Professional Documents
Culture Documents
يقضُت حوائجهن بالبكاء .تلك كانتَ أخَتا ،إُف قناعة كاملة بأف النساء ،كاألطفاؿ، أوصلتو ذبارب حياتوً ،
إحدى مشكبلتو الكربى اليت حالت دوف توقفو ،اؼببكر ،عن خوض عبلقات عاطفية منتهية بالفشل .كاف كلّما قرر
دائما.
التوقف؛ تأخذه غريزتو إُف أحضاف أنثى جديدة ،تصب الشهوة يف أوردتو اؼبتيبّسة ،واؼبتعطشة إُف اعبنس ً
واحدة فقط ىي اليت ظلت تتقافز ،باستمرار ،من صندوؽ ذاكرتو كرؤى األنبياء .يشعر ،عندىا ،بأنو َف يعش من
حياتو سوى ما قضاه بُت أحضاهنا الدافئة .كل األظباء اليت عكرت مياه تارىبو َف تستطع أف تشوش صفاء صورهتا
اؼبنعكسة ،وأخفقت كل ؿباوالتو اعبادة يف نسياهنا.
يب مشئوـ خرب حاوؿ الًتكيز على صفو مزاجو اؼبخملي قد ر اؼبستطاع ،قبل أف يرف جرس اؽباتف ،وينقل إليو قر ٌ
وفاة والدتو إثر نوبة ُس َّكر .أحزنو اػبرب ،ألنو عٌت لو تأجيؿ أحبلمو اؼبخملية ،وما يرتبط هبا من سعادة .تذكر وجوه أفراد
سره كل وجو على حدة ،قبل عائلتو اؼبمتدة يف بانوراما ذىنية سريعة ،وزبيّل عبء تلقيو العزاء من ىؤالء البؤساء .لعن يف ّ
أف ُىبرج من ثبلجتو الصغَتة قارورة اػبمر ،ويبدأ رحلتو اؼبيتافيزيقية اليومية.
***
يف منزؿ العائلة الكبَت ،الذي كمنازؿ النمل ،بغرفو الكثَتة واؼبتداخلة ،وقف أماـ جثماف ّأمو اؼبسجى على
عنقريب اعبرتق اؼبصنوع من خشب السروج .وقبل أف يُكشف عن وجهها ،تأمل منظر جسدىا اؼبًتىل كشحنة إسفنج،
وىو يتساءؿ عن مصَتىا ،وعما إذا كاف ذلك اؼبصَت يستحق اؼبشقة اليت بذؽبا يف طريقو من العاصمة إُف ريف العيكورة
أـ ال!
جيدا قلقو
وللسخرية؛ فإنو ال يتذكر تفاصيل ؾبيئو من اػبرطوـ ،أو مىت ،بالتحديد ،كاف ذلك ،غَت أنو يتذكر ً
وخوفو اللذاف َف يعرؼ ؽبما سببًا ،إضافة إُف ضيقو الذي كاف قد بدأ بالتخلّق ،منذ أف وطأت قدماه ؿبطة السوؽ
***
يف اؼبقربة؛ كانت الشمس يف كبد السماء ،ترسل وىجها ،مباشرة ،على رؤوس الرجاؿ الذين وضعوا اعبنازة
أرضا ،وراحوا هبتهدوف يف حفر القرب بكل نبّة ،فيما نبس إليو أحدىم بأنو ال توجد حاجة إُف أف يرىق نفسو باغبفر؛ً
السيما وأنو يف حالة نفسية ال تسمح لو بذلك ،ىذا الكبلـ أشعره ببعض السعادة واالرتياح ،ولكنو كذلك ألزمو بأف
يبدي بعض مظاىر اغبزف اليت اجتهد يف اصطناعها.
بعض اؼبزارعُت القادمُت من مشروع اعبزيرة يف اعبهة الغربية للعيكورة ،وضعوا أطراؼ جبلبيبهم ربت أسناهنم،
وأتوا راكضُت ،عند رؤيتهم عبمهرة الرجاؿ يف اؼبقابر ،وشرعوا يف حفر القرب مع البقية ،وىم يرددوف" :ال حوؿ وال قوة إال
كثَتا ضباسة الرجاؿ ،وتناوهبم على اغبفر ،وىم يرددوف بُت
باهلل!" دوف أف يسألوا عن اعبثة اليت ينووف دفنها .أزعجو ً
***
حامد ودالنعيم زوج شقيقتو الكربى رجل مشهور عنو اغبرص الشديد ،ويُذكر أنو الوحيد يف العيكورة ،بُت
أقرانو ،من وبتفظ بشهادة ميبلده ،إضافة إُف الشهادات اؼبدرسية منذ اؼبرحلة االبتدائية ،وحىت الثانوية اليت اجتازىا
بصعوبة بالغة ،كما أنو ما زاؿ ؿبتفظًا بتذاكر سفره إُف أديس أبابا غبضور حفل الفناف ؿبمد وردي عاـ ،1989إضافة
إُف بطاقة صعود الطائرة؛ بل وتذاكر اغبفل نفسو .ورث عشق صبع األشياء واالحتفاظ هبا عن والده ودالنعيم جار اهلل
البَبلؿ ،وال أحد يعلم اؼبعيار الذي يقيّم بو األشياء اليت تستحق االحتفاظ من تلك اليت ال تستحق.
أتاف عشراء ،ليخطب شقيقتو يذكر تلك الليلة اليت جاء فيها من قرية شيخ طو سَتا على األقداـ ،جارا وراءه ٍ
ً ً
العَركِيِّة اليت تعود إُف اإلماـ موسى الكاظم؛ انشغل ىو الكربى ،وفيما راح يتحدث عن نفسو ،وعن عائلتو وجذورىا َ
***
نظر إُف َمن حولو ،وتفرس يف الوجوه اليت كانت بعضها حزينة ،وبعضها اآلخر ذات مبلمح حيادية ،بينما
رجبل مطأطأ الرأس
جلس أشخاص غَت مألويف السحنات يف ركن قصي يتبادلوف أحاديث ضاحكة بطريقة خافتة ،ووجد ً
قليبل خلف عمامتو،ـبفيًا وجهو بطرؼ عمامتو ،فاقتبس منو الفكرة؛ حيث وجدىا ذكية للغاية .كاف بإمكانو أف يغفو ً
بعيدا عن أعُت اؼبتطفلُت الذين هتمهم متابعة حالتو
بينما يعتقد اآلخروف أنو يبارس حزنو على أمو يف خصوصيةً ،
قليبل حىت أحس بدغدغة ناعمةالنفسية ،إما ليستلهموا منها ما يبقيهم حزاىن أو جملرد الفضوؿ .ما كاد يغمض عينيو ً
طفبل يهمس يف أذنو" :ىنالك سيدة باػبارج تريد أف تعزيك".
على كتفو ،فرفع رأسو يف استياء ليجد ً
استأذف يف لباقة مصطنعة من حامد ودالنعيم ،وَف يفهم ؼباذا فعل ذلك ،ولكنو وجد أنو من اعبيد أف يستأذف
متثاقبل ،وىو يستشعر الضجر من كل ما هبري
منو ،كتعبَت عن امتنانو ؼببلزمتو اللصيقة لو منذ وصولو من العاصمة .قاـ ً
***
***
سباما ،رغم أنو َف يعد ينعم بليل ىانئ منذ أف استوطن العاصمة ،وأمضى ليبل ،نكهة خاصة يألفها ًللريفً ،
فيها تسع سنوات من عمره .تذكر ذلك اليوـ الذي أبلغو أحد زمبلئو يف العمل بأف مدير البنك يريده يف أمر عاجل
وعلى انفراد .كاف يسمع منهم أنو رجل نزؽ ومزاجي وحاد الطباع ،ولكنو َف يقف على شيء من ذلك؛ فقد كاف يراه
رجبل عاديًا كغَته ،وظن أف اآلخرين ىبلعوف عليو تلك النعوت ليربروا خوفهم أمامو .كل ما فعلو ىو أف ابتلع العلكة اليتً
كانت يف فمو ،ومضى إليو من فوره.
جالسا على مكتبو
دائما .رأى قسم السيد دفع اهلل ًطرؽ الباب ودخل قبل أف يؤذف لو ،وكانت تلك عادتو ً
سباما ،منهم ًكا يف قراءة إحدى التقارير اؼبالية اليت ترده يوميًا من قسم األراضي والتعويضات ،اكتفى بإلقاء
العادي مثلو ً
نظرة سريعة عليو من ربت نظارتو الطبية السميكة ،وأشار إليو باعبلوس؛ فجلس.
ظبعو وىو يغمغم بكلمات غَت مفهومة ،ولكنو طبّن أنو يتذمر من تلك التقارير اليت باستطاعتها أف تنهي سَتتو
اؼبهنية ،وربيلو إُف التقاعد اؼببكر .بعد غبظات رفع قسم السيد رأسو ،ونزع نظارتو الطبية ،وألقى هبا على اؼبكتب ،وعقد
أصابع كفيو ووضعهما أماـ كرشو:
-شرؼ الدين عبد الرحيم بابو؛ ملفك اؼبهٍت نظيف ومشرؼ ،ويشهد لك زمبلؤؾ باألمانة وااللتزاـ ،رغم
طبعا .لقد رأينا أنك الوحيد اؼبستحق للًتقية ،وسوؼ تنتقل إُف مكاتب بعض اؼبآخذ واؼببلحظات البسيطة ً
اإلدارة يف العاصمة؛ فما ىو رأيك؟
-ال بأس!
-ليست لديك اعًتاضات تذكر؛ أليس كذلك؟
عموما إذا كاف ذلك قر ًارا إداريًا فسوؼ أنفذه.
-ال أجد فرقًا بُت ىنا وىناؾً .
اعتبارا من بداية الشهر القادـ ،فتجهز منذ
-جيد؛ سوؼ تستلم عملك يف قسم خدمة العمبلء يف اػبرطوـ ً
اآلف .أسبٌت لك التوفيق.
"إياؾ والسياسة؛ فهي قمار بُت الشيطاف واغبكومة! احذر العساكر ،فهؤالء ال تعرؼ قلوهبم الرضبة ،فقد رضعوا
حليب الضباع ،وإف اقتادوؾ إُف مكاف ما ،فسوؼ لن نتمكن من العثور عليك مرة أخرى .تعلّم أف تقوؿ ؽبم
دائما لتضمن السبلمة .واحذر بنات اػبرطوـ ،فهن أخوات األباليس ،وال شيء يصنعنو سوى إغواء(نعم) ً
الشباف ،وأنت ساذج وطيب ويسهل خداعك ،والوحدة سوؼ ذبعلك تناسق وراءىن".
رجبل لو عضو ذكري أكرب فبا أملك؟ طبلقنا يف العاـ َ 1991ف يكن
إِف؟ ىل تعرفُت ً
"أكيج؛ ؼباذا ترفضُت العودة ّ
ـبمورا ،وبإمكاين إثبات ذلك .القانوف يسمح ِف بإرغامك على الرجوع ،أحفظ
شرعيًا ،واؼبأذوف الذي طلقنا كاف ً
فما كاف من زوجها إال أف هنض من مكانو ،فاكتشف شرؼ الدين مدى ضخامتو ،وتوجو كبوه وضبلو ،وكأنو
يضا ،وألقى بو خارج اغبانة ،مث عاد وجلس يف مكانو كما كاف .ظل صوت النيل رزقة اؼببحوح يأتيو من ىرا مر ً
وبمل ً
اػبارج إُف أف اختفى شيئًا فشيئًا ،وَف يوقف ما حدث صراخ الرجلُت الذي كاف قد ارتفع أكثر من ذي قبل .كاف شرؼ
يتعجب من مقدرة أكيج دينق على إدارة اغبانة دبن فيها من سكارى ،وىي بالتأكيد مهمة شاقة ،وليست يسَتة على
أية حاؿ :أف تتمكن امرأة من ترويض رجاؿ غائبُت عن الوعي ،وأف تتحمل أمزجتهم اؼبختلفة ،وربسن التعامل مع كل
منها ،بطريقة ذبعلها ربافظ على قدر معقوؿ من السبلمة واألمن يف منزؽبا ،وحبيث تضمن عودهتم إليها مرة أخرى.
َف يبض وقت طويل حىت غادر زوج أكيج الضخم ذو اؼببلمح اعبامدة بعد أف خاطبها بلغة َف يفهمها ،ولكنها َف
تكن ودودة على أية حاؿ؛ عندىا تقدمت منو حبماسة بادية ،وجلست إُف جواره وىي هتش عن وجهها دخاف سجائره
الكثيف كتنُت أسطوري ،وتبادال أطراؼ اغبديث:
اذبهت إُف التدخُت؛ ما األمر؟
َ -أراؾ
!! -
-كاف البد أف أنتظر حىت يغادر جيمس ،اعذرين.
-من جيمس ىذا؟
-زوجي الذي رأيتو .دعك من ىذا؛ أين كنت طواؿ ىذه السنوات أيها اجملرـ؟
-لقد استقر يب اؼبقاـ يف اػبرطوـ ،وجئت صباح اليوـ فقط.
إِف أو إُف طبري!
اشتقت ّ
َ -ال تقل ِف إنك
-ال ،ماتت أمي فجئت للعزاء.
-خرب سيء؛ ومىت ماتت؟
-ال أدري؛ ولكنها دفنت اليوـ .لقد أثقلت صدرىا باؽبموـ ولساهنا بالنميمة .انتهى األمر اآلف على أية حاؿ.
-كيف ال تعرؼ مىت توفيت أمك؟
-اتصلوا يب صباح اليوـ ،وأخربوين بأهنا توفيت ،ونسيت أف أسأؽبم مىت كاف ذلك ،ولكن البد أهنا توفيت
باألمس؛ فاألخبار السيئة ال تنتظر!
ثقيبل عن كاىلها
استمع إُف حديثها باىتماـ ،وأبدى ؽبا بعض األسى دبقدار ما جعلها تصدؽ أهنا أزاحت عبئًا ً
صبيبل؟" ،ىز رأسو مواف ًقا،
بالفضفضة إليو ،وَف هبد ما ىبتم بو حديثو؛ إال سؤاؽبا عن اسم كلبها اعبديد "بويب؛ أليس اظبًا ً
أرضا ،وأطفأ ما تبقى من السجائر حبذائو ،وانصرؼ على الفور.ووضع كأس اػبمر ً
***
متنح ،ذلك الذي دفعو إُف اعًتاض طريق سيدة كانت ربمل صينية ردبا ىي شجاعة السكراف أو جُت جراءة ٍ
على رأسها ،وىي تعرب أحد اؼبيادين اؽبادئة ،ترتدي ثوبًا لفتو على جسدىا بطريقة مهملة كانت أشد إغراءًا فبا هبب،
سبشي متهادية تراقص أردافها ،كأنثى إوز بري يف موسم التزاوج ،وكاف أكثر سعادة عندما رمت اؼبصادفة احملضة بوقية
عبد الباسط أمامو .جفلت أوؿ األمر عندما عرفت صوتو ،مث جفلت أخرى عندما اشتمت رائحة اػبمر تنبعث من فمو.
َف يكًتث لتحذيراهتا اؼبتكررة حوؿ إمكانية أف ترانبا إحدى النساء العائدات أو اؼبتوجهات إُف بيت العزاء؛
فمد يده يتلمس أردافها اؼبكتنزة ،وَف رباوؿ مقاومتو خوؼ أف تسقط األواين من على رأسها ،وردبا كانت سعيدة بذلك.
أبرما اتفاقًا سر ًيعا بأف تأتيو إُف غرفتو اؼبتطرفة ،بعد أف توصل أواين الطعاـ إُف النسوة اؼبنتظرات.
تعليما ،وَف يلتحقن باؼبدارس على اإلطبلؽ.
وقية عبد الباسط واحدة من نساء قرية العيكورة اللوايت َف يتلقُت ً
والدىا الشيخ عبد الباسط البدري ،إماـ اعبامع اليتيم ،ومأذوف األنكحة الشرعي يف القرية الذي رفض تعليم الفتيات،
حبركة فجائية مددىا إُف جواره على السرير شبو عارية ،وراح ُيبرر لسانو الرطب على أجزاء من جسدىا اؼبتحفز،
اكتشف أف اغبزف يهبو طاقة جنسية شرسة،
َ والحظ شوقها اؼبخبئ إُف جنونو ورعونتو ،وأغمضت عينيها يف استسبلـ.
وَف ينس أف يذكرىا دببلحظتو اؼبعتادة" :لو َف يكن اظبك وقية!"
***
***
البد أف وقية عبد الباسط غادرت أثناء غفوتو؛ فلم يشعر برحيلها .وجد نفسو عاري الصدر ،وَف يستطع زبمُت
الوقت بشكل قاطع .خرج من الغرفة اليت كانت كقرب متوىج بالعتمة واغبرارة .مرت نسمات باردة ،عرب فناء ضيق يفصل
***
عم سكوف َف يكن ىبًتقو إال بقايا بكاء ابن نعمات اليت راحت تبدؿ لو مبلبسو اؼببتلة بأخرى جديدة ،وما إف ّ
صباحا إُف اػبرطوـ؛ فمن منكن سوؼ تتطوع بإيقاظي؟" َف يقع غدا ً انتهت حىت تكلّم شرؼ الدين" :سوؼ أغادر ً
كبلمو موقع الرضا والقبوؿ من اعبميع؛ فراحوا يلومونو على قراره اؼبتعجل باؼبغادرة:
غدا من رفاعة
احدا فقط يف عزاء أمك؟ ماذا سيقوؿ الناس عنا؟ وماذا عن الذين سيأتوف ً يوما و ً
"كيف تقضي ً
والكاملُت واؽببللية وسوبا لتعزيتك؟ ماذا سنقوؿ ؽبم؟ أال تدعك من جنونك ىذا؟"
باال ،ويتعجب حرصهم البالغ على إرضاء اآلخرين" .ليس من واجيب أف لطاؼبا أنبل مثل ىذه األمور ،وَف يلق ؽبا ً
أىبهم اإلحساس بأداء الواجب والرضا عن أنفسهم .إف كانوا قادمُت من أجل أمي؛ فعليهم أف يتوجهوا إُف قربىا حيث
ترقد ،ويقرؤوا الفاربة على روحها ىناؾ؛ فبل شأف ِف هبم ".قذؼ صبلتو يف ىستَتيا غاضبة على وجو اعبميع ،وأقفل
اجعا إُف غرفتو حيث كاف.ر ً
يف طريقو إُف الغرفة؛ َف يتوقف عن كيل السباب واللعنات للساعة اليت قرر فيها اجمليء إُف العيكورة ،وازدادت
حدة غضبو عندما أحس بتبلشي مفعوؿ اػبمر يف رأسو .ساءه إصرارىم على جذبو كبو أوىامهم الفارغة ،واىتماماهتم
السخيفة واؼبملة ،وؿباصرهتم لو بتصوراهتم البدائية عن الناس واألشياء:
دخل الغرفة ،ومارد ما يتخلق يف صدره غيظًا وحن ًقاَ ،ف يُدر مفتاح اإلنارة وراءه ،وتوغل يف جسد الغرفة اؼبظلمة
أخَتا أماـ النافذةكدودة أسكارس عمياء تتخبط يف طريقها داخل أحشاء أحدىم .تعثر عشرات اؼبرات قبل أف يقف ً
اؼبطلة على الشارع ،أزاح ستارىا اػبفيف؛ فتسلل ضوء البدر شبو اؼبكتمل إُف وجهو الغاضب ،وراحت نسمات اؽبواء
الباردة اؼبعبأة بالرطوبة تلعب يف مبلؿبو اغبانقة ،كأنثى لعوب رباوؿ هتدئتو دوف جدوى ،حىت أنفاس الربقبي اليت دخنها
نفعا يف كظم غيظو.
بشراىة متسرعة َف ذبد ً
القرية تقبع يف ىدوء ـبيف داخل كرش الكوف اؼبظلم ،ونباح الكبلب البعيدة تتيو يف ىدوء متثاقل داخل النسق
باال.
الزئبقي للكوف ،وظبلؿ أشجار اؽبجليلج الرمادية تتقافز كاألشباح يف كل مكاف ،وسبر أماـ ناظريو دوف أف يلقي ؽبا ً
بعيدا إُف نقطة ما يف ظباء العيكورة اؼبليئة بالنجوـ واػبرافات .خطرت يف بالو عشرات الذكريات اليت ال طعم ؽبا، نظر ً
وال رائحة .بطريقة غَت مربرة مرت بذىنو صورة ألطفاؿ صغار يلعبوف ألعابًا شعبية ضبيمة .كانت أصواهتم تأتيو وكأهنا
سباما ،فابتسم هبدوء وىو يراقب ضوء القمر اػبافت اػبجوؿ ،وأخذ يُردد بصوت خافت" :يا قَ ْمَرا ..أقِْليبخلف النافذة ً
السْن َس َن اغبَ ْمَرا ُ ..ش ْوِيف لِيو َماْ َجا" شعر بأنو يشاركهم اللعب بطريقة زباطرية ،وأحس بسعادة غامرة لذلك ،مث وبعد
َّ
قليبل مث ناـ.
دقائق ،وقف على أطراؼ أصابعو ،ورفع ذراعيو بأقصى ما يستطيع ،وكأنو وباوؿ الطَتاف؛ سبطى ً
***
وعرضا ،ىاـ على وجهو كاؼبمسوس، طوال ًمنذ أف عاد البلولة من اػبرطوـ ،عاش حالة من التيو .جاب القرية ً
قطع ظهر النيل األزرؽ إُف الضفة األخرى ،مث عاد ،مث غاب مرة أخرى ،وافتقده الناس .قاؿ بعضهم أنو توجو إُف قرية
الشيخ طو ،وقاؿ بعضهم أنو ذىب إُف اغبصاحيصا ،بينما طبّن آخروف أف يكوف قد عاد إُف اػبرطوـ ،واختلفوا حوؿ
نائما يف إحدى جداوؿ حقل القصب .مشى على رمضاء العيكورة ،وقطع ميادينها وحقوؽبا أخَتاً ،
ذلك إُف أف وجدوهً ،
حىت تشققت قدماه.
بعض نساء العيكورة استخدمنو يف مشاريعهن اػباصة والسرية ،ورأوا أنو ال خوؼ منو على اإلطبلؽ ،فكاف
يدخل عليهن ببل استئذاف ،ويشهد جلسات نزع شعر اعبسم بالشمع العسلي ،واليت تتم يف جلسات صباعية ،تتناقل فيو
النساء النميمة واألخبار اؼباجنة ،وهبهز حفر الدخاف للفتيات اللوايت على وشك الزواج ،ووبضر تدريبات رقيص العروس
السرية للمساعدة يف أي شيء قد ربتاج إليو النساء أو العروس بصفة شخصية ،ينقل أغصاف القش اليابس اليت تستخدـ
يف اؼبطابخ التقليدية ،ووبلب األغناـ ،ويساعد يف تلقيحها اإلتاف باغبمَت ،وكذلك األغناـ بالتيوس .يفعل كل شيء،
وأي شيء ،طاؼبا أف رغبة اؽبروب ال تراوده.
حاولوا مساعدتو على اػبروج من وحدتو ،ذىبوا بو إُف قبة الشيخ أبو صباح يف اؽببللية ،وقرءوا عليو التعاويذ،
وصنعوا لو األحجبة والتمائم؛ فلم تفلح .مث ذىبوا بو إُف قبة الشيخ أب شرا ،وطافوا بو على شيوخ أبو حراز .عفروا رأسو
***
خربا اعتياديًا أف ينجح أحدىم ،وينتقل للدراسة اعبامعية يف اػبرطوـ ،ردبا ألف التعليم نفسو َف يكن ذا كاف ً
ومؤخرا كانت
ً شأف عظيم يف العيكورة .يتنافس أىاِف القرية على الزراعة ،وحديثها يغلب على األلسنة يف اجملالس،
أي شأف آخر ،حىت غدت غيطاف الربسيم والباذقباف مهجورة تنعق فيها الغرباف ،وتتكاثر فيها الثعابُت التجارة أىم من ّ
غَت السامة .قلة من النساء فقط من بقُت على مهنة الزراعة ،يف حُت انصرؼ ُجل الرجاؿ إُف التجارة والربح السريع.
يتكلم أىاِف العيكورة بكثَت من الفخر والغَتة عن ـبتار عوض اعبِيد ،وما جناه من أرباح طائلة من بيع الفوؿ
والسعوط ،وتوسعو يف التجارة ،واحملاؿ التجارية اليت يبلكها يف اػبرطوـ ،وكيف أنو مد يده ألبناء عمومتو ،ونقلهم معو إُف
ىناؾ ،بينما تعًتيهم الشفقة كلما جاء ذكر حسن البلولة ،وما جرى لو .حاوؿ اعبميع أف يعرفوا شيئًا عن دراستو،
ولكنهم أخفقوا؛ رغم أنو كرر ؽبم ذلك أكثر من مرة ،واقتنعوا يف هناية األمر أهنا دراسة ليست ذات جدوى:
-ماذا تعٍت كلية الفنوف اعبميلة يا البلولة؟
تدرس الفن التشكيلي. -إهنا كلية ّ
تتخرج؟
-يعٍت؛ ماذا ستكوف يف النهاية بعدما ّ
أوال ،مث أحدد ما هبب أف َ -ف أحدد بعد ،ردبا أكوف فنانًا تشكيليًا أو كباتًا ،هبب أف أصقل موىبيت بالدراسة ً
أكوف عليو.
-كباتًا؟ ىل ىذا وبتاج إُف دراسة؟ ود ضيف اهلل النقاش َف يُكمل تعليمو االبتدائي ،ورغم ذلك فهو أشهر
نقاش يف اؼبنطقة!
كانوا مقتنعُت بأف التعليم قد أفسد عقلو ،وازدادت قناعتهم تلك عندما عاد إليهم كاؼبعتوه ،يهيم على وجهو يف
عصى من اػبيزراف .قالوا" :ىا قد أصبح فنانًا تشكيليًا كما أراد!"
ميادين القرية ،وحقوؽبا اؼبهجورة ،هبر وراءه ً
كاف على وشك أف يدس كرة السعوط داخل فمو ،عندما ظبع جلبة قادمة كبوه ،فعرؼ أف مظاىرًة ما تتخلّق
داخل اعبامعة .انتقل من مكانو ذلك إُف ركن قصي ،وتناوؿ الكرة وقذفها يف فمو ،وراح يعاعبها بلسانو حىت استقرت
أخَتا يف مكاف ما من لثتو الداخليةَ .ف تكد النشوة تبلغ مداىا حىت تصاعدت اعبلبة مرة أخرى ،أعلى من ذي قبل .مث ً
***
يف مكاف آخر؛ بدأت سيارات الشرطة احململة باؼبعتقلُت تتوافد خلف بعضها أماـ مبٌت أخفت أغصاف اعبميز
كبل
اؼبتشابكة الكثَت من معاؼبو .فتحت أبواب السيارات اؼبكشوفة ،وأجرب من فيها على النزوؿ إما ضربًا بالعصي أو ر ً
باألقداـ ،وسيقوا إُف داخل اؼببٌت مطأطئي الرؤوس ،وأخذ اعبندي الذي يقف على البوابة ىبتم ظهر كل داخل منهم
بضربة من سوطو الذي من جلد البقر.
احتشدوا يف فناء اؼببٌت اؼبغطى باغبشائش القصَتة ،والعشب الرطب ،وَف يُسمح ؽبم باعبلوس .سور اؼببٌت عاؿ
ومنتو بفوانيس إضاءة من تلك اليت خلفها االستعمار الربيطاين وراءه ،وتناثرت القطط على السور ،وكأهنا جنود مرابطة
ربرس اؼبكاف .كانت بعض القطط تنظر إُف ما هبري بفضوؿ مشاغب ،فيما انشغل بعضها اآلخر بتنظيف نفسها،
وكأهنا معتادة على ذلك ،بل وتعلم ما سيجري الح ًقا.
حامبل حزامو العسكري الغليظ ،وبدأ يضرب الطبلب ويُكرر: بصورة مفاجئة خرج أحد اعبنود من داخل اؼببٌت ً
أرضا" حىت أولئك الذين استفادوا فبا جرى ؼبن سبقهم ،وسارعوا باعبلوسَ ،ف يسلموا من حزامو اجملنوف .وقف أرضا ً ..
" ً
غَت بعيد ،وىو يبرر بصره اغباد على اعبميع ،مث زفر زفرة حانقة ،وعاد إُف داخل اؼببٌت.
أوال أعرفكم بنفسي :أنا عدو الفوضى والشغب األوؿ ،ال أكره شيئًا يف حيايت كلها كما أكره الفوضى
"دعوين ً
واؽبرجلة .كانت أمي ترضعٍت حليبها يف مواعيد منتظمة وؿبددة ،ومنذ ذلك الوقت وأنا أحب النظاـ واالنضباط.
بالتأكيد تعلموف ؼباذا أنتم ىنا ،أنتم ىنا ألنكم فوضويوف ومثَتوف للشغب ،ويف ىذا اؼبكاف سوؼ تتعلموف كيف
ربًتموف النظاـ ورببونو ،ولن زبرجوا من ىنا قبل أف وبدث ذلك ،كونوا على ثقة".
***
قاده معو إُف داخل اؼببٌت ،فيما أمر اعبنود باقتياد البقية إُف مكاف آخر ،ظبّاه "لوكاندة" .يف إحدى اؼبكاتب كاف
شبة رجاؿ عراة الصدر يقفوف دوف حراؾ ،وأجسامهم العضلية توحي بالغضب والشراسة .جلس على كرسيو خلف
اؼبكتب ،وأشار إُف البلولة باعبلوس قبالتو؛ ففعل.
-ما اظبك؟
... -حسن البلولة
تكور السعوط إذف يا البلولة؟ قلت إنك كنت ّ َ -
كنت أفعلو عندما اندلعت اؼبظاىرة. -أجل سيدي ،ىذا كل ما ُ
-أال تعلم أف السعوط مضر بالصحة؟ وعندما تنتهي منو أين تبصقو؟ على األرض؟
-أنا ...
فاجأتو صفعة قوية على قفاه ،كانت كأهنا صفعة من إلو غاضب أو كائن ماورائي ُمهتاج .وجد نفسو يهوي على
اؼبكتب الذي أمامو ،مث يرتد يف حركة ميكانيكية سريعة؛ ليجد اليد اػبرافية بانتظاره مرة أخرى .حاوؿ أف ينظر وراءه
ليعرؼ مصدر الصفعات ،لكنو َف يستطع .مث توقف الصفع فجأة كما بدأ.
ربرض الطبلب يف أحد أركاف النقاش على اػبروج يف اؼبظاىرة.أنت ّ
-رجاِف يقولوف إهنم أمسكوا بك و َ
لست طػ...
-أنا؟ أنا ُ
اصبل،
مزعجا ومتو ً
عاودت اليد اؼباورائية صفعو ،وىذه اؼبرة كانت الصفعة تغطي جزءًا من أذنو ،حىت ظبع طنينًا ً
وضوحا
ً أفقده السمع لربىة .كاف صوت الرجل اؼبهندـ من وراء اؼبكتب يأتيو من مكاف سحيق ،مث أخذ الصوت يزداد
شيئًا فشيئًا.
أنت شيوعي يا البلولة؟ -ىل َ
أبدا
-شيوعي؟ ً
مثلي؟
فأنت ّ -إذف َ
-ماذا؟
-اعًتؼ ..أيهما أنت؟
لست مثليًا سيدي.
ُ -
-إذف فأنت شيوعي!
ولست شيوعيًا كذلك.ُ -
كنت ىذا أـ ذاؾ.
قليبل من التعاوف .ال بأس سنعرؼ حاليًا ما إذا َ
-لؤلسف ..ال تريد أف تبدي ولو ً
أشار بعينيو إُف اؼبخلوقات اؼباورائية اليت كانت تقف خلفو مباشرة؛ فأمسكت بعضها بتبلبيبو ،وبعضها أمسكتو
من عضوه الذكري .رفعتو عاليًا ،مث قذفت بو إُف ركن ما من الغرفة اػباوية من األثاث .أخذ الرجاؿ يف خلع مبلبسهم،
فجحظت عيناه يف خوؼ .هنض وحاوؿ اؽبرب ،ولكنهم أمسكوا بو كجراد يائس أوقعو حظو العاثر بُت أرجل األرملة
السوداء.
***
األرض ،اليت سبيل إُف اغبُمرة ،أسفرت عن بعض النباتات الشوكية اؼبتفرقة كثآليل فَتوسية مقززة .بدت أرض
العيكورة كظهر زاحف أسطوري مليء باغبراشف اؼبدببة ،يناـ يف ىدوء على ضفاؼ حبَتة بركانية .تتقاتل صغار العقارب
***
***
قليبل قبل أف يستدرؾ" :حىت بعض األنبياء َف يفلحوا يف ذلك!" كانت عينا البلولة جاحظتُت ،فلم
سكت ًَ
يستطع شرؼ الدين أف يفهم ما إذا كاف ذلك وضعهما الطبيعي أـ بسبب ما قالو للتو ،وبطريقة توحي باتصاؿ
***
نظرت إليو يف حنق ،واهنالت عليو ضربًا ،مث انفجرت بالضحك ،ورغم أنو َف يفهم سر ما حدث ،إال أنو أعجبتو
الطريقة اغبميمة اليت انتهى هبا اغبوار .يف أثناء ذلك ظبعا أحدىم وباوؿ فتح الباب من اػبارج ،فنهضا فزعُت على الفور،
وطلبت منو تسلق السور اػبلفي للمنزؿ واؽبرب ،ففعل.
***
يف بيت أكيج دينق ،كاف زوجها العمبلؽ هبلس يف مكانو اؼبعتاد .مبلمح وجهو جامدة ،ال توحي بشيء على
اإلطبلؽ ،والوشم اإلبري الذي على جبينو يلمع على ضوء البدر غَت اؼبكتمل ،كأساور من معدف قامت .كاف يبصق من
فمو لعابًا غز ًيرا وداكنًا بُت اغبُت واآلخر ،والكلب الكسوؿ اؼبتشائم يناـ إُف جوار برميل صدئ ،دوف أف يزعجو الذباب
الذي وبوـ حوؿ أنفو .النيل رزقة ،ذو الصوت اؼببحوح ،يناكف أكيج حبذر ىذه اؼبرة ،ويهذي بلغة فرنسية متقنة:
" Quel rapport y a-t-il entre le vin et les femmes? Pourquoi jamais rien d'autre ne nous vient à l'esprit,
"chaque fois que l'on boit.فًتد عليو أكيج حبزـ إداري قاطع" :يا النيل أليك اهلل رطانة بتاء خواجات دي أكبنا ما
كررا ورتيبًا ،حىت أنو كاف بإمكانو أف يتكهن دبا سيكوف قبل أف
صداء ساي" كل شيء كاف ُم ً بنفهم ،ما تئمل لينا ُ
يكوف.
أحدا يف الشراب ،ورأى أف اػبمر مادة تغسل الروح ،وهتبها
منذ زمن طويل قرر شرؼ الدين أال ُهبالس ً
الصفاء ،وأف روح اعبماعية واؼبشاركة غَت متسقة مع ىذه العملية ،وأسقط األمر ذاتو على شؤوف كثَتة قرر فعلها دبفرده
***
***
اليوـ كل شيء ىادئ؛ حىت اغبزف يف وجوه اؼبعزين بدأ يأخذ شكلو اغبيادي ،ليتساوى مع الوجوه اليت يألفها،
ووبب التعامل معها ،فقط النهنهات اليت كانت تطلقها بعض النسوة يف اعبانب اآلخر كاف ينغص عليو من حُت آلخر.
دائما فقد بدأ ودالنعيم بالتسلسل حىت جلس إُف جواره ،وبنربة َف زبل من مكر نبس يف أذنو" :ىذا ىو اليوـ وكعادتو ً
وغدا نريد أف قبلس سويًا حىت ننهي أمر الًتكة ،لينصرؼ كل منا إُف عملو وشؤونو". األخَتً ،
فعبل ،فهي َف تكن سبلك شيئًا ذا
تساءؿ شرؼ الدين ،يف سره ،عما إذا كانت أمو قد خلّفت وراءىا تركة ً
قيمة ،وراح يفكر يف شأف الًتكة ،وما ستكوف ،وما إذا كاف اغبديث عنها اآلف أخبلقيًا أـ ال .فكر إنو ليس من اإلنسانية
أسر يف نفسو" :هبب دفن ما يًتكو اؼبوتى معهم ،كماآخرا ،وقرر أف ذلك أمر ال ينم عن وفاء ،و ّأف يرث إنساف إنسانًا ً
كاف يفعل الفراعنة من قبل".
بدا العزاء أشبو باجتماع قروي اعتيادي .توزع الناس يف ؾبموعات ،وراحت كل ؾبموعة تتبادؿ األحاديث
الضاحكة ،واؼبوضوعات الدنيوية األكثر جدية وأنبية من اؼبوت ،وبدا أف الناس قد نسوا أمر وفاة اغباجة ست النفر،
وواجب البكاء واغبزف عليها ،واستغلوا ىذه اؼبناسبة اليت صبعتهم من أماكن متفرقة يف تبادؿ األخبار العامة واػباصة .كل
شيء كاف يوحي باالعتيادية؛ باستثناء قراءة الفاربة بُت اغبُت واآلخر ،عندما يدخل أحد اؼبعزين اعبدد ،عندىا يتلبس
اعبو اعبنائزي اؼبكاف لبعض الوقت ،مث يعود األمر كما كاف.
بطريقتو الوثائقية اػباصة ،التفت ودالنعيم إُف شرؼ ،وأخرج من جيب جلبابو ورقة صفراء صغَتة ،وىو يقوؿ:
" نسيت أف أخربؾ أف موعد زيارة عواطف للطبيب ستكوف بعد غد ،سوؼ أذىب معكما ،وستكوف فرصة جيدة إلهناء
51 النسخة اإللكترونية | هشام آدم
اإلجراءات القانونية بشأنك ىناؾ ".نظر إليو شرؼ بدىشة ،وىو يتساءؿ عن سر إصراره على إبقائو على اطبلع،
فابتسم ودالنعيم مستدرًكا" :أعٍت فيما ىبص الًتكة!" َف يفهم شرؼ الدين مغزى كبلمو ،كما أنو َف يشعر حياؿ ابتسامتو
تلك بالراحة ،إال أنو اكتفى هبز رأسو مواف ًقا ،وأهنى األمر.
أحس شرؼ الدين أف األمر مت الًتتيب لو مسب ًقا ،ولكنو َف يعرؼ مب هبيب ،فظل صامتًا لبعض الوقت ،ولسبب
وحيدا يف مكاف ال هناية لو ،وطيف ما ،ىزيل وباىت ،يقف عند أطراؼ ال يعلمو أحس خبوؼ شديد .شعر بأنو يقف ً
اؼبدى البصري .قاطعت نعمات صمتو اؼبتوجس" :كلنا نرغب بالذىاب إُف اػبرطوـ ،لقد أخربت زوجي الشفيع باألمر،
أيضا ،وىكذا سيكوف بإمكاننا طبعا ،وعواطف وعبد اؼبنعم متفانباف حوؿ ذلك ً وأبدى موافقتو ،ولن يبخل علينا باؼباؿ ً
صبيعا أف نظل إُف جوارؾ!"
ً
شعر شرؼ الدين دببادئ صداع يداىم مقدمة رأسوَ ،ف يستطع فهم ما هبري وما يقاؿ ،كاف األمر وكأهنم
خططوا لكل شيء ،وانتظروا فقط أف سبوت أمو لينفذوا ما خططوا لو ،ولكنو َف يستبعد أف يكونوا قد خططوا لقتلها ىي
كذلك .مرر بصره على اؼبوجودين ،وسبعن يف نظراهتم اؼبخيفة واعبشعة ،حىت األطفاؿ بدوا ،لو ،متواطئُت مع ما هبري.
ىو وحده فقط من تفاجأ باألمر على ما يبدو.
هنض شرؼ الدين بكل ىدوء ،وخرج من الصالة العمومية ،دوف أف ينطق حبرؼ واحد .كانت أصوات القطط يف
موسم التزاوج تعرب أذنيو ،وتغرؽ يف بركة الصمبلخ داخلهما دوف أف تستقر يف دماغو ،وأضواء البدر اؼبكتمل كأهنا
عابرا كل ما يبر حولو يف المباالة ،دخل غرفتو
كشافات منطقة عسكرية تتبعو حيثما توجو .اخًتؽ ىدوء األزقة الطينية ً
دوف أف ينَت اإلضاءة ،وأغلق الباب وراءه ،مث توغل يف ظبلـ الغرفة اليت كانت تبتلعو ككرش حوت ضخم.
ألقى بنفسو على السرير ،وظل ينظر إُف السقف الذي َف يكن يره .شعر بأف العاَف يدور بو يف فلك ثقيل
ورتيبَ .ف يفهم سر اغبالة اليت اعًتتو ،كانت األفكار تنهش دماغو كضباع أفريقية شرسة ،وأصوات غريبة ودافئة تدؽ
أخَتا وراء شحمة أذنو.
طبلة أذنو ببل ىوادة ،وفجأة أحس بدمعة وحيدة تتسلل من عينيو ،لتسيل على خده ،وتستقر ً
دمعة وحيدة ،ولكنها كانت ساخنة إُف اغبد الذي جعلو يغمض عينيو بقوة.
***
قليبل أو ردبا َف يغف شيئًا ،ولكنو أفاؽ على إثر خربشات يف خشب النافذة ،وصوت يأتيو من ورائها ردبا غفا ً
متجها إُف النافذة وفتحها؛ فإذا حبسن البلولة واق ًفا ،ويف وجهو
كنعيق البوـ .تشبث دبا بقي لديو من وعي يانع ،وهنض ً
قليبل ،نظر إليو شرؼ بعمق ،وقاؿ، عبلمات بؤس بادية ،أشار إليو بالسبابة والوسطى ،حبركة تعٍت أنو يريد أف يسَتا ً
وكأنو وبدث نفسو" :لقد جئت يف وقتك!"
***
***
السقد كانت توحي لو َف يعرؼ كم أمضى من الوقت وىو نائم على قرب أمو ،ولكن أصوات اعبنادب وطيور ُ
بأف العاَف اختفى يف بطن منتصف الليل .أخرج كفو من القرب .كانت تعبق برائحة القونقليز ،وَف يشأ أف ينفض عنها
الًتبة الباردة اليت علقت هبا .تذكر أف حسن البلولة ينتظره يف حقوؿ القصب ،فنهض حبركة أسرع ،وألقى نظرة أخَتة
قليبل".
على أمو يف قربىا ،وقاؿ" :أرجوؾ ال تغضيب مٍت ،فقط أحببت أف أثرثر معك ً
غادر اؼبقربة ،وىو ىبشى أف تبلحقو لعنات أمو أينما حل .الزمو اػبوؼ كمبلزمة ودالنعيم لو ،وتناثرت أمامو
يوما ،يبحث فيها عن سبب هبعلو غَت مقتنع دبا فعل ،فلم هبد .تأرجح بُت خوفو ورضاه عن يوما ً
سنوات عمره وبسبها ً
كثَتا أف تتفهم لو دوافعو ،فلطاؼبا كانت كذلك.
نفسو ،وبُت ؿببة أمو اليت كاف يعشم ً
نظر إُف بيوت العيكورة ،وزرائبها ،وأشجارىا وىي تغرؽ يف سراب العتمة ،وأصوات اعبنادب تطغى على
حفيف األشجار ونباح الكبلب .رآىا كقرى اعباف اليت تظهر فجأة مث زبتفي ثانية ،كأهنا تراىن على قوانا العقلية .صدره
مثقل باؽبواء الساخن والسعاؿ اعباؼ ،وقلبو كطبوؿ قبائل بدائية يدؽ بقوة متسارعة.
رأى أال شيء مهم يف ىذا الكوف ،وأف تارىبو ال وبمل أشياء كثَتة زبصو .كانت األرض ربت قدميو ،كجثة
فقمة مهولة ،خشنة وطرية يف ذات الوقت ،ونباتات العشر غَت اؼبشذبة كشوارب كائنات عدمية تعيش يف عصور ما قبل
اكتشاؼ اؼبرآة .كل شيء حولو يوحي بالكآبة والوحشة .نظر إُف الظبلـ بعينُت مذىولتُت ،وكأنو يريد أف يتعرؼ عليو.
"السواد لوف العدـ .ىو البللوف! الوجود واغبركة نبا من أوجدا اللوف ،والشك أف الضوء كاف أوؿ من فض بكارة
العدمية ،ولكن ماذا كاف لوف الضوء األوؿ يف ىذا العاَف؟ الضوء يعٍت الزمن يف إحداثيات ىذا الفراغ الكوين،
وكبن نقاط ونبية على إحداثية الكوف .ؿباولة تغيَت األقدار كمنازلة الذباب! كل شيء ُـبطط لو مسب ًقا ،ولكن
كيف؟"
كاف حقل القصب يف ذلك الظبلـ يبدو لو كقيامة سوداء ،ترقص على حوافها شياطُت ذوات أجنحة مشرشة ال
زبفق .أدىشتو قدرتو على ربديد مدخلو يف كل مرة يلج فيها اغبقل دوف بوصلة ،وأدرؾ أال أحد من عائلة بابو يعرؼ
مرت غبظات قليلة من الصمت كانت بعض السحب اػبفيفة ،خبلؽبا ،تشاغب البدر اؼبكتمل ،وربجب ضوءه
عن اؼبكاف؛ فيعم الظبلـ .تبادال النظرات يف تلك العتمة ،وَف ينطقا بكلمة واحدةَ .ف ترتسم أية مبلمح أو تعابَت على
وجهيهما ،كانا فقط ينظراف إُف بعضيهما يف صمت ،وكأف أحدنبا ينتظر من اآلخر أف يقوؿ شيئًا ،أدرؾ شرؼ الدين
كثَتا مع أمي ،ولكن ال بأس؛ فالثرثرة معك شيء
ذلك؛ فابتسم" :أعلم أنو أنا من يتوجب عليو الكبلـ .لقد ثرثرت ً
***
راح شرؼ يتنقل بسرعة من لوحة إُف أخرى ،دوف أف يسمح ؽبا أف تكمل شرح قراءهتا لكل لوحة ،وعندما نبهتو
فورا" :لن أُعَتؾ عيٍت لتقرئي هبما؛ آنسيت!" فعرفت أنو ال يرحب بصحبتها،
إُف ذلك بشيء من التهذيب ،رد عليها ً
فانسحبت يف ىدوء راظبة ذات االبتسامة األكاديبية اعبادة ،بينما احتفظت لنفسها دبزيج غريب من اغبنق والفضوؿ ذباه
ىذا الزائر غريب األطوار.
كاف إعجاب شرؼ الدين باجملسم اعببسي باديًا للغاية ،لدرجة أنو َف يلتفت إُف اجملسمات واؼبنحوتات اؼبعروضة
األخرى .وقف قبالة وجو "اؼبتوتر" وأخذ يعيد قراءة التعابَت مرة أخرى ،وكأنو وباوؿ استنطاقو .رأى أف كل االحتماالت
ورادة ،وبشكل كبَت .عينا "اؼبتوتر" مغمضتُت يف أَف ،وشفتاه شبو اؼبطبقتُت ،توحياف ببقايا صرخة أو بكاء أزِف ؿبموـ،
وعندما ركز أكثر؛ استطاع أف يرى أسنانو من الداخل ،فنهض واق ًفا ،وبدأ يصفق يف إعجاب شديد" :إنو شخص ؾبنوف
بالفعل!"
-أال ننتقل إُف منحوتة أخرى سيدي؟
-أخشى أف أصاب باإلحباط.
-وؼباذا؟
اؼبعرب الوحيد يف ىذا اؼبكاف.
-ال أريد أف أكتشف أف "اؼبتوتر" ىو الشيء العقبلين ّ
للحظة عابرة خطر يف ذىنو أف مبلمح اؼبتوتر أكثر إتقانًا من مبلمح القيّمة على اؼبعرض اليت ال توحي بشيء
مثَت للدىشة على اإلطبلؽ ،ولكنو تبسم يف وجهها بنصف جدية ،وىو يقرر االنصراؼ إُف بقية اجملسمات األخرى،
وكانت سعيدة لقبولو مرافقتو من جديد يف جولتو القادمة.
***
ظلت تستمع إليو باىتماـ بالغ ،دوف أف ترد على تساؤالتو اليت الحظت أهنا َف تكن تساؤالت حباجة إُف إجابة،
بقدر ما كانت تساؤالت تفتح آفاقًا واسعة للبحث والتأمل ،غَت أهنا طبّنت أف يكوف منتميًا للمدرسة الواقعية ،وَف تأبو
تدوف مبلحظاتو وأفكاره باختزاؿ كثَتا ؽبذا التخمُت .اكتفت ،يف كل ذلك ،هبز رأسها عبلمة على اؼبتابعة ،وراحت ًّ
شديد.
الحظ شرؼ الدين فجأة ،وىو وباوؿ مناداهتا ،أنو ال يعرؼ اظبها؛ فابتسمت يف ذات اؽبدوء الذي َف يفارقها
للحظة:
-سوسن عباس ،وأنت؟
-شرؼ الدين بابو.
-أنا خرهبة فنوف صبيلة ،ولدي أعماِف اػباصة.
-أنا موظف يف قسم خدمة العمبلء يف البنك الزراعي.
-موظف بنك؟
-الدىشة سؤاؿ علٍت أـ إجابة ُمبطنة؟
َ -ف أعرؼ أف موظفي البنوؾ لديهم اىتمامات فنية!
ظل يُدىشها بإجاباتو الغريبة ،ولكنها أحبت تلك الغرابة ،وعشقت تلك الدىشة اليت يبنحها إياىا .النساء
كائنات ُملغزة وغامضة ،أو ىكذا يرددنا أف نراىن؛ لذا يأسرىن الرجاؿ غريبو األطوار والغامضوف .تلك واحدة من أسرار
كثَتا ،وغالبًا ما يكتفي برسم ابتسامة حذرة أو وقورة ،وعندما سألتو عن ذلك ،رد الطبيعة .الحظت أنو ال يضحك ً
يدؾ أف تبدي كفتاة ُمضحكة ،وال أريد أف أبدو كرجل ضاحك!" بصعوبة بالغة استطاعت ذباوز تلك بربود وثقة" :ال أر ِ
العقبة ،والعبور بالنقاش إُف آفاؽ أوسع ،فتكلما حوؿ كل شيء تقريبًا ،وكانت بالكاد تتفوه جبملة مكتملة:
-كبن ،السودانيوف ،من أكثر الشعوب احتفاءً باعبنس؛ السيما النساء
-ردبا جانبك الصوب يف ذلك .اؼبرأة غَت مصرح ؽبا باإلفصاح عن رغباهتا ومشاعرىا ،السيما اعبنسية .إنو قهر
اجملتمع الذكوري ،أليس كذلك؟
-تلك ىي اغبجة األزلية .كل ما تفعلو النساء حبضرة الرجاؿ يفضي إُف اعبنس ،حىت ولو َف تكن تشعر
بذلك.
-كيف؟
اضحا باعبنس؟
-خذي ظاىرة "الدخاف" على سبيل اؼبثاؿ ،أال تعتربينو احتفاءً و ً
-وؼباذا تعتربه كذلك ،إف دخاف خشب الطلح والشاؼ ؽبما فوائد كثَتة للنساء غَت ما ترمي إليو ،فهما يبنحاف
كمعقم جيداعبسد نعومة ترغب فيها النساء حىت بدواعي االىتماـ الشخصي ،كما أهنما يستخدماف ُ
للمهبل من آثار السوائل اليت قد تؤدي إُف كثَت من األمراض ،أضف إُف ذلك فإنو يستخدـ حملاربة الصداع.
-إذا كانت تلك فوائده ،فلماذا ال تستخدمينو؟
-ببساطة ،ألنٍت لست متزوجػ!....
أيت! عقلي الباطٍت يربط الدخاف بالزواج ،وال شيء ـبتلف يف حياة اؼبتزوجة عن غَتىا إال اعبنس .أال -أر ِ
ترغب غَت اؼبتزوجات يف ذبنب الصداع؟ أال يرغنب يف بشرة نضرة وناعمة؟ أال يرغنب يف تطهَت أعضائهن
التناسلية ألنفسهن؟ وماذا عن رقيص العروس؟
كنت على حق .أال تبلحظ أف اعبو صبيل ىذا النهار؟ -ردبا َ
سباما ،وأشجار اعبميز العمبلقة ترمي بثمارىا غَت الناضجة وظبلؽبا األسطورية على
كاف اعبو ىادئًا كمبلؿبها ً
اعبالسُت يف الكافتَتيا ،وطيور السماف واغبماـ الربي تنتقل بُت األغصاف يف رشاقة ملفتة لؤلنظار ،وأصوات العربات يف
يف ذلك الوقت ،كانت سوسن رباوؿ التهرب من مناقشاتو احملرجة ،وبدأت تعرض عليو بعض لوحاهتا اليت رظبتها
بقلم الرصاص على دفًت الرسم ،وأخذا يتناقشاف حوؽبا ،وحوؿ اإلمكانيات البلؿبدودة للرسم بالرصاص ،واللمسات
التعبَتية اليت يبنحها للوحة.
نصحها بالتوقف عن الرسم على الورؽ اؼبلوف ،وضرورة االعتماد على األوراؽ البيضاء ،واستخداـ الورؽ اػبشن
بدال عن الورؽ األملس الذي ببل تعابَت ،ونصحها بأف تركز أكثر على دراسة نِسب األشياء ،واالىتماـ هبا ،واستخداـ ً
عوضا عن اؼبنديل الذي يسلب رسوماهتا طابع الصدؽ والتأثَت. أصابعها لشطف الربوز والنتوءات اػبارجيةً ،
قليبل لفًتة كانت كافية ألف يشعر باؼبلل ،فاستأذف منها معلنًا أنو قرر مغادرة
عندما انتهيا من الكبلـ ،صمتا ً
اعبامعة .حاولت أف ربصل منو على وعد بتكرار الزيارة؛ إال أنو َف يفعل ،وأشهر صبلتو احملبطة يف وجههاَ" :ف أكن أتوقع
أف تكوف كلية الفنوف اعبميلة فبلة إُف ىذه الدرجة".
***
أفاؽ بوكزة أخرى من كوع حسن البلولة الذي أشار إُف السماء ،فبلحظ أهنا امتؤلت بغيوـ داكنة ،وبدأت ترسل
زخات خفيفة ومشاغبة من اؼبطر ،فابتسم وىو يقوؿ" :البد أهنا خدعة إؽبية ما ،فهذا ليس أواف اؼبطر ".ضحكا لبعض
الوقت ،وراحا يراقباف تأثَت تلك الزخات اؼبتساقطة على سطح اعبدوؿ الساكن .التفت شرؼ إُف البلولة وكأنو تذكر
شيئًا:
فبتعا
أمرا ً
كنت أجلس يف شرفة الشقة ،أتابع ىطوؿ اؼبطر باىتماـ .كاف ذلك ً "يف إحدى لياِف اػبرطوـ اؼباطرةُ ،
للغاية .أتعس األمطار تلك اليت َف هتطل على شوارع اػبرطوـ يا البلولة .لقد فوتت على نفسها فرصة عظيمة!
ليس أصبل من أف تشهد مولد التقاء األرض بالسماء يف عرس طيٍت مهيب .تلك كانت بداية اغبياة كما يُقاؿ،
ولكن لؤلمطار يف اػبرطوـ رائحة شديدة اػبصوصية ،فهي ربمل يف جرياهنا روائح السكة اغبديدية ،وجواليص
األحياء اؼبتطرفة ،والزرائب ،والفنادؽ الفاخرة ،واؼبزارع اؼبهجورة ،وطمي النيل ،واغبانات ،وبيوت الدعارة ،وحىت
التاريخ يا البلولة! تشتم كل ذلك يف وقت واحد ،ويف ليلة واحدة.
يف سنة من السنوات؛ ىطل اؼبطر .كاف جاري الذي يقطن يف العمارة اؼبقابلة وبمي حبيبتو من زخات اؼبطر
كثَتا .يف السنة التالية كانا وبمياف طفليهما بذات السًتة ،ويركضاف .عندىا
بسًتتو ،ويركضاف يف مشهد ال يتكرر ً
فعبل".
أحسست بشيء غريب ً
كاف البلولة يرسم ابتسامتو البكماء الوادعة ،وىو ينظر إليو بعينيو اؼبذىولتُت ،وراح يبسح على ركبتيو ،وكأنو وباوؿ
أف يواسيو ،أو يشاركو شيئًا من دؼء تلك اللحظات اليت طرأت يف خاطره ،مث وضع قبضتيو ربت إبطيو وحرؾ ساعديو،
يوما كالعصافَت الطليقة".
فتنهد شرؼ وىو يهز رأسو" :أجل! البد أف كبلق ً
تنهد مرة أخرى عندما دانبتو الواقعية بوطأهتا الثقيلة ،فتذكر اتفاؽ أخوتو على بيع منزؿ العائلة ،واالنتقاؿ للعيش
يف اػبرطوـ واالستقرار هبا ،وتلك النربة النفعية اليت استشفها من كبلمهن ،ونربات ودالنعيم اليت بدت أكثر استغبللية
وجشعا .فربت على ركبة البلولة:
ً
ابتسم البلولة يف امتناف ،وماؿ جبسده إُف الناحية الشمالية ،وأمسك بعصا اػبيزراف ،ووضعها بُت ساقيو ،وناـ.
نظر إليو شرؼ الدين ،وكاف قد أفرغ ضبولتو من اغبزف اليومي بعد كل الذي قالو ،وماؿ جبسده إُف الناحية األخرى،
ووضع كفيو بُت فخذيو ،وناـ.
***
نائما ،وبُت
َف يكن يعوزىم سوى القليل من اعبهد إلهباده بُت سيقاف القصب اؼبتشابكة ،وعندما عثروا عليو ً
فخذيو عصا اػبيزراف ،مصمصت عواطف شفتيها يف إشفاؽ ،وىي تقوؿ" :ىا قد عاد مرة أخرى لعصا اػبيزراف!"
استيقظ شرؼ الدين على صوت ودالنعيم الغليظ وىو يوقظو" :قم يا شرؼ .لو أعلم فقط اؼبتعة اليت ذبدىا يف النوـ يف
حقل القصب!"
رفع شرؼ رأسو بتثاقل ،وبقايا النوـ ما تزاؿ تتشبث بأجفانو بقوةَ .ف يستطع أف يرى مبلمح الواقفُت فوؽ رأسو
بوضوح ،كانت أشعة الشمس ربوؿ دوف ذلك ،فبدوا لو وكأهنم كائنات طيفية ببل مبلمح على اإلطبلؽ ،وما إف رأى
ذىلت عينا شرؼ وىو يسمع كبلـ نعمات .ظل ينظر إليها لفًتة من الوقت ،ولكنو قاطع تلك النظرات بأف رفع
منحوتة الطائر الطينية بيده ،وأشهرىا يف وجهها:
-انظري ،إنو َمن صنع ىذه اؼبنحوتة الطينية .إنو فناف عبقري!
راح اعبميع يتبادلوف النظرات فيما بينهما؛ فيما تقدمت عواطف ،وجثت على ركبتيها أمامو ،وىي سبسح على
شعره اؽبجيٍت األملس:
كنت شغوفًا بصناعة اؼبنحوتات الطينية منذ صغرؾ.
-شرؼ حبييب ،لقد َ
-ولكن ىذه اؼبنحوتة صنعها حسن البلولة بيده ،ووضعها إُف جانبو قبل أف يناـ.
َف يستطع شرؼ أف يصدؽ ما يسمعو .تلك النظرات اعبشعة اليت رآىا يف أعُت أخوتو ،ازدادت شراسة .لقد
قتلوا أمو ألهنم يعرفوف مدى تعلقو هبا ،وىاىم اآلف وباولوف إيهامو بأنو ؾبنوف ليستولوا على الًتكة .ردد بصوت ظبعو
مستندا على كفيو مث هنض ،وىو يرمقهم
ً البعض ،وَف يسمعو اآلخروف" :ىل يفعل اؼباؿ كل ىذا؟" تراجع إُف اػبلف
بنظرات حانقة وؿبتقرة ،وكاف على وشك اؽبرب؛ لوال أف أمسك بو ودالنعيم وضبلو عنوة ،وىو يصرخ" :دعوين .دعوين
أيها القتلة!" حىت اضطر ودالنعيم إُف لكمو لكمة أفقدتو وعيو.
***
صورت لو نفسو أنو كاف حباجة إُف مثل ىذه اغبيلة لكي وبسم مسألة وجود اهلل من عدمو بشكل جذري، ّ
اكتشف ذلك للمرة األوُف .األمر اآلخر الذي أحس بو كاف خوفو من اؼبوت الذي اكتشفو للمرة األوُف كذلك:
َ و
" ترى؛ كيف سيكوف اؼبوت؟ وكيف ستكوف رائحتو؛ ىل كرائحة القطن اؼببلوؿ ،أـ كرائحة القونقليز ،أـ سيكوف
ؼبويت رائحة أخرى؟"
***
وصل إظباعيل جقاجق (طبيب القرية اجملاورة) ،وىو نفسو من يلجأ إليو أىاِف العيكورة لعبلج مواشيهم
وهبائمهم يف فصل اػبريف ،ومواسم التزاوج .رجل أصلع إال من بعض الشعر اؼبتفرؽ يف مؤخرة رأسو ،يرتدي بالطو
األطباء األبيض فوؽ جلباب من نوع "على اهلل" ،وبدت عليو عبلمات االستياء واالمشئزاز .كانت برفقتو سيدة دميمة،
ؾبعد وقصَت كألياؼ جوز اؽبند ،وؽبا ذات مبلمح االستياء واألنفة .بدا
غَت متناسقة اعبسم ،تقاربو يف الطوؿ ،ذات شعر ّ
االثناف وكأهنما سيقدماف فقرة هبلوانية مضحكة ،أو ىكذا زبيل شرؼ ،وىو يراقب ربركاهتما يف ىدوء ساخر.
َف يطالب بإخبلء الغرفة ،كما ىي عادة األطباء ،وإمبا باشر عملو بإجراءات روتينية يف البداية ،ىدؼ منها
إظهار مهاراتو اؼبهنية .أخرجت مساعدتو الدميمة وعاء من الكروـ اؼبتآكل من حقيبتها ،وبدأ يغسل يديو يف الوعاء،
سباما كما يفعل قبل فحص عنزة عشراء ،مث طلب منها إهباد أحد العروؽ يف ساعد شرؼ الذي كاف ينظر إليهما بعينُت ً
مذىولتُت ،مث حقنو دبادة استخرجها من حقيبتو القماشية.
سبكن شرؼ ،قبل أف يغيب عن وعيو ،من رؤية بعض أىاِف القرية الذين ذبمعوا حوؿ عنقريبو ،ونظرات
اإلشفاؽ والرثاء تتقافز من أعينهم ،وتطعنو يف صدره .حىت األطفاؿ الذين ربلقوا حولو ،كانوا يتفرجوف عليو من وراء
ثياب أمهاهتم ،ويف أعينهم الفضولية نظرات دىشة وانتباه ،وكأهنم أماـ عرض سَتؾ حيواين مثَت .أحس باألسى
والوضاعة لذلك ،وسالت من عينيو الناعستُت دمعة ملؤىا الكربياء ،مث غط يف سبات عميق.
خرج اعبميع من الغرفة استجابة لنصيحة الطبيب الذي أوصى لو بالراحة واؽبدوء التامُت ،وأخذوا وبوقلوف،
ويضربوف ك ًفا بكف؛ فيما كانت عواطف ال تزاؿ تبكي يف اػبارج .أصرت على الدخوؿ إليو ،والبقاء إُف جواره ،وَف
يسمحوا ؽبا بذلك؛ إال بعد أف أقسمت باألسبلؼ ،وأولياء اهلل الصاغبُت ،وقباهبم اؼبقدسة أف تظل ىادئة ،وأال يصدر
منها ما قد يزعجو.
دخلت على مهل ،وكأهنا رباوؿ اختبار قدرهتا على اإليفاء بالوعد ،والقسم الذي قطعتو على نفسها أماـ
اعبميع .جلست إُف جواره ،وراحت سبعن النظر إليو ،وكأهنا تراه للمرة األوُف .كانت مبلؿبو متعبة ،وبقايا عرؽ فبلح على
رقبتو وجبينو ،وشفتاه فاقدتاف لنضارهتما اؼبعتادة ،وأضفت شعرات غبيتو غَت اؼبشذبة مز ًيدا من مبلمح البؤس واإلنباؿ
بؤسا من وراء زجاج عينيها اؼببلولتُت ببقايا بكاء حديث العهد.
على وجهو؛ كل ذلك بدا أكثر ً
عرفت عواطف أف النساء ،اللوايت جئن مسرعات على إثر مرور إظباعيل جقاجق بالقرية ،سوؼ يبضُت الوقت
يف اغبديث عن شرؼ الدين ،وعن ؿبنتو مع اؼبرض ،وتارىبو ،وأهنن ،مع الوقت ،سوؼ ينصرفن إُف النميمة ،وتناوؿ
التوافو ،حىت ينتهُت من شرب الشاي باغبليب مع البسكويت اؼبنزِف الذي تربع نعمات يف صنعو ،دوف أف يراعُت قلق
األسرة على ىذا اؼبسكُت.
مرت أماـ عينيها ذكريات ضبيمة حرصت على االحتفاظ هبا طازجة ،ككل أشيائها اػباصة اليت ربتفظ هبا يف
خزانة مبلبسها ،بأكثر فبا تعٍت ؾبرد العناية .ذكرياهتا مع شرؼ الدين اؼبمدد أمامها كجثماف ىالك ،ال تقدر حىت أف
سبرر كفيها عليو ،أو أف تبكيو بتفاف وذمة .راحت هتش الذباب عن وجهو وصدره العاري بطرؼ وشاحها الذي بلوف
حساء البازيبلء.
كاف قلقها عليو يتسلسل من ربت جلدىا كأسراب مبل متوحش ،تقتات على خبلياىا العصبية ،والدموع ال
تكف عن السيبلف ،وحرصت أف يكوف كل ذلك يف صمت مطبق .تذكرت اللحظات اؼبتوترة اليت خلّفها رفضو لزواجها
من عبد اؼبنعم شكراهلل داخل األسرة ،وإغباحو عليها بأف ترفضو ،وأف تصر على إكماؿ دراستها .ومازالت كلماتو ربوـ
عروسا قبل
أيضا موقف العائلة من ذلك ،ووسوسات عمتها عديلة اليت أرادت أف تراىا ً خَتة .تتذكر ً
يف ضمَتىا كأرواح ّ
أف توافيها اؼبنيّة.
ِ
استمتعت إليو" تتذكر ىذه اعبملة اليت "شرؼ الدين شاب فاشل ،وسوؼ هبرؾ معو إُف مستنقع فشلو؛ إف ِ
أنت
أي شيء، سرا" :سيقوؿ الناس عنو ّ ظلت العائلة بأسرىا ترددىا على مسامعها ،وتقارهنا بنصائحو اليت كاف يقولو ؽبا ً
***
كانت سحابة بيضاء تشوش على اؼبكاف عندما أفاؽ شرؼ الدين ،وأحس بأنو ناـ مائة عاـ ،أو كأنو استيقظ
مقيدا حبباؿ من ألياؼ النخيل الغليظة إُف عنقريب
لتوه من اؼبوت .حاوؿ النهوض ،لكنو َف يستطع ،وأدرؾ أنو مازاؿ ً
اعبرتقَ .ف تكن بو رغبة يف اؼبقاومة ،فجسده اؽبزيل خائر القوى ،وقبائل من النمل الزجاجي تنخر يف عظامو .الصورة
كانت سلسلة اؼبفاجآت ال تتوقف عن إهباره على الدواـ ،وكل مفاجأة تقذؼ بو إُف قعر بئر سحيقة .شعر
شرؼ الدين بأنو يتعرض غبالة من غسل الدماغ اؼبؤسس ،وأف اؼبؤامرة أكرب بكثَت فبا كاف يتصور .حاوؿ أف يتشبث
يوما ،ولن يفقده.
فعبل ،وأنو َف يفقد عقلو ً
بوعيو الذي يؤكد لو أف كل ما حدث قد حدث ً
ِ -
ولكنك عددهتا ضمن اللوايت تفانُت يف عمل اؼبطبخ أياـ العزاء؛ أليس كذلك؟
تزوجت ،وسافرت مع زوجها خارج -تلك وقية أخرى ،مراىقة ال تتجاوز الثانية عشرة .وقية عبد الباسط ّ
الببلد ،حىت أف أختها الصغرى تزوجها رجل ثري ،وانتقل هبا وبأفراد أسرهتا إُف بورتسوداف؛ وال أحد يعرؼ
عنهم شيئًا منذ ذلك الوقت.
!! -
كثَتا
كنت رببها ،كلنا كنا نعلم ذلك ،ولكنها رفضت شرطك بعدـ اإلقباب .لقد حاولنا إقناعك ً -أعلم أنك َ
بالتنازؿ عن ىذا الشرط ،ولكنك َف تستمع ألحد ،وليست ىنالك أنثى ،مهما كانت ؿببتها للرجل ،تقبل
بشرط كهذا .ال يبكنك أف تلومها يا شرؼ يا حبييب ،كاف البد ؽبا أف تتزوج ،لتستمر حياهتا ،فقد كانت
على أبواب الثبلثُت.
!! -
كنت واحدة من الذين قدموا لك مواساهتم وقتها.
أنت تعلم أهنا تزوجت ،وقد ُ إِف ىكذا؟ َ -ؼباذا تنظر ّ
تظاىر شرؼ بالعودة إُف النوـ ،وراح يراقب عواطف من بُت سيقاف أجفانو اؼبتشابكة ،حىت خرجت ،وأغلقت
الباب وراءىا ،وعندىا تنهد الصعداء .رأسو ىو العضو الوحيد الذي بإمكانو ربريكو .ظل يتلفت يف أرجاء الغرفة،
ـبرجا من ورطتو ،ولكن دوف جدوى ،ودوف أف يعلم ما يتوجب عليو فعلو.وزواياىا؛ علو هبد ً
***
جلس شرؼ الدين أماـ رب العمل الذي بدا غاضبًا أشد ما يكوف الغضب ،لدرجة منعتو من مصافحتو ،وظل
مستفسرا عن سر غيابو الطويل ،وىو هبوب اؼبكتب جيئة وذىابًا ،والحظ شرؼ أنو يرتدي دبلتو يف يده اليسرى
ً يزؾبر
بدال عن اليمٌت ،كما يتذكر .ينظر إليو شرؼ على أنو من الشخصيات القلقة اليت عرفها يف مسار حياتو ،ولكنو يصفو
ً
دائما بأنو شخص لطيف.
ً
علي البقاء ثبلثة أياـ بعد الدفن.
َ -ف أكن أعلم أنو يتوجب ّ
أصبل
َ -ف يكن يتوجب عليك أف تذىب ً
أيضا ظننت ىذا ،ولكنك ال تعرؼ نعمات! -أنا ً
َف تعد اؼبفاجآت تدىش شرؼ الدين؛ لذا فإنو فضل أف يوفر طاقة اندىاشو للضحك" :حىت مديري َف يكن
مديرا!" وظل يضحك بصوت عاؿ ،ويضرب ركبتيو بباطن كفيو ،األمر الذي دعا الطبيب إُف استدعاء اؼبمرضُت لتقييده ً
بالبالطو اػباص بنزالء اؼبصحة النفسية .شعر بشيء من اغبزف ،وبشيء َف يشعر بو من قبل (اليأس) .أغمض عينيو ،وىو
يستمع إُف حوار طبيبو اؼبعاًف مع أفراد أسرتو دوف تركيز ،حاوؿ أف يدخل إُف األعمق أكثر فأكثر:
حتما ،والوجوه اللحمية ليست سوى "إنو العبث اؼبفضي إُف الفوضى والشك! كل األشياء ال تبدو كما ىي ً
أقنعة خشبية تتغَت حسب اغباجة .ىذا زماف مؤَف يقضي على كل اؼبقوالت اؼبثالية ،وهبعل منها ؿبض خرافات
بالية وساذجة .اغبياة واجهة حملاؿ ذبارية تبيع األعضاء البشرية ،واألدمغة ،واألحبلـ الطائشة ،وكل األمنيات
اعبميلة والعذبة.
اؼبعادالت الصعبة ليست مستحيلة بالضرورة ،ولكنها تكتسب صعوبتها من ضراوة النتيجة ،ووعورة الصياغة
األكاديبية .ىكذا ىي قضييت أماـ كل اؼبشكبلت اليت تعًتيٍت .أجد نفسي يف هناية الطريق أحاوؿ إمساؾ العصا
اجملرد ،كيفما تكوف واجهتو الزجاجية:
للتطرؼ كبو اغبق ّ
سباما ،رغم كل إدعاءايت العمبلنية ،وميلي ّ من اؼبنتصف ً
مشوه وـبدوشة ،أـ نظيفة وبراقة والمعة.ّ
القهر يعٍت أال نعرؼ ما نريد ،والفقر يعٍت أال مبلك ما يف أيدينا ،واػبوؼ يعٍت أف نفقد اإلرادة ،واليأس يعٍت
فأنت جباف .تلك أموركنت ال ربلم؛ َكنت ال تعرؼ مستقبلك؛ فأنت جاىل ،وإذا َ أف نتوقف عن اغبلم .إذا َ
دائما طيبُت".
مقضيّة؛ أما أنا فلن أموت قبل أف أىزـ القدر أو أتصاٌف معو ،وال حل آخر ِف؛ فنحن لسنا ً
وقف شرؼ الدين وراء النافذة ذات القضباف الصماء ،وظل يراقب أفراد أسرتو ،وىم يقطعوف فناء اؼبصح النفسي
اػبارجي :فتحية وزوجها ودالنعيم يف اؼبقدمة ،ونعمات سبسك بعواطف اليت َف تكف عن البكاء منذ أفاؽ ليجد نفسو
مغلوال إُف عنقريب اعبرتق .لسبب ما ال يعلمو اعتلت ابتسامة ساخرة وجهو اغبزين ،وكأنو وداع من نوع شديد
ً
اػبصوصية .أسر يف نفسو ،وىو يرى أشعة الشمس أواف الغسق" :ال بأس؛ سأبدأ اآلف مراجعة قائمة الكماليات من
مبتسما!"
ً قناعا
جديد ،وىذه اؼبرة سأضيف إليها ً