Professional Documents
Culture Documents
لم ينزل النبياء دفعة واحدة ..وإنما على فترات مختلفة ..في هذه الصفحة رتبت أسماء
النبياء عليهم السلم وفقا للتسلسل الزمني في إرسالهم لقوامهم
الصفحة الموضوع
2 << أدم عليه السلم
8 << شيث عليه السلم
9 << إدريس عليه السلم
11 << نوح عليه السلم
17 << هود عليه السلم
21 << صالح عليه السلم
24 << إبراهيم عليه السلم
38 << لوط عليه السلم
41 << إسماعيل عليه السلم
46 << اسحاق عليه السلم
47 << يعقوب عليه السلم
48 << يوسف عليه السلم
65 << أيوب عليه السلم
67 << ذو الكفل عليه السلم
69 << يونس عليه السلم
71 << شعيب عليه السلم
74 << أنبياء اهل القرية عليهم السلم
77 << موسى عليه السلم
111 << هارون عليه السلم
112 << يوشع بن نون عليه السلم
114 << داود عليه السلم
119 << سليمان عليه السلم
128 << إلياس عليه السلم
130 << اليسع عليه السلم
132 << عزير عليه السلم
133 << زكريا عليه السلم
136 << يحيى عليه السلم
139 << عيسى عليه السلم
146 << محمد عليه الصلة السلم
156 المراحع
1
آدم عليه السلم
نبذة:
أبو البشر ،خلقه الله بيده وأسجد له الملئكة وعلمه السماء وخلق له زوجته وأسكنهما الجنة
وأنذرهما أن ل يقربا شجرة معينة ولكن الشيطان وسوس لهما فأكل منها فأنزلهما الله إلى
الرض ومكن لهما سبل العيش بها وطالبهما بعبادة الله وحده وحض الناس على ذلك ،وجعله
خليفته في الرض ،وهو رسول الله إلى أبنائه وهو أول النبياء.
سيرته:
أخبر الله سبحانه وتعالى ملئكة بأنه سيخلق بشرا خليفة في الرض -وخليفة هنا تعني على
ن ف ُ جع َ ُ َ
ماء وَن َ ُ
ح
ْ ك الد ّ َ س ِ
سد ُ ِفيَها وَي َ ْ
ف ِ
من ي ُ ْ
ل ِفيَها َ رأس ذرية يخلف بعضها بعضا .فقال الملئكة) :أت َ ْ
س لَ َ
ك(. قد ّ ُ مد ِ َ
ك وَن ُ َ ح ْ
ح بِ َ
سب ّ ُ
نُ َ
ويوحي قول الملئكة هذا بأنه كان لديهم تجارب سابقة في الرض ,أو إلهام وبصيرة ,يكشف
لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق ,ما يجعلهم يتوقعون أنه سيفسد في الرض ,وأنه
سيسفك الدماء . .ثم هم -بفطرة الملئكة البريئة التي ل تتصور إل الخير المطلق -يرون
التسبيح بحمد الله والتقديس له ,هو وحده الغاية للوجود . .وهو متحقق بوجودهم هم ,
يسبحون بحمد الله ويقدسون له ,ويعبدونه ول يفترون عن عبادته !
هذه الحيرة والدهشة التي ثارت في نفوس الملئكة بعد معرفة خبر خلق آدم ..أمر جائز على
الملئكة ،ول ينقص من أقدارهم شيئا ،لنهم ،رغم قربهم من الله ،وعبادتهم له ،وتكريمه لهم،
ل يزيدون على كونهم عبيدا لله ،ل يشتركون معه في علمه ،ول يعرفون حكمته الخافية ،ول
يعلمون الغيب .لقد خفيت عليهم حكمة الله تعالى ,في بناء هذه الرض وعمارتها ,وفي تنمية
الحياة ,وفي تحقيق إرادة الخالق في تطويرها وترقيتها وتعديلها ,على يد خليفة الله في أرضه
.هذا الذي قد يفسد أحيانا ,وقد يسفك الدماء أحيانا .عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل
َ
ن(. ما ل َ ت َعْل َ ُ
مو َ شيء ,والخبير بمصائر المور) :إ ِّني أع ْل َ ُ
م َ
وما ندري نحن كيف قال الله أو كيف يقول للملئكة .وما ندري كذلك كيف يتلقى الملئكة عن
الله ،فل نعلم عنهم سوى ما بلغنا من صفاتهم في كتاب الله .ول حاجة بنا إلى الخوض في
شيء من هذا الذي ل طائل وراء الخوض فيه .إنما نمضي إلى مغزى القصة ودللتها كما
يقصها القرآن .
أدركت الملئكة أن الله سيجعل في الرض خليفة ..وأصدر الله سبحانه وتعالى أمره إليهم
تفصيل ،فقال إنه سيخلق بشرا من طين ،فإذا سواه ونفخ فيه من روحه فيجب على الملئكة
أن تسجد له ،والمفهوم أن هذا سجود تكريم ل سجود عبادة ،لن سجود العبادة ل يكون إل لله
وحده.
جمع الله سبحانه وتعالى قبضة من تراب الرض ،فيها البيض والسود والصفر والحمر -ولهذا
يجيء الناس ألوانا مختلفة -ومزج الله تعالى التراب بالماء فصار صلصال من حمأ مسنون.
تعفن الطين وانبعثت له رائحة ..وكان إبليس يمر عليه فيعجب أي شيء يصير هذا الطين؟
من هذا الصلصال خلق الله تعالى آدم ..سواه بيديه سبحانه ،ونفخ فيه من روحه سبحانه ..
فتحرك جسد آدم ودبت فيه الحياة ..فتح آدم عينيه فرأى الملئكة كلهم ساجدين له ..ما عدا
إبليس الذي كان يقف مع الملئكة ،ولكنه لم يكن منهم ،لم يسجد ..فهل كان إبليس من
2
الملئكة ؟ الظاهر أنه ل .لنه لو كان من الملئكة ما عصى .فالملئكة ل يعصون الله ما
أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . .وسيجيء أنه خلق من نار .والمأثور أن الملئكة خلق من
نور . .ولكنه كان مع الملئكة وكان مأمورا ً بالسجود .
أما كيف كان السجود ؟ وأين ؟ ومتى ؟ كل ذلك في علم الغيب عند الله .ومعرفته ل تزيد في
مغزى القصة شيئا ً..
َ خل َ ْ ل يا إبِليس ما منع َ َ
ست َك ْب َْر َ
ت ت ب ِي َد َيّ أ ْ
ق ُ ما َجد َ ل ِ َ
س ُك أن ت َ ْ ُ َ َ ََ فوّبخ الله سبحانه وتعالى إبليسَ) :قا َ َ ِ ْ
َ
ن( .وبدل من التوبة والوبة إلى الله تبارك وتعالى ،رد ّ إبليس بمنطق يمله ن ال َْعاِلي َ
م َ
ت ِ م ُ
كن َ أ ْ
ن( .هنا صدر المر اللهي خل َ ْ خل َ ْ َ الكبر والحسدَ) :قا َ
طي ٍ من ِ ه ِقت َ ُ من ّنارٍ وَ َ قت َِني ِ ه َ
من ْ ُ
خي ٌْر ّ
ل أَنا َ
م( وإنزال اللعنة عليه جي ٌك َر ِ من َْها فَإ ِن ّ َج ِخُر ْ ل َفا ْ العالي بطرد هذا المخلوق المتمرد القبيحَ) :قا َ
من َْها( فهل هي الجنة ؟ أم هل هي رحمة إلى يوم الدين .ول نعلم ما المقصود بقوله سبحانه ) ِ
الله . .هذا وذلك جائز لكن الرجح رحمة الله تعالى ،فلم يكن إبليس في الجنة ،وحتى آدم
عليه السلم لم يكن في الجنة على الرجح .ول محل للجدل الكثير .فإنما هو الطرد واللعنة
والغضب جزاء التمرد والتجرؤ على أمر الله الكريم .
ك منه َ حقّ أ َُقو ُ
ن )) (85ص(
مِعي َ
ج َ
مأ ْمن ت َب ِعَ َ ِ ْ ُ ْ
م ّ من َ
ك وَ ِ م ِ
جهَن ّ َ مَل َ ّ
ن َ َ
ل )َ (84ل ْ حقّ َوال ْ َ
ل َفال ْ َ
َقا َ
هنا تحول الحسد إلى حقد .وإلى تصميم على النتقام في نفس إبليس:
َ
ن( .واقتضت مشيئة الله للحكمة المقدرة في علمه أن يجيبه ب فَأنظ ِْرِني إ َِلى ي َوْم ِ ي ُب ْعَُثو َ )َقا َ
ل َر ّ
إلى ما طلب ,وأن يمنحه الفرصة التي أراد .فكشف الشيطان عن هدفه الذي ينفق فيه
ك َل ُغ ْوينه َ
ن( فليس خل َ ِ
صي َ م ال ْ ُ
م ْ من ْهُ ُ
ك ِ ن( ويستدرك فيقول) :إ ِّل ِ
عَباد َ َ مِعي َج َ
مأ ْ َُِّ ْ ل فَب ِعِّزت ِ َ حقدهَ) :قا َ
للشيطان أي سلطان على عباد الله المؤمنين .
وبهذا تحدد منهجه وتحدد طريقه .إنه يقسم بعزة الله ليغوين جميع الدميين .ل يستثني إل من
ليس له عليهم سلطان .ل تطوعا ً منه ولكن عجزا ً عن بلوغ غايته فيهم ! وبهذا يكشف عن
الحاجز بينه وبين الناجين من غوايته وكيده ; والعاصم الذي يحول بينهم وبينه .إنه عبادة الله
التي تخلصهم لله .هذا هو طوق النجاة .وحبل الحياة ! . .وكان هذا وفق إرادة الله وتقديره
في الردى والنجاة .فأعلن -سبحانه -إرادته .وحدد المنهج والطريق:
ك منه َ
ن( .
مِعي َ
ج َ
مأ ْمن ت َب ِعَ َ ِ ْ ُ ْ
م ّ من َ
ك وَ ِ م ِ
جهَن ّ َ مَل َ ّ
ن َ َ
)َل ْ
فهي المعركة إذن بين الشيطان وأبناء آدم ,يخوضونها على علم .والعاقبة مكشوفة لهم في
وعد الله الصادق الواضح المبين .وعليهم تبعة ما يختارون لنفسهم بعد هذا البيان .وقد
شاءت رحمة الله أل يدعهم جاهلين ول غافلين .فأرسل إليهم المنذرين .
ثم يروي القرآن الكريم قصة السر اللهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري ,وهو
ماء ك ُل َّها( .سر القدرة على الرمز بالسماء للمسميات . َ
س َ
م ال ْ يسلمه مقاليد الخلفة) :وَع َل ّ َ
م آد َ َ
سر القدرة على تسمية الشخاص والشياء بأسماء يجعلها -وهي ألفاظ منطوقة -رموزا لتلك
الشخاص والشياء المحسوسة .وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة النسان على الرض .
ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى ,لو لم يوهب النسان القدرة على الرمز بالسماء
للمسميات ,والمشقة في التفاهم والتعامل ,حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الخرين على
شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه . .الشأن شأن نخلة فل سبيل
إلى التفاهم عليه إل باستحضار جسم النخلة ! الشأن شأن جبل .فل سبيل إلى التفاهم عليه
إل بالذهاب إلى الجبل ! الشأن شأن فرد من الناس فل سبيل إلى التفاهم عليه إل بتحضير هذا
3
الفرد من الناس . . .إنها مشقة هائلة ل تتصور معها حياة ! وإن الحياة ما كانت لتمضي في
طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالسماء للمسميات .
أما الملئكة فل حاجة لهم بهذه الخاصية ,لنها ل ضرورة لها في وظيفتهم .ومن ثم لم توهب
لهم .فلما علم الله آدم هذا السر ,وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا السماء .لم يعرفوا
كيف يضعون الرموز اللفظية للشياء والشخوص . .وجهروا أمام هذا العجز بتسبيح ربهم ,
والعتراف بعجزهم ,والقرار بحدود علمهم ,وهو ما علمهم . .
ثم قام آدم بإخبارهم بأسماء الشياء .ثم كان هذا التعقيب الذي يردهم إلى إدراك حكمة
َ َ َ ل أ َل َ َ
م ُ
ما كنت ُ ْ
ن وَ َ
دو َ
ما ت ُب ْ ُ ض وَأع ْل َ ُ
م َ ت َوالْر ِ
ماَوا ِ
س َ
ب ال ّ م إ ِّني أع ْل َ ُ
م غ َي ْ َ م أُقل ل ّك ُ ْ
ْ العليم الحكيمَ) :قا َ
ن( . ت َك ْت ُ ُ
مو َ
م ما أبدوه من الدهشة حين أخبرهم أنه سيخلق آدم، أراد الله تعالى أن يقول للملئكة إنه عَـلِـ َ
كما علم ما كتموه من الحيرة في فهم حكمة الله ،كما علم ما أخفاه إبليس من المعصية
والجحود ..أدرك الملئكة أن آدم هو المخلوق الذي يعرف ..وهذا أشرف شيء فيه ..قدرته
على التعلم والمعرفة ..كما فهموا السر في أنه سيصبح خليفة في الرض ،يتصرف فيها
ويتحكم فيها ..بالعلم والمعرفة ..معرفة بالخالق ..وهذا ما يطلق عليه اسم اليمان أو السلم..
وعلم بأسباب استعمار الرض وتغييرها والتحكم فيها والسيادة عليها ..ويدخل في هذا النطاق
كل العلوم المادية على الرض.
إن نجاح النسان في معرفة هذين المرين )الخالق وعلوم الرض( يكفل له حياة أرقى ..فكل
من المرين مكمل للخر.
اختلف المفسرون في كيفية خلق حواء .ول نعلم إن كان الله قد خلق حواء في نفس وقت
خلق آدم أم بعده لكننا نعلم أن الله سبحانه وتعالى أسكنهما معا في الجنة .ل نعرف مكان هذه
الجنة .فقد سكت القرآن عن مكانها واختلف المفسرون فيها على خمسة وجوه .قال بعضهم:
إنها جنة المأوى ،وأن مكانها السماء .ونفى بعضهم ذلك لنها لو كانت جنة المأوى لحرم دخولها
على إبليس ولما جاز فيها وقوع عصيان .وقال آخرون :إنها جنة المأوى خلقها الله لدم وحواء.
وقال أكثرهم :إنها جنة من جنات الرض تقع في مكان مرتفع .وذهب فريق إلى التسليم في
أمرها والتوقف ..ونحن نختار هذا الرأي .إن العبرة التي نستخلصها من مكانها ل تساوي شيئا
بالقياس إلى العبرة التي تستخلص مما حدث فيها.
كان الله قد سمح لدم وحواء بأن يقتربا من كل شيء وأن يستمتعا بكل شيء ،ما عدا شجرة
واحدة .فأطاع آدم وحواء أمر ربهما بالبتعاد عن الشجرة .غير أن آدم إنسان ،والنسان ينسى،
وقلبه يتقلب ،وعزمه ضعيف .واستغل إبليس إنسانية آدم وجمع كل حقده في صدره ،واستغل
ك ّل
مل ْ ٍ
خل ْد ِ وَ ُ
جَرةِ ال ْ ُ ل أ َد ُل ّ َ
ك ع ََلى َ
ش َ تكوين آدم النفسي ..وراح يثير في نفسه ويوسوس إليه) :هَ ْ
ي َب َْلى( .وأقسم إبليس لدم أنه صادق في نصحه لهم ،ولم يكن آدم عليه السلم بفطرته
السليمة يظن أن هنالك من يقسم بالله كذا ،فضعف عزمه ونسي وأكل من الشجرة هو
وحواء.
ليس صحيحا ما تذكره صحف اليهود من إغواء حواء لدم وتحميلها مسئولية الكل من الشجرة.
إن نص القرآن ل يذكر حواء .إنما يذكر آدم -كمسئول عما حدث -عليه الصلة والسلم .وهكذا
أخطأ الشيطان وأخطأ آدم .أخطأ الشيطان بسبب الكبرياء ،وأخطأ آدم بسبب الفضول.
لم يكد آدم ينتهي من الكل حتى اكتشف أنه أصبح عار ،وأن زوجته عارية .وبدأ هو وزوجته
يقطعان أوراق الشجر لكي يغطي بهما كل واحد منهما جسده العاري .ولم تكن لدم تجارب
سابقة في العصيان ،فلم يعرف كيف يتوب ،فألهمه الله سبحانه وتعالى عبارات التوبة )َقال َ َرب َّنا
4
ن( )) (23العرف( وأصدر الله
ري َ
س ِ ن ال ْ َ
خا ِ م َ
ن ِ مَنا ل َن َ ُ
كون َ ّ فْر ل ََنا وَت َْر َ
ح ْ سَنا وَِإن ل ّ ْ
م ت َغْ ِ مَنا َأن ُ
ف َ ظ َل َ ْ
تبارك وتعالى أمره بالهبوط من الجنة.
وهبط آدم وحواء إلى الرض .واستغفرا ربهما وتاب إليه .فأدركته رحمة ربه التي تدركه دائما
عندما يثوب إليها ويلوذ بها ...وأخبرهما الله أن الرض هي مكانهما الصلي ..يعيشان فيهما،
ويموتان عليها ،ويخرجان منها يوم البعث.
يتصور بعض الناس أن خطيئة آدم بعصيانه هي التي أخرجتنا من الجنة .ولول هذه الخطيئة لكنا
اليوم هناك .وهذا التصور غير منطقي لن الله تعالى حين شاء أن يخلق آدم قال للملئكة:
ة" ولم يقل لهما إني جاعل في الجنة خليفة .لم يكن هبوط آدم ف ً
خِلي َ
ض َ َ ع ٌ
ل ِفي الْر ِ جا ِ
"إ ِّني َ
إلى الرض هبوط إهانة ،وإنما كان هبوط كرامة كما يقول العارفون بالله .كان الله تعالى يعلم
أن آدم وحواء سيأكلن من الشجرة .ويهبطان إلى الرض .أما تجربة السكن في الجنة فكانت
ركنا من أركان الخلفة في الرض .ليعلم آدم وحواء ويعلم جنسهما من بعدهما أن الشيطان
طرد البوين من الجنة ،وأن الطريق إلى الجنة يمر بطاعة الله وعداء الشيطان.
هابيل وقابيل:
ل في كتابه الكريم الكثير عن حياة آدم عليه السلم في الرض .لكن ل يذكر لنا المولى عّز وج ّ
القرآن الكريم يروي قصة ابنين من أبناء آدم هما هابيل وقابيل .حين وقعت أول جريمة قتل
في الرض .وكانت قصتهما كالتالي.
كانت حواء تلد في البطن الواحد ابنا وبنتا .وفي البطن التالي ابنا وبنتا .فيحل زواج ابن البطن
الول من البطن الثاني ..ويقال أن قابيل كان يريد زوجة هابيل لنفسه ..فأمرهما آدم أن يقدما
قربانا ،فقدم كل واحد منهما قربانا ،فتقبل الله من هابيل ولم يتقبل من قابيل .قال تعالى في
سورة )المائدة(:
َ َ
ر َقا َ
ل خ ِ ن ال َ م َ قب ّ ْ
ل ِ م ي ُت َ َما وَل َ ْ
حد ِه ِ َ
من أ َ ل ِ حقّ إ ِذ ْ قَّرَبا قُْرَباًنا فَت ُ ُ
قب ّ َ م ِبال ْ َ ي آد َ َ م ن َب َأ اب ْن َ ْ ل ع َل َي ْهِ ْ
َوات ْ ُ
ْ َ َ َ َ ْ ّ َ
ط
س ٍ ما أن َا ب َِبا ِقت ُلِني َ َ
ي ي َد َك ل ِت َ ْ ت إ ِل ّ سط َ ن ) (27لِئن ب َ َ قي َمت ّ ِن ال ُم َه ِ قب ّل الل ُ ُ ما ي َت َ َ َلقْت ُل َن ّك قال إ ِن ّ َ
َ َ َ
ن )) (28المائدة( مي َب ال َْعال َ ِ ه َر ّ ف الل ّ َخا ُ ك إ ِّني أ َ َ
ك َل َقْت ُل َ َ ي َد ِي َإ ِل َي ْ َ
لحظ كيف ينقل إلينا الله تعالى كلمات القتيل الشهيد ،ويتجاهل تماما كلمات القاتل .عاد
القاتل يرفع يده مهددا ..قال القتيل في هدوء:
انتهى الحوار بينهما وانصرف الشرير وترك الطيب مؤقتا .بعد أيام ..كان الخ الطيب نائما
وسط غابة مشجرة ..فقام إليه أخوه قابيل فقتله .قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" :ل
تقتل نفس ظلما إل كان على ابن آدم الول كفل من دمها لنه كان أول من سن القتل" .جلس
القاتل أمام شقيقه الملقى على الرض .كان هذا الخ القتيل أول إنسان يموت على الرض..
ولم يكن دفن الموتى شيئا قد عرف بعد .وحمل الخ جثة شقيقه وراح يمشي بها ..ثم رأى
القاتل غرابا حيا بجانب جثة غراب ميت .وضع الغراب الحي الغراب الميت على الرض وساوى
أجنحته إلى جواره وبدأ يحفر الرض بمنقاره ووضعه برفق في القبر وعاد يهيل عليه التراب..
بعدها طار في الجو وهو يصرخ.
اندلع حزن قابيل على أخيه هابيل كالنار فأحرقه الندم .اكتشف أنه وهو السوأ والضعف ،قد
قتل الفضل والقوى .نقص أبناء آدم واحدا .وكسب الشيطان واحدا من أبناء آدم .واهتز جسد
القاتل ببكاء عنيف ثم أنشب أظافره في الرض وراح يحفر قبر شقيقه.
5
ن( وحزن حزنا شديدا مِبي ٌ ض ّ
ل ّ م ِ
ه ع َد ُوّ ّ
ن إ ِن ّ ُ شي ْ َ
طا ِ ل ال ّ
م ِ
ن عَ َ
م ْ قال آدم حين عرف القصة) :هَ َ
ذا ِ
على خسارته في ولديه .مات أحدهما ،وكسب الشيطان الثاني .صلى آدم على ابنه ،وعاد إلى
حياته على الرض :إنسانا يعمل ويشقى ليصنع خبزه .ونبيا يعظ أبنائه وأحفاده ويحدثهم عن
الله ويدعوهم إليه ،ويحكي لهم عن إبليس ويحذرهم منه .ويروي لهم قصته هو نفسه معه،
ويقص لهم قصته مع ابنه الذي دفعه لقتل شقيقه.
وكبر آدم .ومرت سنوات وسنوات ..وعن فراش موته ،يروي أبي بن كعب ،فقال :إن آدم لما
حضره الموت قال لبنيه :أي بني ،إني أشتهي من ثمار الجنة .قال :فذهبوا يطلبون له،
فاستقبلتهم الملئكة ومعهم أكفانه وحنوطه ،ومعهم الفؤوس والمساحي والمكاتل ،فقالوا لهم:
يا بني آدم ما تريدون وما تطلبون؟ أو ما تريدون وأين تطلبون؟ قالوا :أبونا مريض واشتهى من
ثمار الجنة ،فقالوا لهم :ارجعوا فقد قضي أبوكم .فجاءوا فلما رأتهم حواء عرفتهم فلذت بآدم،
فقال :إليك عني فإني إنما أتيت من قبلك ،فخلي بيني وبين ملئكة ربي عز وجل .فقبضوه
وغسلوه وكفنوه وحنطوه ،وحفروا له ولحدوه وصلوا عليه ثم أدخلوه قبره فوضعوه في قبره،
ثم حثوا عليه ،ثم قالوا :يا بني آدم هذه سنتكم.
وفي موته يروي الترمذي :حدثنا عبد بن حميد ،حدثنا أبو نعيم ،حدثنا هشام بن سعد ،عن زيد
بن أسلم ،عن أبي صالح ،عن أبي هريرة قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " :لما
خلق الله آدم مسح ظهره ،فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة،
وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا ً من نور ،ثم عرضهم على آدم فقال :أي رب من
هؤلء؟ قال :هؤلء ذريتك ،فرأى رجل ً فأعجبه وبيص ما بين عينيه ،فقال :أي رب من هذا؟ قال
هذا رجل من آخر المم من ذريتك يقال له داود ،قال :رب وكم جعلت عمره؟ قال ستين سنة،
قال :أي رب زده من عمري أربعين سنة .فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت ،قال :أو لم
يبق من عمري أربعون سنة؟ قال :أو لم تعطها ابنك داود؟ قال فجحد فجحدت ذريته ،ونسي
آدم فنسيت ذريته ،وخطىء آدم فخطئت ذريته".
6
شيث عليه السلم
نبذة:
لما مات آدم عليه السلم قام بأعباء المر بعده ولده شيث عليه السلم وكان نبيًا.
سيرته:
لما مات آدم عليه السلم قام بأعباء المر بعده ولده شيث عليه السلم وكان نبيًا .ومعنى
ل هابيل .فلما حانت وفاته أوصى إلى أبنه
شيث :هبة الله ،وسمياه بذلك لنهما رزقاه بعد أن قُِت َ
أنوش فقام بالمر بعده ،ثم بعده ولده قينن ثم من بعده ابنه مهلييل -وهو الذي يزعم العاجم
من الفرس أنه ملك القاليم السبعة ،وأنه أول من قطع الشجار ،وبنى المدائن والحصون
الكبار ،وأنه هو الذي بنى مدينة بابل ومدينة السوس القصى وأنه قهر إبليس وجنوده وشردهم
عن الرض إلى أطرافها وشعاب جبالها وأنه قتل خلقا ً من مردة الجن والغيلن ،وكان له تاج
عظيم ،وكان يخطب الناس ودامت دولته أربعين سنة.
فلما مات قام بالمر بعده ولده يرد فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ولده خنوخ ،وهو إدريس
عليه السلم على المشهور.
7
إدريس عليه السلم
نبذة:
كان صديقا نبيا ومن الصابرين ،أول نبي بعث في الرض بعد آدم ،وهو أبو جد نوح ،أنزلت عليه
ثلثون صحيفة ،ودعا إلى وحدانية الله وآمن به ألف إنسان ،وهو أول من خط بالقلم وأول من
خاط الثياب ولبسها ،وأول من نظر في علم النجوم وسيرها.
سيرته:
إدريس عليه السلم هو أحد الرسل الكرام الذين أخبر الله تعالى عنهم في كتابة العزيز،
وذكره في بضعة مواطن من سور القرآن ،وهو ممن يجب اليمان بهم تفصيل ً أي يجب اعتقاد
نبوته ورسالته على سبيل القطع والجزم لن القرآن قد ذكره باسمه وحدث عن شخصه
فوصفه بالنبوة والصديقية.
نسبه:
هو إدريس بن يارد بن مهلئيل وينتهي نسبه إلى شيث بن آدم عليه السلم واسمه عند
العبرانيين )خنوخ( وفي الترجمة العربية )أخنوخ( وهو من أجداد نوح عليه السلم .وهو أول بني
آدم أعطي النبوة بعد )آدم( و )شيث( عليهما السلم ،وذكر ابن إسحاق أنه أول من خط
بالقلم ،وقد أدرك من حياة آدم عليه السلم 308سنوات لن آدم عمر طويل ً زهاء 1000ألف
سنة.
حياته:
وقد أختلف العلماء في مولده ونشأته ،فقال بعضهم إن إدريس ولد ببابل ،وقال آخرون إنه ولد
بمصر والصحيح الول ،وقد أخذ في أول عمره بعلم شيث بن آدم ،ولما كبر آتاه الله النبوة
فنهي المفسدين من بني آدم عن مخالفتهم شريعة )آدم( و )شيث( فأطاعه نفر قليل ،وخالفه
جمع خفير ،فنوى الرحلة عنهم وأمر من أطاعه منهم بذلك فثقل عليهم الرحيل عن أوطانهم
فقالوا له ،وأين نجد إذا رحلنا مثل )بابل( فقال إذا هاجرنا رزقنا الله غيره ،فخرج وخرجوا حتى
وصلوا إلى أرض مصر فرأوا النيل فوقف على النيل وسبح الله ،وأقام إدريس ومن معه بمصر
يدعو الناس إلى الله وإلى مكارم الخلق .وكانت له مواعظ وآداب فقد دعا إلى دين الله،
وإلى عبادة الخالق جل وعل ،وتخليص النفوس من العذاب في الخرة ،بالعمل الصالح في
الدنيا وحض على الزهد في هذه الدنيا الفانية الزائلة ،وأمرهم بالصلة والصيام والزكاة وغلظ
عليهم في الطهارة من الجنابة ،وحرم المسكر من كل شي من المشروبات وشدد فيه أعظم
تشديد وقيل إنه كان في زمانه 72لسانا ً يتكلم الناس بها وقد علمه الله تعالى منطقهم جميعا ً
ليعلم كل فرقة منهم بلسانهم .وهو أول من علم السياسة المدنية ،ورسم لقومه قواعد تمدين
المدن ،فبنت كل فرقة من المم مدنا ً في أرضها وأنشئت في زمانه 188مدينة وقد اشتهر
بالحكمة فمن حكمة قوله )خير الدنيا حسرة ،وشرها ندم( وقوله )السعيد من نظر إلى نفسه
وشفاعته عند ربه أعماله الصالحة( وقوله )الصبر مع اليمان يورث الظفر(.
وفاته:
ف في موته ..فعن ابن وهب ،عن جرير بن حازم ،عن العمش ،عن شمر بن عطية، وقد أ ُ ْ
خت ُل ِ َ
عن هلل بن يساف قال :سأل ابن عباس كعبا ً وأنا حاضر فقال له :ما قول الله تعالى لدريس
كانا ً ع َل ِي ّا ً{؟ فقال كعب :أما إدريس فإن الله أوحى إليه :أني أرفع لك كل يوم مثل
م َ
}وََرفَعَْناه ُ َ
جميع عمل بني آدم -لعله من أهل زمانه -فأحب أن يزداد عم ً
ل ،فأتاه خليل له من الملئكة،
فقال "له" :إن الله أوحى إلي كذا وكذا فكلم ملك الموت حتى ازداد عم ً
ل ،فحمله بين جناحيه
8
ثم صعد به إلى السماء ،فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدرًا ،فكلم ملك
الموت في الذي كلمه فيه إدريس ،فقال :وأين إدريس؟ قال هو ذا على ظهري ،فقال ملك
الموت :يا للعجب! بعثت وقيل لي اقبض روح إدريس في السماء الرابعة ،فجعلت أقول :كيف
أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الرض؟! فقبض روحه هناك .فذلك قول الله عز وجل
كانا ً ع َل ِي ّا ً{ .ورواه ابن أبي حاتم عند تفسيرها .وعنده فقال لذلك الملك سل لي
م َ
}وََرفَعَْناه ُ َ
ملك الموت كم بقي من عمري؟ فسأله وهو معه :كم بقي من عمره؟ فقال :ل أدري حتى
أنظر ،فنظر فقال إنك لتسألني عن رجل ما بقي من عمره إل طرفة عين ،فنظر الملك إلى
تحت جناحه إلى إدريس فإذا هو قد قبض وهو ل يشعر .وهذا من السرائيليات ،وفي بعضه
نكارة.
قال البخاري :ويذكر عن ابن مسعود وابن عباس أن إلياس هو إدريس ،واستأنسوا في ذلك بما
جاء في حديث الزهري عن أنس في السراء :أنه لما مّر به عليه السلم قال له مرحبا ً بالخ
الصالح والنبي الصالح ،ولم يقل كما قال آدم و إبراهيم :مرحبا ً بالنبي الصالح والبن الصالح،
قالوا :فلو كان في عمود نسبه لقال له كما قال له.
وهذا ل يدل ولبد ،قد ل يكون الراوي حفظه جيدًا ،أو لعله قاله على سبيل الهضم والتواضع،
ولم ينتصب له في مقام البوة كما انتصب لدم أبي البشر ،وإبراهيم الذي هو خليل الرحمن،
وأكبر أولي العزم بعد محمد صلوات الله عليهم أجمعين.
نبذة:
كان نوح تقيا صادقا أرسله الله ليهدي قومه وينذرهم عذاب الخرة ولكنهم عصوه وكذبوه ،ومع
ذلك استمر يدعوهم إلى الدين الحنيف فاتبعه قليل من الناس ،واستمر الكفرة في طغيانهم
فمنع الله عنهم المطر ودعاهم نوح أن يؤمنوا حتى يرفع الله عنهم العذاب فآمنوا فرفع الله
عنهم العذاب ولكنهم رجعوا إلى كفرهم ،وأخذ يدعوهم 950سنة ثم أمره الله ببناء السفينة
وأن يأخذ معه زوجا من كل نوع ثم جاء الطوفان فأغرقهم أجمعين.
سيرته:
9
قبل أن يولد قوم نوح عاش خمسة رجال صالحين من أجداد قوم نوح ،عاشوا زمنا ثم ماتوا،
سواع ،يغوث ،يعوق ،نسرا( .بعد موتهم صنع الناس لهم دُ ،
كانت أسماء الرجال الخمسة هي) :و ّ
تماثيل في مجال الذكرى والتكريم ،ومضى الوقت ..ومات الذين نحتوا التماثيل ..وجاء أبنائهم..
ومات البناء وجاء أبناء البناء ..ثم نسجت قصصا وحكايات حول التماثيل تعزو لها قوة خاصة..
واستغل إبليس الفرصة ،وأوهم الناس أن هذه تماثيل آلهة تملك النفع وتقدر على الضرر ..وبدأ
الناس يعبدون هذه التماثيل.
كان نوح كان على الفطرة مؤمنا بالله تعالى قبل بعثته إلى الناس .وكل النبياء مؤمنون بالله
ل .فاختاره الله لحمل الرسالة .فخرج نوح على تعالى قبل بعثتهم .وكان كثير الشكر لله عّز وج ّ
قومه وبدأ دعوته:
ظيم ٍ
ب ي َوْم ٍ ع َ ِ
ذا َ ف ع َل َي ْك ُ ْ
م عَ َ ي أَ َ
خا ُ ن إ َِلـهٍ غ َي ُْره ُ إ ِن ّ َ
م ْ ما ل َ ُ
كم ّ دوا ْ الل ّ َ
ه َ َيا قَوْم ِ اع ْب ُ ُ
بهذه الجملة الموجزة وضع نوح قومه أمام حقيقة اللوهية ..وحقيقة البعث .هناك إله خالق
وهو وحده الذي يستحق العبادة ..وهناك موت ثم بعث ثم يوم للقيامة .يوم عظيم ،فيه عذاب
يوم عظيم.شرح "نوح" لقومه أنه يستحيل أن يكون هناك غير إله واحد هو الخالق .أفهمهم أن
الشيطان قد خدعهم زمنا طويل ،وأن الوقت قد جاء ليتوقف هذا الخداع ،حدثهم نوح عن تكريم
الله للنسان .كيف خلقه ،ومنحه الرزق وأعطاه نعمة العقل ،وليست عبادة الصنام غير ظلم
خانق للعقل.
تحرك قوم نوح في اتجاهين بعد دعوته .لمست الدعوة قلوب الضعفاء والفقراء والبؤساء،
وانحنت على جراحهم وآلمهم بالرحمة ..أما الغنياء والقوياء والكبراء ،تأملوا الدعوة بعين
الشك… ولما كانوا يستفيدون من بقاء الوضاع على ما هي عليه ..فقد بدءوا حربهم ضد نوح.
مث ْل ََنا ك إ ِل ّ ب َ َ
شًرا ّ ما ن ََرا َ
مهِ َ فُروا ْ ِ
من قِوْ ِ ن كَ َ مل ُ ال ّ ِ
ذي َ ل ال ْ َ فَ َ
قا َ
قال تفسير القرطبي :المل الذين كفروا من قومه هم الرؤساء الذين كانوا في قومه .يسمون
المل لنهم مليئون بما يقولون.
رغم أن نوحا لم يقل غير ذلك ،وأكد أنه مجرد بشر ..والله يرسل إلى الرض رسول من البشر،
لن الرض يسكنها البشر ،ولو كانت الرض تسكنها الملئكة لرسل الله رسول من الملئكة..
استمرت الحرب بين الكافرين ونوح.
في البداية ،تصور الكفرة يومها أن دعوة نوح ل تلبث أن تنطفئ وحدها ،فلما وجدوا الدعوة
تجتذب الفقراء والضعفاء وأهل الصناعات البسيطة بدءوا الهجوم على نوح من هذه الناحية.
هاجموه في أتباعه ،وقالوا له :لم يتبعك غير الفقراء والضعفاء والراذل.
هكذا اندلع الصراع بين نوح ورؤساء قومه .ولجأ الذين كفروا إلى المساومة .قالوا لنوح :اسمع
يا نوح .إذا أردت أن نؤمن لك فاطرد الذين آمنوا بك .إنهم ضعفاء وفقراء ،ونحن سادة القوم
وأغنياؤهم ..ويستحيل أن تضمنا دعوة واحدة مع هؤلء.
واستمع نوح إلى كفار قومه وأدرك أنهم يعاندون ،ورغم ذلك كان طيبا في رده .أفهم قومه أنه
ل يستطيع أن يطرد المؤمنين ،لنهم أول ليسوا ضيوفه ،إنما هم ضيوف الله ..وليست الرحمة
10
بيته الذي يدخل فيه من يشاء أو يطرد منه من يشاء ،إنما الرحمة بيت الله الذي يستقبل فيه
من يشاء.
كان نوح يناقش كل حجج الكافرين بمنطق النبياء الكريم الوجيه .وهو منطق الفكر الذي يجرد
نفسه من الكبرياء الشخصي وهوى المصالح الخاصة.
قال لهم إن الله قد آتاه الرسالة والنبوة والرحمة .ولم يروا هم ما آتاه الله ،وهو بالتالي ل
يجبرهم على اليمان برسالته وهم كارهون .إن كلمة ل إله إل الله ل تفرض على أحد من
البشر .أفهمهم أنه ل يطلب منهم مقابل لدعوته ،ل يطلب منهم مال فيثقل عليهم ،إن أجره
على الله ،هو الذي يعطيه ثوابه .أفهمهم أنه ل يستطيع أن يطرد الذين آمنوا بالله ،وأن له
حدوده كنبي .وحدوده ل تعطيه حق طرد المؤمنين لسببين :أنهم سيلقون الله مؤمنين به
فكيف يطرد مؤمنا بالله؟ ثم أنه لو طردهم لخاصموه عند الله ،ويجازي من طردهم ،فمن الذي
ينصر نوحا من الله لو طردهم؟ وهكذا انتهى نوح إلى أن مطالبة قومه له بطرد المؤمنين جهل
منهم.
وعاد نوح يقول لهم أنه ل يدعى لنفسه أكثر مما له من حق ،وأخبرهم بتذللـه وتواضعه لله عز
وجل ،فهو ل يدعي لنفسه ما ليس له من خزائن الله ،وهي إنعامه على من يشاء من عباده،
وهو ل يعلم الغيب ،لن الغيب علم اختص الله تعالى وحده به .أخبرهم أيضا أنه ليس ملكا.
بمعنى أن منزلته ليست كمنزلة الملئكة ..قال لهم نوح :إن الذين تزدري أعينكم وتحتقر
وتستثقل ..إن هؤلء المؤمنين الذي تحتقرونهم لن تبطل أجورهم وتضيع لحتقاركم لهم ،الله
أعلم بما في أنفسهم .هو الذي يجازيهم عليه ويؤاخذهم به ..أظلم نفسي لو قلت إن الله لن
يؤتيهم خيرا.
وسئم المل يومها من هذا الجدل الذي يجادله نوح ..حكى الله موقفهم منه في سورة )هود(:
ْ َ
ما ن )َ (32قا َ
ل إ ِن ّ َ صاد ِِقي َ ن ال ّ م َت ِ كن َما ت َعِد َُنا ِإن ُ دال ََنا فَأت َِنا ب ِ َ ج َت ِ جاد َل ْت ََنا فَأك ْث َْر َح قَد ْ ََقاُلوا ْ َيا ُنو ُ
م ِإن َ
ح لك ُ ْص َ
َ
ن أن َ
َ
تأ ْ
َ
ن أَرد ّ حي إ ِ ْ ص ِ
م نُ ْفعُك ُ ْ ن ) (33وَل َ َين َ زي َ ج ِ مع ْ ِ
َ
ما أنُتم ب ِ ُ شاء وَ َ ه ِإن َ ي َأ ِْتي ُ
كم ب ِهِ الل ّ ُ
َ
ن )) (34هود( جُعو َ م وَإ ِل َي ْهِ ت ُْر َ
م هُوَ َرب ّك ُ ْ ريد ُ أن ي ُغْوِي َك ُ ْ ه يُ ِن الل ّ ُ َ
كا َ
أضاف نوح إغواءهم إلى الله تعالى .تسليما بأن الله هو الفاعل في كل حال .غير أنهم
استحقوا الضلل بموقفهم الختياري وملئ حريتهم وكامل إرادتهم ..فالنسان صانع لفعاله
ولكنه محتاج في صدورها عنه إلى ربه .بهذه النظرة يستقيم معنى مساءلة النسان عن
أفعاله .كل ما في المر أن الله ييسر كل مخلوق لما خلق له ،سواء أكان التيسير إلى الخير أم
إلى الشر ..وهذا من تمام الحرية وكمالها .يختار النسان بحريته فييسر له الله تعالى طريق ما
اختاره .اختار كفار قوم نوح طريق الغواية فيسره الله لهم.
وتستمر المعركة ،وتطول المناقشة بين الكافرين من قوم نوح وبينه إذا انهارت كل حجج
الكافرين ولم يعد لديهم ما يقال ،بدءوا يخرجون عن حدود الدب ويشتمون نبي الله:
ن )) (60العراف(
مِبي ٍ ضل َ ٍ
ل ّ مهِ إ ِّنا ل َن ََرا َ
ك ِفي َ مل ُ ِ
من قَوْ ِ ل ال ْ َ
َقا َ
ويستمر نوح في دعوة قومه إلى الله .ساعة بعد ساعة .ويوما بعد يوم .وعاما بعد عام .ومرت
العوام ونوح يدعو قومه .كان يدعوهم ليل ونهارا ،وسرا وجهرا ،يضرب لهم المثال .ويشرح
لهم اليات ويبين لهم قدرة الله في الكائنات ،وكلما دعاهم إلى الله فروا منه ،وكلما دعاهم
11
ليغفر الله لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستكبروا عن سماع الحق .واستمر نوح يدعو قومه
إلى الله ألف سنة إل خمسين عاما.
وكان يلحظ أن عدد المؤمنين ل يزيد ،بينما يزيد عدد الكافرين .وحزن نوح غير أنه لم يفقد
المل ،وظل يدعو قومه ويجادلهم ،وظل قومه على الكبرياء والكفر والتبجح .وحزن نوح على
قومه .لكنه لم يبلغ درجة اليأس .ظل محتفظا بالمل طوال 950سنة .ويبدو أن أعمار الناس
قبل الطوفان كانت طويلة ،وربما يكون هذا العمر الطويل لنوح معجزة خاصة له.
وجاء يوم أوحى الله إليه ،أنه لن يؤمن من قومك إل من قد آمن .أوحى الله إليه أل يحزن
عليهم .ساعتها دعا نوح على الكافرين بالهلك:
الطوفان:
ثم أصدر الله تعالى حكمه على الكافرين بالطوفان .أخبر الله تعالى عبده نوحا أنه سيصنع
حي َِنا( أي بعلم الله وتعليمه ،وعلى مرأى منه وطبقا لتوجيهاته ومساعدة َ
سفينة )ب ِأع ْي ُن َِنا وَوَ ْ
موا ْ إ ِن ُّهم ّ
مغَْرُقو َ
ن( يغرق ن ظ َل َ ُ خاط ِب ِْني ِفي ال ّ ِ
ذي َ الملئكة .أصدر الله تعالى أمره إلى نوح) :وَل َ ت ُ َ
الله الذين ظلموا مهما كانت أهميتهم أو قرابتهم للنبي ،وينهى الله نبيه أن يخاطبه أو يتوسط
لهم.
وبدأ نوح يغرس الشجر ويزرعه ليصنع منه السفينة .انتظر سنوات ،ثم قطع ما زرعه ،وبدأ
نجارته .كانت سفينة عظيمة الطول والرتفاع والمتانة ،وقد اختلف المفسرون في حجمها،
وهيئتها ،وعدد طبقاتها ،ومدة عملها ،والمكان الذي عملت فيه ،ومقدار طولها ،وعرضها ،على
أقوال متعارضة لم يصح منها شيء .وقال الفخر الرازي في هذا كله :أعلم أن هذه المباحث ل
تعجبني ،لنها أمور ل حاجة إلى معرفتها البتة ،ول يتعلق بمعرفتها فائدة أصل .نحن نتفق مع
الرازي في مقولته هذه .فنحن ل نعرف عن حقيقة هذه السفينة إل ما حدثنا الله به .تجاوز الله
تعالى هذه التفصيلت التي ل أهمية لها ،إلى مضمون القصة ومغزاها المهم.
بدأ نوح يبني السفينة ،ويمر عليه الكفار فيرونه منهمكا في صنع السفينة ،والجفاف سائد،
وليست هناك أنهار قريبة أو بحار .كيف ستجري هذه السفينة إذن يا نوح؟ هل ستجري على
الرض؟ أين الماء الذي يمكن أن تسبح فيه سفينتك؟ لقد جن نوح ،وترتفع ضحكات الكافرين
وتزداد سخريتهم من نوح .وكانوا يسخرون منه قائلين :صرت نجارا بعد أن كنت نبيا!
إن قمة الصراع في قصة نوح تتجلى في هذه المساحة الزمنية ،إن الباطل يسخر من الحق.
يضحك عليه طويل ،متصورا أن الدنيا ملكه ،وأن المن نصيبه ،وأن العذاب غير واقع ..غير أن
هذا كله مؤقت بموعد حلول الطوفان .عندئذ يسخر المؤمنون من الكافرين ،وتكون سخريتهم
هي الحق.
انتهى صنع السفينة ،وجلس نوح ينتظر أمر الله .أوحى الله إلى نوح أنه إذا فار التنور هذا
علمة على بدء الطوفان .قيل في تفسير التنور أنه بركان في المنطقة ،وقيل أن الفرن الكائن
في بيت نوح ،إذا خرج منه الماء وفار كان هذا أمرا لنوح بالحركة.
وجاء اليوم الرهيب ،فار التنور .وأسرع نوح يفتح سفينته ويدعو المؤمنين به ،وهبط جبريل عليه
السلم إلى الرض .حمل نوح إلى السفينة من كل حيوان وطير ووحش زوجين اثنين ،بقرا
وثورا ،فيل وفيلة ،عصفورا وعصفور ،نمرا ونمرة ،إلى آخر المخلوقات .كان نوح قد صنع
12
أقفاصا للوحوش وهو يصنع السفينة .وساق جبريل عليه السلم أمامه من كل زوجين اثنين،
لضمان بقاء نوع الحيوان والطير على الرض ،وهذا معناه أن الطوفان أغرق الرض كلها ،فلول
ذلك ما كان هناك معنى لحمل هذه النواع من الحيوان والطير .وبدأ صعود السفينة .صعدت
الحيوانات والوحوش والطيور ،وصعد من آمن بنوح ،وكان عدد المؤمنين قليل.
لم تكن زوجة نوح مؤمنة به فلم تصعد ،وكان أحد أبنائه يخفي كفره ويبدي اليمان أمام نوح،
فلم يصعد هو الخر .وكانت أغلبية الناس غير مؤمنة هي الخرى ،فلم تصعد .وصعد المؤمنون.
قال ابن عباس ،رضي الله عنهما :آمن من قوم نوح ثمانون إنسانا.
ارتفعت المياه من فتحات الرض .انهمرت من السماء أمطارا غزيرة بكميات لم تر مثلها
الرض .فالتقت أمطار السماء بمياه الرض ،وصارت ترتفع ساعة بعد ساعة .فقدت البحار
هدوئها ،وانفجرت أمواجها تجور على اليابسة ،وتكتسح الرض .وغرقت الكرة الرضية للمرة
الولى في المياه.
ارتفعت المياه أعلى من الناس .تجاوزت قمم الشجار ،وقمم الجبال ،وغطت سطح الرض
كله .وفي بداية الطوفان نادى نوح ابنه .كان ابنه يقف بمعزل منه .ويحكي لنا المولى عز وجل
الحوار القصير الذي دار بين نوح عليه السلم وابنه قبل أن يحول بينهما الموج فجأة.
ن
ري َ
كافِ ِمع َ ا ل ْ َ كن ّمعََنا وَل َ ت َ ُ كب ّ ي اْر َ نادى نوح ابنه قائلَ :يا ب ُن َ ّ
ماء ْ
ن ال َ م َ مِني ِص ُ ل ي َعْ ِجب َ ٍ َ
سآِوي إ ِلى َ ل َ ورد البن عليهَ :قا َ
ّ َ ْ
م
ح َ
من ّر ِ مرِ اللهِ إ ِل ّ َ نأ ْ م ْم ِ م الي َوْ َ
ص َ ل لَ َ
عا ِ عاد نوح يخاطبهَ :قا َ
ن ن ال ْ ُ
مغَْرِقي َ م َ
ن ِ ج فَ َ
كا َ ما ال ْ َ
مو ْ ُ حا َ
ل ب َي ْن َهُ َ وَ َ
واستمر الطوفان .استمر يحمل سفينة نوح .بعد ساعات من بدايته ،كانت كل عين تطرف على
الرض قد هلكت غرقا .لم يعد باقيا من الحياة والحياء غير هذا الجزء الخشبي من سفينة نوح،
وهو ينطوي على الخلصة المؤمنة من أهل الرض .وأنواع الحيوانات والطيور التي اختيرت
بعناية .ومن الصعب اليوم تصور هول الطوفان أو عظمته .كان شيئا مروعا يدل على قدرة
الخالق .كانت السفينة تجري بهم في موج كالجبال .ويعتقد بعض العلماء الجيولوجيا اليوم إن
انفصال القارات وتشكل الرض في صورتها الحالية ،قد وقعا نتيجة طوفان قديم جبار ،ثارت
فيه المياه ثورة غير مفهومة .حتى غطت سطح الجزء اليابس من الرض ،وارتفعت فيه قيعان
المحيطات ووقع فيه ما نستطيع تسميته بالثورة الجغرافية.
استمر طوفان نوح زمنا ل نعرف مقداره .ثم صدر المر اللهي إلى السماء أن تكف عن
المطار ،وإلى الرض أن تستقر وتبتلع الماء ،وإلى أخشاب السفينة أن ترسو على الجودي،
وهو اسم مكان قديم يقال أنه جبل في العراق .طهر الطوفان الرض وغسلها .قال تعالى في
سورة )هود(:
َ َ َ
ي ت ع ََلى ال ْ ُ
جود ِ ّ ست َوَ ْ
مُر َوا ْ
ي ال ْض َ ض ال ْ َ
ماء وَقُ ِ ماء أقْل ِِعي وَِغي َ س َ
ك وََيا َ ض اب ْل َِعي َ
ماء ِ وَِقي َ
ل َيا أْر ُ
ن )) (44هود( مي َ ّ
قوْم ِ الظال ِ ِ ْ ّ ً َ
وَِقيل ب ُْعدا لل َ
13
َ
مُر( بمعنى أنه ي ال ْ ض َماء( بمعنى نقص الماء وانصرف عائدا إلى فتحات الرض) .وَقُ ِ ض ال ْ َ
)وَِغي َ
أحكم وفرغ منه ،يعني هلك الكافرون من قوم نوح تماما .ويقال أن الله أعقم أرحامهم أربعين
ي( بمعنى رست جود ِ ّت ع ََلى ال ْ ُ
ست َوَ ْ
سنة قبل الطوفان ،فلم يكن فيمن هلك طفل أو صغيرَ) .وا ْ
ْ ّ ً َ
قوْم ِ
عليه ،وقيل كان ذلك يوم عاشوراء .فصامه نوح ،وأمر من معه بصيامه) .وَِقيل ب ُْعدا لل َ
ن( أي هلكا لهم .طهر الطوفان الرض منهم وغسلها .ذهب الهول بذهاب الطوفان. مي َ ال ّ
ظال ِ ِ
وانتقل الصراع من الموج إلى نفس نوح ..تذكر ابنه الذي غرق.
لم يكن نوح يعرف حتى هذه اللحظة أن ابنه كافر .كان يتصور أنه مؤمن عنيد ،آثر النجاة
باللجوء إلى جبل .وكان الموج قد أنهى حوارهما قبل أن يتم ..فلم يعرف نوح حظ ابنه من
اليمان .تحركت في قلب الب عواطف البوة .قال تعالى في سورة )هود(:
َ َ ل رب إن ابِني م َ
ن )) (45هود(
مي َ م ال ْ َ
حاك ِ ِ حك َ ُ
تأ ْ ك ال ْ َ
حقّ وَأن َ ن وَع ْد َ َ
ن أهِْلي وَإ ِ ّ
ِ ْ ه فَ َ
قا َ َ ّ ِ ّ ُ ح ّرب ّ ُ
دى ُنو ٌ
وََنا َ
أراد نوح أن يقول لله أن ابنه من أهله المؤمنين .وقد وعده الله بنجاة أهله المؤمنين .قال الله
سبحانه وتعالى ،مطلعا نوحا على حقيقة ابنه للمرة الولى:
قال القرطبي -نقل عن شيوخه من العلماء -وهو الرأي الذي نؤثره :كان ابنه عنده -أي نوح-
ن أ َهِْلي( إل وذلك عنده كذلك ،إذ محال أن
م ْ
ن اب ُِني ِ
مؤمنا في ظنه ،ولم يك نوح يقول لربه) :إ ِ ّ
يسأل هلك الكفار ،ثم يسأل في إنجاء بعضهم .وكان ابنه يسرّ الكفر ويظهر اليمان .فأخبر
الله تعالى نوحا بما هو منفرد به من علم الغيوب .أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت.
وكان الله حين يعظه أن يكون من الجاهلين ،يريد أن يبرئه من تصور أن يكون ابنه مؤمنا ،ثم
يهلك مع الكافرين.
وثمة درس مهم تنطوي عليه اليات الكريمة التي تحكي قصة نوح وابنه .أراد الله سبحانه
وتعالى أن يقول لنبيه الكريم أن ابنه ليس من أهله ،لنه لم يؤمن بالله ،وليس الدم هو الصلة
الحقيقية بين الناس .ابن النبي هو ابنه في العقيدة .هو من يتبع الله والنبي ،وليس ابنه من
يكفر به ولو كان من صلبه .هنا ينبغي أن يتبرأ المؤمن من غير المؤمن .وهنا أيضا ينبغي أن
تتصل بين المؤمنين صلت العقيدة فحسب .ل اعتبارات الدم أو الجنس أو اللون أو الرض.
واستغفر نوح ربه وتاب إليه ورحمه الله وأمره أن يهبط من السفينة محاطا ببركة الله
ورعايته .وهبط نوح من سفينته .أطلق سراح الطيور والوحش فتفرقت في الرض ،نزل
المؤمنون بعد ذلك .ول يحكي لنا القرآن الكريم قصة من آمن مع نوح بعد نجاتهم من
الطوفان.
14
هود عليه السلم
نبذة:
أرسل إلى قوم عاد الذين كانوا بالحقاف ،وكانوا أقوياء الجسم والبنيان وآتاهم الله الكثير من
رزقه ولكنهم لم يشكروا الله على ما آتاهم وعبدوا الصنام فأرسل لهم الله هودا نبيا مبشرا،
كان حكيما ولكنهم كذبوه وآذوه فجاء عقاب الله وأهلكهم بريح صرصر عاتية استمرت سبع
ليال وثمانية أيام.
سيرته:
بعد أن ابتلعت الرض مياه الطوفان الذي أغرق من كفر بنوح عليه السلم ،قام من آمن معه
ونجى بعمارة الرض .فكان كل من على الرض في ذلك الوقت من المؤمنين .لم يكن بينهم
كافر واحد .ومرت سنوات وسنوات .مات الباء والبناء وجاء أبناء البناء .نسى الناس وصية
نوح ،وعادت عبادة الصنام .انحرف الناس عن عبادة الله وحده ،وتم المر بنفس الخدعة
القديمة.
قال أحفاد قوم نوح :ل نريد أن ننسى آبائنا الذين نجاهم الله من الطوفان .وصنعوا للناجين
تماثيل ليذكروهم بها ،وتطور هذا التعظيم جيل بعد جيل ،فإذا المر ينقلب إلى العبادة ،وإذا
بالتماثيل تتحول بمكر من الشيطان إلى آلهة مع الله .وعادت الرض تشكو من الظلم مرة
ثانية .وأرسل الله سيدنا هودا إلى قومه.
كان "هود" من قبيلة اسمها "عاد" وكانت هذه القبيلة تسكن مكانا يسمى الحقاف ..وهو
صحراء تمتلئ بالرمال ،وتطل على البحر .أما مساكنهم فكانت خياما كبيرة لها أعمدة شديدة
الضخامة والرتفاع ،وكان قوم عاد أعظم أهل زمانهم في قوة الجسام ،والطول والشدة ..كانوا
عمالقة وأقوياء ،فكانوا يتفاخرون بقوتهم .فلم يكن في زمانهم أحد في قوتهم .ورغم ضخامة
أجسامهم ،كانت لهم عقول مظلمة .كانوا يعبدون الصنام ،ويدافعون عنها ،ويحاربون من أجلها،
ويتهمون نبيهم ويسخرون منه .وكان المفروض ،ما داموا قد اعترفوا أنهم أشد الناس قوة ،أن
يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة.
قال لهم هود نفس الكلمة التي يقولها كل رسول .ل تتغير ول تنقص ول تتردد ول تخاف ول
ه َ
ن إ ِلـ ٍ
م ْ ما ل َ ُ
كم ّ دوا ْ الل ّ َ
ه َ تتراجع .كلمة واحدة هي الشجاعة كلها ،وهي الحق وحده )َيا قَوْم ِ اع ْب ُ ُ
ن(. غ َي ُْرهُ أ َفَل َ ت َت ّ ُ
قو َ
وسأله قومه :هل تريد أن تكون سيدا علينا بدعوتك؟ وأي أجر تريده؟
إن هذه الظنون السئية تتكرر على ألسنة الكافرين عندما يدعوهم نبيهم لليمان بالله وحده.
فعقولهم الصغيرة ل تتجاوز الحياة الدنيوية .ول يفكروا إل بالمجد والسلطة والرياسة.
أفهمهم هود أن أجره على الله ،إنه ل يريد منهم شيئا غير أن يغسلوا عقولهم في نور الحقيقة.
حدثهم عن نعمة الله عليهم ،كيف جعلهم خلفاء لقوم نوح ،كيف أعطاهم بسطة في الجسم،
وشدة في البأس ،كيف أسكنهم الرض التي تمنح الخير والزرع .كيف أرسل عليهم المطر
الذي يحيى به الرض .وتلفت قوم هود حولهم فوجدوا أنهم أقوى من على الرض ،وأصابتهم
الكبرياء وزادوا في العناد.
15
قالوا لهود :كيف تتهم آلهتنا التي وجدنا آباءنا يعبدونها؟
قال هود :كان آباؤكم مخطئين.
قال قوم هود :هل تقول يا هود إننا بعد أن نموت ونصبح ترابا يتطاير في الهواء ،سنعود إلى
الحياة؟
قال هود :ستعودون يوم القيامة ،ويسأل الله كل واحد فيكم عما فعل.
انفجرت الضحكات بعد هذه الجملة الخيرة .ما أغرب ادعاء هود .هكذا تهامس الكافرون من
قومه .إن النسان يموت ،فإذا مات تحلل جسده ،فإذا تحلل جسده تحول إلى تراب ،ثم يهب
الهواء ويتطاير التراب .كيف يعود هذا كله إلى أصله؟! ثم ما معنى وجود يوم للقيامة؟ لماذا
يقوم الموات من موتهم؟
استقبل هود كل هذه السئلة بصبر كريم ..ثم بدأ يحدث قومه عن يوم القيامة ..أفهمهم أن
إيمان الناس بالخرة ضرورة تتصل بعدل الله ،مثلما هي ضرورة تتصل بحياة الناس .قال لهم
ما يقوله كل نبي عن يوم القيامة .إن حكمة الخالق المدبر ل تكتمل بمجرد بدء الخلق ،ثم
انتهاء حياة المخلوقين في هذه الرض .إن هذه الحياة اختبار ،يتم الحساب بعدها .فليست
تصرفات الناس في الدنيا واحدة ،هناك من يظلم ،وهناك من يقتل ،وهناك من يعتدي ..وكثيرا
ما نرى الظالمين يذهبون بغير عقاب ،كثيرا ما نرى المعتدين يتمتعون في الحياة بالحترام
والسلطة .أين تذهب شكاة المظلومين؟ وأين يذهب ألم المضطهدين؟ هل يدفن معهم في
التراب بعد الموت؟
إن العدالة تقتضي وجود يوم للقيامة .إن الخير ل ينتصر دائما في الحياة .أحيانا ينظم الشر
جيوشه ويقتل حملة الخير .هل تذهب هذه الجريمة بغير عقاب؟
إن ظلما عظيما يتأكد لو افترضنا أن يوم القيامة لن يجئ .ولقد حرم الله تعالى الظلم على
نفسه وجعله محرما بين عباده .ومن تمام العدل وجود يوم للقيامة والحساب والجزاء .ذلك أن
يوم القيامة هو اليوم الذي تعاد فيه جميع القضايا مرة أخرى أمام الخالق ،ويعاد نظرها مرة
أخرى .ويحكم فيها رب العالمين سبحانه .هذه هي الضرورة الولى ليوم القيامة ،وهي تتصل
بعدالة الله ذاته.
وثمة ضرورة أخرى ليوم القيامة ،وهي تتصل بسلوك النسان نفسه .إن العتقاد بيوم الدين،
واليمان ببعث الجساد ،والوقوف للحساب ،ثم تلقي الثواب والعقاب ،ودخول الجنة أو النار،
هذا شيء من شأنه أن يعلق أنظار البشر وقلوبهم بعالم أخر بعد عالم الرض ،فل تستبد بهم
ضرورات الحياة ،ول يستعبدهم الطمع ،ول تتملكهم النانية ،ول يقلقهم أنهم لم يحققوا جزاء
سعيهم في عمرهم القصير المحدود ،وبذلك يسمو النسان على الطين الذي خلق منه إلى
الروح الذي نفخه ربه فيه .ولعل مفترق الطريق بين الخضوع لتصورات الرض وقيمها
وموازينها ،والتعلق بقيم الله العليا ،والنطلق اللئق بالنسان ،يكمن في اليمان بيوم القيامة.
حدثهم هود بهذا كله فاستمعوا إليه وكذبوه .قالوا له هيهات هيهات ..واستغربوا أن يبعث الله
من في القبور ،استغربوا أن يعيد الله خلق النسان بعد تحوله إلى التراب ،رغم أنه خلقه من
قبل من التراب .وطبقا للمقاييس البشرية ،كان ينبغي أن يحس المكذبون للبعث أن إعادة
خلق النسان من التراب والعظام أسهل من خلقه الول .لقد بدأ الله الخلق فأي صعوبة في
إعادته؟! إن الصعوبة -طبقا للمقياس البشري -تكمن في الخلق .وليس المقياس البشري غير
س بشري ينطبق على الناس ،أما الله ،فليست هناك أمور صعبة أو سهلة بالنسبة إليه مقيا ٍ
سبحانه ،تجري المور بالنسبة إليه سبحانه بمجرد المر.
يروي المولى عزل وجل موقف المل )وهم الرؤساء( من دعوة هود عليه السلم .سنرى هؤلء
المل في كل قصص النبياء .سنرى رؤساء القوم وأغنيائهم ومترفيهم يقفون ضد النبياء.
َ
م ِفي ال ْ َ
حَياةِ الد ّن َْيا( من مواقع الثراء والغنى والترف ،يولد يصفهم الله تعالى بقوله) :وَأت َْرفَْناهُ ْ
16
الحرص على استمرار المصالح الخاصة .ومن مواقع الثراء والغنى والترف والرياسة ،يولد
الكبرياء .ويلتفت الرؤساء في القوم إلى أنفسهم ويتساءلون :أليس هذا النبي بشرا مثلنا ،يأكل
مما نأكل ،ويشرب مما نشرب؟ بل لعله بفقره يأكل أقل مما نأكل ،ويشرب في أكواب صدئة،
ونحن نشرب في أكواب الذهب والفضة ..كيف يدعي أنه على الحق ونحن على الباطل؟ هذا
بشر ..كيف نطيع بشرا مثلنا؟ ثم ..لماذا اختار الله بشرا من بيننا ليوحى إليه؟
قال رؤساء قوم هود :أليس غريبا أن يختار الله من بيننا بشرا ويوحي إليه؟!
تسائل هو :ما هو الغريب في ذلك؟ إن الله الرحيم بكم قد أرسلني إليكم لحذركم .إن سفينة
نوح ،وقصة نوح ليست ببعيدة عنكم ،ل تنسوا ما حدث ،لقد هلك الذين كفروا بالله ،وسيهلك
الذين يكفرون بالله دائما ،مهما يكونوا أقوياء.
قال رؤساء قوم هود :من الذي سيهلكنا يا هود؟
قال هود :الله .
قال الكافرون من قوم هود :ستنجينا آلهتنا.
وأفهمهم هود أن هذه اللهة التي يعبدونها لتقربهم من الله ،هي نفسها التي تبعدهم عن الله.
أفهمهم أن الله هو وحده الذي ينجي الناس ،وأن أي قوة أخرى في الرض ل تستطيع أن تضر
أو تنفع.
واستمر الصراع بين هود وقومه .وكلما استمر الصراع ومرت اليام ،زاد قوم هود استكبارا
وعنادا وطغيانا وتكذيبا لنبيهم .وبدءوا يتهمون "هودا" عليه السلم بأنه سفيه مجنون.
قالوا له يوما :لقد فهمنا الن سر جنونك .إنك تسب آلهتنا وقد غضبت آلهتنا عليك ،وبسبب
غضبها صرت مجنونا.
انظروا للسذاجة التي وصل إليها تفكيرهم .إنهم يظنون أن هذه الحجارة لها قوى على من
صنعها .لها تأثير على النسان مع أنا ل تسمع ول ترى ول تنطق .لم يتوقف هود عند هذيانهم،
عن
كي آل ِهَت َِنا َ
ن ب َِتارِ ِ
ح ُ
ما ن َ ْ
ولم يغضبه أن يظنوا به الجنون والهذيان ،ولكنه توقف عند قولهم) :وَ َ
ن(. مؤ ْ ِ
مِني َ ن لَ َ
ك بِ ُ ح ُ
ما ن َ ْ قَوْل ِ َ
ك وَ َ
بعد هذا التحدي لم يبق لهود إل التحدي .لم يبق له إل التوجه إلى الله وحده .لم يبق أمامه إل
إنذار أخير ينطوي على وعيد للمكذبين وتهديدا لهم ..وتحدث هود:
َ ل إ ِّني أ ُ ْ
ن) كو َشرِ ُ ما ت ُ ْ م ّ
ريٌء ّ دوا ْ أّني ب َ ِ شهَ ُ شهِد ُ الل ّهِ َوا ْ سوٍَء َقا َ ض آل ِهَت َِنا ب ِ ُ ك ب َعْ ُ ل إ ِل ّ اع ْت ََرا َ قو ُ ِإن ن ّ ُ
دآب ّةٍمن َ ما ِ ُ
ت ع َلى اللهِ َرّبي وََرب ّكم ّ ّ َ ْ ّ
ن ) (55إ ِّني ت َوَكل ُ م ل ُتنظ ُِرو ِ َ ُ
ميًعا ث ّ ج ِ دوِني َ كي ُ َ
دون ِهِ ف ِ من ُ ِ (54
ْ كم ما أ ُ ُ َ قد أ َ ْ ّ َ
ه
ت بِ ِ
ُ ل س
ِ ر
ّ ْ ُ تْ غ ل ْ ب ْ َ َ ف ا و
َ ْ ل و َ ت إن ِ َ ف (56 ) ٍ م قي
ِ َ ت سْ م
ّ ط
ٍ را َ ص
ِ لى َ ع بيّ ر ن
َ ِ َّ إ هاِ تَ ي ص
ِ نا
َ ِ ب ٌ ذ خِ آ إ ِل ّ هُ َ
و
فيظ )) (57هود( ٌ ح ِ يٍء َ ى كل ش َْ ّ ُ َ ً َ َ ُ َ َ إ ِل َي ْك ُ ْ
ن َرّبي ع َل َ ه شي ْئا إ ِ ّ ضّرون َ ُ م وَل ت َ ُ ما غي َْرك ْ ف َرّبي قوْ ً خل ِ ُ ست َ ْم وَي َ ْ
إن النسان ليشعر بالدهشة لهذه الجرأة في الحق .رجل واحد يواجه قوما غلظا شدادا
وحمقى .يتصورون أن أصنام الحجارة تستطيع اليذاء .إنسان بمفرده يقف ضد جبارين فيسفه
عقيدتهم ،ويتبرأ منهم ومن آلهتهم ،ويتحداهم أن يكيدوا له بغير إبطاء أو إهمال ،فهو على
استعداد لتلقي كيدهم ،وهو على استعداد لحربهم فقد توكل على الله .والله هو القوي بحق،
وهو الخذ بناصية كل دابة في الرض .سواء الدواب من الناس أو دواب الوحوش أو الحيوان.
ل شيء يعجز الله.
بهذا اليمان بالله ،والثقة بوعده ،والطمئنان إلى نصره ..يخاطب هود الذين كفروا من قومه.
وهو يفعل ذلك رغم وحدته وضعفه ،لنه يقف مع المن الحقيقي ويبلغ عن الله .وهو في حديثه
يفهم قومه أنه أدى المانة ،وبلغ الرسالة .فإن كفروا فسوف يستخلف الله قوما غيرهم ،سوف
يستبدل بهم قوما آخرين .وهذا معناه أن عليهم أن ينتظروا العذاب.
هلك عاد:
17
وهكذا أعلن هود لهم براءته منهم ومن آلهتهم .وتوكل على الله الذي خلقه ،وأدرك أن العذاب
واقع بمن كفر من قومه .هذا قانون من قوانين الحياة .يعذب الله الذين كفروا ،مهما كانوا
أقوياء أو أغنياء أو جبابرة أو عمالقة.
انتظر هود وانتظر قومه وعد الله .وبدأ الجفاف في الرض .لم تعد السماء تمطر .وهرع قوم
هود إليه .ما هذا الجفاف يا هود؟ قال هود :إن الله غاضب عليكم ،ولو آمنتم فسوف يرضى
الله عنكم ويرسل المطر فيزيدكم قوة إلى قوتكم .وسخر قوم هود منه وزادوا في العناد
والسخرية والكفر .وزاد الجفاف ،واصفرت الشجار الخضراء ومات الزرع .وجاء يوم فإذا
مط ُِرَنا(.م ْ
ض ّ
عارِ ٌ سحاب عظيم يمل السماء .وفرح قوم هود وخرجوا من بيوتهم يقولون) :هَ َ
ذا َ
تغير الجو فجأة .من الجفاف الشديد والحر إلى البرد الشديد القارس .بدأت الرياح تهب.
ارتعش كل شيء ،ارتعشت الشجار والنباتات والرجال والنساء والخيام .واستمرت الريح .ليلة
بعد ليلة ،ويوما بعد يوم .كل ساعة كانت برودتها تزداد .وبدأ قوم هود يفرون ،أسرعوا إلى
الخيام واختبئوا داخلها ،اشتد هبوب الرياح واقتلعت الخيام ،واختبئوا تحت الغطية ،فاشتد
هبوب الرياح وتطايرت الغطية .كانت الرياح تمزق الملبس وتمزق الجلد وتنفذ من فتحات
الجسم وتدمره .ل تكاد الريح تمس شيئا إل قتلته ودمرته ،وجعلته كالرميم.
استمرت الرياح مسلطة عليهم سبع ليال وثمانية أيام لم تر الدنيا مثلها قط .ثم توقفت الريح
بإذن ربها .لم يعد باقيا ممن كفر من قوم هود إل ما يبقى من النخل الميت .مجرد غلف
خارجي ل تكاد تضع يدك عليه حتى يتطاير ذرات في الهواء .نجا هود ومن آمن معه ..وهلك
الجبابرة ..وهذه نهاية عادلة لمن يتحدى الله ويستكبر عن عبادته.
نبذة:
أرسله الله إلى قوم ثمود وكانوا قوما جاحدين آتاهم الله رزقا كثيرا ولكنهم عصوا ربهم وعبدوا
الصنام وتفاخروا بينهم بقوتهم فبعث الله إليهم صالحا مبشرا ومنذرا ولكنهم كذبوه وعصوه
وطالبوه بأن يأتي بآية ليصدقوه فأتاهم بالناقة وأمرهم أن ل يؤذوها ولكنهم أصروا على كبرهم
فعقروا الناقة وعاقبهم الله بالصاعقة فصعقوا جزاء لفعلتهم ونجى الله صالحا والمؤمنين.
سيرته:
جاء قوم ثمود بعد قوم عاد ،وتكررت قصة العذاب بشكل مختلف مع ثمود .كانت ثمود قبيلة
تعبد الصنام هي الخرى ،فأرسل الله سيدنا "صالحا" إليهم ..وقال صالح لقومهَ) :يا قَوْم ِ
ن إ َِلـهٍ غ َي ُْرهُ( نفس الكلمة التي يقولها كل نبي ..ل تتبدل ول تتغير ،كما أن
م ْ ما ل َ ُ
كم ّ دوا ْ الل ّ َ
ه َ اع ْب ُ ُ
الحق ل يتبدل ول يتغير.
فوجئ الكبار من قوم صالح بما يقوله ..إنه يتهم آلهتهم بأنها بل قيمة ،وهو ينهاهم عن عبادتها
ويأمرهم بعبادة الله وحده .وأحدثت دعوته هزة كبيرة في المجتمع ..وكان صالح معروفا
بالحكمة والنقاء والخير .كان قومه يحترمونه قبل أن يوحي الله إليه ويرسله بالدعوة إليهم..
وقال قوم صالح له:
َ هـ َ َ
ما
م ّ ش ّ
ك ّ ما ي َعْب ُد ُ آَباؤ َُنا وَإ ِن َّنا ل َ ِ
في َ ذا أت َن َْهاَنا أن ن ّعْب ُد َ َ ل َ وا قَب ْ َ
ج ّمْر ُ
ت ِفيَنا َ ح قَد ْ ُ
كن َ َقاُلوا ْ َيا َ
صال ِ ُ
ب )) (62هود( ري ٍ م ِ َ
عوَنا إ ِلي ْهِ ُت َد ْ ُ
تأمل وجهة نظر الكافرين من قوم صالح .إنهم يدلفون إليه من باب شخصي بحت .لقد كان لنا
رجاء فيك .كنت مرجوا فينا لعلمك وعقلك وصدقك وحسن تدبيرك ،ثم خاب رجاؤنا فيك..
18
أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟! يا للكارثة ..كل شيء يا صالح إل هذا .ما كنا نتوقع منك أن تعيب
آلهتنا التي وجدنا آبائنا عاكفين عليها ..وهكذا يعجب القوم مما يدعوهم إليه .ويستنكرون ما هو
واجب وحق ،ويدهشون أن يدعوهم أخوهم صالح إلى عبادة الله وحده .لماذا؟ ما كان ذلك كله
إل لن آبائهم كانوا يعبدون هذه اللهة.
ورغم نصاعة دعوة صالح عليه الصلة والسلم ،فقد بدا واضحا أن قومه لن يصدقونه .كانوا
يشكون في دعوته ،واعتقدوا أنه مسحور ،وطالبوه بمعجزة تثبت أنه رسول من الله إليهم.
وشاءت إرادة الله أن تستجيب لطلبهم .وكان قوم ثمود ينحتون من الجبال بيوتا عظيمة .كانوا
يستخدمون الصخر في البناء ،وكانوا أقوياء قد فتح الله عليهم رزقهم من كل شيء .جاءوا بعد
قوم عاد فسكنوا الرض التي استعمروها.
والية هي المعجزة ،ويقال إن الناقة كانت معجزة لن صخرة بالجبل انشقت يوما وخرجت
منها الناقة ..ولدت من غير الطريق المعروف للولدة .ويقال إنها كانت معجزة لنها كانت
تشرب المياه الموجودة في البار في يوم فل تقترب بقية الحيوانات من المياه في هذا اليوم،
وقيل إنها كانت معجزة لنها كانت تدر لبنا يكفي لشرب الناس جميعا في هذا اليوم الذي
تشرب فيه الماء فل يبقى شيء للناس .كانت هذه الناقة معجزة ،وصفها الله سبحانه وتعالى
ه( أضافها لنفسه سبحانه بمعنى أنها ليست ناقة عادية وإنما هي معجزة من ة الل ّ ِ
بقولهَ) :ناقَ ُ
الله .وأصدر الله أمره إلى صالح أن يأمر قومه بعدم المساس بالناقة أو إيذائها أو قتلها ،أمرهم
أن يتركوها تأكل في أرض الله ،وأل يمسوها بسوء ،وحذرهم أنهم إذا مدوا أيديهم بالذى للناقة
فسوف يأخذهم عذاب قريب.
في البداية تعاظمت دهشة ثمود حين ولدت الناقة من صخور الجبل ..كانت ناقة مباركة .كان
لبنها يكفي آلف الرجال والنساء والطفال .كان واضحا إنها ليست مجرد ناقة عادية ،وإنما هي
آية من الله .وعاشت الناقة بين قوم صالح ،آمن منهم من آمن وبقي أغلبهم على العناد
والكفر .وذلك لن الكفار عندما يطلبون من نبيهم آية ،ليس لنهم يريدون التأكد من صدقه
واليمان به ،وإنما لتحديه وإظهار عجزه أمام البشر .لكن الله كان يخذلهم بتأييد أنبياءه
بمعجزات من عنده.
كان صالح عليه الصلة والسلم يحدث قومه برفق وحب ،وهو يدعوهم إلى عبادة الله وحده،
وينبههم إلى أن الله قد أخرج لهم معجزة هي الناقة ،دليل على صدقه وبينة على دعوته .وهو
يرجو منهم أن يتركوا الناقة تأكل في أرض الله ،وكل الرض أرض الله .وهو يحذرهم أن
يمسوها بسوء خشية وقوع عذاب الله عليهم .كما ذكرهم بإنعام الله عليهم :بأنه جعلهم خلفاء
من بعد قوم عاد ..وأنعم عليهم بالقصور والجبال المنحوتة والنعيم والرزق والقوة.
لكن قومه تجاوزوا كلماته وتركوه ،واتجهوا إلى الذين آمنوا بصالح.
من ّرب ّهِ ؟! س ٌ يسألونهم سؤال استخفاف وزراية :أ َتعل َمو َ
ل ّ مْر َ حا ّ صال ِ ً ن َ نأ ّ َْ ُ َ
ن ْ َ ُ
مُنو َ مؤ ِ سل ب ِهِ ُ ما أْر ِ قالت الفئة الضعيفة التي آمنت بصالح :إ ِّنا ب ِ َ
ن .هكذا م ب ِهِ َ
كافُِرو َ منت ُْآ
َ َ ي ِ ذّ ل باِ ِنا
ّ إ ْ اروُ َ بْ ك َ تسْ ا ن
ذي َ ل ال ّ ِفأخذت الذين كفروا العزة بالثمَ ..قا َ
باحتقار واستعلء وغضب.
19
وتحولت الكراهية عن سيدنا صالح إلى الناقة المباركة .تركزت عليها الكراهية ،وبدأت
المؤامرة تنسج خيوطها ضد الناقة .كره الكافرون هذه الية العظيمة ،ودبروا في أنفسهم أمرا.
وفي إحدى الليالي ،انعقدت جلسة لكبار القوم ،وقد أصبح من المألوف أن نرى أن في قصص
النبياء هذه التدابير للقضاء على النبي أو معجزاته أو دعوته تأتي من رؤساء القوم ،فهم من
يخافون على مصالحهم إن تحول الناس للتوحيد ،ومن خشيتهم إلى خشية الله وحده .أخذ
رؤساء القوم يتشاورون فيما يجب القيام به لنهاء دعوة صالح .فأشار عليهم واحد منهم بقتل
الناقة ومن ثم قتل صالح نفسه.
وهذا هو سلح الظلمة والكفرة في كل زمان ومكان ،يعمدون إلى القوة والسلح بدل الحوار
والنقاش بالحجج والبراهين .لنهم يعلمون أن الحق يعلوا ول يعلى عليه ،ومهما امتد بهم
الزمان سيظهر الحق ويبطل كل حججهم .وهم ل يريدون أن يصلوا لهذه المرحلة ،وقرروا
القضاء على الحق قبل أن تقوى شوكته.
لكن أحدهم قال :حذرنا صالح من المساس بالناقة ،وهددنا بالعذاب القريب .فقال أحدهم
سريعا قبل أن يؤثر كلم من سبقه على عقول القوم :أعرف من يجرأ على قتل الناقة .ووقع
الختيار على تسعة من جبابرة القوم .وكانوا رجال يعيثون الفساد في الرض ،الويل لمن
يعترضهم.
هؤلء هم أداة الجريمة .اتفق على موعد الجريمة ومكان التنفيذ .وفي الليلة المحددة .وبينما
كانت الناقة المباركة تنام في سلم .انتهى المجرمون التسعة من إعداد أسلحتهم وسيوفهم
وسهامهم ،لرتكاب الجريمة .هجم الرجال على الناقة فنهضت الناقة مفزوعة .امتدت اليدي
الثمة القاتلة إليها .وسالت دمائها.
هلك ثمود:
علم النبي صالح بما حدث فخرج غاضبا على قومه .قال لهم :ألم أحذركم من أن تمسوا
الناقة؟
قالوا :قتلناها فأتنا بالعذاب واستعجله ..ألم تقل أنك من المرسلين؟
ب مك ْ ُ
ذو ٍ ة أ َّيام ٍ ذ َل ِ َ
ك وَع ْد ٌ غ َي ُْر َ م ث َل َث َ َ مت ُّعوا ْ ِفي َ
دارِك ُ ْ قال صالح لقومه :ت َ َ
بعدها غادر صالح قومه .تركهم ومضى .انتهى المر ووعده الله بهلكهم بعد ثلثة أيام.
ومرت ثلثة أيام على الكافرين من قوم صالح وهم يهزءون من العذاب وينتظرون ،وفي فجر
اليوم الرابع :انشقت السماء عن صيحة جبارة واحدة .انقضت الصيحة على الجبال فهلك فيها
كل شيء حي .هي صرخة واحدة ..لم يكد أولها يبدأ وآخرها يجيء حتى كان كفار قوم صالح
قد صعقوا جميعا صعقة واحدة.
هلكوا جميعا قبل أن يدركوا ما حدث .أما الذين آمنوا بسيدنا صالح ،فكانوا قد غادروا المكان
مع نبيهم ونجوا.
20
إبراهيم عليه السلم
نبذة:
هو خليل الله ،اصطفاه الله برسالته وفضله على كثير من خلقه ،كان إبراهيم يعيش في قوم
يعبدون الكواكب ،فلم يكن يرضيه ذلك ،وأحس بفطرته أن هناك إلها أعظم حتى هداه الله
واصطفاه برسالته ،وأخذ إبراهيم يدعو قومه لوحدانية الله وعبادته ولكنهم كذبوه وحاولوا
إحراقه فأنجاه الله من بين أيديهم ،جعل الله النبياء من نسل إبراهيم فولد له إسماعيل
وإسحاق ،قام إبراهيم ببناء الكعبة مع إسماعيل.
سيرته:
هو أحد أولي العزم الخمسة الكبار الذين اخذ الله منهم ميثاقا غليظا ،وهم :نوح وإبراهيم
وموسى وعيسى ومحمد ..بترتيب بعثهم .وهو النبي الذي ابتله الله ببلء مبين .بلء فوق قدرة
البشر وطاقة العصاب .ورغم حدة الشدة ،وعنت البلء ..كان إبراهيم هو العبد الذي وفى.
وزاد على الوفاء بالحسان.
وقد كرم الله تبارك وتعالى إبراهيم تكريما خاصا ،فجعل ملته هي التوحيد الخالص النقي من
الشوائب .وجعل العقل في جانب الذين يتبعون دينه.
وكان من فضل الله على إبراهيم أن جعله الله إماما للناس .وجعل في ذريته النبوة والكتاب.
فكل النبياء من بعد إبراهيم هم من نسله فهم أولده وأحفاده .حتى إذا جاء آخر النبياء محمد
صلى الله عليه وسلم ،جاء تحقيقا واستجابة لدعوة إبراهيم التي دعا الله فيها أن يبعث في
الميين رسول منهم.
ولو مضينا نبحث في فضل إبراهيم وتكريم الله له فسوف نمتلئ بالدهشة .نحن أمام بشر جاء
ربه بقلب سليم .إنسان لم يكد الله يقول له أسلم حتى قال أسلمت لرب العالمين .نبي هو
أول من سمانا المسلمين .نبي كان جدا وأبا لكل أنبياء الله الذين جاءوا بعده .نبي هادئ
متسامح حليم أواه منيب.
يذكر لنا ربنا ذو الجلل والكرام أمرا آخر أفضل من كل ما سبق .فيقول الله عز وجل في
خِليل ً( لم يرد في كتاب الله ذكر لنبي ،اتخذه الله خليل غير
م َ
هي َ خذ َ الل ّ ُ
ه إ ِب َْرا ِ محكم آياتهَ) :وات ّ َ
خلة هي شدة المحبة .وبذلك تعني الية :واتخذ الله إبراهيم حبيبا .فوق ّ إبراهيم .قال العلماء :ال ُ
هذه القمة الشامخة يجلس إبراهيم عليه الصلة والسلم .إن منتهى أمل السالكين ،وغاية
هدف المحققين والعارفين بالله ..أن يحبوا الله عز وجل .أما أن يحلم أحدهم أن يحبه الله ،أن
خّلة وهي شدة المحبة ..فذلك شيء وراء آفاق التصور .كان يفرده بالحب ،أن يختصه بال ُ
إبراهيم هو هذا العبد الرباني الذي استحق أن يتخذه الله خليل.
21
حال المشركين قبل بعثة إبراهيم:
ل يتحدث القرآن عن ميلده أو طفولته ،ول يتوقف عند عصره صراحة ،ولكنه يرسم صورة لجو
الحياة في أيامه ،فتدب الحياة في عصره ،وترى الناس قد انقسموا ثلث فئات:
وفي هذا الجو ولد إبراهيم .ولد في أسرة من أسر ذلك الزمان البعيد .لم يكن رب السرة
كافرا عاديا من عبدة الصنام ،كان كافرا متميزا يصنع بيديه تماثيل اللهة .وقيل أن أباه مات
قبل ولدته فرباه عمه ،وكان له بمثابة الب ،وكان إبراهيم يدعوه بلفظ البوة ،وقيل أن أباه لم
يمت وكان آزر هو والده حقا ،وقيل أن آزر اسم صنم اشتهر أبوه بصناعته ..ومهما يكن من أمر
فقد ولد إبراهيم في هذه السرة.
رب السرة أعظم نحات يصنع تماثيل اللهة .ومهنة الب تضفي عليه قداسة خاصة في قومه،
وتجعل لسرته كلها مكانا ممتازا في المجتمع .هي أسرة مرموقة ،أسرة من الصفوة الحاكمة.
من هذه السرة المقدسة ،ولد طفل قدر له أن يقف ضد أسرته وضد نظام مجتمعه وضد
أوهام قومه وضد ظنون الكهنة وضد العروش القائمة وضد عبدة النجوم والكواكب وضد كل
أنواع الشرك باختصار.
مرت اليام ..وكبر إبراهيم ..كان قلبه يمتل من طفولته بكراهية صادقة لهذه التماثيل التي
يصنعها والده .لم يكن يفهم كيف يمكن لنسان عاقل أن يصنع بيديه تمثال ،ثم يسجد بعد ذلك
لما صنع بيديه .لحظ إبراهيم إن هذه التماثيل ل تشرب ول تأكل ول تتكلم ول تستطيع أن
تعتدل لو قلبها أحد على جنبها .كيف يتصور الناس أن هذه التماثيل تضر وتنفع؟!
قرر إبراهيم عليه السلم مواجهة عبدة النجوم من قومه ،فأعلن عندما رأى أحد الكواكب في
الليل ،أن هذا الكوكب ربه .ويبدو أن قومه اطمأنوا له ،وحسبوا أنه يرفض عبادة التماثيل
ويهوى عبادة الكواكب .وكانت الملحة حرة بين الوثنيات الثلث :عبادة التماثيل والنجوم
والملوك .غير أن إبراهيم كان يدخر لقومه مفاجأة مذهلة في الصباح .لقد أفل الكوكب الذي
التحق بديانته بالمس .وإبراهيم ل يحب الفلين .فعاد إبراهيم في الليلة الثانية يعلن لقومه أن
القمر ربه .لم يكن قومه على درجة كافية من الذكاء ليدركوا أنه يسخر منهم برفق ولطف
وحب .كيف يعبدون ربا يختفي ثم يظهر .يأفل ثم يشرق .لم يفهم قومه هذا في المرة الولى
فكرره مع القمر .لكن القمر كالزهرة كأي كوكب آخر ..يظهر ويختفي .فقال إبراهيم عدما أفل
ن( نلحظ هنا أنه عندما يحدث قومه عن ضاّلي َ ن ال ْ َ
قوْم ِ ال ّ م َ
ن ِ م ي َهْد ِِني َرّبي ل ُ
كون َ ّ القمر )ل َِئن ل ّ ْ
رفضه للوهية القمر ..فإنه يمزق العقيدة القمرية بهدوء ولطف .كيف يعبد الناس ربا يختفي
م ي َهْد ِِني َرّبي( يفهمهم أن له ربا غير كل ما يعبدون .غير أن اللفتة ل تصل إليهم. ويأفل) .ل َِئن ل ّ ْ
ويعاود إبراهيم محاولته في إقامة الحجة على الفئة الولى من قومه ..عبدة الكواكب والنجوم.
فيعلن أن الشمس ربه ،لنها أكبر من القمر .وما أن غابت الشمس ،حتى أعلن براءته من
عبادة النجوم والكواكب .فكلها مغلوقات تأفل .وأنهى جولته الولى بتوجيهه وجهه للذي فطر
السماوات والرض حنيفا ..ليس مشركا مثلهم.
22
استطاعت حجة إبراهيم أن تظهر الحق .وبدأ صراع قومه معه .لم يسكت عنه عبدة النجوم
والكواكب .بدءوا جدالهم وتخويفهم له وتهديده .ورد إبراهيم عليهم قال:
سعَ َرّبي ك ُ ّ
ل شي ًْئا وَ ِشاء َرّبي َ ن ب ِهِ إ ِل ّ َأن ي َ َ شرِ ُ
كو َ ما ت ُ ْف َ خا ُ ن وَل َ أ َ َ جوّني ِفي الل ّهِ وَقَد ْ هَ َ
دا ِ حا ّ
َ
أت ُ َ
ما ل َ ْ
م شَرك ُْتم ِبالل ّهِ َ م أَ ْ خاُفو َ
ن أن ّك ُ ْ َ شَرك ْت ُ ْ
م وَل َ ت َ َ ما أ َ ْف َ خا ُ ف أَ َن ) (80وَك َي ْ َ َ
ما أفَل َ ت َت َذ َك ُّرو َ عل ْ ً
يٍء ِش ْ َ
ن )) (81النعام( َ ُ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ َ ْ
مو َ م ت َعْل ُ
ن ِإن كنت ُ ْ م ِ حقّ ِبال ْ نأ َ قي ْ ِري َ
ف ِسلطاًنا فأيّ ال َ م ُ ي ُن َّزل ب ِهِ ع َلي ْك ْ
ل نعرف رهبة الهجوم عليه .ول حدة الصراع ضده ،ول أسلوب قومه الذي اتبعه معه لتخويفه.
تجاوز القرآن هذا كله إلى رده هو .كان جدالهم باطل فأسقطه القرآن من القصة ،وذكر رد
إبراهيم المنطقي العاقل .كيف يخوفونه ول يخافون هم؟ أي الفريقين أحق بالمن؟
بعد أن بين إبراهيم عليه السلم حجته لفئة عبدة النجوم والكواكب ،استعد لتبيين حجته لعبدة
الصنام .آتاه الله الحجة في المرة الولى كما سيؤتيه الحجة في كل مرة.
سبحانه ..كان يؤيد إبراهيم ويريه ملكوت السماوات والرض .لم يكن معه غير إسلمه حين بدأ
صراعه مع عبدة الصنام .هذه المرة يأخذ الصراع شكل أعظم حدة .أبوه في الموضوع ..هذه
مهنة الب وسر مكانته وموضع تصديق القوم ..وهي العبادة التي تتبعها الغلبية
خرج إبراهيم على قومه بدعوته .قال بحسم غاضب وغيرة على الحق:
َ
ن) دي َ
عاب ِ ِ جد َْنا آَباءَنا ل ََها َن )َ (52قاُلوا وَ َ فو َ م ل ََها َ
عاك ِ ُ ل ال ِّتي أنت ُ ْماِثي ُ
ما هَذ ِهِ الت ّ َ مهِ َ ل ِل َِبيهِ وَقَوْ ِ
إ ِذ ْ َقا َ
ن) ّ َ َ ْ ْ َ ُ َ َ ُ ُ َ ُ َ
َ (53قال ل َ
َ
عِبي َن الل ِ م َ ت ِ م أن َ حق ّ أ ْ جئت ََنا ِبال َن ) (54قالوا أ ِ مِبي ٍ ل ّ ضل ٍ م ِفي َ م َوآَباؤك ْ م أنت ُ ْ قد ْ كنت ُ ْ
َ
ن وَأَنا ع َلى ذ َل ِ َُ َ ّ َ ْ
ن )(56 دي َ شاه ِ ِن ال ّ م َكم ّ ذي فَطَرهُ ّ ض ال ِ ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ ب ال ّم َر ّ ل َبل ّرب ّك ُ ْ َ (55قا َ
)النبياء(
انتهى المر وبدأ الصراع بين إبراهيم وقومه ..كان أشدهم ذهول وغضبا هو أباه أو عمه الذي
رباه كأب ..واشتبك الب والبن في الصراع .فصلت بينهما المبادئ فاختلفا ..البن يقف مع
الله ،والب يقف مع الباطل.
قال الب لبنه :مصيبتي فيك كبيرة يا إبراهيم ..لقد خذلتني وأسأت إلي.
قال إبراهيم:
َ َ
ن ال ْعِل ْم ِ
م َجاءِني ِت إ ِّني قَد ْ َشي ًْئا )َ (42يا أب َ ِ ك َ عن َ صُر وََل ي ُغِْني َ معُ وََل ي ُب ْ ِ
س َ ما َل ي َ ْ
م ت َعْب ُد ُ َ
ت لِ َ َيا أب َ ِ
ن
م ِ ح َن ِللّر ْ ن َ
كا َ شي ْ َ
طا َ ن ال ّن إِ ّطا َشي ْ َت َل ت َعْب ُد ِ ال ّ َ
سوِّيا )َ (43يا أب َ ِ طا َ صَرا ً ك ِ ك َفات ّب ِعِْني أ َهْد ِ َ م ي َأ ْت ِ َ
ما ل َ َْ
ن وَل ِّيا )) (45مريم( شي ْ َن ِلل ّ من فَت َ ُ ك عَ َس َ َ َ َ
طا ِ كو َ ح َن الّر ْ م َب ّ ذا ٌ م ّ ف أن ي َ َ خا ُ ت إ ِّني أ َ صّيا )َ (44يا أب َ ِ عَ ِ
انتفض الب واقفا وهو يرتعش من الغضب .قال لبراهيم وهو ثائر إذا لم تتوقف عن دعوتك
هذه فسوف أرجمك ،سأقتلك ضربا بالحجارة .هذا جزاء من يقف ضد اللهة ..اخرج من بيتي..
ل أريد أن أراك ..اخرج.
انتهى المر وأسفر الصراع عن طرد إبراهيم من بيته .كما أسفر عن تهديده بالقتل رميا
بالحجارة .رغم ذلك تصرف إبراهيم كابن بار ونبي كريم .خاطب أباه بأدب النبياء .قال لبيه
ردا على الهانات والتجريح والطرد والتهديد بالقتل:
َ َ
ن الل ّهِ
دو ِ
من ُ
ن ِ
عو َ
ما ت َد ْ ُ فّيا ) (47وَأع ْت َزِل ُك ُ ْ
م وَ َ ح ِ
ن ِبي َ كا َه َ فُر ل َ َ
ك َرّبي إ ِن ّ ُ ست َغْ ِ
سأ ْ م ع َل َي ْ َ
ك َ سَل ٌ َقا َ
ل َ
قّيا )) (48مريم( عاء َرّبي َ َ ّ َ
سى أل أ ُ َ
ش ِ ن ب ِد ُ َ
كو َ عو َرّبي ع َ َ وَأد ْ ُ
23
وخرج إبراهيم من بيت أبيه .هجر قومه وما يعبدون من دون الله .وقرر في نفسه أمرا .كان
يعرف أن هناك احتفال عظيما يقام على الضفة الخرى من النهر ،وينصرف الناس جميعا إليه.
وانتظر حتى جاء الحتفال وخلت المدينة التي يعيش فيها من الناس.
وخرج إبراهيم حذرا وهو يقصد بخطاه المعبد .كانت الشوارع المؤدية إلى المعبد خالية .وكان
المعبد نفسه مهجورا .انتقل كل الناس إلى الحتفال .دخل إبراهيم المعبد ومعه فأس حادة.
نظر إلى تماثيل اللهة المنحوتة من الصخر والخشب .نظر إلى الطعام الذي وضعه الناس
َ ْ
ن( كان يسخر منهم ويعرف أمامها كنذور وهدايا .اقترب إبراهيم من التماثيل وسألهم) :أَل ت َأك ُُلو َ
ن( ثم هوى بفأسه على اللهة. م َل َتنط ِ ُ
قو َ ما ل َك ُ ْ
أنهم ل يأكلون .وعاد يسأل التماثيلَ ) :
وتحولت اللهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والخشاب المهشمة ..إل كبير الصنام
ن( فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع م إ ِل َي ْهِ ي َْر ِ
جُعو َ م ل َعَل ّهُ ْ
فقد تركه إبراهيم )ل ّهُ ْ
عن صغار اللهة! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها ،فيرجعون إلى صوابهم.
ل التقليد أفكارهم عن التأمل طلت الخرافة عقولهم عن التفكير ،وغ ّ إل أن قوم إبراهيم الذين ع ّ
والتدبر .لم يسألوا أنفسهم :إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها
ن ه لَ ِ
م َ من فَعَ َ
ل هَ َ
ذا ِبآل ِهَت َِنا إ ِن ّ ُ شيئا؟! وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها؟! وبدل من ذلك )َقاُلوا َ
ن(.
مي َ ال ّ
ظال ِ ِ
عندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه ومن معه عبادة التماثيل ،ويتوعدهم أن يكيد
للهتهم بعد انصرافهم عنها!
ََ
م(؟هي ُ
ذا ِبآل ِهَت َِنا َيا إ ِب َْرا ِ ت فَعَل ْ َ
ت هَ َ مع الناس ،وسألوه )أأن َ فأحضروا إبراهيم عليه السلم ،وتج ّ
ُ َ
ن( والتهكم واضح في هذا قو َ َ
م ِإن كاُنوا َينط ِ ُ
سألوهُ ْ َ َ
م هَذا فا ْ ل فَعَل َ ُ
ه ك َِبيُرهُ ْ فأجابهم إبراهيم )ب َ ْ
الجواب الساخر .فل داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم -عليه السلم -والبحث عن تعليلها
بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون .فالمر أيسر من هذا بكثير! إنما أراد أن يقول لهم:
إن هذه التماثيل ل تدري من حطمها إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي ل يملك مثلها حراكا.
فهي جماد ل إدراك له أصل .وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الدراك ل تميزون بين الجائز
والمستحيل .فل تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أم أن هذا التمثال هو الذي حطمها!
ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا ،وردهم إلى شيء من التدبر التفكر:
م ال ّ قاُلوا إنك ُ َ
م فَ َ جُعوا إ َِلى َأن ُ
ن )) (64النبياء(
مو َ
ظال ِ ُ م أنت ُ ُ
ِّ ْ سهِ ْ
ف ِ فََر َ
وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف ،وما في عبادتهم لهذه التماثيل من
ظلم .وأن تتفتح بصيرتهم لول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم ،وذلك
الظلم الذي هم فيه سادرون .ولكنها لم تكن إل ومضة واحدة أعقبها الظلم ،وإل خفقة واحدة
عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود:
وحقا كانت الولى رجعة إلى النفوس ،وكانت الثانية نكسة على الرؤوس؛ كما يقول التعبير
القرآني المصور العجيب ..كانت الولى حركة في النفس للنظر والتدبر .أما الثانية فكانت
انقلبا على الرأس فل عقل ول تفكير .وإل فإن قولهم هذا الأخير هو الحجة عليهم .وأية حجة
لبراهيم أقوى من أن هؤلء ل ينطقون؟
ومن ثم يجيبهم بعنف وضيق على غير عادته وهو الصبور الحليم .لن السخف هنا يجاوز صبر
الحليم:
24
ن
دو ِ
من ُ
ن ِ
دو َ
ما ت َعْب ُ ُ
م وَل ِ َ م ) (66أ ُ ّ
ف ل ّك ُ ْ شي ًْئا وََل ي َ ُ
ضّرك ُ ْ م َ فعُك ُ ْما َل َين َ
ن الل ّهِ َ
دو ِ
من ُ
ن ِ
دو َ
َقا َ َ
ل أفَت َعْب ُ ُ
َ
ن )) (67النبياء( قُلو َ الل ّهِ أفََل ت َعْ ِ
وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدرن وغيظ النفس ،والعجب من السخف الذي يتجاوز كل
مألوف.
عند ذلك أخذتهم العزة بالثم كما تأخذ الطغاة دائما حين يفقدون الحجة ويعوزهم الدليل،
فيلجأون إلى القوة الغاشمة والعذاب الغليظ:
وفعل ..بدأ الستعداد لحراق إبراهيم .انتشر النبأ في المملكة كلها .وجاء الناس من القرى
والجبال والمدن ليشهدوا عقاب الذي تجرأ على اللهة وحطمها واعترف بذلك وسخر من
الكهنة .وحفروا حفرة عظيمة ملئوها بالحطب والخشب والشجار .وأشعلوا فيها النار.
وأحضروا المنجنيق وهو آلة جبارة ليقذفوا إبراهيم فيها فيسقط في حفرة النار ..ووضعوا
إبراهيم بعد أن قيدوا يديه وقدميه في المنجنيق .واشتعلت النار في الحفرة وتصاعد اللهب إلى
السماء .وكان الناس يقفون بعيدا عن الحفرة من فرط الحرارة اللهبة .وأصدر كبير الكهنة
أمره بإطلق إبراهيم في النار.
جاء جبريل عليه السلم ووقف عند رأس إبراهيم وسأله :يا إبراهيم ..ألك حاجة؟
انطلق المنجنيق ملقيا إبراهيم في حفرة النار .كانت النار موجودة في مكانها ،ولكنها لم تكن
سَل ً
ما دا وَ َ
تمارس وظيفتها في الحراق .فقد أصدر الله جل جلله إلى النار أمره بأن تكون )ب َْر ً
م( .أحرقت النار قيوده فقط .وجلس إبراهيم وسطها كأنه يجلس وسط حديقة .كان ع ََلى إ ِب َْرا ِ
هي َ
جده .لم يكن في قلبه مكان خال يمكن أن يمتلئ بالخوف أو الرهبة أو يسّبح بحمد ربه ويم ّ
الجزع .كان القلب مليئا بالحب وحده .ومات الخوف .وتلشت الرهبة .واستحالت النار إلى
سلم بارد يلطف عنه حرارة الجو.
جلس الكهنة والناس يرقبون النار من بعيد .كانت حرارتها تصل إليهم على الرغم من بعدهم
عنها .وظلت النار تشتعل فترة طويلة حتى ظن الكافرون أنها لن تنطفئ أبدا .فلما انطفأت
فوجئوا بإبراهيم يخرج من الحفرة سليما كما دخل .ووجهه يتلل بالنور والجلل .وثيابه كما هي
لم تحترق .وليس عليه أي أثر للدخان أو الحريق.
خرج إبراهيم من النار كما لو كان يخرج من حديقة .وتصاعدت صيحات الدهشة الكافرة.
خسروا جولتهم خسارة مريرة وساخرة.
م اْل َ ْ َ
ن )) (70النبياء(
ري َ
س ِ
خ َ جعَل َْناهُ ُ دوا ب ِهِ ك َي ْ ً
دا فَ َ وَأَرا ُ
ل يحدثنا القرآن الكريم عن عمر إبراهيم حين حطم أصنام قومه ،ل يحدثنا عن السن التي
كلف فيها بالدعوة إلى الله .ويبدو من استقراء النصوص القديمة أن إبراهيم كان شابا صغيرا
م( .وكلمة الفتى
هي ُ ل لَ ُ
ه إ ِب َْرا ِ قا ُ معَْنا فًَتى ي َذ ْك ُُرهُ ْ
م يُ َ س ِ
حين فعل ذلك ،بدليل قول قومه عنهَ ) :
تطلق على السن التي تسبق العشرين.
25
إن زمن اصطفاء الله تعالى لبراهيم غير محدد في القرآن .وبالتالي فنحن ل نستطيع أن نقطع
فيه بجواب نهائي .كل ما نستطيع أن نقطع فيه برأي ،أن إبراهيم أقام الحجة على عبدة
التماثيل بشكل قاطع ،كما أقامها على عبدة النجوم والكواكب من قبل بشكل حاسم ،ولم يبق
إل أن تقام الحجة على الملوك المتألهين وعبادهم ..وبذلك تقوم الحجة على جميع الكافرين.
فذهب إبراهيم عليه السلم لملك متأّله كان في زمانه .وتجاوز القرآن اسم الملك لنعدام
أهميته ،لكن روي أن الملك المعاصر لبراهيم كان يلقب )بالنمرود( وهو ملك الراميين
بالعراق .كما تجاوز حقيقة مشاعره ،كما تجاوز الحوار الطويل الذي دار بين إبراهيم وبينه .لكن
الله تعالى في كتابه الحكيم أخبرنا الحجة الولى التي أقامها إبراهيم عليه السلم على الملك
ت(مي ُ
حِيـي وَي ُ ِ ي ال ّ ِ
ذي ي ُ ْ الطاغية ،فقال إبراهيم بهدوءَ) :رب ّ َ
ت( أستطيع أن أحضر رجل يسير في الشارع وأقتله ،وأستطيع أن ُ َ ُ
مي ُ
حِيـي وَأ ِ
قال الملك) :أَنا أ ْ
أعفو عن محكوم عليه بالعدام وأنجيه من الموت ..وبذلك أكون قادرا على الحياة والموت.
لم يجادل إبراهيم الملك لسذاجة ما يقول .غير أنه أراد أن يثبت للملك أنه يتوهم في نفسه
ْ ه ي َأ ِْتي ِبال ّ
ت َ
ق فأ ِ شرِ ِ ن ال ْ َ
م ْ م َ
س ِ
م ِ
ش ْ ن الل ّ َ
القدرة وهو في الحقيقة ليس قادرا .فقال إبراهيم) :فَإ ِ ّ
ب( ن ال ْ َ
مغْرِ ِ م َ
ب َِها ِ
استمع الملك إلى تحدي إبراهيم صامتا ..فلما انتهى كلم النبي بهت الملك .أحس بالعجز ولم
يستطع أن يجيب .لقد أثبت له إبراهيم أنه كاذب ..قال له إن الله يأتي بالشمس من المشرق،
فهل يستطيع هو أن يأتي بها من المغرب ..إن للكون نظما وقوانين يمشي طبقا لها ..قوانين
خلقها الله ول يستطيع أي مخلوق أن يتحكم فيها .ولو كان الملك صادقا في ادعائه اللوهية
فليغير نظام الكون وقوانينه ..ساعتها أحس الملك بالعجز ..وأخرسه التحدي .ولم يعرف ماذا
يقول ،ول كيف يتصرف .انصرف إبراهيم من قصر الملك ،بعد أن بهت الذي كفر.
انطلقت شهرة إبراهيم في المملكة كلها .تحدث الناس عن معجزته ونجاته من النار ،وتحدث
الناس عن موقفه مع الملك وكيف أخرس الملك فلم يعرف ماذا يقول .واستمر إبراهيم في
دعوته لله تعالى .بذل جهده ليهدي قومه ،حاول إقناعهم بكل الوسائل ،ورغم حبه لهم وحرصه
عليهم فقد غضب قومه وهجروه ،ولم يؤمن معه من قومه سوى امرأة ورجل واحد .امرأة
تسمى سارة ،وقد صارت فيما بعد زوجته ،ورجل هو لوط ،وقد صار نبيا فيما بعد .وحين أدرك
إبراهيم أن أحدا لن يؤمن بدعوته .قرر الهجرة.
قبل أن يهاجر ،دعا والده لليمان ،ثم تبين لبراهيم أن والده عدو لله ،وأنه ل ينوي اليمان،
فتبرأ منه وقطع علقته به.
للمرة الثانية في قصص النبياء نصادف هذه المفاجأة .في قصة نوح كان الب نبيا والبن
كافرا ،وفي قصة إبراهيم كان الب كافرا والبن نبيا ،وفي القصتين نرى المؤمن يعلن براءته
من عدو الله رغم كونه ابنه أو والده ،وكأن الله يفهمنا من خلل القصة أن العلقة الوحيدة
التي ينبغي أن تقوم عليها الروابط بين الناس ،هي علقة اليمان ل علقة الميلد والدم.
خرج إبراهيم عليه السلم من بلده وبدأ هجرته .سافر إلى مدينة تدعى أور .ومدينة تسمى
حاران .ثم رحل إلى فلسطين ومعه زوجته ،المرأة الوحيدة التي آمنت به .وصحب معه لوطا..
الرجل الوحيد الذي آمن به.
بعد فلسطين ذهب إبراهيم إلى مصر .وطوال هذا الوقت وخلل هذه الرحلت كلها ،كان يدعو
الناس إلى عبادة الله ،ويحارب في سبيله ،ويخدم الضعفاء والفقراء ،ويعدل بين الناس،
ويهديهم إلى الحقيقة والحق.
26
وتأتي بعض الروايات لتبين قصة إبراهيم عليه السلم وزوجته سارة وموقفهما مع ملك مصر.
فتقول:
وصلت الخبار لملك مصر بوصول رجل لمصر معه أمرأة هي أجمل نساء الرض .فطمع بها.
وأرسل جنوده ليأتونه بهذه المرأة .وأمرهم بأن يسألوا عن الرجل الذي معها ،فإن كان زوجها
فليقتلوه .فجاء الوحي لبراهيم عليه السلم بذلك .فقال إبراهيم -عليه السلم -لسارة إن
سألوك عني فأنت أختي -أي أخته في الله ،-وقال لها ما على هذه الرض مؤمن غيري وغيرك
-فكل أهل مصر كفرة ،ليس فيها موحد لله عز وجل .فجاء الجنود وسألوا إبراهيم :ما تكون
هذه منك؟ قال :أختي.
لنقف هنا قليل ..قال إبراهيم حينما قال لقومه )إني سقيم( و )بل فعله كبيرهم هذا فاسألوه( و
)هي أختي( .كلها كلمات تحتمل التاويل .لكن مع هذا كان إبراهيم عليه السلم خائفا جدا من
حسابه على هذه الكلمات يوم القايمة .فعندما يذهب البشر له يوقم القيامة ليدعوا الله أن يبدأ
الحساب يقول لهم ل إني كذب على ربي ثلث مرات.
ونجد أن البشر الن يكذبون أمام الناس من غير استحياء ول خوف من خالقهم.
لما عرفت سارة أن ملك مصر فاجر ويريدها له أخذت تدعوا الله قائلة :اللهم إن كنت تعلم
أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إل على زوجي فل تسلط علي الكافر.
للكن الملك لم يتب وظن أن ما حدث كان أمرا عابرا وذهب .فهجم عليها مرة أخرى .فش ّ
ل .فقال :فكيني وأطلقك ف ّ
كه .فمد يده ثالثة فش ّ مرة ثانية .فقال :فكيني .فدعت الله تعالى فَ َ
فك .فصرخ الملك بأعوانه :أبعدوها عني فإنكم لم تأتوني وأكرمك .فدعت الله سبحانه وتعالى فَ ُ
بإنسان بل أتيتموني بشيطان.
ة اسمها "هاجر".
م ً َ
فأطلقها وأعطاها شيئا من الذهب ،كما أعطاها أ َ
وكانت زوجته سارة ل تلد .وكان ملك مصر قد أهداها سيدة مصرية لتكون في خدمتها ،وكان
إبراهيم قد صار شيخا ،وابيض شعره من خلل عمر أبيض أنفقه في الدعوة إلى الله ،وفكرت
سارة إنها وإبراهيم وحيدان ،وهي ل تنجب أولدا ،ماذا لو قدمت له السيدة المصرية لتكون
زوجة لزوجها؟ وكان اسم المصرية "هاجر" .وهكذا زوجت سارة سيدنا إبراهيم من هاجر،
وولدت هاجر ابنها الول فأطلق والده عليه اسم "إسماعيل" .كان إبراهيم شيخا حين ولدت له
هاجر أول أبنائه إسماعيل.
ولسنا نعرف أبعاد المسافات التي قطعها إبراهيم في رحلته إلى الله .كان دائما هو المسافر
إلى الله .سواء استقر به المقام في بيته أو حملته خطواته سائحا في الرض .مسافر إلى الله
يعلم إنها أيام على الرض وبعدها يجيء الموت ثم ينفخ في الصور وتقوم قيامة الموات ويقع
البعث.
إحياء الموتى:
مل اليوم الخر قلب إبراهيم بالسلم والحب واليقين .وأراد أن يرى يوما كيف يحيي الله عز
وجل الموتى .حكى الله هذا الموقف في سورة )البقرة( ..قال تعالى:
27
ن قَل ِْبي ف تحيـي ال ْموتى َقا َ َ َ
كن ل ّي َط ْ َ
مئ ِ ّ ل ب ََلى وََلـ ِ
من َقا َ ل أوَل َ ْ
م ت ُؤ ْ ِ َ َْ ب أرِِني ك َي ْ َ ُ ْ ِ
م َر ّ
هي ُ وَإ ِذ ْ َقا َ
ل إ ِب َْرا ِ
ل تكون هذه الرغبة في طمأنينة القلب مع اليمان إل درجة من درجات الحب لله.
ن ي َأ ِْتين َ َ
ك جْزًءا ث ُ ّ
م اد ْع ُهُ ّ ن ُ
من ْهُ ّ
ل ّ
جب َ ٍل َ ل ع ََلى ك ُ ّجع َ ْ
ما ْ ك ثُ ّن إ ِل َي ْ َ ن الط ّي ْرِ فَ ُ
صْرهُ ّ م َ خذ ْ أ َْرب َعَ ً
ة ّ ل فَ ُ
َقا َ
م ّ َ َ
كي ٌح ِزيٌز َه عَ ِن الل َ مأ ّ سعًْيا َواع ْل ْ َ
فعل إبراهيم ما أمره به الله .ذبح أربعة من الطير وفرق أجزاءها على الجبال .ودعاها باسم
الله فنهض الريش يلحق بجناحه ،وبحثت الصدور عن رؤوسها ،وتطايرت أجزاء الطير مندفعة
نحو اللتحام ،والتقت الضلوع بالقلوب ،وسارعت الجزاء الذبيحة لللتئام ،ودبت الحياة في
الطير ،وجاءت طائرة مسرعة ترمي بنفسها في أحضان إبراهيم .اعتقد بعض المفسرين إن
هذه التجربة كانت حب استطلع من إبراهيم .واعتقد بعضهم أنه أراد أن يرى يد ذي الجلل
الخالق وهي تعمل ،فلم ير السلوب وإن رأى النتيجة .واعتقد بعض المفسرين أنه اكتفى بما
قاله له الله ولم يذبح الطير .ونعتقد أن هذه التجربة كانت درجة من درجات الحب قطعها
المسافر إلى الله .إبراهيم.
استيقظ إبراهيم يوما فأمر زوجته هاجر أن تحمل ابنها وتستعد لرحلة طويلة .وبعد أيام بدأت
رحلة إبراهيم مع زوجته هاجر ومعهما ابنهما إسماعيل .وكان الطفل رضيعا لم يفطم بعد .وظل
إبراهيم يسير وسط أرض مزروعة تأتي بعدها صحراء تجيء بعدها جبال .حتى دخل إلى
صحراء الجزيرة العربية ،وقصد إبراهيم واديا ليس فيه زرع ول ثمر ول شجر ول طعام ول مياه
ول شراب .كان الوادي يخلو تماما من علمات الحياة .وصل إبراهيم إلى الوادي ،وهبط من
فوق ظهر دابته .وأنزل زوجته وابنه وتركهما هناك ،ترك معهما جرابا فيه بعض الطعام ،وقليل
من الماء .ثم استدار وتركهما وسار.
أسرعت خلفه زوجته وهي تقول له :يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه
شيء؟
لم يرد عليها سيدنا إبراهيم .ظل يسير .عادت تقول له ما قالته وهو صامت .أخيرا فهمت أنه ل
يتصرف هكذا من نفسه .أدركت أن الله أمره بذلك وسألته :هل الله أمرك بهذا؟ قال إبراهيم
عليه السلم :نعم.
قالت زوجته المؤمنة العظيمة :لن نضيع ما دام الله معنا وهو الذي أمرك بهذا .وسار إبراهيم
حتى إذا أخفاه جبل عنهما وقف ورفع يديه الكريمتين إلى السماء وراح يدعو اللهّ) :رب َّنا إ ِّني
َ
حّرم ِ(. ك ال ْ ُ
م َ عند َ ب َي ْت ِ َ
واد ٍ غ َي ْرِ ِذي َزْرٍع ِ
من ذ ُّري ِّتي ب ِ َ
ت ِ س َ
كن ُ أ ْ
لم يكن بيت الله قد أعيد بناؤه بعد ،لم تكن الكعبة قد بنيت ،وكانت هناك حكمة عليا في هذه
التصرفات الغامضة ،فقد كان إسماعيل الطفل الذي ترك مع أمه في هذا المكان ،كان هذا
الطفل هو الذي سيصير مسؤول مع والده عن بناء الكعبة فيما بعد .وكانت حكمة الله تقضي
أن يمتد العمران إلى هذا الوادي ،وأن يقام فيه بيت الله الذي نتجه جميعا إليه أثناء الصلة
بوجوهنا.
ترك إبراهيم زوجته وابنه الرضيع في الصحراء وعاد راجعا إلى كفاحه في دعوة الله .أرضعت
أم إسماعيل ابنها وأحست بالعطش .كانت الشمس ملتهبة وساخنة وتثير الحساس بالعطش.
بعد يومين انتهى الماء تماما ،وجف لبن الم .وأحست هاجر وإسماعيل بالعطش ..كان الطعام
قد انتهى هو الخر .وبدا الموقف صعبا وحرجا للغاية.
ماء زمزم:
28
بدأ إسماعيل يبكي من العطش .وتركته أمه وانطلقت تبحث عن ماء .راحت تمشي مسرعة
حتى وصلت إلى جبل اسمه "الصفا" .فصعدت إليه وراحت تبحث بهما عن بئر أو إنسان أو
قافلة .لم يكن هناك شيء .ونزلت مسرعة من الصفا حتى إذا وصلت إلى الوادي راحت تسعى
سعي النسان المجهد حتى جاوزت الوادي ووصلت إلى جبل "المروة" ،فصعدت إليه ونظرت
لترى أحدا لكنها لم تر أحدا .وعادت الم إلى طفلها فوجدته يبكي وقد اشتد عطشه .وأسرعت
إلى الصفا فوقفت عليه ،وهرولت إلى المروة فنظرت من فوقه .وراحت تذهب وتجيء سبع
مرات بين الجبلين الصغيرين .سبع مرات وهي تذهب وتعود .ولهذا يذهب الحجاج سبع مرات
ويعودون بين الصفا والمروة إحياء لذكريات أمهم الولى ونبيهم العظيم إسماعيل .عادت هاجر
بعد المرة السابعة وهي مجهدة متعبة تلهث .وجلست بجوار ابنها الذي كان صوته قد بح من
البكاء والعطش.
وفي هذه اللحظة اليائسة أدركتها رحمة الله ،وضرب إسماعيل بقدمه الرض وهو يبكي
فانفجرت تحت قدمه بئر زمزم .وفار الماء من البئر .أنقذت حياتا الطفل والم .راحت الم
تغرف بيدها وهي تشكر الله .وشربت وسقت طفلها وبدأت الحياة تدب في المنطقة .صدق
ظنها حين قالت :لن نضيع ما دام الله معنا.
وبدأت بعض القوافل تستقر في المنطقة .وجذب الماء الذي انفجر من بئر زمزم عديدا من
الناس .وبدأ العمران يبسط أجنحته على المكان.
كبر إسماعيل ..وتعلق به قلب إبراهيم ..جاءه العقب على كبر فأحبه ..وابتلى الله تعالى
إبراهيم بلء عظيما بسبب هذا الحب .فقد رأى إبراهيم عليه السلم في المنام أنه يذبح ابنه
الوحيد إسماعيل .وإبراهيم يعمل أن رؤيا النبياء وحي.
انظر كيف يختبر الله عباده .تأمل أي نوع من أنواع الختبار .نحن أمام نبي قلبه أرحم قلب في
الرض .اتسع قلبه لحب الله وحب من خلق .جاءه ابن على كبر ..وقد طعن هو في السن ول
أمل هناك في أن ينجب .ثم ها هو ذا يستسلم للنوم فيرى في المنام أنه يذبح ابنه وبكره
ووحيده الذي ليس له غيره.
أي نوع من الصراع نشب في نفسه .يخطئ من يظن أن صراعا لم ينشأ قط .ل يكون بلء
مبينا هذا الموقف الذي يخلو من الصراع .نشب الصراع في نفس إبراهيم ..صراع أثارته
عاطفة البوة الحانية .لكن إبراهيم لم يسأل عن السبب وراء ذبح ابنه .فليس إبراهيم من
يسأل ربه عن أوامره.
فكر إبراهيم في ولده ..ماذا يقول عنه إذا أرقده على الرض ليذبحه ..الفضل أن يقول لولده
ليكون ذلك أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قهرا ويذبحه قهرا .هذا أفضل ..انتهى المر
َ َ َ
ذا ت ََرى( .انظر إلى تلطفه ك َفانظ ُْر َ
ما َ ح َ ي إ ِّني أَرى ِفي ال ْ َ
مَنام ِ أّني أذ ْب َ ُ وذهب إلى ولده )َقا َ
ل َيا ب ُن َ ّ
في إبلغ ولده ،وترك المر لينظر فيه البن بالطاعة ..إن المر مقضي في نظر إبراهيم لنه
وحي من ربه ..فماذا يرى البن الكريم في ذلك؟ أجاب إسماعيل :هذا أمر يا أبي فبادر بتنفيذه
َ
ن( .تأمل رد البن ..إنسان يعرف أنه ري َ صاب ِ ِ
ن ال ّ
م َ
ه ِ شاء الل ّ ُ
جد ُِني ِإن َست َ ِ مُر َ ما ت ُؤ ْ َ ت افْعَ ْ
ل َ )َيا أب َ ِ
ن
م َ شاء الل ّ ُ
ه ِ سيذبح فيمتثل للمر اللهي ويقدم المشيئة ويطمئن والده أنه سيجده )ِإن َ
ن( .هو الصبر على أي حال وعلى كل حال ..وربما استعذب البن أن يموت ذبحا بأمر ري َصاب ِ ِال ّ
من الله ..ها هو ذا إبراهيم يكتشف أن ابنه ينافسه في حب الله .ل نعرف أي مشاعر جاشت
في نفس إبراهيم بعد استسلم ابنه الصابر.
ينقلنا الحق نقلة خاطفة فإذا إسماعيل راقد على الرض ،وجهه في الرض رحمة به كيل يرى
َ
ما( استخدمسل َ َ نفسه وهو يذبح .وإذا إبراهيم يرفع يده بالسكين ..وإذا أمر الله مطاع) .فَل َ ّ
ما أ ْ
َ
ما( هذا هو السلم الحقيقي ..تعطي كل شيء ،فل يتبقى منك سل َ َ القرآن هذا التعبير) ..فَل َ ّ
ما أ ْ
شيء.
29
عندئذ فقط ..وفي اللحظة التي كان السكين فيها يتهيأ لمضاء أمره ..نادى الله إبراهيم ..انتهى
اختباره ،وفدى الله إسماعيل بذبح عظيم -وصار اليوم عيدا لقوم لم يولدوا بعد ،هم
المسلمون .صارت هذه اللحظات عيدا للمسلمين .عيدا يذكرهم بمعنى السلم الحقيقي الذي
كان عليه إبراهيم وإسماعيل.
ومضت قصة إبراهيم .ترك ولده إسماعيل وعاد يضرب في أرض الله داعيا إليه ،خليل له
وحده .ومرت اليام .كان إبراهيم قد هاجر من أرض الكلدانيين مسقط رأسه في العراق وعبر
الردن وسكن في أرض كنعان في البادية .ولم يكن إبراهيم ينسى خلل دعوته إلى الله أن
يسأل عن أخبار لوط مع قومه ،وكان لوط أول من آمن به ،وقد أثابه الله بأن بعثه نبيا إلى قوم
من الفاجرين العصاة.
البشرى بإسحاق:
كان إبراهيم جالس لوحده .في هذه اللحظة ،هبطت على الرض أقدام ثلثة من الملئكة:
جبريل وإسرافيل وميكائيل .يتشكلون في صور بشرية من الجمال الخارق .ساروا صامتين.
مهمتهم مزودجة .المرور على إبراهيم وتبشيره .ثم زيارة قوم لوط ووضع حد لجرائمهم.
سار الملئكة الثلثة قليل .ألقى أحدهم حصاة أمام إبراهيم .رفع إبراهيم رأسه ..تأمل
وجوههم ..ل يعرف أحدا فيهم .بادروه بالتحية .قالوا :سلما .قال :سلم.
نهض إبراهيم ورحب بهم .أدخلهم بيته وهو يظن أنهم ضيوف وغرباء .أجلسهم واطمأن أنهم قد
اطمأنوا ،ثم استأذن وخرج .راغ إلى أهله.
نهضت زوجته سارة حين دخل عليها .كانت عجوزا قد ابيض شعرها ولم يعد يتوهج بالشباب
فيها غير وميض اليمان الذي يطل من عينيها.
قال :ل أعرف أحدا فيهم .وجوه غريبة على المكان .ل ريب أنهم من مكان بعيد ،غير أن
ملبسهم ل تشي بالسفر الطويل .أي طعام جاهز لدينا؟
قال وهو يهم بالنصراف :نصف شاة ..اذبحي لهم عجل سمينا .هم ضيوف وغرباء .ليست معهم
دواب أو أحمال أو طعام .ربما كانوا جوعى وربما كانوا فقراء.
اختار إبراهيم عجل سمينا وأمر بذبحه ،فذكروا عليه اسم الله وذبحوه .وبدأ شواء العجل على
الحجارة الساخنة .وأعدت المائدة .ودعا إبراهيم ضيوفه إلى الطعام .أشار إبراهيم بيده أن
يتفضلوا باسم الله ،وبدأ هو يأكل ليشجعهم .كان إبراهيم كريما يعرف أن الله ل يتخلى عن
الكرماء وربما لم يكن في بيته غير هذا العجل ،وضيوفه ثلثة ونصف شاة يكفيهم ويزيد ،غير
أنه كان سيدا عظيم الكرم .راح إبراهيم يأكل ثم استرق النظر إلى ضيوفه ليطمئن أنهم
يأكلون .لحظ أن أحدا ل يمد يده إلى الطعام .قرب إليهم الطعام وقال :أل تأكلون؟ عاد إلى
طعامه ثم اختلس إليهم نظرة فوجدهم ل يأكلون ..رأى أيديهم ل تصل إلى الطعام .عندئذ
ة( .في تقاليد البادية التي عاش فيها إبراهيم ،كان معنى امتناع الضيوف عن
ف ً
خي َ
م ِ َ
من ْهُ ْ
س ِ
ج َ
)أوْ َ
الكل أنهم يقصدون شرا بصاحب البيت.
ولحظ إبراهيم بينه وبين نفسه أكثر من ملحظة تؤيد غرابة ضيوفه .لحظ أنهم دخلوا عليه
فجأة .لم يرهم إل وهم عند رأسه .لم يكن معهم دواب تحملهم ،لم تكن معهم أحمال .وجوههم
30
غريبة تماما عليه .كانوا مسافرين وليس عليهم أثر لتراب السفر .ثم ها هو ذا يدعوهم إلى
طعامه فيجلسون إلى المائدة ول يأكلون .ازداد خوف إبراهيم.
كان الملئكة يقرءون أفكاره التي تدور في نفسه ،دون أن يشي بها وجهه .قال له أحد
ف( .رفع إبراهيم رأسه وقال بصدق عظيم وبراءة :اعترف إنني خائف .لقد الملئكة) :ل َ ت َ َ
خ ْ
دعوتكم إلى الطعام ورحبت بكم ،ولكنكم ل تمدون أيديكم إليه ..هل تنوون بي شرا؟
ُ
سل َْنا إ َِلى قَوْم ِ
ابتسم أحد الملئكة وقال :نحن ل نأكل يا إبراهيم ..نحن ملئكة الله ..وقد )أْر ِ
ُلو ٍ
ط(
ضحكت زوجة إبراهيم ..كانت قائمة تتابع الحوار بين زوجها وبينهم ،فضحكت.
ب
قو َ
حقَ ي َعْ ُ
س َ
من وََراء إ ِ ْ
وَ ِ
جاشت المشاعر في قلب إبراهيم وزوجته .شف جو الحجرة وانسحب خوف إبراهيم واحتل
قلبه نوع من أنواع الفرح الغريب المختلط .كانت زوجته العاقر تقف هي الخرى وهي ترتجف.
إن بشارة الملئكة تهز روحها هزا عميقا .إنها عجوز عقيم وزوجها شيخ كبير .كيف؟! كيف
يمكن؟!
أكان يريد أن يسمع البشارة مرة أخرى؟ أكان يريد أن يطمئن قلبه ويسمع للمرة الثانية منة
الله عليه؟ أكان ما بنفسه شعورا بشريا يريد أن يستوثق؟ ويهتز بالفرح مرتين بدل من مرة
واحدة؟ أكد له الملئكة أنهم بشروه بالحق.
ن )) (55الحجر(
طي َ ن ال ْ َ
قان ِ ِ م َ
كن ّ ك ِبال ْ َ
حقّ فَل َ ت َ ُ َقاُلوا ْ ب َ ّ
شْرَنا َ
ضآّلو َ
ن )) (56الحجر( مةِ َرب ّهِ إ ِل ّ ال ّ
ح َ
من ّر ْ قن َ ُ
ط ِ من ي َ ْ َقا َ
ل وَ َ
لم يفهم الملئكة إحساسه البشري ،فنوه عن أن يكون من القانطين ،وأفهمهم أنه ليس
قانطا ..إنما هو الفرح.
لم تكن البشرى شيئا بسيطا في حياة إبراهيم وزوجته .لم يكن لبراهيم غير ولد واحد هو
إسماعيل ،تركه هناك بعيدا في الجزيرة العربية .ولم تكن زوجته سارة قد أنجبت خلل عشرتها
الطويلة لبراهيم ،وهي التي زوجته من جاريتها هاجر .ومن هاجر جاء إسماعيل .أما سارة ،فلم
يكن لها ولد .وكان حنينها إلى الولد عظيما ،لم يطفئ مرور اليام من توهجه .ثم دخلت
شيخوختها واحتضر حلمها ومات .كانت تقول :إنها مشيئة الله عز وجل.
31
هكذا أراد الله لها .وهكذا أراد لزوجها .ثم ها هي ذي في مغيب العمر تتلقى البشارة .ستلد
غلما .ليس هذا فحسب ،بشرتها الملئكة بأن ابنها سيكون له ولد تشهد مولده وتشهد حياته.
لقد صبرت طويل ثم يئست ثم نسيت .ثم يجيء جزاء الله مفاجأة تمحو هذا كله في لحظة.
فاضت دموعها وهي تقف .وأحس إبراهيم عليه الصلة والسلم بإحساس محير .جاشت نفسه
بمشاعر الرحمة والقرب ،وعاد يحس بأنه إزاء نعمة ل يعرف كيف يوفيها حقها من الشكر.
وخّر إبراهيم ساجدا على وجهه.
انتهى المر واستقرت البشرى في ذهنيهما معا .نهض إبراهيم من سجوده وقد ذهب عنه
خوفه ،واطمأنت حيرته ،وغادره الروع ،وسكنت قلبه البشرى التي حملوها إليه .وتذكر أنهم
أرسلوا إلى قوم لوط .ولوط ابن أخيه النازح معه من مسقط رأسه ،والساكن على مقربة منه.
وإبراهيم يعرف معنى إرسال الملئكة إلى لوط وقومه .هذا معناه وقوع عذاب مروع .وطبيعة
إبراهيم الرحيمة الودودة ل تجعله يطيق هلك قوم في تسليم .ربما رجع قوم لوط وأقلعوا
وأسلموا أجابوا رسولهم.
وبدأ إبراهيم يجادل الملئكة في قوم لوط .حدثهم عن احتمال إيمانهم ورجوعهم عن طريق
الفجور ،وأفهمه الملئكة أن هؤلء قوم مجرمون .وأن مهمتهم هي إرسال حجارة من طين
مسومة من عند ربك للمسرفين .وعاد إبراهيم ،بعد أن سد الملئكة باب هذا الحوار ،عاد
يحدثهم عن المؤمنين من قوم لوط .فقالت الملئكة :نحن أعلم بمن فيها .ثم أفهموه أن المر
قد قضي .وإن مشيئة الله تبارك وتعالى قد اقتضت نفاذ المر وهلك قوم لوط .أفهموا إبراهيم
ب أن عليه أن يعرض عن هذا الحوار .ليوفر حلمه ورحمته .لقد جاء أمر ربه .وتقرر عليهم )ع َ َ
ذا ٌ
دودٍ( عذاب لن يرده جدال إبراهيم .كانت كلمة الملئكة إيذانا بنهاية الجدال ..سكت غ َي ُْر َ
مْر ُ
إبراهيم .وتوجهت الملئكة لقوم لوط عليه السلم.
ةةةةةة :ةةةةة ةةة ةةةة ةةة ةةةة ةةةةة ةة ةةة ةةةةةةة ةةةة ةةةةةة
32
لوط عليه السلم
نبذة:
أرسله الله ليهدي قومه ويدعوهم إلى عبادة الله ،وكانوا قوما ظالمين يأتون الفواحش
ويعتدون على الغرباء وكانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء فلما دعاهم لوط لترك
المنكرات أرادوا أن يخرجوه هو وقومه فلم يؤمن به غير بعض من آل بيته ،أما امرأته فلم
تؤمن ولما يئس لوط دعا الله أن ينجيهم ويهلك المفسدين فجاءت له الملئكة وأخرجوا لوط
ومن آمن به وأهلكوا الخرين بحجارة مسومة.
سيرته:
دعى لوط قومه إلى عبادة الله وحده ل شريك له ،ونهاهم عن كسب السيئات والفواحش.
واصطدمت دعوته بقلوب قاسية وأهواء مريضة ورفض متكبر .وحكموا على لوط وأهله بالطرد
من القرية .فقد كان القوم الذين بعث إليهم لوط يرتكبون عددا كبيرا من الجرائم البشعة.
كانوا يقطعون الطريق ،ويخونون الرفيق ،ويتواصون بالثم ،ول يتناهون عن منكر ،وقد زادوا
في سجل جرائمهم جريمة لم يسبقهم بها أحد من العالمين .كانوا يأتون الرجال شهوة من
دون النساء.
لقد اختلت المقاييس عند قوم لوط ..فصار الرجال أهدافا مرغوبة بدل من النساء ،وصار النقاء
والطهر جريمة تستوجب الطرد ..كانوا مرضى يرفضون الشفاء ويقاومونه ..ولقد كانت
تصرفات قوم لوط تحزن قلب لوط ..كانوا يرتكبون جريمتهم علنية في ناديهم ..وكانوا إذا
دخل المدينة غريب أو مسافر أو ضيف لم ينقذه من أيديهم أحد ..وكانوا يقولون للوط:
استضف أنت النساء ودع لنا الرجال ..واستطارت شهرتهم الوبيلة ،وجاهدهم لوط جهادا
عظيما ،وأقام عليهم حجته ،ومرت اليام والشهور والسنوات ،وهو ماض في دعوته بغير أن
يؤمن له أحد ..لم يؤمن به غير أهل بيته ..حتى أهل بيته لم يؤمنوا به جميعا .كانت زوجته
كافرة.
ب وزاد المر بأن قام الكفرة بالستهزاء برسالة لوط عليه السلم ،فكانوا يقولون) :ائ ْت َِنا ب ِعَ َ
ذا ِ
ن( .فيئس لوط منهم ،ودعا الله أن ينصره ويهلك المفسدين. صاد ِِقي َ
ن ال ّ
م َ
ت ِ الل ّهِ ِإن ُ
كن َ
33
ذهاب الملئكة لقوم لوط:
خرج الملئكة من عند إبراهيم قاصدين قرية لوط ..بلغوا أسوار سدوم ..وابنة لوط واقفة تمل
وعاءها من مياه النهر ..رفعت وجهها فشاهدتهم ..فسألها أحد الملئكة :يا جارية ..هل من
منزل؟
قالت ]وهي تذكر قومها[ :مكانكم ل تدخلوا حتى أخبر أبي وآتيكم ..أسرعت نحو أبيها فأخبرته.
م هـ َ
ذا ي َوْ ٌ عا وََقا َ
ل َ م ذ َْر ً
ضاقَ ب ِهِ ْ
م وَ َ
سيَء ب ِهِ ْ
فهرع لوط يجري نحو الغرباء .فلم يكد يراهم حتى ) ِ
ب( سألهم :من أين جاءوا؟ ..وما هي وجهتهم؟ ..فصمتوا عن إجابته .وسألوه أن صي ٌ
عَ ِ
يضيفهم ..استحى منهم وسار أمامهم قليل ثم توقف والتفت إليهم يقول :ل أعلم على وجه
الرض أخبث من أهل هذا البلد.
قال كلمته ليصرفهم عن المبيت في القرية ،غير أنهم غضوا النظر عن قوله ولم يعلقوا عليه،
وعاد يسير معهم ويلوي عنق الحديث ويقسره قسرا ويمضي به إلى أهل القرية -حدثهم أنهم
خبثاء ..أنهم يخزون ضيوفهم ..حدثهم أنهم يفسدون في الرض .وكان الصراع يجري داخله
محاول التوفيق بين أمرين ..صرف ضيوفه عن المبيت في القرية دون إحراجهم ،وبغير إخلل
بكرم الضيافة ..عبثا حاول إفهامهم والتلميح لهم أن يستمروا في رحلتهم ،دون نزول بهذه
القرية.
سقط الليل على المدينة ..صحب لوط ضيوفه إلى بيته ..لم يرهم من أهل المدينة أحد ..لم
تكد زوجته تشهد الضيوف حتى تسللت خارجة بغير أن تشعره .أسرعت إلى قومها وأخبرتهم
الخبر ..وانتشر الخبر مثل النار في الهشيم .وجاء قوم لوط له مسرعين ..تساءل لوط بينه
وبين نفسه :من الذي أخبرهم؟ ..وقف القوم على باب البيت ..خرج إليهم لوط متعلقا بأمل
أخير ،وبدأ بوعظهم:
ؤلء بناِتي هُ َ
ن أط ْهَُر ل َك ُ ْ
م( ..قال لهم :أمامكم النساء -زوجاتكم -هن أطهر ..فهن يلبين ّ ََ هـ ُ
) َ
الفطرة السوية ..كما أن الخالق -ج ّ
ل في عله -قد هّيئهن لهذا المر.
ه( ..يلمس نفوسهم من جانب التقوى بعد أن لمسها من جانب الفطرة ..اتقوا الله قوا ْ الل ّ َ
)َفات ّ ُ
وتذكروا أن الله يسمع ويرى ..ويغضب ويعاقب وأجدر بالعقلء اتقاء غضبه.
إل أن كلمات لوط عليه السلم لم تلمس الفطرة المنحرفة المريضة ،ول القلب الجامد الميت،
ول العقل المريض الحمق ..ظلت الفورة الشاذة على اندفاعها.
أحس لوط بضعفه وهو غريب بين القوم ..نازح إليهم من بعيد بغير عشيرة تحميه ،ول أولد
ذكور يدافعون عنه ..دخل لوط غاضبا وأغلق باب بيته ..كان الغرباء الذين استضافهم يجلسون
هادئين صامتين ..فدهش لوط من هدوئهم ..وازدادت ضربات القوم على الباب ..وصرخ لوط
َ َ
ديدٍ( تمنى أن تكون له قوة م قُوّة ً أوْ آِوي إ َِلى ُرك ْ ٍ
ن َ
ش ِ ل ل َوْ أ ّ
ن ِلي ب ِك ُ ْ في لحظة يأس خانقَ) :قا َ
تصدهم عن ضيفه ..وتمنى لو كان له ركن شديد يحتمي فيه ويأوي إليه ..غاب عن لوط في
شدته وكربته أنه يأوي إلى ركن شديد ..ركن الله الذي ل يتخلى عن أنبيائه وأوليائه ..قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهو يقرأ هذه الية" :رحمة الله على لوط ..كان يأوي إلى
ركن شديد".
34
عندما بلغ الضيق ذروته ..وقال النبي كلمته ..تحرك ضيوفه ونهضوا فجأة ..أفهموه أنه يأوي
إلى ركن شديد ..فقالوا له ل تجزع يا لوط ول تخف ..نحن ملئكة ..ولن يصل إليك هؤلء
القوم ..ثم نهض جبريل ،عليه السلم ،وأشار بيده إشارة سريعة ،ففقد القوم أبصارهم.
التفتت الملئكة إلى لوط وأصدروا إليه أمرهم أن يصحب أهله أثناء الليل ويخرج ..سيسمعون
أصواتا مروعة تزلزل الجبال ..ل يلتفت منهم أحد ..كي ل يصيبه ما يصيب القوم ..أي عذاب
هذا؟ ..هو عذاب من نوع غريب ،يكفي لوقوعه بالمرء مجرد النظر إليه ..أفهموه أن امرأته
كانت من الغابرين ..امرأته كافرة مثلهم وستلتفت خلفها فيصيبها ما أصابهم.
سأل لوط الملئكة :أينزل الله العذاب بهم الن ..أنبئوه أن موعدهم مع العذاب هو الصبح..
َ
ب(؟ري ٍ
ق ِ
ح بِ َ
صب ْ ُ )أل َي ْ َ
س ال ّ
خرج لوط مع بناته وزوجته ..ساروا في الليل وغذوا السير ..واقترب الصبح ..كان لوط قد ابتعد
مع أهله ..ثم جاء أمر الله تعالى ..قال العلماء :اقتلع جبريل ،عليه السلم ،بطرف جناحه
مدنهم السبع من قرارها البعيد ..رفعها جميعا إلى عنان السماء حتى سمعت الملئكة أصوات
ديكتهم ونباح كلبهم ،قلب المدن السبع وهوى بها في الرض ..أثناء السقوط كانت السماء
تمطرهم بحجارة من الجحيم ..حجارة صلبة قوية يتبع بعضها بعضا ،ومعلمة بأسمائهم ،ومقدرة
عليهم ..استمر الجحيم يمطرهم ..وانتهى قوم لوط تماما ..لم يعد هناك أحد ..نكست المدن
على رؤوسها ،وغارت في الرض ،حتى انفجر الماء من الرض ..هلك قوم لوط ومحيت مدنهم.
كان لوط يسمع أصوات مروعة ..وكان يحاذر أن يلتفت خلفه ..نظرت زوجته نحو مصدر
الصوت فانتهت ..تهرأ جسدها وتفتت مثل عمود ساقط من الملح.
قال العلماء :إن مكان المدن السبع ..بحيرة غريبة ..ماؤها أجاج ..وكثافة الماء أعظم من كثافة
مياه البحر الملحة ..وفي هذه البحيرة صخور معدنية ذائبة ..توحي بأن هذه الحجارة التي
ضرب بها قوم لوط كانت شهبا مشعلة .يقال إن البحيرة الحالية التي نعرفها باسم "البحر
الميت" في فلسطين ..هي مدن قوم لوط السابقة.
انطوت صفحة قوم لوط ..انمحت مدنهم وأسمائهم من الرض ..سقطوا من ذاكرة الحياة
والحياء ..وطويت صفحة من صفحات الفساد ..وتوجه لوط إلى إبراهيم ..زار إبراهيم وقص
عليه نبأ قومه ..وأدهشه أن إبراهيم كان يعلم ..ومضى لوط في دعوته إلى الله ..مثلما مضى
الحليم الواه المنيب إبراهيم في دعوته إلى الله ..مضى الثنان ينشران السلم في الرض.
35
نبذة:
هو ابن إبراهيم البكر وولد السيدة هاجر ،سار إبراهيم بهاجر -بأمر من الله -حتى وضعها
وابنها في موضع مكة وتركهما ومعهما قليل من الماء والتمر ولما نفد الزاد جعلت السيدة
هاجر تطوف هنا وهناك حتى هداها الله إلى ماء زمزم ووفد عليها كثير من الناس حتى جاء أمر
الله لسيدنا إبراهيم ببناء الكعبة ورفع قواعد البيت ،فجعل إسماعيل يأتي بالحجر وإبراهيم يبني
حتى أتما البناء ثم جاء أمر الله بذبح إسماعيل حيث رأى إبراهيم في منامه أنه يذبح ابنه
فعرض عليه ذلك فقال "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين" ففداه الله
بذبح عظيم ،كان إسماعيل فارسا فهو أول من استأنس الخيل وكان صبورا حليما ،يقال إنه
أول من تحدث بالعربية البينة وكان صادق الوعد ،وكان يأمر أهله بالصلة والزكاة ،وكان ينادي
بعبادة الله ووحدانيته.
سيرته:
الختبار الول:
ذكر الله في كتابه الكريم ،ثلث مشاهد من حياة إسماعيل عليه السلم .كل مشهد عبارة عن
محنة واختبار لكل من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم .أول هذه المشاهد هو أمر الله
سبحانه وتعالى لبراهيم بترك إسماعيل وأمه في واد مقفر ،ل ماء فيه ول طعام .فما كان من
إبراهيم عليه السلم إل الستجابة لهذا المر الرباني .وهذا بخلف ما ورد في السرائيليات من
أن إبراهيم حمل ابنه وزوجته لوادي مكة لن سارة -زوجة إبراهيم الولى -اضطرته لذلك من
قى أوامرهشدة غيرتها من هاجر .فالمتأمل لسيرة إبراهيم عليه السلم ،سيجد أنه لم يكن ليتل ّ
من أحد غير الله.
أنزل زوجته وابنه وتركهما هناك ،ترك معهما جرابا فيه بعض الطعام ،وقليل من الماء .ثم
استدار وتركهما وسار.
أسرعت خلفه زوجته وهي تقول له :يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه
شيء؟
لم يرد عليها سيدنا إبراهيم وظل يسير ..عادت تقول له ما قالته وهو صامت ..أخيرا فهمت أنه
ل يتصرف هكذا من نفسه ..أدركت أن الله أمره بذلك فسألته :هل الله أمرك بهذا؟
قالت زوجته المؤمنة العظيمة :لن نضيع ما دام الله معنا وهو الذي أمرك بهذا.
وسار إبراهيم حتى إذا أخفاه جبل عنهما وقف ورفع يديه الكريمتين إلى السماء وراح يدعو
الله:
ل أ َفْئ ِد َةً
جع َ ْ موا ْ ال ّ
صل َة َ َفا ْ قي ُ
حّرم ِ َرب َّنا ل ِي ُ ِ ك ال ْ ُ
م َ عند َ ب َي ْت ِ َ واد ٍ غ َي ْرِ ِذي َزْرٍع ِمن ذ ُّري ِّتي ب ِ َ ت ِكن ُس َ َ
ّرب َّنا إ ِّني أ ْ
ن )) (37إبراهيم( شك ُُرو َ ت ل َعَل ّهُ ْ
م يَ ْ مَرا ِ ن الث ّ َ م َواْرُزقُْهم ّ
م َ وي إ ِل َي ْهِ ْ
س ت َهْ ِ
ن الّنا ِم َّ
لم يكن بيت الله قد أعيد بناؤه بعد ،لم تكن الكعبة قد بنيت ،وكانت هناك حكمة عليا في أمر
الله سبحانه لبراهيم ،فقد كان إسماعيل -الطفل الذي ت ُرِ َ
ك مع أمه في هذا المكان -ووالده
من سيكونان المسؤولن بناء الكعبة فيما بعد ..وكانت حكمة الله تقضي أن يسكن أحد في هذا
الوادي ،لميتد إليه العمران.
بعد أن ترك إبراهيم زوجته وابنه الرضيع في الصحراء بأيام نفد الماء وانتهى الطعام ،وجف لبن
الم ..وأحست هاجر وإسماعيل بالعطش.
36
بدأ إسماعيل يبكي من العطش ..فتركته أمه وانطلقت تبحث عن ماء ..راحت تمشي مسرعة
حتى وصلت إلى جبل اسمه "الصفا" ..فصعدت إليه وراحت تبحث به عن بئر أو إنسان أو
قافلة ..لم يكن هناك شيء .ونزلت مسرعة من الصفا حتى إذا وصلت إلى الوادي راحت
تسعى سعي النسان المجهد حتى جاوزت الوادي ووصلت إلى جبل "المروة" ،فصعدت إليه
ونظرت لترى أحدا لكنها لم تر أحدا .وعادت الم إلى طفلها فوجدته يبكي وقد اشتد عطشه..
وأسرعت إلى الصفا فوقفت عليه ،وهرولت إلى المروة فنظرت من فوقه ..وراحت تذهب
وتجيء سبع مرات بين الجبلين الصغيرين ..سبع مرات وهي تذهب وتعود -ولهذا يذهب الحجاج
سبع مرات ويعودون بين الصفا والمروة إحياء لذكريات أمهم الولى ونبيهم العظيم إسماعيل.
عادت هاجر بعد المرة السابعة وهي مجهدة متعبة تلهث ..وجلست بجوار ابنها الذي كان صوته
قد بح من البكاء والعطش.
وفي هذه اللحظة اليائسة أدركتها رحمة الله ،وضرب إسماعيل بقدمه الرض وهو يبكي
فانفجرت تحت قدمه بئر زمزم ..وفار الماء من البئر ..أنقذت حياتا الطفل والم ..راحت الم
تغرف بيدها وهي تشكر الله ..وشربت وسقت طفلها وبدأت الحياة تدب في المنطقة ..صدق
ظنها حين قالت :لن نضيع ما دام الله معنا.
وبدأت بعض القوافل تستقر في المنطقة ..وجذب الماء الذي انفجر من بئر زمزم عديدا من
الناس ..وبدأ العمران يبسط أجنحته على المكان.
الختبار الثاني:
كبر إسماعيل ..وتعلق به قلب إبراهيم ..جاءه العقب على كبر فأحبه ..وابتلى الله تعالى
إبراهيم بلء عظيما بسبب هذا الحب .فقد رأى إبراهيم عليه السلم في المنام أنه يذبح ابنه
الوحيد إسماعيل .وإبراهيم يعمل أن رؤيا النبياء وحي.
انظر كيف يختبر الله عباده .تأمل أي نوع من أنواع الختبار .نحن أمام نبي قلبه أرحم قلب في
الرض .اتسع قلبه لحب الله وحب من خلق .جاءه ابن على كبر ..وقد طعن هو في السن ول
أمل هناك في أن ينجب .ثم ها هو ذا يستسلم للنوم فيرى في المنام أنه يذبح ابنه وبكره
ووحيده الذي ليس له غيره.
أي نوع من الصراع نشب في نفسه .يخطئ من يظن أن صراعا لم ينشأ قط .ل يكون بلء
مبينا هذا الموقف الذي يخلو من الصراع .نشب الصراع في نفس إبراهيم ..صراع أثارته
عاطفة البوة الحانية .لكن إبراهيم لم يسأل عن السبب وراء ذبح ابنه .فليس إبراهيم من
يسأل ربه عن أوامره.
فكر إبراهيم في ولده ..ماذا يقول عنه إذا أرقده على الرض ليذبحه ..الفضل أن يقول لولده
ليكون ذلك أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قهرا ويذبحه قهرا .هذا أفضل ..انتهى المر
َ َ َ
ذا ت ََرى( .انظر إلى تلطفه ك َفانظ ُْر َ
ما َ ح َ ي إ ِّني أَرى ِفي ال ْ َ
مَنام ِ أّني أذ ْب َ ُ وذهب إلى ولده )َقا َ
ل َيا ب ُن َ ّ
في إبلغ ولده ،وترك المر لينظر فيه البن بالطاعة ..إن المر مقضي في نظر إبراهيم لنه
وحي من ربه ..فماذا يرى البن الكريم في ذلك؟ أجاب إسماعيل :هذا أمر يا أبي فبادر بتنفيذه
َ
ن( .تأمل رد البن ..إنسان يعرف أنه ري َ صاب ِ ِ
ن ال ّ
م َ
ه ِ شاء الل ّ ُ
جد ُِني ِإن َست َ ِ مُر َ ما ت ُؤ ْ َ ت افْعَ ْ
ل َ )َيا أب َ ِ
ن
م َ شاء الل ّ ُ
ه ِ سيذبح فيمتثل للمر اللهي ويقدم المشيئة ويطمئن والده أنه سيجده )ِإن َ
ن( .هو الصبر على أي حال وعلى كل حال ..وربما استعذب البن أن يموت ذبحا بأمر ري َصاب ِ ِال ّ
من الله ..ها هو ذا إبراهيم يكتشف أن ابنه ينافسه في حب الله .ل نعرف أي مشاعر جاشت
في نفس إبراهيم بعد استسلم ابنه الصابر.
ينقلنا الحق نقلة خاطفة فإذا إسماعيل راقد على الرض ،وجهه في الرض رحمة به كيل يرى
َ
ما( استخدمسل َ َ نفسه وهو يذبح .وإذا إبراهيم يرفع يده بالسكين ..وإذا أمر الله مطاع) .فَل َ ّ
ما أ ْ
37
َ
سل َ َ
ما( هذا هو السلم الحقيقي ..تعطي كل شيء ،فل يتبقى منك القرآن هذا التعبير) ..فَل َ ّ
ما أ ْ
شيء.
عندئذ فقط ..وفي اللحظة التي كان السكين فيها يتهيأ لمضاء أمره ..نادى الله إبراهيم ..انتهى
اختباره ،وفدى الله إسماعيل بذبح عظيم -وصار اليوم عيدا لقوم لم يولدوا بعد ،هم
المسلمون .صارت هذه اللحظات عيدا للمسلمين .عيدا يذكرهم بمعنى السلم الحقيقي الذي
كان عليه إبراهيم وإسماعيل.
عاش إسماعيل في شبه الجزيرة العربية ما شاء الله له أن يعيش ..روض الخيل واستأنسها
واستخدمها ،وساعدت مياه زمزم على سكنى المنطقة وتعميرها .استقرت بها بعض القوافل..
وسكنتها القبائل ..وكبر إسماعيل وتزوج ،وزاره إبراهيم فلم يجده في بيته ووجد امرأته ..سألها
عن عيشهم وحالهم ،فشكت إليه من الضيق والشدة.
قال لها إبراهيم :إذا جاء زوجك مريه أن يغير عتبة بابه ..فلما جاء إسماعيل ،ووصفت له زوجته
الرجل ..قال :هذا أبي وهو يأمرني بفراقك ..الحقي بأهلك.
وتزوج إسماعيل امرأة ثانية ..زارها إبراهيم ،يسألها عن حالها ،فحدثته أنهم في نعمة وخير..
وطاب صدر إبراهيم بهذه الزوجة لبنه.
الختبار الثالث:
وها نحن الن أمام الختبار الثالث ..اختبار ل يمس إبراهيم وإسماعيل فقط .بل يمس مليين
البشر من بعدهم إلى يوم القيامة ..إنها مهمة أوكلها الله تعالى لهذين النبيين الكريمين..
مهمة بناء بيت الله تعالى في الرض.
كبر إسماعيل ..وبلغ أشده ..وجاءه إبراهيم وقال له :يا إسماعيل ..إن الله أمرني بأمر .قال
إسماعيل :فاصنع ما أمرك به ربك ..قال إبراهيم :وتعينني؟ قال :وأعينك .فقال إبراهيم :فإن
الله أمرني أن ابني هنا بيتا .أشار بيده لصحن منخفض هناك.
صدر المر ببناء بيت الله الحرام ..هو أول بيت وضع للناس في الرض ..وهو أول بيت عبد فيه
النسان ربه ..ولما كان آدم هو أول إنسان هبط إلى الرض ..فإليه يرجع فضل بنائه أول مرة..
قال العلماء :إن آدم بناه وراح يطوف حوله مثلما يطوف الملئكة حول عرش الله تعالى.
بنى آدم خيمة يعبد فيها الله ..شيء طبيعي أن يبني آدم -بوصفه نبيا -بيتا لعبادة ربه ..وحفت
الرحمة بهذا المكان ..ثم مات آدم ومرت القرون ،وطال عليه العهد فضاع أثر البيت وخفي
مكانه ..وها هو ذا إبراهيم يتلقى المر ببنائه مرة ثانية ..ليظل في المرة الثانية قائما إلى يوم
القيامة إن شاء الله .وبدأ بناء الكعبة..
هدمت الكعبة في التاريخ أكثر من مرة ،وكان بناؤها يعاد في كل مرة ..فهي باقية منذ عهد
إبراهيم إلى اليوم ..وحين بعث رسول الله ،صلى الله عليه وسلم ،تحقيقا لدعوة إبراهيم ..وجد
الرسول الكعبة حيث بنيت آخر مرة ،وقد قصر الجهد بمن بناها فلم يحفر أساسها كما حفره
إبراهيم.
نفهم من هذا إن إبراهيم وإسماعيل بذل فيها وحدهما جهدا استحالت -بعد ذلك -محاكاته على
عدد كبير من الرجال ..ولقد صرح الرسول بأنه يحب هدمها وإعادتها إلى أساس إبراهيم ،لول
قرب عهد القوم بالجاهلية ،وخشيته أن يفتن الناس هدمها وبناؤها من جديد ..بناؤها بحيث تصل
إلى قواعد إبراهيم وإسماعيل.
38
أي جهد شاق بذله النبيان الكريمان وحدهما؟ كان عليهما حفر الساس لعمق غائر في الرض،
وكان عليهما قطع الحجارة من الجبال البعيدة والقريبة ،ونقلها بعد ذلك ،وتسويتها ،وبناؤها
وتعليتها ..وكان المر يستوجب جهد جيل من الرجال ،ولكنهما بنياها معا.
ل نعرف كم هو الوقت الذي استغرقه بناء الكعبة ،كما نجهل الوقت الذي استغرقه بناء سفينة
نوح ،المهم أن سفينة نوح والكعبة كانتا معا ملذا للناس ومثوبة وأمنا ..والكعبة هي سفينة نوح
الثابتة على الرض أبدا ..وهي تنتظر الراغبين في النجاة من هول الطوفان دائما.
لم يحدثنا الله عن زمن بناء الكعبة ..حدثنا عن أمر أخطر وأجدى ..حدثنا عن تجرد نفسية من
كان يبنيها ..ودعائه وهو يبنيها:
ل منا إن َ َ
م )(127 ميعُ ال ْعَِلي ُ س ِ ت ال ّ ك أن َ قب ّ ْ ِ ّ ِ ّ ل َرب َّنا ت َ َ عي ُ ما ِ س َ ت وَإ ِ ْ ن ال ْب َي ْ ِ
م َ عد َ ِ وا ِ م ال ْ َ
ق َ هي ُوَإ ِذ ْ ي َْرفَعُ إ ِب َْرا ِ
َ َ َ ّ ُ َ
ب
وا ُ
ت الت ّ ّك أن َ ب ع َلي َْنا إ ِن ّ َ سك ََنا وَت ُ ْ مَنا ِ
ك وَأرَِنا َ ةل َ م ً سل ِ َ م ْ ة ّ م ً من ذ ُّري ّت َِنا أ ّ ك وَ ِ نل َ مي ْ ِ
سل ِ َ
م ْجعَل َْنا ُ َرب َّنا َوا ْ
ةم َ ْ
حك َ ْ
ب َوال ِ ْ
م الك َِتا َ مهُ ُ ّ َ
م آَيات ِك وَي ُعَل ُ َ ُ
م ي َت ْلو ع َلي ْهِ ْ من ْهُ ْ سول ًّ م َر ُ ث ِفيهِ ْ م )َ (128رب َّنا َواب ْعَ ْ حي ُالّر ِ
م )) (129البقرة( كي ح ال ز زي ع ال ت ك َ
أن َ ن إ م ه ّ
كي ز ي و
ُ ِ َ ُ ِ َ َ ّ ِ ْ ِ َ ُ َ
إن أعظم مسلمين على وجه الرض يومها يدعوان الله أن يتقبل عملهما ،وأن يجعلهما
مسلمين له ..يعرفان أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن .وتبلغ الرحمة بهما أن يسأل
الله أن يخرج من ذريتهما أمة مسلمة له سبحانه ..يريدان أن يزيد عدد العابدين الموجودين
والطائفين والركع السجود .إن دعوة إبراهيم وإسماعيل تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن..
إنه يبني لله بيته ،ومع هذا يشغله أمر العقيدة ..ذلك إيحاء بأن البيت رمز العقيدة .ثم يدعوان
الله أن يريهم أسلوب العبادة الذي يرضاه ،وأن يتوب عليهم فهو التواب الرحيم .بعدها يتجاوز
اهتمامها هذا الزمن الذي يعيشان فيه ..يجاوزانه ويدعوان الله أن يبث رسول لهؤلء البشر.
وتحققت هذه الدعوة الخيرة ..حين بعث محمد بن عبد الله ،صلى الله عليه وسلم ..تحققت
بعد أزمنة وأزمنة.
انتهى بناء البيت ،وأراد إبراهيم حجرا مميزا ،يكون علمة خاصة يبدأ منها الطواف حول
الكعبة ..أمر إبراهيم إسماعيل أن يأتيه بحجر مميز يختلف عن لون حجارة الكعبة.
سار إسماعيل ملبيا أمر والده ..حين عاد ،كان إبراهيم قد وضع الحجر السود في مكانه..
فسأله إسماعيل :من الذي أحضره إليك يا أبت؟ فأجاب إبراهيم :أحضره جبريل عليه السلم.
انتهى بناء الكعبة ..وبدأ طواف الموحدين والمسلمين حولها ..ووقف إبراهيم يدعو ربه نفس
َ
وي إلى المكان ..انظر إلى التعبير ..إن الهوى
س ت َهْ ِ
ن الّنا ِ دعائه من قبل ..أن يجعل أفْئ ِد َة ً ّ
م َ
يصور انحدارا ل يقاوم نحو شيء ..وقمة ذلك هوى الكعبة .من هذه الدعوة ولد الهوى العميق
في نفوس المسلمين ،رغبة في زيارة البيت الحرام.
وصار كل من يزور المسجد الحرام ويعود إلى بلده ..يحس أنه يزداد عطشا كلما ازداد ريا منه،
ويعمق حنينه إليه كلما بعد منه ،وتجيء أوقات الحج في كل عام ..فينشب الهوى الغامض
أظافره في القلب نزوعا إلى رؤية البيت ،وعطشا إلى بئر زمزم.
ن )) (67آل
كي َ ن ال ْ ُ
م ْ
شرِ ِ م َ
ن ِ ما َ
كا َ ما وَ َ
سل ِ ً
م ْ
فا ّ
حِني ً
ن َ
كا َ صَران ِّيا وَل َ ِ
كن َ م ي َُهود ِّيا وَل َ ن َ ْ
هي ُ
ن إ ِب َْرا ِ ما َ
كا َ َ
عمران(
عليه الصلة والسلم ..استجاب الله دعاءه ..وكان إبراهيم أول من سمانا المسلمين.
39
إسحاق عليه السلم
نبذة:
هو ولد سيدنا إبراهيم من زوجته سارة ،وقد كانت البشارة بمولده من الملئكة لبراهيم وسارة
لما مروا بهم مجتازين ذاهبين إلى مدائن قوم لوط ليدمروها عليهم لكفرهم وفجورهم ،ذكره
الله في القرآن بأنه "غلم عليم" جعله الله نبيا يهدي الناس إلى فعل الخيرات ،جاء من نسله
سيدنا يعقوب.
سيرته:
ل يذكر القرآن الكريم غير ومضات سريعة عن قصة إسحاق ..كان ميلده حدثا خارقا ،بشرت
به الملئكة ،وورد في البشرى اسم ابنه يعقوب ..وقد جاء ميلده بعد سنوات من ولدة أخيه
إسماعيل ..ولقد قر قلب سارة بمولد إسحق ومولد ابنه يعقوب ،عليهما الصلة والسلم ..غير
أننا ل نعرف كيف كانت حياة إسحق ،ول نعرف بماذا أجابه قومه ..كل ما نعرفه أن الله أثنى
عليه كنبي من الصالحين
40
يعقوب عليه السلم
نبذة:
ابن إسحاق يقال له "إسرائيل" وتعني عبد الله ،كان نبيا لقومه ،وكان تقيا وبشرت به الملئكة
جده إبراهيم وزوجته سارة عليهما السلم وهو والد يوسف.
سيرته:
هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ..اسمه إسرائيل ..كان نبيا إلى قومه ..ذكر الله تعالى ثلث
أجزاء من قصته ..بشارة ميلده ..وقد بشر الملئكة به إبراهيم جده ..وسارة جدته ..أيضا ذكر
الله تعالى وصيته عند وفاته ..وسيذكره الله فيما بعد -بغير إشارة لسمه -في قصة يوسف.
نعرف مقدار تقواه من هذه الشارة السريعة إلى وفاته ..نعلم أن الموت كارثة تدهم النسان،
فل يذكر غير همه ومصيبته ..غير أن يعقوب ل ينسى وهو يموت أن يدعو إلى ربه ..قال تعالى
في سورة )البقرة(:
َ
ك وَإ َِلـ َ
ه دي َقاُلوا ْ ن َعْب ُد ُ إ َِلـهَ َمن ب َعْ ِ ن ِدو َ ما ت َعْب ُ ُ ت إ ِذ ْ َقا َ
ل ل ِب َِنيهِ َ مو ْ ُب ال ْ َقو َضَر ي َعْ ُ ح َداء إ ِذ ْ َ م ُ
شهَ َ م ُ
كنت ُ ْ أ ْ
ن )) (133البقرة( مو َ سل ِ ُ
م ْه ُن لَ ُح ُ حدا ً وَن َ ْ
حاقَ إ َِلـها ً َوا ِ س َل وَإ ِ ْعي َ
ما ِس َ م وَإ ِ ْ
هي َ آَبائ ِ َ
ك إ ِب َْرا ِ
إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في ساعة الموت ولحظات الحتضار ،مشهد عظيم الدللة..
نحن أمام ميت يحتضر ..ما القضية التي تشغل باله في ساعة الحتضار..؟ ما الفكار التي تعبر
ذهنه الذي يتهيأ للنزلق مع سكرات الموت..؟ ما المر الخطير الذي يريد أن يطمئن عليه قبل
موته..؟ ما التركة التي يريد أن يخلفها لبنائه وأحفاده..؟ ما الشيء الذي يريد أن يطمئن -قبل
موته -على سلمة وصوله للناس ..كل الناس..؟
41
قال أبناء إسرائيل :نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ،ونحن له
مسلمون ..والنص قاطع في أنهم بعثوا على السلم ..إن خرجوا عنه ،خرجوا من رحمة الله..
وإن ظلوا فيه ،أدركتهم الرحمة.
مات يعقوب وهو يسأل أبناءه عن السلم ،ويطمئن على عقيدتهم ..وقبل موته ،ابتلي بلء
شديدا في ابنه يوسف.
سترد معنا مشاهد من قصة يعقوب عليه السلم عند ذكرنا لقصة ابنه النبي الكريم يوسف
عليه السلم
نبذة:
ولد سيدنا يوسف وكان له 11أخا وكان أبوه يحبه كثيرا وفي ذات ليلة رأى أحد عشر كوكبا
والشمس والقمر له ساجدين ،فقص على والده ما رأى فقال له أل يقصها على إخوته ،ولكن
الشيطان وسوس لخوته فاتفقوا على أن يلقوه في غيابات الجب وادعوا أن الذئب أكله ،ثم
مر به ناس من البدو فأخذوه وباعوه بثمن بخس واشتراه عزيز مصر وطلب من زوجته أن
ترعاه ،ولكنها أخذت تراوده عن نفسه فأبى فكادت له ودخل السجن ،ثم أظهر الله براءته
وخرج من السجن ،واستعمله الملك على شئون الغذاء التي أحسن إدارتها في سنوات
القحط ،ثم اجتمع شمله مع إخوته ووالديه وخروا له سجدا وتحققت رؤياه.
سيرته:
قبل أن نبدأ بقصة يوسف عليه السلم ،نود الشارة لعدة أمور .أولها اختلف طريقة رواية
قصة يوسف عليه السلم في القرآن الكريم عن بقية قصص النبياء ،فجاءت قصص النبياء في
عدة سور ،بينما جاءت قصة يوسف كاملة في سورة واحدة .قال تعالى في سورة )يوسف(:
َ قص ع َل َي َ َ
ن ال َْغافِِلي َ
ن) من قَب ْل ِهِ ل َ ِ
م َ ت ِ ن وَِإن ُ
كن َ ذا ال ْ ُ
قْرآ َ هـ َ حي َْنا إ ِل َي ْ َ
ك َ ما أوْ َ
ص بِ َ
ص ِ ن ال ْ َ
ق َ س َ
ح َ
كأ ْ ْ ن نَ ُ ّ
ح ُ
نَ ْ
) (3يوسف(
واختلف العلماء لم سميت هذه القصة أحسن القصص؟ قيل إنها تنفرد من بين قصص القرآن
باحتوائها على عالم كامل من العبر والحكم ..وقيل لن يوسف تجاوز عن إخوته وصبر عليهم
وعفا عنهم ..وقيل لن فيها ذكر النبياء والصالحين ،والعفة والغواية ،وسير الملوك والممالك،
والرجال والنساء ،وحيل النساء ومكرهن ،وفيها ذكر التوحيد والفقه ،وتعبير الرؤيا وتفسيرها،
فهي سورة غنية بالمشاهد والنفعالت ..وقيل :إنها سميت أحسن القصص لن مآل من كانوا
فيها جميعا كان إلى السعادة.
ومع تقديرنا لهذه السباب كلها ..نعتقد أن ثمة سببا مهما يميز هذه القصة ..إنها تمضي في
خط واحد منذ البداية إلى النهاية ..يلتحم مضمونها وشكلها ،ويفضي بك لحساس عميق بقهر
َ
ه( هذا ما تثبته قصة ب ع ََلى أ ْ
مرِ ِ غال ِ ٌ الله وغلبته ونفاذ أحكامه رغم وقوف البشر ضدهاَ) .والل ّ ُ
ه َ
يوسف بشكل حاسم ،ل ينفي حسمه أنه تم بنعومة وإعجاز.
42
لنمضي الن بقصة يوسف -عليه السلم -ولنقسمها لعدد من الفصول والمشاهد ليسهل علينا
تتبع الحداث.
ذهب يوسف الصبي الصغير لبيه ،وحكى له عن رؤيا رآها .أخبره بأنه رأى في المنام أحد عشر
كوكبا والشمس والقمر ساجدين له .استمع الب إلى رؤيا ابنه وحذره أن يحكيها لخوته .فلقد
أدرك يعقوب -عليه السلم -بحدسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤية شأنا عظيما لهذا الغلم .لذلك
نصحه بأن ل يقص رؤياه على إخوته خشية أن يستشعورا ما وراءها لخيهم الصغير -غير
الشقيق ،حيث تزوج يعقوب من امرأة ثانية أنجبت له يوسف وشقيقه -فيجد الشيطان من هذا
ثغرة في نفوسهم ،فتمتلئ نفوسهم بالحقد ،فيدبروا له أمرا يسوؤه .استجاب يوسف لتحذير
أبيه ..لم يحدث أخوته بما رأى ،وأغلب الظن أنهم كانوا يكرهونه إلى الحد الذي يصعب فيه أن
يطمئن إليهم ويحكي لهم دخائله الخاصة وأحلمه.
المشهد الثاني:
َ َ ف وَأ َ ُ
ة
صب َ ٌن عُ ْ ح ُ ب إ َِلى أِبيَنا ِ
مّنا وَن َ ْ ح ّ
خوه ُ أ َ س ُاجتمع أخوة يوسف يتحدثون في أمره) .إ ِذ ْ َقاُلوا ْ ل َُيو ُ
إ َ
ن( أي نحن مجموعة قوية تدفع وتنفع ،فأبونا مخطئ في تفضيل هذين ٍ مِبي ضل َ ٍ
ل ّ في َ ن أَباَنا ل َ ِِ ّ
ف أ َِو
س َالصبيين على مجموعة من الرجال النافعين! فاقترح أحدهم حل للموضوع) :اقْت ُُلوا ْ ُيو ُ
َ
ضا( .إنه الحقد وتدخل الشيطان الذي ضخم حب أبيهم ليوسف وإيثاره عليهم حتى حوه ُ أْر ً اط َْر ُ
جعله يوازي القتل .أكبر جرائم الرض قاطبة بعد الشرك بالله .وطرحه في أرض بعيدة نائية
مرادف للقتل ،لنه سيموت هناك ل محاله .ولماذا هذا كله؟! حتى ل يراه أبوه فينساه فيوجه
ن(.
حي َصال ِ ِ
ما َ من ب َعْد ِهِ قَوْ ًكوُنوا ْ ِحبه كله لهم .ومن ثم يتوبون عن جريمتهم )وَت َ ُ
قال قائل منهم -حرك الله أعماقه بشفقة خفية ،أو أثار الله في أعماقه رعبا من القتل :ما
الداعي لقتله؟ إن كنتم تريدون الخلص منه ،فلنلقه في بئر تمر عليها القوافل ..ستلتقطه
قافلة وترحل به بعيدا ..سيختفي عن وجه أبيه ..ويتحقق غرضنا من إبعاده.
انهزمت فكرة القتل ،واختيرت فكرة النفي والبعاد .نفهم من هذا أن الخوة ،رغم شرهم
وحسدهم ،كان في قلوبهم ،أو في قلوب بعضهم ،بعض خير لم يمت بعد.
المشهد الثالث:
توجه البناء لبيهم يطلبون منه السماح ليوسف بمرافقتهم .دار الحوار بينهم وبين أبيهم بنعومة
ْ
ف ..؟ أيمكن أن يكون يوسف أخانا، مّنا ع ََلى ُيو ُ
س َ ما ل َ َ
ك ل َ ت َأ َ وعتاب خفي ،وإثارة للمشاعرَ ..
وأنت تخاف عليه من بيننا ول تستأمننا عليه ،ونحن نحبه وننصح له ونرعاه؟ لماذا ل ترسله معنا
يرتع ويلعب؟
وردا على العتاب الستنكاري الول جعل يعقوب عليه السلم ينفي -بطريقة غير مباشرة -أنه ل
يأمنهم عليه ،ويعلل احتجازه معه بقلة صبره على فراقه وخوفه عليه من الذئابَ :قا َ
ل إ ِّني
َ ْ خا ُ َ
غافُِلو َ
ن. ه َ
م ع َن ْ ُ ف أن ي َأك ُل َ ُ
ه الذ ّئ ْ ُ
ب وَأنت ُ ْ حُزن ُِني َأن ت َذ ْهَُبوا ْ ب ِهِ وَأ َ َ
ل َي َ ْ
ففندوا فكرة الذئب الذي يخاف أبوه أن يأكله ..نحن عشرة من الرجال ..فهل نغفل عنه ونحن
كثرة؟ نكون خاسرين غير أهل للرجولة لو وقع ذلك ..لن يأكله الذئب ول داعي للخوف عليه.
وافق الب تحت ضغط أبنائه ..ليتحقق قدر الله وتتم القصة كما تقتضي مشيئته!
المشهد الرابع:
43
خرج الخوة ومعهم يوسف ،وأخذوه للصحراء .اختاروا بئرا ل ينقطع عنها مرور القوافل
وحملوه وهموا بإلقائه في البئر ..وأوحى الله إلى يوسف أنه ناج فل يخاف ..وأنه سيلقاهم بعد
يومهم هذا وينبئهم بما فعلوه.
المشهد الخامس:
عند العشاء جاء البناء باكين ليحكوا لبيهم قصة الذئب المزعومة .أخبروه بأنهم ذهبوا
يستبقون ،فجاء ذئب على غفلة ،وأكل يوسف .لقد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذبة ،فلو
كانوا أهدأ أعصابا ما فعلوها من المرة الولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف
معهم! ولكنهم كانوا معجلين ل يصبرون ،يخشون أل تواتيهم الفرصة مرة أخرى .كذلك كان
التقاطهم لحكاية الذئب دليل على التسرع ،وقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس ،وهم ينفونها.
فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم أبوهم منه
أمس! وبمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان ونسوا في
انفعالهم أن يمزقوا قميص يوسف ..جاءوا بالقميص كما هو سليما ،ولكن ملطخا بالدم ..وانتهى
َ
ن( أي وما أنت ن ل َّنا وَل َوْ ك ُّنا َ
صاد ِِقي َ مؤ ْ ِ
م ٍ ت بِ ُ
ما أن َ
كلمهم بدليل قوي على كذبهم حين قالوا) :وَ َ
بمطمئن لما نقوله ،ولو كان هو الصدق ،لنك تشك فينا ول تطمئن لما نقوله.
أدرك يعقوب من دلئل الحال ومن نداء قلبه ومن الكذوبة الواضحة ،أن يوسف لم يأكله
الذئب ،وأنهم دبروا له مكيدة ما ،وأنهم يلفقون له قصة لم تقع ،فواجههم بأن نفوسهم قد
حسنت لهم أمرا منكرا وذللته ويسرت لهم ارتكابه؛ وأنه سيصبر متحمل متجمل ل يجزع ول
سك ُْ
م م َأن ُ
ف ُ ت ل َك ُ ْ
سوّل َ ْ
ل َ يفزع ول يشكو ،مستعينا بالله على ما يلفقونه من حيل وأكاذيبَ :قا َ
ل بَ ْ
َ
ن
فو َ
ص ُ ن ع ََلى َ
ما ت َ ِ ست ََعا ُ ه ال ْ ُ
م ْ ل َوالل ّ ُ
مي ٌ
ج ِ مًرا فَ َ
صب ٌْر َ أ ْ
أثناء وجود يوسف بالبئر ،مرت عليه قافلة ..قافلة في طريقها إلى مصر ..قافلة كبيرة ..سارت
طويل حتى سميت سيارة ..توقفوا للتزود بالماء ..وأرسلوا أحدهم للبئر فأدلى الدلو فيه ..تعلق
يوسف به ..ظن من دله أنه امتل بالماء فسحبه ..ففرح بما رأى ..رأى غلما متعلقا بالدلو..
فسرى على يوسف حكم الشياء المفقودة التي يلتقطها أحد ..يصير عبدا لمن التقطه ..هكذا
كان قانون ذلك الزمان البعيد.
فرح به من وجده في البداية ،ثم زهد فيه حين فكر في همه ومسئوليته ،وزهد فيه لنه وجده
صبيا صغيرا ..وعزم على التخلص منه لدى وصوله إلى مصر ..ولم يكد يصل إلى مصر حتى
باعه في سوق الرقيق بثمن زهيد ،دراهم معدودة .ومن هناك اشتراه رجل تبدو عليه الهمية.
انتهت المحنة الولى في حياة هذا النبي الكريم ،لبتدأ المحنة الثانية ،والفصل
الثاني من حياته.
ن أ َك ْث ََر
مرِهِ وََلـك ِ ّ
َ
ب ع ََلى أ ْ ثم يكشف الله تعالى مضمون القصة البعيد في بدايتها )َوالل ّ ُ
ه َ
غال ِ ٌ
ن( .لقد انطبقت جدران العبودية على يوسف .ألقي في البئر ،أهين ،حرم من مو َس ل َ ي َعْل َ ُ
الّنا ِ
أبيه ،التقط من البئر ،صار عبدا يباع في السواق ،اشتراه رجل من مصر ،صار مملوكا لهذا
الرجل ..انطبقت المأساة ،وصار يوسف بل حول ول قوة ..هكذا يظن أي إنسان ..غير أن
الحقيقة شيء يختلف عن الظن تماما.
ما نتصور نحن أنه مأساة ومحنة وفتنة ..كان هو أول سلم يصعده يوسف في طريقه إلى
َ
ه( ..ينفذ تدبيره رغم تدبير الخرين .ينفذ من خلله تدبير الخرين ب ع ََلى أ ْ
مرِ ِ غال ِ ٌ مجدهَ) ..والل ّ ُ
ه َ
فيفسده ويتحقق وعد الله ،وقد وعد الله يوسف بالنبوة.
وها هو ذا يلقي محبته على صاحبه الذي اشتراه ..وها هو ذا السيد يقول لزوجته أكرمي مثواه
عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا .وليس هذا السيد رجل هين الشأن ..إنما هو رجل مهم ..رجل
44
من الطبقة الحاكمة في مصر ..سنعلم بعد قليل أنه وزير من وزراء الملك .وزير خطير سماه
القرآن "العزيز" ،وكان قدماء المصريين يطلقون الصفات كأسماء على الوزراء .فهذا العزيز..
وهذا العادل ..وهذا القوي ..إلى آخره ..وأرجح الراء أن العزيز هو رئيس وزراء مصر.
وهكذا مكن الله ليوسف في الرض ..سيتربى كصبي في بيت رجل يحكم .وسيعلمه الله من
َ
مرِهِ وََلـك ِ ّ
ن ب ع ََلى أ ْ تأويل الحاديث والرؤى ..وسيحتاج إليه الملك في مصر يوماَ) .والل ّ ُ
ه َ
غال ِ ٌ
َ
ن( .تم هذا كله من خلل فتنة قاسية تعرض لها يوسف. س ل َ ي َعْل َ ُ
مو َ أك ْث ََر الّنا ِ
ن )) (22يوسف(
سِني َ
ح ِ زي ال ْ ُ
م ْ ج ِ
ك نَ ْ عل ْ ً
ما وَك َذ َل ِ َ حك ْ ً
ما وَ ِ ما ب َل َغَ أ َ ُ
شد ّه ُ آت َي َْناه ُ ُ وَل َ ّ
كان يوسف أجمل رجل في عصره ..وكان نقاء أعماقه وصفاء سريرته يضفيان على وجهه
مزيدا من الجمال .وأوتي صحة الحكم على المور ..وأوتي علما بالحياة وأحوالها .وأوتي أسلوبا
في الحوار يخضع قلب من يستمع إليه ..وأوتي نبل وعفة ،جعله شخصية إنسانية ل تقاوم.
وأدرك سيده أن الله قد أكرمه بإرسال يوسف إليه ..اكتشف أن يوسف أكثر من رأى في حياته
أمانة واستقامة وشهامة وكرما ..وجعله سيده مسئول عن بيته وأكرمه وعامله كابنه.
في هذا المشهد تبدأ محنة يوسف الثانية ،وهي أشد وأعمق من المحنة الولى .جاءته وقد أوتي
صحة الحكم وأوتي العلم -رحمة من الله -ليواجهها وينجو منها جزاء إحسانه الذي سجله الله له
في قرآنه .يذكر الله تعالى هذه المحنة في كتابه الكريم:
َ
ه َرّبي مَعاذ َ الل ّهِ إ ِن ّ ُل َ ك َقا َ ت لَ َ ت هَي ْ َ ب وََقال َ ْ وا َ ت الب ْ َ ق ِ سهِ وَغ َل ّ َ ف ِ عن ن ّ ْ ه ال ِّتي هُوَ ِفي ب َي ْت َِها َ وََراوَد َت ْ ُ
ن َرب ّهِ ك َذ َل ِ َ
ك َ َ َ َ ّ َ ْ َ
ها َ ول أن ّرأى ب ُْر َ ل ها ب م
ّ ْ ِ َ ّ َِ ْ َ هو ِ ه ب ت م َ ه ْ د َ ق ل َ و ( 23 ) نَ مو ُ ِ لظا ال ح
ُ ِ ل ْ فُ ي ل ه
م َ َ ِ ُ
ّ ن إ ي وا ث ن َ س َح َ أ ْ
ن )) (24يوسف( صي َ خل َ ِم ْعَباد َِنا ال ْ ُ
ن ِ م ْ ه ِ شاء إ ِن ّ ُ ح َف ْ سوَء َوال ْ َ ه ال ّ ف ع َن ْ ُ صرِ َ ل ِن َ ْ
ل يذكر السياق القرآني شيئا عن سنها وسنه ،فلننظر في ذلك من باب التقدير .لقد أحضر
يوسف صبيا من البئر ،كانت هي زوجة في الثلثة والعشرين مثل ،وكان هو في الثانية عشرا.
بعد ثلثة عشر عاما صارت هي في السادسة والثلثين ووصل عمره إلى الخامسة والعشرين.
أغلب الظن أن المر كذلك .إن تصرف المرأة في الحادثة وما بعدها يشير إلى أنها مكتملة
جريئة.
ت لَ َ َ
ك( .لن تفر مني هذه المرة. ب وََقال َ ْ
ت هَي ْ َ وا َ
سهِ ( ،وأغلقت )الب ْ َ
ف ِ
عن ن ّ ْ
ه( صراحة ) َ
)وََراوَد َت ْ ُ
هذا يعني أنه كانت هناك مرات سابقة فر فيها منها .مرات سابقة لم تكن الدعوة فيها بهذه
الصراحة وهذا التعري .فيبدوا أن امرأة العزيز سئمت تجاهل يوسف لتلميحاتها المستمرة
وإباءه ..فقررت أن تغير خطتها .خرجت من التلميح إلى التصريح ..أغلقت البواب ومزقت
أقنعة الحياء وصرحت بحبها وطالبته بنفسه.
ثم يتجاوزز السياق القرآني الحوار الذي دار بين امرأة العزيز ويوسف عليه السلم ،ولنا أن
نتصور كيف حاولت إغراءه إما بلباسها أو كلماتها أو حركاتها .لكن ما يهمنا هنا هو موقف
يوسف -عليه السلم -من هذا الغواء.
َ
ح ه ل َ يُ ْ
فل ِ ُ مث ْ َ
وايَ إ ِن ّ ُ ن َ
س َ
ح َ مَعاذ َ الل ّهِ إ ِن ّ ُ
ه َرّبي أ ْ يقف هذا النبي الكريم في وجه سيدته قائل )َقا َ
ل َ
ن( أعيذ نفسي بالله أن أفعل هذا مع زوجة من أكرمني بأن نجاني من الجب وجعل مو َ ال ّ
ظال ِ ُ
45
في هذه الدار مثواي الطيب المن .ول يفلح الظالمون الذين يتجاوزون حدود الله ،فيرتكبون ما
تدعينني اللحظة إليه.
ه( اتفق المفسرون حول همها بالمعصية، ن َرب ّ ِ ول َأن ّرَأى ب ُْر َ
ها َ م ب َِها ل َ ْ
ت ب ِهِ وَهَ ّ
م ْ ثم )وَل َ َ
قد ْ ه َ ّ
واختلفوا حول همه .فمنهم من أخذ بالسرائيليات وذكر أن يعقوب ظهر له ،أو جبريل نزل إليه،
لكن التلفيق والختلق ظاهر في هذه الزوايات السرائيلية .ومن قائل :إنها همت به تقصد
المعصية وهم بها يقصد المعصية ولم يفعل ،ومن قائل :إنها همت به لتقبله وهم بها ليضربها،
ومن قائل :إن هذا الهم كان بينهما قبل الحادث .كان حركة نفسية داخل نفس يوسف في
السن التي اجتاز فيها فترة المراهقة .ثم صرف الله عنه .وأفضل تفسير تطمئن إليه نفسي أن
هناك تقديما وتأخيرا في الية.
قال أبو حاتم :كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة ،فلما أتيت على قوله تعالى) :وَل َ َ
قد ْ
م ب َِها( .قال أبو عبيدة :هذا على التقديم والتأخير .بمعنى ولقد همت به ..ولول أن ت ب ِهِ وَهَ ّ
م ْ
هَ ّ
رأى برهان ربه لهم بها .يستقيم هذا التفسير مع عصمة النبياء ..كما يستقيم مع روح اليات
ن( وهذه الية خل َ ِ
صي َ م ْعَباد َِنا ال ْ ُ
ن ِ م ْ ه ِ ح َ
شاء إ ِن ّ ُ ف ْسوَء َوال ْ َه ال ّف ع َن ْ ُ
صرِ َ التي تلحقه مباشرة )ك َذ َل ِ َ
ك ل ِن َ ْ
التي تثبت أن يوسف من عباد الله المخلصين ،تقطع في نفس الوقت بنجاته من سلطان
ن( وما دام يوسف طا ٌ سل ْ َم ُ ك ع َل َي ْهِ ْس لَ َ عَباِدي ل َي ْ َ ن ِ
الشيطان .قال تعالى لبليس يوم الخلق )إ ِ ّ
من عباده المخلصين ،فقد وضح المر بالنسبة إليه .ل يعني هذا أن يوسف كان يخلو من
مشاعر الرجولة ،ول يعني هذا أنه كان في نقاء الملئكة وعدم احتفالهم بالحس .إنما يعني أنه
تعرض لغراء طويل قاومه فلم تمل نفسه يوما ،ثم أسكنها تقواها كونه مطلعا على برهان ربه،
عارفا أنه يوسف بن يعقوب النبي ،ابن إسحق النبي ،ابن إبراهيم جد النبياء وخليل الرحمن.
يبدو أن يوسف -عليه السلم -آثر النصراف متجها إلى الباب حتى ل يتطور المر أكثر .لكن
امرأة العزيز لحقت به لتمسكه ،تدفهعا الشهوة لذلك .فأمسكت قميصه من الخلف ،فتمزق
في يدها .وهنا تقطع المفاجأة .فتح الباب زوجها -العزيز .وهنا تتبدى المرأة المكتملة ،فتجد
جَزاء
ما َ الجواب حاضرا على السؤال البديهي الذي يطرح الموقف .فتقول متهمة الفتىَ :قال َ ْ
ت َ
م َ
ب أِلي ٌ ن أ َوْ ع َ َ
ذا ٌ ج َ
س َ
َ
سوًَءا إ ِل ّ أن ي ُ ْ ن أ ََراد َ ب ِأ َهْل ِ َ
ك ُ م ْ
َ
واقترحت هذه المراة -العاشقة -سريعا العقاب -المأمون -الواجب تنفيذه على يوسف ،خشية
أن يفتك به العزيز من شدة غضبه .بّينت للعزيز أن أفضل عقاب له هو السجن .بعد هذا التهام
سي ف ِ
عن ن ّ ْ
ي َراوَد َت ِْني َ الباطل والحكم السريع جهر يوسف بالحقيقة ليدافع عن نفسهَ :قا َ
ل هِ َ
تجاوز السياق القرآني رد الزوج ،لكنه بين كيفية تبرأة يوسف -عليه السلم -من هذه التهمة
الباطلة:
ن ن َ
كا َ ن ) (26وَإ ِ ْ ن ال َ
كاذ ِِبي َ م َت وَهُوَ ِ صد َقَ ْ ل فَ َمن قُب ُ ٍه قُد ّ ِ ص ُ
مي ُ ن قَ ِكا َ ن أ َهْل َِها ِإن َ م ْشاه ِد ٌ ّشهِد َ َ
وَ َ
َ َ
منه ِ من د ُب ُرٍ َقا َ
ل إ ِن ّ ُ ه قُد ّ ِص ُمي َما َرأى قَ ِ ن ) (27فَل ّ صاد ِِقي َ
من ال ّ ت وَهُوَ ِ من د ُب ُرٍ فَك َذ َب َ ْ ه قُد ّ ِ
ص ُ
مي ُقَ ِ
م )) (28يوسف( ظي ٌ ن عَ ِ ُ َ
ن كي ْد َك ّ ن إِ ّ ُ َ
كي ْد ِك ّ
ل نعلم إن كان الشاهد مرافقا للزوج منذ البداية ،أم أن العزيز استدعاه بعد الحادثة ليأخذ
برأيه ..كما أشارت بعض الروايات أن هذا الشاهد رجل كبير ،بينما أخبرت روايات أخرى أنه
طفل رضيع .كل هذا جائز .وهو ل يغير من المر شيئا .ما يذكره القرآن أن الشاهد أمرهم
بالنظر للقميص ،فإن كان ممزقا من المام فذلك من أثر مدافعتها له وهو يريد العتداء عليها
فهي صادقة وهو كاذب .وإن كان قميصه ممزقا من الخلف فهو إذن من أثر تملصه منها
وتعقبها هي له حتى الباب ،فهي كاذبة وهو صادق.
َ
م )) (28يوسف(
ظي ٌ ن ك َي ْد َك ُ ّ
ن عَ ِ من ك َي ْد ِك ُ ّ
ن إِ ّ ه ِ من د ُب ُرٍ َقا َ
ل إ ِن ّ ُ ه قُد ّ ِ
ص ُ
مي َ فَل َ ّ
ما َرأى قَ ِ
فتأكد الزوج من خيانة زوجته عندما رأى قميص يوسف ممزق من الخلف .لكن الدم لم يثر في
عروقه ولم يصرخ ولم يغضب .فرضت عليه قيم الطبقة الراقية التي وقع فيها الحادث أن
46
يواجه الموقف بلباقة وتلطف ..نسب ما فعلته إلى كيد النساء عموما .وصرح بأن كيد النساء
عموم عظيم .وهكذا سيق المر كما لو كان ثناء يساق .ول نحسب أنه يسوء المرأة أن يقال
م( .فهو دللة على أنها أنثى كاملة مستوفية لمقدرة النثى على الكيد. ظي ٌ
ن عَ ِ ن ك َي ْد َك ُ ّ
لها) :إ ِ ّ
هـذا( أهمل هذا الموضوع ول تعره َ ن َ َ
ض عَ ْ
ف أع ْرِ ْ
س ُ
بعدها التفت الزوج إلى يوسف قائل لهُ) :يو ُ
اهتماما ول تتحدث به .هذا هو المهم ..المحافظة على الظواهر ..ثم يوجه عظة -مختصرة-
ك
ك إ ِن ّ ِ ري ل ِ َ
ذنب ِ ِ ف ِ
ست َغْ ِ
للمرأة التي ضبطت متلبسة بمراودة فتاها عن نفسها وتمزيق قميصهَ) :وا ْ
ن(.خاط ِِئي َ ن ال ْ َ م َت ِ ُ
كن ِ
انتهى الحادث الول ..لكن الفتنة لم تنته ..فلم يفصل سيد البيت بين المرأة وفتاها ..كل ما
طلبه هو إغلق الحديث في هذا الموضوع .غير أن هذا الموضوع بالذات .وهذا المر يصعب
تحقيقه في قصر يمتلئ بالخدم والخادمات والمستشارين والوصيفات.
المشهد الثاني:
بدأ الموضوع ينتشر ..خرج من القصر إلى قصور الطبقة الراقية يومها ..ووجدت فيه نساء هذه
الطبقة مادة شهية للحديث .إن خلو حياة هذه الطبقات من المعنى ،وانصرافها إلى اللهو،
يخلعان أهمية قصوى على الفضائح التي ترتبط بشخصيات شهيرة ..وزاد حديث المدينة )وََقا َ
ل
حّبا إ ِّنا ل َن ََرا َ ن ِسوة ٌ في ال ْمدينة ا َ
ن(مِبي ٍ
ل ّضل َ ٍ
ها ِفي َ فَها ُ سهِ قَد ْ َ
شغَ َ ف ِ
عن ن ّ ْ
ها َ مَرأة ُ ال ْعَ ِ
زيزِ ت َُراوِد ُ فََتا َ َ ِ َ ِ ْ ْ َ ِ
وانتقل الخبر من فم إلى فم ..ومن بيت إلى بيت ..حتى وصل لمرأة العزيز.
المشهد الثالث:
ً َ فَل َما سمعت بمك ْره َ
كيًنا وََقال َ ِ
ت س ّ ن ِ من ْهُ ّ
حد َةٍ ّ ل َوا ِت كُ ّ مت ّك َأ َوآت َ ْ ن ُ ت ل َهُ ّ ن وَأع ْت َد َ ْ ت إ ِل َي ْهِ ّ سل َ ْ ن أْر َ ّ َ ِ َ ْ ِ َ ِ ِ ّ
مل َكٌ ّ ْ َ ّ َ َ
ّ
هـذا إ ِل َ َ ن َ َ
هـذا ب َشًرا إ ِ ْ َ ما َ ش ل ِلهِ َ حا َ ن َ ُ
ن وَقل َ ن أي ْد ِي َهُ ّ ه وَقطعْ َ َ ْ
ه أكب َْرن َ ُ ما َرأي ْن َ ُ ن فَل َ ّ ج ع َل َي ْهِ ّ
خُر ْا ْ
ما
َ ْ
ل َ ع ْ فَ ي م
ْ ّ ل ئنِ َ ل و م
َ َ َ ص ْ عَ تس َ فا َ ِ ه س
ِ ْ فّ ن عن َ هّ ت
َ َ ُ ود را ْ د َ ق َ لَ و ِ ه في ِ ني ِ ّ نُ تمْ ُ ل ذي ِ ّ ل ا نّ ُ ك ِ ل َ ذَ ف تْ َ ل َ
قا ( 31 ) كَ ِ ٌ
م ري
ن )) (32يوسف( ري َ صاِغ ِ ن ال ّ م َ ُ
ن وَلي َكوًنا ّ َ جن َ ّ س َ َ
مُره ُ لي ُ ْ آ ُ
عندما سمعت امرأة العزيز بما تتناقله نساء الطبقة العليا عنها ،قررت أن تعد مأدبة كبيرة في
القصر .وأعدت الوسائد حتى يتكئ عليها المدعوات .واختارت ألوان الطعام والشراب وأمرت
أن توضع السكاكين الحادة إلى جوار الطعام المقدم .ووجهت الدعوة لكل من تحدثت عنها.
ج ع َل َي ْهِ ّ
ن خُر ْ وبينما هن منشغلت بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة ،فاجأتهن بيوسف :وََقال َ ِ
تا ْ
فَل َ ّ
ما
ن( وجرحن أيديهن بالسكاكين )فَل َما رأ َينه أ َك ْبرنه( بهتن لطلعته ،ودهشن) .وقَط ّع َ
ن أي ْد ِي َهُ ّ
ْ َ َ َْ َ ُ ّ َ َْ ُ
ه( وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة ش ل ِل ّ َِ حا َ ن ْ
َ َ لُ قو) المفاجئة. للدهشة
م( يتضح من هذه التعبيرات أن شيئا من ديانات ري ٌ َ ٌ
ملك ك َِ ّ َ
هـذا إ ِل َ ن َ َ
هـذا ب َشًرا إ ِ ْ َ ما َ بصنع اللهَ ) ..
التوحيد تسربت لهل ذلك الزمان.
ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها ،وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والعجاب
والذهول .فقالت قولة المرأة المنتصرة ،التي ل تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها،
والتي تفتخر عليهن بأن هذا متناول يدها؛ وإن كان قد استعصم في المرة الولى فهي ستحاول
المرة تلو الخرى إلى أن يلين :انظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والعجاب! لقد بهرني
مثلكن فراودته عن نفسه لكنه استعصم ،وإن لم يطعني سآمر بسجنه لذّله.
إنها لم ترى بأسا من الجهر بنزواتها النثوية أما نساء طبقتها .فقالتها بكل إصرار وتبجح ،قالتها
مبّينة أن الغراء الجديد تحت التهديد.
واندفع النسوة كلهم إليه يراودنه عن نفسه ..كل منهن أرادته لنفسها ..ويدلنا على ذلك أمران.
الدليل الول هو قول يوسف عليه السلم )رب السج َ
عون َِني إ ِل َي ْ ِ
ه( فلم يقل ما ي َد ْ ُ
م ّ ب إ ِل َ ّ
ي ِ ح ّ
نأ َّ ْ ُ َ ّ
47
ن خط ْب ُك ُ ّ
ن إ ِذ ْ َراَودت ّ ّ ما َ )ما تدعوني إليه( ..والمر الخر هو سؤال الملك لهم فيما بعد )َقا َ
ل َ
ه(.
س ِ
ف ِ
عن ن ّ ْ
ف َ
س َ
ُيو ُ
أمام هذه الدعوات -سواء كانت بالقول أم بالحركات واللفتات -استنجد يوسف بربه ليصرف
عنه محاولتهن ليقاعه في حبائلهن ،خيفة أن يضعف في لحظة أمام الغراء الدائم ،فيقع فيما
يخشاه على نفسه .دعى يوسف الله دعاء النسان العارف ببشريته ،الذي ل يغتر بعصمته؛
ب
ل َر ّ فيريد مزيدا من عناية الله وحياطته ،ويعاونه على ما يعترضه من فتة وكيد وإغراءَ) .قا َ
ن(
جاه ِِلي َن ال ْ َ
م َ ن وَأ َ ُ
كن ّ ب إ ِل َي ْهِ ّ
ص ُ
ف ع َني ك َيدهُ َ
نأ ْْ َ ّ صرِ ْ ّ عون َِني إ ِل َي ْهِ وَإ ِل ّ ت َ ْ
ما ي َد ْ ُ
م ّ ب إ ِل َ ّ
ي ِ ح ّ
السج َ
نأ َّ ْ ُ
واستجاب له الله ..وصرف عنه كيد النسوة.
وهذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهن من استجابته لهن ،بعد هذه التجربة؛ أو
بزيادة انصرافه عن الغراء حتى ما يحس في نفسه أثرا منه .أو بهما جميعا .وهكذا اجتاز
يوسف المحنة الثانية بلطف الله ورعايته ،فهو الذي سمع الكيد ويسمع الدعاء ،ويعلم ما وراء
الكيد وما وراء الدعاء.
ما انتهت المحنة الثانية إل لتبدأ الثالثة ..لكن هذه الثالثة هي آخر محن الشدة.
ربما كان دخوله للسجن بسبب انتشار قصته مع امرأة العزيز ونساء طبقتها ،فلم يجد أصحاب
هذه البيوت طريقة لسكات هذه اللسنة سوى سجن هذا الفتى الذي دلت كل اليات على
برائته ،لتنسى القصة .قال تعالى في سورة )يوسف(:
َ
ن )) (35يوسف(
حي ٍ
حّتى ِ
ه َ
جن ُن ّ ُ ت ل َي َ ْ
س ُ ما َرأوُا ْ الَيا ِ دا ل َُهم ّ
من ب َعْد ِ َ ثُ ّ
م بَ َ
وهكذا ترسم الية الموجزة جو هذا العصر بأكمله ..جو الفساد الداخلي في القصور ،جو
الوساط الرستقراطية ..وجو الحكم المطلق.
إن حلول المشكلت في الحكم المطلق هي السجن ..وليس هذا بغريب على من يعبد آلهة
متعددة .كانوا على عبادة غير الله ..ولقد رأينا من قبل كيف تضيع حريات الناس حين ينصرفون
عن عبادة الله إلى عبادة غيره .وها نحن أولء نرى في قصة يوسف شاهدا حيا يصيب حتى
النبياء .صدر قرارا باعتقاله وأدخل السجن .بل قضية ول محاكمة ،ببساطة ويسر ..ل يصعب
في مجتمع تحكمه آلهة متعددة أن يسجن بريء .بل لعل الصعوبة تكمن في محاولة شيء غير
ذلك.
دخل يوسف السجن ثابت القلب هادئ العصاب أقرب إلى الفرح لنه نجا من إلحاح زوجة
العزيز ورفيقاتها ،وثرثرة وتطفلت الخدم .كان السجن بالنسبة إليه مكانا هادئا يخلو فيه ويفكر
في ربه.
يختصر السياق القرآني ما كان من أمر يوسف في السجن ..لكن الواضح أن يوسف -عليه
السلم -انتهز فرصة وجوده في السجن ،ليقوم بالدعوة إلى الله .مما جعل السجناء
يتوسمون فيه الطيبة والصلح وإحسان العبادة والذكر والسلوك.
انتهز يوسف -عليه السلم -هذه الفرصة ليحدث الناس عن رحمة الخالق وعظمته وحبه
لمخلوقاته ،كان يسأل الناس :أيهما أفضل ..أن ينهزم العقل ويعبد أربابا متفرقين ..أم ينتصر
العقل ويعبد رب الكون العظيم؟ وكان يقيم عليهم الحجة بتساؤلته الهادئة وحواره الذكي
وصفاء ذهنه ،ونقاء دعوته.
48
م له سجينان يسألنه تفسير أحلمهما ،بعد أن توسما في وجهه الخير .إن وفي أحد اليام ،قَد ِ َ
أول ما قام به يوسف -عليه السلم -هو طمأنتهما أنه سيؤول لهم الرؤى ،لن ربه علمه علما
خاصا ،جزاء على تجرده هو وآباؤه من قبله لعبادته وحده ،وتخلصه من عبادة الشركاء ..وبذلك
يكسب ثقتهما منذ اللحظة الولى بقدرته على تأويل رؤياهما ،كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه.
ثم بدأ بدعوتهما إلى التوحيد ،وتبيان ما هم عليه من الظلل .قام بكل هذا برفق ولطف ليدخل
إلى النفوس بل مقاومة.
بعد ذلك فسر لهما الرؤى .بّين لهما أن أحدها سيصلب ،والخر سينجو ،وسيعمل في قصر
الملك .لكنه لم يحدد من هو صاحب البشرى ومن هو صاحب المصير السيئ تلطفا وتحرجا من
المواجهة بالشر والسوء .وتروي بعض التفاسير أن هؤلء الرجلين كانا يعملن في القصر،
أحدهما طباخا ،والخر يسقي الناس ،وقد اتهما بمحاولة تسميم الملك.
أوصى يوسف من سينجو منهما أن يذكر حاله عن الملك .لكن الرجل لم ينفذ الوصية .فربما
ألهته حياة القصر المزدحمة يوسف وأمره .فلبث في السجن بضع سنين .أراد الله بهذا أن
يعلم يوسف -عليه السلم -درسا.
جاك من إخوتك؟ قال :الله. فقد ورد في إحدى الرويات أنه جاءه جبريل قال :يا يوسف من ن ّ
قال :من أنقذك من الجب؟ قال :الله .قال :من حررك بعد أن صرت عبدا؟ قال :الله .قال:
من عصمك من النساء؟ قال :الله .قال :فعلم تطلب النجاة من غيره؟
وقد يكون هذا المر زيادة في كرم الله عليه واصطفاءه له ،فلم يجعل قضاء حاجته على يد
عبد ول سبب يرتبط بعبد.
المشهد الثاني:
في هذا المشهد تبدأ نقطة التحول ..التحول من محن الشدة إلى محن الرخاء ..من محنة
العبودية والرق لمحنة السلطة والملك.
في قصر الحكم ..وفي مجلس الملك :يحكي الملك لحاشيته رؤياه طالبا منهم تفسيرا لها.
ْ
ت
سا ٍ ضرٍ وَأ ُ َ
خَر َياب ِ َ خ ْ سنب ُل َ ٍ
ت ُ سب ْعَ ُ
ف وَ َ
جا ٌ
ع َ
سب ْعٌ ِن َن ي َأك ُل ُهُ ّ ما ٍس َ ت ِ قَرا ٍ
سب ْعَ ب َ َ َ
ك إ ِّني أَرى َ ل ال ْ َ
مل ِ ُ )وََقا َ
َ
مل أفُْتوِني ِفي ُرؤ َْيايَ ِإن ُ ُ ْ َ
ن( لكن المستشارين والكهنة لم يقوموا م ِللّرؤ َْيا ت َعْب ُُرو َ كنت ُ ْ َيا أي َّها ال َ
بالتفسير .ربما لنهم لم يعرفوا تفسيرها ،أو أنهم أحسوا أنها رؤيا سوء فخشوا أن يفسروها
للملك ،وأرادوا أن يأتي التفسير من خارج الحاشية -التي تعودت على قول كل ما يسر الملك
فقط .وعللوا عدم التفسير بأن قالوا للملك أنها أجزاء من أحلم مختلطة ببعضها البعض،
ليست رؤيا كاملة يمكن تأويلها.
المشهد الثالث:
وصل الخبر إلى الساقي -الذي نجا من السجن ..تداعت أفكاره وذكره حلم الملك بحلمه الذي
رآه في السجن ،وذكره السجن بتأويل يوسف لحلمه .وأسرع إلى الملك وحدثه عن يوسف.
قال له :إن يوسف هو الوحيد الذي يستطيع تفسير رؤياك.
وأرسل الملك ساقيه إلى السجن ليسأل يوسف .ويبين لنا الحق سبحانه كيف نقل الساقي
رؤيا الملك ليوسف بتعبيرات الملك نفسها ،لنه هنا بصدد تفسير حلم ،وهو يريد أن يكون
التفسير مطابقا تماما لما رءاه الملك .وكان الساقي يسمي يوسف بالصديق ،أي الصادق
الكثير الصدق ..وهذا ما جربه من شأنه من قبل.
غال ِب ع ََلى أ َمره وَلـك َ
ن أك ْث ََر الّنا ِ
س لَ ْ ِ ِ َ ِ ّ ه َ ٌ جاء الوقت واحتاج الملك إلى رأي يوسفَ) ..والل ّ ُ
ل يوسف عن تفسير حلم الملك ..فلم يشترط خروجه من السجن مقابل ن( .سُئِ َ ي َعْل َ ُ
مو َ
49
تفسيره .لم يساوم ولم يتردد ولم يقل شيئا غير تفسير الرؤيا ..هكذا ببراءة النبي حين يلجأ
إليه الناس فيغيثهم ..وإن كان هؤلء أنفسهم سجانيه وجلديه.
لم يقم يسوف -عليه السلم -بالتفسير المباشر المجرد للرؤيا .وإنما قدم مع التفسير النصح
وطريقة مواجهة المصاعب التي ستمر بها مصر .أفهم يوسف رسول الملك أن مصر ستمر
عليها سبع سنوات مخصبة تجود فيها الرض بالغلت .وعلى المصريين أل يسرفوا في هذه
السنوات السبع .لن وراءها سبع سنوات مجدبة ستأكل ما يخزنه المصريون ،وأفضل خزن
للغلل أن تترك في سنابلها كي ل تفسد أو يصيبها السوس أو يؤثر عليها الجو.
بهذا انتهى حلم الملك ..وزاد يوسف تأويله لحلم الملك بالحديث عن عام لم يحلم به الملك،
عام من الرخاء .عام يغاث فيه الناس بالزرع والماء ،وتنمو كرومهم فيعصرون خمرا ،وينمو
سمسمهم وزيتونهم فيعصرون زيتا .كان هذا العام الذي ل يقابله رمز في حلم الملك .علما
خاصا أوتيه يوسف .فبشر به الساقي ليبشر به الملك والناس.
المشهد الرابع:
عاد الساقي إلى الملك .أخبره بما قال يوسف ،دهش الملك دهشة شديدة .ما هذا السجين..؟
إنه يتنبأ لهم بما سيقع ،ويوجههم لعلجه ..دون أن ينتظر أجرا أو جزاء .أو يشترط خروجا أو
مكافأة .فأصدر الملك أمره بإخراج يوسف من السجن وإحضاره فورا إليه .ذهب رسول الملك
إلى السجن .ول نعرف إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة .أم أنه شخصية رفيعة مكلفة
بهذه الشؤون .ذهب إليه في سجنه .رجا منه أن يخرج للقاء الملك ..فهو يطلبه على عجل.
رفض يوسف أن يخرج من السجن إل إذا ثبتت براءته .لقد رباه ربه وأدبه .ولقد سكبت هذه
التربية وهذا الدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة .ويظهر أثر التربية واضحا في الفارق
بين الموقفين :الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى :اذكرني عند ربك ،والموقف الذي يقول
فيه :ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة التي قطعن أيدهن ،الفارق بين الموقفين كبير.
المشهد الخامس:
تجاوز السياق القرآني عما حدث بين الملك ورسوله ،وردة فعل الملك .ليقف بنا أمام المحاكة.
وسؤال الملك لنساء الطبقة العليا عما فعلنه مع يوسف .يبدوا أن الملك سأل عن القصة
ليكون على بينة من الظروف قبل أن يبدأ التحقيق ،لذلك جاء سؤاله دقيقا للنساء .فاعترف
سوٍء(. مَنا ع َل َي ْهِ ِ
من ُ ش ل ِل ّهِ َ
ما ع َل ِ ْ حا َ النساء بالحقيقة التي يصعب إنكارها )قُل ْ َ
ن َ
وهنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف ،التي يئست منه ،ولكنها ل تستطيع أن تخلص من تعلقها به..
تتقدم لتقول كل شيء بصراحة .يصور السياق القرآني لنا اعتراف امرأة العزيز ،بألفاظ
َ
ن
م َ ه لَ ِسهِ وَإ ِن ّ ُ ف ِ عن ن ّ ْ ه َموحية ،تشي بما وراءها من انفعالت ومشاعر عميقة )أن َا ْ َراَودت ّ ُ
ن( شهادة كاملة بإثمها هي ،وبراءته ونظافته وصدقه هو .شهادة ل يدفع إليها خوف أو صاد ِِقي َ ال ّ
خشية أو أي اعتبار آخر ..يشي السياق القرآني بحافز أعمق من هذا كله .حرصها على أن
يحترمها الرجل الذي أهان كبرياءها النثوية ،ولم يعبأ بفتنتها الجسدية .ومحاولة يائسة لتصحيح
صورتها في ذهنه .ل تريده أن يستمر على تعاليه واحتقاره لها كخاطئة .تريد أن تصحح فكرته
ب( .لست بهذا السوء الذي يتصوره فيني .ثم تمضي في ه ِبال ْغَي ْ ِ م أَ ُ
خن ْ ُ
ك ل ِيعل َ َ
م أّني ل َ ْعنها) :ذ َل ِ َ َ ْ َ
ن(. ْ َ َ ّ َ
خائ ِِني َ
دي كي ْد َ ال َ ه ل ي َهْ ِ ن الل َ هذه المحاولة والعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها )وَأ ّ
سوِء إ ِل ّ ماَرة ٌ ِبال ّ َ ّ
فس ل َ ْ ّ ن ال ن
ّ سي إ ِ ف ِ ما أ ُب َّرىُء ن َ ْ
وتمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة )وَ َ
م(. حي ٌفوٌر ّر ِ ن َرّبي غ َ ُي إِ ّ
م َرب ّ َ
ح َ ما َر ِ
َ
إن تأمل اليات يوحي بأن امرأة العزيز قد تحولت إلى دين يوسف .تحولت إلى التوحيد .إن
سجن يوسف كان نقلة هائلة في حياتها .آمنت بربه واعتنقت ديانته.
50
يهمل السياق القرآني بعد ذلك قصة امرأة العزيز تماما ،يسقطها من المشاهد ،فل نعرف ماذا
كان من أمرها بعد شهادتها الجريئة التي أعلنت فيها ضمنا إيمانها بدين يوسف.
وقد لعبت الساطير دورها في قصة المرأة ..قيل :إن زوجها مات وتزوجت من يوسف،
فاكتشف أنها عذراء ،واعترفت له أن زوجها كان شيخا ل يقرب النساء ..وقيل :إن بصرها ضاع
بسبب استمرارها في البكاء على يوسف ،خرجت من قصرها وتاهت في طرقات المدينة ،فلما
صار يوسف كبيرا للوزراء ،ومضى موكبه يوما هتفت به امرأة ضريرة تتكفف الناس :سبحان
من جعل الملوك عبيدا بالمعصية ،وجعل العبيد ملوكا بالطاعة.
سأل يوسف :صوت من هذا؟ قيل له :امرأة العزيز .انحدر حالها بعد عز .واستدعاها يوسف
وسألها :هل تجدين في نفسك من حبك لي شيئا؟
قالت :نظرة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا يا يوسف ..ناولني نهاية سوطك .فناولها .فوضعته
على صدرها ،فوجد السوط يهتز في يده اضطرابا وارتعاشا من خفقان قلبها.
وقيلت أساطير أخرى ،يبدو فيها أثر المخيلة الشعبية وهي تنسج قمة الدراما بانهيار العاشقة
إلى الحضيض ..غير أن السياق القرآني تجاوز تماما نهاية المرأة.
أغفلها من سياق القصة ،بعد أن شهدت ليوسف ..وهذا يخدم الغرض الديني في القصة،
فالقصة أساسا قصة يوسف وليست قصة المرأة ..وهذا أيضا يخدم الغرض الفني ..لقد ظهرت
المرأة ثم اختفت في الوقت المناسب ..اختفت في قمة مأساتها ..وشاب اختفاءها غموض
فني معجز ..ولربما بقيت في الذاكرة باختفائها هذا زمنا أطول مما كانت تقضيه لو عرفنا بقية
قصتها.
بعد ما رأى الملك من أمر يوسف .براءته ،وعلمه ،وعدم تهافته على الملك .عرف أنه أمام
رجل كريم ،فلم يطلبه ليشكره أو يثني عليه ،وإنما طلبه ليكون مستشاره .وعندما جلس معه
وكلمه ،تحقق له صدق ما توسمه فيه .فطمئنه على أنه ذو مكانه وفي أمان عنده .فماذا قال
يوسف؟
لم يغرق الملك شكرا ،ولم يقل له :عشت يا مولي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك المين ،كما
يفعل المتملقون للطواغيت؛ كل إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من العباء في
الزمة القادمة.
كما وأورد القرطبي في تفسيره .أن الملك قال فيما قاله :لو جمعت أهل مصر ما أطاقوا هذا
المر ..ولم يكونوا فيه أمناء.
كان الملك يقصد الطبقة الحاكمة وما حولها من طبقات ..إن العثور على المانة في الطبقة
المترفة شديد الصعوبة.
اعتراف الملك ليوسف بهذه الحقيقة زاد من عزمه على تولي هذا المر ،لنقاذ مصر وما حولها
م( .لم في ٌ َ جعَل ِْني ع ََلى َ
ظ ع َِلي ٌ ح ِ
ض إ ِّني َ
ن الْر ِ
خَزآئ ِ ِ من البلد من هذه المجاعة ..قال يوسف) :ا ْ
يكن يوسف في كلمته يقصد النفع أو الستفادة .على العكس من ذلك .كان يحتمل أمانة
إطعام شعوب جائعة لمدة سبع سنوات ..شعوب يمكن أن تمزق حكامها لو جاعت ..كان
الموضوع في حقيقته تضحية من يوسف.
ل يثبت السياق القرآني أن الملك وافق ..فكأنما يقول القرآن الكريم إن الطلب تضمن
الموافقة ..زيادة في تكريم يوسف ،وإظهار مكانته عند الملك ..يكفي أن يقول ليجاب ..بل
51
ليكون قوله هو الجواب ،ومن ثم يحذف رد الملك ..ويفهمنا شريط الصور المعروضة أن
يوسف قد صار في المكان الذي اقترحه.
وهكذا مكن الله ليوسف في الرض ..صار مسؤول عن خزائن مصر واقتصادها ..صار كبيرا
للوزراء ..وجاء في رواية أن الملك قال ليوسف :يا يوسف ليس لي من الحكم إل الكرسي..
ول ينبئنا السياق القرآني كيف تصرف يوسف في مصر ..نعرف أنه حكيم عليم ..نعرف أنه
أمين وصادق ..ل خوف إذا على اقتصاد مصر.
دارت عجلة الزمن ..طوى السياق دورتها ،ومر مرورا سريعا على سنوات الرخاء ،وجاءت
سنوات المجاعة ..وهنا يغفل السياق القرآني
بعد ذلك ذكر الملك والوزراء في السورة كلها ..كأن المر كله قد صار ليوسف .الذي اضطلع
بالعبء في الزمة الخانقة الرهيبة .وأبرز يوسف وحده على مسرح الحوادث ,وسلط عليه كل
الضواء.
والمجاعة فقد أبرزه السياق في مشهد إخوة يوسف ,يجيئون من البدو من أرض كنعان البعيدة
يبحثون عن الطعام في مصر .ومن ذلك ندرك اتساع دائرة المجاعة ,كما كيف صارت مصر -
بتدبير يوسف -محط أنظار جيرانها ومخزن الطعام في المنطقة كلها.
لقد اجتاح الجدب والمجاعة أرض كنعان وما حولها .فاتجه إخوة يوسف -فيمن يتجهون -إلى
مصر .وقد تسامع الناس بما فيها من فائض الغلة منذ السنوات السمان.
فدخلوا على عزيز مصر ,وهم ل يعلمون أن أخاهم هو العزيز .إنه يعرفهم فهم لم يتغيروا كثيرا.
أما يوسف فإن خيالهم ل يتصور قط أنه العزيز! وأين الغلم العبراني الصغير الذي ألقوه في
الجب منذ عشرين عاما أو تزيد من عزيز مصر شبه المتوج في سنه وزيه وحرسه ومهابته
وخدمه وحشمه وهيله وهيلمانه?
م لَ ُ
ه خُلوا ْ ع َل َي ْهِ فَعََرفَهُ ْ
م وَهُ ْ ولم يكشف لهم يوسف عن نفسه .فل بد من دروس يتلقونها) :فَد َ َ
ن ( .ولكنا ندرك من السياق أنه أنزلهم منزل طيبا ,ثم أخذ في إعداد الدرس الول: منك ُِرو َ ُ
َ ّ َ
م( .فنفهم من هذا أنه تركهم يأنسون إليه, ُ
ن أِبيك ْ م ْ ُ
م قال ائُتوِني ب ِأٍخ لكم ّ ْ َ َ جَهازِه ِ ْ
هم ب ِ َ جهَّز ُ
ما َ) وَل َ ّ
واستدرجهم حتى ذكروا له من هم على وجه التفصيل ,وأن لهم أخا صغيرا من أبيهم لم يحضر
معهم لن أباه يحبه ول يطيق فراقه .فلما جهزهم بحاجات الرحلة قال لهم :إنه يريد أن يرى
كم م َ َ
م( .وقد رأيتم أنني أوفي الكيل للمشترين .فسأوفيكم ن أِبيك ُ ْ ل ائ ُْتوِني ب ِأٍخ ل ّ ُ ّ ْ أخاهم هذاَ) .قا َ
نصيبكم حين يجيء معكم; ورأيتم أنني أكرم النزلء فل خوف عليه بل سيلقى مني الكرام
ن (. خي ُْر ال ْ ُ
منزِِلي َ ل وَأ َن َا ْ َن أ َّني ُأوِفي ال ْك َي ْ َ َ
المعهود) :أل َ ت ََروْ َ
ولما كانوا يعلمون كيف يضن أبوهم بأخيهم الصغر -وبخاصة بعد ذهاب يوسف -فقد أظهروا
أن المر ليس ميسورا ,وإنما في طريقه عقبات من ممانعة أبيهم ,وأنهم سيحاولون إقناعه ,مع
توكيد عزمهم -على الرغم من هذه العقبات -على إحضاره معهم حين يعودونَ) :قاُلوا ْ َ
سن َُراوِد ُ
عُلو َ
ن( .ولفظ ه أ ََباه ُ وَإ ِّنا ل َ َ
فا ِ ع َن ْ ُ
أما يوسف فقد أمر غلمانه أن يدسوا البضاعة التي حضر بها إخوته ليستبدلوا بها القمح
والعلف .وقد تكون خليطا من نقد ومن غلت صحراوية أخرى من غلت الشجر الصحراوي,
52
ومن الجلود وسواها مما كان يستخدم في التبادل في السواق .أمر غلمانه بدسها في رحالهم
-والرحل متاع المسافر -لعلهم يعرفون حين يرجعون أنها بضاعتهم التي جاءوا بها.
المشهد الثالث:
ندع يوسف في مصر .لنشهد يعقوب وبنيه في أرض كنعان .رجع الخوة إلى أبيهم ..وقبل أن
ينزلوا أحمال الجمال ويفكوا متاعهم ،دخلوا على أبيهم .قائلين له بعتاب :إن لم ترسل معنا
أخانا الصغير في المرة القادمة فلن يعطينا عزيز مصر الطعام .وختموا كلمهم بوعد جديد
ن(. حافِ ُ
ظو َ ه لَ َ
ليعقوب عليه السلم )وَإ ِّنا ل َ ُ
ويبدوا أن هذا الوعد قد أثار كوامن يعقوب .فهو ذاته وعدهم له في يوسف! فإذا هو يجهز بما
أثاره الوعد من شجونه:
َ حافِ ً م ع ََلى أ َ ِ ل آمنك ُم ع َل َيه إل ّ ك َ َ
مينَ )
ح ِ
م الّرا ِ
ح ُ
ظا وَهُوَ أْر َ خي ٌْر َ ل َفالل ّ ُ
ه َ من قَب ْ ُ
خيهِ ِ منت ُك ُ ْ
ما أ ِ
َ ْ ِ ِ َقا َ
ل هَ ْ َ ُ ْ
) (64يوسف(
وفتح البناء أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلل ..فإذا هم يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا
يشترون بها ..مردودة إليهم مع الغلل والطعام ..ورد الثمن يشير إلى عدم الرغبة في البيع ،أو
هو إنذار بذلك ..وربما كان إحراجا لهم ليعودوا لسداد الثمن مرة أخرى.
َ
وأسرع البناء إلى أبيهم )َقاُلوا ْ َيا أَباَنا َ
ما ن َب ِْغي( ..لم نكذب عليك ..لقد رد إلينا الثمن الذي ذهبنا
نشتري به .هذا معناه أنهم لن يبيعوا لنا إل إذا ذهب أخونا معنا.
واستمر حوارهم مع الب ..أفهموه أن حبه لبنه والتصاقه به يفسدان مصالحهم ،ويؤثران على
اقتصادهم ،وهم يريدون أن يتزودوا أكثر ،وسوف يحفظون أخاهم أشد الحفظ وأعظمه..
وانتهى الحوار باستسلم الب لهم ..بشرط أن يعاهدوه على العودة بابنه ،إل إذا خرج المر من
أيديهم وأحيط بهم ..نصحهم الب أل يدخلوا -وهم أحد عشر رجل -من باب واحد من أبواب
بمصر ..كي ل يستلفتوا انتباه أحد ..وربما خشي عليهم أبوهم شيئا كالسرقة أو الحسد ..ل
يقول لنا السياق القرآني ماذا كان الب يخشى ،ولو كان الكشف عن السبب مهما لقيل.
المشهد الرابع:
مُلو َ
ن )(69 كاُنوا ْ ي َعْ َ
ما َ ك فَل َ ت َب ْت َئ ِ ْ
س بِ َ ل إ ِّني أ َن َا ْ أ َ ُ
خو َ ف آَوى إ ِل َي ْهِ أ َ َ
خاه ُ َقا َ خُلوا ْ ع ََلى ُيو ُ
س َ وَل َ ّ
ما د َ َ
)يوسف(
يقفز السياق قفزا إلى مشهد يوسف وهو يحتضن أخاه ويكشف له وحده سر قرابته ،ول ريب
أن هذا لم يحدث فور دخول الخوة على يوسف ،وإل لنكشفت لهم قرابة يوسف ،إنما وقع هذا
في خفاء وتلطف ،فلم يشعر إخوته ،غير أن السياق المعجز يقفز إلى أول خاطر ساور يوسف
عند دخولهم عليه ورؤيته لخيه ..وهكذا يجعله القرآن أول عمل ،لنه أول خاطر ،وهذه من
دقائق التعبير في هذا الكتاب العظيم.
يطوي السياق كذلك فترة الضيافة ،وما دار فيها بين يوسف وإخوته ،ويعرض مشهد الرحيل
الخير ..ها هو ذا يوسف يدبر شيئا لخوته ..يريد أن يحتفظ بأخيه الصغير معه.
يعلم أن احتفاظه بأخيه سيثير أحزان أبيه ،وربما حركت الحزان الجديدة أحزانه القديمة ،وربما
ذكره هذا الحادث بفقد يوسف ..يعلم يوسف هذا كله ..وها هو ذا يرى أخاه ..وليس هناك دافع
قاهر لحتفاظه به ،لماذا يفعل ما فعل ويحتفظ بأخيه هكذا!؟
53
يكشف السياق عن السر في ذلك ..إن يوسف يتصرف بوحي من الله ..يريد الله تعالى أن
يصل بابتلئه ليعقوب إلى الذروة ..حتى إذا جاوز به منطقة اللم البشري المحتمل وغير
المحتمل ،ورآه صابرا رد عليه ابنيه معا ،ورد إليه بصره.
أمر يوسف -عليه السلم -رجاله أن يخفوا كأس الملك الذهبية في متاع أخيه خلسة ..وكانت
الكأس تستخدم كمكيال للغلل ..وكانت لها قيمتها كمعيار في الوزن إلى جوار قيمتها كذهب
خالص .أخفى الكأس في متاع أخيه ..وتهيأ إخوة يوسف للرحيل ،ومعهم أخوهم ..ثم أغلقت
أبواب العاصمة) ..ث ُم أ َذ ّن مؤ َذ ّ َ
ن(!!.. م لَ َ
سارُِقو َ ن أي ّت َُها ال ِْعيُر إ ِن ّك ُ ْ
ٌ َ ُ ّ
كانت صرخة الجند تعني وقوف القوافل جميعا ..وانطلق التهام فوق رؤوس الجميع كقضاء
ن(؟
دو َ
ق ُ
ف ِ ما َ
ذا ت َ ْ خفي غامض ..أقبل الناس ،وأقبل معهم إخوة يوسفّ )..
قال إخوة يوسف ببراءة :لم نأت لنفسد في الرض ونسرق! قال الحراس )وكان يوسف قد
وجههم لما يقولونه( :أي جزاء تحبون توقيعه على السارق؟
قال إخوة يوسف :في شريعتنا نعتبر من سرق عبدا لمن سرقه.
قال الحارس :سنطبق عليكم قانونكم الخاص ..لن نطبق عليكم القانون المصري الذي يقضي
بسجن السارق.
كانت هذه الجابة كيدا وتدبيرا من الله تعالى ،ألهم يوسف أن يحدث بها ضباطه ..ولول هذا
التدبير اللهي لمتنع على يوسف أن يأخذ أخاه ..فقد كان دين الملك أو قانونه ل يقضي
باسترقاق من سرق .وبدأ التفتيش.
كان هذا الحوار على منظر ومسمع من يوسف ،فأمر جنوده بالبدء بتفتيش رحال أخوته أول
قبل تفتيش رحل أخيه الصغير .كي ل يثير شبهة في نتيجة التفتيش.
اطمأن إخوة يوسف إلى براءتهم من السرقة وتنفسوا الصعداء ،فلم يبقى إل أخوهم الصغير.
وتم استخراج الكأس من رحله .فأمر يوسف بأخذ أخيه عبدا ،قانونهم الذي طبقه القضاء على
الحادث.
أعقب ذلك مشهد عنيف المشاعر ..إن إحساس الخوة براحة النقاذ والنجاة من التهمة،
من قَب ْ ُ
ل( إنهم ه ِ سَرقَ أ َ ٌ
خ لّ ُ جعلهم يستديرون باللوم على شقيق يوسف )َقاُلوا ْ ِإن ي َ ْ
سرِقْ فَ َ
قد ْ َ
يتنصلون من تهمة السرقة ..ويلقونها على هذا الفرع من أبناء يعقوب.
سمع يوسف بأذنيه اتهامهم له ،وأحس بحزن عميق ..كتم يوسف أحزانه في نفسه ولم يظهر
كانا والل ّ َ َ
ن( .لم يكن هذا سبابا لهم،
فو َ
ص ُ
ما ت َ ِ ه أع ْل َ ْ
م بِ َ م َ ً َ ُ م َ
شّر ّ مشاعره ..قال بينه وبين نفسه)أنت ُ ْ
بقدر ما كان تقريرا حكيما لقاعدة من قواعد المانة .أراد أن يقول بينه وبين نفسه :إنكم بهذا
القذف شر مكانا عند الله من المقذوف ،لنكم تقذفون بريئين بتهمة السرقة ..والله أعلم
بحقيقة ما تقولون.
سقط الصمت بعد تعليق الخوة الخير ..ثم انمحى إحساسهم بالنجاة ،وتذكروا يعقوب ..لقد
أخذ عليهم عهدا غليظا ،أل يفرطوا في ابنه .وبدءوا استرحام يوسف :يوسف أيها العزيز..
خا ك َبيرا فَ ُ َ ه أ ًَبا َ
ن
سِني َ
ح ِ ن ال ْ ُ
م ْ م َ ه إ ِّنا ن ََرا َ
ك ِ م َ
كان َ ُ خذ ْ أ َ
حد ََنا َ ِ ً شي ْ ً ن لَ ُ
يوسف أيها الملك ..إ ِ ّ
قال يوسف بهدوء :كيف تريدون أن نترك من وجدنا كأس الملك عنده ..ونأخذ بدل منه أنسانا
آخر..؟ هذا ظلم ..ونحن ل نظلم.
54
كانت هي الكلمة الخيرة في الموقف .وعرفوا أن ل جدوى بعدها من الرجاء ،فانسحبوا
يفكرون في موقفهم المحرج أمام أبيهم حين يرجعون.
المشهد الخامس:
عقدوا مجلسا يتشاورون فيه .لكن السياق القرآني ل يذكر أقوالهم جميعا .إنما يثبت آخرها
كرهم بالموثق المأخوذ عليهم ،كما الذي يكشف عما انتهوا إليه .ذكر القرآن قول كبيرهم إذ ذ ّ
ذكرهم بتفريطهم في يوسف من قبل .ثم يبين قراره الجازم :أل يبرح مصر ،وأل يواجه أباه ،إل
أن يأذن أبوه ،أو يقضي الله له بحكم ،فيخض له وينصاع .وطلب منهم أن يرجعوا إلى أبيهم
فيخبروه صراحة بأن ابنه سرق ،فَا ُ ِ
خذ َ بما سرق .ذلك ما علموه شهدوا به .أما إن كان بريئا،
وكا هناك أمر وراء هذا الظاهر ل يعلمونه ،فهم غير موكلين بالغيب .وإن كان في شك من
قولهم فليسأل أهل القرية التي كانوا فيها -أي أهل مصر -وليسأل القافلة التي كانوا فيها ،فهم
لم يكونوا وحدهم ،فالقوافل الكثيرة كانت ترد مصر لتأخذ الطعام.
المشهد السادس:
حِكيُم
جِميًعا ِإّنُه ُهَو اْلَعِليُم اْل َ
ل َأن َيْأِتَيِني ِبِهْم َ
سى ا ّ
عَل َ
جِمي ٌ
صْبٌر َ
سُكْم َأْمًرا َف َ
ت َلُكْم َأنُف ُ
سّوَل ْ
ل َ
َب ْ
يعقوب -عليه السلم -يبكي أمام أحد ..كان بكاؤه شكوى إلى ال ل يعلمها إل ال .يعقوب إلى حقيقة بكائه ..إنه يشكو همه
إلى ال ..ويعلم من ال ما ل يعلمون ..فليتركوه في بكائه وليصرفوا همهم لشيء أجدى عليهم )إنه يكشف لهم في عمق
أحزانه عن أمله في روح ال ..إنه يشعر بأن يوسف لم يمت كما أنبئوه ..لم يزل حيا ،فليذهب الخوة بحثا عنه ..وليكن دليلهم
في البحث ،هذا المل العميق في ال.
المشهد السابع:
تحركت القافلة في طريقها إلى مصر ..إخوة يوسف في طريقهم إلى العزيز ..تدهور حالهم
القتصادي وحالهم النفسي ..إن فقرهم وحزن أبيهم ومحاصرة المتاعب لهم ،قد هدت قواهم
تماما ..ها هم أولء يدخلون على يوسف ..معهم بضاعة رديئة ..جاءوا بثمن ل يتيح لهم شراء
شيء ذي بال ..وعندما دخلوا على يوسف -عليه السلم -رجوه أن يتصدق عليهم )انتهى المر
بهم إلى التسول ..إنهم يسألونه أن يتصدق عليهم ..ويستميلون قلبه ،بتذكيره أن الله يجزي
المتصدقين.
عندئذ ..وسط هوانهم وانحدار حالهم ..حدثهم يوسف بلغتهم ،بغير واسطة ول مترجم:
ل أ َن َا ْ
ف َقا َ س ُ
ت ُيو ُ
ن )َ (89قاُلوا ْ أ َإن ّ َ َ
ك َلن َ ِ جاه ُِلو َ م َ
َ ف وَأ َ ِ
خيهِ إ ِذ ْ أنت ُ ْ س َ ما فَعَل ُْتم ب ُِيو ُ مُتم ّ ل ع َل ِ ْ َقا َ
ل هَ ْ
ن )(90 ني س ح مْ ل ا ر ج َ أ ع ضي ي َ ل ه ّ ل ال ن إَ ف ربص يو ق ت ي من ه نإ نا يَ ل ع ه ّ ل ال ن م د َ ق خي ذا أ َ
َ هـ و ف س
ِ
ُ ْ ِ َ ُ ِ ُ ْ َ َ َْ ِّ ُ َ َّ ِ َ ِ ْ ِ ْ ِ ّ َ ُ ْ َ ّ ِ َ َ ُ ُيو ُ
َ َ ه َ ّ َ ُ َ ّ َ َ ّ ْ
َقالوا َتاللهِ ل َ ُ
ه
مرِ ِ ب ع َلى أ ْ غال ِ ٌ ن َوالل ُ خاط ِِئي َ ه ع َلي َْنا وَِإن كّنا ل َ قد ْ آث ََرك الل ُ
مرت السنوات ،وذهب كيدهم له ..ونفذ تدبير الله المحكم الذي يقع بأعجب السباب ..كان
إلقاؤه في البئر هو بداية صعوده إلى السلطة والحكم ..وكان إبعادهم له عن أبيه سببا في
زيادة حب يعقوب له .وها هو ذا يملك رقابهم وحياتهم ،وهم يقفون في موقف استجداء
عطفه ..إنهم يختمون حوارهم معه بقولهم )إن روح الكلمات واعترافهم بالخطأ يشيان بخوف
مبهم غامض يجتاح نفوسهم ..ولعلهم فكروا في انتقامه منهم وارتعدت فرائصهم ..ولعل
يوسف أحس ذلك منهم فطمأنهم بقوله )ل مؤاخذة ،ول لوم ،انتهى المر من نفسي وذابت
جذوره ..لم يقل لهم إنني أسامحكم أو أغفر لكم ،إنما دعا الله أن يغفر لهم ،وهذا يتضمن أنه
عفا عنهم وتجاوز عفوه ،ومضى بعد ذلك خطوات ..دعا الله أن يغفر لهم ..وهو نبي ودعوته
مستجابة ..وذلك تسامح نراه آية اليات في التسامح.
55
ها هو ذا يوسف ينهي حواره معهم بنقلة مفاجئة لبيه ..يعلم أن أباه قد ابيضت عيناه من
الحزن عليه ..يعلم أنه لم يعد يبصر ..لم يدر الحوار حول أبيه لكنه يعلم ..يحس قلبه ..خلع
يوسف قميصه وأعطاه لهم )وعادت القافلة إلى فلسطين.
المشهد الثامن:
ما أنت خرجت القافلة من مصر ،حتى قال يعقوب -عليه السلم -لمن حوله في فلسطين :إني
رف لصدقتم ما أقول .فرد عليه
أشم رائحة يوسف ،لول أنكم تقولون في أنفسكم أنني شيخ خ ِ
من حوله )(.
لكن المفاجأة البعيدة تقع .وصلت القافلة ،وألقى البشير قميض يوسف على وجه يعقوب
-عليهما السلم -فارتد ّ بصره .هنا يذكر يعقوب حقيقة ما يعلمه من ربه )
فاععترف الخوة بخطئهم ،وطلبوا من أباهم الستغفار لهم ،فهو نبي ودعاءه مستجاب .إل أن
يعقوب عليه السلم )ونلمح هنا أن في قلب يعقوب شيئا من بنيه ،وأنه لم يصف لهم بعد ،وإن
كان يعدهم باستغفار الله لهم بعد أن يصفو ويسكن ويستريح.
56
أيوب عليه السلم
نبذة:
من سللة سيدنا إبراهيم كان من النبيين الموحى إليهم ،كان أيوب ذا مال وأولد كثيرين ولكن
الله ابتله في هذا كله فزال عنه ،وابتلي في جسده بأنواع البلء واستمر مرضه 13أو 18عاما
اعتزله فيها الناس إل امرأته صبرت وعملت لكي توفر قوت يومهما حتى عافاه الله من مرضه
وأخلفه في كل ما ابتلي فيه ،ولذلك يضرب المثل بأيوب في صبره وفي بلئه ،روي أن الله
يحتج يوم القيامة بأيوب عليه السلم على أهل البلء.
سيرته:
ضربت المثال في صبر هذا النبي العظيم .فكلما ابتلي إنسانا ابتلء عظيما أوصوه بأن يصبر
كصبر أيوب عليه السلم ..وقد أثنى الله تبارك وتعالى على عبده أيوب في محكم كتابه )إ ِّنا
ب( والوبة هي العودة إلى الله تعالى ..وقد كان أيوب دائم وجدناه صابرا ن ِعم ال ْعبد إن َ
ه أّوا ٌ
َ َ َْ ُ َ ِ ً ْ َ َ ْ ُ ِّ ُ
العودة إلى الله بالذكر والشكر والصبر .وكان صبره سبب نجاته وسر ثناء الله عليه .والقرآن
يسكت عن نوع مرضه فل يحدده ..وقد نسجت الساطير عديدا من الحكايات حول مرضه..
مرض أيوب
كثرت الروايات والساطير التي نسجت حول مرض أيوب ،ودخلت السرائيليات في كثير من
هذه الروايات .ونذكر هنا أشهرها:
أن أيوب عليه السلم كان ذا مال وولد كثير ،ففقد ماله وولده ،وابتلي في جسده ،فلبث في
بلئه ثلث عشرة سنة ,فرفضه القريب والبعيد إل زوجته ورجلين من إخوانه .وكانت زوجته
تخدم الناس بالجر ،لتحضر ليوب الطعام .ثم إن الناس توقفوا عن استخدامها ،لعلمهم أنها
امرأة أيوب ،خوفا ً أن ينالهم من بلئه ،أو تعديهم بمخالطته .فلما لم تجد أحدا ً يستخدمها باعت
لبعض بنات الشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير ،فأتت به أيوب ،فقال :من أين لك
هذا؟ وأنكره ،فقالت :خدمت به أناسًا ،فلما كان الغد لم تجد أحدًا ،فباعت الضفيرة الخرى
بطعام فأتته به فأنكره أيضًا ،وحلف ل يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام؟ فكشفت عن
رأسها خمارها ،فلما رأى رأسها محلوقًا ،قال في دعائه) :رب إني مسني الضر وأنت أرحم
الراحمين( .وحلف أن يضربها مئة سوط إذا شفى.
وقيل أن امرأة أيوب أخبرته أنها لقيت طبيبا في الطريق عرض أن يداوي أيوب إذا رضي أن
يقول أنت شفيتي بعد علجه ،فعرف أيوب أن هذا الطبيب هو إبليس ،فغضب وحلف أن
يضربها مئة ضربة.
أما ما كان من أمر صاحبي أيوب ،فقد كانا يغدوان إليه ويروحان ,فقال أحدهما للخر :لقد
أذنب أيوب ذنبا عظيما وإل لكشف عنه هذا البلء ,فذكره الخر ليوب ,فحزن ودعا الله .ثم
خرج لحاجته وأمسكت امرأته بيده فلما فرغ أبطأت عليه ,فأوحى الله إليه أن اركض برجلك,
فضرب برجله الرض فنبعت عين فاغتسل منها فرجع صحيحا ,فجاءت امرأته فلم تعرفه,
فسألته عن أيوب فقال :إني أنا هو ,وكان له أندران :أحدهما :للقمح والخر :للشعير ,فبعث
الله له سحابة فأفرغت في أندر القمح الذهب حتى فاض ,وفي أندر الشعير الفضة حتى فاض.
57
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله لعيه وسلم قال" :بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه
رجل جراد من ذهب فجعل يحثي في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال
بلى يا رب ولكن ل غنى لي عن بركتك" )رجل جراد أي جماعة جراد(.
فلما عوفي أمره الله أن يأخذ عرجونا فيه مائة شمراخ )عود دقيق( فيضربها ضربة واحدة لكي
ل يحنث في قسمه وبذلك يكون قد بر في قسمه .ثم جزى الله -عز وجل -أيوب -عليه السلم-
على صبره بأن آتاه أهله )فقيل :أحيى الله أبناءه .وقيل :آجره فيمن سلف وعوضه عنهم في
الدنيا بدلهم ،وجمع له شمله بكلهم في الدار الخرة( وذكر بعض العلماء أن الله رد على امرأته
شبابها حتى ولدت له ستة وعشرين ولدا ذكرا.
هذه أشهر رواية عن فتنة أيوب وصبره ..ولم يذكر فيها أي شيء عن تساقط لحمه ،وأنه لم
يبقى منه إل العظم والعصب .فإننا نستبعد أن يكون مرضه منفرا أو مشوها كما تقول أساطير
القدماء ..نستبعد ذلك لتنافيه مع منصب النبوة..
وروى الطبري أن مدة عمره كانت ثلثا وتسعين سنة فعلى هذا فيكون عاش بعد أن عوفي
عشر سنين ,والله أعلم .وأنه أوصى إلى ولده حومل ،وقام بالمر بعده ولده بشر بن أيوب،
وهو الذي يزعم كثير من الناس أنه ذو الكفل فالله أعلم.
نبذة:
58
من النبياء الصالحين ،وكان يصلي كل يوم مائة صلة ،قيل إنه تكفل لبني قومه أن يقضي
بينهم بالعدل ويكفيهم أمرهم ففعل فسمي بذي الكفل.
سيرته:
قال أهل التاريخ ذو الكفل هو ابن أيوب عليه السلم وأسمه في الصل )بشر( وقد بعثه الله
بعد أيوب وسماه ذا الكفل لنه تكفل ببعض الطاعات فوقي بها ،وكان مقامه في الشام وأهل
دمشق يتناقلون أن له قبرا في جبل هناك يشرف على دمشق يسمى قاسيون .إل أن بعض
العلماء يرون أنه ليس بنبي وإنما هو رجل من الصالحين من بني إسرائيل .وقد رجح ابن كثير
نبوته لن الله تعالى قرنه مع النبياء فقال عز وجل:
ن
م َ
مت َِنا إ ِن ُّهم ّ
ح َ
م ِفي َر ْ ن ) (85وَأ َد ْ َ
خل َْناهُ ْ ري َ
صاب ِ ِ
ن ال ّ
م َل ّ ل كُ ّ ذا ال ْك ِ ْ
ف ِ س وَ َ عي َ
ل وَإ ِد ِْري َ ما ِ
س َ
وَإ ِ ْ
ن )) (85النبياء( َ حي
ِ ِ ل صا
ّ ال
قال ابن كثير :فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقرونا مع هؤلء السادة
النبياء أنه نبي عليه من ربه الصلة والسلم وهذا هو المشهور.
والقرآن الكريم لم يزد على ذكر اسمه في عداد النبياء أما دعوته ورسالته والقوم الذين
أرسل إليهم فلم يتعرض لشيء من ذلك ل بالجمال ول بالتفصيل لذلك نمسك عن الخوض في
موضوع دعوته حيث أن كثيرا من المؤرخين لم يوردوا عنه إل الشيء اليسير .ومما ينبغي التنبه
له أن )ذا الكفل( الذي ذكره القرآن هو غير )الكفل( الذي ذكر في الحديث الشريف ونص
الحديث كما رواه المام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال) :كان الكفل من بني
إسرائيل ل يتورع عن ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينار على أن يطأها فلما قعد منها
مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال لها ما يبكيك ؟ أكرهتك ؟ قالت :ل ولكن هذا عمل
لم أعمله قط وإنما حملتني عليه الحاجة ..قال :فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ؟ ثم نزل فقال
أذهبي بالدنانير لك ،ثم قال :والله ل يعصي الله الكفل أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا
على بابه :قد غفر الله للكفل( .رواه الترمذي وقال :حديث حسن وروي موقوفا على ابن عمر
وفي إسناده نظر .فإن كان محفوظا فليس هو ذا الكفل وإنما لفظ الحديث الكفل من غير
إضافة فهو إذا رجل آخر غير المذكور في القرآن.
ويذكر بعض المؤرخين أن ذا الكفل تكفل لبني قومه أن يكفيهم أمرهم ويقضي بينهم بالعدل
فسمي ذا الكفل وذكروا بعض القصص في ذلك ولكنها قصص تحتاج إلى تثبت وإلى تمحيص
وتدقيق.
الرجل الصالح:
أما من يقول أن ذو الكفل لم يكن نبيا وإنما كان رجل صالحا من بني إسرائيل فيروي أنه كان
في عهد نبي الله اليسع عليه السلم .وقد روي أنه لما كبر اليسع قال لو أني استخلفت رجل ً
على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس فقال :من يتقبل لي
بثلث استخلفه :يصوم النهار ،ويقوم الليل ،ول يغضب .فقام رجل تزدريه العين ،فقال :أنا،
فقال :أنت تصوم النهار ،وتقوم الليل ،ول تغضب؟ قال :نعم .لكن اليسع -عليه السلم -رد ّ
الناس ذلك اليوم دون أن يستخلف أحدا .وفي اليوم التالي خرج اليسع -عليه السلم -على
قومه وقال مثل ما قال اليوم الول ،فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال أنا .فاستخلف
اليسع ذلك الرجل.
فجعل إبليس يقول للشياطين :عليكم بفلن ،فأعياهم ذلك .فقال دعوني وإياه فأتاه في صورة
ق
شيخ كبير فقير ،وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ،وكان ل ينام الليل والنهار ،إل تلك الّنومة فد ّ
الباب .فقال ذو الكفل :من هذا؟ قال :شيخ كبير مظلوم .فقام ذو الكفل ففتح الباب .فبدأ
ول في دثه عن خصومة بينه وبين قومه ،وما فعلوه به ،وكيف ظلموه ،وأخذ يط ّ الشيخ يح ّ
59
الحديث حتى حضر موعد مجلس ذو الكفل بين الناس ،وذهبت القائلة .فقال ذو الكفل :إذا
قك.رحت للمجلس فإنني آخذ لك بح ّ
فخرج الشيخ وخرج ذو الكفل لمجلسه دون أن ينام .لكن الشيخ لم يحضر للمجلس .وانفض
المجلس دون أن يحضر الشيخ .وعقد المجلس في اليوم التالي ،لكن الشيخ لم يحضر أيضا.
ولما رجع ذو الكفل لمنزله عند القائلة ليضطجع أتاه الشيخ فدق الباب ،فقال :من هذا؟ فقال
الشيخ الكبير المظلوم .ففتح له فقال :ألم أقل لك إذا قعدت فاتني؟ فقال الشيخ :إنهم اخبث
قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا لي نحن نعطيك حقك ،وإذا قمت جحدوني .فقال ذو الكفل:
انطلق الن فإذا رحت مجلسي فأتني.
ففاتته القائلة ،فراح مجلسه وانتظر الشيخ فل يراه وشق عليه النعاس ،فقال لبعض أهله :ل
ي النوم .فقدم الشيخ ،فمنعوه من ن أحدا ً يقرب هذا الباب حتى أنام ،فإني قد شق عل ّ تدع ّ
الدخول ،فقال :قد أتيته أمس ،فذكرت لذي الكفل أمري ،فقالوا :ل والله لقد أمرنا أن ل ندع
ور الحائط ودخل البيت ودق الباب من الداخل ،فاستيقظ ذو أحدا ً يقربه .فقام الشيخ وتس ّ
الكفل ،وقال لهله :ألم آمركم أل يدخل علي أحد؟ فقالوا :لم ندع أحدا يقترب ،فانظر من أين
دخل .فقام ذو الكفل إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه؟ وإذا الرجل معه في البيت ،فعرفه
ه؟ قال :نعم أعييتني في كل شيء ففعلت كل ما ترى لغضبك. َ
فقال :أع َد ُوّ الل ِ
نبذة:
أرسله الله إلى قوم نينوى فدعاهم إلى عبادة الله وحده ولكنهم أبوا واستكبروا فتركهم
وتوعدهم بالعذاب بعد ثلث ليال فخشوا على أنفسهم فآمنوا فرفع الله عنهم العذاب ،أما
يونس فخرج في سفينة وكانوا على وشك الغرق فاقترعوا لكي يحددوا من سيلقى من الرجال
فوقع ثلثا على يونس فرمى نفسه في البحر فالتقمه الحوت وأوحى الله إليه أن ل يأكله فدعا
يونس ربه أن يخرجه من الظلمات فاستجاب الله له وبعثه إلى مائة ألف أو يزيدون
سيرته:
60
كان يونس بن متى نبيا كريما أرسله الله إلى قومه فراح يعظهم ،وينصحهم ،ويرشدهم إلى
الخير ،ويذكرهم بيوم القيامة ،ويخوفهم من النار ،ويحببهم إلى الجنة ،ويأمرهم بالمعروف،
ويدعوهم إلى عبادة الله وحده .وظل ذو النون -يونس عليه السلم -ينصح قومه فلم يؤمن
منهم أحد.
وجاء يوم عليه فأحس باليأس من قومه ..وامتل قلبه بالغضب عليهم لنهم ل يؤمنون ،وخرج
غاضبا وقرر هجرهم ووعدهم بحلول العذاب بهم بعد ثلثة أيام .ول يذكر القرآن أين كان قوم
يونس .ولكن المفهوم أنهم كانوا في بقعة قريبة من البحر .وقال أهل التفسير :بعث الله
يونس عليه السلم إلى أهل )نينوى( من أرض الموصل .فقاده الغضب إلى شاطىء البحر
حيث ركب سفينة مشحونة .ولم يكن المر اللهي قد صدر له بأن يترك قومه أو ييأس منهم.
فلما خرج من قريته ،وتأكد أهل القرية من نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة
والنابة وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم وصرخوا وتضرعوا إلى الله عز وجل ،وبكى الرجال
والنساء والبنون والبنات والمهات .وكانوا مائة ألف يزيدون ول ينقصون .وقد آمنوا أجمعين.
فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب الذي استحقوه بتكذيبهم.
أمر السفينة:
أما السفينة التي ركبها يونس ،فقد هاج بها البحر ،وارتفع من حولها الموج .وكان هذا علمة
عند القوم بأن من بين الركاب راكبا ً مغضوبا ً عليه لنه ارتكب خطيئة .وأنه ل بد أن يلقى في
الماء لتنجو السفينة من الغرق .فاقترعوا على من يلقونه من السفينة .فخرج سهم يونس
-وكان معروفا ً عندهم بالصلح -فأعادوا القرعة ،فخرج سهمه ثانية ،فأعادواها ثالثة ،ولكن
سهمه خرج بشكل أكيد فألقوه في البحر -أو ألقى هو نفسه .فالتقمه الحوت لنه تخلى عن
المهمة التي أرسله الله بها ,وترك قومه مغاضبا ً قبل أن يأذن الله له .وأحى الله للحوت أن ل
يخدش ليونس لحما ول يكسر له عظما .واختلف المفسرون في مدة بقاء يونس في بطن
الحوت ،فمنهم من قال أن الحوت التقمه عند الضحى ،وأخرجه عند العشاء .ومنهم من قال
انه لبث في بطنه ثلثة أيام ،ومنهم من قال سبعة.
عندما أحس بالضيق في بطن الحوت ،في الظلمات -ظلمة الحوت ،وظلمة البحر ،وظلمة
َ
تُ ُ
كن حان َ َ
ك إ ِّني سب ْ َ ه إ ِّل أن َ
ت ُ الليل -سبح الله واستغفره وذكر أنه كان من الظالمين .وقالّ) :ل إ ِل َ َ
ن( .فسمع الله دعاءه واستجاب له .فلفظه الحوت) .فلول أنه كان من المسبحين مي َ ن ال ّ
ظال ِ ِ م َ
ِ
ً ً
للبث في بطنه إلى يوم يبعثون( .وقد خرج من بطن الحوت سقيما عاريا على الشاطىء.
كم جمة .منها أن ح َ وأنبت الله عليه شجرة القرع .قال بعض العلماء في إنبات القرع عليه ِ
ورقه في غاية النعومة وكثير وظليل ول يقربه ذباب ،ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره نيا ً
ومطبوخًا ،وبقشره وببزره أيضًا .وكان هذا من تدبير الله ولطفه .وفيه نفع كثير وتقوية للدماغ
وغير ذلك .فلما استكمل عافيته رده الله إلى قومه الذين تركهم مغاضبًا.
لقد وردت أحاديث كثيرة عن فضل يونس عليه السلم ،منها قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"ل ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" وقوله عليه الصلة والسلم" :من قال أنا
خير من يونس بن متى فقد كذب".
نريد الن أن ننظر فيما يسميه العلماء ذنب يونس .هل ارتكب يونس ذنبا بالمعنى الحقيقي
للذنب؟ وهل يذنب النبياء .الجواب أن النبياء معصومون ..غير أن هذه العصمة ل تعني أنهم ل
يرتكبون أشياء هي عند الله أمور تستوجب العتاب .المسألة نسبية إذن.
61
يقول العارفون بالله :إن حسنات البرار سيئات المقربين ..وهذا صحيح .فلننظر إلى فرار
يونس من قريته الجاحدة المعاندة .لو صدر هذا التصرف من أي إنسان صالح غير يونس..
لكان ذلك منه حسنة يثاب عليها .فهو قد فر بدينه من قوم مجرمين.
ولكن يونس نبي أرسله الله إليهم ..والمفروض أن يبلغ عن الله ول يعبأ بنهاية التبليغ أو ينتظر
نتائج الدعوة ..ليس عليه إل البلغ.
خروجه من القرية إذن ..في ميزان النبياء ..أمر يستوجب تعليم الله تعالى له وعقابه.
إن الله يلقن يونس درسا في الدعوة إليه ،ليدعو النبي إلى الله فقط .هذه حدود مهمته وليس
عليه أن يتجاوزها ببصره أو قلبه ثم يحزن لن قومه ل يؤمنون.
ولقد خرج يونس بغير إذن فانظر ماذا وقع لقومه .لقد آمنوا به بعد خروجه ..ولو أنه مكث
فيهم لدرك ذلك وعرفه واطمأن قلبه وذهب غضبه ..غير أنه كان متسرعا ..وليس تسرعه هذا
سوى فيض في رغبته أن يؤمن الناس ،وإنما اندفع إلى الخروج كراهية لهم لعدم إيمانهم..
فعاقبه الله وعلمه أن على النبي أن يدعو لله فحسب .والله يهدي من يشاء.
نبذة:
أرسل شعيب إلى قوم مدين وكانوا يعبدون اليكة وكانوا ينقصون المكيال والميزان ول يعطون
الناس حقهم فدعاهم إلى عبادة الله وأن يتعاملوا بالعدل ولكنهم أبوا واستكبروا واستمروا في
عنادهم وتوعدوه بالرجم والطرد وطالبوه بأن ينزل عليهم كسفا من السماء فجاءت الصيحة
وقضت عليهم جميعا.
سيرته:
لقد برز في قصة شعيب أن الدين ليس قضية توحيد وألوهية فقط ،بل إنه كذلك أسلوب لحياة
ن
م ْ ما ل َ ُ
كم ّ دوا ْ الل ّ َ
ه َ الناس ..أرسل الله تعالى شعيبا إلى أهل مدين .فقال شعيب )َيا قَوْم ِ اع ْب ُ ُ
إ َِلـهٍ غ َي ُْره( نفس الدعوة التي يدعوها كل نبي ..ل تختلف من نبي إلى آخر ..ل تتبدل ول تتردد.
هي أساس العقيدة ..وبغير هذه الساس يستحيل أن ينهض بناء.
صوا ْ
ق ُبعد تبيين هذا الساس ..بدأ شعيب في توضيح المور الخرى التي جاءت بها دعوته )وَل َ َتن ُ
ط( بعد قضية التوحيد حي ٍ
م ِ
ب ي َوْم ٍ ّ
ذا َ ف ع َل َي ْك ُ ْ
م عَ َ ي أَ َ
خا ُ خي ْرٍ وَإ ِن ّ َ ي أ ََرا ُ
كم ب ِ َ ن إ ِن ّ َ ل َوال ْ ِ
ميَزا َ ال ْ ِ
مك َْيا َ
مباشرة ..ينتقل النبي إلى قضية المعاملت اليومية ..قضية المانة والعدالة ..كان أهل مدين
ينقصون المكيال والميزان ،ول يعطون الناس حقهم ..وهي رذيلة تمس نظافة القلب واليد..
كما تمس كمال المروءة والشرف ،وكان أهل مدين يعتبرون بخس الناس أشياءهم ..نوعا من
أنواع المهارة في البيع والشراء ..ودهاء في الخذ والعطاء ..ثم جاء نبيهم وأفهمهم أن هذه
دناءة وسرقة ..أفهمهم أنه يخاف عليهم بسببها من عذاب يوم محيط ..انظر إلى تدخل السلم
62
الذي بعث به شعيب في حياة الناس ،إلى الحد الذي يرقب فيه عملية البيع والشراء .قال) :وََيا
ض َ ْ
م وَل َ ت َعْث َوْا ِفي الْر ِ س أَ ْ
شَياءهُ ْ سوا ْ الّنا َ ط وَل َ ت َب ْ َ
خ ُ س ِ ن ِبال ْ ِ
ق ْ ل َوال ْ ِ
ميَزا َ مك َْيا َ َ
قَوْم ِ أوُْفوا ْ ال ْ ِ
ن( لم يزل شعيب ماضيا في دعوته ..ها هو ذا يكرر نصحه لهم بصورة إيجابية بعد دي َس ِم فْ ِ
ُ
صورة النهي السلبية..إنه يوصيهم أن يوفوا المكيال والميزان بالقسط ..بالعدل والحق ..وهو
يحذرهم أن يبخسوا الناس أشيائهم.
بعدها يخلي بينهم وبين الله الذي دعاهم إليه ..ينحي نفسه ويفهمهم أنه ل يملك لهم شيئا..
ما
ليس موكل عليهم ول حفيظا عليهم ول حارسا لهم ..إنما هو رسول يبلغهم رسالت ربه) :وَ َ
ظ( بهذا السلوب يشعر شعيب قومه بأن المر جد ،وخطير ،وثقيل ..إذ بين لهم في ٍ
ح ِ أ َن َا ْ ع َل َي ْ ُ
كم ب ِ َ
عاقبة إفسادهم وتركهم أمام العاقبة وحدهم.
كان هو الذي يتكلم ..وكان قومه يستمعون ..توقف هو عن الكلم وتحدث قومهَ) :قاُلوا ْ َيا
شاء إن ّ َ َ َ ما ي َعْب ُد ُ آَباؤ َُنا أ َوْ َأن ن ّ ْ ك َأن ن ّت ُْر َ شعيب أ َصل َت َ ْ
م ت ال ْ َ
حِلي ُ ك َلن َ ِ ما ن َ َ
وال َِنا َ
م َ
ل ِفي أ ْ فع َ َ ك َ مُر َك ت َأ َُ ُ ُ َْ ُ
شيد ُ( كان أهل مدين كفارا يقطعون السبيل ،ويخيفون المارة ،ويعبدون اليكة ..وهي شجرة الّر ِ
من اليك حولها غيضة ملتفة بها ..وكانوا من أسوأ الناس معاملة ،يبخسون المكيال والميزان
ويطففون فيهما ،ويأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص ..انظر بعد هذا كله إلى حوارهم مع
ك َأن ن ّت ُْر َ شعيب أ َصل َت َ ْ
ما ي َعْب ُد ُ آَباؤ َُنا( ...؟
ك َ مُر َ ك ت َأ ُ َ ُ شعيبَ) :قاُلوا ْ َيا ُ َ ْ ُ
بهذا التهكم الخفيف والسخرية المندهشة ..واستهوال المر ..لقد تجرأت صلة شعيب وجنت
وأمرته أن يأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم ..ولقد كان آباؤهم يعبدون الشجار والنباتات..
وصلة شعيب تأمرهم أن يعبدوا الله وحده ..أي جرأة من شعيب..؟ أو فلنقل أي جرأة من
صلة شعيب..؟ بهذا المنطق الساخر الهازئ وجه قوم شعيب خطابهم إلى نبيهم ..ثم عادوا
شاء( تخيل يا شعيب أن صلتك تتدخل ما ن َ َ َ يتساءلون بدهشة ساخرة) :أ َوْ َأن ن ّ ْ
فع َ َ
وال َِنا َ
م َ
ل ِفي أ ْ
في إرادتنا ،وطريقة تصرفنا في أموالنا ..ما هي علقة اليمان والصلة بالمعاملت المادية؟
بهذا التساؤل الذي ظنه قوم شعيب قمة في الذكاء ..طرحوا أمامه قضية اليمان ،وأنكروا أن
تكون لها علقة بسلوك الناس وتعاملهم واقتصادهم .هذه المحاولة للتفريق بين الحياة
القتصادية والسلم ،وقد بعث به كل النبياء ،وإن اختلفت أسماؤه ..هذه المحاولة قديمة من
عمر قوم شعيب .لقد أنكروا أن يتدخل الدين في حياتهم اليومية ،وسلوكهم واقتصادهم
وطريقة إنفاقهم لموالهم بحرية ..إن حرية إنفاق المال أو إهلكه أو التصرف فيه شيء ل
علقة له بالدين ..هذه حرية النسان الشخصية ..وهذا ماله الخاص ،ما الذي أقحم الدين على
هذا وذاك؟ ..هذا هو فهم قوم شعيب للسلم الذي جاء به شعيب ،وهو ل يختلف كثيرا أو قليل
عن فهم عديد من القوام في زماننا الذي نعيش فيه .ما للسلم وسلوك النسان الشخصي
وحياتهم القتصادية وأسلوب النتاج وطرق التوزيع وتصرف الناس في أموالهم كما يشاءون..؟
ما للسلم وحياتنا اليومية..؟
63
أدرك شعيب أن قومه يسخرون منه لستبعادهم تدخل الدين في الحياة اليومية ..ولذلك تلطف
معهم تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه ،وتجاوز سخريتهم ل يباليها ،ول يتوقف
عندها ،ول يناقشها ..تجاوز السخرية إلى الجد ..أفهمهم أنه على بينة من ربه ..إنه نبي يعلم
وهو ل يريد أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه ،إنه ل ينهاهم عن شيء ليحقق لنفسه نفعا منه ،إنه
ل ينصحهم بالمانة ليخلوا له السوق فيستفيد من التلعب ..إنه ل يفعل شيئا من ذلك ..إنما هو
نبي ..وها هو ذا يلخص لهم كل دعوات النبياء هذا التلخيص المعجز) :إ ُ
ما صل َ َ
ح َ ن أِريد ُ إ ِل ّ ال ِ ْ
ِ ْ
ت( إن ما يريده هو الصلح ..هذه هي دعوات النبياء في مضمونها الحقيقي وعمقها ست َط َعْ ُ
ا ْ
البعيد ..إنهم مصلحون أساسا ،مصلحون للعقول ،والقلوب ،والحياة العامة ،والحياة الخاصة.
بعد أن بين شعيب عليه السلم لقومه أساس دعوته ،وما يجب عليهم اللتزام به ،ورأى منهم
الستكبار ،حاول إيقاض مشاعرهم بتذكيرهم بمصير من قبلهم من المم ،وكيف دمرهم الله
بأمر منه .فذكرهم قوم نوح ،وقوم هود ،وقوم صالح ،وقوم لوط .وأراهم أن سبيل النجاة هو
العودة لله تائبين مستغفرين ،فالمولى غفور رحيم.
نرى أنه عندما أقام شعيب -عليه السلم -الحجة على قومه ،غيروا أسلوبهم ،فتحولوا من
السخرية إلى التهديد .وأظهروا حقيقة كرههم له .لكن شعيب تلطف معهم ..تجاوز عن
ن
كم ّ َ
م طي أ َع َّز ع َل َي ْ ُ َ
ل َيا قَوْم ِ أَرهْ ِ
إساءتهم إليه وسألهم سؤال كان هدفه إيقاظ عقولهمَ) :قا َ
ه( يا لسذاجة هؤلء .إنهم يسيئون تقدير حقيقة القوى التي تتحكم في الوجود ..إن الله هو الل ّ ِ
وحده العزيز ..والمفروض أن يدركوا ذلك ..المفروض أل يقيم النسان وزنا في الوجود لغير
الله ..ول يخشى في الوجود غير الله ..ول يعمل حسابا في الوجود لقوة غير الله ..إن الله هو
القاهر فوق عباده.
ويبدو أن قوم شعيب ضاقوا ذرعا بشعيب .فاجتمع رؤساء قومه .ودخلوا مرحلة جديدة من
التهديد ..هددوه أول بالقتل ،وها هم أولء يهددونه بالطرد من قريتهم ..خيروه بين التشريد،
والعودة إلى ديانتهم وملتهم التي تعبد الشجار والجمادات ..وأفهمهم شعيب أن مسألة عودته
في ملتهم مسألة ل يمكن حتى التفكير بها فكيف بهم يسألونه تنفيذها .لقد نجاه الله من
ملتهم ،فكيف يعود إليها؟ أنه هو الذي يدعوهم إلى ملة التوحيد ..فكيف يدعونه إلى الشرك
والكفر؟ ثم أين تكافؤ الفرص؟ أنه يدعوهم برفق ولين وحب ..وهم يهددونه بالقوة.
واستمر الصراع بين قوم شعيب ونبيهم ..حمل الدعوة ضده الرؤساء والكبراء والحكام ..وبدا
واضحا أن ل أمل فيهم ..لقد أعرضوا عن الله ..أداروا ظهورهم لله .فنفض شعيب يديه منهم.
لقد هجروا الله ،وكذبوا نبيه ،واتهموه بأنه مسحور وكاذب ..فليعمل كل واحد ..ولينتظروا جميعا
أمر الله.
وانتقل الصراع إلى تحد من لون جديد .راحوا يطالبونه بأن يسقط عليهم كسفا من السماء إن
كان من الصادقين ..راحوا يسألونه عن عذاب الله ..أين هو..؟ وكيف هو..؟ ولماذا تأخر..؟
سخروا منه ..وانتظر شعيب أمر الله.
أوحى الله إليه أن يخرج المؤمنين ويخرج معهم من القرية ..وخرج شعيب ..وجاء أمره تعالى:
64
َ
حوا ْ ة فَأ ْ
صب َ ُ ح ُ موا ْ ال ّ
صي ْ َ ن ظ َل َ ُ ذي َ ت ال ّ ِخذ َ ِ مّنا وَأ َ َمةٍ ّ ح َ ه ب َِر ْ مُنوا ْ َ
مع َ ُ نآ َ شعَي ًْبا َوال ّ ِ
ذي َ َ جي َْنا ُ
مُرَنا ن َ ّ
َ
جاء أ ْ ما َوَل َ ّ
َ
مود ُ )) (94هود( ت ثَ ُ ما ب َعِد َ ْ ن كَ َمد ْي َ َدا ل ّ َ
م ي َغْن َوْا ْ ِفيَها أل َ ب ُعْ ًن ) (94ك َأن ل ّ ْ مي َ
جاث ِ ِم َ ِفي د َِيارِه ِ ْ
هي صيحة واحدة ..صوت جاءهم من غمامة أظلتهم ..ولعلهم فرحوا بما تصوروا أنها تحمله من
المطر ..ثم فوجئوا أنهم أمام عذاب عظيم ليوم عظيم ..انتهى المر .أدركتهم صيحة جبارة
جعلت كل واحد فيهم يجثم على وجهه في مكانه الذي كان فيه في داره ..صعقت الصيحة كل
مخلوق حي ..لم يستطع أن يتحرك أو يجري أو يختبئ أو ينقذ نفسه ..جثم في مكانه مصروعا
بصيحة.
نبذة:
أرسل الله رسولين لحدى القرى لكن أهل كذبوهما ،فأرسل الله تعالى رسول ثالثا يصدقهما.
ول يذكر ويذكر لنا القرآن الكريم قصة رجل آمن بهم ودعى قومه لليمان بما جاؤوا بهن لكنهم
قتلوه ،فأدخله الله الجنة.
سيرتهم:
يحكي الحق تبارك وتعالى قصة أنبياء ثلثة بغير أن يذكر أسمائهم .كل ما يذكره السياق أن
القوم كذبوا رسولين فأرسل الله ثالثا يعزرهما .ولم يذكر القرآن من هم أصحاب القرية ول ما
هي القرية .وقد اختلفت فيها الروايات .وعدم إفصاح القرآن عنها دليل على أن تحديد اسمها
أو موضعها ل يزيد شيئا ً في دللة القصة وإيحائها .لكن الناس ظلوا على إنكارهم للرسل
شيٍء إ َ ما َأنَز َ َ
ن(.م إ ِل ّ ت َك ْذ ُِبو َ من َ ْ ِ ْ
ن أنت ُ ْ حمن ِ
ل الّر ْ مث ْل َُنا وَ َ م إ ِل ّ ب َ َ
شٌر ّ وتكذيبهم ،وقالوا )َقاُلوا َ
ما أنت ُ ْ
وهذا العتراض المتكرر على بشرية الرسل تبدو فيه سذاجة التصور والدراك ,كما يبدو فيه
الجهل بوظيفة الرسول .قد كانوا يتوقعون دائما ً أن يكون هناك سر غامض في شخصية
الرسول وحياته تكمن وراءه الوهام والساطير ..أليس رسول السماء إلى الرض فكيف يكون
شخصية مكشوفة بسيطة ل أسرار فيها ول ألغاز حولها ?! شخصية بشرية عادية من
الشخصيات التي تمتلىء بها السواق والبيوت ?!
وهذه هي سذاجة التصور والتفكير .فالسرار واللغاز ليست صفة ملزمة للنبوة والرسالة.
فالرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية .وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك
المنهج اللهي .النموذج الذي يدعو قومه إلى القتداء به .وهم بشر .فل بد أن يكون رسولهم
من البشر ليحقق نموذجا ً من الحياة يملكون هم أن يقلدوه.
وفي ثقة المطمئن إلى صدقه ,العارف بحدود وظيفته أجابهم الرسل :إن الله يعلم ،وهذا
يكفي .وإن وظيفة الرسل البلغ .وقد أدوه .والناس بعد ذلك أحرار فيما يتخذون لنفسهم من
تصرف .وفيما يحملون في تصرفهم من أوزار .والمر بين الرسل وبين الناس هو أمر ذلك
التبليغ عن الله; فمتى تحقق ذلك فالمر كله بعد ذلك إلى الله.
ولكن المكذبين الضالين ل يأخذون المور هذا المأخذ الواضح السهل اليسير; ول يطيقون وجود
الدعاة إلى الهدى ويعمدون إلى السلوب الغليظ العنيف في مقاومة الحجة لن الباطل ضيق
الصدر .قالوا :إننا نتشاءم منكم; ونتوقع الشر في دعوتكم; فإن لم تنتهوا عنها فإننا لن نسكت
َ
م( .هكذا أسفر الباطل ب أِلي ٌ مّنا ع َ َ
ذا ٌ سن ّ ُ
كم ّ م وَل َي َ َ
م ّ من ّك ُ ْ عليكم ,ولن ندعكم في دعوتكم) :ل َن َْر ُ
ج َ
عن غشمه; وأطلق على الهداة تهديده; وبغى في وجه كلمة الحق الهادئة!
م ولكن الواجب الملقى على عاتق الرسل يقضي عليهم بالمضي في الطريقَ) :قاُلوا َ
طائ ُِرك ُ ْ
م( .فالقول بالتشاؤم من دعوة أو من وجه هو خرافة من خرافات الجاهلية .والرسل معَك ُ ْ
َ
يبينون لقومهم أنها خرافة; وأن حظهم ونصيبهم من خير ومن شر ل يأتيهم من خارج نفوسهم.
65
إنما هو معهم .مرتبط بنواياهم وأعمالهم ,متوقف على كسبهم وعملهم .وفي وسعهم أن
يجعلوا حظهم ونصيبهم خيرا ً أو أن يجعلوه شرًا .فإن إرادة الله بالعبد تنفذ من خلل نفسه,
ومن خلل اتجاهه ,ومن خلل عمله .وهو يحمل طائره معه .هذه هي الحقيقة الثابتة القائمة
على أساس صحيح .أما التشاؤم بالمكنة أو التشاؤم بالوجوه أو التشاؤم بالكلمات ،فهو خرافة
ل تستقيم على أصل!
وقالوا لهم) :أَِئن ذ ُك ّرتم( أترجموننا وتعذبوننا لننا نذكركم! أفهذا جزاء التذكير? )ب ْ َ
م قَوْ ٌ
م ل أنت ُ ْ َ ْ ُ
ن( تتجاوزون الحدود في التفكير والتقدير; وتجازون على الموعظة بالتهديد والوعيد; سرُِفو َ
م ْ
ّ
وتردون على الدعوة بالرجم والتعذيب!
ل يقول لنا السياق ماذا كان من أمر هؤلء النبياء ،إنما يذكر ما كان من أمر إنسان آمن بهم.
آمن بهم وحده ..ووقف بإيمانه أقلية ضعيفة ضد أغلبية كافرة .إنسان جاء من أقصى المدينة
يسعى .جاء وقد تفتح قلبه لدعوة الحق ..فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها بعد ما رأى فيها
من دلئل الحق والمنطق .وحينما استشعر قلبه حقيقة اليمان تحركت هذه الحقيقة في
ضميره فلم يطق عليها سكوتًا; ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلل من حوله والجحود
والفجور; ولكنه سعى بالحق الذي آمن به .سعى به إلى قومه وهم يكذبون ويجحدون
ويتوعدون ويهددون .وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق,
وفي كفهم عن البغي ,وفي مقاومة اعتدائهم الثيم الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين.
ويبدو أن الرجل لم يكن ذا جاه ول سلطان .ولم تكن له عشيرة تدافع عنه إن وقع له أذى.
ولكنها العقيدة الحية في ضميره تدفعه وتجيء به من أقصى المدينة إلى أقصاها.
فقال لهم :اتبعوا هؤلء الرسل ،فإن الذي يدعو مثل هذه الدعوة ,وهو ل يطلب أجرًا ,ول يبتغي
مغنمًا .إنه لصادق .وإل فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبي تكليفا ً من الله? ما
الذي يدفعه إلى حمل هم الدعوة? ومجابهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة? والتعرض لذاهم
وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم ,وهو ل يجني من ذلك كسبًا ,ول يطلب منهم أجرًا? وهداهم
واضح في طبيعة دعوتهم .فهم يدعون إلى إله واحد .ويدعون إلى نهج واضح .ويدعون إلى
عقيدة ل خرافة فيها ول غموض .فهم مهتدون إلى نهج سليم ,وإلى طريق مستقيم.
ثم عاد يتحدث إليهم عن نفسه هو وعن أسباب إيمانه ,ويناشد فيهم الفطرة التي استيقظت
فيه فاقتنعت بالبرهان الفطري السليم .فلقد تسائل مع نفسه قبل إئمانه ،لماذا ل أعبد الذي
فطرني؟ والذي إليه المرجع والمصير? وما الذي يحيد بي عن هذا النهج الطبيعي الذي يخطر
على النفس أول ما يخطر? إن الفطر مجذوبة إلى الذي فطرها ,تتجه إليه أول ما تتجه ,فل
تنحرف عنه إل بدافع آخر خارج على فطرتها .والتوجه إلى الخالق هو الولى.
ثم يبين ضلل المنهج المعاكس .مهج من يعبد آلهة غير الرحمن ل تضر ول تنفع .وهل أضل
ممن يدع منطق الفطرة الذي يدعو المخلوق إلى عبادة خالقه ,وينحرف إلى عبادة غير الخالق
بدون ضرورة ول دافع? وهل أضل ممن ينحرف عن الخالق إلى آلهة ضعاف ل يحمونه ول
يدفعون عنه الضر حين يريد به خالقه الضر بسبب انحرافه وضلله?
والن وقد تحدث الرجل بلسان الفطرة الصادقة العارفة الواضحة يقرر قراره الخير في وجه
قومه المكذبين المهددين المتوعدين .لن صوت الفطرة في قلبه أقوى من كل تهديد ومن كل
ن( هكذا ألقى بكلمة اليمان الواثقة المطمئنة .وأشهدهم مُعو ِ
س َ ت ب َِرب ّك ُ ْ
م َفا ْ من ُ
تكذيب) :إ ِّني آ َ
عليها .وهو يوحي إليهم أن يقولوها كما قالها .أو أنه ل يبالي بهم ماذا يقولون!
66
ويوحي سياق القصة بعد ذلك القوم الكافرين قتلوا الرجل المؤمن .وإن كان ل يذكر شيئا ً من
هذا صراحة .إنما يسدل الستار على الدنيا وما فيها ,وعلى القوم وما هم فيه; ويرفعه لنرى هذا
الشهيد الذي جهر بكلمة الحق ,متبعا ً صوت الفطرة ,وقذف بها في وجوه من يملكون التهديد
والتنكيل .نراه في العالم الخر .ونطلع على ما ادخر الله له من كرامة .تليق بمقام المؤمن
ما غ َ َ
فَر ِلي َرّبي ن ..ب ِ َ مي ي َعْل َ ُ
مو َ ل َيا ل َي ْ َ
ت قَوْ ِ ة َقا َ ل ال ْ َ
جن ّ َ خ ِ الشجاع المخلص الشهيدِ) :قي َ
ل اد ْ ُ
ن(.
مي َ ن ال ْ ُ
مك َْر ِ جعَل َِني ِ
م َ وَ َ
وتتصل الحياة الدنيا بالحياة الخرة .ونرى الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء .وخطوة
يخلص بها المؤمن من ضيق الرض إلى سعة الجنة .ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق.
ومن تهديد البغي إلى سلم النعيم .ومن ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين.
ونرى الرجل المؤمن .وقد اطلع على ما آتاه الله في الجنة من المغفرة والكرامة ,يذكر قومه
طيب القلب رضي النفس ,يتمنى لو يراه قومه ويرون ما آتاه ربه من الرضى والكرامة,
ليعرفوا الحق ,معرفة اليقين.
هذا كان جزاء اليمان .فأما الطغيان فكان أهون على الله من أن يرسل عليه الملئكة لتدمره.
َ
ن ِ ..إن ما ك ُّنا ُ
منزِِلي َ ماِء وَ َ
س َ
ن ال ّ
م َ
جند ٍ ّ
ن ُ
م ْ
من ب َعْد ِهِ ِ ما أنَزل َْنا ع ََلى قَوْ ِ
مهِ ِ فهو ضعيف ضعيف) :وَ َ
ً
ن( .ل يطيل هنا في وصف مصرع القوم ,تهوينا لشأنهم, دو َم ُ
خا ِ
م َ حد َة ً فَإ ِذا هُ ْ
َ ة َوا ِ
ح ً ت إ ِل ّ َ
صي ْ َ َ
كان َ ْ
وتصغيرا لقدرهم .فما كانت إل صيحة واحدة أخمدت أنفاسهم .ويسدل الستار على مشهدهم ً
البائس المهين الذليل!
تجاوز السياق أسماء النبياء وقصصهم ليبرز قصة رجل آمن ..لم يذكر لنا السياق اسمه .اسمه
ل يهم ..المهم ما وقع له ..لقد آمن بأنبياء الله ..قيل له ادخل الجنة .ليكن ما كان من أمر
تعذيبه وقتله .ليس هذا في الحساب النهائي شيئا له قيمته .تكمن القيمة في دخوله فور إعلنه
أنه آمن .فور قتله
نبذة:
67
أرسله الله تعالى إلى فرعون وقومه ،وأيده بمعجزتين ،إحداهما هي العصا التي تلقف الثعابين،
أما الخرى فكانت يده التي يدخلها في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء ،دعا موسى إلى
وحدانية الله فحاربه فرعون وجمع له السحرة ليكيدوا له ولكنه هزمهم بإذن الله تعالى ،ثم
أمره الله أن يخرج من مصر مع من اتبعه ،فطارده فرعون بجيش عظيم ،ووقت أن ظن
أتباعه أنهم مدركون أمره الله أن يضرب البحر بعصاه لتكون نجاته وليكون هلك فرعون الذي
جعله الله عبرة للخرين.
أرسل موسى وهارون عليهما السلم لشد الشعوب كرها للحق وابتعادا عنه ..لذلك كانت
حياتهما مليئة بالحداث والمواقف.
ولكي نستطيع عرض هذه القصة بالشكل الصحيح ..تم تقسيمها إلى أربعة أجزاء ،كل جزء
يتناول مرحلة من مراحل حياة هذين النبيين الكريمين.
أجزاء القصة:
الجزء الول :يتناول نشأة موسى عليه السلم ،وخروجه من مصر إلى مدين هاربا من
فرعون وجنوده ،ولقاءه بربه في الوادي المقدس.
سيرته:
أثناء حياة يوسف علي السلم بمصر ،تحولت مصر إلى التوحيد .توحيد الله سبحانه ،وهي
الرسالة التي كان يحملها جميع الرسل إلى أقواهم .لكن بعد وفاته ،عاد أهل مصر إلى ضللهم
ل منهم منوشركهم .أما أبناء يعقوب ،أو أبناء إسرائيل ،فقد اختلطوا بالمجتمع المصري ،فض ّ
ضل ،وبقي على التوحيد من بقي .وتكاثر أبناء إسرائيل وتزايد عددهم ،واشتغلوا في العديد من
الحرف.
ثم حكم مصر ملك جبار كان المصريون يعبدونه .ورأى هذا الملك بني إسرائيل يتكاثرون
ويزيدون ويملكون .وسمعهم يتحدثون عن نبوءة تقول إن واحدا من أبناء إسرائيل سيسقط
فرعون مصر عن عرشه .فأصدر الفرعون أمره أل يلد أحد من بني إسرائيل ،أي أن يقتل أي
وليد ذكر .وبدأ تطبيق النظام ،ثم قال مستشارون فرعون له ،إن الكبار من بني إسرائيل
يموتون بآجالهم ،والصغار يذبحون ،وهذا سينتهي إلى إفناء بني إسرائيل ،فستضعف مصر لقلة
اليدي العاملة بها .والفضل أن تنظم العملية بأن يذبحون الذكور في عام ويتركونهم في العام
الذي يليه.
ووجد الفرعون أن هذا الحل أسلم .وحملت أم موسى بهارون في العام الذي ل يقتل فيه
الغلمان ،فولدته علنية آمنة .فلما جاء العام الذي يقتل فيه الغلمان ولد موسى .حمل ميلده
خوفا عظيما لمه .خافت عليه من القتل .راحت ترضعه في السر .ثم جاءت عليها ليلة مباركة
أوحى الله إليها فيها للم بصنع صندوق صغير لموسى .ثم إرضاعه ووضعه في الصندوق.
وإلقاءه في النهر.
كان قلب الم ،وهو أرحم القلوب في الدنيا ،يمتلئ باللم وهي ترمي ابنها في النيل ،لكنها
كانت تعلم أن الله أرحم بموسى منها ،والله هو ربه ورب النيل .لم يكد الصندوق يلمس مياه
النيل حتى أصدر الخالق أمره إلى المواج أن تكون هادئة حانية وهي تحمل هذا الرضيع الذي
سيكون نبيا فيما بعد ،ومثلما أصدر الله تعالى أمره للنار أن تكون بردا وسلما على إبراهيم،
كذلك أصدر أمره للنيل أن يحمل موسى بهدوء ورفق حتى يسلمه إلى قصر فرعون .وحملت
مياه النيل هذا الصندوق العزيز إلى قصر فرعون .وهناك أسلمه الموج للشاطئ.
68
وفي ذلك الصباح خرجت زوجة فرعون تتمشى في حديقة القصر .وكانت زوجة فرعون تختلف
كثيرا عنه .فقد كان هو كافرا وكانت هي مؤمنة .كان هو قاسيا وكانت هي رحيمة .كان جبارا
وكانت رقيقة وطيبة .وأيضا كانت حزينة ،فلم تكن تلد .وكانت تتمنى أن يكون عندها ولد.
وعندما ذهبت الجواري ليملن الجرار من النهر ،وجدن الصندوق ،فحملنه كما هو إلى زوجة
فرعون .فأمرتهن أن يفتحنه ففتحنه .فرأت موسى بداخله فأحست بحبه في قلبها .فلقد ألقى
الله في قلبها محبته فحملته من الصندوق .فاستيقظ موسى وبدأ يبكي .كان جائعا يحتاج إلى
رضعة الصباح فبكى.
فجاءت زوجة فرعون إليه ،وهي تحمل بين بيدها طفل رضيعا .فسأل من أين جاء هذا الرضيع؟
فحدثوه بأمر الصندوق .فقال بقلب ل يعرف الرحمة :لبد أنه أحد أطفال بني إسرائيل .أليس
المفروض أن يقتل أطفال هذه السنة؟
فذ ّ
كرت آسيا -امرأة فرعون -زوجها بعدم قدرتهم على وطلبت منه أن يسمح لها بتربيته .سمح
لها بذلك.
عاد موسى للبكاء من الجوع .فأمرت بإحضار المراضع .فحضرت مرضعة من القصر وأخذت
موسى لترضعه فرفض أن يرضع منها .فحضرت مرضعة ثانية وثالثة وعاشرة وموسى يبكي ول
يريد أن يرضع .فاحتارت زوجة فرعون ولم تكن تعرف ماذا تفعل.
لم تكن زوجة فرعون هي وحدها الحزينة الباكية بسبب رفع موسى لجميع المراضع .فلقد
كانت أم موسى هي الخرى حزينة باكية .لم تكد ترمي موسى في النيل حتى أحست أنها
ترمي قلبها في النيل .غاب الصندوق في مياه النيل واختفت أخباره .وجاء الصباح على أم
موسى فإذا قلبها فارغ يذوب حزنا على ابنها ،وكادت تذهب إلى قصر فرعون لتبلغهم نبأ ابنها
وليكن ما يكون .لول أن الله تعالى ربط على قلبها ومل بالسلم نفسها فهدأت واستكانت
وتركت أمر ابنها لله .كل ما في المر أنها قالت لخته :اذهبي بهدوء إلى المدينة وحاولي أن
تعرفي ماذا حدث لموسى.
وذهبت أخت موسى بهدوء ورفق إلى جوار قصر فرعون ،فإذا بها تسمع القصة الكاملة .رأت
موسى من بعيد وسمعت بكاءه ،ورأتهم حائرين ل يعرفون كيف يرضعونه ،سمعت أنه يرفض
كل المراضع .وقالت أخت موسى لحرس فرعون :هل أدلكم على أهل بيت يرضعونه ويكفلونه
ويهتمون بأمره ويخدمونه؟
ففرحت زوجة فرعون كثيرا لهذا المر ،وطلبت منها أن تحضر المرضعة .وعادت أخت موسى
وأحضرت أمه .وأرضعته أمه فرضع .وتهللت زوجة فرعون وقالت" :خذيه حتى تنتهي فترة
رضاعته وأعيديه إلينا بعدها ،وسنعطيك أجرا عظيما على تربيتك له" .وهكذا رد الله تعالى
موسى لمه كي تقر عينها ويهدأ قلبها ول تحزن ولتعلم أن وعد الله حق وأن كلماته سبحانه
تنفذ رغم أي شيء .ورغم كل شيء.
أتمت أم موسى رضاعته وأسلمته لبيت فرعون .كان موضع حب الجميع .كان ل يراه أحد إل
أحبه .وها هو ذا في أعظم قصور الدنيا يتربى بحفظ الله وعنايته .بدأت تربية موسى في بيت
فرعون .وكان هذا البيت يضم أعظم المربين والمدرسين في ذلك الوقت .كانت مصر أيامها
أعظم دولة في الرض .وكان فرعون أقوى ملك في الرض ،ومن الطبيعي أن يضم قصره
أعظم المدربين والمثقفين والمربين في الرض .وهكذا شاءت حكمة الله تعالى أن يتربى
موسى أعظم تربية وأن يتعهده أعظم المدرسين ،وأن يتم هذا كله في بيت عدوه الذي
سيصطدم به فيما بعد تنفيذا لمشيئة الخالق.
69
وكبر موسى في بيت فرعون .كان موسى يعلم أنه ليس ابنا لفرعون ،إنما هو واحد من بني
إسرائيل .وكان يرى كيف يضطهد رجال فرعون وأتباعه بني إسرائيل ..وكبر موسى وبلغ
ن أ َهْل َِها( وراح يتمشى فيها .فوجد رجل من اتباع فل َةٍ ّ
م ْ ن غَ ْ
حي ِ ة ع ََلى ِ دين َ َ
م ِل ال ْ َ
خ َأشده) ..وَد َ َ
فرعون وهو يقتتل مع رجل من بني إسرائيل ،واستغاث به الرجل الضعيف فتدخل موسى
وأزاح بيده الرجل الظالم فقتله .كان موسى قويا جدا ،ولم يكن يقصد قتل الظالم ،إنما أراد
ل
م ِ
ن عَ َ
م ْ إزاحته فقط ،لكن ضربته هذه قتلته .ففوجئ موسى به وقد مات وقال لنفسه) :هَ َ
ذا ِ
سي َفاغ ْ ِ
فْر ِلي(. ف ِ
ت نَ ْ ب إ ِّني ظ َل َ ْ
م ُ ن( .ودعا موسى ربهَ) :قا َ
ل َر ّ مِبي ٌ
ل ّ ض ّ م ِ ه ع َد ُوّ ّ
ن إ ِن ّ ُ شي ْ َ
طا ِ ال ّ
م(.
حي ُفوُر الّر ِ ْ
ه هُوَ الغَ ُ وغفر الله تعالى له) ،إ ِن ّ ُ
فا ي َت ََرقّ ُ
ب( .كان هذا حال موسى ،حال إنسان مطارد ،فهو خائف، خائ ِ ً
دين َةِ َ أصبح موسى )ِفي ال ْ َ
م ِ
يتوقع الشر في كل خطوة ،وهو مترقب ،يلتفت لوهى الحركات وأخفاها.
ووعد موسى بأن ل يكون ظهيرا للمجرمين .لن يتدخل في المشاجرات بين المجرمين
والمشاغبين ليدافع عن أحد من قومه .وفوجئ موسى أثناء سيره بنفس الرجل الذي أنقذه
بالمس وهو يناديه ويستصرخه اليوم .كان الرجل مشتبكا في عراك مع أحد المصريين .وأدرك
موسى بأن هذا السرائيلي مشاغب .أدرك أنه من هواة المشاجرات .وصرخ موسى في
ن( .قال موسى كلمته واندفع نحوهما يريد البطش ك ل َغَوِيّ ّ
مِبي ٌ السرائيلي يعنفه قائل) :إ ِن ّ َ
بالمصري .واعتقد السرائيلي أن موسى سيبطش به هو .دفعه الخوف من موسى إلى
كره بالمصري الذي قتله بالمس .فتوقف موسى ،سكت عنه الغضب استرحامه صارخا ،وذ ّ
وتذكر ما فعله بالمس ،وكيف استغفر وتاب ووعد أل يكون نصيرا للمجرمين .استدار موسى
عائدا ومضى وهو يستغفر ربه.
وأدرك المصري الذي كان يتشاجر مع السرائيلي أن موسى هو قاتل المصري الذي عثروا
على جثته أمس .ولم يكن أحد من المصررين يعلم من القاتل .فنشر هذا المصري الخبر في
أرجاء المدينة .وانكشف سر موسى وظهر أمره .وجاء رجل مصري مؤمن من أقصى المدينة
مسرعا .ونصح موسى بالخروج من مصر ،لن المصريين ينوون قلته.
لم يذكر القرآن الكريم اسم الرجل الذي جاء يحذر موسى .ونرجح أنه كان رجل مصريا من
ذوي الهمية ،فقد اطلع على مؤامرة تحاك لموسى من مستويات عليا ،ولو كان شخصية عادية
لما عرف .يعرف الرجل أن موسى لم يكن يستحق القتل على ذنبه بالمس ..لقد قتل الرجل
خطأ .فيجب أن تكون عقوبته السجن على أقصى تقدير.
لكن رؤساء القوم وعليتهم ،الذين يبدوا أنهم كانوا يكرهون موسى لنه من بني إسرائيل ،ولنه
نجى من العام الذي يقتل فيه كل مولود ذكر ،وجدوا هذه الفرصة مناسبة للتخلص من موسى،
فهو قاتل المصري ،لذا فهو يستحق القتل.
جِني
ب نَ ّ
خرج موسى من مصر على الفور .خائفا يتلفت ويتسمع ويترقب .في قلبه دعاء لله )َر ّ
ن( .وكان القوم ظالمين حقا .أل يريدون تطبيق عقوبة القتل العمد عليه، مي َ قوْم ِ ال ّ
ظال ِ ِ ن ال ْ َ
م َ
ِ
وهو لم يفعل شيئا أكثر من أنه مد يده وأزاح رجل فقتله خطأ؟
خرج موسى من مصر على عجل .لم يذهب إلى قصر فرعون ولم يغير ملبسه ولم يأخذ
طعاما للطريق ولم يعد للسفر عدته .لم يكن معه دابة تحمله على ظهرها وتوصله .ولم يكن
في قافلة .إنما خرج بمجرد أن جاءه الرجل المؤمن وحذره من فرعون ونصحه أن يخرج .اختار
طريقا غير مطروق وسلكه .دخل في الصحراء مباشرة واتجه إلى حيث قدرت له العناية
اللهية أن يتجه .لم يكن موسى يسير قاصدا مكانا معينا .هذه أول مرة يخرج فيها ويعبر
الصحراء وحده.
موسى في مدين:
70
ظل يسير بنفسية المطارد حتى وصل إلى مكان .كان هذا المكان هو مدين .جلس يرتاح عند
بئر عظيمة يسقي الناس منها دوابهم .وكان خائفا طوال الوقت أن يرسل فرعون من وراءه
من يقبض عليه.
لم يكد موسى يصل إلى مدين حتى ألقى بنفسه تحت شجرة واستراح .نال منه الجوع والتعب،
وسقطت نعله بعد أن ذابت من مشقة السير على الرمال والصخور والتراب .لم تكن معه نقود
لشراء نعل جديدة .ولم تكن معه نقود لشراء طعام أو شراب .لحظ موسى جماعة من الرعاة
يسقون غنمهم ،ووجد امرأتين تكفان غنمهما أن يختلطا بغنم القوم ،أحس موسى بما يشبه
اللهام أن الفتاتين في حاجة إلى المساعدة .تقدم منهما وسأل هل يستطيع أن يساعدهما في
شيء.
سار موسى نحو الماء .وسقى لهم الغنم مع بقية الرعاة .وفي رواية أن أن الرعاة قد وضعوا
على فم البئر بعد أن انتهوا منها صخرة ضخمة ل يستطيع أن يحركها غير عدد من الرجال.
فرفع موسى الصخرة وحده .وسقى لهما الغنم وأعاد الصخرة إلى مكانها ،وتركهما وعاد
َ
ر
خي ْ ٍ
ن َ
م ْ
ي ِت إ ِل َ ّ
ما أنَزل ْ َ
ب إ ِّني ل ِ َ
يجلس تحت ظل الشجرة .وتذكر لحظتها الله وناداه في قلبهَ) :ر ّ
فَ ِ
قيٌر(.
ذهبت واحدة من الفتاتين إلى موسى ،ووقفت أمامه وأبلغته رسالة أبيها .فنهض موسى وبصره
في الرض .إنه لم يسق لهما الغنم ليأخذ منهن أجرا ،وإنما ساعدهما لوجه الله ،غير أنه أحس
في داخله أن الله هو الذي يوجه قدميه فنهض .سارت البنت أمامه .هبت الرياح فضربت ثوبها
فخفض موسى بصره حياء وقال لها :سأسير أنا أمامك ونبهيني أنت إلى الطريق.
وصل إلى الشيخ .قال بعض المفسرين إن هذا الشيخ هو النبي شعيب .عمر طويل بعد موت
قومه .وقيل إنه ابن أخي شعيب .وقيل ابن عمه ،وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب الذين آمنوا
به .ل نعرف أكثر من كونه شيخا صالحا.
قدم له الشيخ الطعام وسأله :من أين قدم وإلى أين سيذهب؟ حدثه موسى عن قصته .قال
ن( .هذه البلد ل تتبع مصر ،ولن يصلوا إليك هنا.
مي َ قوْم ِ ال ّ
ظال ِ ِ ن ال ْ َ
م َ
ت ِ
جو ْ َ
ف نَ َ الشيخَ) :ل ت َ َ
خ ْ
اطمأن موسى ونهض لينصرف.
ْ ْ َ
ن(. قوِيّ اْل َ ِ
مي ُ ت ال ْ َ
جْر َ
ست َأ َ
نا ْ
م ِ
خي َْر َ
ن َ
جْره ُ إ ِ ّ
ست َأ ِ
تا ْ
قالت ابنة الشيخ لبيها همساَ) :يا أب َ ِ
سألها الب :كيف عرفت أنه قوي؟
قالت :رفع وحده صخرة ل يرفعها غير عدد رجال.
سألها :وكيف عرفت أنه أمين؟
71
قالت :رفض أن يسير خلفي وسار أمامي حتى ل ينظر إلي وأنا أمشي .وطوال الوقت الذي
كنت أكلمه فيه كان يضع عينيه في الرض حياء وأدبا.
وعاد الشيخ لموسى وقال له :أريد يا موسى أن أزوجك إحدى ابنتي على أن تعمل في رعي
جد ُِني
ست َ ِ
الغنم عندي ثماني سنوات ،فإن أتممت عشر سنوات ،فمن كرمك ،ل أريد أن أتعبكَ ) ،
ن( .قال موسى :هذا اتفاق بيني وبينك .والله شاهد على اتفاقنا .سواء حي َ
صال ِ ِ
ن ال ّ
م َ شاء الل ّ ُ
ه ِ ِإن َ
قضيت السنوات الثمانية ،أو العشر سنوات فأنا حر بعدها في الذهاب.
يخوض الكثيرون في تيه من القاصيص والروايات ،حول أي ابنتي الشيخ تزوج ،وأي المدتين
قضى .والثابت أن موسى تزوج إحدى ابنتي الشيخ .ل نعرف من كانت ،ول ماذا كان اسمها.
وهذه المور سكت عنها السياق القرآني .إل أنه استنادا إلى طبيعة موسى وكرمه ونبوته وكونه
من أولي العزم .نرى أنه قضى الجل الكبر .وهذا ما يؤكده حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وهكذا عاش موسى يخدم الشيخ عشر سنوات كاملة.
وكان عمل موسى ينحصر في الخروج مع الفجر كل يوم لرعي الغنام والسقاية لها.
ولنقف هنا وقفة تدبر .إن قدرة اللهية نقلت خطى موسى -عليه السلم -خطوة بخطوة .منذ
أن كان رضيعا في المهد حتى هذه اللحظة .ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون .وألقت عليه
محبة زوجة فرعون لينشأ في كنف عدّوه .ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل
نفسا .وأرسلت إليه بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج من مصر.
وصاحبته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وهو وحيد مطارد من غير زاد ول
استعداد .وجمعته بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر .ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف.
هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه ،قبل النداء والتكليف .تجربة الرعاية والحب والتدليل.
تجربة الندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس ،وتجربة الندم والستغفار .وتجربة الخوف
والمطاردة .وتجربة الغربة والوحدة والجوع .وتجربة الخدمة ورغي الغنم بعد حياة القصور .وما
يتخلل هذه التجارب الضخمة من تجارب صغيرة ،ومشاعر وخواطر ،وإدراك ومعرفة .إلى
جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة.
إن الرسالة تكليف ضخم شاق ،يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والدراك والمعرفة،
إلى جانب وحي الله وتوجيهه .ورسالة موسى تكليف عظيم ،فهو مرسل إلى فرعون الطاغية
المتجبر ،أعتى ملوك الرض في زمانه ،وأشدهم استعلء في الرض .وهو مرسل لستنقاذ قوم
قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه .فاستنقاذ قوم كهؤلء عمل شاق عسير.
فتجربة السنوات العشر جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موسى -عليه السلم-
وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة .فلحياة القصور جوا وتقاليد خاصة .أما
الرسالة فهي معاناة لجماهير من الناس فيهم الغني والفقير ،المهذب والخشن ،القوي
والضعيف ،وفيهم وفيهم .وللرسالة تكاليفها من المشقة ومن التجرد أحيانا ،وقلوب أهل
القصور في الغالب ل تصبر طويل على الخشونة والحرمان والمشقة.
فلما استكملت نفس موسى -عليه السلم -تجاربها ،وأكملت مرانها ،بهذه التجربة الخيرة في
دار الغرة .قادت القدرة اللهية خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه ،ومقر أهله وقومه،
صن ِعَ موسى على عين الله ،وكيف تم إعداده لتلقي التكليف.
ومجال عمله .وهكذا نرى كيف ُ
72
ترى أي خاطر راود موسى ،فعاد به إلى مصر ،بعد انقضاء الجل ،وقد خرج منها خائفا يترقب؟
وأنساه الخطر الذي ينتظره بها ،وقد قتل فيها نفسا؟ وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع المل
من قومه ليقتلوه؟
إنها قدرة الله التي تنقل خطاه كلها .لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الهل
والعشيرة والوطن .وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا .ليؤدي المهمة التي خلق
لها.
خرج موسى مع أهله وسار .اختفى القمر وراء أسراب من السحاب الكثيف وساد الظلم.
اشتد البرق والرعد وأمطرت السماء وزادت حدة البرد والظلم .وتاه موسى أثناء سيره.
ووقف موسى حائرا يرتعش من البرد وسط أهله ..ثم رفع رأسه فشاهد نارا عظيمة تشتعل
عن بعد .امتل قلبه بالفرح فجأة .قال لهله :أني رأيت نارا هناك.
أمرهم أن يجلسوا مكانهم حتى يذهب إلى النار لعله يأتيهم منها بخبر ،أو يجد أحدا يسأله عن
الطريق فيهتدي إليه ،أو يحضر إليهم بعض أخشابها المشتعلة لتدفئتهم.
وتحرك موسى نحو النار .سار موسى مسرعا ليدفئ نفسه .يده اليمنى تمسك عصاه .جسده
مبلل من المطر .ظل يسير حتى وصل إلى واد يسمونه طوى .لحظ شيئا غريبا في هذا
الوادي .لم يكن هناك برد ول رياح .ثمة صمت عظيم ساكن .واقترب موسى من النار .لم يكد
ن(. ب ال َْعال َ ِ
مي َ ن الل ّهِ َر ّ
حا َ حوْل ََها وَ ُ
سب ْ َ ن َ
م ْ
من ِفي الّنارِ وَ َ يقترب منها حتى نوديَ) :أن ُبورِ َ
ك َ
نظر موسى في النار فوجد شجرة خضراء .كلما زاد تأجج النار زادت خضرة الشجرة.
والمفروض أن تتحول الشجرة إلى اللون السود وهي تحترق .لكن النار تزيد واللون الخضر
يزيد .كانت الشجرة في جبل غربي عن يمينه ،وكان الوادي الذي يقف فيه هو وادي طوى.
سى
مو َ
ثم ارتجت الرض بالخشوع والرهبة والله عز وجل يناديَ :يا ُ
س طُ ً
وى قد ّ ِ واد ِ ال ْ ُ
م َ ك ِبال ْ َ خل َعْ ن َعْل َي ْ َ
ك إ ِن ّ َ قال الله عز وجلَ :فا ْ
ه إ ِّل أ ََنا
ه َل إ ِل َ َ
َ
حى ) (13إ ِن ِّني أَنا الل ّ ُ ما ُيو َ مع ْ ل ِ َست َ ِ ك َفا ْ عاد الحق سبحانه وتعالى يقول :وَأ ََنا ا ْ
خت َْرت ُ َ
سَعى ) ما ت َ ْ س بِ َ ف ٍ جَزى ك ُ ّ
ل نَ ْ فيَها ل ِت ُ ْ كاد ُ أ ُ ْ
خ ِ ة أَ َ ة آت ِي َ ٌ
ساع َ َن ال ّ ري ) (14إ ِ ّ صَلة َ ل ِذ ِك ْ ِ
َ
َفاع ْب ُد ِْني وَأقِم ِ ال ّ
دى )) (16طه( واه ُ فَت َْر َ ن ب َِها َوات ّب َعَ هَ َ ن َل ي ُؤ ْ ِ
م ُ م ْ صد ّن ّ َ
ك ع َن َْها َ (15فََل ي َ ُ
زاد انتفاض جسد موسى وهو يتلقى الوحي اللهي ويستمع إلى ربه وهو يخاطبه.
سى
مو َ مين ِ َ
ك َيا ُ ما ت ِل ْ َ
ك ب ِي َ ِ قال الرحمن الرحيم :وَ َ
ازدادت دهشة موسى .إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يخاطبه ،والله يعرف أكثر منه أنه
يمسك عصاه .لماذا يسأله الله إذن إذا كان يعرف أكثر منه؟! ل شك أن هناك حكمة عليا
لذلك.
ُ
ب أُ ْ
خَرى مآرِ ُ
ي ِفيَها َ ش ب َِها ع ََلى غ َن َ ِ
مي وَل ِ َ
َ َ
صايَ أت َوَك ّأ ع َل َي َْها وَأهُ ّ
ي عَ َ أجاب موسىَ :قا َ
ل هِ َ
73
َ
سى
مو َ قال الله عز وجل :أل ْ ِ
قَها َيا ُ
رمى موسى العصا من يده وقد زادت دهشته .وفوجئ بأن العصا تتحول فجأة إلى ثعبان عظيم
الحجم هائل الجسم .وراح الثعبان يتحرك بسرعة .ولم يستطع موسى أن يقاوم خوفه .أحس
أن بدنه يتزلزل من الخوف .فاستدار موسى فزعا وبدأ يجري .لم يكد يجري خطوتين حتى
سُلو َ
ن. ف ل َد َيّ ال ْ ُ
مْر َ ف إ ِّني َل ي َ َ
خا ُ سى َل ت َ َ
خ ْ مو َ
ناداه اللهَ :يا ُ
عاد موسى يستدير ويقف .لم تزل العصا تتحرك .لم تزل الحية تتحرك.
سيرت َها ا ْ ُ
لوَلى ها وََل ت َ َ
خذ ْ َ
ها ِ َ َسن ُِعيد ُ َ
ف َ
خ ْ قال الله سبحانه وتعالى لموسىُ :
مد موسى يده للحية وهو يرتعش .لم يكد يلمسها حتى تحولت في يده إلى عصا .عاد المر
ن
م َ ح َ
ك ِ جَنا َ م إ ِل َي ْ َ
ك َ م ْ
ض ُ ن غ َي ْرِ ُ
سوٍء َوا ْ م ْ
ضاء ِ
ج ب َي ْ َ
خُر ْ جي ْب ِ َ
ك تَ ْ ك ِفي َ سل ُ ْ
ك ي َد َ َ اللهي يصدر له :ا ْ
بالّرهْ ِ
وضع موسى يده في جيبه وأخرجها فإذا هي تتلل كالقمر .زاد انفعال موسى بما يحدث ،وضع
يده على قلبه كما أمره الله فذهب خوفه تماما..
اطمأن موسى وسكت .وأصدر الله إليه أمرا بعد هاتين المعجزتين -معجزة العصا ومعجزة
اليد -أن يذهب إلى فرعون ليدعوه إلى الله برفق ولين ،ويأمره أن يخرج بني إسرائيل من
مصر .وأبدى موسى خوفه من فرعون .قال إنه قتل منهم نفسا ويخاف أن يقتلوه .توسل إلى
الله أن يرسل معه أخاه هارون .طمأن الله موسى أنه سيكون معهما يسمع ويرى ،وأن
فرعون رغم قسوته وتجبره لن يمسهما بسوء .أفهم الله موسى أنه هو الغالب .ودعا موسى
وابتهل إلى الله أن يشرح له صدره وييسر أمره ويمنحه القدرة على الدعوة إليه .ثم قفل
موسى راجعا لهله بعد اصطفاء الله واختياره رسول إلى فرعون .انحدر موسى بأهله قاصدا
مصر.
يعلم الله وحده أي أفكار عبرت ذهن موسى وهو يحث خطاه قاصدا مصر .انتهى زمان التأمل،
وانطوت أيام الراحة ،وجاءت الوقات الصعبة أخيرا ،وها هو ذا موسى يحمل أمانة الحق
ويمضي ليواجه بها بطش أعظم جبابرة عصره وأعتاهم .يعلم موسى أن فرعون مصر طاغية.
يعلم أنه لن يسلمه بني إسرائيل بغير صراع .يعلم أنه سيقف من دعوته موقف النكار
والكبرياء والتجاهل .لقد أمره الله تعالى أن يذهب إلى فرعون .أن يدعوه بلين ورفق إلى الله.
أوحى الله لموسى أن فرعون لن يؤمن .ليدعه موسى وشأنه .وليركز على إطلق سراح بني
قوَل إنا رسوَل رب َ َ
إسرائيل والكف عن تعذيبهم .قال تعالى لموسى وهارون) :فَأ ْت َِياه ُ فَ ُ
سلْك فَأْر ِ َ ّ ِّ َ ُ
م( .هذه هي المهمة المحددة .وهي مهمة سوف تصطدم بآلف ل وََل ت ُعَذ ّب ْهُ ْ
سَراِئي َ
معََنا ب َِني إ ِ ْ
َ
العقبات .إن فرعون يعذب بني إسرائيل ويستعبدهم ويكلفهم من العمال ما ل طاقة لهم به،
ويستحيي نسائهم ،ويذبح أبنائهم ،ويتصرف فيهم كما لو كانوا ملكا خاصا ورثه مع ملك مصر.
يعلم موسى أن النظام المصري يقوم في بنيانه الساسي على استعباد بني إسرائيل واستغلل
عملهم وجهدهم وطاقاتهم في الدولة ،فهل يفرط الفرعون في بناء الدولة الساسي ببساطة
ويسر؟ ذهبت الفكار وجاءت ،فاختصرت مشقة الطريق .ورفع الستار عن مشهد المواجهة.
الجزء الثاني :يتناول عودة موسى عليه السلم لمصر داعيا إلى الله وحده ،والصراع بين
موسى وفرعون في مصر ،وغرق فرعون وجنوده.
مواجهة فرعون:
واجه موسى فرعون بلين ورفق كما أمره الله .وحدثه عن الله .عن رحمته وجنته .عن وجوب
توحيده وعبادته .حاول إيقاظ جوانبه النسانية في الحديث .ألمح إليه أنه يملك مصر ،ويستطيع
لو أراد أن يملك الجنة .وكل ما عليه هو أن يتقي الله .استمع فرعون إلى حديث موسى ضجرا
74
شبه هازئ وقد تصوره مجنونا تجرأ على مقامه السامي .ثم سأل فرعون موسى ماذا يريد.
فأجاب موسى أنه يريد أن يرسل معه بني إسرائيل.
ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجهه بهذه الدعوى العظيمة ،ويطلب إليه ذلك الطلب
الكبير .فآخر عهد فرعون بموسى أنهم ربوه في قصره بعد أن التقطوا تابوته .وأنه هرب بعد
قتله للقبطي الذي وجده يتعارك مع السرائيلي .فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون
بموسى إذن وهذه الدعوى العظيمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين! ومن ثم بدأ فرعون
يذكره بماضيه .يذكره بتربيته له فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا وأنت وليد؟
لتأتي الن لتخالف ديانتنا ،وتخرج على الملك الذي تربيت في قصره ،وتدعوا إلى إله غيره؟!
ويذكره بحادث مقتل القبطي في تهويل وتجسيم .فل يتحدث عنها بصريح العبارة وإنما يقول
ن ال ْ َ َ
ن( برب العالمين الذيري َ
كافِ ِ م َ
ت ِ ك ال ِّتي فَعَل ْ َ
ت( فعلتك البشعة الشنيعة )وَأن َ ت فَعْل َت َ َ
)وَفَعَل ْ َ
تقول به اليوم ،فأنت لم تكن وقتها تتحدث عن رب العالمين! لم تتحدث بشيء عن هذه
الدعوى التي تدعيها اليوم؛ ولم تخطرنا بمقدمات هذا المر العظيم؟!
وظن فرعون أنه رد على موسى ردا لن يملك معه جوابا .إل أن الله استجاب لدعاء موسى
ل فَعل ْتها إ ً َ
ن( فعلت تلك الفعلة وأنا بعد جاهل،ضاّلي َ
ن ال ّ
م َ
ذا وَأَنا ِمن قبل ،فانطلق لسانهَ) :قا َ َ ُ َ ِ
أندفع اندفاع العصبية لقومي ،ل اندفاع العقيدة التي عرفتها اليوم بما أعطاني ربي من الحكة.
ن جعَل َِني ِ
م َ م( على نفسي .فقسم الله لي الخير فوهب لي الحكمة )وَ َ فت ُك ُ ْ
خ ْ م لَ ّ
ما ِ منك ُ ْ
ت ِ)فَفََرْر ُ
ن(.
سِلي َ ال ْ ُ
مْر َ
سَراِئي َ
ل( ة تمنها ع َل َ َ ويكمل موسى خطابه لفرعون بنفس القوة) :وَت ِل ْ َ
ت ب َِني إ ِ ْ
ن ع َّبد ّ
يأ ّْ م ٌ َ ُ َّ
ك ن ِعْ َ
فما كانت تربيتي في بيتك وليدا إل من جراء استعبادك لبني إسرائيل ،وقتل أبنائهم ،مما دفع
ي .فهل أمي لوضعي في التابوت وإلقاءه في اليم ،فتلتقطه فأتربى في بيتك ،ل في بيت أبو ّ
هذا هو ما تمنه علي ،وهل هذا هو فضلك العظيم؟!
ن
مي َ ب ال َْعال َ ِ ما َر ّ ن وَ َ ل فِْرع َوْ ُ عند هذا الحد تدخل الفرعون في الحديثَ ..قا َ
ن
موقِِني َ ُ
ما إن كنُتم ّ ما ب َي ْن َهُ َض وَ َ
ِ ت َواْل َْر
ماَوا ِ
س َ
ب ال ّ
قال موسىَ :ر ّ
َ
نمُعو َ ست َ ِالتفت فرعون لمن حوله وقال هازئا :أَل ت َ ْ
َ
م اْلوِّلي َ
ن ب آَبائ ِك ُ ُ م وََر ّ قال موسى متجاوزا سخرية الفرعونَ :رب ّك ُ ْ
َ ُ ّ َ
ل إ ِلي ْك ُ ْ
م س َ ذي أْر ِ م ال ِ سولك ُ ُ ن َر ُ قال فرعون مخاطبا من جاءوا مع موسى من بني إسرائيل :إ ِ ّ
ن
جُنو ٌ
م ْلَ َ
م ما ِإن ُ
كنت ُ ْ ما ب َي ْن َهُ َب وَ َمغْرِ ِ ْ
ق َوال َ شرِ ِ م ْ ْ
ب ال َ عاد موسى يتجاوز اتهام الفرعون وسخريته ويكملَ :ر ّ
قُلو َ
ن ت َعْ ِ
نلحظ أن فرعون لم يكن يسأل موسى عن رب العالمين أو رب موسى وهارون بقصد السؤال
ذيل َرب َّنا ال ّ ِ
البريء والمعرفة .إنما كان يهزأ .ولقد أجابه موسى إجابة جامعة مانعة محكمة )َقا َ
دى( .هو الخالق .خالق الجناس جميعا والذوات جميعا .وهو هاديها ه ثُ ّ
م هَ َ خل ْ َ
ق ُ يٍء َ
ش ْ أ َع ْ َ
طى ك ُ ّ
ل َ
بما ركب في فطرتها وجبلتها من خواص تهديها لسباب عيشها .وهو الموجه لها على أي حال.
وهو القابض على ناصيتها في كل حال .وهو العليم بها والشاهد عليها في جميع الحوال.
قرون ا ْ ُ
لوَلى( ل ال ْ ُ ُ ِ لم تؤثر هذه العبارة الرائعة والموجزة في فرعون .وها هو ذا يسأل) :فَ َ
ما َبا ُ
لم تعبد ربك هذا؟
لم يزل فرعون ماضيا في استكباره واستهزائه .ويرد موسى ردا يستلفته إلى أن القرون
الولى التي لم تعبد الله ،والتي عبدته معا ،لن تترك بغير مساءلة وجزاء .كل شيء معلوم عند
ب( .أحصى الله ما عملوه في كتابّ) .ل عند َ َرّبي ِفي ك َِتا ٍ عل ْ ُ
مَها ِ الله تعالى .هذه القرون الولى ) ِ
سى( .أي ل يغيب عن شيء .ليطمئن الفرعون بال َ
ل َرّبي( .أي ل يغيب عنه شيء) .وَل َين َ ض ّ
يَ ِ
من ناحية القرون الولى والخيرة وما بينهما .إن الله يعرف كل شيء ويسجل عليها ما عملته
ول يضيع شيئا من أجورهم.
75
ثم استلفت موسى نظر فرعون إلى آيات الله في الكون .ودار به مع حركة الرياح والمطر
والنبات وأوصله مرة ثانية إلى الرض ،وهناك افهمه أن الله خلق النسان من الرض ،وسيعيده
إليها بالموت ،ويخرجه منها بالبعث ،إن هناك بعثا إذن .وسيقف كل إنسان يوم القيامة أمام الله
تعالى .ل استثناء لحد .سيقف كل عباد الله وخلقه أمامه يوم القيامة .بما في ذلك الفرعون.
بهذا جاء موسى مبشرا ومنذرا.
لم يعجب فرعون هذا النذير ،وتصاعد الحوار بينه وبين موسى .فالطغيان ل يخشى شيئا
كخشيته يقظة الشعوب ،وصحوة القلوب؛ ول يكره أحدا كما يكره الداعين إلى الوعي
واليقظة؛ ول ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية .لذلك هاج فرعون على
موسى وثار ،وأنهى الحوار معه بالتهديد الصريح .وهذا هو سلح الطغاة عندما يفتقرون للحج
ن(.
جوِني َ
س ُ ن ال ْ َ
م ْ م َ
ك ِ ري َل َ ْ
جعَل َن ّ َ ت إ ِل ًَها غ َي ْ ِ
خذ ْ َ ل ل َئ ِ ِ
ن ات ّ َ والبراهين والمنطقَ) :قا َ
إل أن موسى -عليه السلم -لم يفقد رباطة جأشه .كيف يفقدها وهو رسول الله ،والله معه
ومع أخيه؟ وبدأ القناع بأسلوب جديد ،وهو إظهار المعجزة )َقا َ َ
ن( فهو
مِبي ٍ
يٍء ّ
ش ْ ل أوَل َوْ ِ
جئ ْت ُ َ
ك بِ َ
يتحدى فرعون ،ويحرجه أمام مله ،فلو رفض فرعون الصغاء ،سيظهر واضحا أنه خائف من
ت ب ِهِ ِإن ُ حجة موسى )َقا َ ْ
ن(.
صاد ِِقي َ
ن ال ّ
م َ
ت ِ
كن َ ل فَأ ِ
ألقى موسى عصاه في ردهة القصر العظيمة .لم تكد العصا تلمس الرض حتى تحولت إلى
ثعبان هائل يتحرك بسرعة .ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها فإذا هي بيضاء كالقمر.
تحدي السحرة:
وتبدأ الجولة الثانية بين الحق والباطل .حيث شاور فرعون المل من حوله فيما يجب فعله.
والمل لهم مصلحة في أن تبقى المور على ما هي عليه ،فهم مقربون من فرعون ،ولهم نفوذ
وسلطان .فأشاروا أن يرد على سحر موسى بسحر مثله ،فيجمع السحرة لتحدي موسى
وأخاه.
حدد الميقات ،وهو يوم الزينة .وبدأت حركة إعداد الجماهير وتحميسهم فدعوهم للتجمع وعدم
التخلف عن الموعد ،ليراقبوا فوز السحرة وغلبتهم على موسى السرائيلي! والجماهير دائما
تتجمع لمثل هذه المور.
أما السحرة ،فقد ذهبوا لفرعون ليطمئنون على الجر والمكافأة إن غلبوا موسى .فهم جماعة
مأجورة ،تبذل مهارتها مقابل الجر الذي تنتظره؛ ول علقة لها بعقيدة ول صلة لها بقضية ،ول
شيء سوى الجر والمصلحة .وهم هم ألء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم
في الخداع .وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الجر .يعدهم أن يكونوا من المقربين
إليه .وهو بزعمه الملك والله!
وفي ساحة المواجهة .والناس مجتمعون ،وفرعون ينظر .حضر موسى وأخاه هارون عليهما
السلم ،وحضر السحرة وفي أيديهم كل ما أتقنوه من ألعاب وحيل ،وكلهم ثقة بفوزهم في هذا
قى( وتتجلى ثقة ن أ َل ْ َ
م ْ ل َ ن أ َوّ َ ما َأن ن ّ ُ
كو َ ي وَإ ِ ّ
ق َ
َ
ما أن ت ُل ْ ِالتحدي .لذا بدءوا بتخيير موسى) :إ ِ ّ
قوا( فرمى السحرة عصيهم ل أ َل ْ ُ
موسى -عليه السلم -في الجانب الخر واستهانته بالتحدي )ب َ ْ
ن ال َْغال ُِبو َ
ن(. ن إ ِّنا ل َن َ ْ
ح ُ م وََقاُلوا ب ِعِّزةِ فِْرع َوْ َ صي ّهُ ْع ِم وَ ِحَبال َهُ ْ
وا ِ وحبالهم بعزة فرعون )فَأ َل ْ َ
ق ْ
َ
س حُروا ْ أع ْي ُ َ
ن الّنا ِ س َ رمى السحرة بعصيهم وحبالهم فإذا المكان يمتلئ بالثعابين فجأة ) َ
جاءوا
ظيم ٍ( .وحسبنا أن يقرر القرآن الكريم أنه سحر عظيم )وَ َ حرٍ ع َ ِ س ْ جاءوا ب ِ ِ
م وَ َ
ست َْرهَُبوهُ ْ
َوا ْ
س( وأثاروا َ ْ
ن الّنا ِ حُروا أع ْي ُ َ س َ
ظيم ٍ( ،لندرك أي سحر كان .وحسبنا أن نعلم أنهم ) َ حرٍ ع َ ِ س ْبِ ِ
م( لنتصور أي سحر كان .فنظر موسى عليه السلم إلى حبال ْ ُ هبو
ُ َ هرْ َ تسْ واَ ) قلوبهم في الرهبة
السحرة وعصيهم وشعر بالخوف.
76
في هذه اللحظة ،يذ ّ
كره رّبه بأن معه القوة الكبرى .فهو العلى .ومعه الحق ،أما هم فمعهم
الباطل .معه العقيدة ومعهم الحرفة .معه اليمان بصدق الذي دفعه لما هو فيه ومعهم الجر
على المباراة ومغانم الحياة .موسى متصل بالقوة الكبرى والسحرة يخدمون مخلوقا بشريا
فانيا مهما يكن طاغية جبارا.
َ
ك( وستهزمهم ،فهو سحر من تدبير ساحر وعمله .والساحر ل يفلح مين ِ َ
ما ِفي ي َ ِ ل تخف )وَأل ْ ِ
ق َ
أنى ذهب وفي أي طريق سار ،لنه يعتمد على الخيال واليهام والخداع ،ول يعتمد على حقيقة
ثابتة باقية.
اطمأن موسى ورفع عصاه وألقاها .لم تكد عصا موسى تلمس الرض حتى وقعت المعجزة
الكبرى .وضخامة المعجزة حولت مشاعر ووجدان السحرة ،الذين جاءوا للمباراة وهم أحرص
الناس على الفوز لنيل الجر .الذي بلغت براعتهم لحد أن يشعر موسى بالخوف من عملهم.
ُ
ب جدا ً َقاُلوا آ َ
مّنا ب َِر ّ س ّ
حَرة ُ ُ
س َ
ي ال ّ تحولت مشاعرهم بحيث لم يسعفهم الكلم للتعبير) :فَأل ْ ِ
ق َ
سى(.
مو َ
ن وَ ُ
هاُرو َ
َ
إنه فعل الحق في الضمائر .ونور الحق في المشاعر ،ولمسة الحق في القلوب المهيأة لتلقي
الحق والنور واليقين .إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم ،ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه.
وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى .فهم أعلم إن كان هذا من عمل بشر أو ساحر ،أو أنه
من القدرة التي تفوق قدرة البشر والسحر .والعالم في فنه هو أكثر الناس استعدادا للتسليم
بالحقيقة حين تتكشف له ،لنه أقرب إدراكا لهذه الحقيقة ،ممن ل يعرفون في هذا الفن إل
القشور .ومن هنا تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق ،الذي يجددون
برهانه في أنفسهم عن يقين.
هزت هذه المفاجأة العرش من تحته .مفاجأة استسلم السحرة -وهم من كهنة المعابد -لرب
العالمين .رب موسى وهارون .بعد أن تم جمعهم لبطال دعوة موسى وهارون لرب العالمين!
ولن العرش والسلطان أهم شيء في حيات الطواغيت ،فهم مستعدون لرتكاب أي جريمة
في سبيل المحافظة عليهما.
تسائل فرعون مستغربا )آمنتم به قَب َ َ
م( كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن ن ل َك ُ ْ ل أن آذ َ َ َ ُ ِ ِ ْ
يعودوا للحق .لكنه طاغية متكبر متجبر أعمى السلطان عينيه عن الحق .ويزيد في طغيانه
من َْها أ َهْل ََها( إن غلبته لكم في يومكم هذا جوا ْ ِ خرِ ُ دين َةِ ل ِت ُ ْ
م ِ موه ُ ِفي ال ْ َ مك َْرت ُ ُ ذا ل َ َ
مك ٌْر ّ هـ َ
ن َ
فيقول )إ ِ ّ
إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك ،وهو يعلم وكل من له عقل أن هذا الذي قاله من
جل َ ُ َ ف تعل َمون( ويتوعد )ل ُقَط ّع َ
ن
م ْ
كم ّ ن أي ْد ِي َك ُ ْ
م وَأْر ُ َ ّ سو ْ َ َ ْ ُ َ أبطل الباطل .ويظل الطاغية يتهدد )فَ َ
ن( لكن النفس البشرية حين تستيقن حقيقة اليمان ،تستعلي على خل َف ث ُم ل ُصل ّبنك ُ َ
مِعي َ ج َ
مأ ْ َ َّ ْ ٍ ّ ِ
قوة الرض ،وتستهين ببأس الطغاة ،وتنتصر فيها العقيدة على الحياة ,وتختار الخلود الدائم
ن( إنه اليمان الذي ل يتزعزع ول يخضع. قل ُِبو َ من َ على الحياة الفانيةَ) .قاُلوا ْ إ ِّنا إ َِلى َرب َّنا ُ
َ
جاءت َْنا( فل يطلبون ما َ ت َرب َّنا ل َ ّ
مّنا ِبآَيا ِ مّنا إ ِل ّ أ ْ
نآ َ م ِ
ق ُ
ما َتن ِ
ويعلن السحرة حقيقة المعركة )وَ َ
صب ًْرا وَت َوَفَّنا نا يَ لَ ع ْ غ ر ْ فالصفح والعفو من عدوهم ،إنما يطلبون الثبات والصبر من ربهم )ربنا أ َ
َ َ ْ ِ َ ّ َ ّ
مين( .فيقف الطغيان عاجزا أما هذا الوعي وهذا الطمئنان .عاجزا عن رد هؤلء المؤمنين سل ِ ِ
م ْ
ُ
لطريق الباطل من جديد .فينفذ تهديده ،ويصلبهم على جذوع النخل.
وتبدأ جولة جديدة بين الحق والباطل .فهاهم علية القوم من المصريين ،يتآمرون ويحرضون
وفونه من عاقبة التهاون معهم .وهم يرون
فرعون ويهيجونه على موسى ومن آمن معه ،ويخ ّ
الدعوة إلى ربوبية الله وحدة إفسادا في الرض .حيث يترتب عليها بطلن شرعية حكم فرعون
ونظامه كله .وقد كان فرعون يستمد قوته من ديانتهم الباطلة ،حيث كان فرعون ابن اللهة.
فإن عبد موسى ومن معه الله رب العالمين ،لن تكون لفرعون أي سطوة عليهم .فاستثارت
77
هذه الكلمات فرعون ،وأشعرته بالخطر الحقيقي على نظامه كله ففكر بوحشيته المعتادة
قت ُ َ
م َقاه ُِرو َ
ن(. م وَإ ِّنا فَوْقَهُ ْ
ساءهُ ْ
حِيـي ن ِ َ
ست َ ْ
م وَن َ ْ
ل أب َْناءهُ ْ سن ُ َ ّ وقرر )َقا َ
ل َ
فذ عليهم هذا الحكم في إبان لم يكن هذا التنكيل الوحشي جديدا على بني إسرائيل .فقد ن ُ ّ
مولد موسى عليه السلم .فبدأ موسى -عليه السلم -يوصي قومه باحتمال الفتنة ،والصبر على
البلية ،والستعانة بالله عليها .وأن الرض لله يورثها من يشاء من عباده .والعاقبة لمن يتقي
مهِ است َِعيُنوا بالل ّهِ واصبروا ْ إ ّ َ
منض ل ِل ّهِ ُيورِث َُها َ
ن الْر َِ َ ْ ُِ ِ ْ قو ْ ِ
سى ل ِ َ
مو َ
ل ُ الله ول يخشى أحدا سواه )َقا َ
ن(.قي َ ة ل ِل ْ ُ
مت ّ ِ عَباد ِهِ َوال َْعاقِب َ ُ
ن ِ
م ْ يَ َ
شاُء ِ
ما ْ إل أن قومه بدءوا يشتكون من العذاب الذي حل بهم )َقاُلوا ْ ُأوذينا من قَب َ
من ب َعْد ِ َل أن ت َأِتيَنا وَ ِ ْ ِ ِ َ ِ
جئ ْت ََنا( إنها كلمات ذات ظل! وإنها لتشي بما وراءها من تبرم! أوذينا قبل مجيئك وما تغير شيء ِ
بمجيئك .وطال هذا الذى حتى ما تبدو له نهاية! فيمضي النبي الكريم على نهجه .يذكرهم
بالله ،ويعلق رجاءهم به ،ويلوح لهم بالمل في هلك عدوهم .واستخلفهم في الرض .مع
التحذير من فتنة الستخلف ،فاستخلف الله لهم إنما هو ابتلء لهم ،فهو استخلف للمتحان:
ن(. مُلو َ ض فََينظ َُر ك َي ْ َ
ف ت َعْ َ
َ
فك ُ ْ
م ِفي الْر ِ خل ِ َ
ست َ ْ
م وَي َ ْ م َأن ي ُهْل ِ َ
ك ع َد ُوّك ُ ْ سى َرب ّك ُ ْ )َقا َ
ل عَ َ
وينقلنا القرآن الكريم إلى فصل آخر من قصة موسى عليه السلم .ومشهد آخر من مشاهد
المواجهة بين الحق والباطل .حيث يحكي لما قصة تشاور فرعون مع المل في قتل موسى.
َْ ْ ل دينك ُ َ َ خا ُ َ ه إ ِّني أ َ َ ن ذ َُروِني أ َقْت ُ ْ
ض
م أوْ أن ي ُظهَِر ِفي الْر ِ ف أن ي ُب َد ّ َ ِ َ ْ سى وَل ْي َد ْع ُ َرب ّ ُ مو َل ُ )وََقا َ
ل فِْرع َوْ ُ
ساد َ( أما موسى عليه السلم فالتجأ إلى الركن الركين ،والحصن الحصين ،ولذ بحامي ف َال ْ َ
ّ
مت َك َب ّرٍ ل ي ُؤ ْ ِ من ك ُ ّ ت ب َِرّبي وََرب ّ ُ
سى إ ِّني ع ُذ ْ ُ اللئذين ،ومجير المستجيرين )وََقا َ
ن ب ِي َوْم ِم ُ ل ُ كم ّ مو َ ل ُ
ب(. سا ِ
ح َال ْ ِ
كادت فكرة فرعون أن تحصل على التصديق لول رجل من آل فرعون .رجل من رجال الدولة
الكبار ،ل يذكر القرآن اسمه ،لن اسمه ل يهم ،لم يذكر صفته أيضا لن صفته ل تعني شيئا،
إنما ذكر القرآن أنه رجل مؤمن .ذكره بالصفة التي ل قيمة لي صفة بعدها.
تحدث المؤمن الذي يكتم إيمانه فقال لقومه :إننا اليوم في مراكز الحكم والقوة .من ينصرنا
من بأس الله إذا جاء؟ ومن ينقذنا من عقوبته إذا حلت؟ إن إسرافنا وكذبنا قد يضيعاننا.
وبدت كلماته مقنعة .إنه رجل ليس متهما في ولئه لفرعون .وهو ليس من أتباع موسى.
والمفروض أنه يتكلم بدافع الحرص على عرش الفرعون .ول شيء يسقط العروش كالكذب
والسراف وقتل البرياء.
ومن هذا الموضع استمدت كلمات الرجل المؤمن قوتها .بالنسبة إلى فرعون ووزرائه ورجاله.
ورغم أن فرعون وجد فكرته في قتل موسى ،صريعة على المائدة .رغم تخويف الرجل
المؤمن لفرعون .رغم ذلك قال الفرعون كلمته التاريخية التي ذهبت مثل بعده لكل الطغاة:
َ َ ُ
ل الّر َ
شادِ(. م إ ِّل َ
سِبي َ ديك ُ ْ
ما أهْ ِ م إ ِّل َ
ما أَرى وَ َ ما أِريك ُ ْ
ن َ )َقا َ
ل فِْرع َوْ ُ
78
لم تتوقف المناقشة عند هذا الحد .قال فرعون كلمته ولكنه لم يقنع بها الرجل المؤمن .وعاد
الرجل المؤمن يتحدث وأحضر لهم أدلة من التاريخ ،أدلة كافية على صدق موسى .وح ّ
ذرهمخ
من المساس به .لقد سبقتهم أمم كفرت برسلها ،فأهلكها الله :قوم نوح ،قوم عاد ،قوم ثمود.
كرهم بيوسف عليه السلم حين جاء بالبينات ،فشك فيه الناس كرهم بتاريخ مصر نفسه .ذ ّثم ذ ّ
ثم آمنوا به بعد أن كادت النجاة تفلت منهم ،ما الغرابة في إرسال الله للرسل؟ إن التاريخ
القديم ينبغي أن يكون موضع نظر .لقد انتصرت القلة المؤمنة حين أصبحت مؤمنة على الكثرة
الكافرة .وسحق الله تعالى الكافرين .أغرقهم بالطوفان ،وصعقهم بالصرخة .أو خسف بهم
الرض .ماذا ننتظر إذن؟ ومن أين نعلم أن وقوفنا وراء الفرعون لن يضيعنا ويهلكنا جميعا؟
كان حديث الرجل المؤمن ينطوي على عديد من التحذيرات المخيفة .ويبدو أنه أقنع الحاضرين
بأن فكرة قتل موسى فكرة غير مأمونة العواقب .وبالتالي فل داعي لها.
إل أن الطاغية فرعون حاول مرة أخرى المحاورة والتمويه ،كي ل يواجه الحق جهرة ،ول
يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه .وبعيد عن احتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه.
فطلب أن يبنى له بناء عظيم ،يصعد عليه ليرى إله موسى الذي يدعيه .وبعيدا أن يكون جادا
في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج .وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة
حدا يبعد معه هذا التصور .وإنما هو الستهتار والسخرية من جهة .والتظاهر بالنصاف والتثبت
من جهة أخرى.
بعد هذا الستهتار ،وهذا الصرار ،ألقى الرجل المؤمن كلمته الخيرة مدوية صريحة:
ل ال ّذي آمن يا قَوم اتبعو َ
مَتاعٌ حَياة ُ الد ّن َْيا َما هَذ ِهِ ال ْ َ شاد ِ )َ (38يا قَوْم ِ إ ِن ّ َ ل الّر َ سِبي َ م َ ن أهْد ِك ُ ْ ْ ِ ِّ ُ ِ َ َ َ ِ وََقا َ
ل صال ِحا من ذ َك َر أوَ َ م َ ْ ّ َ َ َ َ ْ ن اْل ِ
ٍ ْ َ ً ّ ن عَ ِ م ْ مثلَها وَ َ جَزى إ ِل ِ ة فل ي ُ ْ سي ّئ ً مل َ ن عَ ِ م ْ قَرارِ )َ (39 داُر ال َ ي َ خَرة َ ه ِ َ وَإ ِ ّ
عوك ُْ
م َ َ ُ ْ ُ َ َ ُ َ ْ َ ُأن
ما ِلي أد ْ ُ ْ ِ َم و ق يا
َ َ و (40 ) ب ٍ سا َ ح
ِ ر ْ
َ ِ ِيَ غ ب ها في ِ نَ قو ز
َ رْ ُ ي ة
َ ّ نجَ ل ا ن
َ لو خ
ُ ْ د َ ي ك ِ ئ ل ْ و أ ف ن
ٌ م
ِ ؤ م
َ َ ُو ُ ه و ثى
عل ْم وأناَ ُ َ
س ِلي ب ِهِ ِ ٌ َ َ ما ل َي ْ َ ك ب ِهِ َ شرِ َ فَر ِبالل ّهِ وَأ ْ عون َِني ِلك ْ ُ عون َِني إ َِلى الّنارِ ) (41ت َد ْ ُ جاةِ وَت َد ْ ُ إ َِلى الن ّ َ
َ َ َ َ َ َ ْ ْ َ أ َد ْ ُ
ه د َع ْوَة ٌ ِفي الد ّن َْيا وَل ِفي سل ُ عون َِني إ ِلي ْهِ لي ْ َ ما ت َد ْ ُ م أن ّ َ جَر َ فارِ ) (42ل َ زيزِ الغَ ّ م َإ ِلى العَ ِ عوك ُ ْ
َ َ َ
ل ل َك ُ ْ
م ما أُقو ُ ن َ ست َذ ْك ُُرو َ ب الّنارِ ) (43فَ َ حا ُ ص َ مأ ْ ن هُ ْ سرِِفي َ م ْ ن ال ْ ُ مَرد َّنا إ َِلى الل ّهِ وَأ ّ ن َ خَرةِ وَأ ّ اْل ِ
ْ ّ ّ َ َ ُ
صيٌر ِبالعَِباد ِ )) (44غافر( ه بَ ِ ن الل َ ري إ ِلى اللهِ إ ِ ّ م ِ ضأ ْ وَأفَوّ ُ
أنهى الرجل المؤمن حديثه بهذه الكلمات الشجاعة .بعدها انصرف .انصرف فتحول الجالسون
من موسى إليه .بدءوا يمكرون للرجل المؤمن .بدءوا يتحدثون عما صدر منه .فتدخلت عناية
ب( وأنجته من فرعون سوُء ال ْعَ َ
ذا ِ ن ُ
ل فِْرع َوْ َ مك َُروا وَ َ
حاقَ ِبآ ِ ما َ سي َّئا ِ
ت َ الله تعالى )فَوََقاه ُ الل ّ ُ
ه َ
وجنوده.
أما حال مصر في تلك الفترة .فلقد مضى فرعون في تهديده ،فقتل الرجال واستحيا النساء.
وظل موسى وقومه يحتملون العذاب ،ويرجون فرج الله ،ويصبرون على البتلء .وظل فرعون
ديه .فتدخلت قوة الله سبحانه وتعالى ،وشاء الله تعالى أن يشدد على آلفي ظلله وتح ّ
فرعون .ابتلء لهم وتخويفا ،ولكي يصرفهم عن الكيد لموسى ومن آمن معه ،وإثباتا لنبوة
موسى وصدقه في الوقت نفسه .وهكذا سلط على المصريين أعوام الجدب .أجدبت الرض
وشح النيل ونقصت الثمار وجاع الناس ،واشتد القحط .لكن آل فرعون لم يدركوا العلقة بين
كفرهم وفسقهم وبين بغيهم وظلمهم لعباد الله .فأخذوا يعللون السباب .فعندما تصيبهم
حسنة ،يقولون إنها من حسن حظهم وأنهم يستحقونها .وإن أصابتهم سيئة قالوا هي من شؤم
موسى ومن معه عليهم ،وأنها من تحت رأسهم!
وأخذتهم العزة بالثم فاعتقدوا أن سحر موسى هو المسئول عما أصابهم من قحط .وصور لهم
حمقهم أن هذا الجدب الذي أصاب أرضهم ،آية جاء بها موسى ليسحرهم بها ،وهي آية لن
يؤمنوا بها مهما حدث.
79
فشدد الله عليهم لعلهم يرجعون إلى الله ،ويطلقون بني إسرائيل ويرسلونهم معه .فأرسل
عليهم الطوفان ،والجراد ،والقمل -وهو السوس -والضفادع ،والدم .ول يذكر القرآن إن كانت
جملة واحدة ،أم واحدة تلو الخرى .وتذكر بعض الروايات أنها جاءت متتالية وحدة تلو الخرى.
إل أن المهم هو طلب آل فرعون من موسى أن يدعو لهم ربه لينقذهم من هذا البلء .وبعدونه
سى اد ْع ُ ل ََنا
مو َفي كل مرة أن يرسلوا بني إسرائيل إذا أنجاهم ورفع عنهم هذا البلء )َقاُلوا ْ َيا ُ
سَرآِئي َ
ل(. مع َ َ
ك ب َِني إ ِ ْ سل َ ّ
ن َ ك وَل َن ُْر ِ
ن لَ َ جَز ل َن ُؤ ْ ِ
من َ ّ ت ع َّنا الّر ْ
ف َ ك ل َِئن ك َ َ
ش ْ عند َ َ
ما ع َهِد َ ِ َرب ّ َ
ك بِ َ
فكان موسى -عليه السلم -يدعو الله بأن يكشف عنهم العذاب .وما أن ينكشف البلء حتى
َ
هم َبال ُِغوه ُ إ ِ َ
ذا ل ُ جَز إ َِلى أ َ
ج ٍ م الّر ْ
فَنا ع َن ْهُ ُ
ش ْ ينقضون عهدهم ،ويعودون إلى ما كانوا فيه )فَل َ ّ
ما ك َ َ
م َينك ُُثو َ
ن(. هُ ْ
لم يهتد المصريون ،ولم يوفوا بعهودهم ،بل على العكس من ذلك .خرج فرعون لقومه ،وأعلن
أنه إله .أليس له ملك مصر ،وهذه النهار تجري من تحته ،أعلن أن موسى ساحر كذاب .ورجل
فقير ل يرتدي أسورة واحدة من الذهب.
بدا واضحا أن فرعون لن يؤمن لموسى .ولن يكف عن تعذيبه لبني إسرائيل ،ولن يكف عن
استخفافه بقومه .هنالك دعا موسى وهارون على فرعون.
لم يكن قد آمن مع موسى فريق من قومه .فانتهى المر ،وأوحي إلى موسى أن يخرج من
مصر مع بني إسرائيل .وأن يكور رحيلهم ليل ،بعد تدبير وتنظيم لمر الرحيل .ونبأه أن فرعون
سيتبعهم بجنده؛ وأمره أن يقوم قومه إلى ساحل البحر )وهو في الغالب عند التقاء خليج
السويس بمطقة البحيرات(.
وبلغت الخبار فرعون أن موسى قد صحب قومه وخرج .فأرسل أوامره في مدن المملكة
لحشد جيش عظيم .ليدرك موسى وقومه ،ويفسد عليهم تدبيرهم .أعلن فرعون التعبئة العامة.
وهذا من شأنه أن يشكل صورة في الذهان ،أن موسى وقومه يشكلون خطرا فعلى فرعون
وملكه ،فيكف يكون إلها من يخشى فئة صغيرا يعبدون إله آخر؟! لذلك كان ل بد من تهوين
ن( لكننا نطاردهم لنهمة قَِليُلو َ
م ٌ ن هَؤ َُلء ل َ ِ
شْرذ ِ َ المر وذلك بتقليل شأن قوم موسى وحجمهم )إ ِ ّ
أغاظونا ،وعلى أي حال ،فنحن حذرون مستعدون ممسكون بزمام المور.
وقف موسى أمام البحر .وبدا جيش الفرعون يقترب ،وظهرت أعلمه .وامتل قوم موسى
بالرعب .كان الموقف حرجا وخطيرا .إن البحر أمامهم والعدو ورائهم وليس معهم سفن أو
أدوات لعبور البحر ،كما ليست أمامهم فرصة واحدة للقتال .إنهم مجموعة من النساء
والطفال والرجال غير المسلحين .سيذبحهم فرعون عن آخرهم.
80
لم يكن يدري موسى كيف ستكون النجاة ،لكن قلبه كان ممتلئا بالثقة بربه ،واليقين بعونه،
والتأكد من النجاة ،فالله هو اللي يوجهه ويرعاه .وفي اللحظة الخيرة ،يجيء الوحي من الله
فل َقَ فَ َ َ َ
ن كُ ّ
ل كا َ ك ال ْب َ ْ
حرَ( فضربه ،فوقعت المعجزة )َفان َ صا َ
رب ب ّعَ َ
ض ِ
نا ْ
سى أ ِمو َ حي َْنا إ َِلى ُ
)فَأوْ َ
ظيم ِ( وتحققه المستحيل في منطق الناس ،لكن الله إن أراد شيئا قال له كن كالط ّوْد ِ ال ْعَ ِ
ق َ فِْر ٍ
فيكون.
ووصل فرعون إلى البحر .شاهد هذه المعجزة .شاهد في البحر طريقا يابسا يشقه نصفين.
فأمر جيشه بالتقدم .وحين انتهى موسى من عبور البحر .وأوحى الله إلى موسى أن يترك
ن( .وكان الله تعالى قد شاء إغراق مغَْرُقو َ
جند ٌ ّ
م ُ
وا إ ِن ّهُ ْ ك ال ْب َ ْ
حَر َرهْ ً البحر على حاله )َوات ُْر ْ
الفرعون .فما أن صار فرعون وجنوده في منتصف البحر ،حتى أصدر الله أمره ،فانطبقت
المواج على فرعون وجيشه .وغرق فرعون وجيشه .غرق العناد ونجا اليمان بالله.
َ
ت ب ِهِ ب َُنو
من َ ْ ه إ ِل ّ ال ّ ِ
ذي آ َ ه ل إ ِِلـ َ ت أن ّ ُ من ُ
لآ َ ولما عاين فرعون الغرق ،ولم يعد يملك النجاة )َقا َ
إسراِئي َ َ
ن( سقطت عنه كل القنعة الزائفة ،وتضائل ،فلم يكتفي بأن يعلن مي َ
سل ِ ِ ن ال ْ ُ
م ْ ل وَأن َا ْ ِ
م َ ِ ْ َ
َ
ن( لكن بل فائدة ،فليس الن وقت اختيار ،بعد مي َسل ِ ِ
م ْ ن ال ْ ُ إيمانه ،بل والستسلم أيضا )وَأن َا ْ ِ
م َ
ن(. دي َ س ِ ف ِ م ْ ن ال ْ ُم َ ت ِ ل وَ ُ
كن َ ت قَب ْ ُصي ْ َن وَقَد ْ ع َ َأن سبق العصيان والستكبار )آل َ
انتهى وقت التوبة المحدد لك وهلكت .انتهى المر ول نجاة لك .سينجو جسدك وحده .لن تأكله
السماك ،ولين يحمله التيار بعيدا عن الناس ،بل سينجو جسدك لتكون آية لمن خلفك.
أسدل الستار على طغيان الفرعون .ولفظت المواج جثته إلى الشاطئ .بعد ذلك .نزل الستار
تماما عن المصريين .لقد خرجوا يتبعون خطا موسى وقومه ويقفون أثرهم .فكان خروجهم هذا
هو الخير .وكان إخراجا لهم من كل ما هم فيه من جنات وعيون وكنوز؛ فلم يعودوا بعدها لهذا
النعيم! ل يحدثنا القرآن الكريم عما فعله من بقى من المصررين في مصر بعد سقوط نظام
الفرعون وغرقه مع جيشه .ل يحدثنا عن ردود فعلهم بعد أن دمر الله ما كان يصنع فرعون
وقومه وما كانوا يشيدون .يسكت السياق القرآني عنهم .ويستبعدهم تماما من التاريخ
والحداث
الجزء الثالث :يتناول حياة موسى عليه السلم مع بني إسرائيل بعد غرق فرعون ،والحداث
العظيمة التي حدثت أثناء ضياعهم في صحراء سيناء.
لقد مات فرعون مصر .غرق أمام عيون المصريين وبني إسرائيل .ورغم موته ،فقد ظل أثره
باقيا في نفوس المصريين وبني إسرائيل .من الصعب على سنوات القهر الطويلة والذل
ود فرعون بني إسرائيل الذل لغير الله. المكثف أن تمر على نفوس الناس مر الكرام .لقد ع ّ
هزم أرواحهم وأفسد فطرتهم فعذبوا موسى عذابا شديدا بالعناد والجهل.
كانت معجزة شق البحر لم تزل طرية في أذهانهم ،حين مروا على قوم يعبدون الصنام .وبدل
من أن يظهروا استيائهم لهذا الظلم للعقل ،ويحمدوا الله أن هداهم لليمان .بدل من ذلك
التفتوا إلى موسى وطلبوا منه أن يجعل لهم إلها يعبدونه مثل هؤلء الناس .أدركتهم الغيرة
لمرأى الصنام ،ورغبوا في مثلها ،وعاودهم الحنين ليام الشرك القديمة التي عاشوها في ظل
فرعون .واستلفتهم موسى إلى جهلهم هذا ،وبّين لهم أن عمل هؤلء باطل ،وأن الله فضل بني
إسرائيل على العالمين فكيف يجحد هذا التفضيل ويجعل لهم صنما يعبدونه من دون الله .ثم
81
كرهم بفرعون وعذابه لهم ،وكيف أن الله نجاهم منه ،فكيف بعد ذلك يشركون بالله مال يضرذ ّ
ول ينفع.
انتهت المرحلة الولى من مهمة موسى عليه السلم ،وهي تخليص بني إسرائيل من حياة الذل
والتعذيب على يد فرعون وجنده .والسير بهم إلى الديار المقدسة .لكن القوم لم يكونوا على
استعداد للمهمة الكبرى ،مهمة الخلفة في الرض بدين الله .وكان الختبار الول أكبر دليل
على ذلك .فما أن رأوا قوما يعبدون صنما ،حتى اهتزت عقيدة التوحيد في نفوسهم ،وطلبوا
من موسى أن يجعل لهم وثنا يعبدوه .فكان ل بد من رسالة مفصلة لتربية هذه المة وإعدادها
لما هم مقبلون عليه .من أجل هذه الرسالة كانت مواعدة الله لعبده موسى ليلقاه .وكانت
هذه المواعدة إعداد لنفس موسى ليتهيأ للموقف الهائل العظيم .فاستخلف في قومه أخاه
هارون عليه السلم.
كانت فترة العداد ثلثين ليلة ،أضيف إليها عشر ،فبلغت عدتها أربعين ليلة .يروض موسى فيها
نفسه على اللقاء الموعود؛ وينعزل فيها عن شواغل الرض؛ فتصفو روحه وتتقوى عزيمته.
ويذكر ابن كثير في تفسيره عن أمر هذه الليالي" :فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلثين ليلة؛
قال المفسرون :فصامها موسى -عليه السلم -وطواها ،فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة،
فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين".
كان موسى بصومه -أربعين ليلة -يقترب من ربه أكثر .وكان موسى بتكليم الله له يزداد حبا
في ربه أكثر .فطلب موسى أن يرى الله .ونحن ل نعرف أي مشاعر كانت تجيش في قلب
موسى عليه الصلة والسلم حين سأل ربه الرؤية .أحيانا كثيرة يدفع الحب البشري الناس إلى
طلب المستحيل .فما بالك بالحب اللهي ،وهو أصل الحب؟ إن عمق إحساس موسى بربه،
وحبه لخالقه ،واندفاعه الذي لم يزل يميز شخصيته .دفعه هذا كله إلى أن يسأل الله الرؤية.
ل َلن ت ََراِني
وجاءه رد الحق عز وجلَ :قا َ
ولو أن الله تبارك وتعالى قالها ولم يزد عليها شيئا ،لكان هذا عدل منه سبحانه ،غير أن
الموقف هنا موقف حب إلهي من جانب موسى .موقف اندفاع يبرره الحب ولهذا أدركت رحمة
الله تعالى موسى .أفهمه أنه لن يراه ،لن أحدا من الخلق ل يصمد لنور الله .أمره أن ينظر
إلى الجبل ،فإن استقر مكانه فسوف يراه.
ل ه ل ِل ْ َ
جب َ ِ جّلى َرب ّ ُ ف ت ََراِني فَل َ ّ
ما ت َ َ ه فَ َ
سو ْ َ م َ
كان َ ُ قّر َ
ست َ َ ل فَإ ِ ِ
نا ْ ن انظ ُْر إ َِلى ال ْ َ
جب َ ِ قال تعالى) :وََلـك ِ ِ
قا(
صع ِ ً
سى َ خّر مو َ كا وَ َ جعَل َ ُ
ه دَ ّ َ
وى في الرض .وسقط موسى مغشيا عليه غائبا ك الجبل ،وصار مس ّ ل يصمد لنور الله أحد .فد ّ
عن وعيه .فلما أفاق قال سبحانك تنزهت وتعاليت عن أن ترى بالبصار وتدرك .وتبت إليك عن
تجاوزني للمدى في سؤالك! وأنا أول المؤمنين بك وبعظمتك.
ثم تتداركه رحمة ربه من جديد .فيتلقى موسى -عليه السلم -البشرى .بشرى الصطفاء .مع
ك ع ََلى صط َ َ
في ْت ُ َ سى إ ِّني ا ْ
مو َ التوجيه له بالرسالة إلى قومه بعد الخلص .قال تعالىَ) :قا َ
ل َيا ُ
ن(
ري َ ن ال ّ
شاك ِ ِ م َ ك وَ ُ
كن ّ ما آت َي ْت ُ َ سال َِتي وَب ِك َل َ ِ
مي فَ ُ
خذ ْ َ س ب ِرِ َ
الّنا ِ
82
موسى ،أيضا ل ينطبق هذا الصطفاء على العصر الذي يأتي بعده ،لوجود محمد بن عبد الله
فيه ،وهو أفضل منهما.
ونحب أن نبتعد عن هذا الجدال كله .ل لننا نعتقد أن كل النبياء سواء .إذا إن الله سبحانه
وتعالى يحدثنا أنه فضل بعض النبيين على بعض ،ورفع درجات بعضهم على البعض .غير أن هذا
التفضيل ينبغي أن يكون منطقة محرمة علينا ،ولنقف نحن في موقع اليمان بجميع النبياء ل
نتعداه .ولنؤد نحوهم فروض الحترام على حد سواء .ل ينبغي أن يخوض الخاطئون في درجات
المعصومين المختارين من الله .ليس من الدب أن نفاضل نحن بين النبياء .الولى أن نؤمن
بهم جميعا.
عبادة العجل:
انتهى ميقات موسى مع ربه تعالى .وعاد غضبان أسفا إلى قومه .فلقد أخبره الله أن قموه قد
سامري هو من أضّلهم .انحدر موسى من ضّلوا من بعده .وأن رجل من بني إسرائيل يدعى ال ّ
قمة الجبل وهو يحمل ألواح التوراة ،قلبه يغلي بالغضب والسف .نستطيع أن نتخيل انفعال
موسى وثورته وهو يحث خطاه نحو قومه.
لم يكد موسى يغادر قومه إلى ميقات ربه .حتى وقعت فتنة السامري .وتفصيل هذه الفتنة أن
بني إسرائيل حين خرجوا من مصر ،صحبوا معهم كثيرا من حلي المصريين وذهبهم ،حيث كانت
نساء بني إسرائيل قد استعرنه للتزين به ،وعندما أمروا بالخروج حملوه معهم .ثم قذفوها لنها
حرام .فأخذها السامري ،وصنع منها تمثال لعجل .وكان السامري فيما يبدو نحاتا محترفا أو
صائغا سابقا ،فصنع العجل مجوفا من الداخل ،ووضعه في اتجاه الريح ،بحيث يدخل الهواء من
فتحته الخلفية ويخرج من أنفه فيحدث صوتا يشبه خوار العجول الحقيقية.
ويقال إن سر هذا الخوار ،أن السامري كان قد أخذ قبضة من تراب سار عليه جبريل -عليه
السلم -حين نزل إلى الرض في معجزة شق البحر .أي أن السامري أبصر بما لم يبصروا به،
فقبض قبضة من أثر الرسول -جبريل عليه السلم -فوضعها مع الذهب وهو يصنع منه العجل.
وكان جبريل ل يسير على شيء إل دبت فيه الحياة .فلما أضاف السامري التراب إلى الذهب،
ثم صنع منه العجل ،خار العجل كالعجول الحقيقية .وهذه هي القصة التي قالها السامري
لموسى عليه السلم.
وهبت موجة من الرياح فدخلت من دبر العجل الذهب وخرجت من فمه فخار العجل .وعبد بنو
إسرائيل هذا العجل .لعل دهشة القارئ تثور لهذه الفتنة .كيف يمكن الستخفاف بعقول القوم
لهذه الدرجة؟! لقد وقعت لهم معجزات هائلة .فكيف ينقلبون إلى عبادة الصنام في لحظة؟
تزول هذه الدهشة لو نظرنا في نفسية القوم الذين عبدوا العجل .لقد تربوا في مصر ،أيام
كانت مصر تعبد الصنام وتقدس فيما تقدس العجل أبيس ،وتربوا على الذل والعبودية ،فتغيرت
نفوسهم ،والتوت فطرتهم ،ومرت عليهم معجزات الله فصادفت نفوسا تالفة المل .لم يعد
هناك ما يمكن أن يصنعه لهم أحد .إن كلمات الله لم تعدهم إلى الحق ،كما أن المعجزات
83
الحسية لم تقنعهم بصدق الكلمات ،ظلوا داخل أعماقهم من عبدة الوثان .كانوا وثنيين مثل
سادتهم المصريين القدماء .ولهذا السبب انقلبوا إلى عبادة العجل.
وفوجئ هارون عليه الصلة والسلم يوما بأن بني إسرائيل يعبدون عجل من الذهب .انقسموا
إلى قسمين :القلية المؤمنة أدركت أن هذا هراء .والغلبية الكافرة طاوعت حنينها لعبادة
الوثان .ووقف هارون وسط قومه وراح يعظهم .قال لهم :إنكم فتنتم به ،هذه فتنة ،استغل
ن َفات ّب ُِعوِني
م ُ
ح َ ن َرب ّك ُ ُ
م الّر ْ السامري جهلكم وفتنكم بعجله .ليس هذا ربكم ول رب موسى )وَإ ِ ّ
ري(. َ َ
م ِ
طيُعوا أ ْ
وَأ ِ
ورفض عبدة العجل موعظة هارون .لكن هارون -عليه السلم -عاد يعظهم ويذكرهم بمعجزات
الله التي أنقذهم بها ،وتكريمه ورعايته لهم ،فأصموا آذانهم ورفضوا كلماته ،واستضعفوه وكادوا
يقتلونه ،وأنهوا مناقشة الموضوع بتأجيله حتى عودة موسى .كان واضحا أن هارون أكثر لينا
من موسى ،لم يكن يهابه القوم للينه وشفقته .وخشي هارون أن يلجأ إلى القوة ويحطم لهم
صنمهم الذي يعبدونه فتثور فتنة بين القوم .فآثر هارون تأجيل الموضوع إلى أن يحضر موسى.
كان يعرف أن موسى بشخصيته القوية ،يستطيع أن يضع حدا لهذه الفتنة .واستمر القوم
يرقصون حول العجل.
انحدر موسى عائدا لقومه فسمع صياح القوم وجلبتهم وهم يرقصون حول العجل .توقف القوم
ي(.
من ب َعْد ِ َ
موِني ِ خل َ ْ
فت ُ ُ ما َ حين ظهر موسى وساد صمت .صرخ موسى يقول) :ب ِئ ْ َ
س َ
اتجه موسى نحو هارون وألقى ألواح التوراة من يده على الرض .كان إعصار الغضب داخل
موسى يتحكم فيه تماما .مد موسى يديه وأمسك هارون من شعر رأسه وشعر لحيته وشده
نحوه وهو يرتعش .قال موسى:
َ ك إذ ْ رأ َيتهم ضّلوا ) (92أ َّل تتبع َ
ري )) (93طه(
م ِ
تأ ْ ن أفَعَ َ
صي ْ َ َِّ َ ِ من َعَ َ ِ َ ْ َ ُ ْ َ
ما َ
ن َ
هاُرو ُ
َيا َ
إن موسى يتساءل هل عصى هارون أمره .كيف سكت على هذه الفتنة؟ كيف طاوعهم على
البقاء معهم ولم يخرج ويتركهم ويتبرأ منهم؟ كيف سكت عن مقاومتهم أصل؟ إن الساكت عن
الخطأ مشترك فيه بشكل ما .زاد الصمت عمقا بعد جملة موسى الغاضبة .وتحدث هارون إلى
موسى .رجا منه أن يترك رأسه ولحيته .بحق انتمائهما لم واحدة .وهو يذكره بالم ول يذكره
بالب ليكون ذلك أدعى لستثارة مشاعر الحنو في نفسه.
أفهمه أن المر ليس فيه عصيان له .وليس فيه رضا بموقف عبدة العجل .إنما خشي أن
يتركهم ويمضي ،فيسأله موسى كيف لم يبق فيهم وقد تركه موسى مسؤول عنهم ،وخشي لو
قاومهم بعنف أن يثير بينهم قتال فيسأله موسى كيف فرق بينهم ولم ينتظر عودته.
أفهم هارون أخاه موسى برفق ولين أن القوم استضعفوه ،وكادوا يقتلونه حين قاومهم .رجا
منه أن يترك رأسه ولحيته حتى ل يشمت به العداء ،ويستخف به القوم زيادة على استخفافهم
به .أفهمه أنه ليس ظالما مثلهم عندما سكت عن ظلمهم.
أدرك موسى أنه ظلم هارون في غضبه الذي أشعلته غيرته على الله تعالى وحرصه على
الحق .أدرك أن هارون تصرف أفضل تصرف ممكن في هذه الظروف .ترك رأسه ولحيته
بصوت لم يزل يضطرب غضباَ) :يا قَوْم ِ واستغفر الله له ولخيه .التفت موسى لقومه وتساءل
ل ع َل َيك ُم ال ْعهد أ َم أ َردتم َ
من ّرب ّك ُْ
م ّ ب
ٌ ض
َ َ غ م
ْ ُ كْ يَ لَ ع ّ
ل ح
ِ َ ي أن ّ
ْ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ سًنا أ َفَ َ
طا َ ح َ
دا َ م َرب ّك ُ ْ
م وَع ْ ً م ي َعِد ْك ُ ْ
َ
أل َ ْ
خل َ ْ َ
دي(. ع ِمو ْ ِ
فُتم ّ فَأ ْ
إنه يعنفهم ويوبخهم ويلفتهم بإشارة سريعة إلى غباء ما عملوه .عاد موسى يقول غاضبا أشد
زيج ِ
ك نَ ْ ة ِفي ال ْ َ
حياةِ الد ّن َْيا وَك َذ َل ِ َ م وَذ ِل ّ ٌ
من ّرب ّهِ ْ
ب ّ
ض ٌ سي ََنال ُهُ ْ
م غَ َ ل َ ذوا ْ ال ْعِ ْ
ج َ خ ُ
ن ات ّ َ ن ال ّ ِ
ذي َ الغضب) :إ ِ ّ
ن(.
ري َ
فت َ ِ ال ْ ُ
م ْ
84
لم تكد الجبال تبتلع أصداء الصوت الغاضب حتى نكس القوم رءوسهم وأدركوا خطأهم .كان
افتراؤهم واضحا على الحق الذي جاء به موسى .أبعد كل ما فعله الله تعالى لهم ،ينكفئون
على عبادة الصنام؟! أيغيب موسى أربعين يوما ثم يعود ليجدهم يعبدون عجل من الذهب .أهذا
تصرف قوم ،عهد الله إليهم بأمانة التوحيد في الرض؟
التفت موسى إلى السامري بعد حديثه القصير مع هارون .لقد أثبت له هارون براءته كمسئول
عن قومه في غيبته ،كما سكت القوم ونكسوا رءوسهم أمام ثورة موسى ،لم يبق إل المسئول
الول عن الفتنة .لم يبق إل السامري.
لم يناقش موسى ،عليه السلم السامري في ادعائه .إنما قذف في وجهه حكم الحق .ليس
المهم أن يكون السامري قد رأى جبريل ،عليه السلم ،فقبض قبضة من أثره .ليس المهم أن
يكون خوار العجل بسبب هذا التراب الذي سار عليه فرس جبريل ،أو يكون الخوار بسبب ثقب
اصطنعه السامري ليخور العجل .المهم في المر كله جريمة السامري ،وفتنته لقوم موسى،
واستغلله إعجاب القوم الدفين بسادتهم المصريين ،وتقليدهم لهم في عبادة الوثان .هذه هي
ل َل قو َحَياةِ َأن ت َ ُ ك ِفي ال ْ َ ن لَ َ ب فَإ ِ ّ ل َفاذ ْهَ ْالجريمة التي حكم فيها موسى عليه السلمَ) :قا َ
ه
فن ّ ُ
س َ َ
م لَنن ِ ه ثُ ّ حّرقَن ّ ُ ّ
فا لن ُ َ عاك ِ ً َ
ت ع َلي ْهِ َ ْ َ
ذي ظل َ ّ
ك ال ِه َوانظ ُْر إ َِلى إ ِل َهِ َ خل َ َ
ف ُ دا ل ّ ْ
ن تُ ْ ع ً
مو ْ ِ ن لَ َ
ك َ س وَإ ِ ّ
سا َ م َ
ِ
فا(.س ًم نَ ْ ْ
ِفي الي َ ّ
حكم موسى على السامري بالوحدة في الدنيا .يقول بعض المفسرين :إن موسى دعا على
السامري بأن ل يمس أحدا ،معاقبة له على مسه ما لم يكن ينبغي له مسه.
ونعتقد أن المر أخطر كثيرا من هذه النظرة السريعة .إن السامري أراد بفتنته ضلل بني
إسرائيل وجمعهم حول عجله الوثني والسيادة عليهم ،وقد جاءت عقوبته مساوية لجرمه ،لقد
حكم عليه بالنبذ والوحدة .هل مرض السامري مرضا جلديا بشعا صار الناس يأنفون من لمسه
أو مجرد القتراب منه؟ هل جاءه النبذ من خارج جسده؟ ل نعرف ماذا كان من أمر السلوب
الذي تمت به وحدة السامري ونبذ المجتمع له .كل ما نعرفه أن موسى أوقع عليه عقوبة
رهيبة ،كان أهون منها القتل ،فقد عاش السامري منبوذا محتقرا ل يلمس شيئا ول يمس أحدا
ول يقترب منه مخلوق .هذه هي عقوبته في الدنيا ،ويوم القيامة له عقوبة ثانية ،يبهمها السياق
لتجيء ظللها في النفس أخطر وأرعب.
نهض موسى بعد فراغه من السامري إلى العجل الذهب وألقاه في النار .لم يكتف بصهره
أمام عيون القوم المبهوتين ،وإنما نسفه في البحر نسفا .تحول الله المعبود أمام عيون
ه إ ِلّ
ذي َل إ ِل ََ
ه ال ّ ِ
م الل ّ ُ
ما إ ِل َهُك ُ ُ
المفتونين به إلى رماد يتطاير في البحر .ارتفع صوت موسى) :إ ِن ّ َ
ما( هذا هو إلهكم ،وليس ذلك الصنم الذي ل يملك لنفسه نفعا ول ضرا. عل ْ ً
يٍء ِ
ش ْ سع َ ك ُ ّ
ل َ هُوَ وَ ِ
بعد أن نسف موسى الصنم ،وفرغ من الجاني الصلي ،التفت إلى قومه ،وحكم في القضية
كلها فأفهمهم أنهم ظلموا أنفسهم وترك لعبدة العجل مجال واحدا للتوبة .وكان هذا المجال أن
يقتل المطيع من بني إسرائي من عصى.
قال تعالى:
85
م َفاقْت ُُلوا ْ
ل فَُتوُبوا ْ إ َِلى َبارِئ ِك ُ ْ
ج َم ال ْعِ ْخاذ ِك ُ ُم ِبات ّ َسك ُ ْ م َأن ُ
ف َ م ظ َل َ ْ
مت ُ ْ مهِ َيا قَوْم ِ إ ِن ّك ُ ْ
قو ْ ِ
سى ل ِ َ مو َ ل ُوَإ ِذ ْ َقا َ
حيم )) (54البقرة( ب الّر ِوا ُه هُوَ الت ّ ّ م إ ِن ّ ُ ُ َ
ب ع َلي ْك ْ َ
م فَتا َ ُ
عند َ َبارِئ ِك ْ م ِ ُ ّ
خي ٌْر لك ْم َ ُ َ
م ذل ِك ْ ُ
سك ْ ف ََأن ُ
كانت العقوبة التي قررها موسى على عبدة العجل مهولة ،وتتفق مع الجرم الصلي .إن عبادة
الوثان إهدار لحياة العقل وصحوته ،وهي الصحوة التي تميز النسان عن غيره من البهائم
والجمادات ،وإزاء هذا الزهاق لصحوة العقل ،تجيء العقوبة إزهاقا لحياة الجسد نفسه ،فليس
بعد العقل للنسان حياة يتميز بها .ومن نوع الجرم جاءت العقوبة .جاءت قاسية ثم رحم الله
حيم .
ب الّر ِ
وا ُ
ه هُوَ الت ّ ّ
تعالى وتاب .إ ِن ّ ُ
ب .تأمل تعبير القرآن الكريم الذي يصور الغضب في صورة سى ال ْغَ َ
ض ُ مو َ
عن ّت َسك َ َ
أخيراَ .
كائن يقود تصرفات موسى ،ابتداء من إلقائه للواح التوراة ،وشده للحية أخيه ورأسه .وانتهاء
بنسف العجل في البحر ،وحكمه بالقتل على من اتخذوه ربا .أخيرا سكت عن موسى الغضب.
زايله غضبه في الله ،وذلك أرفع أنواع الغضب وأجدرها بالحترام والتوقير .التفت موسى إلى
مهمته الصلية حين زايله غضبه فتذكر أنه ألقى ألواح التوراة .وعاد موسى يأخذ اللواح ويعاود
دعوته إلى الله.
عاد موسى إلى هدوئه ،واستأنف جهاده في الله ،وقرأ ألواح التوراة على قومه .أمرهم في
البداية أن يأخذوا بأحكامها بقوة وعزم .ومن المدهش أن قومه ساوموه على الحق .قالوا:
انشر علينا اللواح فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها .فقال موسى :بل اقبلوها بما فيها.
فراجعوا مرارا ،فأمر الله تعالى ملئكته فرفعت الجبل على رءوسهم حتى صار كأنه غمامة
فوقهم ،وقيل لهم :إن لم تقبلوها بما فيها سقط ذلك الجبل عليكم ،فقبلوا بذلك ،وأمروا
بالسجود فسجدوا .وضعوا خدودهم على الرض وراحوا ينظرون إلى الجبل فوقهم هلعا ورعبا.
وهكذا أثبت قوم موسى أنهم ل يسلمون وجوههم لله إل إذا لويت أعناقهم بمعجزة حسية
باهرة تلقي الرعب في القلوب وتنثني القدام نحو سجود قاهر يدفع الخوف إليه دفعا .وهكذا
يساق الناس بالعصا اللهية إلى اليمان .يقع هذا في ظل غياب الوعي والنضج الكافيين لقيام
القتناع العقلي .ولعلنا هنا نشير مرة أخرى إلى نفسية قوم موسى ،وهي المسئول الول عن
عدم اقتناعهم إل بالقوة الحسية والمعجزات الباهرة .لقد تربى قوم موسى ونشئوا وسط
هوان وذل ،أهدرت فيهما إنسانيتهم والتوت فطرته .ولم يعد ممكنا بعد ازدهار الذل في
نفوسهم واعتيادهم إياه ،لم يعد ممكنا أن يساقوا إلى الخير إل بالقوة .لقد اعتادوا أن تسيرهم
القوة القاهرة لسادتهم القدامى ،ول بد لسيدهم الجديد )وهو اليمان( من أن يقاسي الهوال
لتسييرهم ،وأن يلجأ مضطرا إلى أسلوب القوة لينقذهم من الهلك .لم تمر جريمة عبادة
العجل دون آثار.
أمر موسى بني إسرائيل أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه .اختار منهم سبعين رجل ،الخّير فالخّير،
وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من
قومكم .صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم .خرج موسى بهؤلء السبعين المختارين لميقات حدده
له الله تعالى .دنا موسى من الجبل .وكلم الله تعالى موسى ،وسمع السبعون موسى وهو
يكلم ربه.
ولعل معجزة كهذه المعجزة تكون الخير ،وتكون كافية لحمل اليمان إلى القلوب مدى الحياة.
غير أن السبعين المختارين لم يكتفوا بما استمعوا إليه من المعجزة .إنما طلبوا رؤية الله
حّتى ن ََرى ن لَ َ
ك َ سى َلن ن ّؤ ْ ِ
م َ مو َ
تعالى .قالوا سمعنا ونريد أن نرى .قالوا لموسى ببساطةَ) :يا ُ
جهَْرةً(. الل ّ َ
ه َ
86
هي مأساة تثير أشد الدهشة .وهي مأساة تشير إلى صلبة القلوب واستمساكها بالحسيات
والماديات .كوفئ الطلب المتعنت بعقوبة صاعقة .أخذتهم رجفة مدمرة صعقت أرواحهم
وأجسادهم على الفور .ماتوا.
أدرك موسى ما أحدثه السبعون المختارون فمله السى وقام يدعو ربه ويناشده أن يعفو عنهم
ويرحمهم ،وأل يؤاخذهم بما فعل السفهاء منهم ،وليس طلبهم رؤية الله تبارك وتعالى وهم
على ما هم فيه من البشرية الناقصة وقسوة القلب غير سفاهة كبرى .سفاهة ل يكفر عنها إل
الموت.
قد يطلب النبي رؤية ربه ،كما فعل موسى ،ورغم انطلق الطلب من واقع الحب العظيم
والهوى المسيطر ،الذي يبرر بما له من منطق خاص هذا الطلب ،رغم هذا كله يعتبر طلب
الرؤية تجاوزا للحدود ،يجازى عليه النبي بالصعق ،فما بالنا بصدور هذا الطلب من بشر
خاطئين ،بشر يحددون للرؤية مكانا وزمانا ،بعد كل ما لقوه من معجزات وآيات..؟ أليس هذا
سفاهة كبرى..؟ وهكذا صعق من طلب الرؤية ..ووقف موسى يدعو ربه ويستعطفه ويترضاه..
يحكي المولى عز وجل دعاء موسى عليه السلم بالتوبة على قومه في سورة العراف:
َ ما أ َ َ
من ت أهْل َك ْت َُهم ّ شئ ْ َ ب ل َوْ ِ ل َر ّ ة َقا َ ف ُ ج َ م الّر ْ خذ َت ْهُ ُ قات َِنا فَل َ ّ مي َ جل ً ل ّ ِ ن َر ُ سب ِْعي َ ه َ م ُ سى قَوْ َ مو َ خَتاَر ُ َوا ْ
َ ّ َ ُ َ
َ
من ت َشاء دي َ من ت َشاء وَت َهْ ِ َ ضل ب َِها َ ّ ي إ ِل فِت ْن َت ُك ت ُ ِ ن هِ َ مّنا إ ِ ْ فَهاء ِ س َ ما فعَل ال ّ َ قَب ْل وَإ ِّيايَ أت ُهْل ِكَنا ب ِ َ ُ
َ ْ َ َ
ة وَِفي سن َ ً ح َ هـذ ِهِ الد ّن َْيا َ ب لَنا ِفي َ رين )َ (155واك ْت ُ ْ خي ُْر الَغافِ ِ ت َ مَنا وَأن َ ح ْ فْر ل ََنا َواْر َ ت وَل ِي َّنا َفاغ ْ ِ أن َ
َ َ ُ
ن
ذي َ سأك ْت ُب َُها ل ِل ّ ِ يٍء فَ َ ش ْ ل َ ت كُ ّ سع َ ْ مِتي وَ ِ ح َ شاء وََر ْ نأ َ م ْ ب ب ِهِ َ صي ُ ذاِبي أ ِ ل عَ َ ك َقا َ خَرةِ إ ِّنا هُد َْنـا إ ِل َي ْ َ ال ِ
ذي ّ
ي ال ِ م ُ ل ا ي ب ّ نال َ
ل سو ر ال ن َ عو ُ ب ّ ت َ ي ن ذي
ِ ّ ل ا ( 156 ) نَ نوُ م
ِ ْ ؤ ُ ي نا
َ ِ ت ياَ بآ هم ُ ن ذي ِ ّ ل وا َ ة كـا َ زّ ال ن
َ تو ُ ْ ؤُ ي و ن َ قو ي َت ّ ُ
ّ ّ ِ ّ ُ ّ َ ِ ِ َ َ َ
م َ ّ َ ْ ْ ْ ْ
حل لهُ ُ منكرِ وَي ُ ِ ن ال ُ م عَ ِ ف وَي َن َْهاهُ ْ معُْرو ِ هم ِبال َ مُر ُ ل ي َأ ُ جي ِ م ِفي الت ّوَْراةِ َوال ِن ْ ِ عند َهُ ْ مكُتوًبا ِ ه َ دون َ ُ ج ُ يَ ِ
مُنوا ْ ب ِ ِ
ه آ ن ذي
ِ ّ ل فا َ م هْ ي َ لَ ع ت َ ن كاَ تي ِ ّ ل ا َ
ل َ ل ْ غ ضعُ ع َن ْهم إصرهُم وال َ َ َ ي و ث َ ِ ئ بآ
َ خ
َ ْ ل ا م هْ يَ ل َ ع م ر ح
َ ُ ي و تِ با
َ ّ ي ّ ط ال
َ َ ِ ْ ْ ُ ْ ِ ْ َ ْ َ َ ِ ُ ُ َ ّ
ن )) (157العراف( ْ َ َ ُ َ ُ ّ ْ
حو َ فل ِ ُ م ْ م ال ُ ه أوْلـئ ِك هُ ُ مع َ ُ صُروه ُ َوات ّب َُعوا الّنوَر الذ ِيَ أنزِل َ وَع َّزُروه ُ وَن َ َ
هذه كانت كلمات موسى لربه وهو يدعوه ويترضاه .ورضي الله تعالى عنه وغفر لقومه
فأحياهم بعد موتهم ،واستمع المختارون في هذه اللحظات الباهرة من تاريخ الحياة إلى النبوءة
بمجيء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
سنلحظ طريقة الربط بين الحاضر والماضي في الية ،إن الله تعالى يتجاوز زمن مخاطبة
الرسول في اليات إلى زمنين سابقين ،هما نزول التوراة ونزول النجيل ،ليقرر أنه )تعالى(
شر بمحمد في هذين الكتابين الكريمين .نعتقد أن إيراد هذه البشرى جاء يوم صحب موسى ب ّ
من قومه سبعين رجل هم شيوخ بني إسرائيل وأفضل من فيهم ،لميقات ربه .في هذا اليوم
الخطير بمعجزاته الكبرى ،تم إيراد البشرى بآخر أنبياء الله عز وجل.
إن موسى قال لربه :يا رب إني أجد في اللواح أمة هي خير أمة أخرجت للناس ،يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر .رب اجعلهم أمتي.
قال :تلك أمة أحمد.
قال :ربي إني أجد في اللواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها .وكان من قبلهم يقرءون
كتابهم نظرا ،حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه .وإن الله أعطاهم من الحفظ شيئا
لم يعطه أحدا من المم .رب اجعلهم أمتي.
قال :تلك أمة أحمد.
قال :رب إني أجد في اللواح أمة يؤمنون بالكتاب الول وبالكتاب الخر ،ويقاتلون فضول
الضللة .فاجعلهم أمتي.
قال :تلك أمة أحمد.
قال :رب إني أجد في اللواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ،ويؤجرون عليها ،وكان من
قبلهم من المم إذا تصدق أحدهم بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها نارا فأكلتها ،وإن ردت
عليه تركت فتأكلها السباع والطير .وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم .رب فاجعلهم
87
أمتي.
قال :تلك أمة أحمد.
قال :رب فإني أجد في اللواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم عملها كتبت له عشرة أمثالها إلى
سبعمائة ضعف .رب اجعلهم أمتي.
قال :تلك أمة أحمد.
سار موسى بقومه في سيناء .وهي صحراء ليس فيها شجر يقي من الشمس ،وليس فيها
طعام ول ماء .وأدركتهم رحمة الله فساق إليهم المن والسلوى وظللهم الغمام .والمن مادة
يميل طعمها إلى الحلوة وتفرزها بعض أشجار الفاكهة .وساق الله إليهم السلوى ،وهو نوع من
أنواع الطيور يقال إنه )السمان( .وحين اشتد بهم الظمأ إلى الماء ،وسيناء مكان يخلو من
الماء ،ضرب لهم موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من المياه .وكان بنو
إسرائيل ينقسمون إلى 12سبطا .فأرسل الله المياه لكل مجموعة .ورغم هذا الكرام
والحفاوة ،تحركت في النفوس التواءاتها المريضة .واحتج قوم موسى بأنهم سئموا من هذا
الطعام ،واشتاقت نفوسهم إلى البصل والثوم والفول والعدس ،وكانت هذه الطعمة أطعمة
مصرية تقليدية .وهكذا سأل بنو إسرائيل نبيهم موسى أن يدعو الله ليخرج لهم من الرض هذه
الطعمة.
وعاد موسى يستلفتهم إلى ظلمهم لنفسهم ،وحنينهم ليام هوانهم في مصر ،وكيف أنهم
يتبطرون على خير الطعام وأكرمه ،ويريدون بدله أدنى الطعام وأسوأه.
سار موسى بقومه في اتجاه البيت المقدس .أمر موسى قومه بدخولها وقتال من فيها
والستيلء عليها .وها قد جاء امتحانهم الخير .بعد كل ما وقع لهم من المعجزات واليات
والخوارق .جاء دورهم ليحاربوا -بوصفهم مؤمنين -قوما من عبدة الصنام.
رفض قوم موسى دخول الراضي المقدسة .وحدثهم موسى عن نعمة الله عليهم .كيف جعل
َ
ن. من ال َْعال َ ِ
مي َ دا ّ
ح ً
تأ َ ما ل َ ْ
م ي ُؤ ْ ِ فيهم أنبياء ،وجعلهم ملوكا يرثون ملك فرعون ،وآتاهم ّ
وكان رد قومه عليه أنهم يخافون من القتال .قالوا :إن فيها قوما جبارين ،ولن يدخلوا الرض
المقدسة حتى يخرج منها هؤلء.
وانضم لموسى وهارون اثنان من القوم .تقول كتب القدماء إنهم خرجوا في ستمائة ألف .لم
يجد موسى من بينهم غير رجلين على استعداد للقتال .وراح هذان الرجلن يحاولن إقناع القوم
بدخول الرض والقتال .قال :إن مجرد دخولهم من الباب سيجعل لهم النصر .ولكن بني
إسرائيل جميعا كانوا يتدثرون بالجبن ويرتعشون في أعماقهم.
مرة أخرى تعاودهم طبيعتهم التي عاودتهم قبل ذلك حين رأوا قوما يعكفون على أصنامهم.
فسدت فطرتهم ،وانهزموا من الداخل ،واعتادوا الذل ،فلم يعد في استطاعتهم أن يحاربوا.
وإن بقي في استطاعتهم أن يتوقحوا على نبي الله موسى وربه .وقال قوم موسى له كلمتهم
هاهَُنا َقا ِ ت وََرب ّ َ
ك فَ َ َ
ن( هكذا بصراحة وبل التواء.
دو َ
ع ُ قاِتل إ ِّنا َ الشهيرةَ) :فاذ ْهَ ْ
ب أن َ
أدرك موسى أن قومه ما عادوا يصلحون لشيء .مات الفرعون ولكن آثاره في النفوس باقية
يحتاج شفاؤها لفترة طويلة .عاد موسى إلى ربه يحدثه أنه ل يملك إل نفسه وأخاه .دعا موسى
على قومه أن يفرق الله بينه وبينهم.
88
وأصدر الله تعالى حكمه على هذا الجيل الذي فسدت فطرته من بني إسرائيل .كان الحكم هو
التيه أربعين عاما .حتى يموت هذا الجيل أو يصل إلى الشيخوخة .ويولد بدل منه جيل آخر ،جيل
لم يهزمه أحد من الداخل ،ويستطيع ساعتها أن يقاتل وأن ينتصر.
قصة البقرة:
بدأت أيام التيه .بدأ السير في دائرة مغلقة .تنتهي من حيث تبدأ ،وتبدأ من حيث تنتهي ،بدأ
السير إلى غير مقصد .ليل ونهارا وصباحا ومساء .دخلوا البرية عند سيناء.
مكث موسى في قومه يدعوهم إلى الله .ويبدو أن نفوسهم كانت ملتوية بشكل ل تخطئه عين
الملحظة ،وتبدو لجاجتهم وعنادهم فيما يعرف بقصة البقرة .فإن الموضوع لم يكن يقتضي كل
هذه المفاوضات بينهم وبين موسى ،كما أنه لم يكن يستوجب كل هذا التعنت .وأصل قصة
البقرة أن قتيل ثريا وجد يوما في بني إسرائيل ،واختصم أهله ولم يعرفوا قاتله ،وحين أعياهم
المر لجئوا لموسى ليلجأ لربه .ولجأ موسى لربه فأمره أن يأمر قومه أن يذبحوا بقرة .وكان
المفروض هنا أن يذبح القوم أول بقرة تصادفهم .غير أنهم بدءوا مفاوضتهم باللجاجة .اتهموا
موسى بأنه يسخر منهم ويتخذهم هزوا ،واستعاذ موسى بالله أن يكون من الجاهلين ويسخر
منهم .أفهمهم أن حل القضية يكمن في ذبح بقرة.
إن المر هنا أمر معجزة ،ل علقة لها بالمألوف في الحياة ،أو المعتاد بين الناس .ليست هناك
علقة بين ذبح البقرة ومعرفة القاتل في الجريمة الغامضة التي وقعت ،لكن متى كانت
السباب المنطقية هي التي تحكم حياة بني إسرائيل؟ إن المعجزات الخارقة هي القانون
السائد في حياتهم ،وليس استمرارها في حادث البقرة أمرا يوحي بالعجب أو يثير الدهشة.
لكن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل .مجرد التعامل معهم عنت .تستوي في ذلك المور الدنيوية
المعتادة ،وشؤون العقيدة المهمة .ل بد أن يعاني من يتصدى لمر من أمور بني إسرائيل.
وهكذا يعاني موسى من إيذائهم له واتهامه بالسخرية منهم ،ثم ينبئهم أنه جاد فيما يحدثهم به،
ويعاود أمره أن يذبحوا بقرة ،وتعود الطبيعة المراوغة لبني إسرائيل إلى الظهور ،تعود اللجاجة
واللتواء ،فيتساءلون :أهي بقرة عادية كما عهدنا من هذا الجنس من الحيوان؟ أم أنها خلق
تفرد بمزية ،فليدع موسى ربه ليبين ما هي .ويدعو موسى ربه فيزداد التشديد عليهم ،وتحدد
البقرة أكثر من ذي قبل ،بأنها بقرة وسط .ليست بقرة مسنة ،وليست بقرة فتية .بقرة
متوسطة.
إلى هنا كان ينبغي أن ينتهي المر ،غير أن المفاوضات لم تزل مستمرة ،ومراوغة بني إسرائيل
لم تزل هي التي تحكم مائدة المفاوضات .ما هو لون البقرة؟ لماذا يدعو موسى ربه ليسأله
عن لون هذا البقرة؟ ل يراعون مقتضيات الدب والوقار اللزمين في حق الله تعالى وحق نبيه
الكريم ،وكيف أنهم ينبغي أن يخجلوا من تكليف موسى بهذا التصال المتكرر حول موضوع
بسيط ل يستحق كل هذه اللجاجة والمراوغة .ويسأل موسى ربه ثم يحدثهم عن لون البقرة
المطلوبة .فيقول أنها بقرة صفراء ،فاقع لونها تسر الناظرين.
وهكذا حددت البقرة بأنها صفراء ،ورغم وضوح المر ،فقد عادوا إلى اللجاجة والمراوغة .فشدد
الله عليهم كما شددوا على نبيه وآذوه .عادوا يسألون موسى أن يدعو الله ليبين ما هي ،فإن
البقر تشابه عليهم ،وحدثهم موسى عن بقرة ليست معدة لحرث ول لسقي ،سلمت من
العيوب ،صفراء ل شية فيها ،بمعنى خالصة الصفرة .انتهت بهم اللجاجة إلى التشديد .وبدءوا
بحثهم عن بقرة بهذه الصفات الخاصة .أخيرا وجدوها عند يتيم فاشتروها وذبحوها.
وأمسك موسى جزء من البقرة )وقيل لسانها( وضرب به القتيل فنهض من موته .سأله موسى
عن قاتله فحدثهم عنه )وقيل أشار إلى القاتل فقط من غير أن يتحدث( ثم عاد إلى الموت.
وشاهد بنو إسرائيل معجزة إحياء الموتى أمام أعينهم ،استمعوا بآذانهم إلى اسم القاتل.
انكشف غموض القضية التي حيرتهم زمنا طال بسبب لجاجتهم وتعنتهم.
89
نود أن نستلفت انتباه القارئ إلى سوء أدب القوم مع نبيهم وربهم ،ولعل السياق القرآني يورد
ذلك عن طريق تكرارهم لكلمة "ربك" التي يخاطبون بها موسى .وكان الولى بهم أن يقولوا
لموسى ،تأدبا ،لو كان ل بد أن يقولوا) :اد ْع ُ ل ََنا َرب ّ َ
ك( ادع لنا ربنا .أما أن يقولوا له :فكأنهم
يقصرون ربوبية الله تعالى على موسى .ويخرجون أنفسهم من شرف العبودية لله .انظر إلى
جئ ْ َ
ت ن ِ
اليات كيف توحي بهذا كله .ثم تأمل سخرية السياق منهم لمجرد إيراده لقولهم) :ال َ
ق( بعد أن أرهقوا نبيهم ذهابا وجيئة بينهم وبين الله عز وجل ،بعد أن أرهقوا نبيهم بسؤاله ِبال ْ َ
ح ّ
عن صفة البقرة ولونها وسنها وعلماتها المميزة ،بعد تعنتهم وتشديد الله عليهم ،يقولون لنبيهم
حين جاءهم بما يندر وجوده ويندر العثور عليه في البقر عادة.
ق" .كأنه كان يلعب قبلها معهم ،ولم يكن ما جاء هو الحق من ت ِبال ْ َ
ح ّ جئ ْ َ
ن ِساعتها قالوا له" :ال َ
دوا ْ ما َ
كا ُ َ َ و ها
َ حو
ُ َ بَ ذَ ف) ظلمهم: من به تشي وما السياق ظلل إلى انظر ثم أول كلمة لخر كلمة.
ن( أل توحي لك ظلل اليات بتعنتهم وتسويفهم ومماراتهم ولجاجتهم في الحق؟ هذه فعَُلو َ
يَ ْ
اللوحة الرائعة تشي بموقف بني إسرائيل على موائد المفاوضات .هي صورتهم على مائدة
المفاوضات مع نبيهم الكريم موسى.
قاسى موسى من قومه أشد المقاساة ،وعانى عناء عظيما ،واحتمل في تبليغهم رسالته ما
احتمل في سبيل الله .ولعل مشكلة موسى الساسية أنه بعث إلى قوم طال عليهم العهد
بالهوان والذل ،وطال بقاؤهم في جو يخلو من الحرية ،وطال مكثهم وسط عبادة الصنام،
ولقد نجحت المؤثرات العديدة المختلفة في أن تخلق هذه النفسية الملتوية الخائرة المهزومة
التي ل تصلح لشيء .إل أن تعذب أنبيائها ومصلحيها.
وقد عذب بنو إسرائيل موسى عذابا نستطيع -نحن أبناء هذا الزمان -أن ندرك وقعه على نفس
موسى النقية الحساسة الكريمة .ولم يقتصر العذاب على العصيان والغباء واللجاجة والجهل
وعبادة الوثان ،وإنما تعدى المر إلى إيذاء موسى في شخصه.
قال تعالى:
َ َ
عند َ الل ّهِ وَ ِ
جيًها )(69 ن ِ ما َقاُلوا وَ َ
كا َ م ّ سى فَب َّرأه ُ الل ّ ُ
ه ِ ن آذ َْوا ُ
مو َ كال ّ ِ
ذي َ مُنوا َل ت َ ُ
كوُنوا َ نآ َ َيا أي َّها ال ّ ِ
ذي َ
)الحزاب(
ونحن ل تعرف كنه هذا اليذاء ،ونستبعد رواية بعض العلماء التي يقولون فيها أن موسى كان
رجل حييا يستتر دائما ول يحب أن يرى أحد من الناس جسده فاتهمه اليهود بأنه مصاب بمرض
جلدي أو برص ،فأراد الله أن يبرئه مما قالوا ،فذهب يستحم يوما ووضع ثيابه على حجر ،ثم
خرج فإذا الحجر يجري بثيابه وموسى يجري وراء الحجر عاريا حتى شاهده بنو إسرائيل عاريا
وليس بجلده عيب .نستبعد هذه القصة لتفاهتها ،فإنها إلى جوار خرافة جري الحجر بملبسه ،ل
تعطي موسى حقه من التوقير ،وهي تتنافى مع عصمته كنبي.
ونعتقد أن اليهود آذوا موسى إيذاء نفسيا ،هذا هو اليذاء الذي يدمي النفوس الكريمة ويجرحها
حقا ،ول نعرف كيف كان هذا اليذاء ،ولكننا نستطيع تخيل المدى العبقري الثم الذي يستطيع
بلوغه بنو إسرائيل في إيذائهم لموسى.
فترة التيه:
ولعل أعظم إيذاء لموسى ،كان رفض بني إسرائيل القتال من أجل نشر عقيدة التوحيد في
الرض ،أو على أقل تقدير ،السماح لهذه العقيدة أن تستقر على الرض في مكان ،وتأمن على
نفسها ،وتمارس تعبدها في هدوء .لقد رفض بنو إسرائيل القتال .وقالوا لموسى كلمتهم
هاهَُنا َقا ِ ت وََرب ّ َ
ك فَ َ َ
ن(.دو َ
ع ُ قاِتل إ ِّنا َ الشهيرةَ) :فاذ ْهَ ْ
ب أن َ
90
وبهذه النفسية حكم الله عليهم بالتيه .وكان الحكم يحدد أربعين عاما كاملة ،وقد مكث بنو
إسرائيل في التيه أربعين سنة ،حتى فني جيل بأكمله .فنى الجيل الخائر المهزوم من الداخل،
وولد في ضياع الشتات وقسوة التيه جيل جديد .جيل لم يتربى وسط مناخ وثني ،ولم يشل
روحه انعدام الحرية .جيل لم ينهزم من الداخل ،جيل لم يعد يستطيع البناء فيه أن يفهموا
لماذا يطوف الباء هكذا بغير هدف في تيه ل يبدو له أول ول تستبين له نهاية .إل خشية من
لقاء العدو .جيل صار مستعدا لدفع ثمن آدميته وكرامته من دمائه .جيل ل يقول لموسى
هاهَُنا َقا ِ ت وََرب ّ َ
ك فَ َ َ
ن(.
دو َ
ع ُ قاِتل إ ِّنا َ )َفاذ ْهَ ْ
ب أن َ
جيل آخر يتبنى قيم الشجاعة العسكرية ،كجزء مهم من نسيج أي ديانة من ديانات التوحيد.
أخيرا ولد هذا الجيل وسط تيه الربعين عاما.
ولقد قدر لموسى .زيادة في معاناته ورفعا لدرجته عند الله تعالى .قدر له أل تكتحل عيناه
بمرأى هذا الجيل .فقد مات موسى عليه الصلة والسلم قبل أن يدخل بنو إسرائيل الرض
التي كتب الله عليهم دخولها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان قومه يؤذونه في الله :قد أوذي موسى بأكثر
من ذلك فصبر.
مات هارون قبل موسى بزمن قصير .واقترب أجل موسى ،عليه الصلة والسلم .وكان لم يزل
في التيه .قال يدعو ربه :رب أدنني إلى الرض المقدسة رمية حجر.
أحب أن يموت قريبا من الرض التي هاجر إليها .وحث قومه عليها .ولكنه لم يستطع ،ومات
في التيه .ودفن عند كثيب أحمر حدث عنه آخر أنبياء الله في الرض حين أسرى به .قال محمد
صلى الله عليه وسلم :لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب
الحمر.
تروي الساطير عديدا من الحكايات حول موت موسى ،وتحكي أنه ضرب ملك الموت حين
جاء يستل روحه ،وأمثال هذه الروايات كثيرة .لكننا ل نحب أن نخوض في هذه الروايات حتى
ل ننجرف وراء السرائيليات التي دخلت بعض كتب التفسير.
مات موسى -عليه الصلة والسلم -في التيه ،وتولى يوشع بن نون أمر بني إسرائيل.
الجزء الرابع :يتناول بعض القصص التي حدثت لموسى وقومه ،لكن القرآن الكريم لم يحدد
لنا زمان ومكان وقوعها )مثل قصة موسى والعبد الصالح ،وقصة قارون(.
قال تعالى:
كان لموسى -عليه السلم -هدف من رحلته هذه التي اعتزمها ,،وأنه كان يقصد من ورائها
امرا ،فهو يعلن عن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة ،ومهما يكن الزمن
قًبا(.
ح ُ َ َ
ي ُ
ض َ
م ِ
الذي ينفه في الوصول .فيعبر عن هذا التصميم قائل )أوْ أ ْ
نرى أن القرآن الكريم ل يحدد لنا المكان الذي وقت فيه الحوادث ،ول يحدد لنا التاريخ ،كما أنه
لم يصرح بالسماء .ولم يبين ماهية العبد الصالح الذي التقاه موسى ،هل هو نبي أو رسول؟ أم
عالم؟ أم ولي؟
91
اختلف المفسرون في تحديد المكان ،فقيل إنه بحر فارس والروم ،وقيل بل بحر الردن أو
القلزم ،وقيل عند طنجة ،وقيل في أفريقيا ،وقيل هو بحر الندلس ..ول يقوم الدليل على صحة
مكان من هذه المكنة ،ولو كان تحديد المكان مطلوبا لحدده الله تعالى ..وإنما أبهم السياق
القرآني المكان ،كما أبهم تحديد الزمان ،كما ضبب أسماء الشخاص لحكمة عليا.
إن القصة تتعلق بعلم ليس هو علمنا القائم على السباب ..وليس هو علم النبياء القائم على
الوحي ..إنما نحن أمام علم من طبيعة غامضة أشد الغموض ..علم القدر العلى ،وذلك علم
أسدلت عليه الستار الكثيفة ..مكان اللقاء مجهول كما رأينا ..وزمان اللقاء غير معروف هو
الخر ..ل نعرف متى تم لقاء موسى بهذا العبد.
وهكذا تمضي القصة بغير أن تحدد لك سطورها مكان وقوع الحداث ،ول زمانه ،يخفي السياق
عَباد َِنا آت َي َْناهُ
ن ِ
م ْ
دا ّ
القرآني أيضا اسم أهم أبطالها ..يشير إليه الحق تبارك وتعالى بقوله) :ع َب ْ ً
ما( هو عبد أخفى السياق القرآني اسمه ..هذا العبد هو عل ْ ً
من ل ّد ُّنا ِ عند َِنا وَع َل ّ ْ
مَناه ُ ِ ن ِ
م ْ
ة ِ
م ً
ح َ
َر ْ
الذي يبحث عنه موسى ليتعلم منه.
لقد خص الله تعالى نبيه الكريم موسى -عليه السلم -بأمور كثيرة .فهو كليم الله عز وجل،
وأحد أولي العزم من الرسل ،وصاحب معجزة العصا واليد ،والنبي الذي أنزلت عليه التوراة
دون واسطة ،وإنما كلمه الله تكليما ..هذا النبي العظيم يتحول في القصة إلى طالب علم
متواضع يحتمل أستاذه ليتعلم ..ومن يكون معلمه غير هذا العبد الذي يتجاوز السياق القرآني
اسمه ،وإن حدثتنا السنة المطهرة أنه هو الخضر -عليه السلم -كما حدثتنا أن الفتى هو يوشع
بن نون ،ويسير موسى مع العبد الذي يتلقى علمه من الله بغير أسباب التلقي الني نعرفها.
ومع منزلة موسى العظيمة إل أن الخضر يرفض صحبة موسى ..يفهمه أنه لن يستطيع معه
صبرا ..ثم يوافق على صحبته بشرط ..أل يسأله موسى عن شيء حتى يحدثه الخضر عنه.
والخضر هو الصمت المبهم ذاته ،إنه ل يتحدث ،وتصرفاته تثير دهشة موسى العميقة ..إن هناك
تصرفات يأتيها الخضر وترتفع أمام عيني موسى حتى لتصل إلى مرتبة الجرائم والكوارث..
وهناك تصرفات تبدو لموسى بل معنى ..وتثير تصرفات الخضر دهشة موسى ومعارضته..
ورغم علم موسى ومرتبته ،فإنه يجد نفسه في حيرة عميقة من تصرفات هذا العبد الذي آتاه
الله من لدنه علما.
وقد اختلف العلماء في الخضر :فيهم من يعتبره وليا من أولياء الله ،وفيهم من يعتبره نبيا..
وقد نسجت الساطير نفسها حول حياته ووجوده ،فقيل إنه ل يزال حيا إلى يوم القيامة ،وهي
قضية لم ترد بها نصوص أو آثار يوثق فيها ،فل نقول فيها إل أنه مات كما يموت عباد الله..
وتبقى قضية وليته ،أو نبوته ..وسنرجئ الحديث في هذه القضية حتى ننظر في قصته كما
أوردها القرآن الكريم.
قام موسى خطيبا في بني إسرائيل ،يدعوهم إلى الله ويحدثهم عن الحق ،ويبدو أن حديثه جاء
جامعا مانعا رائعا ..بعد أن انتهى من خطابه سأله أحد المستمعين من بني إسرائيل :هل على
وجه الرض أحد اعلم منك يا نبي الله؟
قال موسى مندفعا :ل..
وساق الله تعالى عتابه لموسى حين لم يرد العلم إليه ،فبعث إليه جبريل يسأله :يا موسى ما
يدريك أين يضع الله علمه؟
أدرك موسى أنه تسرع ..وعاد جبريل ،عليه السلم ،يقول له :إن لله عبدا بمجمع البحرين هو
أعلم منك.
تاقت نفس موسى الكريمة إلى زيادة العلم ،وانعقدت نيته على الرحيل لمصاحبة هذا العبد
العالم ..سأل كيف السبيل إليه ..فأمر أن يرحل ،وأن يحمل معه حوتا في مكتل ،أي سمكة في
سلة ..وفي هذا المكان الذي ترتد فيه الحياة لهذا الحوت ويتسرب في البحر ،سيجد العبد
العالم ..انطلق موسى -طالب العلم -ومعه فتاه ..وقد حمل الفتى حوتا في سلة ..انطلقا بحثا
92
عن العبد الصالح العالم ..وليست لديهم أي علمة على المكان الذي يوجد فيه إل معجزة ارتداد
الحياة للسمكة القابعة في السلة وتسربها إلى البحر.
ويظهر عزم موسى -عليه السلم -على العثور على هذا العبد العالم ولو اضطره المر إلى أن
يسير أحقابا وأحقابا .قيل أن الحقب عام ،وقيل ثمانون عاما .على أية حال فهو تعبير عن
التصميم ،ل عن المدة على وجه التحديد.
وصل الثنان إلى صخرة جوار البحر ..رقد موسى واستسلم للنعاس ،وبقي الفتى ساهرا..
وألقت الرياح إحدى المواج على الشاطئ فأصاب الحوت رذاذ فدبت فيه الحياة وقفز إلى
سَرًبا( ..وكان تسرب الحوت إلى البحر علمة أعلم الله بها ه ِفي ال ْب َ ْ
حرِ َ سِبيل َ ُ البحرَ) ..فات ّ َ
خذ َ َ
موسى لتحديد مكان لقائه بالرجل الحكيم الذي جاء موسى يتعلم منه.
نهض موسى من نومه فلم يلحظ أن الحوت تسرب إلى البحر ..ونسي فتاه الذي يصحبه أن
يحدثه عما وقع للحوت ..وسار موسى مع فتاه بقية يومهما وليلتهما وقد نسيا حوتهما ..ثم تذكر
صًبا( ..ولمع فرَِنا هَ َ
ذا ن َ َ س َ
من َ داءَنا ل َقَد ْ ل َ ِ
قيَنا ِ فَتاه ُ آت َِنا غ َ َ موسى غداءه وحل عليه التعبَ) ..قا َ
ل لِ َ
في ذهن الفتى ما وقع.
ساعتئذ تذكر الفتى كيف تسرب الحوت إلى البحر هناك ..وأخبر موسى بما وقع ،واعتذر إليه
ه ِفي ال ْب َ ِ
ر ح
ْ سِبيل َ ُ
بأن الشيطان أنساه أن يذكر له ما وقع ،رغم غرابة ما وقع ،فقد اتخذ الحوت ) َ
جًبا( ..كان أمرا عجيبا ما رآه يوشع بن نون ،لقد رأى الحوت يشق الماء فيترك علمة وكأنه عَ َ
طير يتلوى على الرمال.
أخيرا وصل موسى إلى المكان الذي تسرب منه الحوت ..وصل إلى الصخرة التي ناما عندها،
وتسرب عندها الحوت من السلة إلى البحر ..وهناك وجدا رجل.
يقول البخاري إن موسى وفتاه وجدا الخضر مسجى بثوبه ..وقد جعل طرفه تحت رجليه
وطرف تحت رأسه.
فسلم عليه موسى ،فكشف عن وجهه وقال :هل بأرضك سلم..؟ من أنت؟
قال موسى :أنا موسى.
قال الخضر :موسى بني إسرائيل ..عليك السلم يا نبي إسرائيل.
قال موسى :وما أدراك بي..؟
قال الخضر :الذي أدراك بي ودلك علي ..ماذا تريد يا موسى..؟
َ ل أ َت ّب ِعُ َ
دا(. ت ُر ْ
ش ً م َ ما ع ُل ّ ْ
م ّ
ن ِ ك ع ََلى أن ت ُعَل ّ َ
م ِ قال موسى ملطفا مبالغا في التوقير) :هَ ْ
ي
مع ِ َ
طيعَ َ
ست َ ِ َ
ك لن ت َ ْ قال الخضر :أما يكفيك أن التوراة بيديك ..وأن الوحي يأتيك..؟ يا موسى )إ ِن ّ َ
صب ًْرا(.
َ
نريد أن نتوقف لحظة لنلحظ الفرق بين سؤال موسى الملطف المغالي في الدب ..ورد
الخضر الحاسم ،الذي يفهم موسى أن علمه ل ينبغي لموسى أن يعرفه ،كما أن علم موسى
هو علم ل يعرفه الخضر ..يقول المفسرون إن الخضر قال لموسى :إن علمي أنت تجهله..
ولن تطيق عليه صبرا ،لن الظواهر التي ستحكم بها على علمي لن تشفي قلبك ولن تعطيك
تفسيرا ،وربما رأيت في تصرفاتي ما ل تفهم له سببا أو تدري له علة ..وإذن لن تصبر على
علمي يا موسى.
احتمل موسى كلمات الصد القاسية وعاد يرجوه أن يسمح له بمصاحبته والتعلم منه ..وقال له
موسى فيما قال إنه سيجده إن شاء الله صابرا ول يعصي له أمرا.
93
تأمل كيف يتواضع كليم الله ويؤكد للعبد المدثر بالخفاء أنه لن يعصي له أمرا.
قال الخضر لموسى -عليهما السلم -إن هناك شرطا يشترطه لقبول أن يصاحبه موسى ويتعلم
منه هو أل يسأله عن شيء حتى يحدثه هو عنه ..فوافق موسى على الشرط وانطلقا..
انطلق موسى مع الخضر يمشيان على ساحل البحر ..مرت سفينة ،فطلب الخضر وموسى
من أصحابها أن يحملوهما ،وعرف أصحاب السفينة الخضر فحملوه وحملوا موسى بدون أجر،
إكراما للخضر ،وفوجئ موسى حين رست السفينة وغادرها أصحابها وركابها ..فوجئ بأن
الخضر يتخلف فيها ،لم يكد أصحابها يبتعدون حتى بدأ الخضر يخرق السفينة ..اقتلع لوحا من
ألواحها وألقاه في البحر فحملته المواج بعيدا.
فاستنكر موسى فعلة الخضر .لقد حملنا أصحاب السفينة بغير أجر ..أكرمونا ..وها هو ذا يخرق
سفينتهم ويفسدها ..كان التصرف من وجهة نظر موسى معيبا ..وغلبت طبيعة موسى المندفعة
عليه ،كما حركته غيرته على الحق ،فاندفع يحدث أستاذه ومعلمه وقد نسي شرطه الذي
شي ًْئا إ ِ ْ
مًرا(. جئ ْ َ
ت َ خَرقْت ََها ل ِت ُغْرِقَ أ َهْل ََها ل َ َ
قد ْ ِ ل أَ َ
اشترطه عليهَ) :قا َ
وهنا يلفت العبد الرباني نظر موسى إلى عبث محاولة التعليم منه ،لنه لن يستطيع الصبر عليه
صب ًْرا( ،ويعتذر موسى بالنسيان ويرجوه أل يؤاخذه وأل ي َ مع ِ َ
طيعَ َ ك َلن ت َ ْ
ست َ ِ م أ َقُ ْ
ل إ ِن ّ َ )َقا َ َ
ل أل َ ْ
قِني م َ
ت وََل ت ُْره ِ ْ ل َل ت ُ َيرهقه )َقا َ
سًرا(.
ري ع ُ ْ
م ِ
نأ ِْ ْ سي ُ خذ ِْني ب ِ َ
ما ن َ ِ ؤا ِ
سارا معا ..فمرا على حديقة يلعب فيها الصبيان ..حتى إذا تعبوا من اللعب انتحى كل واحد
منهم ناحية واستسلم للنعاس ..فوجئ موسى بأن العبد الرباني يقتل غلما ..ويثور موسى
سائل عن الجريمة التي ارتكبها هذا الصبي ليقتله هكذا ..يعاود العبد الرباني تذكيره بأنه أفهمه
صب ًْرا( ..ويعتذر موسى بأنه َ مِعي
طيعَ َ ك َلن ت َ ْ
ست َ ِ م أ َُقل ل ّ َ
ك إ ِن ّ َ أنه لن يستطيع الصبر عليه )َقا َ َ
ل أل َ ْ
عنك َسأ َل ْت ُ َ نسي ولن يعاود السئلة وإذا سأله مرة أخرى سيكون من حقه أن يفارقه )َقا َ
ل ِإن َ
من ل ّد ُّني ع ُذ ًْرا(. ت ِ حب ِْني قَد ْ ب َل َغْ َ ها فََل ت ُ َ
صا ِ يٍء ب َعْد َ َ َ
ش ْ
ومضى موسى مع الخضر ..فدخل قرية بخيلة ..ل يعرف موسى لماذا ذهبا إلى القرية ،ول
يعرف لماذا يبيتان فيها ،نفذ ما معهما من الطعام ،فاستطعما أهل القرية فأبوا أن يضيفوهما..
وجاء عليهما المساء ،وأوى الثنان إلى خلء فيه جدار يريد أن ينقض ..جدار يتهاوى ويكاد يهم
بالسقوط ..وفوجئ موسى بأن الرجل العابد ينهض ليقضي الليل كله في إصلح الجدار وبنائه
من جديد ..ويندهش موسى من تصرف رفيقه ومعلمه ،إن القرية بخيلة ،ل يستحق من فيها
َ
ت ع َل َي ْهِ أ ْ
جًرا( ..انتهى المر بهذه العبارة ..قال عبد الله ت َلت ّ َ
خذ ْ َ شئ ْ َل ل َوْ ِ هذا العمل المجاني )َقا َ
َ لموسى) :هَ َ
ذا فَِراقُ ب َي ِْني وَب َي ْن ِك(.
لقد حذر العبد الرباني موسى من مغبة السؤال .وجاء دور التفسير الن..
إن كل تصرفات العبد الرباني التي أثارت موسى وحيرته لم يكن حين فعلها تصدر عن أمره..
كان ينفذ إرادة عليا ..وكانت لهذه الرادة العليا حكمتها الخافية ،وكانت التصرفات تشي
بالقسوة الظاهرة ،بينما تخفي حقيقتها رحمة حانية ..وهكذا تخفي الكوارث أحيانا في الدنيا
جوهر الرحمة ،وترتدي النعم ثياب المصائب وتجيد التنكر ،وهكذا يتناقض ظاهر المر وباطنه،
ول يعلم موسى ،رغم علمه الهائل غير قطرة من علم العبد الرباني ،ول يعلم العبد الرباني من
علم الله إل بمقدار ما يأخذ العصفور الذي يبلل منقاره في البحر ،من ماء البحر..
كشف العبد الرباني لموسى شيئين في الوقت نفسه ..كشف له أن علمه -أي علم موسى-
محدود ..كما كشف له أن كثيرا من المصائب التي تقع على الرض تخفي في ردائها السود
الكئيب رحمة عظمى.
إن أصحاب السفينة سيعتبرون خرق سفينتهم مصيبة جاءتهم ،بينما هي نعمة تتخفى في زي
المصيبة ..نعمة لن تكشف النقاب عن وجهها إل بعد أن تنشب الحرب ويصادر الملك كل
94
السفن الموجودة غصبا ،ثم يفلت هذه السفينة التالفة المعيبة ..وبذلك يبقى مصدر رزق
السرة عندهم كما هو ،فل يموتون جوعا.
أيضا سيعتبر والد الطفل المقتول وأمه أن كارثة قد دهمتهما لقتل وحيدهما الصغير البريء..
غير أن موته يمثل بالنسبة لهما رحمة عظمى ،فإن الله سيعطيهما بدل منه غلما يرعاهما في
شيخوختهما ول يرهقهما طغيانا وكفرا كالغلم المقتول.
وهكذا تختفي النعمة في ثياب المحنة ،وترتدي الرحمة قناع الكارثة ،ويختلف ظاهر الشياء عن
باطنها حتى ليحتج نبي الله موسى إلى تصرف يجري أمامه ،ثم يستلفته عبد من عباد الله إلى
حكمة التصرف ومغزاه ورحمة الله الكلية التي تخفي نفسها وراء أقنعة عديدة.
أما الجدار الذي أتعب نفسه بإقامته ،من غير أن يطلب أجرا من أهل القرية ،كان يخبئ تحته
كنزا لغلمين يتيمين ضعيفين في المدينة .ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم
يستطع الصغيران أن يدفعا عنه ..ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلحه في
طفولتهما وضعفهما ،فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على
حمايته.
ثم ينفض الرجل يده من المر .فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف .وهو أمر الله ل
أمره .فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها ،ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما
أطلعه عليه من غيبه.
واختفى هذا العبد الصالح ..لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول ..إل أن موسى تعلم
من صحبته درسين مهمين:
وتعلم أل يتجهم قلبه لمصائب البشر ،فربما تكون يد الرحمة الخالقة تخفي سرها من اللطف
والنقاذ ،واليناس وراء أقنعة الحزن واللم والموت.
هذه هي الدروس التي تعلمها موسى كليم الله عز وجل ورسوله من هذا العبد المدثر بالخفاء.
يرى كثير من الصوفية أن هذا العبد الرباني ولي من أولياء الله تعالى ،أطلعه الله على جزء
من علمه اللدني بغير أسباب انتقال العلم المعروفة ..ويرى بعض العلماء أن هذا العبد الصالح
كان نبيا ..ويحتج أصحاب هذا الرأي بأن سياق القصة يدل على نبوته من وجوه:
عل ْ ً
ما )) (65الكهف( من ل ّد ُّنا ِ عند َِنا وَع َل ّ ْ
مَناه ُ ِ ن ِ
م ْ
ة ِ
م ً
ح َ
عَباد َِنا آت َي َْناه ُ َر ْ
ن ِ
م ْ
دا ّ
دا ع َب ْ ً فَوَ َ
ج َ
95
فلو كان وليا ولم يكن نبي ،لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة ،ولم يرد على موسى هذا الرد.
ولو أنه كان غير نبي ،لكان هذا معناه أنه ليس معصوما ،ولم يكن هناك دافع لموسى ،وهو
النبي العظيم ،وصاحب العصمة ،أن يلتمس علما من ولي غير واجب العصمة.
.3والثالث أن الخضر أقدم على قتل ذلك الغلم بوحي من الله وأمر منه ..وهذا دليل مستقل
على نبوته ،وبرهان ظاهر على عصمته ،لن الولي ل يجوز له القدام على قتل النفوس بمجرد
ما يلقى في خلده ،لن خاطره ليس بواجب العصمة ..إذ يجوز عليه الخطأ بالتفاق ..وإذن ففي
إقدام الخضر على قتل الغلم دليل نبوته.
يعني أن ما فعلته لم أفعله من تلقاء نفسي ،بل أمر أمرت به من الله وأوحي إلي فيه.
فرأى العلماء أن الخضر نبيا ،أما العباد والصوفية رأوا أنه وليا من أولياء الله.
ومن كلمات الخضر التي أوردها الصوفية عنه ..قول وهب بن منبه :قال الخضر :يا موسى إن
الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها .وقول بشر بن الحارث الحافي ..قال موسى
للخضر :أوصني ..قال الخضر :يسر الله عليك طاعته.
ونحن نميل إلى اعتباره نبيا لعلمه اللدني ،غير أننا ل نجد نصا في سياق القرآن على نبوته ،ول
نجد نصا مانعا من اعتباره وليا آتاه الله بعض علمه اللدني ..ولعل هذا الغموض حول شخصه
الكريم جاء متعمدا ،ليخدم الهدف الصلي للقصة ..ولسوف نلزم مكاننا فل نتعداه ونختصم
حول نبوته أو وليته ..وإن أوردناه في سياق أنبياء الله ،لكونه معلما لموسى ..وأستاذا له فترة
من الزمن.
يروي لنا القرآن قصة قارون ،وهو من قوم موسى .لكن القرآن ل يحدد زمن القصة ول مكانها.
فهل وقعت هذه القصة وبنو إسرائيل وموسى في مصر قبل الخروج؟ أو وقعت بعد الخروج
في حياة موسى؟ أم وقعت في بني إسرائيل من بعد موسى؟ وبعيدا عن الروايات المختلفة،
نورد القصة كما ذكرها القرآن الكريم.
يحدثنا الله عن كنوز قارون فيقول سبحانه وتعالى إن مفاتيح الحجرات التي تضم الكنوز ،كان
يصعب حملها على مجموعة من الرجال الشداء .ولو عرفنا عن مفاتيح الكنوز هذه الحال،
فكيف كانت الكنوز ذاتها؟! لكن قارون بغى على قومه بعد أن آتاه الله الثراء .ول يذكر القرآن
فيم كان البغي ،ليدعه مجهل يشمل شتى الصور .فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم
وأشياءهم .وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال .حق الفقراء في أموال الغنياء.
وربما بغى عليهم بغير هذه السباب.
ويبدو أن العقلء من قومه نصحوه بالقصد والعتدال ،وهو المنهج السليم .فهم يحذروه من
الفرح الذي يؤدي بصاحبه إلى نسيان من هو المنعم بهذا المال ،وينصحونه بالتمتع بالمال في
الدنيا ،من غير أن ينسى الخرة ،فعليه أن يعمل لخرته بهذا المال .ويذكرونه بأن هذا المال
هبة من الله وإحسان ،فعليه أن يحسن ويتصدق من هذا المال ،حتى يرد الحسان بالحسان.
ويحذرونه من الفساد في الرض ،بالبغي ،والظلم ،والحسد ،والبغضاء ،وإنفاق المال في غير
وجهه ،أو إمساكه عما يجب أن يكون فيه .فالله ل يحب المفسدين.
96
دي( .لقد عل ْم ٍ ِ
ه ع ََلى ِ ُ فكان رد قارون جملة واحد تحمل شتى معاني الفساد )َقا َ
عن ِ ما أوِتيت ُ ُ
ل إ ِن ّ َ
أنساه غروره مصدر هذه النعمة وحكمتها ،وفتنه المال وأعماه الثراء .فلم يستمع قارون لنداء
قومه ،ولم يشعر بنعمة ربه.
وخرج قارون ذات يوم على قومه ،بكامل زينته ،فطارت قلوب بعض القوم ،وتمنوا أن لديهم
مثل ما أوتي قارون ،وأحسوا أنه في نعمة كبيرة .فرد عليهم من سمعهم من أهل العلم
واليمان :ويلكم أيها المخدوعون ،احذروا الفتنة ،واتقوا الله ،واعلموا أن ثواب الله خير من
هذه الزينة ،وما عند الله خير مما عند قارون.
وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها ،وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى ،تتدخل القدرة اللهية لتضع
حدا للفتنة ،وترحم الناس الضعاف من إغراءها ،وتحطم الغرور والكبرياء ،فيجيء العقاب
َ
ض( هكذا في لمحة خاطفة ابتلعته الرض وابتلعت داره .وذهب دارِهِ اْلْر َ
فَنا ب ِهِ وَب ِ َ
س ْ حاسما )فَ َ
خ َ
ضعيفا عاجزا ،ل ينصره أحد ،ول ينتصر بجاه أو مال.
وبدأ الناس يتحدثون إلى بعضهم البعض في دهشة وعجب واعتبار .فقال الذين كانوا يتمنون أن
عندهم مال قارون وسلطانه وزينته وحظه في الدنيا :حقا إن الله تعالى يبسط الرزق لمن
ن علينا فحفظنا من الخسف يشاء من عباده ويوسع عليهم ،أو يقبض ذلك ،فالحمد لله أن م ّ
والعذاب الليم .إنا تبنا إليك سبحانك ،فلك الحمد في الولى والخر
97
هارون عليه السلم
نبذة:
أخو موسى ورفيقه في دعوة فرعون إلى اليمان بالله لنه كان فصيحا ومتحدثا ،استخلفه
موسى على قومه عندما ذهب للقاء الله فوق جبل الطور ،ولكن حدثت فتنة السامري الذي
حول بني إسرائيل إلى عبادة عجل من الذهب له خوار ،فدعاهم هارون إلى الرجوع لعبادة
الله بدل من العجل ولكنهم استكبروا فلما رجع موسى ووجد ما آل إليه قومه عاتب هارون
عتابا شديدا.
سيرته:
ل يذكر الكثير عن سيرة هارون عليه السلم .إل أن المعلوم هو أن الله أيد موسى بأخيه
هارون في دعوته فلقد كان هارون عليه السلم أفصح لسانا .وورد موقف موسى عليه السلم
من أخيه حين استخلفه على بني إسرائيل وذهب للقاء ربه ،فعبدت بنو إسرائيل العجل الذي
صنعه السامري .القصة مذكورة بتفاصيلها في قصة موسى عليه السلم
98
يوشع بن نون عليه السلم
نبذة:
ورد أنه الفتى الذي صاحب موسى للقاء الخضر .وهو النبي الذي أخرج الله على يديه بني
إسرائي من صحراء سيناء ،وحاربوا أهل فلسطين وانتصروا عليهم.
سيرته:
لم يخرج أحد من التيه ممن كان مع موسى .سوى اثنين .هما الرجلن اللذان أشارا على مل
بني إسرائيل بدخول قرية الجبارين .ويقول المفسرون :إن أحدهما يوشع بن نون .وهذا هو
فتى موسى في قصته مع الخضر .صار الن نبيا من أنبياء بني إسرائيل ،وقائدا لجيش يتجه نحو
الرض التي أمرهم الله بدخولها.
خرج يوشع بن نون ببني إسرائيل من التيه ،بعد أربعين سنة ،وقصد بهم الرض المقدسة.
,كانت هذه الربعين سنة -كما يقول العلماء -كفيلة بأن يموت فيها جميع من خرج مع موسى
عليه السلم من مصر ،ويبقى جيل جديد تربى على أيادي موسى وهارون ويوشع بن نون ،جيل
يقيم الصل ويؤتي الزكاة ويؤمن بالله ورسله .قطع بهم نهر الردن إلى أريحا ،وكانت من
أحصن المدائن سورا وأعلها قصورا وأكثرها أهل .فحاصرها ستة أشهر.
وروي في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) :غزا نبي من النبياء فقال
لقومه ل يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن ول آخر قد بنى
بنيانا ولما يرفع سقفها ول آخر قد اشترى غنما أو خلفات وهو منتظر ولدها قال فغزا فأدنى
للقرية حين صلة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها
علي شيئا فحبست عليه حتى فتح الله عليه قال فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن
تطعمه فقال فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه فلصقت يد رجل بيده فقال
فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك فبايعته قال فلصقت بيد رجلين أو ثلثة فقال فيكم الغلول
أنتم غللتم قال فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب قال فوضعوه في المال وهو بالصعيد
فأقبلت النار فأكلته فلم تحل الغنائم لحد من قبلنا ذلك بأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا
وعجزنا فطيبها لنا( ويرى العلماء أن هذا النبي هو يوشع بن نون ،فقد كان اليهود ل يعملون ول
يحاربون يوم السبت ،وعندما خشي أن يذهب النصر إذا توقف اليهود عن القتال ،فدعى الله
ف في حبس الشمس المذكور هنا ,فقيل :ردت على أدراجها ,وقيل: ختـل ِ َ
أن يحبس الشمس .وا ْ
وقفت ولم ترد ,وقيل :أبطئ بحركتها ,وكل ذلك من معجزات النبوة .
صدر المر اللهي لبني إسرائيل أن يدخلوا المدينة سجدا ..أي راكعين مطأطئي رءوسهم
حط ّ ٌ
ة(.. شاكرين لله عز وجل ما من به عليهم من الفتح .أمروا أن يقولوا حال دخولهمِ ) :
بمعنى حط عنا خطايانا التي سلفت ،وجنبنا الذي تقدم من آبائنا.
إل أن بني إسرائيل خالف ما أمرت به قول وفعل ..فدخلوا الباب متعالين متكبرين ،وبدلوا قول
غير الذي قيل لهم ..فأصابهم عذاب من الله بما ظلموا .كانت جريمة الباء هي الذل ،وأصبحت
جريمة البناء الكبرياء والفتراء.
ولم تكن هذه الجريمة هي أول جرائم بني إسرائيل ول آخر جرائمهم ،فقد عذبوا رسلهم كثيرا
بعد موسى ،وتحولت التوراة بين أيديهم إلى قراطيس يبدون بعضها ويخفون كثيرا .حسبما
تقتضي الحوال وتدفع المصلحة المباشرة ،وكان هذا الجحود هو المسؤول عما أصاب بني
إسرائيل من عقوبات.
99
عاد بنو إسرائيل إلى ظلمهم لنفسهم ..اعتقدوا أنهم شعب الله المختار ،وتصوروا انطلقا من
هذا العتقاد أن من حقهم ارتكاب أي شيء وكل شيء ..وعظمت فيهم الخطاء وتكاثرت
الخطايا وامتدت الجرائم بعد كتابهم إلى أنبيائهم ،فقتلوا من قتلوا من النبياء.
وسلط الله عليهم بعد رحمة النبياء قسوة الملوك الجبارين ،يظلمونهم ويسفكون دمائهم،
وسلط الله أعدائهم عليهم ومكن لهم من رقابهم وأموالهم.
وكان معهم تابوت الميثاق .وهو تابوت يضم بقية مما ترك موسى وهارون ،ويقال إن هذا
التابوت كان يضم ما بقي من ألواح التوراة التي أنزلت على موسى ونجت من يد الزمان.
وكان لهذا التابوت بركة تمتد إلى حياتهم وحروبهم ،فكان وجود التابوت بينهم في الحرب،
يمدهم بالسكينة والثبات ،ويدفعهم إلى النصر ،فلما ظلموا أنفسهم ورفعت التوراة من قلوبهم
لم يعد هناك معنى لبقاء نسختها معهم ،وهكذا ضاع منهم تابوت العهد ،وضاع في حرب من
حروبهم التي هزموا فيها.
وساءت أحوال بني إسرائيل بسبب ذنوبهم وتعنتهم وظلمهم لنفسهم .ومرت سنوات
وسنوات .واشتدت الحاجة إلى ظهور نبي ينتشلهم من الوهدة السحيقة التي أوصلتهم إليها
فواجع الثام وكبائر الخطايا
نبذة:
آتاه الله العلم والحكمة وسخر له الجبال والطير يسبحن معه وألن له الحديد ،كان عبدا خالصا
لله شكورا يصوم يوما ويفطر يوما يقوم نصف الليل وينام ثلثه ويقوم سدسه وأنزل الله عليه
الزبور وقد أوتي ملكا عظيما وأمره الله أن يحكم بالعدل.
سيرته:
100
قبل البدء بقصة داود عليه السلم ،لنرى الوضاع التي عاشها بنو إسرائل في تلك الفترة.
لقد انفصل الحكم عن الدين..فآخر نبي ملك كان يوشع بن نون ..أما من بعده فكانت الملوك
تسوس بني إسرائيل وكانت النبياء تهديهم .وزاد طغيان بني إسرائيل ،فكانوا يقتلون النبياء،
نبيا تلو نبي ،فسلط الله عليهم ملوكا منهم ظلمة جبارين ،ألوهم وطغوا عليهم.
وتتالت الهزائم على بني إسرائيل ،حتى انهم أضاعوا التابوت .وكان في التابوت بقية مما ترك
آل موسى وهارون ،فقيل أن فيها بقية من اللواح التي أنزلها الله على موسى ،وعصاه ،وأمورا
آخرى .كان بنو إسرائيل يأخذون التابوت معهم في معاركهم لتحل عليهم السكينة ويحققوا
النصر .فتشروا وساءت حالهم.
في هذه الظروف الصعبة ،كانت هنالك امرأة حامل تدعو الله كثيرا أن يرزقها ولدا ذكرا.
فولدت غلما فسمته أشموئيل ..ومعناه بالعبرانية إسماعيل ..أي سمع الله دعائي ..فلما
ترعرع بعثته إلى المسجد وأسلمته لرجل صالح ليتعلم منه الخير والعبادة .فكان عنده ،فلما بلغ
أشده ،بينما هو ذات ليلة نائم :إذا صوت يأتيه من ناحية المسجد فانتبه مذعورا ظانا أن الشيخ
يدعوه .فهرع أشموئيل إلى يسأله :أدعوتني..؟ فكره الشيخ أن يفزعه فقال :نعم ..نم ..فنام..
ثم ناداه الصوت مرة ثانية ..وثالثة .وانتبه إلى جبريل عليه السلم يدعوه :إن ربك بعثك إلى
قومك.
ووقعت هذه المعجزة ..وعادت إليهم التوراة يوما ..ثم تجهز جيش طالوت ،وسار الجيش طويل
حتى أحس الجنود بالعطش ..قال الملك طالوت لجنوده :سنصادف نهرا في الطريق ،فمن
شرب منه فليخرج من الجيش ،ومن لم يذقه وإنما بل ريقه فقط فليبق معي في الجيش..
وجاء النهر فشرب معظم الجنود ،وخرجوا من الجيش ،وكان طالوت قد أعد هذا المتحان
ليعرف من يطيعه من الجنود ومن يعصاه ،وليعرف أيهم قوي الرادة ويتحمل العطش ،وأيهم
ضعيف الرادة ويستسلم بسرعة .لم يبق إل ثلثمئة وثلثة عشر رجل ،لكن جميعهم من
الشجعان.
كان عدد أفراد جيش طالوت قليل ،وكان جيش العدو كبيرا وقويا ..فشعر بعض -هؤلء الصفوة-
؟!
أنهم أضعف من جالوت وجيشه وقالوا :كيف نهزم هذا الجيش الجبار ..
من قال المؤمنون من جيش طالوت :النصر ليس بالعدة والعتاد ،إنما النصر من عند اللهَ ) ..
كم ّ
ن الل ّ ِ
ه( ..فثّبتوهم. ة ك َِثيَرة ً ب ِإ ِذ ْ ِ فِئ َةٍ قَِليل َةٍ غ َل َب َ ْ
ت فِئ َ ً
101
وبرز جالوت في دروعه الحديدية وسلحه ،وهو يطلب أحدا يبارزه ..وخاف منه جنود طالوت
جميعا ..وهنا برز من جيش طالوت راعي غنم صغير هو داود ..كان داود مؤمنا بالله ،وكان يعلم
أن اليمان بالله هو القوة الحقيقية في هذا الكون ،وأن العبرة ليست بكثرة السلح ،ول ضخامة
الجسم ومظهر الباطل.
وكان الملك ،قد قال :من يقتل جالوت يصير قائدا على الجيش ويتزوج ابنتي ..ولم يكن داود
يهتم كثيرا لهذا الغراء ..كان يريد أن يقتل جالوت لن جالوت رجل جبار وظالم ول يؤمن
بالله ..وسمح الملك لداود أن يبارز جالوت..
وتقدم داود بعصاه وخمسة أحجار ومقلعه )وهو نبلة يستخدمها الرعاة( ..تقدم جالوت المدجج
بالسلح والدروع ..وسخر جالوت من داود وأهانه وضحك منه ،ووضع داود حجرا قويا في
مقلعه وطوح به في الهواء وأطلق الحجر .فأصاب جالوت فقتله .وبدأت المعركة وانتصر
جيش طالوت على جيش جالوت.
بعد فترة أصبح داود -عليه السلم -ملكا لبني إسرائيل ،فجمع الله على يديه النبوة والملك مرة
أخرى.
وتأتي بعض الروايات لتخبرنا بأن طالوت بعد أن اشتهر نجم داوود أكلت الغيرة قلبه ،وحاول
قتله ،وتستمر الروايات في نسج مثل هذه المور .لكننا ل نود الخوض فيها فليس لدينا دليل
قوي عليها .ما يهمنا هو انتقال الملك بعد فترة من الزمن إلى داود.
كانت الدروع الحديدية التي يصنعها صناع الدروع ثقيلة ول تجعل المحارب حرا يستطيع أن
يتحرك كما يشاء أو يقاتل كما يريد .فقام داوود بصناعة نوعية جديدة من الدروع .درع يتكون
من حلقات حديدية تسمح للمحارب بحرية الحركة ،وتحمي جسده من السيوف والفئوس
والخناجر ..أفضل من الدروع الموجودة أيامها..
وشد الله ملك داود ،جعله الله منصورا على أعدائه دائما ..وجعل ملكه قويا عظيما يخيف
العداء حتى بغير حرب ،وزاد الله من نعمه على داود فأعطاه الحكمة وفصل الخطاب ،أعطاه
الله مع النبوة والملك حكمة وقدرة على تمييز الحق من الباطل ومعرفة الحق ومساندته..
فأصبح نبيا ملكا قاضيا.
يروي لنا القرآن الكريم بعضا من القضايا التي وردت على داود -عليه السلم.
فلقد جلس داود كعادته يوما يحكم بين الناس في مشكلتهم ..وجاءه رجل صاحب حقل ومعه
رجل آخر..
وقال له صاحب الحقل :سيدي النبي ..إن غنم هذا الرجل نزلت حقلي أثناء الليل ،وأكلت كل
عناقيد العنب التي كانت فيه ..وقد جئت إليك لتحكم لي بالتعويض..
قال داود لصاحب الغنم :هل صحيح أن غنمك أكلت حقل هذا الرجل؟
102
قال صاحب الغنم :نعم يا سيدي..
قال داود :لقد حكمت بأن تعطيه غنمك بدل من الحقل الذي أكلته.
قال سليمان ..وكان الله قد علمه حكمة تضاف إلى ما ورث من والده :عندي حكم آخر يا
أبي..
قال سليمان :أحكم بأن يأخذ صاحب الغنم حقل هذا الرجل الذي أكلته الغنم ..ويصلحه له
ويزرعه حتى تنمو أشجار العنب ،وأحكم لصاحب الحقل أن يأخذ الغنم ليستفيد من صوفها
ولبنها ويأكل منه ،فإذا كبرت عناقيد الغنم وعاد الحقل سليما كما كان أخذ صاحب الحقل حقله
وأعطى صاحب الغنم غنمه..
قال داود :هذا حكم عظيم يا سليمان ..الحمد لله الذي وهبك الحكمة..
ن أ َِبى حد ّث َِنى وَْرَقاُء ع َ ْ ة َشَباب َ ُ حد ّث َِنى َ ب َ حْر ٍ ن َ حد ّث َِنى ُزهَي ُْر ب ْ ُ وقد ورد في الصحيح قصة أخرىَ :
ما َ َ َ ن أ َِبى هَُري َْرة َ ع َ َ
معَهُ َ ن َ مَرأَتا ِ ما ا ْ ى صلى الله عليه وسلم قال » ب َي ْن َ َ ّ ن الن ّب ِ ِ ن الع َْرِج ع َ ْ الّزَناد ِ ع َ ِ
حبت ِها إنما ذ َهَب بابن ِ َ
تت .وََقال َ ِ ك أن ْ ِ َ ِ ْ ِ صا ِ َ َ ِ َّ َ ِ ل ِ ه ِ ذ َ ه تْ َ لقاَ َ ف . ماَ ُ ه دا
َ ح
ْ إ
ِ ِ ِن ْ ببا ب
َ َ ه َ ذ َ ف ب ُ ْ ئ ّ ذ ال َ ء جاما َ اب َْناهُ َ
داوُد َ ن َ ن بْ ِ ما َ َ
سلي ْ َ جَتا ع َلى َُ خَر َ َ ُ ْ
ضى ب ِهِ ل ِلكب َْرى ف َ ق َ َ
داوُد َ ف َ مَتا إ ِلى ََ َ
حاك َ َ
ك .فت َ َ ب ِباب ْن ِ ِ َ
خَرى إ ِّنما ذهَ َ ال ُ ْ
ن أَ ُ َ
و
ه هُ َ ك الل ّ ُ م َ ح ُ صغَْرى ل َ ي َْر َ ت ال ّ قال َ ِ ما .فَ َ ه ب َي ْن َك ُ َ ق ُ ش ّ كي ِ س ّ ل ائ ُْتوِنى ِبال ّ قا َ خب ََرَتاه ُ فَ َ م فَأ ْ سل َ ُ ما ال ّ ع َل َي ْهِ َ
ن قَ ّ َ
ما ك ُّنا مئ ِذ ٍ َط إ ِل ّ ي َوْ َ كي ِ س ّ ت ِبال ّ مع ْ ُ س ِ
ن َ ل أُبو هَُري َْرة َ َوالل ّهِ إ ِ ْ ل َقا َ صغَْرى «َ .قا َ ضى ب ِهِ ِلل ّ ق َ اب ْن َُها .فَ َ
ة. مد ْي َ َ ْ
ل إ ِل ّ ال ُ قو ُ نَ ُ
فتنة داود:
وكان داود رغم قربه من الله وحب الله له ،يتعلم دائما من الله ،وقد علمه الله يوما أل يحكم
أبدا إل إذا استمع لقوال الطرفين المتخاصمين ..فيذكر لنا المولى في كتابه الكريم قضية
أخرى عرضت على داود عليه السلم.
جلس داود يوما في محرابه الذي يصلي لله ويتعبد فيه ،وكان إذا دخل حجرته أمر حراسه أل
يسمحوا لحد بالدخول عليه أو إزعاجه وهو يصلي ..ثم فوجئ يوما في محرابه بأنه أمام اثنين
من الرجال ..وخاف منهما داود لنهما دخل رغم أنه أمر أل يدخل عليه أحد .سألهما داود :من
أنتما؟
قال أحد الرجلين :ل تخف يا سيدي ..بيني وبين هذا الرجل خصومة وقد جئناك لتحكم بيننا
بالحق.
ة
ج ٌ
ي ن َعْ َ
ة وَل ِ َ
ج ً
ن ن َعْ َ
سُعو َ
سعٌ وَت ِ ْ
ه تِ ْ ذا أ َ ِ
خي ل َ ُ ن هَ َ
سأل داود :ما هي القضية؟ قال الرجل الول) :إ ِ ّ
حد َةٌ( .وقد أخذها مني .قال أعطها لي وأخذها مني.. َوا ِ
وفوجئ داود باختفاء الرجلين من أمامه ..اختفى الرجلن كما لو كانا سحابة تبخرت في الجو
وأدرك داود أن الرجلين ملكان أرسلهما الله إليه ليعلماه درسا ..فل يحكم بين المتخاصمين من
الناس إل إذا سمع أقوالهم جميعا ،فربما كان صاحب التسع والتسعين نعجة معه الحق ..وخر
داود راكعا ،وسجد لله ،واستغفر ربه..
103
نسجت أساطير اليهود قصصا مريبة حول فتنة داود عليه السلم ،وقيل أنه اشتهى امرأة أحد
قواد جيشه فأرسله في معركة يعرف من البداية نهايتها ،واستولى على امرأته ..وليس أبعد
عن تصرفات داود من هذه القصة المختلقة ..إن إنسانا يتصل قلبه بالله ،ويتصل تسبيحه
بتسبيح الكائنات والجمادات ،يستحيل عليه أن يرى أو يلحظ جمال بشريا محصورا في وجه
امرأة أو جسدها..
عاد داود يعبد الله ويسبحه حتى مات… كان داود يصوم يوما ويفطر يوما ..قال رسول الله
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عن داود" :أفضل الصيام صيام داود .كان يصوم يوما
ويفطر يوما .وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا ،وكانت له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه ويبكي
ببكائه كل شيء ويشفي بصوته المهموم والمحموم"..
جاء في الحديث الصحيح أن داود عليه السلم كان شديد الغيرة على نساءه ،فكانت نساءه في
قصر ،وحول القصر أسوار ،حتى ل يقترب أحد من نساءه .وفي أحد اليام رأى النسوة رجل
ن به .فبلغ الخبر داود -عليه
في صحن القصر ،فقالوا :من هذا والله لن رآه داود ليبطش ّ
السلم -فقال للرجل :من أنت؟ وكيف دخلت؟ قال :أنا من ل يقف أمامه حاجز .قال :أنت ملك
الموت .فأذن له فأخذ ملك الموت روحه.
مات داود عليه السلم وعمره مئة سنة .وشيع جنازته عشرات اللف ،فكان محبوبا جدا بين
الناس ،حتى قيل لم يمت في بني إسرائيل بعد موسى وهارون أحد كان بنو إسرائيل أشد
جزعا عليه ..منهم على داود ..وآذت الشمس الناس فدعا سليمان الطير قال :أظلي على
داود .فأظلته حتى أظلمت عليه الرض .وسكنت الريح .وقال سليمان للطير :أظلي الناس من
ناحية الشمس وتنحي من ناحية الريح .وأطاعت الطير .فكان ذلك أول ما رآه الناس من ملك
سليمان.
104
سليمان عليه السلم
نبذة:
آتاه الله العلم والحكمة وعلمه منطق الطير والحيوانات وسخر له الرياح والجن ،وكان له قصة
مع الهدهد حيث أخبره أن هناك مملكة باليمن يعبد أهلها الشمس من دون الله فبعث سليمان
إلى ملكة سبأ يطلب منها اليمان ولكنها أرسلت له الهدايا فطلب من الجن أن يأتوا بعرشها
فلما جاءت ووجدت عرشها آمنت بالله.
سيرته:
داُوود َ( ورثه في النبوة والملك ..ليس المقصود وراثته في المال ،لن النبياء ل
ن َ سل َي ْ َ
ما ُ ث ُ
)وَوَرِ َ
يورثون .إنما تكون أموالهم صدقة من بعدهم للفقراء والمحتاجين ،ل يخصون بها أقربائهم .قال
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم" :نحن معشر النبياء ل نورث".
ملك سليمان:
لقد آتى الله سليمان –عليه السلم -ملكا عظيما ،لم يؤته أحدا من قبله ،ولن يعطه لحد من
كا لّ
مل ْ ً
ب ِلي ُ ب اغ ْ ِ
فْر ِلي وَهَ ْ بعده إلى يوم القيامة .فقد استجاب الله تعالى لدعوة سليمان )َر ّ
دي( .لنتحدث الن عن بعض المور التي سخرها الله لنبيه سليمان عليه ن ب َعْ ِ
م ْ َينب َِغي ِل َ َ
حد ٍ ّ
السلم .لقد سخر له أمرا لم يسخره لحد من قبله ول بعده ..سخر الله له "الجن" .فكان لديه
–عليه السلم -القدرة على حبس الجن الذين ل يطيعون أمره ،وتقييدهم بالسلسل وتعذيبهم.
ومن يعص سليمان يعذبه الله تعالى .لذلك كانوا يستجيبون لوامره ،فيبنون له القصور،
والتماثيل –التي كانت مباحة في شرعهم -والواني والقدور الضخمة جدا ،فل يمكن تحريكها
من ضخامتها .وكانت تغوص له في أعماق البحار وتستخرج اللؤلؤ والمرجان والياقوت..
وسخر الله لسليمان –عليه السلم -الريح فكانت تجري بأمره .لذلك كان يستخدمها سليمان
في الحرب .فكان لديه بساطا خشبيا ضخم جدا ،وكان يأمر الجيش بأن يركب على هذا
الخشب ،ويأمر الريح بأن ترفع البساط وتنقلهم للمكان المطلوب .فكان يصل في سرعة
خارقة.
ومن نعم الله عليه ،إسالة النحاس له .مثلما أنعم على والده داود بأن ألن له الحديد وعلمه
كيف يصهره ..وقد استفاد سليمان من النحاس المذاب فائدة عظيمة في الحرب والسلم.
ونختم هذه النعم بجيش سليمان عليه السلم .كان جيشه مكون من :البشر ،والجن ،والطيور.
فكان يعرف لغتها.
سليمان والخيل:
بعد عرض أنعم الله عليه ،لنبدأ بقصته عليه السلم .وبعض أحداثها.
105
كان سليمان –عليه السلم -يحب الخيل كثيرا ،خصوصا ما يسمى )بالصافنات( ،وهي من أجود
أنواع الخيول وأسرعها .وفي يوم من اليام ،بدأ استعراض هذه الخيول أمام سليمان عصرا،
وتذكر بعد الروايات أن عددها كان أكثر من عشرين ألف جواد ،فأخذ ينظر إليها ويتأمل فيها،
فطال الستعراض ،فشغله عن ورده اليومي في ذكر الله تعالى ،حتى غابت الشمس ،فانتبه،
وأنب نفسه لن حبه لهذه الخيول شغله عن ذكر ربه حتى غابت الشمس ،فأمر بإرجاع الخيول
َ
ق َواْلع َْنا ِ
ق( .وجاءت هنا روايتان كلهما قوي .رواية تقول أنه أخذ سو ِ
حا ِبال ّ
س ً
م ْ له )فَط َ ِ
فق َ َ
السيف وبدأ بضربها على رقابها وأرجلها ،حتى ل ينشغل بها عن ذكر الله .ورواية أخرى تقول
أنه كان يمسح عليها ويستغفر الله عز وجل ،فكان يمسحها ليرى السقيم منها من الصحيح لنه
دها للجهاد في سبيل الله. كان يع ّ
ابتلء سليمان:
ورغم كل هذه النعم العظيمة والمنح الخاصة ،فقد فتن الله تعالى سليمان ..اختبره وامتحنه،
والفتنة امتحان دائم ،وكلما كان العبد عظيما كان امتحانه عظيما.
اختلف المفسرون في فتنة سليمان عليه السلم .ولعل أشهر رواية عن هذه الفتنة هي نفسها
أكذب رواية ..قيل إن سليمان عزم على الطواف على نسائه السبعمائة في ليلة واحدة،
وممارسة الحب معهن حتى تلد كل امرأة منهن ولدا يجاهد في سبيل الله ،ولم يقل سليمان
إن شاء الله ،فطاف على نسائه فلم تلد منهن غير امرأة واحدة ..ولدت طفل مشوها ألقوه
على كرسيه ..والقصة مختلقة من بدايتها لنهايتها ،وهي من السرائيليات الخرافية.
وحقيقة هذه الفتنة ما ذكره الفخر الرازي .قال :إن سليمان ابتلي بمرض شديد حار فيه
الطب .مرض سليمان مرضا شديدا حار فيه أطباء النس والجن ..وأحضرت له الطيور أعشابا
طبية من أطراف الرض فلم يشف ،وكل يوم كان المرض يزيد عليه حتى أصبح سليمان إذا
جلس على كرسيه كأنه جسد بل روح ..كأنه ميت من كثرة العياء والمرض ..واستمر هذا
المرض فترة كان سليمان فيها ل يتوقف عن ذكر الله وطلب الشفاء منه واستغفاره وحبه..
وانتهى امتحان الله تعالى لعبده سليمان ،وشفي سليمان ..عادت إليه صحته بعد أن عرف أن
كل مجده وكل ملكه وكل عظمته ل تستطيع أن تحمل إليه الشفاء إل إذا أراد الله سبحانه..
هذا هو الرأي الذي نرتاح إليه ،ونراه لئقا بعصمة نبي حكيم وكريم كسليمان..
ويذكر لنا القرآن الكريم مواقف عدة ،تتجلى لنا فيها حكمة سليمان –عليه السلم -ومقدرته
الفائقة على استنتاج الحكم الصحيح في القضايا المعروضه عليه .ومن هذه القصص ما حدث
في زمن داود –عليه السلم -قال تعالى:
ن )(78
دي َ م َ
شاه ِ ِ حك ْ ِ
مهِ ْ م ال ْ َ
قوْم ِ وَك ُّنا ل ِ ُ ت ِفيهِ غ َن َ ُ ف َ
ش ْ ث إ ِذ ْ ن َ َ
حْر ِ ن ِفي ال ْ َ ما ِ حك ُ َن إ ِذ ْ ي َ ْما َسل َي ْ َ
داُوود َ وَ ُوَ َ
ما ْ
عل ًما وَ ِ ْ
حك ً ّ ُ
ن وَكل آت َي َْنا ُ ما َ َ
سلي ْ َ ها ُ مَنا َ
فهّ ْفَ َ
جلس داود كعادته يوما يحكم بين الناس في مشكلتهم ..وجاءه رجل صاحب حقل ومعه رجل
آخر..
وقال له صاحب الحقل :سيدي النبي ..إن غنم هذا الرجل نزلت حقلي أثناء الليل ،وأكلت كل
عناقيد العنب التي كانت فيه ..وقد جئت إليك لتحكم لي بالتعويض..
قال داود لصاحب الغنم :هل صحيح أن غنمك أكلت حقل هذا الرجل؟
قال داود :لقد حكمت بأن تعطيه غنمك بدل من الحقل الذي أكلته.
106
قال سليمان ..وكان الله قد علمه حكمة تضاف إلى ما ورث من والده :عندي حكم آخر يا
أبي..
قال سليمان :أحكم بأن يأخذ صاحب الغنم حقل هذا الرجل الذي أكلته الغنم ..ويصلحه له
ويزرعه حتى تنمو أشجار العنب ،وأحكم لصاحب الحقل أن يأخذ الغنم ليستفيد من صوفها
ولبنها ويأكل منه ،فإذا كبرت عناقيد الغنم وعاد الحقل سليما كما كان أخذ صاحب الحقل حقله
وأعطى صاحب الغنم غنمه..
قال داود :هذا حكم عظيم يا سليمان ..الحمد لله الذي وهبك الحكمة.
ن أ َِبى حد ّث َِنى وَْرَقاُء ع َ ْ ة َ شَباب َ ُ حد ّث َِنى َ ب َ حْر ٍ ن َ حد ّث َِنى ُزهَي ُْر ب ْ ُ ومنها ما جاء في الحديث الصحيحَ :
ما َ َ َ ن أ َِبى هَُري َْرة َ ع َ َ
معَهُ َ ن َ مَرأَتا ِ ما ا ْ ى صلى الله عليه وسلم قال » ب َي ْن َ َ ّ ن الن ّب ِ ِ ن الع َْرِج ع َ ْ الّزَناد ِ ع َ ِ
حبت ِها إنما ذ َهَب بابن ِ َ
تت .وََقال َ ِ ك أن ْ ِ َ ِ ْ ِ صا ِ َ َ ِ َّ َ ِ ل ِ ه ِ ذ َ ه تْ َ لقاَ َ ف . ماَ ُ ه دا
َ ح
ْ إ
ِ ِ ِن ْ ببا ب
َ َ ه َ ذ َ ف ب ُ ْ ئ ّ ذ ال َ ء جاما َ اب َْناهُ َ
داوُد َ ن َ ن بْ ِ ما َ َ
سلي ْ َ جَتا ع َلى َُ خَر َ َ ُ ْ
ضى ب ِهِ ل ِلكب َْرى ف َ ق َ َ
داوُد َ ف َ مَتا إ ِلى َ َ َ
حاك َ َ
ك .فت َ َ ب ِباب ْن ِ ِ َ
خَرى إ ِّنما ذهَ َ ال ُ ْ
ن أَ ُ َ
و
ه هُ َ ك الل ّ ُ م َ ح ُ صغَْرى ل َ ي َْر َ ت ال ّ قال َ ِ ما .فَ َ ه ب َي ْن َك ُ َ ق ُ ش ّ كي ِ س ّ ل ائ ُْتوِنى ِبال ّ قا َ خب ََرَتاه ُ فَ َ م فَأ ْ سل َ ُ ما ال ّ ع َل َي ْهِ َ
ن قَ ّ َ
ما ك ُّنا مئ ِذ ٍ َط إ ِل ّ ي َوْ َ كي ِ س ّ ت ِبال ّ مع ْ ُ س ِ
ن َ ل أُبو هَُري َْرة َ َوالل ّهِ إ ِ ْ ل َقا َ صغَْرى «َ .قا َ ضى ب ِهِ ِلل ّ ق َ اب ْن َُها .فَ َ
ة. مد ْي َ َ ْ
ل إ ِل ّ ال ُ قو ُ نَ ُ
سليمان والنملة:
وا ع ََلى َوادِ حـّتى ِإذا أت َ ْ ن )َ (17 عو َ م ُيوَز ُ س َوالط ّي ْرِ فَهُ ْ لن ِ ن َوا ْ ِ ج ّ ن ال ْ ِ م َ جُنود ُه ُ ِ ن ُ ما َ سل َي ْ َشَر ل ِ ُ ح ِوَ ُ
ن) ْ َ َ ُ َ ُ ُ ُ َ َ َ َ
م ل ي َشعُُرو َ جُنود ُه ُ وَهُ ْ ن وَ ُما ُ سلي ْ َ م ُ من ّك ْ حط ِ َ م ل يَ ْ ساك ِن َك ْ م َ خلوا َ مل اد ْ ُ ة َيا أي َّها الن ّ ْ مل ٌ ت نَ ْ ل قال ْ م ِالن ّ ْ
ي وَع ََلى َ ل َ ع ت م ع نك ال ِّتي أ ََ ت م ع ِ ن ر ُ ك ْ
ش ل رب أ َوزع ِْني أ َن أ َ َ َ
قا و ها ِ ل و َ ق من كاً ح
ِ ضا م س ب ت َ ف (18
ّ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ْ ِ ّ َ ْ َ َ ّ َ َ ّ َ َ
ن )) (19النمل( حي َ صال ِ ِ
ك ال ّ عَباد ِ َ ك ِفي ِ مت ِ َ خل ِْني ب َِر ْ
ح َ ضاه ُ وَأ َد ْ ِ حا ت َْر َ صال ِ ًل َ م َ ن أع ْ َ
وال ِدي وأ َ َ
َ َ ّ َ ْ
يقول العلماء "ما أعقلها من نملة وما أفصحها"َ) .يا( نادت) ،أ َي َّها( نّبهت) ،اد ْ ُ
خُلوا( أمرتَ) ،ل
ن( اعتذرت .سمع سليمان م َل ي َ ْ
شعُُرو َ مت) ،وَهُ ْ
جُنود ُهُ( ع ّ
صت) ،وَ ُ
ن( خ ّ سل َي ْ َ
ما ُ من ّك ُ ْ
م( نهتُ ) ، حط ِ َ
يَ ْ
كلم النملة فتبسم ضاحكا من قولها ..ما الذي تتصوره هذه النملة! رغم كل عظمته وجيشه
فإنه رحيم بالنمل ..يسمع همسه وينظر دائما أمامه ول يمكن أبدا أن يدوسه ..وكان سليمان
يشكر الله أن منحه هذه النعمة ..نعمة الرحمة ونعمة الحنو والشفقة والرفق.
ولعل أشهر قصة عن سليمان –عليه السلم -هي قصته مع بلقيس ملكة سبأ.
جاء يوم ..وأصدر سليمان أمره لجيشه أن يستعد ..بعدها ،خرج سليمان يتفقد الجيش،
ويستعرضه ويفتش عليه ..فاكتشف غياب الهدهد وتخلفه عن الوقوف مع الجيش ،فغضب
وقرر تعذيبه أو قتله ،إل إن كان لديه عذر قوي منعه من القدوم.
قا َ
ل ث غ َي َْر ب َِعيد ٍ فَ َ مك َ َفجاء الهدهد ووقف على مسافة غير بعيدة عن سليمان –عليه السلم) -فَ َ
ح ْ َ
ن( وانظروا كيف يخاطب هذا الهدهد أعظم ملك قي ٍ
سب َإ ٍ ب ِن َب َإ ٍ ي َ ِ
من َ جئ ْت ُ َ
ك ِ ط ب ِهِ وَ ِ ما ل َ ْ
م تُ ِ ت بِ َ
حط ُ أ َ
في الرض ،بل إحساس بالذل أو المهانة ،ليس كما يفعل ملوك اليوم ل يتكلم معهم أحد إل
ويجب أن تكون علمات الذل ظاهرة عليه .فقال الهدهد أن أعلم منك بقضية معينة ،فجئت
ُ بأخبار أكيدة من مدينة سبأ باليمن) .إني وجدت ا َ
من ت ِ م( تحكمهم )وَأوت ِي َ ْ مل ِك ُهُ ْمَرأةً( بلقيس )ت َ ْ َ َ ّ ْ ِّ
م(ٌ ظي
ِ َ ع شْ ٌ ر َ ع ها
َ ََ لو ) كثيرة أشياء لها خرّ وس عظيمين يٍء( أعطاها الله قوة وملكا ش ْ كُ ّ
ل َ
ه( ّ
ن الل ِ دو ِ من ُ س ِ ّ َ
م ِ ن ِللش ْ دو َج ُ س ُمَها ي َ ْ
جدت َّها وَقوْ َصع بالجواهر )وَ َ وكرسي الحكم ضخم جدا ومر ّ
107
طا َ
ل
سِبي ِ ن ال ّ م عَ ِ م( أضلهم الشيطان )فَ َ
صد ّهُ ْ مال َهُ ْن أع ْ َ شي ْ َ ُم ال ّن ل َهُ ُوهم يعبدون الشمس )وََزي ّ َ
َ َ ْ ْ ّ ّ َ
ن
فو َ
خ ُما ت ُ ْ
م َ ض وَي َعْل ُت َوالْر ِ ماَوا ِس َبَء ِفي ال ّ
خ ْج ال َ خرِ ُ ذي ي ُ ْ
دوا ل ِلهِ ال ِ ج ُس ُن ) (24أّل ي َ ْ م َل ي َهْت َ ُ
دو َ فَهُ ْ
ش ْ ّ َ َ ّ
ب العَْر ِ ه إ ِل هُوَ َر ّ ه ل إ ِل َن( يسجدون للشمس ويتركون الله سبحانه وتعالى )الل ُ ما ت ُعْل ُِنو َ
وَ َ
ظيم ِ( وذكر العرش هنا لنه ذكر عرش بلقيس من قبل ،فحتى ل يغتّر إنسان بعرشها ذكر ال ْعَ ِ
عرش الله سبحانه وتعالى.
فتعجب سليمان من كلم الهدهد ،فلم يكن شائعا أن تحكم المرأة البلد ،وتعجب من أن قوما
لديهم كل شيء ويسجدون للشمس ،وتعجب من عرشها العظيم ،فلم يصدق الهدهد ولم يكذبه
ن ال ْ َ َ َ
ن( وهذا منتهى العدل والحكمة .ثم كتب كتابا كاذ ِِبي َ َ م َ
ت ِ م ُ
كن َ تأ ْ سَننظ ُُر أ َ
صد َقْ َ إنما )َقا َ
ل َ
ن( ألق
جُعو َ َ
ماذا ي َْر ِ ُ َ
م فانظْر َ ّ
م ت َوَل ع َن ْهُ ْ ُ
مث ّ َ
ه إ ِلي ْهِ ْ
ق ْ ْ َ َ
هب ب ّك َِتاِبي هَذا فأل ِ ْ
وأعطاه للهدهد وقال له) :اذ َ
الكتاب عليهم وقف في مكان بعيد يحث تستطيع سماع ردهم على الكتاب.
يختصر السياق القرآني في سورة النمل ما كان من أمر ذهاب الهدهد وتسليمه الرسالة،
وينتقل مباشرة إلى الملكة ،وسط مجلس المستشارين ،وهي تقرأ على رؤساء قومها ووزرائها
رسالة سليمان..
ُ َ
ن
م ِ سم ِ الل ّهِ الّر ْ
ح َ ه بِ ْ
ن وَإ ِن ّ ُ سل َي ْ َ
ما َ من ُ ه ِم ) (29إ ِن ّ ُ
ري ٌب كَ ِ ي ك َِتا ٌي إ ِل َ ّ مَل ُ إ ِّني أل ْ ِ
ق َ َقال َ ْ
ت َيا أي َّها ال َ
ْ َ
ن )) (31النمل( مي َ
سل ِ ِ
م ْ ي وَأُتوِني ُ حيم ِ ) (30أّل ت َعُْلوا ع َل َ ّ الّر ِ
إنه يأمر في خطابه أن يأتوه مسلمين ..هكذا مباشرة ..إنه يتجاوز أمر عبادتهم للشمس ..ول
يناقشهم في فساد عقيدتهم ..ول يحاول إقناعهم بشيء ..إنما يأمر فحسب ..أليس مؤيدا بقوة
تسند الحق الذي يؤمن به..؟ ل عليه إذن أن يأمرهم بالتسليم..
كان هذا كله واضحا من لهجة الخطاب القصيرة المتعالية المهذبة في نفس الوقت..
طرحت الملكة على رؤساء قومها الرسالة ..وكانت عاقلة تشاورهم في جميع المورَ) :قال َ ْ
ت َيا
كنت َقاطع ً َ َ أ َيها ال ُ َ
ن(.
دو ِ حّتى ت َ ْ
شهَ ُ مًرا َ
ةأ ْ ِ َ ما ُ ُ
ري َ مَل أفُْتوِني ِفي أ ْ
م ِ َ َّ
كان رد فعل المل وهم رؤساء قومها التحدي ..أثارت الرسالة بلهجتها المتعالية المهذبة غرور
القوم ،وإحساسهم بالقوة .أدركوا أن هناك من يتحداهم ويلوح لهم بالحرب والهزيمة ويطالبهم
َ ْ ُ بقبول شروطه قبل وقوع الحرب والهزيمة )َقاُلوا نح ُ
مُر إ ِل َي ْ ِ
ك ديد ٍ َواْل ْ ن أوُْلوا قُوّةٍ وَأوُلوا ب َأ ٍ
س َ
ش ِ َ ْ ُ
ن(. َفانظ ُري ما َ ْ
ري َ
م ِ
ذا ت َأ ُ َ ِ
أراد رؤساء قومها أن يقولوا :نحن على استعداد للحرب ..ويبدو أن الملكة كانت أكثر حكمة من
رؤساء قومها ..فإن رسالة سليمان أثارت تفكيرها أكثر مما استنفرتها للحرب..
فكرت الملكة طويل في رسالة سليمان ..كان اسمه مجهول لديها ،لم تسمع به من قبل،
وبالتالي كانت تجهل كل شيء عن قوته ،ربما يكون قويا إلى الحد الذي يستطيع فيه غزو
مملكتها وهزيمتها.
ونظرت الملكة حولها فرأت تقدم شعبها وثراءه ،وخشيت على هذا الثراء والتقدم من الغزو..
ورجحت الحكمة في نفسها على التهور ،وقررت أن تلجأ إلى اللين ،وترسل إليه بهدية..
وقدرت في نفسها أنه ربما يكون طامعا قد سمع عن ثراء المملكة ،فحدثت نفسها بأن تهادنه
وتشتري السلم منه بهدية ..قدرت في نفسها أيضا إن إرسالها بهدية إليه ،سيمكن رسلها
الذين يحملون الهدية من دخول مملكته ،وإذا سيكون رسلها عيونا في مملكته ..يرجعون بأخبار
قومه وجيشه ،وفي ضوء هذه المعلومات ،سيكون تقدير موقفها الحقيقي منه ممكنا..
108
أخفت الملكة ما يدور في نفسها ،وحدثت رؤساء قومها بأنها ترى استكشاف نيات الملك
سليمان ،عن طريق إرسال هدية إليه ،انتصرت الملكة للرأي الذي يقضي بالنتظار والترقب..
وأقنعت رؤساء قومها بنبذ فكرة الحرب مؤقتا ،لن الملوك إذا دخلوا قرية انقلبت أوضاعها
وصار رؤساءها هم أكثر من فيها تعرضا للهوان والذل..
جاءت الخبار لسليمان بوصول رسل بلقيس وهم يحملون الهدية ..وأدرك سليمان على الفور
أن الملكة أرسلت رجالها ليعرفوا معلومات عن قوته لتقرر موقفها بشأنه ..ونادى سليمان في
المملكة كلها أن يحتشد الجيش ..ودخل رسل بلقيس وسط غابة كثيفة مدججة بالسلح..
فوجئ رسل بلقيس بأن كل غناهم وثرائهم يبدو وسط بهاء مملكة سليمان ..وصغرت هديتهم
في أعينهم.
وفوجئوا بأن في الجيش أسودا ونمورا وطيورا ..وأدركوا أنهم أمام جيش ل يقاوم..
ثم قدموا لسليمان هدية الملكة بلقيس على استحياء شديد .وقالوا له نحن نرفض الخضوع
لك ،لكننا ل نريد القتال ،وهذه الهدية علمة صلح بيننا ونتمنى أن تقبلها .نظر سليمان إلى هدية
الملكة وأشاح ببصره )فَل َما جاء سل َيمان َقا َ َ
كم ب َ ْ
ل ما آَتا ُ م ّ خي ٌْر ّ ه َ ي الل ّ ُما آَتان ِ َ ل فَ َ
ما ٍ ن بِ َ دون َ ِم ّ ل أت ُ ِ ُ ْ َ َ ّ َ
َ
ن( كشف الملك سليمان بكلماته القصيرة عن رفضه لهديتهم ،وأفهمهم أنه حو َ
فَر ُ أنُتم ب ِهَد ِي ّت ِك ُ ْ
م تَ ْ
ْ َ
ي وَأُتوِني يستطيعون شراء رضاه بشيء آخر )أّل ت َعُْلوا ع َل َ ّ ل يقبل شراء رضاه بالمال.
مسلمين( ثم هددهم )ارجع إل َيهم فَل َنأ ْ
م ُ ه و ة
ً ّ ل ذَ أ ها ن م هم نج ر خ
ْ نَ ل و ها ب هم َ ل َ
ل ب ق ّ
ل د نو ج ب م ه ن يِ ت
َ ْ ِ ْ
ّ َ ِ ُّ َ ُ ُ َِ َ َ ِ ٍ ُ ُ ُ ْ ِ ّ َ َ ْ ِ ْ ِ ِ ْ
ْ ُ ْ ِ ِ َ
ن(. صاِغُرو َ َ
وصل رسل بلقيس إلى سبأ ..وهناك هرعوا إلى الملكة وحدثوها أن بلدهم في خطر ..حدثوها
عن قوة سليمان واستحالة صد جيشه ..أفهموها أنها ينبغي أن تزوره وتترضاه ..وجهزت الملكة
نفسها وبدأت رحلتها نحو مملكة سليمان..
جلس سليمان في مجلس الملك وسط رؤساء قومه ووزرائه وقادة جنده وعلمائه ..كان يفكر
في بلقيس ..يعرف أنها في الطريق إليه ..تسوقها الرهبة ل الرغبة ..ويدفعها الخوف ل
القتناع ..ويقرر سليمان بينه وبين نفسه أن يبهرها بقوته ،فيدفعها ذلك للدخول في السلم.
فسأل من حوله ،إن كان بإمكان احدهم ان يحضر له عرش بلقيس قبل أن تصل الملكة
لسليمان.
فعرش الملكة بلقيس هو أعجب ما في مملكتها ..كان مصنوعا من الذهب والجواهر الكريمة،
وكانت حجرة العرش وكرسي العرش آيتين في الصناعة والسبك ..وكانت الحراسة ل تغفل
عن العرش لحظة..
فقال أحد الجن أنا أستطيع إحضار العرش قبل أن ينتهي المجلس –وكان عليه السلم يجلس
من الفجر إلى الظهر -وأنا قادر على حمله وأمين على جواهره.
لكن شخص آخر يطلق عليه القرآن الكريم "الذي عنده علم الكتاب" قال لسليمان أنا أستطيع
إحضار العرش في الوقت الذي تستغرقه العين في الرمشة الواحدة.
واختلف العلماء في "الذي عنده علم الكتاب" فمنهم من قال أنه وزيره أو أحد علماء بني
إسرائيل وكان يعرف اسم الله العظم الذي إذا دعي به أجاب .ومنهم من قال أنه جبريل عليه
السلم.
109
لكن السياق القرآني ترك السم وحقيقة الكتاب غارقين في غموض كثيف مقصود ..نحن أمام
سر معجزة كبرى وقعت من واحد كان يجلس في مجلس سليمان ..والصل أن الله يظهر
معجزاته فحسب ،أما سر وقوع هذه المعجزات فل يديره إل الله ..وهكذا يورد السياق القرآني
القصة ليضاح قدرة سليمان الخارقة ،وهي قدرة يؤكدها وجود هذا العالم في مجلسه.
هذا هو العرش ماثل أمام سليمان ..تأمل تصرف سليمان بعد هذه المعجزة ..لم يستخفه
الفرح بقدرته ،ولم يزهه الشعور بقوته ،وإنما أرجع الفضل لمالك الملك ..وشكر الله الذي
يمتحنه بهذه القدرة ،ليرى أيشكر أم يكفر.
تأمل سليمان عرش الملكة طويل ثم أمر بتغييره ،أمر بإجراء بعض التعديلت عليه ،ليمتحن
بلقيس حين تأتي ،ويرى هل تهتدي إلى عرشها أم تكون من الذين ل يهتدون.
كما أمر سليمان ببناء قصر يستقبل فيه بلقيس .واختار مكانا رائعا على البحر وأمر ببناء القصر
بحيث يقع معظمه على مياه البحر ،وأمر أن تصنع أرضية القصر من زجاج شديد الصلبة،
وعظيم الشفافية في نفس الوقت ،لكي يسير السائر في أرض القصر ويتأمل تحته السماك
الملونة وهي تسبح ،ويرى أعشاب البحر وهي تتحرك.
تم بناء القصر ،ومن فرط نقاء الزجاج الذي صنعت منه أرض حجراته ،لم يكن يبدو أن هناك
زجاجا .تلشت أرضية القصر في البحر وصارت ستارا زجاجيا خفيا فوقه.
يتجاوز السياق القرآني استقبال سليمان لها إلى موقفين وقعا لها بتدبيره :الول موقفها أمام
عرشها الذي سبقها بالمجيء ،وقد تركته وراءها وعليه الحراس .والثاني موقفها أمام أرضية
القصر البلورية الشفافة التي تسبح تحتها السماك.
لما اصطحب سليمان عليه السلم بلقيس إلى العرش ،نظرت إليه فرأته كعرشها تماما..
وليس كعرشها تماما ..إذا كان عرشها فكيف سبقها في المجيء..؟ وإذا لم يكن عرشها فكيف
أمكن تقليده بهذه الدقة ..؟
ك؟(
ش ِ قال سليمان وهو يراها تتأمل العرش) :أ َهَك َ َ
ذا ع َْر ُ
َ
و!( قالت بلقيس بعد حيرة قصيرة) :ك َأن ّ ُ
ه هُ َ
ُ
ن(.
مي َ
سل ِ ِ من قَب ْل َِها وَك ُّنا ُ
م ْ قال سليمان) :وَأوِتيَنا ال ْعِل ْ َ
م ِ
توحي عبارته الخيرة إلى الملكة بلقيس أن تقارن بين عقيدتها وعلمها ،وعقيدة سليمان
المسلمة وحكمته .إن عبادتها للشمس ،ومبلغ العلم الذي هم عليه ،يصابان بالخسوف الكلي
أمام علم سليمان وإسلمه.
لقد سبقها سليمان إلى العلم بالسلم ،بعدها سار من السهل عليه أن يسبقها في العلوم
الخرى ،هذا ما توحي به كلمة سليمان لبلقيس..
أدركت بلقيس أن هذا هو عرشها ،لقد سبقها إلى المجيء ،وأنكرت فيه أجزاء وهي لم تزل
تقطع الطريق لسليمان ..أي قدرة يملكها هذا النبي الملك سليمان؟!
انبهرت بلقيس بما شاهدته من إيمان سليمان وصلته لله ،مثلما انبهرت بما رأته من تقدمه
في الصناعات والفنون والعلوم ..وأدهشها أكثر هذا التصال العميق بين إسلم سليمان وعلمه
وحكمته.
انتهى المر واهتزت داخل عقلها آلف الشياء ..رأت عقيدة قومها تتهاوى هنا أمام سليمان،
وأدركت أن الشمس التي يعبدها قومها ليست غير مخلوق خلقه الله تعالى وسخره لعباده،
110
وانكسفت الشمس للمرة الولى في قلبها ،أضاء القلب نور جديد ل يغرب مثلما تغرب
الشمس.
ثم قيل لبلقيس ادخلي القصر ..فلما نظرت لم تر الزجاج ،ورأت المياه ،وحسبت أنها ستخوض
ساقَي َْها( حتى ل يبتل رداؤها.
عن َ
ت َ
ف ْ البحر) ،وَك َ َ
ش َ
ح
صْر ٌ
ه َ
نبهها سليمان -دون أن ينظر -أل تخاف على ثيابها من البلل .ليست هناك مياه) .إ ِن ّ ُ
من قَ َ
واِريَر( ..إنه زجاج ناعم ل يظهر من فرط نعومته.. مّرد ٌ ّ
م َ
ّ
ن سل َي ْ َ
ما َ مع َ ُ
اختارت بلقيس هذه اللحظة لعلن إسلمها ..اعترفت بظلمها لنفسها وأسلمت ) َ
ن( .وتبعها قومها على السلم. ب ال َْعال َ ِ
مي َ ل ِل ّهِ َر ّ
أدركت أنها تواجه أعظم ملوك الرض ،وأحد أنبياء الله الكرام.
يسكت السياق القرآني عن قصة بلقيس بعد إسلمها ..ويقول المفسرون أنها تزوجت سليمان
بعد ذلك ..ويقال أنها تزوجت أحد رجاله ..أحبته وتزوجته ،وثبت أن بعض ملوك الحبشة من
نسل هذا الزواج ..ونحن ل ندري حقيقة هذا كله ..لقد سكت القرآن الكريم عن ذكر هذه
التفاصيل التي ل تخدم قصه سليمان ..ول نرى نحن داعيا للخوض فيما ل يعرف أحد..
هيكل سليمان:
من العمال التي قام بها سليمان –عليه السلم -إعادة بناء المسجد القصى الذي بناه يعقوب
من قبل .وبنى بجانب المسجد القصى هيكل عظيما كان مقدسا عند اليهود –ول زالوا يبحثون
عنه إلى اليوم .وقد ورد في الهدي النبوي الكريم أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه
عز وجل ثلثا ،فأعطاه الله اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة :سأله حكما يصادف حكمه –
أي أحكاما عادلة كأحكام الله تعالى -فأعطاه إياه ،وسأله ملكا ل ينبغي لحد من بعده فأعطاه
إياه ،وسأله أيما رجل خرج من بيته ل يريد إل الصلة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل
يوم ولدته أمه ،وأسأل الله أن تكون لنا.
وقد تفننت التوراة في وصف الهيكل ..وهذا بعض ما ورد في التوراة عنه:
كان هيكل سليمان في أورشليم هو مركز العبادة اليهودية ،ورمز تاريخ اليهود ،وموضع فخارهم
وزهوهم ..وقد شيده الملك سليمان وأنفق ببذخ عظيم على بنائه وزخرفته ..حتى لقد احتاج
في ذلك إلى أكثر من 180ألف عامل )سفر الملوك الول( ..وقد أتى له سليمان بالذهب من
ترشيش ،وبالخشب من لبنان ،وبالحجار الكريمة من اليمن ،ثم بعد سبع سنوات من العمل
المتواصل تكامل بناء الهيكل ،فكان آية من آيات الدنيا في ذلك الزمان.
وامتدت يد الخراب إلى الهيكل مرات عديدة ،إذ كان هدفا دائما للغزاة والطامعين ينهبون ما به
من كنوز ،ثم يشيعون فيه الدمار) ،سفر الملوك الثاني( ..ثم قام أحد الملوك بتجديد بنائه تحببا
في اليهود ..فاستغرق بناء الهيكل هذه المرة 46سنة ،أصبح بعدها صرحا ضخما تحيط به ثلثة
أسوار هائلة ..وكان مكونا من ساحتين كبيرتين :إحداهما خارجية والخرى داخلية ،وكانت تحيط
بالساحة الداخلية أروقة شامخة تقوم على أعمدة مزدوجة من الرخام ،وتغطيها سقوف من
خشب الرز الثمين .وكانت الروقة القائمة في الجهة الجنوبية من الهيكل ترتكز على 162
عمودا ،كل منها من الضخامة بحيث ل يمكن لقل من ثلثة رجال متشابكي الذرع أن يحيطوا
بدائرته ..وكان للساحة الخارجية من الهيكل تسع بوابات ضخمة مغطاة بالذهب ..وبوابة
عاشرة مصبوبة كلها على الرغم من حجمها الهائل من نحاس كونثوس .وقد تدلت فوق تلك
البوابات كلها زخارف على شكل عناقيد العنب الكبيرة المصنوعة من الذهب الخالص ،وقد
استمرت هدايا الملوك للهيكل حتى آخر زمانه )سفر الملوك الول( ،فكان يزخر بالكنوز التي ل
تقدر بثمن..
111
وفاته عليه السلم:
عاش سليمان وسط مجد دانت له فيه الرض ..ثم قدر الله تعالى عليه الموت فمات ..ومثلما
كانت حياة سليمان قمة في المجد الذي يمتلئ بالعجائب والخوارق ..كان موته آية من آيات
الله تمتلئ بالعجائب والخوارق ..وهكذا جاء موته منسجما مع حياته ،متسقا مع مجده ،جاء
نهاية فريدة لحياة فريدة وحافلة.
لقد قدر الله تعالى أن يكون موت سليمان عليه الصلة والسلم بشكل ينسف فكرة معرفة
الجن للغيب ..تلك الفكرة التي فتن الناس بها فاستقرت في أذهان بعض البشر والجن..
كان الجن يعملون لسليمان طالما هو حي ..فلما مات انكسر تسخيرهم له ،وأعفوا من تبعة
العمل معه..
وقد مات سليمان دون أن يعلم الجن ،فظلوا يعملون له ،وظلوا مسخرين لخدمته ،ولو أنهم
كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
كان سليمان متكئا على عصاه يراقب الجن وهم يعملون .فمات وهو على وضعه متكئا على
العصا ..ورآه الجن فظنوا أنه يصلي واستمروا في عملهم .ومرت أيام طويلة ..ثم جاءت دابة
الرض ،وهي نملة تأكل الخشب ..وبدأت تأكل عصا سليمان ..كانت جائعة فأكلت جزء من
العصا ..استمرت النملة تأكل العصا أياما ..كانت تأكل الجزء الملمس للرض ،فلما ازداد ما
أكلته منها اختلت العصا وسقطت من يد سليمان ..اختل بعدها توازن الجسد العظيم فهوى إلى
الرض ..ارتطم الجسد العظيم بالرض فهرع الناس إليه..
أدركوا أنه مات من زمن ..تبين الجن أنهم ل يعلمون الغيب ..وعرف الناس هذه الحقيقة أيضا..
لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ،ما لبثوا يعملون وهم يظنون أن
سليمان حي ،بينما هو ميت منذ فترة..
112
إلياس عليه السلم
نبذة:
أرسل إلى أهل بعلبك غربي دمشق فدعاهم إلى عبادة الله وأن يتركوا عبادة صنم كانوا
يسمونه بعل فآذوه ،وقال ابن عباس هو عم اليسع.
سيرته:
قال تعالى:
عون بعًل وتذ َرو َ َ مهِ أ ََل ت َت ّ ُ
ن
س َ ح َ نأ ْ ن ) (124أت َد ْ ُ َ َ ْ َ َ ُ َ قو َ قو ْ ِ ل لِ َ ن ) (123إ ِذ ْ َقا َ سِلي َ مْر َ ن ال ْ ُم ْ س لَ ِ
ن إ ِل َْيا َ وَإ ِ ّ
ّ َ َ َ ْ ُ ُ ّ ال ْ َ
عَباد َ
ن ) (127إ ِل ِ ضُرو َ
ح َم ْمل ُ ن ) (126فَكذ ُّبوه ُ فَإ ِن ّهُ ْ م الوِّلي َ ب آَبائ ِك ُ
م وََر ّ ه َرب ّك ْ ن ) (125الل َ قي َ خال ِ ِ
كن ) (130إ ِّنا ك َذ َل ِ َ
سي َل َيا ِ م ع ََلى إ ِ ْ سَل ٌ ن )َ (129 ري َ خ ِن ) (128وَت ََرك َْنا ع َل َي ْهِ ِفي اْل ِ صي َ خل َ ِ الل ّهِ ال ْ ُ
م ْ
ن )) (131الصافات( مِني َمؤ ْ ِ ْ
عَباد َِنا ال ُ ن ِ م ْ ه ِ ن ) (131إ ِن ّ ُ سِني َح ِ م ْ ْ
زي ال ُ ج ِنَ ْ
هذه اليات القصار هي كل ما يذكره الله تعالى من قصة إلياس ..لذلك اختلف المؤرخون في
نسبه وفي القوم الذين أرسل إليهم ..فقال الطبري أنه إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار
بن هارون ..أما ابن كثير فيقول أن إلياس والياسين اسمين لرجل واحد فالعرب تلحق النون
في أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها.
إن الياس عليه السلم لما دعا بني إسرائيل الى نبذ عبادة الصنام ،والستمساك بعبادة الله
وحده رفضوه ولم يستجيبوا له ،فدعا ربه فقال :اللهم إن بني إسرائيل قد أبو إل الكفر بك
والعبادة لغيرك ،فغير ما بهم من نعمتك فأوحي الله إليه إنا جعلنا أمر أرزاقهم بيدك فأنت الذي
تأمر في ذلك ،فقال إلياس :اللهم فأمسك عليهم المطر فحبس عنهم ثلث سنين ،حتى هلكت
الماشية والشجر ،وجهد الناس جهدا ً شديدًا ،وما دعا عليهم استخفي عن أعينهم وكان يأتيه
رزقه حيث كان فكان بنو إسرائيل كلما وجدوا ربح الخبز في دار قالوا هنا إلياس فيطلبونه،
وينال أهل المنزل منهم شر وقد أوي ذات مرة إلى بيت امرأة من بنى إسرائيل لها ابن يقال
له اليسع بن خطوب به ضر فآوته واخفت أمره .فدعا ربه لبنها فعافاه من الضر الذي كان به
واتبع إلياس وآمن به وصدقه ولزمة فكان يذهب معه حيثما ذهب وكان إلياس قد أسن وكبر،
وكان اليسع غلما ً شابا ً ثم إن إلياس قال لبني إسرائيل إذا تركتم عبادة الصنام دعوات الله أن
يفرج عنكم فأخرجوا أصنامهم ومحدثاتهم فدعا الله لهم ففرج عنهم وأغاثهم ،فحييت بلدهم
ولكنهم لم يرجعوا عما كانوا عليه ولم يستقيموا فلما رأي إلياس منهم دعا ربه أن يقبضه إليه
فقبضة ورفعه.
ويذكر ابن كثير أن رسالته كانت لهل بعلبك غربي دمشق وأنه كان لهم صنم يعبدونه يسمي
ن ب َعًْل وَت َذ َُرو َ
ن )بعل( وقد ذكره القرآن الكريم على لسان إلياس حين قال لقومه ) أ َت َد ْ ُ
عو َ
َ َ
م اْلوِّلي َ
ن(. ب آَبائ ِك ُ ُ
م وََر ّ ن )َ (125والل ّ َ
ه َرب ّك ُ ْ قي َ ن ال ْ َ
خال ِ ِ س َ
ح َ
أ ْ
ويذكر بعض المؤرخين أنه عقب انتهاء ملك سليمان بن داود عليه السلم وذلك في سنة 933
قبل الميلد انقسمت مملكة بن إسرائيل إلى قسمين ،الول ،يخضع لملك سللة سليمان وأول
ملوكهم رحبعام بن سليمان والثاني يخضع لحد أسباط افرايم بن يوسف الصديق واسم ملكهم
113
جر بعام .وقد تشتت دولة بنى إسرائيل بعد سليمان عليه السلم بسبب اختلف ملوكهم
وعظمائهم على السلطة ،وبسبب الكفر والضلل الذي انتشر بين صفوفهم وقد سمح أحد
ملوكهم وهو أخاب لزوجته بنشر عبادة قومها في بني إسرائيل ،وكان قومها عبادا ً للوثان
فشاعت العبادة الوثنية ،وعبدوا الصنم الذي ذكره القرآن الكريم واسمه )بعل( فأرسل إليهم
إلياس عليه السلم الذي تحدثنا عن دعوته فما توفي إلياس عليه السلم أوحي الله تعالى إلى
أحد النبياء واسمه اليسع عليه السلم ليقوم في نبي إسرائيل ،فيدعوهم إلى عبادة الله الواحد
القهار.
نبذة:
من العبدة الخيار ورد ذكره في التوراة كما ذكر في القرآن مرتين ،ويذكر أنه أقام من الموت
إنسانا كمعجزة.
سيرته:
114
من أنبياء الله تعالى ،الذين يذكر الحق أسمائهم ويثني عليهم ،ول يحكي قصصهم ..نبي الله
تعالى اليسع.
ن اْل َ ْ
خَياِر م ْ ل وَك ُ ّ
ل ّ ذا ال ْك ِ ْ
ف ِ ل َوال ْي َ َ
سع َ و َ َ عي َ
ما ِ قال تعالى في سورة )ص(َ :واذ ْك ُْر إ ِ ْ
س َ
جاء في تاريخ الطبري حول ذكر نسبة أنه اليسع بن أخطوب ويقال أنه ابن عم إلياس النبي
عليهما السلم ،وذكر الحافظ ابن عساكر نسبة على الوجه التي :اسمه أسباط بن عدي بن
شوتلم بن أفرائيم بن يوسف الصديق عليه السلم وهو من أنبياء بني إسرائيل ،وقد أوجز
القرآن الكريم عن حياته فلم يذكر عنها شيئا ً وإنما اكتفى بعده في مجموعة الرسل الكرام
الذي يجب اليمان بهم تفصي ً
ل.
قام بتبليغ الدعوة بعد انتقال إلياس إلى جوار الله فقام يدعو إلى الله مستمسكا ً بمنهاج نبي
الله إلياس وشريعته وقد كثرت في زمانه الحداث والخطايا وكثر الملوك الجبابرة فقتلوا
النبياء وشردوا المؤمنين فوعظهم اليسع وخوفهم من عذاب الله ولكنهم لم يأبهوا بدعوته ثم
توفاه الله وسلط على بني إسرائيل من يسومهم سوء العذاب كما قص علينا القرآن الكريم.
ويذكر بعض المؤرخين أن دعوته في مدينة تسعى بانياس إحدى مدن الشام ،ول تزال حتى
الن موجودة وهي قريبة من بلدة اللذقية والله أعلم.
وأرجح القوال أن اليسع هو اليشع الذي تتحدث عنه التوراة ..ويذكر القديس برنابا أنه أقام من
الموت إنسانا كمعجزة.
فيروى أنه لما كبر اليسع قال لو أني استخلفت رجل ً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى
أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس فقال :من يتقبل لي بثلث استخلفه :يصوم النهار ،ويقوم الليل،
ول يغضب .فقام رجل تزدريه العين ،فقال :أنا ،فقال :أنت تصوم النهار ،وتقوم الليل ،ول
تغضب؟ قال :نعم .لكن اليسع -عليه السلم -رد ّ الناس ذلك اليوم دون أن يستخلف أحدا .وفي
اليوم التالي خرج اليسع -عليه السلم -على قومه وقال مثل ما قال اليوم الول ،فسكت
الناس وقام ذلك الرجل فقال أنا .فاستخلف اليسع ذلك الرجل.
فجعل إبليس يقول للشياطين :عليكم بفلن ،فأعياهم ذلك .فقال دعوني وإياه فأتاه في صورة
ق
شيخ كبير فقير ،وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ،وكان ل ينام الليل والنهار ،إل تلك الّنومة فد ّ
الباب .فقال ذو الكفل :من هذا؟ قال :شيخ كبير مظلوم .فقام ذو الكفل ففتح الباب .فبدأ
ول في دثه عن خصومة بينه وبين قومه ،وما فعلوه به ،وكيف ظلموه ،وأخذ يط ّ الشيخ يح ّ
الحديث حتى حضر موعد مجلس ذو الكفل بين الناس ،وذهبت القائلة .فقال ذو الكفل :إذا
قك.
رحت للمجلس فإنني آخذ لك بح ّ
فخرج الشيخ وخرج ذو الكفل لمجلسه دون أن ينام .لكن الشيخ لم يحضر للمجلس .وانفض
المجلس دون أن يحضر الشيخ .وعقد المجلس في اليوم التالي ،لكن الشيخ لم يحضر أيضا.
ولما رجع ذو الكفل لمنزله عند القائلة ليضطجع أتاه الشيخ فدق الباب ،فقال :من هذا؟ فقال
الشيخ الكبير المظلوم .ففتح له فقال :ألم أقل لك إذا قعدت فاتني؟ فقال الشيخ :إنهم اخبث
قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا لي نحن نعطيك حقك ،وإذا قمت جحدوني .فقال ذو الكفل:
انطلق الن فإذا رحت مجلسي فأتني.
115
ففاتته القائلة ،فراح مجلسه وانتظر الشيخ فل يراه وشق عليه النعاس ،فقال لبعض أهله :ل
ي النوم .فقدم الشيخ ،فمنعوه من ن أحدا ً يقرب هذا الباب حتى أنام ،فإني قد شق عل ّ تدع ّ
الدخول ،فقال :قد أتيته أمس ،فذكرت لذي الكفل أمري ،فقالوا :ل والله لقد أمرنا أن ل ندع
ور الحائط ودخل البيت ودق الباب من الداخل ،فاستيقظ ذو أحدا ً يقربه .فقام الشيخ وتس ّ
الكفل ،وقال لهله :ألم آمركم أل يدخل علي أحد؟ فقالوا :لم ندع أحدا يقترب ،فانظر من أين
دخل .فقام ذو الكفل إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه؟ وإذا الرجل معه في البيت ،فعرفه
ه؟ قال :نعم أعييتني في كل شيء ففعلت كل ما ترى لغضبك. َ
فقال :أع َد ُوّ الل ِ
116
عزير عليه السلم
نبذة:
من أنبياء بني إسرائيل ،أماته الله مئة عام ثم بعثه ،جدد الدين لبني إسرائيل وعلمهم التوراة
بعد أن نسوها.
سيرته:
مرت اليام على بني إسرائيل في فلسطين ،وانحرفوا كثير عن منهج الله عز وجل .فأراد الله
أن يجدد دينهم ،بعد أن فقدوا التوراة ونسوا كثيرا من آياتها ،فبعث الله تعالى إليهم عزيرا.
أمر الله سبحانه وتعالى عزيرا أن يذهب إلى قرية .فذهب إليها فوجدها خرابا ،ليس فيها بشر.
فوقف متعجبا ،كيف يرسله الله إلى قرية خاوية ليس فيها بشر .وقف مستغربا ،ينتظر أن
يحييها الله وهو واقف! لنه مبعوث إليها .فأماته الله مئة عام .قبض الله روحه وهو نائم ،ثم
بعثه .فاستيقظ عزير من نومه.
م ل َب ِث ْ َ
ت(. ل كَ ْ
فأرسل الله له ملكا في صورة بشرَ) :قا َ
َ
ض ي َوْم ٍ( .نمت يوما أو عدة أيام على أكثر تقدير.
ما أوْ ب َعْ َ ل ل َب ِث ْ ُ
ت ي َوْ ً فأجاب عزيرَ) :قا َ
عام ٍ( .ويعقب الملك مشيرا إلى إعجاز الله عز وجل )َفانظ ُْر ة َ مئ َ َ
ت ِ ل َبل ل ّب ِث ْ َ
فرد الملكَ) :قا َ
مارِك( أمره بأن ينظر لطعامه الذي ظل بجانبه َ ح َ َ ُ
ه َوانظْر إ ِلى ِ سن ّ ْم ي َت َ َ َ َ
شَراب ِك ل ْ ك وَ َ إ َِلى ط ََعا ِ
م َ
مئة سنة ،فرآه سليما كما تركه ،لم ينتن ولم يتغير طعمه او ريحه .ثم أشار له إلى حماره،
س(.ة ّللّنا ِ جعَل َ َ
ك آي َ ً فرآه قد مات وتحول إلى جلد وعظم .ثم بين له الملك السر في ذلك )وَل ِن َ ْ
ما( نظر عزير للحمار ح ً ها ل َ ْ م ن َك ْ ُ
سو َ ها ث ُ ّ
شُز َ ظام ِ ك َي ْ َ
ف ُنن ِ ويختتم كلمه بأمر عجيب )َوانظ ُْر إ َِلى العِ َ
فرأى عظامه تتحرك فتتجمع فتتشكل بشكل الحمار ،ثم بدأ اللحم يكسوها ،ثم الجلد ثم
الشعر ،فاكتمل الحمار أمام عينيه.
ه ع ََلى ك ُ ّ ل أ َع ْل َ َ
يٍء ل َ
ش ْ ن الل ّ َ
مأ ُّ ن لَ ُ
ه َقا َ يخبرنا المولى بما قاله عزير في هذا الموقف) :فَل َ ّ
ما ت َب َي ّ َ
قَ ِ
ديٌر(.
سبحان الله أي إعجاز هذا ..ثم خرج إلى القرية ،فرآها قد عمرت وامتلت بالناس .فسألهم:
هل تعرفون عزيرا؟ قالوا :نعم نعرفه ،وقد مات منذ مئة سنة .فقال لهم :أنا عزير .فأنكروا
مرة ،وسألوها عن أوصافه ،فوصفته لهم ،فتأكدوا أنه عزير.عليه ذلك .ثم جاءوا بعجوز مع ّ
فأخذ يعلمهم التوراة ويجددها لهم ،فبدأ الناس يقبلون عليه وعلى هذا الدين من جديد ،وأحبوه
دسوه للعجاز الذي ظهر فيه ،حتى وصل تقديسهم له أن قالوا عنه أنه ابن الله حبا شديدا وق ّ
ه(. ّ ت ال ْي َُهود ُ ع َُزي ٌْر اب ْ ُ
ن الل ِ )وََقال َ ِ
واستمر انحراف اليهود بتقديس عزير واعتباره ابنا لله تعالى –ول زالوا يعتقدون بهذا إلى
اليوم -وهذا من شركهم لعنهم الله.
نبذة:
117
عبد صالح تقي أخذ يدعو للدين الحنيف ،كفل مريم العذراء ،دعا الله أن يرزقه ذرية صالحة
فوهب له يحيى الذي خلفه في الدعوة لعبادة الله الواحد القهار.
سيرته:
امرأة عمران:
في ذلك العصر القديم ..كان هناك نبي ..وعالم عظيم يصلي بالناس ..كان اسم النبي زكريا
عليه السلم ..أما العالم العظيم الذي اختاره الله للصلة بالناس ،فكان اسمه عمران عليه
السلم.
وكان لعمران زوجته ل تلد ..وذات يوم رأت طائرا يطعم ابنه الطفل في فمه ويسقيه ..ويأخذه
تحت جناحه خوفا عليه من البرد ..وذكرها هذا المشهد بنفسها فتمنت على الله أن تلد..
ورفعت يديها وراحت تدعو خالقها أن يرزقها بطفل..
واستجابت لها رحمة الله فأحست ذات يوم أنها حامل ..وملها الفرح والشكر لله فنذرت ما
في بطنها محررا لله ..كان معنى هذا أنها نذرت لله أن يكون ابنها خادما للمسجد طوال
حياته ..يتفرغ لعبادة الله وخدمة بيته.
ولدة مريم:
وجاء يوم الوضع ووضعت زوجة عمران بنتا ،وفوجئت الم! كانت تريد ولدا ليكون في خدمة
المسجد والعبادة ،فلما جاء المولود أنثى قررت الم أن تفي بنذرها لله برغم أن الذكر ليس
كالنثى.
سمع الله سبحانه وتعالى دعاء زوجة عمران ،والله يسمع ما نقوله ،وما نهمس به لنفسنا ،وما
نتمنى أن نقوله ول نفعله ..يسمع الله هذا كله ويعرفه ..سمع الله زوجة عمران وهي تخبره
أنها قد وضعت بنتا ،والله أعلم بما وضعت ،الله ..هو وحده الذي يختار نوع المولود فيخلقه
ذكرا أو يخلقه أنثى ..سمع الله زوجة عمران تسأله أن يحفظ هذه الفتاة التي سمتها مريم،
وأن يحفظ ذريتها من الشيطان الرجيم.
أثار ميلد مريم بنت عمران مشكلة صغيرة في بداية المر ..كان عمران قد مات قبل ولدة
مريم ..وأراد علماء ذلك الزمان وشيوخه أن يربوا مريم ..كل واحد يتسابق لنيل هذا الشرف..
أن يربي ابنة شيخهم الجليل العالم وصاحب صلتهم وإمامهم فيها.
قال زكريا :أكفلها أنا ..هي قريبتي ..زوجتي هي خالتها ..وأنا نبي هذه المة وأولكم بها.
وقال العلماء والشيوخ :ولماذا ل يكفلها أحدنا..؟ ل نستطيع أن نتركك تحصل على هذا الفضل
بغير اشتراكنا فيه.
ثم اتفقوا على إجراء قرعة .أي واحد يكسب القرعة هو الذي يكفل مريم ،ويربيها ،ويكون له
شرف خدمتها ،حتى تكبر هي وهي تخدم المسجد وتتفرغ لعبادة الله ،وأجريت القرعة..
118
وضعت مريم وهي مولودة على الرض ،ووضعت إلى جوارها أقلم الذين يرغبون في كفالتها،
وأحضروا طفل صغيرا ،فأخرج قلم زكريا..
وراحوا يفكرون في القرعة الثانية ..حفر كل واحد اسمه على قلم خشبي ،وقالوا :نلقي
بأقلمنا في النهر ..من سار قلمه ضد التيار وحده فهو الغالب.
وألقوا أقلمهم في النهر ،فسارت أقلمهم جميعا مع التيار ما عدا قلم زكريا ..سار وحده ضد
التيار ..وظن زكريا أنهم سيقتنعون ،لكنهم أصروا على أن تكون القرعة ثلث مرات .قالوا:
نلقي أقلمنا في النهر ..القلم الذي يسير مع التيار وحده يأخذ مريم .وألقوا أقلمهم فسارت
جميعا ضد التيار ما عدا قلم زكريا .وسلموا لزكريا ،وأعطوه مريم ليكفلها ..وبدأ زكريا يخدم
مريم ،ويربيها ويكرمها حتى كبرت..
كان لها مكان خاص تعيش فيه في المسجد ..كان لها محراب تتعبد فيه ..وكانت ل تغادر مكانها
إل قليل ..يذهب وقتها كله في الصلة والعبادة ..والذكر والشكر والحب لله..
وكان زكريا يزورها أحيانا في المحراب ..وكان يفاجأه كلما دخل عليها أنه أمام شيء مدهش..
يكون الوقت صيفا فيجد عندها فاكهة الشتاء ..ويكون الوقت شتاء فيجد عندها فاكهة الصيف.
كان زكريا شيخا عجوزا ضعف عظمه ،واشتعل رأسه بالشعر البيض ،وأحس أنه لن يعيش
طويل ..وكانت زوجته وهي خالة مريم عجوزا مثله ولم تلد من قبل في حياتها لنها عاقر..
وكان زكريا يتمنى أن يكون له ولد يرث علمه ويصير نبيا ويستطيع أن يهدي قومه ويدعوهم
إلى كتاب الله ومغفرته ..وكان زكريا ل يقول أفكاره هذه لحد ..حتى لزوجته ..ولكن الله
تعالى كان يعرفها قبل أن تقال ..ودخل زكريا ذلك الصباح على مريم في المحراب ..فوجد
عندها فاكهة ليس هذا أوانها.
ل يا مري َ
هـ َ
ذا(؟! م أّنى ل َ ِ
ك َ سألها زكرياَ) :قا َ َ َ ْ َ ُ
ب(.
سا ٍ
ح َ من ي َ َ
شاء ب ِغَي ْرِ ِ ن الل ّ َ
ه ي َْرُزقُ َ عند ِ الل ّهِ إ ّ
ن ِ
م ْ مريمَ) :قال َ ْ
ت هُوَ ِ
قال زكريا في نفسه :سبحان الله ..قادر على كل شيء ..وغرس الحنين أعلمه في قلبه
وتمنى الذرية ..فدعا ربه.
سأل زكريا خالقه بغير أن يرفع صوته أن يرزقه طفل يرث النبوة والحكمة والفضل والعلم..
وكان زكريا خائفا أن يضل القوم من بعده ولم يبعث فيهم نبي ..فرحم الله تعالى زكريا
واستجاب له .فلم يكد زكريا يهمس في قلبه بدعائه لله حتى نادته الملئكة وهو قائم يصلي
مّيا(.
س ِ من قَب ْ ُ
ل َ جَعل ل ّ ُ
ه ِ حَيى ل َ ْ
م نَ ْ ه يَ ْ
م ُ ك ب ِغَُلم ٍ ا ْ
س ُ في المحرابَ) :يا َزك َرِّيا إ ِّنا ن ُب َ ّ
شُر َ
119
فوجئ زكريا بهذه البشرى ..أن يكون له ولد ل شبيه له أو مثيل من قبل ..أحس زكريا من
تكان َ ِ ن ِلي غ َُل ٌ
م وَ َ ب أ َّنى ي َ ُ
كو ُ فرط الفرح باضطراب ..تسائل من موضع الدهشةَ) :قا َ
ل َر ّ
عت ِّيا( أدهشه أن ينجب وهو عجوز وامرأته ل تلد.. ن ال ْك ِب َرِ ِ
م َ
ت ِ مَرأ َِتي َ
عاقًِرا وَقَد ْ ب َل َغْ ُ ا ْ
امتل قلب زكريا بالشكر لله وحمده وتمجيده ..وسأل ربه أن يجعل له آية أو علمة .فأخبره الله
أنه ستجيء عليه ثلثة أيام ل يستطيع فيها النطق ..سيجد نفسه غير قادر على الكلم ..سيكون
صحيح المزاج غير معتل ..إذا حدث له هذا أيقن أن امرأته حامل ،وأن معجزة الله قد تحققت..
وعليه ساعتها أن يتحدث إلى الناس عن طريق الشارة ..وأن يسبح الله كثيرا في الصباح
والمساء..
وخرج زكريا يوما على الناس وقلبه مليء بالشكر ..وأراد أن يكلمهم فاكتشف أن لسانه ل
ينطق ..وعرف أن معجزة الله قد تحققت ..فأومأ إلى قومه أن يسبحوا الله في الفجر
والعشاء ..وراح هو يسبح الله في قلبه ..صلى لله شكرا على استجابته لدعوته ومنحه يحيي..
ظل زكريا عليه السلم يدعوا إلى ربه حتى جاءت وفاته.
ولم ترد روايات صحيحة عن وفاته عليه السلم .لكن ورايات كثير -ضعيفة -أوردت قتله على يد
جنود الملك الذي قتل يحيى من قبل.
نبذة:
ابن نبي الله زكريا ،ولد استجابة لدعاء زكريا لله أن يرزقه الذرية الصالحة فجعل آية مولده أن
ل يكلم الناس ثلث ليال سويا ،وقد كان يحيى نبيا وحصورا ومن الصالحين ،كما كان بارا تقيا
ورعا منذ صباه.
سيرته:
ذكر خبر ولدة يحيى عليه السلم في قصة نبي الله زكريا .وقد شهد الحق عز وجل له أنه لم
من ل ّد ُّنا(..
حَناًنا ّ
يجعل له من قبل شبيها ول مثيل ،وهو النبي الذي قال الحق عنه) :وَ َ
ومثلما أوتي الخضر علما من لدن الله ،أوتي يحيي حنانا من لدن الله ،والعلم مفهوم ،والحنان
هو العلم الشمولي الذي يشيع في نسيجه حب عميق للكائنات ورحمة بها ،كأن الحنان درجة
من درجات الحب الذي ينبع من العلم.
120
ولقد كان يحيي في النبياء نموذجا ل مثيل له في النسك والزهد والحب اللهي ..هو النبي
الناسك .كان يضيء حبا لكل الكائنات ،وأحبه الناس وأحبته الطيور والوحوش والصحاري
والجبال ،ثم أهدرت دمه كلمة حق قالها في بلط ملك ظالم ،بشأن أمر يتصل براقصة بغي.
يذكر العلماء فضل يحيي ويوردون لذلك أمثلة كثيرة .كان يحيي معاصرا لعيسى وقريبه من
جهة الم )ابن خالة أمه(..
قال عيسى :بل أنت خير مني ..سلمت على نفسي وسلم الله عليك.
تشير القصة إلى فضل يحيي حين سلم الله عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.
ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه يوما فوجدهم يتذاكرون فضل
النبياء.
ومضى الصحابة يتحدثون عن النبياء ،فتدخل الرسول عليه الصلة والسلم حين رآهم ل
يذكرون يحيي .أين الشهيد ابن الشهيد؟ يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب .أين يحيي بن
زكريا؟
نشأته:
ولد يحيي عليه السلم ..كان ميلده معجزة ..فقد جاء لبيه زكريا بعد عمر طال حتى يئس
الشيخ من الذرية ..وجاء بعد دعوة نقية تحرك بها قلب النبي زكريا.
ولد يحيي عليه السلم فجاءت طفولته غريبة عن دنيا الطفال ..كان معظم الطفال يمارسون
اللهو ،أما هو فكان جادا طوال الوقت ..كان بعض الطفال يتسلى بتعذيب الحيوانات ،وكان
يحيي يطعم الحيوانات والطيور من طعامه رحمة بها ،وحنانا عليها ،ويبقى هو بغير طعام ..أو
يأكل من أوراق الشجر أو ثمارها.
وكلما كبر يحيي في السن زاد النور في وجهه وامتل قلبه بالحكمة وحب الله والمعرفة
والسلم .وكان يحيي يحب القراءة ،وكان يقرأ في العلم من طفولته ..فلما صار صبيا نادته
صب ِّيا(.
م َ قوّةٍ َوآت َي َْناه ُ ال ْ ُ
حك ْ َ خذ ِ ال ْك َِتا َ
ب بِ ُ حَيى ُ
رحمة ربهَ) :يا ي َ ْ
صدر المر ليحيي وهو صبي أن يأخذ الكتاب بقوة ،بمعنى أن يدرس الكتاب بإحكام ،كتاب
الشريعة ..رزقه الله القبال على معرفة الشريعة والقضاء بين الناس وهو صبي ..كان أعلم
الناس وأشدهم حكمة في زمانه درس الشريعة دراسة كاملة ،ولهذا السبب آتاه الله الحكم
121
وهو صبي ..كان يحكم بين الناس ،ويبين لهم أسرار الدين ،ويعرفهم طريق الصواب ويحذرهم
من طريق الخطأ.
وكبر يحيي فزاد علمه ،وزادت رحمته ،وزاد حنانه بوالديه ،والناس ،والمخلوقات ،والطيور،
والشجار ..حتى عم حنانه الدنيا وملها بالرحمة ..كان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب،
وكان يدعو الله لهم ..ولم يكن هناك إنسان يكره يحيي أو يتمنى له الضرر .كان محبوبا لحنانه
وزكاته وتقواه وعلمه وفضله ..ثم زاد يحيي على ذلك بالتنسك.
وكان يحيي إذا وقف بين الناس ليدعوهم إلى الله أبكاهم من الحب والخشوع ..وأثر في
قلوبهم بصدق الكلمات وكونها قريبة العهد من الله وعلى عهد الله..
وجاء صباح خرج فيه يحيي على الناس ..امتل المسجد بالناس ،ووقف يحيي بن زكريا وبدأ
يتحدث ..قال :إن الله عز وجل أمرني بكلمات أعمل بها ،وآمركم أن تعملوا بها ..أن تعبدوا الله
وحده بل شريك ..فمن أشرك بالله وعبد غيره فهو مثل عبد اشتراه سيده فراح يعمل ويؤدي
ثمن عمله لسيد غير سيده ..أيكم يحب أن يكون عبده كذلك..؟ وآمركم بالصلة لن الله ينظر
إلى عبده وهو يصلي ،ما لم يلتفت عن صلته ..فإذا صليتم فاخشعوا ..وآمركم بالصيام ..فان
مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك جميل الرائحة ،كلما سار هذا الرجل فاحت منه
رائحة المسك المعطر .وآمركم بذكر الله عز وجل كثيرا ،فان مثل ذلك كمثل رجل طلبه
أعداؤه فأسرع لحصن حصين فأغلقه عليه ..وأعظم الحصون ذكر الله ..ول نجاة بغير هذا
الحصن.
مواجهة الملك:
كان أحد ملوك ذلك الزمان طاغية ضيق العقل غبي القلب يستبد برأيه ،وكان الفساد منتشرا
في بلطه ..وكان يسمع أنباء متفرقة عن يحيي فيدهش لن الناس يحبون أحدا بهذا القدر ،وهو
ملك ورغم ذلك ل يحبه أحد.
وكان الملك يريد الزواج من ابنة أخيه ،حيث أعجبه جمالها ،وهي أيضا طمعت بالملك ،وشجعتها
أمها على ذلك .وكانوا يعلمون أن هذا حرام في دينهم .فأرد الملك أن يأخذ الذن من يحيى
عليه السلم .فذهبوا يستفتون يحيى ويغرونه بالموال ليستثني الملك.
ي فاجرة .لكن يحيى عليهلم يكن لدى الفتاة أي حرج من الزواج بالحرام ،فلقد كانت بغ ّ
مها .حتى يعلم الناس –إن فعلها الملك -أن
السلم أعلن أمام الناس تحريم زواج البنت من ع ّ
هذا انحراف .فغضب الملك وأسقط في يده ،فامتنع عن الزواج.
لكن الفتاة كانت ل تزال طامعة في الملك .وفي إحدى الليالي الفاجرة أخذت البنت تغني
وترقص فأرادها الملك لنفسهن فأبت وقالت :إل أن تتزوجني .قال :كيف أتزوجك وقد نهانا
يحيى .قالت :ائتني برأس يحيى مهرا لي .وأغرته إغراء شديدا فأمر في حينه بإحضار رأس
يحيى له.
فذهب الجنود ودخلوا على يحيى وهو يصلي في المحراب .وقتلوه ،وقدموا رأسه على صحن
ي وتزوجها بالحرام.
دم الصحن إلى هذه البغ ّ
للملك ،فق ّ
122
عيسى عليه السلم
نبذة:
مثل عيسى مثل آدم خلقه الله من تراب وقال له كن فيكون ،هو عيسى بن مريم رسول الله
وكلمته ألقاها إلى مريم ،وهو الذي بشر بالنبي محمد ،آتاه الله البينات وأيده بروح القدس
وكان وجيها في الدنيا والخرة ومن المقربين ،كلم الناس في المهد وكهل وكان يخلق من
الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا ،ويبرئ الكمه والبرص ويخرج الموتى كل بإذن
الله ،دعا المسيح قومه لعبادة الله الواحد الحد ولكنهم أبوا واستكبروا وعارضوه ،ولم يؤمن به
سوى بسطاء قومه ،رفعه الله إلى السماء وسيهبط حينما يشاء الله إلى الرض ليكون شهيدا
على الناس.
سيرته:
الحديث عن نبي الله عيسى عليه السلم ،يستدعي الحديث عن أمه مريم ،بل وعن ذرية آل
عمران هذه الذرية التي اصطفاها الله تعالى واختارها ،كما اختار آدم ونوحا وآل إبراهيم على
العالمين.
آل عمران أسرة كريمة مكونة من عمران والد مريم ،وامرأة عمران أم مريم ،ومريم،
وعيسى عليه السلم؛ فعمران جد عيسى لمه ،وامرأة عمران جدته لمه ،وكان عمران صاحب
صلة بني إسرائيل في زمانه ،وكانت زوجته امرأة عمران امرأة صالحة كذلك ،وكانت ل تلد،
فدعت الله تعالى أن يرزقها ولدا ،ونذرت أن تجعله مفرغا للعبادة ولخدمة بيت المقدس،
فاستجاب الله دعاءها ،ولكن شاء الله أن تلد أنثى هي مريم ،وجعل الله تعالى كفالتها ورعايتها
إلى زكريا عليه السلم ،وهو زوج خالتها ،وإنما قدر الله ذلك لتقتبس منه علما نافعا ،وعمل
صالحا.
كانت مريم مثال للعبادة والتقوى ،وأسبغ الله تعالى عليها فضله ونعمه مما لفت أنظار
الخرين ،فكان زكريا عليه السلم كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا ،فيسألها من أين
ب(.سا ٍ
ح َ من ي َ َ
شاء ب ِغَي ْرِ ِ ن الل ّ َ
ه ي َْرُزقُ َ عند ِ الل ّهِ إ ّ
ن ِ
م ْ لك هذا ،فتجيبَ) :قال َ ْ
ت هُوَ ِ
كل ذلك إنما كان تمهيدا للمعجزة العظمى؛ حيث ولد عيسى عليه السلم من هذه المرأة
الطاهرة النقية ،دون أن يكون له أب كسائر الخلق ،واستمع إلى بداية القصة كما أوردها
القرآن الكريم ،قال تعالى:
بهذه الكلمات البسيطة فهمت مريم أن الله يختارها ،ويطهرها ويختارها ويجعلها على رأس
123
نساء الوجود ..هذا الوجود ،والوجود الذي لم يخلق بعد ..هي أعظم فتاة في الدنيا وبعد قيامة
الموات وخلق الخرة ..وعادت الملئكة تتحدث:
كان المر الصادر بعد البشارة أن تزيد من خشوعها ،وسجودها وركوعها لله ..ومل قلب مريم
إحساس مفاجئ بأن شيئا عظيما يوشك أن يقع ..ويروي الله تعالى في القرآن الكريم قصة
ولدة عيسى عليه السلم فيقول:
جاء جبريل –عليه السلم -لمريم وهي في المحراب على صورة بشر في غاية الجمال .فخافت
قّيا( أرادت أن تحتمي في الله ..وسألته هل
ت تَ ِ ك ِإن ُ
كن َ من َ
من ِح َ مريم وقالت) :إ ِّني أ َ ُ
عوذ ُ ِبالّر ْ
هو إنسان طيب يعرف الله ويتقيه.
َ
ك غ َُل ً
ما َزك ِّيا( ك ِل َهَ َ
ب لَ ِ سو ُ
ل َرب ّ ِ ما أَنا َر ُ فجاء جوابه ليطمئنها بأنه يخاف الله ويتقيهَ):قا َ
ل إ ِن ّ َ
ما َزك ِّيا( استغربت مريم ك غ َُل ً كرت ما قاله )ِل َهَ َ
ب لَ ِ اطمئنت مريم للغريب ،لكن سرعان ما تذ ّ
العذراء من ذلك ..فلم يمسسها بشر من قبل ..ولم تتزوج ،ولم يخطبها أحد ،كيف تنجب بغير
م أَ ُ
ك ب َغِّيا( شٌر وَل َ ْسِني ب َ َ
س ْ م َ م وَل َ ْ
م يَ ْ ن ِلي غ َُل ٌ زواج!! فقالت لرسول رّبها) :أ َّنى ي َ ُ
كو ُ
كا َ
مًرا
نأ ْمّنا وَ َ َ
ة ّ
م ً
ح َ
س وََر ْ
ة ِللّنا ِ جعَل َ ُ
ه آي َ ً ن وَل ِن َ ْ ك هُوَ ع َل َ ّ
ي هَي ّ ٌ ل َرب ّ ِ قال الروح المين) :ك َذ َل ِ ِ
ك َقا َ
ضّيا(
م قْ ِ
ّ
استقبل عقل مريم كلمات الروح المين ..ألم يقل لها إن هذا هو أمر الله ..؟ وكل شيء ينفذ
إذا أمر الله ..ثم أي غرابة في أن تلد بغير أن يمسسها بشر..؟ لقد خلق الله سبحانه وتعالى
آدم من غير أب أو أم ،لم يكن هناك ذكر وأنثى قبل خلق آدم .وخلقت حواء من آدم فهي قد
خلقت من ذكر بغير أنثى ..ويخلق ابنها من غير أب ..يخلق من أنثى بغير ذكر ..والعادة أن
يخلق النسان من ذكر وأنثى ..العادة أن يكون له أب وأم ..لكن المعجزة تقع عندما يريد الله
حسي ُ
م ِ ه ال ْ َ م ُ
س ُ
ها ْ من ْ ُ
مةٍ ّ ك ب ِك َل ِ َ ه ي ُب َ ّ
شُر ِ ن الل ّ َ تعالى أن تقع ..عاد جبريل عليه السلم يتحدث) :إ ِ ّ
مهْد ِ وَك َهْل ً َ ْ لا في ِ س
َ نا
ّ ال م
ُ ّ لَ كُ يَ و (45 ) ن
م ّ ِ َ
بير َ ق ن ال ْ ُ
م َ
خَرةِ وَ ِ
جيًها ِفي الد ّن َْيا َوال ِ
م وَ ِ
مْري َ َ
ن َ سى اب ْ ُعي َ ِ
ن( حي َ
صال ِ ِ ن ال ّم َ
وَ ِ
زادت دهشة مريم ..قبل أن تحمله في بطنها تعرف اسمه ..وتعرف أنه سيكون وجيها عند الله
وعند الناس ،وتعرف أنه سيكلم الناس وهو طفل وهو كبير ..وقبل أن يتحرك فم مريم بسؤال
آخر ..نفخ جبريل عليه السلم في جيب مريم –الجيب هو شق الثوب الذي يكون في الصدر-
فحملت فورا.
ومرت اليام ..كان حملها يختلف عن حمل النساء ..لم تمرض ولم تشعر بثقل ول أحست أن
شيئا زاد عليها ول ارتفع بطنها كعادة النساء ..كان حملها به نعمة طيبة .وجاء الشهر التاسع..
وفي العلماء من يقول إن الفاء تفيد التعقيب السريع ..بمعنى أن مريم لم تحمل بعيسى تسعة
أشهر ،وإنما ولدته مباشرة كمعجزة..
خرجت مريم ذات يوم إلى مكان بعيد ..إنها تحس أن شيئا سيقع اليوم ..لكنها ل تعرف حقيقة
124
هذا الشيء ..قادتها قدماها إلى مكان يمتلئ بالشجر ..والنخل ،مكان ل يقصده أحد لبعده..
مكان ل يعرفه غيرها ..لم يكن الناس يعرفون أن مريم حامل ..وإنها ستلد ..كان المحراب
مغلقا عليها ،والناس يعرفون أنها تتعبد فل يقترب منها أحد..
جلست مريم تستريح تحت جذع نخلة؛ لم تكن نخلة كاملة ،إنما جذع فقط ،لتظهر معجزات
الله سبحانه وتعالى لمريم عند ولدة عيسى فيطمئن قلبها ..وراحت تفكر في نفسها ..كانت
تشعر بألم ..وراح اللم يتزايد ويجيء في مراحل متقاربة ..وبدأت مريم تلد..
َ
سّيا )) (23مريم(
من ِ
سًيا ّ
ت نَ ْ ذا وَ ُ
كن ُ ت قَب ْ َ
ل هَ َ ت َيا ل َي ْت َِني ِ
م ّ خل َةِ َقال َ ْ ض إ َِلى ِ
جذ ِْع الن ّ ْ خا ُ ها ال ْ َ
م َ فَأ َ
جاء َ
إن ألم الميلد يحمل لنفس العذراء الطاهرة آلما أخرى تتوقعها ولم تقع بعد ..كيف يستقبل
الناس طفلها هذا..؟ وماذا يقولون عنها..؟ إنهم يعرفون أنها عذراء ..فكيف تلد العذراء..؟ هل
يصدق الناس أنها ولدته بغير أن يمسسها بشر..؟ وتصورت نظرات الشك ..وكلمات الفضول..
وتعليقات الناس ..وامتل قلبها بالحزن..
وولدت في نفس اللحظة من قدر عليه أن يحمل في قلبه أحزان البشرية ..لم تكد مريم تنتهي
من تمنيها الموت والنسيان ،حتى نادها الطفل الذي ولد:
ساقِ ْ َ
ط خل َةِ ت ُ َ
جذ ِْع الن ّ ْك بِ ِسرِّيا ) (24وَهُّزي إ ِل َي ْ ِ ك َ حت َ ِ
ك تَ ْ
ل َرب ّ ِ حَزِني قَد ْ َ
جع َ َ حت َِها أّل ت َ ْ
من ت َ ْ ها ِ دا َفََنا َ
َ ْ َ
ت َ
قوِلي إ ِّني ن َذْر ُ َ
دا ف ُ ح ً َ
ن الب َشرِ أ َ م َن ِما ت ََري ِ ّ َ َ ْ ُ َ
جن ِّيا ) (25فكِلي َواشَرِبي وَقّري ع َي ًْنا فإ ِ ّ ك ُرطًبا َ ع َل َي ْ ِ
ْ ّ ُ َ
سّيا )) (26مريم( م ِإن ِم الي َوْ َن أك َل َ ما فَل ْ صو ْ ً
ن َ م ِ
ح َ ِللّر ْ
نظرت مريم إلى المسيح ..سمعته يطلب منها أن تكف عن حزنها ..ويطلب منها أن تهز جذع
النخلة لتسقط عليها بعض ثمارها الشهية ..فلتأكل ،ولتشرب ،ولتمتلئ بالسلم والفرح ول تفكر
في شيء ..فإذا رأت من البشر أحدا فلتقل لهم أنها نذرت للرحمن صوما فلن تكلم اليوم
إنسانا ..ولتدع له الباقي..
لم تكد تلمس جذعها حتى تساقط عليها رطب شهي ..فأكلت وشربت ولفت الطفل في
ملبسها ..كان تفكير مريم العذراء كله يدور حول مركز واحد ..هو عيسى ،وهي تتساءل بينها
وبين نفسها :كيف يستقبله اليهود..؟ ماذا يقولون فيه..؟ هل يصدق أحد من كهنة اليهود الذين
يعيشون على الغش والخديعة والسرقة..؟ هل يصدق أحدهم وهو بعيد عن الله أن الله هو
الذي رزقها هذا الطفل؟ إن موعد خلوتها ينتهي ،ول بد أن تعود إلى قومها ..فماذا يقولون
الناس؟
مواجهة القوم:
كان الوقت عصرا حين عادت مريم ..وكان السوق الكبير الذي يقع في طريقها إلى المسجد
يمتلئ بالناس الذي فرغوا من البيع والشراء وجلسوا يثرثرون .لم تكد مريم تتوسط السوق
حتى لحظ الناس أنها تحمل طفل ،وتضمه لصدرها وتمشي به في جلل وبطئ..
تسائل أحد الفضوليين :أليست هذه مريم العذراء..؟ طفل من هذا الذي تحمله على صدرها..؟
وجاء كهنة اليهود يسألونها ..ابن من هذا يا مريم؟ لماذا ل تردين؟ هو ابنك قطعا ..كيف جاءك
ولد وأنت عذراء؟
ُ ما َ كان أ َبوك ا َ َيا أ ُ ْ
ك ب َغِّيا )) (28مريم(
م ِ
تأ ّكان َ ْ سوٍْء وَ َ ما َ َ ُ ِ ْ
مَرأ َ ن َ
هاُرو َ
ت َ
خ َ
الكلمة ترمي مريم بالبغاء ..هكذا مباشرة دون استماع أو تحقيق أو تثبت ..ترميها بالبغاء
125
وتعيرها بأنها من بيت طيب وليست أمها بغيا ..فكيف صارت هي كذلك؟ راحت التهامات
تسقط عليها وهي مرفوعة الرأس ..تومض عيناها بالكبرياء والمومة ..ويشع من وجهها نور
يفيض بالثقة ..فلما زادت السئلة ،وضاق الحال ،وانحصر المجال ،وامتنع المقال ،اشتد توكلها
على ذي الجلل وأشارت إليه..
أشارت بيدها لعيسى ..واندهش الناس ..فهموا أنها صائمة عن الكلم وترجو منهم أن يسألوه
هو كيف جاء ..تساءل الكهنة ورؤساء اليهود كيف يوجهون السؤال لطفل ولد منذ أيام ..هل
يتكلم طفل في لفافته..؟!
قال عيسى:
َ ل إني ع َبد الل ّه آتان ِي ال ْكتاب وجعل َِني نبيا ) (30وجعل َِني مبار ً َ
صَلةِ
صاِني ِبال ّ ت وَأوْ َ كن ُما ُ ن َ
كا أي ْ َ ُ َ َ َ َ َ َِّ َِ َ َ َ َ ِ َ َ ْ ُ َقا َ ِ ّ
تم وُِلد ّي ي َوْ َ َ
م ع َل ّ َ
سل ُ قّيا )َ (32وال ّ جّباًرا َ
ش ِ ْ
جعَلِني َم يَ ْ َ
وال ِد َِتي وَل ْ
حّيا ) (31وَب َّرا ب ِ َ ت َ م ُ ما د ُ ْكاةِ َ َوالّز َ
حّيا )) (33مريم( ُ َ
ث َم أب ْعَ ُ ت وَي َوْ َ مو ُمأ ُ وَي َوْ َ
لم يكد عيسى ينتهي من كلمه حتى كانت وجوه الكهنة والحبار ممتقعة وشاحبة ..كانوا
يشهدون معجزة تقع أمامهم مباشرة ..هذا طفل يتكلم في مهده ..طفل جاء بغير أب ..طفل
يقول أن الله قد آتاه الكتاب وجعله نبيا ..هذا يعني إن سلطتهم في طريقها إلى النهيار..
سيصبح كل واحد فيهم بل قيمة عندما يكبر هذا الطفل ..لن يستطيع أن يبيع الغفران للناس ،أو
يحكمهم عن طريق ادعائه أنه ظل السماء على الرض ،أو باعتباره الوحيد العارف في
الشريعة ..شعر كهنة اليهود بالمأساة الشخصية التي جاءتهم بميلد هذا الطفل ..إن مجرد
مجيء المسيح يعني إعادة الناس إلى عبادة الله وحده ..وهذا معناه إعدام الديانة اليهودية
الحالية ..فالفرق بين تعاليم موسى وتصرفات اليهود كان يشبه الفرق بين نجوم السماء ووحل
الطرقات ..وتكتم رهبان اليهود قصة ميلد عيسى وكلمه في المهد ..واتهموا مريم العذراء
ببهتان عظيم ..اتهموها بالبغاء ..رغم أنهم عاينوا بأنفسهم معجزة كلم ابنها في المهد.
وتخبرنا بعض الروايات أن مريم هاجرت بعيسى إلى مصر ،بينما تخبرنا روايات أخرى بأن
هجرتها كانت من بيت لحم لبيت المقدس .إل أن المعروف لدينا هو أن هذه الهجرة كانت قبل
بعثته.
معجزاته:
كبر عيسى ..ونزل عليه الوحي ،وأعطاه الله النجيل .وكان عمره آنذاك -كما يرى الكثير من
العلماء -ثلثون سنة .وأظهر الله على يديه المعجزات .يقول المولى عّز وجل في كتابه عن
معجزات عيسى عليه السلم:
كم ِبآي َةٍ جئت ُ ُ ل أني َقد ِ سول ً إ َِلى ب َِني ِإسرائي َ ل ) (48وََر ُ جي َ لن ِ ة َوالتوَراة َ َوا ِ م َ حك َ ب َوال ِ ه الك َِتا َ م ُ وَي َُعل ُ
ه ُ َ ُ َ ُ َ َ َ َ ُ َ ُ َ َ ُ
م َ ن اللهِ وَأبرِىْ الك َ ن طيًرا ب ِِإذ ِ فخ ِفيهِ في َكو ُ ن كَهيئةِ الطيرِ فأن ُ ن الطي من ربكم أِني أخلقُ لكم م َ
ة
ك لي َ ً كم ِإن ِفي ذل ِ َ ن ِفى ب ُُيوت ِ ُ ُ ُ ُ ُ والبرص وُأحي الموتى بإذن الله و ِأ ُ
خُرو َ ما َتد َِ َ و ن
َ لو كتأ
َ ما
ِ َ ب كم ئنب
َ َ ِ َ َ ِِ ِ َ َ َ
ُ َ
م ع َليكم حر َ ذي ُ ض ال ِ
حل لكم َبع َ ُ َ ن التوَراةِ َول ِ م َ دي ِ ن يَ َما َبي َ صدقا ل َ ً م َ
ن ) (49وَ ُ مِني َ كنُتم مؤ ِ كم ِإن ُ ل ُ
صراطٌ ه َربي وََرب ُ َ كم ِبآي َةٍ من رب ُ جئت ُ ُ
ذا ِ هـ َ
دوه ُ َكم َفاعب ُ ُ ن )ِ (50إن الل َ طيُعو ِ ه وَأ ِ قوا الل َ كم َفات ُ وَ ِ
م )) (51آل عمران( قي ٌ مست َ ِ
فكان عيسى –عليه السلم -رسول لبني إسرائيل فقط .ومعجزاته هي:
يصنع من الطين شكل الطير ثم ينفخ فيه فيصبح طيرا حّيا يطير أمام أعينهم.
126
يعالج الكمه )وهو من ولد أعمى( ،فيمسح على عينيه أمامهم فيبصر.
يعالج البرص )وهو المرض الذي يصيب الجلد فيجعل لونه أبيضا( ،فيسمح على جسمه فيعود
سليما.
إيمان الحواريون:
جاء عيسى ليخفف عن بني إسرائيل بإباحة بعض المور التي حرمتها التوراة عليهم عقابا لهم.
إل أن بني إسرائيل –مع كل هذه اليات -كفروا .قال تعالى:
ل ال ْحواريون نح َ لم َ َ
مّنا
آ َ صاُر الل ّهِن أن َ
َ َ ِّ َ َ ْ ُ صاِري إ َِلى الل ّهِ َقا َ ن أن َ فَر َقا َ َ ْ م ال ْك ُ ْ
من ْهُ ُ
سى ِ عي َ س ِ ّ ح
ما أ َفَل َ ّ
َ َ َ ِبالل ّهِ َوا ْ
)(53 ندي َشاه ِ ِ ل َفاك ْت ُب َْنا َ
معَ ال ّ سو َ
ت َوات ّب َعَْنا الّر ُ
ما أنَزل ْمّنا ب ِ َن )َ (52رب َّنا آ َ مو َسل ِ ُم ْ
شهَد ْ ب ِأّنا ُ
)آل عمران(
وقال تعالى:
عيسى ابن مريم ل ِل ْحواريين م َ َ ذي َ َ
صاِري إ َِلى الل ّهِ ن أن ََ َ َ ِّ َ َ ْ ْ ُ َ ْ َ َ ل ِ َ صاَر الل ّهِ ك َ َ
ما َقا َ كونوا أن َ مُنوا ُ نآ َ َيا أي َّها ال ّ ِ َ
َ ل ال ْحواريون نح َ
ن ة فَأي ّد َْنا ال ّ ِ
ذي َ ف ٌ فَرت ّ
طائ ِ َ ل وَك َ َ
سَراِئي َ
من ب َِني إ ِ ْ
ة ّ
ف ٌ مَنت ّ
طائ ِ َ صاُر الل ّهِ فَآ َ ن َأن َ َ َ ِّ َ َ ْ ُ َقا َ
ن )) (14الصف( َ َ َ َ
ري َ حوا ظاه ِ ِ صب َ ُ
م فأ ْ مُنوا ع َلى ع َد ُوّه ِ ْ آ َ
قيل أن عدد الحواريين كان سبعة عشر رجل ،لكن الروايات الرجح أنهم كانوا اثني عشر رجل.
آمن الحواريون ،لكن التردد ل يزال موجودا في نفوسهم .قال الله تعالى قصة هذا التردد:
ماء َقا َ
ل س َ ن ال ّ م َ مآئ ِد َة ً ّ ل ع َل َي َْنا َ ك َأن ي ُن َّز َ طيعُ َرب ّ َ ست َ ِ ل يَ ْ م هَ ْ مْري َ َن َسى اب ْ َ عي َ ن َيا ِ وارِّيو َ ح َ ل ال ْ َ إ ِذ ْ َقا َ
َ َ ُ ْ ْ َ ْ ُ
ْ
صد َقت ََنا َ
م أن قد ْ َ ن قلوب َُنا وَن َعْل َ ُ مئ ِ ّ من َْها وَت َط َ َ ُ
ريد ُ أن ن ّأكل ِ ن ) (112قالوا ن ُ ِ َ مِني َ مؤ ِ ْ ُ
ه ِإن كنُتم ّ قوا ْ الل َ
ّ ات ّ ُ
ن م ة د ئ مآ نا ي َ ل ع ل ْ ز َ
أن نا ب ر م ه ّ ل ال م ي ر م ن ب ا سى عي لَ قاَ (113 ) ن دي ه شا ّ ال ن م ها ي َ ل ع ن كو ُ
ّ َ ً َ ِ َ َ ْ َ ِ َ ّ ُ ّ َ َ
ُ َ ْ َ ْ َ ِ َ ِ ِ َ ِ َ ْ َ َ وَن َ
ه إ ِّني ّ َ َ َ ْ َ َ ّ ً َ ُ
ن ) (114قال الل ُ خي ُْر الّرازِِقي َ ت َ منك َواْرُزقَنا وَأن َ ة ّ خرَنا َوآي َ ً عيدا لوّل َِنا َوآ ِ ن لَنا ِ ماء ت َكو ُ س َ ال ّ
ن )(115 مي َ ل عا ْ ل ا ن م دا ح ذابا ل ّ أ ُع َذ ّبه أ َ َ ع ه ب ّ ذ ع فر بعد منك ُِم فَإني أ ُ ُ ْ ك ي من َ ف م ُ ك ي َ ل ع ها ُ
َ ِ َ ّ َ ً َ ُ ُ ً َ ُ ُ َ ّ ْ ِ ِ ُ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ من َّز َ
ل ُ
)المائدة(
لما بدأ الناس يتحدثون عن معجزات عيسى عليه السلم ،خاف رهبان اليهود أن يتبع الناس
ملك تلك المناطق وكان تابعا للروم .وقالوا له أن
الدين الجديد فيضيع سلطانهم .فذهبوا ل َ
ملك وأمر بالبحث عن عيسى –عليه ملك منك .فخاف ال َملك اليهود ،وسيأخذ ال ُ
عيسى يزعم أنه َ
السلم -ليقتله.
جاءت روايات كثيرة جدا عن رفع عيسى –عليه السلم -إلى السماء ،معظمها من السرائيليات
أو نقل عن النجيل .وسنشير إلى أرجح رواية هنا.
عندما بلغ عيسى عليه السلم أنهم يريدون قتله ،خرج على أصحابه وسألهم من منهم مستعد
127
ن عليه عيسىأن يلقي الله عليه شبهه فيصلب بدل منه ويكون معه في الجنة .فقام شاب ،فح ّ
عليه السلم لنه ل يزال شابا .فسألهم مرة ثانية ،فقام نفس الشاب .فنزل عليه شبه عيسى
عليه السلم ،ورفع الله عيسى أمام أعين الحواريين إلى السماء .وجاء اليهود وأخذوا الشبه
وقتلوه ثم صلبوه .ثم أمسك اليهود الحواريين فكفر واحد منهم .ثم أطلقوهم خشية أن يغضب
الناس .فظل الحواريون يدعون بالسر .وظل النصارى على التوحيد أكثر من مئتين سنة .ثم
آمن أحد ملوك الروم واسمه قسطنطين ،وأدخل الشركيات في دين النصارى.
يقول ابن عباس :افترق النصارى ثلث فرق .فقالت طائفة :كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى
السماء .وقالت طائفة :كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه .وقلت طائفة :كان فينا عبد
الله ورسوله ما شاء ثم رفعه الله إليه .فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل
السلم طامسا حتى بعث الله محمدا –صلى الله عليه وسلم -فذلك قول الله تعالى) :فَأ َي ّد َْنا
حوا َ َ ذي َ
ن(.
ري َ
ظاه ِ ِ صب َ ُ مُنوا ع ََلى ع َد ُوّه ِ ْ
م فَأ ْ نآ َال ّ ِ َ
ل يزال عيسى –عليه السلم -حيا .ويدل على ذلك أحاديث صحيحة كثيرة .والحديث الجامع لها
في مسند المام أحمد:
حدثنا عبد الله ،حدثني أبي ،ثنا يحيى ،عن ابن أبي عروبة قال :ثنا قتادة ،عن عبد الرحمن بن
آدم ،عن أبي هريرة) :،عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :النبياء إخوة لعلت ،دينهم واحد
وأمهاتهم شتى ،وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لنه لم يكن بيني وبينه نبي ،وأنه نازل فإذا
رأيتموه فاعرفوه ،فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ،سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه
بلل بين ممصرتين ،فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ،ويضع الجزية ،و يعطل الملل حتى يهلك
الله في زمانه الملل كلها غير السلم ،ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب ،وتقع
المنة في الرض حتى ترتع البل مع السد جميعًا ،والنمور مع البقر ،والذئاب مع الغنم ،ويلعب
الصبيان بالحيات ل يضر بعضهم بعضًا ،فيمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يتوفى ،فيصلي عليه
المسلمون و يدفنونه(.
)مربوع( ليس بالطويل وليس بالقصير) ،إلى الحمرة والبياض( وجهه أبيض فيه احمرار) ،سبط(
شعره ناعم) ،ممصرتين( عصاتين أو منارتين وفي الحديث الخر ينزل عند المنارة البيضاء من
مسجد دمشق.
وفي الحديث الصحيح الخر يحدد لنا رسولنا الكريم مدة مكوثه في الرض فيقول) :فيمكث
أربعين سنة ثم يتوفى ،و يصلي عليه المسلمون(.
ل بد أن يذوق النسان الموت .عيسى لم يمت وإنما رفع إلى السماء ،لذلك سيذوق الموت في
نهاية الزمان.
ويخبرنا المولى عز وجل بحوار لم يقع بعد ،هو حواره مع عيسى عليه السلم يوم القيامة
فيقول:
ُ عيسى ابن مري َ
لن اللهِ َقا َ دو ِ من ُ ن ِ ي إ َِلـَهي ِذوِني وَأم َ خ ُ
س ات ِ ت ِللنا ِ ت ُقل َ م أءن َ َ َ َ َ
َ َ
ه يا ِ َ ل الل ُ وَِإذ َقا َ
سي وَل َ ما ِفى َنف ِ م َ َ
ه َتعل ُ قد ع َِلمت َ ُ َ
هف َ ُ
ت قلت ُ ُ ُ
حق إن كن ُ س ِلي ب ِ َما لي ََ َ ُ
ن ِلي أن أقول َ ُ
ما ي َكو ُ َ
حان َك َ سب َ ُ
ه الل دوا باع ن علم الغُيوب ) ِ (116ما ُقلت ل َهم إل ما أ َمرتِني به أ َ َ ت ك َ
أن َ إن َ
ك س نف فى ما م َ ل أعَ
َ ُ ُ ِ ِ ِ َ ُ ُ ِ َ َ َ ِ ُ ُ َ ِ ِ َ ِ ُ َ
ت ع ََلى َ َ
ب ع ََليِهم وَأن َ ت الرِقي َ ت أن َ كن َ وفيت َِني ُ ت ِفيِهم فََلما ت َ َ دم ُ شِهيدا ً ما ُ ت ع ََليِهم َ كن ُكم وَ ُ َربي وََرب ُ
128
ك وإن تغفر ل َهم فَإن َ َ ُ
م )(118
كي ُ
ح ِ
زيُز ال َ
ت العَ ِ
ك أن َ ِ ُ عَباد ُ َ َ ِ َ ِ
شِهيد ٌ )ِ (117إن ت َُعذبُهم فَِإنُهم ِ
شىء َكل َ
)المائدة(
هذا هو عيسى بن مريم عليه السلم ،آخر الرسل قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
نبذة:
النبي المي العربي ،من بني هاشم ،ولد في مكة بعد وفاة أبيه عبد الله بأشهر قليلة ،توفيت
أمه آمنة وهو ل يزال طفل ،كفله جده عبد المطلب ثم عمه أبو طالب ،ورعى الغنم لزمن،
تزوج من السيدة خديجة بنت خويلد وهو في الخامسة والعشرين من عمره ،دعا الناس إلى
السلم أي إلى اليمان بالله الواحد ورسوله ،بدأ دعوته في مكة فاضطهده أهلها فهاجر إلى
المدينة حيث اجتمع حوله عدد من النصار عام 622م فأصبحت هذه السنة بدء التاريخ
الهجري ،توفي بعد أن حج حجة الوداع.
سيرته:
129
في غرب الجزيرة العربية ،وفي مكة المكرمة ،ولدت )آمنة بنت وهب( ابنها
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ،في الليلة الثانية عشرة من ربيع الول
سنة 571ميلدية وهو ما يعرف بعام الفيل.
ما ،فقد مات أبوه ،وهو لم يزل جنيًنا في بطن أمه، وقد ولد محمد صلى الله عليه وسلم يتي ً
فقد خرج عبدالله بن عبدالمطلب إلى تجارة في المدينة
دا ،ولم يكن هذا السم مشهوًرا ول فمات هناك ،واعتنى به جده عبدالمطلب ،وسماه محم ً
منتشًرا بين العرب ،وقد أخذته السيدة حليمة السعدية لترضعه في
دا عن مكة؛ فنشأ قوىّ البنيان ،فصيح اللسان ،ورأوا الخير والبركة من يوم وجوده بني سعد بعي ً
بينهم.
وفي البادية ،وبينما محمد صلى الله عليه وسلم يلعب مع الغلمان ،إذ جاء إليه جبريل -عليه
السلم -فأخذه ،وشق عن قلبه ،فاستخرج القلب ،واستخرج منه علقة هي حظ الشيطان منه،
ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ،ثم أعاد القلب إلى مكانه ،فأسرع الغلمان إلى
دا قد قتل ،فاستقبلوه وهو متغير اللون ،قال أنس بن مالك :كنت أرى حليمة فقالوا :إن محم ً
أثر ذلك المخيط في
دا صلى الله عليه وسلم صدره].مسلم والحاكم[ ولما رأت حليمة السعدية ذلك ،أرجعت محم ً
إلى أمه آمنة ،فكان معها تعتني به حتى بلغ السادسة من عمره ،وبعدها توفيت ،فأخذه جده
عبدالمطلب الذي لم يزل يعتني به منذ ولدته ،ولما مات جده وهو في الثامنة من عمره ،عهد
بكفالته إلى عمه أبى طالب..
وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حرب الفجار مع أعمامه ،وهذه حرب خاضتها
عا عن قداسة الشهر الحرم ومكانة بيت الله قريش مع كنانة ضد قيس عيلن من هوازن دفا ً
الحرام ،كما شهد حلف الفضول الذي ردت فيها قريش لرجل من زبيد حقه الذي سلبه منه
العاص بن وائل السهمى ،وكان هذا الحلف في دار عبدالله بن جدعان ،وقد اتفقت فيه قريش
على أن ترد للمظلوم
حقه ،وكان لهذين الحدثين أثرهما في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان من بين أهل قريش امرأة شريفة تسمى خديجة بنت خويلد ،كانت تستأجر الرجال في
تجارتها ،وقد سمعت بأمانة محمد صلى الله عليه وسلم ،فأرسلت إليه تعرض عليه أن يخرج
بتجارتها إلى الشام ،وتعطيه أكثر ما تعطى غيره ،فوافق
محمد صلى الله عليه وسلم ،وخرج مع غلمها ميسرة ،وتاجرا وربحا ،ولما عادا من التجارة،
أخبر ميسرة سيدته خديجة بما لمحمد صلى الله عليه وسلم
دا صلى الله
من خصائص ،وكانت امرأة ذكية ،فأرسلت تخطب محم ً
عليه وسلم.
ثم جاء عمه أبو طالب وعمه حمزة وخطباها لمحمد صلى الله عليه وسلم ،وتزوج رسول الله
صلى الله عليه وسلم بخديجة ،وكانت نعم الزوجة الصالحة ،فقد ناصرته في حياتها ،وبذلت كل
ما تملك في سبيل إعلء كلمة الله ،وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن تدبيره
وحكمته ورجاحة عقله في حل
المشكلت ،فقد أعادت قريش بناء الكعبة ،وقد اختلفوا فيمن يضع الحجر السود مكانه ،حتى
ما ،واقترح أبو أمية بن المغيرة تحكيم أول من كادت أن تقوم حرب بينهم ،وظلوا على ذلك أيا ً
يدخل من باب المسجد ،فكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم ،فأمر بإحضار ثوب ،ثم أمر بوضع الحجر في الثوب ،وأن تأخذ كل قبيلة طرًفا من
الثوب ،فرفعوه جميًعا ،حتى إذا بلغ الموضع ،وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده
الشريفة مكانه ،ثم بنى عليه ،وكان آنذاك في الخامسة
والثلثين من عمره.
ولما قربت سن محمد صلى الله عليه وسلم نحو الربعين ،حببت إليه العزلة ،فكان يعتزل في
غار حراء ،يتعبد فيه ،ويتأمل هذا الكون الفسيح ،وفي يوم من اليام كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يتعبد في غار حراء ،فجاء جبريل ،وقال له :اقرأ ..فقال له محمد صلى الله عليه
دا ثم أرسله وقال له :اقرأ .قال :ما أنا ما شدي ً وسلم :ما أنا بقارئ .فأخذه جبريل فضمه ض ّ
دا ،وقال له :اقرأ .قال :ما أنا بقارئ .قال له ما شدي ً بقارئ .فأخذه جبريل ثانية وضمه إليه ض ّ
جبريل:
}اقرأ باسم ربك الذي خلق .خلق النسان من علق .اقرأ وربك الكرم الذي علم بالقلم .
علم النسان ما لم يعلم{ ]العلق]_ [5-1:متفق عليه[.
130
فكان هذا الحادث هو بداية الوحي ،ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف مما حدث له،
فذهب إلى خديجة وطلب منها أن تغطيه ،ثم حكى لها
دا ،ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، ما حدث ،فطمأنته ،وأخبرته أن الله لن يضيعه أب ً
وحكى له ما رأى ،فبشره ورقة بأنه نبي هذه المة ،وتمنى أن لو يعيش حتى ينصره ،لكن ورقة
مات قبل الرسالة ،وانقطع الوحى مدة ،فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ثم نزل
دا على كرسى بين الوحى مرة ثانية ،فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل قاع ً
عا إلى أهله ،وهو يقول :زملونى ،زملونى )أى غطونى( فأنزل الله السماء والرض ،فرجع مسر ً
تعالى قوله} :يا أيها المدثر .قم فأنذر .وربك فكبر .وثيابك فطهر .والرجز فاهجر{ _]المدثر:
[5-1ثم تتابع الوحى بعد ذلك ]البخارى[.
وبعد هذه اليات التى نزلت كانت بداية الرسالة ،فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو
القربين إلى السلم ،فكان أول من آمن خديجة زوجته ،وأبو بكر صديقه ،وعلي بن أبى طالب
ابن عمه ،وزيد بن حارثه موله ،ثم تتابع الناس بعد ذلك في دخول السلم ،وأنزل الله
-سبحانه -على رسوله صلى الله عليه وسلم قوله} :وأنذر عشيرتك القربين{_]الشعراء:
[214فكان المر من الله أن يجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة ،فجمع أقاربه
أكثر من مرة ،وأعلمهم أنه نبي من عند الله -عز وجل.-
ولما نزل قول الله تعالى} :فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين{ ]الحجر [94 :قام
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنكر عبادة الصنام ،وما عليه الناس من الضللة ،وسمعت
قريش بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذتهم الحمية لصنامهم التى ل تضر ول تنفع،
وحاولوا أن يقفوا ضد هذه الدعوة الجديدة بكل وسيلة ،فذهبوا إلى أبى طالب ،وطلبوا منه أن
يسلم لهم الرسول صلى الله عليه وسلم فرفض ،وكانوا يشوهون صورته للحجاج مخافة أن
يدعوهم ،وكانوا يسخرون من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن ،ويتهمونه بالجنون
والكذب ،لكن باءت محاولتهم بالفشل ،فحاول بعضهم تأليف شىء كالقرآن
فلم يستطيعوا ،وكانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد اليذاء كى
يردوهم عن السلم ،فكانت النتيجة أن تمسك المسلمون بدينهم أكثر.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بالمسلمين سّرا في دار
الرقم بن أبى الرقم يعلمهم أمور الدين ،ثم أمرهم بعد فترة أن يهاجروا إلى الحبشة ،فهاجر
عدد من المسلمين إلى الحبشة ،فأرسلت قريش إلى النجاشى يردهم ،لكن الله نصر
المسلمين على الكفار؛ فرفض النجاشى أن يسلم المسلمين وظلوا عنده في أمان يعبدون
دا إل
الله عز وجل ،وحاول المشركون مساومة أبى طالب مرة بعد مرة بأن يسلم لهم محم ً
أنه أبى إل أن يقف معه ،فحاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم إل أن الله منعه وحفظه.
وفي هذه الوقات العصيبة أسلم حمزة وعمر بن الخطاب ،فكانا منعة وحصًنا للسلم ،ولكن
المشركين لم يكفوا عن التفكير في القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولما علم
أبو طالب بذلك جمع بني هاشم وبني عبدالمطلب واتفقوا على أن يمنعوا الرسول صلى الله
عليه وسلم من أن يصيبه أذى ،فوافق بنو هاشم وبنو عبدالمطلب مسلمهم وكافرهم إل أبا
لهب ،فإنه كان مع قريش ،فاتفقت قريش على مقاطعة المسلمين ومعهم بنو هاشم وبنو
عبدالمطلب ،فكان الحصار في شعب أبى طالب ثلث سنوات ،ل يتاجرون معهم ،ول يتزوجون
منهم ،ول يجالسونهم ول يكلمونهم ،حتى قام بعض العقلء ،ونادوا في قريش أن ينقضوا
الصحيفة التى كتبوها ،وأن يعيدوا العلقة مع بني هاشم وبني عبدالمطلب ،فوجدوا الرضة
أكلتها إل ما فيها من اسم الله.
وتراكمت الحزان فيما بعد لوفاة أبى طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه خديجة
كر الرسول صلى الله عليه وسلم أن بنت خويلد ،فقد ازداد اضطهاد وتعذيب المشركين ،وف ّ
يخرج من مكة إلى الطائف يدعو أهلها إلى السلم ،إل أنهم كانوا أشراًرا ،فأهانوا النبي صلى
الله عليه وسلم وزيد ابن حارثة الذي
كان معه ،وأثناء عودته بعث الله -عز وجل -إليه نفًرا من الجن استمعوا إلى القرآن الكريم،
فآمنوا.
وأراد الله -سبحانه -أن يخفف عن الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت رحلة السراء
والمعراج ،والتى فرضت فيها الصلة ،خمس صلوات في اليوم والليلة واطمأنت نفس النبي
صلى الله عليه وسلم بهذه الرحلة ،ليبدأ من جديد الدعوة إلى الله ،وقد علم أن الله معه لن
يتركه ول ينساه ،فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في موسم الحج يدعو الناس
إلى اليمان بالله وأنه رسول الله ،فآمن له في السنة العاشرة من النبوة عدد قليل ،ولما كانت
131
السنة الحادية عشرة من النبوة أسلم ستة أشخاص من يثرب كلهم من الخزرج ،وهم حلفاء
اليهود ،وقد كانوا سمعوا من اليهود بخروج نبي في هذا الزمان ،فرجعوا إلى أهليهم ،وأذاعوا
الخبر بينهم.
ً
وعادوا العام القادم وهم اثنا عشر رجل ،فيهم خمسة ممن حضر العام الماضى وبايعوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعرفت هذه البيعة ببيعة العقبة الولى فرجعوا وأرسل الرسول
صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير ليعلمهم أمور دينهم ،وقد نجح مصعب بن عمير
حا باهًرا ،فقد استطاع أن يدعوا كبار المدينة من الوس والخزرج ،حتى آمن عدد كبير منهم، نجا ً
سا من أهل يثرب في موسم الحج، وفي السنة الثالثة عشرة من النبوة ،جاء بضع وسبعون نف ً
والتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه بيعة العقبة الثانية ،وتم التفاق على نصرة
السلم والهجرة إلى المدينة.
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها الصحابة أن يهاجروا إلى يثرب ،فهاجر من قدر من
المسلمين إلى المدينة ،وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلى وبعض الضعفاء
دا
ممن ل يستطيعون الهجرة ،وسمعت قريش بهجرة المسلمين إلى يثرب ،وأيقنت أن محم ً
صلى الله عليه وسلم لبد أن يهاجر ،فاجتمعوا في دار الندوة لمحاولة القضاء على رسول الله
جاه من مكرهم ،وهاجر هو وأبو بكر بعد أن جعل صلى الله عليه وسلم لكن الله -سبحانه -ن ّ
علّيا مكانه ليرد المانات إلى أهلها.
وهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر إلى المدينة ،واستقبلهما أهل المدينة
بالترحاب والنشاد ،لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الدعوة ،وهي المرحلة المدنية ،بعد أن
انتهت المرحلة المكية ،وقد وصل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الجمعة ) 12ربيع
الول سنة 1هـ /الموافق 27سبتمبر سنة 622م( ونزل في بني النجار ،وعمل رسول الله
صلى الله عليه وسلم على تأسيس دولة السلم في المدينة ،فكان أول ما صنعه أن بنى
المسجد النبوى ،ليكون دار العبادة للمسلمين ،ثم آخى بين المهاجرين والنصار ،كما كتب
الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدة مع اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة.
دا يدافع فا واح ًوبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتنى ببناء المجتمع داخلّيا ،كى يكون ص ّ
عن الدولة الناشئة ،ولكن المشركين بمكة لم تهدأ ثورتهم ،فقد أرسلوا إلى المهاجرين أنهم
دا
سيأتونهم كى يقتلوهم ،فكان لبد من الدفاع ،فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عد ً
من السرايا ،كان الغرض منها التعرف على الطرق المحيطة بالمدينة ،والمسالك المؤدية إلى
مكة ،وعقد المعاهدات مع القبائل المجاورة وإشعار كل من مشركى يثرب واليهود وعرب
البادية والقرشيين أن السلم قد أصبح قوّيا.
وكانت من أهم السرايا التى بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة بدر سرية سيف
البحر ،وسرية رابغ ،وسرية الخرار ،وسرية البواء ،وسرية نخلة ،وفي شهر شعبان من السنة
الثانية الهجرية فرض الله القتال على المسلمين ،فنزلت آيات توضح لهم أهمية الجهاد ضد
أعداء السلم ،وفي هذه اليام أمر الله -سبحانه -رسوله صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة
من بيت المقدس إلى
المسجد الحرام ،وكان هذا إيذاًنا ببدء مرحلة جديدة في حياة المسلمين
خاصة ،والبشرية عامة.
بعد فرض الجهاد على المسلمين ،وتحرش المشركين بهم ،كان لبد من القتال فكانت عدة
لقاءات عسكرية بين المسلمين والمشركين ،أهمها :غزوة بدر الكبرى في العام الثانى
الهجرى ،وكانت قريش قد خرجت بقافلة تجارية كبيرة على رأسها أبو سفيان بن حرب ،وقد
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلثمائة وبضعة عشر رجل ً لقصد هذه القافلة ،لكن
أبا سفيان كان يتحسس الخبر فأرسل رجل إلى قريش يعلمهم بما حدث ،ثم نجح هو بعد ذلك
في الفلت بالعير والتجارة ،واستعدت قريش للخروج ،فخرج ألف وثلثمائة رجل ،وأرسل أبو
سفيان إلى قريش أنه قد أفلت بالعير ،إل أن أبا جهل أصر على القتال ،فرجع بنو زهرة وكانوا
ثلثمائة رجل ،واتجه المشركون ناحية بدر ،وكان المسلمون قد سبقوهم إليها بعد استطلعات
واستكشافات.
ُ
وبدأت الحرب بالمبارزة بين رجال من المشركين ورجال من المهاجرين ،قِتل فيها المشركون،
وبدأت المعركة ،وكتب الله -عز وجل -للمسلمين فيها النصر وللكفار الهزيمة ،وقد قتل
دا كبيًرا ،كما أسروا آخرين ،وبعد غزوة بدر علم الرسول صلى الله عليه المسلمون فيها عد ً
وسلم أن بني سليم من قبائل غطفان تحشد قواتها لغزو المدينة ،فأسرع رسول الله صلى
الله عليه وسلم في مائتى رجل وهاجمهم في عقر دارهم ،ففروا بعد أن تركوا خمسمائة بعير
132
استولى عليها المسلمون ،وكانت هذه الغزوة في شوال )2هـ( بعد بدر بسبعة أيام ،وعرفت
بغزوة بني سليم.
ورأت اليهود في المدينة نصر الرسول صلى الله عليه وسلم فاغتاظوا لذلك ،فكانوا يثيرون
القلقل ،وكان أشدهم عداوة بنو قينقاع ،فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود بالمدينة
ونصحهم وعرض عليهم السلم ،إل أنهم أبدوا استعدادهم لقتال المسلمين ،فكظم الرسول
صلى الله عليه وسلم غيظه ،حتى تسبب رجل من بني قينقاع في كشف عورة امرأة ،فقتله
أحد المسلمين ،فقتل اليهود المسلم فحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قينقاع ،ثم
أجلهم عن المدينة بسبب إلحاح عبدالله بن أبى بن سلول.
وفي ذي الحجة سنة )2هـ( خرج أبو سفيان في نفر إلى المدينة ،فأحرق بعض أسوار من
النخيل ،وقتلوا رجلين ،وفروا هاربين ،فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في أثرهم ،إل أنهم
ألقوا ما معهم من متاع حتى استطاعوا السراع بالفرار وعرفت هذه الغزوة بغزوة السويق،
كما علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن نفًرا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الغارة
على المدينة ،فخرج لهم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى المكان الذي تجمعوا
فيه ،وكان يسمى بـ)ذي أمر( ففروا هاربين إلى رءوس الجبال ،وأقام الرسول صلى الله عليه
وسلم شهًرا ليرهب العراب بقوة المسلمين ،وكانت هذه الغزوة في أوائل صفر
سنة )3هـ(.
وفي جمادى الخرة سنة )3هـ( خرجت قافلة لقريش بقيادة صفوان بن أمية ومع أن القافلة
قا صعًبا ل يعرف ،إل أن النبأ قد وصل إلى المدينة وخرجت سرية بقيادة زيد بن اتخذت طري ً
حارثة ،استولت على القافلة وما فيها من متاع ،وفر صفوان بن أمية ومن معه ،اغتاظ كفار
مكة مما حدث لهم في غزوة بدر ،فاجتمعوا على الستعداد لقتال المسلمين ،وقد جعلوا
القافلة التى نجا بها أبوسفيان لتمويل الجيش واستعدت النساء المشركات للخروج مع الجيش
لتحميس الرجال ،وقد طارت الخبار إلى المدينة باستعداد المشركين للقتال ،فاستشار
الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة ،وأشار عليهم -بدًءا -أن يبقوا في المدينة ،فإن عسكر
المشركون خارجها ،فإنهم لن ينالوا منهم شيًئا ،وإن غزوا المدينة ،قاتلوهم قتال ً شدي ً
دا.
إل أن بعض الصحابة ممن لم يخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم للقتال في بدر ،أشاروا
على الرسول صلى الله عليه وسلم الخروج من المدينة ،وكان على رأس المتحمسين للخروج
حمزة بن عبدالمطلب ،ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس الحرب ،وخرج الجيش
وفيه ألف مقاتل ،واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكاًنا قريًبا من العدو عند جبل أحد،
وما كاد وقت المعركة أن يبدأ حتى تراجع عبدالله بن أبى سلول بثلث الجيش ،بزعم أن
الرسول صلى الله عليه وسلم قد أكره على الخروج ،وما أراد بفعلته إل بث الزعزعة في
صفوف المسلمين ،وبقى من الجيش سبعمائة مقاتل ،وكان عدد المشركين ثلثة
آلف مقاتل.
واتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم مكاًنا متميًزا في المعركة ،وجعل بعض المقاتلين في
مر عليهم عبدالله بن جبير وأمرهم أن يحموا الجبل ،وهو ما عرف فيما بعد بجبل الرماة ،وأ ّ
ظهور المسلمين ،وأل ينزلوا مهما كان المر ،سواء انتصر المسلمون أم انهزموا ،إل إذا بعث
دا
إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ،بدأت المبارزة بين الفريقين ،وقتل فيها المسلمون عد ً
من المشركين ،وكان معظمهم ممن كانوا يحملون لواء المشركين ،حتى ألقى اللواء على
دا ،واستبسل من كانوا على الجبل. الرض ،واستبسل المسلمون وقاتلوا قتال شدي ً
إل أنهم لما رأوا المسلمين يجمعون الغنائم نزلوا ،فذكرهم قائدهم عبدالله بن جبير إل أنهم لم
يسمعوا له ،ولحظ خالد بن الوليد ،فرجع بمن كان معه ،وطوق جيش المسلمين ،واضطربت
الصفوف ،وقتل المشركون من المسلمين سبعين رجل ً واقتربوا من رسول الله صلى الله عليه
وسلم الذي أصيب ببعض
الصابات ،والذي حاول المشركون قتله لول بسالة بعض الصحابة ممن
دافع عنه ،وقد أشيع قتل النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم انتشر بين المسلمين كذب الخبر ،فتجمعوا حوله صلى الله
قا وينجو
عليه وسلم ،واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخترق طري ً
بمن معه ،وصعدوا الجبل ،وحاول المشركون قتالهم ،إل أنهم لم يستطيعوا ،فرجعوا وخشى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع المشركون ،فخرج بمن كان معه في غزوة أحد
فحسب ،ولم يقبل غيرهم إل عبدالله بن جابر فقد قبل
عذره.
133
وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة حتى وصلوا إلى حمراء السد ،وقد أقبل معبد
بن أبى معبد الخزاعي وأسلم ،فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بمخادعة أبى سفيان إن
كان قد أراد الرجوع لحرب المسلمين ،وفي طريق العودة اتفق المشركون على الرجوع،
دا
فقابلهم معبد بن أبى معبد الخزاعي ،ولم يكن أبو سفيان قد علم بإسلمه ،فقال له :إن محم ً
شا كبيًرا لقتالكم ،كى يستأصلكم ،فارجعوا ،وأحدثت هذه صلى الله عليه وسلم قد جمع جي ً
الكلمات زعزعة في صفوف المشركين.
وبعد غزوة أحد ،بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا لتأديب من يريد أن
يعتدي على المسلمين ،كسرية أبى سلمة في هلل شهر المحرم سنة )4هـ( إلى بني أسد بن
خزيمة ،وبعث عبدالله بن أنيس لخالد بن سفيان الذي أراد حرب المسلمين ،فأتى عبدالله بن
أنيس برأسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،وفي بعث الرجيع قتل بعض الصحابة ،وفي
السنة نفسها ،بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة لهل نجد ،ليدعوهم إلى
السلم ،وفي الطريق عند بئر معونة
أحاط كثير من المشركين بالمسلمين ،وقتلوا سبعين من الصحابة ،ولما بلغ الرسول صلى الله
دا ،ودعا على المشركين.عليه وسلم ذلك الخبر ،حزن حزًنا شدي ً
وكانت يهود بني النضير يراقبون الموقف ،ويستغلون أى فرصة لشعال الفتنة وكان بعض
الصحابة قد قتلوا اثنين خطأ معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وكان من بنود
الميثاق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود ،أن يساعد كل من الطرفين الخر في
دفع الدية ،فلما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم حاولوا قتله ،إل أن الله سبحانه
حفظه وأرسل إليه جبريل ،يخبره بما يريدون ،فبعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن
يخرجوا ،ولكن عبدالله بن أبى وعدهم بالمساعدة ،فرفضوا الخروج ،وحاصرهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم بضعة أيام ،وبعدها قرروا الخروج على أن يأخذوا متاعهم ،واستثنى
رسول الله صلى الله عليه وسلم سلحهم ،فأخذه ،وأخذ أرضهم وديارهم ،فتفرق يهود بني
النضير في الجزيرة.
وفي شعبان من العام الرابع الهجري خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في ألف وخمسمائة
من أصحابه ،لملقاة أبى سفيان والمشركين ،كما اتفقوا في غزوة أحد إل أن أبا سفيان خاف،
فتراجع هو وجيشه خوًفا من المسلمين ،ويسمى هذا الحادث بغزوة بدر الصغرى أو بدر الخرة،
شاوطارت النباء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن القبائل حول دومة الجندل تحشد جي ً
لقتال المسلمين ،فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش من أصحابه ،وفاجأهم،
ففروا هاربين وكان ذلك في أواخر ربيع الول سنة )5هـ( وبذا فقد استطاع الرسول صلى الله
عليه وسلم أن يصد كل عدوان ،حتى يتسنى له المر لتبليغ دعوة الله.
ولم تنس اليهود تلك الهزائم التى لحقت بها ،لكنها ل تستطيع مواجهة الرسول صلى الله عليه
وسلم فأخذت يهود بني النضير يألبون المشركين في مكة وغيرها على رسول الله صلى الله
عليه وسلم ،حتى اجتمع عشرة آلف مقاتل ،وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك،
فاستشار الصحابة ،فأشار عليه سلمان الفارسى بحفر خندق ،فحفر الرسول صلى الله عليه
وسلم والصحابة الخندق شمال المدينة ،لنه الجهة الوحيدة التى يمكن أن يأتى العداء منها.
وذهب زعيم بني النضير حيى بن أخطب إلى زعيم بني قينقاع المتحالفة مع الرسول صلى الله
عليه وسلم ،وجعله ينقض العهد ،إل أن الله حمى المسلمين وحفظهم فقد أسلم نعيم بن
مسعود الذي أوقع الدسيسة بين اليهود وقريش ،وجعل كل منهم يتشكك في الخر ،وأرسل
حا شديدة دمرت خيامهم ،وأطفأت نيرانهم؛ فاضطروا إلى الرحيل والفرار ،وقال الله عليهم ري ً
بعدها الرسول صلى الله عليه
وسلم) :الن نغزوهم ول يغزوننا( وسميت هذه الغزوة بغزوة الخندق أو
الحزاب ،وكانت في العام الخامس الهجرى.
وقبل أن يخلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ملبس الحرب ،جاءه جبريل ،وأمره
بأن يذهب لغزو بني قريظة هو وأصحابه ،فتحرك الجيش السلمى وكان عدده ثلثة آلف
مقاتل وحاصر الرسول صلى الله عليه وسلم بني قريظة فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد
ثلث اقتراحات؛ إما أن يسلموا فيأمنوا على أنفسهم ،وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم ،ثم
يخرجوا لقتال المسلمين ،وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم
السبت؛ لكنهم لم يجيبوه إلى شىء من ذلك.
ولم يبق لهم بعد الرفض إل أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا إلى
أبى لبابة بن المنذر-وكان من حلفائهم قبل إسلمه -ليخبرهم عن حكم رسول الله صلى الله
134
عليه وسلم ،فلما رأى أبو لبابة بني قريظة رق قلبه إليهم ،وأشار إليهم بيده إلى حلقه كناية
عن القتل ،وعلم أبو لبابة أنه خان الله ورسوله ،فذهب إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
وربط نفسه ،وأقسم أل يفكه أحد إل الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونزلت اليهود على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،واتفق أن يحكم فيهم سعد بن
معاذ ،فحكم سعد بأن يقتل الرجال ،وتسبى النساء والذراري ،وكان هذا حكم الله فيهم ،وكانت
الغزوة في ذي القعدة من العام
الخامس الهجرى ،وبعد غزوة بني قريظة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من
النصار قتلوا سلم بن أبى الحقيق ،وذلك أنه كان من اليهود الذين أثاروا الحزاب ضد
المسلمين.
وفي شعبان من العام السادس الهجري علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زعيم بني
المصطلق جمع قومه ومن قدر عليه من العرب لقتال المسلمين ،فتأكد رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الخبر ،وخرج في عدد من الصحابة ،حتى وصل ماء المريسيع ،ففر المشركون،
واستولى المسلمون على
أموالهم وذراريهم ،وفي هذه الغزوة كانت حادثة الفك التى افُترى فيها على السيدة عائشة،
واتهمت بالخيانة ،فأنزل الله -سبحانه -براءتها في قرآن يتلى إلى يوم القيامة.
وقد أراد المنافقون أن يدسوا الفتنة بين المسلمين بعد النتهاء من الحرب ،فقال عبدالله بن
أبي :ليخرجن العز منها الذل )يعنى العز هو ،والذل رسول الله صلى الله عليه وسلم( فقام
ابنه عبدالله بن عبدالله بن أبى بالعتذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنع أباه من
دخول المدينة ،وقال له :رسول الله هو العز وأنت الذل.
وفي هذا العام السادس من الهجرة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أنه دخل
هو وأصحابه المسجد الحرام ،وأخذ مفتاح الكعبة ،وطافوا واعتمروا فكانت بشرى من الله،
بفتح مكة فيما بعد ،واستعد الرسول صلى الله عليه وسلم للعمرة وخرج معه عدد كبير من
المسلمين ،ولما سمعت بذلك قريش ،استعدت للحرب وساق الرسول صلى الله عليه وسلم
الهدي؛ دللة على عدم نية الحرب ،وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان،
ليرى رأي قريش.
واحتجزت قريش عثمان فترة ،وأشيع نبأ قتله ،وبايع الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم
بيعة الرضوان ،وظلت المراسلت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قريش ،انتهت بأن
أرسلت قريش سهيل بن عمرو ليعقد صلح الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكان من ضمن بنوده وقف الحرب بين الفريقين عشر سنين ،وللقبائل أن تدخل في حلف
النبي صلى الله عليه وسلم ،أو في حلف قريش ،وأنه من فر من المسلمين إلى قريش ل
ترده قريش ،ومن فر من قريش إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يرده الرسول صلى الله
عليه وسلم.
ومع أن الظاهر في بعض بنود هذه المعاهدة الظلم ،إل أنها أتاحت الفرصة لنتشار السلم،
واعتراف قريش بالمسلمين كقوة ،فدخل عدد كبير السلم ..بعد هذه الهدنة ،أسلم بعض
أبطال قريش؛ كعمرو بن العاص ،وخالد بن الوليد ،وعثمان بن طلحة ،وأرسل رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى المراء والملوك يدعوهم إلى السلم ،ليعلن أن السلم جاء للناس جميًعا،
وليس مقصوًرا على شبة الجزيرة العربية.
دا على بعض بني فزارة وبعد صلح الحديبية قامت بعض الغزوات؛ كغزوة ذي قرد ،وكانت ر ّ
الذين أرادوا القيام بعمل القرصنة ضد المسلمين ،وقد أبلى فيها سلمة بن الكوع بلًء حسًنا،
وبعد تلك النتصارات التى قام بها المسلمون كان لبد من تأديب من كان السبب في كثير من
الحروب ،وهم يهود خيبر ،أولئك الذين جمعوا الحزاب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فا
للقتال ،فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن بايع معه تحت الشجرة ،وكانوا أل ً
وأربعمائة ،حتى وصلوا قرب خيبر ،وقد كانت كلها حصوًنا ،ففيها ثمانية حصون كبيرة منيعة
ن الله عليهم بفتح هذه الحصون، واستبسل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى م ّ
وأصبح اليهود صاغرين ،وصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبقى لهم الرض
ليزرعوها على أن يكون لهم نصف الثمار ،وللمسلمين نصفها ،وكانت غزوة خيبر في العام
السابع الهجرى.
وبعد هذه الغزوة جاء جعفر بن أبى طالب ومن معه من الحبشة إلى المدينة ،وفرح الرسول
صلى الله عليه وسلم بعودتهم ،كما تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيى بن
أخطب بعد أن أسلمت ،وقد كانت من السبى ،وبعد خيبر صالح يهود فدك الرسول صلى الله
135
عليه وسلم كما صالحه أهل خيبر ،كما حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض اليهود
ومن انضم إليهم من العرب عند وادي القرى ،وفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقسم
الغنائم على أصحابه ،أما النخل والرض فقد عاملهم كما عامل أهل خيبر ،ولما علم يهود تيماء
بذلك بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فكتب لهم كتاًبا ،يدفعون بمقتضاه الجزية
للمسلمين وبعد هذه الحروب والنتصارات رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
دب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين واليهود ،خرج الرسول صلى الله وبعد أن أ ّ
عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع حتى استطاع تأديب العراب ،وكان لهذه الغزوة أثرها في
قذف الرعب في قلوب العراب ،وبذا استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقضى على
الحزاب ،ليتفرغ لنشر الدعوة السلمية ،وكانت هذه الغزوة في العام السابع الهجرى..
وفي ذي القعدة من السنة السابعة من الهجرة ،خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
والمسلمون إلى مكة لداء عمرة القضاء ،وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث الحارث
بن عمير الزدي إلى عظيم بصرى ،فعرض له
شرحبيل بن عمرو الغسانى عامل البلقاء من أرض الشام ،من قبل قيصر ،فأمسك الحارث،
وأوثقه ثم قتله ،فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بالخروج لتأديب هؤلء ،فخرج
ثلثة آلف مقاتل ،وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الراية لزيد ثم لجعفر إن قتل ،ثم
لعبد الله بن رواحة ،واتجه الجيش ناحية
العدو حتى وصل إلى مكان يقال له )مؤتة( وفوجئ الجيش بأن جيش العدو عدده مائتا ألف
مقاتل مقابل ثلثة آلف واستقر المر على الجهاد.
وقاتل المسلمون واستبسلوا ،فقتل القائد زيد بن حارثة ،ثم قتل جعفر ثم قتل ابن رواحة بعد
قتال عنيف ،ثم اتفق أن تكون الراية لخالد بن الوليد الذي استطاع إنقاذ الجيش ،وإرهاب
العداء مع كثرة عددهم ،ففي اليوم الثانى للقتال غير تنظيم الجيش ،حتى ظن الروم أن
المسلمين جاءهم مدد ،فلم يلحقوهم ،بينما انسحب خالد بالجيش بمهارة كبيرة ،ولم يقتل في
هذه الغزوة إل اثنا عشر رجل ً من المسلمين ،وكانت في العام الثامن الهجرى.
وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعض القبائل العربية قد انضمت إلى الرومان،
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في جيش لتأديبهم ،فلما ذهب عمرو
دا ،فبعث إليه ورأى كثرة عدد المشركين أرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب مد ً
بأبي عبيدة في مائتى رجل ،واستطاع المسلمون هزيمة تلك القبائل ،وعرفت هذه الحرب
بسرّية ذات السلسل ،وكانت بعد غزوة مؤتة في جمادى الخرة في العام الثامن الهجرى.
وحدث أن اعتدت بنو بكر -وكانت قد دخلت في حلف قريش حسب اتفاق الحديبية -على
خزاعة التى دخلت في حلف النبي صلى الله عليه وسلم ،وجاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصره ،فقال له النبى) :نصرت يا عمرو بن سالم(
وعلمت قريش أنها نقضت العهد ،فذهب
أبو سفيان إلى المدينة ليسترضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولكنه رجع دون فائدة،
وتجهز الرسول صلى الله عليه وسلم في عشرة آلف مقاتل من الصحابة لغزو مكة دون أن
تعلم قريش بذلك ،وفي هذه الثناء أسلم أبو سفيان ،ولما قرب الرسول صلى الله عليه وسلم
من مكة كان أبو سفيان قد رجع
ليخبر القوم.
ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة منتصرين فاتحين ،واتجه الرسول صلى
الله عليه وسلم والصحابة خلفه ناحية المسجد الحرام ،فاستلم الرسول صلى الله عليه وسلم
الحجر السود وطاف بالبيت ،وهدم الصنام التى كانت حول الكعبة ،ثم نادى عثمان بن طلحة
وأخذ منه مفتاح الكعبة فدخلها فوجد فيها صوًرا فمحاها ،وخطب الرسول صلى الله عليه
وسلم في قريش ،ثم قال لهم :ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا :خيًرا ،أخ كريم ،وابن أخ كريم..
فقال :فإنى أقول لكم كما قال يوسف لخوته }ل تثريب عليكم اليوم{ اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ثم رد المفتاح إلى عثمان بن طلحة ،وكان قد حان وقت الصلة ،فأمر بلل أن يصعد الكعبة،
فصعدها وأذن ،وأهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دم بعض من أكابر المجرمين الذين عذبوا
المسلمين وآذوهم ،فقتل بعضهم وأسلم بعضهم ،ثم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم البيعة
ما في مكةممن أسلم من الرجال ،ثم أخذ البيعة من النساء ،وأقام الرسول تسعة عشر يو ً
يجدد معالم السلم فيها ،وبعث نفًرا من أصحابه لهدم الصنام التى كان منتشرة في مكة ،وقد
كان فتح مكة في العام الثامن من الهجرة.
وقد كان فتح مكة مرحلة فاصلة في تاريخ السلم ،فقد كان لقريش مكانة عظيمة بين القبائل
136
جا،
العربية ،فلما رأت القبائل قريشا دخلت السلم ،أسرعت القبائل تدخل في دين الله أفوا ً
ولكن مسيرة الجهاد لم تقف ،فلقد أبت بعض القبائل العربية أن تدخل الدين الجديد ،وأل
تستسلم كما استسلمت القبائل الخرى ،وكان من بين هذه القبائل هوازن وثقيف ،وانضمت
بعض القبائل الخرى تحت قيادة مالك بن عوف ،وخرج الجيش السلمى ناحية )حنين( وكان
مالك بن عوف قد سبقهم إليها ،ووّزع الجيش في الوادي ،ولما نزل المسلمون الوادي رشقهم
العدو بالنبال ،حتى تقهقرت كتائب المسلمين ،لكن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع شمل
المسلمين الفارين وأعاد للجيش انتظامه ،وحاربوا العدو ،ونصرهم الله عليهم وغنموا غنائم
كثيرة ،وتفرق العدو إلى الطائف ونخلة وأوطاس ..وغير ذلك من الماكن ،وقد كانت هذه
الغزوة في شوال من العام الثامن الهجري.
وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أن معظم جيش هوازن وثقيف دخلوا الطائف ،فخرج
دا عدة أيام،إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر شوال وحاصرهم حصاًرا شدي ً
وبعدها رفع الرسول صلى الله عليه وسلم الحصار عنهم فقال له بعض الصحابة :يا رسول
فا وائت بهم ،وقسم الرسول صلى الله عليه وسلم الله ،ادع على ثقيف ،فقال :اللهم اهد ثقي ً
الغنائم ،وبعد تقسيم الغنائم جاء وفد هوازن مسلمين ،وطلبوا من الرسول صلى الله عليه
وسلم أن يرد عليهم غنائمهم ،فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة رد الغنائم
لوفد هوازن ،فاستجابوا لمر الرسول صلى الله عليه وسلم ،بعدها اعتمر الرسول صلى الله
عليه وسلم ثم رجع إلى المدينة.
وفي العام التاسع من الهجرة ،سمع الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرومان تستعد للقاء
المسلمين ،وقد تجمع معها بعض القبائل العربية من النصارى ،فأعلن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه خارج لقتال الروم ،ودعا إلى الجهاد والنفاق ،وأنفق الصحابة من أموالهم
الكثير ،ولم يتخلف عن هذه الغزوة إل المنافقون وثلثة من المؤمنين ،وقد كان هذا الوقت
شديد الحر ،إل أن المسلمين جاهدوا أنفسهم في الخروج للجهاد ،ولم يكف الزاد ،وسمي هذا
الجيش بجيش العسرة ،وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في رجب من العام التاسع
ما.
الهجري تجاه تبوك ،حتى وصل إليها وعسكر فيها خمسين يو ً
ولما سمع الروم به خافوا ،فلم يخرجوا لقتال المسلمين ،وجاء إليه بعض الرومان واصطلحوا
معه على دفع الجزية ،وانتشر الخبر في الجزيرة العربية ،فازداد السلم قوة إلى قوته،
ورجعت إليه القبائل التى كانت تنوى الحتماء بالرومان ،وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم
في رمضان من هذه السنة مظفًرا منتصًرا ،وفي هذه السنة توفي النجاشى ملك الحبشة،
وصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صلة الغائب ،كما توفيت أم كلثوم بنت النبي صلى
الله عليه وسلم ومات رأس المنافقين عبدالله بن أبى بن سلول.
وفي ذي الحجة من العام التاسع الهجري بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميًرا
جا ،فأتت القبائل إلى الرسول صلى على الحج ،فحج بالمسلمين ،ودخل الناس في السلم أفوا ً
الله عليه وسلم متتالية متتابعة معلنة إسلمها لله ،وفي
ذي الحجة من العام العاشر الهجري خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة وحج بالناس
حجة الوداع ،بعد أن أعلمهم أمور الدين ،وخطب فيهم خطبة وضع فيها السس التى يسيرون
عليها في حياتهم استكمال للرسالة التى جاء بها إلى الناس.
وفي أوائل صفر من العام الحادي عشر الهجري خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد،
وصلى على الشهداء كأنه يودعهم ،وفي ليلة من الليالى خرج إلى البقيع فاستغفر للموتى،
ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولما اشتد عليه المرض أمر أبا بكر أن يصلى
بالناس ،وفي هذه اليام كان الرسول يخرج للناس إذا وجد خفة في نفسه ،فخرج إليهم ذات
مرة ،فوعظهم وذكرهم ،وألمح بأن أجله قد اقترب ،ولم يفهم ذلك من الصحابة إل أبو بكر،
وقبل أن يتوفى النبي صلى الله عليه وسلم بيوم أعتق غلمانه ،وتصدق بسبعة دنانير كانت
عنده.
وفي اليوم الخير من مرض النبي صلى الله عليه وسلم ،وفي فجر يوم الثنين الثاني عشر من
ربيع الول من العام الحادي عشر من الهجرة كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة
عائشة ،فرفع الستار ورأى المسلمين يصلون الفجر ،فتبسم وفي وقت الضحى صعدت الروح
دا
الطاهرة الزكية إلى ربها بعدما أدت ما عليها فحزن الصحابة -رضوان الله عليهم -حزًنا شدي ً
لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ،وغسلوا الجسد الشريف ليلة الثلثاء من غير أن يجردوا
حفر قبره صلى الله عليه وسلم في حجرته ،ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم من الثياب ،و ُ
137
الناس جماعات يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ،بعد ما أدى ما عليه من أمانة ال ،فصلوات ال
وسلمه عليه.
المراجع
في عصر النترنت والتطور التكنولوجي ،لم تعد الكتب المراجع الوحيدة التي يمكن الرجوع
إليها للستعانة بها لنجاز العمال ..من هذا المنطلق ،تعددت المراجع المستخدمة في هذه
الصفحة ..يمكن تقسيم المراجع لعدة فئات هي :كتب ،أشرطة ،مواقع إنترنت.
الكتب
أنبياء الله ،أحمد بهجت ،دار الشروق للطباعة والنشر ،الطبعة الخامسة •
والعشرون 1999 ،م.
في ظلل القرآن ،سيد قطب ،دار الشروق للطباعة والنشر ،الطبعة الثانية •
عشر ،القاهرة 1986 ،م.
قصص النبياء ،للمام ابن كثير. •
تفسير القرآن ،للمام القرطبي. •
الشرطة
قصص النبياء ،د .طارق السويدان ،قرطبة للنتاج الفني ،الرياض 1998 ،م. •
برنامج قصص القرآن ،الدكتور محمد هداية ،قناة الشارقة ،الحلقة ،23 •
17/7/2006م.
مواقع النترنت
138
وتجدر الشارة هنا ،إلى أن جميع اليات القرآنية مأخوذة من قسم القرآن الكريم بموقع
الشبكة السلمية ،وقسم القرآن الكريم بعالم النور.
139