You are on page 1of 196

‫أحلم مستغانمي‬

‫مقالت ‪ .‬لقاءات ‪ .‬قصائد‬


‫من المنشور في الصحافة العربية‬

‫الســيرة الذاتية‬
‫ذة وتاريخه‬ ‫أحلم مستغانمي كاتبة تخفي خلف روايتها أًبا لطالما طبع حياتها بشخصيته الف ّ‬
‫سا‪ .‬ولكن ما من شك‬ ‫ي‪ .‬لن نذهب إلى القول بأّنها أخذت عنه محاور رواياتها اقتبا ً‬
‫النضال ّ‬
‫ّ‬
‫ن مسيرة حياته التي تحكي تاريخ الجزائر وجدت صدى واسًعا عبر مؤلفاتها‪.‬‬ ‫في أ ّ‬
‫ي لمثال ‪:‬‬‫ّ‬ ‫كلسيك‬ ‫ميول‬ ‫ذا‬ ‫ً‬
‫ئا‬ ‫وقار‬ ‫الفرنسي‪.‬‬ ‫الدب‬ ‫هواة‬ ‫من‬ ‫الشريف"‬ ‫"محمد‬ ‫والدها‬ ‫كان‬
‫‪ . Victor Hugo, Voltaire, Jean Jaques Rousseau‬يستشف ذلك ك ّ‬
‫ل من يجالسه‬
‫لّول مّرة‪ .‬كما كانت له القدرة على سرد الكثير من القصص عن مدينته الصلّية مسقط‬
‫ل حوار يخوضه‪ .‬وذلك‬‫رأسه "قسنطينة" مع إدماج عنصر الوطنّية وتاريخ الجزائر في ك ّ‬
‫بفصاحة فرنسّية وخطابة نادرة‪.‬‬

‫ب عرف السجون الفرنسّية‪ ,‬بسبب مشاركته في مظاهرات ‪ 8‬ماي ‪ . 1945‬وبعد‬ ‫هذا ال ّ‬


‫أن أطلق سراحه سنة ‪ 1947‬كان قد فقد عمله بالبلدّية‪ ,‬ومع ذلك فإّنه يعتبر محظوظا ً إذ‬
‫لم يلق حتفه مع من مات آنذاك ) ‪ 45‬ألف شهيد سقطوا خلل تلك المظاهرات( وأصبح‬
‫ل حزب الشعب‬ ‫قا من قبل الشرطة الفرنسّية‪ ,‬بسبب نشاطه السياسي بعد ح ّ‬ ‫ملح ً‬
‫دى إلى ولدة ما هو أكثر أهمّية‪ ,‬ويحسب له المستعمر الفرنسي ألف‬ ‫الجزائري‪ .‬الذي أ ّ‬
‫حساب‪ :‬حزب جبهة التحرير الوطني ‪. FLN‬‬

‫دة فاطمة الزهراء‪ ,‬فقد كانت أكثر ما تخشاه‪ ,‬هو فقدان آخر أبنائها بعد أن‬ ‫ما عن الج ّ‬‫وأ ّ‬
‫ثكلت كل إخوته‪ ,‬أثناء مظاهرات ‪ 1945‬في مدينة قالمة‪ .‬هذه المأساة‪ ,‬لم تكن مصيرا ً‬
‫ل الجزائر من خلل مليين العائلت التي وجدت نفسها‬ ‫لسرة المستغانمي فقط‪ .‬بل لك ّ‬
‫وجه محمد الشريف مع‬ ‫ّ‬
‫ممّزقة تحت وطأة الدمار الذي خلفه الستعمار‪ .‬بعد أشهر قليلة‪ ,‬يت ّ‬
‫دع مدينة قسنطينة‬ ‫ن روحه سحبت منه‪ .‬فقد و ّ‬ ‫مه وزوجته وأحزانه إلى تونس كما لو أ ّ‬ ‫أ ّ‬
‫أرض آبائه وأجداده‪.‬‬

‫رفاق المير عبد القادر والمقراني بعد نفيهما‪ .‬ويجد‬ ‫كانت تونس فيما مضى مقّرا لبعض ال ِ‬
‫محمد الشريف نفسه محاطا ً بجوّ ساخن ل يخلو من النضال‪ ,‬والجهاد في حزبي ‪ MTLD‬و‬
‫ل أهمّية عن الذين يخوضون المعارك‪.‬‬ ‫‪ PPA‬بطريقة تختلف عن نضاله السابق ولكن ل تق ّ‬
‫في هذه الظروف التي كانت تحمل مخاض الثورة‪ ,‬وإرهاصاتها الولى تولد أحلم في‬
‫تونس‪ .‬ولكي تعيش أسرته‪ ,‬يضطر الوالد للعمل كمدّرس لّلغة الفرنسّية‪ .‬لّنه ل يملك‬
‫ل ما بوسعه بعد ذلك‪ ,‬لتتعّلم ابنته اللغة‬
‫تأهيل ً غير تلك الّلغة‪ ,‬لذلك‪ ,‬سوف يبذل الب ك ّ‬
‫منع هو من تعلمها‪ .‬وبالضافة إلى عمله‪ ,‬ناضل محمد الشريف في حزب‬ ‫العربّية التي ُ‬
‫ي ضد‬ ‫ّ‬ ‫المغارب‬ ‫النضالي‬ ‫نشاطه‬ ‫على‬ ‫بذلك‬ ‫ظا‬‫ً‬ ‫محاف‬ ‫تميم(‬ ‫)منزل‬ ‫التونسي‬ ‫الدستور‬
‫الستعمار‪.‬‬

‫وعندما اندلعت الثورة الجزائرّية في أّول نوفمبر ‪ 1954‬شارك أبناء إخوته عّز الدين‬
‫وبديعة اللذان كانا يقيمان تحت كنفه منذ قتل والدهما‪ ,‬شاركا في مظاهرات ط ّ‬
‫لبّية تضامًنا‬
‫مع المجاهدين قبل أن يلتحقا فيما بعد سنة ‪ 1955‬بالوراس الجزائرّية‪ .‬وتصبح بديعة‬
‫وها على الباكالوريا‪ ,‬من أولى الفتيات الجزائريات اللتي استبدلن بالجامعة‬
‫الحاصلة لت ّ‬
‫ّ‬
‫شاش‪ ,‬وانخرطن في الكفاح المسلح‪ .‬ما زلت لحد ّ الن‪ ,‬صور بديعة تظهر في الفلم‬ ‫الر ّ‬
‫الوثائقية عن الثورة الجزائرية‪ .‬حيث تبدو بالزي العسكري رفقة المجاهدين‪ .‬وما زالت‬
‫بعض آثار تلك الحداث في ذاكرة أحلم الطفولّية‪ .‬حيث كان منزل أبيها مركزا ً يلتقي فيه‬
‫المجاهدون الذين سيلتحقون بالجبال‪ ,‬أو العائدين للمعالجة في تونس من الصابات‪.‬‬

‫بعد الستقلل‪ ,‬عاد جميع أفراد السرة إلى الوطن‪ .‬واستقّر الب في العاصمة حيث كان‬
‫ي لدى رئاسة الجمهورّية‪ ,‬ثم مديرا ً في وزارة الفلحة‪ ,‬وأّول‬ ‫يشغل منصب مستشار تقن ّ‬
‫مسؤول عن إدارة وتوزيع الملك الشاغرة‪ ,‬والمزارع والراضي الفلحّية التي تركها‬
‫مرون الفرنسيون بعد مغادرتهم الجزائر‪ .‬إضافة إلى نشاطه الدائم في اتحاد العمال‬ ‫المع ّ‬
‫الجزائرّيين‪ ,‬الذي كان أحد ممثليه أثناء حرب التحرير‪ .‬غير أن حماسه لبناء الجزائر‬
‫وع في كل مشروع يساعد في السراع في إعمارها‪ .‬وهكذا‬ ‫المستقّلة لت ّ‬
‫وها‪ ,‬جعله يتط ّ‬
‫وع لعداد برنامج‬‫لحين‪ ,‬تط ّ‬‫قد أوضاع الف ّ‬‫مات التي كان يقوم بها داخلّيا لتف ّ‬ ‫إضافة إلى المه ّ‬
‫م ساهم في حملة محو‬ ‫إذاعي )بالّلغة الفرنسّية( لشرح خطة التسيير الذاتي الفلحي‪ .‬ث ّ‬
‫المّية التي دعا إليها الرئيس أحمد بن بّلة بإشرافه على إعداد كتب لهذه الغاية‪.‬‬

‫وهكذا نشأت ابنته الكبرى في محيط عائلي يلعب الب فيه دوًرا أساسّيا‪ .‬وكانت مقّربة‬
‫كثيًرا من أبيها وخالها عّز الدين الضابط في جيش التحرير الذي كان كأخيها الكبر‪ .‬عبر‬
‫ل المؤّثرات التي تطرأ على الساحة السياسّية‪ .‬و التي‬ ‫هاتين الشخصيتين‪ ,‬عاشت ك ّ‬
‫كشفت لها عن بعد أعمق‪ ,‬للجرح الجزائري )التصحيح الثوري للعقيد هواري بومدين‪,‬‬
‫ما بيوم من خلل‬ ‫ومحاولة النقلب للعقيد الطاهر زبيري(‪ ,‬عاشت الزمة الجزائرية يو ّ‬
‫مشاركة أبيها في حياته العملّية‪ ,‬وحواراته الدائمة معها‪.‬‬
‫لم تكن أحلم غريبة عن ماضي الجزائر‪ ,‬ول عن الحاضر الذي يعيشه الوطن‪ .‬مما جعل ك ّ‬
‫ل‬
‫ت ذكره صراحة‪ .‬فقد ترك بصماته عليها إلى‬ ‫مؤلفاتها تحمل شيًئا عن والدها‪ ,‬وإن لم يأ ِ‬
‫البد‪ .‬بدًءا من اختياره العربّية لغة لها‪ .‬لتثأر له بها‪ .‬فحال إستقلل الجزائر ستكون أحلم‬
‫مع أّول فوج للبنات يتابع تعليمه في مدرسة الثعالبّية‪ ,‬أولى مدرسة معّربة للبنات في‬
‫العاصمة‪ .‬وتنتقل منها إلى ثانوية عائشة أم المؤمنين‪ .‬لتتخّرج سنة ‪ 1971‬من كلّية الداب‬
‫في الجزائر ضمن أّول دفعة معّربة تتخّرج بعد الستقلل من جامعات الجزائر‪.‬‬
‫لكن قبل ذلك‪ ,‬سنة ‪ , 1967‬وإثر إنقلب بومدين واعتقال الرئيس أحمد بن بّلة‪ .‬يقع الب‬
‫ضا نتيجة للخلفات "القبلّية" والنقلبات السياسّية التي أصبح فيها رفاق المس ألد ّ‬ ‫مري ً‬
‫العداء‪.‬‬

‫ي الذي أصابه‪ ,‬جعله يفقد صوابه في بعض الحيان‪.‬‬ ‫هذه الزمة النفسّية‪ ,‬أو النهيار العصب ّ‬
‫ي تابع‬
‫ح عقل ّ‬
‫دى إلى القامة من حين لخر في مص ّ‬ ‫خاصة بعد تعّرضه لمحاولة اغتيال‪ ,‬مما أ ّ‬
‫ي‪ .‬كانت أحلم آنذاك في سن المراهقة‪ ,‬طالبة في ثانوية عائشة‬ ‫للجيش الوطني الشعب ّ‬
‫بالعاصمة‪ .‬وبما أّنها كانت أكبر إخواتها الربعة‪ ,‬كان عليها هي أن تزور والدها في‬
‫ل أسبوع‪ .‬كان‬‫لك ّ‬
‫ي باب الواد‪ ,‬ثلث مّرات على الق ّ‬ ‫المستشفى المذكور‪ ,‬والواقع في ح ّ‬
‫مرض أبيها مرض الجزائر‪ .‬هكذا كانت تراه وتعيشه‪.‬‬

‫قبل أن تبلغ أحلم الثامنة عشرة عامًا‪ .‬وأثناء إعدادها لشهادة الباكلوريا‪ ,‬كان عليها ان‬
‫تعمل لتساهم في إعالة إخوتها وعائلة تركها الوالد دون مورد‪ .‬ولذا خلل ثلث سنوات‬
‫ث في ساعة متأخّرة من‬ ‫جا يومًيا في الذاعة الجزائرّية يب ّ‬
‫دم برنام ً‬
‫كانت أحلم تعد ّ وتق ّ‬
‫حا كبيًرا تجاوز‬
‫ً‬ ‫نجا‬ ‫ية‬
‫ّ‬ ‫الشعر‬ ‫"الوشوشات"‬ ‫تلك‬ ‫لقت‬ ‫وقد‬ ‫"همسات"‪.‬‬ ‫المساء تحت عنوان‬
‫الحدود الجزائرية الى دول المغرب العربي‪ .‬وساهمت في ميلد إسم أحلم مستغانمي‬
‫ي الممّيز وفي مقالت وقصائد كانت تنشرها‬ ‫دا في صوتها الذاع ّ‬ ‫ي‪ ,‬الذي وجد له سن ً‬ ‫الشعر ّ‬
‫أحلم في الصحافة الجزائرية‪ .‬وديوان أّول أصدرته سنة ‪ 1971‬في الجزائر تحت عنوان‬
‫"على مرفأ اليام"‪.‬‬

‫قفته ابنته‪ .‬بل كان يتواجد في المستشفى‬ ‫في هذا الوقت لم يكن أبوها حاضرا ً ليشهد ما ح ّ‬
‫لفترات طويلة‪ ,‬بعد أن ساءت حالته‪.‬‬
‫ل نجاحاتها من أجل إسعاده هو‪ ,‬برغم‬ ‫هذا الوضع سّبب لحلم معاناة كبيرة‪ .‬فقد كانت ك ّ‬
‫ما من قراءتها لعدم إتقانه القراءة بالعربية‪ .‬وكانت فاجعة الب‬ ‫علمها أّنه لن يتمكن يو ً‬
‫الثانية‪ ,‬عندما انفصلت عنه أحلم وذهبت لتقيم في باريس حيث تزّوجت من صحفي لبناني‬
‫دا كبيًرا للجزائريين‪ .‬وابتعدت عن الحياة الثقافية لبضع سنوات كي تكّرس‬ ‫ممن يكّنون و ّ‬
‫ي من جديد‪ .‬أوّل ً‬ ‫ّ‬ ‫العرب‬ ‫الدب‬ ‫مع‬ ‫لتتعاطى‬ ‫الثمانينات‬ ‫بداية‬ ‫في‬ ‫تعود‬ ‫أن‬ ‫قبل‬ ‫لسرتها‪.‬‬ ‫حياتها‬
‫ّ‬
‫م مشاركتها في الكتابة في مجلة "الحوار"‬ ‫بتحضير شهادة دكتوراه في جامعة السوربون‪ .‬ث ّ‬
‫التي كان يصدرها زوجها من باريس‪ ,‬ومجلة "التضامن" التي كانت تصدر من لندن‪ .‬أثناء‬
‫ذلك وجد الب نفسه في مواجهة المرض والشيخوخة والوحدة‪ .‬وراح يتواصل معها بالكتابة‬
‫ل مناسبة وطنية عن ذاكرته النضالّية وذلك الزمن الجميل الذي عاشه مع‬ ‫إليها في ك ّ‬
‫الرفاق في قسنطينة‪.‬‬
‫ما بخط أنيق وتعابير منتقاة‪ .‬كان‬ ‫وقفت تلك الرسائل الطويلة المكتوبة دائ ً‬ ‫م ذات يوم ت ّ‬
‫ث ّ‬
‫وت مناسبة‪ ,‬مشغول ً بانتقاء تاريخ موته‪ ,‬كما لو كان يختار عنواًنا‬ ‫ّ‬ ‫يف‬ ‫ل‬ ‫الذي‬ ‫الب‬ ‫ذلك‬
‫لقصائده‪ .‬في ليلة أّول نوفمبر ‪ , 1992‬التاريخ المصادف لندلع الثورة الجزائرّية‪ ,‬كان‬
‫محمد الشريف يوارى التراب في مقبرة العلياء‪ ,‬غير بعيد عن قبور رفاقه‪ .‬كما لو كان‬
‫يعود إلى الجزائر مع شهدائها‪ .‬بتوقيت الرصاصة الولى‪ .‬فقد كان أحد ضحاياها وشهدائها‬
‫ي الذي‬‫الحياء‪ .‬وكان جثمانه يغادر مصادفة المستشفى العسكري على وقع النشيد الوطن ّ‬
‫ضا‪ ,‬كانت السيارات العسكرّية‬ ‫كان يعزف لرفع العلم بمناسبة أّول نوفمبر‪ .‬ومصادفة أي ً‬
‫م التنكيل بهم على يد من لم يكن‬ ‫دة جنود قد ت ّ‬ ‫وهة لع ّ‬
‫تنقل نحو المستشفى الجثث المش ّ‬
‫ّ‬
‫بعد معترًفا بوجوده كجبهة إسلمّية مسلحة‪.‬‬

‫سا الفاجعة‪ .‬ذلك الرجل الذي أدهش مرة إحدى‬ ‫ج ً‬


‫لقد أغمض عينيه قبل ذلك بقليل‪ ,‬متو ّ‬
‫فا بعمر قضاه بين المعتقلت‬ ‫الصحافّيات عندما سألته عن سيرته النضالّية‪ ,‬فأجابها مستخ ّ‬
‫ل‪" :‬إن كنت جئت إلى العالم فقط لنجب أحلم‪ .‬فهذا يكفيني‬ ‫حات والمنافي‪ ,‬قائ ً‬ ‫والمص ّ‬
‫م إنجازاتي‪ .‬أريد أن يقال إنني "أبو أحلم" أن أنسب إليها‪ ..‬كما تنسب هي‬ ‫ّ‬ ‫أه‬ ‫نها‬
‫فخًرا‪ .‬إ ّ‬
‫لي"‪.‬‬
‫مل ابنته إرًثا نضالًيا ل‬
‫ّ‬ ‫ح‬ ‫ولذا‬ ‫الرفع‪.‬‬ ‫وهي‬ ‫البقى‪.‬‬ ‫هي‬ ‫الكلمة‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫الشاعر‪,‬‬ ‫وهو‬ ‫يدري‬ ‫كان‬
‫سا في القضايا الوطنّية‬ ‫نجاة منه‪ .‬بحكم الظروف التاريخّية لميلد قلمها‪ ,‬الذي جاء منغم ً‬
‫ما‪ ..‬ولم تكتب أحلم سواه‪.‬‬ ‫والقومّية التي نذرت لها أحلم أدبها‪ .‬وفاًءا لقارىء لن يقرأها يو ً‬
‫عساها بأدبها ترد ّ عنه بعض ما ألحق الوطن من أذى بأحلمه‪.‬‬
‫مــــــــــــــــراد مســــــــــــــــتغانمي شــــــــــــــــقيق الكاتبــــــــــــــــة‬
‫الجزائر حزيران ‪2001‬‬
‫أطلق لها اللحى‬

‫ل‪ ،‬يعلن وقوعه في قبضة “قوات التحرير”‪ ،‬ما‬ ‫لو لم تكن الصورة تحمل أسفلها خبرا ً عاج ً‬
‫دق المشهد‪.‬‬
‫كنا لنص ّ‬
‫متجّبـر‪ ،‬صاحب التماثيل التي ل‬ ‫أيكــون هــو؟ القائد الزعيم الحاكم الوحد‪ ،‬المتعنتر ال ُْ‬
‫د‪ ،‬وصاحب تلك القصيدة ذات المطلع الذي غدا شهيرًا‪ ،‬يوم ظهر‬ ‫ُتحصى‪ ،‬والصور التي ل ُتع ّ‬
‫على الشاشة عند بدء الحرب الميركية على العراق‪ ،‬مطالبا ً بوش بمنازلته‪.‬‬
‫أيكون صاحب “أطلق لها السيف ل خوف ول وجل”‪ ،‬قد “أطلق لها اللحية”‪ ،‬بعد أن خانه‬
‫السيف وخذله الرفاق‪ ،‬ولم يشهد له ُزحل سوى بالحمق والجريمة؟‬
‫متعــب الملمح‪ ،‬المذعور كذئب جريح‪ ،‬فاجأه الضوء في قبو‪ ،‬هو‬ ‫أكان هو؟ ذلك العجوز ُ‬
‫كيه مستسلما ً كخروف ليفحص‬ ‫بشعره المنكوش ولحيته المسترسلة‪ ،‬هو ما عداه‪ ،‬يفتح ف ّ‬
‫جندي أميركي فمه‪ .‬فمه الذي ما كان يفتحه طوال ثلثين سنة‪ ،‬إل ّ ليعطي أمرا ً بإرسال‬
‫كيه انتهت حيوات ثلثة مليين عراقي‪.‬‬ ‫البرياء إلى الموت‪ ،‬فبين ف ّ‬

‫ل أكثر من ثلثة عقود‪ ،‬يوزع على العالم سيل ً من‬ ‫أكانت حقا ً تلك صورته؟ هو الذي ظ ّ‬
‫ً‬
‫صوره الشهيرة تلك‪ ،‬في أزيائه الستعراضية الكثيرة‪ ،‬وسيما كما ينبغي لطاغية أن يكون‪،‬‬
‫أنيقا ً دائما ً في بدلته متقاطعة الزرار‪ ،‬ممسكا ً ببندقية أو بسيجار‪ ،‬مبتهجا ً كما لو أنه ذاهب‬
‫ف كل يوم لمليين العراقيين‪ ،‬الذين اختاروه في‬ ‫صوب عرس ما‪ .‬فقد كان السيد القائد ُيز ّ‬
‫أحد تلك الستفتاءات العربية الخرافية‪ ،‬استفتاءات “المئة في المئة” التي ل يتغّيب عنها‬
‫ومون رفاتا ً في‬ ‫المرضى ول الموتى ول المساجين ول المجانين ول الفاّرون‪ ،‬ول حتى المك ّ‬
‫فذ فيه حكم‬ ‫المقابر الجماعّية‪ .‬وكان الرجل مقتنعا ً قناعة شاوشيسكو‪ ،‬يوم اقتيد لُين ّ‬
‫ّ‬
‫مصلح‬ ‫الشعب‪ ،‬هو وزوجته‪ ،‬رميا ً بالرصاص‪ ،‬إنه “معبود الجماهير”‪ ،‬هو الذي بدأ حياته ُ‬
‫أحذية قبل أن يصبح حاكمًا‪ ،‬وتبدو عليه أعراض الكتابة والتنظير‪.‬‬

‫كن من نشرها‪ ،‬وهي تتمة‬ ‫وبالمناسبة‪ ،‬آخر كتاب كتبه السيد القائد‪ ،‬كان رواية لم يتم ّ‬
‫لـ”زبيبة والملك”‪ .‬وكان عنوانها “اخرج منها أيها الملعون”‪ .‬ول يبدو أنها أفادته في تدّبـر‬
‫ُ‬
‫مـة العربية جمعاء‪ .‬فرصته‬ ‫موّرطا ً معه ال ّ‬
‫أمره والخروج من الكارثة التي وضع نفسه فيها‪ُ ،‬‬
‫دمها إليه الشيخ زايد‪ ،‬بحكمته الرشيدة‪ ،‬حين أشار عليه‬ ‫الوحيدة‪ ،‬كانت في النصيحة التي ق ّ‬
‫لمة العربية‪ .‬وأذكر‬ ‫ل بالعراق وا ُ‬‫بالستقالة تفاديا ً لمزيد من الضحايا والضرار‪ ،‬التي ستح ّ‬
‫ل من روح الدعابة “الرئيس صدام حسين ل‬ ‫أن وزير خارجيته أجاب آنذاك في تصريح خا ٍ‬
‫يستطيع اتخاذ قرار بالتخلي عن مليين العراقيين الذين انتخبوه بقناعة ونزاهة”‪ .‬في هذه‬
‫حكماء‪ ،‬كانت الكارثة متوقعة‪ ،‬حتى لكأنها مقصودة‪ .‬وبعد‬ ‫ح ّ‬
‫كام بل ُ‬ ‫مـة التي ل ينقصها ُ‬ ‫ُ‬
‫ال ّ‬
‫مة‪ ،‬ما كانت‬ ‫ُ‬
‫دام العدو المثالي لميركا‪ ،‬وعلى مرأى من أ ّ‬ ‫أن كان العميل المثالي‪ ،‬أصبح ص ّ‬
‫من السذاجة لتحلم بالنتصار على أميركا‪ ،‬ولكن كانت من الكرامة بحيث لن تقبل إل ّ‬
‫بهزيمة منتصبة القامة تحفظ ماء وجهها‪.‬‬
‫ن أهدافها أخلقية‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬في هذه الحرب‪ ،‬التي تقول أميركا إ ّ‬ ‫“حملة النظافة” ستستمر طوي ً‬
‫ومهما يكن‪ ،‬ل نملك إل ّ أن نستورد مساحيق الغسيل ومواد التنظيف من السادة نظيفي‬
‫ف في البيت ناصع البياض في واشنطن‪.‬‬ ‫الك ّ‬
‫لمة‪ ،‬فقدان حكامها الحياء‪ .‬إنه مشهد الذلل البشع من الموت‪.‬‬ ‫من بعض فجائع هذه ا ُ‬
‫ومن مذّلة الحمار‪ ...‬صنع الحصان مجده‪.‬‬

‫غالت‬
‫أدب الش ّ‬
‫مـة سّر ما‪ .‬ذلك أني ما أحضرت شّغالة‪ ،‬من أيّ جنسية كانت‪ ،‬إل ّ وبدت عليها‬ ‫حتمـًا‪ ،‬ثـ ّ‬
‫أعراض الكتابة‪ ،‬بدءا ً بتلك‬
‫الفتاة المغربية القروية‪ ،‬التي كانت تقيم عندي في باريس‪ ،‬لتساعدني على تربية الولد‪،‬‬
‫ب‪ ،‬ل من أجل‬ ‫ُ‬
‫ب لحبيبها‪ .‬ومن أجل عيون الح ّ‬ ‫ت نفسي أساعدها على كتابة رسائل ح ّ‬ ‫فوجد ُ‬
‫مشتهاة‪ ،‬حتى انتهى بي‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫عينيها‪ ،‬كنت أنفق كثيرا من وقتي لجعل منها فتاة "شاعرة" و ُ‬
‫ب لحبيبها نيابة عنها! خديجــة‪ ،‬التي كنت‬ ‫المر‪ ،‬إلى العمل "زنجّية" لديها‪ ،‬بكتابة رسائل ح ّ‬
‫"زنجيتها"‪ ،‬حسب التعبير الفرنسي‪ ،‬والكاتبة التي تختفي خلف أحاسيسها وقلمها‪ ،‬كانت‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬‫ّ‬ ‫بأ‬ ‫مان‬‫مـي كانت تحلف بأغلظ الي َ‬ ‫ملتي الروائية‪ .‬أ ّ‬ ‫في الواقع فأرتي البيضاء‪ ،‬ومختبرا ً لتأ ّ‬
‫حَرتني‪ ،‬حتى إنني منحتها أجمل ثيابي‪ ،‬وكنت أعيرها مصوغاتي وحقائب يدي‬ ‫س َ‬‫الفتاة َ‬
‫لمواعيدها العشقية‪ ،‬وأبذل من الجهد والعناء في تحويلها من فتاة كانت قبلي تغسل ثيابها‬
‫على ضفاف النهر‪ ،‬إلى فتاة من هذا العصر‪ ،‬أكثر مما كانت ُتنفق هي من وقت في‬
‫ن البنت ذات الضفائر البدائية الغليظة‪ ،‬ظهرت عليها مع عوارض‬ ‫َ‬
‫الهتمام بأولدي‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫ب باريسي لشاب سوري‪ ،‬أعراض الكتابة الوجدانية في سذاجة تدّفقها الّول‪ .‬وأخشى‬ ‫حـ ّ‬ ‫ُ‬
‫ن اعترفت بأنني كنت أيام إقامتها عندي أكتب "ذاكــرة الجســد"‪ ،‬أن يستند أحدهم إلى‬ ‫إ ْ‬
‫ً‬
‫من كت ََبت تلك الرواية‪ ،‬نظرا إلى كونها‬ ‫َ‬ ‫محا إلى احتمال أن تكون شّغالتي َ‬ ‫ً‬ ‫مل ّ‬ ‫مقالي هذا‪ُ ،‬‬
‫الوحيدة التي لم تنسب إليها الرواية حتى الن‪.‬‬
‫ث لي الّلــه‪ ،‬سّيـدة طّيبة وجميلة‪ ،‬من عمري تقريبًا‪،‬‬ ‫عندما انتقلت إلى بيــــــروت‪ ،‬ب َعَ َ‬
‫مصيبة الفقــر‪ ،‬لعنة انقطاعها باكرا ً عن‬ ‫ُ‬ ‫إلى‬ ‫الجميل‪،‬‬ ‫مَعت‪ ،‬على الرغم من مظهرها‬ ‫ج َ‬ ‫َ‬
‫صتي"‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التعلم‪ .‬لـــــذا‪ ،‬ما جالستها إل وتنّهدت قائلــة‪" :‬كم أتمّنى لو كنت كاتبة لكُتب ق ّ‬
‫ي مآسيها‪ ،‬عساني أستفيد منها روائيًا‪ ،‬وربما سينمائيًا‪ ،‬نظرا ً إلى ما‬ ‫ص علـ ّ‬ ‫وراحـــت تق ّ‬
‫مع كل ما فاض به‬ ‫مفاجعات مكسيكية‪ .‬ماري‪ ،‬التي كانت َتج َ‬ ‫مفاجآت و ُ‬ ‫تزخر به حياتها من ُ‬
‫دد‬
‫ّ‬ ‫تتر‬ ‫دة‬‫ّ‬ ‫عـ‬ ‫سنوات‬ ‫منذ‬ ‫مازالت‬ ‫بفضلي‪،‬‬ ‫النسائية‬ ‫القراءة‬ ‫على‬ ‫وواظبت‬ ‫بيتي من مجلت‪،‬‬
‫ب إل وتأتيني بهدية‪ .‬في آخر عيــد للحب أهدتني‬ ‫ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ً‬
‫وت عيــدا لل ُ‬ ‫ي في المناسبات‪ ،‬ول ُتف ّ‬ ‫علـ ّ‬
‫دفتـرا ً ورديـا ً جميل ً لكتابة المذكرات‪ ،‬مرفوقا ً بقلم له غطاء على شكل قلب‪ ،‬وكتبت على‬
‫طلعه عليها بميلد كاتبة جديدة!‬ ‫شـرنـي زوجي عند ا ّ‬ ‫لولى كلمات مؤّثـرة‪ ،‬ب ّ‬ ‫صفحته ا ُ‬
‫جاءت "روبــا"‪ ،‬وهو اسم شّغالتي السريلنكية التي عرف البيت على أيامها‪ ،‬العصر‬
‫الذهبي لكتابة الرسائل واليوميات‪ .‬فقد استهلكت تلك المخلوقة من الوراق والقلم‪ ،‬أكثر‬
‫ما استهلكنا عائليا ً جميعنا‪ ،‬كّتابـا ً وصحافيين‪ ..‬وتلميذ‪ .‬وكنت كّلما فردت أوراقي وجرائدي‬ ‫م ّ‬
‫على طاولة السفرة‪ ،‬جاءت "روبـــا" بأوراقها وجلست مقابلة لي تكتب)!(‪ ،‬وكان أولدي‬
‫مشهد‬ ‫مرون من صبري عليها‪ ،‬بينما كنت‪ ،‬على انزعاجي‪ ،‬أجد ال ْ َ‬ ‫َيعجبون من وقاحتها‪ ،‬ويتذ ّ‬
‫جميل ً في طرافته‪ .‬ففي بيت عجيب كبيتنا‪ ،‬بدل أن تتعّلم الشّغالة من سيدة البيت طريقة‬
‫"حفر الكوسة" و"لف الملفوف" وإعداد "الفّتوش"‪ ،‬تلتحق بـ"ورشة الكتابة" وتجلس‬
‫منهمكة بدورها في خربشة الوراق‪.‬‬ ‫بجوار سّيدتها‪ُ ،‬‬
‫من باركَ‬ ‫وعلى الرغم من جهل زوجي للغة "الوردو" و"السنسكريتية"‪ ،‬فقد كان أّول َ‬
‫موهبة الشّغالة‪ ،‬واعترف بنبوغها الدبي‪ ،‬إلى حد ّ تساهله معها في ما ل تقوم به من شؤون‬
‫حكم وجودها معنا‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬لنجاز كتابها‪ ،‬واعتبار بيتنا فندقا ً للكتابة من تلك‬ ‫البيت‪ ،‬ب ُ‬
‫الفنادق التي تستضيف الك ُّتاب على حساب مؤسسات لنجاز أعمالهم الدبّية‪ .‬حتى إنه‬
‫أصبح يناديها "كوماري"‪ ،‬على اسم الكاتبة السريلنكية الشهيرة "كوماري جوديتا"‪ ،‬التي‬
‫ذرني مازحـــا ً من أن تكون البنت‬ ‫شحة لرئاسة "اليونسكو"‪ ،‬وراح ُيح ّ‬ ‫مر ّ‬ ‫كانت آنــذاك ُ‬
‫مذكراتها عندنا‪ ،‬وقد تفشي بكثير من أسراري‪ ،‬وتصدر كتابها قبل كتابي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫منهمكة في كتابة ُ‬ ‫ُ‬
‫وقد تصّر على توقيعه في معرض بيروت للكتاب‪ُ ،‬أسوة بالشّغالة السريلنكية التي تعمل‬
‫عند الفنان الراحل عارف الريس‪ ،‬التي كانت تقوم نهارا ً بأشغال البيت‪ ،‬وترسم سّرا ً في‬
‫مة عـــــارف الريس‪،‬‬ ‫الليل‪ ،‬مستفيدة من المواد المتوافرة في مرسم سّيدها‪ .‬و كانت ع َظ َ َ‬
‫قاصصتها بدل سرقة بعض أدواته‪ ،‬بل ذهب إلى حد ّ إقامة‬ ‫م َ‬‫في تبّني موهبة شّغالته‪ ،‬بدل ُ‬
‫م افتتاحه برعاية سفير سريلنكا في لبنان‪.‬‬ ‫معرض فني لها‪ ،‬تـ ّ‬
‫َ‬
‫مث َلها‬ ‫ولو أ ُ‬
‫ددت َ‬ ‫مـي سمعت بتهديدات زوجي لي‪ ،‬بأن تسبقني الشّغالة بإنجاز كتابها‪ ،‬لر ّ‬ ‫نأ ّ‬ ‫ّ‬
‫ضل "العود اللي تحقــُرو هـــو الّلــي يعميــك"‪ .‬وهو ما كان يعتقده‬ ‫ُ ّ‬ ‫مف‬‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫الجزائري‬
‫دم ليثأروا مّنا‪ ،‬ل ليخدمونا"‪.‬‬ ‫خ َ‬ ‫خلق ال ْ َ‬ ‫إبراهيــم الكونــي‪ ،‬حين قال " ُ‬
‫مـا مناسبة هذا الحديــث‪ ،‬فعودة ظهور العراض إّياها‪ ،‬على شّغالتي الثيوبية‪ ،‬التي ل‬ ‫أ ّ‬
‫متابعة نظام حميتي‪ ،‬واستعمال كريماتي‪ ،‬بل وتأخذ من‬ ‫تكتفي بتقليد ملبسي وثيابي‪ ،‬و ُ‬
‫غرفتي أوراقي وأقلمي‪ ،‬وتختفي في غرفتها ساعات طويلة‪ ،‬لتكتب‪.‬‬
‫ك"!‬ ‫ود َيليق ب ِ‬ ‫َ‬
‫منهمكة في كتابة‪" :‬الس َ‬ ‫أخشى أن تكون ُ‬

‫أقلم للقلب‪ ..‬وُأخرى للجيب‬

‫طبع عليه بالفرنسية‬‫نسيت أن أقول لكم‪ ،‬إنني كتبت مقالي السابق عن الجزائر‪ ،‬بقلم ُ‬
‫عبارة “بوتفليقة في قلبي”· فقد طاردتني الحملة النتخابية حتى الطائرة العائدة بي من‬
‫الجزائر إلى بيروت‪ ،‬ولم أجد وأنا محجوزة مدة أربع ساعات‪ ،‬سوى قلم أهداني إّيــاه أحد‬
‫أنصار بوتفليقة‪ ،‬عندما زرت صديقتي خالدة مسعودي‪ ،‬وزيرة الثقافة والتصال‪ ،‬في زيارة‬
‫دية لرفع العتب قبل مغادرتي الجزائر بيوم·‬ ‫و ّ‬
‫ديها للمتطرفين‪ ،‬الذين أحّلوا دمها‪ ،‬وأرغموها‬
‫ّ‬ ‫تص‬ ‫بتاريخ‬ ‫الشهيرة‬ ‫والمناضلة‬ ‫الرائعة‪،‬‬ ‫خالدة‬
‫لسنوات على الدخول في الحياة السرية‪ ،‬هي بثقافتها وشجاعتها السياسية‪ ،‬الفرس‬
‫البربري الجامح‪ ،‬الذي راهن عليه بوتفليقة لكسب ثقة اليساريين والبربر والنساء بورقة‬
‫واحدة·‬
‫إنها‪ ،‬بأصالتها وبساطتها‪ ،‬ل تشبه إل نفسها·· بشعرها الشقر الرجالي القصير‪ ،‬وبملمح‬
‫ُأنثوية جميلة‪ ،‬وبتلقائية وحماسة تفتقدهما عادة النساء حال جلوسهن على كرسي رسمي·‬
‫فهي ل ترتدي تاييرا ً سوى في المناسبات· وتفعل ذلك بأناقة أوروبية “عملّية” من دون‬
‫مطّرزتين بالحناء في كل مناسبة دينية‪ ،‬وبهما‬ ‫فاها ُ‬‫بهرجة أو تشاوف· ل يزعجها أن تكون ك ّ‬
‫تكتب مرافعاتها ومحاضراتها السياسية‪ ،‬التي ُتمثل بها الجزائر بتفوق في المحافل الدولية‪،‬‬
‫بلغة فرنسية راقية‪ ،‬ما عاد يتقنها الفرنسيون أنفسهم·‬
‫دي‬‫لكنها‪ ،‬مذ شغلت مناصب سياسية كثيرة‪ ،‬أحدها ناطقة باسم الحكومة‪ ،‬رفعت خالدة تح ّ‬
‫اللغة العربية‪ ،‬وأصبحت تتحدث الفصحى بطلقة·‬
‫مرافقتها إلى قصر الثقافة لتدشين‬ ‫دة على ُ‬ ‫مدير مكتبها قال لي مازحا ً وهي ترغمني بمو ّ‬
‫معرض “جمعية المل لترقية وحماية المرأة والطفولة”‪“ :‬إنها امرأة دائمة الركض·· أكثر‬
‫داءة حسيبة بومرقة” )الجزائرية حائزة الميدالية الذهبية في العدِو(·‬ ‫عدوَا ً من الع ّ‬
‫مراعاة لمنصبها‪ ،‬لكنها تعود وتبحث عني لُتقدمني بفخر لنساء‬ ‫أتركها تسبقني بخطوات ُ‬
‫ن البائسات اللئي‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أنصاف أمّيات‪ ،‬يستقبلنها بالزغاريد‪ ،‬ويأخذن معنا صورا تذكارية·· هـ ّ‬
‫كنهن من بيع‬ ‫فقدن بيوتهن في الزلزل‪ ،‬واللئي أوجدت لهن جمعيات وتظاهرات تم ّ‬
‫دة وصبر· توشوشني‪:‬‬ ‫مهن واحدة واحدة·· تقّبلهن بمو ّ‬ ‫منتجاتهن اليدوية وإعالة عائلتهن· تض ّ‬
‫“لبد من دعمهن· العمل أشرف لهن من مد ّ أيديهن إلى الدولة أو إلى أزواجهن”·‬
‫دماتها· لكنني‬ ‫مق ّ‬ ‫مراعاة لحاجة ُ‬ ‫ت بمحّبة معظمها ُ‬ ‫ملتين بالورود‪ ،‬وبهدايا رفض ُ‬‫مح ّ‬ ‫عدنا ُ‬
‫احتفظت بالقلم‪ ،‬ونسيت أن أعطيها ُأمي التي كانت سعيدة بأن تعيش أّول حملة انتخابية‬
‫ضل بوتفليقة‪ ،‬من‬ ‫ه علقة بمرشحها المف ّ‬ ‫على الطريقة الميركية· فراحت تجمع كل ما ل ُ‬
‫من يزورنا من‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫أخي‬ ‫وأبناء‬ ‫السائق‪،‬‬ ‫على‬ ‫قمصان وقّبعات وشارات‪ ،‬تقوم بتوزيعها بدورها‬
‫شّغيلة·‬
‫كرت‬ ‫وأنا أكتب في الطائرة مقالي بذلك القلم الذي عليه عبارة “بوتفليقة في قلبي”‪ ،‬تذ ّ‬
‫من يهدي كاتبا ً قلم حبر كمن يهدي فّرانا ً‬ ‫ن َ‬ ‫الدكتور غازي القصيبي الذي قال لي مّرة “إ ّ‬
‫ربطة خبز”· وكنت يومها أشكو إليه إصرار بعض قارئاتي الثريات‪ ،‬على إهدائي أقلما ً‬
‫فاخرة‪ ،‬يعادل ثمن بعضها تكاليف طباعة كتاب‪ ،‬من دون أن تكون تلك القلم قادرة على‬
‫ل‪ ،‬لكونها في حّلتها الذهبّية تلك‪ ،‬لم ُتخَلق سوى لتوقيع الصفقات‬ ‫صا ً جمي ً‬
‫إلهامك ن ّ‬
‫والشيكات‪ ،‬ما جعلني أحتفظ بها في درج خاص لمجّرد الذكرى‪ ،‬لكوني ل أعرف الكتابة‬
‫سوى بأقلم التلوين المدرسّية التي ُتباع في علبة من اثني عشر قلمًا‪ ،‬ل أستعمل منها‬
‫سوى أربعة ألوان· ونظرا ً إلى سعرها الذي ل يتجاوز الثلثة دولرات‪ ،‬فأنا ُألقي ببقية‬
‫القلم في سّلة المهملت·‬
‫وبالمناسبة‪ ،‬أجمل قلم أحتفظ به أهداني إّيــاه الدكتور غـــازي القصيبي‪ ،‬في التفاتة جميلة‬
‫كر” لم‬ ‫من كاتب يدري أن القلم المستعمل‪ ،‬ذا “السوابق الدبّية”‪ ،‬أثمن من أقلم “ب ِ ْ‬
‫دة‬
‫ي هو أعلى درجات المو ّ‬ ‫تقترن بيد كاتب‪ ،‬وأن إهداء كاتب كاتبا ً آخر قلمه الشخص ّ‬
‫والعتراف بـ”قلم” الخر·‬
‫ُ‬
‫لكن المحرج بالنسبة إلى كاتب‪ ،‬أن يكتب بقلم طبع عليه اسم رئيس‪ ،‬حتى وإن كان ذلك‬
‫قــًا·‬ ‫الرئيس صديقا ً منذ ثلثين سنة‪ ،‬ومكانه في القلب ح ّ‬

‫قَلم؟‬
‫دم‪ ..‬لسكات َ‬ ‫ه َ‬
‫ذا ال ّ‬ ‫َأك ّ‬
‫ل َ‬
‫مدّوي لموته‪ .‬فسمير ما كان نجم‬ ‫من لم يسمع منكم بسمير قصير قبل الخبر ال ْ ُ‬ ‫أعذر َ‬
‫الشاشات‪ ،‬ول ديك الفضائيات‪ .‬لم ُيشارك في مسابقة للغناء‪ ،‬لم يصل بعد حملة )‪(sms‬‬
‫دد الهواجس والثقافات‪ .‬كان‬ ‫متع ّ‬‫إلى التصفيات النهائية في “ستار أكاديمي”‪ .‬كان أكاديميا ً ُ‬
‫أستاذا ً جامعيا ً ُيحّرض الجيال الناشئة على النتماء إلى حزب الحقيقة‪ .‬لذا‪ ،‬أزعجتهم‬
‫حَباُلــه الصوتّية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫ي الب‪ ،‬السوري الم‪،‬‬ ‫الفلسطين‬ ‫هو‬ ‫العرب‪.‬‬ ‫ستار”‬ ‫“سوبر‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫يوم‬ ‫يكون‬ ‫أن‬ ‫يحاول‬ ‫لم‬
‫ّ‬
‫هب والقلب‪ ،‬ما كان ليدخل منافسة تلفزيونّية تحت رايــة واحدة‪ ،‬فلم يؤمن‬ ‫ي ال ْ َ‬
‫مذ َ‬ ‫اللبنان ّ‬
‫صد أخباره المعجبون‪ ،‬بل المخبرون‪ ،‬ولم تتدافع‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بغير الُعروبـــة علما وقَ َ‬
‫درا‪ .‬لـــــذا‪ ،‬لم يتر ّ‬
‫ل ذلك‪.‬‬‫فل بك ّ‬‫ل‪ ،‬بل كانت أجهزة المن تتك ّ‬ ‫مراهقات للقتراب منه وأخذ صور له حيثما ح ّ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫عمقا ً في فهم التاريخ‪ ،‬ما كان حنجرة‪ ،‬كان ضميرًا‪.‬‬ ‫مّتقد الذكاء‪ ،‬الذاهب ُ‬ ‫الفتى العربي ال ْ ُ‬
‫ّ‬
‫ن رجال في الظلم‬‫ً‬ ‫لــــذا‪ ،‬لم يقف أمام لجنة تحكم على صوتــه‪ ،‬بل كان يدري منذ البدء أ ّ‬
‫يحاكمونه كظاهرة صوتّية في زمن الهمس والهمهمات‪.‬‬
‫ي‪ ،‬النبيل‪ ،‬المستقيم‪ ،‬في كل ما كتب‪ ،‬ما كان حبره الذي‬ ‫الفتى العربي الوسيم‪ ،‬النق ّ‬
‫يسيل‪ ،‬بل دمه‪.‬‬
‫ن للصوت العالي عندما‬ ‫اعتاد أن يرفع صوته على نحو ل رجعة عنه‪ ،‬على الرغم من علمه أ ّ‬
‫دس والقلم‪ ،‬المقالت‬ ‫يرتفع خارج الطبقات الصوتّية للطرب ثمنا ً باهظًا‪ .‬ففي حوار المس ّ‬
‫النارّية يرد ّ عليها بالنار‪.‬‬
‫مطاَرد‪ ،‬أن‬ ‫ذعر الكاتب ال ُْ‬ ‫ما عرفت من ُ‬ ‫ّ‬ ‫ع‬ ‫وتستغني‬ ‫نى‪،‬‬ ‫تغ‬
‫َ َ‬ ‫ف‬ ‫صديقي‪..‬‬ ‫كان عليك أن ُتغّني يا‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫دفا‪ ،‬أن تستخدم وسامتك في طلة إعلنّية لبيع‬ ‫ً‬ ‫مسته َ‬ ‫تكون هدفا ً إعلميا ً بدل أن تغدو رجل ُ‬
‫ً‬
‫معرفّية‬ ‫رغـــوة للحلقة‪ ،‬أو الترويج لعطر جديد‪ ،‬بدل استخدام أدواتك الثقافية وال ْ َ‬
‫ل ما تكتب‪ ،‬فتسقط‬ ‫خــر الوقت لقنعك أل ّ تبصم بدمك على ك ّ‬ ‫قت ََلــة‪ .‬تأ ّ‬ ‫مقارعــة ال َ‬ ‫لِ ُ‬
‫جامح ل حصانة لك‪ .‬الكاتب كائن أعزل ل يحتمي سوى‬ ‫َ‬ ‫ال‬ ‫الحصان‬ ‫هذا‬ ‫يا‬ ‫بحبرك‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫مضرج‬ ‫ُ‬
‫بقلم‪.‬‬
‫ك‪ ..‬فقط لن َ‬
‫ك‬ ‫ل هذه المتفجرات المزروعة تحت مقعد َ‬ ‫دم‪ ..‬لسكات قلم؟ وك ّ‬ ‫ذا ال ّ‬ ‫ل هَ َ‬ ‫َأك ّ‬
‫رفضت أن تجلس يوما ً على المبــــادئ؟‬
‫صاحــب “القلم الوسيم” سقط في موكب من مواكب الموت اللبناني‪.‬‬
‫طي الصفحات ا ُ‬ ‫خـــر‪ ،‬لموت يغ ّ‬
‫لولى للصحافة‬ ‫متأ ّ‬ ‫ل هذا المجد ال ْ ُ‬ ‫ط‪ ،‬وما َنفع ك ّ‬ ‫سقَ َ‬ ‫َ‬
‫ف دم صاحبها‪ ،‬تتقاسم على جدران بيروت حّيـزا ً كان محجوزا ً‬ ‫العالمية؟ ما زهو صور لم يج ّ‬
‫قــات؟‬
‫صف َ‬ ‫قاوِلين السياسيين وصائــــدي ال ّ‬ ‫م َ‬‫من َْتخِبين وال ْ ُ‬ ‫دا حكرا ً على ال ْ ُ‬ ‫للمطربين‪ ،‬و َ‬
‫غـ َ‬
‫هو صائــد الكلمات‪ ،‬ماذا يفعل بينهم‪ ،‬وهو الذي عندما كان حّيــا ً ما كان ليمد يده لُيصافح‬
‫بعضهم؟ وما نفع إكليل البطولة على رأس ما عاد رأسه مذ ركب سيارته وأدار ذلك‬
‫محّرك‪ ،‬فتطاير دمه‪ ،‬وتناثرت أجزاؤه لتتبعَثر فينا؟‬ ‫ال ْ ُ‬
‫عْبـَرة انتخابية لنصرة‬ ‫القَت َلـــة يقرأون الن أخبار َنـْعـِيـهِ بعدما أسكتوه‪ ،‬وصنعوا من جثته ِ‬ ‫َ‬
‫دساتهم بـ”كاتم الصوت”‪.‬‬ ‫ل هذا الرثــــاء أثناء حشو مس ّ‬ ‫صمت”‪ ،‬يبتسمون لك ّ‬ ‫“حزب ال ّ‬
‫ن‬ ‫ً‬
‫ت “القلم الوسيم”‪ ،‬تاركا لنا عالما من البشاعة والذعر من المجهول‪ ،‬بينما نح ُ‬ ‫ً‬ ‫م َ‬ ‫ص َ‬ ‫َ‬
‫قت ََلة يبتسمون‬ ‫مطال ََبـة بحقيقة جديدة تحمل رقم الشهيد الجديد‪ .‬ال َ‬ ‫منهمكون في ال ُْ‬
‫فين بمطالبنا‪ ،‬واثقين بجبننا‪.‬‬ ‫مستخ ّ‬
‫ن للحقيقة “كلب حراسة” تسهر على سّرها‪ .‬وحدهم حّراس القيم ل حارس لهم إل ّ‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫ً‬
‫الضمير‪ ،‬الضمير الذي كان سببا في استشهاد سميــر قصيــر‪.‬‬

‫إلى إيطاليا‪ ..‬مع حبي‬

‫كرت أغنية الراحلة ميلينا مركوري‪ ،‬التي كانت في تشّردها النضالي تغّني‬ ‫في رومــــا‪ ،‬تذ ّ‬
‫“حيث ُأسافر تجرحني اليونان”‪ ،‬قبل أن تصبح وزيرة للثقافة في اليونان الديمقراطية·‬
‫مثلها‪ ،‬ما سافرت إلى بلد إل ّ وجرحتني هموم العروبة· وكنت جئت إلى روما‪ ،‬لحضور‬
‫دمته بنجاح كبير صديقتي المطربة الملتزمة جاهدة وهبي‪ ،‬في قاعة “بيو”‬ ‫الحفل الذي ق ّ‬
‫الضخمة‪ ،‬التابعة لحاضرة الفاتيكان‪ ،‬وذهب ريعه لبناء مستشفى لطفال الناصرية·‬
‫مؤثرين في حضورهم‬ ‫متأثرين و ُ‬
‫كان أهالي الجنود اليطاليين الذين سقطوا في الناصرية‪ُ ،‬‬
‫إلى جانب أبناء الجالية العربية· فبعض أمهات وزوجات الجنود القتلى لم يخلعن حدادهن‬
‫منذ عدة أشهر‪ ،‬لكنهن‪ ،‬على الرغم من ذلك‪ ،‬واصلن تضامنهن مع الشعب العراقي‪،‬‬
‫طط لها بعد ذلك‬ ‫ن أبناءهن ذهبوا بنوايا إنسانية‪ ،‬ل في مهمة عدوانية كما خ ّ‬ ‫لعتقادهن أ ّ‬
‫البنتاغون·‬
‫إحدى أرامل الحرب‪ ،‬أبدت ُأمنيتها لزيارة الناصرية‪ ،‬المدينة التي دفع زوجها حياته ثمنا ً‬
‫“لعادة البسمة إلى أبنائها”·‬
‫أما فكرة الحفل‪ ،‬فقد ولدت من تصريح شقيق أحد الجنود الضحايا‪ ،‬غداة مقتل أخيه‪ ،‬حين‬
‫من يريد تقديم تعازيه لي·· ليواصل جمع المال من أجل الطفال الذين كان أخي‬ ‫قال‪َ “ :‬‬
‫دم لهم العون”·‬ ‫يق ّ‬
‫وه من‬ ‫ّ‬ ‫لت‬ ‫الخارج‬ ‫القتيل‪،‬‬ ‫الجندي‬ ‫ذلك‬ ‫قصة‬ ‫آنذاك‪،‬‬ ‫اليطالية‪،‬‬ ‫العلم‬ ‫وسائل‬ ‫نقلت‬ ‫وقد‬
‫وة‪ ،‬الذي درج على تناول وجباته الغذائية برفقة عدد من الطفال العراقيين‪ ،‬واعتاد أن‬ ‫الفت ّ‬
‫يقتطع من مصروفه مبلغا ً يوزعه عليهم·‬
‫بعد موته‪ ،‬اكتشف الطفال الذين ظّلوا يترددون على مواقع العسكر‪ ،‬أن الجنود ليسوا‬
‫شـره·‬ ‫جميعهم ملئكة‪ ،‬فقد غدت طفولتهم وجبة يومية للموت الميركي ال ّ‬
‫ى عراقيا ً لم أتوقعه· أسعدني اكتشاف مدى‬ ‫ت إقامتي في روما منح ً‬ ‫بعد ذلك الحفل‪ ،‬أخذ ْ‬
‫حماسة بعض اليطاليين للقضايا العربية‪ ،‬بقدر ما آلمني أل ّ يجد هؤلء أي سند‪ ،‬ول أي‬
‫امتنان من الجهات العربية في روما‪ ،‬أو من العرب أنفسهم‪ ،‬الذين ل يدّللون ول يسخون‬
‫إل ّ على أعدائهم·‬
‫واحدة من هؤلء اليطاليين الرائعين‪ ،‬الجميلة ماورا غوالكو‪ ،‬التي اعتادت الحضور إلى‬
‫لبنان كل ‪ 16‬أيلول‪ ،‬مع وفد من اليطاليين اليساريين الصحافيين في معظمهم‪ ،‬الناشطين‬
‫في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين‪ ،‬وذلك لحياء الذكرى المأساوية لمذابح صبرا وشاتيل‪،‬‬
‫“ماورا” قالت لي بأسى‪ ،‬إنها ستتخّلف لّول مّرة منذ خمس سنوات عن هذا الموعد‪ ،‬لنها‬
‫ستضع مولودها في أيلول المقبل· ولكن رفاقها سيحضرون ليضعوا ورودا ً على مكان‬
‫ول إلى محل لرمي النفايات‪ ،‬فقاموا‬ ‫المذبحة‪ ،‬الذين فوجئوا عندما زاروه لول مرة‪ ،‬بأنه تح ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بتنظيفه بأنفسهم· وعندها استحت بلدية الغبيري‪ ،‬ووضعت شاهدا تذكاريا على ذلك‬
‫المكان·‬
‫المستشرقة الصديقة إيزابيل دافليتو‪ ،‬نموذج آخر لليطاليين الذين يكافحون لتجميل صورة‬
‫العرب· فهي تحاول بمفردها منذ سنوات‪ ،‬إنقاذ سمعة الدب العربي‪ ،‬والشراف على‬
‫ترجمة أهم العمال الدبية‪ ،‬في سلسلة تصدر عن دار نشر “مناضلة” على الرغم من‬
‫دد في المطالبة بحقوقي‪ ،‬من ناشر‬ ‫ن‪ ،‬ما جعلني أتر ّ‬ ‫برجوازية صاحبها المحامي المس ّ‬
‫مفلس·‬ ‫حب عربي ُ‬ ‫توّرط في ُ‬
‫دعيت‬ ‫ُ‬ ‫التي‬ ‫كتلك‬ ‫سياسية‪،‬‬ ‫أو‬ ‫فكرية‬ ‫ندوات‬ ‫بتنظيم‬ ‫للعرب‪،‬‬ ‫موالين‬ ‫مثقفين‬ ‫دة‬
‫كما يقوم ع ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ت خللها نصا شعريا عن بغداد‪،‬‬ ‫مخصصة للعراق‪ ،‬وألقي ُ‬ ‫إليها في مركز “بيبلي”‪ ،‬التي كانت ُ‬
‫تمت ترجمته لليطالية·‬
‫إيزابيل دعتني‪ ،‬رغم مشاغلها‪ ،‬إلى عشاء في بيتها‪ ،‬دعت إليه على شرفي ناشري‬
‫والبروفيسور وليام غرانارا‪ ،‬الستاذ في جامعة هارفارد‪ ،‬والمستشرق الميركي‪ ،‬الذي‬
‫احتفظ بوسامة أصوله اليطالية‪ ،‬وبحّبه الدب العربي·· ومشتقاته·‬
‫وليام‪ ،‬الذي سبق أن التقيته في مؤتمر في القاهرة‪ ،‬اقترح دعوتي إلى أميركا لموسم‬
‫دراسي ككاتبة زائرة‪ ،‬وناقشني بفصاحة مدهشة في رواياتي·· لكن من الواضح أنه لم يقرأ‬
‫مقالتي·‬
‫ّ‬
‫لقائي الكثر حرارة·· كان مع المخرج التلفزيوني داريو بليني‪ ،‬الذي سبق أن شاهدت له‬
‫في مركز “بيبلي”‪ ،‬شريطا ً وثائقيا ً عن بغداد‪ ،‬أبكى معظم الحاضرين‪ ،‬وهو يعرض يوميات‬
‫العذاب والموت والذلل‪ ،‬التي يعيشها العراقيون على أيدي جيش “التحرير” الميركي·‬
‫ورها على شكل “كليب”‬ ‫ُ‬
‫داريــو‪ ،‬الذي أعجب بقصيدتي عن العراق‪ ،‬طلب مني أن ُيص ّ‬
‫لبرنامج ثقافي فـي التلفزيون اليطالي·‬
‫ور القصيدة باللغتين‪ ،‬بعضها‬ ‫نص‬
‫ُ ّ‬ ‫فيلو‪،‬‬ ‫ليديا‬ ‫الشاعرة‬ ‫وهكذا قضيت آخر يوم برفقته‪ ،‬ورفقة‬
‫في بيت موسوليني‪ ،‬والبعض الخر وسط المظاهرات العارمة‪ ،‬التي كانت يومها تجتاح‬
‫ددة بالحرب الميركية على العراق·‬ ‫شوارع روما‪ ،‬من ّ‬
‫صابين والمافيوزي·· ومرتزقة الحروب‪ ،‬لقد أنجبت‬ ‫إيطاليــــا العظيمة‪ ،‬لم تنجب فقط الن ّ‬
‫من يعطون درسا ً في البداع·· وفي النسانية·‬ ‫أيضا ً َ‬
‫ف العربي‬
‫ب الشر ِ‬
‫ر ُ‬
‫جوا ِ‬

‫طع الصحافة‪،‬‬ ‫جهت نظرك‪ .‬ع ََبثا ً ُتقا ِ‬ ‫ي‪ ،‬حيث أوليت صدرك‪ ،‬أو و ّ‬ ‫ل مفّر لك من الخنجر العرب ّ‬
‫ل اللغات حتى ل ُتدمي قلبك‪.‬‬ ‫رض عن التلفزيون ونشرات الخبار بك ّ‬ ‫وُتع ِ‬
‫لولى‬ ‫ستأتيك الهانة هذه المرة من صحيفة عربية‪ ،‬انفردت بسبق تخصيص ثلثي صفحتها ا ُ‬
‫ّ‬
‫دام وهو يغسل ملبسه‪.‬‬ ‫لصورة ص ّ‬
‫مـة صورا ً ُأخرى للقائد المخلوع بملبسه الداخلية‪ ،‬نشرتها‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ثـ‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ستكتشف‬ ‫بعد ذلك‪،‬‬
‫ه‪ ،‬ل يستحقّ مجاملة إنسانية واحدة‪ ،‬اختفى ‪ 300‬ألف شخص‬ ‫َ‬
‫صحيفة إنجليزية “لطاغية كرِ ْ‬
‫ل حكمه”‪.‬‬ ‫في ظ ّ‬
‫َ‬
‫مهانا”‪ ،‬ت ُِهينك مع‬ ‫ً‬ ‫الصحيفة التي ُتباهي بتوجيهها ضربة للمقاومة “كي ترى زعيمها الكبر ُ‬
‫ي‪ ،‬على الرغم من كونك ل تقاوم الحتلل الميركي للعراق إل ّ بقلمك‪..‬‬ ‫‪ 300‬مليون عرب ّ‬
‫وقريبا ً بقلبك ل غير‪ ،‬ل لضعف إيمانك‪ ،‬بل لنهم سيكونون قد أخرسوا لسانك‪ .‬هؤلء‪،‬‬
‫ل سيارة مفخخة‪.‬‬ ‫جتك ونسف منطقك مع ك ّ‬ ‫بإسكات صوتك‪ ،‬وأولئك بتفجير ح ّ‬
‫ّ‬
‫قدة أمام صورة القائد الصنم‪ ،‬الذي استجاب الله لدعاء “شعبه”‬ ‫مع ّ‬ ‫تنتابك تلك المشاعر ال ْ ُ‬
‫وحفظه من دون أن يحفظ ماء وجهه‪ .‬وها هو في السبعين من عمره‪ ،‬وبعد جيلين من‬
‫معاِقين‪ ،‬وبعد بضعة آلف من التماثيل والصور الجدارّية‪ ،‬وكعكات‬ ‫مشّردين وال ْ ُ‬ ‫موَتى وال ْ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫مرتديا ً جلبابا ً أبيض‪،‬‬ ‫الميلد الخرافّية‪ ،‬والقصور ذات الحنفّيات الذهبّية‪ ،‬يجلس في زنزانة ُ‬
‫مكا ً في غسل أسمال ماضيه و”جواربه القذرة”‪.‬‬ ‫منه ِ‬ ‫ُ‬
‫كرك بـ”كليب” نانسي عجرم‪ ،‬في جلبابها الصعيدي‪ ،‬وجلستها‬ ‫ي‪ ،‬يكاد ُيذ ّ‬ ‫ّ‬ ‫حميم‬ ‫مشهد‬
‫العربّية تلك‪ ،‬تغسل الثياب في إنــاء بين رجليهــا‪ ،‬وهي تغني بفائض ُأنوثتها وغنجها‬
‫دام بجلبابه‬ ‫َ‬
‫مــك آه‪ ..‬أسيبـــك”‪ .‬ففي المشهدين شيء من صورة عروبتك‪ .‬وص ّ‬ ‫“أخاص َ‬
‫مجّردا ً من سلطته‪ ،‬وثياب غطرسته‪ ،‬غدا ُيشبهك‪ُ ،‬يشبه أَبــــاك‪،‬‬ ‫وملمحه العزلء تلك‪ُ ،‬‬
‫ديـــا ً‬ ‫ه‬
‫َ َ ِ‬ ‫مش‬ ‫إخراجه‬ ‫د‬
‫ُ ّ‬‫مع‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫“الكليب”‬ ‫هذا‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫لعلمك‬ ‫يزعجك‪،‬‬ ‫ما‬ ‫وهذا‬ ‫أخـــاك‪ ..‬أو جنســك‪،‬‬
‫ي‪.‬‬
‫ك‪ ،‬ليس من إخراج ناديـــن لبكــي‪ ،‬بل العلم العسكري الميرك ّ‬ ‫بنّيــة إذلل َ‬
‫دفاع عن احترام‬ ‫طاغيــة الذي وُِلد برتبة قاتل‪ ،‬ما كانت له سيرة إنسانية تمنحك حقّ ال ّ‬ ‫ال ّ‬
‫ث‬
‫ل مّرة‪ ،‬تلوّ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫خصوصيته‪ ،‬وشرح مظلمته‪ .‬لكنه كثيرا ما أرَبكك بطلته العربّية تلك‪ .‬لـــذا‪ ،‬ك ّ‬ ‫ً‬
‫منحدرا ً من مجرى‬ ‫ضع النساني‪ُ ،‬‬ ‫مكَرها ً أشواطا ً في التوا ُ‬ ‫ت تراه يقطع ُ‬ ‫ك وأن َ‬ ‫شيٌء من َ‬
‫التاريخ‪ ..‬إلى مجاريــه‪.‬‬
‫الذين لم يلتقطوا صورا ً لجرائمه‪ ،‬يوم كان‪ ،‬على مدى ‪ 35‬سنة‪ ،‬يرتكبها في وضح النهار‪،‬‬
‫ماعية في مساحة وطن‪،‬‬ ‫ج َ‬‫على مرأى من ضمير العاَلم‪ ،‬محوّل ً أرض العراق إلى مقبرة َ‬
‫منهطلة على آلف المخلوقات‪ ،‬لبادة الحشرات البشرية‪،‬‬ ‫وسماءه إلى غيوم كيماوية ُ‬
‫يجدون اليوم من الوقت‪ ،‬ومن المكانات التكنولوجّية المتقدمة‪ ،‬ما يتيح لهم التجسس عليه‬
‫صص عليه ومراقبته حتى عندما ُيغّيـر ملبسه الداخلية‪.‬‬ ‫في عقر زنزانته‪ ،‬والتل ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مر عن ترسانتها‪ .‬العالم‬ ‫في إمكان كوريا أل ّ تخلع ثيابها النووية‪ ،‬ويحق لسرائيل أن ُتش ّ‬
‫مفرحا ً‬ ‫ن الخبر بدا ُ‬ ‫دام‪ .‬حتى إ ّ‬ ‫طي عـــورة صـــ ّ‬ ‫مشغول عنهما بآخر ورقة توت عربّية ُتغ ّ‬
‫عــــراة يتلصصون‬ ‫مفاجئا ً للبعض‪ ،‬حــد ّ اقتراح أحد الصدقاء “كاريكاتيرا” يبدو فيه حكام ُ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫و ُ‬
‫دام وهو يرتدي قطعة ثيابه الداخلية‪ .‬فقد غدا للطاغية حلفاؤه‬ ‫ّ‬ ‫ص‬ ‫على‬ ‫الزنزانة‬ ‫ثقب‬ ‫من‬
‫عندما أصبح إنسانا ً يرتدي ثيابه الداخلية ويغسل جواربه‪ .‬بدا للبعض أنظف من أقرانه‬
‫طغاة المنهمكين في غسل سجلتهم وتبييض ماضيهم‪ ..‬تصريحا ً بعد آخر‪ ،‬في سباق‬ ‫ال ّ‬
‫ي‪.‬‬ ‫العري العرب ّ‬
‫ً‬ ‫خرت دومــا ً بكوني لم ُ‬
‫دام‪ ،‬ول وطأت العراق‬ ‫ّ‬ ‫ص‬ ‫بمصافحة‬ ‫ا‬ ‫يوم‬ ‫يــدي‬ ‫وث‬ ‫ّ‬ ‫ألـــ‬ ‫َ‬ ‫أنا التي َفا َ ُ‬
‫ت عنه ذلك‬ ‫ت لو أنني أخذ ُ‬ ‫مّني ُ‬
‫مم‪ ،‬ت َ َ‬ ‫ذمم وإذلل الهِ َ‬ ‫مديــح وسوق شراء ال ّ‬ ‫في مرابــد ال ْ َ‬
‫ي‬‫شرف العرب ّ‬ ‫مكاِبـَرة تلك‪ ،‬جوارب ال ّ‬ ‫ل‪ ،‬وغسلت عنه‪ ،‬بيدي ال ْ ُ‬ ‫النـــاء الطافح بالذ ّ‬
‫ال ْ َ‬
‫معُروض للفرجـــــة‪.‬‬

‫أمنيات نسائية‪ ..‬عكس المنطق‬

‫ددت في العتراف بأحلمي السرّية‪ ،‬خشية أن تهاجمني الحركات النسوّية‪ .‬وحدي‬ ‫طالما تر ّ‬
‫ناضلت كي يعيدني حّبك إلى عصور العبودية‪ ،‬وسرت في مظاهرة ضد حقوق المرأة‪،‬‬
‫مطالبة بمرسوم يفرض على النساء الحجاب‪ ،‬ووضع البرقع في حضرة الغراب‪ ،‬ويعلن‬
‫حظر التجول على أي امرأة عاشقة‪ ،‬خارج الدورة الدموية لحبيبها‪.‬‬

‫***‬

‫لخريات‪ ،‬واليوم‪ ،‬ل مطلب لي غير تحقيق حلمي في البقاء عصفورة‬ ‫قبلك حققت حلم ا ُ‬
‫صتك‪ ،‬وشرفات حياتي مفتوحة‬ ‫سجينة في قفص صدرك‪ ،‬وإبقاء دقات قلبي تحت أجهزة تن ّ‬
‫ّ‬ ‫د‬ ‫وش‬ ‫قيودي‪،‬‬ ‫إحكام‬ ‫الشاغل‬ ‫على رجال تحّريك‪ .‬رجل مثلك؟ يا لروعة رجل مثلك‪ ،‬شغله‬
‫جاني؟‬‫الصفاد حول معصم قدري‪ .‬أين تجد الوقت برّبك‪ ..‬كي تكون مولهم‪ ..‬وس ّ‬
‫امرأة مثلي؟ يالسعادة امرأة مثلي‪ ،‬كانت تتسوق في مخازن الضجر النثوي‪ ،‬وما عاد‬
‫قنانة‪ ،‬مذ أرغمتها على البحث عن هذه الكلمة في قاموس العبودية‪.‬‬ ‫حلمها القتناء‪ ..‬بل ال ِ‬
‫ب‪ .‬فقد كنت من السادة الذين ل يقبلون بغير‬ ‫ّ‬ ‫الح‬ ‫في‬ ‫ية‬
‫ّ‬ ‫القطاع‬ ‫نزعاتك‬ ‫وإذا بها تكتشف‬
‫امتلك الرض‪ ..‬ومن عليها‪.‬‬
‫ضع ثيابا ً نسائية‪ ..‬عطورا ً وزينة‪ ..‬وكتبا ً عن الحرية‪ .‬فكيف غدت أمنيتها أن‬
‫كانت قبلك تتب ّ‬
‫تكون بدلة من بدلتك‪ ..‬ربطة من ربطات عنقك‪ ..‬أو حتى حزام بنطلون في خزانة ثيابك‪.‬‬
‫شاهدت على التلفزيون السرى المحررين‪ ،‬لم أفهم لماذا يبكون ابتهاجا ً بالحرّية‪ ،‬ووحدي‬
‫ددتني بإطلق سراحي‪ .‬ولماذا‪ ،‬كّلما تظاهرت بنسيان مفتاح زنزانتي داخل‬ ‫أبكي كّلما ه ّ‬
‫عدت لتجدني قابعة في ركن من قلبك‪.‬‬ ‫قفل الباب‪ُ ،‬‬
‫ت أن يتم اكتشافي وأنا‬‫ت بالمطالبة بتحقيق يكشف مصير المفقودين‪ ،‬خف ُ‬ ‫وكّلما سمع ُ‬
‫مختفية‪ ،‬منذ سنوات‪ ،‬في أدغال صدرك‪.‬‬
‫وكّلما بلغني أن مفاوضات تجرى لعقد صفقة تبادل أسرى برفات ضحايا الحروب‪ ،‬خفت‬
‫أن تكون رفات حّبنا هي الثمن المقابل لحّريتي‪ ،‬فرجوتك أن ترفض صفقة مهينة إلى هذا‬
‫الحد‪ ..‬ورحت أعد ّ عليك مزايا العتقال العاطفي‪ ..‬علني أغدو عميدة السرى العرب في‬
‫معتقلت الحب‪.‬‬

‫أميركا‪ ..‬كما أراها‬

‫زرت أميركا مّرة واحدة‪ ،‬منذ خمس سنوات‪.‬كان ذلك بدعوة من جامعة "ميريلند"‬
‫بمناسبة المؤتمر العالمي الّول حول جبران خليل جبران‪ .‬كان جبران ذريعة جميلة‬
‫لكتشاف كوكب يدور في فلك آخر غير مجّرتي‪ُ ..‬يدعى أميركا‪ .‬حتى ذلك الحين‪ ،‬كنت‬
‫من في هيمنة التكنولوجيا الكثر تطورًا‪ ،‬والسلحة الكثر فتكًا‪،‬‬ ‫وة أميركا تك ُ‬ ‫نق ّ‬ ‫أعتقد أ ّ‬
‫ي‬ ‫ً‬
‫وة تستند بدءا على البحث العلم ّ‬ ‫ن كل هذه الق ّ‬ ‫ً‬
‫والبضائع الكثر انتشارا‪ .‬لكنني اكتشفت أ ّ‬
‫مبدعين والباحثين والساتذة الجامعيين‪.‬‬ ‫وتقديس المؤسسات الكاديمية‪ ،‬واحترام ال ُْ‬
‫كر والعاِلــم هنا ل ُيعادله إل ّ احترام الضابط والعسكري لدينا‪ .‬وربما‬ ‫مف ّ‬ ‫مبدع وال ْ ُ‬ ‫فاحترام ال ْ ُ‬
‫ُ‬
‫مـة خطة لفراغ‬ ‫ن المم ل تقوم إل ّ على أكتاف علمائها وباحثيها‪ ،‬كان ثـ ّ‬ ‫لعتقاد أميركا أ ّ‬
‫مرعبــة لقدر علماء العراق‪،‬‬ ‫ْ‬
‫العراق من ُقدراته العلمية‪ .‬وليس هنا مجال ذكر الحصاءات ال ُ‬
‫الذين كان لبد ّ من أجل الحصول على جثمان العراق وضمان موته السريري‪ ،‬تصفية خيرة‬
‫كرة‪،‬‬ ‫مف ّ‬ ‫علمائه‪ ،‬بين الغتيالت والسجن وفتح باب الهجرة لكثر من ألف عاِلم من عقوله ال ْ ُ‬
‫مة‪ ،‬التي كانت منذ الزل‪ ،‬مهـــد الحضارات‪ ،‬إل ّ عشائر وقبائل‬ ‫ُ‬
‫حتى ل يبقى من تلك ال ّ‬
‫طرق يتقاسمون تجارة الرؤوس المقطوعة‪ .‬لكن أميركا تفاجئك‪ ،‬ل لنها تفعل ك ّ‬
‫ل‬ ‫طاع ُ‬ ‫وق ّ‬
‫هذا بذريعة تحريرك‪ ،‬بل لنها تعطيك درسا ً في الحرّية يربكك‪ .‬خبرت هذا وأنا أطلب‬
‫تأشيرة لزيارة أميركا‪ ،‬لتلبية دعوتكم هذه‪ ،‬ودعوة من جامعتي "ميتشيغن" و)‪ .(MIT‬فعلى‬
‫ل تكلفة‬ ‫ن العدل أق ّ‬ ‫معاداتي السياسة الميركية في العاَلم العربي‪ ،‬لعتقادي أ ّ‬ ‫الرغم من ُ‬
‫ي وإذلله‬ ‫ن إهانة النسان العرب ّ‬ ‫من الحرب‪ ،‬و محاربة الفقر أجدى من محاربة الرهاب‪ ،‬وأ ّ‬
‫جة تطويره نهب‪ ،‬ل غيرة‬ ‫ّ‬ ‫بح‬ ‫بذريعة تحريره‪ ،‬هو إعلن احتقار وكراهية له‪ ،‬وفي تفقيره‬
‫ن كان المنتصر‬ ‫ي على فضيحة أخلقّية‪ ،‬هو هزيمة‪ ،‬حتى إ ْ‬ ‫ن النتصار المبن ّ‬ ‫على مصيره‪ ،‬وأ ّ‬
‫وة في العالم‪ ،‬وعلى الرغم من إشهاري هذه الفكار في أكثر من منبر‪ ،‬مازالت‬ ‫أعظم ق ّ‬
‫دم دعوات هذه الجامعات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كتبي ُتعَتمد للتدريس في جامعات أميركا‪ .‬وكان يكفي أن أق ّ‬
‫دة خمس سنوات‪ .‬وهنا يكمن الفرق‬ ‫لحصل خلل ساعتين على تأشيرة لدخول أميركا م ّ‬
‫ي‪ ،‬الذي أنا قادمة منه‪ ،‬حيث الكتابة والثقافة في حد ّ ذاتها شبهة‪،‬‬ ‫بين أميركا والعاَلم العرب ّ‬
‫مبدعون العرب‪ ،‬ويموتون وُيدَفنون بالعشرات في غير بلدهم‬ ‫وحيث‪ ،‬حتى اليوم‪ ،‬يعيش ال ْ ُ‬
‫مبدعين العرب‪ ،‬سيرته‬ ‫ْ‬
‫ل ال ُ‬ ‫الصلي‪ .‬لقد اختصر الشاعر محمد الماغوط‪ ،‬نيابة عن ك ّ‬
‫مبدع‬ ‫ت مذعــــورا ً وسأموت مذعـــورًا"‪ .‬فال ُْ‬ ‫الحياتية والبداعية في جملة واحدة "وُِلـد ْ ُ‬
‫دد اليوم قبل أن‬ ‫العربي ليزال ل يشعر بالمان في بلد عربي‪ .‬وإذا كان بعض النظمة يتر ّ‬
‫يسجن كاتبا ً أو يغتاله‪ ،‬فليس هذا كرما ً أو ُنبل ً منه‪ ،‬إنما لن العالم قد تغّير‪ ،‬وأصبحت‬
‫مى بسّرية‪ ،‬وقد ُتحاسبــه عليها أميركا كّلما‬ ‫مبدعين ل ُتس ّ‬ ‫الجرائم في حق الصحافيين وال ْ ُ‬
‫مطاِلبا ً بالنتساب إلى معسكر الخير‪ .‬ولذا اختار بعض النظمة‬ ‫دما ً قرابين الولء‪ُ ،‬‬ ‫مق ّ‬ ‫جاءها‪ُ ،‬‬
‫ً‬
‫ذمم‪ ،‬وتكفيرا عن‬ ‫مبدعين‪ ،‬شراًء لل ّ‬ ‫ْ‬
‫دى في تكريم وتدليل ال ُ‬ ‫ما َ‬‫العربية الدور الكثر براءة‪ ،‬وت َ َ‬
‫جرائم في حق مثقفين آخرين‪ .‬الحقيقة غير هذه‪ ،‬ويمكن أن تختبرها في المطارات‬
‫كر‬‫مف ّ‬ ‫مبدع وال ْ ُ‬ ‫العربية‪ ،‬وعند طلب تأشيرة "أخوّيـــة"‪ ،‬وفي مكان العمل‪ ،‬حيث ُيعامل ال ْ ُ‬
‫صا ً وسجنا ً وتنكي ً‬
‫ل‪،‬‬ ‫صا َ‬‫ذر‪ ،‬وأحيانا ً بما يفوقه قَ َ‬ ‫ح َ‬
‫سس و َ‬ ‫ي من تج ّ‬ ‫والجامعي بما يليق بالرهاب ّ‬
‫بينما يجد في الغرب‪ ،‬وفي أميركا التي يختلف عنها في اللغة وفي الدين وفي المشاعر‬
‫مــــلذا ً يحضن حّريته‪ ،‬ومؤسسات تدعم عبقريته وموهبته‪ .‬وما معجزة أميركا إل ّ‬ ‫القومّية‪َ ،‬‬
‫َ‬
‫في ذكاء استقطاب العقول والعبقريات المهدورة‪ ،‬وإعادة تصديرها إلى العالم من خلل‬
‫لسد في النهاية سوى خرفان مهضومة‪.‬‬ ‫اختراعات وإنجازات علمّية خارقة‪ .‬ما ا ُ‬

‫ضرة التي ألقتها الكاتبة في جامعة )‪ (Yale‬في الوليات المتحدة الميركية‬ ‫* من ال ْ ُ‬


‫محا َ‬

‫أن تكون كاتبا ً جزائريا ً‬


‫" ألقيت هذه الشهادة في مؤتمر الروائيين العرب في القاهرة ‪" 1998‬‬

‫عندما تكون كاتبا ً جزائريًا‪ ,‬وتأتيك الجزائر يوميا ً بقوافل قتلها‪ ,‬بين اغتيالتها الفردية‪,‬‬
‫ومذابحها الجماعية‪ ,‬وأخبار الموت الوحشي في تفاصيله المرعبة‪ ,‬وقصص أناسه البسطاء‬
‫في مواجهة أقدار ظالمة‪ .‬ل بد أن تسأل نفسك ما جدوى الكتابة؟ وهل الحياة في حاجة‬
‫حقا ً الى كّتاب وروائيين؟ ما دام ما تكتبه في هذه الحالت ليس سوى اعتذار لمن ماتوا‬
‫كي تبقى على قيد الحياة‪.‬‬
‫وما دامت النصوص الهم‪ ,‬هي ليست تلك التي توّقعها أنت باسم كبير‪ ,‬بل تلك التي يكتبها‬
‫بدمهم الكتاب والصحافيون المعرفون منهم والذكرة‪ ,‬الصامدون في الجزائر‪ .‬والواقفون‬
‫دون انحناء بين ناري السلطة والرهاب والذين دفعوا حتى الن ستين قتي ً‬
‫ل‪ ..‬مقابل‬
‫الحقيقة وحفنة من الكلمات‪.‬‬
‫عندما تكون كاتبا ً جزائريا ً مغتربا‪ ,‬وتكتب عن الجزائر‪ ,‬ل بد أن تكتب عنها بكثير من الحياء‪,‬‬
‫ً‬
‫بكثير من التواضع‪ ,‬حتى ل تتطاول دون قصد على قامة الواقفين هناك‪ .‬أو على أولئك‬
‫البسطاء الذين فرشوا بجثثهم سجادا ً للوطن‪ .‬كي تواصل أجيال ً أخرى المشي نحو حلم‬
‫سميناه الجزائر‪ .‬والذين على بساطتهم‪ ,‬وعلى أهميتك‪ ,‬لن يرفعك سوى الموت من أجل‬
‫الجزائر الى مرتبتهم‪.‬‬
‫الجزائر التي لم تكن مسقط رأسي بل مسقط قلبي وقلمي‪ ,‬ها هي ذي تصبح مسقط‬
‫دمي‪ .‬والرض التي يقتل عليها بعضي بعضي‪ ,‬فكيف يمكنني مواصلة الكتابة عنها ولها‪.‬‬
‫واقفة على مسافة وسطية بين القاتل والقتيل‪.‬‬
‫لقد فقدنا في الجزائر خلل السنوات الخيرة أكثر من ستين كاتب ومبدع‪ .‬هم أكثر من‬
‫نصف ثروتنا العلمية‪ .‬ولم يبق لنا من الروائيين أكثر من عدد أصابع اليدين في بلد يفوق‬
‫سكانه الثلثين مليون نسمة‪ ,‬أي انه ل يوجد في مقابل كل مليون جزائري‪ ,‬كاتب واحد‬
‫ينطق ويكتب ويحلم ويفكر باسم مليون شخص‪.‬‬
‫فأي نزيف فكري هو هذا؟‪ ..‬وأّية فاجعة وطنية هي هذه! ولذا كلما دعيت الى ملتقى حول‬
‫الكتابة بدأ لي الجدل حول بعض المواضيع النقدية أو الفنية أمرا ً يقارب في طرحه مسرح‬
‫العبث‪ ..‬عندما يتعّلق المر ببلد يشكل فيه الكاتب في حد ذاته نوعا ً بشريا ً على وشك‬
‫كل فيه الكتابة في حد ذاتها تهمة لم يعد الكاتب يدري كيف يتبّرأ منها‪..‬‬ ‫النقراض‪ ,‬وتش ّ‬
‫وذنبا ً لم يعد يدري كيف يجب أن يعلن توبته عنه أمام المل ليتمكن أخيرا من العيش بأمان‪.‬‬
‫ً‬

‫فما الذي ح ّ‬
‫ل بنا اليوم؟‬
‫منذ الزل نكتب وندري أن في آخر كل صفحة ينتظرنا رقيب ينبش بين سطورنا‪ ,‬يراقب‬
‫صمتنا وأنفاسنا‪ ,‬ويتربص بنا بين جملتين‪.‬‬
‫كنا نعرف الرقيب ونتحايل عليه‪ .‬ولكن الجديد في الكتابة اليوم أننا ل ندري من يراقب‬
‫من‪ ..‬وما هي المقاييس الجديدة للكتابة‪.‬‬
‫ن أحلمنا تواضعت في بضع سنوات‪ .‬فقد كنا نحلم أن نعيش‬ ‫الجديد في الكتابة اليوم‪ ,‬أ ّ‬
‫يوما ً بما نكتب‪ ..‬فأصبحنا نحلم أل نموت يوما بسبب ما نكتب‪.‬‬
‫ً‬
‫كنا نحلم في بدايتنا أن نغادر الوطن ونصبح كتابا ً مشهورين في الخارج‪ .‬اليوم وقد أصبحنا‬
‫كذلك أصبح حلمنا أن نعود الى وطننا ونعيش فيه نكرات لبضعة أيام‪.‬‬
‫كنا نحلم بكتابة كتب جديدة‪ ..‬أصبحنا نحلم بإعادة طبع كتبنا القديمة ليس أكثر ‪ ..‬فالذي‬
‫كتبناه منذ عشرين سنة لم نعد نجرؤ على كتابته اليوم‪.‬‬
‫عندما تكون كاتبا ً جزائريًا‪ .‬كيف لك اليوم أن تجلس لتكتب شيئا ً في أي موضوع كان دون‬
‫أن تسند ظهرك الى قبر‪.‬‬
‫ي‪ ,‬والموت العبثي‪ ,‬كم مرة تسأل نفسك‪ .‬ماذا تكتب؟ ولمن؟ داخل ً‬ ‫في زمن العنف العدم ّ‬
‫ن في صمت الكاتب عنفا ً أيضا‪ً.‬‬ ‫دق أ ّ‬ ‫في كل موت في حالة صمت حتى تكاد تص ّ‬
‫ماذا تكتب أّيها الروائي المتذاكي‪ ..‬ما دام أيّ مجرم صغير هو أكثر خيال ً منك‪ .‬وما دامت‬
‫الروايات اكثر عجائبية وإدهاشا ً تكتبها الحياة‪ ..‬هناك‪.‬‬
‫سواء أكانت تريد أن تكتب قصة تاريخية‪ ,‬أم عاطفية أو بوليسية‪ .‬رواية عن الرعب أ عن‬
‫المنفى‪ .‬عن الخيبة‪ ,‬عن المهزلة‪ ,‬عن الجنون‪ ..‬عن الذعر‪ ..‬عن العشق‪ ..‬عن التفكك‪ ..‬عن‬
‫فق‪ ..‬عن الحلم المعطوبة‪ ..‬عن الثروات المنهوبة أثناء ذلك‬ ‫التشتت عن الموت المل ّ‬
‫بالمليين بين مذبحتين‪.‬‬
‫ل تتعب نفسك‪ ,‬لقد سبقتك جزائر الكاذيب والخوف وكتبتها‪.‬‬
‫الحياة هي الروائي الول في الجزائر‪ .‬وأنت‪ ,‬أّيها الروائي الذي تملك العالم بالوكالة‪ ,‬وتدير‬
‫شؤونه في كتاب‪ .‬الذي يكتب قطعا ً ليس أنت‪ .‬ما دمت تكتب بقلم قصصا ً يشاركك القدر‬
‫في كتابتها بالدم‪.‬‬
‫كنا نحلم بوطن نموت من أجله‪ ..‬فأصبح لنا وطن نموت على يده‪.‬‬
‫ض الشتباك بينك ككاتب والوطن؟ وهل المنفى هو‬ ‫فلماذا تكتب؟ ولمن؟ وكيف يمكن ف ّ‬
‫المكان المثل لطرح تلك السئلة الموجعة أكثر من أجوبتها‪.‬‬
‫ً‬
‫أراغون الذي قال صدقتها "الرواية أي مفتاح الغرف الممنوعة في بيتنا" لم يكن عربيا‪ .‬وإل‬
‫لكان قال "إن الرواية هي مفتاح الوطان المغلقة في وجهنا‪.‬‬
‫إنه التعريف النسب للرواية المعاصرة‪ ,‬التي منذ جيلين أكثر تولد في المنافي القسرية أو‬
‫الختيارية‪ .‬موزعة على الخرائط العربية والغربية‪ .‬هناك حيث ينتظر عشرات المبدعين‬
‫العرب موتهم‪ .‬حالمين أن يثأروا يوما ً لغربتهم بالعودة في صناديق مفخخة بالكتب‪ ,‬فيحدثوا‬
‫أخيرا ً ذلك الدوي الذي عاشوا دون أن يسمعوه‪ :‬دويّ ارتطامهم بالوطن‪.‬‬
‫إنه زمن الشتات الجزائري إذن‪ .‬وطن يفرغ ليتبعثر كّتابه ومثقفوه بين المقابر والمنافي‬
‫موا للشتات الفلسطيني وللشتات‬ ‫ليواصلوا الميراث التراجيدي للكتابة العربية‪ ,‬وينض ّ‬
‫العراقي‪ ..‬والشتات غير المعلن لكثر من بلد عربي‪ ,‬تنفى منه شعوب بأكملها‪ ,‬وتنكسر‬
‫فيه أجيال من القلم إكراما ً لرجل أو لحفنة من الرجال‪ ,‬يفكرون بطريقة مختلفة ول‬
‫يغفرون لك ان تكون مختلفًا‪.‬‬
‫ذلك ان الكتابة أصبحت الن أخطر مهنة‪ .‬والتفكير أصبح أكبر تهمة‪ ,‬حتى أنه يشترك مع‬
‫التكفير في كل حروفه ويبدو أمامه مجرد زلة لسان‪.‬‬
‫فلماذا نصّر إذن على التفكير؟ ولماذا نصّر على الكتابة؟ وهل يستحق أولئك الذين نكتب‬
‫من أجلهم كل هذه المجازفة؟‬
‫إن وطنا ً أذّلنا أحياء ل يعنينا أن يكّرمنا امواتًا‪ .‬ووطنا ً ل تقوم فيه الدولة سوى بجهد تأمين‬
‫علم وطني تلف به جثماننا‪ ,‬هو وطن ل تصبح فيه مواطنا ً إل عندما تموت‪.‬‬
‫يبقى أن الذين يتحمّلون جريمة الحبر الجزائري ليسوا القتلة‪ .‬والذين يحملون على يدهم‬
‫آثار دم لما يقارب المائة ألف شخص كانوا يعيشون آمنين‪ ..‬ليسوا التقلة‪ .‬وإنما أولئك‬
‫ل فجائعنا من مواصلة الحياة بالطمأنينة والرخاء نفسه‪ ,‬والذين‬ ‫الذين لم تمنعهم ك ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫استرخصوا دمنا‪ ..‬حتى أصبح الذبح والقتل أمرا عاديا ل يستوقف في بشاعته حتى‬
‫المثقفين العرب أنفسهم‪.‬‬
‫والذين تفّرجوا خلل السنوات الخيرة بل مبالة مدهشة على جثتنا‪ .‬والذين جعلوننا نصدق‬
‫ذلك الكاتب الذي قال‪:‬‬
‫"ل تخش أعداءك‪ ,‬ففي أسوأ الحالت يمكنهم قتلك‬
‫لتخش أصدقاءك ففي أسوأ الحالت يمكنهم خيانتك‬
‫إخش اللمبالين فصمتهم يجيز الجريمة والخيانة"‪.‬‬

‫منازل؟‬
‫أنا في المطبخ‪ ..‬هل من ُ‬
‫مــذ التحقت بوظيفتي كـ"ست بيت" وأنا ُأحاول أن أجد في قصاص الشغال المنزلية متعة‬
‫فف من عصبيتي الجزائرية في التعامل مع الشياء‪ .‬قبل أن أعثر على طريقة ذكّية‬ ‫ما‪ ،‬تخ ّ‬
‫لخوض المعارك القومّية والدبّية أثناء قيامي بمهامي اليومّية‪.‬‬
‫ش الرهابيين‬‫جاد وضربه‪ ،‬وأر ّ‬ ‫وهكـــذا‪ ،‬كنت أتحارب مع السرائيليين أثناء نفض الس ّ‬
‫شي زجاج النوافذ بسائل التنظيف‪ ،‬و"أمسح الرض" بناقد أو صحافي‬ ‫بالمبيدات أثناء ر ّ‬
‫أثناء مسحي البلط وتنظيفه‪ ،‬وأتشاجر مع قراصنة كتبي ومع المحامين والناشرين أثناء‬
‫ي قمصان زوجي‪،‬‬ ‫ذالي" وأكيد لهم أثناء ك ّ‬ ‫غسل الطناجر وح ّ‬
‫كها بالليفة الحديدّية‪ ،‬وأكوي "ع ّ‬
‫شني من عنقه‪.‬‬ ‫ً‬
‫ت أرفع بائعا غ ّ‬‫وأرفع الكراسي وأرمي بها مقلوبة على الطاولت كما لو كن ُ‬
‫كر في مصيرهم وأدير شؤونهم أثناء قيامي بتلك العمال‬ ‫ما أبطال رواياتي‪ ،‬فيحدث أن ُأف ّ‬ ‫أ ّ‬
‫ل‬‫اليدوية البسيطة التي تسرق وقتي‪ ،‬من دون أن تستدعي جهدي‪ ،‬وفي إمكاني أن أحل ك ّ‬
‫المعضلت الفلسفية وأنا أقوم بها‪ ،‬من نوع تنظيف اللوبياء‪ ،‬وحفر الكوسة‪ ،‬وتنقية العدس‬
‫من الحصى‪ ،‬أو غسل الملوخّية وتجفيفها‪ .‬حتى إنني‪ ،‬بعد عشرين سنة من الكتابة‬
‫المسروقة من شؤون البيت‪ ،‬أصبحت لديّ قناعة بأنه ل يمكن لمرأة عربّية أن تزعم أنها‬
‫دعي‬ ‫كاتبة ما لم تكن قد أهدرت نصف عمرها في الشغال المنزلية وتربية الولد‪ ،‬ول أن ت ّ‬
‫ل ما وقعت عليه يدها من لوازم‬ ‫مة العربية بك ّ‬ ‫ُ‬
‫أنها مناضلة‪ ،‬إن لم تكن حاربت أعداء ال ّ‬
‫ُ‬
‫المطبخ‪ ،‬كما في نداء كليمنصو‪ ،‬وزير دفاع فرنسا أثناء الحرب العالمية الولى‪ ،‬عندما‬
‫صاح‪" :‬سُندافع عن فرنسا‪ ،‬وُندافع عن شرفها‪ ،‬بأدوات المطبخ والسكاكين‪ ..‬بالشوك‬
‫بالطناجر‪ ،‬إذا لزم المر"!‬
‫دفن واقفا حسب وصّيته‪ ،‬ول أدري إذا كان‬ ‫ً‬ ‫كليمنصو‪ ،‬هو الرجل الوحيد في العالم الذي ُ‬
‫ت واقفة في ساحة الوغى المنزلية‪،‬‬ ‫وم‬ ‫عشت‬ ‫لثبت أنني‬ ‫يجب أن أجاريه في هذه الوصّية ُ‬
‫ّ‬
‫مجَلى وخلف الفرن‪ ،‬بسبب "الزائدة القومّية" التي لم أستطع استئصالها يومًا‪ ،‬ول‬ ‫خلف ال ْ َ‬
‫لمومة التي عانيتها‪.‬‬ ‫زائدة ا ُ‬
‫ل مشواة‪ ،‬وك ّ‬
‫ل‬ ‫ل مقلة‪ ،‬وك ّ‬ ‫ل طنجرة ضغط‪ ،‬وك ّ‬ ‫لمة بك ّ‬ ‫يشهد الّله أنني دافعت عن هذه ا ُ‬
‫دم ذلك شيئا ً في قضّية الشرق‬ ‫تشكيلة سكاكين اشتريتها في حياتي‪ ،‬من دون أن ُيق ّ‬
‫الوسط‪.‬‬
‫ل أناقتهن‬ ‫وكنت قبل اليوم أستحي أن أعترف لسيدات المجتمع‪ ،‬اللئي يستقبلنني في ك ّ‬
‫ن‪ ،‬بأنني أعمل بين كتابين شغالة وخادمة‪ ،‬كي أستعيد الشعور بالعبودّية الذي‬ ‫ووجاهته ّ‬
‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫قرأت‬ ‫حتى‬ ‫الورق‪،‬‬ ‫على‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫إبداع‬ ‫أنفجر‬ ‫كنت‬ ‫بسببه‬ ‫الذي‬ ‫"التعتير"‪،‬‬ ‫أيام‬ ‫فرنسا‬ ‫في‬ ‫عرفته‬
‫ي‪ ،‬هو تنظيف‬ ‫ً‬
‫دم طلبا لعمل إضاف ّ‬ ‫سفير تشيكيا في بريطانيا‪ ،‬وهو محاضر جامعي سابق‪ ،‬ق ّ‬
‫النوافذ الخارجّية في برج "كاناري وورف" المشهور شرق لندن‪ ،‬ل كسبا ً للنقود‪ ،‬وإّنما لنه‬
‫س‬
‫عمل في هذه المهنة في الستينات‪ ،‬وُيريد أن يستعيد "الشعور بالحرّية"‪ ،‬الذي كان يح ّ‬
‫معّلقا ً في الهواء‪ ،‬يحمل دلوا ً وإسفنجة‪.‬‬ ‫ل خارج النوافذ‪ُ ،‬‬ ‫متد ّ‬‫به وهو ُ‬
‫ي فرحتي بتلك المعارك المنزلية‪ ،‬التي‬ ‫ن خبرا قرأته في مجلة سويسرية أفسد عل ّ‬ ‫ً‬ ‫غير أ ّ‬
‫كنت أستمد ّ منها زهوي‪ .‬فقد نجحت سيدة سويسرية في تحويل المكنسة ودلو التنظيف‬
‫ظفة بيوت إلى سيدة أعمال‪ ،‬تعطي‬ ‫من ّ‬ ‫ولت هي نفسها من ُ‬ ‫إلى أدوات فرح‪ ،‬بعد أن تح ّ‬
‫دروسا ً في سويسرا والنمسا وألمانيا حول أساليب التمّتع بعذاب الشغال المنزلية‪،‬‬
‫فس‪.‬‬‫بالستعانة بالموسيقى والغناء ودروس الرقص الشرقي وتنظيم التن ّ‬
‫مـا وقد أصبح الجلي والتكنيس والتشطيف ُيعّلم في دروس خصوصية في جنيف وفيينا‬ ‫أ ّ‬
‫ً‬
‫على وقع موسيقى الرقص الشرقي‪ ،‬فحتما ستجّردني بعض النساء من زهوي باحتراف‬
‫ن بالمريول )"السينييه"‬ ‫هذه المهنة‪ .‬بل أتوّقع أن يحضرن بعد الن إلى الصبحيات وه ّ‬
‫مثير في ذلك "الكليب" بين الطناجر‬ ‫قل بمريولها ال ْ ُ‬ ‫ن هيفاء وهبي وهي تتن ّ‬ ‫طبعًا( خاصة أ ّ‬
‫ن المعارك الشهى والحاسمة ُتدار في المطابخ!‬ ‫والخضار‪ ،‬نّبهت النساء إلى أ ّ‬

‫إنهم يقضمون تفاحة الحياة‬

‫كّلما طالعت في الصحف أخبار "صباح"‪ ،‬التي تنتظر في أميركا التحاق خطيبها العشريني‬
‫الوسيم بها‪ ،‬حال حصوله على تأشيرة‪ ،‬مستعينة على أمنيتها أن تحبل منه‪ ،‬بإشهار دبلة‬
‫ت بالحب كنوع من اللجوء السياسي‪ ،‬هربا ً من ظلم‬ ‫خطوبتها في وجه شهادة ميلدها‪ ،‬آمن ُ‬
‫دقت أن عّلة الحياة‪ :‬قلة الحياء رغم كثرة عددهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫"أرذل العمر"‪ ،‬وص ّ‬

‫ذلك أن الحياء بيننا‪ ،‬ماعادوا الشباب‪ ..‬بل الثرياء‪ ..‬وبعض المسنين الحالمين‪ ،‬الذين ل‬
‫يتورعون عن إشهار وقاحة أحلم‪ ،‬ل نملك جسارة التفكير فيها‪ ،‬برغم أننا نصغرهم سن ًّا‪.‬‬
‫فهل القتراب من الموت ُيكسب النسان شجاعة‪ ،‬افتقدها قبل ذلك‪ ،‬في مواجهة‬
‫المجتمع؟‬

‫أغرب الخبار وأجملها‪ ،‬أحيانا ً تأتينا من المسنين‪ ،‬الذين يدهشوننا كل يوم‪ ،‬وهم يقضمون‬
‫أمامنا تفاحة الحياة بملء أسنانهم الصطناعية‪ ،‬ويذهبون متكئين على عكازتهم نحو أسّرة‬
‫الزوجية وليلة فتوحاتهم الوهمية‪ ،‬مقترفين حماقات جميلة‪ ،‬نتبرأ من التفكير فيها‪ ،‬غير‬
‫معنيين بأن يتركوا جثتهم قربانًا‪ ،‬على سرير الفرحة المستحيلة‪.‬‬

‫وبعض النهايات المفجعة لهؤلء اللصوص الجميلين‪ ،‬الذين يحترفون السطو على الحياة‪،‬‬
‫جون بقلوبهم في الممرات الضيقة للسعادة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫تعطينا فكرة عن مدى روعة أناس يز ّ‬
‫فيحشرون أنفسهم بين الممكن والمستحيل‪ ،‬مفضلين‪ ،‬وقد عجزوا عن العيش عشاقًا‪ ،‬أن‬
‫يموتوا عشقًا‪ ،‬ويصنعوا بأخبارهم طرائف الصحف اليومية‪ ،‬كذلك المسن المصري‪ ،‬الذي‬
‫فشل في تحقيق حلم حياته‪ ،‬بأداء واجباته الزوجية مع عروسه الشابة‪ ،‬التي تزوجها منذ‬
‫بضعة أيام‪ ،‬مستخدما ً في ذلك مكافأة نهاية الخدمة‪ ،‬الذي رغم استعانته ببركات‬
‫"الفياغرا"‪ ،‬لم يتمكن من الدخول بعروسه الحسناء‪ ،‬فسكب البنزين على جسده‪ ،‬وقرر أن‬
‫يموت حرقًا‪ ،‬بعد أن فشل في تحقيق آخر أحلمه‪ ،‬أو كعجوز الحب الفرنسية‪ ،‬التي لم‬
‫يتحمل قلبها‪ ،‬وهي في الثامنة والسبعين من عمرها‪ ،‬الفرحة‪ ،‬فتوقف عن النبض قبل‬
‫ساعات قليلة من عقد قرانها على زميلها في دار المسنين‪ ،‬الذي يبلغ من العمر ‪ 86‬عاما‪ً،‬‬
‫بينما كانت منهمكة مع بقية النزلء في تزيين دار العجزة استعدادا ً للمناسبة! وإذا كانت‬
‫الفرحة قاتلة‪ ،‬بالنسبة إلى النساء‪ ،‬فالغيرة تبدو العاطفة التي تعمر أكثر في قلوب‬
‫الرجال‪ ،‬وقد تحولهم في أي عمر إلى قتلة‪ ،‬كقصة ذلك الزوج التسعيني‪ ،‬الذي كان يتبادل‬
‫مع زوجته العجوز أطراف الذكريات البعيدة‪ ،‬عندما أخبرته في لحظة فلتان لسان نسائي‪،‬‬
‫أنه بينما كان مجندا ً في الحرب العالمية الثانية‪ ،‬خانته مع رجل عابر‪ .‬فلم يكن من الرجل‬
‫ل‪ ،‬انتقاما ً لخيانة تعود لنصف قرن! أو ذلك المعمر الفرنسي‪ ،‬البالغ‬‫إل ّ أن غافلها وخنقها لي ً‬
‫‪ 89‬سنة‪ ،‬الذي يقبع في سجون فرنسا‪ ،‬كأكبر معتقل‪ ،‬إثر حكم عليه بالسجن بتهمة خنق‬
‫وضرب زوجته‪ ،‬البالغة من العمر ‪ 83‬عامًا‪ ،‬حتى الموت‪ ،‬بعد أن عثر تحت وسادتها على‬
‫رسائل غرامية‪ ،‬يتغزل فيها بها معجب‪ ،‬ليس في عمر "عمر محيو" خطيب صباح‪ ،‬وإنما‬
‫رجل يبلغ ثمانين عامًا‪ ،‬يصغرها بثلث سنوات!‬

‫غير أن العشاق من المسنين‪ ،‬ليسوا جميعهم مشروعات مجرمي حب‪ ،‬بل ثمة العشاق‬
‫البديون الحالمون‪ ..‬كذلك الجندي الميركي‪ ،‬الذي شارك في الحرب العالمية الثانية‪،‬‬
‫ومازال منذ ذلك الحين دائم البحث عن المرأة‪ ،‬التي وقع في حبها في ألمانيا‪ ،‬التي‬
‫مازالت حلم عمره‪ ،‬حتى إنه نشر صورته بالزي العسكري‪ ،‬مرفقة برسالة موجهة إلى‬
‫جميع "السيدات اللواتي تجاوزن السبعين من العمر"‪ ،‬يطلب فيها من حبيبته التصال به‪،‬‬
‫والجواب عن بعض السئلة‪ ..‬بل إن الحب مازال يزّود المسنين بطاقة خرافية للحلم‪،‬‬
‫وبشهية مخيفة للحياة‪ ،‬كما في طهران‪ ،‬حيث وافقت المحكمة على زواج رجل‪ ،‬في‬
‫الخامسة والثمانين من عمره‪ ،‬بامرأة في الخامسة والسبعين من عمرها‪ ..‬بعد أن سبق‬
‫لهلها منذ ‪ 50‬سنة أن رفضوا تزويجه بها!‬

‫أما في تونس‪ ،‬فمازال البعض يذكر إحدي أجمل قصص الحب‪ ،‬التي انتهت بعقد قران‬
‫رجل في السابعة والتسعين من العمر على عروسه‪ ،‬البالغة ‪ 86‬عامًا‪ ،‬وتلك الفراح التي‬
‫ل كاملة‪ ،‬نظرا ً لكثرة أفراد عائلتي الزوجين‪ ،‬التي تضم‬
‫دامت آنذاك سبعة أيام‪ ،‬وسبع ليا ٍ‬
‫‪ 42‬حفيدًا‪ ،‬من جهة العريس‪ ،‬الذي يبلغ ابنه البكر الخامسة والسبعين من عمره‪ ..‬و ‪11‬‬
‫ابنا ً و ‪ 33‬حفيدا ً من جهة العروس‪.‬‬
‫"برافو‬

‫أيها الرب ‪...........‬إذا جعلتني أقوى‬


‫إذا كان ما حدث في أميركا في "صباح الطائرات"‪ ،‬قد تطّلب مّنا وقتا ً لتصديق غرائبّيته‬
‫ن الكتابة عنه‪ ،‬بقدر من الموضوعية والنسانية‪ ،‬كانت تتطّلب مّنـا أيضا ً بعض‬ ‫وهَوِْلـه‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن تلك البراج الشاهقة‪ ،‬التي كانت "مركز‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ونعي‬ ‫ُ‬
‫لولى‪،‬‬ ‫ا‬ ‫أحاسيسنا‬ ‫نتجاوز‬ ‫الوقت‪ ،‬كي‬
‫الجشع العالمي"‪ ،‬التي انبهر المليين من بؤساء العالم وجياعه ومظلوميه‪ ،‬وهم يشاهدون‬
‫حاب غرورًا‪ ،‬بل كانت تأوي آلف البشر البرياء‪،‬‬ ‫ن ُتناطح الس َ‬‫انهيارها‪ ،‬لم تكن مجّرد مبا ٍ‬
‫الذين لن يعرفوا يوما ً لماذا ماتــوا‪ ،‬والذين كانوا لحظة انهيارها ُيدفنون تحت أنقاضها‪،‬‬
‫كن أهلهم من التعّرف حتى‬ ‫ويموت العشرات منهم‪ ،‬محترقين بجنون الرهاب‪ ،‬دون أن يتم ّ‬
‫حمة‪ ،‬ليكون لهم عزاء دفنهم أو زيارة قبورهم في ما بعد‪.‬‬ ‫إلى أشلئهم المتف ّ‬

‫م تجسيمها عادة في استديوهات‬ ‫من ديكورات الكارتون‪ ،‬كما يت ّ‬ ‫لــم تكن المباني إذن ِ‬
‫ور نهاية العالم‪ :‬فكيف انهارت بتلك‬ ‫ّ‬ ‫يص‬ ‫أميركي‬ ‫فيلم‬ ‫في‬ ‫بخدع‬ ‫المر‬ ‫هوليوود‪ ،‬عندما يتعّلق‬
‫مفاخر التكنولوجية‪ ،‬والحضارة‬ ‫ْ‬
‫مذهلة‪ ،‬وجعلتنا نكتشف‪ ،‬مذعورين‪ ،‬هشاشة ال َ‬ ‫السرعة ال ْ ُ‬
‫ُ‬
‫مزايدات التقنية‪ ،‬والتشاوف بين المم؟‬ ‫العصرية‪ ،‬القائمة على ال ْ ُ‬

‫ذلك أن الكثيرين‪ ،‬من الذين ماتــوا تلك الميتة الشنيعة‪ ،‬قضوا أعمارهم في أكبر الجامعات‬
‫كنوا يوما ً من تسّلق سّلم الحلم‪ ،‬والوصول إلى أعلى ناطحة سحاب في‬ ‫وأغلها‪ ،‬كي يتم ّ‬
‫العالم‪ ،‬حيث ينبض "جيب" الكرة الرضية وماداموا لم يسمعوا بابن المعتز‪ ،‬وإنما ببيل‬
‫وتوا عليهم نصيحة شاعر عربي قال‪:‬‬ ‫ي المعلوماتية ورسولها إلى البشرية‪ ،‬فقد ف ّ‬‫غيتس‪ ،‬نب ّ‬
‫ك المطامع والماني ‪ ---‬فكم أمنيةٍ جلبت منّية"‬ ‫"دعي عن ِ‬

‫ساعة و ‪ 44‬دقيقة فقط‪ ،‬هو الوقت الذي مّر بين الهجوم على البرج الول وانهيار البرجين‬
‫وإذ عرفنا أن الوقت الذي مـّر بين ارتطام عابرة المحيطات الشهيرة "تايتانيك" بجبل‬
‫جليدي وغرقها‪ ،‬كان حسب أرقام الكوارث ساعتين وأربعين دقيقة‪ ،‬بينما تطّلب إنجازها‬
‫خرافية في تاريخ بناء البواخر‪ ،‬وكذلك‬ ‫دة أعوام من التخطيط والتصميم‪ ،‬وكّلفت أرقاما ً ُ‬ ‫ع ّ‬
‫كاب في العالم‪ ،‬واحتراقها‬ ‫سقوط طائرة "الكونكورد" الفخم والغلى والسرع لنقل الر ّ‬
‫دة ل تتجاوز الخمس عشرة دقيقة‪ ،‬وإيقاف‬ ‫)بركابها الثرياء والمستعجلين حتمًا(‪ ،‬في مــ ّ‬
‫ل ما‬‫مشروع تصنيعها لحين‪ ،‬بخسارة تتجاوز آنذاك مليارات الفرنكات‪ ،‬أدركن هشاشة ك ّ‬
‫يزهو به النسان‪ ،‬ويعتبره من علمات الوجاهة والفخامة والثراء‪ ،‬ودليل ً على التقنيات‬
‫دى بها‬‫دى بها البحر حينًا‪ ،‬لنه يركب أضخم وأغلى باخرة‪ ،‬ويتح ّ‬ ‫البشرية المتقدمة‪ ،‬التي يتح ّ‬
‫ً‬
‫السماء حينا آخر‪ ،‬لنه يجلس فوق أعلى وأغلى ناطحة سحاب‪ ،‬جاهل أن النسان ما صنع‬
‫شيئا ً إل ّ وذهب ضحيته‪ ،‬ولــذا عليه أن يتواضع‪ ،‬حتى وهو مترّبع على إنجازاته وقد كان دعاء‬
‫ضعًا"‪.‬‬
‫ب إذا جعلتني أقوى‪ ،‬فاجعلني أكثر توا ُ‬ ‫أمين الريحاني "أّيها الر ّ‬

‫قل أبناؤها مذهولين‪،‬‬‫أميركا التي خرجت إلينا بوجه لم نعرفه لها‪ ،‬مرعوبة‪ ،‬مفجوعة‪ ،‬يتن ّ‬
‫طى الُغبار ملمحهم وهيأتهم‪ ،‬لكأّنـهـم كائنات قادمة إلينا‬ ‫وقد أطبقت السماء عليهم‪ ،‬وغ ّ‬
‫ب كهذا‪ ،‬وفاجعة‬‫صا ٍ‬
‫م َ‬
‫من المّريخ‪ ،‬لفرط حرصهم على الوصول إليه قبلنا‪ ،‬أكانت تحتاج إلى ُ‬
‫ن جيرانها‪ ،‬في الكرة الرضية‪ ،‬الذين‬ ‫على هذا القدر من النفضاح‪ ،‬لتتساوى قليل ً بنا‪ ،‬نح ُ‬
‫نتقاسم كوارث هذا الكواكب ك ّ‬
‫ل يوم؟‬

‫ذلك أنه منذ زمن‪ ،‬والميركيون جالسون على علوّ مئة وعشرة طوابق من مآسينا فكيف‬
‫لصوتنا أن يطالهم؟ وكيف لهم أن يختبروا دمعنا؟‬

‫لــم يكن إذن ما رأيناه في الحادي عشر من أيلول‪ ،‬مشهدا ً من فيلم ع ّ‬


‫ودتنا عليه هوليوود‬
‫كان فيلما ً حقيقيا ً عن "عولمة الرعب"‪ ،‬بدمار حقيقي وضحايا حقيقيين‪ ،‬بعضهم كان يعتقد‬
‫آنذاك أنه يتفّرج على "الفيلم"‪ ،‬عندما وجد البرجين ينهاران فوق رأسه وكما في السينما‪،‬‬
‫كان السيناريو جاهزا ً بأعداء جاهزين المفاجأة أننا ما كّنـا نتوقع أن يت ّ‬
‫م اختيارهم بقرعة‬
‫مشاهديـــن‪.‬‬‫الجغرافيا من بين ال ْ ُ‬
‫ن "النسر النبيل"‪ ،‬هو الذي يختار‬‫من السراع إلى إطفاء جهاز التلفزيون ذلك أ ّ‬ ‫ل جـــدوى ِ‬
‫قن درسا ً ومتى‪ ،‬فهو الذي يقّرر‬‫من المشاهدين سُيل ّ‬ ‫ِ‬ ‫من‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫الطويل‪،‬‬ ‫الميركي‬ ‫الفيلم‬ ‫في هذا‬
‫ن مّنـا سيسند دور الشّرير‪.‬‬ ‫م ْ‬‫إلى َ‬

‫ابتسم أنت في امريكا‬

‫يدهشك حقا ويعنيك أهمية الجامعات في تأسيس أمريكا ‪ ،‬انها تنب كالجزر والواحات في‬
‫الوليات وتصنع فخر المريكي الذي تخرج منها والذي يدين لها بولء يبخل به حتى على‬
‫عائلته ‪ ،‬أحدهم جاء من المكسيك كان مزارعا تابع دروسه الليلية في جامعة ميريلند وعاد‬
‫منذ مدة وقد اصبح مهندسا كبيرا ليدفع ‪ 5‬مليين دولر مساعدة منه للجامعة ولمن يتعلم‬
‫بعده فيها‬

‫ولنك لتمنع نفسك من المقارنه فستتذكر ذلك السفير الجزائري الذي كان يحتفظ بمنح‬
‫الطلبة في الخارج لعدة اشهر في حسابه الخاص للستفادة من فوائدها ول يحولها لهم ال‬
‫عندما يشارفون على التسول‬

‫وعندما تتجول بعد ذلك في المباني الجامعية والمتشابهة بجامعة ميريلند ستكتشف ان‬
‫معظمها بنيت بهبات خريجي الجامعة الثرياء ‪ ،‬وفي نزل ماريوت الذي تقيم فيه سيقع‬
‫نظرك حيث ذهبت على لوحات جميلة وثمينة تزين الممرات والقاعات وستلحظ اسفلها‬
‫صفيحة من البرونز وبخط صغير اسم واهبها الذي هو أحد خريجي الجامعة فتتذكر قصة‬
‫معروفة لمدير سابق لحدى الكليات اللبنانية الذي نهب نصف ميزانية الكلية أثناء الحرب‬
‫بابتكاره فواتير مزورة لتجهيزات وهمية لم تحصل عليها الكلية ‪ ،‬ثم غادر الى وظيفة اكثر‬
‫ربحا وقد ترك الكلية عارية من كل شئ‬

‫وبعد قليل يأتي نادل لخدمتك في المطعم ويخبرك أحدهم انك قد تعود في المرة المقبلة‬
‫وتجده موظفا في الطوابق العليا لن الجميع هنا يدرس ليتقدم ول احد يشغل الوظيفة‬
‫نفسها طوال حياته والفرص متاحة بالتساوي للجميع‬

‫يحكى الستاذ سهيل بشوئي احد عمدة أساتذة الجامعة المريكية في بيروت في الستينات‬
‫والسبعينات انه استطاع برسالة الى رئيس لجنة الهجرة في أمريكا ان يوقف إجراء بطرد‬
‫طبيبة عربية لم يستطع المحامي ان يفعل لها شي قبل ان يسألها يائسا أتعرفين أستاذا‬
‫في الجامعة يمكن ان يقدم شهادة لصالحك اما في بلدنا فكان سيسألها اتعرفين ظابطا‬
‫كبيرا ام وزيرا او أي زعيم يتوسط لك عند القضاء ولكن في امريكا كل هؤلء ل يضاهون‬
‫وجاهة الستاذ ول هيبته‬

‫البيت البيض ليثير في نفسك شيئا مما توقعت من انبهار وانت ترى حديقته المفتوحة‬
‫على الطريق وداخلها عدد من السياح الفضوليين ولكن هذا المشهد بالذات هو الذي‬
‫سيوقظ المك ويذكرك بتلك القصور المسيجة لحكام ليمكن القتراب من بيوتهم بالعين‬
‫المج‬
‫ابني‪ ..‬اليطالي‬
‫ي وأقنعني بأنني أمددته بورقة‬ ‫انتهى حديثي عن رومــــا‪ ،‬عند ذلك السائق الذي تشاطر عل ّ‬
‫نقدية من فئة العشرة يورو·· ل الخمسين‪ ،‬وتقاضى مني بالتالي مئة يورو‪ ،‬عن مشوار‬
‫المطار الذي يساوي نصف ما دفعت·‬
‫ل ما فقدت‪ ،‬مقارنة بنسيبي‪ ،‬الذي على فائق ذكائه‬ ‫ولم يحزّني المر كثيرًا‪ ،‬مادام هذا ك ّ‬
‫وشطارته‪ ،‬وتردده على إيطاليا أكثر من مّرة‪ ،‬نجح الطليان في ميلنــو في سرقة حقيبة‬
‫يده‪ ،‬بكل محتوياتها من مبالغ نقدية وجوازات سفر وبطاقات مصرفية‪ ،‬بعد أن قاموا‬
‫من يساعده· وهكذا‬ ‫بتنفيس دولب سيارته‪ ،‬وسطوا على محتوياتها أثناء توّقفه للبحث ع ّ‬
‫ولت لديه مقولة “روما فيدولتا فيدا بردوتا” أي “شاهد روما وافقد إيمانك” إلى “شاهد‬ ‫تح ّ‬
‫روما وافقد جزدانك” )أي حقيبة يدك(·‬
‫ابني غسان‪ ،‬الذي جاء من لندن‪ ،‬حيث يتابع دراسته في إدارة العمال‪ ،‬التحق بي كي‬
‫يراني ويكتشف روما‪ ،‬أخيــــرًا‪ ،‬بعدما قضى الصيف الماضي في إيهام بنات “كان” بأنه‬
‫ن البنات يقصدنه‬ ‫إيطالي‪ ،‬حتى إنه اختار اسما ً “حركيًا” لغزواته العاطفية‪ ،‬بعد أن وجد أ ّ‬
‫حكم صيته العشقي‪ ،‬وأناقته‬ ‫لذلك السبب· فالرجل اليطالي له سطوة لدى الفرنسيات ب ُ‬
‫دى سهرة في مرقص· وعبثا ً‬ ‫المتميزة· ول داعي لتخييب ظن البنات مادام المر ل يتع ّ‬
‫ن‬
‫ّ‬ ‫ه‬ ‫البنات‬ ‫بأن‬ ‫ّ‬ ‫د‬ ‫ير‬ ‫فكان‬ ‫قصير”‪،‬‬ ‫حاولت مناقشة الموضوع معه‪ ،‬وإقناعه بأن “حبل الكذب‬
‫ضلن سماع الكاذيب· وانتهى بي المر إلى القتناع بقول عمر بن الخطاب )رضي‬ ‫من يف ّ‬ ‫َ‬
‫خِلقوا لزمان غير زمانكم”‪ ،‬خاصة أنني‬ ‫ُ‬ ‫فقد‬ ‫بأخلقكم‪،‬‬ ‫أولدكم‬ ‫لقوا‬‫ّ‬ ‫تخ‬ ‫“ل‬ ‫عنه(‬ ‫تعالى‬ ‫ّ‬
‫له‬ ‫ال‬
‫دد صديقاته‪ ،‬عندما كان‬ ‫عجزت أيضا ً عن إقناعه بالوفاء لصديقة واحدة‪ ،‬ودفعت ثمن تع ّ‬
‫ي في روما أن أشتري هدايا لهن جميعًا‪ ،‬وأتشاور معه طويل ً في مقاساتهن وأذواقهن‪،‬‬ ‫عل ّ‬
‫م‪ ،‬لشتري له‬ ‫ُ‬
‫وأجوب المحال النسائية بزهد كاتبة‪ ،‬بعد أن جبت المحال الرجالية بصبر أ ّ‬
‫جهازا ً يليق بوظيفة في النهار في بنك إنجليزي‪ ،‬ووظيفة ليل ً كعاشق إيطالي·‬
‫وقد حدث في الصيف أن أشفقت كثيرا ً على إحدى صديقاته‪ ،‬الوحيدة التي عّرفني إليها‪،‬‬
‫دم إليها باسمه الحقيقي‪ ،‬نظرا ً إلى كون علقتهما دامت شهرين· وكانت المسكينة‬ ‫والتي تق ّ‬
‫تدخل في شجارات مع والدها‪ ،‬المنتمي إلى الحزب اليميني المتطّرف الذي يشهر كراهيته‬
‫ت حتى شراء نسخة من “ذاكرة‬ ‫ما تعتقده حب ًّا· وذهب ْ‬ ‫للعرب‪ ،‬وتستميت في الدفاع ع ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫الجسد” بالفرنسية لطلع أهلها على أهمية “حماتها”‪ ،‬وكانت تمل البيت ورودا كلما‬
‫سافرت وتركت لهما الشقة‪ ،‬وُتهاتفني سرا ً لتسألني إن كان ابني يحّبها حقًا· ووجدتني‬
‫دمها لها ابني‪،‬‬ ‫مرغمة على الكذب عليها· وتأكيدا ً لكاذيبي‪ ،‬صرت أشتري لها هدايا كي يق ّ‬
‫بما في ذلك هدية وداٍع‪ ،‬عندما غادر غسان “كان” إلى لندن· فالمسكينة لم تكن قد‬
‫ن الرجال‬ ‫ل رجل ينام مظّلي”· ولم تكن تدري أ ّ‬ ‫سمعت بمقولة مرغريت دوراس‪“ :‬في ك ّ‬
‫ب آخر· ربما من وقتها أضفت إلى واجبات ُأمومتي‪ ،‬واجب‬ ‫دائما ً على أهبة رحيل نحو ح ّ‬
‫مة إسعاد بطلة حقيقية‪ ،‬تشبهني‬ ‫شراء هدايا لصديقات ابني‪ ،‬وإلى مشاغلي الروائية·· مه ّ‬
‫كي وسخائي·· و غبائي العاطفي·‬ ‫في شغفي وذعري وش ّ‬
‫ك جميلة‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بعد عودته إلى لندن‪ ،‬هاتفني غسان مبتهجا· قال‪“ :‬شكرا ماما·· كانت القامة مع ِ‬
‫في روما·· الثياب التي اشتريتها لي أعجبت الجميع·· وصديقاتي هنا جميعهن سعيدات‬
‫ك في أّية مدينة تسافرين إليها”·‬ ‫بالهدايا”· ثم أضاف مازحًا‪“ :‬جاهز أنا لرا ِ‬
‫غسان عمره ‪ 23‬سنة·‬
‫التهم من كتب الدب والفلسفة أكثر مما قرأت أنا·‬

‫اشــتري دمعـــا ً ‪ ..‬فـمـــن يـبـيـع؟‬


‫ك قط‪ ،‬فدموعي استحالت أفكارًا"‪.‬‬ ‫أحسد سيوران القائل‪" :‬لم أب ِ‬
‫فهل تعود قّلة إنتاجي الدبي إلى كون أفكاري استحالت دموعًا‪ ،‬وأني بدل أن ألقي القبض‬
‫ولها إلى عمل إبداعي‪ ،‬رحت أطفئ وهج الحرائق‬ ‫ُ‬
‫على لحظات الحزن الجحيمية‪ ،‬فأح ّ‬
‫بالبكاء الغبي؟ عزائي أمام خسائري الدبية‪ ،‬ما قرأته في دراسة طبية تؤكد أن المرأة‬
‫تعيش أكثر من الرجل‪ ..‬لنها تبكي بسهولة أكبر‪ ،‬ذلك أن القدرة الرهيبة على البكاء‪ ،‬التي‬
‫تمتلكها المرأة‪ ،‬تمنحها إمكانية تفجير ما تحقنه في نفسها من غضب وحزن وأسى‪ ،‬بينما‬
‫لفتقادهم هذه القدرة‪ ،‬يموت الرجال تحت وطأة أحزانهم‪ ،‬بالنوبات القلبية والسكتات‬
‫الدماغية‪.‬‬
‫ً‬
‫مر طويل وأترك أعمال قليلة‪ ..‬بعد أن أكون قضيت نصف العمر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫الخيار إذن هو بين أن أع ّ‬
‫الذي كسبته بالبكاء‪ ..‬في البكاء‪ ،‬أو "أقصف عمري" بقمع حاجتي إلى ذرف الدموع مقابل‬
‫أن أترك بعد رحيلي أعمال ً إبداعية كبرى ُتبكي الخرين‪.‬‬
‫وفي مسألة البكاء‪ ،‬اختلف الفقهاء من مبدعين وشعراء‪ ،‬بين الذين يفاخرون بدمعهم‪،‬‬
‫ويذرفونها أنهارا ً عند أول سبب‪ ،‬وأحيانا ً من دون سبب منطقي‪ ،‬عدا حالة الكآبة الوجودية‬
‫التي ل تفارق المبدعين‪ ،‬خاصة الرومنطقيين منهم‪ ،‬أمثال بول فرلين ولمارتين ورامبو‬
‫وروسو‪ ،‬وبين حزب آخر قد يكون ناطقه الرسمي أبو فراس الحمداني‪ ،‬الذي كأي عربي‬
‫قح‪ ،‬أعلن أنه سيصون كرامة دمعه‪ ،‬حتى وإن كان في جفاف مآقيه هلكه‪.‬‬
‫أشعر بالندم لنني ما كنت من أتباعه‪ ،‬ول كنت يوما ً عصّية الدمع‪ ،‬ول شيمتي الصبر‪ .‬تشفع‬
‫لي أعذار ثلثة‪ :‬فأنا أول ً امرأة‪ ..‬وثانيًا‪ :‬مبدعة‪ ..‬وثالثًا‪ :‬من برج الحمل‪ .‬وهي أسباب كافية‬
‫ي‪..‬‬
‫عند اجتماعها لصنع كيمياء الدموع‪ .‬وعلى الذي يشك في مصيبتي‪ ،‬أن "يسأل دموع عين ّ‬
‫ويسأل مخدتي" وكل المواويل وأغاني العويل التي تربيت عليها في مراهقتي العاطفية‬
‫م الدموع التي ذرفتها آنذاك أمام الفلم المصرية‬ ‫ُ‬
‫والسياسية الولى‪ .‬إذ بسبب ك ّ‬
‫والنشرات الخبارية العربية‪ ،‬منذ السبعينات وحتى "حرب الحواسم" المباركة‪ ،‬وجدتني‬
‫حر بساتين أوهامي‪.‬‬ ‫اليوم مهددة بجفاف أدمعي وتص ّ‬
‫ظارات‬ ‫والمر ليس نكتة‪ .‬فطبيب العيون الذي زرته لول مرة منذ بضعة أشهر‪ ،‬لينجدني بن ّ‬
‫طبية للقراءة‪ ،،‬فاجأني بأن وصف لي "دمعا ً صناعيا ً لعلج مرض نشاف الدمع"‪.‬‬
‫منذ أيام عثرت على تلك الوصفة الطبية‪ ،‬التي مازلت أحتفظ بها في مفكرة العام‬
‫الماضي‪ ،‬بنّية غير معلنة لنسيانها‪ .‬وكدت منذ أيام آخذها لشتري أخيرا ً تلك القطرات التي‬
‫ي أن أضع عشرا ً منها يوميا ً في كل عين‪ ،‬لول أنني رفضت أن ينتهي بي المر إلى شراء‬ ‫عل ّ‬
‫وق‪ ،‬حتى ل أريد في عجز القتصاد اللبناني بـ"شوبينغ‬ ‫دموع صناعية في عز شهر التس ّ‬
‫للدموع" التي هي على أيامنا السلعة الكثر ندرة‪ ،‬نظرا ً إلى كوننا استهلكنا في المصائب‬
‫القومّية كل البار الجوفية لدموعنا العربية‪ ،‬ولم يبق أمامنا بعد الن إل ّ أن نذرف نفطًا‪ ،‬إن‬
‫سمحت لنا بذلك شركات البترول العالمية‪ ،‬التي تتولى كل شؤوننا‪ ،‬بما في ذلك تقنين‬
‫دموعنا‪ ،‬ووضع لئحة بالسباب المسموح بها للعربي بالبكاء‪.‬‬
‫لهذه السباب‪ ،‬فرحت عندما رأيت منذ أشهر الرئيس الجزائري يجهش باكيا ً مرتين في‬
‫مة "إيفيان" عن‬ ‫حضرة الكاميرات‪ ،‬أمام قادة أغنى دول العالم‪ ،‬وهو يتحدث إليهم في ق ّ‬
‫م عن كل المآسي الدموية‪ ،‬التي شهدتها الجزائر في العوام‬ ‫كارثة الزلزال التي أصابتنا‪ ،‬ث ّ‬
‫الماضية‪ .‬استبشرت خيرا ً بارتفاع منسوب دمعنا الوطني‪ .‬فيوم غادرت الجزائر في‬
‫السبعينات‪ ،‬كان مخزون بترولنا يرفع سقف ثمن برميل الدمع إلى حد ّ يصعب معه رؤية‬
‫ي أن ُأساند رئيسنا بالبكاء‪ .‬ولكن‪،‬‬ ‫جزائري يبكي علنًا‪ .‬يومها‪ ،‬تمنيت لول جفاف مآق ّ‬
‫كجزائرية تشتري "الدمع الصناعي" بالعملة الصعبة‪ ،‬وجدت في المر إهانة لمن أبكيهم‪..‬‬
‫هل بينكم من مازال في مآقيه دموع‪ ..‬فيدركني بها؟‬
‫الرض بتتكلم فرنسي‬

‫بعد شهرٍ قضيُته في باريس لضرورة إعلمية‪ ،‬بمناسبة صدور روايتي "ذاكرة الجسد" باللغة‬
‫الفرنسية‪ ،‬وجدتني أعود إلى بيروت على متن طائرة الفرنكوفونية‪ ،‬وفي توقيت انعقاد‬
‫مة‬‫ن على ضيوف الق ّ‬ ‫ط بنا في مطار بيروت‪ ،‬أ ّ‬ ‫قمتها فقد أعلنت المضيفة‪ ،‬والطائرة تح ّ‬
‫كاب لم يغظني أن ُتهين المضيفة‬ ‫ضلوا بمغادرة الطائرة قبل بقّية الر ّ‬ ‫الفرنكوفونّية أن يتف ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عروبتي‪ ،‬وأن تنحاز إلى اللغة الفرنسية‪ ،‬فكرم الضيافة يقتضي ذلك‪ ،‬ول أحزنني تذكـر‬
‫ن اللغة الفرنسية سجني ومنفاي"‪ ،‬وقد أصبح شعار معظم‬ ‫داد "إ ّ‬ ‫التصريح الشهير لمالك ح ّ‬
‫ن اللغة الفرنسية ملذي"‪ ،‬ول فوجئت بأن يكون رئيسي‬ ‫كّتابنا الجزائريين اليوم "إ ّ‬
‫مة الفرنكوفونية‪ ،‬برغم أن الجزائر غير عضو في هذه‬ ‫ّ‬ ‫الق‬ ‫في‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫مشارك‬ ‫عبدالعزيز بوتفليقة‪،‬‬
‫ً‬
‫المنظمة‪ ..‬فلقد تعامل الجزائريون دوما مع الفرنسية كـ"غنيمة حرب"‪ ،‬حتى إن بوتفليقة‬
‫ألقى‪ ،‬بشهادة الصحافة‪ ،‬الخطاب الكثر فصاحة بلغة موليير‪ ،‬التي ما كان أحد من‬
‫الرسميين يتجرأ على الحديث بها أيام بومديــن‪ ،‬بل لفصاحته في هذه اللغة حدث أن‬
‫طما ً "تابــــو" العدائية اللغوية‪ ،‬وذهب إلى حــد ّ‬
‫مح ّ‬‫خطب بها في الشعب الجزائري ُ‬
‫ُ‬
‫جــه بها منذ سنة إلى العالم في مجلس المم المتحدة‪ ،‬برغم اعتماد اللغة العربية لغة‬ ‫التو ّ‬
‫رسميـة‪.‬‬

‫مزدان بلفتات الترحاب المكتوبة باللغة الفرنسية‪ ،‬وال ْ ُ‬


‫مرفقة‬ ‫ول استفّزني مطار بيروت ال ْ ُ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ن الرض "اللي كانت بتتكلم عربي"‪ ،‬تتكلم‬ ‫بأعلم عشرات الدول الفرنكوفونية‪ ..‬فل بأس أ ّ‬
‫فرنسي‪ ،‬نكاية في اللغة النجليزية‪ ،‬بعد أن أصبحت حروب الكبار ُتــــدار على ساحة‬
‫اللغات‪.‬‬

‫سمر من أتباع الفرنكوفونّية‪ ،‬غاسلــة بذلك‬ ‫فبينما تقوم فرنسا بتبييض وجهها بالسود وال ّ‬
‫ماضيها الستعماري في هذه الدول بالذات‪ ،‬رافعــة شعار حـــوار الحضارات وأنسنة‬
‫مة التحاور مع البشرية‪ ،‬وتبدو في دور‬ ‫العالم‪ ،‬تترك الوليات المتحدة لترسانتها الحربية مه ّ‬
‫المبراطورية الستعمارية القديمة فل عجب أن ترتفع أسهم كل حاكم أو زعيم عبر العالم‪،‬‬
‫ُيشهر كراهيته لميركا‪ ،‬حتى إن الرئيس جـــاك شيراك‪ ،‬الذي ما كانت هذه القمة لتلقى‬
‫ترحابـــا ً في الوساط العربية‪ ،‬لول تقدير العرب سياسته الديغولّيـة ومواقفه الشجاعة‬
‫ص القضايا العربية‪ ،‬بلــغ أعلى نسبة في استفتاء لشعبيته في فرنسا‪،‬‬ ‫والثابتة‪ ،‬في ما يخ ّ‬
‫منذ أن أشهر استقللية قراراته عن الوليات المتحدة‪ ،‬ومعارضته أيّ حرب أميركية وقبله‪،‬‬
‫طمه صدام حسين‬ ‫خرافي"‪ ،‬الذي ح ّ‬ ‫طم المستشار اللماني شريدر "الرقم ال ُ‬ ‫ودون أن ُيح ّ‬
‫في انتخاباته الرئاسية الخيرة‪ ،‬استطاع أن يضمن إعادة انتخابه من طرف الشعب‬
‫ضل على "نعم" الستكانة "ل" الكرامة‪ ،‬في رفض النسياق لغطرسة‬ ‫اللماني‪ ،‬مــذ ف ّ‬
‫السياسة الميركية‪.‬‬

‫ولقد انعكست هذه الجواء في فرنسا على البرامج التلفزيونية والصدارات الجديدة‪ ،‬التي‬
‫يعود رواجها إلى طرحها سؤال ً في شكل عنوان "لماذا يكره العالم أميركا؟"‪.‬‬

‫غير أن انحيازنا العاطفي إلى هذه اللغة أو تلك‪ ،‬عليه أل ّ ُينسينا نوايا الهيمنة التي ُتخفيها‬
‫المعارك اللغوية‪ ،‬التي تتناحـــر فيها ديناصورات العالم‪ ،‬مبتلعة خمسا ً وعشرين لغة سنويًا‪،‬‬
‫وهو عدد اللغات التي تختفي كل عام من العالم‪ ،‬من جراء "التطهير اللغوي"‪ ،‬الذي‬
‫تتعّرض له اللغات العاجزة عن الدفاع عن نفسها‪.‬‬
‫ً‬
‫دم اللغة العربية ُقربانــا للعولمــة؟‬ ‫مقابل السلم‪ ،‬سنق ّ‬
‫فهــل بعد القدس ُ‬
‫النتفاضة ‪ ..‬ليست مهنة‬
‫أذكر أن شارون‪ ،‬عند استقباله أول مرة كوندوليزة رايس‪ ،‬مستشارة بوش‪ ،‬صرح محاول‬
‫تجميل صورته وإثبات جانب "الجنتلمان" فيه ‪" :‬لبد لي أن أعترف‪ ،‬لقد كان من الصعب‬
‫علي أن أركز في التفكير أثناء كلمي معها‪ ،‬فقد كانت لديها ساقان في غاية الجمال" ما‬
‫جعل صحافيا أمريكا يعلق "إذا كان جورج بوش يريد النجاح في عملية السلم‪ ،‬فعليه أن‬
‫يرسل إلى إسرائيل كوندوليزة‪ ،‬مع قائمة طولية من الطلبات ‪ ..‬وتنورة قصيرة"‪.‬‬
‫ربما كان البعض يعتقد مازحا آنذاك‪ ،‬أن ساقي كوندوليزة )التي ليست من "الموناليزا" في‬
‫شيء( ستنجحان‪ ،‬حيث أخفقت في الماضي‪ ،‬الساقان الممتلئتان للسيدة أولبرايت‪.‬‬
‫أما اليوم فكل ما نخشاه‪ ،‬أن يتمكن "تايور" الحداد السود للسيدة كوندوليزة من إقناع‬
‫عرفات بالتضحية‬
‫بالقائمة الطويلة لشهداء النتفاضة‪ ،‬والجلوس للتفاوض‪ ،‬بعد كل هذه المآسي‪ ،‬على طاولة‬
‫التنازلت والتنـزيلت الجديدة‪ .‬وبرغم وعينا التام أن فرصة كهذه ل ينبغي لعرفات أن‬
‫يفوتها‪ ،‬حتى يضع حدا لمبررات شارون للتهام أبناء فلسطين‪ ،‬في كل وجبة غذاء‪ ،‬بذريعة‬
‫أنه بذلك يخلص العالم من بذور الرهاب‪ ،‬فإن شيئا شبيها بغصة البكاء يكمن في حلوقنا‪،‬‬
‫لتصادف كل هذا بالذكرى الولى لنطلقة النتفاضة "الثانية" في فلسطين‪.‬‬
‫وبرغم هذا‪ ،‬ليس من حقنا أبدا‪ ،‬أن نطالب شعبا يرزح وحدة تحت الحتلل‪ ،‬ويرد بالصدور‬
‫العارية‪ ،‬لبنائه وبدموع ثكاله وأيتامه‪ ،‬حرب إبادة وتطهير‪ ،‬أن يواصل الموت والقبول بكل‬
‫أنواع الذلل والتعذيب‪ ،‬ليمنحنا زهو الشعور بعروبتنا وقدرتنا على الصمود في وجه‬
‫العداء‪ ،‬خاصة أن النتفاضة لم تنفجر‪ ،‬حسب أحد المحللين‪ ،‬ال بعدما أصيب الفلسطينيون‬
‫بالضجر من شدة تهذيب القرارات العربية‪ ،‬وبعدما تأكد لهم أن الدبلوماسية ليست أكثر‬
‫من لجوء عربي للتمييز بين العار والشجاعة‪.‬‬
‫وعتاب فلسطيني الداخل لنا‪ .‬وجهرهم بمرارة خيبتهم بنا‪ ،‬نسمعهما بعبارات واضحة كلما‬
‫قصدتهم الكاميرا‪ ،‬أمام دمار بيوتهم‪ ،‬فتصيح النساء الثكالى باكيات "أين العرب ؟ أين هم‬
‫ليرونا؟"‪.‬‬
‫وحدهم هؤلء الثكالى واليتامى والمشردون والتائهون بين القرى‪ ،‬المهانون أمام الحواجز‬
‫السرائيلية كل يوم‪ ،‬من حقهم‪ ،‬أن يقرروا وقف النتفاضة أو الستمرار فيها‪.‬‬
‫أما نحن‪" ،‬حزب المتفرجين العرب"‪ ،‬الذين نتابع مآسيهم كل مساء‪ ،‬في نشرات النباء‬
‫فعلينا أل نبدأ منذ الن في سباق المزايدات والستعدادات لعقد المهرجانات بمناسبة إتمام‬
‫العام الول للنتفاضة‪ .‬فليس هذا ما ينتظره منا من يشاهدوننا في فلسطين‪ ،‬بعيون‬
‫القلب‪ ،‬بينما نشاهدهم بعيون الكاميرا‪.‬‬
‫وقرأت أن الروائي الراحل إميل حبيبي‪ ،‬لحظ الميل العربي إلى الحتفال السنوي‬
‫بالنتفاضة الولى‪) ،‬التي انطلقت سنة ‪ (1987‬فتساءل قائل ‪" :‬إن النتفاضة هي فعل‬
‫مقارعة للحتلل‪ ،‬فهل تريدون عمرا طويل للحتلل نحتفل به كل سنة باستمرار‬
‫النتفاضة ؟"‪.‬‬
‫ذلك أن النتفاضة أصبحت وكأنها مبتغى في حد ذاتها‪" ،‬والحتفال بها" مساهمة فيها‪ ،‬بينما‬
‫هي وسيلة نضال يراد منها الوصول إلى مكاسب وطنية‪ .‬وهو ما يختصره قول محمود‬
‫درويش في الماضي‪ " ،‬النتفاضة ليست مهنة"‪.‬‬
‫ولذا‪ ،‬على الذين يفكرون في امتهان "النتفاضة" لبضعة أيام في السنة‪ ،‬أن يوفروا جهدهم‬
‫وأموالهم‪ ،‬لمعالجةالمئات من جرحاها‪ ،‬والتكفل بإعالة اللف من ضحاياها‪ .‬فبهذا وحده‬
‫نختبر صدقهم‪ ،‬وبالحسان لعائلت الشهداء‪ .‬وليس بالكلم عن ضحاياهم ينالون ثوبا وأجرا‬
‫عند الله‪.‬‬
‫الجنة‪ ..‬في متناول جيوبهم‬

‫على الذين ل قدرة لهم على صيام أو قيام شهر رمضان‪ ،‬أو المشغولين في هذا الشهر‬
‫الكريم عن شؤون الخرة بشؤون دنياهم‪ ،‬أل ييأسوا من رحمة الّله‪ ،‬ول من بدع عباده‪ ،‬بعد‬
‫أن قررت رّبـة بيت إيطالية‪ ،‬أن تدخل الحياة العملية بإنشاء "وكالة للتكفير عن الذنوب"‬
‫اسمها "الجنة"‪.‬‬

‫وهذه الممثلة السابقة‪ ،‬التي لم تتجاوز السادسة والعشرين من عمرها‪ ،‬تدير "الجنة" من‬
‫منزلها‪ ،‬كما تدير إحدانا مطبخها‪ ،‬أو شؤون بيتها فإلى جانب تربيتها أولدها‪ ،‬فإنها تؤدي‬
‫فريضة الصلة نيابة عن كل الذين ل وقت لهم لذلك‪ ،‬بسبب اليقاع السريع لحياتهم‪،‬‬
‫فتصلي وتتضّرع إلى لّله داعية لهم بالغفران‪ ،‬حسب طلبهم ومقدار دفعهم ولقد نجحت‬
‫فل بإنقاذ أرواحهم‪ ،‬التي ل وقت لهم للعناية بها‪ ،‬نظرا ً‬
‫في إقناع بعض المشاهير بالتك ّ‬
‫لنشغالهم بصقل أجسادهم واستثمارها‪.‬‬

‫كرني بجاهلية ما قبل السلم‪ ،‬إذ جرت العادة أن يستأجر ذوو الفقيد ميسور‬ ‫وهذا ما يذ ّ‬
‫دابات ونائحات ليبكين فقيدهم الغالي بمقدار الكراء وسخاء العائلة المفجوعة‪،‬‬‫الحال‪ ،‬ن ّ‬
‫دابات في‬ ‫ّ‬
‫وهي عادة ظلت حتى زمن قريب‪ ،‬جارية في بعض البلد العربية‪ ،‬حيث تتبارى الن ّ‬
‫المبالغة في تمزيق ثيابهن ونتف شعورهن‪ ،‬ولطم خدودهن على مّيت ل قرابة لهن به ومن‬
‫لت خدودها شريحة"‪.‬‬ ‫هنا جاء المثل الجزائري القائل "على ريحة الريحة خ ّ‬

‫ولقد حدث لخي مراد‪ ،‬المقيم في الجزائر‪ ،‬ونظرا ً لحالة الحباط التي يعاني منها‪ ،‬لكونه‬
‫ذر عليه الهروب خارج الجزائر وبقي رهينة وضعه‪ ،‬ورهينة أمي‪ ،‬أن أجابني‬ ‫الوحيد الذي تع ّ‬
‫ّ‬
‫كم أسود يمّيز الجزائريين‪ ،‬كلما سألته عن أخباره‪ ،‬أنه مشغول بجمع مبلغ‬ ‫مازحا ً بته ّ‬
‫بالفرنك الفرنسي ليدفعه لمن هو جاهز ليبكيه بالعملة الصعبة‪ ،‬نظرا ً لن دموع الجزائري‬
‫ن‪،‬‬
‫ي أن أدفع لشخص ثا ٍ‬ ‫كعملته فقدت من قيمتها‪ ،‬قبل أن يضيف ساخرا ً "المشكل‪ ..‬أ ّ‬
‫ن عل ّ‬
‫كرت في‬ ‫فل بالتأكد من أنه يبكيني حقًا‪ ..‬وليس منهمكا ً في الضحك عل ّ‬
‫ي" ولقد ف ّ‬ ‫كي يتك ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أن أطلبه لخبره بأمر هذه الوكالة‪ ،‬في حالة ما إذا أراد يوما‪ ،‬أن يستأجر أحدا ينوب عنه‬
‫في الصلة والصوم‪ ،‬والفرائض التي تشغل نصف وقته‪.‬‬

‫وهذه السيدة اليطالية ليست أول من ابتدع فكرة دفع المال‪ ،‬طلبا ً للمغفرة فلقد شاعت‬
‫صكوك الغفران"‪ ،‬وشراء راحة الضمير بمبلغ من‬ ‫لدى مسيحيي القرون الوسطى‪ ،‬ظاهرة " ُ‬
‫صبوا أنفسهم وكلء لّله في الرض‪ ،‬وراحوا باسم الكنيسة يبيعون‬ ‫المال‪ ،‬لدى الذين ن ّ‬
‫للتائبين أسهما ً في الجنة‪ ،‬حسب قدرتهم على الدفع‪.‬‬
‫وهو ما أوحى للمغني المشهور فرانك سيناترا‪ ،‬بأن يعرض قبل موته على البابا‪ ،‬مبلغ مئة‬
‫سـل زوجته أن يعيد النظر في‬ ‫مليون دولر‪ ،‬كي يغفر له ذنوبه ويسمع اعترافاته‪ ،‬برغم تو ّ‬
‫التخّلي عن نصف ثروته لهذا المشروع‪ ،‬نظرا ً لمرضه وإدراكه عدم استطاعته أخذ هذا‬
‫المال معه‪ ،‬هو الذي بحكم علقته مع المافيا‪ ،‬خّزن من المال في حساباته‪ ،‬بقدر ما خّزن‬
‫من خطايا في صدره والهوس بالخرة والستعداد لها بالِهبات والصلوات‪ ،‬مرض أميركي‬
‫يزداد شيوعا ً كّلما انهارت رهانات المجتمع الميركي على المكاسب الدنيوية وفي استفتاء‬
‫قامت به إحدى المؤسسات الجادة‪ ،‬ورد أن ‪ 9‬أميركيين من ‪ 10‬يعتقدون بوجود السماوات‬
‫والحساب يوم القيامة‪ ،‬ويثق ‪ 47%‬من أصحاب الهررة والكلب‪ ،‬بأن حيواناتهم المفضلة‬
‫سترافقهم إلى الجنة‪ ،‬وهم يثقون تماما ً بدخولها‪ ،‬ربما بسبب ما أغدقوه على هذه‬
‫الحيوانات‪ ،‬نكاية في سكان ضواحي العالم‪ ،‬الذين شاء لهم سوء طالعهم أن ُيولدوا في‬
‫"معسكر الشّر"‪.‬‬
‫وعندما نقرأ التقرير الذي صدر في جنيف عن المم المتحدة‪ ،‬الذي جاء فيه أن ما ينفقه‬
‫الميركيون سنويًا‪ ،‬لطعام حيواناتهم الليفة يكفي لتزويد العالم بأسره بالمياه‪ ،‬وتأمين‬
‫نظام صحي للجميع‪ ،‬نفهم انتشار وكالت التكفير عن الذنوب في أميركا‪ ،‬ونجد تفسيرا ً‬
‫لستفتاء آخر جاء فيه‪ ،‬أن خمسين مليون أميركي بالغ يعانون من الرق والتوتر‪ ..‬وقّلــة‬
‫النــوم!‬

‫الحب أعمى‪ ..‬لتحذر الصطدام به‬


‫ُ‬
‫كرت نصيحة أندريه جيد‪“ :‬ل ُتهيئ‬ ‫ضب حقيبتي ليّ وجهة كانت‪ ،‬تذ ّ‬ ‫كّلما ُرحـــت أو ّ‬
‫أفراحك”‪ ،‬وخفت إن أنا وضعت في حقيبتي أجمل ثيابي‪ ،‬توّقعا ً لمواعيد جميلة‪ ،‬وأوقات‬
‫معّلقة‬ ‫قدر بمعاكستي‪ ،‬وأشقى برؤية ثيابي ُ‬ ‫عذبــة‪ ،‬قد تهديني إياها الحياة‪ ،‬أن يتسّلى ال َ‬
‫أمامي في الخزانة‪ ،‬فيتضاعف حزني وأنا أجمعها من جديد في الحقيبة إّياها من دون أن‬
‫كوفَِئت على انتظارها في خزائن الصبر النسائي‪ ،‬بشهقة فرحة اللقاء·· و”الرقص‬ ‫تكون قد ُ‬
‫على قدميـ)ـه(”‪ ،‬حسب قول نــزار قباني·‬
‫ك شفرة القدار العشقية‪ ،‬فُأسافر بحقيبة شبه فارغة‪ ،‬وبأحلم‬ ‫مع الوقت‪ ،‬تعّلمت أن أف ّ‬
‫ي القدر فيحجزها في إحدى نقاط‬ ‫وردّية مدسوسة في جيوبها السّرية‪ ،‬حتى ل يراها جمرك ّ‬
‫شاق على الخرائط العربية·‬ ‫تفتيش الع ّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بتلك الثياب العادية التي ل تشي بأي نوايا انقلبية‪ ،‬اعتدت أن أراوغ الحياة بما أتقنه من‬
‫ب بعض الرأفـــة‪ ،‬فيهديني وأنا في دور “سندريلل” أكثر‬ ‫أدوار تهويمّية تستدعي من الح ّ‬
‫هداياه سخاًء·‬
‫دام‬
‫ّ‬ ‫ص‬ ‫مثل‬ ‫فهو‬ ‫طغاة··‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫صفات‬ ‫من‬ ‫الكثير‬ ‫فيه‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫ول‬ ‫المعجزات·‬ ‫ب‬‫ّ‬ ‫يح‬ ‫ب‬ ‫ن الحـ ّ‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫ّ‬
‫)حسب شهادة طبيبه( “ُيبالغ إذا وهب‪ ،‬وُيبالغ إذا غضب‪ ،‬وُيبالغ إذا عاقب”· وكالطغاة الذين‬
‫ن الحب ليس هاجسنا‪،‬‬ ‫نكسر خوفنا منهم‪ ،‬بإطلق النكات عليهم‪ ،‬نحاول تصديق نكتة أ ّ‬
‫ن نحجز مقعدا ً في رحلة‪ ،‬أن يكون ضمن أولويات سفرنا‪ ،‬أو أن يكون له‬ ‫منكرين‪ ،‬ونح ُ‬ ‫ُ‬
‫وجود بين الحاجات التي ينبغي التصريح بها·‬
‫ب‪ ،‬شأنها شأن‬ ‫دعي أنها تهزأ بالح ّ‬ ‫يقول جــان جـاك روسو‪“ :‬المرأة التي ت ّ‬
‫الطفل الذي ُيغني ليل ً كي يطرد الخوف عنه”·‬
‫د·‬
‫دعي أنني ل آخذه مأخذ الج ّ‬ ‫ب‪ ،‬أ ّ‬ ‫من دون أن أذهب حد ّ الستخفاف بالح ّ‬
‫ب‪ ،‬وأن يكون مفاجأة أو‬ ‫ّ‬ ‫الح‬ ‫وبين‬ ‫بيني‬ ‫مباغتة‬ ‫معاهدة ُ‬ ‫في الواقع‪ ،‬أبرمت ما يشبه ُ‬
‫ً‬
‫“مفاجعة”· فهو كالحرب خدعة· لــذا‪ ،‬أزعــم أنني ل أنتظر من الحب شيئا‪ ،‬ول أحتاط من‬
‫ما أراه منهمكا ً في إعداده لي‪ ،‬حسب ما يصلني منه من إشارات‬ ‫ترسانته‪ ،‬ول م ّ‬
‫ن أقصر طريق إلى الحب‪ ،‬ل تقودك إليه نظراتك المفتوحة‬ ‫ً‬
‫“واعـــدة”‪ ،‬واثقة تماما بأ ّ‬
‫ل الذبذبات من حولك‪ ،‬بل في إغماض عينيك‬ ‫دش” للتقاط ك ّ‬ ‫تماما ً باّتساع صحون “ال ّ‬
‫ت لن تبلغ الحب إل ّ لحظة اصطدامك‬ ‫ي· أن َ‬ ‫ً‬
‫وترك قلبك يسير بك·· حافيا نحو قدرك العشق ّ‬
‫به‪ ،‬كأعمى ل عصا له·‬
‫شاق‪ ،‬جــاء ذلك القول‬ ‫مـى العاطفي الذي يحجب الرؤيــــة على الع ّ‬ ‫وربما من هذا العَ َ‬
‫الساخــر “أعمــى يقــود عميـــاء إلى حفـرة الزواج”· ذلك أّنه في بعض الحالت‪ ،‬ل‬
‫شاق إلى تفادي تلك المطّبات التي يصعب النهوض منها·‬ ‫جدوى من تنبيه الع ّ‬

‫م‪ ،‬ماذا في إمكان عاشق أن يفعل إذا كان “الحب أعمى”‪ ،‬بشهادة العلماء الذين‪ ،‬بعد‬ ‫ثــ ّ‬
‫محب· فالمناطق‬ ‫مى ال ُْ‬
‫َ َ‬ ‫ع‬ ‫ّ‬
‫كد‬ ‫يؤ‬ ‫ما‬ ‫إلى‬ ‫صلوا‬
‫ّ‬ ‫تو‬ ‫الباحثين‪،‬‬ ‫من‬ ‫فريق‬ ‫به‬ ‫قام‬ ‫جاد‪،‬‬ ‫بحث‬
‫الدماغّية المسؤولة عن التقويمات السلبية والتفكير النقدي‪ ،‬تتوقف عن العمل عند التطّلع‬
‫ب· ومن هذه النظرة ُتولد ُ الكارثة التي يتفنن في عواقبها الشعراء·‬ ‫من نح ّ‬ ‫إلى صورة َ‬
‫وبسبب “الخطــــار” التي تترّتب عليها‪ ،‬أقامت محطة “بي·بي·سي”‪ ،‬بمناسبة عيد‬
‫مته “مهرجان أخطار الحب”‪ ،‬استعرضت فيه ك ّ‬
‫ل “البــــلوي”‬ ‫شاق‪ ،‬مهرجانا ً س ّ‬‫الع ّ‬
‫والنكبـــات‪ ،‬التي تترّتــب على ذلك الحساس الجــارف‪ ،‬من إفلس وانتحار وفضيحة‬
‫وجنون‬

‫الرقص على أنغام الطناجر‬


‫منذ أن التحقت بوظيفتي كـ "ست بيت" وأنا أحاول أن أجد في قصاص الشغال المنزلية‬
‫متعة ما‪ ،‬تخفف من طبعي العصبي الجزائري في التعامل مع الشياء‪ ،‬قبل أن أعثر على‬
‫طريقة أخوص بها المعارك القومية والدبية‪ ،‬أثناء قيامي بمهامي اليومية‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬كنت أتحارب مع السرائيليين‪ ،‬أثناء نفض السجاد وضربه‪ ،‬وأرش الرهابيين‬
‫بالمبيدات‪ ،‬أثناء رشي زجاج النوافذ بسائل التنظيف‪ ،‬وأمسح الرض بناقد صحافي‪ ،‬أثناء‬
‫مسحي أرض البيت وشطفها‪ ،‬وأتشاجر مع مزوري كتبي‪ ،‬ومع الناشرين والمحامين‪ ،‬أثناء‬
‫غسل الطناجر وحكها بالليفة الحديدية‪ ،‬وأكوي "عذالي" وأكيد لهم أثناء كي قمصان زوجي‪،‬‬
‫وأرفع الكراسي وأضعها مقلوبة على الطاولت‪ ،‬كما أرفع بائعا غشني من ربطة عنقه‪.‬‬
‫أما أبطال رواياتي‪ ،‬فيحدث أن أفكر في مصيرهم وأدير شؤونهم‪ ،‬أثناء قيامي بتلك العمال‬
‫البسيطة التي تسرق وقتك‪ ،‬دون أن تسرق جهدك‪ ،‬والتي في إمكانك أن تسهو وأنت تقوم‬
‫بها‪ ،‬من نوع تنظيف اللوبياء‪ ،‬وحفر الكوسا‪ ،‬وتنقية العدس من الحصى‪ ،‬أو غسل الملوخية‬
‫وتجفيفها‪ .‬حتى إنني بعد عشرين سنة من الكتابة المسروقة من الشؤون البيت أصبحت‬
‫لدي قناعة‪ ،‬أنه ل يمكن لمرأة عربية أن تدعي أنها كاتبة إن لم تكن قد أهدرت نصف‬
‫عمرها في القيام بالشغال المنزلية‪ ،‬وتربية الولد‪ ،‬وتهريب أوراقها في الكياس كسارق‪،‬‬
‫من غرفة إلى أخرى‪ ،‬ول أن تدعي أنها مناضلة‪ ،‬إن لم تكن حاربت أعداء المة العربية بكل‬
‫ما وقعت عليه يدها من لوازم المطبخ‪ ،‬كما في نداء كليمنصو‪ ،‬وزير دفاع فرنسا‪ ،‬أثناء‬
‫الحرب العالمية الولى‪ ،‬عندما صاح‪" :‬سندافع عن فرنسا‪ ،‬وندافع عن شرفها‪ ،‬بأدوات‬
‫المطبخ والسكاكين‪ ..‬والشوك‪ ..‬والطناجر إذا لزم المر"‪.‬‬
‫وإذا كان كليمنصو هو الرجل الوحيد في العالم الذي دفن واقفا حسب وصيته‪ ،‬ل أدري إذا‬
‫كان يجب أن أجاريه في هذه الوصية لثبت أنني عشت ومت واقفة خلف المجلى وخلف‬
‫الفرن‪ ،‬بسبب "الزائدة القومية" التي لم أستطع استئصالها يوما‪ ،‬ول زائدة المومة التي‬
‫عانيت منها‪.‬‬
‫يشهد الله‪ ،‬أنني دافعت عن هذه المة بكل طنجرة ضغط‪ ،‬وكل مقلة‪ ،‬وكل مشواة‪ ،‬وكل‬
‫تشكيلة سكاكين اشتريتها في حياتي‪ ،‬دون أن يقدم المر شيئا في قضية الشرق الوسط‪.‬‬
‫وكنت قبل اليوم استحي أن أقول لسيدات المجتمع اللئي يستقبلنني في كل أناقتهن‬
‫ووجاهتهن‪ ،‬إنني أعمل بين كتابين شغالة‪ ..‬وصانعة‪ ،‬كي استعيد "الشعور بالعبودية"‪ ،‬الذي‬
‫عرفته في فرنسا أيام "التعتير" والذي بسببه كنت أنفجر على الورق‪ ،‬حتى قرأت أن‬
‫سفيرا تشيكيا في بريطانيا )وهو محاضر جامعي سابق( قدم طلبا لعمل إضافي‪ ،‬وهو‬
‫تنظيف النوافذ الخارجية في برج "كاناري وورف" المعروف شرق لندن‪ ،‬ل كسبا للنقود‪،‬‬
‫وإنما لنه عمل في هذه المهنة في الستينات‪ ،‬ويريد أن يستعيد "الشعور بالحرية" الذي‬
‫كان يحس به وهو متدل خارج النوافذ‪ ،‬معلقا في الهواء يحمل دلوا واسفنجة‪.‬‬
‫غير أن خبرا في ممجلة "فاكس" السويسرية أفسد علي فرحتي بتلك المعارك المنزلية‬
‫التي كنت استمد منها قوتي‪ .‬فقد نجحت سيدة سويسرية في تحويل المكنسة ودلو‬
‫التنظيف إلى أدوات فرح‪ ،‬بعد أن تحولت هي نفسها من منظفة بيوت إلى سيدة أعمال‪،‬‬
‫تعطي دروسا في سويسرا والنمسا وألمانيا‪ ،‬حول أساليب التمتع بالتنظيف من خلل‬
‫الموسيقى والغناء‪ ،‬ودروس الرقص الشرقي وتنظيم التنفس‪.‬‬
‫أما وقد أصبح الجلي والتكنيس والتشطيف يعلم في دروس خصوصية في جنيف وبرلين‬
‫وفيينا على وقع موسيقى الرقص الشرقي‪ ،‬فأتوقع أن أجد بعد الن في مجالس النساء‬
‫في بيروت من ستسرق مني حتى زهوي باحتراف هذه المهنة‪.‬‬
‫الطاغية ضاحكا ً في زنزانته‬

‫إن لم تكن هذه إهانة للعرب جميعًا‪ ،‬واستخفافا ً بهم‪ ،‬فما الذي يمكن أن يكون هذا الذي‬
‫يحدث في العراق‪ ،‬على مرأى من عروبتنا المذهولة؟‬
‫من جاؤوا بذريعة إحلله‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أيدي‬ ‫على‬ ‫وإن لم تكن هذه جرائم حرب‪ُ ،‬ترتكب باسم السلم‪،‬‬
‫دام الوقت للفتك به‪ ،‬وعاثوا خرابا ً‬ ‫من لم يجد ص ّ‬ ‫فأحّلوا دمنا‪ ،‬واستباحوا حرماتنا‪ ،‬وقتلوا َ‬
‫ل هذا‬‫مك ّ‬ ‫دعوا نجدته‪ ،‬فما اسم هذا الموت إذن؟ ول ِ َ‬ ‫وفسادا ً وقصفا ً ودمارا ً في وطن ا ّ‬
‫الدمار؟‬
‫ل تسأل· ل يليق بك أن تسأل· فأنت في كرنفال الحرية‪ ،‬وأنت تلميذ عربي مبتدئ‪ ،‬يدخل‬
‫روضة الديمقراطية‪ ،‬تنتمي إلى شعوب قاصرة‪ ،‬اعتادت بذل الدم والحياة‪ ،‬ونحر خيرة‬
‫أبنائها قربانا ً للنزوات الثورية للحاكم‪ ،‬ودرجت على تقديم خيراتها للغراب·‬
‫مظَلمتك؟‬ ‫من تشكو َ‬ ‫من يأتي لنجدتك؟ وإلى َ‬ ‫َ‬
‫لديها‪ ،‬لن يرحمها‬ ‫الشعوب التي ل قيمة للنسان فيها‪ ،‬التي تفتدي “بالروح وبالدم” ج ّ‬
‫الخرون·‬
‫والشعوب التي ل ُتحاسب حاكمها على تبذيره ثروتها‪ ،‬وعلى استحواذه هو وأولده على‬
‫دخلها‪ُ ،‬تجيز للغرباء نهبها·‬
‫لمم التي ليست ضد ّ مبدأ القتل‪ ،‬وإنما ضد ّ هوّية القاتل‪ ،‬يحقّ للغزاة الذين استنجدت‬ ‫وا ُ‬
‫طغاة في التنكيل بها‪ ،‬والتحاور معها بالذخيرة الحّية·‬ ‫بهم‪ ،‬أن يواصلوا مهمة ال ّ‬
‫هي ذي دولة تبدأ أول ً باحتللك‪ ،‬لتتكّرم عليك‪ ،‬إن شاءت‪ ،‬بالحرّية‪ ،‬وُتباشر تجويعك‬
‫ن عليك بعد ذلك بالرغيف والوظيفة· ليمكن أن ُتشكك في‬ ‫وتسريحك من عملك‪ ،‬لتم ّ‬
‫نواياها الخيرية· لقد باعت ثرواتك من قبل أن تستولي عليها‪ ،‬وتقاسمت عقود المنشآت‬
‫مرها·‬ ‫حتى قبل أن ُتد ّ‬
‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫تدري‬ ‫ل‬ ‫جلدك‪،‬‬ ‫كي‬‫ّ‬ ‫ف‬ ‫بين‬ ‫من‬ ‫نجاتك‬ ‫مباهج‬ ‫تعيش‬ ‫الحرية‪،‬‬ ‫روضة‬ ‫في‬ ‫أنت مازلت تحبو‬
‫ن عليك الن أن تدفع‬ ‫فرحتك لن تدوم أكثر من لحظة مشاهدتك سقوط صنمه ذاك‪ ،‬وأ ّ‬
‫دة ثلثين سنة ثمن صعوده إلى الحكم·‬ ‫ثمن سقوط الطاغية‪ ،‬بعد أن دفعت م ّ‬
‫طغاتنا‪ ،‬وقد أهدروا ماضينا‪ ،‬نجحوا في ضمان كوارثنا المستقبلية‪ ،‬وجعلونا‬ ‫وهكــذا يكون ُ‬
‫لديهم‪،‬‬ ‫معتقلتهم وبطش ج ّ‬ ‫ن إلى قبضتهم الحديدية‪ ،‬ونشتاق إلى قبوِ ُ‬ ‫سر عليهم ونح ّ‬ ‫نتح ّ‬
‫لدنا الجديد·· وأعلمه‬ ‫وُنقّبل صورهم المهّربة على الوراق النقدية‪ ،‬نكاية في صورة ج ّ‬
‫المرفوعة على دبابات تقصف بيوتنا·‬
‫منذ الزل‪ ،‬لننجو من عدو‪ ،‬اعتدنا أن نتكئ على عدو آخر‪ ،‬فنستبدل بالطغاة الغزاة‪،‬‬
‫وبالستبداد الذلل البشع من الموت·‬
‫من ُينادي عليهم‪ ،‬ويهتف باسمهم‪ ،‬ويحبو عند‬ ‫طغاة‪ ،‬ل يأتون إل ّ إلى َ‬ ‫ن الغزاة‪ ،‬كما ال ّ‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫وتهم وحمايتهم·‬ ‫ُ‬
‫أب‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫مستجدي‬ ‫عرشهم‪،‬‬ ‫أقدام‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫دام‪ ،‬يوم سقوط الصنم‪“ :‬حياة‬ ‫دق دعابة السيد بــاول‪ ،‬وهو ُيصّرح ليتامى ص ّ‬ ‫بعضنا ص ّ‬
‫ن هنا جئنا بالحرب لنهيئ السلم”·‬ ‫ُ‬ ‫نح‬ ‫العراقيين··‬ ‫تنتظر‬ ‫أجمل‬
‫وهي نكتة زاد من سخريتها السوداء‪ ،‬تصريح بوش‪ ،‬رئيس معسكر الخير‪ ،‬ونائب السيد‬
‫ل‪ ،‬وهو واثق‬ ‫كان الكرة الرضية‪ ،‬بلهجة تهديدية‪ ،‬قائ ً‬ ‫شر س ّ‬ ‫المسيح على الرض‪ ،‬حين ب ّ‬
‫من يقود العالم إلى مصير أفضل”·‬ ‫ن َ‬ ‫الخطوة يمشي ملكًا‪“ :‬نح ُ‬
‫دام أكثر منه ثقة ومصداقية‪ ،‬حين قال وهو يلهو بإطلق رصاص بندقيته‬ ‫في الواقع‪ ،‬كان ص ّ‬
‫ً‬
‫من يريد العراق سيأخذه منا أرضا بل بشر”‪،‬‬ ‫في الهواء‪َ “ :‬‬
‫مدّبرها( العراقي الكثر أمانا ً وتدلي ً‬
‫ل·‬ ‫ُ‬ ‫أو‬ ‫كمجرمها‬ ‫)ل‬ ‫حرب‬ ‫كأسير‬ ‫معتقله‬ ‫إنه الن في‬
‫وته‪ ،‬ويتخّبط الن في وحول‬ ‫ُ‬
‫في إمكانه أن يضحك مــلء شاربيه‪ ،‬على شعب تمّرد على أب ّ‬
‫الحرية ومذابح الديمقراطية‪ ،‬يترك أبناؤه دمهم عالقا ً بشاشاتنا في كل نشرة أخبار‪ ،‬وتبقى‬
‫عيون موتاه مفتوحة‪ ،‬حتى بعدما نطفئ التلفاز‪ ،‬تنظر إلينا سائلة “لماذا؟”·‬

‫هان‬ ‫العراقي‪ ..‬هذا الكريم ال ْ ُ‬


‫م َ‬

‫دى”‪ ،‬قد اقترح على لسان‬ ‫ي‪ ،‬كان في آخر عيد ميلد “للقائد المف ّ‬ ‫ذكر‪ ،‬عد ّ‬ ‫ن طّيب ال ّ‬‫أذكر أ ّ‬
‫مجّلة الشباب‪ ،‬التي كان يرأسها‪ ،‬أن يكون يوم ‪ 28‬نيسان‪ ،‬بداية التقويم الزمني الجديد‬
‫في العراق‪ ،‬وأن يبدأ العمل به في روزنامة العوام المقبلة‪ ،‬رافعا ً بذلك والده‪ ،‬صاحب‬
‫الرسالة الحضارية الخالدة‪ ،‬إلى قامة الّرسل والنبياء الذين بمولدهم يبدأ تاريخ النسانية·‬
‫ل حماقة‪ ،‬ارتأى أن يكون ‪ 9‬نيسان‪ ،‬يوم “سقوط بغداد”‬ ‫ن بوش‪ ،‬في فكرة ل تق ّ‬ ‫غير أ ّ‬
‫ي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وطن‬ ‫عيد‬ ‫يوم‬ ‫العنكبوت”‪،‬‬ ‫“حفرة‬ ‫ذلك‬ ‫بعد‬ ‫الميركي‬ ‫العلم‬ ‫ماه‬ ‫ّ‬ ‫س‬ ‫ما‬ ‫إلى‬ ‫صدام‬ ‫وهجرة‬
‫ي الموعود·‬ ‫ّ‬ ‫العراق‬ ‫للزمن‬ ‫رخ‬ ‫ّ‬ ‫تؤ‬ ‫التي‬ ‫الحرية”‪،‬‬ ‫“أجندة‬ ‫في‬ ‫وبداية للتقويم الجديد‪،‬‬
‫ي” وتاريخ هجرته من قصوره العشرة‪ ،‬إلى حفرته ما قبل الخيرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫النب‬ ‫وبين مولد “الطاغية‬
‫مرت منشآته الحربية وبنيته التحتية‪،‬‬ ‫ضاع تاريخ العراق‪ ،‬وفرغ الوطن من خيرة أبنائه‪ ،‬ود ُ ّ‬
‫وليه· وانتقل العراق‬ ‫متس‬ ‫إلى‬ ‫سادته‬ ‫ومن‬ ‫ول مثقفوه من مفكري العالم‬ ‫ُ‬
‫ّ‬ ‫وأهين علماؤه‪ ،‬وتح ّ‬
‫لولى في العالم‪ ،‬وآثارا ً تعود لستة آلف سنة‪ ،‬إلى شعب‬ ‫من بلد يمتلك رموز الحضارات ا ُ‬
‫يعيش في ضواحي النسانية‪ ،‬محروما ً حتى من الظروف المعيشية الصحية‪ ،‬ومن‬
‫مستشفيات تستقبل مرضاه‪ ،‬ومقابر تليق بموتاه‪ ،‬وموت يليق بطموحاته المتواضعة في‬
‫ميتة “نظيفة” وطبيعية قدر المكان·‬
‫مَهـــان‪ ،‬يرتدي أسمال مجده‪ ،‬منتعل ً ما بقي من عنفوانه‪ ،‬يقف‬ ‫العراقـــي·· هذا الكريم ال ْ ُ‬
‫َ‬
‫على أغنى أرض عربية‪ ،‬فقيرا ً دون مستوى الفقر‪ ،‬أسيرا ً دون مستوى السر·· الذين‬
‫جاؤوه بمفاتيح أصفاده‪ ،‬فعلوا ذلك مقابل أل ّ يكون ليده حق توقيع مصيره· وعندما خلع‬
‫ي‪ ،‬وسقف‬ ‫عبوديته‪ ،‬وجد نفسه في زنزانة في مساحة وطن· فقد سطوا على أمنه الوظيف ّ‬
‫بيته‪ ،‬وسرير مستشفاه‪ ،‬واحتجزوه في دوائر الخوف والموت العبثي· جّردوه من كرامة‬
‫كانت تصنع مفخرته· سرقوا من القتيل كبرياءه‪ ،‬ومن الشهيد شهادته·‬
‫ن كان يشاهد العراق أم‬ ‫يكاد المرء يفقد صوابه‪ ،‬وهو يتابع نشرات الخبار· ل يدري إ ْ‬
‫مـــذ على يــد الخر‪ :‬أميركــــا أم‬ ‫ن ت ََتل َ‬ ‫فلسطين؟ الفّلوجــــة أم جنيــــن؟ ل يدري َ‬
‫مـــــ ْ‬
‫إسرائيــــل؟‬
‫مرتجلة‬ ‫ُ‬ ‫مقابر‬ ‫جثث‪،‬‬ ‫رعــات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تض‬ ‫دموع‬ ‫النقــاض‪،‬‬ ‫تحت‬ ‫عروبــــــة‬ ‫ُ‬ ‫نفسه‪:‬‬ ‫المشهد‬ ‫لكأنه‬
‫ُ‬
‫ب أو في حديقة مستشفى‪ ،‬أطفال في عمر الفاجعة‪ ،‬وأمهات يخطف الموت‬ ‫في ملع ٍ‬
‫أطفالهن من حجورهن·‬
‫ميها‬ ‫إنها حرب تحرير ُيراد بها تحرير العراق من أبنائه· غير أن البعض في اجتهاد لغويّ ُيس ّ‬
‫مشتبه في كرهها‬ ‫ن المقصود بها احتلل القلوب العراقية والعربية‪ ،‬ال ْ ُ‬ ‫حرب احتلل‪ ،‬ل ّ‬
‫مسلح لم نشاهد مثله في أي فيلم هوليوودي·‬ ‫ّ‬ ‫لميركا‪ ،‬في اجتياح عاطفي ُ‬
‫ل أحدهم المعضلة‬ ‫حكم تداخل العواطف وتطّرفها‪ ،‬وحيرة فقهاء اللغة وخبراء القلوب‪ ،‬ح ّ‬ ‫وب ُ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اللغوية‪ ،‬بأن اشتق مصطلح “تحلل” لوصف ما يجري في العراق‪ ،‬بصفته مزيجا فريدا من‬
‫“التحرير” و”الحتلل”·‬
‫ّ‬
‫وهكـــذا صار في إمكاننا أن ن ُْغني المعجم العربي بكلمة جديدة‪ ،‬ونتحلق حول التلفزيون‪،‬‬
‫ن متابعي الفيلم الميركي·· الطويـــل·‬ ‫نح ُ‬

‫اللهثون خلف الترجمة‬


‫ُأشفق على كّتاب عرب‪ ،‬عاشوا لهثين خلف وهـــــم الترجمة‪ ،‬معتقدين أن صدور‬
‫ف لبلوغهم العالمية تمامًا‪ ،‬كاعتقاد مطربينا هذه اليام‪ ،‬أنه يكفي‬
‫أعمالهم بأية لغة أجنبية كا ٍ‬
‫أن يضيفوا إلى "طراطيقهم" الغنائية جملة أو جملتين بلغة أجنبية‪ ،‬حتى وإن كانت هندية أو‬
‫سريلنكية‪ ،‬ليصبحوا من النجوم العالميين للغنية‪.‬‬

‫قاد والقّراء‬
‫حين فاز نجيب محفوظ منذ إحدى عشرة سنة بجائزة نوبل للداب‪ ،‬أربك الن ّ‬
‫كنهم من التعّرف إلى أدبه‬ ‫الغربيين‪ ،‬الذين ما عثروا له في المكتبات على كتب مترجمة‪ ،‬تم ّ‬
‫م نجيب‬ ‫أما بعض ما توافر منها‪ ،‬فما كانت ترجمتها تضاهي قلمه أو تليق به فما كان ه ّ‬
‫محفوظ مطاردة المترجمين أو النشغال عن هموم قارئه العربي‪ ،‬بالكتابة لقارئ عالمي‬
‫مفترض كان كاتبا ً لم يحضر يوما ً مؤتمرا ً "عالميًا" للدب‪ ،‬ول غادر يوما ً القاهرة حتى إلى‬
‫استوكهولم‪ ،‬لتسّلم جائزة نوبل للداب‪ ،‬ولذا أصبح نجيب محفوظ الروائي العربي الول‪.‬‬

‫شخصيًا‪ ،‬ما كان يوما ً من هواجسي صدور أعمالي مترجمة إلى لغات أجنبية‪ ،‬لعلمي أن‬
‫لمة العربية فبحكم إقامتي ‪ 15‬سنة في فرنسا‪ ،‬أعرف تماما ً‬ ‫"بضاعتي" ل سوق لها خارج ا ُ‬
‫وض ما‬ ‫الوصفة السحرية التي تجعل كاتبا ً عربيا ً ينجح ولكن ذلك النجاح ل يعنيني‪ ،‬ولن يع ّ‬
‫ب َل َْغته من نجاح‪ ،‬بسبب كتب صنع نجاحها الوفاء للمشاعر القومية‪ ،‬والحتفاء بشاعرية اللغة‬
‫العربية ولن الشعر هو أّول ما يضيع في الترجمة‪ ،‬فقد اعتقدت دومًا‪ ،‬أن أّيـة ترجمة لّيـة‬
‫ولها إلى عمل إنشائي‪ ،‬حال تجريدها من سحر لغتها‬ ‫لغة كانت‪ ،‬ستطفئ وهج أعمالي وتح ّ‬
‫العربية‪ ،‬وهو بالمناسبة‪ ،‬أمر يعاني منه كل الشعراء‪ ،‬الذين تقوم قصيدتهم على الشاعرية‬
‫ملي فبينما تبدو قصائد أدونيس أجمل مما هي‪ ،‬عندما‬ ‫اللغوية‪ ،‬أكثر من استنادها إلى فكر تأ ّ‬
‫ُتترجم إلى لغات أجنبية‪ ،‬تصبح أشعار نـــزار بعد الترجمة نصوصا ً ساذجة‪ ،‬فاقدة اشتعالها‬
‫وإعجازها اللغوي ونــزار‪ ،‬الذي كان يدرك هذا‪ ،‬لتقانه أكثر من لغة‪ ،‬قال لي مّرة إنه يكره‬
‫طلع على أعماله المترجمة‪ ،‬ويكاد ينتف شعره عندما يستمع لمترجم أجنبي ُيلقي‬ ‫ال ّ‬
‫ّ‬
‫أشعاره مترجمة في حضرته والطريف أن الصديق‪ ،‬الدكتور غازي القصيبي‪ ،‬علق بالطريقة‬
‫ودة ترجمة "فوضى الحواس" إلى‬ ‫نفسها عندما‪ ،‬منذ سنة‪ ،‬أرسلت له إلى لندن مس ّ‬
‫النجليزية‪ ،‬بعدما طلبت مني الجامعة الميركية في القاهرة‪ ،‬مراجعتها قبل صدورها وقد‬
‫طلع عليها‪ ،‬وتكليف زوجته مشكورة بقراءتها‪ ،‬وتسجيل ملحظاتها حولها‬ ‫قال لي بعد ال ّ‬
‫ّ‬
‫)وهي سيدة ألمانية تتقن العربية والنجليزية بامتياز‪ ،‬واطلعت على الكتاب باللغتين(‪ ،‬قال‬
‫حسن حظك أنك ل تتقنين النجليزية‪ ..‬فأنا ل أ ّ‬
‫طلع‬ ‫لي مازحًا‪ ،‬أو بالحرى‪ ،‬مواسيًا‪" :‬من ُ‬
‫على أي عمل ُيترجم لي‪ ..‬حتى ل أنتف شعري!"‪.‬‬

‫خارق‪ ،‬ولم ُأفاخـر أو ُأراهن إل ّ على ترجمتها إلى اللغة الكردية‪ ،‬التي ستصدر بها قريبًا‪،‬‬
‫س عبر التاريخ‪ ،‬هو أقرب لي‬‫ي‪ ،‬بعظمة نضاله وما عرف من مآ ٍ‬ ‫لدراكي أن القارئ الكرد ّ‬
‫ولعمالي من أي قارئ أوروبي أو أميركي‪.‬‬

‫غير أن مفاجأتي كانت‪ ،‬النجاح الذي حظيت به هذه الرواية عند صدورها مؤخرا ً باللغة‬
‫الفرنسية وهو نجاح ل يعود إلى شهرة دار النشر التي صدرت عنها‪ ،‬وإنما للقارئ‬
‫م ثلثمئة‬ ‫الفرنسي‪ ،‬الذي قّرر أن يحمي نفسه كمستهلك للكتب‪ ،‬بابتكار ناد ٍ للقّراء يض ّ‬
‫مـا‬
‫قارئ‪ ،‬يتطوعون خلل الصيف بقراءة الروايات قبل صدورها‪ ،‬وتقديم تقرير مكتوب عـ ّ‬
‫يفضلونه من بينها‪ ،‬قبل الموسم الدبي الفرنسي الذي يبدأ في شهر أيلول‪.‬‬
‫فنظرا ً لغزارة النتاج الدبي‪ ،‬وتدّفق عشرات الروايات التي ل تجد جميعها مكانا في‬
‫ً‬
‫دور النشر الكبرى‪ ،‬ولعبة‬ ‫المكتبات‪ ،‬استلزم المر استحداث حكم ل علقة له بمصالح ُ‬
‫مته توجيه القارئ نحــو الكتاب الفضل وجاءت سلطة هذه اللجنة من‬ ‫الجوائز الدبية‪ ،‬مه ّ‬
‫انخراط أعضائها في نوادي القراءة لسلسلة مكتبات "‪ ،"fnac‬وهي إمبراطورية تسيطر‬
‫على توزيع الكتب في أكثر من دولة فرنكوفونية‪ ،‬ما يجعل الكتب المختارة تحظى بتوزيع‬
‫جّيد مدعوم بالعلن‪.‬‬
‫وما كنت لسمع بهذه اللجنة‪ ،‬لول أنها اختارت روايتي من بين سبعمئة رواية‪ ،‬لتكون من‬
‫بين الثلثين رواية الفضل في الموسم الدبي الفرنسي‪.‬‬
‫ل القارئ‬‫كرتني بمحنة الكتاب العربي‪ ،‬الذي لن ينجح طالما لم يتو ّ‬ ‫ن تلك الفرحة ذ ّ‬‫غير أ ّ‬
‫مة الترويج للجيد منه‪.‬‬‫مه ّ‬
‫لماذا ل نمنح الكاتب العربي فرصة أن ينال "جائزة القّراء"‪ ،‬عن ناد ٍ يمثل قّراء من مجمل‬
‫ولها الثرياء‪ ،‬قد تمل جيب الكاتب‪ ..‬لكنها ل‬‫الدول العربية‪ ،‬بدل الكتفاء بجوائز إشهارّية يم ّ‬
‫تمله زهوًا‪.‬‬

‫انزل يا جميل ع الساحة‬


‫ما أن ل أكتب بعد اليوم إل ّ عن العــراق‪،‬‬ ‫م من المرارة‪ ،‬يجعلني أمام خيارين‪ :‬إ ّ‬
‫داخلي ك ّ‬
‫فعندي من الخيبات والقصص‪ ،‬ما يمل هذه الصفحة سنوات‪ ،‬وإما أن أكتب لكم عن أي‬
‫شيء‪ ،‬عدا هذه الحرب‪ ،‬التي لن تكون عاقــرًا‪ ،‬وسُتنجب لنا بعد ُأم المعارك وُأم المهالك‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫م التطهير القومي‬ ‫وأم الحواسم‪ ..‬حروبا ً ننقرض بعدها عن بكرة أمنا وأبينا‪ ،‬بعد أن يت ّ‬
‫للجنس العربي‪.‬‬

‫وكنت حسمت أمري بمناسبة عيد ميلدي‪ ،‬وقررت‪ ،‬رفقا ً بما بقي من صحتي وأعصابي‪ ،‬أن‬
‫ُأقلع عن مشاهدة التلفزيون‪ ،‬وُأقاطـع نشرات الخبار‪ ،‬وذهبت حتى إلى إلقاء ما جمعت‬
‫فات ُيسّبب لي دوارا ً حقيقيًا‪ ،‬وأصبح‬
‫من أرشيف عن حرب العراق‪ ،‬بعدما أصبح منظر المل ّ‬
‫مغلقا ً في وجـه الشّغالة‪ ،‬وزوجي والولد‪ ،‬بسبب الجرائــد التي يأتيني بها‬
‫مكتبي لسابيع ُ‬
‫زوجي يوميا ً أكواما‪ ،‬فتفرش المكتب وتفيض حتى الشرفة‪.‬‬
‫ً‬

‫حــدث أن خفت أن أفقد عقلي‪ ،‬أو أفقد قدرتي على صياغة فكرة‪ ،‬بعدما وجدتني كّلما‬
‫ازددت مطالعة للصحف أزداد عجزا ً عن الكتابة‪ ،‬حتى إنني أصبحت ل ُأرسل هذا المقال‬
‫جهيــد‪.‬‬
‫جهـد َ‬ ‫إلى رئيس التحرير‪ ،‬إل ّ في اللحظـة الخيـرة‪ ،‬وبعد ُ‬
‫ي بوادر اكتئاب وانهيار نفسي‪ ،‬لعدم مغادرتي مكتبي ليام‪ ،‬نصحني‬ ‫زوجــي الذي لحظ عل ّ‬
‫ً‬
‫بمزاولة الرياضة‪ ،‬وزيارة النادي المجاور تماما لبيتي‪ ،‬وهو نــاد ٍ يقع ضمن مشروع سياحي‪،‬‬
‫ضخم وفخم‪ ،‬وباذخ في ديكوره وهندسته‪ ،‬إلى حد ّ جعلني ل أجرؤ منذ افتتاحه منذ سنتين‬
‫هبة‪ ،‬والمرور بمحاذاة تماثيله اليطالية‪ ،‬ونوافيره‬ ‫على زيارته‪ ،‬واجتياز بوابته الحديدية المذ ّ‬
‫السبانية‪ .‬فبطبعي أهــرب من البذاخـة‪ ،‬حتى عندما تكون في متناول جيبي‪ ،‬لعتقادي أنها‬
‫دها‪.‬‬
‫ن هي تجاوزت حــ ّ‬ ‫وهات وُتؤذي شيئا ً نقي ّا ً فينا‪ ،‬إ ْ‬‫ُتصيب النفس البشرية بتش ّ‬

‫ة بفضول سلفتي وسيارتها الفخمة‪ ،‬على اجتياز ذلك الباب‪ ،‬الذي‬ ‫لكنني تجرأت‪ ،‬مستعين ً‬
‫أصبحت لحقــا ً أعبـره مشيا ً كل يوم‪.‬‬
‫وروا‪ ،‬منذ ‪ 13‬نيسان‪ ،‬وأنا "طالعة من بيت أبوها رايحة بيت الجيران"‪ ،‬ما سأل عني‬ ‫تص ّ‬
‫زوجي إل ّ ووجدني في النادي‪ ،‬الذي كثيرا ً ما أجدني فيه وحدي لساعات‪ ،‬لن ل أحد يأتي‬
‫ظهرًا‪ ..‬عندما يبدأ نهاري‪.‬‬ ‫ُ‬
‫حـم على‬ ‫ن الفردوس يقع في الرصيف المقابل لبيتي‪ ،‬ورحــت أتر ّ‬ ‫وهكــذا اكتشفت أ ّ‬
‫حماي‪ ،‬الذي يوم اشترى منذ أكثر من ثلثين سنة‪ ،‬البناية التي نسكنها‪ ،‬من ثري عراقي‬
‫منتجع صيفي في‬ ‫مـانــا أهم ُ‬‫)يوم كان العراقيون هم أثرياء الخليج!( ما توّقع أن تصبح بر ّ‬
‫د‪ ،‬السمنت‬ ‫لب بهوائه وأشجاره‪ ،‬لم يهجم عليه بع ُ‬ ‫مجّرد جبل خ ّ‬ ‫لبنـــان‪ .‬فقد كانت ُ‬
‫مسّلح ليلتهم غاباتــه‪ ،‬ول غــــزاه الدولر‪ ،‬والزّوار الذين صــاروا يأتونه في مواكب‬ ‫ال ْ ُ‬
‫"الرولز رويس"‪.‬‬
‫مـانــا‬ ‫بر‬ ‫بشتــاء‬ ‫أكتفي‬ ‫ت‬ ‫أصبح‬ ‫فقد‬ ‫يشبهونني‪،‬‬ ‫ل‬ ‫أنــاس‬‫ولنني ل أحب اقتسام الجنة مع ُ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ل صيف‪ ،‬هربــا ً إلى "كـــان"‪،‬‬‫م أتركها لهـم ك ّ‬ ‫القارس‪ ،‬سعيدة بانفرادي بثلجها وزوابعها‪ ،‬ثــ ّ‬
‫ُ‬
‫حيث يوجد بيتي الصغير في منطقة لم يصلها "العلـــوج" بعـد‪.‬‬
‫عقــدة الرياضة‪ ،‬التي كنت ُأعاديها‪،‬‬ ‫أعتـــرف بأنني مدينة لـ"تحرير العراق"‪ ،‬بتحريري من ُ‬
‫ُ‬
‫مقتنعة بقول ساخــر لبرنارد شـــو‪" :‬لقد قضيت حياتي أشّيع أصدقائي الذين يمارسون‬ ‫ُ‬
‫الرياضة"!‬
‫لخرى‪ ،‬وُأولها التلفزيون‪ ،‬بعد أن اكتشفت‪ ،‬أنا‬ ‫قدي ا ُ‬‫ن هذا النادي‪ ،‬لم يشفني من ع ُ َ‬ ‫غيــر أ ّ‬
‫الهاربة منه‪ ،‬أنني محجوزة مع أربع شاشات تلفزيون‪ ،‬في قاعة اللت الرياضية‪ ،‬وبينما‬
‫ُوجد أصــل ً لُيمارس الناس رياضتهم على إيقاع القنوات الموسيقية‪ ،‬التي يختارونها‪،‬‬
‫أصبحت ما أكاد أنفرد به‪ ،‬حتى أهجم على القنوات السياسية‪ ،‬فُأمارس ركوب الدراجة‬
‫وأنــا ُأشاهد على "المنـار" بثـا ً حّيـا ً من "كربــلء"‪ ،‬وأمشي على السجاد الكهربائي‪ ،‬وأنا‬
‫ُ‬
‫كرني‬‫وعين العــرب‪ ،‬وهو ما ذ ّ‬ ‫أتـابــع نقاشا ً حاميا ً على "الجزيرة"‪ ،‬حول مأساة المتط ّ‬
‫بقول حماتي "المنحوس منحوس ولو عّلقــوُلــــو فـــي‪) .....‬قفـــاه( فانــــوس"!‬
‫دف وجودي مع إقامة المتنافسات على لقب ملكة جمال‬ ‫صـا ُ‬
‫مــا المصيبـة الثانية‪ ،‬فت َ َ‬ ‫أ ّ‬
‫لبنان‪ ،‬في الفندق نفسه‪ .‬و"انـــزل يا جميـل ع الساحة"‪ ،‬و"قومي يا أحـــلم‪ ،‬إن كنت‬
‫فحلـــة‪ ،‬وانزلي ع المسبح"‪ ..‬فهنــا‪ ،‬أيتها الحمقــاء‪ ،‬ل تنزل النساء إلى المسبح‪ ،‬قبل أن‬
‫ن قد استعددن للحدث طوال سنتين‪ ...‬في نـــاد ٍ آخــر!‬ ‫يكــ ّ‬

‫انقذونا من التلفزيون‬

‫ب النساء‪،‬‬
‫يقول "كنفوشيوس"‪" :‬توجد في طريق العظمة أربعة عوائق‪ ،‬وهي‪ :‬الكسل وح ّ‬
‫حة والعجاب بالنفس"‪.‬‬
‫وانحطاط الص ّ‬

‫ولو أن هذا الحكيم عاصر التلفزيون‪ ،‬لضاف إلى عوائقه الربعة‪ ،‬إدمان المرء الفضائيات‬
‫وربما كان أخطر العوائق على المبدع‪ ،‬انصرافه عن الكتابة والبداع‪ ،‬وهدره وقته في‬
‫اللهاث مشاركا ً في هذا البرنامج أو ذاك‪.‬‬

‫ذلك أن هناك ُأناسا ً ل يعرفون كيف يبددون أوقاتهم‪ ،‬فيعمدون إلى وقت سواهم لكي‬
‫ت بي إحدى الفضائيات‪ ،‬كي ُأشارك في أحد‬ ‫يبددوه‪ ،‬وهو ما أقوله لنفسي كلما اتصل ْ‬
‫برامجها الترفيهية‪ ،‬في سهرات شهر رمضان‪ ،‬معتقدة أن وقت المبدع مستباح‪ ،‬وأنه جاهز‬
‫ليكون جلسة وصل بين أغنية وأخرى‪ ،‬ومستعد متى شاءت‪ ،‬أن تمل به ما هو شاغر من‬
‫فقرات برامجها‪ ،‬بذريعة تكريمها له والحتفاء بالدب وقد حسمت هذا المر منذ سنتين‪،‬‬
‫بتغيير أرقام هواتفي تفاديا ً للحراج لكن‪ ،‬في مساءات رمضان‪ ،‬ل يمكن أن تنجو من‬
‫الوقوع في شرك التلفزيون‪ ،‬وخدعة الحتفاء بشهر اليمان‪ ،‬بالنخراط في حزب‬
‫المشاهدين‪ ،‬الذين على مدى خريطة المة العربية‪ ،‬دخلوا في حالة غيبوبة‪ ،‬وشلل فكري‬
‫لمدة شهر‪ ،‬وسّلموا أمرهم للفضائيات‪ ،‬تعيث فيهم سخافة واستخفافًا‪ ،‬ما شاء لها‬
‫استسلم صائم‪ ،‬يساعده استرخاؤه على هضم التفاهات‪ ،‬فل يخلد إلى النوم‪ ،‬إل ّ بعد أن‬
‫يكون قد أخذ وجبته من المسابقات‪ ،‬وانغلق بتخمة السخافات واللطافة العلمية‬
‫المصطنعة‪ ،‬لمذيعة تطارده عبر القارات بالـ "أيوة" والـ "ألو"‪ ،‬فيكاد يرد عليها على طريقة‬
‫زياد الرحباني في إحدى مسرحياته "ألو‪ ..‬با بنت اللو"‪.‬‬

‫ما جدوى اللياقة؟ ما عاد الجهل مصدر حياء‪ ،‬منذ صار المذيعون يتسابقون على إشهار‬
‫جهلهم وتسويق قلة ذوقهم‪.‬‬
‫مرت الفضائيات عن ساعديها‪ ،‬وكشفت عن نوايا ساقيها‪ ،‬وراحت تركض‪ ،‬ككل رمضان‪،‬‬ ‫ش ّ‬
‫في تسابق‪ ،‬راتوني للقاء القبض على المشاهدين ومطاردتهم‪ ،‬حتى في الشوارع وفي‬
‫ص سوى‬ ‫بيوتهم وأماكن عملهم‪ ،‬وهدر ماء وجههم بنصف ساعة من السئلة‪ ،‬التي ل تخ ّ‬
‫برامجها وأسماء مذيعيها‪ ،‬مقابل مئة ألف ليرة لبنانية )!(‪ ،‬فهذا ما يساويه المشاهد‬
‫والمشارك‪ ،‬لدى إحدى أكبر الفضائيات اللبنانية‪ ،‬التي ل ُيعرف عن صاحبها الفقر ول‬
‫الحاجة فكلما أسدل علينا الليل سدوله‪ ،‬أصبحنا طريدة الفضائيات‪ ،‬ونصبت لنا كل واحدة‬
‫مصيدة وبذريعة إثرائنا وتسليتنا‪ ..‬أصبحنا وليمتها ومصدر رزقها في سوق العلنات‪.‬‬
‫في زمن "المن الوقائي"‪ ،‬و"المن الستباقي" نطالب بـ "أمن المشاهد"‪ ،‬وحمايته من‬
‫"الوباء الفضائي" وهجمات الفضائيات عليه يوميًا‪ ،‬بترسانة أسلحة دمارها الشامل فأخطر‬
‫ظاهرة فكرية تهدد المواطن العربي اليوم‪ ،‬هذا الكم الهائل من الفضائيات التي أفرزها‬
‫فائض المال العربي في العقود الخيرة‪ ،‬التي تمل جيوبها بإفراغنا من طاقاتنا الفكرية‪،‬‬
‫والجهاز سخافة على عقولنا‪ ،‬وصرف المواطن العربي عن التفكير في محنته‪ ،‬وتحويله‬
‫إلى مدمن سيرك "الكليبات" ومهرجيه المتسابقين عريا ً و"نط ًّا" وزعيقًا‪ ..‬على القفز‬
‫الستعراضي على القيم‪ ،‬وإقناعه بفضائل الكسب السريع‪ ،‬بالغداق عليه بالمال المشبوه‪.‬‬
‫ودون أن ُأطالب بالقتداء بسكان ولية "غوجارتيون" الهندية‪ ،‬التي إثر تضررها بفعل‬
‫الزلزال‪ ،‬قام المئات من سكانها بتحطيم وحرق أجهزة التلفزيون‪ ،‬بغية طرد الرواح‬
‫الشريرة‪ ،‬وتجّنب وقوع زلزال جديد‪ ،‬بعد أن أفتى لهم المتدينون بأن التلفزيون أثار‬
‫الغضب اللهي‪ ،‬بها يبثه من رسائل تخدش الحياء‪ ،‬فراح الناس يرمون بأجهزتهم المحطمة‪،‬‬
‫ُ‬
‫بالعشرات‪ ،‬في جوار المعابد‪ ،‬أحذر من يوم يصل فيه إدمان التلفزيون ببعضنا إلى حد ّ‬
‫أوصل ُأستراليا ً إلى اختيار تلفزيونه زوجة مثالية‪ ،‬وعقد قرانه عليه بمباركة كاهن‪ ،‬وبحضور‬
‫أصدقاء العريس‪ ،‬البالغ من العمر ‪ 42‬سنة‪ ،‬الذي تعهد بالوفاء للتلفزيون‪ ،‬واضعا ً خاتمي‬
‫الزواج في غرفة الجلوس قرب هوائي الستقبال‪ ،‬مصرحا ً بأنه اختار التلفزيون شريكا ً‬
‫لحياتة‪ ،‬وبأن زواجه به يبعده عن المشاجرات‪ ،‬التي كانت ستحدث لو تزوج بامرأة وما كان‬
‫ناقصنا إل ّ التلفزيون‬

‫بابا نويل‪ ..‬طبعة جديدة‬

‫المخرج الفرنسي الذي أضحك‪ ،‬منذ سنوات‪ ،‬المشاهدين كثيرا ً في فيلمه "بابا نويل هذا‬
‫ن الحياة سُتزايد عليه سخرية‪ ،‬وتسند إلى "بابا نويل" الدور الكثر قذارة‪،‬‬ ‫نأ ّ‬‫القذر"‪ ،‬ما ظ ّ‬
‫الذي ما فطن له المخرج نفسه‪ ،‬لُيضيفه إلى سلسلة المقالب "الحقيرة" التي يمكن أن‬
‫ي‬
‫ديس السخ ّ‬ ‫ن الق ّ‬
‫كر ليلة الميلد في لحية بيضاء ورداء أحمر‪ .‬ذلك أ ّ‬ ‫متن ّ‬
‫يقوم بها رجل ُ‬
‫الطّيب‪ ،‬الذي اعتقد الطفال طويل ً أنه ينزل ليل ً من السقف عبر المدفأة‪ ،‬حامل ً خلف‬
‫ظهره كيسا ً مملوءا ً بالهدايا‪ ،‬ليتركها عند أقدام "شجرة الميلد"‪ ،‬ويعود من حيث أتى على‬
‫صغار خالدين إلى النوم والحلم‪ ،‬ما عاد في مظهره ذاك‬ ‫رؤوس القدام‪ ،‬تاركا ً مليين ال ّ‬
‫طهارة والعطاء‪ ،‬مذ غدا الحمر والبيض على يده عنصرا ً من عناصر الخدعة‬ ‫تكريسا ً لل ّ‬
‫ً‬
‫البشرية‪ .‬فبابا نويل العصري‪ ،‬إنتاج متوافر بكثرة في واجهات العياد‪ ،‬تأكيدا لفائض النقاء‬
‫سخاء الذي يسود "معسكر الخير" الذي تحكمه الفضيلة‪ ،‬وتتوّلى نشرها في العالم‬ ‫وال ّ‬
‫جيوش من ملئكة "المارينز" والجنود البريطانيين الطيبين‪ ،‬الذين باشروا رسالتهم‬
‫ن المحال التجارية‬ ‫النسانية في سجن أبو غريب‪ .‬لذا‪ ،‬بدا الخبر نكتة‪ ،‬عندما قرأنا أ ّ‬
‫البريطانية‪ ،‬قررت أن ُتثّبت "كاميرات" في الماكن التي يستقبل فيها "بابا نويل" الطفال‪،‬‬
‫وذلك لتهدئة مخاوف البـــاء الذين يخشون تحّرش "بابا نويل" بأطفالهم‪ .‬بل إنهم ذهبوا‬
‫ملطفة صغارهم أو وضع الطفال في حجره‪ ،‬والكتفاء بوقوفهم‬ ‫حد ّ منع "بابا نويل" من ُ‬
‫وع فيه‬‫ّ‬ ‫يتط‬ ‫زمن‬ ‫في‬ ‫ية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والضح‬ ‫ديس‪..‬‬‫ّ‬ ‫الق‬ ‫بين‬ ‫تجمع‬ ‫قد‬ ‫تذكارية‪،‬‬ ‫إلى جانبه لخذ صورة‬
‫ديس‬ ‫ي العالم لحفظ السلم‪ ،‬وق ّ‬ ‫مصّرا ً على أن يكون شرط ّ‬ ‫البعض لنشر عولمة المان‪ُ .‬‬
‫ّ‬
‫الكرة الرضية‪ ،‬والرسول الموكل بالترويج للقيم الفاضلة واستعادة البراءة المفقودة لدى‬
‫مضحك أن يفتقد المان والفضيلة في عقر داره‪ ،‬وأن يصل به الذعر حد ّ الش ّ‬
‫ك‬ ‫البشرية‪ُ ،‬‬
‫ديسه وأوليائه الصالحين‪ ،‬فل يجرؤ على ائتمانهم على أولده‪ ،‬منذ أن سطا‬ ‫في أخلق ق ّ‬
‫ل لون السلطة الدينية ولون الفضيلة‬ ‫"بابا نويل" على اللون الحمر‪ ،‬الذي كان من قب ُ‬
‫وله إلى لون تجاري يرمز إلى بيع الفرح وهدايا‬ ‫سة الذي يلبسه "الكاردينالت"‪ ،‬فح ّ‬ ‫دا َ‬
‫ق َ‬
‫وال َ‬
‫العياد‪ .‬في زمن الخوف الغربي من كل شيء‪ ،‬وعلى كل شيء‪ ،‬ما عاد الطفال ينتظرون‬
‫حَيـــاء‬
‫"بابانويل"‪ ،‬بل هو الذي أصبح ينتظرهم ليتحّرش بهم‪ ،‬من دون إحساس بالذنب أو َ‬
‫من لحيته البيضاء )الصناعية(‪ ،‬وهالة النقاء التي تحيط بملمحه الطيبة‪ ،‬تذكيرا ً بالرسل‬
‫والملئكة‪ .‬ولماذا عليه أن يستحي والرهبان أيضا ً يتحرشون بالطفال‪ ،‬من دون اعتبار‬
‫متخّلفين عقليا ً يغتصبن مرضاه ّ‬
‫ن‬ ‫لوقار ثوبهم السود‪ ،‬والممرضات العاملت على العناية بال ْ ُ‬
‫مكترثات ببلوزاتهن البيضاء ورسالتهن النسانية؟ في نهاية السنة‪ ،‬وقع‬ ‫الصغار والكبار‪ ،‬غير ُ‬
‫ن الفاجعة‪ ،‬والنسان‬ ‫ّ‬ ‫س‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫باكر‬ ‫يبلغون‬ ‫الطفال‬ ‫أصبح‬ ‫فقد‬ ‫مخيفة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫اكتشافات‬ ‫الغربيون على‬
‫الذي كان يعاني كهولة أوهامه‪ ،‬أصبح يشهد موتها مع ميلد طفولته‪ ..‬فقد اكتشف علماء‬
‫ن النسان الغربي ُيصّلي حتى العمر الذي يتوقف معه عن التصديق بوجود‬ ‫النفس لديهم‪ ،‬أ ّ‬
‫ن الفاجعة ليست في اكتشاف الطفال عدم وجود "بابا‬ ‫ما أنا‪ ،‬فأعتقد أ ّ‬‫"بابا نويل"‪ .‬أ ّ‬
‫ما علماء آخرون فقد‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫وقذر‪.‬‬ ‫و"واطي"‪..‬‬ ‫حرامي‬ ‫نه‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫اكتشافهم‬ ‫في‬ ‫هي‬ ‫ما‬ ‫نويل"‪ ،‬بقدر‬
‫ديس نقول باستخدامهم تقنية ُتستعمل‬ ‫َ‬
‫اكتشفوا‪ ،‬أثناء تطويرهم صورة ثلثية الَبعاد للق ّ‬
‫ديس نقول‪ ،‬تركي الصل(‪ ،‬لم يكن‬ ‫ّ‬ ‫)الق‬ ‫الحقيقي‬ ‫ن "بابا نويل"‬ ‫ل جرائم القتل‪ ،‬أ ّ‬ ‫عادة في ح ّ‬
‫ً‬
‫متوّرد الوجنتين‪ ،‬بل كان نحيل أسمر اللون‪ ،‬ذا وجه عريض‪ ،‬وأنف كبير‪ ،‬ذا لحية بيضاء‬
‫شبهات الجديدة لـ"بابا نويل"‪ ،‬بإعطائه ملمح بعض‬ ‫دمة للتخّلص من ال ّ‬ ‫مق ّ‬
‫مرّتبة‪ .‬فهل هذه ُ‬
‫مطاَردين من طرف معسكر الخير‪ ،‬الذين برعوا في استعمال الفضائيات من كهوفهم‪،‬‬ ‫ال ْ ُ‬
‫منذ أن أصبحت الهدايا‪ ،‬بدل أن تهبط عبر المداخن‪ ،‬تهبط عبر "إف‪ ،"15/‬لتستقر في‬
‫َأســّرة الطفــال‪ ..‬ل في أحذيتهم الصغيــرة؟‬

‫بحثا ً عن حقيبة "بنت عائلة"‬

‫م‬
‫وي يت ّ‬
‫قل الج ّ‬‫على ِغـرار "جول فيرن"‪ ،‬الذي كتب "العالم في ثمانين يومًا"‪ ،‬يوم كان التن ّ‬
‫على علوّ الحلم المنخفضة بواسطة البالونات الطائرة الضخمة‪ ،‬في إمكاني أن أكتب‬
‫مسلسل ً عنوانه "أميركا في ثمانية أيام"‪ .‬فحتى في اللفّية الثالثة‪ ،‬ليزال في إمكان المرء‬
‫مسبقة‪ ،‬وكان‬ ‫مثقلة بالفكار ال ْ ُ‬ ‫أن يرى العالم بذلك الندهاش الّول‪ ،‬خاصة إذا كانت ناقته ُ‬
‫ب في حد ّ ذاته‪ ،‬بتلك‬ ‫ٌ‬ ‫كوك‬ ‫فيها‬ ‫ل واحدة‬‫يشد ّ الرحال إلى أميركا قاصدا ً أكثر من ولية‪ ،‬ك ّ‬
‫دد اللوان والديان‬ ‫متع ّ‬
‫كانها‪ .‬فهناك ستدرك‪ ،‬وسط الكوكتيل البشريّ ُ‬ ‫التشكيلة العجيبة لس ّ‬
‫والعراق والشكال‪ ،‬معنى أن يكون "اكتشاف قارة جديدة أسهل مليون مّرة من اكتشاف‬
‫كانها"‪ .‬في طائرة "اليرباص" الضخمة التي كانت تقّلني من باريس إلى‬ ‫عقل وقلب أحد س ّ‬
‫ُ‬
‫نيويورك صبحًا‪ ،‬بعد أن ألقت بي أخرى فجرا ً في مطار شارل ديغول‪ ،‬قادمة من بيروت‪،‬‬
‫لم ُأحاول أن ُأبّرر قبول ذلك الزعيم التاريخي‪ ،‬الغيور على فرنكوفونيته‪ ،‬فكرة تسليمي‬
‫سبّية إلى جون كيندي ومطار نيويوركي يحمل اسمه ول يدين سوى بلغته‪ ،‬أنا التي مازلت‬
‫ُأباهي بإتقاني اللغة الفرنسية‪ ،‬وعدم امتلكي سواها جواز سفر دوليا ً لغويًا‪ ،‬في عالم تقول‬
‫ن ثلثة بليين شخص سيتكّلمون فيه النجليزية مع حلول عام ‪ ،2015‬أي أنني‪،‬‬ ‫البحاث إ ّ‬
‫َ‬
‫مية باللغة النجليزية‪ ،‬سأرقى بعد عشر سنوات إلى النصف‬ ‫ُ‬
‫ن بقيت على هذا القدر من ال ّ‬ ‫إ ْ‬
‫متخّلف‪ ،‬ولن أجد‬ ‫عمرا ً كامل ً إلى ثلثه ال ُْ‬
‫ُ‬ ‫انتسبت‬ ‫قد‬ ‫أكون‬ ‫أن‬ ‫بعد‬ ‫العالم‪،‬‬ ‫من‬ ‫الجاهل‬ ‫الثاني‬
‫مفاخرة الفرنسيين بامتلكهم لغة الدب والفكر‪ ،‬ورفضهم التعاطي مع‬ ‫لي عزاًء آنذاك في ُ‬
‫لغة ل رصيد لها إل ّ في عالم الرقام والمعلوماتية‪ .‬فالجميع سيكونون قد انسحقوا أمام‬
‫جل فاجعتي وُأخفف من مصيبتي‪ ،‬اخترت السفر‬ ‫ُ‬
‫بلدوزر النجليزية‪ ،‬وانتهى المر‪ .‬وحتى أؤ ّ‬
‫على متن الطيران الفرنسي‪ ،‬واشترطت على الجامعات التي دعتني‪ ،‬أن ترافقني‪ ،‬من‬
‫دة‬‫ظمون هناك أنني جا ّ‬ ‫نقطة انطلقي‪ ،‬مترجمة أعمالي إلى النجليزية‪ .‬وعندما َأدَرك المن ّ‬
‫طط رجلي في المّية‪ ..‬إل ّ ومعاي‬ ‫دية من غّنى "والّله يا ناس ما راكب ول حا ِ‬ ‫في شرطي‪ ،‬ج ّ‬
‫قلتنا عابرة القارات والوليات‪،‬‬ ‫مترجمتي أثناء تن ّ‬ ‫ُ‬ ‫بمصاريف‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫أيض‬ ‫فل‬
‫ّ‬ ‫التك‬ ‫عدوّية"‪ ،‬قّرروا‬
‫َ‬
‫وإقامتنا الخاطفة في الفنادق‪ ،‬التي ما كّنا نفتح فيها حقائبنا‪ ،‬أو بالحرى ما كادت بارعـة‬
‫تفتح فيها حقيبتها إل ّ لتحزمها إلى وجهة جديدة‪ ،‬ومحاضرة جديدة‪ ،‬ينتظرنا فيها حشد آخر‬
‫ما سؤالي الوحيد الذي لم أطرح سواه‪ ،‬خلل ثلثة أيام‪ ،‬فلم يكن سوى‬ ‫ُ‬
‫وأسئلة أخرى‪ .‬أ ّ‬
‫دة في معرض الكتاب في نابولي‪" :‬يا‬ ‫ذلك السؤال إّياه )أي والّله( الذي طرحُته ليام ع ّ‬
‫ي أن أتعلم كيف ُيطرح هذا السؤال بك ّ‬
‫ل‬ ‫ّ‬ ‫ناس‪ ..‬أين الحقيبة؟"‪ .‬ويبدو أنه أصبح لزاما ً عل ّ‬
‫ل مطارات العالم‪ .‬فما كدنا ننزل في‬ ‫اللغات‪ ،‬لنني أتوّقع أن تتخّلى عني حقيبتي في ك ّ‬
‫متها‪ ،‬التي ستغدو‬ ‫مطار جون كيندي في نيويورك‪ ،‬حتى باشرت صديقتي بارعة الحمر مه ّ‬
‫مترجمة سؤالي إلى ك ّ‬
‫ل‬ ‫ُ‬
‫ليام مهمتها الولى التي ستبدأ بها نهارها وُتنهي بها مساءها‪ُ ،‬‬
‫لغات الغضب والحتجاج‪ ..‬والتهديد‪ ،‬وملء استمارتي بإعلن ضياع أمتعتي‪ .‬ولم تفهم بارعة‬
‫مواساة‪ ،‬ل‬ ‫دمت لي هدّية نجدة و ُ‬ ‫سّر استسلمي لقدري‪ ،‬وضحكي من محفظة صغيرة قُ ّ‬
‫ق‪ ،‬من أن‬ ‫تليق لوازمها القليلة والصغيرة‪ ،‬من أدوات حلقة ومشط ومعجون أسنان‪ ..‬ووا ٍ‬
‫ل الّلي في صندوقي فوقي"‪.‬‬ ‫تقيني لعنة حقيبتي التي تطاردني حيثما حللت‪ ،‬جاعلة من "ك ّ‬
‫فقد كانت الحقيبة‪ ،‬ما تكاد تصل إلى فندق حتى ُنغّير عنوان إقامتنا إلى ولية‪ ،‬جديدة‪،‬‬
‫ُ‬
‫جلة‬ ‫مس ّ‬ ‫فتلحق بنا في طائرة أخرى‪ ،‬أو تصل إلى الفندق‪ ،‬فل يستدّلون على اسمي‪ ،‬لنها ُ‬
‫ور وقتها أنني‬ ‫ي‪ .‬ما كنت أتص ّ‬ ‫على اسمي الزوجي‪ ..‬بينما حجزت غرفتي تحت اسمي الدب ّ‬
‫ل "صايعــة ضايعــة" بين‬ ‫سأقضي أربعة أيام من دون حاجاتي‪ ،‬وأن حقيبتي ستظ ّ‬
‫المطارات‪ ،‬تجول وتصول بمفردها بين بيروت وباريس ونيويورك وميتشيغن وفيلديلفيا‪..‬‬
‫مـــراد‪ ،‬المسكين المحجوز منذ‬ ‫ما سافر أخي ُ‬ ‫وبوسطن‪ .‬لقد سافرت في أسبوع أكثر م ّ‬
‫ً‬
‫ثلثين سنة على كرسّيه في الجزائر‪ .‬حتمــا‪ ..‬هذه حقيبة "فلتانة"‪ ،‬ل أمل في ردع نزعتها‬
‫طاعة‪ .‬ما أكاد ُأسّلمها إلى موظف مطار حتى تهيج وتهرب مني‪،‬‬ ‫إلى الهروب من بيت ال ّ‬
‫منهكة كقطة في شهر شباط‪ ،‬بعد أن يعود لي بها موظف‬ ‫متعَبة و ُ‬ ‫ول تعود لي إل ّ بعد أيام‪ُ ،‬‬
‫ف تنقلتها المشبوهة‪ ،‬كما يعود‬ ‫ُ‬
‫إيطالي تارة‪ ،‬وأميركي تارة أخرى‪ ،‬ومن عنقها يتدّلى مل ّ‬
‫رجل من شرطة رعاية الحداث بولد طائش‪ .‬يا ناس‪ ..‬ألم يعد في إمكان المرء أن يعثر‬
‫على بنت عائلة‪ ..‬حتى بين الحقائب؟‬

‫بدوية‪ ..‬في أميركا‬

‫لحدثكم عن جولتي في أميركا‪ ،‬التي قصدتها ليس فقط لتلبية دعوة لثلث‬ ‫لحقًا‪ ،‬سأعود ُ‬
‫ذى من قول النفري‪:‬‬ ‫للّبي نداًء مجنونا ً داخلي‪ ،‬يتغ ّ‬‫جامعات شرفتني باستضافتي‪ ،‬بل أيضا ً ُ‬
‫ّ‬
‫مـن مكان في العالم‪ ،‬بعدما‬ ‫"في المخاطرة جزء من النجاة"‪ .‬فقد بدت لي أميركا أأ َ‬
‫ل تشكيلة الهوال والمخاطر‪ .‬قلت‪ ،‬هذه بلد فرغت من المجرمين والقتلة‬ ‫درت إليه ك ّ‬
‫ص ّ‬
‫وخلدت إلى الراحة‪ .‬ول أرى‪ ،‬في زمن الذعر الكوني‪ ،‬من وجهة للمان سواها‪ ،‬مستندة‬
‫إلى نكتة عن ذلك اللبناني‪ ،‬الذي كان أيام الحرب الهلية‪ ،‬دائم السؤال‪" :‬منين عم يطلع‬
‫الضرب؟" وما يكاد يستدل على المكان‪ ،‬الذي ينطلق منه القصف حتى يركض نحو المدفع‬
‫كي يضمن وجوده‪ ،‬حيث تنطلق "الضربات"‪ ،‬ل حيث تتساقط‪ .‬طبعًا‪ ،‬الخطر قد ل يكون هنا‬
‫مخاطرة تبدأ‬‫ي‪ ،‬ال ْ ُ‬
‫ول هناك‪ ،‬بل في المسافة الفاصلة بين المدفع‪ ..‬والهدف‪ .‬بالنسبة إلـ ّ‬
‫ُ‬
‫متاهة‪ ،‬التي تمتد ّ نهاياتها كأخطبوط في‬ ‫في الوصول إلى أيّ مطار من تلك المطارات ال ْ َ‬
‫وابات‪ ،‬لكل منها منافذ‬ ‫م تعود لتتفّرع إلى )‪ (Gates‬وب ّ‬ ‫ل صوب بعدد أحرف البجدية‪ ،‬ث ّ‬ ‫ك ّ‬
‫جوية‪ ،‬قد تصل إلى المئة‪ .‬في هذه المطارات‪ُ ،‬تعاودني فطرتي البدوية‪ ،‬وأتحول إلى امرأة‬
‫دث كثيرا ً أن تهت في مطار شارل ديغول‪.‬‬ ‫مية بك ّ‬ ‫ُ‬
‫ح َ‬
‫ل اللغات‪ ،‬بما في ذلك الفرنسية‪ .‬لذا َ‬ ‫أ ّ‬
‫وكما يغرق البعض في كوب ماء‪ ،‬أتوه أنا بين حرف وآخر‪ ..‬ورقم وآخر‪ ،‬سالكة السللم‬
‫الكهربائية نحو التجاه الخطأ‪ ،‬فل ألحق الطائرة إل ّ وقد حفظ جميع المسافرين اسمي‬
‫ي بالمايكروفونات‪ .‬ولول أنني سافرت إلى معرض فرانكفورت برفقة‬ ‫لفرط ما نادوا عل ّ‬
‫ة بتلبيب جمانة حداد‪ ،‬لحقة بصلعة‬ ‫الوفد اللبناني‪ ،‬وغادرت المطار كما وصلته ممسك ً‬
‫عّباس بيضون‪ ،‬وسرب عبده وازن وعقل عويط‪ ،‬لعاد الكّتاب في العام المقبل ليجدوني‬
‫كذلك اليراني المشّرد‪ ،‬المقيم منذ سبع عشرة سنة في مطار شارل ديغول‪ .‬وقد‬
‫استوطنت المطار‪ ،‬وفردت أوراقي وألواح الشوكولتة‪ ،‬وجلست أكتب روايتي‪ ،‬في انتظار‬
‫أن يتنّبه رئيس التحرير إلى غيابي‪ ،‬فيبعث بفريق إنقاذ ليعود بي إلى بيروت‪ .‬أولدي وجدوا‬
‫في جهلي اللغة النجليزية‪ ،‬ومعاناتي من "رهاب المطارات"‪ ،‬وإصراري على البقاء قروية‬
‫وع جميعهم‪ ،‬على غير عادتهم‪ ،‬لخدمتي وعرضهم‬ ‫في عصر القرية الكونّية‪ ،‬ذريعة للتط ّ‬
‫سان‪ ،‬المقيم في لندن‪ ،‬الذي ذهب حد ّ اقتراح أخذ إجازة‬ ‫مرافقتي إلى أميركا‪ ،‬بمن فيهم غ ّ‬
‫من البنك الذي يعمل فيه‪ ،‬والحضور لملقاتي في مطار باريس‪ ،‬بعد أن خفت أن أضيع منه‬
‫في مطار لندن! ذلك أن جميعهم خّريجو الجامعات الميركية‪ ،‬ويحلمون منذ الزل بزيارة‬
‫الجامعات التي دعتني‪ ،‬ولم أكن قد سمعت ببعضها قبل ذلك‪ .‬وليد‪ ،‬أصغرهم )‪ 21‬سنة(‪،‬‬
‫صــاح بالفرنسية "واووو‪" ..‬يال" بتعرفي شو "يال" ماما؟ إنها جامعة عمرها ‪ 5‬قرون‪،‬‬
‫تتنافس مع جامعة "هارفرد" على الصدارة‪ ،‬معظم رؤساء أميركا تخّرجوا فيها"‪ .‬شعرت‬
‫برغبة في إدهاشه‪ ،‬لعلمي أنه سيرسل ليل ً "إيميل" إلى غسان‪ ،‬لينقل إليه أخبار عجائبي‪،‬‬
‫ي ل يكلفهما أكثر من ُقبلة‪،‬‬ ‫وأحيانا ً ليتشاورا في إدارة "مكاسبي"‪ ،‬كتمرين مصرف ّ‬
‫والطمئنان على صحتي )ماما‪ ..‬مارسي الرياضة‪ ..‬وهل راجعت الطبيب‪ ،‬بالنسبة إلى وجع‬
‫دق‪،‬‬ ‫مص ّ‬ ‫ملني غير ُ‬ ‫كتفك؟(‪ .‬قلت‪" :‬وأيضا ً سأزور جامعة )‪ ،(MiT‬حيث لي محاضرتان"‪ .‬تأ ّ‬
‫ت‬
‫م ستحدثينهم برّبك يا ماما وأن ِ‬ ‫وقال‪" :‬إنها أشهر جامعة تكنولوجية في أميركا‪ ..‬ع ّ‬
‫ُ‬
‫ت استعمال "ريموت كونترول" الفضائيات؟"‪ .‬واصلت لجّننه‬ ‫تستعينين بالشّغالة‪ ،‬كّلما أرد ِ‬
‫دة‪ ،‬ظ ّ‬
‫ل‬ ‫ُ‬
‫م سأعّرج على جامعة "ميتشيغن"‪ ،‬وأعود عن طريق نيويورك"‪ .‬ليام ع ّ‬ ‫أكثر‪" :‬ث ّ‬
‫ت جميلة هذه‬ ‫وليد ُيهاتفني مساًء‪ ،‬بذريعة السؤال عني‪ُ .‬يغازلني بين جملتين "ماما‪ ..‬أن ِ‬
‫ُ‬
‫ك جميلة‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫عمر‬ ‫ك بالنسبة إلى‬ ‫قا ً أجد ِ‬‫ك‪ ..‬لكني ح ّ‬ ‫اليام"‪ .‬يستدرك‪" :‬أنا ل أريد شيئا ً من ِ‬
‫أجمل من ُأمهات أصدقائي"‪ُ .‬أخفي ضحكتي "أدري أنه سيختم المكالمة سائل ً بلطف‪:‬‬
‫ك إلى نيويورك‪ ..‬پليز إنها حلمي"‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬علمت أن ابنة صديقتي‬ ‫"ماما‪ ..‬خذيني مع ِ‬
‫ً‬
‫ت أن ُترافقني عوضا عن الولد‪ ،‬الذين كانوا سيهيجون‬ ‫ضل ُ‬‫مترجمتي بارعة الحمر‪ ،‬التي ف ّ‬ ‫و ُ‬
‫لمومي نفسه من قَِبل ابنتها‪،‬‬ ‫ويتخّلوا عني في ولية من الوليات‪ ،‬تعرضت للبتزاز ا ُ‬
‫ّ‬
‫المقيمة في كندا‪ ،‬كي ترافقها في هذه الجولة الجامعية‪ .‬بارعة ظلت ممسكة بيدي‬
‫وأعصابي‪ ،‬حتى عودتنا إلى مطار نيويورك‪ .‬وعلى الرغم من كونها تدّبرت المر‪ ،‬كي‬
‫نفترق‪ ،‬هي إلى مونتريال وأنا إلى باريس‪ ،‬من المطار نفسه‪ ،‬وفي رحلت متقاربة‪ ،‬ما‬
‫دعني وتختفي‪ ،‬حتى ضعت وأخلفت طائرتي‪ ..‬وقضيت الليل في انتظار طائرة‬ ‫كادت تو ّ‬
‫ُأخـــرى‬

‫بطاقات معايدة‪ ..‬إليك‬

‫‪ -‬ةةةة‬
‫أغــار من الشياء التي‬
‫يصنع حضور َ‬
‫ك عيدها ك ّ‬
‫ل يوم‬
‫لنها على بساطتها‬
‫مقاربتك‬‫تملك حقّ ُ‬
‫وعلى قرابتي بك‬
‫ل أملك سوى حقّ اشتياقك‬
‫ما نفع عيد‪..‬‬
‫ك؟‬‫بب َ‬ ‫ّ‬ ‫الح‬ ‫فيه‬ ‫ل ينفضح‬
‫أخاف وشاية فتنتك‬
‫بجبن ُأنثى لن ُأعايدك‬
‫ضل مكر الحتفاء بأشيائك‬ ‫ُ‬
‫أف ّ‬
‫ككل عيد سأكتفي بمعايدة مكتبك‪..‬‬
‫مقعد سيارتك‬
‫طاولة سفرتك‬
‫مامك‬ ‫مناشف ح ّ‬
‫شفرة حلقتك‬
‫شراشف نومك‬
‫أريكة صالونك‬
‫منفضة تركت عليها رماد غليونك‬
‫وك‬ ‫ربطة عنق خلعتها لت ّ‬
‫قميص معّلق على مشجب تر ّ‬
‫ددك‬
‫صابونة مازالت عليها رغوة استحمامك‬
‫فنجان ارتشفت فيه‬
‫قهوتك الصباحّية‬
‫جرائد مثنية صفحاتها‪ ..‬حسب اهتمامك‬
‫ثياب رياضية عِلق بها عرقك‬
‫حذاء انتعلته منذ ثلث سنوات‬
‫لعشائنا الّول‪..‬‬

‫‪ -‬ةةة‬
‫ل أتوّقع منك بطاقة‬
‫مثلك ل يكتب لي‪ ..‬بل يكتبني‬
‫ابعث لي إذن عباءتك‬
‫لتعايدني عنك‪..‬‬
‫ابعث لي صوتك‪ ..‬خبث ابتسامتك‬
‫مكيدة رائحتك‪ ..‬لتنوب عنك‪.‬‬

‫‪ -‬ةةةة ةةةةةةة‬
‫انتهى العام مرتين‬
‫الثانية‪ ..‬لنك لن تحضر‬
‫ناب عنك حزن ُيبالغ في الفرح‬
‫غياب ُيزايد ضوءا ً على الحاضرين‬
‫ك ّ‬
‫ل نهاية سنة‬
‫يعقد الفرح قرانه على الشتاء‬
‫يختبرني العيد بغيابك‬
‫أمازلت داخلي تنهطل‬
‫كّلما لحظة ميلد السنة‬
‫شاق العالم‬ ‫تراشق ع ّ‬
‫قبل‬‫ونة‪ ..‬وال ُ‬
‫بالوراق المل ّ‬
‫وانشغلت شفتاك عني بال ْ ُ‬
‫مجاملت‪..‬‬
‫لمّرة تعال‪..‬‬
‫تفاديا ً لثام ِنفاق آخر ليلة‪..‬‬
‫في السنة!‬

‫تداعيات صيفية‬
‫ت بيـــروت إلى"كــــان" في العتمة‪ ،‬على ضـــوء الشموع‪ .‬فمن ن َِعم بيـــروت هذه‬ ‫غـــادر ُ‬
‫لحرى التقنين الكهربائي‪،‬‬ ‫اليام‪ ،‬إضافة إلى المن ال ْمستتب‪ ،‬النقطاع الكهربائي‪ ،‬أو با َ‬
‫ُ‬
‫ن علينا‬ ‫ّ‬ ‫يم‬ ‫ونعمة‬ ‫طيبة‪،‬‬ ‫التفاتة‬ ‫ساعات‪،‬‬ ‫ست‬ ‫كل‬ ‫انقطاعها‬ ‫بعد‬ ‫الذي يجعل عودة الكهرباء‬
‫فل بعد ذلك مصائب‬ ‫وت نشرة الخبار المسائية‪ ،‬بحيث تتك ّ‬ ‫نف‬
‫ُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫من يعنيهم على القل‪،‬‬ ‫بها َ‬
‫العاَلم وفواجعه‪ ،‬بكهربة مزاجنا‪ ،‬حتى ساعة عودة الكهرباء‪ ،‬الساعة السادسة صباحا‪ً.‬‬
‫دد بنفسي إجازة شّغالتي‪ ،‬توفيرا ً للوقت والمال‪,‬‬ ‫ُ‬
‫قبلها بيومين‪ ،‬كنت في وزارة العمل‪ ،‬أج ّ‬
‫فقد ُفوجئت منذ سنتين‪ ،‬بمدى شعبيتي في تلك الوزارة‪ ،‬بدءا ً من العسكري الواقف عند‬
‫مدخلها‪ ،‬الذي لم يفْته سوى كتابي الخير‪ ،‬صعودا ً إلى الطوابق العليا‪ ،‬حيث بعض‬
‫محّبي الدب‪ ،‬أو أساتذة جامعيين‪ ،‬مثل مستشار الوزير‪ ،‬الدكتور نبيل‬ ‫المسؤولين‪ُ ،‬‬
‫الخطيب‪ ،‬الذي سبق أن دّرس أعمالي في الجامعة اللبنانية‪ ،‬ما أتاح لي إنجاز معاملتي‬
‫في نصف ساعة‪ ،‬أمام "فنجان قهوة"‪ ،‬شرف ل يعرفه الكاتب العربي إل ّ في لبنان‪ ،‬بعدما‬
‫دة‪ ،‬مئة دولر‪ ،‬لوسيط كان يأتيني برخصة العمل بعد يومي‪.‬‬ ‫دفعت‪ ،‬سنوات ع ّ‬
‫ول بعد ذلك إلى نصف نهار‪ ،‬قضيته محجوزة في انتظار وقف إطلق‬ ‫لكن نصف الساعة تح ّ‬
‫ن كل الجهات‪ ،‬ابتهاجا ً بالتجديد لرئيس مجلس النواب اللبناني‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫م‬ ‫ل ُيدّوي‬ ‫النار‪ ،‬الذي ظ ّ‬
‫رئيسا ً للمّرة الرابعـــة‪.‬‬
‫صديقة طبيبة ُتقيم في المبنى المقابل للوزارة‪ ،‬لجأت إليها‪ ،‬منعتني من انتظار ابني في‬
‫ت قدوم سيارته‪ ،‬وأنا واقفة في‬ ‫الشارع‪ ،‬ونصحتني بأن ُأهاتفه كي ل يحضر‪ ,‬وكّلما تف ّ‬
‫قد ُ‬
‫الطابق الثالث خلف الزجاج‪ ،‬صاحت بي أن أبتعد عن النافذة‪ ،‬خشية أن تصيبني رصاصة‬
‫جنت‪ ،‬إذ لم تطلق سراحي إل ّ بعد ثلث ساعات‬ ‫قد تخترق الزجاج‪ ,‬خلتها من ذعرها أنها ُ‬
‫متقطعة للنيران‪.‬‬ ‫دية الطلقات ال ُْ‬ ‫ّ‬ ‫متح‬ ‫ُ‬ ‫وصلتها‬ ‫من الحجز‪ ،‬بعد أن طلبت سيارة ُأجرة‬
‫درج‬‫طل‪ ،‬ضّيفني أحدهم مبتهجًا‪ ،‬حلويــات‪ ،‬تناولت قطعة منها ونزلت ال ّ‬ ‫مع ّ‬ ‫أمام المصعد ال ْ ُ‬
‫مقّنن للنقطاع الكهربائي‪ ,‬في الليل‪ ،‬هاتفت صديقتي كي‬ ‫في العتمة‪ ,‬فقد كنا في الوقت ال ْ ُ‬
‫مقّنن لعودة الكهرباء‪ ،‬جــاء في النشرة‬ ‫ْ‬
‫أشكرها على حجزي في عيادتها‪ ,‬فأثناء الوقت ال ُ‬
‫جم اللبناني‬ ‫ُ ّ‬‫من‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫بدا‬ ‫لماذا‬ ‫أدركت‬ ‫البهجة‪.‬‬ ‫ن ثلثة مواطنين سقطوا برصاص‬ ‫المسائية‪ ،‬أ ّ‬
‫ميشيل حايك متشائما‪ ،‬وهو يقرأ علينا "فنجان لبنان" لهذه السنة‪ ,‬ففي إمكاننا تحويل‬ ‫ً‬
‫هج إلى مآتـــم بسرعة رصاصة طائشة‪ ،‬مزدحمين بالموت‪ ،‬حتى في أفراحنا‪ ،‬ل‬ ‫ال ْ َ‬
‫مبا ِ‬
‫جرة‪،‬‬ ‫نستطيع إل أن نموت ابتهاجا‪ .‬فهنا ل يكفي أن تنجو من سيارة مفخخة‪ ،‬أو عبوة متف ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫بل عليك أيضا ً أن تحذر البهجة‪ ,‬وقد يكون الفرح قاتل ً حتى إذا كان المبتهج غيرك‪.‬‬
‫كرت أنني توّقفت‬ ‫في مطار ميلنو‪ ،‬حيث قضيت ساعة ونصف الساعة‪ ،‬بين طائرتين‪ ،‬تذ ّ‬
‫في المطار إّيـاه مع الشهيد سمير قصير‪ ،‬ونحن في طريقنا في شهر مارس الماضي‪ ،‬إلى‬
‫نابولي‪ ،‬لحضور معرض الكتاب‪.‬‬
‫يا الّلــه‪ ،‬كم قضى المسكين من الوقت على قلق‪ ،‬بعد وصولنا لحقا ً إلى نابولي‪،‬‬
‫ن حقيبتي لم تصل‪ ,‬كان عليه‪ ،‬هو القادم من دون أمتعة سوى حقيبة يده‪ ،‬أن‬ ‫واكتشافي أ ّ‬
‫م القيام‬ ‫ث‬ ‫أخرى‪،‬‬ ‫ينتظرني أكثر من نصف ساعة‪ ،‬للتأكد من عدم وصولها في رحلة ُ‬
‫ّ‬
‫بالجراءات اللزمة للتصريح بضياعها‪.‬‬
‫ل‪ ،‬كي أنقذ‬ ‫مله طوي ً‬ ‫ّ‬ ‫أتأ‬ ‫فقط‬ ‫أو‬ ‫كثيرة‪،‬‬ ‫أشياء‬ ‫فيه‬ ‫له‬ ‫أقول‬ ‫نصف ساعة‪ ،‬كان في إمكاني أن‬
‫مسّرة التي يتركها فينا أولئك الذين‪ ،‬ل ندري ونحن نلتقيهم‪ ،‬أننا نراهم للمّرة‬ ‫نفسي من ال ْ َ‬
‫الخيــرة‪.‬‬
‫سميــــر‪ ،‬لم ُأجالسـك كثيرًا‪ ،‬وأنت حــي‪ ،‬ول مشيت في جنازتك ميتًا‪ ..‬جمعتنا الندوات‬
‫ك ستكون هنا لُتواصل‬ ‫أكثر من مرة‪ ،‬وجمعنا هذا المطار مّرة واحدة‪ .‬لــــــذا‪ ،‬ما ظننت َ‬
‫المشي معي فيه بين طائرتين‪.‬‬
‫ً‬
‫صديقي‪ ،‬الذي أصبح بموته صديقي‪ ،‬يا للحماقــــــة‪ ,‬في الزمن الضائع‪ ،‬بحثا عن الحقيبة‪،‬‬
‫ك الوســـيم‪ ،‬ومازالت‬ ‫وبت طلقتها نحو قلم َ‬ ‫كان أجدى بنا البحث عن الحقيقة‪ ،‬تلك التي ص ّ‬
‫فحة ضـد ّ الرصاص‪.‬‬ ‫مص ّ‬‫وحدها تمشي بيننا ُ‬

‫"تذ ّ‬
‫كروا‪" ..‬أرخص ما يكون إذا غل"‬

‫ت الكتابة في "زهرة الخليج"‪ ،‬منذ ما يقارب الثلث سنوات‪ ،‬وأنا أتحاشى التوّقف‬
‫مــذ بدأ ُ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫عند العلنات‪ ،‬التي "يخزي العين"‪ ،‬تمل المجلة حتى يفيض بها غلفها أحيانا إلى غلفين‪.‬‬

‫ي‪ ،‬وشهادة بنجاح‪ ،‬قّلما تحظى به مطبوعة‪ ،‬فقد كان في هذا‬ ‫وإذا كان في هذا جــاه إعلم ّ‬
‫المر قصاصي‪ ،‬إذ كان لبد أن أتعّثر بين صفحة وُأخرى‪ ،‬بدعاية لسلعة‪ ،‬ل يفوق ثمنها‬
‫إمكاناتي‪ ،‬بقدر ما يفوق ما يسمح لي حيائي بإرفاقه على الكماليات‪.‬‬

‫في الواقع‪ ،‬قّلما كنت أتنّبـه لغلئها‪ ،‬لني كنت بتجاهلها‪ ،‬والتع ّ‬
‫فف عن النبهار بها‪،‬‬
‫أسترخصها وكنت أظنني ابتدعت فلسفة في مقاومة مثل هذه الغراءات‪ ،‬حتى قرأت قول‬
‫المتنبي‪:‬‬

‫ي تركته ‪ ---‬فيكون أرخص ما يكون إذا غل"‬


‫"وإذا غل شيء عل ّ‬

‫فازددت إيمانا ً بعظمة شاعر‪ ،‬ما ترك حكمة إل ّ وسبقنا إلى قولها بما هو أفصح‪.‬‬
‫ن‬‫فازددت إيمانا ً بعظمة شاعر‪ ،‬ما ترك حكمة إل ّ وسبقنا إلى قولها بما هو أفصح غير أ ّ‬
‫من لي احتياجاتي من لوازم وكماليات نسائية‪،‬‬ ‫خبرًا‪ ،‬قرأته مؤخرًا‪ ،‬أوحى لي بفكرة قد تؤ ّ‬
‫خ الستهلك‪ ،‬وذلك بتقاضي راتبي مباشرة على هيئة‬ ‫دون الشعور بالذنب أو الوقوع في ف ّ‬
‫حاجات وبضائع معروضة في العلنات‪ ،‬مادامت من "حواضر البيت"‪ ،‬وبعض ما تفيض به‬
‫خزائن "زهرة الخليج"‪ ،‬وواجهاتها من سلع أحتاج إليها في مواسم العياد‪ ،‬بعد أن اعتدت‬
‫أن ُأنفق دخلي على البيت والولد‪ ،‬وعلى المحتاجين حولي من عباد وحان‪ ،‬حسب نصيحة‬
‫ن في تدليلها على ما يبدو‬ ‫حّنا مينة في إحدى المّرات‪ ،‬أن أكتسب عادة تدليل نفسي‪ ،‬ل ّ‬
‫منفعة أدبية! ولنني أتوّقع أن تكون معظم زميلتي في المجلة في وضعي‪ ،‬فإنني أحثهن‬
‫على مساندة عرضي‪ ،‬ومطالبة مدير التحرير بدفع معاشهن بعد الن‪ ،‬ساعات ومجوهرات‬
‫ل علقة‬ ‫وعباءات‪ ،‬وثياب سهرة وعطورا ً وسيارات‪ ،‬بل إنني أذهب حد ّ ال ْ ُ‬
‫مطالبة‪ ،‬بأل ّ تظ ّ‬
‫معلنين‪ ،‬ذلك أنني قررت أن تكون‬ ‫ك ُّتاب المجّلة مقتصرة على مدير التحرير‪ ،‬بل تمتد إلى ال ْ ُ‬
‫ّ‬
‫معلن عنها في الصفحة المواجهة لصفحتي‪ ،‬بعدما تأكدت بعد‬ ‫مكافأتي‪ ،‬من ضمن السلع ال ْ ُ‬ ‫ُ‬
‫التدقيق أنها الثمـن‪.‬‬
‫ولطفــا ً مني‪ ،‬سأسمح للزميلت بأن يتناوبن على صفحتي ليؤثثن بيوتهن ويقتنين سّيارات‪..‬‬
‫ي" فهذه الصفحة‪،‬‬ ‫ن على "الكرس ّ‬ ‫ويخترن أرقى المجوهرات‪ ،‬شرط أل ّ يستغفلَنني ويسطي َ‬
‫للتذكير‪ ،‬أحتّلها في انتظار أن ُأورثها لبني‪.‬‬
‫أعـــود إلى الخبر الذي جــاء من روسيا‪ ،‬الذي يقول إنه‪ ،‬نظرا ً للوضع القتصادي الســوأ‬
‫الذي تعرفه البلد‪ ،‬اعتاد المديرون الذين ل تتوافر لهم السيولة المادية‪ ،‬دفــع ُأجــور‬
‫ظفين من‬ ‫ن بعض الشركات تدفع ُأجــور المو ّ‬ ‫موظفيهم بما يتوافر تحت أيديهــم‪ ،‬حتى إ ّ‬
‫ددت أجــور موظفيها بمنح كل‬ ‫ُ‬
‫البضائع التي تنتجها فشركة لنتاج ماكينات الخياطة‪ ،‬س ّ‬
‫منهم ماكينة خياطة‪ ،‬بينما دفع مصنع لنتاج الفودكا ‪ 10‬زجاجات فودكا‪ ،‬أجرا ً شهريا ً لك ّ‬
‫ل‬
‫عامل‪ ،‬وهي بضائع يمكن مقايضتها في السواق بالمواد الغذائّية‪.‬‬
‫ن بعض الشركات اعتمدت التعامل بالمقايضة في ما بينها‪ ،‬حتى إن ‪ 300‬طبيب‬ ‫كما أ ّ‬
‫ظف وجدوا أنفسهم في حيرة‪ ،‬ل يدرون كيف "ينفقون" معاشهم‪ ،‬الذي هو ثلثة أطنان‬ ‫ومو ّ‬
‫ل واحد منهم من المستشفى الذي يعملون فيه‪..‬‬ ‫قاها ك ّ‬
‫من أسمدة رَوث الحيوانات‪ ،‬تل ّ‬
‫كجزء من ُأجورهم المتأخرة‪.‬‬
‫قي شركة‪ ،‬تعمل في تقطيع الخشاب وبيعها‪،‬‬ ‫ي مشروعي‪ ،‬فتل ّ‬ ‫ما ما فاجأني وأفسد عل ّ‬ ‫أ ّ‬
‫صناديق حفاضات نسائية بدل د َْيــن لها على إحدى الشركات!‬
‫وقد شغلني هذا الخبــر‪ ،‬حتى رحــت أبحث في أعداد المجّلة عن إعلن لماركة شهيرة‬
‫قي معاشنا صناديق‬‫ن كاتبات المجّلة‪ ،‬بتل ّ‬ ‫لهذه الحفاضات‪ ،‬خشية أن ينتهي بنا المر‪ ،‬نح ُ‬
‫فاضات نسائية ُترسل إلينا شهريًا‪ ،‬ما سيجعل المجوهرات والسّيارات‪ ..‬والعطور من‬ ‫ح ّ‬
‫ن ل حاجة لهم إلى تلك "البضاعة"‪ ،‬مذ أثبت‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫بذريعة‬ ‫المجلة‪،‬‬ ‫في‬ ‫العاملين‬ ‫الرجال‬ ‫نصيب‬
‫ن "المرأة تحيض‪ ..‬والرجل‬ ‫الزعيم الليبي في أحد فصوله الشهيرة في "الكتاب الخضر" أ ّ‬
‫ل يحيض"!‬
‫لـــذا يبدو أنه مكتوب علينا‪ ،‬حتى في العياد‪ ،‬أن نواصل إنفاق دخلنا على البيت والولد‪..‬‬
‫بالتفّرج على أحلمنا المعروضة في العلنات‪...‬‬
‫ل عـام وأنتـم وُأســرة "زهرة الخليج" بخيـر‬ ‫وكـ ّ‬

‫تشي ب َ‬
‫ك شفاهُ الشياء‬
‫ك"‪.‬‬
‫قلت لك مرة‪" :‬أحلم بأن أفتح باب بيتك معك"‪ .‬أجبت "وأحلم بأن أفتح بيتي فألقا ِ‬
‫وابك كي ينساني مرة عندك‪ ..‬أن أنتحل صفة‬ ‫من يومها‪ ،‬وأنا أفكر في طريقة أرشو بها ب ّ‬
‫تجيز لي في غيبتك دخول مغارتك الرجالية‪ .‬فأنا أحب أن أحتل بيتك بشرعية الشّغالت‪..‬‬
‫أن أنفض سجاد غرفة نومك من غبار نسائك‪ ..‬أن أبحث خلف عنكبوت الذكريات عن‬
‫أسرارك القديمة المخبأة في الزوايا‪ ..‬أن أتفقد حالة أريكتك‪ ،‬في شبهة جلستها المريحة‪..‬‬
‫أن أمسح الغبار عن تحفك التذكارية‪ ،‬عسى على رف المصادفة تفضحك شفاه الشياء‪.‬‬
‫***‬
‫أريد أن أكون ليوم شّغالتك‪ ،‬لقوم بتعقيم أدوات جرائمك العشقية بالمطهرات‪ ،‬وأذيب‬
‫بّرادك من دموعي المجلدة‪ ،‬مكعبات لثلج سهرتك‪ ..‬أن أجمع نسخ كتبي الكثيرة‪ ،‬من‬
‫رفوف مكتبتك‪ ،‬منعا لنفضاحي بك‪ ..‬ومنعا لغرائك أخريات بي‪ ..‬أن أستجوب أحذيتك‬
‫ما علق بنعالها من خطى خطاياك‪ ..‬أن أخفيها‬ ‫الفاخرة المحفوظة في أكياسها القطنية‪ ،‬ع ّ‬
‫عنك‪ ،‬كي أمنعك من السفر‪) ..‬هل حاولت امرأة قبلي اعتقال رجولتك‪ ..‬بحذاء؟(‪.‬‬

‫***‬

‫أحب في غيبتك‪ ،‬أن أختلي بعالمك الرجالي‪ ،‬أن أتفرج على بدلت خلفاتنا المعلقة في‬
‫خزانة‪ ،‬وقمصان مواعيدنا المطوية بأيدي شّغالة فلبينية‪ ،‬ل تدري كم يحزنني أن تسّلم‬
‫رائحتك للصابون‪.‬‬
‫أحب‪ ..‬التجسس على جواريرك‪ ..‬على جواربك‪ ..‬وأحزمتك الجلدية‪ ..‬وربطات عنقك‪ ..‬على‬
‫مناشفك وأدوات حلقتك وأشيائك الفائقة الترتيب‪ ..‬كأكاذيب نسائية‪.‬‬

‫***‬
‫تروق لي وشاية أشيائك‪ ..‬جرائدك المثنية حسب اهتمامك‪ ..‬مطالعاتك الفلسفية‪ ،‬وكتب‬
‫في تاريخ المعتقلت العربية‪ ،‬وأخرى في القانون‪ .‬فقبلك كنت أجهل أن نيرون يحترف‬
‫العدالة‪ ..‬وكنت أتجسس على مغطس حمامك‪ ..‬وعلى الماركات الكثيرة لعطورك‪،‬‬
‫وأتساءل‪ :‬أعاجز أنت حتى عن الوفاء لعطر؟‪.‬‬

‫***‬
‫كم يسعدني استغفال أشيائك‪ ..‬ارتداء عباءتك‪ ..‬انتعال خفيك‪ ..‬الجلوس على مقعدك‬
‫الشاغر منك‪ ..‬آه لو استطعت مد ّ فوطاي‪ ..‬وفرد أوراقي على مكتبك‪ ..‬وكتابة مقالي‬
‫القادم في انتظار أن تفتح الباب‪.‬‬
‫أن أتناول فطور الصباح في فناجين قهوتك‪ ..‬على موسيقاك‪ ..‬وأن أسهر برفقة برنامجك‬
‫السياسي‪ ..‬ذلك الذي تتناتف فيه الديكة‪ ..‬ثم أغفو منهكة‪ ،‬على شراشف نومك‪..‬‬
‫دع لي بيتك وامض‪ ..‬ل حاجة لي إليك‪.‬‬
‫إني أتطابق معك بحواس الغياب‪.‬‬

‫تعالو انقاطع الحب‬


‫ل أفهــم أن يكون للحب عيده‪ ،‬ول يكون للفراق عيد أيضًا‪ ،‬يحتفل فيه العشاق بالقطيعة‪،‬‬
‫كما لو كانت مناسبة سعيدة‪ ،‬ل مناسبة للحتفال بالنكد على طريقة أخينا‪ ،‬الذي يغني "عيد‬
‫م من المجلت‪ ،‬التي تتسابق إلى تعليمنا‪ ،‬كيف‬ ‫ميلد جرحي أنا" ول أفهم كيف أن هذا الك ّ‬
‫نحب‪ ،‬وماذا نأكل من الطعمة المثيرة للشهوة‪ ،‬وماذا نرتدي في المناسبات الحميمة‪ ،‬لم‬
‫ب‪ ،‬ول الحتفاظ برأسنا‬ ‫تفكر في نجدتنا بمقالت تعّلمنا كيف نتفادى الوقوع في هذا المط ّ‬
‫فوق الماء إن نحن غرقنا‪ ،‬وكيف نتداوى من عاداتنا العشقية السيئة‪ ،‬بإيقاف تلك الساعة‬
‫الداخلية فينا‪ ،‬التي تجعلنا نواصل العيش بتوقيت شخص‪ ،‬ما عاد موجودا ً في حياتنا‪.‬‬

‫صصت غلفها‪ ،‬لحثنا في هذا الصيف على تناول الكافيار‬ ‫مة مجلت قد خ ّ‬ ‫إذا كان ث ّ‬
‫ُ‬
‫والسومون والصدف والشوكولتة‪ ،‬بصفتها أطعمة تفتح القابلية على ملذات أخرى‪ ،‬عليها‬
‫من ل يملك منا ثمن هذه الطعمة الفاخرة‪ ،‬ول يملك حبيبا ً يتناولها من‬ ‫أن تقول أيضا ً ل ِ َ‬
‫أجله‪ ،‬ماذا عليه أن يلتهم ليقمع رغبات جسده؟ وبماذا تنصحنا أن نأكل في فترة نقاهتنا‬
‫العاطفية‪ ،‬وماذا نرتدي من ثياب معّلقة في خزانة الذكريات؟ وأّية أمكنة نزور للنسيان‪ ..‬أو‬
‫متع ُنقاطع دون أخرى؟‬ ‫ن نستمع؟ وأية ُ‬‫نتحاشى المرور بها؟ وأي كتب نطالع؟ وليّ أغا ٍ‬
‫طارين وقارئات الفنجان‪ ،‬على طريقة نـــــزار؟‬ ‫شفائنا؟ أبالع ّ‬
‫جل في ِ‬‫من نستنجد كي ُنع ّ‬ ‫وب ِ َ‬
‫ّ‬
‫ميات من النساء؟ أم بالحلقين وبائعي‬ ‫ُ‬
‫حَرة‪ ،‬على طريقة ال ّ‬
‫س َ‬‫أم بالمشعوذين وال ّ‬
‫ممي الزياء‪ ،‬كما تفعل الثرّيات من النساء؟‬ ‫مص ّ‬ ‫المجوهرات و ُ‬

‫ولت المرأة ويشي بتغّيراتها النفسية‪ ،‬وتقّلبات مزاجها‬ ‫شعر يسرد تح ّ‬ ‫ت قرأت أن ال ّ‬
‫وكن ُ‬
‫ب‪،‬‬
‫حــ ّ‬
‫صة ُ‬
‫صته‪ ،‬هي أول ما ُتغّيرها المرأة عند نهاية ق ّ‬
‫شعر ولونه وق ّ‬‫العاطفي فتسريحة ال ّ‬
‫أو بداية علقة جديدة‪ ،‬كما لُتعلن أنها أصبحت امرأة أخرى‪ ،‬وأنها‪ ،‬كما الزواحف‪ ،‬غّيرت‬
‫جلدهـــا‪ ،‬وخلعت ذاكرتها‪.‬‬

‫وإذا كان في هذا الكلم‪ ،‬الذي يجزم به علماء النفس‪ ،‬من صحة‪ ،‬فإن أكثر النشرات‬
‫ل علينا‬ ‫العاطفية تقّلبًا‪ ،‬تعود للمطربة اللبنانية مادونـــــا‪ ،‬التي منذ عشر سنوات‪ ،‬وهي تط ّ‬
‫أسبوعيًا‪ ،‬بتسريحة أكثر غرابة من الولى‪ ،‬حتى ما عدنا نعرف لها شكل ً ول لونًا‪ ..‬ول قلبًا!‬
‫وفي المقابل‪ ،‬أذكر أنني قرأت‪ ،‬أثناء الحملة النتخابية لبوش البن‪ ،‬ثناًء على زوجته‪،‬‬
‫بصفتها امرأة رصينة وذات مزاج ثابت‪ ،‬حتى إنها لم تغّير تسريحتها منذ زواجها وعلينا أن‬
‫لولى‪ ،‬عكس هيلري كلينتون‪ ،‬التي بدأت مؤخرا ً تصول‬ ‫نستنتج أن السيدة الميركية ا ُ‬
‫وتجول عاطفيًا‪ ،‬انتقاما ً مما ألحقه بها بيــل من أذى‪ ،‬هي امرأة وفّية‪ ،‬لم تعرف في حياتها‬
‫مـــه بـربــــــارة‪ ،‬التي أعطته تربية تليق‬ ‫ُ‬
‫ي للقيم الميركية‪ ،‬ول ّ‬
‫سوى ذلك المخلوق الوف ّ‬
‫برئيس قادم للوليات المتحدة‪ ،‬فذهبت حتى تعليمه‪ ،‬كيف يمضغ جيدا ً الكعك الذي يتسّلى‬
‫بتناوله أمام التلفزيون فرؤســــــاء أميركا مضطرون إلى التهــام الكعك‪ ،‬أثناء متابعتهم‬
‫الخبــــــار‪ ،‬بسبب الكتئــاب الذي يصيبهم من أخبارنا والتعاطي بشؤوننا‪ ،‬حتى إن الكاتب‬
‫ن التصالت مع وزارة الخارجية أشبه‬ ‫جونثان ستيل‪ ،‬ينقل عن الرئيس كينــدي قوله‪" ،‬إ ّ‬
‫ملل الجسدي‬ ‫مة علقة بين الكل وحالت التوّتـــر وال َْ‬ ‫نث ّ‬‫دة!" ذلك أ ّ‬‫خــ ّ‬
‫مـ َ‬
‫بالمجامعة مع َ‬
‫من يتداوى منها بالهجوم على البراد‪ ،‬أو‬ ‫مة َ‬‫ن القطيعة العاطفية تصيب بالكتئاب‪ ،‬فث ّ‬ ‫ول ّ‬
‫ب‪،‬‬
‫ُ ّ‬‫حــ‬ ‫مــن‬‫ِ‬ ‫فقدناه‬ ‫بما‬ ‫الزائــد‪،‬‬ ‫وزننا‬ ‫يشي‬ ‫ما‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫كثير‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫أيض‬ ‫وهنا‬ ‫الثياب‬ ‫محال‬ ‫إلى‬ ‫باللجــوء‬
‫وتفيض خزانتنا بثياب اقتنيناها لحظة ألم عاطفي‪ ،‬قصد تجميل مزاجنا‪ ،‬عندما فرغت‬
‫مل لها‪ ،‬بينما يهجم البعض الخر على الهاتف‪ُ ،‬يحــــادث‬ ‫كرتنا من مواعيد‪ ،‬ماعدنا نتج ّ‬ ‫مف ّ‬
‫الصديقات والصدقاء‪ ،‬ويشغل نفسه عن صوت لن يأتي‪ ،‬لشخص وحده يعنيه‪.‬‬

‫وللقـــارئات ال ْ ُ‬
‫مبتليات بالهاتف أقول‪ ،‬إن الحمية العاطفية تبدأ بريجيم هاتفي‪ ،‬وبالمتناع‬
‫عن الشكوى إلى الصديقات‪ ،‬عمل ً بنصيحة أوسكار وايلد‪ ،‬الذي كان يقول‪" :‬إ ّ‬
‫ن المرأة ل‬
‫ُتواسي امرأة أخرى‪ ..‬إل ّ لتعرف أسرارها‬

‫توقفن عن تقبيل الضفادع!‬


‫دق تلك الروايات الفلكلورية القديمة التي‬ ‫قَبل‪ ،‬وما عدنا ُنص ّ‬‫هل انتهى الفعل السحري لل ُ‬
‫ُتغّير بقبلة حياة أبطالها؟ يمّر أمير بغابة مسحورة‪ ،‬ويقع نظره على الجميلة النائمة تحت‬
‫شجرة في دانتيل ثوبها الفضفاض‪ ،‬وقد تناثر شعرها الذهبي على العشب‪ .‬ل يقاوم إغراء‬
‫فتنتها‪ .‬يسترق من نومها ُقبلة‪ .‬وإذا بها تستيقظ من نوم دام دهرًا‪ .‬قبلة ُتنهي مفعول لعنة‪.‬‬
‫فقد حكمت ساحرة شريرة على الحسناء الجميلة بالنوم‪ ،‬ووحده ذلك الثغر كان في إمكانه‬
‫إيقاظها من سباتها‪.‬‬
‫صة ُأخرى قرأتها‪ ،‬أيضا‪ ،‬بالفرنسية أيام طفولتي‪ ،‬عشت طويل‪ ،‬على حلم الصور الزاهية‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ق ّ‬
‫قبلة التي تضعها حسناء على فم ضفدع جميمل وحزين‪ ،‬وإذا به‬ ‫التي رافقتها‪ ،‬ومعجزة ال ُ‬
‫لنثويتان الرجولة‪ .‬وأبطلتا السحر الذي‬ ‫يتحول إلى أمير‪ ،‬بعد أن نفخت فيه تلكما الشفتان ا ُ‬
‫ّ‬
‫ألحقته به ساحرة شريرة‪.‬‬
‫ما الذي حدث منذ زمن أحلمنا تلك‪ .‬أهي الخرافات التي ماتت؟ أم مات وهمنا بها‪ ،‬ونحن‬
‫نرى الخيبات تجفف ِبرك أمانينا‪ ،‬وتلغي احتمال مصادفتنا ضفدعا ً مسحورًا؟‬
‫ك أين الخلل‪ ،‬أفينا‬ ‫تسألني صديقتي الجميلة الرصينة التي ما توقعت أن تنتهي عانسًا‪" :‬بَرب ّ ِ‬
‫لن ل صبر لنا على اكتشاف أمير يختفي خلف ضفدع‪ ..‬فنقع دائما ً على المراء المزّيفين‬
‫مجاِزفات‬ ‫ش دائما ً بالمظاهر؟ أم العيب في الرجال الذين حين نقصدهم ُ‬ ‫أحلمنا لننا ن ُغَ ّ‬
‫بكبريائنا وسمعتنا‪ ،‬عسانا نبني معهم مستقبلنا‪ ،‬يتبّين لنا أنهم مجّرد ضفادع تمل البركة‬
‫نقيقًا‪ ،‬وتشهد "البرمائيات" الذكورّية علينا؟ نحن حسب كاتبة‪ ،‬نعيش الخرافة مقلوبة "ما‬
‫ول إلى ضفدع"!‪.‬‬ ‫قّبلنا رجل ً إل ّ تح ّ‬
‫ظ تلك المضيفة الغابونّية‪ ،‬ذات الفم المخيف كفكّ‬ ‫طبعــًا‪ ،‬ليست كل النساء في ح ّ‬
‫ي عهد‬ ‫قبلة‪ ،‬وأكثر حتمًا‪ ،‬أن تلتهم أميرا ً بكامله وُتنجب منه ول ّ‬ ‫مفترس‪ ،‬التي استطاعت ب ُ‬
‫لمارة موناكو!‬
‫من‬‫َ‬ ‫و‬ ‫الضفدعة(؟‬ ‫)أو‬ ‫الضفدع‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫المير؟‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫المرء‬ ‫يدري‬ ‫ل‬ ‫بالذات‪،‬‬ ‫القصة‬ ‫في هذه‬
‫صة كهذه في أوائل القرن الحادي‬ ‫ور ق ّ‬ ‫الساحرة الشّريرة؟ فل أعرف خرافة ذهبت حد ّ تص ّ‬
‫ن هذه المخلوقة الفريقية"عملت عمل" للمير ألبير‪.‬‬ ‫والعشرين‪ .‬ما يجعل النساء يجزمن أ ّ‬
‫ول على يـــد ساحرة أفريقية إلى‬ ‫وإل ّ كيف وهو ابن إحدى أجمل نساء الكون‪ ،‬يقَبل أن يتح ّ‬
‫خر الجميع من غبائه ومن جهله‪ ،‬ونحن في هذا‬ ‫ضفدع يشغل أغلفة مجلت العالم‪ ،‬وَيس َ‬
‫لمراء على متن الطائرات؟ فوائد "الواقي" في‬ ‫الزمان الذي تصطاد فيه الضفادع ا ُ‬
‫العلقات عابرة القاّرات‪ ..‬والطبقات!‬
‫كرني بمأساة النساء في بحثهن اليوم عن رجل بين الضفادع‪ ،‬تلك الرواية الكوميدية "لبد‬ ‫ذ ّ‬
‫ً‬
‫من تقبيل كثير من الضفادع"‪ ،‬التي كتبْتها‪ ،‬انطلقا من حياتها الحقيقية‪ ،‬الممثلة الميركية‬
‫ب‪ ،‬الشهرة والضواء‪ ،‬ونسيت في غمرة مشاغلها‬ ‫لوري غراف‪ ،‬حيث استبدلت بالبطلة الح ّ‬
‫ن العمر قد مّر من دون أن تبني‬ ‫البحث عن حبيب ُتواصل معه حياتها‪ .‬وعندما تنّبهت إلى أ ّ‬
‫من تصادفه من رجال و"ُتقّبل كثيرا ً من الضفادع" عساها تعثر بينها‬ ‫ُ‬
‫أسرة‪ ،‬راحت تختبر َ‬
‫صة الفلكلورية الشهيرة‪ .‬وتنتهي الكاتبة في روايتها‬ ‫على فارس أحلمها‪ ..‬كما في تلك الق ّ‬
‫إلى القول‪" :‬إذا كان الضفدع قد أصبح حلم كل امرأة‪ ،‬تبحث عن شريك الحياة المثالي‪،‬‬
‫ول إلى ُأمراء‬ ‫ن الضفادع قد ل تتح ّ‬ ‫ذر‪ ،‬وُتدرك أ ّ‬‫ح َ‬
‫خى ال َ‬ ‫فإنه يتعّين على المرأة أن تتو ّ‬
‫طموح خادع‪ ،‬مغشوشة بأضواء تنكشف في النهاية‬ ‫الحلم إل ّ في الخرافات‪ .‬وأل ّ تندفع في ُ‬
‫سَراب"‪.‬‬ ‫عن َ‬
‫مراهنة النساء على إمكانية العثور على رجل بين الضفادع‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫في‬ ‫عاد‬ ‫ما‬ ‫كل‪،‬‬
‫ِ‬ ‫مش‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫غير أ ّ‬
‫بقدر ما هو في اعتقاد بعض الضفادع أنهم رجال"‪ .‬بل وأنهم فرسان أحلم النساء‪ ،‬ويجوز‬
‫كرني بنكتة ذلك المريض‪،‬‬ ‫ن كيفما شاؤوا‪ ،‬وهو ما ُيذ ّ‬ ‫ن ومشروعاته ّ‬ ‫لهم العََبث بمشاعره ّ‬
‫صد َ الطبيب النفسي ليشكوه اعتقاده أّنـه حّبـة قمح‪ .‬وعندما انتهى الطبيب بعد‬ ‫الذي قَ َ‬
‫مغادرًا‪ ،‬توّقف عند‬ ‫ُ‬ ‫الستشارة‬ ‫ثمن‬ ‫المريض‬ ‫ودفع‬ ‫كذلك‪،‬‬ ‫ليس‬ ‫نه‬‫ّ‬ ‫بأ‬ ‫إقناعه‬ ‫إلى‬ ‫طويل‬ ‫جدل‬
‫ن‬ ‫ً‬
‫الباب ليقول له "دكتور‪ ..‬أنا اقتنعت تماما بإنني لست حّبة قمح‪ ،‬لكن ما ُيخيفني أ ّ‬
‫دجاجات ل يعلمن ذلك!"‪.‬‬ ‫ال ّ‬
‫جل ََبة‪ ،‬ل ُتخفي رجال ً‬ ‫ن الضفادع التي ُتكثر من النقيق وال َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫النساء أيضا أصبحن ُيدركن باكرا‪ ،‬أ ّ‬
‫ول فرسانا ً ول ُأمراء‪ .‬وحدها تلك الضفادع ل تعرف ذلك!‬

‫توقفن عن تقبيل الضفادع!‬


‫دق تلك الروايات الفلكلورية القديمة التي‬ ‫قَبل‪ ،‬وما عدنا ُنص ّ‬
‫هل انتهى الفعل السحري لل ُ‬
‫ُتغّير بقبلة حياة أبطالها؟ يمّر أمير بغابة مسحورة‪ ،‬ويقع نظره على الجميلة النائمة تحت‬
‫شجرة في دانتيل ثوبها الفضفاض‪ ،‬وقد تناثر شعرها الذهبي على العشب‪ .‬ل يقاوم إغراء‬
‫فتنتها‪ .‬يسترق من نومها ُقبلة‪ .‬وإذا بها تستيقظ من نوم دام دهرًا‪ .‬قبلة ُتنهي مفعول لعنة‪.‬‬
‫فقد حكمت ساحرة شريرة على الحسناء الجميلة بالنوم‪ ،‬ووحده ذلك الثغر كان في إمكانه‬
‫إيقاظها من سباتها‪.‬‬
‫صة ُأخرى قرأتها‪ ،‬أيضا‪ ،‬بالفرنسية أيام طفولتي‪ ،‬عشت طويل‪ ،‬على حلم الصور الزاهية‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ق ّ‬
‫قبلة التي تضعها حسناء على فم ضفدع جميمل وحزين‪ ،‬وإذا به‬ ‫التي رافقتها‪ ،‬ومعجزة ال ُ‬
‫لنثويتان الرجولة‪ .‬وأبطلتا السحر الذي‬ ‫يتحول إلى أمير‪ ،‬بعد أن نفخت فيه تلكما الشفتان ا ُ‬
‫ّ‬
‫ألحقته به ساحرة شريرة‪.‬‬
‫ما الذي حدث منذ زمن أحلمنا تلك‪ .‬أهي الخرافات التي ماتت؟ أم مات وهمنا بها‪ ،‬ونحن‬
‫نرى الخيبات تجفف ِبرك أمانينا‪ ،‬وتلغي احتمال مصادفتنا ضفدعا ً مسحورًا؟‬
‫ك أين الخلل‪ ،‬أفينا‬ ‫تسألني صديقتي الجميلة الرصينة التي ما توقعت أن تنتهي عانسًا‪" :‬بَرب ّ ِ‬
‫لن ل صبر لنا على اكتشاف أمير يختفي خلف ضفدع‪ ..‬فنقع دائما ً على المراء المزّيفين‬
‫مجاِزفات‬ ‫ش دائما ً بالمظاهر؟ أم العيب في الرجال الذين حين نقصدهم ُ‬ ‫أحلمنا لننا ن ُغَ ّ‬
‫بكبريائنا وسمعتنا‪ ،‬عسانا نبني معهم مستقبلنا‪ ،‬يتبّين لنا أنهم مجّرد ضفادع تمل البركة‬
‫نقيقًا‪ ،‬وتشهد "البرمائيات" الذكورّية علينا؟ نحن حسب كاتبة‪ ،‬نعيش الخرافة مقلوبة "ما‬
‫ول إلى ضفدع"!‪.‬‬ ‫قّبلنا رجل ً إل ّ تح ّ‬
‫ظ تلك المضيفة الغابونّية‪ ،‬ذات الفم المخيف كفكّ‬ ‫طبعــًا‪ ،‬ليست كل النساء في ح ّ‬
‫ي عهد‬ ‫قبلة‪ ،‬وأكثر حتمًا‪ ،‬أن تلتهم أميرا ً بكامله وُتنجب منه ول ّ‬ ‫مفترس‪ ،‬التي استطاعت ب ُ‬
‫لمارة موناكو!‬
‫من‬‫َ‬ ‫و‬ ‫الضفدعة(؟‬ ‫)أو‬ ‫الضفدع‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫المير؟‬ ‫من‬‫َ‬ ‫المرء‬ ‫يدري‬ ‫ل‬ ‫بالذات‪،‬‬ ‫القصة‬ ‫في هذه‬
‫صة كهذه في أوائل القرن الحادي‬ ‫ور ق ّ‬‫الساحرة الشّريرة؟ فل أعرف خرافة ذهبت حد ّ تص ّ‬
‫ن هذه المخلوقة الفريقية"عملت عمل" للمير ألبير‪.‬‬ ‫والعشرين‪ .‬ما يجعل النساء يجزمن أ ّ‬
‫ول على يـــد ساحرة أفريقية إلى‬ ‫ّ‬ ‫يتح‬ ‫أن‬ ‫بل‬
‫َ‬ ‫يق‬ ‫الكون‪،‬‬ ‫وإل ّ كيف وهو ابن إحدى أجمل نساء‬
‫خر الجميع من غبائه ومن جهله‪ ،‬ونحن في هذا‬ ‫ضفدع يشغل أغلفة مجلت العالم‪ ،‬وَيس َ‬
‫لمراء على متن الطائرات؟ فوائد "الواقي" في‬ ‫الزمان الذي تصطاد فيه الضفادع ا ُ‬
‫العلقات عابرة القاّرات‪ ..‬والطبقات!‬
‫كرني بمأساة النساء في بحثهن اليوم عن رجل بين الضفادع‪ ،‬تلك الرواية الكوميدية "لبد‬ ‫ذ ّ‬
‫ً‬
‫من تقبيل كثير من الضفادع"‪ ،‬التي كتبْتها‪ ،‬انطلقا من حياتها الحقيقية‪ ،‬الممثلة الميركية‬
‫ب‪ ،‬الشهرة والضواء‪ ،‬ونسيت في غمرة مشاغلها‬ ‫لوري غراف‪ ،‬حيث استبدلت بالبطلة الح ّ‬
‫ن العمر قد مّر من دون أن تبني‬ ‫البحث عن حبيب ُتواصل معه حياتها‪ .‬وعندما تنّبهت إلى أ ّ‬
‫من تصادفه من رجال و"ُتقّبل كثيرا ً من الضفادع" عساها تعثر بينها‬ ‫ُ‬
‫أسرة‪ ،‬راحت تختبر َ‬
‫صة الفلكلورية الشهيرة‪ .‬وتنتهي الكاتبة في روايتها‬ ‫على فارس أحلمها‪ ..‬كما في تلك الق ّ‬
‫إلى القول‪" :‬إذا كان الضفدع قد أصبح حلم كل امرأة‪ ،‬تبحث عن شريك الحياة المثالي‪،‬‬
‫ول إلى ُأمراء‬ ‫ن الضفادع قد ل تتح ّ‬ ‫ذر‪ ،‬وُتدرك أ ّ‬ ‫ح َ‬‫خى ال َ‬ ‫فإنه يتعّين على المرأة أن تتو ّ‬
‫طموح خادع‪ ،‬مغشوشة بأضواء تنكشف في النهاية‬ ‫الحلم إل ّ في الخرافات‪ .‬وأل ّ تندفع في ُ‬
‫سَراب"‪.‬‬ ‫عن َ‬
‫مراهنة النساء على إمكانية العثور على رجل بين الضفادع‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫في‬ ‫عاد‬ ‫ما‬ ‫كل‪،‬‬
‫ِ‬ ‫مش‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫غير أ ّ‬
‫بقدر ما هو في اعتقاد بعض الضفادع أنهم رجال"‪ .‬بل وأنهم فرسان أحلم النساء‪ ،‬ويجوز‬
‫كرني بنكتة ذلك المريض‪،‬‬ ‫ن كيفما شاؤوا‪ ،‬وهو ما ُيذ ّ‬ ‫ن ومشروعاته ّ‬ ‫لهم العََبث بمشاعره ّ‬
‫صد َ الطبيب النفسي ليشكوه اعتقاده أّنـه حّبـة قمح‪ .‬وعندما انتهى الطبيب بعد‬ ‫الذي قَ َ‬
‫مغادرًا‪ ،‬توّقف عند‬ ‫ُ‬ ‫الستشارة‬ ‫ثمن‬ ‫المريض‬ ‫ودفع‬ ‫كذلك‪،‬‬ ‫ليس‬ ‫نه‬‫ّ‬ ‫بأ‬ ‫إقناعه‬ ‫إلى‬ ‫طويل‬ ‫جدل‬
‫ن‬ ‫ً‬
‫الباب ليقول له "دكتور‪ ..‬أنا اقتنعت تماما بإنني لست حّبة قمح‪ ،‬لكن ما ُيخيفني أ ّ‬
‫دجاجات ل يعلمن ذلك!"‪.‬‬ ‫ال ّ‬
‫جل ََبة‪ ،‬ل ُتخفي رجال ً‬ ‫ن الضفادع التي ُتكثر من النقيق وال َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫النساء أيضا أصبحن ُيدركن باكرا‪ ،‬أ ّ‬
‫ول فرسانا ً ول ُأمراء‪ .‬وحدها تلك الضفادع ل تعرف ذلك!‬

‫جنرالي ‪...‬أحبك‬

‫مى معارض الكتاب التي تجتاح العواصم العربية‪ ،‬بالتناوب‪ ،‬في مثل هذا‬‫بمناسبة ح ّ‬
‫كرت قول ميخائيل نعيمة‪:‬‬ ‫الموسم‪ ،‬وما يرافقها من جدل حول أسباب أزمة الكتاب‪ ،‬تذ ّ‬
‫"لكي يستطيع الكاتب أن يكتب والناشر أن ينشر‪ ،‬فلبد من أمة تقرأ ولكي تكون لنا أمة‬
‫تقرأ لبد من حكام يقرأون"‪.‬‬

‫معارضه‪ ،‬وفي أحسن‬ ‫فبينما تقتصر علقة ح ّ‬


‫كامنا وسياسيينا بالكتاب‪ ،‬بتشريفه برعايتهم َ‬
‫الحالت حضور افتتاح هذه المعارض‪ ،‬وأخذ صور تذكارية مع الكتب‪ ،‬لتوثيق عدم أميتهم‪ ،‬ل‬
‫وت السياسيون الغربيون فرصة لثبات غزارة مطالعاتهم والتباهي بقراءاتهم‪.‬‬ ‫يف ّ‬

‫وأذكر أنني قرأت أن كلينتون حمل معه ‪ 12‬كتابا ً للقراءة‪ ،‬أثناء آخر إجازة رئاسية له ولن‬
‫ت وقتها في المر دعاية له‪ ،‬أو‬‫الجازة الصيفية ل تتجاوز الخمسة عشر يومًا‪ ،‬فقد وجد ُ‬
‫للكتب المنتقاة‪ ،‬أو ربما حيلة زوجية تعفيه من الختلء طويل ً بهيلري والنشغال عنها‬
‫بذريعة "بريئة"‪.‬‬

‫الجميل في المر اعتبار القراءة من طرف الحكام الغربيين‪ ،‬جزءا ً من الصورة التي‬
‫يريدون تسويقها عن أنفسهم‪ ،‬لعلمهم أن شعوبهم ترفض أن يحكمها ُأناس ل يتثقفون‪،‬‬
‫بذريعة انشغالهم بشؤون الدولة‪ ..‬عن الكتاب‪.‬‬

‫وتاريخ فرنسا حافل بحكام كانوا عبر التاريخ شغوفين بالكتب‪ ،‬مولعين بمجالسة المبدعين‪،‬‬
‫وبإنقاذ الرث الثقافي الفرنسي‪ ،‬بصيانة المتاحف وتأسيس المكتبات أحد هؤلء جورج‬
‫بومبيدو‪ ،‬الذي لم يمهله المرض‪ ،‬ليقيم علقة متميزة مع كّتاب فرنسا‪ ،‬ولكن ذلك الوقت‬
‫القصير‪ ،‬الذي قضاه في السلطة‪ ،‬لم يوظفه لثراء نفسه ول لثراء حاشيته وأقاربه‪ ،‬وإنما‬
‫لثراء باريس بأكبر مركز ثقافي عرفته فرنسا وأوروبا‪ ،‬وترك خلفه صرحا ً حضاريًا‪ ،‬سيظل‬
‫يحمل اسمه ويشهد على مكانة الكتاب في قلب هذا الرجل‪.‬‬
‫أما فرنسوا ميتران‪ ،‬فقد كان وفاؤه لصدقائه الك ُّتاب وفاًء خرافيًا‪ ،‬لعلمه أن الصداقات‬
‫الحقيقية‪ ،‬ل يمكن أن يبنيها الحاكم‪ ،‬إل خارج السياسة‪ ،‬حيث ل خصوم ول حلفاء ول أعداء‬
‫ول دسائس‪.‬‬
‫ولذا‪ ،‬فأول من وقع تحت سطوة تلك الوسامة الداخلية‪ ،‬التي صنعت أسطورته‪ ،‬كانوا‬
‫الكتاب والمفكرين‪ ،‬الذين ُأعجبوا بكبريائه السياسية‪ ،‬التي لم تمنعه من أن يكون رغم ذلك‬
‫في متناولهم‪ ،‬ويدعوهم بالتناوب إلى تناول فطور الصباح معه‪ ،‬أو لقضاء نهاية السبوع‬
‫خارج باريس في صحبته‪ ،‬للتناقش في شؤون الدب والفلسفة‪.‬‬
‫وكان ميتران مولعا ً بالكتب‪ ،‬ما توافر لديه قليل من الوقت‪ ،‬إل قضاه في المكتبات التي‬
‫كان يزداد تردده عليها‪ ،‬كلما شعر بقرب رحيله‪ ،‬ما جعل الكتب في آخر أيامه توجد حوله‬
‫موّزعة مع أدويته‪ ،‬وكأنه كان يتزود بها‪ ،‬ما استطاع‪ ،‬لسفره الخير‪ ،‬حتى إنه طلب أن ُيدفن‬
‫مع الكتب الثلثة المفضلة لديه‪ ،‬كما كان الفراعنة يطلبون أن يدفنوا مع ذهبهم وكنوزهم‪.‬‬
‫أما شارل ديغول‪ ،‬فقد اشتهر بخوفه على ك ُّتاب فرنسا ومفكريها‪ ،‬بقدر خوفه على فرنسا‬
‫ذاتها‪ ،‬حتى إنه رفض أن يرد على عنف سارتر واستفزازه له باعتقاله‪ ،‬واجدا ً في عدوّ في‬
‫قامة سارتر‪ ،‬عظمة له ولفرنسا‪ ،‬معّلقا ً بجملة أصبحت شهيرة "نحن ل نسجن فولتير" ول‬
‫نعجب بعد هذا أن تجمعه بأندريه مالرو‪ ،‬وزير ثقافته‪ ،‬علقة تاريخية تليق بقامتيهما‪ ،‬ول أن‬
‫مع معظم الكّتاب الذين عاصروه على محبته والولء له‪ ،‬حتى إن جان كوكتو‪ ،‬وهو أحد‬ ‫ُيج ِ‬
‫ألمع السماء الدبية‪ ،‬اختار ديغول ليكتب إليه آخر سطرين في حياته‪ ،‬قبل أن يرحل‪ ،‬وكانا‬
‫بهذا اليجاز والحترام‪ ،‬الموجعين في صدقهما "جنرالي‪ُ ..‬أحبك‪ ..‬إنني مقبل على الموت"‪.‬‬

‫ي‬
‫جوارب الشرف العرب ّ‬

‫طع الصحافة‪،‬‬ ‫جهت نظرك‪ .‬ع ََبثا ً ُتقا ِ‬ ‫ي‪ ،‬حيث أوليت صدرك‪ ،‬أو و ّ‬ ‫ل مفّر لك من الخنجر العرب ّ‬
‫ل اللغات حتى ل ُتدمي قلبك‪.‬‬‫رض عن التلفزيون ونشرات الخبار بك ّ‬ ‫وُتع ِ‬
‫ُ‬
‫ستأتيك الهانة هذه المّرة من صحيفة عربية‪ ،‬انفردت بسبق تخصيص ثلثي صفحتها الولى‬
‫دام وهو يغسل ملبسه‪.‬‬ ‫لصورة ص ّ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫مـة صورا أخرى للقائد المخلوع بملبسه الداخلية‪ ،‬نشرتها‬ ‫ن َثـ ّ‬
‫بعد ذلك‪ ،‬ستكتشف أ ّ‬
‫ه‪ ،‬ل يستحقّ مجاملة إنسانية واحدة‪ ،‬اختفى ‪ 300‬ألف شخص‬ ‫ِ ْ‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫“لطاغية‬ ‫صحيفة إنجليزية‬
‫ل حكمه”‪.‬‬ ‫في ظ ّ‬
‫ك مع‬ ‫مهانًا”‪ ،‬ت ُِهين َ‬ ‫ُ‬ ‫الكبر‬ ‫زعيمها‬ ‫ترى‬ ‫“كي‬ ‫للمقاومة‬ ‫ضربة‬ ‫بتوجيهها‬ ‫تباهي‬ ‫ُ‬ ‫التي‬ ‫الصحيفة‬
‫ي‪ ،‬على الرغم من كونك ل تقاوم الحتلل الميركي للعراق إل ّ بقلمك‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫عرب‬ ‫‪ 300‬مليون‬
‫وقريبا ً بقلبك ل غير‪ ،‬ل لضعف إيمانك‪ ،‬بل لنهم سيكونون قد أخرسوا لسانك‪ .‬هؤلء‪،‬‬
‫ل سيارة مفخخة‪.‬‬ ‫جتك ونسف منطقك مع ك ّ‬ ‫بإسكات صوتك‪ ،‬وأولئك بتفجير ح ّ‬
‫ّ‬
‫قدة أمام صورة القائد الصنم‪ ،‬الذي استجاب الله لدعاء “شعبه”‬ ‫مع ّ‬ ‫تنتابك تلك المشاعر ال ْ ُ‬
‫وحفظه من دون أن يحفظ ماء وجهه‪ .‬وها هو في السبعين من عمره‪ ،‬وبعد جيلين من‬
‫معاِقين‪ ،‬وبعد بضعة آلف من التماثيل والصور الجدارّية‪ ،‬وكعكات‬ ‫مشّردين وال ْ ُ‬ ‫موَتى وال ْ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫مرتديا ً جلبابا ً أبيض‪،‬‬ ‫الميلد الخرافّية‪ ،‬والقصور ذات الحنفّيات الذهبّية‪ ،‬يجلس في زنزانة ُ‬
‫مكا ً في غسل أسمال ماضيه و”جواربه القذرة”‪.‬‬ ‫منه ِ‬ ‫ُ‬
‫كرك بـ”كليب” نانسي عجرم‪ ،‬في جلبابها الصعيدي‪ ،‬وجلستها‬ ‫ي‪ ،‬يكاد ُيذ ّ‬ ‫ّ‬ ‫حميم‬ ‫مشهد‬
‫العربّية تلك‪ ،‬تغسل الثياب في إنــاء بين رجليهــا‪ ،‬وهي تغني بفائض ُأنوثتها وغنجها‬
‫دام بجلبابه‬ ‫َ‬
‫مــك آه‪ ..‬أسيبـــك”‪ .‬ففي المشهدين شيء من صورة عروبتك‪ .‬وص ّ‬ ‫“أخاص َ‬
‫مجّردا ً من سلطته‪ ،‬وثياب غطرسته‪ ،‬غدا ُيشبهك‪ُ ،‬يشبه أَبــــاك‪،‬‬ ‫وملمحه العزلء تلك‪ُ ،‬‬
‫ديـــا ً‬ ‫ه‬
‫َ َ ِ‬‫مش‬ ‫إخراجه‬ ‫د‬
‫ُ ّ‬‫مع‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫“الكليب”‬ ‫هذا‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫لعلمك‬ ‫يزعجك‪،‬‬ ‫ما‬ ‫وهذا‬ ‫أخـــاك‪ ..‬أو جنســك‪،‬‬
‫ي‪.‬‬
‫ك‪ ،‬ليس من إخراج ناديـــن لبكــي‪ ،‬بل العلم العسكري الميرك ّ‬ ‫بنّيــة إذلل َ‬
‫دفاع عن احترام‬ ‫طاغيــة الذي وُِلد برتبة قاتل‪ ،‬ما كانت له سيرة إنسانية تمنحك حقّ ال ّ‬ ‫ال ّ‬
‫ث‬
‫ل مّرة‪ ،‬تلوّ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫خصوصيته‪ ،‬وشرح مظلمته‪ .‬لكنه كثيرا ما أرَبكك بطلته العربّية تلك‪ .‬لـــذا‪ ،‬ك ّ‬
‫منحدرا ً من مجرى‬ ‫ضع النساني‪ُ ،‬‬ ‫مكَرها ً أشواطا ً في التوا ُ‬ ‫ت تراه يقطع ُ‬ ‫ك وأن َ‬ ‫شيٌء من َ‬
‫التاريخ‪ ..‬إلى مجاريــه‪.‬‬
‫الذين لم يلتقطوا صورا ً لجرائمه‪ ،‬يوم كان‪ ،‬على مدى ‪ 35‬سنة‪ ،‬يرتكبها في وضح النهار‪،‬‬
‫ماعية في مساحة وطن‪،‬‬ ‫ج َ‬‫على مرأى من ضمير العاَلم‪ ،‬محوّل ً أرض العراق إلى مقبرة َ‬
‫منهطلة على آلف المخلوقات‪ ،‬لبادة الحشرات البشرية‪،‬‬ ‫وسماءه إلى غيوم كيماوية ُ‬
‫يجدون اليوم من الوقت‪ ،‬ومن المكانات التكنولوجّية المتقدمة‪ ،‬ما يتيح لهم التجسس عليه‬
‫صص عليه ومراقبته حتى عندما ُيغّيـر ملبسه الداخلية‪.‬‬ ‫في عقر زنزانته‪ ،‬والتل ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مر عن ترسانتها‪ .‬العالم‬ ‫في إمكان كوريا أل ّ تخلع ثيابها النووية‪ ،‬ويحق لسرائيل أن ُتش ّ‬
‫مفرحا ً‬ ‫ن الخبر بدا ُ‬ ‫دام‪ .‬حتى إ ّ‬ ‫طي عـــورة صـــ ّ‬ ‫مشغول عنهما بآخر ورقة توت عربّية ُتغ ّ‬
‫عــــراة يتلصصون‬ ‫مفاجئا ً للبعض‪ ،‬حــد ّ اقتراح أحد الصدقاء “كاريكاتيرا” يبدو فيه حكام ُ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫و ُ‬
‫دام وهو يرتدي قطعة ثيابه الداخلية‪ .‬فقد غدا للطاغية حلفاؤه‬ ‫ّ‬ ‫ص‬ ‫على‬ ‫الزنزانة‬ ‫ثقب‬ ‫من‬
‫عندما أصبح إنسانا ً يرتدي ثيابه الداخلية ويغسل جواربه‪ .‬بدا للبعض أنظف من أقرانه‬
‫طغاة المنهمكين في غسل سجلتهم وتبييض ماضيهم‪ ..‬تصريحا ً بعد آخر‪ ،‬في سباق‬ ‫ال ّ‬
‫ي‪.‬‬ ‫العري العرب ّ‬
‫ً‬ ‫خرت دومــا ً بكوني لم ُ‬
‫دام‪ ،‬ول وطأت العراق‬ ‫ّ‬ ‫ص‬ ‫بمصافحة‬ ‫ا‬ ‫يوم‬ ‫يــدي‬ ‫وث‬ ‫ّ‬ ‫ألـــ‬ ‫َ‬ ‫أنا التي َفا َ ُ‬
‫ت عنه ذلك‬ ‫ت لو أنني أخذ ُ‬ ‫مّني ُ‬
‫مم‪ ،‬ت َ َ‬ ‫ذمم وإذلل الهِ َ‬ ‫مديــح وسوق شراء ال ّ‬ ‫في مرابــد ال ْ َ‬
‫ي‬‫شرف العرب ّ‬ ‫مكاِبـَرة تلك‪ ،‬جوارب ال ّ‬ ‫ل‪ ،‬وغسلت عنه‪ ،‬بيدي ال ْ ُ‬ ‫النـــاء الطافح بالذ ّ‬
‫معُروض للفرجـــــة‪.‬‬ ‫ال ْ َ‬

‫حان لهذا القلب أن ينسحب‬

‫أخذنا موعدا ً‬
‫ي نتعّرف عليه لّول مّرة‬‫في ح ّ‬
‫جلسنا حول طاولة مستطيلة‬
‫لّول مّرة‬
‫ألقينا نظرة على قائمة الطباق‬
‫ونظرة على قائمة المشروبات‬
‫ودون أن ُنلقي نظرة على بعضنا‬
‫طلبنا بدل الشاي شيئا ً من النسيان‬
‫وكطبق أساسي كثيرا ً من الكذب‪.‬‬

‫وضعنا قليل ً من الثلج في كأس ُ‬


‫حبنا‬
‫وضعنا قليل ً من التهذيب في كلماتنا‬
‫وضعنا جنوننا في جيوبنا‬
‫وشوقنا في حقيبة يدنا‬
‫لبسنا البدلة التي ليست لها ذكرى‬
‫وعّلقنا الماضي مع معطفنا على المشجب‬
‫ب بمحاذاتنا من دون أن يتعّرف علينا‬‫فمّر الح ّ‬

‫تحدثنا في الشياء التي ل تعنينا‬


‫لشيء‬ ‫دثنا كثيرا ً في كل شيء وفي ال ّ‬ ‫تح ّ‬
‫تناقشنا في السياسة والدب‬
‫دين‪ ..‬وفي النظمة العربّية‬ ‫وفي الحّرية وال ّ‬
‫اختلفنا في ُأمور ل تعنينا‬
‫م اتفقنا على أمور ل تعنينا‬ ‫ث ّ‬
‫ل شيء‬ ‫ً‬
‫فهل كان مهما أن نتفق على ك ّ‬
‫ن الذين لم نتناقش قبل اليوم في شيء‬ ‫نح ُ‬
‫مشترك؟‬ ‫ْ‬
‫مذهَب ََنا الوحيد ال ُ‬‫ب َ‬ ‫يوم كان الح ّ‬

‫اختلفنا بتطّرف‬
‫لُنثبت أننا لم نعد نسخة طبق الصل‬
‫عن بعضنا‬
‫ل‬‫ٍ‬ ‫عا‬ ‫ت‬
‫ٍ‬ ‫بصو‬ ‫تناقشنا‬
‫حتى ُنغطي على صمت قلبنا‬ ‫ّ‬
‫مس‬ ‫ودناه على الهَ ْ‬ ‫الذي ع ّ‬
‫نظرنا إلى ساعتنا كثيرا ً‬
‫ن ننظر إلى بعضنا بعض الشيء‬ ‫نسينا أ ْ‬
‫اعتذرنـــــا‬
‫لننا أخذنا من وقت بعضنا الكثير‬
‫عدنــا وجاملنا بعضنا البعض‬ ‫م ُ‬
‫ثـ ّ‬
‫ي للكذب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إضاف‬ ‫بوقت‬

‫لم نعد واحدًا‪ ..‬صرنا اثنين‬


‫متقابلين‬
‫على طرف طاولة مستطيلة كّنا ُ‬
‫عندما استدار الجرح‬
‫أصبحنا نتجّنب الطاولت المستديرة‪.‬‬
‫ب أن يتجاور اثنان لينظرا في التجاه نفسه‬ ‫"الح ّ‬
‫‪ ..‬ل أن يتقابل لينظرا إلى بعضها البعض"‬

‫ي همومك الواحد تلو الخر‬ ‫تسرد عل ّ‬


‫مك الّول‬‫ّ‬ ‫ه‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫عد‬ ‫ما‬ ‫أفهم أنني‬
‫دثك عن مشاريعي‬ ‫ُ‬
‫أح ّ‬
‫كرتي‬ ‫مف ّ‬
‫تفهم أّنك غادرت ُ‬
‫تقول إنك ذهبت إلى ذلك المطعم الذي‪..‬‬
‫من‬ ‫ل أسألك مع َ‬
‫أقول إنني سُأسافر قريبا ً‬
‫ل تسألني إلى أين‬

‫فليكـــن‪..‬‬
‫ب غائبا عن عشائنا الخير‬ ‫ً‬ ‫كان الح ّ‬
‫نــــاب عنــه الكـــذب‬
‫جل‬
‫ول إلى نــادل ُيلّبي طلباتنا على ع َ َ‬ ‫تح ّ‬
‫كي ُنغادر المكان بعطب أقل‬
‫في ذلك المساء‬
‫ب باردة مثل حسائنا‬ ‫كانت وجبة الح ّ‬
‫مالحة كمذاق دمعنا‬
‫محّرما ً‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫مشروب‬ ‫والذكرى كانت‬
‫نرتشفه بين الحين والخر‪ ..‬خطأ ً‬

‫ب‬‫عندما ُترفع طاولة الح ّ‬


‫كم يبدو الجلوس أمامها أمرا ً سخيفا ً‬
‫شاق أغبياء‬ ‫وكم يبدو الع ّ‬
‫م البقاء‬
‫فل ِ َ‬
‫َ‬
‫كثير علينا كل هذا الكذب‬
‫ب حان لهذا القلب أن ينسحب‬ ‫ارفع طاولتك أّيها الح ّ‬

‫ص خمس عشرة سنة‬


‫عمر هذا الن ّ‬
‫* ُ‬

‫ي‬
‫حزب "الخ‪ ...‬ونص" الرجال ّ‬

‫ن في‬ ‫من لم يج ّ‬‫سمان في إحدى المقابلت الصحافية تقول فيه‪َ “ :‬‬ ‫قــرأت قول ً لغادة ال ّ‬
‫ن صباح لم‬ ‫ّ‬ ‫ول‬ ‫عقل”·‬ ‫بل‬ ‫فهو‬ ‫الربعين‬ ‫بعد‬ ‫جنونه‬ ‫على‬ ‫بقي‬ ‫ومن‬ ‫قلب‪،‬‬ ‫العشرين فهو بل‬
‫ن نقصان العقل قد يمتد إلى ما بعد‬ ‫خطبت لعمر محيو‪ ،‬فغادة لم تتوقع أ ّ‬ ‫تكن بعد قد ُ‬
‫السبعين·‬
‫في الواقـع‪ ،‬هذه فكرة خاطئة من أساسها‪ ،‬حسب صموئيل بيكيت‪ ،‬الذي يرى أننا ُنولد‬
‫م‪ ،‬ماذا على المرء أن يفعل بين العشرين‬ ‫ن بعضنا يبقى كذلك· ث ّ‬ ‫جميعنا مجانين‪ ،‬غير أ ّ‬
‫والربعين؟ أيتخّلى عن قلبه أم عن عقله؟‬
‫شخصيًا‪ ،‬أنا ضد استئصال العضاء والتخّلي عن بعضها حسب مراحل العمر‪ ،‬وإل تح ّ‬
‫ولت‬
‫من ُأنثى إلى فصيلة من الزواحف التي ترمي جلدها وتواصل طريقها·‬
‫من يعدني‪ ،‬في حال قبولي بإلغاء قلبي في الربعين‪ ،‬بأل ّ يطالبوني بعد ذلك‬ ‫سؤال آخر‪َ :‬‬
‫ُ‬
‫بإلغاء أعضاء أخرى ل أريد الستغناء عنها؟‬
‫من‬ ‫َ‬ ‫لمقاومة‬ ‫الوحيدة‬ ‫الطريقة‬ ‫إنها‬ ‫أيامي·‬ ‫أحتـــاج أن أبقى ُأنثــى ومجنونة حتى آخر‬
‫يريدون تجريدي من هذا القلم أيضًا·‬
‫قى منه‪ ،‬لدارة شؤون‬ ‫غير أني‪ ،‬في الوقت نفسه‪ُ ،‬أحاول إنقاذ بعض عقلي‪ ،‬أو ما تب ّ‬
‫العائلة·· وشؤون هذا الجسد الكارثة‪ ،‬الذي سيفلت مني إن أنا لم ُأواجهه “بالعقل··”‬
‫شح المصري الشهير·‬ ‫حسب المو ّ‬
‫قل· فإشاعة‬ ‫مــن حولــي‪ ،‬إنني امرأة على وشك التع ّ‬ ‫َ‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫ئن‬
‫ِ‬ ‫م‬‫َ‬
‫ُ ْ‬‫ط‬ ‫م‬ ‫ً‬
‫ا‪،‬‬ ‫دائمــ‬ ‫أقــول‬ ‫لـــذا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫الجنون مصيبة بالنسبة إلى المرأة المّتهمة مسبقا بقلة العقل‪ ،‬وبأنها “فتافيت رجل”‪،‬‬
‫خلقت أساسا ً من‬ ‫وليست فقط “فتافيت امرأة”‪ ،‬كما تعتقد سعـاد الصباح‪ ،‬مادامت قد ُ‬
‫ضلع الرجل·‬
‫ن إحدى السيدات قالت للممثل الفرنسي جــــان بــــول بلمونـــدو‪“ :‬إنني أتساءل‬ ‫وأذكر أ ّ‬
‫ّ‬
‫ماذا كنتم ستكسبون‪ ،‬أنتم معشـر الرجــال‪ ،‬لو لم يخلق الله المرأة”‪ ،‬فأجابها “كنا‬
‫سنكسب ضلعا ً ُأخرى”·‬
‫دة مراحل‬ ‫ت بع ّ‬‫م عدلت عن التفكير فيه بعدما مرر ُ‬ ‫شغلني هذا الموضوع بعض الوقت‪ ،‬ث ّ‬
‫متناقضة‪ ،‬اعتقدت في بدايتها أنني امرأة ذات عقل‪ ،‬بل وبفائض عقل‪ ،‬ووجدت في حزمة‬
‫شهاداتي الجامعية‪ ،‬وكذلك في تصريحات نــوال السـعــداوي‪ ،‬وسيمــون دو بوفــوار‪ ،‬ما‬
‫لنثى ل ُتولد‬ ‫لنثى هي الصل”‪ ،‬حسب رأي الولى‪ ،‬ومادامت ا ُ‬ ‫ُيثبت لي ذلك‪ ،‬مادامت “ا ُ‬
‫ُأنثى‪ ،‬وإنما تصبح كذلك حسب رأي الثانية‪ ،‬أي أنها ل ُتولد ناقصة‪ ،‬ول بعورة ما‪ ،‬ولكن‬
‫ورها” ما استطاع·‬ ‫المجتمع هو الذي يجعل منها كذلك و”ُيع ّ‬
‫وحتى ل أكون ناقصة‪ ،‬قررت أن أكون “ُأنثى ونص”‪ ،‬وهذا قبل أن تطلق نانسي عجــرم‬
‫ل(‪ ،‬وترفع‬‫“آهتها·· ونص”‪ ،‬فتكاد تثقب بذلك النصف سقف الوزون العربي )المثقوب أص ً‬
‫كم في “ترمومتر” الرجولة‬ ‫مقياس الحرارة إلى درجة كاد يتدفق معها الزئبق المتح ّ‬
‫العربية·‬
‫ن المرأة‪ ،‬مذ أقنعوها بأنها “نصف الرجل” خلقوا عندها عقدة النصف الزائد‪ ،‬الذي‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫تقيس به ُأنوثتها وسلطتها وغنجها· وهي تصّر على هذا النصف أكثر من إصرارها على‬
‫الواحد· فهي إن تكّلمت قالت “كلمتها·· ونص”‪ ،‬وإن رقصت رقصت على “الواحدة‬
‫ك الذى “صاعًا·· ونص”· فهل عجبا ً إن تأّوهت أن تطلع منها‬ ‫دت ل َ‬ ‫··ونص”‪ ،‬وإن آذيتها ر ّ‬
‫“اله” متبوعة بـ”نص”‪ ،‬وإن جنت أن “تركب عقلها·· ونص”؟‬
‫ت دومــا ً ُأنثى بمزاج جزائري متطّرف‪ ،‬فقد كنت من المنتسبات الوائل إلى‬ ‫ولنني كن ُ‬
‫ً‬
‫حزب “الوحدة ونص” النسائي‪ ،‬تعويضا عن حزب الوحدة العربية الرجالي‪ ،‬الذي لم يحقق‬
‫عشر شعاراته‪ ،‬بل وانتهى به المر على ما يبدو إلى اتباع النهج النسائي‪،‬‬ ‫بعد نصف قرن ُ‬
‫مصّرا ً على “الحرية ونص”‪ ،‬و”الصلح ونص”‪ ،‬و”الديمقراطية ونص”‪ ،‬بعدما تم ترقيص‬ ‫ُ‬
‫مـة “ع الواحدة ونص”‪ ،‬فأصبحت النكبة “نكبة ونص”‪ ،‬والهانــة “إهانــة ونص”‪،‬‬ ‫هذه ال ُ‬
‫ّ‬
‫والوقاحة “وقاحة ونص”·‬
‫وفي زمن فقدنا فيه ماء وجهنا‪ ،‬ونصف مخزون المياه الجوفية للحياء العربي‪ ،‬أقترح على‬
‫رجالنا أن يقتدوا بالنساء ويؤسسوا حزب “الخ·· ونص”·‬

‫حشرية أميركية‬

‫ُتشد ّ الرحال إلى أميركا‪ ،‬لكن تأشيرتك لدخول "العالم الحر" ل تكفي لمنحك ص ّ‬
‫ك البراءة‪.‬‬
‫ط بك الطائرة‬ ‫معّلق بين السماء والرض أن تضمن حسن نواياك قبل أن تح ّ‬ ‫عليك وأنت ُ‬
‫دك المضيفة باستمارة خضراء عليها دزينة أسئلة لم يحدث أن‬ ‫في "معسكر الخير"‪ .‬تم ّ‬
‫دد‪ ،‬ومن‬ ‫ّ‬ ‫تر‬ ‫دون‬ ‫من‬ ‫"ل"‬ ‫أو‬ ‫بـ"نعم"‬ ‫عنها‬ ‫تجيب‬
‫ُ‬ ‫أن‬ ‫وعليك‬ ‫حياتك‪،‬‬ ‫طرحها عليك أحد في‬
‫ن الوقت اللزم لملء هذه‬ ‫ُ‬
‫دون الستغراق في الضحك أو البتسام‪ .‬فقد كتب أسفلها‪" :‬إ ّ‬
‫الستمارة هو )‪ 6‬دقائق(‪ ،‬يجب أن توّزع على النحو التالي‪ ،‬دقيقتان من أجل قراءتها‪ ،‬وأربع‬
‫دقائق من أجل الجوبة"‪ .‬وربما كانوا استنتجوا ذلك بعد حسابات بوليسية في جلسة‬
‫شة المرء وذهوله أمام كل سؤال‪ .‬فالدقائق الست‪ ،‬هي‬ ‫ده َ‬
‫تحقيق‪ ،‬لم تأخذ بعين العتبار‪َ ،‬‬
‫دد قد يجعله زائرا ً مشكوكا ً في‬ ‫د‪ ،‬وأيّ إطالة أو تر ّ‬ ‫ما يلزم المسافر "غير المشبوه" للر ّ‬
‫من حوله عن كيفية ملء هذه‬ ‫سوابقه‪ ،‬حتى إن قضى ضعف ذلك الوقت في استشارة َ‬
‫ل شاردة وواردة‪ ،‬قد تكون‬ ‫مارك تسألك عن ك ّ‬ ‫ُ‬
‫ج َ‬ ‫الستمارة‪ ،‬واستمارة بيضاء أخرى من ال َ‬
‫في حوزتك‪ ،‬بما في ذلك الحلزين والطيور والفاكهة والمواد الزراعية والغذائية والثياب‬
‫ن كانت هدّية‪.‬‬ ‫يإ ْ‬ ‫ن كانت منسوجة باليد‪ ،‬وكم ثمنها التقريب ّ‬ ‫والمصوغات‪ ،‬وكنزات الصوف إ ْ‬
‫وهكذا‪ ،‬ل يبقى أمامك إل ّ أن ُتجيب بسرعة‪:‬‬
‫ي؟‬ ‫د؟ أو باختلل عقل ّ‬ ‫مع ٍ‬ ‫ت مصاب بمرض ُ‬ ‫‪ -‬هل أن َ‬
‫ّ‬
‫درات؟ هل أنت سكير؟‬ ‫‪ -‬هل تتعاطى المخ ّ‬
‫حكم عليك بجنح أو جريمة تدينها الخلق العامة‪ ،‬أو أنك خرقت‬ ‫ُ‬ ‫ال‬ ‫م توقيفك أو‬ ‫‪ -‬هل ت ّ‬
‫القوانين في ميدان المواد الخاضعة للرقابة؟‬
‫م توقيفك أو الحكم عليك بالسجن مدة تتجاوز بين الخمس سنوات أو أكثر‪ ،‬لجنحة‬ ‫‪ -‬هل ت ّ‬
‫أو أكثر؟‬
‫‪ -‬هل توّرطت في تهريب المواد المراقََبة؟‬
‫در الّله( تضمر القيام بأنشطة إجرامّية أو غير‬ ‫‪ -‬هل تدخل الوليات المتحدة وأنت )ل ق ّ‬
‫أخلقّية؟‬
‫متوّرط في أنشطة تجسسية أو تخريبية أو إرهابية‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫مدان حاليا و ُ‬ ‫سب َقَ أن أدنت أو أنك ُ‬ ‫‪ -‬هل َ‬
‫أو‪ ..‬إبادة البشرية؟ أو أنك بين عامي ‪ 1933‬و ‪) 1945‬ومن قبل حتى أن تخلق(‪ ،‬أسهمت‬
‫بشكل من الشكال‪ ،‬في تشريد الناس باسم ألمانيا النازية أو حلفائها؟‬
‫‪ -‬هل تنوي البحث عن عمل في الوليات المتحدة الميركية؟‬
‫طردت من الوليات المتحدة؟‬ ‫سَبق أن ُأبعدت أو ُ‬ ‫‪ -‬هل َ‬
‫‪ -‬هل حصلت أو حاولت أن تحصل على تصريح للدخول إلى الوليات المتحدة بتقديم‬
‫معلومات خاطئة؟‬
‫وة طفل ً يعود حقّ رعايته إلى شخص أميركي؟ أو حاولت‬ ‫ّ‬ ‫بالق‬ ‫أو‬ ‫خاطر‬ ‫بطيب‬ ‫‪ -‬هل حجزت‬
‫منع هذا المواطن الميركي من القيام بإتمام واجب رعايته؟‬
‫قات القانونية مقابل تقديم "شهادة"؟‬ ‫ح َ‬ ‫مل َ‬ ‫‪ -‬هل سبق أن طلبت أن ُتعفى من ال ْ ُ‬
‫ي" الذي سيعترف بأنه مهبول‪،‬‬ ‫مصاب باختلل عقل ّ‬ ‫من هو هذا الزائر النزيه و"ال ْ ُ‬ ‫ول أدري َ‬
‫وُيجيب عن بعض هذه السئلة أو عن جميعها بـ"نعــم"‪ ،‬بما في ذلك أنه‪ ،‬على الرغم من‬
‫ذلك‪ ،‬ينوي طلب القامة في أميركا والحصول على رخصة عمل فيها‪.‬‬
‫خمس‬ ‫ن هذه الستمارة وّزعت على الميركيين ل على السّياح‪ ،‬لفرغت أميركا من ُ‬ ‫ولو أ ّ‬
‫ن آخر تقرير صادر عن وزارة الصحة في الوليات‬ ‫سكانها منذ السؤال الّول‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫ن نصف‬ ‫ّ‬ ‫وأ‬ ‫عقلية‪...‬‬ ‫اضطرابات‬ ‫يعاني‬ ‫خمسة‬ ‫أصل‬ ‫المتحدة يفيد أن أميركيا ً واحدا ً من‬
‫قون عناية‪ .‬أما بقّية السئلة‪ ،‬فكافية لطرد ثلثي سكان الوليات المتحدة‬ ‫المصابين ل يتل ّ‬
‫خارج أميركا‪ .‬ليس فقط لتاريخهم الطاعن في الجرائم ضد النسانية منذ الهنود الحمر‪،‬‬
‫مرورا ً بفيتنام وحتى العراق‪ ..‬و ما سيليها‪ ،‬بل أيضا ً لنتشار كل الوبئة الجتماعية من‬
‫أمراض "معدية" وإدمان خمر ومخدرات واحتجاز المدنيين والطفال )‪..‬والشعوب!(‬
‫وتشريع العنف الجسدي وحق حمل السلح في ذلك البلد من دون بقية بلد العالم‪.‬‬
‫وإن كنت أعرف كل هذا‪ ،‬فالذي اكتشفته من هذه الستمارة إّياها التي سبق أن ملتها يوم‬
‫ن أميركا لم‬ ‫زرت أميركا منذ خمس سنوات‪ ،‬أي قبل أحداث ‪ 11‬سبتمبر )أيلول(‪ ،‬هو أ ّ‬
‫ششوا فيها‪ .‬في‬ ‫تفهم أن استمارتها هذه لم تفدها في شيء‪ ،‬ولم تمنع الرهابيين من أن ُيع ّ‬
‫سسها على كل فرد بأيّ ذريعة‪ .‬صديقة‬ ‫الواقع‪ ،‬أميركا مريضة بتحقيقاتها وأسئلتها وتج ّ‬
‫مقيمة في أميركا‪ ،‬حدثتها عن غرابة هذه الستمارة‪ ،‬فروت لي كيف أنها أرادت مراجعة‬
‫منت عشرات السئلة الحميمّية‬ ‫دها باستمارة من خمس صفحات تض ّ‬ ‫طبيب نسائي‪ ،‬فأم ّ‬
‫مربكة في غرابتها‪ ،‬إلى حد ّ جعلها تعدل عن مراجعته بعدما لم تعد المسكينة تعرف كيف‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ن وحدها السئلة تـرى‪ .‬فمن‬ ‫ن الجوبة عمياء‪ ،‬وأ ّ‬ ‫تجيب عنها‪ .‬في أميركا‪ ..‬أدركت معنى أ ّ‬
‫ما عرفت هي عني‪ ..‬على الرغم من‬ ‫ّ‬ ‫م‬ ‫أكثر‬ ‫أميركا‬ ‫تلك السئلة الغريبة حقا ً عرفت عن‬
‫حشريتها‪.‬‬
‫وتنا الحق‬
‫وة‪ ..‬ق ّ‬ ‫ح ّ‬
‫قهم الق ّ‬
‫جروا أنفاق لندن‪ ،‬كانوا قَت ََلة بسمعة حسنة‪ ،‬أنجبتهم عائلت‬ ‫إذن‪ ..‬المجرمون الذين ف ّ‬
‫إسلمية "هادئـــة"‪" ،‬كانوا حسب أحد الصحافيين البريطانيين‪ ،‬بريطانيين‪ ،‬مثل وجبة‬
‫دوا هنا‪ ،‬في مستشفيات الضمان الجتماعي‪ ،‬وذهبوا إلى مدارس‬ ‫السمك والبطاطا‪ .‬وُل ِ ُ‬
‫"ليدز" وتعّلموا "شكسبير"‪ ،‬وأحدهم كان أستاذ مدرسة ابتدائية‪ ،‬والثاني كان يدور المدينة‬
‫شَعابها‬‫بحثا ً عن آخر نكتة"‪ .‬النكتة قرأناها بعد موته‪ .‬فقد كان الرجل يدور المدينة دارسا ً ِ‬
‫جر ذات صباح دام ٍ مع رفاقه "المجاهدين" قاطراتها المكتظة وقت الذروة‬ ‫وأنفاقها لُيف ّ‬
‫دق ما حدث‪.‬‬ ‫ُ ّ‬‫مص‬ ‫غير‬ ‫العالم‬ ‫فيه‬ ‫استيقظ‬ ‫للذهول‪،‬‬ ‫آخر‬ ‫صباح‬ ‫أعمالهم‪.‬‬ ‫القاصدين‬ ‫بالبرياء‬
‫إنه الموت مرة أخرى‪ ،‬في وقته وفي غير وقته‪ .‬وأّنـى وأين ل نتوّقعه‪ .‬لكن له السم إّيــاه‬ ‫ُ‬
‫دامي‪ ،‬الذي‬ ‫دا إذن للندن أيضا ً صباحها ال ّ‬ ‫دومًا‪ :‬إّنه الموت السلمي الرهابي المتوحش‪ .‬غ َ َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يؤهلها لدخول نادي مدريد ونيويورك للموت الصباحي الجامعي‪" .‬أمسيات‪ ..‬أمسيات‪ .‬كم‬
‫من مساء لصباح واحد"‪ ،‬إنها "وحدة الصباحات" على الرغم من اختلف الماسي والمآسي‬
‫والمسار‪ .‬فما كانت كل تلك المدن تضمر لنا العداء‪ ،‬ول مّيزتنا بعضها عن أبنائها‪ ،‬أو أهانتنا‬
‫ق لنا من صديق‪ .‬في إمكان لندن‬ ‫في مطاراتها بتهمة ديننا أو هويتنا‪ .‬لكن الرهاب لم ُيب ِ‬
‫التي ناهضت دون هوادة الحرب على العراق‪ ،‬وخرجت أكثر من مّرة في أكبر مظاهرات‬
‫م العراقيين‪ ،‬أن‬ ‫ددة بتوّرط حكومتها في د ّ‬ ‫من ّ‬
‫عرفها الغرب‪ ،‬منذ انتهاء الحرب العالمية‪ُ ،‬‬
‫حصي ضحاياها وقتلها‪ .‬وفي إمكاننا أثناء ذلك‪ ،‬أن ُنجري جردة لخسائرنا‪ .‬فبالحزمة‬ ‫تُ ْ‬
‫من تعاطفوا‬ ‫َ‬ ‫قلوب‬ ‫إلى‬ ‫الموصلة‬ ‫الطرق‬ ‫كل‬ ‫فجرنا‬ ‫المزروعة‪،‬‬ ‫والمتفجرات‬ ‫خخة‬ ‫ال ْ ُ ّ‬
‫مف‬
‫ن هدر المستقبل ل يكفي‪ ،‬ذهبنا حتى تفجير مجدنا الندلسي‪،‬‬ ‫معنا‪ ..‬أو كانوا سيفعلون‪ .‬وكأ ّ‬
‫المنسوف هباًء في قطار مدريد الصباحي‪ .‬ل ذريعة للقتلة‪ .‬ل علل ل أسباب ل شرف‪ .‬وك ّ‬
‫ل‬
‫مسالمين من دون سبب‪ ،‬هو شريكهم في القتل‪ .‬أيّ مجد‬ ‫عـذرا ً لقتلهم البرياء ال ْ ُ‬ ‫من يجد ُ‬ ‫َ‬
‫قت ََلة المؤمنون التقياء‪ ،‬الذين ألحقوا بالسلم أذى لم ُيلحقه به أعداؤه‪ ،‬وما‬ ‫أهدونا إّياه؟ ال َ‬
‫شبهة إل ّ ألصقوها بنا‪ .‬ثم كم يلزمنا من السنوات الضوئية‪ ،‬ومن الجهد‬ ‫وّفروا إهانة أو ُ‬
‫ما ع َل ِقَ بها من دم ٍ ودمار تناوب إرهابيو العرب والمسلمين‬ ‫ّ‬ ‫م‬ ‫سمعتنا‬ ‫نغسل‬ ‫والمال‪ ،‬لكي‬
‫قهم في‬ ‫جة ح ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫على صنعها مذبحة ومجرزة بعد أخرى‪ .‬ووجد فيها قَت َلت َُنا ص ّ‬
‫ك براءتهم وح ّ‬
‫الستفراد بنا وإبادتنا في فلسطين والبوسنة والعراق والشيشان وأفغانستان‪ ،‬بصفتنا‬
‫ُ‬
‫مباَرك‪،‬‬ ‫ل الشرور الكونّية‪ .‬فقهاء الرهاب ومشايخ الجرام وأمراء الموت ال ْ ُ‬ ‫السبب في ك ّ‬
‫الذين يتوضأون بدم البرياء طمعا ً في جّنة موعودة‪ ،‬كيف ل ُيخيفهم الوقوف بين يدي الّله‬
‫ن‬‫قتل بيده وقطع الرؤس بسيفه‪ ،‬وفتح دكاكين للفتوى كوكلء حصريين له‪ .‬إ ّ‬ ‫دعوا ال َ‬‫وقد ا ّ‬
‫على العرب والمسلمين أن يتظاهروا ضد الجرائم التي ُترتكب باسمهم‪ ،‬ليكون لهم حق‬
‫التنديد بما ُيرتكب في حقهم من جرائم‪ ،‬ما عاد العالم معنيا ً بها‪ .‬ضاع حقنا باعتدائنا على‬
‫حق الخرين في الحياة‪ ،‬ورخص دمنا لفرط استرخاصنا دم الخرين والتباهي بسفكه‪.‬‬
‫فمادمنا على هذا القدر من الحتقار للحياة النسانية‪ ،‬علينا أل ّ نتوّقع من العاَلم أي احترام‬
‫دساتنا وأهان كرامتنا‪ ،‬وأفتى بحجرنا في ضواحي‬ ‫لنسانيتنا‪ ،‬ول لوم عليه إن هو دّنس مق ّ‬
‫مــة عربّية إسلمّية راقية يتشّرف بها‬ ‫ُ‬
‫التاريخ‪ ..‬وحظيرة الحيوانات المسعورة‪ُ .‬نريد أ ّ‬
‫مــة صغيرة‬ ‫قهم القوة قوتنا الحق"‪ ،‬ذلك أن أ ُ‬ ‫مــة شعارها "ح ّ‬ ‫ُ‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السلم وُتباهي بها العروبة‪ .‬أ ّ‬
‫وة كبيرة على باطل‪.‬‬ ‫على حق‪ ..‬أقوى من ق ّ‬

‫حقيبتي‪ ..‬مصيبتي‬
‫ن زمن الحمير قد وّلى‪ ،‬وجاءنا زمن الطائرات‪ ،‬والسفار عابرة القارات‪ ،‬والمطارات‬ ‫ل ّ‬
‫التي تتقاطع فيها كل لحظة عشرات الرحلت‪ ،‬وُتلقي فيها حاملت المتعة بآلف الحقائب‬
‫من جوف طائرة إلى جوف ُأخرى‪ ،‬فقد غدا ضروريا ً استبدال ذلك القول الساخر‪" :‬إذا أراد‬
‫م يعثر عليه"‪ ،‬بقول آخر‪" :‬إذا أراد الّله إسعاد مسافر‬ ‫الّله إسعاد فقير جعله ُيضيع حماره ث ّ‬
‫من ذهب مثلي يحضر معرض الكتاب في‬ ‫م يعثر عليها"‪ .‬فوحده َ‬ ‫جعله ُيضيع حقيبته ث ّ‬
‫نابولي‪ ،‬بما يليق بالمدينة من أناقة إيطالية‪ ،‬وإذا به يقضي إقامته مهموما ً مغمومًا‪ ،‬محروما ً‬
‫در حرقة اشتياق المرء إلى حقيبته‪ ...‬اشتياقه إلى حبيبته‪.‬‬ ‫من حاجاته ولوازمه الخاصة‪ُ ،‬يق ّ‬
‫إحدى الوصفات المثالية لضمان صاعقة فرحتك باستعادة حقيبتك المصون‪ ،‬ذات الشرف‬
‫الرفيع‪ ،‬التي جاءتك من كبار القوم‪ ،‬وإذا بها مصيبة في شكل حقيبة‪ ،‬ما رآها جمركي إل ّ‬
‫ص إل ّ وغّررته بك‪ ،‬حقيبة تكيد لك‪ ،‬خلتها غنيمة‪ ،‬وإذا بها جريمة‬ ‫واستوقفك‪ ،‬وما لمحها ل ّ‬
‫في حقّ أعصابك‪ ،‬يمكنك اختبارها في مطار كمطار ميلنو‪ ..‬دائم الحركة وقليل البركة‪،‬‬
‫ن اليطاليين‬ ‫الداخل إليه كما الخارج منه من‪ ..‬متاع مفقود‪ .‬فصيت سرقاته يسبقه‪ ،‬حتى إ ّ‬
‫أنفسهم يبتسمون عندما تشكو إليهم ضياع أمتعتك فيه‪ ،‬ويواسونك بأخبار من ُفجع قبلك‬
‫مال المطار‪،‬‬ ‫في حقيبته‪ ،‬وعجز الشرطة نفسها عن تفكيك شبكات سرقة المتعة وسط ع ّ‬
‫جب اليطاليون من‬ ‫على الرغم من عيون الكاميرات المزروعة لمراقبتهم‪ ،‬تماما ً كما ي ُعْ َ‬
‫عجبك أل ّ تصل طائرتهم على الوقت‪ ،‬أو تلغي "أليطاليا" رحلة من دون سابق إبلغ‪ .‬فهي‬
‫لها من صفاتهم نصيب‪ ،‬وهي ذائعة الصيت في احترام مواعيدها‪ ..‬لكن بفرق أربع وعشرين‬
‫ساعة عن رحلتها‪ ،‬وبإيصالها أمتعتك‪ ،‬لكن وأنت تغادر المطار عائدا ً من حيث جئت‪.‬‬
‫وستنسى من فرحتك أن ُتطالب حتى بحقوقك المشروعة والمدفوعة مسبقًا‪ ،‬حسب‬
‫فلت مؤسساتها‬ ‫ضمانات بطاقتك المصرفية‪ ،‬لو لم تكن ضيفا ً على مدينة نابولي التي تك ّ‬
‫الثقافية بدفع تذكرتك‪ ،‬واختيار مسارك وشركة طيرانك‪ .‬وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬ستحمد‬
‫ن الطائرة المروحية الصغيرة ذات‬ ‫الّله كثيرًا‪ ،‬وتفتح مجلسا ً لتقّبل التهاني بسلمتك‪ ،‬ل ّ‬
‫المحّركين كثيري الضجيج‪ ،‬لم تقع بك وأنت قادم من ميلنو إلى نابولي‪ ،‬ربما لنك قرأت‬
‫مان‪،‬‬ ‫يومها كل ما حفظت من قرآن‪ ،‬وهو ما فعله أيضا ً إبراهيم نصرالّله‪ ،‬الذي جاء من ع ّ‬
‫واستنفد ذخيرته من اليمان على طائرة مروحّية ُأخرى‪ .‬وبينما افتتح هو محاضرته‬
‫بالتضامن مع الصحافية اليطالية‪ ،‬المفقودة آنذاك في العراق‪ ،‬أضفت إلى ُأمنيته‪ ،‬تعاطفي‬
‫من تفّهم فاجعتي وعذر‬ ‫ل الذين فقدوا أمتعتهم في مطار ميلنو‪ .‬ووجدت بين الحضور َ‬ ‫مع ك ّ‬
‫هيأتي وواساني بالتصفيق‪ .‬ولو كنت أعرف خاتمتي‪ ،‬حسب أغنية عبدالحليم‪ ،‬لتضامنت‬
‫مسبقا ً مع عشرات الركاب مثل حالتي‪ ،‬الذين كانت ميلنو مطار ترانزيت نحو وجهات‬
‫ُأخرى يقصدونها‪ ،‬لكن انتهى بهم المر مثلي بعد أسبوع‪ ،‬تائهين في مطار نيس‪ ،‬بعد أن‬
‫فقدوا رحلتهم على متن شركة الطيران إّياها‪ ،‬لسباب "تقنّية" مفهومة‪ .‬ولم ُيطلب منهم‬
‫سوى العودة في الغد على الساعة نفسها‪ .‬وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬ستنسى مصابك وعذابك‬
‫ل شيء‪ ،‬وتهون‬ ‫ظفته وأغلقته وأفرغت بّراده من ك ّ‬ ‫ذات يوم أحد‪ ،‬وأنت عائد إلى بيت ن ّ‬
‫ُ‬
‫عليك المئتا يورو‪ ،‬التي ستدفعها ذهابا ً وعودة في الغد‪ ،‬كلفة سيارة الجرة من مطار نيس‬
‫إلى كان‪ ..‬والعكس‪ ،‬وستهاتف العائلة في بيروت لتنقل إليهم ُبشرى عثورك على حقيبتك‪،‬‬
‫وُبشرى إلغاء رحلتك‪ .‬فقد كان يمكن أن تخسر حياتك أثناء عودتك فرحا ً باستعادة حقيبتك‪.‬‬
‫صة صديقتي الغالية أسماء غانم الصديق‪ ،‬التي اعتادت أن ُتسَرق منها‬ ‫ت نفسي بق ّ‬ ‫واسي ُ‬
‫ت لي كيف‬ ‫ت مكاسبها سقط متاع‪َ .‬روَ ْ‬ ‫جهودها التطوعّية ومبادراتها النسانية‪ ،‬حتى غ َد َ ْ‬
‫سرقت حقيبتها الفاخرة منذ سنتين‪ ،‬أثناء سفرها إلى أميركا لحضور مناسبة تخّرج ابنها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫مر من احتجاجها المسؤولون‪ ،‬وصاحوا بها‪:‬‬ ‫وكانت مليئة بأغلى الثياب وأرقاها‪ .‬وعندما تذ ّ‬
‫"كيف تقولين إننا سرقنا حقيبتك؟"‪ .‬أجابتهم بشجاعتها الماراتية‪َ" :‬أوَلم تسرقوا العراق؟"‪.‬‬
‫مازلت أسمعها تقول‪" :‬ضاعت الوطان‪ ..‬فليأخذوا الحقيبة!"‪.‬‬
‫جلها ممدود‪ ..‬وراحت تعزي في محمود‬ ‫"خ ّ‬
‫لت را ِ‬
‫أكتــب إليكــم هذا المقال على الصوت المدّوي للموّلــد الكهربائي‪ .‬فلبنان "المن ّ‬
‫ور"‪،‬‬
‫ور" بغير الكهرباء دائمة النقطاع‪ ،‬التي‬ ‫وق‪ ،‬هو في الواقع "من ّ‬
‫حسب شعار شهر التس ّ‬
‫نعيش على تقنينها حسب مزاج شركة الكهرباء التي قصفها السرائيليون‪ ،‬حتى بتنا نسعد‬
‫ن علينا ببضع ساعات إضاءة في اليوم‪.‬‬ ‫بسخائها عندما تم ّ‬

‫وبرغم انزعاجي لمتداد هذا النقطاع‪ ،‬أحيانا ً طوال الليل‪ .‬وهو الوقت الوحيد الذي أكتب‬
‫فيه‪ ،‬فقد وجدت في المر نعمة إعفائي من مطاردة نشرات الخبار ليل نهار‪ ،‬خشية أن‬
‫تقوم الحرب في غفلة مّني‪.‬‬

‫ن ما طمأنني‪ ،‬هو وجود السّياح الخليجيين باللف في بيــروت‪ ،‬بمناسبة شهر‬ ‫غيــر أ ّ‬
‫وق‪ ،‬أو بذريعته‪ ،‬حتى ضاقت بهم الفنادق‪ ،‬وفاضت بهم إلى الجبال والشواطئ‬ ‫التس ّ‬
‫المجاورة‪ .‬والحقيقة‪ ،‬أنهم أنــاروا بمباهجهم الشرائية القتصاد اللبناني‪ ،‬وأدخلوا إلى جيوبه‬
‫بصيص أمــل "أخضر"‪.‬‬

‫ولنني شاهدت على قناة "الورونيوز" الجنود الميركيين‪ ،‬وهم مستلقون في أزيــاء البحر‪،‬‬
‫كرت قول ديغــــول‪" :‬أضع خططي‬ ‫مام شمس في المسابح الخاصة بهم‪ ،‬فقد تذ ّ‬ ‫يأخذون ح ّ‬
‫كر ملئكة‬ ‫من أحلم جنودي النائمين"‪ .‬واستبشرت خيرا ً بأحلمهم‪ .‬فبماذا يمكن أن يف ّ‬
‫الخير‪ ،‬عندما يأخذون قيلولــة في الوقت الضائع بين حربين؟‬

‫كل شيء ينذر باقتراب هذه الحرب التي تهجم علينا رائحتها من ك ّ‬
‫ل شيء نقربه‪ .‬لكن ما‬
‫ل في المكان الذي ل نتوّقعه‪.‬‬
‫يطمئننا هو وجود أطرافها‪ ،‬ك ّ‬

‫وهو ما يذ ّ‬
‫كرني بعبارة خبيثـــة قالها جــان مـــارك روبيــر‪ ،‬في حديث عن الخيانة‬
‫ّ‬
‫الزوجية‪" :‬ل أحد في مكانه بالضبط‪ ..‬الحمد لله‪ ..‬النصاف الدقيق ل ُيطـــاق"‪.‬‬

‫مة سماوّية لتطهير‬ ‫فالميركيون الذين تركوا فردوسهم وجاءونا طوعـــا ً وُنبــ ً‬
‫ل‪ ،‬في مه ّ‬
‫العالم من أشراره‪ ،‬لوجـــه الّلــــه‪ ،‬أذكى من أن ينزلـوا إلى الشوارع ليحاربونا بجيوشهم‪..‬‬
‫من يلهو بلعبة‬‫فة ضمير َ‬
‫ستُنـوب عنهم القنابل الذكية‪ ،‬والمعارك التي ُتــــدار بحماسة وخ ّ‬
‫إلكترونية‪.‬‬

‫وع عراقي‪ ،‬الذين أنهــوا مؤخرا ً تدريباتهم‬


‫ولــذا‪ ،‬لــن يجد المليونان ونصف المليون متط ّ‬
‫في "جيش القدس"‪ ،‬الذي أسسه صدام‪ ،‬قصد تحرير فلسطين‪ ،‬وانخرط في صفوفه ثلث‬
‫كان العراق تقريبًا‪ ،‬أي أكثر من سبعة مليين شخص من الجنسين‪ ،‬ومن كل العمار‪ ،‬لن‬ ‫س ّ‬
‫ل فيها العراق‪ .‬وهذا في حد ّ ذاته مأساة بالنسبة إلى‬ ‫من ينازلون في حرب ُيحت َ ّ‬
‫يجدوا َ‬
‫شعب ترّبـى على شحـذ السيوف‪ ،‬وعلى الروح القتالية‪ .‬وليس أمام هؤلء‪ ،‬إن كانوا‬
‫منازلة الدبابات‬ ‫مصّرين على القتال‪ ،‬إل ّ الذهاب إلى فلسطين لتحرير القدس فعــ ً‬
‫ل‪ ..‬و ُ‬ ‫ُ‬
‫السرائيلية‪ ،‬في شوارع غــــزة ورام الّلــه‪.‬‬
‫جلها ممدود وراحت تعّزي في محمود"‪.‬‬ ‫لت را ِ‬ ‫وقد تقول ُأمي في موقف كهذا "خ ّ‬
‫عنــق الدروع البشرية‪ ،‬التي وصفها‬ ‫وشخصيــًا‪ ،‬ل أرى خوفا ً على العراق‪ ،‬مادام أمانة في ُ‬
‫البيت البيض‪ ،‬بفراشات الليل الغبّية‪ ،‬التي تذهب إلى النور لتحترق‪ .‬فهؤلء الحمقى‪ ،‬تركوا‬
‫وعين باللف من مختلف أرجاء العالم‪،‬‬ ‫هم أيضا ً أهلهم وبيوتهم وبلدهم‪ ،‬وجاءوا متط ّ‬
‫تضامنا ً مع الشعب العراقي‪ ،‬لمقاسمته ما سينهمر عليه من قذائف‪.‬‬
‫وقد يقول بعضكم‪ :‬وما نفع هؤلء إذا وجدوا أنفسهم في بلد‪ ،‬ذهب ثلث سكانها لتحرير‬
‫فلسطين‪ ،‬ونزح الباقون لجئين إلى الدول المجاورة؟ وهو سؤال غبي‪ ..‬لن تلك الدروع‬
‫البشرية سُتدفع لحماية الصحافيين الذين هم الجنود الحقيقيون في هذه المعركة‪ .‬حتى إن‬
‫"البنتاغون" دعا ‪ 500‬صحافي لزيارة سياحية للعراق‪ ،‬على ظهور الدبابات‪ .‬وسبق للقوات‬
‫الميركية أن أقامت لهم "معسكرات صحراوية" بجوار قواعدها‪ ،‬وأجبرتهم على القيام‬
‫بـ"دورات ميدانية"‪ ،‬بذريعة تلفي أخطار واجهت الصحافيين خلل حرب تحرير الكويت‪،‬‬
‫مثل ضياع بعضهم وأسره لدى العراقيين‪ .‬بينما يرى الصحافيون أن ما تريده أميركا هو‬
‫فرض رقابة غير مباشرة عليهم‪ ،‬وتوجيه عيونهم حيث تشاء‪.‬‬
‫ور الصحافيون في حرب غاب عنها المتقاتلون واختفى‬ ‫وقد يسأل أحدكم‪ :‬وماذا سيص ّ‬
‫قادتها في المخابئ؟‬
‫وسُأجيبه‪ :‬إنهم ليسوا هناك لرسال صور الحرب‪ ،‬بل ليكونوا جنودا في حرب الصور‪،‬‬
‫ً‬
‫والسباق إلى التسّلح العلمي‪ ،‬لشبــاع نهــم الشبكات التلفزيونية الكبرى‪ ،‬وولعها بالبـث‬
‫المباشر الحي‪ ،‬من بلدان تلفظ أنفاسها على مرأى من مليين البشر‪.‬‬
‫ور" لبنان بالقنابل‬
‫فيا شركة كهرباء لبنان‪ ..‬أعيدي لنا الكهرباء رجــاًء‪ ..‬حتى "ينــ ّ‬
‫المتساقطة على العراق‪ ،‬ويمكننا الجلوس مساًء‪ ،‬مع ضيوفنا حول فنجان شاي‪ ،‬لنتقاسم‬
‫مع فضائيات العالم الغنائــم العلمية للحــــرب!‬

‫خواطر عشقية … عجلى‬

‫مبدعــا ً تخّلى عنه الحــ ّ‬


‫ب·‬ ‫شـَرة صغيــرة أن تهزم ُ‬ ‫ح َ‬‫في إمكان أيّ َ‬
‫لدون ول أجهزة المخابرات ول دوائر‬ ‫ّ‬
‫هذا المبدع نفسه الذي لم يهزمه الطغاة ول الج ّ‬
‫ي·· يوم كان عاشقًا·‬ ‫الخوف العرب ّ‬
‫***‬
‫ب كبير· عادة‪ ،‬أضرحة الفقدان تبقى عاريــة·‬ ‫ّ‬ ‫ح‬ ‫ضريح‬ ‫على‬ ‫نبتت‬ ‫صداقة‬ ‫بزهرة‬ ‫أسمع‬ ‫لم‬
‫ن الكراهية‪ ،‬ل الصداقــــة‪ ،‬هي ابنة‬ ‫ففي تلك المقابر‪ ،‬ل تنبت سوى أزهار الكراهية· ذلك أ ّ‬
‫الحب·‬
‫***‬
‫لبد لحدهم أن يفطمك من ماضيك‪ ،‬ويشفيك من إدمانك لذكريات تنخـر في جسمك‬
‫وُتصيبك بترّقق الحلم· النسيان هو الكالسيوم الوحيد الذي ُيقاوم خطر هشاشة المل·‬
‫***‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ب جنونا وتطّرفا وشراسة وافتراسا عشقيا للخــر·· فهو إحساس ل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ن لم يكن الح ّ‬ ‫إ ْ‬
‫ول عليه·‬ ‫ّ‬ ‫يعـــ‬ ‫ُ‬
‫***‬
‫حمة لم‬ ‫متف ّ‬
‫و‪ ،‬أن ُتواسيك بخضارها‪ ،‬عن غابة ُ‬ ‫ب صغيرة نبتت للت ّ‬ ‫ليس في إمكان شجرة ح ّ‬
‫ن جذورها ممتدة فيك·‬ ‫تنطفئ نيرانها تماما ً داخلك·· وتدري أ ّ‬
‫***‬
‫ب صغير ُيولد· أشفق على الذين يستعجلون خلع‬ ‫ن حب ّا كبيرا وهو يموت‪ ،‬أجمل من ح ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إ ّ‬
‫حدادهم العاطفي·‬
‫***‬
‫ب·· هو الذي يعثر عليك·‬ ‫ّ‬ ‫الح‬ ‫على‬ ‫تعثر‬ ‫ل‬ ‫ت‬‫أن َ‬
‫ً‬
‫ل أعرف طريقة أكثر خبثا في التحّرش بـه·· من تجاهلك له·‬
‫***‬
‫ي على هزيمة·‬ ‫ي مبن ّ‬‫أتــوق إلى نصـر عشق ّ‬
‫ب·· بل له·‬ ‫ّ‬ ‫الح‬ ‫على‬ ‫رة‬‫ّ‬ ‫م‬ ‫انتصرت‬ ‫لطالما فاخرت بأنني ما‬
‫***‬
‫مة طريقتان للعذاب‪:‬‬ ‫بعد فراق عشقي‪ ،‬ث ّ‬
‫لولى أن تشقى بوحدتك‪ ،‬والثانية أن تشقى بمعاشرة شخص آخــر·‬ ‫ا ُ‬
‫***‬
‫ك قبل أن ُتحّبيه‪ ،‬وُتدّلليها‬ ‫ِ‬ ‫نفس‬ ‫تحبي‬ ‫أن‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫قرر‬ ‫إذا‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫إ‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫رج‬ ‫تكسبي‬ ‫لن‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫أن‬ ‫الحمقاء··‬ ‫أيتها‬
‫ك عن سخاء عاطفي فستخسرينه·‬ ‫ت في نفس ِ‬ ‫ن فّرط ِ‬‫ما ُتدّلليلنه· إ ْ‬
‫أكثر م ّ‬
‫مشتهــــاة·‬‫ُ‬ ‫النانيــة‬ ‫المـرأة‬ ‫كـم‬ ‫ك··‬‫ِ‬ ‫حولـ‬ ‫انظــري‬

‫ب الوطن‬
‫حـ ّ‬
‫درس إماراتي في ُ‬

‫مع‬ ‫ُ‬
‫لم أزر المـــارات سـوى مرتين‪ ،‬تفصل بينهما خمس سنوات· الولى بدعوة من “المج ّ‬
‫الثقافي”‪ ،‬والثانية للسهام في جمع التبّرعات دعمــا ً للفلسطينيين‪ ،‬بدعــوة من تلفزيون‬
‫أبوظبــي·‬
‫دد على المــارات الدعــوات التي تأتيني بين الحين والخر‪ ،‬من جهة أو‬ ‫لم تغرني بالتر ّ‬
‫مغريــة لشركات الطيران‪ ،‬كـي تجعل من دبــي الوجهــة السياحّيـة‬ ‫ُأخرى‪ ،‬ول الُعروض ال ُْ‬
‫ب بلــدا ً كما لو أّنه وطني‪ ،‬أخجـل أن أزوره بذريعة تجارية في‬ ‫ُ‬ ‫العربّيـة ا ُ‬
‫لولـى· فعندما أحــ ّ‬
‫ن كان على ُبعــد ساعتين بالسيارة‪ ،‬كما هي الحــال‬ ‫وق والتنزيلت‪ ،‬حتى وإ ْ‬ ‫مواسم التس ّ‬
‫ً‬
‫مع الشـــام‪ ،‬التي يقصدها اللبنانيون يوميا بالمئات‪ ،‬لشراء القطنيات والمؤونات الغذائية‪،‬‬
‫لولى منذ ‪ 5‬سنوات‪ ،‬إذ كان لي لقاء مع‬ ‫ولم أزرها خلل عشر سنوات سوى مرتين‪ ،‬ا ُ‬
‫القّراء في فندق فخـم في الشــام‪ ،‬في إطــار عمل خيريّ برعايـة “‪ sos‬قرى الطفال”‪،‬‬
‫ِبيعــت فيه البطاقة بثمانية دولرات‪ ،‬وحضره ‪ 1400‬شخص‪ ،‬والثانية كانت منذ ثلثة أشهر‬
‫بدعوة من السيدة ُبشـــرى السـد‪ ،‬والصديقة الدكتورة ُبثينـــة شـعبان·‬
‫مبــدع وأّيــة جـهـة‬ ‫ن المسافة الجغرافية‪ ،‬أو المهنية‪ ،‬مهما قربــت بين ال ْ ُ‬ ‫ذلك أنني أعتقد أ ّ‬
‫ُ‬
‫ن كانت وطنه الصلي‪ ،‬عليها أل ّ ُتلغي المسافة الخرى الضرورية لحماية‬ ‫ُ‬
‫أخـرى‪ ،‬حتى وإ ْ‬
‫ي وغير‬ ‫ولــه إلى كائــن غير مرئ ّ‬ ‫قق إل ّ بتح ّ‬ ‫ماِليــة حضـوره‪ ،‬وهو ما ل يتح ّ‬ ‫ج َ‬
‫هيبة اسمه و َ‬
‫متوافـــر·‬ ‫ُ‬
‫حمولتيهما البشرّيــة في مطـار الشــام‬ ‫ُ‬ ‫لسبوع‬ ‫ُ‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫مرتين‬ ‫تفرغان‬ ‫ُ‬ ‫جزائريتان‬ ‫طائرتان‬
‫ومطــار دبــي‪ ،‬لنعدام التأشيرة بين الجزائر وسوريــا‪ ،‬ولسهولتها بالنسبة إلى دبــي‪ ،‬مــا‬
‫مـة ســوق‬ ‫شنطة”‪ ،‬حتى أصبح ثـ ّ‬ ‫جــار ال ّ‬ ‫ب من “ت ّ‬ ‫ب ود ّ‬‫مــن هــ ّ‬‫جعل البلدين في متناول َ‬
‫ُ‬
‫بكاملها‪ ،‬تحمل في العاصمة اسم “ســـوق دبــــي”‪ ،‬وأخــــرى تحمل اسم “ســوق‬
‫الشـــام”·‬
‫ضـع‪ ،‬بحجــة‬ ‫ُ‬
‫مــن حاولــوا إغرائــي بزيــارة الشــام للتب ّ‬ ‫وحــدي‪ ،‬منـذ سـنــوات‪ ،‬أقـــاوم َ‬
‫رخص موادها الستهلكية‪ ،‬تماما ً كما إكرامــا ً لوجدانـي القومـي‪ ،‬رفضت أن تتساوى دبــي‬
‫والمــارات في ذهني بالصين وهونغ كونغ·· وكوريـــا‪ ،‬والبلد الذي يحلم البعض بزيارته‬
‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ذلك‬ ‫مضافــة على اللت اللكترونية·‬ ‫للستفادة من سوقـــه الحـــّرة وغيــاب القيمة ال ْ ُ‬
‫مضافـة‪ ،‬تفوق ثمن البضائع المعروضة ذاتها‪ ،‬وحـدي أعرف‬ ‫للُعروبـــة في قلبي قيمة ُ‬
‫ن لم‬‫ْ‬ ‫وإ‬ ‫عبــدالقــــادر‪،‬‬ ‫الميـر‬ ‫عنفـوان‬ ‫تكويني‬ ‫جينـات‬ ‫في‬ ‫أحمـل‬ ‫نسبتها· فأنـا مازلــت‬
‫ن لم أدخل المـــارات‬ ‫خــل الشــام فاتحـــة‪ ،‬فأنــا لن أدخلها تاجـــرة صغيرة‪ ،‬وإ ْ‬ ‫أد ُ‬
‫أميـــرة للكلمــة‪ ،‬فأنــا لـن أزورها جاريــة في سـوق العــولمـــة·‬
‫مفاخــر‬ ‫فقبـل أن أسمع بسوق الحميديــة في سوريــا‪ ،‬تعّلمـت في مدارس الجزائر ال ْ َ‬
‫شنطــة”‪ ،‬كانت نسـاؤنـــا‬ ‫جــار ال ّ‬‫لموّيــة‪ ،‬وقبل أن ُينجــب البـــؤس العربــي سللــة “ت ّ‬ ‫ا ُ‬
‫قد أنجبــن الفرســان والخّيـالــة‪ ،‬وُأمــراء جــــاءوا على صهــوة الُعروبــة ُينازلــون‬
‫التاريــخ·‬
‫لـــذا‪ ،‬مثلهــم‪ ،‬ما زرت المـــارات يومــا ً لخــذ منها ما هو أرخص‪ ،‬وإّنـمــا مــا هــــو‬
‫أغـلــــى وأنـــــدر·‬
‫ضـعُ شيئا ً من‬ ‫ّ‬ ‫أتب‬ ‫فارغــة‪،‬‬ ‫وحقائب‬ ‫مليء‬ ‫بقلب‬ ‫المــارات‬ ‫أدخل‬ ‫ي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العربـ‬ ‫في زمــن الذ ّ‬
‫ل‬
‫قــطُ‬ ‫سـ َ‬‫المــل‪ ،‬شيئا ً من الكرامــة‪ ،‬وبعض العنفوان· ما يريده الخــرون منها هو َ‬
‫ي النــادر·‬‫وق شيئا ً من الزهــو العرب ّ‬ ‫عــي· أنا جئتها أتس ّ‬ ‫مَتــا ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫فالمــارات هي البلد العربي الذي ُتفاخــُر بعروبتك عندما تزوره‪ ،‬وتأتمنــه على حياتك‬
‫مفلسا ً أو في‬ ‫مـا قصدته‪ ،‬بينما قد ل تغادر غيره إل ّ ُ‬ ‫عندما تسكنه‪ ،‬وُتغادره غالبا ً أثــرى م ّ‬
‫صندوق· وفيها ل تخشى أن ُتشهر رأيك‪ ،‬فل يقبـع في سجونها سجين سياسي واحــد· وهذا‬
‫وحده ظاهرة عربّية نــادرة·‬
‫مــر‬ ‫ُ‬
‫وأنــا أزور دبــي للمــّرة الولــى‪ ،‬تجـاوزت إعجابـي بها إلى الغيـرة عليها من قــدر ُيد ّ‬
‫ققته هذه‬ ‫مـا ح ّ‬ ‫م إلى الغيــرة مـ ّ‬ ‫ل ما هو جميــل هذه اليـام في العالـم العربـي‪ ،‬ثــ ّ‬ ‫كــ ّ‬
‫ب أبنائها لهـا·‬ ‫حــ ّ‬
‫المـــارة الصغيــرة من إنجـــازات تتجــاوز مساحتها إلى شساعـة ُ‬
‫ت نســاًء ثـرّيــات‪،‬‬ ‫ت قصــورًا‪ ،‬وجالس ُ‬ ‫في دبــي‪ ،‬كما في أبوظبـــي والشـارقــة‪ ،‬دخل ُ‬
‫ن كان ُيضاهيه ثـــراًء· فأنـــا‪،‬‬ ‫لكنني ما غــــرت سوى من وطن ل ُيشبه وطني‪ ،‬وإ ْ‬
‫كصديقتـي الغاليــة جميـلـــة ُبـوحيـــــرد‪“ ،‬ل أغـــار من الشخاص بـل من الوطـــــان”·‬
‫حضـرنــي كثيـــرا ً قــــول ُأستــاذي جـــــاك بيـــــرك‪ ،‬في إحـدى محاضـراتــه في‬
‫متخّلفــة‪ ،‬بــل بلد َتخّلـف أبناؤهــا عن‬ ‫“السوربـــون” في الثمانينات‪“ :‬ل وجــود لبـلد ُ‬
‫عروبتنــا·‬ ‫حـّبـهـا”· لقد أدرك‪ ،‬وهو شيخ المستشرقين‪ ،‬عّلــة ُ‬ ‫ُ‬
‫ضـع·· خـــذوا في‬ ‫ّ‬ ‫للتب‬ ‫ســوق‬ ‫أو‬ ‫للعمل‪،‬‬ ‫كســوق‬ ‫المـــارات‬ ‫تقصــدون‬ ‫مــن‬
‫َ‬ ‫فيــا‬
‫ب الوطـــــــن‬ ‫حـــ ّ‬
‫جانــي‪ :‬درس ُ‬ ‫طريقكـم مــن أبنائهــا ذلك الدرس الم ّ‬

‫درس في الحرّية‪ ..‬من ج ّ‬


‫لدك‬

‫غادرت بيروت إلى فرنسا‪ ،‬ذات سبت في الول من أيار• وكان آخُر ما شهدته مساًء‪ ،‬وأنا‬
‫منهمكة في إعداد حقيبتي‪ ،‬برنامجا ً تعثرت يدي بزر فضائيته‪ ،‬فعلقت عن فضول وذهول‬
‫بين فكيه‪ ،‬مأخوذة بصفة ضيوفه‪ ،‬واختيارهم تلك القناة “الحرة” من دون سواها‪ ،‬لعرض‬
‫مظالم السجناء العرب في المعتقلت العربية‪ ،‬والتنديد بتاريخ انتهاك حقوق السير في‬
‫أوطان ل تعترف حتى بحقوقه الطبيعية‪ ،‬كما جاء على لسان ذلك الكاتب الصديق‪ ،‬الذي‬
‫قضى في الماضي ‪ 16‬سنة من عمره في أحد السجون العربية‪ ،‬بتهمة الشيوعية وما عاد‬
‫يرى حرجا ً اليوم‪ ،‬وقد وّلى “زمن العنفوان”‪ ،‬أن يجلس في أناقة تليق بمنبر أميريكي‪،‬‬
‫ليفتح قلبه بشكاوى‪ ،‬ما كان يخص بها في الماضي سوى قراء جريدة “التحاد الشتراكي”‪،‬‬
‫يشفع له وجوده بين ضيفين‪ ،‬يترأس أحدهما جمعية حقوق النسان في سجون مصر‪،‬‬
‫ويمثل الثاني جمعية حقوق النسان لدى السجناء في لبنان•‬
‫ب هو الذي تعثر عليه أثناء بحثك عن شيء آخر‪ ،‬فإن أطرف برنامج تعثر‬ ‫وإذا كان أجمل ح ّ‬
‫ُ‬
‫عليه حتمًا‪ ،‬أثناء بعثك عن قناة أخرى‪ ،‬بعدما تكون قد تهت “فضائيا”‪ ،‬وحطت بك‬
‫ً‬
‫المصادفة عند “قناة الحقيقة”‪ ،‬وهو على ما يبدو السم الحركي لقناة “الحرة”‪ ،‬وقبل أن‬
‫تتردد وتهاجر إلى “جزيرة” ُأخرى‪ ،‬يطمئنك شعارها “انتقاء ذكي” إلى ذكائك‪ ،‬ويهنئك‬
‫بحرارة ويشد على يدك‪ ،‬لنك لست من الغباء لتعادي “الحرية” ومشتقاتها‪ ،‬وتنحاز كمليين‬
‫المشاهدين العرب إلى قنوات معسكر الشر• وبدل أن تنضم إلى أنصار صراع الديكة‬
‫ونتف الريش‪ ،‬في برامج الصياح العلمي العربي المتخلف‪ ،‬تجلس كأي أميركي متحضر‬
‫لتتابع بهدوء ورهبة “جدل ً حّرًا” تقدمه إعلمية لبنانية بكل ما أوتيت من لباقة وأناقة ونوايا‬
‫إنسانية حسنة•• عن “الرفق بالنسان” )أي والله( وهو عنوان الحلقة المخصصة‬
‫در بعد اليوم‪،‬‬ ‫لمظالمك كإنسان عربي‪ ،‬وفيه إشارة واضحة تطمئنك إلى أن حقوقك لن ُته َ‬
‫لن أميركا رفعتك أخيرا ً إلى مقام حيواناتها وقّررت أن ترفق بك•‬
‫ول تدري‪ ،‬أيجب أن تحزن أم تفرح‪ ،‬لن “ماما أميركا” قد تدللك بعد الن‪ ،‬كما تدلل‬
‫قططها وكلبها‪ ،‬وتغدق عليك بقدر ما تغدق عليها• وقد تذهب حد ّ إنشاء نواد ٍ خاصة تهتم‬
‫برشاقتك وإذابة شحومك العربية‪ ،‬واصطحابك إلى مطاعم ل ترتادها غير الكلب المدللة‬
‫صنع خصيصا ً لعادة‬ ‫للحتفال بأعياد ميلدها‪ ،‬وستطعمك في مواسم الحّر “آيس كريم” ُ‬
‫در الله بعد عمر طويل‪ ،‬لن‬ ‫تلق ّ‬ ‫البهجة لكلب‪ ،‬لفرط تخمتها ما عاد يسيل لعابها‪ ،‬وإن م ّ‬
‫ً‬
‫تنتهي جثتك في كيس من البلستيك‪ ،‬بل سترتاح في مقبرة جميلة‪ ،‬تذهب إليها مكّرما‪ ،‬في‬
‫تابوت من الخشب الثمين المغّلف من الداخل بالساتان•‬
‫وهكذا‪ ،‬سافرت إلى فرنسا مطمئنة إلى مصير العراقيين الذين وجدوا أنفسهم مدعوين‬
‫إلى وليمة الديمقراطية ومباهج الحرية‪ ،‬من دون أن يستشيرهم أحد في ذلك•‬
‫ت تريد أن تعاملك أميركا كما تعامل كلبها ليس أكثر• فلماذا تحتج وأنت ترى جندية‬ ‫كن َ‬
‫تسحب عراقيا ً عاريا ً بمقوده‪ ،‬كما لو كانت تجر كلبًا؟‬
‫ولماذا تبكي‪ ،‬وتلك الرجولة العربية معروضة للفرجة‪ ،‬عارية إل ّ من ذعرها‪ ،‬مكّبلة اليدين‬
‫ي؟‬
‫والكبرياء‪ ،‬ترتعد تحت ترويع كلب مدّربة على كره رائحة العرب ّ‬
‫تلك الرجولة المهانة‪،‬الذليلة‪ ،‬المستجدية الرحمة‪ ،‬وقليل ً من الكرامة النسانية ممن جاءوا‬
‫ن‪ ،‬ولماذا‪ ،‬وحتى متى‪،‬‬ ‫م ْ‬
‫بذريعة إحلل حقوق النسان‪ ،‬بأيّ حق وبأيّ شريعة‪ ،‬وباسم َ‬
‫سيستهان بحقها في الحياة في وطنها بكرامة‪ ،‬والعيش من ثروات هي ثروات أرضها؟‬
‫كانت نكتة غير موفقة في توقيتها‪ ،‬أن تخصص قناة “الحّرة” حلقة لعرض انتهاكات حقوق‬
‫النسان في السجون العربية قبل يومين من انفجار فضيحة تكنولوجيا التعذيب النفسي‬
‫والجسدي‪ ،‬الذي يقوم به جيش بوش لختبار تقنياته تباعا ً علينا‪ ،‬كي يجعل منا تلميذ نجباء‬
‫في مدرسة “العالم الحّر”•‬
‫لدك؟‬ ‫عندما تكون الديمقراطية هبة الحتلل•• كيف لك أن تتعلم الحرية من ج ّ‬

‫دّلوني على أحدهم‬

‫هاتفتني العزيزة لطيفة‪ ،‬بعد قراءتها مقالي عن عطاف شاهين‪ ،‬ابنة القـــدس‪ ،‬التي َبـــد َ َ‬
‫ل‬
‫شاق"‪ ،‬واختارت أكثر العمليات‬ ‫انخراطها في "كتائب القصى"‪ ،‬انخرطت في "كتائب الع ّ‬
‫الفدائية صعوبة‪ ،‬بعد أن عاهدت خطيبها محمود الصفدي‪ ،‬السير في سجن عسقلن‪ ،‬على‬
‫لسر‪،‬‬ ‫انتظاره حتى آخر يوم من العوام السبعة والعشرين‪ ،‬المحكوم عليه بقضائها في ا َ‬
‫التي انقضى منها حتى الن‪ ،‬خمس عشرة سنة كاملة‪ ،‬بأشهرها وأسابيعها وأيامها ولياليها•‬
‫ن كان‬ ‫من غّنى "يا حبيبي ما ترحش بعيد"‪" :‬معك حــق•• إ ْ‬ ‫وقالت لطيفة‪ ،‬وكأنها ليست َ‬
‫ي ويسوُقونا إلى‬ ‫ّ‬ ‫العاطف‬ ‫بؤسنا‬ ‫ُ‬ ‫ليأخذوا‬ ‫جان‪،‬‬‫ّ‬ ‫وس‬ ‫سجن‬ ‫وإلى‬ ‫الوفاء يحتاج إلى مسافة‪،‬‬
‫ب الكبيــــر!"•‬ ‫َ‬
‫سجن عسقلن•• عسانا في السر نعثر على الحــ ّ‬
‫من مّنا لم يحسد عطاف على بطولة عاطفّية كهذه‪ ،‬في زمن ل ينقصه البطال ول‬ ‫َ‬
‫"السوبر ستار"‪ ،‬وإنها فقط "قضّية عشقّية" تمنحنا فرصة النضال من أجلها‪ ،‬وإثبات أننا‬
‫ب بقصصه المبهرة العظيمة‪ ،‬التي ليست‬ ‫وق في دور البطولة‪ ،‬عندما يختبرنا الح ّ‬ ‫جميعنا نتف ّ‬
‫صنع المشاهير والعظماء؟‬ ‫دوما ً من ُ‬
‫ذى إل ّ بها‪ ،‬ول‬ ‫شاقه‪ ،‬وإنما بفجائعهــم ومآســيهم‪ ،‬حتى لكأنه ل يتغ ّ‬ ‫ب ل يكبر بألقاب ع ّ‬ ‫فالح ّ‬
‫يدين بوجوده لسواها•‬
‫ل‪" :‬النهاية السعيدة!"؟‬ ‫من سأله‪" :‬ما الذي يقتل الحب؟" قائ ً‬ ‫َ‬ ‫بونابارت‬ ‫ألــم ُيجــب نابليون‬
‫لــــذا‪ ،‬عندما يغدر الموت بأحد العاشقين‪ ،‬ويسرقه من الثاني‪ ،‬تصبح فاجعة الفقدان‬
‫البديّ "فرصة ذهبّية" للعاشق الذي بقي على قيد الحياة‪ ،‬كي ُينازل الموت عشقًا‪ ،‬ذاهبا ً‬
‫ب ل غير•‬ ‫مستندا ً إلى منطق الح ّ‬ ‫معه في تحد ّ يتجاوز أحيانا ً المنطق‪ُ ،‬‬
‫ً‬
‫وهكذا‪ ،‬في نيس‪ ،‬في جنوب فرنسا‪ ،‬احتفلت مؤخرا عاشقة في الخامسة والثلثين من‬
‫عمرها‪ ،‬بزواجها بحبيبها المتوّفى منذ سنتين• ولم يكن من السهل تحقيق مطلبها الغريب•‬
‫محام للدفاع عن ُأمنيتها‪ ،‬والكتابة إلى الرئيس جاك‬ ‫فلقد اضط ُّرت قبل ذلك إلى تكليف ُ‬
‫ي يسمح لها بإقامة مراسم الزواج في البلدّية‪ ،‬وإجراء جميع‬ ‫شيراك‪ ،‬لصدار قرار رئاس ّ‬
‫المعاملت القانونية‪ ،‬التي كانت قد شرعت في التحضير لها‪ ،‬قبل أن يقتل أحد اللصوص‬
‫ي‪ ،‬قبل أشهر من عقد الزواج•‬ ‫حبيبها الشرط ّ‬
‫وإن كانت "العروس الرملة" قد أعلنت سعادتها بوفائها بالعهد‪ ،‬الذي قطعته لحبيبها‪،‬‬
‫مة امرأة ُأخرى جاءت قبلها بأربعة قرون‪،‬‬ ‫وافتخارها بأنها صارت تحمل اسم حبيبها‪ ،‬فث ّ‬
‫ن الوفاء ل يقتضي أن تكتفي الزوجة بحمل اسم زوجها الفقيد•• بل بحمل رأسه‬ ‫وجدت أ ّ‬
‫أيضًا•‬
‫صة "الليدي رالي"‪ ،‬التي طلبت أن ُتعطــى رأس زوجها بعد أن أمر الملك‬ ‫ويروي التاريخ ق ّ‬
‫محّنطا ً حيث ذهبت‪ ،‬ودام‬ ‫ُ‬ ‫تحمله‬ ‫فكانت‬ ‫إسبانيا‪،‬‬ ‫لملك‬ ‫موالته‬
‫ُ‬ ‫بتهمة‬ ‫بقطعه‪،‬‬ ‫جيمس الّول‬
‫ً‬
‫ل هو أيضا محتفظا برأس والده‪ ،‬حتى وافته‬ ‫ً‬ ‫ذلك ‪ 29‬سنة• وقد سار ابنها على نهجها‪ ،‬وظ ّ‬
‫دفن معه•‬ ‫المنّية ف ُ‬
‫من فقدناهم• يكفي أن نواصل الحياة‬ ‫لكن الوفاء ل يحتاج إلى حملنا‪ ،‬حيثما ذهبنا‪ ،‬جثمان َ‬
‫وكأنهم مازالوا موجودين فيها‪ ،‬محافظين على عاداتنا الصغيرة معهم• ولقد صدر مؤخرا ً‬
‫م أجمل ما كتبته زوجة لزوجها يوميًا‪ ،‬على مدى‬ ‫ُ‬
‫ب"‪ ،‬ض ّ‬ ‫في فرنسا كتاب بعنوان "أغنية حــ ّ‬
‫سنوات بعد موته• وما الزوج سوى أنطوان دي سانت اكزوبيري‪ ،‬أحد أشهر الكّتاب‬
‫من عبروا‬ ‫حكم عمله‪ ،‬كطيار تجاري وواحد من أوائل َ‬ ‫الفرنسيين في الربعينات‪ ،‬الذي ب ُ‬
‫المحيطات بأكياس البريد ليصلوا القارات ببعضها‪ ،‬كان يتوّقع الموت في أّية رحلة‪ ،‬وهو‬
‫ل يوم رسالة قصيرة‪،‬‬ ‫يقود طائرته البدائية تلك• لـــذا طلب من زوجته أن تكتب له ك ّ‬
‫وتحتفظ بها إلى حين عودته‪ ،‬وهذا ما ظّلت تفعله الزوجة العاشقة إلى ما بعد موته‬
‫بسنوات‪ ،‬حتى ذلك اليوم الذي توّقـف القلم بين أناملها•• وماتت الكلمات•‬
‫ن قلت‪" :‬ل شيء على الطلق أجمل من‬ ‫ل أظنكــــم ستختلفون معي في الرأي إ ْ‬
‫هــم‬ ‫ن قلت‪" :‬أيـــن ُ‬ ‫ي قطعناه"• ول أظنني سأبـــوح بغير حسرتكن إ ْ‬ ‫الوفــــاء بعهد عشق ّ‬
‫الرجــال الذيــن يستحقــون مّنا بطـــولت الوفـــاء؟"•‬
‫دّلــونــــي علــى أحــدهــــم•• أيـّتـهــــا النساء!‬

‫دموع لطيفة‬

‫ل شيء كان يشي بالحزن‪ ،‬في ذلك اليوم الذي بدأ جمي ً‬
‫ل‪ ،‬وأنا ألتقي المطربة لطيفة‪ ،‬لّول‬
‫مطاردة هاتفّية‬
‫ُ‬ ‫إثر‬ ‫ي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عل‬ ‫القبض‬ ‫مّرة‪ ،‬في فندق فخم في بيروت‪ ،‬بعد أن نجحت في إلقاء‬
‫دة أشهر‪ ،‬أصدقاء مشتركين لنا‪ ،‬بعد أن أصّرت على أن‬ ‫وعاطفّية‪ ،‬جّندت لها لطيفة لع ّ‬
‫من يقرأ روايتي “عابر سرير”‪.‬‬ ‫تكون أّول َ‬

‫لطيفــة‪ ،‬ما كانت تشبه تلك “النجمة” التي اعتادت أن تعُبر شاشتي في مقابلة‪ ،‬أو في‬
‫عروبّية‪ ،‬متواضعة‪ ،‬لم تغّيرها الشهرة ول الضواء‪ُ ،‬تفاخــر‬ ‫كليب‪ .‬اكتشفتها‪ .‬إنسانة تلقائية ُ‬
‫لمّية‪ ،‬ذات المظهر البسيط‪ ،‬ل‬ ‫بالمشي في أكبر الفنادق بجوار والدتها‪ ،‬السّيدة الطّيبة ا ُ‬
‫ددة أنها تفاخر بهذه ا ُ‬
‫لم‪،‬‬ ‫تتوقف عن احتضانها وتقبيلها مرارا ً أمام النظرات الفضولّية‪ُ ،‬‬
‫مر ّ‬
‫التي أنجبت ورّبت ثمانية أولد‪ .‬وكانت لطيفة تركض بين “البوفيه” وطاولة السفرة‪،‬‬
‫لغرائها بتناول شيء من الكل‪ ،‬أو من الحلويات‪ ،‬تساعدها على الوقوف‪ ،‬ترافقها إلى‬
‫ف ترك في قلبي أجمل الثر‪ ،‬لنه ل ُيشبه ما أراه‬ ‫الباب‪ ،‬ترّتب الشال على شعرها‪ .‬تصّر ٌ‬
‫في بيروت‪ ،‬من فتيات شهيرات )أو نكرات( أودى بإنسانيتهن فيروس التشاوف‪ ،‬المتف ّ‬
‫شي‬
‫هذه اليام‪.‬‬
‫دد موعد لقائنا‪ ،‬غير أنها تركتني مذهولة‪ ،‬وهي تقول‬
‫ّ‬ ‫لنح‬ ‫ء‪،‬‬
‫ً‬ ‫مسا‬ ‫ذلك‬ ‫قبل‬ ‫هاتفتها‬ ‫ت قد‬‫وكن ُ‬
‫إنها سُتهاتفني حال انتهائها من أداء صلة العشاء‪.‬‬

‫دث‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫طي مشغو ً‬ ‫تخ ّ‬ ‫حين طلبتني بعد ذلك مطوّ ً‬
‫ل‪ ،‬صاحت وأنا أخبرها‪ ،‬أنني كنت أح ّ‬ ‫ل‪ ،‬ووجد ْ‬
‫ُ‬
‫لعايدها‪“ :‬أرجــوك يا أحــلم‪ ،‬أريـد أن أراها‪ ..‬أنا جاهزة لذهب إلى‬ ‫الغالية جميلة بوحيرد‪ُ ،‬‬
‫ك‪ ،‬حين تسافرين إلى الجزائر”‪ .‬قلت وأنا‬ ‫عديني أن تصطحبيني مع ِ‬ ‫الجزائر‪ ،‬فقط ُ‬
‫لقّبلها‪ِ ..‬‬
‫ن الوضاع الجزائرية حاليا ً تعبانة‪ ،‬والناس بين منكوبي زلزال أو‬ ‫أستبعد المشروع‪“ :‬إ ّ‬
‫دت وقد عثرت على قضّية جديدة‪“ :‬في إمكاني تقديم‬ ‫فيضان‪ ،‬أو ضحايا فقر أو إرهاب”‪ .‬ر ّ‬
‫حفل كبير لمصلحة أي مشروع خيري تنصحينني به”‪ .‬أجبتها “أيتها المجنونة‪ ،‬لقد صنع كثير‬
‫من المطربين والمطربات ثرواتهم‪ ،‬بإقامة الحفلت في الجزائر‪ ،‬في صفقات “البزنس‬
‫ب‬‫ك؟ نحن لسنا فقراء‪ ،‬نحن شع ٌ‬ ‫ت ُتريدين الغناء مجانا ً لدولة أثرى من ِ‬ ‫النضالي”‪ ،‬وأن ِ‬
‫قر”‪.‬‬
‫مف ّ‬
‫ُ‬

‫وهكذا انقلب مسار حديثنا من اعترفات نسائية‪ ،‬كنا نتبادلها ضاحكتين‪ ،‬إلى الحديث عن‬
‫ي أن‬
‫فل بها لطيفة في أوساط المغتربين في فرنسا‪ ،‬عارضة عل ّ‬ ‫مشروعات خيرّية‪ ،‬تتك ّ‬
‫ُأسهم فيها إن استطعت ذلك‪.‬‬

‫ون فكرة عن اهتماماتها‪ ،‬وطيبتها‪،‬‬ ‫ُ‬


‫كنت بدأت أعتقد أنني أعرف عن لطيفة ما يكفي‪ ،‬لك ّ‬
‫بعد أن أخبرتني بأنها ُتقاوم الرق بمطالعة “وجهة نظر”‪ ،‬وبعض الكتب السياسّية‪،‬‬
‫ورين‪ ،‬لخذ صورتين أو‬ ‫ي الستفادة من صور ستأخذها‪ ،‬عند أحد كبار المص ّ‬ ‫وعرضت عل ّ‬
‫ثلثًا‪ ،‬ضمن جلسة تصويرها‪ ،‬حتى ُأغّير صورتي في زهرة الخليج‪“ ،‬لنها ل ُتنصفني”‪ .‬غير‬
‫قته لطيفة يوم لقائنا‪ ،‬يخبرها بموت صديقتها‪ ،‬المطربة ذكـــرى‪ ،‬مقتولة على‬ ‫ن هاتفا ً تل ّ‬
‫أ ّ‬
‫يــد زوجها‪ ،‬كشف لي جانبا ً آخــر فيها‪ .‬فقد بــدت فتاة شعبّية‪ ،‬قد تنتمي إلى أي بلد عربي‬
‫دعــاء‪ ،‬متوسلة إلى الّله أن يكون الخبر غير‬ ‫ُ‬
‫كان‪ ،‬أنثى باكيــة ل تتوقف عن النحيــب وال ّ‬
‫دها بالتفاصيل‬ ‫حـة الخبر‪ ،‬وتم ّ‬ ‫صحيح‪ .‬لكن عشرات المكالمات‪ ،‬التي انهالت عليها‪ ،‬تؤكد ص ّ‬
‫مال ينتهي في‬ ‫ج َ‬
‫العنيفــــة للمـــوت‪ ،‬فأسمعها تنتحـب بلهجتها التونسية‪“ :‬يا رّبـي‪ ،‬ذاك ال َ‬
‫ك يا مسكينة يا ذكــرى”‪.‬‬ ‫مشرحة‪ ،‬ذاك الصوت‪ ،‬ذاك الشباب‪ ،‬يا نـــــاري علي ِ‬

‫م تعود لتسألني مذعـــورة‪“ :‬آش نعمل؟ قولي لي‪ ..‬عندي غـدوة احتفال لتسّلم أوسكار‬ ‫ث ّ‬
‫أحسن مغنية لهذا العام‪ ،‬وعندي الثنين حفل في أبوظبي‪ ،‬بمناسبة عيد المارات‪ ،‬كيفاش‬
‫نغني؟ أنا لزم نمشي غدوة لمصر نهّز هاذ المغبونة‪ ،‬نروح ندفنها في تونس‪ ،‬يتيمة ذكرى‬
‫ما عندها حتى حد ّ إل ّ أنا”‪.‬‬

‫ن “لكل امرئ من اسمه‬ ‫لم أستطع تقديم أّيـة نصيحة إلى لطيفة‪ .‬تركتها وأنا ُأف ّ‬
‫كـر في أ ّ‬
‫نصيب”‪ .‬فهل كان أهل ذكــــرى‪ ،‬يختارون قدرها‪ ،‬وهم يختارون لها اسمًا؟‬

‫رالي الجنون العربي‬

‫مــّر عيد ميلد نــزار قّباني منذ أيام‪ ،‬وما كنت لتنّبه له‪ .‬فما كان هناك وقت لمثل هذه‬
‫الذكرى‪ ،‬لول أن القنوات التلفزيونية‪ ،‬التي كنت ُأتابعها من باريس‪ ،‬كانت منذ بدء القصف‬
‫ة بتاريخ اليوم‪.‬‬
‫مرفق ً‬
‫الميركي على العراق‪ ،‬تعرض على شاشاتها صــور الحرب‪ُ ،‬‬

‫كنا ذات ‪ 21‬آذار‪ ،‬اليوم الثاني في حرب أفقدتنا بوصلة الزمن‪ ،‬حتى إن أولدي‪ ،‬الذين‬
‫لم‪ .‬وأنا نفسي نسيت أنني لسنوات‪ ،‬كنت‬ ‫ُأهاتفهم يوميًا‪ ،‬نسوا أن ُيعايدوني بمناسبة عيد ا ُ‬
‫د‪ ،‬رحمه الّله‪ ،‬مازحا ً كعادته‬
‫أطلب نزار قّباني في مثل هذا اليوم‪ ،‬بمناسبة عيد ميلده‪ ،‬فير ّ‬
‫مي"‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫"كان علي مهاتفتك‪ ..‬إنه عيد ا ُ‬
‫تأ ّ‬‫لمهات‪ ،‬وأن ِ‬ ‫ّ‬

‫يحضرني اليوم نـزار قباني‪ ،‬وأنا أبحث عن شيء أكتبه لكم‪ ،‬فل تسعفني الكلمات‪ ،‬ل لقّلة‬
‫ح الغضب‪ ،‬ففائض المرارة العربية مازال قادرا ً على تزويدي بها‪ ،‬يمل هذه‬ ‫الفكار‪ ،‬ول ل ُ‬
‫ش ّ‬
‫ن نزار‪ ،‬ما‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫كر‬ ‫أتذ‬ ‫وأنا‬ ‫الكتابة‪،‬‬ ‫من‬ ‫جدوى‬ ‫أجد‬ ‫ل‬ ‫أكاد‬ ‫لكن‪،‬‬ ‫مقبلة‪.‬‬ ‫سنوات‬ ‫الصفحة بضع‬
‫ت على رحيله‪ ،‬ول أظن ما‬ ‫ً‬
‫ترك لنا كلما يعلو على صهيل أحزانه‪ ،‬حتى بعد مرور سنوا ٍ‬
‫سأكتبه أنا‪ ،‬أو غيري هذه اليام‪ ،‬في إمكانه أن يطال قلم نــزار قباني فصاحة‪ ،‬ول قدرة‬
‫على وصف الفاجعة الزلّية للعروبــــــة‪ ..‬حتى إن نصوصـه التي كتبها منذ ثلثين سنة‪..‬‬
‫تبدو وكأنه بعــث بها البارحة‪ ،‬إلى الصحف‪ ..‬تعليقا ً على النشرات الخبارية العربية‬
‫الخيــرة‪.‬‬

‫حمم‪ ،‬المتدفقة علينا من قلمه‪ ،‬أن ُتحّرضنا على العصيان‪،‬‬ ‫وبرغم ذلك‪ ،‬ما استطاعت تلك ال ُ‬
‫ول أن ُتغّيـر شيئا ً من قدرٍ مازلنا ُنساق إليه كالّنعاج إلى المسلــخ‪.‬‬

‫وأنــــا أبحـث عن شيء أكتبه لكم‪ ،‬وجدتني أحسده‪ ،‬ما عاد مطالبا ً بأن يقول شيئًا‪ ،‬ول بأن‬
‫ونــــاه‪ ،‬وإن صمت ش ّ‬
‫ككنا في‬ ‫يدلي بتصريح شعريّ أمام ك ّ‬
‫ل فاجعة‪ ،‬وقد كان إن هجانا خ ّ‬
‫وطنيته وحاسبناه‪.‬‬

‫دم تقريرا ً عن عدد أصابعه كل يوم‪ .‬هو شاعر‪ ،‬كّلما‬ ‫"هــو شاعـر‪ .‬لــذا يطلبون منه أن ُيق ّ‬
‫ظهر في ُأمسية شعرية أطلقوا عليه القنابل المسيلة للدمـــوع"‪.‬‬
‫قهم‬ ‫ذلك أن باقـات الورد أيضًا‪ ،‬قد تبكي الشعراء‪ ،‬ففي حّبنا المفرط لهم اعتداء على ح ّ‬
‫قهم في الصمت‪ ،‬إجـلل ً للفاجعة‪ .‬ولـــذا صــاح محمــود درويش "ورد أق ّ‬
‫ل‬ ‫في الخطأ‪ ،‬وح ّ‬
‫ل"‪ ،‬ولم يجد فيكتور هوغــو‪ ،‬أمير الشعر الفرنسي‪ ،‬عيبــا ً في أن يقول‬ ‫أحبتي‪ ..‬ورد أق ّ‬
‫"للمصائب جللة أجثو أمامها"‪.‬‬
‫مــت‪ ..‬أن يكون لــي حــقّ التغّيب أحيانــا ً عن هذه الصفحة‪،‬‬ ‫كــم أتمنى هذه اليام لــو أص ُ‬
‫ذن لي بذلك‪ ،‬والعودة مساًء‪ ،‬إن‬ ‫لكتفي مثلكم بالذهـــول والصراخ في الشوارع‪ ،‬عندما يؤ َ‬
‫عدت سالمة‪ ،‬لجلس أمام التلفزيون كي ُأتابع برامج التسلية العربية‪ ،‬التي أصبحت حكــرا ً‬
‫على نشرات الخبار‪ ،‬ومحاضر جلسات القمم العربية‪.‬‬
‫ما وصلنا إلى النخلة اختلفنا على البلح"‪ .‬يقول‬ ‫ذلك أننا "حلمنا بالوحدة العربية الكبرى‪ ،‬فل ّ‬
‫نــزار قّباني في أحد نصوصه‪ .‬قبل أن يواصل‪:‬‬
‫"هل تريدون أن تتسّلوا‪..‬‬
‫إذن تعالــوا نتفـّرج معــا ً على خريطة الوطـن العربي‪ .‬المدن العربية مجموعة من‬
‫شم بعضها بعضا ً بسادّيــة ل نظير لها‪.‬‬ ‫سّيارات السباق‪ ،‬تنطلق كّلها عكس السير‪ ،‬وُته ّ‬
‫ن سباق الموت‬ ‫ومادام "البنزين" متوافرًا‪ ،‬والعجلت متوافرة‪ ،‬والمجانين كثيرين‪ ،‬فإ ّ‬
‫العربي مستمر‪ ،‬ولن يربح في النهاية إل ّ الشيطان‪..‬‬
‫ّ‬
‫ل المدن العربية تشترك في هذا السباق الدموي‪ ..‬وآخــر سيارة انقلبت بركابها‬ ‫كــ ّ‬
‫واشتعلت فيها النار‪ ،‬هي بيـــروت‪."..‬‬
‫حـّبـي"‪.‬‬ ‫هــذا ماكتبه نــزار سنة ‪1978‬م‪ ،‬في ديوانــه "إلى بيــروت ا ُ‬
‫لنثـى مـع ُ‬
‫ن السباق النتحاري المجنون‪ ،‬للذين يقودون سيارات‬ ‫سعيد نــزار حيث هــو‪ ،‬ل يدري أ ّ‬
‫ن أجــل هوايــة القيـادة‪ ،‬وبقائــه مشدودا ً‬ ‫مـ ْ‬
‫ن ِ‬
‫مـ ْ‬‫مـة َ‬ ‫أوطاننا‪ ،‬مازال مستمرًا‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن ثـ ّ‬
‫لمقــود ثلثين سنة‪ ،‬مازال مستعدا ً لن يبعث بنا جميعا ً إلى الجحيم‪ ،‬وُيدحرج أقدارنـــا إلى‬
‫الهاوية‪..‬‬
‫إنـه "رالــي" الجنـون العربـي‪ ..‬ول جدوى مـن ربـط أحزمة المان‪ ،‬عندما يكون الجنـــون‬
‫خلـف المقـــود‬

‫رسالة إلى فلورانس‪ :‬الرهينة لدى بلد رهين‬

‫ك تلك يوميا ً على شاشة تلفازِ أو‬ ‫ك‪ ،‬على الرغم من أني هنا ل أرى صورت ِ‬ ‫ث أن أذكر ِ‬ ‫يحد ُ‬
‫ك‪.‬‬ ‫غياب‬ ‫د‬ ‫دا‬ ‫ع‬ ‫أتابع‬‫صحيفة‪ .‬ول ُ‬
‫ِ‬ ‫ّ َ‬
‫مَتان‪،‬‬ ‫ُأقيم في بيــــروت‪ ،‬وأنــت في بغـــداد‪ ،‬مدنا ً نسكنها و ُ‬
‫ن القاد ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫نح‬ ‫تسكننا‪،‬‬ ‫أخرى‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫ل ما كان لها من بهاء‪ ،‬بك ّ‬
‫ل ما‬ ‫مدن الباء”‪ ،‬بك ّ‬ ‫ُ‬
‫إحدانا من الجزائر وأخرى من باريس‪ ،‬بيننا “ ُ‬
‫غدا فيها من بـــلء‪.‬‬
‫بيننا تواطؤ البجدية الفرنسية‪ ،‬جسور تاريخية‪ ،‬وهموم صغيرة نسائية‪ ،‬كان يمكن أن‬
‫مفجَعة‪.‬‬ ‫ي‪ ،‬والقدار ال ْ ُ‬ ‫وحها لو أننا التقينا كامرأتين خارج زمن الموت العََبث ّ‬ ‫نتقاسم ب َ ْ‬
‫فلورانس‪ ..‬إّنــه الصيــف‪.‬‬
‫ة‬
‫ك‪ ..‬تشتاقك الرصف ُ‬ ‫ك المفتوحة الفارغة من خطا ِ‬ ‫ة الصيفّية‪ ،‬أحذيت ُ ِ‬ ‫ك الثياب الخفيف ُ‬ ‫تشتاُقـ ِ‬
‫ت‬‫ُ‬ ‫كن‬ ‫كما‬ ‫ترتادينها‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫كن‬ ‫نك‬ ‫ّ‬ ‫أظ‬ ‫التي‬ ‫المحال‬ ‫وتلك‬ ‫الميترو‪..‬‬ ‫وزحمة‬ ‫الباريسية‪،‬‬ ‫قاهي‬ ‫م َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫دها لسنوات في مواسم “التنزيلت”‪.‬‬ ‫أرتا ُ‬
‫داد الغياب؟ وهل‬ ‫ّ‬ ‫وع‬ ‫الوحشة‪..‬‬ ‫ية‬
‫ّ‬ ‫بحم‬ ‫ك‬‫ِ‬ ‫وزن‬ ‫تقيسين‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫أصبح‬ ‫مــذ‬ ‫ُ‬ ‫ك‪..‬‬‫ُ ِ‬ ‫سـ‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫م‬
‫هل ّ َ َ‬
‫ر‬ ‫يـ‬‫تغ‬
‫ل المناسبات؟‬ ‫ً‬
‫ت ترتدينها ثوبــا يليق بك ّ‬ ‫ك تلك من عدوى الكراهية‪ ،‬ومازل ِ‬ ‫ت ابتسامت ِ‬ ‫أنقذ ِ‬
‫ة‬
‫ٌ‬ ‫صديق‬ ‫لنا‬ ‫الصدقاء‪.‬‬ ‫نادي‬ ‫بر‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫صديقة‪،‬‬ ‫مرتبة‬ ‫إلى‬ ‫الخاطفون‬ ‫رفعها‬ ‫التي‬ ‫الغريبة‬ ‫أيّتها‬
‫ة زهر‬ ‫ُ‬
‫ل بها‪ :‬كليمنتينا كانتوني‪ .‬اسم كأغنّية إيطالية ت ُ َ‬ ‫جديدة لم تسمعي من قب ُ‬
‫م منه رائح ُ‬ ‫ش ّ‬
‫من ُيلقي القبض على شجرة برتقال‬ ‫ّ َ‬ ‫مة‬ ‫ث‬ ‫وري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تص‬ ‫أفغانستان‪.‬‬ ‫في‬ ‫البرتقال‪ .‬كليمنتينا رهينة‬
‫ن هم لم يمنعوا بث برنامج‬ ‫دد بإعدام معزوفة لـ”فيفالدي”‪ ،‬إ ْ‬ ‫من ُيه ّ‬ ‫بتهمة العطاء‪ ،‬و َ‬
‫ض ُأسبوعيا ً في التلفزيون الفغاني‪.‬‬ ‫موسيقي ُيعَر ُ‬
‫معتصمات‬ ‫ن ضمن منظمة إنسانية للغاثة‪ُ ،‬‬ ‫النساُء الفغانيات اللئي كانت كليمنتينا تساعده ّ‬
‫صد ََقة ُيجازي الّله خيرا ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫أيض‬ ‫البتسامة‬ ‫في انتظار إطلق سراح ابتسامتها‪ .‬ففي ديننا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫صاحبها‪ ..‬ديننا الذي ل َيدين به رجال الكهوف وقطاع طرق الديان‪.‬‬
‫ك أحيانًا‪ُ .‬أشاهد فضائيات عربّية‪ ،‬ل وقت لها حتى لتعداد موتانا‪.‬‬ ‫ن نسيت ِ‬ ‫ذريني فلورانس إ ْ‬ ‫اع ُ‬
‫لماذا جئتنا في زمن التصفيات والتنزيلت البشرية والموت على قارعة الديمقراطية؟‬
‫ك تقويما ً زمنيا ً ل ينتظرنا في‬ ‫ي‪ .‬ل رقم لموتانا‪ ،‬ول نمل ُ‬ ‫ن ُنعاني فائض الموت العرب ّ‬ ‫نحــ ُ‬
‫أجندة مولنا “كاوبوي” العالم‪.‬‬
‫ك التي‬ ‫ِ‬ ‫صورت‬ ‫على‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫نحسد‬ ‫اختطافك‪.‬‬ ‫أيام‬ ‫ّ‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫في‬ ‫ك‬‫كرة ُ ّ ِ‬
‫بي‬‫مح‬ ‫ك على دّقة مف ّ‬ ‫نكاد نحسد ِ‬
‫ك‪ .‬الذي يختطف‬ ‫مطاِلبة بإطلق سراح ِ‬ ‫طي المباني والساحات والجرائد والشاشات‪ُ ،‬‬ ‫تغ ّ‬
‫ن شعوب‬ ‫مصلحا ً كونيًا”‪ .‬نح ُ‬ ‫مى قائدا ً أو “ ُ‬ ‫مى إرهابيًا‪ ،‬والذي يختطف شعبا ً ُيس ّ‬ ‫شخصا ً ُيس ّ‬
‫مى‪ .‬بـــاع الطغـاة أقدارَنا للغزاة‪ ،‬فلماذا أيتها المرأة التي‬ ‫ّ‬ ‫مس ّ‬ ‫بأكملها مخطوفة لتاريخ غير ُ‬
‫نصف اسمها وردة‪ ..‬ونصفه الخر فرنسا‪ ،‬جئت تتفّتحين هنا كـ”وردة مائية في بركة دمنا”؟‬

‫ك بها‪ .‬ماذا في‬ ‫م ِ‬


‫يا امرأة الغياب‪ ..‬انقضى زمن “ألف ليلة وليلة”‪ ،‬ما عادت بغداد توافق وهَ َ‬
‫َ‬
‫قت َلة؟‬
‫دور حبرها في سرير ال َ‬ ‫إمكان “شهرزاد” أن تقول لنقاذ شرف الحقيقة ال ْ َ‬
‫مه ُ‬
‫مك‪ ..‬سامحينا فلورانس‬
‫أض ّ‬

‫جت يوميا ً قبل نشرات‬ ‫ُ‬


‫* أذيعت هذه الرسالة الصوتية في إذاعة “مونتي كارلو” التي د ََر َ‬
‫الخبار‪ ،‬على َبــث رسالة من أحد المثقفين‪ ،‬تضامنا ً مع الصحافية الفرنسية فلورانس‬
‫أوبينا‪ ،‬المخطوفة سابقا ً في بغداد‪.‬‬
‫جهة إلى فلورانس في اليوم المئة والسابع‬ ‫ن كانت هذه آخر رسالة مو ّ‬ ‫فأ ْ‬‫صــاد َ َ‬
‫وَ َ‬
‫والخمسين من احتجازها‪ ،‬قبل إطلق سراحها بيوم‪ ،‬ويوم إطلق سراح الرهينة اليطالية‬
‫كليمنتينا كانتوني‪.‬‬

‫زيدوني حقدا ‪ ......‬زيدوني‬


‫منصفة وُأعايد هذه المّرة‬ ‫أما وقد عايدت أحّبتي وأصدقائي‪ ،‬فاسمحوا لي بأن أكون ُ‬
‫أعدائي‪ .‬فللمانة‪ ،‬أنا مدينة لهم بكثير من نجاحاتي وانتشاري‪ .‬ول يفوتني في بداية هذا‬
‫العام‪ ،‬أن أتوجه بالدعاء إلى الّله‪ ،‬كي يحفظهم وُيبقيهم ذخرا ً لي‪ ،‬للعوام المقبلة‪ .‬فالديب‬
‫ب غير مضمون المستقبل‪ ،‬لنه فاقد وقود‬ ‫الذي ل أعداء له‪ ،‬هو أديب سيئ الحظ‪ .‬إنه كات ٌ‬
‫ً‬
‫ل أربع سنوات كتابا‪ ،‬أحتاج إلى أعدائي‬ ‫دي‪ .‬وأنا المرأة الكسول بطبعي‪ ،‬التي ُتصدر ك ّ‬ ‫التح ّ‬
‫مان‪ ،‬يزداد‬ ‫ّ‬ ‫الس‬ ‫غادة‬ ‫تقول‬ ‫كما‬ ‫فالكاتب‪،‬‬ ‫الكتابة‪.‬‬ ‫من‬ ‫بمزيد‬ ‫عليهم‬ ‫ّ‬ ‫د‬ ‫الر‬ ‫لي‬ ‫نى‬ ‫ّ‬ ‫يتس‬ ‫كي‬
‫ً‬
‫جم‪ .‬لــذا َتعتبر غادة استمراريتها انتقاما من محترفي إيذائها‪ .‬فبفضل‬ ‫ً‬
‫ازدهارا عندما ُيها َ‬
‫ن الكاتب ل يرد ّ على‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ذلك‬ ‫كتبها‪.‬‬ ‫بعدد‬ ‫رة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫م‬ ‫أربعين‬ ‫حضورها‬ ‫إثبات‬ ‫إلى‬ ‫اضطرت‬ ‫أحقادهم‪،‬‬
‫الشتائم بمثلها‪ ،‬ول على الحقاد‪ ،‬بما ُيماثلها من ضغائن ومكائد‪ .‬فليس من عادة الكبار أن‬
‫دون‪ .‬وهذا حتى عند الحيوانات‪ ،‬حيث يهجم الكلب الصغير دومًا‪،‬‬ ‫هوجموا ل ير ّ‬ ‫جموا‪ ،‬وإن ُ‬ ‫يها ِ‬
‫ل يحوم حوله قافزا ً متحدي ّا ً إّياه بالنباح‪ ،‬درءا ً لبطشه وخوفا ً‬ ‫ب ضخم ُيصادفه‪ ،‬ويظ ّ‬ ‫على كل ٍ‬
‫من ضخامته‪.‬‬
‫لكنني‪ ،‬خلل سبع عشرة سنة‪ ،‬قضيتها في باريس‪ ،‬أتقاسم الشوارع مع الكلب الباريسية‪،‬‬
‫لم أشهد مرة كلبا ً من سللة “بول دوغ” يرد ّ على “كانيش” صغير‪ ،‬يترك سيدته ويركض‬
‫نحوه لمنازلته‪.‬‬
‫صحيح أنني تمنيت لو كان لي أعداء شرفاء أكب َُر بهم‪ ،‬بقدر ما يكبرون بي‪ .‬فالعدو الكبير‪،‬‬
‫ق‪ .‬ولكن ليس هذا زمن الكبار على ما يبدو‪ ،‬ول زمن‬ ‫حسب أدونيس‪ ،‬هو أيضا ً صدي ٌ‬
‫ميتك‬‫من تختار أعداءك‪ ،‬بل هم من يختارونك‪ ،‬حسب أه ّ‬ ‫ت َ‬ ‫ت أن َ‬‫المعارك النبيلة‪ .‬ولس َ‬
‫ووصولّيتهم‪ .‬فأسهل من إنفاق أعوام في كتابة عمل كبير‪ ،‬تفّرغك لشتم كاتب كبير‪،‬‬
‫صة اسمه تتسّلق أغلفة‬ ‫تتقاسم فورا ً جهده إعلميًا‪ .‬فبالتشهير به تصنع شهرتك‪ ،‬وعلى من ّ‬
‫وق اسمك‪.‬‬ ‫الكتب والمجلت‪ ،‬لتس ّ‬
‫مع قلمك‪ ،‬عساه ذات يوم ٍ يفقد صوابه‪ ،‬فينزل إلى مستنقٍع لمنازلتك‪.‬‬ ‫وبتلويث قلمه ُتل ّ‬
‫وثا بالوحل‪ .‬ومن هنا جاء قول أحد الحكماء‪“ :‬ل‬ ‫ً‬ ‫وعندها‪ ،‬حتى وإن انتصر عليك‪ ،‬سيخرج مل ّ‬
‫ل‪ ،‬فل يعرف الناس الفرق بينكماء”‪) ،‬وفي إمكاننا تغيير الصفتين‬ ‫ُتجادل أحمق أو جاه ً‬
‫ن النجاح فع ٌ‬
‫ل‬ ‫ما المتنبي العظيم‪ ،‬الذي أدرك قبلنا‪ ،‬أ ّ‬ ‫السابقتين‪ ،‬بما ُيناسب من صفات(‪ .‬أ ّ‬
‫ل أنواع الدسائس‪ ،‬عبثا ً استدرجه شعراء عصره‪ ،‬للرد ّ عليهم‪،‬‬ ‫خِبر من خصومه ك ّ‬ ‫عدائي‪ ،‬و َ‬
‫طمعا ً في اقتسام جاهه‪ ،‬فقد ترك لنا في قوله‪:‬‬

‫من ل تجيُبه‬ ‫ب من نادا َ‬


‫ك َ‬ ‫“وأتع ُ‬
‫ظ من عاداك من ل ُتشاكل”‬ ‫وأغي ُ‬

‫إحدى حكمه الجميلة‪ ،‬في إغاظة العداء بتجاهلهم‪ .‬وهي نصيحة نجدها في قول ابن‬
‫المعتز‪:‬‬

‫“اصبر على كيد الحسود‬


‫فإن صبرك قاتله”‬
‫من ِفعله في المحسود”‪.‬‬ ‫ف‪ ،‬يفعل في الحاسد أكثر ِ‬ ‫ن “الحسد داٌء منص ٌ‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫ن المشاعر السلبّية‪ ،‬كالعدائّية‪ ،‬والضغينة والكيد‪،‬‬ ‫م يؤكده الطب‪ ،‬حيث أثبتت البحاث‪ ،‬أ ّ‬ ‫كل ٌ‬
‫يمكن أن يكون لها تأثيٌر تراكمي في الجسم‪ ،‬بمرور الوقت‪ ،‬قد يوصل البعض إلى ارتياد‬
‫عرضة للوقوع ضحايا لمراض القلب‬ ‫العيادات النفسّية‪ .‬فهي توذي أصحابها ويصبحون ُ‬
‫ل‪ ،‬فوحدها‬‫مرون طوي ً‬ ‫ُ ّ‬‫يع‬ ‫ل‬ ‫ريرة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وش‬ ‫حاقدة‬ ‫والسكتات الدماغية‪ .‬والذين لديهم شخصيات‬
‫الحاسيس الجميلة‪ ،‬والنوايا الحسنة‪ ،‬تطيل الحياة‪.‬‬
‫ن الحاقد‪ ،‬وهو يستشيط كيدًا‪ ،‬ينسى أن يتمنى الخير لنفسه‪ ،‬لفرط انشغاله بتمني‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫ّ‬
‫الشر لعدوه‪ ،‬لكونه‪ ،‬حسب المام على )كّرم الله وجهه(‪“ :‬يرى زوال نعمتك نعمة عليه”‪،‬‬
‫ما يلحقه بنفسه من ضرٍر‪ .‬وهو ما ينطبق على تلك النكتة‪ ،‬التي ُتروى عن‬ ‫غير منتبهٍ ل ِ َ‬
‫ُ‬
‫سئل‪ ،‬حسب العادة‪ ،‬عن أمنيتيهما الخيرتين‪ ،‬قبل‬ ‫جزائريْين اثنين‪ ،‬محكوم عليهما بالعدام‪ُ ،‬‬
‫إعدامهما‪ .‬فأجاب الول “ُأريد رؤية ُأمي”‪ ،‬ورد ّ الثاني “ُأريد أن ل يرى ُأمه”‪.‬‬
‫و الزواج‬
‫ساعات‪ ..‬ساعات"‪ ..‬يحل ّ‬

‫كنا قد زهدنا في التلفزيون‪ ،‬هربا ً من طبول حرب تترّبص بإخواننا‪ ،‬ومشاهد كوارث تحيط‬
‫ل مسابقة إفلسنا الهاتفي‪.‬‬ ‫بنا‪ ،‬وبرامج ترفيهّية تبيعنا مع ك ّ‬
‫مــة بأكملها تدخل سن اليأس‪،‬‬ ‫ل نفسه قد بلغ سن الفاجعة‪ ،‬وهو يرى أ ُ‬ ‫خا َ‬
‫بعضنا‪ ،‬لحباطه‪َ ،‬‬
‫ّ‬
‫م‬‫م وغ ّ‬
‫ن الشيب لم يتسلل إلى شعره بعد‪ ،‬بقدر ما تسّرب ه ّ‬ ‫ّ‬ ‫كد أمام المرآة‪ ،‬من أ ّ‬ ‫وراح يتأ ّ‬
‫ل قواه العقلّية في‬ ‫مدّققا ً بين الحين والخر‪ ،‬في كونه مازال في ك ّ‬ ‫الُعروبــــــة إلى قلبه‪ُ ،‬‬
‫عالم فقد اّتزانه وتوازنه‪.‬‬
‫مـة ُأناســـا ً أسويــــاء في هذا الزمن‬ ‫ّ‬ ‫ثـ‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫وأ‬ ‫بخير‪،‬‬ ‫مازالت‬ ‫ن الدنيا‬ ‫دق أ ّ‬ ‫وما كنا لنص ّ‬
‫المجنون‪ ،‬قبل أن تتسابق الفضائيات إلى إهدائنا سهرات رمضان‪ ،‬واحتفاًء بالعياد‪ ،‬لقاءات‬
‫مع الصّبـوحــة وخطيبها عـمــر محيـو‪ ،‬ملك جمال لبنان‪.‬‬
‫ب فينا المل‬ ‫ُ‬
‫مصاب‪ ،‬د ّ‬ ‫ما هي فيه من ُ‬ ‫مــة تنتظر منذ نصف قرن معجزة تنقذها م ّ‬ ‫ولكوننا أ ّ‬
‫لت "هي نجمة منذ ‪ 60‬سنة‪ ،‬وهو يبلغ من العمر ‪23‬‬ ‫ن نقرأ على غــــلف إحدى المج ّ‬ ‫ونح ُ‬
‫ب يصنع المعجزات"‪.‬‬ ‫سنة‪ ..‬لكن الح ّ‬
‫ولن ‪ 60‬سنة هو "العمر الفني"‪ ،‬وليس العمر الكامل للصّبـوحـة‪ ،‬فقد بهرتنا المعجزة‪،‬‬
‫ب يجمع بين قلبي امرأة‬ ‫كاش "آمنـت بالّلـه"‪ ،‬وأنا أرى ال ُ‬
‫ح ّ‬ ‫وشخصي ًّا‪ ،‬حسب ُأغنية نــور د ّ‬
‫وشاب‪ ،‬في عمر حفيدها‪.‬‬
‫متربعة‬ ‫دد قصصها على مسامعنا مريـم نــور‪ ،‬وهي ُ‬ ‫خرافــة يومية ُتر ّ‬ ‫ب"‪ُ ،‬‬ ‫"معجزات الح ّ‬
‫ب‪ ..‬وحالته الخارقــة‪ ,‬لكن‬ ‫ّ‬ ‫الح‬ ‫بمزايا‬ ‫وصفتين‬ ‫بين‬ ‫كرنا‬‫ّ‬ ‫تذ‬‫ُ‬ ‫والبخور‪،‬‬ ‫الشموع‬ ‫أرضا ً وسط‬
‫شعرها الرمادي‪ ،‬ونظارتها الطبّية‪ ،‬ما كانا لُيقنعانا كان يلزمنا في زمــن الفضائيات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م أعيننا‪ ،‬نهاتف بعضنا بعضًا‪ ،‬حتى ل‬ ‫ك‪ ،‬معجزة عشقية نراها بأ ُ‬ ‫ّ‬ ‫للش‬ ‫القاطع‬ ‫أنـا"‬ ‫من‬ ‫والـ"‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ي‪ ،‬بين‬ ‫لسطور‬‫نفوت لحظة ظهورها‪ ..‬معجزة ملموسة‪ ،‬مرئّية‪ ،‬صارخة في إعجازها ا ُ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫امرأة سبعينّية شقراء‪ ،‬بمقاييس جمال دمية "باربـي"‪ ،‬وأزيــاء شـــاون ستـون‪ ،‬وغنــج‬
‫مارليـن مونــرو‪ ،‬يوم غنت لعيد ميلد حبيبها‪ ،‬الرئيس جــون كيندي‪ ،‬تغني بصوت متق ّ‬
‫طع‬
‫النفاس‪ ،‬نشرت على حباله غسيل عمر‪ ،‬من الهات والحسرات‪" :‬ساعات‪ ..‬ساعات‪..‬‬
‫ب عمري وأعشق الحياة"‪ ،‬لشاب عشريني يترّبع على عرش الجمال "الطمــوح"‪،‬‬ ‫بح ّ‬
‫ُيبادلها النظرات الّلهفى العابرة للكاميرات‪ ،‬شاهرا ً خاتـم خطبته امرأة "ُأسطــورة"‪،‬‬
‫حفلت حياتها بما ل ُيحصى من الفلم والغاني والزيجات آخـــر أزواجها الذين يزدادون‬
‫دم بها العمر‪ ،‬كان "فدائي لبنان"‪ ..‬أقصد "فادي لبنان"‪ ،‬الذي أبلى بلًء حسنا ً‬ ‫صغرًا‪ ،‬كّلما تق ّ‬
‫عشرة دامـت‬ ‫ب وعلى خبز وملح ِ‬ ‫في معركة‪ ،‬حافظ فيها ما استطاع على مــاء وجه الح ّ‬
‫سرها‪ ،‬لنه كان "فارسا ً بل‬ ‫ِ‬ ‫أخ‬ ‫سنوات‪ ،‬وحافظ فيها على ُأصول الفروسّية‪ ،‬ولن ندري‬
‫جواد"‪ ،‬أم‪ ..‬جوادا ً بل فارس‪.‬‬
‫ن‬‫كيف كان له أن يكسب معركة ضد امرأة‪ ،‬ما استطاع الزمان نفسه أن ينال منها؟ حتى إ ّ‬
‫قول لورانس سترين‪ ،‬يكاد ل ينطبق سوى على مخلوقات عداهــا‪" :‬الوقت يذوي بسرعة‪،‬‬
‫الوقت يهرب منا‪ ،‬الوقت ل يعفي أحدًا‪ ،‬ول يصفح عن شيء بينما ُتسّرحين شعرك الشقر‬
‫وج‪ ..‬انتبهي جيدًا‪ ،‬فربما يصبح رماديا ً بين أصابعك"‪.‬‬ ‫المتم ّ‬
‫ً‬
‫ذلك أن الصّبـوحـة ليست مريـم نــور‪ ،‬وشعرها يزداد شقارا بقدر ازديادها مع العمر‬
‫ل‪ ،‬حتى إنه في إمكانها انتعال "بوتين" مشدود بخيوط كثيرة‪ ،‬يصل إلى‬ ‫رشاقة وُنحــــو ً‬
‫م‪ ،‬فالعمر أمامها‪..‬‬ ‫ّ‬
‫نصف فخذيها‪ ،‬قد يأخذ ربط خيوطه وفكها ساعة من وقتها لكن ل يه ّ‬
‫ن الغبيــــاء الذين ل نجـرؤ على التخطيط لبعــد من يومنــا‪ ،‬تحسبا ً‬ ‫مـر بجوارها‪ ،‬ونحـ ُ‬ ‫عـ َ‬‫و ُ‬
‫مـْر" متمنية أن تطـــول‪" ،‬لنو ما في أحلى‬ ‫عـ َ‬
‫دث عن خطبتها لـ" ُ‬ ‫للخـــرة‪ ،‬نستمع لها تتح ّ‬
‫دقوها‪ ،‬فثماني زيجات تؤهلها لتكون أدرى‬ ‫ّ‬ ‫فص‬ ‫ِ‬ ‫م‬‫حذا‬ ‫قالـت‬ ‫وإذا‬ ‫من الرجال قبل الجواز"‪,‬‬
‫بشعاب الزواج منا‪ ،‬خاصة أنها في زمــن النهيارات القيمّية‪ ،‬تستميت في الدفاع عن‬
‫لصول والتقاليد‪ ،‬بإعلنها أنها فقط "مخطوبة"‪.‬‬ ‫ا ُ‬
‫خطبة فوائــد في هذا العمـر‪ ،‬إحداها كشف أكاذيب الرجـال فلقد اكتشفت مثل ً‬ ‫ن لل ِ‬
‫مإ ّ‬ ‫ثــ ّ‬
‫ن عمره‬ ‫ّ‬ ‫وأ‬ ‫عليها‪،‬‬ ‫كذب‬ ‫أنه‬ ‫لشاب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫مؤخر‬ ‫خطبتها‬ ‫أثناء‬ ‫سنة(‪،‬‬ ‫‪64‬‬ ‫)‬ ‫كولينــز‬ ‫جــوان‬ ‫الممثلة‬
‫ما كان )‪ 33‬سنة(‪ ،‬بل )‪ 35‬سنة(‪ ،‬وقد أعلنت تخّليها عنه لنها ل تغفر كذبة كهذه! ول‬
‫مـر الذي يستعد ّ لداء مناسك العمرة‪ ،‬تحسبا ً لختبارات "الخطبة"‪ ،‬يتجّرأ على‬ ‫عـ َ‬
‫ن ُ‬‫نأ ّ‬ ‫أظــ ّ‬
‫ً‬
‫إخفاء عام أو عامين على صباح‪ ..‬فُيجازف بمجده متشاطرا عليها‪.‬‬
‫دية‪ ،‬يبقى الزواج أكثرها دعابة!"‪.‬‬ ‫لمور الج ّ‬ ‫لا ُ‬ ‫صدق بــو مارشيه إذ قال‪" :‬من بين ك ّ‬

‫سياحة ثورية‬

‫ب•‬
‫ُيولــد ُ المــرء مرتين•• الثانية يوم يقع في الحـ ّ‬
‫ب الحيـــاة•‬‫ل صبــاح يقع في حـــ ّ‬ ‫وُيولد ُ الســير المحــّرر كل يوم‪ ،‬لنه كــ ّ‬
‫في ذلك الصباح الجميل مرتين‪ ،‬إحداهما لنه عيــد تحريــر الجنــوب‪ ،‬كان البعض قد‬
‫أضاف ذلك اليوم إلى قائمة عطله الرسمية من دون كثير من التفكير‪ ،‬والبعض الخر‬
‫ليزال يعيش المناسبة بمشاعر لحظة التحرير ورهبتها•‬
‫أيّ إحساس جميــل وغريــب أن أزور سجن “الخيام” برفقة أســير محــّرر منذ أربعة‬
‫أشهر‪ ،‬خّريج معتقلت ُأخرى في إسرائيــل‪ ،‬جـــــاء ليكتشف معي عذابات رفاقه ومحنة‬
‫ُأسرهــم•‬
‫لـم أسألــه‪ :‬أكان هناك ليعود نفسه أم لُيعايدها؟ كان يبدو أحيانا ً مريضا ً بذاكرته‪ ،‬وأحيانا ً‬
‫معاَفى منها‪ ،‬يزورها معي بعيدا ً عن الصحافة التي كان يمكن أن تصنع من حـدث وجودنا‬ ‫ُ‬
‫معا ً مادة دسمة لغلفتها• فـ”أنـــور ياســين”‪ ،‬هو “السيــر النجــم”‪ ،‬الذي يعرف الناس‬
‫طّلته من ظهوره التلفزيوني أكثر من مـّرة‪ ،‬ويستوقفونه ليأخذوا معه صورا ً تذكارية أينما‬
‫حللنا في الجنوب•‬
‫ّ‬
‫في سيـارة “الرانـــج” التي كان يقودها‪ ،‬وكنا نستقلها أنا وهو‪ ،‬وتلك الرفيقة‪ ،‬كان الشريط‬
‫المختار للمناسبة ل يتوّقف عــن بــث الغاني الحماسية‪ ،‬التي لم أستمع لها منذ عشريـن‬
‫سنـة‪ ،‬مــذ فقدت فرحة وعادة تصديق الغاني الحماسّية•‬
‫كان رفيقاي ينشدان مع سميح شقير‪:‬‬

‫ن عشـت عش حــّرا ً‬
‫“إ ْ‬
‫مـت كالشجار وقوفا ً‬ ‫أو ُ‬
‫ً‬
‫وقـوفـا كالشــجــار”‬

‫حسـدت أنـــور ياسـيـن على غضبه‪ ،‬الذي لم يطفئ وهجه سبع عشرة سنة من العتقال•‬
‫أتراه قرأ نصيحة الشاعر “انظر خلفك بغضب”‪ ،‬ولــذا منحـه غضبه هذه الفتوة الدائمة‬
‫وابتسامة واثقة ل تفارقــه؟‬
‫إن كــان نــــزار قّبـانـــي “محتــاجا ً منذ عصور لمرأة تجعله يحزن”‪ ،‬فقد كنت أحتاج منذ‬
‫الزل إلى رجل يجعلني أغضب كي أستعيد صباي‪ ،‬رجل ينقل لي عدوى رفضه في زمن‬
‫الرضوخ‪ ،‬ويهديني قامة غضبه في زمن النبطاح•‬
‫الغضب من شيمات الشباب‪ ،‬فاحذروا أعراض الستكانة التي تنتابكم مع العمر•‬
‫دق حاجتي إلى عدواه• فقد كان يعتقد‪ ،‬يوم هاتفني بعد‬ ‫ن أنــــور ما كان لُيص ّ‬ ‫الطريـف أ ّ‬
‫إطلق سراحــه‪ ،‬أنني المرأة التي كانت بكتاباتها المهّربـة إلى المعتقلت السرائيلية تنقل‬
‫لسرى أحلمها الغاضبة وُتبقيهم مشتعلين عنفوانًا•‬ ‫إلى عشرات ا ُ‬
‫كنا نشق الطريق إلى بلدة الخيـام‪ ،‬وسط أعلم المقاومة وحواجز ُتوزع الحلوى‬
‫والشعارات‪ ،‬نستدل على طريقنا بصور الشهداء• فل وجود هنا لصور المطربين وإعلنات‬
‫فح سوى ألبوم‬ ‫ألبوماتهم التي ُترافقنا أينما ذهبنا في بيــروت• في الجنوب‪ ،‬أنـت ل تتص ّ‬
‫المــوت•‬
‫ً‬
‫كــان يومــا جنوبيــا طويــل‪ ،‬سأعــود في مناسبـات لحقــة إلى الحديث عن مشاعري‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وأنا أزور “بوابـــة فاطمــــة”‪ ،‬نقطة الحـدود الفاصلة بين لبنان وفلسطين‪ ،‬بحاجز سلكي‬
‫ُ‬
‫محَبطة إلى “قانـــــا” ومقبرتها التي ترعـى موتاها ابتسامة‬ ‫مكهرب‪ ،‬أو زيارتي الولى وال ْ ُ‬
‫أحــد الزعماء السياسيين• فقد كانت فاجعتي الكبر في سجن “الخيام”‪ ،‬الذي فوجئنا به‬
‫مزارا ً ترعاه وزارة السياحة‪ ،‬التي لم تجد حرجا ً في وضع اسمها على مدخله‪ ،‬مساوية‬
‫مـانــــا•‬
‫إّيــاه بمغارة “جعيتا” وآثــــار بعلبك‪ ،‬ووسط بيروت‪ ،‬ومطاعـم بر ّ‬
‫ل أدري إن كانت في ذلك ُتسايـر عشـرات الزّوار‪ ،‬الذين أصبحوا يقصدونه في العطل‪ ،‬كما‬
‫ملين‬‫يذهب المصريون إلى “معرض الكتاب” في نزهة عائلية مع الولد‪ ،‬مح ّ‬
‫بالسندويتشات والمشروبات‪ ،‬أم الزّوار هم الذين أخذوا تلك اللفتة “السياحية” مأخذ‬
‫م إنشاء “كافيتريا” كبيرة عند مدخل المعتقل‪ ،‬حيث يبيع أحدهم عند بابها‬ ‫د‪ ،‬بعد أن ت ّ‬
‫الج ّ‬
‫ملين بالمشروبات وصحون كارتونية عليها‬ ‫أوراق “اليانصيب”‪ ،‬ويخرج منها الكثيرون مح ّ‬
‫بطاطا و”كاتشاب”‪ ،‬يذهبون لتناولها في باحـة صغيرة في ساحة السجن‪ ،‬بجـــوار “قاعة‬
‫شهداء المعتقل سابقًا”•‬
‫كـر في ما يليق أن أرتديه لزيارة ذلك السجن‪ ،‬احتراما ً مني لمن‬ ‫ُ‬
‫أنــا التي قضيت سهرة أف ّ‬
‫ت بغبــاء رومنطيقيتي‬ ‫فــن‪ ،‬شعر ُ‬‫عبروه في ثيــاب الســـر‪ ،‬وبعضهم غادروه في ك َ‬
‫“الثوريـــة”‪ ،‬وأنــا أرى الناس يدخلون في كل الزيــاء واللــوان‪ ،‬ويتجولـون في زنزانتــه‬
‫المشرعة أبوابها للفضول ولـ”السياحــة الثورّيــة”‪ ،‬مــذ ُأفرغت تماما ً من بؤس محتوياتها‪،‬‬
‫طليت جدرانها‪ ،‬بحيث انمحت حتى الكتابات التي تركها السجناء على الجدران‪ ،‬ليؤّرخـوا‬ ‫و ُ‬
‫صبرهم ويوّثقوا عذابهم وأملهم•‬
‫مـة تدخل المستقبل‪ ،‬وقد محــت “البويــــا” ماضيها؟‬ ‫ُ‬
‫كيف يكون من غــد ٍ ل ّ‬

‫فا ُ‬
‫قبلة‬ ‫ش َ‬
‫شفتان على َ‬

‫"هل عشت القبلة والقصيدة‬


‫فالموت إذن‬
‫لن يأخذ منك شيئًا"‬
‫الشاعر الغريقي يانيس ريتسوس‬

‫**‪**1‬‬

‫اختبر الدب بشفتيك‬


‫كيف يمكنك أن تصف متعة‬
‫ذروتها أن تفقد لغتك؟‬
‫ب نشوة‬ ‫كّلما تق ّ‬
‫دم بنا الح ّ‬
‫أعلن العشق موت التعبير‬

‫**‪**2‬‬

‫فا ُقبلة‬ ‫شفتان ُتبقيانك على َ‬


‫ش َ‬
‫ل شفاعة‬
‫من لثمتا‬
‫ل شفاء ل ِ َ‬
‫ل مهرب‬
‫ل وجهة عداهما أو ِقبلة‬
‫مجرد شفتين أطبقتا على عمرك‬

‫**‪**3‬‬

‫ركوة ُقبلتك الصباحّية‬


‫قهوة لفمين‬
‫أغرق فيها كقطعة سكر‬
‫أرتشفها بهال الشكر‬
‫حمدا ً لك‬
‫من وضعت إعجازك في شفتين‬ ‫يا َ‬
‫ي‬‫ّ‬ ‫عل‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫حكر‬ ‫وجعلتهما‬

‫**‪**4‬‬

‫لحّبهما إلى هذا الحد ّ‬ ‫ما كنت ُ‬


‫شفتاك اللتان نضجتا‬
‫بصبرحّبات مسبحة‬
‫تسّلقتا شغاف القلب‬
‫عناقيد تسابيح وحمد‬
‫قب َل ِ َ‬
‫ك أن ُتزهر‬ ‫ما كان ل ُ‬
‫ي‬‫على شفت ّ‬
‫ن فمك لم ينبت‬ ‫لو أ ّ‬
‫بمحاذاة مسجد‬

‫**‪**5‬‬

‫في غفوته‬
‫في ذروة عزلته‬
‫يواصل قلبي إبطال مفعول ُقبلة‬
‫فتيُلها أنت‬

‫**‪**6‬‬

‫يا للهفتك‬
‫يا لجوعي إليك بعد فراق‬
‫ساعة رملية‬
‫تتسّرب منها في قبلة واحدة‬
‫كل كثبان الشتياق‬

‫**‪**7‬‬

‫ف الزمن؟‬
‫كيف بقبلة ُتوقِ ُ‬
‫كيف بشفتين‬
‫ُتلقيان القبض على جسد؟‬

‫**‪**8‬‬

‫يا رجل ً‬
‫من غيرك‬ ‫َ‬
‫سقط شهيدا ً‬
‫قَبل؟‬‫مضّرجا ً بال ُ‬ ‫ُ‬

‫شهادة في الكتابة‬
‫مت هذه الشهادة في معهد العالم العربي في باريس سنة ‪" 1997‬‬
‫" قد ّ‬

‫كل مرة يطلب مني ان أتحدث عن تجربتي في الكتابة أجدني أنا التي احترف الكلمات‪,‬‬ ‫ك ّ‬
‫خص عمري على ورق‪ .‬ول أعرف متى كان مولدي بالتحديد‪.‬‬ ‫ل أدري كيف أل ّ‬
‫وقعه‪.‬‬‫ّ‬ ‫يت‬ ‫الذي‬ ‫التاريخ‬ ‫غير‬ ‫في‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫غالب‬ ‫ولكن‬ ‫فجأة‪,‬‬ ‫فالكاتب يولد‬
‫ً‬
‫هناك من يعتقد انه كاتبا منذ الزل‪ .‬وهناك من ولد أمام أول كتاب أصدره‪ .‬وآخر لم يولد إل‬
‫صه الخير‪.‬‬‫في الربعين‪ ,‬أمام ن ّ‬
‫ود عشرات الوراق‪ ,‬ل يعني أنك مبدع‪ .‬وأن تصدر أكثر من كتاب ل يعني أنك‬ ‫لكن‪ ,‬أن تس ّ‬
‫كاتب‪" .‬همنغواي" كان يقول "الكاتب هو من له قراء" وربما كان يعني من له معجبون‬
‫وأعداء‪ .‬وحسب هذا المفهوم‪ ,‬يمكنني أن أقول أنني كاتبة‪.‬‬
‫كر ضد ّ نفسك‪ .‬أن تجادل أن تعارض أن تجازف‪ ,‬أن تعي منذ البداية‪ ,‬أن‬ ‫فأن تكتب يعني تف ّ‬
‫ل أدب خارج المحظور‪ ,‬ول إبداع خارج الممنوع‪ ,‬ول خارج السئلة الكبيرة التي ل جواب‬
‫لها‪ .‬ولو كانت الكتابة غير هذا‪ ,‬لكتفت البشرّية بالكتب السماوية وانتهى المر‪ .‬ولكن‪,‬‬
‫خطر الكتابة ومتعها يكمنان في كونها إعادة نظر‪ ,‬ومساءلة دائمة للذات‪ .‬أي كونها مجازفة‬
‫ن‬
‫ن الشك‪ .‬ربما ل ّ‬ ‫دائمة‪ .‬ألهذا‪ ,‬كلما تقدمت بي الكتابة‪ ,‬غادرت عمر القناعات‪ ,‬ودخلت س ّ‬
‫ي الى آخر دون‬‫الكتابة ل يمكن أن تتم على أرض ثابتة‪ ,‬حتى أنك تنتقل فيها من صنف أدب ّ‬
‫سابق قرار‪.‬‬
‫وقع أن أكون ولدت في‬ ‫في البدء‪ ,‬كنت شاعرة‪ ,‬وربما جئت الى الشعر في لحظة تحد‪ .‬أت ّ‬
‫مس‬ ‫السابعة عشرة من عمري‪ .‬عندما وقفت للقي شعرا ً في الجزائر على جهور متح ّ‬
‫وشرس‪ .‬جاء نصفه ليصفق لي‪ .‬ونصفه الخر ليحاكمني بتهمة أنوثتي‪ ,‬والكتابة عن الحب‪,‬‬
‫في زمن لم ينته فيه الخرون من دفن الشهداء على صفحات الجرائد والكتب‪ .‬أعتقد ذلك‪,‬‬
‫لن الشاعر يولد دائما ً في لحظة مواجهة‪.‬‬
‫خل‬‫وكهامش لهذه الحادثة التي تناقلت الصحافة الجزائرية آنذاك تفاصيلها‪ .‬بما في ذلك تد ّ‬
‫والدي نيابة عني للرد على الجمهور‪ ,‬نظرا ً لصغر سني وعدم قدرتي على مواجهة قاعة‬
‫بأكملها‪.‬‬
‫أذكر الن بألم‪ ,‬أن أمسيتي الشعرية تلك كانت في إطار موسم شعري سنة ‪ 1973‬أقيم‬
‫في قاعة "الموغار"‪ .‬أخذ فيه شعر الشباب باللغتين الحّيز الكبر‪ .‬وهكذا فقد جاءت بين‬
‫أمسيتين للشاعرين الشهيدين الطاهر جعوط ويوسف سبتي‪ ,‬اللذين كانا يكتبان باللغة‬
‫الفرنسية‪ .‬وبدآ مشوارهما الشعري معي في ذلك الموسم نفسه‪ .‬وحتما ً كانا يجهلن آنذاك‬
‫أنه برغم الهدوء والفتور الذين قوبل بهما من طرف الجمهور‪ ,‬ورغم الزوبعة العلمية التي‬
‫حسداني عليها‪ .‬سيأتي يوم بعد عشرين سنة يتصدران فيه جميع الجرائد العربية والجنبية‬
‫كشهيدين للشعر الجزائري‪ ,‬سقطا ذبحًا‪ ..‬ورميا ً بالرصاص‪ ..‬بتهمة الكتابة‪.‬‬
‫كان ذلك زمن التحدي الجميل‪ .‬ورغم أنني كنت الفتاة الوحيدة التي تكتب آنذاك بين‬
‫شعراء اللغتين‪ ,‬فقد كنت أشعر دائما ً ان انتمائي لحلم ذلك الجيل من الشباب يفوق‬
‫انتمائي لنوثتي‪ ,‬وأن الشعر والوطن هما قضيتي الولى‪ .‬وأما النوثة فهي مشكلتي وحدي‪.‬‬

‫دة سنوات‪ ,‬عندما غادرت الجزائر لقيم في فرنسا وأدخل دّوامة الحياة‬ ‫كد لي ذلك بعد ع ّ‬‫تأ ّ‬
‫الزوجية والمومة واللتزامات الجتماعية‪.‬‬
‫م لثلثة صبيان ودكتورة في السوربون وباحثة في‬ ‫ذات صباح استيقظت وإذا بي زوجة وأ ّ‬
‫لية ومربّية في كل ساعات النهار‪ .‬كان لي أكثر من لقب‬ ‫سالة وج ّ‬‫علم الجتماع وطّباخة وغ ّ‬
‫وأكثر من مهنة‪ .‬غير أني كنت قد فقدت لقب "شاعرة"‪.‬‬
‫أعتقد أنني أنا التي أخذت قرار التخلي عن الشعر‪ .‬خشية أن أصبح أدنى منه‪.‬‬
‫أن تحترم الشعر‪ ,‬حد ّ العتراف في أول خيانة له بأنك لم تعد شاعرًا‪ .‬هي الطريقة الوحيدة‬
‫لتحافظ على لقب شاعر‪ ,‬ولو بينك وبين نفسك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فإذا كان ل شيء أكثر سطوة ووجاهة من لقب شاعر‪ .‬فل شيء أيضا أثقل حمل ول أسرع‬
‫عطبا ً من هذا اللقب‪.‬‬
‫فإن تكون شاعرا ً يعني أن تكون إنسانا ً حرًا‪ ,‬حرّية مطلقة‪ .‬ول أقصد فقط أن تكون حرا ً‬
‫ل‪ .‬بل يتطّلب أيضا ً أن‬
‫في الدلء برأيك أو حرا ً في الذهاب بجنونك حيث شئت قول ً وفع ً‬
‫تكون حرا ً في وقتك‪ .‬أن تكون شاعرا ً يعني أن تكون بتصّرف الشعر وكأنك نذرت نفسك‬
‫له‪ .‬فهو ككل حالت البداع يأتيك متى شاء‪ ,‬فيلغي لك موعدا ً ويأخذ لك آخر‪ .‬ويحجزك‬
‫ساعات أمام ورقة‪ .‬ويخرجك من طورك ليام‪ .‬ولذا الشعر ترف ليس في متناول أمرأة‬
‫عندنا‪ .‬إنه يذكرني بذلك التعبير الجميل )لمورياك( عندما يقول "أنا حصان الشعر الجامح‪..‬‬
‫لكنني مشدود الى عربة المحراث"‪.‬‬
‫وأن أكتشف أن الشعر قد غادرني لم يخفني‪ ,‬بقدر ما خفت أن يغادرني الحبر أيضًا‪,‬‬
‫ودت أن أعيش بين دفتي الكتب‪ .‬أن أحب وأكره‬ ‫وتخونني الكلمات‪ .‬فأنا إمرأة من ورق‪ .‬تع ّ‬
‫وأفرح وأحزن وأقترف كل خطاياي على ورق‪ .‬تعّلمت ان أكون كائنا ً حبريًا‪ ,‬أل أخاف من‬
‫رؤية نفسي عارية مرتجفة على ورق‪.‬‬
‫عريي هذا‪ .‬أحب قشعريرة جسدي العاري أمام بركة حبر‪ .‬وأؤمن أن الكلمات‬ ‫فأنا أحب ُ‬
‫ما تلك التي تكسونا فهي تشوهنا‪ .‬ولذا كان عنوان‬ ‫التي تعرينا هي وحدها التي تشبهنا‪ .‬أ ّ‬
‫ديواني الثاني منذ عشرين سنة "الكتابة في لحظة عري"‪.‬‬
‫وربما كان لحياة المومة والبيت التي عشتها خمس عشرة سنة متتالية أثر في تغيير‬
‫مزاجي الحبري‪ ,‬ونظرني الى الكتابة‪ .‬ذلك ان الكتابة لم تعد كل حياتي‪ .‬بل حياة مسروقة‬
‫ت حالة مرضية‪ .‬وعكة حبر‪,‬‬ ‫ت أخطر‪ .‬أصبح ْ‬ ‫ت أشهى وأصبح ْ‬ ‫من حياتي الشرعّية ‪ .‬أصبح ْ‬
‫ت حالة تعددية وقدرة على أن أعيش‬ ‫وحالة خوف وذعر من شيء ل يمكن تحديده‪ .‬أصبح ْ‬
‫داخل أكثر من امرأة‪ .‬أن يكون لي أكثر من نشرة جوّية في اليوم‪ .‬وأكثر من جسد كل‬
‫ليّلة‪ .‬وأكثر من مزاج عشقي‪ ,‬وأن تكون لي يد واحدة ل أكثر أكتب بها كل هذا‪ ..‬وأسرق‬
‫بها كل هذا‪.‬‬
‫)جان جنيه( كان يقول "كنت من قبل أسرق‪ ,‬اليوم صرت أكتب الكتب" وبإمكاني أن أقول‬
‫العكس‪ :‬فلقد بدأت كاتبة‪ ,‬وانتهيت سارقة‪ .‬فالكتابة بالنسبة لي مواجهة مع الواقع المضاد‪.‬‬
‫إّنها نهب وسطو دائم‪ .‬فأنا أسرق الوقت لكتب‪ .‬وأسطو على مكتب إبني لكتب‪ ,‬وأتحايل‬
‫على من حولي لخذ موعدا ً مع الورق‪.‬‬
‫ن الكتابة هي المغامرة النسائية‬
‫وسأظل أنهب الكلمات كما ينهب بعضهم السعادة‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫الوحيدة التي تستحق المجازفة‪ .‬وعلي أن أعيشها بشراسة الفقدان كمتعة مهددة‪.‬‬
‫لقد عشت عدة سنوات دون مكتب ودون غرفة للكتابة‪ .‬أنقل أوراقي من غرفة الى أخرى‪.‬‬
‫ودت أن أسكن ذاتي‪ .‬ولن كل البواب كانت‬ ‫الن كل الغرف من حولي كانت محجوزة‪ ,‬تع ّ‬
‫مغلقة حولي فتحت يوما ً خطأ بابا ً كان ل بد أل أفتحه‪ .‬وإذا بي أمام نفسي‪ .‬وإذا بي روائية‪.‬‬

‫لراغون مقولة جميلة "الرواية هي مفتاح الغرف الممنوعة في بيتنا" يوم قرأتها أدركت‬
‫أنني دخلت الرواية دون أن أدري‪ .‬وأنا أفتح ذلك الباب بحشرّية وفضول‪ .‬وإذا بي أصاب‬
‫بالدوار والذهول وانا أقع على امرأة توقعتها غيري‪ ..‬وإذا بطوفان الكلمات يذهب بي نحو‬
‫ص مفتوح ومخيف في نزيفه‪ .‬لم يكن إل رواية سيكون حجمها أربع مئة صفحة ويكون‬ ‫ن ّ‬
‫إسمها "ذاكرة الجسد"‪.‬‬
‫عن هذه الرواية التي كان لها قدر أكبر مما توقعت‪ ,‬لن أقول لكم شيئًا‪ .‬فأنا لست هنا‬
‫لروج لها‪ .‬إنني اعتبر صمت الكاتب بعد كل كتاب جزءا ً من إبداعه‪.‬‬
‫فالكاتب عليه أن يقول كل شيء في كتابه وليس بعد صدوره‪ .‬وليس عليه أن يقول أكثر‬
‫مما كتب ليشرح للخرين ما كان ينوي قوله‪ .‬كل كتابة ل بد أن تؤدي الى الصمت‪ .‬ولذا‬
‫الجمل أن يصمت الكاتب بعد كل كتاب أحتراما ً لذكاء القارىء‪ .‬ولبطال لم يعودوا في‬
‫حاجة إليه بعد الن‪.‬‬
‫ولكن ما أريد قوله‪ ,‬هو أن الكتابة مشروع شخصي‪ .‬ورحلة ل يقوم بها المسافر إل وحده‪.‬‬
‫لسبب وحده معني به‪.‬‬
‫وحتما ً إن رحلة على هذا القدر من المجازفة والمواجهة تكون شاقة أكثر بالنسبة الى‬
‫المرأة التي تدفع مقابلها ثمنا ً مزدوجًا‪ .‬هو ثمن الكتابة‪ ..‬وثمن النوثة‪.‬‬
‫ما إذا كانت جزائرية وتكتب باللغة العربية‪ ,‬فهي معّرضة لمخالفتين إضافيتين‪ ,‬الولى أن‬ ‫أ ّ‬
‫تدفع ثمن هوّيتها والثانية ثمن اختيارها الكتابة بلغة محفوفة بالمخاطر أكثر من غيرها‪.‬‬
‫فهل نعجب بعد هذا‪ ,‬أن ل يكون لنا في الجزائر شاعرات أو روائيات باللغة العربية‪ .‬على‬
‫ل بما يعادل باللغة الفرنسية على قّلتهن‪ .‬وهل نعجب أن يكون ديواني الصادر سنة‬ ‫ألق ّ‬
‫‪ 1973‬في الجزائر أّول ديوان شعري نسائي باللغة العربية‪ .‬وأن تكون روايتي )ذاكرة‬
‫الجسد( الصادرة بعد ذلك بعشرين سنة تمامًا‪ .‬هي أيضا ً أول عمل روائي نسائي باللغة‬
‫العربية‪ .‬وكأن الدب الجزائري المكتوب بالّلغة العربية لم يكن ينتظر غيري طوال عشرين‬
‫ل سنة آلف الطالبات‪ ,‬بإتقان للغة العربية‪.‬‬ ‫سنة‪ .‬في بلد تتخّرج عن جامعاته ك ّ‬
‫إن اكتشافا ً كهذا ل يملني زهوا ً فأنا أعي أن وجاهتي الدبية تعود لمصادفة تاريخية‬
‫وجغرافية‪ ,‬ليس أكثر‪.‬‬
‫بقدر ما يملني بإحساس غامض بالخوف على اجيال لن تعرف متعة الكتابة بهذه اللغة‪ .‬بل‬
‫وقد ل تعرف متعة الكتابة على الطلق‪ .‬بعد أن حرمها البعض من متعة القراءة أيضًا‪.‬‬
‫خخة تنفجر في قارئها‪ .‬وأن الكّتاب قطاع‬ ‫وأقنعها أن الكتاب صديق سوء‪ .‬وأن هناك كتبا ً مف ّ‬
‫طرق يتربصون بالقارىء بين صفحتين‪ ,‬ومجرمون يتنقلون وفي حوزتهم أوراقا ً وأقلمًا‪.‬‬
‫وأنهم صنف بشري ل يستحق الحياة‪.‬‬
‫في زمن ما زالت فيه الحدود مغلقة أمام ما تبقى واقفا ً من أقلم‪ .‬وما زال فيه أنظمة‬
‫عربية من الجهل‪ ,‬بحيث تخاف حتى من عناوين كتبنا‪ .‬وتمنع مؤلفاتنا من قبل حتى أن‬
‫مة أخرى استرخص فيها دم وشرف الكتاب بحيث يموتون كل يوم مقابل حفنة‬ ‫تقرأنا‪ .‬وث ّ‬
‫من الكلمات‪ .‬نحن نطمح أن تعيش كتبنا‪ ..‬ل ان نعيش منها‪ .‬نطمح أن تسافر كتبنا ل أن‬
‫نسافر على حسابها‪ .‬نطمح أن ل يشتري القارىء كتبنا على حساب لقمته‪ .‬لنه لن يزيدنا‬
‫ثراءًا‪ ..‬وإنما يزيد من عقدة ذنبنا‪.‬‬

‫عُذرا ً للغابات‬

‫أعرف عمل ً أكثر جرأة‪ ،‬من إقدام المرء على نشر كتاب• فإذا كانت الكتابة في حد ّ ذاتها‬
‫من ل يعنيه‬ ‫ور ل ُيقدم عليه إل ّ َ‬ ‫ن السرعة في إصدار ما نعتقده أدبا ً أو شعرًا‪ ،‬ته ّ‬ ‫مجازفة‪ ،‬فإ ّ‬
‫أن يكون أديبا‪ ،‬بقدر ما يكفيه وضع تلك الصفة على كتاب•‬ ‫ً‬
‫مــا المبدع الحقيقي‪ ،‬فهو إنسان غير آبه باللقاب “المنهوبة”• إّنه كائن مرعوب بحكم‬ ‫أ ّ‬
‫ّ‬
‫ل ورقة يخطها ويرضى‬ ‫إحساسه الدائم بأنه عابٌر‪ ،‬وبأن ل شيء سيخلد سوى كتاباته• فك ّ‬
‫ي‪ ،‬وسُيحاسب عليها كأنه لم‬ ‫أن يراها مطبوعة في كتاب‪ ،‬هي ورقة يلعب بها قدره الدب ّ‬
‫يكتب سواها•‬
‫ولذا كان فلوبير يقضي أياما ً كاملة في صياغة‪ ،‬وإعادة صياغة صفحة واحدة‪ ،‬وكان‬
‫دمت به الكتابة‪ ،‬حتى إنه صّرح في آخر حياته “إني‬ ‫بورخيس العظيم يزداد تواضعا ً كّلما تق ّ‬
‫ما‬ ‫هلني لكتابة بضعة سطور جديرة بال ّ‬
‫ذكر‪ ،‬أ ّ‬ ‫ن بلوغي سن الثمانية والثمانين‪ ،‬يؤ ّ‬ ‫أفترض أ ّ‬
‫دتي أن تقول”•‬ ‫قدر” كما اعتادت ج ّ‬ ‫البقّية ففي المكان “أن تذهب إلى ال ِ‬
‫وقد ذهب بعض كبار الكتاب حد ّ إحراق مخطوطات‪ ،‬قضوا أعواما ً في العمل عليها‪ ،‬وأمر‬
‫البعض بإتلفها بعد موته‪ ،‬خشية أن تصدر في صيغة تسيء لمكانته الدبية•‬
‫وفي زمن نشهد سقوط هيبة الفن‪ ،‬وسطوة النجومّية‪ ،‬أصبح في إمكان أي شاب عربي‪،‬‬
‫تؤهله جرأته وحباله الصوتية لقتحام شاشتنا‪ ،‬أن يغدو “سوبر ستار” ولو برهة‪ ،‬ويختبر فينا‬
‫قدرته على الزعيق وقدرتنا على الصبر‪ ،‬ليس عجبا ً أن نشهد استباحة هيبة الكتابة أيضًا‪،‬‬
‫من ُأصيب بخيبة عاطفّية شاعرا‪ً،‬‬ ‫ل َ‬‫من ُيحسن القراءة مشروع كاتب‪ ،‬وك ّ‬ ‫بعدما أصبح ك ّ‬
‫ل َ‬
‫قه أن ُيجّرب نفسه في رواية أو في ديوان شعر• وهو‪ ،‬أيضـــــًا‪ ،‬لن يقبل بأقل من‬ ‫ومن ح ّ‬
‫لقب “سوبر ستار”‪ ،‬ومن أّول ديوان‪ ،‬يرفض أن ُيشّبه بغير نــــــزار! وهو‪ ،‬كالكثيرين الذين‬
‫ملة في المستودعات‪ ،‬ل يمنح موهبته ما يلزمها من وقت للنضوج•‬ ‫ُنصادف كتبهم مه َ‬
‫مستعد ّا‪ً،‬‬ ‫ماذا نفعل برّبكم مع كّتاب ل يتردد بعضهم في ارتكاب جرائم في حقّ الشجار‪ُ ،‬‬
‫ن اقتضى المر‪ ،‬لتلف غابة من أجل إصدار كتاب لن يقرأه أحد‪ ،‬إل ّ حفنة من المعارف‬ ‫إ ْ‬
‫غمين على مباركة جرائمه الدبّية؟‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مر َ‬
‫والعجيـــب إصــرار هؤلء على المزيد من “النتـــــاج”‪ ،‬ل يثنيهم عن “البـــداع” أن يفوق‬
‫عدد كتبهم عدد قّرائهم‪ ،‬ولهم في هذه النكبة فتــوى• فقّلــة انتشارهم‪ ،‬وعدم فهم الناس‬
‫عقاب•• وهم‬ ‫أعمالهم أو تذّوقها هما نفسهما‪ ،‬دليل نبوغهم• ذلك أنه ما من موهبة تمّر بل ِ‬
‫من له قّراء”‪ ،‬بأن رامبو‪ ،‬الذي غّيـر لغة‬ ‫دون على قول هيمنغواي‪“ :‬الكاتب هو َ‬ ‫قد ير ّ‬
‫شعر العالمي‪ ،‬لم يطبع من كتابه “فصل في الجحيم” أكثر من‬ ‫فرنسا وترك بصماته على ال ّ‬
‫خمسمئة نسخة‪ ،‬بينما اكتفى مالرميه بطباعة أربعين نسخة من أحد دواوينه‪ ،‬يوم أصدرها‬
‫لولى•‬ ‫في طبعتها ا ُ‬
‫ل واحد منهم‬ ‫ومثل هؤلء “النابغين” ل جدوى من ُنصحهم أو إقناعهم بتغّيـر مهنتهم• فك ّ‬
‫واثق تماما ً بأنه يفوقك موهبة وينقصك حظًا‪ ،‬وإل ّ لكان أكثر شهرة منك‪ ،‬مادام قد أصدر‬
‫من الكتب في سنة‪ ،‬ما ل تصدره أنت في ربع قرن•‬
‫ن جمعا ً من‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫قرأت‬ ‫فرنسا‪،‬‬ ‫جنوب‬ ‫وأذكر أنني في الصيف الماضي‪ ،‬أثناء إقامتي في‬
‫شعر في غابات الجنوب‪ ،‬ليس فقط بقصد توفير فضاء‬ ‫الشعراء قرروا أن يلتقوا جمهور ال ّ‬
‫مال الشعر‪ ،‬بل أيضا ً امتنان منهم للغابات والشجار‪ ،‬التي توّفر لهم الورق الذي‬ ‫ج َ‬ ‫يليق ب َ‬
‫يطبعون عليه أشعارهم•‬
‫مة أكثر من فائدة في نقل مهرجاناتنا الشعرية‪ ،‬ومؤتمراتنا الدبية‬
‫نث ّ‬‫كرت يومها في أ ّ‬‫وف ّ‬
‫ح الطبيعة ما أفسدته عادات الضيافة الباذخة‪ ،‬في ولئم شراء‬ ‫إلى الغابات• فقد ُتصل ُ‬
‫ذمم•‬ ‫ال ّ‬
‫م‪ ،‬قد تكون فرصة للبعض‪ ،‬لتقديم اعتذارهم للغابات• على ما اقترفوا في حقها من‬ ‫ث ّ‬
‫جرائم أدبية•• من أجل كتب لن يقرأها أحد•‬

‫عرائس الكرة‪ ..‬وأراملها‬

‫مازال البعض يذكر ذلك الحدث العجب‪ ،‬يوم اختار التحاد اليطالي لكرة القدم أّول امرأة‬
‫حكما ً في دوري الدرجة الممتازة‪ُ .‬يقال إن الصحافة الرياضية اليطالية كانت مهتمة أكثر‬
‫بجاذبية كريستينا‪ ،‬من اهتمامها بالخطاء التحكيمية‪ ،‬تمامًا‪ ،‬كما أحدثته مّرة إحدى‬
‫كلفت بتنظيم السير في أحد تقاطعات شوارع‬ ‫الشرطيات الجزائريات من فوضى‪ ،‬عندما ُ‬
‫جه فيها‬ ‫العاصمة‪ .‬إذ بسبب جمالها‪ ،‬ظل سائقو السيارات يدورون حول المستديرة التي تو ّ‬
‫السير‪.‬‬
‫ث البلبلة في‬‫نزول الحسناء اليطالية إلى الملعب‪ ،‬هو آخر حيلة عثرت عليها النساء‪ِ ،‬لب ّ‬
‫ملعب كرة القدم‪ ،‬حيث منذ الزل يلحق الرجال الكرة‪ ،‬وتلحق النساء‪ ،‬بالنظر‪ ،‬الرجل‬
‫المفتولة التي تتقاذفها‪ ،‬دون أن يتنبه أحد لغبن نساء ل يفهمن كيف أن كل هؤلء الرجال‬
‫المتراكضين المتدافعين بسبب كرة‪ ،‬يجدون في قطعة جلد كروية‪ ،‬من السحر والثارة‬
‫أكثر مما يجدونه في أنثى‪.‬‬
‫وكانت النساء قبل ذلك‪ ،‬وقد فشلن في استعادة رجالهن من هذه الضّرة‪ ،‬قّررن أن‬
‫ينتقمن لنوثتهن بمشاركة الرجال في هذا الهوس الكروي‪ ،‬ل لسباب كروية‪ ،‬بل بسبب‬
‫الجساد الرجالية المنحوتة بكل لياقتها البدنية‪ ،‬التي بذريعة المؤانسة‪ ،‬تجلس النساء‬
‫للتفّرج عليها بجوار أزواج ضامري العضلت‪ ،‬منتفخي البطون‪ ،‬يرتدون عباءاتهم وألبسة‬
‫نومهم‪ ،‬وينتفضون كالدببة هاتفين لهداف‪ ،‬هم عاجزون عن تسجيلها مهما صغر الملعب‪..‬‬
‫واتسع المرمى!‬
‫وقد وصلت الحال بالنساء أن أصبح لهن أيضا ً أهواء كروية‪ ،‬بعد أن اقتنعن بأن أجمل‬
‫قف الكرة‬ ‫القصائد تقولها أقدام رجالية لهثة راكضة‪ ،‬وأجساد تقفز في السماء لتتل ّ‬
‫بأحضانها‪.‬‬
‫مكّر مفّر مقبل مدبر‬ ‫َ‬ ‫إنهن يبحثن عن رجل يسعى إليهن كما يسعى رونالدو إلى كرة‪ِ " :‬‬
‫معًا"‪ ،‬وعن عاشق يصيبهن منذ الضربة الولى بدقة اللماني كلوزة في تصويب ضربته‪ .‬إذ‬
‫حقق في المونديال الماضي رقما ً قياسيا ً بتسجيل )‪ (5‬أهداف‪ .‬يلزمهن رجل يحاورهن‬
‫لدة‪ ،‬ويعادل سعره في سوق الرياضة‬ ‫بفصاحة قدمي زيدان‪ ،‬ل بمذلة ابن زيدون أمام و ّ‬
‫ً‬
‫والعلنات‪ ،‬سعر طائرة "إيرباص"‪ ،‬من نوع "‪ ،"A321‬ويتقاضى سنويا ما يعادل أجر عامل‬
‫فرنسي عادي خلل ستة آلف سنة من العمل‪ ،‬وعندما يصاب في ركبته‪ ،‬تعيش فرنسا‪،‬‬
‫حسب صحافتها‪ ،‬معلقة ليام إلى فخذه‪ ،‬ريثما يشفى‪ ،‬لكون مجدها الكروي رهن رجليه‬
‫ذواتي الصول الجزائرية‪.‬‬
‫بمن تحلم النساء؟ حسب استطلعات الرأي‪ :‬بلعبي الكرة‪ .‬إنهن يجدنهم أكثر جاذبية من‬
‫الممثلين والمغّنين‪ .‬حتى إن ‪ 50%‬من الفتيات اليطاليات يحلمن بامتلك الِعصابة التي‬
‫يضعها قائد المنتخب اليطالي باولو مالديني على جبينه أثناء المباراة‪ .‬وشخصيًا‪ ،‬أشك في‬
‫براءة النعوت الفحولية التي أطلقها كل بلد على فريقه في "حديقة حيوانات المونديال"‪،‬‬
‫حيث تتناحر السود الفريقية والديوك الفرنسية والحصنة السوداء البرازيلية والتنين‬
‫السيوي‪.‬‬
‫وأتفهم‪ ،‬والحال على ما هي عليه‪ ،‬من غواية شغف النساء المفاجئ بالقدام‪ ،‬حد ّ مزايدتهن‬
‫على الرجال تعصبا ً كرويًا‪.‬‬
‫فإذا كان مواطن أردني قد كسر شاشة تلفزيونه أثناء المونديال‪ ،‬احتجاجا ً وقهرا ً على‬
‫خسارة فريقه المفضل‪ ،‬فقد أصبح لنا نحن النساء أيضا ً شهيداتنا في ساحة كرة القدم‪،‬‬
‫بعدما لم يكن لنا إل ّ "أرامل المونديال"‪ .‬فقد فقدت فتاة مصرية توازنها وسقطت من‬
‫الشرفة‪ ،‬وهي منهمكة في توجيه الصحن اللقط‪ ،‬قصد متابعة إحدى المباريات‪ .‬وصار لنا‬
‫ضحايانا أيضا ً مذ طّلق مواطن سعودي زوجته إثر احتفالها بفوز فريقها في كأس الخليج‬
‫جعي ناد ٍ آخر‪ ،‬وأغاظه أنها راحت تطلق الزغاريد في المنزل‪،‬‬ ‫العربي‪ ،‬بينما الزوج من مش ّ‬
‫بعد أن ارتدت ملبس تحمل شعار فريقها‪ ،‬فاتصل بإخوتها لنقلها إلى منزل والدها‪.‬‬
‫الخوف أن يكون أبوها وإخوتها أيضًا‪ ،‬من مشجعي فريق غير فريقها‪ ،‬فتتقاذفها أقدام رجال‬
‫القبيلة‪ ،‬كرة قدم من بيت إلى آخر‪ ،‬وتنتهي حسب قول أمي "شردودة‪ ..‬ل مطلقة ول‬
‫من على آخرتها قبل أن تختار فريقها!‬‫مردودة"‪ ،‬كان عليها أن تؤ ّ‬

‫عرس في ماربيل‬
‫ط مهّني•• شرالو موله ّفاد” )كرش شاة(• ذلك القط‪ ،‬كان‬ ‫يقول مثل جزائري “كان الق ّ‬
‫سعيدا ً “ومتهّني”‪ ،‬يعيش على اصطياد الفئران‪ ،‬حتى ذلك اليوم الذي أراد صاحبه تدليله‪،‬‬
‫فأحضر له كرشة خروف‪ ،‬أو “كروش وقبوات”‪ ،‬كما يقول اللبنانيون‪ ،‬فضاع المسكين بين‬
‫من آخر•‬ ‫ل ِ‬ ‫أمعاء وأحشاء الشاة‪ ،‬وحار من أين يأتي تلك الوليمة‪ ،‬التي ل يعرف لها أوّ َ‬
‫ت سعيدة بوحدتي‪ ،‬وبوجودي بمفردي في “كـــــان”• ولفرط ما انتظرت هذه‬ ‫مثله كن ُ‬
‫ن ما‬‫ت حقيبة تشي بزهدي في مباهج الصيف‪ ،‬حتى إ ّ‬ ‫العطلة التي نذرتها للكتابة‪ ،‬أعدد ُ‬
‫ودات‪ ،‬يفوق ما أحضرته من ثياب ولوازم‬ ‫ّ‬ ‫ومس‬ ‫ودفاتر‬ ‫كتب‬ ‫أحضرته معي من بيروت‪ ،‬من‬
‫بحر ولوازم سهر•‬
‫لكن‪ ،‬كما في شرح صديقنا الرمني قول الشاعر “تجري الرياح بما ل تشتهي السفن”‪،‬‬
‫بقوله “هواء يروح هيك•• وبابور يروح هيك”‪ ،‬وجدتني “هيـــك”‪ ،‬عندما ذ َهََبت بي الريح‬
‫إلى ماربيل‪ ،‬إثر هاتف من أحد الصدقاء‪ ،‬يدعوني فيه إلى حضور زفاف ُأخته•‬
‫ت بدعوته‪ ،‬وقَِبلتها من‬ ‫ُ‬
‫ولنني ل أعرف كيف أقاوم النداء السّري لـ”ماربيل”‪ ،‬فلقد سعد ُ‬
‫متطّلباتها ولوازمها‪ ،‬قبل أن تبدأ أخبار الستعدادات لذلك العرس الخراف ّ‬
‫ي‬ ‫دون تفكير في ُ‬
‫ي‪ ،‬ومعها أسماء الثرياء والمشاهير الذين ضاقت بهم الفنادق الفاخرة‬ ‫في الوصول إل ّ‬
‫للمدينة•‬
‫ُ‬
‫ومن وقتها وأنا مثل ذلك القط‪“ ،‬حايصــــة” وحائرة أمام وليمة فـــرح لم أهّيــأ لها•‬
‫ذلك أنني لم أكتسب ثقافة العراس‪ ،‬ول القدرة على تبذير أيام وأسابيع في الستعداد‬
‫ن كانت تلك الليلة “ليلتي” حسب أم كلثوم‪ ،‬وكان ذلك العرس‬ ‫لليلة واحدة‪ ،‬حتى إ ْ‬
‫عرسي•‬
‫مدنيا في الدائرة السادسة عشرة‬ ‫ً‬ ‫م عقد قراني فيه َ‬‫ن عرسي الحقيقي‪ ،‬الذي ت ّ‬ ‫بل إ ّ‬
‫الراقية في باريس‪ ،‬أخذ مني العداد لوراقه‪ ،‬أكثر ما أخذ مني شراء فستانه البسيط من‬
‫وقت‪ ،‬ل يتجاوز لحظة رؤيته في واجهة• وأعتقد أنه بفضل ذلك الفستان‪ ،‬الذي كان ثمنه ل‬
‫ن الشاهدين اللبنانيين اللذين‬ ‫مد َ زواجي سبعا ً وعشرين سنة• وأذكر أ ّ‬ ‫ص َ‬‫يتجاوز مئة دولر‪َ ،‬‬
‫ي”‪ ،‬كانـــا أكثر أناقة‬ ‫حضرا العرس‪ ،‬بصفتهما عاشقين متواطئين مع سّرية زواجنا “النقلب ّ‬
‫منا‪ ،‬لكنهما على الرغم من ذلك‪ ،‬لم يتزوجا حتى اليوم•‬

‫وس العراس‪ ،‬ول أنفق من وقتي ومالي‪ ،‬استعدادا ً لي عرس‪ ،‬أكثر م ّ‬


‫ما أنفقت‬ ‫لبالي بهَ َ‬
‫ّ‬
‫ن من حولي‪ ،‬يدخلن في حالة هََبـل كلما‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫على عرسي‪ ،‬حتى ل أصاب بجنون نساء أراهــ ّ‬
‫مل منها•‬ ‫دعين إلى عرس‪ ،‬وكأنهن في سباق مع العروس ليكن َ‬
‫أج‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ورًا‪ُ ،‬أثبت لكم فيه بالعناوين‬ ‫مص ّ‬ ‫صص لي تحقيقا ً ُ‬ ‫ت سأقترح على مدير التحرير‪ ،‬أن ُيخ ّ‬ ‫وكن ُ‬
‫والسعار )وصور لي في حفل الزفاف الخرافي ذاك(‪ ،‬كيف أن في إمكانهم حتى في‬
‫ل مما كنتم‬ ‫“كــــان”‪ ،‬شراء لوازم عرس كبير‪ ،‬قد تحضرونه في ماربيل‪ ،‬بثمن أق ّ‬
‫ستدفعون في بيروت أو في الجزائر•‬
‫من‬ ‫و‬ ‫أهلها‪،‬‬ ‫يعرفها‬ ‫التي‬ ‫وأحشاؤها‪،‬‬ ‫شعابها‬‫ِ‬ ‫لها‬ ‫لخرى‪،‬‬ ‫ن “كـــــان”‪ ،‬كما المدن ا ُ‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫َ‬
‫قضى فيها مثلي أكثر من عشرين صيفا•ً‬
‫وعلى الرغم من ذاك‪ ،‬لم يكن سهل ً العثور صيفا ً على فستان سهرة طويل في مدينة‬
‫وج بنصف‬ ‫ت عندما رأيت ثوبــــا ً من الساتان الورديّ المتم ّ‬ ‫تحترف التعّري• لــــذا شهق ُ‬
‫مذهلة‪ ،‬ثمن فستان عرسي منذ ‪ 27‬سنة• فأخذته‬ ‫دى ثمنه بعد التنزيلت ال ُْ‬ ‫كتف‪ ،‬ل يتع ّ‬
‫وركضت به بحثا عن إكسسوارات• وقد وجدت في المحال بائعات تجندن بتواطؤ نسائي‬ ‫ً‬
‫ســة” في عرس كبير‪ ،‬ورحــن يتجادلن‬ ‫مند ّ‬‫ن ورطتي كضيفة “ ُ‬ ‫لمساعدتي‪ ،‬حالما حكيت له ّ‬
‫منسابة من كتفه‪،‬‬ ‫ْ‬
‫لضفاء تفاصيل الزياء الراقية عليه‪ ،‬حتى بدا بالورود العنقودية ال ُ‬
‫ن البائعات‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫واكتشفت‬ ‫مم كبير•‬ ‫مص ّ‬ ‫متماوجة‪ ،‬وكأنه من توقيع ُ‬ ‫شال ذي اللوان ال ْ ُ‬ ‫وبال ّ‬
‫ن تحويلهن إلى‬ ‫مه ّ‬ ‫يتعاطفن كثيرا مع النساء البسيطات‪ ،‬لنهن يشبهنهن‪ ،‬ويصبح ه ّ‬ ‫ً‬
‫ن‪ ،‬كّلما‬‫ّ‬ ‫عليه‬ ‫ويضحكن‬ ‫“سندريلل” بأقل ثمن ممكن‪ ،‬بينما يستغبين النساء الثريات‬
‫ن المحدودة•‬ ‫ن وأجوره ّ‬ ‫ن ليثأرن بذلك لحلمه ّ‬ ‫ن ماله ّ‬ ‫ن بشيء‪ ،‬سعيدات بتشليحه ّ‬ ‫نصحَنه ّ‬
‫صص في تقليد‬ ‫ّ‬ ‫متخ‬
‫ُ‬ ‫“كان”‪،‬‬ ‫مهرجان‬ ‫ضيفات‬ ‫ترتاده‬ ‫فاخر‪،‬‬ ‫محل‬ ‫إلى‬ ‫جهتني‬ ‫إحداهـ ّ ّ‬
‫و‬ ‫ن‬
‫مذهل في مصداقية أحجاره‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مطاِبق لضخم تصاميم المجوهرات‪ ،‬فاشتريت خاتم ياقوت ُ‬ ‫ُ‬
‫بـ)‪ (40‬يــــــورو‪ ،‬وأقراطا ً من الفخامة‪ ،‬بحيث تكاد ُتضاهي أقراط اللماس والياقوت التي‬
‫أهدتني إّيـاهــا الغالية أسماء الصديق‪ ،‬باسم عضوات “الملتقـــى” في أبوظبـــي‪) ،‬وتركتها‬
‫وة هذا الصيف إلى أكثر من عرس(•‬ ‫مدع ّ‬‫في بيروت لصديقتي القرب‪ ،‬لكونها َ‬
‫ي بـ”كعب‬ ‫لم أحتج إلى شراء حذاء جديد• فلطول الفستان اكتفيت بانتعال “قبقاب” فض ّ‬
‫ل”•‬ ‫عا ٍ‬
‫مقتنياتي•‬ ‫ن لستثمار ُ‬ ‫س ثا ٍ‬‫ن هذه الدوشة أخذت مني يومين‪ ،‬فإني أحتاج إلى عر ٍ‬ ‫ول ّ‬

‫على مرأى من ضمير العالم‬

‫ك أمام جثمان أبي )نحن نبكي دائما ً في ما بعد(‪ ،‬لكنني بكيت وأنا ُأشاهد ذلك‬ ‫لم أب ِ‬
‫الرهــط الغريب من الرعاع واللصوص وهم يهجمون على متحف بغداد‪ ،‬فيستبيحون ذاكرة‬
‫دا‬
‫مرون كل ما لم تستطع أيديهم نهبه‪ ،‬ويتركونه وقد غــ َ‬ ‫النسانية‪ ،‬ويعيثون فيه خرابًا‪ ،‬ويد ّ‬
‫مغارة مّرت بها الوحوش البشرية‪.‬‬

‫هكــذا‪" ،‬تحت وضح الضمير" العالمي‪ ،‬طــال النهب والتدمير ‪ 170‬ألف قطعة آثار‬
‫ونفائس تاريخية‪ ،‬ل يوجد مثيل لها في أي مكان في العالم‪.‬‬

‫ورة في‬
‫داتها المتط ّ‬ ‫مفاخرة بمع ّ‬ ‫شرنا بالحضارة‪ُ ،‬‬ ‫حدث هذا على مرأى من جيوش جاءت ُتب ّ‬
‫الستطلع‪ ،‬والتقاط "الصور الحرارية"‪ ،‬والرؤية الليلية‪ ،‬لكنها لم تــَر شيئًا‪ ،‬بينما أكبر‬
‫مخازن التاريخ ُتنهب كنوزه في عز النهار‪.‬‬

‫ت أصل ً لحماية التاريخ‪ ،‬ول لصيانة الذاكرة‪ ،‬إنما لعادة صياغتها‪ ،‬بحيث‬‫فهـي لــم تــأ ِ‬
‫ن العالم بدأ بالنسبة إلى‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫عذرها‬
‫ُ‬ ‫لتاريخها‪.‬‬ ‫ومجاملة‬ ‫مراعاة‬
‫ُ‬ ‫انعدامها‪،‬‬ ‫في‬ ‫نتساوى جميعا ً‬
‫ملكا ً‬‫تقويمها‪ ،‬منذ خمسة قرون فقط‪ ،‬يوم نبتت أميركا على قارة كانت حتى ذلك الحين‪ُ ،‬‬
‫للهنود الحمــر‪ .‬ولــذا هي لم تتوقع أن يكون للعراق الصغير الذي استضعفته‪ ،‬وجــاءت‬
‫تلتهمه كهامبرغر‪ ،‬وهي تتجّرع الكول على دبابة الحرّية‪ ،‬تاريخ يفوق تاريخها بخمسة آلف‬
‫سنة‪ .‬بل إنها لم تتوقع أن تجد فيه مؤسسات وجامعات ومتاحف ومكتبات وبيوتا ً جميلة‪،‬‬
‫ُ‬
‫مكابريــن‪،‬‬ ‫وحدائق عامة وطرقات حديثة‪ ،‬وفنادق فخمة‪ ،‬وأناسا ً مثقفين‪ ،‬جميليــن و ُ‬
‫ولين يستجدون من جنودها الماء‬ ‫طاع طرق ومجرمين‪ ،‬ول متس ّ‬ ‫ليســوا جميعهم ق ّ‬
‫والرغيــف‪.‬‬

‫ن كاريكاتورا ً فرنسيًا‪ ،‬أظهره وهو ُيوّبخ مستشاره‬


‫بوش نفسه لم يكن يعرف هذا‪ ،‬حتى إ ّ‬
‫ً‬
‫ن في العراق مدنا وليس صحارى فقط؟"‪.‬‬ ‫قائ ً‬
‫ل‪" :‬لماذا لم تقل لي إ ّ‬

‫فهــل نعجب أل ّ يعرف جنوده عن العراق سوى كونه بلدا ً يملك ثاني احتياطي بترول في‬
‫كز حولها‪،‬‬ ‫دام‪ ،‬إلى تطويق وزارة النفط‪ ،‬والتمر ُ‬ ‫العالم‪ ،‬فُيسارعوا حال سقوط تمثال صـ ّ‬
‫حرصا ً على حماية وثائقها وعقودها من التلف‪ ،‬بينما ُيسلمون بلدا بأكمله للسّراق‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫مروا بمباركة منهم‪ ،‬السفارات الغربية‪ ،‬التي وقفت ضــد غزو العـراق‪،‬‬ ‫واللصوص‪ ،‬لُيد ّ‬
‫ل طمأنينة‪ ،‬بقّية الوزارات والمؤسسات والجامعات‪ ،‬فيحرقوا السجلت والبحاث‬ ‫وينهبوا بك ّ‬
‫والشهادات ووثائق المكتبة والوراق الثبوتية‪ ..‬بــل يطــال نهبهم وتدميرهم حتى‬
‫المستشفيات‪ ،‬وغرف العمليات وسيارات السعاف‪ ،‬في بلد يفترش جرحاه الرض بعد ك ّ‬
‫ل‬
‫وات الغازيــة‪ ،‬إنها شّنت عليه‪ ،‬الحرب ل لغايــة اقتصادية‪،‬‬ ‫قصف أميركي‪ ،‬وتقــول القـ ّ‬
‫بــل "لضرورة أخلقية"‪.‬‬
‫دعه "هولكــو" يوم غــزا بغداد‪ ،‬برغم أن الجرائـم نفسها حدثت يوم دخلها‬ ‫وهــو ما لم ي ّ‬
‫على ظهر بغلته‪ .‬فقد جاء في كتب التاريخ‪ ،‬أّنــه يومها ُنهبت السواق والخانات‪،‬‬
‫ولـت المدارس لتغدو اسطبلت‬ ‫حـ ّ‬
‫دمـت كنائس وجوامــع‪ ،‬و ُ‬ ‫واسُتبيحــت البيوت‪ ،‬وهُ ّ‬
‫ما ُنهب من بيت‬ ‫"لبغال" جيش هولكــو‪ ،‬وُزينت "نعال" الجياد بالياقوت والزمّرد‪ ،‬م ّ‬
‫الخلفة‪ ،‬وصــار الـمـاء في دجلة ُأرجوانيا ً لفرط ما انداح فيه من دم‪ ،‬وما ذاب فيه من‬
‫حبـر المخطوطات‪ ،‬التي ُألقيـت فيه‪.‬‬
‫دام الذي قال‪" :‬الذي يريد أن يأخذ العراق مّنا سيجده أرضا ً بل بشر"‪ ،‬لم يسعفه‬ ‫صــ ّ‬
‫ً‬
‫الوقت للتهام أكثر من مليوني عراقي‪ ،‬فارتأى لمزيد من التنكيل بمن بقي حّيـا من‬
‫ن‬
‫ّ‬ ‫وبأ‬ ‫العـراق‪،‬‬ ‫طـغـاة‪ ،‬مقتنعا ً بأنه هو‬
‫العراقيين أن يتركهم بشرا ً بل وطن‪ .‬فقد كان‪ ،‬ككل ال ّ‬
‫ب إلى‬ ‫التاريخ الذي بــدأ بــه‪ ،‬لبد أن ينتهي معه‪ .‬ولــذا‪ ،‬حسب المثل اللبناني "جــاء بالد ّ‬
‫كرمه"‪ ،‬وسّلمه العراق بل جيش‪ ،‬ول علماء‪ ،‬ول تاريخ‪ ،‬ول مؤسسات‪ ،‬ليعيث فيه فسادًا‪،‬‬
‫در له مّنا أن يحضر هذه الفاجعة‪.‬‬ ‫مـن ُقـ ّ‬
‫ويدوس عناقيده على مرأى م ّ‬
‫مأساتنا الن تختصرها تلك العبارة التي ينهي بها منصور الرحباني مسرحيته "ملـوك‬
‫ك راح بيجي ملك غيره‪ ..‬وإذا الوطن راح ما في وطن غيره"‪.‬‬ ‫مل ِ ٌ‬ ‫الطوائـف"‪ .‬قائ ً‬
‫ل‪" :‬إذا َ‬

‫على مشجب انتظارك‬


‫حين تغضب‬
‫تعلق ضحكتك على المشجب‬
‫تترك للهاتف مكر صمتك‪..‬‬
‫وتنسحب‬
‫وتغتالني في غيبتك أسئلتي‬
‫أبحث في جيوب معطفك‬
‫عن مفاتيح لوعتي‬
‫ي؟‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫أتفكر‬ ‫أود أن أعرف‪..‬‬
‫أيحدث ولو لغفوة‬
‫أن تلمسني أحلمك قبل النوم؟‬
‫أن تبكيني ليل وسادتك؟‬
‫***‬
‫حين‪ ..‬أمام حماقاتي الصغيرة‬
‫تفقد كلماتك أناقتها‬
‫ويخلع وجهك ضحكته‬
‫ل أدري عن أي ذنب أعتذر‬

‫وكيف في جمل قصيرة‬


‫أرتب حقائب الكذب‬
‫أمام رجل ل يتعب‬
‫من شمشمة الكلمات‬
‫***‬
‫‪..‬على صحوة غيرتك تأتي‬
‫بثقة غجري اعتاد سرقة‬
‫الخيول‬
‫أراك تسرق فرحتي‬
‫تطفىء أعقاب سجائرك‬
‫على جسد المنيات‬
‫تحرق خلفك كل الحقول‬
‫وتمضي‬
‫تاركا ً بيننا جثة الصمت‬
‫***‬
‫حين يستجوبني حبك‬
‫على كرسي الشكوك‬
‫عنوة يطالبني بالمثول‬
‫يأخذ مني اعترافا ً بجرائم لم‬
‫أرتكبها‬
‫كمحقق ل يثق في ما أقول‪. .‬‬
‫يفتش في حقيبة قلبي عن رجل‬
‫يقلب دفاتر هواتفي‪. .‬‬
‫جمل‬ ‫يتجسس على صمتي بين ال ُ‬
‫ماذا أفعل؟‬
‫أنا التي أعرف تاريخ إرهابك العاطفي‬
‫أأهرب؟‬
‫أم أنتظر؟‬
‫***‬
‫أنت الذي بمنتهى الجرام‪..‬‬
‫منتهى الدب‬
‫تغير أرقام قلبك‬
‫إثر انقطاع هاتفي‬
‫كما تغير الزواحف جلودها‬
‫كما تغير امرأة جواربها‬
‫عسى تجن امرأة بك‪ ..‬أو تنتحر‬
‫***‬
‫منذ الزل‬
‫تموت النساء عند باب قلبك‬
‫في ظروف غامضة‬
‫فبجثثهن تختبر فحولتك‬
‫وبها تسدد أحزانك الباهظة‬

‫عواطف "ثور‪ّ..‬يــة" لمحّبي البقر‬

‫ن تلك البقرة‪ ،‬التي بدت عليها أعراض الجنون‪ ،‬وقد تتسّبب للقتصاد الميركي‪ ،‬في‬ ‫لكأ ّ‬
‫دام إلى بوش في أعياد الميلد‪ .‬وربما‬ ‫ّ‬ ‫ص‬ ‫ية‬
‫ّ‬ ‫هد‬ ‫كانت‬ ‫دولر‪،‬‬ ‫مليار‬ ‫الربعين‬ ‫تفوق‬ ‫خسارة‬
‫منخرطة في جيش “فدائّيي‬ ‫تكشف تحقيقات وكالة الستخبارات الميركية مستقب ً‬
‫ل‪ ،‬أّنها ُ‬
‫دام”‪ ،‬وكانت تنتظر الوقت المناسب لُتباشر مهمتها التاريخية‪ ،‬في إلحاق أكبر الخسائر‬ ‫ص ّ‬
‫بـ”معسكر الشّر”‪ ،‬انتقاما للقائد الراعي‪ ،‬الذي كان “يسوق القطيع إلى المراعي”‪ ،‬حين‬ ‫ً‬
‫ساقه جنونه إلى تلك الحفرة‪ .‬ونظرا ً إلى كون الرجل من برج الثور‪ ،‬أتوّقع أن يأتي من‬
‫دام‪ ..‬أو جّنت بسببه‪ .‬فلول جنون‬ ‫من يقول إن البقرة جّنت بص ّ‬ ‫البيطرّيين الميركيين‪َ ،‬‬
‫البشر‪ ،‬ما كان لجنون البقر أن يوجد‪ ،‬بعد أن أراد البعض معاكسة الطبيعة‪ ،‬وإجبار‬
‫المواشي على أكل اللحوم‪ ،‬تماشيا ً مع نزعاته الفتراسّية‪.‬‬
‫مزارعا ً من جنوب أفريقيا‬ ‫ن ُ‬ ‫ب الرجل‪ .‬وقد قرأت مّرة أ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫وليس عجبًا‪ ،‬أن تقع البقرة في ُ‬
‫عانى الغيرة الشديدة‪ ،‬التي تتمّلك إحدى بقرات مزرعته‪ ،‬ما كاد يؤدي إلى انهيار حياته‬
‫الزوجّية‪ ،‬بسبب إعجاب البقرة به منذ أعوام‪ ،‬وتتّبعها له كظّله أينما ذهب‪ .‬وعندما تزّوج‬
‫مصّرة على إعجابها وتعّلقها به‪ ،‬وكانت تستشيط غيظا‪ً،‬‬ ‫المسكين قبل عامين‪ ،‬ظّلت البقرة ُ‬
‫كّلما رأته ُيداعب زوجته أو يمسك بيدها‪ .‬وقد حاولت البقرة مرارا ً قتل الزوجة‪ ،‬بأن‬
‫تطاردها وتحاول نطحها‪ ،‬لتوقعها في بئر المزرعة‪ .‬ومنذ سنتين والرجل حائر بين بقرته‬
‫لولى‪ ،‬ول على تطليق الثانية‪ ،‬ولسان حاله مع البقرة‬ ‫وزوجته‪ ،‬ل يطاوعه قلبه على بيع ا ُ‬
‫المخدوعة “أخونك آه‪ ..‬أبيعك ل”‪.‬‬
‫ب ثور‪ .‬ففي الجنون “ما‬ ‫ُ ّ‬ ‫ح‬ ‫في‬ ‫ملكة‬ ‫وقوع‬ ‫من‬ ‫أعجب‬ ‫ووقوع بقرة في حب رجل‪ ،‬ليس‬
‫ن من مرا”‪ ،‬كما جاء في “فن الهوى” لـ”أوفيد”‪،‬‬ ‫د‪ ..‬ول بقرة أج ّ‬ ‫فيش حد ّ أحسن من ح ّ‬
‫ب ثور‪ ،‬وراحت المسكينة‬ ‫ح‬ ‫في‬ ‫وقعت‬ ‫التي‬ ‫“باسيفاي”‪،‬‬ ‫الملكة‬ ‫أسطورة‬ ‫الذي يحكي لنا ُ‬
‫ُ ّ‬
‫ل زينتها وهو غير آبه لها‪ ،‬مشغول عنها بمعاشرة البقرات‪،‬‬ ‫ل يوم‪ ،‬وتأتيه في ك ّ‬ ‫مل له ك ّ‬ ‫تتج ّ‬
‫حتى تمّنت لو نبت لها قرنان فوق جبينها‪ ،‬عساها تلفت انتباهه‪.‬‬
‫ن “باسيفاي”‪ ،‬كانت أّول كائن ُأصيب بجنون البقر‪ .‬فما لبثت أن هجرت قصرها إلى‬ ‫ويبدو أ ّ‬
‫ب‬‫ٍ‬ ‫حلو‬ ‫بقرة‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ك‬ ‫في‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫مشتبه‬ ‫ُ‬ ‫عيناها‪،‬‬ ‫عليها‬ ‫تقع‬ ‫بقرة‪،‬‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫ك‬ ‫في‬ ‫تحملق‬‫ُ‬ ‫ل‬ ‫والوديان‪،‬‬ ‫الغابات‬
‫لعوب‪ ،‬تتمّرغ على العشب الناعم‪ ،‬تحت بصر حبيبها الثور‪ ،‬عساها تسرق لّبه‪ .‬وذهبت‬
‫الغيرة بالملكة حد ّ الفتك بغريماتها‪ ،‬بإرسالها إلى الحقول لنهاكها بجّر المحراث‪ ،‬أو إلى‬
‫المذبح بذريعة نحرها قربانا ً لللهة‪.‬‬
‫لـــذا‪ ،‬أنصح النساء بأن يأخذن‪ ،‬بعد الن‪ ،‬مأخذ الجد وجود البقرة كغريمة للمرأة‪ ،‬ومنافسة‬
‫مال وإعلن “جائزة أفضل‬ ‫ج َ‬ ‫ُيحسب لها ألف حساب‪ ،‬خاصة مذ نزلت البقار إلى ساحة ال َ‬
‫دة التجميل‬ ‫ّ‬ ‫ع‬ ‫بكل‬ ‫المتسابقة‪،‬‬ ‫تسريحة شعر للبقر” في ألمانيا‪ ،‬واستعانة أصحاب البقار‬
‫النسائي‪ ،‬من سيشوارات وبودرة وجلتين ومثبتات شعر‪ .‬وإن كنت ل أذكر اسم البقرة‬
‫الفائزة‪ ،‬فأتوّقع أن تكون بقرة رأسمالية “شبعانة” كسول ً ومغناجًا‪ ،‬ل تشبه في شيء‬
‫طاحة”‪ ،‬التي وصفها لنا أحمد فؤاد نجم‪ ،‬في إحدى قصائده الشهيرة‪ ،‬بعد‬ ‫“بقرة حاحا الن ّ‬
‫حرب ‪ 67‬وُأودع بسببها السجن‪.‬‬
‫والمر على ما هو عليه من العجب‪ ،‬ل أرى سببا ً بعد الن لغضب امرأة‪ ،‬يناديها زوجها “يا‬
‫بقرة”‪ .‬خاصة بعدما كشف لنا رجال الفضاء الوجه البشع للقمر‪ ،‬وبعد إعلن النجم راسل‬
‫ت أكبر مع البقار في مزرعته‪.‬‬ ‫كرو‪ ،‬أنه انفصل عن صديقته الفاتنة‪ ،‬ليستطيع تمضية وق ٍ‬
‫صل مع البقار‪،‬‬ ‫وفي هذا السياق‪ ،‬يبدو اعتراف الرئيس بوش‪ ،‬في بداية حكمه‪ ،‬بالتوا ُ‬
‫معاشرة المتدّربات في البيت اليض‪،‬‬ ‫ضل على ُ‬‫اعترافا ً يشهد بأخلقيات الرجل‪ ،‬الذي يف ّ‬
‫عشرة البقار‪ .‬وعندما ل يكون رئيس الوليات المتحدة مع زوجته‪ ،‬أو مع والدته بربارا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫يكون مأخوذا ً بالستماع إلى كوندليزا رايس‪ ،‬أو إلى البقار‪ .‬فقد قال في تصريح‪ ،‬مازلت‬
‫مستمع جّيد”‪.‬‬ ‫أحتفظ به‪“ :‬أتطّلع إلى مشاهدة البقار‪ ،‬التي تتحدث معي‪ ،‬لنني ُ‬

‫ماذا لو كان بين البقار المتحدثة لبوش‪ ،‬تلك البقرة المجنونة؟‬

‫عيونهم‪ ..‬التي ترانا‬


‫لسرى الفلسطينيين البطال‪ ،‬الذين أعلنوا منذ أيام الضراب‬ ‫ل كتابة عن معاناة ا َ‬ ‫ك ّ‬
‫المفتوح عن الطعام في السجون السرائيلية‪ ،‬تحتاج لكي تأخذ مصداقّية فاجعتها‪ ،‬إلى أن‬
‫خبرا الجوع الختياري الطويل‪ ،‬وقّررا من أجل مبدأ‪ ،‬ل‬ ‫يكون كاتب المقال‪ ،‬كما قارئه‪ ،‬قد َ‬
‫ي‪ ،‬ل ُيقاس بمقياس الزمن العادي• زمن يتمّرد‬ ‫سب‪ ،‬الدخول في زمن قهر ّ‬ ‫مك َ‬ ‫من أجل َ‬ ‫َ‬
‫كم في تقسيم يومه حسب الوجبات الثلث‪،‬‬ ‫على الساعة البيولوجّية للنسان‪ ،‬التي تتح ّ‬
‫ن الكرامة ثمنها‬ ‫ن الواجب أهم من الوجبة‪ ،‬وبأ ّ‬ ‫وإقناع هذا الجسد الذي ل منطق له‪ ،‬بأ ّ‬
‫المجاعة‪ ،‬والدخول في غيبوبة الزمن الطويل المفتوح على الوهن‪ ،‬وعلى المراض‬
‫المزمنة•• وعلى احتمال الموت جوعا ً وظمًأ•‬
‫لم أختبر هذا الجوع النبيل الجميــل‪ ،‬الذي يرد ّ به السير العزل‪ ،‬إل ّ من جسده‪ ،‬بتجويع هذا‬
‫ن الحياة وضعتني أمام‬ ‫ت سأقدر عليه‪ ،‬لو أ ّ‬ ‫ن كن ُ‬ ‫منعا ً لذلله وتركيعه• ول أدري إ ْ‬ ‫الجسد َ‬
‫اختباره•‬
‫ّ‬
‫ن الكتابة عن محنة هؤلء البطال‪ ،‬في مواجهة معركة الجوع‪ ،‬تتطلب من‬ ‫لكنني أعتقد أ ّ‬
‫ل•‬‫مدّلل شيئا ً من الحيـــاء‪ ،‬وبعض الخجل أمام النفس أوّ ً‬ ‫الكاتب ال ْ ُ‬
‫َ‬
‫م إليه السرى الطفال‪ ،‬والسرى‬ ‫َ‬
‫قال عن إضراب جـــوع‪ ،‬انض ّ‬ ‫م َ‬
‫فليس في إمكانك كتابة َ‬
‫المرضى‪ ،‬بامتناعهم عن تناول الدواء‪ ،‬وذهب المئات‪ ،‬في عّز الصيف‪ ،‬حد ّ التهديد بالمتناع‬
‫دهم•‬‫نض ّ‬ ‫عن شرب الماء‪ ،‬رد ّا ً على الحرب النفسية التي ت ُ َ‬
‫شـ ّ‬
‫وك من طاولة الغداء العامرة بما يحلم به أطفال‬ ‫م لت ّ‬
‫ل يمكن الكتابة عن هؤلء‪ ،‬وأنت قائ ٌ‬
‫لدهم الذي يشوي اللحم في‬ ‫ل‪ ،‬ما الفرق إذن بينك وبين ج ّ‬ ‫جياع في عمر أولدك• وإ ّ‬
‫مقاِبلة لزنزاناتهم‪ ،‬حتى تترك رائحة اللحوم المشوية آثارها النفسية والمعنوية‬ ‫الساحات ال ْ ُ‬
‫مضربين‪ ،‬وتزيد من ألـم جوعهم؟‬ ‫في ال ْ ُ‬
‫هنة ضــاق بها‬ ‫ك‪ ،‬حيث هم في زنزاناتهم‪ ،‬بأجساد وَ ِ‬ ‫َ‬
‫ن كنت ل ترى السرى‪ ،‬فعيونهم ترا َ‬ ‫إ ْ‬
‫وان العربي‪ ،‬وأنهكها الدفاع عن كرامتك•‬ ‫الهَ َ‬
‫ن لم تكن جاهزا ً لمواساتهم بالجوع‪ ،‬ولو يوما ً واحدًا‪ ،‬ول بالمتناع عن التهام كــوب‬ ‫ْ‬ ‫إ‬ ‫لــــذا‪،‬‬
‫البوظــة‪ ،‬أو لوح الشوكولتة التي تعشقها‪ ،‬فل تكتب عنهم•‬
‫أنت لن تبّرئ ذمتك بمساندة ذوي البطون الخاوية•• بفائض الكلم‪ ،‬ولن ُتوفي دينك‬
‫تجاههم بتمجيد الجوع‪ ،‬والتغني ببطولة رجال‪ ،‬ثملت بدمائهم الرض العربية•‬
‫ن في تلك الزنزانات أهل ً لي‪ُ ،‬أناسا ً أحّبهم‬ ‫جلت كتابة هذا المقال عن نزاهة أدبية‪ ،‬ل ّ‬ ‫أ ّ‬
‫ويحبونني حد ّ الحراج العاطفي• مازال صوت بعضهم عالقا ً في ُأذني• كصوت السير‬
‫محمود الصفدي‪ ،‬الذي طلبني‪ ،‬من سجن عسقلن‪ ،‬قبل سفري إلى عطلتي الصيفية بيوم‪،‬‬
‫طالبا ً مني أن أرسل إليه إحدى رواياتي موّقعة‪ ،‬مع أحد المسافرين إلى الردن‪ ،‬الذي‬
‫من سيتكفل بإيصالها إلى فلسطين‪ ،‬حيث ستتكفل خطيبته عطاف بتسليمه إّياها‬ ‫سُيسّلمها َ‬
‫عند زيارته•‬
‫ل أدري ما أخبار محمود‪ ،‬ول رفاقه الذين دأب على تبليغي سلمهم‪ ،‬وهل مازال في‬
‫عيونهم نظر يقوى على القراءة• ل أستطيع من أجلهم شيئا ً عدا إحساسي بالذنب‪ ،‬وهذا‬
‫أضعف اليمان• ويشهد الّله أنني ما جلست إلى طاولة الكل إل ّ ووقفت عيونهم بيني وبين‬
‫فمي‪ ،‬وما اشتهيت شيئا ً طّيبا ً في هذا الصيف‪ ،‬إل ّ واستحيت من اشتهائي له•‬
‫لــذا‪ ،‬كانت فرحتي كبيرة عندما هاتفتني‪ ،‬وأنا في جنوب فرنسا‪ ،‬صديقتي الغالية لطيفة‪،‬‬
‫مبدعين العرب الصيام‬ ‫ي النضمام إلى مبادرتها الشخصية إلى إعلن الفنانين وال ْ ُ‬ ‫لتعرض عل ّ‬
‫َ‬
‫يومًا‪ ،‬ولو واحدا‪ ،‬تضامنا مع السرى الفلسطينيين•‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫مــة‪ ،‬أسراهــا أحــرار•• ونساؤها رجـــال•‬ ‫بأ ّ‬ ‫شكرا ً لطيفة‪ ،‬أهديِتني ذريعة جميلة ل ُ‬
‫حـ ّ‬
‫ل خّله‪..‬‬ ‫فإذا أنكر خ ّ‬

‫ضحكــــت لقول المسؤولة السابقة عن العلقات العامة في حزب المحافظين في‬


‫وال‪،‬‬
‫بريطانيا‪ ،‬في إحدى المقابلت‪" ،‬عندما ُيمطرك رجل برسائله المكتوبة على الج ّ‬
‫فاعلمي أّنه يرسل رسائله من المرحاض في بيته‪ ،‬حيث ل تسمع زوجته ما هو فاعل‪..‬‬
‫وال هي القلعة الحصينة للخيانات الزوجية!"‪.‬‬
‫رسائل الج ّ‬

‫ن الزوجات‬‫أسعدنـي أن أعرف أن جميع النساء‪ ،‬على اختلف جنسياتهن‪ ،‬سواٌء أكـ ّ‬


‫جبن الرجال‪ ،‬واستعدادهم للغش‬ ‫ن مدى ُ‬ ‫المخدوعات‪ ،‬أم العاشقات الخادعات‪َ ،‬يعيـ َ‬
‫ن النساء‪ ،‬جاهلين أّنه ل أكثر ازدراًء في عين‬‫كيهم بسذاجتنا نح ُ‬ ‫العاطفي‪ ،‬واثقين لفرط تذا ِ‬
‫ول عليه ساعة المواجهة‪،‬‬ ‫يع‬
‫ُ َ‬ ‫أن‬ ‫يمكن‬ ‫ول‬ ‫زوجته‪،‬‬ ‫يخــاف‬ ‫جبان‬ ‫امرأة عاشقة‪ ،‬من حبيب‬
‫ولت الزوجة المخدوعة إلى رجل تحّر‪ ،‬وأفحمته على طريقة "كولمبــو"‪،‬‬ ‫في حالة ما تح ّ‬
‫بدلئل الجريمة‪ ،‬واسم المرأة التي يرسل إليها من المرحاض‪ ..‬رسائله الملتهبة!‬

‫مقولة التي تقــــول‪" :‬بعد أن اخترعنا الزواج‪،‬‬ ‫في إمكاني في هذا السياق‪ ،‬أن أقلب تلك ال ْ َ‬
‫ً‬
‫أصبح هنالك نوعان من الناس‪ُ :‬تعســـاء‪ ،‬وُتعســاء جـــدا"‪ ,‬ففي الواقع‪ ،‬أنتجت المؤسسة‬
‫قــا ً هذه اليام‪ ،‬وجود هذا‬
‫جبناء‪ ،‬والجبناء جــدا ً والعجيب ح ّ‬ ‫الزوجية نوعين من الناس‪ :‬ال ْ ُ‬
‫النوع الخيــر من الجبناء وسط الرجال تحديدًا‪ ،‬بينما تزداد النساء شجاعة وجرأة‪ ،‬وأحيانا ً‬
‫ن جاهزات غالبا ً لو اقتضى المر للدفاع عن حّبهن‪ ،‬وأحيانا ً عن "صيده ّ‬
‫ن"‪،‬‬ ‫وقاحــــة فهـ ّ‬
‫ق‬ ‫ّ‬
‫والدخول في حرب لنقاذ مكاسبهن العاطفية‪ ،‬مــذ شـرع "الحاج متولـي" للفتيات حـ ّ‬
‫اختطاف الزواج من ُأمهات أولدهم وقد روت لي صديقة جزائرية منذ سنة‪ ،‬كيف أنها‬
‫دت عليها‬
‫حاولت إنقاذ زوجها‪ ،‬بمواجهة الفتاة التي كان على علقة بها‪ ،‬لكن الفتاة ر ّ‬
‫ُ‬
‫مستكثرة عليها النفراد بـ"وليمة" رجـل ثري‬ ‫بوقاحة "كلي ودعي الخريات يأكلن أيضًا!"‪ُ ،‬‬
‫وشهواني‪ ،‬في بلد تعاني فيها ثلثة مليين فتاة من العنوسة!‬

‫ضل الرجل دائما ً التوفيق بين حياته الزوجية العلنية‪ ،‬وحياته السرية‬ ‫في المقابــل‪ُ ،‬يف ّ‬
‫حولته‪ ،‬فُيبدع في أداء دور‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫على‬ ‫والطمئنان‬ ‫وقه‪،‬‬ ‫بتف‬ ‫للشعور‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫مع‬ ‫إليهما‬ ‫لخرى‪ ،‬لنه يحتاج‬ ‫ا ُ‬
‫ّ‬
‫الزوج الصالح‪ ،‬تسّترا ً على تماديه خارج بيت الزوجية‪ ،‬في تمثيل أدوار العاشق ال ْ ُ‬
‫ملتـــاع‬
‫ول إلى فـــــأر مذعـــور‪ ،‬ساعة المواجهة مع زوجته‪ ،‬فيتن ّ‬
‫كر‬ ‫غير أنه كثيرا ً ما يجُبن ويتح ّ‬
‫ن ل نلومه على‬ ‫للمرأة التي أحّبها‪ ،‬ويتخّلى عنها حفاظا على مكاسبه الجتماعية ونح ُ‬
‫ً‬
‫ب‪ ،‬بـــل نلومه على ِنفاقه وكذبه وتغريره بعشيقته‪ ،‬ومطاردتها‬ ‫لسـرة بــدل الحـ ّ‬ ‫انحيازه ل ُ‬
‫هاتفيًا‪ ،‬ليل نهار‪ ،‬ثم التخّلي عنها عند أول امتحان‪.‬‬
‫صديقـة هاتفتني في الصيف من مطار "نيس" صارخـــة‪" :‬رأيتها‪ ..‬رأيتها"‪ ،‬على طريقة‬
‫أرخميدس‪ ،‬يوم عثر على اكتشافه الشهير‪ ،‬وهو في مغطس حمامه‪ ،‬فراح يصرخ‬
‫"وجدتها‪ ..‬وجدتها" وكانت قد أخبرتني قبل ذلك‪ ،‬أنها‪ ،‬بعد أربع سنوات قضتها‪ ،‬بفضول‬
‫دعي أنه‬
‫نسائي‪ ،‬في مطالبة الرجل الذي تحبه بإطلعها على صورة زوجته‪ ،‬التي كان ي ّ‬
‫سيتخّلى عنها ليتزوجها هي‪ ،‬برغم مفاخرته أحيانا ً بها لغاظتها‪ ،‬قّررت بعد أن علمت‬
‫بسفره إلى الجزائر مع عائلته لقضاء العطلة‪ ،‬أن تحجز لها مكانا ً في الرحلة نفسها على‬
‫دعية بقاءها في فرنسا وكاد‬ ‫لولى‪ ،‬التي يسافر دائما ً عليها‪ ،‬وأخفت عليه المر م ّ‬ ‫الدرجة ا ُ‬
‫ُيغمى على الرجل‪ ،‬وهو يراها تمر أمامه في هيئة ج ّ‬
‫ذابة‪ ،‬وأناقة اختارتها بمكر نسائي‪،‬‬
‫مـل من بعيد خلف نظارتها‪ ،‬ارتباكه‪ ،‬وهو يقوم‬ ‫وراحــت دون أن تسعى إلى فضحه‪ ،‬تتأ ّ‬
‫متسّلطة تكبره سنًا‪ ،‬وترتدي ثيابا ً أصغر من عمرها ولكي‬ ‫بإجراءات السفر بجــوار زوجة ُ‬
‫تنتقم لكرامتها‪ ،‬وهي تراه يتمادى برعــب في تجاهلها‪ ،‬جلست في الطائرة خلفه‬
‫بمقعدين‪ ،‬وراحت تتجاذب أطراف الحديث مع رجـل وسيم كان يجلس بجوارها‪ ،‬ما جعله‬
‫صص على هذا الغريم‪ ،‬الذي يغازل في حضرته‬ ‫مام‪ ،‬كي يتل ّ‬‫دد على الح ّ‬ ‫من غيرتـه يتر ّ‬
‫حبيبته‪ ،‬وهو عاجز عن الدفاع عن حّبها أمام زوجته وأولده‪.‬‬
‫ربما كان لسان حال صديقتي آنذاك قول الشاعر‪:‬‬
‫تمّر بي كأنني لم أكن‬
‫ثغرك أو صدرك أو معصمك‬
‫لو متّر سيف بيننا لم نكن‬
‫نعلم هل أجرى دمي أم دمك‬
‫ولنه كان ل ُيتقن العربية‪ ،‬لكونه بربريًا‪ ،‬ول يفهم شيئا ً في أغاني ُأم كلثــوم‪ ،‬ما كان في‬
‫إمكانه أن ُيدافــع عن نفسه بذلك المقطع الجميل‪:‬‬
‫ل خل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫فإذا أنكر خ ّ‬
‫وتلقينا لقاء الُغرباء‬
‫ل إلى غايته‬ ‫ومضى ك ّ‬
‫ّ‬
‫ن الحظ شاء‬ ‫ل شئنا‪ ..‬فإ ّ‬ ‫ل تق ْ‬
‫جم بعضكم على تلك المرأة‪ ،‬وُيشفق آخرون على ذلك الرجل‪ ..‬أما أنا‪ ،‬فاسمحوا لي‬ ‫قد يته ّ‬
‫بأن ألعنه‪ ..‬ليذهب إلى الجحيم!‬

‫ف ّ‬
‫كــر‪ ..‬واربــح‬
‫َتعّثــر نظــري منذ شهور بخبر ورد في الصفحات القتصادية‪ ،‬وآلمنـي إلى حد ّ احتفاظي‬
‫جْلــد النفس بالعودة له لحقـــًا•‬ ‫بقصاصته لمزيد من َ‬
‫ن سلطة التحاُلــف سمحت لوزارة التجارة العراقية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بأ‬ ‫العراقيين‪،‬‬ ‫شــر‬ ‫كـان الخبر ُيب ّ‬
‫ودة الدليل المت َّبع في عملية تصدير الخــردة من الحديد والفولذ )أي من‬ ‫بإصدار مس ّ‬
‫م تدميرها(‪ ،‬ما ُيساعد على خلق فرص عمل للعراقيين‪ ،‬لكون معظم‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫التي‬ ‫السلحة‬
‫مهيأة لستخدام هذه المادة‪،‬‬ ‫مصانع الحديد والفولذ والسلح العراقي‪ ،‬غير صالحة وغير ُ‬
‫بسبب عمليات التخريب والسرقة التي طالتها جّراء الحرب•‬
‫ف إليهم كُبشـرى‪ ،‬والخسائر‬ ‫كــد هذا الزمان على العــرب‪ ،‬أن أصبحت الفواجع ُتــز ّ‬ ‫من ن َ َ‬
‫كــب‪ ،‬الذي ينفرد به المواطن العربي من‬ ‫وروا هذا الفــرح المر ّ‬ ‫كضرب من المكاسب• تص ّ‬
‫مــره على‬ ‫ً‬
‫دون سواه• فهو يفرح يوم يشتري سلحا على حساب لقمته‪ ،‬ويفرح يوم ُيد ّ‬
‫مـن بثمنه رغيفــا ً‬ ‫حساب كرامته‪ ،‬ويفرح عندما يبيعه بعد ذلك في سوق الخردة‪ ،‬فيؤ ّ‬
‫وحليبــا ً وخضــارا ً لهـل بيتــه•‬
‫ت الصورة المرفقة به• كان عليها فتيان‬ ‫مل ُ‬‫ت على قصاصة ذلك الخبر‪ ،‬وتأ ّ‬ ‫البارحـــة‪ ،‬عثـر ُ‬
‫ســرق مستقبلهم‪ ،‬مقابل زهــو‬ ‫هج الشباب‪ ،‬ن ُهَِبــت منهم فرحتهم‪ ،‬و ُ‬ ‫مَبا ِ‬
‫بؤساء‪ ،‬لم يعرفوا َ‬
‫الطاغّية بامتلك أكثر ترسانة حربية•‬
‫مرة‪ ،‬في‬ ‫ّ‬ ‫المد‬ ‫وأجزائها‬ ‫صواريخ‪،‬‬ ‫رؤوس‬ ‫تكديس‬ ‫في‬ ‫منهمكون‬ ‫وها هم‪ ،‬بوجوه ل عمر لها‪،‬‬
‫ّ‬
‫أكوام من خردة الحديد‪ ،‬في ساحة•• الفلوجــــة•‬
‫مجـّرد اسم لمدينة عراقية‪ ،‬قبل أن‬ ‫ُ‬ ‫لوجــة‬ ‫ت هذا الخبـر‪ ،‬كانت الف ّ‬ ‫منذ شهور‪ ،‬عندما قرأ ُ‬
‫خَراب”‬ ‫ُتصبح عنوان إقامتنا التلفزيونية‪ ،‬وعنفوان مقاومتنا العربية‪ ،‬وتغدو “الرض ال َ‬
‫ب إليها‪،‬‬‫وة في العاَلــم• فإذا بنا ُننس ُ‬ ‫الصامــدة‪ ،‬في زمــن ذّلـنــا أمام جيش أكبـر قــ ّ‬
‫ونخاف عليها‪ ،‬ونفتح في قلوبنا مقابر فرعّية لموتى ضاقــت بهم بيوتها•‬
‫مجــّرد خــردة‪ ،‬ينفــرد بتقرير‬ ‫ورا ً وتكلفة‪ ،‬سـوى ُ‬ ‫في وطــن ليست فيه السلحة الكثر تط ّ‬
‫دد‬
‫مصيرها شخص واحــــد‪ ،‬يلهــو بأمــوال مليين الناس كما يلهــو بأقدارهم‪ ،‬ول يتر ّ‬
‫لحظة الخيارات التدميرية‪ ،‬في تدمير ترسانة حربية لنقاذ رأســه‪ ،‬كيف ل يصبح النسان‬
‫نفسه‪ ،‬حّيــا ً أو مّيتــًا‪ ،‬خـردة بشريــة‪ ،‬ينتظر أن تنظـر سلطة التحالف في َقــد َِره‪ ،‬وُتصـدر‬
‫جــار الموت إلى فتح دكاكين لبيــع دمـــه ودمعــه وأشلئــه إلى الفضائيات‪،‬‬ ‫دليل ً يرشد ت ّ‬
‫مــن ل َيعتِبـر•• من “معسكــر الشــــّر”؟‬ ‫عبــرة ِلـ َ‬
‫ِ‬
‫دم لنا الحرب على العراق‪ ،‬كضرورة‬ ‫ُ ّ‬‫تق‬ ‫التي‬ ‫الميركية‪،‬‬ ‫النكتــة‬ ‫منكم‬ ‫دق‬‫ّ‬ ‫صــ‬ ‫ن‬ ‫مــ‬
‫َ ْ‬
‫مــل ملّيــا ً أيــن ذهبت أموالنا‪،‬‬ ‫أخلقيــة‪ ،‬ل اقتصادية‪ ،‬لُيحضر علبة مناديل للبكـــاء‪ ،‬وليتأ ّ‬
‫مــرت بأيدينا “صواريــخ الصمــود” في “مصانــع الكرامـــة” )وهذه‬ ‫وليسأل‪ :‬كيف د ُ ّ‬
‫ن المتريّ في سوق‬ ‫التسمية العنترية مع السف حقيقية(‪ ،‬لُتباع بعد ذلك عّزتنا بالط ّ‬
‫الخــــردة؟‬
‫أسألكــم‪ :‬برّبكـــم‪ ،‬لـمـــاذا يتداَفــع العــرب ويتسابقـون لشراء أسلحة‪ ،‬وهم يدرون‬
‫مسبقا ً أّنهم لن يستعملوها؟‬ ‫ُ‬
‫أظننا جميعــا ً نعـرف الجــواب‪ ،‬وسنربـح في أيّ مسابقة تلفزيونية‪ُ ،‬يطــرح فيها سؤال‬
‫ســلح؟”• وإذا أضفنــا إلى السبب المعروف‪،‬‬ ‫مـن نـــوع‪“ :‬لـمـــاذا يشتــري العــرب ال ّ‬
‫ّ‬
‫سبب إخافــة الشعـوب بالستعراضات العسكرية‪ ،‬يصبح السؤال‪ :‬كم ُتكلفنا هذه السيوف‬
‫التي ل ُتغادر أغمادهــا‪ ،‬وهذه السلحة التي ل ُتفارق مستودعاتها‪ ،‬من مصاريـف صيانــة‪،‬‬
‫وتكاليف “إقامــــة” لخبرائها؟‬
‫سؤال واحــد سنفشل جميعنا في الجواب عنه‪:‬‬
‫“مـــاذا فعََلــت الدول العربية بالسلحة‪ ،‬التي اشترتها على مدى خمسين عـامــــًا؟‬
‫حظــا ً سعيــدا ً للباحثيـن عــن الجــــواب•‬

‫في بلد البدانة‬

‫م‬
‫ف عن ش ّ‬ ‫في مساء الفضول الّول تقع في كمين المقارنة‪ .‬للشوق رائحة‪ ،‬وعليك أن تك ّ‬
‫المدن‪ .‬أميركا ل تشبهك ول تشبه بلدا ً أحببتها‪ .‬إنها بلد شاسعة‪ ،‬ل رائحة لها ول ع ََبق‪ .‬وفي‬
‫ن فاكهة واحدة على طاولتك‬ ‫ن ل طعم لها أيضًا‪ ،‬وأ ّ‬
‫ما بعد ستكتشف وأنت تتذّوق فاكهتها‪ ،‬أ ّ‬
‫م سلقها‪ .‬في‬ ‫مذاق‪ ،‬وكأنه ت ّ‬ ‫ْ‬
‫في إمكانها أن ُتغنيك عن كل الفواكه‪ ..‬لّنها جميعها متشابهة ال َ‬
‫ت أرصد حالة عشقّية لبلد اختلف الناس في حّبها وكراهيتها‪ ،‬وما زارها أحد إل‬ ‫الواقع‪ ،‬مازل ُ‬
‫وعاد عاشقا ً أو كارها لها‪ ،‬بالتطّرف نفسه‪ .‬العجيب أن أميركا لم ُتثر فضولي يوما‪ .‬فطالما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ت أنني أعرف عن أفلمها ومسلسلتها ما يكفي‪ .‬وما شاهدته لم يكن يغريني‬ ‫اعتقد ُ‬
‫بزيارتها‪ .‬فقد كان لي في باريس وجنوب فرنسا من الحياة الحضارية الجميلة الهادئة‪ ،‬ما‬
‫ُيغنيني عن حضارة عنفها‪ .‬أميركا تخيفني‪ .‬وما يخيفني أكثر‪ ،‬احتمال أن تسرق مّني يوما ً‬
‫أحد أولدي المولعين بها‪ ،‬لقتناعهم بروعتها‪ ،‬قناعتهم بروعة بضاعتها ومأكولتها وأغانيها‬
‫وبناتها‪ ،‬الجميلت حتمًا‪ ،‬كما في مسلسل )‪ ،(Bay Watch‬الخارجات من البحر كالحوريات‬
‫ل ُأنوثتهن الصارخة‪ .‬يا للحماقــة‪ ..‬هم ل يدرون أن في أميركا أعلى نسبة بدينين في‬ ‫بك ّ‬
‫العالم‪ ،‬وأكبر عدد من أصحاب الوزن الخرافي الثقيل‪ ،‬الذين ل يسعهم ثوب ول ُيجلسهم‬
‫خلهم باب‪ .‬فأميركا التي تستهلك بمفردها ثلث ما يستهلكه العالم من المواد‬ ‫مقعد ول ُيد ِ‬
‫حة أبنائها وأعمارهم‪ ،‬بالسرعة التي يستهلكون بها وجباتهم‬ ‫ً‬
‫الغذائية‪ ،‬تستهلك أيضا ص ّ‬
‫السريعة‪ ،‬ذات الحجام الخرافية أيضًا‪ .‬فأنا لم أسمع قبل زيارتي إلى أميركا بالـ)‪Very‬‬
‫مضاهاة ناطحات‬ ‫دة"‪ ،‬كأنهم يريدون به ُ‬ ‫‪ ،(Big Hamburgers‬وهو "همبرغر بطوابق ع ّ‬
‫م من طبقات العجين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الك‬ ‫هذا‬ ‫يقضم‬ ‫أن‬ ‫السحاب‪ .‬ول أدري أيّ فم هذا الذي في إمكانه‬
‫ت هذا "الهمبرغر" لّول‬ ‫ل جانب‪ .‬وقد شاهد ُ‬ ‫وما بينها من عجائب الكل الذي ُيشرشر من ك ّ‬
‫طي شاحنة من الحجم الخرافي‪ ،‬الذي ل أتوّقع أن‬ ‫مّرة في إعلن ضخم لـ"ماكدونالد"‪ُ ،‬يغ ّ‬
‫تكونوا قد شاهدتم مثله في حياتكم‪ .‬وكانت الشاحنة "الديناصور"‪ ،‬التي يتجاوز طولها طول‬
‫وها علوّ طابق أو اثنين‪ ،‬متوقفة في شارع في نيويورك لجمع القمامة‪ ،‬التي‬ ‫مبنى ويفوق عل ّ‬
‫ً‬
‫طم في أميركا أرقاما قياسية أيضا‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬علمت من الستاذ فواز الطربلسي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ُتح ّ‬
‫المحاضر في "جامعة كولمبيا"‪ ،‬محنة نيويورك والحروب التي خسرتها أكثر من مّرة في‬
‫معركتها مع الجرذان‪.‬‬
‫في الطائرة التي كانت تقّلني من باريس إلى نيويورك‪ ،‬شعرت بأنني وصلت‪ ،‬مــذ جلست‬
‫ي الواضح من‬ ‫ل زّيـه الدين ّ‬ ‫على مقعد اختاره لي القدر إلى جوار أستاذ إسرائيلي‪ ،‬في ك ّ‬
‫ضفائره وقّبعته السوداء‪ .‬ظننته زوجا ً للمرأة الجالسة بجواره‪ ،‬وإذا بها تتبرأ منه حال‬
‫ل مّنا‬ ‫اكتشافها عروبتي‪ ،‬ولتتمتم لي بأنها أستاذة فلسطينية مقيمة في أميركا‪ .‬أخَرج ك ّ‬
‫أوراقه وباشرنا الكتابة‪ .‬أنا بالعربّية‪ ..‬هو بالعبرّية‪ ..‬وهي بالنجليزّية‪ .‬وعندما شعرت بأن‬
‫جاري سد ّ علينا خريطة الطريق‪ ،‬وأقام حال جلوسه جدارا ً عازل ً يمنعنا من العبور والتحّرك‬
‫ي إلى أي مقعد آخر‪ .‬ما ظننتني‬ ‫ي والدب ّ‬‫في الطائرة‪ ،‬طالبت المضيفة باللجوء السياس ّ‬
‫ي‬
‫على طريقة "كولوش" في فيلمه الكوميدي عن نيويورك‪ ،‬سأدخل من دون علمي‪ ،‬ح ّ‬
‫ي قضاء الساعات الست الباقية من‬ ‫"برانغس" ومنطقة الرعب السود‪ .‬فقد كان عل ّ‬
‫قا‪ ،‬التي فاضت‬ ‫ً‬ ‫مخيفة ح ّ‬ ‫ْ‬
‫الرحلة‪ ،‬في مسايرة جارتي السوداء الميركية‪ ،‬ذات الملمح ال ُ‬
‫ُ‬
‫مها وصغيرها‪ ،‬الذي كان ينام ويأكل ويقفز على‬
‫ُ‬
‫ي هي وأ ّ‬ ‫على المقعد‪ ،‬حتى تدّفقت عل ّ‬
‫صدرها‪ ..‬ول مقعد له‪ ،‬فيأخذ ما في طبقي من أكل‪ ..‬وَيعَبث بأوراقي‪ ،‬فألطفه من فرط‬
‫مه على جهلي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ذعري على طريقة "مستر بين" بالبتسامات والشارات‪ ،‬معتذرة ل ّ‬
‫صل مع هذا الطفل "الفلتة"‪.‬لم أستطع الكتابة ول النوم‬ ‫النجليزية‪ ،‬وعدم قدرتي على التوا ُ‬
‫طوال تلك الرحلة عابرة المحيطات‪ .‬فلوجود ذلك العدد الهائل من البدينين على متن‬
‫ما علق‬ ‫ت على الطائرة من وزنهم‪ ،‬أكثر من خوفي من المطّبات الهوائّية‪ ،‬وم ّ‬ ‫الطائرة‪ ،‬خف ُ‬
‫في ذهني من ذاكرة الكوارث الجوّية‪ ،‬التي اشتهرت بها الرحلت نحو أميركا‪ .‬حتى إنني‬
‫كاب بدل وزن‬ ‫مربح لشركات الطيران الميركية‪ ،‬بوزن الر ّ‬ ‫كرت في تقديم اقتراح ُ‬ ‫ف ّ‬
‫أمتعتهم وحقائبهم‪ .‬في تلك الرحلة التي لم أشَغل فيها سوى نصف مقعدي‪ ،‬ولم آكل سوى‬
‫خــذ من كل شيء نصفه‪ ،‬حتى إذا ما فَ َ‬
‫قد َْته‬ ‫نصف وجبتي‪ ،‬كان عزائي تلك النصيحة‪ُ " :‬‬
‫ل"‪.‬‬‫فإنك لن تحزن حزنا ً كام ً‬

‫في مديح الكسل‬

‫دعـــاء الزهــد في الكتابة• فكثيرا ً ما تهرب منك‬


‫ي‪ ،‬با ّ‬
‫أستعد ّ عـادة لنجــاز عمل روائ ّ‬
‫الكتابة إن أنت أجهدت نفسك في مطاردتها‪ ،‬محاول ً محاصرة الكلمات‪ ،‬وإلقاء القبض على‬
‫الفكار‪ ،‬وشراء دفاتر جميلة في انتظار هنيهة الخصاب البداعية المباركة•‬
‫ي‪ ،‬ل جدوى من مراجعة “روزنامتي الشهرية”•‬ ‫بالنسبة إلــ ّ‬
‫ددة‬
‫ّ‬ ‫المح‬ ‫اليام‬ ‫خارج‬ ‫ومباغتة‪،‬‬ ‫سهو‬ ‫لحظة‬ ‫في‬ ‫سأحبل‬ ‫الحياة‪،‬‬ ‫في‬ ‫كما‬ ‫في الدب‪،‬‬
‫ت رواياتي كما أولدي الثلثة•‬ ‫للخصاب‪ ،‬وخارج رحـــم المنطق البداعي• هكذا أنجب ُ‬
‫ل مّرة•‬ ‫ب ومن دون تخطيط ك ّ‬ ‫ت فيهم جميعًا‪ ،‬لنني فعلت ذلك بح ّ‬ ‫وأظنني وُّفق ُ‬
‫ب كسلي هذه اليــام• إنه عكس ما يشي به من انشغال عن الكتابة‪ ،‬هو عينها‬ ‫ُ‬
‫أحــ ّ‬
‫وإرهاصاتها التي ل تخطئ•‬
‫ن الكسل أبو البداع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫“إ‬ ‫قولــه‬ ‫أفرحنـي‬ ‫الرحبـاني‪،‬‬ ‫منصور‬ ‫للعظيم‬ ‫في مقابلــة تلفزيونية‬
‫مــا استطاع أن‬ ‫َ‬
‫مــل أعماقه‪ ،‬لـ َ‬ ‫فلول الكسل الذي ُيدخل النسان إلى ذاتــه‪ ،‬ويجعله يتأ ّ‬
‫ُيبدع•‬
‫دعي أنني مبدعة‪ ،‬على القل لنني امرأة كسول‪ ،‬ل ألهث‬ ‫بهذا المقياس‪ ،‬في إمكاني أن أ ّ‬
‫بطبعي خلف شيء• لذا تأتيني الشياء لهثــة‪ ،‬تقع في حجري كما وقعت التفاحة في حجر‬
‫مل شجرة التفاح‪ ،‬فاكتشف الرجل‬ ‫ُ‬
‫نيوتــن )أو على رأسه حسب رواية أخرى(• وهو يتأ ّ‬
‫مامه‬‫مصادفة قانون الجاذبية الكونية• وإذا أضفنا إلى هذا صرخة إرخميدس في مغطس ح ّ‬ ‫ُ‬
‫“وجدتها•• وجدتها”‪ ،‬تكون النظريات العلمية‪ ،‬كما العمال البداعية‪ ،‬وليدة لحظة كسل‬
‫وسهو “إيجابي”•‬
‫ن المبدع‪ ،‬كما العاِلــم‪ ،‬ل يتوقف عن التفكير في مشروعه البداعي أو العلمي‪ ،‬حتى‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫مل حشــرة•‬ ‫ّ‬ ‫يتأ‬ ‫الهزاز‬ ‫يه‬
‫ّ‬ ‫كرس‬ ‫على‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫جالس‬ ‫أو‬ ‫آخر‪،‬‬ ‫بأمر‬ ‫عنه‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫منشغ‬ ‫يبدو‬ ‫عندما‬
‫ً‬
‫ن نمشي‪ ،‬حسب نيتشة‪ ،‬لكنها تأتينا أيضا ونحن نتأمل‬ ‫ن الفكار العظيمة ل تأتينا فقط ونح ُ‬ ‫إ ّ‬
‫الشياء الصغيرة‪ ،‬ففي الشياء الصغيرة‪ ،‬أو تلك التي نمر بمحاذاتها‪ ،‬من دون انتباه‪ ،‬يوجد‬
‫ذي أسئلتنا الوجودية•‬ ‫مكمن الحياة• وفي هنيهة سهونا عنها‪ ،‬ينكشف لنا سّرها‪ ،‬الذي يغ ّ‬
‫مل شجرة”•‬ ‫ولــذا‪ ،‬حسب قول أحد الحكماء‪“ :‬ل يكفي عمر واحد لتأ ّ‬
‫ربمــا كان هنــــري ميلـــر‪ ،‬أحد الكّتاب الوائــل‪ ،‬الذين أخــذوا الكســل مأخذه البداعي‪،‬‬
‫دي‪ ،‬الذي ل تأشيرة دخول إليه‬ ‫لـــذا جعل من الحياة سياحة مفتوحة على الضجر المجس ّ‬
‫عــدا الكتابة• لكنه لم يصل إلى ما بلغه الكاتب الفرنسي فيليب بولن‪ ،‬الذي يفتقر إلى ما‬
‫اشتهر به ميلــر من اشتعال دائم للشهوات• لــذا في إمكانه‪ ،‬بكلمات حقيقية‪ ،‬أن يعترف‬
‫بـ”أني أحب السأم‪ ،‬يوما ً بعد يوم‪ُ ،‬أسبوعا ً بعد أسبوع‪ ،‬شهرا ً بعد شهر‪ ،‬ل شيء أطيب‬
‫ممّلــة”• وهو أغبــى تصريح أدبي قرأته خلل جمعي أقوال ً قد تدعــم‬ ‫عندي من الرتابة ال ْ ُ‬
‫ً‬
‫مل مع حالــة الكســل‪ ،‬التي يلجأ إليها المبدعون‪ ،‬تأهبــا للحالة‬ ‫فلسفتي في التعا ُ‬
‫مـا يسعون إليه في الواقع•‬ ‫ّ‬ ‫م‬ ‫بهربهــم‬ ‫يوحــي‬ ‫ُ‬ ‫مخـــادع‪،‬‬ ‫البداعية‪ ،‬بذعــر ُ‬
‫ّ‬
‫أيكــون أنسـي الحــــاج‪ ،‬قد قرأ قول موريــــاك “الرغبــة في أل تقوم بشيء‪ ،‬هو الدليل‬
‫ب كســلـي‪ ،‬وطموحي أن أتخّلص من‬ ‫ُ‬
‫القاطع على الموهبة الدبية”• لــذا قال‪“ :‬أنا أحــ ّ‬
‫أيّ جهد”؟‬
‫متقّلبــة المزاج‪ ،‬كامرأة حبــلى‪ ،‬أرتدي العبــاءة الفضفاضة‬ ‫ُ‬ ‫اليــام‪،‬‬ ‫هذه‬ ‫كســلــى‬ ‫إنني‬
‫مــل العشب الذي ينبت على شقوق ذاكرة الغيــاب‪ ،‬فــوق‬ ‫لمبالة‪ ،‬وأجلس ساعات‪ ،‬أتأ ّ‬ ‫ل ّ‬
‫مقبلــة على دفنــه في كتــاب•‬ ‫ضريـح رجــل أنــا ُ‬
‫فياغرا‪ُ ..‬أم المعارك‬

‫قد ل يكون الوقت مناسبًا‪ ،‬ونحن نعيش على أهبة حرب‪ ،‬والكرة الرضية تقف على قرن‬
‫الثور الميركي‪ ،‬متوجسة بالكارثة‪ ،‬أن نواصل الحديث عن صعوبة النضباط العاطفي‬
‫بالنسبة إلى الرجل‪ ،‬وعن تاريخ الرجال الحافل بالخيانات عبر العصور‪.‬‬

‫غير أن الجواء السياسية المشحونة‪ ،‬التي تعيشها البشرية هذه اليام‪ ،‬والكوارث والحروب‬
‫التي عرفتها بعض البلدان‪ ،‬تركت آثارها في سلوك الرجل‪ ،‬من منطلق نظرته الجديدة إلى‬
‫نفسه وإلى العالم‪ ،‬في محاولة إمساكه بحياة أصبحت تبدو سريعة العطب‪ ،‬قد تفلت من‬
‫بين أصابعه في أية لحظة‪.‬‬

‫ولن المرء في أوقات الخوف والحذر ُيبالغ في ردود الفعل‪ ،‬فقد شاهدنا تطّرفا ً رجاليًا‪،‬‬
‫لسرية في نيويورك‪ ،‬إذ غدت مصائب البرجين المنهارين‬ ‫هذه اليام‪ ،‬في اللتزام بالقيم ا ُ‬
‫فوائد على الزوجات‪ ،‬بعد أن صار رجال نيويورك أكثر وفاًء لزوجاتهم بعد هجمات )‪11‬‬
‫أيلول( وأعلن بعضهم لمجلة "لوبوان" الفرنسية‪ ،‬أنه يفضل الستمرار في علقة مع امرأة‬
‫واحدة‪ ،‬ول يرغب في خيانة شريكة حياته‪ ،‬بعد أن صار يشعر بأهمية الخلص للخر‪.‬‬

‫والخــوف الذي أطاح ببورصة شركات الطيران‪ ،‬والمنتجعات السياحية‪ ،‬هو نفسه الذي‬
‫حجز الزواج في البيوت‪ ،‬ورفع أسهم شركات الدوية‪ ،‬وأسهم المؤسسة الزوجية‪ ،‬في‬
‫عالم صنع الخوف وعّلبه للبشرية‪ ،‬ثم ما عاد قادرا ً على صنع الطمأنينة‪ ،‬بعد أن أصبح‬
‫رجاله ل يجدون سكينتهم إل في العودة باكرا ً إلى البيت‪ ،‬لتناول جرعة الحب الزوجي‪ ،‬ولو‬
‫على مضض أميركا التي ابتكرت لنا "المن الوقائي" و"الضربة الوقائية" واستراتيجية‬
‫ضلين على‬ ‫مف ّ‬
‫صنين بالحب الوقائي‪ُ ،‬‬‫"الحرب الستباقّية"‪ ،‬استبق رجالها الكارثة‪ ،‬متح ّ‬
‫الرهاب البيولوجي‪ ،‬الرهاب الزوجي‪ ،‬واجدين في رئيسهم نموذجا ً للزوج الصالح ولفاعل‬
‫ظ البشرية أن يكون انتصر على آل غور بفارق حفنة من‬ ‫حسن ح ّ‬ ‫الخير المثالي‪ ،‬الذي من ُ‬
‫مـن ضـ ّ‬
‫ل منا سواء السبيل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫لهداية‬ ‫الصوات‪ ،‬فبعث به الّله‬

‫ولن الكوارث تقود الناس إلى إعادة تقييم أولوياتهم واتخاذ قرارات حاسمة تتعّلق‬
‫بمصيرهم‪ ،‬فقد جاء في استطلع أجرته مجلة "نيويورك ماغازين" تحت عنوان "الحب بعد‬
‫‪ 11‬أيلول"‪ ،‬أن ‪ 36‬في المئة من العازبين في نيويورك‪ ،‬باتــوا يسعون إلى الزواج‬
‫لسري وهم بالمناسبة ل يختلفون كثيرا ً عن ضحاياهم الفغانيين‪ ،‬الذين قرأنا‬ ‫والستقرار ا ُ‬
‫أنهم كانوا يحتفلون بالزواج تحت القصف الميركي‪ ،‬بينما كانت الخاطبات‪ ،‬حسب أحد‬
‫العناوين‪ ،‬يبحثن عن العرسان بين النقاض! فالبعض في مواجهة القصف العشوائي للحياة‪،‬‬
‫ضل أن يفتك به الحب على أن تفك به الطائرات الحربية‪ ،‬وأن يحترق بجمر الشواق‬ ‫يف ّ‬
‫ً‬
‫بدل الحتراق بالقنابل النشطارية‪ ،‬أو الموت متفحما في برج التهمته النيران‪.‬‬
‫لمتنا‪ ،‬المقبلة حتما ً على أكثر من كارثة‪،‬‬ ‫وقد استوقفني هذا الخبر‪ ،‬إذ وجدت فيه ُبشرى ُ‬
‫فل أرى خارج الحرب وسيلة ردع تعيد الزوج العربي إلى صوابه‪ ،‬فيتعّلم الكتفاء بامرأة‬
‫واحدة‪ ،‬والخلص لها كما أننا نحتاج إلى كارثة قومية شاملة قدر المكان‪ ،‬كي تنهار إثرها‪،‬‬
‫بمعجزة‪ ،‬بورصة المهر التعجيزي‪ ،‬وترتفع أسهم الزواج لدى شبابنا‪ ،‬عسى أن يفتحها الّله‬
‫في وجوه مليين العوانس من بناتنا في العالم العربي‪.‬‬
‫ملنا الحرب القادمة من هذه الزاوية‪ ،‬ندرك أنها سُتحسم في "السّرة" وليس في‬ ‫وعند تأ ّ‬
‫أروقة المم المتحدة‪ ،‬أو في مكاتب البنتاغون‪ ،‬وإن كنا سنخسر فيها ثرواتنا وما بقي من‬
‫لسرة العربية ستخرج سالمة ومنتصرة وهنا تكمن حكمة‬ ‫ن كانت ا ُ‬
‫أوطاننا‪ ،‬فل بأس إ ْ‬
‫م ال َْ‬ ‫ُ‬
‫معارك"‪ ،‬بينما‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫"فياغرا‬ ‫لنتاج‬ ‫ورة‬‫ّ‬ ‫متط‬ ‫أبحاث‬ ‫في‬ ‫سنوات‬ ‫منذ‬ ‫منهمكين‬ ‫العراقيين‪ ،‬ال ْ ُ‬
‫منوي وقد تم‬ ‫َ‬
‫يعتقد الميركيون‪ ،‬عن غباء‪ ،‬أنهم منشغلون بتطوير سلحهم النووي ل ال َ‬
‫م المعارك"‬ ‫العلن منذ أشهر‪ ،‬بعناوين كبرى في الصحف العراقية‪ ،‬عن إنتاج "فياغرا أ ُ‬
‫ّ‬
‫بخبرات محلية في مختبرات عراقية وكان في الضجة التي صحبت هذا الختراع تصّرف‬
‫مشهرة في وجه‬ ‫استراتيجي غبي‪ ،‬بعد أن بدت الفياغرا جزءا ً من أسلحة الدمار الشامل ال ْ ُ‬
‫مهلكة‪.‬‬ ‫أميركا‪ ،‬ما قد يستدعي عودة فريق المفتشين‪ ،‬وتعّرض العراق لحرب ُ‬
‫ل‪ ،‬حتى يستطيع‬ ‫وليس في وسعنا‪ ،‬والحرب آتيــة ل ريـب فيها‪ ،‬إل أن نصّلي كي ُتمهلنا قلي ً‬
‫ُ‬
‫م المعارك‪ ،‬أو‬ ‫سبا ً ل ّ‬ ‫إخواننا في العراق التهام ما أنتجوا من تلك الحّبة الزرقاء اللعينة‪ ،‬تح ّ‬
‫مهــا!‬ ‫بالحرى ل ُ ُ‬
‫مأ ّ‬ ‫ّ‬
‫قبلتي المهّربة على يده‬ ‫ُ‬

‫سَبات دام دهرًا‪ ،‬لحظة‬‫قَبل‪ ،‬ل السحرية التي ُتوقظ حسناء نائمة في غابة من ُ‬ ‫أعــود لل ُ‬
‫يضع أمير يعبر الغابة‪ ،‬شفتيه على شفتيها‪ .‬ول تلك التي يعود بمفعولها الضفدع أميرًا‪ ،‬كما‬
‫ل به قصاص ساحرة شّريرة‪.‬‬ ‫كان‪ ،‬من َقبل أن يح ّ‬
‫حسمت‬ ‫ُ‬ ‫خرافات‬ ‫من‬ ‫الطفولة‬ ‫قصص‬ ‫في‬ ‫قرأه‬ ‫ما‬ ‫اليوم‪،‬‬ ‫دق‬
‫من ُ ّ‬
‫يص‬ ‫ن بيننا َ‬
‫ل أعتقد أ ّ‬
‫قبلة إّياها‪ .‬ننتظرها من دون‬
‫قبلة‪ .‬لكن مازلنا‪ ،‬على الرغم من ذلك‪ ،‬نحلم بتلك ال ُ‬ ‫مآسيها ب ُ‬
‫أن نعترف بذلك‪ ،‬مراهنين على معجزتها وبركاتها‪.‬‬
‫مصّغرة من ُقبلة رودان الشهيرة‪.‬‬ ‫هذا الصيف‪ ،‬أحضرت معي إلى "كــان" نسخة رخامية ُ‬
‫كانت أختي صوفيا )خّريجة الفنون الجميلة(‪ ،‬قد أهدتني إّياها‪ ،‬بعد زيارتها إيطاليا منذ‬
‫سنوات‪ .‬واحتفظت بها في صالوني في برمانا بتواطؤ بطلي خالد بن طوبال مع تمثال‬
‫فينوس‪ .‬حملتها بيدي طوال الرحلة‪ ،‬خوفا ً عليها‪ .‬وكنت أبتسم والعاشقان الرخاميان‬
‫صص رجال الجمارك أو دهشتهم‪،‬‬ ‫يعبران متعانقين ممرات الشعة الكاشفة‪ ،‬غير آبهين بتل ّ‬
‫وهم يعثرون عليهما مختبئين ملفوفين داخل منشفة‪.‬‬
‫دعه في‬ ‫ُ‬
‫مة أجمل من ُقبلة مهّربة؟ أذكر أن نزار قباني في آخر مّرة‪ ،‬حضرت لو ّ‬ ‫هل ث ّ‬
‫منزله في بيروت‪ ،‬قبل مغادرته إلى لندن ساعتها‪ ،‬بدا لي كئيبا ً وهو ُيضّيفني من بّراده‬
‫كوب عصير‪ ،‬وشوكولتة كانت على طاولته‪ .‬وعندما أصبح صهيل أحزانه أكبر من أن ل‬
‫أسمعه‪ ،‬أخذت يده اليمنى ووضعت عليها قبلة تحريضية على الفرح‪ ،‬ووشوشته "ستكتب‬
‫مل يده‪ .‬تنّبهت‬ ‫أشياء جميلة بهذه اليد‪ ..‬عدني بذلك!"‪ .‬عادت له العافية‪ ،‬وابتسم وهو يتأ ّ‬
‫ح حمرتي‬ ‫ْ َ‬‫س‬ ‫م‬ ‫معتذرة‪،‬‬ ‫لحظتها إلى أنني تركت آثار أحمر شفاهي عليها‪ .‬وعندما حاولت ُ‬
‫سحب يده‪ .‬وعّلق بين المزاح والجد ّ "ل تمسحي قبلتك ُأريد أن ُأصّرح بها لرجال‬
‫قبلة‪ ..‬أم تهريبها؟ على‬ ‫شاق‪ ،‬إن كان الجمل التصريح ب ُ‬ ‫الجمارك"‪ .‬لم أسأله وهو مفتي الع ّ‬
‫ن العرب ل ُيهّربون المتفجرات‬ ‫القل لقناع البوليس البريطاني‪ ،‬عندما يعثر عليها‪ ،‬بأ ّ‬
‫قبل ومناشير الحّرية‪ ،‬ويعلن نفسه شيخا ً من شيوخ‬ ‫والقنابل فحسب‪ .‬بعضهم يهّرب ال ُ‬
‫الحب قبل مجيء زمن السّيافين وشيوخ الموت‪ .‬أليس هو القائل‪" :‬غّنيت النساء حتى‬
‫صوفّية‪ ،‬وصار قلبي ملجأ ً لطالبات العشق والحياة‬ ‫طرق ال ّ‬ ‫ت شيخا ً من شيوخ ال ّ‬ ‫صر ُ‬
‫والحّرية؟"‪ .‬وعلى الرغم من كونه لم يعرض سوى ما تعرضه أميركا اليوم من خدمات‪ ،‬بل‬
‫حورب من الذين انقلبوا اليوم على‬ ‫هوجم و ُ‬ ‫وتأمر به من حقوق وحريات للمرأة‪ ،‬فقد ُ‬
‫دا أمرا أميركيا‪ ،‬يدخل ضمن موسم الهجرة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أنفسهم وتقّبلوا هذا "المر" الواقع‪ ،‬عندما َ‬
‫غــ َ‬
‫إلى الديمقراطية الجبارية‪.‬‬
‫قبلة"‪ ،‬أحد أشهر العمال العالمية‪ .‬لم يكن على ذوق‬ ‫وعلى ِذكر أميركا‪ ،‬فتمثال "ال ُ‬
‫صصا ً لعمال صاحبه النحات‬ ‫ّ‬ ‫مخ‬ ‫ُ‬ ‫كان‬ ‫معرض‬ ‫وأثناء‬ ‫عشر‪.‬‬ ‫الميركيين في القرن التاسع‬
‫الفرنسي رودان‪ ،‬تم وضع التمثال الضخم في قاعة منفصلة لمنع الجمهور من زيارته‪،‬‬
‫قبل‪.‬‬‫بحجة أن التمثال واقعي أكثر من اللزم! ول لوم على الميركان‪ ،‬إن هم قاطعوا ال ُ‬
‫فعندما كان "عنترنا" ُينشد في ساحة الوغى "وددت تقبيل السيوف لنها‪ ..‬لمعت كبارق‬
‫ن التقبيل في عشرينات‬ ‫د‪ .‬لقد اكتشفت ف ّ‬ ‫سم"‪ .‬ما كانت أميركا قد ُوجدت َبع ُ‬ ‫ثغرك المتب ّ‬
‫القرن الماضي‪ ،‬أيام السينما الصامتة‪ .‬ثم نضجت شفاهها على يد هوليوود في‬
‫الخمسينات‪ .‬فقد كان الكاوبوي‪ ،‬وهو يطارد المطلوبين للعدالة‪ ،‬أو ُيبيد الهنود الحمر‪،‬‬
‫يسرق بين منازلتين وجثتين ُقبلة شرهة من غانية صادفها في )بـــار(‪.‬‬
‫ل الحرائق‪ ،‬التي أشعلتها هوليوود كانت‪ ،‬بحطب مغشوش وأعواد‬ ‫اكتشفنا بعد ذلك أن ك ّ‬
‫مبّللة‪ .‬فهاري غرانت رمز الوسامة الرجالية وسّيد الدوار العاطفية‪ ،‬كان في الواقع‬ ‫ثقاب ُ‬
‫موها إلى‬ ‫ّ‬ ‫ض‬ ‫من‬ ‫شهادة‬ ‫حسب‬ ‫كانت‬ ‫الشقراء‪،‬‬ ‫القنبلة‬ ‫مونرو‬ ‫ومارلين‬ ‫النساء‪.‬‬ ‫يحب‬‫شاذا ً ل ُ‬
‫مكرهين في مشهد سينمائي‪ ،‬امرأة من سللة السكيمو بشفتين‬ ‫صدورهم‪ ،‬أو قّبلوها ُ‬
‫محرقتين‪ .‬أما وودي آلن الذي ُيوحي بمعشر مرح ودافئ‪ ،‬فقد صّرحت زميلته‪،‬‬ ‫جليديتين ُ‬
‫ن معانقته في السينما كمعانقة حائط برلين‪.‬‬ ‫ً‬
‫الممثلة هيلينا كارتر مؤخرا‪ ،‬بأ ّ‬
‫قبل‬ ‫دقوا ما تقرأونه من خرافات حول تلك ال ُ‬ ‫ّ‬ ‫تص‬ ‫ل‬ ‫قبل‪،‬‬ ‫ص ال ُ‬
‫خلصــــة‪ ،‬في ما يخ ّ‬ ‫ال ُ‬
‫السحرية‪ .‬ول تتأثروا بما تشاهدونه من ُقبل محمومة في الفلم الهوليوودية‪ .‬ل تحتكموا‬
‫مة من ُقبل بالوكالة!‬ ‫لغير شفاهكم‪ .‬فليس ث ّ‬

‫قل لي‪ ..‬ماذا تشرب?‬


‫أزعجني أن تتسبب المشروبات الميركية في انشقاق سياسي بين أفراد عائلتنا الصغيرة‪،‬‬
‫دعاتها‪ ،‬والمفكرين في‬ ‫بعد أن أشهر أخي في الجزائر ولءه لحزب "الكوكاكول"‪ ،‬وغدا من ُ‬
‫بركاتها على المغرب العربي‪ ،‬بينما انحاز أخي ياسين‪ ،‬المقيم في باريس‪ ،‬إلى مشروب‬
‫كة كول"‪ ،‬ومل به بّراده‪ ،‬مجبرا ً صغاره على أن ل يشربوا إل ّ منه‪.‬‬‫"م ّ‬
‫ّ‬
‫"ومكة كول" صنف جديد من المرطبات‪ ،‬رصد صاحبه الفرنسي توفيق مثلوثي‪ ،‬تونسي‬ ‫ّ‬
‫الصل‪ 10% ،‬من أرباحه لمصلحة أطفال فلسطين‪ .‬واختار مثلوثي أّول يوم في شهر‬
‫رمضان‪ ،‬لُينزل مشروبه إلى السواق الفرنسية‪.‬‬

‫وقد وُِلدت لديه الفكرة من مشروب "زمزم كول" إيراني الصنع‪ ،‬وهي مياه غازية بلغت‬
‫لولى‪.‬‬‫صادراتها ‪ 10‬مليين زجاجة في الشهر الربعة ا ُ‬

‫وبرغم الجواء المعادية للعرب والمسلمين‪ ،‬فقد نجح المثلوثي‪ ،‬في أن يضع على القنينة‬
‫العملقة )‪ 1.5‬لتر(‪ ،‬والمشابهة تماما ً لقنينة "كوكاكول" الصلية‪ ،‬عبارة "اشرب ملتزمــــا"‪،‬‬
‫ً‬
‫معلنا ً‬ ‫بل وذهب حتى إعلن تخصيص نسبة من ريـــع المبيعات‪ ،‬لدعم القضية الفلسطينية‪ُ ،‬‬
‫ً‬
‫ذلك على كل قنينة‪ ،‬من خلل ملصق أخضر تحت شعار‪" :‬ل تكن أحمق واشرب ملتزما"‪،‬‬
‫دور النشر الفرنسية‪ ،‬كل صيف‪،‬‬
‫الذي استوحاه من شعار مشهور‪ ،‬دأبــت على رفعه ُ‬
‫مروا جلودهم بغباء‪ ،‬وأن يستفيدوا من وجودهم على‬‫لتحث الناس على أن ل يس ّ‬
‫الشواطئ‪ ..‬للمطالعـــة‪.‬‬

‫كة كول"‪ ،‬الصحافة الفرنسية‪ ،‬والقنوات التلفزيونية‪ ،‬ومعها خبراء‬ ‫ولقد شغلت ظاهرة "م ّ‬
‫ّ‬
‫قضايا الستهلك‪ ،‬الذين فاجأتهم المنافسة الحقيقّية‪ ،‬التي شكلها لدى الجالية العربية‬
‫ن‬
‫والسلمية‪ ،‬هذا المشروب "المعارض"‪ ،‬في سابقة جديدة ل عهد لهم بها‪ ،‬خاصة أ ّ‬
‫ت من رجل أعمال‪ ،‬قصد تحقيق صفقة تجارية‪ ،‬تستثمر مرارة المغتربين‬ ‫المبادرة لم تأ ِ‬
‫العرب‪ ،‬ورغبتهم في إشهار انتمائهم إلى السلم‪ ،‬ووقوفهم ضــد ّ المذابح‪ ،‬التي يتعرض لها‬
‫الفلسطينيون‪ ،‬بل جاءت من صحافي‪ ،‬قّرر أن ل يكتفي بمساندة الفلسطينيين بالمقالت‪،‬‬
‫مقاطعة اقتصادية‪ ،‬ل تقوم على منطق احتياجات السوق‪ .‬فقد صّرح‬ ‫ول أن يدعــــو إلى ُ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫لجريدة "الفيغارو"‪ ،‬شارحا إطلقه شراب "مكة كول" قائل‪" :‬ل يمكن المضي ُقدمــا في‬
‫مقاطعة المنتجات الميركية والصهيونية‪ ،‬دون العثور على بدائل لها"‪ .‬فهذا الرجل الواقعي‬
‫والعملي‪ ،‬سبق له أن استفاد من عمله‪ ،‬كمدير لذاعة المتوسط‪ ،‬التي تتوجه إلى‬
‫المغتربين‪ ،‬ليجمع ‪ 300‬ألف يورو‪ ،‬من خلل "راديو تون"‪ ،‬دام ‪ 16‬ساعة‪ ،‬في حملة‬
‫لمساندة الفلسطينيين‪.‬‬

‫كرني المر بإعلن في الصحافة الجزائرية‪ ،‬استوقفني أثناء زيارتي سنة ‪1998‬م إلى‬ ‫وقد ذ ّ‬
‫الجزائر‪ ،‬وكان يشَغل صفحة كاملة‪ ،‬جـــاء فيها‪ ،‬بمناسبة كأس العالم‪" :‬ستكون الليالي‬
‫ُ‬
‫كر فيكم"‪ ،‬وعلى يساره صورة كبيرة لزجاجة كول‪ ،‬كتب‬ ‫طويلــة‪ ..‬اطمئنـــوا‪ ..‬كوكاكول ُتف ّ‬
‫ش كرة القدم‪ ..‬احلــم كرة القدم‪ ..‬اشرب كوكاكول"‪.‬‬ ‫ع ْ‬‫عليها‪ِ " :‬‬

‫مري من العلن‪ ،‬قال يومها ما أقنعني بالنخراط في حزب‬ ‫أخـي الذي لحظ تذ ّ‬
‫مسّيس أكثر مني‪ ،‬أننا نحتاج إلى هذا المشروب‬ ‫ْ‬
‫"الكوكاكول"‪ ،‬بعد أن شرح لي‪ ،‬وهو ال ُ‬
‫لتحقيق أحلمنا المغاربية‪ ،‬بعد أن أصبحت الوحدة المغاربية مطلبا ً من مطالب الشركات‬
‫الكبرى‪ ،‬التي أفقدتها خلفاتنا الغبّية صبرهــا‪ ،‬وأضّرت بمكاسبها‪ ..‬هي ُتريدنــا سوقا ً‬
‫حدة من مئة وثلثين مليون مستهلك‪ ،‬تتقاسم في ما بينها أفواههم وبطونهم‪،‬‬ ‫مغاربّية مو ّ‬
‫وأقدامهم وملبسهم وعيونهم وآذانهم‪ ..‬ولبأس أن تتوافق مع مصالحها‪ .‬فقد تفتح حينئذ في‬
‫قل دون تأشيرة‪ ،‬على ِغــرار البضائع‬‫وجوهنا الحدود المغاربية‪ ،‬ويكون لنا حقّ التن ّ‬
‫الميركية‪.‬‬
‫ما ل تزرع‪ ،‬وتشرب‬ ‫حضرنـي يومها قول جبـــران "وي ٌ ُ‬
‫ما ل ُتنتج‪ ،‬وتأكل م ّ‬‫مــة تلبس م ّ‬ ‫لل ّ‬
‫ما ل تعصر"‪.‬‬ ‫م ّ‬
‫ن ويــلت جبــران‪ ،‬لم تقض مضجعي‪ ،‬في زمن الطهارة الميركية‪ ،‬والنوايــــا‬ ‫غيــر أ ّ‬
‫لم تريـــزا‪،‬‬‫الحسنة لكبرى الشركات العالمية‪ ،‬كيف ل ننام مطمنين وكوكاكول‪ ،‬بطيبة ا ُ‬
‫ل همبورغر بالخير‪ ،‬وجمعيهم ساهرون‬ ‫ديس "ماكدونالد" يدعــو لنا مع ك ّ‬ ‫ُتف ّ‬
‫كر فينــا‪ ،‬والق ّ‬
‫على تحقيق وحدة‪ ،‬فشلنا في تحقيقها حتى الن‪ ،‬ما دعــا المناضل التونسي‪ ،‬حسني‬
‫النوري‪ ،‬أحد القوميين المخضرمين‪ ،‬إلى تقديم أربع شكاوى ضد أربعة من زعماء المغرب‬
‫العربي‪ ،‬اّتهمهم فيها بالعجــز عن تحقيق حلــم الجماهير المغاربية ببناء اّتحـاد مغاربي‬
‫فّعال وقوي‪ ،‬وعدم تطبيق ما جاء في ميثاق اتحاد المغرب العربي‪ ،‬خاصة ما يتعلق بحّرية‬
‫قـل بين الوطان الخمسة؟‬ ‫التن ّ‬
‫ً‬
‫فل‪ ،‬لو اكتفى يوميا بشرب كمّيات كبيرة من الكوكاكول‪،‬‬ ‫أما كان أنفع لهذا المناضل المغ ّ‬
‫جـل بذلك‬ ‫ّ‬ ‫يع‬ ‫عساه‬ ‫"ماكدونالد"‪..‬‬ ‫أقرب‬ ‫إلى‬ ‫"نايك"‪،‬‬ ‫أحذية‬ ‫واصطحاب أولده‪ ،‬وهم ينتعلون‬
‫في مشروع الوحدة المغاربية؟‬
‫أما أنا‪ ،‬فمازلت في حيــرة من أمــري‪ :‬أأشــــرب "الكوكاكول"‪ ،‬كي تتحقق الوحـــدة‬
‫كـة كول"‪ ،‬لدعـم النتفاضة الفلسطينية؟‬ ‫المغاربيــة‪ ،‬أم أشرب "م ّ‬
‫أجيبونــي‪.‬‬
‫عروبــة سابقـــة"‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الحائــرة‪ :‬أختكــم فـي ُ‬

‫كرامة الببغاء‬
‫ن احتراما ً خاصا ً للببغاوات‪ ،‬التي عكس المشاع عنها‪ ،‬تكمن كرامتها في رفضها أن تكون‬ ‫أك ّ‬
‫قنها ما تريد من كلم لتسلية صغارك أو إبهار ضيوفك أو إرضاء غرورك• فهي‬ ‫"ببغاء"‪ ،‬تل ّ‬
‫سيك إل ّ إن شاءت ذلك• ول تتوّقع منها أن تناديك مثل ً "سيادة الرئيس‬ ‫ّ‬ ‫تم‬ ‫ولن‬ ‫لن تصّبحك‬
‫ً‬
‫جادا من النياشين‪ ،‬لنها ل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫دى "حفظه الله"‪ ،‬حتى وإن كنت تعلق على صدرك س ّ‬ ‫القائد المف ّ‬
‫تحفظ غير المختصر المفيد‪ ،‬الذي يقتصر غالبا ً على مفردات الشتائم•‬
‫لسطول البريطاني أن يختبر على‬ ‫وأثناء قيامه مؤخرا ً بجولة في الخليج‪ ،‬تسّنى لقائد ا ُ‬
‫حسابه سلطة لسان ببغاء كان من المفروض أن يكون أكثر تأدبًا‪ ،‬بحكم وجوده على ظهر‬
‫حارة قد أخرجوه من القفص الذي‬ ‫لسطول‪ ،‬لعتباره رمز طاقم الفرقاطة• وكان الب ّ‬ ‫ا ُ‬
‫يعيش داخله في جناح الضّباط‪ ،‬وأغلقوا عليه في خزانة ريثما ينتهي الميرال من إلقاء‬
‫كلمته‪ ،‬لعلمهم بلئحة الشتائم والبذاءات التي يحفظها• غير أن الببغاء فاجأ الجميع‬
‫م الميرال‬‫بمقاطعته الميرال بصوت خافت‪ ،‬آتيا ً من الخزانة يقول "سخيف"• وما إن يه ّ‬
‫م "هــراء"•‬ ‫بمعاودة الحديث حتى يعود الصوت قائل ً "تافــه" ث ّ‬
‫لسطول• ذلك أن الببغاء‬ ‫فوجود الببغاء سجينا ً في خزانة لم يمنعه من إيصال صوته لقائد ا ُ‬
‫ب على ثقافتنا النضالية‪ ،‬ل يحتاج إلى شعار "ل صوت يعلو فوق صوت‬ ‫الذي لم يتر ّ‬
‫من ل صوت لهم"• فهو ظاهرة صوتية في حد ذاته• وهو‬ ‫َ‬ ‫"صوت‬ ‫يكون‬ ‫المعركة" كي‬
‫عكس الكثيرين من رافعي الشعارات‪ ،‬مستعد للموت من أجل أن يقول كلمته "أو من‬
‫أجل أل ّ ُيرغم على قولها"‪ ،‬حتى لكأنه القائل "ستموت إن قلتها وستموت إن لم تقل••‬
‫فقلها ومت"•‬
‫ولذا• فتاريخ الببغاوات مليء بالمظاليم والضطهادات والجرائم المرتكبة في حق طائر‬
‫مزاجي يتمّيز بفلتان اللسان‪ ،‬ولم يعتد على طريقة مذيعي أخبارنا التدقيق والتمّعن في ما‬
‫قن له مسبقا ً على ورق•‬ ‫لُ ّ‬
‫ً‬
‫وقد دفع مؤخرا ببغاء في الصين حياته ثمن عدم امتثاله لوامر صاحبه‪ ،‬الذي أمره بنطق‬
‫عبارتي "صباح الخير" و"إلى اللقاء" كل يوم• وبعد ثمانية أشهر من المحاولة الفاشلة‪ ،‬لم‬
‫يتماسك الشاب أمام عناد الببغاء‪ ،‬فأهانه ووصفه بالحمق• فما كان من الببغاء إل أن كّرر‬
‫هذه الكلمة• فاستشاط الرجل غضبا ً وقتله•‬
‫وقد أعاد هذا الخبر إلى ذهني قصة مؤثرة وطريفة تعود لشبابي‪ ،‬يوم كنا نسكن فيلل‬
‫ملصقة حديقتها لحديقة جارٍ ضابط كان له ببغاء• ولن الجميع كان ل ينفك يناديني‪ ،‬فقد‬
‫حفظ الببغاء اسمي‪ ،‬وأصبح‪ ،‬ما إن يستيقظ فجرا ً على عادة الطيور‪ ،‬حتى يبدأ في التصفير‬
‫مناديا ً "أحلم•• أحلم"‪ ،‬فتستيقظ جدتي غاضبة واثقة من أن ابن الجيران ينادي عل ّ‬
‫ي•‬
‫دقة براءتي‪ ،‬حتى اليوم الذي فاجأنا الببغاء ونحن‬
‫وحدث أن ضربتني ووّبختني غير مص ّ‬
‫ل واحد تلقينه‬ ‫فرا ً ومناديا ً باسمي• و تحلق حوله الكبار والصغار‪ ،‬وحاول ك ّ‬
‫ّ‬ ‫مجتمعون مص ّ‬
‫مطاردة له ازداد الببغاء رفضا ً لترديد ما ُيطلب منه•‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫إلحاح‬ ‫الطفال‬ ‫ازداد‬ ‫اسمه‪ ،‬وكّلما‬
‫وكانت الصدمة عندما استيقظنا بعد يومين لنجد الببغاء قد انتحر بغرس مخالبه في عنقه•‬
‫من يومها وأنا أتعاطف مع الببغاء‪ ،‬ليس فحسب لنه أول كائن انتحر بسببي‪ ،‬بل لنني مع‬
‫العمر آمنت بكرامة الببغاء الذي ل يعرف "تبييض الكلم" و"ل غسل القوال" ول يهتف‬
‫مناضل يموت بسبب كلمــة‪ ،‬تاركا ً لنا‬ ‫دعي أنه مثقف أو ُ‬ ‫"عاشت السامي"‪ ،‬ومن دون أن ي ّ‬
‫دور الببغاء‬

‫وانس‬
‫ع َ‬ ‫ك ّ‬
‫ل العرائس‪َ ..‬‬
‫ف‬
‫ل‪ ،‬كيف تحتفل قرية هندّية بزواج ضفدعين عملقين‪ ،‬وتز ّ‬ ‫الزواج قسمة ونصيب‪ .‬وإ ّ‬
‫الضفدعة المحظوظة إلى عريسها الضفدع الفحل في زيّ أحمر بـّراق‪ ،‬بمباركة القساوسة‬
‫الهندوسيين‪ ،‬وسط حفل موسيقي حضره مئات الشخاص‪ ..‬انطلق موكبه البهيج من بركة‬
‫ن في انتظار عريس ل يأتي‪ .‬أو ضفدع‬ ‫ماء‪ ،‬بينما َتقَبع فتياتنا بالمليين في بيوت أهله ّ‬
‫لسطورة‪ ،‬بفعل ُقبَلة مسحورة إلى فارس أميــر؟ ‪ 4‬مليين فتاة‬ ‫يتحول‪ ،‬حسب تلك ا ُ‬
‫ّ‬
‫ن إلى العنوسة‪ ،‬وُثلث فتيات السعودية والجزائر وتونس‪ُ ،‬يعانين‬ ‫ّ‬ ‫طريقه‬ ‫في‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫هــ‬ ‫مصرية‪،‬‬
‫جد في معظم الدول العربّية‪ ،‬التي لم تعد تدري‬ ‫ن هذه النسبة ُتو َ‬ ‫نأ ّ‬‫المشكلة إّياها‪ ،‬وأظ ّ‬
‫ن‪ ،‬ل‬ ‫ن وثرائه ّ‬ ‫ماله ّ‬‫ج َ‬ ‫ن‪ ،‬وأحيانا ً على َ‬ ‫فيها العائلت ماذا تفعل ببناتها اللئي‪ ،‬على ثقافته ّ‬
‫ن إل ّ اّتباع تقاليد بعض الوليات الهندّيــة‪ ،‬حيث‬ ‫يجدن عريسا ً مناسبًا‪ .‬وقد ل يبقى أمام أهله ّ‬
‫عندما يبدأ موسم الزواج في يوليو )تموز(‪ ،‬تستأجر العائلت عصابات إجرامية لختطاف‬
‫العريس المناسب‪ ،‬والمجيء به تحت التهديد‪ ،‬لتزويجه بابنتها‪ ،‬بمباركة كاهن يجعل من هذا‬
‫الزواج عقدا ً غير قابل لللغاء‪ .‬الهل لجأوا إلى هذا الحل بسبب ارتفاع قيمة مهور الرجال‪،‬‬
‫غـــل‬ ‫ل أنحاء العالم َ‬ ‫ن الرجال في ك ّ‬ ‫وليس الفتيات‪ ،‬حسب تقاليد الهندوس‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫ضت به السوق من إناث‪ .‬وإذا‬ ‫حكم ما َفا َ‬ ‫سعرهم‪ ،‬وزاد دللهم‪ ،‬وتضاعفت شروطهم‪ ،‬ب ُ‬
‫ن‪ ،‬وهو أمٌر‪ ،‬حسب‬ ‫ّ‬ ‫بمفرده‬ ‫وينمن‬ ‫يعشن‬ ‫ل خمس نساء في فرنسا‬ ‫كانت اثنتان من ك ّ‬
‫ن مسؤولية الرجال في‬ ‫ل رجال الرض وعـــار عليهم‪ ،‬فإ ّ‬ ‫الصديق "زوربـــــا"‪ ،‬فيه إهانة لك ّ‬
‫أوروبا ستزداد في السنوات المقبلة‪ ،‬وكذلك عار ل مبالتهم تجاه ‪ 38‬في المئة من نساء‬
‫ن الثلثين‪ ،‬ول رجل في حياتهن‪ .‬وتؤكد الحصاءات ارتفاع هذه النسبة ارتفاعا ً‬ ‫تجاوزن س ّ‬
‫شرنا التنبؤات بأن أكثر من نصف النساء الوروبيات‬ ‫مخيفا ً بحلول القرن المقبل‪ ،‬إذ ُتب ّ‬
‫فف من‬ ‫م الهائل من النــاث الوحيدات‪ ،‬وُأخ ّ‬ ‫وانس‪ .‬ولكي أرفع معنويات هذا الك ّ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫سيك ّ‬
‫ن نصفنا يعشن مع رجال متزّوجين في النهار‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫أطمئنه‬ ‫حسدهن لنا‪ ،‬نحن "المتزوجات"‪ُ ،‬‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ما الوفيــاء‬ ‫من وظائفهم ومشاغلهم‪ ،‬وفي المساء من أصدقائهم‪ ..‬أو من التلفزيون‪ .‬أ ّ‬
‫ن بين المتزّوجات أيضا ً نساء ُيعانين‬ ‫فيكتفون بإقامة علقة مشبوهة مع "النترنت"‪ ،‬أي أ ّ‬
‫خــرًا‪ ،‬خبرا ً‬ ‫ي‪ .‬حتى إننا قرأنا مؤ ّ‬ ‫ّ‬
‫طلق اللغو ّ‬ ‫ي‪ ،‬أو ال ّ‬ ‫سـريـر ّ‬ ‫طلق ال ّ‬ ‫ي‪ ،‬أو ال ّ‬ ‫طلق العاطف ّ‬ ‫ال ّ‬
‫ُ‬
‫ك في أبوته‬ ‫عجيبًا‪ ،‬عن زوج برازيلي أقسم على عدم مخاطبة زوجته إلى البد‪ ،‬بعدما ش ّ‬
‫سم يعود إلى خمسة وثلثين عاما ً بالضبط‪،‬‬ ‫ق َ‬ ‫ن هذا ال َ‬ ‫لمولودهما‪ ..‬السابع‪ .‬العجيب أ ّ‬
‫سم زوجها‪ ،‬ولم تتبادل معه كلمة واحدة طوال هذه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ب‬ ‫فــت‬ ‫والزوجة البالغة ‪ 65‬عامًا‪ ،‬و ّ‬
‫دث إليه نيابة عنها‪ .‬الزوجة التي كانت بدءا ً‬ ‫العوام‪ ،‬تاركة لطفالها وأحفادها مهمة التح ّ‬
‫ً‬
‫صـراخ‪ ،‬تأقلمت تدريجيا مع وضعها الجديد‪ ،‬ودخلت في طور‬ ‫عصبّية المزاج‪ ،‬ودائمة ال ّ‬
‫دية‪ ،‬بأنه على الرغم من طول فترة‬ ‫ّ‬ ‫الج‬ ‫من‬ ‫بكثير‬ ‫رح‬
‫ّ‬ ‫فص‬ ‫ُ‬
‫لها‪،‬‬ ‫ما بع‬
‫ي"‪ .‬أ ّ‬
‫صمت الزوج ّ‬ ‫"ال ّ‬
‫صمت بينهما‪ ،‬فقد استطاع أن ينجب منها خمسة أطفال‪ .‬وهكـــذا‪ ،‬بفضل المؤسسة‬ ‫ال ّ‬
‫الزوجية‪ ،‬أصبح في إمكان النسان أن ُيفاخر بأنه يتمّيز عن الحيوان بكونه الكائن الوحيد‬
‫الذي في مقدوره التناسل‪ ،‬من دون أن يتبادل كلمة واحدة مع شريكه أو يقوم بجهد‬
‫مغازَلة التي تأخذ طقوسها عند بعض الحيوانات‪ ،‬ساعات بأكملها‪ .‬وقد ُأضيف‬ ‫طفة وال ْ ُ‬‫مل ّ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ن زوجة‬‫صمت التقليدي للزواج‪ ،‬إنهماكهم الجديد في متابعة الفضائيات‪ ،‬حتى إ ّ‬ ‫إلى ال ّ‬
‫ما المتزوجات من‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫التلفزيون‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫إ‬ ‫يعاشر‬‫ُ‬ ‫ل‬ ‫زوجها‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫طلق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫المحكمة‬ ‫من‬ ‫طلبت‬ ‫مصرية‬
‫ن يقرأنه في بريد إلكتروني عاجل‪ ..‬أرسل به زوج‬ ‫مرضى "النترنت"‪ ،‬فحتى خبر طلقه ّ‬
‫من لم يتزّوجن بعد لبؤسنا‪ .‬فمعظم‬ ‫ن‬
‫َ ّ َ‬ ‫ن‬ ‫فليطمئ‬ ‫"مش فاضي للكلم مع حرمة"•‬
‫وانس أنجبن أولدا‪ً.‬‬ ‫ن في الواقع‪ ..‬ع َ َ‬ ‫المتزّوجات هــ ّ‬

‫كلمات‪ ..‬قطف سيفك بهجتها‬

‫رجل لم يدرِ كيف يرد ّ‬


‫على ُقبلة‬
‫تركها أحمر شفاهي‬
‫على مرآتـــه‬
‫فكتب بشفرة الحلقــة‬
‫على قلبي‪:‬‬
‫“ُأحّبـــك”‬
‫***‬
‫حتما•• رحيلك مراوغة‬ ‫ً‬
‫على طاولت الكسل الصيفية‬
‫أنتظرك بفرحتي‬
‫كباقة لعّباد الشمس‬
‫في مزهرية‬
‫لكن•• فراشة الوقت‬
‫على وشك أن تطير‬
‫***‬
‫ل تكن آخر الواصلين‬
‫أحدهم سيجيء‬
‫سيجيء ويذهب بي‬
‫بعد أن يخلع باب‬
‫انتظاري لك‬
‫***‬
‫خطاي ل بوصلة لها سواك‬
‫ُتكّرر الحماقات إّيـاهــــا‬
‫تنحرف بين صوبك‬
‫عائدة إلى جادة الخطأ‬
‫ما من عاشق تعّلم من أخطائه‬
‫***‬
‫مدماة‬ ‫ُ‬ ‫كلمات‬
‫قطف سيفك بهجتها‬
‫مراق‬‫لن ترى حبرها ال ْ ُ‬
‫***‬
‫غافلة عن خنجرك‬
‫ينبهني الحبر حينا ً‬
‫إلى طعنتك‬
‫سأضع شفاه رجل غيرك‬
‫شافا ً‬ ‫ورقا ً ن ّ‬
‫يمتص نزيفي بعدك‬
‫***‬
‫كما نحن‬
‫ظى عشقنا السر‬ ‫تش ّ‬
‫وانكسر إبريق‬
‫كنا تدّفقنا فيه‬
‫منسكبين أحدنا في الخر‬
‫***‬
‫ل تدع جثمانك بيني وبينهم‬
‫من صادفني‬ ‫ل َ‬ ‫ك ّ‬
‫وقف ُيصلي عليك صلة الغائب‬‫ّ‬
‫ما ظننتني‬
‫سأنفضح بموتك إلى هذا الحد‬

‫كمين الورد‬
‫من أحببتهم سقطوا من القطار”‪،‬‬ ‫هذا العام أيضًا‪ ،‬لن ُأرسل بطاقات معايدة إلى أحد‪“ .‬ك ّ‬
‫ل َ‬
‫حسب قول أنسي الحاج‪ ،‬وما عاد لهم في القلب من عنوان ُأراسلهم عليه‪ .‬وذاك الذي‬
‫ُأحّبه‪ ،‬أقرب من أن أكتب إليه بطاقة‪ ،‬هو يكتبني على مدار العام‪.‬‬
‫وحدهم قرائي يزيدون‪ ،‬في كل عيد‪ ،‬من إحساسي بالذنب‪ ،‬بعدما فاضت بحّبهم رفوف‬
‫مكتبتي‪ ،‬ووجدتني عاجزة عن الرد على اجتياحهم العاطفي‪ ،‬بما ُيضاهيه سخاء‪ ،‬يشفع لي‬
‫وع لجمعها(‪ ،‬لم يحدث أن‬ ‫أنني وقد أضعت الكثير من كتاباتي )حتى أصبح البعض يتط ّ‬
‫أهملت يوما ً رسالة لقارئ‪ .‬ومازلت منذ ثلثين سنة ُأواظب على ترتيب بريد قرائي‪،‬‬
‫فات ضخمة‪ ،‬ذات أوراق داخلية شفافة‪ ،‬تسع كل واحدة منها‪ ،‬ما ُيقارب‬ ‫وُأرّقمه في مل ّ‬
‫ُ‬
‫الثمانين رسالة‪ ،‬مرئية من الوجهين‪ ،‬مرفوقة أسفل الورقة بمغّلفها‪ .‬ذلك أنني أقيم مع‬
‫مغّلفات الرسائل وطوابعها علقة عاطفية‪ ،‬وأحزن عندما يحاول أحدهم أن ُيجّرد مغلفاتي‬
‫من طوابع بريدها‪ ،‬أو يفتحها ممّزقا ً أطرافها كيفما اتفق‪ .‬المغّلف قميص حبيب ُأريد أن‬
‫ن‪ ،‬حسب ما يشي به مزاج المغلف من لهفة‪.‬‬ ‫أفك أزراره وحدي‪ ،‬بسرعة أو بتأ ّ‬

‫ن أجمل الرسائل‪ ،‬قد تأتيك من دون مغلفات‪ ،‬وأحيانا ً من دون طوابع‬ ‫مؤخرًا‪ ،‬اكتشفت أ ّ‬
‫بريدية‪ .‬لكأن أصحابها ألصقوا قلوبهم طوابع بريد عليها‪ ،‬أو كأنها‪ ،‬لفرط حمولتها العاطفية‪،‬‬
‫ت بها منذ شهر على مكتبي‪ ،‬كما‬ ‫معفاة من رسوم النقل البريدي‪ ،‬كتلك التي احتفظ ُ‬ ‫غدت ُ‬
‫ل الفاكسات التي وصلتني‪ ،‬يوم‬ ‫سّلمني إّياها العزيز زاهي وهبي‪ ،‬في مغّلف كبير‪ ،‬يضم ك ّ‬
‫استضافِته لي في برنامج “خليك بالبيت”‪ .‬ومعها تلك البطاقات التي وصلت‪ ،‬مرفوقة‬
‫بثماني باقات وسلل ورد‪ ،‬بعضها لم يكن لصحابها حق اختيار ورودها‪ ،‬ول حتى فرحة‬
‫رؤيتها على الشاشة في لقطة منفردة‪ ،‬بعد أن قضى‪ ،‬مثل الصديقة القارئة جليلة الجشي‪،‬‬
‫من رام الّله‪ ،‬أياما ً في التصال بالقارب في لبنان‪ ،‬لتأمين سّلة ورد أصّرت على أن تكون‬
‫مة الشعب‬ ‫كبيرة‪ ،‬ومن أشهر محال الورود‪ ،‬ل لتليق بي وحسب‪ ،‬وإنما لتليق بعا ّ‬
‫فل بها‪.‬‬
‫الفلسطيني‪ ،‬وامتنان العائلت الفلسطينية التي أتك ّ‬

‫على أي عنوان‪ ،‬غير هذه الصفحة‪ ،‬أرد ّ لجليلة جميلها وثناءها؟ وكيف ُأعايدها في بداية هذه‬
‫السنة‪ ،‬و ل بريد يصل إليها‪ ،‬ول هاتف غير هاتف القلب‪ ،‬يمكنه عبور “الخطوط الحمراء”‪،‬‬
‫التي تمنع البريد من اجتياز الحدود بين البلدين؟‬
‫ومن أين لي بمئة رسالة‪ ،‬لشكر أعضاء هيئة مكتب الجالية الجزائرية في لبنان‪ ،‬الذين‬
‫ي سّلة من مئة وردة‪ ،‬أصّر العضاء الخمسة على المشاركة الرمزية في تأمين‬ ‫أرسلوا إلـ ّ‬
‫م هناك سّلة ورد من‬ ‫ّ‬ ‫ث‬ ‫الجزائر؟‬ ‫اسم‬ ‫يحمل‬ ‫عليها‪،‬‬ ‫البيض‬ ‫الساتان‬ ‫من‬ ‫شريط‬ ‫ووضع‬ ‫ثمنها‪،‬‬
‫“رابطة خّريجي الجامعات والمعاهد الجزائرية في لبنان”‪ ،‬وهم أكثر من ثلثة آلف لبناني‪،‬‬
‫جّلهم من الطباء الذين درسوا في الجزائر وعلى حسابها‪ ،‬أيام الحرب اللبنانية‪ ،‬ومازالوا‬ ‫ُ‬
‫يكنون للجزائر كل الحب‪ .‬وهؤلء وحدهم ل أشعر تجاههم بالذنب‪ ،‬ل لنهم كانوا مواطنين‬
‫جزائريين‪ ،‬بحقوق كاملة في الجزائر فحسب‪ ،‬وإنما لن معظمهم عاد إلى لبنان بـ”وردة”‬
‫من بستان الجزائر‪.‬‬

‫وهناك ماري عيراني‪ ،‬القارئة الصديقة‪ ،‬المقيمة في أفريقيا‪ ،‬التي ل أنسى أنها كانت‬
‫ي باقة ورد في أول لقاء لي مع زاهي وهبي‪ ،‬وعادت بعدما‬ ‫الوحيدة‪ ،‬التي أرسلت إلـ ّ‬
‫ي باقة على البرنامج نفسه‪ ،‬مرفوقة بهاتف غربتها‬ ‫ضّيعُتها خمس سنوات‪ ،‬لُترسل إلـ ّ‬
‫الجديدة‪ .‬والصغيرة رندا شهاب )‪ 15‬سنة(‪ ،‬التي أهدتني مع باقة ورد صغيرة‪ ،‬شهادة فوزها‬
‫في مباراة القصة الوطنية القصيرة‪.‬‬
‫وصديق الكلمات الجميلة ربيع فّران‪ ،‬الذي صادفته‪ ،‬قبل ذهابي إلى الستديو‪ ،‬وأخفى عني‬
‫ي‪.‬‬
‫سّر باقة الورد‪ ،‬التي كان قد أرسلها إلـ ّ‬
‫والممثل القدير شوقي مّتى‪ ،‬الذي أضعت أخباره منذ سنوات طويلة‪ ،‬وُفوجئت بوروده‬
‫وببطاقة مؤثرة‪ ،‬ربما تكون تشي بأسباب غيابه‪.‬‬

‫مة زهورا ً ل‬
‫نث ّ‬ ‫ول أنسى العزيز طــــلل طعمـــة‪ ،‬الذي جاءت سّلـة وروده‪ ،‬لُتذ ّ‬
‫كرني بأ ّ‬
‫تذبل‪ ،‬لنها تتفّتح ُأسبوعيا ً في “زهرة الخليج”‪.‬‬
‫در الورود الذبول‪ ،‬لم يبقَ من كمائن الورد‪ ،‬التي نصبها لي الحّبة في ذلك البرنامج‪،‬‬ ‫ن قَ َ‬
‫ول ّ‬
‫ي مشكورًا‪ ،‬القارئ رضوان‬ ‫ّ‬ ‫إلـ‬ ‫أرسلها‬ ‫الزاهية‪،‬‬ ‫الورود‬ ‫من‬ ‫لل‬‫ّ‬ ‫بش‬ ‫مغطاة‬ ‫ية‬
‫ّ ُ‬ ‫شمس‬ ‫سوى‬
‫لمسية ممطــــرة‪.‬‬ ‫غندور‪ ،‬تحسبا ً ُ‬
‫ّ‬
‫بقـي أيضا ً بطاقات وفاكسات على مكتبي‪ ،‬وسلل ورد فارغة‪ ،‬في ُركن من شرفتي‪،‬‬
‫ُأحاول في هذه الصفحة أن أملها بـورد المتنــان البــدي‪ ،‬الذي ل تنقذه من الذبول‪ ...‬إل ّ‬
‫الكتابة‪.‬‬

‫كن فصيحًا‪ ..‬كحذاء‬


‫عـــاد الصيف‪ ،‬ومعه ذلك الهوس النسائي بالحذية النيقة العارية‪ ،‬والقدام الجميلة التي‬
‫صصت ملفا ً لولع‬ ‫خ ّ‬
‫تمشي على الصفيح الساخن للرغبات الصيفية‪ .‬مجلة نسائية فرنسية َ‬
‫ن المر يعود‪،‬‬ ‫مستنجدة بمحلل نفسي‪ ،‬وجد على طريقة "فرويــد" أ ّ‬ ‫بعض النساء بالحذية‪ُ ،‬‬
‫حتمًا‪ ،‬لشهوات نسائية مكبوتة‪ ،‬مستندا ً إلى الشكل المستطيل للحذاء)!(‪ .‬وبرغم اعتقادي‬
‫وهات النفسية للطباء‪ ،‬أكثر مما تشي بُعقد مرضاهم‪ ،‬فقد‬ ‫ن هذه التحليلت تشي بالتش ّ‬ ‫أ ّ‬
‫ن النقص في ذكور‬ ‫ذكرني الربط بين الحذاء والذكورة بطرافة ما قرأته ذات مّرة عن أ ّ‬ ‫ّ‬
‫الضفادع دفع إناثها في منطقة من إنجلترا إلى "التزاوج" يأسا ً مع الحذية المصنوعة من‬
‫ن رجل ً اتصل بالمحمّية شاكيا ً‬ ‫طاط الخضر التي ينتعلها العاملون في ال ْب َِرك‪ ،‬حتى إ ّ‬ ‫الم ّ‬
‫وروا هذه الخرة‪" .‬أنا رضيت‬ ‫طاطي الخضر‪ .‬تص ّ‬ ‫متحّرشة بحذائه الم ّ‬ ‫الضفادع التي هاجمته ُ‬
‫ً‬
‫ي!"‪ .‬إناث الضفادع تقبل بالحذاء المطاطي الخضر زوجا‪ ..‬لكن‬ ‫م ما رضاش ب ّ‬ ‫م واله ّ‬‫باله ّ‬
‫الحذاء ل يقبل بها ويشكوها للبوليس‪ ،‬كما في تلك الغنية الجزائرية التي اشتهرت منذ‬
‫ي للبوليسّية!"‪ ،‬وهي أغنية عاطفّية يستنجد فيها العاشق‬ ‫سنوات وكان مطلعها‪" :‬إِديوَه ْ عل ّ‬
‫بالبوليس ليسوق حبيبته إلى المخفر‪ ،‬ويخلصه من حّبها‪ ،‬وكان أجدى به أن يستنجد بأبي‬
‫مات‬ ‫مصعب الزرقاوي‪ ..‬أو ابن عمه أبي مصعب السوري‪ ..‬فل أنفع منهما ول أسرع في مه ّ‬
‫كهذه‪ .‬ول لوم على الضفادع المسكينة‪ ،‬فالحيلة بنت الحاجة‪ .‬وعلى المرء أن "يدّبر راسو"‪،‬‬
‫ويتدّبر أمره في انتظار الفرج‪ .‬وانطلقا ً من هذا المنطق ل نعجب لمر الكاتب الراحل‬
‫محمد شكري‪ ،‬الذي في كتابه "الخبز الحافي"‪ ،‬وربما لّنه كان حافيا ً وليس في متناوله أي‬
‫حذاء مطاطي‪ ،‬أجاز للراوي التزاوج مع الحيوان‪ ،‬تماما ً كما يتزاوج الحيوان عند الحاجة‬
‫وع لمهاجمتي المدافعون عن حقّ الكاتب في قول ما‬ ‫القصوى مع حذاء‪ .‬وقبل أن يتط ّ‬
‫معاشرة "من"‪ ..‬و"ما"‬ ‫مناصرو حرية الحيوان في ُ‬ ‫يشاء‪ ،‬وُيحاكمني أتباع بريجيت باردو‪ ،‬و ُ‬
‫ضح لهؤلء وُأولئك‪ ،‬أنني على علقة طيبة مع الضفادع‪ ،‬حتى إنني لم أقبل يوما ً‬ ‫ُ‬
‫يشاء‪ ،‬أو ّ‬
‫ق‪.‬‬‫متخّلفة وبل ذوق را ٍ‬ ‫مجازفة بأن أبدو ُ‬ ‫ي في مطعم فاخر‪ُ ،‬‬ ‫عرضت عل ّ‬ ‫التهام أفخاذها كلما ُ‬
‫ما الك ُّتاب‪ ،‬فلن أزيد على عداوات الحياء منهم عداوات الموات‪ ،‬ما يعنيني هنا هو الحذاء‪.‬‬ ‫أ ّ‬
‫ً‬
‫ذلك أنني لم أكن أعرف له "رمزا" كهذا‪ ،‬قبل أن يفتي في أمره فقهاء علم النفس‪ ،‬ول‬
‫عرفت له "وظيفة" كهذه مثل هذا الخبر‪ .‬فما ظننت اللون الخضر فاتحا ً للشهّية الجنسية‬
‫عرف عن والدة فيكتور هيغو‬ ‫ل الثورات‪ ،‬حتى إنه ُ‬ ‫للضفادع‪ ،‬وهو اللون "الفاتح" في ك ّ‬
‫انتعالها أحذية خضراء كي تدوس الرض بلون المبراطورية‪ .‬وأتمنى أل ّ يقرأ هذا المقال‬
‫مشّردي المعارضة العربية‪ ،‬فيقتدون بوالدة فيكتور هيغو‪ ،‬وينتعل كل منهم‬ ‫من بقي حي ّا ً من ُ‬ ‫َ‬
‫حذاًء في لون رفضه‪ ،‬فأكون سببا ً في اغتيالهم واصطيادهم بعدما يستدل عليهم المخبرون‬
‫من أطلقوه‬ ‫من أحذيتهم‪ .‬وبرغم شعار "ُقلها بالورود" الذي ربما كان باعة الورود هم َ‬
‫لقناعنا أن في إمكان الورود أن تنوب عنا في التعبير عن كل أحاسيسنا‪ ،‬أعتقد أنه في‬
‫إمكاننا توفير ثمن الزهور‪ ،‬والستعاضة عنها في معظم الحالت بالحذاء‪ ،‬الذي يبدو لي في‬
‫منتعله‪.‬‬ ‫زمن كاتم الصوت السياسي والجنسي‪ ،‬أكثر فصاحة وصراحة‪ ،‬وأحيانا ً وقاحة‪ ..‬من ُ‬
‫تريد أن تقول لمرأة إنك تحّبها‪ ،‬أو إنك تريدها زوجة‪ ،‬ل تشتري وردا ً ول خاتمًا‪ ،‬اهدها قبقابا ً‬
‫ضة‪ ،‬كذلك الذي ُيباع في أسواق تونس‪ .‬ستفهم أنها ضرورية لحياتك‪ ،‬وأنكما‬ ‫صغيرا ً من الف ّ‬
‫ل غضبك في كلمة‪..‬‬ ‫كفردتي حذاء‪ ،‬ل يمكن لحدكما النفصال عن الخر‪ .‬تريد أن تختصر ك ّ‬
‫ك حتى‬ ‫حذ َُر َ‬
‫َ ْ‬ ‫ي‬‫و‬ ‫لك‬ ‫ن عليه أن ُينصت‬ ‫كر العالم بأّنك أكبر من أل ّ ُيسمع صوتك‪ ،‬وأ ّ‬ ‫تريد أن ُتذ ّ‬
‫دد‪ .‬لقد ابتدع "خروتشوف" في الستينات‬ ‫دد أو ُتن ّ‬ ‫ُ‬
‫ق خطابا‪ ،‬ل تشك ول ُته ّ‬ ‫ً‬
‫للتحاور‪ ،‬عندما خلع حذاءه وهو على منصة مجلس ا ُ‬ ‫في صمتك‪ ..‬ل تل ِ‬
‫لمم‪ ،‬وضرب به على‬ ‫ّ‬ ‫طريقة جديدة‬
‫ّ‬
‫الطاولة"‪ .‬أحيانـــا‪ ،‬ل أكثر فصاحة من حذاء‪ ..‬شرط أل يكون صاحبه حافي الصوت!‬ ‫ً‬

‫كولمبو ُيشاطرني بيتي‬


‫دمها لنا المطبخ‬
‫دسمة‪ ،‬التي يق ّ‬
‫كان لي أكثر من موضوع للكتابة يليق بوجبات الخبار ال ّ‬
‫عسر‬‫ي‪ ،‬حيث يتبارى أكثر من “شيف”‪ ،‬أين منهم الشيف رمزي‪ ،‬في إعداد موائد ُ‬ ‫العرب ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اليوم‬ ‫بدننا‬ ‫م‬
‫ّ‬ ‫وس‬ ‫هضمنا‬
‫لكن‪ ،‬أعذروا َبلبلتي‪ ،‬فمن عادتي أل ّ أكتب هذا المقال إل ّ “ساعة الحشر”‪ ،‬قبل نفاد صبر‬
‫مفاجئا ً أسعدني بقدر ما أربكني‪ ،‬ووضعني أنا‬ ‫ن خبرا ً ُ‬
‫رئيس التحرير بقليل‪ ،‬لول أ ّ‬
‫ي‪ ،‬ما عاد يمكن معه التركيز على‬ ‫و”مصاريت”‪ ،‬شّغالتي الثيوبّية‪ ،‬في حالة استنفار منزل ّ‬
‫ي أو صحافي‪.‬‬ ‫أيّ موضوع أدب ّ‬
‫جاءت ُأمي من الجزائر لتزورني‪ .‬هكذا دون سابق إعلن‪ ،‬كما كان المفتشون الدوليون‬
‫يزورون المنشآت العراقّية بحثا ً عن أسلحة الدمار الشامل من دون سابق إنذار‪ .‬فلول أنني‬
‫ن ُأمي‬
‫مصادفة المسؤولة عن الخطوط الجزائرية في بيروت‪ ،‬التي أخبرتني أ ّ‬ ‫التقيت ُ‬
‫موجودة ضمن قائمة القادمين إلى بيروت‪ ،‬ما كنت عرفت بهذا “الخبر العاجل” من أحد‪،‬‬
‫ب ُأمي عنصر المفاجـــأة‪ ،‬وأحيانا ً “المفاجعـــة”‪ ،‬على طريقة “كولمبو” في مباغتة‬ ‫لح ّ‬
‫“المشبوهين”‪.‬‬
‫ن المرء‪ ،‬حسب أحدهم‪ ،‬ل يمكن أن يتنبأ بموعد هبوب العاصفة أو هبوب العاطفة‪ ،‬ما‬ ‫ل ّ‬
‫ُ‬
‫ما فاضت به عواطف أمي من أشواق لرؤيــة‬ ‫كان لي أن أتنبأ بحدث كهذا‪ ،‬على الرغم م ّ‬
‫من يزورها في الجزائر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أنا‬ ‫كنت‬ ‫الماضية‪،‬‬ ‫سنوات‬ ‫أحفادها‪ ..‬وزيارة بيروت‪ .‬فخلل الربع‬
‫ُ‬
‫أكثر من مّرة في السنة‪ ،‬مستفيدة من سخاء أمومتها‪ ،‬ووفرة خدماتها‪ .‬فهي تضع سائقها‬
‫في تصّرفي‪ ،‬وتتفّرغ لتدليلي وإلباسي وإطعامي ليام على ذوقها‪ ،‬مقابل أن ُأجالس‬
‫م ُتعيدني إلى بيروت‪ ،‬وقد زاد وزني وتضاعف حملي‬ ‫ُ‬
‫صديقاتها أو أرافقها إلى زيارتهن‪ ،‬ث ّ‬
‫ملتني من لوحات سيراميك‪،‬‬ ‫بما حشت به أمتعتي من “كسكسي” و”عراجين تمر”‪ ،‬وما ح ّ‬
‫ّ‬
‫قامت هي برسمها‪ ،‬بإتقان أذهل محترفي السيراميك من زملء أختي‪ ،‬صوفيا‪ ،‬بعدما تولت‬
‫أمي إدارة محترف صوفيا‪ ،‬عندما تزوجت هذه الخيرة وغادرت الجزائر‪.‬‬
‫أمي باختصار‪ ،‬رائعة عندما تكون في بيتها‪ ،‬لكنها ما تكاد تدخل بيتي حتى تقلب حياتي رأسا ً‬
‫قد‬ ‫على عقب‪ .‬وما أن تضع حقائبها أرضا ً حتى تقوم‪ ،‬بعين رجل تحّر‪ ،‬بجولة في البيت لتف ّ‬
‫ما قد زاد فيه‬ ‫هيئته ومستجداته‪ .‬وقبل مرور أربع وعشرين ساعة‪ ،‬تكون قد أجرت جردة ل ِ َ‬
‫أو نقص‪ ،‬وشرعت في استجوابي عن مقتنياتي التي اختفت‪ ،‬لعلمها أنني قد ُأهدي‪ ،‬في‬
‫ي‪ ،‬ثيابي أو مصوغاتي أو تحف بيتي‪ .‬وعندما أرى شكوكها تذهب نحو‬ ‫لحظة انجراف عاطف ّ‬
‫الشّغالة‪ُ ،‬أدافع عن المسكينة بالوشاية بنفسي‪.‬‬
‫“مصاريـــت”‪ ،‬التي تعرف مزاج ُأمي‪ ،‬قضت أربعا ً وعشرين ساعة في “تمشيط” البيت‬
‫ونفضه‪ ،‬وكأننا سنستقبل البرادعي‪ ،‬رئيس هيأة الطاقة الذرّية‪ ،‬للقامة عندنا‪ ،‬وقامت‬
‫ذبة” على غرفتها‪:‬‬ ‫كتبها ودفاترها حتى ل تصرخ ُأمي‪ ،‬وهي تلقي نظرة “مه ّ‬ ‫بإخفاء أقلمها و ُ‬
‫“ما هذا؟‬
‫مر عن ساعديها وتصعد لتنظيف الثريات تقضي وقتها‬ ‫أجئت بخادمة أم كاتبة؟ بدل أن ُتش ّ‬
‫مغلقة غرفتها تخربش؟”‪ُ .‬أتمتم “لكنها قد تسقط من السّلم”‪ ،‬تصيح بي‪“ :‬ولماذا ل أسقط‬
‫د‪“ :‬ل يسمحون لها‬ ‫ضبها؟”‪ ،‬أر ّ‬ ‫أنا منه وعمري سبعون سنة؟”‪“ .‬وخزائن الولد‪ ،‬لماذا ل تو ّ‬
‫بدخول غرفتهم”‪.‬‬
‫مرة إلى أختي‬ ‫متذ ّ‬‫منذ أربع سنوات‪ ،‬عندما زارتني أمي لتصوم معنا رمضان‪ ،‬غادرتني ُ‬
‫ول في بيروت‪ ،‬فاستوقفتها‬ ‫الكثر ترتيبًا‪ .‬وحدث أن أخرجتها يومها صوفيا بعد الفطار للتج ّ‬
‫صحافية ربما لفت انتباهها عباءة ُأمي‪ ،‬فسألتها في إطار مسابقة رمضانية بهدف الترويج‬
‫ي المنطقتين‪ ،‬اللتين يربط بينها “بيريفيريك” لبنان‪ .‬وعندما أجابتها‬ ‫السياحي‪ ،‬عن اسم ّ‬
‫دت الصحافية بفرح‪:‬‬ ‫وها من الجزائر”‪ ،‬ر ّ‬ ‫أختي ساخرة‪“ :‬كيف لها أن تعرف وقد وصلت لت ّ‬
‫ضلة جزائرية اسمها‪ ،”....‬وعندما قالت ُأمي بزهو‪“ :‬إنها ابنتي!”‪ ،‬فما كان من‬ ‫“كاتبتي المف ّ‬
‫الصحافية المدهوشة إل أن قّبلتها بحرارة وتحايلت لُتربحها الجائزة‪ ،‬وهي دعوة مجانية إلى‬‫ّ‬
‫مطعم‪.‬‬
‫سعدت أمي كثيرا‪ ،‬على الرغم من كونها لم تذهب إلى ذلك المطعم‪ ،‬برفقة ثلثة أشخاص‬ ‫ً‬
‫للفطار‪ ،‬وسعدت أكثر منها‪ ،‬لنها بدأت تقمع نزعاتها “الرهابية” تجاهي‪.‬‬
‫ملين بباقة ورد طلبا ً للهدنة‪ .‬سألتها كيف كانت‬ ‫مح ّ‬‫اليوم‪ ،‬ذهبت لنتظارها‪ ،‬أنا وابني مروان‪ُ ،‬‬
‫سفرتها؟ أجابت بزهو مستتر‪“ :‬سألني رجل المن في مطار بيروت أين سُأقيم؟”‪ ،‬أجبته‬
‫“عند ابنتي”‪ .‬وعندما قرأ اسمك قال‪“ :‬هيدي الّلي بتكتب؟”‪ .‬أخفيت فرحتي‪ ،‬ودعوت في‬
‫سّري أن يضع الّله كثيرا ً من قّرائي في طريق ُأمي‪ ،‬عساها تتنّبه إلى أنني كاتبة‪ ،‬وتك ّ‬
‫ف‬
‫عن مداهمة غرفتي وخزائني وجواريري‪.‬‬
‫يا ناس‪ ..‬أعذروني مسبقا ً ع ّ‬
‫ما سأكتبه في السابيع المقبلة‪ .‬فأنا ل أعرف الجلوس إلى‬
‫أوراقي وكولمبو ُيشاطرني بيتي‪.‬‬

‫لعنة الحقائب الفاخرة‬

‫قيت تلك الحقيبة الفاخرة هدية‪ ،‬ضمن طاقم من أربع حقائب مختلفة الحجام‬ ‫يوم تل ّ‬
‫والشكال‪ ،‬استبشرت خيرا ً بها‪ .‬فقد صادف وصولها رغبة لديّ في التخّلص من ذاكرة‬
‫حقيبة ُأخرى‪ ،‬حملت يوما ً ثياب لهفتي إلى مطارات ما عادت وجهة قلبي‪ .‬ثم أنا أثق‬
‫بإمكانية كيد حقيبة لحقيبة ُأخرى‪ ،‬كما تكيد زوجة جديدة لضّرتها‪ .‬ولنني كنت جاهزة في‬
‫جميع الحالت لممارسة حقي في الخلع‪ ،‬فقد أحلت حقيبتي القديمة على أناقتها‪ ،‬إلى‬
‫كة‪ ،‬كما تنهي أعمارها‬ ‫التقاعد العاطفي والوظيفي‪ .‬وركنتها في اسطبل الحقائب ال ْ ُ‬
‫منهَ َ‬
‫كثر الترحال بشيخوختها‪ .‬في أول رحلة لي منذ شهرين برفقة حقيبتي‬ ‫جل ُ‬ ‫أحصنة ع ّ‬
‫جمارك في مطار نيس‪ .‬ما كادوا يرونني أدفع عربتي بحقيبتين‬ ‫َ‬ ‫ال‬ ‫رجال‬ ‫أسعدت‬ ‫الجديدة‪،‬‬
‫فاخرتين وأرتدي بسبب البرد معطف فرو‪ ،‬اقتنيته منذ سنوات في موسم التنزيلت‪ ،‬حتى‬
‫تركوا جميع الركاب يعبرون وتفّرغوا لي‪ ،‬خاصة بعدما لمحوني أبتسم وأنا أراهم يتبادلون‬
‫النظرات استبشارا ً بصيد ثمين‪ ،‬متوقعين أن تعود شباكهم‪ ،‬في أسوأ الحالت‪ ،‬ببضاعة‬
‫مقّلدة لحدى أشهر الماركات العالمية التي يزدهر سوق تزويرها وتهريبها بين إيطاليا‬ ‫ُ‬
‫ولبنان‪ ،‬فيغّرمونني ثمنها الصلي أضعاف المرات‪ .‬لم أكن امرأة فوق الشبهات ول تحتها‪،‬‬
‫كنت الشبهة ذاتها‪ ،‬بسبب مظهر ثرائي فاضح الشبهة‪ ،‬المدعوم بجواز سفري الفرنسي‬
‫ومسقط رأسي الجزائري‪ ،‬وإقامتي في لبنان وقدومي من ميلنو‪ ،‬وامتلكي بيتين في‬
‫جنوب فرنسا‪ ،‬حيث مربط خيل الثرياء الجدد من مافيات روسيا وإيطاليا‪ ..‬ولبنان‪ .‬خّيبت‬
‫ن الجمركي‪ ،‬وهو يفتح حقيبتي تلك‪ ،‬فل يقع على غير ثيابي العادية وكثير من الكتب‬ ‫ظ ّ‬
‫وسجادة صغيرة للصلة أحضرتها معي احتياطا ً لنوبة تقوى قد ُتصيبني‪ ،‬بعدما أصبح عندي‬
‫في بيروت سجادتان للصلة أهدتني إحداهما صديقة إماراتية في رمضان الماضي‪ ،‬فقلت‬
‫أحتفظ بواحدة في كل بيت‪ .‬لم يفهم الجمركي نفع سجادة غير ثمينة "ُأهّربها" في‬
‫ن صدمَته كانت في الحقيبة الصغرى‪ ،‬التي كنت أجّرها لّول مّرة مستعرضة‬ ‫حقيبتي‪ ،‬لك ّ‬
‫خضار الطازجة التي اشتريتها من السوق الحّرة في‬ ‫ُ‬ ‫ال‬ ‫من‬ ‫جنينة‬ ‫تخفي‬ ‫بها‬ ‫أناقتها‪ ،‬وإذا‬
‫مطار بيروت‪ .‬من طماطم بلدية وخيار صغير‪ ،‬ل يوجد مثله في فرنسا‪ ،‬وربطة نعناع‬
‫نضرة‪ ،‬وأجبان بلدّية وزيتون بزعتر وآخر حار بالجوز‪ .‬ولو كنت في مطار في أميركا‪،‬‬
‫جرا ً صحي ّا ً أي ّا ً كانت جنسية وديانة المواد‬‫ح ْ‬
‫ي َ‬
‫ي الكلب لتشمشمني وفرضوا عل ّ‬ ‫لفلتوا عل ّ‬
‫الغذائية التي أحملها‪ .‬غير أن الجمركي الفرنسي اكتفى بسؤالي عن مهنتي وعنوان‬
‫إقامتي في فرنسا‪ .‬وعندما أخبرته أنني كاتبة أقصد بيتي البحريّ للكتابة‪ ،‬أظنه تفّهم غرابة‬
‫حمولتي واستلطفني‪ .‬وكما ليعتذر عن سوء ظنه بي‪ ،‬سألني إن كنت قد تعّرفت إلى ذلك‬
‫المطعم الجميل الموجود في منطقتي وإل ّ سكيون سعيدا ً بأن يدعوني إليه‪ .‬في بيروت‬
‫أيضًا‪ ،‬كثيرا ً ما يشتبه رجال الجمارك في حقائبي ول تشفع لي سوى الكتابة‪ .‬فعادة يسألني‬
‫حب‬ ‫ي وهو يدقق في جواز سفري‪ ،‬فير ّ‬ ‫ت قادمة؟" وغالبا ً ما يتعّرف إل ّ‬ ‫أحدهم "من أين أن ِ‬
‫دة وأحيانا ً بحرارة‪ ،‬حد ّ إرباكي وإبكائي‪ ،‬كذلك الجمركي الذي قال لي منذ سنوات‬ ‫بي بمو ّ‬
‫ن نحّبك في لبنان"‪.‬‬ ‫عدة‪ ،‬وهو يعيد لي جوازي اللبناني "ُيسعدني أن تحملي هذا الجواز‪ ..‬نح ُ‬
‫فقد كنت وقتها يتيمة وطن‪ ،‬أرى رفاقي من الكّتاب ُيذبحون في الجزائر كالنعاج‪ .‬في مطار‬
‫جنيف‪ ،‬حدث أن اشتبهت جمريكة في هيئتي‪ ،‬وفي ساعة في معصمي خالْتها من اللماس‪.‬‬
‫م سألتني ماذا جئت‬ ‫ُ‬
‫ن ثمنها مئة فرنك سويسري‪ .‬ث ّ‬ ‫سألتني لماذا لم أعلن عنها‪ .‬قلت إ ّ‬
‫أفعل في جنيف؟ أجبتها بأنني كاتبة‪ ،‬وأنني ُأحب بحيرة ليمان وُأحب الجلوس على مقعد‬
‫لمارتين المقابل لها‪ .‬لم تصدقني تماما ً حتى فتحت حقيبتي‪ .‬وعندما أطلعتها على كتاب لي‬
‫بالفرنسية كان مصادفة في حوزتي‪ ،‬غدت لطيفة وشديدة التهذيب وراحت تسألني كيف‬
‫السبيل إلى نشر أعمال أدبّية‪ .‬ذلك أن ابنتها موهوبة‪ ،‬لكنها ل تجد لروايتها ناشرًا! أخذت‬
‫دتني بعنوانها وهاتفها لنتواصل‪ .‬ولم نفعل‪ .‬من كثرة ترحالي‬ ‫عنوان كتابي لتشتريه‪ ،‬وأم ّ‬
‫تعّلمت أن الحقائب الفاخرة تجعلك شبهة معلنة لدى رجال الجمارك حيثما حللت‪ .‬والسوأ‬
‫صة ُأخرى!‬ ‫مال المطارات‪ ..‬وتلك ق ّ‬ ‫أنها تجعلك فريسة اللصوص‪ ،‬حتى من ع ّ‬

‫لمزيد من الكذب‪ ..‬أكتب‬


‫ن لي ُنبل العتراف‬ ‫دق‪ .‬غير أ ّ‬ ‫أنا بنت نيسان شهر الكذب‪ ،‬وليس من عادة السماك أن ُتص ّ‬
‫دد في تنبيه القارئ‬ ‫ّ‬ ‫أتر‬ ‫ولم‬ ‫ميت إحدى مجموعاتي "أكاذيب سمكة"‪،‬‬ ‫بذلك‪ ،‬حتى إنني س ّ‬
‫ً‬
‫بين جملتين‪ ،‬إلى احتمال أن يكون ما يقرأه في رواياتي‪ ،‬منسوجا من "دانتيل الكاذيب"‪.‬‬
‫مخادع‪ .‬وينوب عن‬ ‫ص ُ‬ ‫على الرغم من ذلك‪ ،‬كثيرا ً ما يرفض القارئ إمكانية أن يكون أمام ن ّ‬
‫زوجي في محاسبتي‪ ،‬كما نــاب الشعب الميركي عن هيلري في محاسبة بيل كلينتون‪.‬‬
‫شبهات‪ ،‬فليس واجبا ً أن ُتدافع‬ ‫ما ُيحيط كتاباتها من ُ‬ ‫أكبر حماقة تقترفها كاتبة‪ ،‬هي التبرؤ م ّ‬
‫ن‬
‫مزاِلــق أبطالها ونزواتهم‪ .‬فل أحد سواها يدري أ ّ‬ ‫فــة الكتابة وبراءتها‪ ،‬ول أن ُتبّرر َ‬ ‫ع ّ‬ ‫عن ِ‬
‫ن إسناد أقوالك وأفعالك إلى الخرين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فــ‬ ‫ً‬
‫ا‪،‬‬ ‫أيض‬ ‫هي‪،‬‬ ‫الرواية‬
‫الكتابــة فعل إرباك واستدراج القارئ إلى كمين لغة ملغومة بالحتمالت‪ ،‬وبذلك البوح‬
‫فـر الذي تختفي خلفه المرأة الكاتبة‪.‬‬ ‫مش ّ‬‫ال ْ ُ‬
‫شخصيا ل أثق ببراءة القارئ‪ .‬لـــذا ل أقوم بجهد البحث له عن لغة معصومة ُتشبهه‪،‬‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫مخاِدع‪ ،‬أخــي‪ ..‬يا شبيهي"‪.‬‬ ‫وأشارك "بودلير" قوله‪" :‬أيها القارئ ال ْ ُ‬
‫لماذا نحب كاتبا ً بالذات؟‬
‫ل لّنه ُيبهرنا بتفوقه علينا‪ ،‬بل لّنه ُيدهشنا بتشابهه معنا‪ .‬لنه يبوح لنا بخطاياه ومخاوفه‬
‫وأسراره‪ ،‬التي ليست سوى أسرارنا‪ .‬والتي لنملك شجاعة العتراف بها‪ ،‬حتى لهذا الكاتب‬
‫واس"‪ ،‬وقد ملت الكتاب‬ ‫حـ َ‬ ‫نفسه‪ .‬حدث مّرة أن جاءتني قارئــة‪ ،‬وفي حوزتها "فوضى ال َ‬
‫منهَك َا ً طاعنا ً في العمر‪ .‬وع َب َث َا حاولت أن أستعيره‬
‫ً‬ ‫دا ُ‬ ‫تسطيرا ً وإشارات وهوامش‪ ،‬حتى َبـ َ‬
‫منها‪ ،‬لعرف ماذا أحّبت هذه القارئة في تلك الرواية بالتحديد‪ ،‬لكنها رفضت‪ ،‬واعترفت لي‬
‫فحته أن َيشي لي الكثير عنها‪ .‬لم ُيجد ِ إقناعي لها بأنها تعرف عني ما‬ ‫ن تص ّ‬ ‫بأّنها تخاف إ ْ‬
‫فت الكتاب‪.‬‬ ‫يكفي ليكون لي أنا أيضا ً حقّ التجسس عليها‪ ،‬ضحكت وأخ َ‬
‫ت من نزار قّباني يومًا‪ ،‬أن يبعث لي بنسخة "ذاكرة الجسد" التي في‬ ‫سَبق أن طلب ُ‬ ‫وقد َ‬
‫مل التي‬ ‫ج‬
‫ُ َ‬ ‫ال‬ ‫تحت‬ ‫السطور‬ ‫من‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫كثير‬ ‫وضع‬ ‫نه‬
‫ّ‬ ‫إ‬ ‫رة‬
‫ّ‬ ‫م‬ ‫ذات‬ ‫لي‬ ‫قال‬ ‫بعدما‬ ‫عليها‪.‬‬ ‫طلع‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫حوزته‪،‬‬
‫"كتبتها فيها"‪ ،‬ما جعل أصدقاءه الذين أطلعهم على الرواية‪ ،‬لُيحّثهم على قراءتها‪َ ،‬يعجُبون‬
‫من أمره‪.‬‬
‫ولكن نـــزار‪ ،‬رحمه الله‪ ،‬ضحك ولم يستجب لطلبي‪ ،‬ومازلت حتى اليوم‪ .‬أنتظر فرصة‬ ‫ّ‬
‫لزيارة لندن‪ ،‬كي أطلب من ابنته هدبــــاء‪ ،‬إهدائي تلك النسخة‪ ،‬أو السماح لي بتصويرها‪،‬‬
‫ن الكاتب‬‫عساني أعرف بعض ما أخفاه عني نزار قارئًا‪ .‬هذه الحادثة جعلتني أعتقد أ ّ‬
‫ول إلى قارئ تنتابه أعراض الحياء إّياها‪ .‬ففي القراءة حميمّية‪ ،‬ل ُتعادلها‬ ‫نفسه‪ ،‬عندما يتح ّ‬
‫ّ‬
‫ن ُنطاِلع كتابا أو مجلة‪ ،‬أن يقف أحد خلفنا‬ ‫ً‬ ‫ل‪ُ ،‬يزعجنا ونح ُ‬ ‫إل ّ حميمّية الكتابــة‪ .‬لــــذا مث ً‬
‫مطالعتنا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫في‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫مك‬‫منه‬
‫ُ ِ‬ ‫يكون‬ ‫لحظتها‬ ‫نه‬‫مشاركتنا القراءة‪ ،‬ل ّ‬ ‫ويبدأ في ُ‬
‫سؤالنا الكّتاب‪ ،‬لماذا هم‬ ‫در ُ‬ ‫ولننا اعتدنا أل ّ نسأل الذين يقرأون لماذا يفعلون ذلك‪ُ ،‬يق ّ‬
‫مــزج‬ ‫فــن‬ ‫هي‬ ‫"الكتابة‬ ‫بارت"‪:‬‬ ‫مستندة إلى قول "رولن‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫يكتبون‪ ،‬ففي إمكاني أن أجيب ُ‬
‫ن كثيرا ً من القارئات‬ ‫نأ ّ‬ ‫دع الكلمات‪ .‬وأظ ّ‬ ‫مخ َ‬ ‫الشهوات"‪ ،‬إنني أكتب لمتعة القامة في َ‬
‫غة الضرورية‪ ،‬ومن‬ ‫مراو َ‬ ‫ن ُيشاطرنني قدرا ً نسائيا ً ل يخلو من ال ُْ‬ ‫ُيشبهنني‪ ،‬ويقرأنني لنه ّ‬
‫مخادعة للحياة اليومية‪ ،‬وينتهي في مخدع‬ ‫متوارث‪ ،‬الذي يبدأ من التفاصيل ال ْ ُ‬ ‫الّنفاق ال ْ ُ‬
‫مكيدة اللغة‪ ،‬لننجو من‬ ‫واس‪ ،‬و َ‬
‫ح َ‬
‫مكر ال َ‬‫ن نحتاج إلى َ‬ ‫"الشرعّية"‪ .‬وفي كل مخدع‪ ،‬نح ُ‬
‫دع‬ ‫مخ‬
‫َ َ‬ ‫في‬ ‫راحت‬ ‫عندما‬ ‫الموت‪،‬‬ ‫من‬ ‫رأسها‬ ‫"شهرزاد"‬ ‫دتنا‬‫ورطــة الواقع‪ .‬فهكذا أنقذت ج ّ‬
‫ُ‬
‫الكلمات‪ ،‬تكيد لـ"شهريار" باللغة ليلة بعد أخرى‪ .‬منذ ذلك الحين‪ ،‬أصبح للذاكرة النسائية‬
‫حَيــل إحداها الكتابة‪ .‬وللرواية ذرائع إحداها "تبييض الكاذيب"‪ ،‬كما ُيبّيض البعض الموال‬ ‫ِ‬
‫غير المشروعة‪.‬‬
‫ذاب يقول أشياء حقيقية"‪ ،‬وجاء قول غـــادة‬ ‫ومن هنا جــاء قول كاتبة فرنسية‪" :‬الروائي ك ّ‬
‫كب"‪ .‬لــــذا‪ ،‬لمزيد من الكذب‪ ،‬سُأواصل كتابة نصوص‬ ‫مر ّ‬
‫مان‪" :‬العمل البداعي كذب ُ‬ ‫الس ّ‬
‫مخاِدعــة‪ ،‬قصد تبييض أحلم أشترك مع كثير من النساء في نهبها ســّرًا‪ ..‬مــن الحيــــاة‪.‬‬ ‫ُ‬

‫لهؤلء النساء‪ُ ..‬‬


‫قبلتي‬
‫ُ‬
‫جـل الكتابة عن ذلك الجتياح العاطفي‬ ‫ت من المارات‪ ،‬التي زرتها مؤخرًا‪ ،‬وأنا أؤ ّ‬ ‫مــذ عد ُ‬
‫ي‪ ،‬وذلك‬‫ّ‬ ‫العاطف‬ ‫سخائهن‬ ‫في‬ ‫مذهلت‬ ‫ُ‬ ‫نساء‬ ‫به‬ ‫وقتني‬
‫ّ‬ ‫ط‬ ‫الذي‬ ‫الجنسيات‪،‬‬ ‫دد‬
‫النسائي ُ ّ‬
‫متع‬
‫ذى من ثقافة عالية•‬ ‫التواطؤ النسائي الجميل الذي يتغ ّ‬
‫الن فقط‪ ،‬وأنا أستعيد أنفاسي‪ ،‬كما من حالة عشقّية شاهقة‪ ،‬يمكنني أن أشكرهن على ما‬
‫أهدينني من بهجة الوقت المسروق‪ ،‬وزاد ٍ من المحّبة يحتاج إليه الكاتب لمواجهة أي عمل‬
‫جديد ُيقبل عليه•‬
‫ً‬
‫مربكا في تفاصيله‬ ‫يوم زرت المارات لّول مّرة‪ ،‬توّقعت أن يكون اللقاء مع نسائها لقاًء ُ‬
‫مدّققات في ثيابها وزينتها‬ ‫ُ‬
‫حص كل أنثى تجلس أمامهن‪ُ ،‬‬ ‫النسائّية‪ ،‬كعادة النسوة في تف ّ‬
‫ُ‬
‫وصيغتها‪ ،‬إلى حد ّ جعلني‪ ،‬أنا القادمة من لبنان‪ ،‬أصدق قول ساشا غيتري‪“ :‬النساء ل‬
‫ملن للرجال•• بل نكايـــة في النساء”• لــــذا قّررت أن ُأواجه نساء الخليج عـزلء••‬ ‫يتج ّ‬
‫ّ‬
‫وأشهر‪ ،‬مازحـــة‪ ،‬خروجي من سباق التسلح بترسانة المصوغات فائقة الثمن والزياء‬
‫ممين•‬ ‫كبار ال ْ ُ‬
‫مص ّ‬ ‫موّقعــة من ِ‬ ‫ال ْ ُ‬

‫ن العلم إل ّ‬
‫مفاجأتــي كانـت‪ ،‬أنني التقيت نساء لم يزدهن الثـراء سوى بساطة‪ ،‬وما زاده ّ‬‫ُ‬
‫ن عن وجاهتك الدبّية‪ ،‬وعن هالــة الضوء التي تحيط بك في‬
‫ّ‬ ‫له‬ ‫تعتذر‬ ‫لتكاد‬ ‫حتى‬ ‫ً‬
‫ا‪،‬‬ ‫تواضع‬
‫حضرتهن•‬

‫م ّ‬
‫طلع‬ ‫ما قرأت‪ ،‬ومتوّرط في هموم السياسة‪ُ ،‬‬ ‫وأعترف بأن بعضهن التهم من الكتب أكثر م ّ‬
‫على آخر الصدارات السياسية‪ ،‬أكثر مما ُأتيح لي أن أطلع‪ ،‬كما بعض عضوات “المنتدى”‬
‫ّ‬
‫ب القراءة‪ ،‬ومحّبة‬ ‫م إحدى وعشرين امرأة من كل الجنسيات العربية يجمعهن ح ّ‬ ‫الذي يض ّ‬
‫رئيسة المنتدى‪) ،‬على الرغم من احتجاجها على هذا اللقب‪ ،‬الذي ل تريد أن تحمل سوى‬
‫ي العالي‪ ،‬وسّيدة‬‫س القوم ّ‬
‫ديــق‪ ،‬ذات الح ّ‬ ‫مسؤولياته(‪ ،‬صديقتي الجميلة أسمــاء الص ّ‬
‫المبادرات النسانية والثقافية ال ْ ُ‬
‫متمّيزة•‬
‫ما يعلم‪ ،‬وُيجادلك بفضول المعرفة‪ ،‬ل‬ ‫من يريد أن يتعّلم أكثر م ّ‬ ‫لكنهن ُيقبلن عليك‪ ،‬بتواضع َ‬
‫ً‬
‫سلل الورود‪ ،‬ل طمعا في‬ ‫ّ‬
‫ي‪ ،‬وسُيدللك•• ويغدق عليك الهدايا و ِ‬ ‫بقصد الستعراض المعرفـ ّ‬
‫ب فيك‪ ،‬وزهـــو‬ ‫ّ‬ ‫وح‬ ‫لدبك‬ ‫ٌ‬
‫ل‬ ‫إجل‬ ‫بل‬ ‫الرجال‪،‬‬ ‫من‬ ‫الثرياء‬ ‫كعادة‬ ‫مدحك‪ ،‬ول ليشتري قلمك‪،‬‬
‫ي•‬ ‫ُ‬
‫بالنجاح النثوي العرب ّ‬
‫ول تدري كيف ترد ّ ديـن المحّبة لنساء لم يطالبنك بشيء‪ ،‬غير إنجاز كتاب جديد‪ ،‬ول يمكن‬
‫حتى ذكر أسماء بعضهن من باب العتراف بالجميل•‬
‫ت دبي ليل ً لجد صديقتي بارعــة الحمـر‪ ،‬وهي مترجمة أعمالي إلى النجليزية‪،‬‬ ‫ت وصل ُ‬ ‫وكن ُ‬
‫ومترجمتي بكل لغات القلب‪ ،‬تنتظرني بباقـة ورد•‬
‫ت بيروت‬ ‫ْ‬ ‫غادر‬ ‫مــذ‬ ‫افتقدتها‬ ‫فقد‬ ‫ً‬
‫ا‪،‬‬ ‫بعض‬ ‫وبكينا فرحا ً في زحمـة المطار ونحن نحضن بعضنا‬
‫إلى صقيع كندا•‬
‫ل لوازمها النسائية• وفهمت أنها منذ ذلك‬ ‫ملة بكيس‪ ،‬فيه بيجامتها وك ّ‬ ‫مح ّ‬
‫بارعــة جاءت ُ‬
‫ي نهارًا‪ ،‬قبل أن تنضم إلينا ُأختي صوفيا‬ ‫ّ‬ ‫عل‬ ‫القبض‬ ‫لستحالة‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫لي‬ ‫جناحي‬ ‫ستقاسمني‬ ‫المساء‬
‫ّ‬
‫القادمة من الجزائر‪ ،‬ثم الدكتورة هنــــادي ربحــي‪ ،‬التي لم أكن أعرفها إل على الهاتف‬
‫كطبيبة نفسية‪ُ ،‬تشرف على “مركز مسارات للتنمية والتدريب” في الشارقة•‬
‫وربما كان أجمل لقاءاتي وأطرفها وأنفعها أدبيا ً لقائي بهذه الدكتورة‪ ،‬التي تملك‪ ،‬إضافة‬
‫إلى جينات الجنون الجزائري الجميل‪ ،‬مؤهلت علمّية عالية‪ ،‬وذكاًء إنسانيا ً ونسائيا ً خارقًا‪،‬‬
‫مدعوما ً بثقافة أدبية وفنّية غنّية•‬

‫محّببة‪ ،‬لنساء‬‫ج باللوازم النسائية وبفوضى ُ‬ ‫ول الجناح إلى فضاء نسائي يع ّ‬ ‫وهكــذا‪ ،‬تح ّ‬
‫أغراهن سريري الشاسع‪ ،‬بالنوم جميعهن عندي‪ ،‬لتحقيق ُأمنية نسائية طالما حـــار الرجال‬
‫ل‪ ،‬عندما يجمعهن سرير واحد هربن إليه من‬ ‫فيها‪ :‬ماذا تحكي النساء لبعضهن بعضا ً لي ً‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الولد والزواج؟ وهو سؤال حار فيه زوجي كّلما تركته لقاسم أختي سريرها•‬
‫وقد وصلت بنا بهجة الحياة‪ ،‬في فندق خارج عناوين إقامتنا الجبرية‪ ،‬إلى حد ّ مواصلة‬
‫الهروب إلى البحر• فقد استأجرت هنادي مركبا ً جميل ً راح يدور بنا في بحيرة خالــد‬
‫هلـــة”•‬
‫مذ ِ‬ ‫ن نغني ونرقص على أغنية “ ُ‬ ‫الصناعية‪ ،‬ونح ُ‬
‫عندما غادرت الفندق تركت خلفي سلل نرجس وأوركيديا‪ ،‬وورودا ً فاض بها الجناح‪،‬‬
‫وصلتني جميعها من نساء‪ ،‬إحداهن الصحافية الجزائرية سعاد بلعون‪ ،‬وُأخرى باسم‬
‫ت أحــلم”•‬ ‫ل كتاب وأنــ ِ‬ ‫عضوات “المنتدى”‪ ،‬مرفوقة بقصائد شعرية عنوان إحداها “ك ّ‬
‫ن سيدة إماراتية قضت يوما ً‬ ‫مــة سّلـة ورد اختيرت ألوانها من ع ََلم الجزائر‪ ،‬وعلمت أ ّ‬ ‫وثـ ّ‬
‫دم لي في نهاية اللقاء‬ ‫ُ ّ‬‫يق‬ ‫كي‬ ‫المساء‬ ‫في‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫جاهز‬ ‫ليكون‬ ‫الجزائري‪،‬‬ ‫َ‬
‫لم‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫خياطة‬ ‫في‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫كام‬
‫منساب من الباقة•‬ ‫التلفزيوني‪ ،‬وهو ُ‬
‫ولنني ل أستطيع ذكر اسم هذه السيدة‪ ،‬ذات الصل الكريم‪ ،‬فإنني أكتفي بتقبيلها هنا‬
‫ون‬ ‫مد جـــروح العـــرب•• وتلــ ّ‬ ‫شاكرة لها سخاءها• لقد اعتادت اليدي الماراتية‪ ،‬أن ُتض ّ‬
‫بالــورود آلمهــم•‬

‫لها ردف إذا قامت‪ ..‬أقعدها"!‬

‫قـــرأت لـ"آل باتشينو" تصريحا ً ساخرا ً يقول فيه "كّلما انتابتني الرغبة في القيام بتمارين‬
‫رياضية‪ ،‬اضطجعت على الفراش‪ ،‬وظللت مضطجعًا‪ ،‬حتى تزول هذه الرغبــة"‪.‬‬

‫وقد وجدت فيه الذريعة‪ ،‬التي كانت تلزمني بملزمة فراشي‪ ،‬بينما يتأّتــى إلى مسمعي‪،‬‬
‫محّرك سيارة جارتي‪ ،‬وهي منطلقة كل صباح نحــو النادي‪ ،‬لتبدأ صباحها بالرقص‬ ‫صوت ُ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫الشرقي‪ .‬وأنــا أتفّهـم تماما جهدها ومثابرتها على تعلم الرقص‪ ،‬مادامت لم ُتولد في‬
‫أفريقيا‪ ،‬حيث الطفال يرقصون من قبل حتى أن يمشوا‪ ،‬ول في مصــر‪ ،‬حيث‪ ،‬حسب‬
‫تعليق ساخر للكاتب محمد الرفــاعي‪ ،‬في مجلة "صباح الخيــر"‪" :‬البنت المصرية بالذات‬
‫بتنزل من بطن ُأمها وهي بترقص وتاخد "النقوط" من الدكاترة والممرضات"‪.‬‬

‫وأتمّنـى أن تتفّهموا موقفي من الرقص الشرقي‪ ،‬الذي ُأعاديــه‪ ،‬فقط لضرورة المعارضة‪،‬‬
‫معارضة خلقة"‪ ،‬تأتي إلى الوجود "حاملة السّلم بالعرض"‪ ،‬ول‬ ‫ذلك أن البنت الجزائرية " ُ‬
‫م المعـــارك"‪ ،‬وبعد أن تكون قد "بطحـت" ُأمها‪ ،‬وتشاجرت‬
‫ّ‬
‫تنزل من بطن ُأمها إل ّ بعد "أ ُ‬
‫ن هم لم يصدروا‬‫ددت الدكاترة في أّول صرخة لها‪ ،‬بنسف المستشفى إ ْ‬ ‫مع القابلة‪ ،‬وه ّ‬
‫دد بالمبريالية‪ ،‬وُيعلن مقاطعة حليب "نيــدو"!‬ ‫بيانـا ً ُين ّ‬
‫م من الجينات الغبّية‪ ،‬التي تولد بها البنت الجزائرية‪ ،‬خاصة أنها بحكم هذه‬ ‫وروا هذا الك ّ‬ ‫تص ّ‬
‫معّرضة للسمنة‪ ،‬حسب‬ ‫ُ‬ ‫ية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قض‬ ‫أو‬ ‫ثــورة‬ ‫بسبب‬ ‫الدائــم‬ ‫وقلقها‬ ‫الثورية"‪،‬‬ ‫وهات‬ ‫ّ‬ ‫"التش‬
‫دراسة أميركية حديثة‪ ،‬أثبتت أن نسبة شحوم البطن والردفين‪ ،‬قد تزداد عند المرأة‪ ،‬مع‬
‫ن‬
‫عرضة للخطر‪ ،‬المــر الذي أوصلني إلى استنتاج‪ ،‬أ ّ‬ ‫ازدياد قلقها‪ ،‬ما يجعل حياتها ُ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫مثقلة منذ نصف قرن بقضايا‬ ‫مصائــب العــرب كّلها تعــود إلى "أرداف ال ّ‬
‫مــة العربّيـة"‪ ،‬ال ُ‬
‫م في كل‬ ‫م والُغبن‪ .‬ولــذا‪ ،‬إنقاذا ً لصحة مليين العــرب‪ ،‬يت ّ‬ ‫م البــدن"‪ ،‬وُتضاعف اله ّ‬ ‫"تس ّ‬
‫مة عربّية "شطف" بعضها‪ ،‬بفضل ما تزّودنـــا بــه أميركـــا‪ ،‬من آلت حديثة‬ ‫مؤتمر ق ّ‬
‫لسحب الشحوم والدهون‪ ،‬التي تراكمـت في خاصرة تاريخنا القومي‪ ،‬بحيث ما قمنا إل ّ‬
‫لولى من نوعها‪ ،‬التي أقدم عليها الرئيس‬ ‫وأقعدتنا! وهو ما ُيفسر اليوم تلك السابقة ا ُ‬
‫ّ‬
‫ُ‬
‫دام حسين‪ ،‬قبل أسابيع من "حـرب الحواسم"‪ ،‬بإصداره مراسيم تقضي بتقليص أجــور‬ ‫صـ ّ‬
‫ل ضابط‪ ،‬ل يتمّتع بطاقة بدنّية‪،‬‬ ‫الضّباط‪ ،‬الذين زاد وزنهم إلى النصف‪ ،‬بحيث يتعّرض ك ّ‬
‫لخـــرى‪.‬‬ ‫ل علواته ا ُ‬ ‫لتخفيض أجره الشهري‪ ،‬وك ّ‬

‫ودنــا‪ ،‬وهو‬ ‫شَهر للرياضة‪ ،‬وقد ع ّ‬ ‫م ْ‬‫مجّرد قرار نابــع من حّبه ال ْ ُ‬


‫لــم يكـن المر إذن‪ُ ،‬‬
‫الفــارس المغـــوار‪ ،‬على رؤيتـه وهــو يمتطي الخيــل‪ ،‬ويقطع دجلــة سباحة‪ ،‬وُيمارس‬
‫هوايـة الصيد البشري‪ ،‬بإطلقه رصاص بندقيته في الهــواء‪ ،‬أثناء تدخينه سيجــــارًا‪.‬‬
‫فالحــرب هـي أنبـل رياضة لدى ســادة الحـروب‪ .‬والرجــل‪ ،‬كما تشهد لــه القصيدة‪ ،‬التي‬
‫"فقعنا بها"‪ ،‬يوم "واقعة الُعلــوج"‪ ،‬كان يستعد ّ حقــا ً لمنازلـة "الوغــــاد"‪ ،‬واثقــا ً تماما ً‬
‫لخرى‪،‬‬ ‫كان الكواكـب ا ُ‬ ‫باللياقة البدنية لضّباطـه‪ ،‬بحيث صــار في إمكانه أن يدعــو حتى س ّ‬
‫إلى أن يشهدوا على بطولتـــه‪:‬‬

‫"أطلق لها السيف ل خوف ول وجل أطلق لها السيف وليشهد لها ُزحل"‬
‫وللمانــة‪ ،‬فقد التزم الرجل حقًا‪ ،‬هو وذّريته‪ ،‬بنظام الحمّية التي فرضها على ضّباطه‪،‬‬
‫م بها‬
‫م بها هروبه مع أركان حربه‪ ،‬والرشاقة التي ت ّ‬ ‫منقطعة النظير‪ ،‬التي ت ّ‬
‫فـة ُ‬‫نظـــرا ً للخ ّ‬
‫ملة بمليار دولر‪ ،‬من الوراق‬‫مح ّ‬‫تفريغ خزائن المصرف المركزي‪ ،‬في ثلث شاحنات ُ‬
‫النقدية‪ ،‬من العملت التي ِقيل عنها يومًا‪ ،‬إنها "صعبـة"‪.‬‬
‫ن كل الشحوم‪ ،‬التي لم يستطع‬ ‫ولبد من العتراف للزعيــم العراقي بُبعــد النظر‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫"شفطها" خلل الساعات الخيرة من حكمه‪ ،‬توّلــت قوات التحالف أخذها على عاتقها‪،‬‬
‫مات تحرير الشعوب العربية من زوائدها الدهنية‪.‬‬ ‫واستكمال مه ّ‬
‫أبشــروا‪ ...‬لـن يبـقى بيننا سمين بعـد اليـــوم‪.‬‬

‫مأتم الحلم‬

‫استوقفني قول للكاتبة كارولين أهيم‪" :‬الحصول على دماغ يستطيع الكتابة‪ ،‬معناه‬
‫الحصول على دماغ يعذبك"‪ ,‬ولو أنها خبرت لعنة الحصول على دماغ عربي‪ ،‬لدركت نعمة‬
‫عذابها‪ ،‬ولقاست بمقياس ريختر لللم‪ ،‬فاجعة أن تكون كاتبة عربية في زمن كهذا‪.‬‬

‫ذلك أن الكاتب العربي يشهد اليوم تأبين أحلمه شيء ما يموت فيه‪ ،‬وُيشعره بخـواء‬
‫مة عالم جميل ينتهي‪ ،‬وهو يستشعر ذلك‪ ،‬وينتظر مذهول ً حلول الكارثة زمـن‬ ‫النهايات ث ّ‬
‫فة من أزاح‬‫فة اللم‪ ،‬ل خ ّ‬
‫انتهى بأحلمه ومثالياته ونضالته‪ ..‬وقضاياه المفلسة نشعر بخ ّ‬
‫من‬‫عن كاهله مشكلت حملها عمرا ً بكامله‪ ،‬بعدما عثر لها أخيرا ً عن حلول‪ ،‬وإنما خفة َ‬
‫تخّلص أخيرا ً من أوهامه‪.‬‬
‫من في فاجعة اكتشافنا‪ ،‬أنه لم يعد في إمكان أحد أن يبيعنا بعد الن قضية‬ ‫سعادتنا تك ُ‬
‫معّلبة‪ ،‬الجاهزة‬
‫جديدة‪ ،‬مقابل أن يسرق من عمر أبنائنا جيل ً أو جيلين آخرين فالشعارات ال ُْ‬
‫دة صلحيتها‪ ،‬وأصبحنا نعرف من أي "سوبرماركت"‬ ‫للستهلك التي عشنا عليها‪ ،‬انتهت م ّ‬
‫ونا الطبيعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نم‬ ‫ومنع‬ ‫تسميمنا‬ ‫مقابل‬ ‫ومازال‪،‬‬ ‫بعضهم‪،‬‬ ‫استوردها أولياء أمورنا‪ ،‬وكم تقاضى‬
‫لء‪ ،‬فقراء‪ ،‬ومرعوبين‪.‬‬ ‫واختراع حروب وكوارث لبقائنا أذ ّ‬

‫لقد اختصر محمد الماغوط‪ ،‬نيابة عن كل المبدعين العرب‪ ،‬سيرته الحياتية في جملة‬
‫ت مذعورًا‪ ..‬وسأموت مذعورًا" فالمبدع العربي‪ ،‬مازال ل يشعر بالمان في‬ ‫واحدة‪" :‬ولد ُ‬
‫دد اليوم قبل سجن كاتب أو اغتياله‪ ،‬فليس هذا كرما ً‬ ‫بلد عربي وإذا كان بعض النظمة يتر ّ‬
‫أو ُنبل ً منه‪ ،‬وإنما لن العالم تغّير وأصبحت الجرائم في حق المبدعين ل تمّر بسّرية‪ ،‬بل قد‬
‫ضر‪ ،‬كلما جاءه مقدما ً قرابين الولء له‪ ،‬طالبا ً النتساب إليه‪.‬‬
‫ُيحاسبه عليها العالم المتح ّ‬

‫قها‪ ،‬وهو منذور لمزاجية‬ ‫كيف في إمكان الكاتب العربي أن يكون ضمير المة ولسان ح ّ‬
‫الحاكم وُأمية الرقيب وأهواء القارئ‪ ،‬الذي أصبح بدوره رقيبا ً يعمل لحسابه الشخصي‪ ،‬وقد‬
‫ونك‪ ،‬محّرضا ً الشارع عليك‪ ،‬فتخرج مظاهرات تطالب‬ ‫فرك أو ُتخ ّ‬ ‫يتكفل بإصدار فتوى تك ّ‬
‫وابة المحاكم وغرف‬ ‫ّ‬ ‫ب‬ ‫من‬ ‫والعشرين‬ ‫الواحد‬ ‫القرن‬ ‫تدخلك‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫قلمك‪،‬‬ ‫بسفك دمك وكسر‬
‫التحقيق والسجون؟ يقول برناردشو‪" :‬الوطن ليس هو فقط المكان الذي يعيش فيه‬
‫قولة تجعلنا نكتشف‬ ‫النسان‪ ،‬بل هو المكان الذي ُتكفل فيه كرامته وُتصان حقوقه" وهي م ُ‬
‫من ُيتم أوطان لسنا مواطنين فيها فكيف نكون فيها ك ُّتابًا‪ ،‬ونحن نقيم في‬ ‫ما ُنعانيه ِ‬
‫ونا مذعورين من زمن ثقافة الشارب العريض‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لت‬ ‫خارجين‬ ‫الحرية‪،‬‬ ‫وضواحي‬ ‫الدب‬ ‫ضواحي‬
‫خ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫مع حــذاء الحاكم‪ ،‬وُتبّيض جرائم قُطاع طرق التاريخ‪ ،‬لنقع في ف ّ‬ ‫والقصائد التي ُتل ّ‬
‫طغاة من نوع جديد‪ ،‬ل يأتونك على ظهر دّبابة‪ ،‬إنما‬ ‫مهيمنة ول ُ‬ ‫العولمة‪ ..‬فريسة للثقافات ال ُْ‬
‫يهدونك مع رغيف البنك الدولي‪ ..‬مسدسا ً ذهبيا ً تطلق به النار على ماضيك؟ وقد قال أبو‬
‫ن أطلقت نيران مسدسك على الماضي‪ ،‬أطلق المستقبل نيران‬ ‫الطالب الدمستاني "إ ْ‬
‫ملي‬ ‫مدافعه عليك" ول أدري كيف في إمكاننا إنقاذ المستقبل‪ ،‬دون أن نعي الواجب التأ ّ‬
‫للمبدع ودوره في حماية الهوية العربية‪ ،‬ذلك أن معركة اللفية الثالثة ستكون ثقافية في‬
‫ُ‬
‫فلين أمام هيمنة ثقافية‪ ،‬ل يمكن أن تكون‬ ‫مستغ َ‬ ‫مغفلين ول ُ‬ ‫الدرجة الولى‪ ،‬وعلينا أل ّ نكون ُ‬
‫بريئة‪.‬‬
‫كام‪ ،‬ل ينتظرون إل ّ‬ ‫ن المبدع والمثقف العربي‪ ،‬هو آخــر صرح بقي واقفا ً في وجه بعض ح ّ‬ ‫إ ّ‬
‫غفوة أو غفلة منه ليسّلمونا شعوبا ً وقبائل إلى الغرب‪ ،‬على طبق العولمة أو التطبيع وهذا‬
‫د"‪ ،‬قد يأتي يوم ل يجد فيه قضية‬ ‫دد نفسه منذ أجيال "مبدع الض ّ‬ ‫المبدع العربي‪ ،‬الذي ح ّ‬
‫عمق الكارثة!‬ ‫قة النضال‪ ،‬ويومها سنبلغ ُ‬ ‫عربية تستحق منه مش ّ‬

‫محمد ديب‪ ...‬سيأتون حتما ً لنقل رماد غربتك‬

‫أكره أن أكتب مثل هذه الشهادات‪ .‬ربما لنها اعتراف بأن من حسبنا البداع يمنحهم مناعة‬
‫ضد الموت‪ ،‬يموتون أيضًا‪ .‬وربما لن في كل شهادة نكتبها عنهم‪ ،‬نحن‪ ،‬ل نرثي سوانا‪ .‬أما‬
‫هم‪ ،‬فما عادوا معنيين بما نقوله عنهم‪ .‬لقد رحلوا صوب "الزرق المستحيل" بحسب تعبير‬
‫الصديق صالح القزاز‪ ،‬الذي لم أكتب شهادة فيه يوم باغتني خبر موته‪ .‬ربما لن وقع رحيله‬
‫ي كان مختلفا ً في فاجعته عن وقع كل الذين عرفوه‪ ،‬لكونه الصديق الذي لم ألتق به‬ ‫عل ّ‬
‫يوما‪ ،‬والذي علقت رنة ضحكته بهاتفي‪ ،‬وبعدها بثلث سنوات‪ ،‬علقت نبرة حزنه المكابر‬ ‫ً‬
‫دع استشعارا ً بساعة الرحيل‪ .‬فهل الذين لم نلتق بهم من المبدعين يتركون فينا أثرا ً‬
‫المو ّ‬
‫أكثر من الذين عرفناهم؟‬
‫بعض أصدقائي من الكّتاب الذين اغتيلوا في الجزائر مثل يوسف سبتي والطاهر جاعوط‪،‬‬
‫وبعض الذين ماتوا في غيبتي‪ ،‬تقبلت موتهم بواقعية أكثر‪ ،‬ربما لنهم جيل قابل للموت‪...‬‬
‫بحكم أنهم من جيلي‪.‬‬
‫أما رموز الدب الجزائري ومؤسسو المجد الدبي للجزائر‪ ،‬فما زلت أتعامل معهم كما لو‬
‫كانوا أحياء‪ .‬لنني أحتاجهم قدوة من أجل البقاء على قيد الكتابة‪ ،‬ولكي تبقى قامتي الدبية‬
‫منتصبة بفضلهم‪ .‬مالك حداد‪ ...‬كاتب ياسين‪ ...‬مولود معمري‪ ...‬محمد ديب‪ ...‬جميلين كانوا‬
‫في أنفتهم وعزة نفسهم وشجاعة رأيهم‪ ،‬جميلين في نبوغهم وبساطتهم‪ .‬فهم من جيل‬
‫علمته الثورة التواضع أمام الوطن‪ ،‬الوطن الذي علمته الثورة انه أكبر من أن يولي‬
‫اهتماما ً بأبنائه أو يدلل مبدعيه‪ .‬آخر هؤلء الكبار ذهب الى نومه الخير‪ ..‬سكت محمد ديب‪.‬‬
‫فاجأه الصمت تحت "شجرة الكلم"‪ ،‬هو الذي أصبح حديثه إلينا حدثًا‪ ،‬كان مشغول ً عنا‬
‫بغور بحر السئلة التي لم تزد كلماته إل ملحًا‪.‬‬
‫"لول البحر‪ ،‬ولول النساء‪ ،‬لبقينا أبد الدهر يتامى‪ .‬فقد غمرننا بملح ألسنتهن‪ ...‬وهذا‪ ،‬من‬
‫حسن الحظ حفظ الكثير منا‪ ...‬ول بد من أن نجاهر بذلك في يوم من اليام‪."!...‬‬
‫هذا ما جاء في كتابه "من يذكر البحر؟"‪ .‬أما نحن فنسأل‪ :‬من يذكر "الحريق"؟ ‪...‬‬
‫و"ثلثية" محمد ديب التي صنعت منه في البداية "بالزاك الجزائر"‪ ،‬وجعلت الجزائريين‬
‫يعيشون في السبعينات حال انخطاف وهم يتابعون تحويل تلك الرواية الى مسلسل أشعل‬
‫النار في التلفزة الجزائرية‪ ،‬لفرط صدقه في نقل الهوية الجزائرية ووصفها بحيث لم‬
‫يضاهه جودة حتى اليوم أي عمل سينمائي جزائري‪ .‬في ذلك المسلسل اكتشفت محمد‬
‫ديب الذي علقت نيرانه بتلبيب ذاكرتي‪ ،‬وصنعت وهج اسمه في قلبي‪ .‬وعندما‪ ،‬بعد ثلثين‬
‫سنة‪ ،‬أصبحت بدوري كاتبة جزائرية تصدر أعمالها مترجمة في إحدى كبرى دور النشر‬
‫الفرنسية‪ ،‬كانت مفاجأتي ومفخرتي في كونها الدار التي تصدر عنها أعمال محمد ديب‪.‬‬
‫فقد أمدني بها ناشري هدية ليقنعني بمكانة مؤّلفيه الجزائريين اللذين هما محمد ديب‬
‫وآسيا جبار‪ ،‬من دون أن يدري انه رفعني بكتاب الى قامة كاتب كان يكفيني فخرا ً أن‬
‫أجالسه يومًا‪.‬‬
‫أخيرا ً اكتشفت من مقال للكاتب جيللي خلص‪ ،‬ذلك النزاع الذي وقع بين محمد ديب وبين‬
‫منشورات "سوي" الشهيرة التي طلبت من الكاتب تغيير طريقة كتاباته‪ ،‬والتخلي عن‬
‫طروحاته الفلسفية كي يحظى بإقبال أكبر لدى القراء‪ .‬غير أن محمد ديب الذي ما كان‬
‫معنيا ً مثل بعض الكّتاب المغاربيين المقيمين في فرنسا‪ ،‬بكسب قلوب القراء الفرنسيين‬
‫ضل بدل تغيير مساره الفلسفي‪ ...‬تغيير دار نشره!‬ ‫وجيوبهم‪ ،‬ف ّ‬
‫يبقى أن الجزائر التي كانت تستعد بمناسبة سنة الجزائر في فرنسا للحتفاء بمحمد ديب‬
‫بما يليق بمقامه‪ ،‬من خلل ملتقى دولي وتظاهرات متعددة على ضفتي البحر البيض‬
‫المتوسط‪ ،‬جاء تكريمها له متأخرًا‪ ،‬حتى لكأن محمد ديب أراد بموته أن يستبقه ترفعا ً‬
‫وقهرًا‪ .‬ذلك ان تكريم الكاتب بحسب جبران‪ ،‬ليس في أن تعطيه ما يستحق‪ ،‬بل في أن‬
‫تأخذ منه ما يعطي‪ .‬ومحمد ديب لم ينس أنه زار الجزائر سنة ‪ 1981‬مريضا ً منهكًا‪ ،‬وطلب‬
‫من الشركة الوطنية للنشر والتوزيع‪ ،‬التي كانت تنفرد وحدها آنذاك بسوق الكتاب‪ ،‬أن‬
‫تشتري حق نشر كتبه من دار "سوي" وأن تنشر كتبه المقبلة في الجزائر‪ .‬غير ان‬
‫استقبالها الحار له‪ ،‬وتفهمها لطلبه‪ ،‬لم يؤديا الى نتيجة‪ .‬ولم تشفع له الوثائق الطبّية التي‬
‫احضرها لثبات حاجته الى العملة الصعبة لكي يعالج في باريس‪ .‬فاستنادا ً الى قانون‬
‫جزائري كان يمنع آنذاك تسديد حقوق التأليف بالعملة الصعبة لي جزائري‪ ،‬رفض وزير‬
‫الثقافة في تلك الحكومة )الفائقة الحرص على أموال الشعب( نجدة أحد أعلم الجزائر‬
‫وكبار مبدعيها‪ .‬وارتأت الدولة ان حقوق مؤلف قد تخرب ميزانية الجزائر‪ ،‬وان ل بأس‬
‫لسباب تتعلق بالمصلحة الوطنية من إعادته الى منفاه خائبا ً مجروح الكرامة‪.‬‬
‫من يومها ومحمد ديب يزداد توغل ً في منفى أراده وطنا ً لمرارة أسئلته‪ ،‬وقد أفضى به الى‬
‫"شجرة الكلم" و"ثلوج الرخام"‪.‬‬
‫ً‬
‫مات صاحب "الحريق"‪ .‬واليوم سيأتون‪ ،‬حتما سيأتون لنقل رماد غربته في صندوق محكم‬
‫الغلق على مرارته‪ ،‬يغطيه علم الجزائر وسيمنحونه وسامًا‪ .‬ويكتبون مقالت كثيرة في‬
‫جمالية عودة البن الضال الى "وطنه"‪ .‬وسيكون لسان حاله‪ ،‬قول الخطل الصغير‪" :‬أرجو‬
‫أن يترك نعشي مفتوحا ً عند قدمي‪ ،‬لنهم سيمنحونني يومئذ وسامًا‪ ...‬وسألبط بقدمي ذلك‬
‫الوسام!"‬

‫مسافر زاده الشبهات‬

‫ن أفضل ثقافة‪ ،‬هي تلك التي يكتسبها النسان من الرحلت"‪ ,‬وربمـا كان‬ ‫يقــول غوتــه‪" :‬إ ّ‬
‫ن أجمل العمال البداعية‪ ،‬سواٌء أكانت أدبا ً أم أعمال ً‬‫ّ‬ ‫إ‬ ‫حتى‬ ‫أيامه‪،‬‬ ‫على‬ ‫هذا الكلم صحيحا ً‬
‫دك‪ ،‬فتكتشف‬ ‫ً‬
‫تشكيلية‪ُ ،‬ولدت على سفر‪ ،‬لحظة النبهار الول‪ ،‬الذي يضعك أحيانا أمام ض ّ‬
‫نفسك أثناء اعتقادك أنك تكتشف الخر‪.‬‬

‫ذى سابقا ً‬
‫ن الوكالت السياحية‪ ،‬لم تترك اليوم من هامش للتيه السياحي‪ ،‬الذي غ ّ‬ ‫غير أ ّ‬
‫ً‬
‫فل التلفزيون مشكورا‪ ،‬بأن يوّفر علينا مشقة السفر ومفاجآته السيئة‬‫"أدب الرحلت"‪ ،‬وتك ّ‬
‫أحيانا ً إذ أصبحنا نعرف كل شيء عن بلدان لم نزرها‪ ،‬وأحيانا ً نعرف عنها ما يكفي‪ ،‬كي‬
‫نعدل عن زيارتها‪.‬‬

‫شخصيًا‪ ،‬كنت في صباي منبهرة بصورة أميركا‪ ،‬كما كانت تبدو لي في أفلم مارلين مونرو‪،‬‬
‫دق فرانك سيناترا‪ ،‬المغترب‬ ‫ُ‬
‫وفريد استير‪ ،‬عندما كان يرقص تحت المطر‪ ،‬وكنت أص ّ‬
‫اليطالي‪" ،‬المافيوزي"‪،‬الذي أصبح في ما بعد البن الشرعي لميركا وصوت أحلمها‪ ،‬يوم‬
‫كان يغني أغنيته الشهيرة "‪ ،"New York.. New york‬التي يقول مطلعها‪ ،‬ببهجة‬
‫المغترب المسافر نحو أرض أحلمه "اشيعوا الخبر‪ ..‬إني مغادر إلى نيويورك"‪.‬‬

‫غير أني عندما تجاوزت سن تصديق الغاني‪ ،‬جعلتني أفلم العنف الميركي اليومي‪ ،‬أزهد‬
‫في زيارة أميركا‪ ،‬وأخاف على أولدي من القامة فيها وعندما زرت واشنطن منذ سنتين‪،‬‬
‫بدعوة من جامعة "ميري لند"‪ ،‬لم ُأغادر المدينة الجامعية إل ّ قلي ً‬
‫ل‪ ،‬خوفا ً آنذاك على نفسي‬
‫كون فيه‪ ،‬بعد أن أصبح النسان العربي‬ ‫من يخافه الميركيون ويش ّ‬ ‫ولو عدت اليوم لكنت َ‬
‫مشبوها ً ومنبوذا ً بمقاييس الكراهية المشروعة‪.‬‬

‫ي أن أزور نيويورك لكتشف أميركا ولنني ل‬ ‫صديقتي رنـــا إدريس قالت وقتها‪ ،‬إنه كان عل ّ‬
‫قه التاريخي‪ ،‬فلقد تركت له شرف‬ ‫ُأصّر على مشاركة كريستوف كولومبوس‪ ،‬سب ْ َ‬
‫اكتشافها‪ ،‬خاصة أن ذلك حدث عام ‪ ،1492‬أي في السنة نفسها‪ ،‬التي سقطت فيها‬
‫غرناطــة‪.‬‬
‫م‬
‫ورنـــا ابنة "منهـــل" دار الداب‪ ،‬ربما لم تسمع بمقولة صمويل جونسون‪ ،‬الذي وضع أه ّ‬
‫ل‪" :‬عندما طرد‬ ‫قاموس في النجليزية‪ ،‬وكان يشهر كراهيته لنيويورك والميركيين‪ ،‬قائ ً‬
‫ن الجزيرة الباردة تخلو من‬ ‫خرافة أساسها أ ّ‬ ‫القديس باتريك الفاعي من آيسلندا )وهي ُ‬
‫الفاعي(‪ ،‬سبحت كّلها إلى نيويورك‪ ،‬وانضمت إلى الشرطة فيها"‪ ,‬وهو أمر لم يكن‬
‫لُيطمئن امرأة جبانة مثلي!‬
‫فل ملكا إسبانيا‪،‬‬‫وكان كولومبوس قد أبحر في سفينته الشهيرة "سانتا ماريا"‪ ،‬بعد أن تك ّ‬
‫إيزابيل وفرديناد‪ ،‬بتمويل رحلته‪ ،‬احتفاًء بانتصارهما على العرب‪ ،‬بعد أن ساعد زواجهما‬
‫وات السبانية‬ ‫على توحيد الممالك السبانية‪ ،‬وإسقاط غرناطة‪ ،‬التي صمدت في وجه الق ّ‬
‫أكثر من غيرها من المارات‪.‬‬
‫ولن كولومبوس كان يؤمن بكروّية الرض‪ ،‬فقد ذهب بسفينته في التجاه الخاطئ على‬
‫أيامه‪ ،‬واكتشف أميركا‪ ،‬وهو يعتقد أنه اكتشف الهند طبعًا‪ ،‬ما كان المسكين يدري إلى أ ّ‬
‫ي‬
‫حد ّ سُيغّير اكتشافه العالم‪ ،‬بعد قرون من ذلك التاريخ فقد كانت أميركا يومها قارة ضائعة‬
‫طي صحراءها‬ ‫في المحيط‪ ،‬تحكمها رماح الهنود الحمر‪ ،‬وتصول وتجول فيها خيولهم‪ ،‬وتغ ّ‬
‫مة ما يشي بأن تنبت فيها يوما ً ناطحات سحاب‬ ‫نباتات عملقة من شجر الصّبار وما كان ث ّ‬
‫دى السماء‪ ،‬أو أن تظهر حضارة تكنولوجية خارقة تغزو العالم وتحكمه وهو ما جعل‬ ‫تتح ّ‬
‫ُ‬
‫جورج كليمنصو‪ ،‬وزير دفاع فرنسا‪ ،‬أثناء الحرب العالمية الولى‪ ،‬يقول‪" :‬أميركا هي البلد‬
‫الوحيد في العالم‪ ،‬الذي انتقل بمعجزة من مرحلة الهمجية‪ ،‬إلى مرحلة النحلل‪ ،‬من دون‬
‫أن يمر بمرحلة الحضارة الوسيطة"‪.‬‬
‫ن زمن السياحة البريئة قد انتهى‪،‬‬‫ّ‬ ‫إ‬ ‫فقط‪،‬‬ ‫لقول‬ ‫لناقش الرجل رأيه‪ ،‬بل‬ ‫ولست هنا ُ‬
‫بالنسبة إلى المواطن العربي‪ ،‬الذي نزلت أسهمه في بورصة السفريات العالمية‪ ،‬ولم تبقَ‬
‫له من ثقافة الرحلت إلى الغرب‪ ،‬إل ّ ذكرى الخوف الحدودي‪ ،‬ومن "أدب الرحلت" إل ّ قّلة‬
‫غرف التفتيش التي يدخلها حافيا ً من حذائه‪ ،‬والنظرات‬ ‫أدب اللت الكاشفة لمتعته‪ ،‬و ُ‬
‫قاها في شكل أسئلة‪.‬‬ ‫ذبة‪ ،‬التي يتل ّ‬‫الخارقة لنواياه‪ ،‬والهانات المه ّ‬
‫ً‬
‫وعلى العربي الذي يسافر إلى الغرب أن يكون جاهزا‪ ،‬ليجيب عن شبهة بقائه على قيد‬
‫دته!‬
‫العروبة‪ ،‬ولماذا هو لم يشهر حتى الن ر ّ‬

‫مطالب عاشقة عربية في عيد الحب‬

‫لبد ّ أن أعثر على طريقة‪ ،‬أرشو بها سكرتيرتك الفرنسية شديدة التكّتم‪ ،‬كي تبوح لي‬
‫بقائمة مواعيدك‪ ،‬بأسرار رزنامتك وتواريخ أسفارك‪ .‬لبد ّ أن أغوي يوما ً بوابك البرتغالي‬
‫من يأتون لزيارتك‪.‬‬ ‫دائم الفضول‪ ،‬عساه يشي لي بأيام قدومك‪ ،‬بوضعك الصحي‪ ،‬وبهيأة َ‬
‫لبد أن أشتري ثرثرة شغالتك الفلبينية‪ ،‬لتشكو لي عاداتك في غيابي‪ ..‬كم استهلكت من‬
‫مناشف؟ وهل عن ابتهاج عاطفي‪ ،‬كعادتك‪ ،‬اقتنيت طقما ً جديدا ً من أفخم الشراشف؟‬
‫ي فاخر على طاولة صالونك؟‬ ‫وهل تشي بك صباحا ً مباهج السهر‪ ،‬وبقايا نبيذ فرنس ّ‬

‫***‬

‫سس مع ساعتك السويسرية‪ ،‬المفرطة في الدقة‪ ،‬عساها تقدم لي‬ ‫ُ‬


‫لبد أن أبرم صفقة تج ّ‬
‫تقريرا ً عن عدد الدقائق‪ ،‬التي تنشغل فيها عني‪ ،‬والمّرات التي تلقي نظرة عليها‪ ،‬متسعجل ً‬
‫موعدا ً مع غيري‪ .‬لبد أن استجوب أحذيتك اليطالية فائقة الستعلء‪ ،‬كي تعترف لي تحت‬
‫التهديد بالعناوين التي تقصدها‪ ،‬عندما ل أكون معك‪ ،‬والمشاوير التي تأخذك إليها لتلتقي‬
‫سواي‪.‬‬
‫لبد لهاتفك الياباني‪ ،‬أن ينضم إلى فريق جواسيسي‪ ،‬أن يغدو عميل ً لي‪ ،‬يختبئ في جيبك‪،‬‬
‫ن لي كلما طلبت رقما ً غير رقمي‪ ،‬أن يزّودني بصور يلتقطها‪ ،‬حيث تتوقف نظراتك‪.‬‬ ‫أن ير ّ‬
‫دمك‪ ..‬وسائقيك‪ ..‬وسكرتيراتك‪ ..‬ولم‬ ‫مة حاجاتك‪ ،‬وطاقم خ َ‬ ‫ت في شراء ذ ّ‬ ‫م‪ ..‬لو فشل ُ‬ ‫ث ّ‬
‫من يقبل أن يبيعني أسرارك‪ ،‬سأشي بك إلى‬ ‫َ‬ ‫قبلي‪،‬‬ ‫اشتريتهم‬ ‫أن‬ ‫سبق‬ ‫من‬
‫َ‬ ‫بين‬ ‫من‬ ‫أجد‪،‬‬
‫حد يوما ً عن‬
‫وكالة الستخبارات الميركية‪ ،‬لكونك رجل ً طاعنا ً في الرهاب العاطفي‪ ،‬لم ي ِ‬
‫“القاعدة”‪ ،‬التي ُتجيز للعاشق خطف طائرة‪ ،‬للوصول في الوقت إلى موعد‪.‬‬
‫فق لك ما يكفي من الّتهم‪ ،‬إلى حد ّ إقناعهم بإلغاء جميع رحلتك‪ ،‬وتصوير مفكرة‬ ‫سُأل ّ‬
‫تليفوناتك‪ ،‬وحجز مفاتيح بيوتك‪ ،‬وجواز سفرك الخضر‪.‬‬
‫ض‬
‫عندها فقط‪ ،‬يمكنني اقتيادك إلى أحد معسكرات العتقال العاطفي‪ ،‬وعقد جلسة لف ّ‬
‫ل نقطة تفتيش عاطفي‪ ،‬يمتطي صهوة غضبه‪ ،‬ويشهر‬ ‫النزاع مع قلبك العربي‪ ،‬الذي عند ك ّ‬
‫م بقتلي‪ ...‬قبل أن ُيحاكمني‪.‬‬
‫سيف غيرته‪ ،‬ويه ّ‬

‫خاص‪:‬‬

‫أّيها القديس فالنتاين‪ ..‬يا شفيع المحبين والعشاق‪ ..‬تجد هنا نسخة عن قائمة بطلبات‬
‫عاشقة عربية‪ ،‬ل حول ول قوة لها‪ ،‬في مواجهة العولمة العاطفية‪.‬‬
‫كّلي ثقة بمعجزاتك‪.‬‬

‫مطلوب "شرطة آداب"‬


‫كان لبد أن ُأدعى إلى المشاركة في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب‪ ،‬حيث العالم‬
‫جمة إلى اللغة اللمانية‪.‬‬ ‫متر َ‬ ‫العربي ضيف الشرف هذا العام‪ ،‬كي أتنّبــه إلى كوني غير ُ‬
‫دمة في هذا اللقاء‪،‬‬ ‫مق ّ‬ ‫ْ‬
‫حتى إنني كدت أعتذر لفريق العاملين على ترجمة النصوص ال ُ‬
‫لكوني كاتبة محدودة اللسن‪ ،‬مقارنة بقائمة اللغات التي يشهرها في وجهك كّتاب‬
‫ججون بجيش من المترجمين‪ ،‬قصد الذهاب لمنازلة اللغات الجنبية‪ ،‬في معركة قد‬ ‫مد ّ‬
‫متاحة في ظرف كهذا‪.‬‬ ‫مطارد بكل الوسائل ال ُْ‬‫يتغّيب عنها القارئ الغربي ال ُْ‬
‫ولول العناية اللهية التي وضعت جائزة نجيب محفوظ في طريقي‪ ،‬وجعلت بالتالي من‬
‫ل أن أرى أعمالي‬ ‫ت من قب ِ‬ ‫الجامعة الميركية في القاهرة وكيلي الدبي‪ ،‬لربما كنت مــ ّ‬
‫مترجمة إلى لغة أجنبية‪ .‬وما كان أمر الترجمة ليؤّرقني‪ ،‬أو يهّز مضجعي الدبي‪ ،‬فأنا أكتب‬
‫للقارئ العربي‪ ،‬وهو الذي كّرسني باقتناء ما يقارب الثلثمئة ألف نسخة من مجمل أعمالي‬
‫مة زهو ل يعادله زهو‪ ،‬أن تكون مقروءا ً أول ً بلغتك ومن أبناء‬ ‫مقرصنة(‪ .‬وث ّ‬ ‫)عدا الّنسخ ال ْ ُ‬
‫ُأمتك‪ ،‬وأن تصّر على الكتابة بهذه اللغة المحفوفة بالمخاطر‪ ،‬المسّيجة بالنوايا المبّيتة‬
‫والسكاكين المشحوذة‪ ،‬وأن تكون جاهزا ً إن اقتضى المر للموت‪ ،‬مقابل حفنة من‬
‫الكلمات‪ ..‬العربية‪.‬‬
‫ن تختار منذ البدء‪ ،‬لمن أنت تكتب؟ ولماذا؟ حتى ل تفقد بوصلة الكتابة أثناء‬ ‫ن عليك أ ْ‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫مطاردتك قارئين نقيضين‪.‬‬
‫بل إنك ل تنجح في ملمسة وجدان نقيضك الخر‪ ،‬إل ّ بقدر ذهابك نحو العمق في ذاتك‬
‫عقدا ً وفضائح يملك‬ ‫فقة لعروبتك‪ ،‬و ُ‬ ‫وفي خصوصيتك‪ ،‬من دون الحاجة إلى أن تبيعه عيوبا ً ُ‬
‫مل ّ‬
‫الغرب ما يفوقها‪.‬‬
‫ن البعض أدرك‪ ،‬أنه ل يمكن اختراق الحصون الثقافّية الوروبية بقامة عربية شامخة‪،‬‬ ‫غير أ ّ‬
‫وأن عليه خلع قناعاته القومية‪ ،‬ودهن جلده بشعارات التسامح‪ ،‬ومناهضة العنف ومباركة‬
‫كن من النزلق إلى رفوف المكتبات الوروبية‪ ،‬كنموذج عن العربي‬ ‫عولمة المهانة‪ ،‬ليتم ّ‬
‫الخّير‪ ..‬غير الهمجي ول الدموي كأبناء جلدته من المجرمين‪.‬‬
‫في زمن النزوح إلى اللغات الجنبية‪ ،‬بحثا ً عن ملذ آمن ومكسب سريع وجوائز سمينة‪،‬‬
‫مة عشرات الكّتاب العرب الذين يقاومون‪ ،‬على حسابهم‪ ،‬النداء السحري لحوريات‬ ‫ث ّ‬
‫الفرانكوفونية‬
‫والنجلوساكسونية وغيرهما‪ ،‬دفاعا ً عن لغة أضحت كأبنائها مّتهمة بكونها لغة الدم‪ ،‬وحاضنة‬
‫س‪ ،‬حسب تصريح حديث لكاتبين فرانكوفونيين‬ ‫ما ح ّ‬
‫ل بنا من مآ ٍ‬ ‫جينات الرهاب‪ ،‬وسببا ً ل ِ َ‬
‫ما الثاني‪،‬‬‫من المغرب العربي‪ ،‬أدلى أحدهما بتصريحه هذا في معرض الجزائر للكتاب‪ ،‬أ ّ‬
‫عرف عنه من انتهازية أدبية وتوظيف قلمه لمسح أحذية القدام الغربية والسرائيلية‪،‬‬ ‫بما ُ‬
‫ل أن ُيفتتح‬ ‫ً‬
‫ن في الصحافة اللمانية هجوما على الدب العربي وكّتابه‪ ،‬من قب ِ‬ ‫فقد ش ّ‬
‫معرض فرانكفورت‪ ،‬في مقال له باللمانية عنوانه “سيرك العرب في فرانكفورت”‪ .‬ولقد‬
‫حضرت لهذا الكاتب قراءات من روايته الجديدة‪ ،‬التي تدور )أيضا ً وأيضًا( حول سنوات‬
‫ظلم والتعذيب في السجون المغربّية منذ أكثر من ربع قرن‪ ،‬ولم أستطع الستماع إليه‬ ‫ال ّ‬
‫خرة‪ ،‬بعد أن فرغت‬ ‫مصه بطولة متأ ّ‬ ‫أكثر من عشر دقائق‪ ،‬لفرط غيظي‪ ،‬ولفرط تق ّ‬
‫السجون المغربّية من أسراها‪ ،‬وامتلت جيوبه من استثمار مآسيهم‪.‬‬
‫مة أسماء نسائية ورجالية مكّرسة‬ ‫البعض عثر على أوطان جاهزة للتصدير في كتاب‪ .‬وث ّ‬
‫غربيًا‪ ،‬لنها كّرست الصورة التي يحلو للغرب أن يرانا عليها‪ ..‬أسماء بنت مجدها على‬
‫نهشنا‪ ،‬وفي أحسن الحالت‪ ،‬على بيع صورة فلكلورية ُأعيد طبخها أدبيًا‪ ،‬لمجتمعات ما‬
‫عادت ُتشبهنا‪ ،‬بل توّقف بها الزمن‪ ،‬حيث توّقفت ذاكرة ُأولئك الكّتاب مع أوطانهم‪ ..‬منذ‬
‫ثلثة عقود‪.‬‬
‫ُ‬
‫وس العالمية والنتشار‪ ،‬إلى حد ّ نسيان قضيته الولى ككاتب‬ ‫ُ‬
‫من أصيب بهَ َ‬ ‫مة َ‬‫نث ّ‬
‫ذلك أ ّ‬
‫مة إلقاء القبض على القارئ الغربي‪ ،‬بذريعة أنه بحكم سطوة اسمه‬ ‫ّ‬ ‫بمه‬ ‫واستبدالها‬ ‫عربي‪،‬‬
‫غدا وكيلنا الحصري لتقديم صورتنا للغرب‪.‬‬

‫معسكرات العتقال العاطفي‬

‫ت فاقده"‪ ,‬وهو‬ ‫من شئت فأن َ‬ ‫من أجمل أقوال المام علي )كّرم الّله وجهه(‪ ،‬قوله‪" :‬أح ّ‬
‫ب َ‬
‫ن علينا أن نعيش‬ ‫مدبرٍ كأن لم يكن"‪ ,‬لكأ ّ‬‫ل ُ‬‫مقبل إدبار وك ّ‬‫ل ُ‬ ‫كرنا بقول آخر له‪" :‬لك ّ‬‫ُيذ ّ‬
‫ددة‪ ،‬ونتهّيأ مع كل امتلك‪ ..‬لحتمّية الفقدان‪ ..‬وكما يقوم نزار قّباني‬ ‫السعادة كلحظة مه ّ‬
‫ب‪ ،‬علينا أن نقوم يوميا ً بالتمّرن على فاجعة ِفراق أقرب الناس‬ ‫ّ‬ ‫الح‬ ‫في‬ ‫بـ"تمارين" يومّية‬
‫وي عضلة القلب‪ ،‬بالنقطاع فترة عن الذين‬ ‫إلينا‪ ،‬كي ُنحافظ على لياقتنا العشقّية‪ ..‬ونق ّ‬
‫نحّبهم‪.‬‬

‫محبين‪ ،‬وما يليه من آلم النهايات ذلك أن الجمل كان لو‬‫وما أعنيه هنا‪ ،‬هو فراق ال ْ ُ‬
‫ض بنا صوب خلفات وشجارات‪،‬‬ ‫استطعنا الحتفاظ بجمالية البدايات‪ ..‬لو أن الحب لم يم ِ‬
‫ب الكبير يموت صغيرًا‪.‬‬
‫ح ّ‬
‫وه الحلم فينا‪ ،‬وتجعل ال ُ‬ ‫واكتشافات تش ّ‬

‫ن الحب سوى البدايات"‪,‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫م َ‬‫ب ِ‬ ‫وبرغم هذا‪ ،‬ل أوافق محمود درويش‪ ،‬حين يقول "ل أح ّ‬
‫ب‪ ،‬إنها ذلك الذهاب والياب العشقي نحو الحب‬ ‫فليست البدايات هي التي تصنع الح ّ‬
‫متناقضة‪ ،‬مد ّا ً وجزرًا‪،‬‬‫متدافعة ال ُْ‬ ‫متداخلة ال ُْ‬
‫وداخله‪ ..‬ذلك الكوكتيل العجيب من العواطف ال ُْ‬
‫ل‪ ..‬حب ّا ً وكراهية‪ ،‬التي تصنع ُأسطورة الحب‪ ،‬وُتحّبب للمحّبين عذابه وتقّلباته‬ ‫صد ّا ً ووص ً‬
‫ن‬
‫م ْ‬
‫مة َ‬ ‫ب كده"‪ ،‬ول مجال لقطف وروده من دون أن ُتدمي يدك بل ث ّ‬ ‫فـ"من ده وده‪ ..‬الح ّ‬
‫ب الورد"‪ ،‬وهو نفسه الذي غّنى "مضناك جفاه مرقده‬ ‫ع ََلشان الشوك الّلي في الورد يح ّ‬
‫معلنا ً من غرفة‬‫ن ُيزايد عليه في المازوشّية العاطفية‪ُ ،‬‬ ‫م ْ‬‫وده"‪ ،‬حتى جاء َ‬‫حم ع ّ‬‫وبكاه ُ وُر ّ‬
‫ً‬
‫ت بعدك"‪ ،‬وقد كان موته السريريّ متوّقعا لدى‬ ‫ت إّني م ّ‬ ‫شاق "عش أن َ‬ ‫العناية الفائقة للع ّ‬
‫ل محّبي أغانيه‪ ،‬مذ أعلن في أغنية شهيرة أن "الحب من غير أمل أسمى معاني الحياة"‪،‬‬ ‫ك ّ‬
‫ذة في الحب‪ ،‬ل أتباع لها‬ ‫ً‬
‫ما جعل من الموت حب ّا‪ ..‬أجمل أنواع الميتات! وهـي طريقة شا ّ‬
‫وهات عاطفية يطول شرحها‪ ،‬عندما ل يجد النسان العربي‬ ‫إل ّ في العالم العربي‪ ،‬حيث لتش ّ‬
‫حاكما ً يتكفل بتنغيص حياته‪ ،‬وخنق أنفاسه‪ ،‬ورميه في غياهب السجون‪ ،‬يتولى بنفسه أمر‬
‫ّ‬
‫حب ًّا‪ ،‬بعد إدخاله إلى معسكرات‬ ‫البحث عن حبيب طاغية جّبار‪ُ ،‬يسّلمه روحه كي يفتك بها‪ُ ..‬‬
‫العتقال العاطفي‪ ،‬وتعذيبه عشقا ً حد ّ الموت‪.‬‬

‫وبسبب هذا الواقع الذي انعكس على أغانينا‪ ،‬يصعب إحصاء الجرائم العاطفية في الغاني‬
‫العربية‪ ،‬التي كثيرا ً ما ُيضاف إليها جريمة هتك المغني ذوق المستمعين‪ ،‬وثقب مسامعهم‬
‫مى تكاُثر الجمعّيات التي تظهر كل يوم باسم ضحايا الرهاب‪ ،‬وضحايا‬ ‫بعويله وفي ح ّ‬
‫ددة بالنهيار‪ ،‬اقترح أحد القّراء الجزائريين تشكيل جمعية‬
‫ّ‬ ‫المه‬ ‫البنايات‬ ‫وضحايا‬ ‫الفيضانات‪،‬‬
‫ضحايا الحب من طرف واحد وأظن أن الموسيقار فريد الطرش‪ ،‬كان يصُلح رئيسا ً شرفيا ً‬
‫لها‪ ،‬لو أنه لم يكن ضحية فعلية من ضحاياها!‬

‫ل دولة‬‫طــر لي أن أزيــد على اقتراح هذا القارئ‪ ،‬أن يكون لهذه الجمعّية فرع في ك ّ‬ ‫خ َ‬
‫و َ‬
‫شاق وحدهم‪ ،‬بل يشمل أيضا ً المواطنين العرب‪،‬‬ ‫عربية‪ ،‬وأل ّ يقتصر النخراط فيها على الع ّ‬
‫ب‪ ،‬ول يعنيها أن تسحق الحاجة هامتهم‪ ،‬أو تتقاذف‬ ‫الذين يعانون من أوطان ل ُتبادلهم الح ّ‬
‫ي‪ ،‬التي يقبع‬
‫ّ‬ ‫العاطف‬ ‫العتقال‬ ‫معسكرات‬ ‫بإغلق‬ ‫المنافي أقدارهم‪ ..‬في المقابل‪ُ ،‬أطالب‬
‫هوسهم‬ ‫وروا الحياة العاطفية بثوابت أزلية‪ ،‬وذهبوا ضحية َ‬ ‫سذج‪ ،‬تص ّ‬
‫في زنزاناتها عشاق ّ‬
‫ب الكبير والخير‪ ،‬فوقعوا في براثن حب‬ ‫ّ‬ ‫الح‬ ‫هو‬ ‫ب‬
‫ّ‬ ‫ح‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ك‬ ‫أن‬ ‫معتقدين‬ ‫بعبارة "إلى البد"‪،‬‬
‫خخ بأجهزة النذار ونقاط التفتيش‪ ،‬غير‬ ‫مف ّ‬
‫مسّيج بالغيرة وأسلك الشكوك الشائكة‪ ،‬و ُ‬ ‫ُ‬
‫مدركين أن الحب‪ ،‬رغم كونه امتهانا ً للعبودية‪ ،‬هو تمرين يومي على الحرية أي على قدرتنا‬
‫على الستغناء عن الخر‪ ،‬حتى لو اقتضى المر بقاءنا أحيانا ً عاطلين عن الحب‪.‬‬

‫نــــزار يرى عكس هذا حين يقول "ُأريد أن أظ ّ‬


‫ل دائما ً نحلة تلحس العسل عن أصابع‬
‫قدميك‪ ..‬حتى ل أبقى عاطل ً عن العمل!"‪.‬‬

‫ب لهم!‬
‫كل في كون العشاق يسعدون بعذابهم‪ ،‬ول أمل في إنقاذهم من استعباد الح ّ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مش ِ‬

‫روما‬ ‫موعد مع‬

‫طة اشتياق تقع بمحاذاة‬ ‫منــذ عقدين وأكثر‪ ،‬وأنـا ُأؤجل موعدي مع رومـــا• فقد كانت مح ّ‬
‫حاتيها‬ ‫ُ‬
‫مالها‪ ،‬وتاريخ انبهاري بن ّ‬ ‫ج َ‬
‫ت أريد معها لقاًء ُيضاهي جغرافية َ‬ ‫إقامتي الصيفية• وكن ُ‬
‫ب ما•‬‫ّ‬ ‫ح‬ ‫بذريعة‬ ‫لدخولها‬ ‫المناسب‪،‬‬ ‫الموعد‬ ‫انتظار‬ ‫على‬ ‫رة‬ ‫مص‬
‫ُ ّ‬ ‫طهاتها‪،‬‬ ‫مغّنيها و ُ‬ ‫ساميها و ُ‬ ‫ور ّ‬
‫من‬ ‫ً‬
‫فمع مدينة مثل روما‪ ،‬يجتاحك حنين الفتوحات العشقّية• لــــذا‪ ،‬ما وثقت يوما ببراءة َ‬
‫وق أو اقتناء أحذيــة•‬ ‫من يقصدها‪ ،‬فقط‪ ،‬بنّية التس ّ‬ ‫جة سياحّية‪ ،‬ول احترمت َ‬ ‫يزورها بح ّ‬
‫شبهات• إنها الشبهة ذاتها• تسبقها‬ ‫ل المدن اليطالية‪ ،‬ليست فوق ول تحت ال ّ‬ ‫رومــــا‪ ،‬كك ّ‬
‫حــة داليـــدا‪ ،‬وشفتا صوفيا لورين‪ ،‬ووسامة ماستروياني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ب‬ ‫بها‬ ‫تشي‬ ‫عاطفية‪،‬‬ ‫ذبذبات‬
‫والغـــراء الغامض لرجال ل أسماء لهم‪ ،‬يرتدون السود وِغوايـــة “المافيوزي”•‬
‫لــــذا‪ ،‬ما ظننتني أحتــاج سوى إلى افتعال أحلمي لدخولها•‬
‫مــة حتمــا ً عشق إيطالي ينتظر أيّ زائـــر حــال نزوله من الطائرة• كما انتظر ذلك‬ ‫فث ّ‬
‫ممسكا ً بفردة حذائها•‬ ‫ُ‬ ‫يــة‬
‫ّ‬ ‫الحاف‬ ‫ساندريلل‬ ‫المير‬
‫شبهة حذائها كما في فيلم‬ ‫مـة نوافير وبرك مرمريــة‪ ،‬ستستحم فيها امــرأة خالعــة ُ‬ ‫وث ّ‬
‫ي المزاج‪ ،‬ترّبى على‬ ‫ّ‬ ‫متوسط‬ ‫جسد‬ ‫تلبيب‬ ‫نيرانه‬ ‫التهمت‬ ‫ب‬ ‫ُ ّ‬ ‫حــ‬ ‫بعد‬ ‫فيتــا”‪،‬‬ ‫“الدولتشي‬
‫جنات والصلصة الحمراء ذات البهارات الحاّرة‪ ،‬وعلى موسيقى مسكونة بإيقاع‬ ‫مع ّ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫الشهوات•‬
‫ولكن‪ ،‬وحده فيلليني استطاع المساك بوهــم روما‪ ،‬وترك لنا شوارع نسيت أسماءها‪،‬‬
‫مفرطات في الشغف•‬ ‫وأصبحت في ذاكرة أبناء رومــا‪ ،‬تحمل أسماء أفلمه ووجوه نساء ُ‬
‫مــا ليوناردو دافنشي‪ ،‬فغادر روما ليتوّلى إدارة حركة الهبوط والقلع في مطار يحمل‬ ‫أ ّ‬
‫شاق‬ ‫محتاليــن‪ ،‬وع ّ‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫شعراء‬ ‫من‬ ‫أحفاده‬ ‫وترك‬ ‫“الموناليزا”‪،‬‬ ‫ب‬‫ّ‬ ‫ح‬ ‫عن‬ ‫تقاعد‬ ‫لقد‬ ‫اسمه•‬
‫فلين من الزّوار•‬ ‫فلون باستقبال السّياح والتجار والمغ ّ‬ ‫وثرثاريــن‪ ،‬يتك ّ‬
‫ت مشغولة عن متابعة‬ ‫كن‬ ‫رومـــا‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫المطار‬ ‫من‬ ‫تنقلني‬ ‫كانت‬ ‫التي‬ ‫لجــرة‬ ‫في سيارة ا ُ‬
‫ُ‬
‫دث بها سائقي‪،‬‬ ‫داد المعبوث بأرقامه‪ ،‬بإعــادة الكلمات اليطالية التي كان يتح ّ‬ ‫لهاث الَعـ ّ‬
‫مــل مدينة تعيش السيولة الزمنّية‪ ،‬حتى‬ ‫أتأ‬ ‫ية‪،‬‬ ‫الفرنس‬ ‫أصولها‬‫ال ْمفـرط في اللطــف‪ ،‬إلى ُ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ل شارع إشارات‬ ‫في النفتــاح الشاسع للمكان‪ ،‬الذي عكس جنيف‪ ،‬ل تقطع أنفاسه عند ك ّ‬
‫ب الضوء الحمر‪ ،‬ول اللوية الحمراء التي‬ ‫المرور• فرومــا كأهلها‪ ،‬مدينة مزاجّيـة‪ ،‬ل تح ّ‬
‫مشاة‬‫حكمتها يومًا‪ ،‬ويحدث أل ّ تحترم الضــوء الحمر• ول أحد يجد في ذلك جريمة• فال ُْ‬
‫مزدحمة بالسيارات‪ ،‬حتى إنهم أعلنوا‬ ‫ق‪ ،‬والشوارع ُ‬ ‫يقطعون الطرقات الشاسعة كيفما اتف ّ‬
‫صـة•‬ ‫ّ‬ ‫الخا‬ ‫السيارات‬ ‫يوم الحد يوما ً ُيمنع فيه استعمال‬
‫وأفَهم أن يكون الكاتب اليطالي “دارُيـو فــو” قد علم بنبأ فوزه بجائزة “نوبل”‪ ،‬عندما‬
‫كتب عليها “داريو لقد فزت بجائزة نوبل”• فاليطاليون‬ ‫اقتربت منه سيارة عليها لوحة ُ‬
‫ذر التصال بهم‪ ،‬لنهم أثناء ذلك‪ ،‬يكونون‬ ‫يقضون نصف وقتهم في السيارات‪ ،‬ويتع ّ‬
‫قالة•‬
‫دث على هواتفهم الن ّ‬ ‫مشغولين بالتح ّ‬
‫شا ً وضجيجا ً موسيقيا ً لكلم كأنه غناء‪ ،‬ل تترك لك وقتا ً‬ ‫ً‬
‫رومـــا المزدحمــة حّبــا وبهجة وغ ّ‬
‫ك خسائر‬ ‫مساءلة التاريخ• لكأنها مدينة منذورة لكعوب النساء‪ ،‬تصّر على تكبيد َ‬ ‫مل أو ل ِ ُ‬‫للتأ ّ‬
‫ّ‬
‫من سترتدي كل الثياب المعلقة في‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫شرائّيـة لست مهيأ نفسيا لها‪ ،‬لنك مازلت ل تدري ل ِ َ‬
‫خزانتك‪ ،‬ول أين ستذهب بأحذيتك الفاخــرة الفارغــة‪ ،‬التي أضاعت وجهتها‪ ،‬كما ألبرتو‬
‫مورافيا القائل “رأسي مليء بأوراق الميترو العتيقة”•‬
‫كان قلبي مزدحما ً بأحذية عتيقة‪ ،‬أغلى على ذاكرتي من أحذية إيطالية تعرضها واجهات‬
‫رومــا لغير القدام العاشقة•‬
‫ي‪ ،‬وأقنعني من دون أن أعترض على نصبه‪ ،‬إنني مددته‬ ‫ّ‬ ‫عل‬ ‫احتال‬ ‫ن ذلك السائق الذي‬ ‫مإ ّ‬‫ثـ ّ‬
‫بورقة نقدية من فئة العشرة يورو‪ ،‬ل من فئة الخمسين‪ ،‬وتقاضى مني بالتالي ما يفوق‬
‫المئة يورو‪ ،‬مقابل إيصالي من المطار إلى رومــا‪ ،‬ل يدري كم أساء لحذية أحلمي‬
‫اليطالية‪ ،‬وأطــــاح بموعـدي العشقي الّول مع إيطاليـــا•‬

‫نجيب »محفوظ« في الذاكرة‬


‫ةةةةةةة ةةةةةةةةة ةةةةة ةةةةةةةة ةةةة ةة ةةةةةة ةةةةة ةةةةة‬
‫ةةةةةةة ةةةةةةة‬

‫احتفل نجيب محفوظ مؤخرا ببلوغه التسعين‪.‬‬


‫وبالنسبة الي‪ ،‬سيبقى عمره سبعة وثمانون عاما‪ ..‬العمر الذي التقيته ذات ‪ 11‬ديسمبر‬
‫‪.1998‬‬
‫كان يومها تاريخ ميلده‪ ،‬والتاريخ الذي نلت فيه جائزة تحمل اسمه‪ ،‬وهي جائزة‪ ،‬ما كنت‬
‫سمعت بها من قببل‪ ،‬حتى انني ما كنت اعرف ان كاتبين سبقاني الى نيلها‪.‬‬
‫لم اكن يومها قد بلغت عمر الجوائز لتوقع جائزة او اسعى اليها‪ .‬ولكنني بحصولي عليها‬
‫عن روايتي "ذاكرة الجسد" بلغت عمر الفاجعة‪ ،‬ودخلت "ذاكرة الحسد"‪ .‬فلقد اكتشفت‬
‫كم ان الطريق الى النجاح محفوف بالعداوات‪ ،‬وكم انا عزلء‪ ،‬امام ذلك الكم من الحقاد‬
‫والدسائس التي لم افهم لها سببا‪ ،‬لكوني اعتقدت دوما‪ ،‬ان الجوائز لم تصنع يوما مجد‬
‫كاتب‪ ،‬بل كثيرا ما صنعت نكبته من دون ان تصنع بالضرورة شهرته‪ ..‬او ثروته‪.‬‬
‫غير ان الخرين يحسدونك دوما على الشئ الذي يعتبرونه الهم بالنسبة اليهم‪ ،‬ل على‬
‫الذي هو الهم بالنسبة اليك‪ ،‬والذي من نعم الله عليك انهم ل يدركونه‪ ،‬لنهم يملكون‬
‫احلما غير احلمك‪ .‬وانا كانت مصيبتي دائما انني احقق احلم الخرين‪.‬‬
‫مرت ثلث سنوات على نيلي جائزة نجيب محفوظ‪ ،‬ولم يبق منها في قلبي من بريق‬
‫مراسيمها الرسمية‪ ،‬سوى تلك السعادات السرية التي عرفتها بمحاذاتها‪ ،‬وذلك التكريم‬
‫الذي منحتني اياه الحياة في الخفاء‪ ..‬بعيدا عن الضواء‪ ،‬والتي احداها حضور العزيز نور‬
‫الشريف حفل تكريمي‪ ،‬لعجابه منذ سنوات بـ "ذاكرة الجسد"‪ ،‬ورغبته في نقلها الى‬
‫السينما )وهي امنية ما زالت تبحث لها عن ممول(‪.‬‬
‫اما فرحتي الخرى فكانت لقائي نجيب محفوظ وعبوري من الكتاب الى الكاتب‪ ..‬بذريعة‬
‫جائزة‪.‬‬
‫ل انسى زيارتي الى بيته في شارع النيل‪ .‬فقد فاجأني ذلك المبنى العادي بمدخله‬
‫المتواضع‪ ،‬الذي تتجاور فيه سلل الورد التي فاض بها بيته بمناسبة عيد ميلده‪ ،‬بمنظر‬
‫قطة تأكل طعاما على الرض‪.‬‬
‫قصدناه ذلك الصباح‪ ،‬انا وبارعة سريح‪ ،‬مترجمة اعمالي الى اللغة النجليزية‪ ،‬ونبيلة عقل‬
‫ممثلة الجامعة المريكية في القاهرة‪ ،‬وهي الجامعة التي تتولى ترجمة اعمال نجيب‬
‫محفوظ الى اللغات الجنبية‪ ،‬وكذلك اعمالي‪ ،‬بحكم الجائزة‪.‬‬
‫فتحت لنا زوجته الباب بثياب البيت وبحفاوة تنسيك تواضع المكان‪ ،‬سارعت باحضار‬
‫المشروبات والحلوى لضيافتنا‪ ،‬ثم جاء نجيب محفوظ بقامته الهزيلة‪ ،‬التي لسبب غامض‬
‫توقعتها اطول‪ ..‬واضخم قليل‪ ،‬ربما لتتناسب في ذهني مع قامته الدبية‪ .‬كان مرتديا بيجاما‬
‫مخططة يغطيها رداء من الحرير داكن اللون‪ .‬كان بشوشا‪ ،‬مضيافا‪ ،‬سعيدا بلقائنا‪ ،‬وسعيدا‬
‫لن امرأة جزائرية حصلت على جائزته‪ ،‬وكان ممازحا‪ ،‬مما خفف من هيبتي في حضوره‪..‬‬
‫فقد بادرني بعتاب لطيف‪ ،‬لنه انتظرني قبل ذلك بيوم مع مجموعة من الكتاب في موعده‬
‫السبوعي‪ ،‬ولكنني لم ات‪ .‬ولم ادر كيف اشرح له انني كنت اريد ان يكون لقائي معه‬
‫بعيدا عن عيون الصحافيين‪ ،‬وانني اثرت ان التقيه في حضرة زوجته‪ ..‬وقطته‪ ..‬وما لم‬
‫يذبل من ورد عيد ميلده‪.‬‬
‫عندما سألني عن الكلمة التي القيتها‪ ،‬والتي بلغه انها كانت مؤثرة‪ ،‬استغربت انه لم يطلع‬
‫عليها‪ ،‬قبل ان يعترف لي متحسرا‪ ،‬بان بصره لم يعد يتيح له القراءة‪ ،‬وان ثمة رجل يتطوع‬
‫كل يوم ليقرأ له ربع ساعة‪ ..‬الصحافة‪ .‬وعندما عرضت عليه ان اقرأها عليه‪ ،‬اكتشفت ان‬
‫سمعه ايضا اصبح خفيفا‪ ،‬بحيث لبد من الحديث اليه في اذنه بصوت مرتفع‪ ..‬فرحت اقرأ‬
‫عليه نصا‪ ..‬لكأنني كتبته من اجله‪:‬‬
‫"جميل كل ما يمكن ان يحدث لكاتب بسبب كتاب‪ ..‬فبسبب كتاب يمكن ان تحب‪ ..‬ويمكن‬
‫ان تكره‪ ..‬ويمكن ان تكرم‪ ..‬ويمكن ان ُتغتال‪ ..‬ويمكن ان ُتنفى‪ ..‬ويمكن ايضا ان تحصل‬
‫على جائزة لم تتوقعها يوما‪ ..‬ان تكون كاتبا‪ ..‬هو ان تكون على استعداد لن يحدث لك اي‬
‫امر من كل هذا‪ ،‬مقابل‪ ..‬حفنة من الكلمات"‪.‬‬
‫كان نصا كأنني كتبته من اجله‪ .‬استمع اليه وهو ممسك يده اليمنى التي شلها ارهابي‪..‬‬
‫بطعنة سكين‪ ..‬بعد نيله جائزة نوبل‪.‬‬

‫نحن في سجن عسقلن ‪ ...‬طمنينا عنك‬

‫لم أدرك يوما ً سر انجذاب السرى السياسيين إلى كتاباتي‪ ،‬حتى إنه في إمكاني أن أكتب‬
‫كتابا ً كامل ً )قد يكون كتابي الجمل( عن تلك المصادفات العجيبة التي‪ ،‬على مدى ربع‬
‫قرن‪ ،‬وضعت مرارا ً في طريقي أسرى من سجناء الرأي القابعين في المعتقلت العربية‪،‬‬
‫قبل أن ينضم إليهم السرى الفلسطينيون الموزعون على السجون السرائيلية‪ .‬بعض هذه‬
‫القصص من الجمال‪ ،‬بحيث أرى في عدم كتابتها جريمة في حق الدب‪ ،‬وأحيانا ً في حق‬
‫الحب‪.‬‬
‫عاد موضوع السرى ليجتاح حياتي بعد مروري ببرنامج “خليك بالبيت”‪ ،‬وقبلها بيوم كان‬
‫زاهي وهبي قد طلبني مساًء ليقول لي‪“ :‬أدري أن هذا الخبر سيسعدك‪ ..‬لك سلم خاص‬
‫من أسرى سجن عسقلن‪ ..‬إنهم ينتظرون بلهفة حلقة الغد لمتابعة حوارك”‪ .‬وما كدت‬
‫أضع السماعة حتى رحت أبكي للحظات‪ ،‬غير مصدقة معجزة الكتابة‪ ،‬التي تجعل كلماتك‬
‫تخترق الحدود والحواجز‪ ،‬وبوابات السجون‪ ،‬وقضبان الزنازين‪ ،‬لتحط في أيدي أسرى‬
‫محكوم على بعضهم بثلثين سنة من السجن‪.‬‬
‫لكن معجزة ُأخرى كانت في انتظاري غداة بث البرنامج‪ ،‬عندما رن هاتفي النقال‪،‬‬
‫ووجدتني أتكلم مع السير محمود الصفدي‪ ،‬الذي أمده زاهي برقم جوالي‪ ،‬واستطاع‬
‫ي صوته عبر الهاتف‪ .‬وبقيت مذهولة أبحث عن كلمات أرد‬ ‫بطريقة من الطرق أن يوصل إل ّ‬
‫بها عليه‪ .‬فقد كان يتكلم بجمالية وفصاحة صقلتهما العزلة والمطالعة‪ ..‬والحب‪ .‬وراح‬
‫ي محبته ومحبة رفاقه السرى‪ .‬قال‪“ :‬نحن أربعمئة معتقل هنا‪،‬‬ ‫بحماس وشوق ينقل إل ّ‬
‫نهديك ورودا ً أكثر من التي وصلتك‪ ،‬لنك أهديتنا قارب نجاة لعالم الحرية والمعرفة‪ .‬كتبك‬
‫زادنا اليومي في رحلة السر الطويلة”‪.‬‬
‫ً‬
‫وأما تعجبي لكتشافي أنه طالع رواياتي الثلث‪ ،‬أخبرني محمود أنهم ناضلوا كثيرا ودخلوا‬
‫في إضرابات جوع مفتوحة‪ ،‬قبل أن يحصلوا على حق القراءة وحق مشاهدة التلفزيون‪،‬‬
‫وأنه قبل ذلك حدث لحد الرفاق السرى أن قضى أياما ً منكبا ً على نسخ “ذاكرة الجسد” بـ‬
‫“أحرف السمسمة”‪ ،‬ليهربها إلى بقية المعتقلين‪ .‬سألته عن هذه التسمية‪ ،‬قال “إنها تطلق‬
‫على أصغر حرف يكتب على ورق شفاف للمراسلت”‪ .‬لكنه طمأنني بشيء من الفرح‬
‫ل‪“ :‬الن‪ ،‬جميعنا قرأناك‪ ،‬وأبطالك يقيمون معنا‪ ،‬برغم ضيق زنزاناتنا التي تضم ثمانية‬ ‫قائ ً‬
‫ً‬
‫أسرى‪ .‬لقد أفسحنا مكانا بيننا لخالد وعبدالحق وحياة‪ ..‬إنهم يعيشون معنا‪ ..‬نتحدث إليهم‬
‫ونتحدث عنهم في جلساتنا”‪.‬‬
‫ّ‬
‫لم أفهم سر التوقد‪ ،‬الذي يشتعل به كلم محمود الصفدي‪ ،‬إل عندما حدثني عن “عاطف‬
‫شاهين”‪ ،‬الفتاة التي خطبها قبل خمسة عشر عامًا‪ ،‬أي قبل اعتقاله ببضعة شهور‪ ،‬لكنها‬
‫يوم حكم عليه بالسجن لسبع وعشرين سنة‪ ،‬بسبب نشاطه في النتفاضة الولى‪ ،‬رفضت‬
‫أن تضع حدا ً لعلقتهما‪ .‬قال محمود بسخرية‪“ :‬من الواضح أنها لم تأخذ بنصيحتك التي‬
‫تقول “من الفضل أن تحب المرأة رجل ً في حياته امرأة على أن تحب رجل ً في حياته‬
‫قضية”‪ .‬حاولت كثيرا ً إقناعها بالتخلي عني وتحريرها من أعباء رحلتي الطويلة‪ ،‬إل ّ أنها أبت‬
‫وأصرت أن تتمسك بي وبحبنا وتسير معي في درب اللم مجهولة النهاية‪ .‬وكانت تردد‬
‫دوما ً أن من حقها أن تناضل كما ناضلت أنا‪ ،‬وأنها ستنتظرني إن اقتضى المر خمس‬
‫عشرة سنة ُأخرى إلى نهاية حكمي”‪.‬‬
‫في عيد العشاق‪ ،‬سلم خاص إلى محمود وعاطف‪ ،‬التي يحدث أن تهاتفني من القدس‪،‬‬
‫ي تحيات خطيبها أو رسالة منه‪.‬‬ ‫لتنقل إل ّ‬
‫رائعان أنتما وجميلن‪ ،‬حتى لنكاد نحسدكما على أسطورة حب أنجبها الحرمان‪ ،‬وانتظار‬
‫حبيب سنة‪ ..‬مقابل كل يوم كان لكما فيه لقاء‪.‬‬
‫جان‪ ..‬خذوا بؤسنا العاطفي وسوقونا إلى سجن‬ ‫إن كان العشق يحتاج إلى سجن وس ّ‬
‫عسقلن‪.‬‬

‫ها قد وهبته غزالة!‬


‫من قال‪" :‬في محطات السفر والمطارات‪ ،‬مكّبرات الصوت تقول "على السادة‬ ‫ألنه َ‬
‫ً‬
‫جهوا إلى‪ ،". .‬ذلك أن السيدات ل يغادرن أبدا‪ ،‬كان أول من أخذ القطار‬ ‫المسافرين أن يتو ّ‬
‫وغادرنا؟‬
‫ن مّرت على عجل‪ ،‬لول أّنه القائل "يجب أل ّ تضيع شيئا‪ً.‬‬ ‫وكنت سأقيس لقائي به‪ ،‬ببضع ثوا ٍ‬
‫شاق بخلء‪ . .‬الثانية والثانية‪ ،‬ل ُتساويان ثانيتين‪ . .‬بل تساويان قبلتين"‪ .‬فصاحب‬ ‫الع ّ‬
‫"سأهبك غزالة" كان بخيل ً عن خجل‪ ،‬لكن كان في إمكانه أن يعطيك في كلمتين يلفظهما‬
‫بلهجة قسنطينية‪ . .‬ما يعادلهما من ُقبل‪.‬‬
‫ً‬
‫داد‪ ،‬الذي لم ألتق به سوى مرتين لقاًء عابرا‪ ،‬توّقع أن تلك الفتاة التي‬ ‫ن مالك ح ّ‬‫ل أظ ّ‬
‫ل وفّية لذكراه بعد ربع قرن من‬ ‫تقاطعت خطاه معها في اتحاد الكّتاب الجزائريين‪ ،‬ستظ ّ‬
‫وفاته‪ ،‬أي زمنا ً أكبر من عمرها آنذاك‪ .‬ولكن ل أظّنه سيعجب؛ بأنها هي التي اخذها مأخذ‬
‫كت تهديه بعد موته قطيعا ً من‬ ‫الشعر‪ ،‬والتي كانت أصغر من أن تهبه غزالة‪ ،‬ما انف ّ‬
‫الغزلن‪ ،‬عساها كّلما باغتته سخاء تضاهيه شاعرية‪.‬‬
‫ن مع الشعراء‪ ،‬أجمل من الوفاء ِلعشرة‪ ،‬الوفاء للحظة‪،‬‬ ‫ل ذلك السخاء‪ ،‬لقتناعها بأ ّ‬ ‫ك ّ‬
‫من‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫هذا‪.‬‬ ‫سيفهم‬ ‫بالذات‪،‬‬ ‫داد‬
‫ّ‬ ‫ح‬ ‫مالك‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫وأ‬ ‫يحدث‪،‬‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫الوفاء‬ ‫حدث‪،‬‬ ‫ما‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫الوفاء‬ ‫من‬ ‫وأجمل‬
‫غيُر الموات في إمكانهم فهم ما نهديهم حق فهمه؟‬
‫يوم التقيته في السبعينات‪ ،‬عابرا ً في ذلك المقر‪ ،‬أذكر‪ ،‬كان أكبر حزنا ً من أن يكون في‬
‫ل خبرة من أرد على طلبه المتواضع بترجمة‬ ‫ل‪ ،‬وأق ّ‬ ‫ت أنا أكثر خج ً‬ ‫متناول فرحتي به‪ ،‬وكن ُ‬
‫بعض قصائده للعربية‪ ،‬التي كان يتمّنى أن يسمعها بصوتي في ذلك البرنامج الليلي الذي‬
‫حرم من‬ ‫ُ‬
‫ب موسيقى اللغة العربية التي ُ‬ ‫من يح ّ‬ ‫دمه‪ ،‬والذي كان يستمع له بشغف َ‬ ‫كنت أق ّ‬
‫تعّلمها‪.‬‬
‫كنت بالنسبة إليه رمزا للجزائر الفتية‪ ،‬التي صمت ليستمع لصوتها العربي‪.‬‬ ‫ً‬
‫ي اسما ً كبيرا لم أقرأ له شيئًا‪ ،‬ولكن أدري أن فيه الكثير من فجيعة أبي‬ ‫وكان بالنسبة إل ّ‬
‫ّ‬
‫وحرقة حرمانه من تعلم اللغة العربية‪.‬‬
‫لم يبقَ من لقائي به شيئ‪ ،‬عدا ذكرى وسامته الندلسية‪ ،‬وارتباكي في حضرة تواضعه‪.‬‬
‫من يعتذر على وجوده خطأ في زمن ُتهيمن عليه‬ ‫فقد كان شاعرا ً يتكّلم بصوت منخفض‪ ،‬ك َ‬
‫ل تلك الضوضاء‪ ،‬وتحكم ساحته ضفادع الشعر‪.‬‬ ‫ك ّ‬
‫ت أعد ّ أطروحة في الثمانينات‪ ،‬في‬ ‫ُ‬
‫داد‪ ،‬حدث بعد موته‪ ،‬عندما كن ُ‬ ‫لقائي الحقيقي بمالك ح ّ‬
‫من قال‪" :‬في محطات السفر والمطارات‪ ،‬مكّبرات الصوت‬ ‫َ‬ ‫ألنه‬ ‫السوربون‪ ،‬عن الدب‬
‫ً‬
‫جهوا إلى‪ ،". .‬ذلك أن السيدات ل يغادرن أبدا‪ ،‬كان‬ ‫تقول "على السادة المسافرين أن يتو ّ‬
‫أول من أخذ القطار وغادرنا؟‬
‫ن مّرت على عجل‪ ،‬لول أّنه القائل "يجب أل ّ تضيع شيئا‪ً.‬‬ ‫وكنت سأقيس لقائي به‪ ،‬ببضع ثوا ٍ‬
‫شاق بخلء‪ . .‬الثانية والثانية‪ ،‬ل ُتساويان ثانيتين‪ . .‬بل تساويان قبلتين"‪ .‬فصاحب‬ ‫الع ّ‬
‫"سأهبك غزالة" كان بخيل عن خجل‪ ،‬لكن كان في إمكانه أن يعطيك في كلمتين يلفظهما‬ ‫ً‬
‫بلهجة قسنطينية‪ . .‬ما يعادلهما من ُقبل‪.‬‬
‫ً‬
‫داد‪ ،‬الذي لم ألتق به سوى مرتين لقاًء عابرا‪ ،‬توّقع أن تلك الفتاة التي‬ ‫ن مالك ح ّ‬‫ل أظ ّ‬
‫ل وفّية لذكراه بعد ربع قرن من‬ ‫تقاطعت خطاه معها في اتحاد الكّتاب الجزائريين‪ ،‬ستظ ّ‬
‫وفاته‪ ،‬أي زمنا ً أكبر من عمرها آنذاك‪ .‬ولكن ل أظّنه سيعجب؛ بأنها هي التي اخذها مأخذ‬
‫كت تهديه بعد موته قطيعا ً من‬ ‫الشعر‪ ،‬والتي كانت أصغر من أن تهبه غزالة‪ ،‬ما انف ّ‬
‫الغزلن‪ ،‬عساها كّلما باغتته سخاء تضاهيه شاعرية‪.‬‬
‫ن مع الشعراء‪ ،‬أجمل من الوفاء ِلعشرة‪ ،‬الوفاء للحظة‪،‬‬ ‫ل ذلك السخاء‪ ،‬لقتناعها بأ ّ‬ ‫ك ّ‬
‫من‬ ‫داد بالذات‪ ،‬سيفهم هذا‪ .‬ف َ‬ ‫ن مالك ح ّ‬ ‫ما يحدث‪ ،‬وأ ّ‬ ‫ما حدث‪ ،‬الوفاء ل ِ َ‬ ‫وأجمل من الوفاء ل ِ َ‬
‫غيُر الموات في إمكانهم فهم ما نهديهم حق فهمه؟‬
‫يوم التقيته في السبعينات‪ ،‬عابرا ً في ذلك المقر‪ ،‬أذكر‪ ،‬كان أكبر حزنا ً من أن يكون في‬
‫ل خبرة من أرد على طلبه المتواضع بترجمة‬ ‫ل‪ ،‬وأق ّ‬ ‫ت أنا أكثر خج ً‬ ‫متناول فرحتي به‪ ،‬وكن ُ‬
‫بعض قصائده للعربية‪ ،‬التي كان يتمّنى أن يسمعها بصوتي في ذلك البرنامج الليلي الذي‬
‫حرم من‬ ‫ُ‬
‫ب موسيقى اللغة العربية التي ُ‬ ‫من يح ّ‬ ‫دمه‪ ،‬والذي كان يستمع له بشغف َ‬ ‫كنت أق ّ‬
‫تعّلمها‪.‬‬
‫كنت بالنسبة إليه رمزا ً للجزائر الفتية‪ ،‬التي صمت ليستمع لصوتها العربي‪.‬‬
‫ي اسما ً كبيرا لم أقرأ له شيئًا‪ ،‬ولكن أدري أن فيه الكثير من فجيعة أبي‬ ‫وكان بالنسبة إل ّ‬
‫وحرقة حرمانه من تعّلم اللغة العربية‪.‬‬
‫لم يبقَ من لقائي به شيئ‪ ،‬عدا ذكرى وسامته الندلسية‪ ،‬وارتباكي في حضرة تواضعه‪.‬‬
‫من يعتذر على وجوده خطأ في زمن ُتهيمن عليه‬ ‫فقد كان شاعرا ً يتكّلم بصوت منخفض‪ ،‬ك َ‬
‫ل تلك الضوضاء‪ ،‬وتحكم ساحته ضفادع الشعر‪.‬‬ ‫ك ّ‬
‫ت ُأعد ّ أطروحة في الثمانينات‪ ،‬في‬ ‫ُ‬ ‫كن‬ ‫عندما‬ ‫موته‪،‬‬ ‫بعد‬ ‫حدث‬ ‫داد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ح‬ ‫بمالك‬ ‫الحقيقي‬ ‫لقائي‬
‫كتبه زمن غربتي‪ ،‬فأيقظت حنيني إلى‬ ‫السوربون‪ ،‬عن الدب الجزائري‪ .‬وصادفت ُ‬
‫قسنطينة‪ ،‬المدينة التي كان مالك مهووسا ً بها‪ ،‬والتي لم أكن قد عرفتها حقًا‪.‬‬
‫صه الجمل‪ . .‬حياته‪ ،‬التي كروائي كبير‬ ‫وبرغم هذا‪ ،‬ولعي بمالك حداد‪ ،‬هو إعجاب أيضا ً بن ّ‬
‫أبدع في كتابة خاتمتها‪ ،‬عندما قال‪" :‬أنا نقطة النهاية في رواية تبدأ"‪ ،‬وقّرر ان يتوقف عن‬
‫الكتابة مصّرحا ً بجملته الشهيرة "اللغة الفرنسية منفاي‪ ،‬ولذا قررت أن أصمت"‪ .‬وهكذا‬
‫مات مالك حداد بسرطان صمته‪ ،‬ليكون أول شهيد يموت عشقا ً للغة العربية‪ .‬فهل عرف‬
‫تاريخ العرب قبل مالك حداد‪ . .‬كاتبا ً أقدم على عملية استشهادية كهذه؟‬
‫منذ اثنتي عشرة سنة بالضبط‪ ،‬وبمناسبة مرور ‪ 10‬سنوات على وفاته‪ ،‬كتبت مقال ً آنذاك‪،‬‬
‫عنوانه "سأهبه غزالة"‪ُ ،‬أعلن فيه أنني سأكتب إكراما ً لمالك حداد ولقسنطينة أول عمل‪. .‬‬
‫روائي لي‪.‬‬
‫وإن كانت "ذاكرة الجسد" قد أخذت مني أربع سنوات من الكتابة‪ ،‬فجائزة مالك حداد التي‬
‫ت بدوري بمبادرة إنشائها‪ . .‬ل‬ ‫ُ‬
‫ما فتئت أطالب بإنشائها‪ ،‬انتظرت ‪ 12‬سنة‪ ،‬حتى تكفل ُ‬
‫تكريما ً لمالك حداد‪ ،‬الذي ل ُيكّرم إل ّ بترجمة أعماله ووضعها في متناول قرائه العرب‪ .‬إنما‬
‫تكريما ً للغة العربية ومساندة لكّتابها الصامدين في الجزائر‪ ،‬ولرد ّ الُغبن المادي والمعنوي‬
‫دور النشر في المشرق‪ ،‬ومنح‬ ‫عنهم‪ . .‬بنشر أهم عمل روائي ُيكتب بالعربية في كبرى ُ‬
‫دة سنتين‪ .‬في إمكاني بعد‬ ‫ّ‬ ‫م‬ ‫للكتابة‬ ‫كنه من التفّرغ‬‫صاحبه مبلغا ً يحميه من الحاجة‪ ،‬ويم ّ‬
‫ل عامين سيخرج إلى الوجود عمل إبداعي كبير‪ ،‬يثبت أن الجزائر ما زالت‬ ‫الن أن أرتاح‪ .‬ك ّ‬
‫ن الغزلن كالرض "بتتكّلم عربي"!‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ذلك‬ ‫‪.‬‬ ‫العربية‪.‬‬ ‫الغزلن‬ ‫إنجاب‬ ‫قادرة على‬

‫هاتف الحب‪ ..‬أنقذني من الموت‬


‫ربما كنت مدينة للهاتف بوجودي بينكم على قيد الحياة‪ .‬وعيت في ما بعد أنه كان يمكن‬
‫لي أن أقضي في ذلك الحادث‪ ،‬الذي ذهب بحياة الفقيد الرئيس رفيق الحريري‪ ،‬وبعض‬
‫دفة يومها في طريقه‪ ،‬لول أنني انشغلت ذلك الصباح بمكالمة طويلة‬ ‫من وضعتهم ال ْ ُ‬
‫مصا َ‬ ‫َ‬
‫شاق"‪ ،‬كسّلة ورد صباحية‪ ،‬وحجزني شذاها في غرفتي ساعتين‪ ،‬ما‬ ‫وصلتني في "عيد الع ّ‬
‫كرت أنني‪ ،‬من‬ ‫مانا إلى بيروت‪ .‬في الطريق‪ ،‬تذ ّ‬ ‫جعلني أتأخر عن موعد نزولي من جبل بر ّ‬
‫ل صباح‪ ،‬عابرا ً قاّرات الشتياق‪ ،‬نسيت سبب‬ ‫سعادتي بذلك الصوت الذي يبتكر لي عيدا ً ك ّ‬
‫ب"‪.‬‬‫دم لها هدية بمناسبة "عيد الح ّ‬ ‫نزولي إلى بيروت‪ .‬إذ كنت أقصد الغالية لطيفة ُ‬
‫لق ّ‬
‫وعندما تنّبهت إلى نسياني الهدية التي قضيت يوما ً قبل ذلك في اختيارها‪ ،‬واختيار طريقة‬
‫دمها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫من سأق ّ‬ ‫وعت البائعة بنثرها عليها عندما عرفت ل ِ َ‬ ‫فها والورود والفراشات التي تط ّ‬ ‫ل ّ‬
‫حزنت‪ ،‬وطلبت من ابني ونحن في الطريق‪ ،‬أن نعود إلى البيت لحضارها‪ ،‬فراح‪ ،‬عن‬
‫دمها لها في الغد‪ .‬وعندما استسلمت لرادته سلك طريقا ً جبليا ً آخر‪،‬‬ ‫ُ‬
‫كسل‪ ،‬يقنعني بأن أق ّ‬
‫بعدما لم يجد من ضرورة لسلوك الطريق البحريّ الذي نعبره كّلما نزلنا إلى بيروت‪ ،‬حيث‬
‫وال‪ .‬كانت "مصاريت"‪،‬‬ ‫منطقة الفنادق البحرية كانت ممّرا ً حتميا ً لنا‪ .‬فجــأة‪ ،‬دقّ هاتفي الج ّ‬
‫ت وين‪ ..‬ما‬ ‫من استرق هاتفا ً لُيكّلمني "مدام‪ ..‬ان ِ‬ ‫شغالتي الثيوبية‪ ،‬تهمس لي مذعورة ك َ َ‬
‫من عرف بالخبر‪،‬‬ ‫ً‬
‫تروحي ع بيروت‪ ،‬في بومب‪ ..‬ارجعي پليز حبيبتي"‪ .‬طبعا‪ ،‬كانت أّول َ‬
‫محادثة صديقتها خلسة‬ ‫حكم قضائها اليوم أمام التلفزيون‪ ،‬وصوتها كان يحادثني كما اعتاد ُ‬ ‫ب ُ‬
‫ّ‬
‫من هاتف البيت‪ .‬ولم أفهم ماذا حدث‪ ،‬ول كوني أخلفت طريق الموت المبكر‪ ،‬إل ّ عندما‬
‫ن النفجار حدث مقابل ً‬ ‫هاتفت لطيفة لعتذر لها عن تأخري‪ ،‬وإذا بها تخبرني مذعورة أ ّ‬
‫لفندقها‪ ،‬وأن كل شيء اهتز وتطاير‪ ،‬والناس من حولها خرجوا بثياب النوم من غرفهم‪،‬‬
‫وتجمعوا في بهو الفندق‪ .‬وبعدما وجد نزلء الفنادق الفخمة أنفسهم في ضيافة الموت‪،‬‬
‫غادر بعضهم إلى بلده في أّول طائرة‪ ،‬بينما توّزع آخرون على الفنادق الجبلية الفخمة‪.‬‬
‫جونا"‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬انطبقت علينا النكتة المصرية غداة حرب ‪" :67‬اللي كّنا رايحين ُلـُهم‪ُ ..‬‬
‫جاءت لطيفة لتقيم على بعد أمتار من بيتي‪ .‬فقد كان عليها البقاء في بيروت لمواصلة‬
‫حكم الرعيان" لمنصور الرحباني‪ .‬كان القمر‬ ‫حسن" في مسرحية " ُ‬ ‫تقديم دورها "ست ال ُ‬
‫ب‪ ،‬أقضي معها مساءه‪،‬‬ ‫جاري لبعضة أيام‪ ،‬ووجدتني أنا التي كنت سأقضي معها صباح الح ّ‬
‫شاق" على طاولة محاطة بباقات ورود‪ ،‬لم‬ ‫شى أنا وهي وُأختها منيرة عشاء "عيد الع ّ‬ ‫فنتع ّ‬
‫أفهم سّرها إل ّ عندما جاء قالب الحلوى الصغير ليشي لي بأنه "عيد ميلد" لطيفة‪.‬‬
‫ببساطتها‪ ،‬تقاسمت لطيفة قالبها الصغير‪ ،‬وقلبها الكبير‪ ،‬مع طاولة لسيدات خليجيات هربن‬
‫معها من الفندق الخر‪ ،‬قّبلت طويل ً أطفالهن‪ ،‬ورفضت أن تأخذ صورة مع معجب بها‪ ،‬ما‬
‫كان مرفوقا ً بزوجته‪ .‬بعد ذلك رافقُتها حتى جناحها لحمل معها باقات الورود‪ ،‬وبعض‬
‫أحزانها في يوم غير عادي‪ ،‬ولم أقبل دعوتها إلى مزيد من السهر‪ .‬في سهرات ُأخرى بعد‬
‫ذلك‪ ،‬كانت ُتهاتفني مساء وأنا في ثياب النوم‪ ،‬فتصيح بي باللهجة التونسية "إبقاي كيما‬
‫س‬
‫ح ألب ُ‬‫ت‪ ..‬إحنا وحدنا أنا ومنيرة وهديل‪ ..‬قومي يامراة يّزيك من الكسل"‪ .‬وعندما تل ّ‬ ‫إن ِ‬
‫ّ‬
‫دث كثيرا‪ ،‬نضحك‪ ،‬نغني‪ ،‬نخطط لمشروعات سينمائية‬ ‫ً‬ ‫أول شيء أعثر عليه وأقصدها‪ .‬نتح ّ‬
‫مانا؟ أنا ل أطمئن إلى‬ ‫ّ‬ ‫بر‬ ‫في‬ ‫العيش‬ ‫استطعت‬ ‫"كيف‬ ‫ربما ننجزها معًا‪ .‬تسألني فجأة‪:‬‬
‫ي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ي بصر ّ‬ ‫ت بمصحف إلكتروني‪ ،‬سمع ّ‬ ‫مدينة ل ُيرفع فيها الذان"‪ .‬في لقاء سابق لنا‪ ،‬أعجب ُ‬
‫ل يفارقها جهازه الصغير‪ ،‬فأحضرته هدّية لي‪ .‬لطيفة‪ ،‬البنة الشرعية للحب‪ُ ،‬تخفي امرأة‬
‫ل لحظة‪ ،‬إلى حد ّ إرباكي‪ .‬سخّية معطاء‪ ،‬تشهر بهجة كاذبة‪،‬‬ ‫مؤمنة تخاف الّله وتذكره ك ّ‬
‫وغناًء يغطي أحيانا ً على ُنواحها الداخلي‪ .‬هاتفتني تطلب مني في الغد معطفا ً أسود وشال ً‬
‫تذهب بهما إلى عزاء عائلة الحريري‪ .‬قالت إنها ل تملك شيئا ً أسود في حقيبتها‪ .‬سألتني أن‬
‫ضل أن ُأعّزي صديقتي‬ ‫ُ‬
‫أرافقها‪ .‬اعتذرت لنني ل أحب زحمة التعازي‪ ،‬وواجبات الحزن‪ ،‬وأف ّ‬
‫ُ‬
‫ن أنا صادفتها‪ .‬أرسلت إلى لطيفة تشكيلة ما في خزانتي من سواد‪،‬‬ ‫بهّية الحريري لحقًا‪ ،‬إ ْ‬
‫ن السود يليق بها‪ .‬فـ"ست الحسن" التي تمل مسرحية "حكم الرعيان" بهجة‪،‬‬ ‫واثقة بأ ّ‬
‫ّ‬
‫وتمل حقائبها‪ ،‬حيث حلت‪ ،‬بالوسمة‪ ،‬تحتاج إلى أن تكون "سيدة الحزن" كي تكون رائعة‪.‬‬

‫هزيمة الخنساء ‪ . .‬في مسابقة البكاء‬


‫منذ مدة‪ ،‬وأنا أحتفظ بخبر طريف‪ ،‬عن سيدة استطاعت الفوز بـ "تاج البكاء"‪ ،‬بعد‬
‫تحطيمها رقما قياسيا في البكاء المتواصل‪ ،‬الذي ل سبب له طبعا‪ ،‬عدا إصرارها على‬
‫الفوز بذلك اللقب‪.‬‬
‫وكنت أعتقد‪ ،‬حتى قراءتي هذا الخبر‪ ،‬أن العرب دخلوا كتاب "غينيس" للرقام القياسية‪،‬‬
‫على القل من باب النواح والعويل‪ .‬فعندما نزل شيطان الشعر على أشهر شاعر جاهلي‪،‬‬
‫ما وجد شاعرنا بيتا يفتح به تاريخ الغزل العربي غير "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل"‪.‬‬
‫ومن يومها ونحن نتوارث البكائيات‪ ،‬جيل بعد جيل‪ ،‬ونملك "بطارية" جاهزة لمدادنا بطاقة‬
‫البكاء‪ ،‬لسبب أو لخر‪.‬‬
‫فالنسان العربي يعيش على حافة البكاء‪ .‬إن أحب بكى‪ ،‬وإن كف عن الحب بكى‪ ،‬وإن‬
‫نزلت عليه السعادة بكى‪ ،‬وإن هو شاهد على التلفزيون مشهدا مؤثرا بكى‪ ،‬وإن رأى‬
‫منظرا جميل أيضا بكى‪ .‬ألم يقل مالك حداد‪ ،‬شاعر الرواية الجزائرية‪" :‬ثمة أشياء من‬
‫الجمال‪ ،‬بحيث ل نستطيع أمامها إل أن نبكي"؟‬
‫وحتى قرائتي ذلك الخبر‪ ،‬كنت أعتقد أن الله قد وهبنا في شخص الخنساء مفخرة لمتنا‪،‬‬
‫بعد أن لزمت المسكينة قبر أخيها ترثيه وتبكيه‪ ،‬حتى ماتت‪ ،‬فمنحتنا شرف الموت بكاء‪.‬‬
‫يا لغبن الخنساء‪ ،‬الشاعرة التي أحبتها أنيسة بومدين‪ ،‬زوجة الرئيس الجزائري الراحل‪،‬‬
‫وخصصت لها بحثا مطول‪ ،‬مفتونة بذلك الكم من الدموع الذي ماتت بغصته‪.‬‬
‫ربما لو علمت الخنساء أنه سيأتي يوم يكون فيه للبكاء أيضا جوائز ومسابقات‪ ،‬لوفرت‬
‫على نفسها دموعا أودت بها‪ ،‬بينما أخرى غيرها هي التي فازت بلقب المرأة الباكية في‬
‫مسابقة للبكاء‪ ،‬نظمها ناد ليلي في "هونغ كونغ"‪.‬‬
‫ولو نظمت هذه المسابقة في مقبرة‪ ،‬لما وجدوا بين الثكالى واليتامى من يفوز بها‪ ،‬لن‬
‫اللم الكبير ل دموع له‪ .‬وتحضرني هنا والدة الشهيد محمد الدرة‪ ،‬التي التقيتها في أبو‬
‫ظبي في اليوم التضامني مع القصى‪ ،‬بعد فترة وجيزة من استشهاد طفلها‪ ،‬وكان لها نبل‬
‫اللم وصمته‪ .‬بينما‪ ،‬وحتى بعد انتهاء جميع المشاركين في تلك المناحة الجماعية‪ ،‬التي‬
‫نظمها النادي الليلي‪ ،‬وحتى بعد إعلن لجنة التحكيم قرار فوزها‪ ،‬لم تتمكن المرأة الفائزة‬
‫من التوقف عن البكاء‪ ،‬ولم تفد معها محاولة الخرين إقناعها بأنه ل داعي بعد الن لمزيد‬
‫من العويل‪ ،‬واستمرت ساعات تبكي‪ ،‬ربما من شدة الفرح هذه المرة‪ ،‬حتى أصيبت بنوبة‬
‫هستيرية‪ ،‬نقلت على أثرها إلى المستشفى "وتاج البكاء" على رأسها‬
‫وقرأت مؤخرا تصريحا ليطالي يدعى كارلو مارتيني يقول فيه‪" :‬كم أبكي عندما أرى ما‬
‫حل بجبن الستلتن‪ .‬أصبحوا يعملونه الن من حليب معقم يقتل الميكروبات‪ ،‬التي هي في‬
‫الواقع سر روعة طعم هذا الجبن"‪.‬‬
‫وأخونا اليطالي‪ ،‬الباكي المتحسر على زمن الميكروبات‪ ،‬التي تعطي جبنا إيطاليا شهيرا‬
‫بطعمه المتميز‪ ،‬هو مؤسس "حركة الطعام البطيء"‪ ،‬وبكاؤه ل علقة له بالموت السريع‬
‫أو البطيء‪ ،‬الذي يهدد العالم بسبب الحروب الجرثومية‪ ..‬أو القنابل النشطارية أي‬
‫الهاطلة من سماء أفغانستان‪ ،‬فكل يبكي على "جبنته"‪ ،‬أو دفاعا عن تاجه‪.‬‬
‫وعلى ذكر البكاء‪ ..‬تحضرني قصة تلك المحامية‪ ،‬التي اختلت بي أثناء زيارتي إلى بلدها‪،‬‬
‫بعد أن انتهيت من إلقاء محاضرة ألهبت القاعة وأبكتها‪ ،‬وأنا أطالب بحق الصلة في‬
‫القصى‪ .‬فقد نصحتني بالتروي في الهجوم على إسرائيل‪ ،‬وحكت لي ما حل بها يوم كانت‬
‫تزور‪ ،‬برفقة وفد من النساء العربيات‪ ،‬مدينة سياحية‪ ،‬ورأت لول مرة سياحا إسرائيليين‬
‫يتجولون في بلدها‪ ،‬فأجهشت بالبكاء‪ ،‬وإذا بالشرطة تحضر وتطالبها بأوراقها الثبوتية‪،‬‬
‫وتسجل اسمها وعنوان عملها‪ .‬وعندما سألت إن كان ثمة قانون يمنعها من البكاء في‬
‫حضرة إسرائيليين‪ ،‬جاءها الجواب‪" :‬ل‪ ..‬ولكنك ببكائك هذا‪ ،‬أسأت إلى الضيوف"‪ .‬وفي‬
‫الغد حضر رجال المن إلى مكتبها لمزيد من التوضيح‪.‬‬
‫أما وقد سلب منا تاج الحزن‪ ،‬أخاف أن يأتي يوم ل نستطيع فيه البكاء على ظلم أعدائنا‪،‬‬
‫إل بذريعة النواح على جبن إيطالي‪ ،‬أو المشاركة في مسابقة للبكاء ينظمها ناد ليلي ما‬

‫وك ّ‬
‫ل عام وأنتم سعداء!‬

‫ل نهاية سنة‪ ،‬يتسابق الناس إلى تقديم ا ُ‬


‫لمنيات بعام سعيد‪.‬‬ ‫ك ّ‬
‫ّ‬
‫لكأن السعادة مطلب مرهون بالعياد والمناسبات‪ ،‬التي ُتذكرنا بفداحة خساراتنا السابقة‪،‬‬
‫وُتمّنينا بوقت أكثر بهجة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫قدر السعادة أن تكون عصفورا معلقا على أغصان الذكرى‪ ،‬أو على شجرة الترّقب‪ .‬وذلك‬
‫الحمق الذي قال‪“ :‬عصفور في اليد أفضل من عشرة على الشجرة”‪ ،‬أظنه كان طّباخا ً أو‬
‫ن السعادة‪ ،‬هي‬‫موظف بنك‪ ،‬يعمل في رصد حشرات البورصة‪ .‬فلو كان شاعرا ً لدرك أ ّ‬
‫المساحة الفاصلة بيننا وبين الشجرة‪ ..‬ل أكثر‪.‬‬
‫ددة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫السعادة طائر على أهبة الفلت من يدنا‪ ،‬عند أّول سهو‪ ،‬وعلينا أن نعيشها كلحظة مه ّ‬
‫كي نكون أهل ً لها‪.‬‬

‫بعضنا يتسّلق شجرة المصادفة‪ ،‬ويتعّلق بأغصانها‪ ،‬وقد يقع أرضا ً وُيصاب بخدوش أو كسر‬
‫ط ذلك الطائر يوما ً على “درابزين”‬ ‫م قد يحدث أن يح ّ‬ ‫ما‪ ،‬وهو ُيطارد طائرا ً لن يمسك به‪ ،‬ث ّ‬
‫شرفته‪ ،‬أو يذهب متى تناول ما تساقط أرضًا‪ ،‬من فتات عند أقدام مائدته‪ .‬وتغدو السعادة‬
‫عندئذ مرهونة بتنّبه المرء إلى وجودها‪ ..‬عند قدميه‪.‬‬
‫من هنا جاءت نصيحة أحد الحكماء‪“ :‬السعادة في بيتك فل تبحث عنها في حديقة‬
‫الخرين”‪ .‬ذلك أننا كثيرا ً ما ل نتنّبه إلى الشياء‪ ،‬التي تصنع سعادتنا‪ ،‬لمجّرد أنها في متناولنا‬
‫وملك يدينا‪ ،‬وننصرف عنها إلى مراقبة‪ ،‬وتمني ما هو في حوزة الخرين‪ ،‬بينما معجزة‬
‫السعادة تكمن في مواصلة اشتهاء ما نملك والحفاظ عليه‪ ،‬كأنه مهدد بالزوال‪ ،‬بدل هدر‬
‫ن حصلنا عليه‪.‬‬
‫ن نح ُ‬
‫مطاردة‪ ،‬ما قد يصنع تعاستنا‪ ،‬إ ْ‬‫العمر في ُ‬
‫لولــى أن ل تحصل على‬ ‫ويحضرني هنا قول أوسكار وايلد‪“ :‬ثـمــة مصيبتان في الحياة‪ :‬ا ُ‬
‫ّ‬
‫ما تريد‪ ..‬والثانية أن تحصل عليه”‪.‬‬
‫وهو قول قد يرفع من معنوياتنا‪ ،‬لكونه يواسي خسارات بعضنا‪ ،‬بمكاسب البعض الخر‪،‬‬
‫التي ليست سوى ضرب من ضروب الخسارة‪ ،‬كما يبدو من إحدى الدراسات النسانية‪،‬‬
‫التي تم إعدادها مؤخرا ً في إسبانيا‪ ،‬بعد متابعة متأنية لـ ‪ 300‬ثري إسباني‪ ،‬أثبت من خللها‬
‫ن “الشباب والصحة‪ ،‬والوظيفة والملمح الجميلة‪ ،‬والسيارة الفارهة‪ ،‬كّلها ل‬ ‫الباحثون‪ ،‬أ ّ‬
‫تجعل النسان سعيدًا”‪.‬‬

‫ن الناس ينظرون إليهم‬‫وأكد الثرياء الثلثمئة‪ ،‬أنهم ل يشعرون بالسعادة والمان‪ ،‬وأ ّ‬
‫من‬ ‫بالعجاب‪ ،‬ل لشيء إل ّ لنهم أغنياء فقط‪ ،‬مؤكدين أن السعادة ل ُتشترى بالمال‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن َ‬
‫يبحث عنها‪ ،‬لن يجدها إل ّ في العلقات النسانية‪ ،‬والمباهج البسيطة للحياة اليومية‪ ،‬وهو ما‬
‫يفتقدونه‪ ،‬بسبب الثراء الفاحش‪ ،‬الذي يعّرضهم لمستويات عالية من القلق‪ ،‬لحساسهم‬
‫بأن ل أحد يحّبهم لنفسهم‪ ،‬وبأن القارب والصدقاء يستغّلونهم‪.‬‬

‫دق قول الشاعر‪:‬‬


‫اعتراف يجعلنا‪ ،‬لفظاعته‪ ،‬نص ّ‬
‫من لقيت يشكو دهره‬ ‫“ك ّ‬
‫ل َ‬
‫ليت شعري هذه الدنيا لمن؟”‬

‫ملكا ً للذي يملك القل؟ ففي إحصائية عالمية ُأخرى‪ُ ،‬أجريت في اثنين‬ ‫وماذا لو كانت الدنيا ِ‬
‫ن عوامل السعادة‪ ،‬التي نالت أكثر الّنسب‪ ،‬انحصرت في‬ ‫وعشرين بلدًا‪ ،‬بّينت الدراسة أ ّ‬
‫لسرة والصداقة‪ ،‬وتساوى فيها تأثير الفقر والغنى‪ .‬والمفارقة جاءت من وجود‬ ‫عاملي ا ُ‬
‫الشعب الهندي في المرتبة الثانية‪ ،‬بعد الشعب الميركي‪ ،‬متقدما ً على غيره من الشعوب‬
‫الوروبية والسيوية‪ .‬ولم أجد تفسيرا ً لسعادة مليين الجياع والفقراء في الهند‪ ،‬إل ّ في قول‬
‫ل‪ ،‬لدرجة ل تستطيع‬ ‫جيمس بروير‪“ :‬السعادة إحساس تحصل عليه‪ ،‬عندما تكون مشغو ً‬
‫معها أن تحزن‬

‫يا رب سترك!‬
‫ي في أوروبا يتنقلن في‬ ‫كم يبدو بعيدا ً ذلك الزمن الذي كانت فيه النساء في العصر الذهب ّ‬
‫الصالونات‪ ،‬داخل أثوابهن الدائرية الضخمة‪ ،‬كمظلت الطيارين في تنانير يتم نفخها‬
‫باشرطة ترتديها النساء تحت الثياب‪.‬‬
‫طرة‪،‬‬ ‫كانت النساء وقتها‪ُ ،‬يخبئن كل شيىء في ثيابهن‪ :‬الرسائل المهرّبة‪ ،‬والمناديل المع ّ‬
‫والعلب الذهبية الصغيرة التي تخفي صورة الحبيب‪.‬‬
‫ب‪،‬‬‫ّ‬ ‫ح‬ ‫أزمة‬ ‫نعيش‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ك‬ ‫إن‬ ‫أدري‬ ‫ول‬ ‫يلبسنها‪.‬‬ ‫اليوم‪ ،‬أصبحت الثياب بالكاد تخفي أجساد من‬
‫أم أزمة ذوق‪ .‬ولكن العالم تغّير‪ ،‬وتقّلص‪ ،‬ومعه الثياب النسائية‪ ،‬التي مّرت بكل مراحل‬
‫القهر التاريخي‪ ،‬وانتقلت من الزمن الذي تتراكم فيه الثياب الداخلية‪ ،‬قصد إخفاء تضاريس‬
‫النوثة‪ ،‬إلى زمن ابتكار المشد ّ لتفصيل الجسد ونحت خصر المرأة‪ ،‬كما لو كانت فراشة‪.‬‬
‫كل هذا‪ ،‬تارة بقصد إثبات براءة المرأة وعفتها‪ ،‬وتارة لتوريطها وتسويقها في لعبة الجمال‬
‫والغواء‪.‬‬
‫ل توجد حضارة واحدة بريئة في تعاملها مع المرأة عبر التاريخ‪ .‬وقد قرأت أّنه عندما ظهر‬
‫المشد ّ في العصور الوسطى‪ ،‬تعّرض إلى حملة عنيفة على أيدي خطباء الكنيسة‪ ،‬إذ‬
‫ن النساء "لبسن الشيطان في ثنايا أردافهن"‪.‬‬ ‫اعتبروا أ ّ‬
‫أثناء ذلك‪ ،‬كان الصينيون الذين ل يحتاجون إلى شد ّ خصور نساءهم النحيفات أص ً‬
‫ل‪،‬‬
‫ن من النمو‪ ،‬وربما لثقال خطاهن‬ ‫مشغولين بصناعة قوالب خشبية لرجلهن‪ ،‬قصد منعه ّ‬
‫كالحيوانات المدجنة حتى ل يذهبن أبعد من البيت‪.‬‬
‫ل الصينيون أرحم من الحاكم بأمر الّله‪ ،‬الذي على ايام الفاطميين لم يحكم سوى‬ ‫ولكن يظ ّ‬
‫كام غريبي‬ ‫بأمر منطقه الغريب‪ ،‬وكأّنه الب الشرعي لبعض من يحكموننا اليوم من ح ّ‬
‫الطوار‪.‬‬
‫فعندما قرر الحاكم بأمر الّله منع النساء من الخروج‪ ،‬أصدر مرسوما ً يمنع السكافيين على‬
‫أيامه من صناعة أحذية النساء‪ ،‬تماما ً كما منع المصريين من اكل الملوخية لنه لم يكن‬
‫يحّبها!‬
‫ددن في استعماله ضد‬ ‫وهكذا‪ ،‬ما كاد يعود إلى النساء حق انتعال الحذاء‪ ،‬حتى لم يتر ّ‬
‫الرجل‪.‬‬
‫أعود إلى موضوع الثياب "الذكية" التي اخترعها لنا العلماء‪ ،‬والتي بوسائلها اللكترونية‬
‫ن في بطانة‬ ‫ستشي للمرأة بما يكفي من المعلومات لسبر خبايا الرجل الذي أمامها‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫الفستان محطة اتصالت كاملة‪ ،‬قد تتحول إلى شاشة تلفزيون عند الحاجة‪ ..‬وإذا كان‬
‫القدامى يقولون "الناس مخّبايين بثيابهم"‪ ،‬فعلى أيام أولدنا سيتعرى الناس بسبب ثيابهم‪،‬‬
‫ولن تحتاج النساء‪ ،‬لقياس حرارة الرجل سوى لحمر شفاههن الذي سيكون إلكترونيّا‪.‬‬
‫ولمعرفة مدى صدق رجل‪ ،‬كل ما يلزمهن عدسات لصقة ستكون مزّودة برزمة إشعاعية‬
‫ي في أوروبا‬ ‫كن كم يبدو بعيدا ً ذلك الزمن الذي كانت فيه النساء في العصر الذهب ّ‬ ‫ُتم ّ‬
‫يتنقلن في الصالونات‪ ،‬داخل أثوابهن الدائرية الضخمة‪ ،‬كمظلت الطيارين في تنانير يتم‬
‫نفخها باشرطة ترتديها النساء تحت الثياب‪.‬‬
‫طرة‪،‬‬ ‫كانت النساء وقتها‪ُ ،‬يخبئن كل شيىء في ثيابهن‪ :‬الرسائل المهرّبة‪ ،‬والمناديل المع ّ‬
‫والعلب الذهبية الصغيرة التي تخفي صورة الحبيب‪.‬‬
‫ب‪،‬‬‫ّ‬ ‫ح‬ ‫أزمة‬ ‫نعيش‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ك‬ ‫إن‬ ‫أدري‬ ‫ول‬ ‫يلبسنها‪.‬‬ ‫اليوم‪ ،‬أصبحت الثياب بالكاد تخفي أجساد من‬
‫أم أزمة ذوق‪ .‬ولكن العالم تغّير‪ ،‬وتقّلص‪ ،‬ومعه الثياب النسائية‪ ،‬التي مّرت بكل مراحل‬
‫القهر التاريخي‪ ،‬وانتقلت من الزمن الذي تتراكم فيه الثياب الداخلية‪ ،‬قصد إخفاء تضاريس‬
‫النوثة‪ ،‬إلى زمن ابتكار المشد ّ لتفصيل الجسد ونحت خصر المرأة‪ ،‬كما لو كانت فراشة‪.‬‬
‫كل هذا‪ ،‬تارة بقصد إثبات براءة المرأة وعفتها‪ ،‬وتارة لتوريطها وتسويقها في لعبة الجمال‬
‫والغواء‪.‬‬
‫ل توجد حضارة واحدة بريئة في تعاملها مع المرأة عبر التاريخ‪ .‬وقد قرأت أّنه عندما ظهر‬
‫المشد ّ في العصور الوسطى‪ ،‬تعّرض إلى حملة عنيفة على أيدي خطباء الكنيسة‪ ،‬إذ‬
‫ن النساء "لبسن الشيطان في ثنايا أردافهن"‪.‬‬ ‫اعتبروا أ ّ‬
‫أثناء ذلك‪ ،‬كان الصينيون الذين ل يحتاجون إلى شد ّ خصور نساءهم النحيفات أصل‪ً،‬‬
‫ن من النمو‪ ،‬وربما لثقال خطاهن‬ ‫مشغولين بصناعة قوالب خشبية لرجلهن‪ ،‬قصد منعه ّ‬
‫كالحيوانات المدجنة حتى ل يذهبن أبعد من البيت‪.‬‬
‫ل الصينيون أرحم من الحاكم بأمر الّله‪ ،‬الذي على ايام الفاطميين لم يحكم سوى‬ ‫ولكن يظ ّ‬
‫ّ‬
‫بأمر منطقه الغريب‪ ،‬وكأّنه الب الشرعي لبعض من يحكموننا اليوم من حكام غريبي‬
‫الطوار‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫فعندما قرر الحاكم بأمر الله منع النساء من الخروج‪ ،‬أصدر مرسوما يمنع السكافيين على‬
‫أيامه من صناعة أحذية النساء‪ ،‬تماما ً كما منع المصريين من اكل الملوخية لنه لم يكن‬
‫يحّبها!‬
‫ددن في استعماله ضد‬ ‫ّ‬ ‫يتر‬ ‫لم‬ ‫حتى‬ ‫الحذاء‪،‬‬ ‫انتعال‬ ‫حق‬ ‫النساء‬ ‫إلى‬ ‫يعود‬ ‫كاد‬ ‫ما‬ ‫وهكذا‪،‬‬
‫الرجل‪.‬‬
‫أعود إلى موضوع الثياب "الذكية" التي اخترعها لنا العلماء‪ ،‬والتي بوسائلها اللكترونية‬
‫ن في بطانة‬ ‫ستشي للمرأة بما يكفي من المعلومات لسبر خبايا الرجل الذي أمامها‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫الفستان محطة اتصالت كاملة‪ ،‬قد تتحول إلى شاشة تلفزيون عند الحاجة‪ ..‬وإذا كان‬
‫القدامى يقولون "الناس مخّبايين بثيابهم"‪ ،‬فعلى أيام أولدنا سيتعرى الناس بسبب ثيابهم‪،‬‬
‫ولن تحتاج النساء‪ ،‬لقياس حرارة الرجل سوى لحمر شفاههن الذي سيكون إلكترونيّا‪.‬‬
‫ولمعرفة مدى صدق رجل‪ ،‬كل ما يلزمهن عدسات لصقة ستكون مزّودة برزمة إشعاعية‬
‫كن المرأة من اختراق خباياه‪.‬‬ ‫ُتم ّ‬
‫وإذا كانت هذه الثياب تقوم بمهمة التدليك‪ ،‬ومنع ترهل الجسم‪ ،‬فإن من حسناتها او‬
‫شاق‪ ،‬قدرتها على استعادة اليام الخوالي وعملها عمل الذاكرة‪،‬‬ ‫مصائبها الخرى على الع ّ‬
‫فتخّزن انطباعاتك واحاسيسك عن اماكن مررت بها‪ ،‬وتزّودك بالهواء والصوات التي‬
‫مى "عطر الصوت"‪.‬‬ ‫جلتها في ما قد يس ّ‬ ‫س ّ‬
‫ّ‬
‫وهنا‪ ..‬يا لطيف‪ ..‬يا ستار‪ ..‬تبدا فضيحة ثياب تتأّوه‪ ،‬وأخرى تصرخ‪ ،‬وأخرى تتنّهد‪ ،‬بعد ان‬
‫التقطت تاوهات المرأة الداخلية وراحت تبثها عبر مكّبر صوت‪ ،‬إلكترونيًا‪ .‬أي انها )بعيد‬
‫الشر عنكم( وباختصار‪ ،‬فضيحة إلكترونية‪ ،‬خاصة لمن في مثل حالتي يجهل التعامل مع‬
‫التكنولوجيا‪.‬‬
‫ماذا يستطيع رجل مذعور أن يفعل عندما يجالس امراة مفخخة بهذا الكم من الفضائح‬
‫اللكترونية؟‬
‫ً‬
‫* لوجه الله أنصحه بان يرتدي قميصا بازرار من السبرين أنتجتها شركة السبرين بمناسبة‬
‫مئوية هذا الدواء‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ولكن ثمة مصيبة أخرى‪ .‬فكلما اقتلع الرجل زّرا من قميصه والتهمه مرعوبا‪ ،‬انتفخ قميصه‬
‫أكثر‪ .‬وطبعًا‪ ،‬ازداد الفستان تأوها ً وصراخًا!‬
‫ويا رب سترك! يا ناس جيؤوني بعباية!‬

‫يا لغنى رجل ثروته الستغناء‬

‫في محاضرة ألقاها الدكتور نصر حامد أبو زيد‪ ،‬مؤخرا ً في القاهرة‪ ،‬ونقلت “أخبار الدب”‬
‫وفه‪ ،‬هو‬ ‫وف‪ ،‬ثروتي الستغناء”‪ .‬موضحا ً أ ّ‬
‫ن تص ّ‬ ‫بعض نقاشاتها‪ ،‬استوقفني قوله‪“ :‬أنا متص ّ‬
‫ّ‬
‫بالمعنى الحياتي وليس بالمعنى العرفاني‪ .‬فهو يؤمن بأنه كلما استغنى اغتنى‪ .‬لــذا هو‬
‫كم فيه‪ ،‬حتى إنه ل يحتاج في‬ ‫ل بذلك قدرة الخرين على التح ّ‬ ‫يقّلل دائما ً من احتياجاته‪ ،‬فتق ّ‬
‫وف بالنسبة إليه منهج للحياة‪ ،‬يضمن‬ ‫ب ومكتب وقلم‪ .‬فالتص ّ‬ ‫النهاية سوى حجرةٍ وكتا ٍ‬
‫دق تماما ً الدكتور حامد أبو زيد في قوله هذا‪ .‬وقد سبق أن جمعني‬ ‫ُ‬
‫استقللية النسان‪ .‬أص ّ‬
‫به في غرناطة‪ ،‬منذ خمس سنوات‪ ،‬مؤتمر عربي كبير‪ ،‬حول “مستقبل العالم العربي على‬
‫مداخلة‪ ،‬قام بها حال افتتاح‬ ‫مشارف القرن الحادي والعشرين”‪ ،‬ومازلت أذكر أّول ُ‬
‫ولة هذا المؤتمر عن المشاركين‪ ،‬على‬ ‫المؤتمر‪ ،‬محتجا ً على إخفاء أسماء الجهات المم ّ‬
‫مصّرا ً على حماية اسمه‬ ‫الرغم من النوايا الحسنة لبعضهم‪ .‬فقد كان حامد أبو زيد ُ‬
‫ة إجبارّية‪ ،‬إثر فتوى‬ ‫وث مادي‪ ،‬هو الذي دفع ثمن أفكاره ومواقفه‪ ،‬غرب ً‬ ‫وسمعته‪ ،‬من أيّ تل ّ‬
‫حكم بفصله عن زوجته‪ ،‬الدكتورة ابتهال يونس‪ ،‬ما أرغمه على الهجرة‬ ‫صدرت بتكفيره‪ ،‬وال ُ‬
‫ً‬
‫إلى هولندا‪ ،‬لمواصلة أبحاثه في تاريخّية الظاهرة الدينية‪ .‬ذهبت بعيدا في تأمل زاهد‬
‫وة لمبدٍع ترتهنه‬ ‫ن حّريته تكمن في استغنائه‪ ،‬ل في رخائه‪ ،‬وأن ل ق ّ‬ ‫ف‪ ،‬أدرك أ ّ‬ ‫مثق ٍ‬
‫مؤسسات‪ ،‬باختلق مزيد من احتياجاته وامتيازاته‪ ،‬بذريعة تكريمه والعتراف بمكانته‪ ،‬بينما‪،‬‬
‫ب من أنواع التدجين‪ ،‬واستعباد الضمائر بالغداق‪.‬‬ ‫مهذ ّ ٍ‬
‫ما التكريم الرسمي سوى نوٍع ُ‬
‫ن المال والتكريم‪ ،‬هما أكبر خطرٍ على‬ ‫ل نصر حامد أبو زيد‪ ،‬كان فولتير قد اكتشف أ ّ‬ ‫وقَب ْ َ‬
‫ما ألبيرتو مورافيا‪ ،‬فأذكر له نصيحة جميلة‪ ،‬تصلح أيضا ً لغير المبدعين‪ .‬فهو يرى‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫المبدع‪.‬‬
‫ن‬
‫ن على النسان‪ ،‬أن ل يكسب من المال أكثر مما يلزمه لحياة كريمة وميسورة‪ .‬ذلك أ ّ‬ ‫أ ّ‬
‫ل عن الحاجة‪ ،‬أنفق عمره‬ ‫دة أنفق المرء عمره في إدارته‪ ،‬وإن ق ّ‬ ‫ّ‬ ‫ح‬ ‫على‬ ‫زاد‬ ‫إذا‬ ‫المال‪،‬‬
‫في السعي إلى كسبه‪ .‬وهو في الحالتين خاسر‪.‬‬
‫ن القرش الزائد‪ ،‬هو ذلك الشيء المهِلك‪ ،‬الذي كّلما زاد‪ ،‬انخفض‬ ‫ص المبدع‪ ،‬فإ ّ‬ ‫وفي ما يخ ّ‬
‫مكتسبه‪ ،‬وتضاعفت قيود تبعّيته‪ .‬وربما مأساة المبدع‪ ،‬كما مأساة‬ ‫منسوب الحرّية لدى ُ‬
‫ف يضعه لحتياجاته‪.‬‬ ‫النسان‪ ،‬تكمن في عجزه عن احترام أي سق ٍ‬
‫فالنسان بطبعه يتمنى الحصول على ألف‪ ،‬وعندما يحصل عليها يتمنى المليون‪ ،‬وعندما‬
‫ل‪ ،‬في حاجة دائمة إلى‬ ‫ول إلى مدمن ما ٍ‬ ‫يكسب المليون يصبح هدفه المليين‪ ،‬بحيث يتح ّ‬
‫ة‪ ،‬عندما يتعّلق المر بالمثقف‪ .‬ذلك‬ ‫المزيد منه برفع سقف ُأمنياته‪ .‬وهي مأساة تزداد فجع ً‬
‫ل شيء للحصول عليه‪ .‬والذي ليس له‬ ‫ن المال‪ ،‬هو كل شيء يفعل ك ّ‬ ‫من يؤمن بأ ّ‬ ‫ن َ‬‫أ ّ‬
‫سقف قناعة يحميه‪ ،‬هو معروض للبيع والشراء في سوق النخاسة‪ .‬لذا‪ ،‬يحار مقاولو‬
‫الضمائر المفروشة لليجار‪ ،‬والقلم الجاهزة للستثمار‪ ،‬عندما يقعون على مثقف ل ثمن‬
‫ن‪.‬‬
‫له‪ ،‬ول يمكن اختراق سقف قناعاته بأي مبلغ كان‪ .‬فبالنسبة إليهم ل أحد إل وله ثم ٌ‬
‫فف النسان‪ ،‬بل بالقناعة‪ ،‬وبسقف قِي َم ٍ يحميه من الزلل‪،‬‬ ‫ذلك أنه ليس بالمكانات يتع ّ‬
‫ضل مثل ً بساطة بيته‪ ،‬على القامة في فندق من‬ ‫يف‬
‫ُ ّ‬ ‫زائل‪،‬‬ ‫فوحده الزاهد في مكسب‬
‫خمسة نجوم ُيدعى إليه في مهرجانات‪ ،‬نهب وسلب الشعوب‪ ،‬لُيبارك بحضوره قراصنة‬
‫الوطان‪.‬‬
‫قف‪ ،‬حسب قول يونيسكو‪ ،‬فل‬ ‫في الواقع‪ ،‬كما أنه ل يوجد إنسان مثقف‪ ،‬بل إنسان يتث ّ‬
‫فف‪ ،‬وعلى تقوية مناعته‬ ‫فف المطلق‪ ،‬بل لنسان يتمّرن يوميا ً على التع ّ‬ ‫وجود أيضا ً للتع ّ‬
‫ط من البشر‪ ،‬ما تسّبب في‬ ‫ّ‬
‫خلقية‪ ،‬لمواجهة هجمة وباء قلة الحياء‪ ،‬المتفشي لدى ره ٍ‬ ‫ال ُ‬
‫لنفة وعزة النفس‪ ،‬وإضعاف الجسم العربي‪ ،‬بمزيد من المذّلة‪ ،‬التي ليست‬ ‫إتلف كريات ا َ‬
‫ص يقول‪“ :‬يبقى المسؤول قوّيــا ً إلى‬ ‫الحاجة دوما ً من أسبابها‪ .‬وإذا كان الرئيس سليم الح ّ‬
‫أن يطلب شيئا ً لنفسه”‪ ،‬ففي إمكاننا أن نقول‪ :‬يبقى المثقف كبيرًا‪ ،‬حتى ُيفّرط في عزة‬
‫نفسه‪.‬‬

‫والّله غيرك قلبي ما حسد‬


‫في الذكرى ا ُ‬
‫لولى لغياب المغفور له الشيخ زايـد‬

‫كر ْ‬
‫ك‬ ‫خر نذ ُ‬ ‫شرِ الوا ِ‬ ‫في العَ ْ‬
‫ن بعد َ‬
‫ك‬ ‫ُ‬ ‫الحز‬ ‫ُيهاد ِن َُنا‬
‫ن‬‫م ُيباغُتنا رمضا ْ‬ ‫ث ّ‬
‫ك‬‫فنفتقد ُ ْ‬
‫قد ُ لحد‬ ‫كما العيد ُ يفت ِ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ك‬‫سد ُ ْ‬ ‫كم أح ُ‬
‫د‬
‫َ ْ‬‫س‬ ‫ح‬ ‫ما‬ ‫قلبي‬ ‫غيرك‬ ‫والّله‬
‫ت‬‫دعوا ِ‬ ‫فنا بال ّ‬‫ً‬ ‫مك ّ‬
‫ش َ‬
‫ك‬ ‫ف نع َ‬ ‫ّ‬ ‫أخ‬ ‫ما‬
‫ت‬‫زايد َ الحسنا ِ‬
‫فن‬ ‫زاهد َ الك َ َ‬
‫فك الجود ُ‬ ‫ك ّ‬
‫قك‬ ‫ت تسب ِ ُ‬ ‫مضي‬ ‫نى‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫أّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ب في موتك‬ ‫أرتا ُ‬
‫ك هذي الحياة‬ ‫نل َ‬ ‫وبالحياة تدي ُ‬
‫ك الّنبع الذي‬ ‫لكأن َ‬
‫من قبله لم يوجد ِ الخيُر‬
‫ول الماء ُوجد‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ك التي‬ ‫تباركت يد ُ َ‬
‫حد‬ ‫مأ َ‬ ‫س علْيها د ُ‬ ‫لي َ‬
‫من غ َْيثها‬ ‫ِ‬
‫وي‬ ‫ِ َ ِ‬‫يرت‬ ‫ة‬ ‫العروب‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫نخ‬
‫كالولياْء‬
‫دا َ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫نا‬ ‫من‬ ‫خاب َ‬ ‫ما َ‬
‫ل عند َثراك ضاع َ قصد ْ‬ ‫َ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ن من أهوال َِها‬ ‫جني ُ‬ ‫ك تستجيُر ِ‬ ‫ب َ‬
‫فيرد ّ من مثواه ُ قلب ُ َ‬
‫ك‬
‫هذي يدي‬
‫ك‬‫ت َب ِْني بيوت َ ِ‬
‫ن على أحد‬ ‫جني ُ‬ ‫ل تنادي يا ِ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ح بهم‬ ‫ك صا َ‬ ‫من غيُر َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫د‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫أغ‬ ‫َ‬
‫ط‬ ‫نف‬ ‫َ‬ ‫"ل‬
‫ٍ‬
‫م العرب!"‬ ‫ند ُ‬ ‫كيف يُهو ُ‬
‫ب‬
‫ت تنه ُ‬ ‫جئ َ‬ ‫أنت الذي ما ِ‬
‫ب‬ ‫بل ت َهَ ْ‬
‫ل بات تحت خيمِتك‬
‫على ظلم ٍ بريٌء‬
‫ن سبب!(‬
‫ِ‬ ‫دو‬ ‫من‬ ‫ت‬‫ْ َ‬ ‫و‬ ‫عف‬ ‫َ‬ ‫م‬‫جناة َ عنهُ ُ‬ ‫)ول ُ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫كرك‬ ‫كم أذ ُ‬
‫م‬‫والّله ك ْ‬
‫م‬
‫ب أل ّ‬ ‫••إذا بنا خط ٌ‬
‫ن غيُر قلبك نسند ُ القلب إليه‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫د‬ ‫وت‬ ‫ب‬‫ِ ُ ِ‬ ‫عر‬ ‫ال‬ ‫ة‬ ‫لخيم‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫سوا‬ ‫ول‬

‫حك‬ ‫أن أكون في ك ّ‬


‫ل التراويح‪ ..‬رو َ‬

‫ت من الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ما طلب ُ‬
‫في ليلةِ القدر‬
‫دري وستري‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫تكون‬ ‫سوى أن‬
‫عمري‬ ‫جدران ُ‬ ‫سقفي و ُ‬
‫ر‬
‫ِ‬ ‫الحش‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫ساع‬ ‫وحللي‬
‫**‬
‫قى‬ ‫م الت ّ َ‬
‫َ‬ ‫وسي‬ ‫يا‬
‫حسن ْ‬
‫ك‬ ‫َ‬
‫أّتقي بالصلةِ ُ‬
‫س ُقرب ْ‬
‫ك‬ ‫وبالدعاِء ألتم ُ‬
‫س بالسجود ِ سجادا ً‬ ‫ُ‬
‫ألم ُ‬
‫ت طويل ً‬ ‫عليه ركع َ‬
‫عساني ُأوافق وجهك‬
‫**‬
‫ة قدماك‬ ‫مبارك ٌ‬
‫هى المساجد‬ ‫ك تتبا َ‬ ‫ب َ‬
‫وبقامتك تستوي الصفوف‬
‫هناك في غربة اليمان‬
‫ث على حذر‬ ‫حي ُ‬
‫ُيرفع الذان‬
‫**‬
‫ما أسعدني بك‬
‫مترّبعا ً على عرش البهاء‬ ‫ُ‬
‫متمنعا ً عص ّ‬
‫ي النحناء‬ ‫مترّفعًا‪ُ ..‬‬ ‫ُ‬
‫ب كناسك‬ ‫ّ‬ ‫الح‬ ‫على‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫مقب‬ ‫ُ‬
‫ن مهري صلُتك‬ ‫كأ ّ‬
‫**‬
‫يا لكثرتكْ‬
‫ر‬
‫كازدحام المؤمن بالذك ِ‬
‫في شهر الصيام‬
‫ك‬‫مزدحما ً قلبي ب ْ‬
‫**‬
‫كيف لــي‬
‫ح ْ‬
‫ك‬ ‫ل التراويح رو َ‬‫أن أكون في ك ّ‬
‫كي في قيامك وسجودك‬
‫عو أل ّ أكون لغيرك‪.‬‬ ‫تد ُ‬

‫يا لي من غبية‪..‬‬
‫ن الشّغالة هربت‪ .‬أعني تلك التي كانت لخمس سنوات ابنتي‪ .‬وكانت‬ ‫دقة أ ّ‬ ‫مص ّ‬ ‫ت غير ُ‬‫مازل ُ‬
‫من أتلف ثيابه‪ ،‬أو ألقى بأوراقه‬ ‫دعيت أنني َ‬ ‫ده‪ ،‬وا ّ‬
‫ت إليها ض ّ‬
‫فت مع ابني‪ ،‬انحز ُ‬ ‫كّلما اختل َ‬
‫ُ‬
‫خطأ في الزبالة أثناء ترتيب غرفته‪ .‬وحدث أن سألني مروان‪ ،‬وهو يراني أقّبلها ذات مساء‪،‬‬
‫كما أفعل أحيانا ً عندما ُتحضر لي شيئًا‪ ،‬قبل أن تذهب إلى النوم‪" :‬لماذا ُتقّبلينها ول‬
‫ل مساء إنني أحبك‪،‬‬ ‫ت ابني منذ ‪ 25‬سنة‪ ،‬ول تحتاج إلى أن أقول لك ك ّ‬ ‫ُتقّبليننا؟" أجبته‪" :‬أن َ‬
‫ن لم أقّبلها أنا؟"‪ .‬يبدو‬ ‫من يقّبلها إ ْ‬ ‫بينما هي تركت أهلها لتقيم عندنا‪ ،‬لها علينا حقّ عاطفي‪َ ،‬‬
‫دا‬
‫َ َ‬ ‫ب‬ ‫ما‬ ‫ولفرط‬ ‫نجدها‪.‬‬ ‫فلم‬ ‫أيام‬ ‫من ُيقّبلها سواي! فقد استيقظنا قبل‬ ‫دت َ‬ ‫ج َ‬‫ن مصاريت و َ‬ ‫أ ّ‬
‫ً‬
‫ل‪ ،‬بقيت أنتظر عودتها حتى الساعة الواحدة ظهرا‪ ،‬أقصى وقت‬ ‫لي أمر هروبها مستحي ً‬
‫ضروري لحضورها كي ل تخلف موعد الطائرة‪ .‬فقد كان مقررا ً يومها أن تعود من "كــان"‬
‫دقتها‬ ‫دعائها مساًء الخروج صباح الغد لشراء ثياب وهدايا‪ ،‬وص ّ‬ ‫إلى بيـــروت‪ .‬خدعتني با ّ‬
‫لنني كنت قد أعطيتها مبلغا ً مني لمثل هذه الحاجات‪ ،‬من دون أن أتنّبه أنها قبل ذلك‪،‬‬
‫دة‪ ،‬كي ترسله إلى والدتها مع شّغالة إثيوبية تعمل‬ ‫ولّول مّرة‪ ،‬طال ََبت بمعاشها لشهر ع ّ‬
‫لدى سعوديين يقيمون في البناية المقابلة لنا‪.‬‬
‫دومها‪ ،‬فقد عّرفتها الشّغالة‬ ‫ق ُ‬
‫وربما كانت المصيبة قد جاءت من هناك‪ ،‬من دون أن أتنّبه ل ُ‬
‫بشّغالت ُأخريــات آسيويات‪.‬‬
‫ومصاريت التي تشبه بطل فيلم "الرجل العنكبوت"‪ ،‬في إمكانها بحبال الشارات‬
‫فة قرد‬ ‫ط وتمد ّ علقات عابرة للبنايات‪ ،‬تقفز من رصيف إلى آخر بخ ّ‬ ‫والبتسامات أن تن ّ‬
‫ميها )‪ ،(ToTa‬أي قرد باللغة الثيوبية(‪ ،‬وتمد ّ حديثا ً مع أّية خادمة‪،‬‬ ‫ن أمها كانت ُتس ّ‬ ‫)حتى إ ّ‬
‫ً‬
‫ن حيث ُوجدن‪ .‬وكثيرا ما نبهتني‬ ‫تصادفها من أية جنسية كانت من الجنسيات‪ ،‬وكأنها تشمه ّ‬
‫سلفتي في بيروت إلى خطورة جمع الخادمات‪ ،‬ونصحتني بأل ّ أسمح لها بالتردد على‬
‫مع السبوعي للثيوبيات لتبادل‬ ‫صديقاتها أو الذهاب يوم الحد إلى الكنيسة‪ ،‬حيث التج ّ‬
‫الخبار‪ ..‬والخبرات‪.‬‬
‫في الواقع‪ ،‬كنت كعاشق مخدوع‪ ،‬واثقة بإخلص مصاريت‪ ،‬لثقتي بأنها لن تجد أفضل مني‪.‬‬
‫ي‪ ،‬وحاولن سرقتي منها‪ ،‬ووقعن جميعهن في حبي‪ ،‬للطفي‬ ‫فكثيرا ً ما حسدتها صديقاتها عل ّ‬
‫ن‪ .‬حتى إنني وجدت نفسي متوّرطة في‬ ‫في الرد ّ على هواتفهن‪ ،‬واستقبالي البشوش له ّ‬
‫واجبات تجاه صديقاتها من الشغالت‪ ،‬كالثيوبية التي تعمل عند جيراني‪ ،‬وهي سيدة‬
‫ي بيدها قبلة مسروقة كلما لمحتني من الشرفة‪ ،‬مذ‬ ‫مسلمة ومحجبة اعتادت أن ترسل إلـ ّ‬
‫سمحت لها بمهاتفة أهلها من بيتي‪ .‬وهكذا ارتأت أن من واجبها "البروتوكولي" أن تحضر‬
‫ل أناقتهما‪ .‬ووجدتني ذات مساء ثلثاء‪ ،‬عن حياء‪ ،‬بدل أن‬ ‫برفقة زميلتها لتوديعي وهما في ك ّ‬
‫أكتب مقالي أقضي ُأمسيتي في واجب ضيافتها وتقديم القهوة والحلويات‪ ،‬والسماع ل َِ‬
‫ما‬
‫من يعملن لديهم‪.‬‬ ‫سر من نميمة الخدم على َ‬ ‫تي ّ‬
‫ي أن أذكر يومها قول إبراهيم الكوني‪" :‬ترحمنا القدار عندما ترمينا بالعداء‪ .‬وتكيد‬ ‫ّ‬ ‫علـ‬ ‫كان‬
‫س في بيوتنا الخدم"‪ ،‬أو قوله‪" :‬خلق الخدم ليثأروا منا ل ليخدمونا"‪.‬‬ ‫لنا القدار عندما تد ّ‬
‫محسن بطبعه ل يتوقع من الخرين ما ل‬ ‫كنت‪ ،‬وربما مازلت‪ ،‬ل أتوّقع كيدا ً من أحد‪ ،‬لن ال ْ ُ‬
‫ور أنه قد ُيقدم عليه‪.‬‬ ‫يتص ّ‬
‫ت غبّية‪ ،‬ل أشك في مصاريت‪ ،‬على الرغم من ما بدا عليها من سلوك جديد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كن‬ ‫باختصـــار‪،‬‬
‫دة ثلث عشرة سنة‬ ‫حتى إنني تركت جواز سفرها في حوزتها‪ ،‬بينما احتفظ جيراني م ّ‬
‫ن سيف السلم القذافي قال لي عندما قابلته ذات مّرة‬ ‫بجواز خادمتهم الثيوبية‪ .‬وأذكر أ ّ‬
‫مة نوعان من الغبياء‪..‬‬ ‫إنه استفاد من حكمة قرأها في "فوضى الحواس"‪ ،‬جاء فيها "ث ّ‬
‫ما‬
‫ّ‬ ‫م‬ ‫حتى‬ ‫لم‬‫ّ‬ ‫أتع‬ ‫ل‬ ‫وحدي‬ ‫ك في شيء"! لكنني‬ ‫ل شيء‪ ،‬والذي ل يش ّ‬ ‫الذي يشك في ك ّ‬
‫أكتبه!‬
‫قدتها وهي نائمة كانت مغطاة الرأس‬ ‫كر أنني في آخر ليلة تف ّ‬ ‫غبائي يؤلمني‪ ،‬عندما أتذ ّ‬
‫ت على مقربة منها‬ ‫باللحاف على غير عادتها‪ .‬توقعت أنها تحتمي من لسعة ناموس‪ .‬وضع ُ‬
‫لغّيـر وسادتها بُأخرى مريحة أكثر‪ .‬قالت لي‬ ‫واقيا ً كهربائيا ً مضادا ً للناموس‪ ،‬ثم أيقظتها ُ‬
‫وهي نائمة )‪ ،(thank you Madame‬وكانت هذه آخر كلمات نطقت بها‪.‬‬
‫ددتها لها في بيروت هباًء‪ ،‬وعلى جواز‬ ‫أدركت بعد ذلك أنها تشكرني على الوراق التي ج ّ‬
‫السفر الذي أهديتها إّياه صالحا ً خمس سنوات وعليه فيزا "شنغن"‪ ،‬وعلى الضمان الصحي‬
‫اللبناني والفرنسي‪ ،‬وعلى تذكرة السفر التي كانت تحتاج إليها لرحلة واحدة‪ ..‬توصلها من‬
‫لزوردي في فرنسا‪،‬‬ ‫لسود مؤخرا ً عشرين قرويًا‪ ..‬إلى الشاطئ ال ّ‬ ‫إثيوبيا‪ ،‬حيث التهمت ا ُ‬
‫حيث من الرجح أن يلتهم الفارقة نصف البلد خلل أعوام!‬
‫رخصة قيادة‪ ..‬للبيع‬
‫صّرحت الكابتن هنادي زكريا‪ ،‬أّول امرأة سعودية تقود طائرة‪ ،‬بأنها سعيدة بقيادة الطائرة‪،‬‬
‫ول رغبة لها في قيادة سيارة‪ .‬وبما أنه ل أحد قد أفتى بعد ُ بتحريم قيادة الطائرة على‬
‫المرأة‪ ،‬أقترح أن تقود النساء الطائرات بدل السيارات‪.‬‬
‫ما حاجة المرء )والمرأة‪ (..‬إلى سيارة؟ لقد قضيت عمري من دون أن أجلس خلف مقود‪،‬‬
‫ولم يمنعني هذا من أن أقود حياتي‪ ،‬غالبا ً دون احترام لقانون السير‪.‬‬
‫وبدل أن تخلق عندي الكابتن هنادي عقدة قيادة الطائرة‪ ،‬حّررتني بترّفعها عن قيادة‬
‫السيارات‪ ،‬من عقدة السواقة )وسوقيتها(‪ ،‬ليس فقط تجاه النساء الجالسات بزهو خلف‬
‫دة سنوات عند محطات الباصات العربية والفرنسية‪،‬‬ ‫مقودهن‪ ،‬أثناء انتظاري المخجل لع ّ‬
‫مة الجبل الذي يطل‬ ‫بل أيضا ً تجاه جاري شوماخر‪ ،‬بطل "الفورمول" الذي احتل مؤخرا ق ّ‬
‫ً‬
‫على خليج "تيول" جنوب فرنسا‪ ،‬حيث اشتريت شقة صغيرة للكتابة‪ .‬ومازلت‪ ،‬أمام دهشة‬
‫ملة بحاجاتي‬ ‫الجيران الذين يساوي ثمن سيارة بعضهم ثمن شقتي‪ ،‬أقصد بيتي بالباص‪ ،‬مح ّ‬
‫وأوراقي وما يلزمني للكل‪ ،‬صاعدة ذلك الطريق الجبلي المحفوف بأشجار الصنوبر‬
‫ملة مساًء قعره المضاء‪ ،‬المسّيج بالنوار‪ ،‬الذي‪ ،‬برغم قرب‬ ‫والورود‪ ..‬وأشجار الصبار‪ ،‬متأ ّ‬
‫ّ‬
‫ي القفز عليها‪ ،‬إل إذا ربحت في‬ ‫المسافة‪ ،‬تفصلني عنه طوابق من "الصفار" يصعب عل ّ‬
‫"اليانصيب" الوروبي مثل ً )آخر من فاز به قبض مبلغ مئة وخمسة وثلثين مليون يورو(‪ ،‬أو‬
‫ت عليه بالتحاقي بمركبة فضائية تغطي على سيارته "الفيراري" الخرافية‪ ،‬وسرعتها‬ ‫تفوق ُ‬
‫المرعبة في قطع منعطفات موناكو‪ ،‬فأكون آنذاك فالنتينا ترشكوفا العربية‪.‬‬
‫لحظوا أنني مازلت أذكر اسم هذه "الولّية" الروسية‪ ،‬برغم صغر سني يوم دخلت التاريخ‬
‫كأول رائدة للفضاء‪ ،‬وأول امرأة وصلت إلى القمر‪ .‬غير أن المر ما عاد يستحق كل ذاك‬
‫ملتها المسكينة من غثيان ودوار و"شقلبات"‪ ،‬وارتداء‬ ‫العناء‪ ..‬وكل تلك البلوي التي تح ّ‬
‫ل هذا من أجل بلوغ القمر‪ ..‬يا للغباء‪ .‬كان يكفي ملحم بركات‪،‬‬ ‫ثياب مزعجة للستات‪ ،‬وك ّ‬
‫وه "بالجل" أن يفتح بابه ليكتشف أن"على‬ ‫شعره المصفف لت ّ‬ ‫وهو في كل أناقته وتأنقه و َ‬
‫بابه واقف قمرين"‪ ..‬هكذا دفعة واحدة‪ .‬فوحدهم العرب يأتيهم القمر مشيا ً على القدام‪،‬‬
‫بينما يتعب الخرون لتطأة أقدامهم‪.‬‬
‫ل هذه السباب مجتمعة‪ ،‬ل أرى جدوى من قيادة السيارة أو ريادة الفضاء‪ ،‬حتى إنني‬ ‫لك ّ‬
‫ً‬
‫حدث أن قدمت عرضا في هذه الصفحة لبيع رخصة قيادتي لمن يهمهن المر‪ ،‬خاصة‬
‫السيدات الثريات‪ ،‬اللئي يمتلكن ترسانة من السيارات‪ ،‬ول تنقصهن إل ّ فرحة امتلك هذه‬
‫البطاقة المرمّية في درج مكتبي منذ اثنتي عشرة سنة‪ ،‬خاصة أنني حصلت عليها‪ ،‬ل لنني‬
‫ُأتقن القيادة‪ ،‬بل عندما تأكد مدربي من أنني ل أصلح لها‪ ،‬وًأصدر فتوى‪ ،‬مفادها‪ ،‬أنني‬
‫ل‪ ..‬ثم أتعّلم القيادة "على مهلي"‪.‬‬ ‫لفرط خوفي‪ ،‬من الفضل أن أحصل على الشهادة أو ً‬
‫سألته‪" :‬يا سيدي‪ ..‬وماذا لو قمت بحادث؟"‪ .‬أجاب بالحرف الواحد‪" :‬لن يصيبكم إل ّ ما‬
‫ب‬‫كتب لكم!"‪ .‬ولنه يحفظ أكثر من كتاب سماوي‪ ،‬فقد أضاف‪" :‬سيري وعين الر ّ‬ ‫ُ‬
‫ترعاك"‪ ..‬وسرت‪ ،‬والبقية شاهدها البعض على التلفزيون في النشرة الخبارية‪ .‬ذلك أنني‪،‬‬
‫قبل أن أظهر على التلفزيون ككاتبة‪ ،‬ظهرت سنة ‪ 1993‬في باب "حصاد الكوارث‬
‫اليومية"‪ ،‬عندما انقلبت بي السيارة‪ ..‬وأخرجوني من نافذتها‪ ،‬أنا وابني وليد‪ .‬فقد كنت أقود‬
‫في أول يوم استلمت فيه المقود‪ ..‬سيارة "‪ ،"BMW‬أوتوماتيكية‪ ،‬ل أعرف من أبجديتها إل ّ‬
‫حرفين‪ :‬واحد للنطلق‪ ،‬وآخر للتوقف‪ .‬وخفت أن أدهس سريلنكيا ً كان يقود بجواري‬
‫"موتوسيكل"‪ .‬وخلفه سريلنكية‪ .‬وبدل أن أتتبعهما في المرآة )التي لم يعلمني أحد كيف‬
‫أستعملها( رحت من خوفي ل أتوقف عن النظر إليهما‪ ،‬فمال بي المقود يمينًا‪ ،‬ثم صعودا ً‬
‫نحو جدار‪ ،‬قبل أن تنقلب السيارة على ظهرها وتقطع الطريق على السيارات لساعتين‪.‬‬
‫منذ ذلك اليوم استنتجت أنه لبد‪ ،‬بموجد قانون‪ ،‬أن ُيمنع الك ُّتاب والعشاق من تعاطي‬
‫القيادة‪ ،‬لنهم مغيبون عن هذه الدنيا‪ ..‬مشغولون عن همومها بهموم الحب والكتابة‪.‬‬
‫للتذكير‪ :‬رخصة قيادتي مسجلة تحت رقم ‪ 1138062‬في بيروت‪ ،‬سنة ‪ ،1993‬وهي‬
‫مة القارئات‬
‫معروضة بسعر قابل للتفاوض‪ ..‬أو المقايضة‪ ..‬حسب ه ّ‬

‫كّلنا من أمر البحر في شك‬

‫انتهى زمن العاصير الجميلة‪ ،‬التي تغّنى طويل ً بها الشعراء‪ .‬حتى الميرة ستيفاني‪،‬‬
‫دد اليوم قبل أن ُتغّني أغنيتها الشهيرة تلك"مثل إعصار"‪ .‬فالجميلة المترّبعة فوق‬
‫ستتر ّ‬
‫صخرة موناكو‪ ،‬تدري الن أنه ما عاد في المكان‪ .‬حتى من باب الدعابة‪ ،‬أن تمازج إعصارا ً‬
‫ن بعض أعاصيرها العشقّية قلبت المارة رأسا ً على عقب‪.‬‬ ‫أو تتغّزل به‪ ،‬خاصة أ ّ‬
‫من من طوفان أو إعصار أو زلزال‪ ،‬سواء أكان يسكن مدينة تحت‬ ‫ل أحد الن في مأ َ‬
‫معلقة على صخرة النجوم‪ .‬فقد أثبت‬ ‫ّ‬ ‫مستوى سطح البحر‪ ،‬وسطح الفقر‪ ،‬أم إمارة ُ‬
‫ن البحر‬ ‫"أ‬ ‫يعتقدون‬ ‫كانوا‬ ‫أناس‬ ‫"تسونامي" أن في إمكانه تسّلق طوابق عدة‪ ،‬وابتلع ُ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ن المطر الذي انهمر عليهم بغتة كان استجابة‬ ‫يبتسم"‪ ،‬كما اعتقد الجزائريون منذ سنتين أ ّ‬
‫لصلوات الستسقاء‪ ،‬وإذا به ُيخّبئ لسكان العاصمة أكبر فيضان عرفته الجزائر‪ ،‬ذاهبا ً حد ّ‬
‫خطف ُأناس باغتهم في الشوارع‪ ..‬وابتلعهم عبر المجاري لُيلقي بجثثهم بعد ذلك إلى‬
‫البحر‪.‬‬
‫حسن نواياه‪ .‬فما‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ب "كلنا من أمر البحر في شك"‪ ،‬نرتاب من مجاورته ونشك في ُ‬ ‫ّ‬ ‫كما الح ّ‬
‫عاد البحر يهبنا اللؤلؤ والمرجان والحيتان‪ ،‬بل الفيضانات والدمار والعاصير الستوائية‬
‫والحلزونية‪ ،‬التي ل رقم معروفا ً لضحاياها‪.‬‬
‫كل السماء النسائية والرجالية التي تطلقها هيئات الرصد الجوي‪ ،‬لتمنح كوارثنا "الطبيعية"‬
‫اسمًا‪ ،‬تضافرت وتناوبت لتهّز ثقة النسان بسيادته على هذه الرض•‬
‫من المعتدي؟ النسان‪ ..‬أم الطبيعة؟‬ ‫َ‬
‫ن الطبيعة بيت‬ ‫إذا احتكمنا إلى إبراهيم الكوني‪ ،‬الذي يقول في كتابه "ديوان البّر والبحر"‪ ،‬إ ّ‬
‫الّله الذي ندّنسه بدل أن نتعّبد فيه‪ ،‬يكون الرئيس المؤمن بوش‪ ،‬قد دّنس بيوت الّله كثيرًا‪،‬‬
‫و تجّنى على الطبيعة كما تجّنى على البشر‪ .‬فقد أصّرت إدارته على الرفض القاطع‬
‫التوقيع على معاهدة كيوتو للحتباس الحراري التي أدت إلى ارتفاع درجات الحرارة‪ ،‬في‬
‫ن‬
‫المحيطات‪ ،‬ما تسّبب‪ ،‬حسب الخبراء‪ ،‬في تشكيل العاصير الواحد تلو الخر‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫القرار الميركي يصنعه الثرياء‪ ،‬أصحاب الشركات الكبر من الدول‪ ،‬ويدفع ثمنه فقراء‬
‫العالم‪ ،‬وفقراء أميركا الذين ما كّنا لنعرف مدى فاقتهم‪ ،‬لول فضيحة هذا العصار‪.‬‬
‫مى "كاترينا"‪.‬‬ ‫مس ّ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫نفهم تماما‪ ،‬أن يطالب أنصار البيئة بإطلق أسماء العاصير على السياسيين‪ ،‬مقترحين‬ ‫ً‬
‫أسماء جورج بوش‪ ،‬وكونداليزا رايس‪ ،‬وتوني بلير‪ ،‬ورامسفيلد‪ ،‬باعتبارهم مسؤولين عن‬
‫معظم الكوارث الطبيعية التي تحيط بالعالم‪ ،‬وتتسّبب في اّتساع ُثقب الوزون‪ ،‬و ارتفاع‬
‫وث في العالم‪ ،‬إضافة إلى الحروب التي ُيشعلها سوق السلح‪ .‬ففي أميركا‪ ،‬حيث‬ ‫دة التل ّ‬
‫ح ّ‬
‫جت‬‫ضا يليق برواجه‪ ،‬د ََر َ‬ ‫ً‬ ‫مَر َ‬ ‫ً‬
‫تخترع شركات الدواء العملقة الدواء أول‪ ،‬ثم تخترع له َ‬
‫الحكومات الميركية على إشعال حروب لستهلك ترسانة أسلحتها واختبار الجديد منها‪،‬‬
‫غير عابئة بما ستخّلفه قنبلة نووية على مئات اللف من البشر في هيروشيما‪ ،‬أو ما‬
‫ستتنفسه المهات من سموم‪ ،‬تشهد عليها تشوهات الجنة والمواكب الجنائزية المتتالية‬
‫لنعوش أطفال العراق‪.‬‬
‫فسه من سموم‬ ‫نكبة أميركا ليست في شعبها‪ ،‬الطّيب غالبًا‪ ،‬والساذج حد ّ تصديق ك ّ‬
‫ل ما يتن ّ‬
‫كامها الذين يصّرون على سياسة التفّرد والستعلء‪ ،‬حتى على‬ ‫إعلمّية‪ .‬نكبتها في ح ّ‬
‫الطبيعة‪ .‬فبوش‪ ،‬الذي ابتدع "الحروب الستباقّية"‪ ،‬ما كان في إمكانه أن يستبق إعصارا ً أو‬
‫حكم أنه الراعي للنسانية والقيم‬ ‫يلحق به‪ .‬ذلك أن أولوياته هي غير أولويات مواطنيه‪ ،‬ب ُ‬
‫السماوية‪ ..‬والموّزع الحصري للديمقراطّية على جميع سكان الكرة الرضّية‪ .‬فأين له أن‬
‫يجد الوقت ليوزع الغاثة على المنكوبين من مواطنيه‪ ،‬وهو مشغول بتوزيع جيوشه حسب‬
‫ده بها الشركات البترولية في معقله في تكساس؟‬ ‫الخرائط التي تم ّ‬
‫ّ‬
‫الجبابرة‪ ،‬سادة العالم وأنبياؤه المزّيفون‪ ،‬عليهم أل يعجبوا إن هم ما استطاعوا احتواء‬
‫غضب السماء‪ ،‬ول غضب الرض‪ .‬ما الطبيعة إل ّ يـد الّله‪ ،‬وكان لبد لجبروتهم أن ينتهي‬
‫تحت أقدامها‪.‬‬
‫)نيو أورليانز(‪..‬التي سبقني إليها العصار‬

‫صة بالتعريف بمعالمها السياحية‪ ،‬ومبانيها ذات‬ ‫ت "نيو أورليانز" في مجلة فاخرة مخت ّ‬ ‫اكتشف ُ‬
‫الفن المعماري المتمّيز بالبهجة والشاعرية إلى حد ّ إغراء أكثر من سينمائي‪.‬‬
‫ممّنية نفسي بزيارتها في مناسبة تليق بشاعريتها‪ .‬المناسبة لم تحدث‪،‬‬ ‫احتفظت بالمجلة ُ‬
‫حكم وجودها تحت سطحه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫أحضانه‬ ‫في‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫أص‬ ‫غارقة‬ ‫كانت‬ ‫الذي‬ ‫البحر‬ ‫فالولية ابتلعها‬
‫ي تلك‬ ‫عندما شاهدت هول الكارثة‪ ،‬تذكرت جوهانا‪ ،‬السيدة الميركية التي أرسلت إلـ ّ‬
‫معايدة‬ ‫المجلة في طبعتها الفرنسية قبل سنتين‪ ،‬بمناسبة أعياد الميلد‪ ،‬ومعها بطاقة ُ‬
‫ُ‬
‫متمّنية أن أزورها يومًا‪ .‬لكن العصار سبقني لتلبية الدعوة التي ما كنت للّبيها‬ ‫فاخرة‪ُ ،‬‬
‫ل‪ ،‬على القل بسبب إعاقتي اللغوية وجهلي بالنجليزية‪ .‬فقد سبق أن عانيت من‬ ‫أص ً‬
‫صاَدف أن كانت جالسة مثلي بمفردها تتناول الغداء في مطعم صغير‬ ‫صل معها يوم َ‬ ‫التوا ُ‬
‫دة قامت على البتسامات والكلمات‬ ‫ّ‬ ‫مو‬ ‫بيننا‬ ‫ولدت‬ ‫كيف‬ ‫أدري‬ ‫ل‬ ‫"الشانزيليزيه"‪.‬‬ ‫في‬
‫دد على باريس‪ ،‬وفهمت مني أنني‬ ‫متداخلة اللغات‪ .‬فهمت منها أنها عازفة "بيانــو"‪ ،‬تتر ّ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫كاتبة من بلد ربما لم تسمع به ُيدعى الجزائر‪ .‬ع َذ َْرُتها‪ ،‬فالميركيون ل يسمعون إل ّ بالبلد‬
‫التي يشنون عليها حربًا‪ .‬وحتى وهم يرسلون مئات اللف من أبنائهم للموت فيها‪ ،‬يجهلون‬
‫مكانها على الخريطة‪.‬‬
‫وللمانة‪ ،‬كانت جوهانا طّيبة وأكثر وفاًء مني‪ .‬فقد وعدتها أن أرسل إليها أحد أعمالي باللغة‬
‫دة في أخذ عنواني‪.‬‬ ‫النجليزية‪ ،‬ولم أفعل‪ ،‬بينما كانت هي جا ّ‬
‫أذكر جوهانا هذه اليام وأنا أرى صور الدمار‪ ،‬وآثار ذلك "الفيضان العظيم"‪ ،‬الذي اختلف‬
‫في تفسيره المتطّرفون من فقهاء الديان‪" :‬أكان إعصار الرض‪ ..‬أم إعصار السماء؟"‪ .‬ل‬
‫ل بها‪ ،‬لكن بشرتها البيضاء‪ ،‬وما يبدو عليها من ثــراء ُيطمئنانني لمصيرها‪.‬‬ ‫أدري ما ح ّ‬
‫عظمى‬ ‫ُ‬ ‫دولة‬ ‫أن‬ ‫إلى‬ ‫بهتنا‬‫ّ‬ ‫ون‬ ‫أميركا‪،‬‬ ‫في‬ ‫والعرقي‬ ‫طبقي‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫النقسام‬ ‫رست‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫العصار‬ ‫فمحنة‬
‫ن بلدا بلغ به العلم حد ّ إرسال إنسان آلـي ليقوم‬ ‫ً‬ ‫قد تخفي ولية من العالم الثالث‪ ،‬وأ ّ‬
‫بتصليح عربة فضائية خارج نطاق الجاذبية‪ ،‬على ُبعد مليين الكيلومترات من الرض‪ ،‬قد‬
‫مامات للمنكوبين‪ ،‬ما ألهم الفيليبين‬ ‫جز عن إمداد أبنائه بالماء والغذاء‪ ،‬بل وبتوفير ح ّ‬ ‫يع َ‬
‫ميه ُأمي "موت‬ ‫تس‬
‫ُ ّ‬ ‫ما‬ ‫وهو‬ ‫حي‪،‬‬‫ّ‬ ‫الص‬ ‫الصرف‬ ‫في‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫مهندس‬ ‫‪25‬‬ ‫يضم‬ ‫فريق‬ ‫إرسال‬ ‫عرض‬
‫وفضيحة"‪.‬‬
‫فقد تدافعت ستون دولة لشراء رضا أميركا بالمساعدات‪ ،‬أو لهانتها بالذريعة إّياهــا‪ ،‬كما‬
‫في عرض كاسترو بإرسال ‪ 1100‬طبيب لنجدة ُنزلء الجنة الميركية‪ ،‬بينما يتجاوز عدد‬
‫الفاّرين من جحيمه الشيوعي يوميا ً نحو أميركا‪ ،‬أضعاف هذا الرقم‪.‬‬
‫ّ‬
‫مواساة عدّوتها بالكِلمات "اللكمات"‪ ،‬واصفة إّياها‬ ‫وحدها كوريا الشمالية كانت صادقة في ُ‬
‫بالشّريرة التي يقودها "معتوه سياسي"‪.‬‬
‫ماعات دينية‪ ،‬بعضها‬ ‫ج َ‬ ‫في في بعض ما كتب أو صّرحت به َ‬ ‫ُ‬ ‫ف روح التش ّ‬ ‫عيب أن نستش ّ‬
‫متطّرفينا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫المطاف‬ ‫آخر‬ ‫في‬ ‫التقت‬ ‫رف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫متط‬‫ُ‬ ‫يهودي‬ ‫أو‬ ‫دد‬
‫متش ّ‬‫مسيحي ُ‬
‫تربطنا بهؤلء البؤساء إنسانيتنا‪ ،‬على الرغم من كونهم ل يملكون الوقت ‪ -‬ل قبل المحنة‬
‫ول بعدها ‪ -‬لللتفات إلينا‪ ،‬ول يدرون أين يوجد مضرب خيامنا على خريطة العالم‪.‬‬
‫مدنهم منكوبة منهوبة تحكمها العصابات‪ ،‬كما‬ ‫ن نرى ُ‬ ‫ل نستطيع إل ّ أن نتعاطف معهم‪ ،‬ونح ُ‬
‫موّزع‬‫ُ‬ ‫وهو‬ ‫المسكين‬ ‫يستطيع‬ ‫ماذا‬ ‫أسأل‪:‬‬ ‫لبوش‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫وإنصاف‬ ‫بغداد يوم سقوطها على أيديهم‪.‬‬
‫ّ‬
‫بين تجفيف ينابيع الرهاب )أو شللته( التي ُتغطي نصف الكرة الرضّية‪ ،‬وتجفيف المناطق‬
‫المنكوبة في بلده الغارقة في المياه‪ ،‬والتي تعادل مساحُتها نصف مساحة فرنسا؟ لبد أن‬
‫ن إقامة الديمقراطية في العراق أهم من إنقاذ آلف الرواح‬ ‫در لبوش اعتقاده أ ّ‬ ‫ُنق ّ‬
‫لت راجلها ممدود وراحت تعّزي في‬ ‫الميركية‪ .‬أميركا‪ ،‬التي كما يقول مثل جزائري‪" :‬خ ّ‬
‫محمود"‪ ،‬معذورة عندما تستدعي ‪ 300‬من طّياريها في العراق‪ ،‬للمساعدة في جهود‬
‫الغاثة‪ .‬فمجالس العزاء عندنا مفتوحة على مدار النهار‪ ،‬تماما ً كسمائنا المفتوحة للقصف‪،‬‬
‫وصدورنا المفتوحة للصفح‪.‬‬
‫لو حدث والتقيت جوهانا سأخبرها بكثير من الزهو أن أكبر عملية إغاثة لضحايا العصار‬
‫دمها العرب‪ .‬فلقد أسهم الشعب العراقي وحده بإنقاذ عشرة آلف نسمة من حتفهم‪.‬‬ ‫ق ّ‬
‫ن عشرة آلف جندي من القوات الميركية الموجودة في العراق هم من المناطق‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫المنكوبة‪.‬‬

‫غالة‪..‬مسلسل رمضاني حصري‬


‫وهربت الش ّ‬
‫ي لختيار أحدها‬ ‫ُ‬
‫عرضت علـ ّ‬ ‫صص وقتي لدراسة مشروعات السيناريوهات التي ُ‬ ‫بدل أن أخ ّ‬
‫للبدء في إنجاز مسلسل "ذاكرة الجسد" على وجه السرعة‪ ،‬ليكون جاهزا ً لرمضان‬
‫صة محبوكة الخراج‪،‬‬ ‫المقبل‪ ،‬وجدتني مشغولة بسيناريو آخر أّلفته شّغالتي الثيوبية‪ ،‬في ق ّ‬
‫مفاجعة التي يحتاج إليها كل عمل درامي ناجح‪ ،‬حتى إنني‬ ‫مفاجأة وال ْ ُ‬ ‫ل تخلو من عناصر ال ْ ُ‬
‫دت لديّ قناعة بضرورة تغيير مهنتي‪ ،‬مادامت شّغالتي‬ ‫صة‪ ،‬غ َ َ‬ ‫ل فصول الق ّ‬ ‫بعد أن عايشت ك ّ‬
‫ن ُأخريات‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫خاصة‬ ‫بالي‪،‬‬ ‫على‬ ‫تفاصيلها‬ ‫تخطر‬ ‫ل‬ ‫روايات‬ ‫اختراع‬ ‫على‬ ‫وقادرة‬ ‫تفوقني خيال ً‬
‫ي‪ ،‬كتلك السريلنكّية‪ ،‬التي جاءها هاتف ذات صباح‬ ‫ن التمثيلّية علـ ّ‬ ‫سبقنها إلى اختبار مواهبه ّ‬
‫ن بعَلها دهسته‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫صدرها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ق‬ ‫وتش‬ ‫شعرها‬ ‫ّ‬ ‫د‬ ‫تش‬ ‫وهي‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫أرض‬ ‫بط‬ ‫باكر‪ ،‬وراحت تنتحب وتتخ ّ‬
‫سيارة وهو على "الموتوسيكل"‪ ،‬وعليها أن تسافر لتحضر مراسم حرقه‪ .‬وخفنا أن تحرق‬
‫فرناها‬ ‫ما لها عندنا‪ ،‬وس ّ‬ ‫نفسها عندنا‪ ،‬حسب التقاليد‪ ،‬أو تحرق البيت بنا‪ ،‬فأعطيناها أكثر م ّ‬
‫ملة بالهدايا لطفالها الذين فارقتهم منذ ثلثة أشهر فقط‪ ،‬لنكتشف بعد ذلك‬ ‫مح ّ‬ ‫جل ُ‬ ‫على ع َ َ‬
‫أنها كانت تكذب‪.‬‬
‫لختي التي ُتضاهيني سذاجة وطيبة‪،‬‬ ‫ولم يمنع هذا ُأختها من أن تقوم بمقلب مشابه ُ‬
‫ُ‬
‫فرتها‪.‬‬ ‫دقتها ُأختي لفرط نحيبها‪ ،‬وس ّ‬ ‫قد َ ساقه‪ ،‬فص ّ‬ ‫ن زوجها فَ َ‬ ‫دعّيـة أ ّ‬ ‫م ّ‬‫ُ‬
‫من وقتها‪ ،‬وأنا أطالب بأن ُيمنح "أوسكار" التمثيل في إحدى دورات مهرجان "كـــان"‬ ‫ُ‬
‫وق‪ ،‬وفي إمكانها‬ ‫ممثلة بتف ّ‬ ‫ن أّيــة شّغالة هي ُ‬ ‫ن‪ ،‬لثقتي بأ ّ‬ ‫مل أدواره ّ‬ ‫مج َ‬ ‫للشّغالت‪ ،‬عن ُ‬
‫دة إن اقتضى المر‪.‬‬ ‫إخفاء لعَبة تمثيلها سنوات ع ّ‬
‫ن بها الّلــه على شّغالتي‪ ،‬وقد أنجح‬ ‫ّ‬ ‫مــ‬ ‫التي‬ ‫الروائية‬ ‫الموهبة‬ ‫كر في‬ ‫مؤخــــرًا‪ ،‬بدأت ُأف ّ‬
‫داد" للروايــة لهذا العام‪ ،‬إلـى شّغالتي‬ ‫في إقناع لجنة التحكيم بمنح "جائزة مالك ح ّ‬
‫"مصاريت"‪ .‬ألـم ُيعـّرف الروائي ماريو يوسا‪ ،‬البداع بأنه "استعداد فطري يتجّلى بميل‬
‫مبدع إلى قدرته على التخّيـل وتغيير ما يدور حوله"؟ هذا تماما ً ما يتوافر في "مصاريت"‪،‬‬ ‫ال ْ ُ‬
‫من عرفها وعرف تعّلقها بـي‪ ،‬ولنه مسلسل‬ ‫هش ك ّ‬ ‫َ‬
‫ل َ‬ ‫وما أتاح لها إنجاز مسلسل أد َ‬
‫ً‬
‫مكسيكي‪ ،‬حيث تكثر قصص الشّغالت اللئي ينتهين غالبا سّيدات مجتمع بعد هروبهن إلى‬
‫ل‬‫مثيــر للفضول لك ّ‬ ‫ُ‬
‫وق و ُ‬ ‫مش ّ‬ ‫ميته "‪..‬وهربــت الشّغالـة"‪ .‬عنوان ُ‬ ‫س ّ‬ ‫بيوت أخرى‪ ،‬فقد َ‬
‫ل‬‫ي‪ .‬فوحدي أعيشه على مدار اليوم‪ ،‬ليس فقط كأشغا ٍ‬ ‫مثير للمواجع بالنسبة إلـ ّ‬ ‫سامع‪ ،‬و ُ‬
‫منزلّية‪ ،‬بل كصدمة نفسّية وخيانة ما استطاع قلبي تقّبلها‪ ،‬لفرط ما دّللت تلك الشّغالة‪،‬‬
‫إلى حد ّ دعوتها إلى الجلوس معي على طاولة الطعام‪ ،‬عندما تزورني إحدى صديقاتي ول‬
‫يكون غيرنا في البيت‪.‬‬
‫سَبق أن قلت‪ :‬في إمكاني أن أغفر خيانة زوج‪ ،‬لكنني ل أغفر خيانة صديق‪.‬‬ ‫وأنا التي َ‬
‫سبق إصرار‪ ،‬في‬ ‫َ‬ ‫مع‬ ‫طعنــة‬ ‫فهي‬ ‫الصديـــق‪،‬‬ ‫خيانة‬ ‫مــا‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫وة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫نــز‬
‫َ‬ ‫تكون‬ ‫قد‬ ‫الزوج‬ ‫فخيانة‬
‫ن زوجي هو‬ ‫إمكاني أن أضيف في هذه الحالة بالذات‪ ،‬أنني كنت سأتفّهم المر أكثر لو أ ّ‬
‫سن صاحبته على القل‬ ‫ج من البيت وهرب طالبا ً اللجـــوء إلى بيت آخــر‪ُ ،‬تح ْ‬ ‫الذي هـ ّ‬
‫ُ‬
‫عــذر من بين خمسة أو ستة أعذار على القل أِقــّر بها‪ ،‬ويتساهل فيها‬ ‫طبخ‪) ،‬وهو ُ‬ ‫ال ّ‬
‫مــا أن تهرب هذه البنت التي جئت بها من أدغال أفريقيا وأسكنتها غرفتي‬ ‫زوجي(‪ .‬أ ّ‬
‫دت حقيبتها‬ ‫وقاسمتها لقمتي‪ ،‬وكسوتها كما لو كانت ابنتي‪ ،‬فهذا ما ل أغفره‪ ،‬خاصة أنها أع ّ‬
‫مغادرتي بيـــــروت‪ .‬فقد‬ ‫مبّيتا ً قبل ُ‬ ‫على مرأى من غفلتي في "كــان"‪ ،‬وكان هروبها ُ‬
‫اكتشفنا مذهولين عند عودتنا من دونها‪ ،‬أنها كانت قد أفرغت غرفتها عن بكرة أبيها من ك ّ‬
‫ل‬
‫كتب عليه بالنجليزية )‪ ،(I Lov You‬وأهدتها‬ ‫ب الذي ُ‬ ‫حاجاتها وثيابها وصور أهلها‪ ،‬وحتى الد ّ‬
‫إّيـاه ُأختي في عيد ميلدها‪.‬‬
‫ُ‬
‫ل خيوط‬ ‫قق الدولي"ميليس" كـ ّ‬ ‫مح ّ‬ ‫ت على طريقة ال ْ ُ‬ ‫فك َ ْ‬ ‫مــي‪ ،‬لو كانت هنا‪ ،‬ل َ َ‬
‫فك ْ َ‬ ‫وحدهــا أ ّ‬
‫الجريمة قبل وقوعها‪.‬‬
‫ّ‬
‫في قسم الشرطة الذي قصدناه في "كــان" لُنبلغ عن هروبها‪ ،‬استقبلنا الشرطي بروح‬
‫مــل الوراق‪ .‬قال‪" :‬إنها ليست‬ ‫فا ً بشكوانا‪ .‬قلنا له "الشّغالة هربــت"‪ .‬تأ ّ‬ ‫مستخ ّ‬ ‫مرحة ُ‬
‫ً‬
‫دها"‪ .‬احتج زوجي‪" :‬ولكنها تحت مسؤوليتنا"‪ .‬أجابه ضاحكــا‪" :‬لو‬ ‫قاصرًا‪ .‬ل نستطيع شيئا ض ّ‬
‫ً‬
‫ل يوم‪ ..‬شاب ل أحد يدري أين ذهب‪ ..‬امرأة تترك‬ ‫تدري يا سيدي كم من الحالت نرى ك ّ‬
‫أطفالها الثلثة ول تعود للبيت‪ ..‬رجل يختفي فجــأة‪ ..‬انتظــروا‪ ..‬ربما عــادت"‪.‬‬
‫ت"‪ ،‬وأنا قلت في‬ ‫حين‪ .‬زوجي قال لي مازحـًا‪" :‬مليح اللي بعدك ما هرب ِ‬ ‫عدنــا للبيت فَرِ َ‬
‫ُ‬
‫جــال!"‪.‬‬
‫سّري‪" :‬تهرب الشّغالـة‪ ..‬ول يهـرب الر ّ‬

‫يا الّله‪ ..‬ما أجمل الصيام والقيام ‪..‬في المارات‬


‫ب‪ ،‬والموعد‬ ‫حـب‪ .‬فهو الشهر الح ّ‬ ‫ل‪ .‬انتظرته كما لو كنت على موعد ُ‬ ‫انتظرت رمضان طوي ً‬
‫جل‪ ،‬ول تدري كيف تستعد ّ له‪ ،‬ول كيف تتزّود منه‪ ،‬ول‬ ‫الجمل‪ ،‬واللقاء الذي يمّر على ع َ َ‬
‫كيف تفارقه‪.‬‬
‫من لن أضاهيه صدقة على فقرائه وأيتامه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫من يفوقني أجرا في صيامه وقيامه‪ ،‬و َ‬ ‫أحسد َ‬
‫ت أرجو‪ ،‬مادام الموت‬ ‫ُ‬ ‫مازل‬ ‫لذا‪،‬‬ ‫أيامه‪.‬‬ ‫في‬ ‫جواره‬ ‫إلى‬ ‫فاختاره‬ ‫عباده‬ ‫على‬ ‫ّ‬
‫له‬ ‫ال‬ ‫ضله‬‫ومن ف ّ‬
‫ل شيء جميل في هذا الشهر‪ ،‬حتى الموت‬ ‫قدرًا‪ ،‬أن يوافيني الله في عشره الواخر‪ ،‬فك ّ‬
‫على نداء مآذنه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ب تاريخا أو مكانا حد ّ الولع‪ ..‬والوجع‪ ،‬كتب له الله الموت فيه‪ ،‬كذلك‬ ‫ً‬ ‫ن المرء إن أح ّ‬ ‫أعتقد أ ّ‬
‫مر الفرنسي‪ ،‬الذي تمنى خلل أربعين سنة العودة إلى المدينة التي ُولد وعاش فيها‬ ‫مع ّ‬‫ال ْ ُ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫في الجزائر‪ ،‬لكن فرحته لم تدم أكثر من يوم‪ .‬فما كاد يرى حّيه وبيته وُيسلم مبتهجا على‬
‫من بقي حي ّا ً من معارفه‪ ،‬حتى أغمض عينيه إلى البد على ذلك المشهد‪ .‬أذكر أيضا ً موت‬ ‫َ‬
‫أبي في أّول نوفمبر‪ ،‬تاريخ اندلع الثورة الجزائرية‪ ،‬وأن يكون ذلك اليوم دون سواه هو‬
‫الذي توقف فيه قلبه‪ ،‬وأن ُيصادف خروج جثمانه من المستشفى العسكري الساعة التي‬
‫ي‪ ،‬الذي ما سمعه أبي إل ّ وتأّثر‬ ‫كان يقف فيها الجنود لرفع العََلم وعزف النشيد الوطن ّ‬
‫وبكى لكلماته‪ ،‬التي كانت تعني الكثير في زمانه‪ .‬فهل كان "أندريه مالرو" على حق‪،‬‬
‫عندما قال‪" :‬ل ُيصيبنا الموت الذي نستحق‪ ،‬بل الموت الذي ُيشبهنا"؟‬
‫كرت هذا القول في رمضان الماضي‪ ،‬عندما حضرت إلى المارات لتقديم العزاء في‬ ‫تذ ّ‬
‫ب رمضان من دون‬ ‫ّ‬
‫وفاة الشيخ زايد طّيب الله ثراه‪ .‬قلت لبد أن يكون الرجل قد أح ّ‬
‫الشهور‪ ،‬وصامه وقامه‪ ،‬وفتح قلبه وخيمته لمحتاجيه وأيتامه‪ ،‬لُيكافئه الّله باستدعائه إلى‬
‫جواره في رمضان‪ .‬حسدته‪ ،‬والّله حسدته‪ ،‬على جنازته‪ ،‬على بساطة نعشه‪ ،‬على الدعوات‬
‫فنته‪ ،‬والمآذن التي رافقته‪ .‬وعندما‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬أصّرت صديقتي الدكتورة هنادي‬ ‫التي ك ّ‬
‫ً‬
‫ربحي‪ ،‬بعنادها الجزائري‪ ،‬على استبقائي لنصوم الواخر معا‪ ،‬حيث كانت تهديني أجمل أيام‬
‫عشتها في رمضان‪ ،‬وأكاد أقول أجمل ما عشت من أيام‪.‬‬
‫ي‬
‫ي وبه ّ‬‫يا الّله‪ ..‬ما أجمل الصيام في المارات‪ ،‬وكم يشعر المسلم هناك بأنه جميل وتق ّ‬
‫ونظيف‪ ،‬كقلوب أهل ذلك البلد الطّيب‪ ،‬كشوارعه النظيفة التي يفترشها المصّلون باللف‪،‬‬
‫بعد أن تضيق بهم المساجد‪ .‬فما تكاد ترفع مائدة الفطار حتى ترى الناس مسرعين إلى‬
‫ملين بسجادهم‪ ،‬مصحوبين أحيانا ً بأطفالهم أو بخدمهم من المسلمين‪ .‬فهناك‬ ‫مح ّ‬ ‫المساجد‪ُ ،‬‬
‫ل صوب في‬ ‫دم من ك ّ‬ ‫ُيصّلي الخادم والمخدوم جنبا ً إلى جنب‪ .‬تفاجئك أفواج مد ّ بشري تتق ّ‬
‫حكم‬ ‫ً‬
‫ل يركن سيارته بعيدا‪ ،‬ب ُ‬ ‫لونين ل ثالث لهما‪ :‬البيض للرجال‪ ،‬والسود للنساء‪ .‬الك ّ‬
‫الجتياح البشري للشوارع والساحات‪ ،‬مواصل ً على القدام السراع للحاق بصلة التراويح‪.‬‬
‫ل‪ ،‬حسب ما‬ ‫مص ّ‬ ‫حدث أن صّليت في الشارقة‪ ،‬بمحاذاة مسجد فاض حرمه بعشرين ألف ُ‬
‫ده‪ .‬تنّبهت يومها إلى أن‬ ‫ذ َك ََرت الصحف‪ .‬تكاد ل تجد فسحة لموطئ قدم أو لسجاد تم ّ‬
‫ي أن أراها تسجد واضعة جبينها على الرض‪ ،‬وربما‬ ‫جادة لها‪ ،‬وعّز عل ّ‬
‫جارتي السيوية ل س ّ‬
‫ّ‬ ‫د‬ ‫لم‬ ‫ركعتين‪،‬‬ ‫بين‬ ‫وقوفها‬ ‫فرصة‬ ‫فاغتنمت‬ ‫ّ‬
‫له‪،‬‬ ‫ال‬ ‫إلى‬ ‫مني‬ ‫أكثر‬ ‫بذلك‬ ‫حسدتها في تقّربها‬
‫ل اهتماما ً‬ ‫عرضًا‪ ،‬بحيث نجلس كلتانا على الرض‪ ،‬ونتقاسمها كلما سجدنا‪ .‬لم ُتو ِ‬ ‫سجادتي َ‬
‫بذلك‪ ،‬أو ربما تنّبهت إلى كوني أسرق منها ثوابها‪ .‬كانت منهمكة في ابتهالها‪ ..‬قطرة في‬
‫فس معك‪ ،‬تجهش بالبكاء على مقربة من‬ ‫هدير المواج البشرية التي تحيط بك‪ ،‬تتن ّ‬
‫دموعك‪ ،‬فقد كان المام نفسه ينتحب متضرعا ً بالدعوات‪ ،‬التي تخترق فضاء ذلك الليل‬
‫الطويل‪.‬‬
‫كانت أبواب السماء مفتوحة‪ ،‬والصلوات ترتفع من آلف القلوب الخاشعة‪ ،‬في مسجد ل‬
‫سقف له سوى النجوم‪.‬‬
‫مّرت سنة‪ ،‬وما استطعت نسيان ذلك المشهد الرمضاني المدهش‪ ،‬حتى إنني أصبحت ل‬
‫أتصورني أصوم العشر الواخر من رمضان‪ ،‬إل ّ في المارات‪ .‬بل ونجحت في إقناع أمي‬
‫بالعدول عن أداء الُعمرة في الفترة نفسها‪ ،‬كي ل تموت دهسًا‪ ،‬خاصة أنها حجت أكثر من‬
‫مّرة‪ ،‬إني أنتظرها لتزور معي المارات‪ ..‬لّول مّرة‪.‬‬

‫أيتها النساء‪ ..‬ل تبكين الضفادع‬


‫كرتني في جموحها بدموٍع‬ ‫ل عن البكاء‪ ،‬عدا‪ ،‬ربما‪ ،‬سعادة ذ ّ‬‫ل مناسبة دامعة لكتابة مقا ٍ‬
‫سابقة‪ .‬وإذا بي ُأفسد فرحتي‪ ،‬بحزني على سخاء دمعي في ما مضى‪ .‬أريد استرجاع‬
‫ُ‬
‫دموعي التي ذرفتها هباًء بغباء نسائي• وأعتقد أن جميع النساء شاركنني يوما ً في هذا‬
‫المطلب‪.‬‬
‫أجد عزائي في قول نزار‪" :‬إن النسان بل دمع ذكرى إنسان"< غير أني لفرط ما كنت‬
‫إنسانًا‪ ،‬أو بالحرى "إنسانة"‪ ،‬بكل ما تعنيه تاء التأنيث من سذاجة‪ ،‬نسيت أن ُأبقي بعض‬
‫دموعي لفرحة كهذه‪ ،‬أن أحتفظ بها كما كان نيرون يفعل‪ ،‬إذ بكى يوم إحراقه روما‪.‬‬
‫دمعتان مقابل مدينة تحترق بكل عظمتها‪ .‬طاَلب بإناء صغير لجمع دموعه فيه قطرة‪..‬‬
‫ف‪ ،‬وأنه صالح للستعمال مرة‬ ‫قطرة‪ .‬لم يجرؤ أحد على تنبيهه إلى أن الدمع يتبخر ويج ّ‬
‫واحدة‪ .‬فالدمع نبع يتدفق حتما ً نحو السفل‪ ،‬ول مجال لعادته لمنبعه‪ ،‬كاستحالة إعادة‬
‫المطر صعودا ً نحو السماء‪ .‬وحده الحزن في إمكانه أن يفعل ذلك عندما يتحرش بالذاكرة‪.‬‬
‫ذلك أنه عندما يتوقف دمعنا‪ ،‬تبدأ دموع الشياء من حولنا في النهمار‪ .‬إنه كيد الذاكرة‪ ،‬في‬
‫محاولة استدراجنا للبكاء أثناء دعوتنا إلى المشي إلى الوراء‪.‬‬
‫وهنا "كل واحد وشطارته"‪ ..‬البعض‪ ،‬عن خبرة أو عبرة‪ ،‬ينجو من الفخاخ التي تنصبها له‬
‫الذكريات‪ .‬وآخرون‪ ،‬أعني ُأخريات‪ ،‬يغرقن هناك في بركة دموعهن‪ ،‬مزايدات على الخنساء‬
‫عوي ً‬
‫ل‪.‬‬
‫ي الدمع شيمته الصبر" تفاخر المرأة بأن ل صبر لها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫"عص‬ ‫بكونه‬ ‫الرجل‬ ‫يباهي‬‫ُ‬ ‫فبينما‬
‫ن إحدى بنات جنسنا الغبّيات تذهب حد ّ مطالبته‬ ‫وتعرض فائض دمعها على ج ّ‬
‫لدها‪ ،‬حتى إ ّ‬
‫ي‪ ..‬واسأل‬‫بجلسة استجواب لمخدتها وشراشفها ومناديلها الورقية‪" :‬اسأل دموع عين ّ‬
‫دتي‪ ..‬كم دمعة رايحة وجاية‪ ،‬اسأل‪ ..‬اسأل‪ ."..‬ول جدوى من محاولة إعادتها لرشدها‪..‬‬ ‫مخ ّ‬
‫"يلعن أبوه هذا الذي يبكيك ويسعد برؤيتك تذبلين كل ليلة‪ ..‬ليذهب إلى الجحيم‪ ..‬كوني‬
‫ل‪ ..‬ل تلتفتي إلى الخلف‪ ..‬ستجدينه أمامك عندما سيعتقد أنه‬ ‫قوّية‪ ..‬ل تهاتفيه‪ ..‬اقتليه تجاه ً‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫خسرك‪ ..‬استمتعي ببكائه السّري‪ ..‬اصبري قليل فقط!"‪ .‬لكن أختنا في الغباء تنهزم‬
‫وتهاتفه‪ ،‬وتجهش بالبكاء طمعا ً في استعادته بفائض دمعها‪.‬‬
‫ً‬
‫دد يا أيتها النساء‪ ..‬احفظن هذا الدرس جيدا• هو درس‬ ‫ُ‬
‫ف قلمي وأنا أر ّ‬ ‫نشف ريقي وج ّ‬
‫واحد فقط‪ :‬الرجل ل يتعّلق بامرأة َتبكيه )بفتح التاء(‪ ..‬بل بامرأة ُتبكيه )بضم التاء(‪ .‬فهل‪،‬‬
‫وقد وصلت النساء العربيات حد ّ قيادة الطائرات الحربية‪ ،‬لم يزلن عاجزات عن التمييز بين‬
‫التاء المفتوحة‪ ..‬والتاء المضمومة؟‬
‫ن بكين"‪ ..‬نكتة كان‬ ‫"النساء كّلهن سواء‪ ..‬فهن يعتقدن أن مجموع ‪ 2 + 2 = 5‬إن ه ّ‬
‫ُيطلقها برنارد شو‪ ،‬كي يستخف بنا‪.‬‬
‫ب أن ‪ .1 + 1 = 1‬لكن‪،‬‬ ‫ل حــ ّ‬‫الحقيـقة‪ ،‬أن النساء لطالما بكــين‪ ،‬لعتقــادهـن فــي ك ّ‬
‫ول إلى انشطار فجائعي‪ ،‬لحظة‬ ‫النصهار الذي حلمن به دائما ً مع الرجل‪ ،‬كثيرا ً ما تح ّ‬
‫ي في الحساب‪ .‬إذ في إمكان ‪ 1 + 1‬أن يساويا لديه ثلثة فأكثر‪،‬‬ ‫اكتشافهن منطقه النان ّ‬
‫بحكم اعتقاده الراسخ‪ ،‬أن امرأة واحدة ل تكفي لتكون "نصفه"‪.‬‬
‫صحيح أننا عادة لسنا متفوقات في الحساب‪ ،‬لكن الخطأ هنا يكمن في كوننا نقيس بقلوبنا‬
‫ويقيس الرجال بباقي أعضائهم‪ .‬ولبد إذن من توحيد المقاييس تفاديا ً للخيبات والصدمات‪.‬‬
‫مناسبة هذا الكلم في الواقع‪ ،‬إعجاب كثيرٍ من القارئات بمقال قديم كان عنوانه "أيتها‬
‫دقن تلك السطورة‪،‬‬ ‫النساء توقفن عن تقبيل الضفادع"‪ ،‬في إشارة إلى نساء مازلن يص ّ‬
‫قبلتها ُتفسد مفعول‬ ‫التي تقّبل فيها فتاة ضفدعا ً جميل ً يقف حزينا ً على طرف بركة‪ ،‬وإذا ب ُ‬
‫ول الضفدع إلى أمير عاشق يطلب يدها‪.‬‬ ‫سحر ح ّ‬
‫ل به‪ ،‬ويتح ّ‬
‫أما وقد فهمت قارئاتي أنهن لن يعثرن على فارس أحلمهن بين الضفادع‪ ،‬بقي أن‬
‫أنصحهن بالتوقف عن بكاء ما عرفن من ضفادع‪ .‬فبحكم وجودها في المستنقعات‪ ،‬ل تمّيز‬
‫الضفادع بين الدمع الغالي‪ ،‬الجاري على خدود العذارى‪ ،‬والماء السن الذي تعيش فيه!‬
‫كلمي إلى صديقتي القارئة التونسية‪ ..‬تلك‪.‬‬

‫سّيد التفاصيل‬
‫قلت للراحل الكبير مصطفى العقاد ذات مرة إنني أحسده على غليونه‪ ،‬لعتقادي أنه‬
‫مدين له بكثير من أفكاره‪ ،‬وبذلك الهدوء الظاهري الكاذب الذي ُيخفي عن الخرين غليانه‬
‫الداخلي كمبدع‪.‬‬
‫فسًا‪ ،‬ما‬‫سقط غليونه في بركة دمه‪ .‬لن نعرف أّية فكرة كانت تراوده وهو يسحب منه ن َ َ‬
‫ظّنه سيكون الخير‪.‬‬
‫هو سّيد التفاصيل‪ ،‬والشياء التي تتكلم سينمائيا ً أكثر من أصحابها‪ .‬أذكر تلك اللقطة التي‬
‫تقع فيها النظارة الطبية لعمر المختار على الرض‪ ،‬معلنة نهاية "أسد الصحراء"‪ ،‬وسقوطه‬
‫على أيدي من قضى عمره في التصدي لهم‪.‬‬
‫ً‬
‫ُتراه أدرك وغليونه يتطاير من فمه‪ ،‬مع أشلء ثمانية وخمسين شخصا‪ ،‬أحدهم أميرة قلبه‬
‫ريما‪ ،‬ابنته الشابة الجميلة التي كان ينتظرها في بهو الفندق عروسا ً جديدة‪ ،‬جاءت تحضر‬
‫عرسًا‪ُ .‬تراه أدرك أن الموت كان بجواره‪ ،‬يدخن أيضا ً غليونه الزلي‪ ،‬في انتظار خطفها من‬
‫ضمة الولى؟‬ ‫حضنه‪ ،‬لحظة ال ّ‬
‫ً‬
‫سيد التفاصيل‪ ،‬ما توقع أن حزاما من المتفجرات تحت عباءة السلم‪ ،‬الذي زرع لواءه في‬
‫ل بها‪ ،‬سينسف في لحظة حقول الياسمين والزنبق التي قضى عمره في رّيها‬ ‫كل أرض ح ّ‬
‫ً‬
‫مورقا بحضارته وإنسانيته‬ ‫ً‬
‫مزهرا و ُ‬
‫بموهبته وصبره‪ ،‬كي يبدو العرب جميلين‪ ،‬والسلم ُ‬
‫ورسالته‪.‬‬
‫هو الذي حارب أعداء السلم حتى في عقر دارهم في هوليوود‪ ،‬كان قدره أن يموت ميتة‬
‫"حلل" على يد زوجين متطرفين قررا أن يذهبا في نزهة قتل‪ ،‬مستقلين نقليات الزرقاوي‬
‫الموصلة إلى‪ ..‬الجنة‪ .‬ذلك أن السلم‪ ،‬حسب عقيدتهما "شجرة ل ُتروى إل ّ بالدم"‪.‬‬

‫كان يظن‪ ،‬قبل أن تهديه العروبة كابوسا ً لن يستيقظ منه‪ ،‬أنه صانع الحلم العربية‬
‫الكبيرة‪ ،‬وزعيم أنشأ بملحمتي "الرسالة" و"عمر المختار" حزبا ً من المشاهدين‪ .‬فقد‬
‫سعى دومًا‪ ،‬وهو الناصري حتى العظم‪ ،‬إلى توحيد أمته قوميا ً وتراثيا ً ودينيًا‪ ..‬المة التي في‬
‫م شمله مع ابنته‪ ..‬وأهدته‬ ‫إحدى غارات المسلمين على السلم‪ ،‬استكثرت عليه فرحته بل ّ‬
‫"وحدة الموت"‪.‬‬
‫أما كان نزار على حق عندما صاح من قهره‪:‬‬
‫أنا يا صديقتي متَعب بعروبتي‬
‫فهل العروبة لعنة وعقاب؟‬
‫مثل ابن بلده مصطفى العقاد‪ ،‬نزار السوري القومي الناصري دفع ضريبة عروبته عندما‪،‬‬
‫أيام الحرب اللبنانية‪ ،‬خطف منه الموت العربي الهمجي حبيبته وأم أولده‪ ،‬في إحدى‬
‫غارات العرب على إخوانهم العرب‪ ،‬فسقطت بلقيس قتيلة تحت أنقاض السفارة العراقية‪،‬‬
‫وكتب نزار يومها وهو ينزف ما جال حتما ً في قلب العقاد‪ ،‬خلل يومين وهو في العناية‬
‫الفائقة‪ ،‬قبل أن يعود للحياة ليسأل عن ابنته‪.‬وما كاد يعرف بمصيرها حتى لحق بها‪ ،‬متأثرا ً‬
‫بجراحه وصدمته النفسية‪" :‬ها نحن يا بلقيس‪ /‬ندخل مرة ُأخرى لعصر الجاهلية‪ /‬ها نحن‬
‫ندخل في التوحش‪ /‬والتخلف‪ ..‬والبشاعة‪ ..‬والوضاعة‪ /‬ندخل مرة ُأخرى عصور البربرية‪/‬‬
‫حيث الكتابة رحلة بين الشظّية والشظّية‪ /‬حيث اغتيال فراشة في حقلها صار القضية‪ //‬ها‬
‫نحن نبحث بين أكوام الضحايا‪ /‬عن نجمة سقطت‪ /‬وعن جسد ٍ تناثر كالمرايا‪ /‬ها نحن نسأل‬
‫يا حبيبة‪ /‬إن كان هذا القبر قبرك أنت‪ /‬أم قبر العروبة‪//‬‬
‫بلقيس‪ :‬إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عرب‪ /‬ويأكل لحمنا عرب‪ /‬ويبقر بطننا عرب‪ /‬ويفتح‬
‫ب‪ /‬فكيف نفّر من هذا القضاء؟‪//‬‬‫قبرنا عر ٌ‬
‫لن أقرأ التاريخ بعد اليوم‪ /‬إن أصابعي اشتعلت‪ /‬وأثوابي تغطيها الدماء‪ /‬ها نحن ندخل‬
‫عصرنا الحجري‪ /‬نرجع كل يوم‪ ،‬ألف عام ٍ للوراء!"‪.‬‬
‫كتبت هذه القصيدة سنة ‪ .1982‬ماذا كان في إمكان نزار أن يضيف‪ ،‬لو أنه مازال بيننا‬ ‫ُ‬
‫اليوم؟‬

‫الوقت المناسب‬

‫كثيرا ً ما راودتني الرغبة في التوّقف عن كتابة هذه الصفحة‪ .‬كما مع كل سيجارة‪ُ ،‬تراود‬
‫من يحذره من خطورة‬ ‫ن المدخن وجد َ‬ ‫خن الرغبة في القلع عن التدخين‪ .‬غير أ ّ‬ ‫مد ّ‬‫ال ْ ُ‬
‫التدخين على صحته‪ .‬بل وإرعابه‪ ،‬كما في فرنسا‪ ،‬بكتابة هذا التحذير على علبة السجائر‬
‫نفسها‪ ،‬بخط أحمر كبير‪ُ .‬يعادل حجم حروفه حجم حروف عنوان هذا المقال‪ .‬حتى إّنه‬
‫يغطي ثلثها‪ .‬ولمزيد من الرهاب اختصر التحذير في كلمتين )‪ .(Fumer Tue‬بينما ل أحد‬
‫وع ليكتب على الصفحات البيضاء‪ ،‬التي يجلس أمامها الروائي والشاعر‪ ،‬ليكتب مقاله‬ ‫تط ّ‬
‫السبوعي "الصحافة تقتل"‪ ،‬على الرغم من إدراك الجميع‪ ،‬الكاتب كما القارئ كما رئيس‬
‫ن في هاجس المقال السبوعي الذي ل يكاد ينتهي‬ ‫ن الصحافة تغتال البداع‪ .‬وأ ّ‬
‫التحرير‪ ،‬أ ّ‬
‫ملّية التي‬ ‫ً‬
‫منه صاحبه‪ ،‬حتى يجد نفسه أمام "واجب" المقال المقبل‪ ،‬إجهازا على الحالة التأ ّ‬
‫يحتاج إليها كل عمل كبير‪ ،‬وإطفاء للحريق الذي ل إنجاز إبداعيا ً من دونه‪.‬‬
‫ن الكتابة السبوعية ل توفر شروط البداع للكاتب‪،‬‬ ‫بعض كبار الكّتاب‪ ،‬أدركو باكرا ً أ ّ‬
‫وتشوش أفكاره‪ ،‬وتؤثر في جودة عمله ونوعيته‪ .‬وهي قبل هذا وذاك‪َ .‬تشغل الكاتب عن‬
‫مل شجرة"‪ .‬فما بالك‬ ‫عمر واحد لتأ ّ‬ ‫واجبه التأملي‪ .‬فالكاتب وحده يدري أنه "ل يكفي ُ‬
‫مة‬‫مه ّ‬ ‫مل هذه الغابات والدغال التي نحن محكومون بالعيش فيها‪ ،‬التي يقع على قلمه ُ‬ ‫لتأ ّ‬
‫وصف تماسيحها‪ ،‬وُأسودها‪ ،‬وُقرودها‪ ،‬وحشراتها‪ .‬كما طيورها وصقورها وفراشاتها‬
‫وزهورها البرية‪.‬‬
‫ل موسم أدبي ومع صدور العمال الروائية في فرنسا‪ ،‬وإعلن ترشيحات الجوائز‬ ‫في ك ّ‬
‫دد طرحها على السوق‪ ،‬لجدارتها‪ ،‬وأحيانا ً‬ ‫ً‬
‫الكبرى التي تحوم حولها دائما أسماء عربية‪ ،‬يتر ّ‬
‫مة قاسم مشترك بين معظم هؤلء الكّتاب‪ ،‬هو تفّرغهم لعملهم الدبي‬ ‫لسبب آخر‪ .‬ث ّ‬
‫وهجرانهم الصحافة‪ ،‬بل وتطليقها ثلثا‪ً.‬‬
‫أمين معلوف لم يكتب مقال ً منذ ثلثين سنة‪ .‬مذ كان يعمل مع زوجي في جريدة "أفريك‬
‫طلب منه كتابة تحقيق عن‬ ‫آزي" الفرنسية فيالسبعينات‪ .‬وقع في شرك الرواية عندما ُ‬
‫تاريخ الحرب الصليبية‪ ،‬أفضى به البحث إلى سحر التاريخ‪ ،‬وصنعت منه موهبته وذكاؤه في‬
‫توصيف الحداث التاريخية واحدا ً من أكبر روائيي العالم‪ .‬ما كاد ينجح عمله الّول حتى‬
‫دفع له مقابله‬ ‫مسّرا ً لزوجي بأنه لن يكتب بعد الن مقال ً حتى لو ُ‬ ‫استقال من المجلة‪ُ ،‬‬
‫عشرة آلف فرنك فرنسي‪.‬‬
‫دم مبلغا ً شهريا ً‬ ‫ُ ّ‬ ‫يق‬ ‫فرنسا‪،‬‬ ‫في‬ ‫الناشرين‬ ‫ككل‬ ‫الذي‪،‬‬ ‫ناشره‬ ‫إلى‬ ‫كان في إمكانه الستناد‬
‫محترما ً للكاتب الذي يراهن على نجاحه‪ ،‬مقابل التزام الخير بإنجاز عمل كل سنتين على‬
‫أبعد تقدير‪.‬‬
‫بينما تبدأ مصيبة الكاتب العربي مع الناشرين‪ ،‬حين ينجح‪ .‬وعندما يقع في ضربة حظ على‬
‫ما ُيصّرح له به‪ .‬يقع الثنان في مخالب قراصنة‬ ‫قه ول يطبع أكثر م ّ‬ ‫ناشر أمين ل َيسرق ح ّ‬
‫كتب الذين يترّبصون بكل كاتب ناجح‪ ،‬فيعيدون إصدار كتبه في طبعات مقرصنة في كل‬ ‫ال ُ‬
‫قه وجهده‪ .‬واثقين بعدم قدرته على ملحقتهم‪.‬‬ ‫البلد العربية‪ ،‬سارقين ح ّ‬
‫ّ‬
‫إبراهيم الكوني في انهماكه في كتابة ملحمه الروائية‪ ،‬يرفض حتى الطلع على الصحف‪.‬‬
‫مراهنا ً على قلمه لتجميل صورة‬ ‫فما بالك بالكتابة فيها‪ .‬فالرئيس القذافي يرعاه شخصيًا‪ُ ،‬‬
‫ليبيا في المحافل الدبية‪ .‬كذلك الجزائرية آسيا جبار المرشحة لـ"نوبل" الداب‪ ،‬ومثلها‬
‫ياسمينة خضراء‪ ،‬الضابط الجزائري السابق‪ ،‬الذي طّلق كل شيء ليتزّوج الرواية‪ .‬لكن‬
‫مبهر‪ ،‬صاحب "السم الوردة"‪ ،‬الذي جاء‬ ‫كر امبرتو إيكو‪ ،‬المفكر اليطالي ال ْ ُ‬ ‫أعود وأتذ ّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫متأخرا ً إلى الرواية‪ ،‬حين يقول "أنا راوي قصص أصلح أسلوبي بكتابة المقالت‪ .‬على‬
‫عكسه‪ ،‬أكاد أقول إنني روائية أفسدت لغتها وشاعريتها بكتابة المقالت‪ ،‬على الرغم من‬
‫لمة‪ ،‬وتمرير رسائل مباشرة ل تصلح‬ ‫محاولتي توظيف هذه الصفحة لمواكبة فجائع هذه ا ُ‬
‫صة إلى‬ ‫سئل‪" :‬لماذا هجرت الق ّ‬ ‫"الرواية" ساعي بريد لها‪ .‬إنني كيوسف إدريس‪ ،‬الذي ُ‬
‫المقالت الصحافية؟"‪ .‬فأجاب‪" :‬ل يمكنني أن أجلس لكتابة قصة بينما النار تشتعل في‬
‫ستارة الغرفة!"‪ .‬كان للرجل أولويات مختلفة عن نجيب محفوظ‪ .‬لهذا سرق منه هذا‬
‫ن الصحافة "مملكة الشياء‬ ‫الخير جائزة "نوبل"‪ .‬ذلك أنه لم يكن من الفطنة‪ ،‬لُيدرك أ ّ‬
‫م‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مراسل حربيا‪ ،‬ثــ ّ‬ ‫سريعة الزوال"‪ ،‬ول استفاد من نصيحة همنغواي الذي عمل سنوات ُ‬
‫ملئمة‬ ‫ُ‬ ‫الصحافة‬ ‫ن‬ ‫ّ‬ ‫"إ‬ ‫مصّرحا ً‬ ‫غادر الصحافة إلى عرش الرواية‪ ،‬التي أوصلته إلى "نوبل"‪ُ ،‬‬
‫ي‪ ،‬ولكن عليه أن يعرف كيف يتركها في الوقت المناسب"‪.‬‬ ‫للروائ ّ‬
‫ل ذكاء الروائي في التعّرف إلى الوقت المناسب حين يحيـن!‬ ‫ك ّ‬

‫المطر… دموع الغياب‬


‫رحل الصيف إذن‬
‫ً‬
‫من ُيغادرنا‪ ،‬مرفوقا بموكب من‬ ‫ً‬
‫ن• لكننا نعتقد دوما أّنه َ‬ ‫من جمع حقائبه‪ ..‬بل نح ُ‬ ‫ليس هو َ‬
‫لولى‪ ،‬التي ُتنذر بالمطر الّول‪.‬‬ ‫السحب البيضاء ا ُ‬
‫ّ‬
‫ك‪..‬‬ ‫كـَيـد ٍ ُتلمسك للمرة ا ُ‬ ‫ك‪َ ،‬‬ ‫ُ‬
‫لولى‪ ،‬يعد ُ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ب أّول• ُيباغت ِ‬ ‫المطر الّول‪ ..‬كقبلة أولى‪ ،‬كح ّ‬
‫ك لوحل‬ ‫ك العاطفي‪ ،‬وعليه أل ّ ُيطيل المكوث‪ ،‬حتى ل يترك ِ‬ ‫كم في مزاج ِ‬ ‫ك‪ ..‬يتح ّ‬ ‫يتوع ّد ُ ِ‬
‫الندم‪.‬‬
‫**‬
‫ّ‬
‫ك معطف أو مظلة للحتماء منه‪،‬‬ ‫ك دوما كرجل‪ ..‬يأتي عندما ل يكون ل ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫مطُر ُيغافل ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ل من الدموع‪.‬‬ ‫ك بواب ٍ‬ ‫ض علي ِ‬ ‫ك تحت سماء تنق ّ‬ ‫فتختبرين غبطت ِ‬
‫ّ‬
‫ملة‪ ،‬حائرة‪ :‬كيف تعّبين ماء السماء كله‪ ،‬في قلب فاض به‬ ‫َ‬ ‫مشدوهة‪ ،‬منبهرة‪ ،‬عزلء‪ ،‬ث َ ِ‬
‫الشجن؟‬
‫ل هذا المطر الذاهب صوب عروق الرض‪ ..‬ل يكفي لطفاء نــار قلب صغير؟‬ ‫أك ّ‬
‫**‬
‫ك بصيف باذخ البهجة‪ ،‬نضجت الغيوم‪ ،‬واستوى الحزن‪ ،‬وآن‬ ‫ك يا امرأة‪ ..‬وانشغال ِ‬ ‫أثناء غياب ِ‬
‫للشوق أن يهطل‪ ..‬المطر دموع الغياب•‬
‫لعّله ذلك الرجل‪.‬‬
‫ك‪.‬‬
‫ل‪ ،‬فتهطل نظراته على امرأة سوا ِ‬ ‫لعّلها عيناه حين ُتمطران فضو ً‬
‫ُ‬
‫ك؟‬‫مخيف‪ :‬ماذا تراه يفعل صباح خريف من دون ِ‬ ‫لعّله الخريف‪ ..‬وذلك السؤال النثوي ال ُ‬
‫ْ‬
‫ك زوابعه؟‬ ‫ظ رذاذ طيف ِ‬ ‫وفي المساء‪ ..‬أترتجف شراشف نومه؟ أيوقِ ُ‬
‫**‬
‫جل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫على‬ ‫مقبل‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫الشتاء‬ ‫له‬ ‫ّ‬ ‫لع‬
‫ك من مخزون الغيوم العربّية‪.‬‬ ‫ل ما اجتمع في صدر ِ‬ ‫ت ُتريدين‪ ،‬في ليلة واحدة‪ ،‬إنفاق ك ّ‬ ‫وأن ِ‬
‫ف على المطر‪ ،‬وعلى رجل ل تدرين إلى أيّ حزب تنتمي غيومه‪ ،‬كي‬ ‫ك وق ٌ‬ ‫ِ‬ ‫حزن‬ ‫ن‬‫لكأ ّ‬
‫مي إلى فصيلة الحقول التي تناضل منذ الزل‪ ..‬كي على تربتها يهطل‪.‬‬ ‫تنض ّ‬
‫**‬
‫ك الليلة أن تختبري تجّني المطر على‬ ‫ك‪ ،‬وفي إمكان ِ‬ ‫هو الخريف يحشو غليونه بغيوم تنهدات ِ‬
‫ب‪ ،‬ويلهو بجرف دموع‬ ‫ّ‬ ‫للح‬ ‫الشاهقة‬ ‫رات‬ ‫ّ‬ ‫المج‬ ‫في‬ ‫شاق‪ ،‬عندما يرّتب لبعضهم موعدا ً‬ ‫الع ّ‬
‫الخرين‪ ..‬إلى المجاري‪.‬‬
‫ق‪ ،‬يواجهون وحيدين سادّية الشتاء‪.‬‬ ‫شا ٍ‬ ‫يا لفاجعة ع ّ‬
‫ت بنا؟‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫أيتها السماء الباكية صيفا‪ ..‬أل ترأفــ ِ‬
‫دنا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ض‬ ‫الكون‬ ‫تآمر‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫أمطر‬ ‫لما‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫الغياب‪،‬‬ ‫مبّللة ترتجف على شجرة‬ ‫عصافيُر ُ‬
‫أين تعّلمت الرقص‪ ..‬أّيها الشهيد الوسيم؟‬

‫ت إلى ما بعد مقال ً آخر كنت سأكتبه عن‬ ‫جل ُ‬ ‫بسبب زحمة الموت التي ُنعانيها هذه اليام‪ ،‬أ ّ‬
‫ملت في تفاصيل‬ ‫قاد‪ ،‬أو بالحرى ما طفح به قلبي من تأ ّ‬ ‫"سّيد التفاصيل" مصطفى الع ّ‬
‫وضهم ُأمتنا ولو مضت عليها عقود من‬‫ّ‬ ‫تع‬ ‫لن‬ ‫جالت‬ ‫َ‬ ‫بر‬ ‫يفتك‬ ‫الذي‬ ‫ي "الحديث"‪،‬‬ ‫الموت العرب ّ‬
‫الزمان‪ ،‬اعتدنا أن نستيقظ على رحيلهم الدامي‪ ،‬نراهم يعبرون بكثافة الصحف‬
‫والفضائيات‪ ،‬خبرا ً عاجل ً يدور مع شريط الفواجع اليومّية‪ .‬ليام يغدون فتيان الشاشة‪،‬‬
‫ونجوم الموت‪ ،‬ووليمة إعلمّية‪ ،‬يتسابق الجميع إلى نشر صورهم و"آخــر" مقابلت‬
‫ن لم تكن ذكراهم مسنودة‬ ‫يإ ْ‬‫م نراهم يسقطون في النسيان الضوئ ّ‬ ‫صحافية أعطوها‪ ،‬ث ّ‬
‫إلى إمبراطوريات إعلمّية‪ .‬ذلك أن الصحافة تحتاج إلى "دم جديد"‪ .‬خاصة من فصيلة‬
‫خ العلم به‪ .‬فبفضل‬ ‫سب َا ً للثواب‪ ،‬إلى ض ّ‬
‫"ألف الرهاب"‪ ،‬وهو دم يتسابق الرهابيون‪ ،‬ك ْ‬
‫درون الخبار العالمّية‪ ،‬ومن دونها كان حضورهم‬ ‫م من الدماء البريئة المهدورة يتص ّ‬ ‫ذلك الك ّ‬
‫سينطفئ وجهلهم سينفضح‪.‬‬
‫جب ََناء‪ ،‬هنا وهناك‪،‬‬ ‫قت ََلة ال ُ‬ ‫ما وقد سقط جبران تويني بسلح الغدر نفسه‪ ،‬الذي يحتكره ال َ‬ ‫أ َ‬
‫م أعود له‪ ،‬وفي جميع‬ ‫قاد أن ينتظر إلى أن أنتهي من رثــاء جبران‪ ،‬ث ّ‬ ‫فبإمكان مصطفى الع ْ‬
‫من تله في قائمة‬ ‫الحالت انتهى أمره إعلميًا‪ ،‬وحان لصوره أن تختفي‪ ،‬لتترك مكانها ل َِ‬
‫الموت‪.‬‬
‫ألم يشغل هو نفسه الصدارة على حساب آخرين سبقوه؟ وأكاد أجزم بإحساسه بالذنب‬
‫تجاه سمير قصير وجورج حاوي ومـي شدياق في مأساتها البدّية‪.‬‬
‫ما‬
‫ّ‬ ‫م‬ ‫أكثر‬ ‫بته‬‫ّ‬ ‫أح‬ ‫فقد‬ ‫له‪.‬‬ ‫ب الحياة‬ ‫لنكن واقعيين‪ ،‬جبران تويني كان منذورا ً للموت لفرط ح ّ‬
‫ً‬
‫ة وثراًء وحب ّا‪ ،‬وعائلة‬ ‫جاهَا ً وكفاءة ً وثقاف ً‬ ‫ةو َ‬ ‫أحّبها‪ .‬كانت سخّية معه‪ .‬أغدقت عليه وسام ً‬
‫استثنائية‪.‬‬
‫ن الحياة كانت ُتحّرض الموت عليه‪ ،‬وُتغريه‬ ‫مدلـل‪ .‬لكأ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ب )الحــزن؟( ال ُ‬ ‫حــ ّ‬ ‫هو فتى ال ُ‬
‫ن‬
‫ّ‬ ‫ونزعته‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫كيده‬ ‫الناث‬ ‫من‬ ‫له‬ ‫لــذا‬ ‫مؤنث‪،‬‬ ‫اللتينية‬ ‫اللغات‬ ‫في‬ ‫فالموت‬ ‫منها‪.‬‬ ‫بخطفه‬
‫الجامحة إلى الستحواذ‪ ..‬ولو بجثمان‪.‬‬
‫"الضحّية ليست بريئة من دمها"‪ ،‬وما كان جبران بريئا ً من وسامته‪ ،‬ول من شجاعته‪ ،‬ول‬
‫طرف الخر‪،‬‬ ‫عَناده وإصراره على حمل المشَعل في مسيرات‪ ،‬يواجهه فيها على ال ّ‬ ‫من ِ‬
‫مفخخة‪.‬‬ ‫حاملو المتفجرات وقادة السيارات ال ُْ‬
‫مهِ الذي‬ ‫س ِ‬
‫ق َ‬‫دي‪ ،‬وَب ِ َ‬ ‫قت ََلة أغراهم برفع التح ّ‬ ‫ديه ال ْ َ‬ ‫بوسامته فتح شهّية الموت لفتراسه‪ ،‬وبتح ّ‬
‫ي إلى رمــز تاريخي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫برلمان‬ ‫نائب‬ ‫من‬ ‫بتحويله‬ ‫التاريخ‬ ‫ي أغرى‬ ‫دا أشهر من النشيد الوطن ّ‬ ‫غــ َ‬ ‫َ‬
‫حَرتــه‬ ‫ً‬
‫سم الذي رفعه رايــة وطنّيـة‪ ،‬ودستورا لشعب ن َ َ‬ ‫ق َ‬ ‫ْ‬
‫ستعيش أجيال بعده على العهد وال َ‬
‫الطائفّية‪.‬‬
‫مـل الموت‬ ‫في منتصف قافلة الشهداء‪ ،‬مضى جبــران‪ُ ،‬يزّيـن موكـب الراحلين‪ُ ،‬يج ّ‬
‫قـًا؟‬ ‫مـل بعده ح ّ‬ ‫للشعراء والحالمين والشرفاء‪ .‬مضى ليختبر الحياة التي أحّبته‪..‬هل ستتر ّ‬
‫طى بـ"الوركيديا" البيضاء‪ ،‬والوشاح‬ ‫مغ ّ‬ ‫ف للموت عريسا ً ُ‬ ‫صَباَيــا‪ُ ،‬ز ّ‬ ‫الرجل الذي تمّنته ال ّ‬
‫ف رفاقه‪،‬‬ ‫ه المحمول على أكـ ّ‬ ‫ُ‬ ‫شـ‬ ‫ُ‬ ‫ع‬
‫َْ‬ ‫ن‬ ‫والرز‪.‬‬ ‫الورد‬ ‫عليه‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫شرفاته‬ ‫ُ‬ ‫من‬ ‫الحمر‪ ،‬ون َث ََرت النساء‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫وة الّرفاق‪ ،‬رقص طويل في عرس زفافه إلى الوَطــن‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫بعدما لم يترك له الموت سوى أخــ ّ‬
‫دا كأّنه ي َد ُْبــك وهو يمّر أمام صرح جريدة "النهــــار"‪ .‬ما رأى الموت قبل جبــران‬ ‫وب َ َ‬
‫ل هذه الرشاقة والعنفوان‪ .‬أين تعلمت الرقص أّيها الشهيد الوسيم؟‬ ‫ّ‬ ‫شــا يرقص بك ّ‬ ‫ً‬ ‫ن َعْ َ‬
‫ك موتـــًا؟ يا‬ ‫ريَنا بالرقص مع َ‬ ‫ُ ِ‬ ‫تغ‬ ‫و‬ ‫كينا‬ ‫تب‬
‫َْ ٍ ُ ِ‬ ‫ش‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫في‬ ‫المجموعة‬ ‫أشلؤك‬ ‫قص‬ ‫ُ‬ ‫تر‬ ‫عندما‬ ‫ولماذا‬
‫شـرفــاء!‬ ‫ك كم يشتهيها ال ّ‬ ‫لجنازت َ‬
‫مال لبنان‪ .‬كم كان‬ ‫ج َ‬
‫كــر لقائي الّول مع جبــران‪ .‬كّنا يومها ضمن لجنة اختيار ملكة َ‬ ‫أذ ُ‬
‫صَباَيــا‪ .‬أزعجني ُبخلــه بقدر ما أزعجه سخائي مع‬ ‫ضِنيَنـا في منح نقاطه لل ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫صارما و َ‬
‫ت‬‫ُ‬ ‫أدرك‬ ‫كـــة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫لــق"‬ ‫ُ‬ ‫بح‬ ‫ُ‬ ‫بـ"جويــل‬ ‫بـل‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ا‪،‬‬‫ً‬ ‫أخير‬ ‫م‬
‫ّ‬ ‫ثـ‬ ‫مال‪.‬‬ ‫َ َ‬‫ج‬ ‫ال‬ ‫عرش‬ ‫على‬ ‫سـات‬ ‫متنافِ َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫بعدها‪ ،‬وهو يختار بطلـة الَعــَرب في الفروسّية وركوب الخيل زوجة له‪ ،‬أنه أعمق من أن‬ ‫َ‬
‫مـل امـرأة بكلمة‪ ،‬أو بابتسامة واعدة‪،‬‬ ‫مال المعروض للفرجة‪ .‬صحيح أنه قد ُيجا ِ‬ ‫ج َ‬‫ُيغريــه ال َ‬
‫ص سوى زوجته بأغنية‪ .‬ولسهام وحدها غّنى يوم زفافها إليه "لوف مي تندر‪..‬‬ ‫ُ‬
‫لكنه ل يخ ّ‬
‫لوف مي سويت"‪.‬‬
‫شه؟‬ ‫ف ُترّقص ن َعْ َ‬ ‫ماذا ُتــراه كان ُيغّني لعروسه الخيرة‪ ..‬والكــ ّ‬
‫مباهج نهايات السنة العربّية‬
‫ج من هول عناوينها‪.‬‬ ‫ت عن متابعة أخبار العراق بعد أن تجاوزني مصابها‪ ،‬لكنني لم أن ُ‬ ‫أقلع ُ‬
‫ُ‬
‫ك بذبحة قلبّية‪ ،‬عندما تقرأها على الشاشة أو تقع عليها مجتمعة‬ ‫عناوينها وحدها كافية لقتل َ‬
‫في جرائد السبوع‪ ،‬التي فاتتك مطالعتها‪.‬‬
‫ل‪ ،‬وأضعاف هذا العدد من الجرحى‪ ،‬وقعوا في يوم واحد ضحايا‬ ‫وروا مئة وعشرين قتي ً‬ ‫تص ّ‬
‫سلسلة تفجيرات انتحارية‪ ،‬استهدف أحدها مجلس عزاء‪ ،‬وآخر زّوار مرَقد المام الحسين‪،‬‬
‫وثالث خط أنابيب رئيسيا ً للغاز‪ .‬أيّ مسلمين هم هؤلء؟ وأّية قضّية هي هذه التي ُيداَفع‬
‫من سبق للموت أن سرقهم منهم؟‬ ‫دعون َ‬‫عنها بنسف وطن‪ ،‬وسفك دماء البرياء وهم يو ّ‬
‫إنها مباهج نهايات السنة العربّية!‬
‫ً‬
‫عنوان آخر ُيذهلك وُيجهز على عروبتك‪ :‬ستة وعشرون قتيل من بين "الخوة السودانيين"‬
‫سقطوا في مواجهة مع قوات المن المصرية‪ ،‬لزاحتهم من الحديقة المواجهة لمبنى‬
‫وضّية الُعليا للجئين التابعة للمم المتحدة‪ ،‬التي اعتصموا فيها منذ أيام‪ ،‬وانتهت جثثهم‬ ‫المف ّ‬
‫وة النسانية فحسب‪ ،‬بل العربّية أيضًا‪ .‬فـ"الخوة‬ ‫في مستشفيات القاهرة‪ ،‬ل باسم ا ُ‬
‫لخ‬
‫ّ‬
‫حّلت مشكلتهم‬ ‫السودانيون"هي الصفة التي أطلقها عليهم بيان الداخلية المصرية‪ ،‬بعد أن ُ‬
‫م نقل المئات عنوة إلى أماكن ُأخرى‪.‬‬ ‫النسانية بإلقاء جثثهم في البّرادات‪ ،‬بينما ت ّ‬
‫َ‬
‫حدث هذا في "ليلة رأس السنة"‪ ،‬أثناء انشغال العالم عّنا بمباهج الساعات الخيرة‪ .‬فهذه‬
‫الليلة التي يتخذها الناس فسحة للتمّني‪ ،‬ويجعلونها عيدا ً للرجاء بتغيير نحو الفضل‪ ،‬تغدو‬
‫ي فيها البقاء على قيد الحياة‪ ،‬ليس أكثر‪ ،‬حتى وإن كانت حياته ل تعني‬ ‫أمنية النسان العرب ّ‬
‫كان المعمورة الذين اعتادوا على أخبار‬ ‫شيئا ً بالنسبة إلى وطنه أو "أشقائه"‪ .‬فما بالك بس ّ‬
‫مذابحه‪ ،‬ومسالخه وشللت دمه‪.‬‬
‫ُتشير دراسة لمنظمة مستقّلة لحقوق النسان‪ ،‬إلى أن أكثر من ‪ 95‬في المئة من‬
‫العراقيين ل يعرفون ماذا يجري في بغداد بعد منتصف الليل منذ أكثر من سنتين‪ ،‬ونسبة‬
‫ضلون عدم الخروج من منازلهم بعد الخامسة مساء‪ ،‬تاركين‬ ‫تصل إلى ‪ 50‬في المئة يف ّ‬
‫قت َلة واللصوص‪.‬‬‫َ‬ ‫لمراء الليل من ال َ‬‫المدينة ُ‬
‫وروا كيف قضى العراقيون "ليلة رأس السنة"‪ .‬التي يجد فيها الرهابيون‬ ‫وعليكم أن تتص ّ‬
‫در الخبار العالمّية‪ ،‬لول‬ ‫ً‬
‫مناسبة إعلمية نادرة لقصف العمار وقطع الرؤوس‪ ،‬طمعا في تص ّ‬
‫م‪ ،‬حسب سّلم القيم والهتمامات‬ ‫ن العالم كان مشغول ً عن إنجازاتهم الجرامّية بخبرأ ٍ أه ّ‬ ‫أ ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫النسانية للمواطن الغرب ّ‬
‫من لهم صدارة الصحف في "ليلة رأس السنة"‪ .‬كانت‬ ‫ّ‬ ‫تؤ‬ ‫أن‬ ‫ما استطاعت جرائمهم‬
‫لولى في كثير من الصحف الغربية )حسب وكالة رويتر(‪ ،‬محجوزة لفاجعة طائر‬ ‫الصفحة ا ُ‬
‫سرق من حديقة‬ ‫بطريق صغير‪ ،‬أعلنت الشرطة البريطانية خشيتها على مصيره‪ ،‬بعد أن ُ‬
‫حيوان بريطانية قبل ‪ 5‬أيام‪ .‬الصحافيون )الذين نخطفهم ونقتلهم عندما يأتون لتصوير‬
‫فل القوات الميركية بقصف فندقهم حال وصولهم( سارعوا‬ ‫موتانا وثكالنا‪ ،‬هذا عندما ل تتك ّ‬
‫ن لحيواناتهم‬‫أفواجا ً إلى حديقة الحيوانات للتقاط صور لبويه "أوسكار" و"كيال" )لحظوا أ ّ‬
‫أسماء‪ ..‬بينما لموتانا أرقام(‪ .‬وقد أدمى قلوب محبي الحيوانات في أنحاء العاَلم صورة‬
‫البوين اللذين مزقهما الحزن على فقدانهما صغيرهما الذي ل يتجاوز شهره الثالث‪ ،‬حتى‬
‫مصّلين في كنيستين في أميركا صّلوا من أجل الصغير "توغا"!‬ ‫ن ُ‬‫إ ّ‬
‫من يشك في إنسانية الشعب الميركي وتقواه‪ ،‬وفي سذاجة الشعب‬ ‫فهل ليزال بينكم َ‬
‫السوداني وغبائه؟ فاللفا لجئ الذين اعتصموا في الحديقة المواجهة لمبنى المفوضّية‬
‫العليا للجئين‪ ،‬كان عليهم أن يلجأوا إلى حديقة الحيوان البريطانية‪ .‬فربما كانوا سيحصلون‬
‫كحيوانات على حقوق‪ ،‬ما كانوا في جميع الحوال أن يحصلوا عليها كبشر خذلتهم‬
‫الجغرافيا‪.‬‬
‫كانوا موعودين بمساعدات‪ ،‬على هزالها‪ ،‬كانت ستغّير حتى حياتهم‪ ،‬حياتهم التي تساوي‬
‫رصاصة في شارع عربي‪ ،‬ول تساوي ثمن طلقة سهم ناري عمره دقائق‪ ،‬يطلق في شارع‬
‫أوروبي• ذلك أن في "ليلة رأس السنة" نفسها التي سقطوا فيها كان اللمان وحدهم‬
‫"يفرقعون" في الهواء ‪ 154‬مليون دولر ثمن ألعاب نارية‪ ،‬ابتهاجا ً بالعام الجديد‪.‬‬
‫عـــاما ً سعيدًا‪" ..‬أشقاءنــا"‪ ،‬شهداء "ليلة رأس السنة"!‬

‫انشغلوا•• تسعدوا‬

‫ها نحن في الشهر الثاني‪ .‬انحسرت موجة الماني ونحن نقضم هذا العام شهرا ً شهرًا‪.‬‬
‫من يقضم عمرنا أثناء جلوسنا على مائدة وعوده‪.‬‬ ‫ولعّله هو َ‬
‫ّ‬
‫ن السعادة مطلب مرهون بالعياد والمناسبات‪ ،‬التي ُتذكرنا بفداحة خساراتنا السابقة‪،‬‬ ‫لكأ ّ‬
‫ت أكثر بهجة‪.‬‬‫ٍ‬ ‫بأوقا‬ ‫نينا‬
‫وُتم ّ‬
‫خر‪ ،‬نقع عليه عندما نكون قد خسرناها‪ .‬إنها‬ ‫آن لنا أن نعي أن السعادة اكتشاف متأ ّ‬
‫معّلقا ً على‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫عصفور‬ ‫تكون‬ ‫أن‬ ‫السعادة‬ ‫در‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ا•‬‫الفردوس المفقود حينًا‪ ،‬والموعود غالب ً‬
‫أغصان الذكرى‪ ،‬أو على شجرة الترّقب‪ .‬وذلك الحمق الذي قال‪" :‬عصفور في اليد أفضل‬
‫ظف بنك‪ ،‬يعمل في رصد هّزات‬ ‫من عشرة على الشجرة"‪ ،‬أظّنه كان طّباخا ً أو مو ّ‬
‫ن السعادة‪ ،‬هي المسافة الفاصلة بينه وبين الشجرة‪ ،‬ل‬ ‫البورصة‪ ،‬فلو كان شاعرا ً لدرك أ ّ‬
‫أكثر‪ .‬إنها طائر على أهبة الفلت من يدنا عند أول سهو‪ .‬لذا‪ ،‬كي نكون أهل ً لها‪ ،‬علينا أن‬
‫ددة‪ ،‬وفرحة منهوبة‪ ،‬غافْلنا الزمن لنسرفها من قبضته‪.‬‬ ‫نعيشها كلحظة مه ّ‬
‫البعض‪ ،‬يتسّلق شجرة المصادفة‪ ،‬ويتعّلق بأغصانها على أمل قطف ثمار البهجة من قبل‬
‫ن كانت قد نضجت‪ .‬وقد يقع أرضا ً وُيصاب بكسر ما‪ ،‬أثناء مطاردته طائرا ً لن‬ ‫كد إ ْ‬‫أن يتأ ّ‬
‫ط ذلك الطائر على درابزين شرفته‪ ،‬أو‬ ‫يمسك به في جميع الحالت ثم‪ ،‬يحدث يوما ً أن يح ّ‬
‫يذهب حد ّ تناول ما تساقط أرضا ً من فتات عند أقدام مائدته‪ ،‬وتغدو السعادة عندئذ‬
‫مرهونة بفطنة المرء‪ ،‬وتنّبهه إلى وجودها‪ ..‬عند قدميه!‬
‫من هنا جاءت نصيحة أحد الحكماء‪" :‬السعادة في بيتك‪ ،‬فل تبحث عنها في حديقة‬
‫الخرين"‪ .‬ذلك أننا كثيرا ً ما ل نتنّبه إلى الشياء التي تصنع سعادتنا‪ ،‬لمجّرد أنها في متناولنا‪،‬‬
‫وملك يدينا‪ .‬وننصرف عنها إلى مراقبة وتمّني ما هو في حوزة الخرين‪ ،‬بينما معجزة‬
‫دد بالزوال‪ .‬بدل هدر‬ ‫السعادة‪ ،‬تكمن في مواصلة اشتهاء ما نملك‪ ،‬والحفاظ عليه كأنه مه ّ‬
‫العمر في مطاردة ما قد يصنع تعاستنا إن نحن حصلنا عليه‪.‬‬
‫لولى أل ّ تحصل‬ ‫ل أمنية‪ ،‬يحضرني قول أوسكار وايلد‪" :‬ثمة مصيبتان في الحياة‪ :‬ا ُ‬ ‫أمام ك ّ‬
‫ّ‬
‫على ما تريد‪ .‬والثانية أن تحصل عليه!"‪.‬‬
‫مقنا فيها‬ ‫ّ‬ ‫تع‬ ‫إن‬ ‫التي‬ ‫الخر‪،‬‬ ‫البعض‬ ‫بمكاسب‬ ‫بعضنا‪،‬‬ ‫في هذه الحكمة ما يواسي خسارات‬
‫وجدناها ضربا ً من ضروب الخسارة الباذخة‪.‬‬
‫م إعدادها في إسبانيا‪ ،‬بعد متابعة‬ ‫ددًا‪ ،‬في إحدى الدراسات النسانية التي ت ّ‬ ‫مج ّ‬
‫الدليل جاءنا ُ‬
‫ن "الشباب‬ ‫ً‬
‫متأنية لحياة ثلثمئة ثريّ إسباني• صعقتنا النتيجة فرحا‪ ،‬نحن التعساء‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫حة والوظيفة والملمح الجميلة والسيارة الفارهة‪ ،‬كّلها ل تجعل النسان سعيدًا"‪ .‬ولو‬ ‫والص ّ‬
‫ُأجريت هذه الدراسة في "موناكو" لكان أميرها وأميراتها دليل على ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫أكد الثرياء الثلثمئة أنهم ل يشعرون بالسعادة والمان‪ ،‬لعلمهم أن إعجاب الناس بهم يعود‬
‫ن المباهج البسيطة للحياة اليومية هي ما يفتقدونه‪ ،‬بسبب‬ ‫لكونهم أغنياء فقط‪ ،‬مؤكدين أ ّ‬
‫الثراء الفاحش الذي ُيعّرضهم لمستويات عالية من القلق‪ ،‬لعلمهم أن القارب والصدقاء ل‬
‫يفكرون سوى في استغللهم‪.‬‬
‫دف قول الشاعر‪:‬‬ ‫اعتراف يجعلنا‪ ،‬لفظاعته‪ُ ،‬نص ّ‬

‫من لقيت يشكو دهره‬ ‫"كل َ‬


‫ليت شعري هذه الدنيا لمن؟"‬

‫وماذا لو كانت الدنيا للذي يملك القل؟ إحصائية عالمية ُأخرى ُأجريت في اثنين وعشرين‬
‫بلدًا‪ ،‬انتهت إلى كون عوامل السعادة التي نالت أكثر الّنسب‪ ،‬انحصرت في عاملي ا ُ‬
‫لسرة‬
‫والصداقة‪ ،‬وتساوى فيها تأثير الفقر والغنى‪.‬‬
‫مفاَرَقــة جاءت من وجود الشعب الهندي في المرتبة الثانية بعد الشعب الميركي‪،‬‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫متقدما على غيره من الشعوب السيوية والوروبية‪ ..‬ولم أجد تفسيرا لسعادة مليين‬
‫الجياع والفقراء في الهند‪ ،‬إل ّ في قول جيمس بروير‪" :‬السعادة إحساس تحصل عليه‬
‫ل‪ ،‬لدرجة ل تستطيع معها أن تحزن"‪ .‬فانشغلوا‪ ..‬تسعدوا!!‬ ‫عندما تكون مشغو ً‬
‫هودج الوعد الذي قد يحمُلك‬

‫ن تمشي‬‫حس ِ‬ ‫مفرطا ً في ال ُ‬ ‫ُ‬


‫ك قلبي‬ ‫نعل ُ َ‬
‫ك‬‫ن ل قلب ل ْ‬ ‫كأ ْ‬
‫ك تشي‬‫ةب َ‬ ‫فتن ٌ‬
‫ك‬‫من صادف عيني َ‬ ‫ل َ‬ ‫ك ّ‬
‫هَل َ ْ‬
‫ك‬

‫**‬

‫حسنك‬ ‫يا ل ُ‬
‫ي‬‫ن عل ّ‬‫حز َ‬‫ض ال ُ‬
‫حّر َ‬
‫م نساٌء‬ ‫ك ْ‬
‫ن غباُر خيل ْ‬
‫ك‬ ‫فاته ّ‬
‫ن من قبل ُبلوغ شفتي ْ‬
‫ك‬ ‫مت َ‬‫ِ‬

‫**‬

‫كيف لي‬
‫ك‬‫أن أكون ِغمدا ً لسيف َ‬
‫هودج الوعد الذي‬
‫ك‬‫قد يحمل ُ ْ‬
‫فرسا ً تصهل في مربط قلب ِ ْ‬
‫ك‬
‫ب‬
‫أنثى ريح الرك ِ‬
‫أّنـى وجهت ُ ْ‬
‫ك‬

‫**‬

‫قل يا رجل‬
‫إلى أّية غيمةٍ‬
‫تنتمي شفتا ْ‬
‫ك‬
‫كي ُأساِفر في حقائب مطرك‬
‫وأح ّ‬
‫ط‬
‫ل‬ ‫ُ‬
‫ث تهط ْ‬ ‫حي ُ‬

‫**‬

‫ت‬
‫مقبل أن َ‬
‫ُ‬
‫مدبٌر‬
‫وعمري ُ‬
‫ن في الوهم قلبي‬‫طاع ٌ‬
‫قبلك ما عشق‬

‫من القصائد التي لحنتها وغنتها المطربة جاهدة وهبي‪ .‬تصدر قريبا ً في أسطوانة مدمجة‬
‫خاصة بنصوص المؤلفة‪.‬‬

‫شوكول الدب‪ ..‬وقّلة أدب الشوكول‬

‫ت زوجي بطبق الـ)‪ ،( OSSO BUCCO‬إل ّ وأسرع بي إلى‬ ‫لم يحصل في الماضي‪ ،‬أن طالب ُ‬
‫ي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بصب‬ ‫حبلى‬ ‫مطعم إيطالي‪ ،‬لعلمه أنني حتما ً‬
‫وفي السنوات الخيرة‪ ،‬ما أضفت إلى قائمة المشتريات اليومية للبيت كلمة "شوكول"‬
‫ي"‪ .‬هكذا‪،‬‬ ‫مي الدب ّ‬ ‫ح ِ‬
‫حتى استنتج أنني أنتظر رواية‪ ،‬بعدما أصبحت الشوكول أحد أعراض "وَ َ‬
‫اعتاد مع إحضاره الخضار واللحم والحليب وصابون الجلي ورغيف الخبز الفرنجي‪ ،‬أن‬
‫ل صباح على مكتبي كي يزّودني بمحروقات الكتابة‬ ‫يحمل لي لوحا ً من الشوكول‪ ،‬يضعه ك ّ‬
‫ووقودها‪ ،‬مضيفا ً وردة "غاردينيا" يقطفها من حديقة البيت‪ ،‬ضاحكا حتما في سّره‪ ،‬لكوني‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كر‪.‬‬‫الزوجة التي ل ُيكّلف إسعادها شيئا ً ُيذ َ‬
‫كم فيه إل ّ الشوكول‪ ،‬وسعادتي مرهونة بطعمها السود المّر‪.‬‬ ‫ن مزاجي لتتح ّ‬‫الواقع‪ ،‬أ ّ‬
‫كر يوما ً‬ ‫وبرغم كوني سافرت كثيرا ً إلى سويسرا‪ ،‬وأهداني الصدقاء أفخم أنواعها‪ ،‬لم أتن ّ‬
‫دة‪ ،‬لم نكن نعرف غيرها‪،‬‬ ‫لشوكول طفولتي‪ .‬وكانت بسيطة سوداء‪ ،‬في لوح من أصابع ع ّ‬
‫ول نحلم بسواها مكافأة عند عودتنا من المدرسة‪.‬‬
‫حرت على الشوكول‬ ‫ن شهيتي للكتابة تزداد في شهر رمضان‪ ،‬حدث أن أفطرت وتس ّ‬ ‫ول ّ‬
‫وعلى حّبات تمر وشيء من الحليب‪ ،‬ومازلت أذكر زمن كتابتي "عابر سرير"‪ .‬فقد كنت‬
‫أضع زادي من الشوكول على مكتبي‪ ،‬ول ُأغادر غرفتي إل ّ ساعة الفطار لسأل زوجي‬
‫سؤالين‪" :‬هل عثروا على أسامة بن لدن؟"‪ .‬فُيجيب "ل"‪ ..‬و"هل تزّوج الحاج متوّلي بزوجة‬
‫مة العربّية‪ ..‬أعود لوراقي‬ ‫ُ‬
‫جديدة؟"‪ ،‬فيرد ّ "نعم"‪ .‬وبعدما أكون قد اطمأننت إلى مصير ال ّ‬
‫لطمئن على مصير أبطالي‪.‬‬
‫وتي‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫منذ فترة عادت الشوكول تتحكم في مزاجي الروائي‪ ،‬واحتجت إلى مزيد من "ب َل َ‬
‫ل هذا وسط‬ ‫السوداء"‪ ،‬بسبب انهماكي هذه المّرة في كتابة روايتين في الوقت نفسه‪ ،‬ك ّ‬
‫زحمة أسفاري وهروب شّغالتي‪ ،‬وورشة البيت الذي أعدت "نفضه" عن بكرة أبيه‪ .‬لن‬
‫أقول لكم أكثر‪ ،‬فأنا أحب أن أضع مولودي سّرا ً على طريقة القطط‪ ،‬وكالقطة أقضي ّ‬
‫دة‬ ‫م‬
‫ما قبل الوضع "حايصة" أبحث عن مكان دافئ وصغير يليق بحميمّية الولدة‪ .‬حتى إنني‬
‫ي في غرفة شّغالتي‪ ،‬بينما لم تحلم القطط سوى‬ ‫كثيرا ً ما حلمت بوضع مولودي الدب ّ‬
‫ن قطة كانت في بيتنا‪ ،‬راحت ُتجّرب تارة سريري‪ ،‬حيث‬ ‫بوضع صغارها في مكتبي‪ ،‬حتى إ ّ‬
‫أكتب‪ ،‬وتارة جوارير الخزانة‪ ،‬كلما تركت أحدها مفتوحًا‪ .‬وفاجأتها مّرة وهي تنام على فرو‬
‫كنت أخبئه أعلى الخزانة‪ ،‬ولم أفهم ما بها‪ ،‬حتى فاجأتني بوضع صغارها الخمسة في‬
‫سريري‪.‬‬
‫ول على مدى أسبوع إلى حضانة‬ ‫ن البركة حلت يومها في مكتبي‪ ،‬عندما تح ّ‬‫ّ‬ ‫وأعتقد أ ّ‬
‫للهررة‪ ،‬واستحققت عن جدارة لقب "ُأم هريرة"‪ ،‬الذي كان ُيداعبني به زوجي‪ ،‬أو‬
‫ميني أخته‪ ،‬قبل أن يمنعني مواء القطة وصغارها من‬ ‫"بريجيت باردو الحي"‪ ،‬كما كانت ُتس ّ‬
‫العمل‪ ..‬أو النوم‪ ،‬فأضطر إلى نقلها وإّياها إلى مكان آمن في الحديقة‪ ،‬وأعود لكتابة‬
‫"فوضى الحواس"‪.‬‬
‫ربما عدت‪ ،‬لحدثكم ذات مّرة عن علقة المبدعين بالقطط‪ ،‬وكذلك بالشوكول التي يبدو‬
‫أنها تركت بصماتها السوداء على بعض النصوص الدبية‪ .‬ولنني ُبليت بها فأنا ل أنفك عن‬
‫صص لدراسة فوائدها ومصائبها‪ ،‬وكنت‬ ‫ملحقة أخبارها‪ .‬وقرأت مؤخرا ً عن مؤتمر طبي ُ‬
‫خ ّ‬
‫كدها المؤتمر‪ ،‬مساعدتها على التغّلب على الشجون العاطفّية‪.‬‬ ‫أعرف لها قبل ذلك فائدة أ ّ‬
‫فكثيرا ً ما نصحت صديقاتي بتناولها أثناء القطيعة والمآسي العشقّية‪ ،‬لنها تمنحنا مزاجا ً‬
‫ل‪ ،‬وُتساعدنا على مقاومة الكآبــة‪ ،‬والحباط العاطفي‪ .‬الخبر الجديد هو اختراع لصقة‬ ‫جمي ً‬
‫ُ‬
‫حة في تناول الشوكول‪) ،‬ورغبات أخرى تنتاب‬ ‫ْ‬
‫مل ّ‬‫جلدية تساعد على تقليل الرغبة ال ُ‬
‫مدمنيها(‪ .‬الدليل‪ :‬خبر من كولومبو نقلته الصحف عن قرد في حال هياج جنسي‪ ،‬أثار‬ ‫ُ‬
‫الذعر في بلدة وسط سريلنكا‪ .‬بعدما أخذ يهاجم إناث القطط والكلب‪ ،‬وُيطارد الفتيات‪،‬‬
‫ذى عليها‬‫من رأوه‪ ،‬بسبب الشوكول التي كان يتغ ّ‬‫ن‪ ،‬وذلك حسب تفسير َ‬ ‫ويتحّرش به ّ‬
‫ويسرقها من المتاجر‪.‬‬
‫لبالله‪ ..‬أدركوني بلصقة مضادة لهذه الشوكول الملعونة‪.‬‬ ‫ول حول ول قوة إ ّ‬

‫محضر ضبط عاطفي‪ ..‬في حق وردة‬


‫لغافله وُأفلت قليل ً من قبضته‪ ،‬لشتري له في عيده‪ ..‬ما‬ ‫ما ترك لي الحب من فرصة ُ‬
‫يفاجئه‪.‬‬
‫كر في الخرين‪ ..‬المليين الذين سيهجمون على الورود الحمراء ليقولوا الكلمة إياها‬ ‫أف ّ‬
‫شاق أولئك الذين سيجازفون‬ ‫باللون نفسه‪ ..‬العالم كّله سيتكّلم ليوم ٍ لغة واحدة‪ .‬أجمل الع ّ‬
‫هذا العام أيضًا‪ ،‬بالدفاع عن حقهم في حيازة هذا اللون‪ ،‬في بلد ُيمنع فيها بيع الورود‬
‫الحمراء في عيد الحب‪ ،‬لنني ل أحب من الحمر إل ّ شبهته‪ ،‬ما كنت لشتري سواها لو‬
‫ده‪ ،‬وغدا الحب فيها مفقودا ً لفرط‬ ‫كنت هناك‪ .‬لكنني في بلد زاد فيها الحمر على ح ّ‬
‫وجوده في الواجهات‪.‬‬
‫هذا العام‪ ،‬أتوّقع أن تنحاز بيروت إلى اللون البيض‪ ،‬مذ أصبح اللون الرسمي لضرحة‬
‫در إلى العالم فائض الحب‪ ،‬أخشى على الحمر‬ ‫شهداء الحّرية‪ .‬المدينة التي اعتادت أن تص ّ‬
‫أن يعاني فيها كسادا ً في عيده‪.‬‬
‫جل محضر ضبط عاطفيا ً في حق وردة‪ ..‬لنها حمراء‪ ،‬وثمة من‬ ‫في عيد الحب ثمة من يس ّ‬
‫يحاول تفجير حقول الذكرى‪ ..‬واغتيال ورود الوفاء‪ ..‬لنها بيضاء‪.‬‬
‫لنتسامح على القل‪ ..‬مع الورود!‬

‫***‬

‫ماكدت أكتشف في السنة الماضية‪ ،‬أن عيد ميلد صديقتي المطربة لطيفة‪ ،‬يوافق عيد‬
‫ول ‪ 14‬شباط‪ ،‬باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى عيد للشهداء‪.‬‬ ‫العشاق‪ ،‬حتى تح ّ‬
‫ففي زمن التنكيل العربي‪ ،‬كما كان أحد طغاتنا يحتفظ لنفسه‪ ،‬بمتعة قتل خصومه بطلقات‬
‫مسدسه الذهبي‪ ،‬الذي ل يخص به سوى "أعدقائه" وأقاربه‪ ،‬ثمة من ل يقبل بغير عيد‬
‫الحب مناسبة ليبعث فيها بالموت هدية‪ ،‬ليقول لنا كم ُأحب الفقيد!‬
‫ُأشفق على صديقتي الغالية لطيفة‪ ،‬أفسدوا عليها عيدها إلى البد‪ .‬ل أظنها ستنسى بعد‬
‫مر أثاثه بوقع‬‫الن كيف عاشت ذلك الحدث‪ ،‬لوجودها يومها في فندق تطايرت نوافذه ود ُ ّ‬
‫النفجار‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لي إليها خبر جديد‪ ،‬هذا العام‪ ،‬أتوّقع أن يطير من وقعه ما بقي من عقلها‪ ،‬نظرا ً إلى‬
‫ب لميركا وللقائمين على سياستها العربية‪.‬‬‫ما أعرفه عنها من ح ّ‬
‫يؤسفني عزيزتي أن أخبرك أنك تشتركين في تاريخ ميلدك المجيد مع جوهرة تاج الرئيس‬
‫بوش "الميرة المقاتلة" و"الصقر السود" كوندليزا رايس‪ ،‬ففي ‪ 14‬فبراير ‪ 1954‬جاءت‬
‫كمها في‬ ‫"ربة الوجه الصبوح" إلى العالم‪ ،‬لتصبح اليوم أقوى امرأة في العالم بحكم تح ّ‬
‫صمام أمان الكرة الرضية‪ ،‬وتوّليها شؤون المن القومي ‪ -‬سّرا ً وعلنية ‪ -‬فهي الشخص‬
‫ل هذا تقوم به‪ ،‬ل بيد‬ ‫ظم "بوش الصغير"‪ .‬ك ّ‬ ‫المسيطر على إمبراطور العالم‪ ،‬الرئيس المع ّ‬
‫حديدية على طريقة مارغريت تاتشر‪ ،‬بل بأنامل موسيقية‪ ..‬ذلك أنها تشترك معك أيضا ً في‬
‫ب الموسيقى وإتقانها باحتراف‪ .‬وحدث منذ ثلث سنوات أن قدمت على أكبر مسارح‬ ‫ح ّ‬
‫واشنطن كونشرتو‪ ،‬عزفت فيه على البيانو بحضور ألفي مشاهد‪.‬‬
‫ي كل أنواع‬ ‫صة ذلك الفيلم الذي مذ مارست عل ّ‬ ‫ت أفكر في ماذا أهديك لعيدك )عدا ق ّ‬ ‫كن ُ‬
‫البتزاز العاطفي‪ ،‬لكتبه لك‪ ،‬كي يكون على قدر قضايانا العربية المشتركة وجنوننا‬
‫ومزاجنا المغاربي الحار‪ ،‬وأنا منهمكة في كتابته(‪ ،‬قبل أن يصبح همي الستفادة من هذه‬
‫المناسبة لنهدي إلى هذه المخلوقة‪" ،‬كوندليزا رايس" في عيدها‪ ،‬ما يشغلها عّنا‪ ..‬ويقينا‬
‫شّرها‪.‬‬
‫المرأة تملك أحذية يفوق عددها أحذية "إيميلدا ماركوس"‪ .‬أتوّقع أنها ل تدري أين تذهب‬
‫بها في عيد العشاق‪.‬‬
‫وتملك مرآتين في مكتبها‪ ..‬كي ترى نفسها بنظرات أحد غيرها‪ .‬زوجي يتمنى أن ُيطعمها‬
‫الله عريسا ً تلتهي به قليل ً و"تحل عّنا"‪ .‬واليرانيون يتحسرون على حماقة ذلك اليراني‪،‬‬
‫ذى بتصرفه كراهيتها للمسلمين‪.‬‬ ‫الذي تخلى عنها أيام الدراسة وغ ّ‬
‫ّ‬
‫لو أن ذلك الغبي قام بتخصيبها‪ ..‬لربما حلت اليوم مشكلة تخصيب اليورانيوم اليراني‪.‬‬
‫أرأيت كيف يتحكم الحب في العالم!‬

‫الموت بين الهل نعاس‬


‫وعت صديقة صحافية ُتقيم في‬ ‫منذ بضعة شهور وأنا أستيقظ على الشريط نفسه‪ ،‬الذي تط ّ‬
‫المارات‪ ،‬بمطاردته في المكتبات لتهديني إّياه قبل عودتي لبيروت‪.‬‬
‫بدءًا‪ ،‬عجبت لمري وأنا أدور في معرض الكتاب في أبوظبي طلبا ً للشيء نفسه‪" :‬أريد‬
‫حسَنى‪ ،‬إنشاد سّيد مكاوي"‪ .‬قال أحد أصحاب المكتبات الدينية‪ ،‬إنه يوجد في‬ ‫أسماء الّله ال ُ‬
‫مكتبة في المدينة‪ .‬فركبت المسكينة سيارتها‪ ،‬وقصدت المكتبة‪ ،‬لتعود من غزوتها بنسختين‬
‫من الشريط نفسه‪ .‬هكذا أصبح في إمكاني أن أحتفظ بنسخة في بيتي‪ ،‬وُأخرى في حقيبة‬
‫ن شيئا ً كان ينقصني‪ ،‬فقد كان من إنشاد هشام عّباس‪ ،‬بأداٍء يختلف وقعه على‬ ‫سفري‪ .‬لك ّ‬
‫قلبي عن صوت الشيخ سّيد مكاوي‪ .‬بذلك البتهال البعد في القلب‪ ،‬والصفى في الروح‪.‬‬
‫من‬‫كينة التي ُيدخلها في قلبك‪ .‬كيف ل وهو َ‬ ‫الذي يخطفك من نفسك ويشّلك لفرط ال ّ‬
‫س ِ‬
‫منشدين في آن!‬ ‫منشد‪ ،‬وال ْ ُ‬ ‫قام بتلحين ذلك النشاد‪ ،‬وبأدائه أكثر من مرة ليكون هو ال ْ ُ‬
‫ت بالذهول ولم أفهم كيف‬ ‫ُ‬
‫عندما سمعت هذه التفاصيل في أحد البرامج الذاعية‪ ،‬أصب ُ‬
‫تسّنى لهذا الرجل الكفيف‪ ،‬أن يحفظ أسماء الّله التسعة والتسعين‪ ،‬في تسلسلها‪ ،‬من‬
‫دون أن ُيخطئ في تقديم أو تأخير اسم‪ ،‬أو نسيان أحدها‪ .‬بينما لم أستطع أنا حفظها‪ ،‬على‬
‫دة في اليوم‪.‬‬ ‫الرغم من سماعي لها مّرات ع ّ‬
‫في آخر زيارة لي إلى المارات‪ ،‬كنت برفقة صديقتي الدكتورة هنادي ربحي‪ ،‬عندما وقعنا‬
‫على البتهالت إّياها‪ ،‬بأداء سّيد مكاوي هذه المّرة‪ .‬من فرحتنا اشترينا شريطين وأسرعنا‬
‫ضلة‪ ،‬التي ذهبت بعض الصديقات إلى حد ّ تسجيلها‬ ‫إلى السيارة نستمع إلى "أغنيتنا" المف ّ‬
‫والي‪.‬‬‫ّ‬ ‫ج‬ ‫على‬ ‫جعلها‬ ‫عن‬ ‫ية‬
‫ّ‬ ‫تقن‬ ‫لسباب‬ ‫عجزت‬ ‫رائعة‪،‬‬ ‫والهن‪ ،‬وكانت تلك فكرة‬ ‫على رّنة ج ّ‬
‫ّ‬
‫فقد أعجبني أن تتوالى أسماء الله طالما الهاتف يدق‪ .‬إحداهن مازحتني قائلة‪" :‬وماذا لو‬
‫دق‪ ،‬وأنت في مكان عام في أوروبا؟ إنها شبهة أخطر من الحجاب!‬
‫في السيارة فوجئنا‪ ،‬أنا وهنادي‪ ،‬بكون الشريط يحمل أيضا ً أغاني دينية باللهجة المصرية‪،‬‬
‫وش على مزاجنا‪ ،‬الذي كان يريد سماع أسماء الّله الحسنى ل غير‪ .‬وهكذا عدنا‬ ‫ما ش ّ‬
‫ددها من دون توقف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ير‬ ‫الذي‬ ‫الول‬ ‫للشريط‬
‫ل صباح أحتفي بأسمائه تعالى‪ .‬كزائر يطرق بابي أسعد بها‪ُ ،‬أجالسها حتى أثناء قيامي‬ ‫ك ّ‬
‫من ذكرني" فل أقبل أن أبدأ‬ ‫َ‬ ‫جليس‬ ‫"أنا‬ ‫عله‬ ‫ُ‬ ‫في‬ ‫من‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ج‬ ‫قوله‬ ‫أذكر‬ ‫ية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الصباح‬ ‫بمشاغلي‬
‫يومي بمجالسة سواه‪.‬‬
‫ضع‪ ،‬يزهد‪ ،‬يخشع‪.‬‬ ‫أمام أسماء الّله الحسنى‪ُ ،‬يبصر النسان ذاته• وُيدرك قدر نفسه‪ .‬يتوا َ‬
‫ل آفــة من‬ ‫يخشى أن ُيخطئ في حقّ أحد‪ ،‬أو في حقّ خالقه‪ .‬أمام ذلك البتهال الجميل ك ّ‬
‫حسَنى‪ .‬فتخرج النفس من تلك الجلسة‬ ‫آفات القلوب تجد لها دواًء في اسم من أسمائه ال ُ‬
‫جب أن ُتثبت بحوث طبية حديثة‪ ،‬أن أداء‬ ‫معافاة من هموم الدنيا‪ ،‬سعيدة مطمئنة‪ .‬فل ع َ َ‬ ‫ُ‬
‫مل والتعّبد‪ ،‬هي من أهم النشطة الطبية‪ ،‬التي تساعد على إفراز هرمون‬ ‫ّ‬ ‫والتأ‬ ‫الصلة‬
‫الشباب الـ"ميلتونين"‪ ،‬بالتالي تأخير أعراض الشيخوخة‪.‬‬
‫معّرض للفناء‪ ،‬عند أول عطب أو‬ ‫لكن الستثمار الكبر‪ ،‬هو حتما ً في غير هذا الجسد ال ْ ُ‬
‫وفة‪:‬‬
‫دق من قول أحد المتص ّ‬ ‫حادث‪ .‬ول أص َ‬

‫يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته‬


‫ن‬
‫أتطلب الربح مما فيه خسرا ُ‬
‫أقِبل على النفس فاستكمل فضائلها‬
‫ن‬
‫فأنت بالنفس‪ ،‬ل بالجسم‪ ،‬إنسا ُ‬
‫واشدد يديك بحبل الّله معتصما ً‬
‫ن‬ ‫فإّنه الركن إن خانت َ‬
‫ك أركا ُ‬

‫ذكرت هذا كله‪ ،‬وأنا أمّر في وسط بيروت وقلبها النابض‪ ،‬حيث يعلو مسجد محمد المين‪.‬‬
‫دره أن ُيدَفن إلى‬
‫ب إلى قلب الرئيس الشهيد رفيق الحريري‪ ،‬الذي كان قَ َ‬ ‫الجامع الح ّ‬
‫جواره‪ ،‬بعدما أمضى الشهر الخيرة من حياته في مواكبة بنائه بأدق تفاصيله‪ ،‬ليكون ِقبَلة‬
‫مساجد بيروت وأفخمها‪.‬‬
‫منادية للصلة‪ ،‬ل تحسد الحريري على ثروته‪ ،‬بل على موته‪ .‬تتمّنى‬ ‫عندما تعلو تلك المآذن ُ‬
‫ي‪ ..‬يا لتلك‬
‫لو كنت المقيم هناك‪ .‬يهتف قلبك من خشوعه "يا لجمال الموت السلم ّ‬
‫دعيا ً الستغراق في النوم‪ ..‬فـ"الموت‬ ‫الطمأنينة‪ ،‬أن تحجز لك مكانا ً أبديا ً جوار مسجد‪ ،‬م ّ‬
‫بين الهل نعاس"‪.‬‬

‫خسرنا العلماء‪ ..‬وربحنا السيليكون‬

‫دت خ ّ‬
‫طة‬ ‫ن الهند تخ ّ‬
‫طط لزيادة علمائها‪ ،‬وأع ّ‬ ‫خبر صغير أيقظ أوجاعي‪ .‬ل شيء عدا أ ّ‬
‫طموحا ً لبناء قاعدة من العلماء والباحثين لمواكبة دول مثل الصين وكوريا الجنوبية في‬
‫مجال البحاث الحديثة‪.‬‬
‫مد ِْقع‪ ،‬يتسّنى له‬ ‫ن بلدا ً يعيش أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر ال ُْ‬ ‫لم أفهم كيف أ ّ‬
‫رصد مبالغ كبيرة‪ ،‬ووضع آلية جديدة للتمويل‪ ،‬بهدف جمع أكبر عدد من العلماء الموهوبين‬
‫دت لها اعتمادات إضافية من وزارة العلوم والتكنولوجيا‪ ،‬بينما ل‬ ‫ص َ‬
‫من خلل منح دراسّية ُر ِ‬
‫دا تلك التي‬‫نملك نحن‪ ،‬برغم ثرواتنا المادية والبشرية‪ ،‬وزارة عربية تعمل لهذه الغاية‪) ،‬ع َ َ‬
‫ظف التكنولوجيا لرصد أنفاسنا(‪ ،‬أو على القل مؤسسة ناشطة داخل الجامعة العربية‬ ‫ُتو ّ‬
‫تتوّلى متابعة شؤون العلماء العرب‪ ،‬ومساندتهم لمقاومة إغراءات الهجرة‪ ،‬وحمايتهم في‬
‫صّناع الخراب الكبير‪.‬‬
‫محنة إبادتهم الجديدة على يد ُ‬
‫أيّ أوطان هذه التي ل تتبارى سوى في النفاق على المهرجانات ول تعرف الغداق إل ّ‬
‫ن في ليلة واحدة بما ل يمكن لعالم عربي أن يكسبه لو‬ ‫على المطربات‪ ،‬فتسخو عليه ّ‬
‫قضى عمره في البحث والجتهاد؟ ما عادت المأساة في كون مؤخرة روبي‪ ،‬تعني العرب‬
‫دمة ابن خلدون‪ ،‬بل في كون اللحم الرخيص المعروض للفرجة على‬ ‫مق ّ‬‫وتشغلهم أكثر من ُ‬
‫الفضائيات‪ ،‬أيّ قطعة فيه من "السيليكون" أغلى من أي عقل من العقول العربية المهددة‬
‫اليوم بالبادة‪.‬‬
‫إن كانت الفضائيات قادرة على صناعة "النجوم" بين ليلة وضحاها‪ ،‬وتحويل حلم مليين‬
‫الشباب العربي إلى أن يصبحوا مغنين ليس أكثر‪ ،‬فكم يلزم الوطان من زمن ومن ُقدرات‬
‫لصناعة عالم؟ وكم علينا أن نعيش لنرى حلمنا بالتفوق العلمي يتحقق؟‬
‫ن إهمالنا البحث العلمي‪ ،‬واحتقارنا علماءنا‪ ،‬وتفريطنا فيهم هي من بعض أسباب‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫ن‬
‫ْ‬ ‫"إ‬ ‫قال‪:‬‬ ‫حين‬ ‫عنه(‬ ‫له‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫)رضي‬ ‫عبدالعزيز‬ ‫بن‬ ‫عمر‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫صادق‬ ‫كان‬ ‫وكم‬ ‫لنا‪.‬‬ ‫العالم‬ ‫احتقار‬
‫ن لم‬ ‫ن لم تستطع فأحّبهم‪ ،‬فإ ْ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫متعلما‪ .‬فإ ْ‬ ‫ن لم تستطع فكن ُ‬ ‫ً‬
‫استطعت فكن عالما‪ .‬فإ ْ‬
‫كل فيه بعلمائنا وُنسّلمهم‬ ‫تستطع فل تبغضهم"‪ .‬فما توّقع )رضي الّله عنه( أن يأتي يوم ُنن ّ‬
‫فريسة سهلة إلى أعدائنا‪ ،‬ول أن ُتحرق مكتبات علمية بأكملها في العراق أثناء انهماكنا في‬
‫متابعة "تلفزيون الواقع"‪ ،‬ول أن يغادر مئات العلماء العراقيين الحياة في تصفيات جسدية‬
‫ظمة في غفَلة مّنا‪ ،‬لتصادف ذلك مع انشغال المة بالتصويت على التصفيات النهائية‬ ‫من ّ‬
‫ُ‬
‫لمطربي الغد‪.‬‬
‫تريدون أرقاما ً تفسد مزاجكم وتمنعكم من النوم؟‬
‫في حملة مقايضة النفوس والرؤوس‪ ،‬قررت واشنطن رصد ميزانية تبلغ ‪ 16‬مليون دولر‬
‫لتشغيل علماء برامج التسّلح العراقية السابقين‪ ،‬خوفا ً من هربهم للعمل في دول ُأخرى‪،‬‬
‫وكدفعة ُأولى غادر أكثر من ألف خبير وأستاذ نحو أوروبا وكندا والوليات المتحدة‪.‬‬
‫ضلوا الهجرة بعد أن وجدوا أنفسهم عزل ً في مواجهة "الموساد" التي‬ ‫كثير من العلماء ف ّ‬
‫ن قوات‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫التقارير‬ ‫في‬ ‫جاء‬ ‫فقد‬ ‫مام"‪.‬‬‫َ‬ ‫الح‬ ‫"صيد‬ ‫العراقية‬ ‫الغنية‬ ‫حسب‬ ‫راحت تصطادهم‬
‫ً‬
‫"كوماندوز" إسرائيلية‪ ،‬تضم أكثر من مئة وخمسين عنصرا‪ ،‬دخلت أراضي العراق بهدف‬
‫اغتيال الكفاءات المتميزة هناك‪ .‬وليس المر سّرًا‪ ،‬مادامت مجلة "بروسبكت" الميركية‬
‫كد وجود مخطط واسع ترعاه أجهزة داخل البنتاغون‬ ‫ل يؤ ّ‬‫وعت بنشره في مقا ٍ‬ ‫هي التي تط ّ‬
‫وداخل )‪ ،(CIA‬بالتعاون مع أجهزة مخابرات إقليمية‪ ،‬لستهداف علماء العراق‪ .‬وقد حددت‬
‫م ‪ 800‬اسم لعلماء عراقيين وعرب من العاملين في‬ ‫المخابرات الميركية قائمة تض ّ‬
‫المجال النووي والهندسة والنتاج الحربي‪ .‬وقد بلغ عدد العلماء الذين تمت تصفيتهم وفق‬
‫هذه الخطة أكثر من ‪ 251‬عالمًا‪ .‬أما مجلة "نيوزويك"‪ ،‬فقد أشارت إلى البدء باستهداف‬
‫الطباء عبر الغتيالت والخطف والترويع والترهيب‪ .‬فقد ُقتل في سنة ‪ 2005‬وحدها‪،‬‬
‫سبعون طبيبًا‪.‬‬
‫عد‪ ،‬خصوصا ً بعد نجاح عالم الصواريخ العراقي مظهر صادق‬ ‫شحة حتما ً للتصا ُ‬ ‫مر ّ‬ ‫العمليات ُ‬
‫ّ‬
‫ب له في بغداد‪ ،‬وتمكنه من اللجوء إلى إيران‪.‬‬ ‫ص َ‬ ‫ّ‬
‫مسلح ن ُ ِ‬ ‫التميمي من الفلت من كمين ُ‬
‫غير أن سبعة من العلماء المتخصصين في "قسم إسرائيل" والشؤون التكنولوجية‬
‫العسكرية السرائيلية‪ ،‬تم اغتيالهم‪ ،‬لُيضافوا إلى قائمة طويلة من العلماء ذوي الكفاءات‬
‫العلمية النادرة‪ ،‬أمثال الدكتورة عبير أحمد عباس‪ ،‬التي اكتشفت علجا ً لوباء اللتهاب‬
‫لمة أحمد عبدالجواد‪ ،‬أستاذ الهندسة وصاحب أكثر من‬ ‫الرئوي " سارس"‪ ،‬والدكتور الع ّ‬
‫خمسمئة اختراع‪ ،‬والدكتور جمال حمدان‪ ،‬الذي كان على وشك إنجاز موسوعته الضخمة‬
‫عن الصهيونية وبني إسرائيل‪.‬‬
‫ل هذه العقول‪ ..‬لكن البركة في "السيليكون"!‬ ‫أجل‪ ،‬خسرنا ك ّ‬

‫‪:‬‬ ‫لفرط ما كتبتني‬


‫كتبتني‬
‫باليد التي أزهرت في ربيعك‬
‫ت صيفها‬‫قبلت التي كن َ‬ ‫بال ُ‬
‫بالورق اليابس الذي بعثره خريفك‬
‫بالثلج الذي‬
‫ت على ناره حافية‬‫ك سر ُ‬‫صوب َ َ‬

‫بالثواب التي تنتظر مواعيدها‬


‫شاقها‬‫بالمواعيد التي تنتظر ع ّ‬
‫شاق الذين أضاعوا حقائب الصبر‬ ‫بالع ّ‬
‫بالطائرات التي ل توقيت لقلعها‬
‫ت أبجدّية بواباتها‬
‫بالمطارات التي كن َ‬
‫بالبوابات التي ُتفضي جميعها إليك‬

‫بوحشة العياد كتبتني‬


‫بشرائط الهدايا‬
‫بشوق الرصفة لخطانا‬
‫بلهفة تذاكر السفر‬
‫بثقل حقائب المل‬
‫بمباهج صباحات الفنادق‬
‫بحميمّية عشاء في بيتنا‬
‫بلهفة مفتاح‬
‫بصبر طاولة‬
‫بتواطؤ أريكة‬
‫ل يحرس غفوة قَد َِرنا‬ ‫بطمأنينة لي ٍ‬
‫بشهقة باب ينغلق على فرحتنا‬

‫كتبتني‪ ..‬بمقصلة صمتك‬


‫مرة على قرميد بيتك‬ ‫منه ِ‬‫دموع ال ْ ُ‬
‫بال ّ‬
‫بأزهار النتظار التي ذ ََوت في بستان صبري‬
‫بمعول شكوكك‪ ..‬بمنجل غيرتك‬
‫بالسنابل التي‬
‫تناثرت حّباتها في زوابع خلفاتنا‬
‫بأوراق الورد التي تطايرت من مزهرياتنا‬
‫ض اشتباكاتنا‬
‫قَبل التي تف ّ‬
‫بشراسة ال ُ‬

‫خذ‬‫ما لم تأ ُ‬ ‫ت‪ ..‬ب ِ َ‬ ‫ما أخذ َ‬ ‫بِ َ‬


‫ه‬
‫ت لي من عمرٍ لخذ ِ ِ‬ ‫ما ترك َ‬ ‫بِ َ‬
‫ت‬
‫َ‬ ‫نهب‬ ‫بما‬ ‫ت‪..‬‬ ‫َ‬ ‫وهب‬ ‫ما‬ ‫بِ َ‬
‫س‬
‫ما لم أن َ‬ ‫ت‪ ..‬ب ِ َ‬‫ما نسي َ‬ ‫بِ َ‬
‫ت‪..‬‬‫ُ‬ ‫نسي‬ ‫ما‬ ‫بِ َ‬
‫كرني بكَ‬ ‫ما مازال في نسياني ُيذ ّ‬ ‫بِ َ‬
‫ما أعطيتك ولم تأبه‬ ‫بِ َ‬
‫ما أعطيتني فقتلتني‬ ‫بِ َ‬
‫ما شئت به قتلي‬ ‫بِ َ‬
‫ت بــه!‬ ‫فم ّ‬
‫م نصوصا ً‬
‫حنت المطربة جاهدة وهبي مقاطع من هذا النص‪ ،‬وتغنيها في شريط خاص‪ ،‬يض ّ‬ ‫ل ّ‬
‫ّ‬
‫للمؤلفــة‪.‬‬

‫تصبحون على خير أيها العرب‬

‫أكبر مؤامرة تعّرض لها الوطن العربي‪ ،‬هي تجريد كلمة "مؤامرة" نفسها من معناها‪ ،‬حتى‬
‫دنا‪ ،‬بقدر ما تثير الحساس بالستخفاف‬ ‫ما ُيحاك ض ّ‬ ‫غدت ل تستدعي الحذر‪ ،‬ول التنبه ل ِ َ‬
‫والتهكم ممن يصيح بكل صوته "يا ناس‪ ..‬إنها مؤامرة!"‪.‬‬
‫ددت كراسيهم‪ ،‬واجدين فيها الذريعة المثلى للفتك بكل‬ ‫كامنا كّلما هُ ّ‬‫لفرط ما استنجد بها ح ّ‬
‫ّ‬
‫ل‪ ،‬ولفرط ما علقنا على‬ ‫ً‬
‫من يعارضهم‪ ،‬ولفرط ما رددناها على مدى نصف قرن حقا وباط ً‬
‫مشجبها عجزنا وتخّلفنا وتناحرنا‪ ،‬ولفرط ما تآمرنا على أنفسنا وتآمرنا مع أعدائنا على‬
‫خ المؤامرة الكبرى‪ ،‬ووقعنا في قعرها بملء وعينا‪.‬‬ ‫بعضنا بعضًا‪ ،‬ذهبنا إلى ف ّ‬
‫كقصة ذلك الرجل الذي كان يتسّلى بإرعاب الناس‪ ،‬مدعيا ً نزول الذئب إلى القرية‪ ،‬فلما‬
‫ُ‬
‫م عينه على وشك النقضاض عليه‪ ،‬صاح بالناس أن ينقذوه من‬ ‫جاء الذئب حقا ً ورآه بأ ّ‬
‫دقه ول جاء لنجدته‪ ،‬وقضى الرجل فريسة أكاذيبه‪.‬‬ ‫الذئب‪ ،‬لكن ل أحد ص ّ‬
‫دقنا إن صحنا في كل المنابر الدولية‪،‬‬ ‫ها هو ذا الذئب ُيطبق فكيه علينا‪ ،‬ولن يوجد من يص ّ‬
‫خبثا ً في استراتيجيتها‬ ‫ُ‬ ‫أكثر‬ ‫ول‬ ‫منها‬ ‫أكبر‬ ‫أننا ضحّية مؤامرة شاملة كاملة لم يعرف العالم‬
‫حماة‬ ‫المتقنة ذات الذرائع الخيرية‪ .‬فالمؤامرة المباركة حيكت لنا هذه المّرة على أيدي ُ‬
‫م‬‫ورنا وسذاجتنا وتذاكينا ت ّ‬ ‫صل على قياس ته ّ‬ ‫الديمقراطية وُرعاتها‪ .‬الثوب الكفن المف ّ‬
‫سباتنا التاريخي‪.‬‬ ‫تصميمه برؤية إسرائيلية على يد مصمم التاريخ "العزيز هنري"‪ ،‬أثناء ُ‬
‫لكن‪" ..‬ل ُيلم الذئب في عدوانه‪ /‬إن يك الراعي عدوّ الغنم"‪ .‬هل نلوم أعداءنا وقد سّلمنا‬
‫راعينا إلى الرعاة‪ ،‬قطعانا ً بشرية جاهزة للذبح قربانا ً للديمقراطية؟‬
‫ل بلد "رعاة الديمقراطية" النسان أهم حتى من الديمقراطية‪ ،‬لنه الغاية منها‬ ‫في ك ّ‬
‫ن اختطاف مواطن واحد أو قتله‬ ‫والغاية من كل شيء‪ .‬والمواطن أهم من الوطن‪ ،‬حتى إ ّ‬
‫على يد العدو‪ ،‬يغدو قضية وطنية يتجند لها الوطن بأكمله‪ ،‬وتتغير بمقتضاها سياسات‬
‫شرين بالحرية أنفسهم‪ ،‬نحر مئة ألف‬ ‫خارجية‪ .‬لكن‪ ،‬عندما يتعّلق المر بنا‪ ،‬يجوز لهؤلء المب ّ‬
‫عراقي لنشر فضائل الديمقراطية‪ ،‬وتوظيف كل تكنولوجيا التعذيب لدخالها في عقولنا‪.‬‬
‫عمر أبو ريشة‪ ،‬الذي قال ذلك البيت‪ ،‬الموجع في حقيقته‪ ،‬أدرك قبل نصف قرن أن الذئب‬
‫در الوطن العربي إيقاظ شهية الذئاب الذين يتكاثرون‬ ‫ل يأتي إل ّ بتواطؤ من الراعي‪ ،‬وأن قَ َ‬
‫ً‬
‫عند أبوابه ويتكالبون عليه كلما ازداد انقساما‪ .‬اليوم حللنا على القل مشكلة البواب‪ .‬ما‬
‫ونا وبحرنا‪ ..‬وطنا ً وطنا ً يستفردون‬ ‫واباتنا وحدودنا‪ ،‬أرضنا وج ّ‬ ‫عاد من أبواب لنا‪ .‬غدوا هم ب ّ‬
‫بنا‪ ،‬ينهبون خيراتنا‪ ،‬يسرقون آثارنا‪ ،‬ينسفون منشآتنا‪ ،‬يغتالون علماءنا‪ُ ،‬يشعلون الفتنة بيننا‪،‬‬
‫يصطادون أرواح صحافيينا‪ .‬ويشترون ذمم أقلمنا‪ ..‬وأصواتنا‪.‬‬
‫نحن في أزهى عصور الديمقراطية‪ .‬في إمكاننا مواصلة الشخير حتى المؤامرة المقبلة‪..‬‬
‫المقبلة حتمًا‪ .‬فالذئب يصول ويجول ويأكل مّنا من يشاء‪ .‬ما عاد السؤال من جاء بالذئب؟‬
‫كناه مّنا إلى هذا الحد؟‬ ‫بل كيف م ّ‬
‫الجواب عثرت عليه في حكمة قديمة‪" :‬يأكلك الذئب إن كنت مستيقظا ً وسلحك ليس في‬
‫يدك‪ .‬ويأكلك الذئب إن كنت نائما ً ونارك مطفأة"‪.‬‬
‫ل ما عداه‪.‬‬‫رعى الله لنا نور التلفزيون‪ .‬فقد أطفأنا ك ّ‬
‫تصبحون على خير أيها العرب!‬
‫مَناَزَلة مع الوليد بن طلل‬
‫ُ‬

‫كنت في جنوب فرنسا‪ ،‬عندما أعاد مرصد باريس في ليلة رأس السنة الماضية‪ ،‬التذكير‬
‫بضبط الوقت في الّول من كانون الثاني‪ ،‬بتأخير الساعات ثانية واحدة‪ ،‬لُيصبح الوقت‬
‫متوافقا ً مع دوران الرض‪.‬‬
‫د‪ ،‬وُيطارد‬ ‫ثانية واحدة؟ كدت أضحك‪ .‬وحده أبي‪ ،‬رحمه الّله‪ ،‬كن سيأخذ المر مأخذ الج ّ‬
‫خر بضع دقائق‬ ‫ن ساعة يده تتأ ّ‬ ‫أخي لُيراجع الساعاتي أكثر من مّرة‪ ،‬كما فعل ذات مّرة‪ ،‬ل ّ‬
‫حكم هدر عمره في مراقبة عقارب الساعات‬ ‫في اليوم! الساعاتي الذي يحترف الصبر ب ُ‬
‫مل مع الدقائق‪ ،‬على الرغم‬ ‫قد َ يومها صبره أمام صرامة أبي‪ ،‬ودّقته في التعا ُ‬ ‫وضبطها‪ ،‬فَ َ‬
‫من كونه ما كان يفعل في تلك الدقائق شيئا ً ماراثونيًا‪ ،‬ول ُيخّبئها لسباق أولمبي‪ .‬كرجل‬
‫مجالسة رفاقه‬ ‫م ينفقها ساعات في مطالعة الصحف و ُ‬ ‫في أواخر عمره‪ ،‬كان يجمعها ث ّ‬
‫ومشاهدة التلفزيون وكتابة انطباعاته‪ .‬ما كان يذهلني في أبي‪ ،‬هو وعيه بالوقت في ك ّ‬
‫ل‬
‫لحظة‪ ،‬وإلقاؤه نظرة على ساعته بين الحين والخر‪ ،‬وكأنه على أهبة الستعداد لموعد‪ ،‬هو‬
‫الذي كان الميعاد لديه "ل قبل الوقت ول بعده‪ ..‬بل على الوقت" حسب المثل الفرنسي‪،‬‬
‫ي"‪ :‬حين يتواعد عربيان‪ ،‬يقول الّول‬ ‫من ل ُيدرك هذا‪ ،‬برواية نكتة "الموعد العرب ّ‬ ‫ينّبه َ‬
‫ن لم أستطع الحضور‬ ‫ْ‬ ‫فإ‬ ‫الثانية‪..‬‬ ‫حتى‬ ‫انتظرني‬ ‫الواحدة‪..‬‬ ‫الساعة‬ ‫على‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫غد‬ ‫"نلتقي‬ ‫للثاني‪:‬‬
‫على الثالثة‪ ،‬في إمكانك على الرابعة أن تذهب!"‪.‬‬
‫مالت‬ ‫ل لويس الرابع عشر‪" :‬الحفاظ على الوقت من ك ََ‬ ‫كان ملكا ً على طريقته‪ .‬ألم يق ْ‬
‫الملوك"؟‬
‫في فرنسا‪ ،‬حيث الوقت سلطان‪ ،‬راح أحد العلماء يشرح على التلفزيون لـ"العلوج"‬
‫ن الرض تلهث وراء توقيت‬ ‫ميين من أمثالي في شؤون الفيزياء وتدّبر الوقت‪ ،‬أ ّ‬ ‫ُ‬
‫وال ّ‬
‫الساعات الذّرية‪ .‬لذا‪ ،‬فإن الوقت الذي تقوم فيه أكثر من ‪ 250‬ساعة ذّرية حول العالم‬
‫باحتباسه‪ُ ،‬يضطر من حين إلى آخر إلى انتظار إتمام الرض دورانها حول نفسها‪.‬‬
‫لم أفهم شرحه‪ ،‬لكن مادامت الرض ُأنثى‪ ،‬فعلى الوقت أن يتحّلى بالصبر وينتظرها‪ ،‬ريثما‬
‫ل تبّرجها‪.‬‬ ‫دتها وزينتها لتخرج إليه في ك ّ‬ ‫تكمل دورتها وع ّ‬
‫م فيها‬‫ّ‬ ‫ت‬ ‫التي‬ ‫الخيرة‬ ‫رة‬‫ّ‬ ‫الم‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫إ‬ ‫حتى‬ ‫ّ‬
‫قة‪.‬‬ ‫ود‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫ق‬ ‫تع‬ ‫النات‬ ‫أكثر‬ ‫الرض‬ ‫تبقى‬ ‫على الرغم ذلك‪،‬‬
‫ً‬
‫ت فيها أشهرا هباًء في‬ ‫ضبط الوقت بدقيقة مضافة يعود لسنة ‪ ،1996‬السنة التي أضع ُ‬
‫الشغال المنزلية‪ ،‬في انتظار أن تبعث لي السماء بشغالة تحول دون دوراني حول نفسي‬
‫وسط طناجر المطبخ‪.‬‬
‫دون الدقائق الفلكّية بالساعات الذرية‪ ،‬والشعراء يقيسونها بمقياس اللهفة‪،‬‬ ‫العلماء يع ّ‬
‫فلدى العشاق‪ ،‬حسب مالك حداد‪ ،‬الدقيقة والدقيقة ل تساويان دقيقتين‪ ،‬بل قبلتان‪ .‬أما‬
‫ل دقيقة على‬ ‫رجال العمال من "الوزن الثقيل" فيحسبونها بمثقال الفوائد المنهمرة ك ّ‬
‫حساباتهم‪.‬‬
‫ورا ً طويل ً عن الحياة‬ ‫ّ‬ ‫مص‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫تحقيق‬ ‫الفرنسية‬ ‫القنوات‬ ‫إحدى‬ ‫على‬ ‫ت‬‫ُ‬ ‫شاهد‬ ‫نفسها‪،‬‬ ‫في الفترة‬
‫اليومية للوليد بن طلل‪ .‬لم يستوقفني فيه‪ ،‬من نمط حياته غير العادي )أو فوق العادي(‬
‫لولى‪.‬‬ ‫سوى طول يومه‪ .‬فالرجل يواصل إدارة أعماله مع فريق عمله حتى ساعات الفجر ا ُ‬
‫تراه الثالثة فجرًا‪ ،‬يوّقع العقود‪ ،‬ويدير البورصة بتوقيت نيويورك‪ ،‬والناس نيام‪ .‬ل عدوّ له ول‬
‫فا ذات‬ ‫منازع سوى النوم‪ .‬حتى إنه يحكي كيف انتفض مذعورا ً مّرة‪ ،‬عندما تنّبه إلى أنه غ َ َ‬
‫قيلولة بجوار ابنته مدة ربع ساعة‪ ،‬ربع ساعة فقط‪ ،‬على الرغم من علمه أنه أثناء نومه‪ ،‬ل‬
‫ل دقيقة حسب مؤشرات‬ ‫ينام ماله ول يغفو‪ ،‬ويواصل‪ ،‬ما شاء الّله‪ ،‬دّر الرباح عليه ك ّ‬
‫البورصة ‪.‬‬
‫يومها قّررت أن ُأنازله بما ُأوتيت من ثروة الوقت المهدور‪ .‬فإن كنت ل أستطيع أن أكسب‬
‫ل منه ك ّ‬
‫ل ليلة‪ ،‬وهذا في حد ّ ذاته‬ ‫أكثر منه في الدقيقة الواحدة‪ ،‬ففي إمكاني أن أنام أق ّ‬
‫ت السنة المقبلة في مجلة )‪ ،(Forbes‬قائمة‬ ‫در ُ‬‫خسارة يصعب عليه تكّبدها‪ ،‬خاصة إذا تص ّ‬
‫ل‪ ،‬مقابل قائمة الذين أثروا أكثر‪ ،‬وهي قائمة كان في إمكان مارغريت‬ ‫الذين ناموا أق ّ‬
‫عرف عنها احتقارها النوم‪ ،‬الذي كان يكفيها منه خمس‬ ‫دة‪ .‬فقد ُ‬
‫درها لسنوات ع ّ‬ ‫تاتشر تص ّ‬
‫كن من إدارة شؤون بريطانيا‪.‬‬ ‫ساعات‪ ،‬كي تتم ّ‬
‫ذرت ثروتي في سريري؟ ماذا لو كنت أنام فوق كنز ما‪ ،‬دون علمي‪ ،‬ولن‬ ‫يا للهدر‪ ،‬أأكون ب ّ‬
‫أتنّبه لذلك إل ّ صباح استيقاظي الخير؟ وقد جاء في المأثور النبوي‪" :‬الناس نيام فإذا ماتوا‬
‫انتبهوا"‪ .‬أهذا الكتشاف المرّوع للخسارة‪ ،‬هو الذي كان يعنيه بورخيس حين تساءل‬
‫بمرارة‪" :‬لو كان النوم هدنة‪ /‬استراحة بسيطة‪ /‬لماذا تشعر حين تستيقظ فجأة‪ /‬بأنه سرق‬
‫لك ثروة؟‪ /‬لماذا نكره النهوض عند الصباح؟"‪.‬‬

‫ُأمي‪ ..‬و وُرود الرئيس‬


‫ت من ضلع‬ ‫مذ ولد ُ‬ ‫كعادتــه‪ ،‬كان إبريل )نيسان( شهرا ً مجنونًا‪ ..‬ربما لنني ابنته الشرعية‪ُ ،‬‬
‫أكاذيبه ذات ‪ 13‬نيسان‪.‬‬
‫ن السنة الماضية‪ ،‬فاجأني عيد ميلدي وأنا في "جامعة ميتشيغن"‪،‬‬ ‫أذكر أ ّ‬
‫مقارنة بالوليات‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ي‪ُ ،‬‬
‫ديات التي ُتواجه الكاتب في العالم العرب ّ‬ ‫ضـر عن "التح ّ‬ ‫حا ِ‬ ‫أ َ‬
‫المتحدة")!(‪.‬‬
‫ب لي‪ .‬عادة‪ ،‬لعياد ميلدي مشروعات أجمل‪ ،‬أخشى على الضوء من‬ ‫ص َ‬
‫خ نُ ِ‬ ‫وروا أيّ َفـــ ّ‬ ‫تص ّ‬
‫مزدحما ً بالحضور‬ ‫ُ‬ ‫عيدي‬ ‫كان‬ ‫يومها‪،‬‬ ‫شخصين‪.‬‬ ‫من‬ ‫لكثر‬ ‫تسع‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫برنامجها‬ ‫ور‬‫ّ‬ ‫أتص‬ ‫ول‬ ‫اغتيالها‪،‬‬
‫مترجمة أعمالي إلى‬ ‫شت صديقتي و ُ‬ ‫ي‪ ،‬لكون ميتشيغن ولية عربّية بامتياز‪ .‬وعندما وَ َ‬ ‫العرب ّ‬
‫النجليزية‪ ،‬بارعــــة الحمــر‪ ،‬بعيدي‪ ،‬د ُّلـْلــت مساًء بعشاء يليق بالمناسبة• فأعياد الميلد‬
‫ث ُيقارب التقديس‪.‬‬ ‫حد َ ٌ‬‫في أميركا َ‬
‫ي‪ .‬فبعد ذلك بيومين‬ ‫ّ‬ ‫السياح‬ ‫أو‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫اللغو‬ ‫الرشد‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫س‬ ‫ذلك‬ ‫بعد‬ ‫بلغت‬ ‫أنني‬ ‫يعني‬ ‫طبعًا‪ ،‬هذا ل‬
‫كنت‪ ،‬وأنا عائدة من جامعة "يال" أتوه في مطار نيويورك‪ ،‬وأبدأ عامي الجديد بليلة على‬
‫كراسي النتظار الميركي!‬
‫ً‬
‫هذا العام‪ ،‬كان نيسان أكثر جنونا‪ .‬بدأ في يومه الّول بـ"فاكس" من الوليد بن طــــلل‪.‬‬
‫ما كان نيسان ُيمازحني‪ ،‬فقد كان في سّلة أيامه التالية هدايا ما توّقعتها‪ ،‬أجملها حتما ً سّلة‬
‫الورود التي وصلتني من الجزائر صباح عيد ميلدي‪ ،‬مرفوقة بهدّية رئاسية‪ ،‬مع بطاقة تهنئة‬
‫طه الواثق النيق في إيجازه البليغ دومًا‪.‬‬ ‫ملت خ ّ‬ ‫تحمل توقيع الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة‪ .‬تأ ّ‬
‫كرت في التفاتاته الراقية دومًا‪ .‬فمنذ الزل هو صديق الكتب والكّتاب‪ .‬أثناء سنوات‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ف ّ‬
‫دد سوى على المكتبات‪ ،‬ل عنوان له سواها‪ .‬ول جلساء له سوى‬ ‫عزلته كان زاهدا ً ل يتر ّ‬
‫ُ‬
‫ت "مئة عام ٍ‬ ‫أمهات الكتب‪ ،‬والعمال البداعّية الكبرى‪ .‬في ذلك الزمان سألني‪" :‬هل قرأ ِ‬
‫ت شيئا ً من‬‫من العزلة" لـ)ماركيز(؟ أجبته مرتبكة "ل"‪ .‬ثم ندمت‪ ،‬شعرت بأنني فقد ُ‬
‫إعجابه بي ككاتبة‪ .‬فقد كان )غارسيا ماركيز( صديقه منذ السبعينات‬
‫بوتفليقة من الرؤساء العرب القليلين المثقفين ثقافة عالية مزدوجة‪ ،‬لم يبلغها بعض‬
‫محترفي الثقافة وممتهنيها أنفسهم‪ .‬وقد سمعته مّرة "ُيفّلي" كتابا ً لروائية جزائرية‪،‬‬ ‫ُ‬
‫مّية‬‫ي‪ ،‬وإل ّ كنت ُأصبت بسكتة قَل َِ‬ ‫ّ‬ ‫الدب‬ ‫النقد‬ ‫وخسره‬ ‫السياسة‬ ‫ربحته‬ ‫تكون‬ ‫أن‬ ‫له‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ت‬‫ُ‬ ‫فحمد‬
‫ي مّرة "غارة أدبّية" ل رحمة فيها‪ ،‬كتلك التي يشنها أحيانا ً مباشرة على‬ ‫ّ‬ ‫عل‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫ش‬ ‫هــوَ‬
‫لو ُ‬
‫قدّية لبعض المنشآت‪.‬‬ ‫كبار المسؤولين أثناء زياراته التف ّ‬
‫ي قبل سنتين بعد قراءته رواية‬ ‫دة وإعجاب‪ ،‬كان قد أرسلها إل ّ‬ ‫ت برسالة مو ّ‬ ‫لــذا‪ ،‬سعد ُ‬
‫ن من عادة بوتفليقــة‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫لحق‬ ‫اكتشفت‬ ‫صدورها‪.‬‬ ‫حين‬ ‫إليه‬ ‫أرسلتها‬ ‫كنت‬ ‫التي‬ ‫سرير"‪،‬‬ ‫"عابر‬
‫ل كاتب يبعث له بكتاب‪.‬‬ ‫ً‬
‫ن يرد ّ شخصيا على ك ّ‬ ‫أ ْ‬
‫بقي‪ ،‬كيف عرف الرئيس بعيد ميلدي‪ .‬سؤال تجاوز في مفاجأته اندهاشي بقراءة الوليد‬
‫ن كنت اختبرت وْقــعَ اسم رابع أغنى رجل في العالم على ابني‬ ‫بن طـــلل‪ ،‬مقالــي‪ .‬وإ ْ‬
‫المصرفي في لندن‪ .‬ففقد الولد صوته على الهاتف للحظات‪ ،‬ثم صاح بالنجليزية "واو‪..‬‬
‫ن سّلة ورد الرئيس كان لها مفعول عكسي على "مامـ‪..‬ــي" أنا‪ .‬فقد استعادت‬ ‫مام"‪ .‬فإ ّ‬
‫ن‪ ،‬كما دون قصد‪ ،‬بخبر‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫مقّربات لُتخبره ّ‬ ‫أمي فجأة عافيتها‪ ،‬ولسانها‪ ،‬وهاتفت صديقاتها ال ُ‬
‫متابعيه‪ ،‬كأغلبية الشعب الجزائري‪ ،‬الذي ل يفهم في‬ ‫الورود‪ .‬ولنها من أتباع بوتفليقة و ُ‬
‫اليديولوجيات‪ ،‬ول في الميزانيات‪ ،‬ول في الرقام التي يختلف حولها القتصاديون‪ ،‬بل‬
‫مي سّلة الورد هدّية‬ ‫ُ‬
‫يفهم لغة القلب ولغة الكبرياء التي خاطبه بها بوتفليقة‪ ،‬اعتبرت أ ّ‬
‫ي له في البيت‪ .‬فقد كانت الموّزع‬ ‫شخصّية لها‪ ،‬وامتنانا ً من الرئيس لدعمها النتخاب ّ‬
‫شعارات التي ُتعّلق في عروة‬ ‫الحصري للقمصان التي عليها صوره‪ ..‬والقّبعات وال ّ‬
‫الجاكيت‪ُ .‬يحضرها لها أخي من مكتبه طلبا ً لرضاها‪ ،‬وتقوم هي بتوزيعها على الجيران‬
‫ضى عنهم‪.‬‬ ‫والحفاد عندما َتر َ‬
‫موّزع الحصري للورود‪ ،‬بعد أن فاض بيتنا بباقات من مدير‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫مـي ال ُ‬ ‫هذه المّرة‪ ،‬أصبحت أ ّ‬
‫التلفزيون‪ ،‬ومدير الديوان الوطني للثقافة والفنون‪ ،‬ووزيرة الثقافة‪ ،‬ورئيس "الجزائر‬
‫حجز‬‫عاصمة عربية للثقافة"‪ ،‬ولم يبقَ لدينا "مزهرية" ول "طنجرة"‪ ،‬ول حتى "د َْلــو"‪ ،‬إل ّ و ُ‬
‫صة ُأخرى‪.‬‬ ‫ما ورود الرئيس فكان لها قدر آخر‪ ..‬وتلك ق ّ‬ ‫للمناسبة‪ .‬أ ّ‬

‫ي الضائع‬
‫هاَنة الرقم العرب ّ‬
‫م َ‬
‫َ‬
‫ت أكتب ساخرة من مرصد باريس‪ ،‬الذي طالب في نهاية السنة الماضية‪ ،‬بضبط‬ ‫ما كد ُ‬
‫الوقت بتأخير الساعات ثانية واحدة‪ ،‬ليصبح الوقت متوافقا ً مع دوران الرض‪ ،‬حتى قرأت‬
‫صلوا إلى كون الزلزال الخير‪ ،‬الذي ضرب آسيا‪ ،‬تسّبب في إسراع‬ ‫ن علماء أميركيين‪ ،‬تو ّ‬ ‫أ ّ‬
‫دوران الرض بمقدار ثلثة مايكروثانية‪ ،‬أي بالتحديد ما ُيعادل واحدا ً على مليون من الثانية‪،‬‬
‫بسبب ميل الرض بمقدار بوصة‪ 2.5 ،‬سنتيمتر‪ ،‬عن محورها )!(‪.‬‬
‫من‬ ‫َ‬ ‫بها‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫علم‬ ‫ليأخذ‬ ‫هذه‪،‬‬ ‫علماء وكالة الفضاء الميركية )ناسا(‪ ،‬نشروا حساباتهم الدقيقة‬
‫ن طول اليوم قد قصر بمقدار جزء من الثانية‪.‬‬ ‫كان الكرة الرضية معرفة أ ّ‬ ‫نس ّ‬ ‫م ْ‬
‫يعنيهم ِ‬
‫سبات• هم سباتهم‬ ‫ُ‬ ‫في‬ ‫كلنا‬ ‫بالخبر‪،‬‬ ‫معنيين‬ ‫غير‬ ‫الشمالي‬ ‫القطب‬ ‫ودببة‬ ‫نحن‬ ‫وطبعًا‪،‬‬
‫ي‪.‬‬
‫ي‪ ،‬ونحن سباتنا الزل ّ‬ ‫الشتو ّ‬
‫إنهم يحسبون الزمن غير المرئي بالمايكروثانية‪ ،‬وحركة الرض على ُبعد سنوات ضوئية‬
‫ن عاجزون حتى عن معرفة عدد قتلنا‪ ،‬وعدد مفقودينا في‬ ‫بمقياس السنتيمتر‪ ،‬ونح ُ‬
‫الكوارث الجوّية أو البحرّية‪ .‬عاجزون عن امتلك الرقم الحقيقي للجثث التي تفرش مدن‬
‫ل شارع ومدينة‪.‬‬ ‫مجّردة و"نتفركش" بها في ك ّ‬ ‫العراق‪ ،‬على الرغم من كوننا نراها بالعين ال ْ ُ‬
‫ل نعرف عدد َأسَرانا‪ ،‬ول عدد جياعنا‪ ،‬ول عدد العاطلين عن العمل‪ ،‬ول حتى عدد الجنود‬
‫جوُلون فوقها‪.‬‬ ‫صوُلون وي َ ُ‬‫الميركيين‪ ،‬الذين دخلوا أرضنا على ظهور البوارج الحربية وي َ ُ‬
‫حَياء‪.‬‬
‫َ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫درس‬ ‫إلى‬ ‫بل‬ ‫ساب‪،‬‬ ‫ح َ‬‫كرامة موتانا الذين ل رقم لهم‪ ،‬ل تحتاج إلى درس في ال ِ‬
‫ولوا أوطاننا إلى مزارع‬ ‫قنا أن نسأل الذين ح ّ‬ ‫سبة‪ .‬من ح ّ‬ ‫حا َ‬ ‫س في ال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫مواط ََنة فهي در ٌ‬ ‫ما ال ْ ُ‬‫أ ّ‬
‫ب ثرواتنا‪ ،‬وفي أيّ حساب؟‬ ‫ّ‬ ‫تص‬ ‫جيوب‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫في‬ ‫للمافيات‪،‬‬ ‫مراتع‬ ‫و َ‬
‫ُ‬
‫مَهان َت ََنا بين المم‪.‬‬ ‫ً‬
‫ي الضائع دوما‪ ،‬هو الذي يصنع َ‬ ‫ذلك الرقم العرب ّ‬

‫ما العيد إل ّ انتظار العيد‬


‫هج بيـــروت الصيفّيـة‪.‬‬ ‫لم يتطابق فرحي يوما ً مع َ‬
‫مَبا ِ‬
‫ُ‬
‫متطّرف‪.‬‬ ‫سعادة• وتعشقُ بيروت إشهار مزاجها الخارق ال ْ ُ‬ ‫ب حميمّية ال ّ‬ ‫أح ّ‬
‫ل تدري بيروت ماذا تفعل بخزانة ثيابها‪ ،‬بعد أن أفرغت جيوبها لتملهـا‪ .‬تحتاج إلى‬
‫جَرة‪ ،‬وأنا‬ ‫ُ‬ ‫الت ّ َ‬
‫ض ِ‬
‫مة اللف يكمن الفرق بيننا‪ ..‬هي أنثى َ‬ ‫شــاوف‪ ،‬وأحتاج أن ل أرى‪ .‬وفي ض ّ‬
‫ل ما تملك‪ ،‬قصد إبهار الجميع‪ ،‬والتحّرش بعدسات‬ ‫عاشقة‪ .‬هي تختلق مناسبات لترتدي ك ّ‬
‫التصوير‪ ،‬وشغل ما استطاعت من صفحات الخبار الجتماعّية‪ ،‬وأقضي أنا وقتي هربا ً من‬
‫الضوء‪ ،‬خوفا ً على أجنحتي من الحتراق‪ ،‬مشغولة بإخفاء ما في حوزتي لرتدائه في‬
‫مناسبة واحدة‪ ..‬لرجل واحد‪.‬‬
‫ً‬
‫مال ما نرتديه وما نخلعه مّرة واحدة لكائن واحد‪ ..‬هو نفسه دائما‪ .‬كما في المّرة‬ ‫ج َ‬‫يا ل َ‬
‫لولى‪ ،‬كما في المّرة المقبلة‪ ،‬كما في آخر مّرة من الُعمر‪.‬‬ ‫ا ُ‬
‫بين موعدين‪ ،‬في إمكان ثيابنا أن تنتظر في خزائن الّلهفة• هي على عيد‪ ،‬فل ُتشفقوا‬
‫عليها‪.‬‬
‫ّ‬
‫ما العيد‪ ..‬إل انتظار العيد‪.‬‬
‫فوا فرحتكم‪ ،‬تسّتروا على أعيادكم السرّية‪ ،‬دّللوا ثيابكم الجميلة بالنتظار‪،‬‬ ‫شاق‪ ،‬أخ ُ‬‫أّيها الع ّ‬
‫ُ‬
‫حرَفة الِعشق الولـى‪.‬‬ ‫النتظار هو ِ‬
‫سًا"‪.‬‬ ‫في‬
‫َ ِ َ‬ ‫ن‬ ‫الناس‬ ‫يراه‬ ‫ما‬ ‫نخفي‬ ‫ُ‬ ‫كيف‬ ‫ّ‬
‫لم‬ ‫نتع‬ ‫لم‬ ‫ما‬ ‫خطر‪،‬‬ ‫في‬ ‫ن‬
‫م "‪..‬نح ُ‬ ‫ثـ ّ‬
‫ت بيروت بقول إبراهيم الكوني‪ ..‬هــــذا؟‬ ‫َ‬
‫مع َ ْ‬ ‫س ِ‬ ‫أ َ‬

‫السطو‬
‫مشّرفة تدخل بها العراق‪ُ ،‬تتيح لها‬ ‫أميركــا‪ ،‬التي اجتهدت طويل ً في البحث عن ذريعة " ُ‬
‫ل تكلفة‪ ،‬في‬ ‫نهبه بمباركة دولية‪ ،‬تبحث الن عن ذريعة لئقة ُأخرى للخروج منه‪ ،‬بهزيمة أق ّ‬
‫مام دم‬ ‫مام سهل ً كدخوله‪ ،‬خاصة إذا كان ح ّ‬ ‫أقرب وقت ممكن‪ .‬لكن ليس الخروج من الح ّ‬
‫ووحل وخراب‪.‬‬
‫ما هو عليه‬ ‫ّ‬ ‫م‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫أمان‬ ‫أكثر‬ ‫كان‬ ‫بوطن‪،‬‬ ‫أميركا‬ ‫قت‬‫َ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫أل‬ ‫الشامل‪،‬‬ ‫دمار‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫أسلحة‬ ‫أثناء بحثها عن‬
‫دمار الممكن‪.‬‬ ‫ل أنواع ال ّ‬ ‫الن‪ ،‬ك ّ‬
‫من استبشروا‪ ،‬ربما خيرا ً بقدومها‪ ،‬ذهب دمهم هدرا ً من أجل ل شيء‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫م‬ ‫قتيل‬ ‫مئة ألف‬
‫لحرى بسبب وجودهم لمصادفة جغرافية وزمنّية‪ ،‬لحظة حدوث أكبر عملّية سطو تاريخّية‬ ‫با َ‬
‫حكم‬ ‫قام بها بلد في حق بلد آخر‪ ،‬بدعوى حمايته وتمدينه وتأهيله لديمقراطية الدبابات و ُ‬
‫القبائل والطوائف‪" .‬حرب الحضارات" التي جاءت تخوضها أميركا على شعب هو أكثر‬
‫دم حضارة منها‪ ،‬هي في حقيقتها حرب شركات كبرى وحيتان قرش تحّلقت‬ ‫عراقة وأق َ‬
‫ل جيشه‬ ‫صاَنة‪ ،‬قاموا بح ّ‬ ‫ح َ‬ ‫مَناعة ول َ‬ ‫دم العراقي للنقضاض على وطن من دون َ‬ ‫حول ال ّ‬
‫سّلـم فريسة سهلة‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫وأطبائه‪،‬‬ ‫وأساتذته‬ ‫علمائه‬ ‫واغتيال‬ ‫ظفيه‬ ‫ّ‬ ‫مو‬ ‫وتخوين‬ ‫باطه‬ ‫ّ‬ ‫ض‬ ‫وصرف‬
‫َ‬
‫قت َلة‪.‬‬
‫إلى العصابات والمتطرفين وال َ‬
‫كي الموت‪ ،‬كانت‬ ‫وتهم بين ف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ق‬ ‫عن‬ ‫والبحث‬ ‫موتاهم‪،‬‬ ‫أفواج‬ ‫دفن‬ ‫أثناء انشغال العراقيين في‬
‫مر منشآت العراق‪ ،‬ليتسّنى لها في ما بعد بناؤها في‬ ‫طاع طرق التاريخ‪ُ ،‬تد ّ‬ ‫أفواج من قُ ّ‬
‫قا ً بين ملئكة البيت البيض‪.‬‬ ‫مسب َ َ‬‫م تقاسم وليمتها ُ‬ ‫خرافية‪ ،‬ت ّ‬ ‫صفقات ُ‬
‫ي أميركي قال ما قلته‪ ،‬على غ ََبائي السياسي‪ ،‬منذ سقوط‬ ‫حمدا ً لّله الذي أدركني بصحافـ ّ‬
‫بغداد‪ ،‬ولم يسمع لي أحد‪.‬‬
‫مربح"‪ُ ،‬يورد باتراب شاترجي‪،‬‬ ‫في كتابه الذي صدر بالفرنسية‪ ،‬بعنوان "العراق‪ ،‬احتلل ُ‬
‫عب التي اّتبعتها أميركا مع‬ ‫ُ‬ ‫والتل‬ ‫أدّلة ووثائق على استراتيجية السطو وسياسة النهب‬
‫الكويت قبل العراق‪ .‬فقد أظهرت التقارير الصحافّية التي صدرت بعد طرد الجيش‬
‫م في أغلبيته‬ ‫العراقي من الكويت عام ‪ ،1991‬أن تدمير المنشآت النفطّية وإشعال البار‪ ،‬ت ّ‬
‫الساحقة على يــد الجيش الميركي‪ .‬هدف التدمير آنذاك‪ ،‬تأمين عقود الشركات الميركية‬
‫لعادة بناء هذه المنشآت واستخدام خبراء ومهندسين أميركيين في هذه العملية‪ .‬تحتاج‬
‫ل عقد من الزمن إلى انخراط في حروب خارجية وفق ما تشير إليه‬ ‫الوليات المتحدة ك ّ‬
‫أبحاث أميركية وأوروبّية‪ .‬تنبع حاجة أميركا إلى الحرب من ضرورة استهلك الترسانة‬
‫العسكرية الميركية‪ ،‬وتأمين العمل لمصانع السلحة الميركية‪ ،‬وُتفيد في نهب ثروات‬
‫جه اللة الميركية لها‪.‬‬ ‫وموارد الدولة التي تتو ّ‬
‫دامغة‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫بالحجج‬ ‫الكتاب‬ ‫يظهر‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫مة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المه‬ ‫هذه‬ ‫لمثل‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫مثالي‬ ‫الوضع‬ ‫كان‬ ‫بالنسبة إلى العراق‪،‬‬
‫ً‬
‫ن عمليات النهب لم توّفر قطاعا من القطاعات‪،‬‬ ‫التي ل تقرأ عربيًا‪ ،‬إل بأعين دامعة‪ ،‬كيف أ ّ‬
‫ّ‬
‫بدءا ً من النفط والكهرباء وصول ً إلى إعادة العمار والصيانة‪.‬‬
‫محّرر( في‬ ‫ْ‬
‫وة‪ ،‬وحقّ الغازي )أعني ال ُ‬ ‫المر يكاد ليحتاج إلى حيلة‪ ..‬أو حياء‪ ..‬إنها شرعّية الق ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫سب ْ‬‫الغنيمة وال ّ‬
‫تقوم الشركات الميركية‪ ،‬باحتكار العقود بعد أن قررت الحكومة الميركية حجبها عن‬
‫م التخّلي عن المنشآت‬ ‫دولها ضد ّ الحرب‪ .‬بالمنطق نفسه‪ ،‬يت ّ‬ ‫الشركات التي وقفت ُ‬
‫داتها‪.‬‬
‫الموجودة‪ ،‬إن كانت ذات مصدر فرنسي وألماني وروسي وإتلف مع ّ‬
‫جبا ً أن تقوم علقة وثيقة بين أصحاب النفوذ في الدارة الميركية ومسؤولي‬ ‫ليس ع َ َ‬
‫الشركات‪ .‬فمتعّهدو "حفلت الحروب" هم أنفسهم مقاولو السياسة وكبار موظفي البيت‬
‫ك من طور َ‬
‫ك‪،‬‬ ‫مَهاَنة‪ُ ،‬يمكنها ملء صفحات هذه المجلة‪ُ ،‬تخرج َ‬ ‫البيض‪ .‬أمثلة عن النهب وال ْ َ‬
‫مك من شرايينك‪ ،‬وأن‬ ‫ك بفداحة نزف تلك الموال أّنهم سرقوا د ّ‬ ‫ك‪ُ ،‬تشعر َ‬ ‫ك صواب َ‬ ‫ُتفقد َ‬
‫شيئا ً منك مات بموت أحلمك القومّية‪.‬‬
‫مال من الوليات المتحدة‪ ،‬فتدفع للمهندس الميركي‬ ‫كم مثال صغير‪ :‬تأتي الشركة بع ّ‬ ‫ها ُ‬
‫راتبا ً يصل إلى ‪ 8000‬دولر‪ ،‬بينما تدفع للمهندس العراقي ‪ 100‬دولر‪ .‬في الحراسة المنية‬
‫أيضًا‪ُ ،‬يكّلف العراقي الشركات أقل من تكاليف كلب حراسة مقارنة بما يتقاضاه الحّراس‬
‫الميركيون‪ ،‬على الرغم من أنه ُيجازف بحياته كل لحظة‪ ،‬وُيقَتل غالبا ً نيابة عنهم‪ ،‬مع العلم‬
‫خذ من الموازنة العراقّية‪ ،‬ومن موارد‬ ‫منفقة في كل المجالت‪ُ ،‬تؤ َ‬ ‫ل هذه الموال ال ْ ُ‬ ‫نك ّ‬ ‫أ ّ‬
‫الدولة‪.‬‬
‫ما باختلس‬ ‫مت كعكة العراق‪ ،‬إ ّ‬ ‫س َ‬ ‫قا َ‬‫صلة عن أسماء شركات ت َ َ‬ ‫مف ّ‬ ‫دم الكتاب قائمة طويلة ُ‬ ‫ُيق ّ‬
‫من المنبع عبر سرقة مليارات الدولرات بطريقة مباشرة من الخزائن الحكومّية‪ ،‬أو عن‬
‫مكّلفة بإصلح شبكات المياه والمجارير ونظام المدارس التي‬ ‫طريقة إحدى الشركات ال ْ ُ‬
‫قامت إحداها بإصلحات ل تتطّلب أكثر من ألف دولر‪ ،‬وجرى دفع أكثر من ‪ 120‬ألف دولر‬
‫لنجازها!‬
‫أفهمتهم لماذا ليزال أمام العراقيين أعوام ُأخرى من العيش في مستنقعات الديمقراطية‬
‫الميركية؟‬

‫ثرثرة نسوان‪ ...‬في حضرة الرهبان‬


‫" مقالة قديمة للسيدة احلم مستغانمي"‬

‫مثل محمود درويش‪،‬أعتقد أننا "لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا"‪.‬‬
‫ل شيىء زكاة‪ ،‬وزكاة القلب‬ ‫ددا ً قول أسلفه‪ ،‬أؤمن "بأ ّ‬
‫ن على ك ّ‬ ‫ومثل الفضل بن عّياض مر ّ‬
‫الحزن"‪.‬‬

‫ولكن وقد بلغت من اليأس عتي ًّا‪ ،‬ودفعت زكاة قلبي قبل حلول عيد الفطر يوميًا‪ ،‬أمام‬
‫نشرات الخبار‪ ،‬فلم يبقَ لي والله‪ ،‬لمواجهة زمن عجيب كهذا‪ ،‬إل ّ الصمت أو النتحار‪.‬‬
‫وكنت قد قرأت يوما ً لحدهم‪" :‬إذا التقيت إنسانا ً حزينا ً فسّلم لي عليه"‪ ،‬وحاولت أل ّ‬
‫ل وجه يطل‬ ‫ل غريب أصادفه‪ ،‬وك ّ‬ ‫أتذكره هذه اليام‪ ،‬حتى ل أقضي وقتي في السلم على ك ّ‬
‫ي في تقرير إخباري او برنامج متخصص في الجدل السياسي‪.‬‬ ‫عل ّ‬
‫ولذا قررت النقطاع عن مشاهدة التلفزيون‪ ،‬وذهبت حتى العزوف عن مجالسة الناس‪،‬‬
‫واستبدال ضوضاء العالم بشهر من الصمت التام‪ .‬وأنصحكم بالقتداء بي‪ ،‬متأملين هذا‬
‫القول العميق لميخائيل نعيمة‪" :‬لو كان لي السلطان المطلق على الرض‪ ،‬لمرت بيوم‬
‫ن هناك‬ ‫ل سنة‪ُ ،‬تكّرسه كل شعوب الرض للسكوت والتأمل‪ ،‬لك ّ‬ ‫واحد على القل من ك ّ‬
‫أمما ً محنتها الثرثرة‪ ،‬فهذه ُأحّتم عليها الصمت شهرا ً كامل ً في السنة"‪.‬‬
‫عمم هذا القول على الفضائيات العربية‪ ،‬عساها تجد فيه حكمة ما‪.‬‬ ‫وتمنيت لو ُ‬
‫وكنت أبحث عن طريقة‪ُ ،‬أجبر بها بعض المذيعات على السكوت‪ ،‬خاصة اللئي تتضاعف‬
‫قدرتهن على الثرثرة في البرامج الرمضانية‪ ،‬وتطول ألسنتهن )تزداد أفواههن كبرًا‪ ،‬حلقة‬
‫بعد أخرى( عندما قرأت عن وجود قرية في روسيا تدعى "نوكمولند" دخلت كتاب‬
‫"غينيس" للرقام القياسية باعتبارها صاحبة أدنى درجة للحرارة على وجه المعمورة‪ ،‬إذ‬
‫كثيرا ً ما تصل حرارتها إلى ‪ 70‬درجة تحت الصفر‪ ،‬وهو أمر ل يمنع أهاليها من مزاولة‬
‫وه بالكلم طيلة‬ ‫أعمالهم اليومية‪ ،‬شرط اخذ بعض الحتياطات التي من أحدها عدم التف ّ‬
‫الوقت حتى ل تتجمد ألسنتهم‪.‬‬
‫وقد فكرت في أن أقترح على بعض الفضائيات اللبنانية إرسال بعض مذيعاتها إلى هناك‬
‫في مهمة "تغطية"‬
‫سى أن ينجح البرد في تجميد ألسنتهن بعض الوقت‪ ،‬بعد أن زاد طقس الخليج الحار في‬
‫تمديدها كّلما زرنه في مناسبة ما ‪ . .‬للتغطية‪.‬‬
‫ي صيامي عن الكلم‪ ،‬هو وجود أختي )صوفيا( في لبنان‪،‬‬ ‫ن المر الذي أفسد عل ّ‬ ‫يبقى أ ّ‬
‫ل‪ ،‬لكونها أختي الوحيدة؟‬ ‫وحاجتي‪ ،‬كما حاجتها اليومية‪ ،‬إلى ان نلتقي أو نتهاتف مطوّ ً‬
‫كنني من العيش معها في المكان‬ ‫ل يم ّ‬
‫وبالنسبة إلى هذا الموضوع‪ ،‬فقد عثرت له على ح ّ‬
‫نفسه‪ ،‬دون أن نلتقي أو نتبادل الكلم‪ ،‬بعد ان قرأت مقال ً طريفا ً عن "الرهبان الصامتين"‬
‫في إيرلندا‪.‬‬
‫وهم رهبان اشتهروا بعيشهم في صومعة "ملراي" في جبال إيرلندا‪ ،‬منقطعين عن العالم‬
‫وعن شؤون الدنيا‪ ،‬ل ينبسون ببنت شفة‪ ،‬ول يتفاهمون بغير الشارة‪ ،‬وقد مّرت على‬
‫بعضهم أكثر من ثلثين أو أربعين سنة لم يغادروا فيها صومعة ضمتهم ول دروا بما طرأ‬
‫ن طبيبا ً ذهب لزيارتهم‪ ،‬وإذا‬ ‫على الدنيا من تغيرات‪ ،‬ومما ُيحكى عنهم من قصص عجيبة‪ ،‬أ ّ‬
‫به يفقد الرغبة في الكلم ويعيش بينهم بقية عمره خاشعا ً صامتًا‪.‬‬
‫أما فكرة القامة مع أختي هناك‪ ،‬فقد راودتني‪ ،‬عندما قرأت أن أحد هؤلء الرهبان شعر‬
‫بدنوّ أجله‪ ،‬فاستدعى قسيسًا‪ ،‬ولما جاءه القسيس‪ ،‬إذا به شقيقه‪ ،‬ولم يكن الشقيقان‬
‫يعرفان‪ ،‬لنشغالهما بالعبادة‪ ،‬أنهما يعيشان معا ً في تلك الصومعة منذ سنوات عدة!‬
‫المشكلة أنني إن اصطحبت أختي إلى هناك‪ ،‬ل أدري كم يلزمها من الوقت قبل العثور‬
‫على هاتف والتصال بأمي‪ ،‬التي ستلحق بنا حتما ً إلى الصومعة‪ ،‬وتحولها إلى برج للرسال‬
‫يضارب على الـ ‪ .CNN‬وقد تبدأ بثها بتعييري على هيئتي والديكور البائس لغرفتي وما آلت‬
‫إليه آخرتي‪ .‬وأنا منذ الن ُأفكر في ما ستقوله أمي عني‪ ،‬أكثر مما سيقوله الرهبان لي‪ ،‬إن‬
‫جة جزائرية بصحبة ابنتيها إلى صومعة صمتهم!‬ ‫أنطقتهم صاعقة وصول حا ّ‬
‫وهو ما يذكرني بقول الصحافية المراسلة إيفون ردلي‪ ،‬حين اعتقلها عناصر من حركة‬
‫طالبان‪ ،‬إذ صّرحت مرعوبة "أنا أكثر خوفا ً مما ستقوله والدتي لي‪ ...‬مما قد يفعله رجال‬
‫طالبان بي"‪.‬‬

‫رشيقات الدرجة الثانية‬


‫ن"‪ ،‬قادمة من بيروت‪ ،‬بتوقيت مهرجانها‬ ‫مصادفة إلى " َ‬
‫كا ْ‬ ‫في طريقي إلى الجزائر‪ ،‬وصلت ُ‬
‫السينمائي الشهير‪.‬‬
‫مة‬
‫ِ َ‬ ‫ئ‬‫دا‬ ‫المدينة‬ ‫ويقصد‬ ‫إشاعتها‪،‬‬ ‫أو‬ ‫الصحافة‪،‬‬ ‫هموم‬ ‫عليه‬ ‫تبدو‬ ‫من‬
‫َ‬ ‫المسافرين‪،‬‬ ‫كان ضمن‬
‫مال الشاهق النظر‬ ‫ج َ‬ ‫صَباَيا ال َ‬ ‫التبّرج‪ ،‬بذريعة "التغطية"‪ ،‬بينما سرقت ثلث حسناوات من َ‬
‫ن شديدة اللتصاق‬ ‫ن التي ُيعادل طول أحدها طول تنورته ّ‬ ‫في طابور النتظار‪ ،‬بكعوبه ّ‬
‫ن الّنحيفة‪ .‬صواريخ تمشي على اثني عشر سنتيمترًا‪ ،‬مصبوبات كما في قالب‬ ‫بأردافه ّ‬
‫ن‬
‫ذنـب الحصان"‪ ،‬كأنه ّ‬ ‫ن المربوط إلى العلى على طريقة " َ‬ ‫ن السود وشعره ّ‬ ‫واحد‪ ،‬بزّيه ّ‬
‫ن ُيسافرن‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫ما‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أنه‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫واضح‬ ‫كان‬ ‫هورس"‪.‬‬ ‫"الكريزي‬ ‫ملهى‬ ‫في‬ ‫عرض‬ ‫لتقديم‬ ‫ذاهبات للتوّ‬
‫ن عاريات قبل حتى أن يصلن‪.‬‬ ‫ُ‬
‫رية‪ ،‬فقد كـ ّ‬ ‫للتغطّية‪ ،‬ول حتى للّتع‬
‫ن أثناء إجراء معاملت ركوب‬ ‫خلفه‬ ‫ووجدتني‬ ‫بالنظر‪،‬‬ ‫ن‬ ‫أتابعه‬ ‫جاذبية الجمال‪ ،‬جعلتنيِ ُ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ‬ ‫ّ‬
‫كاسح‪،‬‬ ‫ن ال َ‬ ‫ماله ّ‬ ‫ج َ‬ ‫فف من وَْقع َ‬ ‫ن‪ .‬حاولت أن ُأخ ّ‬ ‫طات بمرافقيه ّ‬ ‫حا َ‬ ‫م َ‬ ‫دمن ُ‬ ‫ن يتق ّ‬ ‫الطائرة وهـ ّ‬
‫مال لبنــان على أيام جويــل ُبحلـق‪ .‬قلت يومها‬ ‫ج َ‬ ‫مشاركتي في انتخاب ملكة َ‬ ‫كر ُ‬ ‫بتذ ّ‬
‫جب في بازار‬ ‫جُبه العَ َ‬ ‫ّ‬
‫لزميلي في لجنة التحكيم جبران التويني‪ ،‬رحمه الله‪ ،‬الذي ما كان ُيع ِ‬
‫ف من‬ ‫خــ ّ‬ ‫صَباَيا من دون ماكياج‪ ،‬وبما َ‬ ‫ت في "الكواليس" ال َ‬ ‫مال‪ ،‬إنني بعدما شاهد ُ‬ ‫ج َ‬ ‫ال َ‬
‫مال‪ ،‬وقررت‬ ‫ج َ‬ ‫عقدتي تجاه ال َ‬ ‫حلت ُ‬ ‫ّ‬ ‫ل الّتجاهات استعدادا للمسابقة‪ُ ،‬‬ ‫ً‬ ‫الثياب‪ ،‬يركضن في ك ّ‬
‫ن‪ ،‬بمن في‬ ‫ّ‬ ‫معظمه‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫خاصة‬ ‫التحكيم‪،‬‬ ‫لجنة‬ ‫مع‬ ‫ل‬ ‫المشاركات‪،‬‬ ‫مع‬ ‫أن أعود السنة المقبلة‬
‫ن‪ ،‬على صغر سّنهن‪ ،‬أجرين عمليات تجميل وتقويم‪.‬‬ ‫ً‬
‫ذلك الفائزات‪ ،‬فاجأننا لحقا بكونه ّ‬
‫صَباَيا ُأعيد الّنظر في نكتتي تلك‪ ،‬التي ما عادت بعد عشر سنوات صالحة لن‬ ‫كنت خلف ال َ‬
‫س تلك‬ ‫ن بما آلت إليه حالتي‪ .‬فأنا لم أن َ‬ ‫ن حتى ل ُتذكرني رشاقته ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُتروى‪ .‬قررت أن أسبقه ّ‬
‫وهت نفسك!"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ش‬ ‫قد‬ ‫تكون‬ ‫عليه‬ ‫تعثر‬ ‫فعندما‬ ‫مال‪.‬‬ ‫َ َ‬ ‫ج‬ ‫ال‬ ‫النصيحة‪" :‬ل تبحث عن‬
‫ي بحرارة وهو يقرأ اسمي على‬ ‫ّ‬
‫عند باب الطائرة‪ ،‬فوجئت بكبير المضيفين ُيسلم عل ّ‬
‫البطاقة‪ .‬ارتبكت وأنا ُأبادله التحّية‪ ،‬ثم سألته باستحياء من أين يعرفني؟ رد ّ الرجل حرفيا ً‬
‫مر؟"‪.‬‬ ‫ق َ‬‫فى ال َ‬ ‫خ َ‬ ‫بمجاملة لبنانية "وهل ي ُ ْ‬
‫جهني إلى مقعدي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يو‬ ‫أن‬ ‫وبدل‬ ‫ت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫سك‬ ‫ذهولي‬ ‫من‬ ‫لكنني‬ ‫جزائرية‪،‬‬ ‫كنت سأرد ّ عليه بنكتة‬
‫م خرج بعد دقائق‬ ‫طلب مني النتظار جانبا‪ .‬أخذ قسيمتي وذهب بها إلى غرفة الطّيار‪ ،‬ث ّ‬ ‫ً‬
‫ن كنت أريد الجلوس‬ ‫لولى‪ .‬سألني إ ْ‬ ‫مبتهجا ً بعد أن أخذ الذن بمنحي مقعدا ً في الدرجة ا ُ‬
‫شة‪ ..(..‬شكرته وقلت‪" :‬ل‬ ‫إلى جوار النافذة أم على الطرف‪ ،‬برفقة رجل أم امرأة )للد ّْرد َ َ‬
‫عا مضيفة الدرجة ا ُ‬ ‫ُ‬
‫لولى لُيعّرفها بي‪" :‬إّنها كاتبة عربّية‬ ‫م دَ َ ُ‬ ‫م‪ ،‬فأنا سأطالع كتابًا"‪ .‬ث ّ‬ ‫يه ّ‬
‫كبيرة‪ ،‬زوجتي تعشق كتاباتها"‪.‬‬
‫سَناوات‪ ،‬وعلى غير توّقعي اّتجهن نحو الدرجة القتصادية )غير‬ ‫ح ْ‬ ‫صَباَيا ال َ‬ ‫أثناء ذلك مّرت ال َ‬
‫درجة الولى!(‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مامات ال ّ‬ ‫عبرن بعد ذلك بين الحين والخر لستعمال ح ّ‬ ‫ن َ‬ ‫أنه ّ‬
‫ن حزنا ً خبيثًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أجله‬ ‫من‬ ‫ت‬‫حزن ُ‬
‫موّقـَعـة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ضيف رقم هاتف زوجته كي أسلم عليها لحقا وأهديها كتبي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫أخذت من ال ُ‬
‫مال وسطوته‪ ،‬في‬ ‫َ َ‬ ‫ج‬ ‫ال‬ ‫إشعاع‬ ‫على‬ ‫طي‬ ‫ّ‬ ‫يغ‬ ‫ُ‬ ‫س‬ ‫بريقه‬ ‫ظننت‬ ‫ما‬ ‫الذي‬ ‫الكتابة‪،‬‬ ‫تـاج‬ ‫كرت في‬ ‫ف ّ‬
‫سد‪.‬‬ ‫ج َ‬ ‫ّ‬
‫زمن ل دين لنصف البشرية إل ال َ‬
‫كرت أيضا ً في الجهة التي دعتني إلى الجزائر بمناسبة اليوم العالمي للبيئة‪ ،‬للقاء كلمة‬ ‫ف ّ‬
‫ُ‬
‫دته المم المتحدة للمناسبة‪ ،‬أصّرت أن تكون تذكرتي على الدرجة الولى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫في كتاب أع ّ‬
‫حح رقم‬ ‫ّ‬ ‫ص‬ ‫القدر‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫غير‬ ‫القتصادية‪.‬‬ ‫درجة‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫على‬ ‫السفر‬ ‫على‬ ‫دة‬‫ُ َ َ‬‫تا‬ ‫مع‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫بحماقتي‬ ‫ت‬‫وأصرر ُ‬
‫مقعدي‪.‬‬
‫ه إلى المكان الذي يراه لئقا ً به‪.‬‬ ‫ع‬
‫َ َْ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ر‬‫ي‬ ‫من‬ ‫يأتي‬ ‫أن‬ ‫والجمل‬ ‫الدب‪،‬‬ ‫ضع‬‫َ‬ ‫توا‬ ‫ََ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫جميل‬
‫ً‬
‫مخِبر‪..‬أن ُتولد روائيا!"‪ .‬ولو كان‬ ‫َ‬ ‫ول إلى ُ‬ ‫أحد الروائيين قال‪" :‬هناك طريقة وحيدة كي ل تتح ّ‬
‫امرأة لقال‪:‬‬
‫مال الخريات‪ ..‬وفُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حش مال الثرّيات‪ ..‬أن تكوني‬ ‫ج َ‬
‫مة طريقة وحيدة كي ُتواجهي ظلم َ‬ ‫"ث َ ّ‬
‫روائّية معروفة"‪.‬‬

‫فيضان الموت العربي‬


‫ل‪ ،‬وأن أنام في‬ ‫وفي الليلة الرابعة عشرة للرق‪ ،‬قّررت أن ُأقلع عن معاشرة التلفزيون لي ً‬
‫غرفة ل أتقاسمها مع مراسلي "الجزيرة"‪ ،‬وتشاطرني الحرب فيها سريري كل ليلة‪.‬‬
‫لكأن التي أعظم‪ .‬نحن وأنا كابن المعتز‪ ،‬أكاد أبكي مسبقا ً على الذي سيحل بنا‪:‬‬
‫كر بالبين بكى‪ /‬ويحه يبكي لما لم يقع"‬ ‫"كّلما ف ّ‬
‫مرة‪ ،‬ل أدري كم تساوي النفس العربية في بورصة البشر‪ .‬لكن‪ ،‬عندما‬ ‫محبطة أنا‪ ،‬مد ّ‬
‫يساوي أسير إسرائيلي واحد آلف الرواح البشرية‪ ،‬وتتسبب ذريعة احتجازه في وضع‬
‫فلسطين بأكملها قيد السر والظلمة والتجويع والقصف‪ ،‬ويتسبب أسر جنديين آخرين في‬
‫منح غطاء حربي لسرائيل لتدمير لبنان عن بكرة أبيه‪ ،‬ليست قيمة إسرائيل التي ترتفع‪،‬‬
‫إنما قيمة النسانية هي التي ترخص‪.‬‬
‫دعي النتماء إلى العالم الحّر‪ ،‬ل ُتبنى على مهانة إنسان‪ ،‬وانتصار قائم على‬ ‫إن هيبة دولة ت ّ‬
‫ل فـي أعراف القيم‪..‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫البادة بالقنابل الفوسفورية المحظورة دوليا‪ ،‬مهما كان ساحقا‪ ،‬يظ ّ‬
‫هزيمة‪ .‬فهل من يبلغ السيد بوش هذا الكلم‪ ،‬مادام هو الناطق الرسمي باسم النسانية‬
‫والرحمة؟‬
‫كم يساوي العربي اليوم في سوق الكرامة النسانية‪ ،‬إن كان عشرة آلف أسير يقبعون‬
‫في سجون إسرائيل لم يسمع بمأساتهم أحد‪ ،‬وألفا عراقي لقوا حتفهم في الشهرين‬
‫الماضيين فقط‪ ،‬ولم يأبه بموتهم أحد؟‬
‫المشكلة‪ ،‬أنه كلما زاد فائض الدم العربي‪ ،‬نقص منسوب الكرامة العربية‪ .‬والكرامة هي‬
‫بعض ما أعطتنا إياه المقاومة‪ ،‬ولكن بدماء ودمار أكبر‪.‬‬
‫بواقعية نقول‪ :‬إننا ل ننتظر من المقاومة نصرا ً ساحقا ً على إسرائيل‪ ،‬وهي خامسة قوة‬
‫ل ما يتمناه العرب هزيمة منتصبة القامة‪ .‬نريد أن نخرج كبارا ً مما‬ ‫عسكرية في العالم‪ .‬ك ّ‬
‫قد يكون آخر حرب عربية إسرائيلية‪ .‬فعدوك يملك القوة التي تمنحه إياها‪ ،‬ونحن من منح‬
‫إسرائيل إمكانية الغطرسة والعجرفة‪ ،‬إلى حد اعتبار ثلثة جنود من قواتها‪ ،‬يساوون دولتين‬
‫عربيتين يحق لها تدميرهما‪ .‬فمن مذلة الحمار صنع الحصان مجده‪.‬‬
‫فاض الموت بنا‪.‬‬
‫ول جدوى من البكاء‪ ،‬مادام ليس للموتى من عدد‪ ،‬ول رقم للنازحين ول للجرحى‪ ،‬ول‬
‫دمين الذين يقيمون على قارعة الجغرافيا وضواحي الضمير‪ ،‬ويسقطون متفحمين‬ ‫للمع َ‬
‫وهم في طريقهم إلى نجاة وهمية‪.‬‬
‫حيوات انتهت في أكياس من البلستيك‪ ،‬وُأخرى‪ ..‬ظّلت تنزف تحت النقاض‪ .‬لن يأتي‬
‫لنجدتها‪ ..‬ول لدفنها أحد‪.‬‬
‫وفي الليلة الرابعة عشرة للرق‪ ،‬عليك أن تكتبي عن الموت المتلفز‪ ،‬والدم الحار الذي لم‬
‫يبرد بعد‪.‬‬
‫"قانون الطوارئ الصحافي" يفرض عليك الكتابة‪ .‬إنه يوم الربعاء‪ ..‬المطبعة ل تنتظر‪..‬‬
‫لكن الفوج القادم من الموتى في وسعهم النتظار! أهدتهم كونداليزا رايس وقتا ً إضافيا ً‬
‫لبادة حتمية‪.‬‬
‫ل تلك القنابل وأتلفت أجزاًء فيه‪.‬‬ ‫"ل جدوى من الكتابة" يقول قلبك الذي تساقطت عليه ك ّ‬
‫ويرد ّ قلمك خجل ً من صبايا في كل جمالهن‪ ،‬مازلن منذ أسبوعين يتحدثن إليك من خ ّ‬
‫ط‬
‫النار‪ ،‬من دون أن يفقدن رباطة جأشهن ول فصاحتهن ول حسهن المهني‪" :‬اكتبي‪ ..‬إنهن‬
‫في عمر قلمك‪ ،‬أو اصمتي‪ ،‬والعروبة مازالت تنجب نساًء من سللة جميلة بوحيرد؟"‪.‬‬
‫مكن‪ ..‬اعتذر لك ُ ّ‬
‫ن‪ ..‬وأبكي‪.‬‬ ‫أيتها الجميلت الصامدات‪ ..‬يا زهو عروبتنا‪ ..‬أض ّ‬

‫فتى الحزن المدّلل‬


‫حين على مشاركتي‬ ‫بدءًا‪ ،‬أجب ُ‬
‫ت للمّرة الخامسة أو السادسة‪ ،‬معتذرة للذين اتصلوا بي مل ّ‬
‫ي عن محمود درويش‪" :‬ل شيء لديّ أقوله عنه"‪ .‬أذكر قول جان كوكتو‪،‬‬ ‫ف تكريم ّ‬‫في مل ّ‬
‫مسبقا موته‪ .‬قال ونعشه يمر بين أصدقائه‪" :‬ل تبكوا هكذا‪ ..‬تظاهروا فقط‬ ‫ً‬ ‫ور ُ‬
‫وهو يص ّ‬
‫مة شعراء توغلوا فينا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ث‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫طبع‬ ‫فقط!"‪.‬‬ ‫بالموت‬ ‫يتظاهرون‬ ‫إنهم‬ ‫يموتون‬ ‫ل‬ ‫فالشعراء‬ ‫بالبكاء‪..‬‬
‫ً‬
‫ويحلو لهم التظاهر أحيانا بالحياة‪ ،‬كي يختبروا حبنا لهم‪.‬‬
‫حب محمود درويش‪ ،‬وتكريمه بمناسبة‬ ‫كما توقعت‪ ،‬رحنا ُنزايد على بعضنا بعضا ً في ُ‬
‫"حياته"‪ .‬شخصيًا‪ ،‬ل أدري كيف أقول له إنني أحّبه‪ ،‬ربما لنني أحببت بعضه‪.‬‬
‫م إياه من الحزن الشاهق والموهبة الخارقة‬ ‫كي تقارب محمود درويش تحتاج إلى الك ّ‬
‫هلت اللؤم الذكي‪ ،‬أو الذكاء اللئيم‬ ‫والستخفاف الجميل‪ .‬إضافة إلى كوني ل أملك مؤ ّ‬
‫الصاعق‪ ،‬الذي يتوهج به فتى الحزن المدلل‪ ،‬منذ التقيته أّول مرة في بداية السبعينات في‬
‫جل أنا عربي" وحتى آخر لقاء لنا منذ سنة في فرانكفورت‪ ،‬دوما ً كنا‬ ‫الجزائر‪ ،‬على أيام "س ّ‬
‫مق مثير‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من‬ ‫كتاب‬ ‫في‬ ‫سنوات‬ ‫ثلث‬ ‫قبل‬ ‫مكرهين‬ ‫أقمنا‬ ‫أن‬ ‫إلى‬ ‫عابر"‪،‬‬ ‫"عابرون في زمان‬
‫مَعنا بين دفتيه مع فقيدة الشعر الفلسطيني فدوى طوقان‪ ،‬تحت عنوان تحريضي‬ ‫ج َ‬
‫َ‬
‫تجاري‪ ..‬ناري‪" .‬إسرائيليات بأقلم عربية"‪.‬‬
‫بدءا ً حزنت‪ ،‬ثم سعدت لوجود ذلك الكتاب ضمن قائمة الكتب الكثر مبيعا ً في معرض‬
‫بيروت الدولي‪ .‬كانت الصفقة مربحة‪ .‬صاحبته كسبت بتشهيرها‪ ،‬ما كانت تسعى إليه من‬
‫فقة في كتاب أتقاسمه مع رمزين للنضال‬ ‫شهرة‪ ،‬وأنا فزت منه بإشاعة موثقة ومل ّ‬
‫الفلسطيني والعربي‪.‬‬
‫جميل أن تقتسم مع محمود درويش إشاعة‪ ،‬حتى وإن كانت إشاعة تخوين‪ ،‬خاصة أنني‬
‫جيها بذلك الكم من اللم‪:‬‬ ‫أقتسم معه بعض أحرف اسمه عندما يه ّ‬
‫م ما مضى‬ ‫م ُ‬‫م والمت ّ‬‫"ميم‪ /‬المتّيم والميت ّ ُ‬
‫حاء‪ /‬الحديقة والحبيبة‪ ،‬حيرتان وحسرتان‬
‫ميم‪ /‬المغامر والـمعد ّ المستعد ّ لموته‬
‫الموعود منفيًا‪ ،‬مريض المشتهى"‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ل أدري إن كان محمود درويش مغامرا حقا‪ .‬كل مجازفاته كانت مدروسة‪ ،‬وخسائره ظلت‬
‫محدودة دوما ً بفضل الكتابة‪.‬‬
‫ً‬
‫جبنا وأكثرنا نزفا‪ ،‬وهو يجذف من دون وجهة محددة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لكنه على الرغم من ذلك‪ ،‬كان أقلنا ُ‬
‫فقد عاش مهددا ً بالماء‪ ..‬ومهددا ً باليابسة‪ ،‬ل يدري‪ ،‬أتكمن فاجعته في الطريق‪ ..‬أم في‬
‫الوصول؟ على مدى نصف قرن جذف محمود درويش بيد واحدة مجذافها قلم‪ .‬لذا أحّبه‬
‫نزار قباني واعترف لي مرة بأنه ل يحتفظ في مكتبته سوى بدواوينه من بين الشعراء‬
‫المعاصرين‪ .‬حتما ً كانت ناره تحتاج إلى وقود للكلمات‪ .‬فعندما ل يضرم فيك النار‪ ،‬يوفر لك‬
‫محمود درويش حطب السئلة‪ ..‬أو بنزين اللم‪.‬‬
‫هو "العاشق سيئ الحظ"‪ ،‬سيوّرطك في سوء حظه الذي ليس سوى سوء حظك العربي‪.‬‬
‫وعليك أن تجيب من دون الستعانة بصديق‪ ..‬بل بمؤرخ‪" ،‬لماذا تركت الحصان وحيدًا؟"‬
‫ربما تكتشف آنذاك أن الحصان هو الذي تخلى عنك‪ ..‬لن "الحصان يعرف راكبه" حسب‬
‫المثل العربي!‬
‫الشاعر الذي "يرى ما يريد" يجعلك تتساءل‪" :‬وماذا لو أنك أردت ما يرى؟"‪ ،‬وماذا لو كان‬
‫"سرير غريبته" هو مخدعك وسرير حبيبتك؟ كيف تسنى له التحرش بها في مخدع‬
‫الكلمات وهي لك؟‬
‫ل يحتاج محمود درويش إلى أن يقول شعرا ً لتشرئب شقائق النعمان برأسها‪ ،‬في إمكانه‬
‫أن يفعل ذلك بمجرد حضوره اللمبالي وسط الحقول‪ .‬اللمبالة حالة تحّرش عاطفي‪ ،‬أكثر‬
‫خبثا ً من أن ُتعلن عن نفسها‪.‬‬
‫دعي أنه يريد "وردا ً أقل"‪ ،‬ونحن نعرف أننا ننتظر منه خسائر أكثر فداحة؟ وحنينا ً‬ ‫هو ي ّ‬
‫مرا ً كإعصار‪ .‬ننتظر مزيدا ً من البكاء على كتف قصائده‪.‬‬ ‫مد ّ‬
‫)) النضال (( العاري‬
‫أعود إلى موضة التعري لسباب ) نضالية( التي شاعت في الغرب مؤخرًا‪ .‬و كنت أفكر‬
‫في الفنانة الستعراضية دونا نيتو ‪,‬التي قررت أن تدافع عن أشجار كاليفورنيا الحمراء‬
‫بموجهة الحطابين عارية الصدر‪ .‬وقد نجحت في جعل الحطابين يبقون مشدوهين إليها و‬
‫هي تقرأ عليهم الشعر نصف عارية ‪ ,‬ما شجع صديقاتها على تقليدها و الذهاب إلى مواقع‬
‫أخرى لقراءة الشعر على الحطابين في الهيئة نفسها‪ ,‬إنقاذا ً للشجار ‪.‬‬
‫أسعدتني أن هذه "الخت المصون" يبلغ إلى مسامعها ما آلت إليه غاباتنا ‪ ,‬التي تقوم‬
‫السلطات الجزائرية بحرقها كل فترة ‪ ,‬حتى ل تترك مخبأ للرهابيين ‪ .‬فلو جاءت هي و‬
‫صديقاتها ليدافعن عن الشجر الجزائري بصدورهن العارية لقامت حرب أهلية أخرى ‪ .‬و‬
‫انتقل كل رجال المدينة للقامة في الدغال ‪ ,‬و تحولوا جميعا ً إلى حطابين ‪.‬‬
‫لكن ل أتوقع أن قوما ً ل يعنيهم مصيرنا كبشر ‪ ,‬سيولون اهتماما ً بمصير أشجارنا التي حتما ً‬
‫تشبهنا ‪ ,‬لكونها نبتت في هذه الرض " اللي بتكلم عربـــي" ‪.‬‬
‫و ربما كانت الليدي غودايفيا من أوليات النساء عبر التاريخ ‪ ,‬اللتي وظفن عريهن الجميل‬
‫لخدمة قضية‪ .‬و أقول العري الجميل ‪,‬لن النضال عريا ً ليس في متناول من شاء ‪ .‬ولذا لم‬
‫تغامر واحدة من النساء المتشحمات المترهلت بإشهار بشاعتها في وجه طاغية ‪ .‬و‬
‫الليدي غودايفيا ما كانت نجحت في إسقاط قانون الضرائب التي قصمت ظهر الشعب ‪,‬‬
‫لول جمالها فعندما خلعت الحسناء ثيابها و امتطت جوادها و نزلت إلى الشارع منتهكة‬
‫قانون منع التجول لحق بها الفتيان و من ورائهم الكهول ‪ ,‬بعدهم العجائز ‪,‬فقادتهم‬
‫الحسناء العارية حشودا ً إلى قصر الحاكم ‪.‬‬
‫غير ان المرأة عندما تسلمت الحكم على أيامنا ‪ ,‬ما عادت تدري ماذا تفعل بسلح‬
‫جسدها ‪ ,‬فراحت كجندي بائس تبذر ذخيرتها في الهواء ‪ .‬و هكذا شاهدنا "يويوهيسا"‬
‫العضو في البرلمان التايواني ‪ ,‬تخلع ملبسها بين جلستين أمام عدسة مجلة " بلي بوي "‬
‫و قرأنا أن السيدة الشابة ‪ ,‬التي انتخبت عمدة لمدينة " جورج تاون " المريكية خلعت‬
‫هيبة وظيفتها ‪ ,‬و بعد أن شربت كأسين في أحد بارات المدينة ‪ ,‬راحت ترقص ثملة ‪ ,‬ثم‬
‫قررت أن تلفت انتباه الحضور بفتح أزرار بلوزتها و إبراز نهديها العاريين ‪ .‬و أحدث الخبر‬
‫زلزال ً لدى المريكيين المحافظين ‪ .‬الذين لزال من بينهم الكثير من المتزمتين ‪,‬أمثال‬
‫وزير العدل الحالي ‪ ,‬الذي وصل به التشدد حد المر بتغطية تمثال " روح العدالة " و هو‬
‫تمثال يبلغ طوله أربعة أمتار ‪ ,‬و يزين بهو وزارة العدل ‪ ,‬و قد اعتاد الصحافيون استدراجه‬
‫للقاء تصريحاته ‪ ,‬و خلفه تمثال المرأة نصف العاري بنهد واحد مكشوف و يداها‬
‫مرفوعتان إلى أعلى ‪.‬‬
‫و قد أطلقت الصحافة على الوزير اسم " المل اشكروفت " في حملة عنيفة شنتها ضده ‪,‬‬
‫لنه أثناء " تحرير " نساء أفغانستان من براقعهن على يد أمريكا ‪ ,‬يصدر وزير عدلها أمرا ً‬
‫بتغطية تمثال امرأة من رأسها حتى أخمص قدميها ‪ ,‬و ذلك بستائر ثقيلة كلفت ثمانية آلف‬
‫دولر …‪ .‬أي أغلى من التمثال نفسه‪.‬‬
‫لكن ‪ ,‬ل زال أمام العري مستقبل زاهر ‪ .‬فقد بشرتنا السيدة باول جونز ‪ ,‬التي اشتهرت‬
‫قبل مونيكا لوينسكي ‪ ,‬عندما أعلنت أن بيل كلينتون تحرش بها جنسيا ً ‪ .‬و لم تسكت‬
‫آنذاك حتى تطوع أحد الثرياء اليهود بحشو فمها بمليون دولر ‪ ,‬و عادت مؤخرا ً إلى‬
‫الضواء لتصرح ‪ ,‬ل فض فوها ‪ ,‬و هي تحتضن طفلها بأنها قررت أن تتعرى لمجلة "‬
‫بنتهاوس " المريكية ‪ ,‬لكونها تربي طفلها لوحدها ‪ .‬و بسبب وصول فاتورة الضرائب‪.‬‬
‫و هذا ما يذكرني بتلك الحاثة التي شغلت فرنسا في الثمانينات ‪ ,‬عندما رفض جان ماري‬
‫لوبان ‪ ,‬زعيم الجبهة اليمينية المتطرفة في فرنسا ‪ ,‬أن يقدم أي نفقات لمطلقته و أم‬
‫بناته ‪ ,‬و رد عليها بما عرف عنه من عنف لفظي ‪ " :‬اذهبي و اعملي شغالة لتكسبي قوتك‬
‫"‪.‬‬
‫و رفعت " بياريت لوبان " التحدي ‪ ,‬و اتصلت بمجلة " بلي بوي " لتعرض عليها أن‬
‫تصورها ‪ ,‬و هي تقوم بأشغالها المنزلية عارية ‪ .‬وبرغم أنها كانت قد تجاوزت الربعين ‪,‬‬
‫فقد قدمت للقراء صورا ً ل بأس بها لمرأة تمسح الرض و تنظف الزجاج ‪ ,‬و تغل الواني‬
‫نكاية في رجل ‪ ,‬و نكاية في زوجات السياسيين الفرنسيين ‪ ,‬و ضمنهن زوجة ميتران ‪,‬‬
‫ذات البشاعة المتميزة ‪ ,‬التي أبدت ترفعها و تعففها عن عمل شنيع كهذا ‪ .‬و بدل أن‬
‫تتقاضى ‪ 50‬فرنكا ً فرنسيا ً ‪ ,‬تتقاضاها أية شغالة في فرنسا عن ساعة عمل … تلقت شيكا ً‬
‫بمليون فرنك فرنسي ‪.‬‬
‫أما أغلى جلسة تعري فتعود لماري تيريز ‪ ,‬عشية بيكاسو ‪ ,‬التي رسمها في لوحته‬
‫الشهيرة " عارية على مقعد أسود " و برغم كون اللوحة ل علقة لها بالنوثة ‪ ,‬و هي عبارة‬
‫عن أشكال متداخلة ‪ ,‬فقد بيعت مؤخرا ً بمبلغ ‪ 45‬مليون دولر … و لم تكسب منها‬
‫العشيقة العارية إل المجد ‪.‬‬
‫ل وقت لي لستنتج لكم عبرة من كل ما سبق ‪ .‬فأنا من دون شغالة منذ شهر و نصف‬
‫الشهر …‪ .‬و أمامي أشغال كثيرة‪.‬‬

‫مناديل‪ ..‬ل تمسح العار‬


‫من اخترع‬‫بعد أن تعبنا من تكرار تلك المقولة التي نصفها إهانة‪ ،‬أما الفخر فيها فلكوننا َ‬
‫الصفر دون العاَلمين )وإن كانت النكتة تقول إننا توّقفنا عنده(‪ ،‬صار في إمكاننا أن نباهي‬
‫بكوننا حققنا رقما ً قياسيا ً عالميًا‪ ،‬بصناعة أكبر علبة مناديل ورقّية في العاَلم‪ ،‬أنتجتها منذ‬
‫أشهر شركة أردنّية‪.‬‬
‫هـل له‪ .‬لــذا‪ ،‬ما كان في إمكاننا منافسة تشيكيا‬ ‫ّ‬ ‫مؤ‬ ‫هو‬ ‫ما‬ ‫في‬ ‫ي‬
‫ّ‬ ‫القياس‬ ‫طم الرقم‬‫ل ُيح ّ‬
‫ك ّ‬
‫في دخولها كتاب “غينيس” بأكبر زجاجة شمبانيا‪ ،‬ول كوبا بأكبر سيجار‪ ،‬ول المكسيك بأكبر‬
‫دس‪.‬‬ ‫مس ّ‬ ‫كرة زينة لعيد الميلد‪ ،‬أو بولندا بأكبر ُ‬
‫ن فيه من بلوي ومصائب‬ ‫الجميع تنازلوا لنا عن المناديل الورقّية‪ .‬فل سوانا له ما نح ُ‬
‫ل مناديل تلك العلبة العملقة‪ ،‬ل تكفي لمسح دموع سكان‬ ‫س‪ ..‬وإهانات‪ .‬فك ّ‬ ‫ومذابح ومآ ٍ‬
‫مدينة عربية واحدة‪.‬‬
‫ل‪ ،‬حيث ل يباهي أبناؤها بما هو أكبر )خاصة إذا‬ ‫حتمًا‪ ،‬ما كان الخطر ليأتينا من اليابان مث ً‬
‫عرفهم البكاء‬‫ن اليابانيين شعب ل يبكي‪ .‬في ُ‬ ‫كان من ورق(‪ ،‬بل بما هو أصغر وأدق‪ .‬ثم إ ّ‬
‫عيب وإهانة لصاحبه‪ ،‬حتى لحظة الفقدان أو الموت‪ .‬فكرامة الياباني وعّزة نفسه‬
‫ب شبابنا‪ ،‬فتيانا ً وفتيات‪ ،‬في‬‫ح ُ‬‫السطورية تجعلن النتحار أسهل عليه من البكاء‪ ،‬بينما ي َن ْت َ ِ‬
‫ل‪ ،‬التي ينتظرون فيها الفوز باستمارة تؤهلهم‬ ‫ي‪ ،‬وهم يتدافعون في طوابير الذ ّ‬ ‫ل بلد عرب ّ‬‫ك ّ‬
‫للوقوف دقائق أمام لجنة “ستار أكاديمي”‪ .‬وسيتواصل بعدها البكاء والنحيب في الحالتين‪،‬‬
‫ة أو حزنًا‪ ،‬تنتشر بين الشباب العربي كانتشار‬ ‫سواء فازوا‪ ..‬أم سقطوا‪ .‬فعدوى البكاء‪ ،‬بهج ً‬
‫مرّبينا أو رعاة مستقبلنا‪ .‬أمام‬ ‫“النفلونزا” بين الطيور‪ ،‬من دون أن ُيثير ذلك أيّ ذعر لدى ُ‬
‫رخص دمعنا المعروض للفرجة‪ ،‬وانخفاض منسوب الكرامة‪ ،‬كان يلزمنا حقا ً علبة مناديل‬
‫ورقية عملقة‪ ،‬مادمنا عاجزين عن اكتساب جينات الشرف‪ ،‬التي تصنع هالة وهْيبة شعوب‬
‫ت بمقال‬ ‫ُ‬
‫أخرى‪ .‬باقي الكلم أتركه للصديق‪ ،‬الكاتب السوري نزيه أبو عفش‪ .‬فقد احتفظ ُ‬
‫قديم له عن فداحة الشرف لدى الذين ُتقاس كرامتهم بالموت‪ ..‬ل بالدموع‪ .‬اقرأوه‪..‬‬
‫واستعينوا بمنديل للبكاء!‬

‫*****‬

‫مـت بهم وعكة صغيرة من‬ ‫كر في اليابانيين‪ :‬يموتون إذا ألـ ّ‬ ‫“حين أقول “الشرف”‪ُ ..‬أف ّ‬
‫م بهم‪ .‬يواجهون الحروب‪ ،‬المجاعات‪،‬‬ ‫ن طاعونا ً ألــ ّ‬
‫وعكات الشرف‪ .‬يموتون‪ ..‬كما لو أ ّ‬
‫الكوارث‪ ،‬القنابل الذّرية التي تطحن عظام المدن والكائنات‪ ..‬ينتصرون على الهزائم‪،‬‬
‫ويقيمون الحياة من حضيض موتها‪ .‬لكنهم يضعفون أمام وعكة الشرف‪ ،‬ينطرحون أمام‬
‫مرايا ضمائرهم كفراشات مقصوصة الجنحة )‪ ،(...‬كأنما ليشهدوا الموت على مآثر‬
‫“الكاميكاز”‪ ،‬الذي ل يستطيع أن يواصل الحياة بشرف نازف وضمير مثلوم‪ .‬يموتون‪:‬‬
‫خبراء اقتصاد‪ ،‬مديرو مؤسسات مالية‪ ،‬يستدرجون‬ ‫طيارون‪ ،‬قادة جيوش‪ ،‬كّتاب وشعراء‪ُ ،‬‬
‫الموت برصاصة أو سيف‪ ،‬أو حبل يتدّلى من سقف غرفة فندق!‬
‫ملوا كارثة اهتزاز الضمير‪ ،‬واضطراب بوصلة‬ ‫يموتون إذ ل يكون في وسعهم أن يتح ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫الشرف النسان ّ‬
‫مى الشرف!‬ ‫مى‪ :‬تقتلهم ح ّ‬ ‫ل تقتلهم الح ّ‬
‫ي ينتحر‪ ،‬كي ل ُيقال‪“ :‬عاش‬ ‫ّ‬ ‫اليابان‬ ‫تجعل‬ ‫التي‬ ‫النادرة‬ ‫دة‬‫ّ‬ ‫الغ‬ ‫تلك‬ ‫في‬ ‫الشرف‪،‬‬ ‫كر في‬‫ُأف ّ‬
‫صب‬‫ن أيتام هذه القاّرة الحزينة‪ ،‬حيث ُتنت ََهك القوانين وُتغت َ َ‬ ‫كر فينا‪ ،‬نح ُ‬‫بشرف مريض”! ُأف ّ‬
‫هاِتك كرامة‬ ‫ص أو َ‬
‫ف جفن لخائن أو ل ّ‬ ‫كرامات البشر‪ ،‬حيث تنهد ّ السماء على الرض‪ ،‬فل ير ّ‬
‫من حولنا‪ ،‬في ُأناس ل يؤّرقهم شرف ول ينّغص‬ ‫مـل في ما حولنا وفي َ‬ ‫وطــن! أتأ ّ‬
‫محّنطة في ن َِعــال أحذيتهم!”‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ضمائرهم‬ ‫كأن‬ ‫ضمير‪،‬‬ ‫أعراسهم‬

‫مقعده‬ ‫القلب حين يختار‬


‫في زمن مضى حسدت شعراء التحاد السوفياتي‪ ،‬يوم كان ُيكتب على جواز سفر أحدهم‬
‫ن صاحب الجواز موظف بدوام‬ ‫بجوار المهنة‪ :‬شاعر‪ .‬لكن‪ ،‬ربما‪ ،‬ما كان ذلك يعني‪ ،‬سوى أ ّ‬
‫شعريّ كامل في الحزب الشيوعي‪.‬‬
‫من َيعتبر نفسه "رفيقًا" لغير الحقيقة‪ .‬لــذا‪ ،‬كان الشعراء‬ ‫قل حمله على َ‬ ‫شعر تاج َيث ُ‬ ‫ال ّ‬
‫يأتون العالم برتبة مبشرين‪ ،‬ويغادرون وخلفهم أتباع وُرواة‪.‬‬
‫اليــــوم‪ ،‬أن تشهر شاعريتك‪ ،‬أمر يبدو أقرب إلى النكتة‪ .‬في الغرب مثل ً قد ُيفهم من‬
‫احترافك الشعر‪ ،‬أنك أحمق‪ ،‬أو فاشل تخّلت عنك الحضارة والتكنولوجيا‪ ،‬ولن ُتقاَبـل بغير‬
‫كم السّري والشفقة‪ .‬بالنسبة إلى الجميع مات الشعر مع كباره‪ ،‬من جيل الحرب‬ ‫الته ّ‬
‫العالمية الثانية‪ ،‬شعراء الوجودية وأبناء الرومنطيقية السوداء‪ ،‬الذين انهطلت أحزانهم‬
‫"غيمة في بنطلون"‪ ،‬حسب تعبير "مايكوفسكي"‪ ،‬شاعر روسيا العظيم‪ ،‬الذي انتهى‬
‫ت مظّلة تحميه من انهطال الّتهم على شرفاء القلم‪.‬‬ ‫منتحرا ً عندما لم يجد غير المو ِ‬ ‫ُ‬
‫سب لها حساب‪،‬‬ ‫يح‬
‫ُ َ‬ ‫سطوة‬ ‫للشاعر‬ ‫كان‬ ‫يوم‬ ‫بشعرائها‪،‬‬ ‫تباهي‬ ‫ُ‬ ‫والنسانية‬ ‫هوميروس‪،‬‬ ‫منذ‬
‫مستعينة بالكمبيوتر‬ ‫م ُتجهز عليه‪ُ ،‬‬‫وتنحني لها الرقاب‪ ،‬قبل أن تأتي الرواية وتلوي رقبته‪ ،‬ث ّ‬
‫وال‪.‬‬
‫والفضائيات‪ ،‬ولهجة المسلسلت ورسائل الج ّ‬
‫ً‬
‫إذا كان الشعر‪ ،‬كما يبدو لي‪ ،‬هو فن تجميل الشقاء النساني بالكلمات‪ ،‬أي نوعا من‬
‫اليحاء المتستر عن حياء‪ ،‬فالرواية كما أراها هي‪ ،‬بدءًا‪ ،‬فن تعرية هذا الشقاء على الضوء‬
‫الكاشف للبوح‪ .‬ول أحد يقاوم الدعوة إلى التلصص على حياة الخرين‪ ،‬عساه يعثر فيها‬
‫على بعض حياته‪.‬‬
‫ل جوهره‪ ،‬يختبئان تحت أكوام‬ ‫ماذا في إمكان الشعر أن يفعل لنقاذ بيت أو اثنين‪ ،‬هما ك ّ‬
‫حفظ‪ ،‬ول للحفظ‪ ،‬فغالبا ً ما تنتهي صلحيتها الشعرية‬ ‫ضَباب اللغة الحديثة غير القابلة لل ِ‬ ‫من َ‬
‫مع انتهائك من مطالعتها؟‬
‫دور النشر الشاّبة‪ ،‬التي اشتهرت بحماستها للدب‬ ‫ُ‬ ‫إحدى‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫أذكر‬ ‫منذ أربع سنوات‪ ،‬أو أكثر‪،‬‬
‫"الجديد"‪ ،‬أودى بها حّبها للشعر‪ ،‬ولم تجد في معرض الكتاب في بيروت‪ ،‬من طريقة‬
‫مشتراة‪ .‬الدار ُأغلقت منذ ذلك‬ ‫فدائية لُنصرته‪ ،‬غير تقديم ديوان شعر هدية مع كل رواية ُ‬
‫مفلسة كمعظم قضايانا الراهنة‪.‬‬ ‫الحين‪ .‬فالشعر قضية عربية ُ‬
‫كرني‬‫شخصيًا‪ ،‬ل أدري إن كان في مثل هذا التصّرف تكريم للشعر أم إهانة له‪ .‬المر ُيذ ّ‬
‫حد‪ .‬إنه اعتراف ضمني‬ ‫ُ‬
‫بتلك السلع التي ُتلصق بسلعة أخرى في "عرض خاص" بسعر مو ّ‬
‫ُ‬
‫ماليا ً في حياتنا‪ ،‬وبأنه فقد هيبة مكانته الولى‪ ،‬ونحتاج لتسويقه إلى‬ ‫شعر غدا ثانويا ً وك َ َ‬ ‫بأن ال ّ‬
‫الستنجاد بشريط غنائي أو رواية‪.‬‬
‫ُ‬
‫ل في إدخاله الرواية ذاتها‪ ،‬بل ومنحه الصدارة والصفحات الولى‬ ‫ت الح ّ‬
‫ي‪ ،‬وجد ُ‬‫بالنسبة إلـ ّ‬
‫ن في المكانة التي نمنحها الشعر تكمن مكانتنا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫لعلمي‬ ‫أكتبه‪،‬‬ ‫عمل‬ ‫في كل‬
‫درس تعلمته من نزار‪ ،‬الذي حكى لي كيف أنه منذ بداياته لم يقبل دعوة إلى زيارة أي بلد‬ ‫ّ‬
‫لولى"‪ .‬نزار الذي‬ ‫عربي‪ ،‬على الدرجة الثانية‪ .‬ذلك أن "الشعر ل يسافر إل ّ على الدرجة ا ُ‬
‫اعترف لي بأنه عندما يسافر على حسابه يسافر على الدرجة القتصادية‪ ،‬لنه آنذاك ل‬
‫يكون معنيا ً بتصحيح نظرة الخرين إلى مكانة الشاعر‪ ،‬أو مكانه‪ .‬لم ينجح في تلقيني هذا‬
‫مغنيات والمذيعات‪،‬‬ ‫من تفيض خيراتهم على ال ْ ُ‬ ‫الدرس دائمًا‪ ،‬لنني‪ ،‬إن كنت ل أتساهل مع َ‬
‫مال السودانيين‪،‬‬ ‫فإنني جاهزة لزيارة السودان‪ ،‬محشورة في المقاعد الخلفية مع الع ّ‬
‫حــب هؤلء الناس الطيبين البسطاء لي‪ ،‬ولعتقادي بوجود درجة ثالثة‪ ،‬غير‬ ‫لعلمي بمدى ُ‬
‫لولى والثانية‪ ،‬ليس فيها مكان سوى لمقعد واحد محجوز للقلب‪.‬‬ ‫ا ُ‬
‫ولنني ل أسافر إلى الجزائر إل ّ على هذا المقعد‪ ،‬كّلما وصلتني دعوة من هناك على‬
‫مصّرة على تحويل بطاقتي إلى الدرجة السياحية‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الدرجة الولى‪ ،‬رحــت أهاتفهم لمرات‪ُ ،‬‬
‫من عرف غرابة طباعي وغيرتي على‬ ‫كي أوفر عليهم المصاريف بالعملة الصعبة)!( بعض َ‬
‫مال الجزائر‪ ،‬مثل مدير التلفزيون الجزائري‪ ،‬أصبح يمتثل لمطلبي‪ ،‬خاصة بعدما أراد‬
‫أحدهم تكريمي‪ ،‬باستضافتي في الجناح الرئاسي في أفخم فندق بحريّ في الجزائر‪،‬‬
‫ظفيه بنقلي إلى غرفة عادية‪ ،‬أمام احتجاج ُأمي التي‬ ‫فقضيت فترة إقامتي مطالبة مو ّ‬
‫انتقلت للقامة معي‪ ،‬وشرعت في استضافة صديقاتها في صالوني‪ ،‬وأصبحت ل تناديني‬
‫بعدها إل ّ "المهبولة" واثقة بأنني ورثت جنون أبي‪.‬‬
‫أذكر هذا الن تداعيا ً للخواطر‪ ،‬وأسأل نفسي‪ :‬أفعلت ذلك لنني ما أخذت نفسي يوما ً‬
‫مأخذ الشعر؟ أم لنني مع الجزائر بالذات‪ ،‬ومثلها مع السودان‪ ،‬أشعر بما لم يعد يشعر به‬
‫الكثيرون‪ ..‬شيء شبيه بالحياء‪ ،‬الحياء الذي ل يعرفه غير الدباء‪ ..‬والشعراء‬

‫ور جنازتك‬ ‫ور‪ُ ..‬‬


‫قم وص ّ‬ ‫أّيها المص ّ‬

‫قاد تطاردني‪ .‬نظرته تلك التي يرى بها ما ل نراه‪ ،‬عندما خلف‬ ‫مازالت نظرة مصطفى الع ّ‬
‫مل شيئا ً ليس الذي نتوّقعه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويتأ‬ ‫غليونه‬ ‫وقاره‪ ،‬يسحب نفسا ً من‬
‫ما كان يرى بعينيه‪ .‬بل بعين واحدة‪ :‬عين الكاميرا‪ .‬حزينة أنا من أجل عينه التي سعوا إلى‬
‫إغماضها‪ ،‬وسعدوا بحجب الرؤية عنها‪ .‬فما كان شيء سوانا أمامها‪ ..‬جميلين كنا في عينه‬
‫ضان النظر عن بشاعتنا‪.‬‬ ‫ي مع قلبه‪ ،‬تغ ّ‬ ‫ما عيناه الخريان‪ ،‬فكانتا في تواطؤ قوم ّ‬ ‫تلك‪ .‬أ ّ‬
‫وي بها‬ ‫ّ‬ ‫لت‬ ‫سمعت‬ ‫وكأنني‬ ‫فاجعته‪،‬‬ ‫دموع‬ ‫تفاجئني‬ ‫فقط‪،‬‬ ‫اللحظة‬ ‫هذه‬ ‫في‬ ‫اللحظة‪،‬‬ ‫هذه‬ ‫في‬
‫ن الكاميرا‬ ‫دق أنهم فقأوا عينه تلك‪ ،‬وأ ّ‬ ‫ل هذا الوقت لص ّ‬ ‫خرة كعادتي‪ .‬ك ّ‬ ‫حدث‪ .‬أبكيه متأ ّ‬
‫ور آخر مشهد رأته عيناه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تص‬ ‫لن‬ ‫وأنها‬ ‫يده‪،‬‬ ‫سقطت من‬
‫ور جنازته لتكون آخر مشهد في‬ ‫أحمد زكي‪ ،‬وهو ُيقاوم سكرات الموت أوصى بأن تص ّ‬
‫فيلمه الخير عن عبدالحليم‪ ،‬وكان للممثل الكبير ما أراد‪ .‬منحناه فرصة مواصلة التمثيل‬
‫مالها وصباها أشلء بشرّية‬ ‫قاد‪ ،‬الذي مّثلنا بابنته‪ ،‬وأهديناه َ‬
‫ج َ‬ ‫محمول ً على نعش‪ .‬أ ّ‬
‫ما الع ّ‬
‫ور جنازته أو جنازتها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ليص‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫عين‬ ‫ول‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫يد‬ ‫له‬ ‫تركنا‬ ‫ما‬ ‫مجموعة في صندوق‪،‬‬
‫دمه رئيس‬ ‫مان إلى وطنه‪ ،‬في موكب مهيب من ثلثين سيارة‪ ،‬يتق ّ‬ ‫ما جدوى أن يعود من ع ّ‬
‫الوزراء الردني‪ ،‬لُيسّلمه إلى أهله في بلدة حدودّية‪ ،‬ليمضوا به إلى مسقط قلبه ومكمن‬
‫ي؟‬‫جرحه‪ ،‬محمول ً على نعش الغدر العرب ّ‬
‫ل هذا‪ ،‬إن لم تره تلك العين‪ ،‬عينه التي غطى الدم عدستها؟‬ ‫ما جدوى ك ّ‬
‫ور جنازتك‪ .‬أخلفت مشهدك الخير‪ .‬كل الطرقات التي سلكتها ميتا ً‬ ‫ور‪ُ ،‬قم وص ّ‬‫أيها المص ّ‬
‫تعرفك‪ ،‬لكنك ما عدت تعرف قرابتك بها‪ .‬أهذه حقا ً أرضك؟ وهذي أمتك؟‬
‫ن تكون؟ أكنت ستكّرر‬ ‫م ْ‬
‫لو عادت اليوم تلك الصحافّية الميركية التي سألتك مرة بمكر‪َ :‬‬
‫عليها مّرتين جوابك الساذج ذاك‪ ،‬كما فعلت لمزيد من التأكيد "أنا عربي مسلم من سوريا"‬
‫يوم كان غيرك يخلع عباءة عروبته حال صعوده طائرة الغربة‪ ،‬ويتبّرأ من دينه حال اعتلئه‬
‫صة الشهرة؟‬ ‫من ّ‬
‫عندما وقعت على صوري في أحد العداد الخيرة لـ"زهرة الخليج"‪ ،‬منشورة على صفحتين‬
‫قاد‪ ،‬أسعدني المر بقدر ما‬ ‫حام‪ ،‬والراحل الكبير مصطفى الع ّ‬ ‫برفقة الفنان القدير دريد ل ّ‬
‫دس‬‫َ ْ‬‫ح‬ ‫ب‬ ‫وكاميرته‬ ‫مسجلته‬ ‫قت‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ث‬‫و‬ ‫الذي‬ ‫هنيدي‬ ‫ربيع‬ ‫زميلي‬ ‫آلمني‪ ،‬وشكرت في سّري‬
‫صحافي "نقاشات وضحكا ً من القلب" كان شاهدا عليها‪.‬‬
‫ً‬
‫ُ‬
‫مة‬‫ما ما كان ُيلهب حوارنا‪ ،‬فحتما ً مآسي هذه ال ّ‬ ‫ما أضحكنا آنذاك‪ .‬أ ّ‬ ‫ت أذكر شيئا ً م ّ‬‫ما عد ُ‬
‫منا المشترك‪ ،‬خاصة أن اجتماعنا كان يعود‬ ‫مبدعيها‪ .‬فقد كانت وجعنا وه ّ‬ ‫وبؤس قدر ُ‬
‫الفضل فيه لقناة أبوظبي التي استضافت يومها كبار المبدعين العرب‪ ،‬لدعم حملة "لجلك‬
‫يا قدس" وجمع تبّرعات على مدى أربع وعشرين ساعة‪ ،‬منعا ً لتهويد القدس ومساندة‬
‫للنتفاضة‪ ،‬أيام محمد الدّرة وما رافقه من شهداء‪.‬‬
‫ي كان على‬ ‫ن أّول فعل تضامن ّ‬ ‫قاد‪ ،‬إ ّ‬ ‫أذكر أنني قلت يومها لحد الصحافيين في حضرة الع ّ‬
‫الضيوف القيام به هو حضورهم إلى أبوظبي على حسابهم‪ ،‬ورفضهم القامة في فنادق‬
‫فاخرة‪ ،‬والتبّرع بتكاليف استضافتهم لصندوق النتفاضة‪ .‬فشخصيا ً أستحيي أن ُأدّلل بذريعة‬
‫من جئت لمساندتهم في بؤسهم‪ .‬صاح بي )رحمه الّله(‪ ،‬بعد ذلك‪" :‬من أين جئِتنا بهذه‬
‫ُ‬
‫دها‬
‫مة ليس لها تقاليد في تدليل مبدعيها‪ ،‬ب ّ‬ ‫دينا قرن َلوراء‪ ..‬هذه أ ّ‬‫دك تر ّ‬‫الفكرة المجنونة؟ ب ّ‬
‫غمزة لتستعيد مّنا ما أعطتنا بعد عناء!"‪.‬‬
‫أعطته؟ هي لم تعطه شيئا ً برغم العناء‪ .‬كان يدور العواصم العربية متسوّل ً ثمن أحلمه‬
‫الكبيرة "بثمن طائرة حربية واحدة مستعد أن أفعل المعجزات‪ .‬العلم سلح أقوى من‬
‫الطائرات والدبابات"‪.‬‬
‫قاد‪ ..‬أحلمه تقَبع خردة في مستودعات السلحة العربّية!‬ ‫مات الع ّ‬

‫شـكـــرًا‪ ..‬أّيها الشاعر الجميل‬

‫استفَرد َ السرائيليون بالشعب الفلسطيني‪ ،‬أثناء انشغالنا بمقاطعة الزبد الدانماركي‪،‬‬


‫مة التنكيل به‪ ،‬والجهاز عليه تجويعا ً وإبادة وحصارا‪ً.‬‬ ‫ومتابعة الفجائع العراقية‪ .‬واصلوا مه ّ‬
‫ل صوب‪ .‬بعد ثلثين سنة من تاريخ تلك‬ ‫وق الفلسطينيين من ك ّ‬ ‫"الجدار الواقي" ُيط ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫القصيدة‪ ،‬التي هّزتنا جميعا‪ ،‬حتى الشعر تخلى عن الفلسطينيين وخانهم‪ ..‬صار في إمكان‬
‫شارون أن ينسب إلى نفسه قول سميح القاسم‪ ،‬ويصيح حتى بعد موته "إّنا هنا على‬
‫صدوركم باقون كالجدار"‪.‬‬
‫شطَبت من ذاكرتنا صور الضحايا الفلسطينيين‪ ،‬حتى رأينا صور الذلل تلك‬ ‫صور العراقيين َ‬ ‫ُ‬
‫مداهمتها سجن أريحا‪ .‬الرجولة العربّية‬ ‫التي وّزعتها إسرائيل على شاشات العالم يوم ُ‬
‫حة كأرضنا‪ ،‬كثرواتنا‪ ،‬لم ُتحّرك فينا شيئًا‪ ،‬وهي عاريـة تمّر معصوبة العينين‬ ‫مَهاَنة ال ْ ُ‬
‫مست ََبا َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫من يهن يسهل الهوان‬ ‫ً‬
‫مهي ّأ لتتفّرج عليه كاميرات العالم‪َ " ..‬‬ ‫في سروال داخلي‪ ،‬ما كان ُ‬
‫جب حّتى‪ .‬فقد سبق أن شاهدنا أحد رموز‬ ‫ع‬
‫َْ َ‬ ‫ن‬ ‫لم‬ ‫ك‪،‬‬
‫ِ‬ ‫نب‬ ‫لم‬ ‫عليه"‪ .‬لم نتظاهر‪ ،‬لم نحتج‪،‬‬
‫ّ‬
‫العروبة والرجولة يغسل ثيابه الداخلّية‪ .‬بعضنا في شماتة في غير محلها خصص للصورة ‪-‬‬
‫دام يغسل سوى الثياب الداخلية‬ ‫لولى بكاملها‪ .‬في الواقع‪ ،‬ما كان ص ّ‬ ‫الحدث‪ ،‬صفحته ا ُ‬
‫لشرفنا‪.‬‬
‫مة نّية مبّيتة لتجريدنا من كرامتنا‪ ،‬بإهانة المقاتلين من رجالنا‪ ،‬في ما هو الغلى على‬ ‫ث ّ‬
‫م إنشاؤها‬ ‫ي‪ :‬رجولته‪ ،‬وتعهير نسائنا في قنوات موسيقّية مشبوهة النوايا‪ ،‬ت ّ‬ ‫الرجل العرب ّ‬
‫ي مرتين‪ ،‬والجهاز على أجيال عربّية بأكملها‪.‬‬ ‫لغراض سياسّية‪ ،‬قصد خصي الرجل العرب ّ‬
‫ن دموعي يومها أعفتني من‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫أريحا‪،‬‬ ‫سجن‬ ‫خرت في الكتابة عن إهانة إسرائيل َأسرى‬ ‫تأ ّ‬
‫صد َىً لتلك‬ ‫ت في الصحافة العربّية ما ُيضاهي وجعي من َ‬ ‫واجب الكتابة‪ ،‬ولنني ما وجد ُ‬
‫مـن رآها‪.‬‬ ‫مذ َّلـة‪ ،‬حتى ظننتني وحدي َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن أقرأة‪ .‬ما كان المقال‬ ‫ّ‬
‫ل رد ّ العتبار لكرامتي‪ ،‬وتكلم بما تمنيت أ ّ‬ ‫خــرا‪ ،‬وقعت على مقا ٍ‬ ‫ً‬ ‫مؤ ّ‬
‫قال جميل وطويل نشرته‬ ‫ي‪ ،‬بل لشاعر إسرائيلي نشره في صحيفة "هاآرتس"‪ .‬ال َْ‬
‫م َ‬ ‫لعرب ّ‬
‫عريهم‪،‬‬ ‫ً‬
‫قا بصورة لهؤلء الرجال الجميلين حقا في ُ‬ ‫ً‬ ‫مرفَ َ‬ ‫جريدة "أخبار الدب" المصرّية‪ُ ،‬‬
‫وتحته مقال الشاعر "بني تسيبار" الذي عنوانه "الفلسطينيون شعب جميل‪ ،‬حاولت‬
‫إسرائيل تعرية الرجال فأظهرت شيخوختها وبؤسها"‪ .‬تمّنيت لو نقلُته كّله لكم‪ ..‬ولكنني‬
‫مجبرة على الختصار‪.‬‬ ‫ُ‬
‫قد َ حياءه‪ .‬ولجل إظهار هذا النصر‬ ‫دفاع السرائيلي‪ ،‬بشكل عام‪ ،‬فَ َ‬ ‫ن جيش ال ّ‬ ‫"‪ ...‬أعتقد أ ّ‬
‫حـاَول أن يعرض علينا النصر عن‬ ‫مجّرد عرض‪َ ،‬‬ ‫العظيم‪ ،‬الذي لم يكن نصرا ً أبدًا‪ ،‬إّنما ُ‬
‫دفاع السرائيلي إجبار‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫طريق إذلل الّناس وإجبارهم على التعّري ع َلَنــا‪ ،‬أي حاول جيش ال ّ‬
‫الفلسطينيين‪ ،‬الذين كانوا هناك‪ ،‬على أن يفقدوا حياءهم هم كذلك معه )‪ (...‬على النقيض‬
‫عــراة‪ ،‬يسيرون‬ ‫ور فيها اليهود ُ‬ ‫من الصـور التي تنتمي إلى الحرب العالمّية الثانية‪ ،‬التي ص ّ‬
‫إلى موتهم‪ ،‬عاجزين تمامًا‪ .‬فالفلسطينيون العَُراة الذين خرجوا من سجن أريحا‪َ ،‬بدوا‬
‫منتصبي القامة‪ ،‬معتزين بأنفسهم‪،‬‬ ‫ي‪ ،‬وساروا ُ‬ ‫وكأّنهم لم يفقدوا ذ َّرة من احترامهم النسان ّ‬
‫من يتلصصون عليهم‪ :‬جيشكم وشبابكم كله )‪ ...‬لشيء(‪.‬‬ ‫ل َ‬‫كأّنما يقولون لك ّ‬
‫مقّيد عصُبوا عينيه‬ ‫دا ظهر رجل فلسطيني ُ‬ ‫في صورة تكّررت أكثر من مّرة على الشاشة‪ ،‬ب َ َ‬
‫مستن ِد َا ً إلى سيارة عسكرية إسرائيلية‪.‬‬ ‫بخرقة بيضاء‪ ..‬يقف في سرواله الزرق الداخلي‪ُ ،‬‬
‫صان‪ ،‬كما يقولون اليوم‪ ،‬وإّنه كان في‬ ‫ح َ‬ ‫دا كال ِ‬ ‫ن أقول ع َل َن َا ً إّنـه َبـ َ‬ ‫ليس لديّ أيّ مشكلة ل ّ‬
‫إمكانه العمل كعارض أزيــاء في شركة لـ"السراويل الداخلية"‪ .‬كذلك لم يكن ينقص‬
‫ي‪ ،‬لمكن القول‬ ‫الفلسطينيين‪ ،‬الواقفين في الشمس‪ ،‬أيّ شيء‪ .‬ولول هذا الوضع ال ْغَِبـ ّ‬
‫ي أن أشير إلى أّنـي ل أملك‬ ‫شَبة مسرح )‪ .(...‬علـ ّ‬ ‫خ َ‬ ‫إنهم يقفون هناك في امتحان على َ‬
‫مام سباحة‬ ‫جسدا ً رياضيًا‪ .‬إذ أستحي من كشف جسدي ع َلن َا‪ .‬لذا لم أستحم لسنوات في ح ّ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫من انتصروا في الواقع في هذه المعركة ال ْغَب ِّيــة‬ ‫ُ‬
‫ن َ‬ ‫أو في البحــر )‪ .(...‬ما أريد قولــــه‪ ،‬إ ّ‬
‫مثيــرا ً‬ ‫مــل كثيــرًا‪ ،‬و ُ‬ ‫ج َ‬‫هم أ ْ‬ ‫دا مظهر ُ‬ ‫قولـــة إعلميًا‪ ،‬كانوا هم الفلسطينيين‪ .‬إذ َبــ َ‬ ‫من ْ ُ‬‫وال ْ َ‬
‫دفـاع السرائيلي‪ .‬هذا هو المر‪" :‬الن بلدوزرات ثقيلة‪ ،‬قبيحة‬ ‫للهتمام‪ ،‬من مظهر جيش ال ّ‬
‫شـر أَبــدا‪ً.‬‬ ‫سد صورة الجيش السرائيلي‪ ،‬وليس الب َ َ‬ ‫وغير إنسانّيــة‪ ،‬هي ما ُتج ّ‬
‫ل ما تنازَلت عنه إسرائيل‬ ‫جول َت َُهــم‪ ،‬أيّ ك ّ‬ ‫ُ‬ ‫ر‬ ‫هـم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫با‬ ‫ص‬
‫ِ َ‬ ‫رزون‬ ‫الفلسطينيون فهم ي ُب ْ ِ‬ ‫مـا‬ ‫أ ّ‬
‫عــات والسّيارات التي‬ ‫مد َّر َ‬ ‫ْ‬ ‫خ َ‬ ‫َ‬ ‫و َ‬
‫سدها بال ُ‬ ‫ج َ‬ ‫جل من نفسها‪ ،‬وفي تغطية َ‬ ‫خ َ‬ ‫ذت في ال َ‬ ‫خــت‪ .‬أ َ‬ ‫شا َ‬
‫كن هزيمة الشعوب الجميلــة‪.‬‬ ‫ُ ِ‬‫يم‬ ‫ل‬ ‫نه‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫أعتقد‬ ‫يديرها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الذي‬ ‫النسان‬ ‫رؤيــة‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫أبـد‬ ‫يمكن‬ ‫ل ُ‬
‫ن الفلسطينيين‬ ‫ي في أريحــا‪ ،‬من دون أدَنــى شك‪ ،‬أ ّ‬ ‫ولقد أثبت عرض العري الفلسطين ّ‬
‫هـم شعب جميل‪."..‬‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫شكـــرا أّيـهـا‬ ‫ْ‬ ‫مـاة الُعروَبــة‪ ،‬بعد هذا‪ ،‬أن أقـــول لبني تسيبار‪ُ " :‬‬ ‫حـ َ‬‫سـادة ُ‬ ‫أيسمح لي ال ّ‬
‫هــة‪.‬‬ ‫مــوا منـه فضيلـة الّنزا َ‬ ‫شـاعر الجميــل"؟ وليتعل ُّ‬ ‫ال ّ‬

‫جنرال الفرح‬
‫مــّرت إذن أعياد نهاية السنة‪.‬‬
‫َ‬
‫دق نصيحة أندري جيد “ل‬ ‫لم تخذلني لنني لم أنتظر مباهجها مدفوعة الجر‪ .‬مازلت ُ‬
‫أص‬
‫ّ‬
‫تهيئ أفراحك”‪.‬‬
‫ن سعادته رهن مكاسبه‪ ..‬ومصاريفه‪ .‬لــذا‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ربما‬ ‫يدفع‪.‬‬ ‫ما‬ ‫بقدر‬ ‫عد‬ ‫يس‬
‫َ َ‬ ‫س‬ ‫نه‬
‫البعض يعتقد أ ّ‬
‫متعّهدا ً‬ ‫ل من “جنرال الفرح” ُ‬ ‫يحجز له طاولة للبهجة في فندنق بخمسة نجوم‪ .‬ل يقبل بأق ّ‬
‫لسهرته‪ .‬وهو يحتاج فعل ً إلى عسكريّ بهذه الرتبة‪ ..‬لنه سيفرح تحت إجراءات أمنّية‬
‫ن البهجة تحتاج إلى رفقة‬ ‫ددة‪ .‬وهو جاهز لن يدفع ألف دولر أميركي ثمن مقعده‪ .‬ول ّ‬ ‫مش ّ‬ ‫ُ‬
‫ل مقعد محجوز‬ ‫ً‬
‫وزمرة وشلة من أصدقاء الجيب‪ .‬سيحتاج أيضا إلى دفع المبلغ نفسه عن ك ّ‬ ‫ّ‬
‫على حسابه في طاولة الفرح العابر بين سنتين‪ ..‬في سهرة تغني فيها نانسي عجرم‬
‫ن البعض ذهب به السباق في التشاوف والمزايدة على‬ ‫مرورا ً وعبورا ً بين فندقين! بل إ ّ‬
‫التبذير‪ ،‬حد ّ شرائه في ليلة رأس السنة قبل الخيرة بطاقات فرحة من السوق السوداء‪..‬‬
‫ده بيوم أبيض‪.‬‬ ‫مراهََنة على فأل قد يعكس الحكمة ويع ُ‬ ‫سبًا‪ ..‬بل ُ‬ ‫ل تح ّ‬
‫دعيت إلى طاولت الهدر أي ّا ً كانت‬ ‫ُ‬ ‫ما‬ ‫لذا‬ ‫التبذير‪.‬‬ ‫من‬ ‫أكثر‬ ‫يستفزني‬ ‫شيء‬ ‫ل‬ ‫ً‬
‫ا‪،‬‬ ‫شخصي‬
‫ذريعة الحتفاء‪ ،‬أو الحتفال‪ ،‬إل ّ واعتذرت‪ ،‬حتى ل أترك إنسانيتي إكرامّية لنادل الثراء‪.‬‬
‫مازلت ل أفهم‪ ،‬كيف في إمكان شخص ُيطالع يوميا ً في الصحف‪ ،‬ما يفيض به العالم من‬
‫س إنسانية‪ ،‬ليس أقّلها بالنسبة إلى المسلم‪ ،‬منظر عشرات اللف من الباكستانيين‬ ‫مآ ٍ‬
‫المحاصرين في الجبال بالثلوج‪ ،‬والقابعين‪ ،‬حيث قذف بهم الزلزال تحت خيام التشّرد من‬
‫دون غذاء ول ماء ول غطاء ول دواء‪ ،‬في انتظار أن تترأف السماء بهم‪ .‬ولو كانوا يدينون‬
‫باليهودّية لفتحت إسرائيل خطا ً جويا ً لنقاذهم ونجدتهم‪ ،‬وربما ذهبت حد ّ خطفهم من براثن‬
‫وي بهم ترسانتها البشرية‪ ،‬كما فَعلت سابقا ً مع‬ ‫الثلج‪ ..‬وجاءت بهم إلى إسرائيل‪ُ .‬تق ّ‬
‫ن إسرائيل قد قامت أثناء نومه‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ليكتشف‬ ‫صباح‪،‬‬ ‫ذات‬ ‫“الفلشا”‪ .‬عندما استيقظ العالم‬
‫بتهريب آلف اليهود الثيوبيين إلى إسرائيل في رحلت جوية ليلية‪“ ،‬جيمس بوندّية”‪.‬‬
‫ل أفهم كيف في إمكان شخص أي ّا ً كانت درجة إيمانه‪ ،‬ونسبة ثرائه‪ ،‬أن يعود لبيته سعيدًا‪،‬‬
‫دة؟‬‫بعد أن أنفق في ساعتين‪ ،‬ما قد ُيبقي عشرات الرواح البشرية حّيـة أشهرا ً ع ّ‬
‫خال نفسه سّيدًا‪ ،‬وليس سوى عبد ٍ لدى “جنرال الفرح”!‬ ‫هــة لمرئ ي َ َ‬ ‫أّيــة وجا َ‬
‫جا في العتراف بهزيمته على يده‪ ،‬عندما‬ ‫ً‬ ‫حَر َ‬‫وهو غير “جنرال الثلج” ‪،‬الذي لم يجد نابليون َ‬
‫مها إلى “حظيرته” ومغانمه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويض‬ ‫عرشها‪،‬‬ ‫زحف بجيوشه نحو روسيا‪ .‬وكان سيتبّرع على‬
‫ً‬
‫لول أن الثلوج حالت دون وصوله إلى موسكو‪ .‬ولو كان الثلج رجل لنازله نابليون‪ ..‬وقتله‪.‬‬
‫م الياء(‪ ،‬إّنه القاتل دومًا‪ .‬وربما بسبب تلك الهزيمة‪ ،‬أو‬ ‫لكن الثلج كما الفقر ل ُيقَتل )بض ّ‬
‫ل شتاء ولءهم‬ ‫ددون ك ّ‬ ‫ل الروس يج ّ‬ ‫مقولة التي رفعت الثلج إلى مرتبة جنرال‪ ،‬ظ ّ‬ ‫تلك ال ْ َ‬
‫مى روسيا بمعطفه البيض‬ ‫لقائدهم البديّ الذي مّرغ أرضا ً غرور ذلك المبراطور‪ ،‬و َ‬
‫ح َ‬
‫الكثيف‪.‬‬
‫ن البعض‪ ،‬في تقليد‬ ‫ّ‬ ‫إ‬ ‫حتى‬ ‫الوحيد‪.‬‬ ‫المبراطور‬ ‫هو‬ ‫الثلج‬ ‫ليزال‬ ‫صقيع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫جمهوريات‬ ‫في‬
‫مى “قفزة‬ ‫ً‬
‫ققا ما ُيس ّ‬ ‫مدة‪ ،‬مح ّ‬ ‫ل عام جديد‪ ،‬اعتاد القفز في المياه المتج ّ‬ ‫ملزم لبداية ك ّ‬
‫قطبّية” تشّبها ً بقفزة دب القطب الشمالي في المياه‪ .‬كأّنه بذلك يقطع على نفسه عهدا ً‬
‫ما قد يحمله العام الجديد من مصاب‪.‬‬ ‫بالصمود أمام كل الصعاب‪ ،‬والتصدي ل ِ َ‬
‫كركم هاتان الكلمتان بشعار ما؟ ل تضحكوا‪،‬‬ ‫ل‪ ،‬أل ُتذ ّ‬
‫كروا قلي ً‬ ‫دي”؟! ف ّ‬ ‫ت “الصمود والتص ّ‬ ‫قل ُ‬
‫متنا من أن نهزم نابليون‪ ،‬أو‬ ‫حَر َ‬ ‫ل تحزنوا أيضا‪ .‬ليس ذنبنا إن بخلت علينا الطبيعة بالثلج‪ ،‬و َ‬ ‫ً‬
‫أن نقتدي بالد ّب ََبــة!‬

‫اقرأوا إبراهيم الكوني‬


‫مبهجا ً كان خبر حصول الكاتب الليبي إبراهيم الكوني‪ ،‬على إحدى أكبر الجوائز العالمية في‬ ‫ُ‬
‫جب أن تكون الجائزة ألمانية‪،‬‬ ‫َ َ‬ ‫ع‬ ‫ول‬ ‫يسبق"نوبل"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫أدبي‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫تكريس‬ ‫البعض‬ ‫يعتبرها‬ ‫التي‬ ‫الدب‪،‬‬
‫ي الذي‬‫ّ‬ ‫الفلسف‬ ‫فكره‬ ‫عمق‬‫ُ‬ ‫حيث تعرف أعماله رواجا ً لم يعرفه أيّ كاتب عربي‪ ،‬بسبب‬
‫يتماشى مع النزعة التأملية لدى اللمان‪ .‬هذا الكاتب‪ ،‬الذي ل يكتب إل ّ باللغة العربية‪ ،‬نال‬
‫مكّرمًا‪ .‬فهو واحد من خمس شخصيات عالمية‬ ‫أعلى جائزة أدبية في سويسرا‪ ،‬حيث يقيم ُ‬
‫قه‬‫شرفّية فيها‪ .‬الكوني الذي لم ينل ح ّ‬ ‫ل غير‪ ،‬منحتها سويسرا خلل قرن حقّ القامة ال ّ‬
‫ما في‬ ‫عربيًا‪ ،‬بلغ أحد أعماله في اليابان المرتبة الثالثة‪ ،‬في مبيعات الكتب المترجمة‪ .‬أ ّ‬
‫فرنسا حيث تصدر أعماله عن "دار غاليمار" الشهيرة‪ ،‬فقد اختارته مجلة "لير" الفرنسية‪،‬‬
‫عربيا ً وحيدا ً بين خمسين روائيا ً من العالم‪ ،‬اعتبرتهم يمثلون اليوم "أدب القرن الحادي‬
‫والعشرين"‪.‬‬
‫أعرف الكوني منذ سنوات‪ .‬وأعترف بأن دماثة خلقه ولطفه وبساطته شغلتني عن‬
‫مطالعته بالعمق الذي هو أهل له‪ .‬فبعض أعماله لطولها الذي ُيفضي غالبا ً إلى عمل آخر‪،‬‬
‫كن من قراءتها‪ .‬لذلك اعتدت أن أستعيض عنها بكتبه‬ ‫تستدعي من المرء أخذ إجازة كي يتم ّ‬
‫ملت العميقة الموجزة‪ .‬لطالما أدهشني الكوني بتواضعه ودماثة خلقه‪،‬‬ ‫الصغيرة ذات التأ ّ‬
‫ي ساعات على الهاتف‪ ،‬لمناقشة فكرة روائية‪ ،‬أو الجدل في‬ ‫ّ‬ ‫إلـ‬ ‫دث‬‫ّ‬ ‫للتح‬ ‫واستعداده الدائم‬
‫موضوع فكري أو فلسفي يقودنا إليه حوارنا‪ .‬وكم قرأ لي على الهاتف بعض نصوصه‬
‫جملة أو جملتين أودع فيهما خلصة حكمة ما كان‬ ‫القصيرة الطازجة‪ ،‬التي تأتي غالبا ً في ُ‬
‫ً‬
‫ليبلغها‪ ،‬لول تلك العزلة التامة التي اختار أن يعيشها لكثر من عشر سنوات‪ ،‬حارما نفسه‬
‫ففا ً مترفعا ً عن أضوائها ومادياتها‪ .‬فكما قال سفيان الثوري‪" :‬إذا‬ ‫متع الدنيا‪ ،‬متع ّ‬ ‫من ك ّ‬
‫ل ُ‬
‫صره عيوب الدنيا‬ ‫ّ‬
‫زهد العبد في الدنيا‪ ،‬أنبت الله الحكمة في قلبه وأطلق بها لسانه وب ّ‬
‫وداءها ودواءها"‪.‬‬
‫عندما زرته منذ ثلث سنوات في رأس ذلك الجبل السويسري‪ ،‬الذي يقيم فيه‪ ،‬أدركت وأنا‬
‫ُ‬
‫محاط بالثلوج والغابات والوديان‪ ،‬كبيوت الرهبان‪ ،‬أن‬ ‫أفاجأ ببيته البسيط الجميل ال ْ ُ‬
‫سويسرا التي لجأ إليها إبراهيم‪ ،‬ليست تلك التي يلجأ إليها الثرياء والهاربون من الضرائب‬
‫ومبيضو الموال‪ .‬إنها سويسرا ُأخرى تكاد تشبه في عزلتها الصحراء التي تركها الكوني‬
‫ل رواياته‪ .‬هو الطوارقي‪ ،‬ما كان يحتاج إلى الجلباب الزرق‪،‬‬ ‫خلفه‪ ،‬ولم يكتب سواها في ك ّ‬
‫فقد خلعه ليرتدي السماء جلبابا ً وعمامة‪ .‬ولذا أهدى كتابه "ديوان البر والبحر" "إلى‬
‫سويسرا‪ :‬وطن أرضي‪ ،‬ولكنه يتسّلق شغاف اللب توقا ً للوصول إلى الفردوس السماوي‬
‫ملت‪:‬‬ ‫المفقود"‪ .‬من هذا الكتاب اخترت لكم هذه التأ ّ‬
‫الشهوة شروع في احتلل بدن إنسان آخر‬
‫الحب شروع في احتلل روح إنسان آخر‬
‫صن بنفسه‬ ‫ل حرية لنسان لم يعرف كيف يتح ّ‬
‫في عبادة المخلوق لخالقه يعبد المخلوق نفسه‬
‫من أفقد العذراء عذريتها أفقدته عذريته‬ ‫َ‬
‫شاقها‬ ‫الدنيا كالحسناء ل تفتك إل ّ بع ّ‬
‫الحدس وشوشة الروح‬
‫كيف نطمع في نيل الحرية‪ ،‬إذا كنا ل نستطيع أن نرفض ما نريد؟‬
‫من لم ُيحسن إلينا بأنه أحسن إلينا؟‬ ‫ما يضيرنا أن نوهم َ‬
‫ظمأ المال إلى اللص‪..‬أكبر من ظمأ اللص إلى المال‬
‫الحتماء بأحضان المرأة قَد َُر رجال هزمتهم العزلة‬
‫ل يثق الناس بإنسان ليست له غاية دنيوّية•‬

‫مآثر القتلة‪ ..‬وعنفوان القتيل‬


‫أبيد ٍ واحدة‪ ،‬علينا أن نكتب عن ذلك الكم من الجرائم‪ ..‬وذلك الكم من الهوان؟ بعض‬
‫الكلم ل ُيكتب بالحبر‪ ،‬ول يكتب باليد‪ .‬الذين سبقوك إلى كتابته ما عادوا هنا‪ .‬الشهداء‬
‫جرت جثثهم أيضًا‪ ،‬ويدفنون "دفن الوديعة" في غياب أقاربهم وأحّبائهم‪،‬‬ ‫الرقام الذين هُ ّ‬
‫دفنوا معهم يدك‪.‬‬
‫حمة‬
‫ن تحت أنقاض الصدمة‪ ،‬ينتشل من داخلي جثث الكلمات؟ وتلك الدموع المتف ّ‬ ‫م ْ‬
‫ن‪ِ ..‬‬
‫م ْ‬
‫َ‬
‫في المآقي؟‬
‫صدقًا‪ ،‬أخشى أن أكون فقدت القدرة على الكتابة‪ ،‬كعشرات الجرحى الذين فقدوا في‬
‫ي‬
‫وهة المستشفيات‪ .‬شيء ف ّ‬ ‫ظ بأجسادهم المش ّ‬ ‫هذه الحرب عضوا ً من أعضائهم‪ ،‬وتكت ّ‬
‫ن تلك الحروق التي نراها تنتشر على أجساد البرياء المسالمين‪ ،‬ويقول الطباء‬ ‫وه‪ .‬لكأ ّ‬
‫تش ّ‬
‫إنها أتلفت أطرافهم بشكل ل يمكن علجه‪ ،‬إلى حد ّ استدعاء بترها‪ ،‬لحقت بي‪ ،‬أتلفت يدي‪،‬‬
‫أو عضلة لساني‪ ،‬أفقدتني الرغبة في الكلم وفي الجواب وفي الجدل‪ .‬ما قصدتني‬
‫مطبوعة أو فضائية تستقصي رأيي في هذه الحرب إل ّ وأجبتها بالصمت‪ ،‬كذلك العجوز‬
‫الجنوبي‪ ،‬الذي لفرط ما رأى من أهوال‪ ،‬دخل في حالة صمت مطبق‪ .‬رأيناه يصغي إلى‬
‫ل سؤال كان ُيمسك بالمايكروفون ويعيده إليه‬ ‫ما حدث‪ ،‬وبعد ك ّ‬ ‫مراسل "الجزيرة" يسأله ع ّ‬
‫من دون أن ينبس بكلمة‪.‬‬
‫قليل ً أو كثيرًا‪ ،‬نحتاج إلى أن نبكي ولو لمّرة أخيرة‪ ،‬لن أحلمنا رخصت‪ ،‬وُندوينا ازدادت‬
‫ك على القل على القنعة التي سقطت‪ ،‬برغم‬ ‫عمقًا‪ ،‬ومشروعاتنا القومية تلك أفلست‪ .‬لنب ِ‬
‫معرفتنا أنها ما كانت سوى أقنعة‪ ،‬وجودها عند أقدام جثثنا ُيبكينا‪.‬‬
‫شهّيتنا لمشاهدة الخبار السعيدة‪ ،‬أتت عليها الجثث العربّية التي يقذف بها الموت من‬
‫لبنان وبغداد وفلسطين‪.‬‬
‫أناس ل نعرفهم‪ ،‬يعرفون أننا لن نبكيهم‪ ،‬عندما على الساعة الثامنة مساًء‪ ،‬تتطاير‬
‫ط في صحوننا‪.‬‬‫أشلؤهم لتح ّ‬
‫قبل هذه الحرب‪ ،‬قالت ممثلة أميركية‪ ،‬في سياق حديثها عن أمنياتها‪" :‬إن السلم العالمي‬
‫هو وجبة ناجحة فعل ً للتخسيس!"‪ .‬كنت سأنصحكم يومها بأن تجّربوا "نظام حمّية الفجائع‬
‫العربية"‪ ،‬بمتابعة أخبار الساعة الثامنة مدة شهر‪ ،‬عساكم تفقدون بعض وزنكم‪ .‬اليوم‪،‬‬
‫أمام دسامة مآسينا وتنويعات الموت الجماعي العربي‪ ،‬الذي يزيد من نهم الكاميرات‬
‫لجثثنا‪ ،‬أعدكم إن أنتم واظبتم على مدار ساعات الليل والنهار‪ ،‬على مشاهدة نشرات‬
‫الخبار‪ ،‬منتقلين من قناة إلى ُأخرى‪ ،‬بأن تفقدوا وزنكم‪ ..‬واتزانكم أيضًا‪.‬‬
‫للعلم‪ ،‬إن ثمن تناول الغذاء مع السيدة بوش في المآدب الحزبية أو الخيرية‪ ،‬ل يقل عن‬
‫خمسين ألف دولر‪ ،‬للشخص الواحد‪ .‬من هنا تبدو كوندوليزا رايس أكثر سخاًء‪ ،‬وهي‬
‫تدعونا مجانا ً إلى وجبة العشاء الخبارية التي ُنساق إليها خراف مسالخ‪ ،‬وقطعانا ً بشرية‪،‬‬
‫دم قرابين ولء على مائدة طهاة العالم‪ ..‬وطغاته‪.‬‬ ‫ُتق ّ‬
‫السيدة ذات البتسامة السوداء‪ ،‬حزينة من أجلنا‪ ،‬جاءتنا بـ "سّلة محّبة"‪ ..‬أفكارا ً قطفت‬
‫فاكهتها من بساتين الكراهية‪ ،‬وتعجب أن مليين النازحين والمعدمين‪ ،‬على جوعهم إلى‬
‫الن‪ ،‬لم يجلسوا إلى مائدتها شاكرين‪.‬‬
‫لبنان الكبير بكبريائه‪ ،‬وضعنا أمام مآثر القتلة‪ ،‬وعنفوان القتيل‪.‬‬

‫ب‬
‫خرة‪ ..‬في الح ّ‬
‫متأ ّ‬
‫ملت ُ‬
‫تأ ّ‬

‫س ّ‬
‫ذج‪،‬‬ ‫شاق ُ‬ ‫ي‪ ،‬التي يقبع في زنزانتها ع ّ‬ ‫ل أطالب بإغلق معسكرات العتقال العاطفـ ّ‬ ‫سأظ ّ‬
‫سِهم بعبارة "إلى البــــد"‪،‬‬ ‫و‬
‫ّ َ َ ِ‬ ‫ه‬ ‫ية‬‫ضح‬ ‫وذهبوا‬ ‫ية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أزل‬ ‫بثوابت‬ ‫ية‬
‫ّ‬ ‫العاطف‬ ‫الحياة‬ ‫وروا‬
‫تص ّ‬
‫مسّيج بالغيرة‬ ‫ب ُ‬‫ب الكبير والخير‪ ،‬فوقعوا في براثن ح ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫ب هو ال ُ‬ ‫ح ّ‬
‫ل ُ‬‫نك ّ‬ ‫معتقدين أ ّ‬
‫ب‪،‬‬
‫ُ ّ‬‫ح‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫مدركين‬ ‫ُ‬ ‫غير‬ ‫التفتيش‪،‬‬ ‫ونقاط‬ ‫النذار‬ ‫بأجهزة‬ ‫خخ‬ ‫مف‬
‫ُ ّ‬ ‫و‬ ‫الشائكة‪،‬‬ ‫الشكوك‬ ‫وأسلك‬
‫ي على الحّرية‪ ،‬أي على قدرتنا على‬ ‫ً‬
‫على الرغم من كونه امتهانا للعبودّيــة‪ ،‬هو تمرين يوم ّ‬
‫ب‪.‬‬‫ّ‬ ‫الح‬ ‫عن‬ ‫عاطلين‬ ‫الستغناء عن الخر‪ ،‬حتى لو اقتضى المر بقاءنا أحيانا ً‬
‫ّ‬
‫ب وتقلباته‪،‬‬ ‫نزار قّباني الذي قال في الحب الشيء وعكسه‪ ،‬لفرط ما عاش تطّرف الح ّ‬
‫ل دائما ً نحلة تلحس العسل عن أصابع قدميك‪ ،‬حتى ل أبقى عاطل ً‬ ‫ن أظ ّ‬‫كتب يقول‪" :‬أريد أ ْ‬
‫عن العمل!"‪.‬‬
‫ما ً لدى مولهم‬ ‫د‬
‫َ َ َ‬ ‫خ‬ ‫العمل‬ ‫على‬ ‫رون‬ ‫ّ‬ ‫يص‬ ‫إنهم‬ ‫ية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العبود‬ ‫من‬ ‫إنقاذهم‬ ‫في‬ ‫أمل‬ ‫شاق ل‬ ‫مة ع ّ‬‫ث ّ‬
‫ه!‬
‫م ِ‬ ‫ب‪ ،‬على الرغم من كونه طاعنا ً في التنكيل ب ِ َ‬
‫خد َ ِ‬ ‫الح ّ‬

‫ب‪..‬‬‫حــ ّ‬‫هو ال ْ ُ‬
‫مال حمل عبئه"‪.‬‬ ‫ج َ‬ ‫وماركيز ينصحك‪" :‬ل تمت من دون أن ُتجّرب َ‬
‫ب لفرط‬ ‫ّ‬ ‫الح‬ ‫يحملك‬ ‫البدء‪،‬‬ ‫في‬ ‫أيامك•‬ ‫ظهر‬ ‫ن حمولتك تلك‪ ،‬قصمت‬ ‫تضحك‪ ،‬هو ل يدري أ ّ‬
‫فتك‪ ،‬ول أحد آنذاك ُينّبهك بأن عليك أن تحمله بعد ذلك بقّية عمرك‪ ..‬في البدء‪ ،‬أنت‬ ‫خ ّ‬
‫م تنتهي داّبة تنوء بحمل خيباتها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ث‬ ‫بهجتك‪،‬‬ ‫تحملك‬ ‫وطيش‪،‬‬ ‫غبار‬ ‫من‬ ‫كائن‬ ‫فراشة‪..‬‬
‫خذ من الحب ما تشاء‪ ،‬وخذ بقدره من عذاب"‪ ،‬نصيحة من "عّتال‬ ‫مال السّية " ُ‬ ‫يا ح ّ‬
‫ي" أقعدته الذكريات!‬ ‫ّ‬ ‫عاطف‬
‫***‬
‫ما الحزن فل تستطيع أن تقيم معه حوارًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ثرثار‪.‬‬ ‫الفرح‬ ‫*‬
‫إنه منغلق على نفسه كمحار‪.‬‬
‫بلى‪ ..‬في إمكانك إغاظة الحزن بالفرح‪.‬‬
‫تكّلم ولو مع ورقة‪.‬‬
‫***‬
‫ن‪ ،‬يشكون البطالة العاطفّية‪ ،‬ورجال ً‬ ‫* كلما رأيت من حولي نساًء في كامل انتظاره ّ‬ ‫ّ‬
‫صة حب "أبدّية"‪ ،‬حضرني قول جون كيندي‪:‬‬ ‫أعياهم الترّقب لبرق ينذر بصاعقة عشقّية‪ ،‬وق ّ‬
‫"ل تسأل ماذا يمكن لوطنك أن يفعل لك‪ ،‬بل ماذا عليك أن تفعل من أجله"‪.‬‬
‫ب أن يسألوا ماذا عليهم أن يفعلوا من أجل الفوز‬ ‫بالمنطق نفسه‪ ،‬على العاطلين عن الح ّ‬
‫ي‬‫به‪ .‬فل يمكن طلب الحب بالتكلفة القل‪ .‬الحب إغداق‪ ،‬إنه يحتاج إلى سخاء عاطف ّ‬
‫من دونه‪ ،‬لّنه ُيعّري البخلء‪،‬‬ ‫ضاح ل ِ َ‬ ‫بف ّ‬‫يتجاوز قدرة الناس العاديين على النفاق‪ .‬لذا‪ ،‬الح ّ‬
‫حتى الذين يعتقدون أنهم أعطوا‪ ..‬لمجّرد أنهم أنفقوا عليه!‬
‫***‬
‫*غاِدر بيتك كل صباح‪ ،‬وكأنك على موعد مع الحب‪.‬‬
‫تهيأ له بما ُأوتيت من أناقة• يحلو للحب أن ُيباغتك في اللحظة التي تتوّقعها القل‪:‬‬
‫"وجدتها‬
‫في وقت لم ُأناِدها فيه‬
‫طة لم أنتظرها عليها‬ ‫فوق مح ّ‬
‫في لحظة لم أتهيأ لقدومها‬
‫في مكان لم أبحث فيه عنها‬
‫طره لستقبالها‬ ‫في مساء لم ُأع ّ‬
‫في بقعة أرض لم تكن مهيأة لها"‪.‬‬

‫دفاعا ً عن البهجة‬
‫ن جريدة سويسرية‪ ،‬قّررت أل ّ تنشر على صفحاتها إل ّ الخبار السعيدة‪ُ ،‬‬
‫معل َِنة أنها‬ ‫أذكر أ ّ‬
‫ً‬
‫سُتقاطع تماما أخبار الكوارث الطبيعية‪ ،‬والحروب الهلّية‪ ،‬والوبئة‪ ،‬والمذابح‪ ،‬والمواجهات‪،‬‬
‫والغتيالت‪ ،‬والغتصابات‪ ،‬والبطالة‪ ،‬والضرابات‪ ،‬وكل ما تعيش عليه الصحافة الغربية‪،‬‬
‫ي‪ .‬ومازلت‬ ‫ُ‬
‫وتصنع منه مصيدة صفحاتها الولى‪ ،‬لقارئ يحتاج إلى التهام وجبة ذعره اليوم ّ‬
‫مت‬‫مفرحة في زمن ت ّ‬ ‫ساني أعرف من أين ستستقي أخبارها ال ْ ُ‬ ‫أبحث عن هذه الجريدة‪ ،‬ع َ َ‬
‫فيه عولمة الكآبة أيضًا‪ ،‬مذ تكّبدت بورصة الفرح الكوني أفدح الخسائر‪ ،‬ومازالت تدفع ثمن‬
‫انهيار برجين في نيويورك‪.‬‬
‫ن أربعمئة مليون إنسان في العالم مصابون بأمراض نفسية وعقلية‪،‬‬ ‫يكفي أن نعرف أ ّ‬
‫شي به ما يستهلكه النسان العصريّ من‬ ‫ت‬
‫ّ َ ِ‬‫ي‪،‬‬ ‫عصب‬ ‫لنهيار‬ ‫مهيأة‬ ‫ُ‬ ‫كانت‬ ‫ن البشرية‬
‫لنفهم أ ّ‬
‫مذه َِلة من عقاقير ضد ّ الكآبة‪ .‬ويحضرني قول أحمد أمين "لو ُأنصف الناس‪،‬‬ ‫كمّيات ُ‬
‫ن أحد أسباب هذا الحباط‪،‬‬ ‫لستغنـوا عن ثلثـة أربـاع ما في الصيدليات‪ ..‬بالضحك"‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫مصادرة الحياة العصرّية حقّ النسان في الضحك‪ ،‬بفرضها عليه نمطا ً من التوتر الدائم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫بحكم خوفه المتزايد من الغد‪.‬‬
‫دراسة ألمانية جاءت لتزيد من إحباطنا‪ ،‬إذ أكدت إحصاءاتها‪ ،‬أنـــــه‪ ،‬على الرغم من‬
‫صعوبة الحياة في الخمسينات‪ ،‬كانت ضحكات الناس تستغرق ‪ 18‬دقيقة يوميًا‪ ،‬وقد‬
‫دلت الصابة بالكتئاب‬ ‫دة إلى ‪ 6‬دقائق في التسعينات‪ ،‬مقابل ارتفاع مع ّ‬ ‫انخفضت هذه الم ّ‬
‫إلى ‪ 10‬أضعافها في الخمسينات‪.‬‬
‫عة ضد ّ هذا النوع الجديد من الكتئاب‪ ،‬ونسيانها‬ ‫ن البشرّية أصابهاالذعر من فقدانها ال َْ‬
‫مَنا َ‬ ‫ول ّ‬
‫منقذ الوحيد‬ ‫ْ‬
‫ن الضحك من مستلزمات الحياة العصرية وال ُ‬ ‫عادة البتهاج‪ ،‬فقد اكتشفت أ ّ‬
‫ل المكاسب التي‬ ‫من ل يضحك لها‪ ،‬وتسلبه في آخر الجولة‪ ،‬ك ّ‬ ‫ل َ‬ ‫لها‪ .‬فالدنيا تضحك على ك ّ‬
‫حى بالبهجة‪.‬‬ ‫من أجلها ض ّ‬
‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫كيف‬ ‫"الضحك"‪،‬‬ ‫الشهير‬ ‫كتابه‬ ‫في‬ ‫برغسون‪،‬‬ ‫هنري‬ ‫الفرنسي‬ ‫الفيلسوف‬ ‫يثبت‬ ‫وقبل أن‬
‫ن‬ ‫ً‬
‫ذر القلب‪ ،‬بتفريغه من شحناته العصبّية القاتلة أحيانا‪ ،‬وإثبات أطباء الدماغ‪ ،‬أ ّ‬ ‫الضحك ُيح ّ‬
‫الضحك هو صمام أمان عقولنا‪ ،‬وأننا نحتاجه درعا ً ترد ّ عّنا ضربات الحياة ولكماتها‪ ،‬كان‬
‫ن الصينيين ابتكروا‬ ‫ل كل مشكلتهم‪ .‬حتى إ ّ‬ ‫السيويون قد وجدوا في الضحك وسيلة لح ّ‬
‫ما‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫الضحك‪.‬‬ ‫دة‬
‫ّ‬ ‫ش‬ ‫من‬ ‫موته‬ ‫حتى‬ ‫المذنب‪،‬‬ ‫قدمي‬ ‫سابقا ً "العدام ضحكًا" عن طريق دغدغة‬
‫ً‬
‫ل صباح في الساعة الخامسة تماما‪ ،‬عشرات النساء والرجال‪،‬‬ ‫في الهند‪ ،‬حيث يجتمع ك ّ‬
‫ن درسهم‬ ‫ّ‬ ‫فإ‬ ‫"اليوغا"‪،‬‬ ‫رياضة‬ ‫المغول‪،‬‬ ‫بأضرحة‬ ‫المحيطة‬ ‫الجميلة‪،‬‬ ‫ليمارسوا في الحدائق‬
‫دوا لمواجهة مشكلتهم اليومية‬ ‫دة‪ ،‬كي يستع ّ‬ ‫ل صباح‪ ،‬بانفجارهم ضاحكين دقائق ع ّ‬ ‫ينتهي ك ّ‬
‫بالضحك‪.‬‬
‫ولننا ل نملك ثقافة البهجة‪ ،‬ول تقاليد الضحك‪ ،‬عندما قرأنا خبر إنشاء طبيب هندي نوادي‬
‫صصة لرواية الطرائف‬ ‫مخ ّ‬ ‫للضحك‪ ،‬يفوق عدد أعضائها الخمسة والعشرين عضوًا‪ ،‬ليست ُ‬
‫واد ٍ ينتقل فيها الضحك بالعدوى من دون سبب‪ ،‬كما ينتقل عندنا البكاء‪،‬‬ ‫والنكت‪ ،‬بل هي ن َ َ‬
‫خفنا آنذاك أن ُيلهم الخبر حماة النواح ومتعهدي المآسي القومّية‪ ،‬فيهّبوا لنشاء "ناد ٍ للبكاء‬
‫ي"‪ ،‬برعاية إحدى الفضائيات الخبارية العربّية‪ .‬فالبكاء‪ ،‬كما الغناء‪ ،‬استثمار فضائي‬ ‫العرب ّ‬
‫جّيد عندما يتعّلق المر بنا‪ ،‬وموارد الحزن والبار الجوفّية لدموعنا‪ ،‬كثرواتنا المنهوبة‪ ،‬ل‬
‫صعب إحداث "ستار أكاديمي"‬ ‫تنضب‪ ،‬هي فقط ترخص كّلما غل بترولنا‪ .‬لذا لن يكون من ال ّ‬
‫للبكاء‪ ،‬يتداَفع عند بابه العاطلون عن الحلم من شبابنا‪ .‬حتما ً سيفوق عدد أعضاء هذا‬
‫مشاهدين‪ ،‬أن نشترك‬ ‫مشاركين و ُ‬ ‫النادي‪ ،‬نادي الضحك الهندي‪ .‬فلمّرة في إمكاننا جميعًا‪ُ ،‬‬
‫في البكاء‪ ،‬لكون تلفزيون واقعهم آنذاك‪ ..‬لن يختلف كثيرا ً عن واقعنا!‬
‫صة ذلك‬ ‫للذين لم يعوا عواقب الحزن على الكائنات الحّية‪ ،‬بما في ذلك الحيوانات‪ ،‬أنقل ق ّ‬
‫الخروف الذي‪ ،‬بسبب حزن عميق أصابه إثر انفصاله عن رفيقه‪ ،‬انقلب على نظامه‬
‫الغذائي‪ ،‬وبدأ في التهام الدجاجات من حوله‪ .‬كان ذلك قبل "إنفلونزا الطيور"‪ ،‬على الرغم‬
‫من ذلك أوقع صاحبه في مشكلة فقهّية بشأن لحمه إن كان ُيعد ّ حل ً‬
‫ل!‬
‫أما الذين اعتنقوا الفرح مذهب ًَا‪ ،‬فأدعم قناعاتهم بوصّية فقيه روماني‪ ،‬أوصى في القرن‬
‫من ُيثبت الشهود أنه كان أكثر الناس ضحكا ً في جنازته‪ .‬وقبله‬ ‫ل أمواله ل ِ َ‬‫الخامس عشر بك ّ‬
‫بقرن كان "يان جيجيكا"‪ ،‬وهو البطل القومي في بلد بوهيميا‪ ،‬قد أوصى بأن ُينتزع جلده‬
‫قبل وفاته‪ ،‬لُتصنع منه آلة للطرب!‬
‫ل يوم‪،‬‬ ‫ي الهابط التي تجلدنا ك ّ‬ ‫ولو عاش على أيامنا‪ ،‬لحققت له فضائيات الغناء العرب ّ‬
‫ُأمنيته‪ ..‬من قبل حتى أن ُيغادر الحياة‬
‫أحلم مستغانمي لـ "المثقف العربي"‬

‫أنا "كائن من حبر"‪ ..‬ومن أراد الجهاد فليكتب بالعربية‬


‫‪----------‬‬
‫ل يهمني من أين تؤكل كتف القارئ!‬
‫سأخترع جائزة للقراء في زمن كتابه أكثر من قرائه‪.‬‬
‫أقول لسعدي يوسف‪ :‬الذي يقتات من جراح الناس ل يشبع أبدا!‬

‫ةةةة‪ :‬ةةةةةة ةةةة‬


‫ةةةةةةة – ةةةةةة ةةةةةة‬
‫أحلم مستغانمي "كائن من حبر" انفجر على الساحة الثقافية العربية قبل بضعة أعوام‪،‬‬
‫على جناح رواية مثيرة للجدل بعنوان "ذاكرة الجسد" التي وصفها الكاتب الكبير نجيب‬
‫محفوظ بأنها عمل روائي فارق في تاريخ الكتابة النسائية بلغة الضاد‪ ،‬ولكن سرعان ما‬
‫ظهرت اتهامات مفادها أن مستغانمي ليست الكاتبة الحقيقية للرواية‪ ،‬بل إن كاتبها هو‬
‫الشاعر العراقي المعروف سعدي يوسف‪ ،‬المر الذي نفته "أحلم" نفيا قاطعا‪ ،‬مؤكدة أن‬
‫الشاعر آثر الصمت وقتها عن عمد ليستفيد من الدعاية‪ ،‬وأنه –بذلك – اختار أن يقتات من‬
‫جراح الخرين‪ ..‬فل يشبع أبدا!‬

‫أصدرت مستغانمي فيما بعد روايتين هما "فوضى الحواس" و "عابر سرير" لتكتمل بهما‬
‫الثلثية الروائية التي جعلت من الكاتبة نجمة بكل المقاييس‪ ،‬وهو ما ظهر بجلء في‬
‫معرض الكتاب الدولي الذي أقيم في العاصمة الجزائرية مؤخرا‪ ،‬حيث حظيت الكاتبة‬
‫بالكثير من الهتمام النقدي والجماهيري‪ ..‬وعلى هامش المعرض كان "للمثقف العربي"‬
‫معها هذا الحوار‪:‬‬

‫في البداية سألناها‪ :‬هل أنت سعيدة بالشهرة التي حصلت عليها أخيرا؟!‬
‫أعتقد أن الكاتب ل يمكن أن يكتب ويعيش تحت الضوء‪ ،‬لن الكاتب الذي يبحث عن الضوء‬
‫هو كاتب يبحث عن الثرثرة والضجة على حساب البداع‪ ،‬وكل ما يستطيع الكاتب أن يقوله‬
‫داخل الكتاب وليس خارجه‪ ،‬فمجدي صنعه قرائي ولم تصنعه الصحافة ول النقاد ولم‬
‫يصنعه أحد‪ ،‬يقول همنجواي‪" :‬الكاتب من له قراء وليس له كتب" وأنا لي ثلثة كتب وهناك‬
‫من لهم ثلثون كتابا ولذلك من واجبي أن أتواضع لهم وأخصص لهم كل وقتي‪ ،‬يمكن أن‬
‫أعتذر للصحافة‪ ،‬ولكن ل يمكن أبدا أن أعتذر للقارئ‪ ،‬وكان هناك قارئ مكفوف أعتبره‬
‫نموذجا للقارئ الجيد‪ ،‬بل أسميه مجاهد القراءة‪ ،‬تصوري رجل ولد مكفوفا‪ ،‬ولم ير في‬
‫حياته حرفا مكتوبا ويشتري الكتب‪ ،‬لقد اشترى كتابي وثمنه عشرون دولرا وهو ليس له‬
‫هاتف ويقول )الكتاب قبل الهاتف(‪ ،‬فهذا الكفيف يبحث عن المعرفة ول عنوان له‪ ،‬تصوري‬
‫أعطاني بطاقته لكتب اسمه‪ ،‬وقلت له إني من أجله سأخترع جائزة للقراء في زمن كتابه‬
‫أكثر من قرائه‪.‬‬

‫وكيف ترين القارئ العربي المعاصر؟!‬


‫هناك قارئ يجاملك ويأتي لخذ توقيع‪ ،‬هؤلء الناس ليسوا معنيين بشيء‪ ،‬ولكن المكفوف‬
‫على عكسهم تماما‪ ،‬فالكتاب يساعده على خلق عالم داخلي‪ ،‬لذلك أقول وأكرر ليتواضع‬
‫الكاتب قليل‪ ،‬فليس الكاتب بالقول ول الشهادات التي حصل عليها ول عدد الكتب التي‬
‫كتبها‪ ،‬فأنا ل أقول إني دكتورة فالشهادة ل تثبت أني مبدعة أو كاتبة‪ ،‬أنا تمنيت أن أكون‬
‫"أحلم" فقط لول وجود مغنية بهذا السم‪ ،‬فالكاتب كلما يكبر كلما تصغر أسماؤه‪ ،‬مثل‬
‫نزار ل يحتاج إلى تعريف فل نقول الستاذ الكبير نزار قباني‪ ،‬لنه أصبح علما بغير‬
‫لقب‪،‬حينما نقول "نزار" فل يحتاج المر لضافة أخرى حتى نعرف أن المقصود هو نزار‬
‫قباني‪،‬أما السماء الكبيرة فهي دليل على أنها صغيرة‪.‬‬

‫أكل كتف القارئ اجتمع في القاعة أثناء إلقائك المحاضرة ما ل يجتمع عادة‬
‫من مختلف التيارات‪ ..‬كيف تفسرين ذلك؟‬
‫أنا لم أنتبه لهذا‪ ،‬ولكن أنتبه لهذا عندما أوقع كتبي‪ ،‬فلقد حدث في لبنان أن جاءتني راهبة‬
‫وبعدها محجبة وفي نفس القاعة جاءتني واحدة نصف عارية‪ ،‬وفي نفس الوقت قالت لي‬
‫المحجبة والسافرة إني أعبر عنهما‪ ،‬الجميل هو هذا‪ ،‬فلو نكتب ونحن نفكر في إغراء قارئ‬
‫بالذات لن نوفق فسنربح ربما القارئ ولكننا نخسر عددا كبيرا من القراء‪ ،‬والسر هو أن‬
‫تكتبي عن النفس البشرية‪ ،‬عن أحاسيسك دون التفكير في لعبة المراوغة مع القارئ أو‬
‫التفكير في كيفية "أكل كتف القارئ" وهذا هو سر نجاحي‪.‬‬

‫هل أصبت بالغرور بعد هذا النجاح؟!‬


‫الكاتب ل يقاس بإبداعه وشهرته‪ ،‬بل بتواضعه‪ ،‬والغرور هو نهاية البداع‪ ،‬وأنا أقول إن‬
‫الكاتب سارق ومتهم بسرقة حياة الخرين والسطو على أحاسيسهم‪ ،‬أحيانا الكاتب يمشي‬
‫ويسجل لكن بأمانة‪ ،‬كيل يبتعد عن أخلقيات الكتابة‪ ،‬فيمكن أن تتغذى من قصص الخرين‬
‫ومن تأملتهم‪ ،‬في كثير من الحيان تتعلمين من سائق أجرة‪ ،‬أنا أسرق قارئا ول أسرق‬
‫كاتبا‪.‬‬

‫نسبت رواية "ذاكرة الجسد" للشاعر العراقي سعدي يوسف‪ ،‬واستغل المر‬
‫استغلل كبيرا‪ ،‬كيف تلقيت المر؟!‬
‫رواية "ذاكرة الجسد" التي نسبت لسعدي يوسف لم تكتب في مقال وانتهى المر بعد‬
‫ذلك‪ ،‬ولو كان المر كذلك لعتبرته أمرا هينا‪ ،‬ولكن الخبر انتقل إلى "وكالة النباء‬
‫الفرنسية" التي رفعت ضدها دعوى قضائية‪ ،‬ولكن ما يؤلم أكثر هو أن الطعنة جاءت من‬
‫الجزائر‪ ،‬فجريدة "الخبر" السبوعية أوردت الخبر تحت عنوان "سرقات أدبية" وفي‬
‫الصفحة الولى أيضا‪ ،‬فهل يمكن أن يصبح من كتب بروحه عمل تمجيديا لوطنه سارقا؟‬
‫والسارق الحقيقي يكرم ويمنح وساما ويرسل لتمثيل بلده في الخارج؟ ل يعقل أبدا أن‬
‫أسرق عمل وتفاصيله المنقوشة في مخيلتي تشفع لي‪ ،‬فل يمكن لحد أن يكتب هذا‬
‫العمل‪ ،‬فل كاتب من العراق ول من فلسطين يمكن أن يؤرخ لهذا الجسد ويجعل له ذاكرة‪.‬‬

‫كيف استغلت القضية؟ وكيف ترين موقف سعدي يوسف؟‬


‫ستة أشهر وأغلفة المجلت تنهشني ولم يأت أحد لنجدتي‪ ،‬سعدي يوسف اختفى تماما ولم‬
‫يكذب الخبر إل بعد شهر ونصف ظنا منه أنه سيبني مجدا وصرحا‪ ،‬لكنه صرح في خياله‬
‫فقط‪ ،‬لن الذي يقتات من جروح الخرين ل يمكن أن يشبع أبدا‪ ،‬ول يمكن أن يصل إلى‬
‫إقناع الخر‪ ،‬لن القلم قلمي والهم من ذلك الذاكرة ذاكرتي أنا‪ ،‬سعدي يوسف سكت ولم‬
‫يتكلم حتى استفاد من الدعاية‪ ،‬رغم أنه من الناس الذين دافعت عنهم وكنت أقول‪ :‬إني ل‬
‫أدخل العراق مادام سعدي يوسف منفيا‪ ،‬أنا آذاني سكوته‪ ،‬ولكن بالنسبة له سيتبعه الذى‬
‫طول العمر‪.‬‬

‫كيف دافعت عن نفسك؟!‬


‫تقصدين كتابي‪ ،‬الكتب ل يمكن أن ندافع عنها‪ ،‬لنها تدافع عن نفسها‪ ،‬ما جدوى كتاب نضع‬
‫فيه خلصة الروح والفكر والتأمل ونأتي بعد ضجة قامت من فراغ ونقول إنه لنا‪ ،‬أنا أدافع‬
‫عن شرف الكتابة فقط‪ ،‬فعندما يموت الكاتب فإن كتبه تتولى مهمة الدفاع عنه‪ ،‬ولقد‬
‫قلت في ذلك‪ :‬نحن نكتب كتبا لتدافع عنا وليس لندافع عنها‪ ،‬وإذا لم يستطع "فيلعن أبوه‬
‫كتاب"‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫فوضى الحواس‬
‫جاءت بعدها "فوضى الحواس"‪ ..‬أليس كذلك؟!‬
‫ل‪" ..‬فوضى الحواس" كانت مكتوبة أثناء الحملة‪ ،‬جاءت "عابر سرير"‪ ،‬ولكني أحب‬
‫"فوضى الحواس" بقدر ما أحب الراحل بوضياف‪ ،‬صحيح أن الراوي امرأة وهي تحمل من‬
‫مشاعر الحب ما تحمل لكنها طريقة هربت بها التاريخ إلى صفحات بيضاء ل يمكن الن أن‬
‫تغتال حروفها ول أن تسلب حقائقها‪ ،‬أرخت فيها لمرحلة من مراحل التاريخ الجزائري‬
‫تنتهي باغتيال الرئيس بوضياف‪ ،‬وهي مهداة إلى روحه وروح الشهيد سليمان عميرات‪.‬‬

‫قيل إن فوضى الحواس ليست بمستوى ذاكرة الجسد‪ ،‬فما رأيك؟!‬


‫ذاكرة الجسد هي الرواية الولى‪ ،‬هي وجعي الول‪ ،‬ربما افتقد القراء في فوضى الحواس‬
‫الحرقة الموجودة في ذاكرة الجسد‪ ،‬ومع هذا فأنا أظن أنه عمل جميل وسيدافع عني‬
‫حتما‪ ،‬سيدافع عني على القل لنه جزء من الثلثية هذه ومن خلل تاريخ لـ ‪ 50‬سنة من‬
‫تاريخ الجزائر في فضاء ورقي تجاوز ‪ 1000‬صفحة‪ ،‬ول أظن أن الذي يقرأ اللحظات التي‬
‫وصفت فيها اغتيال بوضياف يمكنه أن يحبس الدمع‪ ،‬حاولت بحرقة كبيرة أن أهرب بذكرى‬
‫هذا الرجل لورقي الروائي‪ ،‬إلى العالم العربي الذي ل يعرفه‪ ،‬التاريخ يحفظ الحدث ولكن‬
‫من سيعود إلى التاريخ؟ ولكن الرواية الوصفية والتي تقرأ على مدار الزمن ستحفظ أدق‬
‫التفاصيل‪.‬‬

‫هناك من يقول إنك تكلمت عن الحب بطريقة رائعة جدا‪ ،‬وهناك من اعتبر‬
‫هذا الوصف الشعري توظيفا للجنس فإن كان توظيفا فعليا فما القصد من‬
‫ورائه؟‬
‫أنا لم أكتب عن الجنس بالمفهوم المتعارف عليه ونصوصي وورقي المطبوع أكبر دليل‬
‫على ذلك‪ ،‬أنا كتبت عن الحب وإن كان الجنس جزءا من حياتنا اليومية ل يمكننا إغفاله‪،‬‬
‫والكاتب يقاس بطريقته في التعامل مع موضوع الجنس بالذات‪ ،‬ففي رواياتي يصل‬
‫القارئ إلى النهاية دون أن يعرف ماذا حدث بين البطل والبطلة‪ ،‬فأنا أنقل الحاسيس التي‬
‫تخلفها الرغبة وراءها‪ ،‬وأنا كاتبة رغبة وليس كاتبة متعة‪ ،‬الرغبة شيء والمتعة شيء آخر‪،‬‬
‫فالمتعة تغتال الدب بشكل من الشكال‪ ،‬وفي هذا المقام عندما يقولون لي إني أباع‬
‫روائيا لنني أوظف الجنس؛ أقول لهم اقرأوا ما كتبته الروائيات اللبنانيات والمصريات‪ ،‬وأنا‬
‫لست ضد هذا‪،‬ولكن قلمي نسخة مني يتكلم كما يتكلم رجالي‪ ،‬فرجالي هم هكذا وأنا‬
‫"كائن حبري" ول أعطي إل باللغة والدب تطهير الذوق‪ ،‬فكيف أسعى للمتعة كي يباع‬
‫عملي‪.‬‬

‫إذن أحلم تلعب على ثنائية اللغة والحساس؟!‬


‫نعم‪ ..‬ولذلك تصعب ترجمة أعمالي‪ ،‬لنني أزاوج بين السرد والشعرية‪ ،‬وهذا ما حبب‬
‫قرائي فيما أكتب‪ ،‬وعندما أسأل عن العربية التي أكتب بها أقول إني تعلمتها في الجزائر‪،‬‬
‫وأنا ل أعرف العربية أكثر منكم‪ ،‬فأنا أكتب وفي كتاباتي كثير من الخطاء اللغوية‬
‫والملئية‪ ،‬وأتساءل أحيانا عن موضع الهمزة "إن كانت على الكرسي أو على السرير"‬
‫وبرغم هذا أكتب بلغة جميلة‪ ،‬ليس لني أتقنها أكثر منهم ولكني أحبها أكثر‪ ،‬لني على‬
‫قناعة بأن الذين ماتوا ماتوا من أجل هذه اللغة‪ ،‬والكتابة بالعربية في نظري ضرب من‬
‫الجهاد‪ ،‬فمن أراد أن يجاهد فليكتب بالعربية ليس فقط لنها لغة القرآن ولكن لن ‪ 25‬لغة‬
‫تنقرض سنويا من العالم "وهذا تقرير رسمي من اليونسكو"‪ ،‬تصوري هناك تطهير عرقي‬
‫لغوي‪ ،‬وسيأتي يوم ل تبقى فيه إل اللغات الكبيرة والتي ستكون اللغة النجليزية هي‬
‫الميرة لنها لغة العلم والتكنولوجيا‪ ،‬لبد أن نستميت في الدفاع عن اللغة‪ ،‬أنا ل أدافع عن‬
‫العربية فقط؛ بل عن لهجتي الجزائرية داخل العروبة‪ ،‬أن أقف أمام العالم كعربية وأمام‬
‫العرب كجزائرية‪.‬‬

‫تكلمت عن الرؤساء ولم تذكري "بوتفليقة"‪ ..‬لماذا؟!‬


‫رغم أن بوتفليقة هو صديق جيد وقارئ جيد وناقد جيد ولو تحدثت عنه لقلت إنه يصلح أن‬
‫يكون خير من يمثل وزير الثقافة الرائع لنه على درجة عالية من الثقافة‪ ،‬حتى في غربته‬
‫كان يطارد الكتب في كل مكان‪ ،‬وله علقة وطيدة بالكتاب الكبار أمثال غبريال جارسيا‬
‫ماركيز ‪ ،‬وهذا جانب آخر ل أريد أن أقول عنه شيئا حتى ل يحسب علي لو أن العلقة‬
‫أصبحت مع السلطة‪.‬‬

‫أخيرا‪ ..‬ماذا تعني الكتابة بالنسبة لك؟!‬


‫الكتابة تصفية حسابات‪ ،‬كتبت الثلثية لثأر لبي وأنا لن أتوقف‪ ،‬فحتى وأنا أكرم أشعر‬
‫بألم‪ ،‬فل يعنيني التكريم ككاتبة‪ ،‬فالهم عندي أن أكون مواطنة‪ ،‬أهم من ذلك المقولة‬
‫الشهيرة "ل كرامة لنبي في قومه" ول يعنيني أن أكون نبية‪ ،‬ول يعني ذلك بالقدر الذي‬
‫يعني أن أكون فيه مواطنة‪ ،‬أريد أن أعيش حياة مواطنة كريمة ل أن أكون مكرمة‪ ،‬وقلت‬
‫الجبن بالمجان ل يوجد إل في مصيدة الفئران‪ ،‬فل يوجد من يكرمك لوجه الله‪ ،‬ل يوجد‬
‫نظام يكرم المبدع بل مقابل‪ ،‬فالنظام له حساباته‪ ،‬يكرمك عندما تصبحين كبيرة‪ ،‬فهو‬
‫يحتاج إلى رفات مبدعيه مثلما حدث مع محمد الديب وآخرين‪.‬‬

‫ــــــــــــــ‬

‫العدد ‪ , 40‬السنة الخامسة ‪2005 ,‬‬

‫احلم مستغانمي‪ :‬خنت الشعر مع الصحافة والرواية‬


‫والحياة الزوجية!‬
‫ةةةةةة‪ :‬ةةة ةةةةةة ةةةةةةة‬
‫‪Sunday, 11 June 2006‬‬
‫ذات صباح استيقظت واذا بي زوجة وأم لثلثة صبيان ودكتـورة فـي السوربـون وباحثـة‬
‫في علــم الجتمــاع وطباخة وغسالة وجلبة ومربية في كل ساعات النهار‪،‬‬
‫كان لي اكثر من لقب واكثر من مهنة غير انني كنت قد فقدت لقب "شاعرة" هذا ما قالته‬
‫الكاتبة الجزائرية أحلم مستغانمي في شهادة لها قدمتها في معهد العالم العربي في‬
‫باريس‪ ،‬لكن صاحبة رواية "ذاكرة الجسد" التي طبع منها لحد الن ‪ 300‬ألف نسخة‪ ،‬عدا‬
‫النسخ المزورة‪ ،‬كما قالت لي خلل لقائي بها في مسقط على امتداد اكثر من عشرين‬
‫سنة من تاريخ صدورها في ‪ 1993‬حيث بلغ عدد المرات التي طبعت بها ‪ 22‬مرة!! فضلت‬
‫ان تدخل مسقط معتلية صهوة جواد الشعر‪ ،‬عبر حنجرة المطربة اللبنانية جاهدة وهبة‬
‫التي اختارت لها نصا ادرجته ضمن امسيتها الغنائية "صوفيات" التي قدمتها على مسرح‬
‫حصن الفليج بحضور مستغانمي التي تقول كلمات نصها‪:‬‬
‫"ما طلبت من الله في ليلة القدر‬
‫سوى ان تكون قدري وشري‬
‫سقفي وجدران عمري‬
‫وحللي ساعة الحشر"‬
‫لذا فحين التقيت بها افتتحنا حوارنا بالشعر الذي افتتحت به حياتها الدبية عندما اصدرت‬
‫ديوان عام ‪.1973‬‬
‫‪ -‬تقولين انك اتخذت قرار التخلي عن الشعر خشية ان تصبحي ادنى منه‪،‬‬
‫كيف تخليت عن الشعر؟‬
‫* نولد جميعنا شعراء‪ ،‬بعضنا يبقى كذلك والخر يخون الشعر‪ ،‬انا خنت الشعر مع الصحافة‬
‫والرواية والحياة الزوجية التي هي ضد الشعر تماما وهنا يحضرني قول للشاعر‬
‫عبدالرحمن البنودي هو "من خان الشعر مرة واحدة خانه الشعر الى البد"‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف تبررين انتقالك من الشعر الى الرواية؟‬
‫* كلما سئلت هذا السؤال تكون اجابتي‪ :‬عندما نفقد حبيبا نكتب قصيدة وعندما نفقد وطنا‬
‫نكتب رواية فالرواية هي مفتاح الوطان المغلقة في وجهنا‪.‬‬
‫‪ -‬اذن الغربة افضت بك الى الرواية؟*‬
‫بالضبط‪ ،‬ففاجعتي كانت اكبر من ان يحتويها نص شعري‪ ،‬فتدفقت في ملحمة من ‪416‬‬
‫صفحة عنوانها "ذاكرة الجسد" ‪ ..‬كانت تعبيرا عن فاجعة وطنية‪.‬‬
‫‪ -‬واليوم بعد مرور اكثر من عشرين سنة على تلك الفاجعة هل ما زلت‬
‫تشعرين بالغتراب؟* الن ربما عندما اصبحت الغربة وطني ما عدت مغتربة‪ ،‬فهذا‬
‫قدري أصبحت في هذه الطمأنينة تحت ظل هذا السند الوهمي "الوطن" الذي اوجدته‬
‫لنفسي‪ ،‬اجلس مع نفسي وأراود الشعر عن نفسي‪.‬‬
‫‪ -‬ألكي تستعيدي لقب "شاعرة"؟*‬
‫صدقا مازلت لهذه اللحظة ل أصدق انني شاعرة‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا؟‬
‫* الشعر تاج يصعب حمله‪ ،‬عليك ان تدافع عنه كل يوم‪ ،‬لن هذا التاج قد يسقط في اي‬
‫خطأ ترتكبه وانا ل اعني الخطاء العروضية‪ ،‬بل الخطاء التي نمر بها في حياتنا‪.‬‬
‫‪ -‬هل ان الشاعر فوق الخطاء؟*‬
‫الشاعر قدوة‪ ،‬انسان كبير‪ ،‬ويعيش تحت المجهر‪ ،‬تصور ان التاريخ مازال الى اليوم يحاكم‬
‫"المتنبي" على قصيدة كتبها في "كافور الخشيدي" وسواها من السقطات التي خدشت‬
‫صورته‪ ،‬وكشفت عن اهداف له صغيرة‪ ،‬هناك شعراء اهانة للشعر‪.‬‬
‫‪ -‬أل تبدو هجرتك الن الى الشعر معاكسة في زمن تمثيل لغة القراءة الى *‬
‫الرواية حتى اطلق البعض على زمننا بـ "زمن الرواية"؟‬
‫دائما الزمن زمن الشعر‪ ،‬والروائيون الكبار نجحو لنهم لم يغادروا الشعر والشاعرية‬
‫الواقعية‪ ،‬ان النسان يحتاج الى شعر‪ ،‬والرواية ل تنقذ ال بالشعر فل بد من انقاذها به‪،‬‬
‫ومن هنا فالرواية اخر حقيبة لتهريب الفكار الخطيرة‪ ،‬وإنني اعتبر المبدع مهربا‪ ،‬والمبدع‬
‫الذي يمنع كتابه هو مهرب سيء وقع في خطوط تفتيش الجمارك العربية‪ ،‬فل بد ان يكون‬
‫ذكيا بحيث ل يمنع كتابه في اي بلد‪.‬‬
‫‪ -‬وهل هربت افكارك في رواياتك؟*‬
‫كل الشياء التي اريد قولها قلتها في رواياتي ولم تمنع‪ ،‬رغم ان فيها كما هائل من‬
‫التحريض‪ ،‬عليك ان تراهن على غباء الرقيب العربي الذي اعتدت عليه ومشكلة انه يحكم‬
‫عليك من غلف الكتاب قبل ان يقرأه‪.‬‬
‫‪ -‬ليس الرقيب هو التحدي الوحيد الذي تواجهه الرواية العربية‪ ،‬هناك تحديات‬
‫اخرى بالتأكيد‪ ،‬كيف تجملينها؟‬
‫* اعتقد ان الرواية العربية تتعرض اليوم الخطار كبيرة‪ ،‬حظر الهجمة التكنولوجية‪،‬‬
‫والنترنت والكاتب ل يعرف كيف يدافع عن نفسه والحياة صارت صعبة فالقارىء يذهب‬
‫نحو الكاتب الذي يعرفه وهذا فيه احجاف لكتاب اخرين من حقهم ان يصلوا‪ ،‬ول اظن‬
‫ستمنح لهم فرصة! لدرجة انني كثيرا ما شعرت بالذنب تجاه كتاب اخرين‪ ،‬والسؤال‬
‫المطروح الن هو كيف يدافع كاتب عن نفسه في هذا العالم‪.‬‬
‫‪ -‬تقولين القارىء يذهب نحو الكاتب الذي يعرفه وانت لمن ذهبت خلل‬
‫سنوات التكوين؟* عندما سألني الدكتور سهيل ادريس لمن قرأت؟ اجبته‪ :‬لم اقرأ شيئا‬
‫واعني بالنسبة للروائيين‪ ،‬فلقد تغذيت بالفلسفة فعندما نكتب رواية ل تغذيك رواية‪ ،‬انك‬
‫تحتاج الى التاريخ والشعر‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬والكتاب الجيد هو الذي عندما تنتهي من قراءته تعيد‬
‫النظر في حياتك‪ ،‬واذا بقيت جملة في ذهنك يكون الكاتب قد نجح‪ ،‬والنجاح ايضا يقاس‬
‫بكم السئلة الوجودية التي يثيرها الكاتب داخل القارىء‪.‬‬
‫‪ -‬هل تقرأين لسماء معينة؟*‬
‫اقرأ كل شيء جميل تقع عليه يدي‪ ،‬حتى في الملحق‪ ،‬احيانا اقرأ لشاعر مترجم فيؤثر‬
‫في اكثر من شاعر كبير فالمهم عندما تقرأ ان تقع في فخ الكلمات‪.‬‬
‫‪ -‬وبم تأثرت شعريا؟*‬
‫بقول بول فليري "الذئب خراف مهضومة‪ ،‬وان اكلت الكثير من خرفان الشعر لصبح لبوة!‬
‫قرأت لنزار قباني لكن ليس كل كتاباته‪ ،‬الكلمات الجملية تعثر عليها في مقال صحفي‬
‫احيانا‪.‬‬
‫‪ -‬وهل سنقرأ لك نصوصا شعرية جديدة؟*‬
‫جاهدة وهبي ورطتني بالشعر‪ ،‬ما كنت اعرف قبلها أنني سأقترف قصيدة‪ ،‬صوتها بامكانه‬
‫ان يرفع اي نص الى مقام الشعر‪ ،‬وحتى عندما اسمعها تغني ايضا لي فل اكاد اتعرف على‬
‫نصوصي‪ ،‬واصاب بالذهول الجميل وبالرعب ايضا!‬
‫‪ -‬ولماذا؟‬
‫* لن النص كما كتبته "خربشات" ‪ ..‬اكتب لنفسي‪ ..‬الغناء يفضح ضعف الكلمة‪ ،‬الشعر‬
‫مفتاح لمن دونه‪.‬‬
‫‪ -‬ومتى يفضح الشعر؟‬
‫* عندما يغنى لن المتلقي يمتلك كل الوقت لكتشاف نقاط ضعفك لقد احسست بعد‬
‫الحفل الذي اقامته على مسرح حصن الفليج ان ثمة مؤامرة شعرية حاكتها ضدي‬
‫"جاهدة" فالحفل جعلنا نبحث في كثير من النصوص لقامة حفل سيقام في دبي بدعوة‬
‫من مؤسسة سلطان العويس لذا فانا مضطرة لكتابة نصوص خصوصا انني اكتشفت ان‬
‫بامكاني ان اكتب شعرا‪.‬‬
‫انني كثيرا ما ابث رسائلي السياسية وافكاري التأملية في رواياتي واعتقد انني وصلت‬
‫بروايتي "ذاكرة الجسد" العديد من الرسائل التي وصلت للمعتقلت والسجون السرائيلية‬
‫مخترقة القضبان لنني عندما اكتب اكتب بالشتراك مع قارىء ذكي يكمل النصف الذي‬
‫سكت عنه‪.‬‬
‫‪ -‬هل تضعينى الكتاب في خانات مثلما تضعين القراء؟‬
‫* هناك كاتب وهناك ليس كاتبا‪ ،‬ل يوجود كاتب كبير! انت كاتب بدون اضافات‪ ،‬انا كاتبة‬
‫لست كبيرة اي احترف الكتابة‪ ،‬جاهزة للموت من اجل اي كلمة كتبتها وعندما تتجه نحو‬
‫الكتابة ل بد ان تكون مهيأ له‪ ،‬والتكريم الوحيد للكاتب أن يسجن وينفى‪ ،‬الكاتب كائن عار‬
‫تفضحه لغته‪ ،‬ثمة من يتلصص عليه‪ ،‬ثمة من يجد نفسه فيه ويسعد به وهو انسان سريع‬
‫العطب‪ ،‬واعداؤه يعرفون ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬يقول شقيقك مراد‪" :‬احلم مستغانمي كاتبة تخفي خلف روايتها ابا طالما‬
‫طبع حياتها شخصيته الفذة وتاريخه النضالي‪ ،‬لن نذهب الى القول بانها‬
‫اخذت عنه محاور رواياتها اقتباسا ولكن ما من شك في ان مسيرة حياته‬
‫التي تحكي تاريخ الجزائر وجدت صدى واسعا عبر مؤلفاتها" الى اي مدى أثر‬
‫هذا الب في شخصيتك ورواياتك ورماك داخل اثون الهم السياسي؟‬
‫* هذا الهم الذي ورثته عن والدي محمد الشريف الذي عرف السجون الفرنسية بسبب‬
‫مشاركته في مظاهرات ‪ 8‬مايو ‪ 1945‬ومن ثم اصبح ملحقا من قبل الشرطة الفرنسية‬
‫بسبب نشاطه السياسي‪ ،‬ومأساة أبي تتكرر في كل اعمالي‪ ،‬واعني بها مأساة النسان‬
‫النظيف الذي يموت في المعمعة‪ ،‬والهم السياسي الذي احمله راجع الى نشأتي في وسط‬
‫سياسي والحياة السياسية لوالدي الذي كان يملك حق التصرف بكل املك فرنسا عندما‬
‫غادرت الجزائر بعد الستقلل لكنه مات في شقة مستأجرة!! بينما الخرون نهبوا الوطن‬
‫لقد قلت‪ :‬قد اغفر للرهابيين الذين دمروا الجزائر لكن لن اغفر للذين نهبوا الجزائر‪.‬‬
‫‪ -‬صعدت قطار الغربة بوقت مبكر حيث اخذك الى باريس‪ ،‬كيف تعايشت مع‬
‫الغربة؟‬
‫* في البداية كانت تخيفني‪ ،‬لكنني اكتشفت انها شرط ابداعي يحتاج اليه الكاتب مثلما‬
‫يحتاج الحب والرؤيا البعد عن الوطان يحتاج الى مسافة لنتأملها جيدا‪ ،‬الغربة جميلة‪.‬‬
‫‪ -‬هل انت راضية عن الشواط التي قطعتها الرواية العربية على المستوى‬
‫التقني؟‬
‫* اعتقد ان الرواية العربية قطعت اشواطا جيدة فقد ظهرت مدارس جديدة واخذ كل‬
‫كاتب منحى‪ ،‬بدأنا نقرأ روايات فيها جرأة وتوثيق تاريخي وبوح‪ ،‬فالروائي الن يذهب بعيدا‬
‫في نفسه‪ ،‬وهذه لم تكن متوافرة في الرواية العربية من قبل‪.‬‬
‫‪ -‬لكن لغة الشعر بدأت تزحف على الرواية أليس كذلك؟‬
‫*القارئ العربي لم يشف من الشعر‪ ،‬ل بد من نقلة تجريدية‪ ،‬جزء من نجاحي في الكتابة‬
‫الرواية لغتي التي تشبهني‪ ،‬فعندي ل تجد قصة‪ ،‬هناك لغة توجد حدثا‪ ،‬القارئ يحفظ الجملة‬
‫التي تشبهه لنه يكون قد عثر على نفسه فيها‪ ،‬وعندما يعثر القارئ على نفسه في كتاب‬
‫يكون قد سلم نفسه للكاتب‪.‬‬
‫) ‪( Sunday, 11 June 2006‬‬

‫أحلم مستغانمي‪ :‬الطاهر وطار أب الرواية الجزائرية‬


‫أكدت رفضها التطاول على الكتاب الكبار`جديد` أحلم مستغانمي‪ :‬الطاهر‬
‫وطار أب الرواية الجزائرية‬

‫ةةةةةةة ‪ -‬ةةةة ةةةة‪ :‬في لقاء أجرته معها صحيفة "الخبر" الجزائرية اليومية‬
‫تساءلت الروائية أحلم مستغانمي عن ما أسمته بـ "استمرار دوران مسلسل المهاترات‬
‫في المشهد الدبي الجزائري"‪ ،‬حيث قالت في هذا الصدد ''إلى متى ستظل ثقافة نهش‬
‫ت أذكر أن‬ ‫اللحم سائدة‪ ،‬يجب أن نستثمر في ثقافة العتراف بالخر وتقديره )‪ (...‬فما زل ُ‬
‫الجميع سكت عندما ُأتهمت بالسرقة"‪.‬‬
‫وفي هذا الصدد عادت الروائية أحلم مستغانمي لتشيد بالروائي الطاهر وطار الذي وقف‬
‫إلى جانبها قائلة "والوحيد الذي أنصفني هو الروائي الطاهر وطار الذي أعتبره أب الرواية‬
‫الجزائرية''•‬
‫ُ‬
‫الروائية أحلم مستغانمي كانت قد أتهمت قبل سنوات بسرقة روايتها الولى '' ذاكرة‬
‫الجسد'' من الشاعر العراقي سعدي يوسف‪ ،‬حيث قالت صاحبة ''فوضى الحواس'' في‬
‫هذا الشأن "إن الروائي الجزائري الوحيد‪ ،‬من السماء الكبيرة‪ ،‬الذي وقف بجانبي‬
‫وأنصفني عندما تخلى عني الجميع بالصمت‪ ،‬لحاجة في نفس يعقوب‪ ،‬هو الكاتب الكبير‬
‫ما‬
‫حسدت الجزائر في أحلم مستغانمي كما ُتحسد دائ ً‬ ‫الطاهر وطار عندما قال للجميع '' ُ‬
‫في كل شيء جميل فيها''•‬
‫ُ‬
‫هذا وقد وجهت الروائية أحلم مستغانمي في هذا السياق نداء إلى الكّتاب الجزائريين ول‬
‫سيما الذين‬
‫يتخبطون في الصراعات الوهمية والجدالت العقيمة والمهاترات‪ ،‬بالتخلي عن هذه‬
‫الساليب المنافية للتقاليد الثقافية وأخلقياتها‪ ،‬والعمل على تقدير وتثمين المواهب‬
‫الجديدة الناشئة‪ ،‬وتشجيعها من خلل حث طاقاتها الكامنة وتقديم العون المادي والمعنوي‬
‫لها‪ ،‬ودفعها إلى الكتابة والبداع‪ ،‬والعمل على الحتفاء بها على نحو ما ُيحتفى بالكبار• لن‬
‫الكبير ل يولد كبيًرا ولذلك فمن الجحاف أن يستمر الكبار في دهس الصغار في الجزائر‬
‫وفي محاولة إلغائهم ومحاصرتهم• وتجدر الشارة إلى أن الروائية الجزائرية أحلم‬
‫مستغانمي قد أصرت في معرض لقائها مع صحيفة "الخبر" الجزائرية على القول بأنها لن‬
‫تسمح لنفسها بالتورط في "مهاترات مماثلة مع أي كاتب كان"• هذا وقد أكدت رفضها‬
‫التطاول على الكتاب الكبار " الذين يشكلون علمات ثقافية بارزة في تاريخنا الثقافي‬
‫وعلينا أن نؤسس لتقاليد العتراف بهم على غرار ما هو سائد في الدول‬
‫ت إلى ترجمة‬ ‫المتقدمة"• وفي هذا السياق أضافت الروائية الجزائرية قائلة "لقد دعو ُ‬
‫أعمال الشاعر الراحل مالك حداد طوال مشواري‪ ،‬ومع ذلك إتهمني بعضهم في الماضي‬
‫بسرقة أشعاره‪ ،‬ولكنني لم ألتفت إلى تلك التهامات ونجحت في الخير في تأسيس‬
‫جائزة مالك حداد للرواية الجزائرية‪ ،‬ولدي رغبة في أن تصبح الجائزة سنوية لنني راغبة‬
‫كتاب آخرين‪ ،‬وإخراج مواهبهم إلى النور''•‬‫في إنجاب ُ‬
‫وفي هذا الحديث سعت الروائية أحلم مستغانمي إلى تثمين الخطوة الحضارية المميزة‬
‫التي أقدم عليها‬
‫الروائي الجزائري الطاهر وطار بإنشائه مؤخًرا لجائزة الهاشمي سعيداني للرواية‪ ،‬متمنية‬
‫العمر‬
‫المديد لهذه الجائزة ولما تليها من جوائز مستقبل‪ ،‬تشجيًعا للمواهب التي تزخر بها‬
‫الجزائر‪ ،‬والتي لم تجد لسوء الحظ من يأخذ بيدها في عالم الكتابة والبداع‪.‬‬

‫مقابلة مع السيدة أحلم مستغانمي‬


‫ةةةة ةةةةةة ‪ :‬ةةةة ةةةة ةةةةة‬

‫ماذا لو خرجت حورية من البحر ‪ . .‬؟‬


‫ماذا لو انسلت أنثى من الحبر ‪ . .‬؟‬
‫لنها هكذا دوما ‪ . .‬تقف الكلمات على مفترق الطرق ‪ . .‬عارية ‪ . .‬خائفة ‪ . .‬تتسكع ما بين‬
‫ارتعاشات الليالي وصباحات الكلم‪ ,‬ومن ثم تهرب خوفا على نفسها من مهب اللفاظ ‪,‬‬
‫لتختبئ في رحم حبرها ‪. .‬‬
‫هي ‪ . .‬سيدة الرواية شعرا ‪ . .‬سيدة لكل الحتمالت ‪ ,‬سيدة الحاسيس العابرة للقارات ‪,‬‬
‫والنبهار الدائم بلقاء أول ‪ . .‬ووداع أول‪. .‬‬
‫هي ‪ . .‬سيدة الشعر حبرا ‪ . .‬تصنع منك جثة هامدة للحب دون أن تدري ‪ ,‬وتغلق أمامك‬
‫مطارها كي ل تحاول القلع ‪ . .‬ثم تحيلك إلى براد الذاكرة ‪.‬‬
‫هي سيدة الحب موتا ‪ . .‬إياك أن تمر من بساتينها وحقولها ‪ . .‬إنها ألغام تنفجر شوقا ‪,‬‬
‫تنفجر جنونا ‪ ,‬ثم تصنع منك لوحة يتيمة ‪ ,‬لتغادرك مسافرة نحو مينائها ‪ ,‬وأنت تسبح‬
‫بدهشتك تقضم خيبتك ‪.‬‬
‫فيا صديقي المغامر ) انتبه ‪ . . .‬يمكن لزهرة من الكلم أن تخفي غابة من القتلى (‬
‫ولم ل ؟ أليست هي من وجه الصواريخ البالستية تلك التي تحترف الجتياح ‪ . .‬؟‬
‫ولم ل ؟ أليست هي من أعلن الزوبعة تلك التي تتقن العاصير‪ . .‬؟‬
‫نعم و هذا ما حدث في أول لقاءنا ‪. .‬‬

‫‪ -‬البداية معك شيء صعب سيدتي ‪ . .‬لذا اختاري البداية ‪. .‬‬


‫‪ -‬البداية معك شيء جميل سيدي ‪ . .‬لنك جميل ‪ . .‬لذا أنت من يختار البداية ‪. .‬‬
‫أليس هذا لغما وضعته لك تلك التي تحترف اللغة ‪ ,‬وأنت الصحفي الذي يجب أن تكون‬
‫سيد اللغام ‪ . .‬؟‬
‫ولم ل ؟ فهي التي تقول في روايتها ) فوضى الحواس ( ‪ :‬السؤال خدعة ومباغتة للخر‬
‫في سره ‪ . .‬كالحرب تماما ‪ . .‬تصبح فيها المفاجأة هي العنصر الحاسم ‪. .‬‬
‫تلك التي تكشف لك اللعبة الذاعية التي ينبغي أن تجيب فيها عن السئلة ‪ ,‬دون أن‬
‫تستعمل كلمة ) ل ( أو كلمة ) نعم ( ‪.‬‬
‫فتلك اللعبة تناسبها تماما لنها تقف على حافة الشك ‪ ,‬ويحلو لها أن تجيب‬
‫) ربما ( حتى عندما تعني ) نعم ( ‪ ,‬و ) قد( عندما تقصد ) لن (‬
‫فهي تحب الصيغ الضبابية ‪ ,‬الملتبسة ‪ ,‬والجمل الواعدة ‪ ,‬الحالمة ‪ ,‬ولو كذبا ‪ ,‬تلك التي ل‬
‫تنتهي بنقطة ‪ ,‬وإنما بعدة نقاط ‪. . . . . .‬‬
‫لذا قررت صاحبة الحبر أن تسرق مني سؤالي ‪ ,‬لتجبرني على طريقة غريبة في‬
‫التحاور ‪ . .‬و أسلوب آخر في السرد ‪. . .‬‬
‫هذه هي الحالة التي تركتنا بها بعد انتهاء محاضرتها في الخيمة الثقافية في أرض المعارض‬
‫على هامش النشاطات الثقافية لمعرض الدوحة الدولي للكتاب ‪ ,‬وهذه هي الحالة أيضا‬
‫التي تركتنا بها بعد إجراء هذا الحوار الجريء ‪. . .‬‬

‫بما أن لك كل هذا النتشار ‪ . . .‬كيف تتعاملين مع قرائك ؟‬


‫إنها معجزة الكتابة ‪ ,‬فكيف تكون لك كل هذه الشعبية دون سيف أو سلطة ؟ إنها نعمة‬
‫حقا ‪ ,‬وهذا الحساس الجميل ل يزيدني إل تواضعا أمام القارئ ‪ ,‬فالكاتب تقاس موهبته‬
‫بتواضعه ‪ ,‬فليس من الممكن أن يكون الكاتب مغرورا ومترفعا عن اللذين يكتب لهم ‪ ,‬وقد‬
‫أدهشتني مشاعر الناس في كل الماكن التي ألتقيهم فيها سواء في الشارع أو في‬
‫المعارض أو المحاضرات ‪.‬‬
‫فالسلوب الذي أعتمده في كسب القارئ هو الغراء خصوصا إذا لم يقتنع بك أو كان‬
‫يشكك بك ) تضحك ( فأنا أشهر كل أسلحة الدمار الشامل‬
‫لكن كيف تفسري غيرة البعض من الكتاب بأنك أخذت أماكنهم ‪ . . .‬؟‬
‫) نقوللك بصراحة ( إني أشعر تجاه هذا الموضوع بعقدة الذنب لني أخذت الكثير من‬
‫مساحة الخرين ‪ ,‬وبأني ظلمت كتابا آخرين ‪ ,‬فعوضا عن أن يقوم القارئ بجهد البحث عن‬
‫كتاب جديد أصبح ل يغامر ‪ . . .‬فهو يتجه نحو الكتاب الذي يعرفه أو سمع به ‪.‬‬
‫وسبق فيما مضى حينما كنت على ‪ LBC‬اللبنانية في برامج صباحية عن الدب أن بكيت‬
‫وأنا أعتذر للكتاب أن يسامحوني ‪ ,‬وأقول للقراء أتمنى أن تقرؤوا لكتاب آخرين ‪ ,‬فهذه‬
‫الضواء المتجهة نحوي كثيرة علي ‪ ,‬فثمة من أكثر مني موهبة ‪ ,‬و ربما هذا ما خلق لي‬
‫العداء والصدقاء معا ‪ ,‬و أدخلني في حروب عديدة ‪ ,‬لكني دوما كنت أبحث عن المعارك‬
‫الشريفة النبيلة المملوءة بالدب وليس قلة الدب ‪ ,‬وحينما ألجأ إلى الصمت كان يفسر‬
‫بالضعف لنهم ل يدركون بأنه القوة ذاتها ‪.‬‬
‫وهناك مقولة للفنان يوسف شاهين بأن المبدع العربي يقضي ‪ %20‬من وقته في البداع و‬
‫‪ % 80‬منه في الدفاع عن هذا البداع ‪ . . .‬إنها مصيبة أن تتفاوض مع الرقيب ومع الموزع‬
‫ومع المزور لعمالك ‪.‬‬
‫بمناسبة الحديث عن الرقيب ‪ ,‬كيف تتعاملين مع الرقابة ؟‬
‫) تضحك ( أتفوق على شيطنة الرقباء ‪ ,‬فالكاتب الناجح هو سارق محترف يعرف كيف‬
‫يتعامل مع الرقيب ول يقع في فخه ‪ ,‬أما اللص الصغير فمن السهل أن يقع في الشرك ‪.‬‬
‫وماذا عن أعمالك المزورة ؟‬
‫للحقيقة أن أعمالي مزورة في أكثر من بلد وهي منسوخة كما تنسخ الشرطة بقصد الربح‬
‫‪ ,‬وأنا ل أدافع عن حقوقي في الطبع وإنما عن حقوق القارئ الذي تسرق أمواله ‪ ,‬فثمة‬
‫دار للنشر أتت من الخارج إلى معرض الدوحة للكتاب وتبيع كتابي بمبلغ كبير قياسا مع‬
‫السعر الحقيقي لكتابي وهذه النسخة مزورة ‪ ,‬والخاسر الكبر هنا هو القارئ ‪ ,‬ففي‬
‫فلسطين يباع كتابي بتسعة دولرات ! أليس هذا حراما ؟ فالمواطن الفلسطيني فقير و‬
‫مهدورة حقوقه ‪ ) .‬تضيف ‪ . .‬عيب أن أقول هذا الكلم ( لكن جزء من دخلي لمساعدة‬
‫الفلسطينيين ‪ ,‬وأجازف بأمني وباسمي مقابل هذا ‪ ,‬لني أقول ل يمكن أن تدافع عن‬
‫قضية ول تدفع ثمن موقفك ‪ . . .‬فكيف أكتب عن القضية الفلسطينية وأكسب مال مقالي‬
‫السبوعي مقابل هذه القضية ول أدفع مبلغ للفلسطينيين ؟ أكون قد استغليتهم ‪! . .‬‬
‫) لكن وللسف ل أعرف أن كان لديك الشجاعة أن تدون هذا الكلم ( فالبنوك الفلسطينية‬
‫تسرق النسان الفلسطيني ‪ ,‬والمطابع الفلسطينية تسرق القارئ الفلسطيني ‪ ! . . .‬هل‬
‫يمكن أن أحب هؤلء الناس أكثر مما يحبهم أبناؤهم ‪ . . .‬؟‬
‫حينما طلبوا منك أن تهدي كتبك الى الصحفيين لماذا رفضت ؟‬
‫أنا ل أهدي كتابا لحد ‪ . . .‬فقط للقراء ‪ . . .‬فالكتاب الذي يهدى ل يقرأ ‪ ,‬وحدث أن طلب‬
‫مني أن أهدي كتابي لنزار قباني لكني رفضت – وهل هناك أكثر من نزار – وذلك لني‬
‫استحيت أن أفرض كتابي على أحد كي يقرأه ‪ . . .‬فهناك كتب تهدى وتترك في الفنادق ‪,‬‬
‫وحدث أن رأيت هذا في أحد المؤتمرات‪ ,‬تصور كم أهينت هذه الكتب ؟ فهناك كتاب ل‬
‫يقرؤون لبعضهم البعض حتى ‪.‬‬
‫أما من يحاول أن يهديك كتابه لتقرأه ‪ ,‬فهو يعني بذلك أن يقول خذي كتابي اقرأ يني فأنا‬
‫أشبهك ‪ . . .‬اكتشفيني ‪.‬‬

‫إلى أي مدى تشعرين بأنك تمثلين المرأة العربية ؟‬


‫لعل نجاح الكاتب يكون مرهونا بأن ينسب القارئ الكتاب لنفسه ) سواء امرأة أو رجل ( ‪,‬‬
‫فحينما يحبه سوف يتبناه ‪ ,‬وهذا ما يحصل عندما يرى أن الشعر مثل يشبهه ‪ ,‬فهو يقوم‬
‫بحفظه ‪ ,‬وليس غريبا علينا ما حصل مع الشاعر الكبير نزار قباني ‪ ,‬فقد كان شعره يشبهنا‬
‫جميعا إلى حد التطابق ‪ ,‬أما عن المرأة العربية فكل شيء مشترك بيننا لن الفكار نفسها‬
‫والمأساة واحدة والوجع واحد ‪.‬‬

‫يقال عنك بأنك كاتبة رغبة وليس شهوة ‪ . . .‬ما تعليقك على ذلك ؟‬

‫صحيح تماما ‪ . . .‬لني أحب أن أكون مشتعلة بالشتهاء ‪ ,‬جميلة هي مرحلة الرغبة ‪. .‬‬
‫الرغبة المكابرة ‪ ,‬غير المعلنة ‪ ,‬المواربة ‪ ,‬الملتبسة ‪ ,‬لن الشهوة ل تقتل فقط شيئا فينا‬
‫وإنما أيضا النص الدبي ‪ .‬ولهذا ل يوجد في أعمالي إل القبلة في كل رواية ‪ ,‬فالقبلة تعطي‬
‫قدرا كبيرا من المتعة لنها تشعل الحواس الخمس ‪ ,‬بينما الفعل الجنسي ل يحتاج ربما‬
‫لكل هذا ‪. . .‬‬
‫والدب العربي ل يعطي القبلة حقها ‪ ,‬وأنا أقول ل الحياء ول الباحية تصنع أدبا ‪ ,‬فالحياء‬
‫إنكار لمنطق الجسد والباحية إهانة لنسانيتنا‬

‫تتحدثين دوما عن النضال والموت لجل القضية ‪ ,‬ما هي استعداداتك لذلك ؟‬

‫أنا مستعدة وجاهزة للموت من أجل أي قضية عربية ‪ ,‬طبعا ليس الموت كما يحدث في‬
‫العراق ! فقد راجعت قناعاتي بعد أن كنت مهيأة للموت هناك ‪ ,‬لكني اكتشفت غباء‬
‫الموت مجانا ‪ ,‬لكن إذا كان هناك قضية حقيقية وموت يفيد ؟ سوف أنسى أني كاتبة ‪,‬‬
‫وأكون فقط مواطنة عربية ‪ ,‬وأتمنى أن تختبرني الحياة في امتحانات كهذه ‪ ,‬فثمة موت‬
‫تولد فيه ‪ ,‬والكاتب حتى في موته يوقع نفسه إذا كان قدره أن يموت‪ ,‬لكن للسف ل قدوة‬
‫لنا ‪ ,‬فنحن نحتاج إلى قدوة كي تكون مرجع لنا ككتاب ‪ ,‬فأنت تتمنى أن تسمع بكاتب لم‬
‫يشترى ‪ ,‬أو كاتب رفض زيارة بلد ما لسبب ما ‪. . . .‬‬

‫أين أنت وأعمالك من السينما والتلفزيون ؟‬


‫هناك توقيع بين تلفزيون أبو ظبي والتلفزيون الجزائري ‪ ,‬اللذين اشتريا حقوق رواياتي‬
‫لتكون مسلسل تلفزيوني في رمضان ‪ ,‬لكني في البداية كنت أفكر بأن تكون عمل‬
‫سينمائي ‪ ,‬ونور الشريف كان يدافع عن هذه الفكرة كي يصل العمل إلى لجان دولية وكي‬
‫يكون ممثل للجزائر دوليا ‪ ,‬لكننا انتهينا بأن يكون عمل تلفزيوني وذلك كي تصل الرواية‬
‫إلى أكبر قدر من المشاهدين في العالم العربي ‪ ,‬فهناك الكثير من القراء لم يقرؤوها ‪.‬‬
‫ما هي كلمتك الخيرة ‪ . . .‬؟‬
‫إن هذا الوطن العربي الكبير والجميل يستحق قدرا أجمل ‪ ,‬وعلينا أل نشارك في مذبحة‬
‫المل العربي ‪ ,‬وإنما بنائه‬
‫أحلم مستغانمي في حوار لـ المستقبل‪:‬‬
‫هذه المرة سأخرج عن الجزائر إبداعا‬
‫إلتقينا بالروائية والديبة احلم مستغانمي التي أشرفت على جائزة مالك حداد للعام‬
‫الماضي‪ ،‬حدثتنا عن هذه الرحلة من سوريا الى الجزائر مرورا بباريس‪ ،‬وعن ولوجها لعالم‬
‫الكتابة الروائية والدبية مؤخرا وعن روايتها الجديدة "الحب الخاص" وعن الترجمة التي‬
‫رصدتها كتاباتها وأشياء حميمية أخرى كصداقتها بأنعام بيوض مثل‪.‬‬

‫المستقبل‪:‬‬
‫من سوريا الى الجزائر‪ ،‬كيف كانت طفولتك وفترة المراهقة وماذا عن‬
‫صداقتك بأنعام بيوض؟‬

‫أحلم مستغانمي‪ :‬ولدت في تونس من أب ذو جنسية جزائرية كان أبي يهوى الدب‬
‫الفرنسي وتعرض للسجن بسبب نشاطه السياسي‪ ،‬ونشأت في محيط عائلي وطني‬
‫التوجه‪ ،‬وبعد الستقلل عدت الى الجزائر لدرس في مدرسة الثعالبية للبنات ومن ثم‬
‫ثانوية عائشة أم المؤمنين لتخرج سنة ‪ 71‬من كلية الداب ضمن أول دفعة معربة تتخرج‬
‫بعد الستقلل من جامعات الجزائر‪ ،‬وطبعا الطفولة ليست كلها سعيدة‪ ،‬هذا يكون طبعا‬
‫في القصص الخرافية‪ ،‬فوصولي الى الجزائر كان فعل مؤشرا‪ ،‬كان اكتشافا‪ ،‬أن أقوم بأول‬
‫رحلة مضطربة وعمري ‪ 10‬سنوات‪ ،‬وسوف يكون طبعا لهذه النقلة أن تعلمت لهجتين‬
‫وأصبحت لي مرجعيتان‪ ،‬وطبعا ل نشعر بذلك إل في الكبر‪ ،‬حيث يشعر بذلك التزاوج‪،‬‬
‫درست في المدرسة الثعالبية ثم ثانوية عائشة أم المؤمنين وهناك التقيت بأنعام بيوض‬
‫في الصف الول والثاني والثالث‪ ،‬فكنت في النظام الخارجي وكانت أنعام بيوض في‬
‫الصف الداخلي‪ ،‬كنت في القسم الدبي‪ ،‬بينما كانت هي في القسم العلمي‪ ،‬جمعنا هذا‬
‫التزاوج الثقافي‪ ،‬لنها ولدت في تونس وربما الذي يجمعنا ميولنا الدبية‪ ،‬فكنت أكتب‬
‫قصائد في سن السادسة عشر وأول قصيدة أو أول ديوان صدر لي "على مرفأ اليام"‬
‫عام ‪.1971‬‬

‫ماذا تعني لك الكتابة؟‬

‫هي نوع من النهماك السري في الحياة‪ ،‬هي في البداية مناجاة والكتابة لغة مختزلة‪ ،‬وبعد‬
‫أن كتبت الشعر‪ ،‬كتبت الرواية التي جاءت متأخرة‪ ،‬جاءت نتيجة لمعايشة أشياء صعبة عجز‬
‫الشعر عن معايشتها‪ ،‬فبحثت عن فضاء أكبر‪ ،‬لم أكن أنوي النشر في البداية‪ ،‬فعلت ذلك‬
‫لخلق وادا أنفخ فيه صراخاتي وميولتي وكذا كل الحاسيس التي تخالجني والتي ل يعجز‬
‫البوح عنها ال القلم والكلمة‪.‬‬

‫صدرت لك مؤخرا ثلثيتك المشهورة "عابر سرير" "ذاكرة الجسد" و"فوضى‬


‫الحواس"‪ ،‬فيما تتلخص أحداث الروايات؟‬
‫أحداث الرواية أن خالد الشاب ابن الخامسة والعشرين‪ ،‬يقاتل في احدى جبهات الثورة‬
‫تحت قيادة "سي الطاهر عبد المولى" وكلهما من قسنطينة ويصاب في احدى المعارك‪،‬‬
‫فينقل مع عدد من الجرحى الى تونس محمل بوصية من سي الطاهر الى عائلته المقيمة‬
‫هناك والمؤلفة منه وزوجته وطفله ناصر وطفلة وليدة يسمونها حياة‪ ،‬وهذا يشكل خلفية‬
‫لحداث الرواية من خلل تداعيات خالد‪.‬‬

‫أما الحداث الحقيقية للرواية بعد ‪ 25‬سنة من خروج خالد من الجبهة‪ ،‬فيقيم معرضا في‬
‫باريس وتزوره حياة ويقع خالد في حب حياة بصورة ميلودرامية‪ ،‬حيث بالمصادفة تعّرفه‬
‫ابنة سي الشريف ابنة عم حياة على نفسها بأنها النسة عبد المولى‪ ،‬فترتد ذاكرته الى‬
‫الوراء فجأة‪ 25 ،‬سنة‪ ،‬ويأمل في أن تكون الخرى هي الطفلة التي سجلها باسم احلم‬
‫وليست من تعرفه ويقع حبه لها فورا‪ ،‬هذه باختصار أحداث الرواية‪.‬‬

‫كيف تمكنت من تحقيق معادلة التعبير عن أحاسيسك بالرسم والكتابة‬


‫الشعرية والروائية؟‬

‫هي محاولة بالزل‪ ،‬فأنا ل أقوم بجهد حين أرسم‪ ،‬فهي ليست أزرار‪ ،‬هي كالخلية الدموية‪،‬‬
‫والظروف هي التي تجعلنا نشعر بالزخم الشعري‪ ،‬فنحن مثل ل نطبخ اليوم وغدا نقوم‬
‫بالشغال المنزلية‪ ،‬الكتابة والرسم هي ردود فعل لمعايشات‪.‬‬

‫على ذكر الرسم كيف ولجت لعالمه؟‬

‫أعتقد أنني أهوى ذلك منذ الصغر‪ ،‬وهي موهبة نماها أبي الذي اكتشفني‪ ،‬ففي الـ ‪15‬‬
‫رسمت وجوها وأتذكر أن أول معرض للرسم أقمته كان في المدرسة البتدائية‪ ،‬وعلقتي‬
‫بالرسم لم تكن مزاجية بقدر ما كانت علقة وجود‪ ،‬لنني أشعر بنفس القلق‪ ،‬وان أشياء ما‬
‫تود الخروج مني ولن أكف عن خوض تجربة الرسم حتى تكف أناملي عن الحك‪ ،‬فهناك‬
‫أشياء أودها أن تخرج‪.‬‬

‫ما هي أهم الجوائز التي تحصلت عليها أحلم مستغانمي طيلة مشوارها‬
‫الدبي؟‬

‫تحصلت سنة ‪ 1996‬على جائزة نجيب محفوظ للرواية عن رواية ذاكرة الجسد التي تمت‬
‫طباعتها ‪ 18‬طبعة في مدة زمنية قياسية‪ ،‬وسنة ‪ 2001‬انشئت جائزة مالك حداد للرواية‬
‫الجزائرية بالتنسيق مع رابطة كتاب الختلف وكذا أكاذيب سمكة‪ ،‬على مرفأ اليام عام‬
‫‪ ،72‬واستطعت عبر رواية واحدة أن أحقق النجومية في الوطن العربي الذي ل يقرأ كثيرا‪،‬‬
‫وهذا مؤشر كبير من طرف الدول العربية على مدى ما استحوذته الرواية من اهتمام‬
‫يفوق أي كتاب آخر‪ ،‬فرغم أن بداياتي كانت شعرية‪ ،‬لكنها بقيت في ذاكرة كل قاريء‪.‬‬

‫ما سر اللهجة الطيبة وطلقة وعذب الصوت؟‬

‫عملت في الذاعة الجزائرية لثلث سنوات ونشرت قصائد ومقالت في الصحافة‬


‫الجزائرية ثم تزوجت الصحفي اللبناني نصفي الثاني وعشت في سوريا وتعلمت اللهجة‬
‫السورية التي اعتبرها ثاني لهجة اعتز بها بعد اللهجة الجزائرية‪.‬‬

‫هل تعرضت أحلم لنتقادات؟‬

‫أنا أعتقد ان الروائي أو الديب أو الممثل أو أي كان ل يتعرض لنتقاد يعتبر عمله ناقصا‪،‬‬
‫فالنتقاد طبعا البّناء نوع من التحفيز الذي يساعد على رفع مستوى المنتوج أو العمل الذي‬
‫نقدمه‪ ،‬فرغم النتقادات اللذعة التي تعرضت لها شخصيا والتي مست الروائية احلم‬
‫مستغانمي من طرف الدباء الجزائريين وحتى في الخارج‪ ،‬ال أنني اعتبر نفسي من‬
‫القلم المعروفة على الساحة الدبية‪ ،‬وقد عبر عن ذلك الكثير من الدباء ليس فقط‬
‫الجزائريون منهم وإنما حتى في الخارج الذين اعتبروا ثلثيتي المشهورة من الروايات‬
‫عرفت انتشارا وتوزيعا كبيرين في الساحة الدبية‪.‬‬

‫عرفنا أن كل كتاباتك مركزة أو أحداثها تدور في الجزائر وكل شخصيات‬


‫الرواية جزائريون‪ ،‬هل عملك الجديد سيكون كذلك؟‬
‫روايتي هذه المرة خارجة كليا عن الجزائر وعن الشخصيات الجزائرية‪ ،‬فهي رواية أبطالها‬
‫لبنانيون وأحداثها تدور في لبنان‪ ،‬وسأحاول ان أعالج هذه المرة عبر هذه الرواية الحب‬
‫في العالم العربي‪ ،‬وأهديها لكل العشاق في عيدهم "الفالونتيني"‪ ،‬غير أنني أشهد أن‬
‫العنوان الجديد لم يستقر بعد في ذهني‪ ،‬لكن أعد جمهوري أن الرواية في طريق النتهاء‬
‫لقدم قصة غرامية تسافر بالقارىء الى أجمل الحاسيس والمشاعر في الحياة‪.‬‬

‫كلمة أخيرة لمحبي أحلم مستغانمي‪.‬‬

‫أنا جد سعيدة بتواجدي في الجزائر الحبيبة‪ ،‬ببلدي وسط أهلي والذي أشعر أنني لم‬
‫أفارقهم أبدا وكل مرة ألتقي بهم أشعر وكأنني معهم دوما‪.‬‬

‫أجرت الحوار‪ :‬ك‪ .‬محيي الدين‬

‫لقاء السيدة احلم مستغانمي مع جريدة البيان‪:‬‬

‫احلم مستغانمي لـ )البيان( ‪ :‬القصيدة للحبيب والرواية للوطن‬


‫عندما كانت الشاعرة الجزائرية المقيمة في لبنان أحلم مستغانمي تفقد حبيبا ً )وهذا‬
‫افتراض( كانت تكتب قصيدة‪ ,‬وعندما فقدت الوطن او تكاد ‪ ,‬كتبت الرواية‪ ,‬وأبرزها روايتها‬
‫)ذاكرة الجسد( ‪ ,‬ثم )فوضى الحواس( حملنا اليها بعضا ً من أسئلتنا في الحوار التالي‪:‬‬
‫لماذا الشعر للحبيب‪ ,‬والرواية للوطن؟‬
‫ــ تقول مستغانمي محطاتي الدبية الولى كانت شعرية‪ ,‬انتقالي الى الرواية تم دون أن‬
‫أدري فالشعر مرتبط الى حد ما بالمراهقة الولى‪ ,‬اذا فقدنا حبيبا ً )نكتب شعرًا( ‪ ,‬لكن‬
‫عندما نفقد وطنا ً )نكتب رواية( ‪.‬‬
‫لماذا؟‬
‫ــ )لنه تصبح لدينا أسئلة أكبر من الشعر فالرواية ترتبط بوعي كبير وتحتاج الى رصيد من‬
‫الحياة‪ ,‬لنتمكن من انجازها‪ ,‬وهكذا انتقلت الى الرواية ولم أغادر الشعر‪ ,‬ما زلت أكتب‬
‫روايات فيها النفس الشعري( ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هل من صعوبات واجهت عملية النتقال أدبا والتنقل جغرافيا بين الجزائر‬
‫وباريس وبيروت؟‬
‫ــ )قبل أي شيء بالنسبة للصعوبات اقول انه بالرغم من انني حاصلة على ليسانس آداب‬
‫من الجزائر‪ ,‬إل أنني بصراحة ل أعرف كيف تكتب رواية ولهذا كتبت روايتي بصيغة‬
‫الرسالة وبالرغم من ذلك نجحت )ذاكرة الجسد( ‪ .‬لكن ثمة صعوبات على المستوى‬
‫الشخصي‪ ,‬فهذا اول عمل قمت به بعد صمت دام حوالي خمس عشرة سنة‪ ,‬فالعودة‬
‫مجددا ً الى الكتابة صعوبة في حد ذاتها‪ ,‬مع العلم ان النقطاع كان لظروف الزواج‬
‫والمومة ولنني كنت أقدم آنذاك أطروحتي في جامعة السوربون )باريس( عن الدب‬
‫الجزائري‪ ,‬استغرقت خمس سنوات من العمل‪ .‬اضافة الى ان الجو في فرنسا لم يكن‬
‫جوا ً للكتابة‪ ,‬كما هو الحال في بلدنا العربية‪ ,‬فكنت منقطعة تماما ً عن العالم‪ ,‬ومتفرغة‬
‫فقط للمومة‪ ,‬وربما لهذا بدأت أعتقد ان الترف والحياة المريحة جدا ً والرفاهية ل تعطينا‬
‫ل‪ ,‬وأعلن انني لم‬ ‫أدبا ً بل يجب ان نستقيه من شيء آخر كنت اريد ان اكتب نصا ً عربيا ً جمي ً‬
‫امت ككاتبة‪ ,‬واني سأعود بنص عشقي جديد للجزائر‪ ,‬مليء بالحنين والشوق‪ .‬كل هذه‬
‫المور تداخلت وولدت نصا ً كبيرًا‪.‬‬

‫صنعت رجل ً لروايتي‬


‫لماذا كتبت )ذاكرة الجسد( على لسان الرجل الذي برز فيها في أدق‬
‫المشاعر الوطنية والثورية والعاطفية؟‬
‫ــ )ليس صعبًا( ان اتقمص شخصية رجل‪ ,‬فأنا محاطة برجال‪ ,‬وأعرف عنهم الكثير بوجود‬
‫أولدي وأخوتي وزوجي وقد عبرت في روايتي عن أعماق هذا الرجل بلسانه‪ ,‬لن هذا‬
‫الوجع بالذات ل يمكن ان اتحدث عنه كإمرأة فخمسون سنة من الخيبات ل يمكن نقلها ال‬
‫بلسان رجل كما ان القارىء لن يأنس الى ان تكون هناك امرأة تركت حياتها بكل تفاصيلها‬
‫النثوية الطبيعية وتفرغت للنتصارات العربية والقضايا السياسية والقومية‪ ,‬ان رصيد هذا‬
‫الوجع ومصداقيته يفرضان ان يكون على لسان رجل بصفة المتكلم‪ .‬لذلك )استنجدت(‬
‫برجل في روايتي لعبر عن كل ذلك ورغبت ايضا ً ان أتبرأ من )تهمة( الدب النسائي‪,‬‬
‫فعملت على أن اثبت من النص الول انه بإمكاني التحدث كرجل‪ ,‬ومن بعد تقديمي لهذه‬
‫الشهادة اصبح بإمكاني العودة الى أنوثتي‪ .‬اذن كان من المهم ان اصنع رجل ً لن تاريخ‬
‫الخمسين سنة الذي مر على الجزائر ل بد ان يحكيه شخص معني به‪ ,‬شخص ل يكون‬
‫كالبطلة عمره ‪ 25‬سنة بل يجب ان يكون عمره على القل ‪ 50‬او ‪ 65‬عامًا‪ ,‬وعندما‬
‫اخترته اصبحت متورطة معه‪ ,‬بجسده وبكونه معطوبًا‪ ,‬تورطت بكل ذاكرته وأعتقد أنني‬
‫نجحت في وصف الرجولة بشكل جميل ومعبر‪.‬‬
‫ً‬
‫هل جعلت رجل ً )ذاكرة الجسد( يعيش الصراع في حبه ايضا؟‬
‫ــ )ليكون هناك عمل أدبي عظيم يجب ان يكون هناك حب أكبر منه يجعل ملكة الكتابة‬
‫تتحرك فينا فتشتعل هذه الرغبة في كتابة ما نريد التعبير عنه لن العواطف المسطحة ل‬
‫تصنع أدبًا‪ ,‬لكن هذا الكلم ليس من الضروري ان يكون منطبقا ً تماما ً علي وعلى خالد‬
‫بطل الرواية‪ ,‬فكما قلت سابقا ً ان خالدا ً هو بطل خيالي‪ ,‬وهو الرجل العربي المثالي الذي‬
‫أردت ايصال صورته الى العالم أجمع‪ ,‬ولكن هذا ل ينكر وجود الحب في حياتي والعذاب‬
‫الذي أصاب من أحبوني سابقا( ‪.‬‬

‫اناس سريعو العطب‬


‫وهل استطاع ذلك الرجل ان يجمع بين الثأر والغضب من جهة والحب‬
‫والحنين من جهة اخرى وكيف؟‬
‫ــ )هذه هي لعبة الكتابة‪ ,‬فل يستطيع احد ان يزعم انه كاتب وليس بمقدوره ان يوقف بين‬
‫عاطفتين متناقضتين‪ ,‬وايضا ً لن الدب ل يصنع ال بالغضب‪ ,‬والحب جزء من اللغاز الجميلة‬
‫التي يبنى عليها الدب وروايتي مبنية على لغزين‪ :‬الموت والحب فنحن ل نعرف لم نحب‬
‫ول لم نموت‪ ..‬وبالرغم من أنني أحاول أن أوفق بين العاطفتين إل ان الغضب يبقى‬
‫هاجسي وهاجس المواطن العربي هذا بالضافة الى ضعفه تجاه الحب وأخذه بالحالة‬
‫العشقية كإنسان عربي ايضًا‪ ,‬وهاتان العاطفتان توصلنني الى الحالة الشعرية ولهذا‬
‫فاللغة الشعرية موجودة في رواياتي ول نعبر عن الحب وحده بلغة جميلة انما عن الغضب‬
‫ايضًا‪ ,‬وأفضل مثال على ذلك الشاعر نزار قباني الذي هو أفضل من نقل الغضب العربي‬
‫بشراسة اللغة وجماليتها‪ .‬وأنا هنا ل أدعي مضاهاته بل أفسر كيف يمكن ان تكون اللغة‬
‫هي القاطرة التي تحمل العواطف وان متناقضة ففي النهاية نحن مسكونون بهذه الحالت‬
‫التي تتناوب علينا ولسنا في حالة ثبات دائم ولكن قدرنا نحن العرب ان نعيش بين الخيبات‬
‫العربية والحب‪ .‬هذا بالضافة الى الحالة العشقية حيث ان كل عربي يبحث عن الحب‬
‫والذي هو بحاجة اليه اكثر من أي جنس بشري آخر‪ ,‬لننا اناس سريعو العطب من الداخل‪,‬‬
‫شاعريين وحالمين‪ ,‬نملك احلما ً كبيرة فتنكسر بسرعة وندخل بسرعة في حالة خيبة‬
‫ونراهن كثيرا ً على من نحب ثم نصدم كثيرا ً بمن أحببنا‪ ,‬وهذا كله يخلف لدينا هذه المشاعر‬
‫المتناقضة‪.‬‬

‫باقية على قيد الكتابة‬


‫أين ترى احلم مستغانمي )جزائرها وجزائريتها( في رواياتها؟‬
‫ــ )طبعًا( أنا معنية بما يحدث في الجزائر‪ ,‬معنية كمواطنة جزائرية فل يمكن ان اشفى من‬
‫هويتي‪ ,‬ومعنية لن في الجزائر ستون صحافيا ً وكاتبا ً اغتيلوا بتهمة الكتابة‪ ,‬فأنا اشعر دائما ً‬
‫انني أثأر لهؤلء ببقائي على قيد الكتابة وليس فقط على قيد الحياة‪ .‬ول بد ان اؤرخ لما‬
‫يحدث‪ ,‬حيث ان كل هذه الحداث والتغيرات حصلت في عشر سنوات بالنسبة لتاريخ أمة‪,‬‬
‫ففي هذا الظرف القليل دخلت الجزائر المتاهة الدستورية والتاريخية وهذا يتطلب مني‬
‫الكتابة للجيال القادمة‪) .‬ذاكرة الجسد( تحكي عما قبل الثورة وانتفاضة الشعب حيث قتل‬
‫‪ 45‬ألف جزائري في العام ‪ 1945‬اي قبل حرب التحرير وفي مظاهرة واحدة ثم جاءت‬
‫حرب التحرير التي قتل فيها مليون ونصف مليون مواطن‪ ,‬ثم الن حوالي ‪ 100‬الف شهيد‬
‫قتلوا في مذابح ل اسم ول صفة لها فيجب ان نصف ونشرح كيف وصلنا الى هذا الدم‪,‬‬
‫كيف مشى بنا التاريخ‪ ,‬كيف ذهبنا بأحلم كبيرة ثم تواضعت هذه الحلم‪ ,‬هذا كله يورط‬
‫الكاتب في التاريخ لنه ل يمكن ان نفهم كل هذا ال بالعودة الى الوراء وهكذا فإن روايتي‬
‫لديها بعد تاريخي عاطفي حيث ان القارىء ل يعنيه ان يقرأ فقط تاريخ أمة او بلد ما‪.‬‬

‫برنامج خليك بالبيت – تلفزيون المستقبل‬


‫ةةةةةةةة ‪12/2003 / 2‬‬
‫بعض ما قالت السيدة أحلم مستغانمي خلل اللقاء مع العلمي زاهي وهبي‪:‬‬

‫هذه إحدى معجزات الكتابة‪ ‬بإمكان كاتب أن يخترق كل هذه الحدود ‪ ..‬أنا أحلم أن‬
‫أذهب إلى فلسطين و لكن كتبي تجاوزت ليس فقط الحدود بل دخلت الزنزانات‪.‬‬

‫يوم كنت أقترف الشعر قلت ‪ :‬أنا‪ ‬المرأة الزوبعة فقل للنخيل يطأطأ حتى أمر ‪.‬‬

‫ي أنا‪ ‬لم أختر أن أكون زوبعة و لكنني ولدت في عين العصار‬


‫حتى ل أحرض الغبار عل ّ‬
‫ثم أن أكون زوبعة ل يعني أن أكون امرأة مدججة‪.‬‬

‫أنا امرأة عزلء ل أملك إل ورقة و قلم و لكن كما يقول‪ ‬أدونيس ‪:‬الريح عزلء و لكنها‬
‫تنتصر في كل الحروب‪.‬‬

‫النجاح اعتداء على‪ ‬الخرين لنه يفضح فشلهم‪.‬‬

‫ضل عنها الخسائر‪ ‬الكبيرة‪.‬‬


‫أنا ل أريد مكاسب صغيرة أف ّ‬

‫نحن ل نكتب كتب لنقضي حياتنا في الدفاع عنها بل لتدافع هي عّنا‪ ‬حتى بعد مواتنا‪.‬‬

‫مأساتي أنني ل أتوقع الشر من أحد‪θ .‬‬

‫المبدع يرد‪ ‬على كل فاجعة بكتاب ل يرد بمعارك ‪.‬‬

‫كنت أبحث عن أعداء شرفاء عن معارك‪ ‬فيها نبل ‪.‬‬

‫خادمتي كانت بالنسبة لي أكثر شرفا ً ممن يدعون حمل راية الشعر و‪ ‬النضال‪.‬‬

‫أنا أشفق على الكاتب الذي ليس له أعداء … تصور كاتب ليس له أعداء‪. ‬‬

‫يعتقد النقاد أنهم هم من يحاكمون العمل البداعي بينما العمل البداعي‪ ‬هو من‬
‫يحاكمهم ‪.‬‬

‫الشبهة مؤنثة و الخطيئة مؤنثة ‪θ .‬‬

‫حرضني الماضي و‪ ‬حرضتني ذاكرتي ‪.‬‬

‫تقول والدة الرئيس أحمد بن بللة ‪ :‬الطير الحر ما يتمسكش و‪ ‬عندما يتمسك ما‬
‫يتخبطش ‪.‬‬

‫الرواية هي آخر حقيبة لتهريب التاريخ ‪θ .‬‬

‫‪ θ‬كيف أتحايل على الرقابة العربية ‪ ..‬على نقاط التفتيش ‪ ..‬كيف أهّرب هذا التاريخ‬
‫المتآمر عليه ‪.‬‬

‫ضل الشعر على الشعراء كما يفضل الناس الحب على الحبيب‪. ‬‬
‫أف ّ‬

‫أريد أن أوصل رسائل مشفرة إلى القارئ ‪..‬أن أحرضه … أحرضه على الثورة على‪‬‬
‫الحياة على الحب على الشياء الجميلة ‪.‬‬

‫أنا عندي كبرياء ما عندي تكبر‪. ‬‬

‫أحتاج إلى كبريائي ككاتبة و أحتاج إلى كبريائي لواجه الورقة البيضاء و‪ ‬أحتاج كبريائي‬
‫بالنسبة للناس الذين عندهم سلطة ‪.‬‬

‫أنا لست كاتبة بنزعات‪ ‬إجرامية و لكن ثمة أبطال ل بد أن أقتلهم دفاعا ً عن النفس ‪.‬‬

‫سأكتب رواية‪ ‬عن الحب أريد أن اكتب حب أريد أن أرتاح أنا في الواقع الحداث العربية‬
‫أتعبتني ‪ ..‬أنا بلغت سن الفاجعة سآخذ إجازة نفسية أكتب فيها عمل عاطفي لكن العمال‬
‫العاطفية ل تنجو من السياسة و لكن الحب يطغى … الحب بقى و اجمل ‪.‬‬
‫__________________‬

‫برنامج خليك بالبيت – تلفزيون المستقبل‬


‫الثلثاء ‪12/2003/ 2‬‬
‫بعض ما قالت السيدة أحلم مستغانمي خلل اللقاء مع العلمي زاهي وهبي‪:‬‬

‫هذه إحدى معجزات الكتابة‪ ‬بإمكان كاتب أن يخترق كل هذه الحدود ‪ ..‬أنا أحلم أن‬
‫أذهب إلى فلسطين و لكن كتبي تجاوزت ليس فقط الحدود بل دخلت الزنزانات‪.‬‬

‫يوم كنت أقترف الشعر قلت ‪ :‬أنا‪ ‬المرأة الزوبعة فقل للنخيل يطأطأ حتى أمر ‪.‬‬

‫ي أنا‪ ‬لم أختر أن أكون زوبعة و لكنني ولدت في عين العصار‬


‫حتى ل أحرض الغبار عل ّ‬
‫ثم أن أكون زوبعة ل يعني أن أكون امرأة مدججة‪.‬‬

‫أنا امرأة عزلء ل أملك إل ورقة و قلم و لكن كما يقول‪ ‬أدونيس ‪:‬الريح عزلء و لكنها‬
‫تنتصر في كل الحروب‪.‬‬

‫النجاح اعتداء على‪ ‬الخرين لنه يفضح فشلهم‪.‬‬

‫ضل عنها الخسائر‪ ‬الكبيرة‪.‬‬


‫أنا ل أريد مكاسب صغيرة أف ّ‬

‫نحن ل نكتب كتب لنقضي حياتنا في الدفاع عنها بل لتدافع هي عّنا‪ ‬حتى بعد مواتنا‪.‬‬

‫مأساتي أنني ل أتوقع الشر من أحد‪θ .‬‬

‫المبدع يرد‪ ‬على كل فاجعة بكتاب ل يرد بمعارك ‪.‬‬

‫كنت أبحث عن أعداء شرفاء عن معارك‪ ‬فيها نبل ‪.‬‬

‫خادمتي كانت بالنسبة لي أكثر شرفا ً ممن يدعون حمل راية الشعر و‪ ‬النضال‪.‬‬

‫أنا أشفق على الكاتب الذي ليس له أعداء … تصور كاتب ليس له أعداء‪. ‬‬

‫يعتقد النقاد أنهم هم من يحاكمون العمل البداعي بينما العمل البداعي‪ ‬هو من‬
‫يحاكمهم ‪.‬‬

‫الشبهة مؤنثة و الخطيئة مؤنثة ‪θ .‬‬

‫حرضني الماضي و‪ ‬حرضتني ذاكرتي ‪.‬‬

‫تقول والدة الرئيس أحمد بن بللة ‪ :‬الطير الحر ما يتمسكش و‪ ‬عندما يتمسك ما‬
‫يتخبطش ‪.‬‬

‫الرواية هي آخر حقيبة لتهريب التاريخ ‪θ .‬‬

‫‪ θ‬كيف أتحايل على الرقابة العربية ‪ ..‬على نقاط التفتيش ‪ ..‬كيف أهّرب هذا التاريخ‬
‫المتآمر عليه ‪.‬‬

‫ضل الشعر على الشعراء كما يفضل الناس الحب على الحبيب‪. ‬‬
‫أف ّ‬

‫أريد أن أوصل رسائل مشفرة إلى القارئ ‪..‬أن أحرضه … أحرضه على الثورة على‪‬‬
‫الحياة على الحب على الشياء الجميلة ‪.‬‬

‫أنا عندي كبرياء ما عندي تكبر‪. ‬‬

‫أحتاج إلى كبريائي ككاتبة و أحتاج إلى كبريائي لواجه الورقة البيضاء و‪ ‬أحتاج كبريائي‬
‫بالنسبة للناس الذين عندهم سلطة ‪.‬‬

‫أنا لست كاتبة بنزعات‪ ‬إجرامية و لكن ثمة أبطال ل بد أن أقتلهم دفاعا ً عن النفس ‪.‬‬
‫سأكتب رواية‪ ‬عن الحب أريد أن اكتب حب أريد أن أرتاح أنا في الواقع الحداث العربية‬
‫أتعبتني ‪ ..‬أنا بلغت سن الفاجعة سآخذ إجازة نفسية أكتب فيها عمل عاطفي لكن العمال‬
‫العاطفية ل تنجو من السياسة و لكن الحب يطغى … الحب بقى و اجمل ‪.‬‬
‫__________________‬

‫برنامج نلتقي مع بروين حبيب على قناة دبي الفضائية‬


‫ةةةةةةة ‪7/6/2004‬‬
‫بعض اقوال أحلم مستغانمي في لقاء خصت به البرنامج في حلقته الولى‪:‬‬

‫كل ترويج لكتاب هو مضيعة لكتاب‪ ‬آخر‪.‬‬

‫هناك قصاص أن تولد كبيرا ً ‪...‬لكل كاتب الحق في أن يخطأ أما أنا ليس‪ ‬من حقي لن‬
‫ثمة من يتربص بي‪.‬‬

‫يقول بورخيس ‪ :‬بإمكان المبدع أن يخترع أسطورة‪ ‬و لكن ليس بإمكانه أن يشرحها‪.‬‬

‫الكاتب يذهب إلى الكتابة لنه ل يملك‪ ‬أجوبة‪.‬‬

‫أريد أن أكسب القارئ الذي صمد في وجهي‪θ .‬‬

‫من أجل إرضاء قارئ‪ ‬واحد تحدث معجزات‪.‬‬

‫الكتابة تحدث بين حبين و الحرمان هو حبر الكتابة و‪ ‬الدب يتغذى من هذه الفاجعة‪....‬‬
‫الحب أكبر خطر على المبدع‪.‬‬

‫إن حبا ً كبيرا ً ‪ ‬و هو يموت أجمل من حب صغير و هو يولد‪.‬‬

‫أبحث عن مكان أطل فيه على‪ ‬نفسي‪.‬‬

‫محظوظة برجالي بدءا ً من أبي لنه كان بالمكان أن انطفئ منذ‪ ‬البدء‪.‬‬

‫سندي الول هو زوجي‪...‬صعب أن تواجهي المجتمع وحيدة‪ ‬ككاتبة‪.‬‬

‫زوجي ل يقرأ النصوص قبل أن تنشر لذا أنا متحررة من الرقابة‪ ‬الزوجية‪.‬‬

‫أنا آخر إنسان يجيب عن سبب انتشار رواية ذاكرة الجسد‪θ .‬‬

‫‪ θ‬أحب عناقيد المعاني و العنوان المفتوح على احتمالت أخرى‪.‬‬

‫جرائم الشرف‪ ‬الدبية ل يغسل دمها إل الحبر و مزيد من الكتابة‪.‬‬

‫داخل كل مبدع كائن هش‪ ‬سريع العطب‪.‬‬


‫أحتاج إلى عزلتي‪ ...‬ل أحب الضوء لنه يحرق شيئا ً في‪ ‬داخلي‪.‬‬

‫الجتياح العاطفي يخيفني‪θ .‬‬

‫الكاتب يتواجد بغيابه ل بحضوره‪ ‬مكانه بين دفتي كتاب ليس أكثر‪.‬‬

‫على الكاتب الذي ل يجعلنا نغير رأينا بعد‪ ‬قراءته أن يغير مهنته‪.‬‬

‫نحن نحتاج إلى عدة رجال في الحياة لصنع بطل حقيقي‪ ‬في رواية‪.‬‬

‫رجالي أنا اخترعهم ثم أذهب ضحية أبطالي‪θ .‬‬

‫كنت بحاجة‪ ‬لقتل خالد ) بطل رواية ذاكرة الجسد ( حتى أشفى منه‪.‬‬

‫أنا ل أقرأ روايات‪... ‬أقرأ ما يحوم حول الرواية‪.‬‬

‫لتكتب رواية يجب أن نتغذى من كل‪ ‬شئ‪.‬‬

‫الكتاب ينجح عندما ينسبه القارئ إلى نفسه‪θ .‬‬

‫أنا متصالحة مع‪ ‬الرجل ‪ ...‬ليس عندي تصفية حساب مع الرجل‪.‬‬

‫الرجل جميل في رواياتي و هذا سر‪ ‬إعجاب الرجال برواياتي‪.‬‬

‫رواياتي ليست تصفية حساب مع الرجال بل مع ذاكرتي و‪ ‬مع التاريخ‪.‬‬

‫الشعوب تخلق طغاتها و تنادي عليهم‪θ .‬‬

‫قانا إن لم‪ ‬أدخلها شهيدة أستحي أن أدخلها سائحة‪.‬‬

‫أنا شرفي جواز سفري ‪ ...‬هناك دول ل‪ ‬أزورها‪.‬‬

‫أنا امرأة ل تحسد أنا ل أغار من أشخاص بل أغار من‪ ‬أوطان‪.‬‬

‫يقول أستاذي جاك‪ :‬ل وجود لدول متخلفة بل لوطان تخلف أبناؤها عن‪ ‬حبها‪.‬‬

‫أكتب إيه‪ ..‬ول ّ إيه‪ ..‬ول ّ إيه!‬


‫إن كان بينكم من يفهم ماذا يحدث في العراق‪ ،‬فأرجو أن ُيشاركني بعض فهمه‪ ،‬ويسعفني‬
‫ُ‬
‫ص العراق‪ .‬فقد اختلط‬
‫ميتي في ما يخ ّ‬ ‫صل إليه ذكاؤه السياسي‪ .‬شخصيًا‪ ،‬أعلن أ ّ‬ ‫بما تو ّ‬
‫ي الحابل بالنابل‪ ،‬والقتيل بالقاتل‪ ،‬والمظلوم والظالم‪ .‬لم يبقَ من ثوابتي القديمة سوى‬‫عل ّ‬
‫ّ‬
‫ن أميركا زادت طين العراق بلة‪ ،‬وأغرقته في وحل ديمقراطيتها‪ ،‬بقدرما‬ ‫اقتناعي بأ ّ‬
‫استدرجها ووّرطها في برك دمه‪.‬‬
‫كم من الهوال على هذا الشعب أن يعيش‪ ،‬قبل أن يجتاز بحار الدم ويصل إلى شاطئ‬
‫ذفا ً للوصول إليها؟‬‫الديمقراطية المعطوبة المغشوشة‪ ،‬التي مازال يسبح في دمه مج ّ‬
‫ي حياتي ومباهجي‪ .‬أكوام‬ ‫ُ‬
‫مرتني• أقسم بالله أفسدت عل ّ‬ ‫أرهقتني صور العراق‪ ..‬يا ناس د ّ‬
‫من القصاصات أمامي‪ ،‬بين دفاتري‪ ،‬على مكتبي‪ ،‬عند أرجل سريري‪ ،‬ملفات كاملة منذ‬
‫غزو العراق إلى اليوم جمعتها تحت عناوين خاصة‪ ،‬موضوعات آلمتني‪ ،‬بعضها أحتفظ بها‬
‫منذ أشهر عدة‪ ،‬لعّلق عليها‪ ،‬وكلما عدت إليها للكتابة خفت أن أنقل عدوى إحباطي إلى‬
‫القراء‪ ..‬خاصة أنه مفترض أن تكون هذه الصفحة فسحة للبهجة‪ ..‬ل تنكيدا ً إضافيا ً لحياتكم‪.‬‬
‫من يحتاج منكم إلى الستفسار عن موضوع يخص العراق‪ ،‬يكفي أن يطلبه مني‪ .‬أملك‬
‫ملفات عن غزو العراق‪ ،‬عن التعذيب والقتل والتمثيل بالجثث في سجن أبو غريب )مع‬
‫صور ملونة ل يصمد أمامها نظر(‪ ،‬سرقة الثار‪ ،‬اغتيال العلماء‪ ،‬نفقات الحرب‪ ،‬تصريحات‬
‫السياسيين الميركيين‪" ،‬إبداعات صدام الروائية"‪ ،‬أرقام الدمار‪ ،‬أرقام الختلسات )مثل ً ما‬
‫خر من مليارات(‪ .‬حتى أحمد الجلبي أملك عنه ملفا ً‬ ‫اخُتلس من وزارة الدفاع العراقية وتب ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كامل ً من صفحات عدة‪ ،‬وكأن لي حسابا شخصيا معه‪ .‬كذلك هناك ملف عن "كوبونات‬
‫ن استفاد منها من الكّتاب والصحافيين‪ .‬ذلك أنني لم أغفر لمن‬ ‫م ْ‬
‫النفط مقابل الغذاء"‪ ،‬و َ‬
‫نهب العراق‪ ،‬خاصة أولئك الذين فعلوا ذلك بذريعة مساندته‪ ،‬في محنته أيام الحصار‪،‬‬
‫ن يباهين بصداقة صدام‪ ،‬والمغنيات اللئي كن‬ ‫الممثلت العربيات الشهيرات‪ ،‬اللئي ك ّ‬
‫ضيفات على عدي بمليين الدولرات قبل أيام من سقوط بغداد‪ ،‬والعلميين الذين‬
‫سارعوا إلى بغداد لدعم صدام في خياره النتحاري وملوا جيوبهم من آخر إغداقاته قبل‬
‫غرق الباخرة‪.‬‬
‫أملك أيضا ً مقالت عن توزيع أدوية مسمومة‪ ،‬وحلوى مفخخة في العراق‪ ،‬عن اغتيالت‬
‫الصحافيين والمراسلين‪ ،‬عن انتشار المخدرات والبطالة والوبئة‪ ..‬والدعارة‪.‬‬
‫وأملك ما يفوق هذه الملفات عددا ً في ما يخص فلسطين‪ :‬تهويد القدس )ُرصد للمهمة ‪95‬‬
‫مليون دولر(‪ ،‬أحداث العنف بين الفلسطينيين‪ ،‬ملفات السرى‪ ..‬والخونة‪ ..‬والختلسات‪،‬‬
‫ممارسات الجيش السرائيلي‪ ،‬الوضع النساني البائس في الرض المحتلة‪ ،‬الزنازين‬
‫القذرة التي يقيم فيها وزراء حماس ونوابها الستة والعشرون‪ ،‬في ضيافة السجون‬
‫ي‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫لها‬ ‫يتعرض‬ ‫السرائيلية‪ ،‬الِهبات التي تتلقاها إسرائيل من يهود أميركا‪ ،‬والمضايقات التي‬
‫عربي‪ ،‬يحاول إغاثة ثكالى ويتامى فلسطين‪ ،‬وأيضًا‪ :‬صادرات إسرائيل إلى الدول العربية‬
‫التي ارتفعت بنسبة ‪ 35‬في المئة‪ ،‬خلل الثلث الول من هذه السنة أثناء مقاطعتنا الزبد‬
‫درت‬ ‫الدنماركي‪ ،‬وانهماك إسرائيل في بناء جدارها العازل‪ .‬وكنت في الردن عندما تص ّ‬
‫فها أخباُر مطالبة السلطة الفلسطينية الجديدة الردن بتسليمها مسؤولين متهمين‬ ‫صح َ‬
‫ت الخبر إلى ملفاتي ومعه‬ ‫بالفساد‪ ،‬في قضايا وصلت قيمتها إلى ‪ 700‬مليون دولر‪ ،‬فأضف ُ‬
‫تحقيقات عن الفقر والتجويع اللذين عرفتهما آلف العائلت الفلسطينية في الشهر‬
‫الخيرة‪.‬‬
‫وقني‪ ،‬وقد أضيف لها الن فجائع لبنان‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تط‬ ‫بي‪،‬‬ ‫تفتك‬ ‫الصغرى‪،‬‬ ‫الخبار‬ ‫كما‬ ‫الكبرى‪،‬‬ ‫الفجائع‬
‫حتى غدت حالي كحال ذلك المصري‪ ،‬الذي تقول النكتة إنهم قبضوا عليه‪ ،‬وهو يوزع‬
‫منشورات لم يكتب عليها شيئًا‪ ،‬وعندما عجبوا لمره وسألوه‪" :‬إيه ده؟ بتوزع على الناس‬
‫أوراق بيضا؟"‪ .‬فأجابهم‪" :‬هو أنا أكتب إيه ول ّ إيه‪ ..‬ول ّ إيه!"‪.‬‬
‫مُتم أين أهدرت طاقتي البداعية‪ ،‬ولماذا يأخذ مني مقال أسبوعي أياما ً من العذاب‬ ‫أفه ْ‬
‫ُ‬
‫وساعات من الذهول أمام أوراقي‪ ،‬أفاضل بين مصيبة وأخرى أولى بالكتابة؟‬
‫م أكتب‪ ،‬ماذا لو تركت لكم هذه الصفحة بيضاء تملونها كيفما‬ ‫ل‪ ،‬ل أدري ع ّ‬ ‫هذا السبوع‪ ،‬مث ً‬
‫شئتم؟‬

‫أحلم مستغانمي في حوار مع جريدة الفجر‬


‫مسلسل نزار القباني أكبر إهانة لشاعر المرأة‬
‫كشفت الروائية الجزائرية أحلم مستغانمي‪ ،‬عن التحضير لتصوير مرحلة ‪ ،1945‬هي ‪10‬‬
‫حلقات‪ ،‬لتكون وثيقة تاريخية تقدم للجيال القادمة والتعرف عليها‪ ،‬مصرة على ضرورة‬
‫إدخال هذه الفترة في مسلسل " ذاكرة الجسد"‪ ،‬الذي من المنتظر أن تشارك المطربة‬
‫اللبنانية "جاهدة وهبة" بصوتها لتأدية مجموعة من النصوص الشعرية‬

‫أشارت أحلم مستغانمي‪ ،‬عن عدم الشروع في تصوير أحداث رواية "ذاكرة الجسد"‪ ،‬التي‬
‫ل يزال اسم كل من الفنان المصري نور الشريف‪ ،‬وتيم حسن واردين في مشروع‬
‫المسلسل‪ ،‬حيث اكتفت بالحديث عن مرحلة ‪ ،1945‬التي سيتم إدراجها في عمل "ذاكرة‬
‫الجسد"‪ ،‬لكونها مرحلة ثرية ومرجعية في نفس الوقت‪ ،‬ومن الواجب توصيل مجموعة من‬
‫الحقائق التاريخية إلى الجيال الصاعدة للتعرف عليها‪ ،‬فرغم عدم تجديد الشخصيات التي‬
‫ستشارك في هذا العمل‪ ،‬إل أن التحضير ل يزال متواصل عن هذه الفترة التي تبدأ عندما‬
‫خيط أول علم في بيت مصالي الحاج في ‪ 1937‬لتكون وثيقة تاريخية مصرحة ليس‬
‫بامكاننا أن نعطي للجيال كتب التاريخ ومحاضرات التلفزيون‪ ،‬لكن من خلل المسلسل‬
‫سنقوم بهذا‪ ،‬ومن جهة أخرى تحدثت صاحبة عابر سرير مرحلة ‪ ،45‬التي قالت عنها أنها‬
‫أخذت ‪ 15‬حلقة واحتجت من أجل أن تكون مقدمة عن التاريخ في المسلسل‪ ،‬ولكنها‬
‫تحولت إلى ‪ 10‬حلقات تاريخية تسبق الرواية‪ ،‬سيكون موجود فيها خالد‪ ،‬سي الطاهر‪،‬‬
‫وحيث ستمنحها فرصة التصالت التي سيجريها مع عبد الحميد مهري ومحي الدين‬
‫عميمور‪ ،‬وكذا زهور ونيسي الحصول علي التفاصيل التي ستدخلها في هذا العمل عن‬
‫جمعية العلماء المسلمين الجزائريين‪ ،‬وتشجيعهم للبنات لللتحاق بالمدارس‪ ،‬وكذا‬
‫الحصول على وثائق عن الحياة الجتماعية بقسنطينة‪ ،‬وكذا الستعانة بمسجد الكدية الذي‬
‫تأسف لتخاد قرار تدميره ملحة في حديثها على ضرورة تصوير هذا المعلم قبل أن يدمر‬
‫وإدماجه في عملها عن فترة ‪ 1945‬وفي حديثها عن مشروع المسلسل‪ ،‬أكدت أحلم‬
‫مستغانمي‪ ،‬أنها لن تضحي بالوقت الذي تحاول كسبه‪ ،‬لنجاز هذا العمل الذي يحمل‬
‫أهداف كبيرة وخصصت له ميزانة ضخمة من أجل أن يكون حاضرا خلل شهر رمضان‬
‫القادم على الفضائيات العربية‪ ،‬يستهلك لنفس الطريقة التي تستهلك بها شربة رمضان‬
‫وبهدف متابعة المشروع في بعض الدول العربية تأسفت كثيرا أحلم مستغانمي عن عدم‬
‫اهتماما سفير الجزائر بالردن بهذا العمل الضخم ل أعرف ما هو بيني وبينه وما هو سبب‬
‫إدارة ظهره لهذا العمل الذي ستشاهده عشرات المليين العرب عبر الفضائيات‪ ،‬متسائلة‬
‫عن تواجد الجزائر للثقافة العربية والسفير غير معني بالمر إطلقا‪ ،‬وكيف يختار واحد‬
‫يجلس خلف علم الجزائر ليس له حس بالمسؤولية‪ ،‬وكيف لمرأة وحدها تحمل مشروع‬
‫كهذا‪ ،‬أحكي‪ ،‬أشكي‪ ،‬أبكي‪ ،‬أجرى‪ ،‬معتبرة أن صورة الجزائر كل واحد مسؤول عنها‪،‬‬
‫مشجعة بذلك سفير لبنان الذي فتح أبوابه للستماع للعمل وفي سياق آخر‪ ،‬صرحت أحلم‬
‫مستغانمي عن ورود اقتراح مشاركة المطربة اللبنانية جاهدة وهبة في تجربة أولى من‬
‫نوعها في مسلسل "ذاكرة الجسد"‪ ،‬التي ستقوم بغناء مجموعة من النصوص الشعرية‬
‫في الرواية‪ ،‬وهو اقتراح جاء حسب ذات المتحدثة إلى جانب وجود مجموعة من العروض‬
‫التي اقترحت للمشاركة بها في جزائر عاصمة الثقافة العربية‪ ،‬وهي عمل كوليغرافي أوبر‬
‫عن تاريخ الثورة‪ ،‬ويكون إسم جاهدة وهبة من السماء المرشحة للمشاركة بصوتها في‬
‫هذا العمل كونها متعودة ولها تجربة في المسرح وأداء الوبرا بسبب تشويه العديد من‬
‫الحقائق فيه أحلم مستغانمي تصف مسلسل "نزار قباني" بأكبر إهانة انتقدت الروائىة‬
‫الجزائرية أحلم مستغانمي‪ ،‬مسلسل نزار قباني الذي اعتبرته أكبر إهانة لهذا المبدع‬
‫الكبير‪ ،‬واصفة من أنجز هذا العمل بالجهل "كأنه لم يقرأ عن حياته"‪ ،‬نظرا لتشويه العديد‬
‫من الحقائق عنه‪ ،‬وإظهاره بطريقة بائسة في مسلسل للمخرج باسل الخطيب الذي‬
‫وجهت إليه شخصيا ووضعته في قفص التهام وفي حديثها عن مسلسل نزارقباني المقدم‬
‫من قناة "أبو ظبي"‪ ،‬والذي يعرض في الوقت الحالي على شاشة التلفزيون الجزائري‪،‬‬
‫صرحت أحلم مستغانمي عن احترامها الكبير لعمال باسل الخطيب‪ ،‬خصوصا في عمله‬
‫"هولكو" الرائع‪ ،‬مبدية في ذات الصدد‪ ،‬عدم رضاها عن مسلسل نزار الذي آلمها كثيرا‬
‫لتقديمه بطريقة بائسة‪ ،‬قائلةلم يكن هكذا نزار‪ ،‬أنا عرفته‪ ،‬وهذه أعتبرها أكبر إهانة له‪ ،‬أن‬
‫يصور محاط بالنساء أو أن يظهر في بيت ينام فيه مع خادمة فهذا شيء ل يصدق مضيفة‪،‬‬
‫أنه كرجل مترفع عن كل هذا‪ ،‬وهذا ما أكدته لمخرجه باسل الخطيب‪ ،‬الذي قدمت له‬
‫شخصيا انتقادها عن المسلسل معتقدة أن إنجاز عمل عن حياة أحد عمالقة الشعر العربي‬
‫الذي مجد الحب ورقى من مكانة المرأة دائما‪ ،‬ل يقع على عاتق المخرج فقط‪ ،‬بل على‬
‫كاتب السيناريو كذلك‪ ،‬فهي مسؤولية مشتركة بينهما‪ ،‬وأن ما تم تقديمه يدخل في إطار‬
‫موجة يعايشها العالم العربي‪ ،‬وهي موجة سباحة المبدع العربي‪ ،‬لن إسم نزار يمثل تجارة‬
‫مربحة مستشهدة في ذلك بإحدى الكتب الضخمة المعروض بمطار بيروت والمكتوب‬
‫بأحرف مذهبة عنوانه "روائع نزار قباني"‪ ،‬وهذا ما اعتبرته سرقة منظمة لجمل ما كتبه‬
‫نزار‪ ،‬استهل بمقدمة ملفاته نشرت مع الكتاب لتحقيق أكبر المبيعات‪ ،‬وهذا ما يمثل نهب‬
‫مغلق تألمت كثيرا لن من يعيش مع نزار لم يضع ول وردة على قبره رأيت قبره منذ أقل‬
‫من سنتين‪ ،‬فبدى لي قبرا بائسا جدا‪ ،‬ل يظهر من مر به هذا الرجل‪ ،‬لنه كان لطيفا‪ ،‬أنيقا‪،‬‬
‫جميل‪ ،‬مصرا على كل تفاصيله‪ ،‬فكيف يعيش وسط قبر بائس‪ ،‬لكن هذا هو قدر المبدع‬
‫العربي ومن جهة أخرى‪ ،‬صرحت أحلم مستغانمي‪ ،‬أن وفاة المبدع العربي‪ ،‬هو وفاة حتى‬
‫لذكراه‪ ،‬وهذا ما أكدته خلل حديثها عن الراحل أحمد زكي الذي خدم طويل السينما‬
‫المصرية‪ ،‬خاصة أنه لم يتذكر من طرف من يدعي حبه في الذكرى الولى لوفاته‪ ،‬فلم‬
‫يحضر أحد في المقابل تحدث متاجرة باسمه أمام تحضير لمسلسل سيصدر عن حياته‪،‬‬
‫وحتى عن حياة العندليب السمر عبد الحليم حافظ فالمبدع العربي في نظر متحدثتنا‬
‫يصنع ثراء غيره‪ ،‬ول يصنع ثراء نفسه قدره أن ينهب حيا وميتا وفي سياق متصل ولدى‬
‫إجابتها عن موضوع تحويل الروايات العربية إلى أعمال تلفزيونية وسينمائية‪ ،‬تحدثت‬
‫الشاعرة أحلم عن تجربة السينما المصرية‪ ،‬التي قالت عنها أنها أفلست في مواضيعها‪،‬‬
‫حتى المسلسلت الجتماعية لكونها لم تعد تشد المشاهد‪ ،‬وهذا ما تدعم لديها من خل ل‬
‫اطلعها على العديد من المقالت المدرجة في هذا المجال‪ ،‬معتبرة أنه من دور الدب‬
‫إصلح ما أفسده التلفزيون‪ ،‬والن يستنجد بالعمال البداعية الروايات في مرحلة انتهينا‬
‫من فترة الحاج متولي‪ ،‬التي كانت جميلة في وقتها‪ ،‬لكن في الوقت الحالي هي فكرة‬
‫تجارية ليس هدفها الترويج لي شيء‪ ،‬وإنما الغرض منها البيع وفقط‬

‫متى يحتفل العرب بعيد الكسل؟‬


‫ت سمعت بعيد الكسالى قبل أن أقرأ في شوارع "كان" ملصقات تعلن عن برنامج‬ ‫ما كن ُ‬
‫احتفالي بيوم الكسل‪.‬‬
‫ن المعنيين بالدعوة أكثر كسل ً من‬ ‫ل أدري إن كان متعّهد هذه النشطة أخذ بعين العتبار أ ّ‬
‫أن يحضروا‪.‬‬
‫م اختيار ذلك التاريخ؟ ل أدري‪ .‬ربما لكونه أّول نهاية الموسم الصيفي‪ .‬الكسالى‬ ‫كيف ت ّ‬
‫عادة ُأناس من فصيلة الزواحف التي تقضي ساعات من دون حراك‪ ،‬تتدفأ في الشمس‪،‬‬
‫وهي الفصيلة نفسها التي ينحدر منها المبدعون‪ ،‬الذين يمارسون كسلهم على اختلف‬
‫الفصول والنشرات الجوية بذريعة الحّر حينًا‪ ،‬والبرد أحيانا ً ُأخرى‪.‬‬
‫استنادا ً إلى قول مورياك‪" :‬الرغبة في أل ّ تقوم بشيء‪ ،‬هي الدليل القاطع على الموهبة‬
‫سل‪ .‬فأنا‬‫الدبية"‪ ،‬شعرت بأنني معنية بهذا العيد‪ ،‬وقررت أن أحتفل به بمزيد من التكا ُ‬
‫ححني مرة الدكتور غازي القصيبي‪ :‬امرأة "كسول"‪ .‬وكان‪،‬‬ ‫امرأة كسولة بطبعي‪ ،‬أو كما ص ّ‬
‫كره الّله بالخير‪ ،‬يحلو له تصّيد أخطائي‪ .‬وبحرص الكبار وتواضعهم‪ ،‬يهاتفني‪ ،‬يوم كان‬ ‫ذَ َ‬
‫ً‬
‫سفيرا للمملكة السعودية‪ ،‬لينبهني إلى خطأ لغوي وقعت فيه‪ ،‬شارحا لي قاعدته‪.‬‬ ‫ً‬
‫دة‪ ،‬أن أجرت معي مجلة "الوسط" اللندنية مقابلة طويلة‪ ،‬كان‬ ‫وحدث قبل سنوات ع ّ‬
‫خلتهم وّفقوا في‬ ‫عنوانها "أنا امرأة كسولة ل ألهث خلف شيء فتأتيني الشياء لهثة"‪ِ .‬‬
‫عنوان جميل‪ ،‬حتى هاتفني الدكتور غازي القصيبي مصححًا‪ :‬فـ"فعول" لمؤنث له‪ ،‬ولذا‬
‫نقول امرأة كسول‪ ..‬وقنوع‪ ..‬وجحود‪ ..‬وعنود‪ .‬وعاندته بما ُأوتيت من تطّرف جزائري‪.‬‬
‫حح المجلة نفسه‪ ،‬ما كان ليضع خطأ ً كهذا‪ ،‬عنوانا ً على غلفها‪.‬‬ ‫مص ّ‬
‫جتي أن ُ‬ ‫ح ّ‬
‫ي‪ ،‬برأفة على فراشة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إلـ‬ ‫البعض‬ ‫فيه‬ ‫وانحاز‬ ‫السعودية‪،‬‬ ‫الصحافة‬ ‫قفته‬‫ّ‬ ‫تل‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫ظريف‬ ‫ً‬ ‫ل‬‫سجا‬ ‫كان‬
‫يريد بلدوزر لغوي سحقها‪ ،‬وأنصفني الستاذ الجليل عبدالله‪ ،‬عبدالجّبار الذي خرج من‬
‫ن كل القولين صحيح لغويًا‪ ،‬ويحسم بذلك المباراة بتعادل سلب ّ‬
‫ي‪.‬‬ ‫كهولة صمته لُيعلن أ ّ‬
‫عرف عنه من روح الدعابة‬ ‫كّنا نهاية ‪ ،1998‬فاختار الدكتور القصيبي أن ينهي السجال‪ ،‬بما ُ‬
‫ظرف‪ ،‬فبعث لي ببطاقة معايدة كتب عليها "أيتها الكسولة‪ /‬والكسول‪ /‬والمكسال‪/‬‬ ‫وال ّ‬
‫والكسلنة‪ /‬متى تنجزين الرواية الجديدة؟"‪.‬‬
‫من قال‪" :‬ل أكثر خبثا ً من البراءة"‪ ،‬بل سؤال في سّلة من‬ ‫ما كان سؤال ً بريئًا‪ ،‬وهو َ‬
‫ن معركتنا ل ُتحسم على‬ ‫ُ‬
‫الغمزات البريئة‪ ،‬إشارة إلى ما أنجز من كتب أثناء تكاسلي‪ .‬وكأ ّ‬
‫صفحات الجرائد‪ ..‬بل في المكتبات!‬
‫ّ‬
‫ي القّراء والصدقاء‪ ،‬كلما تكاسلت‬ ‫مازلت ل أجد جوابا ً عن هذا السؤال‪ ،‬الذي يطرحه عل ّ‬
‫في إصدار رواية‪ .‬ويكاد ينقضي العمر وأنا ل أعرف بعد ُ إن كان "الكسل أبو البداع"‪ .‬كما‬
‫يرى منصور الرحباني‪ ،‬أم أن ل سّر للبداع غير المثابرة والصرامة والنظام واللتزام بوقت‬
‫للكتابة‪ ،‬كما كانت الحال بالنسبة إلى نجيب محفوظ ونزار قباني‪.‬‬
‫أكتب لكم وقد فاتني عيد الكسالى‪ ..‬قضيته أمام التلفزيون أتابع الفجائع العربية‪ ،‬وأعجب‬
‫ي الكسل ما يفوق منسوب ثرواتنا‬ ‫أل ّ يكون هذا العيد عيدا ً عربيًا‪ ،‬وعندنا من احتياط ّ‬
‫ّ‬
‫الطبيعية‪ .‬فكيف لم نفكر بعد ُ في تصديره إلى شعوب مثل كوريا واليابان‪ ،‬اللذين ل يتمكن‬
‫أبناؤهما من النوم أكثر من خمس ساعات في اليوم‪ ،‬لفرط تفانيهم في العمل حد ّ العبادة‪،‬‬
‫ل المؤهلت لُيعتمد عندنا عيدا ً رسميا ً لدى المليين من العاطلين عن‬ ‫بينما يملك الكسل ك ّ‬
‫ل يوم‬ ‫لخرى من الموظفين العموميين‪ ،‬الذين يقصدون مكاتبهم ك ّ‬ ‫العمل‪ ،‬والمليين ا ُ‬
‫للدردشة‪ ،‬واحتساء القهوة مع الزملء؟‬
‫ل يوم‬ ‫أيتها الزواحف العربية التي تعيش منذ قرون تحت شمس الحضارة‪ ..‬دون حراك‪ :‬ك ّ‬
‫عيدك‪ ،‬مادام الكسل إنجازا ً ُيحتفى به‪.‬‬

‫هَلة‬
‫نجيب محفوظ‪ ..‬اليد المبدعة التي بترها اْلج َ‬

‫ب أو عنه‪ .‬حتى عندما ُتقّرر أن ُتقلع عن‬ ‫ص في الح ّ‬ ‫مة من مجال لكتابة ن ّ‬ ‫ل مفّر‪ .‬ليس ث ّ‬
‫من يطلب منك رثـاًء "مسبقًا" لكاتب على "قائمة‬ ‫َ‬ ‫يأتي‬ ‫ية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قوم‬ ‫مرثيات‬ ‫لكتابة‬ ‫عادة جنوحك‬
‫النتظار" للرحلة الخيرة‪.‬‬
‫شرك بأنها سُتنشر مع شهادات لكّتاب كبار آخرين في‬ ‫مي ذلك "شهادة"‪ُ ،‬يب ّ‬ ‫عن حياء ُيس ّ‬
‫ف كامل عن الفقيد المنتظر‪ .‬ل يدري أّنك الفاقد والفقيد‪ .‬ففي‬ ‫الوقت المناسب‪ ،‬في مل ّ‬
‫مل في وليمة الموت التي تفتح شهّية القلم‬ ‫ّ‬ ‫وتأ‬ ‫موتك‪،‬‬ ‫على‬ ‫ن‬
‫ل موت لمبدع تمري ٌ‬ ‫ك ّ‬
‫ً‬
‫دا استثمارا جيدا‪ .‬وحده الحزن على الفقيد مفقود لفرط وجوده‬ ‫ً‬ ‫)والفلم(‪ .‬فالموت غ َ َ‬
‫العلمي‪.‬‬
‫منتجي المسلسلت الرمضانية‪،‬‬ ‫سَير الذاتية‪ ،‬و ُ‬ ‫موت الكبار في ازدهار‪ ،‬فبشرى لكّتاب ال ّ‬
‫ولوها بذريعة السينما إلى دكاكين ارتزاق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وح‬ ‫المشاهير‬ ‫طار الذين سطوا على حيوات‬ ‫والش ّ‬
‫ً‬
‫دم‪ ،‬مبّرر مهنيا‪ .‬ما عادت ُتواكب الحدث‪ ،‬بل تسبقه‪ ،‬إلى حد ّ‬ ‫ً‬
‫الصحافة العربية أيضا في تق ّ‬
‫ن بعض الصحف فاجأتني بمطاردتها الهاتفية لي‪ ،‬واتصالها بي‬ ‫مسابقة الموت نفسه‪ .‬حتى إ ّ‬
‫مرارا ً قبل وفاة نجيب محفوظ بأسبوعين لتطلب مني شهادة عنه‪.‬‬
‫ُ‬
‫في موت سابق‪ ،‬قاومت كثيرا ً منطق الستسلم لذلك البتزاز العاطف ّ‬
‫ي‪ .‬الذين أحّبهم ل‬
‫حدادي عليهم‪.‬‬ ‫ب أن أرثيهم على صفحات الجرائد‪ ،‬خاصة إذا كان ضوؤهم أكبر من ِ‬ ‫ُ‬
‫أح ّ‬
‫فك‪ .‬لذا‪ ،‬منذ سنوات‪ ،‬وأنا‬ ‫مهم في هذه الحالت‪ ،‬أل تبدو سارقا ً صغيرا ً لضوء أكبر من ك ّ‬
‫أقمع رغبتي في كتابة كتاب ينصف نزار قباني ول يشبه حتمًا‪ ،‬ذلك المسلسل المتجّني‬
‫عليه‪ ،‬الذي شاهدناه في رمضان الماضي‪.‬‬
‫عدا هذا‪ ،‬أنا لم أعرف المرحوم نجيب محفوظ‪ ،‬ول قرأت من أعماله الخمسين سوى‬
‫ثلثة‪ ،‬ولم ُأجالسه سوى ساعتين في حياتي‪ ،‬بمناسبة ن َي ِْلي الجائزة التي تحمل اسمه‪ .‬ول‬
‫ظر عن الدب‬ ‫أدري إن كان هذا يؤهلني لن أعطي تصريحات للصحافة عن رأيي فيه‪ ،‬وُأن ّ‬
‫العربي قبله وبعده‪ ،‬وُأبدي فاجعتي الدبّية بفقدانه‪.‬‬
‫الحقيقة أنني ل أشعر بحزن لموته‪ .‬هذا الرجل الدقيق كساعة‪ ،‬لعّله اختار ساعته‪ .‬ما عاد‬
‫دا ما نقرأه له ُيقال على لسانه‪ ،‬ل‬ ‫مة ما يقوله‪ ،‬وقد غ َ َ‬ ‫ل ما عاد ث ّ‬ ‫هذا زمنا ً للكبار‪ ،‬أو لع ّ‬
‫بقلمه‪.‬‬
‫قاها في‬ ‫نجيب محفوظ مات في الواقع سنة ‪ ،1994‬يوم اغتالـوا يده اليمنى إثر طعنة تل ّ‬
‫ظلميون سرقوا يده وبصره وسمعه وتركوه يعيش مع جثة‬ ‫جهََلــة‪ .‬ال ّ‬ ‫ُ‬
‫كتفه على يد أمّيين َ‬
‫كد من وجودها· وأنا التي كتبت كثيرا ً‬ ‫ممسكا ً بيده اليمنى‪ ،‬كما ليتأ ّ‬ ‫يد‪ .‬طوال لقائي به كان ُ‬
‫ل‬‫عن المبتورين‪ ،‬اكتشفت يومها أن أصعب من فقدان يد‪ ..‬تعايش كاتب مع جثتها‪ ،‬ك ّ‬
‫لحظة‪ ،‬إلى آخر لحظة‪.‬‬
‫خذ َ لي صورة ُتوّثق‬ ‫ما أذكره من لقائي به‪ ،‬أنني انحنيت ُأقّبل يده اليمنى‪ .‬وطلبت أن ُتـؤ ْ َ‬
‫قت ََلة‪ ،‬واعتذارا ً لنصوص لن ُتكتب‪.‬‬ ‫ديا ً لل َ‬
‫تلك اللحظة‪ ،‬تح ّ‬
‫ن لموهبته أو إجلل ً‬ ‫أنح‬ ‫لم‬ ‫كوني‬ ‫من‬ ‫الرغم‬ ‫على‬ ‫محفوظ‪،‬‬ ‫نجيب‬ ‫يد‬ ‫بلت‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫أباهي بأنني ق ّ‬
‫قد َِره في زمن الشقاء العربي‪.‬‬ ‫لقد ِْره‪ ،‬بل اعتذار ل َ‬
‫نجيب محفوظ‪ ،‬ليس حامل جائزة "نوبل" للداب فحسب‪ ،‬إنما أيضًا‪ ،‬حامل جثة اليد‪ ،‬التي‬
‫مــة تحترف بتــر ما هو جميل‪.‬‬ ‫ُ‬
‫صن ََعت مجدنا وقطعناها‪ ،‬لننا أ ّ‬ ‫َ‬
‫مِني عندما أجريت‬ ‫َ َ‬‫ز‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ً‬
‫ل‪،‬‬ ‫طوي‬ ‫طــاردنـي‬ ‫شبحها‬ ‫بأن‬ ‫اليوم‬ ‫أعترف‬ ‫تستريح‪.‬‬ ‫أن‬ ‫اليد‬ ‫لتلك‬ ‫آن‬
‫منذ سنة عملية صغيرة في كتفي اليمنى بسبب "التكّلس"‪.‬‬
‫صــل الكتابــة؟‬ ‫ماذا لو كانت أيدي الكّتاب تستيقظ "هناك" لُتوا ِ‬

‫كلمة السيدة احلم مستغانمي على هامش معرض‬


‫الدوحة الدولي للكتاب في دورته السادسة عشرة والذي‬
‫أقيم بأرض المعارض في قطر‪.‬‬

‫قالت احلم في الكلمة التي كتبت نصفها في الليلة السابقة لقدومها الي الدوحة ونصفها‬
‫الخر في السماء بين جناحي طائرة‪:‬‬
‫مربك هو اللقاء معكم‪ .‬كشعور مسبق بالذنب‪ .‬قد اكون تأخرت كثيرا‪ .‬او لعلي جئتكم قبل‬
‫نضوج الوقت‪ .‬ل ذريعة لي سوي ان الحب يأتي متأخرا‪ .‬ول عذر لعجلتي سوي ان الحزن‬
‫هو اول من يصل الي اي موعد عربي ‪.‬‬
‫انا التي احترف اللغة اظنني فقدت الرغبة في الكلم‪ ،‬وما عاد لي من شهية للجدل‪ ،‬اظنها‬
‫الهزائم سلبتني صوتي‪ .‬أو بها بلغت سن الفاجعة‪ ،‬يوم شاخ غضبي‪ ،‬فأن تقلع عن الغضب‪،‬‬
‫يعني انك غادرت عنفوانك الول‪ ،‬وخانك شباب ثورتك وأما أن تقلع عن الحلم‪ ،‬فمعناه أن‬
‫النكسة مما عادت خلفك بل فيك وأن أحلمك تواضعت‪ ،‬وقامة كبريائك انحنت واحدودبت‬
‫حتي اصبحت اقرب الي الرض مما كنت‪.‬‬
‫ما كنت من السذاجة لحلم بنصر ساحق لحلمي العربية‪ ،‬ولكن أكنت غبية يوم لم اطالب‬
‫بأكثر من هزيمة منتصبة القامة؟ في عنفوان سابق‪ ،‬اذكر اني يوم كنت شاعرة‪ ،‬لم يتجاوز‬
‫عمرها ديوانا وبعض مواجهات‪ ،‬كنت اراني اكثر زهوا مما انا اليوم واقفة علي هذه‬
‫النجاحات‪ .‬حتي انني قلت في السبعينات انا المرأة الزوبعة فقل للنخيل يطأطيء حتي‬
‫أمر فقد كان صعبا يومها علي النخيل ان ينحني لمرأة‪ .‬هو ذا النخيل العربي نفسه‪ .‬اراه‬
‫اليوم مخلوع الكبرياء‪ .‬مجردا من عقاله وعباءته‪ ..‬يساق في شاحنات المذلة‪ ،‬مكبل‬
‫اليدي‪ ،‬معصوب العينين‪ ..‬ما عاد النخيل العربي يطرح رطبا مذ ارغموه علي الجلوس‬
‫القرفصاء عند اقدام المحتل‪ .‬ففي من تتغزل الشاعرات اذا؟ وممن تحبل النساء في زمن‬
‫م؟ وأطفالنا منذورون قربانا لنزوات الموت العبثي‪..‬‬‫الذل العربي؟ ول َ‬
‫هي ذي الرجولة العربية التي تمنتها العذاري‪ ،‬وصنعت زهو تاريخنا نراها كل مساء ذليلة‬
‫مهانة‪ ..‬معروضة للفرجة‪ ..‬عارية ال من ذعرها‪ ..‬مكبلة اليدين والكبرياء‪ ،‬ترتعد تحت ترويع‬
‫كلب مدربة علي كره رائحتنا!‬

‫جزء من برنامج المشهد الثقافي على شاشة قناة‬


‫الجزيرة في حلقة حملت عنوان"الرقابة على الثقافة‬
‫في المغرب ومتابعات أخرى "‬
‫ةةةةةة ‪ :‬ةةةةة ةة‬
‫ةةةةةة ةةة ةةةة ةةةة ‪ :‬ةةةة ةةةة – ةةةةة ةةةةةةةة‬
‫عاصفة حول كتاب )أحلم مستغانمي(‬

‫توفيق طه‪:‬‬
‫العاصفة التي أثيرت حول رواية )ذاكرة الجسد( للكاتبة الجزائرية )أحلم مستغانمي( لم‬
‫تهدأ بعد‪ ،‬الصحفي التونسي الذي نقل عن الشاعر العراقي )سعدي يوسف( قوله في‬
‫سهرة على شاطئ تونسي إنه الب الروحي لتلك الرواية مازال مصرا على كلمه‪،‬‬
‫وسعدي يوسف الذي أعطى نفيا مبتسرا في بداية المر غاب لكثر من شهرين‪ ،‬قبل أن‬
‫يعود أخيرا ليعطي جوابا مبتسرا آخر‪ ،‬مفاده أنه قرأ مخطوط الرواية‪ ،‬وراجعه نحوا وإملء‪،‬‬
‫ونصح صاحبته بإعادة كتابته وفقا لمنظور روائي أخر‪ ،‬لكنها لم تفعل‪ ،‬كما نفى أن يكون‬
‫للقصيدة التي استشهد بها الصحفي التونسي أي علقة بالرواية الجزائرية‪ ،‬وعندما اتصلنا‬
‫به قال إنه يرفض التحدث في الموضوع معتبرا أن الضجة كلها مفتعلة‪ ،‬وأنه يريد أن يـبقى‬
‫خارجها‪ ،‬لكن الصحفي )كارم الشريف( الذي أثار العاصفة أصر في بيان بعث به إلى‬
‫الصحف على أن لديه أدلة تفند بيان أحلم مستغانمي الذي نفى فيه الموضوع جملة‬
‫وتفصيل‪ ،‬ودعاها إلى مناظرة معه‪ ،‬بل واتهم الكاتب والصحفي اللبناني )عبده وازن( بأنه‬
‫كاتب ذلك البيان‪ ..‬فماذا قال عبده وازن؟‬

‫عبده وازن‪:‬‬
‫إن مثل هذا الكلم كي ل أقول التهام يفاجئني حقا‪ ،‬لنني مضى وقت طويل لم أر فيه‬
‫السيدة )أحلم مستغانمي( سنة أو سنـتين ربما‪ ،‬وإني مستغرب تماما مثل هذه الثرثرة‬
‫التي ل تخدم الثقافة العربية في أية حال‪.‬‬
‫إنني ُأكن كل الحترام للسيدة أحلم مستغانمي على الرغم من موقفي النقدي من‬
‫رواياتها‪ ،‬وهذا ل علقة له أبدا بالمستوى الشخصي‪ ،‬كان لي موقف نقدي من روايتها الـ‪..‬‬
‫)ذاكرة الجسد( لكنه موقف مبني على رأي تحليلي يطال البنية الروائية وعلقة‬
‫الشخصيات ونمو البطال وكذا‪.‬‬
‫إنني أعبر عن استيائي فعل من هذه الحملة التي طالت السيدة‪ ،‬وفي اعتقادي أنه ما من‬
‫أحد يستطيع أن يكتب عن أحد‪ ،‬لنه ما من أحد يستطيع أن يحل محل الكاتب نفسه‪،‬‬
‫وخصوصا أن الكاتبة هي جزائرية تعبر في هذه الرواية عن معاناة امرأة جزائرية‪.‬‬
‫توفيق طه‪:‬‬
‫أما أحلم مستغانمي فقالت إن سعدي اعتذر منها كثيرا عما حدث‪ ،‬وصور لها المر على‬
‫أنه مؤامرة لتشويه سمعته‪ ،‬استباقا لدور سياسي قال إنه سيلعبه قريـبا في صفوف‬
‫المعارضة‪ ،‬ومع أنها قبل أسبوعين فقط كانت تصف اختفاءه بأنه مريب وذو دوافع إعلنية‬
‫وتجارية إل أن لهجتها لنت كثيرا بعد ما قاله سعدي أخيرا وإن ظل فيها الكثير من العتاب‪.‬‬

‫أحلم مستغانمي‪:‬‬
‫بحكم صداقة قديمة أطلعت سعدي يوسف أثناء إحدى زياراته إلى مجلة )الحوار( التي كان‬
‫يصدرها زوجي في باريس‪ ،‬على مخطوط ذاكرة الجسد التي كنت انتهيت من كتابتها لتوي‬
‫سنة ‪1988‬م‪ ،‬ولكنه أعادها إلى بعد فترة ناصحا إياي بإعادة صياغتها ل من حيث‬
‫المضمون‪ ،‬ولكن من حيث البناء الروائي على طريقة الدب المريكي‪ ،‬وهو ما لم أعمل به‬
‫لنني لم أكن مهيأة للعبث بملمح رواية ولدت بتلقائية وزخم عمل أول‪.‬‬
‫وهذا الكلم أكده سعدي يوسف في أكثر من مقابلة بأمانة كاملة أشكره عليها‪ ،‬غير أني‬
‫من منطلق احترامي لماضيه النضالي ولسمه الشعري فإني عاتبة عليه لنه لم يـبادر‬
‫بالنفي حال سماعه لتلك الكذبة الرخيصة بل آثر أن تطرق الصحافة بابه لكي يمنحها نفيا‬
‫موجزا مما يصطدم مع ما يحتمه عليه واجبه الدبي والخلقي والقومي‪ ،‬حيث إنه كان‬
‫الشخص الوحيد القادر فيما لو أراد على إيقاف ذلك النهج والتشهير العلمي الذي كنت‬
‫أتعرض له ككاتبة وكإنسانة يوميا بسببه‪.‬‬

‫توفيق طه‪:‬‬
‫فكيف ردت أحلم على حملة التشهير التي لحقتها‪ ،‬وشككت في نجاحها‪ ،‬وفي شرفها‬
‫كروائية؟‬

‫أحلم مستغانمي‪:‬‬
‫أنا لست معنية بالدفاع عن نفسي في مواجهة كذبة ل يمكن أن يصدقها إل البلهاء‪ ،‬وعلى‬
‫الذين تعاطفوا معي أن يوفروا جهدهم لمعارك أكبر تنـتظرنا جميعا‪ ،‬جميعنا سنساق إلى‬
‫معارك ل نبل فيها‪ ،‬وعبثا سنبحث عن أعداء شرفاء وقضايا جريئة‪.‬‬
‫هذا الوطن الذي كنا نريد أن نموت من أجله قدرنا أن نموت على يده‪ ،‬لقد ابتكر العالم‬
‫العربي آلية جديدة لتصفية الفكر والبداع‪ ،‬وتلويث كل ما هو جميل ونظيف ونادر‪ ،‬بالتنكيل‬
‫بمبدعيه عن طريق الطعن في معتقداتهم والتشهير بأخلقهم والتشكيك في انتمائهم‬
‫القومي‪.‬‬
‫وهذا أخطر بكثير من تقاليد العتقال والتصفيات الجسدية‪ ،‬لمة طاعنة في ظلم مبدعيها‪،‬‬
‫إنني أقاسي لن النجاح أكبر جريمة يرتكبها كاتب عربي اليوم‪ ،‬وأكبر خطيئة ترتكبها امرأة‬
‫في حق الخرين‪ ،‬ولكن فليكن‪ ،‬لمثل هذا التحدي خلق الدب!! فالكاتب ل يملك إل أن يرد‬
‫على كل فاجعة بكتاب‪.‬‬

‫توفيق طه‪:‬‬
‫أما جديد مستغانمي فهو سعيها إلى القتصاص من كل الذين تعرضوا لكرامتها ممن‬
‫وصفتهم بأصحاب القلم المفروشة والجاهزة لليجار‪.‬‬

‫أحلم مستغانمي‪:‬‬
‫إن معركة على هذا القدر من القذارة‪ ،‬لبد أن يكون سلحها القانون‪ ،‬وليس القلم‪ ،‬الذي‬
‫يراد له أصل أن يلوث‪ ،‬أنا أسكت ترفعا عن ضفادع تحاول جري إلى مستنقعاتها للرد‬
‫عليها‪ ،‬ولكن ثمة محامون موكلون من أكبر شركة مختصة في قوانين القذف والتشهير‬
‫والعلم في إنجلترا بملحقة كل شخص أو منشورة تعرضت لكرامتي‪ ،‬ل لجمع ثروة من‬
‫رخص هؤلء‪ ،‬ولكن لؤدب بهم من استرخصوا شرف الكتاب‪ ،‬وانتهكوا حرمة حبرهم طمعا‬
‫في شهرة أصبحت في متناول كل القلم المفروشة والجاهزة لليجار والستـثمار‪.‬‬

‫حوار السيدة أحلم مستغانمي مع الشبكة العراقية الثقافية‪:‬‬


‫الروائية الجزائرية أحلم مستغانمي‪ :‬أفتخر بأني لم أطأ تراب العراق في‬
‫زمن الديكتاتورية‬

‫ةةةةةةة ‪ /‬ةةةةة ةةةةة‬

‫ولدت عام ‪ 1953‬في تونس ‪ ،‬لتتخّرج سنة ‪ 1971‬من كلّية الداب في الجزائر ضمن أّول‬
‫دفعة معّربة تتخّرج بعد الستقلل في جامعات الجزائر‪.‬‬
‫ث في‬ ‫جا يومًيا في الذاعة الجزائرّية يب ّ‬ ‫دم برنام ً‬
‫خلل ثلث سنوات كانت أحلم تعد ّ وتق ّ‬
‫ساعة متأخّرة من المساء تحت عنوان “همسات”‪.‬‬
‫وقد لقت تلك “الوشوشات” الشعرّية نجاحا ً كبيرا ً تجاوز الحدود الجزائرية الى دول‬
‫دا‬
‫ي‪ ،‬الذي وجد له سن ً‬ ‫المغرب العربي وأسهمت في ميلد إسم أحلم مستغانمي الشعر ّ‬
‫ي الممّيز وفي مقالت وقصائد كانت تنشرها أحلم في الصحافة‬ ‫في صوتها الذاع ّ‬
‫الجزائرية‪ .‬ديوانها الّول أصدرته سنة ‪ 1971‬في الجزائر تحت عنوان “على مرفأ اليام”‪.‬‬
‫دا كبيًرا للجزائريين‪.‬‬‫تزّوجت من الصحفي اللبناني جورج الراسي و هو ممن يكّنون و ّ‬
‫وابتعدت عن الحياة الثقافية لبضع سنوات كي تكّرس حياتها لسرتها‪ ،‬قبل أن تعود في‬
‫ي من جديد‪ .‬حصلت على شهادة دكتوراه من‬ ‫بداية الثمانينات لتتعاطى مع الدب العرب ّ‬
‫جامعة السوربون‪.‬‬
‫شاركت في الكتابة في مجّلة “الحوار” التي يصدرها زوجها من باريس‪ .‬ومجلة ”التضامن”‬
‫التي كانت تصدر من لندن‪ .‬إستقرت في لبنان‬
‫صدر لها‪ :‬على مرفأ اليام‪ ،‬الكتابة في لحظة عري ‪ ،‬نساء وكتابات مع المستشرق‬
‫الفرنسي جاك بارك‪ ،‬اشتهرت عربيا بعد أن أصدرت رواياتها “ذاكرة الجسد”‪“ ،‬فوضى‬
‫الحواس” ‪“ ،‬عابر سرير”‬
‫إّنها الصوت العربي الوحيد الذي أوصل الدب العربي إلى مصاف العالمية‪ ،‬فكتاباتها ل‬
‫تخلو من الحس السياسي المؤجج بالعاطفة‪ ،‬تنتقي عباراتها بصدق أدبي حر وقوي‪ ،‬تماما‬
‫مثل حديثها الذي ينبئ عن إمرأة من حديد وحرير تحمل بين جوارحها “ذاكرة الوطن”‪ ،‬لذا‬
‫فإن الجلوس إليها يوقظ الشباب في القلوب الهرمة في هذا الزمن العربي الغائر في‬
‫شقائق الشك والهوان‪.‬‬
‫الحديث إليها رواية‪ ،‬حكت فيها عن أعداء المجد والهم العربي‪ ،‬والجرح العراقي‪ ،‬أما‬
‫الوطن فهو حاضر دائما‪.‬‬

‫*بعد أن كتبت الثلثية في أكثر من ألف صفحة‪ ،‬هل تظل الغربة هي‬
‫الموضوع الدائم في أعمالك القادمة؟‬

‫‪-‬بعد كتابتي لذاكرة الجسد الذي واكب أحداث الجزائر الخيرة‪ ،‬أصبحت أتردد الن عليها‪،‬‬
‫كما خففت إقامتي في لبنان من مرارة الغربة التي عانيتها‪ ،‬لن الجواء هناك عربية‬
‫وإسلمية‪ ،‬وإني معتكفة على كتابة رواية أخرى‪ ،‬حاولت فيها قمع موضوعي السابق بحكم‬
‫أن الكتب تتوالد‪ ،‬وفي روايتي الرابعة التي استقريت على تسميتها “السود يليق بك” هي‬
‫الخرى أثريتها بأحداث سياسية وشاعرية‪ ،‬وأحكي فيها عن قصة حب ومحنة الثراء وكيف‬
‫يلحق المال الذى بصاحبه‪.‬‬

‫*غنت الفنانة “جاهدة” مقاطع من روايتك‪ ،‬وتطاردك “لطيفة” من أجل‬


‫عمل سينمائي‪ ،‬هل بداية تجربتك مع الكتابة خارج الرواية كالسينوغرافيا‬
‫وكتابة القصيدة المغناة؟‬

‫‪-‬لقد حولت الرواية إلى عمل كيروغرافي‪ ،‬كما غنت لي الفنانة اللبنانية جاهدة وهبي “كأن‬
‫مهرك صلتي”‪ ،‬ولطيفة التونسية تطاردني حتى تغني لي قصائد‪ ،‬وفي الحقيقة ل أملك‬
‫قصائد تغنى‪ ،‬ولذا أفكر في كتابة سيناريو لها لفيلم يطاردني‪ ،‬لسيما وأن لها حسا ً وطنيا ً‬
‫وقوميا ً وهي فنانة محافظة‪ ،‬الموضوع فيه عن الحب والجنون ومواقف رومانسية متطرفة‪،‬‬
‫ولو أن نصوصي سياسية أل ّ أني فكرت في نماذج نساء ولدن أمام جثمان‪ ،‬فقد تجسدت‬
‫لي إبنة جبران تويني التي كبرت وعملت تصريحات مذهلة‪ ،‬وهي كانت قبل بضع ساعات‬
‫تبكي أبيها كصبية‪ ،‬وتجسدت أمامي بهية الحريري أرملة رفيق الحريري‪ ،‬وليلى المعوض‬
‫زوج الرئيس معوض وجسي الخوري التي فقدت أخاها‪ ..‬وغيرهن‪.‬‬
‫*ماذا عن مشروع تحويل ذاكرة الجسد إلى فيلم سينمائي‪ ،‬فبعد الثرثرة‬
‫العلمية الشديدة عن المشروع نرى أنه لم يستقر بعد القرار على الجهة‬
‫التي تقوم بتنفيذه بين مصر والجزائر التي لبد أن تحظى بتبني الرواية‬
‫السينمائية‪ ،‬لسيما أن ذاكرة الجسد هي ذاكرة الوطن؟‬

‫‪-‬صدقيني‪ ،‬أذا صارحتك‪ ..‬إن مأساتي هي حب الوطن‪ ،‬لقد تسابقت دور النشر الجزائرية‬
‫من أجل روايتي السابقة حتى أطبعها هنا‪ ،‬لكن كدست ضمن المخطوطات ونسيت‪ ،‬وبعد‬
‫طول انتظار أعطيتها للستاذ “سهيل إدريس” صاحب دار الداب اللبنانية للنشر‪ ،‬الذي جن‬
‫حين قرأها وظل يردد أنها “قنبلة أدبية”‪ .‬زرته مؤخرا ووجدته مريضا ومتعبا وأنا أتمنى له‬
‫الشفاء بالمناسبة‪ ،‬ذكرته بمقولته تلك‪ ،‬وقلت له‪ “ :‬إن القنبلة طلعت عنقودية كل مرة‬
‫تنفجر في مكان”‪ .‬تماما مثل ولدة الرواية يتعرقل مشروعها السينمائي انا أتمنى أن‬
‫تتبناها الجزائر‪ ،‬وحتى توجهي للخارج أشترط أن تكون الجزائر طرفا ً فيه‪ ،‬أما رغبة‬
‫“يوسف شاهين” في إخراج العمل‪ ،‬فإني ل أستطيع التدخل ومناقشة المشاهد لنه مخرج‬
‫كبير‪ ،‬وأكيد “على عادة السينما المصرية” ستكون هناك مشاهد قبل ورقص‪ ،‬لكنني أريد‬
‫أن تكون القبلة كما وصفتها أنا بالحياء الجزائري الجميل‪ ،‬ليس الحياء الغبي لنه تماما مثل‬
‫الباحية ل يمكننا صناعة أدب به‪.‬‬

‫*ماذا عن الضجة التي أثيرت حول الديب الجزائري ياسمينة خضرة أو محمد‬
‫بلمسهول اسمه الحقيقي‪ ،‬حول كتابه الخير “العملية” حيث اتهم بموقفه‬
‫الخائن للقضية الفلسطينية؟‬

‫ق‪ ،‬ككتابات “واسيني العرج” ورائعته‬ ‫‪-‬الحقيقة‪ ،‬للدباء الجزائريين مستوى رائع ورا ٍ‬
‫“شرفات بحر الشمال” ومؤلفه الخير “ كتاب المير” نّبأ عن جهد وبحث عميقين وجادين‪،‬‬
‫كذلك أعمال “أمين الزاوي”‪ ،‬و”ياسمينة خضرة” أعماله رائعة باللغة الفرنسية‪ ،‬وإني‬
‫أخاف عليه الوقوع في فخ السياسة‪ ،‬وللمانة له مواقف عظيمة فهو رفض التهجم على‬
‫الجيش الجزائري بصفته ضابطا سابقا ً فيه قبل أن يفر ويتفرغ للكتابة‪ ،‬ولم يقع في فخ‬
‫السؤال “من يقتل من في الجزائر؟”‪ ،‬الذي روجت له الوسائل العلمية الجنبية إّبان‬
‫السنوات الحمر الجزائرية‪ ،‬وشن الهجوم على الكاتب “ياسمينة خضرة” ظلم‪ ،‬لننا قاسون‬
‫على أنفسنا أكثر من الفلسطينيين ولسنا أكثر خيانة منهم‪ ،‬ومن سمم عرفات غير‬
‫الفلسطينيين؟‪ ،‬فـ”بيغن” كان يقول‪ “ :‬كل خمسة رجال يمتلكهم عرفات لنا ثلثة وله‬
‫إثنان”‪ .‬ولذا علينا الدفاع عن أنفسنا وأن ل نترصد الخطاء لنقضي على بعضنا البعض‪ .‬فما‬
‫يؤلمني هو الطعن بخناجرنا‪ ،‬المنطق صار عندنا إن النجاح جريمة وعمل عدائي‪ ،‬وهذا‬
‫للسف هو واقعنا‪.‬‬

‫*بالمناسبة‪ ،‬ماذا عن الصراعات الحائمة حولك‪ ،‬والتي تبدأ من “واسني”‬


‫وتنتهي عند “فضيلة الفاروق” التي شنت حملة عليك وتتهمك بأنك‬
‫تعرقلين ظهورها في لبنان؟‬

‫‪-‬ل أريد الدخول في جدل‪ ،‬فالدفاع عن نفسي إساءة لها‪ ،‬فأعمالي وسيرة حياتي تدافعان‬
‫عني وتشفعان لي‪ ،‬إني أبارك كل من يجمل صورة الجزائر‪ ،‬خاصة بعد الفترة الحرجة التي‬
‫مرت بها‪ ،‬وللسف الجزائر لم تبد جميلة مع “ فضيلة الفاروق” التي تهجمت على الرجل‬
‫سها الوطني‪ ،‬لكن حذرتها من الضوء‬ ‫الجزائري ووصفته بالقسوة‪ ،‬ولو أني ل أشك في ح ّ‬
‫والضوضاء اللبنانيين اللذين لن تستطيع إستيعابهما‪ ،‬فأنا ل أوافق على إجراء مقابلت لي‬
‫كان‪ ،‬فقيمة النسان تكمن في تمنعه‪ ،‬ثم عندما نكتب ثلث روايات في أكثر من ألف‬
‫صفحة نكون قد قلنا كل شيء وكل ما يقال خارج الكتابة هو ثرثرة‪ ،‬وفي كل الحوال‪..‬‬
‫ي‬
‫الصمت ‪،‬جزء من البداع‪ ،‬ورغم ذلك أظل طوال الوقت أكذب في مقالت تنسب إل ّ‬
‫ظلما‪.‬‬
‫أما عن “واسني العرج” فأنا ل أصدق ما قولوه عني‪ ،‬كذلك الدكتور “أمين الزاوي”‪،‬‬
‫كلهما مرجعان أكاديميان وأديبان متميزان من ذوي المستويات الراقية وليمكنهما قول‬
‫ذلك‪ ،‬يمكن أنهما استدرجا في فخ الصحافة التي تريد أن تبيع‪ .‬أنا ل يمكنني إلغاء تأريخ‬
‫وموقع أدبي لي كاتب ودائما لدي نوايا حسنة مع الخرين‪ ،‬لكن هناك أنانية في الوسط‬
‫العربي ودسائس الكتاب لكن لماذا؟‪ ،‬فلكل واحد منا مكان في هذا العالم الذي يتسع‬
‫للجميع‪ ،‬ثم في الخير أنا أبحث عن أعداء كبار ومعارك نبيلة أكبر بها بصراحة‪ ..‬لقد عانيت‬
‫الكثير ‪.‬‬

‫*واتهامك بسرقة الروائي الجزائري الراحل “مالك حداد” قضية أخرى‪ ،‬كيف‬
‫تتحملين هذه التهمة وأنت من أخرجته من الهامش؟‬

‫‪-‬منذ قضية “سعدي يوسف” الذي قيل أنه من كتب روايتي‪ ،‬مرورا باتهامي بسرقة أعمال‬
‫“مالك حداد”‪ ،‬كيف أفعل ذلك وأنا من أخرجته إلى النور بعدما ظل سنوات في حياته وبعد‬
‫مشا ومقصيا؟‪ ،‬لقد عاهدت نفسي “سأهبه غزالة” الذي كان عنوانا ً لمقالتي في‬ ‫موته مه ّ‬
‫صحيفة الشعب منذ سنة ‪ ،1985‬ووهبته غزالة بتأسيس جائزة مالك حداد للرواية محاولة‬
‫مني لدعم الشباب المبدع وكم أنجبت الجزائر من غزلن عربية‪ ،‬لقد تأثرت بصاحب رواية‬
‫“سأهبك غزالة” ووقعت في حبه‪ ،‬فكلنا شاعر وجربنا دخول عالم الرواية‪ ،‬فقد أعجبت‬
‫باستخفافه الجميل‪ ،‬وتلميحاته الراقية‪ ،‬فل أحد كتب مثله‪ ،‬وعندما أخرجته للضوء إتهمت‬
‫بسرقته؟‪ ،‬أنا امرأة نزيهة وللمانة أضع المقولت التي أستخدمها في كتاباتي بين قوسين‪،‬‬
‫رغم أنها مقولت من الصعب التعرف على أصحابها‪ ،‬وللسف بعض منشآت الصحافة‬
‫العربية حاولت تدمير الصوت الجزائري الوحيد الذي أوصلته عالميا‪.‬‬

‫*وماذا عن تصنيفك ضمن الكتاب العرب بأقلم إسرائيلية في كتاب صدر‬


‫ضمن المعرض الدولي للكتاب في لبنان منذ أربع سنوات وحقق مبيعات‬
‫كبيرة‪ ،‬هل كانت نكتة؟‬

‫‪-‬لقد نسبتني الكاتبة اللبنانية في كتابها هذا رفقة “محمود درويش” و”فدوى طوقان” أننا‬
‫أقلم إسرائيلية‪ ،‬سعدت بذلك لنها صنفتني ضمن هؤلء الكبار‪ ،‬هل تعرفين أني الكاتبة‬
‫الكثر مقروئية في السجون السرائيلية‪ ،‬هناك رسالة بعثها سجين فلسطيني إلى “مروان‬
‫البرغوثي” يخبره أن كتابي موجود بثلثين نسخة مكتوبة بحروف السمسمة وهو الحبر‬
‫السري‪ ،‬وموزعة سرا في سجن عسقلن‪ ،‬وهذا “محمود الصفدي” المحكوم عليه بسبع‬
‫وعشرين سنة سجنا‪ ،‬يقول أن “أحلم” هي السجين رقم تسعة في كل زنزانة‪ ،‬ورقمي‬
‫تسرب إلى المساجين وهم يهتفون لي من جوال مهرب‪ ،‬وزوجي يحذرني ويتهمني‬
‫بالجنون‪ ،‬هؤلء يقولون لي‪” :‬يا أحلم لو ترشحت في النتخابات لفزت بالتأكيد”‪ ،‬لقد‬
‫وقعت في مدينة “مشغن” المريكية على كتب لفلسطينيين إشتروها من الحواجز‬
‫السرائيلية والمعابر الحدودية‪ ،‬وتلك المرأة العجوز التي اتصلت بي تطلب إسم والدتي‬
‫حتى تدعو لها في البقاع المقدسة‪ ،‬الرسائل ودعوات السر الفلسطينية التي أتكفل بها‬
‫تبكيني دائما‪ ،‬وبعد هذا أتهم بأني إسرائيلية؟‪ ،‬إنها فعل نكتة‪.‬‬

‫*كأن ضرب السماء الحاملة للقضية العربية‪ ،‬وتلك القنوات الفضائية‬


‫الغنائية التي تتوالد يوميا وأخرى الخبارية كأنها مأجورة‪ ،‬أليست خطة‬
‫لتضليل الرأي العام العربي باليد العربية؟‬

‫‪-‬فعل هي خطة يجب أن نعيها‪ ،‬فتخوين السماء الكبيرة مثل ”محمود درويش” و”دريد‬
‫لحام”‪ ،‬وتكفير “مارسيل خليفة” هدفه هو القضاء على كل ما نتخذه من قدوة وهذه‬
‫الخطة تتبناها جهات مدسوسة بيننا‪ ،‬إنه مخطط لضرب الثقافة العربية لنها الصرح الوحيد‬
‫المتبقي لنا للصمود‪ ،‬والفضائيات التي في كل مرة تطلع واحدة ليس صدفة بالفعل‪ ،‬حتى‬
‫أصبح حلم كل شاب عربي أن يغني بعدما كان حلمه الفداء والوطنية‪ ،‬أصبح الشاب عندنا‬
‫يبكي في طوابير “ستار أكاديمي” حتى يعطوه ورقة ليصبح مغنيا وراقصا‪ ،‬يبكي عندما‬
‫ينجح يبكي عندما يفشل‪ ،‬الياباني ينتحر ول يبكي‪ ،‬دموعنا لم تعد لها قيمة مع جيل ليست‬
‫لديه كرامة‪ ،‬فإذا كانت “إليسا” في عمر إبنتي ثروتها أكثر من سبعة وثلثين مليون دولر‬
‫وهناك الكثيرمن أمثالها‪ ،‬فكيف نكتب ونجتهد ونؤلف كتبا ً لسنوات ثم ل نكسب من‬
‫الجمهور إل ما ندر؟‪ ،‬حتى شعبية “خالد” لو استغلت لصالح قضايا معينة لكان المر جمي ً‬
‫ل‪،‬‬
‫ن غير مفهومة وصل صداها حتى “باكستان”‪ ،‬فاستعمال هؤلء العشوائي‬ ‫بدل ً من تأديته اغا ٍ‬
‫خلف جيل ً ضائعًا‪.‬‬

‫*وماذا عن هجوم بعض الكتاب الماراتيين عليك بعد رثائك للشيخ “زايد”‪،‬‬
‫وهناك من يعيب عليك الولء للحكام العرب الذي ل يخلو تأريخ أغلبهم من‬
‫إضطهادهم للدباء والمثقفين؟‬

‫‪-‬من هم الكتاب الربعة الذين اضطهدهم الشيخ “زايد”‪ ،‬ل أحد سمع عنهم‪ ،‬وعلى علمي‬
‫كان الشيخ “زايد” يسمى بحكيم العرب‪ ،‬وأجمع الجميع أنه موحدهم‪ ،‬حتى أنه أراد إنقاذ‬
‫العراق من مصير “صدام”‪ ،‬ودعاه لينزل في المارات معززا مكرما حتى ينقذ المنشآت‬
‫العراقية من التدمير‪ ،‬ياليته أخذ بنصيحته‪ .‬إني لم أدافع عن ديكتاتور‪ ،‬وهؤلء من ذكروا في‬
‫الموقع اللكتروني هم مطرودون من المارات لسباب يعرفونها ولديهم تصفية حسابات‪،‬‬
‫إن ما دفعني لرثاء “زايد” وتعزية شعبه هو إعجابي ببلدهم‪ .‬فلو خبرت الصوم هناك‪،‬‬
‫الناس يتسابقون للصلة‪ ،‬الميرات بأبسط الثياب برفقة خدمهن‪ ،‬إني أحب طيبة وبداوة‬
‫هؤلء‪ ،‬تحملنا إلى بداوتنا الولى‪ ،‬إن في مدحي للشيخ “زايد” رحمه الله رغبة مني أن‬
‫يكون عبرة لغيره‪.‬‬

‫*بقيت ترفضين الذهاب إلى العراق رغم سعة الفعاليات الثقافية العربية‬
‫في هذا البلد الكبير ‪ ،‬هل كان في نفسك ما رفضت من أجله المجاهدة‬
‫القديرة جميلة بوحيرد‪ ،‬عندما تلقت دعوة من الرئيس العراقي السابق‬
‫“صدام حسين”؟‬

‫‪-‬إني أفتخر أن هناك دول ً لم أطأ ترابها‪ ،‬كالعراق زمن الديكتاتورية‪ ،‬عندما كان الكثير من‬
‫المثقفين والدباء العرب يقفون في طوابير الذل في المربد‪ ،‬وهناك دول أخرى مازالت‬
‫تتبنى أنظمة استبدادية لن أطأ ترابها‪ ،‬وهناك كتاب شيوعيون راحوا إلى ليبيا ومدحوا‬
‫“الكتاب الخضر” من أجل مكاسب صغيرة‪ ،‬كل هؤلء أتمنى الكشف عن أسمائهم‪ ،‬أين‬
‫هم الكتاب الذين مولهم “صدام”؟‪ ،‬إني أطالب بفضح قوائمهم‪ ،‬حتى يمتدح النزيه ويفضح‬
‫المنافق‪ ،‬تماما مثل المطربة التي ذهبت إلى العراق بدعوة من “عدي” نجل ”صدام”‬
‫وأخذت مقابل حفلة أحيتها مليون وثلثمائة ألف دولر‪ ،‬فهل أتضامن مع شعب بسلبه هذا‬
‫المبلغ؟‪ ،‬إني لن أغفر لها‪ ،‬وأدعو لمحاسبة هؤلء‪ ،‬بدل التعدي على النزهاء وإقصائهم‪.‬‬

‫في حوارها الخاص مع » الثقافية «‪:‬‬


‫أحلم مستغانمي‪ :‬هناك تسونامي سعودي قادم في عالم الرواية‬

‫أقام ديوان الثقافة والعلم الجزائري التابع لوزارة الثقافة نشاطا ً ثقافيا ً وفنيا ً مميزا ً‬
‫استضاف فيه الفنانة اللبنانية الملتزمة )جاهدة وهبة( التي خصصت المسية لتقديم أغنيات‬
‫جديدة هي مقتبسة من رواية الكاتبة الجزائرية أحلم مستغانمي )ذاكرة الجسد(‪ ،‬وهي‬
‫تجربة فريدة من نوعها‪ ،‬وعلى هامش هذا النشاط التقت )الثقافية( الروائية أحلم وأجرت‬
‫معها هذا اللقاء‪..‬‬
‫*ةةةة ةةةةةة ةةةةة ةةةةةة‪:‬‬

‫* بالمس شاهدنا ‪ -‬لربما أول تجربة ‪ -‬عربيًا‪ ،‬وهو عملية تحويل النص‬
‫الروائي إلى عمل غنائي كيف بدت لك التجربة؟‬

‫بدت كما قلت تجربة مذهلة بالنسبة لي‪ ،‬لنني لم أتوقعها‪ ،‬فعندما طلبت مني الفنانة‬
‫)جاهدة وهبي( بالبدء بتلحين بعض نصوصي لم أصدق أبدًا‪ ،..‬لنني ل أكتب شعرا ً موزونا ً‬
‫ول أدري كيف يمكن أن ُيغنى‪ ،..‬ولكنها بدأت بتلحين بعض النصوص الشعربة الموجودة‬
‫داخل نصوصي‪ ،‬كما هو الحال مثل ً في رواية )ذاكرة الجسد(‪ ،‬التي ترد فيها بعض النصوص‬
‫الشعرية على لسان )زياد(‪ ،‬مثل )تربص بي الحزن‪ ..‬ل تتركيني لحزن المساء‪ ،‬سأرحل‬
‫ل به التراب‪ ،‬خرج ذلك‬ ‫سيدتي(‪ ،‬كما لحنت قبل ذلك إحدى نصوصي التي تقول‪) :‬مذهو َُ‬
‫الصباح‪ ،‬كي يشتري ورقا ً وجريدة‪ .‬لن يدري أحد ماذا كان سيكتب‪ ،‬لحظة ذهب به الحبر‬
‫إلى مثواه الخير‪ (..‬وعندما اغتيل )جبران تويني( قدمتها )جاهدة( كإهداء إلى روحه‬
‫فوجدت رواجا ً وإقبال ً كبيرين‪ ،‬في لبنان وكذلك افتتحت بها معرض الكتاب في باريس‬
‫والحفل الذي اقيم بمناسبة مرور عام على إغتيال تويني وسمير قصير‪ ..‬ولذلك وجدت‬
‫نفسي في ورطة مع جاهدة ومع الجمهور الذي تلقى تلك النصوص بلهفة‪ ،‬ثم قامت أيضا ً‬
‫بتلحين نص آخر‪ ،‬وقدمته في مهرجان الغنية بمسقط حيث افتتحت به المهرجان‪..‬‬
‫وبالتالي أصبح التعامل شرعيا ً بيني وبينها‪ .‬وما شدني إلى )جاهدة( هو ان صوتها هو‬
‫)صوت مثقف‪ ،‬وملتزم صوت لم يلوث‪ ،‬خاصة بحكم انها ملتزمة وذات ماض سياسي‪..‬‬
‫فوالدها شهيد‪ ،‬وشقيقتها تم إعتقالها من قبل السرائليين‪ ،‬بالتالي هي من عائلة مناضلة‪،‬‬
‫وهي تختار نصوصها بحس عال جدا والواقع ان إحساسها احيانا يفوق إحساسي بالكلمة‬
‫التي أكتب‪ ..‬فحينما تكتب شعرا لديك إحساس بالورقة التي أمامك‪ ،‬ثم عندما يتحول إلى‬
‫أغنية اعتقد انه شيء آخر‪ .‬فبالمس كنت محرجة جدا وهي تغني بعض نصوصي‪ ،‬وشعرت‬
‫بإرباك‪ ،‬فالصوت يفضحك ويعريك أمام جمهورك بينما الورق يغطيك إلى حد ما‪.‬‬

‫* أيضا ً ذاكرة الجسد الن يتحول إلى عمل درامي مسلسل‪ ،‬ربما يعرض على‬
‫الشاشات في شهر رمضان القادم‪ ،‬أين وصل هذا المشروع؟‬

‫انا مأخوذة بهذ المشروع‪ ،‬وحاليا نكتب السيناريو‪ ،‬وقد تأخرنا قليل‪ ،‬لن العمل تاريخي‬
‫ويحتاج إلى دقة متناهية‪.‬‬

‫* هل أنت راضية عن أداء السناريست خاصة وان المشروع عرف بعض‬


‫الشكاليات من قبل؟‬

‫نعم راضية تماما لنني أشرف عليه بالمطلق )جملة جملة(‪.‬‬

‫* هل هو باللغة العربية الفصحى؟‬

‫حقيقة احترنا في هذا المر في البدء‪ ،‬وتوقفنا كثيرا لدى اللهجة التي يمكن ان يقدم بها‬
‫العمل‪ ،‬فإذا كتب باللهجة الجزائرية لن يفهم في المشرق العربي‪ ،‬وإن كتب بغيرها أيضا ً‬
‫سوف لن يكون له ذات الصدى التاريخي‪ ..‬وأخيرا ً رسونا على أهمية كتابته باللغة‬
‫الفصحى‪ ..‬وقد ذهبنا بعيدا ً في بدايات العمل أي إلى ماقبل بداية الرواية إلى ‪1945‬‬
‫وأحداث شهر مايو التي سقط فيها حوالي ‪ 45‬ألف قتيل على يد المستعمر الفرنسي‪ ،‬أي‬
‫قبل إعلن العمل المسلح‪ .‬وبالتالي العمل قد يتأخر لننا نريد انجاز عمل تاريخي‪ ،‬كما أن‬
‫هناك بعض التصالت من فضائيات وشركات إنتاج عربية لشراء حقوق رواية )عابر سرير(‬
‫بصفتها الجزء الثاني من )ذاكرة الجسد(‪ ،‬وحاليا هناك تفاوض في هذا الجانب‪.‬‬

‫* ولكن لماذا تم سحب )ذاكرة الجسد( من المخرج يوسف شاهين الذي كان‬
‫قد اشترى حقوقه؟‬

‫بالفعل تم السحب ولكن قبل فترة‪ ..‬ربما قبل ‪ 4‬أعوام‪ ،‬أو أكثر‪.‬‬

‫* إذًا‪ ..‬لماذا تمت إثارته الن في اعتقادك؟‬

‫ل أدري لماذا‪ ..‬ولكن ربما لن الجميع كان يعتقد أن شاهين هو الذي سيخرجه‪ ،‬وعندما‬
‫بدأنا العمل الن اكتشفوا أن شاهين غير معني بإخراج العمل‪ ..‬وأنا أوضحت انني سحبته‬
‫منذ فترة بعيدة أو لعله بعد توقيع العقد مباشرة‪...‬‬

‫* ولكن السؤال هو لماذا تم السحب أساسا؟؟‬

‫بكل صراحة‪ ..‬لن الستاذ شاهين لم يسمح لي بالتدخل في العمل أو الشراف عليه‪ ،‬هذا‬
‫هو السبب‪ ،‬طبعا هو يشترط ذلك بحكم انه مخرج كبير‪ ..‬ولكن انا أيضا ً اقدم عمل تاريخيا‬
‫ول بد من وجود طرف جزائري له حق الطلع وإبداء الرأي في عمل يرتبط بأحداث‬
‫تاريخية حقيقية‪.‬‬

‫* وماذ عن جديدك‪ .‬هل هناك عمل جديد تكتبينه؟‬

‫نعم هناك مشروع اشتغل عليه الن وهو عبارة عن كتابة نص )لفيلم سينمائي(‪ ،‬وهي قصة‬
‫تشتمل على احداث سياسية‪ ،‬وإجتماعية‪ ،‬وفنية‪ ،‬وهي قصة حب جميلة‪.‬‬

‫* هل هناك اتفاق معين لمن ينتج هذا العمل ومن سيقوم ببطولته؟‬

‫نعم بالتأكيد‪ ،‬اعتقد ان الفنانة )لطيفة( هي التي ستمثل دور البطولة )مبدئيا…‪( ..‬‬

‫* هناك حديث يدور في الوساط العلمية والفكرية عن التجاه الجديد‬


‫للدب النسائي‪ ..‬أو العمال المكتوبة بأقلم نسائية‪ ..‬أول هل توافقين على‬
‫هذا التوصيف؟‬
‫إطلقا‪ ...‬ل أوافق لن ليس هناك أدب نسائي وآخر ذكوري‪ .‬واعتقد ان المجتمعات العربية‬
‫قد تجاوزت هذه الثنائية‪ ،‬خاصة وأن هناك الن نساء يكتبن بجرأة تتجاوز الرجال‪ ،‬كما أن‬
‫كثيرا من الكاتبات العربيات كتبن على لسان رجل‪ ..‬إحداهن أنا‪ .. ،‬وصدقني هذا الوصف ل‬
‫يوجد إل في بعض الوساط بالدول العربية‪ ..‬انا عشت في فرنسا لفترات طويلة جدا‪ ..‬لم‬
‫اسمع ابدا عن شيء اسمه )أدب نسائي(‪ ،‬كما لم )اسمع عن ما يسمي بإتحاد الكتاب(‪،‬‬
‫لن الكتاب هناك شغلهم الشاغل هو الكتابة ل غيرها‪ ،‬بينما نصف وقت الكاتب العربي‬
‫يذهب في مؤتمرات اتحادات الكتاب‪ .‬حيث يلتقي الكتاب لمؤتمرات دون فائدة يلتقون‬
‫ليأكلوا ويشربوا في ولئم نميمة‪.‬‬

‫* حسنا‪ ..‬ما رأيك في الكاتبات الجديدات )الروائيات(‪ ،‬هل تطلعين على‬


‫أعمالهن؟‪ ،‬وهل اطلعت مثل على رواية )بنات الرياض( أو غيرها من‬
‫العمال الجديدة لكاتبات هن في بداياتهن؟‬

‫في الحقيقة اشتريت نسخة من )بنات الرياض( ولم افرغ من قراءتها بعد‪ ..‬ولكن قرأت‬
‫عنها اكثر‪ ..‬وان هناك ثمة غواية مارستها الكاتبة طوال الرواية حيث تعد القارئ بالكشف‬
‫عن ثمة شيء ثم تنتهي الرواية دون ان تبوح به‪ ..‬ولعل هذه الغواية في حد ذاتها جميلة‪..‬‬
‫ويكفي انها كتبت‪.‬‬

‫* يلحظ في الكاتبات الواعدات أيضا ً أنهن يعتمدن بشكل اساسي على واقع‬
‫إفتراضي‪ ..‬حتى أن النترنت اصبح مثل البطل الساسي لرواية )بنات‬
‫الرياض( وغيرها من الروايات الجديدة‪ ..‬ما رأيك؟‬
‫جميل‪ ..‬وعلى كل حال هذا البطل الوحيد الذي لم يدخل رواياتي انا‪ ..‬حيث ل زلت أعاني‬
‫من أمية تكنولوجية‪ ،‬ولزلت أعاني من )التكنوفوبيا(‪ ..‬وعلقتي ضعيفة بالنترنيت بل‬
‫واعتمد على ابني )مروان( في قراءة رسائلي الليكترونية‪ ..‬ما زلت محاطة بالوراق‬
‫والقلم الملونة‪ ،‬كلسيكية في تعاملي مع الكتابة‪ .. ،‬وصحيح مقتنعة أنني ل بد من ان‬
‫اخرج من هذا التخلف‪ ..‬ولكن سعيدة اني قرأت ان بلير )رئيس الوزراء البريطاني( أيضا ً‬
‫متخلف مثلي في عالم النترنيت )تضيف ضاحكة(‪.‬‬

‫* كيف تشاهدين آفاق الرواية العربية؟ خاصة المكتوبة منها بالقلم‬


‫النسائية؟‬

‫في الواقع هناك حركة كبيرة‪ ،‬وجرأة غير مسبوقة وجميلة‪ ..‬خاصة في الخليج والمملكة‬
‫العربية السعودية بالذات‪ ،‬هناك موجة جديدة‪ ،‬بل يمكنني القول أن هناك تسونامي نسائي‬
‫جميل قادم من المملكة وعموم الخليج‪ ..‬هناك موجة عالية شاهقة ستذهب بالكثير من‬
‫الفكار المسبقة التي كانت سائدة‪ ..‬وهذا تطور نوعي وليس كمي فقط‪ ،‬ولكن الذي‬
‫يخيفني هو استسهال الكاتبات لعملية النشر‪ ،‬ما يرعبني هو هذا‪ ،‬بقيت أربعة أعوام اكتب‬
‫الكتاب وكنت مترددة في نشرها‪ ،‬وروايتي لول نجاحها لما اعدت نشرها أو وضع أجزاء‬
‫أخرى لها‪ ..‬وعليه عليهن التريث في عملية النشر وليس الكتابة‪ ،‬فليس اسهل من النشر‬
‫وليس اخطر ايضا‪ ،‬فالكتاب عندما يخرج من يدك يصبح ملك غيرك‪ ..‬فكثير منهن ربما من‬
‫اللئي نشرن لو عدن اليها بعد أعوام ربما ندمن‪ ،‬وتمنين لو تريثن‪ ..‬وأنا اتفهم اندفاع كاتبة‬
‫مثل في عمر ‪ 23‬سنة للنشر‪ ،‬ولكن هذه اشياء ستحسب على الكاتب مستقبل‪ .‬فأنا‬
‫تعلمت ان اتريث‪ ،‬وحتى مقالي السبوعي أحيانا اندم عندما انشره‪ ..‬لنني اتمنى لو اكتب‬
‫بتأن أكبر‪.‬‬

‫* في الخير‪ .‬ماذا يمكن أن تقولي حول جائزة مالك حداد‪ ،‬للرواية التي‬
‫أنشاتها؟‬
‫هي جائز انشأتها منذ أربعة أعوام‪ ،‬دفاعا عن اللغة العربية في الجزائر‪ ،‬ولدعم كتاب اللغة‬
‫العربية الذين يفتقدون إلى الدعم في الوقت الذي يجد فيه نظراؤهم )كتاب اللغة‬
‫الفرنسية( مدعومين ولهم سند‪ ،‬ويكافؤون بجوائز مجزية‪ ..،‬واعتقد انها اهم جائزة أدبية‬
‫حاليا في الجزائر‪ - ،‬خاصة في المبلغ المخصص لها‪ ،‬حيث اردت ان يكون المبلغ كبيرا حتى‬
‫كن الكاتب من التفرغ للكتابة سنة أو سنتين‪ ..‬وكذلك إعادة نشر العمل في المشرق‬ ‫يم ّ‬
‫العربي‪ ،‬وكذلك ترجمة العمل للغة الفرنسية‪ ..‬وغيرها من الميزات التي اعتمدت عليها‪.‬‬
‫كتبا فحسب‪ ،‬بل انجب ك ُّتابا أيضا(‪ ..‬لن‬
‫ولذلك قلت في إحدى المناسبات )إنني لم أنجب ُ‬
‫الجائزة اضحت تخرج كل عامين كاتبا إلى الجزائر‪ ،‬ولجنة القراءة هي لجنة مختصة‬
‫ومعترف بها عربيا‪ ،‬وتترأسها الدكتورة يمنى العيد‪ ،‬وقد حوربت لهذا السبب لنني لم اختر‬
‫لجنة القراءة من نقاد جزائريين وحسدت على هذا المشروع‪.‬‬

‫•كما حسدت الجزائر عليك حسب قول الروائي الكبير الطاهر وطار‪..‬‬

‫نعم‪ ،‬قال حسدت الجزائر في أحلم كما حسدت دوما في كل شي جميل‪ .‬وانا مدينة لهذا‬
‫الروائي الجميل الذي وقف معي في أحلك الظروف‪.‬‬

‫* هل من كلمة تودين قولها؟‬

‫أشكرك‪ ..‬ومن خللك )الجزيرة( هذه النافذة الجميلة التي تولي أهمية قصوى للمبدعين‬
‫العرب‪ ،‬وتسعى إلى ترسيخ أعراف جميلة في سبيل تقديم قراءات موضوعية لعمالهم‬
‫ولتجربتهم البداعية‪ ،‬عبر إفراد صفحات ثرية لملفات خاصة عن مبدٍع ما‪ ..‬ولقد سعدت‬
‫كثيرا ً بالعمل الرائع الذي قدم عن الشاعر محمود درويش عبر ثقافية الجزيرة في الفترة‬
‫القريبة الماضية‪.‬‬

‫مساؤكم مقاومة‪ .‬مساؤكم عنفوان‬


‫لسنا هنا لنواسي بيروت أو نتضامن معها في كل مرة خربت بيروت سقطت معها قلعنا ‪,‬‬
‫وانكشفت عورات عروبتنا‪.‬وانكسرت مرآتنا أمام العالم لذا نهرع جميعا لنجدتها إنقاذا لما‬
‫كان جميل فينا ‪ ,‬يا لبيروت كم اقترفت في حقنا من جرائم حب ‪ .‬يوم علمتنا ثقافة الحياة‬
‫و أعطتنا دروسا في الحرية ‪ .‬وأجلستنا على مقاعد الحب الول ورافقت كهولة أحلمنا‬
‫القومية و انتهينا منخرطين في حزب كبريائها ‪.‬‬
‫المدينة العصية على النحناء جعلتنا ننحني أمام دمع رئيس وزرائها في زمن جفت فيه‬
‫المياه الجوفية لكرامتنا‬
‫ليس الشهداء وحدهم الذين يموتون غصبا عنهم المشاهدون الشاهدون على موتهم‬
‫يواصلون الموت بعدهم بعدد نشرات الخبار ‪.‬‬
‫فوالله ما قصفوا سوانا‪ ,‬نحن الذين ل نقيم في بيروت لكنها تقيم فينا ‪ .‬في كل التوابيت‬
‫المصفوفة المرقمة كان لنا تابوت ‪ .‬في كل المشارح لنا جثامين مشوهة ‪ .‬في كل سيارة‬
‫إغاثة منعت من الوصول ‪ ,‬كانت حمولتها دمائنا و دموعنا و قوت أولدنا‬
‫ما كانت مربط خيلنا فحسب ‪ .‬بيروت كانت فارسنا و فرسنا ‪ ,‬فلماذا في أمة تباهي‬
‫بالفروسية و يحمل فيها الحصان مائة اسم تركنا حصان سباقنا وحيدا ينزف ‪.‬‬
‫في هذه المة المنكوبة ‪ ,‬المنهوبة ‪ ,‬المغلوب على أمرها ‪ ,‬ما زال بإمكاننا إشهار ثقافة‬
‫المواجهة ‪,‬فعندما تحمل سلحا أنت جندي لكنك عندما تشهر قلما أنت جيش قوامه عدد‬
‫قرائك ‪.‬‬
‫لول الشعراء لوقع الشهداء في شرك النسيان لذا كان ستالين ينادي الشعب الروسي عبر‬
‫المذياع والنازيون على أبواب موسكو ‪:‬دافعو عن وطن بوشكين وتولستوي فالوطان‬
‫تنتمي لشعرائها كما تنتمي لشهدائها‬
‫نحن هنا ندافع عن وطن جبران و جرجي زيدان و ميخائيل نعيمة وامين نخلة و الخطل‬
‫الصغير و سعيد عقل‪ .‬وطن فيروز و الرحابنة ووديع الصافي ‪ .‬لندافع عن لقمة الحلم التي‬
‫اقتسمناها معهم ‪ .‬وقامة الزهو العربي الذي منحونا إياه‪.‬‬
‫لبنان الكبير بكبريائه وضعنا أمام مآثر القتلة و عنفوان القتيل ‪ .‬وضعنا أمام ما أبكانا ‪.‬أما‬
‫قال أحدهم‪ :‬ل تخشى أعدائك في أسؤ الحالت يمكنهم قتلك ل تخشى أصدقائك في أسؤ‬
‫الحالت يمكنهم خيانتك ‪ .‬أخشى اللمبالين فصمتهم يجيز الجريمة والخيانة بسبب‬
‫المتواطئين صمتا‪ .‬حصدت الهانة بيننا أكثر مما حصدته القذائف ‪ .‬وقضى جلنا تحت أنقاض‬
‫الكرامة العربية المهدورة فكم يساوي العربي اليوم في سوق الكرامة النسانية‪ ،‬إن كان‬
‫عشرة آلف أسير يقبعون في سجون إسرائيل لم يسمع بمأساتهم أحد‪ ،‬وستة آلف‬
‫عراقي لقوا حتفهم في الشهرين الماضيين فقط‪ ،‬ولم يأبه بموتهم أحد؟‬
‫والكرامة هي بعض ما أعطتنا إياه المقاومة‬
‫صادرات البضائع السرائيلية إلى العالم العربي زادت خلل الشهر الولى لهذه السنة‬
‫وحدها ‪ 35‬بالمئة‪.‬‬
‫إنهم منهمكون في الضحك علينا والستخفاف بغبائنا في الرد على دمارهم بقنابل الخطب‬
‫ووابل الهتافات‬
‫ماجدوى حرق العلم المريكية و السرائيلية لمواجهة أكبر عملية سطو شرعت لها دولة‬
‫في التاريخ لنهب دولة أخرى هي العراق ‪ .‬وأكبر عملية دمار تعرض لها وطن هو لبنان‪.‬‬
‫منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أهو ضرب من السذاجة أن نقول أشهروا علم المقاطعة‬
‫الشعبية العربية ولتكن مقاطعة منظمة و شاملة من هنا من معقل الحرار ‪ .‬نطالب براية‬
‫عربية موحدة ترمز للمقاطعة نرفعها جميعا لنرد عنا الهانة ‪.‬‬
‫لماذا نتوسل السلم إذا كان بامكاننا إنقاذ ماء وجهنا بالتلويح باستخدام ما في حوزتنا من‬
‫أوراق ضغط اقتصادية و يخاف حتى منا من استعمالها‪.‬‬
‫لماذا نشتري بالمليارات أسلحة ندري أنها ستنتهي خردة في المستودعات‪.‬‬
‫انه درس تعلمناه من غاندي الذي كان يقول ‪:‬حارب عدوك بالسلح الذي يخافه ل الذي‬
‫تخافه أنت‪.‬‬
‫إنها حرب نهب و سلب هذه التي أعلنت علينا كفانا كلما كفانا هوانا لنقاطع فبأموالنا‬
‫يموت أهلنا ويقصفوا ‪ ,‬بأموالنا نستعبد و نهان فبالمال بإمكانك أن تشتري سلحا لكنك ل‬
‫تشتري احتراما ول كرامة و هو ما ينقصنا‬

‫*ةةةة ةةةةةةةة ةةةةةةة ةةةةةة ةةةةة ةةةةةةةة ةةة ةةةةةة ةةة ةةةة‬
‫ةةةةةة ةةةةة ةةةةةة ةةةةةة ةةةةةةةة‬

‫بلد المطربين‪ ..‬أوطاني‬


‫ت إلى بيروت في بداية التسعينات‪ ،‬في توقيت وصول الشاب خالد إلى النجومّية‬ ‫وصل ُ‬
‫ُ‬
‫العالمّية‪ .‬أغنية واحدة قذفت به إلى المجد• كانت أغنية "دي دي واه" شاغلة الناس ليل ً‬
‫دم عروض الزياء‪ ،‬وعلى إيقاعها ترقص بيروت‬ ‫ونهارًا‪ .‬على موسيقاها ُتقام العراس‪ ،‬وُتق ّ‬
‫ل‪ ،‬وتذهب إلى مشاغلها صباحًا‪.‬‬ ‫لي ً‬
‫وي من باريس‪ ،‬وفي حوزتي مخطوط "الجسد"‪ ،‬أربعمئة صفحة قضيت أربع‬ ‫ّ‬ ‫لت‬ ‫قادمة‬ ‫كنت‬
‫سنوات في نحتها جملة جملة‪ ،‬محاِولة ما استطعت تضمينها نصف قرن من التاريخ‬
‫النضالي للجزائر‪ ،‬إنقاذا ً لماضينا‪ ،‬ورغبة في تعريف العالم العربي إلى أمجادنا‬
‫ت من بلد‬ ‫ل‪" :‬آه‪ ..‬أن ِ‬ ‫وأوجاعنا‪.‬لكنني ما كنت ُأعلن عن هويتي إل ّ وُيجاملني أحدهم قائ ً‬
‫الشاب خالد!"‪ ،‬واجدا ً في هذا الرجل الذي يضع قرطا ً في أذنه‪ ،‬ويظهر في التلفزيون‬
‫ي‪ ،‬قرابة بمواجعي‪.‬‬ ‫الفرنسي برفقة كلبه‪ ،‬ول جواب له عن أي سؤال سوى الضحك الغب ّ‬
‫عَبارة "دي دي واه"؟ وعندما أعترف بعدم فهمي أنا أيضا ً‬ ‫وفورا ً يصبح السؤال‪ ،‬ما معنى ِ‬
‫در الجزائر‪ ،‬التي بسبب الستعمار ل تفهم اللغة العربية!‬ ‫سر سائلي على قَ َ‬ ‫معناها‪ ،‬يتح ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وبعد أن أتعبني الجواب عن "فّزورة" )دي دي واه(‪ ،‬وقضيت زمنا طويل أعتذر للصدقاء‬
‫والغرباء وسائقي التاكسي‪ ،‬وعامل محطة البنزين المصري‪ ،‬ومصففة شعري عن جهلي‬
‫وُأميتي‪ ،‬قررت أل ّ أفصح عن هويتي الجزائرية‪ ،‬كي أرتاح‪.‬‬
‫لم يحزّني أن مطربا ً بكلمتين‪ ،‬أو بالحرى بأغنية من حرفين‪ ،‬حقق مجدا ً ومكاسب‪ ،‬ل‬
‫يحققها أي كاتب عربي نذر عمره للكلمات‪ ،‬بقدر ما أحزنني أنني جئت المشرق في الزمن‬
‫الخطأ‪.‬‬
‫ب إلى بلد المير عبدالقادر‪ ،‬وفي الستينات إلى بلد‬ ‫ففي الخمسينات‪ ،‬كان الجزائري ُينس ُ‬
‫أحمد بن بّلة وجميلة بوحيرد‪ ،‬وفي السبعينات إلى بلد هواري بومدين والمليون شهيد‪.‬‬
‫مغّني الذي يمثله في "ستار أكاديمي"‪ .‬وهكذا‪،‬‬ ‫اليوم ُينسب العربي إلى مطربيه‪ ،‬وإلى ال ْ ُ‬
‫قى المدح كجزائرية من قَِبل الذين أحّبوا الفتاة التي مثلت‬ ‫حتى وقت قريب‪ ،‬كنت أتل ّ‬
‫سى نيابة عنها‪ .‬هذا عندما ل يخالني البعض مغربية‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الجزائر في "ستار أكاديمي"‪ ،‬وأوا َ‬
‫وُيبدي لي تعاطفه مع صوفيا‪.‬‬
‫وقبل حرب إسرائيل الخيرة على لبنان‪ ،‬كنت أتابع بقهر ذات مساء‪ ،‬تلك الرسائل الهابطة‬
‫المحبطة التي ُتبث على قنوات الغناء‪ ،‬عندما حضرني قول "ستالين" وهو ينادي‪ ،‬من خلل‬
‫المذياع‪ ،‬الشعب الروسي للمقاومة‪ ،‬والنازيون على أبواب موسكو‪ ،‬صائحًا‪" :‬دافعوا عن‬
‫وطن بوشكين وتولستوي"‪ .‬وقلت لنفسي مازحة‪ ،‬لو عاودت إسرائيل اليوم اجتياح لبنان أو‬
‫ما وجدنا أمامنا من سبيل لتعبئة الشباب واستنفار مشاعرهم الوطنية‪ ،‬سوى‬ ‫غزو مصر‪ ،‬ل َ َ‬
‫بث نداءات ورسائل على الفضائيات الغنائية‪ ،‬أن دافعوا عن وطن هيفاء وهبي وإليسا‬
‫م‬
‫ونانسي عجرم ومروى وروبي وأخواتهن‪ .‬فل أرى أسماء غير هذه لشحذ الهمم ول ّ‬
‫الحشود‪.‬‬
‫وليس والله في المر نكتة‪ .‬فمنذ أربع سنوات خرج السير المصري محمود السواركة من‬ ‫ّ‬
‫المعتقلت السرائيلية‪ ،‬التي قضى فيها اثنتين وعشرين سنة‪ ،‬حتى استحق لقب أقدم أسير‬
‫مصري‪ ،‬ولم يجد الرجل أحدا ً في انتظاره من "الجماهير" التي ناضل من أجلها‪ ،‬ول‬
‫استحق خبر إطلق سراحه أكثر من مرّبع في جريدة‪ ،‬بينما اضطر مسؤولو المن في‬
‫داُفع‬ ‫مطار القاهرة إلى تهريب نجم "ستار أكاديمي" محمد عطّية بعد وقوع جرحى جّراء ت َ َ‬
‫مئات الشّبان والشاّبات‪ ،‬الذين ظّلوا يترددون على المطار مع كل موعد لوصول طائرة‬
‫من بيروت‪.‬‬
‫ن محمد خلوي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫قرأنا‬ ‫الصبيان‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫تنسب‬ ‫ُ‬ ‫دت‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫غ‬ ‫و‬ ‫البطال‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫تنسب‬ ‫ُ‬ ‫كانت‬ ‫في أوطان‬
‫ً‬
‫ل لسابيع ل يمشي إل محاطا بخمسة حراس ل‬‫ّ‬ ‫الطالب السابق في "ستار أكاديمي"‪ ،‬ظ ّ‬
‫يفارقونه أبدًا‪ ..‬ربما أخذ الولد مأخذ الجد لقب "الزعيم" الذي أطلقه زملؤه عليه!‬
‫ولقد تعّرفت إلى الغالية المناضلة الكبيرة جميلة بوحيرد في رحلة بين الجزائر وفرنسا‪،‬‬
‫م من مؤونة غذائية لبنها الوحيد‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ملة بما تحمله أ ّ‬ ‫مح ّ‬ ‫وكانت تسافر على الدرجة القتصادية‪ُ ،‬‬
‫وه على‬ ‫ُ‬
‫وشعرت بالخجل‪ ،‬لن مثلها ل يسافر على الدرجة الولى‪ ،‬بينما يفاخر فرخ ُولد لت ّ‬
‫ضَعت تحت تصّرفه‪،‬‬ ‫قل إل ّ بطائرة حكومّية خاصة‪ ،‬وُ ِ‬ ‫بلتوهات "ستار أكاديمي"‪ ،‬بأنه ل يتن ّ‬
‫لنه رفع اسم بلده عاليًا!‬
‫من يسألني عن معنى "دي دي واه"!‬ ‫مة َ‬‫م أواه‪ ..‬مازال ث ّ‬ ‫وة إل ّ بالّله‪ ..‬أواه‪ ..‬ث ّ‬‫ول حول ول ق ّ‬

‫وتها‬
‫قَدر الفراشة وق ّ‬
‫ل صيف ُتوّرطني الفراشات الليلّية في أسئلة أكبر من أجنحتها‪ .‬ع َب ََثــا ً أقول‪ ،‬إنني لست‬ ‫ك ّ‬
‫معنّية بقدرها‪ ،‬بعد أن عجزت عن منعها من الحتراق‪.‬‬
‫"هل يمكن أن تحمي أحدا ً من قدره؟" سؤال قّلبته فلسفيا ً ودينيا ً وشعريا ً وعشقيًا‪،‬‬
‫دة جناحيها )عكس فراشة الحقول(‬ ‫ملتي حزنًا‪ .‬الفراشة الليلّية تنام وتموت َفارِ َ‬ ‫فزادتني تأ ّ‬
‫الدقيقة في حياة فراشة تساوي ‪ 3650‬دقيقة من حياتنا‪ .‬أتكون جاءت فقط لتموت ليل ً‬
‫مأخوذة بالنور؟ وقبل أن توجد الكهرباء‪ ،‬أين كانت تعثر الفراشات الليلّية على قاتلها؟ وهل‬
‫ف للنور؟ وهل الدقائق التي تقضيها على‬ ‫كانت تموت أكثر حزنا ً لنها ترحل من دون أن ُتز ّ‬
‫ب"‪ ،‬تبدو لها قصيرة‪ ،‬أم طويلة بما يعادل سنوات من‬ ‫الرض في انتظار "محرقة الح ّ‬
‫ن‬
‫ت في دمي"‪ ،‬أم نح ُ‬ ‫من قالت "والثواني جمرا ٌ‬ ‫الترّقب بالنسبة إلى امرأة عاشقة؟ أهــي َ‬
‫النساء؟‬
‫كُأنثى‪ ،‬أتعاطف مع الفراشات‪ ،‬وككاتبة‪ ،‬أطالب بسمائها سقفا لحريتي‪ .‬فـ"حتى تحليق‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫الفراشة البسيطة يحتاج إلى السماء كّلها"‪ ،‬حسب پول كلوديل )الذي على الرغم من قوله‬
‫دد في التواطؤ مع‬ ‫حات الشهير رودان‪ ،‬لم يتر ّ‬ ‫هذا حين أحّبت أخته كامي كلوديل الن ّ‬
‫ح‬‫ّ‬ ‫مص‬ ‫إلى‬ ‫بها‬ ‫ويبعث‬ ‫الوكسجين‪،‬‬ ‫عنها‬ ‫يمنع‬ ‫أن‬ ‫تماثيله‪،‬‬ ‫"رودان" الذي خّلدها في أشهر‬
‫عقلي حيث أنهت حياتها(‪ .‬وحدها الفراشات ل يمكن سجنها‪ .‬على الرغم من لوثة النونر‬
‫التي تولد بها‪.‬‬
‫دي‪ ،‬عندما ليل في "كان" أفتح نافذة شرفتي التي‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ك ّ‬
‫ل صيف أراقبها‪ ،‬تتواطأ مع الحّر ض ّ‬
‫ل ليلي‪ ،‬فتهجم على مصباح "اللوجين" ذي الضاءة‬ ‫ي أقضي فيه ج ّ‬ ‫ّ‬ ‫زجاج‬ ‫مكتب‬ ‫إلى‬ ‫ولتها‬ ‫ح ّ‬
‫العالية‪ ..‬والعارية‪ ،‬فتصطدم "بلمباته" المستطيلة فائقة الشتعال‪ .‬وفي دقائق تتساقط‬
‫لخرى‪ ،‬أو تبقى عالقة بالمصباح‪ ،‬تاركة في الجوّ رائحة شـي جسدها‬ ‫أرضا الواحدة تلو ا ُ‬
‫الصغير‪.‬‬
‫مشكلتي‪ ،‬في كوني أحتاج إلى إضاءة قوية للكتابة‪ ،‬حتى أبقى مستيقظة‪ .‬فأنا ل أكتب إل ّ‬
‫ن موجة الحّر التي عرفتها فرنسا في العوام الخيرة‪ ،‬ومات بسببها عشرات‬ ‫مإ ّ‬ ‫لي ً‬
‫ل‪ .‬ث ّ‬
‫الشخاص‪ ،‬تجعلك مرغما ً على فتح النوافذ‪ ،‬بحثا ً عن نسمة ليلّية‪.‬‬
‫ل مساء أجدني أمام الخيارات الثلثة إّياها‪ :‬أن أغلق النافذة و"أفطس" من الحّر‪،‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬ك ّ‬
‫أو أفتحها فتحترق الفراشات‪ ،‬أو ُأطفئ الضاءة القوية فأستسلم فورا ً للنوم‪ ،‬وأخسر ليلة‬
‫كتابة‪.‬‬
‫ص الذي كنت سأكتبه‪ ،‬إن‬ ‫ّ‬ ‫الن‬ ‫هذا‬ ‫الجحيم‬ ‫إلى‬ ‫ليذهب‬ ‫قراري‪،‬‬ ‫أحسم‬ ‫فراشة‪،‬‬ ‫ول‬‫ّ‬ ‫أ‬ ‫جثة‬ ‫أمام‬
‫دعي بعده‬ ‫كانت كتابته تستدعي موت سرب من الفراشات‪ .‬كيف لي أن أسَعد به وأن أ ّ‬
‫أنني "شاعرة"‪ ،‬بل ومؤمنة‪ ،‬إن كنت أدري في سّري أنني دّونته على غبار أجنحة‬
‫الفراشات المحروقة التي دخلت بيتي مبتهجة فسلمتها إلى حتفها؟‬
‫"تاباكوف"‪ ،‬صاحب رواية "لوليتا" الشهيرة‪ ،‬كان لفرط شغفه بالفراشات‪ ،‬يهوى جمعها‬
‫وتجفيفها‪ ،‬حتى إنه نجح في اكتشاف فراشة جديدة لم يكن عرفها أحد‪ ،‬فأطلق العلماء‬
‫ُ‬
‫ضل أن ُيقال إنني كاتبة لم تؤذ‬ ‫عليها اسمه‪ .‬ل أريد أن ُيطَلق اسمي على فراشة‪ ،‬أف ّ‬
‫فراشة بقلمها‪ ،‬لكنها ظّلت حتى آخر عمرها تحارب التماسيح والثعالب وأسماك القرش‪.‬‬
‫ل مخلوقات الّله بما يليق بها من رحمة‪ ،‬وأعجب‬ ‫لنني مؤمنة‪ ،‬ولن الدين معاملة‪ُ ،‬أعامل ك ّ‬
‫ي جاءنا في حملة تبشيرّية‪ ،‬ليهدينا إلى "معسكر الخير"‪" :‬قتل الناس‬ ‫أن يقول جندي أميرك ّ‬
‫في العراق ُيشبه "سحق نملة"‪ ،‬والجندي المؤمن الذي اغتصب الفتاة الصغيرة "عبير"‬
‫وقَت ََلها مع ثلثة من أهلها‪ ،‬صّرح وهو يغسل يديه من "كاتشاب" دمها‪" :‬هناك تقتل شخصا ً‬
‫م تقول‪ :‬حسنًا‪ ،‬لنذهب لتناول )البيتزا("‪.‬‬ ‫ث ّ‬
‫في "الفارويست" ل توجد فراشات‪ ،‬ولذا معذور هذا "الكاوبوي" إن لم يَر في حياته‬
‫ي العظيم ريمون جبارة‪ ،‬حين كتب مّرة‪:‬‬ ‫كر في المسرح ّ‬ ‫فراشة‪ ،‬ول حاول رسمها‪ُ .‬أف ّ‬
‫ل الهل بأن ُيعّلموا أطفالهم كيف يرسمون فراشة‪ ،‬لن الذي يرسم فراشة ل‬ ‫"أنصح ك ّ‬
‫يقتلها‪ ،‬وبالتالي ل يقتل الناس"‪.‬‬
‫ي مؤخرا ً بتحسين صورة أميركا في الخارج‪ ،‬دون جدوى‪ ،‬أن ُيعّلم‬
‫أقتــرح على بوش‪ ،‬المعن ّ‬
‫جنوده‪ ،‬بين شريحتي "بيتزا" يلتهمونهما‪ ،‬كيف يرسمون فراشة‪.‬‬

‫حنين إلى رمضان الغربة‬

‫أحسد أخي المقيم في فرنسا‪ ،‬ربما كانت إحدى مزايا الغربة‪ ،‬اكتساب المسلم فضيلة‬
‫دي والتشّبث بجذوره حتى ل تعبث الرياح المضادة بأغصانه‪.‬‬ ‫الصبر وتعّلمه التح ّ‬
‫ل مسلم مّتهم حتى‬ ‫ً‬
‫ن المسلمين التقياء يزدادون إيمانا في الغربة‪ ،‬حيث ك ّ‬ ‫ولذا‪ ،‬أعتقد أ ّ‬
‫ده ليبقى قويا ً وعلى أهبة‬ ‫ّ‬ ‫ض‬ ‫نفسه‬ ‫يؤسس‬ ‫شيء‬ ‫إلى‬ ‫يحتاج‬ ‫ب‬
‫ُ ّ‬‫ح‬‫كال‬ ‫فاليمان‬ ‫إثبات براءته‪،‬‬
‫الدفاع عن وجوده‪.‬‬
‫ممّنية نفسي ببعض ما‬ ‫ُ‬ ‫قصدته‬ ‫الذي‬ ‫لبنان‪،‬‬ ‫في‬ ‫إقامتي‬ ‫على‬ ‫سنوات‬ ‫مرور‬ ‫أدرك هذا‪ ،‬بعد‬
‫طشت إليه طوال خمس عشرة سنة من غربتي الفرنسّية‪ ،‬من أجواء إسلمّية كنت‬ ‫تع ّ‬
‫ق ل أرى فيه عربيًا‪ ،‬إل ّ وهو‬ ‫ي را ٍ‬‫أفتقدها‪ ،‬خصوصا ً في شهر رمضان‪ ،‬يوم كنت أقيم في ح ّ‬
‫يكنس الشوارع‪ ،‬أو يعمل في ورشة بناء‪ ،‬أو يبيع خضارا ً في سوق الحد‪.‬‬
‫ل مغترب‪ .‬ومن‬ ‫ي لك ّ‬ ‫من هؤلء البسطاء‪ ،‬تعّلمت التقوى‪ ،‬وضرورة اليمان كزاد ٍ يوم ّ‬
‫حاجتهم وجوعهم وصبرهم على ظلم أرباب عملهم في رمضان‪ ،‬ومواصلتهم الستيقاظ‬
‫فجرًا‪ ،‬وعودتهم لبيوتهم النائية أحيانا ً بعد أذان المغرب‪ ،‬وإصرارهم على شراء لحوم من‬
‫ل عيد أضحى‪ ،‬وعلى إعداد نسائهم الحلويات‬ ‫ملحمة إسلمّية‪ ،‬وعلى ذبح خروف ك ّ‬
‫ل عيد فطر‪ ،‬منهم أدركت قول المام علي )رضي الّله عنه( "ذروة الزهد‪،‬‬ ‫بأنفسهن ك ّ‬
‫دعاًء‪ .‬وبسبب‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫إخفاء الزهد"‪ .‬فقد كانوا يعيشون شهر رمضان تقّربا إلى الله‪ ،‬ل تشاوفا ول ا ّ‬
‫هؤلء جعل الّله الصيام فرضا ً ل يتساوى في ثوابه الصائمون‪.‬‬
‫دق عاما ً بعد آخر‪ ،‬أن رمضان ليس سوى موسم تجاري‪ ،‬و"هيصة"‬ ‫ُ‬
‫في بيروت أكاد أص ّ‬
‫فضائية‪ ،‬ووليمة تلفزيونية للمعلنين‪ ،‬وحالة انتخابية‪ ،‬يفتح فيها السياسيون أبوابهم مّرة في‬
‫السنة‪ ،‬لملء بطون الناخبين‪.‬‬
‫في فرنسا‪ ،‬ما كان على أيام غربتي "دش" ول فضائيات عربية‪ .‬كنت أصوم وأفطر على‬
‫ن أطفالي‬ ‫ُ‬
‫حميمّية المذياع‪ ،‬ول أعاشر غير "إذاعة الشرق"‪ .‬ولعدم وجود شّغالة‪ ،‬ولصغر س ّ‬
‫الذين ما كانوا يتركون لي وقتا ً لعداد أطباق رمضانية‪ ،‬كثيرا ً ما كان ينتهي بي النهار أمام‬
‫صحن شوربة "ماجي" وشيء من الحليب والتمر‪ .‬أشهى ما على مائدتي كان القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬الذي كنت أستمع له قبل وبعد رفع أذان المغرب‪ .‬وكثيرا ً ما كنت أبكي عندما ُترَفع‬
‫ت عادة‬ ‫كة وحدها كانت كافية لُتبكيني‪ .‬اليوم‪ ،‬فقد ُ‬ ‫الصلوات من مكة المكرمة‪ .‬فكلمة م ّ‬
‫ي الفضائيات رهبة صيامي وخلوتي مع الّله‪.‬‬ ‫البكاء وأنا أستمع لمذياع‪ ،‬بعد أن أفسدت عل ّ‬
‫في فرنسا‪ ،‬كنت ُأمّني نفسي بصلة التراويح‪ ،‬ولم أستطع إل ّ نادرا أن أقصد "مسجد‬
‫ً‬
‫باريس" برفقة أخي لداء صلة الجمعة أو صلة العيد‪ .‬وكنت ألمح سيارات الشرطة جاثمة‬
‫في محيط المسجد‪ ،‬فيزيدني ذلك إيمانا ً ويملني عنفوانًا‪ .‬ومذ جئت إلى بيروت لم أقصد‬
‫ت أحدا ً يشجعني على ذلك أو يدعوني إليه‪ .‬الدعوات جميعها تأتيني‬ ‫مّرة مسجدا ً ول وجد ُ‬
‫للمشاركة في برنامج تلفزيوني ترفيهي‪ ،‬أو الفطار في فندق فاخر‪ ،‬أو السحور في خيمة‬
‫رمضانية‪.‬‬
‫ل أحد‪ ..‬ول حتى أختي صوفيا التي أقامت سنوات في بيروت‪ ،‬ونقلت عاداتنا في إعداد‬
‫ي‪ ،‬منقطعة عن كل شيء‪،‬‬ ‫طاولة إفطار شهّية‪ ،‬تفّهمت إصراري على البقاء في بيتي الجبل ّ‬
‫قل‬ ‫ً‬
‫ب من أطباق جزائرية‪ ،‬بذريعة توفير ساعات أهدرها يوميا في التن ّ‬ ‫ما أح ّ‬ ‫محرومة حتى م ّ‬
‫ذبت‬ ‫بين برمانا وبيروت‪ .‬في الواقع‪ ،‬لقد تركت سنوات الغربة بصماتها على نفسي‪ ،‬وه ّ‬
‫دت حاجتي في رمضان إلى سكينتي‪ ،‬تفوق حاجتي إلى الولئم‪.‬‬ ‫حواسي‪ ،‬حتى غ َ َ‬
‫ما يصدمني حقا ً في الحياء السلمّية‪ ،‬منظر المسلمين الذين بذريعة مرضهم أو سفرهم‪،‬‬
‫مجاهرة بإفطارهم‪ .‬فحتى في فرنسا كان المسلمون يستحون‬ ‫ل يجدون أي خجل في ال ْ ُ‬
‫ي الصيام أولى الفرائض السلمية‪.‬‬ ‫من العتراف بأنهم مفطرون‪ .‬ففي المغرب العرب ّ‬
‫دعاء بعد ذلك أنهم مسلمون أكثر من شغالتي‬ ‫ول أدري كيف أن في إمكان هؤلء ال ّ‬
‫الثيوبية السابقة‪ ،‬التي على الرغم من هروبها في "كان"‪ ،‬حيث رافقتني قبل سنة‪ ،‬يشفع‬
‫صال‪ .‬إحداها كونها‪ ،‬وهي المسيحية والقادمة من بلد ُيفتَرض أنه‬ ‫خ َ‬‫لها في قلبي بعض ال ِ‬
‫يعاني مجاعة‪ ،‬رفضت على مدى خمس سنوات تناول أي شيء في حضرتي وأنا صائمة‪،‬‬
‫كد من أنني أفطرت‪ ،‬ما جعلني أدعوها معي كّلما كان زوجي‬ ‫ول جلست للكل حتى تتأ ّ‬
‫دتها لي بمحّبة‪ .‬وكنت وأنا أفطر على‬ ‫على سفر‪ ،‬فنجلس متقابلتين أمام سفرة شهّية أع ّ‬
‫أّول كوب ماء‪ ،‬أسمعها تتمتم بلغتها دعوات تستأذنني في قولها‪ ،‬فتعيدني رهبتها إلى زمن‬
‫سابق‪ ،‬فأحسدها على إيمانها وأشتاق إلى زمن غربتي‪.‬‬
‫شكرًا‪ ،‬أو غنيا ً اختبره‬
‫ت من الناس إل ّ فقيرا ً اختبره الّله بالحاجة‪ ،‬ففاقني إيمانا ً و ُ‬ ‫فما حسد ُ‬
‫الّله بالمال‪ ،‬ففاقني عطاًء وإحسانا‪ً.‬‬

You might also like