You are on page 1of 23

‫السلوب مسؤولية العلميين واللغويين‬

‫يرتبط السلوب الصحفي بالمعلومة أشد الرتباط وبالواقع الحي الملموس‪ ،‬وبجرد اللحظة عند تشكلها‪ ،‬المر الذي‬
‫‪ ".‬يجعل بعضهم ينعت الصحفي "بـمؤرخ اللحظة "‪ ،‬والسلوب الصحفي بـ"الدب العاجل‬

‫يقول الدكتور نصر الدين العياضي في كتابه (مساءلة العلم )‪ :‬لم تظهر لغة النص الصحفي بين عشية وضحاها‪ ،‬بل‬
‫‪:‬تطورت بعد سنوات من الممارسة التي صقلتها الوقائع التية‬

‫ارتقاء المستوى الثقافي للجمهور‪ ،‬وملموسية المواضيع التي تتناولها الصحافة‪ ،‬والوجود الفعلي والحقيقي للوقائع‬
‫‪.‬والماكن والشخاص‪ ،‬وكذلك المردود الني الذي ينتظر أن تحققه الصحافة‬

‫يقول النقاد‪ :‬إن النثر الصحفي يقف في منتصف الطريق بين النثر الفني‪ ،‬أي لغة الدب‪ ،‬وبين النثر العادي‪ ،‬أي لغة‬
‫التخاطب اليومي‪ ،‬له من النثر العادي ألفته وسهولته وشعبيته‪ ،‬وله من الدب حظه من التفكير ‪،‬وحظه من عذوبة‬
‫التعبير‪ ،‬ولعله انطلقًا من ذلك المفهوم للنثر العلمي‪ ،‬أطلق بعض أساتذة الصحافة على لغة الصحافة‪ ،‬بأنها الدب‬
‫‪).‬العاجل (‪1‬‬

‫ويجمع الباحثون العلميون على أن لغة العلم تتمثل أساسًا في إشارات منطوقة أو مكتوبة أو مصورة‪ ،‬تمر من‬
‫خللها الرسالة العلمية إلى الجمهور‪ ،‬حيث ل يتم العلم الكامل‪ ،‬إل إذا وجد رجل العلم اللغة التي يقتضيها‬
‫‪.‬الحال للتعبير عن طبيعة المعلومات والفكار أو المشاهد والحداث‬

‫وبما أن القائمين على العملية التصالية في وسائل العلم المختلفة‪ ،‬يسعون لكي تدرك رسائلهم أكبر عدد من‬
‫‪.‬الناس‪ ،‬فقد حرصوا على أخذ هذا المر بعين العتبار في الممارسة‬

‫علوة على ذلك‪ ،‬فاللغة العلمية مطالبة بملءمة عباراتها مع طبيعة الحداث المعالَجة (بفتح اللم )‪ ..‬فمن الجلي‬
‫أن أسلوب نقل المعلومة من مختبر البحث‪ ،‬يختلف عن رصد حشد من الناس‪ ،‬ويختلف عن وصف مأساة إنسانية‪،‬‬
‫كما يختلف عن التعبير عن جدل فكري‪ ،‬وأيضًا عن وصف مؤمن في لحظة تعبده وخشوعه‪ ،‬وبذلك يمكننا نعت اللغة‬
‫‪.‬العلمية بأنها لغة كل شيء‬

‫وبما أن اللغة العلمية مسخرة للضطلع بتلك المهام كافة‪ ،‬فإن أدواتها التعبيرية والفنية ينبغي أن تستجيب‬
‫‪.‬لمقتضيات التنوع‪ ،‬وكذلك لخصوصيات الوسيلة العلمية‬

‫‪:‬خصائص السلوب الصحفي‬

‫تتميز اللغة العلمية بسمات شتى‪ ،‬وهي تختلف ‪ -‬بطبيعة الحال‪ ،‬عن لغات العلوم والدرايات المتعمقة‪ ،‬لنها تتجاوز‬
‫‪.‬مخاطبة الفئات المتخصصة إلى الجمهور الواسع‪ ،‬ذي المستويات المتفاوتة‬

‫وإذا كانت اللغة العلمية تحرص على مراعاة القواعد اللغوية المصطلح عليها‪ ،‬فإنها تحاول كذلك أن تحرص على‬
‫خصائص أخرى في السلوب‪ ،‬وهي البساطة‪ ،‬واليجاز‪ ،‬والوضوح‪ ،‬والنفاذ المباشر‪ ،‬والتأكد‪ ،‬والصالة‪ ،‬والجلء‪،‬‬
‫‪).‬والختصار‪ ،‬والصحة(‪1‬‬

‫ويدعو أساتذة الصحافة الكتّابَ إلى استخدام اللفاظ المألوفة‪ ،‬توخيًا للفهم‪ ،‬وتجنب اللفاظ العلمية والصطلحية‬
‫النادرة‪ ،‬بيد أنه إذا اقتضت الضرورة ذلك‪ ،‬فينبغي شرحها‪ ،‬وإعطاء المفهوم الحقيقي لها‪ ،‬والتوسل بالتفسير‬
‫‪.‬والتبسيط‪ ،‬في تعميق المفاهيم الصلية‪ ،‬وإشاعتها على أوسع نطاق‪ ،‬بين الجماهير‬

‫ومن بين المهمات الساس للصحفي تحويل أكثر الموضوعات غموضًا أو علمية إلى جمل عربية بسيطة أسلوبا‪،‬‬
‫‪.‬ومفهومة معنى‬
‫لقد كان كبار الدباء حين يكتبون في الصحافة‪ ،‬ل يستعملون المفردات والجمل التي ل يدرك معناها الجمهور‪ ،‬الذي‬
‫‪.‬يتوجهون إليه‪ ،‬ويجعلون من أسلوبهم همزة الوصل‪ ،‬بين الحقائق العلمية والدب الرفيع ومستوى فهم القراء‬

‫يلخص الصحفي المريكي الذائع الصيت جوزيف بولتزر السلوب الصحفي في نصيحته للصحفيين المبتدئين قائلً‪:‬‬
‫"اكتبوا الجمل القصيرة‪ ،‬التي تتجه رأسًا للحدث‪ ،‬فتبين ماذا جرى وأين‪ ،‬اذكروا أسماء الشخاص‪ ،‬التواريخ والماكن‬
‫"(‪ ..)1‬ويلخصه الكاتب والصحفي القدير أرنست همنغواي‪ ،‬في هذه النصيحة العملية‪" :‬استعمل الجمل القصيرة‪،‬‬
‫‪).‬واستعمل الفقرات القصيرة‪ ،‬أكتب بلغة قوية‪ ،‬ول تنس الكتابة بسلسة‪ ،‬كن إيجابيًا‪ ،‬وليس سلبيًا "(‪2‬‬

‫ويسدي الباحث العلمي النجليزي ماكس جنثر نصيحته التية إلى الصحفيين الجدد قائلً‪" :‬إنه على الكاتب توخي‬
‫‪.. ".‬الوضوح‪ ،‬وتجنب التكرار الممل‪ ،‬والصيغ المبتذلة‪ ،‬والكليشهات التي سبق ترديدها‪ ،‬والقلل من القتباسات‬

‫وضمن هذا النسق من الفكار‪ ،‬تنبغي الشارة إلى الخطار الكامنة وراء استمرار بعض الصحفيين في توظيف‬
‫القوالب الجاهزة‪ ،‬بدون وعي‪ ،‬وبل تبصر‪ ،‬المر الذي قد يوحي للقارئ‪ ،‬أو المستمع‪ ،‬بأنه أمام لغة جامدة‪ ،‬فاقدة‬
‫‪.‬للحيوية والبتكار والتجديد‬

‫يقول العلمي الفرنسي فيليب غايار‪" :‬إن الخاصية الساسية للكتابة الصحافية هي سلمة اللغة "‪ ،‬ويعدد بعض‬
‫ملمح هذه السلمة في‪ :‬الكتابة الملئية الصحيحة‪ ،‬معرفة تطبيق قواعد الصرف والنحو‪ ،‬حسن اختيار المفردات‪،‬‬
‫والتنقيط المناسب‪ ..‬ويرى كل من كورتيس ماكدوغال والفريد كرويل‪ ،‬أن من أهم سمات الكتابة الصحفية‪ ،‬هو‪ :‬إيجاز‬
‫‪.‬الجملة والفقرات‪ ،‬الجمل المباشرة‪ ،‬الفعال والسماء القوية‪ ،‬الستعمال الصحيح لقواعد اللغة‬

‫إن دعوة الكتاب المرموقين إلى احترام قواعد الكتابة (النحوية والصرفية ) السليمة‪ ،‬يؤكد بأن من الخطر المحدق‬
‫باللغات‪ ،‬الكتابات الصحـفية التي تتم فـي غالب الحيان خارج القواعد الصحيحة للغة‪ ،‬مما يغرس في المتلقين روح‬
‫‪.‬عدم التقيد بالكتابة السليمة‪ ،‬وازدراء قيودها‬

‫يتحدث السيد برنارفوريان في كتابه‪( :‬الصحافة في المجتمع الحديث ) عن سلطة اللغة العلمية على قرائها قائلً‪:‬‬
‫"فالصحيفة التي تلتزم بمبدأ التنازل للقراء‪ ،‬وصولً إلى اجتذابهم‪ ،‬وتداول المواد العلمية دون كبير عناء‪ ،‬ل يمكنها‬
‫أن تغفل حقها في فرض بعض المواقف النشائية والسلوبية والموضوعية الضرورية‪ ،‬حتى ولو أدى ذلك إلى تنفير‬
‫‪.. ".‬بعض القراء وامتعاضهم‬

‫واللغة العربية ‪-‬اليوم ‪ -‬في أمس الحاجة إلى هذا الصنف من الصحفيين الذين يرتقون بأسلوب كتاباتهم الصحفية‬
‫إلى المستوى الذي يساهم في تطوير كتابات القراء‪ ،‬ويعزز أساليبهم‪ ،‬وينميها‪ ،‬وفق الصول الصحيحة لكتابة اللغة‬
‫‪.‬العربية‬

‫‪:‬اللغة الصحفية ولسان المة‬

‫إن اللغة الصحفية تأخذ الكثير من سماتها من طبيعة لسان قومه‬


‫‪http://telechargement.linternaute.com/fiche/5808/2/voipstunt/in‬‬
‫‪dex.html‬‬
‫‪[b][c=#3ED92D][c=#50CE2B][c=#48C120][c=#46C01D][c=#3CB8‬‬
‫‪1D]M[/c]a[/c]l[/c]e[/c]k[/c][/b] dit :‬‬
‫‪http://www.skype.com/intl/fr/helloagain.html‬‬

‫ا ذاته‪ ،‬وهكذا فإن الطريقة التي نتحدث بها عن الشياء تختلف من ثقافة إلى أخرى‪ ،‬وعلى سبيل المثال‪ ،‬فإن بعضهم‬
‫في أمريكا اللتينية‪ ،‬يميلون فيما يبدو إلى اللغة المبالغ في زخرفتها في القصص الخبارية‪ ،‬وهم على استعداد لقراءة‬
‫ما يكتبه الصحفي‪ ،‬أو الكاتب‪ ،‬لسباب أسلوبية‪ ،‬بل إن بعض الكتاب في أمريكا اللتينية‪ ،‬يشعرون بأن استخدام نفس‬
‫الكلمة مرتين في حالة وجود مرادف لها‪ ،‬يمثل جريمة ضد السلوب(‪.)1‬‬
‫وتؤثر اللغة العلمية في تصورات الناس‪ ،‬وفي استجلء حقيقة الحداث والشياء‪ ،‬وفي إغناء الرصيد المعرفي‬
‫واللغوي للجمهور‪ ..‬ومن أجل ذلك‪ ،‬فإنه من سوء التدبير بمكان أن يترك لمن هب ودب أمر استخدام السلوب‬
‫الصحفي أنى شاء‪.‬‬

‫يتساءل الباحث الجتماعي الجزائري الدكتور عبد ال شريط قائلً‪" :‬نعم‪ ،‬إن لغة الصحافة اليوم ربما حققت شوطًا في‬
‫هذا الغرض‪ ،‬وإن بقي من بين فصحائنا من يتعالى عن استعمال لغة الصحافة استكبارًا أجوفًا‪ ،‬ولكن أل يكون من‬
‫العجيب أن نترك أمرًا خطيرًا كهذا ل يبحثه علماء الجتماع‪ ،‬ول علماء اللغة‪ ،‬ول علماء المجامع اللغوية‪ ،‬ويبقى‬
‫لمبادرات الصحفيين‪ ،‬وهم على ما هم عليه من ضعف المستوى في المواد العلمية‪ ،‬وفي المادة اللغوية‪ ،‬وفي معرفة‬
‫مشكلت المجتمع جميعًا‪ ،‬معرفة معمقة "؟!‬

‫ثم يردف قائلً‪" :‬إنـنا بوصـفنا عـلماء الجتماع‪ ،‬ليس من شأننا‪ ،‬ول من اختصاصنا أن نتولى نحن تبسيط قواعد‬
‫اللغة‪ ،‬وحذف ما فيها من حشو‪ ،‬وابتكار أساليب جديدة في تعليمها وكتـابتها‪ ،‬ولـكن من شـأننا ومـن اختـصاصنا‬
‫أن نـطـالب علـمـاء اللـغة بذلك "(‪.)1‬‬

‫وما يجب التنبيه إليه هنا‪ ،‬أن السلوب الصحفي‪ ،‬ينبغي أن يكون هادفًا في صياغته‪ ،‬وملمًا بمقاصده‪ ..‬وكما يقول‬
‫محمد حسنين هيكل‪ :‬فإن الكلمة النشائية تزول‪ ،‬وتبقى الكلمة التي تعكس واقعًا هو جزء من تصور الناس؟!‬

‫وفي ظل هذا الواقع المعقد جدًا‪ ،‬ل ينبغي إثقال كاهل الصحفي بنصيب مفرط من المسؤولية‪ ،‬فيما يتعلق بالسلوب‪ ،‬لن‬
‫المجتمع الذي ينشط في كنفه الصحفي‪ ،‬يؤثر بدوره في أسلوبه‪ ،‬ومن ذلك مثلً‪ :‬السلوب الذي يصرح به الشخاص‬
‫النافذون في المجتمع‪ ،‬والسلوب الذي تصاغ به الخطب‪ ،‬والسلوب المعتمد في المؤسسات التعليمية‪ ،‬والسلوب الذي‬
‫يتجاذب به الناس أطراف الحديث في حياتهم اليومية‪.‬‬

‫وأحيانًا تتم "تنقية " اللغة التي يستخدمها بعض الشخصيات الرسمية‪ ،‬أو من يكتبون رسائل إلى المحررين‪ ،‬وذلك‬
‫بواسطة المحررين للتخلص مما بتلك الرسائل أو التصريحات من أخطاء لغوية‪ ،‬أو ألفاظ سوقية‪ ..‬وعملية "التنقية "‬
‫التي تتم ليست بالضرورة لحماية مصدر الخبار‪ ،‬فعادة ما يكون التبرير لها هو أن التعليق الذي ذكره المصدر‪ ،‬يصبح‬
‫أكثر وضوحًا‪ ،‬وأقرب إلى فهم القارئ‪ ،‬أو أن الجمهور سوف يعترض بشدة على اللفاظ المستخدمة في الصل(‪.)1‬‬

‫بعث الروح في المخزون اللغوي‪:‬‬

‫وفي خضم التحولت الجارية اليوم على كل المستويات‪ ،‬يجد السلوب الصحفي نفسه أمام تحدي مواكبة المستجدات‪.‬‬

‫فاللغـة مؤسسة قارة‪ ،‬أما الحقيقة فهي سيرورة ديناميكية‪ ،‬فالواقع يتغير "بسرعة " أما اللغة فتتغير بوتيرة أقل‪،‬‬
‫بالـمقارنة‪ ،‬وهي ل تتجاوب إذًا مع ما يحدث في الواقع إل بعد حين(‪.)2‬‬

‫قد يعمد الصحفيون عن قصد‪ ،‬أو غير قصد‪ ،‬إلى جعل عبارات أكثر تداولً دون غيرها‪ ..‬وفي حياة الناس‪ ،‬يقع المر‬
‫نفسه‪ ،‬حيث يظل كم هائل من اللفاظ نائمًا في ثنايا القواميس والمؤلفات الجادة‪ ،‬ينتظر من يوقظه من سباته‪.‬‬

‫فمثلً‪ ،‬يتراوح عدد اللفاظ في اللغة النجليزية ما بين ‪ 500‬و ‪ 600‬ألف كلمة‪ ،‬وهذا المـخزون اللغوي‪ ،‬ل يستغل‬
‫إل في ما تيسر مـنه‪ ،‬ذلك أن الفراد ل يستـخـدمــون في مسـار الـمــحادثة اليومـية إل حوالي‬
‫‪5000‬كلمة‪ ،‬وتحتوي القصة أو الرواية ما يقارب ‪ 10000‬كلمة (‪.)1‬‬

‫إن الستعـمـال الـخاطــئ لـلـغـة‪ ،‬سـواء أكان داخـل وسـائـل العــلم‪ ،‬أم خارجها‪ ،‬يعطل فكر أهله‪،‬‬
‫ويشل قدرات الناس الذهنية‪ ،‬ويفسد لسانهم‪ .‬وعندما تمر المجتمعات بفترات سيئة في تاريخها‪ ،‬ينعكس ذلك على لغة‬
‫العلم‪ ،‬لن الواقع بشذوذه وتشابكه وتعقيده عندما ينعكس في العلم لبد أن تبدو صورة الشذوذ والتشابك والتعقيد‬
‫في اللغة المستخدمة أيضًا(‪.)2‬‬
‫مرونة العربية ذخيرة للعلميين‬
‫تستمد اللغة مقوماتها من فكر وحضارة أقوامها‪ ،‬ولكل لغة سياقها التاريخي‪ ،‬ومنابعها الفكرية الخاصة بها‪ ،‬وقواعدها‬
‫النحوية والصرفية الضابطة لها‪ ..‬ويمثل اللسان في المة القاسم المشترك في كيانها‪ ،‬والمعبر المين عن حقيقتها‬
‫الدينية والحضارية والبداعية‪.‬‬

‫وفي هذا السياق‪ ،‬تعتبر اللغة العربية وعاء ومحضن ضميرنا‪ ،‬وتعكس منحنيات تفكيرنا واجتهادنا أو خمولنا‪ .‬كما‬
‫تعتبر أقوى أداة للتعبير عن ديننا‪ ،‬وعبقريتنا وهويتنا‪.‬‬

‫لسان القرآن ومهاده‪:‬‬

‫تتميز اللغة العربية عن غيرها من اللغات السامية‪ ،‬بأنها لسان القرآن الكريم‪ ،‬الذي منحها قوة على قوة‪ ،‬ومتن‬
‫بنيانها‪ ،‬وهي اليوم أغنى لغة في العالم في مفرداتها‪ ،‬ودقة تعبيرها‪ ،‬وهي أصبر وأجلد لغة على كيد أعدائها‪.‬‬

‫يقول العالم اللغوي إرنست رينان ‪ ERNEST REANAN‬إن اللغـة العـربية بدأت فجـأة على غاية الكمال‪،‬‬
‫وأن هذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر‪ ،‬وصعب تفسيره‪ ،‬وقد انتشرت هذه اللغة سلسة أي سلسة‪ ،‬غنية أي غنى‪،‬‬
‫كاملة لم يدخل عليها منذ ذلك العـهد إلـى يومـنا هـذا أي تعديل مهم‪ ،‬فليـس لها طـفولــة ول شيخوخة‪ ،‬إذ‬
‫ظهرت أول مرة تامة مستحكمة‪.‬‬

‫وينظر الشيخ محمد الغزالي (‪ )1‬إلى اللغة العربية من منظار ديني‪ ،‬حيث كتب يقول‪" :‬فلغة الرسالة الخالدة‪ ،‬يجب أن‬
‫تتبوأ مكانة رفيعة لدى أصحابها‪ ،‬ولدى الناس أجمعين‪ ،‬فإن ال باختياره هذه اللغة وعاء لوحيه الباقي على الزمان‪،‬‬
‫قد أعلى قدرها وميزها على سواها "‪.‬‬

‫ويقول أيضًا‪" :‬والواقع أن اللغة العربية مهاد القرآن الكريم وسياجه‪ ،‬فإذا تضعضعت وأقصيت عن أن تكون لغة‬
‫التخاطب والداء ولغة العلم والحضارة أوشك القرآن نفسه أن يوضع في المتاحف "(‪.)2‬‬

‫والقرآن كتاب يجـب أن ينـظر إلـيه كل عربـي عـلى أنـه منـهج اللغة العلى الذي أصفى مناهلها وأعذب‬
‫مـواردها (‪ ،)...‬وهو فـي اللغة العربيـة تاج أدبـها وقامـوس لغـتها‪ ،‬ومـظـهر بلغـتها‪ ،‬فل عجب إذا ما‬
‫ن البلغاء الفصحاء لعجاز القرآن طوعًا أو كرهًا‪ ،‬حتى أصبحت لغته هي أصح وأدق الصول اللغوية والبيانية‪،‬‬
‫أَذْعَ َ‬
‫وصارت هي المقياس والميزان لكل ما يراد للستشهاد على صحة عربيته من نصوص الدب الجاهلي(‪.)1‬‬

‫وتتيح لغة القرآن للعلم المكتوب بالعربية أسباب استقامة أسلوبه‪ ،‬لنها تتسم بمزايا جمالية وبلغية‪ ،‬ل تتوفر في‬
‫أي لغة أخرى‪ ،‬فالسلوب القرآني يوافق الكلم لمقتضى الحال‪ ،‬ويناسب المقام‪ ،‬ويعتمد اليجاز البالغ‪ ،‬بدون أن يخل‬
‫بالـمقصود‪ ،‬ويستخدم الطناب غير الممل‪ ،‬والتراكيب الشديدة التنوع ‪ ..‬وإن تدبر رجل العلم لغة القرآن‪ ،‬ل يصقل‬
‫أسلوبه فحسب‪ ،‬بل يكسبه الدوات التعبيرية الملئمة لكل حال ولكل حدث‪...‬‬

‫لقد أبدع الشيخ محمد الغزالي‪ ،‬وهو يصف السلوب القرآني‪..." :‬ومع رفعة المصدر الذي تحس أن القرآن جاء منه‪،‬‬
‫إحساسك بأن هذا الشيء أتى من بعيد‪ ،‬فإنك ما تلبث أن تشعر بأن الكلم نفسه قريب من طبيعـتك‪ ،‬متجـاوب مع‬
‫فـطرتك‪ ،‬صـريح في مـكاشفـتك‪ ،‬بـما لك وما عليك‪ ،‬متلطف في إقناعك‪ ،‬فما تجد بدًا من انقيادك لدلته‪ ،‬وانفساح‬
‫صدرك لتقبله "‪.‬‬

‫سمات اللغة العربية‪:‬‬


‫يشير الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه "فقه اللغة " إلى أن اللغة العربية تتوافر على عاملين‪ ،‬لم يتوافرا لغيرها‬
‫من اللغات السامية‪:‬‬

‫لقد احتفظت العربية بأكبر قدر من مقومات اللسان السامي الول‪ ،‬وبقي فيها من تراث هذا اللسان ما تجردت منه‬
‫أخواتها السامية‪ ،‬فتميزت عنها بفضل ذلك بخواص كثيرة‪ ،‬يرجع أهمها إلى المور التية‪:‬‬

‫‪ -1‬أنها أكثر أخواتها احتفاظًا بالصوات السامية‪..‬‬

‫‪ -2‬أنها أوسع أخواتها جميعًا‪ ،‬وأدقها في قواعد النحو والصرف‪..‬‬

‫‪ -3‬أنها أوسع أخواتها ثروة في أصول الكلمات والمفردات‪..‬‬

‫اللغة العربية‪ ،‬تتميز بغزارة في مفرداتها‪ ،‬ودقة في قواعدها‪ ،‬وسمو ومرونة في أساليبها‪ ،‬وثروة في آدابها وتراثها‪،‬‬
‫وقدرة البانة عن مختلف نواحي التفكير والوجدان ‪ ،‬ومن تلك السمات نذكر ما يأتي(‪:)1‬‬

‫‪ -1‬أن فـي اللغـة العـربية من الـمقومات والدقة الصارمة والسس ما يخولها لن تكون قادرة على أخذ مكانها‬
‫الصحيح في هذا العصر‪.‬‬

‫‪ -2‬اللفاظ العربية هي أوزان موسيقية‪ ،‬والكلمات ذات الوزن الموسيقي الواحد لها دللة معنوية محددة‪.‬‬

‫‪ -3‬اللغة العربية هي اللغة الحية الوحيدة في العالم‪ ،‬التي بقيت دون تغيير في كلماتها ونحوها وتراكيبها منذ أربعة‬
‫عشر قرنًا مضت‪.‬‬

‫‪ -4‬إن اللغة العربية فيها من القواعد الرصينة والساليب البلغية ما يضبط الدللة على المعاني الكثيرة المعتادة‪.‬‬

‫‪ -5‬معظم مشتقاتها تقبل التصريف‪ ،‬إل فيما ندر منها‪ ،‬وهذا يجعلها في طوع أهلها أكثر من غيرها‪ ،‬ويجعلها أيضًا‬
‫أكثر تلبية لحاجة المتكلمين‪.‬‬

‫ولعل من أخص ما ميز اللغة العربية استعمالها الدقيق للفظ‪ ،‬حتى أن هذه الدقة في الستعمال اللغوي قد عنيت بها‬
‫كثير من كتب اللغة قديمًا‪ ،‬فأسست بذلك منهجًا في الدرس اللغوي(‪.)1‬‬

‫ومن ضروب الدقـة ما يظـهر فـي اقـتران اللفـاظ بعضها بـبعض‪ ،‬فقد خصص العرب ألفاظًا للفاظ‪ ،‬وقرنـوا‬
‫كلمات بأخرى‪ ،‬ولم يقرونها بغيرها‪ ،‬ولو كان المعنى واحدًا‪ ،‬فقد قالوا في وصف شدة الشيء‪:‬‬

‫‪ -‬ريح عاصف‬

‫‪ -‬برد قارس‬

‫‪ -‬حر لفح‬

‫وفي الوصف بالمتلء‪:‬‬

‫‪ -‬كأس دهاق‬

‫‪ -‬بحر طام‬

‫‪ -‬نهر طافح‬
‫‪ -‬واد زاخر‬

‫‪ -‬فلك مشحون‬

‫‪ -‬مجلس غاص‪.‬‬

‫يقول الدكتور محمد المبارك رحمه ال في مؤلفه (فقه اللغة )‪" :‬إن دقة التعبير والتخصيص‪ ،‬سبيل من سبل الفكر‬
‫العلمي الواضح المحدد‪ ،‬تحتاج إليه كل أمة في تربية أبنائها على التفكير الواضح الدقيق‪ ،‬الذي يعدهم للعمل والبحث‬
‫العلمي "‪.‬‬

‫والتخصيص اللغوي‪ ،‬والدقة في التعبير‪ ،‬أمور ل بد منها للصحفي لوصف دقائق الشياء‪ ،‬وإبراز خصوصياتها‬
‫وطبيعتها الـمتميزة‪ ،‬وكذلك للتعبير عن الـمشاعر والعواطـف والنفـعالت‪ ،‬واللـوان فـي شتى صورها‪..‬‬

‫يقول الستاذ محمد مراح(‪ :)1‬لقد وجدنا المصطلحات التية‪( :‬في كتاب التربية البدنية ) كرة القدم‪( :‬ضربة مرمى ‪-‬‬
‫ضربة جزاء ‪ -‬ضربة البداية )‪ ،‬ومن الجدير بالذكر أن هذه المصطلحات‪ ،‬قد وردت على أحد المـجامع اللغـويـة‬
‫العربـيـة‪ ،‬فاسـتـقر الــرأي فـيها على استبدالها كالتي‪( :‬ركلة هدف‪ ،‬ركلة العقوبة‪ ،‬ركلة البداية )‪ ،‬والملحظ‬
‫استبدال (ضربة ) ‪-‬بـ (ركلة )‪ ،‬ومرد هذا الستبدال دقة الستعمال اللغوي‪ ،‬وقد ورد في "الصحاح للجواهري "‪:‬‬
‫"الركل‪ :‬الضرب بالرجل الواحدة "‪.‬‬

‫إننا الن ندفع ثمن ما أصاب لغتنا العربية إبان عصور النحطاط‪ ،‬الحقبة الستعمارية‪ ،‬وإذا نحن لم نجتهد ونكد‬
‫لستدراك المر‪ ،‬فإن الجيال القادمة ستصلهم لغتنا ‪-‬بدون شك ‪ -‬وهي في أسوأ حال‪.‬‬

‫وكما يقول الدكتور محمد المبارك في كتابه (خصائص العربية )‪" :‬إن العربية قد أصيبت في عصور النحطاط بمرض‬
‫العموم‪ ،‬والغموض‪ ،‬والبهام‪ ،‬كنتيجة لفتقاد وظيفتها الهادفة في هذه العصور‪ ،‬فضاعت الفروق الدقيقة بين اللفاظ‬
‫المتقاربة‪ ،‬فغدت مترادفة‪ ،‬وكثر استعمال اللفاظ في المعاني المجازية وصرفت عن معانيها الصيلة‪ ،‬فضاع الفكر بين‬
‫الحقيقة والخيال‪ ،‬وزالت الخصائص المميزة والفروق الفاصلة‪ ،‬وأصبح لكل موضوع مهما تكرر قوالب من اللغة ثابته‪،‬‬
‫وأداة اللفظ ل تتغير‪ ،‬وتعابير مصوغة لكل مناسبة أو موضوع‪ ،‬تنقل وتلصق كلما تكررت تلك المناسبة‪ ،‬أو عرض ذلك‬
‫الموضوع‪ :‬وصف حديقة‪ ،‬أو تعزية صديق‪ ،‬أو التعبير عن فرح‪ ،‬أو طرب‪ ،‬لم يتغير الكلم‪ ،‬أيًا كانت تلك الحديقة‪ ،‬وفي‬
‫أي بلد‪ ،‬وأيًا كانت مناسبة التعزية أو الفرح‪ ،‬وفي ذلك قتل لخصائص اللغة العربية ومزاياها العلمية‪ ،‬من إبراز‬
‫المقومات والمزايا الخاصة والدقائق الخفية "‪.‬‬

‫ونحن اليوم أحوج مانكون إلى بعث اللفظ الدقيق من لغتنا‪ ،‬وإحياء الفروق بين اللفاظ‪ ،‬لتكون لدينا لغة تصلح أن‬
‫تكون أداة للعلم العربي في مواجهة التقدم الهائل‪ ،‬وانطلق وسائل التصال بالجماهير(‪.)1‬‬

‫إن العربية التي قال عنها أحد أعلم الفكر السلمي‪ :‬إنها اللغة التي ل يحيط بها علمًا إل نبي‪ ،‬ل يمكنها بأي حال من‬
‫الحوال أن تكون أداة عرقلة للتعبير الصحفي‪ ،‬فهي تحتمل قوة الوصف‪ ،‬وغور الحساس‪ ،‬وشدة التنوع‪ ،‬ودقة‬
‫المقصد‪ ،‬وأصالة الشيء‪.‬‬

‫ومن الكيد أن الصحفي الذي يكون زاده اللغوي ضحلً‪ ،‬سينتج ‪-‬بل ريب ‪ -‬نصوصًا مشوهة‪ ،‬تنقصها الصلبة والدقة‬
‫وقوة التعبير‪ ،‬وقد نعيب لغتنا والعيب فينا‪ ..‬وهكذا‪ ،‬فإن اللغة العربية جعلت للصحفيين ذلول فما عليهم إل المشي في‬
‫مناكبها‪.‬‬
‫لغة المحادثة والمشاهدة‬
‫يعرف معجم مصطلحات العلم (‪ )1‬الكتابة للذاعة بأنها‪" :‬الكـتابة باللغـة الـتي يستعملها الناس عـادة‪ ،‬والتـي‬
‫تتـمـيز باليـجاز‪ ،‬والوضوح‪ ،‬لثارة اهتمام عامة الناس‪ ،‬كما تكتب للحديث‪ ،‬ل للقراءة "‪.‬‬

‫وكما يقول "أدوين واكين " في كتابه "مقدمة إلى وسائل التصال"‪ :‬فإنه في حالة الراديو‪ ،‬تحل الذن محل العين‪ ،‬ونرتد‬
‫إلى الكلمة المنطوقة‪ .‬صحيح أن جميع العبارات المذاعة‪ ،‬تقرأ من نصوص مكتوبة‪ ،‬ولكنها معدة بحيث يصغي إليها‬
‫الجمهور‪ ،‬وليست معدة للقراءة‪ ،‬وإذ يتلقى المستمع الرسائل الـمذاعة‪ ،‬فإنـها ل تلبث أن تنقضي سريعًا‪ ،‬وتزول‬
‫بمجرد سماعها‪ .‬فالكلم المنطوق ‪-‬على نقيض المطبوع‪ -‬لبد له من أداء مهمة التصال من اللحظة الولى‪ ،‬فالكلم‬
‫حـين يكتب‪ ،‬ويدون‪ ،‬يـمكن قراءتـه‪ ،‬وإعـادة قراءته‪ ،‬أما حين ينطق به فهو يتلشى "‪.‬‬

‫ويقول الستاذ فيرنون أ‪.‬ستون(‪" :)1‬لعلك تجد في كتابة الخبار للراديو أو التلفزيون تغييرًا عن الكتابة للصحف‪،‬‬
‫فالنسخة التي تكتب خصيصًا للذاعة‪،‬تتطلب التعبير الذي قد يكون طبيعيًا بالنسبة لك‪ ،‬أقصد أسلوب الكلم اليومي‬
‫المعتاد‪ ،‬ونحن نتعلم الكلم قبل أن نتعلم الكتابة‪ ،‬ونتكلم أكثر كثيرًا مما نكتب خلل عملية التفاهم اليومي مع غيرنا من‬
‫أبناء المجتمع‪ ..‬غير أن الكلمة غالبًا ما تفقد طبيعتها عندما يفكر الكاتب في العمدة المحدودة المساحة‪ ،‬والقواعد‬
‫الصحفية المتخلفة عن عهد غابر‪ ،‬بينما يفكر الكاتب الذي يكتب للذاعة والتلفزيون ‪-‬بدلً من ذلك‪ -‬في الكيفية التي‬
‫سيكون عليها وقع الكلمات‪ ،‬وتكويناتها‪ ،‬على أذن المستمع‪ ..‬والقاعدة هي أن تنطق الخبار وأنت تكتبها "‪.‬‬

‫تتميز لغة الذاعة بالوضوح‪ ،‬والقتصاد‪ ،‬والسلسة‪ ،‬حتى يمكن أن تصل إلى الجمهور من المستمعين في وضوح‬
‫يساعد على الفهم والمشاركة في تتبع المضمون‪ ..‬ومن جهة أخرى كان على هذه اللغة المذاعة أن تراعي أن من‬
‫أصول اللقاء الذاعي تقدير القيمة الصوتية لللفاظ‪ ،‬والتدقيق في استخدامها‪ ،‬وفي معرفة وقعها الحقيقي على الذن‪..‬‬
‫وفي ذلك كله‪ ،‬ما يتجه بهذه اللغة المذاعة إلى القتصاد في عدد اللفاظ‪ ،‬والقتصار على القدر المطلوب لتحقيق الفهم‬
‫والمشاركة(‪.)1‬‬

‫ويتمثل السلوب الذاعي‪ ،‬بالمقارنة مع البلغة المكتوبة‪ ،‬في شخصية الذاعي‪ ،‬في بنية جملته‪ ،‬واختيار ألفاظه‪ ..‬في‬
‫نبرات صوته‪ ..‬في إلقائه‪ ،‬وخفة النكتة‪ ،‬والبشاشة التي تصدر من كلمته وابتسامته (عبر الميكروفون )(‪.)2‬‬

‫ملءمة العربية للسلوب الذاعي‪:‬‬

‫ل يختلف اثنان في أن اللغة العربية تعتبر من أهم اللغات العالمية ملءمة للسلوب الذاعي‪ ،‬فقد شكل الشعر العربي‬
‫النموذج المثل في جدلية المشافهة‪ ،‬وكما يقول الشاعر‪" :‬والذن تعشق قبل العين أحيانًا "‪ ..‬كذلك يتيح ثراء اللغة‬
‫العربية للصحفي الذاعي بأن يعرض مادته‪ ،‬وفق السلوب الكثر سحرًا ووضوحًا‪ ،‬يقول الستاذ "بيثر ويليت "‪ ،‬أحد‬
‫رواد الخبار الذاعية في الوليات المتحدة المريكية‪" :‬إن المستمع يستنجد بخياله الخاص‪ ،‬لتصوير المنظر‪ ،‬والمخبر‬
‫الذاعي الممتاز هو الذي يستطيع أن يصور المنظر بنفس الدقة والتقان اللذين يلتزمهما المصور‪ ،‬فعلى المخبر‬
‫الذاعي أن يرسم بالكلمات صورًا حية "‪.‬‬

‫ويسعى رؤساء التحرير في محطات الذاعة والتلفزيون في العالم بصفة مستمرة إلى مراجعة المادة الخبارية‪ ،‬حيث‬
‫يكون اختيارهم للكلمات مقصودًا‪ ،‬وقائمًا على دراسة دقيقة لطبيعة اللغة المستخدمة‪ ،‬والطار الدللي لللفاظ‪ ،‬أو مدى‬
‫ما تحدثه من تأثير‪.‬‬

‫لقد كان العلمي المريكي "أودين نيومان "‪ ،‬بمحطة إن بي سي‪ ،‬ينكب على النصوص المكتوبة‪ ،‬يحذف العبارات‬
‫المبتذلة المستهلكة والكلمات الزائدة (الحشو )‪ ،‬بهدف الوصول إلى أسلوب مقبول مصقول (سلس ) ‪.‬‬

‫وتتكون المادة العلمية الذاعية عمومًا من عدة عناصر‪ ،‬وهي الكلمة الـمنطوقة‪ ،‬والمؤثرات الصوتية‪ ،‬والموسيقى‪،‬‬
‫والحضور النساني المباشر‪.‬‬

‫ويشترط في اللغة المنطوقة‪ ،‬أن تتسم بالشمول‪ ،‬والسرعة‪ ،‬والمباشرة‪ ،‬والواقعية‪ ،‬وأن تستخدم أقل عدد ممكن من‬
‫اللفاظ‪ ،‬للتعبير عن أكبر عدد ممكن من الشياء‪ ،‬في وضوح وبساطة‪ ،‬وإيجاز‪ ،‬وتأثير(‪.)1‬‬

‫هناك فروق جوهرية بين الكتابة للعين‪ ،‬والكتابة للذن‪ ،‬فمعالجة الخبر الذاعي‪ ،‬تتطلب الخذ باللغة السهلة المبسطة‪،‬‬
‫والعتماد المباشر على أسلوب التخاطب والحوار(‪.)2‬‬

‫يقول مؤلفا كتاب (‪ ) L,information radiotelevise( )3‬هناك حدود لما يقوله صحافيو الذاعة‬
‫والتلفزيون‪ ،‬وأن غالبية هذه الحدود مفروضة‪ ،‬ليست بالقانون ولكن بالوقت وبالقدرة على اجتذاب الجمهور‪..‬‬
‫وتـحديات الوقت تفرض على الخبار الـمذاعة والـمتلفزة‪ ،‬قيدين هامين‪:‬‬

‫أولً‪ :‬إن صحافيي الصحافة المنطوقة‪ ،‬مجبرون على اختصار أخبارهم‪ ،‬بحيث ل يمكنهم التطرق إلى كل مواضيع‬
‫الحداث‪ ،‬التي تتناولها الصحافة المكتوبة‪ ،‬ثم إن تحقيقاتهم ل تتضمن الكثير من التفاصيل‪ ،‬كما هو الشأن في الصحافة‬
‫المكتوبة‪ ..‬ويتمثل القيد الثاني في‪ :‬صعوبة الوصول إلى أحسن نتيجة من خلل حصر وضغط الكتابة‪ ..‬ومن هنا فإن‬
‫الجمهور ل يمكنه الحصول على أكبر قدر من المعلومات انطلقًا من الستطلع الذاعي‪ ،‬أو التلفزيون‪ ،‬أي من خلل‬
‫استطلع مكتوب بطول قصير جدًا‪.‬‬

‫ويسدي الباحث العلمي المريكي "فيرنون " نصيحته التية إلى الصحافي العامل بالذاعة‪ ،‬الذي يستخدم برقيات‬
‫وكالت النباء‪ ،‬أو تقارير الصحف‪ :‬لتنقل كالببغاء أي قصة إخبارية في برقيات وكالت النباء‪ ،‬أو الصحف‪ ،‬ولكن‬
‫اقرأ الموضوع بطريقتك الخاصة‪ ،‬وقصها بكلماتك أنت‪ ،‬دون أن تستخدم النسخة ‪-‬المصدر‪ -‬إل كمادة خام فحسب‪،‬‬
‫ولعل كثيرًا مما يدعى (نسخًا أعيد تحريرها )‪ ،‬ليس في الواقع أكثر من مقتطفات (أعيد نسخها )‪.‬‬

‫إن العربية باستطاعتها التأقلم مع أي أسلوب إذاعي أو تلفزيوني‪ ،‬نـظرًا لـثراء مـفرداتـها وتنـوعها‪ ،‬وقــوة‬
‫تـعبيرهـا‪ ،‬وصـدى كلماتها‪ ،‬وما نلحظه ‪-‬اليوم ‪ -‬من قصور في اللغة المذاعة عندنا‪ ،‬يعود إلى الصحفيين‬
‫أنفسهم‪ ،‬الذين ل يتحكمون في اللغة‪ ،‬أو في فنيات الكتابة‪ ،‬التي يقتضيها التصال الذاعي الناجح‪ .‬والكثر فظاعة في‬
‫المر أن هناك من يجعل من اللغة العربية كبش فداء لنقائص الصحفيين‪ ،‬ويوصمها ظلمًا وزورًا بعيوب هي بريئة‬
‫منها‪.‬‬

‫هذا الواقع يفرض على القائمين على الوسائل السمعية البصرية‪ ،‬الناطقة بالعربية‪ ،‬أل يتركوا أمر السلوب للصحفي‬
‫وحده‪ ،‬لنه من النادر أن تجد صحفيين إذاعيين يكتبون نصوصًا ل تحتاج إلى مراجعة وتصويب وصقل‪.‬‬

‫قام أحد أعضاء مجمع اللغة العربية بسوريا‪ ،‬بدراسة خمس نشرات من نشرات الذاعة السورية‪ ،‬خلل يناير‬
‫‪1983‬م‪ ،‬ثم قدم نقدًا للغة الخبر العلمي قائلً‪" :‬إن الخبر أول ما يقصده قارئ الصحيفة‪ ،‬أو المستمع إلى الذاعة‪،‬‬
‫فوجب أن تكون العناية به صوغًا وأداء‪ ،‬من حيث سلمة لغته‪ ،‬وجودة أدائه‪ ..‬وإذا كان لكل فن بلغته فبلغة الخبر‬
‫هي في سرعة وعي القارئ أو السامع دون عناء‪ ،‬باللفظ السهل الموجز‪ ،‬الخالي من التزويق‪ ،‬أو التفخيم‪ ،‬أو البتذال‪،‬‬
‫وأل يثقل الخبر بالعواطف السلبية‪ ،‬أو اليجابية "(‪.)1‬‬

‫ويضيف قائلً‪" :‬تُعنى الـجملة العربية بالـحدث قبل المـحدث‪ ،‬لذلك كـثيرا ما يتصدرها الفعل‪ ،‬وحين تقوم أغراض‬
‫بلغية تدعو إلى العناية بالمـحدث أولً‪ ،‬فإنهـم يقدمـونه‪ ،‬وهــذا طـبعًا غـير وارد في الخبار‪.‬‬

‫وقد كثر الخروج على هذه البدهية في الخبار‪ ،‬فكثيرًا ما نسمع في نشرة الخبار "الرفيق فلن‪[ ...‬وبعد ثماني كلمات]‬
‫يقول في جريدة النهار‪ ...‬ولو بدأ بالفعل "قال الرفيق فلن في جريدة النهار" لكان أقرب إلى طبيعة العربية "(‪.)1‬‬

‫بناء القصة الخبرية في الذاعة‪:‬‬

‫ليس ثمة بديل للسلوب المباشر للجملة‪ ،‬ولبناء القصة الخبرية‪ ..‬وعندما تكون القصة الخبرية مكتملة في ذهنك‪،‬‬
‫فينبغي عليك عندئذ أن تحكيها بطريقة مباشرة‪ ،‬وعليك أن تتجنب استخدام الجمل العتراضية‪ ،‬أو شبه الجملة في‬
‫بداية الجملة (‪ ،)...‬وينبغي أن تجذب المقدمة (مقدمة الخبر ) الهتمام إلى العنصر الرئيس في القصة الخبرية‪ ،‬ول‬
‫ينبغي أن تـحشوها بحـقائق عديدة‪ ،‬ول تحاول حشد العناصر الخمسة وهي‪( :‬من‪ ،‬أين‪ ،‬متى‪ ،‬لماذا‪ ،‬كيف ) في‬
‫المقدمة‪ ،‬لنك بذلك تفقد أذن المستمع‪ ،‬عن طريق تحميله بما ل يطيق(‪.)2‬‬

‫إن الخبر المذاع كتب ليسمع‪ ،‬ولهذا فإن صياغة أخبار الذاعة تتجه إلى إحداث الثر السريع‪ ،‬بالعرض المباشر‪،‬‬
‫والكلمات المؤثرة‪ ،‬والجمل القصيرة المقتضبة‪ ،‬والفقرات القصيرة‪ ،‬والكلمات المنتقاة بعناية‪ ..‬ويوضع الخبر الذاعي‬
‫والتلفزيوني إذن في أقصر صيغة‪ ،‬ليؤدي المعنى في أقصر وقت‪ ،‬فالمطلوب لهذا الخبر مباشرة أكثر‪ ،‬وتركيزًا أعمق‪،‬‬
‫وبساطة أوضح‪.‬‬

‫وبدوره‪ ،‬فإن الخبر التلفزيوني أقصر من الخبر الذاعي‪ ،‬إذ أن الصورة تكمل الخبر‪ ..‬وهناك قاعدة عامة للخبر‬
‫التلفزيوني‪ ،‬هي أنه ما دامت الصورة تكمل الخبر‪ ،‬فل يجوز إذن أن يتعرض للتفاصيل‪ ،‬حتى ل يوزع انتباه المشاهد‬
‫بين الصوت والصورة‪ ،‬ومن الهمية ربط الرواية بالصورة‪ ،‬أي أن تسير الكلمة المذاعة جنبًا إلى جنب مع الصور‬
‫المرئية(‪.)1‬‬

‫إن للكلم في الصورة الفيلمية مهمة التوضيح‪ ،‬وإتمام المعاني‪ ،‬وبخاصة في الفلم الخبارية الوثائقية‪ ،‬أو التربوية‪،‬‬
‫أو التاريخية‪ ،‬وفي مجمل الفلم الخرى الموجهة إلى طبقة معينة من الناس‪ ،‬تتمتع بقدرة متوسطة على الستيعاب‬
‫والدراك والتفسير‪ ..‬إن تصوير إعصار ضرب إحدى الوليات المريكية‪ ،‬ل يعطي محصلته الخبارية إذا لم يشر فيه‬
‫إلى المكان والزمان ومقدار الخسائر المادية وعدد الضحايا ومسار الريح ونتائجها المرتقبة‪ ...‬الخ(‪.)1‬‬

‫وبما أن العلم السمعي البصري‪ ،‬يشكل المصدر الساس للعلم والـمعرفة في المـجتمع ذي المـيـة والفئات‬
‫المتمدرسة‪ ،‬التي ل تتقن العربية‪ ،‬وتتنوع فيه اللهجات‪ ،‬فإنه يمكن أن تُستغل الذاعة والتلفزيون من أجل تعزيز‬
‫الرصيد اللغوي للفراد‪ ،‬ومنحهم الفرصة لستيعاب اللفاظ الجديدة‪ ،‬ونطقها النطق السليم‪.‬‬

‫وتشير دراسات لغوية عديدة إلى أن لغة تلميذ المراحل الولى من التعليم هي مزيج مما يسمعونه في الذاعة‬
‫والتلفزيون‪ ،‬وفي الحديث اليومي‪ ،‬وكذلك في المؤسسة التعليمية‪ ،‬وبذلك لم تعد المدرسة تحتكر عملية إثراء الرصيد‬
‫اللغوي للتلميذ‪ .‬وهذا الواقع يفرض على القائمين على المؤسسات العلمية السمعية البصرية أن يحرصوا أشد‬
‫الحرص‪ ،‬عند استخدامهم العبارات‪ ،‬واللفاظ في تبليغ الخبار والمعلومات‪.‬‬

‫الوسيلة والسلوب‪:‬‬

‫وهكذا‪ ،‬فبالضافة إلى ضرورة الخذ بعين العتبار أثر الوسيلة العلمية في صوغ الساليب‪ ،‬ينبغي أن يوجه الهتمام‬
‫إلى اللغة ذاتها‪ ..‬وفي هذا السياق نرى ضرورة ما يأتي‪:‬‬

‫‪ -1‬الحرص على سلمة اللغة‪ ،‬واحترام قواعد النحو والصرف‪.‬‬

‫‪ -2‬محاولة توظيف من العامية‪ ،‬اللفاظ التي هي من أصل اللغة العربية والتي بدأ يأفل استخدامها‪.‬‬

‫‪ -3‬العمل على إدخال كلمات من صلب اللغة العربية‪ ،‬ووضعها في جمل‪ ،‬من أجل توليف الستئناس بها‪ ،‬وجعل‬
‫المستمع يعي سياق توظيفها التوظيف السليم‪.‬‬

‫يعمل بعض العلميين ‪-‬اليوم ‪ -‬على إغراق لغة العلم المسموع في التبسيط الشديد‪ ،‬بحجـة مسايرة التـطـورات‬
‫الـجارية في المـجالت كافة‪ ،‬بـما فيها تطـور اللغة‪ ،‬غير أنه ‪-‬في اعتقادي‪ -‬من الـخطأ مجـاراة مثل هــذه‬
‫الفــكار الـتي ستفضـي إلـى تغـذيـة روح الرفض لللفاظ الفصيحة‪ ،‬واللفاظ القرآنية بالـخصوص‪ ،‬لنها‬
‫‪-‬كما يزعمون‪ -‬ليست من طبيعة العصر‪ ..‬ومن هذا المنطلق أرى أن استخدام أحد صحفي إذاعة عالـمية للفظ {في‬
‫يوم ذي مسغبة}‪ ،‬للتعبير عن المجاعة والفقر في الصومال‪ ،‬قد أتاح للغة القرآن سبيل ذيوعها‪ ،‬كما أحيا لفظها‪.‬‬

‫وكذلك يمكن استخدام عبارة‪( :‬وضعت الحرب أوزارها )‪ ،‬إذا كنا بصدد الحديث عن نهاية حرب من الحروب‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬فإن التزاوج بين اللفاظ القديمة والحديثة في اللغة المذاعة أمر من الهمية بمكان‪ ،‬بشرط أن يتم وفق رؤية‬
‫واضحة وتوظيف واع‪.‬‬

‫كما تعتبر لغة العلنات المذاعة‪ ،‬خادمًا قويًا لثراء لغة المستمعين‪ ،‬حيث تلقنهم عبارات وجملً ترن في رؤوسهم‬
‫كلما شاهدوا منتجًا من المنتجات معروضًا سواء في الشاشة‪ ،‬أو في الواقع‪.‬‬

‫كان على اللغة المذاعة‪ ،‬أن تراعي أن من أصول اللقاء الذاعي تقدير القيمة الصوتية لللفاظ‪ ،‬والتدقيق في‬
‫استخدامها‪ ،‬وفي معرفة وقعها الحقيقي على الذن‪ ،‬وفي ذلك كله ما يتجه بهذه اللغة المذاعة إلى القتصاد في عدد‬
‫اللفاظ‪ ،‬والقتصار على القدر المطلوب‪ ،‬لتحقيق الفهم والمشاركة(‪.)1‬‬

‫إن لغة الذاعة هي اللغة المنطوقة المجهورة‪ ،‬التي نتوسل بها في العلم وصوغ العالم على النحو الذي يجعلها قسمة‬
‫شائعة بين أفراد المجتمع جميعًا(‪.)1‬‬

‫تعلم فن المحادثة‪:‬‬

‫ولئن كانت الصحافة قد دفعت باللغة المشتركة خطوات واسعة إلى المام على النحو المتقدم‪ ،‬فإن الذاعة‪ ،‬وهي‬
‫صحافة مسموعة‪ ،‬ستكون عظيمة الثر في زيادة الثروة اللغوية بين عامة الشعب‪ ،‬وفي توحيد نطق المفردات‪ ،‬وفي‬
‫التقريب بين اللهجات‪ ،‬وليس من المستبعد أن تنجح في إحلل الفصحى المبسطة محل العامية السائدة‪ ،‬ومن ثم تصبح‬
‫رموزًا صوتية‪ ،‬بالنسبة إلى كاتب أنباء الذاعة‪ ،‬بدلً من أن تتخذ شكل رموز بصرية(‪.)2‬‬

‫إن الذاعة والتلفزيون‪ ،‬يمكنهما خدمة اللغة العربية بالنباء والحصص الترفيهية والعلمية‪ ،‬والرياضية‪ ،‬والفيلم‪،‬‬
‫والمسرحية‪...‬‬

‫ويـمكنهما أيضًا أن يكونا بمثابة الدرس التطبيقي أو المسرح‪ ،‬فـي الـتـعـامل مـع اللـغـة العربيـة‪ ،‬توظـيفًا‪،‬‬
‫ونطـقًا‪ ،‬وإبـداعًا‪ ،‬وإحـيا ًء أو تجديدًا‪.‬‬

‫وكذلك يمكنهما أن ينجحا في توحيد العاميات‪ ،‬في لغة مشتركة‪ ،‬ل تفرط في اللفظ القديم‪ ،‬ول تجاري كل جديد حديث‪،‬‬
‫ولكن تكون بين ذلك قوامًا‪.‬‬

‫ويقترح الباحث الجزائري الحاج صالح‪ ،‬تنظيم دورات تدريبية للمذيعين‪ ،‬وكل الذين يشافهون الجمهور‪ ،‬من خلل‬
‫الذاعة والتلفزيون‪ ،‬لتدريبهم على التمييز بين الداء السترسالي‪ ،‬الذي يجب أن تكون عليه المائدة المستديرة‬
‫والمناقشات غير الكاديمية‪ ،‬وكذلك لغة المسرح‪ ،‬والفلم‪ ،‬التي تحتل واقع الحياة‪ ،‬كما يعوّد المذيعون على استعمال‬
‫الرصيد اللغوي العربي حتى تتوحد اللغة‪.‬‬
‫العامية كمدخل للفصحى‬
‫العامية كمدخل للفصحى‬

‫يستخدم الناس اللهجات العامية في أحاديثهم اليومية أكثر من استخدامهم للفصحى‪ ،‬وهم يتحـدثـون في‬
‫الـمـجتـمع الواحد لهجات شتى‪...‬‬

‫وجاءت اللهجات كما قيدتها كتب التراث اللغوي في تسميات مـثل الكشلـشة‪ ،‬العنـعـنة‪ ،‬والفحفحـة‪ ،‬والثـلـثلة‪،‬‬
‫والتضـجع‪ ،‬والعجعجة‪...‬‬

‫ولقد استعمل العرب العامية للدللة على مستوى اللغة العربية الـذي يـستعمله سـواد الـناس وعـامتهم فـي‬
‫ل أو كثيرًا على ألسن الناس‬
‫التـعبير عن أغراضهم‪ ،‬وما العامية في رأيهم إل الوجه الخر للفصحى محرفًا قلي ً‬
‫ونطقهم‪.‬‬

‫ففي القديم كانت الفروق بين اللهجات تكاد تقتصر على الخصائص النطقية والعادات الصوتية‪ ،‬وما عرض له اللغويون‬
‫القدامى من أمثلة تخالف اللغة الموحدة المطردة في الفصاحة كان قليلً (‪.)1‬‬

‫علقة العامية بالفصحى‪:‬‬

‫لم تكن نظرة علمائنا إلى اللهجات مقرونة بالريبة والتخوف بقدر ما كانت مشوبة بالستنكار وعدم الرضا‪ ،‬ولهذا‬
‫صنفوا اللهجات في أدنى مراتب الفصاحة‪ ،‬ل خارجها‪ ،‬ووصفوها بالمذمومة والقبيحة والرديئة والمرغوب عنها (‪.)1‬‬

‫وعلى الرغم من أن العامية ل تعتمد على قواعد ثابتة‪ ،‬ومنها كثير مشتق من لغات العاجم‪ ،‬فإن المشتغلين بالدراسات‬
‫اللغوية يؤكدون أن اللهجات العامية حافظت على ثروة هائلة من اللفاظ الفصيحة المهملة عند الكتاب والدباء‬
‫والمصطلحات العربية الصحيحة التي استنبـطت أيام ازدهـار الـمدنية ولم يضمها معجم ول سجلها أحد من علماء‬
‫اللغة إل في القليل النادر(‪.)2‬‬

‫وعلى سبيل المثال‪ ،‬تحتوي العامية الجزائرية على عدد هام من ألفاظ القرآن الكريم‪ ،‬ويتم توظيفها وفق السياقات التي‬
‫وردت في كتاب ال عز وجل‪ ..‬وفي ذلك نذكر ما يأتي(‪:)3‬‬

‫\ نقول‪ :‬غاظه الشيء‪ ،‬ويستعمل هذا اللفظ عندما يفقد المرء شيئًا عزيزًا عليه‪ ،‬أو يمنى بخسارة لم يكن يريدها‪ ،‬أو‬
‫يخونه شخص ما كان يثق فيه‪ ..‬قال ال تعالى‪{ :‬وإذا خلو عضوا عليكم النامل من الغيظ } (آل عمران‪. )119:‬‬

‫ونقول‪ :‬فرّط (بتشديد الراء ) في الشيء‪ ،‬بمعنى قصر فيه وضيعه وبدده‪ ،‬وتستخدم خاصة عندما يهاجر الشخص ول‬
‫يسأل عن والديه أو أهله‪ ..‬قال ال تعالى‪{ :‬ما فرطنا في الكتاب من شيء } (النعام‪. )38 :‬‬
‫ونـقول‪ :‬تـاه فــلن‪ ،‬بـمعنى ضـل الطريق وسـار متـحـيـرًا‪ ..‬قال تعالى‪ {:‬قال فإنها محرمة عليهم أربعين‬
‫سنة يتيهون في الرض } (المائدة‪.)26:‬‬

‫ونقول‪ :‬هذا الطفل اليوم ما به خانس؟؟ عندما يكون منزو وعليه علمات الخوف والترقب‪ ،‬ويكون ذلك عادة عندما‬
‫يقوم بعمل يعـلـم أنـه ســوف يغـضب والديه إذا علموه‪ ،‬كتكسير أثاث البـيـت‪ ،‬أو عراك‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬قل‬
‫أعوذ برب الناس‪ ،‬ملك الناس‪ ،‬إله الناس‪ ،‬من شر الوسواس الخناس } (الناس‪.)4-1:‬‬

‫ونقول أيضًا‪" :‬أرض سائبة‪ ،‬وصوف منفوشة‪ ،‬ويحنث‪ ،‬وبرئ المريض‪ ،‬وغشي‪ ،‬والملة‪ ،‬والبنان‪ ،‬أي أصبع الرجل "‪،‬‬
‫وغيرها كثير‪.‬‬

‫مخاطر الدعوة إلى العامية‪:‬‬

‫إن اللغة العربية في الوقت الراهن قد انتشرت انتشارًا واسعًا مس جميع الميادين والحقول‪ ،‬لكن هذا التساع جرى في‬
‫كثير من الحيان على حساب مقومات شخصيتها‪ ،‬فبدت للملحظ أنها لغة عربية في حروفها‪ ،‬وفي بعض ألفاظها‪ ،‬بينما‬
‫في معظم استعمالتها وتركيبها اتسمت بالعوجاج والنحراف عن طبيعتها اللفظية ودللتها المعنوية‪ ،‬المر الذي‬
‫أخرجها من اللغة الواحدة إلى اللهجات المتعددة التي تشتمل على خليط من الكلمات الجنبية (الدخيلة ) ومن اللفاظ‬
‫العربية المنحرفة عن الصيغ الصيلة(‪.)1‬‬

‫إن الدعوة إلى العامية تمتد بجذورها في التاريخ‪ ،‬وقد لعب المستشرقون دورًا بالغ الخطورة والثر‪ ،‬وكان أول من دعا‬
‫إلى التحول من الفصحى إلى العامية الـمستشرق اللماني ولهام سميث‪ ،‬الذي كان مديرًا لدار الكتب المصرية خلل‬
‫الثلث الخير من القرن التاسع عشر الميلدي‪.‬‬

‫لقد أدرك علماء الغرب الترابط الوثيق بين اللغة العربية والدين السلمي وعرفوا أن السلم ل يفهم إل بها‪ ،‬وأنها‬
‫ركن جوهري من القرآن الكريم (‪ )...‬فأخذوا يوجهون السهام إليها‪ ،‬وبذلوا الجهود الكبيرة لضعافها وتدميرها وإبعاد‬
‫المسلمين عنها‪ ،‬وصرفهم عن الفصحى التي تؤدى بها(‪.)1‬‬

‫لقد أخذوا يروجون للغة العامية واللهجات القليمية المحلية لتكون لغة التخاطب والكتابة والداب والفنون والمعاملت‪،‬‬
‫وكان ذلك أسلوبًا من أساليب إضعاف اللغة العربية وإهمالها‪ ،‬وكان أيضًا جزءًا من المؤامرة عليها(‪.)2‬‬

‫يتحدث الشيخ محمد الغزالي بمرارة جلية عن المـحاولت الرامية لضرب اللغـة الـعـربية وإضـعافـها والتمكين‬
‫للهجات‪ ،‬حيث يقول(‪" :)3‬ل أزال أذكر أيامًا كان يتكلم الزهريون فيها باللغة الفصحى "‪.‬‬

‫فوضع الستعمار خطته كي يجعل من كلمهم "بالنحو " مثار السخرية ومبعث الهزء في كل مجلس‪.‬‬

‫ونجح الستعمار في إبعاد الفصحى عن لغة التخاطب ليستأنف إبعادها عن لغة التأليف والذاعة‪.‬‬

‫ثم يروي حادثة وقعت له نفسه قائلً‪" :‬أطلعني أحد الصدقاء على مجلة أسبوعية أخرجت لسانها لي لني أنطق الجيم‬
‫جيمًا والقاف بلغة العرب؟؟‬

‫للقاف والجيم رنين يرتطم بقفاه كأنه صفعة مزعجة؟؟‬

‫إن الغريب ليس إفلح الستعمار في خلق هذا المخنث المسخ‪ ،‬ولكن الغريب أن يتسلل هذا المسخ إلى وسائل العلم‬
‫ليكون له حق توجيه الجماهير‪ ..‬توجيهها إلى أين؟‬

‫إلى مواطن الخزي والندامة‪ ،‬مواطن الرتداد والنكوص‪" ...‬‬

‫استعمال العامية في وسائل العلم أضر بلغة القرآن‪:‬‬


‫إن من أكبر العوامل الضارة باللغة العربية وبمستقبلها وحتى بمستقبل الوحدة العربية استعمال اللهجات المحلية في‬
‫السينما والمسرح وفي الذاعة والتلفزة‪ ،‬إذ يجمع بين البلد العربية لغة القرآن‪ ،‬والعدول عنها إلى اللهجات المحلية‬
‫هو خصم لهذه الوحدة‪ ،‬وقد قال أحد الدباء‪" :‬الذين ينادون بإحلل العامية لسهولتها محل الفصحى لصعوبتها هم أشبه‬
‫بمن ينادون بتعميم الجهل لنه سهل وإلغاء العلم لنه صعب المنال "(‪.)1‬‬

‫يقول الدكتور مسعود بوبو(‪" :)1‬ينبغي لنا أل يغيب عن بالنا أن الظاهرة اللهجية ل تقف عند النطق كما كان الحال‬
‫قديمًا‪ ،‬بل تتعداه إلى الكتابة المرئية واضحة على "شاشات التلفزيون"‪ ..‬والكتابة اللهجية تنطوي على الخطأ الملئي‬
‫والخطأ النحوي‪ ،‬ورؤيتها على هذه الصورة المتكررة يرسخها في أذهان أجيالنا قبل معرفتهم السلمة اللغوية‪ ،‬وهذا‬
‫يجعل من العسير محوها من أذهانهم "‪.‬‬

‫ثم يقارن بين عوائق فهم اللغة الفصحى واللهجات العامية حيث يخلص إلى القول‪" :‬وليس صحيحًا ما يقال عن وجود‬
‫عوائق تحول دون فهم ما يؤدى باللغة الفصحى‪ ،‬بل العوائق دون فهم اللهجات أكثر وأشـد ضـررًا‪ ،‬فالفـصحـى‬
‫موحـدة يفهمها الـجميع‪ ،‬أو السواد العظم من العرب المتعلمين‪ ،‬في حين يصعب على الجميع ‪ -‬متعلمين وغير‬
‫متعلمين‪ -‬الحاطة باللهجات العربية على اختلف مواصفاتها ومناطقها "‪.‬‬

‫وفي السياق نفسه يقول الستاذ محي الدين عبد الحليم(‪ :)2‬فإذا استعرضنا برامج التلفزيون أو الذاعة في معظم‬
‫البلد العربية لوجدنا أن نسبة ما تبثه بالعامية تزيد عما تبثه بالفصحى‪ ،‬ول سيما في العمال الدرامية والمنوعات‬
‫التي يندر فيها استعمال الفصيح من اللغة بحجة أن وسائل العلم تخاطب الجمهور ككل‪ ..‬وكون هذا الجمهور ذو‬
‫ثقافات متباينة‪ ،‬ونتيجة للبتذال واستخدام اللفاظ والكلمات الهابطة من طرف العلميين‪ ،‬وعدم الحفاظ على الحد‬
‫الدنى من الصول والقواعد اللغوية‪ ،‬أدى إلى الستخفاف بقواعد اللغة العربية‪ ،‬كما أدى ذلك إلى الترويج إلى السوقية‬
‫وشيوع الكلمات والمصطلحات غير اللئقة‪.‬‬

‫إن بعض خصوم العربية يختفون وراء الدعوة إلى تيسير التعبير بها وتسهيله‪ ،‬والتيسير عندهم يعني التخلي عن‬
‫قواعدها وعن الساليب الصحيحة في التعبير عنها‪ ،‬وعن أساليبها الصحيحة في التعبير بها‪ ،‬ويمكن أن نلمس هذا في‬
‫وسائل العلم وأساليب الشهار‪ ،‬إذ نادرًا ما نقرأ كلمًا عربيًا صحيحًا فيما تكتبه الصحف والمجلت أو فيما تذيعه‬
‫مختلف وسائل العلم وهؤلء الذين يفضلون استعمال التعابير البسيطة غير الصحيحة يغيب عنهم أن المعاني مرتبطة‬
‫بقوالب صيغها وحالت إعرابها‪ ،‬لنها في الحقيقة لغة اشتقاقية معربة‪ ..‬ومعنى أنها اشتقاقيه‪ :‬أن معاني ألفاظها تتغير‬
‫كلما تغيرت قوالب صيغها‪ ،‬ومعنى أنها معربة‪ :‬أن معظم معانيها العرابية تتغير كلما تغيرت وظائفها في التركيب(‪.)1‬‬

‫أما اليوم‪ ،‬فأمر اللهجات يثير المخاوف‪ ،‬ويؤرق الغيارى على العربيـة العريقـة‪ ،‬ويقـلق كل مـن يستـشرف‬
‫بـتـدبر وأناة آثارها المفزعة في المستقبل‪ ،‬ذلك أن اللهجات العربية بتنوعها تبدو بحق كأنها حرب معلنة على‬
‫العربية الفصحى من محطات التلفزة‪ ..‬وخطر هذه اللهجات يجيئ من كونها تتعدى المظاهر الصوتية‪ ،‬إذ تتضمن كلمات‬
‫أجنبية دخيلة ومصطلحات ومسميات مرتجلة بغير خبرة بخصائص اللغة العربية‪ ،‬يسوقها معدون أو مذيعون على نحو‬
‫مغرق في التسرع ومراعاة الشائع محليًا‪ ،‬أو في مرعاة أذواق الناطقين بها وحدهم‪ ،‬وأحيانًا يمعنون في المحلية‬
‫فيتحدثون بلهجة منطقة بعينها من هذا القطر أو ذاك‪ ،‬وأحيانًا تبدو اللهجة متأثرة ببقايا اللغة التي كانت رائجة على‬
‫ألسنة المستعمرين ‪ ،‬ممن كان لهم وجود في كثير من مناطق الوطن العربي قديمًا وحديثًا‪ ،‬أو تبدو متأثرة بألفاظ‬
‫سقيمة ل مكان لها في مستويات الفصاحة المرتضاة(‪.)2‬‬

‫ويرى بعض الباحثين أن تغليب العامية في بعض وسائل العلم كان سببًا من أسباب أزمة اللغة العربية المعاصرة‪،‬‬
‫وذلك لن وسائل العلم تخاطب الجماهير العريضة والمستويات الثقافية المتباينة وتؤثر فيها تأثيرًا نافذًا‪ ..‬وحجة‬
‫بعض وسائل العلم في استخدام العامية أنها تـحاول إرضـاء كل الذواق‪ ،‬وأنها تتوجه إلى فئات غفيرة من غير‬
‫المتعلمين(‪.)1‬‬

‫إن من ينتصرون للعامية بلهجاتها‪،‬أو يتحمسون لها بحجة مراعاة الميين‪ ،‬أو محدودي المعرفة‪ ،‬إنما يفعلون ذلك‬
‫وكأنهم ينتصرون للمزيد من التخلف والجهل‪ ،‬أو كأنهم يستمرئون النحطاط(‪.)2‬‬
‫ضبط التعامل مع العامية‪:‬‬

‫ننهي هذا الفصل بتقديم مقترحات قد تضبط عملية التعامل مع العامية في وسائل العلم المحلية‪ ،‬حيث نرى‪:‬‬

‫‪ -‬إن العامية في حياة المم واقع ل يمكن نكرانه‪ ،‬أو القفز عليه‪ ،‬فهي في جميع الحالت تمثل جزءًا من شخصيتنا‪،‬‬
‫بسلبياتها وإيجابياتها‪ ،‬ومع ذلك ينبغي لنا أن نؤكد حقيقة هامة‪ ،‬وهي أن العامية ل يمكن اعتبارها رافدًا يغني العربية‪،‬‬
‫بل قد تشوه حقيقتها‪ ،‬وتقوّض أعمدتها وأصولها‪.‬‬

‫‪ -‬والعامية من الناحية التصالية قد تؤدي دورًا محدودًا جدًا‪ ،‬فقد تؤدي وظيفتها الخاصة بالفهم في حدود المنطقة‬
‫التي تلهج بها‪ ،‬بيد أنه يتقلص دورها كلما ابتعدنا عن موطن اللهجة‪ ،‬وحتى محاولت فهمها يظل صعب المنال‪ ،‬في‬
‫حين إذا تعلق المر بالعربية الفصحى‪ ،‬فالقواميس التي وجدت لهذا الغرض‪ ،‬يمكن أن تقدم خدمات جليلة لمن يريد‬
‫فهمها أو التعمق فيها‪ .‬ويجب التنبيه أيضًا إلى أن تهذيب وصقل العامية أو ترقيتها ل ينبغي أن يتم إل من لدن خبير‬
‫بأسرار اللهجة واللغة الفصحى‪ ،‬كما يجب أن يوضع في البال ضرورة التوحيد اللغوي للمة في كل مسعى‪.‬‬

‫‪ -‬وإذا كانت العامية تستمد ألفاظها من ينابيع ل حصر لها‪ ،‬وإذا كانت وسائل العلم السمعية البصرية تشكل المصدر‬
‫الساس لتداول اللفاظ والمفردات‪ ،‬فمن النفع استغلل هذه الوسائل ‪ -‬كل واحدة حسب طبيعتها‪ -‬من أجل تزويد‬
‫الناس برصيد لغوي جديد يساهم في ترقية لهجاتهم‪ ،‬أو يصحح نطقهم لللفاظ العامية ذات الصول العربية‪.‬‬

‫من نتائج اعتماد العربية في العلم‬

‫لحظ الباحثون عددًا من الثار الناجمة عن استخدامات اللغة في وسائل العلم بشتى ضروبها‪ ،‬وتتجلى هذه الثار على‬
‫الخصوص في الجوانب السلوكية والنفسية والتربوية‪ ،‬والنظرة إلى الشياء‪ ،‬والتفكير‪...‬‬

‫ومن ذلك أن اللغة تؤثر في الشعب المتكلم بها تأثيرًا ل حد له‪ ،‬يمتد إلى تفكيره وإرادته وعواطفه وتصوراته‪ ،‬وإلى أعماق‬
‫أعماقه‪ ،‬وأن جميع تصرفاته تصبح مشروطة بهذا التأثير ومتكيفة به(‪.)1‬‬

‫وكما يقول أدوين واكين‪" :‬فإن جميع وسائل التصال بالجماهير الواسعة الحاشدة لتضطلع على نحو أو آخر بوظيفتين هما‪:‬‬
‫تكوين الرأي العام وإعلمه‪ ،‬كما أنها تسلي وتبيع (السلع التي يعلن عنها فيها)‪ .‬وهاتان الوظيفتان تؤديان بصفة مستمرة‪،‬‬
‫وبطريقة مباشرة وغير مباشرة‪" ..‬‬

‫وتشير دراسات استشراقية إلى أن اللفية الجارية ستشهد اتساع نطاق تداول لغات‪ ،‬وأفول أخرى أو اندثارها‪ ،‬وقد يلعب‬
‫عامل الحرص على اللغات وترقيتها‪ ،‬وزيادة الناطقين بها‪،‬والمستخدمين لها‪ ،‬دورًا بالغ الهمية من أجل ضمان ديمومتها‪.‬‬

‫إن اللغة من أهم مؤسسات كل أمة‪ ..‬ولغتنا العربية فيها مقدساتنا وتراثنا العظيم وتاريخنا (‪ )...‬وعلينا أن نرعاها‪ ،‬ونسعى‬
‫دائمًا إلى تحديثها‪ ،‬وتبسيط صعابها‪ ،‬والرتقاء بها‪ ،‬لنها أقوى الروابط‪ ..‬فهي توحد الفكر والعاطفة والثقافة والتاريخ‪،‬‬
‫وهي دعامة المستقبل الواحد والمصير المشترك(‪.)1‬‬

‫وإنه مما ل شك فيه أن العلم المعاصر من أهم عوامل التطور اللغوي‪ ..‬والذي ل شك فيه أيضًا‪ ،‬أن التزام القائمين على‬
‫العلم بقواعد الدقة‪ ،‬من شأنه أن يضبط هذا التطور‪ ،‬وأن يضعه في مجراه‪ ،‬فيصبح مثل النهر تدفقًا ونماءً(‪.)2‬‬

‫خلق الذوق اللغوي‪:‬‬

‫ومن الضرورة بمكان أن ينتبه رجال العلم إلى أنهم يخلقون الذوق اللغوي‪ ،‬ويفرضون الصواب‪ ،‬الذي قد يبدو في أول‬
‫أمره ثقيلً‪ ،‬لكنه مع الوقت يصبح مقبولً وشائعًا(‪.)3‬‬

‫إن لغة العلم ل تثري زادنا اللغوي فحسب‪ ،‬بل تمنحنا تصورًا لطبيعة الشياء‪ ،‬وحقيقة محيطنا‪ ،‬وأصوب السلوكات‬
‫وأكثرها تطابقًا مع قيمنا ومثلنا‪ ..‬وعلى سبيل المثال‪ ،‬إذا استعمل العلم اللفظ العفيف والدقيق‪ ،‬فقد يقتفي آثاره الناس‪ ،‬بيد‬
‫أنه إذا أحاطنا بكلمات الفسق والسوء والبذاءة‪ ،‬فمن المتوقع أن يتم استخدامها من قبل الجمهور‪ ،‬فاللغة العلمية تصبح‬
‫جزءًا من حياة المجتمع‪.‬‬

‫إن السلوب الذي تستخدمه وسائل العلم قد يتأثر به الجمهور‪ ،‬ولكن بدرجات متفاوتة‪ ،‬وفي هذا الشأن لحظ عدد من‬
‫أساتذة اللغة العربية على تلمذتهم استخدامهم للصيغ والقوالب والعبارات التي يوظفها الصحفيون في كتاباتهم‪.‬‬

‫وبما أن وسائل العلم هي أسبق الوسائل في معالجة الموضوعات النية‪ ،‬فإنها ل تعمل فقط على تداول المصطلح الجديد‬
‫والتعبير عن الواقع‪ ،‬بل تسهم كذلك في صياغة نمط التفكير وتفسير الحداث وإصدار الحكام بشأنها‪.‬‬

‫ل من العلم والتعليم يهدف إلى تغيير سلوك الفرد‪ ،‬فبينما يرمي التعليم إلى التأثير في سلوك‬
‫ويعترف الباحثون بأن ك ً‬
‫التلميذ بهدف تغييره‪ ،‬فإن العلم يسعى إلى التأثير في سلوك الجماهير بهدف تغييره أيضًا‪.‬‬

‫وكثيرًا ما نرى أطفالنا يرددون الجمل والكلمات والصيغ اللغوية التي يلتقطونها من العلنات التجارية‪ ،‬ويقلدونها في‬
‫حديثهم‪ ،‬ويحاكون طريقة تلفظها‪ ..‬غير أن الطفل يكتسب في هذا المجال معارف كثيرة‪ ،‬وينمو ذوقه وقدراته الخيالية‪،‬‬
‫وترتقي مهاراته اللغوية بشكل واضح‪ ،‬ويثرى محصوله من مفردات لغة العلن‪ ،‬أو يزيد هذا المحصول نماء وتنوعًا‪.‬‬

‫فوسائل العلم تعادل المدرسة بالنسبة لعداد ل حصر لها من الرجال والنساء الذين حرموا من التعليم‪ ،‬حتى ولو لم‬
‫يستطيعوا أن يحصلوا منها إل على العناصر التي يتسم مغزاها بأقل قدر من الثراء‪ ،‬ومضمونها بأكبر قدر من البساطة(‪.)1‬‬

‫ولما كان تمكين الفراد من التفاعل ومن إيصال المعلومات يندرج في عداد المهام الرئيسة للعلم والتصال‪ ،‬فقد ذهب‬
‫المشتركون في المؤتمر الدولي الحكومي للسياسات العلمية في إفريقيا بيا وندي (الكاميرون )‪ ،‬في يوليو ‪1980‬م‪ ،‬إلى‬
‫القرار بأن استخدام اللغة الصلية أو الوطنية يعد وسيلة من أنجع الوسائل لتأكيد الذاتية الثقافية‪ ،‬فاللغة من المقومات التي‬
‫تجعل للنسان ذاتيته‪ ،‬أي انتماءه إلى جماعة معينة من الناس‪ ،‬وذلك بالضافة إلى دورها في تيسير تحصيل المعارف‪ ،‬كما‬
‫أن استخدام اللغة الصلية أو الوطنية يمكن من إضفاء مزي ٍد من الفعالية على عملية المشاركة(‪.)1‬‬

‫لذلك فإن لغة العلم يمكنها أن تحقق أهدافًا عدة‪ ،‬وأن تحدث آثارًا جمة‪ ..‬ومن أجل ذلك يجب أن ترتبط السياسات اللغوية‬
‫لوسائل العلم الوطنية بخدمة قضايا الهوية‪ ،‬وتأكيد الذات اللغوية‪ ،‬وتوسيع نطاق استخدام العربية وفق الرؤية التي‬
‫مفادها أن اللغة هي مطية للفكار‪ ،‬وأسلوب هام في التفكير والتصور ‪.‬‬

‫العلقة بين العلم والتاريخ‬

‫عبد المطلب ﭭـلوي‬

‫يرى الفلسفة أن الفلسفة أم العلوم‪ ،‬بينما يرى العلميون أن العلم‪ ،‬شريك كل العلوم‪ .‬فالعلم بوسائله المختلفة‬
‫شريك للسياسة والفن والدب والقتصاد والطب وغير ذلك‪ .‬وهو إما أنه يوظف هذه العلوم في قالب اعلمي أو أنه‬
‫يوثقها ويسجل تطوراتها بوسائله المختلفة‪ .‬ولذلك أصبح الفصل بين العلم والعلوم الخرى أمرا غير ممكن خاصة‬
‫علقة العلم بالتاريخ‪ .‬ذلك أن التاريخ يشمل مساحة أحبر من حياة البشرية‪ .‬فلكل أمة أو قرية أو فرد تاريخ خاص‪.‬‬
‫والعلم يعيش وسط هذه التفريعات عامها وخاصها‪ .‬وفي هذا المقال سنركز على العلقة القائمة بين العلم والتاريخ‪:‬‬
‫هل هي علقة ثنائية التأثير والتأثر أم أنها أحادية التأثير؟ وما هي حدود ومهاو كل من المؤرخ والصحفي؟‬

‫ل ينكر أحد أن العالم اليوم أصبح قرية صغيرة بفضل تطور وسائل التصال والعلم‪ .‬فبعد أن كانت الرسائل تنقل عن‬
‫طريق الفم فيما يسمى بالتصال الشفهي وتنقل الرسائل المكتوبة عن طريق الدواب والحمام الزاجل‪ ،‬وبعد ذلك السفن‬
‫والسيارات والقطارات‪ ،‬تنقل الرسائل العلمية اليوم بواسطة الموجات "الكهرومغناطيسية " التي تسافر عبر الثير‪.‬‬

‫لقد قرب لنا الراديو "الترانزستور" حوادث أمريكا وأفغانستان بواسطة النقل الصوتي لتلك الحوادث‪ .‬ونقل لنا التليفزيون‬
‫صورة مصفرة عن المعارك الحربية‪ ،‬واليوم تنقل لنا القمار الصناعية عبر القنوات الفضائية الحوادث وقت وقوعها‬
‫مباشرة بغض النظر عن مكان وقوعها‪.‬‬

‫إن وسائل العلم (المطبوعة واللكترونية ) على اختلفها تقوم بأداء مجموعة من الوظائف في المجتمع والعالم‬
‫بصورة أعم‪ .‬فإلى جانب التسلية والترفيه والتثقيف نجد العلم يضطلع بمهمة الخبار وتسجيل الحوادث‪ .‬فالكثيرون‬
‫منا تابعوا تطورات حرب الخليج الخيرة عبر المذياع وشاشات التليفزيون‪ .‬وباعتراف الكثيرين‪ ،‬فإن تأثير وسائل‬
‫العلم على الفرد والمجتمع أصبح أمرا مسلما به‪ ،‬وحتى أن منهم من بالغ في خطر تأثير وسائل العلم من مجرد‬
‫نشرها فقط لخبار الحوادث والشخصيات‪ .‬فما هو فولتير يصف الصحافة بأنها "الة يستحيل كسرها وستعمل على هدم‬
‫العالم القديم حتى يتسنى لها أن تنشي ؟ عالما جديدا"‪ .‬ويعبر أحد رؤساء دول أمريكا اللتينية السابقين عن قوة تأثير‬
‫الصحافة بقوله‪" :‬ل أخاف أبواب جهنم إذا ما فتحت بوجهي ولكني أرتعش من صرير قلم المحرر"‪.‬‬

‫ولعل هذا النوع من التخوف من وسائل العلم هو الذي قاد البعض الى الشك في طبيعة العلقة بين العلم والتاريخ‪.‬‬
‫حيث يعتقد البعض أن العلم وسيلة جيدة لتشويه التاريخ وقلب الحقائق وإنه من الصعب أن يكون مصدرا للتاريخ‪.‬‬
‫ويوضح الحوار التالي الذي دار بين الزعيم المصري الراحل سعد زغلول وبين الديب والمؤرخ طه حسين حينما التقيا‬
‫في باريس عام ‪1918‬هذا التشكك في العلقة بين العلم والتاريخ (محمد سيد‪ :1985 ،‬ص ‪)13‬‬

‫سعد زغلول‪ :‬ماذا تدرس في باريس ؟‬

‫طه حسين‪ :‬أدرس التاريخ‬

‫سعد زغلول‪ :‬أو مؤمن أنت بصدق التاريخ ؟‬

‫طه حسين‪ :‬نعم‪ ،‬اذا أحسن البحث عنه والستقصاء فيه وتخليصه من الشائبات‪.‬‬

‫سعد زغلول‪ :‬أما أنا فيكفي أن أرى هذا التضليل وهذه الكاذيب التي تنشرها الصحف في أقطار الرض ويقبلها الناس‬
‫من غير تثبت ول تمحيص لقطع بعد ذلك بأن ل سبيل في استخلص التاريخ من هذه الشائبات‪.‬‬

‫من هذا المدخل‪ ،‬نجد أن هناك من يرى بسلبية العلقة بين العلم والتاريخ‪ .‬وفي هذا المقال سنحاول الجابة على عدد‬
‫من السئلة التي تدور حول هذا الموضوع‪ .‬هذه السئلة هي‪:‬‬

‫‪ -1‬ما مهمة المؤرخ وما مهمة الصحفي؟‬

‫‪ -2‬لماذا تشوه بعض الحقائق في وسائل العلم ؟‬

‫‪ -3‬هل يمكن أن يكون التاريخ مادة إعلمية ؟‬

‫‪ -4‬هل يمكن أن يكون العلم مصدرا للتاريخ ؟‬

‫من هذا المنطلق نجد أن طرح هذا الموضوع ل يمكن أن يتم دون معرفة المفردات المتعلقة به‪ .‬ولعل فهمنا لمعنى‬
‫التاريخ والعلم يؤهلنا بعد ذلك لمعرفة العلقة بينهما أو بين المؤرخ والصحفي‪.‬‬
‫ماهوالتاريخ ؟‬

‫يعرف بعض الكتاب التاريخ بأنه "كيف يعيش الناس‪ ،‬وكيف يؤثرون على عالمهم‪ ،‬وما هو الشي ء الذي أتوا به‬
‫وأبدعوه‪ ،‬وما هو مقدار ما نعلمه من كل ذلك "‪ .‬بينما يعرفه أخر ون بأنه "الحوار بين الماضي والحاضر"‪ .‬ويعرفه‬
‫طرف ثالث بأنه "حكاية الحوادث الماضية المتعلقة بحياة النسان على الرض " (عبده‪ :1989 ،‬ص ‪.)5‬‬

‫هذه التعريفات على اختلفها تجمع على أن المقصود بالتاريخ هو التاريخ البشري‪ ،‬ذلك أن النسان هو الذي يصنع‬
‫الحضارة ويؤثر في البيئة وبذلك فهو وحده من يوجد التاريخ‪ .‬من الجانب الخر نجد أن التاريخ البشري يشتمل على‬
‫العديد من الممارسات البشرية‪ .‬فهناك الجوانب القتصادية والجتماعية والفنية والسياسية‪ ،‬إل أن علماء التاريخ‬
‫يركزون دائما على الجانب السياسي من التاريخ البشري‪ .‬ويرجع هذا التركيز الى أن السياسة هي الباحث الرئيسي‬
‫لصناعة التاريخ‪ .‬فعصر التنوير والثورة الصناعية في أوروبا كان مردهما لتطورات سياسية‪ .‬وبهذا فإن تعاقب الحكام‬
‫يتبعه الى حد كبير تغيير في العديد من الجوانب القتصادية والجتماعية وغيرها في المجتمع‪ ،‬ومن هنا كان التركيز‬
‫على التاريخ السياسي‪.‬‬

‫مهمة المؤرخ الصحفي‬

‫إذا كنا سلمنا بأن المقصود بالتاريخ هو التاريخ البشري‪ ،‬فإن عمل المؤرخ ما هو إل تسجيل للحوادث البشرية‬
‫الماضية‪ .‬هذا التسجيل يتم بالتقصي والبحث في المصادر المختلفة والمرتبطة بالحوادث الشي يبحث فيها المؤرخ والتي‬
‫قد تكون نقوشا وتماثيل‪ ،‬أو مخلفات مادية كآنية وأسلحة‪ ،‬أو وثائق مكتوبة‪.‬‬

‫وبتوضيحنا لمهمة المؤرخ فإننا نجد أن مهمة الصحفي ل تختلف عنها كثيرا‪ .‬فالصحفي ‪ -‬وهو كل من يشارك بفنه‬
‫واختصاصه في قسم من أقسام الصناعة الصحفية _ يقوم بتسجيل الحوادث التي يفرزها النشاط النساني مع الجتهاد‬
‫بالتحقق من صدق الحوادث والتزامه الموضوعية في ذلك‪ .‬ولكن الفرق بين الصحفي والمؤرخ في تسجيلهما للحوادث‬
‫البشرية يكمن في الفترة الزمنية التي يعني بها كل منهما‪ .‬فالمؤرخ يعني في الغالب بالحوادث الماضية بالتنقيب عنها‬
‫وردها الى عللها وأسبابها القتصادية أو السياسية أو الجتماعية أو البيئية‪ .‬بينما يعني الصحفي في الغالب بتسجيل‬
‫الحوادث اليومية أو السبوعية أو الشهرية حسب دورية الوسيلة التي يعمل بها‪ .‬من هنا يتضح أن دائرة عمل المؤرخ‬
‫تقع ضمن الحوادث البشرية الماضية‪ ،‬ويكون العتماد على المصادر التي سجلت الحوادث في الماضي‪ .‬أما دائرة عمل‬
‫الصحفي فتكون في الحوادث الحالية أو تلك التي وقعت في الماضي القريب‪.‬‬

‫ونظرا لطبيعة عمل الصحفي فإن الوقت يعمل في غير صالحه إذا ما أراد التثبت من صحة الحوادث التي يسجلها في‬
‫وسيلته العلمية‪ .‬ويعود السبب في ذلك الى أن الوسيلة التي يعمل بها الصحفي تكون غالبا ملزمة بالصدور أو بث‬
‫خبر ما في وقت محدد‪ .‬هذا التوقيت قد ل يمكن الصحفي من البحث في تفاصيل الموضوع والتحقق من صدق الوقائع‪.‬‬
‫كما أن الوقت نفسه قد ل يمكن الصحفي أيضا من استقراء الحوادث المستقبلية وتقديم نظرة شاملة حول الموضوع‬
‫الذي يتناوله‪ .‬ويعود السبب في ذلك الى أن الحوادث التي يسجلها الصحفي لم تطو صفحاتها بعد ول تزال تشهد‬
‫مستجدات بحكم حداثتها‪.‬‬

‫وعلى الجانب الخر ل يمثل عامل الوقت مشكلة بالنسبة للمؤرخ بحكم أن دائرة بحثه تكون في الماضي‪ .‬والمؤرخ ملزم‬
‫بالمانة والموضوعية في تسجيله للحوادث أكثر من الصحفي‪ ،‬لن ما يدونه المؤرخ ويخرجه للخرين يدونه ويخرجه‬
‫في سعة من الوقت ووفرة في المصادر وأي تزوير أو تشويه في الحقائق يعود الى أهوائه أو أخطائه‪ .‬فالمؤرخ للحرب‬
‫العالمية الثانية مثل ل ينقصه الوقت ول المصادر في استقصاء هذه الحرب وردها الى عللها الحقيقية بناء على ما‬
‫يتوافر له من وثائق‪.‬والقول بأن الوقت قد يعرقل عمل الصحفي وقد يعمل ضده ل يعطي العذر للصحفي لتشويه الحقائق‬
‫عمدا‪ ،‬وانما عليه إعمال كل الجهد للتحقق من سلمة ما يسجله‪.‬‬

‫من ذلك ينبغي أن ندرك أن المؤرخ ل يرى الحوادث وقت وقوعها بعكس الصحفي الذي يشهد في معظم الحيان‬
‫الحوادث التي يسجلها‪ .‬والمؤرخ يحاول أن يربط بين ما خلفه ال وائل من آثار وبين ما كتب عنهم ليصل في النهاية‬
‫الى توثيق تاريخي لتلك الحقبة من الزمن أو الحوادث أو الشخصيات‪ .‬ويبدو جليا أن مهمة المؤرخ الولى هي التقص‬
‫في الحقائق التاريخية وبيان صحتها من عدمه‪ ،‬بينما مهمة الصحفي الولى هي تسجيل ما يجري من حوادث بعين‬
‫فاحصة حسبما يتوافر لديه من أدلة وتأتي مهمة تأريخ الحوادث بعد ذلك لحقة لطبيعة عمله‪ .‬ويدلل بشير العوف‬

‫(‪)1987‬على هذا الرأي بقوله "إن مهمة الصحفي تنطلق قبل كل شيء‪ ،‬من نقطة الحصول على (الخبر)‪،‬ومن ثم ينطلق‬
‫الصحفي على التعليق عليه بسطر أو بسطور أو بمقال كامل إذا كان جديرا بالتعليق وبعد ذلك ينقله الى القاريء" ص‬
‫‪.35‬‬

‫إن من المحاذير التي تحيط بعمل المؤرخ أو الصحفي في تاريخ أو تسجيل الحوادث والشخصيات التاريخية هي تقليب‬
‫الهواء أو الولء لفئة أو طائفة معينة‪ .‬لن ذلك سوف يخرجهما من دائرة الموضوعية ويصبح تأريخهما‬

‫للحوادث صناعة ل تبنى على أسس علمية ثابتة‪ .‬والموضوعية أو عدم إقحام الذات عند تسجيل الحوادث وتقديرها‬
‫مطلب صعب لن النسان ل يمكن أن يتخلص من جملة الفكار والمعتقدات التي يؤمن بها‪ .‬ويذكر الصحفي المريكي‬
‫الكبير الذي غطى الحرب العالمية الثانية ‪ Edward R. Murrcw‬إن حيادية الصحفي أمر صعب‪ ،‬حيث يقول‪(:‬‬
‫‪Roscho, 1975, p. 48‬‬

‫"أعتقد أنه ليس من الممكن ‪ -‬بحكم الطبيعة النسانية لي صحفي أن يكون حياديا بصورة كاملة‪ ،‬لننا كلنا نتأثر الى‬
‫حد ما بمستوانا التعليمي وسفرنا وقراءاتنا ومجمل خبراتنا"‪.‬‬

‫وما يصدق على الصحفي يصدق أيضا على المؤرخ لن كليهما بشر وطيهما يهتم بتسجيل الحوادث البشرية‪ .‬من ذلك‬
‫نخلص الى القول بأن تقديرنا للحوادث أو تسجيلنا لها قد ل يخلو من ذاتياتنا وخبراتنا التي نقحمها عن وعي أو ل‬
‫وعي في التسجيل والتقدير‪ .‬حينئذ تأتي ملحظاتنا للحدث الواحد متباينة‪ ،‬ول أدل عل ذلك من المثال التالي‪:‬‬

‫يذكر أستاذ التاريخ هورنشو حدثا وقع في مجلس العموم البريطاني حينما كان سفير روسيا جالسا يستمع الى أحدى‬
‫الجلسات‪ ،‬وقد علقت على هذا الحدث ثلث صحف لندنية على النحو التال‪ .‬ذكرت الول أن السفير الروسي كان يتابع‬
‫الجلسة بكل انصات ويعلق من وقت لخر على بعض نقاط الحديث الى سكرتيره الذي يجلس بجواره‪ .‬بينما ذكرت‬
‫الثانية أنه ل يجيد النجليزية وكان من وقت لخر يسأل سكرتيره عن بعض معاني الكلمات الصعبة‪ .‬وذكرت الثالثة أنه‬
‫ل يعرف النجليزية وكان يشغل وقت الجلسة بالحديث الى سكرتيره من وقت لخر‪ .‬هذا المثال يوضح أنه على الرغم‬
‫من أن الصحفيين في الصحف الثلث شاهدوا نفس الحدث إل أن تسجيلهم له جاء مختلفا كاختلف الصحف والصحفيين‬
‫أنفسهم (عبده‪ :1989 ،‬ص ‪.)10‬‬

‫الموالة والحرية والتاريخ‬

‫إن الموالة أو المحسوبية تمثل حلقة خطيرة في تأريخ الحوادث ذلك أنها ل تسجل إل التاريخ المشرق للحدث أو‬
‫الشخصية المحبوبة أو التاريخ المظلم للشخصية غير المرغوبة‪ .‬فليس من المتوقع من مؤرخ لسيرة حاكم أو أمير أن‬
‫يذكر مثالب هذا المير ما دام مواليا له‪ ،‬ومن غير المتوقع أيضا أن يذكر المؤرخ الذي أعمته الوطنية‪ ،‬الحقيقة المرة‬
‫التي ربما تكون بلده قد مرت بها‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬يكتب المؤرخون الفرنسيون الموالون لملك فرنسا لويس السادس‬
‫عشر بأنه ذهب الى المقصلة رزينا الى حد الجرأة والشجاعة ولم يخش جلدها القاسي بل أسلم نفسه في هدوء وثبات‬
‫على الرغم من أن الحقيقة تقول عكس ذلك حيث أن لويس السادس عشر راح يصيح مستنجدا ومستغيثا‪ ،‬وأنه أمسك‬
‫بالجلد يبعده عن نفسه تارة ويسأله الرحمة والعفو تارة أخرى (عبده‪ :1989 ،‬ص ‪.)47‬‬

‫إن أهم شرط في صناعة التاريخ الى جانب إبعاد الصحفي والمؤرخ لذاتيتهما هو الحرية‪ .‬ويقصد بالحرية هنا حرية‬
‫ذكر الحقيقة‪ ،‬ذلك أن الحقائق مقدسة أما الرأي مجاني على حد قول الصحفي الكبير ‪ G.P. Scott‬إن الحرية هي التي‬
‫تكفل للمؤرخ وللصحفي معبر الخروج من طائلة المحسوبية أو الموالة وهي التي تجعل منهما موضعا للثقة‪ .‬وفي كثير‬
‫من الدول نجد الحرية في التعبير والرأي تكفلها قوانين مستمدة من الدستور‪ .‬ففي الوليات المتحدة المريكية نجد‬
‫التعديل الول ‪ First Amendment‬يكفل للعلم هناك حرية التعبير والرأي الى حد كبير‪ .‬وهذه الحرية ل تقتصر‬
‫فقط على رجال الصحافة والعلم بل تشمل كل الفراد الذين يعيشون في أمريكا‪ .‬وعلى المستوى الدولي نجد المادة‬
‫‪19‬من العلم العالمي لحقوق النسان الذي صدر في عام ‪ 1948‬تتضمن بندا ينص على حرية كل شخص في أن يعبر‬
‫عن رأيه في أية وسيلة كانت بغض النظر عن وجود الطراف المعارضة بالضافة الى حقه في استقاء المعلومات من‬
‫أي مصدر كان‪ .‬وفي الدول العربية نجد أن هذا النوع من الحرية تحدده قوانين الصحافة أو قوانين المطبوعات في كل‬
‫دولة‪ .‬وهي بصورة عامة تكفل قدرا يسيرا من حرية التعبير والرأي‪.‬‬

‫إن فقدان الحرية من شأنه أن يشوه الحقيقة لوجود صوت واحد مسموع فقط وهو صوت من بيده السلطة‪ .‬فالمؤرخ أو‬
‫الصحفي الذي يعمل في بيئة منزوعة الحرية يكون فقط أداة تقلبها يد خفية كالمغناطيس الذي يحرك قطعة معدنية من‬
‫تحت صفيحة أخرى‪ .‬ويمكننا بعد ذلك أن نسمي التاريخ الذي ينتجانه بالتاريخ المختار‪ ،‬وليس بالتاريخ الواقع‪ .‬لقد‬
‫نشرت جريدة "الوطن " العمانية في عددها الصادر يوم الثنين ‪ 30‬سبتمبر ‪ 1996‬خبرا مفاده أن حزب العمال‬
‫البريطاني يطالب الحكومة البريطانية بسن قانون يقضي بمعاقبة كل من ينكر حادثة "الهوليكوست " التي يذكر فيهدأن‬
‫ستة مليين يهودي أحرقهم هتلر في أفران الغاز أيام الحرب العالمية الثانية‪ .‬ولو وافقت الحكومة البريطانية على هذا‬
‫المطلب تكون قد صفعت عرض الحائط بمبدأ حرية الرأي والتعبير الذي تؤمن به‪ ،‬المر الذي قد يدفع المؤرخين‬
‫والصحفيين على السواء الى تجنب الخوض في مثل هذه القضية خوفا من الوقوع تحت طائلة العقوبة‪.‬‬

‫إن الحرية كما هي مهمة ولزمة للمؤرخ فهي مهمة ولزمة للصحفي في عمله كمراسل أو مندوب أو حتى مجرد ناقل‬
‫لحدث ما‪ .‬وخطر انعدام الحرية عند الصحفي لهو أعظم من انعدامها عند المؤرخ وذلك لسببين‪ .‬الول هو أن وسائل‬
‫العلم تعني بتسجيل الحوادث اليومية أو السبوعية التي ستصبح فيما بعد تاريخا لمة ما‪ ،‬وتصبح وسائل العلم‬
‫عندئذ مصدرا لهذا التاريخ‪ .‬فإذا جاء تسجيل هذه الحوادث وقت حدوثها مزيفا بسبب فقدان حرية التعبير فإن تاريخ تلك‬
‫المة سيكون مزيفا أيضا‪ .‬والثاني هو أن وسائل العلم لها من النتشار والتأثير في الجماهير ما ل تستطيعه أية‬
‫وسيلة أخرى‪ .‬وينشرها أخبارا مزيفة بسبب فقدان الحرية في وقت حدوث واقعة ما‪ ،‬فإنها ترسخ في أذهان الجماهير‬
‫هذا الزيف الذي قد يستحيل تصحيحه‪.‬‬

‫ونجد في تاريخ العلم أمثلة كثيرة على مواقف سحبت فيها الحرية عن وسائل العلم في بلدان تقر بمبدأ الحرية‪ .‬لقد‬
‫منعت الحكومة المريكية مثل الصحفيين من تغطية حربي جر انادا وينما‪ .‬وكررت الحكومة المريكية الشي ء نفسه‬
‫عندما فرضت رقابة مشددة على العلميين في تخطيتهم لحرب الخليج الخيرة التي نشبت إثر غزو العراق للكويت‬
‫‪ .1990‬فلقد أوعزت الدارة المريكية الى خفراء عسكريين مهمة مراقبة تحركات الصحفيين ومنعهم من اجراء‬
‫مقابلت بدون سابق تصريح‪ .‬وابتكرت الدارة العسكرية ما سمي بـ "نظام المجموعة " أو "المجموعة الصحفية " التي‬
‫اختير لها ‪ 150‬صحفيا من الذين ل يشك في ولشهم للقيادة المريكية من بين ‪ 1500‬صحفي كانوا متواجدين لتغطية‬
‫الحرب ‪ .)Kellener,1992p. 761‬لقد أصبحت حرية الصحفيين في تلك الحرب مقيدة ولم يعد بمتناول أيديهم سوى‬
‫نشر ما تملي عليهم إدارة شوارزكوف الجنرال المريكي الذي قاد قوات التحالف المتمركزة في المملكة العربية‬
‫السعودية‪ ،‬ولهذا جاءت تقاريرهم وتسجيلهم لحوادث تلك الحرب مشوهة ومزيفة‪ .‬وقد برع هاكورث الصحفي بمجلة‬
‫‪ Newsweek‬المريكية في وصف حال الصحفيين وهم يتلقون معلومات عن حرب الخليج من إدارة العلم بقوله‬
‫‪ ).Taylor, 2991, p166‬كل شي ء كان يعطى بقدر مثل ملعقة التغذية‪ .‬وكنا نحن _ الصحفيين _أشبه بالحيوانات‬
‫الموجودة في الحديقة‪ ،‬بينما قام المسؤولون العلميون بدور حراس هذه الحديقة الذين يرمون لنا قطعة من اللحم من‬
‫حين لخر‪.‬‬

‫وبلغت شدة الرقابة العلمية في حرب الخليج الى حد مصادرة المعلومات التي تم الحصول عليها بدون تصريح أو من‬
‫غير علم الرقيب‪ .‬فقد ذكرت صحفية الندبندنت البريطانية في عددها الصادر يوم الربعاء ‪6‬فبراير ‪ 1991‬أن الرقابة‬
‫العلمية صادرت فيلما خبريا عن معركة الخفجي على حدود المملكة العربية السعودية كان قد التقطه طاقم تليفزيون‬
‫فرنسي‪.‬‬

‫لقد كان من الطبيعي بعد ذلك أن تأتي أخبار حرب الخليج مشوبة بشي ء من‬

‫التشويه‪.‬‬

‫وقد سبق وأن تدخلت الحكومة المريكية بفرض رقابة على النتاج العلمي المتعلق بسرد الوقائع التاريخية زمن‬
‫الحروب‪ .‬ففي حربها مع فيتنام تدخلت وزارة الدفاع المريكية بأن جعلت فيلم "القبعات الخضراء" المنتج عام ‪1969‬‬
‫مؤيدا للتدخل العسكري (عازار‪ :1983 ،‬ص ‪ .)37‬وهو الفيلم المريكي الوحيد عن حرب فيتنام الذي جاء مؤيدا‬
‫للحكومة المريكية ذلك لن ما بعده من أفلم حول الموضوع نفسه أمثال العودة الى الوطن وصائد الغزلن كانت تندد‬
‫بالغزو المريكي‪.‬‬
‫بصفة عامة يمكن القول بأنه من الصعب أن توجد هناك حرية مطلقة حتى في المجتمعات التي تصف نفسها بأنها‬
‫تسمح بقدر كبير من الحرية في الرأي والتعبير‪ .‬وفي الحالت التي يصادف فيها المؤرخ أو الصحفي أقل قدر من‬
‫الحرية فإن تأريخه للحوا دث والشخصيات قد يثير علمة استفهام‪ .‬واذا كان الحديث يدور حول العلقة بين التاريخ‬
‫والعلم فإنه من الضروري أن نوضح السباب التي تدفع وسائل العلم ال تشويه الحقائق التاريخية أو الترويج‬
‫لحقائق مشوهة‪ .‬ومن خلل تتبعنا للعمل العلمي نجد أن وسائل العلم تعمد الى تشويه الحقائق للسباب التالية‪:‬‬

‫لماذا تشوه الحقائق في وسائل العلم‪.‬‬

‫‪ -1‬المن القومي والسرار العسكرية‬

‫تحاول كل دولة أن تمنع كل ما من شأنه أن يزعزع أمنها القومي كالدعوة الى الحروب أو إثارة القلقل وكذلك الحيلولة‬
‫دون إفشاء أسرارها العسكرية التي يمكن أن يستغلها العدو أو التي تظهر سلوكيات غير إنسانية‪ .‬من ذلك نجد أن‬
‫الحقائق المتعلقة بالحروب وأسرار السلحة أكثر عرضة للتشويه وللتزييف من غيرها‪ .‬وقد ازداد تشويه الحقائق‬
‫المتعلقة بالحروب من قبل وسائل العلم في القرن العشرين وذلك لقدرة هذه الوسائل عل تغطية مجريات هذه الحروب‬
‫أول بأول‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن الذكر المجرد للوقائع التاريخية قد يؤدي الى كشف السرار العسكرية أو يثبط من همة الجنود‬
‫أو يعرض أمن الدولة للخطر‪.‬‬

‫لقد حاولت الحكومة المريكية كبح جماح وسائل العلم في أوقات الزمات لضمان أمنها وأسرارها العسكرية‪ .‬ففي‬
‫الحربين العالميتين سنت قانونا ‪ Seditious Libe‬يمنع وسائل العلم من الدعوة للحرب أو التشهير بذلك أو النزوع‬
‫لوجهات نظر تخالف وجهة النظر الحكومية‪ .‬وفي حرب الخليج عام ‪ 1991‬شددت الرقابة على الصحفيين لضمان الشي‬
‫ء نفسه‪.‬‬

‫من الجانب الخر‪ ،‬تكثر في أوقات الحروب والن مات الممارسات العسكرية غير النسانية التي تتنافى مع المواثيق‬
‫والعراف الدولية مثل الهجوم على المدنيين وضرب الهداف المدنية‪ .‬وتحاول الكثير من الدول أن تخفي الحقائق إذا‬
‫ما اقترفت قواتها أي عمل غير إنساني‪ .‬فقد حاولت وسائل العلم الصربية إخفاء حقيقة المقابر الجماعية التي دفن‬
‫فيها اللن من البرياء المدنيين المسلمين‪ .‬وحاولت القيادة العسكرية المريكية اخفاء حقيقة ضربها لهداف مدنية في‬
‫العراق فها هو الجنرال كولين باول يقول "إننا مهتمون بشدة بما يقع من أضرار‪ ،‬واضعين في العتبار تجنب قتل أو‬
‫جرح المدنيين‪ .‬أو التعرض للماكن الثقافية والسلمية في المنطقة "‬

‫(‪ MacArthur, 2991, p.68‬ولكن بعدما علم الناس بضرب القوات المريكية لمواقع مدنية عراقية حاولت القيادة‬
‫العسكرية المريكية إخفاء هذه الحقيقة والتماس الحجج كزعم الجنرال نورهان شوارزكوف أن العراق أخفى أسلحة‬
‫عسكرية في أماكن مدنية‪.‬‬

‫‪ -2‬آهداف دعاتية‬

‫الدعاية كما يعرفها والتر ليبمان هي التأثير على نفوس الجماهير والتحكم في سلوكهم لغراض مشكوك فيها وذلك‬
‫بالنسبة لجمهور معين في زمن معين‪ .‬وتقوم الدعاية على التهويل والمبالغة وتحريف الحقائق‪ .‬وهي تستغل سذاجة‬
‫الجماهير وتؤثر في غرائزها وعواطفها في محاولة لتعطيل العقل عن إدراك الحقيقة‪.‬‬

‫إن من بين المثلة على تشويه العلم للحقائق لغراض دعائية هو ما يصر عليه العلم اليهودي من أن النازية‬
‫اللمانية قتلت المليين من اليهود أيام الحرب العالمية الثانية‪ .‬ويركز العلم على مثل هذا التلفيق لكسب التعاطف‬
‫العالمي حيال القضايا اليهودية‪ .‬ولكن العقل قد يرفض تصديق قصة إحراق ستة مليين يهودي في فترة واحدة لن‬
‫السئلة التي تدور حول هذه القضية قد ل توجد لها إجابة حقيقية‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬هل كان يوجد ستة مليين‬
‫يهودي في ألمانيا في تلك الفترة‪ ،‬وان وجدوا‪ ،‬هل كانوا يتركزون في منطقة واحدة حتى يسهل على هتلر إحراقهم ؟‬
‫وهل كانت توجد أفران غاز ‪ -‬على حد ن عم العلم اليهودي‪ -‬في ألمانيا في ذلك الوقت أم في أن أفران الغاز وجدت‬
‫فقط أيام الحكومات الشتراكية في ألمانيا الشرقية ؟‬

‫ومن بين المثلة الخرى على تشويه الحقائق لغراض دعائية هو ما رددته وسائل العلم العالمية من أن العراق يمثل‬
‫القوة الرابعة في العالم متخطية بذلك الترتيب الحقيقي لمران ين القوى في العالم‪ .‬لقد كان الهدف من هذا التشويه‬
‫تعبئة الرأي العام العالمي ضد العراق بعد غزوه للكويت ومع إعطاء قوات التحالف الشرعية لضرب العراق بيد من‬
‫حديد لنه بقوته الكبيرة قد يمثل خطرا على أمن المنطقة‪:‬‬

‫‪ -3‬تحقيق منفعة مادية‬

‫تسعي وسائل العلم أحيانا الى تشويه الحقائق أو الترويج لحقائق مشوهة من أجل تحقيق منفعة مادية‪ .‬فعلى سبيل‬
‫المثال روجت مجلة شتيرن اللمانية في عام ‪ 1983‬لما سمي بمذكرات هتلر الى أن أعلن في بلغ رسمي من ألمانيا‬
‫الغربية أن هذه المذكرات مزورة‪ .‬كان يكفي للمجلة أن تعرف أن هتلر لم يكتب مذكرات ولكنه خطب أمام الجمهور‪،‬‬
‫وأن الكثيرين من المقربين اليه يثبتون بحرق معظم الوثائق (عبده‪ :1989 ،‬ص ‪.)31‬‬

‫إن الترويج للحقائق المشوهة يأتي من قبيل جذب الجمهور الى القبال على الوسيلة العلمية وبالتالي زيادة مبيعاتها‬
‫وتحقيق الربح‪ .‬ويتحقق هذا الهدف بصورة خاصة عندما يرتبط بقضية تتسم بالثارة بسبب اختلف الناس على‬
‫الحقيقة أو لكون الموضوع يحظى باهتمام كبير من الجمهور‪.‬‬

‫‪ -4‬طبيعة العمل العلمي‬

‫تمثل طبيعة العمل العلمي السبب الرابع لتشويه الحقائق العلمية‪ .‬فاخراج حقيقة تاريخية في شكل فيلم تاريخي أو‬
‫وثائقي يتطلب معالجة دراسية معينة أو تمثيل تقريبيا للحادثة الحقيقية أو اغفال لفترات تاريخية معينة‪ .‬وفي أحيان‬
‫كثيرة‪ ،‬يتطلب العمل العلمي إعمال الخيال وادخال بعض الجوانب النسانية التي تثير اهتمام المشاهدين وتستحوذ‬
‫على اهتمامهم‪ .‬ولكن على الرغم من ذلك يجب أن يلتزم العلميون بصلب الحقائق عند معالجتهم لمادة تاريخية‪.‬‬
‫وللتأكد من صحة توثيق الحقائق التاريخية إعلميا أوجدت في الكثير من الدول هيئات رقابية لتحقيق ذلك‪ .‬فعلى سبيل‬
‫المثال‪ ،‬تشرف جامعة الزهر بمصر على النصوص والمواد التي تتصل بوقائع تاريخية واسلمية يراد توثيقها إعلميا‪.‬‬

‫إن من بين المثلة على تشويه بعض الحقائق بسبب طبيعة العمل العلمي هو فيلم "ناصر ‪ "56‬الذي كتبه محفوظ‬
‫عبدالحميد وأخرجه محمد فاضل وقام بدور البطولة فيه أحمد زكي‪ .‬تدور قصة هذا الفيلم حول فترة تاريخية ‪ -‬عام‬
‫‪ -1956‬من كفاح الرئيس المصري الراحل جمال عبدا لناصر‪ ،‬وهي الفترة التي رفض فيها البنك الدولي تمويل السد‬
‫العالي وأممت فيها قناة السويس وحدث فيها العدوان الثلثي على مصر بسبب ذلك التأميم‪ .‬وعلى الرغم من أن‬
‫المخرج محمد فاضل حاول جاهدا أن يكون إنتاجه مطابقا للحقيقة كتصوير الفيلم بالبيض والسود واستخدام الديكورات‬
‫السائدة في تلك الفترة والعتماد على شخصيات تحمل نفس ملمح الشخصيات الواقعية بواسطة المكياج واختيار ممثل‬
‫بارع كأحمد زكي ليتقمص شخصية عبد الناصر‪ ،‬على الرغم من كل ذلك إل أن الفيلم لم يخل من لمسات خيالية‪ .‬فقد‬
‫أضيفت الى المعلومات الحقيقية مشاهد غير واقعية مثل مشهد اقتحام موظف سابق بقناة السويس لموكب الرئيس‬
‫جمال عبد الناصر يشكو له من قيام الدارة الجنبية بالقناة بفصله من عمله‪ ،‬ومشهد أخر يمثل سيدة عجوزا وهي‬
‫تصر على مقابلة الرئيس لتسليمه ملبس فلح مجند كانت قد نذرت بها لمن يرد اعتبار الجندي‪ ،‬وكانت ترى في قرارة‬
‫نفسها أن الرئيس عبد الناصر هو من رد اعتبار هذا الجندي (الحسن‪ ،‬سبتمبر ‪1996‬ص ‪.)74‬‬

‫من الجانب الخر‪ ،‬نجد أن تسجيل العلم للوقائع التاريخية ل يمكن بأي حال من الحوال أن يكون مطابقا للحقيقة‬
‫بصورة قطعية‪ .‬فالكاميرا الثابتة مثل ل تنقل إل جزءا من الحقيقة المرئية ل تتعدى أن تكون تلك المطبوعة على الفيلم‪،‬‬
‫والكاميرا التليفزيونية ل يمكنها أن تنقل أيضا إل ما أراد المصور لها أن تنقله وتسمح ظروف العمل التليفزيوني بذلك‪.‬‬

‫بعد هذا العرض لدور المؤرخ ودور الصحفي وتوضيح بعض الجوانب التي يمكن أن يلتقي معها العلم بالتاريخ‪ ،‬هل‬
‫يمكن تحديد طبيعة العلقة القائمة بينهما‪ .‬فهل يمكن أن يكون التاريخ مادة إعلمية ؟ وهل يمكن أن يكون العلم‬
‫مصدرا للتاريخ ؟ في هذه السطور سنحاول الجابة على هذين السؤالين‪.‬‬

‫التاريخ كمادة إعلمية‬

‫عندما ننظر الى التاريخ كمادة اعلمية أو صحفية فإننا نقصد بذلك أن يكتسب التاريخ شكل اعلميا أو صحفيا كأن‬
‫نوجد عمودا أو بابا يعني بالتاريخ في صحيفة أو نوجد مجلة تعني بشؤون التاريخ أو ننتج مسلسل اذاعيا تاريخيا أو‬
‫فيلما سينمائيا أو فيلما وثائقيا لحادثة تاريخية معينة‪ .‬باختصار أن نطوع المادة التاريخية التي بين أيدينا في قالب‬
‫إعلمي‪.‬‬

‫وتعد الفلم التاريخية والفلم الوثائقية التي تحكي سير شخصيات أو حوادث تاريخية معينة أكبر دليل على إمكانية‬
‫اعتبار التاريخ كمادة إعلمية‪ .‬فهذه النوعية من البرامج تعتمد على التاريخ المكتوب أو المنقول أو المستنبط والذي‬
‫يروي قصة حادثة أو شخصية تاريخية في الماضي‪ .‬والعلم بتوثيقه لهذه الحوادث والشخصيات يضيف مصدرا جديد‬
‫للتاريخ‪ .‬فمن طريق الفلم التاريخيه استطعنا أن نبني في مخيلتنا صورة عن شخصية "عمر المختار" و"الناصر صلح‬
‫الدين " و"ناصر ‪ "56‬وعن طريقها أيضا تصورنا حوادث تاريخية معينة‪.‬كقصة كفاح المسلمين ضد المشركين كما في‬
‫فيلمي "الرسالة " و"محمد رسول ال "‪.‬‬

‫وتجدر الشارة مرة أخرى ال أن الفلم التاريخية على الرغم من أنه قصد بها توثيق التاريخ إل أن مبدأ النتقائية قد‬
‫يحول دون تحقيقها لذلك‪ .‬فمجمل المادة التاريخية في هذه الفلم انتقاها المؤلف أو الكاتب أو المخرج لتتناسب مع‬
‫الهدف النهائي من انتاجها‪.‬‬

‫وبصورة عامة‪ ،‬يمكن أن يكون التاريخ مادة اعلمية‪ ،‬ولكن معالجة العلمي للتاريخ تختلف عن معالجة المؤرخ لها‪.‬‬
‫حيث يسود مبدأ النتقائية للحس ادث والشخصيات التاريخية عند العلميين‪ ،‬بينما تقل عند المؤرخين‪ ،‬ويرجع السب‬
‫في ذلك _ إذا استثنينا الحرية ‪ -‬الى طبيعة العمل العلمي كما ذكر في فيلم "ناصر ‪ ."56‬وهذا يقودنا الى الحديث عن‬
‫امكانية اعتبار العلم مصدرا للتاريخ‪.‬‬

‫العلم كمصدر وللتاريخ‬

‫استخدمت كلمة "الصحافة " في كتب العلم القديمة لتشمل كل وسائل العلم المطبوعة منها والمسموعة والمرئية‬
‫أيضا‪ .‬واليوم يشيع استخدام كلمة "العلم " لتدل على الوسائل نفسها ولو أنه قد يقفز الى مخيلتنا الوسائل المسموعة‬
‫والمرئية كما تقفز الوسائل المطبوعة عند استخدامنا "للصحافة "‪ ،‬من ذلك ندرك أن المقصود بالعلم هنا جميع‬
‫الوسائل من صحف ومجلت وإذاعة وتليفزيون‪ .‬وبحكم الدور الذي تلعبه هذه الوسائل في المجتمع من تسجيل‬
‫الحوادث البشرية فإنه يصح لنا القول بأن العلم يعد مصدرا للتاريخ ولكنه ليس مصدرا وحيدا أو سهل كما سيأتي‬
‫ذكر ذلك‪ .‬ول أدل على أهمية وسائل العلم كمصدر للتاريخ من قول الدكتور جلبرت أستاذ التاريخ اليوناني بجامعة‬
‫أكسفورد في منتصف القرن العشرين (محمد سيد‪ :1985 ،‬ص ‪.)17‬‬

‫لو كان لليونان صحف‪ ،‬ولو أن صحفية واحدة ولو حتى صفحة واحدة من صحيفة وصلت الى أيدينا لكانت معرفتنا‬
‫بالتاريخ اليوناني أكثر حيوية وأعظم مما هي عليه الن‪.‬‬

‫ولكن كيف يمكن أن يكون العلم مصدرا للتاريخ ؟ تعمل وسائل العلم على توثيق ما يجري في حياة الناس من‬
‫حوادث يومية أو أسبوعية أو شهرية أو حتى في كل ساعة من زمن اليوم الواحد‪ .‬ثم تتراكم هذه الوثائق والمعلومات‬
‫المرتبطة بحادثة أو شخصية ما‪ .‬وربما تقوم أكثر من وسيلة في مجتمع واحد أو في عدة مجتمعات بتوثيق نفس‬
‫الحدث‪ .‬فإذا أردنا بعد ذلك أن نتتبع أو نسجل تاريخ تلك الحادثة أو الشخصية فإننا نرجع الى ما كتب أو نشر عنها في‬
‫وسائل العلم‪ .‬ولبد أن تكون الحادثة قد انتهت ول تشهد تطورات جديدة إذا أردنا أن نعتمد على وسائل العلم‬
‫لتأريخها‪.‬‬

‫أما القول بأن العلم ليس مصدرا سهل للتاريخ فهذا راجع الى مجموعة المحاذير التي على المؤرخ أن يتنبه لها عند‬
‫توثيقه للحوادث والشخصيات من وسائل العلم‪ .‬ومن أهم هذه المحاذير ما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬أن يبحث المؤرخ عن المعلومات المتعلقة بنفس الحادثة الشخصية في أكثر من وسيلة إعلمية في نفس المجتمع‪.‬‬
‫وهذه العملية تتحقق بصورة خاصة في المجتمعات التي تسمح بقدر كبير من حرية وسائل العلم‪ .‬وهي تفيد في تفنيد‬
‫المعلومات ومعرفة الصحيح منها من الزائف ذلك أنه يفترض من وسائل العلم في هذه المجتمعات أن تنشر وجهات‬
‫النظر المتباينة‪ .‬أما المجتمعات التي تسمح بقدر يسير من حرية الرأي والتعبير فإنه يسود بها وجهة النظر الواحدة أو‬
‫الصوت الواحد‪ ،‬المر الذي قد يجعل ما تسجله وسائل العلم مغايرا للحقيقة‪ .‬لذلك فإن على المؤرخ في هذه الحالة أن‬
‫يبحث في وسائل العلم الموجودة في المجتمعات الخرى والتي سجلت الحدث نفسه‪ .‬بصورة عامة على المؤرخ الذي‬
‫يعتمد على وسائل العلم كمصدر للتاريخ أن يبحث في أكثر من وسيلة اعلمية وفي أكثر من مجتمع لضمان الوصول‬
‫الى الحقيقة التاريخية بأقصى قدر ممكن‪.‬‬

‫‪ -2‬على المؤرخ أن يضع في العتبار أن عدم ذكر وسائل العلم في مجتمع ما لحادثة أو شخصية معينة ل يعني‬
‫بالضرورة عدم وجود تلك الحادثة أو عدم وجود تلك الشخصية‪ .‬ذلك لن ما ينشو وما ل ينشر في وسائل العلم‬
‫تحكمه عدة اعتبارات منها الرقابة المفروضة على وسائل العلم‪ ،‬والمساحة المتوافرة في وسائل العلم المطبوعة أو‬
‫الزمن في حالة الوسائل المسموعة والمرئية‪ ،‬ووجود الصحفي من عدمه وقت وقوع الحدث بالضافة الى قضية التعتيم‬
‫العلمي أي حجب المعلومات بصورة مقصودة‪.‬‬

‫‪ -3‬على المؤرخ أن يرجع علل وأسباب الحوادث التاريخية التي يبحث عنها من وسائل العلم الى فتراتها الزمنية‬
‫التي وقعت فيها‪ .‬فعلى المؤرخ للحرب العراقية ‪ /‬اليرانية التي دامت ثماني سنوات أن يرد علل وأسباب حوادث تلك‬
‫الحرب الى النواحي القتصادية والجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في تلك الفترة‪.‬‬

‫وتساعد وسائل العلم وبصقة خاصة المطبوعة من خلل تسجيلها للحوادث التاريخية في كشف حقيقة أو زيف هذه‬
‫الحوادث‪ .‬فقد استطاع فلنج أستاذ التاريخ الوروبي بجامعة نبراسكا المريكية أن يكتشف زيف مذكرات بابي عمدة‬
‫باريس وأول رئيس للجمعية الوطنية أيام الثورة الفرنسية باعتماده على ثلث صحف باريسية هي اليران دي جور‪،‬‬
‫الكورييه دي برو فنس والريفوليسيون دي باري التي كانت تصدر في سنة ‪ .1789‬فقد نشرت هذه المذكرات لول مرة‬
‫عام ‪ 1804‬وأعيد طبعها مرة أخرى عام ‪ ،1822‬ووجد خلنج أن فقرات هذه المذكرات لم تتعد أن تكون مقتطفات مما‬
‫نشو في الصحف الثلث السابقة الذكر مع تعديل بسيط كتغيير ضمير الغائب الى ضمير المتكلم ( عثمان‪ :1980 ،‬ص‬
‫‪.)85‬‬

‫خاتمة‬

‫لقد ساهمت وسائل العلم في تعريف الشعوب بعضها ببعض من خلل ما تتناقله من أخبار وحوادث‪ .‬وأصبح الرجوع‬
‫الى وسائل العلم عند التأريخ لحادثة أو شخصية معينة أمرا ضمر وريا في كثير من الحيان خاصة في عصرنا‬
‫الحالي وذلك لقدرة هذه الوسائل على تسجيل ما يجري من حوادث في العالم بشكل مستمر‪ .‬ولم يعد أيضا يقتصر‬
‫العتماد على وسائل العلم التي تصدر في حدود دولة ما كمصدر لتدوين حادثة أو شخصية بعينها‪ ،‬بل يتعداها الى‬
‫العتماد على وسائل العلم التي تصدر في دول أخرى وذلك بحكم تطور تكنولوجيا التصال والعلم التي تمكن من‬
‫تسجيل الحدث في أي مكان‪ .‬والحقيقة القائلة أن وسائل العلم ليست مصدرا سهل أو وحيدا للتاريخ ينبغي ال تفارق‬
‫المؤرخ‪ ،‬ولكن عليه أيضا ال يهمل استخدام هذا المصدر كلية‪ .‬وفي عملية تتصف بالتبادل يتخذ العلم من التاريخ‬
‫مادة لصفحاته وبرامجه المختلفة‪ .‬وبهذا يمكن القول أن العلم والتاريخ يرتبطان ببعضهما بعلقة تبادلية تتمثل في‬
‫الخذ والعطاء‪.‬‬

You might also like