Professional Documents
Culture Documents
الســيرة الذاتية
ذة وتاريخه أحلم مستغانمي كاتبة تخفي خلف روايتها أًبا لطالما طبع حياتها بشخصيته الف ّ
سا .ولكن ما من شك ي .لن نذهب إلى القول بأّنها أخذت عنه محاور رواياتها اقتبا ً
النضال ّ
ّ
ن مسيرة حياته التي تحكي تاريخ الجزائر وجدت صدى واسًعا عبر مؤلفاتها. في أ ّ
ي لمثال :ّ كلسيك ميول ذا ً
ئا وقار الفرنسي. الدب هواة من الشريف" "محمد والدها كان
. Victor Hugo, Voltaire, Jean Jaques Rousseauيستشف ذلك ك ّ
ل من يجالسه
لّول مّرة .كما كانت له القدرة على سرد الكثير من القصص عن مدينته الصلّية مسقط
ل حوار يخوضه .وذلكرأسه "قسنطينة" مع إدماج عنصر الوطنّية وتاريخ الجزائر في ك ّ
بفصاحة فرنسّية وخطابة نادرة.
دة فاطمة الزهراء ,فقد كانت أكثر ما تخشاه ,هو فقدان آخر أبنائها بعد أن ما عن الج ّوأ ّ
ثكلت كل إخوته ,أثناء مظاهرات 1945في مدينة قالمة .هذه المأساة ,لم تكن مصيرا ً
ل الجزائر من خلل مليين العائلت التي وجدت نفسها لسرة المستغانمي فقط .بل لك ّ
وجه محمد الشريف مع ّ
ممّزقة تحت وطأة الدمار الذي خلفه الستعمار .بعد أشهر قليلة ,يت ّ
دع مدينة قسنطينة ن روحه سحبت منه .فقد و ّ مه وزوجته وأحزانه إلى تونس كما لو أ ّ أ ّ
أرض آبائه وأجداده.
رفاق المير عبد القادر والمقراني بعد نفيهما .ويجد كانت تونس فيما مضى مقّرا لبعض ال ِ
محمد الشريف نفسه محاطا ً بجوّ ساخن ل يخلو من النضال ,والجهاد في حزبي MTLDو
ل أهمّية عن الذين يخوضون المعارك. PPAبطريقة تختلف عن نضاله السابق ولكن ل تق ّ
في هذه الظروف التي كانت تحمل مخاض الثورة ,وإرهاصاتها الولى تولد أحلم في
تونس .ولكي تعيش أسرته ,يضطر الوالد للعمل كمدّرس لّلغة الفرنسّية .لّنه ل يملك
ل ما بوسعه بعد ذلك ,لتتعّلم ابنته اللغة
تأهيل ً غير تلك الّلغة ,لذلك ,سوف يبذل الب ك ّ
منع هو من تعلمها .وبالضافة إلى عمله ,ناضل محمد الشريف في حزب العربّية التي ُ
ي ضد ّ المغارب النضالي نشاطه على بذلك ظاً محاف تميم( )منزل التونسي الدستور
الستعمار.
وعندما اندلعت الثورة الجزائرّية في أّول نوفمبر 1954شارك أبناء إخوته عّز الدين
وبديعة اللذان كانا يقيمان تحت كنفه منذ قتل والدهما ,شاركا في مظاهرات ط ّ
لبّية تضامًنا
مع المجاهدين قبل أن يلتحقا فيما بعد سنة 1955بالوراس الجزائرّية .وتصبح بديعة
وها على الباكالوريا ,من أولى الفتيات الجزائريات اللتي استبدلن بالجامعة
الحاصلة لت ّ
ّ
شاش ,وانخرطن في الكفاح المسلح .ما زلت لحد ّ الن ,صور بديعة تظهر في الفلم الر ّ
الوثائقية عن الثورة الجزائرية .حيث تبدو بالزي العسكري رفقة المجاهدين .وما زالت
بعض آثار تلك الحداث في ذاكرة أحلم الطفولّية .حيث كان منزل أبيها مركزا ً يلتقي فيه
المجاهدون الذين سيلتحقون بالجبال ,أو العائدين للمعالجة في تونس من الصابات.
بعد الستقلل ,عاد جميع أفراد السرة إلى الوطن .واستقّر الب في العاصمة حيث كان
ي لدى رئاسة الجمهورّية ,ثم مديرا ً في وزارة الفلحة ,وأّول يشغل منصب مستشار تقن ّ
مسؤول عن إدارة وتوزيع الملك الشاغرة ,والمزارع والراضي الفلحّية التي تركها
مرون الفرنسيون بعد مغادرتهم الجزائر .إضافة إلى نشاطه الدائم في اتحاد العمال المع ّ
الجزائرّيين ,الذي كان أحد ممثليه أثناء حرب التحرير .غير أن حماسه لبناء الجزائر
وع في كل مشروع يساعد في السراع في إعمارها .وهكذا المستقّلة لت ّ
وها ,جعله يتط ّ
وع لعداد برنامجلحين ,تط ّقد أوضاع الف ّمات التي كان يقوم بها داخلّيا لتف ّ إضافة إلى المه ّ
م ساهم في حملة محو إذاعي )بالّلغة الفرنسّية( لشرح خطة التسيير الذاتي الفلحي .ث ّ
المّية التي دعا إليها الرئيس أحمد بن بّلة بإشرافه على إعداد كتب لهذه الغاية.
وهكذا نشأت ابنته الكبرى في محيط عائلي يلعب الب فيه دوًرا أساسّيا .وكانت مقّربة
كثيًرا من أبيها وخالها عّز الدين الضابط في جيش التحرير الذي كان كأخيها الكبر .عبر
ل المؤّثرات التي تطرأ على الساحة السياسّية .و التي هاتين الشخصيتين ,عاشت ك ّ
كشفت لها عن بعد أعمق ,للجرح الجزائري )التصحيح الثوري للعقيد هواري بومدين,
ما بيوم من خلل ومحاولة النقلب للعقيد الطاهر زبيري( ,عاشت الزمة الجزائرية يو ّ
مشاركة أبيها في حياته العملّية ,وحواراته الدائمة معها.
لم تكن أحلم غريبة عن ماضي الجزائر ,ول عن الحاضر الذي يعيشه الوطن .مما جعل ك ّ
ل
ت ذكره صراحة .فقد ترك بصماته عليها إلى مؤلفاتها تحمل شيًئا عن والدها ,وإن لم يأ ِ
البد .بدًءا من اختياره العربّية لغة لها .لتثأر له بها .فحال إستقلل الجزائر ستكون أحلم
مع أّول فوج للبنات يتابع تعليمه في مدرسة الثعالبّية ,أولى مدرسة معّربة للبنات في
العاصمة .وتنتقل منها إلى ثانوية عائشة أم المؤمنين .لتتخّرج سنة 1971من كلّية الداب
في الجزائر ضمن أّول دفعة معّربة تتخّرج بعد الستقلل من جامعات الجزائر.
لكن قبل ذلك ,سنة , 1967وإثر إنقلب بومدين واعتقال الرئيس أحمد بن بّلة .يقع الب
ضا نتيجة للخلفات "القبلّية" والنقلبات السياسّية التي أصبح فيها رفاق المس ألد ّ مري ً
العداء.
ي الذي أصابه ,جعله يفقد صوابه في بعض الحيان. هذه الزمة النفسّية ,أو النهيار العصب ّ
ي تابع
ح عقل ّ
دى إلى القامة من حين لخر في مص ّ خاصة بعد تعّرضه لمحاولة اغتيال ,مما أ ّ
ي .كانت أحلم آنذاك في سن المراهقة ,طالبة في ثانوية عائشة للجيش الوطني الشعب ّ
بالعاصمة .وبما أّنها كانت أكبر إخواتها الربعة ,كان عليها هي أن تزور والدها في
ل أسبوع .كانلك ّ
ي باب الواد ,ثلث مّرات على الق ّ المستشفى المذكور ,والواقع في ح ّ
مرض أبيها مرض الجزائر .هكذا كانت تراه وتعيشه.
قبل أن تبلغ أحلم الثامنة عشرة عامًا .وأثناء إعدادها لشهادة الباكلوريا ,كان عليها ان
تعمل لتساهم في إعالة إخوتها وعائلة تركها الوالد دون مورد .ولذا خلل ثلث سنوات
ث في ساعة متأخّرة من جا يومًيا في الذاعة الجزائرّية يب ّ
دم برنام ً
كانت أحلم تعد ّ وتق ّ
حا كبيًرا تجاوز
ً نجا ية
ّ الشعر "الوشوشات" تلك لقت وقد "همسات". المساء تحت عنوان
الحدود الجزائرية الى دول المغرب العربي .وساهمت في ميلد إسم أحلم مستغانمي
ي الممّيز وفي مقالت وقصائد كانت تنشرها دا في صوتها الذاع ّ ي ,الذي وجد له سن ً الشعر ّ
أحلم في الصحافة الجزائرية .وديوان أّول أصدرته سنة 1971في الجزائر تحت عنوان
"على مرفأ اليام".
قفته ابنته .بل كان يتواجد في المستشفى في هذا الوقت لم يكن أبوها حاضرا ً ليشهد ما ح ّ
لفترات طويلة ,بعد أن ساءت حالته.
ل نجاحاتها من أجل إسعاده هو ,برغم هذا الوضع سّبب لحلم معاناة كبيرة .فقد كانت ك ّ
ما من قراءتها لعدم إتقانه القراءة بالعربية .وكانت فاجعة الب علمها أّنه لن يتمكن يو ً
الثانية ,عندما انفصلت عنه أحلم وذهبت لتقيم في باريس حيث تزّوجت من صحفي لبناني
دا كبيًرا للجزائريين .وابتعدت عن الحياة الثقافية لبضع سنوات كي تكّرس ممن يكّنون و ّ
ي من جديد .أوّل ً ّ العرب الدب مع لتتعاطى الثمانينات بداية في تعود أن قبل لسرتها. حياتها
ّ
م مشاركتها في الكتابة في مجلة "الحوار" بتحضير شهادة دكتوراه في جامعة السوربون .ث ّ
التي كان يصدرها زوجها من باريس ,ومجلة "التضامن" التي كانت تصدر من لندن .أثناء
ذلك وجد الب نفسه في مواجهة المرض والشيخوخة والوحدة .وراح يتواصل معها بالكتابة
ل مناسبة وطنية عن ذاكرته النضالّية وذلك الزمن الجميل الذي عاشه مع إليها في ك ّ
الرفاق في قسنطينة.
ما بخط أنيق وتعابير منتقاة .كان وقفت تلك الرسائل الطويلة المكتوبة دائ ً م ذات يوم ت ّ
ث ّ
وت مناسبة ,مشغول ً بانتقاء تاريخ موته ,كما لو كان يختار عنواًنا ّ يف ل الذي الب ذلك
لقصائده .في ليلة أّول نوفمبر , 1992التاريخ المصادف لندلع الثورة الجزائرّية ,كان
محمد الشريف يوارى التراب في مقبرة العلياء ,غير بعيد عن قبور رفاقه .كما لو كان
يعود إلى الجزائر مع شهدائها .بتوقيت الرصاصة الولى .فقد كان أحد ضحاياها وشهدائها
ي الذيالحياء .وكان جثمانه يغادر مصادفة المستشفى العسكري على وقع النشيد الوطن ّ
ضا ,كانت السيارات العسكرّية كان يعزف لرفع العلم بمناسبة أّول نوفمبر .ومصادفة أي ً
م التنكيل بهم على يد من لم يكن دة جنود قد ت ّ وهة لع ّ
تنقل نحو المستشفى الجثث المش ّ
ّ
بعد معترًفا بوجوده كجبهة إسلمّية مسلحة.
ل ،يعلن وقوعه في قبضة “قوات التحرير” ،ما لو لم تكن الصورة تحمل أسفلها خبرا ً عاج ً
دق المشهد.
كنا لنص ّ
متجّبـر ،صاحب التماثيل التي ل أيكــون هــو؟ القائد الزعيم الحاكم الوحد ،المتعنتر ال ُْ
د ،وصاحب تلك القصيدة ذات المطلع الذي غدا شهيرًا ،يوم ظهر ُتحصى ،والصور التي ل ُتع ّ
على الشاشة عند بدء الحرب الميركية على العراق ،مطالبا ً بوش بمنازلته.
أيكون صاحب “أطلق لها السيف ل خوف ول وجل” ،قد “أطلق لها اللحية” ،بعد أن خانه
السيف وخذله الرفاق ،ولم يشهد له ُزحل سوى بالحمق والجريمة؟
متعــب الملمح ،المذعور كذئب جريح ،فاجأه الضوء في قبو ،هو أكان هو؟ ذلك العجوز ُ
كيه مستسلما ً كخروف ليفحص بشعره المنكوش ولحيته المسترسلة ،هو ما عداه ،يفتح ف ّ
جندي أميركي فمه .فمه الذي ما كان يفتحه طوال ثلثين سنة ،إل ّ ليعطي أمرا ً بإرسال
كيه انتهت حيوات ثلثة مليين عراقي. البرياء إلى الموت ،فبين ف ّ
ل أكثر من ثلثة عقود ،يوزع على العالم سيل ً من أكانت حقا ً تلك صورته؟ هو الذي ظ ّ
ً
صوره الشهيرة تلك ،في أزيائه الستعراضية الكثيرة ،وسيما كما ينبغي لطاغية أن يكون،
أنيقا ً دائما ً في بدلته متقاطعة الزرار ،ممسكا ً ببندقية أو بسيجار ،مبتهجا ً كما لو أنه ذاهب
ف كل يوم لمليين العراقيين ،الذين اختاروه في صوب عرس ما .فقد كان السيد القائد ُيز ّ
أحد تلك الستفتاءات العربية الخرافية ،استفتاءات “المئة في المئة” التي ل يتغّيب عنها
ومون رفاتا ً في المرضى ول الموتى ول المساجين ول المجانين ول الفاّرون ،ول حتى المك ّ
فذ فيه حكم المقابر الجماعّية .وكان الرجل مقتنعا ً قناعة شاوشيسكو ،يوم اقتيد لُين ّ
ّ
مصلح الشعب ،هو وزوجته ،رميا ً بالرصاص ،إنه “معبود الجماهير” ،هو الذي بدأ حياته ُ
أحذية قبل أن يصبح حاكمًا ،وتبدو عليه أعراض الكتابة والتنظير.
كن من نشرها ،وهي تتمة وبالمناسبة ،آخر كتاب كتبه السيد القائد ،كان رواية لم يتم ّ
لـ”زبيبة والملك” .وكان عنوانها “اخرج منها أيها الملعون” .ول يبدو أنها أفادته في تدّبـر
ُ
مـة العربية جمعاء .فرصته موّرطا ً معه ال ّ
أمره والخروج من الكارثة التي وضع نفسه فيهاُ ،
دمها إليه الشيخ زايد ،بحكمته الرشيدة ،حين أشار عليه الوحيدة ،كانت في النصيحة التي ق ّ
لمة العربية .وأذكر ل بالعراق وا ُبالستقالة تفاديا ً لمزيد من الضحايا والضرار ،التي ستح ّ
ل من روح الدعابة “الرئيس صدام حسين ل أن وزير خارجيته أجاب آنذاك في تصريح خا ٍ
يستطيع اتخاذ قرار بالتخلي عن مليين العراقيين الذين انتخبوه بقناعة ونزاهة” .في هذه
حكماء ،كانت الكارثة متوقعة ،حتى لكأنها مقصودة .وبعد ح ّ
كام بل ُ مـة التي ل ينقصها ُ ُ
ال ّ
مة ،ما كانت ُ
دام العدو المثالي لميركا ،وعلى مرأى من أ ّ أن كان العميل المثالي ،أصبح ص ّ
من السذاجة لتحلم بالنتصار على أميركا ،ولكن كانت من الكرامة بحيث لن تقبل إل ّ
بهزيمة منتصبة القامة تحفظ ماء وجهها.
ن أهدافها أخلقية. ل ،في هذه الحرب ،التي تقول أميركا إ ّ “حملة النظافة” ستستمر طوي ً
ومهما يكن ،ل نملك إل ّ أن نستورد مساحيق الغسيل ومواد التنظيف من السادة نظيفي
ف في البيت ناصع البياض في واشنطن. الك ّ
لمة ،فقدان حكامها الحياء .إنه مشهد الذلل البشع من الموت. من بعض فجائع هذه ا ُ
ومن مذّلة الحمار ...صنع الحصان مجده.
غالت
أدب الش ّ
مـة سّر ما .ذلك أني ما أحضرت شّغالة ،من أيّ جنسية كانت ،إل ّ وبدت عليها حتمـًا ،ثـ ّ
أعراض الكتابة ،بدءا ً بتلك
الفتاة المغربية القروية ،التي كانت تقيم عندي في باريس ،لتساعدني على تربية الولد،
ب ،ل من أجل ُ
ب لحبيبها .ومن أجل عيون الح ّ ت نفسي أساعدها على كتابة رسائل ح ّ فوجد ُ
مشتهاة ،حتى انتهى بي ً ُ
عينيها ،كنت أنفق كثيرا من وقتي لجعل منها فتاة "شاعرة" و ُ
ب لحبيبها نيابة عنها! خديجــة ،التي كنت المر ،إلى العمل "زنجّية" لديها ،بكتابة رسائل ح ّ
"زنجيتها" ،حسب التعبير الفرنسي ،والكاتبة التي تختفي خلف أحاسيسها وقلمها ،كانت
َ ُ
نّ بأ مانمـي كانت تحلف بأغلظ الي َ ملتي الروائية .أ ّ في الواقع فأرتي البيضاء ،ومختبرا ً لتأ ّ
حَرتني ،حتى إنني منحتها أجمل ثيابي ،وكنت أعيرها مصوغاتي وحقائب يدي س َالفتاة َ
لمواعيدها العشقية ،وأبذل من الجهد والعناء في تحويلها من فتاة كانت قبلي تغسل ثيابها
على ضفاف النهر ،إلى فتاة من هذا العصر ،أكثر مما كانت ُتنفق هي من وقت في
ن البنت ذات الضفائر البدائية الغليظة ،ظهرت عليها مع عوارض َ
الهتمام بأولدي .ذلك أ ّ
ب باريسي لشاب سوري ،أعراض الكتابة الوجدانية في سذاجة تدّفقها الّول .وأخشى حـ ّ ُ
ن اعترفت بأنني كنت أيام إقامتها عندي أكتب "ذاكــرة الجســد" ،أن يستند أحدهم إلى إ ْ
ً
من كت ََبت تلك الرواية ،نظرا إلى كونها َ محا إلى احتمال أن تكون شّغالتي َ ً مل ّ مقالي هذاُ ،
الوحيدة التي لم تنسب إليها الرواية حتى الن.
ث لي الّلــه ،سّيـدة طّيبة وجميلة ،من عمري تقريبًا، عندما انتقلت إلى بيــــــروت ،ب َعَ َ
مصيبة الفقــر ،لعنة انقطاعها باكرا ً عن ُ إلى الجميل، مَعت ،على الرغم من مظهرها ج َ َ
صتي". َ ّ ّ
التعلم .لـــــذا ،ما جالستها إل وتنّهدت قائلــة" :كم أتمّنى لو كنت كاتبة لكُتب ق ّ
ي مآسيها ،عساني أستفيد منها روائيًا ،وربما سينمائيًا ،نظرا ً إلى ما ص علـ ّ وراحـــت تق ّ
مع كل ما فاض به مفاجعات مكسيكية .ماري ،التي كانت َتج َ مفاجآت و ُ تزخر به حياتها من ُ
دد
ّ تتر دةّ عـ سنوات منذ مازالت بفضلي، النسائية القراءة على وواظبت بيتي من مجلت،
ب إل وتأتيني بهدية .في آخر عيــد للحب أهدتني ّ ح ّ ً
وت عيــدا لل ُ ي في المناسبات ،ول ُتف ّ علـ ّ
دفتـرا ً ورديـا ً جميل ً لكتابة المذكرات ،مرفوقا ً بقلم له غطاء على شكل قلب ،وكتبت على
طلعه عليها بميلد كاتبة جديدة! شـرنـي زوجي عند ا ّ لولى كلمات مؤّثـرة ،ب ّ صفحته ا ُ
جاءت "روبــا" ،وهو اسم شّغالتي السريلنكية التي عرف البيت على أيامها ،العصر
الذهبي لكتابة الرسائل واليوميات .فقد استهلكت تلك المخلوقة من الوراق والقلم ،أكثر
ما استهلكنا عائليا ً جميعنا ،كّتابـا ً وصحافيين ..وتلميذ .وكنت كّلما فردت أوراقي وجرائدي م ّ
على طاولة السفرة ،جاءت "روبـــا" بأوراقها وجلست مقابلة لي تكتب)!( ،وكان أولدي
مشهد مرون من صبري عليها ،بينما كنت ،على انزعاجي ،أجد ال ْ َ َيعجبون من وقاحتها ،ويتذ ّ
جميل ً في طرافته .ففي بيت عجيب كبيتنا ،بدل أن تتعّلم الشّغالة من سيدة البيت طريقة
"حفر الكوسة" و"لف الملفوف" وإعداد "الفّتوش" ،تلتحق بـ"ورشة الكتابة" وتجلس
منهمكة بدورها في خربشة الوراق. بجوار سّيدتهاُ ،
من باركَ وعلى الرغم من جهل زوجي للغة "الوردو" و"السنسكريتية" ،فقد كان أّول َ
موهبة الشّغالة ،واعترف بنبوغها الدبي ،إلى حد ّ تساهله معها في ما ل تقوم به من شؤون
حكم وجودها معنا ،على ما يبدو ،لنجاز كتابها ،واعتبار بيتنا فندقا ً للكتابة من تلك البيت ،ب ُ
الفنادق التي تستضيف الك ُّتاب على حساب مؤسسات لنجاز أعمالهم الدبّية .حتى إنه
أصبح يناديها "كوماري" ،على اسم الكاتبة السريلنكية الشهيرة "كوماري جوديتا" ،التي
ذرني مازحـــا ً من أن تكون البنت شحة لرئاسة "اليونسكو" ،وراح ُيح ّ مر ّ كانت آنــذاك ُ
مذكراتها عندنا ،وقد تفشي بكثير من أسراري ،وتصدر كتابها قبل كتابي، ّ منهمكة في كتابة ُ ُ
وقد تصّر على توقيعه في معرض بيروت للكتابُ ،أسوة بالشّغالة السريلنكية التي تعمل
عند الفنان الراحل عارف الريس ،التي كانت تقوم نهارا ً بأشغال البيت ،وترسم سّرا ً في
مة عـــــارف الريس، الليل ،مستفيدة من المواد المتوافرة في مرسم سّيدها .و كانت ع َظ َ َ
قاصصتها بدل سرقة بعض أدواته ،بل ذهب إلى حد ّ إقامة م َفي تبّني موهبة شّغالته ،بدل ُ
م افتتاحه برعاية سفير سريلنكا في لبنان. معرض فني لها ،تـ ّ
َ
مث َلها ولو أ ُ
ددت َ مـي سمعت بتهديدات زوجي لي ،بأن تسبقني الشّغالة بإنجاز كتابها ،لر ّ نأ ّ ّ
ضل "العود اللي تحقــُرو هـــو الّلــي يعميــك" .وهو ما كان يعتقده ُ ّ مفْ لا الجزائري
دم ليثأروا مّنا ،ل ليخدمونا". خ َ خلق ال ْ َ إبراهيــم الكونــي ،حين قال " ُ
مـا مناسبة هذا الحديــث ،فعودة ظهور العراض إّياها ،على شّغالتي الثيوبية ،التي ل أ ّ
متابعة نظام حميتي ،واستعمال كريماتي ،بل وتأخذ من تكتفي بتقليد ملبسي وثيابي ،و ُ
غرفتي أوراقي وأقلمي ،وتختفي في غرفتها ساعات طويلة ،لتكتب.
ك"! ود َيليق ب ِ َ
منهمكة في كتابة" :الس َ أخشى أن تكون ُ
طبع عليه بالفرنسيةنسيت أن أقول لكم ،إنني كتبت مقالي السابق عن الجزائر ،بقلم ُ
عبارة “بوتفليقة في قلبي”· فقد طاردتني الحملة النتخابية حتى الطائرة العائدة بي من
الجزائر إلى بيروت ،ولم أجد وأنا محجوزة مدة أربع ساعات ،سوى قلم أهداني إّيــاه أحد
أنصار بوتفليقة ،عندما زرت صديقتي خالدة مسعودي ،وزيرة الثقافة والتصال ،في زيارة
دية لرفع العتب قبل مغادرتي الجزائر بيوم· و ّ
ديها للمتطرفين ،الذين أحّلوا دمها ،وأرغموها
ّ تص بتاريخ الشهيرة والمناضلة الرائعة، خالدة
لسنوات على الدخول في الحياة السرية ،هي بثقافتها وشجاعتها السياسية ،الفرس
البربري الجامح ،الذي راهن عليه بوتفليقة لكسب ثقة اليساريين والبربر والنساء بورقة
واحدة·
إنها ،بأصالتها وبساطتها ،ل تشبه إل نفسها·· بشعرها الشقر الرجالي القصير ،وبملمح
ُأنثوية جميلة ،وبتلقائية وحماسة تفتقدهما عادة النساء حال جلوسهن على كرسي رسمي·
فهي ل ترتدي تاييرا ً سوى في المناسبات· وتفعل ذلك بأناقة أوروبية “عملّية” من دون
مطّرزتين بالحناء في كل مناسبة دينية ،وبهما فاها ُبهرجة أو تشاوف· ل يزعجها أن تكون ك ّ
تكتب مرافعاتها ومحاضراتها السياسية ،التي ُتمثل بها الجزائر بتفوق في المحافل الدولية،
بلغة فرنسية راقية ،ما عاد يتقنها الفرنسيون أنفسهم·
ديلكنها ،مذ شغلت مناصب سياسية كثيرة ،أحدها ناطقة باسم الحكومة ،رفعت خالدة تح ّ
اللغة العربية ،وأصبحت تتحدث الفصحى بطلقة·
مرافقتها إلى قصر الثقافة لتدشين دة على ُ مدير مكتبها قال لي مازحا ً وهي ترغمني بمو ّ
معرض “جمعية المل لترقية وحماية المرأة والطفولة”“ :إنها امرأة دائمة الركض·· أكثر
داءة حسيبة بومرقة” )الجزائرية حائزة الميدالية الذهبية في العدِو(· عدوَا ً من الع ّ
مراعاة لمنصبها ،لكنها تعود وتبحث عني لُتقدمني بفخر لنساء أتركها تسبقني بخطوات ُ
ن البائسات اللئي ً ُ
أنصاف أمّيات ،يستقبلنها بالزغاريد ،ويأخذن معنا صورا تذكارية·· هـ ّ
كنهن من بيع فقدن بيوتهن في الزلزل ،واللئي أوجدت لهن جمعيات وتظاهرات تم ّ
دة وصبر· توشوشني: مهن واحدة واحدة·· تقّبلهن بمو ّ منتجاتهن اليدوية وإعالة عائلتهن· تض ّ
“لبد من دعمهن· العمل أشرف لهن من مد ّ أيديهن إلى الدولة أو إلى أزواجهن”·
دماتها· لكنني مق ّ مراعاة لحاجة ُ ت بمحّبة معظمها ُ ملتين بالورود ،وبهدايا رفض ُمح ّ عدنا ُ
احتفظت بالقلم ،ونسيت أن أعطيها ُأمي التي كانت سعيدة بأن تعيش أّول حملة انتخابية
ضل بوتفليقة ،من ه علقة بمرشحها المف ّ على الطريقة الميركية· فراحت تجمع كل ما ل ُ
من يزورنا من َ و أخي وأبناء السائق، على قمصان وقّبعات وشارات ،تقوم بتوزيعها بدورها
شّغيلة·
كرت وأنا أكتب في الطائرة مقالي بذلك القلم الذي عليه عبارة “بوتفليقة في قلبي” ،تذ ّ
من يهدي كاتبا ً قلم حبر كمن يهدي فّرانا ً ن َ الدكتور غازي القصيبي الذي قال لي مّرة “إ ّ
ربطة خبز”· وكنت يومها أشكو إليه إصرار بعض قارئاتي الثريات ،على إهدائي أقلما ً
فاخرة ،يعادل ثمن بعضها تكاليف طباعة كتاب ،من دون أن تكون تلك القلم قادرة على
ل ،لكونها في حّلتها الذهبّية تلك ،لم ُتخَلق سوى لتوقيع الصفقات صا ً جمي ً
إلهامك ن ّ
والشيكات ،ما جعلني أحتفظ بها في درج خاص لمجّرد الذكرى ،لكوني ل أعرف الكتابة
سوى بأقلم التلوين المدرسّية التي ُتباع في علبة من اثني عشر قلمًا ،ل أستعمل منها
سوى أربعة ألوان· ونظرا ً إلى سعرها الذي ل يتجاوز الثلثة دولرات ،فأنا ُألقي ببقية
القلم في سّلة المهملت·
وبالمناسبة ،أجمل قلم أحتفظ به أهداني إّيــاه الدكتور غـــازي القصيبي ،في التفاتة جميلة
كر” لم من كاتب يدري أن القلم المستعمل ،ذا “السوابق الدبّية” ،أثمن من أقلم “ب ِ ْ
دة
ي هو أعلى درجات المو ّ تقترن بيد كاتب ،وأن إهداء كاتب كاتبا ً آخر قلمه الشخص ّ
والعتراف بـ”قلم” الخر·
ُ
لكن المحرج بالنسبة إلى كاتب ،أن يكتب بقلم طبع عليه اسم رئيس ،حتى وإن كان ذلك
قــًا· الرئيس صديقا ً منذ ثلثين سنة ،ومكانه في القلب ح ّ
قَلم؟
دم ..لسكات َ ه َ
ذا ال ّ َأك ّ
ل َ
مدّوي لموته .فسمير ما كان نجم من لم يسمع منكم بسمير قصير قبل الخبر ال ْ ُ أعذر َ
الشاشات ،ول ديك الفضائيات .لم ُيشارك في مسابقة للغناء ،لم يصل بعد حملة )(sms
دد الهواجس والثقافات .كان متع ّإلى التصفيات النهائية في “ستار أكاديمي” .كان أكاديميا ً ُ
أستاذا ً جامعيا ً ُيحّرض الجيال الناشئة على النتماء إلى حزب الحقيقة .لذا ،أزعجتهم
حَباُلــه الصوتّية. ِ
ُ
ي الب ،السوري الم، الفلسطين هو العرب. ستار” “سوبر ً ا يوم يكون أن يحاول لم
ّ
هب والقلب ،ما كان ليدخل منافسة تلفزيونّية تحت رايــة واحدة ،فلم يؤمن ي ال ْ َ
مذ َ اللبنان ّ
صد أخباره المعجبون ،بل المخبرون ،ولم تتدافع ً ً
بغير الُعروبـــة علما وقَ َ
درا .لـــــذا ،لم يتر ّ
ل ذلك.فل بك ّل ،بل كانت أجهزة المن تتك ّ مراهقات للقتراب منه وأخذ صور له حيثما ح ّ ال ْ ُ
عمقا ً في فهم التاريخ ،ما كان حنجرة ،كان ضميرًا. مّتقد الذكاء ،الذاهب ُ الفتى العربي ال ْ ُ
ّ
ن رجال في الظلمً لــــذا ،لم يقف أمام لجنة تحكم على صوتــه ،بل كان يدري منذ البدء أ ّ
يحاكمونه كظاهرة صوتّية في زمن الهمس والهمهمات.
ي ،النبيل ،المستقيم ،في كل ما كتب ،ما كان حبره الذي الفتى العربي الوسيم ،النق ّ
يسيل ،بل دمه.
ن للصوت العالي عندما اعتاد أن يرفع صوته على نحو ل رجعة عنه ،على الرغم من علمه أ ّ
دس والقلم ،المقالت يرتفع خارج الطبقات الصوتّية للطرب ثمنا ً باهظًا .ففي حوار المس ّ
النارّية يرد ّ عليها بالنار.
مطاَرد ،أن ذعر الكاتب ال ُْ ما عرفت من ُ ّ ع وتستغني نى، تغ
َ َ ف صديقي.. كان عليك أن ُتغّني يا
ّ َ
دفا ،أن تستخدم وسامتك في طلة إعلنّية لبيع ً مسته َ تكون هدفا ً إعلميا ً بدل أن تغدو رجل ُ
ً
معرفّية رغـــوة للحلقة ،أو الترويج لعطر جديد ،بدل استخدام أدواتك الثقافية وال ْ َ
ل ما تكتب ،فتسقط خــر الوقت لقنعك أل ّ تبصم بدمك على ك ّ قت ََلــة .تأ ّ مقارعــة ال َ لِ ُ
جامح ل حصانة لك .الكاتب كائن أعزل ل يحتمي سوى َ ال الحصان هذا يا بحبرك. ً ا مضرج ُ
بقلم.
ك ..فقط لن َ
ك ل هذه المتفجرات المزروعة تحت مقعد َ دم ..لسكات قلم؟ وك ّ ذا ال ّ ل هَ َ َأك ّ
رفضت أن تجلس يوما ً على المبــــادئ؟
صاحــب “القلم الوسيم” سقط في موكب من مواكب الموت اللبناني.
طي الصفحات ا ُ خـــر ،لموت يغ ّ
لولى للصحافة متأ ّ ل هذا المجد ال ْ ُ ط ،وما َنفع ك ّ سقَ َ َ
ف دم صاحبها ،تتقاسم على جدران بيروت حّيـزا ً كان محجوزا ً العالمية؟ ما زهو صور لم يج ّ
قــات؟
صف َ قاوِلين السياسيين وصائــــدي ال ّ م َمن َْتخِبين وال ْ ُ دا حكرا ً على ال ْ ُ للمطربين ،و َ
غـ َ
هو صائــد الكلمات ،ماذا يفعل بينهم ،وهو الذي عندما كان حّيــا ً ما كان ليمد يده لُيصافح
بعضهم؟ وما نفع إكليل البطولة على رأس ما عاد رأسه مذ ركب سيارته وأدار ذلك
محّرك ،فتطاير دمه ،وتناثرت أجزاؤه لتتبعَثر فينا؟ ال ْ ُ
عْبـَرة انتخابية لنصرة القَت َلـــة يقرأون الن أخبار َنـْعـِيـهِ بعدما أسكتوه ،وصنعوا من جثته ِ َ
دساتهم بـ”كاتم الصوت”. ل هذا الرثــــاء أثناء حشو مس ّ صمت” ،يبتسمون لك ّ “حزب ال ّ
ن ً
ت “القلم الوسيم” ،تاركا لنا عالما من البشاعة والذعر من المجهول ،بينما نح ُ ً م َ ص َ َ
قت ََلة يبتسمون مطال ََبـة بحقيقة جديدة تحمل رقم الشهيد الجديد .ال َ منهمكون في ال ُْ
فين بمطالبنا ،واثقين بجبننا. مستخ ّ
ن للحقيقة “كلب حراسة” تسهر على سّرها .وحدهم حّراس القيم ل حارس لهم إل ّ ذلك أ ّ
ً
الضمير ،الضمير الذي كان سببا في استشهاد سميــر قصيــر.
كرت أغنية الراحلة ميلينا مركوري ،التي كانت في تشّردها النضالي تغّني في رومــــا ،تذ ّ
“حيث ُأسافر تجرحني اليونان” ،قبل أن تصبح وزيرة للثقافة في اليونان الديمقراطية·
مثلها ،ما سافرت إلى بلد إل ّ وجرحتني هموم العروبة· وكنت جئت إلى روما ،لحضور
دمته بنجاح كبير صديقتي المطربة الملتزمة جاهدة وهبي ،في قاعة “بيو” الحفل الذي ق ّ
الضخمة ،التابعة لحاضرة الفاتيكان ،وذهب ريعه لبناء مستشفى لطفال الناصرية·
مؤثرين في حضورهم متأثرين و ُ
كان أهالي الجنود اليطاليين الذين سقطوا في الناصريةُ ،
إلى جانب أبناء الجالية العربية· فبعض أمهات وزوجات الجنود القتلى لم يخلعن حدادهن
منذ عدة أشهر ،لكنهن ،على الرغم من ذلك ،واصلن تضامنهن مع الشعب العراقي،
طط لها بعد ذلك ن أبناءهن ذهبوا بنوايا إنسانية ،ل في مهمة عدوانية كما خ ّ لعتقادهن أ ّ
البنتاغون·
إحدى أرامل الحرب ،أبدت ُأمنيتها لزيارة الناصرية ،المدينة التي دفع زوجها حياته ثمنا ً
“لعادة البسمة إلى أبنائها”·
أما فكرة الحفل ،فقد ولدت من تصريح شقيق أحد الجنود الضحايا ،غداة مقتل أخيه ،حين
من يريد تقديم تعازيه لي·· ليواصل جمع المال من أجل الطفال الذين كان أخي قالَ “ :
دم لهم العون”· يق ّ
وه من ّ لت الخارج القتيل، الجندي ذلك قصة آنذاك، اليطالية، العلم وسائل نقلت وقد
وة ،الذي درج على تناول وجباته الغذائية برفقة عدد من الطفال العراقيين ،واعتاد أن الفت ّ
يقتطع من مصروفه مبلغا ً يوزعه عليهم·
بعد موته ،اكتشف الطفال الذين ظّلوا يترددون على مواقع العسكر ،أن الجنود ليسوا
شـره· جميعهم ملئكة ،فقد غدت طفولتهم وجبة يومية للموت الميركي ال ّ
ى عراقيا ً لم أتوقعه· أسعدني اكتشاف مدى ت إقامتي في روما منح ً بعد ذلك الحفل ،أخذ ْ
حماسة بعض اليطاليين للقضايا العربية ،بقدر ما آلمني أل ّ يجد هؤلء أي سند ،ول أي
امتنان من الجهات العربية في روما ،أو من العرب أنفسهم ،الذين ل يدّللون ول يسخون
إل ّ على أعدائهم·
واحدة من هؤلء اليطاليين الرائعين ،الجميلة ماورا غوالكو ،التي اعتادت الحضور إلى
لبنان كل 16أيلول ،مع وفد من اليطاليين اليساريين الصحافيين في معظمهم ،الناشطين
في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين ،وذلك لحياء الذكرى المأساوية لمذابح صبرا وشاتيل،
“ماورا” قالت لي بأسى ،إنها ستتخّلف لّول مّرة منذ خمس سنوات عن هذا الموعد ،لنها
ستضع مولودها في أيلول المقبل· ولكن رفاقها سيحضرون ليضعوا ورودا ً على مكان
ول إلى محل لرمي النفايات ،فقاموا المذبحة ،الذين فوجئوا عندما زاروه لول مرة ،بأنه تح ّ
ً ً
بتنظيفه بأنفسهم· وعندها استحت بلدية الغبيري ،ووضعت شاهدا تذكاريا على ذلك
المكان·
المستشرقة الصديقة إيزابيل دافليتو ،نموذج آخر لليطاليين الذين يكافحون لتجميل صورة
العرب· فهي تحاول بمفردها منذ سنوات ،إنقاذ سمعة الدب العربي ،والشراف على
ترجمة أهم العمال الدبية ،في سلسلة تصدر عن دار نشر “مناضلة” على الرغم من
دد في المطالبة بحقوقي ،من ناشر ن ،ما جعلني أتر ّ برجوازية صاحبها المحامي المس ّ
مفلس· حب عربي ُ توّرط في ُ
دعيت ُ التي كتلك سياسية، أو فكرية ندوات بتنظيم للعرب، موالين مثقفين دة
كما يقوم ع ّ
ً ً
ت خللها نصا شعريا عن بغداد، مخصصة للعراق ،وألقي ُ إليها في مركز “بيبلي” ،التي كانت ُ
تمت ترجمته لليطالية·
إيزابيل دعتني ،رغم مشاغلها ،إلى عشاء في بيتها ،دعت إليه على شرفي ناشري
والبروفيسور وليام غرانارا ،الستاذ في جامعة هارفارد ،والمستشرق الميركي ،الذي
احتفظ بوسامة أصوله اليطالية ،وبحّبه الدب العربي·· ومشتقاته·
وليام ،الذي سبق أن التقيته في مؤتمر في القاهرة ،اقترح دعوتي إلى أميركا لموسم
دراسي ككاتبة زائرة ،وناقشني بفصاحة مدهشة في رواياتي·· لكن من الواضح أنه لم يقرأ
مقالتي·
ّ
لقائي الكثر حرارة·· كان مع المخرج التلفزيوني داريو بليني ،الذي سبق أن شاهدت له
في مركز “بيبلي” ،شريطا ً وثائقيا ً عن بغداد ،أبكى معظم الحاضرين ،وهو يعرض يوميات
العذاب والموت والذلل ،التي يعيشها العراقيون على أيدي جيش “التحرير” الميركي·
ورها على شكل “كليب” ُ
داريــو ،الذي أعجب بقصيدتي عن العراق ،طلب مني أن ُيص ّ
لبرنامج ثقافي فـي التلفزيون اليطالي·
ور القصيدة باللغتين ،بعضها نص
ُ ّ فيلو، ليديا الشاعرة وهكذا قضيت آخر يوم برفقته ،ورفقة
في بيت موسوليني ،والبعض الخر وسط المظاهرات العارمة ،التي كانت يومها تجتاح
ددة بالحرب الميركية على العراق· شوارع روما ،من ّ
صابين والمافيوزي·· ومرتزقة الحروب ،لقد أنجبت إيطاليــــا العظيمة ،لم تنجب فقط الن ّ
من يعطون درسا ً في البداع·· وفي النسانية· أيضا ً َ
ف العربي
ب الشر ِ
ر ُ
جوا ِ
طع الصحافة، جهت نظرك .ع ََبثا ً ُتقا ِ ي ،حيث أوليت صدرك ،أو و ّ ل مفّر لك من الخنجر العرب ّ
ل اللغات حتى ل ُتدمي قلبك. رض عن التلفزيون ونشرات الخبار بك ّ وُتع ِ
لولى ستأتيك الهانة هذه المرة من صحيفة عربية ،انفردت بسبق تخصيص ثلثي صفحتها ا ُ
ّ
دام وهو يغسل ملبسه. لصورة ص ّ
مـة صورا ً ُأخرى للقائد المخلوع بملبسه الداخلية ،نشرتها ّ َ
ثـ ن
ّ أ ستكتشف بعد ذلك،
ه ،ل يستحقّ مجاملة إنسانية واحدة ،اختفى 300ألف شخص َ
صحيفة إنجليزية “لطاغية كرِ ْ
ل حكمه”. في ظ ّ
َ
مهانا” ،ت ُِهينك مع ً الصحيفة التي ُتباهي بتوجيهها ضربة للمقاومة “كي ترى زعيمها الكبر ُ
ي ،على الرغم من كونك ل تقاوم الحتلل الميركي للعراق إل ّ بقلمك.. 300مليون عرب ّ
وقريبا ً بقلبك ل غير ،ل لضعف إيمانك ،بل لنهم سيكونون قد أخرسوا لسانك .هؤلء،
ل سيارة مفخخة. جتك ونسف منطقك مع ك ّ بإسكات صوتك ،وأولئك بتفجير ح ّ
ّ
قدة أمام صورة القائد الصنم ،الذي استجاب الله لدعاء “شعبه” مع ّ تنتابك تلك المشاعر ال ْ ُ
وحفظه من دون أن يحفظ ماء وجهه .وها هو في السبعين من عمره ،وبعد جيلين من
معاِقين ،وبعد بضعة آلف من التماثيل والصور الجدارّية ،وكعكات مشّردين وال ْ ُ موَتى وال ْ ُ ال ْ َ
مرتديا ً جلبابا ً أبيض، الميلد الخرافّية ،والقصور ذات الحنفّيات الذهبّية ،يجلس في زنزانة ُ
مكا ً في غسل أسمال ماضيه و”جواربه القذرة”. منه ِ ُ
كرك بـ”كليب” نانسي عجرم ،في جلبابها الصعيدي ،وجلستها ي ،يكاد ُيذ ّ ّ حميم مشهد
العربّية تلك ،تغسل الثياب في إنــاء بين رجليهــا ،وهي تغني بفائض ُأنوثتها وغنجها
دام بجلبابه َ
مــك آه ..أسيبـــك” .ففي المشهدين شيء من صورة عروبتك .وص ّ “أخاص َ
مجّردا ً من سلطته ،وثياب غطرسته ،غدا ُيشبهكُ ،يشبه أَبــــاك، وملمحه العزلء تلكُ ،
ديـــا ً ه
َ َ ِ مش إخراجه د
ُ ّمع ْ لا “الكليب” هذا ن
ّ أ لعلمك يزعجك، ما وهذا أخـــاك ..أو جنســك،
ي.
ك ،ليس من إخراج ناديـــن لبكــي ،بل العلم العسكري الميرك ّ بنّيــة إذلل َ
دفاع عن احترام طاغيــة الذي وُِلد برتبة قاتل ،ما كانت له سيرة إنسانية تمنحك حقّ ال ّ ال ّ
ث
ل مّرة ،تلوّ َ ّ َ
خصوصيته ،وشرح مظلمته .لكنه كثيرا ما أرَبكك بطلته العربّية تلك .لـــذا ،ك ّ ً
منحدرا ً من مجرى ضع النسانيُ ، مكَرها ً أشواطا ً في التوا ُ ت تراه يقطع ُ ك وأن َ شيٌء من َ
التاريخ ..إلى مجاريــه.
الذين لم يلتقطوا صورا ً لجرائمه ،يوم كان ،على مدى 35سنة ،يرتكبها في وضح النهار،
ماعية في مساحة وطن، ج َعلى مرأى من ضمير العاَلم ،محوّل ً أرض العراق إلى مقبرة َ
منهطلة على آلف المخلوقات ،لبادة الحشرات البشرية، وسماءه إلى غيوم كيماوية ُ
يجدون اليوم من الوقت ،ومن المكانات التكنولوجّية المتقدمة ،ما يتيح لهم التجسس عليه
صص عليه ومراقبته حتى عندما ُيغّيـر ملبسه الداخلية. في عقر زنزانته ،والتل ّ
َ َ
مر عن ترسانتها .العالم في إمكان كوريا أل ّ تخلع ثيابها النووية ،ويحق لسرائيل أن ُتش ّ
مفرحا ً ن الخبر بدا ُ دام .حتى إ ّ طي عـــورة صـــ ّ مشغول عنهما بآخر ورقة توت عربّية ُتغ ّ
عــــراة يتلصصون مفاجئا ً للبعض ،حــد ّ اقتراح أحد الصدقاء “كاريكاتيرا” يبدو فيه حكام ُ
ّ ً و ُ
دام وهو يرتدي قطعة ثيابه الداخلية .فقد غدا للطاغية حلفاؤه ّ ص على الزنزانة ثقب من
عندما أصبح إنسانا ً يرتدي ثيابه الداخلية ويغسل جواربه .بدا للبعض أنظف من أقرانه
طغاة المنهمكين في غسل سجلتهم وتبييض ماضيهم ..تصريحا ً بعد آخر ،في سباق ال ّ
ي. العري العرب ّ
ً خرت دومــا ً بكوني لم ُ
دام ،ول وطأت العراق ّ ص بمصافحة ا يوم يــدي وث ّ ألـــ َ أنا التي َفا َ ُ
ت عنه ذلك ت لو أنني أخذ ُ مّني ُ
مم ،ت َ َ ذمم وإذلل الهِ َ مديــح وسوق شراء ال ّ في مرابــد ال ْ َ
يشرف العرب ّ مكاِبـَرة تلك ،جوارب ال ّ ل ،وغسلت عنه ،بيدي ال ْ ُ النـــاء الطافح بالذ ّ
ال ْ َ
معُروض للفرجـــــة.
ددت في العتراف بأحلمي السرّية ،خشية أن تهاجمني الحركات النسوّية .وحدي طالما تر ّ
ناضلت كي يعيدني حّبك إلى عصور العبودية ،وسرت في مظاهرة ضد حقوق المرأة،
مطالبة بمرسوم يفرض على النساء الحجاب ،ووضع البرقع في حضرة الغراب ،ويعلن
حظر التجول على أي امرأة عاشقة ،خارج الدورة الدموية لحبيبها.
***
لخريات ،واليوم ،ل مطلب لي غير تحقيق حلمي في البقاء عصفورة قبلك حققت حلم ا ُ
صتك ،وشرفات حياتي مفتوحة سجينة في قفص صدرك ،وإبقاء دقات قلبي تحت أجهزة تن ّ
ّ د وش قيودي، إحكام الشاغل على رجال تحّريك .رجل مثلك؟ يا لروعة رجل مثلك ،شغله
جاني؟الصفاد حول معصم قدري .أين تجد الوقت برّبك ..كي تكون مولهم ..وس ّ
امرأة مثلي؟ يالسعادة امرأة مثلي ،كانت تتسوق في مخازن الضجر النثوي ،وما عاد
قنانة ،مذ أرغمتها على البحث عن هذه الكلمة في قاموس العبودية. حلمها القتناء ..بل ال ِ
ب .فقد كنت من السادة الذين ل يقبلون بغير ّ الح في ية
ّ القطاع نزعاتك وإذا بها تكتشف
امتلك الرض ..ومن عليها.
ضع ثيابا ً نسائية ..عطورا ً وزينة ..وكتبا ً عن الحرية .فكيف غدت أمنيتها أن
كانت قبلك تتب ّ
تكون بدلة من بدلتك ..ربطة من ربطات عنقك ..أو حتى حزام بنطلون في خزانة ثيابك.
شاهدت على التلفزيون السرى المحررين ،لم أفهم لماذا يبكون ابتهاجا ً بالحرّية ،ووحدي
ددتني بإطلق سراحي .ولماذا ،كّلما تظاهرت بنسيان مفتاح زنزانتي داخل أبكي كّلما ه ّ
عدت لتجدني قابعة في ركن من قلبك. قفل البابُ ،
ت أن يتم اكتشافي وأنات بالمطالبة بتحقيق يكشف مصير المفقودين ،خف ُ وكّلما سمع ُ
مختفية ،منذ سنوات ،في أدغال صدرك.
وكّلما بلغني أن مفاوضات تجرى لعقد صفقة تبادل أسرى برفات ضحايا الحروب ،خفت
أن تكون رفات حّبنا هي الثمن المقابل لحّريتي ،فرجوتك أن ترفض صفقة مهينة إلى هذا
الحد ..ورحت أعد ّ عليك مزايا العتقال العاطفي ..علني أغدو عميدة السرى العرب في
معتقلت الحب.
زرت أميركا مّرة واحدة ،منذ خمس سنوات.كان ذلك بدعوة من جامعة "ميريلند"
بمناسبة المؤتمر العالمي الّول حول جبران خليل جبران .كان جبران ذريعة جميلة
لكتشاف كوكب يدور في فلك آخر غير مجّرتيُ ..يدعى أميركا .حتى ذلك الحين ،كنت
من في هيمنة التكنولوجيا الكثر تطورًا ،والسلحة الكثر فتكًا، وة أميركا تك ُ نق ّ أعتقد أ ّ
ي ً
وة تستند بدءا على البحث العلم ّ ن كل هذه الق ّ ً
والبضائع الكثر انتشارا .لكنني اكتشفت أ ّ
مبدعين والباحثين والساتذة الجامعيين. وتقديس المؤسسات الكاديمية ،واحترام ال ُْ
كر والعاِلــم هنا ل ُيعادله إل ّ احترام الضابط والعسكري لدينا .وربما مف ّ مبدع وال ْ ُ فاحترام ال ْ ُ
ُ
مـة خطة لفراغ ن المم ل تقوم إل ّ على أكتاف علمائها وباحثيها ،كان ثـ ّ لعتقاد أميركا أ ّ
مرعبــة لقدر علماء العراق، ْ
العراق من ُقدراته العلمية .وليس هنا مجال ذكر الحصاءات ال ُ
الذين كان لبد ّ من أجل الحصول على جثمان العراق وضمان موته السريري ،تصفية خيرة
كرة، مف ّ علمائه ،بين الغتيالت والسجن وفتح باب الهجرة لكثر من ألف عاِلم من عقوله ال ْ ُ
مة ،التي كانت منذ الزل ،مهـــد الحضارات ،إل ّ عشائر وقبائل ُ
حتى ل يبقى من تلك ال ّ
طرق يتقاسمون تجارة الرؤوس المقطوعة .لكن أميركا تفاجئك ،ل لنها تفعل ك ّ
ل طاع ُ وق ّ
هذا بذريعة تحريرك ،بل لنها تعطيك درسا ً في الحرّية يربكك .خبرت هذا وأنا أطلب
تأشيرة لزيارة أميركا ،لتلبية دعوتكم هذه ،ودعوة من جامعتي "ميتشيغن" و) .(MITفعلى
ل تكلفة ن العدل أق ّ معاداتي السياسة الميركية في العاَلم العربي ،لعتقادي أ ّ الرغم من ُ
ي وإذلله ن إهانة النسان العرب ّ من الحرب ،و محاربة الفقر أجدى من محاربة الرهاب ،وأ ّ
جة تطويره نهب ،ل غيرة ّ بح بذريعة تحريره ،هو إعلن احتقار وكراهية له ،وفي تفقيره
ن كان المنتصر ي على فضيحة أخلقّية ،هو هزيمة ،حتى إ ْ ن النتصار المبن ّ على مصيره ،وأ ّ
وة في العالم ،وعلى الرغم من إشهاري هذه الفكار في أكثر من منبر ،مازالت أعظم ق ّ
دم دعوات هذه الجامعات، ُ ُ
كتبي ُتعَتمد للتدريس في جامعات أميركا .وكان يكفي أن أق ّ
دة خمس سنوات .وهنا يكمن الفرق لحصل خلل ساعتين على تأشيرة لدخول أميركا م ّ
ي ،الذي أنا قادمة منه ،حيث الكتابة والثقافة في حد ّ ذاتها شبهة، بين أميركا والعاَلم العرب ّ
مبدعون العرب ،ويموتون وُيدَفنون بالعشرات في غير بلدهم وحيث ،حتى اليوم ،يعيش ال ْ ُ
مبدعين العرب ،سيرته ْ
ل ال ُ الصلي .لقد اختصر الشاعر محمد الماغوط ،نيابة عن ك ّ
مبدع ت مذعــــورا ً وسأموت مذعـــورًا" .فال ُْ الحياتية والبداعية في جملة واحدة "وُِلـد ْ ُ
دد اليوم قبل أن العربي ليزال ل يشعر بالمان في بلد عربي .وإذا كان بعض النظمة يتر ّ
يسجن كاتبا ً أو يغتاله ،فليس هذا كرما ً أو ُنبل ً منه ،إنما لن العالم قد تغّير ،وأصبحت
مى بسّرية ،وقد ُتحاسبــه عليها أميركا كّلما مبدعين ل ُتس ّ الجرائم في حق الصحافيين وال ْ ُ
مطاِلبا ً بالنتساب إلى معسكر الخير .ولذا اختار بعض النظمة دما ً قرابين الولءُ ، مق ّ جاءهاُ ،
ً
ذمم ،وتكفيرا عن مبدعين ،شراًء لل ّ ْ
دى في تكريم وتدليل ال ُ ما َالعربية الدور الكثر براءة ،وت َ َ
جرائم في حق مثقفين آخرين .الحقيقة غير هذه ،ويمكن أن تختبرها في المطارات
كرمف ّ مبدع وال ْ ُ العربية ،وعند طلب تأشيرة "أخوّيـــة" ،وفي مكان العمل ،حيث ُيعامل ال ْ ُ
صا ً وسجنا ً وتنكي ً
ل، صا َذر ،وأحيانا ً بما يفوقه قَ َ ح َ
سس و َ ي من تج ّ والجامعي بما يليق بالرهاب ّ
بينما يجد في الغرب ،وفي أميركا التي يختلف عنها في اللغة وفي الدين وفي المشاعر
مــــلذا ً يحضن حّريته ،ومؤسسات تدعم عبقريته وموهبته .وما معجزة أميركا إل ّ القومّيةَ ،
َ
في ذكاء استقطاب العقول والعبقريات المهدورة ،وإعادة تصديرها إلى العالم من خلل
لسد في النهاية سوى خرفان مهضومة. اختراعات وإنجازات علمّية خارقة .ما ا ُ
عندما تكون كاتبا ً جزائريًا ,وتأتيك الجزائر يوميا ً بقوافل قتلها ,بين اغتيالتها الفردية,
ومذابحها الجماعية ,وأخبار الموت الوحشي في تفاصيله المرعبة ,وقصص أناسه البسطاء
في مواجهة أقدار ظالمة .ل بد أن تسأل نفسك ما جدوى الكتابة؟ وهل الحياة في حاجة
حقا ً الى كّتاب وروائيين؟ ما دام ما تكتبه في هذه الحالت ليس سوى اعتذار لمن ماتوا
كي تبقى على قيد الحياة.
وما دامت النصوص الهم ,هي ليست تلك التي توّقعها أنت باسم كبير ,بل تلك التي يكتبها
بدمهم الكتاب والصحافيون المعرفون منهم والذكرة ,الصامدون في الجزائر .والواقفون
دون انحناء بين ناري السلطة والرهاب والذين دفعوا حتى الن ستين قتي ً
ل ..مقابل
الحقيقة وحفنة من الكلمات.
عندما تكون كاتبا ً جزائريا ً مغتربا ,وتكتب عن الجزائر ,ل بد أن تكتب عنها بكثير من الحياء,
ً
بكثير من التواضع ,حتى ل تتطاول دون قصد على قامة الواقفين هناك .أو على أولئك
البسطاء الذين فرشوا بجثثهم سجادا ً للوطن .كي تواصل أجيال ً أخرى المشي نحو حلم
سميناه الجزائر .والذين على بساطتهم ,وعلى أهميتك ,لن يرفعك سوى الموت من أجل
الجزائر الى مرتبتهم.
الجزائر التي لم تكن مسقط رأسي بل مسقط قلبي وقلمي ,ها هي ذي تصبح مسقط
دمي .والرض التي يقتل عليها بعضي بعضي ,فكيف يمكنني مواصلة الكتابة عنها ولها.
واقفة على مسافة وسطية بين القاتل والقتيل.
لقد فقدنا في الجزائر خلل السنوات الخيرة أكثر من ستين كاتب ومبدع .هم أكثر من
نصف ثروتنا العلمية .ولم يبق لنا من الروائيين أكثر من عدد أصابع اليدين في بلد يفوق
سكانه الثلثين مليون نسمة ,أي انه ل يوجد في مقابل كل مليون جزائري ,كاتب واحد
ينطق ويكتب ويحلم ويفكر باسم مليون شخص.
فأي نزيف فكري هو هذا؟ ..وأّية فاجعة وطنية هي هذه! ولذا كلما دعيت الى ملتقى حول
الكتابة بدأ لي الجدل حول بعض المواضيع النقدية أو الفنية أمرا ً يقارب في طرحه مسرح
العبث ..عندما يتعّلق المر ببلد يشكل فيه الكاتب في حد ذاته نوعا ً بشريا ً على وشك
كل فيه الكتابة في حد ذاتها تهمة لم يعد الكاتب يدري كيف يتبّرأ منها.. النقراض ,وتش ّ
وذنبا ً لم يعد يدري كيف يجب أن يعلن توبته عنه أمام المل ليتمكن أخيرا من العيش بأمان.
ً
فما الذي ح ّ
ل بنا اليوم؟
منذ الزل نكتب وندري أن في آخر كل صفحة ينتظرنا رقيب ينبش بين سطورنا ,يراقب
صمتنا وأنفاسنا ,ويتربص بنا بين جملتين.
كنا نعرف الرقيب ونتحايل عليه .ولكن الجديد في الكتابة اليوم أننا ل ندري من يراقب
من ..وما هي المقاييس الجديدة للكتابة.
ن أحلمنا تواضعت في بضع سنوات .فقد كنا نحلم أن نعيش الجديد في الكتابة اليوم ,أ ّ
يوما ً بما نكتب ..فأصبحنا نحلم أل نموت يوما بسبب ما نكتب.
ً
كنا نحلم في بدايتنا أن نغادر الوطن ونصبح كتابا ً مشهورين في الخارج .اليوم وقد أصبحنا
كذلك أصبح حلمنا أن نعود الى وطننا ونعيش فيه نكرات لبضعة أيام.
كنا نحلم بكتابة كتب جديدة ..أصبحنا نحلم بإعادة طبع كتبنا القديمة ليس أكثر ..فالذي
كتبناه منذ عشرين سنة لم نعد نجرؤ على كتابته اليوم.
عندما تكون كاتبا ً جزائريًا .كيف لك اليوم أن تجلس لتكتب شيئا ً في أي موضوع كان دون
أن تسند ظهرك الى قبر.
ي ,والموت العبثي ,كم مرة تسأل نفسك .ماذا تكتب؟ ولمن؟ داخل ً في زمن العنف العدم ّ
ن في صمت الكاتب عنفا ً أيضاً. دق أ ّ في كل موت في حالة صمت حتى تكاد تص ّ
ماذا تكتب أّيها الروائي المتذاكي ..ما دام أيّ مجرم صغير هو أكثر خيال ً منك .وما دامت
الروايات اكثر عجائبية وإدهاشا ً تكتبها الحياة ..هناك.
سواء أكانت تريد أن تكتب قصة تاريخية ,أم عاطفية أو بوليسية .رواية عن الرعب أ عن
المنفى .عن الخيبة ,عن المهزلة ,عن الجنون ..عن الذعر ..عن العشق ..عن التفكك ..عن
فق ..عن الحلم المعطوبة ..عن الثروات المنهوبة أثناء ذلك التشتت عن الموت المل ّ
بالمليين بين مذبحتين.
ل تتعب نفسك ,لقد سبقتك جزائر الكاذيب والخوف وكتبتها.
الحياة هي الروائي الول في الجزائر .وأنت ,أّيها الروائي الذي تملك العالم بالوكالة ,وتدير
شؤونه في كتاب .الذي يكتب قطعا ً ليس أنت .ما دمت تكتب بقلم قصصا ً يشاركك القدر
في كتابتها بالدم.
كنا نحلم بوطن نموت من أجله ..فأصبح لنا وطن نموت على يده.
ض الشتباك بينك ككاتب والوطن؟ وهل المنفى هو فلماذا تكتب؟ ولمن؟ وكيف يمكن ف ّ
المكان المثل لطرح تلك السئلة الموجعة أكثر من أجوبتها.
ً
أراغون الذي قال صدقتها "الرواية أي مفتاح الغرف الممنوعة في بيتنا" لم يكن عربيا .وإل
لكان قال "إن الرواية هي مفتاح الوطان المغلقة في وجهنا.
إنه التعريف النسب للرواية المعاصرة ,التي منذ جيلين أكثر تولد في المنافي القسرية أو
الختيارية .موزعة على الخرائط العربية والغربية .هناك حيث ينتظر عشرات المبدعين
العرب موتهم .حالمين أن يثأروا يوما ً لغربتهم بالعودة في صناديق مفخخة بالكتب ,فيحدثوا
أخيرا ً ذلك الدوي الذي عاشوا دون أن يسمعوه :دويّ ارتطامهم بالوطن.
إنه زمن الشتات الجزائري إذن .وطن يفرغ ليتبعثر كّتابه ومثقفوه بين المقابر والمنافي
موا للشتات الفلسطيني وللشتات ليواصلوا الميراث التراجيدي للكتابة العربية ,وينض ّ
العراقي ..والشتات غير المعلن لكثر من بلد عربي ,تنفى منه شعوب بأكملها ,وتنكسر
فيه أجيال من القلم إكراما ً لرجل أو لحفنة من الرجال ,يفكرون بطريقة مختلفة ول
يغفرون لك ان تكون مختلفًا.
ذلك ان الكتابة أصبحت الن أخطر مهنة .والتفكير أصبح أكبر تهمة ,حتى أنه يشترك مع
التكفير في كل حروفه ويبدو أمامه مجرد زلة لسان.
فلماذا نصّر إذن على التفكير؟ ولماذا نصّر على الكتابة؟ وهل يستحق أولئك الذين نكتب
من أجلهم كل هذه المجازفة؟
إن وطنا ً أذّلنا أحياء ل يعنينا أن يكّرمنا امواتًا .ووطنا ً ل تقوم فيه الدولة سوى بجهد تأمين
علم وطني تلف به جثماننا ,هو وطن ل تصبح فيه مواطنا ً إل عندما تموت.
يبقى أن الذين يتحمّلون جريمة الحبر الجزائري ليسوا القتلة .والذين يحملون على يدهم
آثار دم لما يقارب المائة ألف شخص كانوا يعيشون آمنين ..ليسوا التقلة .وإنما أولئك
ل فجائعنا من مواصلة الحياة بالطمأنينة والرخاء نفسه ,والذين الذين لم تمنعهم ك ّ
ً ً
استرخصوا دمنا ..حتى أصبح الذبح والقتل أمرا عاديا ل يستوقف في بشاعته حتى
المثقفين العرب أنفسهم.
والذين تفّرجوا خلل السنوات الخيرة بل مبالة مدهشة على جثتنا .والذين جعلوننا نصدق
ذلك الكاتب الذي قال:
"ل تخش أعداءك ,ففي أسوأ الحالت يمكنهم قتلك
لتخش أصدقاءك ففي أسوأ الحالت يمكنهم خيانتك
إخش اللمبالين فصمتهم يجيز الجريمة والخيانة".
منازل؟
أنا في المطبخ ..هل من ُ
مــذ التحقت بوظيفتي كـ"ست بيت" وأنا ُأحاول أن أجد في قصاص الشغال المنزلية متعة
فف من عصبيتي الجزائرية في التعامل مع الشياء .قبل أن أعثر على طريقة ذكّية ما ،تخ ّ
لخوض المعارك القومّية والدبّية أثناء قيامي بمهامي اليومّية.
ش الرهابيينجاد وضربه ،وأر ّ وهكـــذا ،كنت أتحارب مع السرائيليين أثناء نفض الس ّ
شي زجاج النوافذ بسائل التنظيف ،و"أمسح الرض" بناقد أو صحافي بالمبيدات أثناء ر ّ
أثناء مسحي البلط وتنظيفه ،وأتشاجر مع قراصنة كتبي ومع المحامين والناشرين أثناء
ي قمصان زوجي، ذالي" وأكيد لهم أثناء ك ّ غسل الطناجر وح ّ
كها بالليفة الحديدّية ،وأكوي "ع ّ
شني من عنقه. ً
ت أرفع بائعا غ ّوأرفع الكراسي وأرمي بها مقلوبة على الطاولت كما لو كن ُ
كر في مصيرهم وأدير شؤونهم أثناء قيامي بتلك العمال ما أبطال رواياتي ،فيحدث أن ُأف ّ أ ّ
لاليدوية البسيطة التي تسرق وقتي ،من دون أن تستدعي جهدي ،وفي إمكاني أن أحل ك ّ
المعضلت الفلسفية وأنا أقوم بها ،من نوع تنظيف اللوبياء ،وحفر الكوسة ،وتنقية العدس
من الحصى ،أو غسل الملوخّية وتجفيفها .حتى إنني ،بعد عشرين سنة من الكتابة
المسروقة من شؤون البيت ،أصبحت لديّ قناعة بأنه ل يمكن لمرأة عربّية أن تزعم أنها
دعي كاتبة ما لم تكن قد أهدرت نصف عمرها في الشغال المنزلية وتربية الولد ،ول أن ت ّ
ل ما وقعت عليه يدها من لوازم مة العربية بك ّ ُ
أنها مناضلة ،إن لم تكن حاربت أعداء ال ّ
ُ
المطبخ ،كما في نداء كليمنصو ،وزير دفاع فرنسا أثناء الحرب العالمية الولى ،عندما
صاح" :سُندافع عن فرنسا ،وُندافع عن شرفها ،بأدوات المطبخ والسكاكين ..بالشوك
بالطناجر ،إذا لزم المر"!
دفن واقفا حسب وصّيته ،ول أدري إذا كان ً كليمنصو ،هو الرجل الوحيد في العالم الذي ُ
ت واقفة في ساحة الوغى المنزلية، وم عشت لثبت أنني يجب أن أجاريه في هذه الوصّية ُ
ّ
مجَلى وخلف الفرن ،بسبب "الزائدة القومّية" التي لم أستطع استئصالها يومًا ،ول خلف ال ْ َ
لمومة التي عانيتها. زائدة ا ُ
ل مشواة ،وك ّ
ل ل مقلة ،وك ّ ل طنجرة ضغط ،وك ّ لمة بك ّ يشهد الّله أنني دافعت عن هذه ا ُ
دم ذلك شيئا ً في قضّية الشرق تشكيلة سكاكين اشتريتها في حياتي ،من دون أن ُيق ّ
الوسط.
ل أناقتهن وكنت قبل اليوم أستحي أن أعترف لسيدات المجتمع ،اللئي يستقبلنني في ك ّ
ن ،بأنني أعمل بين كتابين شغالة وخادمة ،كي أستعيد الشعور بالعبودّية الذي ووجاهته ّ
ن
ّ أ قرأت حتى الورق، على ً ا إبداع أنفجر كنت بسببه الذي "التعتير"، أيام فرنسا في عرفته
ي ،هو تنظيف ً
دم طلبا لعمل إضاف ّ سفير تشيكيا في بريطانيا ،وهو محاضر جامعي سابق ،ق ّ
النوافذ الخارجّية في برج "كاناري وورف" المشهور شرق لندن ،ل كسبا ً للنقود ،وإّنما لنه
س
عمل في هذه المهنة في الستينات ،وُيريد أن يستعيد "الشعور بالحرّية" ،الذي كان يح ّ
معّلقا ً في الهواء ،يحمل دلوا ً وإسفنجة. ل خارج النوافذُ ، متد ّبه وهو ُ
ي فرحتي بتلك المعارك المنزلية ،التي ن خبرا قرأته في مجلة سويسرية أفسد عل ّ ً غير أ ّ
كنت أستمد ّ منها زهوي .فقد نجحت سيدة سويسرية في تحويل المكنسة ودلو التنظيف
ظفة بيوت إلى سيدة أعمال ،تعطي من ّ ولت هي نفسها من ُ إلى أدوات فرح ،بعد أن تح ّ
دروسا ً في سويسرا والنمسا وألمانيا حول أساليب التمّتع بعذاب الشغال المنزلية،
فس.بالستعانة بالموسيقى والغناء ودروس الرقص الشرقي وتنظيم التن ّ
مـا وقد أصبح الجلي والتكنيس والتشطيف ُيعّلم في دروس خصوصية في جنيف وفيينا أ ّ
ً
على وقع موسيقى الرقص الشرقي ،فحتما ستجّردني بعض النساء من زهوي باحتراف
ن بالمريول )"السينييه" هذه المهنة .بل أتوّقع أن يحضرن بعد الن إلى الصبحيات وه ّ
مثير في ذلك "الكليب" بين الطناجر قل بمريولها ال ْ ُ ن هيفاء وهبي وهي تتن ّ طبعًا( خاصة أ ّ
ن المعارك الشهى والحاسمة ُتدار في المطابخ! والخضار ،نّبهت النساء إلى أ ّ
كّلما طالعت في الصحف أخبار "صباح" ،التي تنتظر في أميركا التحاق خطيبها العشريني
الوسيم بها ،حال حصوله على تأشيرة ،مستعينة على أمنيتها أن تحبل منه ،بإشهار دبلة
ت بالحب كنوع من اللجوء السياسي ،هربا ً من ظلم خطوبتها في وجه شهادة ميلدها ،آمن ُ
دقت أن عّلة الحياة :قلة الحياء رغم كثرة عددهم.
ّ "أرذل العمر" ،وص ّ
ذلك أن الحياء بيننا ،ماعادوا الشباب ..بل الثرياء ..وبعض المسنين الحالمين ،الذين ل
يتورعون عن إشهار وقاحة أحلم ،ل نملك جسارة التفكير فيها ،برغم أننا نصغرهم سن ًّا.
فهل القتراب من الموت ُيكسب النسان شجاعة ،افتقدها قبل ذلك ،في مواجهة
المجتمع؟
أغرب الخبار وأجملها ،أحيانا ً تأتينا من المسنين ،الذين يدهشوننا كل يوم ،وهم يقضمون
أمامنا تفاحة الحياة بملء أسنانهم الصطناعية ،ويذهبون متكئين على عكازتهم نحو أسّرة
الزوجية وليلة فتوحاتهم الوهمية ،مقترفين حماقات جميلة ،نتبرأ من التفكير فيها ،غير
معنيين بأن يتركوا جثتهم قربانًا ،على سرير الفرحة المستحيلة.
وبعض النهايات المفجعة لهؤلء اللصوص الجميلين ،الذين يحترفون السطو على الحياة،
جون بقلوبهم في الممرات الضيقة للسعادة، ُ
تعطينا فكرة عن مدى روعة أناس يز ّ
فيحشرون أنفسهم بين الممكن والمستحيل ،مفضلين ،وقد عجزوا عن العيش عشاقًا ،أن
يموتوا عشقًا ،ويصنعوا بأخبارهم طرائف الصحف اليومية ،كذلك المسن المصري ،الذي
فشل في تحقيق حلم حياته ،بأداء واجباته الزوجية مع عروسه الشابة ،التي تزوجها منذ
بضعة أيام ،مستخدما ً في ذلك مكافأة نهاية الخدمة ،الذي رغم استعانته ببركات
"الفياغرا" ،لم يتمكن من الدخول بعروسه الحسناء ،فسكب البنزين على جسده ،وقرر أن
يموت حرقًا ،بعد أن فشل في تحقيق آخر أحلمه ،أو كعجوز الحب الفرنسية ،التي لم
يتحمل قلبها ،وهي في الثامنة والسبعين من عمرها ،الفرحة ،فتوقف عن النبض قبل
ساعات قليلة من عقد قرانها على زميلها في دار المسنين ،الذي يبلغ من العمر 86عاماً،
بينما كانت منهمكة مع بقية النزلء في تزيين دار العجزة استعدادا ً للمناسبة! وإذا كانت
الفرحة قاتلة ،بالنسبة إلى النساء ،فالغيرة تبدو العاطفة التي تعمر أكثر في قلوب
الرجال ،وقد تحولهم في أي عمر إلى قتلة ،كقصة ذلك الزوج التسعيني ،الذي كان يتبادل
مع زوجته العجوز أطراف الذكريات البعيدة ،عندما أخبرته في لحظة فلتان لسان نسائي،
أنه بينما كان مجندا ً في الحرب العالمية الثانية ،خانته مع رجل عابر .فلم يكن من الرجل
ل ،انتقاما ً لخيانة تعود لنصف قرن! أو ذلك المعمر الفرنسي ،البالغإل ّ أن غافلها وخنقها لي ً
89سنة ،الذي يقبع في سجون فرنسا ،كأكبر معتقل ،إثر حكم عليه بالسجن بتهمة خنق
وضرب زوجته ،البالغة من العمر 83عامًا ،حتى الموت ،بعد أن عثر تحت وسادتها على
رسائل غرامية ،يتغزل فيها بها معجب ،ليس في عمر "عمر محيو" خطيب صباح ،وإنما
رجل يبلغ ثمانين عامًا ،يصغرها بثلث سنوات!
غير أن العشاق من المسنين ،ليسوا جميعهم مشروعات مجرمي حب ،بل ثمة العشاق
البديون الحالمون ..كذلك الجندي الميركي ،الذي شارك في الحرب العالمية الثانية،
ومازال منذ ذلك الحين دائم البحث عن المرأة ،التي وقع في حبها في ألمانيا ،التي
مازالت حلم عمره ،حتى إنه نشر صورته بالزي العسكري ،مرفقة برسالة موجهة إلى
جميع "السيدات اللواتي تجاوزن السبعين من العمر" ،يطلب فيها من حبيبته التصال به،
والجواب عن بعض السئلة ..بل إن الحب مازال يزّود المسنين بطاقة خرافية للحلم،
وبشهية مخيفة للحياة ،كما في طهران ،حيث وافقت المحكمة على زواج رجل ،في
الخامسة والثمانين من عمره ،بامرأة في الخامسة والسبعين من عمرها ..بعد أن سبق
لهلها منذ 50سنة أن رفضوا تزويجه بها!
أما في تونس ،فمازال البعض يذكر إحدي أجمل قصص الحب ،التي انتهت بعقد قران
رجل في السابعة والتسعين من العمر على عروسه ،البالغة 86عامًا ،وتلك الفراح التي
ل كاملة ،نظرا ً لكثرة أفراد عائلتي الزوجين ،التي تضم
دامت آنذاك سبعة أيام ،وسبع ليا ٍ
42حفيدًا ،من جهة العريس ،الذي يبلغ ابنه البكر الخامسة والسبعين من عمره ..و 11
ابنا ً و 33حفيدا ً من جهة العروس.
"برافو
م تجسيمها عادة في استديوهات من ديكورات الكارتون ،كما يت ّ لــم تكن المباني إذن ِ
ور نهاية العالم :فكيف انهارت بتلك ّ يص أميركي فيلم في بخدع المر هوليوود ،عندما يتعّلق
مفاخر التكنولوجية ،والحضارة ْ
مذهلة ،وجعلتنا نكتشف ،مذعورين ،هشاشة ال َ السرعة ال ْ ُ
ُ
مزايدات التقنية ،والتشاوف بين المم؟ العصرية ،القائمة على ال ْ ُ
ذلك أن الكثيرين ،من الذين ماتــوا تلك الميتة الشنيعة ،قضوا أعمارهم في أكبر الجامعات
كنوا يوما ً من تسّلق سّلم الحلم ،والوصول إلى أعلى ناطحة سحاب في وأغلها ،كي يتم ّ
العالم ،حيث ينبض "جيب" الكرة الرضية وماداموا لم يسمعوا بابن المعتز ،وإنما ببيل
وتوا عليهم نصيحة شاعر عربي قال: ي المعلوماتية ورسولها إلى البشرية ،فقد ف ّغيتس ،نب ّ
ك المطامع والماني ---فكم أمنيةٍ جلبت منّية" "دعي عن ِ
ساعة و 44دقيقة فقط ،هو الوقت الذي مّر بين الهجوم على البرج الول وانهيار البرجين
وإذ عرفنا أن الوقت الذي مـّر بين ارتطام عابرة المحيطات الشهيرة "تايتانيك" بجبل
جليدي وغرقها ،كان حسب أرقام الكوارث ساعتين وأربعين دقيقة ،بينما تطّلب إنجازها
خرافية في تاريخ بناء البواخر ،وكذلك دة أعوام من التخطيط والتصميم ،وكّلفت أرقاما ً ُ ع ّ
كاب في العالم ،واحتراقها سقوط طائرة "الكونكورد" الفخم والغلى والسرع لنقل الر ّ
دة ل تتجاوز الخمس عشرة دقيقة ،وإيقاف )بركابها الثرياء والمستعجلين حتمًا( ،في مــ ّ
ل مامشروع تصنيعها لحين ،بخسارة تتجاوز آنذاك مليارات الفرنكات ،أدركن هشاشة ك ّ
يزهو به النسان ،ويعتبره من علمات الوجاهة والفخامة والثراء ،ودليل ً على التقنيات
دى بهادى بها البحر حينًا ،لنه يركب أضخم وأغلى باخرة ،ويتح ّ البشرية المتقدمة ،التي يتح ّ
ً
السماء حينا آخر ،لنه يجلس فوق أعلى وأغلى ناطحة سحاب ،جاهل أن النسان ما صنع
شيئا ً إل ّ وذهب ضحيته ،ولــذا عليه أن يتواضع ،حتى وهو مترّبع على إنجازاته وقد كان دعاء
ضعًا".
ب إذا جعلتني أقوى ،فاجعلني أكثر توا ُ أمين الريحاني "أّيها الر ّ
قل أبناؤها مذهولين،أميركا التي خرجت إلينا بوجه لم نعرفه لها ،مرعوبة ،مفجوعة ،يتن ّ
طى الُغبار ملمحهم وهيأتهم ،لكأّنـهـم كائنات قادمة إلينا وقد أطبقت السماء عليهم ،وغ ّ
ب كهذا ،وفاجعةصا ٍ
م َ
من المّريخ ،لفرط حرصهم على الوصول إليه قبلنا ،أكانت تحتاج إلى ُ
ن جيرانها ،في الكرة الرضية ،الذين على هذا القدر من النفضاح ،لتتساوى قليل ً بنا ،نح ُ
نتقاسم كوارث هذا الكواكب ك ّ
ل يوم؟
ذلك أنه منذ زمن ،والميركيون جالسون على علوّ مئة وعشرة طوابق من مآسينا فكيف
لصوتنا أن يطالهم؟ وكيف لهم أن يختبروا دمعنا؟
يدهشك حقا ويعنيك أهمية الجامعات في تأسيس أمريكا ،انها تنب كالجزر والواحات في
الوليات وتصنع فخر المريكي الذي تخرج منها والذي يدين لها بولء يبخل به حتى على
عائلته ،أحدهم جاء من المكسيك كان مزارعا تابع دروسه الليلية في جامعة ميريلند وعاد
منذ مدة وقد اصبح مهندسا كبيرا ليدفع 5مليين دولر مساعدة منه للجامعة ولمن يتعلم
بعده فيها
ولنك لتمنع نفسك من المقارنه فستتذكر ذلك السفير الجزائري الذي كان يحتفظ بمنح
الطلبة في الخارج لعدة اشهر في حسابه الخاص للستفادة من فوائدها ول يحولها لهم ال
عندما يشارفون على التسول
وعندما تتجول بعد ذلك في المباني الجامعية والمتشابهة بجامعة ميريلند ستكتشف ان
معظمها بنيت بهبات خريجي الجامعة الثرياء ،وفي نزل ماريوت الذي تقيم فيه سيقع
نظرك حيث ذهبت على لوحات جميلة وثمينة تزين الممرات والقاعات وستلحظ اسفلها
صفيحة من البرونز وبخط صغير اسم واهبها الذي هو أحد خريجي الجامعة فتتذكر قصة
معروفة لمدير سابق لحدى الكليات اللبنانية الذي نهب نصف ميزانية الكلية أثناء الحرب
بابتكاره فواتير مزورة لتجهيزات وهمية لم تحصل عليها الكلية ،ثم غادر الى وظيفة اكثر
ربحا وقد ترك الكلية عارية من كل شئ
وبعد قليل يأتي نادل لخدمتك في المطعم ويخبرك أحدهم انك قد تعود في المرة المقبلة
وتجده موظفا في الطوابق العليا لن الجميع هنا يدرس ليتقدم ول احد يشغل الوظيفة
نفسها طوال حياته والفرص متاحة بالتساوي للجميع
يحكى الستاذ سهيل بشوئي احد عمدة أساتذة الجامعة المريكية في بيروت في الستينات
والسبعينات انه استطاع برسالة الى رئيس لجنة الهجرة في أمريكا ان يوقف إجراء بطرد
طبيبة عربية لم يستطع المحامي ان يفعل لها شي قبل ان يسألها يائسا أتعرفين أستاذا
في الجامعة يمكن ان يقدم شهادة لصالحك اما في بلدنا فكان سيسألها اتعرفين ظابطا
كبيرا ام وزيرا او أي زعيم يتوسط لك عند القضاء ولكن في امريكا كل هؤلء ل يضاهون
وجاهة الستاذ ول هيبته
البيت البيض ليثير في نفسك شيئا مما توقعت من انبهار وانت ترى حديقته المفتوحة
على الطريق وداخلها عدد من السياح الفضوليين ولكن هذا المشهد بالذات هو الذي
سيوقظ المك ويذكرك بتلك القصور المسيجة لحكام ليمكن القتراب من بيوتهم بالعين
المج
ابني ..اليطالي
ي وأقنعني بأنني أمددته بورقة انتهى حديثي عن رومــــا ،عند ذلك السائق الذي تشاطر عل ّ
نقدية من فئة العشرة يورو·· ل الخمسين ،وتقاضى مني بالتالي مئة يورو ،عن مشوار
المطار الذي يساوي نصف ما دفعت·
ل ما فقدت ،مقارنة بنسيبي ،الذي على فائق ذكائه ولم يحزّني المر كثيرًا ،مادام هذا ك ّ
وشطارته ،وتردده على إيطاليا أكثر من مّرة ،نجح الطليان في ميلنــو في سرقة حقيبة
يده ،بكل محتوياتها من مبالغ نقدية وجوازات سفر وبطاقات مصرفية ،بعد أن قاموا
من يساعده· وهكذا بتنفيس دولب سيارته ،وسطوا على محتوياتها أثناء توّقفه للبحث ع ّ
ولت لديه مقولة “روما فيدولتا فيدا بردوتا” أي “شاهد روما وافقد إيمانك” إلى “شاهد تح ّ
روما وافقد جزدانك” )أي حقيبة يدك(·
ابني غسان ،الذي جاء من لندن ،حيث يتابع دراسته في إدارة العمال ،التحق بي كي
يراني ويكتشف روما ،أخيــــرًا ،بعدما قضى الصيف الماضي في إيهام بنات “كان” بأنه
ن البنات يقصدنه إيطالي ،حتى إنه اختار اسما ً “حركيًا” لغزواته العاطفية ،بعد أن وجد أ ّ
حكم صيته العشقي ،وأناقته لذلك السبب· فالرجل اليطالي له سطوة لدى الفرنسيات ب ُ
دى سهرة في مرقص· وعبثا ً المتميزة· ول داعي لتخييب ظن البنات مادام المر ل يتع ّ
ن
ّ ه البنات بأن ّ د ير فكان قصير”، حاولت مناقشة الموضوع معه ،وإقناعه بأن “حبل الكذب
ضلن سماع الكاذيب· وانتهى بي المر إلى القتناع بقول عمر بن الخطاب )رضي من يف ّ َ
خِلقوا لزمان غير زمانكم” ،خاصة أنني ُ فقد بأخلقكم، أولدكم لقواّ تخ “ل عنه( تعالى ّ
له ال
دد صديقاته ،عندما كان عجزت أيضا ً عن إقناعه بالوفاء لصديقة واحدة ،ودفعت ثمن تع ّ
ي في روما أن أشتري هدايا لهن جميعًا ،وأتشاور معه طويل ً في مقاساتهن وأذواقهن، عل ّ
م ،لشتري له ُ
وأجوب المحال النسائية بزهد كاتبة ،بعد أن جبت المحال الرجالية بصبر أ ّ
جهازا ً يليق بوظيفة في النهار في بنك إنجليزي ،ووظيفة ليل ً كعاشق إيطالي·
وقد حدث في الصيف أن أشفقت كثيرا ً على إحدى صديقاته ،الوحيدة التي عّرفني إليها،
دم إليها باسمه الحقيقي ،نظرا ً إلى كون علقتهما دامت شهرين· وكانت المسكينة والتي تق ّ
تدخل في شجارات مع والدها ،المنتمي إلى الحزب اليميني المتطّرف الذي يشهر كراهيته
ت حتى شراء نسخة من “ذاكرة ما تعتقده حب ًّا· وذهب ْ للعرب ،وتستميت في الدفاع ع ّ
ّ ً
الجسد” بالفرنسية لطلع أهلها على أهمية “حماتها” ،وكانت تمل البيت ورودا كلما
سافرت وتركت لهما الشقة ،وُتهاتفني سرا ً لتسألني إن كان ابني يحّبها حقًا· ووجدتني
دمها لها ابني، مرغمة على الكذب عليها· وتأكيدا ً لكاذيبي ،صرت أشتري لها هدايا كي يق ّ
بما في ذلك هدية وداٍع ،عندما غادر غسان “كان” إلى لندن· فالمسكينة لم تكن قد
ن الرجال ل رجل ينام مظّلي”· ولم تكن تدري أ ّ سمعت بمقولة مرغريت دوراس“ :في ك ّ
ب آخر· ربما من وقتها أضفت إلى واجبات ُأمومتي ،واجب دائما ً على أهبة رحيل نحو ح ّ
مة إسعاد بطلة حقيقية ،تشبهني شراء هدايا لصديقات ابني ،وإلى مشاغلي الروائية·· مه ّ
كي وسخائي·· و غبائي العاطفي· في شغفي وذعري وش ّ
ك جميلة ً ً
بعد عودته إلى لندن ،هاتفني غسان مبتهجا· قال“ :شكرا ماما·· كانت القامة مع ِ
في روما·· الثياب التي اشتريتها لي أعجبت الجميع·· وصديقاتي هنا جميعهن سعيدات
ك في أّية مدينة تسافرين إليها”· بالهدايا”· ثم أضاف مازحًا“ :جاهز أنا لرا ِ
غسان عمره 23سنة·
التهم من كتب الدب والفلسفة أكثر مما قرأت أنا·
بعد شهرٍ قضيُته في باريس لضرورة إعلمية ،بمناسبة صدور روايتي "ذاكرة الجسد" باللغة
الفرنسية ،وجدتني أعود إلى بيروت على متن طائرة الفرنكوفونية ،وفي توقيت انعقاد
مةن على ضيوف الق ّ ط بنا في مطار بيروت ،أ ّ قمتها فقد أعلنت المضيفة ،والطائرة تح ّ
كاب لم يغظني أن ُتهين المضيفة ضلوا بمغادرة الطائرة قبل بقّية الر ّ الفرنكوفونّية أن يتف ّ
ّ ّ
عروبتي ،وأن تنحاز إلى اللغة الفرنسية ،فكرم الضيافة يقتضي ذلك ،ول أحزنني تذكـر
ن اللغة الفرنسية سجني ومنفاي" ،وقد أصبح شعار معظم داد "إ ّ التصريح الشهير لمالك ح ّ
ن اللغة الفرنسية ملذي" ،ول فوجئت بأن يكون رئيسي كّتابنا الجزائريين اليوم "إ ّ
مة الفرنكوفونية ،برغم أن الجزائر غير عضو في هذه ّ الق في ً ا مشارك عبدالعزيز بوتفليقة،
ً
المنظمة ..فلقد تعامل الجزائريون دوما مع الفرنسية كـ"غنيمة حرب" ،حتى إن بوتفليقة
ألقى ،بشهادة الصحافة ،الخطاب الكثر فصاحة بلغة موليير ،التي ما كان أحد من
الرسميين يتجرأ على الحديث بها أيام بومديــن ،بل لفصاحته في هذه اللغة حدث أن
طما ً "تابــــو" العدائية اللغوية ،وذهب إلى حــد ّ
مح ّخطب بها في الشعب الجزائري ُ
ُ
جــه بها منذ سنة إلى العالم في مجلس المم المتحدة ،برغم اعتماد اللغة العربية لغة التو ّ
رسميـة.
سمر من أتباع الفرنكوفونّية ،غاسلــة بذلك فبينما تقوم فرنسا بتبييض وجهها بالسود وال ّ
ماضيها الستعماري في هذه الدول بالذات ،رافعــة شعار حـــوار الحضارات وأنسنة
مة التحاور مع البشرية ،وتبدو في دور العالم ،تترك الوليات المتحدة لترسانتها الحربية مه ّ
المبراطورية الستعمارية القديمة فل عجب أن ترتفع أسهم كل حاكم أو زعيم عبر العالم،
ُيشهر كراهيته لميركا ،حتى إن الرئيس جـــاك شيراك ،الذي ما كانت هذه القمة لتلقى
ترحابـــا ً في الوساط العربية ،لول تقدير العرب سياسته الديغولّيـة ومواقفه الشجاعة
ص القضايا العربية ،بلــغ أعلى نسبة في استفتاء لشعبيته في فرنسا، والثابتة ،في ما يخ ّ
منذ أن أشهر استقللية قراراته عن الوليات المتحدة ،ومعارضته أيّ حرب أميركية وقبله،
طمه صدام حسين خرافي" ،الذي ح ّ طم المستشار اللماني شريدر "الرقم ال ُ ودون أن ُيح ّ
في انتخاباته الرئاسية الخيرة ،استطاع أن يضمن إعادة انتخابه من طرف الشعب
ضل على "نعم" الستكانة "ل" الكرامة ،في رفض النسياق لغطرسة اللماني ،مــذ ف ّ
السياسة الميركية.
ولقد انعكست هذه الجواء في فرنسا على البرامج التلفزيونية والصدارات الجديدة ،التي
يعود رواجها إلى طرحها سؤال ً في شكل عنوان "لماذا يكره العالم أميركا؟".
غير أن انحيازنا العاطفي إلى هذه اللغة أو تلك ،عليه أل ّ ُينسينا نوايا الهيمنة التي ُتخفيها
المعارك اللغوية ،التي تتناحـــر فيها ديناصورات العالم ،مبتلعة خمسا ً وعشرين لغة سنويًا،
وهو عدد اللغات التي تختفي كل عام من العالم ،من جراء "التطهير اللغوي" ،الذي
تتعّرض له اللغات العاجزة عن الدفاع عن نفسها.
ً
دم اللغة العربية ُقربانــا للعولمــة؟ مقابل السلم ،سنق ّ
فهــل بعد القدس ُ
النتفاضة ..ليست مهنة
أذكر أن شارون ،عند استقباله أول مرة كوندوليزة رايس ،مستشارة بوش ،صرح محاول
تجميل صورته وإثبات جانب "الجنتلمان" فيه " :لبد لي أن أعترف ،لقد كان من الصعب
علي أن أركز في التفكير أثناء كلمي معها ،فقد كانت لديها ساقان في غاية الجمال" ما
جعل صحافيا أمريكا يعلق "إذا كان جورج بوش يريد النجاح في عملية السلم ،فعليه أن
يرسل إلى إسرائيل كوندوليزة ،مع قائمة طولية من الطلبات ..وتنورة قصيرة".
ربما كان البعض يعتقد مازحا آنذاك ،أن ساقي كوندوليزة )التي ليست من "الموناليزا" في
شيء( ستنجحان ،حيث أخفقت في الماضي ،الساقان الممتلئتان للسيدة أولبرايت.
أما اليوم فكل ما نخشاه ،أن يتمكن "تايور" الحداد السود للسيدة كوندوليزة من إقناع
عرفات بالتضحية
بالقائمة الطويلة لشهداء النتفاضة ،والجلوس للتفاوض ،بعد كل هذه المآسي ،على طاولة
التنازلت والتنـزيلت الجديدة .وبرغم وعينا التام أن فرصة كهذه ل ينبغي لعرفات أن
يفوتها ،حتى يضع حدا لمبررات شارون للتهام أبناء فلسطين ،في كل وجبة غذاء ،بذريعة
أنه بذلك يخلص العالم من بذور الرهاب ،فإن شيئا شبيها بغصة البكاء يكمن في حلوقنا،
لتصادف كل هذا بالذكرى الولى لنطلقة النتفاضة "الثانية" في فلسطين.
وبرغم هذا ،ليس من حقنا أبدا ،أن نطالب شعبا يرزح وحدة تحت الحتلل ،ويرد بالصدور
العارية ،لبنائه وبدموع ثكاله وأيتامه ،حرب إبادة وتطهير ،أن يواصل الموت والقبول بكل
أنواع الذلل والتعذيب ،ليمنحنا زهو الشعور بعروبتنا وقدرتنا على الصمود في وجه
العداء ،خاصة أن النتفاضة لم تنفجر ،حسب أحد المحللين ،ال بعدما أصيب الفلسطينيون
بالضجر من شدة تهذيب القرارات العربية ،وبعدما تأكد لهم أن الدبلوماسية ليست أكثر
من لجوء عربي للتمييز بين العار والشجاعة.
وعتاب فلسطيني الداخل لنا .وجهرهم بمرارة خيبتهم بنا ،نسمعهما بعبارات واضحة كلما
قصدتهم الكاميرا ،أمام دمار بيوتهم ،فتصيح النساء الثكالى باكيات "أين العرب ؟ أين هم
ليرونا؟".
وحدهم هؤلء الثكالى واليتامى والمشردون والتائهون بين القرى ،المهانون أمام الحواجز
السرائيلية كل يوم ،من حقهم ،أن يقرروا وقف النتفاضة أو الستمرار فيها.
أما نحن" ،حزب المتفرجين العرب" ،الذين نتابع مآسيهم كل مساء ،في نشرات النباء
فعلينا أل نبدأ منذ الن في سباق المزايدات والستعدادات لعقد المهرجانات بمناسبة إتمام
العام الول للنتفاضة .فليس هذا ما ينتظره منا من يشاهدوننا في فلسطين ،بعيون
القلب ،بينما نشاهدهم بعيون الكاميرا.
وقرأت أن الروائي الراحل إميل حبيبي ،لحظ الميل العربي إلى الحتفال السنوي
بالنتفاضة الولى) ،التي انطلقت سنة (1987فتساءل قائل " :إن النتفاضة هي فعل
مقارعة للحتلل ،فهل تريدون عمرا طويل للحتلل نحتفل به كل سنة باستمرار
النتفاضة ؟".
ذلك أن النتفاضة أصبحت وكأنها مبتغى في حد ذاتها" ،والحتفال بها" مساهمة فيها ،بينما
هي وسيلة نضال يراد منها الوصول إلى مكاسب وطنية .وهو ما يختصره قول محمود
درويش في الماضي " ،النتفاضة ليست مهنة".
ولذا ،على الذين يفكرون في امتهان "النتفاضة" لبضعة أيام في السنة ،أن يوفروا جهدهم
وأموالهم ،لمعالجةالمئات من جرحاها ،والتكفل بإعالة اللف من ضحاياها .فبهذا وحده
نختبر صدقهم ،وبالحسان لعائلت الشهداء .وليس بالكلم عن ضحاياهم ينالون ثوبا وأجرا
عند الله.
الجنة ..في متناول جيوبهم
على الذين ل قدرة لهم على صيام أو قيام شهر رمضان ،أو المشغولين في هذا الشهر
الكريم عن شؤون الخرة بشؤون دنياهم ،أل ييأسوا من رحمة الّله ،ول من بدع عباده ،بعد
أن قررت رّبـة بيت إيطالية ،أن تدخل الحياة العملية بإنشاء "وكالة للتكفير عن الذنوب"
اسمها "الجنة".
وهذه الممثلة السابقة ،التي لم تتجاوز السادسة والعشرين من عمرها ،تدير "الجنة" من
منزلها ،كما تدير إحدانا مطبخها ،أو شؤون بيتها فإلى جانب تربيتها أولدها ،فإنها تؤدي
فريضة الصلة نيابة عن كل الذين ل وقت لهم لذلك ،بسبب اليقاع السريع لحياتهم،
فتصلي وتتضّرع إلى لّله داعية لهم بالغفران ،حسب طلبهم ومقدار دفعهم ولقد نجحت
فل بإنقاذ أرواحهم ،التي ل وقت لهم للعناية بها ،نظرا ً
في إقناع بعض المشاهير بالتك ّ
لنشغالهم بصقل أجسادهم واستثمارها.
كرني بجاهلية ما قبل السلم ،إذ جرت العادة أن يستأجر ذوو الفقيد ميسور وهذا ما يذ ّ
دابات ونائحات ليبكين فقيدهم الغالي بمقدار الكراء وسخاء العائلة المفجوعة،الحال ،ن ّ
دابات في ّ
وهي عادة ظلت حتى زمن قريب ،جارية في بعض البلد العربية ،حيث تتبارى الن ّ
المبالغة في تمزيق ثيابهن ونتف شعورهن ،ولطم خدودهن على مّيت ل قرابة لهن به ومن
لت خدودها شريحة". هنا جاء المثل الجزائري القائل "على ريحة الريحة خ ّ
ولقد حدث لخي مراد ،المقيم في الجزائر ،ونظرا ً لحالة الحباط التي يعاني منها ،لكونه
ذر عليه الهروب خارج الجزائر وبقي رهينة وضعه ،ورهينة أمي ،أن أجابني الوحيد الذي تع ّ
ّ
كم أسود يمّيز الجزائريين ،كلما سألته عن أخباره ،أنه مشغول بجمع مبلغ مازحا ً بته ّ
بالفرنك الفرنسي ليدفعه لمن هو جاهز ليبكيه بالعملة الصعبة ،نظرا ً لن دموع الجزائري
ن،
ي أن أدفع لشخص ثا ٍ كعملته فقدت من قيمتها ،قبل أن يضيف ساخرا ً "المشكل ..أ ّ
ن عل ّ
كرت في فل بالتأكد من أنه يبكيني حقًا ..وليس منهمكا ً في الضحك عل ّ
ي" ولقد ف ّ كي يتك ّ
ً ً ُ
أن أطلبه لخبره بأمر هذه الوكالة ،في حالة ما إذا أراد يوما ،أن يستأجر أحدا ينوب عنه
في الصلة والصوم ،والفرائض التي تشغل نصف وقته.
وهذه السيدة اليطالية ليست أول من ابتدع فكرة دفع المال ،طلبا ً للمغفرة فلقد شاعت
صكوك الغفران" ،وشراء راحة الضمير بمبلغ من لدى مسيحيي القرون الوسطى ،ظاهرة " ُ
صبوا أنفسهم وكلء لّله في الرض ،وراحوا باسم الكنيسة يبيعون المال ،لدى الذين ن ّ
للتائبين أسهما ً في الجنة ،حسب قدرتهم على الدفع.
وهو ما أوحى للمغني المشهور فرانك سيناترا ،بأن يعرض قبل موته على البابا ،مبلغ مئة
سـل زوجته أن يعيد النظر في مليون دولر ،كي يغفر له ذنوبه ويسمع اعترافاته ،برغم تو ّ
التخّلي عن نصف ثروته لهذا المشروع ،نظرا ً لمرضه وإدراكه عدم استطاعته أخذ هذا
المال معه ،هو الذي بحكم علقته مع المافيا ،خّزن من المال في حساباته ،بقدر ما خّزن
من خطايا في صدره والهوس بالخرة والستعداد لها بالِهبات والصلوات ،مرض أميركي
يزداد شيوعا ً كّلما انهارت رهانات المجتمع الميركي على المكاسب الدنيوية وفي استفتاء
قامت به إحدى المؤسسات الجادة ،ورد أن 9أميركيين من 10يعتقدون بوجود السماوات
والحساب يوم القيامة ،ويثق 47%من أصحاب الهررة والكلب ،بأن حيواناتهم المفضلة
سترافقهم إلى الجنة ،وهم يثقون تماما ً بدخولها ،ربما بسبب ما أغدقوه على هذه
الحيوانات ،نكاية في سكان ضواحي العالم ،الذين شاء لهم سوء طالعهم أن ُيولدوا في
"معسكر الشّر".
وعندما نقرأ التقرير الذي صدر في جنيف عن المم المتحدة ،الذي جاء فيه أن ما ينفقه
الميركيون سنويًا ،لطعام حيواناتهم الليفة يكفي لتزويد العالم بأسره بالمياه ،وتأمين
نظام صحي للجميع ،نفهم انتشار وكالت التكفير عن الذنوب في أميركا ،ونجد تفسيرا ً
لستفتاء آخر جاء فيه ،أن خمسين مليون أميركي بالغ يعانون من الرق والتوتر ..وقّلــة
النــوم!
م ،ماذا في إمكان عاشق أن يفعل إذا كان “الحب أعمى” ،بشهادة العلماء الذين ،بعد ثــ ّ
محب· فالمناطق مى ال ُْ
َ َ ع ّ
كد يؤ ما إلى صلوا
ّ تو الباحثين، من فريق به قام جاد، بحث
الدماغّية المسؤولة عن التقويمات السلبية والتفكير النقدي ،تتوقف عن العمل عند التطّلع
ب· ومن هذه النظرة ُتولد ُ الكارثة التي يتفنن في عواقبها الشعراء· من نح ّ إلى صورة َ
وبسبب “الخطــــار” التي تترّتب عليها ،أقامت محطة “بي·بي·سي” ،بمناسبة عيد
مته “مهرجان أخطار الحب” ،استعرضت فيه ك ّ
ل “البــــلوي” شاق ،مهرجانا ً س ّالع ّ
والنكبـــات ،التي تترّتــب على ذلك الحساس الجــارف ،من إفلس وانتحار وفضيحة
وجنون
إن لم تكن هذه إهانة للعرب جميعًا ،واستخفافا ً بهم ،فما الذي يمكن أن يكون هذا الذي
يحدث في العراق ،على مرأى من عروبتنا المذهولة؟
من جاؤوا بذريعة إحلله، َ أيدي على وإن لم تكن هذه جرائم حربُ ،ترتكب باسم السلم،
دام الوقت للفتك به ،وعاثوا خرابا ً من لم يجد ص ّ فأحّلوا دمنا ،واستباحوا حرماتنا ،وقتلوا َ
ل هذامك ّ دعوا نجدته ،فما اسم هذا الموت إذن؟ ول ِ َ وفسادا ً وقصفا ً ودمارا ً في وطن ا ّ
الدمار؟
ل تسأل· ل يليق بك أن تسأل· فأنت في كرنفال الحرية ،وأنت تلميذ عربي مبتدئ ،يدخل
روضة الديمقراطية ،تنتمي إلى شعوب قاصرة ،اعتادت بذل الدم والحياة ،ونحر خيرة
أبنائها قربانا ً للنزوات الثورية للحاكم ،ودرجت على تقديم خيراتها للغراب·
مظَلمتك؟ من تشكو َ من يأتي لنجدتك؟ وإلى َ َ
لديها ،لن يرحمها الشعوب التي ل قيمة للنسان فيها ،التي تفتدي “بالروح وبالدم” ج ّ
الخرون·
والشعوب التي ل ُتحاسب حاكمها على تبذيره ثروتها ،وعلى استحواذه هو وأولده على
دخلهاُ ،تجيز للغرباء نهبها·
لمم التي ليست ضد ّ مبدأ القتل ،وإنما ضد ّ هوّية القاتل ،يحقّ للغزاة الذين استنجدت وا ُ
طغاة في التنكيل بها ،والتحاور معها بالذخيرة الحّية· بهم ،أن يواصلوا مهمة ال ّ
هي ذي دولة تبدأ أول ً باحتللك ،لتتكّرم عليك ،إن شاءت ،بالحرّية ،وُتباشر تجويعك
ن عليك بعد ذلك بالرغيف والوظيفة· ليمكن أن ُتشكك في وتسريحك من عملك ،لتم ّ
نواياها الخيرية· لقد باعت ثرواتك من قبل أن تستولي عليها ،وتقاسمت عقود المنشآت
مرها· حتى قبل أن ُتد ّ
ن
ّ أ تدري ل جلدك، كيّ ف بين من نجاتك مباهج تعيش الحرية، روضة في أنت مازلت تحبو
ن عليك الن أن تدفع فرحتك لن تدوم أكثر من لحظة مشاهدتك سقوط صنمه ذاك ،وأ ّ
دة ثلثين سنة ثمن صعوده إلى الحكم· ثمن سقوط الطاغية ،بعد أن دفعت م ّ
طغاتنا ،وقد أهدروا ماضينا ،نجحوا في ضمان كوارثنا المستقبلية ،وجعلونا وهكــذا يكون ُ
لديهم، معتقلتهم وبطش ج ّ ن إلى قبضتهم الحديدية ،ونشتاق إلى قبوِ ُ سر عليهم ونح ّ نتح ّ
لدنا الجديد·· وأعلمه وُنقّبل صورهم المهّربة على الوراق النقدية ،نكاية في صورة ج ّ
المرفوعة على دبابات تقصف بيوتنا·
منذ الزل ،لننجو من عدو ،اعتدنا أن نتكئ على عدو آخر ،فنستبدل بالطغاة الغزاة،
وبالستبداد الذلل البشع من الموت·
من ُينادي عليهم ،ويهتف باسمهم ،ويحبو عند طغاة ،ل يأتون إل ّ إلى َ ن الغزاة ،كما ال ّ ذلك أ ّ
وتهم وحمايتهم· ُ
أب ً ا مستجدي عرشهم، أقدام
ّ ُ
دام ،يوم سقوط الصنم“ :حياة دق دعابة السيد بــاول ،وهو ُيصّرح ليتامى ص ّ بعضنا ص ّ
ن هنا جئنا بالحرب لنهيئ السلم”· ُ نح العراقيين·· تنتظر أجمل
وهي نكتة زاد من سخريتها السوداء ،تصريح بوش ،رئيس معسكر الخير ،ونائب السيد
ل ،وهو واثق كان الكرة الرضية ،بلهجة تهديدية ،قائ ً شر س ّ المسيح على الرض ،حين ب ّ
من يقود العالم إلى مصير أفضل”· ن َ الخطوة يمشي ملكًا“ :نح ُ
دام أكثر منه ثقة ومصداقية ،حين قال وهو يلهو بإطلق رصاص بندقيته في الواقع ،كان ص ّ
ً
من يريد العراق سيأخذه منا أرضا بل بشر”، في الهواءَ “ :
مدّبرها( العراقي الكثر أمانا ً وتدلي ً
ل· ُ أو كمجرمها )ل حرب كأسير معتقله إنه الن في
وته ،ويتخّبط الن في وحول ُ
في إمكانه أن يضحك مــلء شاربيه ،على شعب تمّرد على أب ّ
الحرية ومذابح الديمقراطية ،يترك أبناؤه دمهم عالقا ً بشاشاتنا في كل نشرة أخبار ،وتبقى
عيون موتاه مفتوحة ،حتى بعدما نطفئ التلفاز ،تنظر إلينا سائلة “لماذا؟”·
دى” ،قد اقترح على لسان ي ،كان في آخر عيد ميلد “للقائد المف ّ ذكر ،عد ّ ن طّيب ال ّأذكر أ ّ
مجّلة الشباب ،التي كان يرأسها ،أن يكون يوم 28نيسان ،بداية التقويم الزمني الجديد
في العراق ،وأن يبدأ العمل به في روزنامة العوام المقبلة ،رافعا ً بذلك والده ،صاحب
الرسالة الحضارية الخالدة ،إلى قامة الّرسل والنبياء الذين بمولدهم يبدأ تاريخ النسانية·
ل حماقة ،ارتأى أن يكون 9نيسان ،يوم “سقوط بغداد” ن بوش ،في فكرة ل تق ّ غير أ ّ
ي،
ّ وطن عيد يوم العنكبوت”، “حفرة ذلك بعد الميركي العلم ماه ّ س ما إلى صدام وهجرة
ي الموعود· ّ العراق للزمن رخ ّ تؤ التي الحرية”، “أجندة في وبداية للتقويم الجديد،
ي” وتاريخ هجرته من قصوره العشرة ،إلى حفرته ما قبل الخيرة، ّ النب وبين مولد “الطاغية
مرت منشآته الحربية وبنيته التحتية، ضاع تاريخ العراق ،وفرغ الوطن من خيرة أبنائه ،ود ُ ّ
وليه· وانتقل العراق متس إلى سادته ومن ول مثقفوه من مفكري العالم ُ
ّ وأهين علماؤه ،وتح ّ
لولى في العالم ،وآثارا ً تعود لستة آلف سنة ،إلى شعب من بلد يمتلك رموز الحضارات ا ُ
يعيش في ضواحي النسانية ،محروما ً حتى من الظروف المعيشية الصحية ،ومن
مستشفيات تستقبل مرضاه ،ومقابر تليق بموتاه ،وموت يليق بطموحاته المتواضعة في
ميتة “نظيفة” وطبيعية قدر المكان·
مَهـــان ،يرتدي أسمال مجده ،منتعل ً ما بقي من عنفوانه ،يقف العراقـــي·· هذا الكريم ال ْ ُ
َ
على أغنى أرض عربية ،فقيرا ً دون مستوى الفقر ،أسيرا ً دون مستوى السر·· الذين
جاؤوه بمفاتيح أصفاده ،فعلوا ذلك مقابل أل ّ يكون ليده حق توقيع مصيره· وعندما خلع
ي ،وسقف عبوديته ،وجد نفسه في زنزانة في مساحة وطن· فقد سطوا على أمنه الوظيف ّ
بيته ،وسرير مستشفاه ،واحتجزوه في دوائر الخوف والموت العبثي· جّردوه من كرامة
كانت تصنع مفخرته· سرقوا من القتيل كبرياءه ،ومن الشهيد شهادته·
ن كان يشاهد العراق أم يكاد المرء يفقد صوابه ،وهو يتابع نشرات الخبار· ل يدري إ ْ
مـــذ على يــد الخر :أميركــــا أم ن ت ََتل َ فلسطين؟ الفّلوجــــة أم جنيــــن؟ ل يدري َ
مـــــ ْ
إسرائيــــل؟
مرتجلة ُ مقابر جثث، رعــات، ّ تض دموع النقــاض، تحت عروبــــــة ُ نفسه: المشهد لكأنه
ُ
ب أو في حديقة مستشفى ،أطفال في عمر الفاجعة ،وأمهات يخطف الموت في ملع ٍ
أطفالهن من حجورهن·
ميها إنها حرب تحرير ُيراد بها تحرير العراق من أبنائه· غير أن البعض في اجتهاد لغويّ ُيس ّ
مشتبه في كرهها ن المقصود بها احتلل القلوب العراقية والعربية ،ال ْ ُ حرب احتلل ،ل ّ
مسلح لم نشاهد مثله في أي فيلم هوليوودي· ّ لميركا ،في اجتياح عاطفي ُ
ل أحدهم المعضلة حكم تداخل العواطف وتطّرفها ،وحيرة فقهاء اللغة وخبراء القلوب ،ح ّ وب ُ
ً ً
اللغوية ،بأن اشتق مصطلح “تحلل” لوصف ما يجري في العراق ،بصفته مزيجا فريدا من
“التحرير” و”الحتلل”·
ّ
وهكـــذا صار في إمكاننا أن ن ُْغني المعجم العربي بكلمة جديدة ،ونتحلق حول التلفزيون،
ن متابعي الفيلم الميركي·· الطويـــل· نح ُ
قاد والقّراء
حين فاز نجيب محفوظ منذ إحدى عشرة سنة بجائزة نوبل للداب ،أربك الن ّ
كنهم من التعّرف إلى أدبه الغربيين ،الذين ما عثروا له في المكتبات على كتب مترجمة ،تم ّ
م نجيب أما بعض ما توافر منها ،فما كانت ترجمتها تضاهي قلمه أو تليق به فما كان ه ّ
محفوظ مطاردة المترجمين أو النشغال عن هموم قارئه العربي ،بالكتابة لقارئ عالمي
مفترض كان كاتبا ً لم يحضر يوما ً مؤتمرا ً "عالميًا" للدب ،ول غادر يوما ً القاهرة حتى إلى
استوكهولم ،لتسّلم جائزة نوبل للداب ،ولذا أصبح نجيب محفوظ الروائي العربي الول.
شخصيًا ،ما كان يوما ً من هواجسي صدور أعمالي مترجمة إلى لغات أجنبية ،لعلمي أن
لمة العربية فبحكم إقامتي 15سنة في فرنسا ،أعرف تماما ً "بضاعتي" ل سوق لها خارج ا ُ
وض ما الوصفة السحرية التي تجعل كاتبا ً عربيا ً ينجح ولكن ذلك النجاح ل يعنيني ،ولن يع ّ
ب َل َْغته من نجاح ،بسبب كتب صنع نجاحها الوفاء للمشاعر القومية ،والحتفاء بشاعرية اللغة
العربية ولن الشعر هو أّول ما يضيع في الترجمة ،فقد اعتقدت دومًا ،أن أّيـة ترجمة لّيـة
ولها إلى عمل إنشائي ،حال تجريدها من سحر لغتها لغة كانت ،ستطفئ وهج أعمالي وتح ّ
العربية ،وهو بالمناسبة ،أمر يعاني منه كل الشعراء ،الذين تقوم قصيدتهم على الشاعرية
ملي فبينما تبدو قصائد أدونيس أجمل مما هي ،عندما اللغوية ،أكثر من استنادها إلى فكر تأ ّ
ُتترجم إلى لغات أجنبية ،تصبح أشعار نـــزار بعد الترجمة نصوصا ً ساذجة ،فاقدة اشتعالها
وإعجازها اللغوي ونــزار ،الذي كان يدرك هذا ،لتقانه أكثر من لغة ،قال لي مّرة إنه يكره
طلع على أعماله المترجمة ،ويكاد ينتف شعره عندما يستمع لمترجم أجنبي ُيلقي ال ّ
ّ
أشعاره مترجمة في حضرته والطريف أن الصديق ،الدكتور غازي القصيبي ،علق بالطريقة
ودة ترجمة "فوضى الحواس" إلى نفسها عندما ،منذ سنة ،أرسلت له إلى لندن مس ّ
النجليزية ،بعدما طلبت مني الجامعة الميركية في القاهرة ،مراجعتها قبل صدورها وقد
طلع عليها ،وتكليف زوجته مشكورة بقراءتها ،وتسجيل ملحظاتها حولها قال لي بعد ال ّ
ّ
)وهي سيدة ألمانية تتقن العربية والنجليزية بامتياز ،واطلعت على الكتاب باللغتين( ،قال
حسن حظك أنك ل تتقنين النجليزية ..فأنا ل أ ّ
طلع لي مازحًا ،أو بالحرى ،مواسيًا" :من ُ
على أي عمل ُيترجم لي ..حتى ل أنتف شعري!".
خارق ،ولم ُأفاخـر أو ُأراهن إل ّ على ترجمتها إلى اللغة الكردية ،التي ستصدر بها قريبًا،
س عبر التاريخ ،هو أقرب ليي ،بعظمة نضاله وما عرف من مآ ٍ لدراكي أن القارئ الكرد ّ
ولعمالي من أي قارئ أوروبي أو أميركي.
غير أن مفاجأتي كانت ،النجاح الذي حظيت به هذه الرواية عند صدورها مؤخرا ً باللغة
الفرنسية وهو نجاح ل يعود إلى شهرة دار النشر التي صدرت عنها ،وإنما للقارئ
م ثلثمئة الفرنسي ،الذي قّرر أن يحمي نفسه كمستهلك للكتب ،بابتكار ناد ٍ للقّراء يض ّ
مـا
قارئ ،يتطوعون خلل الصيف بقراءة الروايات قبل صدورها ،وتقديم تقرير مكتوب عـ ّ
يفضلونه من بينها ،قبل الموسم الدبي الفرنسي الذي يبدأ في شهر أيلول.
فنظرا ً لغزارة النتاج الدبي ،وتدّفق عشرات الروايات التي ل تجد جميعها مكانا في
ً
دور النشر الكبرى ،ولعبة المكتبات ،استلزم المر استحداث حكم ل علقة له بمصالح ُ
مته توجيه القارئ نحــو الكتاب الفضل وجاءت سلطة هذه اللجنة من الجوائز الدبية ،مه ّ
انخراط أعضائها في نوادي القراءة لسلسلة مكتبات " ،"fnacوهي إمبراطورية تسيطر
على توزيع الكتب في أكثر من دولة فرنكوفونية ،ما يجعل الكتب المختارة تحظى بتوزيع
جّيد مدعوم بالعلن.
وما كنت لسمع بهذه اللجنة ،لول أنها اختارت روايتي من بين سبعمئة رواية ،لتكون من
بين الثلثين رواية الفضل في الموسم الدبي الفرنسي.
ل القارئكرتني بمحنة الكتاب العربي ،الذي لن ينجح طالما لم يتو ّ ن تلك الفرحة ذ ّغير أ ّ
مة الترويج للجيد منه.مه ّ
لماذا ل نمنح الكاتب العربي فرصة أن ينال "جائزة القّراء" ،عن ناد ٍ يمثل قّراء من مجمل
ولها الثرياء ،قد تمل جيب الكاتب ..لكنها لالدول العربية ،بدل الكتفاء بجوائز إشهارّية يم ّ
تمله زهوًا.
وكنت حسمت أمري بمناسبة عيد ميلدي ،وقررت ،رفقا ً بما بقي من صحتي وأعصابي ،أن
ُأقلع عن مشاهدة التلفزيون ،وُأقاطـع نشرات الخبار ،وذهبت حتى إلى إلقاء ما جمعت
فات ُيسّبب لي دوارا ً حقيقيًا ،وأصبح
من أرشيف عن حرب العراق ،بعدما أصبح منظر المل ّ
مغلقا ً في وجـه الشّغالة ،وزوجي والولد ،بسبب الجرائــد التي يأتيني بها
مكتبي لسابيع ُ
زوجي يوميا ً أكواما ،فتفرش المكتب وتفيض حتى الشرفة.
ً
حــدث أن خفت أن أفقد عقلي ،أو أفقد قدرتي على صياغة فكرة ،بعدما وجدتني كّلما
ازددت مطالعة للصحف أزداد عجزا ً عن الكتابة ،حتى إنني أصبحت ل ُأرسل هذا المقال
جهيــد.
جهـد َ إلى رئيس التحرير ،إل ّ في اللحظـة الخيـرة ،وبعد ُ
ي بوادر اكتئاب وانهيار نفسي ،لعدم مغادرتي مكتبي ليام ،نصحني زوجــي الذي لحظ عل ّ
ً
بمزاولة الرياضة ،وزيارة النادي المجاور تماما لبيتي ،وهو نــاد ٍ يقع ضمن مشروع سياحي،
ضخم وفخم ،وباذخ في ديكوره وهندسته ،إلى حد ّ جعلني ل أجرؤ منذ افتتاحه منذ سنتين
هبة ،والمرور بمحاذاة تماثيله اليطالية ،ونوافيره على زيارته ،واجتياز بوابته الحديدية المذ ّ
السبانية .فبطبعي أهــرب من البذاخـة ،حتى عندما تكون في متناول جيبي ،لعتقادي أنها
دها.
ن هي تجاوزت حــ ّ وهات وُتؤذي شيئا ً نقي ّا ً فينا ،إ ُْتصيب النفس البشرية بتش ّ
ة بفضول سلفتي وسيارتها الفخمة ،على اجتياز ذلك الباب ،الذي لكنني تجرأت ،مستعين ً
أصبحت لحقــا ً أعبـره مشيا ً كل يوم.
وروا ،منذ 13نيسان ،وأنا "طالعة من بيت أبوها رايحة بيت الجيران" ،ما سأل عني تص ّ
زوجي إل ّ ووجدني في النادي ،الذي كثيرا ً ما أجدني فيه وحدي لساعات ،لن ل أحد يأتي
ظهرًا ..عندما يبدأ نهاري. ُ
حـم على ن الفردوس يقع في الرصيف المقابل لبيتي ،ورحــت أتر ّ وهكــذا اكتشفت أ ّ
حماي ،الذي يوم اشترى منذ أكثر من ثلثين سنة ،البناية التي نسكنها ،من ثري عراقي
منتجع صيفي في مـانــا أهم ُ)يوم كان العراقيون هم أثرياء الخليج!( ما توّقع أن تصبح بر ّ
د ،السمنت لب بهوائه وأشجاره ،لم يهجم عليه بع ُ مجّرد جبل خ ّ لبنـــان .فقد كانت ُ
مسّلح ليلتهم غاباتــه ،ول غــــزاه الدولر ،والزّوار الذين صــاروا يأتونه في مواكب ال ْ ُ
"الرولز رويس".
مـانــا بر بشتــاء أكتفي ت أصبح فقد يشبهونني، ل أنــاسولنني ل أحب اقتسام الجنة مع ُ
ّ ُ ّ
ل صيف ،هربــا ً إلى "كـــان"،م أتركها لهـم ك ّ القارس ،سعيدة بانفرادي بثلجها وزوابعها ،ثــ ّ
ُ
حيث يوجد بيتي الصغير في منطقة لم يصلها "العلـــوج" بعـد.
عقــدة الرياضة ،التي كنت ُأعاديها، أعتـــرف بأنني مدينة لـ"تحرير العراق" ،بتحريري من ُ
ُ
مقتنعة بقول ساخــر لبرنارد شـــو" :لقد قضيت حياتي أشّيع أصدقائي الذين يمارسون ُ
الرياضة"!
لخرى ،وُأولها التلفزيون ،بعد أن اكتشفت ،أنا قدي ا ُن هذا النادي ،لم يشفني من ع ُ َ غيــر أ ّ
الهاربة منه ،أنني محجوزة مع أربع شاشات تلفزيون ،في قاعة اللت الرياضية ،وبينما
ُوجد أصــل ً لُيمارس الناس رياضتهم على إيقاع القنوات الموسيقية ،التي يختارونها،
أصبحت ما أكاد أنفرد به ،حتى أهجم على القنوات السياسية ،فُأمارس ركوب الدراجة
وأنــا ُأشاهد على "المنـار" بثـا ً حّيـا ً من "كربــلء" ،وأمشي على السجاد الكهربائي ،وأنا
ُ
كرنيوعين العــرب ،وهو ما ذ ّ أتـابــع نقاشا ً حاميا ً على "الجزيرة" ،حول مأساة المتط ّ
بقول حماتي "المنحوس منحوس ولو عّلقــوُلــــو فـــي) .....قفـــاه( فانــــوس"!
دف وجودي مع إقامة المتنافسات على لقب ملكة جمال صـا ُ
مــا المصيبـة الثانية ،فت َ َ أ ّ
لبنان ،في الفندق نفسه .و"انـــزل يا جميـل ع الساحة" ،و"قومي يا أحـــلم ،إن كنت
فحلـــة ،وانزلي ع المسبح" ..فهنــا ،أيتها الحمقــاء ،ل تنزل النساء إلى المسبح ،قبل أن
ن قد استعددن للحدث طوال سنتين ...في نـــاد ٍ آخــر! يكــ ّ
انقذونا من التلفزيون
ب النساء،
يقول "كنفوشيوس"" :توجد في طريق العظمة أربعة عوائق ،وهي :الكسل وح ّ
حة والعجاب بالنفس".
وانحطاط الص ّ
ولو أن هذا الحكيم عاصر التلفزيون ،لضاف إلى عوائقه الربعة ،إدمان المرء الفضائيات
وربما كان أخطر العوائق على المبدع ،انصرافه عن الكتابة والبداع ،وهدره وقته في
اللهاث مشاركا ً في هذا البرنامج أو ذاك.
ذلك أن هناك ُأناسا ً ل يعرفون كيف يبددون أوقاتهم ،فيعمدون إلى وقت سواهم لكي
ت بي إحدى الفضائيات ،كي ُأشارك في أحد يبددوه ،وهو ما أقوله لنفسي كلما اتصل ْ
برامجها الترفيهية ،في سهرات شهر رمضان ،معتقدة أن وقت المبدع مستباح ،وأنه جاهز
ليكون جلسة وصل بين أغنية وأخرى ،ومستعد متى شاءت ،أن تمل به ما هو شاغر من
فقرات برامجها ،بذريعة تكريمها له والحتفاء بالدب وقد حسمت هذا المر منذ سنتين،
بتغيير أرقام هواتفي تفاديا ً للحراج لكن ،في مساءات رمضان ،ل يمكن أن تنجو من
الوقوع في شرك التلفزيون ،وخدعة الحتفاء بشهر اليمان ،بالنخراط في حزب
المشاهدين ،الذين على مدى خريطة المة العربية ،دخلوا في حالة غيبوبة ،وشلل فكري
لمدة شهر ،وسّلموا أمرهم للفضائيات ،تعيث فيهم سخافة واستخفافًا ،ما شاء لها
استسلم صائم ،يساعده استرخاؤه على هضم التفاهات ،فل يخلد إلى النوم ،إل ّ بعد أن
يكون قد أخذ وجبته من المسابقات ،وانغلق بتخمة السخافات واللطافة العلمية
المصطنعة ،لمذيعة تطارده عبر القارات بالـ "أيوة" والـ "ألو" ،فيكاد يرد عليها على طريقة
زياد الرحباني في إحدى مسرحياته "ألو ..با بنت اللو".
ما جدوى اللياقة؟ ما عاد الجهل مصدر حياء ،منذ صار المذيعون يتسابقون على إشهار
جهلهم وتسويق قلة ذوقهم.
مرت الفضائيات عن ساعديها ،وكشفت عن نوايا ساقيها ،وراحت تركض ،ككل رمضان، ش ّ
في تسابق ،راتوني للقاء القبض على المشاهدين ومطاردتهم ،حتى في الشوارع وفي
ص سوى بيوتهم وأماكن عملهم ،وهدر ماء وجههم بنصف ساعة من السئلة ،التي ل تخ ّ
برامجها وأسماء مذيعيها ،مقابل مئة ألف ليرة لبنانية )!( ،فهذا ما يساويه المشاهد
والمشارك ،لدى إحدى أكبر الفضائيات اللبنانية ،التي ل ُيعرف عن صاحبها الفقر ول
الحاجة فكلما أسدل علينا الليل سدوله ،أصبحنا طريدة الفضائيات ،ونصبت لنا كل واحدة
مصيدة وبذريعة إثرائنا وتسليتنا ..أصبحنا وليمتها ومصدر رزقها في سوق العلنات.
في زمن "المن الوقائي" ،و"المن الستباقي" نطالب بـ "أمن المشاهد" ،وحمايته من
"الوباء الفضائي" وهجمات الفضائيات عليه يوميًا ،بترسانة أسلحة دمارها الشامل فأخطر
ظاهرة فكرية تهدد المواطن العربي اليوم ،هذا الكم الهائل من الفضائيات التي أفرزها
فائض المال العربي في العقود الخيرة ،التي تمل جيوبها بإفراغنا من طاقاتنا الفكرية،
والجهاز سخافة على عقولنا ،وصرف المواطن العربي عن التفكير في محنته ،وتحويله
إلى مدمن سيرك "الكليبات" ومهرجيه المتسابقين عريا ً و"نط ًّا" وزعيقًا ..على القفز
الستعراضي على القيم ،وإقناعه بفضائل الكسب السريع ،بالغداق عليه بالمال المشبوه.
ودون أن ُأطالب بالقتداء بسكان ولية "غوجارتيون" الهندية ،التي إثر تضررها بفعل
الزلزال ،قام المئات من سكانها بتحطيم وحرق أجهزة التلفزيون ،بغية طرد الرواح
الشريرة ،وتجّنب وقوع زلزال جديد ،بعد أن أفتى لهم المتدينون بأن التلفزيون أثار
الغضب اللهي ،بها يبثه من رسائل تخدش الحياء ،فراح الناس يرمون بأجهزتهم المحطمة،
ُ
بالعشرات ،في جوار المعابد ،أحذر من يوم يصل فيه إدمان التلفزيون ببعضنا إلى حد ّ
أوصل ُأستراليا ً إلى اختيار تلفزيونه زوجة مثالية ،وعقد قرانه عليه بمباركة كاهن ،وبحضور
أصدقاء العريس ،البالغ من العمر 42سنة ،الذي تعهد بالوفاء للتلفزيون ،واضعا ً خاتمي
الزواج في غرفة الجلوس قرب هوائي الستقبال ،مصرحا ً بأنه اختار التلفزيون شريكا ً
لحياتة ،وبأن زواجه به يبعده عن المشاجرات ،التي كانت ستحدث لو تزوج بامرأة وما كان
ناقصنا إل ّ التلفزيون
المخرج الفرنسي الذي أضحك ،منذ سنوات ،المشاهدين كثيرا ً في فيلمه "بابا نويل هذا
ن الحياة سُتزايد عليه سخرية ،وتسند إلى "بابا نويل" الدور الكثر قذارة، نأ ّالقذر" ،ما ظ ّ
الذي ما فطن له المخرج نفسه ،لُيضيفه إلى سلسلة المقالب "الحقيرة" التي يمكن أن
ي
ديس السخ ّ ن الق ّ
كر ليلة الميلد في لحية بيضاء ورداء أحمر .ذلك أ ّ متن ّ
يقوم بها رجل ُ
الطّيب ،الذي اعتقد الطفال طويل ً أنه ينزل ليل ً من السقف عبر المدفأة ،حامل ً خلف
ظهره كيسا ً مملوءا ً بالهدايا ،ليتركها عند أقدام "شجرة الميلد" ،ويعود من حيث أتى على
صغار خالدين إلى النوم والحلم ،ما عاد في مظهره ذاك رؤوس القدام ،تاركا ً مليين ال ّ
طهارة والعطاء ،مذ غدا الحمر والبيض على يده عنصرا ً من عناصر الخدعة تكريسا ً لل ّ
ً
البشرية .فبابا نويل العصري ،إنتاج متوافر بكثرة في واجهات العياد ،تأكيدا لفائض النقاء
سخاء الذي يسود "معسكر الخير" الذي تحكمه الفضيلة ،وتتوّلى نشرها في العالم وال ّ
جيوش من ملئكة "المارينز" والجنود البريطانيين الطيبين ،الذين باشروا رسالتهم
ن المحال التجارية النسانية في سجن أبو غريب .لذا ،بدا الخبر نكتة ،عندما قرأنا أ ّ
البريطانية ،قررت أن ُتثّبت "كاميرات" في الماكن التي يستقبل فيها "بابا نويل" الطفال،
وذلك لتهدئة مخاوف البـــاء الذين يخشون تحّرش "بابا نويل" بأطفالهم .بل إنهم ذهبوا
ملطفة صغارهم أو وضع الطفال في حجره ،والكتفاء بوقوفهم حد ّ منع "بابا نويل" من ُ
وع فيهّ يتط زمن في ية.
ّ والضح ديس..ّ الق بين تجمع قد تذكارية، إلى جانبه لخذ صورة
ديس ي العالم لحفظ السلم ،وق ّ مصّرا ً على أن يكون شرط ّ البعض لنشر عولمة المانُ .
ّ
الكرة الرضية ،والرسول الموكل بالترويج للقيم الفاضلة واستعادة البراءة المفقودة لدى
مضحك أن يفتقد المان والفضيلة في عقر داره ،وأن يصل به الذعر حد ّ الش ّ
ك البشريةُ ،
ديسه وأوليائه الصالحين ،فل يجرؤ على ائتمانهم على أولده ،منذ أن سطا في أخلق ق ّ
ل لون السلطة الدينية ولون الفضيلة "بابا نويل" على اللون الحمر ،الذي كان من قب ُ
وله إلى لون تجاري يرمز إلى بيع الفرح وهدايا سة الذي يلبسه "الكاردينالت" ،فح ّ دا َ
ق َ
وال َ
العياد .في زمن الخوف الغربي من كل شيء ،وعلى كل شيء ،ما عاد الطفال ينتظرون
حَيـــاء
"بابانويل" ،بل هو الذي أصبح ينتظرهم ليتحّرش بهم ،من دون إحساس بالذنب أو َ
من لحيته البيضاء )الصناعية( ،وهالة النقاء التي تحيط بملمحه الطيبة ،تذكيرا ً بالرسل
والملئكة .ولماذا عليه أن يستحي والرهبان أيضا ً يتحرشون بالطفال ،من دون اعتبار
متخّلفين عقليا ً يغتصبن مرضاه ّ
ن لوقار ثوبهم السود ،والممرضات العاملت على العناية بال ْ ُ
مكترثات ببلوزاتهن البيضاء ورسالتهن النسانية؟ في نهاية السنة ،وقع الصغار والكبار ،غير ُ
ن الفاجعة ،والنسان ّ س ً اباكر يبلغون الطفال أصبح فقد مخيفة، ُ اكتشافات الغربيون على
الذي كان يعاني كهولة أوهامه ،أصبح يشهد موتها مع ميلد طفولته ..فقد اكتشف علماء
ن النسان الغربي ُيصّلي حتى العمر الذي يتوقف معه عن التصديق بوجود النفس لديهم ،أ ّ
ن الفاجعة ليست في اكتشاف الطفال عدم وجود "بابا ما أنا ،فأعتقد أ ّ"بابا نويل" .أ ّ
ما علماء آخرون فقد ّ أ وقذر. و"واطي".. حرامي نه
ّ أ اكتشافهم في هي ما نويل" ،بقدر
ديس نقول باستخدامهم تقنية ُتستعمل َ
اكتشفوا ،أثناء تطويرهم صورة ثلثية الَبعاد للق ّ
ديس نقول ،تركي الصل( ،لم يكن ّ )الق الحقيقي ن "بابا نويل" ل جرائم القتل ،أ ّ عادة في ح ّ
ً
متوّرد الوجنتين ،بل كان نحيل أسمر اللون ،ذا وجه عريض ،وأنف كبير ،ذا لحية بيضاء
شبهات الجديدة لـ"بابا نويل" ،بإعطائه ملمح بعض دمة للتخّلص من ال ّ مق ّ
مرّتبة .فهل هذه ُ
مطاَردين من طرف معسكر الخير ،الذين برعوا في استعمال الفضائيات من كهوفهم، ال ْ ُ
منذ أن أصبحت الهدايا ،بدل أن تهبط عبر المداخن ،تهبط عبر "إف ،"15/لتستقر في
َأســّرة الطفــال ..ل في أحذيتهم الصغيــرة؟
م
وي يت ّ
قل الج ّعلى ِغـرار "جول فيرن" ،الذي كتب "العالم في ثمانين يومًا" ،يوم كان التن ّ
على علوّ الحلم المنخفضة بواسطة البالونات الطائرة الضخمة ،في إمكاني أن أكتب
مسلسل ً عنوانه "أميركا في ثمانية أيام" .فحتى في اللفّية الثالثة ،ليزال في إمكان المرء
مسبقة ،وكان مثقلة بالفكار ال ْ ُ أن يرى العالم بذلك الندهاش الّول ،خاصة إذا كانت ناقته ُ
ب في حد ّ ذاته ،بتلك ٌ كوك فيها ل واحدةيشد ّ الرحال إلى أميركا قاصدا ً أكثر من ولية ،ك ّ
دد اللوان والديان متع ّ
كانها .فهناك ستدرك ،وسط الكوكتيل البشريّ ُ التشكيلة العجيبة لس ّ
والعراق والشكال ،معنى أن يكون "اكتشاف قارة جديدة أسهل مليون مّرة من اكتشاف
كانها" .في طائرة "اليرباص" الضخمة التي كانت تقّلني من باريس إلى عقل وقلب أحد س ّ
ُ
نيويورك صبحًا ،بعد أن ألقت بي أخرى فجرا ً في مطار شارل ديغول ،قادمة من بيروت،
لم ُأحاول أن ُأبّرر قبول ذلك الزعيم التاريخي ،الغيور على فرنكوفونيته ،فكرة تسليمي
سبّية إلى جون كيندي ومطار نيويوركي يحمل اسمه ول يدين سوى بلغته ،أنا التي مازلت
ُأباهي بإتقاني اللغة الفرنسية ،وعدم امتلكي سواها جواز سفر دوليا ً لغويًا ،في عالم تقول
ن ثلثة بليين شخص سيتكّلمون فيه النجليزية مع حلول عام ،2015أي أنني، البحاث إ ّ
َ
مية باللغة النجليزية ،سأرقى بعد عشر سنوات إلى النصف ُ
ن بقيت على هذا القدر من ال ّ إ ْ
متخّلف ،ولن أجد عمرا ً كامل ً إلى ثلثه ال ُْ
ُ انتسبت قد أكون أن بعد العالم، من الجاهل الثاني
مفاخرة الفرنسيين بامتلكهم لغة الدب والفكر ،ورفضهم التعاطي مع لي عزاًء آنذاك في ُ
لغة ل رصيد لها إل ّ في عالم الرقام والمعلوماتية .فالجميع سيكونون قد انسحقوا أمام
جل فاجعتي وُأخفف من مصيبتي ،اخترت السفر ُ
بلدوزر النجليزية ،وانتهى المر .وحتى أؤ ّ
على متن الطيران الفرنسي ،واشترطت على الجامعات التي دعتني ،أن ترافقني ،من
دةظمون هناك أنني جا ّ نقطة انطلقي ،مترجمة أعمالي إلى النجليزية .وعندما َأدَرك المن ّ
طط رجلي في المّية ..إل ّ ومعاي دية من غّنى "والّله يا ناس ما راكب ول حا ِ في شرطي ،ج ّ
قلتنا عابرة القارات والوليات، مترجمتي أثناء تن ّ ُ بمصاريف ً ا أيض فل
ّ التك عدوّية" ،قّرروا
َ
وإقامتنا الخاطفة في الفنادق ،التي ما كّنا نفتح فيها حقائبنا ،أو بالحرى ما كادت بارعـة
تفتح فيها حقيبتها إل ّ لتحزمها إلى وجهة جديدة ،ومحاضرة جديدة ،ينتظرنا فيها حشد آخر
ما سؤالي الوحيد الذي لم أطرح سواه ،خلل ثلثة أيام ،فلم يكن سوى ُ
وأسئلة أخرى .أ ّ
دة في معرض الكتاب في نابولي" :يا ذلك السؤال إّياه )أي والّله( الذي طرحُته ليام ع ّ
ي أن أتعلم كيف ُيطرح هذا السؤال بك ّ
ل ّ ناس ..أين الحقيبة؟" .ويبدو أنه أصبح لزاما ً عل ّ
ل مطارات العالم .فما كدنا ننزل في اللغات ،لنني أتوّقع أن تتخّلى عني حقيبتي في ك ّ
متها ،التي ستغدو مطار جون كيندي في نيويورك ،حتى باشرت صديقتي بارعة الحمر مه ّ
مترجمة سؤالي إلى ك ّ
ل ُ
ليام مهمتها الولى التي ستبدأ بها نهارها وُتنهي بها مساءهاُ ،
لغات الغضب والحتجاج ..والتهديد ،وملء استمارتي بإعلن ضياع أمتعتي .ولم تفهم بارعة
مواساة ،ل دمت لي هدّية نجدة و ُ سّر استسلمي لقدري ،وضحكي من محفظة صغيرة قُ ّ
ق ،من أن تليق لوازمها القليلة والصغيرة ،من أدوات حلقة ومشط ومعجون أسنان ..ووا ٍ
ل الّلي في صندوقي فوقي". تقيني لعنة حقيبتي التي تطاردني حيثما حللت ،جاعلة من "ك ّ
فقد كانت الحقيبة ،ما تكاد تصل إلى فندق حتى ُنغّير عنوان إقامتنا إلى ولية ،جديدة،
ُ
جلة مس ّ فتلحق بنا في طائرة أخرى ،أو تصل إلى الفندق ،فل يستدّلون على اسمي ،لنها ُ
ور وقتها أنني ي .ما كنت أتص ّ على اسمي الزوجي ..بينما حجزت غرفتي تحت اسمي الدب ّ
ل "صايعــة ضايعــة" بين سأقضي أربعة أيام من دون حاجاتي ،وأن حقيبتي ستظ ّ
المطارات ،تجول وتصول بمفردها بين بيروت وباريس ونيويورك وميتشيغن وفيلديلفيا..
مـــراد ،المسكين المحجوز منذ ما سافر أخي ُ وبوسطن .لقد سافرت في أسبوع أكثر م ّ
ً
ثلثين سنة على كرسّيه في الجزائر .حتمــا ..هذه حقيبة "فلتانة" ،ل أمل في ردع نزعتها
طاعة .ما أكاد ُأسّلمها إلى موظف مطار حتى تهيج وتهرب مني، إلى الهروب من بيت ال ّ
منهكة كقطة في شهر شباط ،بعد أن يعود لي بها موظف متعَبة و ُ ول تعود لي إل ّ بعد أيامُ ،
ف تنقلتها المشبوهة ،كما يعود ُ
إيطالي تارة ،وأميركي تارة أخرى ،ومن عنقها يتدّلى مل ّ
رجل من شرطة رعاية الحداث بولد طائش .يا ناس ..ألم يعد في إمكان المرء أن يعثر
على بنت عائلة ..حتى بين الحقائب؟
لحدثكم عن جولتي في أميركا ،التي قصدتها ليس فقط لتلبية دعوة لثلث لحقًا ،سأعود ُ
ذى من قول النفري: للّبي نداًء مجنونا ً داخلي ،يتغ ّجامعات شرفتني باستضافتي ،بل أيضا ً ُ
ّ
مـن مكان في العالم ،بعدما "في المخاطرة جزء من النجاة" .فقد بدت لي أميركا أأ َ
ل تشكيلة الهوال والمخاطر .قلت ،هذه بلد فرغت من المجرمين والقتلة درت إليه ك ّ
ص ّ
وخلدت إلى الراحة .ول أرى ،في زمن الذعر الكوني ،من وجهة للمان سواها ،مستندة
إلى نكتة عن ذلك اللبناني ،الذي كان أيام الحرب الهلية ،دائم السؤال" :منين عم يطلع
الضرب؟" وما يكاد يستدل على المكان ،الذي ينطلق منه القصف حتى يركض نحو المدفع
كي يضمن وجوده ،حيث تنطلق "الضربات" ،ل حيث تتساقط .طبعًا ،الخطر قد ل يكون هنا
مخاطرة تبدأي ،ال ْ ُ
ول هناك ،بل في المسافة الفاصلة بين المدفع ..والهدف .بالنسبة إلـ ّ
ُ
متاهة ،التي تمتد ّ نهاياتها كأخطبوط في في الوصول إلى أيّ مطار من تلك المطارات ال ْ َ
وابات ،لكل منها منافذ م تعود لتتفّرع إلى ) (Gatesوب ّ ل صوب بعدد أحرف البجدية ،ث ّ ك ّ
جوية ،قد تصل إلى المئة .في هذه المطاراتُ ،تعاودني فطرتي البدوية ،وأتحول إلى امرأة
دث كثيرا ً أن تهت في مطار شارل ديغول. مية بك ّ ُ
ح َ
ل اللغات ،بما في ذلك الفرنسية .لذا َ أ ّ
وكما يغرق البعض في كوب ماء ،أتوه أنا بين حرف وآخر ..ورقم وآخر ،سالكة السللم
الكهربائية نحو التجاه الخطأ ،فل ألحق الطائرة إل ّ وقد حفظ جميع المسافرين اسمي
ي بالمايكروفونات .ولول أنني سافرت إلى معرض فرانكفورت برفقة لفرط ما نادوا عل ّ
ة بتلبيب جمانة حداد ،لحقة بصلعة الوفد اللبناني ،وغادرت المطار كما وصلته ممسك ً
عّباس بيضون ،وسرب عبده وازن وعقل عويط ،لعاد الكّتاب في العام المقبل ليجدوني
كذلك اليراني المشّرد ،المقيم منذ سبع عشرة سنة في مطار شارل ديغول .وقد
استوطنت المطار ،وفردت أوراقي وألواح الشوكولتة ،وجلست أكتب روايتي ،في انتظار
أن يتنّبه رئيس التحرير إلى غيابي ،فيبعث بفريق إنقاذ ليعود بي إلى بيروت .أولدي وجدوا
في جهلي اللغة النجليزية ،ومعاناتي من "رهاب المطارات" ،وإصراري على البقاء قروية
وع جميعهم ،على غير عادتهم ،لخدمتي وعرضهم في عصر القرية الكونّية ،ذريعة للتط ّ
سان ،المقيم في لندن ،الذي ذهب حد ّ اقتراح أخذ إجازة مرافقتي إلى أميركا ،بمن فيهم غ ّ
من البنك الذي يعمل فيه ،والحضور لملقاتي في مطار باريس ،بعد أن خفت أن أضيع منه
في مطار لندن! ذلك أن جميعهم خّريجو الجامعات الميركية ،ويحلمون منذ الزل بزيارة
الجامعات التي دعتني ،ولم أكن قد سمعت ببعضها قبل ذلك .وليد ،أصغرهم ) 21سنة(،
صــاح بالفرنسية "واووو" ..يال" بتعرفي شو "يال" ماما؟ إنها جامعة عمرها 5قرون،
تتنافس مع جامعة "هارفرد" على الصدارة ،معظم رؤساء أميركا تخّرجوا فيها" .شعرت
برغبة في إدهاشه ،لعلمي أنه سيرسل ليل ً "إيميل" إلى غسان ،لينقل إليه أخبار عجائبي،
ي ل يكلفهما أكثر من ُقبلة، وأحيانا ً ليتشاورا في إدارة "مكاسبي" ،كتمرين مصرف ّ
والطمئنان على صحتي )ماما ..مارسي الرياضة ..وهل راجعت الطبيب ،بالنسبة إلى وجع
دق، مص ّ ملني غير ُ كتفك؟( .قلت" :وأيضا ً سأزور جامعة ) ،(MiTحيث لي محاضرتان" .تأ ّ
ت
م ستحدثينهم برّبك يا ماما وأن ِ وقال" :إنها أشهر جامعة تكنولوجية في أميركا ..ع ّ
ُ
ت استعمال "ريموت كونترول" الفضائيات؟" .واصلت لجّننه تستعينين بالشّغالة ،كّلما أرد ِ
دة ،ظ ّ
ل ُ
م سأعّرج على جامعة "ميتشيغن" ،وأعود عن طريق نيويورك" .ليام ع ّ أكثر" :ث ّ
ت جميلة هذه وليد ُيهاتفني مساًء ،بذريعة السؤال عنيُ .يغازلني بين جملتين "ماما ..أن ِ
ُ
ك جميلة.. ِ عمر ك بالنسبة إلى قا ً أجد ِك ..لكني ح ّ اليام" .يستدرك" :أنا ل أريد شيئا ً من ِ
أجمل من ُأمهات أصدقائي"ُ .أخفي ضحكتي "أدري أنه سيختم المكالمة سائل ً بلطف:
ك إلى نيويورك ..پليز إنها حلمي" .بعد ذلك ،علمت أن ابنة صديقتي "ماما ..خذيني مع ِ
ً
ت أن ُترافقني عوضا عن الولد ،الذين كانوا سيهيجون ضل ُمترجمتي بارعة الحمر ،التي ف ّ و ُ
لمومي نفسه من قَِبل ابنتها، ويتخّلوا عني في ولية من الوليات ،تعرضت للبتزاز ا ُ
ّ
المقيمة في كندا ،كي ترافقها في هذه الجولة الجامعية .بارعة ظلت ممسكة بيدي
وأعصابي ،حتى عودتنا إلى مطار نيويورك .وعلى الرغم من كونها تدّبرت المر ،كي
نفترق ،هي إلى مونتريال وأنا إلى باريس ،من المطار نفسه ،وفي رحلت متقاربة ،ما
دعني وتختفي ،حتى ضعت وأخلفت طائرتي ..وقضيت الليل في انتظار طائرة كادت تو ّ
ُأخـــرى
-ةةةة
أغــار من الشياء التي
يصنع حضور َ
ك عيدها ك ّ
ل يوم
لنها على بساطتها
مقاربتكتملك حقّ ُ
وعلى قرابتي بك
ل أملك سوى حقّ اشتياقك
ما نفع عيد..
ك؟بب َ ّ الح فيه ل ينفضح
أخاف وشاية فتنتك
بجبن ُأنثى لن ُأعايدك
ضل مكر الحتفاء بأشيائك ُ
أف ّ
ككل عيد سأكتفي بمعايدة مكتبك..
مقعد سيارتك
طاولة سفرتك
مامك مناشف ح ّ
شفرة حلقتك
شراشف نومك
أريكة صالونك
منفضة تركت عليها رماد غليونك
وك ربطة عنق خلعتها لت ّ
قميص معّلق على مشجب تر ّ
ددك
صابونة مازالت عليها رغوة استحمامك
فنجان ارتشفت فيه
قهوتك الصباحّية
جرائد مثنية صفحاتها ..حسب اهتمامك
ثياب رياضية عِلق بها عرقك
حذاء انتعلته منذ ثلث سنوات
لعشائنا الّول..
-ةةة
ل أتوّقع منك بطاقة
مثلك ل يكتب لي ..بل يكتبني
ابعث لي إذن عباءتك
لتعايدني عنك..
ابعث لي صوتك ..خبث ابتسامتك
مكيدة رائحتك ..لتنوب عنك.
-ةةةة ةةةةةةة
انتهى العام مرتين
الثانية ..لنك لن تحضر
ناب عنك حزن ُيبالغ في الفرح
غياب ُيزايد ضوءا ً على الحاضرين
ك ّ
ل نهاية سنة
يعقد الفرح قرانه على الشتاء
يختبرني العيد بغيابك
أمازلت داخلي تنهطل
كّلما لحظة ميلد السنة
شاق العالم تراشق ع ّ
قبلونة ..وال ُ
بالوراق المل ّ
وانشغلت شفتاك عني بال ْ ُ
مجاملت..
لمّرة تعال..
تفاديا ً لثام ِنفاق آخر ليلة..
في السنة!
تداعيات صيفية
ت بيـــروت إلى"كــــان" في العتمة ،على ضـــوء الشموع .فمن ن َِعم بيـــروت هذه غـــادر ُ
لحرى التقنين الكهربائي، اليام ،إضافة إلى المن ال ْمستتب ،النقطاع الكهربائي ،أو با َ
ُ
ن علينا ّ يم ونعمة طيبة، التفاتة ساعات، ست كل انقطاعها بعد الذي يجعل عودة الكهرباء
فل بعد ذلك مصائب وت نشرة الخبار المسائية ،بحيث تتك ّ نف
ُ ّ ّ ل أ من يعنيهم على القل، بها َ
العاَلم وفواجعه ،بكهربة مزاجنا ،حتى ساعة عودة الكهرباء ،الساعة السادسة صباحاً.
دد بنفسي إجازة شّغالتي ،توفيرا ً للوقت والمال, ُ
قبلها بيومين ،كنت في وزارة العمل ،أج ّ
فقد ُفوجئت منذ سنتين ،بمدى شعبيتي في تلك الوزارة ،بدءا ً من العسكري الواقف عند
مدخلها ،الذي لم يفْته سوى كتابي الخير ،صعودا ً إلى الطوابق العليا ،حيث بعض
محّبي الدب ،أو أساتذة جامعيين ،مثل مستشار الوزير ،الدكتور نبيل المسؤولينُ ،
الخطيب ،الذي سبق أن دّرس أعمالي في الجامعة اللبنانية ،ما أتاح لي إنجاز معاملتي
في نصف ساعة ،أمام "فنجان قهوة" ،شرف ل يعرفه الكاتب العربي إل ّ في لبنان ،بعدما
دة ،مئة دولر ،لوسيط كان يأتيني برخصة العمل بعد يومي. دفعت ،سنوات ع ّ
ول بعد ذلك إلى نصف نهار ،قضيته محجوزة في انتظار وقف إطلق لكن نصف الساعة تح ّ
ن كل الجهات ،ابتهاجا ً بالتجديد لرئيس مجلس النواب اللبناني، ْ م ل ُيدّوي النار ،الذي ظ ّ
رئيسا ً للمّرة الرابعـــة.
صديقة طبيبة ُتقيم في المبنى المقابل للوزارة ،لجأت إليها ،منعتني من انتظار ابني في
ت قدوم سيارته ،وأنا واقفة في الشارع ،ونصحتني بأن ُأهاتفه كي ل يحضر ,وكّلما تف ّ
قد ُ
الطابق الثالث خلف الزجاج ،صاحت بي أن أبتعد عن النافذة ،خشية أن تصيبني رصاصة
جنت ،إذ لم تطلق سراحي إل ّ بعد ثلث ساعات قد تخترق الزجاج ,خلتها من ذعرها أنها ُ
متقطعة للنيران. دية الطلقات ال ُْ ّ متح ُ وصلتها من الحجز ،بعد أن طلبت سيارة ُأجرة
درجطل ،ضّيفني أحدهم مبتهجًا ،حلويــات ،تناولت قطعة منها ونزلت ال ّ مع ّ أمام المصعد ال ْ ُ
مقّنن للنقطاع الكهربائي ,في الليل ،هاتفت صديقتي كي في العتمة ,فقد كنا في الوقت ال ْ ُ
مقّنن لعودة الكهرباء ،جــاء في النشرة ْ
أشكرها على حجزي في عيادتها ,فأثناء الوقت ال ُ
جم اللبناني ُ ّمنْ ل ا بدا لماذا أدركت البهجة. ن ثلثة مواطنين سقطوا برصاص المسائية ،أ ّ
ميشيل حايك متشائما ،وهو يقرأ علينا "فنجان لبنان" لهذه السنة ,ففي إمكاننا تحويل ً
هج إلى مآتـــم بسرعة رصاصة طائشة ،مزدحمين بالموت ،حتى في أفراحنا ،ل ال ْ َ
مبا ِ
جرة، نستطيع إل أن نموت ابتهاجا .فهنا ل يكفي أن تنجو من سيارة مفخخة ،أو عبوة متف ّ ً ّ
بل عليك أيضا ً أن تحذر البهجة ,وقد يكون الفرح قاتل ً حتى إذا كان المبتهج غيرك.
كرت أنني توّقفت في مطار ميلنو ،حيث قضيت ساعة ونصف الساعة ،بين طائرتين ،تذ ّ
في المطار إّيـاه مع الشهيد سمير قصير ،ونحن في طريقنا في شهر مارس الماضي ،إلى
نابولي ،لحضور معرض الكتاب.
يا الّلــه ،كم قضى المسكين من الوقت على قلق ،بعد وصولنا لحقا ً إلى نابولي،
ن حقيبتي لم تصل ,كان عليه ،هو القادم من دون أمتعة سوى حقيبة يده ،أن واكتشافي أ ّ
م القيام ث أخرى، ينتظرني أكثر من نصف ساعة ،للتأكد من عدم وصولها في رحلة ُ
ّ
بالجراءات اللزمة للتصريح بضياعها.
ل ،كي أنقذ مله طوي ً ّ أتأ فقط أو كثيرة، أشياء فيه له أقول نصف ساعة ،كان في إمكاني أن
مسّرة التي يتركها فينا أولئك الذين ،ل ندري ونحن نلتقيهم ،أننا نراهم للمّرة نفسي من ال ْ َ
الخيــرة.
سميــــر ،لم ُأجالسـك كثيرًا ،وأنت حــي ،ول مشيت في جنازتك ميتًا ..جمعتنا الندوات
ك ستكون هنا لُتواصل أكثر من مرة ،وجمعنا هذا المطار مّرة واحدة .لــــــذا ،ما ظننت َ
المشي معي فيه بين طائرتين.
ً
صديقي ،الذي أصبح بموته صديقي ،يا للحماقــــــة ,في الزمن الضائع ،بحثا عن الحقيبة،
ك الوســـيم ،ومازالت وبت طلقتها نحو قلم َ كان أجدى بنا البحث عن الحقيقة ،تلك التي ص ّ
فحة ضـد ّ الرصاص. مص ّوحدها تمشي بيننا ُ
"تذ ّ
كروا" ..أرخص ما يكون إذا غل"
ت الكتابة في "زهرة الخليج" ،منذ ما يقارب الثلث سنوات ،وأنا أتحاشى التوّقف
مــذ بدأ ُ
ً ّ
عند العلنات ،التي "يخزي العين" ،تمل المجلة حتى يفيض بها غلفها أحيانا إلى غلفين.
ي ،وشهادة بنجاح ،قّلما تحظى به مطبوعة ،فقد كان في هذا وإذا كان في هذا جــاه إعلم ّ
المر قصاصي ،إذ كان لبد أن أتعّثر بين صفحة وُأخرى ،بدعاية لسلعة ،ل يفوق ثمنها
إمكاناتي ،بقدر ما يفوق ما يسمح لي حيائي بإرفاقه على الكماليات.
في الواقع ،قّلما كنت أتنّبـه لغلئها ،لني كنت بتجاهلها ،والتع ّ
فف عن النبهار بها،
أسترخصها وكنت أظنني ابتدعت فلسفة في مقاومة مثل هذه الغراءات ،حتى قرأت قول
المتنبي:
فازددت إيمانا ً بعظمة شاعر ،ما ترك حكمة إل ّ وسبقنا إلى قولها بما هو أفصح.
نفازددت إيمانا ً بعظمة شاعر ،ما ترك حكمة إل ّ وسبقنا إلى قولها بما هو أفصح غير أ ّ
من لي احتياجاتي من لوازم وكماليات نسائية، خبرًا ،قرأته مؤخرًا ،أوحى لي بفكرة قد تؤ ّ
خ الستهلك ،وذلك بتقاضي راتبي مباشرة على هيئة دون الشعور بالذنب أو الوقوع في ف ّ
حاجات وبضائع معروضة في العلنات ،مادامت من "حواضر البيت" ،وبعض ما تفيض به
خزائن "زهرة الخليج" ،وواجهاتها من سلع أحتاج إليها في مواسم العياد ،بعد أن اعتدت
أن ُأنفق دخلي على البيت والولد ،وعلى المحتاجين حولي من عباد وحان ،حسب نصيحة
ن في تدليلها على ما يبدو حّنا مينة في إحدى المّرات ،أن أكتسب عادة تدليل نفسي ،ل ّ
منفعة أدبية! ولنني أتوّقع أن تكون معظم زميلتي في المجلة في وضعي ،فإنني أحثهن
على مساندة عرضي ،ومطالبة مدير التحرير بدفع معاشهن بعد الن ،ساعات ومجوهرات
ل علقة وعباءات ،وثياب سهرة وعطورا ً وسيارات ،بل إنني أذهب حد ّ ال ْ ُ
مطالبة ،بأل ّ تظ ّ
معلنين ،ذلك أنني قررت أن تكون ك ُّتاب المجّلة مقتصرة على مدير التحرير ،بل تمتد إلى ال ْ ُ
ّ
معلن عنها في الصفحة المواجهة لصفحتي ،بعدما تأكدت بعد مكافأتي ،من ضمن السلع ال ْ ُ ُ
التدقيق أنها الثمـن.
ولطفــا ً مني ،سأسمح للزميلت بأن يتناوبن على صفحتي ليؤثثن بيوتهن ويقتنين سّيارات..
ي" فهذه الصفحة، ن على "الكرس ّ ويخترن أرقى المجوهرات ،شرط أل ّ يستغفلَنني ويسطي َ
للتذكير ،أحتّلها في انتظار أن ُأورثها لبني.
أعـــود إلى الخبر الذي جــاء من روسيا ،الذي يقول إنه ،نظرا ً للوضع القتصادي الســوأ
الذي تعرفه البلد ،اعتاد المديرون الذين ل تتوافر لهم السيولة المادية ،دفــع ُأجــور
ظفين من ن بعض الشركات تدفع ُأجــور المو ّ موظفيهم بما يتوافر تحت أيديهــم ،حتى إ ّ
ددت أجــور موظفيها بمنح كل ُ
البضائع التي تنتجها فشركة لنتاج ماكينات الخياطة ،س ّ
منهم ماكينة خياطة ،بينما دفع مصنع لنتاج الفودكا 10زجاجات فودكا ،أجرا ً شهريا ً لك ّ
ل
عامل ،وهي بضائع يمكن مقايضتها في السواق بالمواد الغذائّية.
ن بعض الشركات اعتمدت التعامل بالمقايضة في ما بينها ،حتى إن 300طبيب كما أ ّ
ظف وجدوا أنفسهم في حيرة ،ل يدرون كيف "ينفقون" معاشهم ،الذي هو ثلثة أطنان ومو ّ
ل واحد منهم من المستشفى الذي يعملون فيه.. قاها ك ّ
من أسمدة رَوث الحيوانات ،تل ّ
كجزء من ُأجورهم المتأخرة.
قي شركة ،تعمل في تقطيع الخشاب وبيعها، ي مشروعي ،فتل ّ ما ما فاجأني وأفسد عل ّ أ ّ
صناديق حفاضات نسائية بدل د َْيــن لها على إحدى الشركات!
وقد شغلني هذا الخبــر ،حتى رحــت أبحث في أعداد المجّلة عن إعلن لماركة شهيرة
قي معاشنا صناديقن كاتبات المجّلة ،بتل ّ لهذه الحفاضات ،خشية أن ينتهي بنا المر ،نح ُ
فاضات نسائية ُترسل إلينا شهريًا ،ما سيجعل المجوهرات والسّيارات ..والعطور من ح ّ
ن ل حاجة لهم إلى تلك "البضاعة" ،مذ أثبت ّ أ بذريعة المجلة، في العاملين الرجال نصيب
ن "المرأة تحيض ..والرجل الزعيم الليبي في أحد فصوله الشهيرة في "الكتاب الخضر" أ ّ
ل يحيض"!
لـــذا يبدو أنه مكتوب علينا ،حتى في العياد ،أن نواصل إنفاق دخلنا على البيت والولد..
بالتفّرج على أحلمنا المعروضة في العلنات...
ل عـام وأنتـم وُأســرة "زهرة الخليج" بخيـر وكـ ّ
تشي ب َ
ك شفاهُ الشياء
ك".
قلت لك مرة" :أحلم بأن أفتح باب بيتك معك" .أجبت "وأحلم بأن أفتح بيتي فألقا ِ
وابك كي ينساني مرة عندك ..أن أنتحل صفة من يومها ،وأنا أفكر في طريقة أرشو بها ب ّ
تجيز لي في غيبتك دخول مغارتك الرجالية .فأنا أحب أن أحتل بيتك بشرعية الشّغالت..
أن أنفض سجاد غرفة نومك من غبار نسائك ..أن أبحث خلف عنكبوت الذكريات عن
أسرارك القديمة المخبأة في الزوايا ..أن أتفقد حالة أريكتك ،في شبهة جلستها المريحة..
أن أمسح الغبار عن تحفك التذكارية ،عسى على رف المصادفة تفضحك شفاه الشياء.
***
أريد أن أكون ليوم شّغالتك ،لقوم بتعقيم أدوات جرائمك العشقية بالمطهرات ،وأذيب
بّرادك من دموعي المجلدة ،مكعبات لثلج سهرتك ..أن أجمع نسخ كتبي الكثيرة ،من
رفوف مكتبتك ،منعا لنفضاحي بك ..ومنعا لغرائك أخريات بي ..أن أستجوب أحذيتك
ما علق بنعالها من خطى خطاياك ..أن أخفيها الفاخرة المحفوظة في أكياسها القطنية ،ع ّ
عنك ،كي أمنعك من السفر) ..هل حاولت امرأة قبلي اعتقال رجولتك ..بحذاء؟(.
***
أحب في غيبتك ،أن أختلي بعالمك الرجالي ،أن أتفرج على بدلت خلفاتنا المعلقة في
خزانة ،وقمصان مواعيدنا المطوية بأيدي شّغالة فلبينية ،ل تدري كم يحزنني أن تسّلم
رائحتك للصابون.
أحب ..التجسس على جواريرك ..على جواربك ..وأحزمتك الجلدية ..وربطات عنقك ..على
مناشفك وأدوات حلقتك وأشيائك الفائقة الترتيب ..كأكاذيب نسائية.
***
تروق لي وشاية أشيائك ..جرائدك المثنية حسب اهتمامك ..مطالعاتك الفلسفية ،وكتب
في تاريخ المعتقلت العربية ،وأخرى في القانون .فقبلك كنت أجهل أن نيرون يحترف
العدالة ..وكنت أتجسس على مغطس حمامك ..وعلى الماركات الكثيرة لعطورك،
وأتساءل :أعاجز أنت حتى عن الوفاء لعطر؟.
***
كم يسعدني استغفال أشيائك ..ارتداء عباءتك ..انتعال خفيك ..الجلوس على مقعدك
الشاغر منك ..آه لو استطعت مد ّ فوطاي ..وفرد أوراقي على مكتبك ..وكتابة مقالي
القادم في انتظار أن تفتح الباب.
أن أتناول فطور الصباح في فناجين قهوتك ..على موسيقاك ..وأن أسهر برفقة برنامجك
السياسي ..ذلك الذي تتناتف فيه الديكة ..ثم أغفو منهكة ،على شراشف نومك..
دع لي بيتك وامض ..ل حاجة لي إليك.
إني أتطابق معك بحواس الغياب.
صصت غلفها ،لحثنا في هذا الصيف على تناول الكافيار مة مجلت قد خ ّ إذا كان ث ّ
ُ
والسومون والصدف والشوكولتة ،بصفتها أطعمة تفتح القابلية على ملذات أخرى ،عليها
من ل يملك منا ثمن هذه الطعمة الفاخرة ،ول يملك حبيبا ً يتناولها من أن تقول أيضا ً ل ِ َ
أجله ،ماذا عليه أن يلتهم ليقمع رغبات جسده؟ وبماذا تنصحنا أن نأكل في فترة نقاهتنا
العاطفية ،وماذا نرتدي من ثياب معّلقة في خزانة الذكريات؟ وأّية أمكنة نزور للنسيان ..أو
متع ُنقاطع دون أخرى؟ ن نستمع؟ وأية ُنتحاشى المرور بها؟ وأي كتب نطالع؟ وليّ أغا ٍ
طارين وقارئات الفنجان ،على طريقة نـــــزار؟ شفائنا؟ أبالع ّ
جل في ِمن نستنجد كي ُنع ّ وب ِ َ
ّ
ميات من النساء؟ أم بالحلقين وبائعي ُ
حَرة ،على طريقة ال ّ
س َأم بالمشعوذين وال ّ
ممي الزياء ،كما تفعل الثرّيات من النساء؟ مص ّ المجوهرات و ُ
ولت المرأة ويشي بتغّيراتها النفسية ،وتقّلبات مزاجها شعر يسرد تح ّ ت قرأت أن ال ّ
وكن ُ
ب،
حــ ّ
صة ُ
صته ،هي أول ما ُتغّيرها المرأة عند نهاية ق ّ
شعر ولونه وق ّالعاطفي فتسريحة ال ّ
أو بداية علقة جديدة ،كما لُتعلن أنها أصبحت امرأة أخرى ،وأنها ،كما الزواحف ،غّيرت
جلدهـــا ،وخلعت ذاكرتها.
وإذا كان في هذا الكلم ،الذي يجزم به علماء النفس ،من صحة ،فإن أكثر النشرات
ل علينا العاطفية تقّلبًا ،تعود للمطربة اللبنانية مادونـــــا ،التي منذ عشر سنوات ،وهي تط ّ
أسبوعيًا ،بتسريحة أكثر غرابة من الولى ،حتى ما عدنا نعرف لها شكل ً ول لونًا ..ول قلبًا!
وفي المقابل ،أذكر أنني قرأت ،أثناء الحملة النتخابية لبوش البن ،ثناًء على زوجته،
بصفتها امرأة رصينة وذات مزاج ثابت ،حتى إنها لم تغّير تسريحتها منذ زواجها وعلينا أن
لولى ،عكس هيلري كلينتون ،التي بدأت مؤخرا ً تصول نستنتج أن السيدة الميركية ا ُ
وتجول عاطفيًا ،انتقاما ً مما ألحقه بها بيــل من أذى ،هي امرأة وفّية ،لم تعرف في حياتها
مـــه بـربــــــارة ،التي أعطته تربية تليق ُ
ي للقيم الميركية ،ول ّ
سوى ذلك المخلوق الوف ّ
برئيس قادم للوليات المتحدة ،فذهبت حتى تعليمه ،كيف يمضغ جيدا ً الكعك الذي يتسّلى
بتناوله أمام التلفزيون فرؤســــــاء أميركا مضطرون إلى التهــام الكعك ،أثناء متابعتهم
الخبــــــار ،بسبب الكتئــاب الذي يصيبهم من أخبارنا والتعاطي بشؤوننا ،حتى إن الكاتب
ن التصالت مع وزارة الخارجية أشبه جونثان ستيل ،ينقل عن الرئيس كينــدي قوله" ،إ ّ
ملل الجسدي مة علقة بين الكل وحالت التوّتـــر وال َْ نث ّدة!" ذلك أ ّخــ ّ
مـ َ
بالمجامعة مع َ
من يتداوى منها بالهجوم على البراد ،أو مة َن القطيعة العاطفية تصيب بالكتئاب ،فث ّ ول ّ
ب،
ُ ّحــ مــنِ فقدناه بما الزائــد، وزننا يشي ما ً اكثير ً ا أيض وهنا الثياب محال إلى باللجــوء
وتفيض خزانتنا بثياب اقتنيناها لحظة ألم عاطفي ،قصد تجميل مزاجنا ،عندما فرغت
مل لها ،بينما يهجم البعض الخر على الهاتفُ ،يحــــادث كرتنا من مواعيد ،ماعدنا نتج ّ مف ّ
الصديقات والصدقاء ،ويشغل نفسه عن صوت لن يأتي ،لشخص وحده يعنيه.
وللقـــارئات ال ْ ُ
مبتليات بالهاتف أقول ،إن الحمية العاطفية تبدأ بريجيم هاتفي ،وبالمتناع
عن الشكوى إلى الصديقات ،عمل ً بنصيحة أوسكار وايلد ،الذي كان يقول" :إ ّ
ن المرأة ل
ُتواسي امرأة أخرى ..إل ّ لتعرف أسرارها
جنرالي ...أحبك
مى معارض الكتاب التي تجتاح العواصم العربية ،بالتناوب ،في مثل هذابمناسبة ح ّ
كرت قول ميخائيل نعيمة: الموسم ،وما يرافقها من جدل حول أسباب أزمة الكتاب ،تذ ّ
"لكي يستطيع الكاتب أن يكتب والناشر أن ينشر ،فلبد من أمة تقرأ ولكي تكون لنا أمة
تقرأ لبد من حكام يقرأون".
وأذكر أنني قرأت أن كلينتون حمل معه 12كتابا ً للقراءة ،أثناء آخر إجازة رئاسية له ولن
ت وقتها في المر دعاية له ،أوالجازة الصيفية ل تتجاوز الخمسة عشر يومًا ،فقد وجد ُ
للكتب المنتقاة ،أو ربما حيلة زوجية تعفيه من الختلء طويل ً بهيلري والنشغال عنها
بذريعة "بريئة".
الجميل في المر اعتبار القراءة من طرف الحكام الغربيين ،جزءا ً من الصورة التي
يريدون تسويقها عن أنفسهم ،لعلمهم أن شعوبهم ترفض أن يحكمها ُأناس ل يتثقفون،
بذريعة انشغالهم بشؤون الدولة ..عن الكتاب.
وتاريخ فرنسا حافل بحكام كانوا عبر التاريخ شغوفين بالكتب ،مولعين بمجالسة المبدعين،
وبإنقاذ الرث الثقافي الفرنسي ،بصيانة المتاحف وتأسيس المكتبات أحد هؤلء جورج
بومبيدو ،الذي لم يمهله المرض ،ليقيم علقة متميزة مع كّتاب فرنسا ،ولكن ذلك الوقت
القصير ،الذي قضاه في السلطة ،لم يوظفه لثراء نفسه ول لثراء حاشيته وأقاربه ،وإنما
لثراء باريس بأكبر مركز ثقافي عرفته فرنسا وأوروبا ،وترك خلفه صرحا ً حضاريًا ،سيظل
يحمل اسمه ويشهد على مكانة الكتاب في قلب هذا الرجل.
أما فرنسوا ميتران ،فقد كان وفاؤه لصدقائه الك ُّتاب وفاًء خرافيًا ،لعلمه أن الصداقات
الحقيقية ،ل يمكن أن يبنيها الحاكم ،إل خارج السياسة ،حيث ل خصوم ول حلفاء ول أعداء
ول دسائس.
ولذا ،فأول من وقع تحت سطوة تلك الوسامة الداخلية ،التي صنعت أسطورته ،كانوا
الكتاب والمفكرين ،الذين ُأعجبوا بكبريائه السياسية ،التي لم تمنعه من أن يكون رغم ذلك
في متناولهم ،ويدعوهم بالتناوب إلى تناول فطور الصباح معه ،أو لقضاء نهاية السبوع
خارج باريس في صحبته ،للتناقش في شؤون الدب والفلسفة.
وكان ميتران مولعا ً بالكتب ،ما توافر لديه قليل من الوقت ،إل قضاه في المكتبات التي
كان يزداد تردده عليها ،كلما شعر بقرب رحيله ،ما جعل الكتب في آخر أيامه توجد حوله
موّزعة مع أدويته ،وكأنه كان يتزود بها ،ما استطاع ،لسفره الخير ،حتى إنه طلب أن ُيدفن
مع الكتب الثلثة المفضلة لديه ،كما كان الفراعنة يطلبون أن يدفنوا مع ذهبهم وكنوزهم.
أما شارل ديغول ،فقد اشتهر بخوفه على ك ُّتاب فرنسا ومفكريها ،بقدر خوفه على فرنسا
ذاتها ،حتى إنه رفض أن يرد على عنف سارتر واستفزازه له باعتقاله ،واجدا ً في عدوّ في
قامة سارتر ،عظمة له ولفرنسا ،معّلقا ً بجملة أصبحت شهيرة "نحن ل نسجن فولتير" ول
نعجب بعد هذا أن تجمعه بأندريه مالرو ،وزير ثقافته ،علقة تاريخية تليق بقامتيهما ،ول أن
مع معظم الكّتاب الذين عاصروه على محبته والولء له ،حتى إن جان كوكتو ،وهو أحد ُيج ِ
ألمع السماء الدبية ،اختار ديغول ليكتب إليه آخر سطرين في حياته ،قبل أن يرحل ،وكانا
بهذا اليجاز والحترام ،الموجعين في صدقهما "جنراليُ ..أحبك ..إنني مقبل على الموت".
ي
جوارب الشرف العرب ّ
طع الصحافة، جهت نظرك .ع ََبثا ً ُتقا ِ ي ،حيث أوليت صدرك ،أو و ّ ل مفّر لك من الخنجر العرب ّ
ل اللغات حتى ل ُتدمي قلبك.رض عن التلفزيون ونشرات الخبار بك ّ وُتع ِ
ُ
ستأتيك الهانة هذه المّرة من صحيفة عربية ،انفردت بسبق تخصيص ثلثي صفحتها الولى
دام وهو يغسل ملبسه. لصورة ص ّ
ُ ً
مـة صورا أخرى للقائد المخلوع بملبسه الداخلية ،نشرتها ن َثـ ّ
بعد ذلك ،ستكتشف أ ّ
ه ،ل يستحقّ مجاملة إنسانية واحدة ،اختفى 300ألف شخص ِ ْ رَ ك “لطاغية صحيفة إنجليزية
ل حكمه”. في ظ ّ
ك مع مهانًا” ،ت ُِهين َ ُ الكبر زعيمها ترى “كي للمقاومة ضربة بتوجيهها تباهي ُ التي الصحيفة
ي ،على الرغم من كونك ل تقاوم الحتلل الميركي للعراق إل ّ بقلمك.. ّ عرب 300مليون
وقريبا ً بقلبك ل غير ،ل لضعف إيمانك ،بل لنهم سيكونون قد أخرسوا لسانك .هؤلء،
ل سيارة مفخخة. جتك ونسف منطقك مع ك ّ بإسكات صوتك ،وأولئك بتفجير ح ّ
ّ
قدة أمام صورة القائد الصنم ،الذي استجاب الله لدعاء “شعبه” مع ّ تنتابك تلك المشاعر ال ْ ُ
وحفظه من دون أن يحفظ ماء وجهه .وها هو في السبعين من عمره ،وبعد جيلين من
معاِقين ،وبعد بضعة آلف من التماثيل والصور الجدارّية ،وكعكات مشّردين وال ْ ُ موَتى وال ْ ُ ال ْ َ
مرتديا ً جلبابا ً أبيض، الميلد الخرافّية ،والقصور ذات الحنفّيات الذهبّية ،يجلس في زنزانة ُ
مكا ً في غسل أسمال ماضيه و”جواربه القذرة”. منه ِ ُ
كرك بـ”كليب” نانسي عجرم ،في جلبابها الصعيدي ،وجلستها ي ،يكاد ُيذ ّ ّ حميم مشهد
العربّية تلك ،تغسل الثياب في إنــاء بين رجليهــا ،وهي تغني بفائض ُأنوثتها وغنجها
دام بجلبابه َ
مــك آه ..أسيبـــك” .ففي المشهدين شيء من صورة عروبتك .وص ّ “أخاص َ
مجّردا ً من سلطته ،وثياب غطرسته ،غدا ُيشبهكُ ،يشبه أَبــــاك، وملمحه العزلء تلكُ ،
ديـــا ً ه
َ َ ِمش إخراجه د
ُ ّمع ْ لا “الكليب” هذا ن
ّ أ لعلمك يزعجك، ما وهذا أخـــاك ..أو جنســك،
ي.
ك ،ليس من إخراج ناديـــن لبكــي ،بل العلم العسكري الميرك ّ بنّيــة إذلل َ
دفاع عن احترام طاغيــة الذي وُِلد برتبة قاتل ،ما كانت له سيرة إنسانية تمنحك حقّ ال ّ ال ّ
ث
ل مّرة ،تلوّ َ ّ َ ً
خصوصيته ،وشرح مظلمته .لكنه كثيرا ما أرَبكك بطلته العربّية تلك .لـــذا ،ك ّ
منحدرا ً من مجرى ضع النسانيُ ، مكَرها ً أشواطا ً في التوا ُ ت تراه يقطع ُ ك وأن َ شيٌء من َ
التاريخ ..إلى مجاريــه.
الذين لم يلتقطوا صورا ً لجرائمه ،يوم كان ،على مدى 35سنة ،يرتكبها في وضح النهار،
ماعية في مساحة وطن، ج َعلى مرأى من ضمير العاَلم ،محوّل ً أرض العراق إلى مقبرة َ
منهطلة على آلف المخلوقات ،لبادة الحشرات البشرية، وسماءه إلى غيوم كيماوية ُ
يجدون اليوم من الوقت ،ومن المكانات التكنولوجّية المتقدمة ،ما يتيح لهم التجسس عليه
صص عليه ومراقبته حتى عندما ُيغّيـر ملبسه الداخلية. في عقر زنزانته ،والتل ّ
َ َ
مر عن ترسانتها .العالم في إمكان كوريا أل ّ تخلع ثيابها النووية ،ويحق لسرائيل أن ُتش ّ
مفرحا ً ن الخبر بدا ُ دام .حتى إ ّ طي عـــورة صـــ ّ مشغول عنهما بآخر ورقة توت عربّية ُتغ ّ
عــــراة يتلصصون مفاجئا ً للبعض ،حــد ّ اقتراح أحد الصدقاء “كاريكاتيرا” يبدو فيه حكام ُ
ّ ً و ُ
دام وهو يرتدي قطعة ثيابه الداخلية .فقد غدا للطاغية حلفاؤه ّ ص على الزنزانة ثقب من
عندما أصبح إنسانا ً يرتدي ثيابه الداخلية ويغسل جواربه .بدا للبعض أنظف من أقرانه
طغاة المنهمكين في غسل سجلتهم وتبييض ماضيهم ..تصريحا ً بعد آخر ،في سباق ال ّ
ي. العري العرب ّ
ً خرت دومــا ً بكوني لم ُ
دام ،ول وطأت العراق ّ ص بمصافحة ا يوم يــدي وث ّ ألـــ َ أنا التي َفا َ ُ
ت عنه ذلك ت لو أنني أخذ ُ مّني ُ
مم ،ت َ َ ذمم وإذلل الهِ َ مديــح وسوق شراء ال ّ في مرابــد ال ْ َ
يشرف العرب ّ مكاِبـَرة تلك ،جوارب ال ّ ل ،وغسلت عنه ،بيدي ال ْ ُ النـــاء الطافح بالذ ّ
معُروض للفرجـــــة. ال ْ َ
أخذنا موعدا ً
ي نتعّرف عليه لّول مّرةفي ح ّ
جلسنا حول طاولة مستطيلة
لّول مّرة
ألقينا نظرة على قائمة الطباق
ونظرة على قائمة المشروبات
ودون أن ُنلقي نظرة على بعضنا
طلبنا بدل الشاي شيئا ً من النسيان
وكطبق أساسي كثيرا ً من الكذب.
اختلفنا بتطّرف
لُنثبت أننا لم نعد نسخة طبق الصل
عن بعضنا
لٍ عا ت
ٍ بصو تناقشنا
حتى ُنغطي على صمت قلبنا ّ
مس ودناه على الهَ ْ الذي ع ّ
نظرنا إلى ساعتنا كثيرا ً
ن ننظر إلى بعضنا بعض الشيء نسينا أ ْ
اعتذرنـــــا
لننا أخذنا من وقت بعضنا الكثير
عدنــا وجاملنا بعضنا البعض م ُ
ثـ ّ
ي للكذب. ّ إضاف بوقت
فليكـــن..
ب غائبا عن عشائنا الخير ً كان الح ّ
نــــاب عنــه الكـــذب
جل
ول إلى نــادل ُيلّبي طلباتنا على ع َ َ تح ّ
كي ُنغادر المكان بعطب أقل
في ذلك المساء
ب باردة مثل حسائنا كانت وجبة الح ّ
مالحة كمذاق دمعنا
محّرما ً
ُ ً ا مشروب والذكرى كانت
نرتشفه بين الحين والخر ..خطأ ً
ي
حزب "الخ ...ونص" الرجال ّ
ن في من لم يج ّسمان في إحدى المقابلت الصحافية تقول فيهَ “ : قــرأت قول ً لغادة ال ّ
ن صباح لم ّ ول عقل”· بل فهو الربعين بعد جنونه على بقي ومن قلب، العشرين فهو بل
ن نقصان العقل قد يمتد إلى ما بعد خطبت لعمر محيو ،فغادة لم تتوقع أ ّ تكن بعد قد ُ
السبعين·
في الواقـع ،هذه فكرة خاطئة من أساسها ،حسب صموئيل بيكيت ،الذي يرى أننا ُنولد
م ،ماذا على المرء أن يفعل بين العشرين ن بعضنا يبقى كذلك· ث ّ جميعنا مجانين ،غير أ ّ
والربعين؟ أيتخّلى عن قلبه أم عن عقله؟
شخصيًا ،أنا ضد استئصال العضاء والتخّلي عن بعضها حسب مراحل العمر ،وإل تح ّ
ولت
من ُأنثى إلى فصيلة من الزواحف التي ترمي جلدها وتواصل طريقها·
من يعدني ،في حال قبولي بإلغاء قلبي في الربعين ،بأل ّ يطالبوني بعد ذلك سؤال آخرَ :
ُ
بإلغاء أعضاء أخرى ل أريد الستغناء عنها؟
من َ لمقاومة الوحيدة الطريقة إنها أيامي· أحتـــاج أن أبقى ُأنثــى ومجنونة حتى آخر
يريدون تجريدي من هذا القلم أيضًا·
قى منه ،لدارة شؤون غير أني ،في الوقت نفسهُ ،أحاول إنقاذ بعض عقلي ،أو ما تب ّ
العائلة·· وشؤون هذا الجسد الكارثة ،الذي سيفلت مني إن أنا لم ُأواجهه “بالعقل··”
شح المصري الشهير· حسب المو ّ
قل· فإشاعة مــن حولــي ،إنني امرأة على وشك التع ّ َ ة
ً ئن
ِ مَ
ُ ْط م ً
ا، دائمــ أقــول لـــذا،
ّ ً
الجنون مصيبة بالنسبة إلى المرأة المّتهمة مسبقا بقلة العقل ،وبأنها “فتافيت رجل”،
خلقت أساسا ً من وليست فقط “فتافيت امرأة” ،كما تعتقد سعـاد الصباح ،مادامت قد ُ
ضلع الرجل·
ن إحدى السيدات قالت للممثل الفرنسي جــــان بــــول بلمونـــدو“ :إنني أتساءل وأذكر أ ّ
ّ
ماذا كنتم ستكسبون ،أنتم معشـر الرجــال ،لو لم يخلق الله المرأة” ،فأجابها “كنا
سنكسب ضلعا ً ُأخرى”·
دة مراحل ت بع ّم عدلت عن التفكير فيه بعدما مرر ُ شغلني هذا الموضوع بعض الوقت ،ث ّ
متناقضة ،اعتقدت في بدايتها أنني امرأة ذات عقل ،بل وبفائض عقل ،ووجدت في حزمة
شهاداتي الجامعية ،وكذلك في تصريحات نــوال السـعــداوي ،وسيمــون دو بوفــوار ،ما
لنثى ل ُتولد لنثى هي الصل” ،حسب رأي الولى ،ومادامت ا ُ ُيثبت لي ذلك ،مادامت “ا ُ
ُأنثى ،وإنما تصبح كذلك حسب رأي الثانية ،أي أنها ل ُتولد ناقصة ،ول بعورة ما ،ولكن
ورها” ما استطاع· المجتمع هو الذي يجعل منها كذلك و”ُيع ّ
وحتى ل أكون ناقصة ،قررت أن أكون “ُأنثى ونص” ،وهذا قبل أن تطلق نانسي عجــرم
ل( ،وترفع“آهتها·· ونص” ،فتكاد تثقب بذلك النصف سقف الوزون العربي )المثقوب أص ً
كم في “ترمومتر” الرجولة مقياس الحرارة إلى درجة كاد يتدفق معها الزئبق المتح ّ
العربية·
ن المرأة ،مذ أقنعوها بأنها “نصف الرجل” خلقوا عندها عقدة النصف الزائد ،الذي ذلك أ ّ
تقيس به ُأنوثتها وسلطتها وغنجها· وهي تصّر على هذا النصف أكثر من إصرارها على
الواحد· فهي إن تكّلمت قالت “كلمتها·· ونص” ،وإن رقصت رقصت على “الواحدة
ك الذى “صاعًا·· ونص”· فهل عجبا ً إن تأّوهت أن تطلع منها دت ل َ ··ونص” ،وإن آذيتها ر ّ
“اله” متبوعة بـ”نص” ،وإن جنت أن “تركب عقلها·· ونص”؟
ت دومــا ً ُأنثى بمزاج جزائري متطّرف ،فقد كنت من المنتسبات الوائل إلى ولنني كن ُ
ً
حزب “الوحدة ونص” النسائي ،تعويضا عن حزب الوحدة العربية الرجالي ،الذي لم يحقق
عشر شعاراته ،بل وانتهى به المر على ما يبدو إلى اتباع النهج النسائي، بعد نصف قرن ُ
مصّرا ً على “الحرية ونص” ،و”الصلح ونص” ،و”الديمقراطية ونص” ،بعدما تم ترقيص ُ
مـة “ع الواحدة ونص” ،فأصبحت النكبة “نكبة ونص” ،والهانــة “إهانــة ونص”، هذه ال ُ
ّ
والوقاحة “وقاحة ونص”·
وفي زمن فقدنا فيه ماء وجهنا ،ونصف مخزون المياه الجوفية للحياء العربي ،أقترح على
رجالنا أن يقتدوا بالنساء ويؤسسوا حزب “الخ·· ونص”·
حشرية أميركية
ُتشد ّ الرحال إلى أميركا ،لكن تأشيرتك لدخول "العالم الحر" ل تكفي لمنحك ص ّ
ك البراءة.
ط بك الطائرة معّلق بين السماء والرض أن تضمن حسن نواياك قبل أن تح ّ عليك وأنت ُ
دك المضيفة باستمارة خضراء عليها دزينة أسئلة لم يحدث أن في "معسكر الخير" .تم ّ
دد ،ومن ّ تر دون من "ل" أو بـ"نعم" عنها تجيب
ُ أن وعليك حياتك، طرحها عليك أحد في
ن الوقت اللزم لملء هذه ُ
دون الستغراق في الضحك أو البتسام .فقد كتب أسفلها" :إ ّ
الستمارة هو ) 6دقائق( ،يجب أن توّزع على النحو التالي ،دقيقتان من أجل قراءتها ،وأربع
دقائق من أجل الجوبة" .وربما كانوا استنتجوا ذلك بعد حسابات بوليسية في جلسة
شة المرء وذهوله أمام كل سؤال .فالدقائق الست ،هي ده َ
تحقيق ،لم تأخذ بعين العتبارَ ،
دد قد يجعله زائرا ً مشكوكا ً في د ،وأيّ إطالة أو تر ّ ما يلزم المسافر "غير المشبوه" للر ّ
من حوله عن كيفية ملء هذه سوابقه ،حتى إن قضى ضعف ذلك الوقت في استشارة َ
ل شاردة وواردة ،قد تكون مارك تسألك عن ك ّ ُ
ج َ الستمارة ،واستمارة بيضاء أخرى من ال َ
في حوزتك ،بما في ذلك الحلزين والطيور والفاكهة والمواد الزراعية والغذائية والثياب
ن كانت هدّية. يإ ْ ن كانت منسوجة باليد ،وكم ثمنها التقريب ّ والمصوغات ،وكنزات الصوف إ ْ
وهكذا ،ل يبقى أمامك إل ّ أن ُتجيب بسرعة:
ي؟ د؟ أو باختلل عقل ّ مع ٍ ت مصاب بمرض ُ -هل أن َ
ّ
درات؟ هل أنت سكير؟ -هل تتعاطى المخ ّ
حكم عليك بجنح أو جريمة تدينها الخلق العامة ،أو أنك خرقت ُ ال م توقيفك أو -هل ت ّ
القوانين في ميدان المواد الخاضعة للرقابة؟
م توقيفك أو الحكم عليك بالسجن مدة تتجاوز بين الخمس سنوات أو أكثر ،لجنحة -هل ت ّ
أو أكثر؟
-هل توّرطت في تهريب المواد المراقََبة؟
در الّله( تضمر القيام بأنشطة إجرامّية أو غير -هل تدخل الوليات المتحدة وأنت )ل ق ّ
أخلقّية؟
متوّرط في أنشطة تجسسية أو تخريبية أو إرهابية ً ُ
مدان حاليا و ُ سب َقَ أن أدنت أو أنك ُ -هل َ
أو ..إبادة البشرية؟ أو أنك بين عامي 1933و ) 1945ومن قبل حتى أن تخلق( ،أسهمت
بشكل من الشكال ،في تشريد الناس باسم ألمانيا النازية أو حلفائها؟
-هل تنوي البحث عن عمل في الوليات المتحدة الميركية؟
طردت من الوليات المتحدة؟ سَبق أن ُأبعدت أو ُ -هل َ
-هل حصلت أو حاولت أن تحصل على تصريح للدخول إلى الوليات المتحدة بتقديم
معلومات خاطئة؟
وة طفل ً يعود حقّ رعايته إلى شخص أميركي؟ أو حاولت ّ بالق أو خاطر بطيب -هل حجزت
منع هذا المواطن الميركي من القيام بإتمام واجب رعايته؟
قات القانونية مقابل تقديم "شهادة"؟ ح َ مل َ -هل سبق أن طلبت أن ُتعفى من ال ْ ُ
ي" الذي سيعترف بأنه مهبول، مصاب باختلل عقل ّ من هو هذا الزائر النزيه و"ال ْ ُ ول أدري َ
وُيجيب عن بعض هذه السئلة أو عن جميعها بـ"نعــم" ،بما في ذلك أنه ،على الرغم من
ذلك ،ينوي طلب القامة في أميركا والحصول على رخصة عمل فيها.
خمس ن هذه الستمارة وّزعت على الميركيين ل على السّياح ،لفرغت أميركا من ُ ولو أ ّ
ن آخر تقرير صادر عن وزارة الصحة في الوليات سكانها منذ السؤال الّول .ذلك أ ّ
ن نصف ّ وأ عقلية... اضطرابات يعاني خمسة أصل المتحدة يفيد أن أميركيا ً واحدا ً من
قون عناية .أما بقّية السئلة ،فكافية لطرد ثلثي سكان الوليات المتحدة المصابين ل يتل ّ
خارج أميركا .ليس فقط لتاريخهم الطاعن في الجرائم ضد النسانية منذ الهنود الحمر،
مرورا ً بفيتنام وحتى العراق ..و ما سيليها ،بل أيضا ً لنتشار كل الوبئة الجتماعية من
أمراض "معدية" وإدمان خمر ومخدرات واحتجاز المدنيين والطفال )..والشعوب!(
وتشريع العنف الجسدي وحق حمل السلح في ذلك البلد من دون بقية بلد العالم.
وإن كنت أعرف كل هذا ،فالذي اكتشفته من هذه الستمارة إّياها التي سبق أن ملتها يوم
ن أميركا لم زرت أميركا منذ خمس سنوات ،أي قبل أحداث 11سبتمبر )أيلول( ،هو أ ّ
ششوا فيها .في تفهم أن استمارتها هذه لم تفدها في شيء ،ولم تمنع الرهابيين من أن ُيع ّ
سسها على كل فرد بأيّ ذريعة .صديقة الواقع ،أميركا مريضة بتحقيقاتها وأسئلتها وتج ّ
مقيمة في أميركا ،حدثتها عن غرابة هذه الستمارة ،فروت لي كيف أنها أرادت مراجعة
منت عشرات السئلة الحميمّية دها باستمارة من خمس صفحات تض ّ طبيب نسائي ،فأم ّ
مربكة في غرابتها ،إلى حد ّ جعلها تعدل عن مراجعته بعدما لم تعد المسكينة تعرف كيف ال ْ ُ
ن وحدها السئلة تـرى .فمن ن الجوبة عمياء ،وأ ّ تجيب عنها .في أميركا ..أدركت معنى أ ّ
ما عرفت هي عني ..على الرغم من ّ م أكثر أميركا تلك السئلة الغريبة حقا ً عرفت عن
حشريتها.
وتنا الحق
وة ..ق ّ ح ّ
قهم الق ّ
جروا أنفاق لندن ،كانوا قَت ََلة بسمعة حسنة ،أنجبتهم عائلت إذن ..المجرمون الذين ف ّ
إسلمية "هادئـــة"" ،كانوا حسب أحد الصحافيين البريطانيين ،بريطانيين ،مثل وجبة
دوا هنا ،في مستشفيات الضمان الجتماعي ،وذهبوا إلى مدارس السمك والبطاطا .وُل ِ ُ
"ليدز" وتعّلموا "شكسبير" ،وأحدهم كان أستاذ مدرسة ابتدائية ،والثاني كان يدور المدينة
شَعابهابحثا ً عن آخر نكتة" .النكتة قرأناها بعد موته .فقد كان الرجل يدور المدينة دارسا ً ِ
جر ذات صباح دام ٍ مع رفاقه "المجاهدين" قاطراتها المكتظة وقت الذروة وأنفاقها لُيف ّ
دق ما حدث. ُ ّمص غير العالم فيه استيقظ للذهول، آخر صباح أعمالهم. القاصدين بالبرياء
إنه الموت مرة أخرى ،في وقته وفي غير وقته .وأّنـى وأين ل نتوّقعه .لكن له السم إّيــاه ُ
دامي ،الذي دا إذن للندن أيضا ً صباحها ال ّ دومًا :إّنه الموت السلمي الرهابي المتوحش .غ َ َ
ُ ُ
يؤهلها لدخول نادي مدريد ونيويورك للموت الصباحي الجامعي" .أمسيات ..أمسيات .كم
من مساء لصباح واحد" ،إنها "وحدة الصباحات" على الرغم من اختلف الماسي والمآسي
والمسار .فما كانت كل تلك المدن تضمر لنا العداء ،ول مّيزتنا بعضها عن أبنائها ،أو أهانتنا
ق لنا من صديق .في إمكان لندن في مطاراتها بتهمة ديننا أو هويتنا .لكن الرهاب لم ُيب ِ
التي ناهضت دون هوادة الحرب على العراق ،وخرجت أكثر من مّرة في أكبر مظاهرات
م العراقيين ،أن ددة بتوّرط حكومتها في د ّ من ّ
عرفها الغرب ،منذ انتهاء الحرب العالميةُ ،
حصي ضحاياها وقتلها .وفي إمكاننا أثناء ذلك ،أن ُنجري جردة لخسائرنا .فبالحزمة تُ ْ
من تعاطفوا َ قلوب إلى الموصلة الطرق كل فجرنا المزروعة، والمتفجرات خخة ال ْ ُ ّ
مف
ن هدر المستقبل ل يكفي ،ذهبنا حتى تفجير مجدنا الندلسي، معنا ..أو كانوا سيفعلون .وكأ ّ
المنسوف هباًء في قطار مدريد الصباحي .ل ذريعة للقتلة .ل علل ل أسباب ل شرف .وك ّ
ل
مسالمين من دون سبب ،هو شريكهم في القتل .أيّ مجد عـذرا ً لقتلهم البرياء ال ْ ُ من يجد ُ َ
قت ََلة المؤمنون التقياء ،الذين ألحقوا بالسلم أذى لم ُيلحقه به أعداؤه ،وما أهدونا إّياه؟ ال َ
شبهة إل ّ ألصقوها بنا .ثم كم يلزمنا من السنوات الضوئية ،ومن الجهد وّفروا إهانة أو ُ
ما ع َل ِقَ بها من دم ٍ ودمار تناوب إرهابيو العرب والمسلمين ّ م سمعتنا نغسل والمال ،لكي
قهم في جة ح ّ َ ُ
على صنعها مذبحة ومجرزة بعد أخرى .ووجد فيها قَت َلت َُنا ص ّ
ك براءتهم وح ّ
الستفراد بنا وإبادتنا في فلسطين والبوسنة والعراق والشيشان وأفغانستان ،بصفتنا
ُ
مباَرك، ل الشرور الكونّية .فقهاء الرهاب ومشايخ الجرام وأمراء الموت ال ْ ُ السبب في ك ّ
الذين يتوضأون بدم البرياء طمعا ً في جّنة موعودة ،كيف ل ُيخيفهم الوقوف بين يدي الّله
نقتل بيده وقطع الرؤس بسيفه ،وفتح دكاكين للفتوى كوكلء حصريين له .إ ّ دعوا ال َوقد ا ّ
على العرب والمسلمين أن يتظاهروا ضد الجرائم التي ُترتكب باسمهم ،ليكون لهم حق
التنديد بما ُيرتكب في حقهم من جرائم ،ما عاد العالم معنيا ً بها .ضاع حقنا باعتدائنا على
حق الخرين في الحياة ،ورخص دمنا لفرط استرخاصنا دم الخرين والتباهي بسفكه.
فمادمنا على هذا القدر من الحتقار للحياة النسانية ،علينا أل ّ نتوّقع من العاَلم أي احترام
دساتنا وأهان كرامتنا ،وأفتى بحجرنا في ضواحي لنسانيتنا ،ول لوم عليه إن هو دّنس مق ّ
مــة عربّية إسلمّية راقية يتشّرف بها ُ
التاريخ ..وحظيرة الحيوانات المسعورةُ .نريد أ ّ
مــة صغيرة قهم القوة قوتنا الحق" ،ذلك أن أ ُ مــة شعارها "ح ّ ُ
ّ ّ ّ ّ ّ السلم وُتباهي بها العروبة .أ ّ
وة كبيرة على باطل. على حق ..أقوى من ق ّ
حقيبتي ..مصيبتي
ن زمن الحمير قد وّلى ،وجاءنا زمن الطائرات ،والسفار عابرة القارات ،والمطارات ل ّ
التي تتقاطع فيها كل لحظة عشرات الرحلت ،وُتلقي فيها حاملت المتعة بآلف الحقائب
من جوف طائرة إلى جوف ُأخرى ،فقد غدا ضروريا ً استبدال ذلك القول الساخر" :إذا أراد
م يعثر عليه" ،بقول آخر" :إذا أراد الّله إسعاد مسافر الّله إسعاد فقير جعله ُيضيع حماره ث ّ
من ذهب مثلي يحضر معرض الكتاب في م يعثر عليها" .فوحده َ جعله ُيضيع حقيبته ث ّ
نابولي ،بما يليق بالمدينة من أناقة إيطالية ،وإذا به يقضي إقامته مهموما ً مغمومًا ،محروما ً
در حرقة اشتياق المرء إلى حقيبته ...اشتياقه إلى حبيبته. من حاجاته ولوازمه الخاصةُ ،يق ّ
إحدى الوصفات المثالية لضمان صاعقة فرحتك باستعادة حقيبتك المصون ،ذات الشرف
الرفيع ،التي جاءتك من كبار القوم ،وإذا بها مصيبة في شكل حقيبة ،ما رآها جمركي إل ّ
ص إل ّ وغّررته بك ،حقيبة تكيد لك ،خلتها غنيمة ،وإذا بها جريمة واستوقفك ،وما لمحها ل ّ
في حقّ أعصابك ،يمكنك اختبارها في مطار كمطار ميلنو ..دائم الحركة وقليل البركة،
ن اليطاليين الداخل إليه كما الخارج منه من ..متاع مفقود .فصيت سرقاته يسبقه ،حتى إ ّ
أنفسهم يبتسمون عندما تشكو إليهم ضياع أمتعتك فيه ،ويواسونك بأخبار من ُفجع قبلك
مال المطار، في حقيبته ،وعجز الشرطة نفسها عن تفكيك شبكات سرقة المتعة وسط ع ّ
جب اليطاليون من على الرغم من عيون الكاميرات المزروعة لمراقبتهم ،تماما ً كما ي ُعْ َ
عجبك أل ّ تصل طائرتهم على الوقت ،أو تلغي "أليطاليا" رحلة من دون سابق إبلغ .فهي
لها من صفاتهم نصيب ،وهي ذائعة الصيت في احترام مواعيدها ..لكن بفرق أربع وعشرين
ساعة عن رحلتها ،وبإيصالها أمتعتك ،لكن وأنت تغادر المطار عائدا ً من حيث جئت.
وستنسى من فرحتك أن ُتطالب حتى بحقوقك المشروعة والمدفوعة مسبقًا ،حسب
فلت مؤسساتها ضمانات بطاقتك المصرفية ،لو لم تكن ضيفا ً على مدينة نابولي التي تك ّ
الثقافية بدفع تذكرتك ،واختيار مسارك وشركة طيرانك .وعلى الرغم من ذلك ،ستحمد
ن الطائرة المروحية الصغيرة ذات الّله كثيرًا ،وتفتح مجلسا ً لتقّبل التهاني بسلمتك ،ل ّ
المحّركين كثيري الضجيج ،لم تقع بك وأنت قادم من ميلنو إلى نابولي ،ربما لنك قرأت
مان، يومها كل ما حفظت من قرآن ،وهو ما فعله أيضا ً إبراهيم نصرالّله ،الذي جاء من ع ّ
واستنفد ذخيرته من اليمان على طائرة مروحّية ُأخرى .وبينما افتتح هو محاضرته
بالتضامن مع الصحافية اليطالية ،المفقودة آنذاك في العراق ،أضفت إلى ُأمنيته ،تعاطفي
من تفّهم فاجعتي وعذر ل الذين فقدوا أمتعتهم في مطار ميلنو .ووجدت بين الحضور َ مع ك ّ
هيأتي وواساني بالتصفيق .ولو كنت أعرف خاتمتي ،حسب أغنية عبدالحليم ،لتضامنت
مسبقا ً مع عشرات الركاب مثل حالتي ،الذين كانت ميلنو مطار ترانزيت نحو وجهات
ُأخرى يقصدونها ،لكن انتهى بهم المر مثلي بعد أسبوع ،تائهين في مطار نيس ،بعد أن
فقدوا رحلتهم على متن شركة الطيران إّياها ،لسباب "تقنّية" مفهومة .ولم ُيطلب منهم
سوى العودة في الغد على الساعة نفسها .وعلى الرغم من ذلك ،ستنسى مصابك وعذابك
ل شيء ،وتهون ظفته وأغلقته وأفرغت بّراده من ك ّ ذات يوم أحد ،وأنت عائد إلى بيت ن ّ
ُ
عليك المئتا يورو ،التي ستدفعها ذهابا ً وعودة في الغد ،كلفة سيارة الجرة من مطار نيس
إلى كان ..والعكس ،وستهاتف العائلة في بيروت لتنقل إليهم ُبشرى عثورك على حقيبتك،
وُبشرى إلغاء رحلتك .فقد كان يمكن أن تخسر حياتك أثناء عودتك فرحا ً باستعادة حقيبتك.
صة صديقتي الغالية أسماء غانم الصديق ،التي اعتادت أن ُتسَرق منها ت نفسي بق ّ واسي ُ
ت لي كيف ت مكاسبها سقط متاعَ .روَ ْ جهودها التطوعّية ومبادراتها النسانية ،حتى غ َد َ ْ
سرقت حقيبتها الفاخرة منذ سنتين ،أثناء سفرها إلى أميركا لحضور مناسبة تخّرج ابنها، ُ
مر من احتجاجها المسؤولون ،وصاحوا بها: وكانت مليئة بأغلى الثياب وأرقاها .وعندما تذ ّ
"كيف تقولين إننا سرقنا حقيبتك؟" .أجابتهم بشجاعتها الماراتيةَ" :أوَلم تسرقوا العراق؟".
مازلت أسمعها تقول" :ضاعت الوطان ..فليأخذوا الحقيبة!".
جلها ممدود ..وراحت تعزي في محمود "خ ّ
لت را ِ
أكتــب إليكــم هذا المقال على الصوت المدّوي للموّلــد الكهربائي .فلبنان "المن ّ
ور"،
ور" بغير الكهرباء دائمة النقطاع ،التي وق ،هو في الواقع "من ّ
حسب شعار شهر التس ّ
نعيش على تقنينها حسب مزاج شركة الكهرباء التي قصفها السرائيليون ،حتى بتنا نسعد
ن علينا ببضع ساعات إضاءة في اليوم. بسخائها عندما تم ّ
وبرغم انزعاجي لمتداد هذا النقطاع ،أحيانا ً طوال الليل .وهو الوقت الوحيد الذي أكتب
فيه ،فقد وجدت في المر نعمة إعفائي من مطاردة نشرات الخبار ليل نهار ،خشية أن
تقوم الحرب في غفلة مّني.
ن ما طمأنني ،هو وجود السّياح الخليجيين باللف في بيــروت ،بمناسبة شهر غيــر أ ّ
وق ،أو بذريعته ،حتى ضاقت بهم الفنادق ،وفاضت بهم إلى الجبال والشواطئ التس ّ
المجاورة .والحقيقة ،أنهم أنــاروا بمباهجهم الشرائية القتصاد اللبناني ،وأدخلوا إلى جيوبه
بصيص أمــل "أخضر".
ولنني شاهدت على قناة "الورونيوز" الجنود الميركيين ،وهم مستلقون في أزيــاء البحر،
كرت قول ديغــــول" :أضع خططي مام شمس في المسابح الخاصة بهم ،فقد تذ ّ يأخذون ح ّ
كر ملئكة من أحلم جنودي النائمين" .واستبشرت خيرا ً بأحلمهم .فبماذا يمكن أن يف ّ
الخير ،عندما يأخذون قيلولــة في الوقت الضائع بين حربين؟
كل شيء ينذر باقتراب هذه الحرب التي تهجم علينا رائحتها من ك ّ
ل شيء نقربه .لكن ما
ل في المكان الذي ل نتوّقعه.
يطمئننا هو وجود أطرافها ،ك ّ
وهو ما يذ ّ
كرني بعبارة خبيثـــة قالها جــان مـــارك روبيــر ،في حديث عن الخيانة
ّ
الزوجية" :ل أحد في مكانه بالضبط ..الحمد لله ..النصاف الدقيق ل ُيطـــاق".
مة سماوّية لتطهير فالميركيون الذين تركوا فردوسهم وجاءونا طوعـــا ً وُنبــ ً
ل ،في مه ّ
العالم من أشراره ،لوجـــه الّلــــه ،أذكى من أن ينزلـوا إلى الشوارع ليحاربونا بجيوشهم..
من يلهو بلعبةفة ضمير َ
ستُنـوب عنهم القنابل الذكية ،والمعارك التي ُتــــدار بحماسة وخ ّ
إلكترونية.
ب الوطن
حـ ّ
درس إماراتي في ُ
مع ُ
لم أزر المـــارات سـوى مرتين ،تفصل بينهما خمس سنوات· الولى بدعوة من “المج ّ
الثقافي” ،والثانية للسهام في جمع التبّرعات دعمــا ً للفلسطينيين ،بدعــوة من تلفزيون
أبوظبــي·
دد على المــارات الدعــوات التي تأتيني بين الحين والخر ،من جهة أو لم تغرني بالتر ّ
مغريــة لشركات الطيران ،كـي تجعل من دبــي الوجهــة السياحّيـة ُأخرى ،ول الُعروض ال ُْ
ب بلــدا ً كما لو أّنه وطني ،أخجـل أن أزوره بذريعة تجارية في ُ العربّيـة ا ُ
لولـى· فعندما أحــ ّ
ن كان على ُبعــد ساعتين بالسيارة ،كما هي الحــال وق والتنزيلت ،حتى وإ ْ مواسم التس ّ
ً
مع الشـــام ،التي يقصدها اللبنانيون يوميا بالمئات ،لشراء القطنيات والمؤونات الغذائية،
لولى منذ 5سنوات ،إذ كان لي لقاء مع ولم أزرها خلل عشر سنوات سوى مرتين ،ا ُ
القّراء في فندق فخـم في الشــام ،في إطــار عمل خيريّ برعايـة “ sosقرى الطفال”،
ِبيعــت فيه البطاقة بثمانية دولرات ،وحضره 1400شخص ،والثانية كانت منذ ثلثة أشهر
بدعوة من السيدة ُبشـــرى السـد ،والصديقة الدكتورة ُبثينـــة شـعبان·
مبــدع وأّيــة جـهـة ن المسافة الجغرافية ،أو المهنية ،مهما قربــت بين ال ْ ُ ذلك أنني أعتقد أ ّ
ُ
ن كانت وطنه الصلي ،عليها أل ّ ُتلغي المسافة الخرى الضرورية لحماية ُ
أخـرى ،حتى وإ ْ
ي وغير ولــه إلى كائــن غير مرئ ّ قق إل ّ بتح ّ ماِليــة حضـوره ،وهو ما ل يتح ّ ج َ
هيبة اسمه و َ
متوافـــر· ُ
حمولتيهما البشرّيــة في مطـار الشــام ُ لسبوع ُ ا في مرتين تفرغان ُ جزائريتان طائرتان
ومطــار دبــي ،لنعدام التأشيرة بين الجزائر وسوريــا ،ولسهولتها بالنسبة إلى دبــي ،مــا
مـة ســوق شنطة” ،حتى أصبح ثـ ّ جــار ال ّ ب من “ت ّ ب ود ّمــن هــ ّجعل البلدين في متناول َ
ُ
بكاملها ،تحمل في العاصمة اسم “ســـوق دبــــي” ،وأخــــرى تحمل اسم “ســوق
الشـــام”·
ضـع ،بحجــة ُ
مــن حاولــوا إغرائــي بزيــارة الشــام للتب ّ وحــدي ،منـذ سـنــوات ،أقـــاوم َ
رخص موادها الستهلكية ،تماما ً كما إكرامــا ً لوجدانـي القومـي ،رفضت أن تتساوى دبــي
والمــارات في ذهني بالصين وهونغ كونغ·· وكوريـــا ،والبلد الذي يحلم البعض بزيارته
ن
ّ أ ذلك مضافــة على اللت اللكترونية· للستفادة من سوقـــه الحـــّرة وغيــاب القيمة ال ْ ُ
مضافـة ،تفوق ثمن البضائع المعروضة ذاتها ،وحـدي أعرف للُعروبـــة في قلبي قيمة ُ
ن لمْ وإ عبــدالقــــادر، الميـر عنفـوان تكويني جينـات في أحمـل نسبتها· فأنـا مازلــت
ن لم أدخل المـــارات خــل الشــام فاتحـــة ،فأنــا لن أدخلها تاجـــرة صغيرة ،وإ ْ أد ُ
أميـــرة للكلمــة ،فأنــا لـن أزورها جاريــة في سـوق العــولمـــة·
مفاخــر فقبـل أن أسمع بسوق الحميديــة في سوريــا ،تعّلمـت في مدارس الجزائر ال ْ َ
شنطــة” ،كانت نسـاؤنـــا جــار ال ّلموّيــة ،وقبل أن ُينجــب البـــؤس العربــي سللــة “ت ّ ا ُ
قد أنجبــن الفرســان والخّيـالــة ،وُأمــراء جــــاءوا على صهــوة الُعروبــة ُينازلــون
التاريــخ·
لـــذا ،مثلهــم ،ما زرت المـــارات يومــا ً لخــذ منها ما هو أرخص ،وإّنـمــا مــا هــــو
أغـلــــى وأنـــــدر·
ضـعُ شيئا ً من ّ أتب فارغــة، وحقائب مليء بقلب المــارات أدخل ي،
ّ العربـ في زمــن الذ ّ
ل
قــطُ سـ َالمــل ،شيئا ً من الكرامــة ،وبعض العنفوان· ما يريده الخــرون منها هو َ
ي النــادر·وق شيئا ً من الزهــو العرب ّ عــي· أنا جئتها أتس ّ مَتــا ِ َ
َ
فالمــارات هي البلد العربي الذي ُتفاخــُر بعروبتك عندما تزوره ،وتأتمنــه على حياتك
مفلسا ً أو في مـا قصدته ،بينما قد ل تغادر غيره إل ّ ُ عندما تسكنه ،وُتغادره غالبا ً أثــرى م ّ
صندوق· وفيها ل تخشى أن ُتشهر رأيك ،فل يقبـع في سجونها سجين سياسي واحــد· وهذا
وحده ظاهرة عربّية نــادرة·
مــر ُ
وأنــا أزور دبــي للمــّرة الولــى ،تجـاوزت إعجابـي بها إلى الغيـرة عليها من قــدر ُيد ّ
ققته هذه مـا ح ّ م إلى الغيــرة مـ ّ ل ما هو جميــل هذه اليـام في العالـم العربـي ،ثــ ّ كــ ّ
ب أبنائها لهـا· حــ ّ
المـــارة الصغيــرة من إنجـــازات تتجــاوز مساحتها إلى شساعـة ُ
ت نســاًء ثـرّيــات، ت قصــورًا ،وجالس ُ في دبــي ،كما في أبوظبـــي والشـارقــة ،دخل ُ
ن كان ُيضاهيه ثـــراًء· فأنـــا، لكنني ما غــــرت سوى من وطن ل ُيشبه وطني ،وإ ْ
كصديقتـي الغاليــة جميـلـــة ُبـوحيـــــرد“ ،ل أغـــار من الشخاص بـل من الوطـــــان”·
حضـرنــي كثيـــرا ً قــــول ُأستــاذي جـــــاك بيـــــرك ،في إحـدى محاضـراتــه في
متخّلفــة ،بــل بلد َتخّلـف أبناؤهــا عن “السوربـــون” في الثمانينات“ :ل وجــود لبـلد ُ
عروبتنــا· حـّبـهـا”· لقد أدرك ،وهو شيخ المستشرقين ،عّلــة ُ ُ
ضـع·· خـــذوا في ّ للتب ســوق أو للعمل، كســوق المـــارات تقصــدون مــن
َ فيــا
ب الوطـــــــن حـــ ّ
جانــي :درس ُ طريقكـم مــن أبنائهــا ذلك الدرس الم ّ
غادرت بيروت إلى فرنسا ،ذات سبت في الول من أيار• وكان آخُر ما شهدته مساًء ،وأنا
منهمكة في إعداد حقيبتي ،برنامجا ً تعثرت يدي بزر فضائيته ،فعلقت عن فضول وذهول
بين فكيه ،مأخوذة بصفة ضيوفه ،واختيارهم تلك القناة “الحرة” من دون سواها ،لعرض
مظالم السجناء العرب في المعتقلت العربية ،والتنديد بتاريخ انتهاك حقوق السير في
أوطان ل تعترف حتى بحقوقه الطبيعية ،كما جاء على لسان ذلك الكاتب الصديق ،الذي
قضى في الماضي 16سنة من عمره في أحد السجون العربية ،بتهمة الشيوعية وما عاد
يرى حرجا ً اليوم ،وقد وّلى “زمن العنفوان” ،أن يجلس في أناقة تليق بمنبر أميريكي،
ليفتح قلبه بشكاوى ،ما كان يخص بها في الماضي سوى قراء جريدة “التحاد الشتراكي”،
يشفع له وجوده بين ضيفين ،يترأس أحدهما جمعية حقوق النسان في سجون مصر،
ويمثل الثاني جمعية حقوق النسان لدى السجناء في لبنان•
ب هو الذي تعثر عليه أثناء بحثك عن شيء آخر ،فإن أطرف برنامج تعثر وإذا كان أجمل ح ّ
ُ
عليه حتمًا ،أثناء بعثك عن قناة أخرى ،بعدما تكون قد تهت “فضائيا” ،وحطت بك
ً
المصادفة عند “قناة الحقيقة” ،وهو على ما يبدو السم الحركي لقناة “الحرة” ،وقبل أن
تتردد وتهاجر إلى “جزيرة” ُأخرى ،يطمئنك شعارها “انتقاء ذكي” إلى ذكائك ،ويهنئك
بحرارة ويشد على يدك ،لنك لست من الغباء لتعادي “الحرية” ومشتقاتها ،وتنحاز كمليين
المشاهدين العرب إلى قنوات معسكر الشر• وبدل أن تنضم إلى أنصار صراع الديكة
ونتف الريش ،في برامج الصياح العلمي العربي المتخلف ،تجلس كأي أميركي متحضر
لتتابع بهدوء ورهبة “جدل ً حّرًا” تقدمه إعلمية لبنانية بكل ما أوتيت من لباقة وأناقة ونوايا
إنسانية حسنة•• عن “الرفق بالنسان” )أي والله( وهو عنوان الحلقة المخصصة
در بعد اليوم، لمظالمك كإنسان عربي ،وفيه إشارة واضحة تطمئنك إلى أن حقوقك لن ُته َ
لن أميركا رفعتك أخيرا ً إلى مقام حيواناتها وقّررت أن ترفق بك•
ول تدري ،أيجب أن تحزن أم تفرح ،لن “ماما أميركا” قد تدللك بعد الن ،كما تدلل
قططها وكلبها ،وتغدق عليك بقدر ما تغدق عليها• وقد تذهب حد ّ إنشاء نواد ٍ خاصة تهتم
برشاقتك وإذابة شحومك العربية ،واصطحابك إلى مطاعم ل ترتادها غير الكلب المدللة
صنع خصيصا ً لعادة للحتفال بأعياد ميلدها ،وستطعمك في مواسم الحّر “آيس كريم” ُ
در الله بعد عمر طويل ،لن تلق ّ البهجة لكلب ،لفرط تخمتها ما عاد يسيل لعابها ،وإن م ّ
ً
تنتهي جثتك في كيس من البلستيك ،بل سترتاح في مقبرة جميلة ،تذهب إليها مكّرما ،في
تابوت من الخشب الثمين المغّلف من الداخل بالساتان•
وهكذا ،سافرت إلى فرنسا مطمئنة إلى مصير العراقيين الذين وجدوا أنفسهم مدعوين
إلى وليمة الديمقراطية ومباهج الحرية ،من دون أن يستشيرهم أحد في ذلك•
ت تريد أن تعاملك أميركا كما تعامل كلبها ليس أكثر• فلماذا تحتج وأنت ترى جندية كن َ
تسحب عراقيا ً عاريا ً بمقوده ،كما لو كانت تجر كلبًا؟
ولماذا تبكي ،وتلك الرجولة العربية معروضة للفرجة ،عارية إل ّ من ذعرها ،مكّبلة اليدين
ي؟
والكبرياء ،ترتعد تحت ترويع كلب مدّربة على كره رائحة العرب ّ
تلك الرجولة المهانة،الذليلة ،المستجدية الرحمة ،وقليل ً من الكرامة النسانية ممن جاءوا
ن ،ولماذا ،وحتى متى، م ْ
بذريعة إحلل حقوق النسان ،بأيّ حق وبأيّ شريعة ،وباسم َ
سيستهان بحقها في الحياة في وطنها بكرامة ،والعيش من ثروات هي ثروات أرضها؟
كانت نكتة غير موفقة في توقيتها ،أن تخصص قناة “الحّرة” حلقة لعرض انتهاكات حقوق
النسان في السجون العربية قبل يومين من انفجار فضيحة تكنولوجيا التعذيب النفسي
والجسدي ،الذي يقوم به جيش بوش لختبار تقنياته تباعا ً علينا ،كي يجعل منا تلميذ نجباء
في مدرسة “العالم الحّر”•
لدك؟ عندما تكون الديمقراطية هبة الحتلل•• كيف لك أن تتعلم الحرية من ج ّ
هاتفتني العزيزة لطيفة ،بعد قراءتها مقالي عن عطاف شاهين ،ابنة القـــدس ،التي َبـــد َ َ
ل
شاق" ،واختارت أكثر العمليات انخراطها في "كتائب القصى" ،انخرطت في "كتائب الع ّ
الفدائية صعوبة ،بعد أن عاهدت خطيبها محمود الصفدي ،السير في سجن عسقلن ،على
لسر، انتظاره حتى آخر يوم من العوام السبعة والعشرين ،المحكوم عليه بقضائها في ا َ
التي انقضى منها حتى الن ،خمس عشرة سنة كاملة ،بأشهرها وأسابيعها وأيامها ولياليها•
ن كان من غّنى "يا حبيبي ما ترحش بعيد"" :معك حــق•• إ ْ وقالت لطيفة ،وكأنها ليست َ
ي ويسوُقونا إلى ّ العاطف بؤسنا ُ ليأخذوا جان،ّ وس سجن وإلى الوفاء يحتاج إلى مسافة،
ب الكبيــــر!"• َ
سجن عسقلن•• عسانا في السر نعثر على الحــ ّ
من مّنا لم يحسد عطاف على بطولة عاطفّية كهذه ،في زمن ل ينقصه البطال ول َ
"السوبر ستار" ،وإنها فقط "قضّية عشقّية" تمنحنا فرصة النضال من أجلها ،وإثبات أننا
ب بقصصه المبهرة العظيمة ،التي ليست وق في دور البطولة ،عندما يختبرنا الح ّ جميعنا نتف ّ
صنع المشاهير والعظماء؟ دوما ً من ُ
ذى إل ّ بها ،ول شاقه ،وإنما بفجائعهــم ومآســيهم ،حتى لكأنه ل يتغ ّ ب ل يكبر بألقاب ع ّ فالح ّ
يدين بوجوده لسواها•
ل" :النهاية السعيدة!"؟ من سأله" :ما الذي يقتل الحب؟" قائ ً َ بونابارت ألــم ُيجــب نابليون
لــــذا ،عندما يغدر الموت بأحد العاشقين ،ويسرقه من الثاني ،تصبح فاجعة الفقدان
البديّ "فرصة ذهبّية" للعاشق الذي بقي على قيد الحياة ،كي ُينازل الموت عشقًا ،ذاهبا ً
ب ل غير• مستندا ً إلى منطق الح ّ معه في تحد ّ يتجاوز أحيانا ً المنطقُ ،
ً
وهكذا ،في نيس ،في جنوب فرنسا ،احتفلت مؤخرا عاشقة في الخامسة والثلثين من
عمرها ،بزواجها بحبيبها المتوّفى منذ سنتين• ولم يكن من السهل تحقيق مطلبها الغريب•
محام للدفاع عن ُأمنيتها ،والكتابة إلى الرئيس جاك فلقد اضط ُّرت قبل ذلك إلى تكليف ُ
ي يسمح لها بإقامة مراسم الزواج في البلدّية ،وإجراء جميع شيراك ،لصدار قرار رئاس ّ
المعاملت القانونية ،التي كانت قد شرعت في التحضير لها ،قبل أن يقتل أحد اللصوص
ي ،قبل أشهر من عقد الزواج• حبيبها الشرط ّ
وإن كانت "العروس الرملة" قد أعلنت سعادتها بوفائها بالعهد ،الذي قطعته لحبيبها،
مة امرأة ُأخرى جاءت قبلها بأربعة قرون، وافتخارها بأنها صارت تحمل اسم حبيبها ،فث ّ
ن الوفاء ل يقتضي أن تكتفي الزوجة بحمل اسم زوجها الفقيد•• بل بحمل رأسه وجدت أ ّ
أيضًا•
صة "الليدي رالي" ،التي طلبت أن ُتعطــى رأس زوجها بعد أن أمر الملك ويروي التاريخ ق ّ
محّنطا ً حيث ذهبت ،ودام ُ تحمله فكانت إسبانيا، لملك موالته
ُ بتهمة بقطعه، جيمس الّول
ً
ل هو أيضا محتفظا برأس والده ،حتى وافته ً ذلك 29سنة• وقد سار ابنها على نهجها ،وظ ّ
دفن معه• المنّية ف ُ
من فقدناهم• يكفي أن نواصل الحياة لكن الوفاء ل يحتاج إلى حملنا ،حيثما ذهبنا ،جثمان َ
وكأنهم مازالوا موجودين فيها ،محافظين على عاداتنا الصغيرة معهم• ولقد صدر مؤخرا ً
م أجمل ما كتبته زوجة لزوجها يوميًا ،على مدى ُ
ب" ،ض ّ في فرنسا كتاب بعنوان "أغنية حــ ّ
سنوات بعد موته• وما الزوج سوى أنطوان دي سانت اكزوبيري ،أحد أشهر الكّتاب
من عبروا حكم عمله ،كطيار تجاري وواحد من أوائل َ الفرنسيين في الربعينات ،الذي ب ُ
المحيطات بأكياس البريد ليصلوا القارات ببعضها ،كان يتوّقع الموت في أّية رحلة ،وهو
ل يوم رسالة قصيرة، يقود طائرته البدائية تلك• لـــذا طلب من زوجته أن تكتب له ك ّ
وتحتفظ بها إلى حين عودته ،وهذا ما ظّلت تفعله الزوجة العاشقة إلى ما بعد موته
بسنوات ،حتى ذلك اليوم الذي توّقـف القلم بين أناملها•• وماتت الكلمات•
ن قلت" :ل شيء على الطلق أجمل من ل أظنكــــم ستختلفون معي في الرأي إ ْ
هــم ن قلت" :أيـــن ُ ي قطعناه"• ول أظنني سأبـــوح بغير حسرتكن إ ْ الوفــــاء بعهد عشق ّ
الرجــال الذيــن يستحقــون مّنا بطـــولت الوفـــاء؟"•
دّلــونــــي علــى أحــدهــــم•• أيـّتـهــــا النساء!
دموع لطيفة
ل شيء كان يشي بالحزن ،في ذلك اليوم الذي بدأ جمي ً
ل ،وأنا ألتقي المطربة لطيفة ،لّول
مطاردة هاتفّية
ُ إثر ي،
ّ عل القبض مّرة ،في فندق فخم في بيروت ،بعد أن نجحت في إلقاء
دة أشهر ،أصدقاء مشتركين لنا ،بعد أن أصّرت على أن وعاطفّية ،جّندت لها لطيفة لع ّ
من يقرأ روايتي “عابر سرير”. تكون أّول َ
لطيفــة ،ما كانت تشبه تلك “النجمة” التي اعتادت أن تعُبر شاشتي في مقابلة ،أو في
عروبّية ،متواضعة ،لم تغّيرها الشهرة ول الضواءُ ،تفاخــر كليب .اكتشفتها .إنسانة تلقائية ُ
لمّية ،ذات المظهر البسيط ،ل بالمشي في أكبر الفنادق بجوار والدتها ،السّيدة الطّيبة ا ُ
ددة أنها تفاخر بهذه ا ُ
لم، تتوقف عن احتضانها وتقبيلها مرارا ً أمام النظرات الفضولّيةُ ،
مر ّ
التي أنجبت ورّبت ثمانية أولد .وكانت لطيفة تركض بين “البوفيه” وطاولة السفرة،
لغرائها بتناول شيء من الكل ،أو من الحلويات ،تساعدها على الوقوف ،ترافقها إلى
ف ترك في قلبي أجمل الثر ،لنه ل ُيشبه ما أراه الباب ،ترّتب الشال على شعرها .تصّر ٌ
في بيروت ،من فتيات شهيرات )أو نكرات( أودى بإنسانيتهن فيروس التشاوف ،المتف ّ
شي
هذه اليام.
دد موعد لقائنا ،غير أنها تركتني مذهولة ،وهي تقول
ّ لنح ء،
ً مسا ذلك قبل هاتفتها ت قدوكن ُ
إنها سُتهاتفني حال انتهائها من أداء صلة العشاء.
دث ُ ُ طي مشغو ً تخ ّ حين طلبتني بعد ذلك مطوّ ً
ل ،صاحت وأنا أخبرها ،أنني كنت أح ّ ل ،ووجد ْ
ُ
لعايدها“ :أرجــوك يا أحــلم ،أريـد أن أراها ..أنا جاهزة لذهب إلى الغالية جميلة بوحيردُ ،
ك ،حين تسافرين إلى الجزائر” .قلت وأنا عديني أن تصطحبيني مع ِ الجزائر ،فقط ُ
لقّبلهاِ ..
ن الوضاع الجزائرية حاليا ً تعبانة ،والناس بين منكوبي زلزال أو أستبعد المشروع“ :إ ّ
دت وقد عثرت على قضّية جديدة“ :في إمكاني تقديم فيضان ،أو ضحايا فقر أو إرهاب” .ر ّ
حفل كبير لمصلحة أي مشروع خيري تنصحينني به” .أجبتها “أيتها المجنونة ،لقد صنع كثير
من المطربين والمطربات ثرواتهم ،بإقامة الحفلت في الجزائر ،في صفقات “البزنس
بك؟ نحن لسنا فقراء ،نحن شع ٌ ت ُتريدين الغناء مجانا ً لدولة أثرى من ِ النضالي” ،وأن ِ
قر”.
مف ّ
ُ
وهكذا انقلب مسار حديثنا من اعترفات نسائية ،كنا نتبادلها ضاحكتين ،إلى الحديث عن
ي أن
فل بها لطيفة في أوساط المغتربين في فرنسا ،عارضة عل ّ مشروعات خيرّية ،تتك ّ
ُأسهم فيها إن استطعت ذلك.
م تعود لتسألني مذعـــورة“ :آش نعمل؟ قولي لي ..عندي غـدوة احتفال لتسّلم أوسكار ث ّ
أحسن مغنية لهذا العام ،وعندي الثنين حفل في أبوظبي ،بمناسبة عيد المارات ،كيفاش
نغني؟ أنا لزم نمشي غدوة لمصر نهّز هاذ المغبونة ،نروح ندفنها في تونس ،يتيمة ذكرى
ما عندها حتى حد ّ إل ّ أنا”.
ن “لكل امرئ من اسمه لم أستطع تقديم أّيـة نصيحة إلى لطيفة .تركتها وأنا ُأف ّ
كـر في أ ّ
نصيب” .فهل كان أهل ذكــــرى ،يختارون قدرها ،وهم يختارون لها اسمًا؟
مــّر عيد ميلد نــزار قّباني منذ أيام ،وما كنت لتنّبه له .فما كان هناك وقت لمثل هذه
الذكرى ،لول أن القنوات التلفزيونية ،التي كنت ُأتابعها من باريس ،كانت منذ بدء القصف
ة بتاريخ اليوم.
مرفق ً
الميركي على العراق ،تعرض على شاشاتها صــور الحربُ ،
كنا ذات 21آذار ،اليوم الثاني في حرب أفقدتنا بوصلة الزمن ،حتى إن أولدي ،الذين
لم .وأنا نفسي نسيت أنني لسنوات ،كنت ُأهاتفهم يوميًا ،نسوا أن ُيعايدوني بمناسبة عيد ا ُ
د ،رحمه الّله ،مازحا ً كعادته
أطلب نزار قّباني في مثل هذا اليوم ،بمناسبة عيد ميلده ،فير ّ
مي". ُ "كان علي مهاتفتك ..إنه عيد ا ُ
تأ ّلمهات ،وأن ِ ّ
يحضرني اليوم نـزار قباني ،وأنا أبحث عن شيء أكتبه لكم ،فل تسعفني الكلمات ،ل لقّلة
ح الغضب ،ففائض المرارة العربية مازال قادرا ً على تزويدي بها ،يمل هذه الفكار ،ول ل ُ
ش ّ
ن نزار ،ما
ّ أ ّ
كر أتذ وأنا الكتابة، من جدوى أجد ل أكاد لكن، مقبلة. سنوات الصفحة بضع
ت على رحيله ،ول أظن ما ً
ترك لنا كلما يعلو على صهيل أحزانه ،حتى بعد مرور سنوا ٍ
سأكتبه أنا ،أو غيري هذه اليام ،في إمكانه أن يطال قلم نــزار قباني فصاحة ،ول قدرة
على وصف الفاجعة الزلّية للعروبــــــة ..حتى إن نصوصـه التي كتبها منذ ثلثين سنة..
تبدو وكأنه بعــث بها البارحة ،إلى الصحف ..تعليقا ً على النشرات الخبارية العربية
الخيــرة.
حمم ،المتدفقة علينا من قلمه ،أن ُتحّرضنا على العصيان، وبرغم ذلك ،ما استطاعت تلك ال ُ
ول أن ُتغّيـر شيئا ً من قدرٍ مازلنا ُنساق إليه كالّنعاج إلى المسلــخ.
وأنــــا أبحـث عن شيء أكتبه لكم ،وجدتني أحسده ،ما عاد مطالبا ً بأن يقول شيئًا ،ول بأن
ونــــاه ،وإن صمت ش ّ
ككنا في يدلي بتصريح شعريّ أمام ك ّ
ل فاجعة ،وقد كان إن هجانا خ ّ
وطنيته وحاسبناه.
دم تقريرا ً عن عدد أصابعه كل يوم .هو شاعر ،كّلما "هــو شاعـر .لــذا يطلبون منه أن ُيق ّ
ظهر في ُأمسية شعرية أطلقوا عليه القنابل المسيلة للدمـــوع".
قهم ذلك أن باقـات الورد أيضًا ،قد تبكي الشعراء ،ففي حّبنا المفرط لهم اعتداء على ح ّ
قهم في الصمت ،إجـلل ً للفاجعة .ولـــذا صــاح محمــود درويش "ورد أق ّ
ل في الخطأ ،وح ّ
ل" ،ولم يجد فيكتور هوغــو ،أمير الشعر الفرنسي ،عيبــا ً في أن يقول أحبتي ..ورد أق ّ
"للمصائب جللة أجثو أمامها".
مــت ..أن يكون لــي حــقّ التغّيب أحيانــا ً عن هذه الصفحة، كــم أتمنى هذه اليام لــو أص ُ
ذن لي بذلك ،والعودة مساًء ،إن لكتفي مثلكم بالذهـــول والصراخ في الشوارع ،عندما يؤ َ
عدت سالمة ،لجلس أمام التلفزيون كي ُأتابع برامج التسلية العربية ،التي أصبحت حكــرا ً
على نشرات الخبار ،ومحاضر جلسات القمم العربية.
ما وصلنا إلى النخلة اختلفنا على البلح" .يقول ذلك أننا "حلمنا بالوحدة العربية الكبرى ،فل ّ
نــزار قّباني في أحد نصوصه .قبل أن يواصل:
"هل تريدون أن تتسّلوا..
إذن تعالــوا نتفـّرج معــا ً على خريطة الوطـن العربي .المدن العربية مجموعة من
شم بعضها بعضا ً بسادّيــة ل نظير لها. سّيارات السباق ،تنطلق كّلها عكس السير ،وُته ّ
ن سباق الموت ومادام "البنزين" متوافرًا ،والعجلت متوافرة ،والمجانين كثيرين ،فإ ّ
العربي مستمر ،ولن يربح في النهاية إل ّ الشيطان..
ّ
ل المدن العربية تشترك في هذا السباق الدموي ..وآخــر سيارة انقلبت بركابها كــ ّ
واشتعلت فيها النار ،هي بيـــروت."..
حـّبـي". هــذا ماكتبه نــزار سنة 1978م ،في ديوانــه "إلى بيــروت ا ُ
لنثـى مـع ُ
ن السباق النتحاري المجنون ،للذين يقودون سيارات سعيد نــزار حيث هــو ،ل يدري أ ّ
ن أجــل هوايــة القيـادة ،وبقائــه مشدودا ً مـ ْ
ن ِ
مـ ْمـة َ أوطاننا ،مازال مستمرًا ،وأ ّ
ن ثـ ّ
لمقــود ثلثين سنة ،مازال مستعدا ً لن يبعث بنا جميعا ً إلى الجحيم ،وُيدحرج أقدارنـــا إلى
الهاوية..
إنـه "رالــي" الجنـون العربـي ..ول جدوى مـن ربـط أحزمة المان ،عندما يكون الجنـــون
خلـف المقـــود
ك تلك يوميا ً على شاشة تلفازِ أو ك ،على الرغم من أني هنا ل أرى صورت ِ ث أن أذكر ِ يحد ُ
ك. غياب د دا ع أتابعصحيفة .ول ُ
ِ ّ َ
مَتان، ُأقيم في بيــــروت ،وأنــت في بغـــداد ،مدنا ً نسكنها و ُ
ن القاد ِ َ ُ نح تسكننا، أخرى ُ ِ
ل ما كان لها من بهاء ،بك ّ
ل ما مدن الباء” ،بك ّ ُ
إحدانا من الجزائر وأخرى من باريس ،بيننا “ ُ
غدا فيها من بـــلء.
بيننا تواطؤ البجدية الفرنسية ،جسور تاريخية ،وهموم صغيرة نسائية ،كان يمكن أن
مفجَعة. ي ،والقدار ال ْ ُ وحها لو أننا التقينا كامرأتين خارج زمن الموت العََبث ّ نتقاسم ب َ ْ
فلورانس ..إّنــه الصيــف.
ة
ك ..تشتاقك الرصف ُ ك المفتوحة الفارغة من خطا ِ ة الصيفّية ،أحذيت ُ ِ ك الثياب الخفيف ُ تشتاُقـ ِ
تُ كن كما ترتادينها ت
ِ كن نك ّ أظ التي المحال وتلك الميترو.. وزحمة الباريسية، قاهي م َ وال ْ َ
دها لسنوات في مواسم “التنزيلت”. أرتا ُ
داد الغياب؟ وهل ّ وع الوحشة.. ية
ّ بحم كِ وزن تقيسين تِ أصبح مــذ ُ ك..ُ ِ سـ قاَ م
هل ّ َ َ
ر يـتغ
ل المناسبات؟ ً
ت ترتدينها ثوبــا يليق بك ّ ك تلك من عدوى الكراهية ،ومازل ِ ت ابتسامت ِ أنقذ ِ
ة
ٌ صديق لنا الصدقاء. نادي بر ُ ك صديقة، مرتبة إلى الخاطفون رفعها التي الغريبة أيّتها
ة زهر ُ
ل بها :كليمنتينا كانتوني .اسم كأغنّية إيطالية ت ُ َ جديدة لم تسمعي من قب ُ
م منه رائح ُ ش ّ
من ُيلقي القبض على شجرة برتقال ّ َ مة ث وري، ّ تص أفغانستان. في البرتقال .كليمنتينا رهينة
ن هم لم يمنعوا بث برنامج دد بإعدام معزوفة لـ”فيفالدي” ،إ ْ من ُيه ّ بتهمة العطاء ،و َ
ض ُأسبوعيا ً في التلفزيون الفغاني. موسيقي ُيعَر ُ
معتصمات ن ضمن منظمة إنسانية للغاثةُ ، النساُء الفغانيات اللئي كانت كليمنتينا تساعده ّ
صد ََقة ُيجازي الّله خيرا ً َ ً ا أيض البتسامة في انتظار إطلق سراح ابتسامتها .ففي ديننا،
ُ ّ
صاحبها ..ديننا الذي ل َيدين به رجال الكهوف وقطاع طرق الديان.
ك أحيانًاُ .أشاهد فضائيات عربّية ،ل وقت لها حتى لتعداد موتانا. ن نسيت ِ ذريني فلورانس إ ْ اع ُ
لماذا جئتنا في زمن التصفيات والتنزيلت البشرية والموت على قارعة الديمقراطية؟
ك تقويما ً زمنيا ً ل ينتظرنا في ي .ل رقم لموتانا ،ول نمل ُ ن ُنعاني فائض الموت العرب ّ نحــ ُ
أجندة مولنا “كاوبوي” العالم.
ك التي ِ صورت على ك
ِ نحسد اختطافك. أيام ّ د ع في ككرة ُ ّ ِ
بيمح ك على دّقة مف ّ نكاد نحسد ِ
ك .الذي يختطف مطاِلبة بإطلق سراح ِ طي المباني والساحات والجرائد والشاشاتُ ، تغ ّ
ن شعوب مصلحا ً كونيًا” .نح ُ مى قائدا ً أو “ ُ مى إرهابيًا ،والذي يختطف شعبا ً ُيس ّ شخصا ً ُيس ّ
مى .بـــاع الطغـاة أقدارَنا للغزاة ،فلماذا أيتها المرأة التي ّ مس ّ بأكملها مخطوفة لتاريخ غير ُ
نصف اسمها وردة ..ونصفه الخر فرنسا ،جئت تتفّتحين هنا كـ”وردة مائية في بركة دمنا”؟
إحدى حكمه الجميلة ،في إغاظة العداء بتجاهلهم .وهي نصيحة نجدها في قول ابن
المعتز:
كنا قد زهدنا في التلفزيون ،هربا ً من طبول حرب تترّبص بإخواننا ،ومشاهد كوارث تحيط
ل مسابقة إفلسنا الهاتفي. بنا ،وبرامج ترفيهّية تبيعنا مع ك ّ
مــة بأكملها تدخل سن اليأس، ل نفسه قد بلغ سن الفاجعة ،وهو يرى أ ُ خا َ
بعضنا ،لحباطهَ ،
ّ
مم وغ ّ
ن الشيب لم يتسلل إلى شعره بعد ،بقدر ما تسّرب ه ّ ّ كد أمام المرآة ،من أ ّ وراح يتأ ّ
ل قواه العقلّية في مدّققا ً بين الحين والخر ،في كونه مازال في ك ّ الُعروبــــــة إلى قلبهُ ،
عالم فقد اّتزانه وتوازنه.
مـة ُأناســـا ً أسويــــاء في هذا الزمن ّ ثـ ن
ّ وأ بخير، مازالت ن الدنيا دق أ ّ وما كنا لنص ّ
المجنون ،قبل أن تتسابق الفضائيات إلى إهدائنا سهرات رمضان ،واحتفاًء بالعياد ،لقاءات
مع الصّبـوحــة وخطيبها عـمــر محيـو ،ملك جمال لبنان.
ب فينا المل ُ
مصاب ،د ّ ما هي فيه من ُ مــة تنتظر منذ نصف قرن معجزة تنقذها م ّ ولكوننا أ ّ
لت "هي نجمة منذ 60سنة ،وهو يبلغ من العمر 23 ن نقرأ على غــــلف إحدى المج ّ ونح ُ
ب يصنع المعجزات". سنة ..لكن الح ّ
ولن 60سنة هو "العمر الفني" ،وليس العمر الكامل للصّبـوحـة ،فقد بهرتنا المعجزة،
ب يجمع بين قلبي امرأة كاش "آمنـت بالّلـه" ،وأنا أرى ال ُ
ح ّ وشخصي ًّا ،حسب ُأغنية نــور د ّ
وشاب ،في عمر حفيدها.
متربعة دد قصصها على مسامعنا مريـم نــور ،وهي ُ خرافــة يومية ُتر ّ ب"ُ ، "معجزات الح ّ
ب ..وحالته الخارقــة ,لكن ّ الح بمزايا وصفتين بين كرناّ تذُ والبخور، الشموع أرضا ً وسط
شعرها الرمادي ،ونظارتها الطبّية ،ما كانا لُيقنعانا كان يلزمنا في زمــن الفضائيات، ّ َ
م أعيننا ،نهاتف بعضنا بعضًا ،حتى ل ك ،معجزة عشقية نراها بأ ُ ّ للش القاطع أنـا" من والـ"
ّ َ
ي ،بين لسطورنفوت لحظة ظهورها ..معجزة ملموسة ،مرئّية ،صارخة في إعجازها ا ُ
ّ ّ
امرأة سبعينّية شقراء ،بمقاييس جمال دمية "باربـي" ،وأزيــاء شـــاون ستـون ،وغنــج
مارليـن مونــرو ،يوم غنت لعيد ميلد حبيبها ،الرئيس جــون كيندي ،تغني بصوت متق ّ
طع
النفاس ،نشرت على حباله غسيل عمر ،من الهات والحسرات" :ساعات ..ساعات..
ب عمري وأعشق الحياة" ،لشاب عشريني يترّبع على عرش الجمال "الطمــوح"، بح ّ
ُيبادلها النظرات الّلهفى العابرة للكاميرات ،شاهرا ً خاتـم خطبته امرأة "ُأسطــورة"،
حفلت حياتها بما ل ُيحصى من الفلم والغاني والزيجات آخـــر أزواجها الذين يزدادون
دم بها العمر ،كان "فدائي لبنان" ..أقصد "فادي لبنان" ،الذي أبلى بلًء حسنا ً صغرًا ،كّلما تق ّ
عشرة دامـت ب وعلى خبز وملح ِ في معركة ،حافظ فيها ما استطاع على مــاء وجه الح ّ
سرها ،لنه كان "فارسا ً بل ِ أخ سنوات ،وحافظ فيها على ُأصول الفروسّية ،ولن ندري
جواد" ،أم ..جوادا ً بل فارس.
نكيف كان له أن يكسب معركة ضد امرأة ،ما استطاع الزمان نفسه أن ينال منها؟ حتى إ ّ
قول لورانس سترين ،يكاد ل ينطبق سوى على مخلوقات عداهــا" :الوقت يذوي بسرعة،
الوقت يهرب منا ،الوقت ل يعفي أحدًا ،ول يصفح عن شيء بينما ُتسّرحين شعرك الشقر
وج ..انتبهي جيدًا ،فربما يصبح رماديا ً بين أصابعك". المتم ّ
ً
ذلك أن الصّبـوحـة ليست مريـم نــور ،وشعرها يزداد شقارا بقدر ازديادها مع العمر
ل ،حتى إنه في إمكانها انتعال "بوتين" مشدود بخيوط كثيرة ،يصل إلى رشاقة وُنحــــو ً
م ،فالعمر أمامها.. ّ
نصف فخذيها ،قد يأخذ ربط خيوطه وفكها ساعة من وقتها لكن ل يه ّ
ن الغبيــــاء الذين ل نجـرؤ على التخطيط لبعــد من يومنــا ،تحسبا ً مـر بجوارها ،ونحـ ُ عـ َو ُ
مـْر" متمنية أن تطـــول" ،لنو ما في أحلى عـ َ
دث عن خطبتها لـ" ُ للخـــرة ،نستمع لها تتح ّ
دقوها ،فثماني زيجات تؤهلها لتكون أدرى ّ فص ِ محذا قالـت وإذا من الرجال قبل الجواز",
بشعاب الزواج منا ،خاصة أنها في زمــن النهيارات القيمّية ،تستميت في الدفاع عن
لصول والتقاليد ،بإعلنها أنها فقط "مخطوبة". ا ُ
خطبة فوائــد في هذا العمـر ،إحداها كشف أكاذيب الرجـال فلقد اكتشفت مثل ً ن لل ِ
مإ ّ ثــ ّ
ن عمره ّ وأ عليها، كذب أنه لشاب، ً امؤخر خطبتها أثناء سنة(، 64 ) كولينــز جــوان الممثلة
ما كان ) 33سنة( ،بل ) 35سنة( ،وقد أعلنت تخّليها عنه لنها ل تغفر كذبة كهذه! ول
مـر الذي يستعد ّ لداء مناسك العمرة ،تحسبا ً لختبارات "الخطبة" ،يتجّرأ على عـ َ
ن ُنأ ّ أظــ ّ
ً
إخفاء عام أو عامين على صباح ..فُيجازف بمجده متشاطرا عليها.
دية ،يبقى الزواج أكثرها دعابة!". لمور الج ّ لا ُ صدق بــو مارشيه إذ قال" :من بين ك ّ
سياحة ثورية
ب•
ُيولــد ُ المــرء مرتين•• الثانية يوم يقع في الحـ ّ
ب الحيـــاة•ل صبــاح يقع في حـــ ّ وُيولد ُ الســير المحــّرر كل يوم ،لنه كــ ّ
في ذلك الصباح الجميل مرتين ،إحداهما لنه عيــد تحريــر الجنــوب ،كان البعض قد
أضاف ذلك اليوم إلى قائمة عطله الرسمية من دون كثير من التفكير ،والبعض الخر
ليزال يعيش المناسبة بمشاعر لحظة التحرير ورهبتها•
أيّ إحساس جميــل وغريــب أن أزور سجن “الخيام” برفقة أســير محــّرر منذ أربعة
أشهر ،خّريج معتقلت ُأخرى في إسرائيــل ،جـــــاء ليكتشف معي عذابات رفاقه ومحنة
ُأسرهــم•
لـم أسألــه :أكان هناك ليعود نفسه أم لُيعايدها؟ كان يبدو أحيانا ً مريضا ً بذاكرته ،وأحيانا ً
معاَفى منها ،يزورها معي بعيدا ً عن الصحافة التي كان يمكن أن تصنع من حـدث وجودنا ُ
معا ً مادة دسمة لغلفتها• فـ”أنـــور ياســين” ،هو “السيــر النجــم” ،الذي يعرف الناس
طّلته من ظهوره التلفزيوني أكثر من مـّرة ،ويستوقفونه ليأخذوا معه صورا ً تذكارية أينما
حللنا في الجنوب•
ّ
في سيـارة “الرانـــج” التي كان يقودها ،وكنا نستقلها أنا وهو ،وتلك الرفيقة ،كان الشريط
المختار للمناسبة ل يتوّقف عــن بــث الغاني الحماسية ،التي لم أستمع لها منذ عشريـن
سنـة ،مــذ فقدت فرحة وعادة تصديق الغاني الحماسّية•
كان رفيقاي ينشدان مع سميح شقير:
ن عشـت عش حــّرا ً
“إ ْ
مـت كالشجار وقوفا ً أو ُ
ً
وقـوفـا كالشــجــار”
حسـدت أنـــور ياسـيـن على غضبه ،الذي لم يطفئ وهجه سبع عشرة سنة من العتقال•
أتراه قرأ نصيحة الشاعر “انظر خلفك بغضب” ،ولــذا منحـه غضبه هذه الفتوة الدائمة
وابتسامة واثقة ل تفارقــه؟
إن كــان نــــزار قّبـانـــي “محتــاجا ً منذ عصور لمرأة تجعله يحزن” ،فقد كنت أحتاج منذ
الزل إلى رجل يجعلني أغضب كي أستعيد صباي ،رجل ينقل لي عدوى رفضه في زمن
الرضوخ ،ويهديني قامة غضبه في زمن النبطاح•
الغضب من شيمات الشباب ،فاحذروا أعراض الستكانة التي تنتابكم مع العمر•
دق حاجتي إلى عدواه• فقد كان يعتقد ،يوم هاتفني بعد ن أنــــور ما كان لُيص ّ الطريـف أ ّ
إطلق سراحــه ،أنني المرأة التي كانت بكتاباتها المهّربـة إلى المعتقلت السرائيلية تنقل
لسرى أحلمها الغاضبة وُتبقيهم مشتعلين عنفوانًا• إلى عشرات ا ُ
كنا نشق الطريق إلى بلدة الخيـام ،وسط أعلم المقاومة وحواجز ُتوزع الحلوى
والشعارات ،نستدل على طريقنا بصور الشهداء• فل وجود هنا لصور المطربين وإعلنات
فح سوى ألبوم ألبوماتهم التي ُترافقنا أينما ذهبنا في بيــروت• في الجنوب ،أنـت ل تتص ّ
المــوت•
ً
كــان يومــا جنوبيــا طويــل ،سأعــود في مناسبـات لحقــة إلى الحديث عن مشاعري ً ً
وأنا أزور “بوابـــة فاطمــــة” ،نقطة الحـدود الفاصلة بين لبنان وفلسطين ،بحاجز سلكي
ُ
محَبطة إلى “قانـــــا” ومقبرتها التي ترعـى موتاها ابتسامة مكهرب ،أو زيارتي الولى وال ْ ُ
أحــد الزعماء السياسيين• فقد كانت فاجعتي الكبر في سجن “الخيام” ،الذي فوجئنا به
مزارا ً ترعاه وزارة السياحة ،التي لم تجد حرجا ً في وضع اسمها على مدخله ،مساوية
مـانــــا•
إّيــاه بمغارة “جعيتا” وآثــــار بعلبك ،ووسط بيروت ،ومطاعـم بر ّ
ل أدري إن كانت في ذلك ُتسايـر عشـرات الزّوار ،الذين أصبحوا يقصدونه في العطل ،كما
ملينيذهب المصريون إلى “معرض الكتاب” في نزهة عائلية مع الولد ،مح ّ
بالسندويتشات والمشروبات ،أم الزّوار هم الذين أخذوا تلك اللفتة “السياحية” مأخذ
م إنشاء “كافيتريا” كبيرة عند مدخل المعتقل ،حيث يبيع أحدهم عند بابها د ،بعد أن ت ّ
الج ّ
ملين بالمشروبات وصحون كارتونية عليها أوراق “اليانصيب” ،ويخرج منها الكثيرون مح ّ
بطاطا و”كاتشاب” ،يذهبون لتناولها في باحـة صغيرة في ساحة السجن ،بجـــوار “قاعة
شهداء المعتقل سابقًا”•
كـر في ما يليق أن أرتديه لزيارة ذلك السجن ،احتراما ً مني لمن ُ
أنــا التي قضيت سهرة أف ّ
ت بغبــاء رومنطيقيتي فــن ،شعر ُعبروه في ثيــاب الســـر ،وبعضهم غادروه في ك َ
“الثوريـــة” ،وأنــا أرى الناس يدخلون في كل الزيــاء واللــوان ،ويتجولـون في زنزانتــه
المشرعة أبوابها للفضول ولـ”السياحــة الثورّيــة” ،مــذ ُأفرغت تماما ً من بؤس محتوياتها،
طليت جدرانها ،بحيث انمحت حتى الكتابات التي تركها السجناء على الجدران ،ليؤّرخـوا و ُ
صبرهم ويوّثقوا عذابهم وأملهم•
مـة تدخل المستقبل ،وقد محــت “البويــــا” ماضيها؟ ُ
كيف يكون من غــد ٍ ل ّ
فا ُ
قبلة ش َ
شفتان على َ
****1
****2
****3
****4
****5
في غفوته
في ذروة عزلته
يواصل قلبي إبطال مفعول ُقبلة
فتيُلها أنت
****6
يا للهفتك
يا لجوعي إليك بعد فراق
ساعة رملية
تتسّرب منها في قبلة واحدة
كل كثبان الشتياق
****7
ف الزمن؟
كيف بقبلة ُتوقِ ُ
كيف بشفتين
ُتلقيان القبض على جسد؟
****8
يا رجل ً
من غيرك َ
سقط شهيدا ً
قَبل؟مضّرجا ً بال ُ ُ
شهادة في الكتابة
مت هذه الشهادة في معهد العالم العربي في باريس سنة " 1997
" قد ّ
كل مرة يطلب مني ان أتحدث عن تجربتي في الكتابة أجدني أنا التي احترف الكلمات, ك ّ
خص عمري على ورق .ول أعرف متى كان مولدي بالتحديد. ل أدري كيف أل ّ
وقعه.ّ يت الذي التاريخ غير في ً اغالب ولكن فجأة, فالكاتب يولد
ً
هناك من يعتقد انه كاتبا منذ الزل .وهناك من ولد أمام أول كتاب أصدره .وآخر لم يولد إل
صه الخير.في الربعين ,أمام ن ّ
ود عشرات الوراق ,ل يعني أنك مبدع .وأن تصدر أكثر من كتاب ل يعني أنك لكن ,أن تس ّ
كاتب" .همنغواي" كان يقول "الكاتب هو من له قراء" وربما كان يعني من له معجبون
وأعداء .وحسب هذا المفهوم ,يمكنني أن أقول أنني كاتبة.
كر ضد ّ نفسك .أن تجادل أن تعارض أن تجازف ,أن تعي منذ البداية ,أن فأن تكتب يعني تف ّ
ل أدب خارج المحظور ,ول إبداع خارج الممنوع ,ول خارج السئلة الكبيرة التي ل جواب
لها .ولو كانت الكتابة غير هذا ,لكتفت البشرّية بالكتب السماوية وانتهى المر .ولكن,
خطر الكتابة ومتعها يكمنان في كونها إعادة نظر ,ومساءلة دائمة للذات .أي كونها مجازفة
ن
ن الشك .ربما ل ّ دائمة .ألهذا ,كلما تقدمت بي الكتابة ,غادرت عمر القناعات ,ودخلت س ّ
ي الى آخر دونالكتابة ل يمكن أن تتم على أرض ثابتة ,حتى أنك تنتقل فيها من صنف أدب ّ
سابق قرار.
وقع أن أكون ولدت في في البدء ,كنت شاعرة ,وربما جئت الى الشعر في لحظة تحد .أت ّ
مس السابعة عشرة من عمري .عندما وقفت للقي شعرا ً في الجزائر على جهور متح ّ
وشرس .جاء نصفه ليصفق لي .ونصفه الخر ليحاكمني بتهمة أنوثتي ,والكتابة عن الحب,
في زمن لم ينته فيه الخرون من دفن الشهداء على صفحات الجرائد والكتب .أعتقد ذلك,
لن الشاعر يولد دائما ً في لحظة مواجهة.
خلوكهامش لهذه الحادثة التي تناقلت الصحافة الجزائرية آنذاك تفاصيلها .بما في ذلك تد ّ
والدي نيابة عني للرد على الجمهور ,نظرا ً لصغر سني وعدم قدرتي على مواجهة قاعة
بأكملها.
أذكر الن بألم ,أن أمسيتي الشعرية تلك كانت في إطار موسم شعري سنة 1973أقيم
في قاعة "الموغار" .أخذ فيه شعر الشباب باللغتين الحّيز الكبر .وهكذا فقد جاءت بين
أمسيتين للشاعرين الشهيدين الطاهر جعوط ويوسف سبتي ,اللذين كانا يكتبان باللغة
الفرنسية .وبدآ مشوارهما الشعري معي في ذلك الموسم نفسه .وحتما ً كانا يجهلن آنذاك
أنه برغم الهدوء والفتور الذين قوبل بهما من طرف الجمهور ,ورغم الزوبعة العلمية التي
حسداني عليها .سيأتي يوم بعد عشرين سنة يتصدران فيه جميع الجرائد العربية والجنبية
كشهيدين للشعر الجزائري ,سقطا ذبحًا ..ورميا ً بالرصاص ..بتهمة الكتابة.
كان ذلك زمن التحدي الجميل .ورغم أنني كنت الفتاة الوحيدة التي تكتب آنذاك بين
شعراء اللغتين ,فقد كنت أشعر دائما ً ان انتمائي لحلم ذلك الجيل من الشباب يفوق
انتمائي لنوثتي ,وأن الشعر والوطن هما قضيتي الولى .وأما النوثة فهي مشكلتي وحدي.
دة سنوات ,عندما غادرت الجزائر لقيم في فرنسا وأدخل دّوامة الحياة كد لي ذلك بعد ع ّتأ ّ
الزوجية والمومة واللتزامات الجتماعية.
م لثلثة صبيان ودكتورة في السوربون وباحثة في ذات صباح استيقظت وإذا بي زوجة وأ ّ
لية ومربّية في كل ساعات النهار .كان لي أكثر من لقب سالة وج ّعلم الجتماع وطّباخة وغ ّ
وأكثر من مهنة .غير أني كنت قد فقدت لقب "شاعرة".
أعتقد أنني أنا التي أخذت قرار التخلي عن الشعر .خشية أن أصبح أدنى منه.
أن تحترم الشعر ,حد ّ العتراف في أول خيانة له بأنك لم تعد شاعرًا .هي الطريقة الوحيدة
لتحافظ على لقب شاعر ,ولو بينك وبين نفسك.
ً ً
فإذا كان ل شيء أكثر سطوة ووجاهة من لقب شاعر .فل شيء أيضا أثقل حمل ول أسرع
عطبا ً من هذا اللقب.
فإن تكون شاعرا ً يعني أن تكون إنسانا ً حرًا ,حرّية مطلقة .ول أقصد فقط أن تكون حرا ً
ل .بل يتطّلب أيضا ً أن
في الدلء برأيك أو حرا ً في الذهاب بجنونك حيث شئت قول ً وفع ً
تكون حرا ً في وقتك .أن تكون شاعرا ً يعني أن تكون بتصّرف الشعر وكأنك نذرت نفسك
له .فهو ككل حالت البداع يأتيك متى شاء ,فيلغي لك موعدا ً ويأخذ لك آخر .ويحجزك
ساعات أمام ورقة .ويخرجك من طورك ليام .ولذا الشعر ترف ليس في متناول أمرأة
عندنا .إنه يذكرني بذلك التعبير الجميل )لمورياك( عندما يقول "أنا حصان الشعر الجامح..
لكنني مشدود الى عربة المحراث".
وأن أكتشف أن الشعر قد غادرني لم يخفني ,بقدر ما خفت أن يغادرني الحبر أيضًا,
ودت أن أعيش بين دفتي الكتب .أن أحب وأكره وتخونني الكلمات .فأنا إمرأة من ورق .تع ّ
وأفرح وأحزن وأقترف كل خطاياي على ورق .تعّلمت ان أكون كائنا ً حبريًا ,أل أخاف من
رؤية نفسي عارية مرتجفة على ورق.
عريي هذا .أحب قشعريرة جسدي العاري أمام بركة حبر .وأؤمن أن الكلمات فأنا أحب ُ
ما تلك التي تكسونا فهي تشوهنا .ولذا كان عنوان التي تعرينا هي وحدها التي تشبهنا .أ ّ
ديواني الثاني منذ عشرين سنة "الكتابة في لحظة عري".
وربما كان لحياة المومة والبيت التي عشتها خمس عشرة سنة متتالية أثر في تغيير
مزاجي الحبري ,ونظرني الى الكتابة .ذلك ان الكتابة لم تعد كل حياتي .بل حياة مسروقة
ت حالة مرضية .وعكة حبر, ت أخطر .أصبح ْ ت أشهى وأصبح ْ من حياتي الشرعّية .أصبح ْ
ت حالة تعددية وقدرة على أن أعيش وحالة خوف وذعر من شيء ل يمكن تحديده .أصبح ْ
داخل أكثر من امرأة .أن يكون لي أكثر من نشرة جوّية في اليوم .وأكثر من جسد كل
ليّلة .وأكثر من مزاج عشقي ,وأن تكون لي يد واحدة ل أكثر أكتب بها كل هذا ..وأسرق
بها كل هذا.
)جان جنيه( كان يقول "كنت من قبل أسرق ,اليوم صرت أكتب الكتب" وبإمكاني أن أقول
العكس :فلقد بدأت كاتبة ,وانتهيت سارقة .فالكتابة بالنسبة لي مواجهة مع الواقع المضاد.
إّنها نهب وسطو دائم .فأنا أسرق الوقت لكتب .وأسطو على مكتب إبني لكتب ,وأتحايل
على من حولي لخذ موعدا ً مع الورق.
ن الكتابة هي المغامرة النسائية
وسأظل أنهب الكلمات كما ينهب بعضهم السعادة .ذلك أ ّ
الوحيدة التي تستحق المجازفة .وعلي أن أعيشها بشراسة الفقدان كمتعة مهددة.
لقد عشت عدة سنوات دون مكتب ودون غرفة للكتابة .أنقل أوراقي من غرفة الى أخرى.
ودت أن أسكن ذاتي .ولن كل البواب كانت الن كل الغرف من حولي كانت محجوزة ,تع ّ
مغلقة حولي فتحت يوما ً خطأ بابا ً كان ل بد أل أفتحه .وإذا بي أمام نفسي .وإذا بي روائية.
لراغون مقولة جميلة "الرواية هي مفتاح الغرف الممنوعة في بيتنا" يوم قرأتها أدركت
أنني دخلت الرواية دون أن أدري .وأنا أفتح ذلك الباب بحشرّية وفضول .وإذا بي أصاب
بالدوار والذهول وانا أقع على امرأة توقعتها غيري ..وإذا بطوفان الكلمات يذهب بي نحو
ص مفتوح ومخيف في نزيفه .لم يكن إل رواية سيكون حجمها أربع مئة صفحة ويكون ن ّ
إسمها "ذاكرة الجسد".
عن هذه الرواية التي كان لها قدر أكبر مما توقعت ,لن أقول لكم شيئًا .فأنا لست هنا
لروج لها .إنني اعتبر صمت الكاتب بعد كل كتاب جزءا ً من إبداعه.
فالكاتب عليه أن يقول كل شيء في كتابه وليس بعد صدوره .وليس عليه أن يقول أكثر
مما كتب ليشرح للخرين ما كان ينوي قوله .كل كتابة ل بد أن تؤدي الى الصمت .ولذا
الجمل أن يصمت الكاتب بعد كل كتاب أحتراما ً لذكاء القارىء .ولبطال لم يعودوا في
حاجة إليه بعد الن.
ولكن ما أريد قوله ,هو أن الكتابة مشروع شخصي .ورحلة ل يقوم بها المسافر إل وحده.
لسبب وحده معني به.
وحتما ً إن رحلة على هذا القدر من المجازفة والمواجهة تكون شاقة أكثر بالنسبة الى
المرأة التي تدفع مقابلها ثمنا ً مزدوجًا .هو ثمن الكتابة ..وثمن النوثة.
ما إذا كانت جزائرية وتكتب باللغة العربية ,فهي معّرضة لمخالفتين إضافيتين ,الولى أن أ ّ
تدفع ثمن هوّيتها والثانية ثمن اختيارها الكتابة بلغة محفوفة بالمخاطر أكثر من غيرها.
فهل نعجب بعد هذا ,أن ل يكون لنا في الجزائر شاعرات أو روائيات باللغة العربية .على
ل بما يعادل باللغة الفرنسية على قّلتهن .وهل نعجب أن يكون ديواني الصادر سنة ألق ّ
1973في الجزائر أّول ديوان شعري نسائي باللغة العربية .وأن تكون روايتي )ذاكرة
الجسد( الصادرة بعد ذلك بعشرين سنة تمامًا .هي أيضا ً أول عمل روائي نسائي باللغة
العربية .وكأن الدب الجزائري المكتوب بالّلغة العربية لم يكن ينتظر غيري طوال عشرين
ل سنة آلف الطالبات ,بإتقان للغة العربية. سنة .في بلد تتخّرج عن جامعاته ك ّ
إن اكتشافا ً كهذا ل يملني زهوا ً فأنا أعي أن وجاهتي الدبية تعود لمصادفة تاريخية
وجغرافية ,ليس أكثر.
بقدر ما يملني بإحساس غامض بالخوف على اجيال لن تعرف متعة الكتابة بهذه اللغة .بل
وقد ل تعرف متعة الكتابة على الطلق .بعد أن حرمها البعض من متعة القراءة أيضًا.
خخة تنفجر في قارئها .وأن الكّتاب قطاع وأقنعها أن الكتاب صديق سوء .وأن هناك كتبا ً مف ّ
طرق يتربصون بالقارىء بين صفحتين ,ومجرمون يتنقلون وفي حوزتهم أوراقا ً وأقلمًا.
وأنهم صنف بشري ل يستحق الحياة.
في زمن ما زالت فيه الحدود مغلقة أمام ما تبقى واقفا ً من أقلم .وما زال فيه أنظمة
عربية من الجهل ,بحيث تخاف حتى من عناوين كتبنا .وتمنع مؤلفاتنا من قبل حتى أن
مة أخرى استرخص فيها دم وشرف الكتاب بحيث يموتون كل يوم مقابل حفنة تقرأنا .وث ّ
من الكلمات .نحن نطمح أن تعيش كتبنا ..ل ان نعيش منها .نطمح أن تسافر كتبنا ل أن
نسافر على حسابها .نطمح أن ل يشتري القارىء كتبنا على حساب لقمته .لنه لن يزيدنا
ثراءًا ..وإنما يزيد من عقدة ذنبنا.
عُذرا ً للغابات
أعرف عمل ً أكثر جرأة ،من إقدام المرء على نشر كتاب• فإذا كانت الكتابة في حد ّ ذاتها
من ل يعنيه ور ل ُيقدم عليه إل ّ َ ن السرعة في إصدار ما نعتقده أدبا ً أو شعرًا ،ته ّ مجازفة ،فإ ّ
أن يكون أديبا ،بقدر ما يكفيه وضع تلك الصفة على كتاب• ً
مــا المبدع الحقيقي ،فهو إنسان غير آبه باللقاب “المنهوبة”• إّنه كائن مرعوب بحكم أ ّ
ّ
ل ورقة يخطها ويرضى إحساسه الدائم بأنه عابٌر ،وبأن ل شيء سيخلد سوى كتاباته• فك ّ
ي ،وسُيحاسب عليها كأنه لم أن يراها مطبوعة في كتاب ،هي ورقة يلعب بها قدره الدب ّ
يكتب سواها•
ولذا كان فلوبير يقضي أياما ً كاملة في صياغة ،وإعادة صياغة صفحة واحدة ،وكان
دمت به الكتابة ،حتى إنه صّرح في آخر حياته “إني بورخيس العظيم يزداد تواضعا ً كّلما تق ّ
ما هلني لكتابة بضعة سطور جديرة بال ّ
ذكر ،أ ّ ن بلوغي سن الثمانية والثمانين ،يؤ ّ أفترض أ ّ
دتي أن تقول”• قدر” كما اعتادت ج ّ البقّية ففي المكان “أن تذهب إلى ال ِ
وقد ذهب بعض كبار الكتاب حد ّ إحراق مخطوطات ،قضوا أعواما ً في العمل عليها ،وأمر
البعض بإتلفها بعد موته ،خشية أن تصدر في صيغة تسيء لمكانته الدبية•
وفي زمن نشهد سقوط هيبة الفن ،وسطوة النجومّية ،أصبح في إمكان أي شاب عربي،
تؤهله جرأته وحباله الصوتية لقتحام شاشتنا ،أن يغدو “سوبر ستار” ولو برهة ،ويختبر فينا
قدرته على الزعيق وقدرتنا على الصبر ،ليس عجبا ً أن نشهد استباحة هيبة الكتابة أيضًا،
من ُأصيب بخيبة عاطفّية شاعراً، ل َمن ُيحسن القراءة مشروع كاتب ،وك ّ بعدما أصبح ك ّ
ل َ
قه أن ُيجّرب نفسه في رواية أو في ديوان شعر• وهو ،أيضـــــًا ،لن يقبل بأقل من ومن ح ّ
لقب “سوبر ستار” ،ومن أّول ديوان ،يرفض أن ُيشّبه بغير نــــــزار! وهو ،كالكثيرين الذين
ملة في المستودعات ،ل يمنح موهبته ما يلزمها من وقت للنضوج• ُنصادف كتبهم مه َ
مستعد ّاً، ماذا نفعل برّبكم مع كّتاب ل يتردد بعضهم في ارتكاب جرائم في حقّ الشجارُ ،
ن اقتضى المر ،لتلف غابة من أجل إصدار كتاب لن يقرأه أحد ،إل ّ حفنة من المعارف إ ْ
غمين على مباركة جرائمه الدبّية؟ ال ْ ُ
مر َ
والعجيـــب إصــرار هؤلء على المزيد من “النتـــــاج” ،ل يثنيهم عن “البـــداع” أن يفوق
عدد كتبهم عدد قّرائهم ،ولهم في هذه النكبة فتــوى• فقّلــة انتشارهم ،وعدم فهم الناس
عقاب•• وهم أعمالهم أو تذّوقها هما نفسهما ،دليل نبوغهم• ذلك أنه ما من موهبة تمّر بل ِ
من له قّراء” ،بأن رامبو ،الذي غّيـر لغة دون على قول هيمنغواي“ :الكاتب هو َ قد ير ّ
شعر العالمي ،لم يطبع من كتابه “فصل في الجحيم” أكثر من فرنسا وترك بصماته على ال ّ
خمسمئة نسخة ،بينما اكتفى مالرميه بطباعة أربعين نسخة من أحد دواوينه ،يوم أصدرها
لولى• في طبعتها ا ُ
ل واحد منهم ومثل هؤلء “النابغين” ل جدوى من ُنصحهم أو إقناعهم بتغّيـر مهنتهم• فك ّ
واثق تماما ً بأنه يفوقك موهبة وينقصك حظًا ،وإل ّ لكان أكثر شهرة منك ،مادام قد أصدر
من الكتب في سنة ،ما ل تصدره أنت في ربع قرن•
ن جمعا ً من ّ أ قرأت فرنسا، جنوب وأذكر أنني في الصيف الماضي ،أثناء إقامتي في
شعر في غابات الجنوب ،ليس فقط بقصد توفير فضاء الشعراء قرروا أن يلتقوا جمهور ال ّ
مال الشعر ،بل أيضا ً امتنان منهم للغابات والشجار ،التي توّفر لهم الورق الذي ج َ يليق ب َ
يطبعون عليه أشعارهم•
مة أكثر من فائدة في نقل مهرجاناتنا الشعرية ،ومؤتمراتنا الدبية
نث ّكرت يومها في أ ّوف ّ
ح الطبيعة ما أفسدته عادات الضيافة الباذخة ،في ولئم شراء إلى الغابات• فقد ُتصل ُ
ذمم• ال ّ
م ،قد تكون فرصة للبعض ،لتقديم اعتذارهم للغابات• على ما اقترفوا في حقها من ث ّ
جرائم أدبية•• من أجل كتب لن يقرأها أحد•
مازال البعض يذكر ذلك الحدث العجب ،يوم اختار التحاد اليطالي لكرة القدم أّول امرأة
حكما ً في دوري الدرجة الممتازةُ .يقال إن الصحافة الرياضية اليطالية كانت مهتمة أكثر
بجاذبية كريستينا ،من اهتمامها بالخطاء التحكيمية ،تمامًا ،كما أحدثته مّرة إحدى
كلفت بتنظيم السير في أحد تقاطعات شوارع الشرطيات الجزائريات من فوضى ،عندما ُ
جه فيها العاصمة .إذ بسبب جمالها ،ظل سائقو السيارات يدورون حول المستديرة التي تو ّ
السير.
ث البلبلة فينزول الحسناء اليطالية إلى الملعب ،هو آخر حيلة عثرت عليها النساءِ ،لب ّ
ملعب كرة القدم ،حيث منذ الزل يلحق الرجال الكرة ،وتلحق النساء ،بالنظر ،الرجل
المفتولة التي تتقاذفها ،دون أن يتنبه أحد لغبن نساء ل يفهمن كيف أن كل هؤلء الرجال
المتراكضين المتدافعين بسبب كرة ،يجدون في قطعة جلد كروية ،من السحر والثارة
أكثر مما يجدونه في أنثى.
وكانت النساء قبل ذلك ،وقد فشلن في استعادة رجالهن من هذه الضّرة ،قّررن أن
ينتقمن لنوثتهن بمشاركة الرجال في هذا الهوس الكروي ،ل لسباب كروية ،بل بسبب
الجساد الرجالية المنحوتة بكل لياقتها البدنية ،التي بذريعة المؤانسة ،تجلس النساء
للتفّرج عليها بجوار أزواج ضامري العضلت ،منتفخي البطون ،يرتدون عباءاتهم وألبسة
نومهم ،وينتفضون كالدببة هاتفين لهداف ،هم عاجزون عن تسجيلها مهما صغر الملعب..
واتسع المرمى!
وقد وصلت الحال بالنساء أن أصبح لهن أيضا ً أهواء كروية ،بعد أن اقتنعن بأن أجمل
قف الكرة القصائد تقولها أقدام رجالية لهثة راكضة ،وأجساد تقفز في السماء لتتل ّ
بأحضانها.
مكّر مفّر مقبل مدبر َ إنهن يبحثن عن رجل يسعى إليهن كما يسعى رونالدو إلى كرةِ " :
معًا" ،وعن عاشق يصيبهن منذ الضربة الولى بدقة اللماني كلوزة في تصويب ضربته .إذ
حقق في المونديال الماضي رقما ً قياسيا ً بتسجيل ) (5أهداف .يلزمهن رجل يحاورهن
لدة ،ويعادل سعره في سوق الرياضة بفصاحة قدمي زيدان ،ل بمذلة ابن زيدون أمام و ّ
ً
والعلنات ،سعر طائرة "إيرباص" ،من نوع " ،"A321ويتقاضى سنويا ما يعادل أجر عامل
فرنسي عادي خلل ستة آلف سنة من العمل ،وعندما يصاب في ركبته ،تعيش فرنسا،
حسب صحافتها ،معلقة ليام إلى فخذه ،ريثما يشفى ،لكون مجدها الكروي رهن رجليه
ذواتي الصول الجزائرية.
بمن تحلم النساء؟ حسب استطلعات الرأي :بلعبي الكرة .إنهن يجدنهم أكثر جاذبية من
الممثلين والمغّنين .حتى إن 50%من الفتيات اليطاليات يحلمن بامتلك الِعصابة التي
يضعها قائد المنتخب اليطالي باولو مالديني على جبينه أثناء المباراة .وشخصيًا ،أشك في
براءة النعوت الفحولية التي أطلقها كل بلد على فريقه في "حديقة حيوانات المونديال"،
حيث تتناحر السود الفريقية والديوك الفرنسية والحصنة السوداء البرازيلية والتنين
السيوي.
وأتفهم ،والحال على ما هي عليه ،من غواية شغف النساء المفاجئ بالقدام ،حد ّ مزايدتهن
على الرجال تعصبا ً كرويًا.
فإذا كان مواطن أردني قد كسر شاشة تلفزيونه أثناء المونديال ،احتجاجا ً وقهرا ً على
خسارة فريقه المفضل ،فقد أصبح لنا نحن النساء أيضا ً شهيداتنا في ساحة كرة القدم،
بعدما لم يكن لنا إل ّ "أرامل المونديال" .فقد فقدت فتاة مصرية توازنها وسقطت من
الشرفة ،وهي منهمكة في توجيه الصحن اللقط ،قصد متابعة إحدى المباريات .وصار لنا
ضحايانا أيضا ً مذ طّلق مواطن سعودي زوجته إثر احتفالها بفوز فريقها في كأس الخليج
جعي ناد ٍ آخر ،وأغاظه أنها راحت تطلق الزغاريد في المنزل، العربي ،بينما الزوج من مش ّ
بعد أن ارتدت ملبس تحمل شعار فريقها ،فاتصل بإخوتها لنقلها إلى منزل والدها.
الخوف أن يكون أبوها وإخوتها أيضًا ،من مشجعي فريق غير فريقها ،فتتقاذفها أقدام رجال
القبيلة ،كرة قدم من بيت إلى آخر ،وتنتهي حسب قول أمي "شردودة ..ل مطلقة ول
من على آخرتها قبل أن تختار فريقها!مردودة" ،كان عليها أن تؤ ّ
عرس في ماربيل
ط مهّني•• شرالو موله ّفاد” )كرش شاة(• ذلك القط ،كان يقول مثل جزائري “كان الق ّ
سعيدا ً “ومتهّني” ،يعيش على اصطياد الفئران ،حتى ذلك اليوم الذي أراد صاحبه تدليله،
فأحضر له كرشة خروف ،أو “كروش وقبوات” ،كما يقول اللبنانيون ،فضاع المسكين بين
من آخر• ل ِ أمعاء وأحشاء الشاة ،وحار من أين يأتي تلك الوليمة ،التي ل يعرف لها أوّ َ
ت سعيدة بوحدتي ،وبوجودي بمفردي في “كـــــان”• ولفرط ما انتظرت هذه مثله كن ُ
ن مات حقيبة تشي بزهدي في مباهج الصيف ،حتى إ ّ العطلة التي نذرتها للكتابة ،أعدد ُ
ودات ،يفوق ما أحضرته من ثياب ولوازم ّ ومس ودفاتر كتب أحضرته معي من بيروت ،من
بحر ولوازم سهر•
لكن ،كما في شرح صديقنا الرمني قول الشاعر “تجري الرياح بما ل تشتهي السفن”،
بقوله “هواء يروح هيك•• وبابور يروح هيك” ،وجدتني “هيـــك” ،عندما ذ َهََبت بي الريح
إلى ماربيل ،إثر هاتف من أحد الصدقاء ،يدعوني فيه إلى حضور زفاف ُأخته•
ت بدعوته ،وقَِبلتها من ُ
ولنني ل أعرف كيف أقاوم النداء السّري لـ”ماربيل” ،فلقد سعد ُ
متطّلباتها ولوازمها ،قبل أن تبدأ أخبار الستعدادات لذلك العرس الخراف ّ
ي دون تفكير في ُ
ي ،ومعها أسماء الثرياء والمشاهير الذين ضاقت بهم الفنادق الفاخرة في الوصول إل ّ
للمدينة•
ُ
ومن وقتها وأنا مثل ذلك القط“ ،حايصــــة” وحائرة أمام وليمة فـــرح لم أهّيــأ لها•
ذلك أنني لم أكتسب ثقافة العراس ،ول القدرة على تبذير أيام وأسابيع في الستعداد
ن كانت تلك الليلة “ليلتي” حسب أم كلثوم ،وكان ذلك العرس لليلة واحدة ،حتى إ ْ
عرسي•
مدنيا في الدائرة السادسة عشرة ً م عقد قراني فيه َن عرسي الحقيقي ،الذي ت ّ بل إ ّ
الراقية في باريس ،أخذ مني العداد لوراقه ،أكثر ما أخذ مني شراء فستانه البسيط من
وقت ،ل يتجاوز لحظة رؤيته في واجهة• وأعتقد أنه بفضل ذلك الفستان ،الذي كان ثمنه ل
ن الشاهدين اللبنانيين اللذين مد َ زواجي سبعا ً وعشرين سنة• وأذكر أ ّ ص َيتجاوز مئة دولرَ ،
ي” ،كانـــا أكثر أناقة حضرا العرس ،بصفتهما عاشقين متواطئين مع سّرية زواجنا “النقلب ّ
منا ،لكنهما على الرغم من ذلك ،لم يتزوجا حتى اليوم•
ك أمام جثمان أبي )نحن نبكي دائما ً في ما بعد( ،لكنني بكيت وأنا ُأشاهد ذلك لم أب ِ
الرهــط الغريب من الرعاع واللصوص وهم يهجمون على متحف بغداد ،فيستبيحون ذاكرة
دا
مرون كل ما لم تستطع أيديهم نهبه ،ويتركونه وقد غــ َ النسانية ،ويعيثون فيه خرابًا ،ويد ّ
مغارة مّرت بها الوحوش البشرية.
هكــذا" ،تحت وضح الضمير" العالمي ،طــال النهب والتدمير 170ألف قطعة آثار
ونفائس تاريخية ،ل يوجد مثيل لها في أي مكان في العالم.
ورة في
داتها المتط ّ مفاخرة بمع ّ شرنا بالحضارةُ ، حدث هذا على مرأى من جيوش جاءت ُتب ّ
الستطلع ،والتقاط "الصور الحرارية" ،والرؤية الليلية ،لكنها لم تــَر شيئًا ،بينما أكبر
مخازن التاريخ ُتنهب كنوزه في عز النهار.
ت أصل ً لحماية التاريخ ،ول لصيانة الذاكرة ،إنما لعادة صياغتها ،بحيثفهـي لــم تــأ ِ
ن العالم بدأ بالنسبة إلى
ّ أ عذرها
ُ لتاريخها. ومجاملة مراعاة
ُ انعدامها، في نتساوى جميعا ً
ملكا ًتقويمها ،منذ خمسة قرون فقط ،يوم نبتت أميركا على قارة كانت حتى ذلك الحينُ ،
للهنود الحمــر .ولــذا هي لم تتوقع أن يكون للعراق الصغير الذي استضعفته ،وجــاءت
تلتهمه كهامبرغر ،وهي تتجّرع الكول على دبابة الحرّية ،تاريخ يفوق تاريخها بخمسة آلف
سنة .بل إنها لم تتوقع أن تجد فيه مؤسسات وجامعات ومتاحف ومكتبات وبيوتا ً جميلة،
ُ
مكابريــن، وحدائق عامة وطرقات حديثة ،وفنادق فخمة ،وأناسا ً مثقفين ،جميليــن و ُ
ولين يستجدون من جنودها الماء طاع طرق ومجرمين ،ول متس ّ ليســوا جميعهم ق ّ
والرغيــف.
فهــل نعجب أل ّ يعرف جنوده عن العراق سوى كونه بلدا ً يملك ثاني احتياطي بترول في
كز حولها، دام ،إلى تطويق وزارة النفط ،والتمر ُ العالم ،فُيسارعوا حال سقوط تمثال صـ ّ
حرصا ً على حماية وثائقها وعقودها من التلف ،بينما ُيسلمون بلدا بأكمله للسّراق
ً ّ
مروا بمباركة منهم ،السفارات الغربية ،التي وقفت ضــد غزو العـراق، واللصوص ،لُيد ّ
ل طمأنينة ،بقّية الوزارات والمؤسسات والجامعات ،فيحرقوا السجلت والبحاث وينهبوا بك ّ
والشهادات ووثائق المكتبة والوراق الثبوتية ..بــل يطــال نهبهم وتدميرهم حتى
المستشفيات ،وغرف العمليات وسيارات السعاف ،في بلد يفترش جرحاه الرض بعد ك ّ
ل
وات الغازيــة ،إنها شّنت عليه ،الحرب ل لغايــة اقتصادية، قصف أميركي ،وتقــول القـ ّ
بــل "لضرورة أخلقية".
دعه "هولكــو" يوم غــزا بغداد ،برغم أن الجرائـم نفسها حدثت يوم دخلها وهــو ما لم ي ّ
على ظهر بغلته .فقد جاء في كتب التاريخ ،أّنــه يومها ُنهبت السواق والخانات،
ولـت المدارس لتغدو اسطبلت حـ ّ
دمـت كنائس وجوامــع ،و ُ واسُتبيحــت البيوت ،وهُ ّ
ما ُنهب من بيت "لبغال" جيش هولكــو ،وُزينت "نعال" الجياد بالياقوت والزمّرد ،م ّ
الخلفة ،وصــار الـمـاء في دجلة ُأرجوانيا ً لفرط ما انداح فيه من دم ،وما ذاب فيه من
حبـر المخطوطات ،التي ُألقيـت فيه.
دام الذي قال" :الذي يريد أن يأخذ العراق مّنا سيجده أرضا ً بل بشر" ،لم يسعفه صــ ّ
ً
الوقت للتهام أكثر من مليوني عراقي ،فارتأى لمزيد من التنكيل بمن بقي حّيـا من
ن
ّ وبأ العـراق، طـغـاة ،مقتنعا ً بأنه هو
العراقيين أن يتركهم بشرا ً بل وطن .فقد كان ،ككل ال ّ
ب إلى التاريخ الذي بــدأ بــه ،لبد أن ينتهي معه .ولــذا ،حسب المثل اللبناني "جــاء بالد ّ
كرمه" ،وسّلمه العراق بل جيش ،ول علماء ،ول تاريخ ،ول مؤسسات ،ليعيث فيه فسادًا،
در له مّنا أن يحضر هذه الفاجعة. مـن ُقـ ّ
ويدوس عناقيده على مرأى م ّ
مأساتنا الن تختصرها تلك العبارة التي ينهي بها منصور الرحباني مسرحيته "ملـوك
ك راح بيجي ملك غيره ..وإذا الوطن راح ما في وطن غيره". مل ِ ٌ الطوائـف" .قائ ً
ل" :إذا َ
ن تلك البقرة ،التي بدت عليها أعراض الجنون ،وقد تتسّبب للقتصاد الميركي ،في لكأ ّ
دام إلى بوش في أعياد الميلد .وربما ّ ص ية
ّ هد كانت دولر، مليار الربعين تفوق خسارة
منخرطة في جيش “فدائّيي تكشف تحقيقات وكالة الستخبارات الميركية مستقب ً
ل ،أّنها ُ
دام” ،وكانت تنتظر الوقت المناسب لُتباشر مهمتها التاريخية ،في إلحاق أكبر الخسائر ص ّ
بـ”معسكر الشّر” ،انتقاما للقائد الراعي ،الذي كان “يسوق القطيع إلى المراعي” ،حين ً
ساقه جنونه إلى تلك الحفرة .ونظرا ً إلى كون الرجل من برج الثور ،أتوّقع أن يأتي من
دام ..أو جّنت بسببه .فلول جنون من يقول إن البقرة جّنت بص ّ البيطرّيين الميركيينَ ،
البشر ،ما كان لجنون البقر أن يوجد ،بعد أن أراد البعض معاكسة الطبيعة ،وإجبار
المواشي على أكل اللحوم ،تماشيا ً مع نزعاته الفتراسّية.
مزارعا ً من جنوب أفريقيا ن ُ ب الرجل .وقد قرأت مّرة أ ّ ح ّ وليس عجبًا ،أن تقع البقرة في ُ
عانى الغيرة الشديدة ،التي تتمّلك إحدى بقرات مزرعته ،ما كاد يؤدي إلى انهيار حياته
الزوجّية ،بسبب إعجاب البقرة به منذ أعوام ،وتتّبعها له كظّله أينما ذهب .وعندما تزّوج
مصّرة على إعجابها وتعّلقها به ،وكانت تستشيط غيظاً، المسكين قبل عامين ،ظّلت البقرة ُ
كّلما رأته ُيداعب زوجته أو يمسك بيدها .وقد حاولت البقرة مرارا ً قتل الزوجة ،بأن
تطاردها وتحاول نطحها ،لتوقعها في بئر المزرعة .ومنذ سنتين والرجل حائر بين بقرته
لولى ،ول على تطليق الثانية ،ولسان حاله مع البقرة وزوجته ،ل يطاوعه قلبه على بيع ا ُ
المخدوعة “أخونك آه ..أبيعك ل”.
ب ثور .ففي الجنون “ما ُ ّ ح في ملكة وقوع من أعجب ووقوع بقرة في حب رجل ،ليس
ن من مرا” ،كما جاء في “فن الهوى” لـ”أوفيد”، د ..ول بقرة أج ّ فيش حد ّ أحسن من ح ّ
ب ثور ،وراحت المسكينة ح في وقعت التي “باسيفاي”، الملكة أسطورة الذي يحكي لنا ُ
ُ ّ
ل زينتها وهو غير آبه لها ،مشغول عنها بمعاشرة البقرات، ل يوم ،وتأتيه في ك ّ مل له ك ّ تتج ّ
حتى تمّنت لو نبت لها قرنان فوق جبينها ،عساها تلفت انتباهه.
ن “باسيفاي” ،كانت أّول كائن ُأصيب بجنون البقر .فما لبثت أن هجرت قصرها إلى ويبدو أ ّ
بٍ حلو بقرة ّ
ل ك في ة
ً مشتبه ُ عيناها، عليها تقع بقرة، لّ ك في تحملقُ ل والوديان، الغابات
لعوب ،تتمّرغ على العشب الناعم ،تحت بصر حبيبها الثور ،عساها تسرق لّبه .وذهبت
الغيرة بالملكة حد ّ الفتك بغريماتها ،بإرسالها إلى الحقول لنهاكها بجّر المحراث ،أو إلى
المذبح بذريعة نحرها قربانا ً لللهة.
لـــذا ،أنصح النساء بأن يأخذن ،بعد الن ،مأخذ الجد وجود البقرة كغريمة للمرأة ،ومنافسة
مال وإعلن “جائزة أفضل ج َ ُيحسب لها ألف حساب ،خاصة مذ نزلت البقار إلى ساحة ال َ
دة التجميل ّ ع بكل المتسابقة، تسريحة شعر للبقر” في ألمانيا ،واستعانة أصحاب البقار
النسائي ،من سيشوارات وبودرة وجلتين ومثبتات شعر .وإن كنت ل أذكر اسم البقرة
الفائزة ،فأتوّقع أن تكون بقرة رأسمالية “شبعانة” كسول ً ومغناجًا ،ل تشبه في شيء
طاحة” ،التي وصفها لنا أحمد فؤاد نجم ،في إحدى قصائده الشهيرة ،بعد “بقرة حاحا الن ّ
حرب 67وُأودع بسببها السجن.
والمر على ما هو عليه من العجب ،ل أرى سببا ً بعد الن لغضب امرأة ،يناديها زوجها “يا
بقرة” .خاصة بعدما كشف لنا رجال الفضاء الوجه البشع للقمر ،وبعد إعلن النجم راسل
ت أكبر مع البقار في مزرعته. كرو ،أنه انفصل عن صديقته الفاتنة ،ليستطيع تمضية وق ٍ
صل مع البقار، وفي هذا السياق ،يبدو اعتراف الرئيس بوش ،في بداية حكمه ،بالتوا ُ
معاشرة المتدّربات في البيت اليض، ضل على ُاعترافا ً يشهد بأخلقيات الرجل ،الذي يف ّ
عشرة البقار .وعندما ل يكون رئيس الوليات المتحدة مع زوجته ،أو مع والدته بربارا، ِ
يكون مأخوذا ً بالستماع إلى كوندليزا رايس ،أو إلى البقار .فقد قال في تصريح ،مازلت
مستمع جّيد”. أحتفظ به“ :أتطّلع إلى مشاهدة البقار ،التي تتحدث معي ،لنني ُ
مقولة التي تقــــول" :بعد أن اخترعنا الزواج، في إمكاني في هذا السياق ،أن أقلب تلك ال ْ َ
ً
أصبح هنالك نوعان من الناسُ :تعســـاء ،وُتعســاء جـــدا" ,ففي الواقع ،أنتجت المؤسسة
قــا ً هذه اليام ،وجود هذا
جبناء ،والجبناء جــدا ً والعجيب ح ّ الزوجية نوعين من الناس :ال ْ ُ
النوع الخيــر من الجبناء وسط الرجال تحديدًا ،بينما تزداد النساء شجاعة وجرأة ،وأحيانا ً
ن جاهزات غالبا ً لو اقتضى المر للدفاع عن حّبهن ،وأحيانا ً عن "صيده ّ
ن"، وقاحــــة فهـ ّ
ق ّ
والدخول في حرب لنقاذ مكاسبهن العاطفية ،مــذ شـرع "الحاج متولـي" للفتيات حـ ّ
اختطاف الزواج من ُأمهات أولدهم وقد روت لي صديقة جزائرية منذ سنة ،كيف أنها
دت عليها
حاولت إنقاذ زوجها ،بمواجهة الفتاة التي كان على علقة بها ،لكن الفتاة ر ّ
ُ
مستكثرة عليها النفراد بـ"وليمة" رجـل ثري بوقاحة "كلي ودعي الخريات يأكلن أيضًا!"ُ ،
وشهواني ،في بلد تعاني فيها ثلثة مليين فتاة من العنوسة!
ضل الرجل دائما ً التوفيق بين حياته الزوجية العلنية ،وحياته السرية في المقابــلُ ،يف ّ
حولته ،فُيبدع في أداء دور ُ ف على والطمئنان وقه، بتف للشعور ً ا مع إليهما لخرى ،لنه يحتاج ا ُ
ّ
الزوج الصالح ،تسّترا ً على تماديه خارج بيت الزوجية ،في تمثيل أدوار العاشق ال ْ ُ
ملتـــاع
ول إلى فـــــأر مذعـــور ،ساعة المواجهة مع زوجته ،فيتن ّ
كر غير أنه كثيرا ً ما يجُبن ويتح ّ
ن ل نلومه على للمرأة التي أحّبها ،ويتخّلى عنها حفاظا على مكاسبه الجتماعية ونح ُ
ً
ب ،بـــل نلومه على ِنفاقه وكذبه وتغريره بعشيقته ،ومطاردتها لسـرة بــدل الحـ ّ انحيازه ل ُ
هاتفيًا ،ليل نهار ،ثم التخّلي عنها عند أول امتحان.
صديقـة هاتفتني في الصيف من مطار "نيس" صارخـــة" :رأيتها ..رأيتها" ،على طريقة
أرخميدس ،يوم عثر على اكتشافه الشهير ،وهو في مغطس حمامه ،فراح يصرخ
"وجدتها ..وجدتها" وكانت قد أخبرتني قبل ذلك ،أنها ،بعد أربع سنوات قضتها ،بفضول
دعي أنه
نسائي ،في مطالبة الرجل الذي تحبه بإطلعها على صورة زوجته ،التي كان ي ّ
سيتخّلى عنها ليتزوجها هي ،برغم مفاخرته أحيانا ً بها لغاظتها ،قّررت بعد أن علمت
بسفره إلى الجزائر مع عائلته لقضاء العطلة ،أن تحجز لها مكانا ً في الرحلة نفسها على
دعية بقاءها في فرنسا وكاد لولى ،التي يسافر دائما ً عليها ،وأخفت عليه المر م ّ الدرجة ا ُ
ُيغمى على الرجل ،وهو يراها تمر أمامه في هيئة ج ّ
ذابة ،وأناقة اختارتها بمكر نسائي،
مـل من بعيد خلف نظارتها ،ارتباكه ،وهو يقوم وراحــت دون أن تسعى إلى فضحه ،تتأ ّ
متسّلطة تكبره سنًا ،وترتدي ثيابا ً أصغر من عمرها ولكي بإجراءات السفر بجــوار زوجة ُ
تنتقم لكرامتها ،وهي تراه يتمادى برعــب في تجاهلها ،جلست في الطائرة خلفه
بمقعدين ،وراحت تتجاذب أطراف الحديث مع رجـل وسيم كان يجلس بجوارها ،ما جعله
صص على هذا الغريم ،الذي يغازل في حضرته مام ،كي يتل ّدد على الح ّ من غيرتـه يتر ّ
حبيبته ،وهو عاجز عن الدفاع عن حّبها أمام زوجته وأولده.
ربما كان لسان حال صديقتي آنذاك قول الشاعر:
تمّر بي كأنني لم أكن
ثغرك أو صدرك أو معصمك
لو متّر سيف بيننا لم نكن
نعلم هل أجرى دمي أم دمك
ولنه كان ل ُيتقن العربية ،لكونه بربريًا ،ول يفهم شيئا ً في أغاني ُأم كلثــوم ،ما كان في
إمكانه أن ُيدافــع عن نفسه بذلك المقطع الجميل:
ل خل ّ ُ
ه فإذا أنكر خ ّ
وتلقينا لقاء الُغرباء
ل إلى غايته ومضى ك ّ
ّ
ن الحظ شاء ل شئنا ..فإ ّ ل تق ْ
جم بعضكم على تلك المرأة ،وُيشفق آخرون على ذلك الرجل ..أما أنا ،فاسمحوا لي قد يته ّ
بأن ألعنه ..ليذهب إلى الجحيم!
ف ّ
كــر ..واربــح
َتعّثــر نظــري منذ شهور بخبر ورد في الصفحات القتصادية ،وآلمنـي إلى حد ّ احتفاظي
جْلــد النفس بالعودة له لحقـــًا• بقصاصته لمزيد من َ
ن سلطة التحاُلــف سمحت لوزارة التجارة العراقية، ّ بأ العراقيين، شــر كـان الخبر ُيب ّ
ودة الدليل المت َّبع في عملية تصدير الخــردة من الحديد والفولذ )أي من بإصدار مس ّ
م تدميرها( ،ما ُيساعد على خلق فرص عمل للعراقيين ،لكون معظم ّ ت التي السلحة
مهيأة لستخدام هذه المادة، مصانع الحديد والفولذ والسلح العراقي ،غير صالحة وغير ُ
بسبب عمليات التخريب والسرقة التي طالتها جّراء الحرب•
ف إليهم كُبشـرى ،والخسائر كــد هذا الزمان على العــرب ،أن أصبحت الفواجع ُتــز ّ من ن َ َ
كــب ،الذي ينفرد به المواطن العربي من وروا هذا الفــرح المر ّ كضرب من المكاسب• تص ّ
مــره على ً
دون سواه• فهو يفرح يوم يشتري سلحا على حساب لقمته ،ويفرح يوم ُيد ّ
مـن بثمنه رغيفــا ً حساب كرامته ،ويفرح عندما يبيعه بعد ذلك في سوق الخردة ،فيؤ ّ
وحليبــا ً وخضــارا ً لهـل بيتــه•
ت الصورة المرفقة به• كان عليها فتيان مل ُت على قصاصة ذلك الخبر ،وتأ ّ البارحـــة ،عثـر ُ
ســرق مستقبلهم ،مقابل زهــو هج الشباب ،ن ُهَِبــت منهم فرحتهم ،و ُ مَبا ِ
بؤساء ،لم يعرفوا َ
الطاغّية بامتلك أكثر ترسانة حربية•
مرة ،في ّ المد وأجزائها صواريخ، رؤوس تكديس في منهمكون وها هم ،بوجوه ل عمر لها،
ّ
أكوام من خردة الحديد ،في ساحة•• الفلوجــــة•
مجـّرد اسم لمدينة عراقية ،قبل أن ُ لوجــة ت هذا الخبـر ،كانت الف ّ منذ شهور ،عندما قرأ ُ
خَراب” ُتصبح عنوان إقامتنا التلفزيونية ،وعنفوان مقاومتنا العربية ،وتغدو “الرض ال َ
ب إليها،وة في العاَلــم• فإذا بنا ُننس ُ الصامــدة ،في زمــن ذّلـنــا أمام جيش أكبـر قــ ّ
ونخاف عليها ،ونفتح في قلوبنا مقابر فرعّية لموتى ضاقــت بهم بيوتها•
مجــّرد خــردة ،ينفــرد بتقرير ورا ً وتكلفة ،سـوى ُ في وطــن ليست فيه السلحة الكثر تط ّ
دد
مصيرها شخص واحــــد ،يلهــو بأمــوال مليين الناس كما يلهــو بأقدارهم ،ول يتر ّ
لحظة الخيارات التدميرية ،في تدمير ترسانة حربية لنقاذ رأســه ،كيف ل يصبح النسان
نفسه ،حّيــا ً أو مّيتــًا ،خـردة بشريــة ،ينتظر أن تنظـر سلطة التحالف في َقــد َِره ،وُتصـدر
جــار الموت إلى فتح دكاكين لبيــع دمـــه ودمعــه وأشلئــه إلى الفضائيات، دليل ً يرشد ت ّ
مــن ل َيعتِبـر•• من “معسكــر الشــــّر”؟ عبــرة ِلـ َ
ِ
دم لنا الحرب على العراق ،كضرورة ُ ّتق التي الميركية، النكتــة منكم دقّ صــ ن مــ
َ ْ
مــل ملّيــا ً أيــن ذهبت أموالنا، أخلقيــة ،ل اقتصادية ،لُيحضر علبة مناديل للبكـــاء ،وليتأ ّ
مــرت بأيدينا “صواريــخ الصمــود” في “مصانــع الكرامـــة” )وهذه وليسأل :كيف د ُ ّ
ن المتريّ في سوق التسمية العنترية مع السف حقيقية( ،لُتباع بعد ذلك عّزتنا بالط ّ
الخــــردة؟
أسألكــم :برّبكـــم ،لـمـــاذا يتداَفــع العــرب ويتسابقـون لشراء أسلحة ،وهم يدرون
مسبقا ً أّنهم لن يستعملوها؟ ُ
أظننا جميعــا ً نعـرف الجــواب ،وسنربـح في أيّ مسابقة تلفزيونيةُ ،يطــرح فيها سؤال
ســلح؟”• وإذا أضفنــا إلى السبب المعروف، مـن نـــوع“ :لـمـــاذا يشتــري العــرب ال ّ
ّ
سبب إخافــة الشعـوب بالستعراضات العسكرية ،يصبح السؤال :كم ُتكلفنا هذه السيوف
التي ل ُتغادر أغمادهــا ،وهذه السلحة التي ل ُتفارق مستودعاتها ،من مصاريـف صيانــة،
وتكاليف “إقامــــة” لخبرائها؟
سؤال واحــد سنفشل جميعنا في الجواب عنه:
“مـــاذا فعََلــت الدول العربية بالسلحة ،التي اشترتها على مدى خمسين عـامــــًا؟
حظــا ً سعيــدا ً للباحثيـن عــن الجــــواب•
م
ف عن ش ّ في مساء الفضول الّول تقع في كمين المقارنة .للشوق رائحة ،وعليك أن تك ّ
المدن .أميركا ل تشبهك ول تشبه بلدا ً أحببتها .إنها بلد شاسعة ،ل رائحة لها ول ع ََبق .وفي
ن فاكهة واحدة على طاولتك ن ل طعم لها أيضًا ،وأ ّ
ما بعد ستكتشف وأنت تتذّوق فاكهتها ،أ ّ
م سلقها .في مذاق ،وكأنه ت ّ ْ
في إمكانها أن ُتغنيك عن كل الفواكه ..لّنها جميعها متشابهة ال َ
ت أرصد حالة عشقّية لبلد اختلف الناس في حّبها وكراهيتها ،وما زارها أحد إل الواقع ،مازل ُ
وعاد عاشقا ً أو كارها لها ،بالتطّرف نفسه .العجيب أن أميركا لم ُتثر فضولي يوما .فطالما
ً ً
ت أنني أعرف عن أفلمها ومسلسلتها ما يكفي .وما شاهدته لم يكن يغريني اعتقد ُ
بزيارتها .فقد كان لي في باريس وجنوب فرنسا من الحياة الحضارية الجميلة الهادئة ،ما
ُيغنيني عن حضارة عنفها .أميركا تخيفني .وما يخيفني أكثر ،احتمال أن تسرق مّني يوما ً
أحد أولدي المولعين بها ،لقتناعهم بروعتها ،قناعتهم بروعة بضاعتها ومأكولتها وأغانيها
وبناتها ،الجميلت حتمًا ،كما في مسلسل ) ،(Bay Watchالخارجات من البحر كالحوريات
ل ُأنوثتهن الصارخة .يا للحماقــة ..هم ل يدرون أن في أميركا أعلى نسبة بدينين في بك ّ
العالم ،وأكبر عدد من أصحاب الوزن الخرافي الثقيل ،الذين ل يسعهم ثوب ول ُيجلسهم
خلهم باب .فأميركا التي تستهلك بمفردها ثلث ما يستهلكه العالم من المواد مقعد ول ُيد ِ
حة أبنائها وأعمارهم ،بالسرعة التي يستهلكون بها وجباتهم ً
الغذائية ،تستهلك أيضا ص ّ
السريعة ،ذات الحجام الخرافية أيضًا .فأنا لم أسمع قبل زيارتي إلى أميركا بالـ)Very
مضاهاة ناطحات دة" ،كأنهم يريدون به ُ ،(Big Hamburgersوهو "همبرغر بطوابق ع ّ
م من طبقات العجين، ّ الك هذا يقضم أن السحاب .ول أدري أيّ فم هذا الذي في إمكانه
ت هذا "الهمبرغر" لّول ل جانب .وقد شاهد ُ وما بينها من عجائب الكل الذي ُيشرشر من ك ّ
طي شاحنة من الحجم الخرافي ،الذي ل أتوّقع أن مّرة في إعلن ضخم لـ"ماكدونالد"ُ ،يغ ّ
تكونوا قد شاهدتم مثله في حياتكم .وكانت الشاحنة "الديناصور" ،التي يتجاوز طولها طول
وها علوّ طابق أو اثنين ،متوقفة في شارع في نيويورك لجمع القمامة ،التي مبنى ويفوق عل ّ
ً
طم في أميركا أرقاما قياسية أيضا .بعد ذلك ،علمت من الستاذ فواز الطربلسي، ً ُتح ّ
المحاضر في "جامعة كولمبيا" ،محنة نيويورك والحروب التي خسرتها أكثر من مّرة في
معركتها مع الجرذان.
في الطائرة التي كانت تقّلني من باريس إلى نيويورك ،شعرت بأنني وصلت ،مــذ جلست
ي الواضح من ل زّيـه الدين ّ على مقعد اختاره لي القدر إلى جوار أستاذ إسرائيلي ،في ك ّ
ضفائره وقّبعته السوداء .ظننته زوجا ً للمرأة الجالسة بجواره ،وإذا بها تتبرأ منه حال
ل مّنا اكتشافها عروبتي ،ولتتمتم لي بأنها أستاذة فلسطينية مقيمة في أميركا .أخَرج ك ّ
أوراقه وباشرنا الكتابة .أنا بالعربّية ..هو بالعبرّية ..وهي بالنجليزّية .وعندما شعرت بأن
جاري سد ّ علينا خريطة الطريق ،وأقام حال جلوسه جدارا ً عازل ً يمنعنا من العبور والتحّرك
ي إلى أي مقعد آخر .ما ظننتني ي والدب ّفي الطائرة ،طالبت المضيفة باللجوء السياس ّ
ي
على طريقة "كولوش" في فيلمه الكوميدي عن نيويورك ،سأدخل من دون علمي ،ح ّ
ي قضاء الساعات الست الباقية من "برانغس" ومنطقة الرعب السود .فقد كان عل ّ
قا ،التي فاضت ً مخيفة ح ّ ْ
الرحلة ،في مسايرة جارتي السوداء الميركية ،ذات الملمح ال ُ
ُ
مها وصغيرها ،الذي كان ينام ويأكل ويقفز على
ُ
ي هي وأ ّ على المقعد ،حتى تدّفقت عل ّ
صدرها ..ول مقعد له ،فيأخذ ما في طبقي من أكل ..وَيعَبث بأوراقي ،فألطفه من فرط
مه على جهلي ُ ُ
ذعري على طريقة "مستر بين" بالبتسامات والشارات ،معتذرة ل ّ
صل مع هذا الطفل "الفلتة".لم أستطع الكتابة ول النوم النجليزية ،وعدم قدرتي على التوا ُ
طوال تلك الرحلة عابرة المحيطات .فلوجود ذلك العدد الهائل من البدينين على متن
ما علق ت على الطائرة من وزنهم ،أكثر من خوفي من المطّبات الهوائّية ،وم ّ الطائرة ،خف ُ
في ذهني من ذاكرة الكوارث الجوّية ،التي اشتهرت بها الرحلت نحو أميركا .حتى إنني
كاب بدل وزن مربح لشركات الطيران الميركية ،بوزن الر ّ كرت في تقديم اقتراح ُ ف ّ
أمتعتهم وحقائبهم .في تلك الرحلة التي لم أشَغل فيها سوى نصف مقعدي ،ولم آكل سوى
خــذ من كل شيء نصفه ،حتى إذا ما فَ َ
قد َْته نصف وجبتي ،كان عزائي تلك النصيحةُ " :
ل".فإنك لن تحزن حزنا ً كام ً
قد ل يكون الوقت مناسبًا ،ونحن نعيش على أهبة حرب ،والكرة الرضية تقف على قرن
الثور الميركي ،متوجسة بالكارثة ،أن نواصل الحديث عن صعوبة النضباط العاطفي
بالنسبة إلى الرجل ،وعن تاريخ الرجال الحافل بالخيانات عبر العصور.
غير أن الجواء السياسية المشحونة ،التي تعيشها البشرية هذه اليام ،والكوارث والحروب
التي عرفتها بعض البلدان ،تركت آثارها في سلوك الرجل ،من منطلق نظرته الجديدة إلى
نفسه وإلى العالم ،في محاولة إمساكه بحياة أصبحت تبدو سريعة العطب ،قد تفلت من
بين أصابعه في أية لحظة.
ولن المرء في أوقات الخوف والحذر ُيبالغ في ردود الفعل ،فقد شاهدنا تطّرفا ً رجاليًا،
لسرية في نيويورك ،إذ غدت مصائب البرجين المنهارين هذه اليام ،في اللتزام بالقيم ا ُ
فوائد على الزوجات ،بعد أن صار رجال نيويورك أكثر وفاًء لزوجاتهم بعد هجمات )11
أيلول( وأعلن بعضهم لمجلة "لوبوان" الفرنسية ،أنه يفضل الستمرار في علقة مع امرأة
واحدة ،ول يرغب في خيانة شريكة حياته ،بعد أن صار يشعر بأهمية الخلص للخر.
والخــوف الذي أطاح ببورصة شركات الطيران ،والمنتجعات السياحية ،هو نفسه الذي
حجز الزواج في البيوت ،ورفع أسهم شركات الدوية ،وأسهم المؤسسة الزوجية ،في
عالم صنع الخوف وعّلبه للبشرية ،ثم ما عاد قادرا ً على صنع الطمأنينة ،بعد أن أصبح
رجاله ل يجدون سكينتهم إل في العودة باكرا ً إلى البيت ،لتناول جرعة الحب الزوجي ،ولو
على مضض أميركا التي ابتكرت لنا "المن الوقائي" و"الضربة الوقائية" واستراتيجية
ضلين على مف ّ
صنين بالحب الوقائيُ ،"الحرب الستباقّية" ،استبق رجالها الكارثة ،متح ّ
الرهاب البيولوجي ،الرهاب الزوجي ،واجدين في رئيسهم نموذجا ً للزوج الصالح ولفاعل
ظ البشرية أن يكون انتصر على آل غور بفارق حفنة من حسن ح ّ الخير المثالي ،الذي من ُ
مـن ضـ ّ
ل منا سواء السبيل. َ لهداية الصوات ،فبعث به الّله
ولن الكوارث تقود الناس إلى إعادة تقييم أولوياتهم واتخاذ قرارات حاسمة تتعّلق
بمصيرهم ،فقد جاء في استطلع أجرته مجلة "نيويورك ماغازين" تحت عنوان "الحب بعد
11أيلول" ،أن 36في المئة من العازبين في نيويورك ،باتــوا يسعون إلى الزواج
لسري وهم بالمناسبة ل يختلفون كثيرا ً عن ضحاياهم الفغانيين ،الذين قرأنا والستقرار ا ُ
أنهم كانوا يحتفلون بالزواج تحت القصف الميركي ،بينما كانت الخاطبات ،حسب أحد
العناوين ،يبحثن عن العرسان بين النقاض! فالبعض في مواجهة القصف العشوائي للحياة،
ضل أن يفتك به الحب على أن تفك به الطائرات الحربية ،وأن يحترق بجمر الشواق يف ّ
ً
بدل الحتراق بالقنابل النشطارية ،أو الموت متفحما في برج التهمته النيران.
لمتنا ،المقبلة حتما ً على أكثر من كارثة، وقد استوقفني هذا الخبر ،إذ وجدت فيه ُبشرى ُ
فل أرى خارج الحرب وسيلة ردع تعيد الزوج العربي إلى صوابه ،فيتعّلم الكتفاء بامرأة
واحدة ،والخلص لها كما أننا نحتاج إلى كارثة قومية شاملة قدر المكان ،كي تنهار إثرها،
بمعجزة ،بورصة المهر التعجيزي ،وترتفع أسهم الزواج لدى شبابنا ،عسى أن يفتحها الّله
في وجوه مليين العوانس من بناتنا في العالم العربي.
ملنا الحرب القادمة من هذه الزاوية ،ندرك أنها سُتحسم في "السّرة" وليس في وعند تأ ّ
أروقة المم المتحدة ،أو في مكاتب البنتاغون ،وإن كنا سنخسر فيها ثرواتنا وما بقي من
لسرة العربية ستخرج سالمة ومنتصرة وهنا تكمن حكمة ن كانت ا ُ
أوطاننا ،فل بأس إ ْ
م ال َْ ُ
معارك" ،بينما ّ أ "فياغرا لنتاج ورةّ متط أبحاث في سنوات منذ منهمكين العراقيين ،ال ْ ُ
منوي وقد تم َ
يعتقد الميركيون ،عن غباء ،أنهم منشغلون بتطوير سلحهم النووي ل ال َ
م المعارك" العلن منذ أشهر ،بعناوين كبرى في الصحف العراقية ،عن إنتاج "فياغرا أ ُ
ّ
بخبرات محلية في مختبرات عراقية وكان في الضجة التي صحبت هذا الختراع تصّرف
مشهرة في وجه استراتيجي غبي ،بعد أن بدت الفياغرا جزءا ً من أسلحة الدمار الشامل ال ْ ُ
مهلكة. أميركا ،ما قد يستدعي عودة فريق المفتشين ،وتعّرض العراق لحرب ُ
ل ،حتى يستطيع وليس في وسعنا ،والحرب آتيــة ل ريـب فيها ،إل أن نصّلي كي ُتمهلنا قلي ً
ُ
م المعارك ،أو سبا ً ل ّ إخواننا في العراق التهام ما أنتجوا من تلك الحّبة الزرقاء اللعينة ،تح ّ
مهــا! بالحرى ل ُ ُ
مأ ّ ّ
قبلتي المهّربة على يده ُ
سَبات دام دهرًا ،لحظةقَبل ،ل السحرية التي ُتوقظ حسناء نائمة في غابة من ُ أعــود لل ُ
يضع أمير يعبر الغابة ،شفتيه على شفتيها .ول تلك التي يعود بمفعولها الضفدع أميرًا ،كما
ل به قصاص ساحرة شّريرة. كان ،من َقبل أن يح ّ
حسمت ُ خرافات من الطفولة قصص في قرأه ما اليوم، دق
من ُ ّ
يص ن بيننا َ
ل أعتقد أ ّ
قبلة إّياها .ننتظرها من دون
قبلة .لكن مازلنا ،على الرغم من ذلك ،نحلم بتلك ال ُ مآسيها ب ُ
أن نعترف بذلك ،مراهنين على معجزتها وبركاتها.
مصّغرة من ُقبلة رودان الشهيرة. هذا الصيف ،أحضرت معي إلى "كــان" نسخة رخامية ُ
كانت أختي صوفيا )خّريجة الفنون الجميلة( ،قد أهدتني إّياها ،بعد زيارتها إيطاليا منذ
سنوات .واحتفظت بها في صالوني في برمانا بتواطؤ بطلي خالد بن طوبال مع تمثال
فينوس .حملتها بيدي طوال الرحلة ،خوفا ً عليها .وكنت أبتسم والعاشقان الرخاميان
صص رجال الجمارك أو دهشتهم، يعبران متعانقين ممرات الشعة الكاشفة ،غير آبهين بتل ّ
وهم يعثرون عليهما مختبئين ملفوفين داخل منشفة.
دعه في ُ
مة أجمل من ُقبلة مهّربة؟ أذكر أن نزار قباني في آخر مّرة ،حضرت لو ّ هل ث ّ
منزله في بيروت ،قبل مغادرته إلى لندن ساعتها ،بدا لي كئيبا ً وهو ُيضّيفني من بّراده
كوب عصير ،وشوكولتة كانت على طاولته .وعندما أصبح صهيل أحزانه أكبر من أن ل
أسمعه ،أخذت يده اليمنى ووضعت عليها قبلة تحريضية على الفرح ،ووشوشته "ستكتب
مل يده .تنّبهت أشياء جميلة بهذه اليد ..عدني بذلك!" .عادت له العافية ،وابتسم وهو يتأ ّ
ح حمرتي ْ َس م معتذرة، لحظتها إلى أنني تركت آثار أحمر شفاهي عليها .وعندما حاولت ُ
سحب يده .وعّلق بين المزاح والجد ّ "ل تمسحي قبلتك ُأريد أن ُأصّرح بها لرجال
قبلة ..أم تهريبها؟ على شاق ،إن كان الجمل التصريح ب ُ الجمارك" .لم أسأله وهو مفتي الع ّ
ن العرب ل ُيهّربون المتفجرات القل لقناع البوليس البريطاني ،عندما يعثر عليها ،بأ ّ
قبل ومناشير الحّرية ،ويعلن نفسه شيخا ً من شيوخ والقنابل فحسب .بعضهم يهّرب ال ُ
الحب قبل مجيء زمن السّيافين وشيوخ الموت .أليس هو القائل" :غّنيت النساء حتى
صوفّية ،وصار قلبي ملجأ ً لطالبات العشق والحياة طرق ال ّ ت شيخا ً من شيوخ ال ّ صر ُ
والحّرية؟" .وعلى الرغم من كونه لم يعرض سوى ما تعرضه أميركا اليوم من خدمات ،بل
حورب من الذين انقلبوا اليوم على هوجم و ُ وتأمر به من حقوق وحريات للمرأة ،فقد ُ
دا أمرا أميركيا ،يدخل ضمن موسم الهجرة ً ً أنفسهم وتقّبلوا هذا "المر" الواقع ،عندما َ
غــ َ
إلى الديمقراطية الجبارية.
قبلة" ،أحد أشهر العمال العالمية .لم يكن على ذوق وعلى ِذكر أميركا ،فتمثال "ال ُ
صصا ً لعمال صاحبه النحات ّ مخ ُ كان معرض وأثناء عشر. الميركيين في القرن التاسع
الفرنسي رودان ،تم وضع التمثال الضخم في قاعة منفصلة لمنع الجمهور من زيارته،
قبل.بحجة أن التمثال واقعي أكثر من اللزم! ول لوم على الميركان ،إن هم قاطعوا ال ُ
فعندما كان "عنترنا" ُينشد في ساحة الوغى "وددت تقبيل السيوف لنها ..لمعت كبارق
ن التقبيل في عشرينات د .لقد اكتشفت ف ّ سم" .ما كانت أميركا قد ُوجدت َبع ُ ثغرك المتب ّ
القرن الماضي ،أيام السينما الصامتة .ثم نضجت شفاهها على يد هوليوود في
الخمسينات .فقد كان الكاوبوي ،وهو يطارد المطلوبين للعدالة ،أو ُيبيد الهنود الحمر،
يسرق بين منازلتين وجثتين ُقبلة شرهة من غانية صادفها في )بـــار(.
ل الحرائق ،التي أشعلتها هوليوود كانت ،بحطب مغشوش وأعواد اكتشفنا بعد ذلك أن ك ّ
مبّللة .فهاري غرانت رمز الوسامة الرجالية وسّيد الدوار العاطفية ،كان في الواقع ثقاب ُ
موها إلى ّ ض من شهادة حسب كانت الشقراء، القنبلة مونرو ومارلين النساء. يحبشاذا ً ل ُ
مكرهين في مشهد سينمائي ،امرأة من سللة السكيمو بشفتين صدورهم ،أو قّبلوها ُ
محرقتين .أما وودي آلن الذي ُيوحي بمعشر مرح ودافئ ،فقد صّرحت زميلته، جليديتين ُ
ن معانقته في السينما كمعانقة حائط برلين. ً
الممثلة هيلينا كارتر مؤخرا ،بأ ّ
قبل دقوا ما تقرأونه من خرافات حول تلك ال ُ ّ تص ل قبل، ص ال ُ
خلصــــة ،في ما يخ ّ ال ُ
السحرية .ول تتأثروا بما تشاهدونه من ُقبل محمومة في الفلم الهوليوودية .ل تحتكموا
مة من ُقبل بالوكالة! لغير شفاهكم .فليس ث ّ
وقد وُِلدت لديه الفكرة من مشروب "زمزم كول" إيراني الصنع ،وهي مياه غازية بلغت
لولى.صادراتها 10مليين زجاجة في الشهر الربعة ا ُ
وبرغم الجواء المعادية للعرب والمسلمين ،فقد نجح المثلوثي ،في أن يضع على القنينة
العملقة ) 1.5لتر( ،والمشابهة تماما ً لقنينة "كوكاكول" الصلية ،عبارة "اشرب ملتزمــــا"،
ً
معلنا ً بل وذهب حتى إعلن تخصيص نسبة من ريـــع المبيعات ،لدعم القضية الفلسطينيةُ ،
ً
ذلك على كل قنينة ،من خلل ملصق أخضر تحت شعار" :ل تكن أحمق واشرب ملتزما"،
دور النشر الفرنسية ،كل صيف،
الذي استوحاه من شعار مشهور ،دأبــت على رفعه ُ
مروا جلودهم بغباء ،وأن يستفيدوا من وجودهم علىلتحث الناس على أن ل يس ّ
الشواطئ ..للمطالعـــة.
كة كول" ،الصحافة الفرنسية ،والقنوات التلفزيونية ،ومعها خبراء ولقد شغلت ظاهرة "م ّ
ّ
قضايا الستهلك ،الذين فاجأتهم المنافسة الحقيقّية ،التي شكلها لدى الجالية العربية
ن
والسلمية ،هذا المشروب "المعارض" ،في سابقة جديدة ل عهد لهم بها ،خاصة أ ّ
ت من رجل أعمال ،قصد تحقيق صفقة تجارية ،تستثمر مرارة المغتربين المبادرة لم تأ ِ
العرب ،ورغبتهم في إشهار انتمائهم إلى السلم ،ووقوفهم ضــد ّ المذابح ،التي يتعرض لها
الفلسطينيون ،بل جاءت من صحافي ،قّرر أن ل يكتفي بمساندة الفلسطينيين بالمقالت،
مقاطعة اقتصادية ،ل تقوم على منطق احتياجات السوق .فقد صّرح ول أن يدعــــو إلى ُ
ً ً ّ ً
لجريدة "الفيغارو" ،شارحا إطلقه شراب "مكة كول" قائل" :ل يمكن المضي ُقدمــا في
مقاطعة المنتجات الميركية والصهيونية ،دون العثور على بدائل لها" .فهذا الرجل الواقعي
والعملي ،سبق له أن استفاد من عمله ،كمدير لذاعة المتوسط ،التي تتوجه إلى
المغتربين ،ليجمع 300ألف يورو ،من خلل "راديو تون" ،دام 16ساعة ،في حملة
لمساندة الفلسطينيين.
كرني المر بإعلن في الصحافة الجزائرية ،استوقفني أثناء زيارتي سنة 1998م إلى وقد ذ ّ
الجزائر ،وكان يشَغل صفحة كاملة ،جـــاء فيها ،بمناسبة كأس العالم" :ستكون الليالي
ُ
كر فيكم" ،وعلى يساره صورة كبيرة لزجاجة كول ،كتب طويلــة ..اطمئنـــوا ..كوكاكول ُتف ّ
ش كرة القدم ..احلــم كرة القدم ..اشرب كوكاكول". ع ْعليهاِ " :
مري من العلن ،قال يومها ما أقنعني بالنخراط في حزب أخـي الذي لحظ تذ ّ
مسّيس أكثر مني ،أننا نحتاج إلى هذا المشروب ْ
"الكوكاكول" ،بعد أن شرح لي ،وهو ال ُ
لتحقيق أحلمنا المغاربية ،بعد أن أصبحت الوحدة المغاربية مطلبا ً من مطالب الشركات
الكبرى ،التي أفقدتها خلفاتنا الغبّية صبرهــا ،وأضّرت بمكاسبها ..هي ُتريدنــا سوقا ً
حدة من مئة وثلثين مليون مستهلك ،تتقاسم في ما بينها أفواههم وبطونهم، مغاربّية مو ّ
وأقدامهم وملبسهم وعيونهم وآذانهم ..ولبأس أن تتوافق مع مصالحها .فقد تفتح حينئذ في
قل دون تأشيرة ،على ِغــرار البضائعوجوهنا الحدود المغاربية ،ويكون لنا حقّ التن ّ
الميركية.
ما ل تزرع ،وتشرب حضرنـي يومها قول جبـــران "وي ٌ ُ
ما ل ُتنتج ،وتأكل م ّمــة تلبس م ّ لل ّ
ما ل تعصر". م ّ
ن ويــلت جبــران ،لم تقض مضجعي ،في زمن الطهارة الميركية ،والنوايــــا غيــر أ ّ
لم تريـــزا،الحسنة لكبرى الشركات العالمية ،كيف ل ننام مطمنين وكوكاكول ،بطيبة ا ُ
ل همبورغر بالخير ،وجمعيهم ساهرون ديس "ماكدونالد" يدعــو لنا مع ك ّ ُتف ّ
كر فينــا ،والق ّ
على تحقيق وحدة ،فشلنا في تحقيقها حتى الن ،ما دعــا المناضل التونسي ،حسني
النوري ،أحد القوميين المخضرمين ،إلى تقديم أربع شكاوى ضد أربعة من زعماء المغرب
العربي ،اّتهمهم فيها بالعجــز عن تحقيق حلــم الجماهير المغاربية ببناء اّتحـاد مغاربي
فّعال وقوي ،وعدم تطبيق ما جاء في ميثاق اتحاد المغرب العربي ،خاصة ما يتعلق بحّرية
قـل بين الوطان الخمسة؟ التن ّ
ً
فل ،لو اكتفى يوميا بشرب كمّيات كبيرة من الكوكاكول، أما كان أنفع لهذا المناضل المغ ّ
جـل بذلك ّ يع عساه "ماكدونالد".. أقرب إلى "نايك"، أحذية واصطحاب أولده ،وهم ينتعلون
في مشروع الوحدة المغاربية؟
أما أنا ،فمازلت في حيــرة من أمــري :أأشــــرب "الكوكاكول" ،كي تتحقق الوحـــدة
كـة كول" ،لدعـم النتفاضة الفلسطينية؟ المغاربيــة ،أم أشرب "م ّ
أجيبونــي.
عروبــة سابقـــة". ُ
الحائــرة :أختكــم فـي ُ
كرامة الببغاء
ن احتراما ً خاصا ً للببغاوات ،التي عكس المشاع عنها ،تكمن كرامتها في رفضها أن تكون أك ّ
قنها ما تريد من كلم لتسلية صغارك أو إبهار ضيوفك أو إرضاء غرورك• فهي "ببغاء" ،تل ّ
سيك إل ّ إن شاءت ذلك• ول تتوّقع منها أن تناديك مثل ً "سيادة الرئيس ّ تم ولن لن تصّبحك
ً
جادا من النياشين ،لنها ل ّ ّ
دى "حفظه الله" ،حتى وإن كنت تعلق على صدرك س ّ القائد المف ّ
تحفظ غير المختصر المفيد ،الذي يقتصر غالبا ً على مفردات الشتائم•
لسطول البريطاني أن يختبر على وأثناء قيامه مؤخرا ً بجولة في الخليج ،تسّنى لقائد ا ُ
حسابه سلطة لسان ببغاء كان من المفروض أن يكون أكثر تأدبًا ،بحكم وجوده على ظهر
حارة قد أخرجوه من القفص الذي لسطول ،لعتباره رمز طاقم الفرقاطة• وكان الب ّ ا ُ
يعيش داخله في جناح الضّباط ،وأغلقوا عليه في خزانة ريثما ينتهي الميرال من إلقاء
كلمته ،لعلمهم بلئحة الشتائم والبذاءات التي يحفظها• غير أن الببغاء فاجأ الجميع
م الميرالبمقاطعته الميرال بصوت خافت ،آتيا ً من الخزانة يقول "سخيف"• وما إن يه ّ
م "هــراء"• بمعاودة الحديث حتى يعود الصوت قائل ً "تافــه" ث ّ
لسطول• ذلك أن الببغاء فوجود الببغاء سجينا ً في خزانة لم يمنعه من إيصال صوته لقائد ا ُ
ب على ثقافتنا النضالية ،ل يحتاج إلى شعار "ل صوت يعلو فوق صوت الذي لم يتر ّ
من ل صوت لهم"• فهو ظاهرة صوتية في حد ذاته• وهو َ "صوت يكون المعركة" كي
عكس الكثيرين من رافعي الشعارات ،مستعد للموت من أجل أن يقول كلمته "أو من
أجل أل ّ ُيرغم على قولها" ،حتى لكأنه القائل "ستموت إن قلتها وستموت إن لم تقل••
فقلها ومت"•
ولذا• فتاريخ الببغاوات مليء بالمظاليم والضطهادات والجرائم المرتكبة في حق طائر
مزاجي يتمّيز بفلتان اللسان ،ولم يعتد على طريقة مذيعي أخبارنا التدقيق والتمّعن في ما
قن له مسبقا ً على ورق• لُ ّ
ً
وقد دفع مؤخرا ببغاء في الصين حياته ثمن عدم امتثاله لوامر صاحبه ،الذي أمره بنطق
عبارتي "صباح الخير" و"إلى اللقاء" كل يوم• وبعد ثمانية أشهر من المحاولة الفاشلة ،لم
يتماسك الشاب أمام عناد الببغاء ،فأهانه ووصفه بالحمق• فما كان من الببغاء إل أن كّرر
هذه الكلمة• فاستشاط الرجل غضبا ً وقتله•
وقد أعاد هذا الخبر إلى ذهني قصة مؤثرة وطريفة تعود لشبابي ،يوم كنا نسكن فيلل
ملصقة حديقتها لحديقة جارٍ ضابط كان له ببغاء• ولن الجميع كان ل ينفك يناديني ،فقد
حفظ الببغاء اسمي ،وأصبح ،ما إن يستيقظ فجرا ً على عادة الطيور ،حتى يبدأ في التصفير
مناديا ً "أحلم•• أحلم" ،فتستيقظ جدتي غاضبة واثقة من أن ابن الجيران ينادي عل ّ
ي•
دقة براءتي ،حتى اليوم الذي فاجأنا الببغاء ونحن
وحدث أن ضربتني ووّبختني غير مص ّ
ل واحد تلقينه فرا ً ومناديا ً باسمي• و تحلق حوله الكبار والصغار ،وحاول ك ّ
ّ مجتمعون مص ّ
مطاردة له ازداد الببغاء رفضا ً لترديد ما ُيطلب منه• ُ و ً ا إلحاح الطفال ازداد اسمه ،وكّلما
وكانت الصدمة عندما استيقظنا بعد يومين لنجد الببغاء قد انتحر بغرس مخالبه في عنقه•
من يومها وأنا أتعاطف مع الببغاء ،ليس فحسب لنه أول كائن انتحر بسببي ،بل لنني مع
العمر آمنت بكرامة الببغاء الذي ل يعرف "تبييض الكلم" و"ل غسل القوال" ول يهتف
مناضل يموت بسبب كلمــة ،تاركا ً لنا دعي أنه مثقف أو ُ "عاشت السامي" ،ومن دون أن ي ّ
دور الببغاء
وانس
ع َ ك ّ
ل العرائسَ ..
ف
ل ،كيف تحتفل قرية هندّية بزواج ضفدعين عملقين ،وتز ّ الزواج قسمة ونصيب .وإ ّ
الضفدعة المحظوظة إلى عريسها الضفدع الفحل في زيّ أحمر بـّراق ،بمباركة القساوسة
الهندوسيين ،وسط حفل موسيقي حضره مئات الشخاص ..انطلق موكبه البهيج من بركة
ن في انتظار عريس ل يأتي .أو ضفدع ماء ،بينما َتقَبع فتياتنا بالمليين في بيوت أهله ّ
لسطورة ،بفعل ُقبَلة مسحورة إلى فارس أميــر؟ 4مليين فتاة يتحول ،حسب تلك ا ُ
ّ
ن إلى العنوسة ،وُثلث فتيات السعودية والجزائر وتونسُ ،يعانين ّ طريقه في ن
ّ هــ مصرية،
جد في معظم الدول العربّية ،التي لم تعد تدري ن هذه النسبة ُتو َ نأ ّالمشكلة إّياها ،وأظ ّ
ن ،ل ن وثرائه ّ ماله ّج َ ن ،وأحيانا ً على َ فيها العائلت ماذا تفعل ببناتها اللئي ،على ثقافته ّ
ن إل ّ اّتباع تقاليد بعض الوليات الهندّيــة ،حيث يجدن عريسا ً مناسبًا .وقد ل يبقى أمام أهله ّ
عندما يبدأ موسم الزواج في يوليو )تموز( ،تستأجر العائلت عصابات إجرامية لختطاف
العريس المناسب ،والمجيء به تحت التهديد ،لتزويجه بابنتها ،بمباركة كاهن يجعل من هذا
الزواج عقدا ً غير قابل لللغاء .الهل لجأوا إلى هذا الحل بسبب ارتفاع قيمة مهور الرجال،
غـــل ل أنحاء العالم َ ن الرجال في ك ّ وليس الفتيات ،حسب تقاليد الهندوس .ذلك أ ّ
ضت به السوق من إناث .وإذا حكم ما َفا َ سعرهم ،وزاد دللهم ،وتضاعفت شروطهم ،ب ُ
ن ،وهو أمٌر ،حسب ّ بمفرده وينمن يعشن ل خمس نساء في فرنسا كانت اثنتان من ك ّ
ن مسؤولية الرجال في ل رجال الرض وعـــار عليهم ،فإ ّ الصديق "زوربـــــا" ،فيه إهانة لك ّ
أوروبا ستزداد في السنوات المقبلة ،وكذلك عار ل مبالتهم تجاه 38في المئة من نساء
ن الثلثين ،ول رجل في حياتهن .وتؤكد الحصاءات ارتفاع هذه النسبة ارتفاعا ً تجاوزن س ّ
شرنا التنبؤات بأن أكثر من نصف النساء الوروبيات مخيفا ً بحلول القرن المقبل ،إذ ُتب ّ
فف من م الهائل من النــاث الوحيدات ،وُأخ ّ وانس .ولكي أرفع معنويات هذا الك ّ ن عَ َ سيك ّ
ن نصفنا يعشن مع رجال متزّوجين في النهار أ ن أطمئنه حسدهن لنا ،نحن "المتزوجات"ُ ،
ّ ّ ّ ُ ّ
ما الوفيــاء من وظائفهم ومشاغلهم ،وفي المساء من أصدقائهم ..أو من التلفزيون .أ ّ
ن بين المتزّوجات أيضا ً نساء ُيعانين فيكتفون بإقامة علقة مشبوهة مع "النترنت" ،أي أ ّ
خــرًا ،خبرا ً ي .حتى إننا قرأنا مؤ ّ ّ
طلق اللغو ّ ي ،أو ال ّ سـريـر ّ طلق ال ّ ي ،أو ال ّ طلق العاطف ّ ال ّ
ُ
ك في أبوته عجيبًا ،عن زوج برازيلي أقسم على عدم مخاطبة زوجته إلى البد ،بعدما ش ّ
سم يعود إلى خمسة وثلثين عاما ً بالضبط، ق َ ن هذا ال َ لمولودهما ..السابع .العجيب أ ّ
سم زوجها ،ولم تتبادل معه كلمة واحدة طوال هذه َ َ ق ب فــت والزوجة البالغة 65عامًا ،و ّ
دث إليه نيابة عنها .الزوجة التي كانت بدءا ً العوام ،تاركة لطفالها وأحفادها مهمة التح ّ
ً
صـراخ ،تأقلمت تدريجيا مع وضعها الجديد ،ودخلت في طور عصبّية المزاج ،ودائمة ال ّ
دية ،بأنه على الرغم من طول فترة ّ الج من بكثير رح
ّ فص ُ
لها، ما بع
ي" .أ ّ
صمت الزوج ّ "ال ّ
صمت بينهما ،فقد استطاع أن ينجب منها خمسة أطفال .وهكـــذا ،بفضل المؤسسة ال ّ
الزوجية ،أصبح في إمكان النسان أن ُيفاخر بأنه يتمّيز عن الحيوان بكونه الكائن الوحيد
الذي في مقدوره التناسل ،من دون أن يتبادل كلمة واحدة مع شريكه أو يقوم بجهد
مغازَلة التي تأخذ طقوسها عند بعض الحيوانات ،ساعات بأكملها .وقد ُأضيف طفة وال ْ ُمل ّ ال ْ ُ
ن زوجةصمت التقليدي للزواج ،إنهماكهم الجديد في متابعة الفضائيات ،حتى إ ّ إلى ال ّ
ما المتزوجات من ّ أ التلفزيون. ّ لإ يعاشرُ ل زوجها نّ ل طلق، ّ ال المحكمة من طلبت مصرية
ن يقرأنه في بريد إلكتروني عاجل ..أرسل به زوج مرضى "النترنت" ،فحتى خبر طلقه ّ
من لم يتزّوجن بعد لبؤسنا .فمعظم ن
َ ّ َ ن فليطمئ "مش فاضي للكلم مع حرمة"•
وانس أنجبن أولداً. ن في الواقع ..ع َ َ المتزّوجات هــ ّ
كمين الورد
من أحببتهم سقطوا من القطار”، هذا العام أيضًا ،لن ُأرسل بطاقات معايدة إلى أحد“ .ك ّ
ل َ
حسب قول أنسي الحاج ،وما عاد لهم في القلب من عنوان ُأراسلهم عليه .وذاك الذي
ُأحّبه ،أقرب من أن أكتب إليه بطاقة ،هو يكتبني على مدار العام.
وحدهم قرائي يزيدون ،في كل عيد ،من إحساسي بالذنب ،بعدما فاضت بحّبهم رفوف
مكتبتي ،ووجدتني عاجزة عن الرد على اجتياحهم العاطفي ،بما ُيضاهيه سخاء ،يشفع لي
وع لجمعها( ،لم يحدث أن أنني وقد أضعت الكثير من كتاباتي )حتى أصبح البعض يتط ّ
أهملت يوما ً رسالة لقارئ .ومازلت منذ ثلثين سنة ُأواظب على ترتيب بريد قرائي،
فات ضخمة ،ذات أوراق داخلية شفافة ،تسع كل واحدة منها ،ما ُيقارب وُأرّقمه في مل ّ
ُ
الثمانين رسالة ،مرئية من الوجهين ،مرفوقة أسفل الورقة بمغّلفها .ذلك أنني أقيم مع
مغّلفات الرسائل وطوابعها علقة عاطفية ،وأحزن عندما يحاول أحدهم أن ُيجّرد مغلفاتي
من طوابع بريدها ،أو يفتحها ممّزقا ً أطرافها كيفما اتفق .المغّلف قميص حبيب ُأريد أن
ن ،حسب ما يشي به مزاج المغلف من لهفة. أفك أزراره وحدي ،بسرعة أو بتأ ّ
ن أجمل الرسائل ،قد تأتيك من دون مغلفات ،وأحيانا ً من دون طوابع مؤخرًا ،اكتشفت أ ّ
بريدية .لكأن أصحابها ألصقوا قلوبهم طوابع بريد عليها ،أو كأنها ،لفرط حمولتها العاطفية،
ت بها منذ شهر على مكتبي ،كما معفاة من رسوم النقل البريدي ،كتلك التي احتفظ ُ غدت ُ
ل الفاكسات التي وصلتني ،يوم سّلمني إّياها العزيز زاهي وهبي ،في مغّلف كبير ،يضم ك ّ
استضافِته لي في برنامج “خليك بالبيت” .ومعها تلك البطاقات التي وصلت ،مرفوقة
بثماني باقات وسلل ورد ،بعضها لم يكن لصحابها حق اختيار ورودها ،ول حتى فرحة
رؤيتها على الشاشة في لقطة منفردة ،بعد أن قضى ،مثل الصديقة القارئة جليلة الجشي،
من رام الّله ،أياما ً في التصال بالقارب في لبنان ،لتأمين سّلة ورد أصّرت على أن تكون
مة الشعب كبيرة ،ومن أشهر محال الورود ،ل لتليق بي وحسب ،وإنما لتليق بعا ّ
فل بها.
الفلسطيني ،وامتنان العائلت الفلسطينية التي أتك ّ
على أي عنوان ،غير هذه الصفحة ،أرد ّ لجليلة جميلها وثناءها؟ وكيف ُأعايدها في بداية هذه
السنة ،و ل بريد يصل إليها ،ول هاتف غير هاتف القلب ،يمكنه عبور “الخطوط الحمراء”،
التي تمنع البريد من اجتياز الحدود بين البلدين؟
ومن أين لي بمئة رسالة ،لشكر أعضاء هيئة مكتب الجالية الجزائرية في لبنان ،الذين
ي سّلة من مئة وردة ،أصّر العضاء الخمسة على المشاركة الرمزية في تأمين أرسلوا إلـ ّ
م هناك سّلة ورد من ّ ث الجزائر؟ اسم يحمل عليها، البيض الساتان من شريط ووضع ثمنها،
“رابطة خّريجي الجامعات والمعاهد الجزائرية في لبنان” ،وهم أكثر من ثلثة آلف لبناني،
جّلهم من الطباء الذين درسوا في الجزائر وعلى حسابها ،أيام الحرب اللبنانية ،ومازالوا ُ
يكنون للجزائر كل الحب .وهؤلء وحدهم ل أشعر تجاههم بالذنب ،ل لنهم كانوا مواطنين
جزائريين ،بحقوق كاملة في الجزائر فحسب ،وإنما لن معظمهم عاد إلى لبنان بـ”وردة”
من بستان الجزائر.
وهناك ماري عيراني ،القارئة الصديقة ،المقيمة في أفريقيا ،التي ل أنسى أنها كانت
ي باقة ورد في أول لقاء لي مع زاهي وهبي ،وعادت بعدما الوحيدة ،التي أرسلت إلـ ّ
ي باقة على البرنامج نفسه ،مرفوقة بهاتف غربتها ضّيعُتها خمس سنوات ،لُترسل إلـ ّ
الجديدة .والصغيرة رندا شهاب ) 15سنة( ،التي أهدتني مع باقة ورد صغيرة ،شهادة فوزها
في مباراة القصة الوطنية القصيرة.
وصديق الكلمات الجميلة ربيع فّران ،الذي صادفته ،قبل ذهابي إلى الستديو ،وأخفى عني
ي.
سّر باقة الورد ،التي كان قد أرسلها إلـ ّ
والممثل القدير شوقي مّتى ،الذي أضعت أخباره منذ سنوات طويلة ،وُفوجئت بوروده
وببطاقة مؤثرة ،ربما تكون تشي بأسباب غيابه.
مة زهورا ً ل
نث ّ ول أنسى العزيز طــــلل طعمـــة ،الذي جاءت سّلـة وروده ،لُتذ ّ
كرني بأ ّ
تذبل ،لنها تتفّتح ُأسبوعيا ً في “زهرة الخليج”.
در الورود الذبول ،لم يبقَ من كمائن الورد ،التي نصبها لي الحّبة في ذلك البرنامج، ن قَ َ
ول ّ
ي مشكورًا ،القارئ رضوان ّ إلـ أرسلها الزاهية، الورود من للّ بش مغطاة ية
ّ ُ شمس سوى
لمسية ممطــــرة. غندور ،تحسبا ً ُ
ّ
بقـي أيضا ً بطاقات وفاكسات على مكتبي ،وسلل ورد فارغة ،في ُركن من شرفتي،
ُأحاول في هذه الصفحة أن أملها بـورد المتنــان البــدي ،الذي ل تنقذه من الذبول ...إل ّ
الكتابة.
قيت تلك الحقيبة الفاخرة هدية ،ضمن طاقم من أربع حقائب مختلفة الحجام يوم تل ّ
والشكال ،استبشرت خيرا ً بها .فقد صادف وصولها رغبة لديّ في التخّلص من ذاكرة
حقيبة ُأخرى ،حملت يوما ً ثياب لهفتي إلى مطارات ما عادت وجهة قلبي .ثم أنا أثق
بإمكانية كيد حقيبة لحقيبة ُأخرى ،كما تكيد زوجة جديدة لضّرتها .ولنني كنت جاهزة في
جميع الحالت لممارسة حقي في الخلع ،فقد أحلت حقيبتي القديمة على أناقتها ،إلى
كة ،كما تنهي أعمارها التقاعد العاطفي والوظيفي .وركنتها في اسطبل الحقائب ال ْ ُ
منهَ َ
كثر الترحال بشيخوختها .في أول رحلة لي منذ شهرين برفقة حقيبتي جل ُ أحصنة ع ّ
جمارك في مطار نيس .ما كادوا يرونني أدفع عربتي بحقيبتين َ ال رجال أسعدت الجديدة،
فاخرتين وأرتدي بسبب البرد معطف فرو ،اقتنيته منذ سنوات في موسم التنزيلت ،حتى
تركوا جميع الركاب يعبرون وتفّرغوا لي ،خاصة بعدما لمحوني أبتسم وأنا أراهم يتبادلون
النظرات استبشارا ً بصيد ثمين ،متوقعين أن تعود شباكهم ،في أسوأ الحالت ،ببضاعة
مقّلدة لحدى أشهر الماركات العالمية التي يزدهر سوق تزويرها وتهريبها بين إيطاليا ُ
ولبنان ،فيغّرمونني ثمنها الصلي أضعاف المرات .لم أكن امرأة فوق الشبهات ول تحتها،
كنت الشبهة ذاتها ،بسبب مظهر ثرائي فاضح الشبهة ،المدعوم بجواز سفري الفرنسي
ومسقط رأسي الجزائري ،وإقامتي في لبنان وقدومي من ميلنو ،وامتلكي بيتين في
جنوب فرنسا ،حيث مربط خيل الثرياء الجدد من مافيات روسيا وإيطاليا ..ولبنان .خّيبت
ن الجمركي ،وهو يفتح حقيبتي تلك ،فل يقع على غير ثيابي العادية وكثير من الكتب ظ ّ
وسجادة صغيرة للصلة أحضرتها معي احتياطا ً لنوبة تقوى قد ُتصيبني ،بعدما أصبح عندي
في بيروت سجادتان للصلة أهدتني إحداهما صديقة إماراتية في رمضان الماضي ،فقلت
أحتفظ بواحدة في كل بيت .لم يفهم الجمركي نفع سجادة غير ثمينة "ُأهّربها" في
ن صدمَته كانت في الحقيبة الصغرى ،التي كنت أجّرها لّول مّرة مستعرضة حقيبتي ،لك ّ
خضار الطازجة التي اشتريتها من السوق الحّرة في ُ ال من جنينة تخفي بها أناقتها ،وإذا
مطار بيروت .من طماطم بلدية وخيار صغير ،ل يوجد مثله في فرنسا ،وربطة نعناع
نضرة ،وأجبان بلدّية وزيتون بزعتر وآخر حار بالجوز .ولو كنت في مطار في أميركا،
جرا ً صحي ّا ً أي ّا ً كانت جنسية وديانة الموادح ْ
ي َ
ي الكلب لتشمشمني وفرضوا عل ّ لفلتوا عل ّ
الغذائية التي أحملها .غير أن الجمركي الفرنسي اكتفى بسؤالي عن مهنتي وعنوان
إقامتي في فرنسا .وعندما أخبرته أنني كاتبة أقصد بيتي البحريّ للكتابة ،أظنه تفّهم غرابة
حمولتي واستلطفني .وكما ليعتذر عن سوء ظنه بي ،سألني إن كنت قد تعّرفت إلى ذلك
المطعم الجميل الموجود في منطقتي وإل ّ سكيون سعيدا ً بأن يدعوني إليه .في بيروت
أيضًا ،كثيرا ً ما يشتبه رجال الجمارك في حقائبي ول تشفع لي سوى الكتابة .فعادة يسألني
حب ي وهو يدقق في جواز سفري ،فير ّ ت قادمة؟" وغالبا ً ما يتعّرف إل ّ أحدهم "من أين أن ِ
دة وأحيانا ً بحرارة ،حد ّ إرباكي وإبكائي ،كذلك الجمركي الذي قال لي منذ سنوات بي بمو ّ
ن نحّبك في لبنان". عدة ،وهو يعيد لي جوازي اللبناني "ُيسعدني أن تحملي هذا الجواز ..نح ُ
فقد كنت وقتها يتيمة وطن ،أرى رفاقي من الكّتاب ُيذبحون في الجزائر كالنعاج .في مطار
جنيف ،حدث أن اشتبهت جمريكة في هيئتي ،وفي ساعة في معصمي خالْتها من اللماس.
م سألتني ماذا جئت ُ
ن ثمنها مئة فرنك سويسري .ث ّ سألتني لماذا لم أعلن عنها .قلت إ ّ
أفعل في جنيف؟ أجبتها بأنني كاتبة ،وأنني ُأحب بحيرة ليمان وُأحب الجلوس على مقعد
لمارتين المقابل لها .لم تصدقني تماما ً حتى فتحت حقيبتي .وعندما أطلعتها على كتاب لي
بالفرنسية كان مصادفة في حوزتي ،غدت لطيفة وشديدة التهذيب وراحت تسألني كيف
السبيل إلى نشر أعمال أدبّية .ذلك أن ابنتها موهوبة ،لكنها ل تجد لروايتها ناشرًا! أخذت
دتني بعنوانها وهاتفها لنتواصل .ولم نفعل .من كثرة ترحالي عنوان كتابي لتشتريه ،وأم ّ
تعّلمت أن الحقائب الفاخرة تجعلك شبهة معلنة لدى رجال الجمارك حيثما حللت .والسوأ
صة ُأخرى! مال المطارات ..وتلك ق ّ أنها تجعلك فريسة اللصوص ،حتى من ع ّ
ن العلم إل ّ
مفاجأتــي كانـت ،أنني التقيت نساء لم يزدهن الثـراء سوى بساطة ،وما زاده ُّ
ن عن وجاهتك الدبّية ،وعن هالــة الضوء التي تحيط بك في
ّ له تعتذر لتكاد حتى ً
ا، تواضع
حضرتهن•
م ّ
طلع ما قرأت ،ومتوّرط في هموم السياسةُ ، وأعترف بأن بعضهن التهم من الكتب أكثر م ّ
على آخر الصدارات السياسية ،أكثر مما ُأتيح لي أن أطلع ،كما بعض عضوات “المنتدى”
ّ
ب القراءة ،ومحّبة م إحدى وعشرين امرأة من كل الجنسيات العربية يجمعهن ح ّ الذي يض ّ
رئيسة المنتدى) ،على الرغم من احتجاجها على هذا اللقب ،الذي ل تريد أن تحمل سوى
ي العالي ،وسّيدةس القوم ّ
ديــق ،ذات الح ّ مسؤولياته( ،صديقتي الجميلة أسمــاء الص ّ
المبادرات النسانية والثقافية ال ْ ُ
متمّيزة•
ما يعلم ،وُيجادلك بفضول المعرفة ،ل من يريد أن يتعّلم أكثر م ّ لكنهن ُيقبلن عليك ،بتواضع َ
ً
سلل الورود ،ل طمعا في ّ
ي ،وسُيدللك•• ويغدق عليك الهدايا و ِ بقصد الستعراض المعرفـ ّ
ب فيك ،وزهـــو ّ وح لدبك ٌ
ل إجل بل الرجال، من الثرياء كعادة مدحك ،ول ليشتري قلمك،
ي• ُ
بالنجاح النثوي العرب ّ
ول تدري كيف ترد ّ ديـن المحّبة لنساء لم يطالبنك بشيء ،غير إنجاز كتاب جديد ،ول يمكن
حتى ذكر أسماء بعضهن من باب العتراف بالجميل•
ت دبي ليل ً لجد صديقتي بارعــة الحمـر ،وهي مترجمة أعمالي إلى النجليزية، ت وصل ُ وكن ُ
ومترجمتي بكل لغات القلب ،تنتظرني بباقـة ورد•
ت بيروت ْ غادر مــذ افتقدتها فقد ً
ا، بعض وبكينا فرحا ً في زحمـة المطار ونحن نحضن بعضنا
إلى صقيع كندا•
ل لوازمها النسائية• وفهمت أنها منذ ذلك ملة بكيس ،فيه بيجامتها وك ّ مح ّ
بارعــة جاءت ُ
ي نهارًا ،قبل أن تنضم إلينا ُأختي صوفيا ّ عل القبض لستحالة ً ل لي جناحي ستقاسمني المساء
ّ
القادمة من الجزائر ،ثم الدكتورة هنــــادي ربحــي ،التي لم أكن أعرفها إل على الهاتف
كطبيبة نفسيةُ ،تشرف على “مركز مسارات للتنمية والتدريب” في الشارقة•
وربما كان أجمل لقاءاتي وأطرفها وأنفعها أدبيا ً لقائي بهذه الدكتورة ،التي تملك ،إضافة
إلى جينات الجنون الجزائري الجميل ،مؤهلت علمّية عالية ،وذكاًء إنسانيا ً ونسائيا ً خارقًا،
مدعوما ً بثقافة أدبية وفنّية غنّية•
محّببة ،لنساءج باللوازم النسائية وبفوضى ُ ول الجناح إلى فضاء نسائي يع ّ وهكــذا ،تح ّ
أغراهن سريري الشاسع ،بالنوم جميعهن عندي ،لتحقيق ُأمنية نسائية طالما حـــار الرجال
ل ،عندما يجمعهن سرير واحد هربن إليه من فيها :ماذا تحكي النساء لبعضهن بعضا ً لي ً
ُ ُ
الولد والزواج؟ وهو سؤال حار فيه زوجي كّلما تركته لقاسم أختي سريرها•
وقد وصلت بنا بهجة الحياة ،في فندق خارج عناوين إقامتنا الجبرية ،إلى حد ّ مواصلة
الهروب إلى البحر• فقد استأجرت هنادي مركبا ً جميل ً راح يدور بنا في بحيرة خالــد
هلـــة”•
مذ ِ ن نغني ونرقص على أغنية “ ُ الصناعية ،ونح ُ
عندما غادرت الفندق تركت خلفي سلل نرجس وأوركيديا ،وورودا ً فاض بها الجناح،
وصلتني جميعها من نساء ،إحداهن الصحافية الجزائرية سعاد بلعون ،وُأخرى باسم
ت أحــلم”• ل كتاب وأنــ ِ عضوات “المنتدى” ،مرفوقة بقصائد شعرية عنوان إحداها “ك ّ
ن سيدة إماراتية قضت يوما ً مــة سّلـة ورد اختيرت ألوانها من ع ََلم الجزائر ،وعلمت أ ّ وثـ ّ
دم لي في نهاية اللقاء ُ ّيق كي المساء في ً اجاهز ليكون الجزائري، َ
لم َ ع ال خياطة في ً ل كام
منساب من الباقة• التلفزيوني ،وهو ُ
ولنني ل أستطيع ذكر اسم هذه السيدة ،ذات الصل الكريم ،فإنني أكتفي بتقبيلها هنا
ون مد جـــروح العـــرب•• وتلــ ّ شاكرة لها سخاءها• لقد اعتادت اليدي الماراتية ،أن ُتض ّ
بالــورود آلمهــم•
قـــرأت لـ"آل باتشينو" تصريحا ً ساخرا ً يقول فيه "كّلما انتابتني الرغبة في القيام بتمارين
رياضية ،اضطجعت على الفراش ،وظللت مضطجعًا ،حتى تزول هذه الرغبــة".
وقد وجدت فيه الذريعة ،التي كانت تلزمني بملزمة فراشي ،بينما يتأّتــى إلى مسمعي،
محّرك سيارة جارتي ،وهي منطلقة كل صباح نحــو النادي ،لتبدأ صباحها بالرقص صوت ُ
ّ ً
الشرقي .وأنــا أتفّهـم تماما جهدها ومثابرتها على تعلم الرقص ،مادامت لم ُتولد في
أفريقيا ،حيث الطفال يرقصون من قبل حتى أن يمشوا ،ول في مصــر ،حيث ،حسب
تعليق ساخر للكاتب محمد الرفــاعي ،في مجلة "صباح الخيــر"" :البنت المصرية بالذات
بتنزل من بطن ُأمها وهي بترقص وتاخد "النقوط" من الدكاترة والممرضات".
وأتمّنـى أن تتفّهموا موقفي من الرقص الشرقي ،الذي ُأعاديــه ،فقط لضرورة المعارضة،
معارضة خلقة" ،تأتي إلى الوجود "حاملة السّلم بالعرض" ،ول ذلك أن البنت الجزائرية " ُ
م المعـــارك" ،وبعد أن تكون قد "بطحـت" ُأمها ،وتشاجرت
ّ
تنزل من بطن ُأمها إل ّ بعد "أ ُ
ن هم لم يصدرواددت الدكاترة في أّول صرخة لها ،بنسف المستشفى إ ْ مع القابلة ،وه ّ
دد بالمبريالية ،وُيعلن مقاطعة حليب "نيــدو"! بيانـا ً ُين ّ
م من الجينات الغبّية ،التي تولد بها البنت الجزائرية ،خاصة أنها بحكم هذه وروا هذا الك ّ تص ّ
معّرضة للسمنة ،حسب ُ ية،
ّ قض أو ثــورة بسبب الدائــم وقلقها الثورية"، وهات ّ "التش
دراسة أميركية حديثة ،أثبتت أن نسبة شحوم البطن والردفين ،قد تزداد عند المرأة ،مع
ن
عرضة للخطر ،المــر الذي أوصلني إلى استنتاج ،أ ّ ازدياد قلقها ،ما يجعل حياتها ُ
ْ ُ
مثقلة منذ نصف قرن بقضايا مصائــب العــرب كّلها تعــود إلى "أرداف ال ّ
مــة العربّيـة" ،ال ُ
م في كل م والُغبن .ولــذا ،إنقاذا ً لصحة مليين العــرب ،يت ّ م البــدن" ،وُتضاعف اله ّ "تس ّ
مة عربّية "شطف" بعضها ،بفضل ما تزّودنـــا بــه أميركـــا ،من آلت حديثة مؤتمر ق ّ
لسحب الشحوم والدهون ،التي تراكمـت في خاصرة تاريخنا القومي ،بحيث ما قمنا إل ّ
لولى من نوعها ،التي أقدم عليها الرئيس وأقعدتنا! وهو ما ُيفسر اليوم تلك السابقة ا ُ
ّ
ُ
دام حسين ،قبل أسابيع من "حـرب الحواسم" ،بإصداره مراسيم تقضي بتقليص أجــور صـ ّ
ل ضابط ،ل يتمّتع بطاقة بدنّية، الضّباط ،الذين زاد وزنهم إلى النصف ،بحيث يتعّرض ك ّ
لخـــرى. ل علواته ا ُ لتخفيض أجره الشهري ،وك ّ
"أطلق لها السيف ل خوف ول وجل أطلق لها السيف وليشهد لها ُزحل"
وللمانــة ،فقد التزم الرجل حقًا ،هو وذّريته ،بنظام الحمّية التي فرضها على ضّباطه،
م بها
م بها هروبه مع أركان حربه ،والرشاقة التي ت ّ منقطعة النظير ،التي ت ّ
فـة ُنظـــرا ً للخ ّ
ملة بمليار دولر ،من الوراقمح ّتفريغ خزائن المصرف المركزي ،في ثلث شاحنات ُ
النقدية ،من العملت التي ِقيل عنها يومًا ،إنها "صعبـة".
ن كل الشحوم ،التي لم يستطع ولبد من العتراف للزعيــم العراقي بُبعــد النظر .ذلك أ ّ
"شفطها" خلل الساعات الخيرة من حكمه ،توّلــت قوات التحالف أخذها على عاتقها،
مات تحرير الشعوب العربية من زوائدها الدهنية. واستكمال مه ّ
أبشــروا ...لـن يبـقى بيننا سمين بعـد اليـــوم.
مأتم الحلم
استوقفني قول للكاتبة كارولين أهيم" :الحصول على دماغ يستطيع الكتابة ،معناه
الحصول على دماغ يعذبك" ,ولو أنها خبرت لعنة الحصول على دماغ عربي ،لدركت نعمة
عذابها ،ولقاست بمقياس ريختر لللم ،فاجعة أن تكون كاتبة عربية في زمن كهذا.
ذلك أن الكاتب العربي يشهد اليوم تأبين أحلمه شيء ما يموت فيه ،وُيشعره بخـواء
مة عالم جميل ينتهي ،وهو يستشعر ذلك ،وينتظر مذهول ً حلول الكارثة زمـن النهايات ث ّ
فة من أزاحفة اللم ،ل خ ّ
انتهى بأحلمه ومثالياته ونضالته ..وقضاياه المفلسة نشعر بخ ّ
منعن كاهله مشكلت حملها عمرا ً بكامله ،بعدما عثر لها أخيرا ً عن حلول ،وإنما خفة َ
تخّلص أخيرا ً من أوهامه.
من في فاجعة اكتشافنا ،أنه لم يعد في إمكان أحد أن يبيعنا بعد الن قضية سعادتنا تك ُ
معّلبة ،الجاهزة
جديدة ،مقابل أن يسرق من عمر أبنائنا جيل ً أو جيلين آخرين فالشعارات ال ُْ
دة صلحيتها ،وأصبحنا نعرف من أي "سوبرماركت" للستهلك التي عشنا عليها ،انتهت م ّ
ونا الطبيعي،
ّ نم ومنع تسميمنا مقابل ومازال، بعضهم، استوردها أولياء أمورنا ،وكم تقاضى
لء ،فقراء ،ومرعوبين. واختراع حروب وكوارث لبقائنا أذ ّ
لقد اختصر محمد الماغوط ،نيابة عن كل المبدعين العرب ،سيرته الحياتية في جملة
ت مذعورًا ..وسأموت مذعورًا" فالمبدع العربي ،مازال ل يشعر بالمان في واحدة" :ولد ُ
دد اليوم قبل سجن كاتب أو اغتياله ،فليس هذا كرما ً بلد عربي وإذا كان بعض النظمة يتر ّ
أو ُنبل ً منه ،وإنما لن العالم تغّير وأصبحت الجرائم في حق المبدعين ل تمّر بسّرية ،بل قد
ضر ،كلما جاءه مقدما ً قرابين الولء له ،طالبا ً النتساب إليه.
ُيحاسبه عليها العالم المتح ّ
قها ،وهو منذور لمزاجية كيف في إمكان الكاتب العربي أن يكون ضمير المة ولسان ح ّ
الحاكم وُأمية الرقيب وأهواء القارئ ،الذي أصبح بدوره رقيبا ً يعمل لحسابه الشخصي ،وقد
ونك ،محّرضا ً الشارع عليك ،فتخرج مظاهرات تطالب فرك أو ُتخ ّ يتكفل بإصدار فتوى تك ّ
وابة المحاكم وغرف ّ ب من والعشرين الواحد القرن تدخلك ُ و قلمك، بسفك دمك وكسر
التحقيق والسجون؟ يقول برناردشو" :الوطن ليس هو فقط المكان الذي يعيش فيه
قولة تجعلنا نكتشف النسان ،بل هو المكان الذي ُتكفل فيه كرامته وُتصان حقوقه" وهي م ُ
من ُيتم أوطان لسنا مواطنين فيها فكيف نكون فيها ك ُّتابًا ،ونحن نقيم في ما ُنعانيه ِ
ونا مذعورين من زمن ثقافة الشارب العريض، ّ لت خارجين الحرية، وضواحي الدب ضواحي
خ ُ ّ
مع حــذاء الحاكم ،وُتبّيض جرائم قُطاع طرق التاريخ ،لنقع في ف ّ والقصائد التي ُتل ّ
طغاة من نوع جديد ،ل يأتونك على ظهر دّبابة ،إنما مهيمنة ول ُ العولمة ..فريسة للثقافات ال ُْ
يهدونك مع رغيف البنك الدولي ..مسدسا ً ذهبيا ً تطلق به النار على ماضيك؟ وقد قال أبو
ن أطلقت نيران مسدسك على الماضي ،أطلق المستقبل نيران الطالب الدمستاني "إ ْ
ملي مدافعه عليك" ول أدري كيف في إمكاننا إنقاذ المستقبل ،دون أن نعي الواجب التأ ّ
للمبدع ودوره في حماية الهوية العربية ،ذلك أن معركة اللفية الثالثة ستكون ثقافية في
ُ
فلين أمام هيمنة ثقافية ،ل يمكن أن تكون مستغ َ مغفلين ول ُ الدرجة الولى ،وعلينا أل ّ نكون ُ
بريئة.
كام ،ل ينتظرون إل ّ ن المبدع والمثقف العربي ،هو آخــر صرح بقي واقفا ً في وجه بعض ح ّ إ ّ
غفوة أو غفلة منه ليسّلمونا شعوبا ً وقبائل إلى الغرب ،على طبق العولمة أو التطبيع وهذا
د" ،قد يأتي يوم ل يجد فيه قضية دد نفسه منذ أجيال "مبدع الض ّ المبدع العربي ،الذي ح ّ
عمق الكارثة! قة النضال ،ويومها سنبلغ ُ عربية تستحق منه مش ّ
أكره أن أكتب مثل هذه الشهادات .ربما لنها اعتراف بأن من حسبنا البداع يمنحهم مناعة
ضد الموت ،يموتون أيضًا .وربما لن في كل شهادة نكتبها عنهم ،نحن ،ل نرثي سوانا .أما
هم ،فما عادوا معنيين بما نقوله عنهم .لقد رحلوا صوب "الزرق المستحيل" بحسب تعبير
الصديق صالح القزاز ،الذي لم أكتب شهادة فيه يوم باغتني خبر موته .ربما لن وقع رحيله
ي كان مختلفا ً في فاجعته عن وقع كل الذين عرفوه ،لكونه الصديق الذي لم ألتق به عل ّ
يوما ،والذي علقت رنة ضحكته بهاتفي ،وبعدها بثلث سنوات ،علقت نبرة حزنه المكابر ً
دع استشعارا ً بساعة الرحيل .فهل الذين لم نلتق بهم من المبدعين يتركون فينا أثرا ً
المو ّ
أكثر من الذين عرفناهم؟
بعض أصدقائي من الكّتاب الذين اغتيلوا في الجزائر مثل يوسف سبتي والطاهر جاعوط،
وبعض الذين ماتوا في غيبتي ،تقبلت موتهم بواقعية أكثر ،ربما لنهم جيل قابل للموت...
بحكم أنهم من جيلي.
أما رموز الدب الجزائري ومؤسسو المجد الدبي للجزائر ،فما زلت أتعامل معهم كما لو
كانوا أحياء .لنني أحتاجهم قدوة من أجل البقاء على قيد الكتابة ،ولكي تبقى قامتي الدبية
منتصبة بفضلهم .مالك حداد ...كاتب ياسين ...مولود معمري ...محمد ديب ...جميلين كانوا
في أنفتهم وعزة نفسهم وشجاعة رأيهم ،جميلين في نبوغهم وبساطتهم .فهم من جيل
علمته الثورة التواضع أمام الوطن ،الوطن الذي علمته الثورة انه أكبر من أن يولي
اهتماما ً بأبنائه أو يدلل مبدعيه .آخر هؤلء الكبار ذهب الى نومه الخير ..سكت محمد ديب.
فاجأه الصمت تحت "شجرة الكلم" ،هو الذي أصبح حديثه إلينا حدثًا ،كان مشغول ً عنا
بغور بحر السئلة التي لم تزد كلماته إل ملحًا.
"لول البحر ،ولول النساء ،لبقينا أبد الدهر يتامى .فقد غمرننا بملح ألسنتهن ...وهذا ،من
حسن الحظ حفظ الكثير منا ...ول بد من أن نجاهر بذلك في يوم من اليام."!...
هذا ما جاء في كتابه "من يذكر البحر؟" .أما نحن فنسأل :من يذكر "الحريق"؟ ...
و"ثلثية" محمد ديب التي صنعت منه في البداية "بالزاك الجزائر" ،وجعلت الجزائريين
يعيشون في السبعينات حال انخطاف وهم يتابعون تحويل تلك الرواية الى مسلسل أشعل
النار في التلفزة الجزائرية ،لفرط صدقه في نقل الهوية الجزائرية ووصفها بحيث لم
يضاهه جودة حتى اليوم أي عمل سينمائي جزائري .في ذلك المسلسل اكتشفت محمد
ديب الذي علقت نيرانه بتلبيب ذاكرتي ،وصنعت وهج اسمه في قلبي .وعندما ،بعد ثلثين
سنة ،أصبحت بدوري كاتبة جزائرية تصدر أعمالها مترجمة في إحدى كبرى دور النشر
الفرنسية ،كانت مفاجأتي ومفخرتي في كونها الدار التي تصدر عنها أعمال محمد ديب.
فقد أمدني بها ناشري هدية ليقنعني بمكانة مؤّلفيه الجزائريين اللذين هما محمد ديب
وآسيا جبار ،من دون أن يدري انه رفعني بكتاب الى قامة كاتب كان يكفيني فخرا ً أن
أجالسه يومًا.
أخيرا ً اكتشفت من مقال للكاتب جيللي خلص ،ذلك النزاع الذي وقع بين محمد ديب وبين
منشورات "سوي" الشهيرة التي طلبت من الكاتب تغيير طريقة كتاباته ،والتخلي عن
طروحاته الفلسفية كي يحظى بإقبال أكبر لدى القراء .غير أن محمد ديب الذي ما كان
معنيا ً مثل بعض الكّتاب المغاربيين المقيمين في فرنسا ،بكسب قلوب القراء الفرنسيين
ضل بدل تغيير مساره الفلسفي ...تغيير دار نشره! وجيوبهم ،ف ّ
يبقى أن الجزائر التي كانت تستعد بمناسبة سنة الجزائر في فرنسا للحتفاء بمحمد ديب
بما يليق بمقامه ،من خلل ملتقى دولي وتظاهرات متعددة على ضفتي البحر البيض
المتوسط ،جاء تكريمها له متأخرًا ،حتى لكأن محمد ديب أراد بموته أن يستبقه ترفعا ً
وقهرًا .ذلك ان تكريم الكاتب بحسب جبران ،ليس في أن تعطيه ما يستحق ،بل في أن
تأخذ منه ما يعطي .ومحمد ديب لم ينس أنه زار الجزائر سنة 1981مريضا ً منهكًا ،وطلب
من الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ،التي كانت تنفرد وحدها آنذاك بسوق الكتاب ،أن
تشتري حق نشر كتبه من دار "سوي" وأن تنشر كتبه المقبلة في الجزائر .غير ان
استقبالها الحار له ،وتفهمها لطلبه ،لم يؤديا الى نتيجة .ولم تشفع له الوثائق الطبّية التي
احضرها لثبات حاجته الى العملة الصعبة لكي يعالج في باريس .فاستنادا ً الى قانون
جزائري كان يمنع آنذاك تسديد حقوق التأليف بالعملة الصعبة لي جزائري ،رفض وزير
الثقافة في تلك الحكومة )الفائقة الحرص على أموال الشعب( نجدة أحد أعلم الجزائر
وكبار مبدعيها .وارتأت الدولة ان حقوق مؤلف قد تخرب ميزانية الجزائر ،وان ل بأس
لسباب تتعلق بالمصلحة الوطنية من إعادته الى منفاه خائبا ً مجروح الكرامة.
من يومها ومحمد ديب يزداد توغل ً في منفى أراده وطنا ً لمرارة أسئلته ،وقد أفضى به الى
"شجرة الكلم" و"ثلوج الرخام".
ً
مات صاحب "الحريق" .واليوم سيأتون ،حتما سيأتون لنقل رماد غربته في صندوق محكم
الغلق على مرارته ،يغطيه علم الجزائر وسيمنحونه وسامًا .ويكتبون مقالت كثيرة في
جمالية عودة البن الضال الى "وطنه" .وسيكون لسان حاله ،قول الخطل الصغير" :أرجو
أن يترك نعشي مفتوحا ً عند قدمي ،لنهم سيمنحونني يومئذ وسامًا ...وسألبط بقدمي ذلك
الوسام!"
ن أفضل ثقافة ،هي تلك التي يكتسبها النسان من الرحلت" ,وربمـا كان يقــول غوتــه" :إ ّ
ن أجمل العمال البداعية ،سواٌء أكانت أدبا ً أم أعمال ًّ إ حتى أيامه، على هذا الكلم صحيحا ً
دك ،فتكتشف ً
تشكيليةُ ،ولدت على سفر ،لحظة النبهار الول ،الذي يضعك أحيانا أمام ض ّ
نفسك أثناء اعتقادك أنك تكتشف الخر.
ذى سابقا ً
ن الوكالت السياحية ،لم تترك اليوم من هامش للتيه السياحي ،الذي غ ّ غير أ ّ
ً
فل التلفزيون مشكورا ،بأن يوّفر علينا مشقة السفر ومفاجآته السيئة"أدب الرحلت" ،وتك ّ
أحيانا ً إذ أصبحنا نعرف كل شيء عن بلدان لم نزرها ،وأحيانا ً نعرف عنها ما يكفي ،كي
نعدل عن زيارتها.
شخصيًا ،كنت في صباي منبهرة بصورة أميركا ،كما كانت تبدو لي في أفلم مارلين مونرو،
دق فرانك سيناترا ،المغترب ُ
وفريد استير ،عندما كان يرقص تحت المطر ،وكنت أص ّ
اليطالي" ،المافيوزي"،الذي أصبح في ما بعد البن الشرعي لميركا وصوت أحلمها ،يوم
كان يغني أغنيته الشهيرة " ،"New York.. New yorkالتي يقول مطلعها ،ببهجة
المغترب المسافر نحو أرض أحلمه "اشيعوا الخبر ..إني مغادر إلى نيويورك".
غير أني عندما تجاوزت سن تصديق الغاني ،جعلتني أفلم العنف الميركي اليومي ،أزهد
في زيارة أميركا ،وأخاف على أولدي من القامة فيها وعندما زرت واشنطن منذ سنتين،
بدعوة من جامعة "ميري لند" ،لم ُأغادر المدينة الجامعية إل ّ قلي ً
ل ،خوفا ً آنذاك على نفسي
كون فيه ،بعد أن أصبح النسان العربي من يخافه الميركيون ويش ّ ولو عدت اليوم لكنت َ
مشبوها ً ومنبوذا ً بمقاييس الكراهية المشروعة.
ي أن أزور نيويورك لكتشف أميركا ولنني ل صديقتي رنـــا إدريس قالت وقتها ،إنه كان عل ّ
قه التاريخي ،فلقد تركت له شرف ُأصّر على مشاركة كريستوف كولومبوس ،سب ْ َ
اكتشافها ،خاصة أن ذلك حدث عام ،1492أي في السنة نفسها ،التي سقطت فيها
غرناطــة.
م
ورنـــا ابنة "منهـــل" دار الداب ،ربما لم تسمع بمقولة صمويل جونسون ،الذي وضع أه ّ
ل" :عندما طرد قاموس في النجليزية ،وكان يشهر كراهيته لنيويورك والميركيين ،قائ ً
ن الجزيرة الباردة تخلو من خرافة أساسها أ ّ القديس باتريك الفاعي من آيسلندا )وهي ُ
الفاعي( ،سبحت كّلها إلى نيويورك ،وانضمت إلى الشرطة فيها" ,وهو أمر لم يكن
لُيطمئن امرأة جبانة مثلي!
فل ملكا إسبانيا،وكان كولومبوس قد أبحر في سفينته الشهيرة "سانتا ماريا" ،بعد أن تك ّ
إيزابيل وفرديناد ،بتمويل رحلته ،احتفاًء بانتصارهما على العرب ،بعد أن ساعد زواجهما
وات السبانية على توحيد الممالك السبانية ،وإسقاط غرناطة ،التي صمدت في وجه الق ّ
أكثر من غيرها من المارات.
ولن كولومبوس كان يؤمن بكروّية الرض ،فقد ذهب بسفينته في التجاه الخاطئ على
أيامه ،واكتشف أميركا ،وهو يعتقد أنه اكتشف الهند طبعًا ،ما كان المسكين يدري إلى أ ّ
ي
حد ّ سُيغّير اكتشافه العالم ،بعد قرون من ذلك التاريخ فقد كانت أميركا يومها قارة ضائعة
طي صحراءها في المحيط ،تحكمها رماح الهنود الحمر ،وتصول وتجول فيها خيولهم ،وتغ ّ
مة ما يشي بأن تنبت فيها يوما ً ناطحات سحاب نباتات عملقة من شجر الصّبار وما كان ث ّ
دى السماء ،أو أن تظهر حضارة تكنولوجية خارقة تغزو العالم وتحكمه وهو ما جعل تتح ّ
ُ
جورج كليمنصو ،وزير دفاع فرنسا ،أثناء الحرب العالمية الولى ،يقول" :أميركا هي البلد
الوحيد في العالم ،الذي انتقل بمعجزة من مرحلة الهمجية ،إلى مرحلة النحلل ،من دون
أن يمر بمرحلة الحضارة الوسيطة".
ن زمن السياحة البريئة قد انتهى،ّ إ فقط، لقول لناقش الرجل رأيه ،بل ولست هنا ُ
بالنسبة إلى المواطن العربي ،الذي نزلت أسهمه في بورصة السفريات العالمية ،ولم تبقَ
له من ثقافة الرحلت إلى الغرب ،إل ّ ذكرى الخوف الحدودي ،ومن "أدب الرحلت" إل ّ قّلة
غرف التفتيش التي يدخلها حافيا ً من حذائه ،والنظرات أدب اللت الكاشفة لمتعته ،و ُ
قاها في شكل أسئلة. ذبة ،التي يتل ّالخارقة لنواياه ،والهانات المه ّ
ً
وعلى العربي الذي يسافر إلى الغرب أن يكون جاهزا ،ليجيب عن شبهة بقائه على قيد
دته!
العروبة ،ولماذا هو لم يشهر حتى الن ر ّ
لبد ّ أن أعثر على طريقة ،أرشو بها سكرتيرتك الفرنسية شديدة التكّتم ،كي تبوح لي
بقائمة مواعيدك ،بأسرار رزنامتك وتواريخ أسفارك .لبد ّ أن أغوي يوما ً بوابك البرتغالي
من يأتون لزيارتك. دائم الفضول ،عساه يشي لي بأيام قدومك ،بوضعك الصحي ،وبهيأة َ
لبد أن أشتري ثرثرة شغالتك الفلبينية ،لتشكو لي عاداتك في غيابي ..كم استهلكت من
مناشف؟ وهل عن ابتهاج عاطفي ،كعادتك ،اقتنيت طقما ً جديدا ً من أفخم الشراشف؟
ي فاخر على طاولة صالونك؟ وهل تشي بك صباحا ً مباهج السهر ،وبقايا نبيذ فرنس ّ
***
خاص:
أّيها القديس فالنتاين ..يا شفيع المحبين والعشاق ..تجد هنا نسخة عن قائمة بطلبات
عاشقة عربية ،ل حول ول قوة لها ،في مواجهة العولمة العاطفية.
كّلي ثقة بمعجزاتك.
ت فاقده" ,وهو من شئت فأن َ من أجمل أقوال المام علي )كّرم الّله وجهه( ،قوله" :أح ّ
ب َ
ن علينا أن نعيش مدبرٍ كأن لم يكن" ,لكأ ّل ُمقبل إدبار وك ّل ُ كرنا بقول آخر له" :لك ُّيذ ّ
ددة ،ونتهّيأ مع كل امتلك ..لحتمّية الفقدان ..وكما يقوم نزار قّباني السعادة كلحظة مه ّ
ب ،علينا أن نقوم يوميا ً بالتمّرن على فاجعة ِفراق أقرب الناس ّ الح في بـ"تمارين" يومّية
وي عضلة القلب ،بالنقطاع فترة عن الذين إلينا ،كي ُنحافظ على لياقتنا العشقّية ..ونق ّ
نحّبهم.
محبين ،وما يليه من آلم النهايات ذلك أن الجمل كان لووما أعنيه هنا ،هو فراق ال ْ ُ
ض بنا صوب خلفات وشجارات، استطعنا الحتفاظ بجمالية البدايات ..لو أن الحب لم يم ِ
ب الكبير يموت صغيرًا.
ح ّ
وه الحلم فينا ،وتجعل ال ُ واكتشافات تش ّ
وبسبب هذا الواقع الذي انعكس على أغانينا ،يصعب إحصاء الجرائم العاطفية في الغاني
العربية ،التي كثيرا ً ما ُيضاف إليها جريمة هتك المغني ذوق المستمعين ،وثقب مسامعهم
مى تكاُثر الجمعّيات التي تظهر كل يوم باسم ضحايا الرهاب ،وضحايا بعويله وفي ح ّ
ددة بالنهيار ،اقترح أحد القّراء الجزائريين تشكيل جمعية
ّ المه البنايات وضحايا الفيضانات،
ضحايا الحب من طرف واحد وأظن أن الموسيقار فريد الطرش ،كان يصُلح رئيسا ً شرفيا ً
لها ،لو أنه لم يكن ضحية فعلية من ضحاياها!
ل دولةطــر لي أن أزيــد على اقتراح هذا القارئ ،أن يكون لهذه الجمعّية فرع في ك ّ خ َ
و َ
شاق وحدهم ،بل يشمل أيضا ً المواطنين العرب، عربية ،وأل ّ يقتصر النخراط فيها على الع ّ
ب ،ول يعنيها أن تسحق الحاجة هامتهم ،أو تتقاذف الذين يعانون من أوطان ل ُتبادلهم الح ّ
ي ،التي يقبع
ّ العاطف العتقال معسكرات بإغلق المنافي أقدارهم ..في المقابلُ ،أطالب
هوسهم وروا الحياة العاطفية بثوابت أزلية ،وذهبوا ضحية َ سذج ،تص ّ
في زنزاناتها عشاق ّ
ب الكبير والخير ،فوقعوا في براثن حب ّ الح هو ب
ّ ح ّ
ل ك أن معتقدين بعبارة "إلى البد"،
خخ بأجهزة النذار ونقاط التفتيش ،غير مف ّ
مسّيج بالغيرة وأسلك الشكوك الشائكة ،و ُ ُ
مدركين أن الحب ،رغم كونه امتهانا ً للعبودية ،هو تمرين يومي على الحرية أي على قدرتنا
على الستغناء عن الخر ،حتى لو اقتضى المر بقاءنا أحيانا ً عاطلين عن الحب.
ب لهم!
كل في كون العشاق يسعدون بعذابهم ،ول أمل في إنقاذهم من استعباد الح ّ ال ْ ُ
مش ِ
طة اشتياق تقع بمحاذاة منــذ عقدين وأكثر ،وأنـا ُأؤجل موعدي مع رومـــا• فقد كانت مح ّ
حاتيها ُ
مالها ،وتاريخ انبهاري بن ّ ج َ
ت أريد معها لقاًء ُيضاهي جغرافية َ إقامتي الصيفية• وكن ُ
ب ما•ّ ح بذريعة لدخولها المناسب، الموعد انتظار على رة مص
ُ ّ طهاتها، مغّنيها و ُ ساميها و ُ ور ّ
من ً
فمع مدينة مثل روما ،يجتاحك حنين الفتوحات العشقّية• لــــذا ،ما وثقت يوما ببراءة َ
وق أو اقتناء أحذيــة• من يقصدها ،فقط ،بنّية التس ّ جة سياحّية ،ول احترمت َ يزورها بح ّ
شبهات• إنها الشبهة ذاتها• تسبقها ل المدن اليطالية ،ليست فوق ول تحت ال ّ رومــــا ،كك ّ
حــة داليـــدا ،وشفتا صوفيا لورين ،ووسامة ماستروياني، ّ ب بها تشي عاطفية، ذبذبات
والغـــراء الغامض لرجال ل أسماء لهم ،يرتدون السود وِغوايـــة “المافيوزي”•
لــــذا ،ما ظننتني أحتــاج سوى إلى افتعال أحلمي لدخولها•
مــة حتمــا ً عشق إيطالي ينتظر أيّ زائـــر حــال نزوله من الطائرة• كما انتظر ذلك فث ّ
ممسكا ً بفردة حذائها• ُ يــة
ّ الحاف ساندريلل المير
شبهة حذائها كما في فيلم مـة نوافير وبرك مرمريــة ،ستستحم فيها امــرأة خالعــة ُ وث ّ
ي المزاج ،ترّبى على ّ متوسط جسد تلبيب نيرانه التهمت ب ُ ّ حــ بعد فيتــا”، “الدولتشي
جنات والصلصة الحمراء ذات البهارات الحاّرة ،وعلى موسيقى مسكونة بإيقاع مع ّ ال ْ ُ
الشهوات•
ولكن ،وحده فيلليني استطاع المساك بوهــم روما ،وترك لنا شوارع نسيت أسماءها،
مفرطات في الشغف• وأصبحت في ذاكرة أبناء رومــا ،تحمل أسماء أفلمه ووجوه نساء ُ
مــا ليوناردو دافنشي ،فغادر روما ليتوّلى إدارة حركة الهبوط والقلع في مطار يحمل أ ّ
شاق محتاليــن ،وع ّ ُ و شعراء من أحفاده وترك “الموناليزا”، بّ ح عن تقاعد لقد اسمه•
فلين من الزّوار• فلون باستقبال السّياح والتجار والمغ ّ وثرثاريــن ،يتك ّ
ت مشغولة عن متابعة كن رومـــا، إلى المطار من تنقلني كانت التي لجــرة في سيارة ا ُ
ُ
دث بها سائقي، داد المعبوث بأرقامه ،بإعــادة الكلمات اليطالية التي كان يتح ّ لهاث الَعـ ّ
مــل مدينة تعيش السيولة الزمنّية ،حتى أتأ ية، الفرنس أصولهاال ْمفـرط في اللطــف ،إلى ُ
ّ ّ ُ
ل شارع إشارات في النفتــاح الشاسع للمكان ،الذي عكس جنيف ،ل تقطع أنفاسه عند ك ّ
ب الضوء الحمر ،ول اللوية الحمراء التي المرور• فرومــا كأهلها ،مدينة مزاجّيـة ،ل تح ّ
مشاةحكمتها يومًا ،ويحدث أل ّ تحترم الضــوء الحمر• ول أحد يجد في ذلك جريمة• فال ُْ
مزدحمة بالسيارات ،حتى إنهم أعلنوا ق ،والشوارع ُ يقطعون الطرقات الشاسعة كيفما اتف ّ
صـة• ّ الخا السيارات يوم الحد يوما ً ُيمنع فيه استعمال
وأفَهم أن يكون الكاتب اليطالي “دارُيـو فــو” قد علم بنبأ فوزه بجائزة “نوبل” ،عندما
كتب عليها “داريو لقد فزت بجائزة نوبل”• فاليطاليون اقتربت منه سيارة عليها لوحة ُ
ذر التصال بهم ،لنهم أثناء ذلك ،يكونون يقضون نصف وقتهم في السيارات ،ويتع ّ
قالة•
دث على هواتفهم الن ّ مشغولين بالتح ّ
شا ً وضجيجا ً موسيقيا ً لكلم كأنه غناء ،ل تترك لك وقتا ً ً
رومـــا المزدحمــة حّبــا وبهجة وغ ّ
ك خسائر مساءلة التاريخ• لكأنها مدينة منذورة لكعوب النساء ،تصّر على تكبيد َ مل أو ل ِ ُللتأ ّ
ّ
من سترتدي كل الثياب المعلقة في ً ً
شرائّيـة لست مهيأ نفسيا لها ،لنك مازلت ل تدري ل ِ َ
خزانتك ،ول أين ستذهب بأحذيتك الفاخــرة الفارغــة ،التي أضاعت وجهتها ،كما ألبرتو
مورافيا القائل “رأسي مليء بأوراق الميترو العتيقة”•
كان قلبي مزدحما ً بأحذية عتيقة ،أغلى على ذاكرتي من أحذية إيطالية تعرضها واجهات
رومــا لغير القدام العاشقة•
ي ،وأقنعني من دون أن أعترض على نصبه ،إنني مددته ّ عل احتال ن ذلك السائق الذي مإ ّثـ ّ
بورقة نقدية من فئة العشرة يورو ،ل من فئة الخمسين ،وتقاضى مني بالتالي ما يفوق
المئة يورو ،مقابل إيصالي من المطار إلى رومــا ،ل يدري كم أساء لحذية أحلمي
اليطالية ،وأطــــاح بموعـدي العشقي الّول مع إيطاليـــا•
لم أدرك يوما ً سر انجذاب السرى السياسيين إلى كتاباتي ،حتى إنه في إمكاني أن أكتب
كتابا ً كامل ً )قد يكون كتابي الجمل( عن تلك المصادفات العجيبة التي ،على مدى ربع
قرن ،وضعت مرارا ً في طريقي أسرى من سجناء الرأي القابعين في المعتقلت العربية،
قبل أن ينضم إليهم السرى الفلسطينيون الموزعون على السجون السرائيلية .بعض هذه
القصص من الجمال ،بحيث أرى في عدم كتابتها جريمة في حق الدب ،وأحيانا ً في حق
الحب.
عاد موضوع السرى ليجتاح حياتي بعد مروري ببرنامج “خليك بالبيت” ،وقبلها بيوم كان
زاهي وهبي قد طلبني مساًء ليقول لي“ :أدري أن هذا الخبر سيسعدك ..لك سلم خاص
من أسرى سجن عسقلن ..إنهم ينتظرون بلهفة حلقة الغد لمتابعة حوارك” .وما كدت
أضع السماعة حتى رحت أبكي للحظات ،غير مصدقة معجزة الكتابة ،التي تجعل كلماتك
تخترق الحدود والحواجز ،وبوابات السجون ،وقضبان الزنازين ،لتحط في أيدي أسرى
محكوم على بعضهم بثلثين سنة من السجن.
لكن معجزة ُأخرى كانت في انتظاري غداة بث البرنامج ،عندما رن هاتفي النقال،
ووجدتني أتكلم مع السير محمود الصفدي ،الذي أمده زاهي برقم جوالي ،واستطاع
ي صوته عبر الهاتف .وبقيت مذهولة أبحث عن كلمات أرد بطريقة من الطرق أن يوصل إل ّ
بها عليه .فقد كان يتكلم بجمالية وفصاحة صقلتهما العزلة والمطالعة ..والحب .وراح
ي محبته ومحبة رفاقه السرى .قال“ :نحن أربعمئة معتقل هنا، بحماس وشوق ينقل إل ّ
نهديك ورودا ً أكثر من التي وصلتك ،لنك أهديتنا قارب نجاة لعالم الحرية والمعرفة .كتبك
زادنا اليومي في رحلة السر الطويلة”.
ً
وأما تعجبي لكتشافي أنه طالع رواياتي الثلث ،أخبرني محمود أنهم ناضلوا كثيرا ودخلوا
في إضرابات جوع مفتوحة ،قبل أن يحصلوا على حق القراءة وحق مشاهدة التلفزيون،
وأنه قبل ذلك حدث لحد الرفاق السرى أن قضى أياما ً منكبا ً على نسخ “ذاكرة الجسد” بـ
“أحرف السمسمة” ،ليهربها إلى بقية المعتقلين .سألته عن هذه التسمية ،قال “إنها تطلق
على أصغر حرف يكتب على ورق شفاف للمراسلت” .لكنه طمأنني بشيء من الفرح
ل“ :الن ،جميعنا قرأناك ،وأبطالك يقيمون معنا ،برغم ضيق زنزاناتنا التي تضم ثمانية قائ ً
ً
أسرى .لقد أفسحنا مكانا بيننا لخالد وعبدالحق وحياة ..إنهم يعيشون معنا ..نتحدث إليهم
ونتحدث عنهم في جلساتنا”.
ّ
لم أفهم سر التوقد ،الذي يشتعل به كلم محمود الصفدي ،إل عندما حدثني عن “عاطف
شاهين” ،الفتاة التي خطبها قبل خمسة عشر عامًا ،أي قبل اعتقاله ببضعة شهور ،لكنها
يوم حكم عليه بالسجن لسبع وعشرين سنة ،بسبب نشاطه في النتفاضة الولى ،رفضت
أن تضع حدا ً لعلقتهما .قال محمود بسخرية“ :من الواضح أنها لم تأخذ بنصيحتك التي
تقول “من الفضل أن تحب المرأة رجل ً في حياته امرأة على أن تحب رجل ً في حياته
قضية” .حاولت كثيرا ً إقناعها بالتخلي عني وتحريرها من أعباء رحلتي الطويلة ،إل ّ أنها أبت
وأصرت أن تتمسك بي وبحبنا وتسير معي في درب اللم مجهولة النهاية .وكانت تردد
دوما ً أن من حقها أن تناضل كما ناضلت أنا ،وأنها ستنتظرني إن اقتضى المر خمس
عشرة سنة ُأخرى إلى نهاية حكمي”.
في عيد العشاق ،سلم خاص إلى محمود وعاطف ،التي يحدث أن تهاتفني من القدس،
ي تحيات خطيبها أو رسالة منه. لتنقل إل ّ
رائعان أنتما وجميلن ،حتى لنكاد نحسدكما على أسطورة حب أنجبها الحرمان ،وانتظار
حبيب سنة ..مقابل كل يوم كان لكما فيه لقاء.
جان ..خذوا بؤسنا العاطفي وسوقونا إلى سجن إن كان العشق يحتاج إلى سجن وس ّ
عسقلن.
وك ّ
ل عام وأنتم سعداء!
بعضنا يتسّلق شجرة المصادفة ،ويتعّلق بأغصانها ،وقد يقع أرضا ً وُيصاب بخدوش أو كسر
ط ذلك الطائر يوما ً على “درابزين” م قد يحدث أن يح ّ ما ،وهو ُيطارد طائرا ً لن يمسك به ،ث ّ
شرفته ،أو يذهب متى تناول ما تساقط أرضًا ،من فتات عند أقدام مائدته .وتغدو السعادة
عندئذ مرهونة بتنّبه المرء إلى وجودها ..عند قدميه.
من هنا جاءت نصيحة أحد الحكماء“ :السعادة في بيتك فل تبحث عنها في حديقة
الخرين” .ذلك أننا كثيرا ً ما ل نتنّبه إلى الشياء ،التي تصنع سعادتنا ،لمجّرد أنها في متناولنا
وملك يدينا ،وننصرف عنها إلى مراقبة ،وتمني ما هو في حوزة الخرين ،بينما معجزة
السعادة تكمن في مواصلة اشتهاء ما نملك والحفاظ عليه ،كأنه مهدد بالزوال ،بدل هدر
ن حصلنا عليه.
ن نح ُ
مطاردة ،ما قد يصنع تعاستنا ،إ ْالعمر في ُ
لولــى أن ل تحصل على ويحضرني هنا قول أوسكار وايلد“ :ثـمــة مصيبتان في الحياة :ا ُ
ّ
ما تريد ..والثانية أن تحصل عليه”.
وهو قول قد يرفع من معنوياتنا ،لكونه يواسي خسارات بعضنا ،بمكاسب البعض الخر،
التي ليست سوى ضرب من ضروب الخسارة ،كما يبدو من إحدى الدراسات النسانية،
التي تم إعدادها مؤخرا ً في إسبانيا ،بعد متابعة متأنية لـ 300ثري إسباني ،أثبت من خللها
ن “الشباب والصحة ،والوظيفة والملمح الجميلة ،والسيارة الفارهة ،كّلها ل الباحثون ،أ ّ
تجعل النسان سعيدًا”.
ن الناس ينظرون إليهموأكد الثرياء الثلثمئة ،أنهم ل يشعرون بالسعادة والمان ،وأ ّ
من بالعجاب ،ل لشيء إل ّ لنهم أغنياء فقط ،مؤكدين أن السعادة ل ُتشترى بالمال ،وأ ّ
ن َ
يبحث عنها ،لن يجدها إل ّ في العلقات النسانية ،والمباهج البسيطة للحياة اليومية ،وهو ما
يفتقدونه ،بسبب الثراء الفاحش ،الذي يعّرضهم لمستويات عالية من القلق ،لحساسهم
بأن ل أحد يحّبهم لنفسهم ،وبأن القارب والصدقاء يستغّلونهم.
ملكا ً للذي يملك القل؟ ففي إحصائية عالمية ُأخرىُ ،أجريت في اثنين وماذا لو كانت الدنيا ِ
ن عوامل السعادة ،التي نالت أكثر الّنسب ،انحصرت في وعشرين بلدًا ،بّينت الدراسة أ ّ
لسرة والصداقة ،وتساوى فيها تأثير الفقر والغنى .والمفارقة جاءت من وجود عاملي ا ُ
الشعب الهندي في المرتبة الثانية ،بعد الشعب الميركي ،متقدما ً على غيره من الشعوب
الوروبية والسيوية .ولم أجد تفسيرا ً لسعادة مليين الجياع والفقراء في الهند ،إل ّ في قول
ل ،لدرجة ل تستطيع جيمس بروير“ :السعادة إحساس تحصل عليه ،عندما تكون مشغو ً
معها أن تحزن
يا رب سترك!
ي في أوروبا يتنقلن في كم يبدو بعيدا ً ذلك الزمن الذي كانت فيه النساء في العصر الذهب ّ
الصالونات ،داخل أثوابهن الدائرية الضخمة ،كمظلت الطيارين في تنانير يتم نفخها
باشرطة ترتديها النساء تحت الثياب.
طرة، كانت النساء وقتهاُ ،يخبئن كل شيىء في ثيابهن :الرسائل المهرّبة ،والمناديل المع ّ
والعلب الذهبية الصغيرة التي تخفي صورة الحبيب.
ب،ّ ح أزمة نعيش نا
ّ ك إن أدري ول يلبسنها. اليوم ،أصبحت الثياب بالكاد تخفي أجساد من
أم أزمة ذوق .ولكن العالم تغّير ،وتقّلص ،ومعه الثياب النسائية ،التي مّرت بكل مراحل
القهر التاريخي ،وانتقلت من الزمن الذي تتراكم فيه الثياب الداخلية ،قصد إخفاء تضاريس
النوثة ،إلى زمن ابتكار المشد ّ لتفصيل الجسد ونحت خصر المرأة ،كما لو كانت فراشة.
كل هذا ،تارة بقصد إثبات براءة المرأة وعفتها ،وتارة لتوريطها وتسويقها في لعبة الجمال
والغواء.
ل توجد حضارة واحدة بريئة في تعاملها مع المرأة عبر التاريخ .وقد قرأت أّنه عندما ظهر
المشد ّ في العصور الوسطى ،تعّرض إلى حملة عنيفة على أيدي خطباء الكنيسة ،إذ
ن النساء "لبسن الشيطان في ثنايا أردافهن". اعتبروا أ ّ
أثناء ذلك ،كان الصينيون الذين ل يحتاجون إلى شد ّ خصور نساءهم النحيفات أص ً
ل،
ن من النمو ،وربما لثقال خطاهن مشغولين بصناعة قوالب خشبية لرجلهن ،قصد منعه ّ
كالحيوانات المدجنة حتى ل يذهبن أبعد من البيت.
ل الصينيون أرحم من الحاكم بأمر الّله ،الذي على ايام الفاطميين لم يحكم سوى ولكن يظ ّ
كام غريبي بأمر منطقه الغريب ،وكأّنه الب الشرعي لبعض من يحكموننا اليوم من ح ّ
الطوار.
فعندما قرر الحاكم بأمر الّله منع النساء من الخروج ،أصدر مرسوما ً يمنع السكافيين على
أيامه من صناعة أحذية النساء ،تماما ً كما منع المصريين من اكل الملوخية لنه لم يكن
يحّبها!
ددن في استعماله ضد وهكذا ،ما كاد يعود إلى النساء حق انتعال الحذاء ،حتى لم يتر ّ
الرجل.
أعود إلى موضوع الثياب "الذكية" التي اخترعها لنا العلماء ،والتي بوسائلها اللكترونية
ن في بطانة ستشي للمرأة بما يكفي من المعلومات لسبر خبايا الرجل الذي أمامها .ذلك أ ّ
الفستان محطة اتصالت كاملة ،قد تتحول إلى شاشة تلفزيون عند الحاجة ..وإذا كان
القدامى يقولون "الناس مخّبايين بثيابهم" ،فعلى أيام أولدنا سيتعرى الناس بسبب ثيابهم،
ولن تحتاج النساء ،لقياس حرارة الرجل سوى لحمر شفاههن الذي سيكون إلكترونيّا.
ولمعرفة مدى صدق رجل ،كل ما يلزمهن عدسات لصقة ستكون مزّودة برزمة إشعاعية
ي في أوروبا كن كم يبدو بعيدا ً ذلك الزمن الذي كانت فيه النساء في العصر الذهب ّ ُتم ّ
يتنقلن في الصالونات ،داخل أثوابهن الدائرية الضخمة ،كمظلت الطيارين في تنانير يتم
نفخها باشرطة ترتديها النساء تحت الثياب.
طرة، كانت النساء وقتهاُ ،يخبئن كل شيىء في ثيابهن :الرسائل المهرّبة ،والمناديل المع ّ
والعلب الذهبية الصغيرة التي تخفي صورة الحبيب.
ب،ّ ح أزمة نعيش نا
ّ ك إن أدري ول يلبسنها. اليوم ،أصبحت الثياب بالكاد تخفي أجساد من
أم أزمة ذوق .ولكن العالم تغّير ،وتقّلص ،ومعه الثياب النسائية ،التي مّرت بكل مراحل
القهر التاريخي ،وانتقلت من الزمن الذي تتراكم فيه الثياب الداخلية ،قصد إخفاء تضاريس
النوثة ،إلى زمن ابتكار المشد ّ لتفصيل الجسد ونحت خصر المرأة ،كما لو كانت فراشة.
كل هذا ،تارة بقصد إثبات براءة المرأة وعفتها ،وتارة لتوريطها وتسويقها في لعبة الجمال
والغواء.
ل توجد حضارة واحدة بريئة في تعاملها مع المرأة عبر التاريخ .وقد قرأت أّنه عندما ظهر
المشد ّ في العصور الوسطى ،تعّرض إلى حملة عنيفة على أيدي خطباء الكنيسة ،إذ
ن النساء "لبسن الشيطان في ثنايا أردافهن". اعتبروا أ ّ
أثناء ذلك ،كان الصينيون الذين ل يحتاجون إلى شد ّ خصور نساءهم النحيفات أصلً،
ن من النمو ،وربما لثقال خطاهن مشغولين بصناعة قوالب خشبية لرجلهن ،قصد منعه ّ
كالحيوانات المدجنة حتى ل يذهبن أبعد من البيت.
ل الصينيون أرحم من الحاكم بأمر الّله ،الذي على ايام الفاطميين لم يحكم سوى ولكن يظ ّ
ّ
بأمر منطقه الغريب ،وكأّنه الب الشرعي لبعض من يحكموننا اليوم من حكام غريبي
الطوار.
ً ّ
فعندما قرر الحاكم بأمر الله منع النساء من الخروج ،أصدر مرسوما يمنع السكافيين على
أيامه من صناعة أحذية النساء ،تماما ً كما منع المصريين من اكل الملوخية لنه لم يكن
يحّبها!
ددن في استعماله ضد ّ يتر لم حتى الحذاء، انتعال حق النساء إلى يعود كاد ما وهكذا،
الرجل.
أعود إلى موضوع الثياب "الذكية" التي اخترعها لنا العلماء ،والتي بوسائلها اللكترونية
ن في بطانة ستشي للمرأة بما يكفي من المعلومات لسبر خبايا الرجل الذي أمامها .ذلك أ ّ
الفستان محطة اتصالت كاملة ،قد تتحول إلى شاشة تلفزيون عند الحاجة ..وإذا كان
القدامى يقولون "الناس مخّبايين بثيابهم" ،فعلى أيام أولدنا سيتعرى الناس بسبب ثيابهم،
ولن تحتاج النساء ،لقياس حرارة الرجل سوى لحمر شفاههن الذي سيكون إلكترونيّا.
ولمعرفة مدى صدق رجل ،كل ما يلزمهن عدسات لصقة ستكون مزّودة برزمة إشعاعية
كن المرأة من اختراق خباياه. ُتم ّ
وإذا كانت هذه الثياب تقوم بمهمة التدليك ،ومنع ترهل الجسم ،فإن من حسناتها او
شاق ،قدرتها على استعادة اليام الخوالي وعملها عمل الذاكرة، مصائبها الخرى على الع ّ
فتخّزن انطباعاتك واحاسيسك عن اماكن مررت بها ،وتزّودك بالهواء والصوات التي
مى "عطر الصوت". جلتها في ما قد يس ّ س ّ
ّ
وهنا ..يا لطيف ..يا ستار ..تبدا فضيحة ثياب تتأّوه ،وأخرى تصرخ ،وأخرى تتنّهد ،بعد ان
التقطت تاوهات المرأة الداخلية وراحت تبثها عبر مكّبر صوت ،إلكترونيًا .أي انها )بعيد
الشر عنكم( وباختصار ،فضيحة إلكترونية ،خاصة لمن في مثل حالتي يجهل التعامل مع
التكنولوجيا.
ماذا يستطيع رجل مذعور أن يفعل عندما يجالس امراة مفخخة بهذا الكم من الفضائح
اللكترونية؟
ً
* لوجه الله أنصحه بان يرتدي قميصا بازرار من السبرين أنتجتها شركة السبرين بمناسبة
مئوية هذا الدواء.
ً ً ّ ُ
ولكن ثمة مصيبة أخرى .فكلما اقتلع الرجل زّرا من قميصه والتهمه مرعوبا ،انتفخ قميصه
أكثر .وطبعًا ،ازداد الفستان تأوها ً وصراخًا!
ويا رب سترك! يا ناس جيؤوني بعباية!
في محاضرة ألقاها الدكتور نصر حامد أبو زيد ،مؤخرا ً في القاهرة ،ونقلت “أخبار الدب”
وفه ،هو وف ،ثروتي الستغناء” .موضحا ً أ ّ
ن تص ّ بعض نقاشاتها ،استوقفني قوله“ :أنا متص ّ
ّ
بالمعنى الحياتي وليس بالمعنى العرفاني .فهو يؤمن بأنه كلما استغنى اغتنى .لــذا هو
كم فيه ،حتى إنه ل يحتاج في ل بذلك قدرة الخرين على التح ّ يقّلل دائما ً من احتياجاته ،فتق ّ
وف بالنسبة إليه منهج للحياة ،يضمن ب ومكتب وقلم .فالتص ّ النهاية سوى حجرةٍ وكتا ٍ
دق تماما ً الدكتور حامد أبو زيد في قوله هذا .وقد سبق أن جمعني ُ
استقللية النسان .أص ّ
به في غرناطة ،منذ خمس سنوات ،مؤتمر عربي كبير ،حول “مستقبل العالم العربي على
مداخلة ،قام بها حال افتتاح مشارف القرن الحادي والعشرين” ،ومازلت أذكر أّول ُ
ولة هذا المؤتمر عن المشاركين ،على المؤتمر ،محتجا ً على إخفاء أسماء الجهات المم ّ
مصّرا ً على حماية اسمه الرغم من النوايا الحسنة لبعضهم .فقد كان حامد أبو زيد ُ
ة إجبارّية ،إثر فتوى وث مادي ،هو الذي دفع ثمن أفكاره ومواقفه ،غرب ً وسمعته ،من أيّ تل ّ
حكم بفصله عن زوجته ،الدكتورة ابتهال يونس ،ما أرغمه على الهجرة صدرت بتكفيره ،وال ُ
ً
إلى هولندا ،لمواصلة أبحاثه في تاريخّية الظاهرة الدينية .ذهبت بعيدا في تأمل زاهد
وة لمبدٍع ترتهنه ن حّريته تكمن في استغنائه ،ل في رخائه ،وأن ل ق ّ ف ،أدرك أ ّ مثق ٍ
مؤسسات ،باختلق مزيد من احتياجاته وامتيازاته ،بذريعة تكريمه والعتراف بمكانته ،بينما،
ب من أنواع التدجين ،واستعباد الضمائر بالغداق. مهذ ّ ٍ
ما التكريم الرسمي سوى نوٍع ُ
ن المال والتكريم ،هما أكبر خطرٍ على ل نصر حامد أبو زيد ،كان فولتير قد اكتشف أ ّ وقَب ْ َ
ما ألبيرتو مورافيا ،فأذكر له نصيحة جميلة ،تصلح أيضا ً لغير المبدعين .فهو يرى ّ أ المبدع.
ن
ن على النسان ،أن ل يكسب من المال أكثر مما يلزمه لحياة كريمة وميسورة .ذلك أ ّ أ ّ
ل عن الحاجة ،أنفق عمره دة أنفق المرء عمره في إدارته ،وإن ق ّ ّ ح على زاد إذا المال،
في السعي إلى كسبه .وهو في الحالتين خاسر.
ن القرش الزائد ،هو ذلك الشيء المهِلك ،الذي كّلما زاد ،انخفض ص المبدع ،فإ ّ وفي ما يخ ّ
مكتسبه ،وتضاعفت قيود تبعّيته .وربما مأساة المبدع ،كما مأساة منسوب الحرّية لدى ُ
ف يضعه لحتياجاته. النسان ،تكمن في عجزه عن احترام أي سق ٍ
فالنسان بطبعه يتمنى الحصول على ألف ،وعندما يحصل عليها يتمنى المليون ،وعندما
ل ،في حاجة دائمة إلى ول إلى مدمن ما ٍ يكسب المليون يصبح هدفه المليين ،بحيث يتح ّ
ة ،عندما يتعّلق المر بالمثقف .ذلك المزيد منه برفع سقف ُأمنياته .وهي مأساة تزداد فجع ً
ل شيء للحصول عليه .والذي ليس له ن المال ،هو كل شيء يفعل ك ّ من يؤمن بأ ّ ن َأ ّ
سقف قناعة يحميه ،هو معروض للبيع والشراء في سوق النخاسة .لذا ،يحار مقاولو
الضمائر المفروشة لليجار ،والقلم الجاهزة للستثمار ،عندما يقعون على مثقف ل ثمن
ن.
له ،ول يمكن اختراق سقف قناعاته بأي مبلغ كان .فبالنسبة إليهم ل أحد إل وله ثم ٌ
فف النسان ،بل بالقناعة ،وبسقف قِي َم ٍ يحميه من الزلل، ذلك أنه ليس بالمكانات يتع ّ
ضل مثل ً بساطة بيته ،على القامة في فندق من يف
ُ ّ زائل، فوحده الزاهد في مكسب
خمسة نجوم ُيدعى إليه في مهرجانات ،نهب وسلب الشعوب ،لُيبارك بحضوره قراصنة
الوطان.
قف ،حسب قول يونيسكو ،فل في الواقع ،كما أنه ل يوجد إنسان مثقف ،بل إنسان يتث ّ
فف ،وعلى تقوية مناعته فف المطلق ،بل لنسان يتمّرن يوميا ً على التع ّ وجود أيضا ً للتع ّ
ط من البشر ،ما تسّبب في ّ
خلقية ،لمواجهة هجمة وباء قلة الحياء ،المتفشي لدى ره ٍ ال ُ
لنفة وعزة النفس ،وإضعاف الجسم العربي ،بمزيد من المذّلة ،التي ليست إتلف كريات ا َ
ص يقول“ :يبقى المسؤول قوّيــا ً إلى الحاجة دوما ً من أسبابها .وإذا كان الرئيس سليم الح ّ
أن يطلب شيئا ً لنفسه” ،ففي إمكاننا أن نقول :يبقى المثقف كبيرًا ،حتى ُيفّرط في عزة
نفسه.
كر ْ
ك خر نذ ُ شرِ الوا ِ في العَ ْ
ن بعد َ
ك ُ الحز ُيهاد ِن َُنا
نم ُيباغُتنا رمضا ْ ث ّ
كفنفتقد ُ ْ
قد ُ لحد كما العيد ُ يفت ِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كسد ُ ْ كم أح ُ
د
َ ْس ح ما قلبي غيرك والّله
تدعوا ِ فنا بال ًّ مك ّ
ش َ
ك ف نع َ ّ أخ ما
تزايد َ الحسنا ِ
فن زاهد َ الك َ َ
فك الجود ُ ك ّ
قك ت تسب ِ ُ مضي نى َ
َ أّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ب في موتك أرتا ُ
ك هذي الحياة نل َ وبالحياة تدي ُ
ك الّنبع الذي لكأن َ
من قبله لم يوجد ِ الخيُر
ول الماء ُوجد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ك التي تباركت يد ُ َ
حد مأ َ س علْيها د ُ لي َ
من غ َْيثها ِ
وي ِ َ ِيرت ة العروب ُ
ل نخ
كالولياْء
دا َ
ك َ نا من خاب َ ما َ
ل عند َثراك ضاع َ قصد ْ َ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ن من أهوال َِها جني ُ ك تستجيُر ِ ب َ
فيرد ّ من مثواه ُ قلب ُ َ
ك
هذي يدي
كت َب ِْني بيوت َ ِ
ن على أحد جني ُ ل تنادي يا ِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ح بهم ك صا َ من غيُر َ َ
م د من ِ لى َ أغ َ
ط نف َ "ل
ٍ
م العرب!" ند ُ كيف يُهو ُ
ب
ت تنه ُ جئ َ أنت الذي ما ِ
ب بل ت َهَ ْ
ل بات تحت خيمِتك
على ظلم ٍ بريٌء
ن سبب!(
ِ دو من تْ َ و عف َ مجناة َ عنهُ ُ )ول ُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كرك كم أذ ُ
موالّله ك ْ
م
ب أل ّ ••إذا بنا خط ٌ
ن غيُر قلبك نسند ُ القلب إليه م ْ َ
ْ د وت بِ ُ ِ عر ال ة لخيم َ
ك سوا ول
ت من الل ّ ِ
ه ما طلب ُ
في ليلةِ القدر
دري وستري َ َ ق تكون سوى أن
عمري جدران ُ سقفي و ُ
ر
ِ الحش ة
َ ساع وحللي
**
قى م الت ّ َ
َ وسي يا
حسن ْ
ك َ
أّتقي بالصلةِ ُ
س ُقرب ْ
ك وبالدعاِء ألتم ُ
س بالسجود ِ سجادا ً ُ
ألم ُ
ت طويل ً عليه ركع َ
عساني ُأوافق وجهك
**
ة قدماك مبارك ٌ
هى المساجد ك تتبا َ ب َ
وبقامتك تستوي الصفوف
هناك في غربة اليمان
ث على حذر حي ُ
ُيرفع الذان
**
ما أسعدني بك
مترّبعا ً على عرش البهاء ُ
متمنعا ً عص ّ
ي النحناء مترّفعًاُ .. ُ
ب كناسك ّ الح على ً ل مقب ُ
ن مهري صلُتك كأ ّ
**
يا لكثرتكْ
ر
كازدحام المؤمن بالذك ِ
في شهر الصيام
كمزدحما ً قلبي ب ْ
**
كيف لــي
ح ْ
ك ل التراويح رو َأن أكون في ك ّ
كي في قيامك وسجودك
عو أل ّ أكون لغيرك. تد ُ
يا لي من غبية..
ن الشّغالة هربت .أعني تلك التي كانت لخمس سنوات ابنتي .وكانت دقة أ ّ مص ّ ت غير ُمازل ُ
من أتلف ثيابه ،أو ألقى بأوراقه دعيت أنني َ ده ،وا ّ
ت إليها ض ّ
فت مع ابني ،انحز ُ كّلما اختل َ
ُ
خطأ في الزبالة أثناء ترتيب غرفته .وحدث أن سألني مروان ،وهو يراني أقّبلها ذات مساء،
كما أفعل أحيانا ً عندما ُتحضر لي شيئًا ،قبل أن تذهب إلى النوم" :لماذا ُتقّبلينها ول
ل مساء إنني أحبك، ت ابني منذ 25سنة ،ول تحتاج إلى أن أقول لك ك ّ ُتقّبليننا؟" أجبته" :أن َ
ن لم أقّبلها أنا؟" .يبدو من يقّبلها إ ْ بينما هي تركت أهلها لتقيم عندنا ،لها علينا حقّ عاطفيَ ،
دا
َ َ ب ما ولفرط نجدها. فلم أيام من ُيقّبلها سواي! فقد استيقظنا قبل دت َ ج َن مصاريت و َ أ ّ
ً
ل ،بقيت أنتظر عودتها حتى الساعة الواحدة ظهرا ،أقصى وقت لي أمر هروبها مستحي ً
ضروري لحضورها كي ل تخلف موعد الطائرة .فقد كان مقررا ً يومها أن تعود من "كــان"
دقتها دعائها مساًء الخروج صباح الغد لشراء ثياب وهدايا ،وص ّ إلى بيـــروت .خدعتني با ّ
لنني كنت قد أعطيتها مبلغا ً مني لمثل هذه الحاجات ،من دون أن أتنّبه أنها قبل ذلك،
دة ،كي ترسله إلى والدتها مع شّغالة إثيوبية تعمل ولّول مّرة ،طال ََبت بمعاشها لشهر ع ّ
لدى سعوديين يقيمون في البناية المقابلة لنا.
دومها ،فقد عّرفتها الشّغالة ق ُ
وربما كانت المصيبة قد جاءت من هناك ،من دون أن أتنّبه ل ُ
بشّغالت ُأخريــات آسيويات.
ومصاريت التي تشبه بطل فيلم "الرجل العنكبوت" ،في إمكانها بحبال الشارات
فة قرد ط وتمد ّ علقات عابرة للبنايات ،تقفز من رصيف إلى آخر بخ ّ والبتسامات أن تن ّ
ميها ) ،(ToTaأي قرد باللغة الثيوبية( ،وتمد ّ حديثا ً مع أّية خادمة، ن أمها كانت ُتس ّ )حتى إ ّ
ً
ن حيث ُوجدن .وكثيرا ما نبهتني تصادفها من أية جنسية كانت من الجنسيات ،وكأنها تشمه ّ
سلفتي في بيروت إلى خطورة جمع الخادمات ،ونصحتني بأل ّ أسمح لها بالتردد على
مع السبوعي للثيوبيات لتبادل صديقاتها أو الذهاب يوم الحد إلى الكنيسة ،حيث التج ّ
الخبار ..والخبرات.
في الواقع ،كنت كعاشق مخدوع ،واثقة بإخلص مصاريت ،لثقتي بأنها لن تجد أفضل مني.
ي ،وحاولن سرقتي منها ،ووقعن جميعهن في حبي ،للطفي فكثيرا ً ما حسدتها صديقاتها عل ّ
ن .حتى إنني وجدت نفسي متوّرطة في في الرد ّ على هواتفهن ،واستقبالي البشوش له ّ
واجبات تجاه صديقاتها من الشغالت ،كالثيوبية التي تعمل عند جيراني ،وهي سيدة
ي بيدها قبلة مسروقة كلما لمحتني من الشرفة ،مذ مسلمة ومحجبة اعتادت أن ترسل إلـ ّ
سمحت لها بمهاتفة أهلها من بيتي .وهكذا ارتأت أن من واجبها "البروتوكولي" أن تحضر
ل أناقتهما .ووجدتني ذات مساء ثلثاء ،عن حياء ،بدل أن برفقة زميلتها لتوديعي وهما في ك ّ
أكتب مقالي أقضي ُأمسيتي في واجب ضيافتها وتقديم القهوة والحلويات ،والسماع ل َِ
ما
من يعملن لديهم. سر من نميمة الخدم على َ تي ّ
ي أن أذكر يومها قول إبراهيم الكوني" :ترحمنا القدار عندما ترمينا بالعداء .وتكيد ّ علـ كان
س في بيوتنا الخدم" ،أو قوله" :خلق الخدم ليثأروا منا ل ليخدمونا". لنا القدار عندما تد ّ
محسن بطبعه ل يتوقع من الخرين ما ل كنت ،وربما مازلت ،ل أتوّقع كيدا ً من أحد ،لن ال ْ ُ
ور أنه قد ُيقدم عليه. يتص ّ
ت غبّية ،ل أشك في مصاريت ،على الرغم من ما بدا عليها من سلوك جديد، ُ كن باختصـــار،
دة ثلث عشرة سنة حتى إنني تركت جواز سفرها في حوزتها ،بينما احتفظ جيراني م ّ
ن سيف السلم القذافي قال لي عندما قابلته ذات مّرة بجواز خادمتهم الثيوبية .وأذكر أ ّ
مة نوعان من الغبياء.. إنه استفاد من حكمة قرأها في "فوضى الحواس" ،جاء فيها "ث ّ
ما
ّ م حتى لمّ أتع ل وحدي ك في شيء"! لكنني ل شيء ،والذي ل يش ّ الذي يشك في ك ّ
أكتبه!
قدتها وهي نائمة كانت مغطاة الرأس كر أنني في آخر ليلة تف ّ غبائي يؤلمني ،عندما أتذ ّ
ت على مقربة منها باللحاف على غير عادتها .توقعت أنها تحتمي من لسعة ناموس .وضع ُ
لغّيـر وسادتها بُأخرى مريحة أكثر .قالت لي واقيا ً كهربائيا ً مضادا ً للناموس ،ثم أيقظتها ُ
وهي نائمة ) ،(thank you Madameوكانت هذه آخر كلمات نطقت بها.
ددتها لها في بيروت هباًء ،وعلى جواز أدركت بعد ذلك أنها تشكرني على الوراق التي ج ّ
السفر الذي أهديتها إّياه صالحا ً خمس سنوات وعليه فيزا "شنغن" ،وعلى الضمان الصحي
اللبناني والفرنسي ،وعلى تذكرة السفر التي كانت تحتاج إليها لرحلة واحدة ..توصلها من
لزوردي في فرنسا، لسود مؤخرا ً عشرين قرويًا ..إلى الشاطئ ال ّ إثيوبيا ،حيث التهمت ا ُ
حيث من الرجح أن يلتهم الفارقة نصف البلد خلل أعوام!
رخصة قيادة ..للبيع
صّرحت الكابتن هنادي زكريا ،أّول امرأة سعودية تقود طائرة ،بأنها سعيدة بقيادة الطائرة،
ول رغبة لها في قيادة سيارة .وبما أنه ل أحد قد أفتى بعد ُ بتحريم قيادة الطائرة على
المرأة ،أقترح أن تقود النساء الطائرات بدل السيارات.
ما حاجة المرء )والمرأة (..إلى سيارة؟ لقد قضيت عمري من دون أن أجلس خلف مقود،
ولم يمنعني هذا من أن أقود حياتي ،غالبا ً دون احترام لقانون السير.
وبدل أن تخلق عندي الكابتن هنادي عقدة قيادة الطائرة ،حّررتني بترّفعها عن قيادة
السيارات ،من عقدة السواقة )وسوقيتها( ،ليس فقط تجاه النساء الجالسات بزهو خلف
دة سنوات عند محطات الباصات العربية والفرنسية، مقودهن ،أثناء انتظاري المخجل لع ّ
مة الجبل الذي يطل بل أيضا ً تجاه جاري شوماخر ،بطل "الفورمول" الذي احتل مؤخرا ق ّ
ً
على خليج "تيول" جنوب فرنسا ،حيث اشتريت شقة صغيرة للكتابة .ومازلت ،أمام دهشة
ملة بحاجاتي الجيران الذين يساوي ثمن سيارة بعضهم ثمن شقتي ،أقصد بيتي بالباص ،مح ّ
وأوراقي وما يلزمني للكل ،صاعدة ذلك الطريق الجبلي المحفوف بأشجار الصنوبر
ملة مساًء قعره المضاء ،المسّيج بالنوار ،الذي ،برغم قرب والورود ..وأشجار الصبار ،متأ ّ
ّ
ي القفز عليها ،إل إذا ربحت في المسافة ،تفصلني عنه طوابق من "الصفار" يصعب عل ّ
"اليانصيب" الوروبي مثل ً )آخر من فاز به قبض مبلغ مئة وخمسة وثلثين مليون يورو( ،أو
ت عليه بالتحاقي بمركبة فضائية تغطي على سيارته "الفيراري" الخرافية ،وسرعتها تفوق ُ
المرعبة في قطع منعطفات موناكو ،فأكون آنذاك فالنتينا ترشكوفا العربية.
لحظوا أنني مازلت أذكر اسم هذه "الولّية" الروسية ،برغم صغر سني يوم دخلت التاريخ
كأول رائدة للفضاء ،وأول امرأة وصلت إلى القمر .غير أن المر ما عاد يستحق كل ذاك
ملتها المسكينة من غثيان ودوار و"شقلبات" ،وارتداء العناء ..وكل تلك البلوي التي تح ّ
ل هذا من أجل بلوغ القمر ..يا للغباء .كان يكفي ملحم بركات، ثياب مزعجة للستات ،وك ّ
وه "بالجل" أن يفتح بابه ليكتشف أن"على شعره المصفف لت ّ وهو في كل أناقته وتأنقه و َ
بابه واقف قمرين" ..هكذا دفعة واحدة .فوحدهم العرب يأتيهم القمر مشيا ً على القدام،
بينما يتعب الخرون لتطأة أقدامهم.
ل هذه السباب مجتمعة ،ل أرى جدوى من قيادة السيارة أو ريادة الفضاء ،حتى إنني لك ّ
ً
حدث أن قدمت عرضا في هذه الصفحة لبيع رخصة قيادتي لمن يهمهن المر ،خاصة
السيدات الثريات ،اللئي يمتلكن ترسانة من السيارات ،ول تنقصهن إل ّ فرحة امتلك هذه
البطاقة المرمّية في درج مكتبي منذ اثنتي عشرة سنة ،خاصة أنني حصلت عليها ،ل لنني
ُأتقن القيادة ،بل عندما تأكد مدربي من أنني ل أصلح لها ،وًأصدر فتوى ،مفادها ،أنني
ل ..ثم أتعّلم القيادة "على مهلي". لفرط خوفي ،من الفضل أن أحصل على الشهادة أو ً
سألته" :يا سيدي ..وماذا لو قمت بحادث؟" .أجاب بالحرف الواحد" :لن يصيبكم إل ّ ما
بكتب لكم!" .ولنه يحفظ أكثر من كتاب سماوي ،فقد أضاف" :سيري وعين الر ّ ُ
ترعاك" ..وسرت ،والبقية شاهدها البعض على التلفزيون في النشرة الخبارية .ذلك أنني،
قبل أن أظهر على التلفزيون ككاتبة ،ظهرت سنة 1993في باب "حصاد الكوارث
اليومية" ،عندما انقلبت بي السيارة ..وأخرجوني من نافذتها ،أنا وابني وليد .فقد كنت أقود
في أول يوم استلمت فيه المقود ..سيارة " ،"BMWأوتوماتيكية ،ل أعرف من أبجديتها إل ّ
حرفين :واحد للنطلق ،وآخر للتوقف .وخفت أن أدهس سريلنكيا ً كان يقود بجواري
"موتوسيكل" .وخلفه سريلنكية .وبدل أن أتتبعهما في المرآة )التي لم يعلمني أحد كيف
أستعملها( رحت من خوفي ل أتوقف عن النظر إليهما ،فمال بي المقود يمينًا ،ثم صعودا ً
نحو جدار ،قبل أن تنقلب السيارة على ظهرها وتقطع الطريق على السيارات لساعتين.
منذ ذلك اليوم استنتجت أنه لبد ،بموجد قانون ،أن ُيمنع الك ُّتاب والعشاق من تعاطي
القيادة ،لنهم مغيبون عن هذه الدنيا ..مشغولون عن همومها بهموم الحب والكتابة.
للتذكير :رخصة قيادتي مسجلة تحت رقم 1138062في بيروت ،سنة ،1993وهي
مة القارئات
معروضة بسعر قابل للتفاوض ..أو المقايضة ..حسب ه ّ
انتهى زمن العاصير الجميلة ،التي تغّنى طويل ً بها الشعراء .حتى الميرة ستيفاني،
دد اليوم قبل أن ُتغّني أغنيتها الشهيرة تلك"مثل إعصار" .فالجميلة المترّبعة فوق
ستتر ّ
صخرة موناكو ،تدري الن أنه ما عاد في المكان .حتى من باب الدعابة ،أن تمازج إعصارا ً
ن بعض أعاصيرها العشقّية قلبت المارة رأسا ً على عقب. أو تتغّزل به ،خاصة أ ّ
من من طوفان أو إعصار أو زلزال ،سواء أكان يسكن مدينة تحت ل أحد الن في مأ َ
معلقة على صخرة النجوم .فقد أثبت ّ مستوى سطح البحر ،وسطح الفقر ،أم إمارة ُ
ن البحر "أ يعتقدون كانوا أناس "تسونامي" أن في إمكانه تسّلق طوابق عدة ،وابتلع ُ
ّ ّ ّ
ن المطر الذي انهمر عليهم بغتة كان استجابة يبتسم" ،كما اعتقد الجزائريون منذ سنتين أ ّ
لصلوات الستسقاء ،وإذا به ُيخّبئ لسكان العاصمة أكبر فيضان عرفته الجزائر ،ذاهبا ً حد ّ
خطف ُأناس باغتهم في الشوارع ..وابتلعهم عبر المجاري لُيلقي بجثثهم بعد ذلك إلى
البحر.
حسن نواياه .فما ّ ّ
ب "كلنا من أمر البحر في شك" ،نرتاب من مجاورته ونشك في ُ ّ كما الح ّ
عاد البحر يهبنا اللؤلؤ والمرجان والحيتان ،بل الفيضانات والدمار والعاصير الستوائية
والحلزونية ،التي ل رقم معروفا ً لضحاياها.
كل السماء النسائية والرجالية التي تطلقها هيئات الرصد الجوي ،لتمنح كوارثنا "الطبيعية"
اسمًا ،تضافرت وتناوبت لتهّز ثقة النسان بسيادته على هذه الرض•
من المعتدي؟ النسان ..أم الطبيعة؟ َ
ن الطبيعة بيت إذا احتكمنا إلى إبراهيم الكوني ،الذي يقول في كتابه "ديوان البّر والبحر" ،إ ّ
الّله الذي ندّنسه بدل أن نتعّبد فيه ،يكون الرئيس المؤمن بوش ،قد دّنس بيوت الّله كثيرًا،
و تجّنى على الطبيعة كما تجّنى على البشر .فقد أصّرت إدارته على الرفض القاطع
التوقيع على معاهدة كيوتو للحتباس الحراري التي أدت إلى ارتفاع درجات الحرارة ،في
ن
المحيطات ،ما تسّبب ،حسب الخبراء ،في تشكيل العاصير الواحد تلو الخر .ذلك أ ّ
القرار الميركي يصنعه الثرياء ،أصحاب الشركات الكبر من الدول ،ويدفع ثمنه فقراء
العالم ،وفقراء أميركا الذين ما كّنا لنعرف مدى فاقتهم ،لول فضيحة هذا العصار.
مى "كاترينا". مس ّ ال ْ ُ
نفهم تماما ،أن يطالب أنصار البيئة بإطلق أسماء العاصير على السياسيين ،مقترحين ً
أسماء جورج بوش ،وكونداليزا رايس ،وتوني بلير ،ورامسفيلد ،باعتبارهم مسؤولين عن
معظم الكوارث الطبيعية التي تحيط بالعالم ،وتتسّبب في اّتساع ُثقب الوزون ،و ارتفاع
وث في العالم ،إضافة إلى الحروب التي ُيشعلها سوق السلح .ففي أميركا ،حيث دة التل ّ
ح ّ
جتضا يليق برواجه ،د ََر َ ً مَر َ ً
تخترع شركات الدواء العملقة الدواء أول ،ثم تخترع له َ
الحكومات الميركية على إشعال حروب لستهلك ترسانة أسلحتها واختبار الجديد منها،
غير عابئة بما ستخّلفه قنبلة نووية على مئات اللف من البشر في هيروشيما ،أو ما
ستتنفسه المهات من سموم ،تشهد عليها تشوهات الجنة والمواكب الجنائزية المتتالية
لنعوش أطفال العراق.
فسه من سموم نكبة أميركا ليست في شعبها ،الطّيب غالبًا ،والساذج حد ّ تصديق ك ّ
ل ما يتن ّ
كامها الذين يصّرون على سياسة التفّرد والستعلء ،حتى على إعلمّية .نكبتها في ح ّ
الطبيعة .فبوش ،الذي ابتدع "الحروب الستباقّية" ،ما كان في إمكانه أن يستبق إعصارا ً أو
حكم أنه الراعي للنسانية والقيم يلحق به .ذلك أن أولوياته هي غير أولويات مواطنيه ،ب ُ
السماوية ..والموّزع الحصري للديمقراطّية على جميع سكان الكرة الرضّية .فأين له أن
يجد الوقت ليوزع الغاثة على المنكوبين من مواطنيه ،وهو مشغول بتوزيع جيوشه حسب
ده بها الشركات البترولية في معقله في تكساس؟ الخرائط التي تم ّ
ّ
الجبابرة ،سادة العالم وأنبياؤه المزّيفون ،عليهم أل يعجبوا إن هم ما استطاعوا احتواء
غضب السماء ،ول غضب الرض .ما الطبيعة إل ّ يـد الّله ،وكان لبد لجبروتهم أن ينتهي
تحت أقدامها.
)نيو أورليانز(..التي سبقني إليها العصار
صة بالتعريف بمعالمها السياحية ،ومبانيها ذات ت "نيو أورليانز" في مجلة فاخرة مخت ّ اكتشف ُ
الفن المعماري المتمّيز بالبهجة والشاعرية إلى حد ّ إغراء أكثر من سينمائي.
ممّنية نفسي بزيارتها في مناسبة تليق بشاعريتها .المناسبة لم تحدث، احتفظت بالمجلة ُ
حكم وجودها تحت سطحه. ُ ب أحضانه في ً ل أص غارقة كانت الذي البحر فالولية ابتلعها
ي تلك عندما شاهدت هول الكارثة ،تذكرت جوهانا ،السيدة الميركية التي أرسلت إلـ ّ
معايدة المجلة في طبعتها الفرنسية قبل سنتين ،بمناسبة أعياد الميلد ،ومعها بطاقة ُ
ُ
متمّنية أن أزورها يومًا .لكن العصار سبقني لتلبية الدعوة التي ما كنت للّبيها فاخرةُ ،
ل ،على القل بسبب إعاقتي اللغوية وجهلي بالنجليزية .فقد سبق أن عانيت من أص ً
صاَدف أن كانت جالسة مثلي بمفردها تتناول الغداء في مطعم صغير صل معها يوم َ التوا ُ
دة قامت على البتسامات والكلمات ّ مو بيننا ولدت كيف أدري ل "الشانزيليزيه". في
دد على باريس ،وفهمت مني أنني متداخلة اللغات .فهمت منها أنها عازفة "بيانــو" ،تتر ّ ال ْ ُ
كاتبة من بلد ربما لم تسمع به ُيدعى الجزائر .ع َذ َْرُتها ،فالميركيون ل يسمعون إل ّ بالبلد
التي يشنون عليها حربًا .وحتى وهم يرسلون مئات اللف من أبنائهم للموت فيها ،يجهلون
مكانها على الخريطة.
وللمانة ،كانت جوهانا طّيبة وأكثر وفاًء مني .فقد وعدتها أن أرسل إليها أحد أعمالي باللغة
دة في أخذ عنواني. النجليزية ،ولم أفعل ،بينما كانت هي جا ّ
أذكر جوهانا هذه اليام وأنا أرى صور الدمار ،وآثار ذلك "الفيضان العظيم" ،الذي اختلف
في تفسيره المتطّرفون من فقهاء الديان" :أكان إعصار الرض ..أم إعصار السماء؟" .ل
ل بها ،لكن بشرتها البيضاء ،وما يبدو عليها من ثــراء ُيطمئنانني لمصيرها. أدري ما ح ّ
عظمى ُ دولة أن إلى بهتناّ ون أميركا، في والعرقي طبقي ّ ال النقسام رست ّ ك العصار فمحنة
ن بلدا بلغ به العلم حد ّ إرسال إنسان آلـي ليقوم ً قد تخفي ولية من العالم الثالث ،وأ ّ
بتصليح عربة فضائية خارج نطاق الجاذبية ،على ُبعد مليين الكيلومترات من الرض ،قد
مامات للمنكوبين ،ما ألهم الفيليبين جز عن إمداد أبنائه بالماء والغذاء ،بل وبتوفير ح ّ يع َ
ميه ُأمي "موت تس
ُ ّ ما وهو حي،ّ الص الصرف في ً ا مهندس 25 يضم فريق إرسال عرض
وفضيحة".
فقد تدافعت ستون دولة لشراء رضا أميركا بالمساعدات ،أو لهانتها بالذريعة إّياهــا ،كما
في عرض كاسترو بإرسال 1100طبيب لنجدة ُنزلء الجنة الميركية ،بينما يتجاوز عدد
الفاّرين من جحيمه الشيوعي يوميا ً نحو أميركا ،أضعاف هذا الرقم.
ّ
مواساة عدّوتها بالكِلمات "اللكمات" ،واصفة إّياها وحدها كوريا الشمالية كانت صادقة في ُ
بالشّريرة التي يقودها "معتوه سياسي".
ماعات دينية ،بعضها ج َ في في بعض ما كتب أو صّرحت به َ ُ ف روح التش ّ عيب أن نستش ّ
متطّرفينا. ُ ب المطاف آخر في التقت رف، ّ متطُ يهودي أو دد
متش ّمسيحي ُ
تربطنا بهؤلء البؤساء إنسانيتنا ،على الرغم من كونهم ل يملكون الوقت -ل قبل المحنة
ول بعدها -لللتفات إلينا ،ول يدرون أين يوجد مضرب خيامنا على خريطة العالم.
مدنهم منكوبة منهوبة تحكمها العصابات ،كما ن نرى ُ ل نستطيع إل ّ أن نتعاطف معهم ،ونح ُ
موّزعُ وهو المسكين يستطيع ماذا أسأل: لبوش، ً ا وإنصاف بغداد يوم سقوطها على أيديهم.
ّ
بين تجفيف ينابيع الرهاب )أو شللته( التي ُتغطي نصف الكرة الرضّية ،وتجفيف المناطق
المنكوبة في بلده الغارقة في المياه ،والتي تعادل مساحُتها نصف مساحة فرنسا؟ لبد أن
ن إقامة الديمقراطية في العراق أهم من إنقاذ آلف الرواح در لبوش اعتقاده أ ّ ُنق ّ
لت راجلها ممدود وراحت تعّزي في الميركية .أميركا ،التي كما يقول مثل جزائري" :خ ّ
محمود" ،معذورة عندما تستدعي 300من طّياريها في العراق ،للمساعدة في جهود
الغاثة .فمجالس العزاء عندنا مفتوحة على مدار النهار ،تماما ً كسمائنا المفتوحة للقصف،
وصدورنا المفتوحة للصفح.
لو حدث والتقيت جوهانا سأخبرها بكثير من الزهو أن أكبر عملية إغاثة لضحايا العصار
دمها العرب .فلقد أسهم الشعب العراقي وحده بإنقاذ عشرة آلف نسمة من حتفهم. ق ّ
ن عشرة آلف جندي من القوات الميركية الموجودة في العراق هم من المناطق ذلك أ ّ
المنكوبة.
سّيد التفاصيل
قلت للراحل الكبير مصطفى العقاد ذات مرة إنني أحسده على غليونه ،لعتقادي أنه
مدين له بكثير من أفكاره ،وبذلك الهدوء الظاهري الكاذب الذي ُيخفي عن الخرين غليانه
الداخلي كمبدع.
فسًا ،ماسقط غليونه في بركة دمه .لن نعرف أّية فكرة كانت تراوده وهو يسحب منه ن َ َ
ظّنه سيكون الخير.
هو سّيد التفاصيل ،والشياء التي تتكلم سينمائيا ً أكثر من أصحابها .أذكر تلك اللقطة التي
تقع فيها النظارة الطبية لعمر المختار على الرض ،معلنة نهاية "أسد الصحراء" ،وسقوطه
على أيدي من قضى عمره في التصدي لهم.
ً
ُتراه أدرك وغليونه يتطاير من فمه ،مع أشلء ثمانية وخمسين شخصا ،أحدهم أميرة قلبه
ريما ،ابنته الشابة الجميلة التي كان ينتظرها في بهو الفندق عروسا ً جديدة ،جاءت تحضر
عرسًاُ .تراه أدرك أن الموت كان بجواره ،يدخن أيضا ً غليونه الزلي ،في انتظار خطفها من
ضمة الولى؟ حضنه ،لحظة ال ّ
ً
سيد التفاصيل ،ما توقع أن حزاما من المتفجرات تحت عباءة السلم ،الذي زرع لواءه في
ل بها ،سينسف في لحظة حقول الياسمين والزنبق التي قضى عمره في رّيها كل أرض ح ّ
ً
مورقا بحضارته وإنسانيته ً
مزهرا و ُ
بموهبته وصبره ،كي يبدو العرب جميلين ،والسلم ُ
ورسالته.
هو الذي حارب أعداء السلم حتى في عقر دارهم في هوليوود ،كان قدره أن يموت ميتة
"حلل" على يد زوجين متطرفين قررا أن يذهبا في نزهة قتل ،مستقلين نقليات الزرقاوي
الموصلة إلى ..الجنة .ذلك أن السلم ،حسب عقيدتهما "شجرة ل ُتروى إل ّ بالدم".
كان يظن ،قبل أن تهديه العروبة كابوسا ً لن يستيقظ منه ،أنه صانع الحلم العربية
الكبيرة ،وزعيم أنشأ بملحمتي "الرسالة" و"عمر المختار" حزبا ً من المشاهدين .فقد
سعى دومًا ،وهو الناصري حتى العظم ،إلى توحيد أمته قوميا ً وتراثيا ً ودينيًا ..المة التي في
م شمله مع ابنته ..وأهدته إحدى غارات المسلمين على السلم ،استكثرت عليه فرحته بل ّ
"وحدة الموت".
أما كان نزار على حق عندما صاح من قهره:
أنا يا صديقتي متَعب بعروبتي
فهل العروبة لعنة وعقاب؟
مثل ابن بلده مصطفى العقاد ،نزار السوري القومي الناصري دفع ضريبة عروبته عندما،
أيام الحرب اللبنانية ،خطف منه الموت العربي الهمجي حبيبته وأم أولده ،في إحدى
غارات العرب على إخوانهم العرب ،فسقطت بلقيس قتيلة تحت أنقاض السفارة العراقية،
وكتب نزار يومها وهو ينزف ما جال حتما ً في قلب العقاد ،خلل يومين وهو في العناية
الفائقة ،قبل أن يعود للحياة ليسأل عن ابنته.وما كاد يعرف بمصيرها حتى لحق بها ،متأثرا ً
بجراحه وصدمته النفسية" :ها نحن يا بلقيس /ندخل مرة ُأخرى لعصر الجاهلية /ها نحن
ندخل في التوحش /والتخلف ..والبشاعة ..والوضاعة /ندخل مرة ُأخرى عصور البربرية/
حيث الكتابة رحلة بين الشظّية والشظّية /حيث اغتيال فراشة في حقلها صار القضية //ها
نحن نبحث بين أكوام الضحايا /عن نجمة سقطت /وعن جسد ٍ تناثر كالمرايا /ها نحن نسأل
يا حبيبة /إن كان هذا القبر قبرك أنت /أم قبر العروبة//
بلقيس :إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عرب /ويأكل لحمنا عرب /ويبقر بطننا عرب /ويفتح
ب /فكيف نفّر من هذا القضاء؟//قبرنا عر ٌ
لن أقرأ التاريخ بعد اليوم /إن أصابعي اشتعلت /وأثوابي تغطيها الدماء /ها نحن ندخل
عصرنا الحجري /نرجع كل يوم ،ألف عام ٍ للوراء!".
كتبت هذه القصيدة سنة .1982ماذا كان في إمكان نزار أن يضيف ،لو أنه مازال بيننا ُ
اليوم؟
الوقت المناسب
كثيرا ً ما راودتني الرغبة في التوّقف عن كتابة هذه الصفحة .كما مع كل سيجارةُ ،تراود
من يحذره من خطورة ن المدخن وجد َ خن الرغبة في القلع عن التدخين .غير أ ّ مد ّال ْ ُ
التدخين على صحته .بل وإرعابه ،كما في فرنسا ،بكتابة هذا التحذير على علبة السجائر
نفسها ،بخط أحمر كبيرُ .يعادل حجم حروفه حجم حروف عنوان هذا المقال .حتى إّنه
يغطي ثلثها .ولمزيد من الرهاب اختصر التحذير في كلمتين ) .(Fumer Tueبينما ل أحد
وع ليكتب على الصفحات البيضاء ،التي يجلس أمامها الروائي والشاعر ،ليكتب مقاله تط ّ
السبوعي "الصحافة تقتل" ،على الرغم من إدراك الجميع ،الكاتب كما القارئ كما رئيس
ن في هاجس المقال السبوعي الذي ل يكاد ينتهي ن الصحافة تغتال البداع .وأ ّ
التحرير ،أ ّ
ملّية التي ً
منه صاحبه ،حتى يجد نفسه أمام "واجب" المقال المقبل ،إجهازا على الحالة التأ ّ
يحتاج إليها كل عمل كبير ،وإطفاء للحريق الذي ل إنجاز إبداعيا ً من دونه.
ن الكتابة السبوعية ل توفر شروط البداع للكاتب، بعض كبار الكّتاب ،أدركو باكرا ً أ ّ
وتشوش أفكاره ،وتؤثر في جودة عمله ونوعيته .وهي قبل هذا وذاكَ .تشغل الكاتب عن
مل شجرة" .فما بالك عمر واحد لتأ ّ واجبه التأملي .فالكاتب وحده يدري أنه "ل يكفي ُ
مةمه ّ مل هذه الغابات والدغال التي نحن محكومون بالعيش فيها ،التي يقع على قلمه ُ لتأ ّ
وصف تماسيحها ،وُأسودها ،وُقرودها ،وحشراتها .كما طيورها وصقورها وفراشاتها
وزهورها البرية.
ل موسم أدبي ومع صدور العمال الروائية في فرنسا ،وإعلن ترشيحات الجوائز في ك ّ
دد طرحها على السوق ،لجدارتها ،وأحيانا ً ً
الكبرى التي تحوم حولها دائما أسماء عربية ،يتر ّ
مة قاسم مشترك بين معظم هؤلء الكّتاب ،هو تفّرغهم لعملهم الدبي لسبب آخر .ث ّ
وهجرانهم الصحافة ،بل وتطليقها ثلثاً.
أمين معلوف لم يكتب مقال ً منذ ثلثين سنة .مذ كان يعمل مع زوجي في جريدة "أفريك
طلب منه كتابة تحقيق عن آزي" الفرنسية فيالسبعينات .وقع في شرك الرواية عندما ُ
تاريخ الحرب الصليبية ،أفضى به البحث إلى سحر التاريخ ،وصنعت منه موهبته وذكاؤه في
توصيف الحداث التاريخية واحدا ً من أكبر روائيي العالم .ما كاد ينجح عمله الّول حتى
دفع له مقابله مسّرا ً لزوجي بأنه لن يكتب بعد الن مقال ً حتى لو ُ استقال من المجلةُ ،
عشرة آلف فرنك فرنسي.
دم مبلغا ً شهريا ً ُ ّ يق فرنسا، في الناشرين ككل الذي، ناشره إلى كان في إمكانه الستناد
محترما ً للكاتب الذي يراهن على نجاحه ،مقابل التزام الخير بإنجاز عمل كل سنتين على
أبعد تقدير.
بينما تبدأ مصيبة الكاتب العربي مع الناشرين ،حين ينجح .وعندما يقع في ضربة حظ على
ما ُيصّرح له به .يقع الثنان في مخالب قراصنة قه ول يطبع أكثر م ّ ناشر أمين ل َيسرق ح ّ
كتب الذين يترّبصون بكل كاتب ناجح ،فيعيدون إصدار كتبه في طبعات مقرصنة في كل ال ُ
قه وجهده .واثقين بعدم قدرته على ملحقتهم. البلد العربية ،سارقين ح ّ
ّ
إبراهيم الكوني في انهماكه في كتابة ملحمه الروائية ،يرفض حتى الطلع على الصحف.
مراهنا ً على قلمه لتجميل صورة فما بالك بالكتابة فيها .فالرئيس القذافي يرعاه شخصيًاُ ،
ليبيا في المحافل الدبية .كذلك الجزائرية آسيا جبار المرشحة لـ"نوبل" الداب ،ومثلها
ياسمينة خضراء ،الضابط الجزائري السابق ،الذي طّلق كل شيء ليتزّوج الرواية .لكن
مبهر ،صاحب "السم الوردة" ،الذي جاء كر امبرتو إيكو ،المفكر اليطالي ال ْ ُ أعود وأتذ ّ
ُ ُ
متأخرا ً إلى الرواية ،حين يقول "أنا راوي قصص أصلح أسلوبي بكتابة المقالت .على
عكسه ،أكاد أقول إنني روائية أفسدت لغتها وشاعريتها بكتابة المقالت ،على الرغم من
لمة ،وتمرير رسائل مباشرة ل تصلح محاولتي توظيف هذه الصفحة لمواكبة فجائع هذه ا ُ
صة إلى سئل" :لماذا هجرت الق ّ "الرواية" ساعي بريد لها .إنني كيوسف إدريس ،الذي ُ
المقالت الصحافية؟" .فأجاب" :ل يمكنني أن أجلس لكتابة قصة بينما النار تشتعل في
ستارة الغرفة!" .كان للرجل أولويات مختلفة عن نجيب محفوظ .لهذا سرق منه هذا
ن الصحافة "مملكة الشياء الخير جائزة "نوبل" .ذلك أنه لم يكن من الفطنة ،لُيدرك أ ّ
م ً ً
مراسل حربيا ،ثــ ّ سريعة الزوال" ،ول استفاد من نصيحة همنغواي الذي عمل سنوات ُ
ملئمة ُ الصحافة ن ّ "إ مصّرحا ً غادر الصحافة إلى عرش الرواية ،التي أوصلته إلى "نوبل"ُ ،
ي ،ولكن عليه أن يعرف كيف يتركها في الوقت المناسب". للروائ ّ
ل ذكاء الروائي في التعّرف إلى الوقت المناسب حين يحيـن! ك ّ
ت إلى ما بعد مقال ً آخر كنت سأكتبه عن جل ُ بسبب زحمة الموت التي ُنعانيها هذه اليام ،أ ّ
ملت في تفاصيل قاد ،أو بالحرى ما طفح به قلبي من تأ ّ "سّيد التفاصيل" مصطفى الع ّ
وضهم ُأمتنا ولو مضت عليها عقود منّ تع لن جالت َ بر يفتك الذي ي "الحديث"، الموت العرب ّ
الزمان ،اعتدنا أن نستيقظ على رحيلهم الدامي ،نراهم يعبرون بكثافة الصحف
والفضائيات ،خبرا ً عاجل ً يدور مع شريط الفواجع اليومّية .ليام يغدون فتيان الشاشة،
ونجوم الموت ،ووليمة إعلمّية ،يتسابق الجميع إلى نشر صورهم و"آخــر" مقابلت
ن لم تكن ذكراهم مسنودة يإ ْم نراهم يسقطون في النسيان الضوئ ّ صحافية أعطوها ،ث ّ
إلى إمبراطوريات إعلمّية .ذلك أن الصحافة تحتاج إلى "دم جديد" .خاصة من فصيلة
خ العلم به .فبفضل سب َا ً للثواب ،إلى ض ّ
"ألف الرهاب" ،وهو دم يتسابق الرهابيون ،ك ْ
درون الخبار العالمّية ،ومن دونها كان حضورهم م من الدماء البريئة المهدورة يتص ّ ذلك الك ّ
سينطفئ وجهلهم سينفضح.
جب ََناء ،هنا وهناك، قت ََلة ال ُ ما وقد سقط جبران تويني بسلح الغدر نفسه ،الذي يحتكره ال َ أ َ
م أعود له ،وفي جميع قاد أن ينتظر إلى أن أنتهي من رثــاء جبران ،ث ّ فبإمكان مصطفى الع ْ
من تله في قائمة الحالت انتهى أمره إعلميًا ،وحان لصوره أن تختفي ،لتترك مكانها ل َِ
الموت.
ألم يشغل هو نفسه الصدارة على حساب آخرين سبقوه؟ وأكاد أجزم بإحساسه بالذنب
تجاه سمير قصير وجورج حاوي ومـي شدياق في مأساتها البدّية.
ما
ّ م أكثر بتهّ أح فقد له. ب الحياة لنكن واقعيين ،جبران تويني كان منذورا ً للموت لفرط ح ّ
ً
ة وثراًء وحب ّا ،وعائلة جاهَا ً وكفاءة ً وثقاف ً ةو َ أحّبها .كانت سخّية معه .أغدقت عليه وسام ً
استثنائية.
ن الحياة كانت ُتحّرض الموت عليه ،وُتغريه مدلـل .لكأ ّ ّ ْ
ب )الحــزن؟( ال ُ حــ ّ هو فتى ال ُ
ن
ّ ونزعته ن
ّ كيده الناث من له لــذا مؤنث، اللتينية اللغات في فالموت منها. بخطفه
الجامحة إلى الستحواذ ..ولو بجثمان.
"الضحّية ليست بريئة من دمها" ،وما كان جبران بريئا ً من وسامته ،ول من شجاعته ،ول
طرف الخر، عَناده وإصراره على حمل المشَعل في مسيرات ،يواجهه فيها على ال ّ من ِ
مفخخة. حاملو المتفجرات وقادة السيارات ال ُْ
مهِ الذي س ِ
ق َدي ،وَب ِ َ قت ََلة أغراهم برفع التح ّ ديه ال ْ َ بوسامته فتح شهّية الموت لفتراسه ،وبتح ّ
ي إلى رمــز تاريخي، ّ برلمان نائب من بتحويله التاريخ ي أغرى دا أشهر من النشيد الوطن ّ غــ َ َ
حَرتــه ً
سم الذي رفعه رايــة وطنّيـة ،ودستورا لشعب ن َ َ ق َ ْ
ستعيش أجيال بعده على العهد وال َ
الطائفّية.
مـل الموت في منتصف قافلة الشهداء ،مضى جبــرانُ ،يزّيـن موكـب الراحلينُ ،يج ّ
قـًا؟ مـل بعده ح ّ للشعراء والحالمين والشرفاء .مضى ليختبر الحياة التي أحّبته..هل ستتر ّ
طى بـ"الوركيديا" البيضاء ،والوشاح مغ ّ ف للموت عريسا ً ُ صَباَيــاُ ،ز ّ الرجل الذي تمّنته ال ّ
ف رفاقه، ه المحمول على أكـ ّ ُ شـ ُ ع
َْ ن والرز. الورد عليه نّ شرفاته ُ من الحمر ،ون َث ََرت النساء
َ ْ
وة الّرفاق ،رقص طويل في عرس زفافه إلى الوَطــن. ً ُ
بعدما لم يترك له الموت سوى أخــ ّ
دا كأّنه ي َد ُْبــك وهو يمّر أمام صرح جريدة "النهــــار" .ما رأى الموت قبل جبــران وب َ َ
ل هذه الرشاقة والعنفوان .أين تعلمت الرقص أّيها الشهيد الوسيم؟ ّ شــا يرقص بك ّ ً ن َعْ َ
ك موتـــًا؟ يا ريَنا بالرقص مع َ ُ ِ تغ و كينا تب
َْ ٍ ُ ِ ش ع ن في المجموعة أشلؤك قص ُ تر عندما ولماذا
شـرفــاء! ك كم يشتهيها ال ّ لجنازت َ
مال لبنان .كم كان ج َ
كــر لقائي الّول مع جبــران .كّنا يومها ضمن لجنة اختيار ملكة َ أذ ُ
صَباَيــا .أزعجني ُبخلــه بقدر ما أزعجه سخائي مع ضِنيَنـا في منح نقاطه لل ّ ً ً
صارما و َ
تُ أدرك كـــة. َ ِ ل م َ لــق" ُ بح ُ بـ"جويــل بـل ِ َ ق ا،ً أخير م
ّ ثـ مال. َ َج ال عرش على سـات متنافِ َ ال ْ ُ
بعدها ،وهو يختار بطلـة الَعــَرب في الفروسّية وركوب الخيل زوجة له ،أنه أعمق من أن َ
مـل امـرأة بكلمة ،أو بابتسامة واعدة، مال المعروض للفرجة .صحيح أنه قد ُيجا ِ ج َُيغريــه ال َ
ص سوى زوجته بأغنية .ولسهام وحدها غّنى يوم زفافها إليه "لوف مي تندر.. ُ
لكنه ل يخ ّ
لوف مي سويت".
شه؟ ف ُترّقص ن َعْ َ ماذا ُتــراه كان ُيغّني لعروسه الخيرة ..والكــ ّ
مباهج نهايات السنة العربّية
ج من هول عناوينها. ت عن متابعة أخبار العراق بعد أن تجاوزني مصابها ،لكنني لم أن ُ أقلع ُ
ُ
ك بذبحة قلبّية ،عندما تقرأها على الشاشة أو تقع عليها مجتمعة عناوينها وحدها كافية لقتل َ
في جرائد السبوع ،التي فاتتك مطالعتها.
ل ،وأضعاف هذا العدد من الجرحى ،وقعوا في يوم واحد ضحايا وروا مئة وعشرين قتي ً تص ّ
سلسلة تفجيرات انتحارية ،استهدف أحدها مجلس عزاء ،وآخر زّوار مرَقد المام الحسين،
وثالث خط أنابيب رئيسيا ً للغاز .أيّ مسلمين هم هؤلء؟ وأّية قضّية هي هذه التي ُيداَفع
من سبق للموت أن سرقهم منهم؟ دعون َعنها بنسف وطن ،وسفك دماء البرياء وهم يو ّ
إنها مباهج نهايات السنة العربّية!
ً
عنوان آخر ُيذهلك وُيجهز على عروبتك :ستة وعشرون قتيل من بين "الخوة السودانيين"
سقطوا في مواجهة مع قوات المن المصرية ،لزاحتهم من الحديقة المواجهة لمبنى
وضّية الُعليا للجئين التابعة للمم المتحدة ،التي اعتصموا فيها منذ أيام ،وانتهت جثثهم المف ّ
وة النسانية فحسب ،بل العربّية أيضًا .فـ"الخوة في مستشفيات القاهرة ،ل باسم ا ُ
لخ
ّ
حّلت مشكلتهم السودانيون"هي الصفة التي أطلقها عليهم بيان الداخلية المصرية ،بعد أن ُ
م نقل المئات عنوة إلى أماكن ُأخرى. النسانية بإلقاء جثثهم في البّرادات ،بينما ت ّ
َ
حدث هذا في "ليلة رأس السنة" ،أثناء انشغال العالم عّنا بمباهج الساعات الخيرة .فهذه
الليلة التي يتخذها الناس فسحة للتمّني ،ويجعلونها عيدا ً للرجاء بتغيير نحو الفضل ،تغدو
ي فيها البقاء على قيد الحياة ،ليس أكثر ،حتى وإن كانت حياته ل تعني أمنية النسان العرب ّ
كان المعمورة الذين اعتادوا على أخبار شيئا ً بالنسبة إلى وطنه أو "أشقائه" .فما بالك بس ّ
مذابحه ،ومسالخه وشللت دمه.
ُتشير دراسة لمنظمة مستقّلة لحقوق النسان ،إلى أن أكثر من 95في المئة من
العراقيين ل يعرفون ماذا يجري في بغداد بعد منتصف الليل منذ أكثر من سنتين ،ونسبة
ضلون عدم الخروج من منازلهم بعد الخامسة مساء ،تاركين تصل إلى 50في المئة يف ّ
قت َلة واللصوص.َ لمراء الليل من ال َالمدينة ُ
وروا كيف قضى العراقيون "ليلة رأس السنة" .التي يجد فيها الرهابيون وعليكم أن تتص ّ
در الخبار العالمّية ،لول ً
مناسبة إعلمية نادرة لقصف العمار وقطع الرؤوس ،طمعا في تص ّ
م ،حسب سّلم القيم والهتمامات ن العالم كان مشغول ً عن إنجازاتهم الجرامّية بخبرأ ٍ أه ّ أ ّ
ي.
النسانية للمواطن الغرب ّ
من لهم صدارة الصحف في "ليلة رأس السنة" .كانت ّ تؤ أن ما استطاعت جرائمهم
لولى في كثير من الصحف الغربية )حسب وكالة رويتر( ،محجوزة لفاجعة طائر الصفحة ا ُ
سرق من حديقة بطريق صغير ،أعلنت الشرطة البريطانية خشيتها على مصيره ،بعد أن ُ
حيوان بريطانية قبل 5أيام .الصحافيون )الذين نخطفهم ونقتلهم عندما يأتون لتصوير
فل القوات الميركية بقصف فندقهم حال وصولهم( سارعوا موتانا وثكالنا ،هذا عندما ل تتك ّ
ن لحيواناتهمأفواجا ً إلى حديقة الحيوانات للتقاط صور لبويه "أوسكار" و"كيال" )لحظوا أ ّ
أسماء ..بينما لموتانا أرقام( .وقد أدمى قلوب محبي الحيوانات في أنحاء العاَلم صورة
البوين اللذين مزقهما الحزن على فقدانهما صغيرهما الذي ل يتجاوز شهره الثالث ،حتى
مصّلين في كنيستين في أميركا صّلوا من أجل الصغير "توغا"! ن ُإ ّ
من يشك في إنسانية الشعب الميركي وتقواه ،وفي سذاجة الشعب فهل ليزال بينكم َ
السوداني وغبائه؟ فاللفا لجئ الذين اعتصموا في الحديقة المواجهة لمبنى المفوضّية
العليا للجئين ،كان عليهم أن يلجأوا إلى حديقة الحيوان البريطانية .فربما كانوا سيحصلون
كحيوانات على حقوق ،ما كانوا في جميع الحوال أن يحصلوا عليها كبشر خذلتهم
الجغرافيا.
كانوا موعودين بمساعدات ،على هزالها ،كانت ستغّير حتى حياتهم ،حياتهم التي تساوي
رصاصة في شارع عربي ،ول تساوي ثمن طلقة سهم ناري عمره دقائق ،يطلق في شارع
أوروبي• ذلك أن في "ليلة رأس السنة" نفسها التي سقطوا فيها كان اللمان وحدهم
"يفرقعون" في الهواء 154مليون دولر ثمن ألعاب نارية ،ابتهاجا ً بالعام الجديد.
عـــاما ً سعيدًا" ..أشقاءنــا" ،شهداء "ليلة رأس السنة"!
انشغلوا•• تسعدوا
ها نحن في الشهر الثاني .انحسرت موجة الماني ونحن نقضم هذا العام شهرا ً شهرًا.
من يقضم عمرنا أثناء جلوسنا على مائدة وعوده. ولعّله هو َ
ّ
ن السعادة مطلب مرهون بالعياد والمناسبات ،التي ُتذكرنا بفداحة خساراتنا السابقة، لكأ ّ
ت أكثر بهجة.ٍ بأوقا نينا
وُتم ّ
خر ،نقع عليه عندما نكون قد خسرناها .إنها آن لنا أن نعي أن السعادة اكتشاف متأ ّ
معّلقا ً على ُ ً اعصفور تكون أن السعادة در
َ َ ق ا•الفردوس المفقود حينًا ،والموعود غالب ً
أغصان الذكرى ،أو على شجرة الترّقب .وذلك الحمق الذي قال" :عصفور في اليد أفضل
ظف بنك ،يعمل في رصد هّزات من عشرة على الشجرة" ،أظّنه كان طّباخا ً أو مو ّ
ن السعادة ،هي المسافة الفاصلة بينه وبين الشجرة ،ل البورصة ،فلو كان شاعرا ً لدرك أ ّ
أكثر .إنها طائر على أهبة الفلت من يدنا عند أول سهو .لذا ،كي نكون أهل ً لها ،علينا أن
ددة ،وفرحة منهوبة ،غافْلنا الزمن لنسرفها من قبضته. نعيشها كلحظة مه ّ
البعض ،يتسّلق شجرة المصادفة ،ويتعّلق بأغصانها على أمل قطف ثمار البهجة من قبل
ن كانت قد نضجت .وقد يقع أرضا ً وُيصاب بكسر ما ،أثناء مطاردته طائرا ً لن كد إ ْأن يتأ ّ
ط ذلك الطائر على درابزين شرفته ،أو يمسك به في جميع الحالت ثم ،يحدث يوما ً أن يح ّ
يذهب حد ّ تناول ما تساقط أرضا ً من فتات عند أقدام مائدته ،وتغدو السعادة عندئذ
مرهونة بفطنة المرء ،وتنّبهه إلى وجودها ..عند قدميه!
من هنا جاءت نصيحة أحد الحكماء" :السعادة في بيتك ،فل تبحث عنها في حديقة
الخرين" .ذلك أننا كثيرا ً ما ل نتنّبه إلى الشياء التي تصنع سعادتنا ،لمجّرد أنها في متناولنا،
وملك يدينا .وننصرف عنها إلى مراقبة وتمّني ما هو في حوزة الخرين ،بينما معجزة
دد بالزوال .بدل هدر السعادة ،تكمن في مواصلة اشتهاء ما نملك ،والحفاظ عليه كأنه مه ّ
العمر في مطاردة ما قد يصنع تعاستنا إن نحن حصلنا عليه.
لولى أل ّ تحصل ل أمنية ،يحضرني قول أوسكار وايلد" :ثمة مصيبتان في الحياة :ا ُ أمام ك ّ
ّ
على ما تريد .والثانية أن تحصل عليه!".
مقنا فيها ّ تع إن التي الخر، البعض بمكاسب بعضنا، في هذه الحكمة ما يواسي خسارات
وجدناها ضربا ً من ضروب الخسارة الباذخة.
م إعدادها في إسبانيا ،بعد متابعة ددًا ،في إحدى الدراسات النسانية التي ت ّ مج ّ
الدليل جاءنا ُ
ن "الشباب ً
متأنية لحياة ثلثمئة ثريّ إسباني• صعقتنا النتيجة فرحا ،نحن التعساء .ذلك أ ّ
حة والوظيفة والملمح الجميلة والسيارة الفارهة ،كّلها ل تجعل النسان سعيدًا" .ولو والص ّ
ُأجريت هذه الدراسة في "موناكو" لكان أميرها وأميراتها دليل على ذلك.
ً
أكد الثرياء الثلثمئة أنهم ل يشعرون بالسعادة والمان ،لعلمهم أن إعجاب الناس بهم يعود
ن المباهج البسيطة للحياة اليومية هي ما يفتقدونه ،بسبب لكونهم أغنياء فقط ،مؤكدين أ ّ
الثراء الفاحش الذي ُيعّرضهم لمستويات عالية من القلق ،لعلمهم أن القارب والصدقاء ل
يفكرون سوى في استغللهم.
دف قول الشاعر: اعتراف يجعلنا ،لفظاعتهُ ،نص ّ
وماذا لو كانت الدنيا للذي يملك القل؟ إحصائية عالمية ُأخرى ُأجريت في اثنين وعشرين
بلدًا ،انتهت إلى كون عوامل السعادة التي نالت أكثر الّنسب ،انحصرت في عاملي ا ُ
لسرة
والصداقة ،وتساوى فيها تأثير الفقر والغنى.
مفاَرَقــة جاءت من وجود الشعب الهندي في المرتبة الثانية بعد الشعب الميركي، ال ْ ُ
ً ً
متقدما على غيره من الشعوب السيوية والوروبية ..ولم أجد تفسيرا لسعادة مليين
الجياع والفقراء في الهند ،إل ّ في قول جيمس بروير" :السعادة إحساس تحصل عليه
ل ،لدرجة ل تستطيع معها أن تحزن" .فانشغلوا ..تسعدوا!! عندما تكون مشغو ً
هودج الوعد الذي قد يحمُلك
**
حسنك يا ل ُ
ين عل ّحز َض ال ُ
حّر َ
م نساٌء ك ْ
ن غباُر خيل ْ
ك فاته ّ
ن من قبل ُبلوغ شفتي ْ
ك مت َِ
**
كيف لي
كأن أكون ِغمدا ً لسيف َ
هودج الوعد الذي
كقد يحمل ُ ْ
فرسا ً تصهل في مربط قلب ِ ْ
ك
ب
أنثى ريح الرك ِ
أّنـى وجهت ُ ْ
ك
**
قل يا رجل
إلى أّية غيمةٍ
تنتمي شفتا ْ
ك
كي ُأساِفر في حقائب مطرك
وأح ّ
ط
ل ُ
ث تهط ْ حي ُ
**
ت
مقبل أن َ
ُ
مدبٌر
وعمري ُ
ن في الوهم قلبيطاع ٌ
قبلك ما عشق
من القصائد التي لحنتها وغنتها المطربة جاهدة وهبي .تصدر قريبا ً في أسطوانة مدمجة
خاصة بنصوص المؤلفة.
ت زوجي بطبق الـ) ،( OSSO BUCCOإل ّ وأسرع بي إلى لم يحصل في الماضي ،أن طالب ُ
ي.
ّ بصب حبلى مطعم إيطالي ،لعلمه أنني حتما ً
وفي السنوات الخيرة ،ما أضفت إلى قائمة المشتريات اليومية للبيت كلمة "شوكول"
ي" .هكذا، مي الدب ّ ح ِ
حتى استنتج أنني أنتظر رواية ،بعدما أصبحت الشوكول أحد أعراض "وَ َ
اعتاد مع إحضاره الخضار واللحم والحليب وصابون الجلي ورغيف الخبز الفرنجي ،أن
ل صباح على مكتبي كي يزّودني بمحروقات الكتابة يحمل لي لوحا ً من الشوكول ،يضعه ك ّ
ووقودها ،مضيفا ً وردة "غاردينيا" يقطفها من حديقة البيت ،ضاحكا حتما في سّره ،لكوني
ً ً
كر.الزوجة التي ل ُيكّلف إسعادها شيئا ً ُيذ َ
كم فيه إل ّ الشوكول ،وسعادتي مرهونة بطعمها السود المّر. ن مزاجي لتتح ّالواقع ،أ ّ
كر يوما ً وبرغم كوني سافرت كثيرا ً إلى سويسرا ،وأهداني الصدقاء أفخم أنواعها ،لم أتن ّ
دة ،لم نكن نعرف غيرها، لشوكول طفولتي .وكانت بسيطة سوداء ،في لوح من أصابع ع ّ
ول نحلم بسواها مكافأة عند عودتنا من المدرسة.
حرت على الشوكول ن شهيتي للكتابة تزداد في شهر رمضان ،حدث أن أفطرت وتس ّ ول ّ
وعلى حّبات تمر وشيء من الحليب ،ومازلت أذكر زمن كتابتي "عابر سرير" .فقد كنت
أضع زادي من الشوكول على مكتبي ،ول ُأغادر غرفتي إل ّ ساعة الفطار لسأل زوجي
سؤالين" :هل عثروا على أسامة بن لدن؟" .فُيجيب "ل" ..و"هل تزّوج الحاج متوّلي بزوجة
مة العربّية ..أعود لوراقي ُ
جديدة؟" ،فيرد ّ "نعم" .وبعدما أكون قد اطمأننت إلى مصير ال ّ
لطمئن على مصير أبطالي.
وتي ْ ّ
منذ فترة عادت الشوكول تتحكم في مزاجي الروائي ،واحتجت إلى مزيد من "ب َل َ
ل هذا وسط السوداء" ،بسبب انهماكي هذه المّرة في كتابة روايتين في الوقت نفسه ،ك ّ
زحمة أسفاري وهروب شّغالتي ،وورشة البيت الذي أعدت "نفضه" عن بكرة أبيه .لن
أقول لكم أكثر ،فأنا أحب أن أضع مولودي سّرا ً على طريقة القطط ،وكالقطة أقضي ّ
دة م
ما قبل الوضع "حايصة" أبحث عن مكان دافئ وصغير يليق بحميمّية الولدة .حتى إنني
ي في غرفة شّغالتي ،بينما لم تحلم القطط سوى كثيرا ً ما حلمت بوضع مولودي الدب ّ
ن قطة كانت في بيتنا ،راحت ُتجّرب تارة سريري ،حيث بوضع صغارها في مكتبي ،حتى إ ّ
أكتب ،وتارة جوارير الخزانة ،كلما تركت أحدها مفتوحًا .وفاجأتها مّرة وهي تنام على فرو
كنت أخبئه أعلى الخزانة ،ولم أفهم ما بها ،حتى فاجأتني بوضع صغارها الخمسة في
سريري.
ول على مدى أسبوع إلى حضانة ن البركة حلت يومها في مكتبي ،عندما تح ّّ وأعتقد أ ّ
للهررة ،واستحققت عن جدارة لقب "ُأم هريرة" ،الذي كان ُيداعبني به زوجي ،أو
ميني أخته ،قبل أن يمنعني مواء القطة وصغارها من "بريجيت باردو الحي" ،كما كانت ُتس ّ
العمل ..أو النوم ،فأضطر إلى نقلها وإّياها إلى مكان آمن في الحديقة ،وأعود لكتابة
"فوضى الحواس".
ربما عدت ،لحدثكم ذات مّرة عن علقة المبدعين بالقطط ،وكذلك بالشوكول التي يبدو
أنها تركت بصماتها السوداء على بعض النصوص الدبية .ولنني ُبليت بها فأنا ل أنفك عن
صص لدراسة فوائدها ومصائبها ،وكنت ملحقة أخبارها .وقرأت مؤخرا ً عن مؤتمر طبي ُ
خ ّ
كدها المؤتمر ،مساعدتها على التغّلب على الشجون العاطفّية. أعرف لها قبل ذلك فائدة أ ّ
فكثيرا ً ما نصحت صديقاتي بتناولها أثناء القطيعة والمآسي العشقّية ،لنها تمنحنا مزاجا ً
ل ،وُتساعدنا على مقاومة الكآبــة ،والحباط العاطفي .الخبر الجديد هو اختراع لصقة جمي ً
ُ
حة في تناول الشوكول) ،ورغبات أخرى تنتاب ْ
مل ّجلدية تساعد على تقليل الرغبة ال ُ
مدمنيها( .الدليل :خبر من كولومبو نقلته الصحف عن قرد في حال هياج جنسي ،أثار ُ
الذعر في بلدة وسط سريلنكا .بعدما أخذ يهاجم إناث القطط والكلب ،وُيطارد الفتيات،
ذى عليهامن رأوه ،بسبب الشوكول التي كان يتغ ّن ،وذلك حسب تفسير َ ويتحّرش به ّ
ويسرقها من المتاجر.
لبالله ..أدركوني بلصقة مضادة لهذه الشوكول الملعونة. ول حول ول قوة إ ّ
***
ماكدت أكتشف في السنة الماضية ،أن عيد ميلد صديقتي المطربة لطيفة ،يوافق عيد
ول 14شباط ،باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى عيد للشهداء. العشاق ،حتى تح ّ
ففي زمن التنكيل العربي ،كما كان أحد طغاتنا يحتفظ لنفسه ،بمتعة قتل خصومه بطلقات
مسدسه الذهبي ،الذي ل يخص به سوى "أعدقائه" وأقاربه ،ثمة من ل يقبل بغير عيد
الحب مناسبة ليبعث فيها بالموت هدية ،ليقول لنا كم ُأحب الفقيد!
ُأشفق على صديقتي الغالية لطيفة ،أفسدوا عليها عيدها إلى البد .ل أظنها ستنسى بعد
مر أثاثه بوقعالن كيف عاشت ذلك الحدث ،لوجودها يومها في فندق تطايرت نوافذه ود ُ ّ
النفجار.
لكن ،لي إليها خبر جديد ،هذا العام ،أتوّقع أن يطير من وقعه ما بقي من عقلها ،نظرا ً إلى
ب لميركا وللقائمين على سياستها العربية.ما أعرفه عنها من ح ّ
يؤسفني عزيزتي أن أخبرك أنك تشتركين في تاريخ ميلدك المجيد مع جوهرة تاج الرئيس
بوش "الميرة المقاتلة" و"الصقر السود" كوندليزا رايس ،ففي 14فبراير 1954جاءت
كمها في "ربة الوجه الصبوح" إلى العالم ،لتصبح اليوم أقوى امرأة في العالم بحكم تح ّ
صمام أمان الكرة الرضية ،وتوّليها شؤون المن القومي -سّرا ً وعلنية -فهي الشخص
ل هذا تقوم به ،ل بيد ظم "بوش الصغير" .ك ّ المسيطر على إمبراطور العالم ،الرئيس المع ّ
حديدية على طريقة مارغريت تاتشر ،بل بأنامل موسيقية ..ذلك أنها تشترك معك أيضا ً في
ب الموسيقى وإتقانها باحتراف .وحدث منذ ثلث سنوات أن قدمت على أكبر مسارح ح ّ
واشنطن كونشرتو ،عزفت فيه على البيانو بحضور ألفي مشاهد.
ي كل أنواع صة ذلك الفيلم الذي مذ مارست عل ّ ت أفكر في ماذا أهديك لعيدك )عدا ق ّ كن ُ
البتزاز العاطفي ،لكتبه لك ،كي يكون على قدر قضايانا العربية المشتركة وجنوننا
ومزاجنا المغاربي الحار ،وأنا منهمكة في كتابته( ،قبل أن يصبح همي الستفادة من هذه
المناسبة لنهدي إلى هذه المخلوقة" ،كوندليزا رايس" في عيدها ،ما يشغلها عّنا ..ويقينا
شّرها.
المرأة تملك أحذية يفوق عددها أحذية "إيميلدا ماركوس" .أتوّقع أنها ل تدري أين تذهب
بها في عيد العشاق.
وتملك مرآتين في مكتبها ..كي ترى نفسها بنظرات أحد غيرها .زوجي يتمنى أن ُيطعمها
الله عريسا ً تلتهي به قليل ً و"تحل عّنا" .واليرانيون يتحسرون على حماقة ذلك اليراني،
ذى بتصرفه كراهيتها للمسلمين. الذي تخلى عنها أيام الدراسة وغ ّ
ّ
لو أن ذلك الغبي قام بتخصيبها ..لربما حلت اليوم مشكلة تخصيب اليورانيوم اليراني.
أرأيت كيف يتحكم الحب في العالم!
ذكرت هذا كله ،وأنا أمّر في وسط بيروت وقلبها النابض ،حيث يعلو مسجد محمد المين.
دره أن ُيدَفن إلى
ب إلى قلب الرئيس الشهيد رفيق الحريري ،الذي كان قَ َ الجامع الح ّ
جواره ،بعدما أمضى الشهر الخيرة من حياته في مواكبة بنائه بأدق تفاصيله ،ليكون ِقبَلة
مساجد بيروت وأفخمها.
منادية للصلة ،ل تحسد الحريري على ثروته ،بل على موته .تتمّنى عندما تعلو تلك المآذن ُ
ي ..يا لتلك
لو كنت المقيم هناك .يهتف قلبك من خشوعه "يا لجمال الموت السلم ّ
دعيا ً الستغراق في النوم ..فـ"الموت الطمأنينة ،أن تحجز لك مكانا ً أبديا ً جوار مسجد ،م ّ
بين الهل نعاس".
دت خ ّ
طة ن الهند تخ ّ
طط لزيادة علمائها ،وأع ّ خبر صغير أيقظ أوجاعي .ل شيء عدا أ ّ
طموحا ً لبناء قاعدة من العلماء والباحثين لمواكبة دول مثل الصين وكوريا الجنوبية في
مجال البحاث الحديثة.
مد ِْقع ،يتسّنى له ن بلدا ً يعيش أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر ال ُْ لم أفهم كيف أ ّ
رصد مبالغ كبيرة ،ووضع آلية جديدة للتمويل ،بهدف جمع أكبر عدد من العلماء الموهوبين
دت لها اعتمادات إضافية من وزارة العلوم والتكنولوجيا ،بينما ل ص َ
من خلل منح دراسّية ُر ِ
دا تلك التينملك نحن ،برغم ثرواتنا المادية والبشرية ،وزارة عربية تعمل لهذه الغاية) ،ع َ َ
ظف التكنولوجيا لرصد أنفاسنا( ،أو على القل مؤسسة ناشطة داخل الجامعة العربية ُتو ّ
تتوّلى متابعة شؤون العلماء العرب ،ومساندتهم لمقاومة إغراءات الهجرة ،وحمايتهم في
صّناع الخراب الكبير.
محنة إبادتهم الجديدة على يد ُ
أيّ أوطان هذه التي ل تتبارى سوى في النفاق على المهرجانات ول تعرف الغداق إل ّ
ن في ليلة واحدة بما ل يمكن لعالم عربي أن يكسبه لو على المطربات ،فتسخو عليه ّ
قضى عمره في البحث والجتهاد؟ ما عادت المأساة في كون مؤخرة روبي ،تعني العرب
دمة ابن خلدون ،بل في كون اللحم الرخيص المعروض للفرجة على مق ّوتشغلهم أكثر من ُ
الفضائيات ،أيّ قطعة فيه من "السيليكون" أغلى من أي عقل من العقول العربية المهددة
اليوم بالبادة.
إن كانت الفضائيات قادرة على صناعة "النجوم" بين ليلة وضحاها ،وتحويل حلم مليين
الشباب العربي إلى أن يصبحوا مغنين ليس أكثر ،فكم يلزم الوطان من زمن ومن ُقدرات
لصناعة عالم؟ وكم علينا أن نعيش لنرى حلمنا بالتفوق العلمي يتحقق؟
ن إهمالنا البحث العلمي ،واحتقارنا علماءنا ،وتفريطنا فيهم هي من بعض أسباب ذلك أ ّ
ن
ْ "إ قال: حين عنه( له ّ ال )رضي عبدالعزيز بن عمر ً ا صادق كان وكم لنا. العالم احتقار
ن لم ن لم تستطع فأحّبهم ،فإ ْ ً ّ
متعلما .فإ ْ ن لم تستطع فكن ُ ً
استطعت فكن عالما .فإ ْ
كل فيه بعلمائنا وُنسّلمهم تستطع فل تبغضهم" .فما توّقع )رضي الّله عنه( أن يأتي يوم ُنن ّ
فريسة سهلة إلى أعدائنا ،ول أن ُتحرق مكتبات علمية بأكملها في العراق أثناء انهماكنا في
متابعة "تلفزيون الواقع" ،ول أن يغادر مئات العلماء العراقيين الحياة في تصفيات جسدية
ظمة في غفَلة مّنا ،لتصادف ذلك مع انشغال المة بالتصويت على التصفيات النهائية من ّ
ُ
لمطربي الغد.
تريدون أرقاما ً تفسد مزاجكم وتمنعكم من النوم؟
في حملة مقايضة النفوس والرؤوس ،قررت واشنطن رصد ميزانية تبلغ 16مليون دولر
لتشغيل علماء برامج التسّلح العراقية السابقين ،خوفا ً من هربهم للعمل في دول ُأخرى،
وكدفعة ُأولى غادر أكثر من ألف خبير وأستاذ نحو أوروبا وكندا والوليات المتحدة.
ضلوا الهجرة بعد أن وجدوا أنفسهم عزل ً في مواجهة "الموساد" التي كثير من العلماء ف ّ
ن قوات ّ أ التقارير في جاء فقد مام".َ الح "صيد العراقية الغنية حسب راحت تصطادهم
ً
"كوماندوز" إسرائيلية ،تضم أكثر من مئة وخمسين عنصرا ،دخلت أراضي العراق بهدف
اغتيال الكفاءات المتميزة هناك .وليس المر سّرًا ،مادامت مجلة "بروسبكت" الميركية
كد وجود مخطط واسع ترعاه أجهزة داخل البنتاغون ل يؤ ّوعت بنشره في مقا ٍ هي التي تط ّ
وداخل ) ،(CIAبالتعاون مع أجهزة مخابرات إقليمية ،لستهداف علماء العراق .وقد حددت
م 800اسم لعلماء عراقيين وعرب من العاملين في المخابرات الميركية قائمة تض ّ
المجال النووي والهندسة والنتاج الحربي .وقد بلغ عدد العلماء الذين تمت تصفيتهم وفق
هذه الخطة أكثر من 251عالمًا .أما مجلة "نيوزويك" ،فقد أشارت إلى البدء باستهداف
الطباء عبر الغتيالت والخطف والترويع والترهيب .فقد ُقتل في سنة 2005وحدها،
سبعون طبيبًا.
عد ،خصوصا ً بعد نجاح عالم الصواريخ العراقي مظهر صادق شحة حتما ً للتصا ُ مر ّ العمليات ُ
ّ
ب له في بغداد ،وتمكنه من اللجوء إلى إيران. ص َ ّ
مسلح ن ُ ِ التميمي من الفلت من كمين ُ
غير أن سبعة من العلماء المتخصصين في "قسم إسرائيل" والشؤون التكنولوجية
العسكرية السرائيلية ،تم اغتيالهم ،لُيضافوا إلى قائمة طويلة من العلماء ذوي الكفاءات
العلمية النادرة ،أمثال الدكتورة عبير أحمد عباس ،التي اكتشفت علجا ً لوباء اللتهاب
لمة أحمد عبدالجواد ،أستاذ الهندسة وصاحب أكثر من الرئوي " سارس" ،والدكتور الع ّ
خمسمئة اختراع ،والدكتور جمال حمدان ،الذي كان على وشك إنجاز موسوعته الضخمة
عن الصهيونية وبني إسرائيل.
ل هذه العقول ..لكن البركة في "السيليكون"! أجل ،خسرنا ك ّ
أكبر مؤامرة تعّرض لها الوطن العربي ،هي تجريد كلمة "مؤامرة" نفسها من معناها ،حتى
دنا ،بقدر ما تثير الحساس بالستخفاف ما ُيحاك ض ّ غدت ل تستدعي الحذر ،ول التنبه ل ِ َ
والتهكم ممن يصيح بكل صوته "يا ناس ..إنها مؤامرة!".
ددت كراسيهم ،واجدين فيها الذريعة المثلى للفتك بكل كامنا كّلما هُ ّلفرط ما استنجد بها ح ّ
ّ
ل ،ولفرط ما علقنا على ً
من يعارضهم ،ولفرط ما رددناها على مدى نصف قرن حقا وباط ً
مشجبها عجزنا وتخّلفنا وتناحرنا ،ولفرط ما تآمرنا على أنفسنا وتآمرنا مع أعدائنا على
خ المؤامرة الكبرى ،ووقعنا في قعرها بملء وعينا. بعضنا بعضًا ،ذهبنا إلى ف ّ
كقصة ذلك الرجل الذي كان يتسّلى بإرعاب الناس ،مدعيا ً نزول الذئب إلى القرية ،فلما
ُ
م عينه على وشك النقضاض عليه ،صاح بالناس أن ينقذوه من جاء الذئب حقا ً ورآه بأ ّ
دقه ول جاء لنجدته ،وقضى الرجل فريسة أكاذيبه. الذئب ،لكن ل أحد ص ّ
دقنا إن صحنا في كل المنابر الدولية، ها هو ذا الذئب ُيطبق فكيه علينا ،ولن يوجد من يص ّ
خبثا ً في استراتيجيتها ُ أكثر ول منها أكبر أننا ضحّية مؤامرة شاملة كاملة لم يعرف العالم
حماة المتقنة ذات الذرائع الخيرية .فالمؤامرة المباركة حيكت لنا هذه المّرة على أيدي ُ
مورنا وسذاجتنا وتذاكينا ت ّ صل على قياس ته ّ الديمقراطية وُرعاتها .الثوب الكفن المف ّ
سباتنا التاريخي. تصميمه برؤية إسرائيلية على يد مصمم التاريخ "العزيز هنري" ،أثناء ُ
لكن" ..ل ُيلم الذئب في عدوانه /إن يك الراعي عدوّ الغنم" .هل نلوم أعداءنا وقد سّلمنا
راعينا إلى الرعاة ،قطعانا ً بشرية جاهزة للذبح قربانا ً للديمقراطية؟
ل بلد "رعاة الديمقراطية" النسان أهم حتى من الديمقراطية ،لنه الغاية منها في ك ّ
ن اختطاف مواطن واحد أو قتله والغاية من كل شيء .والمواطن أهم من الوطن ،حتى إ ّ
على يد العدو ،يغدو قضية وطنية يتجند لها الوطن بأكمله ،وتتغير بمقتضاها سياسات
شرين بالحرية أنفسهم ،نحر مئة ألف خارجية .لكن ،عندما يتعّلق المر بنا ،يجوز لهؤلء المب ّ
عراقي لنشر فضائل الديمقراطية ،وتوظيف كل تكنولوجيا التعذيب لدخالها في عقولنا.
عمر أبو ريشة ،الذي قال ذلك البيت ،الموجع في حقيقته ،أدرك قبل نصف قرن أن الذئب
در الوطن العربي إيقاظ شهية الذئاب الذين يتكاثرون ل يأتي إل ّ بتواطؤ من الراعي ،وأن قَ َ
ً
عند أبوابه ويتكالبون عليه كلما ازداد انقساما .اليوم حللنا على القل مشكلة البواب .ما
ونا وبحرنا ..وطنا ً وطنا ً يستفردون واباتنا وحدودنا ،أرضنا وج ّ عاد من أبواب لنا .غدوا هم ب ّ
بنا ،ينهبون خيراتنا ،يسرقون آثارنا ،ينسفون منشآتنا ،يغتالون علماءناُ ،يشعلون الفتنة بيننا،
يصطادون أرواح صحافيينا .ويشترون ذمم أقلمنا ..وأصواتنا.
نحن في أزهى عصور الديمقراطية .في إمكاننا مواصلة الشخير حتى المؤامرة المقبلة..
المقبلة حتمًا .فالذئب يصول ويجول ويأكل مّنا من يشاء .ما عاد السؤال من جاء بالذئب؟
كناه مّنا إلى هذا الحد؟ بل كيف م ّ
الجواب عثرت عليه في حكمة قديمة" :يأكلك الذئب إن كنت مستيقظا ً وسلحك ليس في
يدك .ويأكلك الذئب إن كنت نائما ً ونارك مطفأة".
ل ما عداه.رعى الله لنا نور التلفزيون .فقد أطفأنا ك ّ
تصبحون على خير أيها العرب!
مَناَزَلة مع الوليد بن طلل
ُ
كنت في جنوب فرنسا ،عندما أعاد مرصد باريس في ليلة رأس السنة الماضية ،التذكير
بضبط الوقت في الّول من كانون الثاني ،بتأخير الساعات ثانية واحدة ،لُيصبح الوقت
متوافقا ً مع دوران الرض.
د ،وُيطارد ثانية واحدة؟ كدت أضحك .وحده أبي ،رحمه الّله ،كن سيأخذ المر مأخذ الج ّ
خر بضع دقائق ن ساعة يده تتأ ّ أخي لُيراجع الساعاتي أكثر من مّرة ،كما فعل ذات مّرة ،ل ّ
حكم هدر عمره في مراقبة عقارب الساعات في اليوم! الساعاتي الذي يحترف الصبر ب ُ
مل مع الدقائق ،على الرغم قد َ يومها صبره أمام صرامة أبي ،ودّقته في التعا ُ وضبطها ،فَ َ
من كونه ما كان يفعل في تلك الدقائق شيئا ً ماراثونيًا ،ول ُيخّبئها لسباق أولمبي .كرجل
مجالسة رفاقه م ينفقها ساعات في مطالعة الصحف و ُ في أواخر عمره ،كان يجمعها ث ّ
ومشاهدة التلفزيون وكتابة انطباعاته .ما كان يذهلني في أبي ،هو وعيه بالوقت في ك ّ
ل
لحظة ،وإلقاؤه نظرة على ساعته بين الحين والخر ،وكأنه على أهبة الستعداد لموعد ،هو
الذي كان الميعاد لديه "ل قبل الوقت ول بعده ..بل على الوقت" حسب المثل الفرنسي،
ي" :حين يتواعد عربيان ،يقول الّول من ل ُيدرك هذا ،برواية نكتة "الموعد العرب ّ ينّبه َ
ن لم أستطع الحضور ْ فإ الثانية.. حتى انتظرني الواحدة.. الساعة على ً اغد "نلتقي للثاني:
على الثالثة ،في إمكانك على الرابعة أن تذهب!".
مالت ل لويس الرابع عشر" :الحفاظ على الوقت من ك ََ كان ملكا ً على طريقته .ألم يق ْ
الملوك"؟
في فرنسا ،حيث الوقت سلطان ،راح أحد العلماء يشرح على التلفزيون لـ"العلوج"
ن الرض تلهث وراء توقيت ميين من أمثالي في شؤون الفيزياء وتدّبر الوقت ،أ ّ ُ
وال ّ
الساعات الذّرية .لذا ،فإن الوقت الذي تقوم فيه أكثر من 250ساعة ذّرية حول العالم
باحتباسهُ ،يضطر من حين إلى آخر إلى انتظار إتمام الرض دورانها حول نفسها.
لم أفهم شرحه ،لكن مادامت الرض ُأنثى ،فعلى الوقت أن يتحّلى بالصبر وينتظرها ،ريثما
ل تبّرجها. دتها وزينتها لتخرج إليه في ك ّ تكمل دورتها وع ّ
م فيهاّ ت التي الخيرة رةّ الم ن
ّ إ حتى ّ
قة. ود ً ل ّ ق تع النات أكثر الرض تبقى على الرغم ذلك،
ً
ت فيها أشهرا هباًء في ضبط الوقت بدقيقة مضافة يعود لسنة ،1996السنة التي أضع ُ
الشغال المنزلية ،في انتظار أن تبعث لي السماء بشغالة تحول دون دوراني حول نفسي
وسط طناجر المطبخ.
دون الدقائق الفلكّية بالساعات الذرية ،والشعراء يقيسونها بمقياس اللهفة، العلماء يع ّ
فلدى العشاق ،حسب مالك حداد ،الدقيقة والدقيقة ل تساويان دقيقتين ،بل قبلتان .أما
ل دقيقة على رجال العمال من "الوزن الثقيل" فيحسبونها بمثقال الفوائد المنهمرة ك ّ
حساباتهم.
ورا ً طويل ً عن الحياة ّ مص ً ا تحقيق الفرنسية القنوات إحدى على تُ شاهد نفسها، في الفترة
اليومية للوليد بن طلل .لم يستوقفني فيه ،من نمط حياته غير العادي )أو فوق العادي(
لولى. سوى طول يومه .فالرجل يواصل إدارة أعماله مع فريق عمله حتى ساعات الفجر ا ُ
تراه الثالثة فجرًا ،يوّقع العقود ،ويدير البورصة بتوقيت نيويورك ،والناس نيام .ل عدوّ له ول
فا ذات منازع سوى النوم .حتى إنه يحكي كيف انتفض مذعورا ً مّرة ،عندما تنّبه إلى أنه غ َ َ
قيلولة بجوار ابنته مدة ربع ساعة ،ربع ساعة فقط ،على الرغم من علمه أنه أثناء نومه ،ل
ل دقيقة حسب مؤشرات ينام ماله ول يغفو ،ويواصل ،ما شاء الّله ،دّر الرباح عليه ك ّ
البورصة .
يومها قّررت أن ُأنازله بما ُأوتيت من ثروة الوقت المهدور .فإن كنت ل أستطيع أن أكسب
ل منه ك ّ
ل ليلة ،وهذا في حد ّ ذاته أكثر منه في الدقيقة الواحدة ،ففي إمكاني أن أنام أق ّ
ت السنة المقبلة في مجلة ) ،(Forbesقائمة در ُخسارة يصعب عليه تكّبدها ،خاصة إذا تص ّ
ل ،مقابل قائمة الذين أثروا أكثر ،وهي قائمة كان في إمكان مارغريت الذين ناموا أق ّ
عرف عنها احتقارها النوم ،الذي كان يكفيها منه خمس دة .فقد ُ
درها لسنوات ع ّ تاتشر تص ّ
كن من إدارة شؤون بريطانيا. ساعات ،كي تتم ّ
ذرت ثروتي في سريري؟ ماذا لو كنت أنام فوق كنز ما ،دون علمي ،ولن يا للهدر ،أأكون ب ّ
أتنّبه لذلك إل ّ صباح استيقاظي الخير؟ وقد جاء في المأثور النبوي" :الناس نيام فإذا ماتوا
انتبهوا" .أهذا الكتشاف المرّوع للخسارة ،هو الذي كان يعنيه بورخيس حين تساءل
بمرارة" :لو كان النوم هدنة /استراحة بسيطة /لماذا تشعر حين تستيقظ فجأة /بأنه سرق
لك ثروة؟ /لماذا نكره النهوض عند الصباح؟".
ي الضائع
هاَنة الرقم العرب ّ
م َ
َ
ت أكتب ساخرة من مرصد باريس ،الذي طالب في نهاية السنة الماضية ،بضبط ما كد ُ
الوقت بتأخير الساعات ثانية واحدة ،ليصبح الوقت متوافقا ً مع دوران الرض ،حتى قرأت
صلوا إلى كون الزلزال الخير ،الذي ضرب آسيا ،تسّبب في إسراع ن علماء أميركيين ،تو ّ أ ّ
دوران الرض بمقدار ثلثة مايكروثانية ،أي بالتحديد ما ُيعادل واحدا ً على مليون من الثانية،
بسبب ميل الرض بمقدار بوصة 2.5 ،سنتيمتر ،عن محورها )!(.
من َ بها ً ا علم ليأخذ هذه، علماء وكالة الفضاء الميركية )ناسا( ،نشروا حساباتهم الدقيقة
ن طول اليوم قد قصر بمقدار جزء من الثانية. كان الكرة الرضية معرفة أ ّ نس ّ م ْ
يعنيهم ِ
سبات• هم سباتهم ُ في كلنا بالخبر، معنيين غير الشمالي القطب ودببة نحن وطبعًا،
ي.
ي ،ونحن سباتنا الزل ّ الشتو ّ
إنهم يحسبون الزمن غير المرئي بالمايكروثانية ،وحركة الرض على ُبعد سنوات ضوئية
ن عاجزون حتى عن معرفة عدد قتلنا ،وعدد مفقودينا في بمقياس السنتيمتر ،ونح ُ
الكوارث الجوّية أو البحرّية .عاجزون عن امتلك الرقم الحقيقي للجثث التي تفرش مدن
ل شارع ومدينة. مجّردة و"نتفركش" بها في ك ّ العراق ،على الرغم من كوننا نراها بالعين ال ْ ُ
ل نعرف عدد َأسَرانا ،ول عدد جياعنا ،ول عدد العاطلين عن العمل ،ول حتى عدد الجنود
جوُلون فوقها. صوُلون وي َ ُالميركيين ،الذين دخلوا أرضنا على ظهور البوارج الحربية وي َ ُ
حَياء.
َ ال في درس إلى بل ساب، ح َكرامة موتانا الذين ل رقم لهم ،ل تحتاج إلى درس في ال ِ
ولوا أوطاننا إلى مزارع قنا أن نسأل الذين ح ّ سبة .من ح ّ حا َ س في ال ْ ُ
م َ مواط ََنة فهي در ٌ ما ال ْ ُأ ّ
ب ثرواتنا ،وفي أيّ حساب؟ ّ تص جيوب ّ ي أ في للمافيات، مراتع و َ
ُ
مَهان َت ََنا بين المم. ً
ي الضائع دوما ،هو الذي يصنع َ ذلك الرقم العرب ّ
السطو
مشّرفة تدخل بها العراقُ ،تتيح لها أميركــا ،التي اجتهدت طويل ً في البحث عن ذريعة " ُ
ل تكلفة ،في نهبه بمباركة دولية ،تبحث الن عن ذريعة لئقة ُأخرى للخروج منه ،بهزيمة أق ّ
مام دم مام سهل ً كدخوله ،خاصة إذا كان ح ّ أقرب وقت ممكن .لكن ليس الخروج من الح ّ
ووحل وخراب.
ما هو عليه ّ م ً ا أمان أكثر كان بوطن، أميركا قتَ ح
َ أل الشامل، دمار
ّ ال أسلحة أثناء بحثها عن
دمار الممكن. ل أنواع ال ّ الن ،ك ّ
من استبشروا ،ربما خيرا ً بقدومها ،ذهب دمهم هدرا ً من أجل ل شيء ،أو ّ م قتيل مئة ألف
لحرى بسبب وجودهم لمصادفة جغرافية وزمنّية ،لحظة حدوث أكبر عملّية سطو تاريخّية با َ
حكم قام بها بلد في حق بلد آخر ،بدعوى حمايته وتمدينه وتأهيله لديمقراطية الدبابات و ُ
القبائل والطوائف" .حرب الحضارات" التي جاءت تخوضها أميركا على شعب هو أكثر
دم حضارة منها ،هي في حقيقتها حرب شركات كبرى وحيتان قرش تحّلقت عراقة وأق َ
ل جيشه صاَنة ،قاموا بح ّ ح َ مَناعة ول َ دم العراقي للنقضاض على وطن من دون َ حول ال ّ
سّلـم فريسة سهلة ُ و وأطبائه، وأساتذته علمائه واغتيال ظفيه ّ مو وتخوين باطه ّ ض وصرف
َ
قت َلة.
إلى العصابات والمتطرفين وال َ
كي الموت ،كانت وتهم بين ف ّ ّ ق عن والبحث موتاهم، أفواج دفن أثناء انشغال العراقيين في
مر منشآت العراق ،ليتسّنى لها في ما بعد بناؤها في طاع طرق التاريخُ ،تد ّ أفواج من قُ ّ
قا ً بين ملئكة البيت البيض. مسب َ َم تقاسم وليمتها ُ خرافية ،ت ّ صفقات ُ
ي أميركي قال ما قلته ،على غ ََبائي السياسي ،منذ سقوط حمدا ً لّله الذي أدركني بصحافـ ّ
بغداد ،ولم يسمع لي أحد.
مربح"ُ ،يورد باتراب شاترجي، في كتابه الذي صدر بالفرنسية ،بعنوان "العراق ،احتلل ُ
عب التي اّتبعتها أميركا مع ُ والتل أدّلة ووثائق على استراتيجية السطو وسياسة النهب
الكويت قبل العراق .فقد أظهرت التقارير الصحافّية التي صدرت بعد طرد الجيش
م في أغلبيته العراقي من الكويت عام ،1991أن تدمير المنشآت النفطّية وإشعال البار ،ت ّ
الساحقة على يــد الجيش الميركي .هدف التدمير آنذاك ،تأمين عقود الشركات الميركية
لعادة بناء هذه المنشآت واستخدام خبراء ومهندسين أميركيين في هذه العملية .تحتاج
ل عقد من الزمن إلى انخراط في حروب خارجية وفق ما تشير إليه الوليات المتحدة ك ّ
أبحاث أميركية وأوروبّية .تنبع حاجة أميركا إلى الحرب من ضرورة استهلك الترسانة
العسكرية الميركية ،وتأمين العمل لمصانع السلحة الميركية ،وُتفيد في نهب ثروات
جه اللة الميركية لها. وموارد الدولة التي تتو ّ
دامغة
ّ ال بالحجج الكتاب يظهر ُ و مة، ّ المه هذه لمثل ً امثالي الوضع كان بالنسبة إلى العراق،
ً
ن عمليات النهب لم توّفر قطاعا من القطاعات، التي ل تقرأ عربيًا ،إل بأعين دامعة ،كيف أ ّ
ّ
بدءا ً من النفط والكهرباء وصول ً إلى إعادة العمار والصيانة.
محّرر( في ْ
وة ،وحقّ الغازي )أعني ال ُ المر يكاد ليحتاج إلى حيلة ..أو حياء ..إنها شرعّية الق ّ
ي.
سب ْالغنيمة وال ّ
تقوم الشركات الميركية ،باحتكار العقود بعد أن قررت الحكومة الميركية حجبها عن
م التخّلي عن المنشآت دولها ضد ّ الحرب .بالمنطق نفسه ،يت ّ الشركات التي وقفت ُ
داتها.
الموجودة ،إن كانت ذات مصدر فرنسي وألماني وروسي وإتلف مع ّ
جبا ً أن تقوم علقة وثيقة بين أصحاب النفوذ في الدارة الميركية ومسؤولي ليس ع َ َ
الشركات .فمتعّهدو "حفلت الحروب" هم أنفسهم مقاولو السياسة وكبار موظفي البيت
ك من طور َ
ك، مَهاَنةُ ،يمكنها ملء صفحات هذه المجلةُ ،تخرج َ البيض .أمثلة عن النهب وال ْ َ
مك من شرايينك ،وأن ك بفداحة نزف تلك الموال أّنهم سرقوا د ّ كُ ،تشعر َ ك صواب َ ُتفقد َ
شيئا ً منك مات بموت أحلمك القومّية.
مال من الوليات المتحدة ،فتدفع للمهندس الميركي كم مثال صغير :تأتي الشركة بع ّ ها ُ
راتبا ً يصل إلى 8000دولر ،بينما تدفع للمهندس العراقي 100دولر .في الحراسة المنية
أيضًاُ ،يكّلف العراقي الشركات أقل من تكاليف كلب حراسة مقارنة بما يتقاضاه الحّراس
الميركيون ،على الرغم من أنه ُيجازف بحياته كل لحظة ،وُيقَتل غالبا ً نيابة عنهم ،مع العلم
خذ من الموازنة العراقّية ،ومن موارد منفقة في كل المجالتُ ،تؤ َ ل هذه الموال ال ْ ُ نك ّ أ ّ
الدولة.
ما باختلس مت كعكة العراق ،إ ّ س َ قا َصلة عن أسماء شركات ت َ َ مف ّ دم الكتاب قائمة طويلة ُ ُيق ّ
من المنبع عبر سرقة مليارات الدولرات بطريقة مباشرة من الخزائن الحكومّية ،أو عن
مكّلفة بإصلح شبكات المياه والمجارير ونظام المدارس التي طريقة إحدى الشركات ال ْ ُ
قامت إحداها بإصلحات ل تتطّلب أكثر من ألف دولر ،وجرى دفع أكثر من 120ألف دولر
لنجازها!
أفهمتهم لماذا ليزال أمام العراقيين أعوام ُأخرى من العيش في مستنقعات الديمقراطية
الميركية؟
مثل محمود درويش،أعتقد أننا "لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا".
ل شيىء زكاة ،وزكاة القلب ددا ً قول أسلفه ،أؤمن "بأ ّ
ن على ك ّ ومثل الفضل بن عّياض مر ّ
الحزن".
ولكن وقد بلغت من اليأس عتي ًّا ،ودفعت زكاة قلبي قبل حلول عيد الفطر يوميًا ،أمام
نشرات الخبار ،فلم يبقَ لي والله ،لمواجهة زمن عجيب كهذا ،إل ّ الصمت أو النتحار.
وكنت قد قرأت يوما ً لحدهم" :إذا التقيت إنسانا ً حزينا ً فسّلم لي عليه" ،وحاولت أل ّ
ل وجه يطل ل غريب أصادفه ،وك ّ أتذكره هذه اليام ،حتى ل أقضي وقتي في السلم على ك ّ
ي في تقرير إخباري او برنامج متخصص في الجدل السياسي. عل ّ
ولذا قررت النقطاع عن مشاهدة التلفزيون ،وذهبت حتى العزوف عن مجالسة الناس،
واستبدال ضوضاء العالم بشهر من الصمت التام .وأنصحكم بالقتداء بي ،متأملين هذا
القول العميق لميخائيل نعيمة" :لو كان لي السلطان المطلق على الرض ،لمرت بيوم
ن هناك ل سنةُ ،تكّرسه كل شعوب الرض للسكوت والتأمل ،لك ّ واحد على القل من ك ّ
أمما ً محنتها الثرثرة ،فهذه ُأحّتم عليها الصمت شهرا ً كامل ً في السنة".
عمم هذا القول على الفضائيات العربية ،عساها تجد فيه حكمة ما. وتمنيت لو ُ
وكنت أبحث عن طريقةُ ،أجبر بها بعض المذيعات على السكوت ،خاصة اللئي تتضاعف
قدرتهن على الثرثرة في البرامج الرمضانية ،وتطول ألسنتهن )تزداد أفواههن كبرًا ،حلقة
بعد أخرى( عندما قرأت عن وجود قرية في روسيا تدعى "نوكمولند" دخلت كتاب
"غينيس" للرقام القياسية باعتبارها صاحبة أدنى درجة للحرارة على وجه المعمورة ،إذ
كثيرا ً ما تصل حرارتها إلى 70درجة تحت الصفر ،وهو أمر ل يمنع أهاليها من مزاولة
وه بالكلم طيلة أعمالهم اليومية ،شرط اخذ بعض الحتياطات التي من أحدها عدم التف ّ
الوقت حتى ل تتجمد ألسنتهم.
وقد فكرت في أن أقترح على بعض الفضائيات اللبنانية إرسال بعض مذيعاتها إلى هناك
في مهمة "تغطية"
سى أن ينجح البرد في تجميد ألسنتهن بعض الوقت ،بعد أن زاد طقس الخليج الحار في
تمديدها كّلما زرنه في مناسبة ما . .للتغطية.
ي صيامي عن الكلم ،هو وجود أختي )صوفيا( في لبنان، ن المر الذي أفسد عل ّ يبقى أ ّ
ل ،لكونها أختي الوحيدة؟ وحاجتي ،كما حاجتها اليومية ،إلى ان نلتقي أو نتهاتف مطوّ ً
كنني من العيش معها في المكان ل يم ّ
وبالنسبة إلى هذا الموضوع ،فقد عثرت له على ح ّ
نفسه ،دون أن نلتقي أو نتبادل الكلم ،بعد ان قرأت مقال ً طريفا ً عن "الرهبان الصامتين"
في إيرلندا.
وهم رهبان اشتهروا بعيشهم في صومعة "ملراي" في جبال إيرلندا ،منقطعين عن العالم
وعن شؤون الدنيا ،ل ينبسون ببنت شفة ،ول يتفاهمون بغير الشارة ،وقد مّرت على
بعضهم أكثر من ثلثين أو أربعين سنة لم يغادروا فيها صومعة ضمتهم ول دروا بما طرأ
ن طبيبا ً ذهب لزيارتهم ،وإذا على الدنيا من تغيرات ،ومما ُيحكى عنهم من قصص عجيبة ،أ ّ
به يفقد الرغبة في الكلم ويعيش بينهم بقية عمره خاشعا ً صامتًا.
أما فكرة القامة مع أختي هناك ،فقد راودتني ،عندما قرأت أن أحد هؤلء الرهبان شعر
بدنوّ أجله ،فاستدعى قسيسًا ،ولما جاءه القسيس ،إذا به شقيقه ،ولم يكن الشقيقان
يعرفان ،لنشغالهما بالعبادة ،أنهما يعيشان معا ً في تلك الصومعة منذ سنوات عدة!
المشكلة أنني إن اصطحبت أختي إلى هناك ،ل أدري كم يلزمها من الوقت قبل العثور
على هاتف والتصال بأمي ،التي ستلحق بنا حتما ً إلى الصومعة ،وتحولها إلى برج للرسال
يضارب على الـ .CNNوقد تبدأ بثها بتعييري على هيئتي والديكور البائس لغرفتي وما آلت
إليه آخرتي .وأنا منذ الن ُأفكر في ما ستقوله أمي عني ،أكثر مما سيقوله الرهبان لي ،إن
جة جزائرية بصحبة ابنتيها إلى صومعة صمتهم! أنطقتهم صاعقة وصول حا ّ
وهو ما يذكرني بقول الصحافية المراسلة إيفون ردلي ،حين اعتقلها عناصر من حركة
طالبان ،إذ صّرحت مرعوبة "أنا أكثر خوفا ً مما ستقوله والدتي لي ...مما قد يفعله رجال
طالبان بي".
*****
مـت بهم وعكة صغيرة من كر في اليابانيين :يموتون إذا ألـ ّ “حين أقول “الشرف”ُ ..أف ّ
م بهم .يواجهون الحروب ،المجاعات، ن طاعونا ً ألــ ّ
وعكات الشرف .يموتون ..كما لو أ ّ
الكوارث ،القنابل الذّرية التي تطحن عظام المدن والكائنات ..ينتصرون على الهزائم،
ويقيمون الحياة من حضيض موتها .لكنهم يضعفون أمام وعكة الشرف ،ينطرحون أمام
مرايا ضمائرهم كفراشات مقصوصة الجنحة ) ،(...كأنما ليشهدوا الموت على مآثر
“الكاميكاز” ،الذي ل يستطيع أن يواصل الحياة بشرف نازف وضمير مثلوم .يموتون:
خبراء اقتصاد ،مديرو مؤسسات مالية ،يستدرجون طيارون ،قادة جيوش ،كّتاب وشعراءُ ،
الموت برصاصة أو سيف ،أو حبل يتدّلى من سقف غرفة فندق!
ملوا كارثة اهتزاز الضمير ،واضطراب بوصلة يموتون إذ ل يكون في وسعهم أن يتح ّ
ي.
الشرف النسان ّ
مى الشرف! مى :تقتلهم ح ّ ل تقتلهم الح ّ
ي ينتحر ،كي ل ُيقال“ :عاش ّ اليابان تجعل التي النادرة دةّ الغ تلك في الشرف، كر فيُأف ّ
صبن أيتام هذه القاّرة الحزينة ،حيث ُتنت ََهك القوانين وُتغت َ َ كر فينا ،نح ُبشرف مريض”! ُأف ّ
هاِتك كرامة ص أو َ
ف جفن لخائن أو ل ّ كرامات البشر ،حيث تنهد ّ السماء على الرض ،فل ير ّ
من حولنا ،في ُأناس ل يؤّرقهم شرف ول ينّغص مـل في ما حولنا وفي َ وطــن! أتأ ّ
محّنطة في ن َِعــال أحذيتهم!”. ُ ضمائرهم كأن ضمير، أعراسهم
قاد تطاردني .نظرته تلك التي يرى بها ما ل نراه ،عندما خلف مازالت نظرة مصطفى الع ّ
مل شيئا ً ليس الذي نتوّقعه. ّ ويتأ غليونه وقاره ،يسحب نفسا ً من
ما كان يرى بعينيه .بل بعين واحدة :عين الكاميرا .حزينة أنا من أجل عينه التي سعوا إلى
إغماضها ،وسعدوا بحجب الرؤية عنها .فما كان شيء سوانا أمامها ..جميلين كنا في عينه
ضان النظر عن بشاعتنا. ي مع قلبه ،تغ ّ ما عيناه الخريان ،فكانتا في تواطؤ قوم ّ تلك .أ ّ
وي بها ّ لت سمعت وكأنني فاجعته، دموع تفاجئني فقط، اللحظة هذه في اللحظة، هذه في
ن الكاميرا دق أنهم فقأوا عينه تلك ،وأ ّ ل هذا الوقت لص ّ خرة كعادتي .ك ّ حدث .أبكيه متأ ّ
ور آخر مشهد رأته عيناه. ّ تص لن وأنها يده، سقطت من
ور جنازته لتكون آخر مشهد في أحمد زكي ،وهو ُيقاوم سكرات الموت أوصى بأن تص ّ
فيلمه الخير عن عبدالحليم ،وكان للممثل الكبير ما أراد .منحناه فرصة مواصلة التمثيل
مالها وصباها أشلء بشرّية قاد ،الذي مّثلنا بابنته ،وأهديناه َ
ج َ محمول ً على نعش .أ ّ
ما الع ّ
ور جنازته أو جنازتها. ّ ليص ً ا عين ول ً ايد له تركنا ما مجموعة في صندوق،
دمه رئيس مان إلى وطنه ،في موكب مهيب من ثلثين سيارة ،يتق ّ ما جدوى أن يعود من ع ّ
الوزراء الردني ،لُيسّلمه إلى أهله في بلدة حدودّية ،ليمضوا به إلى مسقط قلبه ومكمن
ي؟جرحه ،محمول ً على نعش الغدر العرب ّ
ل هذا ،إن لم تره تلك العين ،عينه التي غطى الدم عدستها؟ ما جدوى ك ّ
ور جنازتك .أخلفت مشهدك الخير .كل الطرقات التي سلكتها ميتا ً ورُ ،قم وص ّأيها المص ّ
تعرفك ،لكنك ما عدت تعرف قرابتك بها .أهذه حقا ً أرضك؟ وهذي أمتك؟
ن تكون؟ أكنت ستكّرر م ْ
لو عادت اليوم تلك الصحافّية الميركية التي سألتك مرة بمكرَ :
عليها مّرتين جوابك الساذج ذاك ،كما فعلت لمزيد من التأكيد "أنا عربي مسلم من سوريا"
يوم كان غيرك يخلع عباءة عروبته حال صعوده طائرة الغربة ،ويتبّرأ من دينه حال اعتلئه
صة الشهرة؟ من ّ
عندما وقعت على صوري في أحد العداد الخيرة لـ"زهرة الخليج" ،منشورة على صفحتين
قاد ،أسعدني المر بقدر ما حام ،والراحل الكبير مصطفى الع ّ برفقة الفنان القدير دريد ل ّ
دسَ ْح ب وكاميرته مسجلته قت َ ّ ثو الذي هنيدي ربيع زميلي آلمني ،وشكرت في سّري
صحافي "نقاشات وضحكا ً من القلب" كان شاهدا عليها.
ً
ُ
مةما ما كان ُيلهب حوارنا ،فحتما ً مآسي هذه ال ّ ما أضحكنا آنذاك .أ ّ ت أذكر شيئا ً م ّما عد ُ
منا المشترك ،خاصة أن اجتماعنا كان يعود مبدعيها .فقد كانت وجعنا وه ّ وبؤس قدر ُ
الفضل فيه لقناة أبوظبي التي استضافت يومها كبار المبدعين العرب ،لدعم حملة "لجلك
يا قدس" وجمع تبّرعات على مدى أربع وعشرين ساعة ،منعا ً لتهويد القدس ومساندة
للنتفاضة ،أيام محمد الدّرة وما رافقه من شهداء.
ي كان على ن أّول فعل تضامن ّ قاد ،إ ّ أذكر أنني قلت يومها لحد الصحافيين في حضرة الع ّ
الضيوف القيام به هو حضورهم إلى أبوظبي على حسابهم ،ورفضهم القامة في فنادق
فاخرة ،والتبّرع بتكاليف استضافتهم لصندوق النتفاضة .فشخصيا ً أستحيي أن ُأدّلل بذريعة
من جئت لمساندتهم في بؤسهم .صاح بي )رحمه الّله( ،بعد ذلك" :من أين جئِتنا بهذه
ُ
دها
مة ليس لها تقاليد في تدليل مبدعيها ،ب ّ دينا قرن َلوراء ..هذه أ ّدك تر ّالفكرة المجنونة؟ ب ّ
غمزة لتستعيد مّنا ما أعطتنا بعد عناء!".
أعطته؟ هي لم تعطه شيئا ً برغم العناء .كان يدور العواصم العربية متسوّل ً ثمن أحلمه
الكبيرة "بثمن طائرة حربية واحدة مستعد أن أفعل المعجزات .العلم سلح أقوى من
الطائرات والدبابات".
قاد ..أحلمه تقَبع خردة في مستودعات السلحة العربّية! مات الع ّ
جنرال الفرح
مــّرت إذن أعياد نهاية السنة.
َ
دق نصيحة أندري جيد “ل لم تخذلني لنني لم أنتظر مباهجها مدفوعة الجر .مازلت ُ
أص
ّ
تهيئ أفراحك”.
ن سعادته رهن مكاسبه ..ومصاريفه .لــذاّ ل ربما يدفع. ما بقدر عد يس
َ َ س نه
البعض يعتقد أ ّ
متعّهدا ً ل من “جنرال الفرح” ُ يحجز له طاولة للبهجة في فندنق بخمسة نجوم .ل يقبل بأق ّ
لسهرته .وهو يحتاج فعل ً إلى عسكريّ بهذه الرتبة ..لنه سيفرح تحت إجراءات أمنّية
ن البهجة تحتاج إلى رفقة ددة .وهو جاهز لن يدفع ألف دولر أميركي ثمن مقعده .ول ّ مش ّ ُ
ل مقعد محجوز ً
وزمرة وشلة من أصدقاء الجيب .سيحتاج أيضا إلى دفع المبلغ نفسه عن ك ّ ّ
على حسابه في طاولة الفرح العابر بين سنتين ..في سهرة تغني فيها نانسي عجرم
ن البعض ذهب به السباق في التشاوف والمزايدة على مرورا ً وعبورا ً بين فندقين! بل إ ّ
التبذير ،حد ّ شرائه في ليلة رأس السنة قبل الخيرة بطاقات فرحة من السوق السوداء..
ده بيوم أبيض. مراهََنة على فأل قد يعكس الحكمة ويع ُ سبًا ..بل ُ ل تح ّ
دعيت إلى طاولت الهدر أي ّا ً كانت ُ ما لذا التبذير. من أكثر يستفزني شيء ل ً
ا، شخصي
ذريعة الحتفاء ،أو الحتفال ،إل ّ واعتذرت ،حتى ل أترك إنسانيتي إكرامّية لنادل الثراء.
مازلت ل أفهم ،كيف في إمكان شخص ُيطالع يوميا ً في الصحف ،ما يفيض به العالم من
س إنسانية ،ليس أقّلها بالنسبة إلى المسلم ،منظر عشرات اللف من الباكستانيين مآ ٍ
المحاصرين في الجبال بالثلوج ،والقابعين ،حيث قذف بهم الزلزال تحت خيام التشّرد من
دون غذاء ول ماء ول غطاء ول دواء ،في انتظار أن تترأف السماء بهم .ولو كانوا يدينون
باليهودّية لفتحت إسرائيل خطا ً جويا ً لنقاذهم ونجدتهم ،وربما ذهبت حد ّ خطفهم من براثن
وي بهم ترسانتها البشرية ،كما فَعلت سابقا ً مع الثلج ..وجاءت بهم إلى إسرائيلُ .تق ّ
ن إسرائيل قد قامت أثناء نومه ّ أ ليكتشف صباح، ذات “الفلشا” .عندما استيقظ العالم
بتهريب آلف اليهود الثيوبيين إلى إسرائيل في رحلت جوية ليلية“ ،جيمس بوندّية”.
ل أفهم كيف في إمكان شخص أي ّا ً كانت درجة إيمانه ،ونسبة ثرائه ،أن يعود لبيته سعيدًا،
دة؟بعد أن أنفق في ساعتين ،ما قد ُيبقي عشرات الرواح البشرية حّيـة أشهرا ً ع ّ
خال نفسه سّيدًا ،وليس سوى عبد ٍ لدى “جنرال الفرح”! هــة لمرئ ي َ َ أّيــة وجا َ
جا في العتراف بهزيمته على يده ،عندما ً حَر َوهو غير “جنرال الثلج” ،الذي لم يجد نابليون َ
مها إلى “حظيرته” ومغانمه، ّ ويض عرشها، زحف بجيوشه نحو روسيا .وكان سيتبّرع على
ً
لول أن الثلوج حالت دون وصوله إلى موسكو .ولو كان الثلج رجل لنازله نابليون ..وقتله.
م الياء( ،إّنه القاتل دومًا .وربما بسبب تلك الهزيمة ،أو لكن الثلج كما الفقر ل ُيقَتل )بض ّ
ل شتاء ولءهم ددون ك ّ ل الروس يج ّ مقولة التي رفعت الثلج إلى مرتبة جنرال ،ظ ّ تلك ال ْ َ
مى روسيا بمعطفه البيض لقائدهم البديّ الذي مّرغ أرضا ً غرور ذلك المبراطور ،و َ
ح َ
الكثيف.
ن البعض ،في تقليد ّ إ حتى الوحيد. المبراطور هو الثلج ليزال صقيع، ّ ال جمهوريات في
مى “قفزة ً
ققا ما ُيس ّ مدة ،مح ّ ل عام جديد ،اعتاد القفز في المياه المتج ّ ملزم لبداية ك ّ
قطبّية” تشّبها ً بقفزة دب القطب الشمالي في المياه .كأّنه بذلك يقطع على نفسه عهدا ً
ما قد يحمله العام الجديد من مصاب. بالصمود أمام كل الصعاب ،والتصدي ل ِ َ
كركم هاتان الكلمتان بشعار ما؟ ل تضحكوا، ل ،أل ُتذ ّ
كروا قلي ً دي”؟! ف ّ ت “الصمود والتص ّ قل ُ
متنا من أن نهزم نابليون ،أو حَر َ ل تحزنوا أيضا .ليس ذنبنا إن بخلت علينا الطبيعة بالثلج ،و َ ً
أن نقتدي بالد ّب ََبــة!
ب
خرة ..في الح ّ
متأ ّ
ملت ُ
تأ ّ
س ّ
ذج، شاق ُ ي ،التي يقبع في زنزانتها ع ّ ل أطالب بإغلق معسكرات العتقال العاطفـ ّ سأظ ّ
سِهم بعبارة "إلى البــــد"، و
ّ َ َ ِ ه يةضح وذهبوا ية،
ّ أزل بثوابت ية
ّ العاطف الحياة وروا
تص ّ
مسّيج بالغيرة ب ُب الكبير والخير ،فوقعوا في براثن ح ّ ح ّ ْ
ب هو ال ُ ح ّ
ل ُنك ّ معتقدين أ ّ
ب،
ُ ّح ال ن
ّ أ مدركين ُ غير التفتيش، ونقاط النذار بأجهزة خخ مف
ُ ّ و الشائكة، الشكوك وأسلك
ي على الحّرية ،أي على قدرتنا على ً
على الرغم من كونه امتهانا للعبودّيــة ،هو تمرين يوم ّ
ب.ّ الح عن عاطلين الستغناء عن الخر ،حتى لو اقتضى المر بقاءنا أحيانا ً
ّ
ب وتقلباته، نزار قّباني الذي قال في الحب الشيء وعكسه ،لفرط ما عاش تطّرف الح ّ
ل دائما ً نحلة تلحس العسل عن أصابع قدميك ،حتى ل أبقى عاطل ً ن أظ ّكتب يقول" :أريد أ ْ
عن العمل!".
ما ً لدى مولهم د
َ َ َ خ العمل على رون ّ يص إنهم ية.
ّ العبود من إنقاذهم في أمل شاق ل مة ع ّث ّ
ه!
م ِ ب ،على الرغم من كونه طاعنا ً في التنكيل ب ِ َ
خد َ ِ الح ّ
ب..حــ ّهو ال ْ ُ
مال حمل عبئه". ج َ وماركيز ينصحك" :ل تمت من دون أن ُتجّرب َ
ب لفرط ّ الح يحملك البدء، في أيامك• ظهر ن حمولتك تلك ،قصمت تضحك ،هو ل يدري أ ّ
فتك ،ول أحد آنذاك ُينّبهك بأن عليك أن تحمله بعد ذلك بقّية عمرك ..في البدء ،أنت خ ّ
م تنتهي داّبة تنوء بحمل خيباتها. ّ ث بهجتك، تحملك وطيش، غبار من كائن فراشة..
خذ من الحب ما تشاء ،وخذ بقدره من عذاب" ،نصيحة من "عّتال مال السّية " ُ يا ح ّ
ي" أقعدته الذكريات! ّ عاطف
***
ما الحزن فل تستطيع أن تقيم معه حوارًا. ّ أ ثرثار. الفرح *
إنه منغلق على نفسه كمحار.
بلى ..في إمكانك إغاظة الحزن بالفرح.
تكّلم ولو مع ورقة.
***
ن ،يشكون البطالة العاطفّية ،ورجال ً * كلما رأيت من حولي نساًء في كامل انتظاره ّ ّ
صة حب "أبدّية" ،حضرني قول جون كيندي: أعياهم الترّقب لبرق ينذر بصاعقة عشقّية ،وق ّ
"ل تسأل ماذا يمكن لوطنك أن يفعل لك ،بل ماذا عليك أن تفعل من أجله".
ب أن يسألوا ماذا عليهم أن يفعلوا من أجل الفوز بالمنطق نفسه ،على العاطلين عن الح ّ
يبه .فل يمكن طلب الحب بالتكلفة القل .الحب إغداق ،إنه يحتاج إلى سخاء عاطف ّ
من دونه ،لّنه ُيعّري البخلء، ضاح ل ِ َ بف ّيتجاوز قدرة الناس العاديين على النفاق .لذا ،الح ّ
حتى الذين يعتقدون أنهم أعطوا ..لمجّرد أنهم أنفقوا عليه!
***
*غاِدر بيتك كل صباح ،وكأنك على موعد مع الحب.
تهيأ له بما ُأوتيت من أناقة• يحلو للحب أن ُيباغتك في اللحظة التي تتوّقعها القل:
"وجدتها
في وقت لم ُأناِدها فيه
طة لم أنتظرها عليها فوق مح ّ
في لحظة لم أتهيأ لقدومها
في مكان لم أبحث فيه عنها
طره لستقبالها في مساء لم ُأع ّ
في بقعة أرض لم تكن مهيأة لها".
دفاعا ً عن البهجة
ن جريدة سويسرية ،قّررت أل ّ تنشر على صفحاتها إل ّ الخبار السعيدةُ ،
معل َِنة أنها أذكر أ ّ
ً
سُتقاطع تماما أخبار الكوارث الطبيعية ،والحروب الهلّية ،والوبئة ،والمذابح ،والمواجهات،
والغتيالت ،والغتصابات ،والبطالة ،والضرابات ،وكل ما تعيش عليه الصحافة الغربية،
ي .ومازلت ُ
وتصنع منه مصيدة صفحاتها الولى ،لقارئ يحتاج إلى التهام وجبة ذعره اليوم ّ
متمفرحة في زمن ت ّ ساني أعرف من أين ستستقي أخبارها ال ْ ُ أبحث عن هذه الجريدة ،ع َ َ
فيه عولمة الكآبة أيضًا ،مذ تكّبدت بورصة الفرح الكوني أفدح الخسائر ،ومازالت تدفع ثمن
انهيار برجين في نيويورك.
ن أربعمئة مليون إنسان في العالم مصابون بأمراض نفسية وعقلية، يكفي أن نعرف أ ّ
شي به ما يستهلكه النسان العصريّ من ت
ّ َ ِي، عصب لنهيار مهيأة ُ كانت ن البشرية
لنفهم أ ّ
مذه َِلة من عقاقير ضد ّ الكآبة .ويحضرني قول أحمد أمين "لو ُأنصف الناس، كمّيات ُ
ن أحد أسباب هذا الحباط، لستغنـوا عن ثلثـة أربـاع ما في الصيدليات ..بالضحك" .ذلك أ ّ
مصادرة الحياة العصرّية حقّ النسان في الضحك ،بفرضها عليه نمطا ً من التوتر الدائم، ُ
بحكم خوفه المتزايد من الغد.
دراسة ألمانية جاءت لتزيد من إحباطنا ،إذ أكدت إحصاءاتها ،أنـــــه ،على الرغم من
صعوبة الحياة في الخمسينات ،كانت ضحكات الناس تستغرق 18دقيقة يوميًا ،وقد
دلت الصابة بالكتئاب دة إلى 6دقائق في التسعينات ،مقابل ارتفاع مع ّ انخفضت هذه الم ّ
إلى 10أضعافها في الخمسينات.
عة ضد ّ هذا النوع الجديد من الكتئاب ،ونسيانها ن البشرّية أصابهاالذعر من فقدانها ال َْ
مَنا َ ول ّ
منقذ الوحيد ْ
ن الضحك من مستلزمات الحياة العصرية وال ُ عادة البتهاج ،فقد اكتشفت أ ّ
ل المكاسب التي من ل يضحك لها ،وتسلبه في آخر الجولة ،ك ّ ل َ لها .فالدنيا تضحك على ك ّ
حى بالبهجة. من أجلها ض ّ
ن
ّ أ كيف "الضحك"، الشهير كتابه في برغسون، هنري الفرنسي الفيلسوف يثبت وقبل أن
ن ً
ذر القلب ،بتفريغه من شحناته العصبّية القاتلة أحيانا ،وإثبات أطباء الدماغ ،أ ّ الضحك ُيح ّ
الضحك هو صمام أمان عقولنا ،وأننا نحتاجه درعا ً ترد ّ عّنا ضربات الحياة ولكماتها ،كان
ن الصينيين ابتكروا ل كل مشكلتهم .حتى إ ّ السيويون قد وجدوا في الضحك وسيلة لح ّ
ما ّ أ الضحك. دة
ّ ش من موته حتى المذنب، قدمي سابقا ً "العدام ضحكًا" عن طريق دغدغة
ً
ل صباح في الساعة الخامسة تماما ،عشرات النساء والرجال، في الهند ،حيث يجتمع ك ّ
ن درسهم ّ فإ "اليوغا"، رياضة المغول، بأضرحة المحيطة الجميلة، ليمارسوا في الحدائق
دوا لمواجهة مشكلتهم اليومية دة ،كي يستع ّ ل صباح ،بانفجارهم ضاحكين دقائق ع ّ ينتهي ك ّ
بالضحك.
ولننا ل نملك ثقافة البهجة ،ول تقاليد الضحك ،عندما قرأنا خبر إنشاء طبيب هندي نوادي
صصة لرواية الطرائف مخ ّ للضحك ،يفوق عدد أعضائها الخمسة والعشرين عضوًا ،ليست ُ
واد ٍ ينتقل فيها الضحك بالعدوى من دون سبب ،كما ينتقل عندنا البكاء، والنكت ،بل هي ن َ َ
خفنا آنذاك أن ُيلهم الخبر حماة النواح ومتعهدي المآسي القومّية ،فيهّبوا لنشاء "ناد ٍ للبكاء
ي" ،برعاية إحدى الفضائيات الخبارية العربّية .فالبكاء ،كما الغناء ،استثمار فضائي العرب ّ
جّيد عندما يتعّلق المر بنا ،وموارد الحزن والبار الجوفّية لدموعنا ،كثرواتنا المنهوبة ،ل
صعب إحداث "ستار أكاديمي" تنضب ،هي فقط ترخص كّلما غل بترولنا .لذا لن يكون من ال ّ
للبكاء ،يتداَفع عند بابه العاطلون عن الحلم من شبابنا .حتما ً سيفوق عدد أعضاء هذا
مشاهدين ،أن نشترك مشاركين و ُ النادي ،نادي الضحك الهندي .فلمّرة في إمكاننا جميعًاُ ،
في البكاء ،لكون تلفزيون واقعهم آنذاك ..لن يختلف كثيرا ً عن واقعنا!
صة ذلك للذين لم يعوا عواقب الحزن على الكائنات الحّية ،بما في ذلك الحيوانات ،أنقل ق ّ
الخروف الذي ،بسبب حزن عميق أصابه إثر انفصاله عن رفيقه ،انقلب على نظامه
الغذائي ،وبدأ في التهام الدجاجات من حوله .كان ذلك قبل "إنفلونزا الطيور" ،على الرغم
من ذلك أوقع صاحبه في مشكلة فقهّية بشأن لحمه إن كان ُيعد ّ حل ً
ل!
أما الذين اعتنقوا الفرح مذهب ًَا ،فأدعم قناعاتهم بوصّية فقيه روماني ،أوصى في القرن
من ُيثبت الشهود أنه كان أكثر الناس ضحكا ً في جنازته .وقبله ل أمواله ل ِ َالخامس عشر بك ّ
بقرن كان "يان جيجيكا" ،وهو البطل القومي في بلد بوهيميا ،قد أوصى بأن ُينتزع جلده
قبل وفاته ،لُتصنع منه آلة للطرب!
ل يوم، ي الهابط التي تجلدنا ك ّ ولو عاش على أيامنا ،لحققت له فضائيات الغناء العرب ّ
ُأمنيته ..من قبل حتى أن ُيغادر الحياة
أحلم مستغانمي لـ "المثقف العربي"
أصدرت مستغانمي فيما بعد روايتين هما "فوضى الحواس" و "عابر سرير" لتكتمل بهما
الثلثية الروائية التي جعلت من الكاتبة نجمة بكل المقاييس ،وهو ما ظهر بجلء في
معرض الكتاب الدولي الذي أقيم في العاصمة الجزائرية مؤخرا ،حيث حظيت الكاتبة
بالكثير من الهتمام النقدي والجماهيري ..وعلى هامش المعرض كان "للمثقف العربي"
معها هذا الحوار:
في البداية سألناها :هل أنت سعيدة بالشهرة التي حصلت عليها أخيرا؟!
أعتقد أن الكاتب ل يمكن أن يكتب ويعيش تحت الضوء ،لن الكاتب الذي يبحث عن الضوء
هو كاتب يبحث عن الثرثرة والضجة على حساب البداع ،وكل ما يستطيع الكاتب أن يقوله
داخل الكتاب وليس خارجه ،فمجدي صنعه قرائي ولم تصنعه الصحافة ول النقاد ولم
يصنعه أحد ،يقول همنجواي" :الكاتب من له قراء وليس له كتب" وأنا لي ثلثة كتب وهناك
من لهم ثلثون كتابا ولذلك من واجبي أن أتواضع لهم وأخصص لهم كل وقتي ،يمكن أن
أعتذر للصحافة ،ولكن ل يمكن أبدا أن أعتذر للقارئ ،وكان هناك قارئ مكفوف أعتبره
نموذجا للقارئ الجيد ،بل أسميه مجاهد القراءة ،تصوري رجل ولد مكفوفا ،ولم ير في
حياته حرفا مكتوبا ويشتري الكتب ،لقد اشترى كتابي وثمنه عشرون دولرا وهو ليس له
هاتف ويقول )الكتاب قبل الهاتف( ،فهذا الكفيف يبحث عن المعرفة ول عنوان له ،تصوري
أعطاني بطاقته لكتب اسمه ،وقلت له إني من أجله سأخترع جائزة للقراء في زمن كتابه
أكثر من قرائه.
أكل كتف القارئ اجتمع في القاعة أثناء إلقائك المحاضرة ما ل يجتمع عادة
من مختلف التيارات ..كيف تفسرين ذلك؟
أنا لم أنتبه لهذا ،ولكن أنتبه لهذا عندما أوقع كتبي ،فلقد حدث في لبنان أن جاءتني راهبة
وبعدها محجبة وفي نفس القاعة جاءتني واحدة نصف عارية ،وفي نفس الوقت قالت لي
المحجبة والسافرة إني أعبر عنهما ،الجميل هو هذا ،فلو نكتب ونحن نفكر في إغراء قارئ
بالذات لن نوفق فسنربح ربما القارئ ولكننا نخسر عددا كبيرا من القراء ،والسر هو أن
تكتبي عن النفس البشرية ،عن أحاسيسك دون التفكير في لعبة المراوغة مع القارئ أو
التفكير في كيفية "أكل كتف القارئ" وهذا هو سر نجاحي.
نسبت رواية "ذاكرة الجسد" للشاعر العراقي سعدي يوسف ،واستغل المر
استغلل كبيرا ،كيف تلقيت المر؟!
رواية "ذاكرة الجسد" التي نسبت لسعدي يوسف لم تكتب في مقال وانتهى المر بعد
ذلك ،ولو كان المر كذلك لعتبرته أمرا هينا ،ولكن الخبر انتقل إلى "وكالة النباء
الفرنسية" التي رفعت ضدها دعوى قضائية ،ولكن ما يؤلم أكثر هو أن الطعنة جاءت من
الجزائر ،فجريدة "الخبر" السبوعية أوردت الخبر تحت عنوان "سرقات أدبية" وفي
الصفحة الولى أيضا ،فهل يمكن أن يصبح من كتب بروحه عمل تمجيديا لوطنه سارقا؟
والسارق الحقيقي يكرم ويمنح وساما ويرسل لتمثيل بلده في الخارج؟ ل يعقل أبدا أن
أسرق عمل وتفاصيله المنقوشة في مخيلتي تشفع لي ،فل يمكن لحد أن يكتب هذا
العمل ،فل كاتب من العراق ول من فلسطين يمكن أن يؤرخ لهذا الجسد ويجعل له ذاكرة.
فوضى الحواس
جاءت بعدها "فوضى الحواس" ..أليس كذلك؟!
ل" ..فوضى الحواس" كانت مكتوبة أثناء الحملة ،جاءت "عابر سرير" ،ولكني أحب
"فوضى الحواس" بقدر ما أحب الراحل بوضياف ،صحيح أن الراوي امرأة وهي تحمل من
مشاعر الحب ما تحمل لكنها طريقة هربت بها التاريخ إلى صفحات بيضاء ل يمكن الن أن
تغتال حروفها ول أن تسلب حقائقها ،أرخت فيها لمرحلة من مراحل التاريخ الجزائري
تنتهي باغتيال الرئيس بوضياف ،وهي مهداة إلى روحه وروح الشهيد سليمان عميرات.
هناك من يقول إنك تكلمت عن الحب بطريقة رائعة جدا ،وهناك من اعتبر
هذا الوصف الشعري توظيفا للجنس فإن كان توظيفا فعليا فما القصد من
ورائه؟
أنا لم أكتب عن الجنس بالمفهوم المتعارف عليه ونصوصي وورقي المطبوع أكبر دليل
على ذلك ،أنا كتبت عن الحب وإن كان الجنس جزءا من حياتنا اليومية ل يمكننا إغفاله،
والكاتب يقاس بطريقته في التعامل مع موضوع الجنس بالذات ،ففي رواياتي يصل
القارئ إلى النهاية دون أن يعرف ماذا حدث بين البطل والبطلة ،فأنا أنقل الحاسيس التي
تخلفها الرغبة وراءها ،وأنا كاتبة رغبة وليس كاتبة متعة ،الرغبة شيء والمتعة شيء آخر،
فالمتعة تغتال الدب بشكل من الشكال ،وفي هذا المقام عندما يقولون لي إني أباع
روائيا لنني أوظف الجنس؛ أقول لهم اقرأوا ما كتبته الروائيات اللبنانيات والمصريات ،وأنا
لست ضد هذا،ولكن قلمي نسخة مني يتكلم كما يتكلم رجالي ،فرجالي هم هكذا وأنا
"كائن حبري" ول أعطي إل باللغة والدب تطهير الذوق ،فكيف أسعى للمتعة كي يباع
عملي.
ــــــــــــــ
ةةةةةةة -ةةةة ةةةة :في لقاء أجرته معها صحيفة "الخبر" الجزائرية اليومية
تساءلت الروائية أحلم مستغانمي عن ما أسمته بـ "استمرار دوران مسلسل المهاترات
في المشهد الدبي الجزائري" ،حيث قالت في هذا الصدد ''إلى متى ستظل ثقافة نهش
ت أذكر أن اللحم سائدة ،يجب أن نستثمر في ثقافة العتراف بالخر وتقديره ) (...فما زل ُ
الجميع سكت عندما ُأتهمت بالسرقة".
وفي هذا الصدد عادت الروائية أحلم مستغانمي لتشيد بالروائي الطاهر وطار الذي وقف
إلى جانبها قائلة "والوحيد الذي أنصفني هو الروائي الطاهر وطار الذي أعتبره أب الرواية
الجزائرية''•
ُ
الروائية أحلم مستغانمي كانت قد أتهمت قبل سنوات بسرقة روايتها الولى '' ذاكرة
الجسد'' من الشاعر العراقي سعدي يوسف ،حيث قالت صاحبة ''فوضى الحواس'' في
هذا الشأن "إن الروائي الجزائري الوحيد ،من السماء الكبيرة ،الذي وقف بجانبي
وأنصفني عندما تخلى عني الجميع بالصمت ،لحاجة في نفس يعقوب ،هو الكاتب الكبير
ما
حسدت الجزائر في أحلم مستغانمي كما ُتحسد دائ ً الطاهر وطار عندما قال للجميع '' ُ
في كل شيء جميل فيها''•
ُ
هذا وقد وجهت الروائية أحلم مستغانمي في هذا السياق نداء إلى الكّتاب الجزائريين ول
سيما الذين
يتخبطون في الصراعات الوهمية والجدالت العقيمة والمهاترات ،بالتخلي عن هذه
الساليب المنافية للتقاليد الثقافية وأخلقياتها ،والعمل على تقدير وتثمين المواهب
الجديدة الناشئة ،وتشجيعها من خلل حث طاقاتها الكامنة وتقديم العون المادي والمعنوي
لها ،ودفعها إلى الكتابة والبداع ،والعمل على الحتفاء بها على نحو ما ُيحتفى بالكبار• لن
الكبير ل يولد كبيًرا ولذلك فمن الجحاف أن يستمر الكبار في دهس الصغار في الجزائر
وفي محاولة إلغائهم ومحاصرتهم• وتجدر الشارة إلى أن الروائية الجزائرية أحلم
مستغانمي قد أصرت في معرض لقائها مع صحيفة "الخبر" الجزائرية على القول بأنها لن
تسمح لنفسها بالتورط في "مهاترات مماثلة مع أي كاتب كان"• هذا وقد أكدت رفضها
التطاول على الكتاب الكبار " الذين يشكلون علمات ثقافية بارزة في تاريخنا الثقافي
وعلينا أن نؤسس لتقاليد العتراف بهم على غرار ما هو سائد في الدول
ت إلى ترجمة المتقدمة"• وفي هذا السياق أضافت الروائية الجزائرية قائلة "لقد دعو ُ
أعمال الشاعر الراحل مالك حداد طوال مشواري ،ومع ذلك إتهمني بعضهم في الماضي
بسرقة أشعاره ،ولكنني لم ألتفت إلى تلك التهامات ونجحت في الخير في تأسيس
جائزة مالك حداد للرواية الجزائرية ،ولدي رغبة في أن تصبح الجائزة سنوية لنني راغبة
كتاب آخرين ،وإخراج مواهبهم إلى النور''•في إنجاب ُ
وفي هذا الحديث سعت الروائية أحلم مستغانمي إلى تثمين الخطوة الحضارية المميزة
التي أقدم عليها
الروائي الجزائري الطاهر وطار بإنشائه مؤخًرا لجائزة الهاشمي سعيداني للرواية ،متمنية
العمر
المديد لهذه الجائزة ولما تليها من جوائز مستقبل ،تشجيًعا للمواهب التي تزخر بها
الجزائر ،والتي لم تجد لسوء الحظ من يأخذ بيدها في عالم الكتابة والبداع.
يقال عنك بأنك كاتبة رغبة وليس شهوة . . .ما تعليقك على ذلك ؟
صحيح تماما . . .لني أحب أن أكون مشتعلة بالشتهاء ,جميلة هي مرحلة الرغبة . .
الرغبة المكابرة ,غير المعلنة ,المواربة ,الملتبسة ,لن الشهوة ل تقتل فقط شيئا فينا
وإنما أيضا النص الدبي .ولهذا ل يوجد في أعمالي إل القبلة في كل رواية ,فالقبلة تعطي
قدرا كبيرا من المتعة لنها تشعل الحواس الخمس ,بينما الفعل الجنسي ل يحتاج ربما
لكل هذا . . .
والدب العربي ل يعطي القبلة حقها ,وأنا أقول ل الحياء ول الباحية تصنع أدبا ,فالحياء
إنكار لمنطق الجسد والباحية إهانة لنسانيتنا
أنا مستعدة وجاهزة للموت من أجل أي قضية عربية ,طبعا ليس الموت كما يحدث في
العراق ! فقد راجعت قناعاتي بعد أن كنت مهيأة للموت هناك ,لكني اكتشفت غباء
الموت مجانا ,لكن إذا كان هناك قضية حقيقية وموت يفيد ؟ سوف أنسى أني كاتبة ,
وأكون فقط مواطنة عربية ,وأتمنى أن تختبرني الحياة في امتحانات كهذه ,فثمة موت
تولد فيه ,والكاتب حتى في موته يوقع نفسه إذا كان قدره أن يموت ,لكن للسف ل قدوة
لنا ,فنحن نحتاج إلى قدوة كي تكون مرجع لنا ككتاب ,فأنت تتمنى أن تسمع بكاتب لم
يشترى ,أو كاتب رفض زيارة بلد ما لسبب ما . . . .
المستقبل:
من سوريا الى الجزائر ،كيف كانت طفولتك وفترة المراهقة وماذا عن
صداقتك بأنعام بيوض؟
أحلم مستغانمي :ولدت في تونس من أب ذو جنسية جزائرية كان أبي يهوى الدب
الفرنسي وتعرض للسجن بسبب نشاطه السياسي ،ونشأت في محيط عائلي وطني
التوجه ،وبعد الستقلل عدت الى الجزائر لدرس في مدرسة الثعالبية للبنات ومن ثم
ثانوية عائشة أم المؤمنين لتخرج سنة 71من كلية الداب ضمن أول دفعة معربة تتخرج
بعد الستقلل من جامعات الجزائر ،وطبعا الطفولة ليست كلها سعيدة ،هذا يكون طبعا
في القصص الخرافية ،فوصولي الى الجزائر كان فعل مؤشرا ،كان اكتشافا ،أن أقوم بأول
رحلة مضطربة وعمري 10سنوات ،وسوف يكون طبعا لهذه النقلة أن تعلمت لهجتين
وأصبحت لي مرجعيتان ،وطبعا ل نشعر بذلك إل في الكبر ،حيث يشعر بذلك التزاوج،
درست في المدرسة الثعالبية ثم ثانوية عائشة أم المؤمنين وهناك التقيت بأنعام بيوض
في الصف الول والثاني والثالث ،فكنت في النظام الخارجي وكانت أنعام بيوض في
الصف الداخلي ،كنت في القسم الدبي ،بينما كانت هي في القسم العلمي ،جمعنا هذا
التزاوج الثقافي ،لنها ولدت في تونس وربما الذي يجمعنا ميولنا الدبية ،فكنت أكتب
قصائد في سن السادسة عشر وأول قصيدة أو أول ديوان صدر لي "على مرفأ اليام"
عام .1971
هي نوع من النهماك السري في الحياة ،هي في البداية مناجاة والكتابة لغة مختزلة ،وبعد
أن كتبت الشعر ،كتبت الرواية التي جاءت متأخرة ،جاءت نتيجة لمعايشة أشياء صعبة عجز
الشعر عن معايشتها ،فبحثت عن فضاء أكبر ،لم أكن أنوي النشر في البداية ،فعلت ذلك
لخلق وادا أنفخ فيه صراخاتي وميولتي وكذا كل الحاسيس التي تخالجني والتي ل يعجز
البوح عنها ال القلم والكلمة.
أما الحداث الحقيقية للرواية بعد 25سنة من خروج خالد من الجبهة ،فيقيم معرضا في
باريس وتزوره حياة ويقع خالد في حب حياة بصورة ميلودرامية ،حيث بالمصادفة تعّرفه
ابنة سي الشريف ابنة عم حياة على نفسها بأنها النسة عبد المولى ،فترتد ذاكرته الى
الوراء فجأة 25 ،سنة ،ويأمل في أن تكون الخرى هي الطفلة التي سجلها باسم احلم
وليست من تعرفه ويقع حبه لها فورا ،هذه باختصار أحداث الرواية.
هي محاولة بالزل ،فأنا ل أقوم بجهد حين أرسم ،فهي ليست أزرار ،هي كالخلية الدموية،
والظروف هي التي تجعلنا نشعر بالزخم الشعري ،فنحن مثل ل نطبخ اليوم وغدا نقوم
بالشغال المنزلية ،الكتابة والرسم هي ردود فعل لمعايشات.
أعتقد أنني أهوى ذلك منذ الصغر ،وهي موهبة نماها أبي الذي اكتشفني ،ففي الـ 15
رسمت وجوها وأتذكر أن أول معرض للرسم أقمته كان في المدرسة البتدائية ،وعلقتي
بالرسم لم تكن مزاجية بقدر ما كانت علقة وجود ،لنني أشعر بنفس القلق ،وان أشياء ما
تود الخروج مني ولن أكف عن خوض تجربة الرسم حتى تكف أناملي عن الحك ،فهناك
أشياء أودها أن تخرج.
ما هي أهم الجوائز التي تحصلت عليها أحلم مستغانمي طيلة مشوارها
الدبي؟
تحصلت سنة 1996على جائزة نجيب محفوظ للرواية عن رواية ذاكرة الجسد التي تمت
طباعتها 18طبعة في مدة زمنية قياسية ،وسنة 2001انشئت جائزة مالك حداد للرواية
الجزائرية بالتنسيق مع رابطة كتاب الختلف وكذا أكاذيب سمكة ،على مرفأ اليام عام
،72واستطعت عبر رواية واحدة أن أحقق النجومية في الوطن العربي الذي ل يقرأ كثيرا،
وهذا مؤشر كبير من طرف الدول العربية على مدى ما استحوذته الرواية من اهتمام
يفوق أي كتاب آخر ،فرغم أن بداياتي كانت شعرية ،لكنها بقيت في ذاكرة كل قاريء.
أنا أعتقد ان الروائي أو الديب أو الممثل أو أي كان ل يتعرض لنتقاد يعتبر عمله ناقصا،
فالنتقاد طبعا البّناء نوع من التحفيز الذي يساعد على رفع مستوى المنتوج أو العمل الذي
نقدمه ،فرغم النتقادات اللذعة التي تعرضت لها شخصيا والتي مست الروائية احلم
مستغانمي من طرف الدباء الجزائريين وحتى في الخارج ،ال أنني اعتبر نفسي من
القلم المعروفة على الساحة الدبية ،وقد عبر عن ذلك الكثير من الدباء ليس فقط
الجزائريون منهم وإنما حتى في الخارج الذين اعتبروا ثلثيتي المشهورة من الروايات
عرفت انتشارا وتوزيعا كبيرين في الساحة الدبية.
أنا جد سعيدة بتواجدي في الجزائر الحبيبة ،ببلدي وسط أهلي والذي أشعر أنني لم
أفارقهم أبدا وكل مرة ألتقي بهم أشعر وكأنني معهم دوما.
هذه إحدى معجزات الكتابة بإمكان كاتب أن يخترق كل هذه الحدود ..أنا أحلم أن
أذهب إلى فلسطين و لكن كتبي تجاوزت ليس فقط الحدود بل دخلت الزنزانات.
يوم كنت أقترف الشعر قلت :أنا المرأة الزوبعة فقل للنخيل يطأطأ حتى أمر .
أنا امرأة عزلء ل أملك إل ورقة و قلم و لكن كما يقول أدونيس :الريح عزلء و لكنها
تنتصر في كل الحروب.
نحن ل نكتب كتب لنقضي حياتنا في الدفاع عنها بل لتدافع هي عّنا حتى بعد مواتنا.
خادمتي كانت بالنسبة لي أكثر شرفا ً ممن يدعون حمل راية الشعر و النضال.
أنا أشفق على الكاتب الذي ليس له أعداء … تصور كاتب ليس له أعداء.
يعتقد النقاد أنهم هم من يحاكمون العمل البداعي بينما العمل البداعي هو من
يحاكمهم .
تقول والدة الرئيس أحمد بن بللة :الطير الحر ما يتمسكش و عندما يتمسك ما
يتخبطش .
θكيف أتحايل على الرقابة العربية ..على نقاط التفتيش ..كيف أهّرب هذا التاريخ
المتآمر عليه .
ضل الشعر على الشعراء كما يفضل الناس الحب على الحبيب.
أف ّ
أريد أن أوصل رسائل مشفرة إلى القارئ ..أن أحرضه … أحرضه على الثورة على
الحياة على الحب على الشياء الجميلة .
أحتاج إلى كبريائي ككاتبة و أحتاج إلى كبريائي لواجه الورقة البيضاء و أحتاج كبريائي
بالنسبة للناس الذين عندهم سلطة .
أنا لست كاتبة بنزعات إجرامية و لكن ثمة أبطال ل بد أن أقتلهم دفاعا ً عن النفس .
سأكتب رواية عن الحب أريد أن اكتب حب أريد أن أرتاح أنا في الواقع الحداث العربية
أتعبتني ..أنا بلغت سن الفاجعة سآخذ إجازة نفسية أكتب فيها عمل عاطفي لكن العمال
العاطفية ل تنجو من السياسة و لكن الحب يطغى … الحب بقى و اجمل .
__________________
هذه إحدى معجزات الكتابة بإمكان كاتب أن يخترق كل هذه الحدود ..أنا أحلم أن
أذهب إلى فلسطين و لكن كتبي تجاوزت ليس فقط الحدود بل دخلت الزنزانات.
يوم كنت أقترف الشعر قلت :أنا المرأة الزوبعة فقل للنخيل يطأطأ حتى أمر .
أنا امرأة عزلء ل أملك إل ورقة و قلم و لكن كما يقول أدونيس :الريح عزلء و لكنها
تنتصر في كل الحروب.
نحن ل نكتب كتب لنقضي حياتنا في الدفاع عنها بل لتدافع هي عّنا حتى بعد مواتنا.
خادمتي كانت بالنسبة لي أكثر شرفا ً ممن يدعون حمل راية الشعر و النضال.
أنا أشفق على الكاتب الذي ليس له أعداء … تصور كاتب ليس له أعداء.
يعتقد النقاد أنهم هم من يحاكمون العمل البداعي بينما العمل البداعي هو من
يحاكمهم .
تقول والدة الرئيس أحمد بن بللة :الطير الحر ما يتمسكش و عندما يتمسك ما
يتخبطش .
θكيف أتحايل على الرقابة العربية ..على نقاط التفتيش ..كيف أهّرب هذا التاريخ
المتآمر عليه .
ضل الشعر على الشعراء كما يفضل الناس الحب على الحبيب.
أف ّ
أريد أن أوصل رسائل مشفرة إلى القارئ ..أن أحرضه … أحرضه على الثورة على
الحياة على الحب على الشياء الجميلة .
أحتاج إلى كبريائي ككاتبة و أحتاج إلى كبريائي لواجه الورقة البيضاء و أحتاج كبريائي
بالنسبة للناس الذين عندهم سلطة .
أنا لست كاتبة بنزعات إجرامية و لكن ثمة أبطال ل بد أن أقتلهم دفاعا ً عن النفس .
سأكتب رواية عن الحب أريد أن اكتب حب أريد أن أرتاح أنا في الواقع الحداث العربية
أتعبتني ..أنا بلغت سن الفاجعة سآخذ إجازة نفسية أكتب فيها عمل عاطفي لكن العمال
العاطفية ل تنجو من السياسة و لكن الحب يطغى … الحب بقى و اجمل .
__________________
هناك قصاص أن تولد كبيرا ً ...لكل كاتب الحق في أن يخطأ أما أنا ليس من حقي لن
ثمة من يتربص بي.
يقول بورخيس :بإمكان المبدع أن يخترع أسطورة و لكن ليس بإمكانه أن يشرحها.
الكتابة تحدث بين حبين و الحرمان هو حبر الكتابة و الدب يتغذى من هذه الفاجعة....
الحب أكبر خطر على المبدع.
محظوظة برجالي بدءا ً من أبي لنه كان بالمكان أن انطفئ منذ البدء.
زوجي ل يقرأ النصوص قبل أن تنشر لذا أنا متحررة من الرقابة الزوجية.
أنا آخر إنسان يجيب عن سبب انتشار رواية ذاكرة الجسدθ .
الكاتب يتواجد بغيابه ل بحضوره مكانه بين دفتي كتاب ليس أكثر.
على الكاتب الذي ل يجعلنا نغير رأينا بعد قراءته أن يغير مهنته.
نحن نحتاج إلى عدة رجال في الحياة لصنع بطل حقيقي في رواية.
كنت بحاجة لقتل خالد ) بطل رواية ذاكرة الجسد ( حتى أشفى منه.
يقول أستاذي جاك :ل وجود لدول متخلفة بل لوطان تخلف أبناؤها عن حبها.
أشارت أحلم مستغانمي ،عن عدم الشروع في تصوير أحداث رواية "ذاكرة الجسد" ،التي
ل يزال اسم كل من الفنان المصري نور الشريف ،وتيم حسن واردين في مشروع
المسلسل ،حيث اكتفت بالحديث عن مرحلة ،1945التي سيتم إدراجها في عمل "ذاكرة
الجسد" ،لكونها مرحلة ثرية ومرجعية في نفس الوقت ،ومن الواجب توصيل مجموعة من
الحقائق التاريخية إلى الجيال الصاعدة للتعرف عليها ،فرغم عدم تجديد الشخصيات التي
ستشارك في هذا العمل ،إل أن التحضير ل يزال متواصل عن هذه الفترة التي تبدأ عندما
خيط أول علم في بيت مصالي الحاج في 1937لتكون وثيقة تاريخية مصرحة ليس
بامكاننا أن نعطي للجيال كتب التاريخ ومحاضرات التلفزيون ،لكن من خلل المسلسل
سنقوم بهذا ،ومن جهة أخرى تحدثت صاحبة عابر سرير مرحلة ،45التي قالت عنها أنها
أخذت 15حلقة واحتجت من أجل أن تكون مقدمة عن التاريخ في المسلسل ،ولكنها
تحولت إلى 10حلقات تاريخية تسبق الرواية ،سيكون موجود فيها خالد ،سي الطاهر،
وحيث ستمنحها فرصة التصالت التي سيجريها مع عبد الحميد مهري ومحي الدين
عميمور ،وكذا زهور ونيسي الحصول علي التفاصيل التي ستدخلها في هذا العمل عن
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ،وتشجيعهم للبنات لللتحاق بالمدارس ،وكذا
الحصول على وثائق عن الحياة الجتماعية بقسنطينة ،وكذا الستعانة بمسجد الكدية الذي
تأسف لتخاد قرار تدميره ملحة في حديثها على ضرورة تصوير هذا المعلم قبل أن يدمر
وإدماجه في عملها عن فترة 1945وفي حديثها عن مشروع المسلسل ،أكدت أحلم
مستغانمي ،أنها لن تضحي بالوقت الذي تحاول كسبه ،لنجاز هذا العمل الذي يحمل
أهداف كبيرة وخصصت له ميزانة ضخمة من أجل أن يكون حاضرا خلل شهر رمضان
القادم على الفضائيات العربية ،يستهلك لنفس الطريقة التي تستهلك بها شربة رمضان
وبهدف متابعة المشروع في بعض الدول العربية تأسفت كثيرا أحلم مستغانمي عن عدم
اهتماما سفير الجزائر بالردن بهذا العمل الضخم ل أعرف ما هو بيني وبينه وما هو سبب
إدارة ظهره لهذا العمل الذي ستشاهده عشرات المليين العرب عبر الفضائيات ،متسائلة
عن تواجد الجزائر للثقافة العربية والسفير غير معني بالمر إطلقا ،وكيف يختار واحد
يجلس خلف علم الجزائر ليس له حس بالمسؤولية ،وكيف لمرأة وحدها تحمل مشروع
كهذا ،أحكي ،أشكي ،أبكي ،أجرى ،معتبرة أن صورة الجزائر كل واحد مسؤول عنها،
مشجعة بذلك سفير لبنان الذي فتح أبوابه للستماع للعمل وفي سياق آخر ،صرحت أحلم
مستغانمي عن ورود اقتراح مشاركة المطربة اللبنانية جاهدة وهبة في تجربة أولى من
نوعها في مسلسل "ذاكرة الجسد" ،التي ستقوم بغناء مجموعة من النصوص الشعرية
في الرواية ،وهو اقتراح جاء حسب ذات المتحدثة إلى جانب وجود مجموعة من العروض
التي اقترحت للمشاركة بها في جزائر عاصمة الثقافة العربية ،وهي عمل كوليغرافي أوبر
عن تاريخ الثورة ،ويكون إسم جاهدة وهبة من السماء المرشحة للمشاركة بصوتها في
هذا العمل كونها متعودة ولها تجربة في المسرح وأداء الوبرا بسبب تشويه العديد من
الحقائق فيه أحلم مستغانمي تصف مسلسل "نزار قباني" بأكبر إهانة انتقدت الروائىة
الجزائرية أحلم مستغانمي ،مسلسل نزار قباني الذي اعتبرته أكبر إهانة لهذا المبدع
الكبير ،واصفة من أنجز هذا العمل بالجهل "كأنه لم يقرأ عن حياته" ،نظرا لتشويه العديد
من الحقائق عنه ،وإظهاره بطريقة بائسة في مسلسل للمخرج باسل الخطيب الذي
وجهت إليه شخصيا ووضعته في قفص التهام وفي حديثها عن مسلسل نزارقباني المقدم
من قناة "أبو ظبي" ،والذي يعرض في الوقت الحالي على شاشة التلفزيون الجزائري،
صرحت أحلم مستغانمي عن احترامها الكبير لعمال باسل الخطيب ،خصوصا في عمله
"هولكو" الرائع ،مبدية في ذات الصدد ،عدم رضاها عن مسلسل نزار الذي آلمها كثيرا
لتقديمه بطريقة بائسة ،قائلةلم يكن هكذا نزار ،أنا عرفته ،وهذه أعتبرها أكبر إهانة له ،أن
يصور محاط بالنساء أو أن يظهر في بيت ينام فيه مع خادمة فهذا شيء ل يصدق مضيفة،
أنه كرجل مترفع عن كل هذا ،وهذا ما أكدته لمخرجه باسل الخطيب ،الذي قدمت له
شخصيا انتقادها عن المسلسل معتقدة أن إنجاز عمل عن حياة أحد عمالقة الشعر العربي
الذي مجد الحب ورقى من مكانة المرأة دائما ،ل يقع على عاتق المخرج فقط ،بل على
كاتب السيناريو كذلك ،فهي مسؤولية مشتركة بينهما ،وأن ما تم تقديمه يدخل في إطار
موجة يعايشها العالم العربي ،وهي موجة سباحة المبدع العربي ،لن إسم نزار يمثل تجارة
مربحة مستشهدة في ذلك بإحدى الكتب الضخمة المعروض بمطار بيروت والمكتوب
بأحرف مذهبة عنوانه "روائع نزار قباني" ،وهذا ما اعتبرته سرقة منظمة لجمل ما كتبه
نزار ،استهل بمقدمة ملفاته نشرت مع الكتاب لتحقيق أكبر المبيعات ،وهذا ما يمثل نهب
مغلق تألمت كثيرا لن من يعيش مع نزار لم يضع ول وردة على قبره رأيت قبره منذ أقل
من سنتين ،فبدى لي قبرا بائسا جدا ،ل يظهر من مر به هذا الرجل ،لنه كان لطيفا ،أنيقا،
جميل ،مصرا على كل تفاصيله ،فكيف يعيش وسط قبر بائس ،لكن هذا هو قدر المبدع
العربي ومن جهة أخرى ،صرحت أحلم مستغانمي ،أن وفاة المبدع العربي ،هو وفاة حتى
لذكراه ،وهذا ما أكدته خلل حديثها عن الراحل أحمد زكي الذي خدم طويل السينما
المصرية ،خاصة أنه لم يتذكر من طرف من يدعي حبه في الذكرى الولى لوفاته ،فلم
يحضر أحد في المقابل تحدث متاجرة باسمه أمام تحضير لمسلسل سيصدر عن حياته،
وحتى عن حياة العندليب السمر عبد الحليم حافظ فالمبدع العربي في نظر متحدثتنا
يصنع ثراء غيره ،ول يصنع ثراء نفسه قدره أن ينهب حيا وميتا وفي سياق متصل ولدى
إجابتها عن موضوع تحويل الروايات العربية إلى أعمال تلفزيونية وسينمائية ،تحدثت
الشاعرة أحلم عن تجربة السينما المصرية ،التي قالت عنها أنها أفلست في مواضيعها،
حتى المسلسلت الجتماعية لكونها لم تعد تشد المشاهد ،وهذا ما تدعم لديها من خل ل
اطلعها على العديد من المقالت المدرجة في هذا المجال ،معتبرة أنه من دور الدب
إصلح ما أفسده التلفزيون ،والن يستنجد بالعمال البداعية الروايات في مرحلة انتهينا
من فترة الحاج متولي ،التي كانت جميلة في وقتها ،لكن في الوقت الحالي هي فكرة
تجارية ليس هدفها الترويج لي شيء ،وإنما الغرض منها البيع وفقط
هَلة
نجيب محفوظ ..اليد المبدعة التي بترها اْلج َ
ب أو عنه .حتى عندما ُتقّرر أن ُتقلع عن ص في الح ّ مة من مجال لكتابة ن ّ ل مفّر .ليس ث ّ
من يطلب منك رثـاًء "مسبقًا" لكاتب على "قائمة َ يأتي ية،
ّ قوم مرثيات لكتابة عادة جنوحك
النتظار" للرحلة الخيرة.
شرك بأنها سُتنشر مع شهادات لكّتاب كبار آخرين في مي ذلك "شهادة"ُ ،يب ّ عن حياء ُيس ّ
ف كامل عن الفقيد المنتظر .ل يدري أّنك الفاقد والفقيد .ففي الوقت المناسب ،في مل ّ
مل في وليمة الموت التي تفتح شهّية القلم ّ وتأ موتك، على ن
ل موت لمبدع تمري ٌ ك ّ
ً
دا استثمارا جيدا .وحده الحزن على الفقيد مفقود لفرط وجوده ً )والفلم( .فالموت غ َ َ
العلمي.
منتجي المسلسلت الرمضانية، سَير الذاتية ،و ُ موت الكبار في ازدهار ،فبشرى لكّتاب ال ّ
ولوها بذريعة السينما إلى دكاكين ارتزاق. ّ وح المشاهير طار الذين سطوا على حيوات والش ّ
ً
دم ،مبّرر مهنيا .ما عادت ُتواكب الحدث ،بل تسبقه ،إلى حد ّ ً
الصحافة العربية أيضا في تق ّ
ن بعض الصحف فاجأتني بمطاردتها الهاتفية لي ،واتصالها بي مسابقة الموت نفسه .حتى إ ّ
مرارا ً قبل وفاة نجيب محفوظ بأسبوعين لتطلب مني شهادة عنه.
ُ
في موت سابق ،قاومت كثيرا ً منطق الستسلم لذلك البتزاز العاطف ّ
ي .الذين أحّبهم ل
حدادي عليهم. ب أن أرثيهم على صفحات الجرائد ،خاصة إذا كان ضوؤهم أكبر من ِ ُ
أح ّ
فك .لذا ،منذ سنوات ،وأنا مهم في هذه الحالت ،أل تبدو سارقا ً صغيرا ً لضوء أكبر من ك ّ
أقمع رغبتي في كتابة كتاب ينصف نزار قباني ول يشبه حتمًا ،ذلك المسلسل المتجّني
عليه ،الذي شاهدناه في رمضان الماضي.
عدا هذا ،أنا لم أعرف المرحوم نجيب محفوظ ،ول قرأت من أعماله الخمسين سوى
ثلثة ،ولم ُأجالسه سوى ساعتين في حياتي ،بمناسبة ن َي ِْلي الجائزة التي تحمل اسمه .ول
ظر عن الدب أدري إن كان هذا يؤهلني لن أعطي تصريحات للصحافة عن رأيي فيه ،وُأن ّ
العربي قبله وبعده ،وُأبدي فاجعتي الدبّية بفقدانه.
الحقيقة أنني ل أشعر بحزن لموته .هذا الرجل الدقيق كساعة ،لعّله اختار ساعته .ما عاد
دا ما نقرأه له ُيقال على لسانه ،ل مة ما يقوله ،وقد غ َ َ ل ما عاد ث ّ هذا زمنا ً للكبار ،أو لع ّ
بقلمه.
قاها في نجيب محفوظ مات في الواقع سنة ،1994يوم اغتالـوا يده اليمنى إثر طعنة تل ّ
ظلميون سرقوا يده وبصره وسمعه وتركوه يعيش مع جثة جهََلــة .ال ّ ُ
كتفه على يد أمّيين َ
كد من وجودها· وأنا التي كتبت كثيرا ً ممسكا ً بيده اليمنى ،كما ليتأ ّ يد .طوال لقائي به كان ُ
لعن المبتورين ،اكتشفت يومها أن أصعب من فقدان يد ..تعايش كاتب مع جثتها ،ك ّ
لحظة ،إلى آخر لحظة.
خذ َ لي صورة ُتوّثق ما أذكره من لقائي به ،أنني انحنيت ُأقّبل يده اليمنى .وطلبت أن ُتـؤ ْ َ
قت ََلة ،واعتذارا ً لنصوص لن ُتكتب. ديا ً لل َ
تلك اللحظة ،تح ّ
ن لموهبته أو إجلل ً أنح لم كوني من الرغم على محفوظ، نجيب يد بلت ُ
ِ أباهي بأنني ق ّ
قد َِره في زمن الشقاء العربي. لقد ِْره ،بل اعتذار ل َ
نجيب محفوظ ،ليس حامل جائزة "نوبل" للداب فحسب ،إنما أيضًا ،حامل جثة اليد ،التي
مــة تحترف بتــر ما هو جميل. ُ
صن ََعت مجدنا وقطعناها ،لننا أ ّ َ
مِني عندما أجريت َ َزَ ل و ً
ل، طوي طــاردنـي شبحها بأن اليوم أعترف تستريح. أن اليد لتلك آن
منذ سنة عملية صغيرة في كتفي اليمنى بسبب "التكّلس".
صــل الكتابــة؟ ماذا لو كانت أيدي الكّتاب تستيقظ "هناك" لُتوا ِ
قالت احلم في الكلمة التي كتبت نصفها في الليلة السابقة لقدومها الي الدوحة ونصفها
الخر في السماء بين جناحي طائرة:
مربك هو اللقاء معكم .كشعور مسبق بالذنب .قد اكون تأخرت كثيرا .او لعلي جئتكم قبل
نضوج الوقت .ل ذريعة لي سوي ان الحب يأتي متأخرا .ول عذر لعجلتي سوي ان الحزن
هو اول من يصل الي اي موعد عربي .
انا التي احترف اللغة اظنني فقدت الرغبة في الكلم ،وما عاد لي من شهية للجدل ،اظنها
الهزائم سلبتني صوتي .أو بها بلغت سن الفاجعة ،يوم شاخ غضبي ،فأن تقلع عن الغضب،
يعني انك غادرت عنفوانك الول ،وخانك شباب ثورتك وأما أن تقلع عن الحلم ،فمعناه أن
النكسة مما عادت خلفك بل فيك وأن أحلمك تواضعت ،وقامة كبريائك انحنت واحدودبت
حتي اصبحت اقرب الي الرض مما كنت.
ما كنت من السذاجة لحلم بنصر ساحق لحلمي العربية ،ولكن أكنت غبية يوم لم اطالب
بأكثر من هزيمة منتصبة القامة؟ في عنفوان سابق ،اذكر اني يوم كنت شاعرة ،لم يتجاوز
عمرها ديوانا وبعض مواجهات ،كنت اراني اكثر زهوا مما انا اليوم واقفة علي هذه
النجاحات .حتي انني قلت في السبعينات انا المرأة الزوبعة فقل للنخيل يطأطيء حتي
أمر فقد كان صعبا يومها علي النخيل ان ينحني لمرأة .هو ذا النخيل العربي نفسه .اراه
اليوم مخلوع الكبرياء .مجردا من عقاله وعباءته ..يساق في شاحنات المذلة ،مكبل
اليدي ،معصوب العينين ..ما عاد النخيل العربي يطرح رطبا مذ ارغموه علي الجلوس
القرفصاء عند اقدام المحتل .ففي من تتغزل الشاعرات اذا؟ وممن تحبل النساء في زمن
م؟ وأطفالنا منذورون قربانا لنزوات الموت العبثي..الذل العربي؟ ول َ
هي ذي الرجولة العربية التي تمنتها العذاري ،وصنعت زهو تاريخنا نراها كل مساء ذليلة
مهانة ..معروضة للفرجة ..عارية ال من ذعرها ..مكبلة اليدين والكبرياء ،ترتعد تحت ترويع
كلب مدربة علي كره رائحتنا!
توفيق طه:
العاصفة التي أثيرت حول رواية )ذاكرة الجسد( للكاتبة الجزائرية )أحلم مستغانمي( لم
تهدأ بعد ،الصحفي التونسي الذي نقل عن الشاعر العراقي )سعدي يوسف( قوله في
سهرة على شاطئ تونسي إنه الب الروحي لتلك الرواية مازال مصرا على كلمه،
وسعدي يوسف الذي أعطى نفيا مبتسرا في بداية المر غاب لكثر من شهرين ،قبل أن
يعود أخيرا ليعطي جوابا مبتسرا آخر ،مفاده أنه قرأ مخطوط الرواية ،وراجعه نحوا وإملء،
ونصح صاحبته بإعادة كتابته وفقا لمنظور روائي أخر ،لكنها لم تفعل ،كما نفى أن يكون
للقصيدة التي استشهد بها الصحفي التونسي أي علقة بالرواية الجزائرية ،وعندما اتصلنا
به قال إنه يرفض التحدث في الموضوع معتبرا أن الضجة كلها مفتعلة ،وأنه يريد أن يـبقى
خارجها ،لكن الصحفي )كارم الشريف( الذي أثار العاصفة أصر في بيان بعث به إلى
الصحف على أن لديه أدلة تفند بيان أحلم مستغانمي الذي نفى فيه الموضوع جملة
وتفصيل ،ودعاها إلى مناظرة معه ،بل واتهم الكاتب والصحفي اللبناني )عبده وازن( بأنه
كاتب ذلك البيان ..فماذا قال عبده وازن؟
عبده وازن:
إن مثل هذا الكلم كي ل أقول التهام يفاجئني حقا ،لنني مضى وقت طويل لم أر فيه
السيدة )أحلم مستغانمي( سنة أو سنـتين ربما ،وإني مستغرب تماما مثل هذه الثرثرة
التي ل تخدم الثقافة العربية في أية حال.
إنني ُأكن كل الحترام للسيدة أحلم مستغانمي على الرغم من موقفي النقدي من
رواياتها ،وهذا ل علقة له أبدا بالمستوى الشخصي ،كان لي موقف نقدي من روايتها الـ..
)ذاكرة الجسد( لكنه موقف مبني على رأي تحليلي يطال البنية الروائية وعلقة
الشخصيات ونمو البطال وكذا.
إنني أعبر عن استيائي فعل من هذه الحملة التي طالت السيدة ،وفي اعتقادي أنه ما من
أحد يستطيع أن يكتب عن أحد ،لنه ما من أحد يستطيع أن يحل محل الكاتب نفسه،
وخصوصا أن الكاتبة هي جزائرية تعبر في هذه الرواية عن معاناة امرأة جزائرية.
توفيق طه:
أما أحلم مستغانمي فقالت إن سعدي اعتذر منها كثيرا عما حدث ،وصور لها المر على
أنه مؤامرة لتشويه سمعته ،استباقا لدور سياسي قال إنه سيلعبه قريـبا في صفوف
المعارضة ،ومع أنها قبل أسبوعين فقط كانت تصف اختفاءه بأنه مريب وذو دوافع إعلنية
وتجارية إل أن لهجتها لنت كثيرا بعد ما قاله سعدي أخيرا وإن ظل فيها الكثير من العتاب.
أحلم مستغانمي:
بحكم صداقة قديمة أطلعت سعدي يوسف أثناء إحدى زياراته إلى مجلة )الحوار( التي كان
يصدرها زوجي في باريس ،على مخطوط ذاكرة الجسد التي كنت انتهيت من كتابتها لتوي
سنة 1988م ،ولكنه أعادها إلى بعد فترة ناصحا إياي بإعادة صياغتها ل من حيث
المضمون ،ولكن من حيث البناء الروائي على طريقة الدب المريكي ،وهو ما لم أعمل به
لنني لم أكن مهيأة للعبث بملمح رواية ولدت بتلقائية وزخم عمل أول.
وهذا الكلم أكده سعدي يوسف في أكثر من مقابلة بأمانة كاملة أشكره عليها ،غير أني
من منطلق احترامي لماضيه النضالي ولسمه الشعري فإني عاتبة عليه لنه لم يـبادر
بالنفي حال سماعه لتلك الكذبة الرخيصة بل آثر أن تطرق الصحافة بابه لكي يمنحها نفيا
موجزا مما يصطدم مع ما يحتمه عليه واجبه الدبي والخلقي والقومي ،حيث إنه كان
الشخص الوحيد القادر فيما لو أراد على إيقاف ذلك النهج والتشهير العلمي الذي كنت
أتعرض له ككاتبة وكإنسانة يوميا بسببه.
توفيق طه:
فكيف ردت أحلم على حملة التشهير التي لحقتها ،وشككت في نجاحها ،وفي شرفها
كروائية؟
أحلم مستغانمي:
أنا لست معنية بالدفاع عن نفسي في مواجهة كذبة ل يمكن أن يصدقها إل البلهاء ،وعلى
الذين تعاطفوا معي أن يوفروا جهدهم لمعارك أكبر تنـتظرنا جميعا ،جميعنا سنساق إلى
معارك ل نبل فيها ،وعبثا سنبحث عن أعداء شرفاء وقضايا جريئة.
هذا الوطن الذي كنا نريد أن نموت من أجله قدرنا أن نموت على يده ،لقد ابتكر العالم
العربي آلية جديدة لتصفية الفكر والبداع ،وتلويث كل ما هو جميل ونظيف ونادر ،بالتنكيل
بمبدعيه عن طريق الطعن في معتقداتهم والتشهير بأخلقهم والتشكيك في انتمائهم
القومي.
وهذا أخطر بكثير من تقاليد العتقال والتصفيات الجسدية ،لمة طاعنة في ظلم مبدعيها،
إنني أقاسي لن النجاح أكبر جريمة يرتكبها كاتب عربي اليوم ،وأكبر خطيئة ترتكبها امرأة
في حق الخرين ،ولكن فليكن ،لمثل هذا التحدي خلق الدب!! فالكاتب ل يملك إل أن يرد
على كل فاجعة بكتاب.
توفيق طه:
أما جديد مستغانمي فهو سعيها إلى القتصاص من كل الذين تعرضوا لكرامتها ممن
وصفتهم بأصحاب القلم المفروشة والجاهزة لليجار.
أحلم مستغانمي:
إن معركة على هذا القدر من القذارة ،لبد أن يكون سلحها القانون ،وليس القلم ،الذي
يراد له أصل أن يلوث ،أنا أسكت ترفعا عن ضفادع تحاول جري إلى مستنقعاتها للرد
عليها ،ولكن ثمة محامون موكلون من أكبر شركة مختصة في قوانين القذف والتشهير
والعلم في إنجلترا بملحقة كل شخص أو منشورة تعرضت لكرامتي ،ل لجمع ثروة من
رخص هؤلء ،ولكن لؤدب بهم من استرخصوا شرف الكتاب ،وانتهكوا حرمة حبرهم طمعا
في شهرة أصبحت في متناول كل القلم المفروشة والجاهزة لليجار والستـثمار.
ولدت عام 1953في تونس ،لتتخّرج سنة 1971من كلّية الداب في الجزائر ضمن أّول
دفعة معّربة تتخّرج بعد الستقلل في جامعات الجزائر.
ث في جا يومًيا في الذاعة الجزائرّية يب ّ دم برنام ً
خلل ثلث سنوات كانت أحلم تعد ّ وتق ّ
ساعة متأخّرة من المساء تحت عنوان “همسات”.
وقد لقت تلك “الوشوشات” الشعرّية نجاحا ً كبيرا ً تجاوز الحدود الجزائرية الى دول
دا
ي ،الذي وجد له سن ً المغرب العربي وأسهمت في ميلد إسم أحلم مستغانمي الشعر ّ
ي الممّيز وفي مقالت وقصائد كانت تنشرها أحلم في الصحافة في صوتها الذاع ّ
الجزائرية .ديوانها الّول أصدرته سنة 1971في الجزائر تحت عنوان “على مرفأ اليام”.
دا كبيًرا للجزائريين.تزّوجت من الصحفي اللبناني جورج الراسي و هو ممن يكّنون و ّ
وابتعدت عن الحياة الثقافية لبضع سنوات كي تكّرس حياتها لسرتها ،قبل أن تعود في
ي من جديد .حصلت على شهادة دكتوراه من بداية الثمانينات لتتعاطى مع الدب العرب ّ
جامعة السوربون.
شاركت في الكتابة في مجّلة “الحوار” التي يصدرها زوجها من باريس .ومجلة ”التضامن”
التي كانت تصدر من لندن .إستقرت في لبنان
صدر لها :على مرفأ اليام ،الكتابة في لحظة عري ،نساء وكتابات مع المستشرق
الفرنسي جاك بارك ،اشتهرت عربيا بعد أن أصدرت رواياتها “ذاكرة الجسد”“ ،فوضى
الحواس” “ ،عابر سرير”
إّنها الصوت العربي الوحيد الذي أوصل الدب العربي إلى مصاف العالمية ،فكتاباتها ل
تخلو من الحس السياسي المؤجج بالعاطفة ،تنتقي عباراتها بصدق أدبي حر وقوي ،تماما
مثل حديثها الذي ينبئ عن إمرأة من حديد وحرير تحمل بين جوارحها “ذاكرة الوطن” ،لذا
فإن الجلوس إليها يوقظ الشباب في القلوب الهرمة في هذا الزمن العربي الغائر في
شقائق الشك والهوان.
الحديث إليها رواية ،حكت فيها عن أعداء المجد والهم العربي ،والجرح العراقي ،أما
الوطن فهو حاضر دائما.
*بعد أن كتبت الثلثية في أكثر من ألف صفحة ،هل تظل الغربة هي
الموضوع الدائم في أعمالك القادمة؟
-بعد كتابتي لذاكرة الجسد الذي واكب أحداث الجزائر الخيرة ،أصبحت أتردد الن عليها،
كما خففت إقامتي في لبنان من مرارة الغربة التي عانيتها ،لن الجواء هناك عربية
وإسلمية ،وإني معتكفة على كتابة رواية أخرى ،حاولت فيها قمع موضوعي السابق بحكم
أن الكتب تتوالد ،وفي روايتي الرابعة التي استقريت على تسميتها “السود يليق بك” هي
الخرى أثريتها بأحداث سياسية وشاعرية ،وأحكي فيها عن قصة حب ومحنة الثراء وكيف
يلحق المال الذى بصاحبه.
-لقد حولت الرواية إلى عمل كيروغرافي ،كما غنت لي الفنانة اللبنانية جاهدة وهبي “كأن
مهرك صلتي” ،ولطيفة التونسية تطاردني حتى تغني لي قصائد ،وفي الحقيقة ل أملك
قصائد تغنى ،ولذا أفكر في كتابة سيناريو لها لفيلم يطاردني ،لسيما وأن لها حسا ً وطنيا ً
وقوميا ً وهي فنانة محافظة ،الموضوع فيه عن الحب والجنون ومواقف رومانسية متطرفة،
ولو أن نصوصي سياسية أل ّ أني فكرت في نماذج نساء ولدن أمام جثمان ،فقد تجسدت
لي إبنة جبران تويني التي كبرت وعملت تصريحات مذهلة ،وهي كانت قبل بضع ساعات
تبكي أبيها كصبية ،وتجسدت أمامي بهية الحريري أرملة رفيق الحريري ،وليلى المعوض
زوج الرئيس معوض وجسي الخوري التي فقدت أخاها ..وغيرهن.
*ماذا عن مشروع تحويل ذاكرة الجسد إلى فيلم سينمائي ،فبعد الثرثرة
العلمية الشديدة عن المشروع نرى أنه لم يستقر بعد القرار على الجهة
التي تقوم بتنفيذه بين مصر والجزائر التي لبد أن تحظى بتبني الرواية
السينمائية ،لسيما أن ذاكرة الجسد هي ذاكرة الوطن؟
-صدقيني ،أذا صارحتك ..إن مأساتي هي حب الوطن ،لقد تسابقت دور النشر الجزائرية
من أجل روايتي السابقة حتى أطبعها هنا ،لكن كدست ضمن المخطوطات ونسيت ،وبعد
طول انتظار أعطيتها للستاذ “سهيل إدريس” صاحب دار الداب اللبنانية للنشر ،الذي جن
حين قرأها وظل يردد أنها “قنبلة أدبية” .زرته مؤخرا ووجدته مريضا ومتعبا وأنا أتمنى له
الشفاء بالمناسبة ،ذكرته بمقولته تلك ،وقلت له “ :إن القنبلة طلعت عنقودية كل مرة
تنفجر في مكان” .تماما مثل ولدة الرواية يتعرقل مشروعها السينمائي انا أتمنى أن
تتبناها الجزائر ،وحتى توجهي للخارج أشترط أن تكون الجزائر طرفا ً فيه ،أما رغبة
“يوسف شاهين” في إخراج العمل ،فإني ل أستطيع التدخل ومناقشة المشاهد لنه مخرج
كبير ،وأكيد “على عادة السينما المصرية” ستكون هناك مشاهد قبل ورقص ،لكنني أريد
أن تكون القبلة كما وصفتها أنا بالحياء الجزائري الجميل ،ليس الحياء الغبي لنه تماما مثل
الباحية ل يمكننا صناعة أدب به.
*ماذا عن الضجة التي أثيرت حول الديب الجزائري ياسمينة خضرة أو محمد
بلمسهول اسمه الحقيقي ،حول كتابه الخير “العملية” حيث اتهم بموقفه
الخائن للقضية الفلسطينية؟
ق ،ككتابات “واسيني العرج” ورائعته -الحقيقة ،للدباء الجزائريين مستوى رائع ورا ٍ
“شرفات بحر الشمال” ومؤلفه الخير “ كتاب المير” نّبأ عن جهد وبحث عميقين وجادين،
كذلك أعمال “أمين الزاوي” ،و”ياسمينة خضرة” أعماله رائعة باللغة الفرنسية ،وإني
أخاف عليه الوقوع في فخ السياسة ،وللمانة له مواقف عظيمة فهو رفض التهجم على
الجيش الجزائري بصفته ضابطا سابقا ً فيه قبل أن يفر ويتفرغ للكتابة ،ولم يقع في فخ
السؤال “من يقتل من في الجزائر؟” ،الذي روجت له الوسائل العلمية الجنبية إّبان
السنوات الحمر الجزائرية ،وشن الهجوم على الكاتب “ياسمينة خضرة” ظلم ،لننا قاسون
على أنفسنا أكثر من الفلسطينيين ولسنا أكثر خيانة منهم ،ومن سمم عرفات غير
الفلسطينيين؟ ،فـ”بيغن” كان يقول “ :كل خمسة رجال يمتلكهم عرفات لنا ثلثة وله
إثنان” .ولذا علينا الدفاع عن أنفسنا وأن ل نترصد الخطاء لنقضي على بعضنا البعض .فما
يؤلمني هو الطعن بخناجرنا ،المنطق صار عندنا إن النجاح جريمة وعمل عدائي ،وهذا
للسف هو واقعنا.
-ل أريد الدخول في جدل ،فالدفاع عن نفسي إساءة لها ،فأعمالي وسيرة حياتي تدافعان
عني وتشفعان لي ،إني أبارك كل من يجمل صورة الجزائر ،خاصة بعد الفترة الحرجة التي
مرت بها ،وللسف الجزائر لم تبد جميلة مع “ فضيلة الفاروق” التي تهجمت على الرجل
سها الوطني ،لكن حذرتها من الضوء الجزائري ووصفته بالقسوة ،ولو أني ل أشك في ح ّ
والضوضاء اللبنانيين اللذين لن تستطيع إستيعابهما ،فأنا ل أوافق على إجراء مقابلت لي
كان ،فقيمة النسان تكمن في تمنعه ،ثم عندما نكتب ثلث روايات في أكثر من ألف
صفحة نكون قد قلنا كل شيء وكل ما يقال خارج الكتابة هو ثرثرة ،وفي كل الحوال..
ي
الصمت ،جزء من البداع ،ورغم ذلك أظل طوال الوقت أكذب في مقالت تنسب إل ّ
ظلما.
أما عن “واسني العرج” فأنا ل أصدق ما قولوه عني ،كذلك الدكتور “أمين الزاوي”،
كلهما مرجعان أكاديميان وأديبان متميزان من ذوي المستويات الراقية وليمكنهما قول
ذلك ،يمكن أنهما استدرجا في فخ الصحافة التي تريد أن تبيع .أنا ل يمكنني إلغاء تأريخ
وموقع أدبي لي كاتب ودائما لدي نوايا حسنة مع الخرين ،لكن هناك أنانية في الوسط
العربي ودسائس الكتاب لكن لماذا؟ ،فلكل واحد منا مكان في هذا العالم الذي يتسع
للجميع ،ثم في الخير أنا أبحث عن أعداء كبار ومعارك نبيلة أكبر بها بصراحة ..لقد عانيت
الكثير .
*واتهامك بسرقة الروائي الجزائري الراحل “مالك حداد” قضية أخرى ،كيف
تتحملين هذه التهمة وأنت من أخرجته من الهامش؟
-منذ قضية “سعدي يوسف” الذي قيل أنه من كتب روايتي ،مرورا باتهامي بسرقة أعمال
“مالك حداد” ،كيف أفعل ذلك وأنا من أخرجته إلى النور بعدما ظل سنوات في حياته وبعد
مشا ومقصيا؟ ،لقد عاهدت نفسي “سأهبه غزالة” الذي كان عنوانا ً لمقالتي في موته مه ّ
صحيفة الشعب منذ سنة ،1985ووهبته غزالة بتأسيس جائزة مالك حداد للرواية محاولة
مني لدعم الشباب المبدع وكم أنجبت الجزائر من غزلن عربية ،لقد تأثرت بصاحب رواية
“سأهبك غزالة” ووقعت في حبه ،فكلنا شاعر وجربنا دخول عالم الرواية ،فقد أعجبت
باستخفافه الجميل ،وتلميحاته الراقية ،فل أحد كتب مثله ،وعندما أخرجته للضوء إتهمت
بسرقته؟ ،أنا امرأة نزيهة وللمانة أضع المقولت التي أستخدمها في كتاباتي بين قوسين،
رغم أنها مقولت من الصعب التعرف على أصحابها ،وللسف بعض منشآت الصحافة
العربية حاولت تدمير الصوت الجزائري الوحيد الذي أوصلته عالميا.
-لقد نسبتني الكاتبة اللبنانية في كتابها هذا رفقة “محمود درويش” و”فدوى طوقان” أننا
أقلم إسرائيلية ،سعدت بذلك لنها صنفتني ضمن هؤلء الكبار ،هل تعرفين أني الكاتبة
الكثر مقروئية في السجون السرائيلية ،هناك رسالة بعثها سجين فلسطيني إلى “مروان
البرغوثي” يخبره أن كتابي موجود بثلثين نسخة مكتوبة بحروف السمسمة وهو الحبر
السري ،وموزعة سرا في سجن عسقلن ،وهذا “محمود الصفدي” المحكوم عليه بسبع
وعشرين سنة سجنا ،يقول أن “أحلم” هي السجين رقم تسعة في كل زنزانة ،ورقمي
تسرب إلى المساجين وهم يهتفون لي من جوال مهرب ،وزوجي يحذرني ويتهمني
بالجنون ،هؤلء يقولون لي” :يا أحلم لو ترشحت في النتخابات لفزت بالتأكيد” ،لقد
وقعت في مدينة “مشغن” المريكية على كتب لفلسطينيين إشتروها من الحواجز
السرائيلية والمعابر الحدودية ،وتلك المرأة العجوز التي اتصلت بي تطلب إسم والدتي
حتى تدعو لها في البقاع المقدسة ،الرسائل ودعوات السر الفلسطينية التي أتكفل بها
تبكيني دائما ،وبعد هذا أتهم بأني إسرائيلية؟ ،إنها فعل نكتة.
-فعل هي خطة يجب أن نعيها ،فتخوين السماء الكبيرة مثل ”محمود درويش” و”دريد
لحام” ،وتكفير “مارسيل خليفة” هدفه هو القضاء على كل ما نتخذه من قدوة وهذه
الخطة تتبناها جهات مدسوسة بيننا ،إنه مخطط لضرب الثقافة العربية لنها الصرح الوحيد
المتبقي لنا للصمود ،والفضائيات التي في كل مرة تطلع واحدة ليس صدفة بالفعل ،حتى
أصبح حلم كل شاب عربي أن يغني بعدما كان حلمه الفداء والوطنية ،أصبح الشاب عندنا
يبكي في طوابير “ستار أكاديمي” حتى يعطوه ورقة ليصبح مغنيا وراقصا ،يبكي عندما
ينجح يبكي عندما يفشل ،الياباني ينتحر ول يبكي ،دموعنا لم تعد لها قيمة مع جيل ليست
لديه كرامة ،فإذا كانت “إليسا” في عمر إبنتي ثروتها أكثر من سبعة وثلثين مليون دولر
وهناك الكثيرمن أمثالها ،فكيف نكتب ونجتهد ونؤلف كتبا ً لسنوات ثم ل نكسب من
الجمهور إل ما ندر؟ ،حتى شعبية “خالد” لو استغلت لصالح قضايا معينة لكان المر جمي ً
ل،
ن غير مفهومة وصل صداها حتى “باكستان” ،فاستعمال هؤلء العشوائي بدل ً من تأديته اغا ٍ
خلف جيل ً ضائعًا.
*وماذا عن هجوم بعض الكتاب الماراتيين عليك بعد رثائك للشيخ “زايد”،
وهناك من يعيب عليك الولء للحكام العرب الذي ل يخلو تأريخ أغلبهم من
إضطهادهم للدباء والمثقفين؟
-من هم الكتاب الربعة الذين اضطهدهم الشيخ “زايد” ،ل أحد سمع عنهم ،وعلى علمي
كان الشيخ “زايد” يسمى بحكيم العرب ،وأجمع الجميع أنه موحدهم ،حتى أنه أراد إنقاذ
العراق من مصير “صدام” ،ودعاه لينزل في المارات معززا مكرما حتى ينقذ المنشآت
العراقية من التدمير ،ياليته أخذ بنصيحته .إني لم أدافع عن ديكتاتور ،وهؤلء من ذكروا في
الموقع اللكتروني هم مطرودون من المارات لسباب يعرفونها ولديهم تصفية حسابات،
إن ما دفعني لرثاء “زايد” وتعزية شعبه هو إعجابي ببلدهم .فلو خبرت الصوم هناك،
الناس يتسابقون للصلة ،الميرات بأبسط الثياب برفقة خدمهن ،إني أحب طيبة وبداوة
هؤلء ،تحملنا إلى بداوتنا الولى ،إن في مدحي للشيخ “زايد” رحمه الله رغبة مني أن
يكون عبرة لغيره.
*بقيت ترفضين الذهاب إلى العراق رغم سعة الفعاليات الثقافية العربية
في هذا البلد الكبير ،هل كان في نفسك ما رفضت من أجله المجاهدة
القديرة جميلة بوحيرد ،عندما تلقت دعوة من الرئيس العراقي السابق
“صدام حسين”؟
-إني أفتخر أن هناك دول ً لم أطأ ترابها ،كالعراق زمن الديكتاتورية ،عندما كان الكثير من
المثقفين والدباء العرب يقفون في طوابير الذل في المربد ،وهناك دول أخرى مازالت
تتبنى أنظمة استبدادية لن أطأ ترابها ،وهناك كتاب شيوعيون راحوا إلى ليبيا ومدحوا
“الكتاب الخضر” من أجل مكاسب صغيرة ،كل هؤلء أتمنى الكشف عن أسمائهم ،أين
هم الكتاب الذين مولهم “صدام”؟ ،إني أطالب بفضح قوائمهم ،حتى يمتدح النزيه ويفضح
المنافق ،تماما مثل المطربة التي ذهبت إلى العراق بدعوة من “عدي” نجل ”صدام”
وأخذت مقابل حفلة أحيتها مليون وثلثمائة ألف دولر ،فهل أتضامن مع شعب بسلبه هذا
المبلغ؟ ،إني لن أغفر لها ،وأدعو لمحاسبة هؤلء ،بدل التعدي على النزهاء وإقصائهم.
أقام ديوان الثقافة والعلم الجزائري التابع لوزارة الثقافة نشاطا ً ثقافيا ً وفنيا ً مميزا ً
استضاف فيه الفنانة اللبنانية الملتزمة )جاهدة وهبة( التي خصصت المسية لتقديم أغنيات
جديدة هي مقتبسة من رواية الكاتبة الجزائرية أحلم مستغانمي )ذاكرة الجسد( ،وهي
تجربة فريدة من نوعها ،وعلى هامش هذا النشاط التقت )الثقافية( الروائية أحلم وأجرت
معها هذا اللقاء..
*ةةةة ةةةةةة ةةةةة ةةةةةة:
* بالمس شاهدنا -لربما أول تجربة -عربيًا ،وهو عملية تحويل النص
الروائي إلى عمل غنائي كيف بدت لك التجربة؟
بدت كما قلت تجربة مذهلة بالنسبة لي ،لنني لم أتوقعها ،فعندما طلبت مني الفنانة
)جاهدة وهبي( بالبدء بتلحين بعض نصوصي لم أصدق أبدًا ،..لنني ل أكتب شعرا ً موزونا ً
ول أدري كيف يمكن أن ُيغنى ،..ولكنها بدأت بتلحين بعض النصوص الشعربة الموجودة
داخل نصوصي ،كما هو الحال مثل ً في رواية )ذاكرة الجسد( ،التي ترد فيها بعض النصوص
الشعرية على لسان )زياد( ،مثل )تربص بي الحزن ..ل تتركيني لحزن المساء ،سأرحل
ل به التراب ،خرج ذلك سيدتي( ،كما لحنت قبل ذلك إحدى نصوصي التي تقول) :مذهو َُ
الصباح ،كي يشتري ورقا ً وجريدة .لن يدري أحد ماذا كان سيكتب ،لحظة ذهب به الحبر
إلى مثواه الخير (..وعندما اغتيل )جبران تويني( قدمتها )جاهدة( كإهداء إلى روحه
فوجدت رواجا ً وإقبال ً كبيرين ،في لبنان وكذلك افتتحت بها معرض الكتاب في باريس
والحفل الذي اقيم بمناسبة مرور عام على إغتيال تويني وسمير قصير ..ولذلك وجدت
نفسي في ورطة مع جاهدة ومع الجمهور الذي تلقى تلك النصوص بلهفة ،ثم قامت أيضا ً
بتلحين نص آخر ،وقدمته في مهرجان الغنية بمسقط حيث افتتحت به المهرجان..
وبالتالي أصبح التعامل شرعيا ً بيني وبينها .وما شدني إلى )جاهدة( هو ان صوتها هو
)صوت مثقف ،وملتزم صوت لم يلوث ،خاصة بحكم انها ملتزمة وذات ماض سياسي..
فوالدها شهيد ،وشقيقتها تم إعتقالها من قبل السرائليين ،بالتالي هي من عائلة مناضلة،
وهي تختار نصوصها بحس عال جدا والواقع ان إحساسها احيانا يفوق إحساسي بالكلمة
التي أكتب ..فحينما تكتب شعرا لديك إحساس بالورقة التي أمامك ،ثم عندما يتحول إلى
أغنية اعتقد انه شيء آخر .فبالمس كنت محرجة جدا وهي تغني بعض نصوصي ،وشعرت
بإرباك ،فالصوت يفضحك ويعريك أمام جمهورك بينما الورق يغطيك إلى حد ما.
* أيضا ً ذاكرة الجسد الن يتحول إلى عمل درامي مسلسل ،ربما يعرض على
الشاشات في شهر رمضان القادم ،أين وصل هذا المشروع؟
انا مأخوذة بهذ المشروع ،وحاليا نكتب السيناريو ،وقد تأخرنا قليل ،لن العمل تاريخي
ويحتاج إلى دقة متناهية.
حقيقة احترنا في هذا المر في البدء ،وتوقفنا كثيرا لدى اللهجة التي يمكن ان يقدم بها
العمل ،فإذا كتب باللهجة الجزائرية لن يفهم في المشرق العربي ،وإن كتب بغيرها أيضا ً
سوف لن يكون له ذات الصدى التاريخي ..وأخيرا ً رسونا على أهمية كتابته باللغة
الفصحى ..وقد ذهبنا بعيدا ً في بدايات العمل أي إلى ماقبل بداية الرواية إلى 1945
وأحداث شهر مايو التي سقط فيها حوالي 45ألف قتيل على يد المستعمر الفرنسي ،أي
قبل إعلن العمل المسلح .وبالتالي العمل قد يتأخر لننا نريد انجاز عمل تاريخي ،كما أن
هناك بعض التصالت من فضائيات وشركات إنتاج عربية لشراء حقوق رواية )عابر سرير(
بصفتها الجزء الثاني من )ذاكرة الجسد( ،وحاليا هناك تفاوض في هذا الجانب.
* ولكن لماذا تم سحب )ذاكرة الجسد( من المخرج يوسف شاهين الذي كان
قد اشترى حقوقه؟
بالفعل تم السحب ولكن قبل فترة ..ربما قبل 4أعوام ،أو أكثر.
ل أدري لماذا ..ولكن ربما لن الجميع كان يعتقد أن شاهين هو الذي سيخرجه ،وعندما
بدأنا العمل الن اكتشفوا أن شاهين غير معني بإخراج العمل ..وأنا أوضحت انني سحبته
منذ فترة بعيدة أو لعله بعد توقيع العقد مباشرة...
بكل صراحة ..لن الستاذ شاهين لم يسمح لي بالتدخل في العمل أو الشراف عليه ،هذا
هو السبب ،طبعا هو يشترط ذلك بحكم انه مخرج كبير ..ولكن انا أيضا ً اقدم عمل تاريخيا
ول بد من وجود طرف جزائري له حق الطلع وإبداء الرأي في عمل يرتبط بأحداث
تاريخية حقيقية.
نعم هناك مشروع اشتغل عليه الن وهو عبارة عن كتابة نص )لفيلم سينمائي( ،وهي قصة
تشتمل على احداث سياسية ،وإجتماعية ،وفنية ،وهي قصة حب جميلة.
* هل هناك اتفاق معين لمن ينتج هذا العمل ومن سيقوم ببطولته؟
نعم بالتأكيد ،اعتقد ان الفنانة )لطيفة( هي التي ستمثل دور البطولة )مبدئيا…( ..
في الحقيقة اشتريت نسخة من )بنات الرياض( ولم افرغ من قراءتها بعد ..ولكن قرأت
عنها اكثر ..وان هناك ثمة غواية مارستها الكاتبة طوال الرواية حيث تعد القارئ بالكشف
عن ثمة شيء ثم تنتهي الرواية دون ان تبوح به ..ولعل هذه الغواية في حد ذاتها جميلة..
ويكفي انها كتبت.
* يلحظ في الكاتبات الواعدات أيضا ً أنهن يعتمدن بشكل اساسي على واقع
إفتراضي ..حتى أن النترنت اصبح مثل البطل الساسي لرواية )بنات
الرياض( وغيرها من الروايات الجديدة ..ما رأيك؟
جميل ..وعلى كل حال هذا البطل الوحيد الذي لم يدخل رواياتي انا ..حيث ل زلت أعاني
من أمية تكنولوجية ،ولزلت أعاني من )التكنوفوبيا( ..وعلقتي ضعيفة بالنترنيت بل
واعتمد على ابني )مروان( في قراءة رسائلي الليكترونية ..ما زلت محاطة بالوراق
والقلم الملونة ،كلسيكية في تعاملي مع الكتابة .. ،وصحيح مقتنعة أنني ل بد من ان
اخرج من هذا التخلف ..ولكن سعيدة اني قرأت ان بلير )رئيس الوزراء البريطاني( أيضا ً
متخلف مثلي في عالم النترنيت )تضيف ضاحكة(.
في الواقع هناك حركة كبيرة ،وجرأة غير مسبوقة وجميلة ..خاصة في الخليج والمملكة
العربية السعودية بالذات ،هناك موجة جديدة ،بل يمكنني القول أن هناك تسونامي نسائي
جميل قادم من المملكة وعموم الخليج ..هناك موجة عالية شاهقة ستذهب بالكثير من
الفكار المسبقة التي كانت سائدة ..وهذا تطور نوعي وليس كمي فقط ،ولكن الذي
يخيفني هو استسهال الكاتبات لعملية النشر ،ما يرعبني هو هذا ،بقيت أربعة أعوام اكتب
الكتاب وكنت مترددة في نشرها ،وروايتي لول نجاحها لما اعدت نشرها أو وضع أجزاء
أخرى لها ..وعليه عليهن التريث في عملية النشر وليس الكتابة ،فليس اسهل من النشر
وليس اخطر ايضا ،فالكتاب عندما يخرج من يدك يصبح ملك غيرك ..فكثير منهن ربما من
اللئي نشرن لو عدن اليها بعد أعوام ربما ندمن ،وتمنين لو تريثن ..وأنا اتفهم اندفاع كاتبة
مثل في عمر 23سنة للنشر ،ولكن هذه اشياء ستحسب على الكاتب مستقبل .فأنا
تعلمت ان اتريث ،وحتى مقالي السبوعي أحيانا اندم عندما انشره ..لنني اتمنى لو اكتب
بتأن أكبر.
* في الخير .ماذا يمكن أن تقولي حول جائزة مالك حداد ،للرواية التي
أنشاتها؟
هي جائز انشأتها منذ أربعة أعوام ،دفاعا عن اللغة العربية في الجزائر ،ولدعم كتاب اللغة
العربية الذين يفتقدون إلى الدعم في الوقت الذي يجد فيه نظراؤهم )كتاب اللغة
الفرنسية( مدعومين ولهم سند ،ويكافؤون بجوائز مجزية ..،واعتقد انها اهم جائزة أدبية
حاليا في الجزائر - ،خاصة في المبلغ المخصص لها ،حيث اردت ان يكون المبلغ كبيرا حتى
كن الكاتب من التفرغ للكتابة سنة أو سنتين ..وكذلك إعادة نشر العمل في المشرق يم ّ
العربي ،وكذلك ترجمة العمل للغة الفرنسية ..وغيرها من الميزات التي اعتمدت عليها.
كتبا فحسب ،بل انجب ك ُّتابا أيضا( ..لن
ولذلك قلت في إحدى المناسبات )إنني لم أنجب ُ
الجائزة اضحت تخرج كل عامين كاتبا إلى الجزائر ،ولجنة القراءة هي لجنة مختصة
ومعترف بها عربيا ،وتترأسها الدكتورة يمنى العيد ،وقد حوربت لهذا السبب لنني لم اختر
لجنة القراءة من نقاد جزائريين وحسدت على هذا المشروع.
•كما حسدت الجزائر عليك حسب قول الروائي الكبير الطاهر وطار..
نعم ،قال حسدت الجزائر في أحلم كما حسدت دوما في كل شي جميل .وانا مدينة لهذا
الروائي الجميل الذي وقف معي في أحلك الظروف.
أشكرك ..ومن خللك )الجزيرة( هذه النافذة الجميلة التي تولي أهمية قصوى للمبدعين
العرب ،وتسعى إلى ترسيخ أعراف جميلة في سبيل تقديم قراءات موضوعية لعمالهم
ولتجربتهم البداعية ،عبر إفراد صفحات ثرية لملفات خاصة عن مبدٍع ما ..ولقد سعدت
كثيرا ً بالعمل الرائع الذي قدم عن الشاعر محمود درويش عبر ثقافية الجزيرة في الفترة
القريبة الماضية.
*ةةةة ةةةةةةةة ةةةةةةة ةةةةةة ةةةةة ةةةةةةةة ةةة ةةةةةة ةةة ةةةة
ةةةةةة ةةةةة ةةةةةة ةةةةةة ةةةةةةةة
وتها
قَدر الفراشة وق ّ
ل صيف ُتوّرطني الفراشات الليلّية في أسئلة أكبر من أجنحتها .ع َب ََثــا ً أقول ،إنني لست ك ّ
معنّية بقدرها ،بعد أن عجزت عن منعها من الحتراق.
"هل يمكن أن تحمي أحدا ً من قدره؟" سؤال قّلبته فلسفيا ً ودينيا ً وشعريا ً وعشقيًا،
دة جناحيها )عكس فراشة الحقول( ملتي حزنًا .الفراشة الليلّية تنام وتموت َفارِ َ فزادتني تأ ّ
الدقيقة في حياة فراشة تساوي 3650دقيقة من حياتنا .أتكون جاءت فقط لتموت ليل ً
مأخوذة بالنور؟ وقبل أن توجد الكهرباء ،أين كانت تعثر الفراشات الليلّية على قاتلها؟ وهل
ف للنور؟ وهل الدقائق التي تقضيها على كانت تموت أكثر حزنا ً لنها ترحل من دون أن ُتز ّ
ب" ،تبدو لها قصيرة ،أم طويلة بما يعادل سنوات من الرض في انتظار "محرقة الح ّ
ن
ت في دمي" ،أم نح ُ من قالت "والثواني جمرا ٌ الترّقب بالنسبة إلى امرأة عاشقة؟ أهــي َ
النساء؟
كُأنثى ،أتعاطف مع الفراشات ،وككاتبة ،أطالب بسمائها سقفا لحريتي .فـ"حتى تحليق
ً ُ
الفراشة البسيطة يحتاج إلى السماء كّلها" ،حسب پول كلوديل )الذي على الرغم من قوله
دد في التواطؤ مع حات الشهير رودان ،لم يتر ّ هذا حين أحّبت أخته كامي كلوديل الن ّ
حّ مص إلى بها ويبعث الوكسجين، عنها يمنع أن تماثيله، "رودان" الذي خّلدها في أشهر
عقلي حيث أنهت حياتها( .وحدها الفراشات ل يمكن سجنها .على الرغم من لوثة النونر
التي تولد بها.
دي ،عندما ليل في "كان" أفتح نافذة شرفتي التي ً ُ ك ّ
ل صيف أراقبها ،تتواطأ مع الحّر ض ّ
ل ليلي ،فتهجم على مصباح "اللوجين" ذي الضاءة ي أقضي فيه ج ّ ّ زجاج مكتب إلى ولتها ح ّ
العالية ..والعارية ،فتصطدم "بلمباته" المستطيلة فائقة الشتعال .وفي دقائق تتساقط
لخرى ،أو تبقى عالقة بالمصباح ،تاركة في الجوّ رائحة شـي جسدها أرضا الواحدة تلو ا ُ
الصغير.
مشكلتي ،في كوني أحتاج إلى إضاءة قوية للكتابة ،حتى أبقى مستيقظة .فأنا ل أكتب إل ّ
ن موجة الحّر التي عرفتها فرنسا في العوام الخيرة ،ومات بسببها عشرات مإ ّ لي ً
ل .ث ّ
الشخاص ،تجعلك مرغما ً على فتح النوافذ ،بحثا ً عن نسمة ليلّية.
ل مساء أجدني أمام الخيارات الثلثة إّياها :أن أغلق النافذة و"أفطس" من الحّر، وهكذا ،ك ّ
أو أفتحها فتحترق الفراشات ،أو ُأطفئ الضاءة القوية فأستسلم فورا ً للنوم ،وأخسر ليلة
كتابة.
ص الذي كنت سأكتبه ،إن ّ الن هذا الجحيم إلى ليذهب قراري، أحسم فراشة، ولّ أ جثة أمام
دعي بعده كانت كتابته تستدعي موت سرب من الفراشات .كيف لي أن أسَعد به وأن أ ّ
أنني "شاعرة" ،بل ومؤمنة ،إن كنت أدري في سّري أنني دّونته على غبار أجنحة
الفراشات المحروقة التي دخلت بيتي مبتهجة فسلمتها إلى حتفها؟
"تاباكوف" ،صاحب رواية "لوليتا" الشهيرة ،كان لفرط شغفه بالفراشات ،يهوى جمعها
وتجفيفها ،حتى إنه نجح في اكتشاف فراشة جديدة لم يكن عرفها أحد ،فأطلق العلماء
ُ
ضل أن ُيقال إنني كاتبة لم تؤذ عليها اسمه .ل أريد أن ُيطَلق اسمي على فراشة ،أف ّ
فراشة بقلمها ،لكنها ظّلت حتى آخر عمرها تحارب التماسيح والثعالب وأسماك القرش.
ل مخلوقات الّله بما يليق بها من رحمة ،وأعجب لنني مؤمنة ،ولن الدين معاملةُ ،أعامل ك ّ
ي جاءنا في حملة تبشيرّية ،ليهدينا إلى "معسكر الخير"" :قتل الناس أن يقول جندي أميرك ّ
في العراق ُيشبه "سحق نملة" ،والجندي المؤمن الذي اغتصب الفتاة الصغيرة "عبير"
وقَت ََلها مع ثلثة من أهلها ،صّرح وهو يغسل يديه من "كاتشاب" دمها" :هناك تقتل شخصا ً
م تقول :حسنًا ،لنذهب لتناول )البيتزا(". ث ّ
في "الفارويست" ل توجد فراشات ،ولذا معذور هذا "الكاوبوي" إن لم يَر في حياته
ي العظيم ريمون جبارة ،حين كتب مّرة: كر في المسرح ّ فراشة ،ول حاول رسمهاُ .أف ّ
ل الهل بأن ُيعّلموا أطفالهم كيف يرسمون فراشة ،لن الذي يرسم فراشة ل "أنصح ك ّ
يقتلها ،وبالتالي ل يقتل الناس".
ي مؤخرا ً بتحسين صورة أميركا في الخارج ،دون جدوى ،أن ُيعّلم
أقتــرح على بوش ،المعن ّ
جنوده ،بين شريحتي "بيتزا" يلتهمونهما ،كيف يرسمون فراشة.
أحسد أخي المقيم في فرنسا ،ربما كانت إحدى مزايا الغربة ،اكتساب المسلم فضيلة
دي والتشّبث بجذوره حتى ل تعبث الرياح المضادة بأغصانه. الصبر وتعّلمه التح ّ
ل مسلم مّتهم حتى ً
ن المسلمين التقياء يزدادون إيمانا في الغربة ،حيث ك ّ ولذا ،أعتقد أ ّ
ده ليبقى قويا ً وعلى أهبة ّ ض نفسه يؤسس شيء إلى يحتاج ب
ُ ّحكال فاليمان إثبات براءته،
الدفاع عن وجوده.
ممّنية نفسي ببعض ما ُ قصدته الذي لبنان، في إقامتي على سنوات مرور أدرك هذا ،بعد
طشت إليه طوال خمس عشرة سنة من غربتي الفرنسّية ،من أجواء إسلمّية كنت تع ّ
ق ل أرى فيه عربيًا ،إل ّ وهو ي را ٍأفتقدها ،خصوصا ً في شهر رمضان ،يوم كنت أقيم في ح ّ
يكنس الشوارع ،أو يعمل في ورشة بناء ،أو يبيع خضارا ً في سوق الحد.
ل مغترب .ومن ي لك ّ من هؤلء البسطاء ،تعّلمت التقوى ،وضرورة اليمان كزاد ٍ يوم ّ
حاجتهم وجوعهم وصبرهم على ظلم أرباب عملهم في رمضان ،ومواصلتهم الستيقاظ
فجرًا ،وعودتهم لبيوتهم النائية أحيانا ً بعد أذان المغرب ،وإصرارهم على شراء لحوم من
ل عيد أضحى ،وعلى إعداد نسائهم الحلويات ملحمة إسلمّية ،وعلى ذبح خروف ك ّ
ل عيد فطر ،منهم أدركت قول المام علي )رضي الّله عنه( "ذروة الزهد، بأنفسهن ك ّ
دعاًء .وبسبب ً ّ ً
إخفاء الزهد" .فقد كانوا يعيشون شهر رمضان تقّربا إلى الله ،ل تشاوفا ول ا ّ
هؤلء جعل الّله الصيام فرضا ً ل يتساوى في ثوابه الصائمون.
دق عاما ً بعد آخر ،أن رمضان ليس سوى موسم تجاري ،و"هيصة" ُ
في بيروت أكاد أص ّ
فضائية ،ووليمة تلفزيونية للمعلنين ،وحالة انتخابية ،يفتح فيها السياسيون أبوابهم مّرة في
السنة ،لملء بطون الناخبين.
في فرنسا ،ما كان على أيام غربتي "دش" ول فضائيات عربية .كنت أصوم وأفطر على
ن أطفالي ُ
حميمّية المذياع ،ول أعاشر غير "إذاعة الشرق" .ولعدم وجود شّغالة ،ولصغر س ّ
الذين ما كانوا يتركون لي وقتا ً لعداد أطباق رمضانية ،كثيرا ً ما كان ينتهي بي النهار أمام
صحن شوربة "ماجي" وشيء من الحليب والتمر .أشهى ما على مائدتي كان القرآن
الكريم ،الذي كنت أستمع له قبل وبعد رفع أذان المغرب .وكثيرا ً ما كنت أبكي عندما ُترَفع
ت عادة كة وحدها كانت كافية لُتبكيني .اليوم ،فقد ُ الصلوات من مكة المكرمة .فكلمة م ّ
ي الفضائيات رهبة صيامي وخلوتي مع الّله. البكاء وأنا أستمع لمذياع ،بعد أن أفسدت عل ّ
في فرنسا ،كنت ُأمّني نفسي بصلة التراويح ،ولم أستطع إل ّ نادرا أن أقصد "مسجد
ً
باريس" برفقة أخي لداء صلة الجمعة أو صلة العيد .وكنت ألمح سيارات الشرطة جاثمة
في محيط المسجد ،فيزيدني ذلك إيمانا ً ويملني عنفوانًا .ومذ جئت إلى بيروت لم أقصد
ت أحدا ً يشجعني على ذلك أو يدعوني إليه .الدعوات جميعها تأتيني مّرة مسجدا ً ول وجد ُ
للمشاركة في برنامج تلفزيوني ترفيهي ،أو الفطار في فندق فاخر ،أو السحور في خيمة
رمضانية.
ل أحد ..ول حتى أختي صوفيا التي أقامت سنوات في بيروت ،ونقلت عاداتنا في إعداد
ي ،منقطعة عن كل شيء، طاولة إفطار شهّية ،تفّهمت إصراري على البقاء في بيتي الجبل ّ
قل ً
ب من أطباق جزائرية ،بذريعة توفير ساعات أهدرها يوميا في التن ّ ما أح ّ محرومة حتى م ّ
ذبت بين برمانا وبيروت .في الواقع ،لقد تركت سنوات الغربة بصماتها على نفسي ،وه ّ
دت حاجتي في رمضان إلى سكينتي ،تفوق حاجتي إلى الولئم. حواسي ،حتى غ َ َ
ما يصدمني حقا ً في الحياء السلمّية ،منظر المسلمين الذين بذريعة مرضهم أو سفرهم،
مجاهرة بإفطارهم .فحتى في فرنسا كان المسلمون يستحون ل يجدون أي خجل في ال ْ ُ
ي الصيام أولى الفرائض السلمية. من العتراف بأنهم مفطرون .ففي المغرب العرب ّ
دعاء بعد ذلك أنهم مسلمون أكثر من شغالتي ول أدري كيف أن في إمكان هؤلء ال ّ
الثيوبية السابقة ،التي على الرغم من هروبها في "كان" ،حيث رافقتني قبل سنة ،يشفع
صال .إحداها كونها ،وهي المسيحية والقادمة من بلد ُيفتَرض أنه خ َلها في قلبي بعض ال ِ
يعاني مجاعة ،رفضت على مدى خمس سنوات تناول أي شيء في حضرتي وأنا صائمة،
كد من أنني أفطرت ،ما جعلني أدعوها معي كّلما كان زوجي ول جلست للكل حتى تتأ ّ
دتها لي بمحّبة .وكنت وأنا أفطر على على سفر ،فنجلس متقابلتين أمام سفرة شهّية أع ّ
أّول كوب ماء ،أسمعها تتمتم بلغتها دعوات تستأذنني في قولها ،فتعيدني رهبتها إلى زمن
سابق ،فأحسدها على إيمانها وأشتاق إلى زمن غربتي.
شكرًا ،أو غنيا ً اختبره
ت من الناس إل ّ فقيرا ً اختبره الّله بالحاجة ،ففاقني إيمانا ً و ُ فما حسد ُ
الّله بالمال ،ففاقني عطاًء وإحساناً.