Professional Documents
Culture Documents
يرتبط السلوب الصحفي بالمعلومة أشد الرتباط وبالواقع الحي الملموس ،وبجرد اللحظة عند تشكلها ،المر الذي
".يجعل بعضهم ينعت الصحفي "بـمؤرخ اللحظة " ،والسلوب الصحفي بـ"الدب العاجل
يقول الدكتور نصر الدين العياضي في كتابه (مساءلة العلم ) :لم تظهر لغة النص الصحفي بين عشية وضحاها ،بل
:تطورت بعد سنوات من الممارسة التي صقلتها الوقائع التية
ارتقاء المستوى الثقافي للجمهور ،وملموسية المواضيع التي تتناولها الصحافة ،والوجود الفعلي والحقيقي للوقائع
.والماكن والشخاص ،وكذلك المردود الني الذي ينتظر أن تحققه الصحافة
يقول النقاد :إن النثر الصحفي يقف في منتصف الطريق بين النثر الفني ،أي لغة الدب ،وبين النثر العادي ،أي لغة
التخاطب اليومي ،له من النثر العادي ألفته وسهولته وشعبيته ،وله من الدب حظه من التفكير ،وحظه من عذوبة
التعبير ،ولعله انطلقًا من ذلك المفهوم للنثر العلمي ،أطلق بعض أساتذة الصحافة على لغة الصحافة ،بأنها الدب
).العاجل (1
ويجمع الباحثون العلميون على أن لغة العلم تتمثل أساسًا في إشارات منطوقة أو مكتوبة أو مصورة ،تمر من
خللها الرسالة العلمية إلى الجمهور ،حيث ل يتم العلم الكامل ،إل إذا وجد رجل العلم اللغة التي يقتضيها
.الحال للتعبير عن طبيعة المعلومات والفكار أو المشاهد والحداث
وبما أن القائمين على العملية التصالية في وسائل العلم المختلفة ،يسعون لكي تدرك رسائلهم أكبر عدد من
.الناس ،فقد حرصوا على أخذ هذا المر بعين العتبار في الممارسة
علوة على ذلك ،فاللغة العلمية مطالبة بملءمة عباراتها مع طبيعة الحداث المعالَجة (بفتح اللم ) ..فمن الجلي
أن أسلوب نقل المعلومة من مختبر البحث ،يختلف عن رصد حشد من الناس ،ويختلف عن وصف مأساة إنسانية،
كما يختلف عن التعبير عن جدل فكري ،وأيضًا عن وصف مؤمن في لحظة تعبده وخشوعه ،وبذلك يمكننا نعت اللغة
.العلمية بأنها لغة كل شيء
وبما أن اللغة العلمية مسخرة للضطلع بتلك المهام كافة ،فإن أدواتها التعبيرية والفنية ينبغي أن تستجيب
.لمقتضيات التنوع ،وكذلك لخصوصيات الوسيلة العلمية
تتميز اللغة العلمية بسمات شتى ،وهي تختلف -بطبيعة الحال ،عن لغات العلوم والدرايات المتعمقة ،لنها تتجاوز
.مخاطبة الفئات المتخصصة إلى الجمهور الواسع ،ذي المستويات المتفاوتة
وإذا كانت اللغة العلمية تحرص على مراعاة القواعد اللغوية المصطلح عليها ،فإنها تحاول كذلك أن تحرص على
خصائص أخرى في السلوب ،وهي البساطة ،واليجاز ،والوضوح ،والنفاذ المباشر ،والتأكد ،والصالة ،والجلء،
).والختصار ،والصحة(1
ويدعو أساتذة الصحافة الكتّابَ إلى استخدام اللفاظ المألوفة ،توخيًا للفهم ،وتجنب اللفاظ العلمية والصطلحية
النادرة ،بيد أنه إذا اقتضت الضرورة ذلك ،فينبغي شرحها ،وإعطاء المفهوم الحقيقي لها ،والتوسل بالتفسير
.والتبسيط ،في تعميق المفاهيم الصلية ،وإشاعتها على أوسع نطاق ،بين الجماهير
ومن بين المهمات الساس للصحفي تحويل أكثر الموضوعات غموضًا أو علمية إلى جمل عربية بسيطة أسلوبا،
.ومفهومة معنى
لقد كان كبار الدباء حين يكتبون في الصحافة ،ل يستعملون المفردات والجمل التي ل يدرك معناها الجمهور ،الذي
.يتوجهون إليه ،ويجعلون من أسلوبهم همزة الوصل ،بين الحقائق العلمية والدب الرفيع ومستوى فهم القراء
يلخص الصحفي المريكي الذائع الصيت جوزيف بولتزر السلوب الصحفي في نصيحته للصحفيين المبتدئين قائلً:
"اكتبوا الجمل القصيرة ،التي تتجه رأسًا للحدث ،فتبين ماذا جرى وأين ،اذكروا أسماء الشخاص ،التواريخ والماكن
"( ..)1ويلخصه الكاتب والصحفي القدير أرنست همنغواي ،في هذه النصيحة العملية" :استعمل الجمل القصيرة،
).واستعمل الفقرات القصيرة ،أكتب بلغة قوية ،ول تنس الكتابة بسلسة ،كن إيجابيًا ،وليس سلبيًا "(2
ويسدي الباحث العلمي النجليزي ماكس جنثر نصيحته التية إلى الصحفيين الجدد قائلً" :إنه على الكاتب توخي
.. ".الوضوح ،وتجنب التكرار الممل ،والصيغ المبتذلة ،والكليشهات التي سبق ترديدها ،والقلل من القتباسات
وضمن هذا النسق من الفكار ،تنبغي الشارة إلى الخطار الكامنة وراء استمرار بعض الصحفيين في توظيف
القوالب الجاهزة ،بدون وعي ،وبل تبصر ،المر الذي قد يوحي للقارئ ،أو المستمع ،بأنه أمام لغة جامدة ،فاقدة
.للحيوية والبتكار والتجديد
يقول العلمي الفرنسي فيليب غايار" :إن الخاصية الساسية للكتابة الصحافية هي سلمة اللغة " ،ويعدد بعض
ملمح هذه السلمة في :الكتابة الملئية الصحيحة ،معرفة تطبيق قواعد الصرف والنحو ،حسن اختيار المفردات،
والتنقيط المناسب ..ويرى كل من كورتيس ماكدوغال والفريد كرويل ،أن من أهم سمات الكتابة الصحفية ،هو :إيجاز
.الجملة والفقرات ،الجمل المباشرة ،الفعال والسماء القوية ،الستعمال الصحيح لقواعد اللغة
إن دعوة الكتاب المرموقين إلى احترام قواعد الكتابة (النحوية والصرفية ) السليمة ،يؤكد بأن من الخطر المحدق
باللغات ،الكتابات الصحـفية التي تتم فـي غالب الحيان خارج القواعد الصحيحة للغة ،مما يغرس في المتلقين روح
.عدم التقيد بالكتابة السليمة ،وازدراء قيودها
يتحدث السيد برنارفوريان في كتابه( :الصحافة في المجتمع الحديث ) عن سلطة اللغة العلمية على قرائها قائلً:
"فالصحيفة التي تلتزم بمبدأ التنازل للقراء ،وصولً إلى اجتذابهم ،وتداول المواد العلمية دون كبير عناء ،ل يمكنها
أن تغفل حقها في فرض بعض المواقف النشائية والسلوبية والموضوعية الضرورية ،حتى ولو أدى ذلك إلى تنفير
.. ".بعض القراء وامتعاضهم
واللغة العربية -اليوم -في أمس الحاجة إلى هذا الصنف من الصحفيين الذين يرتقون بأسلوب كتاباتهم الصحفية
إلى المستوى الذي يساهم في تطوير كتابات القراء ،ويعزز أساليبهم ،وينميها ،وفق الصول الصحيحة لكتابة اللغة
.العربية
ا ذاته ،وهكذا فإن الطريقة التي نتحدث بها عن الشياء تختلف من ثقافة إلى أخرى ،وعلى سبيل المثال ،فإن بعضهم
في أمريكا اللتينية ،يميلون فيما يبدو إلى اللغة المبالغ في زخرفتها في القصص الخبارية ،وهم على استعداد لقراءة
ما يكتبه الصحفي ،أو الكاتب ،لسباب أسلوبية ،بل إن بعض الكتاب في أمريكا اللتينية ،يشعرون بأن استخدام نفس
الكلمة مرتين في حالة وجود مرادف لها ،يمثل جريمة ضد السلوب(.)1
وتؤثر اللغة العلمية في تصورات الناس ،وفي استجلء حقيقة الحداث والشياء ،وفي إغناء الرصيد المعرفي
واللغوي للجمهور ..ومن أجل ذلك ،فإنه من سوء التدبير بمكان أن يترك لمن هب ودب أمر استخدام السلوب
الصحفي أنى شاء.
يتساءل الباحث الجتماعي الجزائري الدكتور عبد ال شريط قائلً" :نعم ،إن لغة الصحافة اليوم ربما حققت شوطًا في
هذا الغرض ،وإن بقي من بين فصحائنا من يتعالى عن استعمال لغة الصحافة استكبارًا أجوفًا ،ولكن أل يكون من
العجيب أن نترك أمرًا خطيرًا كهذا ل يبحثه علماء الجتماع ،ول علماء اللغة ،ول علماء المجامع اللغوية ،ويبقى
لمبادرات الصحفيين ،وهم على ما هم عليه من ضعف المستوى في المواد العلمية ،وفي المادة اللغوية ،وفي معرفة
مشكلت المجتمع جميعًا ،معرفة معمقة "؟!
ثم يردف قائلً" :إنـنا بوصـفنا عـلماء الجتماع ،ليس من شأننا ،ول من اختصاصنا أن نتولى نحن تبسيط قواعد
اللغة ،وحذف ما فيها من حشو ،وابتكار أساليب جديدة في تعليمها وكتـابتها ،ولـكن من شـأننا ومـن اختـصاصنا
أن نـطـالب علـمـاء اللـغة بذلك "(.)1
وما يجب التنبيه إليه هنا ،أن السلوب الصحفي ،ينبغي أن يكون هادفًا في صياغته ،وملمًا بمقاصده ..وكما يقول
محمد حسنين هيكل :فإن الكلمة النشائية تزول ،وتبقى الكلمة التي تعكس واقعًا هو جزء من تصور الناس؟!
وفي ظل هذا الواقع المعقد جدًا ،ل ينبغي إثقال كاهل الصحفي بنصيب مفرط من المسؤولية ،فيما يتعلق بالسلوب ،لن
المجتمع الذي ينشط في كنفه الصحفي ،يؤثر بدوره في أسلوبه ،ومن ذلك مثلً :السلوب الذي يصرح به الشخاص
النافذون في المجتمع ،والسلوب الذي تصاغ به الخطب ،والسلوب المعتمد في المؤسسات التعليمية ،والسلوب الذي
يتجاذب به الناس أطراف الحديث في حياتهم اليومية.
وأحيانًا تتم "تنقية " اللغة التي يستخدمها بعض الشخصيات الرسمية ،أو من يكتبون رسائل إلى المحررين ،وذلك
بواسطة المحررين للتخلص مما بتلك الرسائل أو التصريحات من أخطاء لغوية ،أو ألفاظ سوقية ..وعملية "التنقية "
التي تتم ليست بالضرورة لحماية مصدر الخبار ،فعادة ما يكون التبرير لها هو أن التعليق الذي ذكره المصدر ،يصبح
أكثر وضوحًا ،وأقرب إلى فهم القارئ ،أو أن الجمهور سوف يعترض بشدة على اللفاظ المستخدمة في الصل(.)1
وفي خضم التحولت الجارية اليوم على كل المستويات ،يجد السلوب الصحفي نفسه أمام تحدي مواكبة المستجدات.
فاللغـة مؤسسة قارة ،أما الحقيقة فهي سيرورة ديناميكية ،فالواقع يتغير "بسرعة " أما اللغة فتتغير بوتيرة أقل،
بالـمقارنة ،وهي ل تتجاوب إذًا مع ما يحدث في الواقع إل بعد حين(.)2
قد يعمد الصحفيون عن قصد ،أو غير قصد ،إلى جعل عبارات أكثر تداولً دون غيرها ..وفي حياة الناس ،يقع المر
نفسه ،حيث يظل كم هائل من اللفاظ نائمًا في ثنايا القواميس والمؤلفات الجادة ،ينتظر من يوقظه من سباته.
فمثلً ،يتراوح عدد اللفاظ في اللغة النجليزية ما بين 500و 600ألف كلمة ،وهذا المـخزون اللغوي ،ل يستغل
إل في ما تيسر مـنه ،ذلك أن الفراد ل يستـخـدمــون في مسـار الـمــحادثة اليومـية إل حوالي
5000كلمة ،وتحتوي القصة أو الرواية ما يقارب 10000كلمة (.)1
إن الستعـمـال الـخاطــئ لـلـغـة ،سـواء أكان داخـل وسـائـل العــلم ،أم خارجها ،يعطل فكر أهله،
ويشل قدرات الناس الذهنية ،ويفسد لسانهم .وعندما تمر المجتمعات بفترات سيئة في تاريخها ،ينعكس ذلك على لغة
العلم ،لن الواقع بشذوذه وتشابكه وتعقيده عندما ينعكس في العلم لبد أن تبدو صورة الشذوذ والتشابك والتعقيد
في اللغة المستخدمة أيضًا(.)2
مرونة العربية ذخيرة للعلميين
تستمد اللغة مقوماتها من فكر وحضارة أقوامها ،ولكل لغة سياقها التاريخي ،ومنابعها الفكرية الخاصة بها ،وقواعدها
النحوية والصرفية الضابطة لها ..ويمثل اللسان في المة القاسم المشترك في كيانها ،والمعبر المين عن حقيقتها
الدينية والحضارية والبداعية.
وفي هذا السياق ،تعتبر اللغة العربية وعاء ومحضن ضميرنا ،وتعكس منحنيات تفكيرنا واجتهادنا أو خمولنا .كما
تعتبر أقوى أداة للتعبير عن ديننا ،وعبقريتنا وهويتنا.
تتميز اللغة العربية عن غيرها من اللغات السامية ،بأنها لسان القرآن الكريم ،الذي منحها قوة على قوة ،ومتن
بنيانها ،وهي اليوم أغنى لغة في العالم في مفرداتها ،ودقة تعبيرها ،وهي أصبر وأجلد لغة على كيد أعدائها.
يقول العالم اللغوي إرنست رينان ERNEST REANANإن اللغـة العـربية بدأت فجـأة على غاية الكمال،
وأن هذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر ،وصعب تفسيره ،وقد انتشرت هذه اللغة سلسة أي سلسة ،غنية أي غنى،
كاملة لم يدخل عليها منذ ذلك العـهد إلـى يومـنا هـذا أي تعديل مهم ،فليـس لها طـفولــة ول شيخوخة ،إذ
ظهرت أول مرة تامة مستحكمة.
وينظر الشيخ محمد الغزالي ( )1إلى اللغة العربية من منظار ديني ،حيث كتب يقول" :فلغة الرسالة الخالدة ،يجب أن
تتبوأ مكانة رفيعة لدى أصحابها ،ولدى الناس أجمعين ،فإن ال باختياره هذه اللغة وعاء لوحيه الباقي على الزمان،
قد أعلى قدرها وميزها على سواها ".
ويقول أيضًا" :والواقع أن اللغة العربية مهاد القرآن الكريم وسياجه ،فإذا تضعضعت وأقصيت عن أن تكون لغة
التخاطب والداء ولغة العلم والحضارة أوشك القرآن نفسه أن يوضع في المتاحف "(.)2
والقرآن كتاب يجـب أن ينـظر إلـيه كل عربـي عـلى أنـه منـهج اللغة العلى الذي أصفى مناهلها وأعذب
مـواردها ( ،)...وهو فـي اللغة العربيـة تاج أدبـها وقامـوس لغـتها ،ومـظـهر بلغـتها ،فل عجب إذا ما
ن البلغاء الفصحاء لعجاز القرآن طوعًا أو كرهًا ،حتى أصبحت لغته هي أصح وأدق الصول اللغوية والبيانية،
أَذْعَ َ
وصارت هي المقياس والميزان لكل ما يراد للستشهاد على صحة عربيته من نصوص الدب الجاهلي(.)1
وتتيح لغة القرآن للعلم المكتوب بالعربية أسباب استقامة أسلوبه ،لنها تتسم بمزايا جمالية وبلغية ،ل تتوفر في
أي لغة أخرى ،فالسلوب القرآني يوافق الكلم لمقتضى الحال ،ويناسب المقام ،ويعتمد اليجاز البالغ ،بدون أن يخل
بالـمقصود ،ويستخدم الطناب غير الممل ،والتراكيب الشديدة التنوع ..وإن تدبر رجل العلم لغة القرآن ،ل يصقل
أسلوبه فحسب ،بل يكسبه الدوات التعبيرية الملئمة لكل حال ولكل حدث...
لقد أبدع الشيخ محمد الغزالي ،وهو يصف السلوب القرآني..." :ومع رفعة المصدر الذي تحس أن القرآن جاء منه،
إحساسك بأن هذا الشيء أتى من بعيد ،فإنك ما تلبث أن تشعر بأن الكلم نفسه قريب من طبيعـتك ،متجـاوب مع
فـطرتك ،صـريح في مـكاشفـتك ،بـما لك وما عليك ،متلطف في إقناعك ،فما تجد بدًا من انقيادك لدلته ،وانفساح
صدرك لتقبله ".
لقد احتفظت العربية بأكبر قدر من مقومات اللسان السامي الول ،وبقي فيها من تراث هذا اللسان ما تجردت منه
أخواتها السامية ،فتميزت عنها بفضل ذلك بخواص كثيرة ،يرجع أهمها إلى المور التية:
اللغة العربية ،تتميز بغزارة في مفرداتها ،ودقة في قواعدها ،وسمو ومرونة في أساليبها ،وثروة في آدابها وتراثها،
وقدرة البانة عن مختلف نواحي التفكير والوجدان ،ومن تلك السمات نذكر ما يأتي(:)1
-1أن فـي اللغـة العـربية من الـمقومات والدقة الصارمة والسس ما يخولها لن تكون قادرة على أخذ مكانها
الصحيح في هذا العصر.
-2اللفاظ العربية هي أوزان موسيقية ،والكلمات ذات الوزن الموسيقي الواحد لها دللة معنوية محددة.
-3اللغة العربية هي اللغة الحية الوحيدة في العالم ،التي بقيت دون تغيير في كلماتها ونحوها وتراكيبها منذ أربعة
عشر قرنًا مضت.
-4إن اللغة العربية فيها من القواعد الرصينة والساليب البلغية ما يضبط الدللة على المعاني الكثيرة المعتادة.
-5معظم مشتقاتها تقبل التصريف ،إل فيما ندر منها ،وهذا يجعلها في طوع أهلها أكثر من غيرها ،ويجعلها أيضًا
أكثر تلبية لحاجة المتكلمين.
ولعل من أخص ما ميز اللغة العربية استعمالها الدقيق للفظ ،حتى أن هذه الدقة في الستعمال اللغوي قد عنيت بها
كثير من كتب اللغة قديمًا ،فأسست بذلك منهجًا في الدرس اللغوي(.)1
ومن ضروب الدقـة ما يظـهر فـي اقـتران اللفـاظ بعضها بـبعض ،فقد خصص العرب ألفاظًا للفاظ ،وقرنـوا
كلمات بأخرى ،ولم يقرونها بغيرها ،ولو كان المعنى واحدًا ،فقد قالوا في وصف شدة الشيء:
-ريح عاصف
-برد قارس
-حر لفح
-كأس دهاق
-بحر طام
-نهر طافح
-واد زاخر
-فلك مشحون
-مجلس غاص.
يقول الدكتور محمد المبارك رحمه ال في مؤلفه (فقه اللغة )" :إن دقة التعبير والتخصيص ،سبيل من سبل الفكر
العلمي الواضح المحدد ،تحتاج إليه كل أمة في تربية أبنائها على التفكير الواضح الدقيق ،الذي يعدهم للعمل والبحث
العلمي ".
والتخصيص اللغوي ،والدقة في التعبير ،أمور ل بد منها للصحفي لوصف دقائق الشياء ،وإبراز خصوصياتها
وطبيعتها الـمتميزة ،وكذلك للتعبير عن الـمشاعر والعواطـف والنفـعالت ،واللـوان فـي شتى صورها..
يقول الستاذ محمد مراح( :)1لقد وجدنا المصطلحات التية( :في كتاب التربية البدنية ) كرة القدم( :ضربة مرمى -
ضربة جزاء -ضربة البداية ) ،ومن الجدير بالذكر أن هذه المصطلحات ،قد وردت على أحد المـجامع اللغـويـة
العربـيـة ،فاسـتـقر الــرأي فـيها على استبدالها كالتي( :ركلة هدف ،ركلة العقوبة ،ركلة البداية ) ،والملحظ
استبدال (ضربة ) -بـ (ركلة ) ،ومرد هذا الستبدال دقة الستعمال اللغوي ،وقد ورد في "الصحاح للجواهري ":
"الركل :الضرب بالرجل الواحدة ".
إننا الن ندفع ثمن ما أصاب لغتنا العربية إبان عصور النحطاط ،الحقبة الستعمارية ،وإذا نحن لم نجتهد ونكد
لستدراك المر ،فإن الجيال القادمة ستصلهم لغتنا -بدون شك -وهي في أسوأ حال.
وكما يقول الدكتور محمد المبارك في كتابه (خصائص العربية )" :إن العربية قد أصيبت في عصور النحطاط بمرض
العموم ،والغموض ،والبهام ،كنتيجة لفتقاد وظيفتها الهادفة في هذه العصور ،فضاعت الفروق الدقيقة بين اللفاظ
المتقاربة ،فغدت مترادفة ،وكثر استعمال اللفاظ في المعاني المجازية وصرفت عن معانيها الصيلة ،فضاع الفكر بين
الحقيقة والخيال ،وزالت الخصائص المميزة والفروق الفاصلة ،وأصبح لكل موضوع مهما تكرر قوالب من اللغة ثابته،
وأداة اللفظ ل تتغير ،وتعابير مصوغة لكل مناسبة أو موضوع ،تنقل وتلصق كلما تكررت تلك المناسبة ،أو عرض ذلك
الموضوع :وصف حديقة ،أو تعزية صديق ،أو التعبير عن فرح ،أو طرب ،لم يتغير الكلم ،أيًا كانت تلك الحديقة ،وفي
أي بلد ،وأيًا كانت مناسبة التعزية أو الفرح ،وفي ذلك قتل لخصائص اللغة العربية ومزاياها العلمية ،من إبراز
المقومات والمزايا الخاصة والدقائق الخفية ".
ونحن اليوم أحوج مانكون إلى بعث اللفظ الدقيق من لغتنا ،وإحياء الفروق بين اللفاظ ،لتكون لدينا لغة تصلح أن
تكون أداة للعلم العربي في مواجهة التقدم الهائل ،وانطلق وسائل التصال بالجماهير(.)1
إن العربية التي قال عنها أحد أعلم الفكر السلمي :إنها اللغة التي ل يحيط بها علمًا إل نبي ،ل يمكنها بأي حال من
الحوال أن تكون أداة عرقلة للتعبير الصحفي ،فهي تحتمل قوة الوصف ،وغور الحساس ،وشدة التنوع ،ودقة
المقصد ،وأصالة الشيء.
ومن الكيد أن الصحفي الذي يكون زاده اللغوي ضحلً ،سينتج -بل ريب -نصوصًا مشوهة ،تنقصها الصلبة والدقة
وقوة التعبير ،وقد نعيب لغتنا والعيب فينا ..وهكذا ،فإن اللغة العربية جعلت للصحفيين ذلول فما عليهم إل المشي في
مناكبها.
لغة المحادثة والمشاهدة
يعرف معجم مصطلحات العلم ( )1الكتابة للذاعة بأنها" :الكـتابة باللغـة الـتي يستعملها الناس عـادة ،والتـي
تتـمـيز باليـجاز ،والوضوح ،لثارة اهتمام عامة الناس ،كما تكتب للحديث ،ل للقراءة ".
وكما يقول "أدوين واكين " في كتابه "مقدمة إلى وسائل التصال" :فإنه في حالة الراديو ،تحل الذن محل العين ،ونرتد
إلى الكلمة المنطوقة .صحيح أن جميع العبارات المذاعة ،تقرأ من نصوص مكتوبة ،ولكنها معدة بحيث يصغي إليها
الجمهور ،وليست معدة للقراءة ،وإذ يتلقى المستمع الرسائل الـمذاعة ،فإنـها ل تلبث أن تنقضي سريعًا ،وتزول
بمجرد سماعها .فالكلم المنطوق -على نقيض المطبوع -لبد له من أداء مهمة التصال من اللحظة الولى ،فالكلم
حـين يكتب ،ويدون ،يـمكن قراءتـه ،وإعـادة قراءته ،أما حين ينطق به فهو يتلشى ".
ويقول الستاذ فيرنون أ.ستون(" :)1لعلك تجد في كتابة الخبار للراديو أو التلفزيون تغييرًا عن الكتابة للصحف،
فالنسخة التي تكتب خصيصًا للذاعة،تتطلب التعبير الذي قد يكون طبيعيًا بالنسبة لك ،أقصد أسلوب الكلم اليومي
المعتاد ،ونحن نتعلم الكلم قبل أن نتعلم الكتابة ،ونتكلم أكثر كثيرًا مما نكتب خلل عملية التفاهم اليومي مع غيرنا من
أبناء المجتمع ..غير أن الكلمة غالبًا ما تفقد طبيعتها عندما يفكر الكاتب في العمدة المحدودة المساحة ،والقواعد
الصحفية المتخلفة عن عهد غابر ،بينما يفكر الكاتب الذي يكتب للذاعة والتلفزيون -بدلً من ذلك -في الكيفية التي
سيكون عليها وقع الكلمات ،وتكويناتها ،على أذن المستمع ..والقاعدة هي أن تنطق الخبار وأنت تكتبها ".
تتميز لغة الذاعة بالوضوح ،والقتصاد ،والسلسة ،حتى يمكن أن تصل إلى الجمهور من المستمعين في وضوح
يساعد على الفهم والمشاركة في تتبع المضمون ..ومن جهة أخرى كان على هذه اللغة المذاعة أن تراعي أن من
أصول اللقاء الذاعي تقدير القيمة الصوتية لللفاظ ،والتدقيق في استخدامها ،وفي معرفة وقعها الحقيقي على الذن..
وفي ذلك كله ،ما يتجه بهذه اللغة المذاعة إلى القتصاد في عدد اللفاظ ،والقتصار على القدر المطلوب لتحقيق الفهم
والمشاركة(.)1
ويتمثل السلوب الذاعي ،بالمقارنة مع البلغة المكتوبة ،في شخصية الذاعي ،في بنية جملته ،واختيار ألفاظه ..في
نبرات صوته ..في إلقائه ،وخفة النكتة ،والبشاشة التي تصدر من كلمته وابتسامته (عبر الميكروفون )(.)2
ل يختلف اثنان في أن اللغة العربية تعتبر من أهم اللغات العالمية ملءمة للسلوب الذاعي ،فقد شكل الشعر العربي
النموذج المثل في جدلية المشافهة ،وكما يقول الشاعر" :والذن تعشق قبل العين أحيانًا " ..كذلك يتيح ثراء اللغة
العربية للصحفي الذاعي بأن يعرض مادته ،وفق السلوب الكثر سحرًا ووضوحًا ،يقول الستاذ "بيثر ويليت " ،أحد
رواد الخبار الذاعية في الوليات المتحدة المريكية" :إن المستمع يستنجد بخياله الخاص ،لتصوير المنظر ،والمخبر
الذاعي الممتاز هو الذي يستطيع أن يصور المنظر بنفس الدقة والتقان اللذين يلتزمهما المصور ،فعلى المخبر
الذاعي أن يرسم بالكلمات صورًا حية ".
ويسعى رؤساء التحرير في محطات الذاعة والتلفزيون في العالم بصفة مستمرة إلى مراجعة المادة الخبارية ،حيث
يكون اختيارهم للكلمات مقصودًا ،وقائمًا على دراسة دقيقة لطبيعة اللغة المستخدمة ،والطار الدللي لللفاظ ،أو مدى
ما تحدثه من تأثير.
لقد كان العلمي المريكي "أودين نيومان " ،بمحطة إن بي سي ،ينكب على النصوص المكتوبة ،يحذف العبارات
المبتذلة المستهلكة والكلمات الزائدة (الحشو ) ،بهدف الوصول إلى أسلوب مقبول مصقول (سلس ) .
وتتكون المادة العلمية الذاعية عمومًا من عدة عناصر ،وهي الكلمة الـمنطوقة ،والمؤثرات الصوتية ،والموسيقى،
والحضور النساني المباشر.
ويشترط في اللغة المنطوقة ،أن تتسم بالشمول ،والسرعة ،والمباشرة ،والواقعية ،وأن تستخدم أقل عدد ممكن من
اللفاظ ،للتعبير عن أكبر عدد ممكن من الشياء ،في وضوح وبساطة ،وإيجاز ،وتأثير(.)1
هناك فروق جوهرية بين الكتابة للعين ،والكتابة للذن ،فمعالجة الخبر الذاعي ،تتطلب الخذ باللغة السهلة المبسطة،
والعتماد المباشر على أسلوب التخاطب والحوار(.)2
يقول مؤلفا كتاب ( ) L,information radiotelevise( )3هناك حدود لما يقوله صحافيو الذاعة
والتلفزيون ،وأن غالبية هذه الحدود مفروضة ،ليست بالقانون ولكن بالوقت وبالقدرة على اجتذاب الجمهور..
وتـحديات الوقت تفرض على الخبار الـمذاعة والـمتلفزة ،قيدين هامين:
أولً :إن صحافيي الصحافة المنطوقة ،مجبرون على اختصار أخبارهم ،بحيث ل يمكنهم التطرق إلى كل مواضيع
الحداث ،التي تتناولها الصحافة المكتوبة ،ثم إن تحقيقاتهم ل تتضمن الكثير من التفاصيل ،كما هو الشأن في الصحافة
المكتوبة ..ويتمثل القيد الثاني في :صعوبة الوصول إلى أحسن نتيجة من خلل حصر وضغط الكتابة ..ومن هنا فإن
الجمهور ل يمكنه الحصول على أكبر قدر من المعلومات انطلقًا من الستطلع الذاعي ،أو التلفزيون ،أي من خلل
استطلع مكتوب بطول قصير جدًا.
ويسدي الباحث العلمي المريكي "فيرنون " نصيحته التية إلى الصحافي العامل بالذاعة ،الذي يستخدم برقيات
وكالت النباء ،أو تقارير الصحف :لتنقل كالببغاء أي قصة إخبارية في برقيات وكالت النباء ،أو الصحف ،ولكن
اقرأ الموضوع بطريقتك الخاصة ،وقصها بكلماتك أنت ،دون أن تستخدم النسخة -المصدر -إل كمادة خام فحسب،
ولعل كثيرًا مما يدعى (نسخًا أعيد تحريرها ) ،ليس في الواقع أكثر من مقتطفات (أعيد نسخها ).
إن العربية باستطاعتها التأقلم مع أي أسلوب إذاعي أو تلفزيوني ،نـظرًا لـثراء مـفرداتـها وتنـوعها ،وقــوة
تـعبيرهـا ،وصـدى كلماتها ،وما نلحظه -اليوم -من قصور في اللغة المذاعة عندنا ،يعود إلى الصحفيين
أنفسهم ،الذين ل يتحكمون في اللغة ،أو في فنيات الكتابة ،التي يقتضيها التصال الذاعي الناجح .والكثر فظاعة في
المر أن هناك من يجعل من اللغة العربية كبش فداء لنقائص الصحفيين ،ويوصمها ظلمًا وزورًا بعيوب هي بريئة
منها.
هذا الواقع يفرض على القائمين على الوسائل السمعية البصرية ،الناطقة بالعربية ،أل يتركوا أمر السلوب للصحفي
وحده ،لنه من النادر أن تجد صحفيين إذاعيين يكتبون نصوصًا ل تحتاج إلى مراجعة وتصويب وصقل.
قام أحد أعضاء مجمع اللغة العربية بسوريا ،بدراسة خمس نشرات من نشرات الذاعة السورية ،خلل يناير
1983م ،ثم قدم نقدًا للغة الخبر العلمي قائلً" :إن الخبر أول ما يقصده قارئ الصحيفة ،أو المستمع إلى الذاعة،
فوجب أن تكون العناية به صوغًا وأداء ،من حيث سلمة لغته ،وجودة أدائه ..وإذا كان لكل فن بلغته فبلغة الخبر
هي في سرعة وعي القارئ أو السامع دون عناء ،باللفظ السهل الموجز ،الخالي من التزويق ،أو التفخيم ،أو البتذال،
وأل يثقل الخبر بالعواطف السلبية ،أو اليجابية "(.)1
ويضيف قائلً" :تُعنى الـجملة العربية بالـحدث قبل المـحدث ،لذلك كـثيرا ما يتصدرها الفعل ،وحين تقوم أغراض
بلغية تدعو إلى العناية بالمـحدث أولً ،فإنهـم يقدمـونه ،وهــذا طـبعًا غـير وارد في الخبار.
وقد كثر الخروج على هذه البدهية في الخبار ،فكثيرًا ما نسمع في نشرة الخبار "الرفيق فلن[ ...وبعد ثماني كلمات]
يقول في جريدة النهار ...ولو بدأ بالفعل "قال الرفيق فلن في جريدة النهار" لكان أقرب إلى طبيعة العربية "(.)1
ليس ثمة بديل للسلوب المباشر للجملة ،ولبناء القصة الخبرية ..وعندما تكون القصة الخبرية مكتملة في ذهنك،
فينبغي عليك عندئذ أن تحكيها بطريقة مباشرة ،وعليك أن تتجنب استخدام الجمل العتراضية ،أو شبه الجملة في
بداية الجملة ( ،)...وينبغي أن تجذب المقدمة (مقدمة الخبر ) الهتمام إلى العنصر الرئيس في القصة الخبرية ،ول
ينبغي أن تـحشوها بحـقائق عديدة ،ول تحاول حشد العناصر الخمسة وهي( :من ،أين ،متى ،لماذا ،كيف ) في
المقدمة ،لنك بذلك تفقد أذن المستمع ،عن طريق تحميله بما ل يطيق(.)2
إن الخبر المذاع كتب ليسمع ،ولهذا فإن صياغة أخبار الذاعة تتجه إلى إحداث الثر السريع ،بالعرض المباشر،
والكلمات المؤثرة ،والجمل القصيرة المقتضبة ،والفقرات القصيرة ،والكلمات المنتقاة بعناية ..ويوضع الخبر الذاعي
والتلفزيوني إذن في أقصر صيغة ،ليؤدي المعنى في أقصر وقت ،فالمطلوب لهذا الخبر مباشرة أكثر ،وتركيزًا أعمق،
وبساطة أوضح.
وبدوره ،فإن الخبر التلفزيوني أقصر من الخبر الذاعي ،إذ أن الصورة تكمل الخبر ..وهناك قاعدة عامة للخبر
التلفزيوني ،هي أنه ما دامت الصورة تكمل الخبر ،فل يجوز إذن أن يتعرض للتفاصيل ،حتى ل يوزع انتباه المشاهد
بين الصوت والصورة ،ومن الهمية ربط الرواية بالصورة ،أي أن تسير الكلمة المذاعة جنبًا إلى جنب مع الصور
المرئية(.)1
إن للكلم في الصورة الفيلمية مهمة التوضيح ،وإتمام المعاني ،وبخاصة في الفلم الخبارية الوثائقية ،أو التربوية،
أو التاريخية ،وفي مجمل الفلم الخرى الموجهة إلى طبقة معينة من الناس ،تتمتع بقدرة متوسطة على الستيعاب
والدراك والتفسير ..إن تصوير إعصار ضرب إحدى الوليات المريكية ،ل يعطي محصلته الخبارية إذا لم يشر فيه
إلى المكان والزمان ومقدار الخسائر المادية وعدد الضحايا ومسار الريح ونتائجها المرتقبة ...الخ(.)1
وبما أن العلم السمعي البصري ،يشكل المصدر الساس للعلم والـمعرفة في المـجتمع ذي المـيـة والفئات
المتمدرسة ،التي ل تتقن العربية ،وتتنوع فيه اللهجات ،فإنه يمكن أن تُستغل الذاعة والتلفزيون من أجل تعزيز
الرصيد اللغوي للفراد ،ومنحهم الفرصة لستيعاب اللفاظ الجديدة ،ونطقها النطق السليم.
وتشير دراسات لغوية عديدة إلى أن لغة تلميذ المراحل الولى من التعليم هي مزيج مما يسمعونه في الذاعة
والتلفزيون ،وفي الحديث اليومي ،وكذلك في المؤسسة التعليمية ،وبذلك لم تعد المدرسة تحتكر عملية إثراء الرصيد
اللغوي للتلميذ .وهذا الواقع يفرض على القائمين على المؤسسات العلمية السمعية البصرية أن يحرصوا أشد
الحرص ،عند استخدامهم العبارات ،واللفاظ في تبليغ الخبار والمعلومات.
الوسيلة والسلوب:
وهكذا ،فبالضافة إلى ضرورة الخذ بعين العتبار أثر الوسيلة العلمية في صوغ الساليب ،ينبغي أن يوجه الهتمام
إلى اللغة ذاتها ..وفي هذا السياق نرى ضرورة ما يأتي:
-2محاولة توظيف من العامية ،اللفاظ التي هي من أصل اللغة العربية والتي بدأ يأفل استخدامها.
-3العمل على إدخال كلمات من صلب اللغة العربية ،ووضعها في جمل ،من أجل توليف الستئناس بها ،وجعل
المستمع يعي سياق توظيفها التوظيف السليم.
يعمل بعض العلميين -اليوم -على إغراق لغة العلم المسموع في التبسيط الشديد ،بحجـة مسايرة التـطـورات
الـجارية في المـجالت كافة ،بـما فيها تطـور اللغة ،غير أنه -في اعتقادي -من الـخطأ مجـاراة مثل هــذه
الفــكار الـتي ستفضـي إلـى تغـذيـة روح الرفض لللفاظ الفصيحة ،واللفاظ القرآنية بالـخصوص ،لنها
-كما يزعمون -ليست من طبيعة العصر ..ومن هذا المنطلق أرى أن استخدام أحد صحفي إذاعة عالـمية للفظ {في
يوم ذي مسغبة} ،للتعبير عن المجاعة والفقر في الصومال ،قد أتاح للغة القرآن سبيل ذيوعها ،كما أحيا لفظها.
وكذلك يمكن استخدام عبارة( :وضعت الحرب أوزارها ) ،إذا كنا بصدد الحديث عن نهاية حرب من الحروب.
إذن ،فإن التزاوج بين اللفاظ القديمة والحديثة في اللغة المذاعة أمر من الهمية بمكان ،بشرط أن يتم وفق رؤية
واضحة وتوظيف واع.
كما تعتبر لغة العلنات المذاعة ،خادمًا قويًا لثراء لغة المستمعين ،حيث تلقنهم عبارات وجملً ترن في رؤوسهم
كلما شاهدوا منتجًا من المنتجات معروضًا سواء في الشاشة ،أو في الواقع.
كان على اللغة المذاعة ،أن تراعي أن من أصول اللقاء الذاعي تقدير القيمة الصوتية لللفاظ ،والتدقيق في
استخدامها ،وفي معرفة وقعها الحقيقي على الذن ،وفي ذلك كله ما يتجه بهذه اللغة المذاعة إلى القتصاد في عدد
اللفاظ ،والقتصار على القدر المطلوب ،لتحقيق الفهم والمشاركة(.)1
إن لغة الذاعة هي اللغة المنطوقة المجهورة ،التي نتوسل بها في العلم وصوغ العالم على النحو الذي يجعلها قسمة
شائعة بين أفراد المجتمع جميعًا(.)1
تعلم فن المحادثة:
ولئن كانت الصحافة قد دفعت باللغة المشتركة خطوات واسعة إلى المام على النحو المتقدم ،فإن الذاعة ،وهي
صحافة مسموعة ،ستكون عظيمة الثر في زيادة الثروة اللغوية بين عامة الشعب ،وفي توحيد نطق المفردات ،وفي
التقريب بين اللهجات ،وليس من المستبعد أن تنجح في إحلل الفصحى المبسطة محل العامية السائدة ،ومن ثم تصبح
رموزًا صوتية ،بالنسبة إلى كاتب أنباء الذاعة ،بدلً من أن تتخذ شكل رموز بصرية(.)2
إن الذاعة والتلفزيون ،يمكنهما خدمة اللغة العربية بالنباء والحصص الترفيهية والعلمية ،والرياضية ،والفيلم،
والمسرحية...
ويـمكنهما أيضًا أن يكونا بمثابة الدرس التطبيقي أو المسرح ،فـي الـتـعـامل مـع اللـغـة العربيـة ،توظـيفًا،
ونطـقًا ،وإبـداعًا ،وإحـيا ًء أو تجديدًا.
وكذلك يمكنهما أن ينجحا في توحيد العاميات ،في لغة مشتركة ،ل تفرط في اللفظ القديم ،ول تجاري كل جديد حديث،
ولكن تكون بين ذلك قوامًا.
ويقترح الباحث الجزائري الحاج صالح ،تنظيم دورات تدريبية للمذيعين ،وكل الذين يشافهون الجمهور ،من خلل
الذاعة والتلفزيون ،لتدريبهم على التمييز بين الداء السترسالي ،الذي يجب أن تكون عليه المائدة المستديرة
والمناقشات غير الكاديمية ،وكذلك لغة المسرح ،والفلم ،التي تحتل واقع الحياة ،كما يعوّد المذيعون على استعمال
الرصيد اللغوي العربي حتى تتوحد اللغة.
العامية كمدخل للفصحى
العامية كمدخل للفصحى
يستخدم الناس اللهجات العامية في أحاديثهم اليومية أكثر من استخدامهم للفصحى ،وهم يتحـدثـون في
الـمـجتـمع الواحد لهجات شتى...
وجاءت اللهجات كما قيدتها كتب التراث اللغوي في تسميات مـثل الكشلـشة ،العنـعـنة ،والفحفحـة ،والثـلـثلة،
والتضـجع ،والعجعجة...
ولقد استعمل العرب العامية للدللة على مستوى اللغة العربية الـذي يـستعمله سـواد الـناس وعـامتهم فـي
ل أو كثيرًا على ألسن الناس
التـعبير عن أغراضهم ،وما العامية في رأيهم إل الوجه الخر للفصحى محرفًا قلي ً
ونطقهم.
ففي القديم كانت الفروق بين اللهجات تكاد تقتصر على الخصائص النطقية والعادات الصوتية ،وما عرض له اللغويون
القدامى من أمثلة تخالف اللغة الموحدة المطردة في الفصاحة كان قليلً (.)1
لم تكن نظرة علمائنا إلى اللهجات مقرونة بالريبة والتخوف بقدر ما كانت مشوبة بالستنكار وعدم الرضا ،ولهذا
صنفوا اللهجات في أدنى مراتب الفصاحة ،ل خارجها ،ووصفوها بالمذمومة والقبيحة والرديئة والمرغوب عنها (.)1
وعلى الرغم من أن العامية ل تعتمد على قواعد ثابتة ،ومنها كثير مشتق من لغات العاجم ،فإن المشتغلين بالدراسات
اللغوية يؤكدون أن اللهجات العامية حافظت على ثروة هائلة من اللفاظ الفصيحة المهملة عند الكتاب والدباء
والمصطلحات العربية الصحيحة التي استنبـطت أيام ازدهـار الـمدنية ولم يضمها معجم ول سجلها أحد من علماء
اللغة إل في القليل النادر(.)2
وعلى سبيل المثال ،تحتوي العامية الجزائرية على عدد هام من ألفاظ القرآن الكريم ،ويتم توظيفها وفق السياقات التي
وردت في كتاب ال عز وجل ..وفي ذلك نذكر ما يأتي(:)3
\ نقول :غاظه الشيء ،ويستعمل هذا اللفظ عندما يفقد المرء شيئًا عزيزًا عليه ،أو يمنى بخسارة لم يكن يريدها ،أو
يخونه شخص ما كان يثق فيه ..قال ال تعالى{ :وإذا خلو عضوا عليكم النامل من الغيظ } (آل عمران. )119:
ونقول :فرّط (بتشديد الراء ) في الشيء ،بمعنى قصر فيه وضيعه وبدده ،وتستخدم خاصة عندما يهاجر الشخص ول
يسأل عن والديه أو أهله ..قال ال تعالى{ :ما فرطنا في الكتاب من شيء } (النعام. )38 :
ونـقول :تـاه فــلن ،بـمعنى ضـل الطريق وسـار متـحـيـرًا ..قال تعالى {:قال فإنها محرمة عليهم أربعين
سنة يتيهون في الرض } (المائدة.)26:
ونقول :هذا الطفل اليوم ما به خانس؟؟ عندما يكون منزو وعليه علمات الخوف والترقب ،ويكون ذلك عادة عندما
يقوم بعمل يعـلـم أنـه ســوف يغـضب والديه إذا علموه ،كتكسير أثاث البـيـت ،أو عراك ،قال تعالى { :قل
أعوذ برب الناس ،ملك الناس ،إله الناس ،من شر الوسواس الخناس } (الناس.)4-1:
ونقول أيضًا" :أرض سائبة ،وصوف منفوشة ،ويحنث ،وبرئ المريض ،وغشي ،والملة ،والبنان ،أي أصبع الرجل "،
وغيرها كثير.
إن اللغة العربية في الوقت الراهن قد انتشرت انتشارًا واسعًا مس جميع الميادين والحقول ،لكن هذا التساع جرى في
كثير من الحيان على حساب مقومات شخصيتها ،فبدت للملحظ أنها لغة عربية في حروفها ،وفي بعض ألفاظها ،بينما
في معظم استعمالتها وتركيبها اتسمت بالعوجاج والنحراف عن طبيعتها اللفظية ودللتها المعنوية ،المر الذي
أخرجها من اللغة الواحدة إلى اللهجات المتعددة التي تشتمل على خليط من الكلمات الجنبية (الدخيلة ) ومن اللفاظ
العربية المنحرفة عن الصيغ الصيلة(.)1
إن الدعوة إلى العامية تمتد بجذورها في التاريخ ،وقد لعب المستشرقون دورًا بالغ الخطورة والثر ،وكان أول من دعا
إلى التحول من الفصحى إلى العامية الـمستشرق اللماني ولهام سميث ،الذي كان مديرًا لدار الكتب المصرية خلل
الثلث الخير من القرن التاسع عشر الميلدي.
لقد أدرك علماء الغرب الترابط الوثيق بين اللغة العربية والدين السلمي وعرفوا أن السلم ل يفهم إل بها ،وأنها
ركن جوهري من القرآن الكريم ( )...فأخذوا يوجهون السهام إليها ،وبذلوا الجهود الكبيرة لضعافها وتدميرها وإبعاد
المسلمين عنها ،وصرفهم عن الفصحى التي تؤدى بها(.)1
لقد أخذوا يروجون للغة العامية واللهجات القليمية المحلية لتكون لغة التخاطب والكتابة والداب والفنون والمعاملت،
وكان ذلك أسلوبًا من أساليب إضعاف اللغة العربية وإهمالها ،وكان أيضًا جزءًا من المؤامرة عليها(.)2
يتحدث الشيخ محمد الغزالي بمرارة جلية عن المـحاولت الرامية لضرب اللغـة الـعـربية وإضـعافـها والتمكين
للهجات ،حيث يقول(" :)3ل أزال أذكر أيامًا كان يتكلم الزهريون فيها باللغة الفصحى ".
فوضع الستعمار خطته كي يجعل من كلمهم "بالنحو " مثار السخرية ومبعث الهزء في كل مجلس.
ونجح الستعمار في إبعاد الفصحى عن لغة التخاطب ليستأنف إبعادها عن لغة التأليف والذاعة.
ثم يروي حادثة وقعت له نفسه قائلً" :أطلعني أحد الصدقاء على مجلة أسبوعية أخرجت لسانها لي لني أنطق الجيم
جيمًا والقاف بلغة العرب؟؟
إن الغريب ليس إفلح الستعمار في خلق هذا المخنث المسخ ،ولكن الغريب أن يتسلل هذا المسخ إلى وسائل العلم
ليكون له حق توجيه الجماهير ..توجيهها إلى أين؟
يقول الدكتور مسعود بوبو(" :)1ينبغي لنا أل يغيب عن بالنا أن الظاهرة اللهجية ل تقف عند النطق كما كان الحال
قديمًا ،بل تتعداه إلى الكتابة المرئية واضحة على "شاشات التلفزيون" ..والكتابة اللهجية تنطوي على الخطأ الملئي
والخطأ النحوي ،ورؤيتها على هذه الصورة المتكررة يرسخها في أذهان أجيالنا قبل معرفتهم السلمة اللغوية ،وهذا
يجعل من العسير محوها من أذهانهم ".
ثم يقارن بين عوائق فهم اللغة الفصحى واللهجات العامية حيث يخلص إلى القول" :وليس صحيحًا ما يقال عن وجود
عوائق تحول دون فهم ما يؤدى باللغة الفصحى ،بل العوائق دون فهم اللهجات أكثر وأشـد ضـررًا ،فالفـصحـى
موحـدة يفهمها الـجميع ،أو السواد العظم من العرب المتعلمين ،في حين يصعب على الجميع -متعلمين وغير
متعلمين -الحاطة باللهجات العربية على اختلف مواصفاتها ومناطقها ".
وفي السياق نفسه يقول الستاذ محي الدين عبد الحليم( :)2فإذا استعرضنا برامج التلفزيون أو الذاعة في معظم
البلد العربية لوجدنا أن نسبة ما تبثه بالعامية تزيد عما تبثه بالفصحى ،ول سيما في العمال الدرامية والمنوعات
التي يندر فيها استعمال الفصيح من اللغة بحجة أن وسائل العلم تخاطب الجمهور ككل ..وكون هذا الجمهور ذو
ثقافات متباينة ،ونتيجة للبتذال واستخدام اللفاظ والكلمات الهابطة من طرف العلميين ،وعدم الحفاظ على الحد
الدنى من الصول والقواعد اللغوية ،أدى إلى الستخفاف بقواعد اللغة العربية ،كما أدى ذلك إلى الترويج إلى السوقية
وشيوع الكلمات والمصطلحات غير اللئقة.
إن بعض خصوم العربية يختفون وراء الدعوة إلى تيسير التعبير بها وتسهيله ،والتيسير عندهم يعني التخلي عن
قواعدها وعن الساليب الصحيحة في التعبير عنها ،وعن أساليبها الصحيحة في التعبير بها ،ويمكن أن نلمس هذا في
وسائل العلم وأساليب الشهار ،إذ نادرًا ما نقرأ كلمًا عربيًا صحيحًا فيما تكتبه الصحف والمجلت أو فيما تذيعه
مختلف وسائل العلم وهؤلء الذين يفضلون استعمال التعابير البسيطة غير الصحيحة يغيب عنهم أن المعاني مرتبطة
بقوالب صيغها وحالت إعرابها ،لنها في الحقيقة لغة اشتقاقية معربة ..ومعنى أنها اشتقاقيه :أن معاني ألفاظها تتغير
كلما تغيرت قوالب صيغها ،ومعنى أنها معربة :أن معظم معانيها العرابية تتغير كلما تغيرت وظائفها في التركيب(.)1
أما اليوم ،فأمر اللهجات يثير المخاوف ،ويؤرق الغيارى على العربيـة العريقـة ،ويقـلق كل مـن يستـشرف
بـتـدبر وأناة آثارها المفزعة في المستقبل ،ذلك أن اللهجات العربية بتنوعها تبدو بحق كأنها حرب معلنة على
العربية الفصحى من محطات التلفزة ..وخطر هذه اللهجات يجيئ من كونها تتعدى المظاهر الصوتية ،إذ تتضمن كلمات
أجنبية دخيلة ومصطلحات ومسميات مرتجلة بغير خبرة بخصائص اللغة العربية ،يسوقها معدون أو مذيعون على نحو
مغرق في التسرع ومراعاة الشائع محليًا ،أو في مرعاة أذواق الناطقين بها وحدهم ،وأحيانًا يمعنون في المحلية
فيتحدثون بلهجة منطقة بعينها من هذا القطر أو ذاك ،وأحيانًا تبدو اللهجة متأثرة ببقايا اللغة التي كانت رائجة على
ألسنة المستعمرين ،ممن كان لهم وجود في كثير من مناطق الوطن العربي قديمًا وحديثًا ،أو تبدو متأثرة بألفاظ
سقيمة ل مكان لها في مستويات الفصاحة المرتضاة(.)2
ويرى بعض الباحثين أن تغليب العامية في بعض وسائل العلم كان سببًا من أسباب أزمة اللغة العربية المعاصرة،
وذلك لن وسائل العلم تخاطب الجماهير العريضة والمستويات الثقافية المتباينة وتؤثر فيها تأثيرًا نافذًا ..وحجة
بعض وسائل العلم في استخدام العامية أنها تـحاول إرضـاء كل الذواق ،وأنها تتوجه إلى فئات غفيرة من غير
المتعلمين(.)1
إن من ينتصرون للعامية بلهجاتها،أو يتحمسون لها بحجة مراعاة الميين ،أو محدودي المعرفة ،إنما يفعلون ذلك
وكأنهم ينتصرون للمزيد من التخلف والجهل ،أو كأنهم يستمرئون النحطاط(.)2
ضبط التعامل مع العامية:
ننهي هذا الفصل بتقديم مقترحات قد تضبط عملية التعامل مع العامية في وسائل العلم المحلية ،حيث نرى:
-إن العامية في حياة المم واقع ل يمكن نكرانه ،أو القفز عليه ،فهي في جميع الحالت تمثل جزءًا من شخصيتنا،
بسلبياتها وإيجابياتها ،ومع ذلك ينبغي لنا أن نؤكد حقيقة هامة ،وهي أن العامية ل يمكن اعتبارها رافدًا يغني العربية،
بل قد تشوه حقيقتها ،وتقوّض أعمدتها وأصولها.
-والعامية من الناحية التصالية قد تؤدي دورًا محدودًا جدًا ،فقد تؤدي وظيفتها الخاصة بالفهم في حدود المنطقة
التي تلهج بها ،بيد أنه يتقلص دورها كلما ابتعدنا عن موطن اللهجة ،وحتى محاولت فهمها يظل صعب المنال ،في
حين إذا تعلق المر بالعربية الفصحى ،فالقواميس التي وجدت لهذا الغرض ،يمكن أن تقدم خدمات جليلة لمن يريد
فهمها أو التعمق فيها .ويجب التنبيه أيضًا إلى أن تهذيب وصقل العامية أو ترقيتها ل ينبغي أن يتم إل من لدن خبير
بأسرار اللهجة واللغة الفصحى ،كما يجب أن يوضع في البال ضرورة التوحيد اللغوي للمة في كل مسعى.
-وإذا كانت العامية تستمد ألفاظها من ينابيع ل حصر لها ،وإذا كانت وسائل العلم السمعية البصرية تشكل المصدر
الساس لتداول اللفاظ والمفردات ،فمن النفع استغلل هذه الوسائل -كل واحدة حسب طبيعتها -من أجل تزويد
الناس برصيد لغوي جديد يساهم في ترقية لهجاتهم ،أو يصحح نطقهم لللفاظ العامية ذات الصول العربية.
لحظ الباحثون عددًا من الثار الناجمة عن استخدامات اللغة في وسائل العلم بشتى ضروبها ،وتتجلى هذه الثار على
الخصوص في الجوانب السلوكية والنفسية والتربوية ،والنظرة إلى الشياء ،والتفكير...
ومن ذلك أن اللغة تؤثر في الشعب المتكلم بها تأثيرًا ل حد له ،يمتد إلى تفكيره وإرادته وعواطفه وتصوراته ،وإلى أعماق
أعماقه ،وأن جميع تصرفاته تصبح مشروطة بهذا التأثير ومتكيفة به(.)1
وكما يقول أدوين واكين" :فإن جميع وسائل التصال بالجماهير الواسعة الحاشدة لتضطلع على نحو أو آخر بوظيفتين هما:
تكوين الرأي العام وإعلمه ،كما أنها تسلي وتبيع (السلع التي يعلن عنها فيها) .وهاتان الوظيفتان تؤديان بصفة مستمرة،
وبطريقة مباشرة وغير مباشرة" ..
وتشير دراسات استشراقية إلى أن اللفية الجارية ستشهد اتساع نطاق تداول لغات ،وأفول أخرى أو اندثارها ،وقد يلعب
عامل الحرص على اللغات وترقيتها ،وزيادة الناطقين بها،والمستخدمين لها ،دورًا بالغ الهمية من أجل ضمان ديمومتها.
إن اللغة من أهم مؤسسات كل أمة ..ولغتنا العربية فيها مقدساتنا وتراثنا العظيم وتاريخنا ( )...وعلينا أن نرعاها ،ونسعى
دائمًا إلى تحديثها ،وتبسيط صعابها ،والرتقاء بها ،لنها أقوى الروابط ..فهي توحد الفكر والعاطفة والثقافة والتاريخ،
وهي دعامة المستقبل الواحد والمصير المشترك(.)1
وإنه مما ل شك فيه أن العلم المعاصر من أهم عوامل التطور اللغوي ..والذي ل شك فيه أيضًا ،أن التزام القائمين على
العلم بقواعد الدقة ،من شأنه أن يضبط هذا التطور ،وأن يضعه في مجراه ،فيصبح مثل النهر تدفقًا ونماءً(.)2
ومن الضرورة بمكان أن ينتبه رجال العلم إلى أنهم يخلقون الذوق اللغوي ،ويفرضون الصواب ،الذي قد يبدو في أول
أمره ثقيلً ،لكنه مع الوقت يصبح مقبولً وشائعًا(.)3
إن لغة العلم ل تثري زادنا اللغوي فحسب ،بل تمنحنا تصورًا لطبيعة الشياء ،وحقيقة محيطنا ،وأصوب السلوكات
وأكثرها تطابقًا مع قيمنا ومثلنا ..وعلى سبيل المثال ،إذا استعمل العلم اللفظ العفيف والدقيق ،فقد يقتفي آثاره الناس ،بيد
أنه إذا أحاطنا بكلمات الفسق والسوء والبذاءة ،فمن المتوقع أن يتم استخدامها من قبل الجمهور ،فاللغة العلمية تصبح
جزءًا من حياة المجتمع.
إن السلوب الذي تستخدمه وسائل العلم قد يتأثر به الجمهور ،ولكن بدرجات متفاوتة ،وفي هذا الشأن لحظ عدد من
أساتذة اللغة العربية على تلمذتهم استخدامهم للصيغ والقوالب والعبارات التي يوظفها الصحفيون في كتاباتهم.
وبما أن وسائل العلم هي أسبق الوسائل في معالجة الموضوعات النية ،فإنها ل تعمل فقط على تداول المصطلح الجديد
والتعبير عن الواقع ،بل تسهم كذلك في صياغة نمط التفكير وتفسير الحداث وإصدار الحكام بشأنها.
ل من العلم والتعليم يهدف إلى تغيير سلوك الفرد ،فبينما يرمي التعليم إلى التأثير في سلوك
ويعترف الباحثون بأن ك ً
التلميذ بهدف تغييره ،فإن العلم يسعى إلى التأثير في سلوك الجماهير بهدف تغييره أيضًا.
وكثيرًا ما نرى أطفالنا يرددون الجمل والكلمات والصيغ اللغوية التي يلتقطونها من العلنات التجارية ،ويقلدونها في
حديثهم ،ويحاكون طريقة تلفظها ..غير أن الطفل يكتسب في هذا المجال معارف كثيرة ،وينمو ذوقه وقدراته الخيالية،
وترتقي مهاراته اللغوية بشكل واضح ،ويثرى محصوله من مفردات لغة العلن ،أو يزيد هذا المحصول نماء وتنوعًا.
فوسائل العلم تعادل المدرسة بالنسبة لعداد ل حصر لها من الرجال والنساء الذين حرموا من التعليم ،حتى ولو لم
يستطيعوا أن يحصلوا منها إل على العناصر التي يتسم مغزاها بأقل قدر من الثراء ،ومضمونها بأكبر قدر من البساطة(.)1
ولما كان تمكين الفراد من التفاعل ومن إيصال المعلومات يندرج في عداد المهام الرئيسة للعلم والتصال ،فقد ذهب
المشتركون في المؤتمر الدولي الحكومي للسياسات العلمية في إفريقيا بيا وندي (الكاميرون ) ،في يوليو 1980م ،إلى
القرار بأن استخدام اللغة الصلية أو الوطنية يعد وسيلة من أنجع الوسائل لتأكيد الذاتية الثقافية ،فاللغة من المقومات التي
تجعل للنسان ذاتيته ،أي انتماءه إلى جماعة معينة من الناس ،وذلك بالضافة إلى دورها في تيسير تحصيل المعارف ،كما
أن استخدام اللغة الصلية أو الوطنية يمكن من إضفاء مزي ٍد من الفعالية على عملية المشاركة(.)1
لذلك فإن لغة العلم يمكنها أن تحقق أهدافًا عدة ،وأن تحدث آثارًا جمة ..ومن أجل ذلك يجب أن ترتبط السياسات اللغوية
لوسائل العلم الوطنية بخدمة قضايا الهوية ،وتأكيد الذات اللغوية ،وتوسيع نطاق استخدام العربية وفق الرؤية التي
مفادها أن اللغة هي مطية للفكار ،وأسلوب هام في التفكير والتصور .
يرى الفلسفة أن الفلسفة أم العلوم ،بينما يرى العلميون أن العلم ،شريك كل العلوم .فالعلم بوسائله المختلفة
شريك للسياسة والفن والدب والقتصاد والطب وغير ذلك .وهو إما أنه يوظف هذه العلوم في قالب اعلمي أو أنه
يوثقها ويسجل تطوراتها بوسائله المختلفة .ولذلك أصبح الفصل بين العلم والعلوم الخرى أمرا غير ممكن خاصة
علقة العلم بالتاريخ .ذلك أن التاريخ يشمل مساحة أحبر من حياة البشرية .فلكل أمة أو قرية أو فرد تاريخ خاص.
والعلم يعيش وسط هذه التفريعات عامها وخاصها .وفي هذا المقال سنركز على العلقة القائمة بين العلم والتاريخ:
هل هي علقة ثنائية التأثير والتأثر أم أنها أحادية التأثير؟ وما هي حدود ومهاو كل من المؤرخ والصحفي؟
ل ينكر أحد أن العالم اليوم أصبح قرية صغيرة بفضل تطور وسائل التصال والعلم .فبعد أن كانت الرسائل تنقل عن
طريق الفم فيما يسمى بالتصال الشفهي وتنقل الرسائل المكتوبة عن طريق الدواب والحمام الزاجل ،وبعد ذلك السفن
والسيارات والقطارات ،تنقل الرسائل العلمية اليوم بواسطة الموجات "الكهرومغناطيسية " التي تسافر عبر الثير.
لقد قرب لنا الراديو "الترانزستور" حوادث أمريكا وأفغانستان بواسطة النقل الصوتي لتلك الحوادث .ونقل لنا التليفزيون
صورة مصفرة عن المعارك الحربية ،واليوم تنقل لنا القمار الصناعية عبر القنوات الفضائية الحوادث وقت وقوعها
مباشرة بغض النظر عن مكان وقوعها.
إن وسائل العلم (المطبوعة واللكترونية ) على اختلفها تقوم بأداء مجموعة من الوظائف في المجتمع والعالم
بصورة أعم .فإلى جانب التسلية والترفيه والتثقيف نجد العلم يضطلع بمهمة الخبار وتسجيل الحوادث .فالكثيرون
منا تابعوا تطورات حرب الخليج الخيرة عبر المذياع وشاشات التليفزيون .وباعتراف الكثيرين ،فإن تأثير وسائل
العلم على الفرد والمجتمع أصبح أمرا مسلما به ،وحتى أن منهم من بالغ في خطر تأثير وسائل العلم من مجرد
نشرها فقط لخبار الحوادث والشخصيات .فما هو فولتير يصف الصحافة بأنها "الة يستحيل كسرها وستعمل على هدم
العالم القديم حتى يتسنى لها أن تنشي ؟ عالما جديدا" .ويعبر أحد رؤساء دول أمريكا اللتينية السابقين عن قوة تأثير
الصحافة بقوله" :ل أخاف أبواب جهنم إذا ما فتحت بوجهي ولكني أرتعش من صرير قلم المحرر".
ولعل هذا النوع من التخوف من وسائل العلم هو الذي قاد البعض الى الشك في طبيعة العلقة بين العلم والتاريخ.
حيث يعتقد البعض أن العلم وسيلة جيدة لتشويه التاريخ وقلب الحقائق وإنه من الصعب أن يكون مصدرا للتاريخ.
ويوضح الحوار التالي الذي دار بين الزعيم المصري الراحل سعد زغلول وبين الديب والمؤرخ طه حسين حينما التقيا
في باريس عام 1918هذا التشكك في العلقة بين العلم والتاريخ (محمد سيد :1985 ،ص )13
طه حسين :نعم ،اذا أحسن البحث عنه والستقصاء فيه وتخليصه من الشائبات.
سعد زغلول :أما أنا فيكفي أن أرى هذا التضليل وهذه الكاذيب التي تنشرها الصحف في أقطار الرض ويقبلها الناس
من غير تثبت ول تمحيص لقطع بعد ذلك بأن ل سبيل في استخلص التاريخ من هذه الشائبات.
من هذا المدخل ،نجد أن هناك من يرى بسلبية العلقة بين العلم والتاريخ .وفي هذا المقال سنحاول الجابة على عدد
من السئلة التي تدور حول هذا الموضوع .هذه السئلة هي:
من هذا المنطلق نجد أن طرح هذا الموضوع ل يمكن أن يتم دون معرفة المفردات المتعلقة به .ولعل فهمنا لمعنى
التاريخ والعلم يؤهلنا بعد ذلك لمعرفة العلقة بينهما أو بين المؤرخ والصحفي.
ماهوالتاريخ ؟
يعرف بعض الكتاب التاريخ بأنه "كيف يعيش الناس ،وكيف يؤثرون على عالمهم ،وما هو الشي ء الذي أتوا به
وأبدعوه ،وما هو مقدار ما نعلمه من كل ذلك " .بينما يعرفه أخر ون بأنه "الحوار بين الماضي والحاضر" .ويعرفه
طرف ثالث بأنه "حكاية الحوادث الماضية المتعلقة بحياة النسان على الرض " (عبده :1989 ،ص .)5
هذه التعريفات على اختلفها تجمع على أن المقصود بالتاريخ هو التاريخ البشري ،ذلك أن النسان هو الذي يصنع
الحضارة ويؤثر في البيئة وبذلك فهو وحده من يوجد التاريخ .من الجانب الخر نجد أن التاريخ البشري يشتمل على
العديد من الممارسات البشرية .فهناك الجوانب القتصادية والجتماعية والفنية والسياسية ،إل أن علماء التاريخ
يركزون دائما على الجانب السياسي من التاريخ البشري .ويرجع هذا التركيز الى أن السياسة هي الباحث الرئيسي
لصناعة التاريخ .فعصر التنوير والثورة الصناعية في أوروبا كان مردهما لتطورات سياسية .وبهذا فإن تعاقب الحكام
يتبعه الى حد كبير تغيير في العديد من الجوانب القتصادية والجتماعية وغيرها في المجتمع ،ومن هنا كان التركيز
على التاريخ السياسي.
إذا كنا سلمنا بأن المقصود بالتاريخ هو التاريخ البشري ،فإن عمل المؤرخ ما هو إل تسجيل للحوادث البشرية
الماضية .هذا التسجيل يتم بالتقصي والبحث في المصادر المختلفة والمرتبطة بالحوادث الشي يبحث فيها المؤرخ والتي
قد تكون نقوشا وتماثيل ،أو مخلفات مادية كآنية وأسلحة ،أو وثائق مكتوبة.
وبتوضيحنا لمهمة المؤرخ فإننا نجد أن مهمة الصحفي ل تختلف عنها كثيرا .فالصحفي -وهو كل من يشارك بفنه
واختصاصه في قسم من أقسام الصناعة الصحفية _ يقوم بتسجيل الحوادث التي يفرزها النشاط النساني مع الجتهاد
بالتحقق من صدق الحوادث والتزامه الموضوعية في ذلك .ولكن الفرق بين الصحفي والمؤرخ في تسجيلهما للحوادث
البشرية يكمن في الفترة الزمنية التي يعني بها كل منهما .فالمؤرخ يعني في الغالب بالحوادث الماضية بالتنقيب عنها
وردها الى عللها وأسبابها القتصادية أو السياسية أو الجتماعية أو البيئية .بينما يعني الصحفي في الغالب بتسجيل
الحوادث اليومية أو السبوعية أو الشهرية حسب دورية الوسيلة التي يعمل بها .من هنا يتضح أن دائرة عمل المؤرخ
تقع ضمن الحوادث البشرية الماضية ،ويكون العتماد على المصادر التي سجلت الحوادث في الماضي .أما دائرة عمل
الصحفي فتكون في الحوادث الحالية أو تلك التي وقعت في الماضي القريب.
ونظرا لطبيعة عمل الصحفي فإن الوقت يعمل في غير صالحه إذا ما أراد التثبت من صحة الحوادث التي يسجلها في
وسيلته العلمية .ويعود السبب في ذلك الى أن الوسيلة التي يعمل بها الصحفي تكون غالبا ملزمة بالصدور أو بث
خبر ما في وقت محدد .هذا التوقيت قد ل يمكن الصحفي من البحث في تفاصيل الموضوع والتحقق من صدق الوقائع.
كما أن الوقت نفسه قد ل يمكن الصحفي أيضا من استقراء الحوادث المستقبلية وتقديم نظرة شاملة حول الموضوع
الذي يتناوله .ويعود السبب في ذلك الى أن الحوادث التي يسجلها الصحفي لم تطو صفحاتها بعد ول تزال تشهد
مستجدات بحكم حداثتها.
وعلى الجانب الخر ل يمثل عامل الوقت مشكلة بالنسبة للمؤرخ بحكم أن دائرة بحثه تكون في الماضي .والمؤرخ ملزم
بالمانة والموضوعية في تسجيله للحوادث أكثر من الصحفي ،لن ما يدونه المؤرخ ويخرجه للخرين يدونه ويخرجه
في سعة من الوقت ووفرة في المصادر وأي تزوير أو تشويه في الحقائق يعود الى أهوائه أو أخطائه .فالمؤرخ للحرب
العالمية الثانية مثل ل ينقصه الوقت ول المصادر في استقصاء هذه الحرب وردها الى عللها الحقيقية بناء على ما
يتوافر له من وثائق.والقول بأن الوقت قد يعرقل عمل الصحفي وقد يعمل ضده ل يعطي العذر للصحفي لتشويه الحقائق
عمدا ،وانما عليه إعمال كل الجهد للتحقق من سلمة ما يسجله.
من ذلك ينبغي أن ندرك أن المؤرخ ل يرى الحوادث وقت وقوعها بعكس الصحفي الذي يشهد في معظم الحيان
الحوادث التي يسجلها .والمؤرخ يحاول أن يربط بين ما خلفه ال وائل من آثار وبين ما كتب عنهم ليصل في النهاية
الى توثيق تاريخي لتلك الحقبة من الزمن أو الحوادث أو الشخصيات .ويبدو جليا أن مهمة المؤرخ الولى هي التقص
في الحقائق التاريخية وبيان صحتها من عدمه ،بينما مهمة الصحفي الولى هي تسجيل ما يجري من حوادث بعين
فاحصة حسبما يتوافر لديه من أدلة وتأتي مهمة تأريخ الحوادث بعد ذلك لحقة لطبيعة عمله .ويدلل بشير العوف
()1987على هذا الرأي بقوله "إن مهمة الصحفي تنطلق قبل كل شيء ،من نقطة الحصول على (الخبر)،ومن ثم ينطلق
الصحفي على التعليق عليه بسطر أو بسطور أو بمقال كامل إذا كان جديرا بالتعليق وبعد ذلك ينقله الى القاريء" ص
.35
إن من المحاذير التي تحيط بعمل المؤرخ أو الصحفي في تاريخ أو تسجيل الحوادث والشخصيات التاريخية هي تقليب
الهواء أو الولء لفئة أو طائفة معينة .لن ذلك سوف يخرجهما من دائرة الموضوعية ويصبح تأريخهما
للحوادث صناعة ل تبنى على أسس علمية ثابتة .والموضوعية أو عدم إقحام الذات عند تسجيل الحوادث وتقديرها
مطلب صعب لن النسان ل يمكن أن يتخلص من جملة الفكار والمعتقدات التي يؤمن بها .ويذكر الصحفي المريكي
الكبير الذي غطى الحرب العالمية الثانية Edward R. Murrcwإن حيادية الصحفي أمر صعب ،حيث يقول(:
Roscho, 1975, p. 48
"أعتقد أنه ليس من الممكن -بحكم الطبيعة النسانية لي صحفي أن يكون حياديا بصورة كاملة ،لننا كلنا نتأثر الى
حد ما بمستوانا التعليمي وسفرنا وقراءاتنا ومجمل خبراتنا".
وما يصدق على الصحفي يصدق أيضا على المؤرخ لن كليهما بشر وطيهما يهتم بتسجيل الحوادث البشرية .من ذلك
نخلص الى القول بأن تقديرنا للحوادث أو تسجيلنا لها قد ل يخلو من ذاتياتنا وخبراتنا التي نقحمها عن وعي أو ل
وعي في التسجيل والتقدير .حينئذ تأتي ملحظاتنا للحدث الواحد متباينة ،ول أدل عل ذلك من المثال التالي:
يذكر أستاذ التاريخ هورنشو حدثا وقع في مجلس العموم البريطاني حينما كان سفير روسيا جالسا يستمع الى أحدى
الجلسات ،وقد علقت على هذا الحدث ثلث صحف لندنية على النحو التال .ذكرت الول أن السفير الروسي كان يتابع
الجلسة بكل انصات ويعلق من وقت لخر على بعض نقاط الحديث الى سكرتيره الذي يجلس بجواره .بينما ذكرت
الثانية أنه ل يجيد النجليزية وكان من وقت لخر يسأل سكرتيره عن بعض معاني الكلمات الصعبة .وذكرت الثالثة أنه
ل يعرف النجليزية وكان يشغل وقت الجلسة بالحديث الى سكرتيره من وقت لخر .هذا المثال يوضح أنه على الرغم
من أن الصحفيين في الصحف الثلث شاهدوا نفس الحدث إل أن تسجيلهم له جاء مختلفا كاختلف الصحف والصحفيين
أنفسهم (عبده :1989 ،ص .)10
إن الموالة أو المحسوبية تمثل حلقة خطيرة في تأريخ الحوادث ذلك أنها ل تسجل إل التاريخ المشرق للحدث أو
الشخصية المحبوبة أو التاريخ المظلم للشخصية غير المرغوبة .فليس من المتوقع من مؤرخ لسيرة حاكم أو أمير أن
يذكر مثالب هذا المير ما دام مواليا له ،ومن غير المتوقع أيضا أن يذكر المؤرخ الذي أعمته الوطنية ،الحقيقة المرة
التي ربما تكون بلده قد مرت بها .فعلى سبيل المثال ،يكتب المؤرخون الفرنسيون الموالون لملك فرنسا لويس السادس
عشر بأنه ذهب الى المقصلة رزينا الى حد الجرأة والشجاعة ولم يخش جلدها القاسي بل أسلم نفسه في هدوء وثبات
على الرغم من أن الحقيقة تقول عكس ذلك حيث أن لويس السادس عشر راح يصيح مستنجدا ومستغيثا ،وأنه أمسك
بالجلد يبعده عن نفسه تارة ويسأله الرحمة والعفو تارة أخرى (عبده :1989 ،ص .)47
إن أهم شرط في صناعة التاريخ الى جانب إبعاد الصحفي والمؤرخ لذاتيتهما هو الحرية .ويقصد بالحرية هنا حرية
ذكر الحقيقة ،ذلك أن الحقائق مقدسة أما الرأي مجاني على حد قول الصحفي الكبير G.P. Scottإن الحرية هي التي
تكفل للمؤرخ وللصحفي معبر الخروج من طائلة المحسوبية أو الموالة وهي التي تجعل منهما موضعا للثقة .وفي كثير
من الدول نجد الحرية في التعبير والرأي تكفلها قوانين مستمدة من الدستور .ففي الوليات المتحدة المريكية نجد
التعديل الول First Amendmentيكفل للعلم هناك حرية التعبير والرأي الى حد كبير .وهذه الحرية ل تقتصر
فقط على رجال الصحافة والعلم بل تشمل كل الفراد الذين يعيشون في أمريكا .وعلى المستوى الدولي نجد المادة
19من العلم العالمي لحقوق النسان الذي صدر في عام 1948تتضمن بندا ينص على حرية كل شخص في أن يعبر
عن رأيه في أية وسيلة كانت بغض النظر عن وجود الطراف المعارضة بالضافة الى حقه في استقاء المعلومات من
أي مصدر كان .وفي الدول العربية نجد أن هذا النوع من الحرية تحدده قوانين الصحافة أو قوانين المطبوعات في كل
دولة .وهي بصورة عامة تكفل قدرا يسيرا من حرية التعبير والرأي.
إن فقدان الحرية من شأنه أن يشوه الحقيقة لوجود صوت واحد مسموع فقط وهو صوت من بيده السلطة .فالمؤرخ أو
الصحفي الذي يعمل في بيئة منزوعة الحرية يكون فقط أداة تقلبها يد خفية كالمغناطيس الذي يحرك قطعة معدنية من
تحت صفيحة أخرى .ويمكننا بعد ذلك أن نسمي التاريخ الذي ينتجانه بالتاريخ المختار ،وليس بالتاريخ الواقع .لقد
نشرت جريدة "الوطن " العمانية في عددها الصادر يوم الثنين 30سبتمبر 1996خبرا مفاده أن حزب العمال
البريطاني يطالب الحكومة البريطانية بسن قانون يقضي بمعاقبة كل من ينكر حادثة "الهوليكوست " التي يذكر فيهدأن
ستة مليين يهودي أحرقهم هتلر في أفران الغاز أيام الحرب العالمية الثانية .ولو وافقت الحكومة البريطانية على هذا
المطلب تكون قد صفعت عرض الحائط بمبدأ حرية الرأي والتعبير الذي تؤمن به ،المر الذي قد يدفع المؤرخين
والصحفيين على السواء الى تجنب الخوض في مثل هذه القضية خوفا من الوقوع تحت طائلة العقوبة.
إن الحرية كما هي مهمة ولزمة للمؤرخ فهي مهمة ولزمة للصحفي في عمله كمراسل أو مندوب أو حتى مجرد ناقل
لحدث ما .وخطر انعدام الحرية عند الصحفي لهو أعظم من انعدامها عند المؤرخ وذلك لسببين .الول هو أن وسائل
العلم تعني بتسجيل الحوادث اليومية أو السبوعية التي ستصبح فيما بعد تاريخا لمة ما ،وتصبح وسائل العلم
عندئذ مصدرا لهذا التاريخ .فإذا جاء تسجيل هذه الحوادث وقت حدوثها مزيفا بسبب فقدان حرية التعبير فإن تاريخ تلك
المة سيكون مزيفا أيضا .والثاني هو أن وسائل العلم لها من النتشار والتأثير في الجماهير ما ل تستطيعه أية
وسيلة أخرى .وينشرها أخبارا مزيفة بسبب فقدان الحرية في وقت حدوث واقعة ما ،فإنها ترسخ في أذهان الجماهير
هذا الزيف الذي قد يستحيل تصحيحه.
ونجد في تاريخ العلم أمثلة كثيرة على مواقف سحبت فيها الحرية عن وسائل العلم في بلدان تقر بمبدأ الحرية .لقد
منعت الحكومة المريكية مثل الصحفيين من تغطية حربي جر انادا وينما .وكررت الحكومة المريكية الشي ء نفسه
عندما فرضت رقابة مشددة على العلميين في تخطيتهم لحرب الخليج الخيرة التي نشبت إثر غزو العراق للكويت
.1990فلقد أوعزت الدارة المريكية الى خفراء عسكريين مهمة مراقبة تحركات الصحفيين ومنعهم من اجراء
مقابلت بدون سابق تصريح .وابتكرت الدارة العسكرية ما سمي بـ "نظام المجموعة " أو "المجموعة الصحفية " التي
اختير لها 150صحفيا من الذين ل يشك في ولشهم للقيادة المريكية من بين 1500صحفي كانوا متواجدين لتغطية
الحرب .)Kellener,1992p. 761لقد أصبحت حرية الصحفيين في تلك الحرب مقيدة ولم يعد بمتناول أيديهم سوى
نشر ما تملي عليهم إدارة شوارزكوف الجنرال المريكي الذي قاد قوات التحالف المتمركزة في المملكة العربية
السعودية ،ولهذا جاءت تقاريرهم وتسجيلهم لحوادث تلك الحرب مشوهة ومزيفة .وقد برع هاكورث الصحفي بمجلة
Newsweekالمريكية في وصف حال الصحفيين وهم يتلقون معلومات عن حرب الخليج من إدارة العلم بقوله
).Taylor, 2991, p166كل شي ء كان يعطى بقدر مثل ملعقة التغذية .وكنا نحن _ الصحفيين _أشبه بالحيوانات
الموجودة في الحديقة ،بينما قام المسؤولون العلميون بدور حراس هذه الحديقة الذين يرمون لنا قطعة من اللحم من
حين لخر.
وبلغت شدة الرقابة العلمية في حرب الخليج الى حد مصادرة المعلومات التي تم الحصول عليها بدون تصريح أو من
غير علم الرقيب .فقد ذكرت صحفية الندبندنت البريطانية في عددها الصادر يوم الربعاء 6فبراير 1991أن الرقابة
العلمية صادرت فيلما خبريا عن معركة الخفجي على حدود المملكة العربية السعودية كان قد التقطه طاقم تليفزيون
فرنسي.
لقد كان من الطبيعي بعد ذلك أن تأتي أخبار حرب الخليج مشوبة بشي ء من
التشويه.
وقد سبق وأن تدخلت الحكومة المريكية بفرض رقابة على النتاج العلمي المتعلق بسرد الوقائع التاريخية زمن
الحروب .ففي حربها مع فيتنام تدخلت وزارة الدفاع المريكية بأن جعلت فيلم "القبعات الخضراء" المنتج عام 1969
مؤيدا للتدخل العسكري (عازار :1983 ،ص .)37وهو الفيلم المريكي الوحيد عن حرب فيتنام الذي جاء مؤيدا
للحكومة المريكية ذلك لن ما بعده من أفلم حول الموضوع نفسه أمثال العودة الى الوطن وصائد الغزلن كانت تندد
بالغزو المريكي.
بصفة عامة يمكن القول بأنه من الصعب أن توجد هناك حرية مطلقة حتى في المجتمعات التي تصف نفسها بأنها
تسمح بقدر كبير من الحرية في الرأي والتعبير .وفي الحالت التي يصادف فيها المؤرخ أو الصحفي أقل قدر من
الحرية فإن تأريخه للحوا دث والشخصيات قد يثير علمة استفهام .واذا كان الحديث يدور حول العلقة بين التاريخ
والعلم فإنه من الضروري أن نوضح السباب التي تدفع وسائل العلم ال تشويه الحقائق التاريخية أو الترويج
لحقائق مشوهة .ومن خلل تتبعنا للعمل العلمي نجد أن وسائل العلم تعمد الى تشويه الحقائق للسباب التالية:
تحاول كل دولة أن تمنع كل ما من شأنه أن يزعزع أمنها القومي كالدعوة الى الحروب أو إثارة القلقل وكذلك الحيلولة
دون إفشاء أسرارها العسكرية التي يمكن أن يستغلها العدو أو التي تظهر سلوكيات غير إنسانية .من ذلك نجد أن
الحقائق المتعلقة بالحروب وأسرار السلحة أكثر عرضة للتشويه وللتزييف من غيرها .وقد ازداد تشويه الحقائق
المتعلقة بالحروب من قبل وسائل العلم في القرن العشرين وذلك لقدرة هذه الوسائل عل تغطية مجريات هذه الحروب
أول بأول .وبالتالي ،فإن الذكر المجرد للوقائع التاريخية قد يؤدي الى كشف السرار العسكرية أو يثبط من همة الجنود
أو يعرض أمن الدولة للخطر.
لقد حاولت الحكومة المريكية كبح جماح وسائل العلم في أوقات الزمات لضمان أمنها وأسرارها العسكرية .ففي
الحربين العالميتين سنت قانونا Seditious Libeيمنع وسائل العلم من الدعوة للحرب أو التشهير بذلك أو النزوع
لوجهات نظر تخالف وجهة النظر الحكومية .وفي حرب الخليج عام 1991شددت الرقابة على الصحفيين لضمان الشي
ء نفسه.
من الجانب الخر ،تكثر في أوقات الحروب والن مات الممارسات العسكرية غير النسانية التي تتنافى مع المواثيق
والعراف الدولية مثل الهجوم على المدنيين وضرب الهداف المدنية .وتحاول الكثير من الدول أن تخفي الحقائق إذا
ما اقترفت قواتها أي عمل غير إنساني .فقد حاولت وسائل العلم الصربية إخفاء حقيقة المقابر الجماعية التي دفن
فيها اللن من البرياء المدنيين المسلمين .وحاولت القيادة العسكرية المريكية اخفاء حقيقة ضربها لهداف مدنية في
العراق فها هو الجنرال كولين باول يقول "إننا مهتمون بشدة بما يقع من أضرار ،واضعين في العتبار تجنب قتل أو
جرح المدنيين .أو التعرض للماكن الثقافية والسلمية في المنطقة "
( MacArthur, 2991, p.68ولكن بعدما علم الناس بضرب القوات المريكية لمواقع مدنية عراقية حاولت القيادة
العسكرية المريكية إخفاء هذه الحقيقة والتماس الحجج كزعم الجنرال نورهان شوارزكوف أن العراق أخفى أسلحة
عسكرية في أماكن مدنية.
-2آهداف دعاتية
الدعاية كما يعرفها والتر ليبمان هي التأثير على نفوس الجماهير والتحكم في سلوكهم لغراض مشكوك فيها وذلك
بالنسبة لجمهور معين في زمن معين .وتقوم الدعاية على التهويل والمبالغة وتحريف الحقائق .وهي تستغل سذاجة
الجماهير وتؤثر في غرائزها وعواطفها في محاولة لتعطيل العقل عن إدراك الحقيقة.
إن من بين المثلة على تشويه العلم للحقائق لغراض دعائية هو ما يصر عليه العلم اليهودي من أن النازية
اللمانية قتلت المليين من اليهود أيام الحرب العالمية الثانية .ويركز العلم على مثل هذا التلفيق لكسب التعاطف
العالمي حيال القضايا اليهودية .ولكن العقل قد يرفض تصديق قصة إحراق ستة مليين يهودي في فترة واحدة لن
السئلة التي تدور حول هذه القضية قد ل توجد لها إجابة حقيقية .فعلى سبيل المثال ،هل كان يوجد ستة مليين
يهودي في ألمانيا في تلك الفترة ،وان وجدوا ،هل كانوا يتركزون في منطقة واحدة حتى يسهل على هتلر إحراقهم ؟
وهل كانت توجد أفران غاز -على حد ن عم العلم اليهودي -في ألمانيا في ذلك الوقت أم في أن أفران الغاز وجدت
فقط أيام الحكومات الشتراكية في ألمانيا الشرقية ؟
ومن بين المثلة الخرى على تشويه الحقائق لغراض دعائية هو ما رددته وسائل العلم العالمية من أن العراق يمثل
القوة الرابعة في العالم متخطية بذلك الترتيب الحقيقي لمران ين القوى في العالم .لقد كان الهدف من هذا التشويه
تعبئة الرأي العام العالمي ضد العراق بعد غزوه للكويت ومع إعطاء قوات التحالف الشرعية لضرب العراق بيد من
حديد لنه بقوته الكبيرة قد يمثل خطرا على أمن المنطقة:
تسعي وسائل العلم أحيانا الى تشويه الحقائق أو الترويج لحقائق مشوهة من أجل تحقيق منفعة مادية .فعلى سبيل
المثال روجت مجلة شتيرن اللمانية في عام 1983لما سمي بمذكرات هتلر الى أن أعلن في بلغ رسمي من ألمانيا
الغربية أن هذه المذكرات مزورة .كان يكفي للمجلة أن تعرف أن هتلر لم يكتب مذكرات ولكنه خطب أمام الجمهور،
وأن الكثيرين من المقربين اليه يثبتون بحرق معظم الوثائق (عبده :1989 ،ص .)31
إن الترويج للحقائق المشوهة يأتي من قبيل جذب الجمهور الى القبال على الوسيلة العلمية وبالتالي زيادة مبيعاتها
وتحقيق الربح .ويتحقق هذا الهدف بصورة خاصة عندما يرتبط بقضية تتسم بالثارة بسبب اختلف الناس على
الحقيقة أو لكون الموضوع يحظى باهتمام كبير من الجمهور.
تمثل طبيعة العمل العلمي السبب الرابع لتشويه الحقائق العلمية .فاخراج حقيقة تاريخية في شكل فيلم تاريخي أو
وثائقي يتطلب معالجة دراسية معينة أو تمثيل تقريبيا للحادثة الحقيقية أو اغفال لفترات تاريخية معينة .وفي أحيان
كثيرة ،يتطلب العمل العلمي إعمال الخيال وادخال بعض الجوانب النسانية التي تثير اهتمام المشاهدين وتستحوذ
على اهتمامهم .ولكن على الرغم من ذلك يجب أن يلتزم العلميون بصلب الحقائق عند معالجتهم لمادة تاريخية.
وللتأكد من صحة توثيق الحقائق التاريخية إعلميا أوجدت في الكثير من الدول هيئات رقابية لتحقيق ذلك .فعلى سبيل
المثال ،تشرف جامعة الزهر بمصر على النصوص والمواد التي تتصل بوقائع تاريخية واسلمية يراد توثيقها إعلميا.
إن من بين المثلة على تشويه بعض الحقائق بسبب طبيعة العمل العلمي هو فيلم "ناصر "56الذي كتبه محفوظ
عبدالحميد وأخرجه محمد فاضل وقام بدور البطولة فيه أحمد زكي .تدور قصة هذا الفيلم حول فترة تاريخية -عام
-1956من كفاح الرئيس المصري الراحل جمال عبدا لناصر ،وهي الفترة التي رفض فيها البنك الدولي تمويل السد
العالي وأممت فيها قناة السويس وحدث فيها العدوان الثلثي على مصر بسبب ذلك التأميم .وعلى الرغم من أن
المخرج محمد فاضل حاول جاهدا أن يكون إنتاجه مطابقا للحقيقة كتصوير الفيلم بالبيض والسود واستخدام الديكورات
السائدة في تلك الفترة والعتماد على شخصيات تحمل نفس ملمح الشخصيات الواقعية بواسطة المكياج واختيار ممثل
بارع كأحمد زكي ليتقمص شخصية عبد الناصر ،على الرغم من كل ذلك إل أن الفيلم لم يخل من لمسات خيالية .فقد
أضيفت الى المعلومات الحقيقية مشاهد غير واقعية مثل مشهد اقتحام موظف سابق بقناة السويس لموكب الرئيس
جمال عبد الناصر يشكو له من قيام الدارة الجنبية بالقناة بفصله من عمله ،ومشهد أخر يمثل سيدة عجوزا وهي
تصر على مقابلة الرئيس لتسليمه ملبس فلح مجند كانت قد نذرت بها لمن يرد اعتبار الجندي ،وكانت ترى في قرارة
نفسها أن الرئيس عبد الناصر هو من رد اعتبار هذا الجندي (الحسن ،سبتمبر 1996ص .)74
من الجانب الخر ،نجد أن تسجيل العلم للوقائع التاريخية ل يمكن بأي حال من الحوال أن يكون مطابقا للحقيقة
بصورة قطعية .فالكاميرا الثابتة مثل ل تنقل إل جزءا من الحقيقة المرئية ل تتعدى أن تكون تلك المطبوعة على الفيلم،
والكاميرا التليفزيونية ل يمكنها أن تنقل أيضا إل ما أراد المصور لها أن تنقله وتسمح ظروف العمل التليفزيوني بذلك.
بعد هذا العرض لدور المؤرخ ودور الصحفي وتوضيح بعض الجوانب التي يمكن أن يلتقي معها العلم بالتاريخ ،هل
يمكن تحديد طبيعة العلقة القائمة بينهما .فهل يمكن أن يكون التاريخ مادة إعلمية ؟ وهل يمكن أن يكون العلم
مصدرا للتاريخ ؟ في هذه السطور سنحاول الجابة على هذين السؤالين.
عندما ننظر الى التاريخ كمادة اعلمية أو صحفية فإننا نقصد بذلك أن يكتسب التاريخ شكل اعلميا أو صحفيا كأن
نوجد عمودا أو بابا يعني بالتاريخ في صحيفة أو نوجد مجلة تعني بشؤون التاريخ أو ننتج مسلسل اذاعيا تاريخيا أو
فيلما سينمائيا أو فيلما وثائقيا لحادثة تاريخية معينة .باختصار أن نطوع المادة التاريخية التي بين أيدينا في قالب
إعلمي.
وتعد الفلم التاريخية والفلم الوثائقية التي تحكي سير شخصيات أو حوادث تاريخية معينة أكبر دليل على إمكانية
اعتبار التاريخ كمادة إعلمية .فهذه النوعية من البرامج تعتمد على التاريخ المكتوب أو المنقول أو المستنبط والذي
يروي قصة حادثة أو شخصية تاريخية في الماضي .والعلم بتوثيقه لهذه الحوادث والشخصيات يضيف مصدرا جديد
للتاريخ .فمن طريق الفلم التاريخيه استطعنا أن نبني في مخيلتنا صورة عن شخصية "عمر المختار" و"الناصر صلح
الدين " و"ناصر "56وعن طريقها أيضا تصورنا حوادث تاريخية معينة.كقصة كفاح المسلمين ضد المشركين كما في
فيلمي "الرسالة " و"محمد رسول ال ".
وتجدر الشارة مرة أخرى ال أن الفلم التاريخية على الرغم من أنه قصد بها توثيق التاريخ إل أن مبدأ النتقائية قد
يحول دون تحقيقها لذلك .فمجمل المادة التاريخية في هذه الفلم انتقاها المؤلف أو الكاتب أو المخرج لتتناسب مع
الهدف النهائي من انتاجها.
وبصورة عامة ،يمكن أن يكون التاريخ مادة اعلمية ،ولكن معالجة العلمي للتاريخ تختلف عن معالجة المؤرخ لها.
حيث يسود مبدأ النتقائية للحس ادث والشخصيات التاريخية عند العلميين ،بينما تقل عند المؤرخين ،ويرجع السب
في ذلك _ إذا استثنينا الحرية -الى طبيعة العمل العلمي كما ذكر في فيلم "ناصر ."56وهذا يقودنا الى الحديث عن
امكانية اعتبار العلم مصدرا للتاريخ.
استخدمت كلمة "الصحافة " في كتب العلم القديمة لتشمل كل وسائل العلم المطبوعة منها والمسموعة والمرئية
أيضا .واليوم يشيع استخدام كلمة "العلم " لتدل على الوسائل نفسها ولو أنه قد يقفز الى مخيلتنا الوسائل المسموعة
والمرئية كما تقفز الوسائل المطبوعة عند استخدامنا "للصحافة " ،من ذلك ندرك أن المقصود بالعلم هنا جميع
الوسائل من صحف ومجلت وإذاعة وتليفزيون .وبحكم الدور الذي تلعبه هذه الوسائل في المجتمع من تسجيل
الحوادث البشرية فإنه يصح لنا القول بأن العلم يعد مصدرا للتاريخ ولكنه ليس مصدرا وحيدا أو سهل كما سيأتي
ذكر ذلك .ول أدل على أهمية وسائل العلم كمصدر للتاريخ من قول الدكتور جلبرت أستاذ التاريخ اليوناني بجامعة
أكسفورد في منتصف القرن العشرين (محمد سيد :1985 ،ص .)17
لو كان لليونان صحف ،ولو أن صحفية واحدة ولو حتى صفحة واحدة من صحيفة وصلت الى أيدينا لكانت معرفتنا
بالتاريخ اليوناني أكثر حيوية وأعظم مما هي عليه الن.
ولكن كيف يمكن أن يكون العلم مصدرا للتاريخ ؟ تعمل وسائل العلم على توثيق ما يجري في حياة الناس من
حوادث يومية أو أسبوعية أو شهرية أو حتى في كل ساعة من زمن اليوم الواحد .ثم تتراكم هذه الوثائق والمعلومات
المرتبطة بحادثة أو شخصية ما .وربما تقوم أكثر من وسيلة في مجتمع واحد أو في عدة مجتمعات بتوثيق نفس
الحدث .فإذا أردنا بعد ذلك أن نتتبع أو نسجل تاريخ تلك الحادثة أو الشخصية فإننا نرجع الى ما كتب أو نشر عنها في
وسائل العلم .ولبد أن تكون الحادثة قد انتهت ول تشهد تطورات جديدة إذا أردنا أن نعتمد على وسائل العلم
لتأريخها.
أما القول بأن العلم ليس مصدرا سهل للتاريخ فهذا راجع الى مجموعة المحاذير التي على المؤرخ أن يتنبه لها عند
توثيقه للحوادث والشخصيات من وسائل العلم .ومن أهم هذه المحاذير ما يلي:
-1أن يبحث المؤرخ عن المعلومات المتعلقة بنفس الحادثة الشخصية في أكثر من وسيلة إعلمية في نفس المجتمع.
وهذه العملية تتحقق بصورة خاصة في المجتمعات التي تسمح بقدر كبير من حرية وسائل العلم .وهي تفيد في تفنيد
المعلومات ومعرفة الصحيح منها من الزائف ذلك أنه يفترض من وسائل العلم في هذه المجتمعات أن تنشر وجهات
النظر المتباينة .أما المجتمعات التي تسمح بقدر يسير من حرية الرأي والتعبير فإنه يسود بها وجهة النظر الواحدة أو
الصوت الواحد ،المر الذي قد يجعل ما تسجله وسائل العلم مغايرا للحقيقة .لذلك فإن على المؤرخ في هذه الحالة أن
يبحث في وسائل العلم الموجودة في المجتمعات الخرى والتي سجلت الحدث نفسه .بصورة عامة على المؤرخ الذي
يعتمد على وسائل العلم كمصدر للتاريخ أن يبحث في أكثر من وسيلة اعلمية وفي أكثر من مجتمع لضمان الوصول
الى الحقيقة التاريخية بأقصى قدر ممكن.
-2على المؤرخ أن يضع في العتبار أن عدم ذكر وسائل العلم في مجتمع ما لحادثة أو شخصية معينة ل يعني
بالضرورة عدم وجود تلك الحادثة أو عدم وجود تلك الشخصية .ذلك لن ما ينشو وما ل ينشر في وسائل العلم
تحكمه عدة اعتبارات منها الرقابة المفروضة على وسائل العلم ،والمساحة المتوافرة في وسائل العلم المطبوعة أو
الزمن في حالة الوسائل المسموعة والمرئية ،ووجود الصحفي من عدمه وقت وقوع الحدث بالضافة الى قضية التعتيم
العلمي أي حجب المعلومات بصورة مقصودة.
-3على المؤرخ أن يرجع علل وأسباب الحوادث التاريخية التي يبحث عنها من وسائل العلم الى فتراتها الزمنية
التي وقعت فيها .فعلى المؤرخ للحرب العراقية /اليرانية التي دامت ثماني سنوات أن يرد علل وأسباب حوادث تلك
الحرب الى النواحي القتصادية والجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في تلك الفترة.
وتساعد وسائل العلم وبصقة خاصة المطبوعة من خلل تسجيلها للحوادث التاريخية في كشف حقيقة أو زيف هذه
الحوادث .فقد استطاع فلنج أستاذ التاريخ الوروبي بجامعة نبراسكا المريكية أن يكتشف زيف مذكرات بابي عمدة
باريس وأول رئيس للجمعية الوطنية أيام الثورة الفرنسية باعتماده على ثلث صحف باريسية هي اليران دي جور،
الكورييه دي برو فنس والريفوليسيون دي باري التي كانت تصدر في سنة .1789فقد نشرت هذه المذكرات لول مرة
عام 1804وأعيد طبعها مرة أخرى عام ،1822ووجد خلنج أن فقرات هذه المذكرات لم تتعد أن تكون مقتطفات مما
نشو في الصحف الثلث السابقة الذكر مع تعديل بسيط كتغيير ضمير الغائب الى ضمير المتكلم ( عثمان :1980 ،ص
.)85
خاتمة
لقد ساهمت وسائل العلم في تعريف الشعوب بعضها ببعض من خلل ما تتناقله من أخبار وحوادث .وأصبح الرجوع
الى وسائل العلم عند التأريخ لحادثة أو شخصية معينة أمرا ضمر وريا في كثير من الحيان خاصة في عصرنا
الحالي وذلك لقدرة هذه الوسائل على تسجيل ما يجري من حوادث في العالم بشكل مستمر .ولم يعد أيضا يقتصر
العتماد على وسائل العلم التي تصدر في حدود دولة ما كمصدر لتدوين حادثة أو شخصية بعينها ،بل يتعداها الى
العتماد على وسائل العلم التي تصدر في دول أخرى وذلك بحكم تطور تكنولوجيا التصال والعلم التي تمكن من
تسجيل الحدث في أي مكان .والحقيقة القائلة أن وسائل العلم ليست مصدرا سهل أو وحيدا للتاريخ ينبغي ال تفارق
المؤرخ ،ولكن عليه أيضا ال يهمل استخدام هذا المصدر كلية .وفي عملية تتصف بالتبادل يتخذ العلم من التاريخ
مادة لصفحاته وبرامجه المختلفة .وبهذا يمكن القول أن العلم والتاريخ يرتبطان ببعضهما بعلقة تبادلية تتمثل في
الخذ والعطاء.