You are on page 1of 45

‫وجدانيات الدكتور فتحي الشقاقي‬

‫اعداد‬
‫اتحاد الشباب السلمي‬
‫الـــفــهـــــــــــرس‬

‫اتجاهات المؤامرة والموقف السلمي‬


‫منها ‪3........................................‬‬
‫أزمة المعارضة‬
‫الفلسطينية‪.........................................................‬‬
‫‪5‬‬
‫النتفاضة بين التفجير السلمي والستثمار‬
‫العلماني‪7...............................‬‬
‫التاريخ‬
‫لماذا ‪..‬؟‪..............................................................‬‬
‫‪14....‬‬
‫التحرك والفكر السياسي الفلسطيني أمام مسار‬
‫التسوية‪23............................‬‬
‫التطبيع مع العدو الصهيوني وموقعه في معركة الهوية‬
‫والوجود‪28..................‬‬
‫فاتورة ايجار لمدة ‪2000‬‬
‫عام‪30...................................................‬‬
‫معالم في الطريق الشهيد سيد‬
‫قطب‪32..............................................‬‬
‫اتجاهات المؤامرة والموقف السلمي منها‬
‫إن رصد الحركة السياسية في المنطقة وفي العالم فيما يخص‬
‫محاولت إيقاف النتفاضة ـ الثورة من جهة وإنهاء الرعب المني‬
‫لسرائيل والنظمة من جهة أخرى ‪ ،‬واستغلل الفرصة بالتالي‬
‫لغلق ملف القضية من جهة ثالثة يشير إلى أنها في أحسن‬
‫الحوال ستسير في ثلثة اتجاهات أساسية وهي‪:‬‬
‫التجاه الول‪ :‬أن ينجح المشروع الوطني الفلسطيني فعل في‬
‫تحقيق هدفه نحو إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع أو‬
‫كونفدرالية في الردن‪.‬‬
‫وقبل أن نحدد موقفنا إزاء ذلك الوضع نجد من الضروري أن نذكر‬
‫بالمحاذير المتعلقة بالستمرار نحو طرح ذلك المشروع على الساحة‬
‫الفلسطينية والعربية والسلمية‪.‬‬
‫‪ -1 -1‬إننا نرى ومن البداية أن معادلة القوة القليمية والدولية ‪،‬‬
‫وذلك الرتباط العضوي بين المشروع الصهيوني والمشروع‬
‫الستعماري الغربي‪ .‬وعوامل الفكر والسطورة الدينية والسياسية‬
‫داخل الكيان الصهيوني‪ ،‬جميعها ل تشير إلى أن هناك اتجاها ً لدى‬
‫العدو لتقديم ولو حتى مثل هذا التنازل‪ .‬ونرى أن دفع بعض القوى‬
‫المحلية والدولية وبعض الصهاينة لمنظمة التحرير لمواصلة التحرك‬
‫نحو مشروع الدولة بما سبقه من تنازلت وتسويات ‪،‬ل يستهدف في‬
‫جوهره إل مزيدا ً من التمزيق للنضال الفلسطيني‪ ،‬ومحاولة إجهاض‬
‫نهضة شعبنا وجهاده‪.‬‬
‫‪ -2 -2‬إن مثل تلك الدولة إن قامت فستنقل المعركة من معركة‬
‫ضد العدو إلى معركة على الساحة الفلسطينية ذاتها لما سوف‬
‫تؤدي إليه صيغة الدولة والتسوية من انقسام في الساحة‬
‫الفلسطينية‪.‬‬
‫‪ -3 -3‬إن هذه الدولة لن تتخلى فقط عن بقية فلسطين إن‬
‫قامت ‪ ،‬بل لن تكون دولة لكل الشعب الفلسطيني في الخارج وفي‬
‫داخل المنطقة المحتلة في ‪ .1948‬وإن كانت ‪ ،‬فلن تستطيع‬
‫استيعابهم جميعًا‪ ،‬كما أنها لن تكون قادرة على الصمود إل ضمن‬
‫إطار اللحاق والتبعية والخضوع للقوى الكبرى ‪ ،‬بل وللصغرى أيضًا!‬
‫‪ -4 -4‬كما أن هذه الدولة ‪ ،‬سواء بفدرالية مع الردن أو باستقلل‬
‫لن تؤدي إل إلى تفجير صراع داخلي أردني ـ فلسطيني ‪ .‬نظرا ً‬
‫للظروف المعقدة المحيطة بالبلدين وكيانهما السياسي‪ ،‬كما أنها‬
‫سترفع من حدة التوتر على كل مستوى بلد الشام على القل‪.‬‬
‫‪ -5 -5‬ولكن الكارثة الكبرى في مثل ذلك الوضع‪ ،‬إن تلك الدولة‬
‫ستصبح جسرا ً حقيقيا ً لتوسع المشروع الصهيوني الحضاري‬
‫والثقافي والقتصادي نحو كل المنطقة العربية ‪ ،‬وبل والعالم‬
‫السلمي بأجمعه‪ ،‬فإن ركع الفلسطينيون أمام التسوية والسلم مع‬
‫الكيان الصهيوني فمن سيكون بإمكانه أن يصمد‪!.‬‬
‫وأيضا ً ورغم هذه المحاذير جميعا ً ‪ ،‬فإن تجاهل الجميع صوتنا‬
‫المرفوع ووجدنا أنفسنا فعل ً في مواجهة ذلك الوضع‪ ،‬فسيكون‬
‫موقفنا هو التالي‪:‬‬
‫على مستوى الصراع مع العدو فإن حركتنا ستعتبر أن شيئا ً‬ ‫‪- -‬‬
‫لم يتغير وأن الصراع ضده عسكريا ً وسياسيا ً وثقافيا ً وبكل الوسائل‬
‫الخرى مازال مفتوحا ً إلى أن يندحر مشروعه بالكامل‪ ،‬وسنستمر‬
‫في دعوة شعبنا وكل أمتنا لمواصلة الجهاد مهما كانت العقبات التي‬
‫ستوضع أمامنا‪ .‬وذلك مع التأكيد على أن معركتنا هي مع العدو‬
‫الصهيوني ومشروعه ولن تكون يوما ً مع أي جزء من أجزاء شعبنا‬
‫وأمتنا‪.‬‬
‫وعلى مستوى الوضع الفلسطيني الداخلي فسندعو إلى‬ ‫‪- -‬‬
‫ً‬
‫رفع راية السلم ونظامه ‪ ،‬ففي ذلك أول رضى الله سبحانه‬
‫وتعالى‪ .‬وفي ذلك ضمانة لمواصلة الصراع إلى النهاية وفي ذلك‬
‫تواصل مع مئات المليين من أمتنا الموحدة بالسلم ومنذ عشرات‬
‫السنين حول فلسطين‪ .‬مع التأكيد على أننا ننظر للفلسطينيين‬
‫المسيحيين كشركاء وطن وتاريخ وحضارة ومعركة واحدة ضد‬
‫المشروع الغربي ـ الصهيوني ونرفض على كل المستويات محاولت‬
‫)التوتير( بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين اليوم وغدا ً وفي‬
‫كل وقت‪ .‬فتاريخ السلم وحضارته ليس تاريخ نفي الخرين‬
‫وإحراقهم إنما هو تاريخ الحضارة القانونية الفذة التي تعترف‬
‫بالتعدد البشري العقائدي وتتعايش معه وتقنن له ‪ .‬هذا إذا تحركت‬
‫المور التجاه الول‪.‬‬
‫التجاه الثاني‪ :‬وهو ما ندعو إليه كل قوى شعبنا في ظل ظروف‬
‫المرحلة الحالية وعجز المنطقة العربية والسلمية عن التحرك‬
‫الشامل‪ .‬ويتلخص في حشد منظم وجاد وحقيقي لكل القوى‬
‫السياسية ولكل قوى وقواعد شعبنا على كل المستويات لمواصلة‬
‫الصراع ضد العدو الصهيوني حتى النهاية ودحره من أرضنا شبرا ً‬
‫شبرًا‪ .‬وقرية قرية ‪ ،‬ومدينة مدينة حتى ساحل المتوسط‪ ،‬على أن‬
‫تتم إقامة شكل من أشكال النظام السياسي على كل بقعة تتحرر‬
‫مع استمرار الصراع بل تسوية ول اعتراف ول تفاوض‪ ،‬اللهم إل إذا‬
‫تقدم العدو للتفاوض على تفكيك مشروعه والرحيل إلى البد من‬
‫بلدنا‪.‬‬
‫التجاه الثالث‪ :‬وهو ما تعتبره حركتنا مشروعها الستراتيجي‬
‫الساسي‪ ،‬المطابق لسياق تاريخ الصراع في بلدنا وبين أمتنا‬
‫والمشروع الغربي ـ الصهيوني‪ .‬وهو أن يستمر شعبنا ومجاهدونا‬
‫في مواجهة العدو سياسيا ً وعسكريا ً وبكل الوسائل حتى تتفجر‬
‫طاقات المة نحو النهضة والوحدة والستقلل تحت راية السلم‬
‫العظيم ‪ ،‬وتحشد طاقات أمتنا بكاملها أو حتى جزء منها نحو‬
‫المعركة الفاصلة في بيت المقدس أكناف بيت المقدس‪.‬‬

‫المصدر‪ :‬نشرة المجاهد ـ العدد ‪ 9‬ـ ‪ 27‬تشرين أول ‪1989‬م‪.‬‬

‫أزمة المعارضة الفلسطينية‬


‫*بعد مدريد أصبح البديل أمرا ً ملحا ً وضروريًا‪ ،‬لنه أصبح مسألة حياة‬
‫أو موت للقضية الفلسطينية‪ ،‬ولم تعد هناك محاذير أو موانع أدبية‬
‫أمام قيام البديل‪ ،‬الذي اصبح مطلبا ً شعبيا ً أيضًا‪ ،‬فقد حسم الطرف‬
‫الخر موقعه وقام بسحب المؤسسات التي يسيطر عليها‪ ،‬لتخدم‬
‫عملية انتقاله إلى الخندق الخر‪ ،‬المتمثل في سلطة الحكم الذاتي‬
‫التي ل يمكنها أن تتحرر من أسر وظيفتها كوكيل محلي للحتلل‪.‬‬
‫ولكن قيام البديل ‪ ،‬على رغم توافر مبرراته السياسية والدبية‬
‫وعلى رغم الجماع الفصائلي والشعبي على ضرورته ل يزال يواجه‬
‫أزمة حادة علينا أن نتضافر بوعي وقوة لتجاوزها‪.‬‬
‫إن نظرة سريعة إلى الساحة السياسية الفلسطينية تخرج بانطباع‬
‫عن التركيبية الممكنة لعناصر البديل‪ ،‬ولن تعدو هذه التركيبة أن‬
‫تكون إعادة صياغة لتحالف القوى الفلسطينية مع توسيعه ليضم‬
‫قوى وشخصيات غير ممثلة في التحالف‪.‬‬
‫إن القوى السياسية الفلسطينية ‪ ،‬على رغم اتفاقها على جملة من‬
‫المسائل الساسية بالنسبة إلى القضية الفلسطينية ‪ ،‬إل أنها تعيش‬
‫واقع المواقف السياسية المختلفة‪ ،‬أي تباين البرامج السياسية‪،‬‬
‫المختلفة‪ ،‬ولكن هذا المر ممكن التجاوز بشرط عدم وضع التكتيكي‬
‫في مواجهة الستراتيجي أو بشكل يصادر فيه التكتيكي‬
‫الستراتيجي ويلغيه أي أن الذي يقبل حل جزئيا أو مرحليا ل يجوز‬
‫له أن يعطل على الذي يطرح دفعة واحدة فلسطين الكاملة ‪ ،‬وعلى‬
‫الطرفين أن يجدا وسيلة لضبط إيقاعهما نحو الهدف‪ .‬فعلى سبيل‬
‫المثال‪ .‬عندما تناهت إلى أسماعنا أخبار أوسلو‪ ،‬وقبل توقيع‬
‫التفاق في واشنطن‪ .‬تداعينا في الفصائل العشرة إلى لقاءات‬
‫حامية وعاطفية ومؤثرة من أجل التفعيل والتطوير السياسي‬
‫والتنظيمي لصيغة العشرة باتجاه جبهة على القل تكون أكثر‬
‫تماسكا ً سياسيا ً وأكثر فعالية تنظيميا ً وللسف‪ ،‬استهلكنا أربعة‬
‫شهور وخمسة أيام في جدل وخلف حول مرجعية الميثاق الوطني‬
‫وجدوى إضافة فلسطين التاريخية كمرجعية جغرافية وسياسية‬
‫لهدافنا‪ ،‬أربعة شهور من الجدل وأزمة الثقة نقلتنا من حماسة‬
‫اجتماع الفاتح من أيلول )سبتمبر( ‪ 1993‬إلى برودة كانون الثاني‬
‫)يناير( ‪ 1994‬حتى أقر التحالف بعد مخاض عسير وعملية قيصرية‬
‫بالحد الدنى من المشاعر والكلمات والمعاني‪.‬‬
‫أقول بوضوح إنه لم يكن لقوى تريد في لحظة مصيرية أن تتحشد‬
‫في جبهة واحدة ملحة وأكثر من ضرورية‪ ،‬لم يكن لها أو لبعضها أن‬
‫تضع مساحة الوطن وجغرافيته موضع تساؤل مهما تمرحلت البرامج‬
‫السياسية لهذه القوى‪.‬‬
‫إن قبول أصحاب البرنامج المرحلي بسقف فلسطين الكاملة ل‬
‫يلغي رؤيتهم السياسية ول يتعارض مع برنامجهم الستراتيجي في‬
‫حين كان قبول بعض القوى وأقصد القوى السلمية وأخرى وطنية‬
‫ـ بطرح فلسطين غير الكاملة كان يعني إلغاءها وفقدانها مبررات‬
‫وجودها‪.‬‬
‫كانت أزمة الثقة عائقا ً حقيقيا ً أمام توافق القوى على البديل‪ ،‬وقد‬
‫انعكست هذه الزمة في التشكيك بنوايا الطراف‪ ،‬وأثارت ل مبالة‬
‫داخلية بالتحالف ونقصا ً في القتناع بدور التحالف وأهميته وأهمية‬
‫التقاء الطراف المكونة له ‪ ،‬مما جعل التنظيمات عاجزة عن فهم‬
‫بعضها جيدا ً وهي تقرأ عن بعضها وتعرف مواقف بعضها من‬
‫الصحف ووسائل العلم‪ ،‬في ظل لقاءات متباعدة ل يسبقها تقديم‬
‫أو تحضير كاف‪ ،‬ما يجعل هذا اللقاء غير قادر على حل الشكالت‬
‫وتصفية الجواء المعرضة باستمرار للتشويش والتعكير‪ ،‬إضافة إلى‬
‫عدم بذل الجهود الكافية للتوصل إلى التفاهم ولوضع آليات لتنفيذ‬
‫التفاهم في حال التوصل إليه‪.‬‬
‫ولكن هذه التعارضات لم تكن مانعا ً جادا ً في سبيل التوصل إلى‬
‫البديل‪ ،‬بل إن قدرتنا على تحديدها يعطينا دفعا باتجاه تجاوزها‬
‫والتوصل إلى صيغة ممكنة قادرة على إخراج شعبنا من مأزقه‪.‬‬
‫إن على البديل أن يحدد‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬وبشكل واضح‪ ،‬تناقضه الكامل‬
‫مع المشروع الخر‪ .‬وإذا كنا مضطرين لتحديد الخر ببرنامج‬
‫ومشروع أوسلو‪ ،‬فليس مسموحا ً لحد منا أن ينطلق من أرضية ذلك‬
‫المشروع نفسها تحت أي ظرف من الظروف وبأي دعوى من‬
‫الدعوات‪ ،‬مثل إدخال تحسينات والبناء على ما هو موجود أو نصرة‬
‫ما يسمى الفريق العربي الفلسطيني على الفريق الصهيوني داخل‬
‫مشروع أوسلو أو غير ذلك من المبررات أو الذرائع‪ ،‬لن هذا يعني‬
‫أن ينهش المشروع الخر أطراف البديل الوطني المأمول واحدا ً تلو‬
‫الخر‪.‬‬
‫كما أن البديل يجب أن يقوم على احترام متبادل بين جميع أطرافه‬
‫والتأكيد على الشرعية والمصداقية الوطنية المتبادلة بين الجميع بل‬
‫نفي أو إقصاء‪ .‬فنحن رفاق درب وسلح وموقف‪.‬‬
‫وفي الوقت نفسه ‪ ،‬فإن هذا البديل لن يكون قادرا ً على مواجهة‬
‫التحدي بمجرد العلن الجبهوي من دون أي تغيير أو تطوير في‬
‫مستوى الداء لكل طرف من أطرافه‪ ،‬ولذا فإن إعادة ترتيب‬
‫أوضاعنا التنظيمية الداخلية‪ ،‬إسلميا ً ووطنيا ً وديموقراطيًا‪ ،‬أمر في‬
‫غاية الهمية للتخلص من رواسب سنوات طويلة من الروتين‬
‫والبيروقراطية والفهلوة والستبداد وأحيانا ً الفساد الذي بات يطال‬
‫مستويات متعددة‪.‬‬
‫إن هذا بحاجة إلى ثورة ثقافية ومسلكية تعصف بكل ما هو بال ورث‬
‫وعاجز ومبدد من موروثات السنوات العشرين أو الثلثين الماضية‪،‬‬
‫باتجاه التجديد الفكري والتنظيمي على أساس ديمقراطي حقيقي‪،‬‬
‫وباتجاه تكريس مناقب الزهد والتضحية ونكران الذات‪ ،‬من دون‬
‫التجديد والتثوير والتنوير داخل كل فصيل وداخل كل طرف لن‬
‫نعطي للبديل مضاءة وتأثيره النقلبي المطلوب عاج ً‬
‫ل‪.‬‬
‫كما أن البديل ـ الجبهة يجب أن يكون محصلة لفعل التنظيمات‬
‫والقوى المشاركة‪ ،‬وليس مجرد نصاب سياسي عددي أو عنوان أو‬
‫منبر أو سوق عكاظ لنفث الهموم والشكاوي من واقع الحال يجب‬
‫أن نتجاوز مرحلة المنبر السياسي الذي كان عنوان عملنا ومعناه‬
‫على مدى أكثر من عامين باتجاه جبهة متماسكة وفاعلة تحكمها‬
‫علقات داخلية ديموقراطية ملزمة‪ ،‬على أساس برنامج سياسي‬
‫واضح يحظى بالجماع الشعبي ويتعامل بحكمة وحنكة مع التعارضات‬
‫السياسية التقليدية بين أطراف متباينة أيديولوجيا وأحيانا ً سياسيًا‪،‬‬
‫والتأكيد على عدم تعارض التكتيكي أو المرحلي مع الستراتيجي بل‬
‫أن يخدمه ويقود إليه‪.‬‬
‫إن غياب هذا البرنامج السياسي المشترك الواضح والملزم يعني‬
‫غموض الرؤى السياسية واللتزامات السياسية ويدفع إلى قيام‬
‫أزمة الثقة بين أطراف الجبهة أو البديل‪ ،‬كتلك الزمة التي‬
‫استحكمت بين أطراف عدة داخل التحالف لكثر من عام‪ ،‬وكان‬
‫مبعثها الحواجز النفسية والتشكيك بالنوايا وتراكم الخلفات من‬
‫دون بحث ودراسة ومصارحة‪ ..‬فهذا الطرف يظن أن حليفه‬
‫المفترض ذاهب إلى التسوية أو إلى علقة غير مشروعة مع‬
‫السلطة والعكس صحيح‪ .‬هذا في حين تستعر حرب إشاعات يغذيها‬
‫العلم من ناحية ونزعات حزبية من ناحية أخرى‪ .‬وهذا ينقلنا إلى‬
‫مسألة جوهرية أخرى ونحن نتقصى الذاتي في ما يتعلق بالبديل‪،‬‬
‫وهي مسألة تصيب الشعوب والمم عند انحطاط الحضارات‬
‫وانهيارها حين تنمو النزعة الفردية والهروبية ويتم تغليب الخاص‬
‫على العام‪ .‬والخطر من تبرير ذلك باعتقاد أصحاب هذه النزعات‪،‬‬
‫أنها تنطبق على القضية وأن مصلحة القضية من مصلحتهم وليس‬
‫العكس‪ ،‬مما يدفعهم إلى الحفاظ على الذاتي بأي ثمن والحصول‬
‫على المكاسب بأي طريقة وأنهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا‪ ،‬إن‬
‫هذا عين ما عاشه ياسر عرفات على مدى ثلثين عامًا‪ ،‬وأن هذا هو‬
‫ما قاده إلى حكم ذاتي في غزة غير مدرك أو غير عابىء بالحرى‬
‫بما هو مصلحة عليا وبأن القضية أكبر من كل الفراد والفصائل بل‬
‫أكبر من كل الشعب ففلسطين ملك الشعب والمة ‪ ،‬ملك أجيال‬
‫الحاضر والمستقبل‪ ،‬وهي مركز الصراع الكوني وساحة الصراع‬
‫والتماس بين المة العربية والسلمية وبين أعدائها التاريخيين‪.‬‬
‫إن تغليب الخاص على العام مظهر من مظاهر النحطاط والهزيمة‬
‫والتفتت ‪ ،‬ولن تصنع بديل ً حقيقيا ً أو جادا ً إل عندما تعاد للمصلحة‬
‫العامة قيمتها العليا في رؤيتنا وفي فعلنا‪.‬‬
‫وبعد‪ ،‬ل ننسى أن هناك عوامل موضوعية لبد من أخذها في‬
‫الحسبان‪ ،‬تتمثل أساسا ً بالعامل الدولي والقليمي‪ ،‬ففي ظل‬
‫التفرد والرهاب الميركيين تجد المعارضة الفلسطينية نفسها‬
‫للمرة الولى في تاريخها المعاصر مكشوفة من دون غطاء مادي أو‬
‫سياسي أو معنوي إل من علقات هنا وهناك أضعف من أن تكون‬
‫حاضنة أو سندا ً استراتيجيًا‪ .‬ومع ذلك فالبديل الوطني عليه أن يبذل‬
‫أقصى الجهد في مدى علقاته وتحالفاته مع كل القوى التي‬
‫تستشعر مثله الخطر على وجودها واستمرارها لقيام أوسع تحالف‬
‫ممكن فلسطينيا ً وإسلميا ً وعربيًا‪ ،‬من دون نسيان أن هناك قوى‬
‫وأطرافا ً عالمية ترفض الهيمنة والتفرد الميركيين وتعاني منهما‬
‫مثلما تعاني‪ .‬وفي هذا السياق نؤكد ضرورة تماسك التيارات‬
‫الوطنية التقدمية القومية والسلمية ليس على ساحة فلسطين‬
‫وحدها ولكن على ساحة الوطن العربي وكل المة لتشكل سندا ً‬
‫لنضالنا وجهادنا في فلسطين ‪ .‬وهذا يستدعي إقامة الجسور القوية‬
‫مع الجماهير العربية والسلمية وأحزابها وهيئاتها وقواها‬
‫الطليعية‪.‬‬
‫أما في ما يتعلق بمسألة الحجام التنظيمية والسياسية داخل هذا‬
‫البديل‪ ،‬وبروز نظرية العمود الفقري أو التنظيم القائد‪ ،‬فإن مسألة‬
‫الحجام عندما تكون واقعا ً يستحيل تجاوزه أو القفز عليه ولكن‬
‫مسألة التنظيم القائد أو العمود الفقري‪ ،‬إن وجد ‪ ،‬وكان بروزه‬
‫ملحا ً ‪ ،‬فيجب أن ترتبط ببرنامج النضال القائد ‪ ،‬على قاعدة "ل‬
‫طاعة لتنظيم قائد في معصية البرنامج المتفق عليه"‪ .‬فالولوية‬
‫للبرنامج ول اعتراض بعد ذلك على فكرة التنظيم القائد ‪ ،‬إن وجد‬
‫على أرض الواقع بحجمه المؤثر والتزامه الوطني الجاد ‪ ،‬وضمن‬
‫إطار ديمقراطي‪.‬‬
‫إن ما تقدم ل يعدو كونه مرورا ً سريعا ً على موضوع بحاجة إلى‬
‫دراسة متأنية وتدقيق وتعمق لنه موضوع يعاني من تراكمات‬
‫سنوات طويلة حافلة ومن تشابك وتعقيد بحجم تشابك القضية‬
‫الفلسطينية وتعقيدها‪.‬‬

‫المصدر‪ :‬من أرشيف حركة الجهاد السلمي في فلسطين )نشر في‬


‫جريدة الحياة عام ‪ ، (1994‬غير محدد تاريخ النشر‪.‬‬

‫النتفاضة بين التفجير‬


‫السلمي والستثمار العلماني‬
‫عندما اندلعت شرارة النتفاضة ـ الثورة مع نهايات العام ‪1987‬م لم‬
‫يكن بوسع أحد يومها أن يتصور أننا أمام حدث كبير سيقلب‬
‫الموازين ويعيد ترتيب أشياء عديدة في المنطقة‪ ،‬بل أن تسميتها‬
‫بالنتفاضة يشير الى ظن الكثيرين أن ما حدث لن يستمر طويل‬
‫ولن يكون شامل ً وأنها ليس أكثر من رد فعل مؤقت‪.‬‬
‫العدو الصهيوني الذي أربكه ما حدث اعتبرها أحداث شغب عابرة لن‬
‫تعمر أكثر من أيام معدودة‪ ..‬وعندما قال سياسي صهيوني في ندوة‬
‫تليفزيونية ـ وبعد أسبوعين من تفجر واندلع النتفاضة ـ إن هذا‬
‫تمرد مدني وعصيان‪ ،‬رد عليه مشارك صهيوني أكثر تطرفا‪ :‬إن‬
‫التمرد في رأسك فقط هذا ليس أكثر من شغب‪ ..‬بل إن وزير حرب‬
‫العدو إسحق رابين والقادم من أمريكا وقتها صرح بأنه سيسحق هذا‬
‫الشغب في أيام قليلة‪ ،‬ولكن بعد شهرين كان شامير يقول إن هذه‬
‫حرب حقيقية‪ ..‬هؤلء ل يريدون غزة والخليل فقط ‪ ،‬هؤلء يريدون‬
‫يافا وحيفا أيضًا‪ ..‬وبعد عدة شهور كان رئيس أركان العدو دان‬
‫شومرون يقول‪ :‬إن معجزة لن توقف النتفاضة أما رابين نفسه‬
‫فقد صرح مرات عديدة أن القوة وحدها ل يمكن أن توقف‬
‫النتفاضة‪.‬‬
‫القيادة الفلسطينية الرسمية في تونس فوجئت بما حدث ‪ ،‬بل‬
‫وصل بها المر إلى أن تظن في البداية وأن هناك مؤامرة‬
‫تستهدفها أو تستهدف شرعيتها المهتزة‪ ،‬خاصة وأن يوم‬
‫‪1/1/1988‬م قد مر بدون أحداث ُتذكر رغم النداءات المتكررة‬
‫الداعية التي تميز هذا اليوم‪ ،‬بل وصل المر برئيس قسم الشؤون‬
‫العربية في صحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى أن يكتب في نفس‬
‫ل‪ :‬ل نفوذ لعرفات في قطاع غزة وأن قبضته في الضفة‬ ‫اليوم قائ ً‬
‫الغربية مهتزة‪.‬‬
‫ولكن م‪.‬ت‪.‬ف تحركت بعد ذلك في كل اتجاه مسكونة بالماني أن‬
‫تستمر النتفاضة ولو ليام ترد بها اعتبارها بعد أن تم تجاهلها في‬
‫مؤتمر عمان )نوفمبر‪ /‬تشرين ثاني ‪1987‬م(‪.‬‬
‫أما النظام العربي والذي كان متورطا في الحرب العراقية‬
‫اليرانية ‪ ،‬فلم يكن يتوقع أن يرى نار الحرب المقدسة تشتعل في‬
‫بيت المقدس ‪ ،‬فبعد أن كان قد نفض يديه من فلسطين التي لم‬
‫يعد يطرحها ـ حتى في إعلمه ـ كأولوية كما تعود أن يفعل في‬
‫العقود الماضية ‪ ..‬هذا النظام شعر بإرباك شديد وخشية من أن‬
‫يمتد الطوفان من بيت المقدس الى بقية العواصم‪.‬‬
‫كل هؤلء فوجئوا أما شعبنا في فلسطين فقد كان كمن يصعد‬
‫سلمًا‪ ..‬كلما تجاوز درجة في السلم احترقت وأصبح من غير الممكن‬
‫العودة الى الوراء‪ ،‬لم يبق أمامه من خيار سوى الصعود والستمرار‬
‫وتصعيد الثورة‪ .‬وهنا علينا أن نقر أننا أمام ثورة حقيقية بكل معنى‬
‫الكلمة وأننا أمام تغيير نوعي ومتميز في مسار الصراع مع‬
‫المشروع الصهيوني… إنه مفترق الطرق الصعب أمام الحركة‬
‫الصهيونية‪ ،‬فهذا الشعب الفلسطيني الذي كان يتم دائما تناسيه‬
‫عند صياغة البرامج الصهيونية منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى‬
‫الن يؤكد أنه أكثر الظواهر حيوية في المنطقة وأنه ليس بالمكان‬
‫تجاوزه وليس بالمكان نفيه وليس بالمكان تحوله الى شعب من‬
‫العبيد لنه حي وحر وسيد‪ .‬كانت الحركة الصهيونية توهم العالم‬
‫وحتى اليهود بأن فلسطين بل شعب وأنها فقط بانتظارهم وذلك‬
‫حتى ل تقع في إشكالية الجابة عن سؤال‪ :‬ماذا ستفعلون بالشعب‬
‫الفلسطيني الذي يعيش فوق أرض فلسطين؟ أو إشكالية طرد أو‬
‫إبادة أهل هذه البلد‪.‬‬
‫كانت جولدا مائير إحدى رواد الحركة الصهيونية ورئيسة الوزراء‬
‫السابقة للعدو تقول "ليس هناك شعب أسمه الشعب الفلسطيني"‬
‫بل إن ميلد طفل فلسطيني كان خنجرا ً في خاصرتها كما حاولت‬
‫أن تقول مرة‪.‬‬
‫ورغم القوة والفعالية التي تميزت بها الحركة الصهيونية إل أنها‬
‫بخصوص الشعب الفلسطيني كانت تتبع تكتيك النعامة المشهور‬
‫الذي يظن أن عدم رؤية المشكلة أو التغافل عنها يعني زوال هذه‬
‫المشكلة أو حلها‪ ،‬ولكن بعد قرابة قرن على نشأة الحركة الصهيونية‬
‫وأقل من نصف قرن على قيام الكيان الصهيوني ‪ ..‬تتكشف شيئا ً‬
‫فشيئا ً نقطة الضعف في هذا المشروع الصهيوني ‪ ،‬ويتأكد كم كانت‬
‫النعامة مخطئة بل وبلهاء أيضا ً وأن ساعة الحقيقة قد دقت وأنها‬
‫اليوم أقوى وأوضح من أي وقت مضى‪ ،‬وأنها المواجهة ل مفر‪ .‬إنه‬
‫مأزق حضاري وتاريخي وسياسي كبير هذا الذي يعيشه الكيان‬
‫الصهيوني اليوم‪ ..‬إضافة الى مأزق الرعب المني الدائم ‪ ،‬لن‬
‫المشكلة ليست مجرد القنبلة الديمجرافية المترقبة ولكن ايضا ً ما‬
‫يحدث اليوم من إجلء الغبار عن الهوية الفلسطينية ذات المضمون‬
‫العربي السلمي‪.‬‬
‫وهكذا فنحن من جديد أمام ثورة حقيقية‪ ،‬وصفها رابين ضمن سياق‬
‫تصريحاته المرتبكة‪ ،‬والمتناقضة بأنها "حرب أهلية" فرد عليه أحد‬
‫العسكريين الصهاينة "ل‪ .‬إنها حرب عصابات من نمط جديد"‪،‬‬
‫ووصفها المعلق العسكري الصهيوني يورام بيري‪ :‬بأنها حرب ثورية‬
‫على غرار الحرب الفيتنامية والجزائرية وسماها بالحرب السابعة‬
‫ل‪" :‬إن صعوبة تصنيف هذه الحرب وفهمها ليس أمرا ً عفويا ً ‪،‬‬ ‫قائ ً‬
‫فهذه حرب تختلف عن كل الحروب الست السابقة‪ ،‬إنها حرب من‬
‫نوع جديد ‪ ،‬لم يعرفه الجيش السرائيلي من ذي قبل" كما إن أوجه‬
‫الشبه بينها وبين أحداث ‪ 1936‬ضعيفة جدًا‪.‬‬
‫اما المعلق السرائيلي زئيف شيف فيقول بعد شهرين من‬
‫النتفاضة في ‪ 12/2/1988‬إن ما يحدث "إنما هو حرب استنزاف‬
‫جديدة ‪ ،‬إنها حرب استنزاف من نوع آخر ‪ ،‬لم نتعوده من قبل خلل‬
‫جميع حروبنا ‪ ..‬إنها مثل كل حرب موجهة بالدرجة الولى ضد‬
‫القوات المسلحة للدولة‪ ،‬ولكن ليس ضد الجيش "السرائيلي" وحده‬
‫فالمستهدف إنما هو الجيش "السرائيلي" والجمهور بأسره ـ‬
‫الشعب ـ وكما واجهنا حرب الستنزاف في بداية السبعينات في‬
‫جبهة قناة السويس وفي مرتفعات الجولن وغور الردن فإن هذه‬
‫الحرب تنطوي على قدر كبير من التدمير"‪ ..‬بل أن عنصر المفاجأة‬
‫هنا أكبر مما في حرب أكتوبر‪ /‬تشرين أول ‪ 1973‬وذلك كما يرى‬
‫زئيف شيف نفسه الذي سبق وسمى حرب تشرين بالزلزال ‪ ،‬حيث‬
‫يقول "إن المفاجأة الخيرة )النتفاضة( كانت مذهلة أكثر فلم تنجح‬
‫" إسرائيل " في العام ‪ 1973‬في فهم ما كان يجري في القاهرة‬
‫ودمشق ‪ ،‬وفي سنة ‪ 1987‬لم تنجح "إسرائيل " في ملحظة ما‬
‫يحدث في بيتها‪ ..‬وفي حجرة نومها"‪.‬‬
‫وهكذا وبعد أربعة عقود من الزمن على النكبة الولى بضياع‬
‫فلسطين عام ‪ 1948‬وبعد عقدين على النكبة الثانية بسقوط بيت‬
‫المقدس عام ‪ 1967‬وبعد سلسلة من التحولت التي عاشتها‬
‫المنطقة تحت الهيمنة المريكية حتى كاد أن ينطفئ بريق القضية‬
‫أو يطويها النسيان في المحافل الدولية ‪ ،‬في ظل هذا جاءت‬
‫النتفاضة ـ الثورة ـ لتتميز بين ثورات الشعوب المعاصرة وعن‬
‫غيرها من الساليب التي واجهنا بها العدو سابقا ً ‪ ،‬ولكنها ليست نبتا ً‬
‫غريبا ً أو طارئا ً بل تأتي في تاريخنا الفلسطيني تتويجا ً لتاريخ طويل‬
‫من النضال والجهاد الذي مارسه شعبنا ومازال منذ انتفاضة‬
‫العشرين والحادي والعشرين من هذا القرن الى هبة وثورة البراق‬
‫في العام ‪ 1929‬الى ثورة القسام وخروجه الى أحراش يعبد وإعلنه‬
‫الجهاد والثورة الى الضراب الكبير وثورة ‪ 1936‬الى ملحم ‪1948‬‬
‫التي سطرها الثوار والمجاهدون من فلسطين وغيرها ‪ ،‬الى تجارب‬
‫العمل الفدائي والمقاومة منذ منتصف الستينات الى انتفاضة‬
‫مارس ـ آذار ـ ‪ 1979‬ضد توقيع الصلح بين النظام المصري والكيان‬
‫عرف باتفاق كامب ديفيد ‪ ،‬الى انتفاضة إبريل ـ‬ ‫الصهيوني فيما ُ‬
‫نيسان ‪ 1982‬إثر الهجوم الذي شنه الجندي الصهيوني جودمان على‬
‫المسجد القصى الى انتفاضة ديسمبر ـ كانون أول ‪ 1986‬إثر مقتل‬
‫صهيوني في القدس واستشهاد طالبين في بيرزيت الى انتفاضة‬
‫فبراير ـ شباط ‪ ، 1987‬وغيرها و غيرها من النتفاضات والمواجهات‬
‫ضد العدو الصهيوني في زمن الشتباك المستمر منذ الحرب‬
‫العالمية الولى وحتى الن‪ ..‬وهكذا تؤكد النتفاضة أنها جاءت في‬
‫سياق نضال وجهاد شعبنا المتواصل وهي في نفس الوقت تأتي‬
‫في سياق جهاد المة العربية والسلمية ضد المشروع الستعماري‬
‫منذ مطلع القرن التاسع عشر والى الن‪.‬‬
‫ولسنا هنا في مجال مقارنة النتفاضة ـ الثورة بتلك الثورات‬
‫المعاصرة فهي تلتقي مع بعضها في مزايا وتختلف عنها في‬
‫مزايا ‪ ..‬وفي الحالين تشكل نسيجا ً خاصا ً بها يجعلها ل تشبه إل‬
‫نفسها‪ ..‬إنها تتميز في طبيعة كونها مركز الصراع الكوني بين تمام‬
‫الحق وبين تمام الباطل ‪ ،‬بين السلم ومشروعه الناهض القائم‬
‫على الحق والكرامة والسلم وبين المشروع الغربي الصهيوني‬
‫القائم على الصراع والتفسيخ والعدوان‪.‬‬
‫مبرر بين‬
‫ُ‬ ‫بتفاوت‬ ‫الوطن‬ ‫كما تتميز بشموليتها ‪ ،‬إذ شملت كل‬
‫الضفة والقطاع من ناحية وبين المناطق المحتلة منذ ‪ 1948‬ونكاد‬
‫نجزم أن من أهم أسباب التفاوت هذا ما كررته م‪.‬ت‪.‬ف في‬
‫سياساتها وإعلمها من أن النتفاضة يجب أن تنحصر في الضفة‬
‫الغربية وقطاع غزة مع ما سببه ذلك من آثار سلبية على شعبنا في‬
‫الرض المحتلة منذ ‪ 1948‬والذي قدم من الدعم والسناد ـ وأيضا‬
‫المشاركة الفاعلة من وقت لخرـ ما هو مفخرة له‪.‬‬
‫كما شملت النتفاضة ـ الثورة مختلف الفئات والطبقات من عمال‬
‫وفلحين وطلب ومثقفين وتجار وبمشاركة المخيمات والمدن‬
‫والقرى والرجال والنساء والفتيان والطفال إضافة الى أن‬
‫المسيحي وقف بجانب المسلم تحت نفس الراية‪.‬‬
‫والنتفاضة أيضا تتميز بصالبتها واستمرارها ‪ ..‬إذ مضى عليها‬
‫عامان قوية شامخة وكأنها تفجرت بالمس بالرغم من كل أساليب‬
‫الرهاب والبطش والتنكيل التي مارسها العدو ضد شعبنا والذي كان‬
‫دائما يبتكر وسائل جديدة ومبدعة لمواجهة أساليب العدو‪.‬‬
‫كما ل يجب أن ننسى أن الثورة النتفاضة تشتعل فوق أرض يشكل‬
‫شعبنا فيها أقلية عددية مقارنة باليهود في حين أن العدو ـ إضافة‬
‫الى تفوقه العددي ـ يتمترس خلف كل أنواع السلح في دولة‬
‫عصرية وحديثة‪.‬‬
‫ً‬
‫الشعب والعدو وجها لوجه‬
‫في المراحل الولى للنتفاضة كانت مراهنة قيادة الكيان الصهيوني‬
‫على أن الحركة الجماهيرية لن تخرج عن الهبات السابقة لشعبنا‬
‫التي تكررت بين وقت وآخر منذ بداية الحتلل وأن نارها سرعان ما‬
‫تخبو ليعود واقع اللحاق القتصادي والحباط السياسي والقهر‬
‫السياسي ليسيطر على شعبنا في الوطن المحتل‪ ،‬بل إن وزير‬
‫حرب العدو اسحق رابين تجرأ وأعطى وعدا ً بإخماد الثورة‬
‫الجماهيرية خلل أيام قليلة ‪ ،‬ولكن ما إن تيقن العدو من أن‬
‫النتفاضة ـ الثورة قد ضربت جذورها في الحياة الفلسطينية حتى‬
‫تواصلت واتسعت إجراءاته العقيمة واحدة تلو الخرى‪.‬استخدم العدو‬
‫في مرحلة مبكرة حرب البيانات حيث قام ضباط أمن العدو وعملؤه‬
‫بإلقاء آلف النسخ من البيانات بأسماء تنظيمات فلسطينية إسلمية‬
‫ووطنية محاول ً أن يخلق بذلك حالة من النقسام والضطراب بين‬
‫صفوف شعبنا فيما يخص فعاليات النتفاضة أو علقات القوى‬
‫السياسية ببعضها البعض ‪ ،‬ولكن شعبنا ميز بوعي عميق وبحدس ل‬
‫يخطئ لغة العدو وخطابه في البيانات المصطنعة ‪ ،‬ولقد ساعدت‬
‫حالة التسييس العالية لشعبنا مساعدة كبيرة في عملية التبيين‬
‫والتمييز‪.‬‬
‫وكان العدو المجرم قد استطاع منذ بداية السبعينات في ظل ما‬
‫زرعه من فقدان الثقة العام وما أشاعه من تدهور أخلقي أن‬
‫يشكل شبكات من العملء من ضعاف النفوس الذين رضوا لنفسهم‬
‫خيانة شعبهم وبيع أرواحهم بثمن بخس ‪ ،‬ومع اندلع النتفاضة‬
‫أطلق العدو شبكات عملئه كأداة حيوية لمخططاته العميقة في‬
‫مواجهة الجماهير‪.‬‬
‫وقد اتسمت المرحلة الولى من النتفاضة بقيام أعداد متزايدة من‬
‫العملء تحت ضغط الحالة الجماهيرية المتصاعدة والروح السلمية‬
‫البارزة للنتفاضة ـ الثورة بإعلن توبتهم علنية في المساجد‬
‫وعودتهم الى صفوف المة ‪ ،‬ولكن مع استمرار ما تبقى من فئة‬
‫العملء على غّيها اضطرت قوى شعبنا الى تسديد ضرباتها الى غور‬
‫العملء وكان التوجه الجماهيري الثائر الى منزل العميل محمد عياد‬
‫في قباطية بمنطقة جنين ‪ 24/2/1988‬وإعدامه أمام العالم نقطة‬
‫تحول بارزة جعلت كثيرا ً من العملء المترددين يسلمون أسلحتهم‬
‫الى سلطات العدو ويسارعون كمن سبقوهم الى التوبة ‪ ،‬وقد‬
‫فشلت حتى الن كل محاولت العدو لتشكيل طابور خامس من‬
‫العملء وإعادة تجربة النقسام الفلسطيني الداخلي في سنوات‬
‫ثورة ‪.1939-36‬‬
‫ولكن مراهنة العدو على شق الصف الفلسطيني في الداخل كانت‬
‫على الدوام جزءا ً أساسيا ً من مخططاته لجهاض النتفاضة ـ‬
‫الثورة ‪ ،‬فحاولها مرة عبر تشجيعه لبعض الشخصيات والقيادات‬
‫المحلية الهامشية على أحد مواقع ومواقف ل تنطبق بالضرورة مع‬
‫الجماع الشعبي العام ‪ ،‬وحاولها مرة ثانية بالتركيز على بعض‬
‫النقسامات والصدامات العابرة بين القوة السياسية الفاعلة خاصة‬
‫بين بعض السلميين من جهة وقوى وطنية من جهة أخرى ‪ ،‬ولكن‬
‫شعبنا المجاهد وقواه السياسية الفاعلة كانت تفوت الفرصة على‬
‫العدو المجرم ‪ ،‬فقد التزمت معظم القيادات في النهاية بالجماع‬
‫الشعبي عندما رأت تصميم شعبنا على مواصلة انتفاضته بل تراجع ‪،‬‬
‫كما استطاعت القوة السياسية وأمام النبع الخلقي الهائل‬
‫للنتفاضة أن تجد حل ً أو آخر لخلفاتها‪.‬‬
‫مارس العدو أيضا ً متجاهل ً الرأي العام وكل العراف النسانية حربا ً‬
‫مباشرة وبشعة ضد شعبنا فقد أطلق النار على الطفال والنساء‬
‫والشيوخ حتى وصل عدد شهداء النتفاضة مع نهاية عامها الثاني‬
‫إلى أكثر من سبعمائة شهيد وعشرات اللف من الجرحى واللف‬
‫العديدة من المعتقلين الذين يعيشون ظروف اعتقال ل تقل وحشية‬
‫عن تلك التي شهدتها معسكرات العتقال النازي ‪ ،‬وذلك في ثلث‬
‫معسكرات جماعية كبيرة موزعة بين صحراء النقب وهضاب الخليل‬
‫وشاطئ غزة إضافة الى معتقلت فرعية أصغر‪.‬‬
‫وواصل العدو سياسة البعاد التي كرسها قبل سنوات النتفاضة ـ‬
‫الثورة بإبعاد حوالي ستين من قيادات وفعاليات النتفاضة الى‬
‫خارج فلسطين‪.‬‬
‫عد العدو من استخدامه لقوانين الحتلل المتعسفة‬ ‫كما ص ّ‬
‫واللشرعية وأصبح أمرا ً عاديا أن يحكم على من يقذف حجرا ً على‬
‫جنود الحتلل بالسجن لمدة تتراوح بين ثلث وخمس سنوات‬
‫وغرامات مالية فادحة على ذويه ‪ ،‬في نفس الوقت الذي استمرت‬
‫فيه سلطات الحتلل تهدم منازل المتهمين بأقل التهم المنية أثرًا‪.‬‬
‫وعلى مستوى آخر وفي محاولة لتفتيت تماسك القوة الشعبية في‬
‫الداخل ‪ ،‬لجأ العدو الى فصل كامل للضفة عن القطاع ومنع‬
‫النتقال الحر بينهما كما لجأ في حالت عديدة الى عزل وتطويق‬
‫مناطق بأكملها لعدة أيام‪ ..‬إما بقصد التجويع والقهر النفسي وإما‬
‫بقصد منع التصال بالخارج ‪ ،‬وقد رد شعبنا بإبداع وصمود مذهلين‬
‫على كل أساليب العدو ‪ ،‬وحافظ على قنوات التصال بين الضفة‬
‫والقطاع وبين الداخل والخارج مفتوحة ومستمرة وبقنوات مبتكرة‬
‫ومتعددة‪ .‬على أن أهم المعارك التي خاضها شعبنا في عامي‬
‫النتفاضة ضد العدو كانت في مجال التعليم والقتصاد‪ .‬على‬
‫المستوى الول بادر العدو منذ الشهور الولى للنتفاضة ـ الثورة‬
‫إلى إغلق الجامعات نهائيًا‪ ،‬ثم تبع ذلك إغلق المدارس لشهور‬
‫طويلة ‪ .‬ولكن أهداف العدو في هذا المجال ردت الى نحره فقد‬
‫تحول الـ ‪ 480‬ألفا ً في الضفة والقطاع الى رصيد جديد لفعاليات‬
‫النتفاضة ـ الثورة كما انتقلت مراكز التجمع والتخطيط والنطلق‬
‫الجماهيرية من المدارس والجامعات الى المساجد‪ ..‬وعلى المستوى‬
‫القتصادي حاول العدو ومازال قهر النتفاضة ومحاصرتها اقتصاديا ً‬
‫وماليا ً عبر سلسلة متزايدة من الجراءات منها‪:‬‬
‫ـ منع بيع المنتجات الزراعية للضفة في القطاع أو العكس أو‬
‫تصديرها للخارج‪.‬‬
‫ـ عدم زيادة حصص المياه المقرر للمناطق المحتلة وقطع المياه‬
‫والتيار الكهربائي ليام عديدة مما ساهم في تعطيل العديد من‬
‫المعامل والمصانع والورش الصغيرة‪.‬‬
‫ـ مصادرة المزيد من الراضي وتسليمها للمستوطنين‪.‬‬
‫ـ منع دخول الموال من الخارج‪.‬‬
‫ـ فرض الضرائب وتحصيلها بطريقة تعسفية حيث وصل عدد‬
‫الضرائب التي يفرضها العدو على شعبنا في الوطن المحتل إلى ‪14‬‬
‫نوعا ً ‪ .‬وقدرت حصيلة الضريبة التي يجنيها الحتلل من أهلنا في‬
‫الضفة والقطاع عام ‪ 1986‬بمبلغ ‪ 745‬مليون دولر‪.‬‬
‫ـ قيام المستوطنين بتخريب وتسميم الزراعات الفلسطينية في‬
‫الضفة والقطاع‪.‬‬
‫ـ تقييد حركة صيادي السماك‪.‬‬
‫ـ ربط فرص العمل المتاحة للعمال وأصحاب الورش والصناعات‬
‫الصغيرة بوجهة نظر سلطات العدو المنية والسياسية في‬
‫الشخاص والعمال‪.‬‬
‫ـ قمع العدو لكل محاولت التكافل بين شعبنا في الضفة والقطاع‬
‫وأهلنا في مناطق ‪ ، 1948‬وقد ساهم في إكمال حلقات الحصار‬
‫القتصادي لشعبنا ما قامت به السلطات الردنية في نهاية يوليو ‪/‬‬
‫تموز ‪ 1988‬من قطع سلطاتها لقانونية والدارية ‪ ،‬وما أدى إليه‬
‫ذلك من انخفاض حاد في دخل قطاع واسع من الموظفين والى‬
‫انخفاض أكبر في قيمة الدينار الردني ‪ ،‬مع كل ما جاء به ذلك من‬
‫آثار مدمرة على قيمة المدخرات والقدرة الشرائية لشعبنا‪.‬‬
‫وفي مواجهة هذه المعركة برهن شعبنا وبصلبة وبعد عامين من‬
‫النتفاضة أنه قادر على الصمود والمواصلة‪.‬‬
‫لقد طور شعبنا أساليب مواجهته المباشرة للعدو في ساحة‬
‫النتفاضة ـ الثورة من مرحلة لخرى طبقا ً لقدراته وضمن إطار‬
‫مواصلة النتفاضة‪.‬‬
‫فبعد المسيرات الحاشدة التي تميزت بها النتفاضة في اليام‬
‫والسابيع الولى وبعد المواجهات الشاملة مع قوات العدو التي‬
‫حدثت في نفس الفترة ‪ ،‬انتقلت الجماهير تحت ضغط أساليب‬
‫العدو الجديدة في البطش والتنكيل الى مرحلة أخرى استمرت فيها‬
‫المواجهات والضرابات ‪ ،‬ولكن مع تناوب في أدوار المدن والقرى‬
‫والمخيمات ودون تظاهرات حاشدة عدا جنازات الشهداء وبعض‬
‫المناسبات واستخدمت الزجاجات الحارقة بكثافة أشد‪.‬‬
‫هذا وكان قد روج في أثناء شهور النتفاضة الولى لطروحة‬
‫مفادها استبعاد العمل العسكري لما يسببه ذلك من رد فعل‬
‫صهيوني شديد باتجاه المزيد من القوة والقمع‪ .‬إل أن طابع‬
‫النتفاضة المميز عن كل الحركات الجماهيرية المشابهة في تاريخ‬
‫العالم الحديث وتواصلها بل نهاية لكثر من عامين وحرص العدو‬
‫على استخدام سياسة القتل بل حساب ضمن خطته للردع والقهر‬
‫النفسي جعلت من الضروري أن يأخذ الكفاح والجهاد المسلح دوره‬
‫في المعركة‪ ..‬هذا الكفاح والجهاد الذي ل يجب أن يتوقف في أية‬
‫مرحلة كانت من مراحل النضال ضد العدو الذي قام أصل على‬
‫العنف والرهاب‪.‬‬
‫دور حركة الجهاد السلمي‬
‫وعلى مستوى آخر طاردت جماهيرنا العدو في داخل المنطقة‬
‫المحتلة منذ ‪ 1948‬وشنت عليه حربا ً نفسية واقتصادية شملت‬
‫خطف وقتل جنوده وإخفاء جثثهم مع ما في ذلك من دللة مثبطة‬
‫على المستوى الديني اليهودي ؛ كما شنت حرب حرائق واسعة‬
‫النطاق بلغت أكثر من ‪ 150,000‬دونم ‪ ،‬مما جعل العدو يصرخ‪ ..‬إن‬
‫هؤلء ل يريدون غزة والخليل بل يافا وحيفا والناصرة أيضًا‪.‬‬
‫وهكذا ولول مرة منذ أربعين عام يقف العدو الصهيوني أمام مأزق‬
‫حضاري وتاريخي من التأزم والتفسخ الجتماعي يصل إلى مداه‬
‫داخل المجتمع الصهيوني‪.‬‬
‫المنجزات‬
‫يبقى استمرار النتفاضة ـ الثورة لعامين كاملين في مواجهة دولة‬
‫حديثة وعصرية وجيش حديث وقوي وجهاز أمن من أخطر الجهزة‬
‫في العالم ‪ ،‬يبقى استمرارها ضربا من المعجزة خاصة إذا ما لحظنا‬
‫الحصار الدولي والعربي من حولها ‪ ،‬فهذا الستمرار والنتشار‬
‫والتصاعد يشير الى حيرة العدو وارتباكه ‪ ،‬وهذا ما لم يحدث من‬
‫قبل كما يشير الى قوة الرادة الشعبية وقوة المخزون الروحي‬
‫واليماني الذي يطلق كل هذا الفعل ويحافظ على استمراريته‬
‫وصموده ‪ ،‬فأخيرا ً اكتشف الشعب الفلسطيني المجاهد موطن‬
‫القوة فيه في نفس الوقت الذي اكتشف فيه موطن الضعف في‬
‫العدو ‪ ،‬فضرب ضعف العدو بقوته "وقتل داوود جالوت‪."..‬‬
‫ً‬
‫وفي عمق الجماهير‪ ،‬برز الستشهاد كقيمة عظيمة فارشا ظلله‬
‫السلمية العميقة على حياة الناس واستعدادهم للمزيد من‬
‫الستشهاد الذي أصبح عادة يذهبون إليها كما يذهبون إلى اعمالهم‬
‫ومدارسهم‪.‬‬
‫وعلى المستوى الخلقي هزم الشعب هجمة العدو اللأخلقية‪،‬‬
‫واندحرت هجمة العدو لغراق المجتمع الفلسطيني بالفساد‬
‫والمخدرات ‪ ،‬وأصبحت المرأة جزءا ً ل يتجزأ من نضالت الشعب‬
‫وتضحياته ‪ ،‬تقاتل في الشوارع وتعيد بناء دورها في المنزل كإدارية‬
‫ومنتجة ومدبرة ‪ ،‬بل وتستشهد وتطارد لسابيع ‪ ،‬وشهور ‪ ،‬تعتقل‬
‫وتعذب وُيفرج عنها لتعاود العمل والنضال من جديد ‪ ..‬أما العمال‬
‫الذين حاول العدو خلل عشرين عاما أن يربطهم بعجلة اقتصاده‬
‫ودفعهم لنمط حياة استهلكي فقط أصبحوا أداة النتفاضة الضاربة‬
‫في شوارع الوطن ‪ ،‬وفي ضرب اقتصاد العدو بعد أن تخلصوا‬
‫كغيرهم من نوازع الستهلك التي زرعها العدو في المجتمع‪.‬‬
‫وفي إطار استنهاض الجماعة والمجتمع عاد للمسجد دوره التاريخي‬
‫في حياة الناس كمركز للتجمع والتعليم والمشاورة والتعبئة‪ ،‬وتخلي‬
‫الناس تدريجيا ً عن اللجوء الى مؤسسات الحكم والسلطة التي‬
‫يهيمن عليها العدو ‪ ،‬وعادوا في مشاكلهم الى العلماء والقيادات‬
‫السلمية والوطنية والشخصيات الجهوية المخلصة ‪ .‬كما خاض‬
‫شعبنا معركة ذات أبعاد نهوضية كبرى في مجال التعليم‪ ..‬ففي حين‬
‫أغلق العدو المدارس والجامعات أقيمت الفصول الدراسية في‬
‫المساجد والمنازل وتحت الشجار بل تم تخريج كل طلب السنوات‬
‫الخيرة في الجامعات ومازالت هناك أقسام في بعض الجامعات‬
‫تعمل بسرية حتى الن ‪ ،‬بل إنه جرى تطوير لمناهج التعليم بما‬
‫يتفق مع المرحلة الجديدة ‪ ،‬ولو ل تراجع العدو في معركة التعليم‬
‫وإقدامه على فتح المدارس من جديد لبرزت تجربة تعليمية نهضوية‬
‫في الوطن المحتل تستحق التأمل والدراسة‪.‬‬
‫ولكن مجالت القتصاد والزراعة والصناعة كانت هي المجال الذي‬
‫برزت فيه قوى النهوض كما لم تبرز في مكان آخر ‪ ،‬ولعل التجربة‬
‫الفلسطينية في عامي النتفاضة في هذا النطاق تعتبر إسهاما ً‬
‫واقعيا ً وفعليا في الجدل العربي والسلمي الطويل حول إشكالية‬
‫النهضة والستقلل‪.‬‬
‫كما جسدت النتفاضة ـ الثورة وحدة الشعب وقواه الفاعلة على‬
‫الرض‪ ..‬فرغم الخلفات الفكرية والسياسية بين أطراف عدة إل أن‬
‫الجميع وجه جهده وضرباته باتجاه العدو مما نزع فتائل تلك‬
‫الخلفات ليعطيها حجمها الحقيقي أمام عدو شرس يسعى للقضاء‬
‫على الجميع‪.‬‬
‫وكسرت النتفاضة ـ الثورة ما سمي بالخط الخضر ـ أي الحد بين‬
‫شعبنا في الرض المحتلة منذ ‪ 1948‬وبين الضفة والقطاع المحتلين‬
‫منذ عام ‪ 1967‬ـ وأكدت وحدة هذا الشعب ووحدة مصيره من خلل‬
‫الدعم والسناد والمشاركة القوية لهلنا في الجزء المحتل منذ‬
‫‪.1948‬‬
‫وأعادت النتفاضة ـ الثورة القضية الفلسطينية الى مركز الحداث‬
‫في العالم وجعلتها من جديد القضية المركزية للمة العربية‬
‫والسلمية‪.‬‬
‫المصدر‪ :‬غير معلومة مصدر النشر… وبسؤال المتابعين علمنا أنها‬
‫نشرت خلل عام ‪ 1992‬في مجلة )العالم( وفي مجلة ) فلسطين‬
‫المسلمة(‪.‬‬

‫التاريخ لماذا ‪..‬؟‬


‫كان التاريخ ول يزال قضية النسان منذ الزل يؤثر فيه ويصنعه‬
‫ضمن الظروف الموضوعية التي تمر بها مراحل التاريخ البشري‪..‬‬
‫ضمن النواميس الكونية التي وضعها الله سبحانه ‪..‬‬
‫وعندما تتعرض أمة ما لهزة عنيفة في حياتها فإنها إما تهب من‬
‫نومها لتنظر في تاريخها تبحث من جديد شروط وجودها ‪ ..‬وإما إنها‬
‫تهب من نومها لتنظر إلى التاريخ شذرا ً تتهمه ثم تعود ثانية إلى‬
‫سباتها العميق‪.‬‬
‫وهكذا أيضا ً ‪ ..‬عندما تستغل أمة أو جماعة فإنها تتنبه بداية إلى‬
‫تاريخها‪ ،‬فتتقدم تدرس وتحلل وتنقد‪ ..‬تعيد الترتيب والصياغة‬
‫لتتعرف على مواقفها الحالية‪ ،‬ثم تنطلق إلى آفاق المستقبل‪..‬‬
‫بينما في الجانب الخر ـ أي في حالة العجز والضياع ـ تنام‬
‫الجماعات عن تاريخها‪ ،‬بل وتقف منه موقفا ً سلبيا ً ومتهما ً ‪ ..‬من‬
‫هنا ندرك نحن ـ البناء الحقيقيين ـ أهمية وعي التاريخ وانه المفتاح‬
‫الذي بين ايدينا كي نفهم وعي ماضينا ونعي دروسه وتجاربه‬
‫وعبره ‪ ،‬وبالتالي نؤثر في حاضرنا ول نكتفي بالجلوس في مقاعد‬
‫المتفرجين‪..‬‬
‫هذا الفهم وهذا التاريخ كلهما سيقودان بالتالي إلى امتلك‬
‫سنا‬‫ّ‬ ‫ح‬ ‫ففقدنا‬ ‫المستقبل ‪ ..‬ولقد عانينا كثيرا ً تراجع وعينا التاريخي‬
‫بهويتنا وأصالتنا ووقفنا عاجزين عن تحديد مواقع أقدامنا ناهيك عن‬
‫إمكانية استشراف المستقبل…‬
‫وكما عاش الوطن السلمي بعمومه هذا الغياب فإن الكثير من‬
‫الحركات السلمية لم تفلت من هذا الشراك ولئن كنا حتى وقت‬
‫قريب نعتقد أن تلك الحركات قد أدركت الشرط الذاتي لوجودها ‪،‬‬
‫وإنها لم تدرك بعد الشرط الموضوعي … فقد كنا نرتكب مغالطة‬
‫كبيرة لسببين‪:‬‬
‫‪1‬ـ كيف يمكن أن يقال عن إنسان غاب وعيه التاريخي أنه اكتشف‬
‫ذاته أو اكتشف الشرط الذاتي لوجوده‪.‬‬
‫‪2‬ـ إن هذا التصور جهل بالعلقة الجدلية القائمة بين وعي الذات‬
‫ووعي الموضوع‪ ،‬وهكذا فإنه بالرغم من غللة الثقة التي تغلف‬
‫تصرفات الكثير من التنظيمات داخل صفوف الحركة السلمية اليوم‬
‫فإننا نجد هذه التنظيمات ـ وتحت الدراسة الموضوعية ـ تعيش في‬
‫حالة اغتراب وضعت أفرادها في دوامة انهيار القيم وفوضى‬
‫المفاهيم ومن ثم اليأس في أحيان كثيرة…‬
‫ومن هنا كان اهتمامنا بالتاريخ ليس كمفردات للتسلية والمتعة‬
‫والنبهار أمام سيرة السلف الصالح ‪ ،‬ولكن كاستمرار يخضع‬
‫للدراسة والتحليل والنقد من خلل منهج خاص ورؤية خاصة ‪ ..‬أي‬
‫من خلل صبغة خاصة ارتضاها الله سبحانه وتعالي )صبغة الله ومن‬
‫أحسن من الله صبغة(‪.‬‬
‫ورغم أن الحركة السلمية ـ في مفهومها الحديث ـ لم تتبلور‬
‫بشكل واضح إل بعد أن حدث التماس الخطير بين الحملة الصليبية‬
‫التي قادها ذلك الشاب الكورسيكي المغامر نابليون بونابرت وبين‬
‫الوطن السلمي ‪ ،‬إل أننا ل نستطيع أن نغفل دور الحركة الوهابية‬
‫كبادرة أولى ناضلت على طريق العودة إلى نقاء السلف الصالح‬
‫فكانت أول حركة جادة بعد مرور قرون على ظهور المجدد العظيم‬
‫ابن تيمية‪.‬‬
‫ولننا ننظر للحملة الصليبية التي قادها نابليون كنقطة بداية في‬
‫أخطر التحديات التي واجهها الوطن السلمي منذ ظهوره فإننا‬
‫سنبدأ من هنا تأريخنا للحركة السلمية دون إغفال الوهابية كحركة‬
‫رائدة‪..‬‬
‫رغم الشهداء الذين قدمتهم الجماهير السلمية مؤكدة أصالتها في‬
‫مواجهة طلئع الغزو الصليبي الولى قبل ان تتمكن تلك الطلئع من‬
‫الستقرار في مصر كجزء مهم من الوطن السلمي ‪ ،‬إل أن‬
‫الصدمة كانت قاسية ونحن نكتشف أي عزلة وجمود وعجز عن‬
‫الجتهاد والتجديد كنا نعيش ‪ ..‬المر الذي مكن لتلك الطلئع‬
‫والجيال التي تلتها أن تفعل فعلتها فتسقط النظام السياسي‬
‫السلمي‪ ..‬تسقط تطبيقنا لشريعتنا بعد أن نفذت إلى عيوننا‬
‫ومسام جلودنا عبر البعثات التي أوفدت إلى باريس وأوروبا ثم‬
‫عادت لتدمر أخلقنا وثقافتنا ‪ ،‬وليحمل بعضها ‪ ،‬ربما بحسن نية في‬
‫البداية ـ الرؤية الغربية للحياة والتحديث‪ ،‬هذه البعثات التي استمر‬
‫تتابعها في أفواج ‪ ،‬إلى أن تمكن هذا التحدي ‪ ..‬الغزو‪ ..‬الستعمار‬
‫من تكوين جيل من المفكرين يحملون أسماءنا وأفكاره ‪ ..‬أجسادهم‬
‫على أرضنا وقلوبهم مشدودة إلى هناك… وما هذا الطفح القذر‬
‫على سطح الوطن السلمي من مفكرين مهزومين وكتاب كلب‬
‫وقردة إل استمرار آخر لهذا التتابع ‪ ..‬وهكذا ما إن أخذت المور‬
‫أمامنا تتضح شيئا فشيئا حتى وجدنا أنفسنا إزاء خمسة أوضاع أو‬
‫خمسة فئات كانت إفرازا للتحدي أو ردا ً عليه بشكل أو بآخر‪:‬‬
‫‪1‬ـ المسلمون التقليديون‪ :‬الذين غابوا عن الوجود والشهود تماما ً‬
‫وعاشوا في حالة اغتراب تام عن الذات والموضوع ومن سمع منهم‬
‫بالتحدي القادم أحس من بعيد أنه شر محض‪ ،‬وبقي الدعاء على‬
‫المنابر لسلطين رحلوا من قرون‪.‬‬
‫‪2‬ـ المسلمون السلفيون المحافظون‪ :‬كالوهابية والمهدية‬
‫والسنوسية وسنتكلم عنهم بإسهام بعد قليل‪.‬‬
‫‪3‬ـ المسلمون السلفيون المتنورون‪ :‬بقيادة جمال الدين الفغاني‬
‫وسيأتي الحديث عنهم أيضًا‪.‬‬
‫‪4‬ـ المجموعة الرابعة ‪ :‬وهو ما اصطلح بعض الكتاب على تسميتهم بـ‬
‫)المسلمون العلمانيون(…‬
‫ونعتذر عن استخدام هذا المصطلح للتناقض الذي يحمله ‪ ،‬حيث من‬
‫الضروري استخدامه وبشكل مؤقت للتمييز بين المجموعتين الثالثة‬
‫والرابعة… ولكي نكون أكثر وضوحا نقول‪:‬‬
‫إن الكلمة الولى من الصطلح تعني أن افراد هذه المجموعة‬
‫انتسبوا تاريخيا ً إلى السلم بينما تعني الكلمة الثانية حقيقة‬
‫موقفهم‪ ..‬وجوهر تفكيرهم رفض للسلم كبعث حقيقي وكسلطة‬
‫حقيقية‪ ،‬والقتراب من الرؤية الغربية في فصل الدين عن الدولة‪.‬‬
‫وطلئع هذه المجموعة وإن كانت قد وقفت موقفا ً مشترطا ً من‬
‫العلمنة في البداية بحيث تتوقف هذه عند حدود العقيدة إل إنها‬
‫تدريجيا ً وبشكل منطقي انتهت فيما بعد إلى حمل الرؤية العلمانية‬
‫الكاملة…‬
‫ويأتي على رأس هذه المجموعة قاسم أمين ‪ ،‬سعد زغلول ‪ ،‬أحمد‬
‫لطفي السيد وطه حسين‪...‬‬
‫‪5‬ـ المسيحيون المغتربون والمتغربون‪) :‬والمصطلح هنا كما هو‬
‫الحال في المصطلح الذي أطلق على المجموعة السابقة للدكتور‬
‫هشام شرابي ‪ ،‬مغتربون لنهم أحسوا بالغربة عن الوطن السلمي‬
‫ومتغربون لنهم أدركوا ان تمسكهم بقيم وأهداف الغرب ورؤيته‬
‫الحضارية إنقاذ لهم من معاناة الغربة في الوطن السلمي(‪.‬‬
‫ولقد قاد هؤلء محاولت العلمنة في وطننا لنهم فهموا أنه من‬
‫المستحيل حل مشكلة اغترابهم فيه دون علمنة الرؤية التاريخية‬
‫وعلمنة المؤسسات والسس التي يقوم عليها المجتمع والدولة‪ ،‬أي‬
‫ضرب عملية بعث السلم كأيديولوجية قادرة على الفعل في وجه‬
‫التحدي القادم‪) ..‬فرح أنطون ‪ ،‬شبل شميل ‪ ،‬ولويس عوض(‪.‬‬
‫وحيث أننا هنا بصدد دراسة الحركة السلمية الحديثة في مواجهة‬
‫التحدي الغربي الحديث بمرحلتيه الكبيرتين ـ الولى تبدأ بالحملة‬
‫الفرنسية وتمد حتى عام ‪ 1928‬م ‪ ،‬والثانية بدءا ً منذ عام ‪1928‬م‬
‫وحتى الن ـ فإننا سننظر إلى المجموعتين الثانية والثالثة على‬
‫أنهما كانتا تكونان ما نصطلح على تسميته بالمرحلة الولى من‬
‫مراحل الحركة السلمية الحديثة‪..‬‬
‫لقد كان السلفيون يشقيهم المحافظ والمتنور أو الثوري‪ ..‬كانوا‬
‫أول رد حقيقي على التحدي القادم‪ ،‬ودللة على القدرة الفذة التي‬
‫لهذا الدين على التجاوز والفعل فكانت هذه الحركة وبحق عامل ً‬
‫أساسيا ً في اليقظة السلمية الحديثة‪ ،‬قاومت الغزو الفكري ‪،‬‬
‫وناضلت ببسالة ضد المخططات الصليبية الستعمارية‪ .‬ول ننسى‬
‫في غمار الحديث عن هذه المرحلة أن ننوه بالدور الذي قدمه‬
‫الغزالي وابن تيمية وابن قيم الجوزية لهذه الحركة وفي هذه‬
‫المرحلة رغم ظهورهم قبلها بقرون‪..‬‬
‫فإذا نظرنا لكل مجموعة على حدة ‪ ،‬وجدنا أن الوهابيين الذين‬
‫ظهروا في منتصف القرن الثاني عشر ‪ ،‬أي قبل مجيء الحملة‬
‫الفرنسية بحوالي نصف قرن )ولد محمد بن عبد الوهاب ‪1703‬م(‬
‫كانوا يمثلون أول رفض قوي للفساد الذي عم المجتمع السلمي‬
‫ومحاولة جادة للعودة بالسلم إلى صفاته الولى ‪ ،‬التي سادت عهد‬
‫الرسول )صلى الله عليه وسلم( والخلفاء الراشدين والسلف‬
‫الصالح ‪ ..‬ورأى ابن عبد الوهاب أن مشكلة المسلمين هي في ضعف‬
‫عقيدتهم وأن الحل هو العودة إلى القرآن الكريم والسنة ‪ ،‬وحارب‬
‫البدع وأنكر تأويل القرآن ودعا المسلمين إلى الزهد والتقشف‬
‫والجهاد من أجل بناء المجتمع السلمي ‪ ،‬كما فتح باب الجتهاد‬
‫الذي ظل قبله مغلقا ً لقرون طويلة…‬
‫ثم كانت الحركة السنوسية )مؤسسها محمد بن علي السنوسي‬
‫‪1787‬ـ ‪ (1859‬والتي كانت متأثرة إلى حد كبير بالوهابية من ناحية‬
‫العودة بالسلم إلى صفاته الولى والعودة إلى القرآن والسنة‪،‬‬
‫ومحاربة البدع وفتح باب الجتهاد‪ ،‬ولكنهم آمنوا أيضا ً بالرؤية‬
‫والتصال والكشف التي تحدثت عنها الصوفية… وقدر لهذه الحركة‬
‫أن تنجح في إصلح المجتمع البدوي ‪ ،‬وتحويله إلى مجتمع متعاون‬
‫ومنتج وأن تقيم سلطة إسلمية على مناطقها ‪ ،‬وأن تنشر العلم‬
‫عن طريق زواياها المنتشرة في صحراء أفريقيا وأن تصل إلى‬
‫القبائل الوثنية هناك ناشرة السلم فيما بينها… ورغم الخطأ الذي‬
‫ارتكبه المهدي البن ـ ‪ 1902 : 1859‬ـ بمحاولة البتعاد عن‬
‫المنازعات إل أن الحركة وتحت قيادة البن نفسه اضطرت إلى‬
‫إعلن الجهاد ـ عندما وضع تقدم العدو الفرنسي في الصحراء المور‬
‫في نصابها ـ فأصبح ل مفر من الحرب والجهاد كسبيل للستمرار‪..‬‬
‫وإضافة إلى ذلك فقد كانت هناك المهدية في السودان )ولد‬
‫المهدي الول ‪1844‬ـ ‪ (1885‬والتي نادت أيضا ً بالعودة بالسلم إلى‬
‫نقائه الول وبالتوحيد بين مذاهب أهل السنة وبمحاربة البدع‬
‫ومحاربة الفساد السياسي ‪ ،‬وقد قام المهدي بعد أن جمع حوله‬
‫النصار واستتب له المر بإعلن الثورة ضد النجليز ‪ ،‬واستطاع أن‬
‫ينزل بهم هزائم كبيرة ‪ ،‬وقد كان ينوي أن يتوجه إلى غزو مصر بعد‬
‫احتلل الخرطوم وعين وقتها ولة على الشام ومراكش ‪،‬دون أن‬
‫تصل سلطته السياسية لكثر من حدود السودان‪.‬‬
‫ولم تقتصر الحركة السلفية المحافظة على هذه التجاهات الكبرى‬
‫فقط ‪ ،‬بل كانت هناك اللوسية في العراق نسبة إلى )أبي الثناء‬
‫اللوسي( الذي نادى بتنقية الدين من الشوائب واتباع السلف‬
‫الصالح في مسائل العقيدة‪ ،‬وكانت هناك أيضا ً حركة الشوكاني‬
‫صاحب نيل الوطار في اليمن)ولد سنة ‪1760‬م( ‪ ،‬والتي كانت في‬
‫حقيقة المر صدى للوهابية في شبه جزيرة العرب ‪ ،‬وفي المغرب‬
‫كانت هناك حركة المولى سليمان الذي حمل له الحجاج دعوة محمد‬
‫بن عبد الوهاب فأعجب بها وعمل على نشرها ‪ ،‬وكذلك المولى‬
‫حسن ثم الشيخ أبو شعيب الدكاني والشيخ ابن العربي العلوي‪،‬‬
‫ولكن برغم الدور العظيم الذي قام به السلفيون المحافظون فإنه‬
‫من الصعب عليهم أن يتجاوزوا أزمة التحدي الغربي الحديث‪ ،‬وذلك‬
‫لتخلفهم عن إدراك الشرط الموضوعي ‪ ،‬المر الذي أدى إلى‬
‫فقدهم لسلح مهم وخطير في المعركة الكبرى ‪ ،‬وهذا هو عين ما‬
‫أدركه السلفيون المتنورون بقيادة الثائر العظيم جمال الدين‬
‫الفغاني )‪1839‬ـ ‪ (1896‬الذي حدد منذ البداية )كل مسلم مريض‬
‫دواؤه القرآن(‪.‬‬
‫وكان من أهم القضايا التي طرحها ضرورة البعث السلمي وأن‬
‫يفهم المسلمون دينهم الفهم الصحيح ويطبقوا تعاليمه ‪ ،‬وفي‬
‫نفس الوقت كان مهتما ً بجعل الوطن السلمي قوة سياسية ناجحة‬
‫وظل يصرخ في كل مكان داعيا ً المسلمين إلى النهضة ورفض‬
‫الحتلل ومحاربته … كما رفض الصلح التربوي الذي اعتمده بعد‬
‫ذلك تلميذه محمد عبده كوسيلة حاسمة للتغيير وإعادة مجد السلم‬
‫مؤمنا ً بالثورة السياسية وبأنها الوسيلة المثلى لعادة السلم ‪..‬‬
‫وقد قامت مجلته )العروة الوثقى( بتحليل وضع المسلمين وسبب‬
‫تأخرهم وشرحت معنى الخلفة وأسباب تدهورها ودعت للمحافظة‬
‫عليها بصفتها آخر معقل لتجميع المة السلمية ‪ ،‬وقد كان يأمل‬
‫خيرا ً في ثورة المهدي وفي تغيير الوضع في إيران وإصلح الخلفة‪.‬‬
‫ويكتب ألبرت حوراني في كتابه )الفكر العربي في عصر النهضة(‬
‫قائل‪) :‬ترك الفغاني في جميع من عرفوه انطباعا ً قويا ً ولو لم يكن‬
‫مبهجا ً عن رجل مخلص لعقيدته عنيد ومتقشف‪ ،‬سريع الغضب‬
‫للشرف والدين ‪ ،‬عفيف يستحيل ترويضه(‪ ،‬ويقول عنه محمد عبده‬
‫) أشد من رأيت محافظة على أصول مذهبه(‪.‬‬
‫ورغم أن الراء كادت تجتمع على أن الفغاني كان شيعيا إل أن‬
‫مذهبه الذي كان يعنيه المام محمد عبده هو المذهب الحقيقي‪.‬‬
‫وقد كان ينادي دوما بإزالة الخلفات بين المسلمين حتى تلك التي‬
‫بين الشيعة والسنة‪.‬‬
‫ودعا اكثر من مرة الفرس والفغان إلى التحاد رغم كونهم شيعة‬
‫وسنة…‬
‫ولكن يبدو أن الفغاني ‪ ..‬هذه العبقرية الفذة ‪ ..‬قد جاء فردا ً متميزا ً‬
‫متقدما ً على عصره ‪ ،‬حيث يعم الجهل والتخلف وترك الجتهاد‬
‫والتخاذل عن الجهاد في مرحلة المد الستعماري الصليبي في كل‬
‫الوطن السلمي… ولكن على الرغم من ذلك فإن أطروحاته بقيت‬
‫منارا ً لجيال ستأتي…‬
‫ويقف مع جمال الدين الفغاني في هذه المرحلة كسلفي متنور‬
‫المام محمد عبده خاصة في المرحلة الولى من حياته حيث تأثر‬
‫بجمال الدين الفغاني تأثرا ً بالغا ً وكان أحيانا ً كثيرة الناطق الرسمي‬
‫باسمه ‪ ،‬والمعبر عن أفكاره )لم يكن الفغاني يحب الكتابة كثيرًا‪(..‬‬
‫وعندما نفي الفغاني بعد دخول النجليز مصر‪ ،‬دخل محمد عبده‬
‫السجن لوقوفه ـ وأخيرًاـ بجانب حركة عرابي ومشاركته فيها‪،‬‬
‫لينفى بعدها إلى خارج البلد حيث يلتحق بالفغاني وينتقل من‬
‫بيروت إلى باريس فلندن وتونس‪ ..‬ويحاول محمد عبده بعد ذلك‬
‫دخول السودان عن طريق مصر متنكرا ً للتصال بالمهدي ولكنه‬
‫يفشل ويعود إلى بيروت ثانية… وفي عام ‪ 1888‬م عاد المام محمد‬
‫عبده إلى مصر ثانية ليبدأ مرحلة جديدة في حياته وضح فيها تماما ً‬
‫غياب تأثير الفغاني وتبنيه للتجاه الصلحي التربوي ‪ ،‬ورفضه‬
‫للنضال السياسي كوسيلة للثورة‪ .‬وهكذا لم تكن هذه المرحلة من‬
‫حياته فوق الشبهات خاصة أنه عاد بعد نفيه إلى العمل الرسمي‪،‬‬
‫بعد أن تعهد بالهدوء تجاه الخديوي للورد كرومر الذي توسط له في‬
‫إرجاعه إلى عمله ‪ ..‬وقد وقف منه المناضل المسلم مصطفى كامل‬
‫موقفا ً نقديا ً رافضا ً في هذه المرحلة وعاب عليه اهتمامه بالنفوذ‬
‫الرسمي ‪ ،‬وفي المقابل شكك محمد عبده في النتائج المرجوة‬
‫لنضال مصطفى كامل السياسي‪ ،‬والذي يدعنا نقول أن المرحلة‬
‫الثانية من حياة المام محمد عبده ليست فوق الشبهات ليس فقط‬
‫ما ذكر بل أيضا ً تخرج طابور من العلمانيين كانوا قد تتلمذوا على يد‬
‫المام‪ ..‬ول ينفي ذلك زعم رشيد رضا ـ تلميذ المام عبده ـ والذي‬
‫يعتبر أيضا ً رائدا ً سلفيا ً بأن هؤلء قد خرجوا على خط المام‪ .‬وقبل‬
‫أن ننتهي من الحديث عن هذه المرحلة لبد من الشارة إلى حلقة‬
‫الشيخ طاهر الجزائري )‪ 1851‬ـ ‪ (1920‬في سوريا حيث كانت قضية‬
‫البعث السلمي ‪ ،‬وتجاوز أزمة التحدي ووحدة العالم السلمي هي‬
‫موضوع الحلقة المركزية ‪ ..‬كما ل يمكننا أن نغفل عناصر ثورية‬
‫إسلمية ومتنورة كمصطفى كامل وعبد الله النديم وكذلك محمد‬
‫إقبال في باكستان الذي دعا إلى تضافر العقل والوجدان والرادة‬
‫لبناء مجتمع إسلمي ذلك من خلل فلسفة جديدة ومنظومة شعرية‬
‫رائعة‪..‬‬
‫وهكذا انتهت مرحلة بكاملها ‪ ،‬لتبدأ مرحلة جديدة تحت ظل خطر‬
‫الليبرالية العلمانية المتصاعدة فكريا ً وسياسيا ً وتحت ظل الخطر‬
‫الناجم عن سقوط دولة الخلفة وتحت تأثير أفكار الفغاني ورشيد‬
‫وإقبال وتيار الجماعة السلمية بشكل عام ‪ ،‬مرحلة جديدة تبدأ عام‬
‫‪ 1928‬هي مرحلة التنظيم الجتماعي الفعال الذي تمثل بحركة‬
‫الخوان المسلمين في مصر والعالم العربي لتشمل بعد ذلك الوطن‬
‫السلمي وحركة الجماعة السلمية في باكستان والهند‪.‬‬
‫وإذا كان الفغاني يقف علما ً على رأس المرحلة الولى فإن المام‬
‫الشهيد حسن البنا يقف علما ً على رأس المرحلة الثانية… هذه‬
‫المرحلة التي تميزت إلى ثلثة أجيال بدءا ً من عام ‪1928‬م…‬
‫الجيل الول )‪1928‬ـ ‪ (1949‬أو جيل البعث‪:‬‬
‫وفيه طرح المام الشهيد السلم بكل شموله شريعة تنظم كل‬
‫جوانب الحياة من اقتصاد وسياسة واجتماع بالضافة إلى كونه‬
‫عقيدة وعبادة‪ ،‬وخلل عشرين عاما ً استطاع المام أن يبعث هذه‬
‫المة من تحت الركام ‪ ،‬وأن يطور مفاهيم الحركة خلل هذه الفترة‬
‫بتسارع ثوري متقدم ‪ ،‬مستلهما ً القرآن والسنة وسيرة السلف‬
‫الصالح بالضافة إلى الممارسات اليومية التي كانت تصوب هذه‬
‫المفاهيم‪ .‬وقد استطاع هذا الجيل من الحركة إعادة الثقة إلى الفرد‬
‫المسلم وللمثقف المسلم وللمجتمع المسلم ‪ ،‬ولطرح السلم‬
‫بشكل ثوري ضد البدائل العلمانية التي طرحها الستعمار منذ ظهور‬
‫التحدي وحتى ذلك الوقت… ولقد كانت حرب فلسطين التي خاضتها‬
‫الحركة السلمية تتويجا ً لوعي وفهم ذاك الجيل لطبيعة التحدي‬
‫الغربي الحديث‪ ،‬الذي بدأ يتجسد في فلسطين صداما عسكريا ً‬
‫محتومًا… ولكن تنطلق رصاصات غادرة في فبراير عام ‪1949‬‬
‫ويتوقف نبض المام لتبدأ ملمح جيل جديد…‬
‫الجيل الثاني )‪1949‬ـ ‪1967‬م( جيل التردد والمحنة‪:‬‬
‫ل نستطيع أن نقول إن عملية البعث التي بدأت مع الجيل الول قد‬
‫توقفت ولكن مما ل شك فيه أن ضربة قاسية ـ وقاسية جدا ً ـ قد‬
‫وجهت الى الحركة السلمية التي وقعت في الحيرة والتفكك‬
‫)يراجع النصوص الولى من كتاب حسن عشماوي "الخوان‬
‫والثورة"(‪.‬‬
‫وبقدر ما كانت هزيمة ‪ ،1954‬ذات أبعاد خارجية ‪ ،‬فإنها كانت‬
‫وبنفس القدر ـ بل أشد ـ تحمل عوامل داخلية بحتة‪ ..‬وفي جانب من‬
‫جوانب التحليل فإنها كانت تعني أن الحركة السلمية طيلة خمس‬
‫سنوات لم تستطع استيعاب الضرب التي وجهت إليها باغتيال المام‬
‫الشهيد ‪ ..‬بل في ظل تخبط واضح استطاع انقلب يوليو ‪ 1952‬م‬
‫أن يحدث انقساما ً داخل حركة الخوان المسلمين مستميل ً بعض‬
‫العناصر حتى تلك التي كانت في الجمعية التأسيسية أو في مكتب‬
‫الرشاد‪ ..‬ورغم أن الضربة كانت قد وجهت عام ‪ 1954‬إل أن‬
‫التحليل التنظيمي لهذا الجيل أصبح ظاهرا ً للعيان في نهاية‬
‫الخمسينات ‪ ،‬حيث خرج من المعتقلت الكثيرون ممن تنكروا‬
‫للتنظيم وأحنوا رؤوسهم للسلطة بينما بقيت بعض العناصر في‬
‫الجهاز الخاص وأقلية اخرى تعاني من قسوة إرهاب السلطة التي‬
‫سحبت البساط من تحت أقدام الحركة السلمية‪.‬‬
‫ل ننكر قسوة المد العلماني الرهيب في تلك المرحلة وظهور ما‬
‫يسمى بالحركات الوطنية الثورية سواء بسقوط المبراطورية‬
‫الهولندية في أقصى الشرق في اندونيسيا أم بسقوط فرنسا في‬
‫ريف المغرب والجزائر‪ ،‬وذلك على الجانب العربي وإن كان السلم‬
‫هو الذي أشعل روح الجهاد على قطبي هذا المحور وامتداده )محور‬
‫طنجة جاكرتا حسب تعبير المفكر المسلم مالك بن نبي( فإن‬
‫الملمح السلمية كانت تتوارى باقتراب استلم ما سميت بالقيادات‬
‫الوطنية للسلطة‪ ..‬حتى أوشكت هذه الملمح على الختفاء تمامًا‪..‬‬
‫وبالضافة الى ما تقدم فإن هذا يعود أيضا ً للغياب التام للحركة‬
‫السلمية كحركة ثورية تملك نظرية متكاملة في مواجهة تكنولوجيا‬
‫الغرب وعملئه ولعدم وضوح الرؤية كنتيجة لغياب التحليل العلمي‬
‫وفوضى للمفاهيم التي لم تستطع أن تتصور الهدف والمنطلق‬
‫والوسيلة ‪ ،‬بالضافة لغياب الوعي التاريخي وانعدام التثقيف‬
‫السياسي لكوادر الحركة‪ ..‬أي باختصار الجهل بأغلب عناصر المعادلة‬
‫الرئيسية المطروحة ‪ :‬معادلة التحدي الغربي الحديث للوطن‬
‫السلمي‪..‬‬
‫ً‬
‫كما واجه هذا الجيل أيضا بالضافة لتفشي هذه الظواهر الوطنية‬
‫المسماة ثورية‪ ..‬واجه ظهور اليسار أو ما عرف بالعقائد الجتماعية‬
‫ذات المحتوى التقدمي‪ ،‬كموضة جديدة تحمل جاذبية خاصة ولكنها‬
‫هنا أيضا ً وقفت سلبية عاجزة عن طرح البديل وغابت من أمام هذا‬
‫السيل الجارف… وسط كل هذا عاش الجيل الثاني منكفئا على‬
‫ذاته‪ ..‬يجتر آلمه وأمجاد السلف الصالح البعيد والقريب بل ووقف‬
‫متهما ً رافضا ً لمحاولت التجديد‪ ..‬ولكن قبل أن نترك هذا الجيل لبد‬
‫من الشارة إلى محاولة حزب التحرير السلمي للخروج من دائرة‬
‫المحنة والتردد…‬
‫ل‪ ..‬والى أي درجة‪ ،‬وما الذي‬ ‫ولكن هل استطاع الحزب ان يخرج فع ً‬
‫قدمه؟ كل هذا لبد من ان يكون مجال دراسة موسعة ان شاء الله…‬
‫أما المحاولة الخرى فهي المحاولة الجادة للشهيد سيد قطب لنقاذ‬
‫الحركة السلمية بطرح مفاهيم بشكل محدود جذري وثوري‪.‬‬
‫ولكن هذه المحاولة التي تمثلت في الشكل التنظيمي الذي طرحه‬
‫سيد قطب في كتابه الرائد )معالم في الطريق( بالضافة الى‬
‫تفسيره العظيم )في ظلل القرآن(… هذه المحاولة ستترك آثارها‬
‫الحقيقية على الجيل الثالث وعلى شباب هذا الجيل أكثر مما‬
‫انعكست على الجيل الثاني الذي فشل في استيعابها بل ووقف‬
‫منها موقف المتشكك والمتردد والمتهم‪ ..‬ومع قولنا بجدية وعظمة‬
‫هذه المحاولة فإننا نقف موقفا ً نقديا ً صارما ً تجاه من اسموا‬
‫أنفسهم بالقطبيين ومن ساروا على دربهم في التأويل المتعسف‬
‫لفكار سيد قطب‪ ..‬هذا التعسف الذي قاد في النهاية الى ظهور‬
‫)جماعة المسلمين( أو ما يسمى )بالتكفير والهجرة(‪.‬‬
‫الجيل الثالث )‪(1967‬م وحتى الن‪ ..‬أو جيل الوعي والثورة‪:‬‬
‫وفجأة تكشف كل شيء في سماء المنطقة وتبين أن هذا المد‬
‫الثوري الوطني لم يكن إل خدعة كبرى في حياتنا‪ ،‬فجأة تبين أن‬
‫الستعمار الذي انسحب عسكريًا‪ ،‬عاد أشد خبثا ً بالوسائل القتصادية‬
‫والسياسية ووسائله الخفية الخرى… وأن ما سمي بمرحلة الثورة‬
‫الوطنية لم تكن إل فترة كمون سلخ فيها الستعمار جلده وعاد أشد‬
‫شراسة‪ ..‬فجأة اتضح أن الدول الستعمارية ازدادت ترفا ً ‪،‬وأننا‬
‫ازددنا تخلفا فتقدموا كمجتمعات منتجة وانحدرنا كحيوانات‬
‫استهلكية ‪ ..‬لقد كانت نكبة ‪ 67‬تحول دراماتيكيا ً مذهل ً جمد كل‬
‫شيء في مكانه لتصحو أمتنا على نعي مرحلة بأكملها‪ ..‬نهاية قاسية‬
‫قادت إليها مرحلة طويلة من التبديد والضياع‪.‬‬
‫ولكن هل كان على العدو أن يستسلم ‪ ..‬هل كان على قيم الخنوع‬
‫والستهلك التي فرضتها التكنولوجيا أن تنسحب من حياتنا بسهولة‬
‫‪ ،‬وهل كان على الثورة اليرانية أن تمر على طريق مفروش‬
‫بالزهور لجل أن تحقق انتصارها المذهل على قيم الخنوع‬
‫والستهلك‪..‬‬
‫انتصار اليمان والطهارة والروح في عصر التكنولوجيا‪ ..‬بالتأكيد‬
‫ل ‪ ..‬بل بدا أن المور تسير بشكل أسوأ في البداية‪ ..‬فالنظمة‬
‫العميلة التي أبرزت تلونت بوجوه مختلفة ‪ ..‬وأصبحت المخابرات‬
‫المريكية‪ ،‬أو هيئة المن القومي الفرنسية موجودة بشكل رسمي‬
‫أو شبه رسمي ‪ ،‬مسيطرة على مجريات المور في كثير من دول‬
‫الوطن السلمي ومناطق أخرى في أمريكا اللتينية وأفريقيا‪ ..‬هذا‬
‫بالضافة للوجود السرطاني في نفس المنطقة للشركات‬
‫الحتكارية المتعددة الجنسية‪..‬‬
‫)إن السلم وحده كدين وحضارة هو الشرط الوحيد لبقائنا‬
‫واستمرارنا كأمة وثقافة في وجه التحدي الغربي الحديث‪ ،‬السياسي‬
‫والثقافي على السواء( )توفيق الطيب(‪..‬‬
‫وهكذا سيتجاوز جيل الوعي والثورة مرحلة المحنة والتردد‬
‫‪،‬وسيتقدم بعملية البعث إلى نهاياتها المنطقية مستلهما في‬
‫المنطقة العربية بالذات تجربة المام الشهيد حسن البنا‪ ،‬ويقدم‬
‫أطروحة الوعي والثورة والشهادة…‬
‫لقد كان ظهور هذا الجيل أمرا ً حتميا ً على الصعيدين الداخلي‬
‫والخارجي ‪ ،‬ولم يكن بالمكان استمرار السكونية والجمود وتصلب‬
‫الشرايين‪..‬‬
‫لم يكن بالمكان استمرار غياب مثل هذا الجيل والبدائل‬
‫الستعمارية العلمانية تتهاوى وتسقط‪ ..‬ومنذ البداية كان على هذا‬
‫الجيل أن يخوض معركته على مستويين ‪ ،‬الول حيث المعركة‬
‫الحاسمة مع الجاهلية والطواغيت والبقايا المهترئة للبدائل التي‬
‫طرحها الستعمار ‪ ،‬والثاني حيث المعركة التي قد يضطر لدخولها‬
‫مع الجنحة المتخلفة في الحركة السلمية نفسها ‪ ،‬هذه الجنحة‬
‫التي عجزت عن فهم نفسها وفهم الخرين وفهم العصر والعلقات‬
‫القائمة‪ ..‬أو تلك الجنحة التي تركز على جانب من السلم أو تلك‬
‫وتهمل الجانب الخر ‪ ،‬أو تلك التي تقبل مهادنة النظمة الكافرة‬
‫وتراهن بذلك على الجانب المظلم المتنحي من التاريخ ‪ ،‬كما يحدث‬
‫في الردن ومصر الى حد ما‪.‬‬
‫إن أمام جيل الوعي والثورة مهام شاقة في إعداد نفسه … وأحداث‬
‫البعث السلمي والستمرار في الثورة بعد أن يحدد المفاهيم‬
‫والمنطلقات والوسائل والهداف بشكل علمي من خلل الدراسات‬
‫العميقة الجادة والتحليل والنقد‪ ..‬ذلك أن الوعي هنا يعني الوعي‬
‫العميق بالسلم وبالمشكلت السلمية المعاصرة وهذا يتطلب منا‬
‫إيمانا أساسه المعرفة‪ ..‬وعمل ً أساسه العلم… ووعيا ً سياسيا ً بواقع‬
‫العصر والتزاما ً خلقيا بمعايير السلم‪..‬‬
‫المصدر ‪ :‬مجلة الطليعة السلمية )العدد ‪ 11‬ـ تشرين ثان ـ ‪(1983‬‬
‫جدير بالذكر أن هذه الدراسة اشترك في إعدادها أيضا مع الشهيد‬
‫رفيق جهاده الباحث الفلسطيني أحمد صادق‪.‬‬

‫التحرك والفكر السياسي‬


‫الفلسطيني أمام مسار التسوية‬
‫تشهد القضية الفلسطينية تطورا لم تشهد له مثيل من قبل ‪ ،‬فبعد‬
‫عشرات السنين من النضال والجهاد العسكري والسياسي تتوجه‬
‫القيادة الفلسطينية الرسمية لتعطي التفاوض السياسي‬
‫والدبلوماسي الولوية المطلقة في العمل‪ .‬لقد تحرك‬
‫الفلسطينيون باتجاه واحد منذ سنوات طويلة فكان حضورهم في‬
‫مدريد وفي مفاوضات التسوية نتيجة ودللة وليس البداية‪.‬‬
‫لقد كان ظهور م‪.‬ت‪.‬ف في منتصف الستينات ثم سيطرة المقاومة‬
‫الفلسطينية عليها في العام ‪ 1968‬نقطة تحول مهمة في مسيرة‬
‫الشعب الفلسطيني‪ ،‬والذي حاول لول مرة منذ العام ‪ 1948‬أن‬
‫يمسك قضيته بيده بعيدا عن هيمنة وشروط النظام العربي‪ ،‬في‬
‫البداية ‪ ،‬كان واضحا أن العربي وبعد هزيمة ‪ 1967‬قد تخلى عن‬
‫فكرة تحرير كامل فلسطين واعتبر دوره في حرب تشرين أول‬
‫)اكتوبر( ‪ 1973‬هي أقصى الجهد الذي يمكن تقديمه في مثل هذه‬
‫المرحلة التاريخية‪.‬‬
‫وقد وضعت نهاية حرب ‪ 1973‬م‪.‬ت‪.‬ف أمام خيار خطير وهو أن‬
‫تسعى ضمن إطار الشروط الدولية لتمثيل الفلسطينيين في تحرك‬
‫السلم الذي بدأ الحديث عنه في ذلك الحين وعبر عنه في حينها‬
‫مؤتمر جنيف أو أن تترك ذلك للردن‪ ..‬وقد حسمت م‪.‬ت‪.‬ف المر‬
‫بتوجهها الستراتيجي الجديد الذي أعلنه المجلس الوطني الثاني‬
‫عشر الذي عقد بالقاهرة ‪ 1974‬وأقر البرنامج السياسي المرحلي ذا‬
‫النقاط العشر‪ .‬لقد افتتح هذا البرنامج مسلسل التنازلت حين ترك‬
‫هامشا مفتوحا لتسوية جزئية وهو يشير إلى )إن م‪.‬ت‪.‬ف ستناضل‬
‫بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الرض‬
‫الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على‬
‫كل جزء من الرض الفلسطينية التي يتم تحريرها وهذا يستدعي‬
‫إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله(‪..‬‬
‫وبعيدا عن البلغة والصياغة فقد شكل هذا النص حجر الزاوية في‬
‫التحرك السياسي الفلسطيني حتى قرارات المجلس الوطني الذي‬
‫عقد بالجزائر في تشرين ثاني ‪.1988‬‬
‫وقد تمت مكافأة م‪.‬ت‪.‬ف على موقفها ذلك عربيا ودوليا‪ ،‬إذ تم‬
‫العتراف عربيا بـ م‪.‬ت‪.‬ف ممثل شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني‬
‫ودوليا بدعوة المنظمة بصفتها ممثلة للشعب الفلسطيني ـ لحضور‬
‫مداولت المم المتحدة بصفة مراقب في مطلع الثمانينات‪ ..‬ثم‬
‫عربيا بإقرار مشروع فهد الذي عرف لحقا بقرار قمة فاس )فاس‬
‫الثاني( وخاصة بعد الجتياح السرائيلي لبيروت وخروج المقاومة‬
‫الفلسطينية منها‪ .‬كان هذا القرار يشكل أول اعتراف عربي جماعي‬
‫ورسمي بدولة الكيان الصهيوني ولو بشكل ضمني وهو يؤكد على‬
‫حق دول المنطقة في العيش بسلم‪ .‬وفي الدورة السادسة عشرة‬
‫التي عقدها المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر في شباط‬
‫)فبراير( ‪ 1983‬تم القرار فلسطينيا بقرارات قمة فاس وفي عام‬
‫‪ 1985‬تم توقيع اتفاق عمان الذي يجعل الردن شريكا في التحرك‬
‫السياسي الذي يخص الفلسطينيين ويخص الضفة الغربية وقطاع‬
‫غزة‪ ..‬ولكن سرعان ما ألغي هذا التفاق تحت ضغوط عدة منها‬
‫ضغط فصائل معارضة وكذلك إصرار المنظمة على دورها المرفوض‬
‫)كان وليزال( أمريكيا إسرائيليا‪.‬‬
‫وهكذا ما إن جاءت النتفاضة حتى كانت م‪.‬ت‪.‬ف والمشروع الوطني‬
‫الفلسطيني في وضع ل يحسد عليه ‪ ،‬فالمشروع الوطني‬
‫الفلسطيني يفتقد الرض التي يقف عليها في حين تستمر‬
‫المنظمة كمؤسسة عربية رسمية تقع فريسة المحاور العربية‬
‫وتلعب لعبتها وذلك في نفس الوقت الذي يسترد فيه النظام‬
‫العربي زمام المبادرة‪ .‬لقد أصبح واضحا أن م‪.‬ت‪.‬ف بحاجة إلى دعم‬
‫عربي رسمي وأنها ل تستطيع الستمرار بغير ذلك ‪ .‬إن الموقف‬
‫يستدعي الزمة حقا ‪ ،‬والمشروع الوطني الفلسطيني بعد أن اجتاز‬
‫أكثر من منتصف الطريق‪ :‬طريق التجاه الواحد ‪ ،‬والعمل‬
‫الدبلوماسي والتنازلت السياسية المجانية ‪ ،‬هذا المشروع يعيش‬
‫تناقضا استراتيجيا مع الطرف الذي يفترض أن يكون سنده‬
‫الستراتيجي‪.‬‬
‫شكلت النتفاضة مخرجا حيويا لـ م‪.‬ت‪.‬ف وللمشروع الوطني ككل ‪،‬‬
‫فقد عادت فلسطين إلى قلب الهتمامات العربية ‪ ،‬وفتحت إمكانات‬
‫جديدة للمنظمة بعد أن تيقن الردن من صعوبة بناء دور مستقل‬
‫وسارع إلى فك الرتباط الداري والقانوني مع الضفة الغربية ‪،‬‬
‫وتحركت الوليات المتحدة ـ عبر رحلت وزير خارجيتها حينها جورج‬
‫شولتز ـ باتجاه تسوية في المنطقة‪ ..‬ولكن النتفاضة جاءت معها‬
‫بتحديات غير مسبوقة للقيادة الفلسطينية منها بروز دور إسلمي‬
‫مهم في الضفة الغربية وقطاع غزه وانتقال مركز الثقل من‬
‫الخارج إلى الداخل الفلسطيني وقد كان هذا مستمرا ببطىء منذ‬
‫الخروج الفلسطيني من بيروت في العام ‪ 1982‬ولكن تكرس بفعل‬
‫النتفاضة‪.‬‬
‫لم تتصور قيادة م‪.‬ت‪.‬ف عندما قامت النتفاضة طريقا آخر غير‬
‫الذي كانت تسير فيه منذ سنوات‪ ..‬طريق التسوية‪ ،‬التسوية الجزئية‬
‫ولم يكن العقل الفلسطيني الرسمي بقادر على البداع وقد بات‬
‫أسير الرسمية العربية وأسير المعادلة الدولية والقليمية ‪ ،‬وبالتالي‬
‫تم طرح النتفاضة في سوق التسوية على أساس من تحسين‬
‫الموقف الفلسطيني التفاوضي ‪ ،‬وهكذا بدل من التعامل مع‬
‫النتفاضة كمشروع استراتيجي للنهضة والتحرير ‪ ،‬وكمحاولة قوية‬
‫وجادة لستنهاض المة تم التعامل معها كمشروع للستثمار العاجل‬
‫والسريع بل كغطاء للدخول إلى التسوية كما تبين أخيرا‪.‬‬
‫ولقد جاءت قرارات المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر‬
‫الذي عقد بالجزائر )تشرين ثاني ‪ (1988‬متطابقة مع هذا التصور‬
‫وهذا الفهم ومعيدة إلى الذهان حديث أنور السادات القديم حول‬
‫أن ‪ %99‬من أوراق اللعبة هي بيد أمريكا‪ ..‬وبات هذا هو المنطق‬
‫الفلسطيني الرسمي ومن هنا كان العتراف بالقرار ‪242‬‬
‫والعتراف بشرعية الكيان الصهيوني في المساومة على الكفاح‬
‫المسلح وذلك لجل الجلوس على طاولة الحوار مع الطرف‬
‫المريكي الذي قبل الحوار مقابل الشروط السابقة ولكنه سرعان‬
‫ما أوقف الحوار لسباب واهية بعد أن نجح في جر م‪.‬ت‪.‬ف إلى‬
‫مزيد من التنازلت ‪ .‬لقد كان الهدف من هذا الحوار كما جاء على‬
‫لسان عضو المجلس الوطني الفلسطيني إبراهيم أبو لغد "تفريغ‬
‫م‪.‬ت‪.‬ف من محتواها الوطني"‪.‬‬
‫في ذلك الوقت كان التحرك المريكي نحو التسوية قد وصل إلى‬
‫طريق مسدود بين نقاط بيكر ومشروع شامير للحكم الداري الذاتي‬
‫‪ ،‬كما كانت الهجرة اليهودية تتسع وكان الستقطاب يزداد داخل‬
‫الوطن المحتل بين الوطني والسلمي أو بالتحديد بين نهج‬
‫التسوية والنهج المعارض لها‪.‬‬
‫في هذا الوقت جاءت أزمة الخليج وجاءت الحرب التي أضعفت‬
‫الموقف الفلسطيني على عدة مستويات فقد خسر الفلسطينيون‬
‫اقتصاديا وفرضت على عشرات اللف منهم هجرة جديدة وفرض‬
‫عليهم حصار سياسي عربي ودولي وأصبحوا يواجهون تهديدات‬
‫وتحديات عديدة منها‪:‬‬
‫‪ -1‬إنكار وتهديد وجودهم كشعب وكأمة‪ .‬فالمنطق السرائيلي وإلى‬
‫حد كبير المنطق المريكي أيضا بات ينظر إليهم كأقلية قومية عليها‬
‫أن تقبل العيش في ظل أكثرية يهودية‪.‬‬
‫‪ -2‬التوسع السرائيلي ‪ ..‬فعلى الرغم من التنازلت التي قدمها‬
‫العرب والفلسطينيون فإن أهداف وأطماع الكيان الصهيوني‬
‫التوسعية ازدادت شراهة ‪ ،‬وأصبح الردن نفسه مهددا وليس مجرد‬
‫الضفة والقطاع‪.‬‬
‫‪ -3‬الخشية الفلسطينية من الستخدام الوحشي وغير المقيد وغير‬
‫المتكافئ للقوة من الطرف السرائيلي دون مبالة بأية قيمة‬
‫أخلقية بل بعدم مبالة بمسألة الدعم السياسي طالما أن الهدف‬
‫هو إخماد المقاومة‪.‬‬
‫‪ -4‬سياسة خلق حقائق جديدة باستمرار في الراضي المحتلة تتمثل‬
‫في سياسة الستيطان ‪ ،‬الغتيالت ‪ ،‬السجن لمدد طويلة ‪ ،‬البعاد ‪،‬‬
‫حظر التجول لفترات طويلة ‪ ،‬تدمير البيوت ‪ ،‬إغلق المدارس‬
‫والجامعات‪ ،‬فرض الضرائب الباهظة والغرامات ‪ ،‬إضافة إلى تدمير‬
‫القتصاد الفلسطيني وبنى المجتمع التحتية وكذلك إنكار الحقوق‬
‫النسانية والسياسية‪.‬‬
‫‪ -5‬شبح البعاد الجماعي )الترانسفير( وهي الرغبة المكبوتة لدى‬
‫الحركة الصهيونية وهي من ضمن البرنامج السياسي لثلثة أحزاب‬
‫مشاركة في الحكومة الحالية )تسوميت ‪ ،‬موليدت ‪ ،‬هتحيا(‪.‬‬
‫‪ -6‬الهجمات العسكرية ضد الخارج الفلسطيني من تجمعات‬
‫ومؤسسات وقيادات ومواقع‪.‬‬
‫‪ -7‬الهجرة اليهودية‪.‬‬
‫‪ -8‬المخاوف من صراعات داخلية عنيفة داخل الصف الفلسطيني‬
‫نفسه على خلفيات سياسية وحزبية‪.‬‬
‫‪ -9‬استمرار تدخل الدول العربية في الشأن الفلسطيني الداخلي‬
‫وإحداث مزيد من النقسامات والمحاور‪.‬‬
‫في نفس الوقت الذي كان الفلسطينيون فيه يعيشون هذه‬
‫الهواجس والتحديات كانت الوليات المتحدة المريكية مع نهاية‬
‫حرب الخليج ترى نفسها على قمة الدنيا متفردة‪ ..‬فقد انهار‬
‫التوازن الدولي الموروث عن الحرب العالمية الثانية وانتهت الحرب‬
‫الباردة لصالح الغرب الرأسمالي وأدت حرب الخليج نفسها إلى‬
‫انهيار عربي بالغ في مقابل تفوق إسرائيلي وهجرة يهودية واسعة‪.‬‬
‫في هذه الظروف أرادت الوليات المتحدة أن تفرض سلمها الذي‬
‫يكفل لها استمرار الهيمنة والنفوذ ويكفل حماية الكيان الصهيوني‬
‫وحماية النظمة التابعة لها ويضرب أي نوازع للمعارضة القليمية‪،‬‬
‫وأصبح المريكيون يخشون أو يدركون أن استمرار الحتلل‬
‫السرائيلي يحمل في طياته بذور عدم استقرار يهدد المصالح‬
‫المريكية والسرائيلية بعيدة المدى‪ ،‬فالوضع الراهن يولد وضعا‬
‫متقلقل قادرا ً على النفجار في شكل عنف واسع متبادل في أي‬
‫وقت‪.‬‬
‫إن مخاطر استمرار تسابق التسلح واحتمالت تصاعد النتفاضة‬
‫والخوف من تعزيز دور قوى النهوض العربي والسلمي جعل أمريكا‬
‫تفكر في أنه لبد من التوجه نحو التسوية‪ ،‬تسوية شاملة لمسألة‬
‫الصراع العربي السرائيلي والقضية الفلسطينية‪ ..‬أو على القل‬
‫نزع فتيل النفجار منها بوصفها أهم عوامل اللاستقرار في‬
‫المنطقة‪ ..‬فالستقرار بات مطلبا أمريكيا في زمن التفرد‬
‫المريكي‪.‬‬
‫لقد قام بيكر وزير الخارجية المريكي بثماني جولت لمنطقة‬
‫الشرق الوسط خلل شهور قليلة مهدت في النهاية الطريق لعقد‬
‫مؤتمر مدريد ولكن على أساس من رفض مشاركة م‪.‬ت‪.‬ف ـ ومن‬
‫دون الخارج الفلسطيني ومن دون القدس ـ وعلى أساس أن تكون‬
‫المفاوضات ثنائية مباشرة بين كل طرف عربي والطرف‬
‫السرائيلي وبدون وسطاء وعلى أساس أن مشاركة الدولتين‬
‫الكبيرتين تقتصر على يومي الفتتاح وبل صلحيات لمراقب المم‬
‫المتحدة‪ .‬وأخيرا هذه المفاوضات ل تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية‪.‬‬
‫لقد كانت م‪.‬ت‪.‬ف تدرك طبيعة الموقف الذي تمر به‪ ،‬وتدرك حجم‬
‫القرار الذي يطلب منها اتخاذه ‪ ،‬ولذا فقد حرصت على أن يكون‬
‫المجلس الوطني الفلسطيني هو المؤسسة التي تأخذ القرار‬
‫وحرصت على تمثيل جميع القوى الفلسطينية وخاصة القوى‬
‫السلمية‪ ..‬ولكن عدة اجتماعات بين قيادات من م‪.‬ت‪.‬ف وحركة‬
‫حماس واتصالت أخرى مع حركة الجهاد السلمي فشلت جميعها‬
‫في إحضار القوتين السلميتين الرئيسيتين ‪ ،‬كما فشلت التصالت‬
‫التي تمت مع جبهة النقاذ التي رفضت الحضور بشروط قيادة‬
‫م‪.‬ت‪.‬ف‪.‬‬
‫وهكذا غابت جميع القوى السلمية المجاهدة والفاعلة في ساحة‬
‫النتفاضة كما غابت فصائل وطنية مناضلة ‪ ،‬بل وغاب عدد كبير من‬
‫أعضاء المجلس الوطني المعين‪ .‬كما رفض عدد ل بأس به حضور‬
‫مقررات المجلس خاصة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وبعض‬
‫المستقلين وأفرادا من حركة فتح نفسها ‪ .‬وإذا أخذنا بالعتبار أن‬
‫عددا من الذين قالوا نعم قالوا تحت الكراه والبتزاز فإن كل ما‬
‫سبق يؤكد على عدم شرعية قرار الذهاب إلى مدريد‪ ..‬وعندما‬
‫تجتمع عشر فصائل فلسطينية في طهران قبل مؤتمر مدريد وبعد‬
‫شهر واحد من اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر‬
‫لتعلن رفضها المشاركة في مؤتمر مدريد وتندد بانعقاده فإن هذا‬
‫دليل آخر على عدم مصداقية القرار الفلسطيني الرسمي‬
‫بالمشاركة‪ .‬لقد بقيت فتح وحدها إضافة إلى الحزب الشيوعي‬
‫الفلسطيني على استعداد للذهاب إلى آخر الطريق ‪ ،‬لقد قاموا‬
‫بترتيبات وجهود كبيرة لخراج عناصرهم إلى الشارع الفلسطيني‬
‫ولوضع أغصان الزيتون في فوهات بنادق جنود الحتلل‪ ،‬ولسباب‬
‫إعلمية رخيصة ساومت قيادة حركة فتح على النتفاضة وأحدثت بل‬
‫شك شرخا عميقا في الوجدان الفلسطيني‪ ..‬فأي معنى لغصن‬
‫الزيتون في فوهة بندقية قتلت أطفالنا وأهلنا بالمس وهي تفعل‬
‫ذلك اليوم وغدا‪.‬‬
‫في اليوم الثاني من أيام مدريد استمع العالم إلى خطاب الطرفين‬
‫الساسيين السرائيلي و الفلسطيني‪ ،‬ومثلهما رجلن كل منهما‬
‫في السبعينات من عمره‪ ،‬اكتسى خطاب الول بمنطلقات التاريخ ‪،‬‬
‫التاريخ الخاص الذي كتب على أرضية الصراع ونفي الخر‪ .‬قال‬
‫شامير "شهد هذا القرن خطة إبادة نفذت على أيدي النظام النازي‬
‫وكنا دون وطن أو حماية‪ ،‬ولكن الكارثة هي التي جعلت المجتمع‬
‫الدولي يعترف بمطالبتنا القائمة على حقنا في أرض إسرائيل ‪..‬‬
‫وفي الواقع جاءت ولدة دولة إسرائيل من جديد بعد وقت قصير‬
‫جدا من الكارثة‪ ،‬جعلت العالم ينسى أن مطالبتنا هذه قديمة‪ ،‬إننا‬
‫الشعب الوحيد في أرض إسرائيل خلل أربعة آلف سنة"‪ .‬كان‬
‫شامير يعرف حدود مشروعه اللمحدود لذا فهو ل يتحدث باسم دولة‬
‫إسرائيل وإنما باسم الشعب اليهودي‪ .‬أما الخطاب الثاني فقد جاء‬
‫مسكونا بأزمة المشروع الوطني الفلسطيني‪ ،‬مفتقدا لعدالة التاريخ‬
‫ومجلل بنص الستجداء السياسي‪ .‬قال عبد الشافي‪ :‬ليس هناك في‬
‫الشرق الوسط شعب زائد خارج حدود الزمان والمكان ‪ ،‬بل هناك‬
‫دولة أخطأها الزمان والمكان أل وهي دولة فلسطين ‪ .‬إن حلم‬
‫المشروع الوطني الطويل جاء وقت التخلي عنه‪ ..‬ويكمل عبد‬
‫الشافي "دولتنا هذه وهي في مرحلة المخاض قد طال انتظارها ول‬
‫بد لدولتنا أن تقوم الن وليس غدا ‪ ،‬ومع ذلك فإننا على استعداد‬
‫لقبول المرحلة النتقالية شريطة أل تتحول هذه المرحلة النتقالية‬
‫إلى حل دائم"‪.‬‬
‫إن القيادة الفلسطينية تذهب إلى مؤتمر التسوية دونما خيارات‬
‫بديلة في جعبتها بل وأصبحت وكأنها تساوم على ضعفها ‪ .‬يقول‬
‫بسام أبو شريف المستشار السياسي لرئيس م‪.‬ت‪.‬ف تعليقا على‬
‫مسألة الضمانات المريكية للطرف الفلسطيني "إن الضمانة الهم‬
‫هي استمرار الوليات المتحدة في العملية السلمية" ‪ .‬لقد تحركت‬
‫قيادة م‪.‬ت‪.‬ف ولكثر من خمسة عشر عاما باتجاه واحد وهي اليوم‬
‫تريد النتفاضة عطاء لخيار السلم والتسوية وليس بديل في حالة‬
‫الفشل‪ .‬فكيف يمكن لمن يضع غصن الزيتون في البندقية التي‬
‫أطلقت عليه النار بالمس‪ .‬أن يعود لقذف جنود العدو بالحجارة‪ .‬إن‬
‫خطيئة أخرى تقدم عليها قيادة م‪.‬ت ‪.‬ف وهي تكرس انقساما في‬
‫الشارع الفلسطيني وعلينا أن نعترف أن النقسام تجاوز هذه المرة‬
‫الحزاب والنخب المثقفة إلى الشارع بسبب عملية اليهام التي‬
‫صورت أن ‪ 45‬دقيقة من الكلم لحيدر عبد الشافي مقابل ‪45‬‬
‫دقيقة من الكلم لسحق شامير يعني أننا نجحنا وأن ميزان القوى‬
‫قد تعدل ‪ .‬ولكن سرعان ما بددت ردهات الخارجية المريكية في‬
‫واشنطن هذا الوهم فقد سارعت فتح إلى تشكيل اللجان السياسية‬
‫الداعمة كما قالوا للوفد الفلسطيني المفاوض‪ ..‬وبعيدا عن خلفيات‬
‫تأسيس هذه اللجان في البداية فإنها تتحول أو ستتحول بالتدريج‬
‫إلى بديل عن القيادة الوطنية الموحدة ‪ ،‬وكأننا دخلنا إلى مرحلة ما‬
‫بعد النتفاضة ‪ ،‬مع العلم أن القيادة الوطنية الموحدة لم تعد قائمة‬
‫فعل منذ أكثر من ثمانية أشهر ‪ .‬وما يصدر اليوم باسمها بات يعبر‬
‫عن وجهة نظر فتح في تونس ‪ ،‬فيما الجبهة الشعبية والديمقراطية‬
‫قد باتت تصدر بياناتها منفردة أو بالتنسيق مع قوى إسلمية‬
‫ووطنية أخرى‪.‬‬
‫وهكذا يمكن تقسيم القوى الفلسطينية فيما يخص مؤتمر التسوية‬
‫إلى‪:‬‬
‫‪ -1‬الذاهبون إلى التسوية ويمثلون جماعة رئيس م‪.‬ت‪.‬ف وجماعة‬
‫الحزب الشيوعي الفلسطيني‪.‬‬
‫‪ -2‬الرافضون للتسوية من داخل م‪.‬ت‪.‬ف وعلى رأسهم الجبهة‬
‫الشعبية لتحرير فلسطين وإلى حد أقل الجبهة الديمقراطية‪.‬‬
‫‪ -3‬الرافضون للتسوية من خارج منظمة التحرير الفلسطينية‪،‬‬
‫وتشمل‪:‬‬
‫أـ القوى السلمية ممثلة في حركة المقاومة السلمية )حماس(‬
‫وحركة الجهاد السلمي في فلسطين‪.‬‬
‫ب ـ القوى الوطنية خارج م‪.‬ت‪.‬ف مثل جبهة النقاذ التي تشمل‬
‫الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة ـ فتح النتفاضة ـ الصاعقة ـ الحزب‬
‫الشيوعي الثوري إضافة إلى حركة فتح ـ المجلس الثوري‪.‬‬
‫في الماضي كانت النقسامات حول وسائل العمل أو حول الهداف‬
‫المرحلية تنحصر في دائرة التنظيمات والنخبة السياسية‪ ،‬بيد أن‬
‫النقسام الفلسطيني اليوم يشير إلى انهيار الجماع الوطني‬
‫الفلسطيني التاريخي وسواء ضاق هذا النقسام أم اتسع فإنه أيضا‬
‫يمس القواعد الشعبية‪.‬‬
‫إن ذهاب م ‪ .‬ت‪.‬ف أو جزء منها إلى مفاوضات التسوية بدون‬
‫خيارات بديلة يؤكد أن القيادة الفلسطينية لن ترجع عن خيار‬
‫التسوية حتى لو فشلت الجولة الحالية للتفاوض ‪ ،‬وبالتالي فإنها‬
‫مرشحة للهبوط بشروطها إلى السفل ‪،‬وهذا صحيح طالما أن العدو‬
‫وحده هو الذي يستطيع أن يترك خيار المفاوضات إلى الحرب بينما‬
‫ل يملك الفلسطينيون ذلك‪.‬‬
‫تقول السيدة حنان عشراوي في مقابلة مع التليفزيون الردني‬
‫عشية الذهاب إلى مدريد ‪ :1991‬صحيح يمكنك النظر إلى الظروف‬
‫الموضوعية والقول بأن الفلسطينيون ضعفاء نسبيا ‪ ،‬وذلك أننا ل‬
‫نمتلك أسلحة ول نمتلك موارد طبيعية ول توجد لدينا أموال‪ ،‬ول‬
‫يوجد لدينا حلفاء من بين الدول الكبرى ‪ ،‬و الظروف حولنا ليست‬
‫مساعدة على الوصول لسلم عادل من جهات عديدة ‪ ،‬ولكن في‬
‫نفس الوقت فإن هذه مرحلة جديدة في تفكيرنا السياسي‪ ..‬فقد‬
‫قررنا أنه بدل من أن نكون سلبيين ‪ ،‬بدل من أن ندع الخرين‬
‫يقررون عنا ‪ ،‬فإننا قد أخذنا زمام المبادرة بأيدينا‪.‬‬
‫بقيت كلمة أخيرة وهي أن منطق هؤلء )الواقعيين جدا(! ل يمكنه‬
‫إنقاذ ما يمكن إنقاذه ول يمكنه إنقاذ شيء‪ .‬ونحن مثله نلحظ‬
‫صعوبات الوضع الدولي والقليمي المرافقة لحالة النهيار في‬
‫المنطقة‪ ،‬من انهيار التحاد السوفيتي والتفرد المريكي إلى انهيار‬
‫الوضع العربي بعد حرب الخليج والخلل الستراتيجي الذي ازداد‬
‫لصالح العدو الصهيوني ‪ ،‬إلى الحصار المفروض على النتفاضة‬
‫الباسلة في الوطن المحتل على كافة الصعدة اقتصاديا وسياسيا‬
‫واستيطانيا‪ ..‬ولكن هذا ل يجعلنا نقبل بما هو مطروح ول يفرض‬
‫علينا التعلق بقطار التسوية أو على القل تغيير الظرف الموضوعي‬
‫الصعب سواء في حياتنا أم في حياة جيل آخر ‪ ،‬فهذه حجة باطلة‬
‫لن الظرف الموضوعي سيتغير على أية حال وقد علمنا القرآن‬
‫والتاريخ ذلك ولكن علينا أن نقدر ونحن نعلم خيارنا اليوم ما هو‬
‫الفضل لشعبنا وأمتنا حاضرا ومستقبل‪ :‬أن نشهد تغيير الظروف‬
‫الموضوعية في حالة من التسليم والتبعية والخضوع أو أن نعيش‬
‫هذا التغيير ضمن حالة من النهوض والقيام والمقاومة تكون في حد‬
‫ذاتها أحد عوامل التغيير‪ .‬كما أننا نعتبر حجة رفع المعاناة عن شعبنا‬
‫كمبرر لللتحاق بقطار التسوية وقطار الحكم الذاتي حجة فاسدة ‪،‬‬
‫إذ كيف سترفع المعاناة في ظل الهيمنة الصهيونية ‪ ،‬كيف سترفع‬
‫المعاناة وجميعنا يعلم‬
‫ما هي مهمة وهدف الحركة الصهيونية في فلسطين وفي المنطقة‬
‫‪ ،‬أليس قبولنا تسهيل لهذه المهمة ولهذا الهدف بل تكريسا للحتلل‬
‫والمعاناة ل رفعها‪.‬‬
‫إن مشروع الحكم الداري الذاتي وبالصيغة التي يطرحها رئيس‬
‫وزراء العدو إسحق شامير ل يبغي سوى حل مشاكل إسرائيلية‬
‫بحتة ‪ ،‬ل يبغي سوى إعطاء الشرعية للحتلل وتقنينه وهو يمهد به‬
‫لعلن ضم الراضي في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى دولة الكيان‬
‫الصهيوني‪ ،‬في حين يكون السكان في الضفة والقطاع قد ارتبطا‬
‫بشكل أو بآخر بالردن وحملوا جوازات سفر أردنية واعتبروا إما‬
‫أقلية قومية في داخل الكيان الصهيوني وإما جالية أجنبية تابعة‬
‫لدولة مجاورة‪.‬‬
‫المصدر‪ :‬قدمت هذه الدراسة كورقة بحثية إلى المؤتمر الثالث لدعم‬
‫النتفاضة في بيروت بتاريخ ‪.24/12/1993‬‬

‫التطبيع مع العدو الصهيوني‬


‫وموقعه في معركة الهوية والوجود‬
‫حاول الصهاينة منذ بداية تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين‬
‫أن يحظوا بقبول المحيط العربي السلمي ‪ ،‬وقدم هرتزل‬
‫للسلطان عبد الحميد سنة ‪ 1896‬عشرين مليون ليرة ثمنا ً‬
‫لفلسطين‪ .‬وباءوا بالفشل ‪ ،‬ولكنهم لم ييأسوا طيلة القرن من‬
‫كسب أي اعتراف بهم من المحيط‪ ،‬بدءا ً باتفاق وايزمن ـ فيصل‬
‫الشهير ‪ ،‬مرورا ً بإقامة علقات سرية مع بعض الحكام العرب أو‬
‫النظمة العربية ‪ ،‬وليس انتهاء باتفاق غزة ـ أريحا الذي فتح الباب‬
‫على مصراعيه للمترددين والخائفين ـ لسبب أو لخر ـ لقامة‬
‫علقات معلنة مع الكيان الصهيوني‪.‬‬
‫لقد كان للصلح المنفرد الذي وقعه الرئيس المصري أنور السادات‬
‫مع الصهاينة ‪ ،‬أبلغ الثر في إعادة ترتيب الوضاع في العالم العربي‬
‫والسلمي للقبول بالدور الصهيوني كقوة إقليمية فاعلة في‬
‫المنطقة ‪ ،‬لها حق المساهمة في صياغة السياسات ورسم صورة‬
‫المستقبل وعلقاته‪ ،‬لقد كان كامب ديفيد الخطوة )القانونية(‬
‫الرسمية الولى في عملية التطبيع‪ .‬فبعد كامب ديفيد استطاع‬
‫الصهاينة أن يبنوا علقات ناجحة إلى حد ما ـ رغم الرفض الشعبي‬
‫المصري الكامل للعلقات وللتطبيع مع الصهاينة ـ مع رموز سياسية‬
‫وثقافية في مصر لتساعد في إعادة صياغة صورة )السرائيلي(‬
‫في الثقافة والحس الجماهيريين ‪ ،‬وكانت مختبرا ً لدراسة إمكانات‬
‫واحتمالت مستقبل الكيان الصهيوني في المنطقة ‪ ،‬ولدراسة اللغة‬
‫العلمية التي يمكن للصهاينة استخدامها لـ)تطبيع( الوجدان العربي‬
‫والسلمي على هضم وجودهم والقرار به ‪ ،‬ثم بسيطرتهم في هذا‬
‫الجزء من العالم‪ ،‬وساهمت في إنعاش القتصاد )السرائيلي( بفتح‬
‫آفاق لتطوير التكنولوجيا الزراعية ودراسة احتياجات السواق‬
‫العربية واستغلل مصر كمعبر لـ)تمرير( النتاج البضائعي إلى دول‬
‫المحيط‪ .‬ولكن الخطر من هذا كله هو الدور المباشر "لكامب‬
‫ديفيد" في تحقيق الرغبة الستراتيجية للصهاينة بخلق موطئ قدم‬
‫في لبنان )صناعة دويلة عميلة في جنوب لبنان( وتاليا ً في اجتياح‬
‫لبنان وطرد منظمة التحرير منه ‪ .‬وهي سلسلة اكتملت باتفاق غزة‬
‫ـ أريحا الذي سيكون بعده فصل جديد من الحياة للكيان الصهيوني‬
‫أو الولدة الثانية للكيان‪ ،‬مما يمكن أن يكون فاتحة لحلم ) إسرائيل‬
‫الكبرى( إذا لم ينتبه العرب والمسلمون جيدا ً ويفيقوا من غفلتهم‪،‬‬
‫وهي غفلة من مظاهرها التهوين من شأن قدرة الصهاينة على‬
‫تحقيق حلمهم )الكارثي( أو )تسفيه الثقافة الصهيونية( التي‬
‫ستذوب في المحيط الثقافي العربي السلمي ‪ ،‬وبالتالي لن يكون‬
‫للصلح والتطبيع أثر خطير بل ربما كان هذا في صالح العرب‬
‫والمسلمين وقبلهم الفلسطينيون ‪ ،‬وهو ما عبر عنه كاتب المصري‬
‫بقوله إن التفاق ـ وبالتالي التطبيع ـ )يمكن أن يؤدي إلى انفتاح‬
‫على المستوى الحضاري من أجل إثراء الثقافة النسانية‪ ،‬وإلى‬
‫عودة اليهودي إلى مساره الحضاري المشترك مع العرب ونبذ‬
‫الصهيونية كفكر غربي غريب على اليهود… ونحن )العرب( قادرون‬
‫على امتصاص الغزو الثقافي(‪.‬‬
‫ً‬
‫لم يكن إنشاء الكيان الصهيوني حل لمشكلة وجودية لشعب مضطهد‬
‫بدون دولة كما درجت الدعاية الستعمارية على القول ‪ ،‬ولكنه حل‬
‫عملي لمأزق الهيمنة الستعمارية الغربية على العالم‪ .‬فالكيان‬
‫مرتبط بالمركز الستعماري ويختزن أسوأ صفات المستعمرين ‪ ،‬هذا‬
‫هو جسم الصهيونية وروحها‪ .‬إن التطبيع يعني للصهيونية الرضوخ‬
‫العربي والسلمي لحقيقة وجود الكيان كأمر واقع ل مجال لزالته‪،‬‬
‫وبالتالي إنهاء الصراع معه ‪ .‬وهذا يوفر للكيان الظروف المناسبة‬
‫للتفرغ والتوسع وتحسين القتصاد والهيمنة السياسية‪ ،‬والتخلص‬
‫من أعباء حرب الستنزاف المرهقة التي يكلفها استمرار الصراع‪.‬‬
‫وما يستحيل تنفيذه بأداة الحرب ‪ ،‬سيكون ممكنا ً بأداة )السلم( وهو‬
‫أمر ل يتعدى موازين الصراع والهزيمة أو النصر ‪ ،‬أي أن المعركة‬
‫مستمرة ولكن ضمن قيود ثقيلة تكبل الخصم ‪ ،‬وهو الطرف العربي‬
‫السلمي‪ .‬هذا هو جوهر عملية التطبيع‪.‬‬
‫من أجل تهيئة الرضية المناسبة لتحقيق أهداف المشروع‬
‫الصهيوني يتم التطبيع عبر خطوات لتغيير العقل العربي‬
‫السلمي ‪ ،‬أي إعادة تشكيلة لتسهيل التعامل مع المشروع‪ .‬فمثل ً‬
‫بعد إتمام التطبيع لن يكون مستغربا ً ـ ربما ـ التدخل الصهيوني‬
‫لـ)رفض النزاعات( بين كيان عربي ما وكيان عربي آخر‪ ،‬بعد تقبل‬
‫الكيان الصهيوني كجسم طبيعي ومتجانس في المنطقة‪ .‬والخطورة‬
‫ـ موضوعيا ً ـ في هذا المر تكمن في أن رغبات الصهاينة‬
‫ومصالحهم تتناقض جذريا ً وبشكل بنيوي مع رغبات ومصالح المحيط‬
‫العربي والسلمي‪.‬‬
‫المصدر‪ :‬من أرشيف حركة الجهاد السلمي في فلسطين )‬
‫‪.(12/1994‬‬

‫فاتورة ايجار لمدة ‪ 2000‬عام‬


‫في الوقت الذي تردد فيه إسرائيل على مسامع العالم هيامها‬
‫بالسلم يؤكد سلوكها العملي تحديها للرأي العام العالمي والمحلي‬
‫بإصرارها على إقامة المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة‬
‫والستمرار في تهويد مدينة القدس التي تشكل جزءا من تاريخ‬
‫وعقيدة المسلمين في كل مكان‪..‬‬
‫والمتتبع لتصريحات الزعماء السرائيليين يعجب من سهولة توزيعهم‬
‫للتصريحات والبيانات وبناء المستوطنات دون أي اهتمام برفض‬
‫العالم أو سخطه وكأنهم يقومون بواجب ديني ل يحق لحد غير‬
‫]إيلوهيم‪:‬الله( أن يسألهم عنه بل هم كذلك فعل وكأن التوراة التي‬
‫بين أيديهم أصبحت مستندات تمليك أو أوراق طابور أبدية ‪ ،‬وعلى‬
‫العرب بالضافة لخروجهم من هذه الرض أن يدفعوا فاتورة إيجار‬
‫لمدة ألفي )‪ (2000‬عام‪ ..‬وبما كان على الفلسطينيين وأهل‬
‫الجنوب اللبناني دفع جزء من فاتورة الحساب هذه اليام!‬
‫والذي يفهم اليهود‪ ..‬ل يستغرب أي شئ من هذا ففي نظرهم أن‬
‫كل شئ خارج القاليم الثلثة المشهورة ]إيلوهيم ـ أرض إسرائيل‬
‫اليهود[ إما عقبة يجب إزالتها أو مطية يجب استغللها‪ ،‬فالنجليز‬
‫مطايا والمريكيون مطايا والروس كذلك أما العرب فينقسمون‬
‫حسب وجهة النظر هذه إلى عقبات ومطايا‪.‬‬
‫واليهود ل يعرفون أو ل يعلنون لهم حدودا محددة لن التوراة تقول‬
‫لهم في سفر يشوع ‪] 4:1‬وعد الله شعبه المختار بإعطائه كل‬
‫موضع تدوسه يداه[ كما تقول لهم في سفر التكوين ]‪.[20-18:15‬‬
‫"منح الله قيمة شعبه المختار كل الرض الواقعة بين النيل‬
‫والفرات" ولهذا نجد حاييم وايزمان يقول في مذكراته ص ‪:474‬‬
‫]إنني أعلم بأن الله قد وعد أبناء إسرائيل بفلسطين ولكني ل‬
‫أعرف الحدود التي رسمها[!‬
‫وهكذا يتناسى اليهود تحت سيطرة خيالت وأوهام القوة أنهم‬
‫كعبرانيين جاءوا إلى فلسطين كقبيلة غازية طردت الكنعانيين الذين‬
‫أقاموا فيها حضارة قبلهم بألف ومائتي عام‪.‬‬
‫وعندما سأل الجنرال ديجول بن غوريون في يونيو ‪.1960‬‬
‫ـ ما هي أحلمك بشأن الحدود الحقيقية لسرائيل؟ أخبرني ‪ ..‬فلن‬
‫أنقل حديثك لحد ‪] .‬لحظ أننا كنا وقتها نتكلم عن الكماشة أو‬
‫الكسارة والبندقة وقرب انتهاء إسرائيل تحت زعامة النظمة‬
‫الشتراكية والثورية![ لم يجب وقتها بن غوريون ولكنه بعد سبع‬
‫سنين في ديسمبر ‪ 1967‬أرسل يقول لديجول‪:‬‬
‫] لو سألتني هذا السؤال لخمس وعشرين سنة خلت لجبتك أن نهر‬
‫الليطاني هو حدودنا الشمالية وشرق الردن حدودنا في الشرق[!‬
‫وهكذا فالمستوطنات ليست أل ظاهرة من ظواهر العقل اليهودي ل‬
‫يحق لحد غير ]إيلوهيم[ أن يسألهم عنها‪ ..‬فهل يمكن قبل ذلك أن‬
‫تسأل هؤلء الذين رفض وفدهم دخول فندق يحمل اسم فلسطين‬
‫بالسكندرية أثناء مفاوضات الدارة الذاتية‪ ..‬هل يمكن أن نسألهم‬
‫أن يتكرموا حبا في عيون السلم أن ينزلوا اللفتة المكتوبة على‬
‫واجهة الكنيست ]أرضك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات[‪.‬‬
‫أراهن‬
‫المصدر ‪ :‬مجلة المختار السلمي ـ العدد الول السنة الولى ـ يوليو‬
‫‪1979‬‬
‫معالم في الطريق‬
‫للشهيد سيد قطب‬
‫كانت الجماهير تبحث عنه كخبزها اليومي ‪ ،‬وكان ورثة البوليس‬
‫السياسي يطاردونه كشبح يقض مضاجعهم ‪ ،‬كان الشباب المؤمن‬
‫يحملونه تحت ثيابهم‪ ..‬في جيوبهم وتحت وسائدهم ‪ ،‬وكانت‬
‫الصحافة المأجورة تنشر صورته )مطلوب حيا أو ميتا( كأنه عبد الله‬
‫النديم أو أي بطل وطني مطارد‪ ،‬كان المؤمنون يتناقلون كلماته‬
‫همسا ‪ ،‬وكان صوت المذياع الفاجر يتوعد من شاهده ولم يبلغ‬
‫بالويل والثبور ‪ ..‬إنه واحد من أخطر الكتب السلمية في القرن‬
‫الخير ‪ ،‬كان ول يزال وسيبقي إلى فترة طويلة من أشد الكتب‬
‫تأثيرا على مسيرة الحركة السلمية في هذه المنطقة‪ .‬إنه الكتاب‬
‫الذي قتل رجل كتبه ‪ ،‬وأحيا جيل تربي عليه ‪ ..‬إنه "معالم في‬
‫الطريق" آخر ما كتب المام الشهيد ]سيد قطب[‪.‬‬
‫وسيد قطب واحد من ثلثة مفكرين يشكلون مثلثا خيرا في الفكر‬
‫السلمي الحديث في النصف الثاني للقرن العشرين‪ ..‬الخران هما‬
‫المفكر الجزائري المسلم مالك بن نبي والدكتور الشهيد علي‬
‫شريعتي مفكر الثورة اليرانية الفذ‪ ،‬ذهب ثلثتهم إلى الغرب‬
‫المسكون بحمى العداوة للسلم فكانت رحلتهم نقيضا لخرين‬
‫سبقوهم ‪ ،‬فالزهري المعمم رفاعة الطهطاوي عاد من باريس‬
‫مذهول من "عربة الرش" ‪ ،‬والشيخ طه حسين وقف عاجزا ومهزوما‬
‫أمام الشك الديكارتي ‪،‬أما سيد قطب فقد اكتشف حسن البنا وآمن‬
‫بأفكاره عندما كان في قلب أمريكا‪ ،‬وكان على شريعتي يقف في‬
‫"الكوليج دي فرانس" يكتشف ذاته ويكشف الخرين بشكل معجز‪..‬‬
‫كان يصيح في وجه البروفيسور الكبير داخل قاعة المحاضرة "من‬
‫أجل أن يشبع عاملكم وصاحب عملكم سلبتمونا كل ما نملك‬
‫وأبقيتمونا جياعا"‪ .‬أما مالك فقد أمضى في أوربا اكثر من ثلثين‬
‫عاما‪ .‬لم يكن فيها مبهورا من نظافة الشوارع ول عاجزا أمام‬
‫نظريات علم الجتماع‪ ،‬بل متأمل يحلل‪ .‬ويضع "شروط النهضة"‬
‫للمجتمع السلمي القادم‪ ،‬ولم يكن بين الثلثة رجل دين واحد فقد‬
‫كان سيد قطب أديبا ً وناقدا ً قال عنه أستاذ للدب في الجامعة‬
‫المريكية في بيروت "لو لم ينحرف سيد قطب إلى السياسة لكان‬
‫مدرسة فريدة في النقد الدبي الحديث"‪ ،‬وكان علي شريعتي عالما‬
‫في الجتماع‪ ،‬أما مالك فكان مهندسا كهربائيا تخرج من كبريات‬
‫المعاهد العلمية في باريس‪.‬‬
‫في منتصف الستينات كانت العلمانية في الوطن السلمي تصل‬
‫إلى ذروة طغيانها وجبروتها‪ ،‬بل إن واحدا من أهم رموزها "عبد‬
‫الناصر" كاد‪ ..‬بل توج فعل كنصف إله‪ ..‬في هذا الوقت بالذات كان‬
‫المام الشهيد سيد قطب يفتح كتابه "معالم الطريق" معلنا إفلس‬
‫كل من الديموقراطية الغربية والشتراكية الماركسية التي تراجعت‬
‫كأيديولوجية وانحصرت في الدولة وأنظمتها‪ ،‬كان يعلن إفلس هذه‬
‫النظمة وإفلس "الوطنية" و"القومية" أو العلمانية التي صدرها‬
‫الغرب إلى الوطن السلمي‪ ..‬وكان إعلن الفلس هو طريق‬
‫البداية‪ ..‬بداية رؤية جديدة وقيادة جديدة للبشرية ‪ ،‬ولكن الفلس‬
‫لم يكن في الجانب المادي بل في خسارة الغرب لرصيد "القيم"‬
‫الذي كان يؤهله لقيادة البشرية ‪ ،‬ول يملك أحد غير السلم تقديم‬
‫قيم صالحة وفعالة ومنهج ماض‪ ..‬إن دوره يجيء والبشرية في أشد‬
‫الساعات حرجا واضطرابا‪ ،‬ولكن كيف يمكن أن يؤدي دوره وهو‬
‫الذي ل يتمثل اليوم في مجتمع أو أمة وليس أكثر من عقيدة مجردة‬
‫‪ ،‬إن الطريق يبدأ بإعادة الوجود للمة التي ستقود العالم ‪ ،‬وإعادة‬
‫الوجود يتطلب بعث المة وتحريرها من ركام الجيال والتصورات‬
‫وركام الوضاع والنظمة التي ل صلة لها بالسلم‪ ..‬ولكن المسافة‬
‫بين محاولة "البعث" وتسلم "القيادة" مسافة شاسعة لن المة‬
‫غابت طويل عن الوجود والشهود ولن البشرية ل تفرط بسهولة‬
‫في العبقرية الوروبية التي أبدعت علما وثقافة وأنظمة وإنتاجا‬
‫ماديا ‪ ،‬وخاصة أن ما "يسمى بالعالم السلمي" يكاد يكون عاطل‬
‫من كل زينة ‪" ..‬ولكن لبد مع هذه العتبارات كلها من البعث‬
‫السلمي مهما كانت المسافة شاسعة بين محاولة البعث وبين‬
‫تسلم القيادة ‪ ،‬فمحاولة البعث السلمي هي الخطوة الولى التي‬
‫ليمكن تخطيها"‪] ..‬العبارة الخيرة أستندت إليها المحكمة أثناء‬
‫محاكمة المام الشهيد[‪.‬‬
‫إننا نتقدم لقيادة البشرية ونحن نحمل مؤهل آخر غير البداع المادي‬
‫الذي يجب أن نحاول فيه جهدنا كضرورة ذاتية‪ ..‬والمؤهل الذي‬
‫نحمله هو العقيدة والمنهج وأن تتمثل هذه العقيدة والمنهج في‬
‫مجتمع مسلم يتحرر فيه الناس من عبارة بعضهم البعض بعبادة الله‬
‫وحده والتلقي من الله وحده ‪ ،‬ولكن كيف تبدأ عملية البعث؟ ‪ ..‬لبد‬
‫من طليعة تعزم العزم وتمضي في الطريق‪ ..‬لبد لهذه الطليعة من‬
‫نظرية ثورية أو كما أسماها "معالم في الطريق" ويكون منوطا‬
‫بهذه المعالم أو النظرية الثورية تحديد‪:‬‬
‫‪1‬ـ منطلقات هذه الحركة الطليعية ]نقطة البدء في الرحلة‬
‫الطويلة[‪..‬‬
‫‪2‬ـ أهدافها ]صلب غايتها[‪.‬‬
‫‪3‬ـ تحديد وسائلها ومراحل حركتها ]أين تلتقي مع الناس وأين‬
‫تفترق‪ ..‬كيف تخاطب هذه الجاهلية بلغة السلم وفيم تخاطبها؟[‪.‬‬
‫‪4‬ـ تحديد مفاهيمها ‪ ،‬خصائصها‪ ،‬طبيعة دورها ووظيفتها ‪ ،‬وكذلك‬
‫تحديد شكل النضال ضد الجاهلية القائمة ]كما تعرف طبيعة موقفها‬
‫من الجاهلية[‪.‬‬
‫‪5‬ـ رؤية تحليلية للنظام القائم وأدواته ووسائله ومراكز القوي‬
‫المؤثرة فيه ]خصائص الجاهلية من حولها[‪.‬‬
‫وهذه النظرية الثورية أو المعالم لبد أن تنبثق من القرآن‬
‫وتوجيهاته وحركة جيله الول الذي رباه محمد )صلى الله عليه‬
‫وسلم(‪.‬‬
‫وبعد أن يتساءل عن ظاهرة عدم تكرار ذلك الجيل الصحابي يطرح‬
‫أسبابا ثلثة مهمة‪:‬‬
‫‪1‬ـ صفاء النبع القرآني صنع الجيل الول‪ ،‬واختلط النبع كان يرافق‬
‫ثقافة وتصورات الجيال التالية‪ ..‬والمقصود بصفاء النبع هنا هو‬
‫التلقي عن القرآن في التصور والمنهج ‪ ،‬وليس المقصود ما تصوره‬
‫البعض من عزلة عن المناهج الخرى وعدم اطلع عليها‪ .‬فعمر رضي‬
‫الله عنه عندما كان يقرأ في صحيفة من التوراة لم يكن يطلع فقط‬
‫وإنما كان يبحث عن حل لمسألة واجتهد في وقت لم يكن فيه‬
‫التشريع قد اكتمل بعد ‪ ،‬والرسول )صلى الله عليه وسلم( لم ينهه‬
‫عن الطلع وإنما نهاه عن التباع "لو كان موسى حيا بين أظهركم‬
‫ما حل له إل أن تبعني"‪ ..‬والطلع والمعرفة ل يوجب التباع وإنما‬
‫البحث عن حل لمسألة هو الذي يقود لذلك‪ ..‬ويؤكد هذا قول الشهيد‬
‫في فصل "التصور السلمي والثقافة" ‪" :‬إنه ]المسلم[ قد يطلع‬
‫على كل آثار النشاط الجاهلي"‪ ،‬وسنشرح هذا في حينه‪.‬‬
‫‪2‬ـ منهج التلقي للتنفيذ صنع الجيل الول‪ ،‬ومنهج التلقي لمجرد‬
‫الدراسة والمتاع والمعرفة والثقافة خرج الجيال التالية‪.‬‬
‫‪3‬ـ كانت لحظه إسلم إنسان الجيل الول تعني تحول حقيقيا لعهد‬
‫جديد حيث تقوم العزلة الشعورية الكاملة بين حاضر المسلم‬
‫وجاهليته ‪ ،‬ليس بمعنى عزلة التعامل اليومي ولكن بمعنى النخلع‬
‫من عرف الجاهلية ‪ ..‬قيمها ‪ ،‬تصوراتها وعاداتها‪ ..‬النخلع من الولء‬
‫لها ولقيادتها‪ ..‬والولء للتجمع السلمي الجديد ولقيادته‪ ..‬ولن‬
‫ثقافة الناس اليوم غير إسلمية‪ ..‬كذلك تصوراتهم‪ ..‬تقاليدهم‪..‬‬
‫فنونهم‪ ..‬آدابهم‪ ..‬شرائعهم وقوانينهم فإن على الطليعة التي‬
‫ستواجه الجاهلية ]الجاهلية ليست مرحلة زمنية مرت ولكنها أوضاع‬
‫اجتماعية وثقافية وسياسية ترفض الهتداء بهدى الله وتستبدل‬
‫بهديه شرائع الطواغيت[‪ ..‬على هذه الطليعة‪:‬‬
‫‪1‬ـ التجرد في فترة الحضانة والتكوين من مؤثرات الجاهلية ]ومرة‬
‫أخرى ليس التجرد هنا هو الجهل وعدم معرفة العالم‪ ..‬العالم الذي‬
‫سنتجاوز تناقضاته ونهديه سواء السبيل‪ ،‬ان هذا التصور الساذج‬
‫خطأ وخطر في آن واحد‪ ،‬كما إنه في النهاية مستحيل![‪ ،‬إن التجرد‬
‫يعني رفض قيم الجاهلية )التي عرفناها( وأن نستمد تصورنا من‬
‫النبع القرآني الخالص الذي لم تشبه شائبة‪.‬‬
‫‪2‬ـ التعامل مع آيات القرآن وكأنها تتنزل الن من خلل منهج‬
‫التلقي للتنفيذ وليس مجرد الدراسة‪ ،‬وهذا هو السلوب المثل‬
‫لنمنع تحول اليمان إلى نزعة فردية‪ ،‬ونبقيه وهجا وقوة وفعل‪ ..‬أي‬
‫روح قرآنية تمارس دوما التركيب المبدع‪.‬‬
‫‪3‬ـ مقاومة ضغوط المجتمع الجاهلي ‪ ..‬رفض تصوراته‪ ..‬تقاليده‪..‬‬
‫قيادته‪ ..‬ورفض الصطلح مع واقعه‪..‬‬
‫‪4‬ـ أن تفهم هذه الطليعة ان هذا الواقع الجاهلي يناقض المجتمع‬
‫السلمي ويحرمها بالقهر من تطبيق منهج الله في حياتها‪،‬‬
‫وبالتالي فليس أمامها إل تغييره من أساسه ‪ ،‬وبداية فهذا يتطلب‪:‬‬
‫)أ(الستعلء على قيمه وتصوراته‪.‬‬
‫)ب( أل تتنازل عن قيمها ول تعدل فيها لتلتقي معه في منتصف‬
‫الطريق‪.‬‬
‫)ج( أن تستعد لتقديم التضحيات الباهظة‪.‬‬
‫***‬
‫ثلثة عشر عاما كاملة والقرآن يقرر في نفوس المسلمين حقيقة‬
‫اللوهية وحقيقة العبودية والعلقة بينهما‪ ..‬إنها قضية النسان‬
‫الخالدة لنها قضية الوجود النساني والمصير النساني على توالي‬
‫الزمان‪ ،‬ولكن لماذا بدأ بهذه القضية‪ :‬إخلص العقيدة لله متمثلة‬
‫في ل إله إل الله رغم العناء الشديد الذي واجهته الحركة بسبب‬
‫طرحها‪:‬‬
‫* ألم يكن أسهل على محمد )صلى الله عليه وسلم( أن يبعثها قضية‬
‫قومية تحرر الرض العربية من الروم والفرس فيقف وراءه العرب ـ‬
‫بدل من أن يضطهدوه ويعذبوه ـ ثم يطرح قضية التوحيد في‬
‫النهاية! كل ‪ ..‬إن الله يعلم أن هذا ليس هو الطريق لتحرير‬
‫النسان‪ ،‬هذا الطريق الذي يبدأ بأن تتساوى جميع الجناس تحت‬
‫راية الله وتصبح جنسية العقيدة هي جنسية البشر‪ ،‬إن الله يعلم أن‬
‫الطاغوت هو الطاغوت ‪ ،‬عربيا كان أم فارسيا أم رومانيا‪.‬‬
‫* ألم يكن باستطاعته أن يعلنها ثورة اجتماعية يجمع بها الفقراء‬
‫وهم الغلبية ضد الغنياء الذين سرقوا قوتهم وحقوقهم ‪ ،‬وبعد أن‬
‫يتولى قيادة هذه الغلبية التي تحمل مضمونا اجتماعيا يسعى‬
‫لقرار عقيدة التوحيد‪ ..‬كل ‪ ..‬فالله يعلم أن العدالة الجتماعية لبد‬
‫أن تنبثق من تصور اعتقادي شامل‪ ..‬يرضاه البشر عن طواعية ‪..‬‬
‫يستقر في قلوبهم وهم يتطهرون ثم يجري على أيديهم‪ ،‬وهنا‬
‫تصبح للعدالة الجتماعية قيمة حقيقة ووظيفة حقيقية بعيدا عن‬
‫الفوضى والشعارات المزيفة‪.‬‬
‫* ثم لماذا لم يعلنها دعوة إصلحية في مجتمع يعاني من أزمات‬
‫اخلقية على أكثر من مستوى حيث الظلم والخمر والميسر‬
‫والدعارة‪ ..‬وبالتأكيد كان سيقبل عليه جمهرة صالحة تظهر نفسها‬
‫ويستطيع أن يطرح عليها بعد ذلك عقيدة ل إله إل الله ‪ ،‬كل ‪ ..‬فالله‬
‫يعلم أن الخلق التي ل تقوم على عقيدة تقرر القيم والموازين ل‬
‫تقرر نصرا حقيقيا ول تقدما حقيقيا‪ ..‬وإل لما قدم للبشرية هذا‬
‫النموذج الحضاري المنقذ‪.‬‬
‫هكذا استمر القرآن الكريم يطرح قضية ل إله إل الله‪ ،‬ومن خلل‬
‫جانبين مهمين في طبيعة هذا الدين‪:‬‬
‫‪1‬ـ بناء العقيدة ‪ ..‬أي تمكينها وشمولها واستغراقها لشعاب النفس‬
‫النسانية كضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة‪ ،‬وهكذا دون‬
‫التطرق إلى تفصيلت النظام أو الشرائع‪ ..‬أي أنه لم يطرح في مكة‬
‫برنامجا شامل في القتصاد والسياسة‪ ..‬قبل أن تستقر العقيدة في‬
‫القلوب وينصاع البشر لله حاكما ومشرعا ‪ ،‬ولكن الذي يجب أن‬
‫يفهمه الجميع أن القرآن ـ ومنذ اليوم الول ـ لم يغفل عن إصدار‬
‫التوجيهات الجتماعية والسياسية والقتصادية ‪ ،‬فأولى آيات القرآن‬
‫الكريم )سورة العلق( تطرح قضية حضارية هي إحداث التوازن بين‬
‫الغيب والعلم ‪ ،‬بل وتوحيد القراءتين ‪ ..‬الولى باسم الغيب ‪..‬‬
‫والثانية باسم العلم ‪ ،‬الولى باسم الله والغيب ]باسم ربك الذي‬
‫خلق[‪) ..‬حرف الباء( ‪ ،‬والثانية بمعية الله ]وربك الكرم[ ‪) ..‬حرف‬
‫الواو( بل واعتبر تجاوز إحدى القراءتين على الخرى طغيانا‪ ..‬لم‬
‫يغفل القرآن حتى في تلك المرحلة المكية عن إصدار توجيهات أكثر‬
‫دللة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ]أم لهم شركاء شرعوا لهم من‬
‫الدين ما لم يأذن به الله[ الشورى ‪] 21‬و أمرهم شورى بينهم[‬
‫الشورى ‪ ..38‬السلطة التي تستند إليها هذه الموازين والقيم وتقرر‬
‫الجزاء الذي تملكه هذه السلطة‪ ..‬قبل هذا تظل القيم متأرجحة‬
‫وكذلك الخلق بل ضابط ول سلطان ول جزاء‪.‬‬
‫وهكذا لم يرسل الله محمدا )صلى الله عليه وسلم( ليعلنها ثورة‬
‫قومية‪ ..‬عدالة اجتماعية‪ ..‬أو دعوة إصلح للخلق ‪ ..‬و إنما أرسله‬
‫ليقرر في القلوب حقيقة ل إله إل الله قبل كل شئ‪ ..‬وبعدها‬
‫تتطهر أرض العرب من الرومان والفرس ليقوم سلطان الله وليس‬
‫سلطان العرب‪ ..‬وقامت العدالة الجتماعية باسم الله فتطهر‬
‫المجتمع من الظلم الجتماعي وكذلك تطهرت النفوس والخلق‪.‬‬
‫وهكذا ارتفعت البشرية في نظامها وفي أخلقها وفي حياتها كلها‬
‫إلى قمة سامقة لم ترتفع إليها من قبل‪ .‬إن أي انحراف عن هذا‬
‫المنهج سواء بإعلنها دعوة قومية أو اجتماعية أو إصلحية أخلقية‬
‫ما كان يكفل الشورى ]وأمرهم شورى بينهم[ الشورى ‪ ..38‬وهو‬
‫أيضا ينذر ويتوعد المطففين الذين يلعبون باقتصاد الناس وأرزاقهم‬
‫]سورة المطففين[‪ ..‬وفي اليات الثلث الولى المكية من سورة‬
‫الماعون يجعل الله دع اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين‬
‫"قضية اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية" يجعلها صنوا للتكذيب‬
‫بالدين‪.‬‬
‫أقول هذا حتى ل نحمل كلمات المام الشهيد هنا أكثر من‬
‫مدلولتها‪ ..‬وأخيرا فهو نفسه الذي كتب "معركة السلم‬
‫والرأسمالية" و"العدالة الجتماعية في السلم"‪.‬‬
‫‪2‬ـ السلم منهج عملي حركي جاد‪ ..‬منهج يتعامل مع الواقع وليس‬
‫نظرية تتعامل مع الفروض‪ ..‬منهج يطرح التشريعات لحالت واقعة‬
‫فعل في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله‪ ..‬في مجتمع يملك‬
‫المسلمون فيه سلطانا على أنفسهم‪ .‬فالله سبحانه لم ينزل نظما‬
‫وشرائع ـ أي مواد دستورية ـ يختزنها المسلمون لتطبق عند قيام‬
‫الدولة في المدينة )!( لن السلم ل يفترض مشكلت يضطر بعدها‬
‫لفتراض حلول‪ ..‬إنه يواجه الواقع وأي واقع‪ ..‬واقع جديد مختلف‬
‫تماما‪ ..‬واقع يصنعه منهج السلم‪ ..‬له مشاكله الخاصة وملبساته‬
‫وظروفه الخاصة‪ ،‬وهكذا فصياغة القوانين والتشريعات )الدستور(‬
‫في وقت يرفض المجتمع فيه تحكيم شرع الله أمر غير واقعي وغير‬
‫جدي ‪ ..‬مهزلة أن تصنع دستورا يشمل مواد وقوانين تفصيلية‬
‫لمجتمع لم يتشكل بعد أو لمجتمع يرفض السلم أصل‪ ..‬وربما كانت‬
‫التجربة السلمية في إيران المثل الوضح فقد آمنت الجماهير‬
‫بعقدية ل إله إل الله‪ ..‬تقدمت وأسقطت الطواغيت تحت هذا‬
‫الشعار‪ ،‬ثم صوتت لصالح الجمهورية السلمية أو الستعداد لقبول‬
‫شرع الله ]وهي تفهم قواعده وأصوله وتوجيهاته[‪ ..‬ثم جاء الدستور‬
‫اليراني في النهاية‪.‬‬
‫ولكن كيف عالج القرآن قضية العقيدة في تلك الفترة‪ ..‬هل كانت‬
‫نظرية باردة بين دفتي كتاب‪ ..‬هل كانت لهوتا‪ ..‬هل كانت جدل‬
‫كلميا كالذي سمى "بعلم التوحيد"‪ ..‬كل ‪ ..‬فالقرآن جاء ليطهر‬
‫النسان‪ ..‬ينقذ فطرته من الركام‪ ..‬يفتح منافذ الفطرة كي تتلقي‬
‫وتستجيب‪ .‬ومن هنا كانت معركة القرآن معركة حية واقعية ل‬
‫تناسبها نظرية جاهزة بين دفتي كتاب أو جدال ذهني قائم على‬
‫منطق شكلي "علم التوحيد" ول لهوت يقبع في الزوايا الضيقة‪..‬‬
‫لقد جاء القرآن ليبني العقيدة في ضمير الجماعية المسلمة التي‬
‫سيخوض بها المعركة مع الجاهلية ورواسبها )الضمير والخلق‬
‫والواقع(‪ ..‬ولهذا كان لبد لبناء العقيدة أن يكون فعل وممارسة وأن‬
‫يظهر في صورة تجمع عضوي حيوي‪ ..‬أي تنظيم يباشر الحياة‬
‫متمثل في الجماعة المسلمة‪ ..‬وهكذا تتضح لنا شيئا فشيئا ربما‬
‫أخطر أطروحات المام الشهيد‪ .‬إن بناء ونمو الجماعة في واقعها‬
‫الحركي هو الترجمة الحية لبناء ونمو العقيدة أيضا‪ ،‬وهما لم يكونا‬
‫منعزلين ولم يسبق أحدهما الخر‪ ..‬لم يرسل الله نظرية ليجلس‬
‫محمد )صلى الله عليه وسلم( وثلة من أتباعه لدراستها وتحليلها‬
‫قبل طرحها للممارسة والتطبيق ]إن هذا من طبيعة نظرية‬
‫كالماركسية حوتها دفات كتاب وضعه مثقف قضى حياته بين رفوف‬
‫الكتب ثم جاء من يتبنى النظرية ويؤسس حزبا يحملها[‪ .‬إن طرح‬
‫العقيدة السلمية بشكل نظري مجرد للدرس والمعرفة خطأ وخطر‬
‫)بالقياس إلى السلم( في نفس الوقت ويشكل ظاهرة غريبة على‬
‫طبيعة هذا الدين‪ ..‬إن الذين يريدون صياغة نظرية ثورية ]إسلمية[‬
‫كاملة قبل أن يبدأوا حركتهم إما أن يفشلوا أو أنهم لن يبدأوا أبدًا‪..‬‬
‫وفي الحالين سينتهون كظاهرة منحرفة عن منهج السلم‪ .‬فهذه‬
‫النظرية لن يصوغها إل الجهد والعرق والممارسة الثورية الملتزمة‬
‫وليس مجرد البحث والدراسة‪ ،‬لن كل نمو نظري يسبق النمو‬
‫الحركي الواقعي ول يتمثل من خلله خطأ وخطر في نفس الوقت‪..‬‬
‫إن الجهد والعرق والممارسة هي الضمانة الكيدة أمام ظهور نظرية‬
‫صائبة‪" ..‬والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" العنكبوت ‪" 69‬إنهم‬
‫فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى‪ .‬وربطنا على قلوبهم إذ قاموا‬
‫فقالوا ربنا رب السماوات والرض‪ "..‬الكهف )‪ ..(14 ،13‬لحظ‬
‫"آمنوا" ‪" ،‬فزدناهم"‪" ..‬ربطنا"‪" ..‬قاموا""قالوا"‪ ..‬إنها الشارة إلى‬
‫الجدل بين النظرية )العقيدة( والممارسة )التجمع الحركي والحي(‪.‬‬
‫وحين يطرح المفكر العظيم أن الله سبحانه كان يريد بنا الجماعة‬
‫والحركة بالعقيدة وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة‪ ،‬حين يطرح‬
‫أن الله سبحانه كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة‬
‫الحركي الفعلي وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو‬
‫الصورة المجسمة للعقيدة ‪ ،‬كان يعني أن العلقة بين النظرية‬
‫والممارسة هي علقة جدلية حية نامية ‪ ،‬باختصار ـ وعلى عكس‬
‫النظريات الرضية ـ ليس هنا معنى لنظرية إسلمية ثورية بدون‬
‫واقع وتجمع حركي عضوي يتفاعل مع الجاهلية المقابلة ومع‬
‫رواسبها في أذهان أفراد هذا التجمع‪ ..‬ول ينسى المام الشهيد‬
‫سيد قطب أن يحذر المسلمين المخلصين من الوقوع فريسة‬
‫الضغوط الجاهلية التي تحاول إحراجهم فتسألهم تقديم حلول‬
‫لمشاكل غير إسلمية )!( صنعها واقع غير إسلمي ‪ ،‬إن للسلم‬
‫منهجه الرباني الخاص في عملية التغيير وهو حين يرفض المنهج‬
‫الذي يبني هذه التصورات يلزمنا بمنهجه كما التزمنا بعقيدته‬
‫ونظامه‪.‬‬
‫كان هدف الدعوة السلمية ليس فقط تعريف الناس بالله الواحد‬
‫وإنما أيضا عبوديتهم له ونبذ ربوبية الخلق‪ ..‬هدفها إخراجهم من‬
‫سلطان العباد في حاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم إلى‬
‫سلطان الله وحاكميته ‪ ،‬هدفها أن يخضع النسان بشطريه اللإرادي‬
‫)الفطري( والرادي لتوجيه الله‪ ..‬فالتصور السلمي يقوم على‬
‫أساس أن الوجود كله من خلق الله وأن النسان جزء من الوجود‬
‫الكوني ‪ ،‬وأن الله سن الشريعة لتنظيم حياة النسان الرادية‬
‫تنظيما متناسقا مع حياته الطبيعية ‪ ،‬وهكذا فالشريعة جزء من‬
‫الناموس اللهي العام الذي يحكم فطرة النسان والوجود وينسقها‬
‫كلها جملة واحدة‪ ..‬كل كلمة من كلمات الله وكل أمر شطر من‬
‫الناموس العام يتناسق معه فاللتزام بالمر ]الشريعة[ ناشئ من‬
‫ضرورة تحقيق التناسق بين حياة النسان وحركة الكون الذي يعيش‬
‫فيه ‪ ،‬فوق إنه اعتقاد يتحقق به إسلمنا‪.‬‬
‫ولكن المسلم في رحلته لطلب الشريعة اللهية وتحكيمها في حياته‬
‫يواجه بالجاهلية التي ترفض هذا المطلب وتقوم على التصادم بين‬
‫الجانب الرادي في حياة النسان والجانب اللإرادي )الفطري(‪،‬‬
‫وحيث أن المواجهة هنا تصبح واجبا شرعا وعقل فلنا أن نسأل كيف‬
‫ستتم المواجهة؟ بداية هذه الجاهلية تتمثل في نظرية قد تكون‬
‫نظرية ماركسية أو نظرية رأسمالية أو نظريات مشوهة مسروقة‬
‫عنهما كتلك المسماة "الشتراكية العربية" مثل‪ ..‬وأحيانا ل توجد‬
‫نظرية على الطلق كحال أغلب دول الوطن السلمي اليوم ‪،‬‬
‫ولكن من المؤكد أن هذه الجاهلية كانت دوما ممثلة في تجمع‬
‫حركي )مجتمع( له قيادته وتصوراته وتقاليده ‪ ،‬مجتمع عضوي‬
‫يتحرك دائما واعيا أو غير واع للمحافظة على كيانه ومحاربة عناصر‬
‫الخطر التي تهدد وجوده ]عندما بدأت نظرية أتاتورك تهتز في‬
‫تركيا تقدمت المؤسسة العسكرية ـ أقوى العضلت في جسد‬
‫الجاهلية التي دشنها أتاتورك ـ لحماية النظرية من الخطر الذي‬
‫هددها ]السلم[ ‪ ..‬ولن واجب المسلم الشرعي وقدره هو إلغاء‬
‫هذه الجاهلية التي تقوم على )نظرية( وتجمع حركي فلبد أن تتمثل‬
‫حركته في )نظرية( وتجمع حركي مقابل مكافئ لها في القوة أو‬
‫أقوى‪ ،‬لن النظرية المجردة ل تغير واقعا‪ ..‬فعندما يكون المطلوب‬
‫إلغاء الوجود القائم وإقامة وجود آخر يخالفه في طبيعة منهجه وكل‬
‫جزئياته فلبد أن تتمثل المحاولة الجديدة في تجمع عضوي حركي‬
‫أقوى نظريا ـ تنظيميا واجتماعيا ـ من المجتمع الجاهلي القائم فعل‬
‫‪ ،‬ومن هنا تنبع أهمية أن يفهم الذين يقرأون هذه المعالم‬
‫ويسترشدون بأفكار المام الشهيد هذه الجاهلية ‪ ..‬كنظرية‬
‫وكتنظيم ومؤسسات وعلقات اجتماعية هم مقبلون على تغييرها ‪،‬‬
‫فهل يعقل أن تغير شيئا تجهل طبيعته وتركيبته‪ ..‬هل يمكنك‬
‫مقاومة جاهلية تجهل أدواتها ووسائلها‪ ..‬ومن ناحية أخرى فالنظرية‬
‫السلمية المتمثلة في ل إله إل الله والتي تعني إفراد الله سبحانه‬
‫باللوهية و الربوبية والحاكمية‪ ..‬هذه النظرية أو القاعدة النظرية‬
‫إن كانت مجردة فليست ترجمة للسلم الذي هو حياة وواقع حي‬
‫يتفاعل مع واقع آخر‪ ،‬ومن هنا يرفض السلم أن يعتنق أتباعه‬
‫نظريته بينما هم أفراد ضمن كيان عضوي جاهلي يدينون له بالولء‬
‫لنهم بذلك يعملون على تقوية مجتمع يعملون نظريا على إزالته!!‬
‫يبقون خليا حية تمده بعناصر البقاء بدل من تقويض وجوده وإقامة‬
‫المجتمع المسلم‪ ،‬إن وجود تجمع عضوي حركي مقابل للجاهلية‬
‫يدين بالولء لله ورسوله ولقيادة إسلمية رشيدة ينخلع من الولء‬
‫لغيرها‪ ..‬هو الترجمة الحقيقة للعقيدة والنظرية السلمية ‪،‬‬
‫فالمجتمع المسلم ل يتحقق بالنوايا الحسنة ول بمجرد قيام النظرية‬
‫في قلوب الفراد مهما كثر هؤلء‪.‬‬
‫بعد أن يورد المام الشهيد سيد قطب تلخيصا لمراحل الجهاد في‬
‫السلم نقل عن ابن القيم في "زاد المعاد" والذي يقسم أهل‬
‫الرض إلى ثلثة أقسام‪ :‬مسلم مؤمن ـ مسالم آمن ـ خائف محارب‪..‬‬
‫بعد ذلك يتكلم عن السمات الصيلة والعميقة في المنهج الحركي‬
‫لهذا الدين‪:‬‬
‫‪1‬ـ الواقعية الجدية‪ :‬فهو حركة تواجه الواقع البشري بوسائل مكافئة‬
‫لوجوده الواقعي‪ ..‬بالدعوة والبيان لتصحيح التصورات والمعتقدات‬
‫وبالقوة والجهاد لزالة النظمة التي تحول بين الناس والحق‪ ..‬إنها‬
‫حركة ل تكتفي بالبيان في مواجهة السلطان المادي وفي نفس‬
‫الوقت ل تستخدم القهر المادي لضمائر الفراد‪.‬‬
‫‪3،2‬ـ الواقعية الحركية‪ :‬فهو حركة ذات مراحل ‪ ،‬لكل مرحلة وسائلها‬
‫المكافئة وأهدافها المرحلية ‪ ،‬إنه ل يطرح نظريات مجردة وبالتالي‬
‫ليمكن أن يواجه الواقع بوسائل متجمدة ‪ ،‬ومن هنا اعتقادي أن‬
‫الرأي القائل بأن تحقيق الهداف المباشرة وغير المباشرة‬
‫المرحلية والنهائية مرهون بقوالب جاهزة ووسائل أعدت سلفا هو‬
‫أمر مرفوض من خلل هذه السمة التي يطرحها سيد قطب ‪ ،‬ليس‬
‫معنى هذا أن الوسائل المتجددة ستكون منفصلة عن المنطلقات‬
‫والهداف‪ ..‬على الطلق ل‪ ..‬إن الوسائل مرتبطة جدليا بهذه‬
‫المنطلقات والهداف‪ ..‬وأي انفصام بينهما انحراف يقع فيه الكثير‬
‫من العاملين في الدعوة السلمية كهؤلء الذين يسيرون مغمضي‬
‫العين جاهلين منطلقاتهم وأهدافهم المرحلية زاعمين أنهم‬
‫يمتلكون وسائل الرسول عليه الصلة والسلم وطريقه القويم وهذا‬
‫عينه هو السمة الثالثة التي يطرحها الشهيد قائل‪ :‬إن هذه الحركة‬
‫الدائبة والوسائل المتجددة ل تخرج عن قواعده المحددة وأهدافه‬
‫المرسومة‪.‬‬
‫‪4‬ـ الضبط التشريعي للعلقات بين المجتمع المسلم وسائر‬
‫المجتمعات الخرى كما جاء في تقسيمة ابن القيم في "زاد المعاد"‬
‫)مسلم مؤمن ـ مسالم آمن ـ محارب خائف(‪ ،‬وهذا ينطلق من‬
‫أساس أن السلم لله هو الصل العالمي الذي على البشرية كلها‬
‫أن تفيء إليه أو تسالمه بجملتها فل تقف في طريقه‪.‬‬
‫ثم يستمر في عرض رؤيته عن هذا الدين كإعلن عام لتحرير‬
‫النسان في الرض من العبودية لهواه وللعباد وإعلن ربوبية الله‬
‫للعالمين ‪ .‬إن إعلن ربوبية الله تقتضي الثورة الشاملة على حاكمية‬
‫البشر بكل أشكالها وأوضاعها وهذا ل يتم بمجرد البلغ؛ لن‬
‫المتسلطين على رقاب العباد والمغتصبين لسلطان الله ل يسلمون‬
‫في سلطانهم بمجرد البلغ والبيان‪ .‬إن إعلن التحرير هذا ليس‬
‫إعلنا نظريا فلسفيا سلبيا‪ ..‬بل إعلنا حركيا واقعيا ايجابيا يجب أن‬
‫يتحقق وبالتالي لبد من أن يأخذ شكل الحركة إلى جانب شكل‬
‫البيان وذلك ليواجه الواقع البشري بوسائل مكافئة ‪ ،‬البيان يواجه‬
‫العقائد والتصورات والحركة تواجه العقبات المادية الخرى وفي‬
‫مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل العتقادية‬
‫التصورية والعنصرية والطبقية والجتماعية والقتصادية المعقدة‬
‫والمتشابكة‪ ،‬فأي سذاجة أن يتصور أحد أن دعوة تعلن تحرير النوع‬
‫النساني في كل الرض ثم تقف أمام العقبات الهائلة التي تعترض‬
‫طريقها باللسان والبيان فقط‪ ..‬إن السلم ل يكره الناس على‬
‫اعتناق عقيدته‪ ،‬ولكن السلم ليس مجرد عقيدة‪ ..‬إنه إعلن لتحرير‬
‫النسان للنسان بهدف إزالة النظمة التي تقوم على أساس‬
‫حاكمية البشر للبشر وعبودية النسان للنسان‪ ،‬إن النظام الذي‬
‫يحكم البشر يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وذلك بتلقي الشرائع‬
‫منه وحده ‪ ،‬ثم بعد ذلك يعتنق الفرد في ظل هذا النظام ما يعتنقه‬
‫من عقيدة ‪ ،‬أي يصبح الدين كله لله ‪ ،‬والدين يحمل مدلول أشمل‬
‫من العقيدة فهو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة ويعتمد على‬
‫العقيدة ولكنه أشمل منها‪ ..‬وهكذا فالجهاد السلمي لم يكن يوما‬
‫عملية دفاعية‪ ،‬إنه يحمل في ذاته مبررات التحرير العام للنسان ‪..‬‬
‫يحمل مبررا ذاتيا في طبيعة منهجه الواقعي ول يقف مدافعا وإل‬
‫فقد أهم مبررات وجوده‪ ..‬إنه على عكس ما اعتبره بعض الباحثين‬
‫السلميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع‪ ..‬هؤلء الذين‬
‫غشى أبصارهم التصور الغربي لطبيعة الدين فاعتبروه مجرد عقيدة‬
‫في الضمير أو نحلة قوم وليس منهجا أرسله الله للحياة البشرية‪.‬‬
‫‪5‬ـ إن كانت العبودية لله هي شطر الركن الول في العقيدة‬
‫السلمية فإن التلقي عن الرسول )صلى الله عليه وسلم( في‬
‫كيفية العبودية هو شطرها الثاني وهذا يقودنا لتحديد بعض القضايا‬
‫الساسية لهذا الدين‪:‬‬
‫* طبيعة المجتمع المسلم‪:‬‬
‫إن المجتمع الذي يدين بدين العبودية لله وحده ضمن هذه الشروط‬
‫الثلثة‪:‬‬
‫‪1‬ـ اليمان بوحدانية الله عقيدة في الضمير‪ ..‬فهو الموجود وجودا‬
‫حقيقيا وهو الفاعل فعل حقيقيا‪ ،‬وليس الطبيعة أو أين الله!!‬
‫وليس دورة رأس المال أو صراع الطبقات‪.‬‬
‫‪2‬ـ التوجه لله وحده بالشعائر التعبدية "قل إن صلتي ونسكي‬
‫ومحياي ومماتي لله رب العالمين"‬
‫النعام ‪.16‬‬
‫‪3‬ـ تلقي الشرائع والقوانين عن الله سبحانه ورفض كل شرائع‬
‫وقوانين البشر والطواغيت "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين‬
‫ما لم يأذن الله" الشورى ‪..21‬‬
‫"وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" الحشر ‪ .7‬هذه‬
‫هي الشروط الثلثة كي يكون المجتمع مسلما لن تخلف أحدها‬
‫يعني تخلف السلم نفسه عن الوجود لنه عقيدة وعبادة وشريعة‪.‬‬
‫ولكن كيف ينشأ هذا المجتمع المسلم‪:‬‬
‫‪1‬ـ جماعة من الناس قررت أن عبوديتها الكاملة لله وحده في‬
‫العتقاد والشعائر والشرائع‪.‬‬
‫‪2‬ـ تنظيم حياة الجماعة على هذا الساس فل يبقى في ضميرها أحد‬
‫غير الله ول شعائر توجه لغيره ول قوانين إل منه‪.‬‬
‫‪3‬ـ يبدأ الفراد بعد ذلك في النتقال من العبودية لغير الله إلى‬
‫العبودية له وحده في داخل هذا المجتمع الذي تكون فعل‪.‬‬
‫‪4‬ـ على المجتمع الجديد أن يوفر المكانات والظروف الموضوعية‬
‫التي تجعله قادرا على مواجهة الضغط الجاهلي فيسعى لتملك قوة‬
‫العتقاد وقوة الخلق وقوة التنظيم والبناء الجماعي‪.‬‬
‫بعد ذلك يطرح الشهيد تصوره عن المجتمع الجاهلي ‪ ،‬إنه كل مجتمع‬
‫ل يخلص عبوديته لله وحده‪ ..‬ويدخل تحت هذا التعريف المجتمعات‬
‫الشيوعية والوثنية واليهودية والنصرانية وأخيرا تلك المجتمعات‬
‫التي تزعم لنفسها أنها مسلمة! فهي وإن كانت في الغالب ل تعتقد‬
‫بألوهية أحد غير الله وتعتقد أن له وحده الشعائر التعبدية‪ ..‬إل أنها‬
‫لتدين له بالحاكمية في حين أن الله يقول عن الحاكمية‪" :‬ومن لم‬
‫يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" المائدة ‪ ،44‬ويقول عن‬
‫المحكومين "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما‬
‫أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن‬
‫يكفروا به" إلى أن يقول "فل وربك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما‬
‫شجر بينهم ثم ل يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا‬
‫تسليما‪."..‬‬
‫***‬
‫تحت عنوان " السلم هو الحضارة" يشير المام الشهيد إلى المفكر‬
‫الجزائري المسلم مالك بن نبي دون ذكر اسمه‪ ،‬والذي اعتبر أن‬
‫حذف الشهيد لكلمة "متحضر" من عنوان كتاب كان تحت الطبع‬
‫"مجتمع إسلمي متحضر" اعتبر مالك هذا التعديل ناشئا من "‬
‫عملية دفاع نفسية داخلية عن السلم"‪ ..‬والحقيقة أن هناك فرقا‬
‫بين المفكرين ولكنه الفرق بين وجهتي نظر متكاملتين وليستا‬
‫متناقضتين ‪ ،‬فلم يغفل سيد قطب الشروط الموضوعية اللزمة‬
‫لبناء المة او الحضارة السلمية ولكنه لسباب كثيرة كانت الشروط‬
‫الذاتية تبدو أكثر وضوحا في أعماله فالشروط التي صنعت ]الجيل‬
‫القرآني الفريد[ هي المنطلق ‪ ..‬كذلك لم يغفل مالك الشروط‬
‫الذاتية هذه وكان يتحدث عن الدفعة اليمانية التي انطفأت نارها‪..‬‬
‫وضرورة إضرامها من جديد‪ ،‬وكان إنسان ]ما بعد الموحدين[ العقيم‬
‫الذي تحدث عنه مالك هو الذي لحظه سيد قطب ورآه رأي العين‬
‫حين تكلم عن إنسان ]الجيل القرآني الفريد[ الذي عليه أن يجدد‬
‫ذاته ويتجاوز "إنسان ما بعد الموحدين" وقابليته للستعمار‪ ..‬لم‬
‫يغفل مالك هذه الشروط الذاتية ولكن لسباب كثيرة أيضا كان‬
‫البحث عن الشروط الموضوعية أكثر وضوحا في أعماله‪ ،‬كان يبحث‬
‫في تجاوز التناقضات القائمة من خلل تركيب مبدع لفكرة المة‬
‫الوسط ويرى أن هذا التجاوز لن يتحقق إل بارتفاع المسلم ـ‬
‫الشاهد على العالم بالتقى والورع والصدق والوعي ـ إلى مستوى‬
‫الحضارة كي يصبح معاصرا ً حقا‪ ..‬لقد كان سيد ومالك يمثلن بصدق‬
‫جناحي الحركة السلمية في المشرق والمغرب كما قال المفكر‬
‫السلمي المعاصر توفيق الطيب‪ .‬وبخصوص الخلف الوارد بينهما‬
‫هنا فأستطيع أن أؤكد إنه كان خلفا في المصطلح‪ ..‬أي خلفا على‬
‫]تعريف الحضارة[ لغة على الرجح وليس مضمونا‪ ..‬الحضارة‬
‫النسانية كما يقول سيد هي التي تقتضي التحرر الحقيقي الكامل‬
‫للنسان‪ ..‬التحرير من العبودية لغير الله ‪ ،‬والمجتمع السلمي هو‬
‫الذي يحقق هذا التحرر فهو بداية يجمع الناس على آصرة العقيدة‬
‫والتصور والفكر وليس آصرة الجنس واللون والقوم والرض فهذه‬
‫الشياء لتمثل الخصائص العليا للنسان‪ ..‬إنها الروح والفكر‬
‫خصائصه العليا‪ ..‬والنسان يبقى إنسانا بعد الجنس واللون والقوم‬
‫والرض ولكنه ل يبقى إنسانا بعد الروح والفكر وهو يملك بمحض‬
‫إرادته أن يغير عقيدته وتصوره ومنهجه وفكره ول يملك أن يغير‬
‫لونه ول جنسه أو يحدد مولده في قوم أو أرض‪ ،‬وبالتالي فالمجتمع‬
‫الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة واختيارهم‬
‫الذاتي هو المجتمع المتحضر‪ ..‬المجتمع السلمي هو الوحيد الذي‬
‫رابطة العقيدة فيه هي رابطة التجمع الساسية‪ ،‬الكل فيه أنداد‬
‫يلتقون على أمر شرعه الله لهم ولم يشرعه أحد من العباد ‪،‬‬
‫وإنسانية النسان هي القيمة العليا في المجتمع السلمي وليست‬
‫"المادة" والمادة ل يحتقرها المجتمع السلمي‪ ..‬ل في صورتها‬
‫النظرية ول في صورة النتاج المادي الذي يعتبر من مقومات‬
‫الخلفة في الرض عن الله ‪ ،‬ولكنها ليست القيمة العليا التي تهدر‬
‫فيها خصائص النسان ومقوماته كما يحدث في المجتمعات الجاهلية‬
‫حيث تهدر كرامة الفرد وحريته‪ :‬السرة ومقوماتها‪ ..‬الخلق‬
‫وحرمات المجتمع‪ ..‬إلخ‪ ..‬من أجل توفير النتاج المادي‪ .‬إن للسلم‬
‫أخلقه التي تميزه عن الحيوان ينشئها ويصونها في كل مجتمع‬
‫يهيمن عليه سواء كان في طور الزراعة أم الصناعة‪ ..‬البداوة أم‬
‫الرعى‪ ..‬فقيرا كان أم غنيا‪ .‬إنه مجتمع رباني يقوم فيه النسان‬
‫بالخلفة عن الله في أرضه على وجهها الصحيح‪ ..‬ول يعتبر البداع‬
‫المادي وحده حضارة فالبداع المادي يكون وتكون معه الجاهلية إن‬
‫لم يتحقق خصائص النسان العليا‪" ..‬أتبنون بكل ريع آية تعبثون‪.‬‬
‫وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون‪ .‬وإذا بطشتم بطشتم جبارين ‪،‬‬
‫فاتقوا الله وأطيعون" الشعراء ‪128‬ـ ‪ .131‬وبعد ‪ ..‬فالمجتمع‬
‫السلمي وليد الحركة‪ ..‬الحركة فيه مستمرة‪ ..‬تحدد وظائف‬
‫الشخاص ومراكزهم‪ ..‬وهذه الحركة ابتداء تتمثل في العقيدة التية‬
‫من الله للبشر تنشئ لهم تصورا خاصا للوجود والحياة والتاريخ‬
‫والقيم والغايات‪ ..‬إنها حركة آتية من خارج نطاق الرض‪ ..‬محورها‬
‫النسان‪ ..‬وهذا النسان الواحد ل يتلقى العقيدة وينطوي على‬
‫نفسه‪ ..‬إنه سينطلق بها‪ ..‬فهذه طبيعتها الحية ‪ ،‬إن الدفعة الحية‬
‫التي وصلت بها هذه العقيدة إلى القلب ستمضي في طريقها‬
‫قدما ‪ ،‬وحين يؤمن بها ثلثة تقول لهم العقيدة ‪ ..‬أنتم الن مجتمع‬
‫إسلمي مستقل ل يدين للجاهلية بالعقيدة ول تسوده قيمها‪..‬‬
‫وهكذا ينشأ المجتمع السلمي ‪ ..‬الثلثة يصبحون عشرة ‪ ..‬مائة ‪..‬‬
‫ألفا‪ ..‬ثم أثنى عشر ألفا‪ ..‬ويتقرر المجتمع السلمي‪.‬‬
‫***‬
‫في أحد فصول الكتاب " التصور السلمي والثقافة" يحاول المام‬
‫الشهيد إيضاح مدلول الحاكمية وعلقته بالثقافة فيعلن أن مدلول‬
‫الحاكمية في التصور السلمي ل ينحصر في تلقي الشرائع‬
‫القانونية من الله وحده ‪ ..‬إن شريعة الله تعني كل ما شرعه الله‬
‫لتنظيم حياة البشر ‪ ،‬وهذا يتمثل في أصول العتقاد وأصول الحكم‬
‫وأصول الخلق وأصول السلوك وأصول المعرفة أيضا‪ ..‬إن المر‬
‫في الحاكمية هو أيضا الرجوع في شأن النشاط الفكري والفني إلى‬
‫التصور السلمي وإلى مصدره الرباني‪ ،‬فالمسلم ل يملك أن يتلقى‬
‫في أمر يختص بحقائق العقيدة‪ :‬التصور العام للوجود ‪ ..‬العبادة‪..‬‬
‫الخلق ‪ ..‬السلوك‪ ..‬القيم والموازين‪ ..‬المبادئ والصول في النظام‬
‫السياسي والجتماعي والقتصادي‪ ..‬تفسير بواعث النشاط‬
‫النسانـي وحركة التاريخ النساني ‪ ،‬ل يملك المسلم إل التلقي من‬
‫ذلك المصدر الرباني‪..‬‬
‫ل يتلقى إل عن مسلم يثق في دينه وتقواه وممارسته لعقيدته في‬
‫واقع الحياة‪ ،‬المسلم يملك ان يتلقى في العلوم البحتة والنواحي‬
‫الفنية في الدارة والحرب عن المسلم وغير المسلم‪ ..‬أما فيما‬
‫يتعلق بتفسير النشاط النساني ‪ ..‬ما يتعلق بالنظرة إلى نفس‬
‫النسان وحركة تاريخه ‪ ..‬تفسير الكون ونشأة الحياة فل يجوز‬
‫للمسلم إل أن يتلقى عن مسلم‪ ..‬وهنا يبرز سؤال استهلك جهدا‬
‫ووقتا كبيرين من جهد ووقت الحركة السلمية‪ :‬هل يباح لنا‪ ..‬هل‬
‫يحق لنا كمسلمين آمنا بالسلم عقدية وعبادة وشريعة‪ ..‬آمنا بأن‬
‫الحاكمية لله‪ ..‬هل يحق لنا أن نطلع على آثار الفكر الجاهلي؟ أجاب‬
‫المتنورون‪ :‬نعم وإل فكيف سنعرف الجاهلية وانحرافها ثم نصححه‬
‫ونقومه‪ ..‬وأجاب التقليديون أو المحافظون ]عن عجز وليس عن‬
‫قوة[ أجابوا وتحت شعار‪] :‬إذا عرفت الحق فلماذا أعرف الباطل![‬
‫ل‪ ..‬هذا رجس من عمل الشيطان!‪ ..‬وجاء أخيرا سيد قطب ليعلن‬
‫أنه "أي المسلم" قد يطلع على كل آثار النشاط الجاهلي‪ ،‬ولكن‬
‫ليس بهدف أن يكون منه تصوره ومعرفته في هذه الشئون كلها‪..‬‬
‫إنما ليعرف كيف تنحرف الجاهلية‪ ..‬ليعرف كيف يصحح ويقوم هذه‬
‫النحرافات البشرية ويردها إلى أصولها الصحيحة في مقومات‬
‫التصور السلمي‪ ..‬وأضيف إلى ما قاله المام الشهيد أن المسلم‬
‫إن لم يعرف الجاهلية عن عمد وسبق إصرار وبالتالي عن وعي‬
‫وحذر فإنها قد تدخل إلى عقله بل ودمه! فيحدث النفصام‬
‫والزدواجية في شخصيته‪ ،‬ويقول عمر رضي الله عنه ‪" :‬ينقض‬
‫عرى السلم عروة عروة من عاش في السلم ولم يعرف‬
‫الجاهلية"‪ .‬إن المعرفة مطلوبة بل واجبة ‪ ،‬أما التلقي من غير الله‬
‫فهو المرفوض‪ ،‬ويجب ان نفرق بين المعرفة ]الطلع[ وبين التلقي‬
‫]التباع[‪ ..‬إن التلقي ل يكون إل عن الله ‪ ،‬والحقيقة ل تستمد إل‬
‫من الوحي ‪ ،‬وهذا عين ما طرحه المفكر السلمي توفيق الطيب‬
‫في بحثه المهم "الخصائص الثابتة اللزمة والخصائص المكتسبة‬
‫للحركة السلمية" ]المسلم المعاصر ـ العدد الفتتاحي[ حين قال‬
‫تحت عنوان " إن حركتنا حركة ربانية" ‪) :‬إن الحقيقة عندنا تستمد‬
‫من الوحي المنزل على الرسول )صلى الله عليه وسلم( أي من‬
‫القرآن‪ ..‬فمن يقول لنا إنه ينزع إلى طلب الحقيقة نقول له إننا‬
‫وجدناها ونحياها فما تريد أن تتملكه تملكناه‪ ..‬إن نظام المفاهيم‬
‫عندنا يستمد كله من الوحي المنزل على الرسول عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ ،‬ويعبر عن مفاهيمنا بالمصطلح القرآني أول فإن لم يوجد‬
‫فبمصطلح مرتبط تاريخيا بالمصطلح القرآني ‪ :‬مصطلحات التراث ‪،‬‬
‫فإن لم يوجد فبمصطلح يحقق مضمون المصطلح القرآني(‪) ..‬إن‬
‫نظام القيم عندنا يستمد من نفس المصدر السابق كما تحقق في‬
‫حياة الرسول عليه الصلة والسلم حيث كان خلقه القرآن(‪) ..‬قيمنا‬
‫الجمالية تستمد أيضا من نفس المصدر وترتبط ارتباطا وثيقا بنظام‬
‫قيمنا الخلقية‪ ،‬وعلى القيم الجمالية والقيم الخلقية معا تنهض‬
‫قيمنا التربوية(‪ ،‬ثم يقول توفيق الطيب ‪" :‬خارج نطاق المفاهيم‬
‫والقيم ل يلزمنا السلم بشيء ‪ ،‬فتعاملنا مع الشياء ـ الطبيعة ـ‬
‫مفتوح إلى أبعد الحدود‪ ..‬ومن هنا فنحن منفتحون على العلم بكل‬
‫آفاقه وعلى الصناعة الحديث بكل فوائدها وعلى التقدم الجتماعي‬
‫والقتصادي بكل أبعاده"‪ ..‬هذا التصور السلمي الخالص يطرحه‬
‫توفيق الطيب الذي أمضي وقتا طويل كمسلم يبحث في آثار‬
‫النشاط الجاهلي ‪ ،‬بل قضى من عمره عشر سنوات دارسا للفلسفة‬
‫في ألمانيا‪ ..‬ونفس التصور كان سيد قطب يطرحه في ]المعالم[‬
‫وسيد قطب هو الذي عاش ـ كما يقول في نفس الفصل ـ أربعين‬
‫سنة يقرأ ويطلع في معظم حقول المعرفة النسانية قبل أن‬
‫يكتمل أو يستقر تصوره العتقادي السليم ‪ ..‬وما هو بنادم على ما‬
‫قضى فيه أربعين سنة من عمره ‪ ..‬على حد تعبيره‪.‬‬
‫***‬
‫لقد جاء السلم ليقرر أن هناك وشيجة واحدة تربط الناس في‬
‫الله ‪ ،‬إذا انقطعت فل صلة ول مودة "ل تجد قوما يؤمنون بالله‬
‫واليوم الخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو‬
‫أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم" المجادلة ‪ .22‬لقد جاء السلم‬
‫ليرفع النسان ‪ ..‬يخلصه من وشائج الرض والطين‪ ،‬فل وطن‬
‫للمسلم إل الذي تقام فيه شريعة الله ‪ ،‬ل جنسية للمسلم إل في‬
‫عقيدته التي تجعله عضوا في المة المسلمة في دار السلم ‪،‬‬
‫وليست قرابة المسلم أباه أو أمه أو أخاه وزوجه وعشيرته ما لم‬
‫تنعقد الصرة الولى في الخالق فتتصل من ثم بالرحم "إن الذين‬
‫آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين‬
‫آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض" النفال ‪ ،72‬وهي ولية‬
‫تتجاوز الجيل إلى الجيال المتعاقبة "‪ ..‬ربنا اغفر لنا ولخواننا الذين‬
‫سبقونا باليمان‪ "..‬الحشر ‪ ،10‬لقد جاء السلم ليرفض عصبية‬
‫القبيلة والجنس والرض )دعوها فإنها منتنة(‪) ،‬أليس منا من دعا‬
‫إلى عصبية(‪ ،‬وهكذا لم يعد وطن المسلم هو الرض وإنما "دار‬
‫السلم" الدار التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها شريعة الله‬
‫وحدها ‪ ،‬لقد حارب محمد )صلى الله عليه وسلم( مكة واعتبرها دار‬
‫حرب رغم أنها وطنه الذي ولد فيه ورغم أنها أهله الذين نما بينهم‪،‬‬
‫وانطلق من المدينة التي أصبحت موطنه الحقيقي حيث ترفرف‬
‫رايات السلم ‪ ،‬إن هذا التصور الرفيع للدار والجنسية وللقرابة هو‬
‫الذي ينبغي أن يسيطر على أصحاب الدعوة إلى الله ‪ ..‬ينبغي أن‬
‫يكون من الوضوح بحيث ل تختلط به أوشاب التصورات الجاهلية‬
‫الدخيلة ول تتسرب إليه صورت الشرك الخفية‪ ..‬الشرك بالرض ‪..‬‬
‫الشرك بالجنس‪ ..‬الشرك بالقوم أو الشرك بالنسب‪" ..‬قل إن كان‬
‫آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها‬
‫وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله‬
‫ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله ل‬
‫يهدي القوم الفاسقين" التوبة ‪.24‬‬
‫***‬
‫السلم تصور مستقل للوجود‪ ..‬كامل متميز ‪ ..‬ينبثق منه منهج ذاتي‬
‫مستقل للحياة كلها‪ ،‬يخالف بشكل أساسي التصورات الجاهلية‬
‫قديما وحديثا‪ ..‬ووظيفة السلم أن ينشئ حياة إنسانية توافق‬
‫تصوره وتمثله في صورة واقعية ‪ ،‬وظيفته إل يصطلح مع الجاهلية‬
‫وتصوراتها‪ ،‬لم تكن هذه وظيفته يوم جاء‪ ..‬ولن تكون اليوم ‪،‬‬
‫السلم لن يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية ‪ ،‬لن وظيفته هي هذه‬
‫القيادة‪ ،‬السلم لم يجئ ليربت على شهوات الناس المتمثلة في‬
‫تصوراتهم وأوضاعهم بل ليلغي كل هذا إلغاء ‪ ،‬هذه حقيقة يجب أن‬
‫نطرحها دوما للناس دون تلعثم أو تردد‪ ،‬سنخاطبهم في عطب‬
‫ورحمة ولكن أيضا في ثقة وقوة‪ ..‬ل نتدسس إليهم ول نربت على‬
‫شهواتهم وتصوراتهم المنحرفة ‪ ..‬نقول لهم ‪ :‬ما أنتم فيه نجس‬
‫والله يرد أن يطهركم ‪ ..‬هذه الحياة التي تحيونها دون ‪ ،‬والله يرد أن‬
‫يرفعكم‪ ..‬ما أنتم فيه شقوة‪ ،‬والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم‬
‫ويسعدكم ‪ ..‬لن نقول لهم إن السلم جاء من أجل تعديل هنا أو‬
‫تغيير هناك ‪ ..‬نحدثهم مرة عن ديمقراطية السلم!! وأخرى عن‬
‫اشتراكيته!! كل‪ ..‬إن النتقال من الجاهلية إلى السلم نقلة بعيدة‬
‫واسعة‪ ،‬كان هذا حال محمد )صلى الله عليه وسلم( مع الجاهلية منذ‬
‫اليوم الول ويجب أن يكون حالنا اليوم ‪ ،‬إن السلم كان قويا وهو‬
‫اليوم كذلك وغدا‪ ،‬لن عناصر القوة تكمن في هذه الظروف وأشدها‬
‫حرجا‪ ..‬إنها تكمن في الحق البسيط الواضح الذي تقوم عليه ‪ ،‬ليس‬
‫في إسلمنا ما نخجل منه أو نضطر للدفاع عنه أو يضطرنا للتقرب‬
‫من ركامهم المضطرب البائس‪ ،‬وأول وأخيرا ندعوهم مقابل أجر ‪،‬‬
‫إننا نتقدم ل نريد علوا في الرض ول فسادا‪ ..‬نتقدم وفي نفوسنا‬
‫يستقر الستعلء إزاء الوضاع والقيم المنبثقة من أصل غير أصل‬
‫اليمان‪ ..‬الستعلء على قوى الرض الحائدة عن نهج اليمان‪،‬‬
‫وتقاليد الرض وقوانين الرض التي لم يشرعها الله ‪ ،‬الستعلء مع‬
‫ضعف القوة وقلة العدد وفقر المال تماما‪ ..‬الستعلء مع القوة‬
‫والكثرة والغنى على السواء‪ ،‬الستعلء الذي ل يتهاوى أمام قوة‬
‫باغية ول عرف اجتماعي ول تشريع باطل ول وضع مقبول عند‬
‫الناس بدون سند من اليمان‪ ،‬والستعلء باليمان ليس مجرد عزمة‬
‫منفردة ول نخوة دافعة ول حماسة فاترة ‪ ..‬إنما الستعلء القائم‬
‫على الحق الثابت المركوز في طبيعة الوجود‪ ..‬الحق الباقي وراء‬
‫منطق القوة‪ ،‬فالمؤمن هو العلى ‪ ..‬العلى سندا ومصدرا ‪ ،‬فماذا‬
‫تكون الرض كلها؟ وما يكون الناس؟ وما تكون القيم السائدة في‬
‫الرض وهو من الله يتلقى وإلى الله يرجع وعلى منهجه يسير‪..‬‬
‫واليوم والمسلم يقف مغلوبا مجردا من القوة المادية ل يفارقه‬
‫شعوره إنه العلى‪ ..‬فالناس جميعا يموتون وهو يستشهد‪ ..‬هم‬
‫يغادرون إلى النار وهو يغادر إلى الجنة‪ ..‬إن حكمة الله هي التي‬
‫قررت أن تقف العقيدة مجردة من كل زينة وطلء وإغراء ليقبل‬
‫عليها من يقبل وهو على يقين من نفسه ‪ ..‬فهو يعرف أنه الجهد‬
‫والمشقة والجهاد والستشهاد‪.‬‬
‫***‬
‫"إن الناس جميعا يموتون ‪ ..‬وتختلف السباب ‪ ..‬ولكن الناس جميعا‬
‫ل ينتصرون هذا النتصار ول يرتفعون هذا الرتفاع ول يتحررون هذا‬
‫التحرر ول ينطلقون هذا النطلق إلى هذه الفاق‪ ..‬إنما هو اختيار‬
‫الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت‬
‫وتنفرد دون الناس بالمجد في المل العلى وفي دنيا الناس أيضا‪..‬‬
‫إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الجيال بعد الجيال!!" هذه‬
‫الكلمات لم تقل في حفل تأبين للمام الشهيد ‪ ..‬إنها كلمات جاءت‬
‫في الفصل الخير من كتابه الخير‪ ..‬كلماته إلى الطليعة المؤمنة‬
‫وإلى كل البشرية‪ ..‬قبل أن يستشهد فينتصر ويتحرر‪ ..‬ينطلق ‪..‬‬
‫فيختاره الله ويكرمه فينفرد بالمجد في دنيانا وفي المل العلى‪..‬‬
‫أصدروا عليه حكم العدام فابتسم‪ ،‬حاول الطغاة أن يسلبوه‬
‫استعلءه‪ ..‬أن يطفئوا سحر كلماته ويجهضوا الجيال القادمة التي‬
‫ستتربى عليها فقالوا له اطلب الرحمة‪ ..‬نظر إليهم هازئا وقال‪ :‬إن‬
‫كنت محكوما بحق فأنا أرتضي حكم الحق‪ ،‬وإن كنت محكوما بباطل‬
‫فأنا أكبر من أن استرحم الباطل‪ ..‬لنه كان يعلمنا قبلها بعامين‬
‫وفي الفصل الول "إن النصر في أروع صوره هو انتصار الروح‬
‫على المادة وانتصار العقيدة على الثم وانتصار اليمان على‬
‫الفتنة‪ ..‬انتصار يشرف الجنس البشري كله في جميع العصار‪..‬‬
‫وهذا هو النتصار‪ .‬كان يقول أيضا في نفس المكان "لقد كان في‬
‫استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل هزيمة إيمانهم‬
‫ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم؟ وكم كانت البشرية كلها‬
‫تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير‪ ،‬معنى‬
‫زهادة الحياة بل عقيدة وبشاعتها بل حرية وانحطاطها حين يسيطر‬
‫الطغاة على الرواح بعد سيطرتهم على الجساد"‪ ..‬يا إلهي‪ ..‬أشهد‬
‫أنني أفهم الن سر علمة التعجب )!( التي جاءت في نهاية مقدمة‬
‫كتابه العظيم ولم أجد لها مبررا في البداية‪ ،‬لقد كان يعدني بمعالم‬
‫جديدة! يعدكم جميعا‪ ..‬يعد كل المؤمنين‪.‬‬
‫بينما هو في الفصل الخير يصف مصرعه واستشهاده ويبحث عن‬
‫معادل موضوعي يصور مصيره فل يجد إل أصحاب الخدود‪ ..‬إنه يبدو‬
‫الن توفيقا إليها عجيبا‪ ..‬أقرأ مصرعهم وكأني أشهد مصرعه‪ ..‬لقد‬
‫تحرر قلوب تلك القلة المؤمنة البعيدة في التاريخ كما تحرر قلبه‪،‬‬
‫ارتفعت أرواحهم كما ارتفعت روحه‪ ..‬انتكست جبلت طغاة ذلك‬
‫الزمان وراحوا يتلذذون مشهد التعذيب المروع العنيف‪ ..‬بخساسة لم‬
‫يرتكس فيها وحش قط‪ ..‬تماما كما انتكست جبلت طغاة هذا‬
‫العصر! وهم يبطشون به وبإخوانه الطهار‪ ..‬أشهد أني أرى‬
‫]المعالم الجديدة[‪ ..‬انفضوا عن أعينكم قسوة النعاس تجدوها‬
‫فيكم‪" ..‬إن الحياة وسائر ما يلبسها من لذائذ وآلم ومن متاع‬
‫وحرمان ليست هي القيمة الكبرى في الميزان ‪ ..‬وليست هي‬
‫السلعة التي تقرر الربح والخسارة" وهذا هو الطريق الذي ترسمه‬
‫نهاية المعالم التي قال عنها الستاذ محمد علي الضناوي في كتابه‬
‫"الطريق إلى حكم إسلمي" ‪" :‬لم تتضح المبادئ التي حددها المام‬
‫الشهيد حسن البنا إل "بالمعالم" التي رسمها "سيد قطب"‪..‬‬
‫هذا هو الطريق ‪ ..‬وهذا يا مصر كتاب سيبقي فوق جبينك سراجا‬
‫منيرا وعيونا تميمة‪.‬‬
‫***‬
‫وبعد ‪ ..‬معذرة‪ ..‬استاذنا المام الشهيد‪ ..‬معذرة إني وضعت كتابك‬
‫فوق طاولة البحث والتحليل‪ ..‬معذرة إن كنت أصبت‪ ..‬والف معذرة‬
‫إن كنت أخطأت‪.‬‬
‫المصدر ‪ :‬المختار السلمي ـ العدد )‪ (22‬ـ السنة الثانية ـ ابريل‬
‫‪1981‬‬

You might also like