومعن ذلك أن كل الجسام الت تنبعث منها موجات‬
‫تت ذلك الطول الوجي (وتقع بي (‪ )4000-3000‬أنستروم‪ ،‬وتعرف بالشعة فوق‬
‫البنفسجية) ل يكن رؤيتها بواسطة العي البشرية الجردة‪ ،‬وينطبق المر كذلك على الشعة‬
‫تت المراء الت يقع الطول الوجي لا فوق (‪ )7600‬أنستروم؛ فل يكن رؤيتها بالعي‬
‫الجردة كذلك‪.‬‬
‫إن مدودية المكانيات والقدرات البشرية على إدراك القائق من حولنا تثل عجزا‬
‫متأصل ف النسان‪ ،‬ويُبرُ هذا العجز ‪-‬جزئيا‪ -‬حاجةَ النسانِ الدائمة إل "التوبة" والت‬
‫يعرضها الدينُ كفعلٍ بشريٍ لتدارك النقص والطأ الناشئي عن الضعف الوروث ف جبلة‬
‫هذا الخلوق‪ ،‬ويُنظر إليها كاجتهادٍ إنسانٍ للتغلب على السلبيات الناشئة عن النراف عن‬
‫طريق الرشاد‪ ..‬ولؤكد حقيقة أن الديان السماوية ل تأتِ لتعذيب النسان بقدر ما جاءت‬
‫لتضع أمامه سبيلً سويا يسي عليه‪ ،‬ولتضع ُنصْبَ عينيه علمات الداية والرشاد‪.‬‬
‫إن إدراكنا لدود بشريتنا وإنسانيتنا يفرضُ علينا القبول بقيقة إمكانية وقوعنا ‪،‬كبشر‪،‬‬
‫ف الخطاء‪ ،‬لذلك فقد أطلق أسلفنا على هذا النشاط البشري اسم "الجتهاد" وهي‬
‫التسمية الوضوعية العبة عن بذل أقصى الهد لترجيح تقيق الصواب دون نفي إمكانية‬
‫الوقوع ف الطأ!‪.‬‬

‫‪ )(1‬يتكون الطيف الوجي من عدة فئات حسب أطوالا‪ ،‬والت تبدأ بـالشعة الكونية "كوزميك"‪ ،‬جاما‪ ،‬أشعة‬
‫إكس‪ ،‬الشعة فوق البنفسجية‪ ،‬الشعة الرئية‪ ،‬الشعة تت المراء‪ ،‬وموجات التلفاز‪ ،‬و الراديو‪ .‬وتقاس تلك‬
‫الوجات بوحدة النستروم (*‪ ،)A‬وهي مشتقة من السنتيميتر‪ ،‬والذي يعادل ‪ 10‬مرفوعة إل الس ثانية‬
‫أنستروم‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫إن الطلوب من المة اليوم هو أن تعود لسيتا الول؛ با حباها عزّ وجل من قدرة على‬
‫إحداث الفعل والبادرة به‪ ،‬وتتمثل تلك العودة ف إعادة تفعيل أدمغة أبناء المة لتبدأ‬
‫بالتفكي الر والبدع من جديد‪ ،‬لكن تلك العودة تظل تُواجَه بعدد من العقبات‪..‬‬
‫إن تلك العودة تقتضي منا النسحاب من الضطراب إل الثبات‪ ،‬وهذا يقتضي منا تليل‬
‫كل ما يقع تت أيدينا إنطلقا من قاعدة ثابتة‪.‬‬

‫عقبات ف طريق الوعي‬


‫إن قارئ القرآن الكري عرضة لعدد كبي من العقبات الت يكن أن تواجهه وتنعه من‬
‫الوصول إل معان القرآن الكري ومراميه‪..‬‬
‫أما العقبة الول الت تواجهه وتنعه من الولوج إل أسرار جاله فهي‪ :‬فقدان حس‬
‫التذوق للغة‪ ،‬وقد أدى ذلك إل فقدان مفردات القرآن لعانيها‪ ،‬وتوُل أُخرى إل كلمات‬
‫غريبة على قارئه؛ مع أنا تمل مضامي النص القرآن‪ ،‬وقد أدّى ذلك كله إل حالة من‬
‫الضبابية وعدم الفهم لا يطرحه القرآن الكري من أحكام وتوجيهات‪ ،‬فكانت النتيجة‬
‫النهائية‪ :‬هجران القرآن من الناحية الفعلية‪ ،‬وقد أشار القرآن الكري إل تلك الالة حي‬
‫قال‪:‬‬
‫{وقال الرسول يا ربّ إن قومي اتذوا هذا القرآن مهجورا}(الفرقان‪)30:‬‬
‫وقد أدت تلك الالة إل أن أصبحت عملية القراءة غي مقترنةٍ دائما بالفهم‪ ،‬وأصبح‬
‫عدم فهم القرآن عامل من عوامل التثبيط لعملية القراءة‪ ،‬ما أدى إل تكريس شبه دائم‬
‫لالة الفاء والجران بي النسان السلم والقرآن‪.‬‬
‫ولعل تلك الشكلة (التمثلة بالة "الجران" والت أصبحت تغلف علقة السلم بدينه‬
‫وبكتاب ربه) لعلها تلقي بظلل كثيفة من السئولية تدفع كل مهتم لياد السبل الكفيلة‬
‫بالتغلب على تلك الالة‪ ،‬والت تعتب مظهرا من مظاهر السقوط الضاري؛ والت تعن ف‬
‫أفدح وجوهها فقدان النسان لداة الفهم‪ ،‬أداة التعبي‪ ،‬وأداة التفاعل مع الحيط أخذا‬
‫وعطاءً‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫لكن الشكلة ‪،‬وبسبب طبيعتها العقدة‪ ،‬فإننا ل نرى شيئا واحدا يكن أن نفعله منفردا‬
‫يكون كفيل بلها‪ ،‬وقد يكون جزءا من الل تغيي الناهج الدراسية بكاملها‪ ،‬وإعادة بنائها‬
‫من جديد على أسس مستقيمة‪ ،‬خصوصا تلك الناهج الاصة براحل التعليم الساسي‪،‬‬
‫بيث تتم إعادة اكتشاف وتأهيل اللفاظ الواردة ف القرآن الكري؛ با يعنيه ذلك من دمجٍ‬
‫لا ف الناهج الختلفة‪ ،‬وإذا ما حدث ذلك فسوف يكون سهلً على التلميذ‪ ،‬الطالب‪،‬‬
‫الوظف‪ ،‬العامل‪ ،‬ربة البيت‪ ،‬سوف يكون من السهل عليهم جيعا قراءة القرآن‪ ،‬وإدراك‬
‫الد الدن الطلوب توفره لحداث عملية الفهم‪ ،‬ما سيضعنا ‪،‬حتما‪ ،‬ف الكان السليم‬
‫الذي نستطيع من خلله استعادة القدرة على "تدبر" النص والنفعال به والتفاعل معه‪.‬‬
‫إن طلب الوصول إل حالة "التدبر" يب أل يفهم منه أننا نسعى ليصال الميع إل‬
‫مواقع "الجتهاد" ف فهم وتفسي القرآن الكري‪ ،‬بل إن غرضنا هو العودة للتذكي بقيقة أن‬
‫القرآن الكري هو كتاب منّل من عند ال تعال؛ ليتم فهمه والتعامل معه بصورة مباشرة من‬
‫قبل الؤمني به‪ ،‬وأل يستقر أمر فهمه على مرد طبقة من رجال الدين الت تتكر فهمه‪،‬‬
‫وتلي كيفية تطبيقه‪ ،‬كما حدث مع الديان الخرى!‪.‬‬
‫أما العقبة الثانية الت تقف ف طريق التفاعل بي العقل والنص القرآن الكري فهي عقبة‬
‫من نوعٍ آخر‪ ،‬إنا العقبة النفسية والت تتمثل ف خوف بعض قراء القرآن من إعمال العقل‬
‫فيه وتدبر آياته‪ ،‬اعتقادا منهم بأن أعمال العقل ف النص من شأنه إفساد قداسته! وقد أدى‬
‫الرص البالغ فيه على "عدم الس بقداسة النص القرآن" إل التضحية بالحصلة التوخاة من‬
‫وراء تلك القراءة؛ وهي إحداث حالة من التفاعل مع النص والنفعال به؛ بيث يتسن‬
‫للنص فيما بعد أن يكون عامل تأثي ف مريات حياة النسان‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫وعلى الرغم من صحة القول بأن "للنص القرآن قداسة تفرض ماذير خاصة عند التعامل‬
‫معه" إل أنه لما يتناف مع طبيعته أيضا أن تؤدي تلك الحاذير إل إخاد روح التفاعل ما بي‬
‫القرآن الكري وقارئه‪ ،‬وإن من شأن تلك الساسية أن تكون أمرا مقبولً إذا ما مورست ف‬
‫حدود تؤدي إل الحافظة عليه من العبث‪ ،‬لكن ل يوز ‪-‬ول بأي حال من الحوال‪-‬‬
‫السماح لتلك الحاذير أن توقفَ حالة انفعال العقل مع النص‪ ،‬والت ستؤدي حتما إل‬
‫تعطيل حركة النسان باتاه ربه‪.‬‬
‫إنه لما يؤسف له أن تلك الساسية ف التعامل مع النص القرآن ‪-‬وف ظل حالة الضعف‬
‫الت عانت منها المة‪ -‬قد أدت إل حالة فعلية من الفاء بي المة ومصدر قوتا‪ ،‬وقد‬
‫ساهت تلك الالة ف توقف حركة "الجتهاد" والت يعادل توقفها توقف الياة ذاتا!‪.‬‬
‫إذن؛ فإن ماولت تقيق الدف الرجو من وراء "تدبر" آيات القرآن الكري يكن أن‬
‫تضع "القارئ" بي مذورين؛ أولما‪" :‬اقتحام النص" بدون امتلك ناصية العلم‪ ،‬وفهم اللغة‬
‫العربية على وجه الصوص‪ ،‬والخر‪ :‬مذور قراءة النص –فقط‪ -‬ابتغاء تصيل الجر‪،‬‬
‫والقراءة بذه الطريقة‪ ..‬إن جاءت من العامة كانت مقبولة‪ ،‬لكن ل يكن قبولا من العلماء‬
‫الذين أعطاهم ال عزّ وجل نعمة العلم‪ ،‬إذ على أولئك أن يقرأوا النص القرآن الكري بتدبر‬
‫وتفكر وفهم‪.‬‬

‫الغن الوضوعي ف النص القرآن‬


‫إ ّن ممدا (صلى ال عليه وسلم) نب آخر الزمان‪ ،‬ومعجزته القرآن الكري‪ ،‬وهي العجزة‬
‫الباقيةُ؛ الستمرةُ؛ الالدة‪ ...‬فكان لبد وأن تتسع آياته لكل ما يطرأ أو يستجد ف حياة‬
‫البشر وف دنيا الناس من تغيات‪ ،‬والعلم والكتشافات هي جزء من تلك التغيات‪..‬‬

‫‪255‬‬
‫والقرآن الكري كتابُ تعبدٍ وهداية‪ ،‬لكنه ل يلُ من شذرات وإشارات إل أشياء أخرى‬
‫ف مالت العلوم النسانية والطبيعية الختلفة‪ ،‬فهو ل يلُ من إشاراتٍ تَتّ بصلة لعلم‬
‫الفلك‪ ،‬أو اليولوجيا‪ ..‬ال‪ ،‬لذلك فهي تُعدّ وجها آخر متجددا من وجوه العجاز‪ ،‬ودليلً‬
‫من دلئل الثبات بأن هذا القرآن ل يأتِ به بشرٌ من عند نفسه‪ ،‬وقد جاءت الشارات‬
‫لتغطي العارف النسانية كافة؛ بيث يصعب على بشرٍ عادي أن ييط بجال تنوعها؛ فضلً‬
‫عن إدراك أسرارها!! والسر ف ذلك كما توضحه هذه الية وأخواتا‪:‬‬
‫{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك} (آل عمران‪)44:‬‬
‫(صلى ال عليه‬ ‫واليات تأت ف تام الوضوح وكمال التعبي؛ معبةً عن أن ما جاء به ممد‬
‫وسلم) ل يكن لبشر أن ييط به لول فضل ال ف أن يرسل للبشر نورا يهديهم‪:‬‬
‫{وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ول اليان‪ ،‬ولكن‬
‫جعلناه نورا ندي به من نشاء من عبادنا}(الشورى‪)52:‬‬
‫وتتعدد الواضيع الت تغطيها اليات الكرية‪ ،‬لكن القصص القرآن يمعه جامع‪ :‬الحاطة‬
‫بكل معان الكمال؛ ذلك أنه مثلما وصفه عز وجل بأنه {أحسن القصص}‪..‬‬
‫وهو أحسن القصص ف كل سورةٍ من سوره‪ ،‬وكل آيةٍ من آياته‪ ،‬وكل كلمةٍ من‬
‫كلماته‪ ،‬وكل حرفٍ من حروفه … فالُسن هنا إنا ينسحب على القرآن الكري بكامله‪،‬‬
‫وقد جاء ف افتتاح سورة "يوسف"‪:‬‬
‫{نن نقص عليك أحسن القصص با أوحينا إليك هذا القرآن}(يوسف‪)3:‬‬

‫معجزة خالدة ودللت مذهلة!!‬


‫إن واحدة من الدللت الذهلة لذه العجزة الالدة يشي با فهرس سور القرآن الكري؛‬
‫والذي يتناول مواضيع متعددة ومتلفة‪ ..‬فهو يذكر من اليوانات‪ :‬البقرة‪ ،‬النعام‪،‬‬
‫الفيل!!‪ ..‬ومن الساء والجناس‪ :‬يونس‪ ،‬هود‪ ،‬يوسف‪ ،‬إبراهيم‪ ،‬طه‪ ،‬مري‪ ،‬النساء‪،‬‬
‫النبياء‪ ،‬الؤمنون‪ ،‬لقمان‪ ،‬يس‪ ،‬ممد‪ ،‬نوح‪ ،‬النسان‪ ،‬قريش‪ ،‬الناس!!‪...‬‬

‫‪256‬‬
‫أما الظواهر الطبيعية والفلك فسجلّها ف فهرس القرآن الكري جدّ حافل‪ ،‬فضلً عما‬
‫احتوته اليات ذاتا من إشارات‪ ،‬فمن أساء السور الت حلت تلك الشارات‪ :‬الرعد‪،‬‬
‫الدخان‪ ،‬النجم‪ ،‬القمر‪ ،‬العارج‪ ،‬التكوير‪ ،‬النفطار‪ ،‬النشقاق‪ ،‬البوج‪ ،‬الطارق‪ ،‬الفجر‪،‬‬
‫الشمس‪ ،‬الليل‪ ،‬الضحى‪ ،‬الزلزلة‪ ،‬العصر‪ ،‬الفلق!!‪..‬‬
‫وف الحداث ذات الدللة ف مسية اليان جاءت سور‪ :‬السراء‪ ،‬الكهف‪ ،‬الروم‪،‬‬
‫الحزاب‪ ،‬الفتح!!‪..‬‬
‫ومن أساء الشرات اختيت أعلم السور‪ :‬النحل‪ ،‬النمل‪ ،‬العنكبوت!!‪ ..‬وهناك سور‬
‫كاملة حلت أساء لشعائر تعبدية مثل‪ :‬الج والمعة!!‪..‬‬
‫إضافة إل العديد من السور الت صورت أخلقا بعينها يكن أن تتلبس النسان؛ فجاءت‬
‫السور‪ :‬الطففي‪ ،‬النافقون‪ ،‬الاعون‪ ،‬الكافرون!!‪ ..‬لكن سورة عجيبة حلت اسا أشد إثارة‬
‫للعجب‪ ،‬هي سورة "الديد"!!!‪ ..‬إذ ل تمل سورة أخرى من سور القرآن الكري اسا‬
‫لسمىً يمعه والديد وجه شبه‪ ،‬ما يقطع بأن الديد فيه ما ليس ف غيه ما يعلمه ال ول‬
‫نعلمه(‪ )1‬وكل ما نعلمه من تلك الكمة أن ال عزّ وجل قال فيه‪:‬‬
‫{وأنزلنا الديد فيه بأسٌ شديد ومنافعُ للناس}(الديد‪)25:‬‬

‫‪ )(1‬حي تطرق الفسرون قديا إل ما ف الديد من منافع للناس؛ ل يدُرْ ف خلدهم أن تلك النافع ستطال جسم‬
‫النسان ذاته!!‪ ،‬حيث وُجدت ذرات الديد ف هيموجلوبي الدم‪ ،‬ووجد أن للهيموجلوبي أهية خاصة ف عملية‬
‫التنفس؛ فهو يساعد على نقل الكسجي من الرئة إل أنسجة السم الختلفة‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫لقد كان ما شدّ انتباهي إل أهية إجراء هذا البحث وجود ذلك السم العجيب لتلك‬
‫السورة‪ ..‬سورة "الديد"‪ ..‬ث ما لبثت لفظة "ناس" أن أضيفت إل مزون ما هو جاذبٌ‬
‫للنظر من مفرداتٍ حفل با القرآن الكري‪ ،‬فزادت من تأثي ذلك السم لتلك السورة‪،‬‬
‫سورة "الديد"‪ ،‬وما لبثت ألفاظٌ جديدةٌ أن أضيفت إل قائمة الية والندهاش!!‪ ،‬إذ‬
‫وردت ‪-‬على سبيل الثال‪ -‬لفظة "ذرّة" وقد وردت بعناها الباشر الذي هو أقرب ما يكون‬
‫إل الستخدام العلمي والعملي ف عال اليوم‪ ،‬بعد أن انصرفت عن معناها اللغوي الذي‬
‫فُهمت به حي تنلا أو كادت أن تنصرف عنه‪ ،‬لندرك بعد هنيهة أنا وردت بصورة أشد‬
‫عجبا؛ فقد وردت ف كل مواضع ورودها بلفظ "مثقال ذرّة"‪ ..‬ول ترد كلمة "ذرّة" مردة‬
‫ولو لرة واحدة! وها الصطلحان اللذان يكن لختص ف علم الكيمياء أن يفرق بينهما‬
‫بسهولةً؟!!‪.‬‬
‫إنا تلك اللفاظ ‪-‬وغيها كثي‪ -‬ما له علقة وثيقة بعلم الكيمياء؛ والت دفعتن جيعها‬
‫باتاه البحث عنها؛ وعن مواطن الرتباط بي ما عرفناه عنها وبي ما جاء به القرآن الكري‬
‫منذ خسة عشر قرنا من الزمان؛ حيث ضم بي دفتيه العديد من اللفاظ ذات الياء‬
‫الوضوعي‪ ،‬والت تنتظر أن نسلط عليها أضواء التخصص؛ لنفهم الراد منها‪ ،‬دون أن يؤثر‬
‫ذلك على الهمة الساسية الت نَزَلَ القرآن من أجلها‪ ..‬أن يكون كتاب هداية يمل بي‬
‫طياته رسالة الرحة‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫إننا ومن خلل ما ذهبنا إليه ف هذا البحث أردنا أن نثبت أمرا صار ف حكم الَب َدهِي‪،‬‬
‫أل وهو أنه "ليست لدى البشر ‪-‬ف زمن بعينه‪ -‬قدرة مطلقة لتفسيكل ما ورد ف القرآن‬
‫الكري‪ ،‬بل إن هناك ضرورة لخذ عامل الزمن بعي العتبار" ومن هنا يكن فهم ما ذهب‬
‫إليه بعض العلماء حي قال‪( :‬من هنا ندرك أن مفسري القرآن قد أخطأوا حتما‪ ،‬وطيلة‬
‫قرون ف تفسي بعض اليات الت ل يكن باستطاعتهم أن يفطنوا إل معناها الدقيق‪ ،‬إنّ ترجة‬
‫هذه اليات وتفسيها بشكل صحيح ل يكن مكنا إل بعد ذلك العصر بكثي‪ ،‬أي ف عصر‬
‫قريب منا‪ ،‬ذلك يتضمن أن العارف اللغوية التبحرة ل تكفي لفهم هذه اليات القرآنية‪ ،‬بل‬
‫يب‪ ،‬بالضافة إليها‪ ،‬امتلك معارف علمية شديدة التنوع)(‪.)1‬‬
‫وعلى الرغم من اتفاقنا مع القتباس الخي؛ والذي يفيد بعدم استبعاد حدوث أخطاء ف‬
‫إصابة مرامي القرآن الكري؛ بسبب مدودية ما يمله زمن معي من انكشاف لعلوم‬
‫ومعارف بعينها؛ إل أننا ند أن من النصاف التأكيد هنا على أن تلك الخطاء ل تقلل من‬
‫قيمة جهود العلماء واجتهاداتم ف ماولتم لفهم مرامي النص‪ ،‬بل يب علينا هنا التركيز‬
‫على ضرورة استيعاب حقيقة هامة‪ ،‬وهي أن الهد البشري مبول دائما باحتمالت الصابة‬
‫أو الطأ‪ ،‬وأن احتمال الطأ ليس سببا كافيا لوقف الجتهاد وماولة متابعة ما بدأوه من‬
‫جهود‪.‬‬

‫‪ )(1‬موريس بوكاي‪ ،‬القرآن الكري والتوراة والنيل والعلم‪ ،‬ص ‪145‬و ‪.146‬‬

‫‪259‬‬
‫وأخيا‪ :‬فإن نظرتنا لا يقدمه القرآن الكري من لحات تتُ إل بعض العلوم بصلة؛ يب‬
‫أن تكون مكومة بإدراك حقيقي لقيقة "عدم وجود علقة بي الياءات الت وردت ف‬
‫القرآن الكري وبي أية معرفة بشرية يكون قد حققها العرب ف تلك القبة من تاريهم‪،‬‬
‫حيث ل يكن العرب قد حققوا تلك النتائج ف مال العلوم التجريبية‪ ،‬بل على العكس من‬
‫ذلك؛ فلقد برعوا ف فنون اللغة وأساليب البيان‪ ،‬الت كانت مناط تدي القرآن الكري لم‪،‬‬
‫بل إن القيقة الثابتة اليوم يوردها السيد "موريس بوكاي" وتتحدث عن أن‪( :‬فترة تنيل‬
‫القرآن‪ ،‬أي تلك الت تتد على عشرين عاما تقريبا قبل وبعد عام الجرة (‪622‬م) كانت‬
‫العارف العلمية ف مرحلة ركود منذ عدة قرون‪ ،‬كما أن عصر الضارة السلمية النشط‬
‫مع الزدهار العلمي الذي واكبها كان لحقا لنهاية تنيل القرآن‪ .‬إن الهل بذه العطيات‬
‫الدينية والدنيوية هو الذي سح بتقدي القتراح الغريب الذي سعت (الكلم لزال للسيد‬
‫بوكاي) بعضهم يصوغونه أحيانا‪ ،‬والذي يقول‪ :‬إنه إذا كان ف القرآن دعاوى ذات صفة‬
‫(صلى ال‬ ‫علمية مثية للدهشة فسبب ذلك هو تقدم العلماء العرب على عصرهم‪ ،‬وأن ممدا‬
‫عليه وسلم) بالتال قد استلهم دراساتم‪ ...‬إن من يعرف‪ ،‬ولو يسيا‪ ،‬تاريخ السلم؛ ويعرف‬
‫أيضا أن عصر الزدهار الثقاف والعلمي ف العال العرب ف القرون الوسطى لحِق لحمد‬
‫(صلى ال عليه وسلم) ولن يسمح لنفسه بإقامة مثل هذه الدعاوى الوهية)(‪.)1‬‬
‫قد يكون فيما استعرضناه وما سنعرض له ف سياق هذا الكتاب ما يعيد التذكي بقيقة‬
‫أن اللام بكل ما جاء به القرآن الكري من مواضيع ل يكن ليتوفر لبشر دون أن يكون على‬
‫اتصالٍ مباشرٍ بالقٍ مطلعٍ على الغيب؛ متصفٍ بالعلم والكمة‪ ،‬لكن المر ل يقتصر على‬
‫تلك الفائدة وحدها‪ ،‬بل يكن له أن يمل لنا الزيد من الدللت‪.‬‬

‫‪ )(1‬موريس بوكاي‪ ،‬القرآن الكري والتوراة والنيل والعلم‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫إن وجود مثل تلك الشارات يؤكد حقيقة الالة الاصة للنص القرآن الكري؛ وقدرته‬
‫الفائقة على التساع واستيعاب الزمن الادث بكل ما يفل به من تطورات واكتشافات‪،‬‬
‫لكن ذلك الستيعاب ل يعن أن يصبح الغرض من قراءة القرآن الكري وتعلمه أن نعلم‬
‫الناس علوم الياة كعلم الذرّة أو الفلك!! بل يب النظر إليها على أنا إشارات إلية‬
‫مستمرة ومتواصلة على مدى الدهر لثبات صدق الرسالة‪ ،‬ولتثبيت قلوب الؤمني باليان‪:‬‬
‫{وليبط على قلوبكم‪ ،‬ويثبت به القدام}(النفال‪)11:‬‬
‫وبذلك يقطعُ النصُ القرآنُ سلسلَ الرتابةِ والمود الت يكن أن يفل با أيُ نصٍ آخر‬
‫نتيجةً لمود ألفاظه وغموض تعبياته‪ ،‬فالنص القرآن إنا هو نص متجدد‪ ،‬ويكن للمتدبر‬
‫لياته أن يرى الزيد من إعجازه طالا كان هناك ما يكن أن تطلع عليه الشمس‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫جوانب‬
‫من الكيمياء ف القرآن الكري‬
‫إذا أخذنا بالنهج الذي قمنا ببسطه ف الصفحات السابقة‪ ،‬وقمنا بتطبيقه ف مال علم‬
‫الكيمياء كنموذج لستقراء العلوم الطبيعية ف القرآن الكري ودراسته ف ضوء القائق‬
‫العلمية العروفة ف علم الكيمياء(‪)1‬؛فإن أول ما سيسترعي انتباهنا ف هذا الجال هو أن‬
‫القرآن الكري قد غطى طيفا واسعا من تفرعات هذا العلم؟!‪ ..‬مبتدئي بالذرّة ذاتا والت‬
‫استأثرت وحدها بفرع مستقل من فروع علم الكيمياء هو (الكيمياء الذرية)‪ .‬وتعتبالذرة‬
‫أصغر جزء من أجزاء العنصر ويستمد منها صفاته‪ ،‬بل إن القرآن الكري قد جذب النظرَ إل‬
‫حقيقة وجود ما هو أصغر من ذلك الزء‪:‬‬
‫{ول أصغر من ذلك ول أكب إل ف كتاب مبي}(يونس‪)61:‬‬

‫‪( )(1‬عرف النسان الكيمياء منذ بدأ استعمال العادن‪ ،‬لذلك فالكيمياء علم قدي قدم النسان‪ ،‬ويتد تاريه القدي‬
‫إل بدء الليقة‪ ،‬ولقد اشتركت أكثر المم والضارات القدية ف إقامة صرح هذا العلم‪ ،‬وقد ازدهرت العلوم‬
‫الكيماوية ف العصر الديث بعد النهضة الوروبية وإل الوقت الاضر‪ ،‬وتفرع إل عدة فروع أهها‪:‬‬
‫‪ -1‬الكيمياء العضوية ‪ : Organic Chemistry‬وتتص بدراسة مركبات عنصر الكربون‪ ،‬وهو فرع مهم من‬
‫فروع الكيمياء؛ ويس مباشرة حياتنا اليومية‪ ،‬وقد كان قديا يعتقد بأن الركبات العضوية تتكون فقط داخل‬
‫الجيات الية بفعل "قوة حية"‪ ،‬ولكن هذا العتقاد ل يدم طويل‪ ،‬فقد استطاع العال “فوهلر” سنة ‪1828‬م تضي‬
‫اليوريا‪- ،‬وهو مركب عضوي يتكون داخل جسم الكائن اليي كناتج نائي لتمثيل الزلليات ويلفظ خارج السم‬
‫بواسطة الدرار‪ -‬من مادة غي عضوية وهي سيانات المونيوم‪ ،‬وهذه الحاولة كانت نقطة تول هامة ف تقدم علم‬
‫الكيمياء‪.‬‬
‫‪ -2‬الكيمياء غي العضوية ‪ : Inorganic Chemistry‬وتتص بدراسة كل العناصر ومركباتا ما عدا مركبات‬
‫عنصر الكربون‪.‬‬
‫‪ -3‬الكيمياء الفيزيائية ‪ :Physical Chemistry‬وتتص بتطبيق القواعد الرياضية والفيزيائية على دراسة‬
‫الظواهر الكيميائية‪.‬‬
‫‪ -4‬الكيمياء اليوية ‪ :Bio-Chemistry‬وتدرس الظواهر اليوية من الوجهة الكيماوية‪(.‬وهي تدرس كذلك‬
‫مكونات الليا الية على اختلف أنواعها وكذلك التفاعلت البيوكيماوية الت تدث فيها)‪.‬‬
‫‪ -5‬الكيمياء الصناعية ‪ :Industrial Chemistry‬وتتص بتطبيق العرفة الكيميائية ف الصناعة‪ ،‬ومن أهم‬
‫فروعها الكيمياء الندسية‪( .‬ورد هذا التصنيف ف كتاب "معالة وصيانة الثار"‪ ،‬باهرة عبد الستار أحد القيسي‪،‬‬
‫والصادر عن الؤسسة العامة العراقية للثار والتراث‪.)1981،‬‬

‫‪262‬‬
‫وكأنه يريد أن يسترعي انتباهنا إل بُنية الذرّة ذاتا! من حيث احتواؤها على إلكترونات‪،‬‬
‫وبروتونات‪ ،‬ونيوترونات‪ ..‬ال‪..‬‬
‫ث ارتقى القرآن الكري بنا درجة فشدّ انتباهنا إل مموعة العناصر! ومن الناحية‬
‫الكيميائية فإن العنصر الواحد يتلك ذرات متشابة‪ ،‬لكن القرآن الكري وهو يعرض لنا‬
‫ناذج لبعض العناصر فقد أعطى اهتماما خاصا لبعضها‪ ،‬والت تعرف علميا بجموعة‬
‫"العادن" فذكر منها ‪ :‬الذهب‪ ،‬الفضة‪ ،‬الديد‪ ،‬النحاس‪..‬‬
‫ث عاد القرآن الكري ليتقيّ بنا درجةً أخرى على سلّم العارف العلمية الاصة بعلم‬
‫الكيمياء؛ فأورد بعد "العناصر" بعضا من "الركبات"! فقد وردت لفظة "ملح" ووردت‬
‫كذلك لفظة "ماء"(‪ )1‬وها لفظتان تعبان عن مركبي من الركبات الكيماوية‪.‬‬
‫إن القرآن الكري وهو يتناول كل هذه الطُرَف؛ ل يتناولا بوصفه كتابا شارحا للكيمياء‪،‬‬
‫وهذا المر متوقع ف ضوء ما ذكرناه من حقيقة أن القرآن الكري ليس كتابا مهمته تعليم‬
‫الناس علوم الطبيعة وما شابه‪ ،‬لكن من القاصد الت يب أن تؤخذ بالسبان لدى التعامل‬
‫مع القرآن الكري؛ أن تنجذب عقولُنا وأرواحُنا إل هذا التنوع الواسع‪ ،‬وهذا التعدد‬
‫العجيب‪ ،‬وهذا التدرج اللمتناهي ف شت درجات اللون؛ والعمق؛ والتساع‪ ..‬لنبدأ ‪-‬من‬
‫ث‪ -‬رحلة البحث عن التفاصيل!‪.‬‬
‫وف هذا البحث فقد حاولنا أن نقتطف من جِنان القرآن ورودا‪ ،‬ومن بساتينه قطوفا‬
‫تراءت لنا متناثرة ف ثناياه‪ ..‬تنوعت بي الذرة‪ ،‬والاء‪ ،‬والديد والنحاس‪ ،‬والذهب‪،‬‬
‫والفضة‪ ،‬إضافة إل مموعة متنوعة من الوضوعات الت تمعها الكيمياء ف عقد واحد‪..‬‬

‫‪ )(1‬سنأت على ذكر كليهما فيما بعد بالتفصيل‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫وقد قصدنا أن نورد ف ثنايا بثنا عددا من الضاءات؛ كانت كل واحدة منها تتناول‬
‫سرا من أسرار العجاز القرآن‪ ،‬حيث كشفت كل واحدة منها عن سر لبد من بذل‬
‫الحاولت الادة لتتبعه واستجلئه ف سور القرآن الكري وآياته كلها‪.‬‬
‫وقد قصدنا (من تناولنا للموضوعات الواردة ف هذا البحث) إيراد اليات الكرية‬
‫التعلقة با جيعها‪ ،‬مع إيراد بعض اللحظات والشرح ‪،‬إن أمكن‪ .‬ومن الأمول أن يكون‬
‫واضحا بأن إيراد تلك اليات بذا الشكل إنا قصد منه أن تكون هاديا لن أراد تناول تلك‬
‫الوضوعات بعد ذلك بزيد من التفصيل‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫الذرّة ف القرآن الكري‬

‫الذرّة ف اللغة هي‪( :‬واحدةُ الذر‪ ،‬وهي النمل الصغار‪ ،‬وقيل‪ :‬رأس النملة‪ ،‬وقيل‪:‬الذرّة؛‬
‫الردلة‪ .‬وقيل‪ :‬كل جزءٍ من أجزاء الباء الذي يظهر فيما يدخل من الشمس من كوةٍ أو‬
‫غيها‪ :‬ذرّة‪ ،‬والراد من الكلم (ومن يعمل مثقال ذرة خيا يره‪ )..‬أن ال‪-‬عزّ وجل‪ -‬ل‬
‫يظلم كثيا ول قليلً‪ ،‬أي ل يبخسهم من ثواب أعمالم؛ ول يزيد ف عقاب ذنوبم وزن‬
‫ذرّة فضل عما فوقها)(‪.)1‬‬
‫وقال بعض أهل اللغة‪( :‬إن الذرّة هو أن يضرب الرجل بيده على الرض؛ فما علق من‬
‫التراب فهو الذرّة‪ ،‬وقيل‪ :‬الذر ما يُرى ف شعاع الشمس من الباء)(‪.)2‬‬

‫ليست "ذرة"‪ ..‬بل "مثقال ذرة"!!‬


‫أما عن الـ "ذرّة" ف القرآن الكري؛ فقد‬
‫وردت مُنَكّرّة ف كل مواضع ورودها؛ وجاءت‬
‫ف كافة مواضعها مقترنة بكلمة "مثقال"(‪ )3‬با‬
‫يفيد وجود علقة عضوية بي اللفظي‪ ،‬بيث‬
‫يؤديان معا إل ما قُصد إليه من معن‪..‬‬
‫وقد وردت لفظة "ذرة" ف الواضع الكرية التالية‪:‬‬
‫{إن ال ل يظلم مثقال ذرّة‪ ،‬وإن تكُ حسنةً يضاعفها}(النساء‪)40:‬‬

‫‪ )(1‬فتح القدير‪ ،‬ممد بن علي بن ممد الشوكان‪ ،‬الجلد الول‪ ،‬ص ‪.467‬‬
‫‪ )(2‬فتح القدير‪ ،‬الجلد الامس‪ ،‬ص ‪.479‬‬
‫‪ )(3‬الثقال مفعال من الثقل‪ ،‬كالقدار من القدر‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫{وما يعزبُ عن ربك من مثقال ذ ّرةٍ ف الرض ول ف السماء‪ ،‬ول أصغرَ من ذلك‬
‫ول أكبَ إل ف كتابٍ مبي}(يونس‪)61:‬‬
‫ب عنه مثقالُ ذرّةٍ ف السموات ول ف الرض}(سبأ‪)3:‬‬
‫{ل يعز ُ‬
‫{ل يلكون مثقال ذرّ ٍة ف السموات ول ف الرض}(سبأ‪)22:‬‬
‫{فمن يعمل مثقال ذرّةٍ خيا يره}(الزلزلة‪)7:‬‬
‫{ومن يعمل مثقال ذ ّرةٍ شرا يره}(الزلزلة‪)8:‬‬
‫ويدر أن نلحظ هنا أن استخدام اللفظ "ذرّة" قد جاء ف القرآن الكري مقترنا دائما‬
‫بكلمة "مثقال"‪ ،‬والت يُقصد با "وزن"‪ ،‬وأن التعبي القرآن {مثقال ذرّة} يقابله بدقة‬
‫الصطلح الكيميائي "الوزن الذري"(‪)1‬؟!!‪.‬‬
‫فلماذا جاءت كلمة "ذرّة" مقترنةً ‪-‬وف كل الواضع‪ -‬مع كلمة "مثقال"؛ ول تئ ‪-‬ولو‬
‫لرة واحدة‪ -‬لتعب عن الذرّة ككيان‪ ،‬أو حجم‪ ،‬أو شكل‪ ،‬أو ما شابه؟‪ ..‬وهل هناك ما يكن‬
‫أن نستشفه من هذا القتران؟!‪..‬‬
‫يكن الجتهاد لحاولة فهم السبب‪ ،‬وذلك بدراسة الذرة عب ثلثة اتاهات‪:‬‬
‫‪ -1‬ما يُستشف من دللت اقتران اللفظي "مثقال" و "ذرّة"‪.‬‬
‫‪ -2‬ما يُستشف من دللت (الدقة و التوازن)‪ ،‬وذلك ف ضوء دراسة النظريات‬
‫الختلفة الت تصف بنية الذرّة‪.‬‬
‫‪ -3‬ما يُستشف من دللت الية الكرية {ول أصغر من ذلك ول أكب}‪.‬‬
‫ولكي نصل إل كل ذلك؛ فلنحاولْ التعرف على الذرّة كما قدّمها لنا علم الكيمياء‪.‬‬

‫الذرة وإشكالية الجم!!‬

‫‪ )(1‬هو مموع أوزان البوتونات والنيوترونات معا‪ ،‬مع إهال أوزان اللكترونات لضآلتها‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫إذا سألت متخصصا ف علم الكيمياء عن الذرّة؛ فإن واحدةً من اللحظات الت سيبديها‬
‫لك‪ :‬أن هناك إشكالية ما ف التعامل مع هذا الصطلح الدعو بـ "الذرّة"؟! ذلك أنّ الذرّة‬
‫إذا أُخذت من ناحية حجمها؛ فهي تعن كل ما ف الكون من حجوم هائلة من الادة‪ ،‬بينما‬
‫إذا دققنا ف المر بنظرةٍ علميةٍ بتة؛ فإننا سندرك أن غالبية تلك الجوم إنا هي عبارة عن‬
‫فراغ؟!‪ ..‬بل فراغات شاسعة؛ تتلها كميات صغية جدا من الكونات الادية(‪ )1‬لذا فإن‬
‫أصدق ما يكن وصف الذرّة به؛ هو التعبي عنها قياسا إل وزنا‪ ،‬وليس إل أي شيءٍ آخر‪،‬‬
‫وبصطلح "الوزن الذري" تديدا؟! والذي يعب عن وزن متوياتا من بروتونات‬
‫ونيوترونات(‪ .)2‬لكن؛ ولكي يتسن لنا إدراك هذا المر؛ فلنحاولْ القتراب من الذرّة بوزنا‬
‫وحجمها متناقضي الدللة؟!‪.‬‬

‫ناذج لتفسي بنية الذرة‬


‫لقد مر الفكر النسان خلل رحلته براحل عديدة من أجل إدراك كنه الذرّة وطبيعة‬
‫تكوينها‪ ،‬وف كل مرةٍ كان العلم يضع تصورا لا ولبنيتها كان يعود ليدركَ أن ذلك التصور‬
‫يفل بأخطاء قاتلة؟! لو كانت موجودةً (أي الخطاء)على أرض الواقع لكانت كفيلةً بإناء‬
‫الوجود بشكل ل يكن تصوره!‪ .‬وقد وضعت عدة ناذج وتصورات لتوضيح بنية الذرّة‬
‫أعرِضُ لثلثٍ منها بشكل متصر‪:‬‬
‫(أ) بنية الذرّة حسب نوذج “رذرفورد” ‪:‬‬
‫وضع العال “رذرفورد” تصوره للذرّة؛ وذلك ف العام ‪1911‬م‪ ،‬وينص ذلك التصور على‬
‫ما يلي‪:‬‬

‫‪)(1‬الفراغ إل الادة ف الذرة ‪:1‬ألف مليون طن أي ‪10×1‬أس ‪15‬‬

‫‪ )(2‬يكن إهال أوزان اللكترونات نظرا لضآلتها‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫‪ -1‬الذرّة تشبه الجموعة الشمسية ف تكوينها؛ وتتكون من نواة مركزية (مثل الشمس)‬
‫تدور حولا اللكترونات ف مدارات متلفة وتشبه ف ذلك الكواكب ف الجموعة‬
‫الشمسية‪.‬‬
‫‪ -2‬حجم الذرّة ف معظمه فراغ‪.‬‬
‫‪ -3‬معظم كتلة الذرّة (أي وزنا) مركزة ف نواتا‪ ،‬ول تتسب كتلة اللكترونات لنا‬
‫ضئيلةً جدا إذا ما قورنت بكتلة النواة الت تتوي على البوتونات والنيوترونات‪.‬‬
‫‪ -4‬تتكون الذرة من نواة مركزية ؛ يدور ف فلكها إلكترونات ف مدارات متلفة‪ ،‬ويكن‬
‫تشبيه النواة بالشمس‪ ،‬واللكترونات بالكواكب الدوارة بانتظام حولا‪.‬‬
‫وقد واجهت ذلك النموذج العديد من العتراضات العلمية‪ ،‬ففروض هذا النموذج‬
‫(والتعلقة بدوران اللكترون حول النواة) تتعارض تعارضا جوهريا مع فروض النظرية‬
‫الكهروديناميكية (نظرية أرنشو ‪)Earnshaw‬؛ حيث أنه وبوجب هذه النظرية‪ :‬ل يكن‬
‫لنظام ساكن من الشحنات الكهربائية أن يكون ف حالة توازن‪ ،‬فاللكترونات ف الذرة يب‬
‫أن تتحرك وتتعجل نو النواة‪ ،‬وبالتال فإنا ونتيجة لذلك تشع جزءا من طاقتها‪ .‬وعمليا؛‬
‫فإن هذا يعن استمرار النقص ‪،‬وبشكل تدريي‪ ،‬ف نصف قطر دوران السيم التحرك حول‬
‫النواة؛ وذلك تبعا لنقص طاقته‪.‬‬
‫والعن الوحيد الذي يقدمه هذا العتراض هو أن فروض نظرية “رذرفورد” –لو كانت‬
‫صحيحة‪ -‬فإن ذلك يعن بأن على اللكترون أن يدور حول النواة ف مسار حلزون يصغر‬
‫شيئا فشيئا ‪،‬بسبب نقص طاقة اللكترون‪ ،‬ما ينتهي به ف ناية الطاف ملتصقا بالنواة؟!‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫ويعن هذا المر أن تفقد الذرّة فراغها الائل؛ والذي يعطي لا بنيتها وحجمها‪ ،‬ولنا أن‬
‫نتخيل تأثي ذلك المر على الذرة إذا علمنا أن كثافة مادة النواة(‪ )1‬يكن أن تصل إل مائة‬
‫مليون طن لكل سنتيمتر مكعب!! وهذا يعن أن كل مائة مليون طن من الادة الت نعرفها؛‬
‫يكن أن تتحول إل سنتيمتر مكعب واحد حجما؛ وذلك ف حال فقدت ذرات تلك الادة‬
‫الفراغات الائلة الوجودة بداخلها‪ ،‬ما يسمح لنا بالقول عندئذٍ بأن هذا المر لو حدث؛ فإن‬
‫الكرة الرضية بكامل مادتا يكن أن تتحول إل حجم صغي جدا من الادة!‪ ..‬لكن مع‬
‫احتفاظها بنفس الوزن؟!؟!‪.‬‬
‫ولفهم هذا الوضوع جيدا لبد من الستماع إل صدى السؤال‪ :‬لاذا يأخذ الوزن القليل‬
‫من الادة كل هذا الجم الائل؟!‪ ..‬وللجابة على هذا السؤال يب علينا أن نتعرف على‬
‫مبدأ "عدم التأكد" للعال هيزنبغ‪.‬‬
‫يعتب هذا البدأ واحدا من البادئ الامة ف علم الكيمياء‪ ،‬والذي جاء ف إطار النظرية‬
‫الذرية الديثة(‪ )2‬وهو يلقي الضوء على هيكلية الذرّة وبنيتها الفراغية‪ ،‬وينص هذا البدأ‬
‫على أنه‪( :‬يستحيل من الناحية العملية تديد مكان اللكترون وسرعته ف نفس الوقت)‪.‬‬
‫أما عن العن البسيط لذا البدأ؛ فهو التأكيد على استحالة تديد مكان اللكترون حول‬
‫النواة وسرعته ف نفس الوقت‪ ،‬ذلك أنه ولتحديد الكان بشكل دقيق فلبد من إيقاف‬
‫الركة وتديد السرعة‪ ،‬ولكي يدث هذا فلبد من تثبيت وضع اللكترون ف مكان مدد‪،‬‬
‫وهذا المر مستحيل من الناحية العملية!‪.‬‬
‫لكن ما الذي يريد أن يبنا به "هيزنبغ" من خلل هذا البدأ؟!‬
‫إن العن الكامن ف هذا البدأ هو أن اللكترون يدور حول النواة بسرعات عالي ٍة جدا‬
‫يصعب تيلها‪ ،‬بيث تؤثر تلك السرعة ‪،‬غي العادية‪ ،‬على طبيعة إدراكنا للذرّة ذاتا من‬
‫ناحية الجم!‪ .‬لكن ماذا تعن تلك السرعة من الناحية العملية؟!‬

‫‪ )(1‬هو وزن حجم معي من مادة الذرّة بدون فراغات حيث وزن الذرة هو وزن النواة تقريبا‪.‬‬
‫‪ )(2‬يتم التطرق إليها لحقا بشيء من التفصيل‪.‬‬

‫‪269‬‬
‫إن تلك السرعة الائلة لللكترونات حول النواة هي الت تعل للذرّة (الت غالبية‬
‫حجمها فراغ) تعلها ذات بنية وهيكل مددين يكن رؤيتهما والتعامل معهما‪ ،‬وكلنا يعلم‬
‫مدى تأثي الزيادة ف السرعة على تديد الشكل‪ ،‬إذ يكنك رؤية أسلك عجلة الدراجة‬
‫الوائية‪ ،‬أو سنابل الروحة الكهربائية أثناء دورانا بشكل بطيء‪ ،‬لكن المر يصبح أكثر‬
‫صعوبة عند زيادة السرعة‪ ،‬بيث تتحول أمام ناظريك إل مسطح دائري مصمت يصعب‬
‫اختراقه؟!… وهذا شبيه با يدث للذرة بالضبط‪.‬‬
‫من هنا يكننا أن نتخيل تأثي السرعة العالية لللكترونات على تشكيل بنية الذرّة‪،‬‬
‫وتديد حجمها وهيكلها‪ ،‬ما يتيح للكترون واحد وحيد يدور حول نواة ذرّة اليدروجي‬
‫أن يتواجد ‪،‬ف نفس الوقت‪ ،‬ف جيع نقاط سحابة إلكترونية كروية الشكل تيط بتلك‬
‫النواة‪ ،‬ويعطي ذلك ذرّة اليدروجي بُنية كُروية مادية‪ ،‬ويعطيها كذلك حجما ملموسا يكن‬
‫التعامل معه!!‪.‬‬
‫وعلى نفس النوال فإن ‪ 26‬إلكترون تدور حول نواة ذرّة الديد؛ تعطي الديد كل هذا‬
‫القدر من الصلبة؛ على الرغم من الفراغات الائلة الت تفصل إلكتروناته ومداراته عن‬
‫بعضها البعض!‪ .‬من هنا جاز لنا العتقاد بأن وزن الذرّة (وهو ثابت حت لو فقدت الذرّة‬
‫كل الفراغات الوجودة فيها) هو واحد من ثوابتها؛ بعكس حجمها الذي يتكون ف غالبيته‬
‫من كمٍ هائلٍ من الفراغ!‪.‬‬
‫"مثقال ذرة" بنسبة ‪%100‬‬
‫ومن هنا أيضا يكننا أن نتفهم تركيز اليات القرآنية بنسبة ‪ %100‬من مواضع ورودها‬
‫على أن تكون لفظة "ذرة" مقترنة دائما بكلمة "مثقال"‪ ،‬المر الذي يعطي بعض الدللة‬
‫حول الدقة غي العادية الت تكتنف أسلوب القرآن الكري وكذلك دقة ألفاظه‪ ،‬والت تشكل‬
‫وجها من وجوه العجاز فيه‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫وأخيا نتتم هذا البحث الاص بالذرة ف القرآن الكري بتوجيه خطابنا لن يدّعون بأن‬
‫القرآن الكري ‪،‬لدى ذكره للذرة‪ ،‬ل يقصد الذرّة بعناها الصطلحي التعارف عليه ف علم‬
‫الكيمياء‪ ،‬فنقول‪ :‬صحيح إن القرآن الكري عندما تنّل قد فُهمت فيه كلمة "ذرّة" بعناها‬
‫اللغوي‪ ،‬لكن إذا ما توقفنا بكلمات القرآن الكري وألفاظه فقط عند العان الت كانت‬
‫مفهومة حي تنله؛ فأين يكمن الفضل ف القرآن الكري على ما عداه؟!!‪..‬‬
‫إنه يكمن ف "القدرة الفائقة" على التجدد؛ واستيعاب الزيد من الضامي الت تطرأ عب‬
‫توال السني‪ ،‬بيث يكن فهمه بدون تناقض ف كل زمانٍ ومكانٍ إل يوم القيامة‪..‬‬

‫‪271‬‬
L’atome dans le coran)1(
Mohammed Swairky
Traduit par
Iman Mustafa Boukhobza
Le mot atome a été mentionné dans le coran dans les sourates
suivantes :
« Certes, Allah ne lèse (personne), fût-ce du poids d'un atome. S'il est
une bonne action, Il la double, et accorde une grosse récompense de Sa
part. » Les femmes Sourate 4, 40
« Tu ne te trouveras dans aucune situation, tu ne réciteras aucun
passage du Coran, vous n'accomplirez aucun acte sans que Nous soyons
témoin au moment où vous l'entreprendrez. Il n'échappe à ton seigneur
ni le poids d'un atome sur terre ou dans le ciel, ni un poids plus petit ou
plus grand qui ne soit déjà inscrit dans un livre évident. » Jonas,
Sourate 10, 61
« Ceux qui ne croient pas disent : "L'Heure ne nous viendra pas" .
Dis : "Par mon Seigneur! Très certainement, elle vous viendra. [Mon
Seigneur] le Connaisseur de l'Inconnaissable. Rien ne Lui échappe fût-il
du poids d'un atome dans les cieux, comme sur la terre. Et rien n'existe
de plus petit ni de plus grand, qui ne soit inscrit dans un Livre explicite.
» Saba, sourate 34, 3
« Dis : "Invoquez ceux qu'en dehors d'Allah vous prétendez [être des
divinités]. Ils ne possèdent même pas le poids d'un atome, ni dans les
cieux ni sur la terre. Ils n'ont jamais été associés à leur création et Il n'a
personne parmi eux pour Le soutenir". » Saba, sourate 34, 22.
« Quiconque fait un bien fût-ce du poids d'un atome, le verra, »
«et quiconque fait un mal fût-ce du poids d'un atome, le verra.»
La secousse, Sourate 99, 7 et 8 Il est important de noter que le mot
atome dans le coran était toujours mentionné avec le mot poids
«Mithkal», ce mot en arabe a un correspondant en chimie qui est: La
mass atomique ou le poids atomique. Ceci n’explique pas l’atome
comme entité, volume, ou forme.
On peut essayer de comprendre, la raison de la combinaison de ces
deux mots, en se concentrant dans trois directions:
1. Pourquoi cette combinaison entre les deux mots: atome et poids?

،‫ "الذرة ف القرآن الكري" وقد قام على ترجته الخت الباحثة الدكتورة إيان بوخبزة‬:‫() الترجة الفرنسية لقال‬1
:‫نقلناه حرفيا عن موقع "موسوعة العجاز العلمي ف القرآن والسنة" على الرابط‬
http://www.55a.net/firas/french/index.php?page=show_det&id=47

272
2. En se basant sur les différentes théories atomiques, qu’est ce qu’on
peut tirer de ceci point de vue précision et équilibre
3. Qu’est ce qu’on peut tirer du verset «Et rien n'existe de plus petit
ni de plus grand» ‫ول أصغر من ذلك ول أكبر‬
L’atome et le volume:
Dans la chimie, il y avait toujours le problème de compréhension de
l’atome et son volume.Il s’agit des vides gigantesques occupés par des
masses très petites. Donc la meilleure méthode de décrire un atome
serait celle qui est relative à son poids et non pas a son volume ou autre
characteristiques.
Exemples des théories atomiques:
La compréhension de l’atome et de ses constituants et de son monde
a passé à travers des étapes différentes. Plusieurs théories ont été
postulées:
a- Ruterford
b- Bohr
c- La nouvelle théorie atomique.
A- Le modèle de Rutherford: En 1911, Rutherford a postulé une
théorie pour comprendre l’atome. Sa théorie consistait en:
1. Il y a une similitude entre l’atome est le système solaire. L’atome se
forme des électrons qui tournent autour d’un noyau comme les planètes
qui tournent autour du soleil.
2. Le volume de l’atome ce n’est qu’un vide.
3. La masse ou le poids de l’atome sont concentrés dans son noyau.
Celle des électrons est négligeable si on la compare à celle du noyau
formé par des protons et des neutrons.
Cette théorie a eu beaucoup d’opposition d’un point de vue
scientifique, spécialement la partie qui concerne le mouvement des
électrons autour du noyau. Ce mouvement ne peut pas exister selon les
lois thermodynamiques. Selon cette théorie, il ne peut pas y avoir un
système de charge électronique en équilibre. Les électrons dans l’atome
doivent entrer en mouvement en se dirigeant vers le noyau.
Pratiquement, cela veut dire qu’il y a une diminution continue du rayon
de l’atome jusqu'au point ou l’électron rencontre le noyau.
B- Le modèle de Bohr:
En 1913, Bohr a rectifié le modèle de Rutherford. Sa nouvelle théorie
peut se résumer dans les points suivants:
1- Le noyau de l’atome est chargé positivement.

273
2- Le nombre des électrons qui portent une charge négative et qui
tournent autour du noyau le long des orbites est équivalent au nombre
des protons qui portent une charge positive et qui se trouvent dans le
noyau.
3- Les électrons tournent autour du noyau avec une vitesse très
grande. Ces électrons sont sous l’influence de deux forces équivalentes
dans leurs valeurs opposées dans leurs directions.
a. Une force de répulsion qui pousse les électrons vers l’extérieure.
b. Une force d’attraction entre les électrons et les protons.
Le bilan de ces forces est nul.
4-Les électrons tournent autour du noyau avec une vitesse très
grande sans perdre ou gagner de l’énergie.
5-Les électrons tournent autour du noyau le long des niveaux
energitiques bien déterminés.
6- L’électron a une énergie bien déterminée qui dépend de la distance
entre le noyau et la localisation de cet électron.
7- Dans sa position d’équilibre, l’électron tourne autour du noyau le
long d’un niveau energitique convenable. Lors de son excitation,
l’électron gagne une énergie supplémentaire et peut se déplacer à un
niveau energitique plus haut. Dans le cas contraire, quand l’électron
perd de l’énergie, son déplacement cette fois est de son niveau
enegitique à un niveau plus bas. Ce déplacement s’accompagne d’une
émission d’un rayonnement avec une fréquence et une longueur d’onde
bien déterminée.
Par conséquent, Bohr a ajouté quelques rectifications à la théorie de
Rutherford. Cela a donné plus d’explication et de précision pour mieux
comprendre le monde de l’atome.
C-La nouvelle théorie atomique:
La nouvelle théorie atomique a apparu après introduction de
quelques corrections et rectifications:
1- la double nature de l’électron «Dual nature»
2- Le principe d’incertitude d’Heseinberg.
3- Le mouvement de l’électron.

274
Il n’était plus suffisant de considérer l’électron comme une entité de
charge négative et d’une masse négligeable qui tourne autour du noyau
le long des orbites. Il faut maintenant prendre en considération le
caractère d’une onde. L’électron maintenant est une entité matérielle
considérée comme une onde.
En utilisant la théorie d’incertitude d’heisemberg, Il est devenu
impossible de parler d’une location bien déterminée d’un électron
autour du noyau. Mais on parle maintenant de la probabilité de trouver
un électron dans l’espace autour du noyau.
Donc, il a apparu une nouvelle explication au mouvement de
l’électron. On parle maintenant d’un nuage électronique au lieu du
mouvement d’un électron autour du noyau. Le nuage électronique
montre la position d’un électron et la probabilité de son existence
autour du noyau.
Conclusion:
D’après la graduation précédente dans la compréhension du monde
de l’atome. La connaissance humaine de l’atome s’est développée
jusqu’à la théorie atomique moderne. Par conséquent, ce qu’on a
trouvé dans le coran concernant l’atome ce n’est qu’une preuve que ce
que le Prophète Mohammed a apporté doit être de la part de Dieu.
Les différentes théories atomiques se sont déplacées d’une
connaissance primitive du mouvement des électrons le long des orbites
bien déterminées autour du noyau. Ce développement de la
connaissance a ajouté une meilleure explication de «tawazune»
(équilibre) et «alkest» (justuce). Cette connaissance s’est développée du
mouvement des électrons autour du noyau le long des orbites, jusqu’au
concept du nuage électronique.

275
Dans le coran, les deux mots poids et atome «mithkal dara» montre
la justice. Dieu nous a donné une unité de justice. Dieu nous a donné
une unité de peser les choses, c’est celle du poids d’un atome. Cette
unité c’est un exemple de précision et de certitude pour que la justice
puisse s’appliquer dans notre monde.
Donc, le coran nous a présenté le poids de l’atome comme un
exemple de justice. La science de son coté l’a utilisé comme une unité de
précision et de certitude.
La dernière leçon qu’on peut tirer c’est celle de la combinaison des
deux versets «poids d’un atome» avec «ni un poids plus petit ou plus
grand», ici, le coran nous pousse à utiliser l’observation dans l’univers.
Le coran nous guide à chercher tous ce qui est petit et tout ce qui est
grand. Ceci est une recherche infinie. Ces résultats et ces recherches
peuvent être résumés dans quelques mots. C’est ceux que Dieu est le
dieu des sciences et des connaissances. C’est lui le dieu de la justice.

276
‫مموعة‬
‫العناصر العدنية ف القرآن الكري‬
‫من الصطلحات الكثر شهرة ف مال علم الكيمياء ما يطلق عليه "العنصر" وجعها‬
‫"عناصر" وشهرتا تنبع من أهيتها ف مال الكيمياء‪ ،‬بل ف كل مالت الياة من حولنا‪،‬‬
‫فالعنصر هو اللبنة الساسية لتشكيل الركبات‪ ،‬والعنصر يشترط فيه أن يكون مكونا من‬
‫نوع واحد من الذرات!‪ ..‬وعلى هذا فإن العناصر تتكون من ذرات متجانسة‪ ،‬وأهم‬
‫العناصر العادن والت منها‪:‬‬

‫معدن الذهب‬

‫‪277‬‬
‫يعتب الذهب من العناصر الكيميائية النفيسة وذلك لجموعة من الواص الت يتميز با‪،‬‬
‫والت من أهها‪ :‬ما يبديه من ثبات كيميائي ف وجه العوامل الكيميائية الختلفة‪ ،‬فهو ثابت ف‬
‫وجه أكسجي الو‪ ،‬وبار الاء‪ ،‬والحاض‪ ،‬والقلويات‪ ،‬ومواد قليلة هي القادرة على‬
‫إحداث تأثيات على عنصر الذهب‪ ،‬مثل‪ :‬الاء اللكي؛ والذي يتكون من أحاض الكبيتيك‬
‫والنيتريك بنسب متلفة‪ .‬وقد ورد عنصر "الذهب" ف القرآن الكري ثان مرات‪ ،‬جاء‬
‫اللفظ منكّرا ف ستّ منها‪ ،‬وكانت مواضع وروده كما يلي‪:‬‬
‫‪{ -1‬يلون فيها من أساور من ذهب}(الكهف‪)31:‬‬
‫‪{-2‬جناتٍ تري من تتها النار‪ ،‬يُحلون فيها من أساور من ذهبٍ}(الج‪)23:‬‬
‫‪{ -3‬يلون فيها من أساور من ذهبٍ ولؤلؤا‪ ،‬ولباسهم فيها حرير}(فاطر‪)33:‬‬

‫‪278‬‬
‫‪{ -4‬فلول أُلقي عليه أسورةٌ من ذهب‪ ،‬أو جاء معه اللئكةُ مقترني}(الزخرف‪)53:‬‬
‫‪{ -5‬يطاف عليهم بصحافٍ من ذهبٍ}(الزخرف‪)71:‬‬
‫وف واحدٍ من مواضع ورودها جاءت منكرة ومنونة‪:‬‬
‫‪{ -6‬إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يُقبل من أحدهم ملء الرض ذهبا}(آل‬
‫عمران‪)91:‬‬
‫أما اللفظة العرّفة ‪-‬الذهب‪ -‬فقد وردت ف القرآن الكري مرتي‪ ،‬جاءت ف كليهما‬
‫مقترنة بعدن الفضة‪ ،‬وجاءا ف الوضع الول ليعبا عن قيمتهما ‪-‬الذهب والفضة‪ -‬من‬
‫حيث كونُهما زينةً(‪ )1‬ومتاعا ف الياة الدنيا‪.‬‬

‫‪ )(1‬ترجع قيمة كل من الذهب والفضة ونفاستهما جزئيا إل ندرتما ف الطبيعة‪ ،‬وكذلك إل الهود البذولة ف‬
‫استخلصهما‪ ،‬لكن تلك القيمة ترجع كذلك إل ما يبديه كل منهما من خواص كيميائية‪ ،‬تتمثل ف عدم وجود‬
‫إمكانية لكسدتما بواسطة أكسجي الواء الوي‪ ،‬وبقارنة جهد الكسدة والختزال لكل من الذهب والفضة‬
‫مع جهد الكسدة والختزال للحديد أو النحاس ند أن هناك إمكانية لتدفق اللكترونات من الخيْينِ باتاه‬
‫ذرات الكسجي‪ ،‬ما يعن صدأ كل منهما‪ ،‬وهو ما ل يدث ف حالة الذهب أو الفضة‪.‬‬

‫‪279‬‬

‫عند دراسة الماء يجب أن نفصل تصنيف الماء فالماء هو‬


‫أصل كل ما هو موجود من نباتات ويجب أل ننسى تركيب‬
‫السكريات والنشويات والسلييلوز التي كلها عبارة عن‬
‫كربون وماء!!‬
‫‪{ -1‬زين للناس حب الشهوات من النساء والبني والقناطي القنطرة من الذهب‬
‫والفضة}(آل عمران‪)14:‬‬
‫أما الوضع الخر فوردا فيه معبين عن "قيمة اقتصادية معطلة"‪.‬‬
‫‪{ -2‬والذين يكنون الذهب والفضة‪ ،‬ول ينفقونا ف سبيل ال فبشرهم بعذاب‬
‫أليم}(التوبة‪)34:‬‬

‫معدن الفضة‬

‫‪280‬‬
‫تعتب الفضة الخ الشقيق للذهب‪ ،‬وذلك لشتراكها معه ف مموعة من الواص‬
‫والميزات والت من أهها الندرة ف الطبيعة والثبات النسب ف مواجهة العوامل والظروف‬
‫الكيميائية ‪.‬‬
‫وقد ورد ذكر معدن الـفضة ف القرآن الكري ست مرات على وجه الجال‪ ،‬واحدة‬
‫منها ‪-‬على القل‪ -‬تتاج إل توقف وإمعان نظر‪ ،‬وإل معرفة علمية متصة للوصول إل‬
‫معناها القصود‪ ،‬وهي الت تتحدث عن جعل ال عز وجل لبيوت الكافرين ُس ُقفَا من فضة‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫‪{ -1‬ولول أن يكون الناس أمةً واحدةً لعلنا لن يكفر بالرحن لبيوتم سقفا من فضةٍ‪،‬‬
‫ومعارج عليها يظهرون}(الزخرف‪)33:‬‬
‫ولبد هنا من طرح السؤال التال‪ :‬لاذا الفضة بالذات؟‪..‬‬
‫وقد ورد ف تفسي هذه الية‪( :‬أي ولول أن يرغب الناس ف الكفر إذا رأوا الكافر ف‬
‫سعة من الرزق‪ ،‬ويصيوا أمة واحدة ف الكفر‪ ،‬لصصنا هذه الدنيا بالكفار‪ ،‬وجعلنا لم‬
‫القصور الشاهقة الزخرفة بأنواع الزينة والنقوش‪ ،‬سقفها من الفضة الالصة)(‪.)1‬‬

‫‪( )(1‬صفوة التفاسي‪ ،‬ممد علي الصابون‪ ،‬الجلد الثالث‪ ،‬ص ‪.)157‬‬

‫‪282‬‬
‫وثلثُ آياتٍ أخرى تدثت عن الفضة كمعدن نفيس؛ حيث هو شكلٌ من أشكال تكري‬
‫ال عزّ وجلّ لعباده الؤمني ف النة‪ ،‬فهي أكواب‪ ،‬وأساور‪ ..‬ال‪ ..‬حيث قال عز من قائل‪:‬‬
‫‪{ -2‬ويطافُ عليهم بآنيةٍ من فضةٍ وأكوابٍ كانت قواريرا}(النسان‪)15:‬‬
‫‪{ -3‬قوارير من فضةٍ قدّروها تقديرا}(النسان‪)16:‬‬
‫‪{ -4‬وحلوا أساور من فضةٍ‪ ،‬وسقاهم ربم شرابا طهورا}(النسان‪)21:‬‬
‫أما السم العرّف لذا العدن النفيس ‪-‬الفضة‪ -‬فقد ورد ف القرآن الكري مرتي؛ وقد‬
‫جاء اللفظ العرّف للفضة مقترنا مع اللفظ العرف للذهب ف كل الوضعي(‪)1‬؛وجاءا ف‬
‫الوضع الول ليعبا عن قيمتهما ‪-‬الذهب والفضة‪ -‬من حيث كونِهما زينةً ومتاعا ف الياة‬
‫الدنيا‪ ،‬أما الوضع الخر فوردا فيه معبين عن "قيمة اقتصادية معطلة"‪.‬‬

‫معدن الديد‬
‫يعتب الديد واحدا من العناصر العدنية ذات الهية الواسعة ف حياة النسان‪ ،‬وذلك لا‬
‫يتميز به من وفرة كبية نسبيا ف الطبيعة‪ ،‬وكذلك نتيجة لجموعة الواص الفيزيائية‬
‫والكيميائية الت يتميز با هذا العنصر‪ ،‬وقد وردت هذه الكلمة ف القرآن الكري مُنكرة تارة‬
‫ومعرّفة أخرى‪ ،‬فقد وردت كلمة "حديد" ف موضعي كما يلي‪:‬‬
‫{ولم مقامع من حديد}(الج‪)21:‬‬
‫وقد فُسرت بأن (لم مطارق وسياط من الديد يُضربون با)(‪.)2‬‬
‫ووردت ف الية (‪ )22‬من سورة "ق" بعن القوة والنفاذ {لقد كنت ف غفلة من هذا‪،‬‬
‫فكشفنا عنك غطاءك‪ ،‬فبصرك اليوم حديد} أي ‪ :‬فبصرك اليوم قوي نافذ‪ ،‬ومن هنا‬
‫اكتسب الديد أهم صفاته وهي صفة القوة والنفاذ‪.‬‬
‫أما اللفظ العرّف فقد ورد ف ثلثة مواضع‪.‬‬

‫‪( )(1‬آل عمران‪ )14:‬و (التوبة‪ )34:‬وقد سبق التطرق لما عند الديث عن معدن الذهب‪.‬‬
‫‪ )(2‬صفوة التفاسي‪ ،‬ممد علي الصابون‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.286‬‬

‫‪283‬‬
‫‪{ -1‬آتون زبر الديد حت إذا ساوى بي الصدفي قال انفخوا‪ ،‬حت إذا جعله نارا قال‬
‫آتون أفرغ عليه قِطْرا‪ ،‬فما اسطاعوا أن يظهروه‪ ،‬وما استطاعوا له نقبا}(الكهف‪)96:‬‬
‫وقد جاء فيها ‪( :‬أي أعطون قطع الديد‪ ،‬واجعلوها ل ف ذلك الكان‪ ،‬حت إذا ساوى‬
‫بي جانب البلي {قال انفخوا} أي انفخوا بالنافيخ عليه‪{ .‬حت إذا جعله نارا} أي جعل‬
‫ذلك الديد التراكم كالنار بشدة الحاء {قال آتون أفرغ عليه قطرا} أي أعطون أصبّ‬
‫عليه النحاس الذاب‪ .‬قال الرازي‪ :‬لّا أتوه بقطع الديد وضع بعضها على بعض حت صارت‬
‫بيث تسد ما بي البلي إل أعلها‪ ،‬ث وضع النافيخ عليها حت إذا صارت كالنار صبّ‬
‫عليها النحاس الذاب على الديد الحمى فالتصق بعضه ببعض وصار جبلً صلدا)(‪.)1‬‬
‫‪ -2‬وورد اللفظ العرّف كذلك ف الية الكرية {وألنا له الديد}(سبأ‪ ،)10:‬ويطالعنا‬
‫الفسرون فيما يتص بذه الية بقولم‪( :‬أي جعلناه لينا ليعمل به ما شاء‪ .‬قال السن‪ :‬صار‬
‫الديد كالشمع يعمله من غي نار‪ .‬وقال السدي‪ :‬كان الديد ف يده كالطي البلول‬
‫والعجي والشمع يصرفه كيف يشاء من غي نار ول ضرب بطرقة)(‪.)2‬‬
‫‪ -3‬وأخيا‪ :‬فقد وردت لفظة "الديد" ف الية الكرية‪:‬‬
‫{وأنزلنا الديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}(الديد‪.)25:‬‬
‫وقد ورد ف معن هذه الية‪ ،‬أي‪( :‬وخلقنا وأوجدنا الديد فيه بأس شديد‪ ،‬لن آلت‬
‫الرب تُتخذ منه‪ ،‬كالدروع‪ ،‬والرماح‪ ،‬والتروس‪ ،‬والدبابات‪ ،‬وغي ذلك‪{ .‬ومنافع للناس}‬
‫أي وفيه منافع كثية للناس كسكك الراثة‪ ،‬والسكي‪ ،‬والفأس‪ ،‬وغي ذلك‪ ،‬وما من صناعة‬
‫إل والديد آلة فيها‪ ..‬وأراد بالديد جنسه من العادن؛ قاله المهور)(‪.)3‬‬

‫معدن النحاس‬

‫‪ )(1‬صفوة التفاسي‪ ،‬ممد علي الصابون‪،‬ج ‪،2‬ص ‪.206‬‬


‫‪ )(2‬فتح القدير‪ ،‬ممد بن علي بن ممد الشوكان‪ ،‬الجلد الرابع‪ ،‬ص ‪.315‬‬
‫‪ )(3‬صفوة التفاسي‪ ،‬ممد علي الصابون‪ ،‬الجلد الثالث‪ ،‬ص ‪.329‬‬

‫‪284‬‬
‫ورد ذكر معدن النحاس(‪ )1‬ف القرآن الكري بتعبيات متلفة‪ ،‬فقد أشي إليه بـلفظه‬
‫الصريح أي‪" :‬ناس"‪ ،‬فقال عزّ وجل‪:‬‬
‫{يرسل عليكما شواظ من نارٍ وناسٌ فل تنتصران}(الرحن‪)35:‬‬
‫وعُب عنه كذلك بألفاظ أخرى من أمثال "قِطْرا" وذلك ف الية الكرية‪:‬‬
‫{قال آتون أُفرغ عليه قِطْرا}(الكهف‪)96:‬‬
‫وأشي إل معدن النحاس كذلك بالتعبي الركب "عي القِطْر"‪ ،‬وذلك ف الية الكرية‪:‬‬
‫{وأسلنا له عي القِطْر}(سبأ‪)12:‬‬

‫‪ )(1‬ما يستوقف النسان ف هذا العصر أن القرآن الكري قد أشار إل الفوائد القريبة لذه العادن‪ ،‬لكن لعل ف تلك‬
‫الشارات إل تلك العادن بالذات هي دعوة للنسان للبحث عن مزيد ما يصها من معارف‪ ،‬وقد وجد أن النحاس‬
‫موجود ف تركيب جسم النسان ذاته‪ ،‬فهو يدخل ف تركيب أنزي السيتو كروم أوكسيديز ‪Cytochrome‬‬
‫‪ Oxidase‬الذي له دور ف عملية التنفس‪ ،‬ويتواجد النزي السابق ف اليتوكوندريا‪ ،‬وهو ذو أهية ف عمليات‬
‫الكسدة والختزال‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫وف كلتا حالتيه الخيتي {قِطْرا} و {عي القِطْر} ‪-‬و فيما يبدو لنا‪ -‬فإن اللفاظ قد‬
‫جاءت لتعب عن الالة السائلة لعدن النحاس (الصهي) بينما ت التعبي عن حالته الصلبة‬
‫باللفظ "ناس" كما ف قوله تعال‪:‬‬
‫{يرسل عليكما شواظ(‪ )1‬من نارٍ وناسٌ(‪ )2‬فل تنتصران}(الرحن‪)3()35:‬‬
‫وقد وردت "عي القِطْر" و" ِقطْرا" للدللة على الالة الطبيعية الثانية للنحاس؛ وهي‬
‫(الالة السائلة) أو "الصهي"‪.‬‬

‫"النحاس" و "القطر"‪ ..‬إسم لكل حالة طبيعية؟!‬

‫‪ )(1‬اللهب الذي ل دخان فيه‪ .‬أو هو لب النار الامية‪.‬‬


‫‪ )(2‬قال ابن عباس‪{ :‬ناس} هو الدخان الذي ل لب فيه‪( .‬صفوة التفاسي‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.)296‬‬
‫‪ )(3‬ت تناول هذه الية بشيء من التفصيل ف ص (‪ )89‬من الكتاب‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫يتوافق ما ذهبنا إليه بشأن اختلف تسمية معدن النحاس باختلف حالته الطبيعية‬
‫(صلب‪-‬سائل) مع حالت مشابة ت فيها استخدام ألفاظٍ متلفةٍ للتعبي عن الالت‬
‫الطبيعية الفيزيائية الختلفة لنفس الادة‪ ،‬فالاء مثلً ف حالته السائلة يدعى "ماء" لكنه إذا‬
‫تول للحالة الصلبة صار ثلجا‪ ،‬ول نقول "ما ًء ممدا" ث إذا تول إل الالة الغازية صار‬
‫"بارا" لذا فإنه من قبيل الدقة اللغوية أن يفرق القرآن الكري بي حالت الصلبة والسيولة‬
‫للنحاس‪ ،‬وأن يُعب عن كل حالةٍ با يناسبها من ألفاظ‪.‬‬
‫وعلى الرغم من اعتقاد بعض الفسرين بأن "عي القِطْر" قد تكون عينا ترج ناسا من‬
‫الرض‪ ،‬حيث جاء قولم ف الية الكرية {وأسلنا له عي القطر} أي‪( :‬أسلنا له عي‬
‫النحاس كما ألنا الديد لداود‪ ،‬وقال قتادة‪ :‬أسال ال له عينا يستعملها فيما يريد)(‪..)1‬‬

‫‪ )(1‬فتح القدير‪ ،‬ممد بن علي الشوكان‪ ،‬الجلد الرابع‪ ،‬ص ‪.316‬‬

‫‪287‬‬
‫على الرغم من ذلك العتقاد فإننا نيل إل أن كلمة "عي" هنا قد ل تعن ما يتبادر إل‬
‫الذهن للوهلة الول؛ من أنا عي ترجُ ناسا سائل من باطن الرض؛ بل قد تكون إشارة‬
‫دقيقة للدللة على أن النحاس (الذي هو موضوع النقاش هنا) إنا هو ناسٌ ف حالته‬
‫السائلة‪ ،‬وهي بذا تتشابه مع عي الاء ف سيولتها‪ ،‬وليس ف مصدر خروجها من باطن‬
‫الرض!‪..‬‬
‫وتتعاضد هذه الشارة مع الشارة السابقة الت ت التعبي فيها عن النحاس بـاللفظ‬
‫"قِطْرا" لتعطيا نفس العن ونفس الدللة؛ من أن النحاس هنا هو النحاس النصهر وليس‬
‫النحاس ف حالته الصلبة‪.‬‬
‫أما الواضع الت وردت فيها اللفاظ "قِطْرا" و "عي القِطْر" والعبة عن النحاس ف حالته‬
‫السائلة‪ ،‬فكانت‪:‬‬
‫أ‪ -‬الية الكرية‪{ :‬حت إذا جعله نارا قال آتون أُفرغ عليه قِطْرا‪ ،‬فما اسطاعوا أن‬
‫يظهروه‪ ،‬وما استطاعوا له نقبا}(الكهف‪.)18:‬‬

‫‪288‬‬
‫ب‪ -‬وكذلك الية الكرية‪{ :‬ولسليمان الريح‪ُ ،‬غ ُدوُها شهرٌ ورواحها شهر‪ ،‬وأَسَلْنا له‬
‫عي القِطْر}(سبأ‪)13-12:‬‬
‫أما اللحظات الت تستوقف القارئ لذه اليات فهي‪ :‬أن القرآن الكري قد فرّق بي‬
‫طريقت إعداد العدني للستعمال‪ ،‬فاستخدم للحديد التعبيات {حت إذا جعله نارا} (أي‬
‫كالنار من شدة الحاء) و {وألنّا له الديد} (أي جعلناه لينا ليعمل به ما شاء) بينما‬
‫استخدم للنحاس اللفظ {قِطْرا} كما عب عنه كذلك بـ قوله‪{:‬أسلنا له عي القِطْر}‬
‫وكلها يشي إل النحاس الذاب‪ ،‬أي ف حالته السائلة‪.‬‬
‫ول شك ف أن التفريق بي العدني من حيث تصرفهما وانفعالما بالرارة يُعدّ وجها من‬
‫وجوه العجاز القرآن‪ ،‬لنه لو كان القرآن الكري من عند غي ال لا أمكن لبشرٍ التمييز‬
‫فمحمد (صلى ال‬ ‫بي اللفاظ من حيث مناسبتها لالت هذين العدني ودرجات انصهارها‪،‬‬
‫عليه وسلم) ‪-‬ف البدء والنتهى‪ -‬ل يكن حدادا أو سباكا يعمل ف سباكة العادن وصهرها‬
‫فيعرف ذلك بالتجربة!؟‪.‬‬
‫لكن ماذا يعن لنا استخدام اللفظي (ألن) و (أسال) من الناحية الكيميائية؟!‬

‫‪289‬‬
‫التوزيع اللكترون‬
‫وعلقته بالواص الرارية لعدن الديد والنحاس(‪)1‬‬
‫لكي نستجلي غموض هذا المر فلبد من إيراد الزيد من القائق حول بنية الذرّة‬
‫وتوزيع اللكترونات ف مداراتا الختلفة‪ ،‬وذلك تهيدا للقاء الضوء على التوزيع‬
‫اللكترون لكلٍ من معدن الديد والنحاس‪.‬‬
‫كما أشرنا سابقا فإن الذرة تتكون من نواة تتركز فيها الشحنة الوجبة (البوتونات)‪،‬‬
‫بالضافة إل أجسام متعادلة الشحنة تدعى (النيوترونات)‪ ،‬والت لا نفس وزن‬
‫(البوتونات)‪ ،‬وتشكل النيوترونات والبوتونات ‪،‬متمعةً‪ ،‬الوزن الكلي والفعلي للذرّة‪.‬‬
‫يدور حول النواة مموعة من اللكترونات مساوية للبوتونات من حيث العدد ومقدار‬
‫الشحنة‪ ،‬وتتلف شحنة اللكترون عن شحنة البوتون ف كونا سالبة‪ ،‬وتكاد اللكترونات‬
‫تكون معدومة الوزن(‪.)2‬‬

‫‪ )(1‬تت ترجة هذه الادة إل الفرنسية تت عنوان "الديد والنحاس ف القرآن الكري"‪ ،‬حيث قامت الباحثة الغربية‬
‫الدكتورة "إيان بوخبزة" بترجتها وتقديها لؤتر العجاز ف القرآن الكري‪ ،‬والذي انعقد ف مدينة تطوان بالغرب‬
‫بتاريخ ‪.26/6/2005‬‬
‫‪ )(2‬يعادل وزن اللكترون (‪ )1/1840‬من وزن البوتون تقريبا‪.‬‬

‫‪290‬‬
‫ونظرا لتساوي أعداد الشحنات الوجبة (البوتونات) مع أعداد الشحنات السالبة‬
‫(اللكترونات) ونظرا لتضاد نوعية تلك الشحنات؛ فلم يكن غريبا ‪،‬والمر كذلك‪ ،‬أن‬
‫يُقال‪ :‬إن الذرّة (الذرّة وليس اليون) متعادلة كهربيا‪ ،‬لكن يكن للذرّة ‪،‬خلل التفاعلت‬
‫الكيميائية‪ ،‬أن تفقد إلكترونا أو أكثر فتتغلب الشحنة الوجبة على السالبة ف القدار؛‬
‫وتتحول الذرّة إل أيون موجب‪ ،‬ويكن للذرّة كذلك أن تكتسب إلكترونا أو أكثر وأن‬
‫تتحول بالتال إل أيون سالب‪.‬‬
‫تعتب النواة وما فيها من بروتونات ونيوترونات ذات تأثي هامشي ف التفاعلت‬
‫الكيميائية العادية‪ ،‬ولكنها مكان التفاعلت النووية‪ ،‬وتعتب اللكترونات ‪،‬ف الدار الارجي‬
‫على وجه الصوص‪ ،‬صاحبة التأثي الكب ف التفاعلت الكيميائية؛ بالضافة إل ما تبديه‬
‫من تأثي على الصفات الفيزيائية (الطبيعية)؛ مثل حالت الصلبة أو السيولة أو الغازية‪،‬‬
‫وتكون ذات تأثي واضح ف الفلزات على وجه الصوص‪ ،‬فهي تؤثر ف صفات التوصيل‬
‫الراري‪ ،‬التوصيل الكهرب‪ ،‬درجة النصهار‪ ،‬درجة اللمعان‪ ...‬ال‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫وكما أسلفنا فإن اللكترونات تتوزع حول النواة بشكل مدد ودقيق‪ ،‬ويتحدد موضع‬
‫كل إلكترون حول النواة حسب أربعة متغيات(‪ )1‬ويكن للكتروني متلفي أن يتجاورا‬
‫فيتشابا ف ثلثة من تلك التغيات؛ لكن ل يكن لما أن يتشابا ‪،‬على الطلق‪ ،‬ف التغي‬
‫الرابع‪ ،‬لن التشابه ف التغي الرابع سيعن حينئذٍ أن يتواجد هذان اللكترونان ف نفس‬
‫الكان ف ذات الوقت‪ ،‬وأن يدورا حول نفسيهما ف نفس التاه؛ وهذا أمر مستحيل‪ ،‬إذ‬
‫لبد لما أن يتلفا ‪،‬على القل‪ ،‬فيما يسمى بعدد الكم الغزل (‪ )Spin‬والذي يعن‪ :‬دوران‬
‫أحدها مع حركة عقارب الساعة‪ ،‬ودوران الخر ضد حركة عقارب الساعة‪ ،‬حيث يأخذ‬
‫الول إشارة موجبة‪ ،‬بينما ييز الخر عنه بإشارة سالبة‪ ،‬وها بذا يكن تشبيههما بأخوين‬
‫شقيقي‪ ،‬يكن لما أن يتشابا ‪-‬من حيث التسمية‪ -‬ف ثلثة من عناصر السم الرباعي‪،‬‬
‫لكن ول بأي حال يكن لما أن يتشابا ف العنصر الرابع‪ ،‬وإن حدث ذلك فهو يعن أن‬
‫يأخذ الخوان نفس السم‪ ،‬وهذا مستحيل!!‪.‬‬
‫ومـن العلوم أن اللكترونات تتوزع حول أنويـة الذرات فـ مسـتويات طاقـة رئيسـية‬
‫(أغلفة) وهذه الستويات أو الغلفة تقدر بسبعة أغلفة ف حالة الذرات الستقرة‪ .‬ول يكن‬
‫لي مستوى رئيسي أن يستوعب أكثر من عدد مدد من اللكترونات‪ ،‬ويتحدد هذا العدد‬
‫حسب رقم الستوى ذاته‪ ،‬ولو افترضنا أن رقم الستوى (‪ )2()n‬فإن عدد اللكترونات الذي‬
‫يستطيع كل مستوى أن يستوعبه هو ‪ 2:‬مضروبا ف (مربع رقم الستوى)‪.‬‬

‫‪ )( 1‬التغيات الربعة الت تدد وضع إلكترون وحالته هي‪ :‬مكانه بالنسبة للمستويات الرئيسية‪ ،‬مكانه بالنسبة‬
‫للمستويات الفرعية ضمن "مستوى رئيسي" معي‪ ،‬مكانه ف مدار (أوربيتال) معي يقع تت "مستوى فرعي" معي‪،‬‬
‫وأخيا‪ :‬اتاه دوران اللكترون حول نفسه مع أو ضد اتاه دوران عقارب الساعة‪.‬‬
‫‪ )(2‬ويطلق عليه اسم (عدد الكم الرئيسي) (يشار إليه بالعداد‪ ...3 ،2 ،1 :‬لغاية العدد ‪ 7‬ابتداء من الستوى‬
‫القرب للنواة‪.‬‬

‫‪292‬‬
‫إلكترون‬ ‫‪2‬‬ ‫[‪=]2)1(×2‬‬ ‫فالستوى الول يتشبع بعدد‬
‫إلكترون‬ ‫‪8‬‬ ‫[‪= ]2 )2(×2‬‬ ‫بينما يستوعب الستوى الثان عدد‬
‫إلكترون‬ ‫‪18‬‬ ‫[‪=]2 )3(×2‬‬ ‫ويتشبع الستوى الثالث بالعدد‪:‬‬
‫أما الستوى الرئيس الرابع فإن أقصى عدد من اللكترونات يكن أن يستوعبه =‬
‫‪ 32 =2 )4(×2‬إلكترون‪،‬وهكذا‪...‬‬
‫وقد وُجد أن مستويات الطاقة الرئيسية (الغلفة) يكن أن تنقسم ف داخلها إل‬
‫مستويات فرعية (تت أغلفة)‪ ،‬وقد أطلق على "تت الغلفة" اسم (عدد الكم الثانوي)‪،‬‬
‫ويُشار إليها بالحرف اللتينية(‪ )s( )1‬و (‪ )p‬و (‪ )d‬و (‪ )f‬وهكذا‪...‬‬
‫وقد وُجد أن الستوى الرئيس الول(‪( )1‬القرب إل النواة) يتوي على مستوى فرعي‬
‫واحد هو (‪.)s‬‬
‫والستوى الرئيس الثان يتوي على مستويي فرعيي (تت أغلفة) أعطيت الحرف‬
‫اللتينية (‪ )s‬و(‪.)p‬‬
‫أما الستوى الرئيس الثالث فقد وجد أنه يتكون من مستويات فرعية (تت أغلفة)‬
‫عددها ثلثة‪ ،‬أعطيت الحرف اللتينية (‪ )s‬و (‪ )p‬و (‪.)d‬‬
‫أما الستوى الرئيسي الرابع فيحتوي على أربعة مستويات فرعية (تت أغلفة) هي‪)s( :‬‬
‫و(‪ )p‬و(‪ )d‬و(‪ .)f‬وهكذا دواليك حت الستوى الرئيس السابع‪.‬‬
‫وما أوجزناه هنا يطرح السؤال التال‪ :‬ما علقة عدد الغلفة با نن بصدده من دراسة‬
‫لصفات الديد و النحاس؟!‪..‬‬

‫‪ )(1‬كما سبق وأن أوضحنا فإن الدارات الت تدور اللكترونات حول النواة ف نطاقها تنقسم إل مستويات رئيسية‬
‫(أغلفة) يكن أن تصل إل سبعة‪ ،‬لكن وجد أن تلك الستويات الرئيسية (تت الغلفة) تنقسم ف داخلها إل تت‬
‫مستويات (تت أغلفة) اتفق على أن تعطى تلك الدارات (تت الغلفة) الحرف اللتينية‪)s(:‬و(‪)p‬و(‪)d‬و (‪.)f‬‬

‫‪293‬‬
‫والواب هو أن الصفات الت يبديها أي عنصر من العناصر إنا يددها عدد‬
‫اللكترونات الت تدور حول النواة‪ ،‬وكيفية توزيعها ف الستويات الختلفة‪ ،‬والستوى‬
‫الخي على وجه الصوص!‪.‬‬
‫ولنحاول الن تبسيط المور وذلك بشرح كيفية توزيع اللكترونات حول الذرات‬
‫الختلفة؛ ولنبدأ بأبسط الذرات على الطلق وهي ذرّة غاز اليدروجي‪.‬‬
‫تتركب ذرة اليدروجي من‪ :‬نواة تتوى على بروتون واحد‪ ،‬ونيوترون واحد‪ ،‬أما‬
‫بالنسبة لللكترونات ‪،‬وهو ما يهمنا هنا‪ ،‬فتحتوي ذرّة اليدروجي على إلكترون واحد‬
‫يتواجد ف الستوى الرئيس الول‪ ،‬وبراعاة قراءة معادلة التوزيع من اليسار إل اليمي؛‬
‫يكون توزيعه اللكترون كما يلي‪:‬‬
‫‪s)1(1‬‬
‫ولنقفز الن إل عنصر عدد إلكتروناته (‪ )11‬وهو عنصر نشط وفعال يعرف باسم‬
‫الصوديوم‪ ،‬حيث سنجد أن توزيعه اللكترون هو‪:‬‬
‫‪1(s)2 , 2(s)2 2(p)6 3(s)1‬‬
‫فماذا يعن هذا التوزيع؟‬
‫إنه يعن أن الستوى الرئيسي الول (العدد "‪ ”1‬الوجود إل يسار الرمز) يتوي على‬
‫مستوى فرعي واحد (‪ )s‬وهو مشبع بإلكتروني‪ ،‬أما الستوى الرئيسي الثان (العدد "‪“2‬‬
‫الوجود إل يسار الرمز) فهو يتوي على مستويي فرعيي (‪ )2s‬و (‪ ،)2p‬ويشغله ثانية‬
‫إلكترونات (‪ )2‬و (‪ )6‬على التوال‪ ،‬أما الستوى الرئيس الثالث (العدد "‪ ”3‬الوجود إل يسار‬
‫الرمز) فإن اللكترون الوحيد التبقي يتخذ له مكانا ف (‪)3s‬؛ ما يعن أن هناك إلكترونا‬
‫وحيدا‪ ،‬تُنسب إليه فعالية الصوديوم‪ ،‬مكانه ف الستوى الفرعي الخي (‪.)3s‬‬
‫ولنأتِ الن إل الفلزين مور النقاش‪ ،‬وها الديد والنحاس‪ ،‬ولنتعرف على توزيع‬
‫اللكترونات حول النواة لكل منهما؛ ونبدأ بالديد‪:‬‬

‫‪294‬‬
‫‪Fe26 = 1(s)2 , 2(s)2 2(p)6 , 3(s)2 3(p)6 , 4(s)2 , 3(d)6‬‬
‫ولنقم الن بتوزيع اللكترونات ف الدار الفرعي الخي [‪ ،]d)6(3‬حيث يتكون هذا‬
‫الدار من خسة صناديق (أوربيتال) يكن لكل منها أن يتلئ ف أقصى طاقته بإلكتروني‬
‫يزدوجان معا‪ ،‬ويلغي عندئذ كل منهما التأثي الغناطيسي للخر‪:‬‬
‫‪3d 6‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫التوزيع اللكترون للمدار الفرعي الخي لذرّة الديد ‪Fe26‬‬
‫فإذا ما احتُل أحد الصناديق بإلكترون واحد فإن ذلك اللكترون يكون له تأثي‬
‫مغناطيسي (سالب أو موجب)‪..‬‬
‫ومن هذا التوزيع اللكترون الشار إليه نلحظ أن لذرّة الديد أربعة إلكترونات منفردة‬
‫ف مدارها الخي‪ ،‬ويكون لذه اللكترونات الربعة تأثيا مغناطيسيا يعادل مموع تأثي‬
‫أربعة إلكترونات‪..‬‬
‫ونتوقف عند هذه النقطة لنتناول معدن النحاس‪ ،‬لكن دون أن ننسى أن هناك ف الدار‬
‫الخي لعدن الديد أربعة إلكترونات منفردة!‪.‬‬
‫وبنفس الطريقة فلنحاول التعرف على التوزيع اللكترون لعدن النحاس؛ وذلك لجل‬
‫القارنة بينه وبي فلز الديد من حيث تأثي الرارة على كل منهما؛ ودرجة النصهار على‬
‫وجه الصوص‪:‬‬
‫‪3d 9‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫التوزيع اللكترون للمدار الفرعي الخي لذرّة النحاس ‪Cu29‬‬
‫من التوزيع السابق لللكترونات ف الدار الفرعي الخي لذرّة النحاس ند أن لتلك‬
‫الذرّة إلكترونا واحدا منفردا ف مدارها الخي‪ ،‬ويكون التأثي الغناطيسي لللكترونات‬
‫النفردة ف ذرة النحاس يعادل تأثي إلكترون واحد فقط!‪ ..‬بعكس الديد الذي يتلك تأثر‬
‫أربعة من اللكترونات النفردة!!‬

‫‪295‬‬
‫ما سبق وبقارنة توزيع اللكترونات ف الدار الخي لكل من ذرت الديد والنحاس‬
‫نلحظ ما يلي‪:‬‬
‫‪-1‬أن الدار الفرعي الخي للحديد يتوي على أربعة إلكترونات منفردة‪ ،‬يقابله إلكترون‬
‫واحد ف ذرّة النحاس‪.‬‬
‫‪-2‬اللكترونات الربعة ف ذرة الديد واللكترون الوحيد ف ذرة النحاس؛ تعتب صاحبة‬
‫التأثي الكب على الواص الكيميائية والفيزيائية لكليهما‪ ،‬بيث تعتمد عليها إمكانية‬
‫تكوين روابط فلزية (معدنية) بي ذرات العنصر نفسه‪.‬‬
‫‪-3‬تكتسب تلك الفلزات قوة صلبتها وارتفاع درجة انصهارها من عدد اللكترونات‬
‫السائبة ف الدار الخي‪ ،‬والت تتجمع على هيئة سحب إلكترونية تتحكم ف الواص‬
‫الفيزيائية للعنصر مثل‪ :‬درجة النصهار‪ ،‬درجة التوصيل‪ ،‬اللمعان‪ ...‬ال‪.‬‬
‫ما سبق يتأكد لنا بأن التوزيع اللكترون لكلٍ من فلزي الديد والنحاس يؤكد حقيقة‬
‫أن درجة انصهار الديد أعلى من درجة انصهار النحاس‪ ،‬بسبب وجود أربعة إلكترونات‬
‫منفردة ف مداره الخي؛ مقارنة بإلكترون واحد ف الدار الخي للنحاس‪ ،‬وهذا المر هو‬
‫حقيقة واقعة إذ تبلغ درجة انصهار الديد (‪ 1535‬درجة مئوية) بينما تبلغ درجة انصهار‬
‫النحاس (‪ 1083.4‬درجة مئوية)!‬
‫من هنا جاز لنا أن نتخيل بأن تعريض الديد والنحاس لصدر حراري واحد سيؤدي إل‬
‫"إسالة" النحاس‪ ،‬وعندها يكون الديد قد "لن" فقط!‪.‬‬
‫والنتيجة النهائية الت نرج با من هذا الشرح هي أن هناك دقة غي بشرية ف استخدام‬
‫اللفاظ {ألنّا} ومصدرها الليونة و{أسلنا} ومصدرها السيولة‪ ،‬وأن ذلك التفريق ل يكن‬
‫ليتأتّى لبشر مهما أوت من العلم‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫زاوية أخرى للنظر؟!‪...‬‬
‫أما الزاوية الخرى الت نتناول معدن الديد والنحاس بالدراسة من خللا؛ فهي تلك‬
‫التعلقة بالنهج الذي اتبع لتفسي اليات الت جاءا ف سياقها‪ ،‬ولنا هنا ملحظتان‪:‬‬
‫هل يكن أن نكون قد أخطأنا؟!!‬
‫اللحظة الول‪ :‬للوهلة الول يبدو وكأننا قد وقعنا ف تناقض‪ ،‬وذلك حي فرّقنا بي‬
‫الالتي الطبيعيتي (الصلبة والسائلة) لعدن النحاس‪ ،‬واعتبارنا أن اللفظ "ناس" يتص‬
‫بالالة الطبيعية الول (الصلبة)‪ ،‬وأن اللفظي " ِقطْرا" و"عي القِطْر" يتصان بالالة الطبيعية‬
‫الثانية (السائلة)‪.‬‬
‫ويالف ما ذهبنا إليه آنفا ما قال به بعض الفسرين؛ واعتبارهم أن ما قصد إليه من وراء‬
‫كلمة "ناس" ف قوله تعال {يرسل عليكما شواظ من نار وناس‪ }...‬إنا هو (ناس مذاب‬
‫يصب على رءوسكم يوم القيامة)(‪.)1‬‬
‫لكن ما بدا هنا وكأنه تناقض ل يكن اللحظة الوحيدة الت وجب التوقف عندها‪ ،‬فلكي‬
‫نستطيع الوصول إل ما هو أقرب للصواب؛ لبد لنا من النظر إل تلكم اليات برمتها من‬
‫زاوية جديدة‪.‬‬
‫يقول ال تعال ف مكم التنيل‪:‬‬
‫{يا معشر الن والنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والرض‬
‫فانفذوا‪ ،‬ل تنفذون إل بسلطان‪ ،‬فبأي آلء ربكما تكذبان‪ ،‬يرسل عليكما‬
‫شواظٌ من نار وناسٌ فل تنتصران}(الرحن‪)35-33:‬‬

‫‪ )(1‬صفوة التفاسي‪ ،‬ممد علي الصابون‪ ،‬الجلد الثالث‪ ،‬ص ‪.298‬‬

‫‪297‬‬
‫وكما يتضح من الية الكرية فإن الطاب هنا موجه للثقلي‪ ،‬أي الن والنس‪ ،‬وقد‬
‫اعتب بعض الفسرين أن الطاب قد وجه لما‪( :‬إن قدرت أن ترجوا من جوانب السماوات‬
‫والرض هاربي من ال‪ ،‬فارين من قضائه‪ ،‬فاخرجوا منها‪ ،‬وخلّصوا أنفسكم من عقابه‪،‬‬
‫والمر للتعجيز {ل تنفذون إل بسلطان} أي ل تقدرون على الروج إل بقوة وقهر وغلبة‪،‬‬
‫وأنّى لكم ذلك؟ قال ابن كثي‪ :‬معن الية أنكم ل تستطيعون هربا من أمر ال وقدره‪ ،‬بل‬
‫هو ميط بكم ل تقدرون على التخلص من حكمه‪ ،‬أينما ذهبتم أحيط بكم‪ ،‬وهذا ف مقام‬
‫الشر حيث اللئكةُ مدقةٌ باللئق سبع صفوف من كل جانب‪ ،‬فل يقدر أحدٌ على‬
‫الذهاب إل بسلطان‪ ،‬أي إل بأمر ال {يرسل عليكما شواظٌ من نار} أي يرسل عليكما يوم‬
‫القيامة لب النار الامية {وناس} أي وناس مذاب يصب فوق رءوسكم‪ .‬قال ماهد‪ :‬هو‬
‫الصفر العروف يصب على رءوسكم يوم القيامة) أ ‪ .‬هـ(‪.)1‬‬
‫والنظر هنا يتنازعه تفسيان‪ :‬أحدها‪ :‬يصفه بأنه خاص بيوم الشر‪...‬‬
‫والخر يقدمه لنا من خلل نظرة مستحدثة‪ ،‬تشبعت بالنازات الت قدمتها الضارة‬
‫النسانية؛ ومن معالها‪ :‬النطلق إل آفاق الكون الواسع‪ ،‬عب رحلت فضائية وصلت إل‬
‫سطح القمر‪ ،‬والريخ…ال‪ ،‬ومن خلل ما وصلت إليه الناظي العملقة الت نفذت إل‬
‫أعماق الكون بئات بل مليي السنوات الضوئية‪.‬‬
‫وف معرض تقييم كلتا وجهت النظر؛ فقد عاب بعض العلماء النظرة الثانية (التفسي‬
‫العلمي) قائلً‪( :‬جنح بعض التأخرين ف هذه اليام إل تفسي الية تفسيا خاطئا‪ ،‬فزعموا‬
‫أن النسان يكنه الصعود إل السماوات وإل الكواكب‪ ،‬وفسروا "السلطان" بالعلم‪ ،‬وهو‬
‫مالفٌ لقوال الفسرين‪ ،‬ويرده سياق الية وسباقها‪ ،‬فإن الية سيقت لبيان أهوال الخرة‬
‫وشدائدها بدليل قوله تعال {سنفرغ لكم أيها الثقلن} وقوله بعدها {يرسل عليكما شواظ‬
‫من نار وناس} وقد اتفق الفسرون على أنا ف الخرة)(‪.)2‬‬

‫‪ )(1‬صفوة التفاسي‪ ،‬ممد علي الصابون‪ ،‬الجلد الثالث‪ ،‬ص ‪.298‬‬


‫‪ )(2‬صاحب كتاب صفوة التفاسي‪ ،‬الجلد الثالث‪ ،‬حاشية ص ‪.297‬‬

‫‪298‬‬
‫وهاتان النظرتان تعبان عن رؤيةٍ نوذجيةٍ لنظر واحد؛ وقد اختلفت فيه الراء‪ ،‬لكن ما‬
‫نريد إثباته هنا هو أن هذا الختلف هو أمر طبيعي نشأ ‪،‬بشكل أساسي‪ ،‬نتيجة امتلك‬
‫النسان العاصر لصيلةٍ هامةٍ من العلوم النظرية والتجريبية‪ ،‬أعطته الزيد من الفق الذي‬
‫يكن أن يُرى من خلله النص‪.‬‬
‫لذلك فل مفر من طرح مموعة من الفكار‪ ،‬لحاولة الوصول إل ما هو أقرب إل‬
‫الصواب‪ ،‬مستذكرين أن القدسية تنسحب على النص وحده‪ ،‬أما فهمه؛ ففيه اجتهاد‪.‬‬
‫والزاوية الت نريد دراسة النص من خللا‪ ،‬هي ما تمله ألفاظه من مدلولت‪ ،‬ولنا هنا‬
‫عدة ملحظات‪:‬‬

‫‪299‬‬
‫‪ -1‬الذين قالوا بتعلق المر بيوم الشر؛ فسروا كلمة {تنفذوا} على أنا ماولة للهروب من ال‬
‫ومن قضائه‪ ،‬ولبد هنا من النظر إل ما تعطيه كلمة {تنفذوا} من معن وإياء(‪ )1‬وسنجد‬
‫حينها أنا تعطي مدلولً هو أقرب إل معن "الختراق" و"الجتياز" منه إل معن "الروب"‪.‬‬
‫‪ -2‬إذا ما حاولنا القابلة بي كلمة "تنفذوا" بعناها الذي ذهب إليه البعض ‪،‬أي الروب‪ ،‬وبي ما‬
‫ورد ف القرآن الكري مُعبِا عن نفس العن ‪،‬أي الفِرار‪ ،‬لوجدنا أن القرآن الكري قد عرض‬
‫لعن الفِرار ف عدة مواضع‪ ،‬فجاءت هي ومشتقاتا كما يلي‪:‬‬
‫{ففررت منكم لا خفتكم}(الشعراء‪)21:‬‬
‫{قل لن ينفعكم الفِرار إن فررت من الوت أو القتل}(الحزاب‪)16:‬‬
‫{كأنم ُحمُرٌ مستنفرة‪ ،‬فرتْ من قسورة}(الدثر‪)51:‬‬
‫{قل إن الوت الذي تفرون منه فإنه ملقيكم}(المعة‪)8:‬‬
‫{ففروا إل ال إنّي لكم منه نذير مبي}(الذاريات‪)50:‬‬
‫{لو اطلعت عليهم لوليت منهم فِرارا}(الكهف‪)18:‬‬
‫{وما هي بعورة‪ ،‬إن يريدون إل فِرارا}(الحزاب‪)13:‬‬
‫{فلم يزدهمْ دعائي إل فِرارا}(نوح‪)6:‬‬
‫{يوم يفر الرء من أخيه}(عبس‪)34:‬‬
‫{يقول النسان يومئذٍ أين الفر}(القيامة‪)10:‬‬
‫وبالرجوع لليات حسب ترتيبها ند أنا تناولت عددا من أنواع الفِرار من أمثال‪:‬‬
‫(فِرار الوف‪ ،‬الفِرار من الوت أو القتل‪ ،‬فِرار البهائم من بعضها‪ ،‬الفرار من الوت‪ ،‬الفِرار‬
‫إل ال‪ :‬بعن اللجوء والعودة إليه‪ ،‬فِرار الرعب‪ ،‬الفِرار من العركة‪ ،‬الفِرار من الداية‬
‫والصرار على الضلل‪ ،‬الفِرار من الخ والليل‪ ،‬العجز عن الفِرار الناشئ عن الية‬
‫والرتباك)‪ ...‬ونلحظ هنا أن النوعي الخيين ها ما يصيب النسان يوم الشر‪.‬‬

‫‪ )(1‬وردت كلمة "النفاذ" ف العجم الوسيط بعن‪ :‬جواز الشيئ عن الشيئ واللوص منه‪ ،‬كالنفوذ ومالطة السهم‬
‫جوف الرمية وخروج طرفه من الشق الخر‪ .‬أما "النفاذ" فقد ورد ف لسان العرب بعن‪ :‬الواز‪ ،‬وف الحكم‪:‬‬
‫جواز الشيء واللوص منه‪ .‬تقول‪ :‬نَفَ ْذتُ‪ :‬أي ُجزْت‪.‬‬

‫‪300‬‬
‫وإذا ما قارنّا هذه اليات بالية الت نن بصددها {إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار‬
‫السموات} لوجدنا أن هناك اختلفا بينا ف كيفية التناول‪ ،‬وكما يبدو جليا فإن اللفاظ‬
‫"تنفذوا" و "فانفذوا" و "تنفذون" (والت وردت ف الية الشار إليها) قد جاءت لوصف‬
‫حالة وحيدة من نوعها ل تتكرر ف موضع آخر من القرآن الكري‪ ،‬ما يمل على العتقاد‬
‫بأن النفاذ هنا ل يقصد به "الروب" أو "الفِرار"‪ ،‬وإنا قصد به نوع خاص وفريد من النفاذ‪،‬‬
‫أو الختراق‪ ،‬والذي يكن أن يكون مقصودا به النفاذ إل العال الارجي‪.‬‬
‫‪ -3‬إن التعبي الوارد ف الية الكرية مور النقاش {أن تنفذوا من أقطار السموات‬
‫والرض} يُفهم منه بشكل واضح وجود مكان هو (السماوات والرض) ول ينطبق هذا‬
‫المر على يوم الشر‪ ،‬حيث تكون الصورة قد اختلفت إل ما ل نعلمه‪ ،‬ففي ذلك اليوم لن‬
‫ند الرض الت نعرفها‪ ،‬ول السماوات‪ ،‬وذلك بنص اليات الكرية‪{ :‬يوم تُبدل الرضُ‬
‫غي الرض والسماوات‪ ،‬وبرزوا ل الواحد القهار}(إبراهيم‪ )48:‬والية‪ { :‬يوم نطوي‬
‫السماء كطي السجل للكتب}(النبياء‪)104:‬‬
‫‪ -4‬إن ما يدفع على العتقاد بأن ما أشارت إليه اليات {إن استطعتم أن تنفذوا من‬
‫أقطار السماوات والرض‪ }...‬هو ما نعرفه من سوات وأرض (وليس موقفا آخر من‬
‫مواقف يوم الشر) هو أن سورة "الرحن" قد تدثت من بدايتها عن عدة موضوعات كان‬
‫من بينها السماوات والرض‪ ،‬ويقطع هذا المر بأن القصود بالسماوات والرض ف كل‬
‫الوقعي واحد من حيث العن‪ ،‬وها السماوات والرض العروفتان لنا ف حياتنا الدنيا‪.‬‬
‫والنتيجة النهائية الت يكن تصيلها هنا بعد دراستنا للية الكرية {يا معشر الن‬
‫والنس} هي أن التعبي القرآن {أقطار السموات والرض} إنا قصد به أمر ف الياة الدنيا‬
‫وليس يوم الشر‪.‬‬

‫‪301‬‬
‫لكل السباب السابقة تتضح الاجة إل إعادة النظر ف التفسي الذي أورده بعض‬
‫الفسرين وذهبوا فيه إل أن القصود بالية الكرية {يا معشر الن والنس} هو موقف من‬
‫مواقف يوم القيامة‪ ،‬ول مفر من إضافة احتمال أن يكون القصود من الية الكرية هو ما‬
‫ذهب إليه بعض العلماء؛ من أن اليات تصف ماولت الن والنس للنفاذ إل العال‬
‫الارجي‪ ،‬ومن هنا ناول أن نلص إل ما يكن أن تكون قد ذهبت إليه اليات من معن؛‬
‫والذي قد يكون‪( :‬لقد كتب ال عزّ وجل على الن والنس أن يكونوا حبيسي جبلتهم الت‬
‫فطرهم ال عليها‪ ،‬لكن ستكون هناك ماولت من قبل الن لختراق أقطار السماوات‪،‬‬
‫وماولت من النس لختراق أقطار الرض‪ ،‬وحي تتم تلك الحاولت فإن نتيجتها مرهونة‬
‫بـسلطان ال الذي هو "إرادته" و"مشيئته"‪ ،‬وينبه عزّ وجل الثقلي إل أن ماولتم تلك‬
‫ستواجه بعقبات‪ ،‬إذ سيواجه الن بنار حارقة وشهب ثاقبة‪ ،‬وسيواجه النسان بعقبات تتمثل‬
‫ف الكتل السابة ف الفضاء من شهب و نيازك)‪.‬‬
‫وإذا ما اتفقنا على وجود مشروعية لوجهة النظر هذه‪ ،‬فلعل ذلك يعن أن ما قُصد إليه‬
‫من لفظة "ناس" يشابه ف معناه ما ذهب إليه المهور بالنسبة للحديد حي قالوا‪( :‬وأراد‬
‫بالديد جنسه من العادن)(‪ )1‬وعندها يكن النظر للنحاس على أساس أنه (أريد بالنحاس‬
‫جنسه من العادن) وهنا يكن تيل (مليي الليي من الشهب والنيازك النطلقة ف الفضاء‬
‫كأنا الرصاص والقنابل النهمرة)(‪.)2‬‬

‫إنتهى‬
‫ل تضنوا علينا بملحظاتكم‬

‫ممد صبحي السويركي‬


‫‪swairky@hotmail.com‬‬

‫‪ )(1‬صفوة التفاسي‪ ،‬ممد علي الصابون‪ ،‬الجلد الثالث‪ ،‬ص ‪.329‬‬


‫‪ )(2‬العلوم الطبيعية ف القرآن‪ ،‬يوسف مروة‪ ،‬دار ومكتبة اللل‪ ،‬بيوت‪ ،‬ص ‪.171‬‬

‫‪302‬‬
‫ول تنسونا وآباءنا من طيب دعائكم‬

‫‪303‬‬
‫مراجع بث الكيمياء‬
‫‪ .1‬القرآن الكري‪.‬‬
‫‪ .2‬صفوة التفاسي‪ ،‬ممد علي الصابون‪ ،‬دار الصابون للطباعة والنشر والتوزيع‪.‬‬
‫‪ .3‬ف ظلل القرآن‪ ،‬سيد قطب‪.‬‬
‫‪ .4‬فتح الرحن ف تفسي القرآن‪ ،‬عبد النعم أحد تعيلب‪.‬‬
‫‪ .5‬فتح القدير ممد بن علي بن ممد الشوكان‪ ،‬طبعة دار العرفة للطباعة والنشر‪ -‬لبنان‪.‬‬
‫‪ .6‬العجم الفهرس للفاظ القرآن الكري‪ ،‬ممد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬دار الريان للتراث‪.‬‬
‫‪ .7‬العلوم الطبيعية ف القرآن‪ ،‬يوسف مروة‪ ،‬دار ومكتبة اللل‪ ،‬بيوت‪.‬‬
‫‪ .8‬القرآن الكري والتوراة والنيل والعلم‪ ،‬موريس بوكاي‪ ،‬دار العارف‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ .9‬مع ال ف السماء‪ ،‬د‪ .‬أحد زكي‪ ،‬ص ‪ ،40‬حاشية ‪.4‬‬
‫‪.10‬معالة وصيانة الثار‪ ،‬باهرة عبد الستار أحد القيسي‪ ،‬الؤسسة العامة للثار والتراث‪،‬‬
‫العراق‪.)1981 ،‬‬
‫‪.11‬الكيمياء العضوية‪ ،‬ب‪ .‬بافلوف و أ‪ .‬نيينتلييف‪ ،‬دار مي للطباعة والنشر‪.‬‬
‫مناهج الكيمياء لرحلة الدراسة الثانوية‪.‬‬

‫‪304‬‬
‫فهرست‬

‫‪305‬‬
‫الصفحة‬ ‫الوضوع‬
‫‪2‬‬ ‫‪-‬إهداء‬
‫‪3‬‬ ‫‪-‬تقدي بقلم‪ /‬الشيخ‪ /‬السيد حسي بركة – فلسطي‬
‫‪6‬‬ ‫‪-‬تقريظ بقلم الدكتور‪ /‬ممد السقا عيد‪ /‬جهورية مصر العربية‬
‫‪7‬‬ ‫‪-‬ليست أكثر من ماولة!‪..‬‬
‫‪16‬‬ ‫‪-‬التكاملية (نظرة ثانية على القرآن الكري)‬
‫‪21‬‬ ‫‪-‬النموذج الول‪ :‬دعوة النور‪ ..‬ف متمع ما حول الرسول!‬
‫‪30‬‬ ‫‪-‬النموذج الثان‪ :‬الفاجأة!!‪ ..‬من فيوضات سورة العنكبوت!‬
‫‪41‬‬ ‫‪-‬النموذج الثالث‪ :‬بي خلق الرض ودحوها‪ ..‬اللقة الفقودة!‬
‫‪48‬‬ ‫‪-‬ظاهرة النسبية ف القرآن الكري‬
‫‪49‬‬ ‫‪-‬بي يدي الظاهرة‬
‫‪49‬‬ ‫‪-‬القرآن‪ :‬كل ُم ال‬
‫‪50‬‬ ‫‪-‬إعجازُ القرآن الكري وسحرُ بيانه‬
‫‪52‬‬ ‫‪-‬سحرٌ يأخذ بالقلوب واللباب‬
‫‪56‬‬ ‫‪-‬بيا ٌن يورثُ الية‬
‫‪57‬‬ ‫‪-‬أين يكمن السر؟!‬
‫‪59‬‬ ‫ض من أشكال استعلء القرآن‬
‫‪-‬بع ٌ‬
‫‪62‬‬ ‫‪-‬النسبية ‪ ..‬ظاهرة لغوية أصيلة‬
‫‪75‬‬ ‫­‪The Phenomenon of Relativism‬‬
‫‪79‬‬ ‫‪-‬الوضوعي والنفعال (مقدمة ف العجاز الصوت ف القرآن الكري)‬
‫‪80‬‬ ‫‪(-‬ما الذي يعنيه تواتر القرآن)؟‬
‫‪80‬‬ ‫‪-‬التواتر الكتاب (الصحفي)‬
‫‪82‬‬ ‫‪-‬التواتر السمعي للقرآن الكري‬
‫‪87‬‬ ‫‪-‬لغة القرآن الكري‪ :‬صوتية أم مكتوبة؟!‬
‫‪92‬‬ ‫‪"-‬منطقية" و"انفعالية" اللغة‬
‫‪94‬‬ ‫‪-‬التنغيم ف اللغة‬
‫‪99‬‬ ‫‪-‬القيمة الوضوعية والنفعالية‬
‫‪102‬‬ ‫‪-‬ناذج تليلية‬
‫‪102‬‬ ‫‪-‬نوذج للدللة على تأثر القيمة الوضوعية (العن) بالقيمة النفعالية‬

‫‪306‬‬
‫‪103‬‬ ‫‪-‬نوذج‪ :‬انيار مفاجئ ف القيمة الوضوعية بتأثي قيمة انفعالية مفاجئة!‬
‫‪104‬‬ ‫‪-‬نوذج عدم الستقرار النفسي الناشئ عن عدم الستقرار العقائدي‬
‫‪105‬‬ ‫‪-‬نوذج السخرية؛ والدهشة‪ ،‬وعدم التصديق!‬
‫‪106‬‬ ‫‪-‬نوذج الضيق والقلق (وجرين بم بريح طيبة!…)‬
‫‪108‬‬ ‫‪-‬نوذج الطمئنان والسكينة والرضى! {يا أيتها النفس الطمئنة…}‬
‫‪109‬‬ ‫‪-‬نوذج السران والفقد والعدم! (فجعلناه هباءً منثورا!!‪)..‬‬
‫‪110‬‬ ‫‪-‬هل الـقرآن عربّ؟!‬
‫‪111‬‬ ‫‪-‬تهيد‬
‫‪113‬‬ ‫‪-‬عروبة القرآن ف أقوال الفسرين‬
‫‪114‬‬ ‫‪-‬العربُ والعربيّة قبل تنّل القرآن‬
‫‪116‬‬ ‫‪-‬عروبة؟‪ ..‬لكن بأي معن؟!‬
‫‪118‬‬ ‫‪-‬ليس اختلفا ف التركيب فحسب؟!‬
‫‪119‬‬ ‫‪-‬أية عربيّة تلك الت كانت قبل القرآن؟!‬
‫‪120‬‬ ‫‪-‬لغة مشتركة‬
‫‪122‬‬ ‫‪-‬نعم بلغة قريش‪ ...‬ولكن؟!‬
‫‪122‬‬ ‫‪-‬لغات العرب والعربيّة الفصحى‬
‫‪123‬‬ ‫‪-‬عودةٌ إل الصل؟!‪..‬‬
‫‪124‬‬ ‫‪-‬بي النسب والطلق‪ :‬نتائج أولية؟!‬
‫‪126‬‬ ‫‪-‬ظاهرة مثية‪ ..‬ووجهة نظر تاول القتراب؟!!‬
‫‪128‬‬ ‫‪-‬تعلي ٌل غريب؟!…‬
‫‪129‬‬ ‫‪-‬هل تأخذ اللغات من بعضها؟‪..‬‬
‫‪130‬‬ ‫‪-‬إن ل تكن عربيّة‪ ..‬فماذا تكون إذن؟!‪..‬‬
‫‪130‬‬ ‫‪-‬ألفاظ غامضة!!‪..‬‬
‫‪131‬‬ ‫‪-‬اللغات الساميّة ‪ ..‬أفراد لسرة واحدة!!‬
‫‪131‬‬ ‫‪-‬مه ُد اللغات الساميّة‬
‫‪132‬‬ ‫‪-‬الوامع الشتركة بي اللغات القدية‬
‫‪133‬‬ ‫‪-‬اللغات الساميّة من غي العربيّة‬
‫‪134‬‬ ‫‪-‬الكديون ولسانم‬
‫‪134‬‬ ‫‪-‬الكنعانيون ولسانم‬

‫‪307‬‬
‫‪135‬‬ ‫‪-‬العبيون ولسانم‬
‫‪135‬‬ ‫‪ -‬الراميون ولسانم‬
‫‪136‬‬ ‫‪-‬هل يوجد ثّمة علقة؟!‪ ..‬هذا هو السؤال!!‬
‫‪139‬‬ ‫‪-‬الصائص الشتركة بي اللغات الساميّة‬
‫‪140‬‬ ‫‪-‬مربط الفرس!!!‬
‫‪143‬‬ ‫‪-‬العربية والعبية‪ ..‬الصلٌ والفرع!!‬
‫‪145‬‬ ‫‪-‬توحيد الدين واللغة‪ ..‬وجهان لقيقة واحدة!!‬
‫‪146‬‬ ‫‪-‬إرث إنسان مشترك!!‬
‫‪146‬‬ ‫‪-‬العروبة‪ ..‬أبعاد نسبية متعددة!!‪..‬‬
‫‪148‬‬ ‫‪-‬أثر القرآن الكري ف تشكيل الوعي الزمن عند العرب‬
‫‪149‬‬ ‫‪-‬تهيد‬
‫‪150‬‬ ‫‪-‬النسان وثلثية "عناصر الضارة"‬
‫‪152‬‬ ‫‪-‬بي منهجي‪ :‬طبيعي وموضوعي‬
‫‪156‬‬ ‫‪-‬من نتائج الدراك البيولوجي للوجود (الدراك الحادي)‬
‫‪157‬‬ ‫‪-‬قضايا واهتمامات النسان العرب قبل البعثة‬
‫‪159‬‬ ‫‪-‬الوقف من الياة والوت كمؤشر على الوقف من الزمن بشكل عام‬
‫‪161‬‬ ‫‪-‬النهج العرب قبل السلم وآلية تويل "الوضوعي" إل "ذات"‬
‫‪164‬‬ ‫‪-‬شواهد قرآنية على الحساس الزمن البيولوجي عند العرب‬
‫‪165‬‬ ‫‪-‬الزمن ف القرآن الكري‬
‫‪166‬‬ ‫‪-‬منهج قرآن (الذات ف إطار الوضوعي)‬
‫‪169‬‬ ‫‪-‬ما الذي فعله القرآن بالعرب؟!!‬
‫‪169‬‬ ‫‪-‬نقلة على مستوى الفاهيم‬
‫‪170‬‬ ‫‪-‬نقلة موضوعية ف مال التدوين‬
‫‪171‬‬ ‫‪-‬نقلة نوعية ف مال التأريخ‬
‫‪171‬‬ ‫‪-‬التقوي الجري كمظهر من مظاهر النقلة النوعية ف حياة العرب‬
‫‪172‬‬ ‫‪-‬ليعلموا عدد السني والساب‬
‫‪173‬‬ ‫‪-‬الزمن الغيب "ما وراء الوضوعي"‬
‫‪174‬‬ ‫‪-‬الزمن غي الوضوعي ونظرية النسبية لينشتي‬
‫‪175‬‬ ‫‪-‬نسبية الزمن وعلقتها بسرعة الضوء‬

‫‪308‬‬
‫‪176‬‬ ‫‪-‬التداخل بي مفاهيم الاضي والاضر والستقبل‬
‫‪176‬‬ ‫‪-‬الزمن وعلقته بالسرعة‬
‫‪177‬‬ ‫‪-‬ما وراء الوضوعي ف القرآن الكري‬
‫‪180‬‬ ‫‪-‬الكيمياء ومنهج استقراء العلوم الطبيعية ف القرآن الكري‬
‫‪181‬‬ ‫‪-‬العلوم الطبيعية ومنهج تدبر القرآن الكري‬
‫‪182‬‬ ‫‪-‬جدلية العلقة بي اليان والوعي‬
‫‪185‬‬ ‫‪-‬عقبات ف طريق الوعي‬
‫‪187‬‬ ‫‪-‬الغن الوضوعي ف النص القرآن‬
‫‪188‬‬ ‫‪-‬معجزة خالدة ودللت مذهلة!!‬
‫‪192‬‬ ‫‪-‬جوانب من الكيمياء ف القرآن الكري‬
‫‪195‬‬ ‫‪-‬الذرّة ف القرآن الكري‬
‫‪195‬‬ ‫‪-‬ليست "ذرة"‪ ..‬بل "مثقال ذرة"!!‬
‫‪196‬‬ ‫‪-‬الذرة وإشكالية الجم!!‬
‫‪197‬‬ ‫‪-‬ناذج لتفسي بنية الذرة‬
‫‪200‬‬ ‫‪"-‬مثقال ذرة" بنسبة ‪%100‬‬
‫‪201‬‬ ‫­‪L’atome dans le coran‬‬
‫‪204‬‬ ‫‪-‬مموعة العناصر العدنية ف القرآن الكري‬
‫‪205‬‬ ‫‪-‬معدن الذهب‬
‫‪206‬‬ ‫‪-‬معدن الفضة‬
‫‪207‬‬ ‫‪-‬معدن الديد‬
‫‪209‬‬ ‫‪-‬معدن النحاس‬
‫‪209‬‬ ‫‪"-‬النحاس" و "القطر"‪ ..‬إسم لكل حالة طبيعية؟!‬
‫‪211‬‬ ‫‪-‬التوزيع اللكترون وعلقته بالواص الرارية لعدن الديد والنحاس‬
‫‪216‬‬ ‫‪-‬زاوية أخرى للنظر؟!…‬
‫‪217‬‬ ‫‪-‬هل يكن أن نكون قد أخطأنا؟‬
‫‪223‬‬ ‫‪-‬فهرست‬

‫‪309‬‬
‫الؤلف ف سطور‬
‫ممد صبحي ممد السويركي‪..‬‬
‫من مواليد مدينة غزة بتاريخ ‪ ،12/7/1963‬عضو اتاد الكتاب الفلسطينيي منذ العام ‪1991‬م‪ ،‬يمل‬
‫درجة البكالوريوس ف العلوم (كيمياء) من الامعة السلمية بغزة‪ ،‬وكذلك دبلوم خاص ف الكيمياء العضوية من‬
‫جامعة القصى (كلية التربية الكومية سابقا) ويعمل حاليا مديرا لدائرة التدريب بوزارة العدل‪ -‬غزة‬

‫إنتاجات فكرية‬
‫‪.1‬أي دور وأية حركات (كتاب منشور (‪1994‬م)‬
‫‪".2‬الكيمياء الديثة ف ضوء القرآن الكري" (دار القرآن بالقاهرة) وترجت بعض موضوعاته للفرنسية‬
‫‪".3‬تكنولوجيا الورق وسبل العناية بالكتب والخطوطات" (جاهز للنشر)‬
‫‪.4‬وقد نشر للمؤلف العديد من القالت والدراسات على النترنت وف ملة "الوحدة السلمية الصادرة‬
‫ف بيوت‪ ،‬بالضافة لا نشر له ف الصحف والجلت الفلسطينية‪.‬‬

‫بعض القالت النشورة‬


‫"الركة السلمية والعمل السياسي ف الرحلة القادمة" (الوطن ‪" /)1994‬كنت معهم ‪ ...‬؟" "القدس"‬
‫و"الكرامة ‪"/ "1994‬نو إسلم لعترك الضارة" "القدس" و"الكرامة" ‪" /1994‬اغتيال رابي‪ ..‬الكلمات الت ل‬
‫تُقل"نشر ف ملة "آفاق إسلمية"‪" /1995‬الركة السلمية وتديات الستقبل" "الوطن"‪" /1995‬السلم‬
‫وتدّيات القرن الادي والعشرين" "الراية"‪" /1996‬كرمل‪..‬خطوة لا ما بعدها" "النهار" ‪" /1996‬ليغفر لك‬
‫الرب يا غزّة‪" "!!..‬القدس ‪" /1996‬حركة حاس بعد ترير الشيخ ياسي‪ ..‬إل أين؟!!" "القدس"‪" /1997‬مذبة‬
‫القصر وبوابات العال العرب لدخول قرن جديد" "القدس" ‪1997‬م‪" /‬ما الذي يراد لمنا حواء؟!" نشر على‬
‫حلقتي ف جريدة "القدس"‪..1998‬‬
‫أدب ونقد‬
‫‪.2000‬‬ ‫‪(-1‬من حكايات أطفال فلسطي) مموعة قصصية للطفال وهي غي منشورة‪،‬‬
‫‪2002‬‬ ‫‪-2‬وجه آخر للبنفسج‪ ،‬دراسة نقدية لديوان (كل على حدة) لدنيا المل إساعيل‬
‫‪“-3‬أغمضوا عيونكم فأسراركم على وشك الفتضاح" دراسة نقدية لجموعة قصصية لبة الزيان ‪2002‬‬
‫‪2002‬‬ ‫‪" -4‬رجل وثان عشرة امرأة" قصة قصية‬
‫‪-5‬منتهى الشر" قصة قصية نشرت على موقع القصة العربية‪.‬‬
‫‪ -6‬ل يت‪ /‬ملك آخر‪ /‬عندما ضحك البنفسج‪ ..‬قصص غي منشورة‬
‫‪-7‬الشراف على إنتاج فيلم كرتون بعنوان (سلم والطر)‬

‫‪310‬‬
‫ورشات تدريبية‬
‫كيف تعل من نفسك إنسانا متميزا ورشة تدريبية (‪ 30‬ساعة تدريبية)‬ ‫‪)1‬‬
‫ت عقد ‪ 30‬ورشة منها ف مؤسسات متلفة ف قطاع غزة‪.‬‬
‫ورشة تدريبية (‪ 30‬ساعة تدريبية)‬ ‫‪)2‬تنمية الواهب البداعية الكتابية لدى الناشئة‬
‫ورشة تدريبية (‪ 15‬ساعة تدريبية)‬ ‫‪)3‬مهارات التواصل غي اللفظي (لغة السم)‬
‫ورشة تدريبية (‪ 50‬ساعة تدريبية)‬ ‫‪)4‬إعداد وتدريب الدربي‬
‫ورشة تدريبية (‪ 30‬ساعة تدريبية)‬ ‫‪)5‬إعداد السية الذاتية والقابلة الشخصية للعمل‬
‫ورشة تدريبية (‪ 20‬ساعة تدريبية)‬ ‫‪)6‬البلوغ والراهقة وكيفية التعامل معهما؟‬
‫ورشة تدريبية (‪ 30‬ساعة تدريبية)‬ ‫‪)7‬خلق النسان بي العلم والقرآن‬
‫ورشة تدريبية (‪ 15‬ساعة تدريبية)‬ ‫‪)8‬الزوجية ف القرآن الكري‪.‬‬

‫‪311‬‬

You might also like