You are on page 1of 139

‫جميع قصص النبياء‬

‫لم ينزل النبياء دفعة واحدة ‪ ..‬وإنما على فترات مختلفة‪ ..‬في هذه الصفحة رتبت أسماء‬
‫النبياء عليهم السلم وفقا للتسلسل الزمني في إرسالهم لقوامهم‬

‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫‪2‬‬ ‫<< أدم عليه السلم‬
‫‪8‬‬ ‫<< شيث عليه السلم‬
‫‪9‬‬ ‫<< إدريس عليه السلم‬
‫‪11‬‬ ‫<< نوح عليه السلم‬
‫‪17‬‬ ‫<< هود عليه السلم‬
‫‪21‬‬ ‫<< صالح عليه السلم‬
‫‪24‬‬ ‫<< إبراهيم عليه السلم‬
‫‪38‬‬ ‫<< لوط عليه السلم‬
‫‪41‬‬ ‫<< إسماعيل عليه السلم‬
‫‪46‬‬ ‫<< اسحاق عليه السلم‬
‫‪47‬‬ ‫<< يعقوب عليه السلم‬
‫‪48‬‬ ‫<< يوسف عليه السلم‬
‫‪65‬‬ ‫<< أيوب عليه السلم‬
‫‪67‬‬ ‫<< ذو الكفل عليه السلم‬
‫‪69‬‬ ‫<< يونس عليه السلم‬
‫‪71‬‬ ‫<< شعيب عليه السلم‬
‫‪74‬‬ ‫<< أنبياء اهل القرية عليهم السلم‬
‫‪77‬‬ ‫<< موسى عليه السلم‬
‫‪111‬‬ ‫<< هارون عليه السلم‬
‫‪112‬‬ ‫<< يوشع بن نون عليه السلم‬
‫‪114‬‬ ‫<< داود عليه السلم‬
‫‪119‬‬ ‫<< سليمان عليه السلم‬
‫‪128‬‬ ‫<< إلياس عليه السلم‬
‫‪130‬‬ ‫<< اليسع عليه السلم‬
‫‪132‬‬ ‫<< عزير عليه السلم‬
‫‪133‬‬ ‫<< زكريا عليه السلم‬
‫‪136‬‬ ‫<< يحيى عليه السلم‬
‫‪139‬‬ ‫<< عيسى عليه السلم‬
‫‪146‬‬ ‫<< محمد عليه الصلة السلم‬
‫‪156‬‬ ‫المراحع‬

‫‪1‬‬
‫آدم عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫أبو البشر‪ ،‬خلقه الله بيده وأسجد له الملئكة وعلمه السماء وخلق له زوجته وأسكنهما الجنة‬
‫وأنذرهما أن ل يقربا شجرة معينة ولكن الشيطان وسوس لهما فأكل منها فأنزلهما الله إلى‬
‫الرض ومكن لهما سبل العيش بها وطالبهما بعبادة الله وحده وحض الناس على ذلك‪ ،‬وجعله‬
‫خليفته في الرض‪ ،‬وهو رسول الله إلى أبنائه وهو أول النبياء‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫خلق آدم عليه السلم‪:‬‬

‫أخبر الله سبحانه وتعالى ملئكة بأنه سيخلق بشرا خليفة في الرض ‪ -‬وخليفة هنا تعني على‬
‫ن‬ ‫ف ُ‬ ‫جع َ ُ‬ ‫َ‬
‫ماء وَن َ ُ‬
‫ح‬
‫ْ‬ ‫ك الد ّ َ‬ ‫س ِ‬
‫سد ُ ِفيَها وَي َ ْ‬
‫ف ِ‬
‫من ي ُ ْ‬
‫ل ِفيَها َ‬ ‫رأس ذرية يخلف بعضها بعضا‪ .‬فقال الملئكة‪) :‬أت َ ْ‬
‫س لَ َ‬
‫ك(‪.‬‬ ‫قد ّ ُ‬ ‫مد ِ َ‬
‫ك وَن ُ َ‬ ‫ح ْ‬
‫ح بِ َ‬
‫سب ّ ُ‬
‫نُ َ‬

‫ويوحي قول الملئكة هذا بأنه كان لديهم تجارب سابقة في الرض ‪ ,‬أو إلهام وبصيرة ‪ ,‬يكشف‬
‫لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق ‪ ,‬ما يجعلهم يتوقعون أنه سيفسد في الرض ‪ ,‬وأنه‬
‫سيسفك الدماء ‪ . .‬ثم هم ‪ -‬بفطرة الملئكة البريئة التي ل تتصور إل الخير المطلق ‪ -‬يرون‬
‫التسبيح بحمد الله والتقديس له ‪ ,‬هو وحده الغاية للوجود ‪ . .‬وهو متحقق بوجودهم هم ‪,‬‬
‫يسبحون بحمد الله ويقدسون له‪ ,‬ويعبدونه ول يفترون عن عبادته !‬

‫هذه الحيرة والدهشة التي ثارت في نفوس الملئكة بعد معرفة خبر خلق آدم‪ ..‬أمر جائز على‬
‫الملئكة‪ ،‬ول ينقص من أقدارهم شيئا‪ ،‬لنهم‪ ،‬رغم قربهم من الله‪ ،‬وعبادتهم له‪ ،‬وتكريمه لهم‪،‬‬
‫ل يزيدون على كونهم عبيدا لله‪ ،‬ل يشتركون معه في علمه‪ ،‬ول يعرفون حكمته الخافية‪ ،‬ول‬
‫يعلمون الغيب ‪ .‬لقد خفيت عليهم حكمة الله تعالى ‪ ,‬في بناء هذه الرض وعمارتها ‪ ,‬وفي تنمية‬
‫الحياة ‪ ,‬وفي تحقيق إرادة الخالق في تطويرها وترقيتها وتعديلها ‪ ,‬على يد خليفة الله في أرضه‬
‫‪ .‬هذا الذي قد يفسد أحيانا ‪ ,‬وقد يسفك الدماء أحيانا ‪ .‬عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل‬
‫َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫ما ل َ ت َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫شيء ‪ ,‬والخبير بمصائر المور‪) :‬إ ِّني أع ْل َ ُ‬
‫م َ‬

‫وما ندري نحن كيف قال الله أو كيف يقول للملئكة ‪ .‬وما ندري كذلك كيف يتلقى الملئكة عن‬
‫الله ‪ ،‬فل نعلم عنهم سوى ما بلغنا من صفاتهم في كتاب الله ‪ .‬ول حاجة بنا إلى الخوض في‬
‫شيء من هذا الذي ل طائل وراء الخوض فيه ‪ .‬إنما نمضي إلى مغزى القصة ودللتها كما‬
‫يقصها القرآن ‪.‬‬

‫أدركت الملئكة أن الله سيجعل في الرض خليفة‪ ..‬وأصدر الله سبحانه وتعالى أمره إليهم‬
‫تفصيل‪ ،‬فقال إنه سيخلق بشرا من طين‪ ،‬فإذا سواه ونفخ فيه من روحه فيجب على الملئكة‬
‫أن تسجد له‪ ،‬والمفهوم أن هذا سجود تكريم ل سجود عبادة‪ ،‬لن سجود العبادة ل يكون إل لله‬
‫وحده‪.‬‬

‫جمع الله سبحانه وتعالى قبضة من تراب الرض‪ ،‬فيها البيض والسود والصفر والحمر ‪ -‬ولهذا‬
‫يجيء الناس ألوانا مختلفة ‪ -‬ومزج الله تعالى التراب بالماء فصار صلصال من حمأ مسنون‪.‬‬
‫تعفن الطين وانبعثت له رائحة‪ ..‬وكان إبليس يمر عليه فيعجب أي شيء يصير هذا الطين؟‬

‫سجود الملئكة لدم‪:‬‬

‫من هذا الصلصال خلق الله تعالى آدم ‪ ..‬سواه بيديه سبحانه ‪ ،‬ونفخ فيه من روحه سبحانه ‪..‬‬
‫فتحرك جسد آدم ودبت فيه الحياة‪ ..‬فتح آدم عينيه فرأى الملئكة كلهم ساجدين له ‪ ..‬ما عدا‬
‫إبليس الذي كان يقف مع الملئكة‪ ،‬ولكنه لم يكن منهم‪ ،‬لم يسجد ‪ ..‬فهل كان إبليس من‬

‫‪2‬‬
‫الملئكة ؟ الظاهر أنه ل ‪ .‬لنه لو كان من الملئكة ما عصى ‪ .‬فالملئكة ل يعصون الله ما‬
‫أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ‪ . .‬وسيجيء أنه خلق من نار ‪ .‬والمأثور أن الملئكة خلق من‬
‫نور ‪ . .‬ولكنه كان مع الملئكة وكان مأمورا ً بالسجود ‪.‬‬

‫أما كيف كان السجود ؟ وأين ؟ ومتى ؟ كل ذلك في علم الغيب عند الله ‪ .‬ومعرفته ل تزيد في‬
‫مغزى القصة شيئا ً‪..‬‬
‫َ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫ل يا إبِليس ما منع َ َ‬
‫ست َك ْب َْر َ‬
‫ت‬ ‫ت ب ِي َد َيّ أ ْ‬
‫ق ُ‬ ‫ما َ‬‫جد َ ل ِ َ‬
‫س ُ‬‫ك أن ت َ ْ‬ ‫ُ َ َ ََ‬ ‫فوّبخ الله سبحانه وتعالى إبليس‪َ) :‬قا َ َ ِ ْ‬
‫َ‬
‫ن( ‪ .‬وبدل من التوبة والوبة إلى الله تبارك وتعالى‪ ،‬رد ّ إبليس بمنطق يمله‬ ‫ن ال َْعاِلي َ‬
‫م َ‬
‫ت ِ‬ ‫م ُ‬
‫كن َ‬ ‫أ ْ‬
‫ن( ‪ .‬هنا صدر المر اللهي‬ ‫خل َ ْ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫َ‬ ‫الكبر والحسد‪َ) :‬قا َ‬
‫طي ٍ‬ ‫من ِ‬ ‫ه ِ‬‫قت َ ُ‬ ‫من ّنارٍ وَ َ‬ ‫قت َِني ِ‬ ‫ه َ‬
‫من ْ ُ‬
‫خي ٌْر ّ‬
‫ل أَنا َ‬
‫م( وإنزال اللعنة عليه‬ ‫جي ٌ‬‫ك َر ِ‬ ‫من َْها فَإ ِن ّ َ‬‫ج ِ‬‫خُر ْ‬ ‫ل َفا ْ‬ ‫العالي بطرد هذا المخلوق المتمرد القبيح‪َ) :‬قا َ‬
‫من َْها( فهل هي الجنة ؟ أم هل هي رحمة‬ ‫إلى يوم الدين‪ .‬ول نعلم ما المقصود بقوله سبحانه ) ِ‬
‫الله ‪ . .‬هذا وذلك جائز لكن الرجح رحمة الله تعالى‪ ،‬فلم يكن إبليس في الجنة‪ ،‬وحتى آدم‬
‫عليه السلم لم يكن في الجنة على الرجح ‪ .‬ول محل للجدل الكثير ‪ .‬فإنما هو الطرد واللعنة‬
‫والغضب جزاء التمرد والتجرؤ على أمر الله الكريم ‪.‬‬
‫ك منه َ‬ ‫حقّ أ َُقو ُ‬
‫ن )‪) (85‬ص(‬
‫مِعي َ‬
‫ج َ‬
‫مأ ْ‬‫من ت َب ِعَ َ ِ ْ ُ ْ‬
‫م ّ‬ ‫من َ‬
‫ك وَ ِ‬ ‫م ِ‬
‫جهَن ّ َ‬ ‫مَل َ ّ‬
‫ن َ‬ ‫َ‬
‫ل )‪َ (84‬ل ْ‬ ‫حقّ َوال ْ َ‬
‫ل َفال ْ َ‬
‫َقا َ‬

‫هنا تحول الحسد إلى حقد ‪ .‬وإلى تصميم على النتقام في نفس إبليس‪:‬‬
‫َ‬
‫ن( ‪ .‬واقتضت مشيئة الله للحكمة المقدرة في علمه أن يجيبه‬ ‫ب فَأنظ ِْرِني إ َِلى ي َوْم ِ ي ُب ْعَُثو َ‬ ‫)َقا َ‬
‫ل َر ّ‬
‫إلى ما طلب ‪ ,‬وأن يمنحه الفرصة التي أراد‪ .‬فكشف الشيطان عن هدفه الذي ينفق فيه‬
‫ك َل ُغ ْوينه َ‬
‫ن( فليس‬ ‫خل َ ِ‬
‫صي َ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫من ْهُ ُ‬
‫ك ِ‬ ‫ن( ويستدرك فيقول‪) :‬إ ِّل ِ‬
‫عَباد َ َ‬ ‫مِعي َ‬‫ج َ‬
‫مأ ْ‬ ‫َُِّ ْ‬ ‫ل فَب ِعِّزت ِ َ‬ ‫حقده‪َ) :‬قا َ‬
‫للشيطان أي سلطان على عباد الله المؤمنين ‪.‬‬

‫وبهذا تحدد منهجه وتحدد طريقه ‪ .‬إنه يقسم بعزة الله ليغوين جميع الدميين ‪ .‬ل يستثني إل من‬
‫ليس له عليهم سلطان ‪ .‬ل تطوعا ً منه ولكن عجزا ً عن بلوغ غايته فيهم ! وبهذا يكشف عن‬
‫الحاجز بينه وبين الناجين من غوايته وكيده ; والعاصم الذي يحول بينهم وبينه ‪ .‬إنه عبادة الله‬
‫التي تخلصهم لله ‪ .‬هذا هو طوق النجاة ‪ .‬وحبل الحياة ! ‪ . .‬وكان هذا وفق إرادة الله وتقديره‬
‫في الردى والنجاة ‪ .‬فأعلن ‪ -‬سبحانه ‪ -‬إرادته ‪ .‬وحدد المنهج والطريق‪:‬‬
‫ك منه َ‬
‫ن( ‪.‬‬
‫مِعي َ‬
‫ج َ‬
‫مأ ْ‬‫من ت َب ِعَ َ ِ ْ ُ ْ‬
‫م ّ‬ ‫من َ‬
‫ك وَ ِ‬ ‫م ِ‬
‫جهَن ّ َ‬ ‫مَل َ ّ‬
‫ن َ‬ ‫َ‬
‫)َل ْ‬

‫فهي المعركة إذن بين الشيطان وأبناء آدم ‪ ,‬يخوضونها على علم ‪ .‬والعاقبة مكشوفة لهم في‬
‫وعد الله الصادق الواضح المبين ‪ .‬وعليهم تبعة ما يختارون لنفسهم بعد هذا البيان ‪ .‬وقد‬
‫شاءت رحمة الله أل يدعهم جاهلين ول غافلين ‪ .‬فأرسل إليهم المنذرين ‪.‬‬

‫تعليم آدم السماء‪:‬‬

‫ثم يروي القرآن الكريم قصة السر اللهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري ‪ ,‬وهو‬
‫ماء ك ُل َّها( ‪ .‬سر القدرة على الرمز بالسماء للمسميات ‪.‬‬ ‫َ‬
‫س َ‬
‫م ال ْ‬ ‫يسلمه مقاليد الخلفة‪) :‬وَع َل ّ َ‬
‫م آد َ َ‬
‫سر القدرة على تسمية الشخاص والشياء بأسماء يجعلها ‪ -‬وهي ألفاظ منطوقة ‪ -‬رموزا لتلك‬
‫الشخاص والشياء المحسوسة ‪ .‬وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة النسان على الرض ‪.‬‬
‫ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى ‪ ,‬لو لم يوهب النسان القدرة على الرمز بالسماء‬
‫للمسميات ‪ ,‬والمشقة في التفاهم والتعامل ‪ ,‬حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الخرين على‬
‫شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه ‪ . .‬الشأن شأن نخلة فل سبيل‬
‫إلى التفاهم عليه إل باستحضار جسم النخلة ! الشأن شأن جبل ‪ .‬فل سبيل إلى التفاهم عليه‬
‫إل بالذهاب إلى الجبل ! الشأن شأن فرد من الناس فل سبيل إلى التفاهم عليه إل بتحضير هذا‬

‫‪3‬‬
‫الفرد من الناس ‪ . . .‬إنها مشقة هائلة ل تتصور معها حياة ! وإن الحياة ما كانت لتمضي في‬
‫طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالسماء للمسميات ‪.‬‬

‫أما الملئكة فل حاجة لهم بهذه الخاصية ‪ ,‬لنها ل ضرورة لها في وظيفتهم ‪ .‬ومن ثم لم توهب‬
‫لهم ‪ .‬فلما علم الله آدم هذا السر ‪ ,‬وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا السماء ‪ .‬لم يعرفوا‬
‫كيف يضعون الرموز اللفظية للشياء والشخوص ‪ . .‬وجهروا أمام هذا العجز بتسبيح ربهم ‪,‬‬
‫والعتراف بعجزهم ‪ ,‬والقرار بحدود علمهم ‪ ,‬وهو ما علمهم ‪. .‬‬

‫ثم قام آدم بإخبارهم بأسماء الشياء ‪ .‬ثم كان هذا التعقيب الذي يردهم إلى إدراك حكمة‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل أ َل َ َ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ما كنت ُ ْ‬
‫ن وَ َ‬
‫دو َ‬
‫ما ت ُب ْ ُ‬ ‫ض وَأع ْل َ ُ‬
‫م َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬
‫ب ال ّ‬ ‫م إ ِّني أع ْل َ ُ‬
‫م غ َي ْ َ‬ ‫م أُقل ل ّك ُ ْ‬
‫ْ‬ ‫العليم الحكيم‪َ) :‬قا َ‬
‫ن( ‪.‬‬ ‫ت َك ْت ُ ُ‬
‫مو َ‬

‫م ما أبدوه من الدهشة حين أخبرهم أنه سيخلق آدم‪،‬‬ ‫أراد الله تعالى أن يقول للملئكة إنه عَـلِـ َ‬
‫كما علم ما كتموه من الحيرة في فهم حكمة الله‪ ،‬كما علم ما أخفاه إبليس من المعصية‬
‫والجحود‪ ..‬أدرك الملئكة أن آدم هو المخلوق الذي يعرف‪ ..‬وهذا أشرف شيء فيه‪ ..‬قدرته‬
‫على التعلم والمعرفة‪ ..‬كما فهموا السر في أنه سيصبح خليفة في الرض‪ ،‬يتصرف فيها‬
‫ويتحكم فيها‪ ..‬بالعلم والمعرفة‪ ..‬معرفة بالخالق‪ ..‬وهذا ما يطلق عليه اسم اليمان أو السلم‪..‬‬
‫وعلم بأسباب استعمار الرض وتغييرها والتحكم فيها والسيادة عليها‪ ..‬ويدخل في هذا النطاق‬
‫كل العلوم المادية على الرض‪.‬‬

‫إن نجاح النسان في معرفة هذين المرين )الخالق وعلوم الرض( يكفل له حياة أرقى‪ ..‬فكل‬
‫من المرين مكمل للخر‪.‬‬

‫سكن آدم وحواء في الجنة‪:‬‬

‫اختلف المفسرون في كيفية خلق حواء‪ .‬ول نعلم إن كان الله قد خلق حواء في نفس وقت‬
‫خلق آدم أم بعده لكننا نعلم أن الله سبحانه وتعالى أسكنهما معا في الجنة‪ .‬ل نعرف مكان هذه‬
‫الجنة‪ .‬فقد سكت القرآن عن مكانها واختلف المفسرون فيها على خمسة وجوه‪ .‬قال بعضهم‪:‬‬
‫إنها جنة المأوى‪ ،‬وأن مكانها السماء‪ .‬ونفى بعضهم ذلك لنها لو كانت جنة المأوى لحرم دخولها‬
‫على إبليس ولما جاز فيها وقوع عصيان‪ .‬وقال آخرون‪ :‬إنها جنة المأوى خلقها الله لدم وحواء‪.‬‬
‫وقال أكثرهم‪ :‬إنها جنة من جنات الرض تقع في مكان مرتفع‪ .‬وذهب فريق إلى التسليم في‬
‫أمرها والتوقف‪ ..‬ونحن نختار هذا الرأي‪ .‬إن العبرة التي نستخلصها من مكانها ل تساوي شيئا‬
‫بالقياس إلى العبرة التي تستخلص مما حدث فيها‪.‬‬

‫كان الله قد سمح لدم وحواء بأن يقتربا من كل شيء وأن يستمتعا بكل شيء‪ ،‬ما عدا شجرة‬
‫واحدة‪ .‬فأطاع آدم وحواء أمر ربهما بالبتعاد عن الشجرة‪ .‬غير أن آدم إنسان‪ ،‬والنسان ينسى‪،‬‬
‫وقلبه يتقلب‪ ،‬وعزمه ضعيف‪ .‬واستغل إبليس إنسانية آدم وجمع كل حقده في صدره‪ ،‬واستغل‬
‫ك ّل‬
‫مل ْ ٍ‬
‫خل ْد ِ وَ ُ‬
‫جَرةِ ال ْ ُ‬ ‫ل أ َد ُل ّ َ‬
‫ك ع ََلى َ‬
‫ش َ‬ ‫تكوين آدم النفسي‪ ..‬وراح يثير في نفسه ويوسوس إليه‪) :‬هَ ْ‬
‫ي َب َْلى( ‪ .‬وأقسم إبليس لدم أنه صادق في نصحه لهم‪ ،‬ولم يكن آدم عليه السلم بفطرته‬
‫السليمة يظن أن هنالك من يقسم بالله كذا‪ ،‬فضعف عزمه ونسي وأكل من الشجرة هو‬
‫وحواء‪.‬‬

‫ليس صحيحا ما تذكره صحف اليهود من إغواء حواء لدم وتحميلها مسئولية الكل من الشجرة‪.‬‬
‫إن نص القرآن ل يذكر حواء‪ .‬إنما يذكر آدم ‪-‬كمسئول عما حدث‪ -‬عليه الصلة والسلم‪ .‬وهكذا‬
‫أخطأ الشيطان وأخطأ آدم‪ .‬أخطأ الشيطان بسبب الكبرياء‪ ،‬وأخطأ آدم بسبب الفضول‪.‬‬

‫لم يكد آدم ينتهي من الكل حتى اكتشف أنه أصبح عار‪ ،‬وأن زوجته عارية‪ .‬وبدأ هو وزوجته‬
‫يقطعان أوراق الشجر لكي يغطي بهما كل واحد منهما جسده العاري‪ .‬ولم تكن لدم تجارب‬
‫سابقة في العصيان‪ ،‬فلم يعرف كيف يتوب‪ ،‬فألهمه الله سبحانه وتعالى عبارات التوبة )َقال َ َرب َّنا‬

‫‪4‬‬
‫ن( )‪) (23‬العرف( وأصدر الله‬
‫ري َ‬
‫س ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫خا ِ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫مَنا ل َن َ ُ‬
‫كون َ ّ‬ ‫فْر ل ََنا وَت َْر َ‬
‫ح ْ‬ ‫سَنا وَِإن ل ّ ْ‬
‫م ت َغْ ِ‬ ‫مَنا َأن ُ‬
‫ف َ‬ ‫ظ َل َ ْ‬
‫تبارك وتعالى أمره بالهبوط من الجنة‪.‬‬

‫هبوط آدم وحواء إلى الرض‪:‬‬

‫وهبط آدم وحواء إلى الرض‪ .‬واستغفرا ربهما وتاب إليه‪ .‬فأدركته رحمة ربه التي تدركه دائما‬
‫عندما يثوب إليها ويلوذ بها ‪ ...‬وأخبرهما الله أن الرض هي مكانهما الصلي‪ ..‬يعيشان فيهما‪،‬‬
‫ويموتان عليها‪ ،‬ويخرجان منها يوم البعث‪.‬‬

‫يتصور بعض الناس أن خطيئة آدم بعصيانه هي التي أخرجتنا من الجنة‪ .‬ولول هذه الخطيئة لكنا‬
‫اليوم هناك‪ .‬وهذا التصور غير منطقي لن الله تعالى حين شاء أن يخلق آدم قال للملئكة‪:‬‬
‫ة" ولم يقل لهما إني جاعل في الجنة خليفة‪ .‬لم يكن هبوط آدم‬ ‫ف ً‬
‫خِلي َ‬
‫ض َ‬ ‫َ‬ ‫ع ٌ‬
‫ل ِفي الْر ِ‬ ‫جا ِ‬
‫"إ ِّني َ‬
‫إلى الرض هبوط إهانة‪ ،‬وإنما كان هبوط كرامة كما يقول العارفون بالله‪ .‬كان الله تعالى يعلم‬
‫أن آدم وحواء سيأكلن من الشجرة‪ .‬ويهبطان إلى الرض‪ .‬أما تجربة السكن في الجنة فكانت‬
‫ركنا من أركان الخلفة في الرض‪ .‬ليعلم آدم وحواء ويعلم جنسهما من بعدهما أن الشيطان‬
‫طرد البوين من الجنة‪ ،‬وأن الطريق إلى الجنة يمر بطاعة الله وعداء الشيطان‪.‬‬

‫هابيل وقابيل‪:‬‬

‫ل في كتابه الكريم الكثير عن حياة آدم عليه السلم في الرض‪ .‬لكن‬ ‫ل يذكر لنا المولى عّز وج ّ‬
‫القرآن الكريم يروي قصة ابنين من أبناء آدم هما هابيل وقابيل‪ .‬حين وقعت أول جريمة قتل‬
‫في الرض‪ .‬وكانت قصتهما كالتالي‪.‬‬

‫كانت حواء تلد في البطن الواحد ابنا وبنتا‪ .‬وفي البطن التالي ابنا وبنتا‪ .‬فيحل زواج ابن البطن‬
‫الول من البطن الثاني‪ ..‬ويقال أن قابيل كان يريد زوجة هابيل لنفسه‪ ..‬فأمرهما آدم أن يقدما‬
‫قربانا‪ ،‬فقدم كل واحد منهما قربانا‪ ،‬فتقبل الله من هابيل ولم يتقبل من قابيل‪ .‬قال تعالى في‬
‫سورة )المائدة(‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ر َقا َ‬
‫ل‬ ‫خ ِ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫قب ّ ْ‬
‫ل ِ‬ ‫م ي ُت َ َ‬‫ما وَل َ ْ‬
‫حد ِه ِ َ‬
‫من أ َ‬ ‫ل ِ‬ ‫حقّ إ ِذ ْ قَّرَبا قُْرَباًنا فَت ُ ُ‬
‫قب ّ َ‬ ‫م ِبال ْ َ‬ ‫ي آد َ َ‬ ‫م ن َب َأ اب ْن َ ْ‬ ‫ل ع َل َي ْهِ ْ‬
‫َوات ْ ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ط‬
‫س ٍ‬ ‫ما أن َا ب َِبا ِ‬‫قت ُلِني َ‬ ‫َ‬
‫ي ي َد َك ل ِت َ ْ‬ ‫ت إ ِل ّ‬ ‫سط َ‬ ‫ن )‪ (27‬لِئن ب َ َ‬ ‫قي َ‬‫مت ّ ِ‬‫ن ال ُ‬‫م َ‬‫ه ِ‬ ‫قب ّل الل ُ‬ ‫ُ‬ ‫ما ي َت َ َ‬ ‫َلقْت ُل َن ّك قال إ ِن ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪) (28‬المائدة(‬ ‫مي َ‬‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫ه َر ّ‬ ‫ف الل ّ َ‬‫خا ُ‬ ‫ك إ ِّني أ َ َ‬
‫ك َل َقْت ُل َ َ‬ ‫ي َد ِي َإ ِل َي ْ َ‬

‫لحظ كيف ينقل إلينا الله تعالى كلمات القتيل الشهيد‪ ،‬ويتجاهل تماما كلمات القاتل‪ .‬عاد‬
‫القاتل يرفع يده مهددا‪ ..‬قال القتيل في هدوء‪:‬‬

‫جَزاء ال ّ‬ ‫كون م َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬


‫ن )‪) (29‬المائدة(‬
‫مي َ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫ب الّنارِ وَذ َل ِ َ‬
‫ك َ‬ ‫حا ِ‬
‫ص َ‬
‫نأ ْ‬‫ك فَت َ ُ َ ِ ْ‬
‫م َ‬
‫مي وَإ ِث ْ ِ‬
‫إ ِّني أِريد ُ أن ت َُبوَء ب ِإ ِث ْ ِ‬

‫انتهى الحوار بينهما وانصرف الشرير وترك الطيب مؤقتا‪ .‬بعد أيام‪ ..‬كان الخ الطيب نائما‬
‫وسط غابة مشجرة‪ ..‬فقام إليه أخوه قابيل فقتله‪ .‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬ل‬
‫تقتل نفس ظلما إل كان على ابن آدم الول كفل من دمها لنه كان أول من سن القتل"‪ .‬جلس‬
‫القاتل أمام شقيقه الملقى على الرض‪ .‬كان هذا الخ القتيل أول إنسان يموت على الرض‪..‬‬
‫ولم يكن دفن الموتى شيئا قد عرف بعد‪ .‬وحمل الخ جثة شقيقه وراح يمشي بها‪ ..‬ثم رأى‬
‫القاتل غرابا حيا بجانب جثة غراب ميت‪ .‬وضع الغراب الحي الغراب الميت على الرض وساوى‬
‫أجنحته إلى جواره وبدأ يحفر الرض بمنقاره ووضعه برفق في القبر وعاد يهيل عليه التراب‪..‬‬
‫بعدها طار في الجو وهو يصرخ‪.‬‬

‫اندلع حزن قابيل على أخيه هابيل كالنار فأحرقه الندم‪ .‬اكتشف أنه وهو السوأ والضعف‪ ،‬قد‬
‫قتل الفضل والقوى‪ .‬نقص أبناء آدم واحدا‪ .‬وكسب الشيطان واحدا من أبناء آدم‪ .‬واهتز جسد‬
‫القاتل ببكاء عنيف ثم أنشب أظافره في الرض وراح يحفر قبر شقيقه‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫ن( وحزن حزنا شديدا‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫ض ّ‬
‫ل ّ‬ ‫م ِ‬
‫ه ع َد ُوّ ّ‬
‫ن إ ِن ّ ُ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ِ‬ ‫ل ال ّ‬
‫م ِ‬
‫ن عَ َ‬
‫م ْ‬ ‫قال آدم حين عرف القصة‪) :‬هَ َ‬
‫ذا ِ‬
‫على خسارته في ولديه‪ .‬مات أحدهما‪ ،‬وكسب الشيطان الثاني‪ .‬صلى آدم على ابنه‪ ،‬وعاد إلى‬
‫حياته على الرض‪ :‬إنسانا يعمل ويشقى ليصنع خبزه‪ .‬ونبيا يعظ أبنائه وأحفاده ويحدثهم عن‬
‫الله ويدعوهم إليه‪ ،‬ويحكي لهم عن إبليس ويحذرهم منه‪ .‬ويروي لهم قصته هو نفسه معه‪،‬‬
‫ويقص لهم قصته مع ابنه الذي دفعه لقتل شقيقه‪.‬‬

‫موت آدم عليه السلم‪:‬‬

‫وكبر آدم‪ .‬ومرت سنوات وسنوات‪ ..‬وعن فراش موته‪ ،‬يروي أبي بن كعب‪ ،‬فقال‪ :‬إن آدم لما‬
‫حضره الموت قال لبنيه‪ :‬أي بني‪ ،‬إني أشتهي من ثمار الجنة‪ .‬قال‪ :‬فذهبوا يطلبون له‪،‬‬
‫فاستقبلتهم الملئكة ومعهم أكفانه وحنوطه‪ ،‬ومعهم الفؤوس والمساحي والمكاتل‪ ،‬فقالوا لهم‪:‬‬
‫يا بني آدم ما تريدون وما تطلبون؟ أو ما تريدون وأين تطلبون؟ قالوا‪ :‬أبونا مريض واشتهى من‬
‫ثمار الجنة‪ ،‬فقالوا لهم‪ :‬ارجعوا فقد قضي أبوكم‪ .‬فجاءوا فلما رأتهم حواء عرفتهم فلذت بآدم‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إليك عني فإني إنما أتيت من قبلك‪ ،‬فخلي بيني وبين ملئكة ربي عز وجل‪ .‬فقبضوه‬
‫وغسلوه وكفنوه وحنطوه‪ ،‬وحفروا له ولحدوه وصلوا عليه ثم أدخلوه قبره فوضعوه في قبره‪،‬‬
‫ثم حثوا عليه‪ ،‬ثم قالوا‪ :‬يا بني آدم هذه سنتكم‪.‬‬

‫وفي موته يروي الترمذي‪ :‬حدثنا عبد بن حميد‪ ،‬حدثنا أبو نعيم‪ ،‬حدثنا هشام بن سعد‪ ،‬عن زيد‬
‫بن أسلم‪ ،‬عن أبي صالح‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪" :‬لما‬
‫خلق الله آدم مسح ظهره‪ ،‬فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا ً من نور‪ ،‬ثم عرضهم على آدم فقال‪ :‬أي رب من‬
‫هؤلء؟ قال‪ :‬هؤلء ذريتك‪ ،‬فرأى رجل ً فأعجبه وبيص ما بين عينيه‪ ،‬فقال‪ :‬أي رب من هذا؟ قال‬
‫هذا رجل من آخر المم من ذريتك يقال له داود‪ ،‬قال‪ :‬رب وكم جعلت عمره؟ قال ستين سنة‪،‬‬
‫قال‪ :‬أي رب زده من عمري أربعين سنة‪ .‬فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت‪ ،‬قال‪ :‬أو لم‬
‫يبق من عمري أربعون سنة؟ قال‪ :‬أو لم تعطها ابنك داود؟ قال فجحد فجحدت ذريته‪ ،‬ونسي‬
‫آدم فنسيت ذريته‪ ،‬وخطىء آدم فخطئت ذريته"‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫شيث عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫لما مات آدم عليه السلم قام بأعباء المر بعده ولده شيث عليه السلم وكان نبيًا‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫لما مات آدم عليه السلم قام بأعباء المر بعده ولده شيث عليه السلم وكان نبيًا‪ .‬ومعنى‬
‫ل هابيل‪ .‬فلما حانت وفاته أوصى إلى أبنه‬
‫شيث‪ :‬هبة الله‪ ،‬وسمياه بذلك لنهما رزقاه بعد أن قُِت َ‬
‫أنوش فقام بالمر بعده‪ ،‬ثم بعده ولده قينن ثم من بعده ابنه مهلييل ‪ -‬وهو الذي يزعم العاجم‬
‫من الفرس أنه ملك القاليم السبعة‪ ،‬وأنه أول من قطع الشجار‪ ،‬وبنى المدائن والحصون‬
‫الكبار‪ ،‬وأنه هو الذي بنى مدينة بابل ومدينة السوس القصى وأنه قهر إبليس وجنوده وشردهم‬
‫عن الرض إلى أطرافها وشعاب جبالها وأنه قتل خلقا ً من مردة الجن والغيلن‪ ،‬وكان له تاج‬
‫عظيم‪ ،‬وكان يخطب الناس ودامت دولته أربعين سنة‪.‬‬

‫فلما مات قام بالمر بعده ولده يرد فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ولده خنوخ‪ ،‬وهو إدريس‬
‫عليه السلم على المشهور‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫إدريس عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫كان صديقا نبيا ومن الصابرين‪ ،‬أول نبي بعث في الرض بعد آدم‪ ،‬وهو أبو جد نوح‪ ،‬أنزلت عليه‬
‫ثلثون صحيفة‪ ،‬ودعا إلى وحدانية الله وآمن به ألف إنسان‪ ،‬وهو أول من خط بالقلم وأول من‬
‫خاط الثياب ولبسها‪ ،‬وأول من نظر في علم النجوم وسيرها‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫إدريس عليه السلم هو أحد الرسل الكرام الذين أخبر الله تعالى عنهم في كتابة العزيز‪،‬‬
‫وذكره في بضعة مواطن من سور القرآن‪ ،‬وهو ممن يجب اليمان بهم تفصيل ً أي يجب اعتقاد‬
‫نبوته ورسالته على سبيل القطع والجزم لن القرآن قد ذكره باسمه وحدث عن شخصه‬
‫فوصفه بالنبوة والصديقية‪.‬‬

‫نسبه‪:‬‬

‫هو إدريس بن يارد بن مهلئيل وينتهي نسبه إلى شيث بن آدم عليه السلم واسمه عند‬
‫العبرانيين )خنوخ( وفي الترجمة العربية )أخنوخ( وهو من أجداد نوح عليه السلم‪ .‬وهو أول بني‬
‫آدم أعطي النبوة بعد )آدم( و )شيث( عليهما السلم‪ ،‬وذكر ابن إسحاق أنه أول من خط‬
‫بالقلم‪ ،‬وقد أدرك من حياة آدم عليه السلم ‪ 308‬سنوات لن آدم عمر طويل ً زهاء ‪ 1000‬ألف‬
‫سنة‪.‬‬

‫حياته‪:‬‬

‫وقد أختلف العلماء في مولده ونشأته‪ ،‬فقال بعضهم إن إدريس ولد ببابل‪ ،‬وقال آخرون إنه ولد‬
‫بمصر والصحيح الول‪ ،‬وقد أخذ في أول عمره بعلم شيث بن آدم‪ ،‬ولما كبر آتاه الله النبوة‬
‫فنهي المفسدين من بني آدم عن مخالفتهم شريعة )آدم( و )شيث( فأطاعه نفر قليل‪ ،‬وخالفه‬
‫جمع خفير‪ ،‬فنوى الرحلة عنهم وأمر من أطاعه منهم بذلك فثقل عليهم الرحيل عن أوطانهم‬
‫فقالوا له‪ ،‬وأين نجد إذا رحلنا مثل )بابل( فقال إذا هاجرنا رزقنا الله غيره‪ ،‬فخرج وخرجوا حتى‬
‫وصلوا إلى أرض مصر فرأوا النيل فوقف على النيل وسبح الله‪ ،‬وأقام إدريس ومن معه بمصر‬
‫يدعو الناس إلى الله وإلى مكارم الخلق‪ .‬وكانت له مواعظ وآداب فقد دعا إلى دين الله‪،‬‬
‫وإلى عبادة الخالق جل وعل‪ ،‬وتخليص النفوس من العذاب في الخرة‪ ،‬بالعمل الصالح في‬
‫الدنيا وحض على الزهد في هذه الدنيا الفانية الزائلة‪ ،‬وأمرهم بالصلة والصيام والزكاة وغلظ‬
‫عليهم في الطهارة من الجنابة‪ ،‬وحرم المسكر من كل شي من المشروبات وشدد فيه أعظم‬
‫تشديد وقيل إنه كان في زمانه ‪ 72‬لسانا ً يتكلم الناس بها وقد علمه الله تعالى منطقهم جميعا ً‬
‫ليعلم كل فرقة منهم بلسانهم‪ .‬وهو أول من علم السياسة المدنية‪ ،‬ورسم لقومه قواعد تمدين‬
‫المدن‪ ،‬فبنت كل فرقة من المم مدنا ً في أرضها وأنشئت في زمانه ‪ 188‬مدينة وقد اشتهر‬
‫بالحكمة فمن حكمة قوله )خير الدنيا حسرة‪ ،‬وشرها ندم( وقوله )السعيد من نظر إلى نفسه‬
‫وشفاعته عند ربه أعماله الصالحة( وقوله )الصبر مع اليمان يورث الظفر(‪.‬‬

‫وفاته‪:‬‬

‫ف في موته‪ ..‬فعن ابن وهب‪ ،‬عن جرير بن حازم‪ ،‬عن العمش‪ ،‬عن شمر بن عطية‪،‬‬ ‫وقد أ ُ ْ‬
‫خت ُل ِ َ‬
‫عن هلل بن يساف قال‪ :‬سأل ابن عباس كعبا ً وأنا حاضر فقال له‪ :‬ما قول الله تعالى لدريس‬
‫كانا ً ع َل ِي ّا ً{؟ فقال كعب‪ :‬أما إدريس فإن الله أوحى إليه‪ :‬أني أرفع لك كل يوم مثل‬
‫م َ‬
‫}وََرفَعَْناه ُ َ‬
‫جميع عمل بني آدم ‪ -‬لعله من أهل زمانه ‪ -‬فأحب أن يزداد عم ً‬
‫ل‪ ،‬فأتاه خليل له من الملئكة‪،‬‬
‫فقال "له"‪ :‬إن الله أوحى إلي كذا وكذا فكلم ملك الموت حتى ازداد عم ً‬
‫ل‪ ،‬فحمله بين جناحيه‬

‫‪8‬‬
‫ثم صعد به إلى السماء‪ ،‬فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدرًا‪ ،‬فكلم ملك‬
‫الموت في الذي كلمه فيه إدريس‪ ،‬فقال‪ :‬وأين إدريس؟ قال هو ذا على ظهري‪ ،‬فقال ملك‬
‫الموت‪ :‬يا للعجب! بعثت وقيل لي اقبض روح إدريس في السماء الرابعة‪ ،‬فجعلت أقول‪ :‬كيف‬
‫أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الرض؟! فقبض روحه هناك‪ .‬فذلك قول الله عز وجل‬
‫كانا ً ع َل ِي ّا ً{‪ .‬ورواه ابن أبي حاتم عند تفسيرها‪ .‬وعنده فقال لذلك الملك سل لي‬
‫م َ‬
‫}وََرفَعَْناه ُ َ‬
‫ملك الموت كم بقي من عمري؟ فسأله وهو معه‪ :‬كم بقي من عمره؟ فقال‪ :‬ل أدري حتى‬
‫أنظر‪ ،‬فنظر فقال إنك لتسألني عن رجل ما بقي من عمره إل طرفة عين‪ ،‬فنظر الملك إلى‬
‫تحت جناحه إلى إدريس فإذا هو قد قبض وهو ل يشعر‪ .‬وهذا من السرائيليات‪ ،‬وفي بعضه‬
‫نكارة‪.‬‬

‫كانا ً ع َل ِي ّا ً{ قال‪ :‬إدريس رفع ولم يمت‬


‫م َ‬
‫وقول ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‪} :‬وََرفَعَْناه ُ َ‬
‫ً‬
‫كما رفع عيسى‪ .‬إن أراد أنه لم يمت إلى الن ففي هذا نظر‪ ،‬وإن أراد أنه رفع حيا إلى السماء‬
‫ثم قبض هناك‪ .‬فل ينافي ما تقدم عن كعب الحبار‪ .‬والله أعلم‪.‬‬

‫كانا ً ع َل ِي ّا ً{ ‪ :‬رفع إلى السماء السادسة‬ ‫م َ‬


‫وقال العوفي عن ابن عباس في قوله‪} :‬وََرفَعَْناه ُ َ‬
‫فمات بها‪ ،‬وهكذا قال الضحاك‪ .‬والحديث المتفق عليه من أنه في السماء الرابعة أصح‪ ،‬وهو‬
‫كانا ً ع َل ِي ّا ً{ قال‪ :‬إلى الجنة‪ ،‬وقال‬
‫م َ‬
‫قول مجاهد وغير واحد‪ .‬وقال الحسن البصري‪} :‬وََرفَعَْناه ُ َ‬
‫قائلون رفع في حياة أبيه يرد بن مهلييل والله أعلم‪ .‬وقد زعم بعضهم أن إدريس لم يكن قبل‬
‫نوح بل في زمان بني إسرائيل‪.‬‬

‫قال البخاري‪ :‬ويذكر عن ابن مسعود وابن عباس أن إلياس هو إدريس‪ ،‬واستأنسوا في ذلك بما‬
‫جاء في حديث الزهري عن أنس في السراء‪ :‬أنه لما مّر به عليه السلم قال له مرحبا ً بالخ‬
‫الصالح والنبي الصالح‪ ،‬ولم يقل كما قال آدم و إبراهيم‪ :‬مرحبا ً بالنبي الصالح والبن الصالح‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬فلو كان في عمود نسبه لقال له كما قال له‪.‬‬

‫وهذا ل يدل ولبد‪ ،‬قد ل يكون الراوي حفظه جيدًا‪ ،‬أو لعله قاله على سبيل الهضم والتواضع‪،‬‬
‫ولم ينتصب له في مقام البوة كما انتصب لدم أبي البشر‪ ،‬وإبراهيم الذي هو خليل الرحمن‪،‬‬
‫وأكبر أولي العزم بعد محمد صلوات الله عليهم أجمعين‪.‬‬

‫نوح عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫كان نوح تقيا صادقا أرسله الله ليهدي قومه وينذرهم عذاب الخرة ولكنهم عصوه وكذبوه‪ ،‬ومع‬
‫ذلك استمر يدعوهم إلى الدين الحنيف فاتبعه قليل من الناس‪ ،‬واستمر الكفرة في طغيانهم‬
‫فمنع الله عنهم المطر ودعاهم نوح أن يؤمنوا حتى يرفع الله عنهم العذاب فآمنوا فرفع الله‬
‫عنهم العذاب ولكنهم رجعوا إلى كفرهم‪ ،‬وأخذ يدعوهم ‪ 950‬سنة ثم أمره الله ببناء السفينة‬
‫وأن يأخذ معه زوجا من كل نوع ثم جاء الطوفان فأغرقهم أجمعين‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫حال الناس قبل بعثة نوح‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫قبل أن يولد قوم نوح عاش خمسة رجال صالحين من أجداد قوم نوح‪ ،‬عاشوا زمنا ثم ماتوا‪،‬‬
‫سواع‪ ،‬يغوث‪ ،‬يعوق‪ ،‬نسرا(‪ .‬بعد موتهم صنع الناس لهم‬ ‫د‪ُ ،‬‬
‫كانت أسماء الرجال الخمسة هي‪) :‬و ّ‬
‫تماثيل في مجال الذكرى والتكريم‪ ،‬ومضى الوقت‪ ..‬ومات الذين نحتوا التماثيل‪ ..‬وجاء أبنائهم‪..‬‬
‫ومات البناء وجاء أبناء البناء‪ ..‬ثم نسجت قصصا وحكايات حول التماثيل تعزو لها قوة خاصة‪..‬‬
‫واستغل إبليس الفرصة‪ ،‬وأوهم الناس أن هذه تماثيل آلهة تملك النفع وتقدر على الضرر‪ ..‬وبدأ‬
‫الناس يعبدون هذه التماثيل‪.‬‬

‫إرسال نوح عليه السلم‪:‬‬

‫كان نوح كان على الفطرة مؤمنا بالله تعالى قبل بعثته إلى الناس‪ .‬وكل النبياء مؤمنون بالله‬
‫ل‪ .‬فاختاره الله لحمل الرسالة‪ .‬فخرج نوح على‬ ‫تعالى قبل بعثتهم‪ .‬وكان كثير الشكر لله عّز وج ّ‬
‫قومه وبدأ دعوته‪:‬‬

‫ظيم ٍ‬
‫ب ي َوْم ٍ ع َ ِ‬
‫ذا َ‬ ‫ف ع َل َي ْك ُ ْ‬
‫م عَ َ‬ ‫ي أَ َ‬
‫خا ُ‬ ‫ن إ َِلـهٍ غ َي ُْره ُ إ ِن ّ َ‬
‫م ْ‬ ‫ما ل َ ُ‬
‫كم ّ‬ ‫دوا ْ الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫َيا قَوْم ِ اع ْب ُ ُ‬

‫بهذه الجملة الموجزة وضع نوح قومه أمام حقيقة اللوهية‪ ..‬وحقيقة البعث‪ .‬هناك إله خالق‬
‫وهو وحده الذي يستحق العبادة‪ ..‬وهناك موت ثم بعث ثم يوم للقيامة‪ .‬يوم عظيم‪ ،‬فيه عذاب‬
‫يوم عظيم‪.‬شرح "نوح" لقومه أنه يستحيل أن يكون هناك غير إله واحد هو الخالق‪ .‬أفهمهم أن‬
‫الشيطان قد خدعهم زمنا طويل‪ ،‬وأن الوقت قد جاء ليتوقف هذا الخداع‪ ،‬حدثهم نوح عن تكريم‬
‫الله للنسان‪ .‬كيف خلقه‪ ،‬ومنحه الرزق وأعطاه نعمة العقل‪ ،‬وليست عبادة الصنام غير ظلم‬
‫خانق للعقل‪.‬‬

‫تحرك قوم نوح في اتجاهين بعد دعوته‪ .‬لمست الدعوة قلوب الضعفاء والفقراء والبؤساء‪،‬‬
‫وانحنت على جراحهم وآلمهم بالرحمة‪ ..‬أما الغنياء والقوياء والكبراء‪ ،‬تأملوا الدعوة بعين‬
‫الشك… ولما كانوا يستفيدون من بقاء الوضاع على ما هي عليه‪ ..‬فقد بدءوا حربهم ضد نوح‪.‬‬

‫في البداية اتهموا نوحا بأنه بشر مثلهم‪:‬‬

‫مث ْل ََنا‬ ‫ك إ ِل ّ ب َ َ‬
‫شًرا ّ‬ ‫ما ن ََرا َ‬
‫مهِ َ‬ ‫فُروا ْ ِ‬
‫من قِوْ ِ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫مل ُ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫فَ َ‬
‫قا َ‬

‫قال تفسير القرطبي‪ :‬المل الذين كفروا من قومه هم الرؤساء الذين كانوا في قومه‪ .‬يسمون‬
‫المل لنهم مليئون بما يقولون‪.‬‬

‫قال هؤلء المل لنوح‪ :‬أنت بشر يا نوح‪.‬‬

‫رغم أن نوحا لم يقل غير ذلك‪ ،‬وأكد أنه مجرد بشر‪ ..‬والله يرسل إلى الرض رسول من البشر‪،‬‬
‫لن الرض يسكنها البشر‪ ،‬ولو كانت الرض تسكنها الملئكة لرسل الله رسول من الملئكة‪..‬‬
‫استمرت الحرب بين الكافرين ونوح‪.‬‬

‫في البداية‪ ،‬تصور الكفرة يومها أن دعوة نوح ل تلبث أن تنطفئ وحدها‪ ،‬فلما وجدوا الدعوة‬
‫تجتذب الفقراء والضعفاء وأهل الصناعات البسيطة بدءوا الهجوم على نوح من هذه الناحية‪.‬‬
‫هاجموه في أتباعه‪ ،‬وقالوا له‪ :‬لم يتبعك غير الفقراء والضعفاء والراذل‪.‬‬

‫هكذا اندلع الصراع بين نوح ورؤساء قومه‪ .‬ولجأ الذين كفروا إلى المساومة‪ .‬قالوا لنوح‪ :‬اسمع‬
‫يا نوح‪ .‬إذا أردت أن نؤمن لك فاطرد الذين آمنوا بك‪ .‬إنهم ضعفاء وفقراء‪ ،‬ونحن سادة القوم‬
‫وأغنياؤهم‪ ..‬ويستحيل أن تضمنا دعوة واحدة مع هؤلء‪.‬‬

‫واستمع نوح إلى كفار قومه وأدرك أنهم يعاندون‪ ،‬ورغم ذلك كان طيبا في رده‪ .‬أفهم قومه أنه‬
‫ل يستطيع أن يطرد المؤمنين‪ ،‬لنهم أول ليسوا ضيوفه‪ ،‬إنما هم ضيوف الله‪ ..‬وليست الرحمة‬

‫‪10‬‬
‫بيته الذي يدخل فيه من يشاء أو يطرد منه من يشاء‪ ،‬إنما الرحمة بيت الله الذي يستقبل فيه‬
‫من يشاء‪.‬‬

‫كان نوح يناقش كل حجج الكافرين بمنطق النبياء الكريم الوجيه‪ .‬وهو منطق الفكر الذي يجرد‬
‫نفسه من الكبرياء الشخصي وهوى المصالح الخاصة‪.‬‬

‫قال لهم إن الله قد آتاه الرسالة والنبوة والرحمة‪ .‬ولم يروا هم ما آتاه الله‪ ،‬وهو بالتالي ل‬
‫يجبرهم على اليمان برسالته وهم كارهون‪ .‬إن كلمة ل إله إل الله ل تفرض على أحد من‬
‫البشر‪ .‬أفهمهم أنه ل يطلب منهم مقابل لدعوته‪ ،‬ل يطلب منهم مال فيثقل عليهم‪ ،‬إن أجره‬
‫على الله‪ ،‬هو الذي يعطيه ثوابه‪ .‬أفهمهم أنه ل يستطيع أن يطرد الذين آمنوا بالله‪ ،‬وأن له‬
‫حدوده كنبي‪ .‬وحدوده ل تعطيه حق طرد المؤمنين لسببين‪ :‬أنهم سيلقون الله مؤمنين به‬
‫فكيف يطرد مؤمنا بالله؟ ثم أنه لو طردهم لخاصموه عند الله‪ ،‬ويجازي من طردهم‪ ،‬فمن الذي‬
‫ينصر نوحا من الله لو طردهم؟ وهكذا انتهى نوح إلى أن مطالبة قومه له بطرد المؤمنين جهل‬
‫منهم‪.‬‬

‫وعاد نوح يقول لهم أنه ل يدعى لنفسه أكثر مما له من حق‪ ،‬وأخبرهم بتذللـه وتواضعه لله عز‬
‫وجل‪ ،‬فهو ل يدعي لنفسه ما ليس له من خزائن الله‪ ،‬وهي إنعامه على من يشاء من عباده‪،‬‬
‫وهو ل يعلم الغيب‪ ،‬لن الغيب علم اختص الله تعالى وحده به‪ .‬أخبرهم أيضا أنه ليس ملكا‪.‬‬
‫بمعنى أن منزلته ليست كمنزلة الملئكة‪ ..‬قال لهم نوح‪ :‬إن الذين تزدري أعينكم وتحتقر‬
‫وتستثقل‪ ..‬إن هؤلء المؤمنين الذي تحتقرونهم لن تبطل أجورهم وتضيع لحتقاركم لهم‪ ،‬الله‬
‫أعلم بما في أنفسهم‪ .‬هو الذي يجازيهم عليه ويؤاخذهم به‪ ..‬أظلم نفسي لو قلت إن الله لن‬
‫يؤتيهم خيرا‪.‬‬

‫وسئم المل يومها من هذا الجدل الذي يجادله نوح‪ ..‬حكى الله موقفهم منه في سورة )هود(‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫ن )‪َ (32‬قا َ‬
‫ل إ ِن ّ َ‬ ‫صاد ِِقي َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬‫ت ِ‬ ‫كن َ‬‫ما ت َعِد َُنا ِإن ُ‬ ‫دال ََنا فَأت َِنا ب ِ َ‬ ‫ج َ‬‫ت ِ‬ ‫جاد َل ْت ََنا فَأك ْث َْر َ‬‫ح قَد ْ َ‬‫َقاُلوا ْ َيا ُنو ُ‬
‫م ِإن‬ ‫َ‬
‫ح لك ُ ْ‬‫ص َ‬
‫َ‬
‫ن أن َ‬
‫َ‬
‫تأ ْ‬
‫َ‬
‫ن أَرد ّ‬ ‫حي إ ِ ْ‬ ‫ص ِ‬
‫م نُ ْ‬‫فعُك ُ ْ‬ ‫ن )‪ (33‬وَل َ َين َ‬ ‫زي َ‬ ‫ج ِ‬ ‫مع ْ ِ‬
‫َ‬
‫ما أنُتم ب ِ ُ‬ ‫شاء وَ َ‬ ‫ه ِإن َ‬ ‫ي َأ ِْتي ُ‬
‫كم ب ِهِ الل ّ ُ‬
‫َ‬
‫ن )‪) (34‬هود(‬ ‫جُعو َ‬ ‫م وَإ ِل َي ْهِ ت ُْر َ‬
‫م هُوَ َرب ّك ُ ْ‬ ‫ريد ُ أن ي ُغْوِي َك ُ ْ‬ ‫ه يُ ِ‬‫ن الل ّ ُ‬ ‫َ‬
‫كا َ‬

‫أضاف نوح إغواءهم إلى الله تعالى‪ .‬تسليما بأن الله هو الفاعل في كل حال‪ .‬غير أنهم‬
‫استحقوا الضلل بموقفهم الختياري وملئ حريتهم وكامل إرادتهم‪ ..‬فالنسان صانع لفعاله‬
‫ولكنه محتاج في صدورها عنه إلى ربه‪ .‬بهذه النظرة يستقيم معنى مساءلة النسان عن‬
‫أفعاله‪ .‬كل ما في المر أن الله ييسر كل مخلوق لما خلق له‪ ،‬سواء أكان التيسير إلى الخير أم‬
‫إلى الشر‪ ..‬وهذا من تمام الحرية وكمالها‪ .‬يختار النسان بحريته فييسر له الله تعالى طريق ما‬
‫اختاره‪ .‬اختار كفار قوم نوح طريق الغواية فيسره الله لهم‪.‬‬

‫وتستمر المعركة‪ ،‬وتطول المناقشة بين الكافرين من قوم نوح وبينه إذا انهارت كل حجج‬
‫الكافرين ولم يعد لديهم ما يقال‪ ،‬بدءوا يخرجون عن حدود الدب ويشتمون نبي الله‪:‬‬

‫ن )‪) (60‬العراف(‬
‫مِبي ٍ‬ ‫ضل َ ٍ‬
‫ل ّ‬ ‫مهِ إ ِّنا ل َن ََرا َ‬
‫ك ِفي َ‬ ‫مل ُ ِ‬
‫من قَوْ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫َقا َ‬

‫ورد عليهم نوح بأدب النبياء العظيم‪:‬‬


‫َ‬ ‫ُ‬
‫ح‬
‫ص ُ‬ ‫سال َ ِ‬
‫ت َرّبي وَأن َ‬ ‫ن )‪ (61‬أب َل ّغُك ُ ْ‬
‫م رِ َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫من ّر ّ‬ ‫ل ّ‬‫سو ٌ‬‫ة وَل َك ِّني َر ُ‬
‫ضل َل َ ٌ‬ ‫ل َيا قَوْم ِ ل َي ْ َ‬
‫س ِبي َ‬ ‫َقا َ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪) (62‬العراف(‬ ‫مو َ‬ ‫ما ل َ ت َعْل ُ‬‫ن اللهِ َ‬
‫م َ‬‫م ِ‬
‫م وَأع ْل ُ‬ ‫لك ُ ْ‬

‫ويستمر نوح في دعوة قومه إلى الله‪ .‬ساعة بعد ساعة‪ .‬ويوما بعد يوم‪ .‬وعاما بعد عام‪ .‬ومرت‬
‫العوام ونوح يدعو قومه‪ .‬كان يدعوهم ليل ونهارا‪ ،‬وسرا وجهرا‪ ،‬يضرب لهم المثال‪ .‬ويشرح‬
‫لهم اليات ويبين لهم قدرة الله في الكائنات‪ ،‬وكلما دعاهم إلى الله فروا منه‪ ،‬وكلما دعاهم‬

‫‪11‬‬
‫ليغفر الله لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستكبروا عن سماع الحق‪ .‬واستمر نوح يدعو قومه‬
‫إلى الله ألف سنة إل خمسين عاما‪.‬‬

‫وكان يلحظ أن عدد المؤمنين ل يزيد‪ ،‬بينما يزيد عدد الكافرين‪ .‬وحزن نوح غير أنه لم يفقد‬
‫المل‪ ،‬وظل يدعو قومه ويجادلهم‪ ،‬وظل قومه على الكبرياء والكفر والتبجح‪ .‬وحزن نوح على‬
‫قومه‪ .‬لكنه لم يبلغ درجة اليأس‪ .‬ظل محتفظا بالمل طوال ‪ 950‬سنة‪ .‬ويبدو أن أعمار الناس‬
‫قبل الطوفان كانت طويلة‪ ،‬وربما يكون هذا العمر الطويل لنوح معجزة خاصة له‪.‬‬

‫وجاء يوم أوحى الله إليه‪ ،‬أنه لن يؤمن من قومك إل من قد آمن‪ .‬أوحى الله إليه أل يحزن‬
‫عليهم‪ .‬ساعتها دعا نوح على الكافرين بالهلك‪:‬‬

‫ن ال ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ح ّر ّ َ‬ ‫وََقا َ‬


‫ن د َّياًرا )‪) (26‬نوح(‬
‫ري َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ب ل ت َذ َْر ع َلى الْر ِ‬
‫ض ِ‬ ‫ل ُنو ٌ‬

‫برر نوح دعوته بقوله‪:‬‬

‫فاًرا )‪) (26‬نوح(‬ ‫دوا إ ِّل َفا ِ‬


‫جًرا ك َ ّ‬ ‫ك وََل ي َل ِ ُ‬ ‫ضّلوا ِ‬
‫عَباد َ َ‬ ‫إ ِن ّ َ‬
‫ك ِإن ت َذ َْرهُ ْ‬
‫م يُ ِ‬

‫الطوفان‪:‬‬

‫ثم أصدر الله تعالى حكمه على الكافرين بالطوفان‪ .‬أخبر الله تعالى عبده نوحا أنه سيصنع‬
‫حي َِنا( أي بعلم الله وتعليمه‪ ،‬وعلى مرأى منه وطبقا لتوجيهاته ومساعدة‬ ‫َ‬
‫سفينة )ب ِأع ْي ُن َِنا وَوَ ْ‬
‫موا ْ إ ِن ُّهم ّ‬
‫مغَْرُقو َ‬
‫ن( يغرق‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬ ‫خاط ِب ِْني ِفي ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫الملئكة‪ .‬أصدر الله تعالى أمره إلى نوح‪) :‬وَل َ ت ُ َ‬
‫الله الذين ظلموا مهما كانت أهميتهم أو قرابتهم للنبي‪ ،‬وينهى الله نبيه أن يخاطبه أو يتوسط‬
‫لهم‪.‬‬

‫وبدأ نوح يغرس الشجر ويزرعه ليصنع منه السفينة‪ .‬انتظر سنوات‪ ،‬ثم قطع ما زرعه‪ ،‬وبدأ‬
‫نجارته‪ .‬كانت سفينة عظيمة الطول والرتفاع والمتانة‪ ،‬وقد اختلف المفسرون في حجمها‪،‬‬
‫وهيئتها‪ ،‬وعدد طبقاتها‪ ،‬ومدة عملها‪ ،‬والمكان الذي عملت فيه‪ ،‬ومقدار طولها‪ ،‬وعرضها‪ ،‬على‬
‫أقوال متعارضة لم يصح منها شيء‪ .‬وقال الفخر الرازي في هذا كله‪ :‬أعلم أن هذه المباحث ل‬
‫تعجبني‪ ،‬لنها أمور ل حاجة إلى معرفتها البتة‪ ،‬ول يتعلق بمعرفتها فائدة أصل‪ .‬نحن نتفق مع‬
‫الرازي في مقولته هذه‪ .‬فنحن ل نعرف عن حقيقة هذه السفينة إل ما حدثنا الله به‪ .‬تجاوز الله‬
‫تعالى هذه التفصيلت التي ل أهمية لها‪ ،‬إلى مضمون القصة ومغزاها المهم‪.‬‬

‫بدأ نوح يبني السفينة‪ ،‬ويمر عليه الكفار فيرونه منهمكا في صنع السفينة‪ ،‬والجفاف سائد‪،‬‬
‫وليست هناك أنهار قريبة أو بحار‪ .‬كيف ستجري هذه السفينة إذن يا نوح؟ هل ستجري على‬
‫الرض؟ أين الماء الذي يمكن أن تسبح فيه سفينتك؟ لقد جن نوح‪ ،‬وترتفع ضحكات الكافرين‬
‫وتزداد سخريتهم من نوح‪ .‬وكانوا يسخرون منه قائلين‪ :‬صرت نجارا بعد أن كنت نبيا!‬

‫إن قمة الصراع في قصة نوح تتجلى في هذه المساحة الزمنية‪ ،‬إن الباطل يسخر من الحق‪.‬‬
‫يضحك عليه طويل‪ ،‬متصورا أن الدنيا ملكه‪ ،‬وأن المن نصيبه‪ ،‬وأن العذاب غير واقع‪ ..‬غير أن‬
‫هذا كله مؤقت بموعد حلول الطوفان‪ .‬عندئذ يسخر المؤمنون من الكافرين‪ ،‬وتكون سخريتهم‬
‫هي الحق‪.‬‬

‫انتهى صنع السفينة‪ ،‬وجلس نوح ينتظر أمر الله‪ .‬أوحى الله إلى نوح أنه إذا فار التنور هذا‬
‫علمة على بدء الطوفان‪ .‬قيل في تفسير التنور أنه بركان في المنطقة‪ ،‬وقيل أن الفرن الكائن‬
‫في بيت نوح‪ ،‬إذا خرج منه الماء وفار كان هذا أمرا لنوح بالحركة‪.‬‬

‫وجاء اليوم الرهيب‪ ،‬فار التنور‪ .‬وأسرع نوح يفتح سفينته ويدعو المؤمنين به‪ ،‬وهبط جبريل عليه‬
‫السلم إلى الرض‪ .‬حمل نوح إلى السفينة من كل حيوان وطير ووحش زوجين اثنين‪ ،‬بقرا‬
‫وثورا‪ ،‬فيل وفيلة‪ ،‬عصفورا وعصفور‪ ،‬نمرا ونمرة‪ ،‬إلى آخر المخلوقات‪ .‬كان نوح قد صنع‬

‫‪12‬‬
‫أقفاصا للوحوش وهو يصنع السفينة‪ .‬وساق جبريل عليه السلم أمامه من كل زوجين اثنين‪،‬‬
‫لضمان بقاء نوع الحيوان والطير على الرض‪ ،‬وهذا معناه أن الطوفان أغرق الرض كلها‪ ،‬فلول‬
‫ذلك ما كان هناك معنى لحمل هذه النواع من الحيوان والطير‪ .‬وبدأ صعود السفينة‪ .‬صعدت‬
‫الحيوانات والوحوش والطيور‪ ،‬وصعد من آمن بنوح‪ ،‬وكان عدد المؤمنين قليل‪.‬‬

‫لم تكن زوجة نوح مؤمنة به فلم تصعد‪ ،‬وكان أحد أبنائه يخفي كفره ويبدي اليمان أمام نوح‪،‬‬
‫فلم يصعد هو الخر‪ .‬وكانت أغلبية الناس غير مؤمنة هي الخرى‪ ،‬فلم تصعد‪ .‬وصعد المؤمنون‪.‬‬
‫قال ابن عباس‪ ،‬رضي الله عنهما‪ :‬آمن من قوم نوح ثمانون إنسانا‪.‬‬

‫ارتفعت المياه من فتحات الرض‪ .‬انهمرت من السماء أمطارا غزيرة بكميات لم تر مثلها‬
‫الرض‪ .‬فالتقت أمطار السماء بمياه الرض‪ ،‬وصارت ترتفع ساعة بعد ساعة‪ .‬فقدت البحار‬
‫هدوئها‪ ،‬وانفجرت أمواجها تجور على اليابسة‪ ،‬وتكتسح الرض‪ .‬وغرقت الكرة الرضية للمرة‬
‫الولى في المياه‪.‬‬

‫ارتفعت المياه أعلى من الناس‪ .‬تجاوزت قمم الشجار‪ ،‬وقمم الجبال‪ ،‬وغطت سطح الرض‬
‫كله‪ .‬وفي بداية الطوفان نادى نوح ابنه‪ .‬كان ابنه يقف بمعزل منه‪ .‬ويحكي لنا المولى عز وجل‬
‫الحوار القصير الذي دار بين نوح عليه السلم وابنه قبل أن يحول بينهما الموج فجأة‪.‬‬

‫ن‬
‫ري َ‬
‫كافِ ِ‬‫مع َ ا ل ْ َ‬ ‫كن ّ‬‫معََنا وَل َ ت َ ُ‬ ‫كب ّ‬ ‫ي اْر َ‬ ‫نادى نوح ابنه قائل‪َ :‬يا ب ُن َ ّ‬
‫ماء‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫مِني ِ‬‫ص ُ‬ ‫ل ي َعْ ِ‬‫جب َ ٍ‬ ‫َ‬
‫سآِوي إ ِلى َ‬ ‫ل َ‬ ‫ورد البن عليه‪َ :‬قا َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م‬
‫ح َ‬
‫من ّر ِ‬ ‫مرِ اللهِ إ ِل ّ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫م الي َوْ َ‬
‫ص َ‬ ‫ل لَ َ‬
‫عا ِ‬ ‫عاد نوح يخاطبه‪َ :‬قا َ‬

‫وانتهى الحوار بين نوح وابنه‪:‬‬

‫ن‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مغَْرِقي َ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫ج فَ َ‬
‫كا َ‬ ‫ما ال ْ َ‬
‫مو ْ ُ‬ ‫حا َ‬
‫ل ب َي ْن َهُ َ‬ ‫وَ َ‬

‫ج( أنهى الموج حوارهما فجأة‪ .‬نظر نوح فلم‬ ‫ما ال ْ َ‬


‫مو ْ ُ‬ ‫حا َ‬
‫ل ب َي ْن َهُ َ‬ ‫انظر إلى تعبير القرآن الكريم )وَ َ‬
‫يجد ابنه‪ .‬لم يجد غير جبال الموج التي ترتفع وترفع معها السفينة‪ ،‬وتفقدها رؤية كل شيء غير‬
‫المياه‪ .‬وشاءت رحمة الله أن يغرق البن بعيدا عن عين الب‪ ،‬رحمة منه بالب‪ ،‬واعتقد نوح أن‬
‫ابنه المؤمن تصور أن الجبل سيعصمه من الماء‪ ،‬فغرق‪.‬‬

‫واستمر الطوفان‪ .‬استمر يحمل سفينة نوح‪ .‬بعد ساعات من بدايته‪ ،‬كانت كل عين تطرف على‬
‫الرض قد هلكت غرقا‪ .‬لم يعد باقيا من الحياة والحياء غير هذا الجزء الخشبي من سفينة نوح‪،‬‬
‫وهو ينطوي على الخلصة المؤمنة من أهل الرض‪ .‬وأنواع الحيوانات والطيور التي اختيرت‬
‫بعناية‪ .‬ومن الصعب اليوم تصور هول الطوفان أو عظمته‪ .‬كان شيئا مروعا يدل على قدرة‬
‫الخالق‪ .‬كانت السفينة تجري بهم في موج كالجبال‪ .‬ويعتقد بعض العلماء الجيولوجيا اليوم إن‬
‫انفصال القارات وتشكل الرض في صورتها الحالية‪ ،‬قد وقعا نتيجة طوفان قديم جبار‪ ،‬ثارت‬
‫فيه المياه ثورة غير مفهومة‪ .‬حتى غطت سطح الجزء اليابس من الرض‪ ،‬وارتفعت فيه قيعان‬
‫المحيطات ووقع فيه ما نستطيع تسميته بالثورة الجغرافية‪.‬‬

‫استمر طوفان نوح زمنا ل نعرف مقداره‪ .‬ثم صدر المر اللهي إلى السماء أن تكف عن‬
‫المطار‪ ،‬وإلى الرض أن تستقر وتبتلع الماء‪ ،‬وإلى أخشاب السفينة أن ترسو على الجودي‪،‬‬
‫وهو اسم مكان قديم يقال أنه جبل في العراق‪ .‬طهر الطوفان الرض وغسلها‪ .‬قال تعالى في‬
‫سورة )هود(‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ي‬ ‫ت ع ََلى ال ْ ُ‬
‫جود ِ ّ‬ ‫ست َوَ ْ‬
‫مُر َوا ْ‬
‫ي ال ْ‬‫ض َ‬ ‫ض ال ْ َ‬
‫ماء وَقُ ِ‬ ‫ماء أقْل ِِعي وَِغي َ‬ ‫س َ‬
‫ك وََيا َ‬ ‫ض اب ْل َِعي َ‬
‫ماء ِ‬ ‫وَِقي َ‬
‫ل َيا أْر ُ‬
‫ن )‪) (44‬هود(‬ ‫مي َ‬ ‫ّ‬
‫قوْم ِ الظال ِ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫وَِقيل ب ُْعدا لل َ‬

‫‪13‬‬
‫َ‬
‫مُر( بمعنى أنه‬ ‫ي ال ْ‬ ‫ض َ‬‫ماء( بمعنى نقص الماء وانصرف عائدا إلى فتحات الرض‪) .‬وَقُ ِ‬ ‫ض ال ْ َ‬
‫)وَِغي َ‬
‫أحكم وفرغ منه‪ ،‬يعني هلك الكافرون من قوم نوح تماما‪ .‬ويقال أن الله أعقم أرحامهم أربعين‬
‫ي( بمعنى رست‬ ‫جود ِ ّ‬‫ت ع ََلى ال ْ ُ‬
‫ست َوَ ْ‬
‫سنة قبل الطوفان‪ ،‬فلم يكن فيمن هلك طفل أو صغير‪َ) .‬وا ْ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫قوْم ِ‬
‫عليه‪ ،‬وقيل كان ذلك يوم عاشوراء‪ .‬فصامه نوح‪ ،‬وأمر من معه بصيامه‪) .‬وَِقيل ب ُْعدا لل َ‬
‫ن( أي هلكا لهم‪ .‬طهر الطوفان الرض منهم وغسلها‪ .‬ذهب الهول بذهاب الطوفان‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬
‫وانتقل الصراع من الموج إلى نفس نوح‪ ..‬تذكر ابنه الذي غرق‪.‬‬

‫لم يكن نوح يعرف حتى هذه اللحظة أن ابنه كافر‪ .‬كان يتصور أنه مؤمن عنيد‪ ،‬آثر النجاة‬
‫باللجوء إلى جبل‪ .‬وكان الموج قد أنهى حوارهما قبل أن يتم‪ ..‬فلم يعرف نوح حظ ابنه من‬
‫اليمان‪ .‬تحركت في قلب الب عواطف البوة‪ .‬قال تعالى في سورة )هود(‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل رب إن ابِني م َ‬
‫ن )‪) (45‬هود(‬
‫مي َ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫حاك ِ ِ‬ ‫حك َ ُ‬
‫تأ ْ‬ ‫ك ال ْ َ‬
‫حقّ وَأن َ‬ ‫ن وَع ْد َ َ‬
‫ن أهِْلي وَإ ِ ّ‬
‫ِ ْ‬ ‫ه فَ َ‬
‫قا َ َ ّ ِ ّ ُ‬ ‫ح ّرب ّ ُ‬
‫دى ُنو ٌ‬
‫وََنا َ‬

‫أراد نوح أن يقول لله أن ابنه من أهله المؤمنين‪ .‬وقد وعده الله بنجاة أهله المؤمنين‪ .‬قال الله‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬مطلعا نوحا على حقيقة ابنه للمرة الولى‪:‬‬

‫ك َأن‬ ‫ل غ َير صالح فَل َ ت َ‬


‫م إ ِّني أ َ ِ‬
‫عظ ُ َ‬ ‫عل ْ ٌ‬ ‫س لَ َ‬
‫ك ب ِهِ ِ‬ ‫ما ل َي ْ َ‬ ‫سأل ْ ِ‬
‫ن َ‬ ‫َ ْ‬ ‫م ٌ ُْ َ ِ ٍ‬ ‫ه عَ َ‬ ‫ن أ َهْل ِ َ‬
‫ك إ ِن ّ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ل َي ْ َ‬
‫س ِ‬ ‫ح إ ِن ّ ُ‬
‫َيا ُنو ُ‬
‫ن )‪) (46‬هود(‬ ‫جاه ِِلي َ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬
‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫ُ‬
‫ت َكو َ‬

‫قال القرطبي ‪-‬نقل عن شيوخه من العلماء‪ -‬وهو الرأي الذي نؤثره‪ :‬كان ابنه عنده ‪-‬أي نوح‪-‬‬
‫ن أ َهِْلي( إل وذلك عنده كذلك‪ ،‬إذ محال أن‬
‫م ْ‬
‫ن اب ُِني ِ‬
‫مؤمنا في ظنه‪ ،‬ولم يك نوح يقول لربه‪) :‬إ ِ ّ‬
‫يسأل هلك الكفار‪ ،‬ثم يسأل في إنجاء بعضهم‪ .‬وكان ابنه يسرّ الكفر ويظهر اليمان‪ .‬فأخبر‬
‫الله تعالى نوحا بما هو منفرد به من علم الغيوب‪ .‬أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت‪.‬‬
‫وكان الله حين يعظه أن يكون من الجاهلين‪ ،‬يريد أن يبرئه من تصور أن يكون ابنه مؤمنا‪ ،‬ثم‬
‫يهلك مع الكافرين‪.‬‬

‫وثمة درس مهم تنطوي عليه اليات الكريمة التي تحكي قصة نوح وابنه‪ .‬أراد الله سبحانه‬
‫وتعالى أن يقول لنبيه الكريم أن ابنه ليس من أهله‪ ،‬لنه لم يؤمن بالله‪ ،‬وليس الدم هو الصلة‬
‫الحقيقية بين الناس‪ .‬ابن النبي هو ابنه في العقيدة‪ .‬هو من يتبع الله والنبي‪ ،‬وليس ابنه من‬
‫يكفر به ولو كان من صلبه‪ .‬هنا ينبغي أن يتبرأ المؤمن من غير المؤمن‪ .‬وهنا أيضا ينبغي أن‬
‫تتصل بين المؤمنين صلت العقيدة فحسب‪ .‬ل اعتبارات الدم أو الجنس أو اللون أو الرض‪.‬‬

‫واستغفر نوح ربه وتاب إليه ورحمه الله وأمره أن يهبط من السفينة محاطا ببركة الله‬
‫ورعايته‪ .‬وهبط نوح من سفينته‪ .‬أطلق سراح الطيور والوحش فتفرقت في الرض‪ ،‬نزل‬
‫المؤمنون بعد ذلك‪ .‬ول يحكي لنا القرآن الكريم قصة من آمن مع نوح بعد نجاتهم من‬
‫الطوفان‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫هود عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫أرسل إلى قوم عاد الذين كانوا بالحقاف‪ ،‬وكانوا أقوياء الجسم والبنيان وآتاهم الله الكثير من‬
‫رزقه ولكنهم لم يشكروا الله على ما آتاهم وعبدوا الصنام فأرسل لهم الله هودا نبيا مبشرا‪،‬‬
‫كان حكيما ولكنهم كذبوه وآذوه فجاء عقاب الله وأهلكهم بريح صرصر عاتية استمرت سبع‬
‫ليال وثمانية أيام‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫عبادة الناس للصنام‪:‬‬

‫بعد أن ابتلعت الرض مياه الطوفان الذي أغرق من كفر بنوح عليه السلم‪ ،‬قام من آمن معه‬
‫ونجى بعمارة الرض‪ .‬فكان كل من على الرض في ذلك الوقت من المؤمنين‪ .‬لم يكن بينهم‬
‫كافر واحد‪ .‬ومرت سنوات وسنوات‪ .‬مات الباء والبناء وجاء أبناء البناء‪ .‬نسى الناس وصية‬
‫نوح‪ ،‬وعادت عبادة الصنام‪ .‬انحرف الناس عن عبادة الله وحده‪ ،‬وتم المر بنفس الخدعة‬
‫القديمة‪.‬‬

‫قال أحفاد قوم نوح‪ :‬ل نريد أن ننسى آبائنا الذين نجاهم الله من الطوفان‪ .‬وصنعوا للناجين‬
‫تماثيل ليذكروهم بها‪ ،‬وتطور هذا التعظيم جيل بعد جيل‪ ،‬فإذا المر ينقلب إلى العبادة‪ ،‬وإذا‬
‫بالتماثيل تتحول بمكر من الشيطان إلى آلهة مع الله‪ .‬وعادت الرض تشكو من الظلم مرة‬
‫ثانية‪ .‬وأرسل الله سيدنا هودا إلى قومه‪.‬‬

‫إرسال هود عليه السلم‪:‬‬

‫كان "هود" من قبيلة اسمها "عاد" وكانت هذه القبيلة تسكن مكانا يسمى الحقاف‪ ..‬وهو‬
‫صحراء تمتلئ بالرمال‪ ،‬وتطل على البحر‪ .‬أما مساكنهم فكانت خياما كبيرة لها أعمدة شديدة‬
‫الضخامة والرتفاع‪ ،‬وكان قوم عاد أعظم أهل زمانهم في قوة الجسام‪ ،‬والطول والشدة‪ ..‬كانوا‬
‫عمالقة وأقوياء‪ ،‬فكانوا يتفاخرون بقوتهم‪ .‬فلم يكن في زمانهم أحد في قوتهم‪ .‬ورغم ضخامة‬
‫أجسامهم‪ ،‬كانت لهم عقول مظلمة‪ .‬كانوا يعبدون الصنام‪ ،‬ويدافعون عنها‪ ،‬ويحاربون من أجلها‪،‬‬
‫ويتهمون نبيهم ويسخرون منه‪ .‬وكان المفروض‪ ،‬ما داموا قد اعترفوا أنهم أشد الناس قوة‪ ،‬أن‬
‫يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة‪.‬‬

‫قال لهم هود نفس الكلمة التي يقولها كل رسول‪ .‬ل تتغير ول تنقص ول تتردد ول تخاف ول‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫ن إ ِلـ ٍ‬
‫م ْ‬ ‫ما ل َ ُ‬
‫كم ّ‬ ‫دوا ْ الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫تتراجع‪ .‬كلمة واحدة هي الشجاعة كلها‪ ،‬وهي الحق وحده )َيا قَوْم ِ اع ْب ُ ُ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫غ َي ُْرهُ أ َفَل َ ت َت ّ ُ‬
‫قو َ‬

‫وسأله قومه‪ :‬هل تريد أن تكون سيدا علينا بدعوتك؟ وأي أجر تريده؟‬

‫إن هذه الظنون السئية تتكرر على ألسنة الكافرين عندما يدعوهم نبيهم لليمان بالله وحده‪.‬‬
‫فعقولهم الصغيرة ل تتجاوز الحياة الدنيوية‪ .‬ول يفكروا إل بالمجد والسلطة والرياسة‪.‬‬

‫أفهمهم هود أن أجره على الله‪ ،‬إنه ل يريد منهم شيئا غير أن يغسلوا عقولهم في نور الحقيقة‪.‬‬
‫حدثهم عن نعمة الله عليهم‪ ،‬كيف جعلهم خلفاء لقوم نوح‪ ،‬كيف أعطاهم بسطة في الجسم‪،‬‬
‫وشدة في البأس‪ ،‬كيف أسكنهم الرض التي تمنح الخير والزرع‪ .‬كيف أرسل عليهم المطر‬
‫الذي يحيى به الرض‪ .‬وتلفت قوم هود حولهم فوجدوا أنهم أقوى من على الرض‪ ،‬وأصابتهم‬
‫الكبرياء وزادوا في العناد‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫قالوا لهود‪ :‬كيف تتهم آلهتنا التي وجدنا آباءنا يعبدونها؟‬
‫قال هود‪ :‬كان آباؤكم مخطئين‪.‬‬
‫قال قوم هود‪ :‬هل تقول يا هود إننا بعد أن نموت ونصبح ترابا يتطاير في الهواء‪ ،‬سنعود إلى‬
‫الحياة؟‬
‫قال هود‪ :‬ستعودون يوم القيامة‪ ،‬ويسأل الله كل واحد فيكم عما فعل‪.‬‬

‫انفجرت الضحكات بعد هذه الجملة الخيرة‪ .‬ما أغرب ادعاء هود‪ .‬هكذا تهامس الكافرون من‬
‫قومه‪ .‬إن النسان يموت‪ ،‬فإذا مات تحلل جسده‪ ،‬فإذا تحلل جسده تحول إلى تراب‪ ،‬ثم يهب‬
‫الهواء ويتطاير التراب‪ .‬كيف يعود هذا كله إلى أصله؟! ثم ما معنى وجود يوم للقيامة؟ لماذا‬
‫يقوم الموات من موتهم؟‬

‫استقبل هود كل هذه السئلة بصبر كريم‪ ..‬ثم بدأ يحدث قومه عن يوم القيامة‪ ..‬أفهمهم أن‬
‫إيمان الناس بالخرة ضرورة تتصل بعدل الله‪ ،‬مثلما هي ضرورة تتصل بحياة الناس‪ .‬قال لهم‬
‫ما يقوله كل نبي عن يوم القيامة‪ .‬إن حكمة الخالق المدبر ل تكتمل بمجرد بدء الخلق‪ ،‬ثم‬
‫انتهاء حياة المخلوقين في هذه الرض‪ .‬إن هذه الحياة اختبار‪ ،‬يتم الحساب بعدها‪ .‬فليست‬
‫تصرفات الناس في الدنيا واحدة‪ ،‬هناك من يظلم‪ ،‬وهناك من يقتل‪ ،‬وهناك من يعتدي‪ ..‬وكثيرا‬
‫ما نرى الظالمين يذهبون بغير عقاب‪ ،‬كثيرا ما نرى المعتدين يتمتعون في الحياة بالحترام‬
‫والسلطة‪ .‬أين تذهب شكاة المظلومين؟ وأين يذهب ألم المضطهدين؟ هل يدفن معهم في‬
‫التراب بعد الموت؟‬

‫إن العدالة تقتضي وجود يوم للقيامة‪ .‬إن الخير ل ينتصر دائما في الحياة‪ .‬أحيانا ينظم الشر‬
‫جيوشه ويقتل حملة الخير‪ .‬هل تذهب هذه الجريمة بغير عقاب؟‬

‫إن ظلما عظيما يتأكد لو افترضنا أن يوم القيامة لن يجئ‪ .‬ولقد حرم الله تعالى الظلم على‬
‫نفسه وجعله محرما بين عباده‪ .‬ومن تمام العدل وجود يوم للقيامة والحساب والجزاء‪ .‬ذلك أن‬
‫يوم القيامة هو اليوم الذي تعاد فيه جميع القضايا مرة أخرى أمام الخالق‪ ،‬ويعاد نظرها مرة‬
‫أخرى‪ .‬ويحكم فيها رب العالمين سبحانه‪ .‬هذه هي الضرورة الولى ليوم القيامة‪ ،‬وهي تتصل‬
‫بعدالة الله ذاته‪.‬‬

‫وثمة ضرورة أخرى ليوم القيامة‪ ،‬وهي تتصل بسلوك النسان نفسه‪ .‬إن العتقاد بيوم الدين‪،‬‬
‫واليمان ببعث الجساد‪ ،‬والوقوف للحساب‪ ،‬ثم تلقي الثواب والعقاب‪ ،‬ودخول الجنة أو النار‪،‬‬
‫هذا شيء من شأنه أن يعلق أنظار البشر وقلوبهم بعالم أخر بعد عالم الرض‪ ،‬فل تستبد بهم‬
‫ضرورات الحياة‪ ،‬ول يستعبدهم الطمع‪ ،‬ول تتملكهم النانية‪ ،‬ول يقلقهم أنهم لم يحققوا جزاء‬
‫سعيهم في عمرهم القصير المحدود‪ ،‬وبذلك يسمو النسان على الطين الذي خلق منه إلى‬
‫الروح الذي نفخه ربه فيه‪ .‬ولعل مفترق الطريق بين الخضوع لتصورات الرض وقيمها‬
‫وموازينها‪ ،‬والتعلق بقيم الله العليا‪ ،‬والنطلق اللئق بالنسان‪ ،‬يكمن في اليمان بيوم القيامة‪.‬‬

‫حدثهم هود بهذا كله فاستمعوا إليه وكذبوه‪ .‬قالوا له هيهات هيهات‪ ..‬واستغربوا أن يبعث الله‬
‫من في القبور‪ ،‬استغربوا أن يعيد الله خلق النسان بعد تحوله إلى التراب‪ ،‬رغم أنه خلقه من‬
‫قبل من التراب‪ .‬وطبقا للمقاييس البشرية‪ ،‬كان ينبغي أن يحس المكذبون للبعث أن إعادة‬
‫خلق النسان من التراب والعظام أسهل من خلقه الول‪ .‬لقد بدأ الله الخلق فأي صعوبة في‬
‫إعادته؟! إن الصعوبة ‪-‬طبقا للمقياس البشري‪ -‬تكمن في الخلق‪ .‬وليس المقياس البشري غير‬
‫س بشري ينطبق على الناس‪ ،‬أما الله‪ ،‬فليست هناك أمور صعبة أو سهلة بالنسبة إليه‬ ‫مقيا ٍ‬
‫سبحانه‪ ،‬تجري المور بالنسبة إليه سبحانه بمجرد المر‪.‬‬

‫موقف المل من دعوة هود‪:‬‬

‫يروي المولى عزل وجل موقف المل )وهم الرؤساء( من دعوة هود عليه السلم‪ .‬سنرى هؤلء‬
‫المل في كل قصص النبياء‪ .‬سنرى رؤساء القوم وأغنيائهم ومترفيهم يقفون ضد النبياء‪.‬‬
‫َ‬
‫م ِفي ال ْ َ‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا( من مواقع الثراء والغنى والترف‪ ،‬يولد‬ ‫يصفهم الله تعالى بقوله‪) :‬وَأت َْرفَْناهُ ْ‬

‫‪16‬‬
‫الحرص على استمرار المصالح الخاصة‪ .‬ومن مواقع الثراء والغنى والترف والرياسة‪ ،‬يولد‬
‫الكبرياء‪ .‬ويلتفت الرؤساء في القوم إلى أنفسهم ويتساءلون‪ :‬أليس هذا النبي بشرا مثلنا‪ ،‬يأكل‬
‫مما نأكل‪ ،‬ويشرب مما نشرب؟ بل لعله بفقره يأكل أقل مما نأكل‪ ،‬ويشرب في أكواب صدئة‪،‬‬
‫ونحن نشرب في أكواب الذهب والفضة‪ ..‬كيف يدعي أنه على الحق ونحن على الباطل؟ هذا‬
‫بشر ‪ ..‬كيف نطيع بشرا مثلنا؟ ثم‪ ..‬لماذا اختار الله بشرا من بيننا ليوحى إليه؟‬

‫قال رؤساء قوم هود‪ :‬أليس غريبا أن يختار الله من بيننا بشرا ويوحي إليه؟!‬
‫تسائل هو‪ :‬ما هو الغريب في ذلك؟ إن الله الرحيم بكم قد أرسلني إليكم لحذركم‪ .‬إن سفينة‬
‫نوح‪ ،‬وقصة نوح ليست ببعيدة عنكم‪ ،‬ل تنسوا ما حدث‪ ،‬لقد هلك الذين كفروا بالله‪ ،‬وسيهلك‬
‫الذين يكفرون بالله دائما‪ ،‬مهما يكونوا أقوياء‪.‬‬
‫قال رؤساء قوم هود‪ :‬من الذي سيهلكنا يا هود؟‬
‫قال هود‪ :‬الله ‪.‬‬
‫قال الكافرون من قوم هود‪ :‬ستنجينا آلهتنا‪.‬‬

‫وأفهمهم هود أن هذه اللهة التي يعبدونها لتقربهم من الله‪ ،‬هي نفسها التي تبعدهم عن الله‪.‬‬
‫أفهمهم أن الله هو وحده الذي ينجي الناس‪ ،‬وأن أي قوة أخرى في الرض ل تستطيع أن تضر‬
‫أو تنفع‪.‬‬

‫واستمر الصراع بين هود وقومه‪ .‬وكلما استمر الصراع ومرت اليام‪ ،‬زاد قوم هود استكبارا‬
‫وعنادا وطغيانا وتكذيبا لنبيهم‪ .‬وبدءوا يتهمون "هودا" عليه السلم بأنه سفيه مجنون‪.‬‬

‫قالوا له يوما‪ :‬لقد فهمنا الن سر جنونك‪ .‬إنك تسب آلهتنا وقد غضبت آلهتنا عليك‪ ،‬وبسبب‬
‫غضبها صرت مجنونا‪.‬‬

‫انظروا للسذاجة التي وصل إليها تفكيرهم‪ .‬إنهم يظنون أن هذه الحجارة لها قوى على من‬
‫صنعها‪ .‬لها تأثير على النسان مع أنا ل تسمع ول ترى ول تنطق‪ .‬لم يتوقف هود عند هذيانهم‪،‬‬
‫عن‬
‫كي آل ِهَت َِنا َ‬
‫ن ب َِتارِ ِ‬
‫ح ُ‬
‫ما ن َ ْ‬
‫ولم يغضبه أن يظنوا به الجنون والهذيان‪ ،‬ولكنه توقف عند قولهم‪) :‬وَ َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ن لَ َ‬
‫ك بِ ُ‬ ‫ح ُ‬
‫ما ن َ ْ‬ ‫قَوْل ِ َ‬
‫ك وَ َ‬

‫بعد هذا التحدي لم يبق لهود إل التحدي‪ .‬لم يبق له إل التوجه إلى الله وحده‪ .‬لم يبق أمامه إل‬
‫إنذار أخير ينطوي على وعيد للمكذبين وتهديدا لهم‪ ..‬وتحدث هود‪:‬‬
‫َ‬ ‫ل إ ِّني أ ُ ْ‬
‫ن)‬ ‫كو َ‬‫شرِ ُ‬ ‫ما ت ُ ْ‬ ‫م ّ‬
‫ريٌء ّ‬ ‫دوا ْ أّني ب َ ِ‬ ‫شهَ ُ‬ ‫شهِد ُ الل ّهِ َوا ْ‬ ‫سوٍَء َقا َ‬ ‫ض آل ِهَت َِنا ب ِ ُ‬ ‫ك ب َعْ ُ‬ ‫ل إ ِل ّ اع ْت ََرا َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ِإن ن ّ ُ‬
‫دآب ّةٍ‬‫من َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ُ‬
‫ت ع َلى اللهِ َرّبي وََرب ّكم ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ن )‪ (55‬إ ِّني ت َوَكل ُ‬ ‫م ل ُتنظ ُِرو ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ميًعا ث ّ‬ ‫ج ِ‬ ‫دوِني َ‬ ‫كي ُ‬ ‫َ‬
‫دون ِهِ ف ِ‬ ‫من ُ‬ ‫‪ِ (54‬‬
‫ْ‬ ‫كم ما أ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫قد أ َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫ت بِ ِ‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫ر‬
‫ّ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫غ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫َ ْ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫إن‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫(‬‫‪56‬‬ ‫)‬ ‫ٍ‬ ‫م‬ ‫قي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫س‬‫ْ‬ ‫م‬
‫ّ‬ ‫ط‬
‫ٍ‬ ‫را‬ ‫َ‬ ‫ص‬
‫ِ‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫بي‬‫ّ‬ ‫ر‬ ‫ن‬
‫َ ِ َ‬‫ّ‬ ‫إ‬ ‫ها‬‫ِ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫ص‬
‫ِ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ٌ‬ ‫ذ‬ ‫خ‬‫ِ‬ ‫آ‬ ‫إ ِل ّ هُ َ‬
‫و‬
‫فيظ )‪) (57‬هود(‬ ‫ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫يٍء َ‬ ‫ى كل ش ْ‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إ ِل َي ْك ُ ْ‬
‫ن َرّبي ع َل َ‬ ‫ه شي ْئا إ ِ ّ‬ ‫ضّرون َ ُ‬ ‫م وَل ت َ ُ‬ ‫ما غي َْرك ْ‬ ‫ف َرّبي قوْ ً‬ ‫خل ِ ُ‬ ‫ست َ ْ‬‫م وَي َ ْ‬

‫إن النسان ليشعر بالدهشة لهذه الجرأة في الحق‪ .‬رجل واحد يواجه قوما غلظا شدادا‬
‫وحمقى‪ .‬يتصورون أن أصنام الحجارة تستطيع اليذاء‪ .‬إنسان بمفرده يقف ضد جبارين فيسفه‬
‫عقيدتهم‪ ،‬ويتبرأ منهم ومن آلهتهم‪ ،‬ويتحداهم أن يكيدوا له بغير إبطاء أو إهمال‪ ،‬فهو على‬
‫استعداد لتلقي كيدهم‪ ،‬وهو على استعداد لحربهم فقد توكل على الله‪ .‬والله هو القوي بحق‪،‬‬
‫وهو الخذ بناصية كل دابة في الرض‪ .‬سواء الدواب من الناس أو دواب الوحوش أو الحيوان‪.‬‬
‫ل شيء يعجز الله‪.‬‬

‫بهذا اليمان بالله‪ ،‬والثقة بوعده‪ ،‬والطمئنان إلى نصره‪ ..‬يخاطب هود الذين كفروا من قومه‪.‬‬
‫وهو يفعل ذلك رغم وحدته وضعفه‪ ،‬لنه يقف مع المن الحقيقي ويبلغ عن الله‪ .‬وهو في حديثه‬
‫يفهم قومه أنه أدى المانة‪ ،‬وبلغ الرسالة‪ .‬فإن كفروا فسوف يستخلف الله قوما غيرهم‪ ،‬سوف‬
‫يستبدل بهم قوما آخرين‪ .‬وهذا معناه أن عليهم أن ينتظروا العذاب‪.‬‬

‫هلك عاد‪:‬‬

‫‪17‬‬
‫وهكذا أعلن هود لهم براءته منهم ومن آلهتهم‪ .‬وتوكل على الله الذي خلقه‪ ،‬وأدرك أن العذاب‬
‫واقع بمن كفر من قومه‪ .‬هذا قانون من قوانين الحياة‪ .‬يعذب الله الذين كفروا‪ ،‬مهما كانوا‬
‫أقوياء أو أغنياء أو جبابرة أو عمالقة‪.‬‬

‫انتظر هود وانتظر قومه وعد الله‪ .‬وبدأ الجفاف في الرض‪ .‬لم تعد السماء تمطر‪ .‬وهرع قوم‬
‫هود إليه‪ .‬ما هذا الجفاف يا هود؟ قال هود‪ :‬إن الله غاضب عليكم‪ ،‬ولو آمنتم فسوف يرضى‬
‫الله عنكم ويرسل المطر فيزيدكم قوة إلى قوتكم‪ .‬وسخر قوم هود منه وزادوا في العناد‬
‫والسخرية والكفر‪ .‬وزاد الجفاف‪ ،‬واصفرت الشجار الخضراء ومات الزرع‪ .‬وجاء يوم فإذا‬
‫مط ُِرَنا(‪.‬‬‫م ْ‬
‫ض ّ‬
‫عارِ ٌ‬ ‫سحاب عظيم يمل السماء‪ .‬وفرح قوم هود وخرجوا من بيوتهم يقولون‪) :‬هَ َ‬
‫ذا َ‬

‫تغير الجو فجأة‪ .‬من الجفاف الشديد والحر إلى البرد الشديد القارس‪ .‬بدأت الرياح تهب‪.‬‬
‫ارتعش كل شيء‪ ،‬ارتعشت الشجار والنباتات والرجال والنساء والخيام‪ .‬واستمرت الريح‪ .‬ليلة‬
‫بعد ليلة‪ ،‬ويوما بعد يوم‪ .‬كل ساعة كانت برودتها تزداد‪ .‬وبدأ قوم هود يفرون‪ ،‬أسرعوا إلى‬
‫الخيام واختبئوا داخلها‪ ،‬اشتد هبوب الرياح واقتلعت الخيام‪ ،‬واختبئوا تحت الغطية‪ ،‬فاشتد‬
‫هبوب الرياح وتطايرت الغطية‪ .‬كانت الرياح تمزق الملبس وتمزق الجلد وتنفذ من فتحات‬
‫الجسم وتدمره‪ .‬ل تكاد الريح تمس شيئا إل قتلته ودمرته‪ ،‬وجعلته كالرميم‪.‬‬

‫استمرت الرياح مسلطة عليهم سبع ليال وثمانية أيام لم تر الدنيا مثلها قط‪ .‬ثم توقفت الريح‬
‫بإذن ربها‪ .‬لم يعد باقيا ممن كفر من قوم هود إل ما يبقى من النخل الميت‪ .‬مجرد غلف‬
‫خارجي ل تكاد تضع يدك عليه حتى يتطاير ذرات في الهواء‪ .‬نجا هود ومن آمن معه‪ ..‬وهلك‬
‫الجبابرة‪ ..‬وهذه نهاية عادلة لمن يتحدى الله ويستكبر عن عبادته‪.‬‬

‫صالح عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫أرسله الله إلى قوم ثمود وكانوا قوما جاحدين آتاهم الله رزقا كثيرا ولكنهم عصوا ربهم وعبدوا‬
‫الصنام وتفاخروا بينهم بقوتهم فبعث الله إليهم صالحا مبشرا ومنذرا ولكنهم كذبوه وعصوه‬
‫وطالبوه بأن يأتي بآية ليصدقوه فأتاهم بالناقة وأمرهم أن ل يؤذوها ولكنهم أصروا على كبرهم‬
‫فعقروا الناقة وعاقبهم الله بالصاعقة فصعقوا جزاء لفعلتهم ونجى الله صالحا والمؤمنين‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫إرسال صالح عليه السلم لثمود‪:‬‬

‫جاء قوم ثمود بعد قوم عاد‪ ،‬وتكررت قصة العذاب بشكل مختلف مع ثمود‪ .‬كانت ثمود قبيلة‬
‫تعبد الصنام هي الخرى‪ ،‬فأرسل الله سيدنا "صالحا" إليهم‪ ..‬وقال صالح لقومه‪َ) :‬يا قَوْم ِ‬
‫ن إ َِلـهٍ غ َي ُْرهُ( نفس الكلمة التي يقولها كل نبي‪ ..‬ل تتبدل ول تتغير‪ ،‬كما أن‬
‫م ْ‬ ‫ما ل َ ُ‬
‫كم ّ‬ ‫دوا ْ الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫اع ْب ُ ُ‬
‫الحق ل يتبدل ول يتغير‪.‬‬

‫فوجئ الكبار من قوم صالح بما يقوله‪ ..‬إنه يتهم آلهتهم بأنها بل قيمة‪ ،‬وهو ينهاهم عن عبادتها‬
‫ويأمرهم بعبادة الله وحده‪ .‬وأحدثت دعوته هزة كبيرة في المجتمع‪ ..‬وكان صالح معروفا‬
‫بالحكمة والنقاء والخير‪ .‬كان قومه يحترمونه قبل أن يوحي الله إليه ويرسله بالدعوة إليهم‪..‬‬
‫وقال قوم صالح له‪:‬‬
‫َ‬ ‫هـ َ َ‬
‫ما‬
‫م ّ‬ ‫ش ّ‬
‫ك ّ‬ ‫ما ي َعْب ُد ُ آَباؤ َُنا وَإ ِن َّنا ل َ ِ‬
‫في َ‬ ‫ذا أت َن َْهاَنا أن ن ّعْب ُد َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫وا قَب ْ َ‬
‫ج ّ‬‫مْر ُ‬
‫ت ِفيَنا َ‬ ‫ح قَد ْ ُ‬
‫كن َ‬ ‫َقاُلوا ْ َيا َ‬
‫صال ِ ُ‬
‫ب )‪) (62‬هود(‬ ‫ري ٍ‬ ‫م ِ‬ ‫َ‬
‫عوَنا إ ِلي ْهِ ُ‬‫ت َد ْ ُ‬

‫تأمل وجهة نظر الكافرين من قوم صالح‪ .‬إنهم يدلفون إليه من باب شخصي بحت‪ .‬لقد كان لنا‬
‫رجاء فيك‪ .‬كنت مرجوا فينا لعلمك وعقلك وصدقك وحسن تدبيرك‪ ،‬ثم خاب رجاؤنا فيك‪..‬‬

‫‪18‬‬
‫أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟! يا للكارثة‪ ..‬كل شيء يا صالح إل هذا‪ .‬ما كنا نتوقع منك أن تعيب‬
‫آلهتنا التي وجدنا آبائنا عاكفين عليها‪ ..‬وهكذا يعجب القوم مما يدعوهم إليه‪ .‬ويستنكرون ما هو‬
‫واجب وحق‪ ،‬ويدهشون أن يدعوهم أخوهم صالح إلى عبادة الله وحده‪ .‬لماذا؟ ما كان ذلك كله‬
‫إل لن آبائهم كانوا يعبدون هذه اللهة‪.‬‬

‫معجزة صالح عليه السلم‪:‬‬

‫ورغم نصاعة دعوة صالح عليه الصلة والسلم‪ ،‬فقد بدا واضحا أن قومه لن يصدقونه‪ .‬كانوا‬
‫يشكون في دعوته‪ ،‬واعتقدوا أنه مسحور‪ ،‬وطالبوه بمعجزة تثبت أنه رسول من الله إليهم‪.‬‬
‫وشاءت إرادة الله أن تستجيب لطلبهم‪ .‬وكان قوم ثمود ينحتون من الجبال بيوتا عظيمة‪ .‬كانوا‬
‫يستخدمون الصخر في البناء‪ ،‬وكانوا أقوياء قد فتح الله عليهم رزقهم من كل شيء‪ .‬جاءوا بعد‬
‫قوم عاد فسكنوا الرض التي استعمروها‪.‬‬

‫قال صالح لقومه حين طالبوه بمعجزة ليصدقوه‪:‬‬


‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ها ت َأ ْك ُ ْ‬
‫ب‬ ‫خذ َك ُ ْ‬
‫م عَ َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫سوٍء فَي َأ ُ‬
‫ها ب ِ ُ‬
‫سو َ‬ ‫ض الل ّهِ وَل َ ت َ َ‬
‫م ّ‬ ‫ل ِفي أْر ِ‬ ‫ة فَذ َُرو َ‬ ‫ة الل ّهِ ل َك ُ ْ‬
‫م آي َ ً‬ ‫هـذ ِهِ َناقَ ُ‬
‫وََيا قَوْم ِ َ‬
‫ب )‪) (64‬هود(‬ ‫ري ٌ‬ ‫قَ ِ‬

‫والية هي المعجزة‪ ،‬ويقال إن الناقة كانت معجزة لن صخرة بالجبل انشقت يوما وخرجت‬
‫منها الناقة‪ ..‬ولدت من غير الطريق المعروف للولدة‪ .‬ويقال إنها كانت معجزة لنها كانت‬
‫تشرب المياه الموجودة في البار في يوم فل تقترب بقية الحيوانات من المياه في هذا اليوم‪،‬‬
‫وقيل إنها كانت معجزة لنها كانت تدر لبنا يكفي لشرب الناس جميعا في هذا اليوم الذي‬
‫تشرب فيه الماء فل يبقى شيء للناس‪ .‬كانت هذه الناقة معجزة‪ ،‬وصفها الله سبحانه وتعالى‬
‫ه( أضافها لنفسه سبحانه بمعنى أنها ليست ناقة عادية وإنما هي معجزة من‬ ‫ة الل ّ ِ‬
‫بقوله‪َ) :‬ناقَ ُ‬
‫الله‪ .‬وأصدر الله أمره إلى صالح أن يأمر قومه بعدم المساس بالناقة أو إيذائها أو قتلها‪ ،‬أمرهم‬
‫أن يتركوها تأكل في أرض الله‪ ،‬وأل يمسوها بسوء‪ ،‬وحذرهم أنهم إذا مدوا أيديهم بالذى للناقة‬
‫فسوف يأخذهم عذاب قريب‪.‬‬

‫في البداية تعاظمت دهشة ثمود حين ولدت الناقة من صخور الجبل‪ ..‬كانت ناقة مباركة‪ .‬كان‬
‫لبنها يكفي آلف الرجال والنساء والطفال‪ .‬كان واضحا إنها ليست مجرد ناقة عادية‪ ،‬وإنما هي‬
‫آية من الله‪ .‬وعاشت الناقة بين قوم صالح‪ ،‬آمن منهم من آمن وبقي أغلبهم على العناد‬
‫والكفر‪ .‬وذلك لن الكفار عندما يطلبون من نبيهم آية‪ ،‬ليس لنهم يريدون التأكد من صدقه‬
‫واليمان به‪ ،‬وإنما لتحديه وإظهار عجزه أمام البشر‪ .‬لكن الله كان يخذلهم بتأييد أنبياءه‬
‫بمعجزات من عنده‪.‬‬

‫كان صالح عليه الصلة والسلم يحدث قومه برفق وحب‪ ،‬وهو يدعوهم إلى عبادة الله وحده‪،‬‬
‫وينبههم إلى أن الله قد أخرج لهم معجزة هي الناقة‪ ،‬دليل على صدقه وبينة على دعوته‪ .‬وهو‬
‫يرجو منهم أن يتركوا الناقة تأكل في أرض الله‪ ،‬وكل الرض أرض الله‪ .‬وهو يحذرهم أن‬
‫يمسوها بسوء خشية وقوع عذاب الله عليهم‪ .‬كما ذكرهم بإنعام الله عليهم‪ :‬بأنه جعلهم خلفاء‬
‫من بعد قوم عاد‪ ..‬وأنعم عليهم بالقصور والجبال المنحوتة والنعيم والرزق والقوة‪.‬‬
‫لكن قومه تجاوزوا كلماته وتركوه‪ ،‬واتجهوا إلى الذين آمنوا بصالح‪.‬‬

‫من ّرب ّهِ ؟!‬ ‫س ٌ‬ ‫يسألونهم سؤال استخفاف وزراية‪ :‬أ َتعل َمو َ‬
‫ل ّ‬ ‫مْر َ‬ ‫حا ّ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫ن َ‬ ‫نأ ّ‬ ‫َْ ُ َ‬
‫ن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫مُنو َ‬ ‫مؤ ِ‬ ‫سل ب ِهِ ُ‬ ‫ما أْر ِ‬ ‫قالت الفئة الضعيفة التي آمنت بصالح‪ :‬إ ِّنا ب ِ َ‬
‫ن ‪ .‬هكذا‬ ‫م ب ِهِ َ‬
‫كافُِرو َ‬ ‫منت ُْ‬‫آ‬
‫َ َ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ذ‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫با‬‫ِ ِ‬‫نا‬
‫ّ‬ ‫إ‬ ‫ْ‬ ‫ا‬‫رو‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب‬‫ْ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫س‬‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬‫فأخذت الذين كفروا العزة بالثم‪َ ..‬قا َ‬
‫باحتقار واستعلء وغضب‪.‬‬

‫تآمر المل على الناقة‪:‬‬

‫‪19‬‬
‫وتحولت الكراهية عن سيدنا صالح إلى الناقة المباركة‪ .‬تركزت عليها الكراهية‪ ،‬وبدأت‬
‫المؤامرة تنسج خيوطها ضد الناقة‪ .‬كره الكافرون هذه الية العظيمة‪ ،‬ودبروا في أنفسهم أمرا‪.‬‬

‫وفي إحدى الليالي‪ ،‬انعقدت جلسة لكبار القوم‪ ،‬وقد أصبح من المألوف أن نرى أن في قصص‬
‫النبياء هذه التدابير للقضاء على النبي أو معجزاته أو دعوته تأتي من رؤساء القوم‪ ،‬فهم من‬
‫يخافون على مصالحهم إن تحول الناس للتوحيد‪ ،‬ومن خشيتهم إلى خشية الله وحده‪ .‬أخذ‬
‫رؤساء القوم يتشاورون فيما يجب القيام به لنهاء دعوة صالح‪ .‬فأشار عليهم واحد منهم بقتل‬
‫الناقة ومن ثم قتل صالح نفسه‪.‬‬

‫وهذا هو سلح الظلمة والكفرة في كل زمان ومكان‪ ،‬يعمدون إلى القوة والسلح بدل الحوار‬
‫والنقاش بالحجج والبراهين‪ .‬لنهم يعلمون أن الحق يعلوا ول يعلى عليه‪ ،‬ومهما امتد بهم‬
‫الزمان سيظهر الحق ويبطل كل حججهم‪ .‬وهم ل يريدون أن يصلوا لهذه المرحلة‪ ،‬وقرروا‬
‫القضاء على الحق قبل أن تقوى شوكته‪.‬‬

‫لكن أحدهم قال‪ :‬حذرنا صالح من المساس بالناقة‪ ،‬وهددنا بالعذاب القريب‪ .‬فقال أحدهم‬
‫سريعا قبل أن يؤثر كلم من سبقه على عقول القوم‪ :‬أعرف من يجرأ على قتل الناقة‪ .‬ووقع‬
‫الختيار على تسعة من جبابرة القوم‪ .‬وكانوا رجال يعيثون الفساد في الرض‪ ،‬الويل لمن‬
‫يعترضهم‪.‬‬

‫هؤلء هم أداة الجريمة‪ .‬اتفق على موعد الجريمة ومكان التنفيذ‪ .‬وفي الليلة المحددة‪ .‬وبينما‬
‫كانت الناقة المباركة تنام في سلم‪ .‬انتهى المجرمون التسعة من إعداد أسلحتهم وسيوفهم‬
‫وسهامهم‪ ،‬لرتكاب الجريمة‪ .‬هجم الرجال على الناقة فنهضت الناقة مفزوعة‪ .‬امتدت اليدي‬
‫الثمة القاتلة إليها‪ .‬وسالت دمائها‪.‬‬

‫هلك ثمود‪:‬‬

‫علم النبي صالح بما حدث فخرج غاضبا على قومه‪ .‬قال لهم‪ :‬ألم أحذركم من أن تمسوا‬
‫الناقة؟‬
‫قالوا‪ :‬قتلناها فأتنا بالعذاب واستعجله‪ ..‬ألم تقل أنك من المرسلين؟‬
‫ب‬ ‫مك ْ ُ‬
‫ذو ٍ‬ ‫ة أ َّيام ٍ ذ َل ِ َ‬
‫ك وَع ْد ٌ غ َي ُْر َ‬ ‫م ث َل َث َ َ‬ ‫مت ُّعوا ْ ِفي َ‬
‫دارِك ُ ْ‬ ‫قال صالح لقومه‪ :‬ت َ َ‬

‫بعدها غادر صالح قومه‪ .‬تركهم ومضى‪ .‬انتهى المر ووعده الله بهلكهم بعد ثلثة أيام‪.‬‬

‫ومرت ثلثة أيام على الكافرين من قوم صالح وهم يهزءون من العذاب وينتظرون‪ ،‬وفي فجر‬
‫اليوم الرابع‪ :‬انشقت السماء عن صيحة جبارة واحدة‪ .‬انقضت الصيحة على الجبال فهلك فيها‬
‫كل شيء حي‪ .‬هي صرخة واحدة‪ ..‬لم يكد أولها يبدأ وآخرها يجيء حتى كان كفار قوم صالح‬
‫قد صعقوا جميعا صعقة واحدة‪.‬‬

‫هلكوا جميعا قبل أن يدركوا ما حدث‪ .‬أما الذين آمنوا بسيدنا صالح‪ ،‬فكانوا قد غادروا المكان‬
‫مع نبيهم ونجوا‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫إبراهيم عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫هو خليل الله‪ ،‬اصطفاه الله برسالته وفضله على كثير من خلقه‪ ،‬كان إبراهيم يعيش في قوم‬
‫يعبدون الكواكب‪ ،‬فلم يكن يرضيه ذلك‪ ،‬وأحس بفطرته أن هناك إلها أعظم حتى هداه الله‬
‫واصطفاه برسالته‪ ،‬وأخذ إبراهيم يدعو قومه لوحدانية الله وعبادته ولكنهم كذبوه وحاولوا‬
‫إحراقه فأنجاه الله من بين أيديهم‪ ،‬جعل الله النبياء من نسل إبراهيم فولد له إسماعيل‬
‫وإسحاق‪ ،‬قام إبراهيم ببناء الكعبة مع إسماعيل‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫منزلة إبراهيم عليه السلم‪:‬‬

‫هو أحد أولي العزم الخمسة الكبار الذين اخذ الله منهم ميثاقا غليظا‪ ،‬وهم‪ :‬نوح وإبراهيم‬
‫وموسى وعيسى ومحمد‪ ..‬بترتيب بعثهم‪ .‬وهو النبي الذي ابتله الله ببلء مبين‪ .‬بلء فوق قدرة‬
‫البشر وطاقة العصاب‪ .‬ورغم حدة الشدة‪ ،‬وعنت البلء‪ ..‬كان إبراهيم هو العبد الذي وفى‪.‬‬
‫وزاد على الوفاء بالحسان‪.‬‬

‫وقد كرم الله تبارك وتعالى إبراهيم تكريما خاصا‪ ،‬فجعل ملته هي التوحيد الخالص النقي من‬
‫الشوائب‪ .‬وجعل العقل في جانب الذين يتبعون دينه‪.‬‬

‫وكان من فضل الله على إبراهيم أن جعله الله إماما للناس‪ .‬وجعل في ذريته النبوة والكتاب‪.‬‬
‫فكل النبياء من بعد إبراهيم هم من نسله فهم أولده وأحفاده‪ .‬حتى إذا جاء آخر النبياء محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ ،‬جاء تحقيقا واستجابة لدعوة إبراهيم التي دعا الله فيها أن يبعث في‬
‫الميين رسول منهم‪.‬‬

‫ولو مضينا نبحث في فضل إبراهيم وتكريم الله له فسوف نمتلئ بالدهشة‪ .‬نحن أمام بشر جاء‬
‫ربه بقلب سليم‪ .‬إنسان لم يكد الله يقول له أسلم حتى قال أسلمت لرب العالمين‪ .‬نبي هو‬
‫أول من سمانا المسلمين‪ .‬نبي كان جدا وأبا لكل أنبياء الله الذين جاءوا بعده‪ .‬نبي هادئ‬
‫متسامح حليم أواه منيب‪.‬‬

‫يذكر لنا ربنا ذو الجلل والكرام أمرا آخر أفضل من كل ما سبق‪ .‬فيقول الله عز وجل في‬
‫خِليل ً( لم يرد في كتاب الله ذكر لنبي‪ ،‬اتخذه الله خليل غير‬
‫م َ‬
‫هي َ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬
‫ه إ ِب َْرا ِ‬ ‫محكم آياته‪َ) :‬وات ّ َ‬
‫خلة هي شدة المحبة‪ .‬وبذلك تعني الية‪ :‬واتخذ الله إبراهيم حبيبا‪ .‬فوق‬ ‫ّ‬ ‫إبراهيم‪ .‬قال العلماء‪ :‬ال ُ‬
‫هذه القمة الشامخة يجلس إبراهيم عليه الصلة والسلم‪ .‬إن منتهى أمل السالكين‪ ،‬وغاية‬
‫هدف المحققين والعارفين بالله‪ ..‬أن يحبوا الله عز وجل‪ .‬أما أن يحلم أحدهم أن يحبه الله‪ ،‬أن‬
‫خّلة وهي شدة المحبة‪ ..‬فذلك شيء وراء آفاق التصور‪ .‬كان‬ ‫يفرده بالحب‪ ،‬أن يختصه بال ُ‬
‫إبراهيم هو هذا العبد الرباني الذي استحق أن يتخذه الله خليل‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫حال المشركين قبل بعثة إبراهيم‪:‬‬

‫ل يتحدث القرآن عن ميلده أو طفولته‪ ،‬ول يتوقف عند عصره صراحة‪ ،‬ولكنه يرسم صورة لجو‬
‫الحياة في أيامه‪ ،‬فتدب الحياة في عصره‪ ،‬وترى الناس قد انقسموا ثلث فئات‪:‬‬

‫فئة تعبد الصنام والتماثيل الخشبية والحجرية‪.‬‬ ‫•‬


‫وفئة تعبد الكواكب والنجوم والشمس والقمر‪.‬‬ ‫•‬
‫وفئة تعبد الملوك والحكام‪.‬‬ ‫•‬

‫نشأة إبراهيم عليه السلم‪:‬‬

‫وفي هذا الجو ولد إبراهيم‪ .‬ولد في أسرة من أسر ذلك الزمان البعيد‪ .‬لم يكن رب السرة‬
‫كافرا عاديا من عبدة الصنام‪ ،‬كان كافرا متميزا يصنع بيديه تماثيل اللهة‪ .‬وقيل أن أباه مات‬
‫قبل ولدته فرباه عمه‪ ،‬وكان له بمثابة الب‪ ،‬وكان إبراهيم يدعوه بلفظ البوة‪ ،‬وقيل أن أباه لم‬
‫يمت وكان آزر هو والده حقا‪ ،‬وقيل أن آزر اسم صنم اشتهر أبوه بصناعته‪ ..‬ومهما يكن من أمر‬
‫فقد ولد إبراهيم في هذه السرة‪.‬‬

‫رب السرة أعظم نحات يصنع تماثيل اللهة‪ .‬ومهنة الب تضفي عليه قداسة خاصة في قومه‪،‬‬
‫وتجعل لسرته كلها مكانا ممتازا في المجتمع‪ .‬هي أسرة مرموقة‪ ،‬أسرة من الصفوة الحاكمة‪.‬‬

‫من هذه السرة المقدسة‪ ،‬ولد طفل قدر له أن يقف ضد أسرته وضد نظام مجتمعه وضد‬
‫أوهام قومه وضد ظنون الكهنة وضد العروش القائمة وضد عبدة النجوم والكواكب وضد كل‬
‫أنواع الشرك باختصار‪.‬‬

‫مرت اليام‪ ..‬وكبر إبراهيم‪ ..‬كان قلبه يمتل من طفولته بكراهية صادقة لهذه التماثيل التي‬
‫يصنعها والده‪ .‬لم يكن يفهم كيف يمكن لنسان عاقل أن يصنع بيديه تمثال‪ ،‬ثم يسجد بعد ذلك‬
‫لما صنع بيديه‪ .‬لحظ إبراهيم إن هذه التماثيل ل تشرب ول تأكل ول تتكلم ول تستطيع أن‬
‫تعتدل لو قلبها أحد على جنبها‪ .‬كيف يتصور الناس أن هذه التماثيل تضر وتنفع؟!‬

‫مواجهة عبدة الكواكب والنجوم‪:‬‬

‫قرر إبراهيم عليه السلم مواجهة عبدة النجوم من قومه‪ ،‬فأعلن عندما رأى أحد الكواكب في‬
‫الليل‪ ،‬أن هذا الكوكب ربه‪ .‬ويبدو أن قومه اطمأنوا له‪ ،‬وحسبوا أنه يرفض عبادة التماثيل‬
‫ويهوى عبادة الكواكب‪ .‬وكانت الملحة حرة بين الوثنيات الثلث‪ :‬عبادة التماثيل والنجوم‬
‫والملوك‪ .‬غير أن إبراهيم كان يدخر لقومه مفاجأة مذهلة في الصباح‪ .‬لقد أفل الكوكب الذي‬
‫التحق بديانته بالمس‪ .‬وإبراهيم ل يحب الفلين‪ .‬فعاد إبراهيم في الليلة الثانية يعلن لقومه أن‬
‫القمر ربه‪ .‬لم يكن قومه على درجة كافية من الذكاء ليدركوا أنه يسخر منهم برفق ولطف‬
‫وحب‪ .‬كيف يعبدون ربا يختفي ثم يظهر‪ .‬يأفل ثم يشرق‪ .‬لم يفهم قومه هذا في المرة الولى‬
‫فكرره مع القمر‪ .‬لكن القمر كالزهرة كأي كوكب آخر‪ ..‬يظهر ويختفي‪ .‬فقال إبراهيم عدما أفل‬
‫ن( نلحظ هنا أنه عندما يحدث قومه عن‬ ‫ضاّلي َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫قوْم ِ ال ّ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫م ي َهْد ِِني َرّبي ل ُ‬
‫كون َ ّ‬ ‫القمر )ل َِئن ل ّ ْ‬
‫رفضه للوهية القمر‪ ..‬فإنه يمزق العقيدة القمرية بهدوء ولطف‪ .‬كيف يعبد الناس ربا يختفي‬
‫م ي َهْد ِِني َرّبي( يفهمهم أن له ربا غير كل ما يعبدون‪ .‬غير أن اللفتة ل تصل إليهم‪.‬‬ ‫ويأفل‪) .‬ل َِئن ل ّ ْ‬
‫ويعاود إبراهيم محاولته في إقامة الحجة على الفئة الولى من قومه‪ ..‬عبدة الكواكب والنجوم‪.‬‬
‫فيعلن أن الشمس ربه‪ ،‬لنها أكبر من القمر‪ .‬وما أن غابت الشمس‪ ،‬حتى أعلن براءته من‬
‫عبادة النجوم والكواكب‪ .‬فكلها مغلوقات تأفل‪ .‬وأنهى جولته الولى بتوجيهه وجهه للذي فطر‬
‫السماوات والرض حنيفا‪ ..‬ليس مشركا مثلهم‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫استطاعت حجة إبراهيم أن تظهر الحق‪ .‬وبدأ صراع قومه معه‪ .‬لم يسكت عنه عبدة النجوم‬
‫والكواكب‪ .‬بدءوا جدالهم وتخويفهم له وتهديده‪ .‬ورد إبراهيم عليهم قال‪:‬‬

‫سعَ َرّبي ك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫شي ًْئا وَ ِ‬‫شاء َرّبي َ‬ ‫ن ب ِهِ إ ِل ّ َأن ي َ َ‬ ‫شرِ ُ‬
‫كو َ‬ ‫ما ت ُ ْ‬‫ف َ‬ ‫خا ُ‬ ‫ن وَل َ أ َ َ‬ ‫جوّني ِفي الل ّهِ وَقَد ْ هَ َ‬
‫دا ِ‬ ‫حا ّ‬
‫َ‬
‫أت ُ َ‬
‫ما ل َ ْ‬
‫م‬ ‫شَرك ُْتم ِبالل ّهِ َ‬ ‫م أَ ْ‬ ‫خاُفو َ‬
‫ن أن ّك ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫شَرك ْت ُ ْ‬
‫م وَل َ ت َ َ‬ ‫ما أ َ ْ‬‫ف َ‬ ‫خا ُ‬ ‫ف أَ َ‬‫ن )‪ (80‬وَك َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫ما أفَل َ ت َت َذ َك ُّرو َ‬ ‫عل ْ ً‬
‫يٍء ِ‬‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫ن )‪) (81‬النعام(‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫مو َ‬ ‫م ت َعْل ُ‬
‫ن ِإن كنت ُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫حقّ ِبال ْ‬ ‫نأ َ‬ ‫قي ْ ِ‬‫ري َ‬
‫ف ِ‬‫سلطاًنا فأيّ ال َ‬ ‫م ُ‬ ‫ي ُن َّزل ب ِهِ ع َلي ْك ْ‬

‫ل نعرف رهبة الهجوم عليه‪ .‬ول حدة الصراع ضده‪ ،‬ول أسلوب قومه الذي اتبعه معه لتخويفه‪.‬‬
‫تجاوز القرآن هذا كله إلى رده هو‪ .‬كان جدالهم باطل فأسقطه القرآن من القصة‪ ،‬وذكر رد‬
‫إبراهيم المنطقي العاقل‪ .‬كيف يخوفونه ول يخافون هم؟ أي الفريقين أحق بالمن؟‬

‫بعد أن بين إبراهيم عليه السلم حجته لفئة عبدة النجوم والكواكب‪ ،‬استعد لتبيين حجته لعبدة‬
‫الصنام‪ .‬آتاه الله الحجة في المرة الولى كما سيؤتيه الحجة في كل مرة‪.‬‬

‫سبحانه‪ ..‬كان يؤيد إبراهيم ويريه ملكوت السماوات والرض‪ .‬لم يكن معه غير إسلمه حين بدأ‬
‫صراعه مع عبدة الصنام‪ .‬هذه المرة يأخذ الصراع شكل أعظم حدة‪ .‬أبوه في الموضوع‪ ..‬هذه‬
‫مهنة الب وسر مكانته وموضع تصديق القوم‪ ..‬وهي العبادة التي تتبعها الغلبية‬

‫مواجهة عبدة الصنام‪:‬‬

‫خرج إبراهيم على قومه بدعوته‪ .‬قال بحسم غاضب وغيرة على الحق‪:‬‬
‫َ‬
‫ن)‬ ‫دي َ‬
‫عاب ِ ِ‬ ‫جد َْنا آَباءَنا ل ََها َ‬‫ن )‪َ (52‬قاُلوا وَ َ‬ ‫فو َ‬ ‫م ل ََها َ‬
‫عاك ِ ُ‬ ‫ل ال ِّتي أنت ُ ْ‬‫ماِثي ُ‬
‫ما هَذ ِهِ الت ّ َ‬ ‫مهِ َ‬ ‫ل ِل َِبيهِ وَقَوْ ِ‬
‫إ ِذ ْ َقا َ‬
‫ن)‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫‪َ (53‬قال ل َ‬
‫َ‬
‫عِبي َ‬‫ن الل ِ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫م أن َ‬ ‫حق ّ أ ْ‬ ‫جئت ََنا ِبال َ‬‫ن )‪ (54‬قالوا أ ِ‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ل ّ‬ ‫ضل ٍ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫م َوآَباؤك ْ‬ ‫م أنت ُ ْ‬ ‫قد ْ كنت ُ ْ‬
‫َ‬
‫ن وَأَنا ع َلى ذ َل ِ ُ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن )‪(56‬‬ ‫دي َ‬ ‫شاه ِ ِ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬‫كم ّ‬ ‫ذي فَطَرهُ ّ‬ ‫ض ال ِ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ب ال ّ‬‫م َر ّ‬ ‫ل َبل ّرب ّك ُ ْ‬ ‫‪َ (55‬قا َ‬
‫)النبياء(‬

‫انتهى المر وبدأ الصراع بين إبراهيم وقومه‪ ..‬كان أشدهم ذهول وغضبا هو أباه أو عمه الذي‬
‫رباه كأب‪ ..‬واشتبك الب والبن في الصراع‪ .‬فصلت بينهما المبادئ فاختلفا‪ ..‬البن يقف مع‬
‫الله‪ ،‬والب يقف مع الباطل‪.‬‬

‫قال الب لبنه‪ :‬مصيبتي فيك كبيرة يا إبراهيم‪ ..‬لقد خذلتني وأسأت إلي‪.‬‬

‫قال إبراهيم‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ال ْعِل ْم ِ‬
‫م َ‬‫جاءِني ِ‬‫ت إ ِّني قَد ْ َ‬‫شي ًْئا )‪َ (42‬يا أب َ ِ‬ ‫ك َ‬ ‫عن َ‬ ‫صُر وََل ي ُغِْني َ‬ ‫معُ وََل ي ُب ْ ِ‬
‫س َ‬ ‫ما َل ي َ ْ‬
‫م ت َعْب ُد ُ َ‬
‫ت لِ َ‬ ‫َيا أب َ ِ‬
‫ن‬
‫م ِ‬ ‫ح َ‬‫ن ِللّر ْ‬ ‫ن َ‬
‫كا َ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا َ‬ ‫ن ال ّ‬‫ن إِ ّ‬‫طا َ‬‫شي ْ َ‬‫ت َل ت َعْب ُد ِ ال ّ‬ ‫َ‬
‫سوِّيا )‪َ (43‬يا أب َ ِ‬ ‫طا َ‬ ‫صَرا ً‬ ‫ك ِ‬ ‫ك َفات ّب ِعِْني أ َهْد ِ َ‬ ‫م ي َأ ْت ِ َ‬
‫ما ل َ ْ‬‫َ‬
‫ن وَل ِّيا )‪) (45‬مريم(‬ ‫شي ْ َ‬‫ن ِلل ّ‬ ‫من فَت َ ُ‬ ‫ك عَ َ‬‫س َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫طا ِ‬ ‫كو َ‬ ‫ح َ‬‫ن الّر ْ‬ ‫م َ‬‫ب ّ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م ّ‬ ‫ف أن ي َ َ‬ ‫خا ُ‬ ‫ت إ ِّني أ َ‬ ‫صّيا )‪َ (44‬يا أب َ ِ‬ ‫عَ ِ‬

‫انتفض الب واقفا وهو يرتعش من الغضب‪ .‬قال لبراهيم وهو ثائر إذا لم تتوقف عن دعوتك‬
‫هذه فسوف أرجمك‪ ،‬سأقتلك ضربا بالحجارة‪ .‬هذا جزاء من يقف ضد اللهة‪ ..‬اخرج من بيتي‪..‬‬
‫ل أريد أن أراك‪ ..‬اخرج‪.‬‬

‫انتهى المر وأسفر الصراع عن طرد إبراهيم من بيته‪ .‬كما أسفر عن تهديده بالقتل رميا‬
‫بالحجارة‪ .‬رغم ذلك تصرف إبراهيم كابن بار ونبي كريم‪ .‬خاطب أباه بأدب النبياء‪ .‬قال لبيه‬
‫ردا على الهانات والتجريح والطرد والتهديد بالقتل‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن الل ّهِ‬
‫دو ِ‬
‫من ُ‬
‫ن ِ‬
‫عو َ‬
‫ما ت َد ْ ُ‬ ‫فّيا )‪ (47‬وَأع ْت َزِل ُك ُ ْ‬
‫م وَ َ‬ ‫ح ِ‬
‫ن ِبي َ‬ ‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫فُر ل َ َ‬
‫ك َرّبي إ ِن ّ ُ‬ ‫ست َغْ ِ‬
‫سأ ْ‬ ‫م ع َل َي ْ َ‬
‫ك َ‬ ‫سَل ٌ‬ ‫َقا َ‬
‫ل َ‬
‫قّيا )‪) (48‬مريم(‬ ‫عاء َرّبي َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫سى أل أ ُ‬ ‫َ‬
‫ش ِ‬ ‫ن ب ِد ُ َ‬
‫كو َ‬ ‫عو َرّبي ع َ َ‬ ‫وَأد ْ ُ‬

‫‪23‬‬
‫وخرج إبراهيم من بيت أبيه‪ .‬هجر قومه وما يعبدون من دون الله‪ .‬وقرر في نفسه أمرا‪ .‬كان‬
‫يعرف أن هناك احتفال عظيما يقام على الضفة الخرى من النهر‪ ،‬وينصرف الناس جميعا إليه‪.‬‬
‫وانتظر حتى جاء الحتفال وخلت المدينة التي يعيش فيها من الناس‪.‬‬

‫وخرج إبراهيم حذرا وهو يقصد بخطاه المعبد‪ .‬كانت الشوارع المؤدية إلى المعبد خالية‪ .‬وكان‬
‫المعبد نفسه مهجورا‪ .‬انتقل كل الناس إلى الحتفال‪ .‬دخل إبراهيم المعبد ومعه فأس حادة‪.‬‬
‫نظر إلى تماثيل اللهة المنحوتة من الصخر والخشب‪ .‬نظر إلى الطعام الذي وضعه الناس‬
‫َ ْ‬
‫ن( كان يسخر منهم ويعرف‬ ‫أمامها كنذور وهدايا‪ .‬اقترب إبراهيم من التماثيل وسألهم‪) :‬أَل ت َأك ُُلو َ‬
‫ن( ثم هوى بفأسه على اللهة‪.‬‬ ‫م َل َتنط ِ ُ‬
‫قو َ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬
‫أنهم ل يأكلون‪ .‬وعاد يسأل التماثيل‪َ ) :‬‬

‫وتحولت اللهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والخشاب المهشمة‪ ..‬إل كبير الصنام‬
‫ن( فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع‬ ‫م إ ِل َي ْهِ ي َْر ِ‬
‫جُعو َ‬ ‫م ل َعَل ّهُ ْ‬
‫فقد تركه إبراهيم )ل ّهُ ْ‬
‫عن صغار اللهة! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها‪ ،‬فيرجعون إلى صوابهم‪.‬‬

‫ل التقليد أفكارهم عن التأمل‬ ‫طلت الخرافة عقولهم عن التفكير‪ ،‬وغ ّ‬ ‫إل أن قوم إبراهيم الذين ع ّ‬
‫والتدبر‪ .‬لم يسألوا أنفسهم‪ :‬إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها‬
‫ن‬ ‫ه لَ ِ‬
‫م َ‬ ‫من فَعَ َ‬
‫ل هَ َ‬
‫ذا ِبآل ِهَت َِنا إ ِن ّ ُ‬ ‫شيئا؟! وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها؟! وبدل من ذلك )َقاُلوا َ‬
‫ن(‪.‬‬
‫مي َ‬ ‫ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬

‫عندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه ومن معه عبادة التماثيل‪ ،‬ويتوعدهم أن يكيد‬
‫للهتهم بعد انصرافهم عنها!‬
‫ََ‬
‫م(؟‬‫هي ُ‬
‫ذا ِبآل ِهَت َِنا َيا إ ِب َْرا ِ‬ ‫ت فَعَل ْ َ‬
‫ت هَ َ‬ ‫مع الناس‪ ،‬وسألوه )أأن َ‬ ‫فأحضروا إبراهيم عليه السلم‪ ،‬وتج ّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن( والتهكم واضح في هذا‬ ‫قو َ‬ ‫َ‬
‫م ِإن كاُنوا َينط ِ ُ‬
‫سألوهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م هَذا فا ْ‬ ‫ل فَعَل َ ُ‬
‫ه ك َِبيُرهُ ْ‬ ‫فأجابهم إبراهيم )ب َ ْ‬
‫الجواب الساخر‪ .‬فل داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم ‪-‬عليه السلم‪ -‬والبحث عن تعليلها‬
‫بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون‪ .‬فالمر أيسر من هذا بكثير! إنما أراد أن يقول لهم‪:‬‬
‫إن هذه التماثيل ل تدري من حطمها إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي ل يملك مثلها حراكا‪.‬‬
‫فهي جماد ل إدراك له أصل‪ .‬وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الدراك ل تميزون بين الجائز‬
‫والمستحيل‪ .‬فل تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أم أن هذا التمثال هو الذي حطمها!‬

‫ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا‪ ،‬وردهم إلى شيء من التدبر التفكر‪:‬‬

‫م ال ّ‬ ‫قاُلوا إنك ُ َ‬
‫م فَ َ‬ ‫جُعوا إ َِلى َأن ُ‬
‫ن )‪) (64‬النبياء(‬
‫مو َ‬
‫ظال ِ ُ‬ ‫م أنت ُ ُ‬
‫ِّ ْ‬ ‫سهِ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫فََر َ‬

‫وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف‪ ،‬وما في عبادتهم لهذه التماثيل من‬
‫ظلم‪ .‬وأن تتفتح بصيرتهم لول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم‪ ،‬وذلك‬
‫الظلم الذي هم فيه سادرون‪ .‬ولكنها لم تكن إل ومضة واحدة أعقبها الظلم‪ ،‬وإل خفقة واحدة‬
‫عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود‪:‬‬

‫ن )‪) (65‬النبياء(‬ ‫ما هَؤ َُلء َينط ِ ُ‬


‫قو َ‬ ‫ت َ‬
‫م َ‬ ‫م لَ َ‬
‫قد ْ ع َل ِ ْ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫سوا ع ََلى ُر ُ‬
‫ؤو ِ‬ ‫ثُ ّ‬
‫م ن ُك ِ ُ‬

‫وحقا كانت الولى رجعة إلى النفوس‪ ،‬وكانت الثانية نكسة على الرؤوس؛ كما يقول التعبير‬
‫القرآني المصور العجيب‪ ..‬كانت الولى حركة في النفس للنظر والتدبر‪ .‬أما الثانية فكانت‬
‫انقلبا على الرأس فل عقل ول تفكير‪ .‬وإل فإن قولهم هذا الأخير هو الحجة عليهم‪ .‬وأية حجة‬
‫لبراهيم أقوى من أن هؤلء ل ينطقون؟‬

‫ومن ثم يجيبهم بعنف وضيق على غير عادته وهو الصبور الحليم‪ .‬لن السخف هنا يجاوز صبر‬
‫الحليم‪:‬‬

‫‪24‬‬
‫ن‬
‫دو ِ‬
‫من ُ‬
‫ن ِ‬
‫دو َ‬
‫ما ت َعْب ُ ُ‬
‫م وَل ِ َ‬ ‫م )‪ (66‬أ ُ ّ‬
‫ف ل ّك ُ ْ‬ ‫شي ًْئا وََل ي َ ُ‬
‫ضّرك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫فعُك ُ ْ‬‫ما َل َين َ‬
‫ن الل ّهِ َ‬
‫دو ِ‬
‫من ُ‬
‫ن ِ‬
‫دو َ‬
‫َقا َ َ‬
‫ل أفَت َعْب ُ ُ‬
‫َ‬
‫ن )‪) (67‬النبياء(‬ ‫قُلو َ‬ ‫الل ّهِ أفََل ت َعْ ِ‬

‫وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدرن وغيظ النفس‪ ،‬والعجب من السخف الذي يتجاوز كل‬
‫مألوف‪.‬‬

‫عند ذلك أخذتهم العزة بالثم كما تأخذ الطغاة دائما حين يفقدون الحجة ويعوزهم الدليل‪،‬‬
‫فيلجأون إلى القوة الغاشمة والعذاب الغليظ‪:‬‬

‫ن )‪) (68‬النبياء(‬ ‫م َفا ِ‬


‫عِلي َ‬ ‫م ِإن ُ‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫صُروا آل ِهَت َك ُ ْ‬ ‫َقاُلوا َ‬
‫حّرُقوه ُ َوان ُ‬

‫نجاة إبراهيم عليه السلم من النار‪:‬‬

‫وفعل‪ ..‬بدأ الستعداد لحراق إبراهيم‪ .‬انتشر النبأ في المملكة كلها‪ .‬وجاء الناس من القرى‬
‫والجبال والمدن ليشهدوا عقاب الذي تجرأ على اللهة وحطمها واعترف بذلك وسخر من‬
‫الكهنة‪ .‬وحفروا حفرة عظيمة ملئوها بالحطب والخشب والشجار‪ .‬وأشعلوا فيها النار‪.‬‬
‫وأحضروا المنجنيق وهو آلة جبارة ليقذفوا إبراهيم فيها فيسقط في حفرة النار‪ ..‬ووضعوا‬
‫إبراهيم بعد أن قيدوا يديه وقدميه في المنجنيق‪ .‬واشتعلت النار في الحفرة وتصاعد اللهب إلى‬
‫السماء‪ .‬وكان الناس يقفون بعيدا عن الحفرة من فرط الحرارة اللهبة‪ .‬وأصدر كبير الكهنة‬
‫أمره بإطلق إبراهيم في النار‪.‬‬

‫جاء جبريل عليه السلم ووقف عند رأس إبراهيم وسأله‪ :‬يا إبراهيم‪ ..‬ألك حاجة؟‬

‫قال إبراهيم‪ :‬أما إليك فل‪.‬‬

‫انطلق المنجنيق ملقيا إبراهيم في حفرة النار‪ .‬كانت النار موجودة في مكانها‪ ،‬ولكنها لم تكن‬
‫سَل ً‬
‫ما‬ ‫دا وَ َ‬
‫تمارس وظيفتها في الحراق‪ .‬فقد أصدر الله جل جلله إلى النار أمره بأن تكون )ب َْر ً‬
‫م(‪ .‬أحرقت النار قيوده فقط‪ .‬وجلس إبراهيم وسطها كأنه يجلس وسط حديقة‪ .‬كان‬ ‫ع ََلى إ ِب َْرا ِ‬
‫هي َ‬
‫جده‪ .‬لم يكن في قلبه مكان خال يمكن أن يمتلئ بالخوف أو الرهبة أو‬ ‫يسّبح بحمد ربه ويم ّ‬
‫الجزع‪ .‬كان القلب مليئا بالحب وحده‪ .‬ومات الخوف‪ .‬وتلشت الرهبة‪ .‬واستحالت النار إلى‬
‫سلم بارد يلطف عنه حرارة الجو‪.‬‬

‫جلس الكهنة والناس يرقبون النار من بعيد‪ .‬كانت حرارتها تصل إليهم على الرغم من بعدهم‬
‫عنها‪ .‬وظلت النار تشتعل فترة طويلة حتى ظن الكافرون أنها لن تنطفئ أبدا‪ .‬فلما انطفأت‬
‫فوجئوا بإبراهيم يخرج من الحفرة سليما كما دخل‪ .‬ووجهه يتلل بالنور والجلل‪ .‬وثيابه كما هي‬
‫لم تحترق‪ .‬وليس عليه أي أثر للدخان أو الحريق‪.‬‬

‫خرج إبراهيم من النار كما لو كان يخرج من حديقة‪ .‬وتصاعدت صيحات الدهشة الكافرة‪.‬‬
‫خسروا جولتهم خسارة مريرة وساخرة‪.‬‬

‫م اْل َ ْ‬ ‫َ‬
‫ن )‪) (70‬النبياء(‬
‫ري َ‬
‫س ِ‬
‫خ َ‬ ‫جعَل َْناهُ ُ‬ ‫دوا ب ِهِ ك َي ْ ً‬
‫دا فَ َ‬ ‫وَأَرا ُ‬

‫ل يحدثنا القرآن الكريم عن عمر إبراهيم حين حطم أصنام قومه‪ ،‬ل يحدثنا عن السن التي‬
‫كلف فيها بالدعوة إلى الله‪ .‬ويبدو من استقراء النصوص القديمة أن إبراهيم كان شابا صغيرا‬
‫م(‪ .‬وكلمة الفتى‬
‫هي ُ‬ ‫ل لَ ُ‬
‫ه إ ِب َْرا ِ‬ ‫قا ُ‬ ‫معَْنا فًَتى ي َذ ْك ُُرهُ ْ‬
‫م يُ َ‬ ‫س ِ‬
‫حين فعل ذلك‪ ،‬بدليل قول قومه عنه‪َ ) :‬‬
‫تطلق على السن التي تسبق العشرين‪.‬‬

‫مواجهة عبدة الملوك‪:‬‬

‫‪25‬‬
‫إن زمن اصطفاء الله تعالى لبراهيم غير محدد في القرآن‪ .‬وبالتالي فنحن ل نستطيع أن نقطع‬
‫فيه بجواب نهائي‪ .‬كل ما نستطيع أن نقطع فيه برأي‪ ،‬أن إبراهيم أقام الحجة على عبدة‬
‫التماثيل بشكل قاطع‪ ،‬كما أقامها على عبدة النجوم والكواكب من قبل بشكل حاسم‪ ،‬ولم يبق‬
‫إل أن تقام الحجة على الملوك المتألهين وعبادهم‪ ..‬وبذلك تقوم الحجة على جميع الكافرين‪.‬‬

‫فذهب إبراهيم عليه السلم لملك متأّله كان في زمانه‪ .‬وتجاوز القرآن اسم الملك لنعدام‬
‫أهميته‪ ،‬لكن روي أن الملك المعاصر لبراهيم كان يلقب )بالنمرود( وهو ملك الراميين‬
‫بالعراق‪ .‬كما تجاوز حقيقة مشاعره‪ ،‬كما تجاوز الحوار الطويل الذي دار بين إبراهيم وبينه‪ .‬لكن‬
‫الله تعالى في كتابه الحكيم أخبرنا الحجة الولى التي أقامها إبراهيم عليه السلم على الملك‬
‫ت(‬‫مي ُ‬
‫حِيـي وَي ُ ِ‬ ‫ي ال ّ ِ‬
‫ذي ي ُ ْ‬ ‫الطاغية‪ ،‬فقال إبراهيم بهدوء‪َ) :‬رب ّ َ‬

‫ت( أستطيع أن أحضر رجل يسير في الشارع وأقتله‪ ،‬وأستطيع أن‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫مي ُ‬
‫حِيـي وَأ ِ‬
‫قال الملك‪) :‬أَنا أ ْ‬
‫أعفو عن محكوم عليه بالعدام وأنجيه من الموت‪ ..‬وبذلك أكون قادرا على الحياة والموت‪.‬‬

‫لم يجادل إبراهيم الملك لسذاجة ما يقول‪ .‬غير أنه أراد أن يثبت للملك أنه يتوهم في نفسه‬
‫ْ‬ ‫ه ي َأ ِْتي ِبال ّ‬
‫ت‬ ‫َ‬
‫ق فأ ِ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬
‫س ِ‬
‫م ِ‬
‫ش ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫القدرة وهو في الحقيقة ليس قادرا‪ .‬فقال إبراهيم‪) :‬فَإ ِ ّ‬
‫ب(‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫مغْرِ ِ‬ ‫م َ‬
‫ب َِها ِ‬

‫استمع الملك إلى تحدي إبراهيم صامتا‪ ..‬فلما انتهى كلم النبي بهت الملك‪ .‬أحس بالعجز ولم‬
‫يستطع أن يجيب‪ .‬لقد أثبت له إبراهيم أنه كاذب‪ ..‬قال له إن الله يأتي بالشمس من المشرق‪،‬‬
‫فهل يستطيع هو أن يأتي بها من المغرب‪ ..‬إن للكون نظما وقوانين يمشي طبقا لها‪ ..‬قوانين‬
‫خلقها الله ول يستطيع أي مخلوق أن يتحكم فيها‪ .‬ولو كان الملك صادقا في ادعائه اللوهية‬
‫فليغير نظام الكون وقوانينه‪ ..‬ساعتها أحس الملك بالعجز‪ ..‬وأخرسه التحدي‪ .‬ولم يعرف ماذا‬
‫يقول‪ ،‬ول كيف يتصرف‪ .‬انصرف إبراهيم من قصر الملك‪ ،‬بعد أن بهت الذي كفر‪.‬‬

‫هجرة إبراهيم عليه السلم‪:‬‬

‫انطلقت شهرة إبراهيم في المملكة كلها‪ .‬تحدث الناس عن معجزته ونجاته من النار‪ ،‬وتحدث‬
‫الناس عن موقفه مع الملك وكيف أخرس الملك فلم يعرف ماذا يقول‪ .‬واستمر إبراهيم في‬
‫دعوته لله تعالى‪ .‬بذل جهده ليهدي قومه‪ ،‬حاول إقناعهم بكل الوسائل‪ ،‬ورغم حبه لهم وحرصه‬
‫عليهم فقد غضب قومه وهجروه‪ ،‬ولم يؤمن معه من قومه سوى امرأة ورجل واحد‪ .‬امرأة‬
‫تسمى سارة‪ ،‬وقد صارت فيما بعد زوجته‪ ،‬ورجل هو لوط‪ ،‬وقد صار نبيا فيما بعد‪ .‬وحين أدرك‬
‫إبراهيم أن أحدا لن يؤمن بدعوته‪ .‬قرر الهجرة‪.‬‬

‫قبل أن يهاجر‪ ،‬دعا والده لليمان‪ ،‬ثم تبين لبراهيم أن والده عدو لله‪ ،‬وأنه ل ينوي اليمان‪،‬‬
‫فتبرأ منه وقطع علقته به‪.‬‬

‫للمرة الثانية في قصص النبياء نصادف هذه المفاجأة‪ .‬في قصة نوح كان الب نبيا والبن‬
‫كافرا‪ ،‬وفي قصة إبراهيم كان الب كافرا والبن نبيا‪ ،‬وفي القصتين نرى المؤمن يعلن براءته‬
‫من عدو الله رغم كونه ابنه أو والده‪ ،‬وكأن الله يفهمنا من خلل القصة أن العلقة الوحيدة‬
‫التي ينبغي أن تقوم عليها الروابط بين الناس‪ ،‬هي علقة اليمان ل علقة الميلد والدم‪.‬‬

‫خرج إبراهيم عليه السلم من بلده وبدأ هجرته‪ .‬سافر إلى مدينة تدعى أور‪ .‬ومدينة تسمى‬
‫حاران‪ .‬ثم رحل إلى فلسطين ومعه زوجته‪ ،‬المرأة الوحيدة التي آمنت به‪ .‬وصحب معه لوطا‪..‬‬
‫الرجل الوحيد الذي آمن به‪.‬‬

‫بعد فلسطين ذهب إبراهيم إلى مصر‪ .‬وطوال هذا الوقت وخلل هذه الرحلت كلها‪ ،‬كان يدعو‬
‫الناس إلى عبادة الله‪ ،‬ويحارب في سبيله‪ ،‬ويخدم الضعفاء والفقراء‪ ،‬ويعدل بين الناس‪،‬‬
‫ويهديهم إلى الحقيقة والحق‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫وتأتي بعض الروايات لتبين قصة إبراهيم عليه السلم وزوجته سارة وموقفهما مع ملك مصر‪.‬‬
‫فتقول‪:‬‬

‫وصلت الخبار لملك مصر بوصول رجل لمصر معه أمرأة هي أجمل نساء الرض‪ .‬فطمع بها‪.‬‬
‫وأرسل جنوده ليأتونه بهذه المرأة‪ .‬وأمرهم بأن يسألوا عن الرجل الذي معها‪ ،‬فإن كان زوجها‬
‫فليقتلوه‪ .‬فجاء الوحي لبراهيم عليه السلم بذلك‪ .‬فقال إبراهيم ‪-‬عليه السلم‪ -‬لسارة إن‬
‫سألوك عني فأنت أختي ‪-‬أي أخته في الله‪ ،-‬وقال لها ما على هذه الرض مؤمن غيري وغيرك‬
‫‪-‬فكل أهل مصر كفرة‪ ،‬ليس فيها موحد لله عز وجل‪ .‬فجاء الجنود وسألوا إبراهيم‪ :‬ما تكون‬
‫هذه منك؟ قال‪ :‬أختي‪.‬‬

‫لنقف هنا قليل‪ ..‬قال إبراهيم حينما قال لقومه )إني سقيم( و )بل فعله كبيرهم هذا فاسألوه( و‬
‫)هي أختي(‪ .‬كلها كلمات تحتمل التاويل‪ .‬لكن مع هذا كان إبراهيم عليه السلم خائفا جدا من‬
‫حسابه على هذه الكلمات يوم القايمة‪ .‬فعندما يذهب البشر له يوقم القيامة ليدعوا الله أن يبدأ‬
‫الحساب يقول لهم ل إني كذب على ربي ثلث مرات‪.‬‬

‫ونجد أن البشر الن يكذبون أمام الناس من غير استحياء ول خوف من خالقهم‪.‬‬

‫لما عرفت سارة أن ملك مصر فاجر ويريدها له أخذت تدعوا الله قائلة‪ :‬اللهم إن كنت تعلم‬
‫أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إل على زوجي فل تسلط علي الكافر‪.‬‬

‫فلما أدخلوها عليه‪ .‬مد يده إليها ليلمسها فش ّ‬


‫ل وتجمدت يده في مكانها‪ ،‬فبدأ بالصراخ لنه لم‬
‫يعد يستطيع تحريكها‪ ،‬وجاء أعوانه لمساعدته لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء‪ .‬فخافت سارة‬
‫على نفسها أن يقتلوها بسبب ما فعلته بالملك‪ .‬فقالت‪ :‬يا رب اتركه ل يقتلوني به‪ .‬فاستجاب‬
‫الله لدعائها‪.‬‬

‫ل‬‫لكن الملك لم يتب وظن أن ما حدث كان أمرا عابرا وذهب‪ .‬فهجم عليها مرة أخرى‪ .‬فش ّ‬
‫ل‪ .‬فقال‪ :‬فكيني وأطلقك‬ ‫ف ّ‬
‫كه‪ .‬فمد يده ثالثة فش ّ‬ ‫مرة ثانية‪ .‬فقال‪ :‬فكيني‪ .‬فدعت الله تعالى فَ َ‬
‫فك‪ .‬فصرخ الملك بأعوانه‪ :‬أبعدوها عني فإنكم لم تأتوني‬ ‫وأكرمك‪ .‬فدعت الله سبحانه وتعالى فَ ُ‬
‫بإنسان بل أتيتموني بشيطان‪.‬‬

‫ة اسمها "هاجر"‪.‬‬
‫م ً‬ ‫َ‬
‫فأطلقها وأعطاها شيئا من الذهب‪ ،‬كما أعطاها أ َ‬

‫هذه الرواية مشهورة عن دخول إبراهيم ‪-‬عليه السلم‪ -‬لمصر‪.‬‬

‫وكانت زوجته سارة ل تلد‪ .‬وكان ملك مصر قد أهداها سيدة مصرية لتكون في خدمتها‪ ،‬وكان‬
‫إبراهيم قد صار شيخا‪ ،‬وابيض شعره من خلل عمر أبيض أنفقه في الدعوة إلى الله‪ ،‬وفكرت‬
‫سارة إنها وإبراهيم وحيدان‪ ،‬وهي ل تنجب أولدا‪ ،‬ماذا لو قدمت له السيدة المصرية لتكون‬
‫زوجة لزوجها؟ وكان اسم المصرية "هاجر"‪ .‬وهكذا زوجت سارة سيدنا إبراهيم من هاجر‪،‬‬
‫وولدت هاجر ابنها الول فأطلق والده عليه اسم "إسماعيل"‪ .‬كان إبراهيم شيخا حين ولدت له‬
‫هاجر أول أبنائه إسماعيل‪.‬‬

‫ولسنا نعرف أبعاد المسافات التي قطعها إبراهيم في رحلته إلى الله‪ .‬كان دائما هو المسافر‬
‫إلى الله‪ .‬سواء استقر به المقام في بيته أو حملته خطواته سائحا في الرض‪ .‬مسافر إلى الله‬
‫يعلم إنها أيام على الرض وبعدها يجيء الموت ثم ينفخ في الصور وتقوم قيامة الموات ويقع‬
‫البعث‪.‬‬

‫إحياء الموتى‪:‬‬

‫مل اليوم الخر قلب إبراهيم بالسلم والحب واليقين‪ .‬وأراد أن يرى يوما كيف يحيي الله عز‬
‫وجل الموتى‪ .‬حكى الله هذا الموقف في سورة )البقرة(‪ ..‬قال تعالى‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫ن قَل ِْبي‬ ‫ف تحيـي ال ْموتى َقا َ َ‬ ‫َ‬
‫كن ل ّي َط ْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬ ‫ل ب ََلى وََلـ ِ‬
‫من َقا َ‬ ‫ل أوَل َ ْ‬
‫م ت ُؤ ْ ِ‬ ‫َ َْ‬ ‫ب أرِِني ك َي ْ َ ُ ْ ِ‬
‫م َر ّ‬
‫هي ُ‬ ‫وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫ل إ ِب َْرا ِ‬

‫ل تكون هذه الرغبة في طمأنينة القلب مع اليمان إل درجة من درجات الحب لله‪.‬‬

‫ن ي َأ ِْتين َ َ‬
‫ك‬ ‫جْزًءا ث ُ ّ‬
‫م اد ْع ُهُ ّ‬ ‫ن ُ‬
‫من ْهُ ّ‬
‫ل ّ‬
‫جب َ ٍ‬‫ل َ‬ ‫ل ع ََلى ك ُ ّ‬‫جع َ ْ‬
‫ما ْ‬ ‫ك ثُ ّ‬‫ن إ ِل َي ْ َ‬ ‫ن الط ّي ْرِ فَ ُ‬
‫صْرهُ ّ‬ ‫م َ‬ ‫خذ ْ أ َْرب َعَ ً‬
‫ة ّ‬ ‫ل فَ ُ‬
‫َقا َ‬
‫م‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كي ٌ‬‫ح ِ‬‫زيٌز َ‬‫ه عَ ِ‬‫ن الل َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫سعًْيا َواع ْل ْ‬ ‫َ‬

‫فعل إبراهيم ما أمره به الله‪ .‬ذبح أربعة من الطير وفرق أجزاءها على الجبال‪ .‬ودعاها باسم‬
‫الله فنهض الريش يلحق بجناحه‪ ،‬وبحثت الصدور عن رؤوسها‪ ،‬وتطايرت أجزاء الطير مندفعة‬
‫نحو اللتحام‪ ،‬والتقت الضلوع بالقلوب‪ ،‬وسارعت الجزاء الذبيحة لللتئام‪ ،‬ودبت الحياة في‬
‫الطير‪ ،‬وجاءت طائرة مسرعة ترمي بنفسها في أحضان إبراهيم‪ .‬اعتقد بعض المفسرين إن‬
‫هذه التجربة كانت حب استطلع من إبراهيم‪ .‬واعتقد بعضهم أنه أراد أن يرى يد ذي الجلل‬
‫الخالق وهي تعمل‪ ،‬فلم ير السلوب وإن رأى النتيجة‪ .‬واعتقد بعض المفسرين أنه اكتفى بما‬
‫قاله له الله ولم يذبح الطير‪ .‬ونعتقد أن هذه التجربة كانت درجة من درجات الحب قطعها‬
‫المسافر إلى الله‪ .‬إبراهيم‪.‬‬

‫رحلة إبراهيم مع هاجر وإسماعيل لوادي مكة‪:‬‬

‫استيقظ إبراهيم يوما فأمر زوجته هاجر أن تحمل ابنها وتستعد لرحلة طويلة‪ .‬وبعد أيام بدأت‬
‫رحلة إبراهيم مع زوجته هاجر ومعهما ابنهما إسماعيل‪ .‬وكان الطفل رضيعا لم يفطم بعد‪ .‬وظل‬
‫إبراهيم يسير وسط أرض مزروعة تأتي بعدها صحراء تجيء بعدها جبال‪ .‬حتى دخل إلى‬
‫صحراء الجزيرة العربية‪ ،‬وقصد إبراهيم واديا ليس فيه زرع ول ثمر ول شجر ول طعام ول مياه‬
‫ول شراب‪ .‬كان الوادي يخلو تماما من علمات الحياة‪ .‬وصل إبراهيم إلى الوادي‪ ،‬وهبط من‬
‫فوق ظهر دابته‪ .‬وأنزل زوجته وابنه وتركهما هناك‪ ،‬ترك معهما جرابا فيه بعض الطعام‪ ،‬وقليل‬
‫من الماء‪ .‬ثم استدار وتركهما وسار‪.‬‬

‫أسرعت خلفه زوجته وهي تقول له‪ :‬يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه‬
‫شيء؟‬

‫لم يرد عليها سيدنا إبراهيم‪ .‬ظل يسير‪ .‬عادت تقول له ما قالته وهو صامت‪ .‬أخيرا فهمت أنه ل‬
‫يتصرف هكذا من نفسه‪ .‬أدركت أن الله أمره بذلك وسألته‪ :‬هل الله أمرك بهذا؟ قال إبراهيم‬
‫عليه السلم‪ :‬نعم‪.‬‬

‫قالت زوجته المؤمنة العظيمة‪ :‬لن نضيع ما دام الله معنا وهو الذي أمرك بهذا‪ .‬وسار إبراهيم‬
‫حتى إذا أخفاه جبل عنهما وقف ورفع يديه الكريمتين إلى السماء وراح يدعو الله‪ّ) :‬رب َّنا إ ِّني‬
‫َ‬
‫حّرم ِ(‪.‬‬ ‫ك ال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫عند َ ب َي ْت ِ َ‬
‫واد ٍ غ َي ْرِ ِذي َزْرٍع ِ‬
‫من ذ ُّري ِّتي ب ِ َ‬
‫ت ِ‬ ‫س َ‬
‫كن ُ‬ ‫أ ْ‬

‫لم يكن بيت الله قد أعيد بناؤه بعد‪ ،‬لم تكن الكعبة قد بنيت‪ ،‬وكانت هناك حكمة عليا في هذه‬
‫التصرفات الغامضة‪ ،‬فقد كان إسماعيل الطفل الذي ترك مع أمه في هذا المكان‪ ،‬كان هذا‬
‫الطفل هو الذي سيصير مسؤول مع والده عن بناء الكعبة فيما بعد‪ .‬وكانت حكمة الله تقضي‬
‫أن يمتد العمران إلى هذا الوادي‪ ،‬وأن يقام فيه بيت الله الذي نتجه جميعا إليه أثناء الصلة‬
‫بوجوهنا‪.‬‬

‫ترك إبراهيم زوجته وابنه الرضيع في الصحراء وعاد راجعا إلى كفاحه في دعوة الله‪ .‬أرضعت‬
‫أم إسماعيل ابنها وأحست بالعطش‪ .‬كانت الشمس ملتهبة وساخنة وتثير الحساس بالعطش‪.‬‬
‫بعد يومين انتهى الماء تماما‪ ،‬وجف لبن الم‪ .‬وأحست هاجر وإسماعيل بالعطش‪ ..‬كان الطعام‬
‫قد انتهى هو الخر‪ .‬وبدا الموقف صعبا وحرجا للغاية‪.‬‬

‫ماء زمزم‪:‬‬

‫‪28‬‬
‫بدأ إسماعيل يبكي من العطش‪ .‬وتركته أمه وانطلقت تبحث عن ماء‪ .‬راحت تمشي مسرعة‬
‫حتى وصلت إلى جبل اسمه "الصفا"‪ .‬فصعدت إليه وراحت تبحث بهما عن بئر أو إنسان أو‬
‫قافلة‪ .‬لم يكن هناك شيء‪ .‬ونزلت مسرعة من الصفا حتى إذا وصلت إلى الوادي راحت تسعى‬
‫سعي النسان المجهد حتى جاوزت الوادي ووصلت إلى جبل "المروة"‪ ،‬فصعدت إليه ونظرت‬
‫لترى أحدا لكنها لم تر أحدا‪ .‬وعادت الم إلى طفلها فوجدته يبكي وقد اشتد عطشه‪ .‬وأسرعت‬
‫إلى الصفا فوقفت عليه‪ ،‬وهرولت إلى المروة فنظرت من فوقه‪ .‬وراحت تذهب وتجيء سبع‬
‫مرات بين الجبلين الصغيرين‪ .‬سبع مرات وهي تذهب وتعود‪ .‬ولهذا يذهب الحجاج سبع مرات‬
‫ويعودون بين الصفا والمروة إحياء لذكريات أمهم الولى ونبيهم العظيم إسماعيل‪ .‬عادت هاجر‬
‫بعد المرة السابعة وهي مجهدة متعبة تلهث‪ .‬وجلست بجوار ابنها الذي كان صوته قد بح من‬
‫البكاء والعطش‪.‬‬

‫وفي هذه اللحظة اليائسة أدركتها رحمة الله‪ ،‬وضرب إسماعيل بقدمه الرض وهو يبكي‬
‫فانفجرت تحت قدمه بئر زمزم‪ .‬وفار الماء من البئر‪ .‬أنقذت حياتا الطفل والم‪ .‬راحت الم‬
‫تغرف بيدها وهي تشكر الله‪ .‬وشربت وسقت طفلها وبدأت الحياة تدب في المنطقة‪ .‬صدق‬
‫ظنها حين قالت‪ :‬لن نضيع ما دام الله معنا‪.‬‬

‫وبدأت بعض القوافل تستقر في المنطقة‪ .‬وجذب الماء الذي انفجر من بئر زمزم عديدا من‬
‫الناس‪ .‬وبدأ العمران يبسط أجنحته على المكان‪.‬‬

‫المر بذبح إسماعيل عليه السلم‪:‬‬

‫كبر إسماعيل‪ ..‬وتعلق به قلب إبراهيم‪ ..‬جاءه العقب على كبر فأحبه‪ ..‬وابتلى الله تعالى‬
‫إبراهيم بلء عظيما بسبب هذا الحب‪ .‬فقد رأى إبراهيم عليه السلم في المنام أنه يذبح ابنه‬
‫الوحيد إسماعيل‪ .‬وإبراهيم يعمل أن رؤيا النبياء وحي‪.‬‬

‫انظر كيف يختبر الله عباده‪ .‬تأمل أي نوع من أنواع الختبار‪ .‬نحن أمام نبي قلبه أرحم قلب في‬
‫الرض‪ .‬اتسع قلبه لحب الله وحب من خلق‪ .‬جاءه ابن على كبر‪ ..‬وقد طعن هو في السن ول‬
‫أمل هناك في أن ينجب‪ .‬ثم ها هو ذا يستسلم للنوم فيرى في المنام أنه يذبح ابنه وبكره‬
‫ووحيده الذي ليس له غيره‪.‬‬

‫أي نوع من الصراع نشب في نفسه‪ .‬يخطئ من يظن أن صراعا لم ينشأ قط‪ .‬ل يكون بلء‬
‫مبينا هذا الموقف الذي يخلو من الصراع‪ .‬نشب الصراع في نفس إبراهيم‪ ..‬صراع أثارته‬
‫عاطفة البوة الحانية‪ .‬لكن إبراهيم لم يسأل عن السبب وراء ذبح ابنه‪ .‬فليس إبراهيم من‬
‫يسأل ربه عن أوامره‪.‬‬

‫فكر إبراهيم في ولده‪ ..‬ماذا يقول عنه إذا أرقده على الرض ليذبحه‪ ..‬الفضل أن يقول لولده‬
‫ليكون ذلك أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قهرا ويذبحه قهرا‪ .‬هذا أفضل‪ ..‬انتهى المر‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذا ت ََرى(‪ .‬انظر إلى تلطفه‬ ‫ك َفانظ ُْر َ‬
‫ما َ‬ ‫ح َ‬ ‫ي إ ِّني أَرى ِفي ال ْ َ‬
‫مَنام ِ أّني أذ ْب َ ُ‬ ‫وذهب إلى ولده )َقا َ‬
‫ل َيا ب ُن َ ّ‬
‫في إبلغ ولده‪ ،‬وترك المر لينظر فيه البن بالطاعة‪ ..‬إن المر مقضي في نظر إبراهيم لنه‬
‫وحي من ربه‪ ..‬فماذا يرى البن الكريم في ذلك؟ أجاب إسماعيل‪ :‬هذا أمر يا أبي فبادر بتنفيذه‬
‫َ‬
‫ن(‪ .‬تأمل رد البن‪ ..‬إنسان يعرف أنه‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫ه ِ‬ ‫شاء الل ّ ُ‬
‫جد ُِني ِإن َ‬‫ست َ ِ‬ ‫مُر َ‬ ‫ما ت ُؤ ْ َ‬ ‫ت افْعَ ْ‬
‫ل َ‬ ‫)َيا أب َ ِ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫شاء الل ّ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫سيذبح فيمتثل للمر اللهي ويقدم المشيئة ويطمئن والده أنه سيجده )ِإن َ‬
‫ن(‪ .‬هو الصبر على أي حال وعلى كل حال‪ ..‬وربما استعذب البن أن يموت ذبحا بأمر‬ ‫ري َ‬‫صاب ِ ِ‬‫ال ّ‬
‫من الله‪ ..‬ها هو ذا إبراهيم يكتشف أن ابنه ينافسه في حب الله‪ .‬ل نعرف أي مشاعر جاشت‬
‫في نفس إبراهيم بعد استسلم ابنه الصابر‪.‬‬

‫ينقلنا الحق نقلة خاطفة فإذا إسماعيل راقد على الرض‪ ،‬وجهه في الرض رحمة به كيل يرى‬
‫َ‬
‫ما( استخدم‬‫سل َ َ‬ ‫نفسه وهو يذبح‪ .‬وإذا إبراهيم يرفع يده بالسكين‪ ..‬وإذا أمر الله مطاع‪) .‬فَل َ ّ‬
‫ما أ ْ‬
‫َ‬
‫ما( هذا هو السلم الحقيقي‪ ..‬تعطي كل شيء‪ ،‬فل يتبقى منك‬ ‫سل َ َ‬ ‫القرآن هذا التعبير‪) ..‬فَل َ ّ‬
‫ما أ ْ‬
‫شيء‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫عندئذ فقط‪ ..‬وفي اللحظة التي كان السكين فيها يتهيأ لمضاء أمره‪ ..‬نادى الله إبراهيم‪ ..‬انتهى‬
‫اختباره‪ ،‬وفدى الله إسماعيل بذبح عظيم ‪ -‬وصار اليوم عيدا لقوم لم يولدوا بعد‪ ،‬هم‬
‫المسلمون‪ .‬صارت هذه اللحظات عيدا للمسلمين‪ .‬عيدا يذكرهم بمعنى السلم الحقيقي الذي‬
‫كان عليه إبراهيم وإسماعيل‪.‬‬

‫ومضت قصة إبراهيم‪ .‬ترك ولده إسماعيل وعاد يضرب في أرض الله داعيا إليه‪ ،‬خليل له‬
‫وحده‪ .‬ومرت اليام‪ .‬كان إبراهيم قد هاجر من أرض الكلدانيين مسقط رأسه في العراق وعبر‬
‫الردن وسكن في أرض كنعان في البادية‪ .‬ولم يكن إبراهيم ينسى خلل دعوته إلى الله أن‬
‫يسأل عن أخبار لوط مع قومه‪ ،‬وكان لوط أول من آمن به‪ ،‬وقد أثابه الله بأن بعثه نبيا إلى قوم‬
‫من الفاجرين العصاة‪.‬‬

‫البشرى بإسحاق‪:‬‬

‫كان إبراهيم جالس لوحده‪ .‬في هذه اللحظة‪ ،‬هبطت على الرض أقدام ثلثة من الملئكة‪:‬‬
‫جبريل وإسرافيل وميكائيل‪ .‬يتشكلون في صور بشرية من الجمال الخارق‪ .‬ساروا صامتين‪.‬‬
‫مهمتهم مزودجة‪ .‬المرور على إبراهيم وتبشيره‪ .‬ثم زيارة قوم لوط ووضع حد لجرائمهم‪.‬‬

‫سار الملئكة الثلثة قليل‪ .‬ألقى أحدهم حصاة أمام إبراهيم‪ .‬رفع إبراهيم رأسه‪ ..‬تأمل‬
‫وجوههم‪ ..‬ل يعرف أحدا فيهم‪ .‬بادروه بالتحية‪ .‬قالوا‪ :‬سلما‪ .‬قال‪ :‬سلم‪.‬‬

‫نهض إبراهيم ورحب بهم‪ .‬أدخلهم بيته وهو يظن أنهم ضيوف وغرباء‪ .‬أجلسهم واطمأن أنهم قد‬
‫اطمأنوا‪ ،‬ثم استأذن وخرج‪ .‬راغ إلى أهله‪.‬‬

‫نهضت زوجته سارة حين دخل عليها‪ .‬كانت عجوزا قد ابيض شعرها ولم يعد يتوهج بالشباب‬
‫فيها غير وميض اليمان الذي يطل من عينيها‪.‬‬

‫قال إبراهيم لزوجته‪ :‬زارنا ثلثة غرباء‪.‬‬

‫سألته‪ :‬من يكونون؟‬

‫قال‪ :‬ل أعرف أحدا فيهم‪ .‬وجوه غريبة على المكان‪ .‬ل ريب أنهم من مكان بعيد‪ ،‬غير أن‬
‫ملبسهم ل تشي بالسفر الطويل‪ .‬أي طعام جاهز لدينا؟‬

‫قالت‪ :‬نصف شاة‪.‬‬

‫قال وهو يهم بالنصراف‪ :‬نصف شاة‪ ..‬اذبحي لهم عجل سمينا‪ .‬هم ضيوف وغرباء‪ .‬ليست معهم‬
‫دواب أو أحمال أو طعام‪ .‬ربما كانوا جوعى وربما كانوا فقراء‪.‬‬

‫اختار إبراهيم عجل سمينا وأمر بذبحه‪ ،‬فذكروا عليه اسم الله وذبحوه‪ .‬وبدأ شواء العجل على‬
‫الحجارة الساخنة‪ .‬وأعدت المائدة‪ .‬ودعا إبراهيم ضيوفه إلى الطعام‪ .‬أشار إبراهيم بيده أن‬
‫يتفضلوا باسم الله‪ ،‬وبدأ هو يأكل ليشجعهم‪ .‬كان إبراهيم كريما يعرف أن الله ل يتخلى عن‬
‫الكرماء وربما لم يكن في بيته غير هذا العجل‪ ،‬وضيوفه ثلثة ونصف شاة يكفيهم ويزيد‪ ،‬غير‬
‫أنه كان سيدا عظيم الكرم‪ .‬راح إبراهيم يأكل ثم استرق النظر إلى ضيوفه ليطمئن أنهم‬
‫يأكلون‪ .‬لحظ أن أحدا ل يمد يده إلى الطعام‪ .‬قرب إليهم الطعام وقال‪ :‬أل تأكلون؟ عاد إلى‬
‫طعامه ثم اختلس إليهم نظرة فوجدهم ل يأكلون‪ ..‬رأى أيديهم ل تصل إلى الطعام‪ .‬عندئذ‬
‫ة(‪ .‬في تقاليد البادية التي عاش فيها إبراهيم‪ ،‬كان معنى امتناع الضيوف عن‬
‫ف ً‬
‫خي َ‬
‫م ِ‬ ‫َ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫س ِ‬
‫ج َ‬
‫)أوْ َ‬
‫الكل أنهم يقصدون شرا بصاحب البيت‪.‬‬

‫ولحظ إبراهيم بينه وبين نفسه أكثر من ملحظة تؤيد غرابة ضيوفه‪ .‬لحظ أنهم دخلوا عليه‬
‫فجأة‪ .‬لم يرهم إل وهم عند رأسه‪ .‬لم يكن معهم دواب تحملهم‪ ،‬لم تكن معهم أحمال‪ .‬وجوههم‬

‫‪30‬‬
‫غريبة تماما عليه‪ .‬كانوا مسافرين وليس عليهم أثر لتراب السفر‪ .‬ثم ها هو ذا يدعوهم إلى‬
‫طعامه فيجلسون إلى المائدة ول يأكلون‪ .‬ازداد خوف إبراهيم‪.‬‬

‫كان الملئكة يقرءون أفكاره التي تدور في نفسه‪ ،‬دون أن يشي بها وجهه‪ .‬قال له أحد‬
‫ف(‪ .‬رفع إبراهيم رأسه وقال بصدق عظيم وبراءة‪ :‬اعترف إنني خائف‪ .‬لقد‬ ‫الملئكة‪) :‬ل َ ت َ َ‬
‫خ ْ‬
‫دعوتكم إلى الطعام ورحبت بكم‪ ،‬ولكنكم ل تمدون أيديكم إليه‪ ..‬هل تنوون بي شرا؟‬
‫ُ‬
‫سل َْنا إ َِلى قَوْم ِ‬
‫ابتسم أحد الملئكة وقال‪ :‬نحن ل نأكل يا إبراهيم‪ ..‬نحن ملئكة الله‪ ..‬وقد )أْر ِ‬
‫ُلو ٍ‬
‫ط(‬

‫ضحكت زوجة إبراهيم‪ ..‬كانت قائمة تتابع الحوار بين زوجها وبينهم‪ ،‬فضحكت‪.‬‬

‫التفت إليها أحد الملئكة وبشرها بإسحاق‪.‬‬

‫صكت العجوز وجهها تعجبا‪:‬‬

‫ذا ل َ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬


‫ب )‪) (72‬هود(‬
‫جي ٌ‬
‫يٌء ع َ ِ‬
‫ش ْ‬ ‫هـ َ‬
‫ن َ‬
‫خا إ ِ ّ‬ ‫ذا ب َعِْلي َ‬
‫شي ْ ً‬ ‫هـ َ‬ ‫َقاَلت َيا وَي ْل ََتى أأل ِد ُ وَأن َا ْ ع َ ُ‬
‫جوٌز وَ َ‬

‫عاد أحد الملئكة يقول لها‪:‬‬

‫ب‬
‫قو َ‬
‫حقَ ي َعْ ُ‬
‫س َ‬
‫من وََراء إ ِ ْ‬
‫وَ ِ‬

‫جاشت المشاعر في قلب إبراهيم وزوجته‪ .‬شف جو الحجرة وانسحب خوف إبراهيم واحتل‬
‫قلبه نوع من أنواع الفرح الغريب المختلط‪ .‬كانت زوجته العاقر تقف هي الخرى وهي ترتجف‪.‬‬
‫إن بشارة الملئكة تهز روحها هزا عميقا‪ .‬إنها عجوز عقيم وزوجها شيخ كبير‪ .‬كيف؟! كيف‬
‫يمكن؟!‬

‫وسط هذا الجو الندي المضطرب تساءل إبراهيم‪:‬‬


‫َ‬ ‫أ َب َ ّ‬
‫ن )‪) (54‬الحجر(‬
‫شُرو َ‬ ‫ي ال ْك ِب َُر فَب ِ َ‬
‫م ت ُب َ ّ‬ ‫سن ِ َ‬ ‫موِني ع ََلى أن ّ‬
‫م ّ‬ ‫شْرت ُ ُ‬

‫أكان يريد أن يسمع البشارة مرة أخرى؟ أكان يريد أن يطمئن قلبه ويسمع للمرة الثانية منة‬
‫الله عليه؟ أكان ما بنفسه شعورا بشريا يريد أن يستوثق؟ ويهتز بالفرح مرتين بدل من مرة‬
‫واحدة؟ أكد له الملئكة أنهم بشروه بالحق‪.‬‬

‫ن )‪) (55‬الحجر(‬
‫طي َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫قان ِ ِ‬ ‫م َ‬
‫كن ّ‬ ‫ك ِبال ْ َ‬
‫حقّ فَل َ ت َ ُ‬ ‫َقاُلوا ْ ب َ ّ‬
‫شْرَنا َ‬

‫ضآّلو َ‬
‫ن )‪) (56‬الحجر(‬ ‫مةِ َرب ّهِ إ ِل ّ ال ّ‬
‫ح َ‬
‫من ّر ْ‬ ‫قن َ ُ‬
‫ط ِ‬ ‫من ي َ ْ‬ ‫َقا َ‬
‫ل وَ َ‬

‫لم يفهم الملئكة إحساسه البشري‪ ،‬فنوه عن أن يكون من القانطين‪ ،‬وأفهمهم أنه ليس‬
‫قانطا‪ ..‬إنما هو الفرح‪.‬‬

‫لم تكن البشرى شيئا بسيطا في حياة إبراهيم وزوجته‪ .‬لم يكن لبراهيم غير ولد واحد هو‬
‫إسماعيل‪ ،‬تركه هناك بعيدا في الجزيرة العربية‪ .‬ولم تكن زوجته سارة قد أنجبت خلل عشرتها‬
‫الطويلة لبراهيم‪ ،‬وهي التي زوجته من جاريتها هاجر‪ .‬ومن هاجر جاء إسماعيل‪ .‬أما سارة‪ ،‬فلم‬
‫يكن لها ولد‪ .‬وكان حنينها إلى الولد عظيما‪ ،‬لم يطفئ مرور اليام من توهجه‪ .‬ثم دخلت‬
‫شيخوختها واحتضر حلمها ومات‪ .‬كانت تقول‪ :‬إنها مشيئة الله عز وجل‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫هكذا أراد الله لها‪ .‬وهكذا أراد لزوجها‪ .‬ثم ها هي ذي في مغيب العمر تتلقى البشارة‪ .‬ستلد‬
‫غلما‪ .‬ليس هذا فحسب‪ ،‬بشرتها الملئكة بأن ابنها سيكون له ولد تشهد مولده وتشهد حياته‪.‬‬
‫لقد صبرت طويل ثم يئست ثم نسيت‪ .‬ثم يجيء جزاء الله مفاجأة تمحو هذا كله في لحظة‪.‬‬

‫فاضت دموعها وهي تقف‪ .‬وأحس إبراهيم عليه الصلة والسلم بإحساس محير‪ .‬جاشت نفسه‬
‫بمشاعر الرحمة والقرب‪ ،‬وعاد يحس بأنه إزاء نعمة ل يعرف كيف يوفيها حقها من الشكر‪.‬‬
‫وخّر إبراهيم ساجدا على وجهه‪.‬‬

‫انتهى المر واستقرت البشرى في ذهنيهما معا‪ .‬نهض إبراهيم من سجوده وقد ذهب عنه‬
‫خوفه‪ ،‬واطمأنت حيرته‪ ،‬وغادره الروع‪ ،‬وسكنت قلبه البشرى التي حملوها إليه‪ .‬وتذكر أنهم‬
‫أرسلوا إلى قوم لوط‪ .‬ولوط ابن أخيه النازح معه من مسقط رأسه‪ ،‬والساكن على مقربة منه‪.‬‬
‫وإبراهيم يعرف معنى إرسال الملئكة إلى لوط وقومه‪ .‬هذا معناه وقوع عذاب مروع‪ .‬وطبيعة‬
‫إبراهيم الرحيمة الودودة ل تجعله يطيق هلك قوم في تسليم‪ .‬ربما رجع قوم لوط وأقلعوا‬
‫وأسلموا أجابوا رسولهم‪.‬‬

‫وبدأ إبراهيم يجادل الملئكة في قوم لوط‪ .‬حدثهم عن احتمال إيمانهم ورجوعهم عن طريق‬
‫الفجور‪ ،‬وأفهمه الملئكة أن هؤلء قوم مجرمون‪ .‬وأن مهمتهم هي إرسال حجارة من طين‬
‫مسومة من عند ربك للمسرفين‪ .‬وعاد إبراهيم‪ ،‬بعد أن سد الملئكة باب هذا الحوار‪ ،‬عاد‬
‫يحدثهم عن المؤمنين من قوم لوط‪ .‬فقالت الملئكة‪ :‬نحن أعلم بمن فيها‪ .‬ثم أفهموه أن المر‬
‫قد قضي‪ .‬وإن مشيئة الله تبارك وتعالى قد اقتضت نفاذ المر وهلك قوم لوط‪ .‬أفهموا إبراهيم‬
‫ب‬ ‫أن عليه أن يعرض عن هذا الحوار‪ .‬ليوفر حلمه ورحمته‪ .‬لقد جاء أمر ربه‪ .‬وتقرر عليهم )ع َ َ‬
‫ذا ٌ‬
‫دودٍ( عذاب لن يرده جدال إبراهيم‪ .‬كانت كلمة الملئكة إيذانا بنهاية الجدال‪ ..‬سكت‬ ‫غ َي ُْر َ‬
‫مْر ُ‬
‫إبراهيم‪ .‬وتوجهت الملئكة لقوم لوط عليه السلم‪.‬‬

‫ةةةةةة ‪ :‬ةةةةة ةةة ةةةة ةةة ةةةة ةةةةة ةة ةةة ةةةةةةة ةةةة ةةةةةة‬

‫‪32‬‬
‫لوط عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫أرسله الله ليهدي قومه ويدعوهم إلى عبادة الله‪ ،‬وكانوا قوما ظالمين يأتون الفواحش‬
‫ويعتدون على الغرباء وكانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء فلما دعاهم لوط لترك‬
‫المنكرات أرادوا أن يخرجوه هو وقومه فلم يؤمن به غير بعض من آل بيته‪ ،‬أما امرأته فلم‬
‫تؤمن ولما يئس لوط دعا الله أن ينجيهم ويهلك المفسدين فجاءت له الملئكة وأخرجوا لوط‬
‫ومن آمن به وأهلكوا الخرين بحجارة مسومة‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫حال قوم لوط‪:‬‬

‫دعى لوط قومه إلى عبادة الله وحده ل شريك له‪ ،‬ونهاهم عن كسب السيئات والفواحش‪.‬‬
‫واصطدمت دعوته بقلوب قاسية وأهواء مريضة ورفض متكبر‪ .‬وحكموا على لوط وأهله بالطرد‬
‫من القرية‪ .‬فقد كان القوم الذين بعث إليهم لوط يرتكبون عددا كبيرا من الجرائم البشعة‪.‬‬
‫كانوا يقطعون الطريق‪ ،‬ويخونون الرفيق‪ ،‬ويتواصون بالثم‪ ،‬ول يتناهون عن منكر‪ ،‬وقد زادوا‬
‫في سجل جرائمهم جريمة لم يسبقهم بها أحد من العالمين‪ .‬كانوا يأتون الرجال شهوة من‬
‫دون النساء‪.‬‬

‫لقد اختلت المقاييس عند قوم لوط‪ ..‬فصار الرجال أهدافا مرغوبة بدل من النساء‪ ،‬وصار النقاء‬
‫والطهر جريمة تستوجب الطرد‪ ..‬كانوا مرضى يرفضون الشفاء ويقاومونه‪ ..‬ولقد كانت‬
‫تصرفات قوم لوط تحزن قلب لوط‪ ..‬كانوا يرتكبون جريمتهم علنية في ناديهم‪ ..‬وكانوا إذا‬
‫دخل المدينة غريب أو مسافر أو ضيف لم ينقذه من أيديهم أحد‪ ..‬وكانوا يقولون للوط‪:‬‬
‫استضف أنت النساء ودع لنا الرجال‪ ..‬واستطارت شهرتهم الوبيلة‪ ،‬وجاهدهم لوط جهادا‬
‫عظيما‪ ،‬وأقام عليهم حجته‪ ،‬ومرت اليام والشهور والسنوات‪ ،‬وهو ماض في دعوته بغير أن‬
‫يؤمن له أحد‪ ..‬لم يؤمن به غير أهل بيته‪ ..‬حتى أهل بيته لم يؤمنوا به جميعا‪ .‬كانت زوجته‬
‫كافرة‪.‬‬

‫ب‬ ‫وزاد المر بأن قام الكفرة بالستهزاء برسالة لوط عليه السلم‪ ،‬فكانوا يقولون‪) :‬ائ ْت َِنا ب ِعَ َ‬
‫ذا ِ‬
‫ن(‪ .‬فيئس لوط منهم‪ ،‬ودعا الله أن ينصره ويهلك المفسدين‪.‬‬ ‫صاد ِِقي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫ت ِ‬ ‫الل ّهِ ِإن ُ‬
‫كن َ‬

‫‪33‬‬
‫ذهاب الملئكة لقوم لوط‪:‬‬

‫خرج الملئكة من عند إبراهيم قاصدين قرية لوط‪ ..‬بلغوا أسوار سدوم‪ ..‬وابنة لوط واقفة تمل‬
‫وعاءها من مياه النهر‪ ..‬رفعت وجهها فشاهدتهم‪ ..‬فسألها أحد الملئكة‪ :‬يا جارية‪ ..‬هل من‬
‫منزل؟‬

‫قالت ]وهي تذكر قومها[‪ :‬مكانكم ل تدخلوا حتى أخبر أبي وآتيكم‪ ..‬أسرعت نحو أبيها فأخبرته‪.‬‬
‫م‬ ‫هـ َ‬
‫ذا ي َوْ ٌ‬ ‫عا وََقا َ‬
‫ل َ‬ ‫م ذ َْر ً‬
‫ضاقَ ب ِهِ ْ‬
‫م وَ َ‬
‫سيَء ب ِهِ ْ‬
‫فهرع لوط يجري نحو الغرباء‪ .‬فلم يكد يراهم حتى ) ِ‬
‫ب( سألهم‪ :‬من أين جاءوا؟ ‪ ..‬وما هي وجهتهم؟‪ ..‬فصمتوا عن إجابته‪ .‬وسألوه أن‬ ‫صي ٌ‬
‫عَ ِ‬
‫يضيفهم‪ ..‬استحى منهم وسار أمامهم قليل ثم توقف والتفت إليهم يقول‪ :‬ل أعلم على وجه‬
‫الرض أخبث من أهل هذا البلد‪.‬‬

‫قال كلمته ليصرفهم عن المبيت في القرية‪ ،‬غير أنهم غضوا النظر عن قوله ولم يعلقوا عليه‪،‬‬
‫وعاد يسير معهم ويلوي عنق الحديث ويقسره قسرا ويمضي به إلى أهل القرية ‪ -‬حدثهم أنهم‬
‫خبثاء‪ ..‬أنهم يخزون ضيوفهم‪ ..‬حدثهم أنهم يفسدون في الرض‪ .‬وكان الصراع يجري داخله‬
‫محاول التوفيق بين أمرين‪ ..‬صرف ضيوفه عن المبيت في القرية دون إحراجهم‪ ،‬وبغير إخلل‬
‫بكرم الضيافة‪ ..‬عبثا حاول إفهامهم والتلميح لهم أن يستمروا في رحلتهم‪ ،‬دون نزول بهذه‬
‫القرية‪.‬‬

‫سقط الليل على المدينة‪ ..‬صحب لوط ضيوفه إلى بيته‪ ..‬لم يرهم من أهل المدينة أحد‪ ..‬لم‬
‫تكد زوجته تشهد الضيوف حتى تسللت خارجة بغير أن تشعره‪ .‬أسرعت إلى قومها وأخبرتهم‬
‫الخبر‪ ..‬وانتشر الخبر مثل النار في الهشيم‪ .‬وجاء قوم لوط له مسرعين‪ ..‬تساءل لوط بينه‬
‫وبين نفسه‪ :‬من الذي أخبرهم؟‪ ..‬وقف القوم على باب البيت‪ ..‬خرج إليهم لوط متعلقا بأمل‬
‫أخير‪ ،‬وبدأ بوعظهم‪:‬‬
‫ؤلء بناِتي هُ َ‬
‫ن أط ْهَُر ل َك ُ ْ‬
‫م(‪ ..‬قال لهم‪ :‬أمامكم النساء ‪-‬زوجاتكم‪ -‬هن أطهر‪ ..‬فهن يلبين‬ ‫ّ‬ ‫ََ‬ ‫هـ ُ‬
‫) َ‬
‫الفطرة السوية‪ ..‬كما أن الخالق ‪-‬ج ّ‬
‫ل في عله‪ -‬قد هّيئهن لهذا المر‪.‬‬

‫ه(‪ ..‬يلمس نفوسهم من جانب التقوى بعد أن لمسها من جانب الفطرة‪ ..‬اتقوا الله‬ ‫قوا ْ الل ّ َ‬
‫)َفات ّ ُ‬
‫وتذكروا أن الله يسمع ويرى‪ ..‬ويغضب ويعاقب وأجدر بالعقلء اتقاء غضبه‪.‬‬

‫مس نخوتهم وتقاليدهم‪ .‬و ينبغي عليهم إكرام‬


‫في(‪ ..‬هي محاولة يائسة لَِل ْ‬
‫ضي ْ ِ‬
‫ن ِفي َ‬ ‫)وَل َ ت ُ ْ‬
‫خُزو ِ‬
‫الضيف ل فضحه‪.‬‬
‫َ‬
‫شيد ٌ(‪ ..‬أليس فيكم رجل عاقل؟‪ ..‬إن ما تريدونه ‪-‬لو تحقق‪ -‬هو عين‬ ‫ج ٌ‬
‫ل ّر ِ‬ ‫منك ُ ْ‬
‫م َر ُ‬ ‫)أل َي ْ َ‬
‫س ِ‬
‫الجنون‪.‬‬

‫إل أن كلمات لوط عليه السلم لم تلمس الفطرة المنحرفة المريضة‪ ،‬ول القلب الجامد الميت‪،‬‬
‫ول العقل المريض الحمق‪ ..‬ظلت الفورة الشاذة على اندفاعها‪.‬‬

‫أحس لوط بضعفه وهو غريب بين القوم‪ ..‬نازح إليهم من بعيد بغير عشيرة تحميه‪ ،‬ول أولد‬
‫ذكور يدافعون عنه‪ ..‬دخل لوط غاضبا وأغلق باب بيته‪ ..‬كان الغرباء الذين استضافهم يجلسون‬
‫هادئين صامتين‪ ..‬فدهش لوط من هدوئهم‪ ..‬وازدادت ضربات القوم على الباب‪ ..‬وصرخ لوط‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ديدٍ( تمنى أن تكون له قوة‬ ‫م قُوّة ً أوْ آِوي إ َِلى ُرك ْ ٍ‬
‫ن َ‬
‫ش ِ‬ ‫ل ل َوْ أ ّ‬
‫ن ِلي ب ِك ُ ْ‬ ‫في لحظة يأس خانق‪َ) :‬قا َ‬
‫تصدهم عن ضيفه‪ ..‬وتمنى لو كان له ركن شديد يحتمي فيه ويأوي إليه‪ ..‬غاب عن لوط في‬
‫شدته وكربته أنه يأوي إلى ركن شديد‪ ..‬ركن الله الذي ل يتخلى عن أنبيائه وأوليائه‪ ..‬قال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وهو يقرأ هذه الية‪" :‬رحمة الله على لوط‪ ..‬كان يأوي إلى‬
‫ركن شديد"‪.‬‬

‫هلك قوم لوط‪:‬‬

‫‪34‬‬
‫عندما بلغ الضيق ذروته‪ ..‬وقال النبي كلمته‪ ..‬تحرك ضيوفه ونهضوا فجأة‪ ..‬أفهموه أنه يأوي‬
‫إلى ركن شديد‪ ..‬فقالوا له ل تجزع يا لوط ول تخف‪ ..‬نحن ملئكة‪ ..‬ولن يصل إليك هؤلء‬
‫القوم‪ ..‬ثم نهض جبريل‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬وأشار بيده إشارة سريعة‪ ،‬ففقد القوم أبصارهم‪.‬‬

‫التفتت الملئكة إلى لوط وأصدروا إليه أمرهم أن يصحب أهله أثناء الليل ويخرج‪ ..‬سيسمعون‬
‫أصواتا مروعة تزلزل الجبال‪ ..‬ل يلتفت منهم أحد‪ ..‬كي ل يصيبه ما يصيب القوم‪ ..‬أي عذاب‬
‫هذا؟‪ ..‬هو عذاب من نوع غريب‪ ،‬يكفي لوقوعه بالمرء مجرد النظر إليه‪ ..‬أفهموه أن امرأته‬
‫كانت من الغابرين‪ ..‬امرأته كافرة مثلهم وستلتفت خلفها فيصيبها ما أصابهم‪.‬‬

‫سأل لوط الملئكة‪ :‬أينزل الله العذاب بهم الن‪ ..‬أنبئوه أن موعدهم مع العذاب هو الصبح‪..‬‬
‫َ‬
‫ب(؟‬‫ري ٍ‬
‫ق ِ‬
‫ح بِ َ‬
‫صب ْ ُ‬ ‫)أل َي ْ َ‬
‫س ال ّ‬

‫خرج لوط مع بناته وزوجته‪ ..‬ساروا في الليل وغذوا السير‪ ..‬واقترب الصبح‪ ..‬كان لوط قد ابتعد‬
‫مع أهله‪ ..‬ثم جاء أمر الله تعالى‪ ..‬قال العلماء‪ :‬اقتلع جبريل‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬بطرف جناحه‬
‫مدنهم السبع من قرارها البعيد‪ ..‬رفعها جميعا إلى عنان السماء حتى سمعت الملئكة أصوات‬
‫ديكتهم ونباح كلبهم‪ ،‬قلب المدن السبع وهوى بها في الرض‪ ..‬أثناء السقوط كانت السماء‬
‫تمطرهم بحجارة من الجحيم‪ ..‬حجارة صلبة قوية يتبع بعضها بعضا‪ ،‬ومعلمة بأسمائهم‪ ،‬ومقدرة‬
‫عليهم‪ ..‬استمر الجحيم يمطرهم‪ ..‬وانتهى قوم لوط تماما‪ ..‬لم يعد هناك أحد‪ ..‬نكست المدن‬
‫على رؤوسها‪ ،‬وغارت في الرض‪ ،‬حتى انفجر الماء من الرض‪ ..‬هلك قوم لوط ومحيت مدنهم‪.‬‬

‫كان لوط يسمع أصوات مروعة‪ ..‬وكان يحاذر أن يلتفت خلفه‪ ..‬نظرت زوجته نحو مصدر‬
‫الصوت فانتهت‪ ..‬تهرأ جسدها وتفتت مثل عمود ساقط من الملح‪.‬‬

‫قال العلماء‪ :‬إن مكان المدن السبع‪ ..‬بحيرة غريبة‪ ..‬ماؤها أجاج‪ ..‬وكثافة الماء أعظم من كثافة‬
‫مياه البحر الملحة‪ ..‬وفي هذه البحيرة صخور معدنية ذائبة‪ ..‬توحي بأن هذه الحجارة التي‬
‫ضرب بها قوم لوط كانت شهبا مشعلة‪ .‬يقال إن البحيرة الحالية التي نعرفها باسم "البحر‬
‫الميت" في فلسطين‪ ..‬هي مدن قوم لوط السابقة‪.‬‬

‫انطوت صفحة قوم لوط‪ ..‬انمحت مدنهم وأسمائهم من الرض‪ ..‬سقطوا من ذاكرة الحياة‬
‫والحياء‪ ..‬وطويت صفحة من صفحات الفساد‪ ..‬وتوجه لوط إلى إبراهيم‪ ..‬زار إبراهيم وقص‬
‫عليه نبأ قومه‪ ..‬وأدهشه أن إبراهيم كان يعلم‪ ..‬ومضى لوط في دعوته إلى الله‪ ..‬مثلما مضى‬
‫الحليم الواه المنيب إبراهيم في دعوته إلى الله‪ ..‬مضى الثنان ينشران السلم في الرض‪.‬‬

‫إسماعيل عليه السلم‬

‫‪35‬‬
‫نبذة‪:‬‬

‫هو ابن إبراهيم البكر وولد السيدة هاجر‪ ،‬سار إبراهيم بهاجر ‪ -‬بأمر من الله ‪ -‬حتى وضعها‬
‫وابنها في موضع مكة وتركهما ومعهما قليل من الماء والتمر ولما نفد الزاد جعلت السيدة‬
‫هاجر تطوف هنا وهناك حتى هداها الله إلى ماء زمزم ووفد عليها كثير من الناس حتى جاء أمر‬
‫الله لسيدنا إبراهيم ببناء الكعبة ورفع قواعد البيت‪ ،‬فجعل إسماعيل يأتي بالحجر وإبراهيم يبني‬
‫حتى أتما البناء ثم جاء أمر الله بذبح إسماعيل حيث رأى إبراهيم في منامه أنه يذبح ابنه‬
‫فعرض عليه ذلك فقال "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين" ففداه الله‬
‫بذبح عظيم‪ ،‬كان إسماعيل فارسا فهو أول من استأنس الخيل وكان صبورا حليما‪ ،‬يقال إنه‬
‫أول من تحدث بالعربية البينة وكان صادق الوعد‪ ،‬وكان يأمر أهله بالصلة والزكاة‪ ،‬وكان ينادي‬
‫بعبادة الله ووحدانيته‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫الختبار الول‪:‬‬

‫ذكر الله في كتابه الكريم‪ ،‬ثلث مشاهد من حياة إسماعيل عليه السلم‪ .‬كل مشهد عبارة عن‬
‫محنة واختبار لكل من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم‪ .‬أول هذه المشاهد هو أمر الله‬
‫سبحانه وتعالى لبراهيم بترك إسماعيل وأمه في واد مقفر‪ ،‬ل ماء فيه ول طعام‪ .‬فما كان من‬
‫إبراهيم عليه السلم إل الستجابة لهذا المر الرباني‪ .‬وهذا بخلف ما ورد في السرائيليات من‬
‫أن إبراهيم حمل ابنه وزوجته لوادي مكة لن سارة ‪-‬زوجة إبراهيم الولى‪ -‬اضطرته لذلك من‬
‫قى أوامره‬‫شدة غيرتها من هاجر‪ .‬فالمتأمل لسيرة إبراهيم عليه السلم‪ ،‬سيجد أنه لم يكن ليتل ّ‬
‫من أحد غير الله‪.‬‬

‫أنزل زوجته وابنه وتركهما هناك‪ ،‬ترك معهما جرابا فيه بعض الطعام‪ ،‬وقليل من الماء‪ .‬ثم‬
‫استدار وتركهما وسار‪.‬‬

‫أسرعت خلفه زوجته وهي تقول له‪ :‬يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه‬
‫شيء؟‬

‫لم يرد عليها سيدنا إبراهيم وظل يسير‪ ..‬عادت تقول له ما قالته وهو صامت‪ ..‬أخيرا فهمت أنه‬
‫ل يتصرف هكذا من نفسه‪ ..‬أدركت أن الله أمره بذلك فسألته‪ :‬هل الله أمرك بهذا؟‬

‫فقال إبراهيم عليه السلم‪ :‬نعم‪.‬‬

‫قالت زوجته المؤمنة العظيمة‪ :‬لن نضيع ما دام الله معنا وهو الذي أمرك بهذا‪.‬‬

‫وسار إبراهيم حتى إذا أخفاه جبل عنهما وقف ورفع يديه الكريمتين إلى السماء وراح يدعو‬
‫الله‪:‬‬

‫ل أ َفْئ ِد َةً‬
‫جع َ ْ‬ ‫موا ْ ال ّ‬
‫صل َة َ َفا ْ‬ ‫قي ُ‬
‫حّرم ِ َرب َّنا ل ِي ُ ِ‬ ‫ك ال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫عند َ ب َي ْت ِ َ‬ ‫واد ٍ غ َي ْرِ ِذي َزْرٍع ِ‬‫من ذ ُّري ِّتي ب ِ َ‬ ‫ت ِ‬‫كن ُ‬‫س َ‬ ‫َ‬
‫ّرب َّنا إ ِّني أ ْ‬
‫ن )‪) (37‬إبراهيم(‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫ت ل َعَل ّهُ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫ن الث ّ َ‬ ‫م َواْرُزقُْهم ّ‬
‫م َ‬ ‫وي إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫س ت َهْ ِ‬
‫ن الّنا ِ‬‫م َ‬‫ّ‬

‫لم يكن بيت الله قد أعيد بناؤه بعد‪ ،‬لم تكن الكعبة قد بنيت‪ ،‬وكانت هناك حكمة عليا في أمر‬
‫الله سبحانه لبراهيم‪ ،‬فقد كان إسماعيل ‪-‬الطفل الذي ت ُرِ َ‬
‫ك مع أمه في هذا المكان‪ -‬ووالده‬
‫من سيكونان المسؤولن بناء الكعبة فيما بعد‪ ..‬وكانت حكمة الله تقضي أن يسكن أحد في هذا‬
‫الوادي‪ ،‬لميتد إليه العمران‪.‬‬

‫بعد أن ترك إبراهيم زوجته وابنه الرضيع في الصحراء بأيام نفد الماء وانتهى الطعام‪ ،‬وجف لبن‬
‫الم‪ ..‬وأحست هاجر وإسماعيل بالعطش‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫بدأ إسماعيل يبكي من العطش‪ ..‬فتركته أمه وانطلقت تبحث عن ماء‪ ..‬راحت تمشي مسرعة‬
‫حتى وصلت إلى جبل اسمه "الصفا"‪ ..‬فصعدت إليه وراحت تبحث به عن بئر أو إنسان أو‬
‫قافلة‪ ..‬لم يكن هناك شيء‪ .‬ونزلت مسرعة من الصفا حتى إذا وصلت إلى الوادي راحت‬
‫تسعى سعي النسان المجهد حتى جاوزت الوادي ووصلت إلى جبل "المروة"‪ ،‬فصعدت إليه‬
‫ونظرت لترى أحدا لكنها لم تر أحدا‪ .‬وعادت الم إلى طفلها فوجدته يبكي وقد اشتد عطشه‪..‬‬
‫وأسرعت إلى الصفا فوقفت عليه‪ ،‬وهرولت إلى المروة فنظرت من فوقه‪ ..‬وراحت تذهب‬
‫وتجيء سبع مرات بين الجبلين الصغيرين‪ ..‬سبع مرات وهي تذهب وتعود ‪ -‬ولهذا يذهب الحجاج‬
‫سبع مرات ويعودون بين الصفا والمروة إحياء لذكريات أمهم الولى ونبيهم العظيم إسماعيل‪.‬‬
‫عادت هاجر بعد المرة السابعة وهي مجهدة متعبة تلهث‪ ..‬وجلست بجوار ابنها الذي كان صوته‬
‫قد بح من البكاء والعطش‪.‬‬

‫وفي هذه اللحظة اليائسة أدركتها رحمة الله‪ ،‬وضرب إسماعيل بقدمه الرض وهو يبكي‬
‫فانفجرت تحت قدمه بئر زمزم‪ ..‬وفار الماء من البئر‪ ..‬أنقذت حياتا الطفل والم‪ ..‬راحت الم‬
‫تغرف بيدها وهي تشكر الله‪ ..‬وشربت وسقت طفلها وبدأت الحياة تدب في المنطقة‪ ..‬صدق‬
‫ظنها حين قالت‪ :‬لن نضيع ما دام الله معنا‪.‬‬

‫وبدأت بعض القوافل تستقر في المنطقة‪ ..‬وجذب الماء الذي انفجر من بئر زمزم عديدا من‬
‫الناس‪ ..‬وبدأ العمران يبسط أجنحته على المكان‪.‬‬

‫كانت هذه هي المحنة الولى‪ ..‬أما المحنة الثانية فهي الذبح‪.‬‬

‫الختبار الثاني‪:‬‬

‫كبر إسماعيل‪ ..‬وتعلق به قلب إبراهيم‪ ..‬جاءه العقب على كبر فأحبه‪ ..‬وابتلى الله تعالى‬
‫إبراهيم بلء عظيما بسبب هذا الحب‪ .‬فقد رأى إبراهيم عليه السلم في المنام أنه يذبح ابنه‬
‫الوحيد إسماعيل‪ .‬وإبراهيم يعمل أن رؤيا النبياء وحي‪.‬‬

‫انظر كيف يختبر الله عباده‪ .‬تأمل أي نوع من أنواع الختبار‪ .‬نحن أمام نبي قلبه أرحم قلب في‬
‫الرض‪ .‬اتسع قلبه لحب الله وحب من خلق‪ .‬جاءه ابن على كبر‪ ..‬وقد طعن هو في السن ول‬
‫أمل هناك في أن ينجب‪ .‬ثم ها هو ذا يستسلم للنوم فيرى في المنام أنه يذبح ابنه وبكره‬
‫ووحيده الذي ليس له غيره‪.‬‬

‫أي نوع من الصراع نشب في نفسه‪ .‬يخطئ من يظن أن صراعا لم ينشأ قط‪ .‬ل يكون بلء‬
‫مبينا هذا الموقف الذي يخلو من الصراع‪ .‬نشب الصراع في نفس إبراهيم‪ ..‬صراع أثارته‬
‫عاطفة البوة الحانية‪ .‬لكن إبراهيم لم يسأل عن السبب وراء ذبح ابنه‪ .‬فليس إبراهيم من‬
‫يسأل ربه عن أوامره‪.‬‬

‫فكر إبراهيم في ولده‪ ..‬ماذا يقول عنه إذا أرقده على الرض ليذبحه‪ ..‬الفضل أن يقول لولده‬
‫ليكون ذلك أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قهرا ويذبحه قهرا‪ .‬هذا أفضل‪ ..‬انتهى المر‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذا ت ََرى(‪ .‬انظر إلى تلطفه‬ ‫ك َفانظ ُْر َ‬
‫ما َ‬ ‫ح َ‬ ‫ي إ ِّني أَرى ِفي ال ْ َ‬
‫مَنام ِ أّني أذ ْب َ ُ‬ ‫وذهب إلى ولده )َقا َ‬
‫ل َيا ب ُن َ ّ‬
‫في إبلغ ولده‪ ،‬وترك المر لينظر فيه البن بالطاعة‪ ..‬إن المر مقضي في نظر إبراهيم لنه‬
‫وحي من ربه‪ ..‬فماذا يرى البن الكريم في ذلك؟ أجاب إسماعيل‪ :‬هذا أمر يا أبي فبادر بتنفيذه‬
‫َ‬
‫ن(‪ .‬تأمل رد البن‪ ..‬إنسان يعرف أنه‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫ه ِ‬ ‫شاء الل ّ ُ‬
‫جد ُِني ِإن َ‬‫ست َ ِ‬ ‫مُر َ‬ ‫ما ت ُؤ ْ َ‬ ‫ت افْعَ ْ‬
‫ل َ‬ ‫)َيا أب َ ِ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫شاء الل ّ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫سيذبح فيمتثل للمر اللهي ويقدم المشيئة ويطمئن والده أنه سيجده )ِإن َ‬
‫ن(‪ .‬هو الصبر على أي حال وعلى كل حال‪ ..‬وربما استعذب البن أن يموت ذبحا بأمر‬ ‫ري َ‬‫صاب ِ ِ‬‫ال ّ‬
‫من الله‪ ..‬ها هو ذا إبراهيم يكتشف أن ابنه ينافسه في حب الله‪ .‬ل نعرف أي مشاعر جاشت‬
‫في نفس إبراهيم بعد استسلم ابنه الصابر‪.‬‬

‫ينقلنا الحق نقلة خاطفة فإذا إسماعيل راقد على الرض‪ ،‬وجهه في الرض رحمة به كيل يرى‬
‫َ‬
‫ما( استخدم‬‫سل َ َ‬ ‫نفسه وهو يذبح‪ .‬وإذا إبراهيم يرفع يده بالسكين‪ ..‬وإذا أمر الله مطاع‪) .‬فَل َ ّ‬
‫ما أ ْ‬

‫‪37‬‬
‫َ‬
‫سل َ َ‬
‫ما( هذا هو السلم الحقيقي‪ ..‬تعطي كل شيء‪ ،‬فل يتبقى منك‬ ‫القرآن هذا التعبير‪) ..‬فَل َ ّ‬
‫ما أ ْ‬
‫شيء‪.‬‬

‫عندئذ فقط‪ ..‬وفي اللحظة التي كان السكين فيها يتهيأ لمضاء أمره‪ ..‬نادى الله إبراهيم‪ ..‬انتهى‬
‫اختباره‪ ،‬وفدى الله إسماعيل بذبح عظيم ‪ -‬وصار اليوم عيدا لقوم لم يولدوا بعد‪ ،‬هم‬
‫المسلمون‪ .‬صارت هذه اللحظات عيدا للمسلمين‪ .‬عيدا يذكرهم بمعنى السلم الحقيقي الذي‬
‫كان عليه إبراهيم وإسماعيل‪.‬‬

‫خبر زوجة إسماعيل‪:‬‬

‫عاش إسماعيل في شبه الجزيرة العربية ما شاء الله له أن يعيش‪ ..‬روض الخيل واستأنسها‬
‫واستخدمها‪ ،‬وساعدت مياه زمزم على سكنى المنطقة وتعميرها‪ .‬استقرت بها بعض القوافل‪..‬‬
‫وسكنتها القبائل‪ ..‬وكبر إسماعيل وتزوج‪ ،‬وزاره إبراهيم فلم يجده في بيته ووجد امرأته‪ ..‬سألها‬
‫عن عيشهم وحالهم‪ ،‬فشكت إليه من الضيق والشدة‪.‬‬

‫قال لها إبراهيم‪ :‬إذا جاء زوجك مريه أن يغير عتبة بابه‪ ..‬فلما جاء إسماعيل‪ ،‬ووصفت له زوجته‬
‫الرجل‪ ..‬قال‪ :‬هذا أبي وهو يأمرني بفراقك‪ ..‬الحقي بأهلك‪.‬‬

‫وتزوج إسماعيل امرأة ثانية‪ ..‬زارها إبراهيم‪ ،‬يسألها عن حالها‪ ،‬فحدثته أنهم في نعمة وخير‪..‬‬
‫وطاب صدر إبراهيم بهذه الزوجة لبنه‪.‬‬

‫الختبار الثالث‪:‬‬

‫وها نحن الن أمام الختبار الثالث‪ ..‬اختبار ل يمس إبراهيم وإسماعيل فقط‪ .‬بل يمس مليين‬
‫البشر من بعدهم إلى يوم القيامة‪ ..‬إنها مهمة أوكلها الله تعالى لهذين النبيين الكريمين‪..‬‬
‫مهمة بناء بيت الله تعالى في الرض‪.‬‬

‫كبر إسماعيل‪ ..‬وبلغ أشده‪ ..‬وجاءه إبراهيم وقال له‪ :‬يا إسماعيل‪ ..‬إن الله أمرني بأمر‪ .‬قال‬
‫إسماعيل‪ :‬فاصنع ما أمرك به ربك‪ ..‬قال إبراهيم‪ :‬وتعينني؟ قال‪ :‬وأعينك‪ .‬فقال إبراهيم‪ :‬فإن‬
‫الله أمرني أن ابني هنا بيتا‪ .‬أشار بيده لصحن منخفض هناك‪.‬‬

‫صدر المر ببناء بيت الله الحرام‪ ..‬هو أول بيت وضع للناس في الرض‪ ..‬وهو أول بيت عبد فيه‬
‫النسان ربه‪ ..‬ولما كان آدم هو أول إنسان هبط إلى الرض‪ ..‬فإليه يرجع فضل بنائه أول مرة‪..‬‬
‫قال العلماء‪ :‬إن آدم بناه وراح يطوف حوله مثلما يطوف الملئكة حول عرش الله تعالى‪.‬‬

‫بنى آدم خيمة يعبد فيها الله‪ ..‬شيء طبيعي أن يبني آدم ‪-‬بوصفه نبيا‪ -‬بيتا لعبادة ربه‪ ..‬وحفت‬
‫الرحمة بهذا المكان‪ ..‬ثم مات آدم ومرت القرون‪ ،‬وطال عليه العهد فضاع أثر البيت وخفي‬
‫مكانه‪ ..‬وها هو ذا إبراهيم يتلقى المر ببنائه مرة ثانية‪ ..‬ليظل في المرة الثانية قائما إلى يوم‬
‫القيامة إن شاء الله‪ .‬وبدأ بناء الكعبة‪..‬‬

‫هدمت الكعبة في التاريخ أكثر من مرة‪ ،‬وكان بناؤها يعاد في كل مرة‪ ..‬فهي باقية منذ عهد‬
‫إبراهيم إلى اليوم‪ ..‬وحين بعث رسول الله‪ ،‬صلى الله عليه وسلم‪ ،‬تحقيقا لدعوة إبراهيم‪ ..‬وجد‬
‫الرسول الكعبة حيث بنيت آخر مرة‪ ،‬وقد قصر الجهد بمن بناها فلم يحفر أساسها كما حفره‬
‫إبراهيم‪.‬‬

‫نفهم من هذا إن إبراهيم وإسماعيل بذل فيها وحدهما جهدا استحالت ‪-‬بعد ذلك‪ -‬محاكاته على‬
‫عدد كبير من الرجال‪ ..‬ولقد صرح الرسول بأنه يحب هدمها وإعادتها إلى أساس إبراهيم‪ ،‬لول‬
‫قرب عهد القوم بالجاهلية‪ ،‬وخشيته أن يفتن الناس هدمها وبناؤها من جديد‪ ..‬بناؤها بحيث تصل‬
‫إلى قواعد إبراهيم وإسماعيل‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫أي جهد شاق بذله النبيان الكريمان وحدهما؟ كان عليهما حفر الساس لعمق غائر في الرض‪،‬‬
‫وكان عليهما قطع الحجارة من الجبال البعيدة والقريبة‪ ،‬ونقلها بعد ذلك‪ ،‬وتسويتها‪ ،‬وبناؤها‬
‫وتعليتها‪ ..‬وكان المر يستوجب جهد جيل من الرجال‪ ،‬ولكنهما بنياها معا‪.‬‬

‫ل نعرف كم هو الوقت الذي استغرقه بناء الكعبة‪ ،‬كما نجهل الوقت الذي استغرقه بناء سفينة‬
‫نوح‪ ،‬المهم أن سفينة نوح والكعبة كانتا معا ملذا للناس ومثوبة وأمنا‪ ..‬والكعبة هي سفينة نوح‬
‫الثابتة على الرض أبدا‪ ..‬وهي تنتظر الراغبين في النجاة من هول الطوفان دائما‪.‬‬

‫لم يحدثنا الله عن زمن بناء الكعبة‪ ..‬حدثنا عن أمر أخطر وأجدى‪ ..‬حدثنا عن تجرد نفسية من‬
‫كان يبنيها‪ ..‬ودعائه وهو يبنيها‪:‬‬
‫ل منا إن َ َ‬
‫م )‪(127‬‬ ‫ميعُ ال ْعَِلي ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫ك أن َ‬ ‫قب ّ ْ ِ ّ ِ ّ‬ ‫ل َرب َّنا ت َ َ‬ ‫عي ُ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ت وَإ ِ ْ‬ ‫ن ال ْب َي ْ ِ‬
‫م َ‬ ‫عد َ ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫ق َ‬ ‫هي ُ‬‫وَإ ِذ ْ ي َْرفَعُ إ ِب َْرا ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ب‬
‫وا ُ‬
‫ت الت ّ ّ‬‫ك أن َ‬ ‫ب ع َلي َْنا إ ِن ّ َ‬ ‫سك ََنا وَت ُ ْ‬ ‫مَنا ِ‬
‫ك وَأرَِنا َ‬ ‫ةل َ‬ ‫م ً‬ ‫سل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ّ‬ ‫م ً‬ ‫من ذ ُّري ّت َِنا أ ّ‬ ‫ك وَ ِ‬ ‫نل َ‬ ‫مي ْ ِ‬
‫سل ِ َ‬
‫م ْ‬‫جعَل َْنا ُ‬ ‫َرب َّنا َوا ْ‬
‫ة‬‫م َ‬ ‫ْ‬
‫حك َ‬ ‫ْ‬
‫ب َوال ِ‬ ‫ْ‬
‫م الك َِتا َ‬ ‫مهُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م آَيات ِك وَي ُعَل ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م ي َت ْلو ع َلي ْهِ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫سول ّ‬‫ً‬ ‫م َر ُ‬ ‫ث ِفيهِ ْ‬ ‫م )‪َ (128‬رب َّنا َواب ْعَ ْ‬ ‫حي ُ‬‫الّر ِ‬
‫م )‪) (129‬البقرة(‬ ‫كي‬ ‫ح‬ ‫ال‬ ‫ز‬ ‫زي‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫ت‬ ‫ك َ‬
‫أن‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ّ‬
‫كي‬ ‫ز‬ ‫ي‬ ‫و‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫إن أعظم مسلمين على وجه الرض يومها يدعوان الله أن يتقبل عملهما‪ ،‬وأن يجعلهما‬
‫مسلمين له‪ ..‬يعرفان أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن‪ .‬وتبلغ الرحمة بهما أن يسأل‬
‫الله أن يخرج من ذريتهما أمة مسلمة له سبحانه‪ ..‬يريدان أن يزيد عدد العابدين الموجودين‬
‫والطائفين والركع السجود‪ .‬إن دعوة إبراهيم وإسماعيل تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن‪..‬‬
‫إنه يبني لله بيته‪ ،‬ومع هذا يشغله أمر العقيدة‪ ..‬ذلك إيحاء بأن البيت رمز العقيدة‪ .‬ثم يدعوان‬
‫الله أن يريهم أسلوب العبادة الذي يرضاه‪ ،‬وأن يتوب عليهم فهو التواب الرحيم‪ .‬بعدها يتجاوز‬
‫اهتمامها هذا الزمن الذي يعيشان فيه‪ ..‬يجاوزانه ويدعوان الله أن يبث رسول لهؤلء البشر‪.‬‬
‫وتحققت هذه الدعوة الخيرة‪ ..‬حين بعث محمد بن عبد الله‪ ،‬صلى الله عليه وسلم‪ ..‬تحققت‬
‫بعد أزمنة وأزمنة‪.‬‬

‫انتهى بناء البيت‪ ،‬وأراد إبراهيم حجرا مميزا‪ ،‬يكون علمة خاصة يبدأ منها الطواف حول‬
‫الكعبة‪ ..‬أمر إبراهيم إسماعيل أن يأتيه بحجر مميز يختلف عن لون حجارة الكعبة‪.‬‬

‫سار إسماعيل ملبيا أمر والده‪ ..‬حين عاد‪ ،‬كان إبراهيم قد وضع الحجر السود في مكانه‪..‬‬
‫فسأله إسماعيل‪ :‬من الذي أحضره إليك يا أبت؟ فأجاب إبراهيم‪ :‬أحضره جبريل عليه السلم‪.‬‬

‫انتهى بناء الكعبة‪ ..‬وبدأ طواف الموحدين والمسلمين حولها‪ ..‬ووقف إبراهيم يدعو ربه نفس‬
‫َ‬
‫وي إلى المكان‪ ..‬انظر إلى التعبير‪ ..‬إن الهوى‬
‫س ت َهْ ِ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫دعائه من قبل‪ ..‬أن يجعل أفْئ ِد َة ً ّ‬
‫م َ‬
‫يصور انحدارا ل يقاوم نحو شيء‪ ..‬وقمة ذلك هوى الكعبة‪ .‬من هذه الدعوة ولد الهوى العميق‬
‫في نفوس المسلمين‪ ،‬رغبة في زيارة البيت الحرام‪.‬‬

‫وصار كل من يزور المسجد الحرام ويعود إلى بلده‪ ..‬يحس أنه يزداد عطشا كلما ازداد ريا منه‪،‬‬
‫ويعمق حنينه إليه كلما بعد منه‪ ،‬وتجيء أوقات الحج في كل عام‪ ..‬فينشب الهوى الغامض‬
‫أظافره في القلب نزوعا إلى رؤية البيت‪ ،‬وعطشا إلى بئر زمزم‪.‬‬

‫قال تعالى حين جادل المجادلون في إبراهيم وإسماعيل‪.‬‬

‫ن )‪) (67‬آل‬
‫كي َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫شرِ ِ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫ما وَ َ‬
‫سل ِ ً‬
‫م ْ‬
‫فا ّ‬
‫حِني ً‬
‫ن َ‬
‫كا َ‬ ‫صَران ِّيا وَل َ ِ‬
‫كن َ‬ ‫م ي َُهود ِّيا وَل َ ن َ ْ‬
‫هي ُ‬
‫ن إ ِب َْرا ِ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫َ‬
‫عمران(‬

‫عليه الصلة والسلم‪ ..‬استجاب الله دعاءه‪ ..‬وكان إبراهيم أول من سمانا المسلمين‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫إسحاق عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫هو ولد سيدنا إبراهيم من زوجته سارة‪ ،‬وقد كانت البشارة بمولده من الملئكة لبراهيم وسارة‬
‫لما مروا بهم مجتازين ذاهبين إلى مدائن قوم لوط ليدمروها عليهم لكفرهم وفجورهم‪ ،‬ذكره‬
‫الله في القرآن بأنه "غلم عليم" جعله الله نبيا يهدي الناس إلى فعل الخيرات‪ ،‬جاء من نسله‬
‫سيدنا يعقوب‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫ل يذكر القرآن الكريم غير ومضات سريعة عن قصة إسحاق‪ ..‬كان ميلده حدثا خارقا‪ ،‬بشرت‬
‫به الملئكة‪ ،‬وورد في البشرى اسم ابنه يعقوب‪ ..‬وقد جاء ميلده بعد سنوات من ولدة أخيه‬
‫إسماعيل‪ ..‬ولقد قر قلب سارة بمولد إسحق ومولد ابنه يعقوب‪ ،‬عليهما الصلة والسلم‪ ..‬غير‬
‫أننا ل نعرف كيف كانت حياة إسحق‪ ،‬ول نعرف بماذا أجابه قومه‪ ..‬كل ما نعرفه أن الله أثنى‬
‫عليه كنبي من الصالحين‬

‫‪40‬‬
‫يعقوب عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫ابن إسحاق يقال له "إسرائيل" وتعني عبد الله‪ ،‬كان نبيا لقومه‪ ،‬وكان تقيا وبشرت به الملئكة‬
‫جده إبراهيم وزوجته سارة عليهما السلم وهو والد يوسف‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم‪ ..‬اسمه إسرائيل‪ ..‬كان نبيا إلى قومه‪ ..‬ذكر الله تعالى ثلث‬
‫أجزاء من قصته‪ ..‬بشارة ميلده‪ ..‬وقد بشر الملئكة به إبراهيم جده‪ ..‬وسارة جدته‪ ..‬أيضا ذكر‬
‫الله تعالى وصيته عند وفاته‪ ..‬وسيذكره الله فيما بعد ‪-‬بغير إشارة لسمه‪ -‬في قصة يوسف‪.‬‬

‫نعرف مقدار تقواه من هذه الشارة السريعة إلى وفاته‪ ..‬نعلم أن الموت كارثة تدهم النسان‪،‬‬
‫فل يذكر غير همه ومصيبته‪ ..‬غير أن يعقوب ل ينسى وهو يموت أن يدعو إلى ربه‪ ..‬قال تعالى‬
‫في سورة )البقرة(‪:‬‬
‫َ‬
‫ك وَإ َِلـ َ‬
‫ه‬ ‫دي َقاُلوا ْ ن َعْب ُد ُ إ َِلـهَ َ‬‫من ب َعْ ِ‬ ‫ن ِ‬‫دو َ‬ ‫ما ت َعْب ُ ُ‬ ‫ت إ ِذ ْ َقا َ‬
‫ل ل ِب َِنيهِ َ‬ ‫مو ْ ُ‬‫ب ال ْ َ‬‫قو َ‬‫ضَر ي َعْ ُ‬ ‫ح َ‬‫داء إ ِذ ْ َ‬ ‫م ُ‬
‫شهَ َ‬ ‫م ُ‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫أ ْ‬
‫ن )‪) (133‬البقرة(‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬
‫م ْ‬‫ه ُ‬‫ن لَ ُ‬‫ح ُ‬ ‫حدا ً وَن َ ْ‬
‫حاقَ إ َِلـها ً َوا ِ‬ ‫س َ‬‫ل وَإ ِ ْ‬‫عي َ‬
‫ما ِ‬‫س َ‬ ‫م وَإ ِ ْ‬
‫هي َ‬ ‫آَبائ ِ َ‬
‫ك إ ِب َْرا ِ‬

‫إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في ساعة الموت ولحظات الحتضار‪ ،‬مشهد عظيم الدللة‪..‬‬
‫نحن أمام ميت يحتضر‪ ..‬ما القضية التي تشغل باله في ساعة الحتضار‪..‬؟ ما الفكار التي تعبر‬
‫ذهنه الذي يتهيأ للنزلق مع سكرات الموت‪..‬؟ ما المر الخطير الذي يريد أن يطمئن عليه قبل‬
‫موته‪..‬؟ ما التركة التي يريد أن يخلفها لبنائه وأحفاده‪..‬؟ ما الشيء الذي يريد أن يطمئن ‪-‬قبل‬
‫موته‪ -‬على سلمة وصوله للناس‪ ..‬كل الناس‪..‬؟‬

‫دي(‪ .‬هذا ما يشغله ويؤرقه‬


‫من ب َعْ ِ‬
‫ن ِ‬
‫دو َ‬
‫ما ت َعْب ُ ُ‬
‫ستجد الجواب عن هذه السئلة كلها في سؤاله ) َ‬
‫ويحرص عليه في سكرات الموت‪ ..‬قضية اليمان بالله‪ .‬هي القضية الولى والوحيدة‪ ،‬وهي‬
‫الميراث الحقيقي الذي ل ينخره السوس ول يفسده‪ ..‬وهي الذخر والملذ‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫قال أبناء إسرائيل‪ :‬نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا‪ ،‬ونحن له‬
‫مسلمون‪ ..‬والنص قاطع في أنهم بعثوا على السلم‪ ..‬إن خرجوا عنه‪ ،‬خرجوا من رحمة الله‪..‬‬
‫وإن ظلوا فيه‪ ،‬أدركتهم الرحمة‪.‬‬

‫مات يعقوب وهو يسأل أبناءه عن السلم‪ ،‬ويطمئن على عقيدتهم‪ ..‬وقبل موته‪ ،‬ابتلي بلء‬
‫شديدا في ابنه يوسف‪.‬‬

‫سترد معنا مشاهد من قصة يعقوب عليه السلم عند ذكرنا لقصة ابنه النبي الكريم يوسف‬
‫عليه السلم‬

‫يوسف عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫ولد سيدنا يوسف وكان له ‪ 11‬أخا وكان أبوه يحبه كثيرا وفي ذات ليلة رأى أحد عشر كوكبا‬
‫والشمس والقمر له ساجدين‪ ،‬فقص على والده ما رأى فقال له أل يقصها على إخوته‪ ،‬ولكن‬
‫الشيطان وسوس لخوته فاتفقوا على أن يلقوه في غيابات الجب وادعوا أن الذئب أكله‪ ،‬ثم‬
‫مر به ناس من البدو فأخذوه وباعوه بثمن بخس واشتراه عزيز مصر وطلب من زوجته أن‬
‫ترعاه‪ ،‬ولكنها أخذت تراوده عن نفسه فأبى فكادت له ودخل السجن‪ ،‬ثم أظهر الله براءته‬
‫وخرج من السجن ‪ ،‬واستعمله الملك على شئون الغذاء التي أحسن إدارتها في سنوات‬
‫القحط‪ ،‬ثم اجتمع شمله مع إخوته ووالديه وخروا له سجدا وتحققت رؤياه‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫قبل أن نبدأ بقصة يوسف عليه السلم‪ ،‬نود الشارة لعدة أمور‪ .‬أولها اختلف طريقة رواية‬
‫قصة يوسف عليه السلم في القرآن الكريم عن بقية قصص النبياء‪ ،‬فجاءت قصص النبياء في‬
‫عدة سور‪ ،‬بينما جاءت قصة يوسف كاملة في سورة واحدة‪ .‬قال تعالى في سورة )يوسف(‪:‬‬
‫َ‬ ‫قص ع َل َي َ َ‬
‫ن ال َْغافِِلي َ‬
‫ن)‬ ‫من قَب ْل ِهِ ل َ ِ‬
‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ن وَِإن ُ‬
‫كن َ‬ ‫ذا ال ْ ُ‬
‫قْرآ َ‬ ‫هـ َ‬ ‫حي َْنا إ ِل َي ْ َ‬
‫ك َ‬ ‫ما أوْ َ‬
‫ص بِ َ‬
‫ص ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ق َ‬ ‫س َ‬
‫ح َ‬
‫كأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ن نَ ُ ّ‬
‫ح ُ‬
‫نَ ْ‬
‫‪) (3‬يوسف(‬

‫واختلف العلماء لم سميت هذه القصة أحسن القصص؟ قيل إنها تنفرد من بين قصص القرآن‬
‫باحتوائها على عالم كامل من العبر والحكم‪ ..‬وقيل لن يوسف تجاوز عن إخوته وصبر عليهم‬
‫وعفا عنهم‪ ..‬وقيل لن فيها ذكر النبياء والصالحين‪ ،‬والعفة والغواية‪ ،‬وسير الملوك والممالك‪،‬‬
‫والرجال والنساء‪ ،‬وحيل النساء ومكرهن‪ ،‬وفيها ذكر التوحيد والفقه‪ ،‬وتعبير الرؤيا وتفسيرها‪،‬‬
‫فهي سورة غنية بالمشاهد والنفعالت‪ ..‬وقيل‪ :‬إنها سميت أحسن القصص لن مآل من كانوا‬
‫فيها جميعا كان إلى السعادة‪.‬‬

‫ومع تقديرنا لهذه السباب كلها‪ ..‬نعتقد أن ثمة سببا مهما يميز هذه القصة‪ ..‬إنها تمضي في‬
‫خط واحد منذ البداية إلى النهاية‪ ..‬يلتحم مضمونها وشكلها‪ ،‬ويفضي بك لحساس عميق بقهر‬
‫َ‬
‫ه( هذا ما تثبته قصة‬ ‫ب ع ََلى أ ْ‬
‫مرِ ِ‬ ‫غال ِ ٌ‬ ‫الله وغلبته ونفاذ أحكامه رغم وقوف البشر ضدها‪َ) .‬والل ّ ُ‬
‫ه َ‬
‫يوسف بشكل حاسم‪ ،‬ل ينفي حسمه أنه تم بنعومة وإعجاز‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫لنمضي الن بقصة يوسف ‪-‬عليه السلم‪ -‬ولنقسمها لعدد من الفصول والمشاهد ليسهل علينا‬
‫تتبع الحداث‪.‬‬

‫المشهد الول من فصل طفوله يوسف‪:‬‬

‫ذهب يوسف الصبي الصغير لبيه‪ ،‬وحكى له عن رؤيا رآها‪ .‬أخبره بأنه رأى في المنام أحد عشر‬
‫كوكبا والشمس والقمر ساجدين له‪ .‬استمع الب إلى رؤيا ابنه وحذره أن يحكيها لخوته‪ .‬فلقد‬
‫أدرك يعقوب ‪-‬عليه السلم‪ -‬بحدسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤية شأنا عظيما لهذا الغلم‪ .‬لذلك‬
‫نصحه بأن ل يقص رؤياه على إخوته خشية أن يستشعورا ما وراءها لخيهم الصغير ‪-‬غير‬
‫الشقيق‪ ،‬حيث تزوج يعقوب من امرأة ثانية أنجبت له يوسف وشقيقه‪ -‬فيجد الشيطان من هذا‬
‫ثغرة في نفوسهم‪ ،‬فتمتلئ نفوسهم بالحقد‪ ،‬فيدبروا له أمرا يسوؤه‪ .‬استجاب يوسف لتحذير‬
‫أبيه‪ ..‬لم يحدث أخوته بما رأى‪ ،‬وأغلب الظن أنهم كانوا يكرهونه إلى الحد الذي يصعب فيه أن‬
‫يطمئن إليهم ويحكي لهم دخائله الخاصة وأحلمه‪.‬‬

‫المشهد الثاني‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف وَأ َ ُ‬
‫ة‬
‫صب َ ٌ‬‫ن عُ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫ب إ َِلى أِبيَنا ِ‬
‫مّنا وَن َ ْ‬ ‫ح ّ‬
‫خوه ُ أ َ‬ ‫س ُ‬‫اجتمع أخوة يوسف يتحدثون في أمره‪) .‬إ ِذ ْ َقاُلوا ْ ل َُيو ُ‬
‫إ َ‬
‫ن( أي نحن مجموعة قوية تدفع وتنفع‪ ،‬فأبونا مخطئ في تفضيل هذين‬ ‫ٍ‬ ‫مِبي‬ ‫ضل َ ٍ‬
‫ل ّ‬ ‫في َ‬ ‫ن أَباَنا ل َ ِ‬‫ِ ّ‬
‫ف أ َِو‬
‫س َ‬‫الصبيين على مجموعة من الرجال النافعين! فاقترح أحدهم حل للموضوع‪) :‬اقْت ُُلوا ْ ُيو ُ‬
‫َ‬
‫ضا(‪ .‬إنه الحقد وتدخل الشيطان الذي ضخم حب أبيهم ليوسف وإيثاره عليهم حتى‬ ‫حوه ُ أْر ً‬ ‫اط َْر ُ‬
‫جعله يوازي القتل‪ .‬أكبر جرائم الرض قاطبة بعد الشرك بالله‪ .‬وطرحه في أرض بعيدة نائية‬
‫مرادف للقتل‪ ،‬لنه سيموت هناك ل محاله‪ .‬ولماذا هذا كله؟! حتى ل يراه أبوه فينساه فيوجه‬
‫ن(‪.‬‬
‫حي َ‬‫صال ِ ِ‬
‫ما َ‬ ‫من ب َعْد ِهِ قَوْ ً‬‫كوُنوا ْ ِ‬‫حبه كله لهم‪ .‬ومن ثم يتوبون عن جريمتهم )وَت َ ُ‬

‫قال قائل منهم ‪-‬حرك الله أعماقه بشفقة خفية‪ ،‬أو أثار الله في أعماقه رعبا من القتل‪ :‬ما‬
‫الداعي لقتله؟ إن كنتم تريدون الخلص منه‪ ،‬فلنلقه في بئر تمر عليها القوافل‪ ..‬ستلتقطه‬
‫قافلة وترحل به بعيدا‪ ..‬سيختفي عن وجه أبيه‪ ..‬ويتحقق غرضنا من إبعاده‪.‬‬

‫انهزمت فكرة القتل‪ ،‬واختيرت فكرة النفي والبعاد‪ .‬نفهم من هذا أن الخوة‪ ،‬رغم شرهم‬
‫وحسدهم‪ ،‬كان في قلوبهم‪ ،‬أو في قلوب بعضهم‪ ،‬بعض خير لم يمت بعد‪.‬‬

‫المشهد الثالث‪:‬‬

‫توجه البناء لبيهم يطلبون منه السماح ليوسف بمرافقتهم‪ .‬دار الحوار بينهم وبين أبيهم بنعومة‬
‫ْ‬
‫ف ‪..‬؟ أيمكن أن يكون يوسف أخانا‪،‬‬ ‫مّنا ع ََلى ُيو ُ‬
‫س َ‬ ‫ما ل َ َ‬
‫ك ل َ ت َأ َ‬ ‫وعتاب خفي‪ ،‬وإثارة للمشاعر‪َ ..‬‬
‫وأنت تخاف عليه من بيننا ول تستأمننا عليه‪ ،‬ونحن نحبه وننصح له ونرعاه؟ لماذا ل ترسله معنا‬
‫يرتع ويلعب؟‬

‫وردا على العتاب الستنكاري الول جعل يعقوب عليه السلم ينفي ‪-‬بطريقة غير مباشرة‪ -‬أنه ل‬
‫يأمنهم عليه‪ ،‬ويعلل احتجازه معه بقلة صبره على فراقه وخوفه عليه من الذئاب‪َ :‬قا َ‬
‫ل إ ِّني‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫خا ُ َ‬
‫غافُِلو َ‬
‫ن‪.‬‬ ‫ه َ‬
‫م ع َن ْ ُ‬ ‫ف أن ي َأك ُل َ ُ‬
‫ه الذ ّئ ْ ُ‬
‫ب وَأنت ُ ْ‬ ‫حُزن ُِني َأن ت َذ ْهَُبوا ْ ب ِهِ وَأ َ َ‬
‫ل َي َ ْ‬

‫ففندوا فكرة الذئب الذي يخاف أبوه أن يأكله‪ ..‬نحن عشرة من الرجال‪ ..‬فهل نغفل عنه ونحن‬
‫كثرة؟ نكون خاسرين غير أهل للرجولة لو وقع ذلك‪ ..‬لن يأكله الذئب ول داعي للخوف عليه‪.‬‬

‫وافق الب تحت ضغط أبنائه‪ ..‬ليتحقق قدر الله وتتم القصة كما تقتضي مشيئته!‬

‫المشهد الرابع‪:‬‬

‫‪43‬‬
‫خرج الخوة ومعهم يوسف‪ ،‬وأخذوه للصحراء‪ .‬اختاروا بئرا ل ينقطع عنها مرور القوافل‬
‫وحملوه وهموا بإلقائه في البئر‪ ..‬وأوحى الله إلى يوسف أنه ناج فل يخاف‪ ..‬وأنه سيلقاهم بعد‬
‫يومهم هذا وينبئهم بما فعلوه‪.‬‬

‫المشهد الخامس‪:‬‬

‫عند العشاء جاء البناء باكين ليحكوا لبيهم قصة الذئب المزعومة‪ .‬أخبروه بأنهم ذهبوا‬
‫يستبقون‪ ،‬فجاء ذئب على غفلة‪ ،‬وأكل يوسف‪ .‬لقد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذبة‪ ،‬فلو‬
‫كانوا أهدأ أعصابا ما فعلوها من المرة الولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف‬
‫معهم! ولكنهم كانوا معجلين ل يصبرون‪ ،‬يخشون أل تواتيهم الفرصة مرة أخرى‪ .‬كذلك كان‬
‫التقاطهم لحكاية الذئب دليل على التسرع‪ ،‬وقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس‪ ،‬وهم ينفونها‪.‬‬
‫فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم أبوهم منه‬
‫أمس! وبمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان ونسوا في‬
‫انفعالهم أن يمزقوا قميص يوسف‪ ..‬جاءوا بالقميص كما هو سليما‪ ،‬ولكن ملطخا بالدم‪ ..‬وانتهى‬
‫َ‬
‫ن( أي وما أنت‬ ‫ن ل َّنا وَل َوْ ك ُّنا َ‬
‫صاد ِِقي َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫م ٍ‬ ‫ت بِ ُ‬
‫ما أن َ‬
‫كلمهم بدليل قوي على كذبهم حين قالوا‪) :‬وَ َ‬
‫بمطمئن لما نقوله‪ ،‬ولو كان هو الصدق‪ ،‬لنك تشك فينا ول تطمئن لما نقوله‪.‬‬

‫أدرك يعقوب من دلئل الحال ومن نداء قلبه ومن الكذوبة الواضحة‪ ،‬أن يوسف لم يأكله‬
‫الذئب‪ ،‬وأنهم دبروا له مكيدة ما‪ ،‬وأنهم يلفقون له قصة لم تقع‪ ،‬فواجههم بأن نفوسهم قد‬
‫حسنت لهم أمرا منكرا وذللته ويسرت لهم ارتكابه؛ وأنه سيصبر متحمل متجمل ل يجزع ول‬
‫سك ُْ‬
‫م‬ ‫م َأن ُ‬
‫ف ُ‬ ‫ت ل َك ُ ْ‬
‫سوّل َ ْ‬
‫ل َ‬ ‫يفزع ول يشكو‪ ،‬مستعينا بالله على ما يلفقونه من حيل وأكاذيب‪َ :‬قا َ‬
‫ل بَ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫فو َ‬
‫ص ُ‬ ‫ن ع ََلى َ‬
‫ما ت َ ِ‬ ‫ست ََعا ُ‬ ‫ه ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ل َوالل ّ ُ‬
‫مي ٌ‬
‫ج ِ‬ ‫مًرا فَ َ‬
‫صب ٌْر َ‬ ‫أ ْ‬

‫المشهد الخير من الفصل الول من حياة سيدنا يوسف عليه السلم‪:‬‬

‫أثناء وجود يوسف بالبئر‪ ،‬مرت عليه قافلة‪ ..‬قافلة في طريقها إلى مصر‪ ..‬قافلة كبيرة‪ ..‬سارت‬
‫طويل حتى سميت سيارة‪ ..‬توقفوا للتزود بالماء‪ ..‬وأرسلوا أحدهم للبئر فأدلى الدلو فيه‪ ..‬تعلق‬
‫يوسف به‪ ..‬ظن من دله أنه امتل بالماء فسحبه‪ ..‬ففرح بما رأى‪ ..‬رأى غلما متعلقا بالدلو‪..‬‬
‫فسرى على يوسف حكم الشياء المفقودة التي يلتقطها أحد‪ ..‬يصير عبدا لمن التقطه‪ ..‬هكذا‬
‫كان قانون ذلك الزمان البعيد‪.‬‬

‫فرح به من وجده في البداية‪ ،‬ثم زهد فيه حين فكر في همه ومسئوليته‪ ،‬وزهد فيه لنه وجده‬
‫صبيا صغيرا‪ ..‬وعزم على التخلص منه لدى وصوله إلى مصر‪ ..‬ولم يكد يصل إلى مصر حتى‬
‫باعه في سوق الرقيق بثمن زهيد‪ ،‬دراهم معدودة‪ .‬ومن هناك اشتراه رجل تبدو عليه الهمية‪.‬‬

‫انتهت المحنة الولى في حياة هذا النبي الكريم‪ ،‬لبتدأ المحنة الثانية‪ ،‬والفصل‬
‫الثاني من حياته‪.‬‬

‫ن أ َك ْث ََر‬
‫مرِهِ وََلـك ِ ّ‬
‫َ‬
‫ب ع ََلى أ ْ‬ ‫ثم يكشف الله تعالى مضمون القصة البعيد في بدايتها )َوالل ّ ُ‬
‫ه َ‬
‫غال ِ ٌ‬
‫ن(‪ .‬لقد انطبقت جدران العبودية على يوسف‪ .‬ألقي في البئر‪ ،‬أهين‪ ،‬حرم من‬ ‫مو َ‬‫س ل َ ي َعْل َ ُ‬
‫الّنا ِ‬
‫أبيه‪ ،‬التقط من البئر‪ ،‬صار عبدا يباع في السواق‪ ،‬اشتراه رجل من مصر‪ ،‬صار مملوكا لهذا‬
‫الرجل‪ ..‬انطبقت المأساة‪ ،‬وصار يوسف بل حول ول قوة‪ ..‬هكذا يظن أي إنسان‪ ..‬غير أن‬
‫الحقيقة شيء يختلف عن الظن تماما‪.‬‬

‫ما نتصور نحن أنه مأساة ومحنة وفتنة‪ ..‬كان هو أول سلم يصعده يوسف في طريقه إلى‬
‫َ‬
‫ه( ‪ ..‬ينفذ تدبيره رغم تدبير الخرين‪ .‬ينفذ من خلله تدبير الخرين‬ ‫ب ع ََلى أ ْ‬
‫مرِ ِ‬ ‫غال ِ ٌ‬ ‫مجده‪َ) ..‬والل ّ ُ‬
‫ه َ‬
‫فيفسده ويتحقق وعد الله‪ ،‬وقد وعد الله يوسف بالنبوة‪.‬‬

‫وها هو ذا يلقي محبته على صاحبه الذي اشتراه‪ ..‬وها هو ذا السيد يقول لزوجته أكرمي مثواه‬
‫عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا‪ .‬وليس هذا السيد رجل هين الشأن‪ ..‬إنما هو رجل مهم‪ ..‬رجل‬

‫‪44‬‬
‫من الطبقة الحاكمة في مصر‪ ..‬سنعلم بعد قليل أنه وزير من وزراء الملك‪ .‬وزير خطير سماه‬
‫القرآن "العزيز"‪ ،‬وكان قدماء المصريين يطلقون الصفات كأسماء على الوزراء‪ .‬فهذا العزيز‪..‬‬
‫وهذا العادل‪ ..‬وهذا القوي‪ ..‬إلى آخره‪ ..‬وأرجح الراء أن العزيز هو رئيس وزراء مصر‪.‬‬

‫وهكذا مكن الله ليوسف في الرض‪ ..‬سيتربى كصبي في بيت رجل يحكم‪ .‬وسيعلمه الله من‬
‫َ‬
‫مرِهِ وََلـك ِ ّ‬
‫ن‬ ‫ب ع ََلى أ ْ‬ ‫تأويل الحاديث والرؤى‪ ..‬وسيحتاج إليه الملك في مصر يوما‪َ) .‬والل ّ ُ‬
‫ه َ‬
‫غال ِ ٌ‬
‫َ‬
‫ن(‪ .‬تم هذا كله من خلل فتنة قاسية تعرض لها يوسف‪.‬‬ ‫س ل َ ي َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫أك ْث ََر الّنا ِ‬

‫ثم يبين لنا المولى عز وجل كرمه على يوسف فيقول‪:‬‬

‫ن )‪) (22‬يوسف(‬
‫سِني َ‬
‫ح ِ‬ ‫زي ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ج ِ‬
‫ك نَ ْ‬ ‫عل ْ ً‬
‫ما وَك َذ َل ِ َ‬ ‫حك ْ ً‬
‫ما وَ ِ‬ ‫ما ب َل َغَ أ َ ُ‬
‫شد ّه ُ آت َي َْناه ُ ُ‬ ‫وَل َ ّ‬

‫كان يوسف أجمل رجل في عصره‪ ..‬وكان نقاء أعماقه وصفاء سريرته يضفيان على وجهه‬
‫مزيدا من الجمال‪ .‬وأوتي صحة الحكم على المور‪ ..‬وأوتي علما بالحياة وأحوالها‪ .‬وأوتي أسلوبا‬
‫في الحوار يخضع قلب من يستمع إليه‪ ..‬وأوتي نبل وعفة‪ ،‬جعله شخصية إنسانية ل تقاوم‪.‬‬

‫وأدرك سيده أن الله قد أكرمه بإرسال يوسف إليه‪ ..‬اكتشف أن يوسف أكثر من رأى في حياته‬
‫أمانة واستقامة وشهامة وكرما‪ ..‬وجعله سيده مسئول عن بيته وأكرمه وعامله كابنه‪.‬‬

‫ويبدأ المشهد الول من الفصل الثاني في حياته‪:‬‬

‫في هذا المشهد تبدأ محنة يوسف الثانية‪ ،‬وهي أشد وأعمق من المحنة الولى‪ .‬جاءته وقد أوتي‬
‫صحة الحكم وأوتي العلم ‪-‬رحمة من الله‪ -‬ليواجهها وينجو منها جزاء إحسانه الذي سجله الله له‬
‫في قرآنه‪ .‬يذكر الله تعالى هذه المحنة في كتابه الكريم‪:‬‬
‫َ‬
‫ه َرّبي‬ ‫مَعاذ َ الل ّهِ إ ِن ّ ُ‬‫ل َ‬ ‫ك َقا َ‬ ‫ت لَ َ‬ ‫ت هَي ْ َ‬ ‫ب وََقال َ ْ‬ ‫وا َ‬ ‫ت الب ْ َ‬ ‫ق ِ‬ ‫سهِ وَغ َل ّ َ‬ ‫ف ِ‬ ‫عن ن ّ ْ‬ ‫ه ال ِّتي هُوَ ِفي ب َي ْت َِها َ‬ ‫وََراوَد َت ْ ُ‬
‫ن َرب ّهِ ك َذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ها َ‬ ‫ول أن ّرأى ب ُْر َ‬ ‫ل‬ ‫ها‬ ‫ب‬ ‫م‬
‫ّ ْ ِ َ ّ َِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫و‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫(‬ ‫‪23‬‬ ‫)‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫مو‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫ظا‬ ‫ال‬ ‫ح‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ف‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ه‬
‫م َ َ ِ ُ‬
‫ّ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ي‬ ‫وا‬ ‫ث‬ ‫ن َ‬ ‫س َ‬‫ح َ‬ ‫أ ْ‬
‫ن )‪) (24‬يوسف(‬ ‫صي َ‬ ‫خل َ ِ‬‫م ْ‬‫عَباد َِنا ال ْ ُ‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫شاء إ ِن ّ ُ‬ ‫ح َ‬‫ف ْ‬ ‫سوَء َوال ْ َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ف ع َن ْ ُ‬ ‫صرِ َ‬ ‫ل ِن َ ْ‬

‫ل يذكر السياق القرآني شيئا عن سنها وسنه‪ ،‬فلننظر في ذلك من باب التقدير‪ .‬لقد أحضر‬
‫يوسف صبيا من البئر‪ ،‬كانت هي زوجة في الثلثة والعشرين مثل‪ ،‬وكان هو في الثانية عشرا‪.‬‬
‫بعد ثلثة عشر عاما صارت هي في السادسة والثلثين ووصل عمره إلى الخامسة والعشرين‪.‬‬
‫أغلب الظن أن المر كذلك‪ .‬إن تصرف المرأة في الحادثة وما بعدها يشير إلى أنها مكتملة‬
‫جريئة‪.‬‬

‫والن‪ ،‬لنتدبر معنا في كلمات هذه اليات‪.‬‬

‫ت لَ َ‬ ‫َ‬
‫ك(‪ .‬لن تفر مني هذه المرة‪.‬‬ ‫ب وََقال َ ْ‬
‫ت هَي ْ َ‬ ‫وا َ‬
‫سهِ (‪ ،‬وأغلقت )الب ْ َ‬
‫ف ِ‬
‫عن ن ّ ْ‬
‫ه( صراحة ) َ‬
‫)وََراوَد َت ْ ُ‬
‫هذا يعني أنه كانت هناك مرات سابقة فر فيها منها‪ .‬مرات سابقة لم تكن الدعوة فيها بهذه‬
‫الصراحة وهذا التعري‪ .‬فيبدوا أن امرأة العزيز سئمت تجاهل يوسف لتلميحاتها المستمرة‬
‫وإباءه‪ ..‬فقررت أن تغير خطتها‪ .‬خرجت من التلميح إلى التصريح‪ ..‬أغلقت البواب ومزقت‬
‫أقنعة الحياء وصرحت بحبها وطالبته بنفسه‪.‬‬

‫ثم يتجاوزز السياق القرآني الحوار الذي دار بين امرأة العزيز ويوسف عليه السلم‪ ،‬ولنا أن‬
‫نتصور كيف حاولت إغراءه إما بلباسها أو كلماتها أو حركاتها‪ .‬لكن ما يهمنا هنا هو موقف‬
‫يوسف ‪-‬عليه السلم‪ -‬من هذا الغواء‪.‬‬
‫َ‬
‫ح‬ ‫ه ل َ يُ ْ‬
‫فل ِ ُ‬ ‫مث ْ َ‬
‫وايَ إ ِن ّ ُ‬ ‫ن َ‬
‫س َ‬
‫ح َ‬ ‫مَعاذ َ الل ّهِ إ ِن ّ ُ‬
‫ه َرّبي أ ْ‬ ‫يقف هذا النبي الكريم في وجه سيدته قائل )َقا َ‬
‫ل َ‬
‫ن( أعيذ نفسي بالله أن أفعل هذا مع زوجة من أكرمني بأن نجاني من الجب وجعل‬ ‫مو َ‬ ‫ال ّ‬
‫ظال ِ ُ‬

‫‪45‬‬
‫في هذه الدار مثواي الطيب المن‪ .‬ول يفلح الظالمون الذين يتجاوزون حدود الله‪ ،‬فيرتكبون ما‬
‫تدعينني اللحظة إليه‪.‬‬

‫ه( اتفق المفسرون حول همها بالمعصية‪،‬‬ ‫ن َرب ّ ِ‬ ‫ول َأن ّرَأى ب ُْر َ‬
‫ها َ‬ ‫م ب َِها ل َ ْ‬
‫ت ب ِهِ وَهَ ّ‬
‫م ْ‬ ‫ثم )وَل َ َ‬
‫قد ْ ه َ ّ‬
‫واختلفوا حول همه‪ .‬فمنهم من أخذ بالسرائيليات وذكر أن يعقوب ظهر له‪ ،‬أو جبريل نزل إليه‪،‬‬
‫لكن التلفيق والختلق ظاهر في هذه الزوايات السرائيلية‪ .‬ومن قائل‪ :‬إنها همت به تقصد‬
‫المعصية وهم بها يقصد المعصية ولم يفعل‪ ،‬ومن قائل‪ :‬إنها همت به لتقبله وهم بها ليضربها‪،‬‬
‫ومن قائل‪ :‬إن هذا الهم كان بينهما قبل الحادث‪ .‬كان حركة نفسية داخل نفس يوسف في‬
‫السن التي اجتاز فيها فترة المراهقة‪ .‬ثم صرف الله عنه‪ .‬وأفضل تفسير تطمئن إليه نفسي أن‬
‫هناك تقديما وتأخيرا في الية‪.‬‬

‫قال أبو حاتم‪ :‬كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة‪ ،‬فلما أتيت على قوله تعالى‪) :‬وَل َ َ‬
‫قد ْ‬
‫م ب َِها(‪ .‬قال أبو عبيدة‪ :‬هذا على التقديم والتأخير‪ .‬بمعنى ولقد همت به‪ ..‬ولول أن‬ ‫ت ب ِهِ وَهَ ّ‬
‫م ْ‬
‫هَ ّ‬
‫رأى برهان ربه لهم بها‪ .‬يستقيم هذا التفسير مع عصمة النبياء‪ ..‬كما يستقيم مع روح اليات‬
‫ن( وهذه الية‬ ‫خل َ ِ‬
‫صي َ‬ ‫م ْ‬‫عَباد َِنا ال ْ ُ‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ح َ‬
‫شاء إ ِن ّ ُ‬ ‫ف ْ‬‫سوَء َوال ْ َ‬‫ه ال ّ‬‫ف ع َن ْ ُ‬
‫صرِ َ‬ ‫التي تلحقه مباشرة )ك َذ َل ِ َ‬
‫ك ل ِن َ ْ‬
‫التي تثبت أن يوسف من عباد الله المخلصين‪ ،‬تقطع في نفس الوقت بنجاته من سلطان‬
‫ن( وما دام يوسف‬ ‫طا ٌ‬ ‫سل ْ َ‬‫م ُ‬ ‫ك ع َل َي ْهِ ْ‬‫س لَ َ‬ ‫عَباِدي ل َي ْ َ‬ ‫ن ِ‬
‫الشيطان‪ .‬قال تعالى لبليس يوم الخلق )إ ِ ّ‬
‫من عباده المخلصين‪ ،‬فقد وضح المر بالنسبة إليه‪ .‬ل يعني هذا أن يوسف كان يخلو من‬
‫مشاعر الرجولة‪ ،‬ول يعني هذا أنه كان في نقاء الملئكة وعدم احتفالهم بالحس‪ .‬إنما يعني أنه‬
‫تعرض لغراء طويل قاومه فلم تمل نفسه يوما‪ ،‬ثم أسكنها تقواها كونه مطلعا على برهان ربه‪،‬‬
‫عارفا أنه يوسف بن يعقوب النبي‪ ،‬ابن إسحق النبي‪ ،‬ابن إبراهيم جد النبياء وخليل الرحمن‪.‬‬

‫يبدو أن يوسف ‪-‬عليه السلم‪ -‬آثر النصراف متجها إلى الباب حتى ل يتطور المر أكثر‪ .‬لكن‬
‫امرأة العزيز لحقت به لتمسكه‪ ،‬تدفهعا الشهوة لذلك‪ .‬فأمسكت قميصه من الخلف‪ ،‬فتمزق‬
‫في يدها‪ .‬وهنا تقطع المفاجأة‪ .‬فتح الباب زوجها ‪-‬العزيز‪ .‬وهنا تتبدى المرأة المكتملة‪ ،‬فتجد‬
‫جَزاء‬
‫ما َ‬ ‫الجواب حاضرا على السؤال البديهي الذي يطرح الموقف‪ .‬فتقول متهمة الفتى‪َ :‬قال َ ْ‬
‫ت َ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫ب أِلي ٌ‬ ‫ن أ َوْ ع َ َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫ج َ‬
‫س َ‬
‫َ‬
‫سوًَءا إ ِل ّ أن ي ُ ْ‬ ‫ن أ ََراد َ ب ِأ َهْل ِ َ‬
‫ك ُ‬ ‫م ْ‬
‫َ‬

‫واقترحت هذه المراة ‪-‬العاشقة‪ -‬سريعا العقاب ‪-‬المأمون‪ -‬الواجب تنفيذه على يوسف‪ ،‬خشية‬
‫أن يفتك به العزيز من شدة غضبه‪ .‬بّينت للعزيز أن أفضل عقاب له هو السجن‪ .‬بعد هذا التهام‬
‫سي‬ ‫ف ِ‬
‫عن ن ّ ْ‬
‫ي َراوَد َت ِْني َ‬ ‫الباطل والحكم السريع جهر يوسف بالحقيقة ليدافع عن نفسه‪َ :‬قا َ‬
‫ل هِ َ‬

‫تجاوز السياق القرآني رد الزوج‪ ،‬لكنه بين كيفية تبرأة يوسف ‪-‬عليه السلم‪ -‬من هذه التهمة‬
‫الباطلة‪:‬‬

‫ن‬ ‫ن َ‬
‫كا َ‬ ‫ن )‪ (26‬وَإ ِ ْ‬ ‫ن ال َ‬
‫كاذ ِِبي َ‬ ‫م َ‬‫ت وَهُوَ ِ‬ ‫صد َقَ ْ‬ ‫ل فَ َ‬‫من قُب ُ ٍ‬‫ه قُد ّ ِ‬ ‫ص ُ‬
‫مي ُ‬ ‫ن قَ ِ‬‫كا َ‬ ‫ن أ َهْل َِها ِإن َ‬ ‫م ْ‬‫شاه ِد ٌ ّ‬‫شهِد َ َ‬
‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫من‬‫ه ِ‬ ‫من د ُب ُرٍ َقا َ‬
‫ل إ ِن ّ ُ‬ ‫ه قُد ّ ِ‬‫ص ُ‬‫مي َ‬‫ما َرأى قَ ِ‬ ‫ن )‪ (27‬فَل ّ‬ ‫صاد ِِقي َ‬
‫من ال ّ‬ ‫ت وَهُوَ ِ‬ ‫من د ُب ُرٍ فَك َذ َب َ ْ‬ ‫ه قُد ّ ِ‬
‫ص ُ‬
‫مي ُ‬‫قَ ِ‬
‫م )‪) (28‬يوسف(‬ ‫ظي ٌ‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن كي ْد َك ّ‬ ‫ن إِ ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫كي ْد ِك ّ‬

‫ل نعلم إن كان الشاهد مرافقا للزوج منذ البداية‪ ،‬أم أن العزيز استدعاه بعد الحادثة ليأخذ‬
‫برأيه‪ ..‬كما أشارت بعض الروايات أن هذا الشاهد رجل كبير‪ ،‬بينما أخبرت روايات أخرى أنه‬
‫طفل رضيع‪ .‬كل هذا جائز‪ .‬وهو ل يغير من المر شيئا‪ .‬ما يذكره القرآن أن الشاهد أمرهم‬
‫بالنظر للقميص‪ ،‬فإن كان ممزقا من المام فذلك من أثر مدافعتها له وهو يريد العتداء عليها‬
‫فهي صادقة وهو كاذب‪ .‬وإن كان قميصه ممزقا من الخلف فهو إذن من أثر تملصه منها‬
‫وتعقبها هي له حتى الباب‪ ،‬فهي كاذبة وهو صادق‪.‬‬
‫َ‬
‫م )‪) (28‬يوسف(‬
‫ظي ٌ‬ ‫ن ك َي ْد َك ُ ّ‬
‫ن عَ ِ‬ ‫من ك َي ْد ِك ُ ّ‬
‫ن إِ ّ‬ ‫ه ِ‬ ‫من د ُب ُرٍ َقا َ‬
‫ل إ ِن ّ ُ‬ ‫ه قُد ّ ِ‬
‫ص ُ‬
‫مي َ‬ ‫فَل َ ّ‬
‫ما َرأى قَ ِ‬

‫فتأكد الزوج من خيانة زوجته عندما رأى قميص يوسف ممزق من الخلف‪ .‬لكن الدم لم يثر في‬
‫عروقه ولم يصرخ ولم يغضب‪ .‬فرضت عليه قيم الطبقة الراقية التي وقع فيها الحادث أن‬

‫‪46‬‬
‫يواجه الموقف بلباقة وتلطف‪ ..‬نسب ما فعلته إلى كيد النساء عموما‪ .‬وصرح بأن كيد النساء‬
‫عموم عظيم‪ .‬وهكذا سيق المر كما لو كان ثناء يساق‪ .‬ول نحسب أنه يسوء المرأة أن يقال‬
‫م(‪ .‬فهو دللة على أنها أنثى كاملة مستوفية لمقدرة النثى على الكيد‪.‬‬ ‫ظي ٌ‬
‫ن عَ ِ‬ ‫ن ك َي ْد َك ُ ّ‬
‫لها‪) :‬إ ِ ّ‬
‫هـذا( أهمل هذا الموضوع ول تعره‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬
‫ض عَ ْ‬
‫ف أع ْرِ ْ‬
‫س ُ‬
‫بعدها التفت الزوج إلى يوسف قائل له‪ُ) :‬يو ُ‬
‫اهتماما ول تتحدث به‪ .‬هذا هو المهم‪ ..‬المحافظة على الظواهر‪ ..‬ثم يوجه عظة ‪-‬مختصرة‪-‬‬
‫ك‬
‫ك إ ِن ّ ِ‬ ‫ري ل ِ َ‬
‫ذنب ِ ِ‬ ‫ف ِ‬
‫ست َغْ ِ‬
‫للمرأة التي ضبطت متلبسة بمراودة فتاها عن نفسها وتمزيق قميصه‪َ) :‬وا ْ‬
‫ن(‪.‬‬‫خاط ِِئي َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬‫ت ِ‬ ‫ُ‬
‫كن ِ‬

‫انتهى الحادث الول‪ ..‬لكن الفتنة لم تنته‪ ..‬فلم يفصل سيد البيت بين المرأة وفتاها‪ ..‬كل ما‬
‫طلبه هو إغلق الحديث في هذا الموضوع‪ .‬غير أن هذا الموضوع بالذات‪ .‬وهذا المر يصعب‬
‫تحقيقه في قصر يمتلئ بالخدم والخادمات والمستشارين والوصيفات‪.‬‬

‫المشهد الثاني‪:‬‬

‫بدأ الموضوع ينتشر‪ ..‬خرج من القصر إلى قصور الطبقة الراقية يومها‪ ..‬ووجدت فيه نساء هذه‬
‫الطبقة مادة شهية للحديث‪ .‬إن خلو حياة هذه الطبقات من المعنى‪ ،‬وانصرافها إلى اللهو‪،‬‬
‫يخلعان أهمية قصوى على الفضائح التي ترتبط بشخصيات شهيرة‪ ..‬وزاد حديث المدينة )وََقا َ‬
‫ل‬
‫حّبا إ ِّنا ل َن ََرا َ‬ ‫ن ِسوة ٌ في ال ْمدينة ا َ‬
‫ن(‬‫مِبي ٍ‬
‫ل ّ‬‫ضل َ ٍ‬
‫ها ِفي َ‬ ‫فَها ُ‬ ‫سهِ قَد ْ َ‬
‫شغَ َ‬ ‫ف ِ‬
‫عن ن ّ ْ‬
‫ها َ‬ ‫مَرأة ُ ال ْعَ ِ‬
‫زيزِ ت َُراوِد ُ فََتا َ‬ ‫َ ِ َ ِ ْ‬ ‫ْ َ ِ‬
‫وانتقل الخبر من فم إلى فم‪ ..‬ومن بيت إلى بيت‪ ..‬حتى وصل لمرأة العزيز‪.‬‬

‫المشهد الثالث‪:‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫فَل َما سمعت بمك ْره َ‬
‫كيًنا وََقال َ ِ‬
‫ت‬ ‫س ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫من ْهُ ّ‬
‫حد َةٍ ّ‬ ‫ل َوا ِ‬‫ت كُ ّ‬ ‫مت ّك َأ َوآت َ ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫ت ل َهُ ّ‬ ‫ن وَأع ْت َد َ ْ‬ ‫ت إ ِل َي ْهِ ّ‬ ‫سل َ ْ‬ ‫ن أْر َ‬ ‫ّ َ ِ َ ْ ِ َ ِ ِ ّ‬
‫مل َكٌ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ّ‬
‫هـذا إ ِل َ‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬
‫هـذا ب َشًرا إ ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ما َ‬ ‫ش ل ِلهِ َ‬ ‫حا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ُ‬
‫ن وَقل َ‬ ‫ن أي ْد ِي َهُ ّ‬ ‫ه وَقطعْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ه أكب َْرن َ ُ‬ ‫ما َرأي ْن َ ُ‬ ‫ن فَل َ ّ‬ ‫ج ع َل َي ْهِ ّ‬
‫خُر ْ‬‫ا ْ‬
‫ما‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ئن‬‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬
‫َ َ َ‬ ‫ص‬ ‫ْ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ت‬‫س‬ ‫َ‬ ‫فا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ف‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫عن‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ت‬
‫َ َ ُ‬ ‫ود‬ ‫را‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ت‬‫م‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ذ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫(‬ ‫‪31‬‬ ‫)‬ ‫كَ ِ ٌ‬
‫م‬ ‫ري‬
‫ن )‪) (32‬يوسف(‬ ‫ري َ‬ ‫صاِغ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ن وَلي َكوًنا ّ‬ ‫َ‬ ‫جن َ ّ‬ ‫س َ‬ ‫َ‬
‫مُره ُ لي ُ ْ‬ ‫آ ُ‬

‫عندما سمعت امرأة العزيز بما تتناقله نساء الطبقة العليا عنها‪ ،‬قررت أن تعد مأدبة كبيرة في‬
‫القصر‪ .‬وأعدت الوسائد حتى يتكئ عليها المدعوات‪ .‬واختارت ألوان الطعام والشراب وأمرت‬
‫أن توضع السكاكين الحادة إلى جوار الطعام المقدم‪ .‬ووجهت الدعوة لكل من تحدثت عنها‪.‬‬
‫ج ع َل َي ْهِ ّ‬
‫ن‬ ‫خُر ْ‬ ‫وبينما هن منشغلت بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة‪ ،‬فاجأتهن بيوسف‪ :‬وََقال َ ِ‬
‫تا ْ‬
‫فَل َ ّ‬
‫ما‬

‫ن( وجرحن أيديهن بالسكاكين‬ ‫)فَل َما رأ َينه أ َك ْبرنه( بهتن لطلعته‪ ،‬ودهشن‪) .‬وقَط ّع َ‬
‫ن أي ْد ِي َهُ ّ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ ُ‬ ‫ّ َ َْ ُ‬
‫ه( وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة‬ ‫ش ل ِل ّ ِ‬‫َ‬ ‫حا‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬
‫َ َ‬ ‫ل‬‫ُ‬ ‫ق‬‫و‬‫)‬ ‫المفاجئة‪.‬‬ ‫للدهشة‬
‫م( يتضح من هذه التعبيرات أن شيئا من ديانات‬ ‫ري ٌ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫ملك ك ِ‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫هـذا إ ِل َ‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬
‫هـذا ب َشًرا إ ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ما َ‬ ‫بصنع الله‪َ ) ..‬‬
‫التوحيد تسربت لهل ذلك الزمان‪.‬‬

‫ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها‪ ،‬وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والعجاب‬
‫والذهول‪ .‬فقالت قولة المرأة المنتصرة‪ ،‬التي ل تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها‪،‬‬
‫والتي تفتخر عليهن بأن هذا متناول يدها؛ وإن كان قد استعصم في المرة الولى فهي ستحاول‬
‫المرة تلو الخرى إلى أن يلين‪ :‬انظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والعجاب! لقد بهرني‬
‫مثلكن فراودته عن نفسه لكنه استعصم‪ ،‬وإن لم يطعني سآمر بسجنه لذّله‪.‬‬

‫إنها لم ترى بأسا من الجهر بنزواتها النثوية أما نساء طبقتها‪ .‬فقالتها بكل إصرار وتبجح‪ ،‬قالتها‬
‫مبّينة أن الغراء الجديد تحت التهديد‪.‬‬

‫واندفع النسوة كلهم إليه يراودنه عن نفسه‪ ..‬كل منهن أرادته لنفسها‪ ..‬ويدلنا على ذلك أمران‪.‬‬
‫الدليل الول هو قول يوسف عليه السلم )رب السج َ‬
‫عون َِني إ ِل َي ْ ِ‬
‫ه( فلم يقل‬ ‫ما ي َد ْ ُ‬
‫م ّ‬ ‫ب إ ِل َ ّ‬
‫ي ِ‬ ‫ح ّ‬
‫نأ َ‬‫ّ ْ ُ‬ ‫َ ّ‬

‫‪47‬‬
‫ن‬ ‫خط ْب ُك ُ ّ‬
‫ن إ ِذ ْ َراَودت ّ ّ‬ ‫ما َ‬ ‫)ما تدعوني إليه(‪ ..‬والمر الخر هو سؤال الملك لهم فيما بعد )َقا َ‬
‫ل َ‬
‫ه(‪.‬‬
‫س ِ‬
‫ف ِ‬
‫عن ن ّ ْ‬
‫ف َ‬
‫س َ‬
‫ُيو ُ‬

‫أمام هذه الدعوات ‪-‬سواء كانت بالقول أم بالحركات واللفتات‪ -‬استنجد يوسف بربه ليصرف‬
‫عنه محاولتهن ليقاعه في حبائلهن‪ ،‬خيفة أن يضعف في لحظة أمام الغراء الدائم‪ ،‬فيقع فيما‬
‫يخشاه على نفسه‪ .‬دعى يوسف الله دعاء النسان العارف ببشريته‪ ،‬الذي ل يغتر بعصمته؛‬
‫ب‬
‫ل َر ّ‬ ‫فيريد مزيدا من عناية الله وحياطته‪ ،‬ويعاونه على ما يعترضه من فتة وكيد وإغراء‪َ) .‬قا َ‬
‫ن(‬
‫جاه ِِلي َ‬‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ن وَأ َ ُ‬
‫كن ّ‬ ‫ب إ ِل َي ْهِ ّ‬
‫ص ُ‬
‫ف ع َني ك َيدهُ َ‬
‫نأ ْ‬‫ْ َ ّ‬ ‫صرِ ْ ّ‬ ‫عون َِني إ ِل َي ْهِ وَإ ِل ّ ت َ ْ‬
‫ما ي َد ْ ُ‬
‫م ّ‬ ‫ب إ ِل َ ّ‬
‫ي ِ‬ ‫ح ّ‬
‫السج َ‬
‫نأ َ‬‫ّ ْ ُ‬
‫واستجاب له الله‪ ..‬وصرف عنه كيد النسوة‪.‬‬

‫وهذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهن من استجابته لهن‪ ،‬بعد هذه التجربة؛ أو‬
‫بزيادة انصرافه عن الغراء حتى ما يحس في نفسه أثرا منه‪ .‬أو بهما جميعا‪ .‬وهكذا اجتاز‬
‫يوسف المحنة الثانية بلطف الله ورعايته‪ ،‬فهو الذي سمع الكيد ويسمع الدعاء‪ ،‬ويعلم ما وراء‬
‫الكيد وما وراء الدعاء‪.‬‬

‫ما انتهت المحنة الثانية إل لتبدأ الثالثة‪ ..‬لكن هذه الثالثة هي آخر محن الشدة‪.‬‬

‫يسجن يوسف عليه السلم والفصل الثالث من حياته‪:‬‬

‫ربما كان دخوله للسجن بسبب انتشار قصته مع امرأة العزيز ونساء طبقتها‪ ،‬فلم يجد أصحاب‬
‫هذه البيوت طريقة لسكات هذه اللسنة سوى سجن هذا الفتى الذي دلت كل اليات على‬
‫برائته‪ ،‬لتنسى القصة‪ .‬قال تعالى في سورة )يوسف(‪:‬‬
‫َ‬
‫ن )‪) (35‬يوسف(‬
‫حي ٍ‬
‫حّتى ِ‬
‫ه َ‬
‫جن ُن ّ ُ‬ ‫ت ل َي َ ْ‬
‫س ُ‬ ‫ما َرأوُا ْ الَيا ِ‬ ‫دا ل َُهم ّ‬
‫من ب َعْد ِ َ‬ ‫ثُ ّ‬
‫م بَ َ‬

‫وهكذا ترسم الية الموجزة جو هذا العصر بأكمله‪ ..‬جو الفساد الداخلي في القصور‪ ،‬جو‬
‫الوساط الرستقراطية‪ ..‬وجو الحكم المطلق‪.‬‬

‫إن حلول المشكلت في الحكم المطلق هي السجن‪ ..‬وليس هذا بغريب على من يعبد آلهة‬
‫متعددة‪ .‬كانوا على عبادة غير الله‪ ..‬ولقد رأينا من قبل كيف تضيع حريات الناس حين ينصرفون‬
‫عن عبادة الله إلى عبادة غيره‪ .‬وها نحن أولء نرى في قصة يوسف شاهدا حيا يصيب حتى‬
‫النبياء‪ .‬صدر قرارا باعتقاله وأدخل السجن‪ .‬بل قضية ول محاكمة‪ ،‬ببساطة ويسر‪ ..‬ل يصعب‬
‫في مجتمع تحكمه آلهة متعددة أن يسجن بريء‪ .‬بل لعل الصعوبة تكمن في محاولة شيء غير‬
‫ذلك‪.‬‬

‫دخل يوسف السجن ثابت القلب هادئ العصاب أقرب إلى الفرح لنه نجا من إلحاح زوجة‬
‫العزيز ورفيقاتها‪ ،‬وثرثرة وتطفلت الخدم‪ .‬كان السجن بالنسبة إليه مكانا هادئا يخلو فيه ويفكر‬
‫في ربه‪.‬‬

‫ويبين لنا القرآن الكريم المشهد الول من هذا الفصل‪:‬‬

‫يختصر السياق القرآني ما كان من أمر يوسف في السجن‪ ..‬لكن الواضح أن يوسف ‪-‬عليه‬
‫السلم‪ -‬انتهز فرصة وجوده في السجن‪ ،‬ليقوم بالدعوة إلى الله‪ .‬مما جعل السجناء‬
‫يتوسمون فيه الطيبة والصلح وإحسان العبادة والذكر والسلوك‪.‬‬

‫انتهز يوسف ‪-‬عليه السلم‪ -‬هذه الفرصة ليحدث الناس عن رحمة الخالق وعظمته وحبه‬
‫لمخلوقاته‪ ،‬كان يسأل الناس‪ :‬أيهما أفضل‪ ..‬أن ينهزم العقل ويعبد أربابا متفرقين‪ ..‬أم ينتصر‬
‫العقل ويعبد رب الكون العظيم؟ وكان يقيم عليهم الحجة بتساؤلته الهادئة وحواره الذكي‬
‫وصفاء ذهنه‪ ،‬ونقاء دعوته‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫م له سجينان يسألنه تفسير أحلمهما‪ ،‬بعد أن توسما في وجهه الخير‪ .‬إن‬ ‫وفي أحد اليام‪ ،‬قَد ِ َ‬
‫أول ما قام به يوسف ‪-‬عليه السلم‪ -‬هو طمأنتهما أنه سيؤول لهم الرؤى‪ ،‬لن ربه علمه علما‬
‫خاصا‪ ،‬جزاء على تجرده هو وآباؤه من قبله لعبادته وحده‪ ،‬وتخلصه من عبادة الشركاء‪ ..‬وبذلك‬
‫يكسب ثقتهما منذ اللحظة الولى بقدرته على تأويل رؤياهما‪ ،‬كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه‪.‬‬
‫ثم بدأ بدعوتهما إلى التوحيد‪ ،‬وتبيان ما هم عليه من الظلل‪ .‬قام بكل هذا برفق ولطف ليدخل‬
‫إلى النفوس بل مقاومة‪.‬‬

‫بعد ذلك فسر لهما الرؤى‪ .‬بّين لهما أن أحدها سيصلب‪ ،‬والخر سينجو‪ ،‬وسيعمل في قصر‬
‫الملك‪ .‬لكنه لم يحدد من هو صاحب البشرى ومن هو صاحب المصير السيئ تلطفا وتحرجا من‬
‫المواجهة بالشر والسوء‪ .‬وتروي بعض التفاسير أن هؤلء الرجلين كانا يعملن في القصر‪،‬‬
‫أحدهما طباخا‪ ،‬والخر يسقي الناس‪ ،‬وقد اتهما بمحاولة تسميم الملك‪.‬‬

‫أوصى يوسف من سينجو منهما أن يذكر حاله عن الملك‪ .‬لكن الرجل لم ينفذ الوصية‪ .‬فربما‬
‫ألهته حياة القصر المزدحمة يوسف وأمره‪ .‬فلبث في السجن بضع سنين‪ .‬أراد الله بهذا أن‬
‫يعلم يوسف ‪-‬عليه السلم‪ -‬درسا‪.‬‬

‫جاك من إخوتك؟ قال‪ :‬الله‪.‬‬ ‫فقد ورد في إحدى الرويات أنه جاءه جبريل قال‪ :‬يا يوسف من ن ّ‬
‫قال‪ :‬من أنقذك من الجب؟ قال‪ :‬الله‪ .‬قال‪ :‬من حررك بعد أن صرت عبدا؟ قال‪ :‬الله‪ .‬قال‪:‬‬
‫من عصمك من النساء؟ قال‪ :‬الله‪ .‬قال‪ :‬فعلم تطلب النجاة من غيره؟‬

‫وقد يكون هذا المر زيادة في كرم الله عليه واصطفاءه له‪ ،‬فلم يجعل قضاء حاجته على يد‬
‫عبد ول سبب يرتبط بعبد‪.‬‬

‫المشهد الثاني‪:‬‬

‫في هذا المشهد تبدأ نقطة التحول‪ ..‬التحول من محن الشدة إلى محن الرخاء‪ ..‬من محنة‬
‫العبودية والرق لمحنة السلطة والملك‪.‬‬

‫في قصر الحكم‪ ..‬وفي مجلس الملك‪ :‬يحكي الملك لحاشيته رؤياه طالبا منهم تفسيرا لها‪.‬‬
‫ْ‬
‫ت‬
‫سا ٍ‬ ‫ضرٍ وَأ ُ َ‬
‫خَر َياب ِ َ‬ ‫خ ْ‬ ‫سنب ُل َ ٍ‬
‫ت ُ‬ ‫سب ْعَ ُ‬
‫ف وَ َ‬
‫جا ٌ‬
‫ع َ‬
‫سب ْعٌ ِ‬‫ن َ‬‫ن ي َأك ُل ُهُ ّ‬ ‫ما ٍ‬‫س َ‬ ‫ت ِ‬ ‫قَرا ٍ‬
‫سب ْعَ ب َ َ‬ ‫َ‬
‫ك إ ِّني أَرى َ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫مل ِ ُ‬ ‫)وََقا َ‬
‫َ‬
‫مل أفُْتوِني ِفي ُرؤ َْيايَ ِإن ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن( لكن المستشارين والكهنة لم يقوموا‬ ‫م ِللّرؤ َْيا ت َعْب ُُرو َ‬ ‫كنت ُ ْ‬ ‫َيا أي َّها ال َ‬
‫بالتفسير‪ .‬ربما لنهم لم يعرفوا تفسيرها‪ ،‬أو أنهم أحسوا أنها رؤيا سوء فخشوا أن يفسروها‬
‫للملك‪ ،‬وأرادوا أن يأتي التفسير من خارج الحاشية ‪-‬التي تعودت على قول كل ما يسر الملك‬
‫فقط‪ .‬وعللوا عدم التفسير بأن قالوا للملك أنها أجزاء من أحلم مختلطة ببعضها البعض‪،‬‬
‫ليست رؤيا كاملة يمكن تأويلها‪.‬‬

‫المشهد الثالث‪:‬‬

‫وصل الخبر إلى الساقي ‪-‬الذي نجا من السجن‪ ..‬تداعت أفكاره وذكره حلم الملك بحلمه الذي‬
‫رآه في السجن‪ ،‬وذكره السجن بتأويل يوسف لحلمه‪ .‬وأسرع إلى الملك وحدثه عن يوسف‪.‬‬
‫قال له‪ :‬إن يوسف هو الوحيد الذي يستطيع تفسير رؤياك‪.‬‬

‫وأرسل الملك ساقيه إلى السجن ليسأل يوسف‪ .‬ويبين لنا الحق سبحانه كيف نقل الساقي‬
‫رؤيا الملك ليوسف بتعبيرات الملك نفسها‪ ،‬لنه هنا بصدد تفسير حلم‪ ،‬وهو يريد أن يكون‬
‫التفسير مطابقا تماما لما رءاه الملك‪ .‬وكان الساقي يسمي يوسف بالصديق‪ ،‬أي الصادق‬
‫الكثير الصدق‪ ..‬وهذا ما جربه من شأنه من قبل‪.‬‬
‫غال ِب ع ََلى أ َمره وَلـك َ‬
‫ن أك ْث ََر الّنا ِ‬
‫س لَ‬ ‫ْ ِ ِ َ ِ ّ‬ ‫ه َ ٌ‬ ‫جاء الوقت واحتاج الملك إلى رأي يوسف‪َ) ..‬والل ّ ُ‬
‫ل يوسف عن تفسير حلم الملك‪ ..‬فلم يشترط خروجه من السجن مقابل‬ ‫ن(‪ .‬سُئِ َ‬ ‫ي َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬

‫‪49‬‬
‫تفسيره‪ .‬لم يساوم ولم يتردد ولم يقل شيئا غير تفسير الرؤيا‪ ..‬هكذا ببراءة النبي حين يلجأ‬
‫إليه الناس فيغيثهم‪ ..‬وإن كان هؤلء أنفسهم سجانيه وجلديه‪.‬‬

‫لم يقم يسوف ‪-‬عليه السلم‪ -‬بالتفسير المباشر المجرد للرؤيا‪ .‬وإنما قدم مع التفسير النصح‬
‫وطريقة مواجهة المصاعب التي ستمر بها مصر‪ .‬أفهم يوسف رسول الملك أن مصر ستمر‬
‫عليها سبع سنوات مخصبة تجود فيها الرض بالغلت‪ .‬وعلى المصريين أل يسرفوا في هذه‬
‫السنوات السبع‪ .‬لن وراءها سبع سنوات مجدبة ستأكل ما يخزنه المصريون‪ ،‬وأفضل خزن‬
‫للغلل أن تترك في سنابلها كي ل تفسد أو يصيبها السوس أو يؤثر عليها الجو‪.‬‬

‫بهذا انتهى حلم الملك‪ ..‬وزاد يوسف تأويله لحلم الملك بالحديث عن عام لم يحلم به الملك‪،‬‬
‫عام من الرخاء‪ .‬عام يغاث فيه الناس بالزرع والماء‪ ،‬وتنمو كرومهم فيعصرون خمرا‪ ،‬وينمو‬
‫سمسمهم وزيتونهم فيعصرون زيتا‪ .‬كان هذا العام الذي ل يقابله رمز في حلم الملك‪ .‬علما‬
‫خاصا أوتيه يوسف‪ .‬فبشر به الساقي ليبشر به الملك والناس‪.‬‬

‫المشهد الرابع‪:‬‬

‫عاد الساقي إلى الملك‪ .‬أخبره بما قال يوسف‪ ،‬دهش الملك دهشة شديدة‪ .‬ما هذا السجين‪..‬؟‬
‫إنه يتنبأ لهم بما سيقع‪ ،‬ويوجههم لعلجه‪ ..‬دون أن ينتظر أجرا أو جزاء‪ .‬أو يشترط خروجا أو‬
‫مكافأة‪ .‬فأصدر الملك أمره بإخراج يوسف من السجن وإحضاره فورا إليه‪ .‬ذهب رسول الملك‬
‫إلى السجن‪ .‬ول نعرف إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة‪ .‬أم أنه شخصية رفيعة مكلفة‬
‫بهذه الشؤون‪ .‬ذهب إليه في سجنه‪ .‬رجا منه أن يخرج للقاء الملك‪ ..‬فهو يطلبه على عجل‪.‬‬
‫رفض يوسف أن يخرج من السجن إل إذا ثبتت براءته‪ .‬لقد رباه ربه وأدبه‪ .‬ولقد سكبت هذه‬
‫التربية وهذا الدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة‪ .‬ويظهر أثر التربية واضحا في الفارق‬
‫بين الموقفين‪ :‬الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى‪ :‬اذكرني عند ربك‪ ،‬والموقف الذي يقول‬
‫فيه‪ :‬ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة التي قطعن أيدهن‪ ،‬الفارق بين الموقفين كبير‪.‬‬

‫المشهد الخامس‪:‬‬

‫تجاوز السياق القرآني عما حدث بين الملك ورسوله‪ ،‬وردة فعل الملك‪ .‬ليقف بنا أمام المحاكة‪.‬‬
‫وسؤال الملك لنساء الطبقة العليا عما فعلنه مع يوسف‪ .‬يبدوا أن الملك سأل عن القصة‬
‫ليكون على بينة من الظروف قبل أن يبدأ التحقيق‪ ،‬لذلك جاء سؤاله دقيقا للنساء‪ .‬فاعترف‬
‫سوٍء(‪.‬‬ ‫مَنا ع َل َي ْهِ ِ‬
‫من ُ‬ ‫ش ل ِل ّهِ َ‬
‫ما ع َل ِ ْ‬ ‫حا َ‬ ‫النساء بالحقيقة التي يصعب إنكارها )قُل ْ َ‬
‫ن َ‬

‫وهنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف‪ ،‬التي يئست منه‪ ،‬ولكنها ل تستطيع أن تخلص من تعلقها به‪..‬‬
‫تتقدم لتقول كل شيء بصراحة‪ .‬يصور السياق القرآني لنا اعتراف امرأة العزيز‪ ،‬بألفاظ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ه لَ ِ‬‫سهِ وَإ ِن ّ ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫عن ن ّ ْ‬ ‫ه َ‬‫موحية‪ ،‬تشي بما وراءها من انفعالت ومشاعر عميقة )أن َا ْ َراَودت ّ ُ‬
‫ن( شهادة كاملة بإثمها هي‪ ،‬وبراءته ونظافته وصدقه هو‪ .‬شهادة ل يدفع إليها خوف أو‬ ‫صاد ِِقي َ‬ ‫ال ّ‬
‫خشية أو أي اعتبار آخر‪ ..‬يشي السياق القرآني بحافز أعمق من هذا كله‪ .‬حرصها على أن‬
‫يحترمها الرجل الذي أهان كبرياءها النثوية‪ ،‬ولم يعبأ بفتنتها الجسدية‪ .‬ومحاولة يائسة لتصحيح‬
‫صورتها في ذهنه‪ .‬ل تريده أن يستمر على تعاليه واحتقاره لها كخاطئة‪ .‬تريد أن تصحح فكرته‬
‫ب(‪ .‬لست بهذا السوء الذي يتصوره فيني‪ .‬ثم تمضي في‬ ‫ه ِبال ْغَي ْ ِ‬ ‫م أَ ُ‬
‫خن ْ ُ‬
‫ك ل ِيعل َ َ‬
‫م أّني ل َ ْ‬‫عنها‪) :‬ذ َل ِ َ َ ْ َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫خائ ِِني َ‬
‫دي كي ْد َ ال َ‬ ‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫هذه المحاولة والعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها )وَأ ّ‬
‫سوِء إ ِل ّ‬ ‫ماَرة ٌ ِبال ّ‬ ‫َ ّ‬
‫فس ل َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫سي إ ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ما أ ُب َّرىُء ن َ ْ‬
‫وتمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة )وَ َ‬
‫م(‪.‬‬ ‫حي ٌ‬‫فوٌر ّر ِ‬ ‫ن َرّبي غ َ ُ‬‫ي إِ ّ‬
‫م َرب ّ َ‬
‫ح َ‬ ‫ما َر ِ‬
‫َ‬

‫إن تأمل اليات يوحي بأن امرأة العزيز قد تحولت إلى دين يوسف‪ .‬تحولت إلى التوحيد‪ .‬إن‬
‫سجن يوسف كان نقلة هائلة في حياتها‪ .‬آمنت بربه واعتنقت ديانته‪.‬‬

‫ويصدر المر الملكي بالفراج عنه وإحضاره‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫يهمل السياق القرآني بعد ذلك قصة امرأة العزيز تماما‪ ،‬يسقطها من المشاهد‪ ،‬فل نعرف ماذا‬
‫كان من أمرها بعد شهادتها الجريئة التي أعلنت فيها ضمنا إيمانها بدين يوسف‪.‬‬

‫وقد لعبت الساطير دورها في قصة المرأة‪ ..‬قيل‪ :‬إن زوجها مات وتزوجت من يوسف‪،‬‬
‫فاكتشف أنها عذراء‪ ،‬واعترفت له أن زوجها كان شيخا ل يقرب النساء‪ ..‬وقيل‪ :‬إن بصرها ضاع‬
‫بسبب استمرارها في البكاء على يوسف‪ ،‬خرجت من قصرها وتاهت في طرقات المدينة‪ ،‬فلما‬
‫صار يوسف كبيرا للوزراء‪ ،‬ومضى موكبه يوما هتفت به امرأة ضريرة تتكفف الناس‪ :‬سبحان‬
‫من جعل الملوك عبيدا بالمعصية‪ ،‬وجعل العبيد ملوكا بالطاعة‪.‬‬

‫سأل يوسف‪ :‬صوت من هذا؟ قيل له‪ :‬امرأة العزيز‪ .‬انحدر حالها بعد عز‪ .‬واستدعاها يوسف‬
‫وسألها‪ :‬هل تجدين في نفسك من حبك لي شيئا؟‬

‫قالت‪ :‬نظرة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا يا يوسف‪ ..‬ناولني نهاية سوطك‪ .‬فناولها‪ .‬فوضعته‬
‫على صدرها‪ ،‬فوجد السوط يهتز في يده اضطرابا وارتعاشا من خفقان قلبها‪.‬‬

‫وقيلت أساطير أخرى‪ ،‬يبدو فيها أثر المخيلة الشعبية وهي تنسج قمة الدراما بانهيار العاشقة‬
‫إلى الحضيض‪ ..‬غير أن السياق القرآني تجاوز تماما نهاية المرأة‪.‬‬

‫أغفلها من سياق القصة‪ ،‬بعد أن شهدت ليوسف‪ ..‬وهذا يخدم الغرض الديني في القصة‪،‬‬
‫فالقصة أساسا قصة يوسف وليست قصة المرأة‪ ..‬وهذا أيضا يخدم الغرض الفني‪ ..‬لقد ظهرت‬
‫المرأة ثم اختفت في الوقت المناسب‪ ..‬اختفت في قمة مأساتها‪ ..‬وشاب اختفاءها غموض‬
‫فني معجز‪ ..‬ولربما بقيت في الذاكرة باختفائها هذا زمنا أطول مما كانت تقضيه لو عرفنا بقية‬
‫قصتها‪.‬‬

‫ويبدأ فصل جديد من فصول حياة يوسف عليه السلم‪:‬‬

‫بعد ما رأى الملك من أمر يوسف‪ .‬براءته‪ ،‬وعلمه‪ ،‬وعدم تهافته على الملك‪ .‬عرف أنه أمام‬
‫رجل كريم‪ ،‬فلم يطلبه ليشكره أو يثني عليه‪ ،‬وإنما طلبه ليكون مستشاره‪ .‬وعندما جلس معه‬
‫وكلمه‪ ،‬تحقق له صدق ما توسمه فيه‪ .‬فطمئنه على أنه ذو مكانه وفي أمان عنده‪ .‬فماذا قال‬
‫يوسف؟‬

‫لم يغرق الملك شكرا‪ ،‬ولم يقل له‪ :‬عشت يا مولي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك المين‪ ،‬كما‬
‫يفعل المتملقون للطواغيت؛ كل إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من العباء في‬
‫الزمة القادمة‪.‬‬

‫كما وأورد القرطبي في تفسيره‪ .‬أن الملك قال فيما قاله‪ :‬لو جمعت أهل مصر ما أطاقوا هذا‬
‫المر‪ ..‬ولم يكونوا فيه أمناء‪.‬‬

‫كان الملك يقصد الطبقة الحاكمة وما حولها من طبقات‪ ..‬إن العثور على المانة في الطبقة‬
‫المترفة شديد الصعوبة‪.‬‬

‫اعتراف الملك ليوسف بهذه الحقيقة زاد من عزمه على تولي هذا المر‪ ،‬لنقاذ مصر وما حولها‬
‫م(‪ .‬لم‬ ‫في ٌ‬ ‫َ‬ ‫جعَل ِْني ع ََلى َ‬
‫ظ ع َِلي ٌ‬ ‫ح ِ‬
‫ض إ ِّني َ‬
‫ن الْر ِ‬
‫خَزآئ ِ ِ‬ ‫من البلد من هذه المجاعة‪ ..‬قال يوسف‪) :‬ا ْ‬
‫يكن يوسف في كلمته يقصد النفع أو الستفادة‪ .‬على العكس من ذلك‪ .‬كان يحتمل أمانة‬
‫إطعام شعوب جائعة لمدة سبع سنوات‪ ..‬شعوب يمكن أن تمزق حكامها لو جاعت‪ ..‬كان‬
‫الموضوع في حقيقته تضحية من يوسف‪.‬‬

‫ل يثبت السياق القرآني أن الملك وافق‪ ..‬فكأنما يقول القرآن الكريم إن الطلب تضمن‬
‫الموافقة‪ ..‬زيادة في تكريم يوسف‪ ،‬وإظهار مكانته عند الملك‪ ..‬يكفي أن يقول ليجاب‪ ..‬بل‬

‫‪51‬‬
‫ليكون قوله هو الجواب‪ ،‬ومن ثم يحذف رد الملك‪ ..‬ويفهمنا شريط الصور المعروضة أن‬
‫يوسف قد صار في المكان الذي اقترحه‪.‬‬

‫وهكذا مكن الله ليوسف في الرض‪ ..‬صار مسؤول عن خزائن مصر واقتصادها‪ ..‬صار كبيرا‬
‫للوزراء‪ ..‬وجاء في رواية أن الملك قال ليوسف‪ :‬يا يوسف ليس لي من الحكم إل الكرسي‪..‬‬
‫ول ينبئنا السياق القرآني كيف تصرف يوسف في مصر‪ ..‬نعرف أنه حكيم عليم‪ ..‬نعرف أنه‬
‫أمين وصادق‪ ..‬ل خوف إذا على اقتصاد مصر‪.‬‬

‫المشهد الثاني من هذا الفصل‪:‬‬

‫دارت عجلة الزمن‪ ..‬طوى السياق دورتها‪ ،‬ومر مرورا سريعا على سنوات الرخاء‪ ،‬وجاءت‬
‫سنوات المجاعة‪ ..‬وهنا يغفل السياق القرآني‬

‫بعد ذلك ذكر الملك والوزراء في السورة كلها‪ ..‬كأن المر كله قد صار ليوسف‪ .‬الذي اضطلع‬
‫بالعبء في الزمة الخانقة الرهيبة‪ .‬وأبرز يوسف وحده على مسرح الحوادث‪ ,‬وسلط عليه كل‬
‫الضواء‪.‬‬

‫أما فعل الجدب‬

‫والمجاعة فقد أبرزه السياق في مشهد إخوة يوسف‪ ,‬يجيئون من البدو من أرض كنعان البعيدة‬
‫يبحثون عن الطعام في مصر‪ .‬ومن ذلك ندرك اتساع دائرة المجاعة‪ ,‬كما كيف صارت مصر ‪-‬‬
‫بتدبير يوسف ‪ -‬محط أنظار جيرانها ومخزن الطعام في المنطقة كلها‪.‬‬

‫لقد اجتاح الجدب والمجاعة أرض كنعان وما حولها‪ .‬فاتجه إخوة يوسف ‪ -‬فيمن يتجهون ‪ -‬إلى‬
‫مصر‪ .‬وقد تسامع الناس بما فيها من فائض الغلة منذ السنوات السمان‪.‬‬

‫فدخلوا على عزيز مصر‪ ,‬وهم ل يعلمون أن أخاهم هو العزيز‪ .‬إنه يعرفهم فهم لم يتغيروا كثيرا‪.‬‬
‫أما يوسف فإن خيالهم ل يتصور قط أنه العزيز! وأين الغلم العبراني الصغير الذي ألقوه في‬
‫الجب منذ عشرين عاما أو تزيد من عزيز مصر شبه المتوج في سنه وزيه وحرسه ومهابته‬
‫وخدمه وحشمه وهيله وهيلمانه?‬

‫م لَ ُ‬
‫ه‬ ‫خُلوا ْ ع َل َي ْهِ فَعََرفَهُ ْ‬
‫م وَهُ ْ‬ ‫ولم يكشف لهم يوسف عن نفسه‪ .‬فل بد من دروس يتلقونها‪) :‬فَد َ َ‬
‫ن (‪ .‬ولكنا ندرك من السياق أنه أنزلهم منزل طيبا‪ ,‬ثم أخذ في إعداد الدرس الول‪:‬‬ ‫منك ُِرو َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م(‪ .‬فنفهم من هذا أنه تركهم يأنسون إليه‪,‬‬ ‫ُ‬
‫ن أِبيك ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫م قال ائُتوِني ب ِأٍخ لكم ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫جَهازِه ِ ْ‬
‫هم ب ِ َ‬ ‫جهَّز ُ‬
‫ما َ‬‫) وَل َ ّ‬
‫واستدرجهم حتى ذكروا له من هم على وجه التفصيل‪ ,‬وأن لهم أخا صغيرا من أبيهم لم يحضر‬
‫معهم لن أباه يحبه ول يطيق فراقه‪ .‬فلما جهزهم بحاجات الرحلة قال لهم‪ :‬إنه يريد أن يرى‬
‫كم م َ‬ ‫َ‬
‫م(‪ .‬وقد رأيتم أنني أوفي الكيل للمشترين‪ .‬فسأوفيكم‬ ‫ن أِبيك ُ ْ‬ ‫ل ائ ُْتوِني ب ِأٍخ ل ّ ُ ّ ْ‬ ‫أخاهم هذا‪َ) .‬قا َ‬
‫نصيبكم حين يجيء معكم; ورأيتم أنني أكرم النزلء فل خوف عليه بل سيلقى مني الكرام‬
‫ن (‪.‬‬ ‫خي ُْر ال ْ ُ‬
‫منزِِلي َ‬ ‫ل وَأ َن َا ْ َ‬‫ن أ َّني ُأوِفي ال ْك َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫المعهود‪) :‬أل َ ت ََروْ َ‬

‫ولما كانوا يعلمون كيف يضن أبوهم بأخيهم الصغر ‪ -‬وبخاصة بعد ذهاب يوسف ‪ -‬فقد أظهروا‬
‫أن المر ليس ميسورا‪ ,‬وإنما في طريقه عقبات من ممانعة أبيهم‪ ,‬وأنهم سيحاولون إقناعه‪ ,‬مع‬
‫توكيد عزمهم ‪ -‬على الرغم من هذه العقبات ‪ -‬على إحضاره معهم حين يعودون‪َ) :‬قاُلوا ْ َ‬
‫سن َُراوِد ُ‬
‫عُلو َ‬
‫ن(‪ .‬ولفظ‬ ‫ه أ ََباه ُ وَإ ِّنا ل َ َ‬
‫فا ِ‬ ‫ع َن ْ ُ‬

‫)نراود( يصور الجهد الذي يعلمون أنهم باذلوه‪.‬‬

‫أما يوسف فقد أمر غلمانه أن يدسوا البضاعة التي حضر بها إخوته ليستبدلوا بها القمح‬
‫والعلف‪ .‬وقد تكون خليطا من نقد ومن غلت صحراوية أخرى من غلت الشجر الصحراوي‪,‬‬

‫‪52‬‬
‫ومن الجلود وسواها مما كان يستخدم في التبادل في السواق‪ .‬أمر غلمانه بدسها في رحالهم‬
‫‪ -‬والرحل متاع المسافر ‪ -‬لعلهم يعرفون حين يرجعون أنها بضاعتهم التي جاءوا بها‪.‬‬

‫المشهد الثالث‪:‬‬

‫ندع يوسف في مصر ‪ .‬لنشهد يعقوب وبنيه في أرض كنعان‪ .‬رجع الخوة إلى أبيهم‪ ..‬وقبل أن‬
‫ينزلوا أحمال الجمال ويفكوا متاعهم‪ ،‬دخلوا على أبيهم‪ .‬قائلين له بعتاب‪ :‬إن لم ترسل معنا‬
‫أخانا الصغير في المرة القادمة فلن يعطينا عزيز مصر الطعام‪ .‬وختموا كلمهم بوعد جديد‬
‫ن(‪.‬‬ ‫حافِ ُ‬
‫ظو َ‬ ‫ه لَ َ‬
‫ليعقوب عليه السلم )وَإ ِّنا ل َ ُ‬

‫ويبدوا أن هذا الوعد قد أثار كوامن يعقوب‪ .‬فهو ذاته وعدهم له في يوسف! فإذا هو يجهز بما‬
‫أثاره الوعد من شجونه‪:‬‬
‫َ‬ ‫حافِ ً‬ ‫م ع ََلى أ َ ِ‬ ‫ل آمنك ُم ع َل َيه إل ّ ك َ َ‬
‫مينَ )‬
‫ح ِ‬
‫م الّرا ِ‬
‫ح ُ‬
‫ظا وَهُوَ أْر َ‬ ‫خي ٌْر َ‬ ‫ل َفالل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫من قَب ْ ُ‬
‫خيهِ ِ‬ ‫منت ُك ُ ْ‬
‫ما أ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ ِ ِ‬ ‫َقا َ‬
‫ل هَ ْ َ ُ ْ‬
‫‪) (64‬يوسف(‬

‫وفتح البناء أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلل‪ ..‬فإذا هم يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا‬
‫يشترون بها‪ ..‬مردودة إليهم مع الغلل والطعام‪ ..‬ورد الثمن يشير إلى عدم الرغبة في البيع‪ ،‬أو‬
‫هو إنذار بذلك‪ ..‬وربما كان إحراجا لهم ليعودوا لسداد الثمن مرة أخرى‪.‬‬
‫َ‬
‫وأسرع البناء إلى أبيهم )َقاُلوا ْ َيا أَباَنا َ‬
‫ما ن َب ِْغي( ‪..‬لم نكذب عليك‪ ..‬لقد رد إلينا الثمن الذي ذهبنا‬
‫نشتري به‪ .‬هذا معناه أنهم لن يبيعوا لنا إل إذا ذهب أخونا معنا‪.‬‬

‫واستمر حوارهم مع الب‪ ..‬أفهموه أن حبه لبنه والتصاقه به يفسدان مصالحهم‪ ،‬ويؤثران على‬
‫اقتصادهم‪ ،‬وهم يريدون أن يتزودوا أكثر‪ ،‬وسوف يحفظون أخاهم أشد الحفظ وأعظمه‪..‬‬
‫وانتهى الحوار باستسلم الب لهم‪ ..‬بشرط أن يعاهدوه على العودة بابنه‪ ،‬إل إذا خرج المر من‬
‫أيديهم وأحيط بهم‪ ..‬نصحهم الب أل يدخلوا ‪-‬وهم أحد عشر رجل‪ -‬من باب واحد من أبواب‬
‫بمصر‪ ..‬كي ل يستلفتوا انتباه أحد‪ ..‬وربما خشي عليهم أبوهم شيئا كالسرقة أو الحسد‪ ..‬ل‬
‫يقول لنا السياق القرآني ماذا كان الب يخشى‪ ،‬ولو كان الكشف عن السبب مهما لقيل‪.‬‬

‫المشهد الرابع‪:‬‬

‫عاد إخوة يوسف الحد عشر هذه المرة‪.‬‬

‫مُلو َ‬
‫ن )‪(69‬‬ ‫كاُنوا ْ ي َعْ َ‬
‫ما َ‬ ‫ك فَل َ ت َب ْت َئ ِ ْ‬
‫س بِ َ‬ ‫ل إ ِّني أ َن َا ْ أ َ ُ‬
‫خو َ‬ ‫ف آَوى إ ِل َي ْهِ أ َ َ‬
‫خاه ُ َقا َ‬ ‫خُلوا ْ ع ََلى ُيو ُ‬
‫س َ‬ ‫وَل َ ّ‬
‫ما د َ َ‬
‫)يوسف(‬

‫يقفز السياق قفزا إلى مشهد يوسف وهو يحتضن أخاه ويكشف له وحده سر قرابته‪ ،‬ول ريب‬
‫أن هذا لم يحدث فور دخول الخوة على يوسف‪ ،‬وإل لنكشفت لهم قرابة يوسف‪ ،‬إنما وقع هذا‬
‫في خفاء وتلطف‪ ،‬فلم يشعر إخوته‪ ،‬غير أن السياق المعجز يقفز إلى أول خاطر ساور يوسف‬
‫عند دخولهم عليه ورؤيته لخيه‪ ..‬وهكذا يجعله القرآن أول عمل‪ ،‬لنه أول خاطر‪ ،‬وهذه من‬
‫دقائق التعبير في هذا الكتاب العظيم‪.‬‬

‫يطوي السياق كذلك فترة الضيافة‪ ،‬وما دار فيها بين يوسف وإخوته‪ ،‬ويعرض مشهد الرحيل‬
‫الخير‪ ..‬ها هو ذا يوسف يدبر شيئا لخوته‪ ..‬يريد أن يحتفظ بأخيه الصغير معه‪.‬‬

‫يعلم أن احتفاظه بأخيه سيثير أحزان أبيه‪ ،‬وربما حركت الحزان الجديدة أحزانه القديمة‪ ،‬وربما‬
‫ذكره هذا الحادث بفقد يوسف‪ ..‬يعلم يوسف هذا كله‪ ..‬وها هو ذا يرى أخاه‪ ..‬وليس هناك دافع‬
‫قاهر لحتفاظه به‪ ،‬لماذا يفعل ما فعل ويحتفظ بأخيه هكذا!؟‬

‫‪53‬‬
‫يكشف السياق عن السر في ذلك‪ ..‬إن يوسف يتصرف بوحي من الله‪ ..‬يريد الله تعالى أن‬
‫يصل بابتلئه ليعقوب إلى الذروة‪ ..‬حتى إذا جاوز به منطقة اللم البشري المحتمل وغير‬
‫المحتمل‪ ،‬ورآه صابرا رد عليه ابنيه معا‪ ،‬ورد إليه بصره‪.‬‬

‫أمر يوسف ‪-‬عليه السلم‪ -‬رجاله أن يخفوا كأس الملك الذهبية في متاع أخيه خلسة‪ ..‬وكانت‬
‫الكأس تستخدم كمكيال للغلل‪ ..‬وكانت لها قيمتها كمعيار في الوزن إلى جوار قيمتها كذهب‬
‫خالص‪ .‬أخفى الكأس في متاع أخيه‪ ..‬وتهيأ إخوة يوسف للرحيل‪ ،‬ومعهم أخوهم‪ ..‬ثم أغلقت‬
‫أبواب العاصمة‪) ..‬ث ُم أ َذ ّن مؤ َذ ّ َ‬
‫ن(‪!!..‬‬ ‫م لَ َ‬
‫سارُِقو َ‬ ‫ن أي ّت َُها ال ِْعيُر إ ِن ّك ُ ْ‬
‫ٌ‬ ‫َ ُ‬ ‫ّ‬

‫كانت صرخة الجند تعني وقوف القوافل جميعا‪ ..‬وانطلق التهام فوق رؤوس الجميع كقضاء‬
‫ن(؟‬
‫دو َ‬
‫ق ُ‬
‫ف ِ‬ ‫ما َ‬
‫ذا ت َ ْ‬ ‫خفي غامض‪ ..‬أقبل الناس‪ ،‬وأقبل معهم إخوة يوسف‪ّ )..‬‬

‫ك(‪ ..‬ضاعت كأسه الذهبية‪ ..‬ولمن‬ ‫واع َ ال ْ َ‬


‫مل ِ ِ‬ ‫ص َ‬
‫قد ُ ُ‬
‫ف ِ‬
‫هكذا تسائل إخوة يوسف‪ ..‬قال الجنود‪) :‬ن َ ْ‬
‫يجيء بها مكافأة‪ ..‬سنعطيه حمل بعير من الغلل‪.‬‬

‫قال إخوة يوسف ببراءة‪ :‬لم نأت لنفسد في الرض ونسرق! قال الحراس )وكان يوسف قد‬
‫وجههم لما يقولونه(‪ :‬أي جزاء تحبون توقيعه على السارق؟‬

‫قال إخوة يوسف‪ :‬في شريعتنا نعتبر من سرق عبدا لمن سرقه‪.‬‬

‫قال الحارس‪ :‬سنطبق عليكم قانونكم الخاص‪ ..‬لن نطبق عليكم القانون المصري الذي يقضي‬
‫بسجن السارق‪.‬‬

‫كانت هذه الجابة كيدا وتدبيرا من الله تعالى‪ ،‬ألهم يوسف أن يحدث بها ضباطه‪ ..‬ولول هذا‬
‫التدبير اللهي لمتنع على يوسف أن يأخذ أخاه‪ ..‬فقد كان دين الملك أو قانونه ل يقضي‬
‫باسترقاق من سرق‪ .‬وبدأ التفتيش‪.‬‬

‫كان هذا الحوار على منظر ومسمع من يوسف‪ ،‬فأمر جنوده بالبدء بتفتيش رحال أخوته أول‬
‫قبل تفتيش رحل أخيه الصغير‪ .‬كي ل يثير شبهة في نتيجة التفتيش‪.‬‬

‫اطمأن إخوة يوسف إلى براءتهم من السرقة وتنفسوا الصعداء‪ ،‬فلم يبقى إل أخوهم الصغير‪.‬‬
‫وتم استخراج الكأس من رحله‪ .‬فأمر يوسف بأخذ أخيه عبدا‪ ،‬قانونهم الذي طبقه القضاء على‬
‫الحادث‪.‬‬

‫أعقب ذلك مشهد عنيف المشاعر‪ ..‬إن إحساس الخوة براحة النقاذ والنجاة من التهمة‪،‬‬
‫من قَب ْ ُ‬
‫ل( إنهم‬ ‫ه ِ‬ ‫سَرقَ أ َ ٌ‬
‫خ لّ ُ‬ ‫جعلهم يستديرون باللوم على شقيق يوسف )َقاُلوا ْ ِإن ي َ ْ‬
‫سرِقْ فَ َ‬
‫قد ْ َ‬
‫يتنصلون من تهمة السرقة‪ ..‬ويلقونها على هذا الفرع من أبناء يعقوب‪.‬‬

‫سمع يوسف بأذنيه اتهامهم له‪ ،‬وأحس بحزن عميق‪ ..‬كتم يوسف أحزانه في نفسه ولم يظهر‬
‫كانا والل ّ َ‬ ‫َ‬
‫ن(‪ .‬لم يكن هذا سبابا لهم‪،‬‬
‫فو َ‬
‫ص ُ‬
‫ما ت َ ِ‬ ‫ه أع ْل َ ْ‬
‫م بِ َ‬ ‫م َ ً َ ُ‬ ‫م َ‬
‫شّر ّ‬ ‫مشاعره‪ ..‬قال بينه وبين نفسه)أنت ُ ْ‬
‫بقدر ما كان تقريرا حكيما لقاعدة من قواعد المانة‪ .‬أراد أن يقول بينه وبين نفسه‪ :‬إنكم بهذا‬
‫القذف شر مكانا عند الله من المقذوف‪ ،‬لنكم تقذفون بريئين بتهمة السرقة‪ ..‬والله أعلم‬
‫بحقيقة ما تقولون‪.‬‬

‫سقط الصمت بعد تعليق الخوة الخير‪ ..‬ثم انمحى إحساسهم بالنجاة‪ ،‬وتذكروا يعقوب‪ ..‬لقد‬
‫أخذ عليهم عهدا غليظا‪ ،‬أل يفرطوا في ابنه‪ .‬وبدءوا استرحام يوسف‪ :‬يوسف أيها العزيز‪..‬‬
‫خا ك َبيرا فَ ُ َ‬ ‫ه أ ًَبا َ‬
‫ن‬
‫سِني َ‬
‫ح ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه إ ِّنا ن ََرا َ‬
‫ك ِ‬ ‫م َ‬
‫كان َ ُ‬ ‫خذ ْ أ َ‬
‫حد ََنا َ‬ ‫ِ ً‬ ‫شي ْ ً‬ ‫ن لَ ُ‬
‫يوسف أيها الملك‪ ..‬إ ِ ّ‬

‫قال يوسف بهدوء‪ :‬كيف تريدون أن نترك من وجدنا كأس الملك عنده‪ ..‬ونأخذ بدل منه أنسانا‬
‫آخر‪..‬؟ هذا ظلم‪ ..‬ونحن ل نظلم‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫كانت هي الكلمة الخيرة في الموقف‪ .‬وعرفوا أن ل جدوى بعدها من الرجاء‪ ،‬فانسحبوا‬
‫يفكرون في موقفهم المحرج أمام أبيهم حين يرجعون‪.‬‬

‫المشهد الخامس‪:‬‬

‫عقدوا مجلسا يتشاورون فيه‪ .‬لكن السياق القرآني ل يذكر أقوالهم جميعا‪ .‬إنما يثبت آخرها‬
‫كرهم بالموثق المأخوذ عليهم‪ ،‬كما‬ ‫الذي يكشف عما انتهوا إليه‪ .‬ذكر القرآن قول كبيرهم إذ ذ ّ‬
‫ذكرهم بتفريطهم في يوسف من قبل‪ .‬ثم يبين قراره الجازم‪ :‬أل يبرح مصر‪ ،‬وأل يواجه أباه‪ ،‬إل‬
‫أن يأذن أبوه‪ ،‬أو يقضي الله له بحكم‪ ،‬فيخض له وينصاع‪ .‬وطلب منهم أن يرجعوا إلى أبيهم‬
‫فيخبروه صراحة بأن ابنه سرق‪ ،‬فَا ُ ِ‬
‫خذ َ بما سرق‪ .‬ذلك ما علموه شهدوا به‪ .‬أما إن كان بريئا‪،‬‬
‫وكا هناك أمر وراء هذا الظاهر ل يعلمونه‪ ،‬فهم غير موكلين بالغيب‪ .‬وإن كان في شك من‬
‫قولهم فليسأل أهل القرية التي كانوا فيها ‪-‬أي أهل مصر‪ -‬وليسأل القافلة التي كانوا فيها‪ ،‬فهم‬
‫لم يكونوا وحدهم‪ ،‬فالقوافل الكثيرة كانت ترد مصر لتأخذ الطعام‪.‬‬

‫المشهد السادس‪:‬‬

‫حِكيُم‬
‫جِميًعا ِإّنُه ُهَو اْلَعِليُم اْل َ‬
‫ل َأن َيْأِتَيِني ِبِهْم َ‬
‫سى ا ّ‬
‫عَ‬‫ل َ‬
‫جِمي ٌ‬
‫صْبٌر َ‬
‫سُكْم َأْمًرا َف َ‬
‫ت َلُكْم َأنُف ُ‬
‫سّوَل ْ‬
‫ل َ‬
‫َب ْ‬

‫يعقوب ‪-‬عليه السلم‪ -‬يبكي أمام أحد‪ ..‬كان بكاؤه شكوى إلى ال ل يعلمها إل ال‪ .‬يعقوب إلى حقيقة بكائه‪ ..‬إنه يشكو همه‬
‫إلى ال‪ ..‬ويعلم من ال ما ل يعلمون‪ ..‬فليتركوه في بكائه وليصرفوا همهم لشيء أجدى عليهم )إنه يكشف لهم في عمق‬
‫أحزانه عن أمله في روح ال‪ ..‬إنه يشعر بأن يوسف لم يمت كما أنبئوه‪ ..‬لم يزل حيا‪ ،‬فليذهب الخوة بحثا عنه‪ ..‬وليكن دليلهم‬
‫في البحث‪ ،‬هذا المل العميق في ال‪.‬‬

‫المشهد السابع‪:‬‬

‫تحركت القافلة في طريقها إلى مصر‪ ..‬إخوة يوسف في طريقهم إلى العزيز‪ ..‬تدهور حالهم‬
‫القتصادي وحالهم النفسي‪ ..‬إن فقرهم وحزن أبيهم ومحاصرة المتاعب لهم‪ ،‬قد هدت قواهم‬
‫تماما‪ ..‬ها هم أولء يدخلون على يوسف‪ ..‬معهم بضاعة رديئة‪ ..‬جاءوا بثمن ل يتيح لهم شراء‬
‫شيء ذي بال‪ ..‬وعندما دخلوا على يوسف ‪ -‬عليه السلم‪ -‬رجوه أن يتصدق عليهم )انتهى المر‬
‫بهم إلى التسول‪ ..‬إنهم يسألونه أن يتصدق عليهم‪ ..‬ويستميلون قلبه‪ ،‬بتذكيره أن الله يجزي‬
‫المتصدقين‪.‬‬

‫عندئذ‪ ..‬وسط هوانهم وانحدار حالهم‪ ..‬حدثهم يوسف بلغتهم‪ ،‬بغير واسطة ول مترجم‪:‬‬

‫ل أ َن َا ْ‬
‫ف َقا َ‬ ‫س ُ‬
‫ت ُيو ُ‬
‫ن )‪َ (89‬قاُلوا ْ أ َإن ّ َ َ‬
‫ك َلن َ‬ ‫ِ‬ ‫جاه ُِلو َ‬ ‫م َ‬
‫َ‬ ‫ف وَأ َ ِ‬
‫خيهِ إ ِذ ْ أنت ُ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ما فَعَل ُْتم ب ُِيو ُ‬ ‫مُتم ّ‬ ‫ل ع َل ِ ْ‬ ‫َقا َ‬
‫ل هَ ْ‬
‫ن )‪(90‬‬ ‫ني‬ ‫س‬ ‫ح‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ج‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ع‬ ‫ضي‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫إ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ر‬‫ب‬‫ص‬ ‫ي‬‫و‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫إ‬ ‫نا‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫خي‬ ‫ذا أ َ‬
‫َ‬ ‫هـ‬ ‫و‬ ‫ف‬ ‫س‬
‫ِ‬
‫ُ ْ ِ َ‬ ‫ُ ِ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ ِّ ُ َ َّ ِ َ ِ ْ ِ ْ ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ ّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُيو ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫َقالوا َتاللهِ ل َ‬ ‫ُ‬
‫ه‬
‫مرِ ِ‬ ‫ب ع َلى أ ْ‬ ‫غال ِ ٌ‬ ‫ن َوالل ُ‬ ‫خاط ِِئي َ‬ ‫ه ع َلي َْنا وَِإن كّنا ل َ‬ ‫قد ْ آث ََرك الل ُ‬

‫مرت السنوات‪ ،‬وذهب كيدهم له‪ ..‬ونفذ تدبير الله المحكم الذي يقع بأعجب السباب‪ ..‬كان‬
‫إلقاؤه في البئر هو بداية صعوده إلى السلطة والحكم‪ ..‬وكان إبعادهم له عن أبيه سببا في‬
‫زيادة حب يعقوب له‪ .‬وها هو ذا يملك رقابهم وحياتهم‪ ،‬وهم يقفون في موقف استجداء‬
‫عطفه‪ ..‬إنهم يختمون حوارهم معه بقولهم )إن روح الكلمات واعترافهم بالخطأ يشيان بخوف‬
‫مبهم غامض يجتاح نفوسهم‪ ..‬ولعلهم فكروا في انتقامه منهم وارتعدت فرائصهم‪ ..‬ولعل‬
‫يوسف أحس ذلك منهم فطمأنهم بقوله )ل مؤاخذة‪ ،‬ول لوم‪ ،‬انتهى المر من نفسي وذابت‬
‫جذوره‪ ..‬لم يقل لهم إنني أسامحكم أو أغفر لكم‪ ،‬إنما دعا الله أن يغفر لهم‪ ،‬وهذا يتضمن أنه‬
‫عفا عنهم وتجاوز عفوه‪ ،‬ومضى بعد ذلك خطوات‪ ..‬دعا الله أن يغفر لهم‪ ..‬وهو نبي ودعوته‬
‫مستجابة‪ ..‬وذلك تسامح نراه آية اليات في التسامح‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫ها هو ذا يوسف ينهي حواره معهم بنقلة مفاجئة لبيه‪ ..‬يعلم أن أباه قد ابيضت عيناه من‬
‫الحزن عليه‪ ..‬يعلم أنه لم يعد يبصر‪ ..‬لم يدر الحوار حول أبيه لكنه يعلم‪ ..‬يحس قلبه‪ ..‬خلع‬
‫يوسف قميصه وأعطاه لهم )وعادت القافلة إلى فلسطين‪.‬‬

‫المشهد الثامن‪:‬‬

‫ما أنت خرجت القافلة من مصر‪ ،‬حتى قال يعقوب ‪-‬عليه السلم‪ -‬لمن حوله في فلسطين‪ :‬إني‬
‫رف لصدقتم ما أقول‪ .‬فرد عليه‬
‫أشم رائحة يوسف‪ ،‬لول أنكم تقولون في أنفسكم أنني شيخ خ ِ‬
‫من حوله )(‪.‬‬

‫لكن المفاجأة البعيدة تقع‪ .‬وصلت القافلة‪ ،‬وألقى البشير قميض يوسف على وجه يعقوب‬
‫‪-‬عليهما السلم‪ -‬فارتد ّ بصره‪ .‬هنا يذكر يعقوب حقيقة ما يعلمه من ربه )‬

‫فاععترف الخوة بخطئهم‪ ،‬وطلبوا من أباهم الستغفار لهم‪ ،‬فهو نبي ودعاءه مستجاب‪ .‬إل أن‬
‫يعقوب عليه السلم )ونلمح هنا أن في قلب يعقوب شيئا من بنيه‪ ،‬وأنه لم يصف لهم بعد‪ ،‬وإن‬
‫كان يعدهم باستغفار الله لهم بعد أن يصفو ويسكن ويستريح‪.‬‬

‫ها هو المشهد الخير في قصة يوسف‪:‬‬

‫بدأت قصته برؤيا‪ ..‬وها هو ذا الختام‪ ،‬تأويل رؤياه‪:‬‬


‫َ‬ ‫ف آَوى إ ِل َي ْهِ أ َب َوَي ْهِ وََقا َ‬
‫ن )‪ (99‬وََرفَعَ أب َوَي ْهِ‬ ‫مِني َ‬ ‫هآ ِ‬‫شاء الل ّ ُ‬ ‫صَر ِإن َ‬ ‫م ْ‬‫خُلوا ْ ِ‬ ‫ل اد ْ ُ‬ ‫س َ‬ ‫خُلوا ْ ع ََلى ُيو ُ‬ ‫ما د َ َ‬ ‫فَل َ ّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َع ََلى العَْر ِ‬
‫قا وَقَد ْ‬ ‫ح ّ‬
‫جعَلَها َرّبي َ‬ ‫ل قَد ْ َ‬ ‫من قَب ْ ُ‬ ‫ل ُرؤ َْيايَ ِ‬‫ذا ت َأِوي ُ‬ ‫هـ َ‬ ‫ت َ‬ ‫ل َيا أب َ ِ‬ ‫دا وََقا َ‬ ‫ج ً‬ ‫س ّ‬ ‫ه ُ‬ ‫خّروا ل ُ‬ ‫ش وَ َ‬ ‫ْ‬
‫شي ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ن ب َي ِْني وَب َي ْ َ‬‫طا ُ‬ ‫من ب َعْد ِ أن ّنزغ َ ال ّ‬ ‫ن ال ْب َد ْوِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫كم ّ‬ ‫جاء ب ِ ُ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫ج ِ‬ ‫س ْ‬
‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫جِني ِ‬ ‫خَر َ‬ ‫ن َبي إ ِذ ْ أ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ح َ‬ ‫أ ْ‬
‫ما‪.‬‬‫سل ًِ‬
‫م ْ‬ ‫ُ‬ ‫ني‬‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫واحدة‪..‬‬ ‫دعوة‬ ‫هي‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫كي‬‫ِ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫لي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ُ‬
‫ِ ُ َ‬‫ه‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫إ‬ ‫شاء‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ما‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ف‬‫ٌ‬ ‫طي‬‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫بي‬ ‫ّ‬ ‫ر‬ ‫ن‬
‫ّ‬
‫ِ َ‬ ‫إ‬ ‫تي‬‫ِ‬ ‫إِ ْ َ‬
‫و‬ ‫خ‬

‫‪56‬‬
‫أيوب عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫من سللة سيدنا إبراهيم كان من النبيين الموحى إليهم‪ ،‬كان أيوب ذا مال وأولد كثيرين ولكن‬
‫الله ابتله في هذا كله فزال عنه‪ ،‬وابتلي في جسده بأنواع البلء واستمر مرضه ‪ 13‬أو ‪ 18‬عاما‬
‫اعتزله فيها الناس إل امرأته صبرت وعملت لكي توفر قوت يومهما حتى عافاه الله من مرضه‬
‫وأخلفه في كل ما ابتلي فيه‪ ،‬ولذلك يضرب المثل بأيوب في صبره وفي بلئه‪ ،‬روي أن الله‬
‫يحتج يوم القيامة بأيوب عليه السلم على أهل البلء‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫ضربت المثال في صبر هذا النبي العظيم‪ .‬فكلما ابتلي إنسانا ابتلء عظيما أوصوه بأن يصبر‬
‫كصبر أيوب عليه السلم‪ ..‬وقد أثنى الله تبارك وتعالى على عبده أيوب في محكم كتابه )إ ِّنا‬
‫ب( والوبة هي العودة إلى الله تعالى‪ ..‬وقد كان أيوب دائم‬ ‫وجدناه صابرا ن ِعم ال ْعبد إن َ‬
‫ه أّوا ٌ‬
‫َ َ َْ ُ َ ِ ً ْ َ َ ْ ُ ِّ ُ‬
‫العودة إلى الله بالذكر والشكر والصبر‪ .‬وكان صبره سبب نجاته وسر ثناء الله عليه‪ .‬والقرآن‬
‫يسكت عن نوع مرضه فل يحدده‪ ..‬وقد نسجت الساطير عديدا من الحكايات حول مرضه‪..‬‬

‫مرض أيوب‬

‫كثرت الروايات والساطير التي نسجت حول مرض أيوب‪ ،‬ودخلت السرائيليات في كثير من‬
‫هذه الروايات‪ .‬ونذكر هنا أشهرها‪:‬‬

‫أن أيوب عليه السلم كان ذا مال وولد كثير‪ ،‬ففقد ماله وولده‪ ،‬وابتلي في جسده‪ ،‬فلبث في‬
‫بلئه ثلث عشرة سنة‪ ,‬فرفضه القريب والبعيد إل زوجته ورجلين من إخوانه‪ .‬وكانت زوجته‬
‫تخدم الناس بالجر‪ ،‬لتحضر ليوب الطعام‪ .‬ثم إن الناس توقفوا عن استخدامها‪ ،‬لعلمهم أنها‬
‫امرأة أيوب‪ ،‬خوفا ً أن ينالهم من بلئه‪ ،‬أو تعديهم بمخالطته‪ .‬فلما لم تجد أحدا ً يستخدمها باعت‬
‫لبعض بنات الشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير‪ ،‬فأتت به أيوب‪ ،‬فقال‪ :‬من أين لك‬
‫هذا؟ وأنكره‪ ،‬فقالت‪ :‬خدمت به أناسًا‪ ،‬فلما كان الغد لم تجد أحدًا‪ ،‬فباعت الضفيرة الخرى‬
‫بطعام فأتته به فأنكره أيضًا‪ ،‬وحلف ل يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام؟ فكشفت عن‬
‫رأسها خمارها‪ ،‬فلما رأى رأسها محلوقًا‪ ،‬قال في دعائه‪) :‬رب إني مسني الضر وأنت أرحم‬
‫الراحمين(‪ .‬وحلف أن يضربها مئة سوط إذا شفى‪.‬‬

‫وقيل أن امرأة أيوب أخبرته أنها لقيت طبيبا في الطريق عرض أن يداوي أيوب إذا رضي أن‬
‫يقول أنت شفيتي بعد علجه‪ ،‬فعرف أيوب أن هذا الطبيب هو إبليس‪ ،‬فغضب وحلف أن‬
‫يضربها مئة ضربة‪.‬‬

‫أما ما كان من أمر صاحبي أيوب‪ ،‬فقد كانا يغدوان إليه ويروحان‪ ,‬فقال أحدهما للخر‪ :‬لقد‬
‫أذنب أيوب ذنبا عظيما وإل لكشف عنه هذا البلء‪ ,‬فذكره الخر ليوب‪ ,‬فحزن ودعا الله‪ .‬ثم‬
‫خرج لحاجته وأمسكت امرأته بيده فلما فرغ أبطأت عليه‪ ,‬فأوحى الله إليه أن اركض برجلك‪,‬‬
‫فضرب برجله الرض فنبعت عين فاغتسل منها فرجع صحيحا‪ ,‬فجاءت امرأته فلم تعرفه‪,‬‬
‫فسألته عن أيوب فقال‪ :‬إني أنا هو‪ ,‬وكان له أندران‪ :‬أحدهما‪ :‬للقمح والخر‪ :‬للشعير‪ ,‬فبعث‬
‫الله له سحابة فأفرغت في أندر القمح الذهب حتى فاض‪ ,‬وفي أندر الشعير الفضة حتى فاض‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله لعيه وسلم قال‪" :‬بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه‬
‫رجل جراد من ذهب فجعل يحثي في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال‬
‫بلى يا رب ولكن ل غنى لي عن بركتك" )رجل جراد أي جماعة جراد(‪.‬‬

‫فلما عوفي أمره الله أن يأخذ عرجونا فيه مائة شمراخ )عود دقيق( فيضربها ضربة واحدة لكي‬
‫ل يحنث في قسمه وبذلك يكون قد بر في قسمه‪ .‬ثم جزى الله ‪-‬عز وجل‪ -‬أيوب ‪-‬عليه السلم‪-‬‬
‫على صبره بأن آتاه أهله )فقيل‪ :‬أحيى الله أبناءه‪ .‬وقيل‪ :‬آجره فيمن سلف وعوضه عنهم في‬
‫الدنيا بدلهم‪ ،‬وجمع له شمله بكلهم في الدار الخرة( وذكر بعض العلماء أن الله رد على امرأته‬
‫شبابها حتى ولدت له ستة وعشرين ولدا ذكرا‪.‬‬

‫هذه أشهر رواية عن فتنة أيوب وصبره‪ ..‬ولم يذكر فيها أي شيء عن تساقط لحمه‪ ،‬وأنه لم‬
‫يبقى منه إل العظم والعصب‪ .‬فإننا نستبعد أن يكون مرضه منفرا أو مشوها كما تقول أساطير‬
‫القدماء‪ ..‬نستبعد ذلك لتنافيه مع منصب النبوة‪..‬‬

‫ب(‪ .‬قد يكون القصد منه‬ ‫ب وَع َ َ‬ ‫شي ْ َ‬


‫ي ال ّ‬ ‫َ‬
‫ذا ٍ‬ ‫ص ٍ‬
‫ن ب ِن ُ ْ‬
‫طا ُ‬ ‫سن ِ َ‬
‫م ّ‬
‫ويجدر التنبيه بأن دعاء أيوب ربه )أّني َ‬
‫شكوى أيوب ‪-‬عليه السلم‪ -‬لربه جرأة الشيطان عليه وتصوره أنه يستطيع أن يغويه‪ .‬ول يعتقد‬
‫أيوب أن ما به من مرض قد جاء بسبب الشيطان‪ .‬هذا هو الفهم الذي يليق بعصمة النبياء‬
‫وكمالهم‪.‬‬

‫وروى الطبري أن مدة عمره كانت ثلثا وتسعين سنة فعلى هذا فيكون عاش بعد أن عوفي‬
‫عشر سنين ‪ ,‬والله أعلم‪ .‬وأنه أوصى إلى ولده حومل‪ ،‬وقام بالمر بعده ولده بشر بن أيوب‪،‬‬
‫وهو الذي يزعم كثير من الناس أنه ذو الكفل فالله أعلم‪.‬‬

‫ذو الكفل عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫‪58‬‬
‫من النبياء الصالحين‪ ،‬وكان يصلي كل يوم مائة صلة‪ ،‬قيل إنه تكفل لبني قومه أن يقضي‬
‫بينهم بالعدل ويكفيهم أمرهم ففعل فسمي بذي الكفل‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫قال أهل التاريخ ذو الكفل هو ابن أيوب عليه السلم وأسمه في الصل )بشر( وقد بعثه الله‬
‫بعد أيوب وسماه ذا الكفل لنه تكفل ببعض الطاعات فوقي بها‪ ،‬وكان مقامه في الشام وأهل‬
‫دمشق يتناقلون أن له قبرا في جبل هناك يشرف على دمشق يسمى قاسيون‪ .‬إل أن بعض‬
‫العلماء يرون أنه ليس بنبي وإنما هو رجل من الصالحين من بني إسرائيل‪ .‬وقد رجح ابن كثير‬
‫نبوته لن الله تعالى قرنه مع النبياء فقال عز وجل‪:‬‬

‫ن‬
‫م َ‬
‫مت َِنا إ ِن ُّهم ّ‬
‫ح َ‬
‫م ِفي َر ْ‬ ‫ن )‪ (85‬وَأ َد ْ َ‬
‫خل َْناهُ ْ‬ ‫ري َ‬
‫صاب ِ ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬‫ل ّ‬ ‫ل كُ ّ‬ ‫ذا ال ْك ِ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫س وَ َ‬ ‫عي َ‬
‫ل وَإ ِد ِْري َ‬ ‫ما ِ‬
‫س َ‬
‫وَإ ِ ْ‬
‫ن )‪) (85‬النبياء(‬ ‫َ‬ ‫حي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫صا‬
‫ّ‬ ‫ال‬

‫قال ابن كثير ‪ :‬فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقرونا مع هؤلء السادة‬
‫النبياء أنه نبي عليه من ربه الصلة والسلم وهذا هو المشهور‪.‬‬

‫والقرآن الكريم لم يزد على ذكر اسمه في عداد النبياء أما دعوته ورسالته والقوم الذين‬
‫أرسل إليهم فلم يتعرض لشيء من ذلك ل بالجمال ول بالتفصيل لذلك نمسك عن الخوض في‬
‫موضوع دعوته حيث أن كثيرا من المؤرخين لم يوردوا عنه إل الشيء اليسير‪ .‬ومما ينبغي التنبه‬
‫له أن )ذا الكفل( الذي ذكره القرآن هو غير )الكفل( الذي ذكر في الحديث الشريف ونص‬
‫الحديث كما رواه المام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‪) :‬كان الكفل من بني‬
‫إسرائيل ل يتورع عن ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينار على أن يطأها فلما قعد منها‬
‫مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال لها ما يبكيك ؟ أكرهتك ؟ قالت ‪ :‬ل ولكن هذا عمل‬
‫لم أعمله قط وإنما حملتني عليه الحاجة ‪..‬قال ‪ :‬فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ؟ ثم نزل فقال‬
‫أذهبي بالدنانير لك ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬والله ل يعصي الله الكفل أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا‬
‫على بابه ‪ :‬قد غفر الله للكفل(‪ .‬رواه الترمذي وقال‪ :‬حديث حسن وروي موقوفا على ابن عمر‬
‫وفي إسناده نظر‪ .‬فإن كان محفوظا فليس هو ذا الكفل وإنما لفظ الحديث الكفل من غير‬
‫إضافة فهو إذا رجل آخر غير المذكور في القرآن‪.‬‬

‫ويذكر بعض المؤرخين أن ذا الكفل تكفل لبني قومه أن يكفيهم أمرهم ويقضي بينهم بالعدل‬
‫فسمي ذا الكفل وذكروا بعض القصص في ذلك ولكنها قصص تحتاج إلى تثبت وإلى تمحيص‬
‫وتدقيق‪.‬‬

‫الرجل الصالح‪:‬‬

‫أما من يقول أن ذو الكفل لم يكن نبيا وإنما كان رجل صالحا من بني إسرائيل فيروي أنه كان‬
‫في عهد نبي الله اليسع عليه السلم‪ .‬وقد روي أنه لما كبر اليسع قال لو أني استخلفت رجل ً‬
‫على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس فقال‪ :‬من يتقبل لي‬
‫بثلث استخلفه‪ :‬يصوم النهار‪ ،‬ويقوم الليل‪ ،‬ول يغضب‪ .‬فقام رجل تزدريه العين‪ ،‬فقال‪ :‬أنا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أنت تصوم النهار‪ ،‬وتقوم الليل‪ ،‬ول تغضب؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬لكن اليسع ‪-‬عليه السلم‪ -‬رد ّ‬
‫الناس ذلك اليوم دون أن يستخلف أحدا‪ .‬وفي اليوم التالي خرج اليسع ‪-‬عليه السلم‪ -‬على‬
‫قومه وقال مثل ما قال اليوم الول‪ ،‬فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال أنا‪ .‬فاستخلف‬
‫اليسع ذلك الرجل‪.‬‬

‫فجعل إبليس يقول للشياطين‪ :‬عليكم بفلن‪ ،‬فأعياهم ذلك‪ .‬فقال دعوني وإياه فأتاه في صورة‬
‫ق‬
‫شيخ كبير فقير‪ ،‬وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة‪ ،‬وكان ل ينام الليل والنهار‪ ،‬إل تلك الّنومة فد ّ‬
‫الباب‪ .‬فقال ذو الكفل‪ :‬من هذا؟ قال‪ :‬شيخ كبير مظلوم‪ .‬فقام ذو الكفل ففتح الباب‪ .‬فبدأ‬
‫ول في‬ ‫دثه عن خصومة بينه وبين قومه‪ ،‬وما فعلوه به‪ ،‬وكيف ظلموه‪ ،‬وأخذ يط ّ‬ ‫الشيخ يح ّ‬

‫‪59‬‬
‫الحديث حتى حضر موعد مجلس ذو الكفل بين الناس‪ ،‬وذهبت القائلة‪ .‬فقال ذو الكفل‪ :‬إذا‬
‫قك‪.‬‬‫رحت للمجلس فإنني آخذ لك بح ّ‬

‫فخرج الشيخ وخرج ذو الكفل لمجلسه دون أن ينام‪ .‬لكن الشيخ لم يحضر للمجلس‪ .‬وانفض‬
‫المجلس دون أن يحضر الشيخ‪ .‬وعقد المجلس في اليوم التالي‪ ،‬لكن الشيخ لم يحضر أيضا‪.‬‬
‫ولما رجع ذو الكفل لمنزله عند القائلة ليضطجع أتاه الشيخ فدق الباب‪ ،‬فقال‪ :‬من هذا؟ فقال‬
‫الشيخ الكبير المظلوم‪ .‬ففتح له فقال‪ :‬ألم أقل لك إذا قعدت فاتني؟ فقال الشيخ‪ :‬إنهم اخبث‬
‫قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا لي نحن نعطيك حقك‪ ،‬وإذا قمت جحدوني‪ .‬فقال ذو الكفل‪:‬‬
‫انطلق الن فإذا رحت مجلسي فأتني‪.‬‬

‫ففاتته القائلة‪ ،‬فراح مجلسه وانتظر الشيخ فل يراه وشق عليه النعاس‪ ،‬فقال لبعض أهله‪ :‬ل‬
‫ي النوم‪ .‬فقدم الشيخ‪ ،‬فمنعوه من‬ ‫ن أحدا ً يقرب هذا الباب حتى أنام‪ ،‬فإني قد شق عل ّ‬ ‫تدع ّ‬
‫الدخول‪ ،‬فقال‪ :‬قد أتيته أمس‪ ،‬فذكرت لذي الكفل أمري‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل والله لقد أمرنا أن ل ندع‬
‫ور الحائط ودخل البيت ودق الباب من الداخل‪ ،‬فاستيقظ ذو‬ ‫أحدا ً يقربه‪ .‬فقام الشيخ وتس ّ‬
‫الكفل‪ ،‬وقال لهله‪ :‬ألم آمركم أل يدخل علي أحد؟ فقالوا‪ :‬لم ندع أحدا يقترب‪ ،‬فانظر من أين‬
‫دخل‪ .‬فقام ذو الكفل إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه؟ وإذا الرجل معه في البيت‪ ،‬فعرفه‬
‫ه؟ قال‪ :‬نعم أعييتني في كل شيء ففعلت كل ما ترى لغضبك‪.‬‬ ‫َ‬
‫فقال‪ :‬أع َد ُوّ الل ِ‬

‫فسماه الله ذا الكفل لنه تكفل بأمر فوفى به‬

‫يونس عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫أرسله الله إلى قوم نينوى فدعاهم إلى عبادة الله وحده ولكنهم أبوا واستكبروا فتركهم‬
‫وتوعدهم بالعذاب بعد ثلث ليال فخشوا على أنفسهم فآمنوا فرفع الله عنهم العذاب‪ ،‬أما‬
‫يونس فخرج في سفينة وكانوا على وشك الغرق فاقترعوا لكي يحددوا من سيلقى من الرجال‬
‫فوقع ثلثا على يونس فرمى نفسه في البحر فالتقمه الحوت وأوحى الله إليه أن ل يأكله فدعا‬
‫يونس ربه أن يخرجه من الظلمات فاستجاب الله له وبعثه إلى مائة ألف أو يزيدون‬

‫سيرته‪:‬‬

‫‪60‬‬
‫كان يونس بن متى نبيا كريما أرسله الله إلى قومه فراح يعظهم‪ ،‬وينصحهم‪ ،‬ويرشدهم إلى‬
‫الخير‪ ،‬ويذكرهم بيوم القيامة‪ ،‬ويخوفهم من النار‪ ،‬ويحببهم إلى الجنة‪ ،‬ويأمرهم بالمعروف‪،‬‬
‫ويدعوهم إلى عبادة الله وحده‪ .‬وظل ذو النون ‪-‬يونس عليه السلم‪ -‬ينصح قومه فلم يؤمن‬
‫منهم أحد‪.‬‬

‫وجاء يوم عليه فأحس باليأس من قومه‪ ..‬وامتل قلبه بالغضب عليهم لنهم ل يؤمنون‪ ،‬وخرج‬
‫غاضبا وقرر هجرهم ووعدهم بحلول العذاب بهم بعد ثلثة أيام‪ .‬ول يذكر القرآن أين كان قوم‬
‫يونس‪ .‬ولكن المفهوم أنهم كانوا في بقعة قريبة من البحر‪ .‬وقال أهل التفسير‪ :‬بعث الله‬
‫يونس عليه السلم إلى أهل )نينوى( من أرض الموصل‪ .‬فقاده الغضب إلى شاطىء البحر‬
‫حيث ركب سفينة مشحونة‪ .‬ولم يكن المر اللهي قد صدر له بأن يترك قومه أو ييأس منهم‪.‬‬
‫فلما خرج من قريته‪ ،‬وتأكد أهل القرية من نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة‬
‫والنابة وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم وصرخوا وتضرعوا إلى الله عز وجل‪ ،‬وبكى الرجال‬
‫والنساء والبنون والبنات والمهات‪ .‬وكانوا مائة ألف يزيدون ول ينقصون‪ .‬وقد آمنوا أجمعين‪.‬‬
‫فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب الذي استحقوه بتكذيبهم‪.‬‬

‫أمر السفينة‪:‬‬

‫أما السفينة التي ركبها يونس‪ ،‬فقد هاج بها البحر‪ ،‬وارتفع من حولها الموج‪ .‬وكان هذا علمة‬
‫عند القوم بأن من بين الركاب راكبا ً مغضوبا ً عليه لنه ارتكب خطيئة‪ .‬وأنه ل بد أن يلقى في‬
‫الماء لتنجو السفينة من الغرق‪ .‬فاقترعوا على من يلقونه من السفينة ‪ .‬فخرج سهم يونس‬
‫‪-‬وكان معروفا ً عندهم بالصلح‪ -‬فأعادوا القرعة‪ ،‬فخرج سهمه ثانية‪ ،‬فأعادواها ثالثة‪ ،‬ولكن‬
‫سهمه خرج بشكل أكيد فألقوه في البحر ‪-‬أو ألقى هو نفسه‪ .‬فالتقمه الحوت لنه تخلى عن‬
‫المهمة التي أرسله الله بها‪ ,‬وترك قومه مغاضبا ً قبل أن يأذن الله له‪ .‬وأحى الله للحوت أن ل‬
‫يخدش ليونس لحما ول يكسر له عظما‪ .‬واختلف المفسرون في مدة بقاء يونس في بطن‬
‫الحوت‪ ،‬فمنهم من قال أن الحوت التقمه عند الضحى‪ ،‬وأخرجه عند العشاء‪ .‬ومنهم من قال‬
‫انه لبث في بطنه ثلثة أيام‪ ،‬ومنهم من قال سبعة‪.‬‬

‫يونس في بطن الحوت‪:‬‬

‫عندما أحس بالضيق في بطن الحوت‪ ،‬في الظلمات ‪-‬ظلمة الحوت‪ ،‬وظلمة البحر‪ ،‬وظلمة‬
‫َ‬
‫ت‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كن‬ ‫حان َ َ‬
‫ك إ ِّني‬ ‫سب ْ َ‬ ‫ه إ ِّل أن َ‬
‫ت ُ‬ ‫الليل‪ -‬سبح الله واستغفره وذكر أنه كان من الظالمين‪ .‬وقال‪ّ) :‬ل إ ِل َ َ‬
‫ن(‪ .‬فسمع الله دعاءه واستجاب له‪ .‬فلفظه الحوت‪) .‬فلول أنه كان من المسبحين‬ ‫مي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫م َ‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫للبث في بطنه إلى يوم يبعثون(‪ .‬وقد خرج من بطن الحوت سقيما عاريا على الشاطىء‪.‬‬
‫كم جمة‪ .‬منها أن‬ ‫ح َ‬ ‫وأنبت الله عليه شجرة القرع‪ .‬قال بعض العلماء في إنبات القرع عليه ِ‬
‫ورقه في غاية النعومة وكثير وظليل ول يقربه ذباب‪ ،‬ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره نيا ً‬
‫ومطبوخًا‪ ،‬وبقشره وببزره أيضًا‪ .‬وكان هذا من تدبير الله ولطفه‪ .‬وفيه نفع كثير وتقوية للدماغ‬
‫وغير ذلك‪ .‬فلما استكمل عافيته رده الله إلى قومه الذين تركهم مغاضبًا‪.‬‬

‫فضل يونس عليه السلم‪:‬‬

‫لقد وردت أحاديث كثيرة عن فضل يونس عليه السلم‪ ،‬منها قول النبي صلى الله عليه وسلم‪:‬‬
‫"ل ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" وقوله عليه الصلة والسلم‪" :‬من قال أنا‬
‫خير من يونس بن متى فقد كذب"‪.‬‬

‫ذنب يونس عليه السلم‪:‬‬

‫نريد الن أن ننظر فيما يسميه العلماء ذنب يونس‪ .‬هل ارتكب يونس ذنبا بالمعنى الحقيقي‬
‫للذنب؟ وهل يذنب النبياء‪ .‬الجواب أن النبياء معصومون‪ ..‬غير أن هذه العصمة ل تعني أنهم ل‬
‫يرتكبون أشياء هي عند الله أمور تستوجب العتاب‪ .‬المسألة نسبية إذن‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫يقول العارفون بالله‪ :‬إن حسنات البرار سيئات المقربين‪ ..‬وهذا صحيح‪ .‬فلننظر إلى فرار‬
‫يونس من قريته الجاحدة المعاندة‪ .‬لو صدر هذا التصرف من أي إنسان صالح غير يونس‪..‬‬
‫لكان ذلك منه حسنة يثاب عليها‪ .‬فهو قد فر بدينه من قوم مجرمين‪.‬‬

‫ولكن يونس نبي أرسله الله إليهم‪ ..‬والمفروض أن يبلغ عن الله ول يعبأ بنهاية التبليغ أو ينتظر‬
‫نتائج الدعوة‪ ..‬ليس عليه إل البلغ‪.‬‬

‫خروجه من القرية إذن‪ ..‬في ميزان النبياء‪ ..‬أمر يستوجب تعليم الله تعالى له وعقابه‪.‬‬

‫إن الله يلقن يونس درسا في الدعوة إليه‪ ،‬ليدعو النبي إلى الله فقط‪ .‬هذه حدود مهمته وليس‬
‫عليه أن يتجاوزها ببصره أو قلبه ثم يحزن لن قومه ل يؤمنون‪.‬‬

‫ولقد خرج يونس بغير إذن فانظر ماذا وقع لقومه‪ .‬لقد آمنوا به بعد خروجه‪ ..‬ولو أنه مكث‬
‫فيهم لدرك ذلك وعرفه واطمأن قلبه وذهب غضبه‪ ..‬غير أنه كان متسرعا‪ ..‬وليس تسرعه هذا‬
‫سوى فيض في رغبته أن يؤمن الناس‪ ،‬وإنما اندفع إلى الخروج كراهية لهم لعدم إيمانهم‪..‬‬
‫فعاقبه الله وعلمه أن على النبي أن يدعو لله فحسب‪ .‬والله يهدي من يشاء‪.‬‬

‫شعيب عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫أرسل شعيب إلى قوم مدين وكانوا يعبدون اليكة وكانوا ينقصون المكيال والميزان ول يعطون‬
‫الناس حقهم فدعاهم إلى عبادة الله وأن يتعاملوا بالعدل ولكنهم أبوا واستكبروا واستمروا في‬
‫عنادهم وتوعدوه بالرجم والطرد وطالبوه بأن ينزل عليهم كسفا من السماء فجاءت الصيحة‬
‫وقضت عليهم جميعا‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫دعوة شعيب عليه السلم‪:‬‬

‫لقد برز في قصة شعيب أن الدين ليس قضية توحيد وألوهية فقط‪ ،‬بل إنه كذلك أسلوب لحياة‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ما ل َ ُ‬
‫كم ّ‬ ‫دوا ْ الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫الناس‪ ..‬أرسل الله تعالى شعيبا إلى أهل مدين‪ .‬فقال شعيب )َيا قَوْم ِ اع ْب ُ ُ‬
‫إ َِلـهٍ غ َي ُْره( نفس الدعوة التي يدعوها كل نبي‪ ..‬ل تختلف من نبي إلى آخر‪ ..‬ل تتبدل ول تتردد‪.‬‬
‫هي أساس العقيدة‪ ..‬وبغير هذه الساس يستحيل أن ينهض بناء‪.‬‬

‫صوا ْ‬
‫ق ُ‬‫بعد تبيين هذا الساس‪ ..‬بدأ شعيب في توضيح المور الخرى التي جاءت بها دعوته )وَل َ َتن ُ‬
‫ط( بعد قضية التوحيد‬ ‫حي ٍ‬
‫م ِ‬
‫ب ي َوْم ٍ ّ‬
‫ذا َ‬ ‫ف ع َل َي ْك ُ ْ‬
‫م عَ َ‬ ‫ي أَ َ‬
‫خا ُ‬ ‫خي ْرٍ وَإ ِن ّ َ‬ ‫ي أ ََرا ُ‬
‫كم ب ِ َ‬ ‫ن إ ِن ّ َ‬ ‫ل َوال ْ ِ‬
‫ميَزا َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫مك َْيا َ‬
‫مباشرة‪ ..‬ينتقل النبي إلى قضية المعاملت اليومية‪ ..‬قضية المانة والعدالة‪ ..‬كان أهل مدين‬
‫ينقصون المكيال والميزان‪ ،‬ول يعطون الناس حقهم‪ ..‬وهي رذيلة تمس نظافة القلب واليد‪..‬‬
‫كما تمس كمال المروءة والشرف‪ ،‬وكان أهل مدين يعتبرون بخس الناس أشياءهم‪ ..‬نوعا من‬
‫أنواع المهارة في البيع والشراء‪ ..‬ودهاء في الخذ والعطاء‪ ..‬ثم جاء نبيهم وأفهمهم أن هذه‬
‫دناءة وسرقة‪ ..‬أفهمهم أنه يخاف عليهم بسببها من عذاب يوم محيط‪ ..‬انظر إلى تدخل السلم‬

‫‪62‬‬
‫الذي بعث به شعيب في حياة الناس‪ ،‬إلى الحد الذي يرقب فيه عملية البيع والشراء‪ .‬قال‪) :‬وََيا‬
‫ض‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م وَل َ ت َعْث َوْا ِفي الْر ِ‬ ‫س أَ ْ‬
‫شَياءهُ ْ‬ ‫سوا ْ الّنا َ‬ ‫ط وَل َ ت َب ْ َ‬
‫خ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ن ِبال ْ ِ‬
‫ق ْ‬ ‫ل َوال ْ ِ‬
‫ميَزا َ‬ ‫مك َْيا َ‬ ‫َ‬
‫قَوْم ِ أوُْفوا ْ ال ْ ِ‬
‫ن( لم يزل شعيب ماضيا في دعوته‪ ..‬ها هو ذا يكرر نصحه لهم بصورة إيجابية بعد‬ ‫دي َ‬‫س ِ‬‫م فْ ِ‬
‫ُ‬
‫صورة النهي السلبية‪..‬إنه يوصيهم أن يوفوا المكيال والميزان بالقسط‪ ..‬بالعدل والحق‪ ..‬وهو‬
‫يحذرهم أن يبخسوا الناس أشيائهم‪.‬‬

‫م( كلمة الشيء تطلق على‬ ‫س أَ ْ‬


‫شَياءهُ ْ‬ ‫سوا ْ الّنا َ‬ ‫خ ُ‬‫لنتدبر معا في التعبير القرآني القائل‪) :‬وَل َ ت َب ْ َ‬
‫الشياء المادية والمعنوية‪ ..‬أي أنها ليست مقصورة على البيع والشراء فقط‪ ،‬بل تدخل فيها‬
‫العمال‪ ،‬أو التصرفات الشخصية‪ .‬ويعني النص تحريم الظلم‪ ،‬سواء كان ظلما في وزن الفاكهة‬
‫أو الخضراوات‪ ،‬أو ظلما في تقييم مجهود الناس وأعمالهم‪ ..‬ذلك أن ظلم الناس يشيع في جو‬
‫الحياة مشاعر من اللم واليأس واللمبالة‪ ،‬وتكون النتيجة أن ينهزم الناس من الداخل‪ ،‬وتنهار‬
‫علقات العمل‪ ،‬وتلحقها القيم‪ ..‬ويشيع الضطراب في الحياة‪ ..‬ولذلك يستكمل النص تحذيره‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن( العثو هو تعمد الفساد والقصد إليه فل‬ ‫دي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬‫م ْ‬‫ض ُ‬ ‫من الفساد في الرض‪) :‬وَل َ ت َعْث َوْا ِفي الْر ِ‬
‫م(‪ ..‬ما عند الله خير لكم‪ِ) ..‬إن ُ‬
‫كنُتم‬ ‫خي ٌْر ل ّك ُ ْ‬
‫ة الل ّهِ َ‬ ‫قي ّ ُ‬ ‫تفسدوا في الرض متعمدين قاصدين )ب َ ِ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ّ‬

‫بعدها يخلي بينهم وبين الله الذي دعاهم إليه‪ ..‬ينحي نفسه ويفهمهم أنه ل يملك لهم شيئا‪..‬‬
‫ما‬
‫ليس موكل عليهم ول حفيظا عليهم ول حارسا لهم‪ ..‬إنما هو رسول يبلغهم رسالت ربه‪) :‬وَ َ‬
‫ظ( بهذا السلوب يشعر شعيب قومه بأن المر جد‪ ،‬وخطير‪ ،‬وثقيل‪ ..‬إذ بين لهم‬ ‫في ٍ‬
‫ح ِ‬ ‫أ َن َا ْ ع َل َي ْ ُ‬
‫كم ب ِ َ‬
‫عاقبة إفسادهم وتركهم أمام العاقبة وحدهم‪.‬‬

‫رد قوم شعيب‪:‬‬

‫كان هو الذي يتكلم‪ ..‬وكان قومه يستمعون‪ ..‬توقف هو عن الكلم وتحدث قومه‪َ) :‬قاُلوا ْ َيا‬
‫شاء إن ّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ما ي َعْب ُد ُ آَباؤ َُنا أ َوْ َأن ن ّ ْ‬ ‫ك َأن ن ّت ُْر َ‬ ‫شعيب أ َصل َت َ ْ‬
‫م‬ ‫ت ال ْ َ‬
‫حِلي ُ‬ ‫ك َلن َ‬ ‫ِ‬ ‫ما ن َ َ‬
‫وال َِنا َ‬
‫م َ‬
‫ل ِفي أ ْ‬ ‫فع َ َ‬ ‫ك َ‬ ‫مُر َ‬‫ك ت َأ ُ‬‫َ ُ‬ ‫ُ َْ ُ‬
‫شيد ُ( كان أهل مدين كفارا يقطعون السبيل‪ ،‬ويخيفون المارة‪ ،‬ويعبدون اليكة‪ ..‬وهي شجرة‬ ‫الّر ِ‬
‫من اليك حولها غيضة ملتفة بها‪ ..‬وكانوا من أسوأ الناس معاملة‪ ،‬يبخسون المكيال والميزان‬
‫ويطففون فيهما‪ ،‬ويأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص‪ ..‬انظر بعد هذا كله إلى حوارهم مع‬
‫ك َأن ن ّت ُْر َ‬ ‫شعيب أ َصل َت َ ْ‬
‫ما ي َعْب ُد ُ آَباؤ َُنا(‪ ...‬؟‬
‫ك َ‬ ‫مُر َ‬ ‫ك ت َأ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫شعيب‪َ) :‬قاُلوا ْ َيا ُ َ ْ ُ‬

‫بهذا التهكم الخفيف والسخرية المندهشة‪ ..‬واستهوال المر‪ ..‬لقد تجرأت صلة شعيب وجنت‬
‫وأمرته أن يأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم‪ ..‬ولقد كان آباؤهم يعبدون الشجار والنباتات‪..‬‬
‫وصلة شعيب تأمرهم أن يعبدوا الله وحده‪ ..‬أي جرأة من شعيب‪..‬؟ أو فلنقل أي جرأة من‬
‫صلة شعيب‪..‬؟ بهذا المنطق الساخر الهازئ وجه قوم شعيب خطابهم إلى نبيهم‪ ..‬ثم عادوا‬
‫شاء( تخيل يا شعيب أن صلتك تتدخل‬ ‫ما ن َ َ‬ ‫َ‬ ‫يتساءلون بدهشة ساخرة‪) :‬أ َوْ َأن ن ّ ْ‬
‫فع َ َ‬
‫وال َِنا َ‬
‫م َ‬
‫ل ِفي أ ْ‬
‫في إرادتنا‪ ،‬وطريقة تصرفنا في أموالنا‪ ..‬ما هي علقة اليمان والصلة بالمعاملت المادية؟‬

‫بهذا التساؤل الذي ظنه قوم شعيب قمة في الذكاء‪ ..‬طرحوا أمامه قضية اليمان‪ ،‬وأنكروا أن‬
‫تكون لها علقة بسلوك الناس وتعاملهم واقتصادهم‪ .‬هذه المحاولة للتفريق بين الحياة‬
‫القتصادية والسلم‪ ،‬وقد بعث به كل النبياء‪ ،‬وإن اختلفت أسماؤه‪ ..‬هذه المحاولة قديمة من‬
‫عمر قوم شعيب‪ .‬لقد أنكروا أن يتدخل الدين في حياتهم اليومية‪ ،‬وسلوكهم واقتصادهم‬
‫وطريقة إنفاقهم لموالهم بحرية‪ ..‬إن حرية إنفاق المال أو إهلكه أو التصرف فيه شيء ل‬
‫علقة له بالدين‪ ..‬هذه حرية النسان الشخصية‪ ..‬وهذا ماله الخاص‪ ،‬ما الذي أقحم الدين على‬
‫هذا وذاك؟‪ ..‬هذا هو فهم قوم شعيب للسلم الذي جاء به شعيب‪ ،‬وهو ل يختلف كثيرا أو قليل‬
‫عن فهم عديد من القوام في زماننا الذي نعيش فيه‪ .‬ما للسلم وسلوك النسان الشخصي‬
‫وحياتهم القتصادية وأسلوب النتاج وطرق التوزيع وتصرف الناس في أموالهم كما يشاءون‪..‬؟‬
‫ما للسلم وحياتنا اليومية‪..‬؟‬

‫ت ال ْ َ‬ ‫ثم يعودون إلى السخرية منه والستهزاء بدعوته )إن ّ َ َ‬


‫شيد ُ( أي لو كنت حليما‬
‫م الّر ِ‬
‫حِلي ُ‬ ‫ك َلن َ‬ ‫ِ‬
‫رشيدا لما قلت ما تقول‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫أدرك شعيب أن قومه يسخرون منه لستبعادهم تدخل الدين في الحياة اليومية‪ ..‬ولذلك تلطف‬
‫معهم تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه‪ ،‬وتجاوز سخريتهم ل يباليها‪ ،‬ول يتوقف‬
‫عندها‪ ،‬ول يناقشها‪ ..‬تجاوز السخرية إلى الجد‪ ..‬أفهمهم أنه على بينة من ربه‪ ..‬إنه نبي يعلم‬
‫وهو ل يريد أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه‪ ،‬إنه ل ينهاهم عن شيء ليحقق لنفسه نفعا منه‪ ،‬إنه‬
‫ل ينصحهم بالمانة ليخلوا له السوق فيستفيد من التلعب‪ ..‬إنه ل يفعل شيئا من ذلك‪ ..‬إنما هو‬
‫نبي‪ ..‬وها هو ذا يلخص لهم كل دعوات النبياء هذا التلخيص المعجز‪) :‬إ ُ‬
‫ما‬ ‫صل َ َ‬
‫ح َ‬ ‫ن أِريد ُ إ ِل ّ ال ِ ْ‬
‫ِ ْ‬
‫ت( إن ما يريده هو الصلح‪ ..‬هذه هي دعوات النبياء في مضمونها الحقيقي وعمقها‬ ‫ست َط َعْ ُ‬
‫ا ْ‬
‫البعيد‪ ..‬إنهم مصلحون أساسا‪ ،‬مصلحون للعقول‪ ،‬والقلوب‪ ،‬والحياة العامة‪ ،‬والحياة الخاصة‪.‬‬

‫بعد أن بين شعيب عليه السلم لقومه أساس دعوته‪ ،‬وما يجب عليهم اللتزام به‪ ،‬ورأى منهم‬
‫الستكبار‪ ،‬حاول إيقاض مشاعرهم بتذكيرهم بمصير من قبلهم من المم‪ ،‬وكيف دمرهم الله‬
‫بأمر منه‪ .‬فذكرهم قوم نوح‪ ،‬وقوم هود‪ ،‬وقوم صالح‪ ،‬وقوم لوط‪ .‬وأراهم أن سبيل النجاة هو‬
‫العودة لله تائبين مستغفرين‪ ،‬فالمولى غفور رحيم‪.‬‬

‫تحدي وتهديد القوم لشعيب‪:‬‬

‫ل وَإ ِّنا ل َن ََرا َ‬


‫ك ِفيَنا‬ ‫قو ُ‬ ‫ما ت َ ُ‬‫م ّ‬ ‫ه ك َِثيًرا ّ‬‫ق ُ‬‫ف َ‬
‫ما ن َ ْ‬
‫ب َ‬ ‫شعَي ْ ُ‬‫لكن قوم شعيب أعرضوا عنه قائلين‪َ) :‬قاُلوا ْ َيا ُ‬
‫فا( إنه ضعيف بمقياسهم‪ .‬ضعيف لن الفقراء والمساكيهم فقط اتبعوه‪ ،‬أما علية القوم‬ ‫ضِعي ً‬
‫َ‬
‫فاستكبروا وأصروا على طغيانهم‪ .‬إنه مقياس بشري خاطئ‪ ،‬فالقوة بيد الله‪ ،‬والله مع أنبياءه‪.‬‬
‫َ‬
‫ز( لول أهلك‬ ‫ت ع َل َي َْنا ب ِعَ ِ‬
‫زي ٍ‬ ‫ما أن َ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫مَنا َ‬ ‫ك ل ََر َ‬
‫ج ْ‬ ‫ويستمر الكفرة في تهديهم قائلين‪) :‬وَل َوْل َ َرهْط ُ َ‬
‫وقومك ومن يتبعك لحفرنا لك حفرة وقتلناك ضربا بالحجارة‪.‬‬

‫نرى أنه عندما أقام شعيب ‪-‬عليه السلم‪ -‬الحجة على قومه‪ ،‬غيروا أسلوبهم‪ ،‬فتحولوا من‬
‫السخرية إلى التهديد‪ .‬وأظهروا حقيقة كرههم له‪ .‬لكن شعيب تلطف معهم‪ ..‬تجاوز عن‬
‫ن‬
‫كم ّ َ‬
‫م‬ ‫طي أ َع َّز ع َل َي ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ل َيا قَوْم ِ أَرهْ ِ‬
‫إساءتهم إليه وسألهم سؤال كان هدفه إيقاظ عقولهم‪َ) :‬قا َ‬
‫ه( يا لسذاجة هؤلء‪ .‬إنهم يسيئون تقدير حقيقة القوى التي تتحكم في الوجود‪ ..‬إن الله هو‬ ‫الل ّ ِ‬
‫وحده العزيز‪ ..‬والمفروض أن يدركوا ذلك‪ ..‬المفروض أل يقيم النسان وزنا في الوجود لغير‬
‫الله‪ ..‬ول يخشى في الوجود غير الله‪ ..‬ول يعمل حسابا في الوجود لقوة غير الله ‪ ..‬إن الله هو‬
‫القاهر فوق عباده‪.‬‬

‫ويبدو أن قوم شعيب ضاقوا ذرعا بشعيب‪ .‬فاجتمع رؤساء قومه‪ .‬ودخلوا مرحلة جديدة من‬
‫التهديد‪ ..‬هددوه أول بالقتل‪ ،‬وها هم أولء يهددونه بالطرد من قريتهم‪ ..‬خيروه بين التشريد‪،‬‬
‫والعودة إلى ديانتهم وملتهم التي تعبد الشجار والجمادات‪ ..‬وأفهمهم شعيب أن مسألة عودته‬
‫في ملتهم مسألة ل يمكن حتى التفكير بها فكيف بهم يسألونه تنفيذها‪ .‬لقد نجاه الله من‬
‫ملتهم‪ ،‬فكيف يعود إليها؟ أنه هو الذي يدعوهم إلى ملة التوحيد‪ ..‬فكيف يدعونه إلى الشرك‬
‫والكفر؟ ثم أين تكافؤ الفرص؟ أنه يدعوهم برفق ولين وحب‪ ..‬وهم يهددونه بالقوة‪.‬‬

‫واستمر الصراع بين قوم شعيب ونبيهم‪ ..‬حمل الدعوة ضده الرؤساء والكبراء والحكام‪ ..‬وبدا‬
‫واضحا أن ل أمل فيهم‪ ..‬لقد أعرضوا عن الله‪ ..‬أداروا ظهورهم لله‪ .‬فنفض شعيب يديه منهم‪.‬‬
‫لقد هجروا الله‪ ،‬وكذبوا نبيه‪ ،‬واتهموه بأنه مسحور وكاذب‪ ..‬فليعمل كل واحد‪ ..‬ولينتظروا جميعا‬
‫أمر الله‪.‬‬

‫هلك قوم شعيب‪:‬‬

‫وانتقل الصراع إلى تحد من لون جديد‪ .‬راحوا يطالبونه بأن يسقط عليهم كسفا من السماء إن‬
‫كان من الصادقين‪ ..‬راحوا يسألونه عن عذاب الله‪ ..‬أين هو‪..‬؟ وكيف هو‪..‬؟ ولماذا تأخر‪..‬؟‬
‫سخروا منه‪ ..‬وانتظر شعيب أمر الله‪.‬‬

‫أوحى الله إليه أن يخرج المؤمنين ويخرج معهم من القرية‪ ..‬وخرج شعيب‪ ..‬وجاء أمره تعالى‪:‬‬

‫‪64‬‬
‫َ‬
‫حوا ْ‬ ‫ة فَأ ْ‬
‫صب َ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫موا ْ ال ّ‬
‫صي ْ َ‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ت ال ّ ِ‬‫خذ َ ِ‬ ‫مّنا وَأ َ َ‬‫مةٍ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ه ب َِر ْ‬ ‫مُنوا ْ َ‬
‫مع َ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫شعَي ًْبا َوال ّ ِ‬
‫ذي َ َ‬ ‫جي َْنا ُ‬
‫مُرَنا ن َ ّ‬
‫َ‬
‫جاء أ ْ‬ ‫ما َ‬‫وَل َ ّ‬
‫َ‬
‫مود ُ )‪) (94‬هود(‬ ‫ت ثَ ُ‬ ‫ما ب َعِد َ ْ‬ ‫ن كَ َ‬‫مد ْي َ َ‬‫دا ل ّ َ‬
‫م ي َغْن َوْا ْ ِفيَها أل َ ب ُعْ ً‬‫ن )‪ (94‬ك َأن ل ّ ْ‬ ‫مي َ‬
‫جاث ِ ِ‬‫م َ‬ ‫ِفي د َِيارِه ِ ْ‬

‫هي صيحة واحدة‪ ..‬صوت جاءهم من غمامة أظلتهم‪ ..‬ولعلهم فرحوا بما تصوروا أنها تحمله من‬
‫المطر‪ ..‬ثم فوجئوا أنهم أمام عذاب عظيم ليوم عظيم‪ ..‬انتهى المر‪ .‬أدركتهم صيحة جبارة‬
‫جعلت كل واحد فيهم يجثم على وجهه في مكانه الذي كان فيه في داره‪ ..‬صعقت الصيحة كل‬
‫مخلوق حي‪ ..‬لم يستطع أن يتحرك أو يجري أو يختبئ أو ينقذ نفسه‪ ..‬جثم في مكانه مصروعا‬
‫بصيحة‪.‬‬

‫أنبياء أهل القرية‬

‫نبذة‪:‬‬

‫أرسل الله رسولين لحدى القرى لكن أهل كذبوهما‪ ،‬فأرسل الله تعالى رسول ثالثا يصدقهما‪.‬‬
‫ول يذكر ويذكر لنا القرآن الكريم قصة رجل آمن بهم ودعى قومه لليمان بما جاؤوا بهن لكنهم‬
‫قتلوه‪ ،‬فأدخله الله الجنة‪.‬‬

‫سيرتهم‪:‬‬

‫يحكي الحق تبارك وتعالى قصة أنبياء ثلثة بغير أن يذكر أسمائهم‪ .‬كل ما يذكره السياق أن‬
‫القوم كذبوا رسولين فأرسل الله ثالثا يعزرهما‪ .‬ولم يذكر القرآن من هم أصحاب القرية ول ما‬
‫هي القرية‪ .‬وقد اختلفت فيها الروايات‪ .‬وعدم إفصاح القرآن عنها دليل على أن تحديد اسمها‬
‫أو موضعها ل يزيد شيئا ً في دللة القصة وإيحائها‪ .‬لكن الناس ظلوا على إنكارهم للرسل‬
‫شيٍء إ َ‬ ‫ما َأنَز َ‬ ‫َ‬
‫ن(‪.‬‬‫م إ ِل ّ ت َك ْذ ُِبو َ‬ ‫من َ ْ ِ ْ‬
‫ن أنت ُ ْ‬ ‫حمن ِ‬
‫ل الّر ْ‬ ‫مث ْل َُنا وَ َ‬ ‫م إ ِل ّ ب َ َ‬
‫شٌر ّ‬ ‫وتكذيبهم‪ ،‬وقالوا )َقاُلوا َ‬
‫ما أنت ُ ْ‬

‫وهذا العتراض المتكرر على بشرية الرسل تبدو فيه سذاجة التصور والدراك‪ ,‬كما يبدو فيه‬
‫الجهل بوظيفة الرسول‪ .‬قد كانوا يتوقعون دائما ً أن يكون هناك سر غامض في شخصية‬
‫الرسول وحياته تكمن وراءه الوهام والساطير‪ ..‬أليس رسول السماء إلى الرض فكيف يكون‬
‫شخصية مكشوفة بسيطة ل أسرار فيها ول ألغاز حولها ?! شخصية بشرية عادية من‬
‫الشخصيات التي تمتلىء بها السواق والبيوت ?!‬

‫وهذه هي سذاجة التصور والتفكير‪ .‬فالسرار واللغاز ليست صفة ملزمة للنبوة والرسالة‪.‬‬
‫فالرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية‪ .‬وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك‬
‫المنهج اللهي‪ .‬النموذج الذي يدعو قومه إلى القتداء به‪ .‬وهم بشر‪ .‬فل بد أن يكون رسولهم‬
‫من البشر ليحقق نموذجا ً من الحياة يملكون هم أن يقلدوه‪.‬‬

‫وفي ثقة المطمئن إلى صدقه‪ ,‬العارف بحدود وظيفته أجابهم الرسل‪ :‬إن الله يعلم‪ ،‬وهذا‬
‫يكفي‪ .‬وإن وظيفة الرسل البلغ‪ .‬وقد أدوه‪ .‬والناس بعد ذلك أحرار فيما يتخذون لنفسهم من‬
‫تصرف‪ .‬وفيما يحملون في تصرفهم من أوزار‪ .‬والمر بين الرسل وبين الناس هو أمر ذلك‬
‫التبليغ عن الله; فمتى تحقق ذلك فالمر كله بعد ذلك إلى الله‪.‬‬

‫ولكن المكذبين الضالين ل يأخذون المور هذا المأخذ الواضح السهل اليسير; ول يطيقون وجود‬
‫الدعاة إلى الهدى ويعمدون إلى السلوب الغليظ العنيف في مقاومة الحجة لن الباطل ضيق‬
‫الصدر‪ .‬قالوا‪ :‬إننا نتشاءم منكم; ونتوقع الشر في دعوتكم; فإن لم تنتهوا عنها فإننا لن نسكت‬
‫َ‬
‫م(‪ .‬هكذا أسفر الباطل‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫مّنا ع َ َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫سن ّ ُ‬
‫كم ّ‬ ‫م وَل َي َ َ‬
‫م ّ‬ ‫من ّك ُ ْ‬ ‫عليكم‪ ,‬ولن ندعكم في دعوتكم‪) :‬ل َن َْر ُ‬
‫ج َ‬
‫عن غشمه; وأطلق على الهداة تهديده; وبغى في وجه كلمة الحق الهادئة!‬

‫م‬ ‫ولكن الواجب الملقى على عاتق الرسل يقضي عليهم بالمضي في الطريق‪َ) :‬قاُلوا َ‬
‫طائ ُِرك ُ ْ‬
‫م(‪ .‬فالقول بالتشاؤم من دعوة أو من وجه هو خرافة من خرافات الجاهلية‪ .‬والرسل‬ ‫معَك ُ ْ‬
‫َ‬
‫يبينون لقومهم أنها خرافة; وأن حظهم ونصيبهم من خير ومن شر ل يأتيهم من خارج نفوسهم‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫إنما هو معهم‪ .‬مرتبط بنواياهم وأعمالهم‪ ,‬متوقف على كسبهم وعملهم‪ .‬وفي وسعهم أن‬
‫يجعلوا حظهم ونصيبهم خيرا ً أو أن يجعلوه شرًا‪ .‬فإن إرادة الله بالعبد تنفذ من خلل نفسه‪,‬‬
‫ومن خلل اتجاهه‪ ,‬ومن خلل عمله‪ .‬وهو يحمل طائره معه‪ .‬هذه هي الحقيقة الثابتة القائمة‬
‫على أساس صحيح‪ .‬أما التشاؤم بالمكنة أو التشاؤم بالوجوه أو التشاؤم بالكلمات‪ ،‬فهو خرافة‬
‫ل تستقيم على أصل!‬
‫وقالوا لهم‪) :‬أَِئن ذ ُك ّرتم( أترجموننا وتعذبوننا لننا نذكركم! أفهذا جزاء التذكير? )ب ْ َ‬
‫م قَوْ ٌ‬
‫م‬ ‫ل أنت ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬
‫ن( تتجاوزون الحدود في التفكير والتقدير; وتجازون على الموعظة بالتهديد والوعيد;‬ ‫سرُِفو َ‬
‫م ْ‬
‫ّ‬
‫وتردون على الدعوة بالرجم والتعذيب!‬

‫ما كان من الرجل المؤمن‪:‬‬

‫ل يقول لنا السياق ماذا كان من أمر هؤلء النبياء‪ ،‬إنما يذكر ما كان من أمر إنسان آمن بهم‪.‬‬
‫آمن بهم وحده‪ ..‬ووقف بإيمانه أقلية ضعيفة ضد أغلبية كافرة‪ .‬إنسان جاء من أقصى المدينة‬
‫يسعى‪ .‬جاء وقد تفتح قلبه لدعوة الحق‪ ..‬فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها بعد ما رأى فيها‬
‫من دلئل الحق والمنطق‪ .‬وحينما استشعر قلبه حقيقة اليمان تحركت هذه الحقيقة في‬
‫ضميره فلم يطق عليها سكوتًا; ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلل من حوله والجحود‬
‫والفجور; ولكنه سعى بالحق الذي آمن به‪ .‬سعى به إلى قومه وهم يكذبون ويجحدون‬
‫ويتوعدون ويهددون‪ .‬وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق‪,‬‬
‫وفي كفهم عن البغي‪ ,‬وفي مقاومة اعتدائهم الثيم الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين‪.‬‬

‫ويبدو أن الرجل لم يكن ذا جاه ول سلطان‪ .‬ولم تكن له عشيرة تدافع عنه إن وقع له أذى‪.‬‬
‫ولكنها العقيدة الحية في ضميره تدفعه وتجيء به من أقصى المدينة إلى أقصاها‪.‬‬

‫فقال لهم‪ :‬اتبعوا هؤلء الرسل‪ ،‬فإن الذي يدعو مثل هذه الدعوة‪ ,‬وهو ل يطلب أجرًا‪ ,‬ول يبتغي‬
‫مغنمًا‪ .‬إنه لصادق‪ .‬وإل فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبي تكليفا ً من الله? ما‬
‫الذي يدفعه إلى حمل هم الدعوة? ومجابهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة? والتعرض لذاهم‬
‫وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم‪ ,‬وهو ل يجني من ذلك كسبًا‪ ,‬ول يطلب منهم أجرًا? وهداهم‬
‫واضح في طبيعة دعوتهم‪ .‬فهم يدعون إلى إله واحد‪ .‬ويدعون إلى نهج واضح‪ .‬ويدعون إلى‬
‫عقيدة ل خرافة فيها ول غموض‪ .‬فهم مهتدون إلى نهج سليم‪ ,‬وإلى طريق مستقيم‪.‬‬

‫ثم عاد يتحدث إليهم عن نفسه هو وعن أسباب إيمانه‪ ,‬ويناشد فيهم الفطرة التي استيقظت‬
‫فيه فاقتنعت بالبرهان الفطري السليم‪ .‬فلقد تسائل مع نفسه قبل إئمانه‪ ،‬لماذا ل أعبد الذي‬
‫فطرني؟ والذي إليه المرجع والمصير? وما الذي يحيد بي عن هذا النهج الطبيعي الذي يخطر‬
‫على النفس أول ما يخطر? إن الفطر مجذوبة إلى الذي فطرها‪ ,‬تتجه إليه أول ما تتجه‪ ,‬فل‬
‫تنحرف عنه إل بدافع آخر خارج على فطرتها‪ .‬والتوجه إلى الخالق هو الولى‪.‬‬

‫ثم يبين ضلل المنهج المعاكس‪ .‬مهج من يعبد آلهة غير الرحمن ل تضر ول تنفع‪ .‬وهل أضل‬
‫ممن يدع منطق الفطرة الذي يدعو المخلوق إلى عبادة خالقه‪ ,‬وينحرف إلى عبادة غير الخالق‬
‫بدون ضرورة ول دافع? وهل أضل ممن ينحرف عن الخالق إلى آلهة ضعاف ل يحمونه ول‬
‫يدفعون عنه الضر حين يريد به خالقه الضر بسبب انحرافه وضلله?‬

‫والن وقد تحدث الرجل بلسان الفطرة الصادقة العارفة الواضحة يقرر قراره الخير في وجه‬
‫قومه المكذبين المهددين المتوعدين‪ .‬لن صوت الفطرة في قلبه أقوى من كل تهديد ومن كل‬
‫ن( هكذا ألقى بكلمة اليمان الواثقة المطمئنة‪ .‬وأشهدهم‬ ‫مُعو ِ‬
‫س َ‬ ‫ت ب َِرب ّك ُ ْ‬
‫م َفا ْ‬ ‫من ُ‬
‫تكذيب‪) :‬إ ِّني آ َ‬
‫عليها‪ .‬وهو يوحي إليهم أن يقولوها كما قالها‪ .‬أو أنه ل يبالي بهم ماذا يقولون!‬

‫استشهاد الرجل ودخوله الجنة‪:‬‬

‫‪66‬‬
‫ويوحي سياق القصة بعد ذلك القوم الكافرين قتلوا الرجل المؤمن‪ .‬وإن كان ل يذكر شيئا ً من‬
‫هذا صراحة‪ .‬إنما يسدل الستار على الدنيا وما فيها‪ ,‬وعلى القوم وما هم فيه; ويرفعه لنرى هذا‬
‫الشهيد الذي جهر بكلمة الحق‪ ,‬متبعا ً صوت الفطرة‪ ,‬وقذف بها في وجوه من يملكون التهديد‬
‫والتنكيل‪ .‬نراه في العالم الخر‪ .‬ونطلع على ما ادخر الله له من كرامة‪ .‬تليق بمقام المؤمن‬
‫ما غ َ َ‬
‫فَر ِلي َرّبي‬ ‫ن ‪ ..‬ب ِ َ‬ ‫مي ي َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ل َيا ل َي ْ َ‬
‫ت قَوْ ِ‬ ‫ة َقا َ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫خ ِ‬ ‫الشجاع المخلص الشهيد‪ِ) :‬قي َ‬
‫ل اد ْ ُ‬
‫ن(‪.‬‬
‫مي َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مك َْر ِ‬ ‫جعَل َِني ِ‬
‫م َ‬ ‫وَ َ‬

‫وتتصل الحياة الدنيا بالحياة الخرة‪ .‬ونرى الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء‪ .‬وخطوة‬
‫يخلص بها المؤمن من ضيق الرض إلى سعة الجنة‪ .‬ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق‪.‬‬
‫ومن تهديد البغي إلى سلم النعيم‪ .‬ومن ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين‪.‬‬

‫ونرى الرجل المؤمن‪ .‬وقد اطلع على ما آتاه الله في الجنة من المغفرة والكرامة‪ ,‬يذكر قومه‬
‫طيب القلب رضي النفس‪ ,‬يتمنى لو يراه قومه ويرون ما آتاه ربه من الرضى والكرامة‪,‬‬
‫ليعرفوا الحق‪ ,‬معرفة اليقين‪.‬‬

‫إهلك أصحاب القرية بالصيحة‪:‬‬

‫هذا كان جزاء اليمان‪ .‬فأما الطغيان فكان أهون على الله من أن يرسل عليه الملئكة لتدمره‪.‬‬
‫َ‬
‫ن ‪ِ ..‬إن‬ ‫ما ك ُّنا ُ‬
‫منزِِلي َ‬ ‫ماِء وَ َ‬
‫س َ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫جند ٍ ّ‬
‫ن ُ‬
‫م ْ‬
‫من ب َعْد ِهِ ِ‬ ‫ما أنَزل َْنا ع ََلى قَوْ ِ‬
‫مهِ ِ‬ ‫فهو ضعيف ضعيف‪) :‬وَ َ‬
‫ً‬
‫ن(‪ .‬ل يطيل هنا في وصف مصرع القوم‪ ,‬تهوينا لشأنهم‪,‬‬ ‫دو َ‬‫م ُ‬
‫خا ِ‬
‫م َ‬ ‫حد َة ً فَإ ِذا هُ ْ‬
‫َ‬ ‫ة َوا ِ‬
‫ح ً‬ ‫ت إ ِل ّ َ‬
‫صي ْ َ‬ ‫َ‬
‫كان َ ْ‬
‫وتصغيرا لقدرهم‪ .‬فما كانت إل صيحة واحدة أخمدت أنفاسهم‪ .‬ويسدل الستار على مشهدهم‬ ‫ً‬
‫البائس المهين الذليل!‬

‫تجاوز السياق أسماء النبياء وقصصهم ليبرز قصة رجل آمن‪ ..‬لم يذكر لنا السياق اسمه‪ .‬اسمه‬
‫ل يهم‪ ..‬المهم ما وقع له‪ ..‬لقد آمن بأنبياء الله‪ ..‬قيل له ادخل الجنة‪ .‬ليكن ما كان من أمر‬
‫تعذيبه وقتله‪ .‬ليس هذا في الحساب النهائي شيئا له قيمته‪ .‬تكمن القيمة في دخوله فور إعلنه‬
‫أنه آمن‪ .‬فور قتله‬

‫موسى عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫‪67‬‬
‫أرسله الله تعالى إلى فرعون وقومه‪ ،‬وأيده بمعجزتين‪ ،‬إحداهما هي العصا التي تلقف الثعابين‪،‬‬
‫أما الخرى فكانت يده التي يدخلها في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء‪ ،‬دعا موسى إلى‬
‫وحدانية الله فحاربه فرعون وجمع له السحرة ليكيدوا له ولكنه هزمهم بإذن الله تعالى‪ ،‬ثم‬
‫أمره الله أن يخرج من مصر مع من اتبعه‪ ،‬فطارده فرعون بجيش عظيم‪ ،‬ووقت أن ظن‬
‫أتباعه أنهم مدركون أمره الله أن يضرب البحر بعصاه لتكون نجاته وليكون هلك فرعون الذي‬
‫جعله الله عبرة للخرين‪.‬‬

‫أرسل موسى وهارون عليهما السلم لشد الشعوب كرها للحق وابتعادا عنه‪ ..‬لذلك كانت‬
‫حياتهما مليئة بالحداث والمواقف‪.‬‬

‫ولكي نستطيع عرض هذه القصة بالشكل الصحيح‪ ..‬تم تقسيمها إلى أربعة أجزاء‪ ،‬كل جزء‬
‫يتناول مرحلة من مراحل حياة هذين النبيين الكريمين‪.‬‬

‫أجزاء القصة‪:‬‬

‫الجزء الول‪ :‬يتناول نشأة موسى عليه السلم‪ ،‬وخروجه من مصر إلى مدين هاربا من‬
‫فرعون وجنوده‪ ،‬ولقاءه بربه في الوادي المقدس‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫أثناء حياة يوسف علي السلم بمصر‪ ،‬تحولت مصر إلى التوحيد‪ .‬توحيد الله سبحانه‪ ،‬وهي‬
‫الرسالة التي كان يحملها جميع الرسل إلى أقواهم‪ .‬لكن بعد وفاته‪ ،‬عاد أهل مصر إلى ضللهم‬
‫ل منهم من‬‫وشركهم‪ .‬أما أبناء يعقوب‪ ،‬أو أبناء إسرائيل‪ ،‬فقد اختلطوا بالمجتمع المصري‪ ،‬فض ّ‬
‫ضل‪ ،‬وبقي على التوحيد من بقي‪ .‬وتكاثر أبناء إسرائيل وتزايد عددهم‪ ،‬واشتغلوا في العديد من‬
‫الحرف‪.‬‬

‫ثم حكم مصر ملك جبار كان المصريون يعبدونه‪ .‬ورأى هذا الملك بني إسرائيل يتكاثرون‬
‫ويزيدون ويملكون‪ .‬وسمعهم يتحدثون عن نبوءة تقول إن واحدا من أبناء إسرائيل سيسقط‬
‫فرعون مصر عن عرشه‪ .‬فأصدر الفرعون أمره أل يلد أحد من بني إسرائيل‪ ،‬أي أن يقتل أي‬
‫وليد ذكر‪ .‬وبدأ تطبيق النظام‪ ،‬ثم قال مستشارون فرعون له‪ ،‬إن الكبار من بني إسرائيل‬
‫يموتون بآجالهم‪ ،‬والصغار يذبحون‪ ،‬وهذا سينتهي إلى إفناء بني إسرائيل‪ ،‬فستضعف مصر لقلة‬
‫اليدي العاملة بها‪ .‬والفضل أن تنظم العملية بأن يذبحون الذكور في عام ويتركونهم في العام‬
‫الذي يليه‪.‬‬

‫ووجد الفرعون أن هذا الحل أسلم‪ .‬وحملت أم موسى بهارون في العام الذي ل يقتل فيه‬
‫الغلمان‪ ،‬فولدته علنية آمنة‪ .‬فلما جاء العام الذي يقتل فيه الغلمان ولد موسى‪ .‬حمل ميلده‬
‫خوفا عظيما لمه‪ .‬خافت عليه من القتل‪ .‬راحت ترضعه في السر‪ .‬ثم جاءت عليها ليلة مباركة‬
‫أوحى الله إليها فيها للم بصنع صندوق صغير لموسى‪ .‬ثم إرضاعه ووضعه في الصندوق‪.‬‬
‫وإلقاءه في النهر‪.‬‬

‫كان قلب الم‪ ،‬وهو أرحم القلوب في الدنيا‪ ،‬يمتلئ باللم وهي ترمي ابنها في النيل‪ ،‬لكنها‬
‫كانت تعلم أن الله أرحم بموسى منها‪ ،‬والله هو ربه ورب النيل‪ .‬لم يكد الصندوق يلمس مياه‬
‫النيل حتى أصدر الخالق أمره إلى المواج أن تكون هادئة حانية وهي تحمل هذا الرضيع الذي‬
‫سيكون نبيا فيما بعد‪ ،‬ومثلما أصدر الله تعالى أمره للنار أن تكون بردا وسلما على إبراهيم‪،‬‬
‫كذلك أصدر أمره للنيل أن يحمل موسى بهدوء ورفق حتى يسلمه إلى قصر فرعون‪ .‬وحملت‬
‫مياه النيل هذا الصندوق العزيز إلى قصر فرعون‪ .‬وهناك أسلمه الموج للشاطئ‪.‬‬

‫رفض موسى للمراضع‪:‬‬

‫‪68‬‬
‫وفي ذلك الصباح خرجت زوجة فرعون تتمشى في حديقة القصر‪ .‬وكانت زوجة فرعون تختلف‬
‫كثيرا عنه‪ .‬فقد كان هو كافرا وكانت هي مؤمنة‪ .‬كان هو قاسيا وكانت هي رحيمة‪ .‬كان جبارا‬
‫وكانت رقيقة وطيبة‪ .‬وأيضا كانت حزينة‪ ،‬فلم تكن تلد‪ .‬وكانت تتمنى أن يكون عندها ولد‪.‬‬

‫وعندما ذهبت الجواري ليملن الجرار من النهر‪ ،‬وجدن الصندوق‪ ،‬فحملنه كما هو إلى زوجة‬
‫فرعون‪ .‬فأمرتهن أن يفتحنه ففتحنه‪ .‬فرأت موسى بداخله فأحست بحبه في قلبها‪ .‬فلقد ألقى‬
‫الله في قلبها محبته فحملته من الصندوق‪ .‬فاستيقظ موسى وبدأ يبكي‪ .‬كان جائعا يحتاج إلى‬
‫رضعة الصباح فبكى‪.‬‬

‫فجاءت زوجة فرعون إليه‪ ،‬وهي تحمل بين بيدها طفل رضيعا‪ .‬فسأل من أين جاء هذا الرضيع؟‬
‫فحدثوه بأمر الصندوق‪ .‬فقال بقلب ل يعرف الرحمة‪ :‬لبد أنه أحد أطفال بني إسرائيل‪ .‬أليس‬
‫المفروض أن يقتل أطفال هذه السنة؟‬

‫فذ ّ‬
‫كرت آسيا ‪-‬امرأة فرعون‪ -‬زوجها بعدم قدرتهم على وطلبت منه أن يسمح لها بتربيته‪ .‬سمح‬
‫لها بذلك‪.‬‬

‫عاد موسى للبكاء من الجوع‪ .‬فأمرت بإحضار المراضع‪ .‬فحضرت مرضعة من القصر وأخذت‬
‫موسى لترضعه فرفض أن يرضع منها‪ .‬فحضرت مرضعة ثانية وثالثة وعاشرة وموسى يبكي ول‬
‫يريد أن يرضع‪ .‬فاحتارت زوجة فرعون ولم تكن تعرف ماذا تفعل‪.‬‬

‫لم تكن زوجة فرعون هي وحدها الحزينة الباكية بسبب رفع موسى لجميع المراضع‪ .‬فلقد‬
‫كانت أم موسى هي الخرى حزينة باكية‪ .‬لم تكد ترمي موسى في النيل حتى أحست أنها‬
‫ترمي قلبها في النيل‪ .‬غاب الصندوق في مياه النيل واختفت أخباره‪ .‬وجاء الصباح على أم‬
‫موسى فإذا قلبها فارغ يذوب حزنا على ابنها‪ ،‬وكادت تذهب إلى قصر فرعون لتبلغهم نبأ ابنها‬
‫وليكن ما يكون‪ .‬لول أن الله تعالى ربط على قلبها ومل بالسلم نفسها فهدأت واستكانت‬
‫وتركت أمر ابنها لله‪ .‬كل ما في المر أنها قالت لخته‪ :‬اذهبي بهدوء إلى المدينة وحاولي أن‬
‫تعرفي ماذا حدث لموسى‪.‬‬

‫وذهبت أخت موسى بهدوء ورفق إلى جوار قصر فرعون‪ ،‬فإذا بها تسمع القصة الكاملة‪ .‬رأت‬
‫موسى من بعيد وسمعت بكاءه‪ ،‬ورأتهم حائرين ل يعرفون كيف يرضعونه‪ ،‬سمعت أنه يرفض‬
‫كل المراضع‪ .‬وقالت أخت موسى لحرس فرعون‪ :‬هل أدلكم على أهل بيت يرضعونه ويكفلونه‬
‫ويهتمون بأمره ويخدمونه؟‬

‫ففرحت زوجة فرعون كثيرا لهذا المر‪ ،‬وطلبت منها أن تحضر المرضعة‪ .‬وعادت أخت موسى‬
‫وأحضرت أمه‪ .‬وأرضعته أمه فرضع‪ .‬وتهللت زوجة فرعون وقالت‪" :‬خذيه حتى تنتهي فترة‬
‫رضاعته وأعيديه إلينا بعدها‪ ،‬وسنعطيك أجرا عظيما على تربيتك له"‪ .‬وهكذا رد الله تعالى‬
‫موسى لمه كي تقر عينها ويهدأ قلبها ول تحزن ولتعلم أن وعد الله حق وأن كلماته سبحانه‬
‫تنفذ رغم أي شيء‪ .‬ورغم كل شيء‪.‬‬

‫نشأة موسى في بيت فرعون‪:‬‬

‫أتمت أم موسى رضاعته وأسلمته لبيت فرعون‪ .‬كان موضع حب الجميع‪ .‬كان ل يراه أحد إل‬
‫أحبه‪ .‬وها هو ذا في أعظم قصور الدنيا يتربى بحفظ الله وعنايته‪ .‬بدأت تربية موسى في بيت‬
‫فرعون‪ .‬وكان هذا البيت يضم أعظم المربين والمدرسين في ذلك الوقت‪ .‬كانت مصر أيامها‬
‫أعظم دولة في الرض‪ .‬وكان فرعون أقوى ملك في الرض‪ ،‬ومن الطبيعي أن يضم قصره‬
‫أعظم المدربين والمثقفين والمربين في الرض‪ .‬وهكذا شاءت حكمة الله تعالى أن يتربى‬
‫موسى أعظم تربية وأن يتعهده أعظم المدرسين‪ ،‬وأن يتم هذا كله في بيت عدوه الذي‬
‫سيصطدم به فيما بعد تنفيذا لمشيئة الخالق‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫وكبر موسى في بيت فرعون‪ .‬كان موسى يعلم أنه ليس ابنا لفرعون‪ ،‬إنما هو واحد من بني‬
‫إسرائيل‪ .‬وكان يرى كيف يضطهد رجال فرعون وأتباعه بني إسرائيل‪ ..‬وكبر موسى وبلغ‬
‫ن أ َهْل َِها( وراح يتمشى فيها‪ .‬فوجد رجل من اتباع‬ ‫فل َةٍ ّ‬
‫م ْ‬ ‫ن غَ ْ‬
‫حي ِ‬ ‫ة ع ََلى ِ‬ ‫دين َ َ‬
‫م ِ‬‫ل ال ْ َ‬
‫خ َ‬‫أشده‪) ..‬وَد َ َ‬
‫فرعون وهو يقتتل مع رجل من بني إسرائيل‪ ،‬واستغاث به الرجل الضعيف فتدخل موسى‬
‫وأزاح بيده الرجل الظالم فقتله‪ .‬كان موسى قويا جدا‪ ،‬ولم يكن يقصد قتل الظالم‪ ،‬إنما أراد‬
‫ل‬
‫م ِ‬
‫ن عَ َ‬
‫م ْ‬ ‫إزاحته فقط‪ ،‬لكن ضربته هذه قتلته‪ .‬ففوجئ موسى به وقد مات وقال لنفسه‪) :‬هَ َ‬
‫ذا ِ‬
‫سي َفاغ ْ ِ‬
‫فْر ِلي(‪.‬‬ ‫ف ِ‬
‫ت نَ ْ‬ ‫ب إ ِّني ظ َل َ ْ‬
‫م ُ‬ ‫ن(‪ .‬ودعا موسى ربه‪َ) :‬قا َ‬
‫ل َر ّ‬ ‫مِبي ٌ‬
‫ل ّ‬ ‫ض ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ع َد ُوّ ّ‬
‫ن إ ِن ّ ُ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫م(‪.‬‬
‫حي ُ‬‫فوُر الّر ِ‬ ‫ْ‬
‫ه هُوَ الغَ ُ‬ ‫وغفر الله تعالى له‪) ،‬إ ِن ّ ُ‬

‫فا ي َت ََرقّ ُ‬
‫ب(‪ .‬كان هذا حال موسى‪ ،‬حال إنسان مطارد‪ ،‬فهو خائف‪،‬‬ ‫خائ ِ ً‬
‫دين َةِ َ‬ ‫أصبح موسى )ِفي ال ْ َ‬
‫م ِ‬
‫يتوقع الشر في كل خطوة‪ ،‬وهو مترقب‪ ،‬يلتفت لوهى الحركات وأخفاها‪.‬‬

‫ووعد موسى بأن ل يكون ظهيرا للمجرمين‪ .‬لن يتدخل في المشاجرات بين المجرمين‬
‫والمشاغبين ليدافع عن أحد من قومه‪ .‬وفوجئ موسى أثناء سيره بنفس الرجل الذي أنقذه‬
‫بالمس وهو يناديه ويستصرخه اليوم‪ .‬كان الرجل مشتبكا في عراك مع أحد المصريين‪ .‬وأدرك‬
‫موسى بأن هذا السرائيلي مشاغب‪ .‬أدرك أنه من هواة المشاجرات‪ .‬وصرخ موسى في‬
‫ن(‪ .‬قال موسى كلمته واندفع نحوهما يريد البطش‬ ‫ك ل َغَوِيّ ّ‬
‫مِبي ٌ‬ ‫السرائيلي يعنفه قائل‪) :‬إ ِن ّ َ‬
‫بالمصري‪ .‬واعتقد السرائيلي أن موسى سيبطش به هو‪ .‬دفعه الخوف من موسى إلى‬
‫كره بالمصري الذي قتله بالمس‪ .‬فتوقف موسى‪ ،‬سكت عنه الغضب‬ ‫استرحامه صارخا‪ ،‬وذ ّ‬
‫وتذكر ما فعله بالمس‪ ،‬وكيف استغفر وتاب ووعد أل يكون نصيرا للمجرمين‪ .‬استدار موسى‬
‫عائدا ومضى وهو يستغفر ربه‪.‬‬

‫وأدرك المصري الذي كان يتشاجر مع السرائيلي أن موسى هو قاتل المصري الذي عثروا‬
‫على جثته أمس‪ .‬ولم يكن أحد من المصررين يعلم من القاتل‪ .‬فنشر هذا المصري الخبر في‬
‫أرجاء المدينة‪ .‬وانكشف سر موسى وظهر أمره‪ .‬وجاء رجل مصري مؤمن من أقصى المدينة‬
‫مسرعا‪ .‬ونصح موسى بالخروج من مصر‪ ،‬لن المصريين ينوون قلته‪.‬‬

‫لم يذكر القرآن الكريم اسم الرجل الذي جاء يحذر موسى‪ .‬ونرجح أنه كان رجل مصريا من‬
‫ذوي الهمية‪ ،‬فقد اطلع على مؤامرة تحاك لموسى من مستويات عليا‪ ،‬ولو كان شخصية عادية‬
‫لما عرف‪ .‬يعرف الرجل أن موسى لم يكن يستحق القتل على ذنبه بالمس‪ ..‬لقد قتل الرجل‬
‫خطأ‪ .‬فيجب أن تكون عقوبته السجن على أقصى تقدير‪.‬‬

‫لكن رؤساء القوم وعليتهم‪ ،‬الذين يبدوا أنهم كانوا يكرهون موسى لنه من بني إسرائيل‪ ،‬ولنه‬
‫نجى من العام الذي يقتل فيه كل مولود ذكر‪ ،‬وجدوا هذه الفرصة مناسبة للتخلص من موسى‪،‬‬
‫فهو قاتل المصري‪ ،‬لذا فهو يستحق القتل‪.‬‬

‫جِني‬
‫ب نَ ّ‬
‫خرج موسى من مصر على الفور‪ .‬خائفا يتلفت ويتسمع ويترقب‪ .‬في قلبه دعاء لله )َر ّ‬
‫ن(‪ .‬وكان القوم ظالمين حقا‪ .‬أل يريدون تطبيق عقوبة القتل العمد عليه‪،‬‬ ‫مي َ‬ ‫قوْم ِ ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬
‫ِ‬
‫وهو لم يفعل شيئا أكثر من أنه مد يده وأزاح رجل فقتله خطأ؟‬

‫خرج موسى من مصر على عجل‪ .‬لم يذهب إلى قصر فرعون ولم يغير ملبسه ولم يأخذ‬
‫طعاما للطريق ولم يعد للسفر عدته‪ .‬لم يكن معه دابة تحمله على ظهرها وتوصله‪ .‬ولم يكن‬
‫في قافلة‪ .‬إنما خرج بمجرد أن جاءه الرجل المؤمن وحذره من فرعون ونصحه أن يخرج‪ .‬اختار‬
‫طريقا غير مطروق وسلكه‪ .‬دخل في الصحراء مباشرة واتجه إلى حيث قدرت له العناية‬
‫اللهية أن يتجه‪ .‬لم يكن موسى يسير قاصدا مكانا معينا‪ .‬هذه أول مرة يخرج فيها ويعبر‬
‫الصحراء وحده‪.‬‬

‫موسى في مدين‪:‬‬

‫‪70‬‬
‫ظل يسير بنفسية المطارد حتى وصل إلى مكان‪ .‬كان هذا المكان هو مدين‪ .‬جلس يرتاح عند‬
‫بئر عظيمة يسقي الناس منها دوابهم‪ .‬وكان خائفا طوال الوقت أن يرسل فرعون من وراءه‬
‫من يقبض عليه‪.‬‬

‫لم يكد موسى يصل إلى مدين حتى ألقى بنفسه تحت شجرة واستراح‪ .‬نال منه الجوع والتعب‪،‬‬
‫وسقطت نعله بعد أن ذابت من مشقة السير على الرمال والصخور والتراب‪ .‬لم تكن معه نقود‬
‫لشراء نعل جديدة‪ .‬ولم تكن معه نقود لشراء طعام أو شراب‪ .‬لحظ موسى جماعة من الرعاة‬
‫يسقون غنمهم‪ ،‬ووجد امرأتين تكفان غنمهما أن يختلطا بغنم القوم‪ ،‬أحس موسى بما يشبه‬
‫اللهام أن الفتاتين في حاجة إلى المساعدة‪ .‬تقدم منهما وسأل هل يستطيع أن يساعدهما في‬
‫شيء‪.‬‬

‫قالت إحداهما‪ :‬نحن ننتظر أن ينتهي الرعاة من سقي غنمهم لنسقي‪.‬‬


‫سأل موسى‪ :‬ولماذا ل تسقيان؟‬
‫قالت الخرى‪ :‬ل نستطيع أن نزاحم الرجال‪.‬‬
‫اندهش موسى لنهما ترعيان الغنم‪ .‬المفروض أن يرعى الرجال الغنام‪ .‬هذه مهمة شاقة‬
‫ومتعبة وتحتاج إلى اليقظة‪.‬‬
‫سأل موسى‪ :‬لماذا ترعيان الغنم؟‬
‫فقالت واحدة منهما‪ :‬أبونا شيخ كبير ل تساعده صحته على الخروج كل يوم للرعي‪.‬‬
‫فقال موسى‪ :‬سأسقي لكما‪.‬‬

‫سار موسى نحو الماء‪ .‬وسقى لهم الغنم مع بقية الرعاة‪ .‬وفي رواية أن أن الرعاة قد وضعوا‬
‫على فم البئر بعد أن انتهوا منها صخرة ضخمة ل يستطيع أن يحركها غير عدد من الرجال‪.‬‬
‫فرفع موسى الصخرة وحده‪ .‬وسقى لهما الغنم وأعاد الصخرة إلى مكانها‪ ،‬وتركهما وعاد‬
‫َ‬
‫ر‬
‫خي ْ ٍ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ي ِ‬‫ت إ ِل َ ّ‬
‫ما أنَزل ْ َ‬
‫ب إ ِّني ل ِ َ‬
‫يجلس تحت ظل الشجرة‪ .‬وتذكر لحظتها الله وناداه في قلبه‪َ) :‬ر ّ‬
‫فَ ِ‬
‫قيٌر(‪.‬‬

‫عادت الفتاتان إلى أبيهما الشيخ‪.‬‬

‫سأل الب‪ :‬عدتما اليوم سريعا على غير العادة؟!‬


‫قالت إحداهما‪ :‬تقابلنا مع رجل كريم سقى لنا الغنم‪.‬‬
‫ت ل ََنا(‪.‬‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ق‬‫س‬ ‫ما‬ ‫ر‬ ‫ج‬ ‫ك( ليعطيك )أ َ‬
‫َ‬ ‫عو‬ ‫فقال الب لبنته‪ :‬اذهبي إليه وقولي له‪) :‬إ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ن أِبي ي َد ْ‬
‫ِ ّ‬

‫ذهبت واحدة من الفتاتين إلى موسى‪ ،‬ووقفت أمامه وأبلغته رسالة أبيها‪ .‬فنهض موسى وبصره‬
‫في الرض‪ .‬إنه لم يسق لهما الغنم ليأخذ منهن أجرا‪ ،‬وإنما ساعدهما لوجه الله‪ ،‬غير أنه أحس‬
‫في داخله أن الله هو الذي يوجه قدميه فنهض‪ .‬سارت البنت أمامه‪ .‬هبت الرياح فضربت ثوبها‬
‫فخفض موسى بصره حياء وقال لها‪ :‬سأسير أنا أمامك ونبهيني أنت إلى الطريق‪.‬‬

‫وصل إلى الشيخ‪ .‬قال بعض المفسرين إن هذا الشيخ هو النبي شعيب‪ .‬عمر طويل بعد موت‬
‫قومه‪ .‬وقيل إنه ابن أخي شعيب‪ .‬وقيل ابن عمه‪ ،‬وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب الذين آمنوا‬
‫به‪ .‬ل نعرف أكثر من كونه شيخا صالحا‪.‬‬

‫قدم له الشيخ الطعام وسأله‪ :‬من أين قدم وإلى أين سيذهب؟ حدثه موسى عن قصته‪ .‬قال‬
‫ن(‪ .‬هذه البلد ل تتبع مصر‪ ،‬ولن يصلوا إليك هنا‪.‬‬
‫مي َ‬ ‫قوْم ِ ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬
‫ت ِ‬
‫جو ْ َ‬
‫ف نَ َ‬ ‫الشيخ‪َ) :‬ل ت َ َ‬
‫خ ْ‬
‫اطمأن موسى ونهض لينصرف‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫قوِيّ اْل َ ِ‬
‫مي ُ‬ ‫ت ال ْ َ‬
‫جْر َ‬
‫ست َأ َ‬
‫نا ْ‬
‫م ِ‬
‫خي َْر َ‬
‫ن َ‬
‫جْره ُ إ ِ ّ‬
‫ست َأ ِ‬
‫تا ْ‬
‫قالت ابنة الشيخ لبيها همسا‪َ) :‬يا أب َ ِ‬
‫سألها الب‪ :‬كيف عرفت أنه قوي؟‬
‫قالت‪ :‬رفع وحده صخرة ل يرفعها غير عدد رجال‪.‬‬
‫سألها‪ :‬وكيف عرفت أنه أمين؟‬

‫‪71‬‬
‫قالت‪ :‬رفض أن يسير خلفي وسار أمامي حتى ل ينظر إلي وأنا أمشي‪ .‬وطوال الوقت الذي‬
‫كنت أكلمه فيه كان يضع عينيه في الرض حياء وأدبا‪.‬‬

‫وعاد الشيخ لموسى وقال له‪ :‬أريد يا موسى أن أزوجك إحدى ابنتي على أن تعمل في رعي‬
‫جد ُِني‬
‫ست َ ِ‬
‫الغنم عندي ثماني سنوات‪ ،‬فإن أتممت عشر سنوات‪ ،‬فمن كرمك‪ ،‬ل أريد أن أتعبك‪َ ) ،‬‬
‫ن(‪ .‬قال موسى‪ :‬هذا اتفاق بيني وبينك‪ .‬والله شاهد على اتفاقنا‪ .‬سواء‬ ‫حي َ‬
‫صال ِ ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬ ‫شاء الل ّ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫ِإن َ‬
‫قضيت السنوات الثمانية‪ ،‬أو العشر سنوات فأنا حر بعدها في الذهاب‪.‬‬

‫يخوض الكثيرون في تيه من القاصيص والروايات‪ ،‬حول أي ابنتي الشيخ تزوج‪ ،‬وأي المدتين‬
‫قضى‪ .‬والثابت أن موسى تزوج إحدى ابنتي الشيخ‪ .‬ل نعرف من كانت‪ ،‬ول ماذا كان اسمها‪.‬‬
‫وهذه المور سكت عنها السياق القرآني‪ .‬إل أنه استنادا إلى طبيعة موسى وكرمه ونبوته وكونه‬
‫من أولي العزم‪ .‬نرى أنه قضى الجل الكبر‪ .‬وهذا ما يؤكده حديث ابن عباس رضي الله عنهما‪.‬‬
‫وهكذا عاش موسى يخدم الشيخ عشر سنوات كاملة‪.‬‬

‫موسى ورعي الغنم‪:‬‬

‫وكان عمل موسى ينحصر في الخروج مع الفجر كل يوم لرعي الغنام والسقاية لها‪.‬‬

‫ولنقف هنا وقفة تدبر‪ .‬إن قدرة اللهية نقلت خطى موسى ‪-‬عليه السلم‪ -‬خطوة بخطوة‪ .‬منذ‬
‫أن كان رضيعا في المهد حتى هذه اللحظة‪ .‬ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون‪ .‬وألقت عليه‬
‫محبة زوجة فرعون لينشأ في كنف عدّوه‪ .‬ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل‬
‫نفسا‪ .‬وأرسلت إليه بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج من مصر‪.‬‬
‫وصاحبته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وهو وحيد مطارد من غير زاد ول‬
‫استعداد‪ .‬وجمعته بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر‪ .‬ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف‪.‬‬

‫هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه‪ ،‬قبل النداء والتكليف‪ .‬تجربة الرعاية والحب والتدليل‪.‬‬
‫تجربة الندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس‪ ،‬وتجربة الندم والستغفار‪ .‬وتجربة الخوف‬
‫والمطاردة‪ .‬وتجربة الغربة والوحدة والجوع‪ .‬وتجربة الخدمة ورغي الغنم بعد حياة القصور‪ .‬وما‬
‫يتخلل هذه التجارب الضخمة من تجارب صغيرة‪ ،‬ومشاعر وخواطر‪ ،‬وإدراك ومعرفة‪ .‬إلى‬
‫جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة‪.‬‬

‫إن الرسالة تكليف ضخم شاق‪ ،‬يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والدراك والمعرفة‪،‬‬
‫إلى جانب وحي الله وتوجيهه‪ .‬ورسالة موسى تكليف عظيم‪ ،‬فهو مرسل إلى فرعون الطاغية‬
‫المتجبر‪ ،‬أعتى ملوك الرض في زمانه‪ ،‬وأشدهم استعلء في الرض‪ .‬وهو مرسل لستنقاذ قوم‬
‫قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه‪ .‬فاستنقاذ قوم كهؤلء عمل شاق عسير‪.‬‬

‫فتجربة السنوات العشر جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موسى ‪-‬عليه السلم‪-‬‬
‫وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة‪ .‬فلحياة القصور جوا وتقاليد خاصة‪ .‬أما‬
‫الرسالة فهي معاناة لجماهير من الناس فيهم الغني والفقير‪ ،‬المهذب والخشن‪ ،‬القوي‬
‫والضعيف‪ ،‬وفيهم وفيهم‪ .‬وللرسالة تكاليفها من المشقة ومن التجرد أحيانا‪ ،‬وقلوب أهل‬
‫القصور في الغالب ل تصبر طويل على الخشونة والحرمان والمشقة‪.‬‬

‫فلما استكملت نفس موسى ‪-‬عليه السلم‪ -‬تجاربها‪ ،‬وأكملت مرانها‪ ،‬بهذه التجربة الخيرة في‬
‫دار الغرة‪ .‬قادت القدرة اللهية خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه‪ ،‬ومقر أهله وقومه‪،‬‬
‫صن ِعَ موسى على عين الله‪ ،‬وكيف تم إعداده لتلقي التكليف‪.‬‬
‫ومجال عمله‪ .‬وهكذا نرى كيف ُ‬

‫عودة موسى لمصر‪:‬‬

‫‪72‬‬
‫ترى أي خاطر راود موسى‪ ،‬فعاد به إلى مصر‪ ،‬بعد انقضاء الجل‪ ،‬وقد خرج منها خائفا يترقب؟‬
‫وأنساه الخطر الذي ينتظره بها‪ ،‬وقد قتل فيها نفسا؟ وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع المل‬
‫من قومه ليقتلوه؟‬

‫إنها قدرة الله التي تنقل خطاه كلها‪ .‬لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الهل‬
‫والعشيرة والوطن‪ .‬وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا‪ .‬ليؤدي المهمة التي خلق‬
‫لها‪.‬‬

‫خرج موسى مع أهله وسار‪ .‬اختفى القمر وراء أسراب من السحاب الكثيف وساد الظلم‪.‬‬
‫اشتد البرق والرعد وأمطرت السماء وزادت حدة البرد والظلم‪ .‬وتاه موسى أثناء سيره‪.‬‬
‫ووقف موسى حائرا يرتعش من البرد وسط أهله‪ ..‬ثم رفع رأسه فشاهد نارا عظيمة تشتعل‬
‫عن بعد‪ .‬امتل قلبه بالفرح فجأة‪ .‬قال لهله‪ :‬أني رأيت نارا هناك‪.‬‬

‫أمرهم أن يجلسوا مكانهم حتى يذهب إلى النار لعله يأتيهم منها بخبر‪ ،‬أو يجد أحدا يسأله عن‬
‫الطريق فيهتدي إليه‪ ،‬أو يحضر إليهم بعض أخشابها المشتعلة لتدفئتهم‪.‬‬

‫وتحرك موسى نحو النار‪ .‬سار موسى مسرعا ليدفئ نفسه‪ .‬يده اليمنى تمسك عصاه‪ .‬جسده‬
‫مبلل من المطر‪ .‬ظل يسير حتى وصل إلى واد يسمونه طوى‪ .‬لحظ شيئا غريبا في هذا‬
‫الوادي‪ .‬لم يكن هناك برد ول رياح‪ .‬ثمة صمت عظيم ساكن‪ .‬واقترب موسى من النار‪ .‬لم يكد‬
‫ن(‪.‬‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫ن الل ّهِ َر ّ‬
‫حا َ‬ ‫حوْل ََها وَ ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫من ِفي الّنارِ وَ َ‬ ‫يقترب منها حتى نودي‪َ) :‬أن ُبورِ َ‬
‫ك َ‬

‫نظر موسى في النار فوجد شجرة خضراء‪ .‬كلما زاد تأجج النار زادت خضرة الشجرة‪.‬‬
‫والمفروض أن تتحول الشجرة إلى اللون السود وهي تحترق‪ .‬لكن النار تزيد واللون الخضر‬
‫يزيد‪ .‬كانت الشجرة في جبل غربي عن يمينه‪ ،‬وكان الوادي الذي يقف فيه هو وادي طوى‪.‬‬

‫سى‬
‫مو َ‬
‫ثم ارتجت الرض بالخشوع والرهبة والله عز وجل ينادي‪َ :‬يا ُ‬

‫فأجاب موسى‪ :‬نعم‪.‬‬

‫قال الله عز وجل‪ :‬إ ِّني أ ََنا َرب ّ َ‬


‫ك‬

‫ازداد ارتعاش موسى وقال‪ :‬نعم يا رب‪.‬‬

‫س طُ ً‬
‫وى‬ ‫قد ّ ِ‬ ‫واد ِ ال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫ك ِبال ْ َ‬ ‫خل َعْ ن َعْل َي ْ َ‬
‫ك إ ِن ّ َ‬ ‫قال الله عز وجل‪َ :‬فا ْ‬

‫انحنى موسى راكعا وجسده كله ينتفض وخلع نعليه‪.‬‬

‫ه إ ِّل أ ََنا‬
‫ه َل إ ِل َ َ‬
‫َ‬
‫حى )‪ (13‬إ ِن ِّني أَنا الل ّ ُ‬ ‫ما ُيو َ‬ ‫مع ْ ل ِ َ‬‫ست َ ِ‬ ‫ك َفا ْ‬ ‫عاد الحق سبحانه وتعالى يقول‪ :‬وَأ ََنا ا ْ‬
‫خت َْرت ُ َ‬
‫سَعى )‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫س بِ َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫جَزى ك ُ ّ‬
‫ل نَ ْ‬ ‫فيَها ل ِت ُ ْ‬ ‫كاد ُ أ ُ ْ‬
‫خ ِ‬ ‫ة أَ َ‬ ‫ة آت ِي َ ٌ‬
‫ساع َ َ‬‫ن ال ّ‬ ‫ري )‪ (14‬إ ِ ّ‬ ‫صَلة َ ل ِذ ِك ْ ِ‬
‫َ‬
‫َفاع ْب ُد ِْني وَأقِم ِ ال ّ‬
‫دى )‪) (16‬طه(‬ ‫واه ُ فَت َْر َ‬ ‫ن ب َِها َوات ّب َعَ هَ َ‬ ‫ن َل ي ُؤ ْ ِ‬
‫م ُ‬ ‫م ْ‬ ‫صد ّن ّ َ‬
‫ك ع َن َْها َ‬ ‫‪ (15‬فََل ي َ ُ‬

‫زاد انتفاض جسد موسى وهو يتلقى الوحي اللهي ويستمع إلى ربه وهو يخاطبه‪.‬‬

‫سى‬
‫مو َ‬ ‫مين ِ َ‬
‫ك َيا ُ‬ ‫ما ت ِل ْ َ‬
‫ك ب ِي َ ِ‬ ‫قال الرحمن الرحيم‪ :‬وَ َ‬

‫ازدادت دهشة موسى‪ .‬إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يخاطبه‪ ،‬والله يعرف أكثر منه أنه‬
‫يمسك عصاه‪ .‬لماذا يسأله الله إذن إذا كان يعرف أكثر منه؟! ل شك أن هناك حكمة عليا‬
‫لذلك‪.‬‬
‫ُ‬
‫ب أُ ْ‬
‫خَرى‬ ‫مآرِ ُ‬
‫ي ِفيَها َ‬ ‫ش ب َِها ع ََلى غ َن َ ِ‬
‫مي وَل ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫صايَ أت َوَك ّأ ع َل َي َْها وَأهُ ّ‬
‫ي عَ َ‬ ‫أجاب موسى‪َ :‬قا َ‬
‫ل هِ َ‬

‫‪73‬‬
‫َ‬
‫سى‬
‫مو َ‬ ‫قال الله عز وجل‪ :‬أل ْ ِ‬
‫قَها َيا ُ‬

‫رمى موسى العصا من يده وقد زادت دهشته‪ .‬وفوجئ بأن العصا تتحول فجأة إلى ثعبان عظيم‬
‫الحجم هائل الجسم‪ .‬وراح الثعبان يتحرك بسرعة‪ .‬ولم يستطع موسى أن يقاوم خوفه‪ .‬أحس‬
‫أن بدنه يتزلزل من الخوف‪ .‬فاستدار موسى فزعا وبدأ يجري‪ .‬لم يكد يجري خطوتين حتى‬
‫سُلو َ‬
‫ن‪.‬‬ ‫ف ل َد َيّ ال ْ ُ‬
‫مْر َ‬ ‫ف إ ِّني َل ي َ َ‬
‫خا ُ‬ ‫سى َل ت َ َ‬
‫خ ْ‬ ‫مو َ‬
‫ناداه الله‪َ :‬يا ُ‬

‫عاد موسى يستدير ويقف‪ .‬لم تزل العصا تتحرك‪ .‬لم تزل الحية تتحرك‪.‬‬
‫سيرت َها ا ْ ُ‬
‫لوَلى‬ ‫ها وََل ت َ َ‬
‫خذ ْ َ‬
‫ها ِ َ َ‬‫سن ُِعيد ُ َ‬
‫ف َ‬
‫خ ْ‬ ‫قال الله سبحانه وتعالى لموسى‪ُ :‬‬

‫مد موسى يده للحية وهو يرتعش‪ .‬لم يكد يلمسها حتى تحولت في يده إلى عصا‪ .‬عاد المر‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ح َ‬
‫ك ِ‬ ‫جَنا َ‬ ‫م إ ِل َي ْ َ‬
‫ك َ‬ ‫م ْ‬
‫ض ُ‬ ‫ن غ َي ْرِ ُ‬
‫سوٍء َوا ْ‬ ‫م ْ‬
‫ضاء ِ‬
‫ج ب َي ْ َ‬
‫خُر ْ‬ ‫جي ْب ِ َ‬
‫ك تَ ْ‬ ‫ك ِفي َ‬ ‫سل ُ ْ‬
‫ك ي َد َ َ‬ ‫اللهي يصدر له‪ :‬ا ْ‬
‫ب‬‫الّرهْ ِ‬

‫وضع موسى يده في جيبه وأخرجها فإذا هي تتلل كالقمر‪ .‬زاد انفعال موسى بما يحدث‪ ،‬وضع‬
‫يده على قلبه كما أمره الله فذهب خوفه تماما‪..‬‬

‫اطمأن موسى وسكت‪ .‬وأصدر الله إليه أمرا بعد هاتين المعجزتين ‪-‬معجزة العصا ومعجزة‬
‫اليد‪ -‬أن يذهب إلى فرعون ليدعوه إلى الله برفق ولين‪ ،‬ويأمره أن يخرج بني إسرائيل من‬
‫مصر‪ .‬وأبدى موسى خوفه من فرعون‪ .‬قال إنه قتل منهم نفسا ويخاف أن يقتلوه‪ .‬توسل إلى‬
‫الله أن يرسل معه أخاه هارون‪ .‬طمأن الله موسى أنه سيكون معهما يسمع ويرى‪ ،‬وأن‬
‫فرعون رغم قسوته وتجبره لن يمسهما بسوء‪ .‬أفهم الله موسى أنه هو الغالب‪ .‬ودعا موسى‬
‫وابتهل إلى الله أن يشرح له صدره وييسر أمره ويمنحه القدرة على الدعوة إليه‪ .‬ثم قفل‬
‫موسى راجعا لهله بعد اصطفاء الله واختياره رسول إلى فرعون‪ .‬انحدر موسى بأهله قاصدا‬
‫مصر‪.‬‬

‫يعلم الله وحده أي أفكار عبرت ذهن موسى وهو يحث خطاه قاصدا مصر‪ .‬انتهى زمان التأمل‪،‬‬
‫وانطوت أيام الراحة‪ ،‬وجاءت الوقات الصعبة أخيرا‪ ،‬وها هو ذا موسى يحمل أمانة الحق‬
‫ويمضي ليواجه بها بطش أعظم جبابرة عصره وأعتاهم‪ .‬يعلم موسى أن فرعون مصر طاغية‪.‬‬
‫يعلم أنه لن يسلمه بني إسرائيل بغير صراع‪ .‬يعلم أنه سيقف من دعوته موقف النكار‬
‫والكبرياء والتجاهل‪ .‬لقد أمره الله تعالى أن يذهب إلى فرعون‪ .‬أن يدعوه بلين ورفق إلى الله‪.‬‬
‫أوحى الله لموسى أن فرعون لن يؤمن‪ .‬ليدعه موسى وشأنه‪ .‬وليركز على إطلق سراح بني‬
‫قوَل إنا رسوَل رب َ َ‬
‫إسرائيل والكف عن تعذيبهم‪ .‬قال تعالى لموسى وهارون‪) :‬فَأ ْت َِياه ُ فَ ُ‬
‫سلْ‬‫ك فَأْر ِ‬ ‫َ ّ‬ ‫ِّ َ ُ‬
‫م(‪ .‬هذه هي المهمة المحددة‪ .‬وهي مهمة سوف تصطدم بآلف‬ ‫ل وََل ت ُعَذ ّب ْهُ ْ‬
‫سَراِئي َ‬
‫معََنا ب َِني إ ِ ْ‬
‫َ‬
‫العقبات‪ .‬إن فرعون يعذب بني إسرائيل ويستعبدهم ويكلفهم من العمال ما ل طاقة لهم به‪،‬‬
‫ويستحيي نسائهم‪ ،‬ويذبح أبنائهم‪ ،‬ويتصرف فيهم كما لو كانوا ملكا خاصا ورثه مع ملك مصر‪.‬‬
‫يعلم موسى أن النظام المصري يقوم في بنيانه الساسي على استعباد بني إسرائيل واستغلل‬
‫عملهم وجهدهم وطاقاتهم في الدولة‪ ،‬فهل يفرط الفرعون في بناء الدولة الساسي ببساطة‬
‫ويسر؟ ذهبت الفكار وجاءت‪ ،‬فاختصرت مشقة الطريق‪ .‬ورفع الستار عن مشهد المواجهة‪.‬‬

‫الجزء الثاني‪ :‬يتناول عودة موسى عليه السلم لمصر داعيا إلى الله وحده‪ ،‬والصراع بين‬
‫موسى وفرعون في مصر‪ ،‬وغرق فرعون وجنوده‪.‬‬

‫مواجهة فرعون‪:‬‬

‫واجه موسى فرعون بلين ورفق كما أمره الله‪ .‬وحدثه عن الله‪ .‬عن رحمته وجنته‪ .‬عن وجوب‬
‫توحيده وعبادته‪ .‬حاول إيقاظ جوانبه النسانية في الحديث‪ .‬ألمح إليه أنه يملك مصر‪ ،‬ويستطيع‬
‫لو أراد أن يملك الجنة‪ .‬وكل ما عليه هو أن يتقي الله‪ .‬استمع فرعون إلى حديث موسى ضجرا‬

‫‪74‬‬
‫شبه هازئ وقد تصوره مجنونا تجرأ على مقامه السامي‪ .‬ثم سأل فرعون موسى ماذا يريد‪.‬‬
‫فأجاب موسى أنه يريد أن يرسل معه بني إسرائيل‪.‬‬

‫ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجهه بهذه الدعوى العظيمة‪ ،‬ويطلب إليه ذلك الطلب‬
‫الكبير‪ .‬فآخر عهد فرعون بموسى أنهم ربوه في قصره بعد أن التقطوا تابوته‪ .‬وأنه هرب بعد‬
‫قتله للقبطي الذي وجده يتعارك مع السرائيلي‪ .‬فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون‬
‫بموسى إذن وهذه الدعوى العظيمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين! ومن ثم بدأ فرعون‬
‫يذكره بماضيه‪ .‬يذكره بتربيته له فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا وأنت وليد؟‬
‫لتأتي الن لتخالف ديانتنا‪ ،‬وتخرج على الملك الذي تربيت في قصره‪ ،‬وتدعوا إلى إله غيره؟!‬

‫ويذكره بحادث مقتل القبطي في تهويل وتجسيم‪ .‬فل يتحدث عنها بصريح العبارة وإنما يقول‬
‫ن ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن( برب العالمين الذي‬‫ري َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫م َ‬
‫ت ِ‬ ‫ك ال ِّتي فَعَل ْ َ‬
‫ت( فعلتك البشعة الشنيعة )وَأن َ‬ ‫ت فَعْل َت َ َ‬
‫)وَفَعَل ْ َ‬
‫تقول به اليوم‪ ،‬فأنت لم تكن وقتها تتحدث عن رب العالمين! لم تتحدث بشيء عن هذه‬
‫الدعوى التي تدعيها اليوم؛ ولم تخطرنا بمقدمات هذا المر العظيم؟!‬

‫وظن فرعون أنه رد على موسى ردا لن يملك معه جوابا‪ .‬إل أن الله استجاب لدعاء موسى‬
‫ل فَعل ْتها إ ً َ‬
‫ن( فعلت تلك الفعلة وأنا بعد جاهل‪،‬‬‫ضاّلي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫ذا وَأَنا ِ‬‫من قبل‪ ،‬فانطلق لسانه‪َ) :‬قا َ َ ُ َ ِ‬
‫أندفع اندفاع العصبية لقومي‪ ،‬ل اندفاع العقيدة التي عرفتها اليوم بما أعطاني ربي من الحكة‪.‬‬
‫ن‬ ‫جعَل َِني ِ‬
‫م َ‬ ‫م( على نفسي‪ .‬فقسم الله لي الخير فوهب لي الحكمة )وَ َ‬ ‫فت ُك ُ ْ‬
‫خ ْ‬ ‫م لَ ّ‬
‫ما ِ‬ ‫منك ُ ْ‬
‫ت ِ‬‫)فَفََرْر ُ‬
‫ن(‪.‬‬
‫سِلي َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مْر َ‬

‫سَراِئي َ‬
‫ل(‬ ‫ة تمنها ع َل َ َ‬ ‫ويكمل موسى خطابه لفرعون بنفس القوة‪) :‬وَت ِل ْ َ‬
‫ت ب َِني إ ِ ْ‬
‫ن ع َّبد ّ‬
‫يأ ْ‬‫ّ‬ ‫م ٌ َ ُ َّ‬
‫ك ن ِعْ َ‬
‫فما كانت تربيتي في بيتك وليدا إل من جراء استعبادك لبني إسرائيل‪ ،‬وقتل أبنائهم‪ ،‬مما دفع‬
‫ي‪ .‬فهل‬ ‫أمي لوضعي في التابوت وإلقاءه في اليم‪ ،‬فتلتقطه فأتربى في بيتك‪ ،‬ل في بيت أبو ّ‬
‫هذا هو ما تمنه علي‪ ،‬وهل هذا هو فضلك العظيم؟!‬

‫ن‬
‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫ما َر ّ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫ل فِْرع َوْ ُ‬ ‫عند هذا الحد تدخل الفرعون في الحديث‪َ ..‬قا َ‬
‫ن‬
‫موقِِني َ‬ ‫ُ‬
‫ما إن كنُتم ّ‬ ‫ما ب َي ْن َهُ َ‬‫ض وَ َ‬
‫ِ‬ ‫ت َواْل َْر‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬
‫ب ال ّ‬
‫قال موسى‪َ :‬ر ّ‬
‫َ‬
‫ن‬‫مُعو َ‬ ‫ست َ ِ‬‫التفت فرعون لمن حوله وقال هازئا‪ :‬أَل ت َ ْ‬
‫َ‬
‫م اْلوِّلي َ‬
‫ن‬ ‫ب آَبائ ِك ُ ُ‬ ‫م وََر ّ‬ ‫قال موسى متجاوزا سخرية الفرعون‪َ :‬رب ّك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ل إ ِلي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫س َ‬ ‫ذي أْر ِ‬ ‫م ال ِ‬ ‫سولك ُ ُ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫قال فرعون مخاطبا من جاءوا مع موسى من بني إسرائيل‪ :‬إ ِ ّ‬
‫ن‬
‫جُنو ٌ‬
‫م ْ‬‫لَ َ‬
‫م‬ ‫ما ِإن ُ‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫ما ب َي ْن َهُ َ‬‫ب وَ َ‬‫مغْرِ ِ‬ ‫ْ‬
‫ق َوال َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ب ال َ‬ ‫عاد موسى يتجاوز اتهام الفرعون وسخريته ويكمل‪َ :‬ر ّ‬
‫قُلو َ‬
‫ن‬ ‫ت َعْ ِ‬

‫نلحظ أن فرعون لم يكن يسأل موسى عن رب العالمين أو رب موسى وهارون بقصد السؤال‬
‫ذي‬‫ل َرب َّنا ال ّ ِ‬
‫البريء والمعرفة‪ .‬إنما كان يهزأ‪ .‬ولقد أجابه موسى إجابة جامعة مانعة محكمة )َقا َ‬
‫دى(‪ .‬هو الخالق‪ .‬خالق الجناس جميعا والذوات جميعا‪ .‬وهو هاديها‬ ‫ه ثُ ّ‬
‫م هَ َ‬ ‫خل ْ َ‬
‫ق ُ‬ ‫يٍء َ‬
‫ش ْ‬ ‫أ َع ْ َ‬
‫طى ك ُ ّ‬
‫ل َ‬
‫بما ركب في فطرتها وجبلتها من خواص تهديها لسباب عيشها‪ .‬وهو الموجه لها على أي حال‪.‬‬
‫وهو القابض على ناصيتها في كل حال‪ .‬وهو العليم بها والشاهد عليها في جميع الحوال‪.‬‬
‫قرون ا ْ ُ‬
‫لوَلى(‬ ‫ل ال ْ ُ ُ ِ‬ ‫لم تؤثر هذه العبارة الرائعة والموجزة في فرعون‪ .‬وها هو ذا يسأل‪) :‬فَ َ‬
‫ما َبا ُ‬
‫لم تعبد ربك هذا؟‬

‫لم يزل فرعون ماضيا في استكباره واستهزائه‪ .‬ويرد موسى ردا يستلفته إلى أن القرون‬
‫الولى التي لم تعبد الله‪ ،‬والتي عبدته معا‪ ،‬لن تترك بغير مساءلة وجزاء‪ .‬كل شيء معلوم عند‬
‫ب(‪ .‬أحصى الله ما عملوه في كتاب‪ّ) .‬ل‬ ‫عند َ َرّبي ِفي ك َِتا ٍ‬ ‫عل ْ ُ‬
‫مَها ِ‬ ‫الله تعالى‪ .‬هذه القرون الولى ) ِ‬
‫سى(‪ .‬أي ل يغيب عن شيء‪ .‬ليطمئن الفرعون بال‬ ‫َ‬
‫ل َرّبي(‪ .‬أي ل يغيب عنه شيء‪) .‬وَل َين َ‬ ‫ض ّ‬
‫يَ ِ‬
‫من ناحية القرون الولى والخيرة وما بينهما‪ .‬إن الله يعرف كل شيء ويسجل عليها ما عملته‬
‫ول يضيع شيئا من أجورهم‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫ثم استلفت موسى نظر فرعون إلى آيات الله في الكون‪ .‬ودار به مع حركة الرياح والمطر‬
‫والنبات وأوصله مرة ثانية إلى الرض‪ ،‬وهناك افهمه أن الله خلق النسان من الرض‪ ،‬وسيعيده‬
‫إليها بالموت‪ ،‬ويخرجه منها بالبعث‪ ،‬إن هناك بعثا إذن‪ .‬وسيقف كل إنسان يوم القيامة أمام الله‬
‫تعالى‪ .‬ل استثناء لحد‪ .‬سيقف كل عباد الله وخلقه أمامه يوم القيامة‪ .‬بما في ذلك الفرعون‪.‬‬
‫بهذا جاء موسى مبشرا ومنذرا‪.‬‬

‫لم يعجب فرعون هذا النذير‪ ،‬وتصاعد الحوار بينه وبين موسى‪ .‬فالطغيان ل يخشى شيئا‬
‫كخشيته يقظة الشعوب‪ ،‬وصحوة القلوب؛ ول يكره أحدا كما يكره الداعين إلى الوعي‬
‫واليقظة؛ ول ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية‪ .‬لذلك هاج فرعون على‬
‫موسى وثار‪ ،‬وأنهى الحوار معه بالتهديد الصريح‪ .‬وهذا هو سلح الطغاة عندما يفتقرون للحج‬
‫ن(‪.‬‬
‫جوِني َ‬
‫س ُ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬
‫ك ِ‬ ‫ري َل َ ْ‬
‫جعَل َن ّ َ‬ ‫ت إ ِل ًَها غ َي ْ ِ‬
‫خذ ْ َ‬ ‫ل ل َئ ِ ِ‬
‫ن ات ّ َ‬ ‫والبراهين والمنطق‪َ) :‬قا َ‬

‫إل أن موسى ‪-‬عليه السلم‪ -‬لم يفقد رباطة جأشه‪ .‬كيف يفقدها وهو رسول الله‪ ،‬والله معه‬
‫ومع أخيه؟ وبدأ القناع بأسلوب جديد‪ ،‬وهو إظهار المعجزة )َقا َ َ‬
‫ن( فهو‬
‫مِبي ٍ‬
‫يٍء ّ‬
‫ش ْ‬ ‫ل أوَل َوْ ِ‬
‫جئ ْت ُ َ‬
‫ك بِ َ‬
‫يتحدى فرعون‪ ،‬ويحرجه أمام مله‪ ،‬فلو رفض فرعون الصغاء‪ ،‬سيظهر واضحا أنه خائف من‬
‫ت ب ِهِ ِإن ُ‬ ‫حجة موسى )َقا َ ْ‬
‫ن(‪.‬‬
‫صاد ِِقي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫ت ِ‬
‫كن َ‬ ‫ل فَأ ِ‬

‫ألقى موسى عصاه في ردهة القصر العظيمة‪ .‬لم تكد العصا تلمس الرض حتى تحولت إلى‬
‫ثعبان هائل يتحرك بسرعة‪ .‬ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها فإذا هي بيضاء كالقمر‪.‬‬

‫تحدي السحرة‪:‬‬

‫وتبدأ الجولة الثانية بين الحق والباطل‪ .‬حيث شاور فرعون المل من حوله فيما يجب فعله‪.‬‬
‫والمل لهم مصلحة في أن تبقى المور على ما هي عليه‪ ،‬فهم مقربون من فرعون‪ ،‬ولهم نفوذ‬
‫وسلطان‪ .‬فأشاروا أن يرد على سحر موسى بسحر مثله‪ ،‬فيجمع السحرة لتحدي موسى‬
‫وأخاه‪.‬‬

‫حدد الميقات‪ ،‬وهو يوم الزينة‪ .‬وبدأت حركة إعداد الجماهير وتحميسهم فدعوهم للتجمع وعدم‬
‫التخلف عن الموعد‪ ،‬ليراقبوا فوز السحرة وغلبتهم على موسى السرائيلي! والجماهير دائما‬
‫تتجمع لمثل هذه المور‪.‬‬

‫أما السحرة‪ ،‬فقد ذهبوا لفرعون ليطمئنون على الجر والمكافأة إن غلبوا موسى‪ .‬فهم جماعة‬
‫مأجورة‪ ،‬تبذل مهارتها مقابل الجر الذي تنتظره؛ ول علقة لها بعقيدة ول صلة لها بقضية‪ ،‬ول‬
‫شيء سوى الجر والمصلحة‪ .‬وهم هم ألء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم‬
‫في الخداع‪ .‬وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الجر‪ .‬يعدهم أن يكونوا من المقربين‬
‫إليه‪ .‬وهو بزعمه الملك والله!‬

‫وفي ساحة المواجهة‪ .‬والناس مجتمعون‪ ،‬وفرعون ينظر‪ .‬حضر موسى وأخاه هارون عليهما‬
‫السلم‪ ،‬وحضر السحرة وفي أيديهم كل ما أتقنوه من ألعاب وحيل‪ ،‬وكلهم ثقة بفوزهم في هذا‬
‫قى( وتتجلى ثقة‬ ‫ن أ َل ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن أ َوّ َ‬ ‫ما َأن ن ّ ُ‬
‫كو َ‬ ‫ي وَإ ِ ّ‬
‫ق َ‬
‫َ‬
‫ما أن ت ُل ْ ِ‬‫التحدي‪ .‬لذا بدءوا بتخيير موسى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫قوا( فرمى السحرة عصيهم‬ ‫ل أ َل ْ ُ‬
‫موسى ‪-‬عليه السلم‪ -‬في الجانب الخر واستهانته بالتحدي )ب َ ْ‬
‫ن ال َْغال ُِبو َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫ن إ ِّنا ل َن َ ْ‬
‫ح ُ‬ ‫م وََقاُلوا ب ِعِّزةِ فِْرع َوْ َ‬ ‫صي ّهُ ْ‬‫ع ِ‬‫م وَ ِ‬‫حَبال َهُ ْ‬
‫وا ِ‬ ‫وحبالهم بعزة فرعون )فَأ َل ْ َ‬
‫ق ْ‬
‫َ‬
‫س‬ ‫حُروا ْ أع ْي ُ َ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫س َ‬ ‫رمى السحرة بعصيهم وحبالهم فإذا المكان يمتلئ بالثعابين فجأة ) َ‬
‫جاءوا‬
‫ظيم ٍ(‪ .‬وحسبنا أن يقرر القرآن الكريم أنه سحر عظيم )وَ َ‬ ‫حرٍ ع َ ِ‬ ‫س ْ‬ ‫جاءوا ب ِ ِ‬
‫م وَ َ‬
‫ست َْرهَُبوهُ ْ‬
‫َوا ْ‬
‫س( وأثاروا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫حُروا أع ْي ُ َ‬ ‫س َ‬
‫ظيم ٍ(‪ ،‬لندرك أي سحر كان‪ .‬وحسبنا أن نعلم أنهم ) َ‬ ‫حرٍ ع َ ِ‬ ‫س ْ‬‫بِ ِ‬
‫م( لنتصور أي سحر كان‪ .‬فنظر موسى عليه السلم إلى حبال‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬‫بو‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫ر‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫س‬‫ْ‬ ‫وا‬‫َ‬ ‫)‬ ‫قلوبهم‬ ‫في‬ ‫الرهبة‬
‫السحرة وعصيهم وشعر بالخوف‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫في هذه اللحظة‪ ،‬يذ ّ‬
‫كره رّبه بأن معه القوة الكبرى‪ .‬فهو العلى‪ .‬ومعه الحق‪ ،‬أما هم فمعهم‬
‫الباطل‪ .‬معه العقيدة ومعهم الحرفة‪ .‬معه اليمان بصدق الذي دفعه لما هو فيه ومعهم الجر‬
‫على المباراة ومغانم الحياة‪ .‬موسى متصل بالقوة الكبرى والسحرة يخدمون مخلوقا بشريا‬
‫فانيا مهما يكن طاغية جبارا‪.‬‬
‫َ‬
‫ك( وستهزمهم‪ ،‬فهو سحر من تدبير ساحر وعمله‪ .‬والساحر ل يفلح‬ ‫مين ِ َ‬
‫ما ِفي ي َ ِ‬ ‫ل تخف )وَأل ْ ِ‬
‫ق َ‬
‫أنى ذهب وفي أي طريق سار‪ ،‬لنه يعتمد على الخيال واليهام والخداع‪ ،‬ول يعتمد على حقيقة‬
‫ثابتة باقية‪.‬‬

‫اطمأن موسى ورفع عصاه وألقاها‪ .‬لم تكد عصا موسى تلمس الرض حتى وقعت المعجزة‬
‫الكبرى‪ .‬وضخامة المعجزة حولت مشاعر ووجدان السحرة‪ ،‬الذين جاءوا للمباراة وهم أحرص‬
‫الناس على الفوز لنيل الجر‪ .‬الذي بلغت براعتهم لحد أن يشعر موسى بالخوف من عملهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫ب‬ ‫جدا ً َقاُلوا آ َ‬
‫مّنا ب َِر ّ‬ ‫س ّ‬
‫حَرة ُ ُ‬
‫س َ‬
‫ي ال ّ‬ ‫تحولت مشاعرهم بحيث لم يسعفهم الكلم للتعبير‪) :‬فَأل ْ ِ‬
‫ق َ‬
‫سى(‪.‬‬
‫مو َ‬
‫ن وَ ُ‬
‫هاُرو َ‬
‫َ‬

‫إنه فعل الحق في الضمائر‪ .‬ونور الحق في المشاعر‪ ،‬ولمسة الحق في القلوب المهيأة لتلقي‬
‫الحق والنور واليقين‪ .‬إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم‪ ،‬ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه‪.‬‬
‫وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى‪ .‬فهم أعلم إن كان هذا من عمل بشر أو ساحر‪ ،‬أو أنه‬
‫من القدرة التي تفوق قدرة البشر والسحر‪ .‬والعالم في فنه هو أكثر الناس استعدادا للتسليم‬
‫بالحقيقة حين تتكشف له‪ ،‬لنه أقرب إدراكا لهذه الحقيقة‪ ،‬ممن ل يعرفون في هذا الفن إل‬
‫القشور‪ .‬ومن هنا تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق‪ ،‬الذي يجددون‬
‫برهانه في أنفسهم عن يقين‪.‬‬

‫هزت هذه المفاجأة العرش من تحته‪ .‬مفاجأة استسلم السحرة ‪-‬وهم من كهنة المعابد‪ -‬لرب‬
‫العالمين‪ .‬رب موسى وهارون‪ .‬بعد أن تم جمعهم لبطال دعوة موسى وهارون لرب العالمين!‬
‫ولن العرش والسلطان أهم شيء في حيات الطواغيت‪ ،‬فهم مستعدون لرتكاب أي جريمة‬
‫في سبيل المحافظة عليهما‪.‬‬
‫تسائل فرعون مستغربا )آمنتم به قَب َ َ‬
‫م( كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫ل أن آذ َ َ‬ ‫َ ُ ِ ِ ْ‬
‫يعودوا للحق‪ .‬لكنه طاغية متكبر متجبر أعمى السلطان عينيه عن الحق‪ .‬ويزيد في طغيانه‬
‫من َْها أ َهْل ََها( إن غلبته لكم في يومكم هذا‬ ‫جوا ْ ِ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫دين َةِ ل ِت ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫موه ُ ِفي ال ْ َ‬ ‫مك َْرت ُ ُ‬ ‫ذا ل َ َ‬
‫مك ٌْر ّ‬ ‫هـ َ‬
‫ن َ‬
‫فيقول )إ ِ ّ‬
‫إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك‪ ،‬وهو يعلم وكل من له عقل أن هذا الذي قاله من‬
‫جل َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ف تعل َمون( ويتوعد )ل ُقَط ّع َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬
‫كم ّ‬ ‫ن أي ْد ِي َك ُ ْ‬
‫م وَأْر ُ‬ ‫َ ّ‬ ‫سو ْ َ َ ْ ُ َ‬ ‫أبطل الباطل‪ .‬ويظل الطاغية يتهدد )فَ َ‬
‫ن( لكن النفس البشرية حين تستيقن حقيقة اليمان‪ ،‬تستعلي على‬ ‫خل َف ث ُم ل ُصل ّبنك ُ َ‬
‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬
‫مأ ْ‬ ‫َ َّ ْ‬ ‫ٍ ّ‬ ‫ِ‬
‫قوة الرض‪ ،‬وتستهين ببأس الطغاة‪ ،‬وتنتصر فيها العقيدة على الحياة‪ ,‬وتختار الخلود الدائم‬
‫ن( إنه اليمان الذي ل يتزعزع ول يخضع‪.‬‬ ‫قل ُِبو َ‬ ‫من َ‬ ‫على الحياة الفانية‪َ) .‬قاُلوا ْ إ ِّنا إ َِلى َرب َّنا ُ‬
‫َ‬
‫جاءت َْنا( فل يطلبون‬ ‫ما َ‬ ‫ت َرب َّنا ل َ ّ‬
‫مّنا ِبآَيا ِ‬ ‫مّنا إ ِل ّ أ ْ‬
‫نآ َ‬ ‫م ِ‬
‫ق ُ‬
‫ما َتن ِ‬
‫ويعلن السحرة حقيقة المعركة )وَ َ‬
‫صب ًْرا وَت َوَفَّنا‬ ‫نا‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫غ‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫ف‬‫الصفح والعفو من عدوهم‪ ،‬إنما يطلبون الثبات والصبر من ربهم )ربنا أ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫مين(‪ .‬فيقف الطغيان عاجزا أما هذا الوعي وهذا الطمئنان‪ .‬عاجزا عن رد هؤلء المؤمنين‬ ‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬
‫ُ‬
‫لطريق الباطل من جديد‪ .‬فينفذ تهديده‪ ،‬ويصلبهم على جذوع النخل‪.‬‬

‫التآمر على موسى ومن آمن معه‪:‬‬

‫وتبدأ جولة جديدة بين الحق والباطل‪ .‬فهاهم علية القوم من المصريين‪ ،‬يتآمرون ويحرضون‬
‫وفونه من عاقبة التهاون معهم‪ .‬وهم يرون‬
‫فرعون ويهيجونه على موسى ومن آمن معه‪ ،‬ويخ ّ‬
‫الدعوة إلى ربوبية الله وحدة إفسادا في الرض‪ .‬حيث يترتب عليها بطلن شرعية حكم فرعون‬
‫ونظامه كله‪ .‬وقد كان فرعون يستمد قوته من ديانتهم الباطلة‪ ،‬حيث كان فرعون ابن اللهة‪.‬‬
‫فإن عبد موسى ومن معه الله رب العالمين‪ ،‬لن تكون لفرعون أي سطوة عليهم‪ .‬فاستثارت‬

‫‪77‬‬
‫هذه الكلمات فرعون‪ ،‬وأشعرته بالخطر الحقيقي على نظامه كله ففكر بوحشيته المعتادة‬
‫قت ُ َ‬
‫م َقاه ُِرو َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫م وَإ ِّنا فَوْقَهُ ْ‬
‫ساءهُ ْ‬
‫حِيـي ن ِ َ‬
‫ست َ ْ‬
‫م وَن َ ْ‬
‫ل أب َْناءهُ ْ‬ ‫سن ُ َ ّ‬ ‫وقرر )َقا َ‬
‫ل َ‬

‫فذ عليهم هذا الحكم في إبان‬ ‫لم يكن هذا التنكيل الوحشي جديدا على بني إسرائيل‪ .‬فقد ن ُ ّ‬
‫مولد موسى عليه السلم‪ .‬فبدأ موسى ‪-‬عليه السلم‪ -‬يوصي قومه باحتمال الفتنة‪ ،‬والصبر على‬
‫البلية‪ ،‬والستعانة بالله عليها‪ .‬وأن الرض لله يورثها من يشاء من عباده‪ .‬والعاقبة لمن يتقي‬
‫مهِ است َِعيُنوا بالل ّهِ واصبروا ْ إ ّ َ‬
‫من‬‫ض ل ِل ّهِ ُيورِث َُها َ‬
‫ن الْر َ‬‫ِ‬ ‫َ ْ ُِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫قو ْ ِ‬
‫سى ل ِ َ‬
‫مو َ‬
‫ل ُ‬ ‫الله ول يخشى أحدا سواه )َقا َ‬
‫ن(‪.‬‬‫قي َ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫عَباد ِهِ َوال َْعاقِب َ ُ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬ ‫يَ َ‬
‫شاُء ِ‬

‫ما‬ ‫ْ‬ ‫إل أن قومه بدءوا يشتكون من العذاب الذي حل بهم )َقاُلوا ْ ُأوذينا من قَب َ‬
‫من ب َعْد ِ َ‬‫ل أن ت َأِتيَنا وَ ِ‬ ‫ْ ِ‬ ‫ِ َ ِ‬
‫جئ ْت ََنا( إنها كلمات ذات ظل! وإنها لتشي بما وراءها من تبرم! أوذينا قبل مجيئك وما تغير شيء‬ ‫ِ‬
‫بمجيئك‪ .‬وطال هذا الذى حتى ما تبدو له نهاية! فيمضي النبي الكريم على نهجه‪ .‬يذكرهم‬
‫بالله‪ ،‬ويعلق رجاءهم به‪ ،‬ويلوح لهم بالمل في هلك عدوهم‪ .‬واستخلفهم في الرض‪ .‬مع‬
‫التحذير من فتنة الستخلف‪ ،‬فاستخلف الله لهم إنما هو ابتلء لهم‪ ،‬فهو استخلف للمتحان‪:‬‬
‫ن(‪.‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ض فََينظ َُر ك َي ْ َ‬
‫ف ت َعْ َ‬
‫َ‬
‫فك ُ ْ‬
‫م ِفي الْر ِ‬ ‫خل ِ َ‬
‫ست َ ْ‬
‫م وَي َ ْ‬ ‫م َأن ي ُهْل ِ َ‬
‫ك ع َد ُوّك ُ ْ‬ ‫سى َرب ّك ُ ْ‬ ‫)َقا َ‬
‫ل عَ َ‬

‫وينقلنا القرآن الكريم إلى فصل آخر من قصة موسى عليه السلم‪ .‬ومشهد آخر من مشاهد‬
‫المواجهة بين الحق والباطل‪ .‬حيث يحكي لما قصة تشاور فرعون مع المل في قتل موسى‪.‬‬
‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫ل دينك ُ َ َ‬ ‫خا ُ َ‬ ‫ه إ ِّني أ َ َ‬ ‫ن ذ َُروِني أ َقْت ُ ْ‬
‫ض‬
‫م أوْ أن ي ُظهَِر ِفي الْر ِ‬ ‫ف أن ي ُب َد ّ َ ِ َ ْ‬ ‫سى وَل ْي َد ْع ُ َرب ّ ُ‬ ‫مو َ‬‫ل ُ‬ ‫)وََقا َ‬
‫ل فِْرع َوْ ُ‬
‫ساد َ( أما موسى عليه السلم فالتجأ إلى الركن الركين‪ ،‬والحصن الحصين‪ ،‬ولذ بحامي‬ ‫ف َ‬‫ال ْ َ‬
‫ّ‬
‫مت َك َب ّرٍ ل ي ُؤ ْ ِ‬ ‫من ك ُ ّ‬ ‫ت ب َِرّبي وََرب ّ ُ‬
‫سى إ ِّني ع ُذ ْ ُ‬ ‫اللئذين‪ ،‬ومجير المستجيرين )وََقا َ‬
‫ن ب ِي َوْم ِ‬‫م ُ‬ ‫ل ُ‬ ‫كم ّ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬
‫ب(‪.‬‬ ‫سا ِ‬
‫ح َ‬‫ال ْ ِ‬

‫موقف الرجل المؤمن من آل فرعون‪:‬‬

‫كادت فكرة فرعون أن تحصل على التصديق لول رجل من آل فرعون‪ .‬رجل من رجال الدولة‬
‫الكبار‪ ،‬ل يذكر القرآن اسمه‪ ،‬لن اسمه ل يهم‪ ،‬لم يذكر صفته أيضا لن صفته ل تعني شيئا‪،‬‬
‫إنما ذكر القرآن أنه رجل مؤمن‪ .‬ذكره بالصفة التي ل قيمة لي صفة بعدها‪.‬‬

‫ه(‪ ،‬تحدث في الجتماع الذي طرحت فيه فكرة‬ ‫مان َ ُ‬


‫م ِإي َ‬ ‫تحدث هذا الرجل المؤمن‪ ،‬وكان )ي َك ْت ُ ُ‬
‫قتل موسى وأثبت عقم الفكرة وسطحيتها‪ .‬قال إن موسى لم يقل أكثر من أن الله ربه‪ ،‬وجاء‬
‫بعد ذلك بالدلة الواضحة على كونه رسول‪ ،‬وهناك احتمالن ل ثالث لهما‪ :‬أن يكون موسى‬
‫ه(‪ ،‬وهو لم يقل ولم يفعل ما يستوجب قتله‪.‬‬ ‫كاذبا‪ ،‬أو يكون صادقا‪ ،‬فإذا كان كاذبا )فَعَل َي ْهِ ك َذ ِب ُ ُ‬
‫وإذا كان صادقا وقتلناه‪ ،‬فما هو الضمان من نجاتنا من العذاب الذي يعدنا به؟‬

‫تحدث المؤمن الذي يكتم إيمانه فقال لقومه‪ :‬إننا اليوم في مراكز الحكم والقوة‪ .‬من ينصرنا‬
‫من بأس الله إذا جاء؟ ومن ينقذنا من عقوبته إذا حلت؟ إن إسرافنا وكذبنا قد يضيعاننا‪.‬‬

‫وبدت كلماته مقنعة‪ .‬إنه رجل ليس متهما في ولئه لفرعون‪ .‬وهو ليس من أتباع موسى‪.‬‬
‫والمفروض أنه يتكلم بدافع الحرص على عرش الفرعون‪ .‬ول شيء يسقط العروش كالكذب‬
‫والسراف وقتل البرياء‪.‬‬

‫ومن هذا الموضع استمدت كلمات الرجل المؤمن قوتها‪ .‬بالنسبة إلى فرعون ووزرائه ورجاله‪.‬‬
‫ورغم أن فرعون وجد فكرته في قتل موسى‪ ،‬صريعة على المائدة‪ .‬رغم تخويف الرجل‬
‫المؤمن لفرعون‪ .‬رغم ذلك قال الفرعون كلمته التاريخية التي ذهبت مثل بعده لكل الطغاة‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ل الّر َ‬
‫شادِ(‪.‬‬ ‫م إ ِّل َ‬
‫سِبي َ‬ ‫ديك ُ ْ‬
‫ما أهْ ِ‬ ‫م إ ِّل َ‬
‫ما أَرى وَ َ‬ ‫ما أِريك ُ ْ‬
‫ن َ‬ ‫)َقا َ‬
‫ل فِْرع َوْ ُ‬

‫ما أ ََرى(‪ .‬هذا رأينا الخاص‪ ،‬وهو‬


‫م إ ِّل َ‬
‫ُ‬
‫ما أِريك ُ ْ‬
‫هذه كلمة الطغاة دائما حين يواجهون شعوبهم ) َ‬
‫رأي يهديكم سبيل الرشاد‪ .‬وكل رأي غيره خاطئ‪ .‬وينبغي الوقوف ضده واستئصاله‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫لم تتوقف المناقشة عند هذا الحد‪ .‬قال فرعون كلمته ولكنه لم يقنع بها الرجل المؤمن‪ .‬وعاد‬
‫الرجل المؤمن يتحدث وأحضر لهم أدلة من التاريخ‪ ،‬أدلة كافية على صدق موسى‪ .‬وح ّ‬
‫ذرهمخ‬
‫من المساس به‪ .‬لقد سبقتهم أمم كفرت برسلها‪ ،‬فأهلكها الله‪ :‬قوم نوح‪ ،‬قوم عاد‪ ،‬قوم ثمود‪.‬‬

‫كرهم بيوسف عليه السلم حين جاء بالبينات‪ ،‬فشك فيه الناس‬ ‫كرهم بتاريخ مصر نفسه‪ .‬ذ ّ‬‫ثم ذ ّ‬
‫ثم آمنوا به بعد أن كادت النجاة تفلت منهم‪ ،‬ما الغرابة في إرسال الله للرسل؟ إن التاريخ‬
‫القديم ينبغي أن يكون موضع نظر‪ .‬لقد انتصرت القلة المؤمنة حين أصبحت مؤمنة على الكثرة‬
‫الكافرة‪ .‬وسحق الله تعالى الكافرين‪ .‬أغرقهم بالطوفان‪ ،‬وصعقهم بالصرخة‪ .‬أو خسف بهم‬
‫الرض‪ .‬ماذا ننتظر إذن؟ ومن أين نعلم أن وقوفنا وراء الفرعون لن يضيعنا ويهلكنا جميعا؟‬

‫كان حديث الرجل المؤمن ينطوي على عديد من التحذيرات المخيفة‪ .‬ويبدو أنه أقنع الحاضرين‬
‫بأن فكرة قتل موسى فكرة غير مأمونة العواقب‪ .‬وبالتالي فل داعي لها‪.‬‬

‫إل أن الطاغية فرعون حاول مرة أخرى المحاورة والتمويه‪ ،‬كي ل يواجه الحق جهرة‪ ،‬ول‬
‫يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه‪ .‬وبعيد عن احتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه‪.‬‬
‫فطلب أن يبنى له بناء عظيم‪ ،‬يصعد عليه ليرى إله موسى الذي يدعيه‪ .‬وبعيدا أن يكون جادا‬
‫في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج‪ .‬وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة‬
‫حدا يبعد معه هذا التصور‪ .‬وإنما هو الستهتار والسخرية من جهة‪ .‬والتظاهر بالنصاف والتثبت‬
‫من جهة أخرى‪.‬‬

‫بعد هذا الستهتار‪ ،‬وهذا الصرار‪ ،‬ألقى الرجل المؤمن كلمته الخيرة مدوية صريحة‪:‬‬
‫ل ال ّذي آمن يا قَوم اتبعو َ‬
‫مَتاعٌ‬ ‫حَياة ُ الد ّن َْيا َ‬‫ما هَذ ِهِ ال ْ َ‬ ‫شاد ِ )‪َ (38‬يا قَوْم ِ إ ِن ّ َ‬ ‫ل الّر َ‬ ‫سِبي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن أهْد ِك ُ ْ‬ ‫ْ ِ ِّ ُ ِ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫وََقا َ‬
‫ل صال ِحا من ذ َك َر أوَ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن اْل ِ‬
‫ٍ ْ‬ ‫َ ً ّ‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مثلَها وَ َ‬ ‫جَزى إ ِل ِ‬ ‫ة فل ي ُ ْ‬ ‫سي ّئ ً‬ ‫مل َ‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قَرارِ )‪َ (39‬‬ ‫داُر ال َ‬ ‫ي َ‬ ‫خَرة َ ه ِ َ‬ ‫وَإ ِ ّ‬
‫عوك ُْ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُأن‬
‫ما ِلي أد ْ ُ‬ ‫ْ ِ َ‬‫م‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫يا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫(‬‫‪40‬‬ ‫)‬ ‫ب‬ ‫ٍ‬ ‫سا‬ ‫َ‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ْ‬
‫َ ِ ِ‬‫ي‬‫َ‬ ‫غ‬ ‫ب‬ ‫ها‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫قو‬ ‫ز‬
‫َ‬ ‫ر‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫ج‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫لو‬ ‫خ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ن‬
‫ٌ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ؤ‬ ‫م‬
‫َ َ ُ‬‫و‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ثى‬
‫عل ْم وأناَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫س ِلي ب ِهِ ِ ٌ َ َ‬ ‫ما ل َي ْ َ‬ ‫ك ب ِهِ َ‬ ‫شرِ َ‬ ‫فَر ِبالل ّهِ وَأ ْ‬ ‫عون َِني ِلك ْ ُ‬ ‫عون َِني إ َِلى الّنارِ )‪ (41‬ت َد ْ ُ‬ ‫جاةِ وَت َد ْ ُ‬ ‫إ َِلى الن ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أ َد ْ ُ‬
‫ه د َع ْوَة ٌ ِفي الد ّن َْيا وَل ِفي‬ ‫سل ُ‬ ‫عون َِني إ ِلي ْهِ لي ْ َ‬ ‫ما ت َد ْ ُ‬ ‫م أن ّ َ‬ ‫جَر َ‬ ‫فارِ )‪ (42‬ل َ‬ ‫زيزِ الغَ ّ‬ ‫م َإ ِلى العَ ِ‬ ‫عوك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل ل َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ما أُقو ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ست َذ ْك ُُرو َ‬ ‫ب الّنارِ )‪ (43‬فَ َ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫سرِِفي َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫مَرد َّنا إ َِلى الل ّهِ وَأ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫خَرةِ وَأ ّ‬ ‫اْل ِ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫صيٌر ِبالعَِباد ِ )‪) (44‬غافر(‬ ‫ه بَ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ري إ ِلى اللهِ إ ِ ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ضأ ْ‬ ‫وَأفَوّ ُ‬

‫أنهى الرجل المؤمن حديثه بهذه الكلمات الشجاعة‪ .‬بعدها انصرف‪ .‬انصرف فتحول الجالسون‬
‫من موسى إليه‪ .‬بدءوا يمكرون للرجل المؤمن‪ .‬بدءوا يتحدثون عما صدر منه‪ .‬فتدخلت عناية‬
‫ب( وأنجته من فرعون‬ ‫سوُء ال ْعَ َ‬
‫ذا ِ‬ ‫ن ُ‬
‫ل فِْرع َوْ َ‬ ‫مك َُروا وَ َ‬
‫حاقَ ِبآ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫سي َّئا ِ‬
‫ت َ‬ ‫الله تعالى )فَوََقاه ُ الل ّ ُ‬
‫ه َ‬
‫وجنوده‪.‬‬

‫ابتلء الله أهل مصر‪:‬‬

‫أما حال مصر في تلك الفترة‪ .‬فلقد مضى فرعون في تهديده‪ ،‬فقتل الرجال واستحيا النساء‪.‬‬
‫وظل موسى وقومه يحتملون العذاب‪ ،‬ويرجون فرج الله‪ ،‬ويصبرون على البتلء‪ .‬وظل فرعون‬
‫ديه‪ .‬فتدخلت قوة الله سبحانه وتعالى‪ ،‬وشاء الله تعالى أن يشدد على آل‬‫في ظلله وتح ّ‬
‫فرعون‪ .‬ابتلء لهم وتخويفا‪ ،‬ولكي يصرفهم عن الكيد لموسى ومن آمن معه‪ ،‬وإثباتا لنبوة‬
‫موسى وصدقه في الوقت نفسه‪ .‬وهكذا سلط على المصريين أعوام الجدب‪ .‬أجدبت الرض‬
‫وشح النيل ونقصت الثمار وجاع الناس‪ ،‬واشتد القحط‪ .‬لكن آل فرعون لم يدركوا العلقة بين‬
‫كفرهم وفسقهم وبين بغيهم وظلمهم لعباد الله‪ .‬فأخذوا يعللون السباب‪ .‬فعندما تصيبهم‬
‫حسنة‪ ،‬يقولون إنها من حسن حظهم وأنهم يستحقونها‪ .‬وإن أصابتهم سيئة قالوا هي من شؤم‬
‫موسى ومن معه عليهم‪ ،‬وأنها من تحت رأسهم!‬

‫وأخذتهم العزة بالثم فاعتقدوا أن سحر موسى هو المسئول عما أصابهم من قحط‪ .‬وصور لهم‬
‫حمقهم أن هذا الجدب الذي أصاب أرضهم‪ ،‬آية جاء بها موسى ليسحرهم بها‪ ،‬وهي آية لن‬
‫يؤمنوا بها مهما حدث‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫فشدد الله عليهم لعلهم يرجعون إلى الله‪ ،‬ويطلقون بني إسرائيل ويرسلونهم معه‪ .‬فأرسل‬
‫عليهم الطوفان‪ ،‬والجراد‪ ،‬والقمل ‪-‬وهو السوس‪ -‬والضفادع‪ ،‬والدم‪ .‬ول يذكر القرآن إن كانت‬
‫جملة واحدة‪ ،‬أم واحدة تلو الخرى‪ .‬وتذكر بعض الروايات أنها جاءت متتالية وحدة تلو الخرى‪.‬‬
‫إل أن المهم هو طلب آل فرعون من موسى أن يدعو لهم ربه لينقذهم من هذا البلء‪ .‬وبعدونه‬
‫سى اد ْع ُ ل ََنا‬
‫مو َ‬‫في كل مرة أن يرسلوا بني إسرائيل إذا أنجاهم ورفع عنهم هذا البلء )َقاُلوا ْ َيا ُ‬
‫سَرآِئي َ‬
‫ل(‪.‬‬ ‫مع َ َ‬
‫ك ب َِني إ ِ ْ‬ ‫سل َ ّ‬
‫ن َ‬ ‫ك وَل َن ُْر ِ‬
‫ن لَ َ‬ ‫جَز ل َن ُؤ ْ ِ‬
‫من َ ّ‬ ‫ت ع َّنا الّر ْ‬
‫ف َ‬ ‫ك ل َِئن ك َ َ‬
‫ش ْ‬ ‫عند َ َ‬
‫ما ع َهِد َ ِ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫ك بِ َ‬

‫فكان موسى ‪-‬عليه السلم‪ -‬يدعو الله بأن يكشف عنهم العذاب‪ .‬وما أن ينكشف البلء حتى‬
‫َ‬
‫هم َبال ُِغوه ُ إ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫ل ُ‬ ‫جَز إ َِلى أ َ‬
‫ج ٍ‬ ‫م الّر ْ‬
‫فَنا ع َن ْهُ ُ‬
‫ش ْ‬ ‫ينقضون عهدهم‪ ،‬ويعودون إلى ما كانوا فيه )فَل َ ّ‬
‫ما ك َ َ‬
‫م َينك ُُثو َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫هُ ْ‬

‫لم يهتد المصريون‪ ،‬ولم يوفوا بعهودهم‪ ،‬بل على العكس من ذلك‪ .‬خرج فرعون لقومه‪ ،‬وأعلن‬
‫أنه إله‪ .‬أليس له ملك مصر‪ ،‬وهذه النهار تجري من تحته‪ ،‬أعلن أن موسى ساحر كذاب‪ .‬ورجل‬
‫فقير ل يرتدي أسورة واحدة من الذهب‪.‬‬

‫عوهُ(‪ .‬استخف بعقولهم‪.‬‬ ‫ه فَأ َ َ‬


‫طا ُ‬ ‫ف قَوْ َ‬
‫م ُ‬ ‫خ ّ‬ ‫ويعّبر القرآن الكريم عن أمر فرعون وقومه‪َ) :‬فا ْ‬
‫ست َ َ‬
‫واستخف بحريتهم‪ .‬واستخف بمستقبلهم‪ .‬واستخف بآدميتهم‪ .‬فأطاعوه‪ .‬أليست هذه طاعة‬
‫غريبة‪ .‬تنمحي الغرابة حين نعلم أنهم كانوا قوما فاسقين‪ .‬إن الفسق يصرف النسان عن‬
‫اللتفات لمستقبله ومصالحه وأموره‪ ،‬ويورده الهلك‪ .‬وذلك ما وقع لقوم فرعون‪.‬‬

‫خروج بني إسرائيل من مصر‪:‬‬

‫بدا واضحا أن فرعون لن يؤمن لموسى‪ .‬ولن يكف عن تعذيبه لبني إسرائيل‪ ،‬ولن يكف عن‬
‫استخفافه بقومه‪ .‬هنالك دعا موسى وهارون على فرعون‪.‬‬

‫ضّلوا ْ َ‬ ‫ك آتيت فرع َون ومله زين ً َ‬


‫سِبيل ِ َ‬
‫ك‬ ‫عن َ‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا َرب َّنا ل ِي ُ ِ‬ ‫وال ً ِفي ال ْ َ‬ ‫م َ‬‫ة وَأ ْ‬ ‫سى َرب َّنا إ ِن ّ َ َ ْ َ ِ ْ ْ َ َ َ ُ ِ َ‬ ‫مو َ‬‫ل ُ‬‫وََقا َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ل قَد ْ‬‫م )‪َ (88‬قا َ‬ ‫ب الِلي َ‬ ‫ذا َ‬ ‫حّتى ي ََروُا العَ َ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫م فَل َ ي ُؤ ْ ِ‬‫شد ُد ْ ع َلى قُلوب ِهِ ْ‬ ‫م َوا ْ‬
‫وال ِهِ ْ‬
‫م َ‬‫س ع َلى أ ْ‬‫م ْ‬ ‫َرب َّنا اط ِ‬
‫ن )‪) (89‬يونس(‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مو َ‬ ‫ن ل ي َعْل ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫سِبيل ال ِ‬ ‫ن َ‬‫ما وَل ت َت ّب َِعآ ّ‬‫قي َ‬
‫ست َ ِ‬
‫ما فا ْ‬ ‫جيَبت د ّع ْوَت ُك َ‬
‫أ ِ‬

‫لم يكن قد آمن مع موسى فريق من قومه‪ .‬فانتهى المر‪ ،‬وأوحي إلى موسى أن يخرج من‬
‫مصر مع بني إسرائيل‪ .‬وأن يكور رحيلهم ليل‪ ،‬بعد تدبير وتنظيم لمر الرحيل‪ .‬ونبأه أن فرعون‬
‫سيتبعهم بجنده؛ وأمره أن يقوم قومه إلى ساحل البحر )وهو في الغالب عند التقاء خليج‬
‫السويس بمطقة البحيرات(‪.‬‬

‫وبلغت الخبار فرعون أن موسى قد صحب قومه وخرج‪ .‬فأرسل أوامره في مدن المملكة‬
‫لحشد جيش عظيم‪ .‬ليدرك موسى وقومه‪ ،‬ويفسد عليهم تدبيرهم‪ .‬أعلن فرعون التعبئة العامة‪.‬‬
‫وهذا من شأنه أن يشكل صورة في الذهان‪ ،‬أن موسى وقومه يشكلون خطرا فعلى فرعون‬
‫وملكه‪ ،‬فيكف يكون إلها من يخشى فئة صغيرا يعبدون إله آخر؟! لذلك كان ل بد من تهوين‬
‫ن( لكننا نطاردهم لنهم‬‫ة قَِليُلو َ‬
‫م ٌ‬ ‫ن هَؤ َُلء ل َ ِ‬
‫شْرذ ِ َ‬ ‫المر وذلك بتقليل شأن قوم موسى وحجمهم )إ ِ ّ‬
‫أغاظونا‪ ،‬وعلى أي حال‪ ،‬فنحن حذرون مستعدون ممسكون بزمام المور‪.‬‬

‫وقف موسى أمام البحر‪ .‬وبدا جيش الفرعون يقترب‪ ،‬وظهرت أعلمه‪ .‬وامتل قوم موسى‬
‫بالرعب‪ .‬كان الموقف حرجا وخطيرا‪ .‬إن البحر أمامهم والعدو ورائهم وليس معهم سفن أو‬
‫أدوات لعبور البحر‪ ،‬كما ليست أمامهم فرصة واحدة للقتال‪ .‬إنهم مجموعة من النساء‬
‫والطفال والرجال غير المسلحين‪ .‬سيذبحهم فرعون عن آخرهم‪.‬‬

‫صرخت بعض الصوات من قوم موسى‪ :‬سيدركنا فرعون‪.‬‬


‫ن(‪.‬‬
‫دي ِ‬
‫سي َهْ ِ‬
‫ي َرّبي َ‬
‫مع ِ َ‬ ‫قال موسى‪) :‬ك َّل إ ِ ّ‬
‫ن َ‬

‫‪80‬‬
‫لم يكن يدري موسى كيف ستكون النجاة‪ ،‬لكن قلبه كان ممتلئا بالثقة بربه‪ ،‬واليقين بعونه‪،‬‬
‫والتأكد من النجاة‪ ،‬فالله هو اللي يوجهه ويرعاه‪ .‬وفي اللحظة الخيرة‪ ،‬يجيء الوحي من الله‬
‫فل َقَ فَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن كُ ّ‬
‫ل‬ ‫كا َ‬ ‫ك ال ْب َ ْ‬
‫حرَ( فضربه‪ ،‬فوقعت المعجزة )َفان َ‬ ‫صا َ‬
‫رب ب ّعَ َ‬
‫ض ِ‬
‫نا ْ‬
‫سى أ ِ‬‫مو َ‬ ‫حي َْنا إ َِلى ُ‬
‫)فَأوْ َ‬
‫ظيم ِ( وتحققه المستحيل في منطق الناس‪ ،‬لكن الله إن أراد شيئا قال له كن‬ ‫كالط ّوْد ِ ال ْعَ ِ‬
‫ق َ‬ ‫فِْر ٍ‬
‫فيكون‪.‬‬

‫ووصل فرعون إلى البحر‪ .‬شاهد هذه المعجزة‪ .‬شاهد في البحر طريقا يابسا يشقه نصفين‪.‬‬
‫فأمر جيشه بالتقدم‪ .‬وحين انتهى موسى من عبور البحر‪ .‬وأوحى الله إلى موسى أن يترك‬
‫ن(‪ .‬وكان الله تعالى قد شاء إغراق‬ ‫مغَْرُقو َ‬
‫جند ٌ ّ‬
‫م ُ‬
‫وا إ ِن ّهُ ْ‬ ‫ك ال ْب َ ْ‬
‫حَر َرهْ ً‬ ‫البحر على حاله )َوات ُْر ْ‬
‫الفرعون‪ .‬فما أن صار فرعون وجنوده في منتصف البحر‪ ،‬حتى أصدر الله أمره‪ ،‬فانطبقت‬
‫المواج على فرعون وجيشه‪ .‬وغرق فرعون وجيشه‪ .‬غرق العناد ونجا اليمان بالله‪.‬‬
‫َ‬
‫ت ب ِهِ ب َُنو‬
‫من َ ْ‬ ‫ه إ ِل ّ ال ّ ِ‬
‫ذي آ َ‬ ‫ه ل إ ِِلـ َ‬ ‫ت أن ّ ُ‬ ‫من ُ‬
‫لآ َ‬ ‫ولما عاين فرعون الغرق‪ ،‬ولم يعد يملك النجاة )َقا َ‬
‫إسراِئي َ َ‬
‫ن( سقطت عنه كل القنعة الزائفة‪ ،‬وتضائل‪ ،‬فلم يكتفي بأن يعلن‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ل وَأن َا ْ ِ‬
‫م َ‬ ‫ِ ْ َ‬
‫َ‬
‫ن( لكن بل فائدة‪ ،‬فليس الن وقت اختيار‪ ،‬بعد‬ ‫مي َ‬‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫إيمانه‪ ،‬بل والستسلم أيضا )وَأن َا ْ ِ‬
‫م َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫دي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ل وَ ُ‬
‫كن َ‬ ‫ت قَب ْ ُ‬‫صي ْ َ‬‫ن وَقَد ْ ع َ َ‬‫أن سبق العصيان والستكبار )آل َ‬

‫انتهى وقت التوبة المحدد لك وهلكت‪ .‬انتهى المر ول نجاة لك‪ .‬سينجو جسدك وحده‪ .‬لن تأكله‬
‫السماك‪ ،‬ولين يحمله التيار بعيدا عن الناس‪ ،‬بل سينجو جسدك لتكون آية لمن خلفك‪.‬‬

‫ن آَيات َِنا ل ََغافُِلو َ‬


‫ن )‪(92‬‬ ‫س عَ ْ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫ن ك َِثيًرا ّ‬
‫م َ‬ ‫ة وَإ ِ ّ‬ ‫خل ْفَ َ‬
‫ك آي َ ً‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ن لِ َ‬ ‫ك ل ِت َ ُ‬
‫كو َ‬ ‫ك ب ِب َد َن ِ َ‬
‫جي َ‬ ‫َفال ْي َوْ َ‬
‫م ن ُن َ ّ‬
‫)يونس(‬

‫أسدل الستار على طغيان الفرعون‪ .‬ولفظت المواج جثته إلى الشاطئ‪ .‬بعد ذلك‪ .‬نزل الستار‬
‫تماما عن المصريين‪ .‬لقد خرجوا يتبعون خطا موسى وقومه ويقفون أثرهم‪ .‬فكان خروجهم هذا‬
‫هو الخير‪ .‬وكان إخراجا لهم من كل ما هم فيه من جنات وعيون وكنوز؛ فلم يعودوا بعدها لهذا‬
‫النعيم! ل يحدثنا القرآن الكريم عما فعله من بقى من المصررين في مصر بعد سقوط نظام‬
‫الفرعون وغرقه مع جيشه‪ .‬ل يحدثنا عن ردود فعلهم بعد أن دمر الله ما كان يصنع فرعون‬
‫وقومه وما كانوا يشيدون‪ .‬يسكت السياق القرآني عنهم‪ .‬ويستبعدهم تماما من التاريخ‬
‫والحداث‬

‫الجزء الثالث‪ :‬يتناول حياة موسى عليه السلم مع بني إسرائيل بعد غرق فرعون‪ ،‬والحداث‬
‫العظيمة التي حدثت أثناء ضياعهم في صحراء سيناء‪.‬‬

‫نفسية بني إسرائيل الذليلة‪:‬‬

‫لقد مات فرعون مصر‪ .‬غرق أمام عيون المصريين وبني إسرائيل‪ .‬ورغم موته‪ ،‬فقد ظل أثره‬
‫باقيا في نفوس المصريين وبني إسرائيل‪ .‬من الصعب على سنوات القهر الطويلة والذل‬
‫ود فرعون بني إسرائيل الذل لغير الله‪.‬‬ ‫المكثف أن تمر على نفوس الناس مر الكرام‪ .‬لقد ع ّ‬
‫هزم أرواحهم وأفسد فطرتهم فعذبوا موسى عذابا شديدا بالعناد والجهل‪.‬‬

‫كانت معجزة شق البحر لم تزل طرية في أذهانهم‪ ،‬حين مروا على قوم يعبدون الصنام‪ .‬وبدل‬
‫من أن يظهروا استيائهم لهذا الظلم للعقل‪ ،‬ويحمدوا الله أن هداهم لليمان‪ .‬بدل من ذلك‬
‫التفتوا إلى موسى وطلبوا منه أن يجعل لهم إلها يعبدونه مثل هؤلء الناس‪ .‬أدركتهم الغيرة‬
‫لمرأى الصنام‪ ،‬ورغبوا في مثلها‪ ،‬وعاودهم الحنين ليام الشرك القديمة التي عاشوها في ظل‬
‫فرعون‪ .‬واستلفتهم موسى إلى جهلهم هذا‪ ،‬وبّين لهم أن عمل هؤلء باطل‪ ،‬وأن الله فضل بني‬
‫إسرائيل على العالمين فكيف يجحد هذا التفضيل ويجعل لهم صنما يعبدونه من دون الله‪ .‬ثم‬

‫‪81‬‬
‫كرهم بفرعون وعذابه لهم‪ ،‬وكيف أن الله نجاهم منه‪ ،‬فكيف بعد ذلك يشركون بالله مال يضر‬‫ذ ّ‬
‫ول ينفع‪.‬‬

‫موعد موسى لملقاة ربه‪:‬‬

‫انتهت المرحلة الولى من مهمة موسى عليه السلم‪ ،‬وهي تخليص بني إسرائيل من حياة الذل‬
‫والتعذيب على يد فرعون وجنده‪ .‬والسير بهم إلى الديار المقدسة‪ .‬لكن القوم لم يكونوا على‬
‫استعداد للمهمة الكبرى‪ ،‬مهمة الخلفة في الرض بدين الله‪ .‬وكان الختبار الول أكبر دليل‬
‫على ذلك‪ .‬فما أن رأوا قوما يعبدون صنما‪ ،‬حتى اهتزت عقيدة التوحيد في نفوسهم‪ ،‬وطلبوا‬
‫من موسى أن يجعل لهم وثنا يعبدوه‪ .‬فكان ل بد من رسالة مفصلة لتربية هذه المة وإعدادها‬
‫لما هم مقبلون عليه‪ .‬من أجل هذه الرسالة كانت مواعدة الله لعبده موسى ليلقاه‪ .‬وكانت‬
‫هذه المواعدة إعداد لنفس موسى ليتهيأ للموقف الهائل العظيم‪ .‬فاستخلف في قومه أخاه‬
‫هارون عليه السلم‪.‬‬

‫كانت فترة العداد ثلثين ليلة‪ ،‬أضيف إليها عشر‪ ،‬فبلغت عدتها أربعين ليلة‪ .‬يروض موسى فيها‬
‫نفسه على اللقاء الموعود؛ وينعزل فيها عن شواغل الرض؛ فتصفو روحه وتتقوى عزيمته‪.‬‬
‫ويذكر ابن كثير في تفسيره عن أمر هذه الليالي‪" :‬فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلثين ليلة؛‬
‫قال المفسرون‪ :‬فصامها موسى ‪-‬عليه السلم‪ -‬وطواها‪ ،‬فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة‪،‬‬
‫فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين"‪.‬‬

‫كان موسى بصومه ‪-‬أربعين ليلة‪ -‬يقترب من ربه أكثر‪ .‬وكان موسى بتكليم الله له يزداد حبا‬
‫في ربه أكثر‪ .‬فطلب موسى أن يرى الله‪ .‬ونحن ل نعرف أي مشاعر كانت تجيش في قلب‬
‫موسى عليه الصلة والسلم حين سأل ربه الرؤية‪ .‬أحيانا كثيرة يدفع الحب البشري الناس إلى‬
‫طلب المستحيل‪ .‬فما بالك بالحب اللهي‪ ،‬وهو أصل الحب؟ إن عمق إحساس موسى بربه‪،‬‬
‫وحبه لخالقه‪ ،‬واندفاعه الذي لم يزل يميز شخصيته‪ .‬دفعه هذا كله إلى أن يسأل الله الرؤية‪.‬‬

‫ل َلن ت ََراِني‬
‫وجاءه رد الحق عز وجل‪َ :‬قا َ‬

‫ولو أن الله تبارك وتعالى قالها ولم يزد عليها شيئا‪ ،‬لكان هذا عدل منه سبحانه‪ ،‬غير أن‬
‫الموقف هنا موقف حب إلهي من جانب موسى‪ .‬موقف اندفاع يبرره الحب ولهذا أدركت رحمة‬
‫الله تعالى موسى‪ .‬أفهمه أنه لن يراه‪ ،‬لن أحدا من الخلق ل يصمد لنور الله‪ .‬أمره أن ينظر‬
‫إلى الجبل‪ ،‬فإن استقر مكانه فسوف يراه‪.‬‬

‫ل‬ ‫ه ل ِل ْ َ‬
‫جب َ ِ‬ ‫جّلى َرب ّ ُ‬ ‫ف ت ََراِني فَل َ ّ‬
‫ما ت َ َ‬ ‫ه فَ َ‬
‫سو ْ َ‬ ‫م َ‬
‫كان َ ُ‬ ‫قّر َ‬
‫ست َ َ‬ ‫ل فَإ ِ ِ‬
‫نا ْ‬ ‫ن انظ ُْر إ َِلى ال ْ َ‬
‫جب َ ِ‬ ‫قال تعالى‪) :‬وََلـك ِ ِ‬
‫قا(‬
‫صع ِ ً‬
‫سى َ‬ ‫خّر مو َ‬ ‫كا وَ َ‬ ‫جعَل َ ُ‬
‫ه دَ ّ‬ ‫َ‬

‫وى في الرض‪ .‬وسقط موسى مغشيا عليه غائبا‬ ‫ك الجبل‪ ،‬وصار مس ّ‬ ‫ل يصمد لنور الله أحد‪ .‬فد ّ‬
‫عن وعيه‪ .‬فلما أفاق قال سبحانك تنزهت وتعاليت عن أن ترى بالبصار وتدرك‪ .‬وتبت إليك عن‬
‫تجاوزني للمدى في سؤالك! وأنا أول المؤمنين بك وبعظمتك‪.‬‬

‫ثم تتداركه رحمة ربه من جديد‪ .‬فيتلقى موسى ‪-‬عليه السلم‪ -‬البشرى‪ .‬بشرى الصطفاء‪ .‬مع‬
‫ك ع ََلى‬ ‫صط َ َ‬
‫في ْت ُ َ‬ ‫سى إ ِّني ا ْ‬
‫مو َ‬ ‫التوجيه له بالرسالة إلى قومه بعد الخلص‪ .‬قال تعالى‪َ) :‬قا َ‬
‫ل َيا ُ‬
‫ن(‬
‫ري َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫شاك ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ك وَ ُ‬
‫كن ّ‬ ‫ما آت َي ْت ُ َ‬ ‫سال َِتي وَب ِك َل َ ِ‬
‫مي فَ ُ‬
‫خذ ْ َ‬ ‫س ب ِرِ َ‬
‫الّنا ِ‬

‫سال َِتي‬ ‫ك ع ََلى الّنا ِ‬


‫س ب ِرِ َ‬ ‫صط َ َ‬
‫في ْت ُ َ‬ ‫وقف كثير من المفسرين أمام قوله تعالى لموسى‪) :‬إ ِّني ا ْ‬
‫مي(‪ .‬وأجريت مقارنات بينه وبين غيره من النبياء‪ .‬فقيل إن هذا الصطفاء كان خاصا‬ ‫وَب ِك َل َ ِ‬
‫بعصره وحده‪ ،‬ول ينسحب على العصر الذي سبقه لوجود إبراهيم فيه‪ ،‬وإبراهيم خير من‬

‫‪82‬‬
‫موسى‪ ،‬أيضا ل ينطبق هذا الصطفاء على العصر الذي يأتي بعده‪ ،‬لوجود محمد بن عبد الله‬
‫فيه‪ ،‬وهو أفضل منهما‪.‬‬

‫ونحب أن نبتعد عن هذا الجدال كله‪ .‬ل لننا نعتقد أن كل النبياء سواء‪ .‬إذا إن الله سبحانه‬
‫وتعالى يحدثنا أنه فضل بعض النبيين على بعض‪ ،‬ورفع درجات بعضهم على البعض‪ .‬غير أن هذا‬
‫التفضيل ينبغي أن يكون منطقة محرمة علينا‪ ،‬ولنقف نحن في موقع اليمان بجميع النبياء ل‬
‫نتعداه‪ .‬ولنؤد نحوهم فروض الحترام على حد سواء‪ .‬ل ينبغي أن يخوض الخاطئون في درجات‬
‫المعصومين المختارين من الله‪ .‬ليس من الدب أن نفاضل نحن بين النبياء‪ .‬الولى أن نؤمن‬
‫بهم جميعا‪.‬‬

‫صيل ً ل ّك ُ ّ‬ ‫عظ َ ً‬ ‫َ‬


‫ل‬ ‫ة وَت َفْ ِ‬ ‫مو ْ ِ‬
‫يٍء ّ‬
‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫من ك ُ ّ‬ ‫واِح ِ‬‫في الل ْ َ‬‫ُ‬
‫ثم يبين الله تعالى مضمون الرسالة )وَك َت َب َْنا ل َ ُ‬
‫ه ِ‬
‫َ‬ ‫قوة وأ ْمر قَوم َ ْ‬
‫ن( ففيها كل شيء يختص‬ ‫قي َ‬
‫س ِ‬‫فا ِ‬‫داَر ال ْ َ‬
‫م َ‬ ‫سأِريك ُ ْ‬‫سن َِها َ‬‫ح َ‬ ‫ذوا ْ ب ِأ ْ‬
‫خ ُ‬
‫ك ي َأ ُ‬ ‫ها ب ِ ُ ّ ٍ َ ُ ْ ْ َ‬ ‫يٍء فَ ُ‬
‫خذ ْ َ‬ ‫َ‬
‫ش ْ‬
‫بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته والتوجيهات المطلوبة لصلح حال هذه المة‬
‫وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول المد!‬

‫عبادة العجل‪:‬‬

‫انتهى ميقات موسى مع ربه تعالى‪ .‬وعاد غضبان أسفا إلى قومه‪ .‬فلقد أخبره الله أن قموه قد‬
‫سامري هو من أضّلهم‪ .‬انحدر موسى من‬ ‫ضّلوا من بعده‪ .‬وأن رجل من بني إسرائيل يدعى ال ّ‬
‫قمة الجبل وهو يحمل ألواح التوراة‪ ،‬قلبه يغلي بالغضب والسف‪ .‬نستطيع أن نتخيل انفعال‬
‫موسى وثورته وهو يحث خطاه نحو قومه‪.‬‬

‫لم يكد موسى يغادر قومه إلى ميقات ربه‪ .‬حتى وقعت فتنة السامري‪ .‬وتفصيل هذه الفتنة أن‬
‫بني إسرائيل حين خرجوا من مصر‪ ،‬صحبوا معهم كثيرا من حلي المصريين وذهبهم‪ ،‬حيث كانت‬
‫نساء بني إسرائيل قد استعرنه للتزين به‪ ،‬وعندما أمروا بالخروج حملوه معهم‪ .‬ثم قذفوها لنها‬
‫حرام‪ .‬فأخذها السامري‪ ،‬وصنع منها تمثال لعجل‪ .‬وكان السامري فيما يبدو نحاتا محترفا أو‬
‫صائغا سابقا‪ ،‬فصنع العجل مجوفا من الداخل‪ ،‬ووضعه في اتجاه الريح‪ ،‬بحيث يدخل الهواء من‬
‫فتحته الخلفية ويخرج من أنفه فيحدث صوتا يشبه خوار العجول الحقيقية‪.‬‬

‫ويقال إن سر هذا الخوار‪ ،‬أن السامري كان قد أخذ قبضة من تراب سار عليه جبريل ‪-‬عليه‬
‫السلم‪ -‬حين نزل إلى الرض في معجزة شق البحر‪ .‬أي أن السامري أبصر بما لم يبصروا به‪،‬‬
‫فقبض قبضة من أثر الرسول ‪-‬جبريل عليه السلم‪ -‬فوضعها مع الذهب وهو يصنع منه العجل‪.‬‬
‫وكان جبريل ل يسير على شيء إل دبت فيه الحياة‪ .‬فلما أضاف السامري التراب إلى الذهب‪،‬‬
‫ثم صنع منه العجل‪ ،‬خار العجل كالعجول الحقيقية‪ .‬وهذه هي القصة التي قالها السامري‬
‫لموسى عليه السلم‪.‬‬

‫بعد ذلك‪ ،‬خرج السامري على بني إسرائيل بما صنعه‪..‬‬

‫سألوه‪ :‬ما هذا يا سامري؟‬


‫قال‪ :‬هذا إلهكم وإله موسى!‬
‫قالوا‪ :‬لكن موسى ذهب لميقات إلهه‪.‬‬
‫قال السامري‪ :‬لقد نسي موسى‪ .‬ذهب للقاء ربه هناك‪ ،‬بينما ربه هنا‪.‬‬

‫وهبت موجة من الرياح فدخلت من دبر العجل الذهب وخرجت من فمه فخار العجل‪ .‬وعبد بنو‬
‫إسرائيل هذا العجل‪ .‬لعل دهشة القارئ تثور لهذه الفتنة‪ .‬كيف يمكن الستخفاف بعقول القوم‬
‫لهذه الدرجة؟! لقد وقعت لهم معجزات هائلة‪ .‬فكيف ينقلبون إلى عبادة الصنام في لحظة؟‬
‫تزول هذه الدهشة لو نظرنا في نفسية القوم الذين عبدوا العجل‪ .‬لقد تربوا في مصر‪ ،‬أيام‬
‫كانت مصر تعبد الصنام وتقدس فيما تقدس العجل أبيس‪ ،‬وتربوا على الذل والعبودية‪ ،‬فتغيرت‬
‫نفوسهم‪ ،‬والتوت فطرتهم‪ ،‬ومرت عليهم معجزات الله فصادفت نفوسا تالفة المل‪ .‬لم يعد‬
‫هناك ما يمكن أن يصنعه لهم أحد‪ .‬إن كلمات الله لم تعدهم إلى الحق‪ ،‬كما أن المعجزات‬

‫‪83‬‬
‫الحسية لم تقنعهم بصدق الكلمات‪ ،‬ظلوا داخل أعماقهم من عبدة الوثان‪ .‬كانوا وثنيين مثل‬
‫سادتهم المصريين القدماء‪ .‬ولهذا السبب انقلبوا إلى عبادة العجل‪.‬‬

‫وفوجئ هارون عليه الصلة والسلم يوما بأن بني إسرائيل يعبدون عجل من الذهب‪ .‬انقسموا‬
‫إلى قسمين‪ :‬القلية المؤمنة أدركت أن هذا هراء‪ .‬والغلبية الكافرة طاوعت حنينها لعبادة‬
‫الوثان‪ .‬ووقف هارون وسط قومه وراح يعظهم‪ .‬قال لهم‪ :‬إنكم فتنتم به‪ ،‬هذه فتنة‪ ،‬استغل‬
‫ن َفات ّب ُِعوِني‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬ ‫ن َرب ّك ُ ُ‬
‫م الّر ْ‬ ‫السامري جهلكم وفتنكم بعجله‪ .‬ليس هذا ربكم ول رب موسى )وَإ ِ ّ‬
‫ري(‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ِ‬
‫طيُعوا أ ْ‬
‫وَأ ِ‬

‫ورفض عبدة العجل موعظة هارون‪ .‬لكن هارون ‪-‬عليه السلم‪ -‬عاد يعظهم ويذكرهم بمعجزات‬
‫الله التي أنقذهم بها‪ ،‬وتكريمه ورعايته لهم‪ ،‬فأصموا آذانهم ورفضوا كلماته‪ ،‬واستضعفوه وكادوا‬
‫يقتلونه‪ ،‬وأنهوا مناقشة الموضوع بتأجيله حتى عودة موسى‪ .‬كان واضحا أن هارون أكثر لينا‬
‫من موسى‪ ،‬لم يكن يهابه القوم للينه وشفقته‪ .‬وخشي هارون أن يلجأ إلى القوة ويحطم لهم‬
‫صنمهم الذي يعبدونه فتثور فتنة بين القوم‪ .‬فآثر هارون تأجيل الموضوع إلى أن يحضر موسى‪.‬‬

‫كان يعرف أن موسى بشخصيته القوية‪ ،‬يستطيع أن يضع حدا لهذه الفتنة‪ .‬واستمر القوم‬
‫يرقصون حول العجل‪.‬‬

‫انحدر موسى عائدا لقومه فسمع صياح القوم وجلبتهم وهم يرقصون حول العجل‪ .‬توقف القوم‬
‫ي(‪.‬‬
‫من ب َعْد ِ َ‬
‫موِني ِ‬ ‫خل َ ْ‬
‫فت ُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫حين ظهر موسى وساد صمت‪ .‬صرخ موسى يقول‪) :‬ب ِئ ْ َ‬
‫س َ‬

‫اتجه موسى نحو هارون وألقى ألواح التوراة من يده على الرض‪ .‬كان إعصار الغضب داخل‬
‫موسى يتحكم فيه تماما‪ .‬مد موسى يديه وأمسك هارون من شعر رأسه وشعر لحيته وشده‬
‫نحوه وهو يرتعش‪ .‬قال موسى‪:‬‬
‫َ‬ ‫ك إذ ْ رأ َيتهم ضّلوا )‪ (92‬أ َّل تتبع َ‬
‫ري )‪) (93‬طه(‬
‫م ِ‬
‫تأ ْ‬ ‫ن أفَعَ َ‬
‫صي ْ َ‬ ‫َِّ َ ِ‬ ‫من َعَ َ ِ َ ْ َ ُ ْ َ‬
‫ما َ‬
‫ن َ‬
‫هاُرو ُ‬
‫َيا َ‬

‫إن موسى يتساءل هل عصى هارون أمره‪ .‬كيف سكت على هذه الفتنة؟ كيف طاوعهم على‬
‫البقاء معهم ولم يخرج ويتركهم ويتبرأ منهم؟ كيف سكت عن مقاومتهم أصل؟ إن الساكت عن‬
‫الخطأ مشترك فيه بشكل ما‪ .‬زاد الصمت عمقا بعد جملة موسى الغاضبة‪ .‬وتحدث هارون إلى‬
‫موسى‪ .‬رجا منه أن يترك رأسه ولحيته‪ .‬بحق انتمائهما لم واحدة‪ .‬وهو يذكره بالم ول يذكره‬
‫بالب ليكون ذلك أدعى لستثارة مشاعر الحنو في نفسه‪.‬‬

‫أفهمه أن المر ليس فيه عصيان له‪ .‬وليس فيه رضا بموقف عبدة العجل‪ .‬إنما خشي أن‬
‫يتركهم ويمضي‪ ،‬فيسأله موسى كيف لم يبق فيهم وقد تركه موسى مسؤول عنهم‪ ،‬وخشي لو‬
‫قاومهم بعنف أن يثير بينهم قتال فيسأله موسى كيف فرق بينهم ولم ينتظر عودته‪.‬‬

‫أفهم هارون أخاه موسى برفق ولين أن القوم استضعفوه‪ ،‬وكادوا يقتلونه حين قاومهم‪ .‬رجا‬
‫منه أن يترك رأسه ولحيته حتى ل يشمت به العداء‪ ،‬ويستخف به القوم زيادة على استخفافهم‬
‫به‪ .‬أفهمه أنه ليس ظالما مثلهم عندما سكت عن ظلمهم‪.‬‬

‫أدرك موسى أنه ظلم هارون في غضبه الذي أشعلته غيرته على الله تعالى وحرصه على‬
‫الحق‪ .‬أدرك أن هارون تصرف أفضل تصرف ممكن في هذه الظروف‪ .‬ترك رأسه ولحيته‬
‫بصوت لم يزل يضطرب غضبا‪َ) :‬يا قَوْم ِ‬ ‫واستغفر الله له ولخيه‪ .‬التفت موسى لقومه وتساءل‬
‫ل ع َل َيك ُم ال ْعهد أ َم أ َردتم َ‬
‫من ّرب ّك ُْ‬
‫م‬ ‫ّ‬ ‫ب‬
‫ٌ‬ ‫ض‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫غ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ّ‬
‫ْ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ‬ ‫سًنا أ َفَ َ‬
‫طا َ‬ ‫ح َ‬
‫دا َ‬ ‫م َرب ّك ُ ْ‬
‫م وَع ْ ً‬ ‫م ي َعِد ْك ُ ْ‬
‫َ‬
‫أل َ ْ‬
‫خل َ ْ‬ ‫َ‬
‫دي(‪.‬‬ ‫ع ِ‬‫مو ْ ِ‬
‫فُتم ّ‬ ‫فَأ ْ‬

‫إنه يعنفهم ويوبخهم ويلفتهم بإشارة سريعة إلى غباء ما عملوه‪ .‬عاد موسى يقول غاضبا أشد‬
‫زي‬‫ج ِ‬
‫ك نَ ْ‬ ‫ة ِفي ال ْ َ‬
‫حياةِ الد ّن َْيا وَك َذ َل ِ َ‬ ‫م وَذ ِل ّ ٌ‬
‫من ّرب ّهِ ْ‬
‫ب ّ‬
‫ض ٌ‬ ‫سي ََنال ُهُ ْ‬
‫م غَ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ذوا ْ ال ْعِ ْ‬
‫ج َ‬ ‫خ ُ‬
‫ن ات ّ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫الغضب‪) :‬إ ِ ّ‬
‫ن(‪.‬‬
‫ري َ‬
‫فت َ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬

‫‪84‬‬
‫لم تكد الجبال تبتلع أصداء الصوت الغاضب حتى نكس القوم رءوسهم وأدركوا خطأهم‪ .‬كان‬
‫افتراؤهم واضحا على الحق الذي جاء به موسى‪ .‬أبعد كل ما فعله الله تعالى لهم‪ ،‬ينكفئون‬
‫على عبادة الصنام؟! أيغيب موسى أربعين يوما ثم يعود ليجدهم يعبدون عجل من الذهب‪ .‬أهذا‬
‫تصرف قوم‪ ،‬عهد الله إليهم بأمانة التوحيد في الرض؟‬

‫التفت موسى إلى السامري بعد حديثه القصير مع هارون‪ .‬لقد أثبت له هارون براءته كمسئول‬
‫عن قومه في غيبته‪ ،‬كما سكت القوم ونكسوا رءوسهم أمام ثورة موسى‪ ،‬لم يبق إل المسئول‬
‫الول عن الفتنة‪ .‬لم يبق إل السامري‪.‬‬

‫مرِيّ‬ ‫سا ِ‬ ‫خط ْب ُ َ‬


‫ك َيا َ‬ ‫ل فَ َ‬
‫ما َ‬ ‫تحدث موسى إلى السامري وغضبه لم يهدأ بعد‪َ :‬قا َ‬
‫ت‬
‫صْر ُ‬ ‫إنه يسأله عن قصته‪ ،‬ويريد أن يعرف منه ما الذي حمله على ما صنع‪ .‬قال السامري‪ :‬ب َ ُ‬
‫ه‬
‫صُروا ب ِ ِ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م ي َب ْ ُ‬ ‫بِ َ‬
‫ة‬ ‫ت قَب ْ َ‬
‫ض ً‬ ‫ُ‬ ‫ض‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫الحياة‪.‬‬ ‫فيه‬ ‫دبت‬ ‫إل‬ ‫شيء‬ ‫على‬ ‫قدمها‬ ‫تضع‬ ‫فل‬ ‫فرسه‬ ‫يركب‬ ‫وهو‬ ‫جبريل‬ ‫رأيت‬
‫م َ‬
‫ل‬ ‫سو ِ‬‫ن أث َرِ الّر ُ‬ ‫ّ ْ‬
‫ت ِلي‬ ‫ّ ْ‬‫َ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫و‬
‫َ َ‬ ‫ها‬‫ُ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫الذهب‪.‬‬ ‫على‬ ‫وألقيتها‬ ‫جبريل‬ ‫عليه‬ ‫سار‬ ‫الذي‬ ‫التراب‬ ‫من‬ ‫حفنة‬ ‫أخذت‬
‫سي‬ ‫ف ِ‬ ‫نَ ْ‬
‫هذا ما ساقتني نفسي إليه‪.‬‬

‫لم يناقش موسى‪ ،‬عليه السلم السامري في ادعائه‪ .‬إنما قذف في وجهه حكم الحق‪ .‬ليس‬
‫المهم أن يكون السامري قد رأى جبريل‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬فقبض قبضة من أثره‪ .‬ليس المهم أن‬
‫يكون خوار العجل بسبب هذا التراب الذي سار عليه فرس جبريل‪ ،‬أو يكون الخوار بسبب ثقب‬
‫اصطنعه السامري ليخور العجل‪ .‬المهم في المر كله جريمة السامري‪ ،‬وفتنته لقوم موسى‪،‬‬
‫واستغلله إعجاب القوم الدفين بسادتهم المصريين‪ ،‬وتقليدهم لهم في عبادة الوثان‪ .‬هذه هي‬
‫ل َل‬ ‫قو َ‬‫حَياةِ َأن ت َ ُ‬ ‫ك ِفي ال ْ َ‬ ‫ن لَ َ‬ ‫ب فَإ ِ ّ‬ ‫ل َفاذ ْهَ ْ‬‫الجريمة التي حكم فيها موسى عليه السلم‪َ) :‬قا َ‬
‫ه‬
‫فن ّ ُ‬
‫س َ‬ ‫َ‬
‫م لَنن ِ‬ ‫ه ثُ ّ‬ ‫حّرقَن ّ ُ‬ ‫ّ‬
‫فا لن ُ َ‬ ‫عاك ِ ً‬ ‫َ‬
‫ت ع َلي ْهِ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ذي ظل َ‬ ‫ّ‬
‫ك ال ِ‬‫ه َوانظ ُْر إ َِلى إ ِل َهِ َ‬ ‫خل َ َ‬
‫ف ُ‬ ‫دا ل ّ ْ‬
‫ن تُ ْ‬ ‫ع ً‬
‫مو ْ ِ‬ ‫ن لَ َ‬
‫ك َ‬ ‫س وَإ ِ ّ‬
‫سا َ‬ ‫م َ‬
‫ِ‬
‫فا(‪.‬‬‫س ً‬‫م نَ ْ‬ ‫ْ‬
‫ِفي الي َ ّ‬

‫حكم موسى على السامري بالوحدة في الدنيا‪ .‬يقول بعض المفسرين‪ :‬إن موسى دعا على‬
‫السامري بأن ل يمس أحدا‪ ،‬معاقبة له على مسه ما لم يكن ينبغي له مسه‪.‬‬

‫ونعتقد أن المر أخطر كثيرا من هذه النظرة السريعة‪ .‬إن السامري أراد بفتنته ضلل بني‬
‫إسرائيل وجمعهم حول عجله الوثني والسيادة عليهم‪ ،‬وقد جاءت عقوبته مساوية لجرمه‪ ،‬لقد‬
‫حكم عليه بالنبذ والوحدة‪ .‬هل مرض السامري مرضا جلديا بشعا صار الناس يأنفون من لمسه‬
‫أو مجرد القتراب منه؟ هل جاءه النبذ من خارج جسده؟ ل نعرف ماذا كان من أمر السلوب‬
‫الذي تمت به وحدة السامري ونبذ المجتمع له‪ .‬كل ما نعرفه أن موسى أوقع عليه عقوبة‬
‫رهيبة‪ ،‬كان أهون منها القتل‪ ،‬فقد عاش السامري منبوذا محتقرا ل يلمس شيئا ول يمس أحدا‬
‫ول يقترب منه مخلوق‪ .‬هذه هي عقوبته في الدنيا‪ ،‬ويوم القيامة له عقوبة ثانية‪ ،‬يبهمها السياق‬
‫لتجيء ظللها في النفس أخطر وأرعب‪.‬‬

‫نهض موسى بعد فراغه من السامري إلى العجل الذهب وألقاه في النار‪ .‬لم يكتف بصهره‬
‫أمام عيون القوم المبهوتين‪ ،‬وإنما نسفه في البحر نسفا‪ .‬تحول الله المعبود أمام عيون‬
‫ه إ ِلّ‬
‫ذي َل إ ِل ََ‬
‫ه ال ّ ِ‬
‫م الل ّ ُ‬
‫ما إ ِل َهُك ُ ُ‬
‫المفتونين به إلى رماد يتطاير في البحر‪ .‬ارتفع صوت موسى‪) :‬إ ِن ّ َ‬
‫ما( هذا هو إلهكم‪ ،‬وليس ذلك الصنم الذي ل يملك لنفسه نفعا ول ضرا‪.‬‬ ‫عل ْ ً‬
‫يٍء ِ‬
‫ش ْ‬ ‫سع َ ك ُ ّ‬
‫ل َ‬ ‫هُوَ وَ ِ‬

‫بعد أن نسف موسى الصنم‪ ،‬وفرغ من الجاني الصلي‪ ،‬التفت إلى قومه‪ ،‬وحكم في القضية‬
‫كلها فأفهمهم أنهم ظلموا أنفسهم وترك لعبدة العجل مجال واحدا للتوبة‪ .‬وكان هذا المجال أن‬
‫يقتل المطيع من بني إسرائي من عصى‪.‬‬

‫قال تعالى‪:‬‬

‫‪85‬‬
‫م َفاقْت ُُلوا ْ‬
‫ل فَُتوُبوا ْ إ َِلى َبارِئ ِك ُ ْ‬
‫ج َ‬‫م ال ْعِ ْ‬‫خاذ ِك ُ ُ‬‫م ِبات ّ َ‬‫سك ُ ْ‬ ‫م َأن ُ‬
‫ف َ‬ ‫م ظ َل َ ْ‬
‫مت ُ ْ‬ ‫مهِ َيا قَوْم ِ إ ِن ّك ُ ْ‬
‫قو ْ ِ‬
‫سى ل ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬‫وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫حيم )‪) (54‬البقرة(‬ ‫ب الّر ِ‬‫وا ُ‬‫ه هُوَ الت ّ ّ‬ ‫م إ ِن ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ب ع َلي ْك ْ‬ ‫َ‬
‫م فَتا َ‬ ‫ُ‬
‫عند َ َبارِئ ِك ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫خي ٌْر لك ْ‬‫م َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م ذل ِك ْ‬ ‫ُ‬
‫سك ْ‬ ‫ف َ‬‫َأن ُ‬

‫كانت العقوبة التي قررها موسى على عبدة العجل مهولة‪ ،‬وتتفق مع الجرم الصلي‪ .‬إن عبادة‬
‫الوثان إهدار لحياة العقل وصحوته‪ ،‬وهي الصحوة التي تميز النسان عن غيره من البهائم‬
‫والجمادات‪ ،‬وإزاء هذا الزهاق لصحوة العقل‪ ،‬تجيء العقوبة إزهاقا لحياة الجسد نفسه‪ ،‬فليس‬
‫بعد العقل للنسان حياة يتميز بها‪ .‬ومن نوع الجرم جاءت العقوبة‪ .‬جاءت قاسية ثم رحم الله‬
‫حيم ‪.‬‬
‫ب الّر ِ‬
‫وا ُ‬
‫ه هُوَ الت ّ ّ‬
‫تعالى وتاب‪ .‬إ ِن ّ ُ‬

‫ب‪ .‬تأمل تعبير القرآن الكريم الذي يصور الغضب في صورة‬ ‫سى ال ْغَ َ‬
‫ض ُ‬ ‫مو َ‬
‫عن ّ‬‫ت َ‬‫سك َ َ‬
‫أخيرا‪َ .‬‬
‫كائن يقود تصرفات موسى‪ ،‬ابتداء من إلقائه للواح التوراة‪ ،‬وشده للحية أخيه ورأسه‪ .‬وانتهاء‬
‫بنسف العجل في البحر‪ ،‬وحكمه بالقتل على من اتخذوه ربا‪ .‬أخيرا سكت عن موسى الغضب‪.‬‬
‫زايله غضبه في الله‪ ،‬وذلك أرفع أنواع الغضب وأجدرها بالحترام والتوقير‪ .‬التفت موسى إلى‬
‫مهمته الصلية حين زايله غضبه فتذكر أنه ألقى ألواح التوراة‪ .‬وعاد موسى يأخذ اللواح ويعاود‬
‫دعوته إلى الله‪.‬‬

‫رفع الجبل فوق رؤوس بني إسرائيل‪:‬‬

‫عاد موسى إلى هدوئه‪ ،‬واستأنف جهاده في الله‪ ،‬وقرأ ألواح التوراة على قومه‪ .‬أمرهم في‬
‫البداية أن يأخذوا بأحكامها بقوة وعزم‪ .‬ومن المدهش أن قومه ساوموه على الحق‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫انشر علينا اللواح فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها‪ .‬فقال موسى‪ :‬بل اقبلوها بما فيها‪.‬‬
‫فراجعوا مرارا‪ ،‬فأمر الله تعالى ملئكته فرفعت الجبل على رءوسهم حتى صار كأنه غمامة‬
‫فوقهم‪ ،‬وقيل لهم‪ :‬إن لم تقبلوها بما فيها سقط ذلك الجبل عليكم‪ ،‬فقبلوا بذلك‪ ،‬وأمروا‬
‫بالسجود فسجدوا‪ .‬وضعوا خدودهم على الرض وراحوا ينظرون إلى الجبل فوقهم هلعا ورعبا‪.‬‬

‫وهكذا أثبت قوم موسى أنهم ل يسلمون وجوههم لله إل إذا لويت أعناقهم بمعجزة حسية‬
‫باهرة تلقي الرعب في القلوب وتنثني القدام نحو سجود قاهر يدفع الخوف إليه دفعا‪ .‬وهكذا‬
‫يساق الناس بالعصا اللهية إلى اليمان‪ .‬يقع هذا في ظل غياب الوعي والنضج الكافيين لقيام‬
‫القتناع العقلي‪ .‬ولعلنا هنا نشير مرة أخرى إلى نفسية قوم موسى‪ ،‬وهي المسئول الول عن‬
‫عدم اقتناعهم إل بالقوة الحسية والمعجزات الباهرة‪ .‬لقد تربى قوم موسى ونشئوا وسط‬
‫هوان وذل‪ ،‬أهدرت فيهما إنسانيتهم والتوت فطرته‪ .‬ولم يعد ممكنا بعد ازدهار الذل في‬
‫نفوسهم واعتيادهم إياه‪ ،‬لم يعد ممكنا أن يساقوا إلى الخير إل بالقوة‪ .‬لقد اعتادوا أن تسيرهم‬
‫القوة القاهرة لسادتهم القدامى‪ ،‬ول بد لسيدهم الجديد )وهو اليمان( من أن يقاسي الهوال‬
‫لتسييرهم‪ ،‬وأن يلجأ مضطرا إلى أسلوب القوة لينقذهم من الهلك‪ .‬لم تمر جريمة عبادة‬
‫العجل دون آثار‪.‬‬

‫اختيار سبعين رجل لميقات الله‪:‬‬

‫أمر موسى بني إسرائيل أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه‪ .‬اختار منهم سبعين رجل‪ ،‬الخّير فالخّير‪،‬‬
‫وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من‬
‫قومكم‪ .‬صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم‪ .‬خرج موسى بهؤلء السبعين المختارين لميقات حدده‬
‫له الله تعالى‪ .‬دنا موسى من الجبل‪ .‬وكلم الله تعالى موسى‪ ،‬وسمع السبعون موسى وهو‬
‫يكلم ربه‪.‬‬

‫ولعل معجزة كهذه المعجزة تكون الخير‪ ،‬وتكون كافية لحمل اليمان إلى القلوب مدى الحياة‪.‬‬
‫غير أن السبعين المختارين لم يكتفوا بما استمعوا إليه من المعجزة‪ .‬إنما طلبوا رؤية الله‬
‫حّتى ن ََرى‬ ‫ن لَ َ‬
‫ك َ‬ ‫سى َلن ن ّؤ ْ ِ‬
‫م َ‬ ‫مو َ‬
‫تعالى‪ .‬قالوا سمعنا ونريد أن نرى‪ .‬قالوا لموسى ببساطة‪َ) :‬يا ُ‬
‫جهَْرةً(‪.‬‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه َ‬

‫‪86‬‬
‫هي مأساة تثير أشد الدهشة‪ .‬وهي مأساة تشير إلى صلبة القلوب واستمساكها بالحسيات‬
‫والماديات‪ .‬كوفئ الطلب المتعنت بعقوبة صاعقة‪ .‬أخذتهم رجفة مدمرة صعقت أرواحهم‬
‫وأجسادهم على الفور‪ .‬ماتوا‪.‬‬

‫أدرك موسى ما أحدثه السبعون المختارون فمله السى وقام يدعو ربه ويناشده أن يعفو عنهم‬
‫ويرحمهم‪ ،‬وأل يؤاخذهم بما فعل السفهاء منهم‪ ،‬وليس طلبهم رؤية الله تبارك وتعالى وهم‬
‫على ما هم فيه من البشرية الناقصة وقسوة القلب غير سفاهة كبرى‪ .‬سفاهة ل يكفر عنها إل‬
‫الموت‪.‬‬

‫قد يطلب النبي رؤية ربه‪ ،‬كما فعل موسى‪ ،‬ورغم انطلق الطلب من واقع الحب العظيم‬
‫والهوى المسيطر‪ ،‬الذي يبرر بما له من منطق خاص هذا الطلب‪ ،‬رغم هذا كله يعتبر طلب‬
‫الرؤية تجاوزا للحدود‪ ،‬يجازى عليه النبي بالصعق‪ ،‬فما بالنا بصدور هذا الطلب من بشر‬
‫خاطئين‪ ،‬بشر يحددون للرؤية مكانا وزمانا‪ ،‬بعد كل ما لقوه من معجزات وآيات‪..‬؟ أليس هذا‬
‫سفاهة كبرى‪..‬؟ وهكذا صعق من طلب الرؤية‪ ..‬ووقف موسى يدعو ربه ويستعطفه ويترضاه‪..‬‬
‫يحكي المولى عز وجل دعاء موسى عليه السلم بالتوبة على قومه في سورة العراف‪:‬‬
‫َ‬ ‫ما أ َ َ‬
‫من‬ ‫ت أهْل َك ْت َُهم ّ‬ ‫شئ ْ َ‬ ‫ب ل َوْ ِ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫ة َقا َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ج َ‬ ‫م الّر ْ‬ ‫خذ َت ْهُ ُ‬ ‫قات َِنا فَل َ ّ‬ ‫مي َ‬ ‫جل ً ل ّ ِ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫سب ِْعي َ‬ ‫ه َ‬ ‫م ُ‬ ‫سى قَوْ َ‬ ‫مو َ‬ ‫خَتاَر ُ‬ ‫َوا ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫من ت َشاء‬ ‫دي َ‬ ‫من ت َشاء وَت َهْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ضل ب َِها َ‬ ‫ّ‬ ‫ي إ ِل فِت ْن َت ُك ت ُ ِ‬ ‫ن هِ َ‬ ‫مّنا إ ِ ْ‬ ‫فَهاء ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما فعَل ال ّ‬ ‫َ‬ ‫قَب ْل وَإ ِّيايَ أت ُهْل ِكَنا ب ِ َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ة وَِفي‬ ‫سن َ ً‬ ‫ح َ‬ ‫هـذ ِهِ الد ّن َْيا َ‬ ‫ب لَنا ِفي َ‬ ‫رين )‪َ (155‬واك ْت ُ ْ‬ ‫خي ُْر الَغافِ ِ‬ ‫ت َ‬ ‫مَنا وَأن َ‬ ‫ح ْ‬ ‫فْر ل ََنا َواْر َ‬ ‫ت وَل ِي َّنا َفاغ ْ ِ‬ ‫أن َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫سأك ْت ُب َُها ل ِل ّ ِ‬ ‫يٍء فَ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ت كُ ّ‬ ‫سع َ ْ‬ ‫مِتي وَ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫شاء وََر ْ‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ب ِهِ َ‬ ‫صي ُ‬ ‫ذاِبي أ ِ‬ ‫ل عَ َ‬ ‫ك َقا َ‬ ‫خَرةِ إ ِّنا هُد َْنـا إ ِل َي ْ َ‬ ‫ال ِ‬
‫ذي‬ ‫ّ‬
‫ي ال ِ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫ال‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫سو‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫عو‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ذي‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫(‬ ‫‪156‬‬ ‫)‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫نو‬‫ُ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ؤ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫يا‬‫َ‬ ‫بآ‬ ‫هم‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫كـا‬ ‫َ‬ ‫ز‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫تو‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ؤ‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫قو‬ ‫ي َت ّ ُ‬
‫ّ ّ‬ ‫ِ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫حل لهُ ُ‬ ‫منكرِ وَي ُ ِ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫ف وَي َن َْهاهُ ْ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫هم ِبال َ‬ ‫مُر ُ‬ ‫ل ي َأ ُ‬ ‫جي ِ‬ ‫م ِفي الت ّوَْراةِ َوال ِن ْ ِ‬ ‫عند َهُ ْ‬ ‫مكُتوًبا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫دون َ ُ‬ ‫ج ُ‬ ‫يَ ِ‬
‫مُنوا ْ ب ِ ِ‬
‫ه‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫فا‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫كا‬‫َ‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫غ‬ ‫ضعُ ع َن ْهم إصرهُم وال َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ث‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫بآ‬
‫َ‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ر‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫با‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ط‬ ‫ال‬
‫َ َ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ ِ ْ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ّ‬
‫ن )‪) (157‬العراف(‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ال ُ‬ ‫ه أوْلـئ ِك هُ ُ‬ ‫مع َ ُ‬ ‫صُروه ُ َوات ّب َُعوا الّنوَر الذ ِيَ أنزِل َ‬ ‫وَع َّزُروه ُ وَن َ َ‬

‫هذه كانت كلمات موسى لربه وهو يدعوه ويترضاه‪ .‬ورضي الله تعالى عنه وغفر لقومه‬
‫فأحياهم بعد موتهم‪ ،‬واستمع المختارون في هذه اللحظات الباهرة من تاريخ الحياة إلى النبوءة‬
‫بمجيء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم‪.‬‬

‫سنلحظ طريقة الربط بين الحاضر والماضي في الية‪ ،‬إن الله تعالى يتجاوز زمن مخاطبة‬
‫الرسول في اليات إلى زمنين سابقين‪ ،‬هما نزول التوراة ونزول النجيل‪ ،‬ليقرر أنه )تعالى(‬
‫شر بمحمد في هذين الكتابين الكريمين‪ .‬نعتقد أن إيراد هذه البشرى جاء يوم صحب موسى‬ ‫ب ّ‬
‫من قومه سبعين رجل هم شيوخ بني إسرائيل وأفضل من فيهم‪ ،‬لميقات ربه‪ .‬في هذا اليوم‬
‫الخطير بمعجزاته الكبرى‪ ،‬تم إيراد البشرى بآخر أنبياء الله عز وجل‪.‬‬

‫يقول ابن كثير في كتابه قصص النبياء‪ ،‬نقل عن قتادة‪:‬‬

‫إن موسى قال لربه‪ :‬يا رب إني أجد في اللواح أمة هي خير أمة أخرجت للناس‪ ،‬يأمرون‬
‫بالمعروف وينهون عن المنكر‪ .‬رب اجعلهم أمتي‪.‬‬
‫قال‪ :‬تلك أمة أحمد‪.‬‬
‫قال‪ :‬ربي إني أجد في اللواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها‪ .‬وكان من قبلهم يقرءون‬
‫كتابهم نظرا‪ ،‬حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه‪ .‬وإن الله أعطاهم من الحفظ شيئا‬
‫لم يعطه أحدا من المم‪ .‬رب اجعلهم أمتي‪.‬‬
‫قال‪ :‬تلك أمة أحمد‪.‬‬
‫قال‪ :‬رب إني أجد في اللواح أمة يؤمنون بالكتاب الول وبالكتاب الخر‪ ،‬ويقاتلون فضول‬
‫الضللة‪ .‬فاجعلهم أمتي‪.‬‬
‫قال‪ :‬تلك أمة أحمد‪.‬‬
‫قال‪ :‬رب إني أجد في اللواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم‪ ،‬ويؤجرون عليها‪ ،‬وكان من‬
‫قبلهم من المم إذا تصدق أحدهم بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها نارا فأكلتها‪ ،‬وإن ردت‬
‫عليه تركت فتأكلها السباع والطير‪ .‬وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم‪ .‬رب فاجعلهم‬

‫‪87‬‬
‫أمتي‪.‬‬
‫قال‪ :‬تلك أمة أحمد‪.‬‬
‫قال‪ :‬رب فإني أجد في اللواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم عملها كتبت له عشرة أمثالها إلى‬
‫سبعمائة ضعف‪ .‬رب اجعلهم أمتي‪.‬‬
‫قال‪ :‬تلك أمة أحمد‪.‬‬

‫نزول المن والسلوى‪:‬‬

‫سار موسى بقومه في سيناء‪ .‬وهي صحراء ليس فيها شجر يقي من الشمس‪ ،‬وليس فيها‬
‫طعام ول ماء‪ .‬وأدركتهم رحمة الله فساق إليهم المن والسلوى وظللهم الغمام‪ .‬والمن مادة‬
‫يميل طعمها إلى الحلوة وتفرزها بعض أشجار الفاكهة‪ .‬وساق الله إليهم السلوى‪ ،‬وهو نوع من‬
‫أنواع الطيور يقال إنه )السمان(‪ .‬وحين اشتد بهم الظمأ إلى الماء‪ ،‬وسيناء مكان يخلو من‬
‫الماء‪ ،‬ضرب لهم موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من المياه‪ .‬وكان بنو‬
‫إسرائيل ينقسمون إلى ‪ 12‬سبطا‪ .‬فأرسل الله المياه لكل مجموعة‪ .‬ورغم هذا الكرام‬
‫والحفاوة‪ ،‬تحركت في النفوس التواءاتها المريضة‪ .‬واحتج قوم موسى بأنهم سئموا من هذا‬
‫الطعام‪ ،‬واشتاقت نفوسهم إلى البصل والثوم والفول والعدس‪ ،‬وكانت هذه الطعمة أطعمة‬
‫مصرية تقليدية‪ .‬وهكذا سأل بنو إسرائيل نبيهم موسى أن يدعو الله ليخرج لهم من الرض هذه‬
‫الطعمة‪.‬‬

‫وعاد موسى يستلفتهم إلى ظلمهم لنفسهم‪ ،‬وحنينهم ليام هوانهم في مصر‪ ،‬وكيف أنهم‬
‫يتبطرون على خير الطعام وأكرمه‪ ،‬ويريدون بدله أدنى الطعام وأسوأه‪.‬‬

‫السير باتجاه بيت المقدس‪:‬‬

‫سار موسى بقومه في اتجاه البيت المقدس‪ .‬أمر موسى قومه بدخولها وقتال من فيها‬
‫والستيلء عليها‪ .‬وها قد جاء امتحانهم الخير‪ .‬بعد كل ما وقع لهم من المعجزات واليات‬
‫والخوارق‪ .‬جاء دورهم ليحاربوا ‪-‬بوصفهم مؤمنين‪ -‬قوما من عبدة الصنام‪.‬‬

‫رفض قوم موسى دخول الراضي المقدسة‪ .‬وحدثهم موسى عن نعمة الله عليهم‪ .‬كيف جعل‬
‫َ‬
‫ن‪.‬‬ ‫من ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫دا ّ‬
‫ح ً‬
‫تأ َ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م ي ُؤ ْ ِ‬ ‫فيهم أنبياء‪ ،‬وجعلهم ملوكا يرثون ملك فرعون‪ ،‬وآتاهم ّ‬

‫وكان رد قومه عليه أنهم يخافون من القتال‪ .‬قالوا‪ :‬إن فيها قوما جبارين‪ ،‬ولن يدخلوا الرض‬
‫المقدسة حتى يخرج منها هؤلء‪.‬‬

‫وانضم لموسى وهارون اثنان من القوم‪ .‬تقول كتب القدماء إنهم خرجوا في ستمائة ألف‪ .‬لم‬
‫يجد موسى من بينهم غير رجلين على استعداد للقتال‪ .‬وراح هذان الرجلن يحاولن إقناع القوم‬
‫بدخول الرض والقتال‪ .‬قال‪ :‬إن مجرد دخولهم من الباب سيجعل لهم النصر‪ .‬ولكن بني‬
‫إسرائيل جميعا كانوا يتدثرون بالجبن ويرتعشون في أعماقهم‪.‬‬

‫مرة أخرى تعاودهم طبيعتهم التي عاودتهم قبل ذلك حين رأوا قوما يعكفون على أصنامهم‪.‬‬
‫فسدت فطرتهم‪ ،‬وانهزموا من الداخل‪ ،‬واعتادوا الذل‪ ،‬فلم يعد في استطاعتهم أن يحاربوا‪.‬‬
‫وإن بقي في استطاعتهم أن يتوقحوا على نبي الله موسى وربه‪ .‬وقال قوم موسى له كلمتهم‬
‫هاهَُنا َقا ِ‬ ‫ت وََرب ّ َ‬
‫ك فَ َ‬ ‫َ‬
‫ن( هكذا بصراحة وبل التواء‪.‬‬
‫دو َ‬
‫ع ُ‬ ‫قاِتل إ ِّنا َ‬ ‫الشهيرة‪َ) :‬فاذ ْهَ ْ‬
‫ب أن َ‬

‫أدرك موسى أن قومه ما عادوا يصلحون لشيء‪ .‬مات الفرعون ولكن آثاره في النفوس باقية‬
‫يحتاج شفاؤها لفترة طويلة‪ .‬عاد موسى إلى ربه يحدثه أنه ل يملك إل نفسه وأخاه‪ .‬دعا موسى‬
‫على قومه أن يفرق الله بينه وبينهم‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫وأصدر الله تعالى حكمه على هذا الجيل الذي فسدت فطرته من بني إسرائيل‪ .‬كان الحكم هو‬
‫التيه أربعين عاما‪ .‬حتى يموت هذا الجيل أو يصل إلى الشيخوخة‪ .‬ويولد بدل منه جيل آخر‪ ،‬جيل‬
‫لم يهزمه أحد من الداخل‪ ،‬ويستطيع ساعتها أن يقاتل وأن ينتصر‪.‬‬

‫قصة البقرة‪:‬‬

‫بدأت أيام التيه‪ .‬بدأ السير في دائرة مغلقة‪ .‬تنتهي من حيث تبدأ‪ ،‬وتبدأ من حيث تنتهي‪ ،‬بدأ‬
‫السير إلى غير مقصد‪ .‬ليل ونهارا وصباحا ومساء‪ .‬دخلوا البرية عند سيناء‪.‬‬

‫مكث موسى في قومه يدعوهم إلى الله‪ .‬ويبدو أن نفوسهم كانت ملتوية بشكل ل تخطئه عين‬
‫الملحظة‪ ،‬وتبدو لجاجتهم وعنادهم فيما يعرف بقصة البقرة‪ .‬فإن الموضوع لم يكن يقتضي كل‬
‫هذه المفاوضات بينهم وبين موسى‪ ،‬كما أنه لم يكن يستوجب كل هذا التعنت‪ .‬وأصل قصة‬
‫البقرة أن قتيل ثريا وجد يوما في بني إسرائيل‪ ،‬واختصم أهله ولم يعرفوا قاتله‪ ،‬وحين أعياهم‬
‫المر لجئوا لموسى ليلجأ لربه‪ .‬ولجأ موسى لربه فأمره أن يأمر قومه أن يذبحوا بقرة‪ .‬وكان‬
‫المفروض هنا أن يذبح القوم أول بقرة تصادفهم‪ .‬غير أنهم بدءوا مفاوضتهم باللجاجة‪ .‬اتهموا‬
‫موسى بأنه يسخر منهم ويتخذهم هزوا‪ ،‬واستعاذ موسى بالله أن يكون من الجاهلين ويسخر‬
‫منهم‪ .‬أفهمهم أن حل القضية يكمن في ذبح بقرة‪.‬‬

‫إن المر هنا أمر معجزة‪ ،‬ل علقة لها بالمألوف في الحياة‪ ،‬أو المعتاد بين الناس‪ .‬ليست هناك‬
‫علقة بين ذبح البقرة ومعرفة القاتل في الجريمة الغامضة التي وقعت‪ ،‬لكن متى كانت‬
‫السباب المنطقية هي التي تحكم حياة بني إسرائيل؟ إن المعجزات الخارقة هي القانون‬
‫السائد في حياتهم‪ ،‬وليس استمرارها في حادث البقرة أمرا يوحي بالعجب أو يثير الدهشة‪.‬‬

‫لكن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل‪ .‬مجرد التعامل معهم عنت‪ .‬تستوي في ذلك المور الدنيوية‬
‫المعتادة‪ ،‬وشؤون العقيدة المهمة‪ .‬ل بد أن يعاني من يتصدى لمر من أمور بني إسرائيل‪.‬‬
‫وهكذا يعاني موسى من إيذائهم له واتهامه بالسخرية منهم‪ ،‬ثم ينبئهم أنه جاد فيما يحدثهم به‪،‬‬
‫ويعاود أمره أن يذبحوا بقرة‪ ،‬وتعود الطبيعة المراوغة لبني إسرائيل إلى الظهور‪ ،‬تعود اللجاجة‬
‫واللتواء‪ ،‬فيتساءلون‪ :‬أهي بقرة عادية كما عهدنا من هذا الجنس من الحيوان؟ أم أنها خلق‬
‫تفرد بمزية‪ ،‬فليدع موسى ربه ليبين ما هي‪ .‬ويدعو موسى ربه فيزداد التشديد عليهم‪ ،‬وتحدد‬
‫البقرة أكثر من ذي قبل‪ ،‬بأنها بقرة وسط‪ .‬ليست بقرة مسنة‪ ،‬وليست بقرة فتية‪ .‬بقرة‬
‫متوسطة‪.‬‬

‫إلى هنا كان ينبغي أن ينتهي المر‪ ،‬غير أن المفاوضات لم تزل مستمرة‪ ،‬ومراوغة بني إسرائيل‬
‫لم تزل هي التي تحكم مائدة المفاوضات‪ .‬ما هو لون البقرة؟ لماذا يدعو موسى ربه ليسأله‬
‫عن لون هذا البقرة؟ ل يراعون مقتضيات الدب والوقار اللزمين في حق الله تعالى وحق نبيه‬
‫الكريم‪ ،‬وكيف أنهم ينبغي أن يخجلوا من تكليف موسى بهذا التصال المتكرر حول موضوع‬
‫بسيط ل يستحق كل هذه اللجاجة والمراوغة‪ .‬ويسأل موسى ربه ثم يحدثهم عن لون البقرة‬
‫المطلوبة‪ .‬فيقول أنها بقرة صفراء‪ ،‬فاقع لونها تسر الناظرين‪.‬‬

‫وهكذا حددت البقرة بأنها صفراء‪ ،‬ورغم وضوح المر‪ ،‬فقد عادوا إلى اللجاجة والمراوغة‪ .‬فشدد‬
‫الله عليهم كما شددوا على نبيه وآذوه‪ .‬عادوا يسألون موسى أن يدعو الله ليبين ما هي‪ ،‬فإن‬
‫البقر تشابه عليهم‪ ،‬وحدثهم موسى عن بقرة ليست معدة لحرث ول لسقي‪ ،‬سلمت من‬
‫العيوب‪ ،‬صفراء ل شية فيها‪ ،‬بمعنى خالصة الصفرة‪ .‬انتهت بهم اللجاجة إلى التشديد‪ .‬وبدءوا‬
‫بحثهم عن بقرة بهذه الصفات الخاصة‪ .‬أخيرا وجدوها عند يتيم فاشتروها وذبحوها‪.‬‬

‫وأمسك موسى جزء من البقرة )وقيل لسانها( وضرب به القتيل فنهض من موته‪ .‬سأله موسى‬
‫عن قاتله فحدثهم عنه )وقيل أشار إلى القاتل فقط من غير أن يتحدث( ثم عاد إلى الموت‪.‬‬
‫وشاهد بنو إسرائيل معجزة إحياء الموتى أمام أعينهم‪ ،‬استمعوا بآذانهم إلى اسم القاتل‪.‬‬
‫انكشف غموض القضية التي حيرتهم زمنا طال بسبب لجاجتهم وتعنتهم‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫نود أن نستلفت انتباه القارئ إلى سوء أدب القوم مع نبيهم وربهم‪ ،‬ولعل السياق القرآني يورد‬
‫ذلك عن طريق تكرارهم لكلمة "ربك" التي يخاطبون بها موسى‪ .‬وكان الولى بهم أن يقولوا‬
‫لموسى‪ ،‬تأدبا‪ ،‬لو كان ل بد أن يقولوا‪) :‬اد ْع ُ ل ََنا َرب ّ َ‬
‫ك( ادع لنا ربنا‪ .‬أما أن يقولوا له‪ :‬فكأنهم‬
‫يقصرون ربوبية الله تعالى على موسى‪ .‬ويخرجون أنفسهم من شرف العبودية لله‪ .‬انظر إلى‬
‫جئ ْ َ‬
‫ت‬ ‫ن ِ‬
‫اليات كيف توحي بهذا كله‪ .‬ثم تأمل سخرية السياق منهم لمجرد إيراده لقولهم‪) :‬ال َ‬
‫ق( بعد أن أرهقوا نبيهم ذهابا وجيئة بينهم وبين الله عز وجل‪ ،‬بعد أن أرهقوا نبيهم بسؤاله‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫ح ّ‬
‫عن صفة البقرة ولونها وسنها وعلماتها المميزة‪ ،‬بعد تعنتهم وتشديد الله عليهم‪ ،‬يقولون لنبيهم‬
‫حين جاءهم بما يندر وجوده ويندر العثور عليه في البقر عادة‪.‬‬

‫ق"‪ .‬كأنه كان يلعب قبلها معهم‪ ،‬ولم يكن ما جاء هو الحق من‬ ‫ت ِبال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫جئ ْ َ‬
‫ن ِ‬‫ساعتها قالوا له‪" :‬ال َ‬
‫دوا ْ‬ ‫ما َ‬
‫كا ُ‬ ‫َ َ‬ ‫و‬ ‫ها‬
‫َ‬ ‫حو‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫ذ‬‫َ‬ ‫ف‬‫)‬ ‫ظلمهم‪:‬‬ ‫من‬ ‫به‬ ‫تشي‬ ‫وما‬ ‫السياق‬ ‫ظلل‬ ‫إلى‬ ‫انظر‬ ‫ثم‬ ‫أول كلمة لخر كلمة‪.‬‬
‫ن( أل توحي لك ظلل اليات بتعنتهم وتسويفهم ومماراتهم ولجاجتهم في الحق؟ هذه‬ ‫فعَُلو َ‬
‫يَ ْ‬
‫اللوحة الرائعة تشي بموقف بني إسرائيل على موائد المفاوضات‪ .‬هي صورتهم على مائدة‬
‫المفاوضات مع نبيهم الكريم موسى‪.‬‬

‫إيذاء بني إسرائيل لموسى‪:‬‬

‫قاسى موسى من قومه أشد المقاساة‪ ،‬وعانى عناء عظيما‪ ،‬واحتمل في تبليغهم رسالته ما‬
‫احتمل في سبيل الله‪ .‬ولعل مشكلة موسى الساسية أنه بعث إلى قوم طال عليهم العهد‬
‫بالهوان والذل‪ ،‬وطال بقاؤهم في جو يخلو من الحرية‪ ،‬وطال مكثهم وسط عبادة الصنام‪،‬‬
‫ولقد نجحت المؤثرات العديدة المختلفة في أن تخلق هذه النفسية الملتوية الخائرة المهزومة‬
‫التي ل تصلح لشيء‪ .‬إل أن تعذب أنبيائها ومصلحيها‪.‬‬

‫وقد عذب بنو إسرائيل موسى عذابا نستطيع ‪-‬نحن أبناء هذا الزمان‪ -‬أن ندرك وقعه على نفس‬
‫موسى النقية الحساسة الكريمة‪ .‬ولم يقتصر العذاب على العصيان والغباء واللجاجة والجهل‬
‫وعبادة الوثان‪ ،‬وإنما تعدى المر إلى إيذاء موسى في شخصه‪.‬‬

‫قال تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عند َ الل ّهِ وَ ِ‬
‫جيًها )‪(69‬‬ ‫ن ِ‬ ‫ما َقاُلوا وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫م ّ‬ ‫سى فَب َّرأه ُ الل ّ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫ن آذ َْوا ُ‬
‫مو َ‬ ‫كال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫مُنوا َل ت َ ُ‬
‫كوُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫)الحزاب(‬

‫ونحن ل تعرف كنه هذا اليذاء‪ ،‬ونستبعد رواية بعض العلماء التي يقولون فيها أن موسى كان‬
‫رجل حييا يستتر دائما ول يحب أن يرى أحد من الناس جسده فاتهمه اليهود بأنه مصاب بمرض‬
‫جلدي أو برص‪ ،‬فأراد الله أن يبرئه مما قالوا‪ ،‬فذهب يستحم يوما ووضع ثيابه على حجر‪ ،‬ثم‬
‫خرج فإذا الحجر يجري بثيابه وموسى يجري وراء الحجر عاريا حتى شاهده بنو إسرائيل عاريا‬
‫وليس بجلده عيب‪ .‬نستبعد هذه القصة لتفاهتها‪ ،‬فإنها إلى جوار خرافة جري الحجر بملبسه‪ ،‬ل‬
‫تعطي موسى حقه من التوقير‪ ،‬وهي تتنافى مع عصمته كنبي‪.‬‬

‫ونعتقد أن اليهود آذوا موسى إيذاء نفسيا‪ ،‬هذا هو اليذاء الذي يدمي النفوس الكريمة ويجرحها‬
‫حقا‪ ،‬ول نعرف كيف كان هذا اليذاء‪ ،‬ولكننا نستطيع تخيل المدى العبقري الثم الذي يستطيع‬
‫بلوغه بنو إسرائيل في إيذائهم لموسى‪.‬‬

‫فترة التيه‪:‬‬

‫ولعل أعظم إيذاء لموسى‪ ،‬كان رفض بني إسرائيل القتال من أجل نشر عقيدة التوحيد في‬
‫الرض‪ ،‬أو على أقل تقدير‪ ،‬السماح لهذه العقيدة أن تستقر على الرض في مكان‪ ،‬وتأمن على‬
‫نفسها‪ ،‬وتمارس تعبدها في هدوء‪ .‬لقد رفض بنو إسرائيل القتال‪ .‬وقالوا لموسى كلمتهم‬
‫هاهَُنا َقا ِ‬ ‫ت وََرب ّ َ‬
‫ك فَ َ‬ ‫َ‬
‫ن(‪.‬‬‫دو َ‬
‫ع ُ‬ ‫قاِتل إ ِّنا َ‬ ‫الشهيرة‪َ) :‬فاذ ْهَ ْ‬
‫ب أن َ‬

‫‪90‬‬
‫وبهذه النفسية حكم الله عليهم بالتيه‪ .‬وكان الحكم يحدد أربعين عاما كاملة‪ ،‬وقد مكث بنو‬
‫إسرائيل في التيه أربعين سنة‪ ،‬حتى فني جيل بأكمله‪ .‬فنى الجيل الخائر المهزوم من الداخل‪،‬‬
‫وولد في ضياع الشتات وقسوة التيه جيل جديد‪ .‬جيل لم يتربى وسط مناخ وثني‪ ،‬ولم يشل‬
‫روحه انعدام الحرية‪ .‬جيل لم ينهزم من الداخل‪ ،‬جيل لم يعد يستطيع البناء فيه أن يفهموا‬
‫لماذا يطوف الباء هكذا بغير هدف في تيه ل يبدو له أول ول تستبين له نهاية‪ .‬إل خشية من‬
‫لقاء العدو‪ .‬جيل صار مستعدا لدفع ثمن آدميته وكرامته من دمائه‪ .‬جيل ل يقول لموسى‬
‫هاهَُنا َقا ِ‬ ‫ت وََرب ّ َ‬
‫ك فَ َ‬ ‫َ‬
‫ن(‪.‬‬
‫دو َ‬
‫ع ُ‬ ‫قاِتل إ ِّنا َ‬ ‫)َفاذ ْهَ ْ‬
‫ب أن َ‬

‫جيل آخر يتبنى قيم الشجاعة العسكرية‪ ،‬كجزء مهم من نسيج أي ديانة من ديانات التوحيد‪.‬‬
‫أخيرا ولد هذا الجيل وسط تيه الربعين عاما‪.‬‬

‫ولقد قدر لموسى‪ .‬زيادة في معاناته ورفعا لدرجته عند الله تعالى‪ .‬قدر له أل تكتحل عيناه‬
‫بمرأى هذا الجيل‪ .‬فقد مات موسى عليه الصلة والسلم قبل أن يدخل بنو إسرائيل الرض‬
‫التي كتب الله عليهم دخولها‪.‬‬

‫وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان قومه يؤذونه في الله‪ :‬قد أوذي موسى بأكثر‬
‫من ذلك فصبر‪.‬‬

‫مات هارون قبل موسى بزمن قصير‪ .‬واقترب أجل موسى‪ ،‬عليه الصلة والسلم‪ .‬وكان لم يزل‬
‫في التيه‪ .‬قال يدعو ربه‪ :‬رب أدنني إلى الرض المقدسة رمية حجر‪.‬‬

‫أحب أن يموت قريبا من الرض التي هاجر إليها‪ .‬وحث قومه عليها‪ .‬ولكنه لم يستطع‪ ،‬ومات‬
‫في التيه‪ .‬ودفن عند كثيب أحمر حدث عنه آخر أنبياء الله في الرض حين أسرى به‪ .‬قال محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ :‬لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب‬
‫الحمر‪.‬‬

‫تروي الساطير عديدا من الحكايات حول موت موسى‪ ،‬وتحكي أنه ضرب ملك الموت حين‬
‫جاء يستل روحه‪ ،‬وأمثال هذه الروايات كثيرة‪ .‬لكننا ل نحب أن نخوض في هذه الروايات حتى‬
‫ل ننجرف وراء السرائيليات التي دخلت بعض كتب التفسير‪.‬‬

‫مات موسى ‪-‬عليه الصلة والسلم‪ -‬في التيه‪ ،‬وتولى يوشع بن نون أمر بني إسرائيل‪.‬‬

‫الجزء الرابع‪ :‬يتناول بعض القصص التي حدثت لموسى وقومه‪ ،‬لكن القرآن الكريم لم يحدد‬
‫لنا زمان ومكان وقوعها )مثل قصة موسى والعبد الصالح‪ ،‬وقصة قارون(‪.‬‬

‫موسى والعبد الصالح‪:‬‬

‫قال تعالى‪:‬‬

‫قًبا )‪) (60‬الكهف(‬


‫ح ُ‬ ‫فتاه َل أ َبرح حتى أ َبل ُغَ مجمع ال ْبحري َ َ‬ ‫وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫ي ُ‬
‫ض َ‬
‫م ِ‬
‫ن أو ْ أ ْ‬
‫َ ْ َ َ َ ْ َ ْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َْ ُ َ ّ‬ ‫سى ل ِ َ َ ُ‬
‫مو َ‬
‫ل ُ‬

‫كان لموسى ‪-‬عليه السلم‪ -‬هدف من رحلته هذه التي اعتزمها‪ ,،‬وأنه كان يقصد من ورائها‬
‫امرا‪ ،‬فهو يعلن عن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة‪ ،‬ومهما يكن الزمن‬
‫قًبا(‪.‬‬
‫ح ُ‬ ‫َ َ‬
‫ي ُ‬
‫ض َ‬
‫م ِ‬
‫الذي ينفه في الوصول‪ .‬فيعبر عن هذا التصميم قائل )أوْ أ ْ‬

‫نرى أن القرآن الكريم ل يحدد لنا المكان الذي وقت فيه الحوادث‪ ،‬ول يحدد لنا التاريخ‪ ،‬كما أنه‬
‫لم يصرح بالسماء‪ .‬ولم يبين ماهية العبد الصالح الذي التقاه موسى‪ ،‬هل هو نبي أو رسول؟ أم‬
‫عالم؟ أم ولي؟‬

‫‪91‬‬
‫اختلف المفسرون في تحديد المكان‪ ،‬فقيل إنه بحر فارس والروم‪ ،‬وقيل بل بحر الردن أو‬
‫القلزم‪ ،‬وقيل عند طنجة‪ ،‬وقيل في أفريقيا‪ ،‬وقيل هو بحر الندلس‪ ..‬ول يقوم الدليل على صحة‬
‫مكان من هذه المكنة‪ ،‬ولو كان تحديد المكان مطلوبا لحدده الله تعالى‪ ..‬وإنما أبهم السياق‬
‫القرآني المكان‪ ،‬كما أبهم تحديد الزمان‪ ،‬كما ضبب أسماء الشخاص لحكمة عليا‪.‬‬

‫إن القصة تتعلق بعلم ليس هو علمنا القائم على السباب‪ ..‬وليس هو علم النبياء القائم على‬
‫الوحي‪ ..‬إنما نحن أمام علم من طبيعة غامضة أشد الغموض‪ ..‬علم القدر العلى‪ ،‬وذلك علم‬
‫أسدلت عليه الستار الكثيفة‪ ..‬مكان اللقاء مجهول كما رأينا‪ ..‬وزمان اللقاء غير معروف هو‬
‫الخر‪ ..‬ل نعرف متى تم لقاء موسى بهذا العبد‪.‬‬

‫وهكذا تمضي القصة بغير أن تحدد لك سطورها مكان وقوع الحداث‪ ،‬ول زمانه‪ ،‬يخفي السياق‬
‫عَباد َِنا آت َي َْناهُ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫دا ّ‬
‫القرآني أيضا اسم أهم أبطالها‪ ..‬يشير إليه الحق تبارك وتعالى بقوله‪) :‬ع َب ْ ً‬
‫ما( هو عبد أخفى السياق القرآني اسمه‪ ..‬هذا العبد هو‬ ‫عل ْ ً‬
‫من ل ّد ُّنا ِ‬ ‫عند َِنا وَع َل ّ ْ‬
‫مَناه ُ ِ‬ ‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫ة ِ‬
‫م ً‬
‫ح َ‬
‫َر ْ‬
‫الذي يبحث عنه موسى ليتعلم منه‪.‬‬

‫لقد خص الله تعالى نبيه الكريم موسى ‪-‬عليه السلم‪ -‬بأمور كثيرة‪ .‬فهو كليم الله عز وجل‪،‬‬
‫وأحد أولي العزم من الرسل‪ ،‬وصاحب معجزة العصا واليد‪ ،‬والنبي الذي أنزلت عليه التوراة‬
‫دون واسطة‪ ،‬وإنما كلمه الله تكليما‪ ..‬هذا النبي العظيم يتحول في القصة إلى طالب علم‬
‫متواضع يحتمل أستاذه ليتعلم‪ ..‬ومن يكون معلمه غير هذا العبد الذي يتجاوز السياق القرآني‬
‫اسمه‪ ،‬وإن حدثتنا السنة المطهرة أنه هو الخضر ‪-‬عليه السلم‪ -‬كما حدثتنا أن الفتى هو يوشع‬
‫بن نون‪ ،‬ويسير موسى مع العبد الذي يتلقى علمه من الله بغير أسباب التلقي الني نعرفها‪.‬‬

‫ومع منزلة موسى العظيمة إل أن الخضر يرفض صحبة موسى‪ ..‬يفهمه أنه لن يستطيع معه‬
‫صبرا‪ ..‬ثم يوافق على صحبته بشرط‪ ..‬أل يسأله موسى عن شيء حتى يحدثه الخضر عنه‪.‬‬

‫والخضر هو الصمت المبهم ذاته‪ ،‬إنه ل يتحدث‪ ،‬وتصرفاته تثير دهشة موسى العميقة‪ ..‬إن هناك‬
‫تصرفات يأتيها الخضر وترتفع أمام عيني موسى حتى لتصل إلى مرتبة الجرائم والكوارث‪..‬‬
‫وهناك تصرفات تبدو لموسى بل معنى‪ ..‬وتثير تصرفات الخضر دهشة موسى ومعارضته‪..‬‬
‫ورغم علم موسى ومرتبته‪ ،‬فإنه يجد نفسه في حيرة عميقة من تصرفات هذا العبد الذي آتاه‬
‫الله من لدنه علما‪.‬‬

‫وقد اختلف العلماء في الخضر‪ :‬فيهم من يعتبره وليا من أولياء الله‪ ،‬وفيهم من يعتبره نبيا‪..‬‬
‫وقد نسجت الساطير نفسها حول حياته ووجوده‪ ،‬فقيل إنه ل يزال حيا إلى يوم القيامة‪ ،‬وهي‬
‫قضية لم ترد بها نصوص أو آثار يوثق فيها‪ ،‬فل نقول فيها إل أنه مات كما يموت عباد الله‪..‬‬
‫وتبقى قضية وليته‪ ،‬أو نبوته‪ ..‬وسنرجئ الحديث في هذه القضية حتى ننظر في قصته كما‬
‫أوردها القرآن الكريم‪.‬‬

‫قام موسى خطيبا في بني إسرائيل‪ ،‬يدعوهم إلى الله ويحدثهم عن الحق‪ ،‬ويبدو أن حديثه جاء‬
‫جامعا مانعا رائعا‪ ..‬بعد أن انتهى من خطابه سأله أحد المستمعين من بني إسرائيل‪ :‬هل على‬
‫وجه الرض أحد اعلم منك يا نبي الله؟‬
‫قال موسى مندفعا‪ :‬ل‪..‬‬
‫وساق الله تعالى عتابه لموسى حين لم يرد العلم إليه‪ ،‬فبعث إليه جبريل يسأله‪ :‬يا موسى ما‬
‫يدريك أين يضع الله علمه؟‬
‫أدرك موسى أنه تسرع‪ ..‬وعاد جبريل‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬يقول له‪ :‬إن لله عبدا بمجمع البحرين هو‬
‫أعلم منك‪.‬‬

‫تاقت نفس موسى الكريمة إلى زيادة العلم‪ ،‬وانعقدت نيته على الرحيل لمصاحبة هذا العبد‬
‫العالم‪ ..‬سأل كيف السبيل إليه‪ ..‬فأمر أن يرحل‪ ،‬وأن يحمل معه حوتا في مكتل‪ ،‬أي سمكة في‬
‫سلة‪ ..‬وفي هذا المكان الذي ترتد فيه الحياة لهذا الحوت ويتسرب في البحر‪ ،‬سيجد العبد‬
‫العالم‪ ..‬انطلق موسى ‪-‬طالب العلم‪ -‬ومعه فتاه‪ ..‬وقد حمل الفتى حوتا في سلة‪ ..‬انطلقا بحثا‬

‫‪92‬‬
‫عن العبد الصالح العالم‪ ..‬وليست لديهم أي علمة على المكان الذي يوجد فيه إل معجزة ارتداد‬
‫الحياة للسمكة القابعة في السلة وتسربها إلى البحر‪.‬‬

‫ويظهر عزم موسى ‪-‬عليه السلم‪ -‬على العثور على هذا العبد العالم ولو اضطره المر إلى أن‬
‫يسير أحقابا وأحقابا‪ .‬قيل أن الحقب عام‪ ،‬وقيل ثمانون عاما‪ .‬على أية حال فهو تعبير عن‬
‫التصميم‪ ،‬ل عن المدة على وجه التحديد‪.‬‬

‫وصل الثنان إلى صخرة جوار البحر‪ ..‬رقد موسى واستسلم للنعاس‪ ،‬وبقي الفتى ساهرا‪..‬‬
‫وألقت الرياح إحدى المواج على الشاطئ فأصاب الحوت رذاذ فدبت فيه الحياة وقفز إلى‬
‫سَرًبا(‪ ..‬وكان تسرب الحوت إلى البحر علمة أعلم الله بها‬ ‫ه ِفي ال ْب َ ْ‬
‫حرِ َ‬ ‫سِبيل َ ُ‬ ‫البحر‪َ) ..‬فات ّ َ‬
‫خذ َ َ‬
‫موسى لتحديد مكان لقائه بالرجل الحكيم الذي جاء موسى يتعلم منه‪.‬‬

‫نهض موسى من نومه فلم يلحظ أن الحوت تسرب إلى البحر‪ ..‬ونسي فتاه الذي يصحبه أن‬
‫يحدثه عما وقع للحوت‪ ..‬وسار موسى مع فتاه بقية يومهما وليلتهما وقد نسيا حوتهما‪ ..‬ثم تذكر‬
‫صًبا(‪ ..‬ولمع‬ ‫فرَِنا هَ َ‬
‫ذا ن َ َ‬ ‫س َ‬
‫من َ‬ ‫داءَنا ل َقَد ْ ل َ ِ‬
‫قيَنا ِ‬ ‫فَتاه ُ آت َِنا غ َ َ‬ ‫موسى غداءه وحل عليه التعب‪َ) ..‬قا َ‬
‫ل لِ َ‬
‫في ذهن الفتى ما وقع‪.‬‬

‫ساعتئذ تذكر الفتى كيف تسرب الحوت إلى البحر هناك‪ ..‬وأخبر موسى بما وقع‪ ،‬واعتذر إليه‬
‫ه ِفي ال ْب َ ِ‬
‫ر‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫سِبيل َ ُ‬
‫بأن الشيطان أنساه أن يذكر له ما وقع‪ ،‬رغم غرابة ما وقع‪ ،‬فقد اتخذ الحوت ) َ‬
‫جًبا(‪ ..‬كان أمرا عجيبا ما رآه يوشع بن نون‪ ،‬لقد رأى الحوت يشق الماء فيترك علمة وكأنه‬ ‫عَ َ‬
‫طير يتلوى على الرمال‪.‬‬

‫ما ك ُّنا ن َب ِْغ(‪ ..‬هذا ما كنا نريده‪ ..‬إن تسرب‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬


‫ك َ‬ ‫سعد موسى من مروق الحوت إلى البحر و)َقا َ‬
‫الحوت يحدد المكان الذي سنلتقي فيه بالرجل العالم‪ ..‬ويرتد موسى وفتاه يقصان أثرهما‬
‫عائدين‪ ..‬انظر إلى بداية القصة‪ ،‬وكيف تجيء غامضة أشد الغموض‪ ،‬مبهمة أعظم البهام‪.‬‬

‫أخيرا وصل موسى إلى المكان الذي تسرب منه الحوت‪ ..‬وصل إلى الصخرة التي ناما عندها‪،‬‬
‫وتسرب عندها الحوت من السلة إلى البحر‪ ..‬وهناك وجدا رجل‪.‬‬

‫يقول البخاري إن موسى وفتاه وجدا الخضر مسجى بثوبه‪ ..‬وقد جعل طرفه تحت رجليه‬
‫وطرف تحت رأسه‪.‬‬

‫فسلم عليه موسى‪ ،‬فكشف عن وجهه وقال‪ :‬هل بأرضك سلم‪..‬؟ من أنت؟‬
‫قال موسى‪ :‬أنا موسى‪.‬‬
‫قال الخضر‪ :‬موسى بني إسرائيل‪ ..‬عليك السلم يا نبي إسرائيل‪.‬‬
‫قال موسى‪ :‬وما أدراك بي‪..‬؟‬
‫قال الخضر‪ :‬الذي أدراك بي ودلك علي‪ ..‬ماذا تريد يا موسى‪..‬؟‬
‫َ‬ ‫ل أ َت ّب ِعُ َ‬
‫دا(‪.‬‬ ‫ت ُر ْ‬
‫ش ً‬ ‫م َ‬ ‫ما ع ُل ّ ْ‬
‫م ّ‬
‫ن ِ‬ ‫ك ع ََلى أن ت ُعَل ّ َ‬
‫م ِ‬ ‫قال موسى ملطفا مبالغا في التوقير‪) :‬هَ ْ‬
‫ي‬
‫مع ِ َ‬
‫طيعَ َ‬
‫ست َ ِ‬ ‫َ‬
‫ك لن ت َ ْ‬ ‫قال الخضر‪ :‬أما يكفيك أن التوراة بيديك‪ ..‬وأن الوحي يأتيك‪..‬؟ يا موسى )إ ِن ّ َ‬
‫صب ًْرا(‪.‬‬
‫َ‬

‫نريد أن نتوقف لحظة لنلحظ الفرق بين سؤال موسى الملطف المغالي في الدب‪ ..‬ورد‬
‫الخضر الحاسم‪ ،‬الذي يفهم موسى أن علمه ل ينبغي لموسى أن يعرفه‪ ،‬كما أن علم موسى‬
‫هو علم ل يعرفه الخضر‪ ..‬يقول المفسرون إن الخضر قال لموسى‪ :‬إن علمي أنت تجهله‪..‬‬
‫ولن تطيق عليه صبرا‪ ،‬لن الظواهر التي ستحكم بها على علمي لن تشفي قلبك ولن تعطيك‬
‫تفسيرا‪ ،‬وربما رأيت في تصرفاتي ما ل تفهم له سببا أو تدري له علة‪ ..‬وإذن لن تصبر على‬
‫علمي يا موسى‪.‬‬

‫احتمل موسى كلمات الصد القاسية وعاد يرجوه أن يسمح له بمصاحبته والتعلم منه‪ ..‬وقال له‬
‫موسى فيما قال إنه سيجده إن شاء الله صابرا ول يعصي له أمرا‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫تأمل كيف يتواضع كليم الله ويؤكد للعبد المدثر بالخفاء أنه لن يعصي له أمرا‪.‬‬

‫قال الخضر لموسى ‪-‬عليهما السلم‪ -‬إن هناك شرطا يشترطه لقبول أن يصاحبه موسى ويتعلم‬
‫منه هو أل يسأله عن شيء حتى يحدثه هو عنه‪ ..‬فوافق موسى على الشرط وانطلقا‪..‬‬

‫انطلق موسى مع الخضر يمشيان على ساحل البحر‪ ..‬مرت سفينة‪ ،‬فطلب الخضر وموسى‬
‫من أصحابها أن يحملوهما‪ ،‬وعرف أصحاب السفينة الخضر فحملوه وحملوا موسى بدون أجر‪،‬‬
‫إكراما للخضر‪ ،‬وفوجئ موسى حين رست السفينة وغادرها أصحابها وركابها‪ ..‬فوجئ بأن‬
‫الخضر يتخلف فيها‪ ،‬لم يكد أصحابها يبتعدون حتى بدأ الخضر يخرق السفينة‪ ..‬اقتلع لوحا من‬
‫ألواحها وألقاه في البحر فحملته المواج بعيدا‪.‬‬

‫فاستنكر موسى فعلة الخضر‪ .‬لقد حملنا أصحاب السفينة بغير أجر‪ ..‬أكرمونا‪ ..‬وها هو ذا يخرق‬
‫سفينتهم ويفسدها‪ ..‬كان التصرف من وجهة نظر موسى معيبا‪ ..‬وغلبت طبيعة موسى المندفعة‬
‫عليه‪ ،‬كما حركته غيرته على الحق‪ ،‬فاندفع يحدث أستاذه ومعلمه وقد نسي شرطه الذي‬
‫شي ًْئا إ ِ ْ‬
‫مًرا(‪.‬‬ ‫جئ ْ َ‬
‫ت َ‬ ‫خَرقْت ََها ل ِت ُغْرِقَ أ َهْل ََها ل َ َ‬
‫قد ْ ِ‬ ‫ل أَ َ‬
‫اشترطه عليه‪َ) :‬قا َ‬

‫وهنا يلفت العبد الرباني نظر موسى إلى عبث محاولة التعليم منه‪ ،‬لنه لن يستطيع الصبر عليه‬
‫صب ًْرا(‪ ،‬ويعتذر موسى بالنسيان ويرجوه أل يؤاخذه وأل‬ ‫ي َ‬ ‫مع ِ َ‬
‫طيعَ َ‬ ‫ك َلن ت َ ْ‬
‫ست َ ِ‬ ‫م أ َقُ ْ‬
‫ل إ ِن ّ َ‬ ‫)َقا َ َ‬
‫ل أل َ ْ‬
‫قِني م َ‬
‫ت وََل ت ُْره ِ ْ‬ ‫ل َل ت ُ َ‬‫يرهقه )َقا َ‬
‫سًرا(‪.‬‬
‫ري ع ُ ْ‬
‫م ِ‬
‫نأ ْ‬‫ِ ْ‬ ‫سي ُ‬ ‫خذ ِْني ب ِ َ‬
‫ما ن َ ِ‬ ‫ؤا ِ‬

‫سارا معا‪ ..‬فمرا على حديقة يلعب فيها الصبيان‪ ..‬حتى إذا تعبوا من اللعب انتحى كل واحد‬
‫منهم ناحية واستسلم للنعاس‪ ..‬فوجئ موسى بأن العبد الرباني يقتل غلما‪ ..‬ويثور موسى‬
‫سائل عن الجريمة التي ارتكبها هذا الصبي ليقتله هكذا‪ ..‬يعاود العبد الرباني تذكيره بأنه أفهمه‬
‫صب ًْرا(‪ ..‬ويعتذر موسى بأنه‬ ‫َ‬ ‫مِعي‬
‫طيعَ َ‬ ‫ك َلن ت َ ْ‬
‫ست َ ِ‬ ‫م أ َُقل ل ّ َ‬
‫ك إ ِن ّ َ‬ ‫أنه لن يستطيع الصبر عليه )َقا َ َ‬
‫ل أل َ ْ‬
‫عن‬‫ك َ‬‫سأ َل ْت ُ َ‬ ‫نسي ولن يعاود السئلة وإذا سأله مرة أخرى سيكون من حقه أن يفارقه )َقا َ‬
‫ل ِإن َ‬
‫من ل ّد ُّني ع ُذ ًْرا(‪.‬‬ ‫ت ِ‬ ‫حب ِْني قَد ْ ب َل َغْ َ‬ ‫ها فََل ت ُ َ‬
‫صا ِ‬ ‫يٍء ب َعْد َ َ‬ ‫َ‬
‫ش ْ‬

‫ومضى موسى مع الخضر‪ ..‬فدخل قرية بخيلة‪ ..‬ل يعرف موسى لماذا ذهبا إلى القرية‪ ،‬ول‬
‫يعرف لماذا يبيتان فيها‪ ،‬نفذ ما معهما من الطعام‪ ،‬فاستطعما أهل القرية فأبوا أن يضيفوهما‪..‬‬
‫وجاء عليهما المساء‪ ،‬وأوى الثنان إلى خلء فيه جدار يريد أن ينقض‪ ..‬جدار يتهاوى ويكاد يهم‬
‫بالسقوط‪ ..‬وفوجئ موسى بأن الرجل العابد ينهض ليقضي الليل كله في إصلح الجدار وبنائه‬
‫من جديد‪ ..‬ويندهش موسى من تصرف رفيقه ومعلمه‪ ،‬إن القرية بخيلة‪ ،‬ل يستحق من فيها‬
‫َ‬
‫ت ع َل َي ْهِ أ ْ‬
‫جًرا(‪ ..‬انتهى المر بهذه العبارة‪ ..‬قال عبد الله‬ ‫ت َلت ّ َ‬
‫خذ ْ َ‬ ‫شئ ْ َ‬‫ل ل َوْ ِ‬ ‫هذا العمل المجاني )َقا َ‬
‫َ‬ ‫لموسى‪) :‬هَ َ‬
‫ذا فَِراقُ ب َي ِْني وَب َي ْن ِك(‪.‬‬

‫لقد حذر العبد الرباني موسى من مغبة السؤال‪ .‬وجاء دور التفسير الن‪..‬‬

‫إن كل تصرفات العبد الرباني التي أثارت موسى وحيرته لم يكن حين فعلها تصدر عن أمره‪..‬‬
‫كان ينفذ إرادة عليا‪ ..‬وكانت لهذه الرادة العليا حكمتها الخافية‪ ،‬وكانت التصرفات تشي‬
‫بالقسوة الظاهرة‪ ،‬بينما تخفي حقيقتها رحمة حانية‪ ..‬وهكذا تخفي الكوارث أحيانا في الدنيا‬
‫جوهر الرحمة‪ ،‬وترتدي النعم ثياب المصائب وتجيد التنكر‪ ،‬وهكذا يتناقض ظاهر المر وباطنه‪،‬‬
‫ول يعلم موسى‪ ،‬رغم علمه الهائل غير قطرة من علم العبد الرباني‪ ،‬ول يعلم العبد الرباني من‬
‫علم الله إل بمقدار ما يأخذ العصفور الذي يبلل منقاره في البحر‪ ،‬من ماء البحر‪..‬‬

‫كشف العبد الرباني لموسى شيئين في الوقت نفسه‪ ..‬كشف له أن علمه ‪-‬أي علم موسى‪-‬‬
‫محدود‪ ..‬كما كشف له أن كثيرا من المصائب التي تقع على الرض تخفي في ردائها السود‬
‫الكئيب رحمة عظمى‪.‬‬

‫إن أصحاب السفينة سيعتبرون خرق سفينتهم مصيبة جاءتهم‪ ،‬بينما هي نعمة تتخفى في زي‬
‫المصيبة‪ ..‬نعمة لن تكشف النقاب عن وجهها إل بعد أن تنشب الحرب ويصادر الملك كل‬

‫‪94‬‬
‫السفن الموجودة غصبا‪ ،‬ثم يفلت هذه السفينة التالفة المعيبة‪ ..‬وبذلك يبقى مصدر رزق‬
‫السرة عندهم كما هو‪ ،‬فل يموتون جوعا‪.‬‬

‫أيضا سيعتبر والد الطفل المقتول وأمه أن كارثة قد دهمتهما لقتل وحيدهما الصغير البريء‪..‬‬
‫غير أن موته يمثل بالنسبة لهما رحمة عظمى‪ ،‬فإن الله سيعطيهما بدل منه غلما يرعاهما في‬
‫شيخوختهما ول يرهقهما طغيانا وكفرا كالغلم المقتول‪.‬‬

‫وهكذا تختفي النعمة في ثياب المحنة‪ ،‬وترتدي الرحمة قناع الكارثة‪ ،‬ويختلف ظاهر الشياء عن‬
‫باطنها حتى ليحتج نبي الله موسى إلى تصرف يجري أمامه‪ ،‬ثم يستلفته عبد من عباد الله إلى‬
‫حكمة التصرف ومغزاه ورحمة الله الكلية التي تخفي نفسها وراء أقنعة عديدة‪.‬‬

‫أما الجدار الذي أتعب نفسه بإقامته‪ ،‬من غير أن يطلب أجرا من أهل القرية‪ ،‬كان يخبئ تحته‬
‫كنزا لغلمين يتيمين ضعيفين في المدينة‪ .‬ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم‬
‫يستطع الصغيران أن يدفعا عنه‪ ..‬ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلحه في‬
‫طفولتهما وضعفهما‪ ،‬فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على‬
‫حمايته‪.‬‬

‫ثم ينفض الرجل يده من المر‪ .‬فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف‪ .‬وهو أمر الله ل‬
‫أمره‪ .‬فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها‪ ،‬ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما‬
‫أطلعه عليه من غيبه‪.‬‬

‫واختفى هذا العبد الصالح‪ ..‬لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول‪ ..‬إل أن موسى تعلم‬
‫من صحبته درسين مهمين‪:‬‬

‫تعلم أل يغتر بعلمه في الشريعة‪ ،‬فهناك علم الحقيقة‪.‬‬

‫وتعلم أل يتجهم قلبه لمصائب البشر‪ ،‬فربما تكون يد الرحمة الخالقة تخفي سرها من اللطف‬
‫والنقاذ‪ ،‬واليناس وراء أقنعة الحزن واللم والموت‪.‬‬

‫هذه هي الدروس التي تعلمها موسى كليم الله عز وجل ورسوله من هذا العبد المدثر بالخفاء‪.‬‬

‫والن من يكون صاحب هذا العلم إذن‪..‬؟ أهو ولي أم نبي‪..‬؟‬

‫يرى كثير من الصوفية أن هذا العبد الرباني ولي من أولياء الله تعالى‪ ،‬أطلعه الله على جزء‬
‫من علمه اللدني بغير أسباب انتقال العلم المعروفة‪ ..‬ويرى بعض العلماء أن هذا العبد الصالح‬
‫كان نبيا‪ ..‬ويحتج أصحاب هذا الرأي بأن سياق القصة يدل على نبوته من وجوه‪:‬‬

‫‪ .1‬أحدها قوله تعالى‪:‬‬

‫عل ْ ً‬
‫ما )‪) (65‬الكهف(‬ ‫من ل ّد ُّنا ِ‬ ‫عند َِنا وَع َل ّ ْ‬
‫مَناه ُ ِ‬ ‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫ة ِ‬
‫م ً‬
‫ح َ‬
‫عَباد َِنا آت َي َْناه ُ َر ْ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫دا ّ‬
‫دا ع َب ْ ً‬ ‫فَوَ َ‬
‫ج َ‬

‫‪ .2‬والثاني قول موسى له‪:‬‬


‫َ‬ ‫ل أ َت ّب ِعُ َ‬
‫ي‬
‫مع ِ َ‬
‫طيعَ َ‬ ‫ست َ ِ‬‫ك َلن ت َ ْ‬ ‫ل إ ِن ّ َ‬
‫دا )‪َ (66‬قا َ‬ ‫ش ً‬ ‫ت ُر ْ‬ ‫ما ع ُل ّ ْ‬
‫م َ‬ ‫م ّ‬
‫ن ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ك ع ََلى أن ت ُعَل ّ َ‬ ‫سى هَ ْ‬ ‫مو َ‬‫ه ُ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫صاب ًِرا وَلَ‬
‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫شاء الل ُ‬ ‫جد ُِني ِإن َ‬ ‫ست َ ِ‬
‫ل َ‬‫خب ًْرا )‪َ (68‬قا َ‬ ‫حط ب ِهِ ُ‬‫ْ‬ ‫م تُ ِ‬ ‫َ‬
‫ما ل ْ‬ ‫َ‬
‫صب ُِر ع َلى َ‬ ‫ف تَ ْ‬ ‫صب ًْرا )‪ (67‬وَك َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫ْ‬
‫ه ذ ِكًرا )‪(70‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أ َع ْصي ل َ َ َ‬
‫من ْ ُ‬
‫ث لك ِ‬ ‫حد ِ َ‬ ‫حّتى أ ْ‬ ‫يٍء َ‬‫عن ش ْ‬ ‫سألِني َ‬ ‫ن ات ّب َعْت َِني فل ت َ ْ‬ ‫مًرا )‪ (69‬قال فإ ِ ِ‬ ‫كأ ْ‬ ‫ِ‬
‫)الكهف(‬

‫‪95‬‬
‫فلو كان وليا ولم يكن نبي‪ ،‬لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة‪ ،‬ولم يرد على موسى هذا الرد‪.‬‬
‫ولو أنه كان غير نبي‪ ،‬لكان هذا معناه أنه ليس معصوما‪ ،‬ولم يكن هناك دافع لموسى‪ ،‬وهو‬
‫النبي العظيم‪ ،‬وصاحب العصمة‪ ،‬أن يلتمس علما من ولي غير واجب العصمة‪.‬‬

‫‪ .3‬والثالث أن الخضر أقدم على قتل ذلك الغلم بوحي من الله وأمر منه‪ ..‬وهذا دليل مستقل‬
‫على نبوته‪ ،‬وبرهان ظاهر على عصمته‪ ،‬لن الولي ل يجوز له القدام على قتل النفوس بمجرد‬
‫ما يلقى في خلده‪ ،‬لن خاطره ليس بواجب العصمة‪ ..‬إذ يجوز عليه الخطأ بالتفاق‪ ..‬وإذن ففي‬
‫إقدام الخضر على قتل الغلم دليل نبوته‪.‬‬

‫‪ .4‬والرابع قول الخضر لموسى‪:‬‬


‫ك وما فَعل ْته ع َ َ‬
‫ري‬
‫م ِ‬
‫نأ ْ‬‫ْ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫من ّرب ّ َ َ َ‬
‫ة ّ‬
‫م ً‬
‫ح َ‬
‫َر ْ‬

‫يعني أن ما فعلته لم أفعله من تلقاء نفسي‪ ،‬بل أمر أمرت به من الله وأوحي إلي فيه‪.‬‬

‫فرأى العلماء أن الخضر نبيا‪ ،‬أما العباد والصوفية رأوا أنه وليا من أولياء الله‪.‬‬

‫ومن كلمات الخضر التي أوردها الصوفية عنه‪ ..‬قول وهب بن منبه‪ :‬قال الخضر‪ :‬يا موسى إن‬
‫الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها‪ .‬وقول بشر بن الحارث الحافي‪ ..‬قال موسى‬
‫للخضر‪ :‬أوصني‪ ..‬قال الخضر‪ :‬يسر الله عليك طاعته‪.‬‬

‫ونحن نميل إلى اعتباره نبيا لعلمه اللدني‪ ،‬غير أننا ل نجد نصا في سياق القرآن على نبوته‪ ،‬ول‬
‫نجد نصا مانعا من اعتباره وليا آتاه الله بعض علمه اللدني‪ ..‬ولعل هذا الغموض حول شخصه‬
‫الكريم جاء متعمدا‪ ،‬ليخدم الهدف الصلي للقصة‪ ..‬ولسوف نلزم مكاننا فل نتعداه ونختصم‬
‫حول نبوته أو وليته‪ ..‬وإن أوردناه في سياق أنبياء الله‪ ،‬لكونه معلما لموسى‪ ..‬وأستاذا له فترة‬
‫من الزمن‪.‬‬

‫قارون وقوم موسى‪:‬‬

‫يروي لنا القرآن قصة قارون‪ ،‬وهو من قوم موسى‪ .‬لكن القرآن ل يحدد زمن القصة ول مكانها‪.‬‬
‫فهل وقعت هذه القصة وبنو إسرائيل وموسى في مصر قبل الخروج؟ أو وقعت بعد الخروج‬
‫في حياة موسى؟ أم وقعت في بني إسرائيل من بعد موسى؟ وبعيدا عن الروايات المختلفة‪،‬‬
‫نورد القصة كما ذكرها القرآن الكريم‪.‬‬

‫يحدثنا الله عن كنوز قارون فيقول سبحانه وتعالى إن مفاتيح الحجرات التي تضم الكنوز‪ ،‬كان‬
‫يصعب حملها على مجموعة من الرجال الشداء‪ .‬ولو عرفنا عن مفاتيح الكنوز هذه الحال‪،‬‬
‫فكيف كانت الكنوز ذاتها؟! لكن قارون بغى على قومه بعد أن آتاه الله الثراء‪ .‬ول يذكر القرآن‬
‫فيم كان البغي‪ ،‬ليدعه مجهل يشمل شتى الصور‪ .‬فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم‬
‫وأشياءهم‪ .‬وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال‪ .‬حق الفقراء في أموال الغنياء‪.‬‬
‫وربما بغى عليهم بغير هذه السباب‪.‬‬

‫ويبدو أن العقلء من قومه نصحوه بالقصد والعتدال‪ ،‬وهو المنهج السليم‪ .‬فهم يحذروه من‬
‫الفرح الذي يؤدي بصاحبه إلى نسيان من هو المنعم بهذا المال‪ ،‬وينصحونه بالتمتع بالمال في‬
‫الدنيا‪ ،‬من غير أن ينسى الخرة‪ ،‬فعليه أن يعمل لخرته بهذا المال‪ .‬ويذكرونه بأن هذا المال‬
‫هبة من الله وإحسان‪ ،‬فعليه أن يحسن ويتصدق من هذا المال‪ ،‬حتى يرد الحسان بالحسان‪.‬‬
‫ويحذرونه من الفساد في الرض‪ ،‬بالبغي‪ ،‬والظلم‪ ،‬والحسد‪ ،‬والبغضاء‪ ،‬وإنفاق المال في غير‬
‫وجهه‪ ،‬أو إمساكه عما يجب أن يكون فيه‪ .‬فالله ل يحب المفسدين‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫دي(‪ .‬لقد‬ ‫عل ْم ٍ ِ‬
‫ه ع ََلى ِ‬ ‫ُ‬ ‫فكان رد قارون جملة واحد تحمل شتى معاني الفساد )َقا َ‬
‫عن ِ‬ ‫ما أوِتيت ُ ُ‬
‫ل إ ِن ّ َ‬
‫أنساه غروره مصدر هذه النعمة وحكمتها‪ ،‬وفتنه المال وأعماه الثراء‪ .‬فلم يستمع قارون لنداء‬
‫قومه‪ ،‬ولم يشعر بنعمة ربه‪.‬‬

‫وخرج قارون ذات يوم على قومه‪ ،‬بكامل زينته‪ ،‬فطارت قلوب بعض القوم‪ ،‬وتمنوا أن لديهم‬
‫مثل ما أوتي قارون‪ ،‬وأحسوا أنه في نعمة كبيرة‪ .‬فرد عليهم من سمعهم من أهل العلم‬
‫واليمان‪ :‬ويلكم أيها المخدوعون‪ ،‬احذروا الفتنة‪ ،‬واتقوا الله‪ ،‬واعلموا أن ثواب الله خير من‬
‫هذه الزينة‪ ،‬وما عند الله خير مما عند قارون‪.‬‬

‫وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها‪ ،‬وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى‪ ،‬تتدخل القدرة اللهية لتضع‬
‫حدا للفتنة‪ ،‬وترحم الناس الضعاف من إغراءها‪ ،‬وتحطم الغرور والكبرياء‪ ،‬فيجيء العقاب‬
‫َ‬
‫ض( هكذا في لمحة خاطفة ابتلعته الرض وابتلعت داره‪ .‬وذهب‬ ‫دارِهِ اْلْر َ‬
‫فَنا ب ِهِ وَب ِ َ‬
‫س ْ‬ ‫حاسما )فَ َ‬
‫خ َ‬
‫ضعيفا عاجزا‪ ،‬ل ينصره أحد‪ ،‬ول ينتصر بجاه أو مال‪.‬‬

‫وبدأ الناس يتحدثون إلى بعضهم البعض في دهشة وعجب واعتبار‪ .‬فقال الذين كانوا يتمنون أن‬
‫عندهم مال قارون وسلطانه وزينته وحظه في الدنيا‪ :‬حقا إن الله تعالى يبسط الرزق لمن‬
‫ن علينا فحفظنا من الخسف‬ ‫يشاء من عباده ويوسع عليهم‪ ،‬أو يقبض ذلك‪ ،‬فالحمد لله أن م ّ‬
‫والعذاب الليم‪ .‬إنا تبنا إليك سبحانك‪ ،‬فلك الحمد في الولى والخر‬

‫‪97‬‬
‫هارون عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫أخو موسى ورفيقه في دعوة فرعون إلى اليمان بالله لنه كان فصيحا ومتحدثا‪ ،‬استخلفه‬
‫موسى على قومه عندما ذهب للقاء الله فوق جبل الطور‪ ،‬ولكن حدثت فتنة السامري الذي‬
‫حول بني إسرائيل إلى عبادة عجل من الذهب له خوار ‪ ،‬فدعاهم هارون إلى الرجوع لعبادة‬
‫الله بدل من العجل ولكنهم استكبروا فلما رجع موسى ووجد ما آل إليه قومه عاتب هارون‬
‫عتابا شديدا‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫ل يذكر الكثير عن سيرة هارون عليه السلم‪ .‬إل أن المعلوم هو أن الله أيد موسى بأخيه‬
‫هارون في دعوته فلقد كان هارون عليه السلم أفصح لسانا‪ .‬وورد موقف موسى عليه السلم‬
‫من أخيه حين استخلفه على بني إسرائيل وذهب للقاء ربه‪ ،‬فعبدت بنو إسرائيل العجل الذي‬
‫صنعه السامري‪ .‬القصة مذكورة بتفاصيلها في قصة موسى عليه السلم‬

‫‪98‬‬
‫يوشع بن نون عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫ورد أنه الفتى الذي صاحب موسى للقاء الخضر‪ .‬وهو النبي الذي أخرج الله على يديه بني‬
‫إسرائي من صحراء سيناء‪ ،‬وحاربوا أهل فلسطين وانتصروا عليهم‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫لم يخرج أحد من التيه ممن كان مع موسى‪ .‬سوى اثنين‪ .‬هما الرجلن اللذان أشارا على مل‬
‫بني إسرائيل بدخول قرية الجبارين‪ .‬ويقول المفسرون‪ :‬إن أحدهما يوشع بن نون‪ .‬وهذا هو‬
‫فتى موسى في قصته مع الخضر‪ .‬صار الن نبيا من أنبياء بني إسرائيل‪ ،‬وقائدا لجيش يتجه نحو‬
‫الرض التي أمرهم الله بدخولها‪.‬‬

‫خرج يوشع بن نون ببني إسرائيل من التيه‪ ،‬بعد أربعين سنة‪ ،‬وقصد بهم الرض المقدسة‪.‬‬
‫‪,‬كانت هذه الربعين سنة ‪-‬كما يقول العلماء‪ -‬كفيلة بأن يموت فيها جميع من خرج مع موسى‬
‫عليه السلم من مصر‪ ،‬ويبقى جيل جديد تربى على أيادي موسى وهارون ويوشع بن نون‪ ،‬جيل‬
‫يقيم الصل ويؤتي الزكاة ويؤمن بالله ورسله‪ .‬قطع بهم نهر الردن إلى أريحا‪ ،‬وكانت من‬
‫أحصن المدائن سورا وأعلها قصورا وأكثرها أهل‪ .‬فحاصرها ستة أشهر‪.‬‬

‫وروي في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‪) :‬غزا نبي من النبياء فقال‬
‫لقومه ل يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن ول آخر قد بنى‬
‫بنيانا ولما يرفع سقفها ول آخر قد اشترى غنما أو خلفات وهو منتظر ولدها قال فغزا فأدنى‬
‫للقرية حين صلة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها‬
‫علي شيئا فحبست عليه حتى فتح الله عليه قال فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن‬
‫تطعمه فقال فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه فلصقت يد رجل بيده فقال‬
‫فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك فبايعته قال فلصقت بيد رجلين أو ثلثة فقال فيكم الغلول‬
‫أنتم غللتم قال فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب قال فوضعوه في المال وهو بالصعيد‬
‫فأقبلت النار فأكلته فلم تحل الغنائم لحد من قبلنا ذلك بأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا‬
‫وعجزنا فطيبها لنا( ويرى العلماء أن هذا النبي هو يوشع بن نون‪ ،‬فقد كان اليهود ل يعملون ول‬
‫يحاربون يوم السبت‪ ،‬وعندما خشي أن يذهب النصر إذا توقف اليهود عن القتال‪ ،‬فدعى الله‬
‫ف في حبس الشمس المذكور هنا‪ ,‬فقيل‪ :‬ردت على أدراجها‪ ,‬وقيل‪:‬‬ ‫ختـل ِ َ‬
‫أن يحبس الشمس‪ .‬وا ْ‬
‫وقفت ولم ترد‪ ,‬وقيل‪ :‬أبطئ بحركتها‪ ,‬وكل ذلك من معجزات النبوة ‪.‬‬

‫صدر المر اللهي لبني إسرائيل أن يدخلوا المدينة سجدا‪ ..‬أي راكعين مطأطئي رءوسهم‬
‫حط ّ ٌ‬
‫ة(‪..‬‬ ‫شاكرين لله عز وجل ما من به عليهم من الفتح‪ .‬أمروا أن يقولوا حال دخولهم‪ِ ) :‬‬
‫بمعنى حط عنا خطايانا التي سلفت‪ ،‬وجنبنا الذي تقدم من آبائنا‪.‬‬

‫إل أن بني إسرائيل خالف ما أمرت به قول وفعل‪ ..‬فدخلوا الباب متعالين متكبرين‪ ،‬وبدلوا قول‬
‫غير الذي قيل لهم‪ ..‬فأصابهم عذاب من الله بما ظلموا‪ .‬كانت جريمة الباء هي الذل‪ ،‬وأصبحت‬
‫جريمة البناء الكبرياء والفتراء‪.‬‬

‫ولم تكن هذه الجريمة هي أول جرائم بني إسرائيل ول آخر جرائمهم‪ ،‬فقد عذبوا رسلهم كثيرا‬
‫بعد موسى‪ ،‬وتحولت التوراة بين أيديهم إلى قراطيس يبدون بعضها ويخفون كثيرا‪ .‬حسبما‬
‫تقتضي الحوال وتدفع المصلحة المباشرة‪ ،‬وكان هذا الجحود هو المسؤول عما أصاب بني‬
‫إسرائيل من عقوبات‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫عاد بنو إسرائيل إلى ظلمهم لنفسهم‪ ..‬اعتقدوا أنهم شعب الله المختار‪ ،‬وتصوروا انطلقا من‬
‫هذا العتقاد أن من حقهم ارتكاب أي شيء وكل شيء‪ ..‬وعظمت فيهم الخطاء وتكاثرت‬
‫الخطايا وامتدت الجرائم بعد كتابهم إلى أنبيائهم‪ ،‬فقتلوا من قتلوا من النبياء‪.‬‬

‫وسلط الله عليهم بعد رحمة النبياء قسوة الملوك الجبارين‪ ،‬يظلمونهم ويسفكون دمائهم‪،‬‬
‫وسلط الله أعدائهم عليهم ومكن لهم من رقابهم وأموالهم‪.‬‬

‫وكان معهم تابوت الميثاق‪ .‬وهو تابوت يضم بقية مما ترك موسى وهارون‪ ،‬ويقال إن هذا‬
‫التابوت كان يضم ما بقي من ألواح التوراة التي أنزلت على موسى ونجت من يد الزمان‪.‬‬
‫وكان لهذا التابوت بركة تمتد إلى حياتهم وحروبهم‪ ،‬فكان وجود التابوت بينهم في الحرب‪،‬‬
‫يمدهم بالسكينة والثبات‪ ،‬ويدفعهم إلى النصر‪ ،‬فلما ظلموا أنفسهم ورفعت التوراة من قلوبهم‬
‫لم يعد هناك معنى لبقاء نسختها معهم‪ ،‬وهكذا ضاع منهم تابوت العهد‪ ،‬وضاع في حرب من‬
‫حروبهم التي هزموا فيها‪.‬‬

‫وساءت أحوال بني إسرائيل بسبب ذنوبهم وتعنتهم وظلمهم لنفسهم‪ .‬ومرت سنوات‬
‫وسنوات‪ .‬واشتدت الحاجة إلى ظهور نبي ينتشلهم من الوهدة السحيقة التي أوصلتهم إليها‬
‫فواجع الثام وكبائر الخطايا‬

‫داود عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫آتاه الله العلم والحكمة وسخر له الجبال والطير يسبحن معه وألن له الحديد‪ ،‬كان عبدا خالصا‬
‫لله شكورا يصوم يوما ويفطر يوما يقوم نصف الليل وينام ثلثه ويقوم سدسه وأنزل الله عليه‬
‫الزبور وقد أوتي ملكا عظيما وأمره الله أن يحكم بالعدل‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫حال بنو إسرائيل قبل داود‪:‬‬

‫‪100‬‬
‫قبل البدء بقصة داود عليه السلم‪ ،‬لنرى الوضاع التي عاشها بنو إسرائل في تلك الفترة‪.‬‬

‫لقد انفصل الحكم عن الدين‪..‬فآخر نبي ملك كان يوشع بن نون‪ ..‬أما من بعده فكانت الملوك‬
‫تسوس بني إسرائيل وكانت النبياء تهديهم‪ .‬وزاد طغيان بني إسرائيل‪ ،‬فكانوا يقتلون النبياء‪،‬‬
‫نبيا تلو نبي‪ ،‬فسلط الله عليهم ملوكا منهم ظلمة جبارين‪ ،‬ألوهم وطغوا عليهم‪.‬‬

‫وتتالت الهزائم على بني إسرائيل‪ ،‬حتى انهم أضاعوا التابوت‪ .‬وكان في التابوت بقية مما ترك‬
‫آل موسى وهارون‪ ،‬فقيل أن فيها بقية من اللواح التي أنزلها الله على موسى‪ ،‬وعصاه‪ ،‬وأمورا‬
‫آخرى‪ .‬كان بنو إسرائيل يأخذون التابوت معهم في معاركهم لتحل عليهم السكينة ويحققوا‬
‫النصر‪ .‬فتشروا وساءت حالهم‪.‬‬

‫في هذه الظروف الصعبة‪ ،‬كانت هنالك امرأة حامل تدعو الله كثيرا أن يرزقها ولدا ذكرا‪.‬‬
‫فولدت غلما فسمته أشموئيل‪ ..‬ومعناه بالعبرانية إسماعيل‪ ..‬أي سمع الله دعائي‪ ..‬فلما‬
‫ترعرع بعثته إلى المسجد وأسلمته لرجل صالح ليتعلم منه الخير والعبادة‪ .‬فكان عنده‪ ،‬فلما بلغ‬
‫أشده‪ ،‬بينما هو ذات ليلة نائم‪ :‬إذا صوت يأتيه من ناحية المسجد فانتبه مذعورا ظانا أن الشيخ‬
‫يدعوه‪ .‬فهرع أشموئيل إلى يسأله‪ :‬أدعوتني‪..‬؟ فكره الشيخ أن يفزعه فقال‪ :‬نعم‪ ..‬نم‪ ..‬فنام‪..‬‬

‫ثم ناداه الصوت مرة ثانية‪ ..‬وثالثة‪ .‬وانتبه إلى جبريل عليه السلم يدعوه‪ :‬إن ربك بعثك إلى‬
‫قومك‪.‬‬

‫اختيار طالوت ملكا‪:‬‬

‫ذهب بنو إسرائيل لنبيهم يوما‪ ..‬سألوه‪ :‬ألسنا مظلومين؟‬


‫قال‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬ألسنا مشردين؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬ابعث لنا ملكا يجمعنا تحت رايته كي نقاتل في سبيل الله ونستعيد أرضنا ومجدنا‪.‬‬
‫قال نبيهم وكان أعلم بهم‪ :‬هل أنتم واثقون من القتال لو كتب عليكم القتال؟‬
‫قالوا‪ :‬ولماذا ل نقاتل في سبيل الله‪ ،‬وقد طردنا من ديارنا‪ ،‬وتشرد أبناؤنا‪ ،‬وساء حالنا؟‬
‫قال نبيهم‪ :‬إن الله اختار لكم طالوت ملكا عليكم‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬كيف يكون ملكا علينا وهو ليس من أبناء السرة التي يخرج منها الملوك ‪-‬أبناء يهوذا‪-‬‬
‫كما أنه ليس غنيا وفينا من هو أغنى منه؟‬
‫قال نبيهم‪ :‬إن الله اختاره‪ ،‬وفضله عليكم بعلمه وقوة جسمه‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ما هي آية ملكه؟‬
‫قال لهم نبيهم‪ :‬يسرجع لكم التابوت تجمله الملئكة‪.‬‬

‫ووقعت هذه المعجزة‪ ..‬وعادت إليهم التوراة يوما‪ ..‬ثم تجهز جيش طالوت‪ ،‬وسار الجيش طويل‬
‫حتى أحس الجنود بالعطش‪ ..‬قال الملك طالوت لجنوده‪ :‬سنصادف نهرا في الطريق‪ ،‬فمن‬
‫شرب منه فليخرج من الجيش‪ ،‬ومن لم يذقه وإنما بل ريقه فقط فليبق معي في الجيش‪..‬‬

‫وجاء النهر فشرب معظم الجنود‪ ،‬وخرجوا من الجيش‪ ،‬وكان طالوت قد أعد هذا المتحان‬
‫ليعرف من يطيعه من الجنود ومن يعصاه‪ ،‬وليعرف أيهم قوي الرادة ويتحمل العطش‪ ،‬وأيهم‬
‫ضعيف الرادة ويستسلم بسرعة‪ .‬لم يبق إل ثلثمئة وثلثة عشر رجل‪ ،‬لكن جميعهم من‬
‫الشجعان‪.‬‬

‫كان عدد أفراد جيش طالوت قليل‪ ،‬وكان جيش العدو كبيرا وقويا‪ ..‬فشعر بعض ‪-‬هؤلء الصفوة‪-‬‬
‫؟!‬
‫أنهم أضعف من جالوت وجيشه وقالوا‪ :‬كيف نهزم هذا الجيش الجبار‪‍ ..‬‬

‫من‬ ‫قال المؤمنون من جيش طالوت‪ :‬النصر ليس بالعدة والعتاد‪ ،‬إنما النصر من عند الله‪َ ) ..‬‬
‫كم ّ‬
‫ن الل ّ ِ‬
‫ه(‪ ..‬فثّبتوهم‪.‬‬ ‫ة ك َِثيَرة ً ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫فِئ َةٍ قَِليل َةٍ غ َل َب َ ْ‬
‫ت فِئ َ ً‬

‫‪101‬‬
‫وبرز جالوت في دروعه الحديدية وسلحه‪ ،‬وهو يطلب أحدا يبارزه‪ ..‬وخاف منه جنود طالوت‬
‫جميعا‪ ..‬وهنا برز من جيش طالوت راعي غنم صغير هو داود‪ ..‬كان داود مؤمنا بالله‪ ،‬وكان يعلم‬
‫أن اليمان بالله هو القوة الحقيقية في هذا الكون‪ ،‬وأن العبرة ليست بكثرة السلح‪ ،‬ول ضخامة‬
‫الجسم ومظهر الباطل‪.‬‬

‫وكان الملك‪ ،‬قد قال‪ :‬من يقتل جالوت يصير قائدا على الجيش ويتزوج ابنتي‪ ..‬ولم يكن داود‬
‫يهتم كثيرا لهذا الغراء‪ ..‬كان يريد أن يقتل جالوت لن جالوت رجل جبار وظالم ول يؤمن‬
‫بالله‪ ..‬وسمح الملك لداود أن يبارز جالوت‪..‬‬

‫وتقدم داود بعصاه وخمسة أحجار ومقلعه )وهو نبلة يستخدمها الرعاة(‪ ..‬تقدم جالوت المدجج‬
‫بالسلح والدروع‪ ..‬وسخر جالوت من داود وأهانه وضحك منه‪ ،‬ووضع داود حجرا قويا في‬
‫مقلعه وطوح به في الهواء وأطلق الحجر‪ .‬فأصاب جالوت فقتله‪ .‬وبدأت المعركة وانتصر‬
‫جيش طالوت على جيش جالوت‪.‬‬

‫جمع الله الملك والنبوة لداود‪:‬‬

‫بعد فترة أصبح داود ‪-‬عليه السلم‪ -‬ملكا لبني إسرائيل‪ ،‬فجمع الله على يديه النبوة والملك مرة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫وتأتي بعض الروايات لتخبرنا بأن طالوت بعد أن اشتهر نجم داوود أكلت الغيرة قلبه‪ ،‬وحاول‬
‫قتله‪ ،‬وتستمر الروايات في نسج مثل هذه المور‪ .‬لكننا ل نود الخوض فيها فليس لدينا دليل‬
‫قوي عليها‪ .‬ما يهمنا هو انتقال الملك بعد فترة من الزمن إلى داود‪.‬‬

‫داُوود َ َزُبوًرا(‪ ،‬وآتاه جمال‬


‫لقد أكرم الله نبيه الكريم بعدة معجزات‪ .‬لقد أنزل عليه الزبور )َوآت َي َْنا َ‬
‫الصوت‪ ،‬فكان عندما يسّبح‪ ،‬تسبح الجبال والطيور معه‪ ،‬والناس ينظرون‪ .‬وألن الله في يديه‬
‫الحديد‪ ،‬حتى قيل أنه كان يتعامل مع الحديد كما كان الناس يتعاملون مع الطين والشمع‪ ،‬وقد‬
‫تكون هذه اللنة بمعنى أنه أول من عرف أن الحديد ينصهر بالحرارة‪ .‬فكان يصنع منه الدروع‪.‬‬

‫كانت الدروع الحديدية التي يصنعها صناع الدروع ثقيلة ول تجعل المحارب حرا يستطيع أن‬
‫يتحرك كما يشاء أو يقاتل كما يريد‪ .‬فقام داوود بصناعة نوعية جديدة من الدروع‪ .‬درع يتكون‬
‫من حلقات حديدية تسمح للمحارب بحرية الحركة‪ ،‬وتحمي جسده من السيوف والفئوس‬
‫والخناجر‪ ..‬أفضل من الدروع الموجودة أيامها‪..‬‬

‫وشد الله ملك داود‪ ،‬جعله الله منصورا على أعدائه دائما‪ ..‬وجعل ملكه قويا عظيما يخيف‬
‫العداء حتى بغير حرب‪ ،‬وزاد الله من نعمه على داود فأعطاه الحكمة وفصل الخطاب‪ ،‬أعطاه‬
‫الله مع النبوة والملك حكمة وقدرة على تمييز الحق من الباطل ومعرفة الحق ومساندته‪..‬‬
‫فأصبح نبيا ملكا قاضيا‪.‬‬

‫القضايا التي عرضت على داود‪:‬‬

‫يروي لنا القرآن الكريم بعضا من القضايا التي وردت على داود ‪-‬عليه السلم‪.‬‬

‫فلقد جلس داود كعادته يوما يحكم بين الناس في مشكلتهم‪ ..‬وجاءه رجل صاحب حقل ومعه‬
‫رجل آخر‪..‬‬

‫وقال له صاحب الحقل‪ :‬سيدي النبي‪ ..‬إن غنم هذا الرجل نزلت حقلي أثناء الليل‪ ،‬وأكلت كل‬
‫عناقيد العنب التي كانت فيه‪ ..‬وقد جئت إليك لتحكم لي بالتعويض‪..‬‬

‫قال داود لصاحب الغنم‪ :‬هل صحيح أن غنمك أكلت حقل هذا الرجل؟‬

‫‪102‬‬
‫قال صاحب الغنم‪ :‬نعم يا سيدي‪..‬‬

‫قال داود‪ :‬لقد حكمت بأن تعطيه غنمك بدل من الحقل الذي أكلته‪.‬‬

‫قال سليمان‪ ..‬وكان الله قد علمه حكمة تضاف إلى ما ورث من والده‪ :‬عندي حكم آخر يا‬
‫أبي‪..‬‬

‫قال داود‪ :‬قله يا سليمان‪..‬‬

‫قال سليمان‪ :‬أحكم بأن يأخذ صاحب الغنم حقل هذا الرجل الذي أكلته الغنم‪ ..‬ويصلحه له‬
‫ويزرعه حتى تنمو أشجار العنب‪ ،‬وأحكم لصاحب الحقل أن يأخذ الغنم ليستفيد من صوفها‬
‫ولبنها ويأكل منه‪ ،‬فإذا كبرت عناقيد الغنم وعاد الحقل سليما كما كان أخذ صاحب الحقل حقله‬
‫وأعطى صاحب الغنم غنمه‪..‬‬

‫قال داود‪ :‬هذا حكم عظيم يا سليمان‪ ..‬الحمد لله الذي وهبك الحكمة‪..‬‬

‫ن أ َِبى‬ ‫حد ّث َِنى وَْرَقاُء ع َ ْ‬ ‫ة َ‬‫شَباب َ ُ‬ ‫حد ّث َِنى َ‬ ‫ب َ‬ ‫حْر ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫حد ّث َِنى ُزهَي ُْر ب ْ ُ‬ ‫وقد ورد في الصحيح قصة أخرى‪َ :‬‬
‫ما‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن أ َِبى هَُري َْرة َ ع َ‬ ‫َ‬
‫معَهُ َ‬ ‫ن َ‬ ‫مَرأَتا ِ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ى صلى الله عليه وسلم قال » ب َي ْن َ َ‬ ‫ّ‬ ‫ن الن ّب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن الع َْرِج ع َ ْ‬ ‫الّزَناد ِ ع َ ِ‬
‫حبت ِها إنما ذ َهَب بابن ِ َ‬
‫ت‬‫ت ‪ .‬وََقال َ ِ‬ ‫ك أن ْ ِ‬ ‫َ ِ ْ ِ‬ ‫صا ِ َ َ ِ َّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫قا‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫‪.‬‬ ‫ما‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫دا‬
‫َ‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫إ‬
‫ِ ِ ِ‬‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ب‬‫با‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ئ‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫ال‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫جا‬‫ما َ‬ ‫اب َْناهُ َ‬
‫داوُد َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن بْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫سلي ْ َ‬ ‫جَتا ع َلى ُ‬‫َ‬ ‫خَر َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ضى ب ِهِ ل ِلكب َْرى ف َ‬ ‫ق َ‬ ‫َ‬
‫داوُد َ ف َ‬ ‫مَتا إ ِلى َ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫حاك َ‬ ‫َ‬
‫ك ‪ .‬فت َ َ‬ ‫ب ِباب ْن ِ ِ‬ ‫َ‬
‫خَرى إ ِّنما ذهَ َ‬ ‫ال ُ ْ‬
‫ن أَ ُ‬ ‫َ‬
‫و‬
‫ه هُ َ‬ ‫ك الل ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ح ُ‬ ‫صغَْرى ل َ ي َْر َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫قال َ ِ‬ ‫ما ‪ .‬فَ َ‬ ‫ه ب َي ْن َك ُ َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ش ّ‬ ‫كي ِ‬ ‫س ّ‬ ‫ل ائ ُْتوِنى ِبال ّ‬ ‫قا َ‬ ‫خب ََرَتاه ُ فَ َ‬ ‫م فَأ ْ‬ ‫سل َ ُ‬ ‫ما ال ّ‬ ‫ع َل َي ْهِ َ‬
‫ن قَ ّ‬ ‫َ‬
‫ما ك ُّنا‬ ‫مئ ِذ ٍ َ‬‫ط إ ِل ّ ي َوْ َ‬ ‫كي ِ‬ ‫س ّ‬ ‫ت ِبال ّ‬ ‫مع ْ ُ‬ ‫س ِ‬
‫ن َ‬ ‫ل أُبو هَُري َْرة َ َوالل ّهِ إ ِ ْ‬ ‫ل َقا َ‬ ‫صغَْرى «‪َ .‬قا َ‬ ‫ضى ب ِهِ ِلل ّ‬ ‫ق َ‬ ‫اب ْن َُها ‪ .‬فَ َ‬
‫ة‪.‬‬ ‫مد ْي َ َ‬ ‫ْ‬
‫ل إ ِل ّ ال ُ‬ ‫قو ُ‬ ‫نَ ُ‬

‫فتنة داود‪:‬‬

‫وكان داود رغم قربه من الله وحب الله له‪ ،‬يتعلم دائما من الله‪ ،‬وقد علمه الله يوما أل يحكم‬
‫أبدا إل إذا استمع لقوال الطرفين المتخاصمين‪ ..‬فيذكر لنا المولى في كتابه الكريم قضية‬
‫أخرى عرضت على داود عليه السلم‪.‬‬

‫جلس داود يوما في محرابه الذي يصلي لله ويتعبد فيه‪ ،‬وكان إذا دخل حجرته أمر حراسه أل‬
‫يسمحوا لحد بالدخول عليه أو إزعاجه وهو يصلي‪ ..‬ثم فوجئ يوما في محرابه بأنه أمام اثنين‬
‫من الرجال‪ ..‬وخاف منهما داود لنهما دخل رغم أنه أمر أل يدخل عليه أحد‪ .‬سألهما داود‪ :‬من‬
‫أنتما؟‬

‫قال أحد الرجلين‪ :‬ل تخف يا سيدي‪ ..‬بيني وبين هذا الرجل خصومة وقد جئناك لتحكم بيننا‬
‫بالحق‪.‬‬

‫ة‬
‫ج ٌ‬
‫ي ن َعْ َ‬
‫ة وَل ِ َ‬
‫ج ً‬
‫ن ن َعْ َ‬
‫سُعو َ‬
‫سعٌ وَت ِ ْ‬
‫ه تِ ْ‬ ‫ذا أ َ ِ‬
‫خي ل َ ُ‬ ‫ن هَ َ‬
‫سأل داود‪ :‬ما هي القضية؟ قال الرجل الول‪) :‬إ ِ ّ‬
‫حد َةٌ(‪ .‬وقد أخذها مني‪ .‬قال أعطها لي وأخذها مني‪..‬‬ ‫َوا ِ‬

‫ه(‪..‬‬ ‫ك إ َِلى ن َِعا ِ‬


‫ج ِ‬ ‫جت ِ َ‬
‫ل ن َعْ َ‬ ‫س َ‬
‫ؤا ِ‬ ‫ك بِ ُ‬ ‫قد ْ ظ َل َ َ‬
‫م َ‬ ‫وقال داود بغير أن يسمع رأي الطرف الخر وحجته‪) :‬ل َ َ‬
‫وإن كثيرا من الشركاء يظلم بعضهم بعضا إل الذين آمنوا‪..‬‬

‫وفوجئ داود باختفاء الرجلين من أمامه‪ ..‬اختفى الرجلن كما لو كانا سحابة تبخرت في الجو‬
‫وأدرك داود أن الرجلين ملكان أرسلهما الله إليه ليعلماه درسا‪ ..‬فل يحكم بين المتخاصمين من‬
‫الناس إل إذا سمع أقوالهم جميعا‪ ،‬فربما كان صاحب التسع والتسعين نعجة معه الحق‪ ..‬وخر‬
‫داود راكعا‪ ،‬وسجد لله‪ ،‬واستغفر ربه‪..‬‬

‫‪103‬‬
‫نسجت أساطير اليهود قصصا مريبة حول فتنة داود عليه السلم‪ ،‬وقيل أنه اشتهى امرأة أحد‬
‫قواد جيشه فأرسله في معركة يعرف من البداية نهايتها‪ ،‬واستولى على امرأته‪ ..‬وليس أبعد‬
‫عن تصرفات داود من هذه القصة المختلقة‪ ..‬إن إنسانا يتصل قلبه بالله‪ ،‬ويتصل تسبيحه‬
‫بتسبيح الكائنات والجمادات‪ ،‬يستحيل عليه أن يرى أو يلحظ جمال بشريا محصورا في وجه‬
‫امرأة أو جسدها‪..‬‬

‫وفاته عليه السلم‪:‬‬

‫عاد داود يعبد الله ويسبحه حتى مات… كان داود يصوم يوما ويفطر يوما‪ ..‬قال رسول الله‬
‫محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عن داود‪" :‬أفضل الصيام صيام داود‪ .‬كان يصوم يوما‬
‫ويفطر يوما‪ .‬وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا‪ ،‬وكانت له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه ويبكي‬
‫ببكائه كل شيء ويشفي بصوته المهموم والمحموم"‪..‬‬

‫جاء في الحديث الصحيح أن داود عليه السلم كان شديد الغيرة على نساءه‪ ،‬فكانت نساءه في‬
‫قصر‪ ،‬وحول القصر أسوار‪ ،‬حتى ل يقترب أحد من نساءه‪ .‬وفي أحد اليام رأى النسوة رجل‬
‫ن به‪ .‬فبلغ الخبر داود ‪-‬عليه‬
‫في صحن القصر‪ ،‬فقالوا‪ :‬من هذا والله لن رآه داود ليبطش ّ‬
‫السلم‪ -‬فقال للرجل‪ :‬من أنت؟ وكيف دخلت؟ قال‪ :‬أنا من ل يقف أمامه حاجز‪ .‬قال‪ :‬أنت ملك‬
‫الموت‪ .‬فأذن له فأخذ ملك الموت روحه‪.‬‬

‫مات داود عليه السلم وعمره مئة سنة‪ .‬وشيع جنازته عشرات اللف‪ ،‬فكان محبوبا جدا بين‬
‫الناس‪ ،‬حتى قيل لم يمت في بني إسرائيل بعد موسى وهارون أحد كان بنو إسرائيل أشد‬
‫جزعا عليه‪ ..‬منهم على داود‪ ..‬وآذت الشمس الناس فدعا سليمان الطير قال‪ :‬أظلي على‬
‫داود‪ .‬فأظلته حتى أظلمت عليه الرض‪ .‬وسكنت الريح‪ .‬وقال سليمان للطير‪ :‬أظلي الناس من‬
‫ناحية الشمس وتنحي من ناحية الريح‪ .‬وأطاعت الطير‪ .‬فكان ذلك أول ما رآه الناس من ملك‬
‫سليمان‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫سليمان عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫آتاه الله العلم والحكمة وعلمه منطق الطير والحيوانات وسخر له الرياح والجن‪ ،‬وكان له قصة‬
‫مع الهدهد حيث أخبره أن هناك مملكة باليمن يعبد أهلها الشمس من دون الله فبعث سليمان‬
‫إلى ملكة سبأ يطلب منها اليمان ولكنها أرسلت له الهدايا فطلب من الجن أن يأتوا بعرشها‬
‫فلما جاءت ووجدت عرشها آمنت بالله‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫داُوود َ( ورثه في النبوة والملك‪ ..‬ليس المقصود وراثته في المال‪ ،‬لن النبياء ل‬
‫ن َ‬ ‫سل َي ْ َ‬
‫ما ُ‬ ‫ث ُ‬
‫)وَوَرِ َ‬
‫يورثون‪ .‬إنما تكون أموالهم صدقة من بعدهم للفقراء والمحتاجين‪ ،‬ل يخصون بها أقربائهم‪ .‬قال‬
‫محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬نحن معشر النبياء ل نورث"‪.‬‬

‫ملك سليمان‪:‬‬

‫لقد آتى الله سليمان –عليه السلم‪ -‬ملكا عظيما‪ ،‬لم يؤته أحدا من قبله‪ ،‬ولن يعطه لحد من‬
‫كا لّ‬
‫مل ْ ً‬
‫ب ِلي ُ‬ ‫ب اغ ْ ِ‬
‫فْر ِلي وَهَ ْ‬ ‫بعده إلى يوم القيامة‪ .‬فقد استجاب الله تعالى لدعوة سليمان )َر ّ‬
‫دي(‪ .‬لنتحدث الن عن بعض المور التي سخرها الله لنبيه سليمان عليه‬ ‫ن ب َعْ ِ‬
‫م ْ‬ ‫َينب َِغي ِل َ َ‬
‫حد ٍ ّ‬
‫السلم‪ .‬لقد سخر له أمرا لم يسخره لحد من قبله ول بعده‪ ..‬سخر الله له "الجن"‪ .‬فكان لديه‬
‫–عليه السلم‪ -‬القدرة على حبس الجن الذين ل يطيعون أمره‪ ،‬وتقييدهم بالسلسل وتعذيبهم‪.‬‬
‫ومن يعص سليمان يعذبه الله تعالى‪ .‬لذلك كانوا يستجيبون لوامره‪ ،‬فيبنون له القصور‪،‬‬
‫والتماثيل –التي كانت مباحة في شرعهم‪ -‬والواني والقدور الضخمة جدا‪ ،‬فل يمكن تحريكها‬
‫من ضخامتها‪ .‬وكانت تغوص له في أعماق البحار وتستخرج اللؤلؤ والمرجان والياقوت‪..‬‬

‫وسخر الله لسليمان –عليه السلم‪ -‬الريح فكانت تجري بأمره‪ .‬لذلك كان يستخدمها سليمان‬
‫في الحرب‪ .‬فكان لديه بساطا خشبيا ضخم جدا‪ ،‬وكان يأمر الجيش بأن يركب على هذا‬
‫الخشب‪ ،‬ويأمر الريح بأن ترفع البساط وتنقلهم للمكان المطلوب‪ .‬فكان يصل في سرعة‬
‫خارقة‪.‬‬

‫ومن نعم الله عليه‪ ،‬إسالة النحاس له‪ .‬مثلما أنعم على والده داود بأن ألن له الحديد وعلمه‬
‫كيف يصهره‪ ..‬وقد استفاد سليمان من النحاس المذاب فائدة عظيمة في الحرب والسلم‪.‬‬

‫ونختم هذه النعم بجيش سليمان عليه السلم‪ .‬كان جيشه مكون من‪ :‬البشر‪ ،‬والجن‪ ،‬والطيور‪.‬‬
‫فكان يعرف لغتها‪.‬‬

‫سليمان والخيل‪:‬‬

‫بعد عرض أنعم الله عليه‪ ،‬لنبدأ بقصته عليه السلم‪ .‬وبعض أحداثها‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫كان سليمان –عليه السلم‪ -‬يحب الخيل كثيرا‪ ،‬خصوصا ما يسمى )بالصافنات(‪ ،‬وهي من أجود‬
‫أنواع الخيول وأسرعها‪ .‬وفي يوم من اليام‪ ،‬بدأ استعراض هذه الخيول أمام سليمان عصرا‪،‬‬
‫وتذكر بعد الروايات أن عددها كان أكثر من عشرين ألف جواد‪ ،‬فأخذ ينظر إليها ويتأمل فيها‪،‬‬
‫فطال الستعراض‪ ،‬فشغله عن ورده اليومي في ذكر الله تعالى‪ ،‬حتى غابت الشمس‪ ،‬فانتبه‪،‬‬
‫وأنب نفسه لن حبه لهذه الخيول شغله عن ذكر ربه حتى غابت الشمس‪ ،‬فأمر بإرجاع الخيول‬
‫َ‬
‫ق َواْلع َْنا ِ‬
‫ق(‪ .‬وجاءت هنا روايتان كلهما قوي‪ .‬رواية تقول أنه أخذ‬ ‫سو ِ‬
‫حا ِبال ّ‬
‫س ً‬
‫م ْ‬ ‫له )فَط َ ِ‬
‫فق َ َ‬
‫السيف وبدأ بضربها على رقابها وأرجلها‪ ،‬حتى ل ينشغل بها عن ذكر الله‪ .‬ورواية أخرى تقول‬
‫أنه كان يمسح عليها ويستغفر الله عز وجل‪ ،‬فكان يمسحها ليرى السقيم منها من الصحيح لنه‬
‫دها للجهاد في سبيل الله‪.‬‬ ‫كان يع ّ‬

‫ابتلء سليمان‪:‬‬

‫ورغم كل هذه النعم العظيمة والمنح الخاصة‪ ،‬فقد فتن الله تعالى سليمان‪ ..‬اختبره وامتحنه‪،‬‬
‫والفتنة امتحان دائم‪ ،‬وكلما كان العبد عظيما كان امتحانه عظيما‪.‬‬

‫اختلف المفسرون في فتنة سليمان عليه السلم‪ .‬ولعل أشهر رواية عن هذه الفتنة هي نفسها‬
‫أكذب رواية‪ ..‬قيل إن سليمان عزم على الطواف على نسائه السبعمائة في ليلة واحدة‪،‬‬
‫وممارسة الحب معهن حتى تلد كل امرأة منهن ولدا يجاهد في سبيل الله‪ ،‬ولم يقل سليمان‬
‫إن شاء الله‪ ،‬فطاف على نسائه فلم تلد منهن غير امرأة واحدة‪ ..‬ولدت طفل مشوها ألقوه‬
‫على كرسيه‪ ..‬والقصة مختلقة من بدايتها لنهايتها‪ ،‬وهي من السرائيليات الخرافية‪.‬‬

‫وحقيقة هذه الفتنة ما ذكره الفخر الرازي‪ .‬قال‪ :‬إن سليمان ابتلي بمرض شديد حار فيه‬
‫الطب‪ .‬مرض سليمان مرضا شديدا حار فيه أطباء النس والجن‪ ..‬وأحضرت له الطيور أعشابا‬
‫طبية من أطراف الرض فلم يشف‪ ،‬وكل يوم كان المرض يزيد عليه حتى أصبح سليمان إذا‬
‫جلس على كرسيه كأنه جسد بل روح‪ ..‬كأنه ميت من كثرة العياء والمرض‪ ..‬واستمر هذا‬
‫المرض فترة كان سليمان فيها ل يتوقف عن ذكر الله وطلب الشفاء منه واستغفاره وحبه‪..‬‬
‫وانتهى امتحان الله تعالى لعبده سليمان‪ ،‬وشفي سليمان‪ ..‬عادت إليه صحته بعد أن عرف أن‬
‫كل مجده وكل ملكه وكل عظمته ل تستطيع أن تحمل إليه الشفاء إل إذا أراد الله سبحانه‪..‬‬
‫هذا هو الرأي الذي نرتاح إليه‪ ،‬ونراه لئقا بعصمة نبي حكيم وكريم كسليمان‪..‬‬

‫ويذكر لنا القرآن الكريم مواقف عدة‪ ،‬تتجلى لنا فيها حكمة سليمان –عليه السلم‪ -‬ومقدرته‬
‫الفائقة على استنتاج الحكم الصحيح في القضايا المعروضه عليه‪ .‬ومن هذه القصص ما حدث‬
‫في زمن داود –عليه السلم‪ -‬قال تعالى‪:‬‬

‫ن )‪(78‬‬
‫دي َ‬ ‫م َ‬
‫شاه ِ ِ‬ ‫حك ْ ِ‬
‫مهِ ْ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫قوْم ِ وَك ُّنا ل ِ ُ‬ ‫ت ِفيهِ غ َن َ ُ‬ ‫ف َ‬
‫ش ْ‬ ‫ث إ ِذ ْ ن َ َ‬
‫حْر ِ‬ ‫ن ِفي ال ْ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫حك ُ َ‬‫ن إ ِذ ْ ي َ ْ‬‫ما َ‬‫سل َي ْ َ‬
‫داُوود َ وَ ُ‬‫وَ َ‬
‫ما‬ ‫ْ‬
‫عل ً‬‫ما وَ ِ‬ ‫ْ‬
‫حك ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ن وَكل آت َي َْنا ُ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫سلي ْ َ‬ ‫ها ُ‬ ‫مَنا َ‬
‫فهّ ْ‬‫فَ َ‬

‫جلس داود كعادته يوما يحكم بين الناس في مشكلتهم‪ ..‬وجاءه رجل صاحب حقل ومعه رجل‬
‫آخر‪..‬‬

‫وقال له صاحب الحقل‪ :‬سيدي النبي‪ ..‬إن غنم هذا الرجل نزلت حقلي أثناء الليل‪ ،‬وأكلت كل‬
‫عناقيد العنب التي كانت فيه‪ ..‬وقد جئت إليك لتحكم لي بالتعويض‪..‬‬

‫قال داود لصاحب الغنم‪ :‬هل صحيح أن غنمك أكلت حقل هذا الرجل؟‬

‫قال صاحب الغنم‪ :‬نعم يا سيدي‪..‬‬

‫قال داود‪ :‬لقد حكمت بأن تعطيه غنمك بدل من الحقل الذي أكلته‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫قال سليمان‪ ..‬وكان الله قد علمه حكمة تضاف إلى ما ورث من والده‪ :‬عندي حكم آخر يا‬
‫أبي‪..‬‬

‫قال داود‪ :‬قله يا سليمان‪..‬‬

‫قال سليمان‪ :‬أحكم بأن يأخذ صاحب الغنم حقل هذا الرجل الذي أكلته الغنم‪ ..‬ويصلحه له‬
‫ويزرعه حتى تنمو أشجار العنب‪ ،‬وأحكم لصاحب الحقل أن يأخذ الغنم ليستفيد من صوفها‬
‫ولبنها ويأكل منه‪ ،‬فإذا كبرت عناقيد الغنم وعاد الحقل سليما كما كان أخذ صاحب الحقل حقله‬
‫وأعطى صاحب الغنم غنمه‪..‬‬

‫قال داود‪ :‬هذا حكم عظيم يا سليمان‪ ..‬الحمد لله الذي وهبك الحكمة‪.‬‬

‫ن أ َِبى‬ ‫حد ّث َِنى وَْرَقاُء ع َ ْ‬ ‫ة َ‬ ‫شَباب َ ُ‬ ‫حد ّث َِنى َ‬ ‫ب َ‬ ‫حْر ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫حد ّث َِنى ُزهَي ُْر ب ْ ُ‬ ‫ومنها ما جاء في الحديث الصحيح‪َ :‬‬
‫ما‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن أ َِبى هَُري َْرة َ ع َ‬ ‫َ‬
‫معَهُ َ‬ ‫ن َ‬ ‫مَرأَتا ِ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ى صلى الله عليه وسلم قال » ب َي ْن َ َ‬ ‫ّ‬ ‫ن الن ّب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن الع َْرِج ع َ ْ‬ ‫الّزَناد ِ ع َ ِ‬
‫حبت ِها إنما ذ َهَب بابن ِ َ‬
‫ت‬‫ت ‪ .‬وََقال َ ِ‬ ‫ك أن ْ ِ‬ ‫َ ِ ْ ِ‬ ‫صا ِ َ َ ِ َّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫قا‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫‪.‬‬ ‫ما‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫دا‬
‫َ‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫إ‬
‫ِ ِ ِ‬‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ب‬‫با‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ئ‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫ال‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫جا‬‫ما َ‬ ‫اب َْناهُ َ‬
‫داوُد َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن بْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫سلي ْ َ‬ ‫جَتا ع َلى ُ‬‫َ‬ ‫خَر َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ضى ب ِهِ ل ِلكب َْرى ف َ‬ ‫ق َ‬ ‫َ‬
‫داوُد َ ف َ‬ ‫مَتا إ ِلى َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حاك َ‬ ‫َ‬
‫ك ‪ .‬فت َ َ‬ ‫ب ِباب ْن ِ ِ‬ ‫َ‬
‫خَرى إ ِّنما ذهَ َ‬ ‫ال ُ ْ‬
‫ن أَ ُ‬ ‫َ‬
‫و‬
‫ه هُ َ‬ ‫ك الل ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ح ُ‬ ‫صغَْرى ل َ ي َْر َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫قال َ ِ‬ ‫ما ‪ .‬فَ َ‬ ‫ه ب َي ْن َك ُ َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ش ّ‬ ‫كي ِ‬ ‫س ّ‬ ‫ل ائ ُْتوِنى ِبال ّ‬ ‫قا َ‬ ‫خب ََرَتاه ُ فَ َ‬ ‫م فَأ ْ‬ ‫سل َ ُ‬ ‫ما ال ّ‬ ‫ع َل َي ْهِ َ‬
‫ن قَ ّ‬ ‫َ‬
‫ما ك ُّنا‬ ‫مئ ِذ ٍ َ‬‫ط إ ِل ّ ي َوْ َ‬ ‫كي ِ‬ ‫س ّ‬ ‫ت ِبال ّ‬ ‫مع ْ ُ‬ ‫س ِ‬
‫ن َ‬ ‫ل أُبو هَُري َْرة َ َوالل ّهِ إ ِ ْ‬ ‫ل َقا َ‬ ‫صغَْرى «‪َ .‬قا َ‬ ‫ضى ب ِهِ ِلل ّ‬ ‫ق َ‬ ‫اب ْن َُها ‪ .‬فَ َ‬
‫ة‪.‬‬ ‫مد ْي َ َ‬ ‫ْ‬
‫ل إ ِل ّ ال ُ‬ ‫قو ُ‬ ‫نَ ُ‬

‫سليمان والنملة‪:‬‬

‫ويذكر لنا القرآن الكريم قصة عجيبة‪:‬‬

‫وا ع ََلى َوادِ‬ ‫حـّتى ِإذا أت َ ْ‬ ‫ن )‪َ (17‬‬ ‫عو َ‬ ‫م ُيوَز ُ‬ ‫س َوالط ّي ْرِ فَهُ ْ‬ ‫لن ِ‬ ‫ن َوا ْ ِ‬ ‫ج ّ‬ ‫ن ال ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫جُنود ُه ُ ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬‫شَر ل ِ ُ‬ ‫ح ِ‬‫وَ ُ‬
‫ن)‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ل ي َشعُُرو َ‬ ‫جُنود ُه ُ وَهُ ْ‬ ‫ن وَ ُ‬‫ما ُ‬ ‫سلي ْ َ‬ ‫م ُ‬ ‫من ّك ْ‬ ‫حط ِ َ‬ ‫م ل يَ ْ‬ ‫ساك ِن َك ْ‬ ‫م َ‬ ‫خلوا َ‬ ‫مل اد ْ ُ‬ ‫ة َيا أي َّها الن ّ ْ‬ ‫مل ٌ‬ ‫ت نَ ْ‬ ‫ل قال ْ‬ ‫م ِ‬‫الن ّ ْ‬
‫ي وَع ََلى‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ن‬‫ك ال ِّتي أ َ‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ر‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬
‫ش‬ ‫ل رب أ َوزع ِْني أ َن أ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫و‬ ‫ها‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫من‬ ‫كا‬‫ً‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ضا‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫(‬‫‪18‬‬
‫ّ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪) (19‬النمل(‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬
‫ك ال ّ‬ ‫عَباد ِ َ‬ ‫ك ِفي ِ‬ ‫مت ِ َ‬ ‫خل ِْني ب َِر ْ‬
‫ح َ‬ ‫ضاه ُ وَأ َد ْ ِ‬ ‫حا ت َْر َ‬ ‫صال ِ ً‬‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫ن أع ْ َ‬
‫وال ِدي وأ َ َ‬
‫َ َ ّ َ ْ‬

‫يقول العلماء "ما أعقلها من نملة وما أفصحها"‪َ) .‬يا( نادت‪) ،‬أ َي َّها( نّبهت‪) ،‬اد ْ ُ‬
‫خُلوا( أمرت‪َ) ،‬ل‬
‫ن( اعتذرت‪ .‬سمع سليمان‬ ‫م َل ي َ ْ‬
‫شعُُرو َ‬ ‫مت‪) ،‬وَهُ ْ‬
‫جُنود ُهُ( ع ّ‬
‫صت‪) ،‬وَ ُ‬
‫ن( خ ّ‬ ‫سل َي ْ َ‬
‫ما ُ‬ ‫من ّك ُ ْ‬
‫م( نهت‪ُ ) ،‬‬ ‫حط ِ َ‬
‫يَ ْ‬
‫كلم النملة فتبسم ضاحكا من قولها‪ ..‬ما الذي تتصوره هذه النملة! رغم كل عظمته وجيشه‬
‫فإنه رحيم بالنمل‪ ..‬يسمع همسه وينظر دائما أمامه ول يمكن أبدا أن يدوسه‪ ..‬وكان سليمان‬
‫يشكر الله أن منحه هذه النعمة‪ ..‬نعمة الرحمة ونعمة الحنو والشفقة والرفق‪.‬‬

‫سليمان عليه السلم وبلقيس ملكة سبأ‪:‬‬

‫ولعل أشهر قصة عن سليمان –عليه السلم‪ -‬هي قصته مع بلقيس ملكة سبأ‪.‬‬

‫جاء يوم‪ ..‬وأصدر سليمان أمره لجيشه أن يستعد‪ ..‬بعدها‪ ،‬خرج سليمان يتفقد الجيش‪،‬‬
‫ويستعرضه ويفتش عليه‪ ..‬فاكتشف غياب الهدهد وتخلفه عن الوقوف مع الجيش‪ ،‬فغضب‬
‫وقرر تعذيبه أو قتله‪ ،‬إل إن كان لديه عذر قوي منعه من القدوم‪.‬‬

‫قا َ‬
‫ل‬ ‫ث غ َي َْر ب َِعيد ٍ فَ َ‬ ‫مك َ َ‬‫فجاء الهدهد ووقف على مسافة غير بعيدة عن سليمان –عليه السلم‪) -‬فَ َ‬
‫ح ْ‬ ‫َ‬
‫ن( وانظروا كيف يخاطب هذا الهدهد أعظم ملك‬ ‫قي ٍ‬
‫سب َإ ٍ ب ِن َب َإ ٍ ي َ ِ‬
‫من َ‬ ‫جئ ْت ُ َ‬
‫ك ِ‬ ‫ط ب ِهِ وَ ِ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م تُ ِ‬ ‫ت بِ َ‬
‫حط ُ‬ ‫أ َ‬
‫في الرض‪ ،‬بل إحساس بالذل أو المهانة‪ ،‬ليس كما يفعل ملوك اليوم ل يتكلم معهم أحد إل‬
‫ويجب أن تكون علمات الذل ظاهرة عليه‪ .‬فقال الهدهد أن أعلم منك بقضية معينة‪ ،‬فجئت‬
‫ُ‬ ‫بأخبار أكيدة من مدينة سبأ باليمن‪) .‬إني وجدت ا َ‬
‫من‬ ‫ت ِ‬ ‫م( تحكمهم )وَأوت ِي َ ْ‬ ‫مل ِك ُهُ ْ‬‫مَرأةً( بلقيس )ت َ ْ‬ ‫َ َ ّ ْ‬ ‫ِّ‬
‫م(‬‫ٌ‬ ‫ظي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ش‬‫ْ ٌ‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ها‬
‫َ َ‬‫َ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫)‬ ‫كثيرة‬ ‫أشياء‬ ‫لها‬ ‫خر‬‫ّ‬ ‫وس‬ ‫عظيمين‬ ‫يٍء( أعطاها الله قوة وملكا‬ ‫ش ْ‬ ‫كُ ّ‬
‫ل َ‬
‫ه(‬ ‫ّ‬
‫ن الل ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫من ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م ِ‬ ‫ن ِللش ْ‬ ‫دو َ‬‫ج ُ‬ ‫س ُ‬‫مَها ي َ ْ‬
‫جدت َّها وَقوْ َ‬‫صع بالجواهر )وَ َ‬ ‫وكرسي الحكم ضخم جدا ومر ّ‬

‫‪107‬‬
‫طا َ‬
‫ل‬
‫سِبي ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫م( أضلهم الشيطان )فَ َ‬
‫صد ّهُ ْ‬ ‫مال َهُ ْ‬‫ن أع ْ َ‬ ‫شي ْ َ ُ‬‫م ال ّ‬‫ن ل َهُ ُ‬‫وهم يعبدون الشمس )وََزي ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫فو َ‬
‫خ ُ‬‫ما ت ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ض وَي َعْل ُ‬‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬‫س َ‬‫بَء ِفي ال ّ‬
‫خ ْ‬‫ج ال َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫ذي ي ُ ْ‬
‫دوا ل ِلهِ ال ِ‬ ‫ج ُ‬‫س ُ‬‫ن )‪ (24‬أّل ي َ ْ‬ ‫م َل ي َهْت َ ُ‬
‫دو َ‬ ‫فَهُ ْ‬
‫ش‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ب العَْر ِ‬ ‫ه إ ِل هُوَ َر ّ‬ ‫ه ل إ ِل َ‬‫ن( يسجدون للشمس ويتركون الله سبحانه وتعالى )الل ُ‬ ‫ما ت ُعْل ُِنو َ‬
‫وَ َ‬
‫ظيم ِ( وذكر العرش هنا لنه ذكر عرش بلقيس من قبل‪ ،‬فحتى ل يغتّر إنسان بعرشها ذكر‬ ‫ال ْعَ ِ‬
‫عرش الله سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫فتعجب سليمان من كلم الهدهد‪ ،‬فلم يكن شائعا أن تحكم المرأة البلد‪ ،‬وتعجب من أن قوما‬
‫لديهم كل شيء ويسجدون للشمس‪ ،‬وتعجب من عرشها العظيم‪ ،‬فلم يصدق الهدهد ولم يكذبه‬
‫ن ال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن( وهذا منتهى العدل والحكمة‪ .‬ثم كتب كتابا‬ ‫كاذ ِِبي َ َ‬ ‫م َ‬
‫ت ِ‬ ‫م ُ‬
‫كن َ‬ ‫تأ ْ‬ ‫سَننظ ُُر أ َ‬
‫صد َقْ َ‬ ‫إنما )َقا َ‬
‫ل َ‬
‫ن( ألق‬
‫جُعو َ‬ ‫َ‬
‫ماذا ي َْر ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م فانظْر َ‬ ‫ّ‬
‫م ت َوَل ع َن ْهُ ْ‬ ‫ُ‬
‫مث ّ‬ ‫َ‬
‫ه إ ِلي ْهِ ْ‬
‫ق ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫هب ب ّك َِتاِبي هَذا فأل ِ‬ ‫ْ‬
‫وأعطاه للهدهد وقال له‪) :‬اذ َ‬
‫الكتاب عليهم وقف في مكان بعيد يحث تستطيع سماع ردهم على الكتاب‪.‬‬

‫يختصر السياق القرآني في سورة النمل ما كان من أمر ذهاب الهدهد وتسليمه الرسالة‪،‬‬
‫وينتقل مباشرة إلى الملكة‪ ،‬وسط مجلس المستشارين‪ ،‬وهي تقرأ على رؤساء قومها ووزرائها‬
‫رسالة سليمان‪..‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ِ‬ ‫سم ِ الل ّهِ الّر ْ‬
‫ح َ‬ ‫ه بِ ْ‬
‫ن وَإ ِن ّ ُ‬ ‫سل َي ْ َ‬
‫ما َ‬ ‫من ُ‬ ‫ه ِ‬‫م )‪ (29‬إ ِن ّ ُ‬
‫ري ٌ‬‫ب كَ ِ‬ ‫ي ك َِتا ٌ‬‫ي إ ِل َ ّ‬ ‫مَل ُ إ ِّني أل ْ ِ‬
‫ق َ‬ ‫َقال َ ْ‬
‫ت َيا أي َّها ال َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن )‪) (31‬النمل(‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ي وَأُتوِني ُ‬ ‫حيم ِ )‪ (30‬أّل ت َعُْلوا ع َل َ ّ‬ ‫الّر ِ‬

‫هذا هو نص خطاب الملك سليمان لملكة سبأ‪..‬‬

‫إنه يأمر في خطابه أن يأتوه مسلمين‪ ..‬هكذا مباشرة‪ ..‬إنه يتجاوز أمر عبادتهم للشمس‪ ..‬ول‬
‫يناقشهم في فساد عقيدتهم‪ ..‬ول يحاول إقناعهم بشيء‪ ..‬إنما يأمر فحسب‪ ..‬أليس مؤيدا بقوة‬
‫تسند الحق الذي يؤمن به‪..‬؟ ل عليه إذن أن يأمرهم بالتسليم‪..‬‬

‫كان هذا كله واضحا من لهجة الخطاب القصيرة المتعالية المهذبة في نفس الوقت‪..‬‬

‫طرحت الملكة على رؤساء قومها الرسالة‪ ..‬وكانت عاقلة تشاورهم في جميع المور‪َ) :‬قال َ ْ‬
‫ت َيا‬
‫كنت َقاطع ً َ‬ ‫َ‬ ‫أ َيها ال ُ َ‬
‫ن(‪.‬‬
‫دو ِ‬ ‫حّتى ت َ ْ‬
‫شهَ ُ‬ ‫مًرا َ‬
‫ةأ ْ‬ ‫ِ َ‬ ‫ما ُ ُ‬
‫ري َ‬ ‫مَل أفُْتوِني ِفي أ ْ‬
‫م ِ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬

‫كان رد فعل المل وهم رؤساء قومها التحدي‪ ..‬أثارت الرسالة بلهجتها المتعالية المهذبة غرور‬
‫القوم‪ ،‬وإحساسهم بالقوة‪ .‬أدركوا أن هناك من يتحداهم ويلوح لهم بالحرب والهزيمة ويطالبهم‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫بقبول شروطه قبل وقوع الحرب والهزيمة )َقاُلوا نح ُ‬
‫مُر إ ِل َي ْ ِ‬
‫ك‬ ‫ديد ٍ َواْل ْ‬ ‫ن أوُْلوا قُوّةٍ وَأوُلوا ب َأ ٍ‬
‫س َ‬
‫ش ِ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫َفانظ ُري ما َ ْ‬
‫ري َ‬
‫م ِ‬
‫ذا ت َأ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬

‫أراد رؤساء قومها أن يقولوا‪ :‬نحن على استعداد للحرب‪ ..‬ويبدو أن الملكة كانت أكثر حكمة من‬
‫رؤساء قومها‪ ..‬فإن رسالة سليمان أثارت تفكيرها أكثر مما استنفرتها للحرب‪..‬‬

‫فكرت الملكة طويل في رسالة سليمان‪ ..‬كان اسمه مجهول لديها‪ ،‬لم تسمع به من قبل‪،‬‬
‫وبالتالي كانت تجهل كل شيء عن قوته‪ ،‬ربما يكون قويا إلى الحد الذي يستطيع فيه غزو‬
‫مملكتها وهزيمتها‪.‬‬

‫ونظرت الملكة حولها فرأت تقدم شعبها وثراءه‪ ،‬وخشيت على هذا الثراء والتقدم من الغزو‪..‬‬
‫ورجحت الحكمة في نفسها على التهور‪ ،‬وقررت أن تلجأ إلى اللين‪ ،‬وترسل إليه بهدية‪..‬‬
‫وقدرت في نفسها أنه ربما يكون طامعا قد سمع عن ثراء المملكة‪ ،‬فحدثت نفسها بأن تهادنه‬
‫وتشتري السلم منه بهدية‪ ..‬قدرت في نفسها أيضا إن إرسالها بهدية إليه‪ ،‬سيمكن رسلها‬
‫الذين يحملون الهدية من دخول مملكته‪ ،‬وإذا سيكون رسلها عيونا في مملكته‪ ..‬يرجعون بأخبار‬
‫قومه وجيشه‪ ،‬وفي ضوء هذه المعلومات‪ ،‬سيكون تقدير موقفها الحقيقي منه ممكنا‪..‬‬

‫‪108‬‬
‫أخفت الملكة ما يدور في نفسها‪ ،‬وحدثت رؤساء قومها بأنها ترى استكشاف نيات الملك‬
‫سليمان‪ ،‬عن طريق إرسال هدية إليه‪ ،‬انتصرت الملكة للرأي الذي يقضي بالنتظار والترقب‪..‬‬
‫وأقنعت رؤساء قومها بنبذ فكرة الحرب مؤقتا‪ ،‬لن الملوك إذا دخلوا قرية انقلبت أوضاعها‬
‫وصار رؤساءها هم أكثر من فيها تعرضا للهوان والذل‪..‬‬

‫واقتنع رؤساء قومها حين لوحت الملكة بما يتهددهم من أخطار‪..‬‬

‫وصلت هدية الملكة بلقيس إلى الملك النبي سليمان‪..‬‬

‫جاءت الخبار لسليمان بوصول رسل بلقيس وهم يحملون الهدية‪ ..‬وأدرك سليمان على الفور‬
‫أن الملكة أرسلت رجالها ليعرفوا معلومات عن قوته لتقرر موقفها بشأنه‪ ..‬ونادى سليمان في‬
‫المملكة كلها أن يحتشد الجيش‪ ..‬ودخل رسل بلقيس وسط غابة كثيفة مدججة بالسلح‪..‬‬
‫فوجئ رسل بلقيس بأن كل غناهم وثرائهم يبدو وسط بهاء مملكة سليمان‪ ..‬وصغرت هديتهم‬
‫في أعينهم‪.‬‬

‫وفوجئوا بأن في الجيش أسودا ونمورا وطيورا‪ ..‬وأدركوا أنهم أمام جيش ل يقاوم‪..‬‬

‫ثم قدموا لسليمان هدية الملكة بلقيس على استحياء شديد‪ .‬وقالوا له نحن نرفض الخضوع‬
‫لك‪ ،‬لكننا ل نريد القتال‪ ،‬وهذه الهدية علمة صلح بيننا ونتمنى أن تقبلها‪ .‬نظر سليمان إلى هدية‬
‫الملكة وأشاح ببصره )فَل َما جاء سل َيمان َقا َ َ‬
‫كم ب َ ْ‬
‫ل‬ ‫ما آَتا ُ‬ ‫م ّ‬ ‫خي ٌْر ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ي الل ّ ُ‬‫ما آَتان ِ َ‬ ‫ل فَ َ‬
‫ما ٍ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫دون َ ِ‬‫م ّ‬ ‫ل أت ُ ِ‬ ‫ُ ْ َ َ‬ ‫ّ َ‬
‫َ‬
‫ن( كشف الملك سليمان بكلماته القصيرة عن رفضه لهديتهم‪ ،‬وأفهمهم أنه‬ ‫حو َ‬
‫فَر ُ‬ ‫أنُتم ب ِهَد ِي ّت ِك ُ ْ‬
‫م تَ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ي وَأُتوِني‬ ‫يستطيعون شراء رضاه بشيء آخر )أّل ت َعُْلوا ع َل َ ّ‬ ‫ل يقبل شراء رضاه بالمال‪.‬‬
‫مسلمين( ثم هددهم )ارجع إل َيهم فَل َنأ ْ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ذ‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫ها‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫هم‬ ‫ن‬‫ج‬ ‫ر‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ها‬ ‫ب‬ ‫هم‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫د‬ ‫نو‬ ‫ج‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫ت‬
‫َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ّ َ‬ ‫ِ ُ‬‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َِ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ْ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ِ ْ ِ ِ ْ‬
‫ْ‬ ‫ُ ْ ِ ِ َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫صاِغُرو َ‬ ‫َ‬

‫وصل رسل بلقيس إلى سبأ‪ ..‬وهناك هرعوا إلى الملكة وحدثوها أن بلدهم في خطر‪ ..‬حدثوها‬
‫عن قوة سليمان واستحالة صد جيشه‪ ..‬أفهموها أنها ينبغي أن تزوره وتترضاه‪ ..‬وجهزت الملكة‬
‫نفسها وبدأت رحلتها نحو مملكة سليمان‪..‬‬

‫جلس سليمان في مجلس الملك وسط رؤساء قومه ووزرائه وقادة جنده وعلمائه‪ ..‬كان يفكر‬
‫في بلقيس‪ ..‬يعرف أنها في الطريق إليه‪ ..‬تسوقها الرهبة ل الرغبة‪ ..‬ويدفعها الخوف ل‬
‫القتناع‪ ..‬ويقرر سليمان بينه وبين نفسه أن يبهرها بقوته‪ ،‬فيدفعها ذلك للدخول في السلم‪.‬‬
‫فسأل من حوله‪ ،‬إن كان بإمكان احدهم ان يحضر له عرش بلقيس قبل أن تصل الملكة‬
‫لسليمان‪.‬‬

‫فعرش الملكة بلقيس هو أعجب ما في مملكتها‪ ..‬كان مصنوعا من الذهب والجواهر الكريمة‪،‬‬
‫وكانت حجرة العرش وكرسي العرش آيتين في الصناعة والسبك‪ ..‬وكانت الحراسة ل تغفل‬
‫عن العرش لحظة‪..‬‬

‫فقال أحد الجن أنا أستطيع إحضار العرش قبل أن ينتهي المجلس –وكان عليه السلم يجلس‬
‫من الفجر إلى الظهر‪ -‬وأنا قادر على حمله وأمين على جواهره‪.‬‬

‫لكن شخص آخر يطلق عليه القرآن الكريم "الذي عنده علم الكتاب" قال لسليمان أنا أستطيع‬
‫إحضار العرش في الوقت الذي تستغرقه العين في الرمشة الواحدة‪.‬‬

‫واختلف العلماء في "الذي عنده علم الكتاب" فمنهم من قال أنه وزيره أو أحد علماء بني‬
‫إسرائيل وكان يعرف اسم الله العظم الذي إذا دعي به أجاب‪ .‬ومنهم من قال أنه جبريل عليه‬
‫السلم‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫لكن السياق القرآني ترك السم وحقيقة الكتاب غارقين في غموض كثيف مقصود‪ ..‬نحن أمام‬
‫سر معجزة كبرى وقعت من واحد كان يجلس في مجلس سليمان‪ ..‬والصل أن الله يظهر‬
‫معجزاته فحسب‪ ،‬أما سر وقوع هذه المعجزات فل يديره إل الله‪ ..‬وهكذا يورد السياق القرآني‬
‫القصة ليضاح قدرة سليمان الخارقة‪ ،‬وهي قدرة يؤكدها وجود هذا العالم في مجلسه‪.‬‬

‫هذا هو العرش ماثل أمام سليمان‪ ..‬تأمل تصرف سليمان بعد هذه المعجزة‪ ..‬لم يستخفه‬
‫الفرح بقدرته‪ ،‬ولم يزهه الشعور بقوته‪ ،‬وإنما أرجع الفضل لمالك الملك‪ ..‬وشكر الله الذي‬
‫يمتحنه بهذه القدرة‪ ،‬ليرى أيشكر أم يكفر‪.‬‬

‫تأمل سليمان عرش الملكة طويل ثم أمر بتغييره‪ ،‬أمر بإجراء بعض التعديلت عليه‪ ،‬ليمتحن‬
‫بلقيس حين تأتي‪ ،‬ويرى هل تهتدي إلى عرشها أم تكون من الذين ل يهتدون‪.‬‬

‫كما أمر سليمان ببناء قصر يستقبل فيه بلقيس‪ .‬واختار مكانا رائعا على البحر وأمر ببناء القصر‬
‫بحيث يقع معظمه على مياه البحر‪ ،‬وأمر أن تصنع أرضية القصر من زجاج شديد الصلبة‪،‬‬
‫وعظيم الشفافية في نفس الوقت‪ ،‬لكي يسير السائر في أرض القصر ويتأمل تحته السماك‬
‫الملونة وهي تسبح‪ ،‬ويرى أعشاب البحر وهي تتحرك‪.‬‬

‫تم بناء القصر‪ ،‬ومن فرط نقاء الزجاج الذي صنعت منه أرض حجراته‪ ،‬لم يكن يبدو أن هناك‬
‫زجاجا‪ .‬تلشت أرضية القصر في البحر وصارت ستارا زجاجيا خفيا فوقه‪.‬‬

‫يتجاوز السياق القرآني استقبال سليمان لها إلى موقفين وقعا لها بتدبيره‪ :‬الول موقفها أمام‬
‫عرشها الذي سبقها بالمجيء‪ ،‬وقد تركته وراءها وعليه الحراس‪ .‬والثاني موقفها أمام أرضية‬
‫القصر البلورية الشفافة التي تسبح تحتها السماك‪.‬‬

‫لما اصطحب سليمان عليه السلم بلقيس إلى العرش‪ ،‬نظرت إليه فرأته كعرشها تماما‪..‬‬
‫وليس كعرشها تماما‪ ..‬إذا كان عرشها فكيف سبقها في المجيء‪..‬؟ وإذا لم يكن عرشها فكيف‬
‫أمكن تقليده بهذه الدقة ‪..‬؟‬

‫ك؟(‬
‫ش ِ‬ ‫قال سليمان وهو يراها تتأمل العرش‪) :‬أ َهَك َ َ‬
‫ذا ع َْر ُ‬
‫َ‬
‫و!(‬ ‫قالت بلقيس بعد حيرة قصيرة‪) :‬ك َأن ّ ُ‬
‫ه هُ َ‬
‫ُ‬
‫ن(‪.‬‬
‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫من قَب ْل َِها وَك ُّنا ُ‬
‫م ْ‬ ‫قال سليمان‪) :‬وَأوِتيَنا ال ْعِل ْ َ‬
‫م ِ‬

‫توحي عبارته الخيرة إلى الملكة بلقيس أن تقارن بين عقيدتها وعلمها‪ ،‬وعقيدة سليمان‬
‫المسلمة وحكمته‪ .‬إن عبادتها للشمس‪ ،‬ومبلغ العلم الذي هم عليه‪ ،‬يصابان بالخسوف الكلي‬
‫أمام علم سليمان وإسلمه‪.‬‬

‫لقد سبقها سليمان إلى العلم بالسلم‪ ،‬بعدها سار من السهل عليه أن يسبقها في العلوم‬
‫الخرى‪ ،‬هذا ما توحي به كلمة سليمان لبلقيس‪..‬‬

‫أدركت بلقيس أن هذا هو عرشها‪ ،‬لقد سبقها إلى المجيء‪ ،‬وأنكرت فيه أجزاء وهي لم تزل‬
‫تقطع الطريق لسليمان‪ ..‬أي قدرة يملكها هذا النبي الملك سليمان؟!‬

‫انبهرت بلقيس بما شاهدته من إيمان سليمان وصلته لله‪ ،‬مثلما انبهرت بما رأته من تقدمه‬
‫في الصناعات والفنون والعلوم‪ ..‬وأدهشها أكثر هذا التصال العميق بين إسلم سليمان وعلمه‬
‫وحكمته‪.‬‬

‫انتهى المر واهتزت داخل عقلها آلف الشياء‪ ..‬رأت عقيدة قومها تتهاوى هنا أمام سليمان‪،‬‬
‫وأدركت أن الشمس التي يعبدها قومها ليست غير مخلوق خلقه الله تعالى وسخره لعباده‪،‬‬

‫‪110‬‬
‫وانكسفت الشمس للمرة الولى في قلبها‪ ،‬أضاء القلب نور جديد ل يغرب مثلما تغرب‬
‫الشمس‪.‬‬

‫ثم قيل لبلقيس ادخلي القصر‪ ..‬فلما نظرت لم تر الزجاج‪ ،‬ورأت المياه‪ ،‬وحسبت أنها ستخوض‬
‫ساقَي َْها( حتى ل يبتل رداؤها‪.‬‬
‫عن َ‬
‫ت َ‬
‫ف ْ‬ ‫البحر‪) ،‬وَك َ َ‬
‫ش َ‬

‫ح‬
‫صْر ٌ‬
‫ه َ‬
‫نبهها سليمان ‪-‬دون أن ينظر‪ -‬أل تخاف على ثيابها من البلل‪ .‬ليست هناك مياه‪) .‬إ ِن ّ ُ‬
‫من قَ َ‬
‫واِريَر(‪ ..‬إنه زجاج ناعم ل يظهر من فرط نعومته‪..‬‬ ‫مّرد ٌ ّ‬
‫م َ‬
‫ّ‬

‫ن‬ ‫سل َي ْ َ‬
‫ما َ‬ ‫مع َ ُ‬
‫اختارت بلقيس هذه اللحظة لعلن إسلمها‪ ..‬اعترفت بظلمها لنفسها وأسلمت ) َ‬
‫ن(‪ .‬وتبعها قومها على السلم‪.‬‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫ل ِل ّهِ َر ّ‬

‫أدركت أنها تواجه أعظم ملوك الرض‪ ،‬وأحد أنبياء الله الكرام‪.‬‬

‫يسكت السياق القرآني عن قصة بلقيس بعد إسلمها‪ ..‬ويقول المفسرون أنها تزوجت سليمان‬
‫بعد ذلك‪ ..‬ويقال أنها تزوجت أحد رجاله‪ ..‬أحبته وتزوجته‪ ،‬وثبت أن بعض ملوك الحبشة من‬
‫نسل هذا الزواج‪ ..‬ونحن ل ندري حقيقة هذا كله‪ ..‬لقد سكت القرآن الكريم عن ذكر هذه‬
‫التفاصيل التي ل تخدم قصه سليمان‪ ..‬ول نرى نحن داعيا للخوض فيما ل يعرف أحد‪..‬‬

‫هيكل سليمان‪:‬‬

‫من العمال التي قام بها سليمان –عليه السلم‪ -‬إعادة بناء المسجد القصى الذي بناه يعقوب‬
‫من قبل‪ .‬وبنى بجانب المسجد القصى هيكل عظيما كان مقدسا عند اليهود –ول زالوا يبحثون‬
‫عنه إلى اليوم‪ .‬وقد ورد في الهدي النبوي الكريم أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه‬
‫عز وجل ثلثا‪ ،‬فأعطاه الله اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة‪ :‬سأله حكما يصادف حكمه –‬
‫أي أحكاما عادلة كأحكام الله تعالى‪ -‬فأعطاه إياه‪ ،‬وسأله ملكا ل ينبغي لحد من بعده فأعطاه‬
‫إياه‪ ،‬وسأله أيما رجل خرج من بيته ل يريد إل الصلة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل‬
‫يوم ولدته أمه‪ ،‬وأسأل الله أن تكون لنا‪.‬‬

‫وقد تفننت التوراة في وصف الهيكل‪ ..‬وهذا بعض ما ورد في التوراة عنه‪:‬‬

‫كان هيكل سليمان في أورشليم هو مركز العبادة اليهودية‪ ،‬ورمز تاريخ اليهود‪ ،‬وموضع فخارهم‬
‫وزهوهم‪ ..‬وقد شيده الملك سليمان وأنفق ببذخ عظيم على بنائه وزخرفته‪ ..‬حتى لقد احتاج‬
‫في ذلك إلى أكثر من ‪ 180‬ألف عامل )سفر الملوك الول(‪ ..‬وقد أتى له سليمان بالذهب من‬
‫ترشيش‪ ،‬وبالخشب من لبنان‪ ،‬وبالحجار الكريمة من اليمن‪ ،‬ثم بعد سبع سنوات من العمل‬
‫المتواصل تكامل بناء الهيكل‪ ،‬فكان آية من آيات الدنيا في ذلك الزمان‪.‬‬

‫وامتدت يد الخراب إلى الهيكل مرات عديدة‪ ،‬إذ كان هدفا دائما للغزاة والطامعين ينهبون ما به‬
‫من كنوز‪ ،‬ثم يشيعون فيه الدمار‪) ،‬سفر الملوك الثاني(‪ ..‬ثم قام أحد الملوك بتجديد بنائه تحببا‬
‫في اليهود‪ ..‬فاستغرق بناء الهيكل هذه المرة ‪ 46‬سنة‪ ،‬أصبح بعدها صرحا ضخما تحيط به ثلثة‬
‫أسوار هائلة‪ ..‬وكان مكونا من ساحتين كبيرتين‪ :‬إحداهما خارجية والخرى داخلية‪ ،‬وكانت تحيط‬
‫بالساحة الداخلية أروقة شامخة تقوم على أعمدة مزدوجة من الرخام‪ ،‬وتغطيها سقوف من‬
‫خشب الرز الثمين‪ .‬وكانت الروقة القائمة في الجهة الجنوبية من الهيكل ترتكز على ‪162‬‬
‫عمودا‪ ،‬كل منها من الضخامة بحيث ل يمكن لقل من ثلثة رجال متشابكي الذرع أن يحيطوا‬
‫بدائرته‪ ..‬وكان للساحة الخارجية من الهيكل تسع بوابات ضخمة مغطاة بالذهب‪ ..‬وبوابة‬
‫عاشرة مصبوبة كلها على الرغم من حجمها الهائل من نحاس كونثوس‪ .‬وقد تدلت فوق تلك‬
‫البوابات كلها زخارف على شكل عناقيد العنب الكبيرة المصنوعة من الذهب الخالص‪ ،‬وقد‬
‫استمرت هدايا الملوك للهيكل حتى آخر زمانه )سفر الملوك الول(‪ ،‬فكان يزخر بالكنوز التي ل‬
‫تقدر بثمن‪..‬‬

‫‪111‬‬
‫وفاته عليه السلم‪:‬‬

‫عاش سليمان وسط مجد دانت له فيه الرض‪ ..‬ثم قدر الله تعالى عليه الموت فمات‪ ..‬ومثلما‬
‫كانت حياة سليمان قمة في المجد الذي يمتلئ بالعجائب والخوارق‪ ..‬كان موته آية من آيات‬
‫الله تمتلئ بالعجائب والخوارق‪ ..‬وهكذا جاء موته منسجما مع حياته‪ ،‬متسقا مع مجده‪ ،‬جاء‬
‫نهاية فريدة لحياة فريدة وحافلة‪.‬‬

‫لقد قدر الله تعالى أن يكون موت سليمان عليه الصلة والسلم بشكل ينسف فكرة معرفة‬
‫الجن للغيب‪ ..‬تلك الفكرة التي فتن الناس بها فاستقرت في أذهان بعض البشر والجن‪..‬‬

‫كان الجن يعملون لسليمان طالما هو حي‪ ..‬فلما مات انكسر تسخيرهم له‪ ،‬وأعفوا من تبعة‬
‫العمل معه‪..‬‬

‫وقد مات سليمان دون أن يعلم الجن‪ ،‬فظلوا يعملون له‪ ،‬وظلوا مسخرين لخدمته‪ ،‬ولو أنهم‬
‫كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‪.‬‬

‫كان سليمان متكئا على عصاه يراقب الجن وهم يعملون‪ .‬فمات وهو على وضعه متكئا على‬
‫العصا‪ ..‬ورآه الجن فظنوا أنه يصلي واستمروا في عملهم‪ .‬ومرت أيام طويلة‪ ..‬ثم جاءت دابة‬
‫الرض‪ ،‬وهي نملة تأكل الخشب‪ ..‬وبدأت تأكل عصا سليمان‪ ..‬كانت جائعة فأكلت جزء من‬
‫العصا‪ ..‬استمرت النملة تأكل العصا أياما‪ ..‬كانت تأكل الجزء الملمس للرض‪ ،‬فلما ازداد ما‬
‫أكلته منها اختلت العصا وسقطت من يد سليمان‪ ..‬اختل بعدها توازن الجسد العظيم فهوى إلى‬
‫الرض‪ ..‬ارتطم الجسد العظيم بالرض فهرع الناس إليه‪..‬‬

‫أدركوا أنه مات من زمن‪ ..‬تبين الجن أنهم ل يعلمون الغيب‪ ..‬وعرف الناس هذه الحقيقة أيضا‪..‬‬
‫لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‪ ،‬ما لبثوا يعملون وهم يظنون أن‬
‫سليمان حي‪ ،‬بينما هو ميت منذ فترة‪..‬‬

‫بهذه النهاية العجيبة ختم الله حياة هذا النبي الملك‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫إلياس عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫أرسل إلى أهل بعلبك غربي دمشق فدعاهم إلى عبادة الله وأن يتركوا عبادة صنم كانوا‬
‫يسمونه بعل فآذوه‪ ،‬وقال ابن عباس هو عم اليسع‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫قال تعالى‪:‬‬
‫عون بعًل وتذ َرو َ‬ ‫َ‬ ‫مهِ أ ََل ت َت ّ ُ‬
‫ن‬
‫س َ‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ن )‪ (124‬أت َد ْ ُ َ َ ْ َ َ ُ َ‬ ‫قو َ‬ ‫قو ْ ِ‬ ‫ل لِ َ‬ ‫ن )‪ (123‬إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫م ْ‬ ‫س لَ ِ‬
‫ن إ ِل َْيا َ‬ ‫وَإ ِ ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ال ْ َ‬
‫عَباد َ‬
‫ن )‪ (127‬إ ِل ِ‬ ‫ضُرو َ‬
‫ح َ‬‫م ْ‬‫مل ُ‬ ‫ن )‪ (126‬فَكذ ُّبوه ُ فَإ ِن ّهُ ْ‬ ‫م الوِّلي َ‬ ‫ب آَبائ ِك ُ‬
‫م وََر ّ‬ ‫ه َرب ّك ْ‬ ‫ن )‪ (125‬الل َ‬ ‫قي َ‬ ‫خال ِ ِ‬
‫ك‬‫ن )‪ (130‬إ ِّنا ك َذ َل ِ َ‬
‫سي َ‬‫ل َيا ِ‬ ‫م ع ََلى إ ِ ْ‬ ‫سَل ٌ‬ ‫ن )‪َ (129‬‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬‫ن )‪ (128‬وَت ََرك َْنا ع َل َي ْهِ ِفي اْل ِ‬ ‫صي َ‬ ‫خل َ ِ‬ ‫الل ّهِ ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ن )‪) (131‬الصافات(‬ ‫مِني َ‬‫مؤ ْ ِ‬ ‫ْ‬
‫عَباد َِنا ال ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ن )‪ (131‬إ ِن ّ ُ‬ ‫سِني َ‬‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫زي ال ُ‬ ‫ج ِ‬‫نَ ْ‬

‫هذه اليات القصار هي كل ما يذكره الله تعالى من قصة إلياس‪ ..‬لذلك اختلف المؤرخون في‬
‫نسبه وفي القوم الذين أرسل إليهم‪ ..‬فقال الطبري أنه إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار‬
‫بن هارون‪ ..‬أما ابن كثير فيقول أن إلياس والياسين اسمين لرجل واحد فالعرب تلحق النون‬
‫في أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها‪.‬‬

‫الروايات المختلفة حول دعوته‪:‬‬

‫جاء في تاريخ الطبري عن ابن اسحق ما ملخصه‪:‬‬

‫إن الياس عليه السلم لما دعا بني إسرائيل الى نبذ عبادة الصنام‪ ،‬والستمساك بعبادة الله‬
‫وحده رفضوه ولم يستجيبوا له‪ ،‬فدعا ربه فقال‪ :‬اللهم إن بني إسرائيل قد أبو إل الكفر بك‬
‫والعبادة لغيرك‪ ،‬فغير ما بهم من نعمتك فأوحي الله إليه إنا جعلنا أمر أرزاقهم بيدك فأنت الذي‬
‫تأمر في ذلك‪ ،‬فقال إلياس‪ :‬اللهم فأمسك عليهم المطر فحبس عنهم ثلث سنين‪ ،‬حتى هلكت‬
‫الماشية والشجر‪ ،‬وجهد الناس جهدا ً شديدًا‪ ،‬وما دعا عليهم استخفي عن أعينهم وكان يأتيه‬
‫رزقه حيث كان فكان بنو إسرائيل كلما وجدوا ربح الخبز في دار قالوا هنا إلياس فيطلبونه‪،‬‬
‫وينال أهل المنزل منهم شر وقد أوي ذات مرة إلى بيت امرأة من بنى إسرائيل لها ابن يقال‬
‫له اليسع بن خطوب به ضر فآوته واخفت أمره‪ .‬فدعا ربه لبنها فعافاه من الضر الذي كان به‬
‫واتبع إلياس وآمن به وصدقه ولزمة فكان يذهب معه حيثما ذهب وكان إلياس قد أسن وكبر‪،‬‬
‫وكان اليسع غلما ً شابا ً ثم إن إلياس قال لبني إسرائيل إذا تركتم عبادة الصنام دعوات الله أن‬
‫يفرج عنكم فأخرجوا أصنامهم ومحدثاتهم فدعا الله لهم ففرج عنهم وأغاثهم‪ ،‬فحييت بلدهم‬
‫ولكنهم لم يرجعوا عما كانوا عليه ولم يستقيموا فلما رأي إلياس منهم دعا ربه أن يقبضه إليه‬
‫فقبضة ورفعه‪.‬‬

‫ويذكر ابن كثير أن رسالته كانت لهل بعلبك غربي دمشق وأنه كان لهم صنم يعبدونه يسمي‬
‫ن ب َعًْل وَت َذ َُرو َ‬
‫ن‬ ‫)بعل( وقد ذكره القرآن الكريم على لسان إلياس حين قال لقومه ) أ َت َد ْ ُ‬
‫عو َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م اْلوِّلي َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫ب آَبائ ِك ُ ُ‬
‫م وََر ّ‬ ‫ن )‪َ (125‬والل ّ َ‬
‫ه َرب ّك ُ ْ‬ ‫قي َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫خال ِ ِ‬ ‫س َ‬
‫ح َ‬
‫أ ْ‬

‫ويذكر بعض المؤرخين أنه عقب انتهاء ملك سليمان بن داود عليه السلم وذلك في سنة ‪933‬‬
‫قبل الميلد انقسمت مملكة بن إسرائيل إلى قسمين‪ ،‬الول ‪ ،‬يخضع لملك سللة سليمان وأول‬
‫ملوكهم رحبعام بن سليمان والثاني يخضع لحد أسباط افرايم بن يوسف الصديق واسم ملكهم‬

‫‪113‬‬
‫جر بعام‪ .‬وقد تشتت دولة بنى إسرائيل بعد سليمان عليه السلم بسبب اختلف ملوكهم‬
‫وعظمائهم على السلطة‪ ،‬وبسبب الكفر والضلل الذي انتشر بين صفوفهم وقد سمح أحد‬
‫ملوكهم وهو أخاب لزوجته بنشر عبادة قومها في بني إسرائيل‪ ،‬وكان قومها عبادا ً للوثان‬
‫فشاعت العبادة الوثنية‪ ،‬وعبدوا الصنم الذي ذكره القرآن الكريم واسمه )بعل( فأرسل إليهم‬
‫إلياس عليه السلم الذي تحدثنا عن دعوته فما توفي إلياس عليه السلم أوحي الله تعالى إلى‬
‫أحد النبياء واسمه اليسع عليه السلم ليقوم في نبي إسرائيل‪ ،‬فيدعوهم إلى عبادة الله الواحد‬
‫القهار‪.‬‬

‫وأرجح الراء إن إلياس هو النبي المسمى إيليا في التوراة‬

‫اليسع عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫من العبدة الخيار ورد ذكره في التوراة كما ذكر في القرآن مرتين ‪ ،‬ويذكر أنه أقام من الموت‬
‫إنسانا كمعجزة‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫‪114‬‬
‫من أنبياء الله تعالى‪ ،‬الذين يذكر الحق أسمائهم ويثني عليهم‪ ،‬ول يحكي قصصهم‪ ..‬نبي الله‬
‫تعالى اليسع‪.‬‬

‫ن اْل َ ْ‬
‫خَياِر‬ ‫م ْ‬ ‫ل وَك ُ ّ‬
‫ل ّ‬ ‫ذا ال ْك ِ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫ل َوال ْي َ َ‬
‫سع َ و َ َ‬ ‫عي َ‬
‫ما ِ‬ ‫قال تعالى في سورة )ص(‪َ :‬واذ ْك ُْر إ ِ ْ‬
‫س َ‬

‫ضل َْنا ع ََلى‬


‫س وَُلوطا ً وَك ُل ّ ف ّ‬ ‫ل َوال ْي َ َ‬
‫سعَ وَُيون ُ َ‬ ‫عي َ‬
‫ما ِ‬
‫س َ‬
‫وقال جل جلله في سورة )النعام( ‪ :‬وَإ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬

‫جاء في تاريخ الطبري حول ذكر نسبة أنه اليسع بن أخطوب ويقال أنه ابن عم إلياس النبي‬
‫عليهما السلم ‪ ،‬وذكر الحافظ ابن عساكر نسبة على الوجه التي‪ :‬اسمه أسباط بن عدي بن‬
‫شوتلم بن أفرائيم بن يوسف الصديق عليه السلم وهو من أنبياء بني إسرائيل‪ ،‬وقد أوجز‬
‫القرآن الكريم عن حياته فلم يذكر عنها شيئا ً وإنما اكتفى بعده في مجموعة الرسل الكرام‬
‫الذي يجب اليمان بهم تفصي ً‬
‫ل‪.‬‬

‫قام بتبليغ الدعوة بعد انتقال إلياس إلى جوار الله فقام يدعو إلى الله مستمسكا ً بمنهاج نبي‬
‫الله إلياس وشريعته وقد كثرت في زمانه الحداث والخطايا وكثر الملوك الجبابرة فقتلوا‬
‫النبياء وشردوا المؤمنين فوعظهم اليسع وخوفهم من عذاب الله ولكنهم لم يأبهوا بدعوته ثم‬
‫توفاه الله وسلط على بني إسرائيل من يسومهم سوء العذاب كما قص علينا القرآن الكريم‪.‬‬
‫ويذكر بعض المؤرخين أن دعوته في مدينة تسعى بانياس إحدى مدن الشام‪ ،‬ول تزال حتى‬
‫الن موجودة وهي قريبة من بلدة اللذقية والله أعلم‪.‬‬

‫وأرجح القوال أن اليسع هو اليشع الذي تتحدث عنه التوراة‪ ..‬ويذكر القديس برنابا أنه أقام من‬
‫الموت إنسانا كمعجزة‪.‬‬

‫اليسع وذو الكفل‪:‬‬

‫ويروي بعض العلماء قصة حدثت في زمن اليسع عليه السلم‪.‬‬

‫فيروى أنه لما كبر اليسع قال لو أني استخلفت رجل ً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى‬
‫أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس فقال‪ :‬من يتقبل لي بثلث استخلفه‪ :‬يصوم النهار‪ ،‬ويقوم الليل‪،‬‬
‫ول يغضب‪ .‬فقام رجل تزدريه العين‪ ،‬فقال‪ :‬أنا‪ ،‬فقال‪ :‬أنت تصوم النهار‪ ،‬وتقوم الليل‪ ،‬ول‬
‫تغضب؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬لكن اليسع ‪-‬عليه السلم‪ -‬رد ّ الناس ذلك اليوم دون أن يستخلف أحدا‪ .‬وفي‬
‫اليوم التالي خرج اليسع ‪-‬عليه السلم‪ -‬على قومه وقال مثل ما قال اليوم الول‪ ،‬فسكت‬
‫الناس وقام ذلك الرجل فقال أنا‪ .‬فاستخلف اليسع ذلك الرجل‪.‬‬

‫فجعل إبليس يقول للشياطين‪ :‬عليكم بفلن‪ ،‬فأعياهم ذلك‪ .‬فقال دعوني وإياه فأتاه في صورة‬
‫ق‬
‫شيخ كبير فقير‪ ،‬وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة‪ ،‬وكان ل ينام الليل والنهار‪ ،‬إل تلك الّنومة فد ّ‬
‫الباب‪ .‬فقال ذو الكفل‪ :‬من هذا؟ قال‪ :‬شيخ كبير مظلوم‪ .‬فقام ذو الكفل ففتح الباب‪ .‬فبدأ‬
‫ول في‬ ‫دثه عن خصومة بينه وبين قومه‪ ،‬وما فعلوه به‪ ،‬وكيف ظلموه‪ ،‬وأخذ يط ّ‬ ‫الشيخ يح ّ‬
‫الحديث حتى حضر موعد مجلس ذو الكفل بين الناس‪ ،‬وذهبت القائلة‪ .‬فقال ذو الكفل‪ :‬إذا‬
‫قك‪.‬‬
‫رحت للمجلس فإنني آخذ لك بح ّ‬

‫فخرج الشيخ وخرج ذو الكفل لمجلسه دون أن ينام‪ .‬لكن الشيخ لم يحضر للمجلس‪ .‬وانفض‬
‫المجلس دون أن يحضر الشيخ‪ .‬وعقد المجلس في اليوم التالي‪ ،‬لكن الشيخ لم يحضر أيضا‪.‬‬
‫ولما رجع ذو الكفل لمنزله عند القائلة ليضطجع أتاه الشيخ فدق الباب‪ ،‬فقال‪ :‬من هذا؟ فقال‬
‫الشيخ الكبير المظلوم‪ .‬ففتح له فقال‪ :‬ألم أقل لك إذا قعدت فاتني؟ فقال الشيخ‪ :‬إنهم اخبث‬
‫قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا لي نحن نعطيك حقك‪ ،‬وإذا قمت جحدوني‪ .‬فقال ذو الكفل‪:‬‬
‫انطلق الن فإذا رحت مجلسي فأتني‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫ففاتته القائلة‪ ،‬فراح مجلسه وانتظر الشيخ فل يراه وشق عليه النعاس‪ ،‬فقال لبعض أهله‪ :‬ل‬
‫ي النوم‪ .‬فقدم الشيخ‪ ،‬فمنعوه من‬ ‫ن أحدا ً يقرب هذا الباب حتى أنام‪ ،‬فإني قد شق عل ّ‬ ‫تدع ّ‬
‫الدخول‪ ،‬فقال‪ :‬قد أتيته أمس‪ ،‬فذكرت لذي الكفل أمري‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل والله لقد أمرنا أن ل ندع‬
‫ور الحائط ودخل البيت ودق الباب من الداخل‪ ،‬فاستيقظ ذو‬ ‫أحدا ً يقربه‪ .‬فقام الشيخ وتس ّ‬
‫الكفل‪ ،‬وقال لهله‪ :‬ألم آمركم أل يدخل علي أحد؟ فقالوا‪ :‬لم ندع أحدا يقترب‪ ،‬فانظر من أين‬
‫دخل‪ .‬فقام ذو الكفل إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه؟ وإذا الرجل معه في البيت‪ ،‬فعرفه‬
‫ه؟ قال‪ :‬نعم أعييتني في كل شيء ففعلت كل ما ترى لغضبك‪.‬‬ ‫َ‬
‫فقال‪ :‬أع َد ُوّ الل ِ‬

‫فسماه الله ذا الكفل لنه تكفل بأمر فوفى به‬

‫‪116‬‬
‫عزير عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫من أنبياء بني إسرائيل‪ ،‬أماته الله مئة عام ثم بعثه‪ ،‬جدد الدين لبني إسرائيل وعلمهم التوراة‬
‫بعد أن نسوها‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫مرت اليام على بني إسرائيل في فلسطين‪ ،‬وانحرفوا كثير عن منهج الله عز وجل‪ .‬فأراد الله‬
‫أن يجدد دينهم‪ ،‬بعد أن فقدوا التوراة ونسوا كثيرا من آياتها‪ ،‬فبعث الله تعالى إليهم عزيرا‪.‬‬

‫أمر الله سبحانه وتعالى عزيرا أن يذهب إلى قرية‪ .‬فذهب إليها فوجدها خرابا‪ ،‬ليس فيها بشر‪.‬‬
‫فوقف متعجبا‪ ،‬كيف يرسله الله إلى قرية خاوية ليس فيها بشر‪ .‬وقف مستغربا‪ ،‬ينتظر أن‬
‫يحييها الله وهو واقف! لنه مبعوث إليها‪ .‬فأماته الله مئة عام‪ .‬قبض الله روحه وهو نائم‪ ،‬ثم‬
‫بعثه‪ .‬فاستيقظ عزير من نومه‪.‬‬

‫م ل َب ِث ْ َ‬
‫ت(‪.‬‬ ‫ل كَ ْ‬
‫فأرسل الله له ملكا في صورة بشر‪َ) :‬قا َ‬
‫َ‬
‫ض ي َوْم ٍ(‪ .‬نمت يوما أو عدة أيام على أكثر تقدير‪.‬‬
‫ما أوْ ب َعْ َ‬ ‫ل ل َب ِث ْ ُ‬
‫ت ي َوْ ً‬ ‫فأجاب عزير‪َ) :‬قا َ‬

‫عام ٍ(‪ .‬ويعقب الملك مشيرا إلى إعجاز الله عز وجل )َفانظ ُْر‬ ‫ة َ‬ ‫مئ َ َ‬
‫ت ِ‬ ‫ل َبل ل ّب ِث ْ َ‬
‫فرد الملك‪َ) :‬قا َ‬
‫مارِك( أمره بأن ينظر لطعامه الذي ظل بجانبه‬ ‫َ‬ ‫ح َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ه َوانظْر إ ِلى ِ‬ ‫سن ّ ْ‬‫م ي َت َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫شَراب ِك ل ْ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫إ َِلى ط ََعا ِ‬
‫م َ‬
‫مئة سنة‪ ،‬فرآه سليما كما تركه‪ ،‬لم ينتن ولم يتغير طعمه او ريحه‪ .‬ثم أشار له إلى حماره‪،‬‬
‫س(‪.‬‬‫ة ّللّنا ِ‬ ‫جعَل َ َ‬
‫ك آي َ ً‬ ‫فرآه قد مات وتحول إلى جلد وعظم‪ .‬ثم بين له الملك السر في ذلك )وَل ِن َ ْ‬
‫ما( نظر عزير للحمار‬ ‫ح ً‬ ‫ها ل َ ْ‬ ‫م ن َك ْ ُ‬
‫سو َ‬ ‫ها ث ُ ّ‬
‫شُز َ‬ ‫ظام ِ ك َي ْ َ‬
‫ف ُنن ِ‬ ‫ويختتم كلمه بأمر عجيب )َوانظ ُْر إ َِلى العِ َ‬
‫فرأى عظامه تتحرك فتتجمع فتتشكل بشكل الحمار‪ ،‬ثم بدأ اللحم يكسوها‪ ،‬ثم الجلد ثم‬
‫الشعر‪ ،‬فاكتمل الحمار أمام عينيه‪.‬‬

‫ه ع ََلى ك ُ ّ‬ ‫ل أ َع ْل َ َ‬
‫يٍء‬ ‫ل َ‬
‫ش ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫مأ ّ‬‫ُ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ه َقا َ‬ ‫يخبرنا المولى بما قاله عزير في هذا الموقف‪) :‬فَل َ ّ‬
‫ما ت َب َي ّ َ‬
‫قَ ِ‬
‫ديٌر(‪.‬‬

‫سبحان الله أي إعجاز هذا‪ ..‬ثم خرج إلى القرية‪ ،‬فرآها قد عمرت وامتلت بالناس‪ .‬فسألهم‪:‬‬
‫هل تعرفون عزيرا؟ قالوا‪ :‬نعم نعرفه‪ ،‬وقد مات منذ مئة سنة‪ .‬فقال لهم‪ :‬أنا عزير‪ .‬فأنكروا‬
‫مرة‪ ،‬وسألوها عن أوصافه‪ ،‬فوصفته لهم‪ ،‬فتأكدوا أنه عزير‪.‬‬‫عليه ذلك‪ .‬ثم جاءوا بعجوز مع ّ‬

‫فأخذ يعلمهم التوراة ويجددها لهم‪ ،‬فبدأ الناس يقبلون عليه وعلى هذا الدين من جديد‪ ،‬وأحبوه‬
‫دسوه للعجاز الذي ظهر فيه‪ ،‬حتى وصل تقديسهم له أن قالوا عنه أنه ابن الله‬ ‫حبا شديدا وق ّ‬
‫ه(‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ت ال ْي َُهود ُ ع َُزي ٌْر اب ْ ُ‬
‫ن الل ِ‬ ‫)وََقال َ ِ‬

‫واستمر انحراف اليهود بتقديس عزير واعتباره ابنا لله تعالى –ول زالوا يعتقدون بهذا إلى‬
‫اليوم‪ -‬وهذا من شركهم لعنهم الله‪.‬‬

‫زكريا عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫‪117‬‬
‫عبد صالح تقي أخذ يدعو للدين الحنيف‪ ،‬كفل مريم العذراء‪ ،‬دعا الله أن يرزقه ذرية صالحة‬
‫فوهب له يحيى الذي خلفه في الدعوة لعبادة الله الواحد القهار‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫امرأة عمران‪:‬‬

‫في ذلك العصر القديم‪ ..‬كان هناك نبي‪ ..‬وعالم عظيم يصلي بالناس‪ ..‬كان اسم النبي زكريا‬
‫عليه السلم‪ ..‬أما العالم العظيم الذي اختاره الله للصلة بالناس‪ ،‬فكان اسمه عمران عليه‬
‫السلم‪.‬‬

‫وكان لعمران زوجته ل تلد‪ ..‬وذات يوم رأت طائرا يطعم ابنه الطفل في فمه ويسقيه‪ ..‬ويأخذه‬
‫تحت جناحه خوفا عليه من البرد‪ ..‬وذكرها هذا المشهد بنفسها فتمنت على الله أن تلد‪..‬‬
‫ورفعت يديها وراحت تدعو خالقها أن يرزقها بطفل‪..‬‬

‫واستجابت لها رحمة الله فأحست ذات يوم أنها حامل‪ ..‬وملها الفرح والشكر لله فنذرت ما‬
‫في بطنها محررا لله‪ ..‬كان معنى هذا أنها نذرت لله أن يكون ابنها خادما للمسجد طوال‬
‫حياته‪ ..‬يتفرغ لعبادة الله وخدمة بيته‪.‬‬

‫ولدة مريم‪:‬‬

‫وجاء يوم الوضع ووضعت زوجة عمران بنتا‪ ،‬وفوجئت الم! كانت تريد ولدا ليكون في خدمة‬
‫المسجد والعبادة‪ ،‬فلما جاء المولود أنثى قررت الم أن تفي بنذرها لله برغم أن الذكر ليس‬
‫كالنثى‪.‬‬

‫سمع الله سبحانه وتعالى دعاء زوجة عمران‪ ،‬والله يسمع ما نقوله‪ ،‬وما نهمس به لنفسنا‪ ،‬وما‬
‫نتمنى أن نقوله ول نفعله‪ ..‬يسمع الله هذا كله ويعرفه‪ ..‬سمع الله زوجة عمران وهي تخبره‬
‫أنها قد وضعت بنتا‪ ،‬والله أعلم بما وضعت‪ ،‬الله‪ ..‬هو وحده الذي يختار نوع المولود فيخلقه‬
‫ذكرا أو يخلقه أنثى‪ ..‬سمع الله زوجة عمران تسأله أن يحفظ هذه الفتاة التي سمتها مريم‪،‬‬
‫وأن يحفظ ذريتها من الشيطان الرجيم‪.‬‬

‫ن‬‫مرٍ ع َ ِ‬ ‫مع ْ َ‬‫ن َ‬


‫َ‬
‫حد ّث ََنا ع َب ْد ُ الع َْلى ع َ ْ‬‫ة َ‬ ‫شي ْب َ َ‬‫ن أ َِبى َ‬ ‫َ‬
‫حد ّث ََنا أُبو ب َك ْرِ ب ْ ُ‬ ‫ويروي المام مسلم في صحيحه‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫الزهْرى ع َن سِعيد ع َ َ‬
‫موُْلودٍ‬ ‫ْ َ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ما‬‫َ‬ ‫»‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫وسلم‬ ‫عليه‬ ‫الله‬ ‫صلى‬ ‫ِ‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫سو‬ ‫ُ‬ ‫ر‬
‫ن أِبى هَُري َْرة َ أ َ‬
‫ن‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ ٍ‬ ‫ّ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م قال أُبو‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُيول َد ُ إ ِل ّ ن َ َ‬
‫ه «‪ .‬ث ّ‬ ‫م ُ‬
‫م وَأ ّ‬ ‫مْري َ َ‬
‫ن َ‬
‫ن إ ِل اب ْ َ‬ ‫سةِ الشي ْطا ِ‬ ‫خ َ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫م ْ‬
‫صاِرخا ِ‬ ‫ست َهِل َ‬ ‫ن في َ ْ‬ ‫ه الشي ْطا ُ‬ ‫س ُ‬
‫خ َ‬
‫َ‬ ‫ها ب ِ َ‬ ‫ُ‬
‫جيم ِ(‪.‬‬
‫ن الّر ِ‬ ‫شي ْطا ِ‬ ‫ن ال ّ‬‫م َ‬‫ك وَذ ُّري ّت ََها ِ‬ ‫عيذ ُ َ‬ ‫م )وَإ ِّنى أ ِ‬ ‫شئ ْت ُ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫هَُري َْرة َ اقَْرُءوا إ ِ ْ‬

‫كفالة زكريا لمريم‪:‬‬

‫أثار ميلد مريم بنت عمران مشكلة صغيرة في بداية المر‪ ..‬كان عمران قد مات قبل ولدة‬
‫مريم‪ ..‬وأراد علماء ذلك الزمان وشيوخه أن يربوا مريم‪ ..‬كل واحد يتسابق لنيل هذا الشرف‪..‬‬
‫أن يربي ابنة شيخهم الجليل العالم وصاحب صلتهم وإمامهم فيها‪.‬‬

‫قال زكريا‪ :‬أكفلها أنا‪ ..‬هي قريبتي‪ ..‬زوجتي هي خالتها‪ ..‬وأنا نبي هذه المة وأولكم بها‪.‬‬

‫وقال العلماء والشيوخ‪ :‬ولماذا ل يكفلها أحدنا‪..‬؟ ل نستطيع أن نتركك تحصل على هذا الفضل‬
‫بغير اشتراكنا فيه‪.‬‬

‫ثم اتفقوا على إجراء قرعة‪ .‬أي واحد يكسب القرعة هو الذي يكفل مريم‪ ،‬ويربيها‪ ،‬ويكون له‬
‫شرف خدمتها‪ ،‬حتى تكبر هي وهي تخدم المسجد وتتفرغ لعبادة الله‪ ،‬وأجريت القرعة‪..‬‬

‫‪118‬‬
‫وضعت مريم وهي مولودة على الرض‪ ،‬ووضعت إلى جوارها أقلم الذين يرغبون في كفالتها‪،‬‬
‫وأحضروا طفل صغيرا‪ ،‬فأخرج قلم زكريا‪..‬‬

‫قال زكريا‪ :‬حكم الله لي بأن أكفلها‪.‬‬

‫قال العلماء والشيوخ‪ :‬ل‪ ..‬القرعة ثلث مرات‪.‬‬

‫وراحوا يفكرون في القرعة الثانية‪ ..‬حفر كل واحد اسمه على قلم خشبي‪ ،‬وقالوا‪ :‬نلقي‬
‫بأقلمنا في النهر‪ ..‬من سار قلمه ضد التيار وحده فهو الغالب‪.‬‬

‫وألقوا أقلمهم في النهر‪ ،‬فسارت أقلمهم جميعا مع التيار ما عدا قلم زكريا‪ ..‬سار وحده ضد‬
‫التيار‪ ..‬وظن زكريا أنهم سيقتنعون‪ ،‬لكنهم أصروا على أن تكون القرعة ثلث مرات‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫نلقي أقلمنا في النهر‪ ..‬القلم الذي يسير مع التيار وحده يأخذ مريم‪ .‬وألقوا أقلمهم فسارت‬
‫جميعا ضد التيار ما عدا قلم زكريا‪ .‬وسلموا لزكريا‪ ،‬وأعطوه مريم ليكفلها‪ ..‬وبدأ زكريا يخدم‬
‫مريم‪ ،‬ويربيها ويكرمها حتى كبرت‪..‬‬

‫كان لها مكان خاص تعيش فيه في المسجد‪ ..‬كان لها محراب تتعبد فيه‪ ..‬وكانت ل تغادر مكانها‬
‫إل قليل‪ ..‬يذهب وقتها كله في الصلة والعبادة‪ ..‬والذكر والشكر والحب لله‪..‬‬

‫وكان زكريا يزورها أحيانا في المحراب‪ ..‬وكان يفاجأه كلما دخل عليها أنه أمام شيء مدهش‪..‬‬
‫يكون الوقت صيفا فيجد عندها فاكهة الشتاء‪ ..‬ويكون الوقت شتاء فيجد عندها فاكهة الصيف‪.‬‬

‫ويسألها زكريا من أين جاءها هذا الرزق‪..‬؟‬

‫فتجيب مريم‪ :‬إنه من عند الله‪..‬‬

‫وتكرر هذا المشهد أكثر من مرة‪.‬‬

‫دعاء زكريا ربه‪:‬‬

‫كان زكريا شيخا عجوزا ضعف عظمه‪ ،‬واشتعل رأسه بالشعر البيض‪ ،‬وأحس أنه لن يعيش‬
‫طويل‪ ..‬وكانت زوجته وهي خالة مريم عجوزا مثله ولم تلد من قبل في حياتها لنها عاقر‪..‬‬
‫وكان زكريا يتمنى أن يكون له ولد يرث علمه ويصير نبيا ويستطيع أن يهدي قومه ويدعوهم‬
‫إلى كتاب الله ومغفرته‪ ..‬وكان زكريا ل يقول أفكاره هذه لحد‪ ..‬حتى لزوجته‪ ..‬ولكن الله‬
‫تعالى كان يعرفها قبل أن تقال‪ ..‬ودخل زكريا ذلك الصباح على مريم في المحراب‪ ..‬فوجد‬
‫عندها فاكهة ليس هذا أوانها‪.‬‬
‫ل يا مري َ‬
‫هـ َ‬
‫ذا(؟!‬ ‫م أّنى ل َ ِ‬
‫ك َ‬ ‫سألها زكريا‪َ) :‬قا َ َ َ ْ َ ُ‬

‫ب(‪.‬‬
‫سا ٍ‬
‫ح َ‬ ‫من ي َ َ‬
‫شاء ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ي َْرُزقُ َ‬ ‫عند ِ الل ّهِ إ ّ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬ ‫مريم‪َ) :‬قال َ ْ‬
‫ت هُوَ ِ‬

‫قال زكريا في نفسه‪ :‬سبحان الله‪ ..‬قادر على كل شيء‪ ..‬وغرس الحنين أعلمه في قلبه‬
‫وتمنى الذرية‪ ..‬فدعا ربه‪.‬‬

‫سأل زكريا خالقه بغير أن يرفع صوته أن يرزقه طفل يرث النبوة والحكمة والفضل والعلم‪..‬‬
‫وكان زكريا خائفا أن يضل القوم من بعده ولم يبعث فيهم نبي‪ ..‬فرحم الله تعالى زكريا‬
‫واستجاب له‪ .‬فلم يكد زكريا يهمس في قلبه بدعائه لله حتى نادته الملئكة وهو قائم يصلي‬
‫مّيا(‪.‬‬
‫س ِ‬ ‫من قَب ْ ُ‬
‫ل َ‬ ‫جَعل ل ّ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫حَيى ل َ ْ‬
‫م نَ ْ‬ ‫ه يَ ْ‬
‫م ُ‬ ‫ك ب ِغَُلم ٍ ا ْ‬
‫س ُ‬ ‫في المحراب‪َ) :‬يا َزك َرِّيا إ ِّنا ن ُب َ ّ‬
‫شُر َ‬

‫‪119‬‬
‫فوجئ زكريا بهذه البشرى‪ ..‬أن يكون له ولد ل شبيه له أو مثيل من قبل‪ ..‬أحس زكريا من‬
‫ت‬‫كان َ ِ‬ ‫ن ِلي غ َُل ٌ‬
‫م وَ َ‬ ‫ب أ َّنى ي َ ُ‬
‫كو ُ‬ ‫فرط الفرح باضطراب‪ ..‬تسائل من موضع الدهشة‪َ) :‬قا َ‬
‫ل َر ّ‬
‫عت ِّيا( أدهشه أن ينجب وهو عجوز وامرأته ل تلد‪..‬‬ ‫ن ال ْك ِب َرِ ِ‬
‫م َ‬
‫ت ِ‬ ‫مَرأ َِتي َ‬
‫عاقًِرا وَقَد ْ ب َل َغْ ُ‬ ‫ا ْ‬

‫شي ًْئا( أفهمته الملئكة أن هذه‬ ‫ك َ‬ ‫م تَ ُ‬‫ل وَل َ ْ‬‫من قَب ْ ُ‬


‫ك ِ‬ ‫خل َ ْ‬
‫قت ُ َ‬ ‫ن وَقَد ْ َ‬ ‫ك هُوَ ع َل َ ّ‬
‫ي هَي ّ ٌ‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫ل ك َذ َل ِ َ‬
‫ك َقا َ‬ ‫)َقا َ‬
‫مشيئة الله وليس أمام مشيئة الله إل النفاذ‪ ..‬وليس هناك شيء يصعب على الله سبحانه‬
‫وتعالى‪ ..‬كل شيء يريده يأمره بالوجود فيوجد‪ ..‬وقد خلق الله زكريا نفسه من قبل ولم يكن‬
‫َ‬ ‫ذا أ ََراد َ َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ل لَ ُ‬
‫ه كُ ْ‬ ‫قو َ‬ ‫شي ًْئا أ ْ‬
‫ن يَ ُ‬ ‫مُره ُ إ ِ َ‬
‫ما أ ْ‬‫له وجود‪ ..‬وكل شيء يخلقه الله تعالى بمجرد المشيئة )إ ِن ّ َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫كو ُ‬‫فَي َ ُ‬

‫امتل قلب زكريا بالشكر لله وحمده وتمجيده‪ ..‬وسأل ربه أن يجعل له آية أو علمة‪ .‬فأخبره الله‬
‫أنه ستجيء عليه ثلثة أيام ل يستطيع فيها النطق‪ ..‬سيجد نفسه غير قادر على الكلم‪ ..‬سيكون‬
‫صحيح المزاج غير معتل‪ ..‬إذا حدث له هذا أيقن أن امرأته حامل‪ ،‬وأن معجزة الله قد تحققت‪..‬‬
‫وعليه ساعتها أن يتحدث إلى الناس عن طريق الشارة‪ ..‬وأن يسبح الله كثيرا في الصباح‬
‫والمساء‪..‬‬

‫وخرج زكريا يوما على الناس وقلبه مليء بالشكر‪ ..‬وأراد أن يكلمهم فاكتشف أن لسانه ل‬
‫ينطق‪ ..‬وعرف أن معجزة الله قد تحققت‪ ..‬فأومأ إلى قومه أن يسبحوا الله في الفجر‬
‫والعشاء‪ ..‬وراح هو يسبح الله في قلبه‪ ..‬صلى لله شكرا على استجابته لدعوته ومنحه يحيي‪..‬‬

‫ظل زكريا عليه السلم يدعوا إلى ربه حتى جاءت وفاته‪.‬‬

‫ولم ترد روايات صحيحة عن وفاته عليه السلم‪ .‬لكن ورايات كثير ‪-‬ضعيفة‪ -‬أوردت قتله على يد‬
‫جنود الملك الذي قتل يحيى من قبل‪.‬‬

‫يحيى عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫ابن نبي الله زكريا‪ ،‬ولد استجابة لدعاء زكريا لله أن يرزقه الذرية الصالحة فجعل آية مولده أن‬
‫ل يكلم الناس ثلث ليال سويا‪ ،‬وقد كان يحيى نبيا وحصورا ومن الصالحين ‪ ،‬كما كان بارا تقيا‬
‫ورعا منذ صباه‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫ذكر خبر ولدة يحيى عليه السلم في قصة نبي الله زكريا‪ .‬وقد شهد الحق عز وجل له أنه لم‬
‫من ل ّد ُّنا(‪..‬‬
‫حَناًنا ّ‬
‫يجعل له من قبل شبيها ول مثيل‪ ،‬وهو النبي الذي قال الحق عنه‪) :‬وَ َ‬

‫ومثلما أوتي الخضر علما من لدن الله‪ ،‬أوتي يحيي حنانا من لدن الله‪ ،‬والعلم مفهوم‪ ،‬والحنان‬
‫هو العلم الشمولي الذي يشيع في نسيجه حب عميق للكائنات ورحمة بها‪ ،‬كأن الحنان درجة‬
‫من درجات الحب الذي ينبع من العلم‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫ولقد كان يحيي في النبياء نموذجا ل مثيل له في النسك والزهد والحب اللهي‪ ..‬هو النبي‬
‫الناسك‪ .‬كان يضيء حبا لكل الكائنات‪ ،‬وأحبه الناس وأحبته الطيور والوحوش والصحاري‬
‫والجبال‪ ،‬ثم أهدرت دمه كلمة حق قالها في بلط ملك ظالم‪ ،‬بشأن أمر يتصل براقصة بغي‪.‬‬

‫فضل يحيى عليه السلم‪:‬‬

‫يذكر العلماء فضل يحيي ويوردون لذلك أمثلة كثيرة‪ .‬كان يحيي معاصرا لعيسى وقريبه من‬
‫جهة الم )ابن خالة أمه(‪..‬‬

‫وتروي السنة أن يحيي وعيسى التقيا يوما‪.‬‬

‫فقال عيسى ليحيي‪ :‬استغفر لي يا يحيي‪ ..‬أنت خير مني‪.‬‬

‫قال يحيي‪ :‬استغفر لي يا عيسى‪ .‬أنت خير مني‪.‬‬

‫قال عيسى‪ :‬بل أنت خير مني‪ ..‬سلمت على نفسي وسلم الله عليك‪.‬‬

‫تشير القصة إلى فضل يحيي حين سلم الله عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا‪.‬‬

‫ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه يوما فوجدهم يتذاكرون فضل‬
‫النبياء‪.‬‬

‫قال قائل‪ :‬موسى كليم الله‪.‬‬

‫وقال قائل‪ :‬عيسى روح الله وكلمته‪.‬‬

‫وقال قائل‪ :‬إبراهيم خليل الله‪.‬‬

‫ومضى الصحابة يتحدثون عن النبياء‪ ،‬فتدخل الرسول عليه الصلة والسلم حين رآهم ل‬
‫يذكرون يحيي‪ .‬أين الشهيد ابن الشهيد؟ يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب‪ .‬أين يحيي بن‬
‫زكريا؟‬

‫نشأته‪:‬‬

‫ولد يحيي عليه السلم‪ ..‬كان ميلده معجزة‪ ..‬فقد جاء لبيه زكريا بعد عمر طال حتى يئس‬
‫الشيخ من الذرية‪ ..‬وجاء بعد دعوة نقية تحرك بها قلب النبي زكريا‪.‬‬

‫ولد يحيي عليه السلم فجاءت طفولته غريبة عن دنيا الطفال‪ ..‬كان معظم الطفال يمارسون‬
‫اللهو‪ ،‬أما هو فكان جادا طوال الوقت‪ ..‬كان بعض الطفال يتسلى بتعذيب الحيوانات‪ ،‬وكان‬
‫يحيي يطعم الحيوانات والطيور من طعامه رحمة بها‪ ،‬وحنانا عليها‪ ،‬ويبقى هو بغير طعام‪ ..‬أو‬
‫يأكل من أوراق الشجر أو ثمارها‪.‬‬

‫وكلما كبر يحيي في السن زاد النور في وجهه وامتل قلبه بالحكمة وحب الله والمعرفة‬
‫والسلم‪ .‬وكان يحيي يحب القراءة‪ ،‬وكان يقرأ في العلم من طفولته‪ ..‬فلما صار صبيا نادته‬
‫صب ِّيا(‪.‬‬
‫م َ‬ ‫قوّةٍ َوآت َي َْناه ُ ال ْ ُ‬
‫حك ْ َ‬ ‫خذ ِ ال ْك َِتا َ‬
‫ب بِ ُ‬ ‫حَيى ُ‬
‫رحمة ربه‪َ) :‬يا ي َ ْ‬

‫صدر المر ليحيي وهو صبي أن يأخذ الكتاب بقوة‪ ،‬بمعنى أن يدرس الكتاب بإحكام‪ ،‬كتاب‬
‫الشريعة‪ ..‬رزقه الله القبال على معرفة الشريعة والقضاء بين الناس وهو صبي‪ ..‬كان أعلم‬
‫الناس وأشدهم حكمة في زمانه درس الشريعة دراسة كاملة‪ ،‬ولهذا السبب آتاه الله الحكم‬

‫‪121‬‬
‫وهو صبي‪ ..‬كان يحكم بين الناس‪ ،‬ويبين لهم أسرار الدين‪ ،‬ويعرفهم طريق الصواب ويحذرهم‬
‫من طريق الخطأ‪.‬‬

‫وكبر يحيي فزاد علمه‪ ،‬وزادت رحمته‪ ،‬وزاد حنانه بوالديه‪ ،‬والناس‪ ،‬والمخلوقات‪ ،‬والطيور‪،‬‬
‫والشجار‪ ..‬حتى عم حنانه الدنيا وملها بالرحمة‪ ..‬كان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب‪،‬‬
‫وكان يدعو الله لهم‪ ..‬ولم يكن هناك إنسان يكره يحيي أو يتمنى له الضرر‪ .‬كان محبوبا لحنانه‬
‫وزكاته وتقواه وعلمه وفضله‪ ..‬ثم زاد يحيي على ذلك بالتنسك‪.‬‬

‫وكان يحيي إذا وقف بين الناس ليدعوهم إلى الله أبكاهم من الحب والخشوع‪ ..‬وأثر في‬
‫قلوبهم بصدق الكلمات وكونها قريبة العهد من الله وعلى عهد الله‪..‬‬

‫وجاء صباح خرج فيه يحيي على الناس‪ ..‬امتل المسجد بالناس‪ ،‬ووقف يحيي بن زكريا وبدأ‬
‫يتحدث‪ ..‬قال‪ :‬إن الله عز وجل أمرني بكلمات أعمل بها‪ ،‬وآمركم أن تعملوا بها‪ ..‬أن تعبدوا الله‬
‫وحده بل شريك‪ ..‬فمن أشرك بالله وعبد غيره فهو مثل عبد اشتراه سيده فراح يعمل ويؤدي‬
‫ثمن عمله لسيد غير سيده‪ ..‬أيكم يحب أن يكون عبده كذلك‪..‬؟ وآمركم بالصلة لن الله ينظر‬
‫إلى عبده وهو يصلي‪ ،‬ما لم يلتفت عن صلته‪ ..‬فإذا صليتم فاخشعوا‪ ..‬وآمركم بالصيام‪ ..‬فان‬
‫مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك جميل الرائحة‪ ،‬كلما سار هذا الرجل فاحت منه‬
‫رائحة المسك المعطر‪ .‬وآمركم بذكر الله عز وجل كثيرا‪ ،‬فان مثل ذلك كمثل رجل طلبه‬
‫أعداؤه فأسرع لحصن حصين فأغلقه عليه‪ ..‬وأعظم الحصون ذكر الله‪ ..‬ول نجاة بغير هذا‬
‫الحصن‪.‬‬

‫مواجهة الملك‪:‬‬

‫كان أحد ملوك ذلك الزمان طاغية ضيق العقل غبي القلب يستبد برأيه‪ ،‬وكان الفساد منتشرا‬
‫في بلطه‪ ..‬وكان يسمع أنباء متفرقة عن يحيي فيدهش لن الناس يحبون أحدا بهذا القدر‪ ،‬وهو‬
‫ملك ورغم ذلك ل يحبه أحد‪.‬‬

‫وكان الملك يريد الزواج من ابنة أخيه‪ ،‬حيث أعجبه جمالها‪ ،‬وهي أيضا طمعت بالملك‪ ،‬وشجعتها‬
‫أمها على ذلك‪ .‬وكانوا يعلمون أن هذا حرام في دينهم‪ .‬فأرد الملك أن يأخذ الذن من يحيى‬
‫عليه السلم‪ .‬فذهبوا يستفتون يحيى ويغرونه بالموال ليستثني الملك‪.‬‬

‫ي فاجرة‪ .‬لكن يحيى عليه‬‫لم يكن لدى الفتاة أي حرج من الزواج بالحرام‪ ،‬فلقد كانت بغ ّ‬
‫مها‪ .‬حتى يعلم الناس –إن فعلها الملك‪ -‬أن‬
‫السلم أعلن أمام الناس تحريم زواج البنت من ع ّ‬
‫هذا انحراف‪ .‬فغضب الملك وأسقط في يده‪ ،‬فامتنع عن الزواج‪.‬‬

‫لكن الفتاة كانت ل تزال طامعة في الملك‪ .‬وفي إحدى الليالي الفاجرة أخذت البنت تغني‬
‫وترقص فأرادها الملك لنفسهن فأبت وقالت‪ :‬إل أن تتزوجني‪ .‬قال‪ :‬كيف أتزوجك وقد نهانا‬
‫يحيى‪ .‬قالت‪ :‬ائتني برأس يحيى مهرا لي‪ .‬وأغرته إغراء شديدا فأمر في حينه بإحضار رأس‬
‫يحيى له‪.‬‬

‫فذهب الجنود ودخلوا على يحيى وهو يصلي في المحراب‪ .‬وقتلوه‪ ،‬وقدموا رأسه على صحن‬
‫ي وتزوجها بالحرام‪.‬‬
‫دم الصحن إلى هذه البغ ّ‬
‫للملك‪ ،‬فق ّ‬

‫‪122‬‬
‫عيسى عليه السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫مثل عيسى مثل آدم خلقه الله من تراب وقال له كن فيكون‪ ،‬هو عيسى بن مريم رسول الله‬
‫وكلمته ألقاها إلى مريم‪ ،‬وهو الذي بشر بالنبي محمد‪ ،‬آتاه الله البينات وأيده بروح القدس‬
‫وكان وجيها في الدنيا والخرة ومن المقربين‪ ،‬كلم الناس في المهد وكهل وكان يخلق من‬
‫الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا‪ ،‬ويبرئ الكمه والبرص ويخرج الموتى كل بإذن‬
‫الله‪ ،‬دعا المسيح قومه لعبادة الله الواحد الحد ولكنهم أبوا واستكبروا وعارضوه‪ ،‬ولم يؤمن به‬
‫سوى بسطاء قومه‪ ،‬رفعه الله إلى السماء وسيهبط حينما يشاء الله إلى الرض ليكون شهيدا‬
‫على الناس‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫الحديث عن نبي الله عيسى عليه السلم‪ ،‬يستدعي الحديث عن أمه مريم‪ ،‬بل وعن ذرية آل‬
‫عمران هذه الذرية التي اصطفاها الله تعالى واختارها‪ ،‬كما اختار آدم ونوحا وآل إبراهيم على‬
‫العالمين‪.‬‬

‫آل عمران أسرة كريمة مكونة من عمران والد مريم‪ ،‬وامرأة عمران أم مريم‪ ،‬ومريم‪،‬‬
‫وعيسى عليه السلم؛ فعمران جد عيسى لمه‪ ،‬وامرأة عمران جدته لمه‪ ،‬وكان عمران صاحب‬
‫صلة بني إسرائيل في زمانه‪ ،‬وكانت زوجته امرأة عمران امرأة صالحة كذلك‪ ،‬وكانت ل تلد‪،‬‬
‫فدعت الله تعالى أن يرزقها ولدا‪ ،‬ونذرت أن تجعله مفرغا للعبادة ولخدمة بيت المقدس‪،‬‬
‫فاستجاب الله دعاءها‪ ،‬ولكن شاء الله أن تلد أنثى هي مريم‪ ،‬وجعل الله تعالى كفالتها ورعايتها‬
‫إلى زكريا عليه السلم‪ ،‬وهو زوج خالتها‪ ،‬وإنما قدر الله ذلك لتقتبس منه علما نافعا‪ ،‬وعمل‬
‫صالحا‪.‬‬

‫كانت مريم مثال للعبادة والتقوى‪ ،‬وأسبغ الله تعالى عليها فضله ونعمه مما لفت أنظار‬
‫الخرين‪ ،‬فكان زكريا عليه السلم كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا‪ ،‬فيسألها من أين‬
‫ب(‪.‬‬‫سا ٍ‬
‫ح َ‬ ‫من ي َ َ‬
‫شاء ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ي َْرُزقُ َ‬ ‫عند ِ الل ّهِ إ ّ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬ ‫لك هذا‪ ،‬فتجيب‪َ) :‬قال َ ْ‬
‫ت هُوَ ِ‬

‫كل ذلك إنما كان تمهيدا للمعجزة العظمى؛ حيث ولد عيسى عليه السلم من هذه المرأة‬
‫الطاهرة النقية‪ ،‬دون أن يكون له أب كسائر الخلق‪ ،‬واستمع إلى بداية القصة كما أوردها‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬

‫ن )‪) (42‬آل‬ ‫ساء ال َْعال َ ِ‬


‫مي َ‬ ‫ك ع ََلى ن ِ َ‬ ‫صط َ َ‬
‫فا ِ‬ ‫ك وَط َهَّر ِ‬
‫ك َوا ْ‬ ‫صط َ َ‬
‫فا ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ها ْ‬ ‫م إِ ّ‬
‫مْري َ ُ‬
‫ة َيا َ‬ ‫ت ال ْ َ‬
‫مل َئ ِك َ ُ‬ ‫وَإ ِذ ْ َقال َ ِ‬
‫عمران(‬

‫بهذه الكلمات البسيطة فهمت مريم أن الله يختارها‪ ،‬ويطهرها ويختارها ويجعلها على رأس‬

‫‪123‬‬
‫نساء الوجود‪ ..‬هذا الوجود‪ ،‬والوجود الذي لم يخلق بعد‪ ..‬هي أعظم فتاة في الدنيا وبعد قيامة‬
‫الموات وخلق الخرة‪ ..‬وعادت الملئكة تتحدث‪:‬‬

‫ن )‪) (43‬آل عمران(‬ ‫دي َواْرك َِعي َ‬


‫معَ الّراك ِِعي َ‬ ‫ج ِ‬
‫س ُ‬ ‫م اقْن ُِتي ل َِرب ّ ِ‬
‫ك َوا ْ‬ ‫مْري َ ُ‬
‫َيا َ‬

‫ولدة عيسى عليه السلم‪:‬‬

‫كان المر الصادر بعد البشارة أن تزيد من خشوعها‪ ،‬وسجودها وركوعها لله‪ ..‬ومل قلب مريم‬
‫إحساس مفاجئ بأن شيئا عظيما يوشك أن يقع‪ ..‬ويروي الله تعالى في القرآن الكريم قصة‬
‫ولدة عيسى عليه السلم فيقول‪:‬‬

‫جابا ً‬ ‫خ َ‬‫شرِقيا ً )‪َ (16‬فات َ‬ ‫كانا ً َ‬


‫م َ‬ ‫َ‬ ‫م إ ِذ ِ انت َب َ َ‬ ‫َواذ ُ‬
‫ح َ‬ ‫دون ِِهم ِ‬ ‫من ُ‬ ‫ذت ِ‬ ‫من أهل َِها َ‬ ‫ذت ِ‬ ‫مري َ َ‬‫ب َ‬ ‫كر ِفى الك َِتا ِ‬
‫ً‬ ‫ك ِإن ُ‬ ‫من َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قيا )‬ ‫ت تَ ِ‬ ‫كن َ‬ ‫ن ِ‬ ‫عوذ ُ ِبالرح َ‬
‫مـ ِ‬ ‫ويا )‪َ (17‬قالت ِإني أ ُ‬ ‫س ِ‬‫شرا َ‬ ‫ل لَها ب َ َ‬ ‫مث َ‬ ‫حَنا فَت َ َ‬
‫سلَنا إ ِليَها ُرو َ‬ ‫فَأر َ‬
‫َ‬
‫سسِنى‬ ‫م وََلم َيم َ‬ ‫غل ٌ‬‫ن ِلى ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫كيا ً )‪َ (19‬قاَلت أنى ي َ ُ‬ ‫غلما ً َز ِ‬ ‫ك ُ‬ ‫ب لَ ِ‬ ‫ك لهَ َ‬ ‫ل َرب ِ‬ ‫سو ُ‬ ‫ما أَنا َر ُ‬ ‫ل ِإن َ‬ ‫‪َ (18‬قا َ‬
‫ن‬ ‫ة منا وَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل َرب َ‬ ‫ك َقا َ‬ ‫كذل ِ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ك ب َِغيا )‪َ (20‬قا َ‬‫ً‬ ‫َ‬
‫شٌر وََلم أ ُ‬ ‫بَ َ‬
‫كا َ‬ ‫م ً‬ ‫س وََرح َ‬ ‫ة للنا ِ‬ ‫ه ءاي َ ً‬ ‫ن وَل َِنجعَل ُ‬
‫هي ٌ‬
‫ك هُوَ ع َلى َ‬
‫ضيا )‪) (21‬مريم(‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫أمرا مق ِ‬

‫جاء جبريل –عليه السلم‪ -‬لمريم وهي في المحراب على صورة بشر في غاية الجمال‪ .‬فخافت‬
‫قّيا( أرادت أن تحتمي في الله‪ ..‬وسألته هل‬
‫ت تَ ِ‬ ‫ك ِإن ُ‬
‫كن َ‬ ‫من َ‬
‫من ِ‬‫ح َ‬ ‫مريم وقالت‪) :‬إ ِّني أ َ ُ‬
‫عوذ ُ ِبالّر ْ‬
‫هو إنسان طيب يعرف الله ويتقيه‪.‬‬
‫َ‬
‫ك غ َُل ً‬
‫ما َزك ِّيا(‬ ‫ك ِل َهَ َ‬
‫ب لَ ِ‬ ‫سو ُ‬
‫ل َرب ّ ِ‬ ‫ما أَنا َر ُ‬ ‫فجاء جوابه ليطمئنها بأنه يخاف الله ويتقيه‪َ):‬قا َ‬
‫ل إ ِن ّ َ‬

‫ما َزك ِّيا( استغربت مريم‬ ‫ك غ َُل ً‬ ‫كرت ما قاله )ِل َهَ َ‬
‫ب لَ ِ‬ ‫اطمئنت مريم للغريب‪ ،‬لكن سرعان ما تذ ّ‬
‫العذراء من ذلك‪ ..‬فلم يمسسها بشر من قبل‪ ..‬ولم تتزوج‪ ،‬ولم يخطبها أحد‪ ،‬كيف تنجب بغير‬
‫م أَ ُ‬
‫ك ب َغِّيا(‬ ‫شٌر وَل َ ْ‬‫سِني ب َ َ‬
‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫م وَل َ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ن ِلي غ َُل ٌ‬ ‫زواج!! فقالت لرسول رّبها‪) :‬أ َّنى ي َ ُ‬
‫كو ُ‬
‫كا َ‬
‫مًرا‬
‫نأ ْ‬‫مّنا وَ َ َ‬
‫ة ّ‬
‫م ً‬
‫ح َ‬
‫س وََر ْ‬
‫ة ِللّنا ِ‬ ‫جعَل َ ُ‬
‫ه آي َ ً‬ ‫ن وَل ِن َ ْ‬ ‫ك هُوَ ع َل َ ّ‬
‫ي هَي ّ ٌ‬ ‫ل َرب ّ ِ‬ ‫قال الروح المين‪) :‬ك َذ َل ِ ِ‬
‫ك َقا َ‬
‫ضّيا(‬
‫م قْ ِ‬
‫ّ‬

‫استقبل عقل مريم كلمات الروح المين‪ ..‬ألم يقل لها إن هذا هو أمر الله ‪..‬؟ وكل شيء ينفذ‬
‫إذا أمر الله‪ ..‬ثم أي غرابة في أن تلد بغير أن يمسسها بشر‪..‬؟ لقد خلق الله سبحانه وتعالى‬
‫آدم من غير أب أو أم‪ ،‬لم يكن هناك ذكر وأنثى قبل خلق آدم‪ .‬وخلقت حواء من آدم فهي قد‬
‫خلقت من ذكر بغير أنثى‪ ..‬ويخلق ابنها من غير أب‪ ..‬يخلق من أنثى بغير ذكر‪ ..‬والعادة أن‬
‫يخلق النسان من ذكر وأنثى‪ ..‬العادة أن يكون له أب وأم‪ ..‬لكن المعجزة تقع عندما يريد الله‬
‫ح‬‫سي ُ‬
‫م ِ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫م ُ‬
‫س ُ‬
‫ها ْ‬ ‫من ْ ُ‬
‫مةٍ ّ‬ ‫ك ب ِك َل ِ َ‬ ‫ه ي ُب َ ّ‬
‫شُر ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫تعالى أن تقع‪ ..‬عاد جبريل عليه السلم يتحدث‪) :‬إ ِ ّ‬
‫مهْد ِ وَك َهْل ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ك‬‫ُ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫و‬ ‫(‬‫‪45‬‬ ‫)‬ ‫ن‬
‫م ّ ِ َ‬
‫بي‬‫ر‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬
‫خَرةِ وَ ِ‬
‫جيًها ِفي الد ّن َْيا َوال ِ‬
‫م وَ ِ‬
‫مْري َ َ‬
‫ن َ‬ ‫سى اب ْ ُ‬‫عي َ‬ ‫ِ‬
‫ن(‬ ‫حي َ‬
‫صال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬‫م َ‬
‫وَ ِ‬

‫زادت دهشة مريم‪ ..‬قبل أن تحمله في بطنها تعرف اسمه‪ ..‬وتعرف أنه سيكون وجيها عند الله‬
‫وعند الناس‪ ،‬وتعرف أنه سيكلم الناس وهو طفل وهو كبير‪ ..‬وقبل أن يتحرك فم مريم بسؤال‬
‫آخر‪ ..‬نفخ جبريل عليه السلم في جيب مريم –الجيب هو شق الثوب الذي يكون في الصدر‪-‬‬
‫فحملت فورا‪.‬‬

‫ومرت اليام‪ ..‬كان حملها يختلف عن حمل النساء‪ ..‬لم تمرض ولم تشعر بثقل ول أحست أن‬
‫شيئا زاد عليها ول ارتفع بطنها كعادة النساء‪ ..‬كان حملها به نعمة طيبة‪ .‬وجاء الشهر التاسع‪..‬‬
‫وفي العلماء من يقول إن الفاء تفيد التعقيب السريع‪ ..‬بمعنى أن مريم لم تحمل بعيسى تسعة‬
‫أشهر‪ ،‬وإنما ولدته مباشرة كمعجزة‪..‬‬

‫خرجت مريم ذات يوم إلى مكان بعيد‪ ..‬إنها تحس أن شيئا سيقع اليوم‪ ..‬لكنها ل تعرف حقيقة‬

‫‪124‬‬
‫هذا الشيء‪ ..‬قادتها قدماها إلى مكان يمتلئ بالشجر‪ ..‬والنخل‪ ،‬مكان ل يقصده أحد لبعده‪..‬‬
‫مكان ل يعرفه غيرها‪ ..‬لم يكن الناس يعرفون أن مريم حامل‪ ..‬وإنها ستلد‪ ..‬كان المحراب‬
‫مغلقا عليها‪ ،‬والناس يعرفون أنها تتعبد فل يقترب منها أحد‪..‬‬

‫جلست مريم تستريح تحت جذع نخلة؛ لم تكن نخلة كاملة‪ ،‬إنما جذع فقط‪ ،‬لتظهر معجزات‬
‫الله سبحانه وتعالى لمريم عند ولدة عيسى فيطمئن قلبها‪ ..‬وراحت تفكر في نفسها‪ ..‬كانت‬
‫تشعر بألم‪ ..‬وراح اللم يتزايد ويجيء في مراحل متقاربة‪ ..‬وبدأت مريم تلد‪..‬‬
‫َ‬
‫سّيا )‪) (23‬مريم(‬
‫من ِ‬
‫سًيا ّ‬
‫ت نَ ْ‬ ‫ذا وَ ُ‬
‫كن ُ‬ ‫ت قَب ْ َ‬
‫ل هَ َ‬ ‫ت َيا ل َي ْت َِني ِ‬
‫م ّ‬ ‫خل َةِ َقال َ ْ‬ ‫ض إ َِلى ِ‬
‫جذ ِْع الن ّ ْ‬ ‫خا ُ‬ ‫ها ال ْ َ‬
‫م َ‬ ‫فَأ َ‬
‫جاء َ‬

‫إن ألم الميلد يحمل لنفس العذراء الطاهرة آلما أخرى تتوقعها ولم تقع بعد‪ ..‬كيف يستقبل‬
‫الناس طفلها هذا‪..‬؟ وماذا يقولون عنها‪..‬؟ إنهم يعرفون أنها عذراء‪ ..‬فكيف تلد العذراء‪..‬؟ هل‬
‫يصدق الناس أنها ولدته بغير أن يمسسها بشر‪..‬؟ وتصورت نظرات الشك‪ ..‬وكلمات الفضول‪..‬‬
‫وتعليقات الناس‪ ..‬وامتل قلبها بالحزن‪..‬‬

‫وولدت في نفس اللحظة من قدر عليه أن يحمل في قلبه أحزان البشرية‪ ..‬لم تكد مريم تنتهي‬
‫من تمنيها الموت والنسيان‪ ،‬حتى نادها الطفل الذي ولد‪:‬‬

‫ساقِ ْ‬ ‫َ‬
‫ط‬ ‫خل َةِ ت ُ َ‬
‫جذ ِْع الن ّ ْ‬‫ك بِ ِ‬‫سرِّيا )‪ (24‬وَهُّزي إ ِل َي ْ ِ‬ ‫ك َ‬ ‫حت َ ِ‬
‫ك تَ ْ‬
‫ل َرب ّ ِ‬ ‫حَزِني قَد ْ َ‬
‫جع َ َ‬ ‫حت َِها أّل ت َ ْ‬
‫من ت َ ْ‬ ‫ها ِ‬ ‫دا َ‬‫فََنا َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫َ‬
‫قوِلي إ ِّني ن َذْر ُ‬ ‫َ‬
‫دا ف ُ‬ ‫ح ً‬ ‫َ‬
‫ن الب َشرِ أ َ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬‫ما ت ََري ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫جن ِّيا )‪ (25‬فكِلي َواشَرِبي وَقّري ع َي ًْنا فإ ِ ّ‬ ‫ك ُرطًبا َ‬ ‫ع َل َي ْ ِ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫سّيا )‪) (26‬مريم(‬ ‫م ِإن ِ‬‫م الي َوْ َ‬‫ن أك َل َ‬ ‫ما فَل ْ‬ ‫صو ْ ً‬
‫ن َ‬ ‫م ِ‬
‫ح َ‬ ‫ِللّر ْ‬

‫نظرت مريم إلى المسيح‪ ..‬سمعته يطلب منها أن تكف عن حزنها‪ ..‬ويطلب منها أن تهز جذع‬
‫النخلة لتسقط عليها بعض ثمارها الشهية‪ ..‬فلتأكل‪ ،‬ولتشرب‪ ،‬ولتمتلئ بالسلم والفرح ول تفكر‬
‫في شيء‪ ..‬فإذا رأت من البشر أحدا فلتقل لهم أنها نذرت للرحمن صوما فلن تكلم اليوم‬
‫إنسانا‪ ..‬ولتدع له الباقي‪..‬‬

‫لم تكد تلمس جذعها حتى تساقط عليها رطب شهي‪ ..‬فأكلت وشربت ولفت الطفل في‬
‫ملبسها‪ ..‬كان تفكير مريم العذراء كله يدور حول مركز واحد‪ ..‬هو عيسى‪ ،‬وهي تتساءل بينها‬
‫وبين نفسها‪ :‬كيف يستقبله اليهود‪..‬؟ ماذا يقولون فيه‪..‬؟ هل يصدق أحد من كهنة اليهود الذين‬
‫يعيشون على الغش والخديعة والسرقة‪..‬؟ هل يصدق أحدهم وهو بعيد عن الله أن الله هو‬
‫الذي رزقها هذا الطفل؟ إن موعد خلوتها ينتهي‪ ،‬ول بد أن تعود إلى قومها‪ ..‬فماذا يقولون‬
‫الناس؟‬

‫مواجهة القوم‪:‬‬

‫كان الوقت عصرا حين عادت مريم‪ ..‬وكان السوق الكبير الذي يقع في طريقها إلى المسجد‬
‫يمتلئ بالناس الذي فرغوا من البيع والشراء وجلسوا يثرثرون‪ .‬لم تكد مريم تتوسط السوق‬
‫حتى لحظ الناس أنها تحمل طفل‪ ،‬وتضمه لصدرها وتمشي به في جلل وبطئ‪..‬‬

‫تسائل أحد الفضوليين‪ :‬أليست هذه مريم العذراء‪..‬؟ طفل من هذا الذي تحمله على صدرها‪..‬؟‬

‫قال أحدهم‪ :‬هو طفلها‪ ..‬ترى أي قصة ستخرج بها علينا‪..‬؟‬

‫وجاء كهنة اليهود يسألونها‪ ..‬ابن من هذا يا مريم؟ لماذا ل تردين؟ هو ابنك قطعا‪ ..‬كيف جاءك‬
‫ولد وأنت عذراء؟‬
‫ُ‬ ‫ما َ‬ ‫كان أ َبوك ا َ‬ ‫َيا أ ُ ْ‬
‫ك ب َغِّيا )‪) (28‬مريم(‬
‫م ِ‬
‫تأ ّ‬‫كان َ ْ‬ ‫سوٍْء وَ َ‬ ‫ما َ َ ُ ِ ْ‬
‫مَرأ َ‬ ‫ن َ‬
‫هاُرو َ‬
‫ت َ‬
‫خ َ‬

‫الكلمة ترمي مريم بالبغاء‪ ..‬هكذا مباشرة دون استماع أو تحقيق أو تثبت‪ ..‬ترميها بالبغاء‬

‫‪125‬‬
‫وتعيرها بأنها من بيت طيب وليست أمها بغيا‪ ..‬فكيف صارت هي كذلك؟ راحت التهامات‬
‫تسقط عليها وهي مرفوعة الرأس‪ ..‬تومض عيناها بالكبرياء والمومة‪ ..‬ويشع من وجهها نور‬
‫يفيض بالثقة‪ ..‬فلما زادت السئلة‪ ،‬وضاق الحال‪ ،‬وانحصر المجال‪ ،‬وامتنع المقال‪ ،‬اشتد توكلها‬
‫على ذي الجلل وأشارت إليه‪..‬‬

‫أشارت بيدها لعيسى‪ ..‬واندهش الناس‪ ..‬فهموا أنها صائمة عن الكلم وترجو منهم أن يسألوه‬
‫هو كيف جاء‪ ..‬تساءل الكهنة ورؤساء اليهود كيف يوجهون السؤال لطفل ولد منذ أيام‪ ..‬هل‬
‫يتكلم طفل في لفافته‪..‬؟!‬

‫صب ِّيا(‪.‬‬ ‫ن ِفي ال ْ َ‬


‫مهْد ِ َ‬ ‫من َ‬
‫كا َ‬ ‫ف ن ُك َل ّ ُ‬
‫م َ‬ ‫قالوا لمريم‪) :‬ك َي ْ َ‬

‫قال عيسى‪:‬‬
‫َ‬ ‫ل إني ع َبد الل ّه آتان ِي ال ْكتاب وجعل َِني نبيا )‪ (30‬وجعل َِني مبار ً َ‬
‫صَلةِ‬
‫صاِني ِبال ّ‬ ‫ت وَأوْ َ‬ ‫كن ُ‬‫ما ُ‬ ‫ن َ‬
‫كا أي ْ َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َِّ‬ ‫َِ َ َ َ َ‬ ‫ِ َ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َقا َ ِ ّ‬
‫ت‬‫م وُِلد ّ‬‫ي ي َوْ َ‬ ‫َ‬
‫م ع َل ّ‬ ‫َ‬
‫سل ُ‬ ‫قّيا )‪َ (32‬وال ّ‬ ‫جّباًرا َ‬
‫ش ِ‬ ‫ْ‬
‫جعَلِني َ‬‫م يَ ْ‬ ‫َ‬
‫وال ِد َِتي وَل ْ‬
‫حّيا )‪ (31‬وَب َّرا ب ِ َ‬ ‫ت َ‬ ‫م ُ‬ ‫ما د ُ ْ‬‫كاةِ َ‬ ‫َوالّز َ‬
‫حّيا )‪) (33‬مريم(‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ث َ‬‫م أب ْعَ ُ‬ ‫ت وَي َوْ َ‬ ‫مو ُ‬‫مأ ُ‬ ‫وَي َوْ َ‬

‫لم يكد عيسى ينتهي من كلمه حتى كانت وجوه الكهنة والحبار ممتقعة وشاحبة‪ ..‬كانوا‬
‫يشهدون معجزة تقع أمامهم مباشرة‪ ..‬هذا طفل يتكلم في مهده‪ ..‬طفل جاء بغير أب‪ ..‬طفل‬
‫يقول أن الله قد آتاه الكتاب وجعله نبيا‪ ..‬هذا يعني إن سلطتهم في طريقها إلى النهيار‪..‬‬
‫سيصبح كل واحد فيهم بل قيمة عندما يكبر هذا الطفل‪ ..‬لن يستطيع أن يبيع الغفران للناس‪ ،‬أو‬
‫يحكمهم عن طريق ادعائه أنه ظل السماء على الرض‪ ،‬أو باعتباره الوحيد العارف في‬
‫الشريعة‪ ..‬شعر كهنة اليهود بالمأساة الشخصية التي جاءتهم بميلد هذا الطفل‪ ..‬إن مجرد‬
‫مجيء المسيح يعني إعادة الناس إلى عبادة الله وحده‪ ..‬وهذا معناه إعدام الديانة اليهودية‬
‫الحالية‪ ..‬فالفرق بين تعاليم موسى وتصرفات اليهود كان يشبه الفرق بين نجوم السماء ووحل‬
‫الطرقات‪ ..‬وتكتم رهبان اليهود قصة ميلد عيسى وكلمه في المهد‪ ..‬واتهموا مريم العذراء‬
‫ببهتان عظيم‪ ..‬اتهموها بالبغاء‪ ..‬رغم أنهم عاينوا بأنفسهم معجزة كلم ابنها في المهد‪.‬‬

‫وتخبرنا بعض الروايات أن مريم هاجرت بعيسى إلى مصر‪ ،‬بينما تخبرنا روايات أخرى بأن‬
‫هجرتها كانت من بيت لحم لبيت المقدس‪ .‬إل أن المعروف لدينا هو أن هذه الهجرة كانت قبل‬
‫بعثته‪.‬‬

‫معجزاته‪:‬‬

‫كبر عيسى‪ ..‬ونزل عليه الوحي‪ ،‬وأعطاه الله النجيل‪ .‬وكان عمره آنذاك ‪-‬كما يرى الكثير من‬
‫العلماء‪ -‬ثلثون سنة‪ .‬وأظهر الله على يديه المعجزات‪ .‬يقول المولى عّز وجل في كتابه عن‬
‫معجزات عيسى عليه السلم‪:‬‬

‫كم ِبآي َةٍ‬ ‫جئت ُ ُ‬ ‫ل أني َقد ِ‬ ‫سول ً إ َِلى ب َِني ِإسرائي َ‬ ‫ل )‪ (48‬وََر ُ‬ ‫جي َ‬ ‫لن ِ‬ ‫ة َوالتوَراة َ َوا ِ‬ ‫م َ‬ ‫حك َ‬ ‫ب َوال ِ‬ ‫ه الك َِتا َ‬ ‫م ُ‬ ‫وَي َُعل ُ‬
‫ه‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م َ‬ ‫ن اللهِ وَأبرِىْ الك َ‬ ‫ن طيًرا ب ِِإذ ِ‬ ‫فخ ِفيهِ في َكو ُ‬ ‫ن كَهيئةِ الطيرِ فأن ُ‬ ‫ن الطي‬ ‫من ربكم أِني أخلقُ لكم م َ‬
‫ة‬
‫ك لي َ ً‬ ‫كم ِإن ِفي ذل ِ َ‬ ‫ن ِفى ب ُُيوت ِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫والبرص وُأحي الموتى بإذن الله و ِأ ُ‬
‫خُرو َ‬ ‫ما َتد ِ‬‫َ َ‬ ‫و‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫لو‬ ‫ك‬‫تأ‬
‫َ‬ ‫ما‬
‫ِ َ‬ ‫ب‬ ‫كم‬ ‫ئ‬‫نب‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ِِ ِ‬ ‫َ َ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫م ع َليكم‬ ‫حر َ‬ ‫ذي ُ‬ ‫ض ال ِ‬
‫حل لكم َبع َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ن التوَراةِ َول ِ‬ ‫م َ‬ ‫دي ِ‬ ‫ن يَ َ‬‫ما َبي َ‬ ‫صدقا ل َ‬ ‫ً‬ ‫م َ‬
‫ن )‪ (49‬وَ ُ‬ ‫مِني َ‬ ‫كنُتم مؤ ِ‬ ‫كم ِإن ُ‬ ‫ل ُ‬
‫صراطٌ‬ ‫ه َربي وََرب ُ‬ ‫َ‬ ‫كم ِبآي َةٍ من رب ُ‬ ‫جئت ُ ُ‬
‫ذا ِ‬ ‫هـ َ‬
‫دوه ُ َ‬‫كم َفاعب ُ ُ‬ ‫ن )‪ِ (50‬إن الل َ‬ ‫طيُعو ِ‬ ‫ه وَأ ِ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫كم َفات ُ‬ ‫وَ ِ‬
‫م )‪) (51‬آل عمران(‬ ‫قي ٌ‬ ‫مست َ ِ‬

‫فكان عيسى –عليه السلم‪ -‬رسول لبني إسرائيل فقط‪ .‬ومعجزاته هي‪:‬‬

‫عّلمه الله التوراة‪.‬‬

‫يصنع من الطين شكل الطير ثم ينفخ فيه فيصبح طيرا حّيا يطير أمام أعينهم‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫يعالج الكمه )وهو من ولد أعمى(‪ ،‬فيمسح على عينيه أمامهم فيبصر‪.‬‬

‫يعالج البرص )وهو المرض الذي يصيب الجلد فيجعل لونه أبيضا(‪ ،‬فيسمح على جسمه فيعود‬
‫سليما‪.‬‬

‫دت لهم زوجاتهم من طعام‪.‬‬


‫يخبرهم بما يخبئون في بيوتهم‪ ،‬وما أع ّ‬

‫وكان –عليه السلم‪ -‬يحيي الموتى‪.‬‬

‫إيمان الحواريون‪:‬‬

‫جاء عيسى ليخفف عن بني إسرائيل بإباحة بعض المور التي حرمتها التوراة عليهم عقابا لهم‪.‬‬
‫إل أن بني إسرائيل –مع كل هذه اليات‪ -‬كفروا‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫ل ال ْحواريون نح َ‬ ‫لم َ‬ ‫َ‬
‫مّنا‬
‫آ َ‬ ‫صاُر الل ّهِ‬‫ن أن َ‬
‫َ َ ِّ َ َ ْ ُ‬ ‫صاِري إ َِلى الل ّهِ َقا َ‬ ‫ن أن َ‬ ‫فَر َقا َ َ ْ‬ ‫م ال ْك ُ ْ‬
‫من ْهُ ُ‬
‫سى ِ‬ ‫عي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ّ‬ ‫ح‬
‫ما أ َ‬‫فَل َ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِبالل ّهِ َوا ْ‬
‫)‪(53‬‬ ‫ن‬‫دي َ‬‫شاه ِ ِ‬ ‫ل َفاك ْت ُب َْنا َ‬
‫معَ ال ّ‬ ‫سو َ‬
‫ت َوات ّب َعَْنا الّر ُ‬
‫ما أنَزل ْ‬‫مّنا ب ِ َ‬‫ن )‪َ (52‬رب َّنا آ َ‬ ‫مو َ‬‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬
‫شهَد ْ ب ِأّنا ُ‬
‫)آل عمران(‬

‫وقال تعالى‪:‬‬
‫عيسى ابن مريم ل ِل ْحواريين م َ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫صاِري إ َِلى الل ّهِ‬ ‫ن أن ََ‬ ‫َ َ ِّ َ َ ْ‬ ‫ْ ُ َ ْ َ َ‬ ‫ل ِ َ‬ ‫صاَر الل ّهِ ك َ َ‬
‫ما َقا َ‬ ‫كونوا أن َ‬ ‫مُنوا ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫َ‬ ‫ل ال ْحواريون نح َ‬
‫ن‬ ‫ة فَأي ّد َْنا ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ف ٌ‬ ‫فَرت ّ‬
‫طائ ِ َ‬ ‫ل وَك َ َ‬
‫سَراِئي َ‬
‫من ب َِني إ ِ ْ‬
‫ة ّ‬
‫ف ٌ‬ ‫مَنت ّ‬
‫طائ ِ َ‬ ‫صاُر الل ّهِ فَآ َ‬ ‫ن َأن َ‬ ‫َ َ ِّ َ َ ْ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ن )‪) (14‬الصف(‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ري َ‬ ‫حوا ظاه ِ ِ‬ ‫صب َ ُ‬
‫م فأ ْ‬ ‫مُنوا ع َلى ع َد ُوّه ِ ْ‬ ‫آ َ‬

‫قيل أن عدد الحواريين كان سبعة عشر رجل‪ ،‬لكن الروايات الرجح أنهم كانوا اثني عشر رجل‪.‬‬
‫آمن الحواريون‪ ،‬لكن التردد ل يزال موجودا في نفوسهم‪ .‬قال الله تعالى قصة هذا التردد‪:‬‬

‫ماء َقا َ‬
‫ل‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫مآئ ِد َة ً ّ‬ ‫ل ع َل َي َْنا َ‬ ‫ك َأن ي ُن َّز َ‬ ‫طيعُ َرب ّ َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ل يَ ْ‬ ‫م هَ ْ‬ ‫مْري َ َ‬‫ن َ‬‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ن َيا ِ‬ ‫وارِّيو َ‬ ‫ح َ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫إ ِذ ْ َقا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ْ‬
‫صد َقت ََنا‬ ‫َ‬
‫م أن قد ْ َ‬ ‫ن قلوب َُنا وَن َعْل َ‬ ‫ُ‬ ‫مئ ِ ّ‬ ‫من َْها وَت َط َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ريد ُ أن ن ّأكل ِ‬ ‫ن )‪ (112‬قالوا ن ُ ِ‬ ‫َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ه ِإن كنُتم ّ‬ ‫قوا ْ الل َ‬
‫ّ‬ ‫ات ّ ُ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫د‬ ‫ئ‬ ‫مآ‬ ‫نا‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ز‬ ‫َ‬
‫أن‬ ‫نا‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫سى‬ ‫عي‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫(‬‫‪113‬‬ ‫)‬ ‫ن‬ ‫دي‬ ‫ه‬ ‫شا‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ها‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫كو‬ ‫ُ‬
‫ّ َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ّ َ‬ ‫َ‬
‫ُ َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وَن َ‬
‫ه إ ِّني‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪ (114‬قال الل ُ‬ ‫خي ُْر الّرازِِقي َ‬ ‫ت َ‬ ‫منك َواْرُزقَنا وَأن َ‬ ‫ة ّ‬ ‫خرَنا َوآي َ ً‬ ‫عيدا لوّل َِنا َوآ ِ‬ ‫ن لَنا ِ‬ ‫ماء ت َكو ُ‬ ‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫ن )‪(115‬‬ ‫مي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫عا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫دا‬ ‫ح‬ ‫ذابا ل ّ أ ُع َذ ّبه أ َ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫ع‬ ‫فر بعد منك ُِم فَإني أ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ها‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫من َّز َ‬
‫ل‬ ‫ُ‬
‫)المائدة(‬

‫استجاب الله عز وجل‪ ،‬لكنه ح ّ‬


‫ذرهم من الكفر بعد هذه الية التي جاءت تلبية لطلبهم‪ .‬نزلت‬
‫المائدة‪ ،‬وأكل الحواريون منها‪ ،‬وظلوا على إيمانهم وتصديقهم لعيسى –عليه السلم‪ -‬إل رجل‬
‫واحد كفر بعد رفع عيسى عليه السلم‪.‬‬

‫رفع عيسى عليه السلم‪:‬‬

‫لما بدأ الناس يتحدثون عن معجزات عيسى عليه السلم‪ ،‬خاف رهبان اليهود أن يتبع الناس‬
‫ملك تلك المناطق وكان تابعا للروم‪ .‬وقالوا له أن‬
‫الدين الجديد فيضيع سلطانهم‪ .‬فذهبوا ل َ‬
‫ملك وأمر بالبحث عن عيسى –عليه‬ ‫ملك منك‪ .‬فخاف ال َ‬‫ملك اليهود‪ ،‬وسيأخذ ال ُ‬
‫عيسى يزعم أنه َ‬
‫السلم‪ -‬ليقتله‪.‬‬

‫جاءت روايات كثيرة جدا عن رفع عيسى –عليه السلم‪ -‬إلى السماء‪ ،‬معظمها من السرائيليات‬
‫أو نقل عن النجيل‪ .‬وسنشير إلى أرجح رواية هنا‪.‬‬

‫عندما بلغ عيسى عليه السلم أنهم يريدون قتله‪ ،‬خرج على أصحابه وسألهم من منهم مستعد‬

‫‪127‬‬
‫ن عليه عيسى‬‫أن يلقي الله عليه شبهه فيصلب بدل منه ويكون معه في الجنة‪ .‬فقام شاب‪ ،‬فح ّ‬
‫عليه السلم لنه ل يزال شابا‪ .‬فسألهم مرة ثانية‪ ،‬فقام نفس الشاب‪ .‬فنزل عليه شبه عيسى‬
‫عليه السلم‪ ،‬ورفع الله عيسى أمام أعين الحواريين إلى السماء‪ .‬وجاء اليهود وأخذوا الشبه‬
‫وقتلوه ثم صلبوه‪ .‬ثم أمسك اليهود الحواريين فكفر واحد منهم‪ .‬ثم أطلقوهم خشية أن يغضب‬
‫الناس‪ .‬فظل الحواريون يدعون بالسر‪ .‬وظل النصارى على التوحيد أكثر من مئتين سنة‪ .‬ثم‬
‫آمن أحد ملوك الروم واسمه قسطنطين‪ ،‬وأدخل الشركيات في دين النصارى‪.‬‬

‫يقول ابن عباس‪ :‬افترق النصارى ثلث فرق‪ .‬فقالت طائفة‪ :‬كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى‬
‫السماء‪ .‬وقالت طائفة‪ :‬كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه‪ .‬وقلت طائفة‪ :‬كان فينا عبد‬
‫الله ورسوله ما شاء ثم رفعه الله إليه‪ .‬فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل‬
‫السلم طامسا حتى بعث الله محمدا –صلى الله عليه وسلم‪ -‬فذلك قول الله تعالى‪) :‬فَأ َي ّد َْنا‬
‫حوا َ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬
‫ن(‪.‬‬
‫ري َ‬
‫ظاه ِ ِ‬ ‫صب َ ُ‬ ‫مُنوا ع ََلى ع َد ُوّه ِ ْ‬
‫م فَأ ْ‬ ‫نآ َ‬‫ال ّ ِ َ‬

‫وقال تعالى عن رفعه‪:‬‬

‫ه ل َُهم‬‫شب َ‬ ‫كن ُ‬ ‫صل َُبوه ُ وََلـ ِ‬


‫ما َ‬‫ما قَت َُلوه ُ وَ َ‬
‫ل اللهِ وَ َ‬‫سو َ‬ ‫م َر ُ‬
‫مري َ َ‬‫ن َ‬ ‫سى اب َ‬ ‫عي َ‬ ‫ح ِ‬ ‫سي َ‬ ‫م ِ‬‫وََقول ِِهم ِإنا قََتلَنا ال َ‬
‫قينا )‪(157‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ما قَت َلوه ُ ي َ ِ‬ ‫علم ٍ ِإل اتَباع َ الظن وَ َ‬ ‫من ِ‬ ‫َ‬
‫ما لُهم ب ِهِ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫شك من ُ‬ ‫في َ‬ ‫َ‬
‫فوا ِفيهِ ل ِ‬ ‫ن اخت َل َ ُ‬‫ذي َ‬ ‫وَِإن ال ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫موت ِهِ‬ ‫َ‬
‫مَنن ب ِهِ قبل َ‬ ‫ب ِإل لُيؤ ِ‬ ‫ل الك َِتا ِ‬
‫كيما )‪ (158‬وَِإن من أه ِ‬ ‫ح ِ‬‫زيزا َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫ه إ ِليهِ وَكا َ‬ ‫ه الل ُ‬‫َبل رفَعَ ُ‬
‫شِهيدا )‪) (159‬النساء(‬ ‫ً‬ ‫ن ع َليِهم َ‬‫َ‬ ‫كو ُ‬‫مةِ ي َ ُ‬‫قَيا َ‬‫م ال ِ‬‫وََيو َ‬

‫ل يزال عيسى –عليه السلم‪ -‬حيا‪ .‬ويدل على ذلك أحاديث صحيحة كثيرة‪ .‬والحديث الجامع لها‬
‫في مسند المام أحمد‪:‬‬

‫حدثنا عبد الله‪ ،‬حدثني أبي‪ ،‬ثنا يحيى‪ ،‬عن ابن أبي عروبة قال‪ :‬ثنا قتادة‪ ،‬عن عبد الرحمن بن‬
‫آدم‪ ،‬عن أبي هريرة‪) :،‬عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‪ :‬النبياء إخوة لعلت‪ ،‬دينهم واحد‬
‫وأمهاتهم شتى‪ ،‬وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لنه لم يكن بيني وبينه نبي‪ ،‬وأنه نازل فإذا‬
‫رأيتموه فاعرفوه‪ ،‬فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض‪ ،‬سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه‬
‫بلل بين ممصرتين‪ ،‬فيكسر الصليب ويقتل الخنزير‪ ،‬ويضع الجزية‪ ،‬و يعطل الملل حتى يهلك‬
‫الله في زمانه الملل كلها غير السلم‪ ،‬ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب‪ ،‬وتقع‬
‫المنة في الرض حتى ترتع البل مع السد جميعًا‪ ،‬والنمور مع البقر‪ ،‬والذئاب مع الغنم‪ ،‬ويلعب‬
‫الصبيان بالحيات ل يضر بعضهم بعضًا‪ ،‬فيمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يتوفى‪ ،‬فيصلي عليه‬
‫المسلمون و يدفنونه‪(.‬‬

‫)مربوع( ليس بالطويل وليس بالقصير‪) ،‬إلى الحمرة والبياض( وجهه أبيض فيه احمرار‪) ،‬سبط(‬
‫شعره ناعم‪) ،‬ممصرتين( عصاتين أو منارتين وفي الحديث الخر ينزل عند المنارة البيضاء من‬
‫مسجد دمشق‪.‬‬

‫وفي الحديث الصحيح الخر يحدد لنا رسولنا الكريم مدة مكوثه في الرض فيقول‪) :‬فيمكث‬
‫أربعين سنة ثم يتوفى‪ ،‬و يصلي عليه المسلمون(‪.‬‬

‫ل بد أن يذوق النسان الموت‪ .‬عيسى لم يمت وإنما رفع إلى السماء‪ ،‬لذلك سيذوق الموت في‬
‫نهاية الزمان‪.‬‬

‫ويخبرنا المولى عز وجل بحوار لم يقع بعد‪ ،‬هو حواره مع عيسى عليه السلم يوم القيامة‬
‫فيقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫عيسى ابن مري َ‬
‫ل‬‫ن اللهِ َقا َ‬ ‫دو ِ‬ ‫من ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫ي إ َِلـَهي ِ‬‫ذوِني وَأم َ‬ ‫خ ُ‬
‫س ات ِ‬ ‫ت ِللنا ِ‬ ‫ت ُقل َ‬ ‫م أءن َ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه يا ِ َ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫وَِإذ َقا َ‬
‫سي وَل َ‬ ‫ما ِفى َنف ِ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ه َتعل ُ‬ ‫قد ع َِلمت َ ُ‬ ‫َ‬
‫هف َ‬ ‫ُ‬
‫ت قلت ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫حق إن كن ُ‬ ‫س ِلي ب ِ َ‬‫ما لي َ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن ِلي أن أقول َ‬ ‫ُ‬
‫ما ي َكو ُ‬ ‫َ‬
‫حان َك َ‬ ‫سب َ‬ ‫ُ‬
‫ه‬ ‫الل‬ ‫دوا‬ ‫ب‬‫اع‬ ‫ن‬ ‫علم الغُيوب )‪ ِ (116‬ما ُقلت ل َهم إل ما أ َمرتِني به أ َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ك َ‬
‫أن‬ ‫َ‬ ‫إن‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫س‬ ‫نف‬ ‫فى‬ ‫ما‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫أع‬‫َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ِ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ‬
‫ت ع ََلى‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب ع ََليِهم وَأن َ‬ ‫ت الرِقي َ‬ ‫ت أن َ‬ ‫كن َ‬ ‫وفيت َِني ُ‬ ‫ت ِفيِهم فََلما ت َ َ‬ ‫دم ُ‬ ‫شِهيدا ً ما ُ‬ ‫ت ع ََليِهم َ‬ ‫كن ُ‬‫كم وَ ُ‬ ‫َربي وََرب ُ‬

‫‪128‬‬
‫ك وإن تغفر ل َهم فَإن َ َ‬ ‫ُ‬
‫م )‪(118‬‬
‫كي ُ‬
‫ح ِ‬
‫زيُز ال َ‬
‫ت العَ ِ‬
‫ك أن َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫عَباد ُ َ َ ِ َ ِ‬
‫شِهيد ٌ )‪ِ (117‬إن ت َُعذبُهم فَِإنُهم ِ‬
‫شىء َ‬‫كل َ‬
‫)المائدة(‬

‫هذا هو عيسى بن مريم عليه السلم‪ ،‬آخر الرسل قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم‪.‬‬

‫محمد عليه الصلة السلم‬

‫نبذة‪:‬‬

‫النبي المي العربي‪ ،‬من بني هاشم‪ ،‬ولد في مكة بعد وفاة أبيه عبد الله بأشهر قليلة‪ ،‬توفيت‬
‫أمه آمنة وهو ل يزال طفل‪ ،‬كفله جده عبد المطلب ثم عمه أبو طالب‪ ،‬ورعى الغنم لزمن‪،‬‬
‫تزوج من السيدة خديجة بنت خويلد وهو في الخامسة والعشرين من عمره‪ ،‬دعا الناس إلى‬
‫السلم أي إلى اليمان بالله الواحد ورسوله‪ ،‬بدأ دعوته في مكة فاضطهده أهلها فهاجر إلى‬
‫المدينة حيث اجتمع حوله عدد من النصار عام ‪ 622‬م فأصبحت هذه السنة بدء التاريخ‬
‫الهجري‪ ،‬توفي بعد أن حج حجة الوداع‪.‬‬

‫سيرته‪:‬‬

‫محمد )صلى الله عليه وسلم(‬

‫‪129‬‬
‫في غرب الجزيرة العربية‪ ،‬وفي مكة المكرمة‪ ،‬ولدت )آمنة بنت وهب( ابنها‬
‫محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬في الليلة الثانية عشرة من ربيع الول‬
‫سنة ‪ 571‬ميلدية وهو ما يعرف بعام الفيل‪.‬‬
‫ما‪ ،‬فقد مات أبوه‪ ،‬وهو لم يزل جنيًنا في بطن أمه‪،‬‬ ‫وقد ولد محمد صلى الله عليه وسلم يتي ً‬
‫فقد خرج عبدالله بن عبدالمطلب إلى تجارة في المدينة‬
‫دا‪ ،‬ولم يكن هذا السم مشهوًرا ول‬ ‫فمات هناك‪ ،‬واعتنى به جده عبدالمطلب‪ ،‬وسماه محم ً‬
‫منتشًرا بين العرب‪ ،‬وقد أخذته السيدة حليمة السعدية لترضعه في‬
‫دا عن مكة؛ فنشأ قوىّ البنيان‪ ،‬فصيح اللسان‪ ،‬ورأوا الخير والبركة من يوم وجوده‬ ‫بني سعد بعي ً‬
‫بينهم‪.‬‬
‫وفي البادية‪ ،‬وبينما محمد صلى الله عليه وسلم يلعب مع الغلمان‪ ،‬إذ جاء إليه جبريل ‪-‬عليه‬
‫السلم‪ -‬فأخذه‪ ،‬وشق عن قلبه‪ ،‬فاستخرج القلب‪ ،‬واستخرج منه علقة هي حظ الشيطان منه‪،‬‬
‫ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم‪ ،‬ثم أعاد القلب إلى مكانه‪ ،‬فأسرع الغلمان إلى‬
‫دا قد قتل‪ ،‬فاستقبلوه وهو متغير اللون‪ ،‬قال أنس بن مالك‪ :‬كنت أرى‬ ‫حليمة فقالوا‪ :‬إن محم ً‬
‫أثر ذلك المخيط في‬
‫دا صلى الله عليه وسلم‬ ‫صدره‪].‬مسلم والحاكم[ ولما رأت حليمة السعدية ذلك‪ ،‬أرجعت محم ً‬
‫إلى أمه آمنة‪ ،‬فكان معها تعتني به حتى بلغ السادسة من عمره‪ ،‬وبعدها توفيت‪ ،‬فأخذه جده‬
‫عبدالمطلب الذي لم يزل يعتني به منذ ولدته‪ ،‬ولما مات جده وهو في الثامنة من عمره‪ ،‬عهد‬
‫بكفالته إلى عمه أبى طالب‪..‬‬
‫وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حرب الفجار مع أعمامه‪ ،‬وهذه حرب خاضتها‬
‫عا عن قداسة الشهر الحرم ومكانة بيت الله‬ ‫قريش مع كنانة ضد قيس عيلن من هوازن دفا ً‬
‫الحرام‪ ،‬كما شهد حلف الفضول الذي ردت فيها قريش لرجل من زبيد حقه الذي سلبه منه‬
‫العاص بن وائل السهمى‪ ،‬وكان هذا الحلف في دار عبدالله بن جدعان‪ ،‬وقد اتفقت فيه قريش‬
‫على أن ترد للمظلوم‬
‫حقه‪ ،‬وكان لهذين الحدثين أثرهما في حياة النبي صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫وكان من بين أهل قريش امرأة شريفة تسمى خديجة بنت خويلد‪ ،‬كانت تستأجر الرجال في‬
‫تجارتها‪ ،‬وقد سمعت بأمانة محمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فأرسلت إليه تعرض عليه أن يخرج‬
‫بتجارتها إلى الشام‪ ،‬وتعطيه أكثر ما تعطى غيره‪ ،‬فوافق‬
‫محمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وخرج مع غلمها ميسرة‪ ،‬وتاجرا وربحا‪ ،‬ولما عادا من التجارة‪،‬‬
‫أخبر ميسرة سيدته خديجة بما لمحمد صلى الله عليه وسلم‬
‫دا صلى الله‬
‫من خصائص‪ ،‬وكانت امرأة ذكية‪ ،‬فأرسلت تخطب محم ً‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫ثم جاء عمه أبو طالب وعمه حمزة وخطباها لمحمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وتزوج رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم بخديجة‪ ،‬وكانت نعم الزوجة الصالحة‪ ،‬فقد ناصرته في حياتها‪ ،‬وبذلت كل‬
‫ما تملك في سبيل إعلء كلمة الله‪ ،‬وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن تدبيره‬
‫وحكمته ورجاحة عقله في حل‬
‫المشكلت‪ ،‬فقد أعادت قريش بناء الكعبة‪ ،‬وقد اختلفوا فيمن يضع الحجر السود مكانه‪ ،‬حتى‬
‫ما‪ ،‬واقترح أبو أمية بن المغيرة تحكيم أول من‬ ‫كادت أن تقوم حرب بينهم‪ ،‬وظلوا على ذلك أيا ً‬
‫يدخل من باب المسجد‪ ،‬فكان رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فأمر بإحضار ثوب‪ ،‬ثم أمر بوضع الحجر في الثوب‪ ،‬وأن تأخذ كل قبيلة طرًفا من‬
‫الثوب‪ ،‬فرفعوه جميًعا‪ ،‬حتى إذا بلغ الموضع‪ ،‬وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده‬
‫الشريفة مكانه‪ ،‬ثم بنى عليه‪ ،‬وكان آنذاك في الخامسة‬
‫والثلثين من عمره‪.‬‬
‫ولما قربت سن محمد صلى الله عليه وسلم نحو الربعين‪ ،‬حببت إليه العزلة‪ ،‬فكان يعتزل في‬
‫غار حراء‪ ،‬يتعبد فيه‪ ،‬ويتأمل هذا الكون الفسيح‪ ،‬وفي يوم من اليام كان رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم يتعبد في غار حراء‪ ،‬فجاء جبريل‪ ،‬وقال له‪ :‬اقرأ‪ ..‬فقال له محمد صلى الله عليه‬
‫دا ثم أرسله وقال له‪ :‬اقرأ‪ .‬قال‪ :‬ما أنا‬ ‫ما شدي ً‬ ‫وسلم‪ :‬ما أنا بقارئ‪ .‬فأخذه جبريل فضمه ض ّ‬
‫دا‪ ،‬وقال له‪ :‬اقرأ‪ .‬قال‪ :‬ما أنا بقارئ‪ .‬قال له‬ ‫ما شدي ً‬ ‫بقارئ‪ .‬فأخذه جبريل ثانية وضمه إليه ض ّ‬
‫جبريل‪:‬‬
‫}اقرأ باسم ربك الذي خلق ‪ .‬خلق النسان من علق ‪ .‬اقرأ وربك الكرم الذي علم بالقلم ‪.‬‬
‫علم النسان ما لم يعلم{ ]العلق‪]_ [5-1:‬متفق عليه[‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫فكان هذا الحادث هو بداية الوحي‪ ،‬ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف مما حدث له‪،‬‬
‫فذهب إلى خديجة وطلب منها أن تغطيه‪ ،‬ثم حكى لها‬
‫دا‪ ،‬ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل‪،‬‬ ‫ما حدث‪ ،‬فطمأنته‪ ،‬وأخبرته أن الله لن يضيعه أب ً‬
‫وحكى له ما رأى‪ ،‬فبشره ورقة بأنه نبي هذه المة‪ ،‬وتمنى أن لو يعيش حتى ينصره‪ ،‬لكن ورقة‬
‫مات قبل الرسالة‪ ،‬وانقطع الوحى مدة‪ ،‬فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ثم نزل‬
‫دا على كرسى بين‬ ‫الوحى مرة ثانية‪ ،‬فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل قاع ً‬
‫عا إلى أهله‪ ،‬وهو يقول‪ :‬زملونى‪ ،‬زملونى )أى غطونى( فأنزل الله‬ ‫السماء والرض‪ ،‬فرجع مسر ً‬
‫تعالى قوله‪} :‬يا أيها المدثر ‪ .‬قم فأنذر ‪ .‬وربك فكبر ‪ .‬وثيابك فطهر ‪ .‬والرجز فاهجر{ _]المدثر‪:‬‬
‫‪ [5-1‬ثم تتابع الوحى بعد ذلك ]البخارى[‪.‬‬
‫وبعد هذه اليات التى نزلت كانت بداية الرسالة‪ ،‬فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو‬
‫القربين إلى السلم‪ ،‬فكان أول من آمن خديجة زوجته‪ ،‬وأبو بكر صديقه‪ ،‬وعلي بن أبى طالب‬
‫ابن عمه‪ ،‬وزيد بن حارثه موله‪ ،‬ثم تتابع الناس بعد ذلك في دخول السلم‪ ،‬وأنزل الله‬
‫‪-‬سبحانه‪ -‬على رسوله صلى الله عليه وسلم قوله‪} :‬وأنذر عشيرتك القربين{_]الشعراء‪:‬‬
‫‪ [214‬فكان المر من الله أن يجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة‪ ،‬فجمع أقاربه‬
‫أكثر من مرة‪ ،‬وأعلمهم أنه نبي من عند الله ‪-‬عز وجل‪.-‬‬
‫ولما نزل قول الله تعالى‪} :‬فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين{ ]الحجر‪ [94 :‬قام‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنكر عبادة الصنام‪ ،‬وما عليه الناس من الضللة‪ ،‬وسمعت‬
‫قريش بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذتهم الحمية لصنامهم التى ل تضر ول تنفع‪،‬‬
‫وحاولوا أن يقفوا ضد هذه الدعوة الجديدة بكل وسيلة‪ ،‬فذهبوا إلى أبى طالب‪ ،‬وطلبوا منه أن‬
‫يسلم لهم الرسول صلى الله عليه وسلم فرفض‪ ،‬وكانوا يشوهون صورته للحجاج مخافة أن‬
‫يدعوهم‪ ،‬وكانوا يسخرون من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن‪ ،‬ويتهمونه بالجنون‬
‫والكذب‪ ،‬لكن باءت محاولتهم بالفشل‪ ،‬فحاول بعضهم تأليف شىء كالقرآن‬
‫فلم يستطيعوا‪ ،‬وكانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد اليذاء كى‬
‫يردوهم عن السلم‪ ،‬فكانت النتيجة أن تمسك المسلمون بدينهم أكثر‪.‬‬
‫وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بالمسلمين سّرا في دار‬
‫الرقم بن أبى الرقم يعلمهم أمور الدين‪ ،‬ثم أمرهم بعد فترة أن يهاجروا إلى الحبشة‪ ،‬فهاجر‬
‫عدد من المسلمين إلى الحبشة‪ ،‬فأرسلت قريش إلى النجاشى يردهم‪ ،‬لكن الله نصر‬
‫المسلمين على الكفار؛ فرفض النجاشى أن يسلم المسلمين وظلوا عنده في أمان يعبدون‬
‫دا إل‬
‫الله عز وجل‪ ،‬وحاول المشركون مساومة أبى طالب مرة بعد مرة بأن يسلم لهم محم ً‬
‫أنه أبى إل أن يقف معه‪ ،‬فحاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم إل أن الله منعه وحفظه‪.‬‬
‫وفي هذه الوقات العصيبة أسلم حمزة وعمر بن الخطاب‪ ،‬فكانا منعة وحصًنا للسلم‪ ،‬ولكن‬
‫المشركين لم يكفوا عن التفكير في القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ولما علم‬
‫أبو طالب بذلك جمع بني هاشم وبني عبدالمطلب واتفقوا على أن يمنعوا الرسول صلى الله‬
‫عليه وسلم من أن يصيبه أذى‪ ،‬فوافق بنو هاشم وبنو عبدالمطلب مسلمهم وكافرهم إل أبا‬
‫لهب‪ ،‬فإنه كان مع قريش‪ ،‬فاتفقت قريش على مقاطعة المسلمين ومعهم بنو هاشم وبنو‬
‫عبدالمطلب‪ ،‬فكان الحصار في شعب أبى طالب ثلث سنوات‪ ،‬ل يتاجرون معهم‪ ،‬ول يتزوجون‬
‫منهم‪ ،‬ول يجالسونهم ول يكلمونهم‪ ،‬حتى قام بعض العقلء‪ ،‬ونادوا في قريش أن ينقضوا‬
‫الصحيفة التى كتبوها‪ ،‬وأن يعيدوا العلقة مع بني هاشم وبني عبدالمطلب‪ ،‬فوجدوا الرضة‬
‫أكلتها إل ما فيها من اسم الله‪.‬‬
‫وتراكمت الحزان فيما بعد لوفاة أبى طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه خديجة‬
‫كر الرسول صلى الله عليه وسلم أن‬ ‫بنت خويلد‪ ،‬فقد ازداد اضطهاد وتعذيب المشركين‪ ،‬وف ّ‬
‫يخرج من مكة إلى الطائف يدعو أهلها إلى السلم‪ ،‬إل أنهم كانوا أشراًرا‪ ،‬فأهانوا النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم وزيد ابن حارثة الذي‬
‫كان معه‪ ،‬وأثناء عودته بعث الله ‪-‬عز وجل‪ -‬إليه نفًرا من الجن استمعوا إلى القرآن الكريم‪،‬‬
‫فآمنوا‪.‬‬
‫وأراد الله ‪-‬سبحانه‪ -‬أن يخفف عن الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت رحلة السراء‬
‫والمعراج‪ ،‬والتى فرضت فيها الصلة‪ ،‬خمس صلوات في اليوم والليلة واطمأنت نفس النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم بهذه الرحلة‪ ،‬ليبدأ من جديد الدعوة إلى الله‪ ،‬وقد علم أن الله معه لن‬
‫يتركه ول ينساه‪ ،‬فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في موسم الحج يدعو الناس‬
‫إلى اليمان بالله وأنه رسول الله‪ ،‬فآمن له في السنة العاشرة من النبوة عدد قليل‪ ،‬ولما كانت‬

‫‪131‬‬
‫السنة الحادية عشرة من النبوة أسلم ستة أشخاص من يثرب كلهم من الخزرج‪ ،‬وهم حلفاء‬
‫اليهود‪ ،‬وقد كانوا سمعوا من اليهود بخروج نبي في هذا الزمان‪ ،‬فرجعوا إلى أهليهم‪ ،‬وأذاعوا‬
‫الخبر بينهم‪.‬‬
‫ً‬
‫وعادوا العام القادم وهم اثنا عشر رجل‪ ،‬فيهم خمسة ممن حضر العام الماضى وبايعوا رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم وعرفت هذه البيعة ببيعة العقبة الولى فرجعوا وأرسل الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير ليعلمهم أمور دينهم‪ ،‬وقد نجح مصعب بن عمير‬
‫حا باهًرا‪ ،‬فقد استطاع أن يدعوا كبار المدينة من الوس والخزرج‪ ،‬حتى آمن عدد كبير منهم‪،‬‬ ‫نجا ً‬
‫سا من أهل يثرب في موسم الحج‪،‬‬ ‫وفي السنة الثالثة عشرة من النبوة‪ ،‬جاء بضع وسبعون نف ً‬
‫والتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه بيعة العقبة الثانية‪ ،‬وتم التفاق على نصرة‬
‫السلم والهجرة إلى المدينة‪.‬‬
‫وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها الصحابة أن يهاجروا إلى يثرب‪ ،‬فهاجر من قدر من‬
‫المسلمين إلى المدينة‪ ،‬وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلى وبعض الضعفاء‬
‫دا‬
‫ممن ل يستطيعون الهجرة‪ ،‬وسمعت قريش بهجرة المسلمين إلى يثرب‪ ،‬وأيقنت أن محم ً‬
‫صلى الله عليه وسلم لبد أن يهاجر‪ ،‬فاجتمعوا في دار الندوة لمحاولة القضاء على رسول الله‬
‫جاه من مكرهم‪ ،‬وهاجر هو وأبو بكر بعد أن جعل‬ ‫صلى الله عليه وسلم لكن الله ‪-‬سبحانه‪ -‬ن ّ‬
‫علّيا مكانه ليرد المانات إلى أهلها‪.‬‬
‫وهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر إلى المدينة‪ ،‬واستقبلهما أهل المدينة‬
‫بالترحاب والنشاد‪ ،‬لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الدعوة‪ ،‬وهي المرحلة المدنية‪ ،‬بعد أن‬
‫انتهت المرحلة المكية‪ ،‬وقد وصل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الجمعة )‪ 12‬ربيع‬
‫الول سنة ‪1‬هـ‪ /‬الموافق ‪ 27‬سبتمبر سنة ‪622‬م( ونزل في بني النجار‪ ،‬وعمل رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم على تأسيس دولة السلم في المدينة‪ ،‬فكان أول ما صنعه أن بنى‬
‫المسجد النبوى‪ ،‬ليكون دار العبادة للمسلمين‪ ،‬ثم آخى بين المهاجرين والنصار‪ ،‬كما كتب‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدة مع اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة‪.‬‬
‫دا يدافع‬ ‫فا واح ً‬‫وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتنى ببناء المجتمع داخلّيا‪ ،‬كى يكون ص ّ‬
‫عن الدولة الناشئة‪ ،‬ولكن المشركين بمكة لم تهدأ ثورتهم‪ ،‬فقد أرسلوا إلى المهاجرين أنهم‬
‫دا‬
‫سيأتونهم كى يقتلوهم‪ ،‬فكان لبد من الدفاع‪ ،‬فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عد ً‬
‫من السرايا‪ ،‬كان الغرض منها التعرف على الطرق المحيطة بالمدينة‪ ،‬والمسالك المؤدية إلى‬
‫مكة‪ ،‬وعقد المعاهدات مع القبائل المجاورة وإشعار كل من مشركى يثرب واليهود وعرب‬
‫البادية والقرشيين أن السلم قد أصبح قوّيا‪.‬‬
‫وكانت من أهم السرايا التى بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة بدر سرية سيف‬
‫البحر‪ ،‬وسرية رابغ‪ ،‬وسرية الخرار‪ ،‬وسرية البواء‪ ،‬وسرية نخلة‪ ،‬وفي شهر شعبان من السنة‬
‫الثانية الهجرية فرض الله القتال على المسلمين‪ ،‬فنزلت آيات توضح لهم أهمية الجهاد ضد‬
‫أعداء السلم‪ ،‬وفي هذه اليام أمر الله ‪-‬سبحانه‪ -‬رسوله صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة‬
‫من بيت المقدس إلى‬
‫المسجد الحرام‪ ،‬وكان هذا إيذاًنا ببدء مرحلة جديدة في حياة المسلمين‬
‫خاصة‪ ،‬والبشرية عامة‪.‬‬
‫بعد فرض الجهاد على المسلمين‪ ،‬وتحرش المشركين بهم‪ ،‬كان لبد من القتال فكانت عدة‬
‫لقاءات عسكرية بين المسلمين والمشركين‪ ،‬أهمها‪ :‬غزوة بدر الكبرى في العام الثانى‬
‫الهجرى‪ ،‬وكانت قريش قد خرجت بقافلة تجارية كبيرة على رأسها أبو سفيان بن حرب‪ ،‬وقد‬
‫خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلثمائة وبضعة عشر رجل ً لقصد هذه القافلة‪ ،‬لكن‬
‫أبا سفيان كان يتحسس الخبر فأرسل رجل إلى قريش يعلمهم بما حدث‪ ،‬ثم نجح هو بعد ذلك‬
‫في الفلت بالعير والتجارة‪ ،‬واستعدت قريش للخروج‪ ،‬فخرج ألف وثلثمائة رجل‪ ،‬وأرسل أبو‬
‫سفيان إلى قريش أنه قد أفلت بالعير‪ ،‬إل أن أبا جهل أصر على القتال‪ ،‬فرجع بنو زهرة وكانوا‬
‫ثلثمائة رجل‪ ،‬واتجه المشركون ناحية بدر‪ ،‬وكان المسلمون قد سبقوهم إليها بعد استطلعات‬
‫واستكشافات‪.‬‬
‫ُ‬
‫وبدأت الحرب بالمبارزة بين رجال من المشركين ورجال من المهاجرين‪ ،‬قِتل فيها المشركون‪،‬‬
‫وبدأت المعركة‪ ،‬وكتب الله ‪-‬عز وجل‪ -‬للمسلمين فيها النصر وللكفار الهزيمة‪ ،‬وقد قتل‬
‫دا كبيًرا‪ ،‬كما أسروا آخرين‪ ،‬وبعد غزوة بدر علم الرسول صلى الله عليه‬ ‫المسلمون فيها عد ً‬
‫وسلم أن بني سليم من قبائل غطفان تحشد قواتها لغزو المدينة‪ ،‬فأسرع رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم في مائتى رجل وهاجمهم في عقر دارهم‪ ،‬ففروا بعد أن تركوا خمسمائة بعير‬

‫‪132‬‬
‫استولى عليها المسلمون‪ ،‬وكانت هذه الغزوة في شوال )‪2‬هـ( بعد بدر بسبعة أيام‪ ،‬وعرفت‬
‫بغزوة بني سليم‪.‬‬
‫ورأت اليهود في المدينة نصر الرسول صلى الله عليه وسلم فاغتاظوا لذلك‪ ،‬فكانوا يثيرون‬
‫القلقل‪ ،‬وكان أشدهم عداوة بنو قينقاع‪ ،‬فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود بالمدينة‬
‫ونصحهم وعرض عليهم السلم‪ ،‬إل أنهم أبدوا استعدادهم لقتال المسلمين‪ ،‬فكظم الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم غيظه‪ ،‬حتى تسبب رجل من بني قينقاع في كشف عورة امرأة‪ ،‬فقتله‬
‫أحد المسلمين‪ ،‬فقتل اليهود المسلم فحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قينقاع‪ ،‬ثم‬
‫أجلهم عن المدينة بسبب إلحاح عبدالله بن أبى بن سلول‪.‬‬
‫وفي ذي الحجة سنة )‪2‬هـ( خرج أبو سفيان في نفر إلى المدينة‪ ،‬فأحرق بعض أسوار من‬
‫النخيل‪ ،‬وقتلوا رجلين‪ ،‬وفروا هاربين‪ ،‬فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في أثرهم‪ ،‬إل أنهم‬
‫ألقوا ما معهم من متاع حتى استطاعوا السراع بالفرار وعرفت هذه الغزوة بغزوة السويق‪،‬‬
‫كما علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن نفًرا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الغارة‬
‫على المدينة‪ ،‬فخرج لهم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى المكان الذي تجمعوا‬
‫فيه‪ ،‬وكان يسمى بـ)ذي أمر( ففروا هاربين إلى رءوس الجبال‪ ،‬وأقام الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم شهًرا ليرهب العراب بقوة المسلمين‪ ،‬وكانت هذه الغزوة في أوائل صفر‬
‫سنة )‪3‬هـ(‪.‬‬
‫وفي جمادى الخرة سنة )‪3‬هـ( خرجت قافلة لقريش بقيادة صفوان بن أمية ومع أن القافلة‬
‫قا صعًبا ل يعرف‪ ،‬إل أن النبأ قد وصل إلى المدينة وخرجت سرية بقيادة زيد بن‬ ‫اتخذت طري ً‬
‫حارثة‪ ،‬استولت على القافلة وما فيها من متاع‪ ،‬وفر صفوان بن أمية ومن معه‪ ،‬اغتاظ كفار‬
‫مكة مما حدث لهم في غزوة بدر‪ ،‬فاجتمعوا على الستعداد لقتال المسلمين‪ ،‬وقد جعلوا‬
‫القافلة التى نجا بها أبوسفيان لتمويل الجيش واستعدت النساء المشركات للخروج مع الجيش‬
‫لتحميس الرجال‪ ،‬وقد طارت الخبار إلى المدينة باستعداد المشركين للقتال‪ ،‬فاستشار‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة‪ ،‬وأشار عليهم ‪-‬بدًءا‪ -‬أن يبقوا في المدينة‪ ،‬فإن عسكر‬
‫المشركون خارجها‪ ،‬فإنهم لن ينالوا منهم شيًئا‪ ،‬وإن غزوا المدينة‪ ،‬قاتلوهم قتال ً شدي ً‬
‫دا‪.‬‬
‫إل أن بعض الصحابة ممن لم يخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم للقتال في بدر‪ ،‬أشاروا‬
‫على الرسول صلى الله عليه وسلم الخروج من المدينة‪ ،‬وكان على رأس المتحمسين للخروج‬
‫حمزة بن عبدالمطلب‪ ،‬ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس الحرب‪ ،‬وخرج الجيش‬
‫وفيه ألف مقاتل‪ ،‬واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكاًنا قريًبا من العدو عند جبل أحد‪،‬‬
‫وما كاد وقت المعركة أن يبدأ حتى تراجع عبدالله بن أبى سلول بثلث الجيش‪ ،‬بزعم أن‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم قد أكره على الخروج‪ ،‬وما أراد بفعلته إل بث الزعزعة في‬
‫صفوف المسلمين‪ ،‬وبقى من الجيش سبعمائة مقاتل‪ ،‬وكان عدد المشركين ثلثة‬
‫آلف مقاتل‪.‬‬
‫واتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم مكاًنا متميًزا في المعركة‪ ،‬وجعل بعض المقاتلين في‬
‫مر عليهم عبدالله بن جبير وأمرهم أن يحموا‬ ‫الجبل‪ ،‬وهو ما عرف فيما بعد بجبل الرماة‪ ،‬وأ ّ‬
‫ظهور المسلمين‪ ،‬وأل ينزلوا مهما كان المر‪ ،‬سواء انتصر المسلمون أم انهزموا‪ ،‬إل إذا بعث‬
‫دا‬
‫إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم‪ ،‬بدأت المبارزة بين الفريقين‪ ،‬وقتل فيها المسلمون عد ً‬
‫من المشركين‪ ،‬وكان معظمهم ممن كانوا يحملون لواء المشركين‪ ،‬حتى ألقى اللواء على‬
‫دا‪ ،‬واستبسل من كانوا على الجبل‪.‬‬ ‫الرض‪ ،‬واستبسل المسلمون وقاتلوا قتال شدي ً‬
‫إل أنهم لما رأوا المسلمين يجمعون الغنائم نزلوا‪ ،‬فذكرهم قائدهم عبدالله بن جبير إل أنهم لم‬
‫يسمعوا له‪ ،‬ولحظ خالد بن الوليد‪ ،‬فرجع بمن كان معه‪ ،‬وطوق جيش المسلمين‪ ،‬واضطربت‬
‫الصفوف‪ ،‬وقتل المشركون من المسلمين سبعين رجل ً واقتربوا من رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم الذي أصيب ببعض‬
‫الصابات‪ ،‬والذي حاول المشركون قتله لول بسالة بعض الصحابة ممن‬
‫دافع عنه‪ ،‬وقد أشيع قتل النبي صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫ثم انتشر بين المسلمين كذب الخبر‪ ،‬فتجمعوا حوله صلى الله‬
‫قا وينجو‬
‫عليه وسلم‪ ،‬واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخترق طري ً‬
‫بمن معه‪ ،‬وصعدوا الجبل‪ ،‬وحاول المشركون قتالهم‪ ،‬إل أنهم لم يستطيعوا‪ ،‬فرجعوا وخشى‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع المشركون‪ ،‬فخرج بمن كان معه في غزوة أحد‬
‫فحسب‪ ،‬ولم يقبل غيرهم إل عبدالله بن جابر فقد قبل‬
‫عذره‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة حتى وصلوا إلى حمراء السد‪ ،‬وقد أقبل معبد‬
‫بن أبى معبد الخزاعي وأسلم‪ ،‬فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بمخادعة أبى سفيان إن‬
‫كان قد أراد الرجوع لحرب المسلمين‪ ،‬وفي طريق العودة اتفق المشركون على الرجوع‪،‬‬
‫دا‬
‫فقابلهم معبد بن أبى معبد الخزاعي‪ ،‬ولم يكن أبو سفيان قد علم بإسلمه‪ ،‬فقال له‪ :‬إن محم ً‬
‫شا كبيًرا لقتالكم‪ ،‬كى يستأصلكم‪ ،‬فارجعوا‪ ،‬وأحدثت هذه‬ ‫صلى الله عليه وسلم قد جمع جي ً‬
‫الكلمات زعزعة في صفوف المشركين‪.‬‬
‫وبعد غزوة أحد‪ ،‬بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا لتأديب من يريد أن‬
‫يعتدي على المسلمين‪ ،‬كسرية أبى سلمة في هلل شهر المحرم سنة )‪4‬هـ( إلى بني أسد بن‬
‫خزيمة‪ ،‬وبعث عبدالله بن أنيس لخالد بن سفيان الذي أراد حرب المسلمين‪ ،‬فأتى عبدالله بن‬
‫أنيس برأسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وفي بعث الرجيع قتل بعض الصحابة‪ ،‬وفي‬
‫السنة نفسها‪ ،‬بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة لهل نجد‪ ،‬ليدعوهم إلى‬
‫السلم‪ ،‬وفي الطريق عند بئر معونة‬
‫أحاط كثير من المشركين بالمسلمين‪ ،‬وقتلوا سبعين من الصحابة‪ ،‬ولما بلغ الرسول صلى الله‬
‫دا‪ ،‬ودعا على المشركين‪.‬‬‫عليه وسلم ذلك الخبر‪ ،‬حزن حزًنا شدي ً‬
‫وكانت يهود بني النضير يراقبون الموقف‪ ،‬ويستغلون أى فرصة لشعال الفتنة وكان بعض‬
‫الصحابة قد قتلوا اثنين خطأ معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وكان من بنود‬
‫الميثاق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود‪ ،‬أن يساعد كل من الطرفين الخر في‬
‫دفع الدية‪ ،‬فلما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم حاولوا قتله‪ ،‬إل أن الله سبحانه‬
‫حفظه وأرسل إليه جبريل‪ ،‬يخبره بما يريدون‪ ،‬فبعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن‬
‫يخرجوا‪ ،‬ولكن عبدالله بن أبى وعدهم بالمساعدة‪ ،‬فرفضوا الخروج‪ ،‬وحاصرهم رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم بضعة أيام‪ ،‬وبعدها قرروا الخروج على أن يأخذوا متاعهم‪ ،‬واستثنى‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم سلحهم‪ ،‬فأخذه‪ ،‬وأخذ أرضهم وديارهم‪ ،‬فتفرق يهود بني‬
‫النضير في الجزيرة‪.‬‬
‫وفي شعبان من العام الرابع الهجري خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في ألف وخمسمائة‬
‫من أصحابه‪ ،‬لملقاة أبى سفيان والمشركين‪ ،‬كما اتفقوا في غزوة أحد إل أن أبا سفيان خاف‪،‬‬
‫فتراجع هو وجيشه خوًفا من المسلمين‪ ،‬ويسمى هذا الحادث بغزوة بدر الصغرى أو بدر الخرة‪،‬‬
‫شا‬‫وطارت النباء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن القبائل حول دومة الجندل تحشد جي ً‬
‫لقتال المسلمين‪ ،‬فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش من أصحابه‪ ،‬وفاجأهم‪،‬‬
‫ففروا هاربين وكان ذلك في أواخر ربيع الول سنة )‪5‬هـ( وبذا فقد استطاع الرسول صلى الله‬
‫عليه وسلم أن يصد كل عدوان‪ ،‬حتى يتسنى له المر لتبليغ دعوة الله‪.‬‬
‫ولم تنس اليهود تلك الهزائم التى لحقت بها‪ ،‬لكنها ل تستطيع مواجهة الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم فأخذت يهود بني النضير يألبون المشركين في مكة وغيرها على رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ ،‬حتى اجتمع عشرة آلف مقاتل‪ ،‬وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك‪،‬‬
‫فاستشار الصحابة‪ ،‬فأشار عليه سلمان الفارسى بحفر خندق‪ ،‬فحفر الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم والصحابة الخندق شمال المدينة‪ ،‬لنه الجهة الوحيدة التى يمكن أن يأتى العداء منها‪.‬‬
‫وذهب زعيم بني النضير حيى بن أخطب إلى زعيم بني قينقاع المتحالفة مع الرسول صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وجعله ينقض العهد‪ ،‬إل أن الله حمى المسلمين وحفظهم فقد أسلم نعيم بن‬
‫مسعود الذي أوقع الدسيسة بين اليهود وقريش‪ ،‬وجعل كل منهم يتشكك في الخر‪ ،‬وأرسل‬
‫حا شديدة دمرت خيامهم‪ ،‬وأطفأت نيرانهم؛ فاضطروا إلى الرحيل والفرار‪ ،‬وقال‬ ‫الله عليهم ري ً‬
‫بعدها الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم‪) :‬الن نغزوهم ول يغزوننا( وسميت هذه الغزوة بغزوة الخندق أو‬
‫الحزاب‪ ،‬وكانت في العام الخامس الهجرى‪.‬‬
‫وقبل أن يخلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ملبس الحرب‪ ،‬جاءه جبريل‪ ،‬وأمره‬
‫بأن يذهب لغزو بني قريظة هو وأصحابه‪ ،‬فتحرك الجيش السلمى وكان عدده ثلثة آلف‬
‫مقاتل وحاصر الرسول صلى الله عليه وسلم بني قريظة فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد‬
‫ثلث اقتراحات؛ إما أن يسلموا فيأمنوا على أنفسهم‪ ،‬وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم‪ ،‬ثم‬
‫يخرجوا لقتال المسلمين‪ ،‬وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم‬
‫السبت؛ لكنهم لم يجيبوه إلى شىء من ذلك‪.‬‬
‫ولم يبق لهم بعد الرفض إل أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا إلى‬
‫أبى لبابة بن المنذر‪-‬وكان من حلفائهم قبل إسلمه‪ -‬ليخبرهم عن حكم رسول الله صلى الله‬

‫‪134‬‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فلما رأى أبو لبابة بني قريظة رق قلبه إليهم‪ ،‬وأشار إليهم بيده إلى حلقه كناية‬
‫عن القتل‪ ،‬وعلم أبو لبابة أنه خان الله ورسوله‪ ،‬فذهب إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫وربط نفسه‪ ،‬وأقسم أل يفكه أحد إل الرسول صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫ونزلت اليهود على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬واتفق أن يحكم فيهم سعد بن‬
‫معاذ‪ ،‬فحكم سعد بأن يقتل الرجال‪ ،‬وتسبى النساء والذراري‪ ،‬وكان هذا حكم الله فيهم‪ ،‬وكانت‬
‫الغزوة في ذي القعدة من العام‬
‫الخامس الهجرى‪ ،‬وبعد غزوة بني قريظة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من‬
‫النصار قتلوا سلم بن أبى الحقيق‪ ،‬وذلك أنه كان من اليهود الذين أثاروا الحزاب ضد‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫وفي شعبان من العام السادس الهجري علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زعيم بني‬
‫المصطلق جمع قومه ومن قدر عليه من العرب لقتال المسلمين‪ ،‬فتأكد رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم من الخبر‪ ،‬وخرج في عدد من الصحابة‪ ،‬حتى وصل ماء المريسيع‪ ،‬ففر المشركون‪،‬‬
‫واستولى المسلمون على‬
‫أموالهم وذراريهم‪ ،‬وفي هذه الغزوة كانت حادثة الفك التى افُترى فيها على السيدة عائشة‪،‬‬
‫واتهمت بالخيانة‪ ،‬فأنزل الله ‪-‬سبحانه‪ -‬براءتها في قرآن يتلى إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫وقد أراد المنافقون أن يدسوا الفتنة بين المسلمين بعد النتهاء من الحرب‪ ،‬فقال عبدالله بن‬
‫أبي‪ :‬ليخرجن العز منها الذل )يعنى العز هو‪ ،‬والذل رسول الله صلى الله عليه وسلم( فقام‬
‫ابنه عبدالله بن عبدالله بن أبى بالعتذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنع أباه من‬
‫دخول المدينة‪ ،‬وقال له‪ :‬رسول الله هو العز وأنت الذل‪.‬‬
‫وفي هذا العام السادس من الهجرة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أنه دخل‬
‫هو وأصحابه المسجد الحرام‪ ،‬وأخذ مفتاح الكعبة‪ ،‬وطافوا واعتمروا فكانت بشرى من الله‪،‬‬
‫بفتح مكة فيما بعد‪ ،‬واستعد الرسول صلى الله عليه وسلم للعمرة وخرج معه عدد كبير من‬
‫المسلمين‪ ،‬ولما سمعت بذلك قريش‪ ،‬استعدت للحرب وساق الرسول صلى الله عليه وسلم‬
‫الهدي؛ دللة على عدم نية الحرب‪ ،‬وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان‪،‬‬
‫ليرى رأي قريش‪.‬‬
‫واحتجزت قريش عثمان فترة‪ ،‬وأشيع نبأ قتله‪ ،‬وبايع الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم‬
‫بيعة الرضوان‪ ،‬وظلت المراسلت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قريش‪ ،‬انتهت بأن‬
‫أرسلت قريش سهيل بن عمرو ليعقد صلح الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‪،‬‬
‫وكان من ضمن بنوده وقف الحرب بين الفريقين عشر سنين‪ ،‬وللقبائل أن تدخل في حلف‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬أو في حلف قريش‪ ،‬وأنه من فر من المسلمين إلى قريش ل‬
‫ترده قريش‪ ،‬ومن فر من قريش إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يرده الرسول صلى الله‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫ومع أن الظاهر في بعض بنود هذه المعاهدة الظلم‪ ،‬إل أنها أتاحت الفرصة لنتشار السلم‪،‬‬
‫واعتراف قريش بالمسلمين كقوة‪ ،‬فدخل عدد كبير السلم‪ ..‬بعد هذه الهدنة‪ ،‬أسلم بعض‬
‫أبطال قريش؛ كعمرو بن العاص‪ ،‬وخالد بن الوليد‪ ،‬وعثمان بن طلحة‪ ،‬وأرسل رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم إلى المراء والملوك يدعوهم إلى السلم‪ ،‬ليعلن أن السلم جاء للناس جميًعا‪،‬‬
‫وليس مقصوًرا على شبة الجزيرة العربية‪.‬‬
‫دا على بعض بني فزارة‬ ‫وبعد صلح الحديبية قامت بعض الغزوات؛ كغزوة ذي قرد‪ ،‬وكانت ر ّ‬
‫الذين أرادوا القيام بعمل القرصنة ضد المسلمين‪ ،‬وقد أبلى فيها سلمة بن الكوع بلًء حسًنا‪،‬‬
‫وبعد تلك النتصارات التى قام بها المسلمون كان لبد من تأديب من كان السبب في كثير من‬
‫الحروب‪ ،‬وهم يهود خيبر‪ ،‬أولئك الذين جمعوا الحزاب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫فا‬
‫للقتال‪ ،‬فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن بايع معه تحت الشجرة‪ ،‬وكانوا أل ً‬
‫وأربعمائة‪ ،‬حتى وصلوا قرب خيبر‪ ،‬وقد كانت كلها حصوًنا‪ ،‬ففيها ثمانية حصون كبيرة منيعة‬
‫ن الله عليهم بفتح هذه الحصون‪،‬‬ ‫واستبسل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى م ّ‬
‫وأصبح اليهود صاغرين‪ ،‬وصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبقى لهم الرض‬
‫ليزرعوها على أن يكون لهم نصف الثمار‪ ،‬وللمسلمين نصفها‪ ،‬وكانت غزوة خيبر في العام‬
‫السابع الهجرى‪.‬‬
‫وبعد هذه الغزوة جاء جعفر بن أبى طالب ومن معه من الحبشة إلى المدينة‪ ،‬وفرح الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم بعودتهم‪ ،‬كما تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيى بن‬
‫أخطب بعد أن أسلمت‪ ،‬وقد كانت من السبى‪ ،‬وبعد خيبر صالح يهود فدك الرسول صلى الله‬

‫‪135‬‬
‫عليه وسلم كما صالحه أهل خيبر‪ ،‬كما حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض اليهود‬
‫ومن انضم إليهم من العرب عند وادي القرى‪ ،‬وفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وقسم‬
‫الغنائم على أصحابه‪ ،‬أما النخل والرض فقد عاملهم كما عامل أهل خيبر‪ ،‬ولما علم يهود تيماء‬
‫بذلك بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فكتب لهم كتاًبا‪ ،‬يدفعون بمقتضاه الجزية‬
‫للمسلمين وبعد هذه الحروب والنتصارات رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‪.‬‬
‫دب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين واليهود‪ ،‬خرج الرسول صلى الله‬ ‫وبعد أن أ ّ‬
‫عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع حتى استطاع تأديب العراب‪ ،‬وكان لهذه الغزوة أثرها في‬
‫قذف الرعب في قلوب العراب‪ ،‬وبذا استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقضى على‬
‫الحزاب‪ ،‬ليتفرغ لنشر الدعوة السلمية‪ ،‬وكانت هذه الغزوة في العام السابع الهجرى‪..‬‬
‫وفي ذي القعدة من السنة السابعة من الهجرة‪ ،‬خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫والمسلمون إلى مكة لداء عمرة القضاء‪ ،‬وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث الحارث‬
‫بن عمير الزدي إلى عظيم بصرى‪ ،‬فعرض له‬
‫شرحبيل بن عمرو الغسانى عامل البلقاء من أرض الشام‪ ،‬من قبل قيصر‪ ،‬فأمسك الحارث‪،‬‬
‫وأوثقه ثم قتله‪ ،‬فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بالخروج لتأديب هؤلء‪ ،‬فخرج‬
‫ثلثة آلف مقاتل‪ ،‬وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الراية لزيد ثم لجعفر إن قتل‪ ،‬ثم‬
‫لعبد الله بن رواحة‪ ،‬واتجه الجيش ناحية‬
‫العدو حتى وصل إلى مكان يقال له )مؤتة( وفوجئ الجيش بأن جيش العدو عدده مائتا ألف‬
‫مقاتل مقابل ثلثة آلف واستقر المر على الجهاد‪.‬‬
‫وقاتل المسلمون واستبسلوا‪ ،‬فقتل القائد زيد بن حارثة‪ ،‬ثم قتل جعفر ثم قتل ابن رواحة بعد‬
‫قتال عنيف‪ ،‬ثم اتفق أن تكون الراية لخالد بن الوليد الذي استطاع إنقاذ الجيش‪ ،‬وإرهاب‬
‫العداء مع كثرة عددهم‪ ،‬ففي اليوم الثانى للقتال غير تنظيم الجيش‪ ،‬حتى ظن الروم أن‬
‫المسلمين جاءهم مدد‪ ،‬فلم يلحقوهم‪ ،‬بينما انسحب خالد بالجيش بمهارة كبيرة‪ ،‬ولم يقتل في‬
‫هذه الغزوة إل اثنا عشر رجل ً من المسلمين‪ ،‬وكانت في العام الثامن الهجرى‪.‬‬
‫وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعض القبائل العربية قد انضمت إلى الرومان‪،‬‬
‫فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في جيش لتأديبهم‪ ،‬فلما ذهب عمرو‬
‫دا‪ ،‬فبعث إليه‬ ‫ورأى كثرة عدد المشركين أرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب مد ً‬
‫بأبي عبيدة في مائتى رجل‪ ،‬واستطاع المسلمون هزيمة تلك القبائل‪ ،‬وعرفت هذه الحرب‬
‫بسرّية ذات السلسل‪ ،‬وكانت بعد غزوة مؤتة في جمادى الخرة في العام الثامن الهجرى‪.‬‬
‫وحدث أن اعتدت بنو بكر ‪-‬وكانت قد دخلت في حلف قريش حسب اتفاق الحديبية‪ -‬على‬
‫خزاعة التى دخلت في حلف النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وجاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصره‪ ،‬فقال له النبى‪) :‬نصرت يا عمرو بن سالم(‬
‫وعلمت قريش أنها نقضت العهد‪ ،‬فذهب‬
‫أبو سفيان إلى المدينة ليسترضي رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ولكنه رجع دون فائدة‪،‬‬
‫وتجهز الرسول صلى الله عليه وسلم في عشرة آلف مقاتل من الصحابة لغزو مكة دون أن‬
‫تعلم قريش بذلك‪ ،‬وفي هذه الثناء أسلم أبو سفيان‪ ،‬ولما قرب الرسول صلى الله عليه وسلم‬
‫من مكة كان أبو سفيان قد رجع‬
‫ليخبر القوم‪.‬‬
‫ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة منتصرين فاتحين‪ ،‬واتجه الرسول صلى‬
‫الله عليه وسلم والصحابة خلفه ناحية المسجد الحرام‪ ،‬فاستلم الرسول صلى الله عليه وسلم‬
‫الحجر السود وطاف بالبيت‪ ،‬وهدم الصنام التى كانت حول الكعبة‪ ،‬ثم نادى عثمان بن طلحة‬
‫وأخذ منه مفتاح الكعبة فدخلها فوجد فيها صوًرا فمحاها‪ ،‬وخطب الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم في قريش‪ ،‬ثم قال لهم‪ :‬ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا‪ :‬خيًرا‪ ،‬أخ كريم‪ ،‬وابن أخ كريم‪..‬‬
‫فقال‪ :‬فإنى أقول لكم كما قال يوسف لخوته }ل تثريب عليكم اليوم{ اذهبوا فأنتم الطلقاء‪.‬‬
‫ثم رد المفتاح إلى عثمان بن طلحة‪ ،‬وكان قد حان وقت الصلة‪ ،‬فأمر بلل أن يصعد الكعبة‪،‬‬
‫فصعدها وأذن‪ ،‬وأهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دم بعض من أكابر المجرمين الذين عذبوا‬
‫المسلمين وآذوهم‪ ،‬فقتل بعضهم وأسلم بعضهم‪ ،‬ثم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم البيعة‬
‫ما في مكة‬‫ممن أسلم من الرجال‪ ،‬ثم أخذ البيعة من النساء‪ ،‬وأقام الرسول تسعة عشر يو ً‬
‫يجدد معالم السلم فيها‪ ،‬وبعث نفًرا من أصحابه لهدم الصنام التى كان منتشرة في مكة‪ ،‬وقد‬
‫كان فتح مكة في العام الثامن من الهجرة‪.‬‬
‫وقد كان فتح مكة مرحلة فاصلة في تاريخ السلم‪ ،‬فقد كان لقريش مكانة عظيمة بين القبائل‬

‫‪136‬‬
‫جا‪،‬‬
‫العربية‪ ،‬فلما رأت القبائل قريشا دخلت السلم‪ ،‬أسرعت القبائل تدخل في دين الله أفوا ً‬
‫ولكن مسيرة الجهاد لم تقف‪ ،‬فلقد أبت بعض القبائل العربية أن تدخل الدين الجديد‪ ،‬وأل‬
‫تستسلم كما استسلمت القبائل الخرى‪ ،‬وكان من بين هذه القبائل هوازن وثقيف‪ ،‬وانضمت‬
‫بعض القبائل الخرى تحت قيادة مالك بن عوف‪ ،‬وخرج الجيش السلمى ناحية )حنين( وكان‬
‫مالك بن عوف قد سبقهم إليها‪ ،‬ووّزع الجيش في الوادي‪ ،‬ولما نزل المسلمون الوادي رشقهم‬
‫العدو بالنبال‪ ،‬حتى تقهقرت كتائب المسلمين‪ ،‬لكن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع شمل‬
‫المسلمين الفارين وأعاد للجيش انتظامه‪ ،‬وحاربوا العدو‪ ،‬ونصرهم الله عليهم وغنموا غنائم‬
‫كثيرة‪ ،‬وتفرق العدو إلى الطائف ونخلة وأوطاس‪ ..‬وغير ذلك من الماكن‪ ،‬وقد كانت هذه‬
‫الغزوة في شوال من العام الثامن الهجري‪.‬‬
‫وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أن معظم جيش هوازن وثقيف دخلوا الطائف‪ ،‬فخرج‬
‫دا عدة أيام‪،‬‬‫إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر شوال وحاصرهم حصاًرا شدي ً‬
‫وبعدها رفع الرسول صلى الله عليه وسلم الحصار عنهم فقال له بعض الصحابة‪ :‬يا رسول‬
‫فا وائت بهم‪ ،‬وقسم الرسول صلى الله عليه وسلم‬ ‫الله‪ ،‬ادع على ثقيف‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم اهد ثقي ً‬
‫الغنائم‪ ،‬وبعد تقسيم الغنائم جاء وفد هوازن مسلمين‪ ،‬وطلبوا من الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم أن يرد عليهم غنائمهم‪ ،‬فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة رد الغنائم‬
‫لوفد هوازن‪ ،‬فاستجابوا لمر الرسول صلى الله عليه وسلم‪ ،‬بعدها اعتمر الرسول صلى الله‬
‫عليه وسلم ثم رجع إلى المدينة‪.‬‬
‫وفي العام التاسع من الهجرة‪ ،‬سمع الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرومان تستعد للقاء‬
‫المسلمين‪ ،‬وقد تجمع معها بعض القبائل العربية من النصارى‪ ،‬فأعلن رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم أنه خارج لقتال الروم‪ ،‬ودعا إلى الجهاد والنفاق‪ ،‬وأنفق الصحابة من أموالهم‬
‫الكثير‪ ،‬ولم يتخلف عن هذه الغزوة إل المنافقون وثلثة من المؤمنين‪ ،‬وقد كان هذا الوقت‬
‫شديد الحر‪ ،‬إل أن المسلمين جاهدوا أنفسهم في الخروج للجهاد‪ ،‬ولم يكف الزاد‪ ،‬وسمي هذا‬
‫الجيش بجيش العسرة‪ ،‬وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في رجب من العام التاسع‬
‫ما‪.‬‬
‫الهجري تجاه تبوك‪ ،‬حتى وصل إليها وعسكر فيها خمسين يو ً‬
‫ولما سمع الروم به خافوا‪ ،‬فلم يخرجوا لقتال المسلمين‪ ،‬وجاء إليه بعض الرومان واصطلحوا‬
‫معه على دفع الجزية‪ ،‬وانتشر الخبر في الجزيرة العربية‪ ،‬فازداد السلم قوة إلى قوته‪،‬‬
‫ورجعت إليه القبائل التى كانت تنوى الحتماء بالرومان‪ ،‬وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم‬
‫في رمضان من هذه السنة مظفًرا منتصًرا‪ ،‬وفي هذه السنة توفي النجاشى ملك الحبشة‪،‬‬
‫وصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صلة الغائب‪ ،‬كما توفيت أم كلثوم بنت النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم ومات رأس المنافقين عبدالله بن أبى بن سلول‪.‬‬
‫وفي ذي الحجة من العام التاسع الهجري بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميًرا‬
‫جا‪ ،‬فأتت القبائل إلى الرسول صلى‬ ‫على الحج‪ ،‬فحج بالمسلمين‪ ،‬ودخل الناس في السلم أفوا ً‬
‫الله عليه وسلم متتالية متتابعة معلنة إسلمها لله‪ ،‬وفي‬
‫ذي الحجة من العام العاشر الهجري خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة وحج بالناس‬
‫حجة الوداع‪ ،‬بعد أن أعلمهم أمور الدين‪ ،‬وخطب فيهم خطبة وضع فيها السس التى يسيرون‬
‫عليها في حياتهم استكمال للرسالة التى جاء بها إلى الناس‪.‬‬
‫وفي أوائل صفر من العام الحادي عشر الهجري خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد‪،‬‬
‫وصلى على الشهداء كأنه يودعهم‪ ،‬وفي ليلة من الليالى خرج إلى البقيع فاستغفر للموتى‪،‬‬
‫ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ولما اشتد عليه المرض أمر أبا بكر أن يصلى‬
‫بالناس‪ ،‬وفي هذه اليام كان الرسول يخرج للناس إذا وجد خفة في نفسه‪ ،‬فخرج إليهم ذات‬
‫مرة‪ ،‬فوعظهم وذكرهم‪ ،‬وألمح بأن أجله قد اقترب‪ ،‬ولم يفهم ذلك من الصحابة إل أبو بكر‪،‬‬
‫وقبل أن يتوفى النبي صلى الله عليه وسلم بيوم أعتق غلمانه‪ ،‬وتصدق بسبعة دنانير كانت‬
‫عنده‪.‬‬
‫وفي اليوم الخير من مرض النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وفي فجر يوم الثنين الثاني عشر من‬
‫ربيع الول من العام الحادي عشر من الهجرة كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة‬
‫عائشة‪ ،‬فرفع الستار ورأى المسلمين يصلون الفجر‪ ،‬فتبسم وفي وقت الضحى صعدت الروح‬
‫دا‬
‫الطاهرة الزكية إلى ربها بعدما أدت ما عليها فحزن الصحابة ‪-‬رضوان الله عليهم‪ -‬حزًنا شدي ً‬
‫لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وغسلوا الجسد الشريف ليلة الثلثاء من غير أن يجردوا‬
‫حفر قبره صلى الله عليه وسلم في حجرته‪ ،‬ودخل‬ ‫الرسول صلى الله عليه وسلم من الثياب‪ ،‬و ُ‬

‫‪137‬‬
‫الناس جماعات يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬بعد ما أدى ما عليه من أمانة ال‪ ،‬فصلوات ال‬
‫وسلمه عليه‪.‬‬

‫المراجع‬

‫في عصر النترنت والتطور التكنولوجي‪ ،‬لم تعد الكتب المراجع الوحيدة التي يمكن الرجوع‬
‫إليها للستعانة بها لنجاز العمال‪ ..‬من هذا المنطلق‪ ،‬تعددت المراجع المستخدمة في هذه‬
‫الصفحة‪ ..‬يمكن تقسيم المراجع لعدة فئات هي‪ :‬كتب‪ ،‬أشرطة‪ ،‬مواقع إنترنت‪.‬‬

‫الكتب‬

‫أنبياء الله‪ ،‬أحمد بهجت‪ ،‬دار الشروق للطباعة والنشر‪ ،‬الطبعة الخامسة‬ ‫•‬
‫والعشرون‪ 1999 ،‬م‪.‬‬
‫في ظلل القرآن‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬دار الشروق للطباعة والنشر‪ ،‬الطبعة الثانية‬ ‫•‬
‫عشر‪ ،‬القاهرة‪ 1986 ،‬م‪.‬‬
‫قصص النبياء‪ ،‬للمام ابن كثير‪.‬‬ ‫•‬
‫تفسير القرآن‪ ،‬للمام القرطبي‪.‬‬ ‫•‬

‫الشرطة‬

‫قصص النبياء‪ ،‬د‪ .‬طارق السويدان‪ ،‬قرطبة للنتاج الفني‪ ،‬الرياض‪ 1998 ،‬م‪.‬‬ ‫•‬
‫برنامج قصص القرآن‪ ،‬الدكتور محمد هداية‪ ،‬قناة الشارقة‪ ،‬الحلقة ‪،23‬‬ ‫•‬
‫‪ 17/7/2006‬م‪.‬‬

‫مواقع النترنت‬

‫من قصص النبياء‪ ،‬شبكة نسيج السلمية‪ ،‬شبكة نسيج‪.‬‬ ‫•‬


‫القاموس السلمي‪ ،‬موقع السلم‪.‬‬ ‫•‬
‫قصص القرآن‪ ،‬موقع إسلميات‪.‬‬ ‫•‬

‫‪138‬‬
‫وتجدر الشارة هنا‪ ،‬إلى أن جميع اليات القرآنية مأخوذة من قسم القرآن الكريم بموقع‬
‫الشبكة السلمية‪ ،‬وقسم القرآن الكريم بعالم النور‪.‬‬

‫‪139‬‬

You might also like