Professional Documents
Culture Documents
ھذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم .عبارة عن جھد جبّار قام به مركز نون لل تأليف والترج مة ،ح يث ت ّم مطال عة
ومراقبة الدورة العقائديّة الكاملة للشھيد مرتضى مطھّري قدس سره المؤلّفة من خمسة مجل ّدات في الل غة العربي ّة ،ث ّم
مقابلتھا باللغة الفارسيّة وعمد إلى تفادي بعض األخطاء الموجودة في الترجمة ،وإلى تصحيح بعض العبارات ،ث ّم قام
المركز بالتوحيد والتأليف ب ين المطا لب المتفرّ قة في أن حاء ھذه ا لدورة ،وجمع ھا ب شكل عل ميّ ومو ضوعيّ ،و حذف
الموارد االستطراديّة التي ُتناسب المحاضرات وال ُتناسب الكتب العلميّة الدراسيّة ،وترتيب ھذه األبحاث دروسا ً يسھل
ساليب العلمي ّة الم ّتب عة حديثا ً في ا لدروس،
َ على األستاذ تقديمھا ،وعلى الطالب االستفادة منھا ،وقد را عى المر ك ُز األ
من وضع األھداف والمختصرات واألسئلة ،لتكبر الفائدة من الكتاب.
كما وقام المركز بوضع عناوين للفقرات الطويلة ،ح ّتى يسھل على الطالب حصر الفكرة والموضوع المطروح.
فھذا الكتاب ھو فكر الشھيد مرتضى مطھّري قدس سره الموجود في ا لدورة العقائدي ّة الكام لة ،حرّ ره ولخ صه ورتب ّه
وراقبه وبوَّ به مركز نون.
نسأل ﷲ سبحانه وتعالى أن يزيد به أجر الشھيد ،وينفع به األمّة اإلسالميّة ويتقبّل ع مل المر كز إن ّ ه ِن عم المو لى و ِن عم
المجيب.
9
المؤمنين اإللھيّين ،بأ ّنھم الذين يعتقدون بأنّ العالم غير محدود ومحصور في إ طار عالم الطبي عة
َ يعرّ ف القرآن الكريم
والمادّة المسمّى بعالم الشھادة ،فھم يؤمنون بمسائل ترتبط بعالم وراء عالم المحسوسات ،وذلك العالم ھو عالم ما وراء
الطبيعة المسمّى بعالم الغيب.2
وعلى رأس ھذه المسائل ھي مسألة التوحيد ،بمعنى االعتقاد بأصل وجود ﷲ ،3و قد صرّح بذلك أ مير ال مؤمنين عل يه
السالم حيث يقولّ " :أول الدين معرفته".4
وقبل الدخول في البحث ،ال ب ّد من تقديم بعض المق ّدمات:
11
األول :ھي المسائل التي تكمن صعوبتھا في معرفة طريقة حلّھا ،مع كون عرضھا -كمسألة -في غاية ال سھولة، القسم ّ
فيعرضھا الجميع بنحو واحد ،وذ لك من قب يل م سائل الريا ضيّات) ،و ھذا ما يُعب ّر ع نه في المن طق بأنّ الم شكلة في
التصديق ال في التصوّ ر(.
القسم الثاني :ھي المسائل التي تكمن مشكلتھا في فقدان العرض الصحيح والتصوّ ر السليم لھا ،ممّا يثير إ شكاالت في
لة من ا لزمن دون جدوى ،بين ما حلّھا ،وذلك من قبيل الم سائل الفل سفيّة ،ف قد يب حث المفك ّ ر عن ح ّل م سألة فتر ًة طوي ً
تكمن مشكلته في أ ّنه وضع من األساس تصوّ راً خاطئا ً لھا .فاألساس في مثل ھذه المسائل ھو الت صوّ ر ا لذھني ال سليم،
ممّا ال يجعل مشكلة في التصديق) ،وھذا ما يصطلح عليه في المنطق بأنّ المشكلة في التصوّ ر ال في التصديق(.
وفي مورد بحثنا ،وھو مسألة التوحيد ،فإنّ ھذه المسألة تعتبر من القسم الثاني ،حيث اإل شكاالت ا لتي ت ثار حول ھا ھي
نتيجة عدم العرض الصحيح لھذه المسألة الجليلة ،وسنوضّح ذلك بالمثال.
يذكر العلماء بأنّ مسألة التوحيد ھي مسألة فطري ّة ،مم ّا أ ثار في األذ ھان اعترا ضات وإ شكاالت ،بأن ّ ه لو كان كذ لك
صحيحاً ،لما انقسم الناس ،في ك ّل عصر وعلى مختلف الطبقات -حتى العلماء ،إلى معسكرين ،أحدھما يؤمن بالتوح يد
واآلخر ينكره!
12
فعلى األقلّ ،ال تقو لوا إنّ م سألة التوح يد فطري ّة ،بل ھي مع ضلة فكري ّة ع جز اإلن سان عن التوص ّل إ لى ح ّل يقي نيّ
ضروريّ بشأنھا.
والجواب :إنّ الشبھات المثارة حول مسألة التوحيد تعود إلى تصوّ رھم وعرضھم غير الصحيح لھذه المسألة ،فھم مثالً
يت صوّ رون مو جوداً مادي ّا ً يطل قون عل يه ا سم )ﷲ( ،ثم ي ثيرون ال شبھات وال شكوك حو له .وأم ّا لو عُر ضت الم سألة
بصورتھا السليمة ،لما وقعت ھذه الشبھات ،ولذا يمكن أن نعبّر عن مسألة التوحيد بأ ّنھا من )السھل الممتنع(.
إذاً ،فاألولويّة في م سألة التوح يد ھي ال عرض ال سليم ل ھا .وھ ناك عدّة أ مور ال ب ّد أن يالحظ ھا البا حث ع ند الت حرّك
للبحث في مسألة التوحيد.
سليم ل ھذه
ٍ عرض
ٍ مور تؤث ّ ر في ت كوين
إذا أردنا البحث في إثبات وجود ﷲ أو عدمه ،فال ب ّد من االلت فات إ لى ع ّدة أ ٍ
المسألة:
األول :يشمل األشياء التي يُراد إثبات وجودھا كموجود مستقل يضاف إلى بقية الموجودات ،ك ماإذا أر يد إث بات و جودّ
ّار جدي ٍد نضيفه إلى مجموعة الكواكب السيّارة ،حيث نثبت وجو َد شي ٍء إلى جانب األشياء.
ٍ ي س ب
ٍ كوك
13
كان ما من ھذا ال عالم -أي بالطري قة نف سھا ا لتي يب حث في ھا الفل كيّ عنكعنصر إ لى جا نب العنا صر األ خرى في م ٍ
ّار جديدٍ ،فإ ّنه لن يفلح أبداً في إثبات وجوده أو الع ثور عل يه .ويخت لف ال حال في ما لو كوّ ن ت صوّ راً صحيحا ً
ب سي ٍكوك ٍ
ً ً ّ
للزمان ،وأنه يمثل بعدا لألشياء ومعھا يضاف إلى أبعادھا الثال ثة -ال طول وال عرض والع مق.ول يس جزءا من أ جزاء ّ
عالم الطبيعة يقع إ لى جنب ھا ،فيتم حور بح ثه ع نه في دا ئرة و جود ُب ع ٍد وام تدا ٍد آ خر لمو جودات عالم الطبي عة ي سمّى
)الزمان(.
ومسألة التوحيد ھي من قبيل النوع الثاني .ومثال الزمان يقرّ ب الفكرة في نوعي ّة التوح يد ا لذي ي ُراد إثبا ته ،إال أن ّ ه ال
عز وج ّل ليس بعداً وامتداداً في األ شياء ،ولكن ّه ينب ّه إ لى أ ّن نا حين ما نب حث في التوح يد، ينطبق عليه بالكامل ،فإنّ ﷲ ّ
م
ك ْنت ُ ْ
ما ُ
ن َ َ
ُم أ ْي َ م َ
عك ْ و َ
وھُ َل مكانا معيّنا وسط بقية الموجودات ،بل عن موجو ٍدَ ﴿ : ً ً فنحن ال نبحث عن وجو ٍد محدو ٍد يحت ّ
م َو ْج ُه ﷲ ،﴾7ومو جود صدرت م نه المو جودات جمي عاً، َ ﱡ
ولوا ف َث ﱠما تُ َ َ
﴾ ،6وموجود قد أحاطت ذاته بكل األشياء﴿ :فأ ْي َن َ
َ
م﴾.8ي ٍء عَ لِي ٌ
ش ْ
ل َ
ك ِّ
و بِ ُ
وھُ َ ھ ُر َوا ْلبَاط ُ
ِن َ خ ُر َوالظﱠا ِ اآل ِ ل َو ْ األَ ﱠ
و ُ وإليه تعود ،فھو أوّ لھا وآخرھا﴿ :ھُ َ
و ْ
اإللھي:
ّ ثانيا ً :االلتفات إلى خصوص ّية الوجود
من األمور التي ال ب ّد للباحث أن يالحظھا عند وضعه الت صوّ ر ال صحيح لم سألة التوح يد ،ھو أن يأ خذ بع ين االعت بار
ي ٌء.﴾9
ش ْ
ه َم ْث ِل ِ
ك ِ خصوصيّة أنّ ما يريد إثباته ھو وجو ٌد ليس كمثله وجو ٌد﴿ :لَ ْي َ
س َ
14
اإللھي:
ّ ثالثا ً :االلتفات إلى مفاھيم ترتبط بالوجود
وأخيراً فال ب ّد للباحث أن يراجع المفاھيم المرتبطة با ج ّل و عال ،فإنّ و جوده -ال مراد إثبا ته -مرتبط ب ھذه الم فاھيم،
ب الْع ِ ﱠز ِة عَ ﱠمـا يَصِـ ُفونَ ﴾ ) ،10سبحان رب ّي العظ يم( ،فو جوده و جو ٌد ّ
منزهٌ و قدوسٌ ، حانَ َرب ّ ِ َ
ك َر ّ ِ وذلك من قب يلُ ﴿ :
س ْب َ
شكل من أشكال الح ّد والنقص.ٍ وكذلك) :ﷲ أكبر( فھو أكبر من أن يوصف ومن أن يعتري وجوده أيّ
ظھرت في التاريخ الحديث وفي أوروبا فكر ٌة تقول بأنّ اإلنسان عاج ٌز عن إث بات و جود ﷲ أو نف يه ،ذ لك أنّ الو سائل
المتاحة لإلنسان واألدوات التي يمتلكھا تنحصر في دا ئرة ال حواس ،وتنت مي إ لى اكت شاف عالم ال مادّة ،وال يمكن ھا أن
تطال عال َم ما وراء الطبيعة ،فال يمكن إثبات وجود ﷲ ،أل ّنه ليس من الموجودات المحسوسة ،ولذلك ،فحريّ باإلن سان
أن يتو ّقف في ھذه المسألة المشكلة.
إال أنّ أصحاب ھذا الرأي قد أخطأوا في حصرھم دائرة علم اإلنسان باألمور المحسوسة ،فقد غفلوا عن قدرات أخرى
لإلنسان ،وھي القدرة الفكريّة -العقلية -التي تؤھّله للبحث وإصدار األحكام بشأن مسائل غير محسوسة ،و لذلك نرى
كثير من األ شياء ونث بت وجود ھا دون أن ن حسّ ب ھا ،فال نقت صر ع لى إدراك المحسو سات ،فيُن قضٍ أ ّننا ندرك وجود
على ھؤالء بما نثبته من أمور غير محسوسة ،كوجود العليّة -وھي العالقة واالرتباط الوجوديّ القائم ب ين شيئين ،بأن
يكون وجود الشيء )أ( سببا ً لوجود آخر )ب( ،-11وكذلك ما يحكم اإلنسان
15
بكونه ضرور ّيا ً وما يقابله من المحال ،كما يت عاطى الريا ضيّ ع ندما يث بت أنّ مج موع زوا يا المث لث ي ساوي مج موع
زاويتين قائمتين ،فيعتبر ذ لك ب عد أن يبرھن عل يه ضرور ّياً ،ويع تبر غيره -بأن ي كون مج موع زوا ياه أ كثر أو أ ق ّل-
محاالً .فمسألة كون الشيء محاالً أو ضرور ّيا ً مسألة بديھيّة ،مع أ ّنھا تحمل مفھوما ً يقع خارج دائرة المحسوسات ،ك ما
12
أقرّ العلم بوجود الزمان ،مع أنّ اإلنسان ال يمكن أن يدركه بأيّ حاسّة من حواسّه....
وھنا يُطرح سؤا ٌل آخر ،وھو حول تم ّكن العقل البشريّ من تصوّ ر ﷲ.
تصور ﷲ:
ّ قدرة العقل على
تصور ﷲ ّ
عز وجلّ: ّ ث ّمة ثالثة أقوال في مسألة تم ّكن العقل من
1ـ ذھب العرفاء إلى عدم إمكانيّة المعرفة العقليّة ،لك ّنھم في المقابل أيّدوا إمكانيّة المعرفة القلبيّة الشھوديّة ،وأسبغوا
على ھذه المعرفة قيمة فائقة ،فاعترضوا على من يريد أن )يتعلّم من كتاب العقل آية العشق(.13
2ـ نفى آخرون ك ّل معرف ٍة ،وا ّدعوا أنّ تصوّ ر ﷲ خارج عن قدرة الفكر البشريّ ،ألنّ تصوّ ر أيّ شي ٍء ھو لون من
اإلحاطة العلميّة به ،فما يرد إلى الذھن الب شريّ م حدو ٌد ،وا لذات اإللھي ّة ال يم كن اإلحا طة ب ھا ،ألنّ ذا ته مطل ٌ
قة غ ير
محدودة.
ّ
المعطلة إلى أنّ المطلوب ھو االعتقاد المبھم كحال عامة الناس وأنكروا امكان معرفة ذات الباري. من ھنا ،ذھب
16
يقول أمير المؤمنين في ن ھج البال غة) :ا لذي ال يدر كه ب عد الھ مم ،وال ينا له غوص الف طن( ،14و في خط بة أ خرى:
)وأن ّ ك أ نت ﷲ ا لذي لم تت نا َه في الع قول فت كون في م ھبّ فكر ھا مك ّي فاً ،وال في روي ّات خواطر ھا فت كون م حدوداً
مصرّ فا ً( ،15كما ورد في بعض النصوص) :احتجب عن العقول كما احتجب عن األبصار(.16
المعطلة ،من عجز العقل البشريّ عن معر فة ﷲ ،غير صحيح، ّ 3ـ وھناك جماعة من العلماء يقولون :انّ ما طرحه
ّ
المعطلة -النصوص بشكل خاطئ ،فإن ما تفيده ھذه الروايات ھو أنّ لإلمكانات العقلي ّة الب شريّة في معر فة وقد فھم -
ﷲ حدوداً معيّنة ال يمكن تجاوزھا وھو الصحيح.
ولذلك ،يوجد في روايات المعصومين عليھم السالم توجي ھا ً للم سيرة العقلي ّة الب شريّة ،ع لى خالف ما ي ُدّعى من أ ّن ھا
منعت العقل عن ورود ھذا المع ين ،ي قول أ مير ال مؤمنين عل يه ال سالم ك ما روي ع نه ) :لم يُط لع الع قو َل ع لى تحد يد
صفته ،ولم يحجبھا عن واجب معرفته(.17
بل نحن نرى أنّ عل ّيا ً عليه السالم قد طرح أبحا ثا ً عمي قة ج ّداً وبطري قة ا ستدالليّة عقلي ّة وفل سفيّة في م جال اإللھي ّات،
أبحاثا ً ليس لھا سابق في تاريخ الفكر الفل سفيّ ،18و قد لع بت و صاياه دوراً ھام ّ ا ً في االھت مام باألب حاث اإللھي ّة العقلي ّة
وفي تطويرھا.
17
تصور ﷲ:
ّ كيف ّية
ّ
عز وجلّ عبر عقولنا: تصورنا
ّ التعرض لكيف ّية
ّ ولتت ّمة البحث ،ال بدّ من
ال يمكن أن يرد تصوّ ر ﷲ إلى الذھن عن طريق الحواس ،ذلك أنّ مدركاتنا الحسيّة م حدودة ومقي ّدة وﷲ ت عالى حقي قة
مطلقة ،ال تنسجم المحدوديّة مع ذاته ،19فھل يمكن تصوّ ره؟
مصداق ح سيٌّ ليت س ّنى ت صوّ رھا ،بل ھو ت صوّ ر لسل سلة
ٌ إنّ تصوّ ر ﷲ ليس من نوع الماھيّات التي يلزم أن يكون لھا
من المعاني والمفاھيم )المعقوالت الفلسفيّة الثانية( ،والتي ينتزعھا العقل مباشرة من الصور الحسيّة والخيالي ّة ،وي كون
تصورّ ه لھا في الذھن كل ّيا ً.
والنتيجة أنّ العقل الفلسفيّ قادر على معرفة ﷲ ضمن إطار المفاھيم العامّة
18
بال حاجة إلى مصداق حسيٍّ خارجيّ ،ويستطيع أن يحكم على ھذه المفاھيم ،ممّا يؤسّس إلى علم معرفيّ برھانيّ .20
عندما نبحث في مسألة التوحيد عن إثبات وجود ﷲ ،فال ب ّد أن نبحث عن صفح ٍة خفي ّ ٍة خارج إ طار الز مان والم كان،
فال نبحث عن موجو ٍد نريد أن نعرف متى كان ،كما ال نبحث عن موجو ٍد نسأل عنه أين ھو؟ ،أل ّن نا نب حث عن و جو ٍد
كليٍّ ومحيطٍ باألشياء ،عن حقيق ٍة كامل ٍة مطلقةٍ ،وليس عن شي ٍء كسائر األشياء.
وعلى ھذا األساس نفھم أنّ النقاش الدائر حول النظريتين بشأن أبعاد العالم والفضاء الكوني ،وأ ّنه ھل له نھا ية م ح ّددة
يؤثر على مسألة إثبات وجود ﷲ ،خالفا ً لما يتوھّمه البعض .وتوضيح ذلك: 21أو أنه غير متناه ،22ال ّ
19
والجواب :أنّ الموجود الذي ي ّتخذ لنفسه مكانا ً إلى جوار العالم ليس إلھا ً في الواقع ،واإلله الحقيقيّ ال يحتاج في وجوده
و ﷲ فِـي إلى مكان خاصّ به ،بل ھو موجو ٌد في األرض وفي السماء وفي جميع المو جودات ع لى ح ّد سواءَ ﴿ :
وھُ ـ َ
م َو ْج ُه ﷲ﴾.24 ولﱡوا َ
ف َث ﱠ فأَ ْي َن َ
ما تُ َ األ َ ْرضَِ ﴿ ،﴾23
ما َواتِ َوفِي ْ
الس َ
ﱠ
تناھي الزمان:
أمّا المسألة الثانية ،ف ھي م سألة ت ناھي الز مان ،ح يث يمھ ّد ك ثي ٌر من الموحّ دين األوربي ين لم سألة االعت قاد بو جود ﷲ
ية ،ألنّ ﷲ ھو ا لذي خ لقبمحدوديّة الزمان ،فيتوھّمون بأ ّنه لنتم ّكن من إثبات و جود ﷲ ،فال ب ّد أن ت كون للز مان بدا ً
تالزم حتميٍّ بين اإليمان با واالعتقاد بحدوث العالم )بأن ي كون لهٍ العالم والزمان .وبعبارة أخرى :يتصوّ رون وجود
نقطة بداية(.
وفي الواقع إنّ ھذه المسألة تش ّكل إحدى القضايا المھمّة التي اختلفت بشأنھا كلمة الموحّ دين م نذ ال قدم ،فالمتكلّمون ھم
الذين يعتقدون بما تقدّم من ضرورة حدوث العالم ،ويقع على الطرف النقيض منھم الفال سفة ح يث يرون ع كس ذ لك،
ونبيّن النظريّة التي يعتقد بھا الفالسفة في ما يلي:
ً
قاطبة -أنّ اإليمان با يستلزم االعتقاد بعدم وجود بداية للعالم ،فإنّ و جود ﷲ ب ح ّد يعتقد الفالسفة اإللھيّون المسلمون-
منزه عنذاته دلي ٌل على عدم وجود بداي ٍة للعالم الكونيّ ،ألنّ وجوده ھو الو جود الكا مل وال تا ّم من جم يع الج ھات ،وال ّ
جميع أشكال الوجود بالقوّ ة واالستعداد ،فال يمكن أن يكون فاقداً لشي ٍء ث ّم
20
يحصل عليه فيما بعد ،فھذا يعني أ ّنه واجب الوجود من جميع الجھات ،فكل ما فيه واجبٌ وضروريّ .
وھذا يصدق على فيضه وخالقيّته ،فال يمكن أن ال يكون خالقا ً م نذ األزل ث ّم ي صبح خال قا ً في ما ب عد ،فخالق ّي ته ال ب ّد أن
تكون غير محدودةٍ ،كما أنّ إلھيّته غير محدودةٍ ،ال في ذاتھا وال في أفعالھا.
وفي األدعية المأثورة ما يشير إلى ھذا المعنى ،مثل تع بير ) :يا قديم اإلح سان( ،ف ھو يف يد أنّ اإلح سان اإلل ھيّ -ا لذي
يعني الخلق واإليجاد وإيصال الفيض اإللھيّ إلى مخلوقاته -ھو إحسانٌ قدي ٌم وموجو ٌد دائما ً.
أمّا بالنسبة للمنطق القرآنيّ ،فھو عندما ي شير إ لى ھذا المو ضوع ،فإنّ غا ية ما يثب ته ھو كون ﷲ ھو ال خالق ،ي قول
ك ﷲ َربﱡ األَ ْ
م ُر تَبــ َا َر َ خ ْل ُ
ق َو ْ ي ٍء﴾ ،25وفي آية أ خرى﴿ :أَال لَ ُ
ه ا ْل َ ش ْ
ل َ
ك ِّ
ق ُ
خالِ ُ
و َ ُم ال إِلَ َ
ه إِ ﱠال ھُ َ ُم ﷲ َربﱡك ْ
ذلِك ُتعالىَ ﴿ :
ٌ
بداية أم ال. فرق بين أن يكون العالم محدوداً أو غير محدودٍ ،فا خلقه وكانت له ِـين﴾ sدون أن يكون ثمّة ٌ ا ْلعَالَم َ
ٌ
مخلوق؟! فالمخلوق ھو الذي لم يكن ث ّم كان؟! قد يسأل سائل :إذا كان العالم قديماً ،فكيف يمكن وصفه بأ ّنه
والجواب :إنّ المخلوقيّة -ومعلوليّة المعلول لعلّته -ال تستلزم كون المعلول
21
زمان ث ّم يظ ھر للو جود الح قاً ،بل يك في أن ي كون و جوده مفا ضا ً عل يه من غيره ،وأن ت كون ذا ته قائ ً
مة ٍ معدوما ً في
ّ
بغيره -بأن يكون ممكن الوجود ،بحيث يكون وجوده بعل ّ ٍة خار ج ٍة عن ذا ته .وإذا كان األ مر كذلك ،فال يؤث ر ف يه أن
يكون مسبوقا ً ٍ
بعدم أو ال.
دور في كون ال شيء مع لوالً ل غيره أو ال ،ف لو فر ضنا و جود شي ٍء من األزل إ لى األ بد،
ٍ إذاً ،ليس للعدم الز مانيّ أيّ
ً ً
ولكنّ وجوده مرتھنٌ بوجود ﷲ ومفاضٌ منه ج ّل وعال ،فإنّ ھذا الشيء يكون مخلوقا ومعلوال ،فـ )الحدوث ا لذاتيّ (
ّ
عز وج ّل. ً
مخلوقة لألشياء يكفي إلثبات كونھا
وبعبارة أخرى :إنّ معنى الخالق ھو أ ّنه القيّوم ،أي الذي يقوم به عالم الخلق.
وكذلك فإنّ الروح اإللھيّة لم ُتنفخ في الحيّ األوّ ل فحسب ،بل الحياة دائما ً وفي ك ّل األحوال ،سواء في البدا ية أم خالل
التكامل ،ھي فيض إلھيّ .
بفيض إل ھيٍّ ،كذلك جم يع الب شر .و لذلك ن جد ال قرآن ع ندما ي سرد قص ّة ال نبيّ آدم عل يه
ٍ ٌ
مخلوق فكما أنّ آدم أبا البشر
ً
السالم ،وبالرغم من أ ّنه يذكر مجموعة كبير ًة من الدروس والتعليمات ،فإ ّنه لم يستدل بخلقه عليه السالم على التوح يد،
وذلك لما أشرنا إليه من أنّ اإلفاضة لم تقتصر على آدم عليه السالم ليقتصر استدالل القرآن ع لى التوح يد بقص ّته ،بل
إفا ضة الح ياة من ﷲ ت ع ّم جم يع المخلو قات ،و بذلك ي ستد ّل ع لى التوح يد ،وال يتمس ّك في اال ستدالل ع لى التوح يد
بموضوع بدء الحياة والخليقة فحسب.
22
النتيجة:
يعتقد الفالسفة اإللھيّون بأنّ ﷲ خالق ھذا العالم الكونيّ بال حاج ٍة إلى سؤال :متى خل قه؟ ،ألنّ ﷲ م ستم ٌر في إفا ضته
ٌ
بداية أم ال. وخلقه لھذا العالم ،سواء كانت له
23
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
ـ يمتاز المؤمنون عن الماديّين بأ ّنھم يعتقدون بعالم الغيب ،باإلضافة إلى اعتقادھم بعالم الشھادة.
ـ ھناك عدّة مق ّدمات ال ب ّد منھا للوصول إلى نتيج ٍة صحيح ٍة في مسألة التوحيد:
أ -إنّ ما نريد إثباته ھو موجود في األشياء ومعھا ،وليس إلى جنبھا.
2ـ المقدّمة الثانية :ادّعى البعض بأنّ اإلنسان بأجھزته -الحواسّ -التي يمتلكھا ،عاج ٌز عن إدراك وجود ﷲ ،على
فرض كان موجوداً ،وھؤالء قد غفلوا عن إمتالك اإلنسان للقدرة الفكريّة التي تؤھّله إلصدار األحكام بشأن المسائل
غير المحسوسة.
ومطلق ،محيطٍ باألشياء ،فنبحث عنه خارجٍ 3ـ المقدّمة الثالثة :عندما نبحث عن ﷲ ،فال ب ّد أن نبحث عن وجو ٍد كليٍّ
يؤثر في إثبات وجوده كون المكان محدوداً أو ال ،وال كون الزمان متناھيا ً أو ال. دائرتي الزمان والمكان ،ولذا ،فال ّ
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1أين تكمن مشكلة التوحيد ،في التصوّ ر أو التصديق؟
-2ما ھي أھ ّم المسائل التي ينبغي رعايتھا للعرض الصحيح لمسألة التوحيد؟
-3ما ھي مشكلة من ادّعى عدم إمكان إثبات وجوده تعالى؟
-4ھل يستطيع العقل أن يتصوّ ر ﷲ؟ وكيف؟
-5ھل يقع البحث عن ﷲ في داخل دائرتي الزمان والمكان أو خارجھما؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1البقرة.3 :
بحواسـھم الخارجيّـة ،وھـذا من ال فوارق بيـنّ ويحسـون ب ھا مبا شرة
ّ ن الماديّين ال يؤمنون بأكثر من عالم الطبيعـة وال مادّة الـتي يشـھدونھا
-2في المقابل فإ ّ
ي ھـو الـذي ينكــر
الماديّين واإللھيّين .فيما يحاول البعض المغالطة في ذلك ،حيث يعتمد التمييز بينھما ـ كما نشاھد في الكتب الفلسفيّة األوروبيّة ـ بكون الماد ّ
ي الذي ينكر وجودھا ويؤمن بوجود الروح فحسب. وجود الروح ويؤمن بوجود المادّة ،في مقابل المثال ّ
واإليمان بوحدانيّته ،ونحن ھنا ننطلق من منطلق الترادف بينھما. -3سيأتي في البحوث الالحقة بحث التالزم بين اإليمان با
-4نھج البالغة /الخطبة األولى.
ي أكثرھم.
-5احتدم الجدل حول مسألة الزمان منذ أمد بعيد بين العلماء والفالسفة ،فنفى كثير وجوده ،فيما أثبته كوجود خارج ّ
-6الحديد.4 :
-7البقرة.115 :
-8الحديد.3:
-9الشورى.11 :
-10الصافات.180:
ي يم كن أن
ن التوالـي الزمـان ّ
ي ممكن حتى مع عـدم وجـود عليّـة ،كمـا أ ّ
ن التوالي الزمان ّ
ي ،فإ ّ
ھمه البعض من التوالي الزمان ّ -11وليس المراد من العليّة ما يتو ّ
تدركه العين ،من غير أن تحكم بارتھان وجود الثاني لوجود األوّل!
-12كذلك استحالة الدور والتسلسل.
ي إلى ﷲ ،والذي ھو طريق الفطرة إلى إثبات وجود ﷲ ،بـ) :العشق( ،وسيأتي ذلك في بحث طريق الفطرة. ي القلب ّ
-13يعبّر العرفاء عن االنجذاب الباطن ّ
-14نھج البالغة /الخطبة األولى.
-15نھج البالغة /الخطبة .89
-16تحف العقول -ص.245
-17م.ن /.الخطبة .49
دث عن التوحيد ،وھي مليئة بمثل األبحاث المذكورة. -18يمكن مالحظة خطب نھج البالغة الكثيرة التي تتح ّ
ن اإلدراكات الحسيّة من مقولة ال نعثر فيھا على تصوّر ﷲ. -19كما أ ّ
-20بالنسبة لتفاصيل كيفيّة معرفة ﷲ وصفاته ،فإنّھا ستأتي أخيراً ضمن البحث عن وحدانيّته وصفاته تعالى ،بعد أن نثبت وجوده في البحوث األولى.
-21كما يعتقد إينشتاين.
-22كما يذھب إليه موريس مترلينغ.
-23األنعام.3 :
-24البقرة.115 :
-25األنعام.102 :
-26األعراف.54 :
اﻟﺪرس اﻟﺜﺎﻧﻲ :ﻃﺮق اﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ،ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻔﻄﺮة
أھداف الدرس
25
ٌ
طرق أخرى ،1وھي كما يلي: طرق رئيسة ،يتفرّ ع عنھا
ٍ عام إلى ثالثة
بشكل ٍ
ٍ يمكن تصنيف طرق إثبات وجود ﷲ
بيان عا ّم للطرق:
ويعبّر عنه أيضا ً بطريق القلب ،وينطلق ھذا الطريق من خالل باطن اإلنسان و اإلحساس الكامن في كيان ك ّل إن سان ،ف قد
إحساس وميل ذاتيّ يھديه بصور ٍة طبيع ّي ٍة إلى ﷲ ويجذبه إليه.
ٍ ج ُِبل اإلنسان في فطرته وخلقته على
27
فھذا الطريق ينطلق من النفس ،ليستكشف تلك الجاذبيّة التي تربطه بحقي قة إ سمھا )ﷲ( ،ليث بت من خالل ذ لك و جود ھذه
ٌ
عالقة بالعلم التجريبيّ أو بالفكر واالستدالل. الحقيقة ،من دون أن يكون له
العلمي:
ّ 2ـ الطريق
وھو المعبَّر عنه بطريق الحسّ أو العلوم التجريبيّة ،والذي يقوم على أساس التجارب واالختبارات .ونحن نعرف أنّ مھم ّة
الع لم ھي التعر يف بظوا ھر ال عالم .و لذلك فإنّ اكت شافات الع لم ال ب ّد أن ت كون م حدود ًة ،كاكت شاف العنا صر والكوا كب
السيّارة ....فينطلق ھذا الطريق من الموجودات والمخلوقات واألمور المحسوسة إلثبات و جود ﷲ .و من ھ نا ،ي ستحيل أن
يقوم العلم وحده بالكشف عن ﷲ وتعريفه ـ خالفا ً لرأي األكثر -فإنّ الشيء الذي يحيط به العلم ويخ ضعه لتجار به ال يم كن
أن يكون إلھا ً وال روحا ً وال زما نا ً وال غير ھا من األ مور ا لتي ل يس ل ھا حدود ،ف ھذه األ مور خار جة عن دا ئرة التجر بة
وأدواتھا.
وبعبارة أخرى ،فإنّ طريق العلم التجريبيّ يبحث عن العناصر التي تكون إلى ج نب األ شياء .و قد ذكر نا في الم قدّمات أنّ
من خصوصيّات مسألة التوحيد أ ّنھا من نوع الم سائل ا لتي يُب حث في ھا عن مو جود ال ي قع إ لى جا نب األ شياء ،وإ ّن ما ھو
موجو ٌد في األشياء ومعھا.
28
الفلسفي:
ّ ـ الطريق
وھــو طريــق العقــل واالســتدالل البرھــانيّ ،ويقــوم علــى سلســلة مــن المعــاني والمفــاھيم ،وبوســيلة نــوع مــن المحاســبات
والتقسيمات الذھنيّة والعقليّة ،يمكن إثبات وجود ﷲ .فال حاجة في ھذا الطر يق لإل ستناد إ لى معر فة المخلو قات والظوا ھر
الموجودة والمحسوسة .ولذا ،فھو طريق فلسفيّ محض.
وخالصة الكالم :أنّ طرق معرفة ﷲ الثالثة ،بعضھا يرتبط بالقلب واألحاسيس الذاتي ّة الفطري ّة ،وبع ضھا ي ستند إ لى الع لم
التجريبيّ فيستد ّل بالمخلوق على معرفة ﷲ ،والطريق األخير يعتمد االستدالل والبرھان العقليّ .
طريق الفطرة:
ذكرنا أنّ طريق الفطرة ھو الطر يق األوّ ل في إث بات و جود ﷲ ،و ھو يعت مد ع لى التعل ّق ا لذاتيّ واالن جذاب المو جود في
إنسان ،بحيث يھديه بالطبع والغريزة إلى المبدأ ج ّل وعال ،من غير أن يعت مد ع لى التجر بة العلمي ّة أو اال ستدالل
ٍ كيان ك ّل
والبرھان الفلسفي .وتوضيحه:
أجھزة اإلنسان:
الحس واإلدراك:
ّ 1ـ جھاز
ونقصد به ما يدركه بحواسّه الخمس ـ أو أكثر ـ باإلضافة إلى تع ّقله وتفكيره بواسطة العقل واإلدراك وتحليله لما أحسّ به،
وھو الجھاز الذي يعتمد عليه في
29
اإلحساس بالموجودات من حوله ،ويصل من خالله إلى اكتشاف العلوم الطبيعيّة ،وإلى اكتساب المعارف الفلسفيّة.
وھنا نشير إلى أنّ أكثر العلماء يقرّ ون ويسلّمون بوجود ھذه الميول واألحاسيس.
إذاً ،ھناك مي ٌل ٍ
سام كامنٌ في مركز ميول اإلنسان القلبيّة ـ ال العقليّة ـ يدفعه إلى االعتراف با وعبادته والسير إليه.
إنسان نزو عا ً وإ ندفاعا ً داخل يا ً ن حو م صدر ال عالم ،ون حو ال قدرة المطل قة والع لم المط لق
ٍ وبعبارة أخرى :إنّ في قرارة ك ّل
مخلوق ضمن فطرة ك ّل إن سان ،ول كن يحجب ھم ع نه ستار الغف لة ال ماديّ ،فإذا ا نزاح ھذا ٌ والوجود المطلق ،فاالعتقاد با
ال ستار ،يرى اإلن سان مع بوده الف طريّ .و لذا ،فإنّ اإلن سان إذا أ حسّ بالخطر وال ضرر وانقط عت ع نه األ سباب المادي ّة
والظاھريّة يحيا ھذا الشعور
30
الفطريّ من جديد ،فيندفع ھذا اإلنسان إلى ﷲ وينسى العلل واألسباب الظاھريّة ،وذ لك ما أ شار إل يه اإل مام ال صادق عل يه
السالم عندما جاءه ذ لك الر جل المتحي ّر و قال له ) :يا ا بن ر سول ﷲ ،دل ّني ع لى ﷲ ما ھو؟ ،ف قد أ كثر ع ليّ الم جادلون
وحيّروني ،فقال له :يا عبد ﷲ ،ھل ركبت سفينة قط؟ قال :نعم ،قال :فھل ك سرت بك ح يث ال سفينة تنج يك ،وال سباحة
تغنيك؟ ،قال :نعم ،قال :فھل تعلّق قلبك ھنالك أنّ شيئا ً من األ شياء قادر ع لى أن يخلّ صك من ورط تك؟ ،قال :ن عم ،قال
منجي ،وعلى اإلغاثة حيث ال مغيث(.2 الصادق عليه السالم :فذلك الشيء ھو ﷲ القادر على اإلنجاء حيث ال ّ
القرآن والفطرة
وي ع ّد اإل سالم أوّ ل من أ ماط الل ثام عن حقي قة أنّ ﷲ سبحانه قد خ لق اإلن سان مف طوراً ع لى ا لدين :و من أ برز اآل يات
ِيـن
د ُك ال ّ خ ْلقِ ﷲ َ
ذلِ َ ل لِ َ اس عَ لَ ْي َ
ھا ال تَ ْبدِي َ َ ت ﷲ الﱠتِي َ
فطَ َر ال ﱠن حنِيفاً فِ ْ
ط َر َ ِين َ
د ِ
ك لِل ّ
ھ َ
ج َِم َو ْ فأَق ْ
وأوضحھا قوله ت عالىَ ﴿:
ِن أَ ْك َث َر ال ﱠناسِ ال يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ .
3
م َولَك ﱠ
ا ْلق َِي ّ ُ
ت متع ّدد ٍة إلى طريق الفطرة .ولذلك ،فإنّ القرآن يُع ّد أ صل ھذا الطر يق ،ويعب ّر ال قرآن عن ھذه الحقي قة نبّه القرآن في آيا ٍ
م
د َ
ِن بَنِـي آ َ خ َ
ذ َربﱡ َ
كم ْ َ َ ً
بأشكال متعدّدةٍ ،فيعتمد أحيانا لغة الرمز واإلشارة ،كما في )آية عالم الذرّ ( وھي قوله تعالىَ ﴿ :
وإِ ْذ أ َ ٍ
َـن
ك ﱠنا ع ْ
ة إِن ﱠا ُ م ا ْل ِق َيا َ
م ِ ھ ْدنَا أَنْ تَقُولُوا يَ ْ
و َ ش ِ ُم َ
قالُوا بَلَى َ ت بِ َربِ ّك ْ م أَلَ ْ
س ُ ھ ْ علَى أَ ْن ُف ِ
س ِ م َھدَھُ ْ م َوأَ ْ
ش َ ِم ُذ ِرّيﱠ َت ُھ ْ
ِن ظ ُُھو ِرھ ْم ْ
4
ِم﴾ِن ظ ُُھو ِرھ ْ ِين ﴾ ،فالمقصود من قوله﴿ :م ْ غافِل َ ھ َذا َ
َ
31
أ ّنه جذبھم إليه وھم ال يزالون في أصالب آبائھم .ولذلك ،فھو لم يعبّر بأ ّنه أخذ من ظھر آدم الذريّة بل عب ّر من ظ ھورھم،
ُم﴾ فأقرّ وا وَ ﴿ :قالُوا بَلَى﴾.
ألست بِ َربِ ّك ْ
ُ وأشھدھم على أنفسھم وسألھم﴿ :
ُوب﴾.5
ا ْل ُقل ُ مئِنﱡ ر ﷲ تَ ْ
ط َ ر ﷲ أَال بِ ِ
ذ ْك ِ ذ ْك ِ مئِنﱡ ُقلُو ُب ُھ ْ
م بِ ِ م ُنوا َوتَ ْ
ط َ تعالى﴿ :الﱠذ َ
ِين آ َ ومن ذلك قوله
حيث تبيّن اآلية أنّ أي قوّ ة سوى ﷲ عاجزةٌ عن بعث الطمأنينة والسكينة فيه ،وما ذلك إال للتوجّ ه والم يل ال باطني لإلن سان
بفطرته إلى ﷲ.
والقرآن إذ يبيّن ھذه الحقيقة ،فھو تار ًة يبيّنھا بمفھومھا الخاصّ )أي يبيّن التوجّ ه والميل لدى خصوص اإلنسان( ،وذلك من
قبيل اآليات اآلنفة الذكر ،وأخرى يبيّنھا بمفھومھا العام القائل بأنّ جميع المخلوقات -ب ما في ھا اإلن سان -تت حرّك ن حو ﷲ،
ج ُعونَ ﴾.6
ه ُي ْر َ ك ْرھاً َ
وإِلَ ْي ِ األ َ ْرضِ طَ ْوعاً َ
و َ و ْما َواتِ َ
الس َ
ﱠ ن فِي
م ْ
م َ ه أَ ْ
سلَ َ غونَ َولَ ُ
ِين ﷲ يَ ْب ُ
غ ْي َر د ِ يقول تعالى﴿ :أَ َ
ف َ
األحاديث والفطرة:
وكذلك نجد اإلشارة إ لى و جود االعت قاد با في ف طرة وع مق ك ّل إن سان في األحاد يث ،ك ما في ال حديث ال شريف ) :كل ّ
يمج سانه( .7و في الخط بة األو لى من خ طب ن ھج يھودا نه أو ينص ّ رانه أو ّمو لود يو لد ع لى الف طرة ،حتى ي كون أ بواه ّ
البالغة يقول أمير المؤمنين عليه السالم...) :فبعث في ھم ر سله ،ووا تر إلي ھم أنب ياءه لي ستأدوھم مي ثاق فطر ته ،ويذ ّكرو ھم
منسيّ نعمته ،(...إلى غير ذلك من األحاديث الكثيرة في ھذا الباب.
32
و قد أي ّد ھذا الطر يق ك ّل من عل ماء الن فس والفال سفة والعر فاء ،إال أنّ ك ّل وا ح ٍد قام ببيا نه ع لى طريق ته وو فق أدوا ته
واصطالحاته ،ونتعرّ ض لذلك على نحو االختصار.8
قام علماء النفس المعاصرون بالكشف بواسطة التجربة وأساليب علم النفس عن اإلحساس ا لذاتيّ واالن جذاب المع نويّ إ لى
ﷲ ،و لذلك ،فإنّ من النظري ّات المھم ّة والر صينة في أدلّت ھا ا لتي توص ّل إلي ھا المح ّق قون من عل ماء الن فس ھي النظري ّة
المؤيّدة لحقيقة فطريّة معرفة ﷲ ،9ونتعرّ ض ألھ ّم ھؤالء:
ـ عالم الن فس ال شھير يو نغ :يوا فق )يو نغ( ما قام بك شفه أ ستاذه )فرو يد( من عدم ح صر ال شعور اإلن ساني بم صداقه
شعور غفلوا عنه ھو :ال شعور ال باطنيّ في اإلن سان ،ويعت قد أنّ ھذا ال شعور مو جو ٌد في
ٍ الظاھر ،ويعتقد -بالتالي -بوجود
إنسان وأصل خلقته قبل أن يولد ويأتي إلى الدنيا.
ٍ فطرة ك ّل
إلى ذلك يعتقد )يونغ( بأنّ االعتقاد با عنصر أصليّ في الشعور الباطنيّ .10
ـ عالم النفس والفيلسوف األميركي وليم جيمس :11ويع ّد ھذا ال عالم من ال مدافعين ب قوّ ة عن م سألة و جود الم يل وا لنزوع
الغريزيّ لالعتقاد با في كيان
33
اإلنسان ،فھو يعتقد بأنّ معظم الرغبات والميول الموجودة فينا ھي منبعثة من عالم ما وراء الطبي عة وال سيّما ت لك الم يول
السامية ،ولذلك ،فإ ّنه من غير الممكن تفسير الك ثير من ھذه الم يول ع لى ضوء الح سابات المادي ّة والعقالئي ّة )أي المنا فع
والم صالح( .و ھذا إن د ّل ع لى شيء فإن ّ ه يد ّل ع لى أنّ تعلّق نا بذلك ال عالم أ ش ّد وأ قوى من تعلّق نا ب ھذا ال عالم المح سوس
والمعقول .ويصرّح ھذا العالم بما ذكرناه من حقيقة فطريّة الميل ن حو ﷲ ،و ھو ي قول) :إن ّني مقت نع -وب قوّ ة -ب كون الق لب
منبع الحياة الدينيّة ومبعث التوجّ ه الدينيّ ) ،(...وإ ّنني مقت نع بأنّ ا لرؤى والم ناھج العملي ّة الفل سفيّة والتوحيدي ّة ھي بمثا بة
ترجمات لحقائق كتبت بلغة أخرى(.
ـ ألكسيس كارل :يدافع ھذا العالم الم شھور في كتا به )ا لدعاء( بح ماس عن نظري ّة ال حسّ ا لديني وكو نه حس ّ ا ً أ صيالً في
اإلنسان .فمثالً عندما يتح ّدث عن أصالة الدعاء ،يقول) :ا لدعاء عروج رو حيّ إ لى ﷲ ،و ھو عروج ا لروح الحقي قيّ إ لى
ﷲ( .وفي فقرة أخرى يقول) :الدعاء أسمى حا لة ديني ّة مق ّد سة ،ح يث تح لق روح اإلن سان إ لى ﷲ ...ويو جد في الو جدان
اإلنسانيّ شعلة تعرّ ف اإلنسان إلى خطاياه وانحرافاته ،وھي التي تصدّه عن الوقوع فيھا.(...
المؤرخ والفيلسوف الفرنسي أرنست رينان :ينقل فريد و جدي في دا ئرة الم عارف عن )ري نان( قو له ) :من المم كن أن ّ ـ
ي ضمح ّل ويتال شى ك ّل شي ٍء نحب ّه و ك ّل شيء ن عدّه من مالذ الح ياة ونعيم ھا ) ،(...ول كن ي ستحيل أن ينم حي ال تديّن أو
ً
ناطقة ع لى ب طالن ال مذھب ال ماديّ ا لذي يو ّد أن يح صر الف كر اإلن سانيّ في الم ضائق ً
حجة يتالشى ،بل سيبقى أبد اآلباد
الدنيئة للحياة الطينيّة(.12
34
ّ
عز وجلّ: صرحوا بفطر ّية الدين واالعتقاد با
ومن العلماء الذين ّ
ـ إينشتاين :يقول في كتابه )العالم كما أراه أنا( ..) :يو جد اعت قاد ود ين) (...مو جو ٌد في الجم يع بال إ ستثناء ،وإن كان ال
يوجد بصور ٍة نق ّي ٍة وخالص ٍة بالكامل في أيٍّ من ھم .وأعت قد أنّ ھذا ھو إح ساسٌ د ينيٌّ كامنٌ في خل قة اإلن سان أو و جوده(،
صور مختل فةٍ ،بل عن إ له ھو أع ظم من أن ي كون باإلم كانٍ ويقول الحقا ً..) :إنّ الحديث ھنا ليس عن اإلله ا لذي يظ ھر ب
وصفه(.13
الفطري :
ّ الطريق
قد يتوھّم البعض بأنّ علماء النفس المعاصرين ھم السبّاقون في مجال اكتشاف ذلك االنجذاب الباطني الكامن في ك ّل وا ح ٍد
م ّنا نحو ﷲ ،إال أنّ ھذا األ مر كان قد سبق إل يه الفال سفة ،و قد ب ّي نوا ھذه الحقي قة و فق طريقتھم في اال ستدالل والبر ھان
الفلسفيّ .
العرفاني :
ّ المسلك
ومم ّن سبق العل ما َء المعا صرين في ك شف حقي قة االن جذاب ال باطني لإلن سان إ لى ﷲ العر فاءُ ،بل ي ع ّد أ صحاب الم سلك
العر فانيّ من أ ش ّد المتح ّم سين والمھتمي ّن بحقي قة فطري ّة التوج ّ ه إ لى ﷲ ،إ لى در ج ٍة جع لت العر فاء ينت قدون الفال سفة
ويھاجمون الحك ماء ح ين أف نوا ج ھدھم في االعت ماد ع لى الع قل واال ستدالل ،وي ّتھ مونھم بأ ّنھم لم يدركوا قي مة ھذه ال قوّ ة
المعنويّة التي أسموھا واصطلحوا عليھا بمصطلح) :العشق( الذي يكثر في األدبيّات العرفانيّة.14
35
بل ذھب العرفاء إلى أبعد من ذلك ،حيث اعتبروا أنّ اإلنسان ال يمكن أن يع بد غير ﷲ .ف حتى في م ثل الو ثنيّ ،فإن ّ ه يع بد
ﷲ من حيث ال يدري ،ففطرته تدفعه إلى عبادة ﷲ ،ولك ّنه يخطئ في تشخيص المصداق.15
الفطري :
ّ التوجه
ّ تنمية
الفطري؟
ّ التوجه
ّ والسؤال الذي يطرح نفسه ھو :كيف يمكن تبليغ أو تقوية ھذا
وفي جواب ذلك نقول :إنّ ھذا الحسّ األصيل الموجود في اإلنسان ھو من قبيل ال حسّ ال فنيّ كاإلح ساس بالج مال ،و لذلك،
وتدريس إليجاده ،بل ھو موجود في داخل اإلنسان ،فھو إ ّنما يحتاج إلى إثار ٍة فحسب ،بحيث يُح فظ
ٍ تعليم
ٍ فھو ال يحتاج إلى
ح ّيا ً في وجودنا.
ومن طرق إثارة ھذا الحسّ مسأل ُة العبادات ،فاإلنسان بعد أن يقت نع بوا سطة ال طرق األ خرى ـ كاالقت ناع العق ليّ ـ بتوح يد
ﷲ ،لكي يصير موحّ داً عمل ّيا ً ولكي ينمّي ھذا اإلحساس فال ب ّد أن يلجأ إلى العبادات بشروطھا المطلوبة.16
وأمّا العوامل التي تضعف ھذا الميل والتوجّ ه ،فھي الرغبات التي تسوق اإلنسان إلى الحياة الماديّة الدانية واالنحطاط.
إشكال ور ّد:
يتوھّم بعض الناس أنّ اإلنسان بطبعه يرغب في التنوّ ع ويميل إليه ،فھو يطلب
36
شيئا ً ويميل إليه ث ّم بعد أن يصل إليه يتبدّل شوقه إلى برود وملل ،ثم يميل إلى شي ٍء آخر ،وھكذا...
و ھذا ال توھّم با طلٌ ،فإنّ ال سبب في كون اإلن سان يط لب الت نوّ ع ھو أن ّ ه يط لب أ ھدافا ً متوھ مة ين جذب إلي ھا باعت قاد أ ّن ھا
معشوقه الحقيقيّ ،وعندما يصل إليھا ينكشف له زيفھا ،فيما اإلنسان الذي يطلب المعشوق الحقيقيّ واألصيل ،اإلنسان الذي
يطلب ﷲ وحده ،فإنّ إنسانا ً كھذا لن يھدأ شوقه ولن يتب ّدل ،ولن يط لب شيئا ً آ خر إذا ما و صل إل يه ،ألن ّه مطلو به الحقي قيّ
الذي طالما بحث عنه.
ت إلى ھذه الحقيقة في اآليات الكريمة التي تتحدث عن المؤمنين الذين ي صلون إ لى الج نة و ھي ھدف ھم ونحن نالحظ إشارا ٍ
ِين فِي َھـا ال يَ ْبغ ُ ونَ عَ ْن َھـا حِـ َوال ً ﴾ ،وال سرّ في ذ لك أ ّن ھم قد ح صلوا ع لى مطلوب ھم
17
الحقيقي ،كما في قو له ت عالىَ ﴿ :
خالِـد َ
الواقعيّ والحقيقيّ ،فھم ال يستبدلون به غيره.
37
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
ـ ھناك ثالثة طرق إلثبات وجود ﷲ :الطريق الفطريّ ،الطريق العلميّ )شبه الفلسفيّ ( ،الطريق الفلسفيّ .
يعتمد طريق الفطرة على االنجذاب الذاتيّ الكامن في نفس ك ّل إنسان نحو خالقه.
فلدى اإلنسان نوعان من األجھزة :جھاز الحسّ واإلدراك ،وجھاز الميول واألحاسيس.
علما ً أنه قد سبق الفالسف ُة القدما ُء العلما َء المعاصرين ،في االستدالل على فطريّة التوح يد ،وا ستدلّوا عل يه بطري ق ٍة فل سف ّيةٍ،
وعبّروا عنه بقولھم) :النھايات ھي الرجوع إلى البدايات(.
ويع ّد العرفاء من أش ّد المھتمّين والمتحمّسين للطر يق الف طريّ ،و قد ھاجموا الفال سف َة ع لى اعت بار أ ّن ھم لم يھتم ّوا ب ما ف يه
الكفاية بھذه القوّ ة المعنويّة التي أسموھا) :العشق( ،حيث استغرقوا في البراھين العقليّة.
كما أنّ الميل الفطريّ إلى ﷲ ،ھو من نوع الحسّ الفنيّ الذي تقوم تنميته على إثارته بمثل العبادات ،فيما ت ضعفه الرغ بات
الماديّة الدانية.
شوق
ٍ واإلنسان ال يطلب التنوّ ع بطبعه ،ولكن ّ ه يط لب مع شوقا ً حقيقي ّا ً ال ير غب ع نه حوالً ،إال أن ّه يخ طئ فيط ّب قه ع لى مع
مجازيٍّ ال يلبث أن يملّه ويبحث عن غيره.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
1ـ ما ھي الطرق الرئيسة إلثبات وجود ﷲ؟
2ـ كيف يُستد ّل بالفطرة على وجود ﷲ؟
3ـ ھل يؤيّد القرآن طريق الفطرة؟ وھل تشير األحاديث إلى ذلك؟
4ـ ما ھو موقف علماء النفس والفالسفة من ھذا الطريق؟
5ـ ما ھي مالحظة العرفاء على الفالسفة في ھذا الطريق؟
ﻫﻮاﻣﺶ
حة ھذه الطرق جميعاً.
-1ونحن نعتقد بص ّ
-2معاني األخبارـ الشيخ الصدوق ـ ص.4 :
-3الروم.30:
-4األعراف.172:
-5الرعد.28:
-6آل عمران.83:
-7المجلسي-بحار األنوار-ج- 3الطبعة الثانية المصححة -مؤسسة الوفاء -بيروت.
-8ھذا المقطع من البحث منتقى من كتاب الفطرة ،الشھيد مطھري ،مؤسسة البعثة ،ط ،1ص 196:ـ .208
دعي أنّه قد اتفقت كلمة علماء العصر الحديث على ھذا الرأي! -9ونحن ھنا ال ن ّ
ي
ن الشعور الباطني إنّما يتشكل من العناصر الـتي ينبـذھا الشـعور الظـاھر ّ
-10يختلف )يونغ( مع أستاذه )فرويد( في تشكّل الشعور الباطني ،ففيما يعتقد )فرويد( أ ّ
ي فحسب. ن ھذه العناصر إنّما تشكّل جزءاً من الشعور الباطن ّ
وال يرغب بھا ،يعتبر )يونغ( أ ّ
د ھذا العالم من العلماء المعاصرين حيث أدرك القرن العشرين وتوفّي في النصف األول منه. -11ويع ّ
-12دائرة المعارف ،111 :4مادة )دين(.
ن ،ألنّھمـا عرّ فا ﷲ بصـورةن الصورة التي يعرضھا كتاب اليھـود وكـذلك اإلنجيـل عـن ﷲ ھـي بمسـتوى متــد ٍّ -13ويعتبر إينشتاين ،وھو ينتمي إلى الديانة اليھوديّة ،أ ّ
ي متجليّاً بالكامل في مزامير داود ،وكذلك في البوذيّة. ي الفطر ّ إنسان ،في حين نجد ھذا اإلحساس الدين ّ
ما الفيلسوف فيعتقد بأن ي با ،أ ّ ي ،فالعارف يعتقد بلزوم االھتمام بتنمية اإلحساس الوجدان ّ
ي والمسلك الفلسف ّ -14وھنا تكمن نقطة االفتراق بين المسلك العرفان ّ
األولويّة ھي لتنمية العقل والفكر وقوّة االستدالل.
سـاناً
ح َ إ ني
ْ ِ ِ ْ د
َ ِـ لاوَ ْ
ل اب و
َ ه ـا ي إ
ُ ُ ِ ِﱠ ُ ِ ﱠ
ال إ واـدب ع
ْ َ ت ﱠ
ال َ أ ك
َ ﱡـ ب ر
َ َـى
ض َ
ق و
َ { : تعـالى لقولـه العرفـاء سير تف فـي كمـا ھاء، الفق واعتراضـات ة ج
عبارات لھم في ھذا المجـال ال ض ّ
ٌ -15وقد أثارت
ل إنسان.} )اإلسراء ،(23 :بكون ھذا القضاء تكوينيّاً محتوماً على ك ّ
ة ،فھذا يھزّ باطنه ويحرّكه في طريق السير إلى ﷲ. ة خالص ٍ ه قلبي وني ّ ٍ
ج ٍ
ة إلقامة ركعتين بتو ّ
-16كاالستيقاظ عند السحر أو عند مطلع الفجر ويتفرّغ في خلو ٍة مناسب ٍ
-17الكھف.108:
اﻟﻌﻠﻤﻲ -1-
ّ اﻟﺪرس اﻟﺜﺎﻟﺚ :اﻟﻄﺮﻳﻖ
أھداف الدرس
1ـ فھم الطريق العلمي إلثبات وجود ﷲ وإعطاء أمثلة على ذلك.
2ـ إكتساب القدرة على شرح برھا َنيْ الحدوث وال ِّن َظام.
3ـ تعداد أنواع العلل وشرح معانيھا.
4ـ شرح الخالف بين اإللھيين والماديين حول علة وجود الكون.
5ـ القدرة على شرح حساب االحتماالت.
6ـ إثبات نسبية الصدفة وعدم تنافيھا مع العلة الغائية.
41
الفلسفي:
ّ العلمي أو شبه
ّ الطريق
مرّ معنا في المقدّمات أنّ النوع الثاني من طرق إثبات وجود ﷲ ،ھو الطريق العل ميّ ا لذي يعت مد الت جارب وي قوم بدرا سة
ظواھر ال عالم ،وذكر نا أن ّه من الم ستحيل أن يك شف الع لم التجر يبيّ عن ﷲ ب شكل م ستقل ،النح صار اكت شافاته باألمور
الخارجيّة المحسوسة والمحدودة .ولكن يمكن للعلم أن يقوم بدور العامل المساعد وغير المبا شر في تعر يف اإلن سان با ،
اإلنسان ﷲ عبر مخلوقاته.
َ وذلك بعد أن نض ّم إليه العقل)الفلسفة( ،وحينھا يكون دور العلم مفيداً جداً حيث يُعرّ ف
ً
سريعة عن ھا ،ق بل أن نت عرّ ض إ لى كل ّن حو ھناك ثالثة أنحاء إلثبات وجود ﷲ عن طر يق المعر فة العلمي ّة ،نذكر لم ً
حة
بشكل مستق ٍّل ومفصّل:
ٍ
1ـ االستدالل بال َن ْظم :وذلك بالتعرّ ف إلى النظام الدقيق الذي يحكم الموجودات ،وبالتالي إكتشاف ّ
منظم ي ّتصف بقدرة عال ية
من التدبير والحكمة.
43
ً
صدفة، مة قد ُكت بت ع لى ور قة ،فإن ّ ه يعت قد بأنّ ھذا ال يم كن أن ي حدث غة ّ
منظ ً ت بلي ًومثاله :ع ندما يرى اإلن سان ع بارا ٍ
ّ
ويكتشف أنّ وراء ذلك موجداً عاقالً مدبّرا قد نضّد حروفھا ونظم كلماتھا.
ً
ٌ
حادث ـ لم يكن من ق بل ـ كومة من تراب قد أُلقيت إلى جنب الطريق ،فينظر إليھا على أ ّنھا أم ٌر
ً ومثاله :ربما يجد اإلنسان
ممّا يكشف عن موج ٍد لھا ،فنفس حدوث ھذا األمر يكشف عن محدثٍ ،مع أ ّنه ال يرى فيه نظما ً.
مرتبطة بمسير حركتھا ،فھي تسير على وفق ً 3ـ االستدالل بالھداية :عندما يتأمّل اإلنسان في األشياء من حوله فإ ّنه يجدھا
مسير خاصٍّ بحيث تبدو حركته صادر ًة عن ٍ
علم ،ممّا يكشف عن و جود قوّ ٍة مع ّي ن ٍة ٍ ھداية خاصّة ،فك ّل مخلوق يتحرّ ك في
مخف ّي ٍة فيه تھديه.
ومثاله :ما لو تأمّلت في سلوك الجنين بُعيد والدته ،حيث تراه يبحث تلقائ ّيا ً عن ثدي أمّه ،ممّا يكشف عن وجود قوّ ٍة كام ن ٍة
فيه تھديه ،وھكذا بقية الموجودات وبالتالي يكشف عن ظاھر ِة الھداية ،وھذا يختلف عن ك ّل من النظم والخلق.
وبعبار ٍة مختصر ٍة :إنّ العلم يعرّ فنا بطبيعة وخصائص الموجودات المحسوسة في عالمنا ،فعندما ي شاھدھا اإلن سان يت ساءل
مرّ ًة :من خلق ھذه األشياء؟! ،وأخرى :كيف وُ جد ھذا النظام الدقيق في ع مل أج ھزة ھذه المخلو قات؟! ،وثال ثة :من ھدى
ھذه المخلوقات في حركتھا ومسيرھا نحو غايتھا؟!
44
األَعْ ل َى الﱠـذِي
ك ْم َربِّـ َ ﴿س َ ِب ّحِ ْ
اسـ َ أشار القرآن في سورة األعلى إلى األنحاء العلميّة الثالثة في معرفة ﷲ ،ي قول ت عالى:
س ﱠوى َوالﱠذِي َق ﱠد َر َف َھدَى﴾2 ق َ
ف َ خلَ َ
َ
س ﱠوى﴾ وكذلكَ ﴿ :والﱠذِي َق ﱠد َر ﴾...إشارةٌ إلى النظام الدقيق الذي يتجلّى في وجود األشياء. وقولهَ ﴿ :
ف َ
وأخيراً قولهَ ﴿ :ف َھدَى﴾ يتضمّن ذكر ھداية األشياء إلى غاياتھا.
وينطلق ھذا البرھان من حدوث األشياء وخلقھا إلثبات ضرورة وجود موج ٍد لھا ،فإنّ ذلك ما يثبته األصل العقليّ البديھيّ ،
خالق لھا.
ٍ فھذا الدليل يستد ّل بالمخلوقات على ضرورة وجود
وتكمن أھميّة ھذا الدليل في أ ّنه يرتبط بالثوابت الدينيّة ،فإنّ ك ّل م تديّن ال ب ّد أن يعت قد بأنّ ﷲ خالق ك ّل شيء ،بم عنى أن ّه
الموجد له.
وقد بنى عليه البعضُ عقائدَ تصوّ روا أ ّنھا ضروري ٌّة في باب التوح يد ،كت صوّ رھم ال تالزم ب ين اإلي مان بأنّ ﷲ خالق ھذا
مكانا◌.3
ً العالم ،وبين كون ھذا العالم متناھيا ً زمانا ً ومحدوداً
45
معنى النظم:
يق
شكل دق ٍ
ظ مت ب ٍ إذا تأمّل اإلنسان من حوله فإ ّنه سيرى أنّ الكيان ال ماديّ ل ھذا ال عالم وأ شكال أجزا ئه قد أُت قن صنعھا و ُن ّ
فألّف بين أجزاء االفراد ،وأوجد االنسجام بين األفراد والتوازن بين الماھيّات بحيث يؤدي إلى الھدف والغاية من وجودھا،
ممّا يكشف عن أنّ وراءھا موجداً عالما ً وصانعا ً مدركا ً مختاراً.
إذاً ،عندما نرى ھذا النظم نوقن أنّ ھذا العالم لم يوجد على نحو الصدفة ،وبالتالي توجد علّة أوجدته بنظمه المت قن ،فالن ظم
ھو ما كان ناشئا ً عن علّة مدرك ٍة مختار ٍة وھادف ٍة.
قن ،ويث بت من خالل ھا و جود ﷲ ت عالى ،ال ب ّد أن نبي ّن نظم وأيّ علّ ٍة قادر ٍة ع لى إي جاد ھ كذا ن ٍ
ظم مت ٍ ولكن ح ّتى يتبيّن أيّ ٍ
أنواع العلّة.
أنواع العلل:
ھناك أربعة أنواع من العلل ،وبعض ھذه العلل ال يكفي وحده إلثبات التوحيد ـ بخالف ما تو ّھ مه ب عض ال باحثين -ولذ لك
نتعرّ ض إلى ھذه األنواع بإختصار ،ث ّم نبيّن ما ينفعنا في بحثنا ھذا.
ولتوضيح أنواع العلل نذكر مثاالً ،وإن كان المثال يقرّب من جھة ويبعّد من جھة:
ً
رسالة ،فرسالته ح ّتى ُتنجز تحتاج إلى ع ّدة علل: عندما يريد اإلنسان أن يكتب
1ـ العلّة الماد ّية :والمقصود منھا المواد التي يلزم تو ّفرھا لكتابة الرسالة :الورق ،القلم ،الحبر ...فھذه أمور ماديّة للكتابة.
46
2ـ العل ّة ال صور ّية :وت عني الھي ئة وال شكل ا لذي يُط لب أن ت كون عل يه الكتا بة وال خط حتى تؤ ّدي الم عنى المق صود من
الر سالة )أي ال شكل ال صحيح ا لذي ي جب أن تر سم ال حروف عل يه لت كوين الكل مة فالع بارة( ،و ك ّل جم ل ٍة ل ھا صورةٌ غ ير
ف من الرسالة فإنه تتغيّر بالتالي صورتھا.
األخرى ،وإذا تغيّر مكان حر ٍ
3ـ العلّة الفاعل ّية :والمراد منھا القوّ ة والفاعل الذي سيقوم بفعل الكتابة )القوّ ة المو ِجدة(.
4ـ العلة الغائ ّية :وھي الھدف المقصود من وراء ھذه الكتابة والرسالة ،ومنھا يستك شف أنّ ال قوة المو جدة والفا عل ھادفٌ
وبالتالي يتم ّتع بإدراكٍ وإرادة وإختيار.
وھنا ال ب ّد من اإلشارة إلى أنّ ھذه العلل مترابطة فيما بينھا .والعل ّة التام ّة ا لتي تؤدّي إ لى ظ ھور معلول ھا ال ب ّد أن ت كون
مشتملة على األنواع األربعة ـ مع فقدان المانع -بينما تكون العلّة ناقصة غير مثمرة إذا ما فُقد أحدھا.
يتوھّم بعض الباحثين في مسألة التوحيد بأنّ الخالف بين الماديّين واإللھيّين ھو حول وجود العلّة الفاعليّة ـ أي لزوم و جود
فاعل وقوّ ة ما تتولّى إي جاد ال حوادث والظوا ھر في ھذا ال عالم -فيت صوّ رون بأنّ ال ماديّين ،خالف اإللھ ّي ين ،ين فون الع لل
الفاعلية ،ويعتقدون بأنّ العالم وُ جد من تلقاء نفسه.
وعند النقاش معھم يستدلون بأنّ العلم التجر يبيّ ي ُذعن بحقي قة ق يام األ شياء ع لى أ ساس العل ّة والمع لول ،وبحقي قة عال قات
ضروريّة تحكم ك ّل عالم الطبيعة،
47
كما أ ّنه ينكر االستقالل الذاتيّ لألشياء وظھورھا على نحو الصدفة ،وبنا ًء عليه ال يمكن للماديّ أن ين كر و جود من ظم ل ھذا
الكون ،نعم أقصى ما يم كن أن يدّع يه ھو و جود الن ظم دون أن ي سمّي المنظ ّ م ،في ما الموحّ د ي سمّي ھذا المن ظم و ھو ﷲ،
فالماديّ يتحدّث عن فاعل مجھول ،والموحّ د عن فاعل معلوم.4
إذاً يُفھم من نقاش ھؤالء الباحثين مع ال ماديّين أ ّن ھم يتو ّھ مون أنّ الن ظم المق صود في بر ھان الن ظم ھو الن ظم النا شئ عن
العلة الفاعليّة.
ً
صدفة ،وي عترفون بعل ّ ٍة أو جدت ال عالم دون أد نى لكنّ ھذا التوھّم باطل ،فحتى ال ماديّين ي ستنكرون ال قول بأنّ ال عالم وُ جد
شكّ ،بل على العكس ھم يعتقدون بوجود سلسل ٍة دقيق ٍة ومنظ م ٍة من الع لل والمع لوالت ،ويعت قدون بحتمي ّة و جود عل ّ ٍة ل ك ّل
حادث ،بل إنّ الماديّين أكثر تأكيداً على ھذا اإلرتباط من غيرھم.5
فالخالف بين اإللھيّين والماديّين ليس في ضرورة وجود العلّة الفاعليّة بما يعني أن يكون ك ّل معلول ناشئا ً عن عل ّة ،بل ال
يوجد عاقل في العالم يدّعي وجود العالم من تلقاء نفسه.
وبرھان النظم لم يقم على أساس النظم الناشئ من العلّة الفاعليّة ،ألنّ ھذا ال يكفي إلثبات عق يدة الموحّ د ال مؤمن با ،فإنّ
المنظم لھذا الكون ھو نفس تلك السلسلة من العلل والمع لوالت ـ أي عنا صر الطبي عة نف سھا ـ بال ّ الماديّ يعتقد بأنّ الفاعل
حاجة إلى وجود ﷲ أو إلى عالم ما وراء الطبيعة.
منظم ٌ
ناقصة وھي إثبات ٌ
حلقة لذلك فإنّ ھذا البيان يبقى قاصراً ،وتبقى فيه
ٍ
48
إذاً الخالف بين الماديّين واإللھيّين ھو في ضرورة وجود إرادة واختيار لدى ھذا الفاعل ،وبه يت ّم االستدالل على وجود ﷲ
في برھان النظم .فالنظم المقصود في ھذا الدليل ھو النظم الناشئ من وجود العلّة الغائيّة في ھذا الكون.
ففي حين ينكر الماديّ أصل وجود العلّة الغائيّة ،6يعتقد اإللھيّ بأ ّنه من المحال تفسير النظم الموجود في العالم إذا لم ُند خل
أص َل العلّة الغائيّة.
مضمون وقضايا واضحةٍ ،فھو يعت قد بو جود قوّ ٍة وطا ق ٍة كت بت ھذه الر سالة )العل ّة
ٍ ً
رسالة تشتمل على عندما يجد اإلنسان
الفاعليّة(.
باإل ضافة إ لى ذ لك ،يعت قد بأنّ ھذه ال قوّ ة ال ب ّد أن ت كون ذات إدراك وإراد ٍة واخت يار ،بح يث أح سنت إخت يار األحـرف
ھائل من األ حرف والكل مات ،لتو صل ھذا الم ضمون الوا ضح ٍ واع ألشكالھا من بين ك ٍّم
والكلمات ،وقامت بعمليّة انتخاب ٍ
بواسطة الكتابة ،وبالتالي فال يمكن أن يكون كاتب ھذه الرسالة أ ّم ّيا ً أو طفالً جاھالً بالكتابة.
فالنتيجة ،ال تكفي العلّة الفاعلة وحدھا في مثل ھذه الموارد بل تحتاج إلى توف ّر إراد ٍة وإخت يار ل كي يتحق ّق ال ھدف والغا ية
المرجوّ ة.
49
واألمثلـة علـى ذلـك كثــيرة :تبــدأ بـالتنظيم الھائـل لجسـم اإلنســان)عينيــه ،أســنانه ،معدتــه ،(...إلــى التناســب العجيــب لــدى
الحيوانات ،إلى غرائب تنسيق المجموعة الشمسيّة وغيرھا...8
50
وحكيم لھا.
ٍ واع
اختيار ٍ
ٍ ك ّل ھذه المظاھر بنظمھا الدقيق ال يمكن أن تكون إال على أساس
حساب اإلحتماالت:
الحوادث الممتنعة :إنّ احتمال أن تكون بيضاء ھو 1/0أي صفر ،أل ّنه ال يوجد أيّ رصاص ٍة بيضاء.
ت ح مراء ،و صار المج موع 7رصا صات ،فالحوادث المحتم لة :إنّ احت مال أن
وأم ّا إذا أ ضفنا إ لى الك يس 4رصا صا ٍ
ٌ
رصاصة سوداء من المجموع ھو ،7/3 :واحتمال أن تكون الرصاصة حمراء ھو.7/4 : تخرج
المسألة الثانية :إنّ وقوع حادثتين على التوالي ھو حاصل ضرب عدديھما اإلحتماليين ،ومثال ذلك:
فھنا لو ا ُّدعي أنّ الذي طبع ھذا البيت شخصٌ أمّيّ ال يعرف إستعمال اآللة
51
بشكل عشوائيّ على الطابعة ،لكان الجواب على ھذا االدّعاء بحساب االحت مال
ٍ الكاتبة سوى أ ّنه جلس وأخذ يُحرّ ك أصابعه
على النحو التالي:
1ـ إنّ احتمال إختياره أوّ الً للحرف )أ( من بين األحرف األبجديّة نسبته ،(0.036 =) 28/1بنا ًء على ما مرّ في الم سألة
األولى.
2ـ وإحت مال أن يخ تار )أ( وب عده مبا شرة )ت( ن سبته 28/1 * 28/1 :أي ،(0.00127=) 784/1ب نا ًء ع لى الم سألة
الثانية ،وھذا إحتمال ضعيفٌ ج ّداً.
3ـــــــ واحتمــــــال أن يختــــــار )أ( وبعــــــده )ت( وبعــــــده )ح( نســــــبته 28/1 * 28/1 * 28/1 :أي ) 21952/1
،(0.00004555393وھذا احتمال أضعف بكثير.
4ـ ـ أ ّمــا إحتمــال أن يختــار الترتيــب الكامــل لكلمــة) :أتحســب( فنســبته 28/1 * 28/1* 28/1* 28/1 * 28/1 :أي /1
،(0.00000000581) 17210368وھذا إحتمال ال يمكن ت صوّ ره ،فك يف إذا ا ستمرّ الح ساب إلحت مال أن ي كون قد
طبع البيت الكامل المؤلّف من 36حرفا ً ب شكل ع شوائيٍّ ؟! فإ ّن نا سوف ن ضرب 28/1بنف سھا 36مرّة ،و ھذا ين تج عدداً
كسر ّيا ً ال يمكن للذھن البشريّ أن يحتفظ به.
وشاعر،
ٍ عالم
ب ٍ ت واح ٍد من الشعر ،وال نتع ّقل رجالً أم ّيا ً قد صفّ ھذه األحرف ،بل ال ب ّد من وجود كات ٍ
إذا كان ذلك في بي ٍ
فكيف بنظام العالم؟
52
يعترض البعض على العليّة الغائيّة والھدفي ّة في طبي عة األ شياء ،ب ما نراه من صدف ٍة تؤ ّدي إ لى ب عض األ حداث .ف ھؤالء
يرفضون أن يكون النظم ھو الحاكم في ھذا العالم ،إذ للصدفة تأثي ٌر في حواد ثه وظوا ھره ،مم ّا يب طل االعت قاد بالنظم في
وإختيار.
ٍ وعلم
ٍ فاعل كليٍّ ذي حكم ٍة
ٍ طبيعة أشياء ھذا العالم ،وبالتالي ينفي وجود
في الواقع ،نحن نقرّ بوجود الصدفة في ھذا العالم ،فنحن ن شاھد أحيا نا ً سائقا ً يتوجّه ن حو عم له فإذا به ي صدم أ حد ال مارّ ة
صدفة من بين أحجار الجدار ،فنحن نؤمن بوقوع ً الذي ينوي التوجّه إلى منزله ،ونشاھد أيضا ً نبتة ور ٍد صغيرة قد خرجت
ً
ھذين األمرين وال ننكر ذلك ،ولكن السؤال :ھل صحيح أنّ مثل ھذين الحادثين ـ اللذين يق عان صدفة ـ ين في و جود الن ظام
ف معيّن؟!القائم على أساس مبدأ العليّة الغائيّة ،وعلى أساس القول بأنّ عالم الطبيعة يتحرّك باتجاه ھد ٍ
نسبي أو مطلق؟
ّ لتحقيق ھذا األمر ال ب ّد من البحث في دور الصدفة وحقيقتھا ،وھل أنّ دورھا
نسبي:
ّ الصدفة أمر
إنّ الباحث إذا حلّل الصدفة فسيجد أنّ الحوادث التي تقع مصادفة ھي عبارة عن أحداث ظھرت بسبب ت قاطع م سار علّت ين
تتحرّك ك ّل منھما نحو ھدفھا مع الغفلة عن مسار حركة العلّة األخرى ،فال سائق ت حرّك إ لى عم له ،و عابر الطر يق ت حرّك
إلى منزله ،وكان ك ّل واح ٍد منھما غافالً عن حركة اآلخر فوقع اإلصطدام ،وكذلك النبتة في الجدار ،فإ ّن ھا قد ن مت انطال قا ً
من حركتھا الطبيعيّة نحو ھدفھا.
53
إلى ھنا يتب ّين أنّ ھذه األ شياء كا نت ت سير و فق ال ھدف والن ظام المر سوم والم حدّ د ل ھا ،ف ما ھو دور ال صدفة في ھذه
األحداث؟
ٌ
صدفة في ن ظرة مع ّي نة ،بين ما ھي ن ظ ٌم في ن ظرة إنّ دور الصدفة في وقوع األ حداث ھو دور ن سبيّ ،وذ لك بم عنى أ ّن ھا
أخرى ،وتوضيح ذلك:
ً
صدفة ،وأم ّا إذا نظر نا إلي ھا بن ظرة أ كثر شموليّة إذا نظر نا إ لى ت لك األ حداث بن ظرة جزئي ّة فإ ّن نا ن قول إ ّن ھا قد وق عت
فسي ّتضح أ ّنھا كانت تسير نحو ھدفھا وغايتھا ،فمن زاوية النظام الكليّ لل عالم ،إن حادث اإل صطدام ھو جزء من ال ھدف،
لكنّ نظرة ك ّل من السائق والعابر الجزئيّة لم تكن ترى ھذا الھدف ،أم ّا ال ناظر من بع يد فإن ّه ع ندما يرى ال سيّارة والعا بر
فإ ّنه سيرى اإلصطدام أمراً يسير وفق طبيعة األشياء وغاياتھا .فنحن عندما نتحدّث عن حالة الھدفيّة في عالم الطبيعة ف ھذا
يعني أن تتجسّد الھدفيّة و فق قانون ك ليّ ،ف قوانين الھدفي ّة كلي ّة ولي ست جزئي ّة وشخ صيّة ،و لذلك ال حا جة ألن نب حث في
الموارد الجزئيّة والشخصيّة.
ٌ
صدفة ناشئٌ عن جھلنا ،فعندما نجھل سرّ وقوع أ ٍ
مر ما نن سبه إ لى ال صدفة ،لذ لك وبعبارة أخرى ،إنّ الحكم على أمر بأ ّنه
ً ّ ً
أرض ال يعلم أن في أعماقھا كنزا نقول بأنه وجده صدفة ،أمّا لو حفر نفس األرض من يعلم بو جود ٍ عندما يحفر إنسانٌ في
ً
صدفة في نظر العالم بو جوده في ب طن األرض ،بين ما ھذا الكنز فال نحكم على ذلك بأ ّنه صدفة! فالعثور على الكنز لم يقع
ٌ
صدفة بنظر الجاھل! ھو
ف معيّن ،فإذا ع لم من ي طوي ھذا الم سار بحقي قة ھد فه ،فإن ّه لن يرى
مسار وھد ٍ
ٍ و ظواھر وأحداث العالم ھذه تقع ضمن
ً
صدفة ،بينما ننسب ھذا التحرك -بسبب محدوديّة علمنا وعدم شموليّة نظرنا -إلى الصدفة. تحرّكه فيه
54
ففي النتيجة ،إنّ ما نراه من أنظمة في عالم الوجود ليس ناشئا ً عن الصدفة ،فإنّ من يرى العالم على حقيقته خاضعا ً لتأثير
علم كليّ وإراد ٍة كل ّيةٍ ،يراه يسير وفق غايته وھدفه.
وتدبير ٍ
تعابير القرآن في إشارته إلى برھان النظم:
ھا
ـب َ
س َُح َ
لت ْ تختلف تعابير القرآن إذ يشير إلى برھان النظم ،فتار ًة يعبّر بإتقان الصنع ،كما في قو له ت عالى:
﴿ َ
وت َ َرى ا ْلجِبَـا َ
خب ِي ٌر بِم َ ا تَ ْف َعلُـونَ ،﴾9في ما يعب ّر في آ يات أ خرى
ه َ
ي ٍء إِنﱠ ُ
ش ْ
ل َ ك ﱠ
َن ُع ﷲ الﱠذِي أَ ْتق َ
ص ْن َ
حابِ ُ
الس َ
ﱠ م ﱡر َ
م ﱠر ي تَ ُ م َد ًة َو ِ
ھ َ جا ِ
َ
بالتقدير ،كما مرّ في اآلية من سورة األعلىَ ﴿ :والذِي ق ﱠد َر ف َھدَى﴾ وھو صدور الخلق على أساس الحكمة.
َ َ ﱠ
55
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
ـ يمكن للباحث عن التوحيد أن يعتمد على العلم كعامل مساعد للتوصّل إلى إثبات وجود ﷲ.
ـ أشار القرآن الكريم إلى األنحاء الثالثة من أنحاء الطريق العلميّ ،في آيتي سورة العلق.
1ـ برھان النظم :في مقابل الصدفة ،فالنظم يعني اإلعتماد على العلّة في وجود األشياء.
ـ للعلة أربعة أقسام :العلّة الماديّة ،العلّة الصوريّة ،العلّة الفاعليّة ،العلّة الغائيّة.
ـ يؤمن ك ّل من الموحدين والماديّين بالنظم الناشئ عن العلة الفاعليّة ،بأن يكون لك ّل ظاھر ٍة أو حادث ٍة في ھذا العالم فاع ٌل
وقوّ ةٌ سبّبته ،ولكن ھذا ال يكفي إلثبات وجود ﷲ.
ـ ما ينفع في إثبات وجود ﷲ ،والذي كان موضع خالف الماديّين واإللھيّين ،ھو النظم الناشئ عن العلّة الغائيّة ،بأن يكون
من وراء نظم العالم فاع ٌل مدر ٌ
ك مختارٌ ،حيث يكون وراء ھذا النظم الدقيق مدبّر حكي ٌم.
ـ يتحدّث البعض عن الصدفة ،ويعتبر أ ّنھا تنافي النظم والھدفيّة في طبيعة األشياء ،إال أنّ الصحيح أنّ ما يوصف بأ ّنه وقع
جھل بشؤون العالم ،وأمّا بالنسبة لمن ينظر إلى العالم بنظرة كليّة شموليّة،
ٍ ً
صدفة ھو نتيجة نظر ٍة جزئ ّي ٍة لألحداث ونتيجة
فإ ّنه ال يجد للصدفة مكانا ً كي ّ
تؤثر في أحداث العالم.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
1ـ ما ھي أنحاء المعرفة العلميّة وشبه الفلسفيّة؟
2ـ ھل أشار القرآن الكريم إلى ھذه األنحاء؟
3ـ ما ھي أنواع العلل؟ وما ھي العلّة التي وقعت مح ّل نزاع بين الماديّين واإللھيّين؟
-4ما معنى النظم في استدالل اإللھيّين؟
5ـ ما ھو دور العلّة الغائيّة في إثبات وجود ﷲ؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1الحادث في االصطالح :ھو الموجود المسبوق بالعدم .ويقابله القديم :ھو الموجود غير المسبوق بالعدم.
-2األعلى 1:ـ .3
ج ع.
فليرا َ
ُ ،( ماتدّ المق )لّ واأل الدرس في البحث ھذا إلى -3وقد تعرّضنا
ن له كتاباً آخر بعنوان) :الذرّة الالمتناھية( اعتمد فيه على مبادئ أخرى .لذلك ال بـ ّ
د من -4كما وقع فيه المھندس بازركان في كتابه )الطريق المسلوك( ـ وغيره ،إال أ ّ
د أن يكون قائماً على العل ّة الغائيّة ال الفاعليّة.
ن االستدالل فيه ال ب ّ
االلتفات عند قراءة بعض الكتب حول برھان النظم إلى أ ّ
-5اال أن الماديين يعتقدون بأن سلسلة العلل والمعلوالت غير متناھية من كال الطرفين التصاعدي والتنازلي ،ويكتفون بھذه السل سلة لتفسـير حـوادث وظواھـر ھذا
العالم.
-6العلماء التجريبيّون المعاصرون منقسمون بشأن قبول العليّة الغائيّـة وعـدم قبولھـا ــ ب خالف تسـليمھم بالعليّـة الفاعليّـة -ولـذلك يجـب االسـتدالل علـى وجودھـا
حتھا.
وص ّ
ن ھنـاك أمثلـ ًة
دعي بأنه ال يمكن االستدالل بالمعلول على صفات العل ّة ،أو يشكل بأنّنا ال نصـدق إال مـا نـراه ونحـس بـه .كمـا أ ّ
-7وبھذا الجواب يمكن الردّ على من ي ّ
كثير ًة من واقع الحياة واإلنسان تؤكّد االستناد إلى أمر محسـوس للتصـديق بـآخر غـير مح سوس؛ كنسـبة اإلدراك أو الرأ فة أو الغضـب أو غيرھــا إلـى مـن حولنـا من
الناس...
ي فھذا أمر يحتاج إلى كتب لبيانه ،ويمكن الرجوع إلى كتب مؤل ّفـة في ھـذا المجـال ككتـب
-8بالنسبة لمصاديق وشواھد وجود النظم في مختلف أجزاء العالم الكون ّ
)كريستيان موريسن( ،و)الكسيس كارل(...
-9النمل88:
اﻟﻌﻠﻤﻲ -2-
ّ اﻟﺪرس اﻟﺮاﺑﻊ :اﻟﻄﺮﻳﻖ
أھداف الدرس
59
برھان الھداية:
يتعلّق برھان الھداية بسلوك الموجودات ،فھو يتناول األشياء والموجودات في حركتھا وسيرھا نحو التكامل ،ذلك أن ّه ح ين
جة عن تركيبت ھا الذاتي ّة ـ أي غير الحر كة الذاتي ّة التلقائي ّة واإلرادي ّة ً
عجيبة خار ً ً
حركة نتأمّل ھذه الحركة ،نالحظ أنّ لھا
المترتبة على حسن نظمھا وإتقان صنعھا -ممّا يكشف ـ وبال ريب ـ عن وجود قوّ ٍة خار ج ٍة ت ھديھا في ھذه الحر كة ،وإن
ً
مجھولة بالنسبة لنا ،ولذلك نطلق عليھا أسماء من قب يل :قوّ ة الع شق أو اإلرادة ،أو الت سخير الغ يبيّ ، كانت حقيق ُة ھذه القوّ ة
أو النور أو الجاذبيّة...
بھذا الشكل يتبيّن أنّ برھان الھداية ـ الذي ينطلق من ھداية األشياء في حركتھا ـ يختلف عن بر ھان الن ظم ا لذي كان يھ ت ّم
بمستوى نظم وتكوين األشياء والمو جودات -من ح يث شكلھا وتركيب ھا وإت قان صنعھا لت صل إ لى ھدفھا ـ ح يث ي ستد ّل
بطبيعة نظامھا على أنّ لھا فاعالً مدركا ً ومختاراً.
يع ّد تصنيف النظم والھداية كدليلين مستقلّين أمراً مبتكراً .ويمكن أن يُستم ّد
61
ھذا التقسيم من كلمات الفخر الرازيّ في تفسيره لسورة األعلى ،حيث استند في ھذا التم ييز إ لى ال قرآن ال كريم ،إذ ال قرآن
الكريم ھو أوّ ل من ذكر برھان النظم وبرھان الھداية كدليلين مستقلّين ،وذلك في مجموعة من آياته:
لوق شك َل
َـه﴾ إ شارة إ لى بر ھان الن ظم ،ح يث أع طى سبحانه ك ّل مخ ٍ خ ْلق ُ
ـي ٍء َ
ش ْل َفقوله ت عالىَ ﴿ :ربﱡ َنا الﱠـذِي أَعْ طَـى كُـ ﱠ
ھدَى﴾ ،إشارةٌ إلى برھان الھدا ية ،ح يث ع طف ب ـ ) ث ّم( مم ّا ي شير م َوصور َة الخلق وفق ما تقتضيه الحكمة ،فيما قوله﴿ :ثُ ﱠ
إلى أنّ الھداية مستقلّ ٌة وتكون بعد النظم ،فھي غير الھداية التلقائيّة الذاتيّة المترتبة على نفس النظم.
س ﱠوﯨ َوالﱠذِي ق َ ﱠد َر َفھ َ دَى﴾ ،2و قد ب ّي نا أنّ ھذهف َق َ خلَ َ األَعْ لَى الﱠذِي َ
ك ْ م َربِّ َ
اس َ 2ـ قوله تعالى ـ في سورة األع لىَ ﴿ :
س ِب ّحِ ْ
س ﱠوى﴾﴿ ،
َ َ
ف ﴿ : وقوله الخلق، برھان إلى ٌ ةإشار ﴾قَ ََ لخ ِي
ذ ﱠ ل ا﴿ :فقوله ٍ،
ة ّ لمستق كطرق
ٍ اآلية تشير إلى البراھين العلميّة الثالثة
َوالﱠذِي َق ﱠد َر﴾ إشارةٌ إلى برھان النظم ،فيما قولهَ ﴿ :ف َھدَى﴾ إشارةٌ إلى برھان الھداية.
ِين﴾ ،3فتبي ّن اآل ية أنّ ﷲ يتول ّى ھدا ية
و يَ ْھـد ِ 3ـ قوله تعالى :حاكيا ً قول إ براھيم الخل يل عل يه ال سالم﴿ :الﱠـذِي َ
خلَقَن ِي َ
ف ُھـ َ
الموجودات بعد خلقھا.
ت عالى﴿ :إ ْقـ َر ْأ 4ـ ومن اآليات التي تبيّن بر ھاني الن ظم والھدا ية كدليلين م ستقلّين ،اآل ُ
يات األو لى من سورة الع لق ،ي قول
خلَ َ
ق خلَ َ
ق* َ ك الﱠذِي َ
م َربِّ َ
اس ِ
بِ ْ
62
قد يقول قائل :إنّ الھداية ھي جز ٌء من النظم ،وليست أمراً مستقالً ،فإنّ حركة األشياء ـ الھداية ـ ھي الزمة جبري ّة لطبي عة
صنعھا ـ النظم -وليست شيئا ً آخر ،فإنّ طبيعة صنع السيارة ـ مثالً ـ ب ھذا ال شكل ي ستلزم أن تع مل وتت حرّك كو سيلة ن ٍ
قل،
وليس في البين شي ٌء جدي ٌد غير الكشف عن إدراك وحسن إختيار صانعها.
ولكنّ ھذا القائل قد غ فل عن أنّ اال ستدالل ببر ھان الھدا ية ،ال ي كون بت لك الحر كة العادي ّة للمخلو قات ،وا لتي ھي نتي جة
جبريّة لتركيبتھا الماديّة ونظمھا ،بل اال ستدالل ھو بأمر ُي ضاف إ لى م بدأ الن ظم المو جود في الت كوين اآل ليّ للمو جودات
والذي له أث ٌر حتميٌّ في عمله ،وبحرك ٍة ھاد ف ٍة وواع ي ٍة خار ج ٍة ت حرّك األ شياء في م ساراتھا ،وال ترتبط بطبي عة تركيب ھا،
ظام خاصّ ،ومھدي ٌّة ثان يا ً طب قا ً ممّا يكشف عن قوّ ٍة خارج ٍة تتح ّكم بھا فتسيّر األشياء وفق ھدايتھا .فاأل شياء مخلو ٌ
قة أوّ الً بن ٍ
لمبدأ آخر.
فنحن نتحدّث ھنا عن نوع من ال قدرة ع لى اإل بداع واإلخت يار .ول يس من شأن الترك يب ال ماديّ الق يام باإل بداع واإلخت يار
مھما كان نظمه دقيقا ً ومتطوّ راً ،فجھاز
63
إنّ طبيعة ما تقوم به الموجودات الحيّة من أعمال إختياريّة وإبداعيّة ،إضافة إلى ما يو ّفره لھا تكوينھا الذاتيّ من مؤھّالت،
تكشف عن حتميّة وجود قوّ ة تجذبھا للتحرّك بھذا اإلتجاه.
الفلسفي:
ّ الھداية بلغة المنھج
بشكل آخر فيقول :ال ب ّد من اإلقرار بأ ّنه ال يمكن تف سير حر كة ال عالم الكو نيّ ع لى أ ساس ٍ يعبّر المنھج الفلسفيّ عن الھداية
)مبدأ الميكانيكيّة( ـ بأن يكون كيان العالم أشبه باآللة المصنوعة بدق ّة ،يترت ّب علي ھا حرك ته الميكانيكي ّة ـ إذ ال يم كن ل ھذا
المبدأ أن يفسّر جميع الحوادث الكونيّة .من ھنا ال ب ّد من اللجوء إلى مبدأ آ خر ي سمّيه الغربي ّون ب ـ )م بدأ الديناميكي ّة( ا لذي
يتولّى ھداية موجودات العالم ،وبصورة ٍتصل أحيانا ً إلى مرتبة الخلق الذاتيّ .
نتيجة ما تق ّدم:
إلى ھنا تبيّن أ صل ف كرة بر ھان الھدا ية .و ما يھ ّم نا ،حتى يث بت صحة اال ستدالل ب ھذا البر ھان ،ھو أن ن ّب ين و جود ھذه
الحركة الھادفة اإلضافيّة في الموجودات.ولذلك سنبيّن وجود ھذه الھداية في اإلنسان ،ث ّم في الحيوان ،فالنبات ،فالجماد.
64
ت مو جود ٍة في ج سم اإلن سان .من ھذه الخصو صيّات أن ّ ه ي قوم تلقائي ّا ً وال ھر وخصو صيّا ٍ يكشف الع لم ال حديث عن ظوا َ
ضرر ،و كذلك ي قوم د مه ال ٍ جرح أو
ٍ لكسر أو
ٍ شعور ّيا ً بترميم ما يتلف من خالياه ـ ضمن حدود معيّنة .وذلك عند تعرّضه
مقدار يكمل النقص الذي قد يحصل في ب عض أجزا ئه ـ كالكر يات البي ضاء -وم ثل ھذه األ مور تع تبر أ موراً ٍ إراد ّيا ً بتوليد
مة ،ألنّ ھذه األ مور ّ
ومنظ ً قة ،ومھ ما كا نت أع ضاؤه مر ّت ً
بة مستقلّة عن طبيعة نظم تركيبته الماديّة مھ ما ع ُ ّد بد نه آ ً
لة دقي ً
تحصل بصور ٍة وكأنّ لتركيبته الماديّة شعوراً ووعيا ً وإراد ًة غير شعوره وإرادته ،فيما ھذا األ مر غير مع ھو ٍد في أيّ آ لة
أو تركيبة ماديّة.
من المبادئ الثابتة في علم البيئة) :مبدأ التكيّف مع البيئة( ،6ويعتبر ھذا المبدأ من أسرار ھذا العالم ،وتوضيحه:
حيوان يعيش في منطق ٍة بارد ٍة إلى منطق ٍة حارّ ةٍ ،فھنا سنرقب ع ّدة تحوّ الت في طبيعته وباقي أجھزته ،بع ضھا
ٍ إذا قمنا بنقل
تأثيره طبيعيّ واآلخر خارجيّ :
ّ
ستؤثر على جلده الشمس ممّا يُحدث فيه تغييرات فيزيائيّة أو كيميائيّة ،وھذا أمر عاديّ . ـ
فعل إراديّة ّ
تؤثر في بدنه ،كأن يحتاج في البيئة الجديدة إلى م ّد عن قه إلقت طاف أوراق ال شجرة العال ية، ـ ستكون لديه ردود ٍ
ممّا قد يؤدّي إلى إطالة عنقه ،وفق نظريّة )المارك(.
65
غيرات ھاد ٌ
فة تلقائي ٌّة و غير إرادي ّ ٍة ـ ال تن شأ من اآل ثار البيئي ّة المبا شرة ،وال من اإلرادة الذاتي ّة للح يوان- ٌ ـ ستحدث فيه ت
ّ ّ ً
وتكون ھذه التغيرات ھادفة تتناسب ومقتضيات البيئة الجديدة ،فيتغيّر شعر جلده ولون بدنه حت ى يتمك ن من مقاو مة أ شعّة
الشمس القويّة ،إلى تغيرات أخرى في أعضائه وجوارحه.
مكان ال يوجد ف يه د ي ٌ
ك يدافع عن ھا ،ف في ھذه الحا لة سيظھر ٍ ٌ
دجاجة في وذكر )إبن سينا( مثاالً لذلك ،وھو ما لو وُ ضعت
تدريج ّيا ً مخلبٌ خلف قدمھا ـ كما ھو عند الديك ،ث ّم يشت ّد لتستخدمه كحربة في العراك.
نتيجة طبيعي ًّة ّ
لتأثر ما ،وال يكون إراد ّيا ً من ن فس الح يوان ،وبال تالي ھو ً إنّ مح ّل كالمنا ھو مثل ھذا التغيّر ،الذي ال يكون
بنوع من ال شعور غير اإلراديّ ،مم ّا يك شف عن ھدا ي ٍة ٌ ٌ
ليس مقتضى طبيعة نظمه وتركيبه ،وإ ّنما ھو عم ٌل وحركة ھادفة
ٍ
يتدخل في سير وحركة ھذا الحيوان يُضاف إلى طبيعة نظمه وإتقان صنعه. ّ وتدبير خفيّ
ٍ
يتحصّل من ذلك أنّ ھذه الن شاطات الم ثيرة للدھ شة وا لتي نرا ھا في سلوكيّات اإلن سان و غيره من الكائ نات الحي ّة ـ م ثل
ترميم خاليا اإلنسان وظھور أعضا ٍء جديد ٍة لدى الحيوان ـ شيء غير النظم الموجود في بدن المخلو قات ،و ھذا يع طي أن
نوع من الھدا ية
ٍ في البناء العا ّم للموجودات المنظم)النظم( شيئا ً ي شبه الل غز خفِ يت علي نا حقيق ته ،و ھو يك شف عن و جود
الخفيّة تقود الموجودات الحيّة نحو أھدافھا.
ث ّم إنّ ھناك مظاھر أخرى يمكن مالحظتھا في ك ّل من اإلن سان والح يوان ،وا لتي ال يم كن تف سيرھا سوى باالعت قاد بت لك
الھداية الخفيّة ،كالغريزة في الحيوان واإللھامات لدى اإلنسان ،وبيانھا:
66
ويمكن اإلطالل على مجموعة أخرى من ھذه الھدايات في الحيوانات ،وذلك من قبيل ما يُعرف بـ )الغريزة( ،و ھي مظ ھ ٌر
من مظاھر الھداية المتنوّ عة التي يمكن مالحظتھا في سلوكيّات الحيوا نات .والغر يزة ھذه ت كون أ قوى كلّ ما كان الح يوان
ـة وعجيبـ ٌ
ـة ،نظــير مــا ھــو موجــو ٌد فــي النحــل والنمــل ـات مدھشـ ٌ
أضــعف ،ولــذلك توجــد فــي الحشــرات غرائــز وتحرّ كـ ٌ
والعنكبوت...
و َيفترض البعض أنّ مثل عمل النحل عم ٌل صاد ٌر على نحو التعل يم والتعل ّم ،ونتي جة تجر ب ٍة إ ستمرّ ت آالف ال سنين ،إال أنّ
ھذه الفرضيّة بطلت ،لوجود أنواع من الحشرات ك ـ )األموف يل( ،7و كذلك نوع من األ سماك ،ت قوم بأع مال عجي ب ٍة ودقي ق ٍة
ومنظ م ٍة تنا سب حيات ھا الخاص ّة ،وت ستمرّ في مخت لف األج يال ،مع أنّ الج يل الال حق في ھذه الحيوا نات ال يرى الج ي َل
السابق أصالً ـ فال معنى للتعليم -حيث يموت الجيل السابق كل ّيا ً قبل أن يظھر الجيل الالحق أو تزامنا ً مع ظھوره.
ّ
مخطط أو ھدا ية ل ھذه ال سلوكيّات في الحيوا نات، إنّ وجود ھذه الظواھر في الحيوانات ،ال يمكن تفسيره إال بالقول بوجود
ما دامت األجھزة الدماغية العصبيّة أليّ حيوان ،عاجز ًة عن القيام بمثل ھذا التوجيه والھداية.
إنّ في اإلن سان من م ظاھر الھدا ية والتوج يه ما ھو أ سمى من الغر يزة ا لتي في الح يوان ،ونن سبھا إ لى مجمو ع ٍة من
اإللھامات ،ويمكن تقسيمھا إلى ثالث مجموعات:
67
وھي األوامر التي يجب على اإلن سان أن ي قوم ب ھا ،وا لتي تحق ّق م صلحة المجت مع ،وي طوي ب ھا اإلن سان طر يق الك مال،
وھي أنواع:
اإلنساني :وھو مجموعة من األوامر التي تحكم بھا فطرة اإلنسان و تدعوه إ لى الق يام ب ھا مقا بل نوا ٍه عن
ّ أ -حكم الوجدان
ن إِ ﱠال
ســا ِ
ح َ ج ـ َزا ُء ْ ِ
األ ْ ـل َ ال قرآنَ ﴿ :
ھـ ْ أ شياء أ خرى ،كأن ي ُدرك اإلن سان أنّ جزاء اإلح سان ھو اإلح سان ،ا لذي عب ّر ع نه
سانُ ﴾.8
ح َ ِْ
األ ْ
معتدلة سوي ًّة ،قد أُلھمت وعرفت طبيعة األعمال القبيحة واألعمال الصالحة
ً إذاً إنّ النفس اإلنسانيّة وفطرتھا ،بعد أن ُخلقت
ھا﴾.9
وا َ ُجو َر َ
ھا َوتَ ْق َ ھا ف ُ
م َ فأَ ْل َ
ھ َ ھا َ
وا َ
س ﱠ
ما َ
ْس َو َ فميّزت بينھا ،وھذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالىَ ﴿ :
ونَف ٍ
68
اللوامة :ھناك نو ٌع من المحاسبة الذاتيّة تقوم به نفس اإلنسان ،حيث تلومه على ما يرتكبه من سيئات األع مال ج ـ النفس ّ
ّ
وتحاكمه بعد أن يختلي بنفسه ،مم ّا يج عل ال جاني يدرك أن ه يرت كب ال جرائم .و لذلك تك شف ك ثي ٌر من الت جارب أنّ الج ناة
ت روح ّيةٍ ،كما ينقل عن )بسر بن أرطأة( الذي كان أحد جالوزة بأمراض نفس ّي ٍة وعصب ّي ٍة وأزما ٍ
ٍ يصابون في عاقبة أمرھم
معاوية حيث كانت عاقبته أن ابتلي بالجنون ،وكذلك ينقل عن الطيّار الذي ألقى القنبلة الذريّة على مدينة )ھيروشيما(.
طرق يستطيع اإلنسان من خاللھا الحصول على المعلومات في الفنون العلميّة المتنوّ عة:
ٍ ھناك عدّة
األول :أنّ يعتمد التجربة واإلختبارات التي ُتثمر كشف الحقائق بصور ٍة تدريجيّة.
ـ الطريق ّ
ـ الطريق الثاني :أن يعتمد التف كير واال ستدالل والبر ھان واألقي سة ،فيح صل ع لى ن تائج كا نت مجھو لة لد يه ،إ ستناداً إ لى
مسبقا◌.11
ً مقدّمات يعرفھا
ھذه ھي الطرق المعھودة والمعروفة ،إال أنّ ھناك طريقا ً ثالثا ً ّ
مؤثراً في ح صول اإلن سان ع لى الم عارف ،و ھو ما ُي عرف
باإللھام اإلشراقيّ ،وھو مح ّل بحثنا.
فاإللھام اإلشراقيّ ھو نو ٌع من اإللقاء في الروع حيث تنقدح فكرةٌ في ذ ھن اإلن سان ف جأ ًة ب عد أن ي كون قد ع جز عن ح ّل
المسألة التي بين يديه ،وذلك عبر طريق آخر لم يكن قد ف ّكر به سابقا ً .فھذا النوع من المعرفة ال يكون معلوالً
69
إنّ النظريّة الصحيحة 13والتي تع ّم جميع أنواع األحالم ھي النظريّة التي تعتمد على تقسيم األحالم إلى عدّة أنواع:
فبعضھا يحصل نتيجة األحوال الجسميّة لإلنسان ،كالجائع أو الظامئ يرى الط عام أو ال ماء ال عذب في الم نام ،و كذلك من
يتناول طعاما ً يؤذي معدته يؤدي ذلك إلى إيجاد إضطرابات ،تؤ ّدي بدورھا إلى رؤية كوابيس.
وبعضھا مرھونٌ بأحواله الروحية ،وذلك من قبيل الرؤى التي تعبّر عن األمور
70
ٌ
ثالث يعتبر من اإلشراق واإللھام ،وال يرتبط بأيٍّ من أحوال اإلنسان الروحيّة أو الجسميّة. وثمّة نو ٌع
ك با ً
ك ْو َ
عَشـ َر َ
َ ـت أَ َ
حـ َد ه يَـا أَبَـتِ إِنِّـي َرأَ ْي ُ
ف َألَبِي ِ
وس ُ
ل ُي ُ وھذا من قبيل رؤيا النبيّ يوسف عليه السالم في طفول ته﴿ :إِ ْذ َ
قا َ
َ
ك إِنِ ّي أ َرى ل ا ْل َ
ملِ ُ قا َ ين﴾ ،14ورؤيا الملك التي فسّرھا نفس يوسف عليه ال سالمَ ﴿ :
و َ د َ
ج ِ
سا ِ م َر َرأَ ْي ُت ُھ ْ
م لِي َ س َوا ْل َ
ق َ م َ
الش ْ
ﱠ وَ
ساتٍ﴾ ،15وكذلك رؤ يا الر سول األ كرم صلى خ َر يَابِ َ ر َو ُأ َ ض ٍ خ ْس ْن ُبالتٍ ُع ُ س ْب َ
اف َو َ ج ٌ ع َ
ع ِس ْب ٌ
ن َ ن يَ ْأ ُ
كل ُُھ ﱠ ما ٍ
س َ ع بَ َ
ق َراتٍ ِ س ْب َ
َ
شا َء ﷲ
َ نْ إ مارح
َ َ َ ِ ْ
ل ا د جس م
َ ْ ِ َ ْ
ل ا ُنلخ تَ ل قح ْ
ل
ِ َ ّ ِ َدْ ُ ﱠ ا ب ْيا
ؤ ﱡ
ر ال هُ َ ل و س
َ ُر ﷲ َقَ
د ص
دْ َ َ
ق َ ل ﴿ : الفتح عام قت ّ
ق تح التي وسلم وآله عليه ﷲ
ِين.16﴾...
من َ آ ِ
ت وإيحاءا ٍ
ت ال نعرف كنھھا وال حقيقتھا إنّ مثل ھذا القسم األخير من الرؤى ال يمكن تفسيره إال بعد اإلقرار بوجود إلھاما ٍ
وال نعلم سوى أ ّنھا تأتي من ٍ
أفق آخر.
يذكر علم األحياء أنّ جميع الكائنات الحيّة ـ من حيوان ونبات ـ ير جع في التحل يل الن ھائيّ إ لى ما ُي عرف بالخلي ّة األو لى،
ً
مرتبة من التكامل تحوّ لت معھا أصل واحدٍ ،وھذا ھو مبدأ التكامل ،ث ّم إنّ ھذه الخليّة بلغت
ٍ فترجع النباتات والحيوانات إلى
إلى خليّتين :خليّة نباتيّة وأخرى حيوانيّة ،بحيث صارت طريقة أداء وإحتياجات ك ّل
71
وھنا نقول :إنّ الخليّة األولى بتكوينھا الماديّ المنظ ّم ،مھما بلغت من الدقة ،فإنّ غا ية ما يم كن أن ت قوم به ھو أن تتكا ثر
تدريج ّيا ً بحيث تش ّكل مجموعة من األعضاء المتناسقة ،أمّا أن تنقسم إلى نوعين مختلفين تماما ً بل ومتناق ضين أحيا ناً ،ف ھذا
ما يعجز عنه تركيبھا الماديّ ،وھو بحاج ٍة إلى قوّ ٍة خارج ٍة عن ذاتھا.
إال أنّ العلوم الحديثة لم تستطع ح ّتى اآلن إثبات ھكذا ھداية ـ أي غير اللوازم الذاتيّة ـ في الج ماد ،بل ظ ّل األ مر مج ھوالً
بالنسبة لھا ،لك ّنھا في المقابل لم تستطع أن تنفيھا.
فمثالً إكتشف ن يوتن ) قانون الجاذبي ّة( ،وا لذي وف قا ً له تفس ّر حر كات األ شياء.إال أنّ غا ية ما اكت شفه ھو و جود نوع من
الجاذبيّة بين األجسام واألجرام في الكون ووضع المعادلة الرياضيّة لذلك .فھو عرّف ھذا القانون بآثاره لك ّنه ب قي عاجزاً ـ
بإعترافه ـ عن تبيين ماھية ھذه الجاذبية ،فما ھو سرّ ھذه الظاھرة؟!
72
إنّ نيوتن نفسه صرّ ح بتأثير اإلرادة اإللھيّة في قانون الجاذبيّة ،ف قال):إنّ ال قانون ا لذي اكت شفته ال يك في و حده إلي جاد ھذا
النظم وال ب ّد من وجود قوّ ٍة ّ
مؤثر ٍة إضافة لذلك(.
إنّ العلم إذا كان عاجزاً عن إثبات الھداية اإلضافيّة في حركة الجماد ،فھو عاج ٌز أيضا ً عن إنكارھا بإثبات أنّ ھذه الظاھرة
الحركيّة ھي من اللوازم الذاتيّة في تركيب األجرام.
73
ﺧﻼ ﺻﺔ اﻟﺪرس
ـ يعتمد برھان الھداية على التأمّل في الھداية التي تظھر كحركة مفاجئة في أثناء مسير األشياء والموجودات نحو التكا مل،
فيما يعتمد برھان النظم على التأمّل في نفس ترك يب وت كوين األ شياء المت قن بح يث تت حرّ ك ذاتي ّا ً ع لى و فق ھذا الترك يب
لتصل إلى ھدفھا.
ـ أوّ ل من ميّز بين برھاني الھداية والنظم ھو القرآن الكريم ،حيث ذكرھما كدليلين مستقلّين.
ـ لكي يصح االستدالل ببرھان الھداية ال ب ّد من إثبات وجود ھذه الھداية في الموجودات.
أشكال ،منھا ترميم جسمه تلقائ ّيا ً للخاليا التالفة ،وتعديل دمه لألجزاء التي قد يفقدھا.
ٍ ـ تظھر الھداية في اإلنسان في عدّة
ـ تظھر الھداية في الحيوانات عندما نتأمّل م بدأ التكي ّف مع البي ئة ،ح يث تظ ھر للح يوان ال شعور ّيا ً ب عض األع ضاء ال تي
تساعده ليعيش في بيئ ٍة جديد ٍة .كما تظھر الھداية في الغريزة التي نجدھا في ھذا الحيوان.
ـ ومن مظاھر الھداية في اإلنسان والحيوان ،ما يطلق عليه ا سم الغر يزة في الح يوان ،واإللھا مات المتنو عة في اإلن سان،
حيث نرى آثار ھذه اإللھامات ،ونبقى عاجزين عن الكشف عن حقيقتھا وماھيّتھا.
ّ
تتدخل في ھذا ال كون ،ع ندما نتأم ّل ما اكت شفه الع لم ال حديث ،من أنّ الكائ نات ـ يمكننا أن نستد ّل على وجود قوّ ٍة خارج ّي ٍة
ً
تناقض أحيا نا ب ين
ٍ الحيّة جميعا ً ترجع إلى خل ّي ٍة واحدةٍ ،نتج عنھا في ما بعد الحيوانات والنباتات ،مع ما ھنالك من ٍ
فرق بل
ھذين النوعين.
ـ يعتبر القرآن الكريم مبدأ الھداية شامالً ح ّتى للجماد ،إال أنّ العلم الحديث لم يتم ّكن من إثبات ذ لك ،ك ما أن ّ ه ال ي ستطيع أن
ينفي.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
1ـ ما ھو برھان الھداية؟
2ـ ھل ميّز القرآن بين برھاني الھداية والنظم؟
3ـ ما ھو الفارق الدقيق بين برھان الھداية وبرھان النظم؟
4ـ في أيّ الموجودات تالحظ ظاھرة الھداية؟
5ـ ما ھي اإللھامات األخالقيّة واإللھامات اإلشراقيّة عند اإلنسان؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1طـه49:ـ 50
-2األعلى 1:ـ .3
-3الشعراء.78:
-4العلق1:ـ.5
ل ھذه اآليات ،وحدھا ،تبيّن استقالل برھان الھداية عن برھان النظم. ن لع ّ
-5ھناك آيات أخرى كثيرة تشير إلى نظام الھداية ـ وسيأتي التعرّض إلى بعضھا ،ولك ّ
-6وتأتي اإلشارة إلى ھذا المبدأ عند الحديث عن اإلشكاالت على التوحيد في مبحث التوحيد ونظريّة التطوّر.
-7نوع من الحشرات أصغر من النحل وأكبر من الذباب.
-8الرحمن.60:
-9الشمس 7:ـ .8
-10البقرة.78:
-11راجع منطق المظفر في تعريف الفكر ،وخطوات التفكير.
ي من الكتاب والس ّنة ،وكلمات العلماء القدامى والمعاصرين. -12يمكن تأييد وجود اإللھام اإلشراق ّ
-13وتوجد نظريّات أخرى في تفسير الرؤى واألحالم:
النظريّة األولى :يقل ّل أصحاب ھذه النظريّة من أھميّة األحالم ،ويعتبرون أنّه كما يعمل فكر اإلنسان وشعوره حال اليقظة بشكل منظ ّم ،فإنّه يعمـل عنــد نومـه بطريقـة
غير منظ ّمة ،ويؤدّي ذلك إلى توليد مجموعة من التخيّالت غير المنطقيّة وھي األحالم.
ن لألحالم ـ بما يشمل أضغاث األحالم ـ أسساً منطقيّة ،وإن اختلفوا في طبيعة ھذه األسس. وھذه النظرية باطلة ،بعد أن أثبت العلماء أ ّ
ي)الـال شـعور(،
ي)الشـعور( ،وضــمير باطن ّ
النظريّة الثانية :اكتشف العلماء أثناء بحوثھم في بعض األمراض النفسيّة وجود نوعين من الضمير في اإلنسان :ضمير ظاھر ّ
ددة منھا أنّه يظھر في عالم المنام ويؤث ّر في حصول الرؤى واألحالم. ي نشاطات متع ّن للضمير الباطن ّوقالوا بأ ّ
ي .فـاألحالم جميعـاً
ي ،فتدخل حيّز الشـعور البـاطن ّ ن األحالم والرؤى ـ كل ّھا ـ عبارة عن تجليّات للميول المكبوتة والخفيّة التي طردھا الشعور الظاھر ّ
لذا يعتقد ھؤالء بأ ّ
بنظر ھؤالء ھي نتيجة مخزون من سوابق اإلنسان الجسميّة والروحيّة.
ن األساس الذي انطلقت منه ھذه النظريّة صحيح ،ولكنّھا أخطأت في تعميم تفسير الرؤى واألحالم علـى أسـاس ھـذا المبـدأ ف من المالحـظ أن ونحن بدورنا نعتقد بأ ّ
ة من المحال أن تكون قـد حــدثت سابقاً، ي نحو ،بل ترتبط أحياناً بأمورٍ مستقبلي ّ ٍ
بعض الرؤى المناميّة ال يمكن تفسيرھا على ھذا األساس ،حيث ال ترتبط بالماضي بأ ّ
د من نظريّة تستوعب الرؤى
ي ،ولذلك فال ب ّ
ومشھود بين سكان مختلف أرجاء المعمورة ،وعلى مدى التاريخ البشر ّ
ٌ كثير
ٌ واختزنت في باطن اإلنسان ،ومثل ھذه الرؤى
ُ
واألحالم جميعاً ،وھي النظريّة التي ذكرناھا في المتن.
-14يوسف.4:
-15يوسف.43 :
-16الفتح.27 :
-17طـه.50:
-18فصلت.12 :
د أن يكون من نوع الھمس في األذن.
ھم من أنّه ال ب ّ
-19فليس المراد من الوحي ما قد ُيتو ّ
اﻟﺘﻄﻮر
اﻟﺪرس اﻟﺨﺎﻣﺲ :اﻟﺘﻮﺣﻴﺪ وﻧﻈﺮﻳـّﺔ ّ
أھداف الدرس
75
تمھيد:
ظھرت في العلوم الحديثة نظري ٌّة اعتبر البعض أ ّن ھا ُت ش ّكل نق ضا ً لب عض براھين التوح يد ،و ھي نظري ّة الت طوّ ر والتكا مل
المعروفة باسم نظريّة داروين .فال ب ّد أن نط ّل على ھذه المسألة ،لنبحث ھل تؤث ّ ر واق عا ً ع لى أدل ّة التوح يد أم ال؟ وبع بارة
أخرى :ھل يستلزم اإليمان بالتوحيد االعتقاد بالنظريّة المقابلة لنظريّة التطوّ ر ،وھي نظريّة ثبات األنواع؟
تاريخ المسألة:
جرى البحث منذ القديم عن مسألة ثبات األنواع الحيّة وتبدّلھا .ويُذكر في أغلب الكتب ا لتي تناو لت تاريخ ھذه الم سألة أنّ
ثمّة نظريّتين في الم قام ،ت قول األو لى بث بات األ نواع ،وأنّ أ نواع الكائ نات الحي ّة جمي عا ً قد حدثت ف جأ ًة في ز من معي ّن،
والثانية بتبدّل األنواع وتطوّ رھا ،وينسبونھا إلى داروين ،ويدّعون أ ّنه ال ثالثة لھما.
كثير
ٍ ولكن لألسف فإنّ الكاتبين في تاريخ العلوم واألديان تفتقد آراؤھم إلى
77
من الصحّة ،إمّا للعجز عن اإلحاطة بجميع العلوم التي يؤرّ خون لھا ،وإمّا لوجود تحريفات في ھذا التاريخ ناتجة عن سوء
نيّة.
ّأوالً :أن النظريّة المنسوبة لداروين لي ست نظري ًّة جد يد ًة بل ھي نظري ٌّة قدي ٌ
مة ،ف قد نقلت ھا ب عض الك تب الفل سفيّة ،كك تاب
الشفاء إلبن سينا ،واألسفار للمال صدرا عن قدماء فالسفة اليونان ،وھي منقولة عن الفيل سوفين اليو نانيين :أنك سيمندروس
وإنباذقلس ،أي أ ّنھا ظھرت قبل ٍ 2500
عام ،غاية األمر أ ّنھم لم يبيّنوا تفصيالتھا التي بيّنھا داروين.
ً
ثالثة في المقام ،وھي ت قول بث بات أ نواع المو جودات ،ولك ّن ھا ال تؤمن ب حدوثھا في ز من معي ّن بل ثانيا ً :أن ھناك نظري ًّة
ٌ
قديمة ،فھذه النظريّة تقول بقدم األنواع باإلضافة إلى ثباتھا. تقول بأ ّنھا
78
وفي الواقع فإنّ العامّة من الناس ھم الذين كانوا يؤمنون بھذه النظري ّة ،أم ّا العل ماء ف لم يؤي ّدوھا ،بل كانوا يرون ھا نظري ًّة
عامي ًّة وليست فلسفي ًّة ،فبعضھم عارضھا وبعضھم سكت عنھا.
التطور:
ّ 2ـ نظر ّية
تقدّم أنّ جذور ھذه النظريّة ترجع إلى ما قبل 2500سنة ،ولك ّنھا اشتھرت باسمي العالِ َمين :المارك ،وداروين ال لذين ب ّي نا
تفصيالتھا ،وھذه خالصة كالمھما:
ـ المارك:
إشتھر عالم األحياء الفرنسيّ المارك)القرن التاسع عشر الميالديّ ( بأ ّنه أوّ ل من صرّ ح بھذه النظريّة في العصر الحديث.
ً
حادثة ظھرت إلى الو جود ذكرنا بأنّ أصحاب ھذه النظريّة يقولون بأنّ أنواع الموجودات الحيّة ثابتة لم تتبدّل ،وھي ليست
ٌ
قديمة ال بداية لھا ،فك ّل الموجودات الحيّة كانت موجود ًة دائما ً وبالصور التي ھي عليھا اليوم. في زمن معيّن ،بل ھي
79
وقد تب ّنى ھذه النظريّة بعض الفالسفة ،إنطالقا ً من األصول الفلسفيّة ،كأرسطو وإبن سينا.
1ـ أصل فلسفيّ يقول بقدم الفيض ،2ولذلك فال ب ّد أن تكون الكائنات الحيّة موجودة منذ القدم.
ٌ
ثابتة ال يمكن أن تتغيّر أبداً ،ولھذا 2ـ أصل طبيعيّ من أصول علم الطبيعيّات والفلكيّات القديم ،يقول بأنّ األرض واألفالك
إعتقدوا بثبات األنواع.
الحي:
ّ تأثير البيئة وحاجات الكائن
المؤثر في إحداث ھذه التغييرات ھو عامل البيئة ،من ماء و ھواء و ش ّح موا ٍد غذائي ّ ٍةّ وقد اعتبر المارك أنّ العامل الوحيد
وأعداء ،ألنّ ھذه العوامل توجد ردود فعل في الكائن ال حيّ تتنا سب مع إحتياجا ته الجد يدة ،ف ك ّل احت ياج يؤدّي مع مرور
ت تدريجي ّ ٍة في ت كوين أ فراد ھذا ال نوع ،فالع ضو ا لذي َي ْكث ُر إ ستخدامه ين مو ويت طوّ ر أ كثر من
الزمن إلى ظ ھور تغ ييرا ٍ
غيره ،فيما العضو الذي يُھمل يضعف
80
ويضرب المارك مثال الزرا فة الم عروف لتو ضيح نظر ّي ته ،ح يث يُال حظ أن ال جزء األ ماميّ من بدنھا أع لى من ال جزء
الخل فيّ ،ك ما أنّ عنق ھا طو يل للغا ية ،فترجع عل ّة ذ لك إ لى أ ّن ھا كا نت تع يش في بي ئة لم ت جد في ھا عل فا ً ع لى األرض،
فاضطرھا األمر إلى أن ترفع جسمھا األماميّ وأن ت م ّد عنق ھا ،و مع ت كرار الع مل صار ج سم الزرا فة ـ شيئا ً فشيئا ً ـ ب ھذا
الشكل.
وعلى ھذا األساس يفسّر المارك جميع التغييرات واإلختال فات في أ نواع الكائ نات الحي ّة ،سواء كا نت إيجابي ًّة بإ ستحداث
نوع من المو جودات ٍ عضو بصور ٍة تدريجيّة ،وفي المقابل فإ ّنه لن ي حدث أيّ تغ ٍ
يير في أيّ 3
ٍ عضو جديدٍ ،أو سلبي ًّة بإلغاء
ٍ
الحيّة ما دامت األوضاع البيئيّة التي يعيش فيھا أفراد ھذا النوع ثابتة.
واعتبر المارك أنّ التغييرات الحاصلة في ال كائن ال حيّ تن صبّ دائ ما ً في صالحه ،ف ھو دائ ما ً في سير ت كامليّ صعوديّ ،
حيث تؤدّي التغييرات إلى إيجاد حال ٍة من االنسجام بين تكوي نه ال بدنيّ وأو ضاع البي ئة .فال كائن ال حيّ يخت لف عن الج ماد،
ٌ
منفعلة دائما ً بالعوامل البيئيّة ،وھي تؤثر عليھا سلبا ً أو إيجاباً ،أمّا الكائن ال حيّ ،ف ھو باإل ضافة إ لى إنفعا له فإن ّ ه فالجمادات
فعل تؤدّي إلى تغييرا ٍ
ت لصالحه. تظھر منه ردّة ٍ
81
عامل الوراثة:
ـ داروين:4
بقيت نظريّة المارك التي تقوم على أساس مبدأ )تأثير البيئة( عاجز ًة عن تفسير علّة ما قا له ب شأن كون التغ ييرات تن صب
دائما ً لصالح الكائن الحيّ ،إلى أن أتى داروين)1809م( بأصول إضافيّة في ھذا المجال.
فداروين لم ينفِ تأثير البيئة ،لك ّنه لم يجعل ذلك األصل الوحيد في ھذا الم جال ،بل اع تبر أنّ العا مل الم حوريّ في إي جاد
التبدّل في األنواع ،ھو عامل )اإلنتخاب الطبيعيّ ( ،فيما يُع ّد عامل البيئة عامالً ثانو ّيا ً.
خطوات داروين:
النوعي:
ّ قابل ّية التغ ّير
ال حظ دارو ين أنّ في الكائ نات الحي ّة قابلي ًّة للتغ يير النو عيّ عبر أ ساليب االنت خاب اإل صطناعيّ ،ك ما ي قوم به مرب ّو
قة ع ند ب عض الحيوا نات قاموا بعزل ھا وتزويج ھا من ب عض ،مم ّا ً
صفة ممي ّز ًة ومتفوّ ً الحيوانات األليفة ،فإ ّنھم إذا الحظوا
يؤدّي إلى تقوية ھذه الصفة في الجيل الالحق ،ممّا يوجد نوعا ً جديداً من ھذا الكائن الحيّ بعد مدّة من الزمن ،وأط لق ع لى
ذلك اسم )اإلنتخاب االصطناعيّ (.
وإستنتج :قابليّة الكائنات لتغيير أشكالھا وھيئاتھا وصفاتھا ،أضف إلى ذلك إمكانيّة تقوية ھذه الصفات.
82
وجد داروين أنّ الطبيعة عاجزة عن تلبية إحتياجات تكاثر الكائنات الحيّة ،ممّا يجعل األفراد في حال ٍة م ستمر ٍة من الت نازع
لتلبية إحتياجاتھم.
ث ّم إلتفت إلى عدم تماثل مواليد الحيوانات ،فھي تتمايز بخصائصھا الفرديّة ،وعند التنازع سيكون اإلنتصار والبقاء لألقوى
واألصلح بينھا ،فيما يتعرّ ض الضعيف لإلنقراض.
ھكذا تنبّه دارو ين إ لى عا مل )الت نازع من أ جل الب قاء( ،ا لذي أن تج )االنت خاب الطبي عيّ ( ،وا لذي يؤدّي بدوره إ لى )ب قاء
األصلح(.
عامل الوراثة:
نوع تنتقل خصائصھم بالوراثة إلى أبنائھم ،فيكون الجيل ال تالي من األوالد أف ضل من الج يل بعد أن يبقى األقوياء من ك ّل ٍ
السابق ،مع ما ھنالك من اإلختالف في ما بين أبناء نفس ھذا الجيل في الصفات ،فتتكرّ ر العمليّة نف سھا ليب قى المت فوّ ق من
بينھا وينقرض الباقون ،وھكذا ...وبھذه الصورة يحصل التكامل عبر األجيال المتتابعة ،ويكون العامل الذي يحفظ الت فوّ ق،
ھو عامل الوراثة.5
التطور:
ّ اإلشكال ّية المطروحة في نظر ّية
إعتقد البعض أنّ نظريّة التطوّ ر تضرّ بأدلّة إثبات وجود ﷲ ،في حين
83
اعتبرھا بعض الماديّين إنتصاراً لعقيدتھم في عدم وجود ﷲ ،في ما ا نبرى ب عض اإللھ ّي ين إ لى مكاف حة ھذه النظري ّة ب ھدف
الدفاع عن عقيدة التوحيد واإليمان با ،وإعتقد آخرون بأن التوحيد يستلزم االعتقاد بنظريّة ثبات األنواع ـ نظريّة الخلق.
يوان
ت أو ح ٍ
قن في أيّ ن با ٍ
يق ومت ٍ
ظم دق ٍ
واإلشكال المتوھّم ھو أنّ أساس برھان النظم يقوم على أساس االستدالل بوجود ن ٍ
نخضعه للدراسة .ووجود ھذا النظم يد ّل بصور ٍة واضح ٍة على وجود قوّ ٍة حكي م ٍة و مدبّر ٍة ھي ا لتي قا مت بإي جاده انطال قا ً
من أھداف معيّنة ،فإذا قلنا بأنّ القوانين التي ذكرھا المارك وداروين قادرةٌ على إيجاد ھذا النظم المتقن والقائم على أ ساس
الحكمة ،فيكون النظم الحاليّ نتيجة عوامل التفوّ ق التي تراكمت ب صور ٍة تدريجي ّ ةٍ ،دون الحا جة إ لى و جود قو ٍة ذات إراد ٍة
وإختيار ،وبالتالي يسقط برھان النظم من أدلّة إثبات وجود ﷲ.6
ٍ وحكم ٍة
ً
وعالمة أوجد ته ب ھذا ال شكل ،بل إ ستغرقت ً
حكيمة ً
دفعة واحد ًة ،حتى ُنثبت أنّ قوّ ًة فاإلنسان لم يُخلق بھذه الصورة المنظمة
مئات الماليين من السنين ،ليظھر في صورته الحاليّة نتيجة مجموع ٍة من ال قوانين المادي ّة ُ ك ّل خصوص ّي ٍة من خصوصيّاته
والطبيعيّة.
التطور:
ّ الردود على نظرية
ٌ
مجموعة من الردود على ھذه النظريّة ،بعضھا علميّ تجريبيّ يدحض ھناك
84
ث معاصر ٍة أثب تت ب طالن ھذه النظري ّة ،وبع ضھا توح يديّ ينط لق من فرض الت سليم ب ھذه نفس النظريّة ،وھو نتيجة أبحا ٍ
النظريّة فيبيّن أ ّنھا ال ّ
تؤثر ـ ال ھي وال غيرھا ـ على عقيدة التوحيد ،وبالتالي ال ي ستلزم اإلي مان بالتوح يد االعت قاد بنظري ّة
أخرى.
التطور:
ّ أسئلة مثارة حول نظر ّية
ـ إذا كان إستخدام الرأس كوسيلة للعراك يؤدّي إلى ظھور القرون فيھا ،فلماذا ظھر للثور قرنان ولوحيد القرن قرنٌ واح ٌد،
في حين لم يظھر للحصان أيّ قرن؟!
ـ لماذا لم يرجع العضو الطارئ إلى حالته األولى بعد أن عادت األوضاع البيئيّة إلى حالتھا األولى؟! فلماذا لم ير جع ع نق
الزرافة إلى ما كان عليه بعد أن أصبح علفھا متو ّفراً على سطح األرض؟!
عامل الوراثة:
مجموعة من مثل ھذه األسئلة جعلت العلماء ال يقتنعون بنظريّة داروين .ولكنّ الذي أجھز على ھذه النظريّة ھو إكت شافات
العلم التجريبيّ الالحقة .فإنّ من األصول األساسيّة التي بنى عليھا المارك وداروين النظر ّي َة في تفسير تطوّ ر
85
األنواع ،ھو مسألة إنتقال الصفات بالوراثة ،ولوال ھذا األصل لما ت ّم أيٌّ من كالمھما ،وقد إكتشف العلماء في ما ب عد عدم
صحة اإلنتقال الوراثيّ للصفات المكتسبة وللتغييرات السطحيّة التابعة لتغيّر البيئة.
فبعد سنة من وفاة داروين ،إكتشف العالم البلجيكيّ )وان بندن( كيفيّة التكاثر في الحيوانات ،وأثبت أنّ ال صفات الوراثي ّة ال
تنتقل إال عبر الخليّتين الجنسيّتين ،وبعد أن أجروا التجارب والبحوث ثبت لديھم أنّ جميع التغييرات التي تحدث في الكا ئن
الحيّ ،سواء أكانت بتأثير البيئة ،أم بواسطة اإلنتخاب الطبيعيّ ،ال تنتقل بالوراثة إلى األجيال الالح قة ،فال صفات المكت سبة
ال يمكن أن تنتقل بالوراثة ،وبذلك ّ
حطموا أصالً أساس ّيا ً من نظريّة المارك وداروين ،وبالتالي قد أجھزوا عليھا.
وظ ھرت ب عد ذ لك نظري ّة أ خرى قدّمھا ال عالم البلجي كيّ )ھو غو دو فريس( ،وعُر فت بنظري ّة الط فرة الوراثي ّة أو نظري ّة
ت ب صور ٍة مفاج ئ ٍة في الكائ نات الحي ّة ،وال ي كون ل ھذه الخصو صيّات إرت ٌ
باط موتاسيون ،وتعت مد ع لى ظ ھور خصو صيّا ٍ
بعامل البيئة .و ھذه الط فرة تترك آثار ھا ع لى الجي نات بح يث يم كن أن تنت قل وراثي ّاً ،وبال تالي ،فإن ّه قد أ ُ سند ت ب ّدل أ نواع
الكائنات وتطوّ رھا إلى ھذه الطفرة ،بعد أن إتضح عدم إمكان تطوّ ر الكائنات الحيّة وتكامل ھا إ ستناداً إ لى عا َملي اإلنت خاب
الطبيعيّ وإنتقال الصفات المكتسبة وراثيا ً.
النتيجة:
سير
وما وصلت إليه العلوم الطبيعيّة ھو حقيقة يعترف بھا جميع علماء األحياء في أرجاء العالم ،وھي العجز عن إي جاد تف ٍ
ماديّ للتناسق المشھود في تكوين
86
على الرغم من بطالن نظريّة داروين فنحن سنبحث في أ ّنھا لو ُسلّمت فھل تض ّر بأدلّة التوحيد 7؟
إنّ نظر ّي َة التطوّ ر نظري ٌّة وصفي ٌّة ،تفسّر كيفيّة حدوث التطوّ ر .ولكن في ھكذا أبحاث ـ أبحاث العقائد 8ـ ال يك في أن نال حظ
ظاھر ًة مشھود ًة ،ونبيّن كيفيّتھا ،بل يبقى السؤال قائما ً عن علّتھا .فنحن ولو إعتقدنا بوجود قابل ّي ِة التغيّر والتبدّل النوعيّ في
ً
وھادفة في ً
متقنة تت في أنواعھا ،فال ب ّد أن نسأل عن الذي أوجد ھكذا قابليّا ٍ الكائنات الحيّة والتي تؤدّي إلى حدوث تغييرا ٍ
الكائنات.
ومدركة قد ّ
نظمت الكائنات بھذا الشكل الھادف بحيث تصل إلى تكاملھا. ٌ ٌ
عالمة ك أ ّنھا قوةٌ
ال ش ّ
يقول المارك :ھناك حاجة إلى قوّ ٍة مدبّرةٍ ،جھّزت ھذا الكائن بأجھزة تؤدّي إلى إحداث التغيير.
ويقول داروين :9إنّ جميع العوامل التي ذكرتھا ال تكفي للكشف عن سرّ الخ لق ،فالطبي عة تتوجّ ه ن حو األف ضل و فق م بدأ
)إنتخاب األصلح( ،وھذا يعني أ ّنھا تتوجّ ه إلى غاية وإلى ھدف معيّن ،وبالتالي فال ب ّد من وجود قدر ٍة جعلت الطبيعة تتوجّ ه
كذلك.
من ھنا ،ي ّتضح أنّ أدلّة اإللھ ّي ين التوحيدي ّة بق يت ع لى قوّ ت ھا ب عد ظ ھور م ثل ھذه النظري ّات ،بل ازدادت قوّ ًة ،بم عنى أنّ
ھادفة ،فسبحان من أودع ھذه الطبي عة نظ َم ھاً ً
حركة النظريّات العلميّة الحديثة قد بيّنت بصور ٍة أفضل كون حركة الطبيعة
المتقن فيھا!
ٌ
كافية إليجاد التنوّ ع في الموجودات. من الخطأ االعتقاد بأنّ القوانين التي ذكرھا ك ّل من المارك وداروين
ت ال تكون إرادي ًّة أو شعوري ًّة في ن فس ال كائن ال حيّ ،ف ھو يرت ّب و ضعه ب صور ٍة ال شعور ّي ٍة بح يث
ذلك أنّ ھناك تغييرا ٍ
ينسجم مع التغييرات البيئي ّة ،وذ لك ب خالف التغ ييرات اإلرادي ّة من قب يل طول ع نق الزرا فة .و قد ظ ھرت نظري ٌّة حدي ٌ
ثة
تتحدّث عن )التكيّف مع البيئة( تؤيّد ھذا الكالم .11
واعترف المارك نفسه بأنّ ثمّة قوّ ة داخليّة أو حسا ً داخليا ً يساھم في إيجاد التغييرات المناسبة.
88
كيف تظھر أعضاء جديدة تتناسب مع الحاجات الطارئة ـ كظ ھور ال قرون لل عراك في ب عض ا لذكور من الحيوا نات ال تي
تتعرّض لإلعتداء ـ وبد ّق ٍة متناھية؟
مل
ضو كا ٍ ھذا ال يم كن أن ي كون م سبّبا ً عن اإلحتيا جات الطار ئة و حدھا ،فاإلحت ياج نف سه ال يخ لق شيئاً ،ف ضالً عن ع ٍ
متكامل ،وإ ّنما اإلحتياج يوجد األرضيّة للخلق واإليجاد .اإلحتياج ليس سوى الفقر .والذي يوجد ھكذا أعضاء متناھية الدق ّة
شعور في و جود ال كائن ال حيّ ،غير إرادة و شعور ن فس ال كائن .12و ھذا ال حسّ ٍ جھاز أو قوّ ٍة مدبّر ٍة وذات
ٍ ھو عبارة عن
بنفسه يع ّد سرّ اً ك بيراً ومھم ّ ا ً في عالم الطبي عة ،فا لدور الم ھ ّم ھو لردود الف عل ا لتي ي بديھا ال كائن ال حيّ بھدا ي ٍة من ال ُب عد
الھدفيّ في طبيعته.
النتي جة :إنّ دور العوا مل وال قوانين الخارجي ّة ھو اإل عداد )عل ّة إعدادي ّة( للتغ يير ،ولك ّن ھا لي ست ھي ا لتي تو جد التغي ير
ٌ
مجھولة في الطبيعة ،ين تج عن ھا ر ّد الف عل المعي ّن ذ لك ،وبت لك ال صورة الھاد فة، والتبدّل ،أمّا العلّة الموجدة فھي قوّ ةٌ خفي ٌّة
حيث انتخبت نوعا ً معيّنا ً من األجھزة التي ال يدركھا الحيوان نفسه قبل وجودھا.
إنّ ثمّة أجھز ًة في تكوين الكائن الحيّ ال يمكن اإلستفادة منھا ما لم تكن متكاملة ،وإال فإ ّنھا ال تنفعه ،وفي مثل ھذه الحاالت
ال يمكن تصوّ ر التدريج في تكوينھا ،ومثال ذلك العين:
فلو لم تكن العين موجود ًة بھذا الشكل من التكامل في مراحل تطوّ رھا األولى فإنّ اإلنسان لم يكن ليستفيد منھا ،وبالتالي لما
حالً للت طوّ ر والتكا مل ال و فق قوانين ال مارك ،إذ و فق قواني نه سيؤدّي عدم اإل ستفادة من ھا إ لى اإل ستغناء عن ھا
كا نت م ّ
وفقدانھا ،وال وفق قوانين داروين ،حيث ال مكان النتخاب األف ضل ما دا مت الع ين حين ھا غير قاب ل ٍة لال ستفادة من ھا حت ّى
تتطوّ ر.
ففي مثل ھذه األج ھزة ا لتي ال ُي ستفاد من ھا إال و ھي متكام لة ،و ما أكثر ھا ،ال يم كن أن ن قول :قد ب قي ال جزء المف يد من ھا
تلقائ ّيا ً إلى أن ظھر جز ٌء جدي ٌد أكمله.
90
ﺧﻼ ﺻﺔ اﻟﺪرس
ـ يدّعي البعض أنّ نظريّة تطوّ ر أنواع الكائنات الحيّة التي ظھرت في العلم الحديث تنافي بعض أدلّة التوحيد.
التطور.
ّ 1ـ نظر ّية ثبات األنواع وقدمھا2 .ـ نظر ّية ثبات األنواع3 .ـ نظرية
تقوم نظرية التطور على أساس أنّ التغييرات التي تحدث في الكائنات الحيّة ،والتي أدّت إلى ظ ھور ھذا الت نوّ ع في ھا ،ھي
نتيجة قوانين وعوامل طبيعية.
ـ واإلشكال الذي يُطرح ـ بنا ًء على ھذه النظريّة ـ على أدلّة التوحيد ،ھو أنّ اإللھيّين إستدلّوا بإتقان النظم في العالم ،ليُثب توا
وجود قوّ ٍة حكيم ٍة و مدبّر ٍة وراء ھذا ال عالم ،وال حال أنّ ھذه النظري ّة ُتث بت أن اإلت قان في الن ظم ل يس سوى نتي جة قوان َ
ين
قرون متطاول ٍة إلى ظھور ھذا النظم ،وبالتالي فال مح ّل لقوّ ة أخرى.ٍ ماد ّي ٍة طبيع ّيةٍ ،أ ّدت على مدى
أوالً :بعد أن عجزت نظريّة التطوّ ر عن اإلجابة على مجموع ٍة كبير ٍة من المشاھدات الخارجية ،ثبت علم ّيا ً عد ُم صحّ ة ھذه
النظريّة في تفسير التكامل ،وبقي العلماء عاجزين عن تفسير التطوّ ر تفسيراً طبيع ّيا ً.
ثانيا ً :تكتفي ھذه النظري ّة بو صف كيفي ّة حدوث الت طوّ ر ،وتن سبه إ لى قابلي ّ ٍة ھاد ف ٍة في الكائ نات ت سمح ل ھا بالت ب ّدل ،بين ما
ً
ھادفة تسير بھا نحو التكامل. السؤال في برھان النظم عن القوّ ة التي أتقنت صنع الكائنات بحيث أودعتھا قابلي ًّة
ثالثـا ً :تع جز ھـذه النظري ّة عن تف سير مجموعـ ٍة من التغ ييرات النات جة عن ر ّدات ف عل الكائ نات غير اإلرادي ّة ،و ھذه
وشعور داخليٍّ ،يبقى سرّ اً من أسرار الخلق.
ٍ التغييرات تحدث نتيجة حسٍّ
رابعا ً :بعض أجھزة الكائنات الحيّة ال يمكن اإلستفادة منھا إال متكاملة ،وفي مثلھا ال يُتصوّ ر التدريج في تطوّ رھا.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
1ـ ھل ھناك أكثر من نظريّة ترتبط بتنوّ ع الموجودات؟
2ـ ما ھو األصل األساس في نظريّة المارك؟
3ـ كيف أكمل داروين ھذه النظريّة وحدّدھا؟
4ـ كيف ر ّد العلم الحديث على نظريّة داروين؟
5ـ ھل تكفي نظريّة داروين لتفسير وقوع تبدّل األنواع؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1الحدوث الزماني يعني :كون وجود الشيء مسبوقاً بالعدم الزماني مثل :مسبوقيّة اليوم بالعدم في األمس ،ومسبوقيّة حوادث اليوم بالعدم في األمس.
دمات(. دم التعرّض إلى ھذا األصل في البحث األول)المق ّ
ي كالذات اإللھيّة ،وقد تق ّ
-2حيث ال يمكن الفصل بين الخالق والخلق ،فالخلق أزل ّ
ة
ن األفعى كان لھا أرجل في بداية أمرھا ،لكنّھا عاشت في بيئة تضطرھا إلى االختفاء باستمرار والزحف للدخول تحت األرض ،ولم يكــن لـديھا حاجـ ٌ -3ويقول المارك إ ّ
ما أدّى إلى ضمور رجليھا شيئاً فشيئاً إلى أن زالتا.
إلى المشي ،م ّ
دة معارضة طائفة من علماء الطبيعة والـدين لنظريّتـه ،ولثباتـه علـى نظريّتـه ن ھذه النظريّة قد اشتھرت بنظريّة داروين ،وعل ّة اشتھارھا باسمه تعود إلى ش ّ دم أ ّ
-4تق ّ
دمته له بعض التيارات التي اعتقدت في نظريّته ما يؤيّد أفكارھا ،مثل التيارات الماركسيّة والماديّة والفاشيّة...
ّ ق الذي الدعم ذلك إلى أضف ّة، ل األد مختلف وتقديمه
-5أصل اإلنسان قرد :بعد ذلك نشر داروين أبحاثاً جديد ًة سعى فيھا إلى نفي جميع أشـكال االختالفـات الكبـيرة المتصـوّرة بيـن اإلن سان والحيوان،معتــبراً أن مـا في
ي والمتكـاملين مـن فصـيلة اإلنسان ال يعدو كونه صفات أكثر تكامال ً مما ھو موجود في الحيوانات .وكان داروين يجري باستمرار مقارناتٍ بين البدائيّين من النوع الب شر ّ
ي ،ولذلك فھما يشتركان في وحدة الجدود!ن اإلنسان والقرد يشتركان في األصل النوع ّ القرود ،وتوصّل إلى أ ّ
م فسيؤث ّر على برھان الھداية أيضاً.
ن ھذا الكالم لو ت ّ -6كما ال يخفى فإ ّ
دعى أنّھا تضرّ بأدل ّة التوحيـد ،أو بوجـود
ن ھذا النقاش يسحب نفسه على مجموعة من القوانين الماديّة األخرى التي تظھر بين الفينة واألخرى ،والتي ُي ّ -7ال يخفى أ ّ
عالم الغيب ،وھنا تكمن أھميّته.
بغض النظر عن سرّ ذلك.ّ ي قد يكتفي بوصف ما يحدث -8في أبحاث العقائد نبحث عن الوقائع وخفايا األمور ،فيما العلم التجريب ّ
ل.
ن نظريّته ال تنفي وجود الخالق عزّ وج ّ -9داروين نفسه لم يكن ماديّاً بل كان مؤمناً با ،وقد صرّح بنفسه أ ّ
ً
ل شيء سببا) (...بحار األنوار(168/2 : -10كما عن الصادق عليه السالم ) :أبى ﷲ أن يجري األشياء إال باألسباب ،فجعل لك ّ
دم التعرض لذلك في برھان الھداية. -11وقد تق ّ
دثنا عنه في برھان الھداية ،وذكرنا أنّه دور الالشعور.
-12وھو الذي تح ّ
اﻟﺪرس اﻟﺴﺎدس :اﻟﺒﺮاﻫﻴﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴـّﺔ واﻟﻌﻘﻠﻴـّﺔ
أھداف الدرس
93
تمھيد:
إال أنّ البعض -من غربيّين ومصريّين -ينفي صالحيّة البراھين الفلسفيّة إلثبات وجود ﷲ ،ويحصر طرق معرفته بالطرق
التي ذكرناھا سابقاً ،كطريق الفطرة والقلب ،وطريق الخلق ،وطريق تأمّل النظم الدقيق في المخلو قات ،و كذلك معر فة ﷲ
من خالل تأمّل ظاھرة الھداية المشھودة في حركة المخلوقات وعملھا.
ٌ
قديمة ال توصل إلى المط لوب ،و لذلك فإنّ ال قرآن لم ي سلكھا ،وإ ّن ما اعت مد ع لى ال طرق وقالوا :إنّ جميع الطرق الفلسفيّة
آنفة الذكر.
95
بحوث سابقة -ولكن ما يُالحظ عليھا محدوديّة المعرفة التوحيديّة التي تقدّمھا:
ـ فصحيح أنّ الطريق الفطريّ يكفي لإلنسان نفسه دليالً على وجود ﷲ ،فإنّ من يجد في قل به ال شعور الو جدانيّ برب ّه ف ھذا
من أسمى المعرفة بوجوده تعالى ،ولكنّ ھذا الطر يق يب قى قا صراً عن اال ستدالل به لآل خرين ،ألن ّه ال ينط لق من الع قل
والبراھين االستدالليّة.1
ـ وأمّا الطرق العلميّة )الخلق والنظم والھداية( ،فھي على تماميّتھا في إثبات وجود ﷲ ،لك ّنھا غاية ما ُتثبته ھو وجود ّ
منظم
ف في مسألة إث بات التوح يد ومعار فه ،ف ھذه ال طرق ال تو صلنا إ لى مرت ب ٍة أ سمى من وخالق لھذا العالم ،ولكن ھذا غير كا ٍ
ھول في تف صيالته .و في المقا بل
وكأمر مج ٍ
ٍ ً ّ
ھذه المرتبة في معرفة ﷲ ،أي مرتبة من يعرف وجود المؤثر والمدبّر إجماال
ّ
المنظم والمدبّر لعالم الوجود ،ربما إلى ما ال نھاية. ّ
البت بشأن وحدانية أو تع ّدد فاألدلّة الحسيّة عاجزةٌ بالكامل عن
والحال أ ّنه ال يكفي في معارف التوحيد إثبات مدب ٍّر إجماليّ لھذا العالم ،فھا ھو القرآن يصف المالئكة بمثل ھذه الصفة.
ٌ
مخلوق لغيره؟! وھل أنّ وجوده أزليٌّ أبديّ ؟. ّ
المنظم؟ وھل وجوده قائ ٌم بذاته أو كيف وُ جد ھذا الخالق
وھي إذ تشير إ لى ب عض صفاته ،ككو نه عال ما ً و قادراً ،فإ ّن ھا ال تبي ّن ھذه ال صفات ك ما ي جب أن نعت قد بتو ّفر ھا ف يه ج ّل
وعال ،فھي تذكر أ ّنه عال ٌم -لطبيعة النظم الموجود في العالم -ولك ّنھا تثبت علمه بالمخلوق الذي صنعه ،دون أن
96
ي ٍء َقدِيراً ،﴾3وأن ّه ّ
منزهٌ عن ش ْ
ل َ وھي ُتثبت قدرته ،حيث خلق كونا ً بھذه العظمة ،ولك ّنھا تعجز عن إثبات كو نه﴿:على ُ
ك ِّ
جميع أَشكال العجز.
ـي ٌء﴾4
ش ْه َ
م ْث ِل ِ
ك ِ وھكذا تعجز عن إثبات أ ّنه الموجد والمدبّر لجميع شؤون ھذا العالم ،وھو معكم أينما كنتم ...وأ ّنه﴿ :لَ ْي َ
س َ
...
وفي النتيجة:
إنّ أدوات الع لم الح سيّ يمكن ھا أن توف ّر ل نا م ستوى مع ّي نا ً من المعر فة با ،لك ّن ھا بأدوات ھا ال تر قى إ لى ت قديم األجو بة
عز وج ّل.وھذا الم ستوى من معر فة ﷲ ال يؤس ّس لع لم التوح يد ،وال لت شكيل معار فه الالزمة لألسئلة المثارة حول الخالق ّ
الجليلة.
وأمّا ما ُذكر من إھتمام القرآن الكريم بمثل طرق الفطرة والخلق والنظم دون الطرق الفلسفيّة ،فالجواب عليه من جھتين:
األولى :إنّ القرآن قد أشار إلى المعارف التوحيديّة الفلسفيّة ،وأ شار إلي ھا ك ما سنتعرّض ع ند ب يان البر ھان الفل سفيّ ،5بل
بيّن من حقائقھا ما ھو أسمى ممّا توصّلت إليه الفلسفة اليوم.
97
الثانية :إنّ سبيل عام ّة ال ناس في معر فة ﷲ ھو سلوك ھذه ال طرق ،فإنّ الم ھ ّم بالن سبة لل عوام ھو الح صول ع لى أ صل
اإليمان با ،لذلك يكفيھم أن يستدلّوا بوجود ما ي شاھدونه من آ ثار ال قدرة والع لم وال تدبير اإلل ھيّ ،دون أن يت قدّموا خ طوة
ّ
عز وج ّل. ٌ
معرفة أسمى با إضافيّة إلى األمام .ويختص بھذه الخطوة من كان لديه
ولذلك فنحن نعت قد بأنّ ال سبيل الفل سفيّ ،وإن لم ي كن عام ّ ا ً في صدر اإل سالم ،إال أن ّه قد سلكه ب عض ال خواصّ من أ ھل
التوحيد.
األول.
المحرك ّ
ّ 1ـ برھان
الوجودي.
ّ 2ـ برھان الوجوب واإلمكان
الوجودي.
ّ 3ـ البرھان
األول:
المحرك ّ
ّ -1برھان
يعتمد ھذا البرھان على الحركة الموجودة في ھذا العالم .وقد ُنقل ھذا البرھان عن أرسطو .وقبل أن نشرع في بيا نه ال ب ّد
من توضيح مفھوم الحركة في المصطلح الفلسفيّ :
فالحركة في الفلسفة ال تختصّ بأنواع الحركات المكانيّة ،بل تشمل ك ّل تغي ّر وت حوّ ل سواء أ كان مكاني ّا ً أم كمي ّا ً أم كيفي ّا ً أم
وضع ّيا ً أم جوھر ّياً ،فالحركة عند الفيلسوف تقابل الثبات.
98
المقدّمة األولى:
المقدّمة الثانية:
إنّ العلّة ُتقارن معلو َلھا زمان ّياً ،فمن المحال وجود فاصل ٍة زمان ّي ٍة بينھما ،6كذلك المحرّ ك والحركة.
المقدّمة الثالثة:
ٌ
ثابت أو متحرّ ك؟ إذا تبيّن ذلك نسأل عن ھذا المحرّ ك نفسه :ھل ھو
إذا كان ھذا المحرّك ثابتا ً فال ب ّد أن يكون وراء عالم الطبيعة ،ألنّ في ك ّل جز ٍء من أ جزاء ھذه الطبي عة نو عا ً من التغي ّر
ثبات ،وبالتالي يثبت مطلوب أرسطو.ٌ والتحرّك ،فال يوجد في عالم الطبيعة
وأمّا إذا كان متحرّ كا ً فھو بحاج ٍة إلى محرّ ك ،فيتكرّ ر السؤال عن المحرّك الثاني ھل ھو ثا ٌ
بت أو مت حرّ ك؟ وھ كذا إ لى أن
تنتھي الحركات إلى محرّ كٍ ثاب ٍ
ت وھو الذي سمّوه بـ) :المحرّ ك األوّ ل(.
إشكال ور ّد:
قد يُعترض على برھان أرسطو بأنّ علم الفيزياء يرفض نظريّة احتياج الحركة
99
بنفسھا إلى محرّ ك ،وإ ّنما تغيير الحركة)كزيادة سرعتھا أو تغيير اتجاھھا( ھو الذي يحتاج إلى محرّك.
إال أنّ المحرّك الذي يقصده أرسطو غير المحرّ ك الذي تحدّثت ع نه الفيز ياء ،فالمحرّك ا لذي يذكره أر سطو ھو الم حرّ ك
الكامن في داخل الجسم المتحرّك ،بينما الذي تتحدّث ع نه الفيز ياء ھو عا م ٌل ي قع خارج و جود المت حرّك ،فال ي صلح ھذا
الكالم ألن يكون دليالً على بطالن نظريّة أرسطو.
األول:
المحرك ّ
ّ مالحظات حول برھان
أ ّنه لم يعتمد البرھان الفلسفيّ المحض ،بل ا ستعان باآل ثار الطبيعي ّة ،وذ لك في المق ّد مة الثال ثة)و جود الحر كة في ال عالم(،
وھذا ممّا يضعف قيمته الفلسفيّة العقليّة.
ت خارج نطاق عالم الطبي عة ،إال أن ّ ه عاج ٌز عن إث بات وحدان ّي ته ،و لذا ال
كما أنّ ھذا البرھان ،وإن أثبت وجود محرّ كٍ ثاب ٍ
يمكنه أن يجيب على مسألة أن يكون مخلوقا ً لمحرّك آخر ،وھذا بدوره إلى محرّ كٍ ثالث ،وھكذا إلى ما ال نھاية.
وع لى أي حال ن حن ال نر يد اإل ستناد إ لى ھذا البر ھان ،فنكت في ب ھذا الم قدار من ال عرض له وا لذي يزوّ د نا بالمعر فة
التاريخيّة الالزمة.
الوجودي:
ّ -2برھان الوجوب واإلمكان
ذكر إبن سينا ھذا البرھان ،معتمداً على م بدأ )الو جوب واإلم كان( -بدالً من م بدأ الحر كة -و ھو م بدأ فل سفيّ ،و لذلك فإنّ
الصبغة العقليّة والمحاسبات
100
تقسيمات الوجود:
إمّا أن يكون إتصاف الموضوع بھذه الصفة -أي وجود ھذه ال صفة في ھذا المو ضوع -واج با ً و ضرور ّيا ً بح يث ي ستحيل
عدم اإلتصاف ،فھذا ھو الضرورة أو الوجوب ،كضروررة ثبوت الزوجية لألثنين.
وإمّا أن يكون االتصاف مستحيالً وممتنعاً ،فذلك اإلمتناع أو االستحالة ،كاستحالة ثبوت الفرديّة لالثنين.
وإمّا أن يكون اتصاف الموضوع بصفته ممكناً ،وذلك أغلب الحاالت الطبيعيّة ،كإمكان وجود عشرة أ شخاص في القا عة،
فھنا ال توجد ضرورة اإلتصاف وال إستحالته ،ولذلك نقول إ ّنه -في ح ّد ذاته -متساوي الطرفين بالنسبة للوجود أو العدم.
وال تخ لو حاالت المو جودات من إ حدى ھذه ال حاالت ال ثالث ،ن عم ھ ناك ما ُي عرف ب ين ال ماديّين واإللھ ّي ين ب ـ "ن ظام
الضرورة" ،ومعنى ذلك:
أنّ ممكن الو جود ،وا لذي ذكر نا أن ّه مت ساوي ال طرفين بالن سبة للو جود وال عدم ،ال يم كن أن يو جد إال بأن يترجّ ح و جوده
بقي مت ساويفيخرج إلى حيّز الوجود ،وبعبارة أخرى إال بأن ينتقل بسبب ھذا العامل الخارجيّ إلى ضرورة الوجود ،وإال َ
الطرفين ،غير مرجّ ح الو جود وال ال عدم و ھو المعب ّر ع نه ) بأنّ ال شيئ ما لم يج ِ ب لم يو جد( ،وي سمّى المم كن حين ھا ب ـ:
"واجب الوجود بالغير".
101
تنبيه:
إنّ قول نا إنّ الممك نات ضروريّة الو جود بالغير ال ي نافي اعتقاد نا بو جود اإلخت يار -في مقا بل ال جبر ،-وذ لك أنّ و جوب
وجودھا ناتج عن علل خارجة.
تقرير البرھان:
يھدف ھذا البرھان إلى إثبات واجب الوجود ،وينط لق في محا سبة و جود المو جودات في ھذا ال عالم ،في قول :إنّ وجود ھا
ليس أمراً محاالً ،إذ إنّ وجودھا ھو دليل عدم كونھا من المحاالت.
وعليه فوجود ھذه الموجودات إمّا ممكنٌ وإمّا واجب ضروريّ :
فإذا كان وجودھا واجبا ً فھو المطلوب ،أي إثبات وجود واجب الوجود.
إذا كا نت واج بة الو جود ف ھو المط لوب -ح يث يث بت وا جب الو جود -وأم ّا إذا كا نت ھذه العل ّة ممك نة الو جود -مت ساوية
الطرفين -فھنا نقول :إنّ ھذا يستلزم وجود علّة أوجدتھا ،وھكذا ...فإمّا أن ي لزم التسل سل ،و ھو با طل ،وإم ّا أن ن صل إ لى
علّ ٍة تكون واجبة الوجود وھو المطلوب.
إشكال وجوابه:
يعترض البعض بأنّ الماديّين يعتقدون باستمرار نظام ھذه السلسلة من العلل
102
والمعلوالت إلى ما ال نھاية ،فيكون نظام الوجود مكوّ نا ً من سلسل ٍة غير متناھي ٍة من ممكنات الوجود.
إنّ تسلسل العلل محالٌ ،ويمكن بيان ھذه اإلستحالة على النحو التالي:
إنّ ما يذكره الماديّون ھو أنّ عالم الوجود بجميع أجزائه ممكن في سلسلة ال متناھية من العلل والمعلوالت ،وھنا ننظر إلى
المجموع وإلى السلسلة ككلّ ،ونقول :إنّ ھذه السلسلة ستأخذ حكم أفرادھا وھو إمكان الوجود ،أي تساوي ال طرفين بالن سبة
إلى الوجود والعدم ،وبالتالي فتحتاج إلى عامل خارجيّ يرجّ ح وجود ھا ويخرج ھا إ لى حي ّز الو جود لت كون واج بة الو جود
بالغير ،وھذا ھو مقتضى نظام الضرورة السابق الذي يعتقد به الماديّ نفسه.
الوجودي◌:8
ّ -3البرھان
وأدق وأقوى من برھان ابن سينا ،ويقوم على أساس االستدالل على و جود ّ وھذا الطريق قد سلكه المال صدرا ،وھو أسمى
ھ َدالحق بذاته المق ّدسة ،دون الحاجة إلى االستدالل بغيره عليه ،وھذا ما ھو مشھود في اآليات القرآنيّة ،كقوله ت عالى﴿ :ش َ ِ ّ
ق َوفِـي أَ ْنفُس ِ ﷲ أَن ُ
9
م ِھ ْ اآل َ
فـا ِ م آ َياتِن َا ف ِي ْ
يھ ْ
ر ِو ﴾ ،وفي آية أخرى يستشھد ب ھا ال مال صدرا نف سه﴿:س َ ُن ِ ﱠه ال إِلَ َ
ه إِ ﱠال ھُ َ
م حقﱡ أَ َ
ولَ ْ م أَن ﱠ ُ
ه ا ْل َ ن لَ ُھ ْ
ح ﱠتى يَ َتبَيﱠ َ
َ
103
ش ِھي ٌد.﴾10
ي ٍء َ
ش ْ
ل َ
ك ِّ ك أَنﱠ ُ
ه عَ لَى ُ ف بِ َربِّ َ
ك ِ
يَ ْ
كما نجد إشارة إلى ذلك في بعض األدعية الواردة عن أھل البيت علي ھم ال سالم ،ك ما في د عاء ال صباح ) :يا م َ ن دلَّ ع لى
ذاتِه بذاتِه( ،وفي دعاء أبي حمزة الثماليّ ) :ب َك عرف ُت َك وأ نت دَ َللت َ ني َعل ي َك( ،و في د عاء اإل مام الح سين عل يه ال سالم يوم
ھور َما ليس ل َك ح ّتى يكونَ ھ َُو المظ ھر ل َك( ،إ لى غير ذ لك من الن صوص اإل سالميّة ال تي عرفة) :أَ َيكونُ لغير َك مِن ال ُظ ِ
تكرّ ر ھذا المضمون كثيراً.
قبل بيان الطريق الذي سلكه صدر المتألّھين ،ال ب ّد من اإلشارة إلى ما ذكره الفال سفة األوروبي ّون من البر ھان الو جوديّ ،
والذي ال يخلو من َش َب ٍه بالبرھان الذي أقا مه -قبل ھم -صدر الم تألّھين ،وذ لك ب ھدف المقار نة ب ين ال سبيلين في معر فة ﷲ،
ومعرفة الخلل الواقع في البرھان كما ذكره األوروبيّون.
الوجودي:
ّ عرض آنسلم للبرھان
أوّ ل من ذكر البرھان الوجوديّ في الفلسفة األوروبيّة ھو ال قدّيس والفيل سوف الم سيحيّ )آن سلم( ،وذ لك في ال قرن ال حادي
عشر الميالديّ .
المقدّمة األولى :إنّ لدى ك ّل إن سان ت صوّ راً عن ذات ھي ا لذات األك مل ،وبع بار ٍة أ خرى :إنّ اإلن سان قاد ٌر ع لى ت صوّ ر
)الكامل المطلق(.
المقدّمة الثانية :الوجود صفة كمال ،فالذات التي ال يكون لھا وجود ال تكون كاملة.
104
النتيجة :فال ب ّد أن تكون ھذه الذات -األكمل تصوّ راً -موجود ًة ،وإال لما كانت أكمل )يلزم خلف فرض كونھا األكمل(.
عرض الفيلسوف الفرنسي ديكارت البرھان الوجوديّ بطريقة أخرى ،فقد بدأ دي كارت تف كيره بال شك المنھ جيّ ،أي بال شك
في ك ّل شيء للوصول إلى نقطة يقينيّة َيع ُب ُر من خاللھا إلى الحقيقة .11ونقطة اليقين التي وصل إليھا ھي اليق ين بأن ّه ي شكّ،
ك فعالً!
ك في كوني أش ّ
ك في ك ّل شيء ولكن ال يمكن أن أش ّ فقال :يمكن أن أش ّ
ك فھو موجود أيضا ً ،12وھذا م عنى عبار ته ال شھيرة) :أ نا أفك ّ ر إذاً أ نا
وبعد أن أيقن بأ ّنه يشكّ ،أدرك وجوده ،أل ّنه ھو الشا ّ
موجود(.
وتساؤل عن كيفيّة تكوّ نھا في ذھنه ،ليبحث في أ ّنه ھل ھو ا لذي أو جدھا أو ٍ ت
بعدھا توجّ ه ديكارت إلى ما لديه من تصوّ را ٍ
ّ
غيره ،وتابع بح ثه ب ھذه الطري قة إ لى أن و صل إ لى ت صوّ ره عن المط لق غير المت ناھي ،وحين ھا قال بأن ه ال ي ستطيع أن
ت مطل ق ٍة غ ير ينسب إيجاد ھذا التصوّ ر الالمتناھي إلى نفسه ،ألنّ وجودَ ه م حدو ٌد ومت نا ٍه فيع ج ُز عن إي جاد ت صوّ ٍر عن ذا ٍ
محدود ٍة وال متناھيةٍ ،فال مفرّ من القول بأنّ الذي أودع في ذھ نه ھذا الت صوّ ر غير المت ناھي ھو مو جو ٌد ال مت نا ٍه .وبذ لك
يثبت وجود ﷲ.
105
من المالحظ أنّ األوروبيين إنطلقوا في استداللھم بالبرھان الوجوديّ من مسألة التصوّ ر ،وھذا ھو ما أوقعھم في المغالطة،
ألنّ تصوّ ر الشيء غير حقيقة ھذا الشيء وواقعه ،فتصوّ ر النار مثالً غير واقع وحقيقة النار ،و لذلك ن جد اإلن سان يت صوّ ر
النار من غير أن يحترق ذھنه ،فتصوّ ر الموجودات في الذھن ال تتر ّتب عليه آثارھا الخارجيّة.
وھكذا فإنّ تصوّ ر الذات الالمتناھية ال يكون شيئا ً غير متنا ٍه بحيث ال يمكن أن يصدر عن المحدود المتناھي.
ولذا فإنّ بين الفالسفة األوروبيين أنف سھم من ن قض ھذا البر ھان ورف ضه ،كالفيل سوف األل ماني )كا نت( ،ح يث ذ كر بأنّ
و جوب و جود ا لذات الكام لة ھو فرع تحق ّق وجود ھا ،ال م جرّ د و جود ت صوّ ر عن ھا ،وعل ّق ع لى كالم ھم بالقول :إنّ
استداللھم ھو بمثابة من يتصوّ ر وجود مائة قطعة ذھبيّة لديه ،ويبني عليه وجودھا في خزنته!.
وھكذا الحال في الذات المقدّسة ،فإنّ مجرّ د تصوّ ر وجودھا ال يستلزم وجودھا واقعا ً.
ھكذا يتبيّن أنّ األوروبيين إنطلقوا من التصوّ ر الذھنيّ في البرھان الوجوديّ ،وبالتالي لم يكن ا ستداللھم تام ّ ا ً و لم ي خ ُل من
إشكال ،أمّا صدر المتألھين فقد سلك طريقا ً آخر يسلم من اإلشكال ،حيث سلك طريق الوجود نفسه ،معتبراً أنّ جميع ما في ٍ
معان ومفاھيم ھي في الحقيقة تعيّنات يدركھا الذھن للوجودات المتح ّققة في الخارج.
ٍ من األذھان
106
أصالة الوجود:
والنظري ّة ا لتي ش ّكلت نق طة إرت كاز ل صدر الم تألّھين ھي م سألة )أ صالة الو جود وإعتباري ّة الماھي ّة( ،13وم عنى ذ لك أنّ
المتح ّقق في الواقع الخارجيّ ھو الوجود نفسه ،وك ّل شيء غير الوجود فھو مظاھر وتجليّات له وأ مور إعتباري ّة ال حقي قة
لھا في الواقع الخارجيّ .فواقع ما نراه في ال خارج من أ شياء)إن سان ،شجر ،ح جر (...لي ست أ موراً محقّ قة بح يث ي كون
الوجود أحد صفاتھا ،وإ ّنما المتحق ّق واق عا ً ھو الو جود ذا ته ،و ھو ھ نا إن سان وھ ناك شجرة وھنا لك ح جر ،فالمتحقّق ھو
الوجود وله مظاھر وتجليّات متنوّ عة ،فيظھر ھنا بشكل وھناك بشكل آخر.
وبكلمة واحدة :إنّ األصالة في العالم ھي للوجود ذاته ،فھو وحده الحقيقة وما عداه أمور إعتباريّة.
بعد أن أثبت صدر المتألّھين أنّ المتح ّقق واألصيل في ال خارج ھو الو جود بنف سه وذا ته ،توجّه إ لى ھذا الو جود ليت عرّ ف
إليه ،فقال:
ٌ
ومطلق. وجو ٌد ناقصٌ ومحدو ٌد ،ووجو ٌد كام ٌل
ولكنّ طبيعة الوجود تقتضي أن يكون وجوداً مطلقا ً وأبد ّيا ً وخالداً .فإ ّننا لو تعمّقنا في الوجود بذاته لوجدناه م ساويا ً لو جوب
الوجود وعدم التناھي والكمال المطلق ،فما ال ب ّد من بحثه ھو في الو جودات الناق صة لنرى سرّ الن قص واالحت ياج في ھا،
ً
معلولة لوجو ٍد والصحيح أنّ مصدر النقص واإلحتياج ھو كونھا
107
ّ
التأخر والنقص والعدم ،وليس ذلك من لوازم الوجود. غيرھا ،ألنّ من لوازم المعلوليّة
ٌ
ممكنة ھي أضعف وأنقص. ٌ
وجودات بذلك ي ّتضح أنّ الوجود في مرتبته األولى ھو ﷲ ،ث ّم من ناحية المعلوليّة تتح ّقق
108
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
الفلسفي بأ ّنه:
ّ ـ يتم ّيز البرھان
ـ برھان عقليّ يعتمد االستدالل والبرھان ،فيمكن اإلستفادة منه إلقناع اآلخرين.
ـ ويمكن أن يدحض جميع اإلشكاالت المثارة حول مسألة التوحيد ،وذلك عن طريق العقل أيضا ً.
ً
مجھولة لدينا. ـ يبيّن تفاصيل الصفات اإللھيّة فال تبقى عام ًّة أو
ـ ويؤسّس إلى معارف توحيديّة تفصيليّة جديرة بأن ُتسمّى بعلم التوحيد.
ً
سامية عارف
َ ـ إنّ القرآن إعتمد كثيراً على طرق الفطرة وباقي الطرق العلميّة بما يتوافق والعوا ّم من الناس ،إال أ ّنه بي ّن م
في التوحيد ،تلك المعارف ھي التي يبيّنھا البرھان الفلسفيّ ،ويختصّ بھا الخواصّ من أھل التوحيد.
األول :و قد ذ كره أر سطو ،ويعت مد ع لى أنّ ك ّل ما في عالم الطبي عة مت حرّ ك ،والمت حرّك يح تاج إ لى
حرك ّـ بر ھان الم ّ
م حرّك ،وال ب ّد أن ي كون ھذا الم حرّك ثاب تاً ،وإال لزم أن ي كون له م حرّك آ خر وھ كذا ،و ما ي كون ثاب تا ً ف ھو وراء عا لم
الطبيعة.
ـ يالحظ على برھان أرسطو أ ّنه يعتمد على مقدّمة طبيعيّة غير فلسفيّة ،وأ ّنه عاجز عن إثبات الوحدانيّة.
ـ برھان الوجوب واإلمكان :وھو البرھان الذي ذكره إبن سينا ،ويعتمد على تقسيمات الو جود الثال ثة :الو جوب ،اإلم كان،
بة وإم ّا ممك ٌ
نة، مستحيلة ،فھي إمّا واج ٌ
ً اإلستحالة ،وعلى مبدأ نظام الضرورة ،فيبيّن أنّ موجودات العالم ال يمكن أن تكون
ممكنة ،فال ب ّد من واجب يرجّ ح ويوجب وجودھا ،وفق مبدأ الضرورة.ً ً
واجبة ثبت المطلوب ،وأمّا إذا كانت إذا كانت
الوجودي :و ھو البر ھان ا لذي ذ كره ال مال صدرا ،وي شبھه ما يذكره الفال سفة األوروبي ّون .إال أنّ األوروبي ين
ّ ـ البرھان
ّ
وقعوا في مشكل ٍة حيث إنطلقوا من التصوّ رات الذھنية إلى التح ّقق الخارجيّ ،فيما إنطلق صدر المتألھين من ن فس الو جود،
ألن ّه ھو المتحق ّق واأل صيل في ال خارج ،وطبي عة ھذا الو جود تقت ضي الك مال واإل طالق مم ّا يث بت و جود ا لذات الكام لة
عز وجلّ ،والتي كانت علّ ًة لوجودا ٍ
ت ناقص ٍة ومحدود ٍة. المطلقة وھي ذات ﷲ ّ
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
1ـ ما ھي ميزات البرھان الفلسفيّ ؟
2ـ ما ھي البراھين الفلسفيّة المذكورة إلثبات وجود ﷲ؟
3ـ ما ھو برھان المحرّك األوّ ل؟
4ـ ما ھو البرھان الوجوديّ ؟
5ـ بماذا يفترق برھان المال صدرا عن البرھان الوجوديّ عند األوروبيين؟
ﻫﻮاﻣﺶ
دم في طريق الفطرة.
-1الل ّھم إال تنمية ھذا الشعور ومحاولة إحيائه عبر إثارته ،كما تق ّ
-2البقرة.29 :
-3األحزاب.27 :
-4الشورى.11 :
ة إِ ﱠال ﷲ مـا آلِ َھـ ٌ
ِيھ َ ﴿
-5سيأتي في البرھان الوجودي التعرض لآليات الدالة عليه؛ وھناك آيات أخرى تشير إلى أدلة عقلية وفلسفية نذكر منھــا قولـه تعـالى :لَـ ْو كَـانَ ف ِ
سبِيال ً )االسـراءَ ،(42:مـا اتﱠخ َ َذ ﷲ م ْ
ِـن َولَـ ٍد ﴿ ما يَ ُقولُونَ إِذاً َال ْب َت َغ ْوا إِلَى ذِي ا ْل َع ْرشِ َ
﴾ ُل لَ ْو كَانَ َم َع ُه آلِ َھ ٌ
ة َك َ ﴿
ص ُفونَ )األنبياء ،(22:ق ْ ﴾ ما يَ ِب ا ْل َع ْرشِ َع ﱠ
حانَ ﷲ َر ّ ِ َس ْب َ
س َدتَا ف ُلَ َف َ
ص ُفونَ )المؤمنون.(91: ﴾ ما يَ ِ
حانَ ﷲ َع ﱠ س ْب َ م َعلَى بَ ْعضٍ ُ َق َولَ َعال بَ ْع ُ
ض ُھ ْ خل َ
ما َ ل إِلَ ٍ
ه بِ َ ب ُك ﱡ
ھ َه إِذاً لَ َذ َ
ِن إِلَ ٍ
َو َما كَانَ َم َع ُه م ْ
مة ،أ ّما العل ّة اإلعداديّة فيمكن أن تنفصل عن معلولھا زماناً. -6المقصود من العل ّة ھنا :العل ّة التا ّ
دمات فلسفيّة من استحالة تسلسل العلل المتقارنة زماناً. ي يعتمد على ما تثبته مق ّ
-7يوجود طريق آخر إلثبات بطالن التسلسل ،وھو طريق فلسف ّ
مى
ديقين( ،وھو جدير ب ھذا االسـم وإن سـ ّ ديقين ،ولذا اشتھر برھانه باسم) :برھان الص ّن طريقة االستدالل على ﷲ با ھي طريق الص ّ -8يصرّح صدر المتأل ّھين بأ ّ
ل على ﷲ با . ن ابن سينا ،وإن لم ينطلق من المخلوقات في إثبات وجود ﷲ ،لكنّه لم يستد ّ ابن سينا برھانه -اإلمكان والوجوب -بھذا االسم أيضاً؛ فإ ّ
-9آل عمران.18 :
-10فصلت.53:
ل شيء لنفي الحقيقة ال للوصول إليھا! -11وھذا على خالف طريقة الشكاكين ،الذي يشكّكون في ك ّ
ن اإلنسان يمكن أن يدرك وجوده من خالل أحد اآلثار كالعمل -12لقد أنكر ابن سينا ھكذا طريقة في االستدالل وأثبت بطالنھا قبل ظھورھا ،حيث قال بأنّه إذا ادّعي بأ ّ
ن الصـحيح أن ُيـدركي)نفسـه( ،ولـذلك يقـول ابـن سـينا إ ّ أو التفكير ،فالجواب أنّه إنّما ُيثبت وجود مطلق المفكّر أو العامل ،وال يستطيع أن ُيثبت وجود المفكّر الشخصـ ّ
وعمل(.
ٍ ك
ي شيء آخر)قبل آثار ھذا الوجود من تفكيرٍ وش ٍ ّ ي بذاتھا ،وعليه فإنّه ُيدرك وجوده قبل أ ّ
اإلنسان حقيقة وجوده عن طريق علم النفس الحضور ّ
-13وھي من ابتكارات صدر المتأل ّھين.
اﻟﺪرس اﻟﺴﺎﺑﻊ :ﺗﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬات
أھداف الدرس
111
تمھيد:
ت ّم في البحوث السابقة إثبات وجود ﷲ من خالل طرق متعدّدة )طريق الفطرة ،الطريق العلميّ ،والطريق الفلسفيّ (.
ومن الفوارق بين ھذه الطرق في مجال إثبات و جود ﷲ ،1أنّ الطر يق الوح يد ا لذي ي ستمرّ في الب حث لي صل إ لى معر فة
صفات ﷲ وكماالته ،والذي يقدّم المعارف التوحيديّة السامية ،ھو الطريق الفلسفيّ :
مة ومدر ً
كة وراء الطبي عة قد ـ وأمّا الطريق العلميّ ف قد الحظ نا أن ّه ينط لق من آ ثار ﷲ وآيا ته في ال كون ،ليُث بت قوّ ًة عال ً
دبّرت ھذا العالم.
113
ت من قب يل الع لم واإلدراك واإلرادة ب شكل عا ّم ت عالى ليُث بت من خالل ھا فاإلنسان الذي يسلك ھذا الطر يق يدرك صفا ٍ
وجوده ،دون أن يتقدّم في ھذا الطريق خطو ًة إضافي ًّة في بيان حقيقة ھذه ال صفات ،فال يبي ّن م عارف وم فاھيم أسا سيّة في
مجال التوحيد ،كحقيقة علمه تعالى أو قدرته ،وأن ّ ه﴿ :بِ ُ
2
ـي ٍء ق َدِي ٌر ﴾ ،و﴿بِكُـ ِ ّ م ﴾ ،و﴿عَل َى كُـ ِ ّ
3
ي ٍء
ل شَ ْ ش ْل َ ي ٍء عَ لِي ٌ
ش ْ
ل َ
ك ِّ
ُمحِيطٌ -...﴾4كما تقدّم.5
ـ ويبقى المنھج الفلسفيّ المنھج الوحيد الذي ي ستطيع أن ُي قدّم الم عارف اإللھي ّة ال سامية ،ف ھو ينط لق أوّ الً من إث بات و جود
واجب الوجود ،6ث ّم يتقدّم خطوات إلى األمام ليُث بت أوّ الً وحدان ّي ته ،لينط لق في ما ب عد ليبي ّن حقي قة و صفات ھذا الو جود،
وفق نظام خاصّ ومراحل ُتطوى بالتدريج ،وھذا ما نقوم بدراسته في ھذا البحث.
أثبتنا في البحث السابق -ومن خالل البراھين الفلسفيّة -أنّ ثم ّة و جوداً م ستقالً قائ ما ً بذا ته ھو األ صل في طبي عة الو جود،
مطلق غير محدو ٍد .وما نريد أن نثبته ھنا ھو أنّ ھذا الوجود واح ٌد ال يمكن أن يكون متع ّدداً.
ٌ وھو وجو ٌد
114
أقام ھذا البرھان صدر المتألّھين ،بنا ًء على برھانه الوجوديّ في إثبات وجود ﷲ ،ووفق أصول ومبادئ فل سفيّة ،وخال صة
ھذا البرھان في مقدّمتين:
تقدّم في البرھان الوجوديّ أنّ حقيقة الوجود بذاتھا ال تق بل ال ح ّد والق يد ،وأنّ المحدودي ّة والن قص ال لذين نراھ ما في ب عض
الموجودات ناشئان عن جھ ٍة خارج ٍة عن ذات الوجود ،وھما في الواقع نتيجة معلوليّة ھذا الوجود لوجود غيره ،أم ّا حقي قة
ٌ
مطلق وال متنا ٍه. الوجود فتساوي عدم المحدوديّة واإلطالق ،وھكذا فإنّ وجود واجب الوجود وجو ٌد
115
إنّ الكثرة فرع المحدوديّة .فلو أخذنا اإلنسان مثالً ،فإ ّنه يقبل التكرار والتعدّد إذا الحظنا فيه ب عض الق يود ،من ق يود ال ما ّدة
والزمان والمكان .فھناك إنسان في ھذا المكان وآخر في مكان آخر ،وثمّة إنسان ھذه حدوده وآخر يتم ّتع بحدو ٍد أخرى.ھ نا
وبواسطة ھذه القيود يمكن أن يُفرض التع ّدد والكثرة .وأمّا ما يكون مطلقا ً وغير متنا ٍه فيكون خاليا ً من ھذه القيود ،وبالتا لي
ال يمكن أن يتكرّ ر أو يتعدّد ،فلو فرضنا أنّ العا َلم الماديَّ غير متناھي األبعاد ،أي ليس له أيّ حدّ ،فك يف يم كن أن ن فرض
ثان سنفرضه سوف يكون عين العالَم األوّ ل حيث فرضناه غير متنا ٍه وال محدود. عالم ماديٍّ ٍ
ٍ عالَما ً ماد ّيا ً آخر؟! إنّ أيّ
وھكذا األمر في الوجود المطلق غير المتناھي ،حيث ال يمكن أن نفرض وجوداً مطل قا ً غيره ،و ما نفر ضه غيره ل يس إال
ظھوره وتجلّيه.
ھذا ويمكن اإلنطالق في المقدّمة األو لى من ھذا البر ھان من حقي قة أنّ و جود ﷲ و جو ٌد م حضٌ و صرفٌ و خالصٌ -بدل
اإلستفادة من اإلطالق -فھو ذات الوجود دون ض ّم أيّ شي ٍء إليه.
ّ
والتكثر في الوجود الصرف .فلو أخذنا اإلنسان مثالً ونظرنا إليه كصرف كونه وتكون المقدّمة الثانية أ ّنه ال يتصوّ ر التعدّد
ثان ي كون أي ضا ً صرف اإلن سان ،بل إنساناً ،من دون األخذ بعين اإلعتبار أيّ لحاظٍ أو ٍ
نظر آخر ،فال يم كن أن ي كون له ٍ
يعود ما فُرض ثانيا ً عين صرف اإلنسان األوّ ل.
ومن ھنا يمكن تقرير ھذا البرھان بنحوين ،وھذا في الواقع برھانان ال برھان واحد.
116
ص ُفونَ .﴾8
ما يَ ِ ب ا ْل َ
ع ْرشِ عَ ﱠ ﷲ َر ّ ِ حانَ
س ْب َ َس َدتَا َ
ف ُ ة إِ ﱠال ﷲ لَف َ
ھ ٌ
م ا آل ِ َ ﴿لَ ْو كَانَ ف ِ
ِيھ َ ومصدر ھذا البرھان ھو اآلية القرآنيّة:
إنّ المبدأ والخالق لو كان متعدّداً -اثنين مثال -فسوف تت عارض و تتزاحم م يول وإرادات ك ّل وا ح ٍد من ال خالقين ،فإذا أراد
أحدھما شيئا ً أراد اآلخر شيئا ً ثانياً ،وحينھا:
إمّا أن تغلب إرادة وقدرة أحدھما ،وھذا يعني أن الذي ُغلِبت إرادته ليس إلھاً ،فإنّ ضعف القدرة يتنافى مع صفات الك مال
لإلله.
وإمّا أن ال تغلب أيّ إرادة منھما ،بنا ًء على أ ّنه يستحيل تغلّب قدرة أحدھما على اآلخر لما يتم ّت عان به من صفات الك مال.
تجر في ال كون قدرة وإرادة أيٍّ منھ ما ،ف ھذا مع ناه عدم و قوع أيّ حاد ث ٍة و عدم و جود أيّ مو جود ،و ھذا ھوولكن إذا لم ِ
َس َدتَا ﴾.
9
معنى الفساد﴿ :لَف َ
ھذا ھو التقرير السطحيّ للبرھان ،إال أنّ ھذا التقرير رب ما ت عرّ ض لب عض اإل شكاالت من ناح ية فرض ت عارض وتزا حم
وعرض فلسفيٍّ يؤسّس لبرھان تا ٍّم ح ّتى ع لى فرض ان سجام إرادة ك ٍّل
ٍ اإلرادات ،ولذا يمكن إحكامه وتقريره عبر مقدّمات
من اإللھين المفترضين.
117
أـ واجب الوجود بالذات :واجب من جميع الجھات ،فواجب الوجود ليس ف يه أيّ حيثي ّ ٍة إمكاني ّة ،بأن ي كون ف يه م جرّ د قوّ ِة
واستعداد جھة ما.
ٌ
خالق وفي ّاضٌ بالوجوب ال فعل مه وا جبٌ ل يس ف يه إم كانٌ وم جرّ د ا ستعداد ،وقدر ته بالوجوب ال باإلم كان ،وھ كذا فإن ّ ه
كن قد وُ ج ِ د ف ھو م نه ال محا لة ،و لو ف ُرض و جود
باإلمكان وبمحض استعداد ،وبما أنّ فيضه واجبٌ ال إمكان فيه ف ك ّل مم ٍ
ممكن لم يكن وجو ُده مفاضا ً منه ،يكون ذلك خالف فرض أ ّنه واجبٌ من جميع الجھات. ٍ
جدة له -أم ٌر وا ح ٌد ال أ كثر ،فو جود المع لول ھو ع ين ا لربط ،أو ق ُل إنّ الو جود
ب -إنّ وجود المعلول ووجود العلّة :المو ِ
واإليجاد أم ٌر واح ٌد ال أمران )كسرت اإلبريق فانكسر(.
مرجح :فلو كانت نسبة شيئين إلى الفا عل -بالقوّ ة -مت ساوية ،فال يم كن أن يف عل أي ّا ً منھ ما إال إذا
ّ ج -يستحيل الترجيح بال
ّ
تدخل عام ٌل خارجيٌّ ورجّ ح أحدھما.
كذلك األمر في مثل الھارب الذي يجد نفسه أمام طريقين متساويين بالن سبة إل يه ،فإن ّ ه ال يم كن أن يت حرّ ك إ لى أ حدھما إال
عامل خارجيّ ،نعم قد يكون ھذا العامل خف ّيا ً ال شعور ّيا ً وغير عقالئيّ .
ٍ بتأثير
إذا عي ّنا أحد الوجودات الممكنة )صفته أ ّنه ممكن الوجود وقد أُفيض عليه الوجود الحقا ً( ،فال ب ّد أن ي كون قد أُف يض عل يه
الوجود من كال الواجبين ،وفق
118
المقدّمة األولى .ولكن ،بحكم المقدّمة الثانية ،فإنّ إيجاد ك ّل واح ٍد من ا لواجبين ي ستلزم ح صول و جودين ،في ما ا لذي ع ّي ناه
ھو وجو ٌد واح ٌد ،وبعبار ٍة أخرى إنّ انتساب ھذا المعلول الواحد إلى كال ا لواجبين ي عني ت عدّد و جوده .وأم ّا أن ينت سب إ لى
أحد الواجبين بعينه ،فھذا يكون ترجيحا ً بال مرجّح ،وقد ثبت بطالنه ،كما بي ّنا في المق ّدمة الثالثة.
اللّھ ّم إال أن يفرض قائ ٌل أنّ ھذا الوجود ينتسب إلى كال ا لواجبين ،و قد ت عدّد إم كان الو جود ا لذي ف يه ،فھ نا ن سأل عن ك ّل
واح ٍد من ھذين اإلمكانين إلى من ينتسبان ،والجواب ال ب ّد أن يكون أنّ في ك ّل إمكان إم كانين حتى ينت سب ك ّل إم ٍ
كان إ لى
إمكان بعدد الوا جب ،ون عود إ لى ال سؤال عن ھذه اإلمكا نات .وھ كذا ي لزم من ھذا ال فرض أن ال ٍ كال الواجبين فيتعدّد ك ّل
ممكن على الوجود ،وحينھا يص ّح أن ُي قال :إذا ت عدّد وا جب ٍ أيّ ر ّ فيتو لن وبالتالي ،ً اأبد ة
ٍ ي
ّ شخص ٍ
ت نقف على آحا ٍد ووجودا
َس َدتَا﴾.
ة إِ ﱠال ﷲ لَف َ
ھ ٌ
ما آلِ َ
ِيھ َ ً
الوجود يجعل العال َم عدما ال وجود له ،وھو قوله تعالى﴿ :لَ ْو كَانَ ف ِ
لو كان ھناك واجب وجود آخر لتشارك الواجبان في كونھ ما وا جبي الو جود فال ب ّد من امت ياز أ حدھما عن اآل خر ب شيئ
غير ذلك األمر المشترك -وھو مقتضى االثنية ،إذ بدون االمتياز يكون واحداً -وذلك يستلزم تر ّكب كالً منھما من شيئين
احدھما األمر المشترك وثانيھما األمر المتميّز وھذا باطل من جھتين.
ـ األولى :أ ّنه يلزم منه التركيب ،وھو باطل الستلزامه الحاجة لالجزاء
119
ـ الثانية :لزوم التسلسل ألن ما به االمتياز على فرض وجوب وجوده يحتاج أيضا ً إلى جھة امتياز ،فيصبح االث نان خم سة
وھكذا ....إلى ما ال نھاية له -وھو باطل.
ج ِبي الوجود ،أي يستلزم أن يتر ّكب واجبٌ واح ٌد من ما ال نھا ية له
فالنتيجة :أنّ وجود واج َبيْ وجود يستلزم عدم تناھي وا ِ
من واجبي الوجود ،وھذا باطل من جھتين:
2ـ إنّ ھذا النوع من التركيب ،وھو أن يتر ّكب شيء من أ جزاء ت كون بح يث ي ستلزم ك ّل جزء من ھا جزءاً جد يداً بإ ضافة
األجزاء المفروضة أوّ الً ،مستحي ٌل.
النبوة:
ّ البرھان الرابع:
يعتمد ھذا البرھان على تعريف ﷲ بنفسه أ ّنه واح ٌد ،وأساس ھذا البرھان ھو النبوّ ة.
ٌ
الحقة للتوحيد ،فكيف ن ّتخذھا دليالً عليه؟! وقبل بيان ھذا البرھان ،قد يخطر في األذھان إشكال وھو :أنّ النبوّ ة
والجواب :إ ّنه إ ّنما ال يص ّح أن تكون النبوّ ة منطلقا ً إلثبات أصل وجود ﷲ ،حيث يلزم الدور ،10وأمّا إثبات وحدانيّة ﷲ عن
طريق آخر فليس في ذلك أيّ إشكال.
ٍ طريق النبوّ ة بعد إثبات وجوده عن
120
نصّ النبيّ إلثبات وحدانيّة ﷲ ،وإ ّنما أساس ھذا البرھان يعتمد على النبوّ ة بوصفھا ظاھر ًة من ظوا ھر ال عالم ،ح يث ت ش ّكل
بنفسھا برھانا ً على وحدانيّته تعالى ،كما ذكر أمي ُر المؤمنين عليه السالم في خطا به لو لده الح سن عل يه ال سالم ،ي قول ) :يا
بني إ ّنه لو كان لر ّبك شريك ألتتك ر سله ،(...) ،ولكن ّ ه إ ل ٌه وا ح ٌد ك ما و صف نف سه ال ي ضادّ ه في مل كه أ حد( .وخال صة
ّ
االستدالل :أنّ الوحي وإرسال األنبياء لھداية البشر الزم لوجود ﷲ ،فلو كان ھناك إل ٌه آخر لكانت له رسل.
ب -الوحي -إلى من ھو مؤھّل لتل ّقيه)النبيّ ( -من أنواع الفيض الواجب.
النتيجة :ال يمكن أن يوجد مؤ ّھ ٌل لتل ّقي الوحي وال يوحى إليه من قِبل الواجب.
ومن الواضح أنّ ھذا األمر ليس من قبيل الواجب الكفائيّ ،أل ّننا بيّنا أنّ الفيض على واجب الو جود وا جبٌ ،و لذلك لو كان
يوح إلى األنبياء عليھم السالم إال من قبل إ ل ٍه وا حدٍ،
ھناك )واجبا وجود( للزم أن يوحي ك ّل واح ٍد منھما إلى النبيّ ،فيما لم َ
فال إله غيره.
121
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
ـ يتميّز البحث الفلسفيّ بأ ّنه بعد أن يثبت وجود ﷲ ،يتق ّدم في البحث ليُق ّدم معارف إلھيّة سامية من قب يل إث بات وحداني ّة ﷲ
وصفاته ،وھذا بخالف طريق الفطرة والطريق العلميّ .
األول :إنّ واجب الوجود وجود مطلق وصرف ،والمطلق والصرف ال يتث ّنى وال يتكرّ ر.
أ -واجب الوجود واجبٌ من جميع الجھات ،ففيضه على الممكن واجبٌ .
ب -وجود العلّة عين وجود المعلول ،أو اإليجاد عين الوجود.
ب ثا ل ٍ
ث يمي ّز بينھ ما، الثا لث :بر ھان الفر جة )الت مايز( :وي قوم ع لى أ ساس أنّ الزم ت عدّد وا جب الو جود ھو و جود وا ج ٍ
ووجود الثالثة يستلزم الخمسة ،وھكذا ....وھذا التركيب محالٌ ،ويتناقض مع الواجب.
الرابع :برھان النبوّ ة :فإنّ ظاھرة الن بوّ ة والو حي من في ضه الوا جب ،فال يم كن أن ي كون ھ ناك مؤھ ّ ٌل لتلق ّي الو حي وال
يوحي إليه الواجب ،وحيث لم يو َح من غيره ج ّل وعال فھو واحد.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
1ـ ما ھي البراھين التي تثبت وحدانيته تعالى؟
2ـ ما ھو البرھان الذي أقامه صدر المتألّھين على التوحيد؟
-3كيف يصاغ برھان التمانع؟
-4كيف يثبت برھان الفرجة التوحيد؟
-5ھل يمكن االستدالل ببرھان النبوّ ة على التوحيد؟
ﻫﻮاﻣﺶ
دمة.
-1مرّت بعض الفوارق بين الطرق في البحوث المتق ّ
-2البقرة.29 :
-3البقرة.20 :
-4فصّلت.54 :
دم ذلك في بحث البراھين الفلسفيّة. -5تق ّ
ي.
دم ذلك في البحث السابق ،وال سيما من خالل البرھان الوجود ّ -6وقد تق ّ
دمات فلسفيّة أُثبتت في محل ّ ھا ،ون حن نعــرض ھـذا البرھـان
مة برھان آخر في ھذا المجال ،ولكنّه يعتمد على مق ّ
ُ -7يذكر ھذا البرھان في الكتب الفلسفيّة ،ولكن ث ّ
مق فيه من خالل دراسة البحوث الفلسفيّة ،وھو برھان :داللة وحدة العالم على وحدة مبدئه: ھنا بإختصار ،ويمكن التع ّ
دمات:
ويتأل ّف ھذا البرھان من أربع مق ّ
أـ وحدة العالم وحدة واقعيّة :ففي مجال ارتباط أجزاء العالم ھناك ثالثة اتجاھات:
ي إختالل.ن أجزاء العالم متفرّقة ال تؤث ّر على بعضھا ،وبالتالي فلو إنعدم بعضھا ال يؤدّي ذلك إلى حدوث أ ّ 1ـ القول بعدم االرتباط ،وإ ّ
ي
ن تغيـير أو نقـص أ ّ ل جزء من أجزائه دوراً يؤث ّر على فعاليّة المجمـوع ،وبالتـالي فـإ ّ
ي ،فتكون أجزاء العالم بمثابة أجزاء المصنع ،حيث يؤ ّدي ك ّ
2ـ القول باالرتباط الصناع ّ
ل ما على وضع المجموع. جزء يؤدّي إلى إختال ٍ
ن وا ح ٍد ،و ُتب حث ھـذهن ارتباط أجزاء العالم أعمق من إرتباط أجزاء آلة من اآلالت ،بل اإلرتباط بين أجزائه بمثابة ارتباط أعضـاء بـد ٍ
ما الذي ثبت في الفلسفة ،فھو أ ّ 3ـ وأ ّ
دمة في مقالة العل ّة والمعلول وفي مقالة القوّة والفعل.
المق ّ
ويبحث ذلك في أبحاث اإللھيّات. ب -ليس ھناك عالم سوى ھذا العالمُ ،
ج -المعلول الواحد ال يصدر إال عن عل ّة واحدة ،و ُيبحث ذلك في مقالة العل ّة والمعلول.
ويبحث ذلك في أبحاث اإللھيّات. د -واجب الوجود بالذات واجب من جميع الجھاتُ ،
دما ته علـى
ن ھـذا البر ھان يعتمـد فـي مق ّ
ن من الواضح أ ّ مالحظةُ :يعرف ھذا البرھان أيضاً ببرھان وحدة النظم ،إال أنّه ال يرتبط ببرھان النظم في الطريق العلم ّ
ي ،فإ ّ
األصول الفلسفيّة ،وليس على نتائج العلوم التجريبيّة.
-8األنبياء.22:
ن ذلك سيؤدّي إلى فساد المصنع أو تحكّم مدير واحد. ويقرّب ذلك بما لو كان مديران يتمتّعان بكامل اإلرادة والقدرة في مصنعٍ واحد ،فإ ّ ُ -9
دمة
ّ متق فتكون ذلك، قبل ﷲ بوجود مذعنين نكون أن د
ّ ب فال ﷲ، ِبل ق من كانت إذا إال تثبت ال ة و
ّ النب ن
ّ أ والحال ة، و
ّ النب طريق عن ﷲ وجود ثبت ن
ُ أن نريد : الدور بيان -10
خرة في آن واحد. ومتأ ّ
اﻟﺪرس اﻟﺜﺎﻣﻦ :اﻟﺼﻔﺎت
أھداف الدرس
-1التفرقة بين الصفات الثبوتية والصفات السلبية وإعطاء مصاديق لكل منھا.
-2القدرة على شرح اآلراء حول معرفة صفات ﷲ بالعقل.
-3القدرة على عرض اإلشكاالت الواردة على معرفة ﷲ بالعقل والرد عليھا.
-4فھم آراء المناھج المختلفة في التعرف إلى صفات ﷲ.
-5إثبات أن صفات ﷲ مطلقة.
125
تمھيد:
جرى البحث بين مختلف أطياف علماء الكالم )والفلسفة(حول مسألة قدرة العقل على ورود ميدان التعرّف إلى صفات ﷲ،
وأ ّنه ھل مُنع شرعا ً عن الخوض في مسألة الصفات اإللھيّة أو ال؟
ّ
وتمخض البحث عن عدّة أقوال:
ﷲ﴿ :لَ ْي َ
س 1ـ عجز الفكر البشريّ عن إدراك صفات ﷲ ّ
عز وجلّ ،ألنّ
127
صفات سلكت طريق ھا إل يه بوا سطة م شاھدتھا في المخلو قات. ٌ ي ٌء﴾ ،2بينما الصفات التي يُدركھا العقل البشريّ
ش ْ
ه َ
م ْثلِ ِ َ
ك ِ
ّ ً ً ّ
ت إلى ﷲ عز وج ّل نكون قد أثبتنا صفة مشتركة بينه وب ين خل قه ،لذا ال بد أن نقت في سبيل )التنز يه( وإذا نسبنا ھكذا صفا ٍ
ح ّتى ال نقع في )التشبيه(.
و قد ورد في ال حديث ) :كل ّ ما م ّيزت موه بأو ھامكم في أدقّ معان يه ،مخ ٌ
لوق م صنو ٌع مثل كم ،مردو ٌد إلي كم ،ول علّ الن مل
الصغار تتوھّم أنّ زبانتين!(.3
2ـ االعتقاد بإمكانيّة معرفة صفات ﷲ السلبيّة ،دون اإليجابيّة .وھذا إ ّتجاهٌ أكثر إعتداالً في مجال معرفة صفات ﷲ.
فالتشبيه بحسب ھذا اإلتجاه يقع حينما ُنثبت للخالق صفة ،أل ّنھا ستكون مشتركة بينه وبين خلقه ،أمّا نفي الصفة فال ي ستلزم
ذلك.4
من ھنا يمكن أن نطلق ع لى ﷲ ت عالى صفاته اإليجابي ّة ،كالعلم وال قدرة ،ون عني ب ھا معاني ھا ال سلبيّة ال اإليجابي ّة ،فالعل يم
يعني غير الجاھل ،والقدير غير العاجز ،وھكذا...
3ـ ثمّة فريق ثالث لم يمانع معرف َة صفات ﷲ من جھة التنزيه والتشبيه،
128
للفرق بين صفات ﷲ وصفات المخلوق ،فعلم زيد حادث وعلم ﷲ قديم ،وعلم زيد مقيّد فيما علم ﷲ مطلق...
إال أنّ أصحاب ھذا الرأي يقفون عند مسأل ٍة أخرى ،وھي أ ّننا ال نستطيع أن نح ّدد بعقولنا صفة الك مال ا لتي ت ّت صف ا لذات
تنزه ا لذات عن اإل ّت صاف ب ھا ،وغا ية ما نفھ مه أن ّ ه جام ٌع لل صفات
اإللھيّة بھا ،وال نستطيع أن نحدّد صفة الن قص ا لتي ت ّ
ّ
ومنزه عن ك ّل نقص. الكماليّة،
فالمسألة توقيفيّة ،فما ثبت في الكتاب أو الس ّنة نثبته ،وما لم يُشر إليه نسكت عنه.
كما ورد في األخبار واألحاديث النھي عن توصيف ﷲ تعالى بصف ٍة ما لم يكن ﷲ تعالى وصف نفسه بھا.7
اإلشكال األول :إنّ ك ّل صف ٍة نطلقھا على ﷲ تعالى ھي صفة مشتركة بين ﷲ ومخلوقاته ،ويلزم من ھذا التشبيه.
129
والجواب:
ك -شرعا ً وعقالً -أنّ ﷲ ت عالى ل يس كمث له شيءٌ ،ول كن ھذا ال ي عني أنّ ك ّل صف ٍة ت صدق ب شأن المخ لوق ال أوال◌ً :ال ش ّ
تصدق بشأن ال خالق ،بل يم كن أن ي ّت صف ال خالق ب ھذه ال صفة مع الت مايز بأن ّ ه ي ّت صف ب ھا ع لى ن حو الو جوب ،وال قدم،
واإلطالق ،وفي كونھا بالذات ،وذلك تماما ً بخالف المخلوق.
فا عال ٌم واإلنسان عالم ،والعلم ليس سوى الكشف واإلحاطة ،لكنّ عل َم ﷲ ذاتيّ ،واجبٌ ،قدي ٌم ،مط ٌ
لق ال مت نا ٍه ،8في ما ع لم
ٌ
حادث ،محدو ٌد. اإلنسان بالغير ،ممكنٌ ،
إذاً ع ندما نن في الت شبيه ،ون قول إنّ المخ لوق ال ي شبه ال خالق ،فالمق صود أنّ م صداق المخ لوق ال ي شبه ال خالق ،ال أنّ ك ّل
مفھوم يصدق على المخلوق ينبغي أن ال يصدق على الخالق ،واإلشتباه بھما يُسمّى بإختالط المفھوم والمصداق.
اإلشكال الثاني :يرتبط ھذا اإلشكال بحدود قدرة العقل ،ويُبتنى على
130
الحق تعالى ،ولذا فليس لنا سوى إ ّتباع الشريعة في ذلك ،فنصفه ت عالى ب ما
ّ قادر على اكتشاف صفات
أساس أنّ العقل غي ُر ٍ
وصفته به الشريعة دون ما سوى ذلك.
الجواب:
قد تقدّم في بحث المق ّدمات أنّ قدرة العقل ال تنحصر في تعميم وتجريد وتركيب ما تدركه حواسّه ،بل العقل يدرك المعا ني
لعلم برھانيّ .
العامّة ،ويستطيع أن يحكم بشأنھا ،ممّا يؤسّس ٍ
وبنا ًء عليه فإنّ العقل الفلسفيّ المتدرّب قاد ٌر على درس الصفات الالئقة بذات ﷲ ت عالى ،وال صفات ا لتي ت ّ
تنزه ذا ته عن ھا،
دون أن يعني ذلك أ ّنه يستوعب كنه ذات ﷲ أو كنه صفاته ج ّل وعال.
الجواب:
ك أنّ التعليمات واإليضاحات التي قدّمھا القرآن ومن بعده أئمّة الدين ھي أرقى وأكمل المعارف اإللھيّة ا لتي يم كن أن ال ش ّ
ملھم لھذه الحقائق ،فليس كالمنا في ھذا
ٍ أعظم ھانّ أل التعاليم ھذه باع ّ
ت ا من مباحث ّ
ينالھا بشر ،وال بد عند الخوض في ھكذا
المجال ،وإ ّنما ينصبّ حديثنا في مفاد ھذه الروايات.
ح ّتى نتح ّقق من مفاد الروايات الناھية عن الخوض في الصفات ،ال ب ّد أن ّ
نطلع على ظروفھا الموضوعيّة حين صدرت:
عصر النصّ أفرا ٌد طرحوا بشأن األلوھيّة أفكاراً دون أن يتوفّروا على ال صالحيّة العلمي ّة،
َ فقد ظھر في المجتمع اإلسالميّ
ودون أن يأخذوا تعاليم القرآن
131
ً
ومخالفة للقرآن أيضا ً. ً
مخالفة للمقاييس العقليّة والعلميّة، بعين اإلعتبار ،فجاءت أفكارھم
ولذا ال يكون مفاد ھذه الروايات لزوم التقليد والتع ّبد في ھذا المجال ،وإ ّنما مفادھا:
ـ منع األفراد غير المؤھّلين من ورود ھذا الم يدان ،فق بل ال خوض في مبا حث الحك مة المتعال ية ال ب ّد من طيّ الم قدّمات
ال ضروريّة ،ف ضالً عن توف ّر اإل ستعداد المال ئم وا لذوق ال سليم إلدراك ھذه الم فاھيم الرفي عة ،9ل ُتبحَ ث ھذه الق ضايا و فق
األصول والموازين العلميّة والعمليّة.
ـ متابعة القرآن عند الخوض في ھذه األبحاث ،بحيث يكون اإلستلھام واإلستنباط من خالله.10
ـ على أن تكون الروايات ھي الموجّ ه والمحرّك للعقول بغية إدراك األمور ومعرفتھا بشكل حقيقيّ .
كثير من النصوص نوعا ً من االستدالالت العقليّة والتحليل الفكريّ ،ولم يكن لھا معنى لو كن ّ ا ملزم ين
ٍ ولذلك فنحن نجد في
بالتعبّد والتقليد!
ٌ
ومطلق ،من دون أن يكون فيھا أيّ ح ّد- بما أنّ الذات اإللھيّة وجو ٌد محضٌ
132
ك ما ث بت و فق البر ھان الو جوديّ -فال ب ّد أن ت صدق ع لى ذا ته ت عالى جم يع شؤون الو جود وكماال ته ب ح ّدھا المط لق
والالمتناھي.
الفلسفي :ويقوم على أ ساس ما ث بت لد يه من قا عدة) :فا قد ال شيء ال يعط يه( .وح يث إنّ ھ ناك مجمو عة من ّ 1ـ المنھج
الكماالت المشھودة في المخلوقات نظير الع لم والح ياة وال قدرة واإلرادة ،ف ھذا يد ّل ع لى أنّ م بدأ ومن شأ المو جودات وا ج ٌد
لتلك الكماالت.
الكالمي :ينطلق المنھج الكالميّ من خالل التأمّل في النظم الدقيق لعالم المخلوقات ،ممّا يد ّل على عدم ح صول
ّ 2ـ المنھج
11
علم وقدر ٍة وإرادةٍ ،فيُثبت مثل ھذه الصفات إلى ھذه القوّ ة . ً
صدفة ،بل صدرت عن قوّ ٍة ذات ٍ ذلك
مالحظة :يتميّز الطريق األوّ ل عن الطريق الثاني ،بمنھجيه الفلسفيّ والكالميّ ،بأن ّ ه يعرّ ف نا إ لى ﷲ بأن ّ ه ك ما ٌل مط ٌ
لق ل يس
للنقص إليه طريق ،بخالف الطريق الثاني الذي يكتفي بإثبات تو ّفر الذات اإللھيّة على كماالت المخلوقات بحدّھا األعلى.
تبيّن أ ّنه وفق الطريق األوّ ل -وھو الطريق األسلم -في التعرّ ف إلى الصفات ،أنّ صفات ال باري مطل ٌ
قة غير مقي ّدةٍ ،فعل مه
ٌ
مطلقة ،فھل الذھن قاد ٌر على تصوّ ر ھذه الصفات المطلقة أو لمحدوديّته ال يتصوّ ر إال وقدرته وحكمته وك ّل صفاته
133
في الواقع إنّ الذھن عندما يتصوّ ر المقيّد إ ّنما يتصوّ ر بض ّم مجموعة من المفاھيم المطلقة )اإلنسان ال عالم ال مؤمن( ،ف ما لم
يتصوّ ر المطلق ال يمكن أن يتصوّ ر المقيّد.
ونحن عندما نريد أن نتصوّ ر الباري وصفاته في ذھننا فليس المطلوب أن ي ّتحد ذھ ُننا مع ما ھو موجود في ال خارج ،وإ ّن ما
نكتفي بأن نت صوّ ر ال صفة الم شتركة بي نه وب ين مخلوقا ته ،ثم ن ستعين بالنفي لنن في عن ھا أيّ شكل من أ شكال المحدودي ّة
والقيديّة والنقص ،كما نفعل عندما نتصوّ ر الفضاء الالمتناھي.
ول كن ما ال ب ّد من اإل شارة إل يه ھو أنّ اإل طالق في ال باري ھو إ طالق من جم يع الج ھات ال يع ِ
توره أيّ ق يد ،ول يس
كاإلطالقات التي نطرحھا عاد ًة والتي يكون اإلطالق فيھا نسب ّيا ً!
كما أ ّننا عندما نقول إنّ ذات ال باري مطل قة ،فالمق صود أنّ له تح ّق قا ً وو جوداً خارجي ّا ً مطل قاً ،ال أنّ مفھوم َ ه أ ع ّم الم فاھيم.
فاإلطالق في ذات الباري وجوديٌّ وليس كبقية اإلطالقات التي يكون اإلطالق فيھا مفھوم ّيا ً )اإلنسان ،األبيض(!
134
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
فريق إلى عجز العقل البشريّ عن إدراك صفات ﷲ ،و لذا قالوا بالتنز يه خو فا ً من الت شبيه ،و قال آ خرون بإمكاني ّة
ٌ ذھب
ّ ّ ٌ ٌ
معرفة الصفات السلبيّة دون اإليجابيّة ،وقال فريق ثالث بأننا قادرون على معرفة الصفات ،لكننا عاجزون عن معر فة أيّ
الصفات ي ّتصف بھا ،فنكتفي بما ورد في النصوص الشرعيّة.
والصحيح تم ّكن العقل ،عبر إدراكه المفاھيم والمعاني الكليّة ،من معرفة الصفات ،وذلك لتمايز الصفات التي ننسبھا ل لذات
اإللھيّة عن الصفات التي نعرفھا في المخلوق ،وإال لزم إن كار ن فس و جوده ووحدان ّي ته .وأم ّا الروا يات ا لواردة في الن ھي
عن وصفه تعالى ،فقد وردت في جماع ٍة خاضت في الم سألة دون أن ي كون لديھا الك فاءة العلمي ّة ،و لم تعت مد ع لى توج يه
القرآن وأئمّة الدين في إستنباط الصفات.
التعرف إلى صفات الباري عبر أحد طريقين :إمّا بإ ّتخاذ الذات برھانا ً على الصفات ،وإم ّا بإ ّت خاذ المخلو قات مرآ ًة
ّ ـ يمكن
للصفات.
ـ إنّ ذات الباري وصفاته مطلقة ،وإطالقھا وجوديٌّ من جميع الجھات ،ويمكن للذھن أن يتصوّ رھا بمعونة النفي ألي شكل
من أشكال المحدودية والنقص.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
1ـ ھل يتاح للعقل البشري معرفة الصفات اإللھية ؟
2ـ ما المقصود من الروايات الواردة في النھي عن وصفه تعالى؟
-3ما ھي طرق التعرف على صفات ﷲ تعالى؟
-4ھل يمكن للذھن معرفة الصفات المطلقة؟
-5ما المقصود من اإلطالق في الصفات اإللھية؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1لالطالع على تفصيل تقسيمات صفات ﷲ يمكن مراجعة كتاب اإللھيّات للشيخ جعفر السبحاني.
-2الشورى.11 :
البھائي العاملي ،مشرق الشمسين ،ص ،398منشورات مكتبة بصيرتي -قم. -3
ل.
مطلق ،فال يوجد من يصدق عليه ھكذا نفي سوى ﷲ عزّ وج ّ
ٌ نفي
ٌ ن ھذا النفي
ال سيّما بعد االلتفات إلى أ ّ -4
الصافات.180: -5
االسراء.43: -6
ل وعال ،وباب النسبة ،وباب النھي عن الكيفيّة ،وباب إبطال الرؤية.
-7يمكن مراجعة كتاب الكافي :كتاب التوحيد /باب النھي عن الصفة بغير ما وصف ﷲ به نفسه ج ّ
األَ ْرضِ})سـبأ.(3 :
ت َوال فِي ْ
ما َوا ِ
الس َ
ﱠ َال ذ ﱠَر ٍة فِي
ب َع ْن ُه ِم ْثق ُ
ب ال يَ ْع ُز ُِم ا ْل َغ ْي ِ
-8فيعلم الكليّات والجزئيّات ،والماضي والحاضر ،والغيب والشھادة { َعال ِ
ة
ن ضـحك ٌ
ن ما يشتمل عليه ھذا الفـ ّل وارد ،أو يط ّلع عليه إال واحد بعد واحد ،ولذلك فإ ّ الحق عن أن يكون شريع ًة لك ّ ّ ل جناب
ل ما ھم ،وكما قال ابن سينا) :ج ّ -9وقلي ٌ
صل()اإلشارات /النمط التاسع(.للمغ ّفل وعبر ٌة للمح ّ
-10وليست المتابعة بمعنى التقليد.
دثنا عن برھان النظم.
-11قد أشرنا إلى ھذا المعنى عندما تح ّ
اﻟﺪرس اﻟﺘﺎﺳﻊ :اﻟﻌﺪل ،إﺗﺠﺎﻫﺎﺗﻪ وآﺛﺎرﻩ
أھداف الدرس
139
تمھيد:
العادل كما يراه معظم الناس ،ھو من ال يضمر سوءاً لآلخرين ،وال يتجاوز حقوقھم ،وھو الذي يت ساوى ع نده ال ناس ،فإذا
كان في موقع المسؤولية ،قام بنصرة المظلوم ع لى ال ظالم .وال ظالم ھو ا لذي يت جاوز ح قوق ال ناس و يرجح بع ضھم ع لى
بعض....
اإللھي:
ّ العدل
إنّ البحث حول العدل اإللھي تار ًة يكون من جھة أنّ العدالة ھي صفة كمال في الخالق ،حيث إنّ ﷲ ّ
عز و جل ھو الجا مع
لجميع الصفات الكمالية والجمالية.
حق الغير .و ھذا الم عنى يم كن أن يتحق ّق في العال قة ب ين المخلو قات في ما وأخرى من جھة أنّ العدل عبارة عن رعاية ّ
بينھا ،وال يتحقق في العالقة بين الخالق والمخلوق ،ألنّ ك ّل ما لدى المخلوق فمن الخالق ،وملكية المخلوق في طول ملك ية
الخالق ،فإنّ ملكيّة اإلنسان ھي كملكي ّة الط فل بالن سبة لملكي ّة أب يه ،ح يث يع تبر نف سه مال كا ً أللعا به ،وال ي نافي ذ لك ملكي ّة
األب لھا.
141
ك َول َ ُ
ه مل ْ ُ إذاً فا ع ّز وجل مالك الملك على اإل طالق ،وأيّ ت صرّف م نه في ال كون إ ّن ما ھو ت صرّف في مل كه،
﴿ل َ ُ
ه ا ْل ُ
صداق للظ لم في حق ّه ت عالى ،و من ھ نا ي قال إنّ ﷲ ل يس
ٍ نعثر ع لى م
َ ح ْم ُد﴾﴿ 1وإلي ِه يرج ُِع األم ُر كلﱡ ُه﴾ ،2لذا ال يمكن أن
ا ْل َ
لحق ما ،حتى تكون رعايته عدالً وعدمھا ظلما ً.
ظالم ،أل ّنه ال يمكن إفتراض غيره مالكا ً ٍّ ٍ بعادل وال
ٍ
العدل في القرآن:
ل ش ْيئاً َ
وإِنْ ك َانَ ِ
م ْثقَـا َ ْس َ ظلَ ُ
م نَف ٌ ة َ
فال ُت ْ م ا ْل ِقيَا َ
م ِ ِسطَ لِيَ ْ
و ِ ين ا ْلق ْ
وا ِز َ َع ا ْل َ
م َ للم عادَ ﴿ :
ونَض ُ والعدل بمفھومه الفلسفي أساسٌ
ل أَتَ ْي َنا بِ َ
4
﴾. ين
س ِب َ
حا ِ ھا َو َ
كفَى بِ َنا َ د ٍ
خ ْر َ
ِن َ
ةم ْ
حب ﱠ ٍ
َ
142
ً
حاجة للبحث في معنى العدل والدليل عليه ،وال يعتبرون أنفسھم ملزمين باإلجابة لورود ذلك في الكتاب والس ّنة ،وال يرون
7عن الشبھات الواردة على العدل اإللھي.
ف ھو عدلٌ، 2ـ إتجاه المتكلّمين من األشاعرة :يقول أتباع ھذا االتجاه إنّ العدل منتز ٌع من ف عل ﷲ سبحانه ،و ك ّل ف ٍ
عل
فقد يعاقب ﷲ فاع َل الخير ويثيبُ فاع َل الشرّ ،ويكون ذلك عدالً منه تعالى.
وھذه الفئة وإن لم تنكر صف َة ال عدل ،لك ّن ھم بالتف سير ا لذي تبن َّ وه أن كروا ال عدل عملي ّا ً .وال ي ضطرّ ھؤالء أي ضا ً إ لى تقد يم
ت على األسئلة المثارة حول العدل اإللھي. إجابا ٍ
وقد قام ُح ّكام الجور كالمتو ّكل العبّاسي بالدفاع عن ھذا التفسير ،ألنه يبرّ ر ما يقو مون به من ظ لم ،فإنّ ك ّل األف عال ال تي
تحدث في ھذا الكون ھي من ﷲ ،وك ّل فعل يصدر منه تعالى فھو عدلٌ ،إذاً ال وجود للظلم في قاموس الوجود.
143
ٌ
إنسانية ،وتب ّني ذلك ب ّ
حق للحسن والقبح وغيرھما من المفاھيم في ساحة القدس اإللھية ،حيث إنّ ھذه المعايير كلّھا معايي ٌر
ﷲ تعالى يعتبر نوعا ً من تعيين الوظيفة له ع ّز وجل ،بل يثبت الحكماء له سبحانه صف َة العدل من جھ ٍة أعمق يأتي الحديث
عنھا في المعنى الرابع من معاني العدل.
ويتبيّن مم ّا ت قدّم أنّ اإل شكاالت المطرو حة 9حول م سألة ال عدل اإلل ھي إ ّن ما ت طرح لدى اإلت جاھين األ خيرين ،أي العدل ية
والحكماء.
معاني العدل:
1ـ العدل بمعنى التناسب ويقابله عدم التناسب ال الظلم ،كما يوصف المجتمع بأنه مجتم ٌع عادل ً،فيكون المراد أنّ ك ّل شي ٍء
واألرض( ،10واآل ية ال شريفة ﴿
ُ ُ
سماوات موجو ٌد فيه بالقدر الالزم والمناسب ،وما ورد في الحديث النبوي) :بالعدل قام ِ
ت ال
الس َما َء َر َف َع َھا َو َوض َ َع ا ْلمِـي َزانَ ﴾ ،11معناھ ما أنّ ال عا َلم كل ّه مت عاد ٌل وم توازنٌ ،و ھذا من لوازم كون ﷲ سبحانه حكي ما ً
ﱠ وَ
وعليما ،إال أنّ ھذا المعنى خارج عن مح ّل البحث. ً
2ـ العدل بمعنى التساوي وترك الترجيح ،وھذا المعنى إن كان المراد منه عدم مرا عاة األ نواع المختل فة لإل ستحقاق ،ف ھذا
ھو عين الظلم ،أل ّنه ال يمكن إعتبار من يستحق ومن ال يستحق على ح ّد سواء.
حق حق ّه ،ويقاب له الظ لم و ھو الت جاوز عن ح قوق اآل خرين ،ويعت مد
3ـ العدل بمعنى مراعاة الحقوق وھو إعطاء ك ّل ذي ّ
العدل بھذا المعنى على أساسين:
144
ب ـ خصوصية اإلنسان الذاتية :فإنه مخلوق ع لى ن حو إذا أراد الو صول إ لى أھدا فه فعل يه مرا عاة مجمو ع ٍة من األف كار
ت إن شائ ّي ٍة من قب يل )ينب غي وي جب وال ب ّد( .وال عدل ب ھذا
اإلعتبارية كالحقوق واألولوي ّات ،وا لتي يحكي ھا اإلن سان بع بارا ٍ
ٌّ
مستحق في قباله تعالى أو من له عز وجل ،ألنّ ﷲ ھو المالك على اإلطالق وال يوجد حق ﷲ ّ المعنى ال يمكن تصوّ ره في ّ
أولوية عليه ،وكذلك الظلم المقابل حيث ال يمكن تصوّ ر تجاوزه سبحانه عن حقوق اآلخرين على فرض ثبوتھا أو إعطائھا
لھم.
-4العدل بم عنى رعا ية اإل ستحقاق في إفا ضة الو جود والك مال ،فإنّ ك ّل مو جود يم لك إ ستحقاقا ً خا صا ً من ج ھة قابلي ته
ك ھذا إلكتساب الفيض اإللھي ،فالعدل ھو أن يأخذ ك ّل موجود ما ھو ممكنٌ له من و جو ٍد وك ٍ
مال ،والظ لم ھو م ن ُع وإم سا ُ
ً
الفيض .وھذا المعنى ھو الذي يتب ّناه الحكماء اإللھيون .وال يراد باإلستحقاق للفيض أنّ ھذا الموجود يملك ح ّقا على ﷲ ،بل
بمعنى أنّ عد َل ﷲ ھو عين الف ضل وال جود ،و ھذا ما ح كاه أ مير ال مؤمنين عل يه ال سالم في ن ھج البال غة ) :فالحقّ أو س ُع
األشياءِ في التواصفِ ،وأضيقھا في التناصفِ ،ال يجري ألح ٍد إال جرى عليه ،وال يجري عليه إال جرى له ،ولو كان ألح ٍد
أن يجري له وال يجري عليه لكان ذلك خالصا ً سبحانه دون خلقه ،لقدرته ع لى ع باده ولعد له في كل ّ ما جرت عل يه
صروف قضائه ،ولك ّنه جعل ح ّقه على العباد أن يطيعوه ،وجعل جزاءھم عليه م ضاعفة ال ثواب تفضّ الً م نه وتو سعا ً ب ما
ھو من المزيد أھله(.12
145
عز وجل ،ھو أنّ الذات اإللھية خي ٌر وكما ٌل مط لق تع طي وال تم سك ،لك ّن ھا
ّ والدليل على ثبوت صفة العدل بھذا المعنى
تعطي ك ّل موجو ٍد بحسب قابليته.
يعتبر العدل من أصول الدين عند الشيعة والمعتزلة ،دون سائر الصفات اإللھ ية كالعلم وال قدرة واإلرادة ...ألن ّ ه ال خالف
فيھا بين جميع الفرق اإلسالمية ،وذلك ألنّ مسألة العدل اإللھي قد ا ستولت ع لى إھت مام عا مة ال ناس حتى ال قروي األم ّي
نزاع شدي ٍد ب ين ال شيعة والمعتز لة من ج ھة وب ين مخت لف ال مذاھب وال فرق اإل سالميّة من ج ھ ٍة
ٍ منھم ،وأل ّنھا كانت مح ّل
تستول على إھتمام عام ِة الناس ،ولم يقع فيھا ذلك النزاع.
ِ أخرى ،بخالف سائر الصفات اإللھية التي لم
إن كان المقصود من العدل ھو إعطاء ك ّل مو جو ٍد ما ي ستح ّقه ،فإنّ الحك م َة ت عني كون الن ظام ا لذي خ َلق َ ه ﷲ سبحانه ھو
ممكن ،وھو ما يصطلح عليه بالنظام األصلح ،13والدليل على حكمته كونه عادالً ومريداً. ٍ نظام
ٍ أحسن وأفضل
ت الفعل. والفرق بين العدل والحكمة :أنّ الحكم َة من صفا ِ
ت الذات ،فيما العدل يعتبر من صفا ِ
146
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
1ـ العادل عند معظم الناس ھو من ال يضمر السوء لآلخرين ،وال يتجاوز حقوقھم.
ف في الكون ھو تصرفٌ في ملكه. 2ـ ال يمكننا أن نعثر على مصداق للظلم بھذا المعنى ّ
بحق ﷲ ،ألنّ أيّ تصرّ ٍ
أ -إتجاه أھل الحديث الذين يتعبدون بصفة العدل لورودھا في تعاليم اإلسالم.
صي
يع وأ ثاب العا َ ب -األشاعرة الذين يقولون بأنّ العدل منتز ٌع من الفعل اإللھي ،ففعل ﷲ ھو ال عدل ،لذا لو عا قب المط َ
كان ذلك عدالً منه.
ج -العدليّة من المعتزلة والشيعة الذين ذھبوا إلى إتصاف ﷲ بالعدل ،أل ّنه حسنٌ ذاتا ً والظلم قبي ٌح ذاتا ً.
د -الحكماء اإللھيون الذين يتب ّنون معنى أعمق للعدل ،ويعتبرون أنّ الحسن والقبح ال مكان لھ ما في ساحة ال قدس اإللھي ّة،
ألنّ ھذه المعايير كلّھا معايي ٌر إنساني ٌّة.
5ـ ليس المراد من العدل اإللھي التناسب وال المساواة وال مراعاة الحقوق ،بل ھو إفاضة الوجود والكمال بقدر القابليّات.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ما ھي معاني العدل؟
-2ما المقصود من العدل اإللھي؟
3ـ كيف فسّر أمير المؤمنين عليه السالم العدل؟
4ـ ما السرّ في إختالف الفرق اإلسالميّة فيه؟
5ـ ما الفرق بين العدل والحكمة؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1التغابن.1 :
-2ھود.123:
-3الحديد.25:
-4األنبياء.47:
-5آل عمران.18:
-6التوبة.70 :
ي نوع من أنواع التفكير والمنطق واالستدالل في ھذه األمور.
-7وھم بشكل عام يؤمنون بالتعبّد والتسليم في أصول الدين وفروعه ،ويخالفون أ ّ
-8ولذلك عرفوا بالعدليّة.
-9والتي سيأتي اإلشارة إليھا في ھذا البحث ،واإلجابة عليھا بشكل مفصل في أبحاث الحقة.
-10تفسير الصافي ج 2ص 638في ذيل اآلية المذكورة.
-11الرحمن.7 :
-12نھج البالغة ،الخطبة.214 ،
ي شيء فيه إما أن يكون خيراً بنفسه ،وإما أن يكون وسيلة للوصول إلى الخير.
-13وھو أن يكون للكون والوجود معنى وغاية ،فأ ّ
اﻟﺪرس اﻟﻌﺎﺷﺮ :اﻻﺧﺘﻼف واﻟﺘﺮﺟﻴﺢ
أھداف الدرس
149
تمھيد:
بعدما انتھى الكالم عن معنى العدل والحكمة ،يجدر التعرّض لل شبھات ا لتي أ ثيرت في ھذا الم جال ،و قد طر حت بص َُور
متعدّدةٍ ،وسوف نذكر الشبھة ونلحقھا اإلجابة عليھا تاركين بقية الشبھات إلى األبحاث اآلتية:
لماذا ھذا الترجيح واإلختالف في العالم؟ لماذا تكون بشرة أحدنا بيضاء واآلخر سوداء؟! لماذا أحدنا قب ي ٌح واآل خر جم يلٌ؟!
لماذا أحدنا معافى واآلخر عليلٌ؟! فلماذا ال يكون الجميع متساوين؟ وإذا كان ال ب ّد من اإلخ تالف ،فل ماذا ال يح صل الع كس
أبيض ،والجميل قبيحا ً والقبيح جميالً؟
َ بأن يكون األبيض أسو َد واألسود
تعتـبر الشـبھات المطروحـة حـول مسـألة ال عدل اإللھـي من أھـ ّم وأعقـد اإلشـكاالت الـتي شـغلت البشـرية بجميـع أديانھـا
وفلسفاتھا ،وتجدر بنا اإلشارة إلى بعض المدارس والفلسفات الناجمة عن النظر في ھذه الشبھات.
151
كون إ لى قطب ين أسا سيّين ،ال خير وال شر ،ث ّم ج عل من نف سه المق ياس والم حور للت شخيص،1
لقد قسَّم اإلنسانُ م نذ ال قدم ال َ
فاعتبر أنّ النور والمطر والشمس واألرض مصاديق للخير ،وأنّ القحط والسيول والزالزل واألمراض في قائمة الشر ،ث ّم
بدأ بالتساؤل عن مبدأ الخير ومبدأ الشر ،ھل ھو واح ٌد؟ أو أنّ لھما مبدأين مختلفين؟
ذھبت الثنوية إلى أنّ للكون مبدأين )خالقين( ،إله للخير يخلق الخير دون الشر ،وإله للشر ال يخلق إال الشر.
واعت قد اإليران يون ال قدامى بذلك ،و سموا إ له ال خير ) :يزدان( وإ له ال شر) :أ ھريمن( ،إ لى أن ظ ھر زراد شت ب شريعة
جوس من أ ھل الك تاب ،2أن ھا عق يدة توحيدي ّة .إال أنّ
َ المجوسيّة ،التي يبدو من خالل اعتقاد بعض علماء المسلمين بأنّ الم
ھذه الشريعة لم تستطع أن تقاوم الثنويّة وتقلع الشرك من قلوب اإليرانيين القدامى ،فتحوّ ل الزرادشتيون أنفسُھم إلى الثنو ية
يجتث جذور الثنوية والشرك من أفكارھم. ّ من جديدٍ ،حتى جاء اإلسالم العظيم الذي استطاع أن يجعلھم موحّ دين ،وأن
اإللھي:
ّ حل ّ الشبھات المطروحة حول العدل
عام مشتركٍ عن جميع ال شبھات المطرو حة ،3ثم نت عرّض ل ح ّل كل شبھة ب جواب
ب ٍ سوف ننھج في ح ّل الشبھة بذكر جوا ٍ
خاص بھا.
152
إنّ الجواب اإلجمالي المشترك عن كل الشبھات شائ ٌع عند أ ھل اإلي مان ،ناب ٌع من إي مانھم -من خالل األد لة القاط عة -بأنّ
الخالق سبحانه وتعالى قاد ٌر علي ٌم حكي ٌم ،وھو إذ ي ّتصف بھذه الصفات فال يُع قل وال يت صوّ ر في حق ّه الظ لم وال عدوان ،ألنّ
الذي يبعث على الظلم أحد أمرين مستحيلين في ح ّقه تعالى وھما:
-1إما عقدة نفسيّة وحبّ اإلعتداء ،وھذا يرجع إلى الضعف النفسيّ ووجود أعداء.
-2وإما حاجة معيّنة مھما كان نوعھا سواء كان سببھا الفقر ،أم العجز.
عز وجل ،أل ّنه الكمال المطلق فال يتصف بالضعف ،وال غنيّ عن ال عالمين ال يت صوّ ر في
حق ﷲ ّ
واألمران مستحيالن في ّ
ح ّقه الحاجة.
والعالم بالنظام األصلح واألمثل قادر على إيجاد أفضل وأصلح نظام ممكن.وك ّل ما ھو شرّ محض وض ّد النظام األصلح ال
يخلقه ﷲ سبحانه .وأمّا ما يحدث في الكون من ظواھر أو في حياة اإلنسان ،سواء كان بإرادة اإلنسان أو دون إرادته ،مم ّا
ال يم كن إي جاد تف سير له وتوجي ھه ،فذلك ال يو جب ن سبة الظ لم إ لى ﷲ ،بل ن قول إنّ لت لك األ شياء لو نا ً من الم صلحة
المجھولة بالنسبة لإلنسان ،ولذا يطلق الناس عليھا اسم )سرّ القدر( ،فھم يُرجعون ما ال يجدون تف سيراً له إ لى ق صور ف ھم
اإلنسان عن الوصول إلى أسرار الكون.
وعلى سبيل المثال لو ك ّنا نثق بشخص وبخبرته في إدارة األمور ،وقد اتخذ ھذا الشخص قراراً أو قام بعمل ال نفھ مه أو ال
نعرف مغزاه ،فإ ّننا ال نعتبر ذلك
153
ً
صلحة ما في دليالً على عدم أھليّته وموجبا ً لفقدان الثقة به ،لما لدينا من صور ٍة م سبق ٍة ع نه ،بل ن قول إنّ ھ ناك سرّ اً وم
عمله نحن ال ندركھا.
نحوا ھذا المنحى في اإلجابة ع لى م سألة ال شرور ،ألن ھم ك ما ذكر نا يتعب ّدون ب ما ورد في األخ بار وال
ولع ّل أھل الحديث َ
يبدون آراءھم.
تحليل البرھان:
ً
صبغة برھانية ،وقالوا إ ّنه كال ٌم يعت مد ع لى التم سك بالعل ّة وكمال ھا ليث بت وقد أضفى الفالسفة على ھذا االستدالل التعبدي
كمال المعلول ،حيث نستدل بصفات الخالق وكماله على كمال ما خلق .وھذا االستدالل ينطلق من العل ّة إ لى المع لول و من
ال سبب إ لى الم سبب ،و ھو المعب ّر ع نه في الفل سفة ب ـ )البر ھان الل ميّ ( ،وب ھذا اال ستدالل من األع لى إ لى األ سفل تن ح ّل
المشكلة وتنمحي ك ّل األخطاء المتوھمة والشبھات المطروحة.
154
والمثال الذي يوضح الفرق بين األمرين ھو أننا لو أخذنا إناءين يسع ك ّل واح ٍد منھما عشرة ليترات ،ومألنا أحدھما ع شرة
ليترات ما ًء واآلخر خمسة فھذا ھو الترجيح ،ألنّ سعة ك ّل واحد منھ ما وا حدةٌ ،أل ّن نا متى و ضعنا في األول ما ًء أز يد ف قد
رجحناه على الثاني .وكذلك الحال في معلّم المدرسة إذا كان لديه تلميذان متفوقان فأعطى أ حدھما مكا فأ ًة دون اآل خر فإ نه
قد رجّحه عليه .وأما لو كان لدينا إناءان يسع أحدھما عشرة ليترات واآلخر خمسة ،ومألنا العشرة عشرة والخم سة خم سة
فھذا ھو اإلختالف ،وال يوجد أي ترجيح فيه ،ألنّ قابلية وإستعداد أحدھما غير قابلية وإستعداد اآلخر ،وكذلك لو كا فأ مع لم
المدرسة المتفوّ َق دون الضعيف فھو لم يرجح بينھما.
ّ
عز عز وجل تصرّف مع الخلق على أساس إختالفھم فأعطى ك ّل واحد ما ي ستحقه ،و لم يرجّ ح أ حداً ع لى أ ح ٍد .فا وﷲ ّ
ّ ً ّ َ ً
وجل لم يحرم أحدا من خلقه أمرا◌ً كان يستحقه وأعطاه لآلخرين ،وإذا م نع إن سانا ما من ب عض الفيو ضات اإللھ ية فإن ما
ھو نتيجة عدم إستحقاقه وعدم قابليّته وإستعداده لھذه الرحمة.
الكوني:
ّ تحليل النظام
إن الباحث في مجال الرد على ھذا اإلعتراض في مسألة العدل اإللھي يجد نفسه ال محا لة واق عا ً في أح ضان ب حث فل سفي
عميق مھما حاول اإلبتعاد عنه ،ويرى عبارة عميقة للفالسفة )إنّ إختالف الموجودات ذاتيٌّ من ذاتيات ھا والز ٌم لن ظام العل ّة
والمعلول( .وھذه العبارة تصلح جوابا ً لكنھا معقدة بحاجة إلى شرح
155
وتوضيح ضمن مقدمات ترتبط بتحليل النظام الكوني ،واإلرادة اإللھية في بدا ية خل قة ال كون ،وبالن ظام ا لذي اقت ضته ھذه
اإلرادة ،وھل تعرّ ض القرآن الكريم لھذا النظام أم ال.
إن اإلرادة اإللھية لم تتعل ّق ب ك ّل مو جود ع لى حدة ،ف لم تت عدّد إراد ته بت ع ّدد المو جودات ،ف ھو سبحانه لم يخ لق المو جود
األول ،ثم تعلّقت إرادته بالموجود الثاني فخلقه ،ثم بالثالث وھكذا ،وإنما الكون بأسره من بدايته إلى نھاي ته تعلّ قت به إرادة
صـ ِر ،﴾4وإراد ته لو جود
كلَ محٍ بالبَ َ
ة َ
واحِـ َد ٌ مـا أَ ْ
م ُر نا إِال َ خلَقْن َ ا ُه بِق َ دَر َو َ
ـي ٍء َ
ش ْ إلھية بسيطة واحدة ،قال ت عالى﴿ :إِن ﱠا ك ّ
ل َ
األشياء عين إرادته لوجود نظامھا.
-2النظام الطولي:
يو جد في ال كون ن ظا ٌم ي سمى بالن ظام الطو لي ب ين العل ّة والمع لول ،أي إنّ إرادة ﷲ إقت ضت أن ت كون األ شياء رت ً
بة ب عد
أ خرى ،وأن ت كون ك ُّل سابق ٍة عل ّ ًة لالح قةٍ ،والترت يب ھ نا ل يس بح سب الز مان -ألن الز مان أ حد المخلو قات -بل ترت يب
رتبة وأنّ وجود األولى ھو علّ ٌة لوجود الثانية.ً األسبق
عز و جل له صد ُر قائ مة الو جود ،والمالئ كة ھم المن فذون لألوا مر اإللھ ية ،وب ين المالئ كة أي ضا ً تو جد سل ٌ
سلة من ّ فا
المراتب ،فبعضٌ له مقام الرئاسة واألمر ،وبعضٌ يع ّد من األعوان وآخر من األنصار كملك ال موت عزرائ يل عل يه ال سالم
وأعوانه المو ّكلين بقبض األرواح ،ولك ٍّل منصب معيّن ووظيفة خاصة ﴿ َو َما ِم ﱠنا إِ ﱠال لَ ُه َمقَا ٌم َم ْعلُو ٌم.﴾5
156
وعليه إذا كانت )الف( علّ ًة لـ )باء( فألجل خصوصي ٍة مو جود ٍة في ھا ،ال أن ھا أ م ٌر إعت باريٌّ ،وال يم كن أن تنع كس الم سألة
بأن ت صبح ) باء( عل ّ ًة ل ـ)أ لف( ،فو جود ك ّل رت ب ٍة ھو ع ين حقيقت ھا ،ف لم يوك ّ ل م لك ال موت بق بض األرواح إعت باراً بل
صية غير مو جود ٍة في غيره وھ كذا ،ال يم كن أن ي قوم م لك ٌ لخصو صي ٍة ف يه ،ولقابل ية ع نده ،و كذلك جبرائ يل ف يه خصو
بوظي فة اآل خر ،وال أن ي ح ّل أ ح ٌد م كان اآل خر .واإلن سان أل نه ال يدرك الخ صائص الذات ية لأل شياء وال ي عرف مراتب ھا
الوجودية وال عالقتھا الواقعية في ما بينھا ،يسأل لماذا ال يكون اإلنسان بدل الحيوان أو العكس؟ وليس ھذا إال قياسا ً للنظام
الذاتي للعالم ع لى الن ظام اإلعت باري الجع لي لإلن سان ،وبتع بير آ خر إنّ ھذه األ سئلة تن شأ من ق ياس الح قائق الذات ية ع لى
اإلعتبارية اإلجتماعية.8
-3النظام العرضي:
يوجد في الكون نظا ٌم آخر و ھو الن ظام العر ضي ،و ھو ي عني أنّ و جود أيّ ظاھر ٍة معي ن ٍة خا ض ٌع لمجمو ع ٍة من ال شروط
ً
ومستقلة عن بقيّة الحوادث .والحكمة اإللھية إنمّا تظھر إذا نظر اإلنسان إلى األشياء مع المادية ،9وليست ھي منفرد ًة
157
ً
ومستقلة. ما ترتبط به ،ال إذا ما نظر إليھا منفرد ًة
مريض ،ف سوف لن ن جد -ألول وھ ل ٍة -أي ارت باط ب ين
ٍ فلو نظرنا إلى ر ّفاء ير فو سجاّد ًة ،ث ّم الحظ نا طبي با ً ي عالج حروق
ھذين العملين ،ولكننا لو فحصنا جيداً لوجدنا م ثالً أنّ حري قا ً كان ال سبب في إ حراق ال سجادة وال مريض م عاً ،فعملھ ما إذاً
منبعث من مصدر واحد .والن ظرة الدقي قة إ لى ال كون تق نع ال مرء بأن الن ظام العر ضي ھو الم سيطر في ال كون ،ألن كل
الحوادث تعود إلى عل ّة أسا سية ،ولم ّا كا نت ال ضرورة حاك مة ب ين الع لة والمع لول ال ب ّد أن ت كون ال ضرورة حاك مة ب ين
جميع الحوادث ،وھذا اإلرتباط الضروري العام نشأ من أصول أربعة:
أ -إنّ قانون العليّة والمعلولية ھو الحاكم ،والدليل عليه البداھة ،وھو األساس لك ّل العلوم.
ب -وھذا القانون ضروري ،فإذا و جد المع لول فال ي عني أن الع لة مو جودةٌ ف قط ،بل إن ما اكت سب المع لول ضرورته من
ناحية وجود العلة ،فوجود العلة ضروري.
ج -وال ب ّد من وجود تناسب وإنسجام تام )سنخية( بين العلّة والمعلول ،فال يصدر المعلول من أيّ عل ّةٍ ،وال أيّ عل ّ ٍة يم كن
أن يصدر منھا أيّ معلول ،وإال لصدر أيّ شي ٍء من أيّ شيء.
د -ال ب ّد أن ينتھي الكون إلى علّة العلل ،وھذا ھو أصل التوحيد في مبدأ الوجود.
ومن األصول الثالثة األولى نصل إ لى أنّ في ال كون نظا ما ً قطع يا ً وال يق بل الت بديل ،وب ض ّم األ صل الرا بع ن ستنتج أ نه ال
ٌ
مرتبطة بشكل يقيني في ما بينھا. يمكن أن نفصل أيّ ظاھرة تجري في الكون عن سائر الظواھر المحيطة بھا ،بل جميعھا
158
إنّ ما يُطلق عليه في الفلسفة إسم )نظام الكون( و )قانون األسباب( يتحدث ال قرآن ال كريم ع نه ويط لق عل يه إ سم س ّنة ﷲ،
ِس ﱠن ِة ﷲ تَ ْبدِيال ً.﴾10
دل ُ ل َولَ ْ
ن تَجِ َ ن َ
ق ْب ُ خلَ ْوا ِ
م ْ س ﱠن َ
ة ﷲ فِي الﱠذ َ
ِين َ ٌ
ثابتة ال تتب ّدل ،قال تعالىُ ﴿ : وھي
ح ﱠتى ُيغ َِي ّ ُروا َمـا بِأَ ْنفُس ِ ِھ ْم ،﴾11فأيّ تغ يير ال ب ّد
م َ ما بِ َ
ق ْو ٍ ﷲ ال ُيغ َِي ّ ُر َ ﴿إِنﱠ ومثال ال ُس َنن اإللھية التي ال تتب ّدل قوله تعالى:
وأن يبدأ بنفس اإلنسان.
نتيجة المقدّمات:
إذاً ،إن القانون الحاكم في ھذا الكون ھو ن ظام العل ية .ول يس ل ھذا الن ظام و جو ٌد م ستق ٌّل و لم تتع لق به عمل ية الخ لق ب ٍ
شكل
منفصل في الخارج ،وإنما ھو مفھو ٌم كليٌّ ينتزعه الذھن من وجود األ شياء في ال خارج ،ح يث ي جد ن ظام العل ّة والمع لول. ٍ
وليس القانون أمراً إعتباريا ً يخترعه اإلنسان ،ولذا فھو ال يقبل التغيير وال الت بديل ،و كذلك ال يق بل قانون ال كون اإل ستثناء
وال خرق القانون ،ألن ك ّل موجود له درجته ورتبته ،وال يمكن أن تتخلّى ٌ
علة عن موقعھا لعلّ ٍة أخرى .وأيّ
159
أ ّما المعجزة:
فقد يتصور اإلنسان أن في بعض األشياء خرقا ً للقانون ولنظام العلة والمعلول وما ذلك إال نتي جة جھ له بالقوانين الحاك مة،
فمثالً قد يعتبر اإلنسان المعجزة خرقا ً للقانون ،مع أنھا ليست كذلك ،بل ھي ضمن ال قانون وتحكم ھا قوانين ال كون .ول كن
ذ لك ضمن شروط و ظروف جد يدة ال نح يط ب ھا ن حن .وبف ضل إت صال روح ال نبي ال طاھر ب قدرة ﷲ الالمتناھ ية تد خل
عوامل أخرى وتتغير الظروف والشروط وتحصل المعجزة .فمثالً والدة النبي عيسى عليه السالم ال تع ّد خرقا ً للقانون ،بل
نحن نتصور أنّ الموجود الحيّ يأتي دائما ً من أب وأم .ولكن ھذا ما يظھر لنا ھو قشرة القانون وال س ّنة اإللھ ية ،ول يس ھو
حقيقة القانون الواقع الموجود .و ما يعر فه اإلن سان من قوانين لل كون ھل ھي وا قع ال قانون أم ق شور ال قانون؟ فالق شر قد
يتخلّف ،بينما واقع القانون ال يمكن أن يتخلّف أبداً.
أ ّما الدعاء:
الحث على الدعاء والصدقة وأن ّ ه بھ ما ي ُدفع ال بالء، ّ ومثل ذلك يقال في الدعاء والصدقة .فقد ورد في العديد من النصوص
ئل إ لى حائطٍ آ خر، ٍ ما حائطٍ ند ع من ل دَ َ ع سالم ال يه كما ورد في رواية عن األصبغ بن نباتة ،قال :إنّ أمير ال مؤمنين عل
فقيل له ،يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء ﷲ؟ فقال :أفرّ من قضاء ﷲ إلى
160
عز وجل .13والمستفاد من الرواية أنّ اإلنسان إذا عرّ ض نفسه للخطر وت ضرر من ذ لك ف ھذا قانون ﷲ وق ضاؤه، قدر ﷲ ّ
ـث ال
ح ْي ُ
ِـن َ
ـه م ْ مخْ َرجـاً َ
ويَ ْر ُز ْق ُ ه َ َل لَ ُ
جع ْ ق ﷲ يَ ْ ن يَ ﱠت ِم ْ وإذا فرّ من الخطر ونجا ،فذلك أيضا ً من قانون ﷲ وت قديرهَ ...﴿ ،
و َ
ي ٍء َقدْ را ﴾.
ً14
ش ْ ل َ
ك ِّ ل ﷲ لِ ُع َج َقدْ َ ر ِه َ غ أَ ْ
م ِ ه إِنﱠ ﷲ بَالِ ُ
س ُب ُ
ح ْ
و َ علَى ﷲ َ
ف ُھ َ ﱠل َ
وك ْ
ن يَ َت َ
م ْ
ِب َو َ
ح َتس ُ
يَ ْ
النتيجة:
شخص ما يستحقه ،وحيث كان ال كون ٍ إنّ ما نصل إليه كنتيج ٍة لما تق ّدم ،ھو أنّ اإلختالف ليس ھو الترجيح أل ّنه إعطاء ك ّل
يُدار بسلسل ٍة من األنظمة والقوانين التي ال تتغيّر ،وھذا النظام الواحد يقتضي تعدد مراتب الو جود و ھو ال سبب في ظ ھور
اإلختالفات والنقص والعدم ،وھذه اإلختالفات ليست مخلوقة بل ھي من اللوازم الذاتية للمخلوقات ،ولذا ال يص ّح أن نن سب
شرور وترجيحات إلى ﷲ ،بل ھو من خصوصيات وذاتيات ھذا الكون .ولو أرد نا أن ٍ ما يوجد في ھذا الكون مما نراه من
شرور وترجيحات النتفى النظام الكوني من األساس. ٍ نرفع ھذه األشياء من
161
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
1ـ من اآلثار المترتبة على عدم ح ّل ال شبھات الم ثارة حول م سألة ال عدل ،ف كرة الثنوي ّة واإلي مان بإ له ال خير وإ له ال شر،
والتشاؤم في الحياة لدى أتباع الفلسفة الماديّة.
-2الجواب المشترك والعام على اإلشكاليات المثارة حول مسألة العدل اإللھي ھو :إنّ ﷲ لما كان علي ما ً حكي ما ً غن ياً ،ف ما
خلقه من الكون ھو النظام األفضل واألكمل .وعليه فاإليمان بھذا الخالق بھذه الصفات يح ّل لنا المشكلة ،ألنّ ك ّل ما في ھذا
الكون إنمّا ھو لمصلحة ،وإن كانت مجھولة بالنسبة لنا.
-3إنّ الجواب الصحيح حول مسألة الترجيحات الموجودة في ھذا الكون ھو بالتفرقة بين ا لترجيح واإلخ تالف .والمو جود
في ھذا ال كون إنم ّا ھو اإلخ تالف ،و ھو ع بارةٌ عن إع طاء ك ّل مو جود ما ي ستحقه ال اإلع طاء بالت ساوي ،وأ ما اإلع طاء
بحسب السعة والقابلية فھو عين العدل.
-4إذا جاء السؤال بأ ّنه لماذا خلق ﷲ األشياء مختلفة من حيث اإلستعداد ولماذا لم تكن متساوية في القابليات من األ ساس؟
كان الجواب إنّ االختالف من ذاتيات النظام الحاكم في الكون .ووجود ك ّل شيء محكوم لمجموعة من ال شروط واأل سباب
التي لو تبدّلت لكان ذلك الشيء غيره ال نفسه.
-5قد يتصوّ ر اإلنسان في الكون بعض األشياء المخالفة للقانون ،وذ لك نتي جة جھ له و عدم معرف ته بوا قع ال سنن الحاك مة،
ومن ذلك المعجزة وخرق العادة والدعاء ،مع أنھا كلھا طبق النظام الكوني العام الذي ال يتبدل وال يخرق وال ي جري عل يه
اإل ستثناء ،وإن ما ت تدخل قدرة ﷲ الالمتناھ ية بتغ يير ال ظروف وال شروط المحي طة ا لتي ال يدركھا اإلن سان ،إال أن ھا كل ھا
بقضاء ﷲ وقدره.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1كيف نشأت الفلسفة الثنوية؟
-2ما معنى المصلحة في ّ
حق ﷲ تعالى؟
-3ما الفرق بين اإلختالف والترجيح؟
-4ما ھو الجواب العام على الشبھات في العدل اإللھي؟
-5لماذا لم يخلق ﷲ القابليات على ح ّد سواء؟
ﻫﻮاﻣﺶ
ل ما يؤذي اإلنسان فھو شرّ ،وما يفرحه وينفعه يعتبره خيراً.
نك ّبمعنى أ ّ -1
دة أقسام :التكاليف الدينية ،األناشيد ،القوانين ضد األشرار ،واألدعية الخاصة.األوستا كتاب زرادشت المقدس ،يحتوي على ع ّ -2
وقد ذكرنا شبھة واحدة وسوف نتعرض في األبحاث التالية للشبھات األخرى ،ويكون ھذا الجواب العام صالحاً للرد عليھا جميعاً. -3
القمر.50 ،49: -4
-5الصافات.164 :
-6السجدة.5 :
-7النازعـات.5 :
-8ففي عالم اإلعتبار يرى أنه ال مانع من أن يصبح الرئيس مرؤوساً والمرؤوس رئيساً ،بينما في عالم الذاتيات ال بد من تقدم الرئيس مثال ً علـى المــرؤوس لخصو صية
في الرئيس جعلته رئيساً مق ﱠدماً ،ولو تغيّرت لما كان كذلك.
ن ھذه العِلـل ال توجـد المعلــول وإنمـا تشــكل األرضــية وال شروط
-9العلل المادية والزمانية مثل عليّة األب واألم للولد ،فھما بنظر الفالسفة عِلل إعدادية ال إيجادية ،أل ّ
اإلمكانية للوجود من قِبل الفاعل اإليجادي ،ولذلك قد يطلق عليھا العِلل العرضية بخالف العِلل اإليجادية الفاعلية ،فلكونھـا أعلـى رت بة ومحيطـة ومســلطة ع لى ھـذا
العالم تسمى بالعلل الطولية.
-10األحزاب62:
-11الرعد.11:
-12االسراء.8 -4 :
-13التوحيد للصدوق .369/
-14الطالق 2 :و.3
اﻟﺪرس اﻟﺤﺎدي ﻋﺸﺮ :ﺷﺒﻬﺔ اﻟﺸﺮور
أھداف الدرس
165
تمھيد:
تقدّم في البحث السابق تقسيم البحث إلى محورين ،وقد ذكرنا الجواب ع لى الم حور األول و ھو الترجي حات المو جودة في
العالم ،ووصل الدور للحديث عن المحور الثاني:
لماذا وجدت اآلفات والبال يا والم صائب؟ ل ماذا ال شيطان واأل مراض وال سيول وا لزالزل...؟ إنّ ھذه األ مور تج عل و جود
اإلنسان مقرونا ً بالعذاب والمعاناة ،حيث تعترضه في منتصف الطريق ،وتذھب به إلى دار الفناء ،فلماذا وُ جدت؟
ل قد أدّت ال حيرة حول م سألة ال شرور بب عض ال ناس إ لى ال قول بالثنو ية ،1ح يث الح ظوا أنّ في ال كون خيراً و شراً ،وأنّ
ك تحدث في ال كون ،وال يم كن ن سبتھا إ لى اإل له ال جامع لل صفات الكمال ية ،اإل له الم حبّ الشرور من اآلالم والمآسي ال تنف ّ
ً
لخلقه والذي ال يريد لھم إال الخير والسعادة .ولم يجد ھؤالء مفرّ ا إال
167
القول بوجود مبدأين للوجود ،أحدھما تصدر منه الموجودات الخيّرة ،واآل خر ت صدر م نه ال شرور.و ھؤالء ع ندما ع جزوا
عن ح ّل مشكلة الشرور حاولوا تبر ئة ﷲ من ال شرّ ف قالوا بو جود شريك له ،وأل قوا ع لى ھذا ال شريك م سؤولية ك ّل شرّ
موجو ٍد في ھذا العالم.
وھذا الجواب قد َيشعر البعض بأ ّنه شديد الغرابة وال يمكن تصوّ ره ،إذ كيف يمكننا أن ننكر أمراً بديھياً ،ح يث إنّ ال شرور
موجودةٌ نحسّ بھا ونشعر بھا ونعاني منھا ،فكيف يقال إنھا أمور عدميّة؟!
ً
عدمية ال يعني أبداً إنكارھا ،وإ ّنما قمنا بتحليلھا وبيان إال أنّ ھذه الغرابة سوف تزول عندما يتبيّن أنّ إلتزامنا بكونھا أموراً
حقيقتھا بعد التسليم بھا .وسي ّتضح المراد من األمور العدمية في تفصيل الجواب.
تفصيل الجواب:
-1إ ّما أن تكون بنفسھا عدما ً ونقصا ً وفراغا ً :حيث إنّ ھناك أنواعا ً من
168
الشرور ترجع بذاتھا إلى كونھا عدما ً ونقصاً ،فالعمى -مثالً -ليس أمراً وجود ّيا ً بل ھو عدم البصر ،والفقر عبارة عن عدم
تملّك المال ال أنّ الفقر شيء موجود ،والجھل كذلك ھو عدم الع لم ،و لذا فاإلن سان ع ندما يتعل ّم يك سب أ شياء ال أ نه يخ سر
شيئا ً كان موجوداً لديه إسمه الجھل.
-2وإمّا أن ت كون أ موراً مو جودة ت سبِّب ال عدم والن قص وال فراغ :و ھذا ال نوع نع تبره من ال شرور لكو نه ال َ
سبب والمن شأ
للعدم ،كالزواحف السامة والمكروبات والسيول واآلفات ،ف ھذه األ شياء لي ست شراً بنف سھا وإ ّن ما ن سميھا شرّ اً أل ّن ھا تؤ ّدي
إليه ،فالحيوان المفترس إ ّنما يكون شراً إذا أ ّدى إلى سلب الحياة من مخ لوق آ خر ،و لوال ذ لك لم نط لق عل يه أ نه شرّ ،بل
لعلّنا ُنعجب بجماله أو نستفيد منه بعض الفوائد الحياتية المھمّة فنراه خيراً لنا.
إن النوع األول غالبا ً ما ي كون ھو المن شأ لأل مور ا لواردة في ال نوع ال ثاني من ال شرور ،فالفقر والج ھل ھ ما ال سبب في
األمراض والحروب والمكروبات وغيرھا ،و متى تمك ّ ن اإلن سان من محار بة ال نوع األول من ھا أمك نه ن في ال نوع ال ثاني،
فاإلنسان عندما تطوّ رت خبراته في الحياة تم ّكن من محاربة الكثير من األ مراض ،وع ندما إنت فت ع نه صفة الج ھل إنت فى
عنه المرض الذي كان يجھل سببه .وما زال اإلنسان يسعى حثيثا ً لكي يعالج جميع األ مراض المو جودة في ال كون ،ولك نه
نتيجة جھله بأسباب تولّدھا أو بطرق عالجھا تبقى ھذه األمراض في دائرة الشرور وينسبھا إلى ﷲ.
169
والوجود والعدم ھما كالشمس والظلّ ،فعندما نضع شيئا ً في الشمس فالقسم الذي يبقى مظلما ً ومحروما ً من ال شمس ي قال له
الظلّ ،فما ھو الظلّ؟ إنّ ال ظ ّل ھو الظل مة و ھو عدم ال نور ،وع ندما ن قول إنّ ال نور قد شعّ من ال شمس فإ نه ال ي ص ّح أن
ً
مجعولة بالذات وإن ما نسأل :ومن أين تشعّ الظلمة وما ھو مبدؤھا؟ وھذا ما يقصده الحكماء من قولھم) :إنّ الشرور ليست
بالعرض(.
َ ٌ
مجعولة ھي
ُت لل شيء بق طع الن ظر عن أيّ شي ٍء آ خر ،ك صفة الح ياة ا لتي ي ّت صف ب ھا
1ـ الصفات الحقيقية :و ھي ال صفات ا لتي َتثب ُ
الموجود بغض النظر عن مالحظة أيّ شي ٍء آ خر ،و كذلك الب ياض وال سواد ،2ف ھي تع تبر من ال صفات الحقيق ية ،فال شيء
األبيض مثالً مع غضّ النظر عن قياسه بأيّ شي ٍء آخر ھو أبيض.
2ـ الصفات اإلضافية )النسبية( :وھي الصفة التي ال ب ّد لتصوّ رھا من تصوّ ر شي ٍء آخر معھا ،م ثل ال صغر وال كبر ،فإ ّن نا
إذا قلنا إنّ الشيء الفالني صغير فال بد أن نالحظه بالنسبة لشي ٍء آخر أكبر منه.
فالفارق بين ھذين النوعين من الصفات كالفارق بين قولك فالن كريم وفالن أ كرم ،فإن ّك ع ندما ت صفه ب صفة أ نه كريم لم
تالحظ معه أحداً آخر ،وأمّا عندما تقول فالنٌ أكرم فإنّ مرادك ال ب ّد وأن يكون أنه أكرم بالقياس إلى غيره.
170
وھذه أشيا ٌء إعتباريّة ألنّ وجودھا بھذه الصفة جاء تابعا ً لوجودھا الحقيقي ،فا منح الوجود لھذه األشياء بذاتھا و لزم من ھا
ھذه الصفات ،وھذه الصفات لم تخلق إبتدا ًء .إنّ ھذه الصفات نشأت من مقايسة اإلنسان المخلوقات مع بعضھا البعض وإال
لو نظر اإلنسان إلى ھذه األشياء مجرّ دة عن غيرھا فلن يأتي إلى ذھنه السؤال عن المفاضلة بينھا وبين غيرھا.
إذاً ھناك أشيا ٌء ھي شرور بالنسبة لغيرھا ولكنھا ليست شرّ اً بالنسبة لنفسھا.
فالجواب على النوع ال ثاني :إنّ الو جود الحقي قي لل شيء ھو ب صفاته الحقيق ية ،وأ ما الو جود اإل ضافي اإلعت باري ف ھو لم
يخلق مستقالً بل ھو من لوازم الوجود الحقيقي .وعليه ال يص ّح أن نسأل ل ماذا خ لق ﷲ ھذه األ مور اإلعتبار ية اإل ضافيّة،
وإنما ال يصح ھذا السؤال ألنھا ال تملك وجوداً مستقالً ،فال يقال
171
ل ماذا كا نت الحي ّة شراً لإلن سان؟ ن عم ي صح أن ن سأل ل ماذا خ لق ﷲ الحي ّة؟ و ھذا ما يأتي ال جواب عل يه في ب حث فوا ئد
الشرور.
فوائد الشرور:
إنّ للشرور فوائد في الكون ،فاإلنسان إذا الحظ ھذه الشرور دون أن يالحظ الفوائد المترتبة عليھا فسوف يتساءل أال تنافي
الشرور العدل اإللھي؟! ،ولكن لو الحظ فوائدھا فلن يعود لھذا التساؤل أي م عنى ،لذلك ي جب الب حث عن الفوا ئد المترت بة
على وجود ھذه األشياء.
األول :دور الشرور في تكميل المجموعة الكونية:
ھل يمكن أن يوجد الكون بدون الشرور أو أنّ إلغاء الشرور من ال كون غير مم كن ،في كون عدم و جود الم صائب م ساويا ً
لعدم وجود الكون نفسه؟
إنّ شرور الكون ال تنفك عن خيراته ،فالكون ك ٌّل وا ح ٌد يرفض التجز ئة ،وأ جزاء ال كون لي ست بن حو يم كن فرض حذف
قسم منھا واإلبقاء على القسم اآلخر ،بل حذف بعضھا يستلزم حذف جميع األجزاء ،وھذا ما يُعبّر عنه ال ناس بأ نه ال يو جد
ورد بال شوك.
ً
ستقلة من فرد ًة عن البق ية ف سوف ي كون ل ھا ح ك ٌم ،وأم ّا إذا الحظنا ھا ك جز ٍء من ن ٍ
ظام متكا مل فإذاً ،األشياء إذا الحظناھا م
ً
فحكمھا سوف يكون مختلفاً ،ھكذا الشرور إذا لوحظت مستقلة فسيحكم عليھا اإلنسان بأنھا شرورٌ ،لكن لو لوح ظت ك جز ٍء
من ھذا الكون بزوالھا تزول الخيرات فالحكم عليھا يتغيّر.
إنّ الشرور ضروري ٌّة ألنھا ُتظھر األشياء الجميلة ،فلو تم ّتع الناس جميعھم
172
بالجمال لما كان أح ٌد منھم جميالً ،ولو كانوا جميعا ً قبيحين لم يكن ھناك قبي ٌح وا ح ٌد .إنّ إح ساس اإلن سان بالج مال وإدرا كه
له ال يوجدان إال ضمن شروطٍ وھي أن يكون في مقابل الجمال قبح .إن كثيراً من األشياء ال يدركھا اإلن سان إال بمقاي ستھا
إ لى األ شياء األ خرى ،و لذا كل ما ازدادت معر فة اإلن سان إزدادت مالحظا ته وإ ستنتاجاته حول ھذا ال كون وإزداد إيما نه
بخالق الكون.
ولكن من الطبيعي أن يأتي إلى ذھننا السؤال التالي :إذا كان األمر كذلك فلماذا كان زي ٌد قبيحا ً إلظھار جمال خالد؟ ل ماذا لم
يكن األمر بالعكس؟ أال يكون ذلك من الظلم لزي ٍد أن يخلقه ﷲ قبيحا ً ليظھر جمال غيره؟
والجواب :إن الصانع الحكيم ال نتصور أ ّنه من أ جل أن ي كون الن ظام المو جود ھو الن ظام األح سن خ لق المو جودات ب ھذا
مخلوق ھو ذاتيات ذلك المخ لوق
ٍ وبتعبير آخر إنّ ما أعطاه ﷲ لك ّل
ٍ الشكل ،بل إنه أعطى ك ّل موجود ما لديه من القابليات،
التي لوالھا لم يكن ،ونتيجة اختالف ھذه القابليات كان اإلختالف بين ھذه المخلوقات.
وتوضيح ذلك عبر مثال األشكال الھندسية :إنّ ما يميّز المثلّث ھو أنّ مجموع زواياه يساوي مجموع زاويتين قائمتين ،وما
يميّز المربّع ھو أن مجموع زواياه يساوي أربعة زوا يا قائ مة ،وھ نا ال يم كن أن ي سأل أ ح ٌد ل ماذا كان المثل ّث ھ كذا و كان
المربّع ھكذا؟ فالمثلّث منذ أن وُ ِجدَ وُ جد ھكذا ال أنه وُ ِجدَ ثم اتصف بھذه الصفة .وھذا األمر نالحظه في الكون ،فالج مادات
ال تنمو وال تدرك ،والنباتات تنمو وال تدرك ،والحيوان ينمو و يدرك .إن ھذا اإلخ تالف ير جع إ لى خصو صيات مو جودة
في ذوات ھذه األشياء ،ولم تخلق ھذه األشياء أوالً ثم تعطى ھذه الخصوصيات لھا ،بل ھذه ھي خصوصياتھا المراف قة ل ھا
منذ وجودھا.
والبن سينا عبارةٌ مختصرةٌ جداً يشرح فيھا ھذه الفكرة ،يقول) :ما جعل
173
شة مشم ً
شة بل أو جدھا( أي إنّ ﷲ خ لق الم شمش و غيره من الفوا كه والث مار و ھي من البدا ية ھ كذا ،ال أ نه ﷲ المشم َ
أوجدھا ثم أعطاھا ھذه الصفة.
يعبر القرآن الكريم عن ھذه الفكرة في الحوار الذي دار بين موسى عليه السالم وفرعون حيث سأ َل فر عونُ :من ر بك يا
ھدَى﴾3أي إنّ ﷲ خلق األشياء على ما تقبله ھي من لون الوجود.
م َ خ ْلق ُ
َه ُث ﱠ ي ٍء َ
ش ْ موسى؟ فقالَ ﴿ :ربﱡ َنا الﱠذِي أَعْ طَى ك ّ
ل َ
سـراً﴾.
ر ُي ْ ع ا ْلع ْ
ُسـ ِ سراً إِنﱠ َ
مـ َ ر ُي ْ
س ِ ع ا ْل ُ
ع ْ م َ إنّ في أعماق الشدائد والمصائب تكمن السعادة والرفاه ،يقول ﷲ ت عالىَ ﴿ :
فإِنﱠ َ
وعندما ند ّقق في اآلية الكريمة نجدھا ال تقول إنّ بعد الشدة يأتي اليسر بل ت قول إن الي سر مترافق مع الع سر ،و ھذه اآل ية
ھي خطاب للنبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم في سورة اإلنشراح حيث يقول تعالى:
ر ُيسْ را إِنﱠ م َ َ
ع سـ ِ ع ا ْل ُ
ع ْ مـ َ ك َ
فـإِنﱠ َ ك ِذكْـ َر َ ك َو َر َ
ف ْع َنـا لَـ َ َ ك الﱠذِي أَ ْنق
َـض ظَ ْھـ َر َ و ْز َر َ ض ْع َنا عَ ْن َ
ك ِ و َو َ
ك َ َش َرحْ لَ َ
ك صَدْ َر َ من ْ ﴿أَلَ ْ
سراً﴾.4 ر ُي ْ
س ِ
ع ْ ا ْل ُ
فالسورة تخاطب النبيّ األكرم صلى ﷲ عليه وآله وسلم بنغم ٍة مليئة بالعطف والحنان لتطيّب خاطره إزاء الشدائد التي تمرّ
بھا دعوته ،فتذ ّكره بالحمل الثقيل الذي رفع عن كاھله وح ّل محلّه اليسر ،ثم يستنتج بطريق ٍة علمي ٍة من الوا قع الم شھود ھذا
ـب ،﴾5إنّ الي سر كامنٌ في أع ماق الت عب ص ْ ـت َ
فا ْن َ غ َ ذا َ
ف َر ْ ـإ َ
ف ِالقانون العام :فإن مع العسر ي سراً ،ثم يخا طب ال نبي بقو له ﴿ َ
ت تجد في نفسك فراغا ً فألقِھا من جدي ٍد في خض ّم التعب لتعتصر منه اليسر. والعذاب ،وفي أيّ وق ٍ
إن المخلوقات الحيّة ال سيما اإلنسان تمتاز بھذه الخصوصية ،وھي أنھا
174
ْســانَ فِــي َكبَـ ٍد ﴾6بم عنى أن نا خلق ناه و سط اآلالم خلَ ْق َنــا ْ ِ
األن َ تتكا مل وتت قدّم عبر ال شدائد والم شاكل ،ي قول ت عالى﴿ :لَ َ
قــدْ َ
والشدائد ،ولذا كان اإلستغراق في الدالل والنعمة والبُعد عن الشدائد موجبا ً للضعف وعدم القدرة على التقدم .وقد ورد عن
أمير المؤمنين عليه السالم التعبير عن ھذه الحقيقة بقو له) :أال وإنّ ال شجرة البري ّ ة أ صلب عوداً والروا ئع الخ ضراء ّ
أرق
جلوداً والنباتات البدو ّية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً(.7
البالء وآثاره:
وب عد أن تم ّت األجو بة ع لى م سألة ال شرور ،ال بأس بأنّ نت حدث قل يالً عن ال بالء ،ف قد ورد ذ كر ال بالء في العد يد من
النصوص:
ين﴾...8
ر َصاب ِ ِ
ر ال ﱠ
ش ِ
م َراتِ َوبَ ّ ِ األَ ْنف ِ
ُس َوال ﱠث َ ل َو ْ
وا ِ األَ ْ
م َ ِن ْ
ْص م َ
ونَق ٍ
ْجوعِ َ
ف َوال ُ ن ا ْل َ
خ ْو ِ م َ
ي ٍء ِ
ش ْ
ُم بِ َ
ونﱠك ْ قال تعالىَ ﴿ :
ولَ َن ْب ُل َ
وروي عن اإلمام الصادق عليه السالم) :إن أش ّد الناس بال ًء األنبياء ثم الذين يلونھم ثم األمثل فاألمثل(.11
175
ً
وطاقة. ً
مھمة ،فھو ينمي النفس على الرضى بالقضاء ويصقل النفس ويجعلھا أكثر قو ًة ً
تربوية إنّ للبالء آثاراً
إنّ المصائب والشدائد التي يواجھھا اإلنسان قد تتبدّل إلى ن َِع ٍم يستفيد منھا اإلنسان ،كما أنّ الن َِعم الدنيوية العظي مة قد تت بدّل
وبؤس.
ٍ إلى بالء
إننا نستطيع أن نصل إلى السعادة عن طريق الفقر و عن طر يق ا لثراء أي ضاً ،ك ما أن نا ن ستطيع أن ن صل إ لى ال بؤس عن
طريق الفقر وعن طريق الثراء أيضاً ،إنّ الشيء الوا حد قد يع تبر بالن سبة إ لى شخص ما نع ً
مة ،و ھو بنف سه بالن سبة إ لى
ً
ونقمة ،وبيد اإلنسان أن يب ّدل النقمة إلى نعم ٍة. شخص آخر يكون بال ًء
ٍ
176
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
إنّ األجوبة المطروحة لحل ّ مشكل ِة َتنافي الشرور مع العدل اإللھي ثالثة:
الشرور أمو ٌر عدمية وليست مخلوقة ،فإنّ الجھل والفقر والعمى وأمثالھا ليست أموراً موجود ًة في الخارج بل ھي
َ 1ـ إن
أعدام لم تخلق ،وھذا جواب عن النوع األول من الشرور.
الشرور أمور نسبية ،ألنّ الشرور التي تكون شراً بالنسبة لغيرھا ھي خيرات بالنسبة لنفسھا ،فس ّم الحيّة ش ٌر بالنسبة
َ 2ـ إن
ً ٌ
لإلنسان ولكنه خير بالنسبة لنفس الحيّة ،كما أنّ ھذه الشرور لم تخلق استقالال بل ھي من لوازم خلق ھذه األشياء ،وھذا
يصلح جوابا ً عن النوع الثاني من الشرور.
3ـ وتعميق الجواب عن النوع الثاني في تحليل لماذا خلق ﷲ بعض اآلفات مثالً أن للشرور فوائ َد متعدد ًة وخيرا ٍ
ت جمّة
منھا:
أ -تكميل المجموعة الكونية إذ ال يمكننا تصوّ ر الخيرات دون الشرور ،ولو أردنا أن نحذف الشرور من قائمة الوجود
النمحت الخيرات معھا.
ب -إنّ الحُسن ال يظھر إال مع مالحظة القبيح ،والخيرات ال تعرف إال بمالحظة الشرور.
ج -إنّ في المصائب تكمن سعادة اإلنسان ألنّ بھا يسعى اإلنسان إلى التكامل.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ما المراد من كون الشرّ أمراً عدم ّياً؟
2ـ ھل يتم ّكن اإلنسان من إزالة الشرور؟
ً
نسبية؟ 3ـ كيف تكون الشرور أموراً
4ـ ما ھي فوائد الشرور؟
رت شرّ اً وكان في الواقع مفيداً؟ 5ـ ھل حصل أن تصوّ َ
ﻫﻮاﻣﺶ
179
ھناك مجموعة من الشبھات التي تطرح حول العدل اإللھي ينبغي اإلجابة عنھا:
يذوق اإلنسان ّلذة الوجود يعاد إلى العدم؟ أليس من الجليّ أنّ ال عدم الم حض
َ لماذا تعدم األشياء ولماذا الموت؟ لماذا بعد أن
خي ٌر من الوجود الناقص؟
الجواب:
عذبت اإلنسانية ،فمنذ وجود اإلنسان بدأ يتساءل عن السبب في مجيئه إلى ھذه ا لدنيا،إنّ فكرة الموت ھي من األفكار التي ّ
وكان ھذا السؤال النابع من خوف اإلنسان من الموت من األسباب الموجبة لنشأة الفلسفة المتشائمة ،ح يث ت صوّ ر الفال سفة
ً
وخالية عن الحكمة. ف وال فائدةٍ،
المتشائمون ھذه الحياة بال ھد ٍ
إنّ النفور من الموت ھو من الميزات الخاصة باإلنسان ،وأما الحيوانات فال تف ّكر في ال موت ،وإنّ ما يو جد لديھا ل يس إال
غريزة الفرار من الخطر .ولع ّل األساس في اختصاص اإلنسان بھذا األمر ھو رغبته في الخلود .ولذا يعتبر
181
المتكلّمون ھذه الرغبة الموجودة في اإلنسان ھي الدليل على بقاء اإلنسان بعد الموت.
كما أن وجود ھذه الرغبة في اإلنسان دليل على وجود كمال يسعى إليه ،ومن ھنا ينشأ السؤال لماذا كان الموت؟ أل يس ھو
من الشرور التي يواجھھا اإلنسان؟
إنّ نفور اإلنسان من الموت جاء نتيجة ت صوّ ره لل موت ع لى أن ّه عدم .وال حال أن ّه ل يس كذلك ،وإ ّن ما ھو ت طوّ ٌر وت حوّ لٌ،
غروبٌ عن نشأ ٍة وشروق بنشأ ٍة أخرى ،وبعبار ٍة ثاني ٍة :الموت عد ٌم ولكنه ليس عدما ً مطلقا ً بل ھو عد ٌم ن سبيٌّ ،عد ٌم لن شأ ٍة.
واإلنسان ال يتجرّع الموت المطلق ،وإنما يعاني فقدان حال ٍة خاص ٍة والتحوّ َل إلى حال ٍة أخرى.1
182
مختلفٌ .ولكن ھذا التشبيه يوضّح لنا الصور َة وأنّ ظروف الطفل داخ َل الرحم تختلف إختالفا ً واضحا ً عم ّا سيعي شه خارج
الرحم ،فھو يتغذى من الحبل السري وال يتنفس من رئتيه إال ب عد أن ي خرج من ا لرحم ،مع أنّ ج ھازه الھ ضمي والرئت ين
تتكون داخل الرحم ولكنه ال يتمكن من ا ستخدامھا .إنّ جم يع أع ضاء ال بدن ا لتي تت كوّ ن في ا لرحم لم ُتج عل لي ستفيد من ھا
الطفل داخل الرحم وإنما جُعلت لتتم اإلستفادة منھا خارج الرحم .وعالم الدنيا أيضا ً كذلك ،فھو كالرحم حيث ي ت ّم ف يه صنع
وإعداد األجھزة الروحية لإلنسان كي يستفيد منھا في عالم آخر ھو عالم ما بعد الموت.
إنّ اآلمال العريضة التي يعيشھا اإلنسان والقابليّات الموجودة لديه قد ُخل قت بن حو يتنا سب مع ح يا ٍة أ طول وأو سع ،خا لد ٍة
ج ُعونَ ﴾ ،2ف ھل تت صور وأَنﱠك ْ
ُم إِلَ ْي َنا ال ُت ْر َ ُم عَ َبثاً َ
خلَ ْق َناك ْ
ما َم أَن ﱠ َ
س ْب ُت ْ
ح ِ أبدي ٍة .ويبيّن القرآن الكريم ھذا األمر حيث يقول﴿ :أَ َ
ف َ
أيّھا اإلنسان أ ّنك بك ّل ھذه األجھزة التي زوّ دت بھا قد ُخلقت عبثاً ،وأن ھذه األجھزة ال ھدف منھا وال غاية؟ إنّ اإلنسان لو
لرحم ح يث ال ي كون ب عده عال ُم ا لدنيا ،ح يث ت موت ِ عالم ا
عالم أوسع ل كان ك ِ كان بك ّل ما ُجھّز به ال عود َة له إلى ﷲ ونحو ٍ
األج ّنة بمجرّ د إتمام تكوينھا وخروجھا من الرحم ،أليس ذلك من العبث؟
إذاً ،الموت ليس سوى بداي ٍة لمرحل ٍة جديدةٍ ،وھو كوالد ٍة جديد ٍة في ذلك العالم.
ٌ
مدرسة لإلنسان: الثالث :الدنيا
تعتبر الدنيا مرحل َة إعدا ٍد لإلنسان إلى عالم أوسع وھو عالم اآلخرة ،فقد
183
إذاً ،الدنيا دار إخراج ھذه القوى اإلنسانية الكامنة في داخله إلى عالم الوجود ،فھو إختبا ٌر لزيادة الوزن ال لمعر فة ما عل يه
األمر وواقع الحال.
صالحة لتع يش ف ٌ
ئة ً إنّ ظاھرة ال موت والح ياة تحق قان في ال كون نظا ما ً متعاق باً ،فإنّ موت ف ئة من ال ناس يھي ّئ أر ضي ًّة
عام لم يمو توا ل ما و صلأخرى ،حتى أن جثث األموات تفيد األرض وتمدھا بالطاقة ،فلو أنّ الناس الذين عاشوا قبل ألف ٍ
الدور إلى الذين يعيشون اآلن ،وھكذا إذا امتدت حياة من يعيش اآلن فإنه سيمنع غيره من الوجود .ولنالحظ ذ لك في عا لم
الطبيعة ،فلو لم تمت أزھار العام الماضي لما وجدت أزھار العام الحالي الفرصة لنمائھا.
النتيجة:
إنّ اإلنسان قد ُخلق بنحو ُغرس فيه األمل بالخلود .وحيث كانت اإلستعدادات التي يملكھا أكبر من ھذه الح ياة ا لتي يعي شھا
عالم آخر ،ولذا فإن من ال يؤمن باآلخرة سوف يعيش التناقض بين تكوينه الواقعي وب ين ما سي صير إل يه فال ب ّد من وجود ٍ
بحسب تصوره ،فإنه سوف يحدّث نفسه بأنّ نھاية الوجود ھي العدم ،وتكون حياته عبثاً ،وأما اإلنسان الذي يؤمن باآلخرة
فإنه سوف يعتبر الدنيا ممرّ اً ومدرسة ليعبر منھا إلى عالم أوسع.
184
من الم سائل ا لتي ت طرح عادة في مو ضوع ال عدل اإلل ھي م سألة الم جازاة األخرو ية ،فيُت ساءل عن أن ّ ه ال ب ّد من رعا ية
التناسب بين الذنب والعقوبة.
ففي القوانين الجزائية ،إذا رمى شخص ما النفايات على قارعة الطريق -مثالً -فالعدالة تقتضي معاقب ته ،ول كن ال شك في
أنّ عقوبته ينبغي أن تتناسب مع ذنبه ،فال يعا قب باإل عدام أو ال سجن المؤب ّد ،وإال ت نافى ذ لك مع ال عدل و لم ين سجم م عه،
فالتناسب بين الذنب والعقوبة ضروريّ وإال كان من الظلم الواضح.
إن الذنوب كالغيبة والكذب والزنا وقتل النفس ھي جرائم يستحق مرتكبھا العقوبة ،ولكن أليست العقوبة التي ُخصّصت ل ھا
في اآل خرة تت جاوز ال حدود؟! بم عنى أنّ العقو بات الم قرّرة في ال قرآن ال كريم قا ٌ
سية وال تق بل التحم ّل؟! أال يت ناقض عدم
التناسب ھذا بين الذنب والعقوبة مع العدل اإللھي؟!
إنّ بين عالم الدنيا وعالم اآلخرة إختالفا ً كبيراً ،فھما نشأتان مختلفتان ،إنھما لونان من الح ياة .و قد ت قدّم من ّا أنّ عالم الدن يا
بالنسبة لعالم اآلخرة كعالم الرحم لدى الجنين بالنسبة لعالم الدنيا .إنّ عالم الرحم يختلف عن الدنيا ،فالطفل ال يتن فس برئت يه
ظة وا حد ًة ك ما كان يع يش في عا لم وال يأكل بفمه ،ومتى ما و لد و خرج إ لى ھذه ا لدنيا فإ نه لن يتم كن من أن يع يش لح ً
الرحم ،والعكس صحيحٌ ،أي إن الطفل لو دخل الھواء إلى رئتيه وھو في عالم الرحم ،أو
185
دخل الطعام عبر فمه ،فإنه سوف يموت كما أ ّنه لو لم يتنفس برئتيه متى خرج إلى الدنيا سوف يموت أيضا ً!
إن ھذا المثال يوضح لنا أنّ بين العالمين اختالفاً ،فكذلك إنّ لك ّل واحد من عالمي ا لدنيا واآل خرة قواني نه ونظ مه ،ف ما ھي
النقاط التي يختلف فيھا العالمان؟
عالم الدنيا ھو عالم المتغيّرات ،فالطفل يكت مل لي صبح شابا ً ث ّم ي صل إ لى ال شيخوخة ث ّم ال موت ،فھ نا الجد يد ي صبح قدي ما ً
والقديم يفنى.
أمّا في العالم اآلخر فال شيخوخة وال قدم وال موت ،ولذا كان عالمنا ھذا عالم الفناء وكان ذلك العالم عالم البقاء.
186
الدنيا ھي دار عمل ،أمّا اآلخرة فدار حساب ال عمل فيھا ينفع اإلنسان أو ينجيه من الع قاب ،و قد ورد عن أ مير المؤمن ين
عليه السالم) :اليوم عمل بال حساب وغداً حساب بال عمل(.7
وما أجمل عبارة النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم التي تبين ذلك إذ قال) :الدنيا مزرعة اآلخرة(.8
الحياة الدنيا حياة إجتماعيّة يرتبط المصير فيھا ويشترك بين أفراد المجتمع إلى ح ٍّد ما ،وأمّا في اآلخرة فم صير كل إن سان
يرتبط به وحده.
ففي ھذه الدنيا تؤثر األعمال الصالحة في سعادة اآلخرين ،كما أن األعمال الباطلة لھا تأثيرھا السلبيّ ع لى ح ياة اآل خرين،
ولذا كان أفراد المجتمع في ھذه الدار كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر األعضاء بالسھر والحمى.
187
التأثير والتأثر ،التعاون والتضاد وغير ذلك مما ھو موجود في ھذه الدنيا ،ال وجود له في ذلك العالم ،وإال ففي الجنة توجد
سـ ُر ٍر وا ناً َ
علَـى ُ ل إِ ْ
خ َ ِن غِـ ٍ ّ
ِم م ْ
ـدو ِرھ ْ
ص ُ ما ف ِي ُ حياة إجتماعية ،فالصالحون مجتمعون تسودھم األلفة والمح بة ﴿ َ
ونَ َزعْ َنا َ
ل ال ﱠنا ِر﴾ .
12
ھ ِ َ
مأ ْ حقﱞ تَخَا ُ
ص ُ ك لَ َ ِين﴾ ،11والفاسقون تفرقھم األحقاد والضغائن ﴿إِنﱠ َ
ذلِ َ م َتقَابِل َ
ُ
إن بين عالم الدنيا وعالم اآلخرة -رغم اإلختالف الذي تقدّم ذكره -إرتباطا ً وثيقاً ،ذلك أ ّننا نحصد غداً في اآلخرة ما نزرعه
في ھذه الدنيا ،وھذا ما تحدثت عنه الروايات :فقد ورد عن أھل بيت العصمة والط ھارة) :إنّ الج نة قي عان 13وإنّ غرا سھا
سبحان ﷲ والحمد وال إله إال ﷲ وﷲ أكبر(.14
وفي حديث آخر عن رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وآله وسلم قال) :ل ّما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فرأ يت في ھا قيعا نا ً
ً
ولبنة من فض ٍة وربما أمسكوا ،فقلت لھم :ما لكم قد أمسكتم؟ قالوا :حتى تجيئ نا ورأيت فيھا مالئكة يبنون ً
لبنة من ذھ ٍ
ب
النفقة ،قلت :وما نفقتكم؟ قالوا :قول المؤمن سبحان ﷲ والح مد وال إ له إال ﷲ وﷲ أ كبر ،فإذا قال بني نا وإذا سكت
أمسكنا(.15
188
إن معرفة أنواع الجزاء له الدور األساس في ح ّل مشكلة التناسب في الجزاء األخرويّ ،فأنواع الجزاء ثالثة:
اإلعتباري.
ّ 1ـ الجزاء
الطبيعي.
ّ التكويني
ّ 2ـ الجزاء
سد للذنب.
3ـ الجزاء الذي ھو تج ّ
اإلعتباري:
ّ 1ـ الجزاء
وإنما أسميناه إعتبار ّيا ً أل ّنه عبارة عن مقررات جزائيّة ،إمّا إلھيّة وإما بشريّة.
وال يكفي أحد ھذين األمرين بمفرده لبناء الحياة اإلجتماع ية العاد لة ،فالترب ية مع عدم ع قاب الم جرم ال تك في لم نع و قوع
وتكرّر الفعل المخالف للقانون ،ولذلك فإنّ الھدف من الجزاء اإلعتباريّ أمران:
أوالً :الحيلولة دون تكرر الذنب من قِ َبل المجرم أو غيره في عقوبة منبّھة وبھا يحفظ المجتمع.
ثانيا ً :تسلية المظلوم وإدخال شي ٍء من الطمأنينة إلى نفسه ،ألن الطبيعة اإلنسانية تقتضي التش ّفي للمظلوم بعقاب الظالم.
ولكنّ ھذا النوع من الجزاء ال يمكن تصوره في عالم اآلخرة ،ألنه ليس في
189
ذلك العالم مجال لتكرّ ر الذنب حتى يكون الغرض من العقوبة الحيلولة دون تكرّ ر الذنب ،كما أ ّنه ال مجال للتش ّفي في ّ
حق
ﷲ تعالى ال سيما في العقوبات التي ترجع إلى الحقوق اإللھيّة التي ال ترتبط بحقوق الناس.
الطبيعي:
ّ الوضعي
ّ 2ـ الجزاء
إن من أنواع الجزاء ما يرتبط بالذنب إرتباط المعلول بعلّته ،أي إ ّنه نتيجة طبيعي ّة ل لذنب ،و ھو ما ي سمى باألثر الو ضعي
للذنب.
ھكذا الذنوب فإنّ لبعضھا آثاراً و ضعي ًّة ذاتي ًّة ال يم كن التفك يك بين ھا وب ين الع مل ،فاإل ساءة للوا لدين -م ثالً -ل ھا عقو بة ال
ك عنھا .وينقل لنا التاريخ في ھذا المجال أنّ المنتصر -الخليفة العباسي -سمع أباه المتوك ّ ل ي شتم ال سيدة الز ھراء علي ھا تنف ّ
ً
السالم فسأل رجال يثق به عن جزاء من يفعل ذلك ،فقال له :إن جزاءه القتل ،ولكنه نبّھه على أنّ ك ّل من يقتل أباه ال يعم ّر
طويالً بعده ،ولكنّ المنتصر صمّم على قتل والده ،فقتله ولم َ
يبق ح ّيا ً بعده سوى ع ّدة أشھر.
إن اإلرتباط بين العمل والجزاء األخرويّ ھو إرت باط تكو ينيّ ،ولك نه أ قوى من اإلرت باط المت قدم ،و ھو أع لى من إرت باط
العلّة والمعلول واألثر والمؤثر ،إذ ھو
190
إرتباط اال ّتحاد والعينيّة ،أي إنّ الجزاء األخرويّ ھو عبارة عن تجسّم األعمال التي قام ب ھا اإلن سان في ھذه ا لدنيا ،وإ لى
ِنتم ْ مل َ ْ
ما عَ ِ و َحضَراً َ م ْ ر ُ خ ْي ٍن َ م ْت ِ ملَ ْما عَ ِ ْس َل نَف ٍ ك ﱡ
م تَجِ ُد ُ و َ ھذا يشير القرآن في العديد من اآليات ،منھا قوله تعالى﴿ :يَ ْ
ملُـوا مـا عَ ِ ـدوا َ ج ُ و َو َع َبا ِد﴾ ،وقال تعالىَ ﴿ : 16
ُوف بِا ْل ِ
وﷲ َرؤ ٌ ه َ ْس ُ ُم ﷲ نَف َ ح ِّ
ذ ُرك ُ و ُي َمداً بَعِيداً َه أَ َھا َوبَ ْي َن ُ و أَنﱠ بَ ْي َن َ د لَ ْ
و ﱡسو ٍء تَ َ ُ
ش َتاتاً ل ُِي َر ْوا أَعْ َ اس أَ ْ ك أَ َ
17
ل َ
ذ ﱠر ٍة م ْثقَـا َـل ِ م ْ ع َـن َي ْ م ْ م َ
ف َ مـالَ ُھ ْ ُ ص ُد ُر ال ﱠن ذ َي ْ م ِئ ٍ حداً ﴾ ،وفي آية أ خرىَ ﴿ :ي ْ
و َ ِم َربﱡ َ ظل ُ وال َي ْ حاضِراً َ َ
كلُونَ فِـي ْ
ـأ ي
ِﱠ َ َ ُ ا م ن إ ً ا م ْ
ل ظ
ُ ى م ا ت ي ْ
ل
ْ َ َ ََ َ ا ل او م َ أ ُونَ ل ك ْ
أ
َ َ ُي ِين ذﱠ ل ا نﱠ ِ إ ﴿ : قوله وكذلك ، 18
﴾ه ر ي ً ارش
َ ﱠ ٍ َ ّ َ َ ُة ر َ
ذ ل َاق ث م ل م ع
ْ ي ن
َ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ ِْ م و ه ر ي ً اري خ
ً19
سعِيرا ﴾. ونَ َ صلَ ْ
سيَ ْ و َم نَاراً َ ِھ ُْبطُون ِ
فجزاء اآل خرة ھو تجس ّم ألع مال ا لدنيا ،والنع يم وال عذاب في ذ لك ال عالم ھ ما ن فس الع مل ال صالح وال سيّئ ال لذين أداھ ما
اإلنسان ھنا وقد ُكشف عنھما الغطاء فظھرا للعيان.
191
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
-1إنّ رغبة اإلنسان في الخلود ھي السبب في نفوره من الموت.
أ -االلتفات إلى حقيقة الموت ،وأ ّنه ليس عدما ً بل ھو إنتقال من عالم إلى عالم آخر.
ب -إنّ الجھاز الذي زوّ د به اإلنسان دليل على أنّ الموت ال يعني نھاية اإلنسان.
ج -إنّ الدنيا ھي دار إمتحان وإختبار إلى عالم أوسع وأرحب.
د -إنّ في الموت توسعة للحياة اإلنسانية ألنّ موت فئة من الناس يھيّئ الظروف المناسبة لحياة من سيأتي.
3ـ يتساءل بعض الناس عن العذاب األخرويّ :أال يشكل عذاب جھ ّنم نوعا ً من الظلم حيث ال تناسب بين نوع ا لذنب و نوع
العقوبة؟!
والجواب :ھو أنّ عالم الدنيا يختلف عن عالم اآل خرة بج ھات ،ف عالم ا لدنيا عالم التغي ّر و عالم اآل خرة عالم الث بات ،وعا لم
الدنيا عالم مشوب بالموت وأما اآلخرة فھي الح ياة األبد ية ،الم صير ا لدنيوي م شترك وأ ما في اآل خرة فل ك ّل إن سان نتي جة
عمله .ومن اإلختال فات أنّ ال جزاء األ خروي ھو ع بارة عن ن فس ع مل اإلن سان أي إنّ جزاء اآل خرة ھو تجس ّم ألع مال
الدنيا ،والنعيم والعذاب ھناك ھما نفس العمل الصالح والسيئ ال لذين أداھ ما اإلن سان ھ نا و قد ُك شف عنھ ما الغ طاء فظ ھرا
للعيان.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ما سبب نفور اإلنسان من الموت ؟
-2ما ھي حقيقة الموت ؟ وما الدليل على أنه ليس النھاية ؟
-3ما ھي حقيقة الحياة ؟
-4ما ھي فوائد الموت بالنسبة للحياة الدنيا ؟
-5ما ھو جواب اإلشكال حول عدم التناسب بين الذنب والعقاب األخروي ؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1ومن أمثلة ذلك تحوّل الماء إلى بخار ،فإن الماء لم يصبح عدماً وانما تحوّل من حالة إلى حالة وصار في حالة البخاريّة بعد أن كان في حالة المائية.
-2المؤمنون115:
-3الملك2:
-4العنكبوت.64:
-5يّـس.65:
-6فصلت.21:
-7نھج البالغة ،من كالم له عليه السالم رقم .43
-8غوالي الآللي ،اإلحسائي ص .267
-9يـس.59:
-10اإلسراء.15 :
-11الحجر.47:
-12ص.64:
-13قيعان جمع قيعة والقيعة والقاع بمعنى واحد وھو المستوي من األرض )مجمع البحرين ،ج ،4ص 385مادة -قوع( دار ومكتبة الھالل لبنان )معجـم مقـاييس اللغـة
مادة -قوع(
-14بحار األنوار ،المجلسي ،ج 7ص .229
-15وسائل الشيعة )آل البيت( -الحر العاملي ج 7ص .188
-16آل عمران.30:
-17الكھف.49 :
-18الزلزلة.8:
-19النساء.10:
اﻟﺪرس اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﺸﺮ :اﻟﺸﻔﺎﻋﺔ
أھداف الدرس
193
تمھيد:
من األبحاث المھمّة التي وقع فيھا الخالف الشديد ،والتي ال ب ّد من تحقيقھا في أب حاث ال عدل اإلل ھي ،ب حث ال شفاعة ،و ھو
بحث يتمسك به أتباع مدرسة أھل البيت علي ھم ال سالم ب شدّة ،ويست شھدون له و يدافعون ع نه بأد لة عقل ية ،وأ خرى قرآن ية
ن أَ ِذنَ ل َ ُ
ه ذ ﱠال تَنف َ عُ الش ﱠ فَاعَةُ إِ ﱠال م َ ْ
مئ ِ ٍ عَھـدًا﴾ ﴿،يَ ْ
و َ 1
ن ْ م ِ
ح َ ن اتﱠخَـ َذ عِنـ َ
د ا ل ﱠر ْ كـونَ الش ﱠ فَاعَ َ
ة إِ ﱠال م َ ِ كقوله ت عالى ﴿ال يَ ْ
ملِ ُ
الشـفَاعَ َ
ة ﱠ عونَ مِن ُدونِـ ِ
ه ك الﱠذ َ
ِين يَ ْد ُ و َال يَ ْ
ملِ ُ ن أَ ِذنَ لَ ُ
ه﴾َ ﴿ 3 الشفَاعَ ةُ عِن َد ُه إِ ﱠال لِ َ
م ْ ﱠ فعُ ق ْو ًال﴾َ ﴿ 2
و َال تَن َ ه َ ِي لَ ُ
و َرض َ ن َم ُ
ح َال ﱠر ْ
ھُم يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ ،وآيات أخرى تفيد ھذا المضمون.4
ق َو ْ ح ِّ ھ َد بِا ْل َ
ش ِمن َ إِ ﱠال َ
ويقف على طرف النقيض المذھبُ الوھابيّ ،الذي يحمل على فكرة الشفاعة ب ك ّل شرا سة ،ويع يب ع لى مذھب أ ھل الب يت
فكرتھم ھذه ،ويطرح ك َّل ما يملك من إعتراضات وإشكاالت.
195
ون حن في ھذا الب حث سوف نت ناول م سألة ال شفاعة ب شكل مو ضوعي ،متعرّ ضين ل ما يُق بل ول ما يُن كر من ھا ،ثم نخ تم
باإلعتراضات الموجَّ ھة إليھا ،مجيبين بما يقتضيه المنطق الصحيح ،وما يكون شافيا ً للقارئ الكريم.
أقسام الشفاعة:
عندما يضعف القانون في المجتمع نجده ال يطبّق إال على ال ضعيف ،أم ّا ال قويّ فإن ّ ه يمت لك من ال قوة ما يجع له أ قوى من
ف أھمّھا ثالثة -1:ال مال -2 ،الو ساطة -3 ،ال قوة. القانون وفوقه .وعادة ينفذ القويّ من تطبيق القانون من خالل نقاط ضع ٍ
وسيلة من ھذه الوسائل بحيث يحول من خالل ھا دون تطب يق الح كم اإلل ھي -ك ما ً والشفاعة إذا كانت بمعنى أن يجد المجرم
يظنّ كثير من الناس أنّ شفاعة النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم واألئ مة علي ھم ال سالم ھي من ھذا ال نوع ،وك ما ھو الف ھم
البدوي البسيط -فھي مرفوضة 5بال أدنى شك.
وقد نفى القرآن الكريم أن يتأثر القانون اإللھي بشيء من ھذه الثالثة ،فال مال يمكن أن ي فدي من عذاب ،وال ت جزي ن فس
ْـس
ٌ زي نَف وماً ال ت ْ
َج ِ عن نفس ،أو تكون شفيعة لھا ،وال قوة وال نصرة ألحد على القانون يوم القيامة ،قال تعالىَ ﴿ :
واتﱠقُوا يَ ْ
ـم ُي ْنص َ ُرونَ ،﴾6وال مراد بال عدل في ھذه اآل ية ھو م ْنھ َ ا عَ ـدْ ٌ
ل َوال ھُ ْ ة َوال ُي ْؤ َ
خـذُ ِ شفَاعَ ٌ
ھا َ
م ْن َ
ل ِ ش ْيئاً َ
وال ُي ْق َب ُ ْس َ
َن نَف ٍ
ع ْ
المال.
ويشھد تاريخ اإلسالم على مدى قوة القانون وعدم ضعفه أمام ھذه العوامل
196
الثالثة ،وأنه كان يطبَّق حتى على أقارب الحك ّ ام ،وذ لك بمراج عة ب سيطة ل سيرة ال نبي صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم واألئ مة
عليھم السالم.
فقد ورد عن علي عليه السالم التأكيد على أن العقوبة ال تستثني أحداً) :وﷲ لو أنّ الحسن والحسين قد ارتكبا ھذا الخالف
لم أرفق بھما(.7
من ھنا فالذي يظنّ بأن الظفر برضا ﷲ يمكن تحصيله عبر الب كاء ع لى اإل مام الح سين عل يه ال سالم بدون ف عل الواج بات
وترك المحرمات -بحيث يأتي الحسين عليه ال سالم يوم القيا مة في شفع له كي ُتم حى ذنو به ،إن صاحب ھذا ال ظنّ يمت لك
تصوراً باطالً للشفاعة ،بل إنّ ھذا التصور ھو إھا نة لشخ صية اإل مام الح سين عل يه ال سالم ،ألن الح سين عل يه ال سالم لم
يستشھد ألجل إضعاف القوانين اإللھية ،وتكون إرادته في مقابل إرادة ﷲ ،وال شريعته في مقابل شريعة جدّه ،وإن ما أل جل
إقامة الصالة وإيتاء الزكاة وإحياء الفرائض والسنن.
وھكذا فمن يظنّ أنّ الرسول األكرم صلى ﷲ عليه وآله وسلم والزھراء واألئمة عليھم السالم لھم نفوذ في ال ساحة اإللھ ية،
وھم يستغلّون نفوذھم لتغ يير إرادة ﷲ ون قض ومعار ضة قواني نه ،وا ھ ٌم ومخ طئٌ ،و ھو م ثل ال جاھليين من ال عرب الذ ين
كانوا يظنون أن لألصنام قدر ًة على الشفاعة ،وتقرّ بھم إلى ﷲ زلفى ،وقد وصفھم ﷲ بالمشركين رغم أ ّن ھم لم ين سبوا إلي ھا
خلق العالم ،إذ يكفي أ ّنھم يقولون بأنھا تشارك ﷲ في إدارة الكون ،والتدخل في معارضة القوانين اإللھية.
إن ھذا القسم من الشفاعة المنحرفة مرفوض ال يقول به أحد ،وھو يؤدي إ لى ال شرك في الربوب ية وال تدبير اإلل ھي ،و ھذا
القسم يتنافى مع القانون وال يمكن تع ّقله في ّ
حق القانون اإللھي.
197
وھي الشفاعة التي ال تتنافى مع القانون ،بل تحفظه ،وتقيم حدوده .وھناك الكثير من الروايات من طريق أھل البيت علي ھم
السالم ومن طريق أھل السنة تثبت ھذه الشفاعة الصحيحة ،وھي على نوعين:
فھو الموجب للنجاة من العذاب ونيل الحسنات وعلوّ الدرجات ،وتوضيح ھذا النوع:
قد تقدّم في بحث سابق -عند الحديث عن العذاب األخروي -أنّ األعمال ا لتي ي قوم ب ھا اإلن سان تتج سد في اآل خرة ،أي أنّ
حقيقة العمل تظھر للعيان ،ونضيف ھنا أنّ التجسّم ال يقت صر ع لى الع مل ،بل العال قة المعنو ية ب ين ال ناس في ھذه الدن يا
تتحوّ ل في اآلخرة إلى صور ٍة واقعي ٍة أيضا ً.
شخص آخر ،فإنّ رابطة الھداية ھذه تتحوّ ل يوم القيامة إلى صور ٍة يكون في ھا ال ھادي ٍ وعليه فإذا كان إنسانٌ ما سببا ً لھداية
َاس بِ ِإ َمام ِِھ ْم﴾ ،أي أنّ ك ّل إنسان يحشر مع قدوته الذي كان سبب ھدايته في
8
ٍ ل ُأن
ك ﱠعو ُ
م ن َْد ُ بصورة القدوة ،قال تعالىَ ﴿ :ي ْ
و َ
العمل ،ومن ھنا تسمية ھذه الشفاعة بشفاعة العمل ،ألن العمل ھو العا مل األ ساس ا لذي يو جب الن جاح أو الخي بة ،ويم كن
تسميتھا بشفاعة القيادة ،ألن ك ّل أمة تأتي ويقدمھا قائدھا وإمامھا الذي تتبعه.
198
م ﴿يَق ُ
ْد ُ كما ويحدث ھذا األمر أيضا ً في الجھة األخرى ،أي في حالة الضالل واإلضالل ،كما يقول تعالى في شأن فرعون:
ْس الْـ ِو ْر ُد ا ْل َمـ ْو ُرو ُد ،﴾9ھ كذا يظ ھر فر عون ب صورة شفيع ووا سطة لقو مه الذ ين
َ فأَ ْو َرد ُ
َھُم ال ﱠنا َر َوبِئ ة َ م ا ْل ِق َيا َ
م ِ و َ
ه يَ ْ
م ُ َ
ق ْو َ
اتبعوه خطوة خطوة ليدخلھم إلى جھنم. ً
فالشفاعة في معناھا األول تعني القيادة ،ويكون الرسول حينھا شفيعا ً أل مير ال مؤمنين عل يه ال سالم ولفاط مة علي ھا ال سالم،
وھما شفيعين للحسنين عليھما السالم وكل إمام شفيعا ً لإلمام اآلخر ،وكذلك العلماء ھم شفعاء لمن يھتدي بھم.
ب نا ًء عل يه ،فإنّ ما ورد من روا يات أن اإل مام الح سين عل يه ال سالم سي شفع لك ثير من ال ناس ي كون تف سيره أنّ المدر سة
الفكرية لإلمام الحسين عليه السالم ھي ال سبب في إح ياء ا لدين وھدا ية ك ثير من ال ناس في ھذه ا لدنيا للع مل ع لى نھ جه
وخطه ،فيكون شفيعا ً بھذا المعنى وقائداً لھم يوم القيامة ،نعم للحسين عليه السالم شفاعة أخرى وھي:
ويقصد منھا الشفاعة ألجل غفران ا لذنوب .وال شفاعة ب ھذا الم عنى ھي ا لتي أ صبحت ھدفا ً للمنت قدين ،و ھي م ح ّل ا لنزاع
والخالف بين مذھب أھل البيت عليھم السالم ومنكري الشفاعة.
ويتو ّقف ر ّد اإلنتقادات المطروحة حول النوع الثاني من الشفاعة ،أي شفاعة المغفرة ،على بيان أمور:
199
إنّ ل صفة الرحمان ية ال سبق في ال صفات اإللھ ية ،ف قد ورد في ب عض األدع ية ) :يا من سبقت رحم ته غ ضبه( ،فالرح مة
جور أ مو ٌر عار ٌ
ضة غير أ صيلة ،و لذا ف ھذه سق وف ٍ كفر وف ٍوالسعادة ھما الواقع الحقيقي في نظام الوجود ،وما عداھما من ٍ
األ مور سوف تنزوي ب سبب جاذبي ّ ِة الرح مة .ول يس اإل مداد الغ يبي والتأي يدات الرحمان ية إال شواھد قاط عة ع لى أ سبقية
الرحمة وغلبتھا على الغضب اإللھي ،وتتجلّى ھذه الصفة العامة من خالل ع ّدة أصول حاكمة في نظام الكون:
أصل التطھير:
من مظاھر رحمة ﷲ وجود التطھير في نظام الوجود ،والتطھير في الكون يشمل عالمين:
1ـ عالم الطبيعة والمادة :ومن مظاھر ذلك إمتصاص النباتات والبحار لغاز ثاني أكسيد الكر بون من ال جوّ لت صفيته ،و لو
ً
قاطبة. تلوّ ث الجوّ ولم يكن ثمّة مصفاة أو مطھّر لفقدت األرض صالحيتھا للحياة
2ـ عالم المعنويات :والمغفرة ھي عبارة عن تطھير القلوب واألرواح من آثار الذنوب ،طالما ھي تقدر على إزا لة وغ سل
درن الذنوب ،وإال فإن بعض القلوب قد صدىء وال تقدر المغفرة ع لى أن تؤ ثر ف يه الن عدام قابلي ته للتط ھير ولل ُّ
تأثر ،و لذا
ة
ِشـا َو ٌ
ِم غ َ م َوعَ لَى أَ ْب َ
صـا ِرھ ْ ھ ْ
ع ِ
م ِ وعَ لَى َ
س ْ م َ م ﷲ عَ لَى ُقلُوبِ ِ
ھ ْ ﴿ َ
خ َت َ يعبر القرآن عن بعض الحاالت بالختم ،قال ت عالى:
م﴾.10
عظِي ٌ
اب َ
ذ ٌم عَ َ
ولَ ُھ ْ
َ
200
أصل السالمة:
إنّ من شواھد غلبة الرحمة على الغ ضب في ن ظام ال كون ،ھو أن ال سالمة وال صحة ھي األ صل دائ ما ً في ال كون ،و ھذا
األمر نالحظه في العالمين أيضا ً:
ً
خصوصية في ج سم اإلن سان -1في عالم المادة :فنجد أن المرض ھو الحالة الطارئة والتي تأتي ثم تزول ،وكذلك نالحظ
وھي قابليّته لترميم العظام فيما لو حصل كس ٌر ما ،ووجود جھاز المناعة في الجسم من أي عنصر أو عا مل غر يب يد خل
إلى الجسم.
-2وأ ّما في عالم المعنويات :فتنصّ الروايات ع لى كون األ صل في اإلن سان ھو ال سير في طر يق ال خير وال ھدى ،ف في
ينصرانه(.11 الحديث) :كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه ّ
يھودانه أو ّ
إن المغفرة ليست ظاھرة إستثنائية ،وإنما ھي قانون كليّ مستنتج من غلبة الرحمة في نظام الوجود .فالرحمة اإللھية ت شمل
جميع الموجودات في الكون في حدود قابلياتھا .ونحن ن شاھد أن أ قرب ال ناس إ لى ﷲ ،أي األنب ياء واألئ مة علي ھم ال سالم،
يطلبون من ﷲ أن يرحمھم برحمته ،وھذا يشھد على شمول أصل الرحمة وعموميته ،كلّما كان اإلن سان أ قرب إل يه تعا لى
كانت قابليته وقدرته على االستفادة من أصل الرحمة أكبر وأ كثر ،ويست ضيء ب نور الرح مة وأ سماء ﷲ الح سنى و صفاته
الكمالية بشكل أفضل.
201
من خالل ما تقدّم يمكن أن نستنتج التالي :إن الرحمة والمغفرة ھي من القوانين اإللھية في ھذا ال كون ،وھ نا ن قول إن ھذه
الرحمة اإللھية ال ب ّد أن تصل إلى المخطئين والمذنبين ،ل كن ينب غي أن ي كون للرح مة قانون و سبيل ت سير عل يه.وب ض ّم ما
تقدم منا في أبحاث سابقة 12من أن التفاوت واإلختالف في ھذا العالم ذاتي ال اعتباري ،وأنه ال ب ّد منه في ھذا ال كون ،نف ھم
قانون ھذه الرحمة ،وأن ھا ت شمل ال مذنبين والمخطئ ين ل كن ل يس مبا شر ًة ،وإن ما ب عد أن ت مرّ باألنب ياء واألول ياء وأ صحاب
نظام في ھذا الكون.
ٍ األرواح الكبيرة ،وھذا أمر من لوازم وجو ِد
ويمكن توضيحه بمالحظة مسألة الوحي والنبوّ ة ،فإنّ إرسال ﷲ للرسل ھو من مظاھر الرح مة اإللھ ية ،ول كن ال يم كن أن
يكون الناس كلّھم أنبياء ،فال بد من وجود خاصة من الناس يكونون ھم الواسطة في نزول الرحمة اإللھ ية بالوحي ،فكذ لك
الرح مة والمغ فرة اإللھ ية ال ب ّد وأن ت ت ّم عبر وا سطة ،ألن ھذا ما يفر ضه ن ظام ال كون ،فال شفاعة إذاً ھي إ حدى مظا ھر
الرحمة اإللھية ،وھي رحمة إلھية ت ت ّم بوا سطة شفعاء ھي ّأھم ﷲ ل ما ل ھم من صفات الك مال ،و ھم األنب ياء واألئ مة علي ھم
السالم.
فارق في التسمية لجھة النسبة فقط ،فإنھا إذا ُنسبت إلى من بع ال خير والرح مة سمّيت ) بالمغفرة(،
ٍ فالمغفرة ھي الشفاعة مع
وإذا نسبت إلى وسائط الرحمة سمّيت )بالشفاعة(.
202
النتيجة:
يظھر مما تقدّم الفرق بين الشفاعة المقبولة والشفاعة المرفوضة ،فال شفاعة المقبو لة ت بدأ من ﷲ لت صل إ لى ال مذنب ،وأ ما
الشفاعة المرفوضة فھي على العكس ،ذلك أن المجرم ھو الذي يدفع الشفيع للشفاعة ،و ھذا ما ن جده في ال قوانين ال ضعيفة
في ھذه الدنيا ،حيث يقع الشفيع تحت تأثير المشفوع له )المذنب( لسبب من األسباب التي ذكرناھا.
وسِـيلَ َ
ة م ُنـوا اتﱠقُـوا ﷲ َوا ْب َتغُـوا إِلَ ْيـ ِ
ه ا ْل َ ﴿ي َا أَيﱡ َ
ھـا ال ﱠذ َ
ِين آ َ التوسّل ال ب ّد أن يكون بمن جعله ﷲ وسيلة لذلك ،قال ت عالى:
ُم ُت ْفل ُِحونَ ﴾.13 ه لَ َ
علﱠك ْ سبِيلِ ِ
ِدوا فِي َ
جا ھ ُ
و َ
َ
لقد جعل ﷲ في ھذا العالم لكل شيء سبباً ،وال بد للتوصل إ لى الم سبَّب من ال مرور عبر ال سبب ال خاص به .و في حيات نا
المادية نتوسّل باألسباب الظاھرية لتوصلنا إلى مطلوبنا ،وكذلك الحال بالن سبة لأل مور األخرو ية والمعنو ية ،فإ نه ال ب ّد أن
نتوسّل بأ سبابھا ل كي تو صلنا لن يل الرح مة اإللھ ية .و ھذه األ سباب إن ما نعرف ھا بالرجوع إ لى الك تاب وال س ّنة ،و ھذا ع ين
التوحيد ،وال يع ّد شركا ً أبداً ،ألن ﷲ ھو ا لذي ج عل ھذه األ مور أ سباباً ،و ھو ا لذي أمر نا بالرجوع إلي ھا ،والر جوع إلي ھا
ليس إال إنصياعا ً ألوامره تعالى وليست من الشرك في شيء.
ولذا ينبغي االلتفات إلى أن ال يكون التوجّ ه األساسيّ إلى نفس ھذه الوسائل بل إلى ﷲ حتى ال نقع في الشرك في العبادة.
وينبّه القرآن ال كريم إ لى ھذا األ مر فيط لب من الم سلمين أن ي سألوا المغ فرة من ﷲ ثم من الر سول صلى ﷲ عل يه وآ له
نﷲ ل إِ ﱠال ل ُِيطَا َ
ع بِإِ ْذ ِ سو ٍ ما أَ ْر َ
س ْل َنا م ْ
ِن َر ُ وسلم ،قال تعالىَ ﴿ :
و َ
203
فالشفاعة من ﷲ ،وبإذن ﷲ ،ومن األسباب التي جعلھا ﷲ في عالم المعنويات ،فالتمسك بھا ال يكون إبطاالً للقوانين اإللھية
وإنما ھو عمل بھا ،وال يكون رداً على ﷲ وإنما ھو إطا عة له ،وال ت كون ناف ية إلراد ته ألن إراد ته بالرجوع إ لى ال شفيع
الذي ھو جعله وأبرز مقامه لسعة وعلوّ روحه.
وبعد أن أنھينا البحث عن الشفاعة ال بأس بالتعرّ ض للشبھات التي تطرح ھنا وھناك وتوجّ ه إ لى ال قائلين بال شفاعة ،لنرى
أنّ بعض ھذه االعتراضات ناشئ من عدم فھم حقيقة الشفاعة ،والبعض اآلخر أصبح الر ّد عليه واضحا ً ممّا تقدم:
األول :إنّ الشفاعة تتنافى مع التوحيد في العبادة ،واالعتقاد بھا نوع من أنواع الشرك.
مة ورأ ً
فة من ﷲ ،إذ لوال الثاني :إن القول بال شفاعة يت نافى مع التوح يد ا لذاتي أل نه ي لزم م نه أن ي كون ال شفيع أ كثر رح ً
لعذب ﷲ المذنب. الشفيع ّ
وجوابھما :إن الشفاعة ال تتنافى مع التوحيد في العبادة وال التوحيد ا لذاتي أ بداً ،أل ّن ھا بإذن ﷲ ول من ارت ضى ﷲ قول َه ،ال
أنھا مستقلّة عنھا أو في عرضھا وجانبھا ،كما أنّ رحمة الشفيع أشعة من الرحمة اإللھيّة ،فھي منبعثة منھا فال ت كون أك بر
من رحمة ﷲ.
الثالث :إن االعتقاد بالشفاعة يدفع النفوس المريضة إلى التجرّي وإرتكاب الذنوب.
204
والجواب :إنّ ھذه النتيجة ال يص ّح إستنباطھا وفھمھا من االعتقاد بالشفاعة ،فھي ال تدفع اإلنسان نحو الت جرّ ي ،ألنّ ب عض
شروطھا بقي طيّ الكتمان ،فال يعلم اإلنسان المذنب ھل حقق شروط الشفاعة أم ال؟
نعم ھي تحيي األمل لديه في نيل الرحمة اإللھية ،ويكون أثر الشفاعة إنقاذ النفوس من اليأس ،فيح يا متأرج حا ً ب ين ال خوف
والرجاء ،وھذا ھو المطلوب من الشفاعة ومن اإلنسان المؤمن .إضافة إلى أن حال الشفاعة حال التوبة فكما أن التو بة في
الحياة الدنيا ولو آخر العمر ال تستلزم الجرأة على الذنوب فكذلك الشفاعة.
ھـا
م ْن َ
ل ِ شـ ْيئاً َ
وال ُيقْب َ ُ ْـس ع َ ْ
ن نَفْـسٍ َ ٌ زي نَف ومـاً ال ت ْ
َجـ ِ ﴿ َ
واتﱠقُـوا يَ ْ الرابع :لقد نفى القرآن ال شفاعة يوم القيا مة إذ ي قول:
ص ُرونَ ﴾.15
م ُي ْن َ
ل َوال ھُ ْ
ھا عَدْ ٌ
م ْن َ ة َوال ُي ْؤ َ
خذُ ِ شفَا َ
ع ٌ َ
والجــواب :إن اآليــات الــتي وردت فــي الشــفاعة علــى نــوعين ،مثبتــة ونافيــة .وقــد ذكرنــا -تحــت عنــوان العقــل والقــرآن
قرآنية تثبت الشفاعة لبعض الناس الذين يتحلّون بصفات معيّنة ذكرتھا اآليات .و ھذه ال شفاعة سبحانه ً ت
والروايات -آيا ٍ
أعطاھا لبعض عباده .وأما اآليات النافية فقد أرادت أن تنفي الشفاعة الباطلة ال الشفاعة الح ّقة.
وأَنْ لَ ْيـ َ
ـس ﴿ َ ال خامس :تت نافى ال شفاعة مع ما أ ّس سه ال قرآن من أن سعادة ك ّل ا مرئ مرھو نة بعم له ،إذ ي قول سبحانه:
سعَى﴾.16 ن إِ ﱠال َ
ما َ ْسا ِ ل ِْ
ِإلن َ
والجواب :ھذه اآلية وإن كان ظاھرھا الحصر إال أنه توجد في مقابلھا آيات الشفاعة بحيث ال بد من الجمع بينھما ،وت كون
النتيجة أن العمل جزء العلة ،وبذلك يتبين أنه )ال تتنافى الشفاعة مع العمل ،ألن العمل ھو جزء العلّة المنفعلة
205
القابلة ،ورحمة ﷲ جزء العلّة الفاعلة( ،وبتعبير آخر :إنّ اإلنسان مرھون بعمله ،لكن ليس الع مل ع لة تا مة لدخول الج نة،
وإنما العمل جزء العلة التي تؤثر في دخول الجنة ،فھو بحاجة أيضا ً إلى الرحمة اإللھية فھي العلة المؤثرة واألساس ،ومن
مظاھر رحمة ﷲ وممّا يصدر عنھا الشفاعة التي تحدّثنا عنھا.
كما أن الشفاعة ال بد لھا من سعي كما تقدم في شروط الشفاعة فتندرج ضمن السعي المذكور في اآلية.17
السادس :إن الزم االعتقاد بالشفاعة وقوع ﷲ تحت تأثير الشفيع ،في حوّ ل غ ضبه سبحانه إ لى رح مة ،مع أن ﷲ ال ينف عل
وال يتغيّر حاله ،وال يؤثر فيه شيء.
والجواب :ال يقع ﷲ تحت تأثير أحد في الشفاعة ،بل الشفاعة تبدأ من ﷲ لتصل إ لى اإلن سان ،وﷲ ھو ا لذي ج عل ال شفيع
شفيعاً ،وھو ال يثبت الشفاعة إال لمن يرتضي قوله ،أو يقول صدقاً ،أو حقا ً.
ال سابع :إن ال شفاعة لون من أ لوان إ قرار ا لترجيح واإل ستثناء والالعدا لة ،فمم ّا ال شك ف يه أنّ ال شفاعة ال ت شمل جم يع
المذنبين ،وإال فقدت معناھا ،فكيف يمكن تقسيم المجرمين إلى قسمين :فئة تنجو من العقاب ألنھا تم لك الوا سطة والو سيلة،
وأخرى تقع ت حت طائ لة الع قاب ألن ھا ال وا سطة لديھا ت شفع ل ھا؟! وك يف يمكن نا ت صور ھذا مع ال عدل اإلل ھي؟! ويم كن
صياغة ھذا اإلعتراض بطريقة علميّة :إن س ّنة ﷲ كلية ال تبديل فيھا ،والقوانين الكل ية ترفض اإل ستثناء ،ولي ست ال شفاعة
إال إستثناء من قوانين ﷲ.
والجواب :ال إستثناء في الرحمة اإللھية ،وإ ّنما الشفاعة ال تنال بعض الناس
206
ألنه ال قابلية له لنيل الشفاعة اإللھية ،فيما تنال آخرين ألنھم حققوا شروطھا ،وال سيما ال شرط األ ساس و ھو اإلي مان با
سبحانه وتعالى .فالشفاعة تسير ضمن القوانين اإللھية ومعھا ،بل ھي من قوانين الرحمة اإللھية العامة والشاملة ،ولكن لھا
شروطھا وضوابطھا ،فمن يحقق الشروط ينالھا ومن ال يحققھا يحرم منھا لق صور ف يه ال ل ضعف في ال قانون أو إل ستثناء
في القانون.
الثامن :لماذا جعل ﷲ بعض الناس شفعاء ،وآخرين مشفوعا ً لھم؟ أليس ھذا ترجيحا ً في نظام الكون؟!
والجواب :نعم ھذا ترجيح في ن ظام ال كون ،ولك نه ضروري وذا تي ،إذ ال بد من ھذا ا لترجيح ،18وب ما أ نه كذلك فا لذي
يتحلى بصفات سامية وروح عالية يستحق أن يكون شفيعاً ،ومن ال يحمل ھذه ا لروح وت لك ال صفات إ ما أن يح قق شروط
الشفاعة فيشفع له ،وإما أن ال يحققھا فال يستحق الشفاعة وليس عنده القابلية لھا.
207
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
الشفاعة على نحوين:
أ -الشفاعة المرفوضة :والتي تعني أن يجد المجرم وسيلة يحول من خاللھا دون تطبيق الحكم اإللھي.
1ـ إما شفاعة العمل والتي تعني أن الھداية التي تتحقق من قبل اإلمام تظھر يوم القيامة ،ك ما أن ال ضالل ا لذي يتح قق من
أھل الباطل يتجسّم يوم القيامة.
2ـ وإما شفاعة المغفرة من الذنوب ،وتبتنى على أساس الرحمة اإللھية التي ھي من القوانين الحاكمة في ھذا ال كون ،ف ھذه
الرحمة إن ُنسبت إلى ﷲ سميت مغفرة وإن ُنسبت إلى أھل الشفاعة سميت شفاعة.
3ـ إن السبب في حرمان بعض الناس من المغفرة اإللھية ھو عدم وجود قابلية لھم لذلك.
4ـ إن التوسل ال بد وأن يكون بمن جعله ﷲ وسيلة لذلك ،ولذا ال يكون التوسل شركا ً ألنه من التمسك باألسباب اإللھية.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ما ھي الشفاعة المقبولة؟
2ـ ھل تتنافى الشفاعة مع التوحيد؟
3ـ ما ھي الشفاعة المرفوضة؟
4ـ لماذا يحرم بعض الناس من الشفاعة اإللھية؟
-5كيف ال يكون التوسل شركاً؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1مريم.87 :
-2طه.109:
-3سبأ.23 :
-4الزخرف.86 :
-5وسيأتي توضيح كيفية شفاعة األئمة.
-6البقرة.48 :
-7نھج البالغة :الرسالة .41
-8اإلسراء71 :
-9ھود98:
-10البقرة.7 :
-11بحار األنوار ،ج 2ص .88
ل من ھذه السلسلة تحت عنوان) :االختالف والترجيح((.
-12عند البحث في الفصل الثاني من كتاب العدل اإللھي) ،وقد أدرجناه في موضوع مستق ّ
-13المائدة.35 :
-14النساء.64 :
-15البقرة.48 :
-16النجم.39 :
-17إن عبارة الشھيد في الجواب على ھذه الشبھة مختصرة وغامضة ،وقد وضعناھا بين مزدوجين ،وأما توضيحھا فھو تصرّف من المحرّر.
ل من ھذه السلسلة تحت عنوان) :االختالف والترجيح((. -18وقد بيّنّا ذلك عند البحث في الفصل الثاني من كتاب العدل اإللھي) ،وقد أدرجناه في موضوع مستق ّ
اﻟﻨﺒﻮة ﺿﺮورﺗﻬﺎ وﻣﻨﺎﻫﺞ اﻹﺛﺒﺎت
اﻟﺪرس اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﺸﺮّ :
أھداف الدرس
211
تمھيد
النبوّ ة ھي األصل الثاني من أصول الدين الثالثة عند المسلمين ،واألصل الثالث من األ صول الخم سة و فق مذھب مدر سة
سطة ب ين ﷲ و سائر ال ناس ،يتل قون األوا مرً أھل البيت عليھم السالم .ويفھم العرفُ النبوّ ة بأنَّ أفراداً من البشر ي شكلون وا
من ﷲ ويبلِّغونھا لھم .ومن ھذا الفھم والتصور تنشأ عدة تساؤالت تعتبر مفتاح أبحاث النبوّ ة:
وھكذا نجد أنفسنا في خض ّم البحث عن الحاجة إلى األنبياء والرسل ،ومنشأ ھذه الحاجة.
213
إنّ اإليمان باآلخرة ،وأنّ حياة اإلنسان ال تنتھي بالموت وإن ما ھ ناك ن شأةٌ وح ياة أ خرى ،ون حو آ خر من ا لرزق وال سعادة
والشقاء ،يدفع اإلنسان للبحث عن تحديد األشياء النافعة والضارّ ة للسعادة األخرويّة.
وال يزال العلم والعقل اإلنسانيّ -مع ك ّل التقدُّم الذي أحرزه -عاجزاً عن الوصول بنفسه إلى عالم ما بعد ال موت ،وال يم كن
قاطع ،فجاء األنبياء عليھم السالم أنفسھم وأخبروا عن أصل وجود ھا ،وأو ضحوا ٍ بنحو
ٍ للعلم أن ّ
يبت بأمر وجوده أو عدمه
ً ً
نھج السعادة ونھج الشقاء فيھا ،وبذلك تصبح الحاجة إلى النبوّ ات ثابتة ،قطعيّة ،ال مجال للنقاش فيھا.
ولم يقتصر إھتمام القرآن على اآلخرة وحدھا ،بل كانت الحياة الدنيا من أھداف األنبياء عليھم السالم أيضا ً .فقد أ ّكد ال قرآن
الز ٌم لب سط العدا لة ،ف قال
الكريم على أنَّ العدالة من ضرورات الحياة البشريّة ،وأنّ وجود األنبياء عليھم ال سالم ضروريّ ِ
ط.﴾1 اس بِا ْلق ْ
ِس ِ ُ اب َوا ْلمِي َزانَ لِيَقُو َ
م ال ﱠن م ا ْلكِ َت َ
َھ ْ سلَ َنا بِا ْلبَ ِي ّ َناتِ َوأَ ْن َز ْل َنا َ
مع ُ قدْ أَ ْر َ
س ْل َنا ُر ُ تعالى﴿ :لَ َ
إذاً ھو بحاجة إلى اإليمان الذي يھيمن على وجوده ،ويستطيع من خالله أن يحترم القوانين واأل خالق ،ا لتي ت ع ّد ضرورية
من أجل المصالح االجتماعيّة
214
وإدارة الحياة اإلنسانيّة ،سوا ًء كانت من قِ َبل ﷲ أو من قِ َبل الناس ،ولكن بشرط أن تكون أصولھا من عند ﷲ.
وقد بُعث األنبياء عليھم ال سالم لينھ ضوا بالمھمّتين م عاً ،ف ھم ي ھدون اإلن سان وير شدونه ن حو الم صالح اإلجتماعي ّة ،و في
الوقت ذاته يجعلونه -وربما كانت ھذه ھي الوظيفة األ ھ ّم -م سؤوالً عن أن يمك ّ ن قوّ ة مع ّي نة بإ سم "اإلي مان" للھيم نة ع لى
شخص أن َّ ه
و جوده ،بح يث ي ستطيع -بح كم ھذه ال قوّ ة أو ال قدرة -أن ينف ّذ الم صالح اإلجتماعي ّة ،وأن ي سعى وراء ك ّل ما ي ّ
صلحة اجتماعي ّة ،أو م صلحة روحي ّة وم صلحة أخروي ّة من خالل معر فة ال ھدف من و جود اإلن سان وتحد يد الطر يق ٌ م
الموصل إلى الھدف سواء كان ھذا التشخيص للمصالح االجتماعيّة بحكم الوحي ،أم العقل ،أم العلم.
ويذھب أصحاب ھذا الرأي إلى أ َّنه لوال وجود ھذه السلطة للدين واألنبياء عليھم السالم إلندثرت البشريّة ،إذ كا نت ستأكل
نفسھا ،وتدمّر وجودھا بذاتھا.
وإن قيل إنه ال يصح فرض أن اإلنسان ينطلق وراء مصالحه الشخ صيّة ع لى ح ساب م صالحه اإلجتماعي ّة ،أل نه ك ما ھو
مزوَّ د بغريزة حبّ الحياة وإرادة العيش ،فإن َّ ه مزوَّ ٌد أي ضا ً بالع قل ا لذي ي صحّح له م سيره كلّ ما إ َّت جه ن حو اإلن حراف عن
المسار الصحيح والسليم ،وبه يستغني عن العامل اإلضافي -النبوات -الذي يمارس دور الھداية والتحذير.
قلنا في مقام الجواب :إ َّننا ال ننكر وجود ھذا العقل في اإلنسان ،ولكن نحن نشاھد بالحسّ والوجدان أنَّ الك ثيرين من الب شر
قد إنساقوا وراء غرائزھم ،وأھملوا تعليمات وإرشادات عقولھم .وال أظنّ أنَّ أحداً يمكنه أن يتن ّكر لھذا
215
األ مر.و من ث َ ّم يب قى اإلن سان بحا ج ٍة إ لى م َ نْ يھد يه إ لى م صالحه اإلجتماعي ّة في ما لو ترك ھا سعيا ً وراء مناف عه الفردي ّة
الضيّقة .وھذا ال يعني أن األنبياء عليھم السالم قد بع ثوا من أ جل تعط يل الع قل اإلن سانيّ ودف عه إ لى الر كود ،و لم يكو نوا
بديالً للعقل ،بل على العكس تماماً ،فقد بُعثوا لتحريك العقول وتحريرھا.
النبوة
ّ المناھج في إثبات
قد يقال :إ َّنه ال وجود لما ذكرتموه من حاجة البشريّة إلى النبوّ ة واألنبياء ،وبالتالي ف ھي ال تح تاج إ لى ا لدين ا لذي يأتي به
ھؤالء من عند ﷲ.
وقد يرى البعض أ ّنه ليس من الصحيح أن نستد ّل على ضرورة النبوّ ة بحاجة البشريّة ،وبع بارة أ خرى :من غير ال صحيح
أن نقول :لمّا كانت البشريّة بحاج ٍة إلى النبوّ ة فال ب ّد أن يكون ھناك أنبياء في ال عالم ،إذ ل يس من ال ضروريّ أن يو جد في
العالم ك ّل ما تحتاج إليه البشريّة ،وإنْ كانت الحاجة واقعيّة.
النبوة
ّ الكالمي في إثبات
ّ -1المنھج
أ -إنكار نظام العل ّية :يذھب المتكلِّمون 2إلى وجوب نسبة ك ّل شي ٍء إلى ﷲ مباشر ًة وبال واسطةٍ ،ويظنون أنَّ اإللتزام بنظام
العلّيّة ھو ضربٌ من التحديد ،فلذا نجدھم يرفضون نظام العلّية -وأما ما يحفل به الوجود من نظام فھو تقريبا ً أم ٌر شكلِيٌّ
تشريفِيٌّ .
ب -مقتضى الحكمة فعل المصلحة :ويقول من يؤمن بالحسن والقبح منھم:
216
ما دام ﷲ حكيما ً فال يصدر منه فع ٌل إالّ طبق المصلحة ،فما ھو ح سن ي جب عل يه فع له ،بمقت ضى حكم ته ،وإالّ أ ضرّ ذ لك
بحكمته ،وما ھو قبي ٌح ينبغي له أن ال يفعله ،وإالّ كان ذلك طعنا ً في حكمته.
ولكن ھذا النھج من االستدالل ليس صحيحاً ،سواء لجھة إنكار ن ظام العلّي ّة ،أو لج ھة و ضع قا عدة و قانون يتح ّك مان با ،
ويضبطان فعله ،إذ معنى أن نقول" :ينب غي له أن يف عل" ،أو "ينب غي له أن ال يف عل" ،تحد ي ُد دا ٍ
فع للف عل اإللھ ِ يّ ،و ھذا ما
يتنافى مع واجب الوجود ،الذي ال يخضع لتأثير أيّ علّ ٍة مھما كانت ،مضافا ً إلى أنّ الحسن والقبح اللذين ندركھما ،ما ھ ما
إال أمور إعتبارية بمعنى أنھا تصدق في نطاق الحياة البشرية فقط ال غيرھا.
3
النبوة
ّ الفلسفي الل ّمي في إثبات
ّ -2المنھج
يعتمد الفالسفة على مقولة االحتياج التي تعد قانونا ً طبيعياً ،فيذھبون إلى أنّ ك ّل معدوم في العالم تعود علّة عدم وجوده إلى
عدم اإلمكان وعدم قابليّته للوجود ،وأنّ ك ّل ما له إمكان وقابليّة للوجود فال ُب ّد أن َ
يوجد.
ممكنة ،بمعنى إمكان إ ّتصال اإلنسان بالعالم اآلخر ،حيث يُلقى إليه من ھ ناك اإلل ھام والغ يب ،و ھذا ما يذ كرٌ النبوة
ّ أ -إنّ
برھانه في طيّات الحديث عن حقيقة الوحي.
فراغ
ٍ ھور ظ لى إ ھا وجود عدم ي ّ
د يؤ و مال، والك سعادة وال خير ال من ضربٌ النبوة ،والن بوّ ة
ّ ب -إنّ البشر ّية بحاج ٍة إلى
وجوديّ لدى البشر يفضي إلى اضطراب
217
ومن ھاتين المقدّمتين نصل إلى ضرورة وجود النبوّ ة في نظام العالم.
ونالحظ أن ھذا المنھج ال يتحدّث عن تكليف ﷲ ،بل يقول الفالسفة )حكماء اإلسالم( :إنّ ﷲ فاع ٌل تا ٌّم ،وال يمكن أن يمت نع
الفيض من ناحيته ،فال مجال للبخل في ذا ته كي يم نع الف يض ،لذلك إذا ما كان ل شي ٍء في ن ظام الو جود إم كان الو جود،
وإمكان الديمومة ،فسيُفاض عليه الوجود من ِق َبل ﷲ.
قدْ ِر ِه إِ ْذ ق َ الُوا
ق َ
ح ﱠ ما َ
ق َد ُروا ﷲ َ والوحيَ ﴿ :
و َ ولھذا المنھج أصول قرآنيّة ،فقد قال تعالى ،في معرض إنتقاد منكري النبوّ ة
ي ٍء.﴾4
ش ْ
ِن َ
رم ْ ش ٍ ما أَن َز َ
ل ﷲ عَ لَى بَ َ َ
قد يُدعى أ ّنه إذا لم نستطع إثبات حاجة الخلق إ لى الن بوّ ة بالبر ھان اللم ّيّ -أي عن طر يق اال ستدالل بالعل ّة ع لى المع لول-
فإ َّننا نستطيع ذلك عن طريق االستدالل بالبرھان اإل ّني ،أي بالمعلول على العلّة.
218
ر َومِم ﱠ ا
ج ِ
ِـن الش ﱠ َ
وم ْل ُب ُيوتـاً َ
ِـن ا ْلجِب َا ِ ـل أَنْ اتﱠخ ِ ِ
ذي م ْ ح ِك إِلَـى ال ﱠن ْ وأَ ْو َ
حى َربﱡ َ ﴿ َ وقد أ ّكد القرآن ھذه الفكرة بقوله تعالى:
شونَ .﴾6 ر ُع ِ
َي ْ
وفي مسألة النبوّ ة نرى لألنبياء آثاراً ال يمكن أن ت ّت سق مع التعل يم ،واالكت ساب من المعل ِّم ،والمح يط ا لداخليّ وال خارجيّ ،
نحو من التل ّقي واإللھام.
وبالتالي ال ُب ّد وأن نذعن بوجود ٍ
وكذا نرى لتعاليمھم التطابق الكامل مع مصالح العباد ،ومع شؤون الب شريّة كاف ّ ًة ،بخ ِالف ت عاليم العل ماء والفال سفة ،الذ ين
كانوا يظھرون بين فتر ٍة وأخرى ،حيث كانت ناق ً
صة .و ھذا الك مال ال يُع قل أن ي كون نتا جا ً ل فر ٍد عاديٍّ ،ك ما ال يم كن أن
يكون ناتجا ً عن التعليم ،أو التجربة ،أو عن طريق النبوغ وما يحظى به إنسانٌ ما من تفوُّ ٍق على اآلخرين.
ٌ
خارجة عن مق ّدرات الع قل اإلن سانيّ ومعط يات الف كر اإلن سانيّ ،في جب إذاً فھذه التعاليم التي جاء بھا األنبياء عليھم السالم
عندئ ٍذ اإليمان بوجود اإللھام.
-1لقد نھض األنبياء عليھم السالم على الدوام ض ّد اإل ّتجاه الحاكم في مجتمعاتھم.
ٌ
صحيحة ،غير أنَّ ھذا ال يختصُّ باألنبياء عليھم السالم وحدھم ،بل إنَّ وھذه الفكرة
219
ٌ
صحيحة أيضاً ،ولكنَّ ھذا ال يختصّ باألنبياء عليھم السالم وحدھم ،فكم ھم الم ضحّون في سبيل أ ھدافھم و ما وھذه الفكرة
يعتقدون به؟ فھل يكون ھؤالء أنبياء؟!
-3لقد نھض األنبياء عليھم السالم بمفردھم ،ولم يح َظ ْوا بحماية سلطةٍ ،أو سياسةٍ ،أو طبق ٍة معيَّنةٍ ،فقد كانوا وح يدين ع لى
الدوام.
-4لم يكن األنبياء نفعيّين ،يندفعون وراء جمع المال وكسب السلطة.
شخص
ٍ ٌ
نقطة نؤمن بھا ،ولكنْ ال نستطيع أن نحت ّج بھا إلثبات النبوّ ة ل َمنْ يُنكرھا وال يؤمن بھا ،إذ يرى ھؤالء أنَّ ك ّل وھذه
ير ْون أنّ األنبياء علي ھم ال سالم ھم أ شخاص يتملّك ھم ھ ياج التمك ّ ن َ ھم ّ
ن إ بل العالم، ھذا في به يقنع َّن
ٍ ي مع ف
ٍ ھد وراء يسعى
ب من المنفعة. من السلطة المعنويّة على الناس ،وھذه الحالة تعبِّر بذاتھا عن ضر ٍ
وعليه فاالستدال ُل بأ ّنه ما دام األنبياء ال يرغبون بالمال فھم ال يرغبون بالسلطة أيضا ً مخدوشٌ من ِق َبل المنكرين للنبوّ ة.
نعم ،ال ُك ّل يُسلِّم بأنَّ األنبياء لم يكونوا يرغبون في سلط ٍة تشبه سلطة الملوك والسالطين ،وال سلطة العلماء والفال سفة ،ف ھم
فريق آخر ،ولكنَّ ھذا ال يعني أ َّنھم مبعوثون من عند ﷲ. ٌ
220
منظ ٌم ،يقوم على أساس الحركة من المق ِّد مة إ لى النتي جة ،ف ھو ن ھ ٌج ف ِ
كريٌّ وا ستداللِيٌّ ،ينط لق فنھ ُج العلماء والفالسفة نھ ٌج َّ
من عدد من المق ِّدمات ،ويتحرَّ ك إلى األمام ،ح ّتى يبلغ النتيجة.
أمّا األنبياء فليس نھجھم باألساس نھجا ً استدالل ّياً ،ومنطق ّياً ،وما شابه.
وي ستثني صاحب النظر ية ال قرآن ال كريم ،ف قد جاء عن طر يق الع قل والمن طق ،وا قترن بھ ما .ف في ال قرآن أن ٌ
ماط من
االستدالالت العقلِيّة والفلسفيّة بالكامل ،وليس فقط العقل التجريبيّ .
بشكل تا ٍّم.
ٍ وھذا الكالم صحي ٌح إلى ح ٍّد ما ،ولك َّنه ليس صحيحا ً
-7إنّ األمم التي إ َّت َب َعت تعاليم األنبياء عليھم السالم حظيت بالرقيّ والتقدُّم.
ونحن نؤمن بھذا ،وينبغي علينا إثباته ،ولكنْ ھل يؤمن به الذين ينكرون النبوّ ة؟
والنتيجة التي يتوصل إليھا ھي أنّ األنبياء لم يكونوا نفعيّين ،وكانوا مؤمنين بأنفسھم.
ولكنَّ اإلنصاف أنّ تضحيات األنبياء عليھم السالم وسيرتھم تد ّل بوضوح على أ ّنھم
221
الجواب :كالّ ،فصحي ٌح أنّ الكثير ممَّن أنكر النبوّ ة في الماضي والحاضر ال يرى أنَّ األنب ياء ھم مح تالون من ذوي الم كر
حالة تنتابھم بحيث تلقي عليھم ظالالً من التخيُّالت تجعلھم يتوھَّمون أ َّنه قد أُوحي إليھم.
ً والخداع ،ولك َّنه يرى أنّ ھناك
فنحن نؤمن بأنّ األنبياء عليھم السالم لم يكونوا مستبدّين قصّار نظر ،كما لم ّ
يتأثروا ببيئتھم ولم يتعلَّ موا من محيط ھم ،و لم
يكونوا مصابين بإنفصام الشخصيّة ،كما أ ّنھم لم يكونوا ّ
سذجاً ،ولكنَّ اآلخرين ينكرون ذلك كلّه.
ّأوالً :ما دامت تعاليم األنبياء عليھم السالم منبثقة من وجودھم ،وليس من المحيط ،أو بتأثير معلِّ ٍم.
ثانيا ً :ما دامت تعاليمھم منبثقة من منشأ فكريّ ،ومنتھية إلى مقصد ھو ﷲ.
ثالثا ً :لمّا كانت مھمّتھم وخدماتھم قد إقترنت بالصدق والنبوغ والنضج.
إذاً ،ما جاؤوا به إمّا أن يكون إبداعا ً ذات ّياً ،نتيجة خياالت وت صوّ رات شخ صيّة ،أو أنّ له من شأ ً واقعي ّا ً وحقيقي ّاً ،و ھو غ ير
بشريّ في الوقت ذاته.
واإلحتما ُل األوّ ل باطِ لٌ ،إذ مھما بلغت إبداعات الشخص من الكمال ف سيبقى للن قص في ھا ن صيبٌ ك بيرٌ ،و ھذا الن قصُ غ ي ُر
موجو ٍد في تعاليم األنبياء عليھم السالم.
222
منزھون عن الكذب والحي لة، مع اإلشارة إلى أنَّ ھؤالء األنبياء عليھم السالم لمّا كانوا يؤمنون بعمق تديّنھم ،وقد ثبت أ ّنھم ّ
فيكون ك ّل ما قالوه صدقاً ،ومنه أنَّ ھذه التعاليم ليست من عند أنفسھم ،وال من تداعيات ع قولھم ،بل إ ّن ھم أ خذوھا من إ له
مفترض.
ث ّم أشار صاحب النظرية 8إلى أنّ نھج األنبياء عليھم السالم نھج داخليّ ،فھم يستمدّون اإللھام من داخل ھم ،تما ما ً ك ما يتأث ّر
الف ّنانون بداخلھم.
وھذا الوجه المشترك يع ّد عند ھذه الحدود صحيحا ً إلى ح ٍّد ما.
مع فارق وھو أنّ الف ّنانين ال يخرجون أبداً من أطرھم النف سيّة ،وأم ّا األنب ياء علي ھم ال سالم ف قد فت حوا نا فذ ًة صوب الع قل،
وبإ ّتجاه الخارج وتربية المجتمع.
وھنا نسأل :ما ھو الدليل على أنّ ما يدخل في عداد إل ھام األنب ياء علي ھم ال سالم ،ا لذي ھو إل ھام داخ ليّ أي ضاً ،ھو إل ھا ٌم
إلھيّ ؟
إذاً ،إن كل ما ذكر من الشواھد والقرائن على صحّة طر يق البر ھان اإلن ّ يّ )طر يق اال ستدالل بالمعلول ع لى العل ّة( غ ير
تا ٍّم .ن عم ھو ي صلح في م قام اإلف حام بن سبة ما ،وإنْ كان الطر يق في حد ذا ته أسا س ّيا ً في ب حث إث بات الن بوّ ة ،9و سيأتي
التعرض له في بحث المعجزة ،الذي ھو استدالل باإلنّ على الن بوّ ة ،بح يث لو أھمل نا اآل ثار وا لدالئل ا لتي ذكر ھا األنب ياء
عليھم السالم فلن نستطيع إثبات النبوّ ة.
223
شبھات وحلول
بعد أن إتضحت الحاجة إلى النبوّ ة ،قد تخطر على البال بعض األ سئلة ا لتي ال بد ل ھا من إجا بة مقن عة ،و بذلك ي تم الب حث
عن ضرورة النبوّ ة ،وعن المناھج المذكورة في إثباتھا.
قد يُقال :لماذا ُخلق اإلنسان على ھذه الشاكلة؟ ولماذا لم يُخلَق على بنية أخرى؟ لماذا لم توھب النبوّ ة للجميع؟
نظام مح َّدد ال يتخلَّف ،وال يمكن تغييره .ونحن عندما نقول بحاجة البشر إلى النبوّ ة فليس معناه أنَّ ٍ فالخلقة تتحرّ ك في إطار
ﷲ مكلَّفٌ ،وأنَّ من الواجب عليه أن يخلق األنبياء لكي يتدارك ھذا النقص في نظام الخلقة ،بل إنَّ مشروع الخل قة م شروع
متكامِل يحت ّل فيه ك ّل شيء مكانه ،فإذا ما كان ث َ ّم حا جة في ن ظام الخل قة ،و كان ھ ناك إ ستعدا ٌد وإم كان لتل ّقي ھا ،فسيح صل
الفيض قطعاً ،ألنّ فيض ﷲ مط َل ٌق.
ومن ھنا ال معنى للقول :لماذا لم يكن ك ّل أفراد البشر على ھذه الشاكلة؟ ألنَّ للخلقة نظا ما ً م ّت سقا ً ومن سجماً ،يح ت ّل ف يه كل
موجود مكانه الطبيعي الذي لو حاد عنه الختل النظام ،وليس بم قدور أيّ مو جو ٍد أن يوجَ د إالّ في إ طار مرتب ته الوجودي ّة
الموجود فيھا فعالً.
مثال العدد
224
لماذا ال يمكن أن نفترض اإلنسان موجوداً في مرتبة موجو ٍد آخر ،ولماذا لم يَصِ ر اإلنسان فرسا ً والفرس إنساناً ،ولماذا لم
جھل؟
ٍ يصبح أبو جھل نب ّيا ً والنبيّ أبا
ً
أربعة؟ ً
خمسة ،والخمسة فھل يتساءل أح ٌد :لماذا لم تصبح األربعة
ً
أربعة أل َّن ھا مو جودةٌ أسا سا ً في الم كان ا لذي ھي مو جودةٌ ف يه اآلن ،ف لو نقلنا ھا إ لى م كان كال ،ألنَّ األربعة إ َّنما صارت
أربعة ،وھكذا بقيّة األعداد.ً ً
سبعة ،ولن تبقى السبعة فستصير
ﷲ يصطفي رسال
وبشكل عشوائيّ ؟
ٍ صيّة تميّزه عن غيره أم يأتي اإلختيار جزافاً،
وقد يعترض بأنه ھل لمن يختاره ﷲ للنبوّ ة خا ّ
الجواب :كال ،ال ي ت ّم إخت يار ال نبي من دون ضابطة .وإ ستعداد وقابل ية ال شخص ل ھا د خ ٌل في ھذا اإلخت يار ،و قد صرّ ح
سالَ َت ُه.﴾11 ُم ﴾ ،واآلية األصرح في ذلك﴿ :ﷲ أَعْ لَ ُ القرآن الكريم بھذا العنصر﴿:إِنﱠ ﷲ ا ْ
10
َل ِر َ
جع ُ
ث َي ْ
ح ْي ُ
م َ صطَفَا ُه عَ لَ ْيك ْ
إذاً ،ليس لجميع األفراد أھليّة النبوّ ة ،وإ َّنما يستند اإلختيار إلى إستعداد خاصّ .
225
َل ِرس َ الَ َت ُه ،﴾12فإذا كان اإل صطفاء للر سالة له
جع ُ
ث يَ ْ
ح ْي ُ إنّ لذلك عالقة بالعنصر ذاته الذي تشير إليه اآل ية﴿ :ﷲ أَعْ لَ ُ
م َ
صلة باإل ستعدادات الخاص ّة ا لتي ين طوي علي ھا األ فراد ،ف من الثا بت أنّ لجغراف ية األرض تأثيرات ھا المتنوّ عة في ترب ية
اإلستعدادات.
مث ـالً يقولــون عــن أرض الشــرق :إ َّنھــا أرض العرفــان واإلشــراق ،وعليــه فليــس جزاف ـا ً أن يميــل الغرب ّيــون -مث ـالً -إلــى
المحسوسات أكثر ،في حين يميل الشرقيّون إلى ما وراء الحسّ أكثر.
كما ومن الثابت أنّ للمحيط الجغرافيّ ،والظروف المناخيّة ،وحرارة الشمس ،تأثيراً مفيداً في نموّ ج سم اإلن سان ،وللو ضع
صا ً.
الجسميّ تأثيره في تربية الروح وإعدادھا إعداداً خا ّ
عام- وع لى ضوء ھذا ل يس ھ ناك ما يم نع أن ي كون لب عض األ قاليم ا ستعداد أ كبر لتنم ية األ فراد ا لذين يح ظون -ب ٍ
شكل ٍ
بقابليّات على اإلشراق واإللھام.
إن لم يمكن تاريخ ّيا ً إثبات أنّ األنبياء عليھم السالم كانوا منتشرين في جميع األصقاع ،إال أن ا لدليل ال تاريخيّ لم يُث بت ل نا
خلوّ بعض األصقاع واألقاليم من األنبياء عليھم السالم تماما ً .وبعبارة أخرى ،إن لم يكن ھناك دليل ع لى اإلث بات فال دل يل
أيضا ً على النفي.
والمنطق القرآنيّ في ھذه المسألة ھو أنَّ ﷲ تعالى بعث لك ِّل أ ّم ٍة نذيراً ،قال
226
ِن ُأ ﱠم ٍة إِال ﱠ خال َ فِي َھا نَذِي ٌر ،﴾13وھذا يعني و جود الن بوّ ات في ك ّل األ مم واأل قوام .و ھذا المن ُ
طق ھو المر جع تعالىَ ﴿ :
وإِنْ م ْ
واألصل لنا مع فقد الدليل التاريخيّ على اإلثبات والنفي.
227
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
النبوة:
ّ ُذكرت ثالثة مناھج في إثبات
-1المنھج الكالمي :الذي ينكر قانون العلية ألنه يؤدي إلى تحديد ﷲ سبحانه ،ويؤمن بالحك مة اإللھ ية وأن ﷲ ال يف عل إال
الحسن وطبق المصلحة.
-2المنھج الفلسفي :الذي يرى أنّ ك ّل معدوم في العالم تعود علّة عدم وجوده إلى عدم اإلمكان وعدم قابليّته للو جود ،وأنّ
ك ّل ما له إمكان وقابليّة للوجود فال ُب ّد أن َ
يوجد.
ُّ
ك في وجودھا وتحققھا ،وعندما نبحث عن م صدر ً
-3المنھج اإلني :يرى صاحب ھذا المنھج أن في الخارج أمورا ال نش ّ
ھذه األمور نجد أ َّنه ال يمكن أن يكون ما ّد ّيا ً وعاد ّياً ،إذ لھذه األمور من الخصائص ما يوجب أن يكون مصدرھا إلھ ّيا ً.
وفي مسألة النبوّ ة نرى لألنبياء عليھم السالم آثاراً ال يم كن أن ت ّت سق مع التعل يم واإلكت ساب من المعل ِّم ،والمح يط الداخ ليّ
نحو من التل ّقي واإللھام.
والخارجيّ ،وبالتالي ال ُب ّد وأن نذعن بوجود ٍ
والحق ھو أن كل ما ذكر من الشواھد والقرائن على صحّ ة طريق البرھان اإل ّنيّ غير تا ٍّم ،نعم ھو يصلح في م قام اإلف حام
بنسبة ما ،وإنْ كان الطريق في حد ذاته أسا س ّيا ً في ب حث إث بات الن بوّ ة ،14ا لذي ھو ا ستدالل باإلنّ ع لى الن بوّ ة ،بح يث لو
أھملنا اآلثار والدالئل التي ذكرھا األنبياء عليھم السالم فلن نستطيع إثبات النبوّ ة.
ْ◌
وما ذكر عن إختيار األنبياء عليھم السالم فإنه ال يت ّم من دون أي ضابطة ،بل لإلستعداد دخ ٌل في اإلختيار ،والقرآن الكريم
سالَ َته◌ُ ﴾.
َل ِر َ
ث يَجع ُ
ح ْي ُ يُبرز ھذا العنصر ،في قوله﴿ :ﷲ أَعْ لَ ُ
م َ
وال دليل من التاريخ على أنّ األنبياء عليھم السالم كانوا في جميع األصقاع ،كما ال دليل ع لى أنّ ب عض األ صقاع قد خال
منھم.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ھل اإلنسانية بحاجة إلى العملية التوسطية بين ﷲ والبشر؟
-2ما ھي الحاجة الدنيوية واإلجتماعية للرسالة؟
-3ھل يمكن لإلنسان أن يستغني بنور العقل عن النبوّ ة؟
-4ما ھي المناھج المذكورة في إثبات النبوّ ة؟
-5لماذا لم توھب النبوّ ة للجميع ،وكان ھناك إصطفاء لألنبياء؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1الحديد .25 /
-2المعروف نسبة ھذا القول إلى جھم بن صفوان ،واألشاعرة ،والنجاريّة -راجع ارشاد الطالبين -المقداد السيوري -ص) 263منشورات المرع شي ،قم( راجـع الملـل
والنحل للسبحاني ،ج -2ص.113
مي ينطلق من ﷲ وصفاته إلى ضرورة
ّ ل برھان وھذا ،ً اّ يطبيع ً ا قانون بل ،ً اقانون ذاتھا في د ع
ُ ّ ت التي الحاجة، مقولة طرح خالل من عنه رنا -3وھو المنھج الذي نتبنّاه ،وعبﱠ
وجود النبوّة ،أي من العلة إلى المعلول.
-4األنعام .91 /
-5وھي نظرية المھندس بازركان ،ذكرھا في كتابه )الطريق المطوي(.
-6النحل .68 /
ي".
دِمات في كتا َب ْيه" :درس التديﱡن" و"الطريق المطو ّ
-7ذكر المھندس بازركان ھذه المق ّ
ي". -8في كتابه "الطريق المطو ّ
ي من خالل اآلية والمعجزة.
-9إذ إن أصل ھذا الطريق وكليّه صحيح ،وسوف يذكر تحت عنوان اآليات والبيّنات ،ونثبت النبوّة بالطريق اإلن ّ
-10البقرة .247 /
-11األنعام .124 /
-12األنعام .124 /
-13فاطر .24 /
-14إذ إن أصل ھذا الطريق وكليّه صحيح ،وسوف يذكر تحت عنوان اآليات والبينات ،ونثبت النبوّة بالطريق اإلني من خالل اآلية والمعجزة.
اﻟﺪرس اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﺸﺮ :اﻟﻮﺣﻲ
أھداف الدرس
229
تمھيد:
بعد أن اتضحت ضرورة الحاجة إلى وجود األنبياء ،و ضرورة اإلت صال بأح كام ال سماء وتعاليم ھا ،يأتي دور الب حث عن
الوحي ،فإن األنبياء قد استعملوا إصطالح الوحي وقالوا إنه يوحى إليھم من ق بل ﷲ سبحانه ،وإن ھم ع لى إت صال با إ ما
مباشرة أو عبر اإلتصال بالمالك الذي يشكل واسطة في تلق ّي الو حي ،ف ما ھو الو حي؟ وك يف ت ت ّم ھذه العمل ية؟ و ما ھو
الدليل على صحة ھذا المدّعى ؟ 1ھذه أ سئلة تع تبر مف تاح وأ ساس الب حث عن م سألة الو حي ،مع اإل شارة في مقد مة ھذا
البحث إلى أنه ال أحد يدعي بأنه يستطيع أن يشرح ويبيّن حقيقة ھذه العملية وكنھ ھا مع كل ما ل ھذه الكل مة من خ صائص
وميزات ،وذلك ألنھا نحو عالقة وإرتباط خاص بين إنسان خاص مع ﷲ ،وليست من نوع اإلرتباطات بين الب شر أنف سھم،
أو بين البشر وسائر الموجودات .والذي بمقدوره أن يوضح ھذه العالقة وھذا النحو من االرتباط ھم األنب ياء علي ھم ال سالم
أنفسھم ،ألنھم أصحاب العالقة ال غير.
231
لكن مع ذلك يمكن البحث عن الوحي ويمكن نفي بعض األمور من خالل ح كم الع قل أو من خالل ال قرائن ،أو من خالل
اآليات القرآنية وما ذكره لنا األنبياء عليھم السالم أنفسھم.
ما ھو الوحي؟
يعرّ ف الوحي ً
لغة بأ ّنه "إلقاء علم )باعالم( في إخفاء أو غيره إلى غيرك" ،2وك ّل ما ي ّتسم بالغموض والخفاء على اآلخرين
يُسمّى وحيا ً بحسب العرف ،فمن الوحي أن يتح ّدث شخصٌ إلى آخر ويناجيه سرّ اً ،أو يتح ّدث إليه باإليماء واإلشارة.
ولكنّ المعنى اللغويّ والعرفيّ يحمل في طياته عاد ًة مفھوما ً أع ّم وأوسع من المعنى المصطلح الذي إستعمله األنب ياء علي ھم
معاني وحقائق أخرى ،والھدف ھو الب حثَ السالم ،فھو وإن كان قريبا ً من المعنى اللغوي من حيث المفھوم ،إال أ ّنه يختزن
عن المعنى المصطلح محاولين رسم صورة عنه ،لنرى دائرته ،وخصائصه ،وتفسيره.
وقد طرحت ثالث نظريّات لتفسير ھذه الظاھرة ،سنعرضھا ث ّم نرى أيّ النظري ّات ھي ا لتي تتنا سب مع ما ذ كره ال قرآن
من موارد الوحي ،وتنسجم مع الخصائص التي وردت على لسان أولياء الوحي من األنبياء عليھم السالم.
يتصوّ ر عوا ّم الناس أنّ ﷲ قد إستقرّ في نقطة مرتفعة بعيدة جداً من ال سماء ،بين ما ال نبي يع يش ع لى األرض ،وعل يه فإنّ
ھناك فاصلة شاسعة بين ﷲ والرسول.وبما أنّ النبيّ بشر ال يمكنه أن يحلّق في السماء لتل ّقي التعاليم اإللھيّة،
232
فال ب ّد من موجود آخر يتم ّكن من قطع ھذه المسافة الشاسعة ،يھبط إلى األرض ويت ح ّدث إ لى ال نبيّ ،وي كون حل قة الو صل
بينه وبين ﷲ.
وال ب ّد أن يتم ّتع ھذا الموجود بصفات تنسجم مع طبيعة مھمّته ،فيتصورون أ نه لق طع الم سافة ال مذكورة ال ب ّد أن ي كون له
أجنحة يطير بھا وينقل تعاليم السماء ويبلغھا ال نبيّ ويت حدّث م عه ،وال ب ّد أن ي كون ع لى قدر من الع قل واإلدراك وال قدرة
طائر ،ومن الجھة الثانية له بعد إنسانيّ .3
ٍ على النطق ،فھو من الجھة األولى له بُع ُد
في النتيجة يكون الوحي وفق ھذه النظريّة عبارة عن كالم من ﷲ يتل ّقاه النبيّ كما يتلق ّى كالم نا ،ول كن من خالل وا سطة،
ھو ذلك الملَك العاقل الطائر.
وفي الواقع ال تتعدّى ھذه النظريّة كونھا تصوّ راً يخطر على بال عوا ّم الناس ،فھي ال تعتمد على أيّ دليل أو تفسير علميّ ،
وإ ّنما ھي محض تبادر ذھنيّ ساذج ،كان ح صيلة ب عض الم فردات المرتب طة با و بالوحي ،وا لتي تو حي للوھ لة األو لى
بھكذا خطرات .فھي ال تنسجم أبداً مع موارد الوحي التي ذكرھا القرآن ،وال مع المعطيات التي ق ّدمھااألنبياء عليھم ال سالم
تستحق التو ّقف عندھا ،وإ ّن ما ال جدير ب نا تنب يه ال عوا ّم ع لى ب عض أخ طائھم في ت صوّ ر الح قائق المرتب طة بعا لم
ّ ،4ولذا ال
الغيب.
وتقوم ھذه النظرية على تب ّني نمط خاصّ من التفسير ،يقوم على تأويل ك ّل ما جاء ب شأن عال قة ال نبيّ با ،فتعتبر ھا من
األمور العاديّة الجارية بين أفراد البشر ،5غاية ما ھناك أنھا أمور خاصة بالنوابغ واإلستثنائيين من البشر،
233
فترى أن ك ّل ما ورد بالنسبة للوحي ونزول المالئكة ،نوع من التعبيرات المجازيّة ،حيث ال يمكن التحدث مع عوام ال ناس
إال بھذه اللغة.
وفحوى ھذه النظريّة أنّ النبيّ نابغة إجتماعيّ محبّ للخير ،تأمّل في ما آلت إليه أوضاع المجتمع ،ور صد ما يح يط ال ناس
بوغ إ لى تغ يير أو ضاعھم ،م ستلھما ً من داخ له ،من رو حه ونف سه،
من أوجاع وضروب الفساد ،ث ّم سعى بما آتاه ﷲ من ن ٍ
أفكاراً ترسم طريقا ً صحيحا ً يح ّل المشكالت ،ث ّم قام ّ
ببث ھذه األفكار بين الناس.
في المقابل يرفض أصحاب ھذه النظري ّة اإلذ عان إ لى و جود حقي ق ٍة وراء ف كر اإلن سان ورو حه وعق له بح يث يرتبط ب ھا
باطن النبيّ ،ويتن ّكرون لإليمان بأيّ بُعد غير عاديّ في مسألة النبوّ ة والوحي.
فمثالً "الروح األمين وروح القدس" ليس شيئا ً غير روح النبيّ ،فمعنى أن يأتي ا لروح األم ين باألف كار وت عاليم ا لدين ،ھو
نفس إنبثاق ھذه األفكار من أعماق روح النبي النابغة.
وأما المالئكة ف ھي ع ندھم ع بارة عن قوى الطبي عة ذات ھا ،ول ما كان ﷲ ي ستخدم ال قوى الطبيعي ّة ف ستكون المالئ كة ت حت
إختياره.
وأ ما "ا لدين" ف ھو ع ندھم ال يت عدّى كو نه مجمو عة ال قوانين ا لتي و ضعھا الناب غة ،و ھي قوانين صالحة ومف يدة ل سعادة
المجتمع ،وھذا ما ينشده الناس ،ولذلك يمكننا أن نعتبر ھذا الدين من عند ﷲ.
234
ولكنّ ھذه النظريّة ال تتناسب مع ما ورد من إستعمال القرآن للوحي في مختلف الموجودات ،ولذا فھي عاجزة عن تف سير
ذلك ،كما أ ّنھا ُتعبّر عن تفسير بعيد عن الوقائع التي طرحھا األنبياء بالنسبة لخصائص الو حي المُل قى إلي ھم ،كو جود حا لة
التعليم واألخذ من مصدر خارج ذواتھم ،وشعورھم بمصدر الوحي العلويّ ،وإدراكھم للواسطة فيه...
فھي إذاً تتجاوز ك ثيراً من الم فاھيم والح قائق الديني ّة ا لتي أ تى ب ھا األنب ياء علي ھم ال سالم أنف سھم ،وت حاول تب سيط األ مور
وجعلھا أموراً عاديّة ،من خالل اللجوء إلى التأويل ،فيما نعتقد أنّ ھكذا مسائل ُتع ّد مسائل عمي قة ومھم ّة ،ف ھي جديرة بأن
يتأمّل فيھا اإلنسان أكثر ،ويدخل إلى أعماق نفسه ويُراقب العوالم المحيطة به ،ليقوم بتفسير الوحي تفسيراً صحيحا ً.
وھي أھم نظريّة في ھذا المجال ،فإ ّنھا تفسّر موارد إستعمال القرآن ،وتجمع جم يع الخ صائص ا لتي ذكر ھا األنب ياء علي ھم
السالم في وحي النبوّ ة ،وتبتنى على رؤية معمّقة في معرفة اإلنسان والعوالم المحيطة به ،والتي بيّنت عدّة حقائق وأُسس:
-1عالم الطبيعة ،وھو عالم المادّة والجسميّة والتغيّر ،وھو ھذا العالم الذي نعيش فيه.
-2عالم ما وراء الطبيعة ،أو ما يُسمّى بعالم الغيب أو الملكوت ،وھو عالم القوى الروحي ّة ،ا لتي ُتع تبر قوى م ستقلّة ب ح ّد
ذاتھا.
فما حولنا يقع تحت تأثير مجموعتين من القوى :القوى الماديّة للعالم ،والقوى
235
الروحيّة ،وتوجد األولى في العالم الماديّ الطبيعي ،واألخرى في عالم ما وراء الطبيعة.
يمثل عالم الغيب والملكوت عالم القدرة ،ألن له الھيمنة والسيطرة الحقيقيّة ،وبالتالي تكون له فوقي ّة واقعي ّة من جھة أخرى ّ
على عالم الطبيعة الذي ال يُع ّد أكثر من رشح وفيض لذلك العالم ،أو ظ ّل ومعلول له .وقد صرّ ح القرآن الكريم بأنّ ك ّل ما
خ َزائِ ُن ُه َو َما ُن َن ِزّل ُُه إِال ﱠ بِ َق َد ٍر ﱠم ْعلُو ٍم ،﴾6و ھذا
ي ٍء إِال ﱠ عِن َدنَا َ
ش ْ
مِن َ
وإِن ّ ھو موجود في ھذه الدنيا إ ّنما ي ّ
ُنزل من ذلك ال عالمَ ﴿ :
معنى السيطرة والھيمنة والفوقيّة.
ث ّم ينطلق أصحاب ھذه النظريّة إلى التأمّل في نفس اإلنسان ،فيتح ّقق لديھم أنّ وجوده ال يقتصر على بدنه الماديّ ،وإ ّنما له
إستعدادات روحيّة ذات وجھين:
األول :وج ٌه طبيعيّ ،يسمح له بالتواصل واإلرتباط مع الطبيعة عن طريق الحواسّ ،فيتل ّقى العلوم الطبيعيّة ،ح يث ي ستجمع
ّ
ُسب ُغ الكل ّي َة والتعميم والتجريد على تلك المعلومات.
ما يأخذه من خالل حواسّه -في خزانة الخيال والذاكرة ،ث ّم ي ِ
ال ثاني :و ج ٌه تت سانخ ف يه ا لروح مع عالم ما وراء الطبي عة -أي عالم ال قوى الروحي ّة ،ح يث يتم كن ،ب قواه وإ ستعداداته
ّ
المؤثرة في عالم الطبيعة. علوم ذلك العالم ،فيغرف من حقائقه الروحيّة -من إكتساب
ِ
إذاً ،لجم يع أ فراد الب شر ،باإل ضافة إ لى الع قل وال حسّ ال عاديين ،إدراك و شعور باطنيّ ،ي سمح باإلرت باط ب عالم ما وراء
الطبيعة ينھلون منه علوما ً وحقائق ترتبط
236
بعالمنا ،وھذا ما نسمّيه بالوحي .غاية األمر أنّ ھذا الشعور واإلستعداد الباطنيّ يتفاوت بين األفراد تفاوتا ً كبيراً ،فھو نور
في أقوى مراتبه عند األنبياء ،يؤھّلھم لإلرتباط الحقيقيّ الواقعيّ مع عالم الغيب فيطرقون مختلف أبوا به ،في ما ي ضعف في
بقيّة أنواع البشر ليكون شعاعا ً خافتا ً وومضة طفيفة من عين ذلك النور.
وأدنى تجلّيات حا لة اإل ّت صال ب عالم ما وراء الطبي عة يتمث ّ ل في ا لرؤى واأل حالم ال صادقة ،ف قد نص ّت الروا يات ع لى أنّ
الرؤيا الصادقة ھي جزء من سبعين جزءاً من النبوّ ة.
كذلك تع ّد اإللھامات التي تحصل لبعض الناس ضربا ً من ضروب اإل ّتصال بذلك العالم ،ولك ّنه في مرتبة متدنيّة منه ،ح يث
ال يشعر المُل َھم بعلّة اإللھام وال بمصدره ،كما ربما يختلط بغيره.
إنّ من يراج ِع كل مات قدامى الفال سفة ع ند حديثھم عن الن فس ،ي جد أ ّن ھم آم نوا بو جود ھذه ال قدرة الروحي ّة واإل ستعداد
الباطنيّ فيھا ،واستدلّوا عليه.
كذلك فإنّ عدداً كبيراً من كبار عل ماء الن فس أي ّدوا ھذا الم عنى ،ك" -ول يام جي مس" ،ا لذي أر سى ع لم الن فس ع لى أ ساس
التجربة ،حيث توصّل إلى أنّ لدى اإلن سان حس ّ ا ً باطني ّا ً ي ستطيع من خال له أن يتوا صل مع أرواح وأ ماكن أ خرى ،ف كأنّ
ھناك آباراً محفورة في الباطن م ّتصلة في ما بينھا ،وإن بدت في ظاھرھا منفصلة ومستقلّة عن بع ضھا الب عض ،لذا يعت قد
"جيمس" بأنّ ھناك طريقا ً باطن ّيا ً يم ّكن الروح من االتصال بعالم األرواح األخرى.7
237
وھو األساس الثالث التي تقوم عل يه ھذه النظري ّة ،و ھو إث بات أنّ ن فس اإلن سان ورو حه ،ع ندما تر يد أن ت ط ّل ع لى عا لم
الغيب ،فإ ّنھا ترتقي من مرت بة الطبي عة ن حو األع لى إ لى أن ت صل إ لى عا َلم ما وراء الطبي عة ،ع لى أ ّن ھا تكت سب في ك ّل
مرتبة تصل إليھا شكالً ووضعا ً خا ّ
صا ً يتناسب مع طبيعة المرتبة.
وتوضيح ذلك:
المدركة تتناسب مع ظرف ووعاء وجودھا ،فكما أنّ األ مر ال خارجيّ في الطبي عة له ن حو من الو جود ال ماديّ َ إنّ الحقائق
ً
ُدرك بحواسّ اإلنسان ي ّتخذ شكال آ خر -صورة ح سيّة -يتنا سب مع اإلدراك الحس ّي ،فإذا انت قل إ لى والجسميّ ،ث ّم عندما ي َ
ً ً
عالم الخيال إ ّتخذ وضعا جديدا ،قبل أن يقوم العقل في مرتبته بتجريده وتعميمه بما يتنا سب ومرت بة الع قل ،كذلك المو جود
تنزل إلى مرتبة الحسّ والمادّة ،فإ ّنه ال ب ّد أن ي ّتخذ الشكل المناسب لھذا العالم.
في عالم ما وراء الطبيعة والمادّة ،إذا ما ّ
الوحي ،النزول ،ال َملك:
عالم من
ٍ إذاً تقوم ھذه النظريّة ع لى أن ّ ه يو جد في ك ّل إن سان ،و بدرجات متفاو تة ،ا ستعدا ٌد رو حيّ باطنيّ لإلط ّ الع ع لى
القوى الروحيّة ،وھو عالم وراء عالمنا ،مھيمنٌ ومسيط ٌر عليه ،كما تبيّن في األساسين األوّ ل والثاني ،ول يس الو حي سوى
نافذ ٍة تنفتح لإلنسان -الذي يملك ھذا الحسّ واإلستعداد -على
238
فالوحي ،حالة من اإل ّتصال الباطنيّ مع عالم الغيب ،و ھو ال يت فاوت أسا سا ً مع بق ية ا لرؤى واإللھا مات -ا لتي ت طرأ ع لى
البشر -من حيث الحقيقة والماھيّة ،وإ ّنما يتفاوت من حيث الدرجة والمرتبة ،فتختلف حالة الوحي بإختالف الوعاء الباط نيّ
المتل ّقي له ،وھي موجودة بأقوى مراتبھا في وحي النبوّ ة.
وھذا يفسّر ما ورد في آيات القرآن من أنّ حالة الوحي ليست مختصّة باألنبياء بل ت ع ّم جم يع المو جودات ،غا ية األ مر أنّ
النبيّ يمتلك االستعداد بدرجته العليا ،بحيث يستطيع عقد إرتباطٍ حقي قيٍّ وواق عيٍّ مع ذ لك ال عالم المھي من ،فيتمك ّ ن من أ خذ
الحقائق وتعاليم الدين منه ،وھو في تمام إدراكه وشعوره.
تتنزل حقائق ذلك العالم ،التي كانت واقعا ً م جرّ داً ال ي ُدرك إال بالقوّ ة الباطني ّة المتنا سبة مع ظرف وجود ھا ،ت ّ
تنزل بعدھا ّ
مر مح سوس ،ك ما
أمر حسيّ مب صر أو م سموع ،فيراه ال نبيّ كوا قع مجس ّد في أ ٍ إلى عالم المادّة والطبيعة لتظھر بصورة ٍ
ذكر في األساس الثالث ،وھذا ما يعبّر عنه بنزول الوحي.
والنزول ھنا ھو نزول واقعيّ ،ألنّ ما يأتي من حقائق في عمليّة الوحي ،إ ّنما يأتي من عالم له فوقيّة حقيقيّة وھيمنة واقعي ّة
على عالمنا ،ولذا ص ّح أن نقول عنه بأ ّنه نزول ،غايته أ ّنه نزول معنويّ وليس نزوالً مكاني ًّا◌.8
وأمّا الم َلك ،فھو الحقيقة التي يلمسھا النبيُّ .ويتناسب وضع الملَك مع ال عا َلم ا لذي يتمث ّ ل ف يه ،فلجبرائ يل ،ا لذي ھو ا لروح
تنزل إلى عالم الطبيعة فإ ّنه ّ
يتمثل األمين وروح القدس ،شكل ووضع خاصّ في ذلك العالم ،وإذا ما ّ
239
في صورة إنسان ضمن نقطة محدّدة ،لذا كان النبيّ تارة يرى جبرائ يل ع لى صورته الحقيقي ّة الواقعي ّة ،ح يث كان يراه
ّ
متمثالً بصورة إنسان. بباطنه وقد مأل األفق أمامه ،وأخرى يراه
ويمكن بنا ًء على ھذه النظريّة أن نفھم معنى الوحي المل قى ع لى مخت لف الكائ نات ،ك ما ورد في ال قرآن ،ف ما ھو إال حا لة
خاصّة من الھداية الموجودة في األ شياء ،و ضرب من اإلل ھام وال نور المع نويّ ا لذي يم كن أن ُي صاحب المو جودات و لو
بدرجات متفاوتة ،وما ھذه الھداية واإللھام إال نوع ارتباطٍ بعالم الغيب.
كما أنّ ھذه النظريّة تتطابق مع ما ذكره األنبياء من خصائص لوحي النبوّ ة ،فمن جھة يعبّر الوحي عن حا لة داخلي ّة و قوّ ة
باطنيّة خفيّة وال يت ّم عن طريق الحواسّ العاديّة ،كما أنّ عنصر التعليم ّ
يتمثل بالح قائق ا لتي يُقارب ھا ال نبيّ في ذ لك ال عالم،
فاإل ّتصال والتماسّ الواقعيّ مع حقائق العالم اآلخر الذي ھو عبارة عن مصدر خارجيّ يتل ّقى منه النبيّ ،والنبيّ -و فق ھذه
النظريّة -بما يتم ّتع به من إ ستعداد في أع لى مرات به ،ي شعر تما ما ً بالم صدر ا لذي يتلق ّى م نه ،وإذا ت ّم الو حي عن طر يق
واسطة تجسّمت بما يتوافق وعالم الطبيعة ،فيدركھا النبيّ تمام اإلدراك.
النبوة:
ّ إثبات دعوى وحي
إذا ت ّم التفسير المعقول لحالة الوحي ،وتبيّن أ ّنه حاصل وواقع بدرجات متفاوتة -وربما حصل معنا بعضھا -وأعلى درجا ته
ھي درجة وحي النبوّ ة التي يت ّم بواسطتھا نقل تعاليم الدين للناس ،يبقى البحث عن كيفية إمكان إثبات أنّ
240
ّ
مشخصات ال ب ّد أن يأتي بھا صاحب ھذا اإل ّدعاء .فقد صرّ ح القرآن بأنّ ال نبيّ ا لذي يُب عث ال ب ّد له من ففي الواقع ،ھناك
ّ ً
تمثل العالمة والقرينة على صدق دعواه .إذا ،تتوقف صحّ ة د عوى و حي الن بوّ ة ،ع لى إت يان مدّعيھا بمع جزة آيات وبيّنةّ ،
ّ
يتل ّقاھا من ذلك العالم ،تمثل اإلثبات على صحّ ة كالمه.
إستعماالت القرآن:
ورد الو حي ضمن آ يات ال قرآن في موارد مت عدّدة ،و لم يقت صر ع لى و حي الن بوّ ة ،و ھذا ي عني عدم إخت صاص الو حي
باألنبياء ،فالقرآن كما ذكر إلقاء الوحي إلى األنبياء ،فإ ّنه حدّثنا عن أشخاص أو حي إلي ھم مع أ ّن ھم لم يكو نوا في عدادھم،
وذلك من قبيل الوحي الذي تل ّقته أ ّم موسى عليه السالم ،كما ُتشير اآليات الكريمة﴿ :إذ أوحينا إلى أ ّمك ما يوحى.﴾9
ك
ھــر ِ ﴿يــا مــريم إ ّ
ن ﷲ اصــطفاك وط ّ واأل مر نف سه ت كرّ ر مع ال سيّدة مريم ،ا لتي ظ ھرت ل ھا المالئ كة وت حدّثت إلي ھا:
واصطفاك على نساء العالمين ،﴾10بل كان غذاؤھا يأتيھا من وراء حجب الغ يب ،مم ّا إ ستدعى إ ستغراب ال نبيّ زكري ّا
ن ﷲ يرزق مـن يشـاء بغ ير عليه السالم ،كما ينصّ القرآن الكريم﴿ :يا مريم أنّى لك ھذا؟ ،قالت :ھو من عند ﷲ ،إ ّ
حساب.﴾11
وقد أطلقت روايات أھل البيت عليھم السالم على الشخص الذي يوحى إليه ،من غير
241
فاإلمام عليه السالم يريد في ھذا النصّ أن ينبّه على حقيقة كا نت في ا لدھور الما ضية ،وستم ضي ّ
باطراد ،و ھي أن ّ ه ث مة
الحق ويتل ّقون اإللھام عنه.
ّ أشخاص من غير األنبياء ،قد ل ّقنوا أنفسھم ذكر ﷲ ،ممّا جعلھم يسمعون كالم
صا ً بنوع اإلنسان ،بل ھو واقع له و جوده في جم يع األ شياء ،حت ّى
بل الذي ي ّتضح من اآليات الكريمة أنّ الوحي ليس مخت ّ
في الحيوانات والجمادات:
فقد ورد في سورة النحل﴿ :وأوحى ربّك إلى النحل أن اتّخذي من الجبال بيوتاً ،ومن الشجر ،وم ّ
ما يعرشون.﴾14
242
ن ربّـك أو حى لھـا ،﴾15وأ خرى بالن سبة لل سماء﴿ : كما ورد ھذا المعنى تارة بالنسبة لألرض﴿ :يومئذ تُح ّ
دث أخبارھــا بـأ ّ
ل سماء أمرھا.﴾16 وأوحى في ك ّ
وخال صة ال قول :إنّ ال قرآن لم يع تبر الو حي أ مراً مختص ّ ا ً باألنب ياء و لم يح صره ب ھم ،بل إع تبره حا ً
لة ُت صاحب جم يع
الموجودات بال إستثناء.
وينبغي التنبيه إلى أنّ الوحي ،وإن كانت ماھيّته وحقيقته وا حدة ،إال أن ّ ه ي ّت خذ أ شكاالً وأنما طا ً مت ع ّددة ،متنا ً
سبة مع طبي عة
ك ّل واحد من الموجودات التي مرّ ذكرھا فلكل موجود وحي بحسبه.
والبحث المھ ّم ھو في خصوص الوحي المرتبط باألنبياء ،الذين يتل ّقون بواسطته تعاليم الدين من ﷲ.
نعم ربما نستعين بحاالت الوحي األخرى لنحاول مقاربة النظريّة الصحيحة في تفسيره.
243
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
-يُعرّ ف الوحي في اللغة على أ ّنه مطلق اإلشارة الخفيّة ،وھو معنى أع ّم من المعنى المصطلح عل يه في ال قرآن ،و ما ورد
على لسان األنبياء عليھم السالم.
-ال يعتبر القرآن مسألة الوحي مسألة خاصّة باألنبياء ،بل يجد الم تابع لآل يات القرآني ّة أنّ الو حي حا لة ت شمل غيرھم كأم
موسى وأم عيسى عليھما السالم وتع ّم جميع الموجودات أيضا ً.
-1النظر ّية العام ّية :السائدة بين عوا ّم الناس ،والتي تقوم على أساس تفسير وجود مسافة شاسعة بين ﷲ والنبيّ ،ل كون ﷲ
طائر وب ع ٌد عا قل ناطق ،يتول ّى عملي ّة ن قل الت عاليم إ لى
ٍ في السماء والنبيّ موجود على األرض ،فيُوسّط ﷲ مالكاً ،له بع ُد
النبيّ .
وھذا تصوّ ر ساذج ال يقوم على أيّ دليل أو برھان ،وينافي ما ذكره األنبياء عليھم السالم والقرآن الكريم.
-2النظر ّية التنويري ّ ة :و ھي تر جع م سألة الن بوّ ة والو حي إ لى األ مور العاد ية ا لتي ت جري ب ين ال ناس ،فت عد ال نبيّ ناب غة
يرغب في إصالح ما فسد من أمر المجتمع ،من خالل اإلعت ماد ع لى نبو غه الشخ صيّ ،و ما ت جود به نف سه ورو حه من
أفكار تغييريّة ،من غير أن يكون له إرتباط مع أيّ عالم آخر.
ث ّم تقوم ھذه النظريّة بتأويل جميع المفردات والحقائق التي وردت بشأن النبوّ ة والوحي وتحملھا على المعنى المجازيّ .
وھذه النظريّة بعيدة ك ّل البعد عن الحقائق والمعطيات التي أتى بھا األنبياء عليھم السالم ،وذكرھا القرآن الكريم.
-3نظر ّية حكماء اإلسالم :وھي أمتن النظريّات وأنسبھا ،وھي تبتنى على و جود عالم وراء عالم الطبي عة ،له خ صائص
تختلف عن خصائص عالمنا ،كما أن ّ ه م سيطر ومھي من عل يه ،وي ستطيع اإلن سان -و غيره من المو جودات -ب ما يم لك من
إستعداد باطنيّ ،بدرجات متفاوتة ،من اإل ّتصال بذلك العالم ،والحصول على حقائق واقعيّة مرتبطة بعالمنا .واألنبياء عليھم
ال سالم ھم األ شخاص ا لذين يمل كون أع لى در جات ذ لك اال ستعداد ،و لذلك فبإم كانھم ع قد إرت باط حقي قيّ مع ذ لك ال عالم،
فيغرفون من حقائقه ،وھم على تمام اإلدراك واإلحساس بھذه العمليّة ،وھذا ما يُسمّى بالوحي.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ھل ھناك عال ٌم وراء عالم المادّة والطبيعة؟
-2كيف يت ّم اإلرتباط بعالم الغيب؟
-3ما ھي النظريات المطروحة في تفسير ظاھرة الوحي؟
-4كيف تبيّن النظرية المنسجمة مع القرآن في تفسير الوحي؟
-5ھل الوحي واإلرتباط بعالم الغيب مخصوصٌ باألنبياء عليھم السالم ؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1والجواب على ھذا السؤال يرتبط ببحث المعجزة اآلتي.
-2معجم مقاييس اللغة البن فارس ،ج ،6ص ،92طبع إيران )مادة وحي(.
ي لباس!!
ن المالئكة كائنات مجرّدة ،فإنّھم صوّروھا من غير أن ترتدي أ ّ -3والناس حينما سمعوا أ ّ
-4كما سيأتي إن شاء ﷲ.
خاص.
ّ خون إنكار النبوّة ،وإنّما يحاولون تفسيرھا ضمن نمط
ن أصحاب ھذه النظريّة ال يتو ّ
-5مع أ ّ
-6الحجر.21/
ھري شيئاً منھا ،رواھا عن ثُقات ،في كتاب النبوّة. ّ مط الشھيد أورد وقد المجال، ھذا في نقل ت
ُ التي الكثيرة بالوقائع دةﱠ يمؤ الحقيقة -7وھذه
ل
ل{ :وھو القاھر فوق عباده})األنعام ،(18/وليس الوحي وحده ھو الذي ُعبّر عنه بأنّه ينزل من ذلك العـالم ،بـل كـ ّ عزّ وج ّ -8كالفوقيّة المعنويّة التي يذكرھا القرآن
ما في الدنيا على ھذا المنوال ،وذلك قوله تعالى{ :وإن من شيء إال عندنا خزائنه وما ننزّله إال بقدر معلوم})الحجر.(21/
-9طه.20/
-10آل عمران42/ـ .43
-11آل عمران.37/
دث .وقد كان أمير المؤمنين عليه الســالم يتلقّـى حقـائق مــن عـالم الغ يب
ي والمح ّ
جة /باب الفرق بين الرسول والنب ّ
-12الحظ أصول الكافي /المجل ّد األوّل /كتاب الح ّ
ي")نھج البالغة /الخطبة.(190 ي ،إنّك تسمع ما أسمع ،وترى ما أرى ،ولكنّك لست بنب ّ ي ،Pفقد قال له الرسول" :Pيا عل ّ بدون واسطة النب ّ
-13نھج البالغة /الخطبة.220
-14النحل.68/
-15الزلزلة4/ـ .5
-16فصّلت.12/
اﻟﺪرس اﻟﺴﺎدس ﻋﺸﺮ :اﻟﻤﻌﺠﺰة واﻟﻨﻈﺮﻳّﺎت اﻟﺘﻌﻠﻴﻠﻴّﺔ
أھداف الدرس
-1معرفة المعجزة.
-2فھم نظرية المنكرين للمعجزة.
-3القدرة على شرح نظرية التأويل في المعجزة واآليات المستفادة وردھا.
-4فھم النظرية القائلة بكون المعجزة فعل ﷲ.
-5فھم نظرية "للمعجزة سر".
247
تمھيد
النبوّ ة في القرآن قرينة المعجزة ،فليس من نبيّ دعا ال ناس إ لى ق بول دعو ته واإلي مان ب ھا إالّ وتواء مت دعو ته مع آ ي ٍة أو
بح َسب تعبير القرآن .وسيأتي بيان الفرق بين اآلية والبيِّنة من جھ ٍة ومصطلح المعجزة من جھ ٍة أخرى. بيِّنةٍَ ،
كما أن البحث عن المعجزة ينبغي تناوله من حيثيتين ،عامة وخاصة ،فأما العامة فھي البحث عن المعجزة بشكل عام ،من
حيث إمكانھا ووقوعھا ،وماھيتھا والھدف منھا ،وتفسيرھا ،وھذا ما سنتناوله في ھذا الب حث إن شاء ﷲ ،وأ ما الب حث عن
المعجزة من الناحية الخاصة ،فھي البحث عن معجزة كل نبي بالخصوص ،ولذا تع ّد معجزة القرآن ھي المع جزة الخا صة
بالنبي األكرم محمد صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،وھي ما سنتناوله في البحث القادم إن شاء ﷲ تعالى.
249
تعريف المعجزة
ير ْد في القرآن ،وإ ّنما ھو مصطلح إستخدمه المتكلّمون ،وأرادوا به ما ذكره القرآن بكلمة "آية"،
والحق أن لفظ المعجزة لم ِ
وھي العالمة التي تكون دليالً على صدق دعوى النبيّ .
ً
عالقة وإ ّتصاالً بالعالم اآلخر -عالم الغيب -والمعجزةُ ھي الدليل على صدقه في دعواه تلك .وقد عبّروا عن فالنبيّ يدّعي
اآلية بالمعجزة ألنّ من لوازم كون الشيء ً
آية أن يعجز بقيّة الناس عن اإلتيان بمثله .وقد تحدّى األنبياء عليھم السالم
أممھم أن يأتوا بمثل ما يأتون به فلم يستطيعوا ذلك ،فتكون المعجزة أو اآلية قد أبرزت عجزھم عن اإلتيان بمثلھا.
إبداعات الماھرين
مجال من المجاالت األدبيّة ،أو الصناعيّة ،أو العلميّة ،ويأتي بما ال يأتي به غيره،
ٍ ً
مرتبة ال يبلغھا غيرُه في أيّ إنّ َمنْ يبلغ
ِّ
وأمثل ُة ذلك كثيرةٌ ،ال يع ّد عمله ھذا معجز ًة من وجھة نظر المتكلمين وبالمعنى المصطلح عندھم ،وإن كانت تشمله الكلمة
بالمعنى اللغوي .ومن ھنا كان ال بد لألمر المعجز من تضمّن بُعد غيبي واعتباره أمراً غير بشري ،وخارجا ً عن قدرة
البشر ،وھذا ما يقصده المتكلمون من المعجزة.
250
جز ھو خار ٌج عن سنخ العمل البشريّ ،وفوق حدود فمن شروط كون الشيء معجز ًة أن يكون عمالً غير ِ
بشريٍّ .فالمع ِ
القدرة اإلنسانيّة ،وھذا ما نراه واضحا ً في معجزات األنبياء عليھم السالم السابقين على نبيّ اإلسالم محمّد صلى ﷲ عليه
بشكل مستقِ ٍّل .فمن طبيعة الماء أن يسيل ،فإيقاف الماء كالجدار
ٍ وآله وسلم .وسنتعرَّ ض لمعجزته صلى ﷲ عليه وآله وسلم
ح ّتى يمرّ موسى و َمنْ معه ليس عمالً بشر ّيا ً من الدرجة األولى ،بل ھو عمل خار ٌج عن قدرة وطاقة البشر ،وھكذا سائر
المعجزات.
ً
عالمة على وجود قدر ٍة ما وراء البشريّة في فالمعجزة ھي فع ٌل وأث ٌر يأتي به النبيّ للتحدّي ،أي إلثبات م ّدعاه ،ليكون
بشكل عام.
ٍ إيجاده ،تفوق حدود الطاقة اإلنسانيّة
ال شك وال ريب بأنّ اإليمان بالمعجزة من ضروريات الدين اإلسالمي ،وما ذكرته اآليات القرآنية في موضوع معجزات
األنبياء عليھم السالم ھو ممّا ال يمكن تأويله بأيّ وجه من الوجوه.
نعم قد يحصل نقاشٌ في بعض التفاصيل التي لم يذكرھا القرآن ،وإنْ ُذكرت في الروايات ،أو في بعض النقول التاريخيّة،
إالّ أنَّ ھذا ال يضرّ باإليمان بأصل المعجزة ،وأ َّنھا أم ٌر غي ُر عادِيٍّ ،وفوق مستوى البشر.2
بعد أن كانت ظاھرة المعجزة على يد األنبياء من الضروريات في الدين اإلسالمي ،وكان من المسلّم أمر وقوعھا
وحصولھا بنقل القرآن الكريم والروايات
251
ت:3
والمصادر التاريخية ،وقع الكالم في تفسير ھذه الظاھرة وبيانھا ،وقد ذكر في ھذا المجال أرب ُع نظريّا ٍ
-1المعجزة سح ٌر:
وھذه نظريّة المنكرين للمعجزة أساساً ،وھم ينكرون النبوّ ة بالضرورة ،فھي -أي المعجزة -عندھم إمّا كذب محضٌ ،أو
بشيء◌.4
ٍ شي ٌء من قبيل الممارسات السحريّة ،التي يتصوّ رھا الناس شيئا ً وھي ليست
بشكل طبيعِيٍّ
ٍ وقد َق ِبل أصحابُ ھذه النظريّة 5بالمعجزة ،إالّ أ ّنھم تأوّ لوھا ،وفسّروا جميع ما ذكره القرآن من معجزا ٍ
ت
وعاديٍّ .وھذا في الواقع ضرب من اإلنكار للمعجزة إال أنه إنكار بشكل مؤدب.
252
اإللھيّة ،وھذا
ِ آيات كثيرةٌ ،7والمعجزة بمعنى خرق العادة ھي تبديل للس ّنة
ٌ وتذكر بصراحة أنّ السنن اإللھيّة ال تتغيّر ،وھي
ال يكون أبداً بنصّ القرآن.
مساو ٌ
قة إلنكار ما ذكره القرآن الكريم حول المع ِجزات. ِ النظريّة
ِ َبيْد أنّ ھذه
وير ُد على الدليل األوّ ل ألصحابھا أنّ المفسِّرين فسَّروا ھذه اآليات بحيث ال تكون متناف ً
ِية مع المعجزات ،وذلك في ثالث ِ
نقاط:
النقطة الثانية :ما جاء في َط َلبات القوم ال يدخل في عِ داد المعجزة ،ألنّ بعضه َمحا ٌل أساساً ،كإحضار ﷲ والمالئكة،
ينبوع من
ٍ وبعضُه ال معنى له ،كرقِيّ النبيّ في السماء ،وبعضه يدخل في نطاق المصلحة والمقايضة ،كطلبھم تفجير
التعبيريْن.
َ األرض ،والدليل على منطقھم النفعِيّ قولھم" :لن نؤمن لك" ،ولم يقولوا" :لن نؤمن بك" ،وش ّتان بين
253
وأوردَ بعضھم 8على الدليل الثاني ألصحاب ھذه النظريّة أنَّ السنن في القرآن تختصّ بالمسائل التي ترتبط بتكليف العباد، َ
فس ّنة ﷲ في إنزال العقوبة بالمسيء وإثابة المحسِ ن لن تتغيَّر أبداً ،ويؤ ِّكد ھذا األمر السياق القرآنِيّ لآليات التي تحدَّثت عن
بح َسب منطق القرآن ،وأمّا قانون
موجز ٍة :قانون الثواب والعقاب ھو الذي ال يتغيّر َ َ اإللھيّة .وبعبار ٍة
ِ عدم تغيّر السنن
الخلقة ونظام التكوين فال دليل في القرآن على أ ّنه ال يتغيَّر.
وتعود جذورھا إلى علماء األشاعرة ،ويؤمن بھا أيضا ً بعض فضالئنا وأجالّئنا.9
ومفاد ھذه النظريّة أنّ المعجزة آية من ِق َبل ﷲ تظھر على يد النبيّ صاحب المعجزة .فما يقوم به النبيّ ليس فعله ،بل ھو
فعل ﷲ ،وھو ال يختلف عن ك ّل ما في الوجود ،إذ ھو من فعل ﷲ أيضاً ،وعليه فك ّل ما في الوجود ھو معجزةٌ ٌ
وآية ،
بيد أنّ ما يأتي به النبيّ ھو إلثبات صدقه ،وما ال يأتي به النبيّ ھو لإلشارة إلى قدرة الخالِق وحكمته.
وبما أنَّ المعجزة من فعل ﷲ فال يص ّح لنا أن نتساءل :ھل ھذا األمر محا ٌل أم غي ُر محال؟ ألنّ كون األمر محاالً أو َ
غير
ُلزمة بمشيئته وإرادته ٌ
محال مرتبط بمخالفته للقوانين التي وضعھا ﷲ تعالى ،وھذا القانون اكتسب صبغته القانو ِنيّة الم ِ
ٍ
تعالى ،ونحن محكومون لقانون ﷲ ،وعليه فاألمر مخالِفٌ لقانون العالم بالنسبة لنا نحن البشر ،أمّا بالنسبة فال شيء
عنده يُخالِف القانون ،إذ بيده
254
ومن ھنا ذھب أصحاب ھذه النظريّة إلى أ ّنه ال ينبغي البحث في المعجزة ،وال يص ّح الحديث عن سرّ المعجزة ،إذ ليس
ھناك سرٌّ في المعجزة أصالً ،بل ھي إرادة ﷲ.
نظام
ٍ فإنْ قيل :وماذا نفعل بالعلم ،والعلوم تشير إلى وجود س ّن ٍة في العالم تفيد أنّ ك ّل حادث ٍة تقع عقب حادث ٍة أخرى َ
بح َسب
معي ٍَّن؟
ب :إن العلوم ال تشير إلى أكثر من توالي القضايا ،وبعبار ٍة أخرى ھي تشير إلى وجود القوانين بالكيفِيّة التي ھي كان الجوا ِ
عليھا ،وال تكشف عن ضرورة ھذه القوانين ،وذلك بخِالف القوانين العقلِيّة الرياضِ يّة ،أو الفلسفِيّة .
11 10
ومعجزات األنبياء ھي على خِالف القوانين الطبيعيّة ،التي كشف اإلنسان عن وجودھا ،والتي قد ال تكون ضروري ًّة،
ُ
الضروريّة.
ِ وليست بخِالف القوانين العقلِيّة
وبعبار ٍة أخرى :القوانين الرياضيّة ،أو المنطقيّة ،أو الفلسفيّة ،تختلف عن القوانين العلميّة والطبيعيّة في أنّ األولى قوانين
يكشف الذھن عن ضرورتھا وحتميّتھا ،بينما ال يكشف ذھننا عن ضرورة وحتميّة القوانين العلميّة والطبيعيّة.
وعليه ،فإذا آم ّنا بوجود ﷲ القادر ،المتعال ،الفعّال لما يشاء ،فحينھا نقول :سيرافق مدّعي النبوّ ة والوحي فع ٌل ھو على
ً
عالمة ،فھو سبحانه خِالف الس ّنة المألوفة في العالم ،وقد فعل ﷲ ھذا خِالفا ً للس ّنة المألوفة لكي يكون ھذا الفعل
255
وت عالى ي قوم ف جأ ًة بتغ يير ت لك ال س ّنة وذ لك ال قانون ،ويخر جه عن نطا قه ال مألوف ،ليري نا عال ً
مة ع لى أنّ مدّعي الن بوّ ة
ٌ
مبعوث من عنده.
ولو قلنا بأنّ من الم حال و قوع ما ي خالف قانو نا ً مع َّي نا ً فمع ناه أنّ ﷲ مجب َ رٌ ،وبال تالي ن صير إ لى ال قول ب غ ّل يد ﷲ ،و ھو
منطق اليھود ،ال منطق اإلسالم والمسلمين.
كامل ،ونحن مج َبرون على ا ّتباعھا ،وأمّا ﷲ تعالى فھو الذي و ضعھا ،و ھو
ٍ بشكل
ٍ ٌ
موضوعة إذاً ،القوانين الطبيعيّة قوانين
الذي ينقضھا.
و سيُجيب أ صحاب ھذه النظري ّة بأنّ الم صلحة ت ستوجب ذ لك ،وإالّ ل لزم ال ھرج وال مرج ،والخ ت ّل ك ّل شيءٍ ،و متى ما
موضع إستثنائيٍّ فإنّ الوضع يتغيّر مباشر ًة.
ٍ استوجبت المصلحة خِالف ذلك في
ولكن نقول :إنّ القبول ب ھذا المن طق سيُفقِد ھذه الم صلح َة ذا َت ھا مفھو َم ھا ،و كذلك ستفقد م سألة عدم لزوم ال ھرج وال مرج
ً
ورابطة ذاتي ًّة بين الفعل والنتيجة ال مؤ ّدي إلي ھا، ً
عالقة فعل ما ھو أنّ ھناكمفھومھا ،وذلك ألنّ معنى وجود مصلح ٍة وراء ٍ
ً ً
وإال فال معنى للمصلحة في ال عالم ،بل سي صير باإلم كان ج عل ك ّل نتي ج ٍة م صلحة ما دام األ مر تعا ق ِد ّيا ،وھ كذا لن ي لزم
الھرج والمرج ما دام ﷲ يوجد أيَّ نتيج ٍة يبتغيھا من أيِّ وسيل ٍة شاء.
256
وجواب:
ٌ إشكال ٌ
ويقول أصحابُ ھذه النظريّة :إنّ اإلذعان بأنّ لھذا العالم قانونا ً قط ِع ّيا ً يعني التسليم بمحدوديّة قدرة ﷲ وإرادته.
أ ّما النقض فھو :يسلّم أصحاب ھذه النظريّة ،وينبغي لھم التسليم ،بأنّ من المحال على ﷲ أن يذھب بالمطيع إلى جھ ّنم،
وبالعاصي إلى الج ّنة ،فھل ھذا تحدي ٌد لقدرته ومشيئته؟!
وأمّا الح ّل فھو :إنّ قطعيّة القوانين ال تعني محدوديّة قدرة ﷲ وإرادته أبداً .ولتقريب الفكرة نقول :اإلنسان الذي أدرك
الخطر والمفسدة الناج َميْن عن اإلحتراق بالنار ال يضع يده في النار أبداً ،وكذلك ﷲ تعالى المحيط بنتائج ومفاسد تغيُّر
حال من النظم والتناسق -ال يغيّرھا ،بمحض إرادته وكمال قدرته.القوانين -بعد أن وضعھا على أفضل ٍ
النظريّة.
ِ ھذا الكال ُم ُكلُّه وفق مر َت َكزات أصحاب ھذه
وأمّا َمنْ يؤمنون بقانون العلّيّة العا ّم ،وقانون ضرورة ال ِعلّة والمعلول -كالعالّمة الطباطبائيّ مثالً ،الذي ذكر بأنّ القرآن قد
ل ل شي ٍء في الطبيعة قانونٌ ال يتخلَّف عنه ،ودليلُه قولُه تعالى﴿ :قد جعل ﷲ ل ُ
ك ّ آمن بقانون العلّيّة العا ّم ،وعليه فلك ّ
شي ٍء َقدْ راً ،﴾12إالّ أنّ ھناك فرقا ً بين ال ِعلّة التي نألفھا عن طريق العادة ،وال ِعلّة الواقعيّة ،إذ قد ال تكون العلّة التي ع ّدھا
العلم البشريّ علّ ًة ھي العلّة الواقعيّة،
257
ٌ
خارجة عن نطاق القانون الطبيعِيّ الواقعيّ ،ال بل ھي غطا ٌء فوق العلّة الواقعيّة -فقد ذكروا أ ّنه ليست ھناك معجزةٌ
القانون الذي يعرفه البشر ،فالقانون الذي يعرفه اإلنسان قد يكون ھو نفسُه قانون الطبيعة ،وقد ال يكون.
واإلعتباريّة ،وح ّتى الطبي ِعيّة ،فمثالً الدواء في القوانين الط ّبيّة العاديّة ال ب ّد وأن يترك
ِ ولھذا نظي ٌر في القوانين اإلجتماعِ يّة،
يأس روحِيٍّ فإ ّنھا ستفضي إلى بطء حالة الجسد ،وبالتالي ٍ ةُ حال اإلنسان إعترى ما تأثيراً ص ّح ّيا ً على البدن ،ولكنْ إذا
ستمنع الدواء من التأثير ،وبھذا يكون قانون تأثير الحالة الروحيّة مھيمِنا ً على قانون تأثير الدواء ،مع أنّ ِك َليْھما طبيعيٌّ ،
إالّ أنّ قانون تأثير الدواء ھو المألوف والشائع والمعتاد.
سر المعجزة
ّ -4
وھذه ھي النظرية الرابعة في تفسير المعجزة ،ويسعى أصحابُھا 13بعكس أصحاب نظريّة التأويل للبحث عن سرّ
المعجزات ،في حين ال يؤمِن أولئك بوقوع المعجزة أساساً ،فال يس َع ْون ورا َء الكشف عن سرّ ھا.
258
وھم يختلفون مع أصحاب نظريّة األشاعرة ،فإنّ أولئك ال يؤمنون بوجود سرٍّ للمعجزة أساسا ً.
259
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
ً
عالمة على وجود قدر ٍة ما وراء ب شريّة في إي جاده ،ت فوق حدود الطا قة اإلن سانيّة المعجزة فع ٌل وأث ٌر يأتي به النبيّ ليكون
بشكل عا ٍّم.
ٍ
ت حول المعجزة:
وھناك أرب ُع نظريّا ٍ
النظري ّ ة األو لى :نظري ّة المن كرين للمع جزة أسا ساً ،والمع جزة ع ندھم إم ّا كذب م حضٌ ،أو شي ٌء من قب يل الممار سات
السحريّة.
بشكل طبيعِيٍّ وعاديٍّ .
ٍ َ
النظر ّية الثانية :نظريّة التأويل ،وقد ق ِبل أصحابھا المعجزة ولكنْ فسَّروھا
النظر ّية الثالثة :إن المعجزة آية من قِ َبل ﷲ تظھر على يد ال نبيّ صاحب المع جزة ،ف ما ي قوم به ال نبيّ ل يس فع له ،بل ھو
فعل ﷲ ،الذي بيده تغيير قانون العالم متى شاء ،وكيف شاء.
النظريّة.
ِ ھذا الكال ُم ُكلُّه وفق مر َت َكزات أصحاب ھذه
وأمّا َمنْ يؤمنون بقانون العلّيّة العا ّم ،وقانون ضرورة العِل ّة والمع لول -كالعالّ مة الطباط بائيّ -ف قد ذ كروا أن ّه لي ست ھ ناك
قانون ع لى
ٍ قانون ما ،بل المعجزةُ ھي ھيم ن ُة
ٍ نقض
َ ٌ
خارجة عن نطاق القانون الطبيعِيّ الواقعيّ ،إذ ليست المعجزةُ معجزةٌ
ّ ً
قانون آخر ،مع كون كِليھما طبيع ّيا ،إال أنّ المھيمِن ھو القانون الواقعِيّ ،والمھي َمن عليه ھو القانون المألوف.ٍ
ف مع كون ال قوانين ا لتي تح كم في النظريّة الرابعة :المعجزة أم ٌر غي ُر عادِيٍّ ،خار ٌج عن حدود الطاقة الب ِ
شريّة ،دون ت نا ٍ ِ
قانون.
ٍ قانون على
ٍ سلسلة من القوانين القطعيّة والضروريّة ،بل تكون المعجزة من قبيل حكومة ٌ العالم ھي
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ما ھي المعجزة؟
-2ھل يمكن أن توجد المعجزة؟
-3ھل يتوافق العلم والمعجزة أم بينھما تناف ٌر وتضا ّد؟
-4ما ھي النظريّات التعليليّة في تفسير المعجزة؟
-5ما ھي أبرز اإلشكاالت المثارة حول المعجزة؟
ﻫﻮاﻣﺶ
عل ّـةٍ،
ة في العالم من دون مح ِدثٍ ،ومـن دون ِ ضھم المعجزة بمعنى ُيرادِف الصدفة ،التي تعني وقوع حادث ٍ -1ھذا ھو السائد عاد ًة في كتب المادّيّين ،فقد استخدم بع ُ
ل ،ويرفضه اإللھيون؛ ألنﱠ إذعانھم له يمثّل نقضاً ألحد الط ُُرق التي استخدموھا منذ القديم في االستدالل على وجود ﷲ ،كما أنﱠه ال يصلح ألن أمر محا ٌباألساس .وھذا ٌ
ي أو ال؟
ي نبي؛ إذ ما عالقة حادثة ُوجدت بذاتھا بأنﱠ ھذا نب ّ يكون آي ًة إلثبات نبوّة أ ّ ِ
بعض التفاصيل ـ كخروجھا من الجبل والصخور ــ غـي َر مــذكور ٍة فــي القـرآن
ُ ك والترديد ،وإنْ كانتما ال يقبل الش ّ -2مثال ً :ناق ُة صالح عليه السالم آي ٌ
ة من اآليات ،وھذا م ّ
الكريم.
-3مع ضم قول المنكرين للمعجزة ،فإن إنكارھا قول في مقابل تلك النظريات المذكورة.
-4والجواب -باختصار -ھو أن السحر ونحوه خاضع لمناھج تعليمية مع ممارسة دؤوبة بخالف االعجاز وألن السحر خاضع للتعل ّـم والتعليـم في كون قـابال ً للمعار ضة دون
المعجزة ،إضافة إلى أن السحر متشابه في نوعه ،متح ٌد في جنسه دون المعجزة ،ويخت لف الســحر عـن المعجـزة مـن حيـث األھـداف والغايـات ...وللتفصـيل يراجـع
االلھيات للشيخ جعفر السبحاني ج ،3ص .108
ي. -5من أركان ھذه النظريّة السيّد أحمد خان الھن ِد ّ
-6اإلسراء.93 :
ة
ِسـ ﱠن ِ
ُ ل د
َ ِـ جَ ت َـن
ْ لوَ ً الِي
د ب
ْ َ ت ﷲ ة
ِ ن ِس
ُ ﱠ ل د
َ ج
ِ َ ت َن
ْ لفَ ِين
َ لوﱠ َ ألا ة
َ ن س
ُ ﱠ ﱠ الِ إ ونَُرظن
ْ ُ ي
َ ل
ْ ھ
َ َ
ف { :ومنھا .62 / األحزاب }ً الِي
د ب
ْ َ ت ﷲ ة
ِ ن ِس
ُ ﱠ ل د
َ ج
ِ َ ت َن
ْ لوَ ل ب َ
ق
ْ ْ ُ ِن
م اوْ َ ل خ
َ ِين
َ ذ ﱠ لا ِي ف ﷲ س ﱠن َة
-7منھاُ { :
ح ِويال ً} فاطر .43 /ﷲ تَ ْ
-8وھو األستاذ شريعتي.
مـد خاتـم دِمة كتابه "التفسير الجديد" ،وبالتفصيل في المجل ّد الثاني مـن كتابـه "مح ّ
مد تقي شريعتي ،حيث تناول ھذه النظريّة باختصارٍ في مق ّ -9أمثال األستاذ مح ّ
غيرھا.
ُ النظريّة ،ال
ِ ة تحت عنوان "الوحي والنبوّة" ،وأصرّ في كتابه الثاني إصراراً كبيراً على ھذه الفكرة ،مؤكِّداً أنﱠ األساس في المعجزة ھو ھذهاألنبياء" في مقال ٍ
ي يفترضه الذھن ،ويدرك ضرورته. ض ﱞ
قانون ريا ِ
ٌ ث متساويان ،ھذا -10ومثاله :الشيئان المساويان لشي ٍء ثال ٍ
ي ُيدرك العقل ضرورته.
ي فلس ِف ﱞ
قانون عقلِ ﱞ
ٌ ل أكبر من الجزء ،ھذا
-11ومثاله :الك ّ
-12الطالق .3 /
-13وھم حكماء اإلسالم ،مثل ابن سينا.
اﻟﺨﺎﺻﺔ
ّ اﻟﺪرس اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﺸﺮ :اﻟﻤﻌﺠﺰة
أھداف الدرس
261
بشكل خاصٍّ ،أي عن معجزة ِنبيٍّ من ٍ بشكل عا ّم ،ونتح َّدث في ھذا البحث عن المعجزة ٍ تح َّدثنا في ما سبق عن المعجزة
النبيّ األكرم محمّد صلى ﷲ عليه وآله وسلم الخالِدة ،أال وھي ِ معجزة حول الكالم وسنجعل األنبياء عليھم السالم بعينِه،
وا ْلجِنﱡ
نس َ
ُ اإل
َت ِ
مع ْ
اج َت َ ُل لَئ ْ
ِن ْ ً
القرآن الكريم ،الذي تحدّى بنفسه ،ومنذ أوّ ل نزوله ،البشر جميعا أن يأتوا بمثله ،فقال﴿ :ق ْ
ض ُھ ْم لِبَعْضٍ ظَ ِھيراً.﴾1 ه َولَ ْو كَانَ بَ ْ
ع ُ ن ال َ يَ ْأ ُتونَ بِ ِ
م ْثلِ ِ ھ َذا ا ْل ُق ْرآ ِ
ْل َ علَى أَنْ يَ ْأ ُتوا بِ ِ
مث ِ َ
و ٍر
س َ
ر ُ ف ْأ ُتوا بِع ْ
َش ِ ُل َ سور مثله ،بل بسور ٍة مثله ،فقال﴿ :أَ ْ
م يَقُولُونَ ا ْف َت َرا ُه ق ْ ٍ ولم يكتفِ بذلك ،بل تحدّاھم أن يأتوا بعشر
سو َر ٍة ْ
فأ ُتوا بِ ُُل َ
م يَقُولُونَ ا ْف َت َرا ُه ق ْ َ
ِين ﴾ ،وقال﴿ :أ ْ
2
صا ِدق َ
م َ ن ﷲ إِنْ كُن ُت ْ
ِن ُدو ِ
مم ْ اس َتطَ ْ
ع ُت ْ ن ْم ْ
ْعوا َ م ْف َت َريَاتٍ َ
واد ُ ه ُ
م ْثلِ ِ
ِ
ِين.﴾3
صا ِدق َ
م َ
ك ْن ُت ْ
ُ ن ﷲ إِنْ
ِن ُدو ِ
مم ْ اس َتطَ ْ
ع ُت ْ ن ْم ْ
ْعوا َ
ه َواد ُ
م ْثلِ ِ
ِ
263
ميزة القرآن
بأمريْن:
َ ويتميَّز القرآن عن غيره من معجزات األنبياء بأ َّنه كال ٌم ،وطبيعة الكالم تختلف عن طبيعة ِ
غيره
في حين أنَّ القرآن الكريم ،الذي ھو عبارة عن كالم ﷲ تعالى ،بقي خالِداً ،تتناقله األج يال في ما بين ھا ،كمع جز ٍة حا ضر ٍة
ومكان.
ٍ زمان
ٍ ل ُك ِّل الناس ،وفي ُك ِّل
-1الفصاحة والبالغة
الفصاحة من مقولة الجمال ،وھو يرتبط بالقلب والمشاعر ،ال بالعقل والفكر.
والقرآن في ما يرتبط بإعجازه من ج ھة الج مال ھو نصٌّ ّ
جذابٌ ،ويت عاطى مع اإلح ساس المع نويّ لإلن سان ،أي مع ت لك
العلويّ .
ِ األحاسيس التي تحرّك اإلنسان ،وتدفعه صوب العالم
الشعري
ِ القرآن والتعبير
لم يعتمد القرآن في تعابيره على ما شاع عند الفصحاء والبلغاء من أنَّ
264
كنوع
ٍ الجمال قد يكون في الكذب ،بحيث ترى الشعراء يتف ّننون في تضمين أشعارھم بعض الصور الفاقعة الكذب ،وذلك
من إضفاء مسحة من الجمال على قصائدھم ،وقد قيل في الشعر :أعذبه أكذبه.
ولكنَّ القرآن الكريم رفض ھذا المنطق ،ولم يستخدمه بتاتاً ،فھو من ھذه الناحية يختلف مع الشعر تماماً ،وإنْ كان يتفق
نواح أخرى ،كقابليّته للنغم ،وستأتي اإلشارة لھذا في ما بعد إنْ شاء ﷲ تعالى.
ٍ معه من
القرآن والتشبيھات
لم يستخدم القرآن التشبيه كثيراً ،بل التشبي ُه فيه قلي ٌل ج ّداً.
ولع ّل السرّ في ذلك أنَّ القرآن كتابُ ھدايةٍ ،ومن ھنا لم يكن تركيزه على الجمال ،بل ذكر المسائل التي يذعن لھا عق ُل
اإلنسان بعيداً عن الخيال.
ومع ذلك فھو جمي ٌل وإستثنائيٌّ ،حيث كانت كلما ُته وتعابيرُه وتصويرا ُته فائقة الجمال.
.4
معا◌ً ومن ھنا نخلص إلى القول بأنَّ القرآن معجزةٌ ،بمحتوياته ،وبلفظه ،وجماله وشكله
265
وبعبار ٍة أ خرى :ل قد كان ال قرآن ال كريم الو سيلة الوح يدة ا لتي ا َّت خذھا النب ِيّ صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم ل جذب ال ناس إ لى
دعوته ،ومواجھة المناوئين ،وقد أقرّ بجاذبيّته وتأثيره أعداء الرسالة آنذاك ،إالّ أ َّنھم عزوه إلى السحر ،وإلى أنَّ فيه طل سما ً
ھو الذي يضفي عليه قوّ ة الجذب.
والفكري للقرآن
ّ العلمي
ّ -2اإلعجاز
ونحن لو أخذنا بعض الموضوعات التي تطرَّ ق لھا القرآن ،كالتوحيد مثالً ،فسنرى أنَّ مقاربة القرآن لھا كا نت بن ٍ
حو ي فوق
بكثير ما كان سائداً ومألوفا ً في العالم برمّته ،ح ّتى ما كان سائداً عند اليونان والرومان.
ٍ
رجل عربيٍّ أُمِّيٍّ .
ٍ دليل على إعجازه ،وال سيّما أ َّنه صدر عن
وھذا خي ُر ٍ
وھكذا ھو الحال في المسائل األخرى ،كاألخالق ،والتربية ،والتعاليم ،والقوانين ،فھي في القرآن الكريم بمستوى يفوق ك ّل
مستوى كانت أو تكون عليه ،ح ّتى إ َّنه يُلحظ أنَّ ما جاء في القرآن حول ھذه المواضيع أرقى وأسمى ممّا جاء في الروايات
والف قه اإل سالمِيّ حول ھا ،وذ لك لتوا تر ال قرآن وبقا ئه محفو ظا ً من التحر يف ،بين ما تدخلت األ يدي الب ِ
شريَّة في الروا يات
والفقه.
رجل أُمِّيٍّ ؟!
ٍ فكيف تكون مقارب ُة ھذه الموضوعات بھذا الرقيّ وھي صادِرةٌ من
وقــد ذكــر القــرآن الكــريم مســائل عديــدة فــي مجــال الطبيعــة ،كالــذي ذكــره حــول الــريح ،والمطــر ،واألرض ،والســماء،
ً
مفھومة والحيوانات .وال يزال العلم يصل بين فتر ٍة وأخرى إلى حقائق قد أثبتھا القرآن منذ 1400سنة ،ولك َّنھا لم تكن
266
المتشابھات.
ِ الموارد
ِ آنذاك ،وكانت ُتع َت َبر من
كالم آخر ،ح ّتى كالم النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم، ٍ ً
وبالغة أيُّ ً
فصاحة يمتاز القرآن الكريم بصيغ ٍة بيان ّي ٍة ال يضاھيھا
ً
ضمِّنت بعض خطبه خطبا أخرى َّ ّ
واإلمام عليّ عليه السالم .فمع ما عليه نھج البالغة من بالغ ٍة وفصاح ٍة إال أنه لو ُ
اللتبس األمر على القارئ ،ولم يميِّز كالم أمير المؤمنين عليه السالم عن كالم غيره ،بينما ال يحصل ھذا األمر في القرآن
المعارضة ،رغم أنَّ كثيرين حاولوا معارضته ،لك َّنھم فشلوا فشالً ذريعاً ،ح ّتىَ أبداً ،فھو عصِ يٌّ على التقليد ،ممت ِن ٌع على
ّ
منحطا ً ح ّتى عن مستوى الكالم العاديّ . قيل فيھم بالصّرْ فة ،بمعنى أنَّ ﷲ عاقبھم لمعارضتھم القرآن ،بأن جعل كالمھم
ً
قابلة للّحن والنغم ،فقد تسالموا على قابليّة الشعر وحده لذلك .ومعنى القابلِيّة من الواضح أ َّنه ليس ك ّل النصوص األدبيّة
ولحن.
ٍ نغم
ولحن موسيقِيٍّ أفضل في بيانه وتأثيره من أن يؤدّى بغير ٍ ٍ للّحن ھو أن يكون أداؤه ٍ
بنغم
267
ويمتاز القرآن الكريم عن غيره من النصوص النثريّة بقابليّته للنغم ،فمع أ َّنه ليس شعراً ،إذ ال وزن فيه ،وال قافية ،وال
الشعريّة ،نراه يقبل اللحن والنغم ،وتأثيره معھما أكبر من تأثيره من دونھما ،ومن ھنا كانت
ِ يعتمد الخيال والتشبيھات
ّ َّ
الح َسن( ،وفي بعض األخبار" :تغن ْوا بالقرآن" وبطبيعة الحال ليس المراد التغني6
الوصيّة منھم )بتالوة القرآن بالصوت َ
المحرّ م وھو المثير للشھوة بحيث يخرج العقل عن طبيعته بل المحرّك لألحاسيس الفطرية والمشاعر التي تفتح قلب
اإلنسان على ﷲ تعالى.
عناية خاص ًّة لتالوة القرآن بالصوت الحسن ،فرغم أنَّ القرآن قد نزل عليه ھو، ً النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم
وقد أولى ِ
َّ
فقد كان يستدعي ذوي الصوت الحسن من أصحابه ،ويطلب منھم أن يقرأوا القرآن في محضره ،ويتأثر بقراءتھم ،وما
ذلك إالّ إللتذاذه صلى ﷲ عليه وآله وسلم بسماع تالوة القرآن ،األمر الذي ي َُع ُّد مظھراً من مظاھر إعجازه اللفظِ يّ .
ويُالحظ المتأمِّل في القرآن أنَّ لحن القرآن ونغمه يختلف من آي ٍة إلى أخرى بإختالف موضوعاتھا.
ً
ھادئة ،كقوله تعالى﴿ : ً
طويلة ففي الوقت الذي نرى فيه اآليات الداعية إلى التدبُّر ،والتأمُّل ،والتفكير ،والتذ ُّكر ،والموعظة،
ط م إِلَى ِ
ص َرا ٍ ِيھ ْ
و َي ْھد ِ
ه َ ِن الظﱡلُ َ
ماتِ إِلَى النﱡو ِر بِ ِإ ْذنِ ِ مم ْ
ج ُھ ْ
ر ُ
م َو ُيخْ ِ السال َ ِ
ﱠ ل
س ُب َ
ه ُوانَ ُ
ض َ ع ِر ْن اتﱠبَ َ
م ْ
هﷲ َ َي ْھدِي بِ ِ
ِيم ﴾ ،إذ ال ب َّد وأن تلقن ھذه الكلمات للقلب بھدو ٍء وتأنٍّ ،نرى آيات العذاب ،واإلنذار ،والتخويف ،قصير ًة شديد ًة، َّ ُ 7
س َتق ٍ
م ْ ُ
سطُو ٍر فِي َرقّ ٍ م ْوكِ َتابٍ َ والطور َﱡ كقوله تعالىَ ﴿ :
268
بشكل م َّتصِ ٍل ،ال انفصال له ،بحيث تنقلب بعد ھذا
ٍ والھدف من ھذا السجع القصير ،والضغط الشديد ،التأثير في الروح
حال.
حال إلى ٍالكالم من ٍ
ت أخرى ،ومن ھنا ومن الطبيعيّ أنَّ ھذا الكالم إ َّنما يصدق في القرآن الكريم باللغة العربيّة ،دون ما لو ُتر ِجم إلى لغا ٍ
َّ
ينبغي التركيز في ربط الناس ،وال سيّما األجانب منھم ،بالقرآن على أن يقرأوه باللغة العربيّة ،فيتعلمونھا ولو ألجل أن
اطالعھم على القرآن وإعجازه ناقصا ً ومشوَّ ھا ً. يقرأوا القرآن بھا ،وأمّا أن نقلِّل من أھ ّميّة ذلك فھذا ما سيجعل ّ
المنطقي في القرآن
ّ -4اإلعجاز
ٌ
عالمة على مطروقة من قب ُل في تاريخ الفكر اإلنسانيّ ،وھذه ً إنَّ بعض الموضوعات التي تطرَّ ق لھا القرآن الكريم لم تكن
ما نَ ﱠز ْل َنا عَ لَى
م ﱠ
ب ِم فِي َر ْي ٍ ل ھذا ما تشير إليه اآليةَ ﴿ :
وإِنْ كُن ُت ْ أفق أعلى ،ولع ّ أنَّ ھذا الكتاب قد أط ّل على البشر من ٍ
ِين ﴾ ،بناء على أنَّ الھاء في قوله" :من ً ف ْأ ُتوا بِ ُ
9 دنَا َ
صا ِدق َم َن ﷲ إِنْ كُن ُت ْ ِن ُدو ِ
ُم م ْ
ھدَا َءك ْش َعوا ُه َوا ْد ُم ْثلِ ِ
ِن ِ
سو َر ٍة م ْ َ
ع ْب ِ
رجل
ٍ من الجديدة، الموضوعات وھذه الجمال، بھذا القرآن ھذا صدور فإنَّ وسلم، وآله عليه ﷲ صلى يّ للنب
ِ ٌ
راجعة " مثله
مجتمع وبيئ ٍة ال يعرفان شيئا ً عن ھذه الموضوعات ،لھو شي ٌء مدھشٌ ٍ في عاش وقد والكتابة، القراءة أُمِّيٍّ ،يفتقر إلى
أفق أعلى من أفق النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم. للغاية ،ودلي ٌل على أنَّ ھذه الكلمات قد صدرت من ٍ
269
أ حدھما :المن طق األر سطيّ :و ُي سمّى أي ضا ً من طق ال صورة ،ل سعيه وراء شكل ت صميم ال صورة ،ف ھو يرك ِّ ز ع لى كيفي ّة
ترتيب المقدّمات ترتيبا ً صحيحا ً لن صل إ لى النتي جة ال صحيحة ،ولكن َّ ه لم ُيع ِرْ أيَّ أھ ِّمي َّ ٍة للتأك ُّ د من صحّ ة ھذه الم قدّمات،
األمر الذي أوصل الكثير من أصحاب ھذا المنطق إلى أفكار خاطئة.
ٌ
وفرق كبي ٌر بينھما. وثانيھما :منطق المادّة ،وال نعني به المنطق الماديّ ،
الفكريّة وصحّتھا.
ِ وقد سعى أصحاب ھذا المنطق وراء شرط سالمة الموا ّد
ً
صحيحة للو صول إ لى ن تائج صحيحةٍ ،وإ ستخ ّفوا بالمن طق وبع بار ٍة أ خرى :صبّوا إھت مامھم ع لى كون الف كرة -المق ّد مة
إنسان بفطرته يدرك الكيفيّة الصحيحة لترتيب المق ِّدمات ،فالمھ ّم إذاً ھو ص ّحة ھذه الم قدّمات،
ٍ األرسطيّ ،معتبرين أنَّ ُك َّل
وإالّ فستكون النتيجة خاطئةً.
ومن أركان ھذا المنطق" :بيكون" ،و"ديكارت" ،حيث حاوال إكتشاف السبل التي تفضي إلى خطأ المادّة الفكريّة.
ص يّة ،واإلجتماعِ ي ّة،
فذھب "بي كون" إ لى أنَّ من أ سباب خ طأ ال مادّة الفكري ّة و جود األ صنام الفِرقِي ّة )الطائفي ّة( ،والشخ ِ
واإلقتصاديّة ،وغيرھا من األصنام الشكلِيَّة ،مثا ُل ذلك :إنَّ لألھواء النفسيّة تأثيراً في الفكر والعقيدة ،فبعضُ ما تقوله أحيا نا ً
ھو تعبير عن الھوى النفسيّ ،وليس عن لغة الفكر والعقل.
وذھب "ديكارت" إلى أنَّ خطأ العلماء والفالسفة يرجع في األكثر إلى تعجُّ لھم في الفصل في األمور ،وبع بار ٍة أ خرى :إ لى
إعتمادھم على ما يحصل لھم من ظنٍّ في فكر ٍة ما ،وقبل أن يصل األمر إلى ح ّد القطع واليقين.
270
-1إتباع الظن :فيعتبر القرآن الكريم أنَّ من سبل الخطأ في الفكر ا ّتباع الظنّ .
م.﴾10
ع ْل ٌ
ه ِ س لَ َ
ك بِ ِ ما لَ ْي َ ومن ھنا كان تشديده على النھي عن إتباع الظنّ ،فقالَ ﴿ :
وال َ تَق ُ
ْف َ
ْم
عل ٍ
ن ِ
م ْ
ك ِ
ذلِ َ ما لَ ُھ ْ
م بِ َ دھْ ُر﴾ ،فقالَ ﴿ :
و َ ك َنا إِال ﱠ ال ﱠ
ما ُي ْھلِ ُ
و َ
َح َيا َ
ون ْ
وت َ
م ُ ح َياتُ َنا ال ﱡ
د ْن َيا نَ ُ ِي إِال ﱠ َ ﴿ َ
ما ھ َ وإستنكر قول الذين قالوا:
ھُم إِال ﱠ يَظُنﱡونَ . ﴾11
ْ إِنْ
كسبيل من ُسبُل الخطأ في الفكر ،وھو عي ُنه ما سمّاه "بيكون" ٍ -2تقليد اآلخرين :وكذلك ير ِّكز القرآن على تقليد الماضين
ج ْدنَا آبَا َءنَا
و َ الصنم الفِرقيّ واإلجتماعيّ ،وقد َّ
حذر جميع األنبياء عليھم السالم أم َمھم من ھذه السبيل المھلِكة ،وھي﴿ :إِنﱠا َ
ِم ُم ْق َت ُدونَ ﴾. علَى ُأ ﱠ
13
علَى آثَا ِرھ ْ
وإِن ﱠا َ
ة َ
م ٍ َ
-3سرعة الحكم :وممّا عدَّه القرآن الكريم من سبل الخطأ في الفكر السرعة في القضاء ،فنراه ي ِّ
ُحذر اإلنسان من الوقوع
في ھذه اآلفة الخطيرة ،عبر
271
عَجوال ً﴾15
ُ نسانُ
اإل َ ل ،﴾14وفي آي ٍة أخرىَ ﴿ :
وكَانَ ِ ِن عَ َ
ج ٍ نسانُ م ْ
اإل َ
ِق ِ جلة ،فيقولُ ﴿ :
خل َ تذكيره إيّاه بأ َّنه فُطِ ر على حبّ َ
الع َ
.
بح َسب القرآن أيضا ً ا ّتباع ال ُك َبراء ،أصحاب المدارس والمذاھب ،فقد بيَّن تعالى أنَّ ا ِّتباع ال ُك َبراء
-5إتباع الكبراءَ :
و َ
قالُوا ل َ م فِي ال ﱠنا ِر يَقُولُونَ يَا لَ ْي َت َنا أَطَ ْع َنا ﷲ َوأَطَ ْع َنا ال ﱠر ُ
سو َ جوھُ ُھ ْ ﱠب ُو ُ م ُت َ
قل ُ والسادات ھو من المُھلكات ،فقال﴿ :يَ ْ
و َ
ل ﴾.
19
السبِي َ
ﱠ ضلﱡونَافأَ َ
كبَ َرا َءنَا َ
و ُ
دتَ َنا َ
سا َ َربﱠ َنا إِنﱠا أَطَ ْ
ع َنا َ
272
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
النبيّ األكرم محمّد صلى ﷲ عليه وآله وسلم الخالِدة.
القرآن الكريم ھو معجزة ِ
ومن جھات إعجاز القرآن الكريم:
-1الفصاحة والبالغة :غير أنَّ القرآن الكريم رفض المنطق السائد في ال شعر ،و ھو "أعذب ُه أكذب ُه" ،و لم ي ستخدمه بتا تاً،
كما أ َّنه لم يستخدم التشبيه كثيراً .ومع ذلك فھو في غا ية الف صاحة والبال غة ،ح يث كا نت كلمات ُه ،وت عابيرُه ،وت صويرا ُته،
فائقة الجمال.
وقد أقرّ بجاذبيّته وتأثيره أعدا ُء الرسالة أنفسھم ،وما ذلك إالّ لفصاحته وبالغته وجماله الساحر.
وھكذا ھو الحال في المسائل األخرى ،كاألخالق ،والتربية ،والتعاليم ،والقوانين ،فھي في القرآن الكريم بمستوى يفوق ك ّل
مستوى كانت أو تكون عليه.
المنطقي :فقد ذكر القرآن الكريم بعض مناشئ الخطأ ا لذھنِيّ ،أو سبل الخ طأ في الف كر ،ومن ھا :ا ّت باع ال ظنّ ،
ّ -4اإلعجاز
ُ ّ
تقليد الماضين ،السرعة في القضاء ،ھوى النفس ،واتباع الك َبراء.
وھذه األمور ھي بعينھا التي ذكرھا "بيكون" و"ديكارت" ،حين حاوال إكتشاف السبل التي تفضي إلى خطأ المادّة الفكريّة.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ما ھي معجزة النبيّ األكرم صلى ﷲ عليه وآله وسلم األساسيّة؟
-2كيف عرفنا بإعجاز القرآن الكريم؟
-3ما ھي وجوه اإلعجاز القرآنيّ ؟
-4ما المقصود من اإلعجاز المنطقي؟
-5لماذا كان مضمون القرآن الكريم إعجازيا؟ً
ﻫﻮاﻣﺶ
-1اإلسراء .88 /
-2ھود .13 /
-3يونس .38 /
ي عليـه ّ ِـ ل ع ـام ـلإلم البالغة نھج ى ّ ت وح ، P ﷲ رسول كالم ى ّ تح آخر، م
ٍ كال ي
ﱡ أ ته ّ يوجاذب وبالغته فصاحته في يضاھيه ال الكريم القرآن أنﱠ إلى اإلشارة من ھنا -4وال ُب ﱠد ُ
لشعرت بسعة الفرق بين َ ة من القرآن، م اعترضتك فيھا آي ٌ داً من الفصاحة والبالغة ،ومع ذلك فإنﱠك لو كنت تقرأ إحدى خطبه ،ث ّ السالم ،الذي ُيع َتبَر في مرتبة عالية ج ّ
ة،
ح ُفوفَـ ٌ ار بِـا ْلبَال َ ِء َم ْ
كالم أمير المؤمنين عليه السالم وكالم القرآن ،فالحظ الخطبة رقم 225من نھج البالغة ،وھي في التنفير من الدنيا ،حيث يقول عليه السـالم َ :د ٌ
م إِلَـى َمـا ِـرتُ ْ
َـد ص ْ م يقـولَ :وكَـأَنْ ق ْ ن مضى من الناس ،وال سيما األغنياء والملـوك .ثـ ّ م ْ
م يذكر ما فعلته ھذه الدنيا ب َ سل َ ُ
م ُن ﱠزا ُل َھا .ث ّ ح َوالُ َھاَ ،وال َ يَ ْ وم أَ ْة ،ال َ تَ ُد َُوبِا ْلغ َْد ِر َم ْع ُرو َف ٌ
ـم ھ َ الو م ﷲ َى ل إ ﱡواد رو ت فَ ل سَ أ ا م س ف ن
ﱡ َ ْ ل ك
ُ ُو ل ب ت ك ل
ُ َ ِ َ َْان ھ { ! ؟ ور ب ق ْ
ل ا ت رث ع وب ،ور م ُ ألا ُمك ب ت ھ ان ت وَ ل ُم
ك ب في َ
ك َ
ف ،ع ْ
ك َ ْ َ ُ َ َ ﱠ ْ ِ َ ُ ْ َ ْ َ ُ
د و ت س م ل ا ك لذ ُم ك م ض و ، ع ج ض م ْ
ل ا ُم ذلِ َ صاروا إِلَ ْيهَِ ،و ْ
ارتَ َھ َنك ْ
َ ْ ُ ُ ِ ْ َ ْ َُ َ ُ ُ ُ ْ َِ ِ ُ ُ ُ ْ َ ِ ْ ْ ََ َ ْ ِ ُ َ
ي ،الّ ق
ِ الحقي مواله إلى يرجع فاإلنسان الوصف، عنه يعجز مدھش
ٌ أمر
ٌ ھو " ق
ّ الح موالھم " بـ اآلية في ﷲ عن التعبير أنﱠ كم فالحظ . } ون رت
َُ فْ ي وا ن
ُ َا
ك ما م
ل َع ْ ُ ْ
ھ ن ض ﱠق َو َح ِّ ا ْل َ
ي ال اط ِّـالع لـه ،كـان ينبغـي أن يغـرق ــ وفــق مِـ ّ ٍ رجل أ ّ
ٍ ى يطيعه .فھذه الصياغة التعبيرِيّة ال يمكن أن تكون من صياغة وإنشاء إلى ما يعبد في ھذه الدنيا ،ويتّخذه مول ً
المقاسات المألوفة ـ في األوھام والخرافات.
جائ ُِب ُهَ ،والَتَ ْن َقضِي غَ َرائ ُِب ُه....،
ِيق ،ال َ تَ ْف َنى َع َ -5راجع الخطبة 18من نھج البالغة ،حيث يقول أمير المؤمنين عليه السالم َ :وإِنﱠ القُرآنَ ظَاھ ُِر ُه أَن ٌ
ِيقَ ،وبَاط ُِن ُه َعم ٌ
-6راجع :وسائل الشيعة 210 :6ـ 211ـ ،212باب 24من أبواب قراءة القرآن ،وھو بعنوان باب تحريم الغناء في القرآن واستحباب تحسـين الصـوت بـه بمـا دون الغنـاء
جع فيه ترجيعاً". ب الصوت الحسن ير ﱠ ِع بالقرآن صوتك ،فإنﱠ ﷲ تعالى يح ّ ج ْ
والتوسط في رفع الصوت ،األحاديث 2ـ 3ـ 4ـ 5ـ ،6وفي الحديث الخامس منھا ":ور ّﱡ
-7المائدة .16 /
-8الطور 1 /إلى .8
-9البقرة .23 /
-10اإلسراء .36 /
-11الجاثية .24 /
-12األنعام .116 /
-13الزخرف .23 /
-14األنبياء .37 /
-15اإلسراء .11 /
-16اإلسراء .85 /
-17الروم 6 /ـ .7
-18النجم .23 /
-19األحزاب 66 /ـ .67
اﻟﺪرس اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﺸﺮ :ﻣﺒﺎدئ ﻋﺎﻣﺔ ﻓﻲ اﻹﻣﺎﻣﺔ
أھداف الدرس
277
إنّ مسألة اإلمامة -سواء اعتبرناھا من األصول أم من الفروع -لھا أھميتھا الخاصة عند كل من مدرسة الخلفاء ومدرسة
أھل البيت عليھم السالم .وإننا لنجد حديثا ً عن النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم تتفق عليه المدرستان ،1وإن اختلفت فيه
ً
ميتة العبائر ولكنّ مضمونه واح ٌد ،فترويه مدرسة أھل البيت عليھم السالم بصيغة) :من مات ولم يعرف إمام زمانه مات
الجاھلية( ،2وفي مصادر مدرسة الخلفاء بصيغة )من مات بغير إمام مات ميتة جاھلية( ،3وفي صياغة أخرى )من مات
وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاھلية( 4وثالثة )من مات وال إمام له مات ميتة جاھلية(.5
والمالحظ في ھذه الرواية ھو اللغة الشديدة التي تعكس مدى اھتمام النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم بمسألة اإلمامة.
والجميع م ّتفق على أن الحديث يبرز أھميّة اإلمامة .نعم قد اختلفت التفاسير باختالف النظر 6في اإلمامة.
279
اإلمامة لغة
إن كلمة اإلمام بمدلولھا اللغوي ال تحمل أيّ مفھوم مقدّس ،ألن اإلمام في اللغة ھو الشخص الم َّت َبع والمقتدى به ،سواء
أكان قدوة الناس في طريق الخير أم في طريق الشر ،وسواء أقاد الناس نحو الھدى أم باتجاه الضالل .ولذا نجد القرآن
م
ھ ْ وأَ ْو َ
ح ْي َنا إِلَ ْي ِ رنَا َ
م ِة يَ ْھ ُدونَ بِأَ ْ م أَئِ ﱠ
م ً ع ْل َناھُ ْ
ج َ الكريم يطلق كلمة اإلمام على كال النحوين ،فقال تعالى في أئمة الھدىَ ﴿ :
و َ
مةً َ
اھُم أئِ ﱠ
ْ ع ْل َنج َ
و َِين ﴾7وفي شأن أئمة الضالل قال تعالىَ ﴿ : صال ِة َوإِي َتا َء ال ﱠزكَا ِة َوكَا ُنوا لَ َنا عَابِد َ م ال ﱠقا َ خ ْي َراتِ َوإِ َل ا ْل َ
فِ ْع َ
ص ُر ﴾.
8
ونَ ة ال ُي ْن َ م ِ ْ
م ال ِقيَا َو َ
إِلى ال ﱠنا ِر َويَ ْ َ ونَ عيَدْ ُ
9
اإلختالف في مفھوم اإلمامة
وما يھمّنا ھنا ھو البحث عن مفھوم اإلمامة اصطالح ،وھو الذي تختلف في تفسيره مدرسة أھل البيت عليھم السالم عن
الفرق األخرى ،فالخالف القائم إنما ھو في تحديد المصطلح لمفھوم اإلمامة .لذا ال يصح أن نصوّ ر اإلختالف بين مدرسة
أھل البيت عليھم السالم والمدارس األخرى في خصوص شخص اإلمام ،ألن اإلختالف في مفھوم اإلمامة وما يتضمنه
ھذا المفھوم ،رغم وجود جھات إشتراك تتضمنھا اإلمامة ،كاإليمان بأنھا رئاسة المجتمع أو الرئاسة العامة .ولتوضيح ھذا
اإلختالف ال ب ّد من تحديد وظائف النبوّ ة وخصوصيات النبي لننتقل منھا إلى تعريف مفھوم اإلمامة ،ألن اإلمام ھو القائد
الذي يحمل مسؤولية الدين بعد النبي ،فھل له كل أو بعض ما كان للنبي من شؤون ووظائف؟
280
النبي األكرم صلى ﷲ عليه وآله وسلم:
ّ شؤون ووظائف
لقد كان للنبي األكرم صلى ﷲ عليه وآله وسلم بما حكاه القرآن وبما حكته السيرة شؤون ووظائف متعددة ،فقد كان ينھض
ت واحدٍ ،ويمكن تقسيمھا إلى ثالث وظائف:بأعباء متعددة في وق ٍ
يد ا ْل ِعقَابِ.﴾10
د ُش ِ
ﷲ َ واتﱠقُوا ﷲ إِنﱠ ه َ
فا ْن َت ُھوا َ ُم عَ ْن ُ
ھا ك ْ
ما ن َ َ
و َ ول َ
فخُ ذُو ُه َ س ُُم ال ﱠر ُ النبوة :قال تعالى:
ما آتَاك ُ ﴿ َ
و َ ّ أول،
ً
وھنا يكون كالم النبيّ وحيا إلھي ،ووظيفة النبيّ فيه التبليغ.
ح َرجاً
م َ م ال يَجِ ُدوا فِي أَ ْن ُفس ِ
ِھ ْ م ُث ﱠ
ج َر بَ ْي َن ُھ ْ
ش َ
ما َ
ك فِي َ
مو َ
كّ ُ
ح ِ
ح ﱠتى ُي َ ك ال ُي ْؤ ِ
م ُنونَ َ ثاني ،القضاء :قال تعالىَ ﴿ :
فال َو َربِ ّ َ
ّ
َسلِيما ﴾ .وھنا يمارس النبيّ عمليّة تطبيق للموازين اإلسالمية في القضاء دون تدخل إلھيّ ،أي ً11
س ِل ّ ُ
موا ت ْ و ُي َ
ت َ
ض ْي َ ما َ
ق َ م ﱠ
ِ
ّ
للحق كالبيّنة ونحوھا. إنّ النبيّ عندما يقضي بين إثنين إنما يقضي بينھما بما لديھما من حجة واثبات
281
ً
عامة وإنما ھو وإذا شوھد في تاريخ النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم بعض أنواع التدخل الغيبّي ،ولكن ذلك ال يش ّكل قاعد ًة
استثناء.
مراتب اإلمامة
ب عد أن ات ضحت و ظائف ال نبي صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم ،نن قل ال كالم إ لى اإلما مة لن شرح مراتب ھا بالنظر إ لى كون ھا
استمراراً لوظائف النبوّ ة ،وبال تالي ي كون لإلما مة أي ضا ً مرا تب ثالث ،و قع اإلخ تالف في بع ضه ،و من خالل تو ضيحھا
يظھر محل النزاع بين الفرق اإلسالمية.
فكما أنّ النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم ھو القا ئد وال حاكم في المجت مع اإل سالمي ،كذلك تنت قل الق يادة إ لى من يأتي ب عده
صلى ﷲ عليه وآ له و سلم .و ھذه الم سألة م ح ّل ات فاق ب ين ال فريقين )مدر سة أ ھل الب يت علي ھم ال سالم ومدر سة الخل فاء(،
فالفريقان يتفقان على أصل اإلمامة بھذه المرتبة ،ولكن اإلختالف في شكل ھذه المرتبة ،وأنھا بالتعيين والنص أو ال.
لو كان يقت صر مف ھوم اإلما مة ع ند مدر سة أ ھل الب يت علي ھم ال سالم ع لى ھذه المرت بة ،و لم ي كن لديھم إي مان بالمرا تب
األخرى لإلمامة ،لكانت اإلمامة عندھم من فروع الدين ال من أ صوله ،إال أنّ مدر سة أ ھل الب يت علي ھم ال سالم تعت قد بأن
لإلمام مرتبتين أخريين ،لذلك ال ترى ھذه المدرسة أنّ عليا ً ھو المتقدم أو األف ضل من ب ين أ صحاب ال نبي صلى ﷲ عل يه
وآله وسلم فقط ،بل ترى له مرتبتين ال يشاركه فيھما أح ٌد من أصحاب النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم.
282
إنّ من وظائف النبيّ التي ت قدّم ذكر ھا وظي فة ب يان األح كام اإللھ ية )الن بوّ ة( .ول كنّ ح ياة ال نبيّ صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم
الم حدودة بزمن معي ّن ،وال ظروف المحي طة به ،قد من عت من أن ي كون ما بلّ غه ال نبيّ صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم لعا مة
شخص وتلقي نه ھذه األح كام ،لي قوم
ٍ المسلمين شامالً لجميع أحكام اإلسالم ،ولذا كان األسلوب األمثل ھو ق يام ال نبيّ بتعل يم
بعد وفاته بإكمال وظيفة تبليغ األحكام اإللھية.
وتعتقد مدرسة أھل البيت عليھم السالم أنّ عل ّيا ً عليه السالم كان ھو ذلك الشخص الذي قام النبيّ صلى ﷲ عليه وآله و سلم
بتعليمه أحكام اإلسالم ،وأصبح ھو العالِم اإلستثنائي المتق ِّدم على أصحاب النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،وكان عل مه ھو
قول وال حكم .وھذا التعليم لم ي كن بالطري قة المتعار فة ،بل لذلك طر يق غ يبي إل ھي.
العلم المعصوم ،أي أنه ال يشتبه في ٍ
وھذه المعرفة انتقلت من اإلمام عليه السالم إلى األئمة من بعده.
تش ّكل ھذه المرتبة الذروة في مفھوم اإلمامة ،وتشمل كل ما قبلھا من مراتب وتزيد عل يه ،أي إنّ االعت قاد بأنّ اإل مام عل يه
السالم ھو اإلنسان الكامل وھو حجة العصر ،ھذا اإلنسان ال ب ّد من وجوده في ك ّل ع صر ،و لواله ل ساخت األرض بأھ له،
ودرجات عالية .وقد اعتبرت مدرسة أھل البيت عليھم ال سالم أنّ ھذه المرت بة ثاب تة لل نبي صلى ﷲٌ ٌ
مقامات ولھذا اإلنسان
ٌ ٌ
مل و له مقا مات بع يدة عن ت صوّ رنا. عليه وآله وسلم ولألئمة عليھم السالم من بعده ،وأنه ال بد في ك ّل ع صر من و ليٍّ كا ٍ
وأما سائر المسلمين -عدا الوھابية -فال يعتقدون بثبوت ھذه المرتبة سوى للنبي صلى ﷲ عليه وآ له و سلم .و سنذكر ب عض
فروع ھذه المرتبة في آخر البحث إن شاء ﷲ تعالى.
ھذه ھي المراتب الثالث لإلمامة .وقد انقسم الشيعة في ھذه المراتب إلى
283
ثالثة أقوال ،فبعضٌ يعتقد بأن اإلمامة ھي بمعنى القيادة والرئاسة العامة فقط أي المرت بة األو لى ،وب عضٌ آ خر يعت قد بأن ھا
مرجعية دينية أي ضا ً أي بالمرت بة الثان ية لإلما مة ،ول كنّ أ كثر ال شيعة يعت قدون بأ ّن ھا وال ية كام لة ،أي المرت بة الثال ثة ال تي
تشمل ك ّل مراتب اإلمامة.
إننا إذا اختزلنا اإلمامة وقدّمناھا بمرتبة الحكومة والرئاسة العامة ،فسوف يتفرّ ع على ذلك أسئلة مختلفة منھا:
-ھل ينبغي أن يكون الشخص الذي يتولى الحكومة ھو األفضل من جميع الجھات واقعاً؟ أو أنه تكفي األفضلية النسبية؟
-ھل من الضروري أن يكون معصوماً؟
-ھل ينبغي أن يكون ھو المرجع في الفقه واألحكام ،أم يكفي أن يرجع إلى اآلخرين في المسائل التي يبتلى بھا؟
إنّ بناء البحث في مسألة اإلمامة بھذا النحو سوف يسير بالبحث بإتجاه آخر ،وتترتب على ذلك نتائج ،منھا:
أوالً :إ ّننا إن اعتبرنا اإلمامة بمعنى الحكومة والرئاسة العا مة ف قط ،وتب ّني نا نظر ية ال نصّ ،ف ھذا ي عني أ نه ال ضرورة ألن
يكون تعيين النبيّ صلى ﷲ عليه وآ له و سلم لع لي عل يه ال سالم من ِقب َ ِل ال سماء ،و عن طر يق الو حي ،بل يمك نه أن ي قوم
بتعيي نه ب ما يراه ھو وب ما يؤدي إل يه ن ظره ،و كذلك األئ مة علي ھم ال سالم من ب عده ،في قوم ك ّل إ مام بتعي ين من يل يه ،فال
ضرورة ألن يكون التعيين وحيا ً من السماء.
284
وبعبارة أخرى إننا لن نعود بحاج ٍة إلى النصب اإللھي ،بل يكفينا النصب النبوي أو من قِ َبل الولي .إذ ،يكفي أن يبلّغ
الوح ُي النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم ضرورة تعيين خليف ٍة من بعده كي يقوم النبيّ بھذه المھمّة ،دون أن ينصّ الوحي
شخص معيّن.
ٍ على
رابعا ً :إنّ مسألة الخالفة واإلمامة إذا طرحت بھذا الشكل فسوف تكون نظرية مدرسة الخلفاء -التي ترى أنّ أمر تعيين
أكثر جاذبي ًّة من نظر ّي ِة النصّ عند
الحاكم ھو بيد األمة أو بيد أھل الح ّل والعقد ،وليس من حق الحاكم تعيين الذي يليهَ -
مدرسة أھل البيت عليھم السالم ،ألنھا سوف تعطي األمة دوراً في شأن إداري يھمّھا وھو انتخاب اإلمام الحاكم الذي
يسوس أمورھا.
ھذه ھي األسئلة والنتائج التي سوف تتفرّ ع وتترتب على الطرح البسيط للمسألة وحصرھا بالحكومة ،13وبالتالي جعلھا
أمراً إداريا ً ھامشيا ً ضيق ،كما وقع في ھذا الخطأ بعض القدماء من المتكلمين.
285
شخص واحد ،بنحو يكون ماٍ ھل تقع مھمّة بيان األحكام اإللھية وتعاليم السماء بعد النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم على
ً
يجيب به ھو الصواب والحقيقة ،دون أيّ احتمال للخطأ والھوى ،ويكون مثل ھذا الشخص مرجعا ألحكام الدين كما كان
النبيّ مرجعا ً لذلك؟ أو أن األمر ليس كذلك وليس لدينا مثل ھذا الشخص؟ ونالحظ أن السؤال قد انصبّ على المرتبة
الثانية لإلمامة ،وھي المرجعية الدينية ،فھل نقول بھا لإلمام من بعد النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم أو أنّ الوصاية كانت
إدارية صرفة؟
فھذه المرتبة ھي مح ّل النزاع ،وبھا تختلف مدرسة الخلفاء عن مدرسة أھل البيت عليھم السالم ،فال تعتقد بمثل ھذا
شخص على اإلطالق ،وال تراھا ال لعلي عليه السالم وال لغيره.
ٍ المنصب أليّ
شخص له مثل ھذا األمر ،وإنما في أصل وجود مثل ھذا الشخص .والذي يشھد لھذا األمر نقلھم
ٍ فالخالف ليس في أيّ
بكر وعمر ،والعبائر الصادرة عن ك ٍّل منھما ،ممّا يدل بوضوح على عدم عصمتھم ،وبالتالي على
14
لألخطاء عن مثل أبي ٍ
عدم كونھما مرجعية بعد النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم.
لقد نزل اإلسال ُم على النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم كامالً تاما ً .وقد تلقى صلى ﷲ عليه وآله وسلم جميع ما يحتاج إليه
الناس من تعاليم دينھم وأحكام شرعھم .ولكن السؤال ھو أنّ ما بلّغه النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم للمسلمين ھل ھو ك ّل
ما نزل إليه ،أو أن قسما ً كبيراً منه لم يبيّنه
286
للناس ،ألنه متوقف على حلول أوانه ،والنبي صلى ﷲ عليه وآله و سلم بلّغ ھا لع لي عل يه ال سالم لي قوم ببيان ھا لل ناس م تى
دعت الحاجة إلى ذلك؟
الثانية :مالحظة س ّنة النبيّ األكرم صلى ﷲ عليه وآله وسلم وما ورد خاللھا من أح كام ،فإ ّن ھا مخت صرةٌ مجم ٌ
لة أ يض ،ال
سيما بمالحظة الفترة التي عاشھا النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،والمشكالت التي عاشھا سواء في م كة ،وا لتي ا ستمرت
وحصار ،أم في المدينة وفي ظ ّل حروب ومعارك.
ٍ ثالثة عشر عاما ً في ظ ّل ضغطٍ
الثالثة :حتى إن غضضنا النظر عن ظروف النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،وفرضنا أ ّنه صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم كان
كالمعلّم الذي يذھب إلى المدرسة ك ّل يوم لتعل يم ال ناس ،فإنّ ھذا الو قت لن ي كون كاف يا ً لب يان جم يع ما و صله من ر سالة
اإلسالم ،ال سيما بمالحظة أنّ اإلسالم دين يبسط حاكميّته على جميع شؤون البشر.
الرابعة :ضياع كثير من أحاديث رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وآله وسلم وذلك بسبب أمر تاريخيّ ثابت ،وھو ما قام به ع مر
بن الخطاب من المنع من تدوين ال حديث .و لو أرد نا أن ال نل حظ ھذه الواق عة التاريخ ية من من ظار مدر سة األئ مة علي ھم
السالم وتجرّ دنا عن ذلك ،أمكننا القول بأن سبب المنع ھذا ھو اعتبار ال قرآن المر جع الوح يد )ح سبنا ك تاب ﷲ( .و قد ب قي
ھذا المنع مستمراً إلى عھد عمر بن عبد العزيز ،أي إلى حدود سنة 99ھجرية.
الخامسة :كثيراً ما كان رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وآله وسلم يبيّن األحكام عندما تستجد ،وليس
287
قبل أوانھا .ومن المسلّم أن ھناك مسائل كبيرة وصغيرة سوف تستجد وتطرأ على األمة بعد غياب النبي صلى ﷲ عليه
وآله وسلم ،فھل اإلسالم ناقص لم يبيّنھا أم أنه ترك بيانھا لإلمام من بعد النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم ؟
بعد مالحظة ھذه النقاط يظھر بوضوح فرضية كال المدرستين ومستلزماتھما:
أمّا فرضية مدرسة الخلفاء :فترى انقطاع البيان الواقعي للدين بوفاة النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم.وال يوجد لدينا بيانٌ
منزه عن الخطأ واإلشتباه ،وال شيء وراء ما ورد عن النبيّ األكرم صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،وليس ألي شخص بعد ّ
النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم منصب المرجعية الدينية .لذلك واجھت مشكلة المسائل المستجدة ،فھي تعتمد فقط على
القرآن والس ّنة ،وھما غير كافيين في ذلك ،وخصوصا ً بعد غياب كثير من أحاديث النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،فكانت
النتيجة ھي اإلعتماد على القياس ،أي اإلعتماد على مواطن التشابه بين ما ورد في الكتاب والس ّنة وبين ما لم يرد فيھم،
وكان اإلعتماد على القياس ي ّتسع كلما اتسع العالم اإلسالمي واتسعت المسائل الجديدة.15
أما فرضيّة مدرسة أھل البيت عليھم السالم التي أثبتت المرجعية الدينية لإلمام علي عليه السالم ولألئمة من بعده ،فھي
تستمد أحكامھا منھم كما كانت تستمدھا من النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،لذلك لم تضطرّ للجوء إلى القياس ،وتعتبر أن
كل األحكام قد بيّنھا األئمة عليھم السالم بعد الرسول صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،ولذلك وقفت من القياس موقف المنكر له
أشد النكير .وروايات ھذه المدرسة تضرب جذوره من األساس ،إذ إنّ الحاجة إلى القياس إنما تنشأ من االعتقاد بعدم كفاية
الكتاب والس ّنة ،ولدى مدرسة أھل
288
البيت عليھم السالم ما يكفي لح ّل جميع ما يستج ّد من مسائل ،سواء عبر اللجوء إلى الس ّنة مباشر ًة أم من خالل األئمة
عليھم السالم ،وﷲ عز وجل لم ينزل دينا ً ناقصا ً إلى نبيه صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،وأنّ النبيّ بلّغه كامل ،ولكن الصيغة
الكاملة من األحكام لم يبلّغھا النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم لعامة الناس ،وإنما خصّ بھا اإلمام عليا ً عليه السالم واألئمة
من بعده وأمرھم ببيانھا للناس .ويتفرّ ع على ھذا االعتقاد:
فإنّ النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم المبلّغ لألحكام اإللھية ال يمكن أن يخطئ في قوله ،وال يجوز في ح ّقه اإلشتباه ،بل ھو
مس ّد ٌد من ِق َب ِل ﷲ ،فكذلك ينبغي لوصيّه وخليفته في تبيين األحكام.
وإذا كان لإلمام منصب المرجعية الدينية ،فضالً عن القيادة والحاكمية ،ويت ّم تنصيبه من قبل النبي صلى ﷲ عليه وآله
وسلم ،فھو معصوم عن الخطأ واإلشتباه .وعليه ال معنى للبحث عن نظام الحكم في اإلسالم ھل ھو إنتخاب أو شورى مع
وجود اإلمام ،كما لم يكن معنى له في النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،وال معنى للبحث عن اشتباھه وخطئه وما شابه
ذلك.
تتبنى مدرسة أھل البيت عليھم السالم القول بأنّ النبي أوصى ونصّب إماما ً من بعده وھو علي عليه السالم ،ويقوم بتبيان
فارق ھو أن ما
ٍ أحكام الدين وتعاليم السماء كالنبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،وال مجال لإلشتباه والخطأ في ح ّقه ،مع
يصدر عن النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم كان يصدر بمباشرة الوحي للنبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،وأما ما يصدر عن
علي عليه السالم فھو يستند إلى
289
النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،عبر ما تل ّقاه منه صلى ﷲ عليه وآله وسلم.
ونحن نجھل كيف حصل ھذا األمر ،كما نجھل كيف كان النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم يتلقى الوحي اإللھي .وقد ورد
ب ألف باب( ،كما يتحدث في عن اإلمام علي عليه السالم قوله) :علّمني رسول ﷲ ألف باب من العلم ،ينفتح لي من ك ّل با ٍ
خطبة له في نھج البالغة عن االرتباط الوثيق بينه وبين النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم حيث يقول عليه السالم) :ولقد
سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،فقلت يا رسول ﷲ ما ھذه الر ّنة؟ فقال ھذا الشيطان
أيس من عبادته .إ ّنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إال أ ّنك لست بنبي ،ولكنك وزير وإ ّنك لعلى خير(.17
290
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
يتفق الفريقان على أھميّة اإلمامة ،ويختلفان في مفھومھا .وھذا اإلختالف ھو منشأ إعتبار مدرسة أھل البيت علي ھم ال سالم
اإلمام َة أصالً من أصول الدين ،فيما اعتبرتھا مدرسة الخلفاء فرعا ً من فروعه ،وھذا يدلّنا على أنّ الخالف يت جاوز م سألة
شخص اإلمام إلى مفھوم اإلمامة.
وقد طرحت مسألة اإلمامة بشكل بسيط من قبل الكثيرين ،فاختصرت بمسألة الحكومة ،وبالتالي تصبح اإلما مة م جرّ د أ مر
وال على منطقة ما.
إداري شأنه شأن قيام النبيّ بنصب ٍ
أما الطرح الصحيح للمسألة فھو ما تخ تص به مدر سة أ ھل الب يت علي ھم ال سالم من أنّ ب يان المرجع ية الدين ية ب عد الن بيّ
األكرم صلى ﷲ عليه وآله وسلم ھي لألئمة المعصومين الذين عينوا من ق بل ال نبيّ ،في مقا بل مدر سة الخل فاء ا لتي ترى
إنقطاع البيان الواقعي لألحكام بوفاة النبيّ األكرم صلى ﷲ عليه وآله وسلم.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ما معنى اإلمامة عند مدرسة الخلفاء ومدرسة أھل البيت عليھم السالم ؟
-2ما ھي وظائف وشؤون النبي األكرم صلى ﷲ عليه وآله وسلم ؟
-3ما ھي مراتب اإلمامة وأين تختلف مدرسة أھل البيت عليھم السالم عن الفرق األخرى؟
-4بماذا تستدل مدرسة أھل البيت عليھم السالم على اإلمامة؟
-5ما ھي النتائج المترتبة على اختالف المدرستين حول مسألة اإلمامة؟
ﻫﻮاﻣﺶ
م جداً؛ ألن ذلك يعطي الحديث قوّة في إثبات صدوره عن النبي.P
أمر مھ ٌ
-1وھذا ٌ
-2وسائل الشيعة ،ج 16ص ،246باب 33من أبواب األمر بالمعروف ،ط مؤسسة آل البيت.
-3كنز العمال ،ج 1ص ،103مؤسسة الرسالة.
-4صحيح مسلم ،ج 6ص ،22دار الفكر.
-5شرح نھج البالغة ،ابن أبي الحديد المعتزلي ،ج 13ص ،242دار إحياء الكتب العربية.
-6وسوف تتضح ھذه الفروقات من خالل فھم مراتب اإلمامة في ھذا البحث.
-7األنبياء.73 :
-8القصص.41 :
-9سيأتي تعريف اإلمامة في مبحث اإلمامة عند العقل.
-10الحشر.7 :
-11النساء.65 :
-12النساء.59 :
-13وواضح أن الحكومة من الفروع ال من أصول الدين ،وال تعدو في وجھة نظر مدرسة أھل البيتRأن تكون شأناً من شؤون اإلمامة.
ن لـي شـيطانا يعتر يني (...اإلمامـة والسياسـة ،ابـن
أخطـأت فقوّمونـي ،إ ّ
ُ أحسنت فأعينوني ،وإن
ُ ولست بخيركم ،فإن
ُ -14كقول أبي بكر) :أيّھا الناس ،إنّي ول ّيتكم
ل الناس أفقه من عمر حتى ربّات الحجال ،أال تعجبون من إمام أخطأ ومــن امـرأة
قتيبة ،ج 1ص .2وقول عمر بعد أن أظھرت امرأ ٌة خطأه في مسألة صداق النساء) :ك ّ
فاضلت إمامكم ففضلته؟( شرح نھج البالغة ،ابن أبي الحديد ،ج 3ص .113
ْ أصابت،
-15نعم لم يعتمد جميع أتباع مدرسة الخلفاء على القياس ،فقد أنكره أحمد بن حنبل ولم يمارسه مالك بن أنس .ولكن ما حصل مع أبي حنيفـة ھـو أنـه فتـح البـاب
واسعاً أمام القياس ،وق ّ
ل اعتماده على الروايات ،بل قيل إنه لم يعمل سوى بـ ) (15حديث ،وأما الشافعي فقد استخدم السنّة كما استخدم القياس.
-16وسوف نتعرّض للعصمة في بحث مستقل إن شاء ﷲ تعالى.
-17نھج البالغة ،خطب اإلمام علي عليه السالم ،خطبة .192
اﻟﻌﻘﻠﻲ
ّ اﻟﺪرس اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﺸﺮ :اﻟﺪﻟﻴﻞ
أھداف الدرس
293
واضح أن م حل
ٍ بشكل
ٍ بعد أن تعرّ ضنا في البحث السابق لمفھوم اإلمامة ومراتبھا ،وأشرنا إلى أنھا استمرار للنبوة ،وظھر
الــنزاع فــي المرتبــة الثانيــة لإلمامــة وھــي المرجعيــة الدينيــة ،حــان الوقــت للــدخول فــي البحــوث االســتداللية علــى
اإلمامة.والترتيب المنطقي للبحث أن نذكر األدلة العقلية ،ثم القرآنية ،ثم الروائ ية .ول ھذا كان ترتيب نا للب حوث ع لى ال شكل
المذكور.
لقد ذكر الشيخ نصير الدين الطوسي ھذا الدليل في جمل ٍة واحد ٍة بقوله) :اإلمام لطف في جب ن صبه ع لى ﷲ ت عالى تح صيالً
للغرض( 1وقد قام علماء مدرسة أھل البيت عليھم ال سالم ب شرحھا .و كان ا ستداللھم من ص ّبا ً ع لى إما مة اإل مام ع لي عل يه
السالم ،ومتى ثبتت إمامته ،أمكن االستدالل على إما مة األئ مة ال باقين علي ھم ال سالم من ب عده .وب يان ھذا ا لدليل ي تم ع بر
المقدمات التالية:
295
-v1إنّ اإلسالم دينٌ يشمل جميع شؤون الحياة الب شرية ،و ھذا أ م ٌر ي شھد به وا قع ھذا ا لدين ،ف ما من واق عة إال و في ھا
حكم.
-2إنّ الفرصة لم تتوفر للنبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم خالل مدّة رسالته ،والتي استمرت ثالثة وعشرين عا ماً ،كي يعل مّ
الناس اإلسالم كامالً بك ّل ما ينطوي عليه ،وإن كان النبيّ صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم قد قام بب يان ك ّل ما أمك نه من أح كام
وتعاليم.
شخص أو مجمو عة أ شخاص من ٍ ً ُ
-3إ ّنه من الم ستحيل أن ي كون ھذا ا لدين قد ت رك بيا نه ناق صا ،و لذا ال ب ّد من و جود
الصحابة تل ّقت اإلسالم من النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم كامالً ،وإستوعبته ،ليكون من وظيفتھا بيان ھذا ا لدين ب عد و فاة
النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم.
-4إنّ م ثل ھذا ال شخص مو جو ٌد ع ند مدر سة أ ھل الب يت علي ھم ال سالم و غير مو جود ع ند أت باع مدر سة الخل فاء .و ھذا
ناقص ،و لذا ل جأوا إ لى الق ياس ح ين و جدوا أ مامھم م سائل ٍ كدين
ٍ اإلختالف ھو الذي أدّى بأھل الس ّنة إلى معام لة اإل سالم
جديدة ال يملكون جوابا ً لھا ،واستنكر أتباع مدرسة أھل البيت عليھم السالم الق ياس تب عا ألئمت ھم ،ك ما وأدا نوا اإل ّد عاء بأنّ
ً
الدين كان ناقصا ً .ولذا ورد عن أمير المؤمنين علي عليه السالم في نھج البالغة قوله):أم أنزل ﷲ دينا ً ناقصا ً فإستعان ب ھم
على إتمامه(2
وقد ورد العديد من الروايات عن أھل البيت عليھم السالم تتحدث عن أنّ ما من شي ٍء من الحالل وال حرام إال و قد جاء به
كتابٌ أو س ّن ٌة.
والنتيجة التي نصل إليھا في مسألة اإلفتراق بين المدرستين ھي :أنّ النبيّ صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم قام -باعت قاد مدر سة
أشخاص بعينھم ،لھم
ٍ أھل البيت عليھم السالم بتعيين
296
ٌ
قدسية ليكونوا خلفاء من بعده .والدليل على ذلك ھو نفس الضرورة التي دعت إلى إرسال ال نبيّ صلى ﷲ عل يه وآ له ٌ
جنبة
وسلم ،بينما ترك النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم -باعتقاد مدرسة الخلفاء -األم َة ھمالً ومضى.
ولع ّل شرح دليل اللطف بشكل أ كثر و ضوحا ً ي ت ّم عبر الم ثال ال تالي :إنّ أي ب ل ٍد ي قوم بت صنيع ج ھاز ما مت طوّ ر أو معق ّد،
كب عض أ نواع ال طائرات الحرب ية ،ال ب ّد له ع ندما ي قوم بب يع وت صدير ھذا الج ھاز إ لى ا لدول األ خرى من إر سال خب ٍ
ير
متخصص يشرح كيفية عمل ذلك الجھاز .وال شك أنّ ھذا الخبير لسنا بحا ج ٍة له إذا أرد نا ت صدير حا جة ب سيطة كالق ماش ٍ
بير ،ال
شخص خ ٍ
ٍ ٌ ٌ
مثالً .وعليه فإن دينا كاإلسالم ال يمكن أن ينظر إليه على أنه حاجة بسيطة كالقماش ،بل ال بد من وجود
ً
يمكن أن يقع في الخطأ أو الھوى ،يتحمّل مھمّة بيان ھذا الدين وتوضيحه لل ناس .إن م ثل ھذا ال شخص ھو اإل مام بح سب
اعتقاد مدرسة أھل البيت عليھم السالم .والمراد من ع بارة )الل طف( ا لتي وردت في كالم الطو سي ھو ھذه الحا جة إ لى
الشخص الذي يتولى ھداية الناس إلى ا لدين ،و ھي حا جة ضروريّة للب شر .وتع تبر ھذه القا عدة ھي أ ساس ا لدليل العق لي
على اإلمامة.
بعد أن تبيّن أنّ اإلمامة لطفٌ واجبٌ من ِق َب ِل ﷲ سبحانه كالنبوّ ة ،وأن اإلمام والنبي ال ب ّد أن يكو نا مع صومين ،ألن ال سبب
الموجب لعصمة النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم ھو الموجب لع صمة اإل مام عل يه ال سالم ،أال و ھو انق ياد ال ناس وطاعت ھم
له ،يظھر أنّ اإلمامة كالنبوّ ة .فكما أن تعيين النبيّ صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم ي كون من ﷲ ف كذلك تعي ين اإل مام ي كون من
ﷲ .وفي كليھما ال شأن للناس بتشخيص من ھو النبيّ أو اإلمام،
297
غاية األمر أن طريق تعيين النبيّ للناس يكون عبر المعجزة واآليات اإللھية ،وأما طريق تعي ين اإل مام ف ھو ي ت ّم من خالل
النبيّ ،أي بالنصّ من قبله على ذلك.
وھنا ننتقل باالستدالل إلى مرحلته األخيرة ،وأ ّنه إذا ثبت ضرورة النصّ على اإلمام والخليفة من قبل النبيّ صلى ﷲ عل يه
وآله وسلم ،فإنّ ذلك يالزم ثبوت اإلمامة لعلي عليه السالم.
وتوضيح ذلك أنّ الخالف بين المدر ستين ال ين صبّ في م سألة أنّ ال نبيّ صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم نصّ ع لى ع لي عل يه
السالم أو على غيره ،بل ال أحد يختلف في أنه ال نصّ على غير علي عليه السالم ،ولذا لم يد ِّع أح ٌد وجود نصّ ع لى غ ير
علي عليه السالم ،حتى الخلفاء أنفسھم لم تصدر منھم دعوى النصّ على أنفسھم ،بل الخالف ب ين المدر ستين في أن الن بيّ
صلى ﷲ عليه وآله وسلم ھل نصّ على إمامة أح ٍد -وھو ما تتبناه مدرسة أھل الب يت علي ھم ال سالم أو لم ي نصّ ع لى أ ح ٍد-
وھو ما تتب ناه مدر سة الخل فاء-؟ و متى ما ث بت ضرورة ال نصّ فال ب ّد أن ي كون ال نصّ ع لى ع لي عل يه ال سالم .وبع بارة
مختصرة إنّ ھناك مالزمة بين القول بضرورة النصّ على اإلمام وكون المنصوص عليه ھو علي عليه السالم ،فمتى ثبت
األول ثبت الثاني ،وبھذا يتم الدليل الكالمي على اإلمامة ،ويثبت لنا إمامة اإلمام علي عليه السالم.3
كمقام
ٍ والنتيجة ھي إنّ دراسة مسألة اإلمامة بالنحو المتقدم ،والنظر إليھا
298
يقوم فيه اإلمام ببيان أحكام الدين ،توصل إلى أنّ أحداً لم ي ّد ِع لغير اإلمام علي عليه السالم ھذا األمر.
ورد عن اإلمام الصادق عليه السالم في جوابه للسائل الذي سأله :من أين أثبت األنبياء والرسل؟
)قال عليه السالم :إ ّنا لمّا أثبتنا أن لنا خالقا ً صانعا ً متعاليا ً ع ّنا وعن جميع ما خلق ،وكان ذلك الصانع حكيما ً متعاليا ً لم ي جز
أن يشاھده خلقه ،وال يالمسوه ،فيباشرھم ويبا شروه ،وي حاجّ ھم وي حاجّ وه ،ث بت أنّ له سفراء في خل قه ،ي عبرون ع نه إ لى
خلقه وعباده ،ويدلّونھم على مصالحھم ومنافعھم و ما به ب قاؤھم و في تر كه ف ناؤھم ،فث بت اآل مرون وال ناھون عن الحك يم
العليم في خلقه والمعبرون عنه جل وعز ،وھم األنبياء عليھم السالم وصفوته من خلقه ،حكماء مؤدبين بالحك مة ،مبعوث ين
بھا ،غير مشاركين للناس -على مشاركتھم لھم في الخلق والتركيب -في شيء من أحوالھم ،مؤيدين من ع ند الحك يم العل يم
بالحكمة ،ثم ثبت ذلك في كل دھر وزمان م ما أ تت به الر سل واألنب ياء من ا لدالئل وا لبراھين ،لك يال تخ لو أرض ﷲ من
حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته(.4
إنسان له خا صية اإلت صال با ،بن حو يتم كن من تلق ّي الو حي وإبال غه
ٍ إنّ ھذه الرواية تثبت بوضوح أ ّنه ال ب ّد من وجود
للناس .وما ذكره اإلمام عليه السالم في ھذه الرواية ھو عبارة عن الدليل العقلي ع لى ضرورة الن بوّ ة ،و ھذا ا لدليل يظ ھر
بوضوح في آخر الرواية حيث يتحدث عن ضرورة وجود ھذه الوسائط في ك ّل
299
وزمان.(...
ٍ دھر
األزمنة فيقول) :ث ّم ثبت ذلك في ك ّل ٍ
ب -عصمة اإلمام
إشتھر قول الشيعة بعصمة األئمة عليھم السالم .وھذا أم ٌر إختصوا به من بين الفرق اإل سالمية .و لذا يت ساءل الب عض عن
العصمة ،وھل أ ّنھا أم ٌر اخترعه ال شيعة أو ال؟ و ما م عنى أن ي كون اإلن سان مع صوماً؟ ف ھل ت عني الع صمة أن ال ي قع في
المعصية فقط ،أو أ ّن ھا ت عني أي ضا ً عدم و قوع المع صوم في اإل شتباه والخ طأ؟ وإذا كان كذلك ،فك يف نفس ّر ب عض آ يات
القرآن الكريم التي ظاھرھا نسبة المعصية لألنبياء عليھم السالم ؟ وما وقع في التاريخ من قيام األئمة عليھم السالم بب عض
األعمال التي تبدو للوھلة األولى أنھا معصية أو خطأً ،ويعترض عليھا البعض بأنه لو فعل غير ذلك لكان أفضل؟ والكث ير
من الحوادث من ھذا القبيل والتي تحتاج إلى تفسير معقول ومقبول ينسجم مع عصمة اإلمام.
وتظھر اإلجابة على ك ّل ھذه األسئلة من خالل شرح حقيقة العصمة وتوضيحھا.
حقيقة العصمة:
صمة تمن عه من إرت كاب ب عض األ مور ،وت لك الع صمة تن شأ من اإلي مان الكا مل ً إن ك ّل إن سان ي جد في نف سه أنّ لد يه ع
ّ ّ
شاھق أو في ال نار ،مع أن نا نتمك ن من ذ لك،
ٍ بالمخاطر المحيطة بذلك األمر ،فمثالً ال يقدم أ ح ٌد من ا ع لى ر مي نف سه من
ّ
ولكن علمنا بمخاطر ذلك األمر يجعلنا ال نقدم عليه ،بينما نجد أنّ الطفل الذي ليس لديه عل ٌم بمخاطر النار يقدم على م ّد يده
إليھا.
عليھا .وذلك يرجع إلى درجة اإليمان بمخاطر العمل .ولذا نجد أ ّننا ال نقدم على مثل شرب الخمر أو لعب القمار ل ما نرى
آثار سلبيّة وإجتماع ية تتر تب ع لى ذ لك .و ھذا األ مر قد يح صل حتى ل غير الم سلم،
فيھما من مساوئ ،أو لما نشاھده من ٍ
ُ
بمخاطر الذنوب ازدادت عصمته عن مقاربتھا.
ِ وكلّما إزداد إيمان الشخص
إحاطة وعل ٌم وإيمانٌ بمخاطر الذنوب ،بحيث تتجس ّد أما مه ھذه الم خاطر فال ي قدم ٌ وبھذا يظھر لنا أنّ المعصوم إنسانٌ لديه
على إرتكابھا .والعصمة ھي اإلمتناع عن إرتكاب الذنوب نتي جة ھذا الع لم و ھذا اإلي مان ،فالمع صوم يع لم وي شعر وجدا نا ً
بأنّ اإلساءة بالقول لآلخرين ھي بمثابة أن يسلّط اإلنسان عقربا ً على نفسه ،ولذا يمتنع عن القيام بمثل ھذا العمل .وقد أشار
وال أَنْ َرأى ُب ْرھَـانَ
م بِھ َ ا لَـ ْ ه َو َ
ھـ ﱠ ت بِ ِ
م ْ قدْ َ
ھ ﱠ القرآن إلى حقيقة العصمة ھذه في قصة يوسف عليه السالم فقال ت عالىَ ﴿ :
ولَ َ
ِين.﴾5
مخْ لَص َع َبا ِدنَا ا ْل ُ
ِن ِ
هم ْ
شا َء إِنﱠ ُ السو َء َوا ْلف ْ
َح َ ﱡ رفَ عَ ْن ُ
ه ص ِ ك َذلِ َ
ك لِ َن ْ ه َ
َربِّ ِ
فتد ّل اآلية على أن يوسف عليه السالم ھو إنسانٌ لديه غريزةٌ ،وأنَّ ھذه الغريزة كادت تؤدي به إ لى الم يل إ لى ت لك ال مرأة
لوال ما لديه من برھان ربّه .لقد كان ليوسف عليه السالم من اإليمان الكامل ما يمنعه من اإلقدام على م ثل ھذا الع مل .بل
لم يھ ّم بالمعصية بسبب وجود ھذا البرھان وھو العصمة.
وفي رواية عن اإلمام أمير ال مؤمنين عل يه ال سالم أن ّه قال ) :لو ك شف لي الغ طاء ما ازددت يقي نا ً( .6فالم خاطر المحي طة
بالذنوب تتجسّد أمامه بحيث يتساوى الحاضر المشھود منھا والغائب.
301
ذھب بعضھم إلى تفسير العصمة بشكل خاطئ ،ح يث ج عل الع صمة نو عا ً من الم نع اإلل ھي عن ارت كاب ا لذنوب ،أي إنّ
المعصوم خاضع للرقابة اإللھية الخاصة بنحو كلّما ھ ّم بارتكاب المعصية منعه ﷲ من ذ لك فوراً .ويت صوّ ر ھؤالء أنّ ﷲ
نع المع صوم من ارت كاب ا لذنوب .فالمع صوم ي ھ ّم بالمع صية ويفك ّ ر ب ھا ول كنّ ﷲ ي قف حائالً أ مام قيا مه
وك ّ ل مل كا ً بم ِ
بارتكابھا فعالً وخارجا ً.
ّ
ستحق علي ھا ھذا النحو من تفسير العصمة خاطئ جداً ،ألنھا إذا كانت كذلك ،فھذا يعني أنھا ال ُتع ّد كماالً للمع صوم ،و لن ي
طفل معيّن ،بنحو يمنعه من
ٍ أي مديح ،وذلك واض ٌح لكل من الحظ المثال التالي :فإ ّننا لو افترضنا أن أحدھم اعتنى بمراقبة
دائم ،فإنّ ھذا اإلمتناع للطفل عن الوقوع بالخطأ لن يُسجّ ل كماالً له.
بشكل ٍ
ٍ الوقوع في ما ال ينبغي
إنّ التفسير الصحيح للعصمة ھو بما يرجع إلى وجود حال ٍة خاص ٍة لدى المعصوم تمنعه من ارت كاب ا لذنوب ،و ھذه الحا لة
ھي محل البحث.
العصمة عن الخطأ:
إنّ ما تقدم كان شرحا ً لمسألة العصمة عن الذنوب ،وأما العصمة عن الخ طأ ف ھي م سألة أ خرى ،ح يث ي سأل الب عض عن
الدليل على كون النبي صلى ﷲ عليه وآله و سلم أو اإل مام عل يه ال سالم مع صوما ً عن الخ طأ واإل شتباه في التبل يغ .فالن بي
صلى ﷲ عليه وآله وسلم بيّ ◌ّ ن لنا
302
إنّ النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم واإلمام عليه السالم ال ب ّد وأن يكونا معصومين في بيان األحكام الشرعية وتعاليم الدين،
والدليل على ذلك ھو أنّ النبي واإلمام لو لم يكونا معصومين في ذلك وكان باب الخ طأ واإل شتباه مو جوداً في حقّھ ما ف ھذا
يعني أن ال تكون لدينا ثقة بكالم النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم أو اإلمام عليه السالم ،وھذا يت نافى مع كون نا نتل قى أح كام
الدين وتعاليم اإلسالم منھما.
إ ّننا نستطيع أن نثبت ذلك من خالل مالح ظة ا لدليل العق لي ع لى اإلما مة ع ند مدر سة أ ھل الب يت علي ھم ال سالم ،ووظي فة
اإلمام عند الشيعة ،فإن اإلمام ھو مبلّغ للدين عن النبي ،وذلك ألن أحكام اإلسالم لم يتم بيانھا من ق بل ال نبي بتمام ھا لعا مة
الناس ،وذلك ألن مجموعة من األسباب منھا ضيق الفترة التي عاشھا النبي بعد البعثة والھجرة منعته من بيان جميع أحكام
الدين ،فقام النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم بإبالغ اإلمام بھا والذي يقوم بدوره ببيانھا لسائر الناس .فإذاً ،اإلما مة إ ستمرار
لوظيفة النبوّ ة في بيان أحكام الشريعة ،وھذا أمر اختصت به مدرسة أھل البيت عليھم السالم دون مدر سة الخل فاء .إنّ ھذا
الدليل العقلي على مسألة اإلمامة ھو نفسه الدليل ا لذي يقود نا إ لى ال قول بالع صمة ،ألن نا متى آم نا بأنّ اإل مام ھو الحا فظ
للشريعة وھو القيّم عليھا الذي نرجع إليه لمعرفة اإلسالم ،فال بد أن يكون معصوما ً.
إننا إذا أردنا أن نالحظ النبوّ ة نجد أننا إنما التزمنا بالعصمة
303
لألنبياء عليھم السالم ألن من يبع ثه ﷲ ھاد يا ً لل ناس ال ي جوز عل يه الخ طأ والمع صية ،وإال لم يتب عه ال ناس أل نه يخ طئ،
وبذلك ينتفي الغرض من بعثته .إن ھذا الكالم بنفسه يأتي في م سألة اإلما مة ،ألن ھا ح يث كا نت ھي اال ستمرار للن بوة في
مجال بيان الدين وكان على الناس اتباع اإلمام وأخذ معالم الدين منه ،كان ال بد أن يكون معصوما ً من الخطأ.
طريق آخر:
﴿وأَطِي ُ
عـو ْا كما أن العصمة يمكن أن نثبتھا بطرق أخرى منھا :أننا كمسلمين مأمورون بطا عة اإل مام ك ما في قو له ت عالى:
ُم .﴾7فلو كان الخطأ ممكنا ً في حقّه لوجب اإلن كار عل يه من ق بل اآل خرين ،و ھذا
ر مِنك ْ و ُأ ْولِي األ َ ْ
م ِ ل َ
سو َ وأَطِي ُ
عو ْا ال ﱠر ُ ﷲ َ
يتنافى وبوضوح مع األمر بطاعته.
ولكن ھذا اال عتراض غير صحيح ،ألن نا ن سأل الم عترض عن ذ لك ال شخص اآل خر ا لذي ينب غي أن ي قوم بمھ مة الت سديد
لإلمام ،ھل ھو معصوم أو يحتاج ھو أيضا ً إلى من يسدده؟ وھكذا يتسل سل األ مر إ لى ما ال نھا ية ،و بذلك يظ ھر أ نه ال بد
معصوم بال حاجة إلى وجود شخص آخر يسدده.ٍ شخص
ٍ من وجود
304
س َتقِيماً.﴾9 ص َراطاً ُ
م ْ ك ِ
ديَ َ ه عَ لَ ْي َ
ك َويَ ْھ ِ م َت ُ
م نِ ْع َ ما تَأَ ﱠ
خ َر َو ُيتِ ﱠ ك َو َ َ
ذ ْنبِ َ
فكيف تنسجم ھاتان اآليتان وغيرھما من اآل يات ا لتي تت عرض ل ما يظ ھر م نه مع صية لألنب ياء علي ھم ال سالم مع اإل لتزام
بعصمتھم؟
عة لدر جة اإلي مان لدى ال شخص المع صوم .وح يث كان اإلي مان ع لى إت ضح ب ما ت قدم من تف سير الع صمة أن ھا ت كون تاب ً
درجات ،فالعصمة أيضا ً على درجات .والمعصومون ال يمكن أن يقدموا على ما نقدم عليه نحن من الذنوب أحيانا ،بل ھم
ً
مع صومون أمام ھا .ول كن للمع صومين أنف سھم مرا حل ومرا تب ولي سوا سواء ،ف قد ال يم لك بع ضھم الع صمة في كل
المراتب ،وما يع ّد ذنبا ً بالنسبة إلي ھم ھو من الح سنات بالن سبة إلي نا ،ألن نا لم نب لغ ت لك المرت بة و لذا ق يل )ح سنات األ برار
سيئات المقربين( ،أي إن األمر خاضع لدرجات القرب من ﷲ.
وبھذا يت ّم تفسير منطق القرآن في نسبة المعصية لألنبياء عليھم السالم .فالسيئات التي يتحدث عنھا ال قرآن ھي ع بارة عم ّا
نعتبره نحن من الحسنات ،وليس ھو من المعاصي التي تدخل في اآلثام.
ومن األسئلة التي تثار حول العصمة ھو السؤال عن بعض ما صدر عن اإل مام ع لي عل يه ال سالم من تعي ين ع بد ﷲ بن
عباس واليا ً على البصرة مع قيامه بسرقة بيت المال واللجوء إلى معاوية ،و قد ي صل األ مر بالبعض إ لى اعت بار ذ لك من
األخطاء التي صدرت عن اإلمام عليه السالم ،وأن اإلمام عيّن ھذا ال شخص مع و جود أ شخاص آ خرين يم كن أن يقو موا
بھذه المھمة.
305
والجواب:
أوالً :إنّ أول ما ينبغي أن نلفت النظر إليه ھو أن إصدار أحكام سريعة على أحداث جرت قبل م ئات ال سنين ودون إحا طة
شخص عاش قبل خمسمائة سنة بالقول :إ نه لو ف عل كذا
ٍ تامة ھو خطأ في حد نفسه .إ ّننا ال نستطيع أن نحكم على ممارسة
لكان أفضل أو نحو ذلك.
ثانيا ً :إنّ اإلمام عليه السالم عاش الوقائع بنفسه ،وھو يعرف عبد ﷲ بن ع باس ت مام المعر فة .واآلن ھل ي ستطيع أ حد أن
يثبت وجود أشخاص أكفاء ومؤھلين وتركھم اإلمام ولم يعتمد عليھم؟ إن الجواب ھو بالنفي.
ثالثا ً :ث ّم إ ّننا ال بد من مالحظة الظروف والمرحلة التي كان يعيشھا اإلمام علي عليه السالم ،فإ ّننا ن جد اإل مام ي صرّ ح بأ نه
ال يجد أفراداً مؤھلين وأن الوقت ليس مناسبا ً لخالفته .لقد كان اإلمام يرى نفسه ھو األحق بالخالفة من بدا ية األ مر ،و ھذا
أمر يعترف به الفريقان ،ولكننا نجده يقول لمن جاء يريد مبايعته) :دعوني والتسموا غيري ،فإن ّا م ستقبلون أ مراً له و جوه
وألوان ...وإنّ اآلفاق قد أغمّت والحجة قد تن ّكرت(.
ثم يقول اإلمام )لوال حضور الحاضر ،وقيام الحجة بوجود الناصر .10(...فاإلمام إنما قام بتولي شؤون الخالفة ألنه لم ي عد
عذر في االبتعاد ،مع أنّ الفرصة للقيام بعملية تغيير تامة لم تكن مؤاتية ،ولم يكن يم لك من األ فراد من يعي نه في
لديه من ٍ
مھمته ھذه.
306
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
-الدليل العقلي على اإلمامة مؤلف من مقدمات:
-العصمة ھي عبارةٌ عن إبعاد احتمال االشتباه والخطأ أو اتباع الھوى ،والدليل العقلي على اإلمامة ھو الدليل العقلي ع لى
حق من نأ خذ م نه م عالم ا لدين ،النت فى ال غرض منالعصمة ،ألن احتمال الخطأ والمع صية واال شتباه إن كان وارداً في ّ
وجوده.
-إنّ الدليل العقلي المتقدم يثبت لنا وجوب النصّ على الخليفة واإلمام بعد النبيّ صلى ﷲ عليه وآ له و سلم ألن معر فة م ثل
ھذا الشخص غير ممكن إال من خالل النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم.
-إنّ ھذا النص منحصر باإلمام علي عليه السالم ألن أحداً لم يذھب إلى القول بوجود نصّ على غيره.
-تختص مدرسة أھل البيت عليھم السالم من بين الفرق اإل سالمية بالتزام ھا بالع صمة لالئ مة خل فاء ال نبي صلى ﷲ عل يه
وآله وسلم.
-إنّ حقيقة العصمة ھي أنھا عبارة عن اإلي مان ال شديد بم خاطر ا لذنوب ،فالمع صوم ي شعر حقي قة بآ ثار ا لذنوب فال ي قدم
عليھا.
يصوّ ر البعض العصمةعلى أ ّنھا عبارة عن نوع من الرقابة اإللھية ،تمنع المعصوم من اإلقدام على ارتكاب الذنوب ،و ھذا
تصوير خاطئ ألنه سوف ينفي أي فضيلة للمعصوم.
عاص خا صة ب ھم تاب عة لدرجات قرب ھم-إن التفسير الصحيح لآليات التي تنسب المعصية لألنب ياء ھو أن ھا تت حدث عن م ٍ
وحاالتھم.
-إن الدليل العقلي الذي تعتمد عليه مدرسة أھل البيت عليھم السالم إلثبات اإلمام الحافظ للشريعة بعد النبي ھو ا لدليل ع لى
كون مثل ھذا الشخص معصوما ً.
فعل من أفعال المعصوم ھو أنّ ذلك كان نتيجة عدم معرفتنا بالظروف المحيطة بذ لك -إنّ الجواب على أي سؤال حول أي ٍ
العمل.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ھل يوجد دليل من العقل على اإلمامة؟
-2كيف يثبت الدلي ُل العقلي إمام َة علي عليه السالم ؟
-3ما ھو التفسير الصحيح للعصمة؟
-4ما ھو التفسير الخاطئ للعصمة؟
-5ما ھو الدليل على عصمة المعصوم عن اإلشتباه والغفلة؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1كشف المراد ،طبع مؤسسة النشر اإلسالمي -قم ،ص.362
م فيه اختالف العلماء في الفتيا ،رقم .18
-2من كالم له يذ ّ
-3وما ذكرناه يأتي في مسألة العصمة ونكرّر فيه ما تقدم فنقول :حيث ثبت لنا ضرورة أن يكون من يقوم ببيان أحكام الدين وتعاليم اإلسالم معصـوماً ،فھنـا ال ب ّ
د مــن
أن يكون ھو اإلمام علي عليه السالم ،وذلك ألن أحداً لم يذھب إلى عصمة غيره ،بل من تصدى للخالفة غير اإلمام علي عليه السالم اعترف بالخطأ واإلشتباه ولـذا
ن لي شيطانا يعتر يني ،(...اإلمامـة والسيا سة، أخطأت فقوّموني ،إ ّ
ُ أحسنت فأعينوني ،وإن
ُ ولست بخيركم ،فإن
ُ اشتھر عن أبي بكر قوله) :أيّھا الناس ،إنّي ول ّيتكم
ل الناس أفقه من عمر حتى ربّات الحجال ،أال تعجبـون مـن إمـام أخطـأ ومــن ابن قتيبة ،ج 1ص .2وقول عمر بعد أن أظھرت امرأ ٌة خطأه في مسألة صداق النساء) :ك ّ
فاضلت إمامكم ففضلته( ،شرح نھج البالغة ،ابن أبي الحديد ،ج 3ص .113وكان علي عليه السالم يصحح ما يقـع فيـه عمـر مـن الخطـأ حتى اشـتھر
ْ امرأة أصابت،
قوله) :لوال علي لھلك عمر( ،وھكذا تنحصر العصمة في اإلمام علي عليه السالم ،وال معصوم غيره وبنيه.R
-4الكافي ج ،1كتاب الحجة ،ص .168
-5يوسف.24 :
-6سفينة البحار ج 2ص .734
-7النساء.59 :
-8طـه.121 :
-9الفتح.2 :
ي ،بحار األنوار ،ج 29ص ،499دار الرضا -بيروت.
-10العالمة المجلس ّ
اﻟﺪرس اﻟﻌﺸﺮون :اﻹﻣﺎﻣﺔ ﻓﻲ اﻟﻘﺮآن
أھداف الدرس
309
تمھيد:
تبيّن من األب حاث ال سابقة أن ال خالف في اإلما مة ل يس في شخص اإل مام ،وإن ما ت عدّاه إ لى أ صل ث بوت اإلما مة بمعنا ھا
األوسع من الحكومة والسلطة ،بما يشمل المرجعية الدينية بعد النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،وأنه من الخ طأ ما و قع به
الكثير من علماء الكالم في اشتباه عند تصويرھم للنزاع بين المدرستين في شخص اإل مام ،فك ما أن الن بوّ ة ال ت عني الح كم
ف قط ،بل الن بوّ ة تت ضمن العد يد من ال شؤون من ضمنھا م سألة الح كم ،كذلك ھي اإلما مة ع ند مدر سة أ ھل الب يت علي ھم
السالم ،بينما في المقابل حصرت مدرسة الخلفاء اإلمامة في مجال السلطة فقط.
اإلمامة والنبوة
إنّ مقام اإلمامة عند مدرسة أھل البيت عليھم السالم ھي أرفع شأنا ً من م قام الن بوّ ة ،فأنب ياء أو لي ال عزم علي ھم ال سالم ھم
الذين جمعت لھم اإلمامة إضافة إلى النبوّ ة ،وليس من الضروري أن يكون ك ّل نبي إماماً ،بل إنّ كثيراً من
311
مـاتٍ ه بِ َ
كلِ َ م َرب ﱡ ُ
ھي َ األنبياء عليھم السالم لم يصلوا إلى رتبة ومقام اإلمامة ،فقد ورد في ال قرآن ال كريمَ ﴿ :
وإِ ِذ ا ْب َتلَـى إِب ْ َرا ِ
ِين ﴾. فأَتَ ﱠ
1 ِن ُذ ِرّيﱠتِي َ ماماً َ ن َ َ
ال عَ ْھدِي الظﱠالِم َل ال يَ َن ُ
قا َ ل َوم ْ
قا َ اس إِ َ
ِ ك لِل ﱠن
ع ُل َ
جا ِ
ل إِنِ ّي َ
قا َ م ُھ ﱠ
ولمعرفة داللة اآلية على اإلمامة ،ال بد من معرفة اإلبتالءات التي عاشھا إبراھيم عليه السالم ،وموقفه منھا.
فقد ثبت إبراھيم عليه السالم أمام نمرود وألقي في النار ،وھو مسلّم ألمر ربه ،ثم إنه عليه السالم لم يرزق بذري ّة إال ع لى
كبر س ّنه ،ولما رزق بإب نه ،جاءه األ مر اإلل ھي بم غادرة بالد ال شام مع زوج ته وطف له إ لى الح جاز ،وأ مر بترك زوج ته
وطفله ھناك وحيدين والرجوع .إلى بالد الشام ،وقد امتثل عليه السالم أمر ﷲ بتسليم كامل ،وقد أشار تعالى إلى ھذا األمر
َل أَ ْفئ ِ َد ًة م َ
ِن اجع ْ
ف ْصـال َة َ
مـوا ال ﱠ
م َربﱠن َا ل ُِيقِي ُ
ح ﱠر ِ ك ا ْل ُ
م َ ع ْن َد بَ ْيتِ َ
ر ذِي َز ْرعٍ ِ وا ٍد َ
غ ْي ِ ِن ُذ ِرّيﱠتِي بِ َ
تم ْ
ك ْن ُ بقو لهَ ﴿ :ربﱠ َنا إِنِّي أَ ْ
س َ
ك ُرونَ .﴾2
ش ُ
م َي ْ م َراتِ لَ َ
علﱠ ُھ ْ ِن ال ﱠث َ م َوا ْر ُز ْق ُھ ْ
مم َ وي إِلَ ْي ِ
ھ ْ اس ت َْھ ِ
ِ ال ﱠن
وأشد ما تعرّ ض له إبراھيم عليه السالم ،و ھو يدل ع لى ت سليمه المط لق أ مام األوا مر اإللھ ية ،األ مر اإلل ھي بذبح إب نه إذ
ل يَـا أَبَـتِ ا ْفع ْ
َـل م َ ا ذا تَـ َرى َ
قـا َ ما َ
ظ ْر َ ك َ
فا ْن ُ م أَنِ ّي أَ ْذبَ ُ
ح َ ي إِنِ ّي أَ َرى فِي ا ْل َ
م َنا ِ قال:
ل يَا ُب َن ﱠ ْي َ
قا َ السع َ
ﱠ َه
مع ُ ما بَلَ َ
غ َ ﴿ َ
فلَ ﱠ
ين.﴾3
ر َ ِن ال ﱠ
صابِ ِ س َتجِ ُدنِي إِنْ َ
شا َء ﷲ م َ تُ ْؤ َ
م ُر َ
ين﴾4 ه لِ ْل َ
جبِ ِ ما أَ ْ
سلَ َ
ما َوتَل ﱠ ُ وھنا يتحدث القرآن عن تسليمه وتسليم إبنه المطلق أمام األمر اإللھي ،وما إن حانت اللحظة ﴿ َ
فلَ ﱠ
د ْي َنا ُه أَنْ يَا إِ ْب َراھ ُ
ِيم ﴿ َ
ونَا َ ،جاء النداء:
312
ين ،﴾5وھ كذا اج تاز إ براھيم عل يه ال سالم اإلمت حان اإلل ھي ،ف لم ي كن ال مراد
سنِ َ
ح ِ زي ا ْل ُ
م ْ َج ِ ك َذلِ َ
كن ْ د ْق َ
ت ال ﱡرؤْيا إِن ﱠا َ ص ﱠ َ
قدْ َ
ذبح ابنه بقدر ما كان المراد معرفة درجة التسليم التي وصل إليھا إبراھيم عليه السالم.
النبوة
ّ اإلمامة مقا ٌم بعد
أحدھما :إن اآلية ذكرت أن إبراھيم عليه السالم نال اإلمامة بعد أن اج تاز جم يع اإلب تالءات الرباني ّة ،و ھذه االب تالءات لم
تح ّل به إال بعد أن كان نب ّيا ً.
ثانيھما :إنّ إبراھيم عليه السالم بعد أن أعطاه ﷲ اإلمامة طلبھا عل يه ال سالم لذرّي ته ،و ھذا ي عني أن اإلما مة جاء ته عند ما
كان له ولد ،وھو عليه السالم لم يكن له ولد إال بعد النبوّ ة وبعد أن تقدّم به العمر.
فإذا كانت اإلمامة إلبراھيم عليه السالم بعد النبوّ ة -واآلية تتحدث عن أنھا منصب ومقام سوف يھبه ﷲ لنبيّه ،لم يصل إل يه
إبراھيم عليه السالم إال بعد أن إجتاز اإلبتالءات كلّھا -فما ھو ھذا المنصب الرا قي ا لذي ھو أع لى شأنا ً من الن بوّ ة وا لذي
أعطي إلبراھيم عليه السالم ؟ إنه اإلمامة.
اإلمامة عھد ﷲ
ل ﴿ َ
قا َ اإلمامة ھي عھد ﷲ على ما ذكرته اآلية ،ألنّ إبراھيم عليه السالم أحبّ أن تكون اإلمامة لذريته ،ولكن الجواب كان
ين﴾ ،فإذاً اإلمامة
م َ ال عَ ْھ ِ
دي الظﱠالِ ِ ال َي َن ُ
313
ھي من عھود ﷲ .ولذا ترى مدرسة أھل البيت عليھم السالم أنّ اإلمامة ترتبط با وال شأن للناس بھا .وھذا العھد ال يناله
بنحو يصبح ھو اإلنسان الكامل .ومن ھنا ن جد اآل ية تخ بر
ٍ شخصٌ إال بعد أن يمرّ بمراحل من الطاعة والتسليم واالنقياد
عن عدم وصول الظالم إلى مقام اإلمامة .ولكن يقع الكالم في تحديد الظالم.
إنّ الظالم قد يكون ظالما ً لنفسه وقد يكون ظالما ً لآلخرين ،وكال الق سمين ال ي نال ع ھد ﷲ .وظ لم ال غير أ م ٌر وا ض ٌح إذ ھو
التعدّي على اآلخرين .وأمّا ظلم النفس فھو عبارة عن المع صية .ف قد ورد التع بير القرآ ني عن العا صي بأن ّ ه ظالم لنف سه،
شخص كان ظالما ً لنفسه فال ينال عھد ﷲ.
ٍ وأيّ
من ھو الظالم؟
ويمكن تصوّ ر شخص رابع وھو من لم يظلم نفسه أبداً وفي أي وقت من األوقات.
ومن المستحيل أن ي كون ط لب إ براھيم عل يه ال سالم اإلما مة -مع ما ل ھا من ال شأن الرف يع -ل من كان من الق سمين األول
والثاني.
عَھـدِي الظﱠـالِمِين﴾ ،أي أن ك ّل إن سان
ال ْل ال يَن َ ُ أمّا الثالث فھو كمن كان مشركا ً ثم آمن ،وقد جاء الجواب بالنفي إذ ﴿ َ
قـا َ
كان في سابق حياته ظالما ً فال ينال
314
اإلمامة ،ولذا تد ّل اآلية على أن اإلمامة ال تكون من نصيب من كان مشركا ً في بعض حياته.
وعليه فكل من صدق عليه الظلم لنفسه ولو لفترة قصيرة ال ينال اإلمامة .فكل ھذه األق سام ال ت ستحق اإلما مة .وبال تالي ال
يبقى إال من لم يظلم نفسه أبداً ،وھو الت صوّ ر الرا بع .و ھذا مم ّا ال شك أنّ إ براھيم عل يه ال سالم ط لب اإلما م َة له ،أل نه ال
ينطبق عليه عنوان الظالم أبداً.
-1آية اإلنفاق:
إنّ طريق إثبات ذلك ھو قوله ﴿ ُي ْؤ ُتونَ ال ﱠزكَا َة َوھُ ْم َراكِ ُعونَ ﴾ فھذا القول ليس تشريعا ً وليس إنشاء ،فال تر يد اآل ية أن ت قول
إنه يستحب إع طاء الز كاة حال الر كوع ،وإ نه شامل لجم يع الم سلمين ،بل اآل ية تر يد أن تت حدث عن واق ع ٍة ح صلت في
وملخ صھا أنّ سائالً د خل
ّ أمر قد ح صل .و ھذه الحاد ثة ات فق ع لى نقل ھا كال المدر ستين، الخارج ،فھي تريد إخبارنا عن ٍ
المسجد واإلمام علي عليه السالم يصلي ،فأومأ اإلمام إليه ليأتي ويأخذ منه خاتما ً كان في إصبعه ،ولم ينت ظر اإل مام انت ھاء
صالته ليتصدّق على ذلك السائل ،فنزلت اآلية الكريمة.
315
وتتفق المدرستان على أن اآلية إنما نزلت في ھذه الحادثة .وأما تع بير اآل ية ب صيغة الج مع بقول ھا )يؤ تون( مع أن ال مراد
شخصٌ واح ٌد فليس غريباً ،ألن استعمال الجمع مكان المفرد للتعظيم ھو أم ٌر متعارف في اللغة العربية.
واآلية الكريمة إبتدأت أوال بكلمة )إنما( ،وھي في اللغة العربية أداة حصر تدل ع لى التخ صيص ،ك ما ورد في اآل ية قو له
ّ
وحق القيمومة واألمر والنھي. )وليّكم( ،والولي ھو بمعنى من له ّ
حق التصرّ ف
كما أنّ اآلية تتحدث عن حالة استثنائية ال عن حالة عامة ،ألنّ إعطاء الزكاة أثناء الركوع ال يعبر عن ممارسة عام ّة ،وال
عن قا عدة عا مة ،ولكن نا مع ذ لك ن جد أنّ ال قرآن ال كريم لم ي صرّ ح بالواق عة وال بإ سم صاحبھا ،مع ات فاق كل مة ال فرق
اإلسالمية على أنّ اآلية وردت في علي بن أبي طالب عليه السالم.
ولكنّ ھذا التشكيك غير صحيح ،ألن خشوع اإلمام علي عليه السالم في صالته ،وإن كان كما ذكر واشتھر ،ولكن ال يعني
أن جميع حاالت األولياء كبعضھا البعض.وھذا ما ينقل عن النبي األكرم صلى ﷲ عليه وآله وسلم وأنه في بعض ال حاالت
كانت تعتريه الجذبة في الصالة ،وأحيانا ً كان الح سن والح سين عليھ ما ال سالم يعلوا نه في صبر عليھ ما ويط يل في ال سجود
حتى ينھضا عنه.
316
وقد يقال في مسألة التفات أمير المؤمنين عليه السالم إلى الفقير حال الصالة ،إنه لم يلتفت عن ﷲ إ لى غيره ،وإن ما الت فت
من ﷲ إلى ﷲ ،فإن توجھه إلى ﷲ بلغ من الكمال درجة أضحى يرى فيھا العالم بأسره.7
-2آية الغدير:8
ت عَ لَ ْيك ْ
ُم ُـم َوأَ ْت َ
مم ْ ُ ت لَك ْ
ُم دِي َنك ْ م أَ ْك َ
م ْل ُ ن ا ْليَ ْ
و َ ش ْو ِ
اخ َ
ھُم َو ْ
ش ْو ْ ُم َ
فال تَخْ َ ِن دِينِك ْ ك َ
ف ُروا م ْ ِس الﱠذ َ
ِين َ م يَئ َ و َقال ت عالى﴿ :ا ْليَ ْ
م دِيناً.﴾9
َ الس ْ
األ
ُ ِ ْ ُم
ك َ ل ِيت
متِي َو َرض ُ نِ ْع َ
ت تتحدث في ما قبلھا وفي ما بعدھا عن أح كام فرع ية ،إذ تت حدث اآل يات ا لتي قبل ھا عن إنّ ھذه اآلية وردت في سياق آيا ٍ
اللحوم المحلّلة ثم تأتي اآلية الكريمة .وھذه اآلية ال ترتبط بما قبلھا وما بعدھا ،ولذا فإننا لو رفعناھا النسجم ما قبلھا مع ما
بعدھا تماما ً.
-3آية التطھير:
ْھيراً.﴾10
ُم تَط ِ ت َو ُيطَ ِّ
ھ َرك ْ ل ا ْلبَ ْي ِ س أَ ْ
ھ َ ج َ
رّ ْ
ُم ال ِ يد ﷲ ل ُِي ْذھ َ
ِب عَ ْنك ُ ر ُ تعالى﴿ :إِنﱠ َ
ما ُي ِ قال
إنّ المراد من التطھير الذي ذكرته اآلية الكريمة ،ھو التطھير مما يعتبره القرآن الكريم رجساً ،وھو ي شمل في ال قرآن ك ّل
ما كان قد ُن ھي ع نه ،سواء أ كان من ا لذنوب االعتقاد ية أم األخالق ية أم العمل ية ،و لذا ي قول عل ماء مدر سة األئ مة علي ھم
السالم إنّ اآلية تدل على عصمة أھل البيت عليھم السالم.
317
إن نزول اآلية في وصف أھل ب يت الن بوّ ة علي ھم ال سالم ،و في سياق اجت ماع حدث ب ين ال نبي صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم
وعلي والزھراء وفاطمة والحسنين عليھم السالم ،ھو من األمور المتفق عليھا بين المدرستين في أ ھم كتب ھم المع تبرة .وال
تقتصر مصادر األحاديث التي تدل على ذلك على كتاب أو كتابين بل ھي كثيرة حتى في روايات مدرسة الخلفاء.
ت أخرى تتحدث قبلھا وبعدھا عن نساء ال نبي صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم ،ول غة ولكننا نجد أن اآلية وردت ضمن سياق آيا ٍ
اآلية التحذير لنساء ال نبي صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم بأنّ ا لذنب ال صادر من إ حداھنّ ي كون عذا به م ضاعفا ً،و ضمن ھذا
ال سياق تأتي اآل ية المتقد مة ا لواردة في شأن أ ھل الب يت علي ھم ال سالم .وا لذي يح صل في ھذا ال سياق أنّ ھذه اآل ية
بخصوصھا تفترق عن اآليات التي قبلھا والتي بعدھا في أمرين:
ي﴾ األول :أن الضمير يتبدل في اآلية من التأنيث إلى التذكير ،وليس ذلك أمراً جزافياً ،فقد تبدل الخطاب من ﴿يَا ن َ
ِساء ال ﱠنبِ ّ ِ
موضوع جدي ٍد.
ٍ س﴾ .فإذاً قد تب ّدل الموضوع ،والقرآن يريد أن يتحدث عن
ج َ
رّ ْ
ُم ال ِ إلى ﴿ل ُِي ْذھ َ
ِب عَ ْنك ُ
الثاني :إن اآليات السابقة على ھذه اآلية والالحقة لھا والموجھة لنساء النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،كانت تحمل صيغة
ن﴾ ،وأم ّا م فاد آ ية التط ھير ف ھو قد ت جاوز ذ لك ،بل ت جاوز ال مدح
ج ﱠ ُن َو ْ
ال تَبَ ﱠر ْ ِي ُب ُي ْوتِك ﱠ التھديد واألمر والتكليف ﴿ َ
و َ
ق ْرنَ ف ْ
ليتحدث عن التنزيه عن الذنوب والمعاصي والتطھير من الموبقات.
إنّ ھذا كلّه يشھد على أنّ المخاطب بھذه اآلية ھم أ ھل الب يت علي ھم ال سالم ،في ما كان المخا طب ب ما سبق ھذه اآل ية و ما
موضوع آخر.
ٍ لحقھا نساء النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،فكانت اآلية كالجملة المعترضة التي ترد في سياق الحديث عن
318
-4آية البالغ:
ِن ال ﱠنـاسِ
كم َ
م َ
عصِـ ُ سـالَ َت ُ
ه َوﷲ يَ ْ ما بَلﱠغ َ
ْت ِر َ َل َ
ف َ وإِنْ لَ ْ
م تَ ْفع ْ ك َ
ِن َربِ ّ َ ل إِلَ ْي َ
كم ْ ما ُأ ْن ِ
ز َ ِغ َ ول بَل ّ ْ
س ُ ھا ال ﱠر ُ قوله تعالى﴿ :يَا أَيﱡ َ
ين ﴾.
11
ر َ م ا ْلكَافِ ِ إِنﱠ ﷲ ال َي ْھدِي ا ْل َ
ق ْو َ
ال شك في أن اآلية تتصف بلھجة شديدة ،ال سيما بمالحظة أنّ ھذه اآليات من سورة الما ئدة ھي آ خر ما نزل ع لى الن بي
صلى ﷲ عليه وآله وسلم.
ليس لدى مدرسة الخلفاء جواب! وأمّا مدرسة أھل البيت عليھم السالم فجوابھا ھو مسألة اإلمامة ،ال سيما بمالح ظة و جود
ت كثير ٍة لدى مدرسة الخلفاء على أنّ اآلية نزلت في غدير خم.
روايا ٍ
ھذه ھي اآليات الواردة في حق أھل البيت عليھم السالم .وقد الحظنا أ ّنھا جميعا ً
319
وبعبارة مختصرة ،إذا كانت مسألة اإلمامة مھمة جداً ،وإمامة أمير ال مؤمنين عل يه ال سالم ع لى ھذه الدر جة من األھمي ّة،
فيحق لنا أن نسأل :لماذا لم يذكر القرآن الكريم شأن أ ھل الب يت علي ھم ال سالم في آ يات م ستقلّ ٍة صريح ٍة ووا ضحةٍ ،وإن ما
ّ
ت أخرى تتحدث عن مواضيع مختلفة؟ ضمّنھا آيا ٍ
لماذا اعتمد القرآن ھذا األسلوب؟
وھذا األسلوب يعتمد على بيان األصل والقاعدة العامة ،ال على بيان الحالة الفردية والشخصية الخاصة ،وھذا من مميزات
ُم .﴾13وقد قلنا إنّ الكفار في ت لَك ْ
ُم دِي َنك ْ م أَ ْك َ
م ْل ُ النصّ القرآني .وقد بيّن القرآن ھذا األمر عبر اآلية الكريمة المتقدمة ﴿ا ْل َي ْ
و َ
ن﴾،
اخش َ ْو ِ
و ْذلك اليوم أصيبوا باليأس من القضاء على ھذا الدين ،وإنّ الخوف اليوم ھو من الم سلمين أنف سھم ،و لذا قال ﴿ َ
فالقلق على األمة أصبح من داخلھا.
320
إنّ مسألة اإلمامة ال تق ّل أھميّة عن أيّ مسألة أخرى جاء بھا اإلسالم .ولكن المشكلة كانت في العصبية و عدم و جود قابل ية
لدى ال عرب لتح مل ھذه الم سألة.و لذا ن جد ال نبي صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم يخ شى ردّة ف عل الم نافقين ا لذين سيرف ضون
تنصيب اإلمام علي عليه السالم وسيتھمون النبي بأنه اختص أھل بيته بأمر ومي ّزھم عن غيرھم ،و لذا ن جد ﷲ عز و جل
واخشون} ،أي الخوف ينب غي أن ي كون من
ِ بعد أن يخبر المسلمين عن يأس الكفار من المسلمين ،يخاطب المسلمين بقوله {
ً
ﷲ ألن األمة إذا بدّلت ما كانت عليه ،أزال ﷲ عنھا النعمة التي كانت لديھا .فإذا المشكلة في ن فس الم سلمين وال خوف من
أنفسھم.
إذاً ،الخوف من عدم تقبّل الناس ھذا األمر ھو الذي أدّى إلى اعتماد ال قرآن ھذا األ سلوب في ب يان شأن إما مة أ ھل الب يت
عليھم السالم ،والتاريخ يشھد أيضا ً لھذا األمر ،إذ نجد أنّ التبرير ا لذي يق ّد مه الراف ضون لخال فة اإل مام ع لي عل يه ال سالم
ھو أن ذلك كان حيطة ع لى اإل سالم ،ألن ال قوم ال ين قادون إل يه وال يقبلو نه ،ألن اإل مام َوت َ َرھم ف ھو من أ ل ّد أ عدائھم و لن
يقدموا على طاعته.
إذاً ،لقد كان ھناك نو ٌع من الق لق من الق يام بت مرّ ٍد ع لى م سألة إما مة أ ھل الب يت علي ھم ال سالم ،و لذا كان أن جاء ال قرآن
باآليات التي تتحدّث عن أھل البيت عليھم السالم
321
ً
واضحة لمن ليس لديه أغراض خاصة ،وكان طالبا ً للحقيقة .إن القرآن الكريم لم ضمن سياقات أخرى ،وتكون ھذه اآليات
يرد أن يعبّر عن ذلك بصراحة لئال يتمرّ د أولئك على القرآن مباشرة.
عِلما ً أنّ النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم قد نصّ ع لى اإل مام أ مير ال مؤمنين عل يه ال سالم في حديث ال غدير المتوا تر ع ند
الفريقين ،وغيره من األحاديث ،ومع ذلك لم ينفع ،وبادر أتباع المدرسة األخرى للقيام بعمل ية تأو يل ل كالم ال نبيّ صلى ﷲ
عليه وآله وسلم الصريح ھذا ،ويستنتج من ذلك أ ّنه لو كانت ھناك آية قد تحدثت عن الموضوع بصراح ٍة لبادروا أيضا ً إلى
توجيھھا وتأويلھا.
322
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
إنّ شأن اإلمامة أعلى من شأن النبوّ ة ،ولذا لم يكن جميع األنبياء عليھم ال سالم أئ مة بل كان أو لو ال عزم علي ھم ال سالم من
الرسل ھم األئمة.
لقد وھب ﷲ اإلمامة لنبيه إبراھيم عليه السالم على ِك َبر من س ّنه وبعد أن اجتاز اإلبتالءات اإللھية بصبر وثبات.
اإلمامة في حقيقتھا ھي عھد إلھي ال يناله إال من وصل إلى الكمال اإلنساني.
ال يمكن أن ينال اإلمامة من كان ظالما ً لنفسه بالشرك والمعصية ولو في بعض عمره.
لقد اعت مد األ سلوب القرآ ني ذ كر م سألة اإلما مة وف ضائل أ ھل الب يت علي ھم ال سالم ضمن سياق آ يات تت حدث عن أ مور
أخرى ،ومن تلك اآليات آية التطھير ،وآية إكمال الدين وإتمام النعمة ،وآية التبليغ.
وإنما اعتمد القرآن ھذا األسلوب مع ما لمسألة اإلمامة من أھميّة ،ألن النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم كان يخشى من عدم
تقبّل بعض المسلمين وإرجاف المنافقين بھذا األمر ،ويشھد لھذا الواقع التاريخي الذي كان سائداً في ز من ال نبي صلى ﷲ
عليه وآله وسلم.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ما ھي اآليات الواردة في القرآن حول آل البيت عليھم السالم ؟
-2ما ھي خصوصية األسلوب القرآني في تلك اآليات؟ ولماذا كان ذلك؟
-3كيف تحدث القرآن عن اإلمامة العامة؟
-4ما ھو اليوم الذي كان فيه كمال الدين وتمام النعمة؟
-5لماذا لم ينصّ القرآن صراحة على اإلمام علي عليه السالم ؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1البقرة.124 :
-2إبراھيم.37 :
-3الصافات.102 :
-4الصافات.103 :
-5الصافات.105 :
-6المائدة.55:
-7وبتعبير العرفاء أن بعض الناس يعيش في عالم الكثرة فال يصل إلى الوحدة ،وبعض يعيش في الوحدة دون أن يلتفت إلى الكثرة ،وبعض وصل إلى مقام الجمـع بيـن
الوحدة والكثرة ،فھو في الوقت الذي يكون في الوحدة ھو في الكثرة ،وفي الوقت الذي ھو في الكثرة ھو في الوحدة .وھذا أعلى وأر قى المقامـات وال يصـل إليــه إال
األوحدي.
-8نتعرّض للبحث حول ھذه اآلية بشكل مفصّل عند التعرّض لحديث الغدير ،وذلك في مبحث اإلمامة في السنّة.
-9المائدة.3 :
-10األحزاب.33 :
-11المائدة.67 :
-12المائدة.3 :
-13المائدة.3 :
اﻟﺪرس اﻟﻮاﺣﺪ واﻟﻌﺸﺮون :اﻹﻣﺎﻣﺔ ﻓﻲ اﻟﺴﻨّﺔ
أھداف الدرس
-1القدرة على إثبات اإلمامة استناداً للنصوص النبوية في حق اإلمام علي عليه السالم.
-2فھم اآلراء المفسّرة آلية إكمال الدين وتفسيرھا لكلمة "اليوم" في اآلية.
-3القدرة على الدفاع عن الرأي الصواب في المسألة.
-4تعليل عدم تصدي اإلمام علي عليه السالم للخالفة بعد مقتل عثمان.
325
تمھيد:
ذكرنا في ما سبق أنّ اإلختالف بين المدرستين في مسألة الحكم والقيادة يرجع إ لى تبن ّي مدر سة أ ھل الب يت علي ھم ال سالم
نظرية النصّ ،فيما تتب ّنى المدرسة األخرى نظريّة اإلنتخاب .وبعد أن ذكرنا حقي قة اإلما مة ع ند مدر سة أ ھل الب يت علي ھم
السالم ،يظھر لنا أ ّنه ال معنى لإلنتخاب عند ھذه المدرسة وال للشورى ،ألن النبيّ صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم متى أو صى
بالخالفة من بعده إلى من ھو معصوم كالنبي صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم ال ي صبح لإلنت خاب أي م عنى .و قد صرّ ح الن بيّ
صلى ﷲ عليه وآله وسلم بثبوت منصب الحكم لعلي عليه السالم ،وفي مناسبات متعددة .ونحن نع قد ھذا الب حث لذكر أ ھم
المناسبات واألحاديث الواردة من قبل النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم ّ
بحق علي عليه السالم.
ھذه الرواية نقلھا ابن ھشام في كتابه سيرة النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،والذي نق له عن ا بن إ سحاق ا لذي عاش أوا ئل
القرن الھجري الثاني ،وھو كتاب معتمد عند أتباع مدرسة الخلفاء) ،وھذه الواق عة ح صلت أوا ئل بع ثة ال نبيّ األ كرم ح يث
األ َ ْق َربِ َ
ين ،﴾1و لم ي كن ال نبي ّ صلى ﷲ عل يه وآ له ك ْ وأَ ْن ِ
ذ ْر عَ شِي َرتَ َ نزاللوحي على النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم بقو لهَ ﴿ :
وسلم قد ابتدأ
327
بالدعوة العامة ،فطلب من اإلمام علي عليه السالم والذي كان يعيش في كنفه أن يع ّد طعا ماً ،ث ّم د عا ال نبيّ صلى ﷲ عل يه
وآله وسلم إليه بني ھاشم وبني عبد المطلب ،وبعد أن اجتمعوا وأكلوا ،أراد ال نبيّ صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم ال حديث ف قال
أبو لھب :لش ّد ما سحركم صاحبكم ،فتفرقوا ولم يحدثھم النبيّ صلى ﷲ عليه وآله و سلم ب ما أراد .وھ كذا أ عاد ال نبيّ صلى
ﷲ عليه وآله وسلم الدعوة في اليوم التالي والمدعوون أربعون رجالً ،فقال لھم ال نبيّ صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم :إ ني وﷲ
ما أعلم شابا ً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ،إني قد جئتكم بخير الدنيا واآلخرة ،و قد أمر ني ﷲ -ت عالى -أن
أدعوكم إليه ،فأيّكم يؤازرني على ھذا األ مر ع لى أن ي كون أ خي وو صيي وخلي فتي في كم؟ أح جم ال قوم جمي عا ً غير ع لي،
ً
ثانية إال علي ،فأخذ النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم بيد علي وقال :إنّ فأعاد النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم قوله ،فأحجموا
ھذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم.2
وھذه الواقعة ينقلھا ابن ھشام في كتابه السيرة النبوية ،ومفاد ھذه الواقعة ھو أن النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم كان ينت ھز
الفرصة فيعرض نفسه على القبائل في موسم الحج ،وقد تكلّم النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم مع زعيم إحدى القبا ئل و كان
ي ّتسم بالفراسة ،فقال :وﷲ ،لو أني أخذت ھذا الفتى من قريش ألكلت به العرب ،ثم التفت الرجل إ لى ال نبيّ صلى ﷲ عل يه
وآله وسلم قائالً) :أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ،ثم أظھرك ﷲ على من خالفك ،أيكون لنا األمر من بعدك(؟
فقال رسول ﷲ) :األمر إلى ﷲ يضعه حيث يشاء(.
ويد ّل ھذا الحديث على أنّ تعيين خليفة النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم ھو أم ٌر م ٌ
نوط با ول يس ب يد ال نبيّ صلى ﷲ عل يه
وآله وسلم ،وأنّ اإلمامة ليست مجرّ د تدبير إداري بيد النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم.
328
لقد استد ّل الخواجة نصير الدين بھذا الحديث ،واعتبره من المسلّمات ،فيما اعتبره القوشجي ال يزيد عن كونه خبراً وا حداً،
ولكن تك ّفل كتاب عبقات األنوار وكتاب الغدير بإثبات ھذا الحديث.
ومفاد الحديث :أن النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم عندما أراد أن يذھب في غزوة تبوك ،وھي إلظھار القوة أمام الروم ولم
فة له في غيب ته .و قد ضاق صدر اإل مام بذلك ب عد أن بدأ يقع فيھا أي قتال ،ترك اإلما َم عليا ً عليه السالم في المدي نة خلي ً
المنافقون الحديث بأن النبيّ صلى ﷲ عليه وآله و سلم إن ما تر كه ا ستثقاالً م نه ،ول كن ال نبيّ صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم ر ّد
على حديثھم بأن خاطب عليا ً عليه السالم بقوله) :أما ترضى أن تكون م ّني بمنزلة ھارون من موسى إال أنه ال نبيّ بعدي(
.3
والحديث يد ّل بوضوح على أن ك ّل ما كان لھارون عليه السالم بالنسبة لموسى عليه السالم ھو لعلي عليه السالم من الن بيّ
صلى ﷲ عليه وآله وسلم سوى النبوّ ة ،وإذا أردنا أن نعرف منزلة ھارون عليه السالم من موسى عليه ال سالم و جدنا قو له
ھلِي ،﴾4والوزير ھو من يعين في حمل الثقل عن اآلخرين ،ولذا كان ھارون عليه ال سالم ِن أَ ْ
و ِزيراً م ْ
َل لِي َ
اجع ْ تعالىَ ﴿ :
و ْ
ھو خليفة موسى عليه السالم في قومه عند غيبته .فالنبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم أراد كل شيء له أن يجع له لع لي عل يه
السالم باستثناء النبوّ ة -إال أ ّنه ال نبيّ بعدي.
329
ٌ
واقعة شھيرةٌ ،وفيھا ورد قول النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم ) :من ك نت مواله ف ھذا ع لي مواله( .ف قد ذ كر واقعة الغدير
ّ
الخواجة نصير الدين الطوسي أنّ من أدلة مدرسة أھل البيت عليھم السالم على اإلمامة ھو حديث الغدير المتواتر .
5
ممكن مع الرسول صلى ﷲ عليه وآله و سلم ،نزل ٍ مفاد الحديث :بعد حجة الوداع ،وعند غدير خم ،حيث احتشد أكبر جمع
ه َوﷲ سـالَ َت ُ مـا بَلﱠغ َ
ْـت ِر َ َـل َ
ف َ وإِنْ لَ ْ
ـم تَ ْفع ْ ك َِـن َربِ ّـ َ
كم ْل إِلَ ْي َ ما ُأ ْن ِ
ز َ ول بَل ّ ْ
ِغ َ س ُھا ال ﱠر ُ الوحي على النبيّ بقوله ت عالى﴿ :يَا أَيﱡ َ
ين ،﴾6فج مع صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم الم سلمين و قام في ھم خطي با ً: م ا ْلك َافِرِ َ ِن ال ﱠناسِ إِنﱠ ﷲ ال يَ ْھدِي ا ْل َ
ق ْو َ كم َ
م َ
ص ُع ِ
يَ ْ
كنت مواله فھذا علي مواله(. ُ ألست أولى بكم من أنفسكم(؟ قالوا :بلى .قال):من ُ )
﴿ال ﱠنب ِ ﱡ
ي إنّ الوالية التي أراد النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم نقلھا لعلي عليه السالم ھي الوالية الواردة في اآل ية الكري مة:
ِن أَ ْن ُفس ِِھ ْم.﴾7
ِين م ْ
من َ أَ ْولَى بِا ْل ُ
م ْؤ ِ
ـت عَ لَ ْيك ْ
ُـم م ُ ُم َوأَ ْت َ
م ْ ت لَك ْ
ُم دِي َنك ْ م أَ ْك َ
م ْل ُ ن ا ْليَ ْ
و َ ش ْو ِ
اخ َ
م َو ْ
ش ْوھُ ْ ُم َ
فال تَخْ َ ِن دِينِك ْ ك َ
ف ُروا م ْ ِس الﱠذ َ
ِين َ م يَئ َو َقال تعالى﴿ :ا ْليَ ْ
سال َم دِينا ﴾.
ً8
ِيت لَك ُ
ُم ْ ِ
األ ْ متِي َو َرض ُ نِ ْع َ
قسم منھما يبدأ بكلمة ) ْال َي ْو َم( ،لذا
إ ّننا نالحظ أنّ اآلية تتضمّن قسمين ،وك ّل ٍ
331
تكرّ رت كلمة )اليوم( مرتين في آية واحدة ،وھذا يعني أنّ ك ّل واح ٍد من الق سمين يرتبط بف كرة م ستقلّة .إنّ كل مة ) يوم( قد
دخلت عليھا )ال( وھي تعني تار ًة ذلك اليوم )إشارة إلى يوم آ خر( ،وأ خرى ھذا ال يوم ،وت عرف ب) -ال( العھد ية .ول كي
يوم معين ،واآلية ھنا لم تسبق بذكر يوم معين فال ي كون المع نى يكون المراد منھا ذلك اليوم ال بد وأن تكون مسبوقة بذكر ٍ
األول مقصوداً.
ُم﴾ ،والمراد من اليأس ھنا ھو أ ّنھم يئسوا من التفوّ ق عليكم ومحق دين كم ،و لذا
ِن دِينِك ْ ك َ
ف ُروا م ْ ِين َ ثم تقول اآلية ﴿يَئ َ
ِس الﱠذ َ
ك ّفوا عن مواجھتكم ،فال ينبغي عليكم أن تخشوھم بعد اآلن.
ـت﴾ ،وب ين اإلك مال واإلت مام يو جد فرق ،ألنّ اإلت مام ھو بم عنى ان ضمامم ُ ْت﴾ وقو له ﴿ َ◌أَ ْت َ
م ْ ثم ورد في اآل ية قو له ﴿أَ ْك َ
مل ُ
أجزاء الشيء إلى بعضھا البعض ،بحيث ال يبقى في ھا ن قصٌ ،و لذا ي قال ت ّم ب ناء الب يت إذا و ضعت أس سه وا ستوفى جم يع
الشروط الالزمة له.
وأما الكمال فليس فيه ذلك ،ألن الشيء قد يكون تاما ً ال نقص فيه ،ولكنه ال يكون كامالً ،ومثاله الجنين في ب طن أم ّه ،فإ نه
كامل األجزاء ،ولك ّنه ال يكون إنسانا ً كامالً ،أي ال يتحلّى بالنضج الذي ينبغي أن يتحلّى به اإلنسان.
إنّ اإلختالف األساس بين الكمال والتمام ھو :اإلختالف بين الكيفي والنوعي ،فالكمال يقال لكيفية الشيء وأ ما الت مام في قال
عز وجل يريد أن يقول في اآلية :إنّ اإلسالم قد ت ّم وكمل ،أيّ إنه قد انتھى نوعا ً وكيفا ً .لكن ما ھو ذ لك
لنوع الشيء .وﷲ ّ
اليوم الذي ت ّم فيه الدين وكمل؟
ك فيه أنّ ھذا اليوم له أھميّة زائدة وخصوصية إضافيّة ،فال ب ّد من
ممّا ال ش ّ
331
أن يكون قد احتضن واقعة إستثنائية عظيمة ترتبط بك ّل من يدين باإلسالم دينا ً .فما ھو ھذا اليوم؟
لقد اختلفت النظريّات في تحديد ھذا اليوم ،وسنذكر ثالثة آراء ،ولكن ال ب ّد من االلت فات إ لى أ ٍ
مر و ھو أنّ ھذه اآل يات ت قع
في أوائل سورة المائدة ،وھذه السورة مدنية وھي آخر سور ٍة نزلت على النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم باتفاق المفسّرين.
قلنا إنّ )ال( قد يراد منھا اإلشارة إلى يوم بعيدٍ ،أي يراد منھا :ذلك ال يوم .وأ صحاب ھذا ا لرأي يقو لون إنّ كل مة يوم ھ نا
استعملت كذلك ،ألنّ المراد منھا يوم البعثة ،ألن ما يتصف بأ ّنه اليوم الذي رضي فيه اإلسالم دينا ً ھو يوم البع ثة ،فالقري نة
م دِيناً﴾.
سال َ ِيت لَك ُ
ُم ْ ِ
األ ْ إذاً من نفس اآلية وھي قوله ﴿ َ
و َرض ُ
م ِبينـاً
ف ْتحـاً ُ
ك َ
ح َنـا لَـ َ إنّ من أعظم األيام في تاريخ اإلسالم ھو يوم فتح مكة ،ولذا قال ت عالى في شأن يوم الف تح﴿ :إِن ﱠا َ
ف َت ْ
س َتقِيما ،﴾9وأھميّة ھذا ال يوم تأتي من ص َراطاً ُ
م ْ ك ِ
ديَ َ ه عَ لَ ْي َ
ك َويَ ْھ ِ م َت ُ
ع َ
م نِ ْ
و ُيتِ ﱠ ما تَأَ ﱠ
خ َر َ ك َو َ ن َ
ذ ْن ِب َ م ْ
م ِ
د َ ما ت َ َ
ق ﱠ لِيَ ْغ ِف َر لَ َ
كﷲ َ
خالل مالحظة أمرين:
332
األول :لقد كان لمكة المكرمة دورھا التاريخي ومكانت ھا المھم ّة لدى ال عرب في الجاھل ية .و ھذه المكا نة ارتب طت بالكع بة
الشريفة ال سيما بعد حادثة أصحاب الفيل ،ولذا وُ لد ال شعور ع ند ال ناس بأن أ حداً لن يتمك ّ ن من ال سيطرة ع لى م كة .و قد
استحكم الغرور بقريش حتى احتلت بذلك مكانتھا لدى القبائل العربية ،ثم كان أن تم ّكن النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم من
فتح م ّكة دون إراقة دم .وھذا أمر مھ ّم جداً قد اقترن بفتح مكة ،لئال تقول قريش -في ما لو أ صيب أ صحاب ال نبيّ صلى ﷲ
عليه وآله وسلم بسوء -لقد أصابھم ما أصاب أصحاب الفيل.
فقُوا فِي ُم أَ ﱠال ُت ْن ِ ما لَك ْ الثاني :إنّ يوم الفتح كان له أثره النفسي على القبائل العربية فدخلت في اإلسالم ،وقد قال تعالىَ ﴿ :
و َ
جـ ً
ة د َر َ
م َ
ُ ـَ ظ عْ َ أ ك
َ ِـ ئَ ل وأُ ل و َ
قات َ َ ل ا ْل َ
ف ْتحِ َ ق ْب ِن َ
م ْ ن أَ ْنف َ
َق ِ م ُْم َ
م ْنك ْ
وي ِس َت ِ األَ ْر ِ
ض ال يَ ْ ما َواتِ َو ْالس َ
ﱠ اث يل ﷲ َولِلﱠ ِ
ه مِي َر ُ س ِب َِ
10
خبِي ٌر ﴾. ملُونَ َ
ع َما ت َ ْ
س َنى َوﷲ بِ َ ح ْ ُال ً َ
وعَ َد ﷲ ا ْل ُ وك ّقاتَلُوا َو َ ْد َ
ِن بَع ُ
فقُوا م ْ َ ِن الﱠذ َ
ِين أ ْن َ م َ
والر ّد على ھذا الرأي :إنّ أصحاب ھذا القول -مع ت سليمنا بأھمي ّة يوم الف تح -ال يمل كون شاھداً قرآني ّا ً أو تاريخي ّا ً يؤ يد ما
ـت عَ لَ ْيك ْ
ُم م ُ وأَ ْت َ
م ْ ُـم َ ْـت لَك ْ
ُـم دِي َنك ْ مل ُذھبوا إليه ،بل على العكس ،فنحن لدينا شواھد تم نع من األ خذ به ،فقو له ت عالى ﴿أَ ْك َ
نِ ْع َمتِي﴾ ال ينسجم مع كون نزول اآلية يوم الف تح ،ألنّ يوم الف تح لم ي كن يوم إك مال ا لدين ،بل إنّ سورة الما ئدة بتمام ھا
نزلت بعد الفتح.
ُم﴾ فإنّ ال حال لم ي كن كذلك يوم الف تح ،ألن الم شركين لم ي صل ب ھم
ِن دِينِك ْ ك َ
ف ُروا م ْ ِس الﱠذ َ
ِين َ م يَئ َ مضافا ً إلى قوله ﴿ا ْل َي ْ
و َ
األمر إلى اليأس من الدين في ذلك اليوم.
إنّ من أيام اإلسالم المھمّة ھو يوم قراءة سورة براءة من قبل اإلمام أمير
333
فإنّ فتح م ّكة لم ين ِه حالة التعايش مع المشركين ،بل من بقي على الشرك كان له أن ي حج وي طوف بالب يت و غير ذ لك إ لى
السنة التاسعة للھجرة ،حيث أرسل النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم عليا ً عليه السالم باآليات األولى من سورة براءة ليبلّغھا
للناس في الحج ،بعد أن جاء األمر اإللھي بأنّ ھذه اآل يات ال يؤدي ھا إال ال نبيّ صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم أو ر ج ٌل م نه.11
يحق للمشركين الم شاركة في مرا سم ال حج ،و لذا كان ل ھذا ال يوم وھكذا ت ّم اإلعالن عن أنّ الحرم مختص بالمسلمين ،وال ّ
أھمّيته الخاصة عند المسلمين ،وعليه فاآلية الكريمة تشير إلى يوم البراءة.
والر ّد على ھذا الرأي :ھو ما تقدم من الجواب على ما سبقه ،من أنّ ھذه اآل يات نز لت و لم ي كن ا لدين قد ك مل ب عد ،ألن
الكثير من األحكام إنما جاءت بعد يوم آية البراءة.
النتيجة :إنّ ما نصل إليه ھو :أنّ ھذه اآلراء جمعاء ال تنسجم مع كون اآلية من اآليات التي نزلت أواخر حياة النبيّ صلى
ﷲ عليه وآله وسلم بنحو لم ينزل بعدھا حك ٌم جدي ٌد.
يتبنى الشيعة القول بأنّ ھذه اآلية الكريمة نزلت يوم غدير خم ،وھو يوم تنصيب اإلمام علي عليه السالم خليفة للنبي صلى
ﷲ عليه وآله وسلم .والذي تذكره مدرسة أ ھل الب يت علي ھم ال سالم إلث بات ذ لك يم كن تق سيمه إ لى ق سمين ،فأ صحاب ھذا
الرأي تارة يعتمدون الشاھد التاريخي ،وأخرى القرائن التي في نفس اآلية.
334
لقد ذكرت الكتب التاريخية والروائية قصّة مفصّلة تتحدث عن ھذا ال يوم ،وأنّ ال نبيّ صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم في ح جة
ا لوداع ،ح ين عود ته إ لى المدي نة ،و صل إ لى مو قع قرب الجح فة ي سمى غدير خم ،فط لب من قوا فل الح جاج الو قوف،
وخطب فيھم قائالً) :أل ُ
ست أو لى ب كم من أنف سكم؟ قالوا :ب لى .قال :من ك ُ
نت مواله ف ھذا ع لي مواله( .ول ما أ ت ّم الر سول
خطابه نزلت اآليات الكريمة.
لقد تناولت المصادر ھذه الحادثة من المدر ستين ،وال حديث ھو من األحاد يث المتوا ترة ك ما ت قدّم ،وذ لك يظ ھر بمراج عة
كتابي الغدير وعبقات األنوار.
إ ّن نا ق بل ا لدخول في ب يان ال شاھد ا لداخلي من ن فس اآل ية الكري مة ،ال ب ّد من اإل شارة إ لى و جود آ يات محك مات وآ يات
فأَ ﱠ
مـا الﱠذِيـ َ
ـن ات َ
ھ ٌشابِ َ
م َت َ و ُأ َ
خ ُر ُ ب َ ن ُأ ﱡ
م ا ْلكِ َتا ِ ات ھُ ﱠ
م ٌ ح َ
ك َ م ْ
ات ُ
ه آ َي ٌ
م ْن ُ
اب ِ علَ ْي َ
ك ا ْلكِ َت َ و الﱠذِي أَ ْن َز َ
ل َ متشابھات ،قال تعالى﴿ :ھُ َ
ِـخونَ فِـي
ه إِ ﱠال ﷲ َوال ﱠراس ُ م ت َْأ ِ
ويلَـ ُ ه َوم َ ا يَ ْعلَـ ُ ة َوا ْبتِغَـا َء ت َْأ ِ
ويلِـ ِ ه ا ْبتِغَا َء ا ْل ِف ْتن َ ِم ْن ُ
ه ِ َشابَ َ ما ت َعونَ َفيَ ﱠتبِ ُغ َ م َز ْي ٌھ ْفِي ُقلُوبِ ِ
األَ ْل َبابِ ﴾.
12
ك ُر إِ ﱠال ُأولُو ْ ذ ﱠما يَ ﱠو َد َربِّ َنا َع ْن ِ
ِن ِ
لم ْ ّ ك ه
ِ ِ ب انﱠ م
َ آ ُونَل ْم يَقُو ا ْل ِ
عل ِ
ھُم
شـ ْو ْ ُم َ
فـال تَخْ َ ِن دِينِك ْ ك َ
ف ُروا م ْ ِس الﱠذ َ
ِين َ م َيئ َ
و َ إذا عرفنا ھذا نأتي إلى اآلية التي ھي مح ّل بحثنا فنجد قوله تعالى:
﴿ا ْل َي ْ
ن﴾ .فاآليــة تقــول إ ّنــه ال داعــي اآلن مــن الخشــية مــن الكفــار أل ّنھــم وصــلوا إلــى ح ـ ّد اليــأس مــن إلحــاق األذى
شــ ْو ِ
اخ َ
و َْ
ً ً
ن﴾ ،فما معنى ھذا؟ ھل أنّ ﷲ عدوّ لدي نه؟ طب عا ال .إذا ھذه اآل ية ش ْو ِ
اخ َ
و ْبالمسلمين.ولكن اآلية تخاطب المسلمين بقولھا ﴿ َ
من المتشابه ،وح ّل ذلك بالرجوع إلى اآلية
335
قوم غي ّروا ما بأنف سھم ،مم ّا ا ستوجب نزولأمر وھو أنّ ﷲ سنّ س ّن ًة في خلقه و ھي أنّ أيّ ٍ
المحكمة ،التي تتحدث عن ٍ
13
النعمة عليھم ،فإنّ نعمة ﷲ سوف تزول عنھم إذا غيّروا بأنفسھم بحيث استوجبوا إزالة النع مة عن ھم .فإذاً ،الخ شية من ﷲ
ھي عبر الخشية من النفس اإلن سانية ،فا عز و جل ير يد أن ي قول للم سلمين :إ نني أنع مت علي كم ب ھذه النع مة ،ول كن إن
حصل منكم أيّ تغيير أو تبديل ،فعليكم أن تخافوا من أن أرفع ھذه النعمة عنكم ،فالخطر اآلن من أنفسكم.
خالصة ونتيجة
إذاً ،اآلية تتحدث عن مرحلة انتھى فيھا الخوف من المشركين ،وأصبح ال خوف من الم سلمين أنف سھم .و ھذا إ ّن ما كان في
أواخر حياة النبيّ صلى ﷲ عليه وآ له و سلم .وبمالح ظة ال شواھد التاريخ ية ،وال قرائن المحتف ّة باآل ية ،وبال حديث المتوا تر
عن النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،وبإرجاع المتشابه إلى المحكم ،كل ذ لك ي صب في أن ھ ناك يو ما ً ح صلت ف يه واق عة
الغدير وت ّم فيھا تنصيب علي عليه السالم بعد النبي صلى ﷲ عليه وآ له و سلم إما ماً ،و قام الم سلمون جمي عا ً ر جاالً ون سا ًء
بمبايعته عليه السالم ،عندھا نزلت آية إكمال الدين وإتمام النعمة.
وبھذا نختم الحديث حول النصوص الواردة في إمامة عليٍّ عليه السالم من ِق َب ِل النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم.
إنّ ما نصل إليه مما تقدّم ،ھو أنّ اإلمامة منحصرة -بعد ال نبي مبا شرة -باإل مام ع لي عل يه ال سالم .ل كن يب قى ھذا ال سؤال
بحاج ٍة إلى إجاب ٍة وھو :لماذا لم
336
الجواب يظھر بمالحظة كالم اإلمام علي عليه السالم الذي ذكره في ذلك الوقت ،فقد قال عليه السالم عندما ر فض البي عة:
)دعوني والتمسوا غيري فإ ّنا مستقبلون أمراً له وجوهٌ وألوان( ثم قال) :إنّ اآلفاق قد أغا مت ،والمحجّ ة قد تنك ّ رت( .14ل قد
مختلفة عمّا كانت عل يه ع ند و فاة ال نبي صلى ﷲ عل يه وآ له و سلم .و ھذا ً كان اإلمام عليه السالم يرى أنّ األمور أصبحت
من األمور الثابتة تاريخيا ً .فقد كان اإلمام عليه السالم يرى انحرافا ً في الكثير من األمور ،ويرى أنّ تولي الخالفة من ِق َبل ِه
يريعني تغيير الك ثير من األ مور ا لتي كا نت سائد ًة آ نذاك .فاإل مام عل يه ال سالم إذا تول ّى الخال فة ف سوف ي قوم بعملي ّة تغي ٍ
خاص من الطاعة واإلتباع من قِب َ ل الم سلمين ،و لذا أل قى ذ لك ال كالم لي ت ّم
ٍ نوع
واسعة النطاق ،ومثل ھذا األمر يحتاج إلى ٍ
عليھم الحجّة ،ألنّ البيعة تعني أخذ العھد بالطاعة واإلتباع ،وال يريد منھم الطاعة على ما يريدو نه ھم ،وإ ّن ما البي عة ع لى
ما يريده ھو.
337
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
ھناك عدّة نصوص صادرة عن النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم بحق إمامة علي عليه السالم نذكر منھا:
األول تاريخي :وھو حديث يوم الغدير ،وما حصل فيه من إعالن النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم لوالية ع لي عل يه ال سالم
وقد نزلت اآليات في ذلك اليوم.
ال ثاني من ن فس اآل ية :و ھو أنّ ال يوم ا لذي أ صبح ف يه ا لدين في أ مان من الم شركين ،وأ صبح ال خوف عل يه من ن فس
المسلمين ،كان في أواخر حياة النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،ألنّ قيامھم بأيّ تغيير في الدين سوف يؤدّي إلى زوال ھذه
ما بِأَ ْن ُف ِ
س ِھ ْم﴾. ح ﱠتى ُيغ َِي ّ ُروا َ
م َ النعمة لقوله تعالى﴿ :إِنﱠ ﷲ ال ُيغ َِي ّ ُر َ
ما ب ِ َ
ق ْو ٍ
إنّ عدم إ قدام اإل مام عل يه ال سالم ع لى ق بول البي عة إن ما كان أل جل أن ّه أراد الق يام بعمل ية تغ يير وإ صالح ل ما حدث من
محاوالت تحريف لرسالة اإلسالم ،ومثل ھذا األمر إنما يت ّم مع البيعة الخاصة ع لى ھذا األ مر .فاإل مام ر فض أل جل إل قاء
الحجة على المسلمين الّذين يريدون مبايعته.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ما الفرق بين الدليل العقلي وبين النصوص في إثبات اإلمامة؟
-2ما ھي واقعة اإلنذار؟
-3ما ھي اإلحتماالت المذكورة في تفسير يوم إكمال الدين؟
-4إستدل على تفسير يوم إكمال الدين بالشواھد والقرائن.
-5لماذا لم يتص َّد عليٌّ عليه السالم بعد مقتل عثمان؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1الشعراء.214 :
-2الكامل في التاريخ ،ابن األثير ،ج 2ص .62
-3صحيح البخاري ،ج 4ص ،24الصواعق المحرقة ،ص .121
-4طـه.29 :
-5إشارة إلى اصطالحات علم الحديث ،حيث ھناك اصطالح "الخبر ا لواحد" واصطالح " الخبر المتواتر" .و الخبر الواحد :ھـو الخـبر الـذي ال يفيـد اليق ين والعلـم ،ســواء
أكان الناقل له شخصاً واحداً أم عشرة أشخاص أم أكثر .وأما الخبر المتواتر :فھو الخبر الذي ينقله مجموعة من األشخاص بنحو يمتنع اتفاقھم ع لى الكــذب ،فمثـال ً لـو
شخص آخر وأخبر بنفس الخبر ،فسوف يزداد الظن بوقوع الخبر وصدقه، ٌ شخص أنه سمع خبراً من المذياع ،فسوف يحصل لنا الظن بصدق ھذا الخبر ،فإذا جاء
ٌ نقل لنا
وھكذا كلما جاء بنفس الخبر شخص جديد ،إلى أن يصبح ھذا الخبر منقوال ً من قبل الكثيرين بنحو ال نحتمل اتفـاقھم ع لى الكـذب ،األمـر الـذي يوجـب اليقيـن بصـحة
الخبر.
-6المائدة.67 :
-7األحزاب.6 :
-8المائدة.3 :
-9الفتح.2 :
-10الحديد.10 :
ي قد بعث أبا بكر أوالً ،ثم أرسل وراءه علياً عليه السالم ليأخذ المھ ّ
مة منه ،وقفل األوّل راجعاً إلى المدينة. -11وكان النب ّ
-12آل عمران.7 :
ن ﷲ ال يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسھم" سورة الرعد.11 :
-13قال تعالى" :ا ّ
ي ،بحار األنوار ،ج 41ص ،116دار الرضا -بيروت.
ّ المجلس -14العالمة
اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻠﻤﻌﺎد
اﻟﺪرس اﻟﺜﺎﻧﻲ واﻟﻌﺸﺮون :اﻟﻤﺒﺎدئ ّ
أھداف الدرس
343
تمھيد:
يجد المُراجع لسِ َير األنبياء عليھم السالم ھدفا ً مشتركا ً من بعثتھم ،وھو ھداية الناس إلى اإليمان بحقيقتين:
-1اإليمان بالتوحيد.
-2واإليمان بالمعاد.
وقد ر ّكز القرآن الكريم على حقيقة المعاد ،إلى ح ٍّد بلغت فيه اآليات التي تتح ّدث عنه حوالي ) (1400آية .وال ش ّ
ك أن ّه لم
ير ْد مثل ھذا العدد من اآليات في أيّ موضوع آخر ،وال جرى تأكيده بمثل ھذه الكثافة. ِ
مناھج إدراك المعاد
إذاً ،يدعونا القرآن إلى اإليمان واالعتقاد بالمعاد .وقد بلغت ھذه الم سألة ح ّداً من التعق يد 1أل جأت الك ثيرين إ لى ال قول بأنّ
قضيّة المعاد تعبّديّة محضة ،ليس لنا أمامھا سوى التسليم بھا ،وال سبيل إلى معرفة المعاد إال بالوحي اإللھيّ .
345
وقد بذل العلماء جھوداً إلدراك المعاد ،وسلكوا في ذ لك م ناھج ش ّتى ،ولك ّن ھا لم ت خ ُل من إنح ياز إ لى ما ينا سب قواعد ھم
وأفكارھم المسبقة ،كما َف َع َل كثي ٌر من المحدّثين والفقھاء ،والفالسفة والحك ماء ،وأ كثر العل ماء الم تأخرين ،ف ك ّل فر يق من ھم
نظر إلى المعاد من زاوية تخصّه ،وتمّم المسألة بما يناسب مبانيه ،ث ّم إخ تار اآل يات ا لتي تن سجم مع ما ذ ھب إل يه ،وع مد
إلى تأويل اآليات التي ال توافق مسلكه.
أمّا المنھج الذي سنتبعه ،بحيث ال ننظر إلى المعاد من زاوية خاصّة ،وال نختار من اآليات قسما ً مع ّي ناً ،ھو أن ننط لق في
بناء صيغة المعاد من القرآن نفسه ،فنستعرض اآليات الدالّة على المعاد كما بيّنھا القرآن ،قبل السعي خلف الج ھود العلمي ّة
والعقليّة والفلسفيّة واإلجتھادات الخاصّة ،وبالتالي لن يكون لنا أيّ فكرة م سبقة لنظري ّة مع ّي نة عن الم عاد ت خ ّل في ف ھم ما
أراده القرآن ،ث ّم في ما بعد نسعى وراء الجھود العلميّة والعقليّة وغيرھا.
المعاد في القرآن
ترد كل مة )الم عاد( ب ھذه ال صيغة في أيّ آ ية من آ يات ال قرآن .ف ھي وإن كا نت من أ شھر األ سماء ال شائعة ع لى ل سان
لم ِ
ّ ّ ّ
المتشرّعين ،إال أنه ال وجود لھا في التعبيرات القرآنيّة الدالة على القيامة ،بل )المعاد( إصطالح اخترعه المتكلمون .
3 2
ت أَنْ و)منتھى( .وقد استخدِمت ھذه التعبيرات كلّھا بمعنى العود والرجوع إلى ﷲ ،كما في قوله ت عالى...﴿ :ق ْ
ُـل إِنﱠم َ ا ُأمِـ ْر ُ
ھى وأَنﱠ إِلَى َربِّ َ
ك ا ْل ُ
م ْن َت َ ﱡجعَى ﴾5وقوله تعالىَ ﴿ : مآبِ ،﴾4وقوله﴿:إِنﱠ إِلَى َربِّ َ
ك الر ْ ه َ ه أَد ُ
ْعو َوإِلَ ْي ِ ه إِلَ ْي ِ
ك بِ ِ
ر َ أَعْ ُب َد ﷲ َوال ُأ ْ
ش ِ
.﴾6
نستنتج من ذلك أنّ مصطلح )المعاد( كي ينسجم مع التعبير القرآنيّ ،فال ب ّد أن يكون بمعنى العودة إلى ﷲ ،دون غيره من
المعاني.
إنّ القرآن الكريم يقيم الدليل على المعاد لإليمان واالعتقاد به ،ودليله على نحوين:
-1إنطالقا ً من مسألة التوحيد :فمن يؤمن بوجود ﷲ ،وأ ّنه الخالق الحكيم لھذا الكون ،ال ب ّد أن يعتقد بأنّ ھ ناك حك مة وراء
ھذا الخلق ،حيث ال يمكن أن ي كون خ لق الحك يم عبثي ّا ً .و لو لم ي كن ھ ناك م عاد ل كان ھذا الخ لق عب ثا ً و بال حك مة ،ي قول
ج ُعونَ ؟!.﴾7 وأَنﱠك ْ
ُم إِلَ ْي َنا ال ُت ْر َ ُم عَ َبثاً َ
خلَ ْق َناك ْ م أَن ﱠ َ
ما َ س ْب ُت ْ
ح ِ تعالى﴿ :أَ َ
ف َ
ث ّم إنّ االعتقاد بقدرة ﷲ المطلقة ،يعني أ ّنه تعالى قادر على ب عث ك ّل شيء ،بل إنّ م بدع الخ لق األول قادر ع لى إعاد ته،
ه.﴾8.. و أَ ْ
ھوَنُ عَ لَ ْي ِ وھُ َ
ِيد ُه َ
م ُيع ُ و الﱠذِي َي ْبد َُأ ا ْل َ
خ ْل َ
ق ُث ﱠ وھو أھون عليه .وھو ما أشار إليه تعالى بقولهَ ﴿ :
وھُ َ
347
ب نا ،يدفع اإلن سان إ لى اإلي مان بحقي قة الم عاد .فالمتأم ّل في مرا حل خ لق اإلن سان وتكوّ نه ،من م بد ِأ انع قاده نط ً
فة إ لى
صيرورته طفالً فإنسانا ً كامالً ،ث ّم موته ،ھذا المتأمل يصل إلى حقيقة أنّ ھذا السير ال تدريجيّ ال ب ّد أن ي ستمرّ إ لى الم عاد،
ِن
مم ْ ِن عَ لَق َ ٍ
ة ثُـ ﱠ مم ْ
ة ُث ﱠ
ف ٍ ِن ُن ْ
ط َ مم ْ
ِن ُت َرابٍ ثُ ﱠ خلَ ْق َناك ْ
ُم م ْ ث َ
ف ِإنﱠا َ ِن ا ْل َب ْ
ع ِ بم َ
م فِي َر ْي ٍ اس إِنْ ُ
ك ْن ُت ْ ُ قال تعالى﴿ :يَا أَيﱡ َ
ھا ال ﱠن
ط ْفال ً ث ُ ﱠ
م لِ َت ْب ُلغُـوا ُم ِ
جك ْ
ر ُ
م ُنخْ ِ
ى ُث ﱠ
م ًس ّم َ
ل ُ َشا ُء إِلَى أَ َ
ج ٍ ما ن َ
م َ
حا ِ األَ ْر َ
ق ﱡر فِي ْ ن لَك ْ
ُم َو ُن ِ ة لِ ُن َب ِي ّ َ خلﱠ َ
ق ٍ م َ ر ُ ة َو َ
غ ْي ِ خلﱠ َ
ق ٍ م َة ُ ض َ
غ ٍ م ُْ
م إنّكم يوم القيامة تُبعثون ﴾.
10
ّ ث تون،ّ لمي ذلك بعد كم ّ ن إ م
ّ ث ﴿ :ً ا أيض ،وقال ﴾ 9
...ُم
ْ ك د
ﱠ أَ ُ
ش
وكذلك يدعو القرآن من يرتاب بالقيامة ،إلى النظر والتأمّل في تجدّد األرض وانبعاث الحياة في ھا ب عد موت ھا ،ليز يل أدران
ك والريب عن صدره. الش ّ
حقيقة المعاد
إنّ للمعاد حقيقة واقعيّة ،إال أنّ اإلن سان قا صر عن ت صوّ ر حقيق ته ك ما ھي ،ألن ّه يع يش ضمن مح يط يخت لف عن مح يط
المعاد .11ويمكن ت شبيه ذ لك بالجنين والن ظام ا لذي يعي شه في ر حم أم ّه ،ح يث ال يب صر ما حو له ،وال ي شعر إال بنظا مه
الخاصّ المحيط به ،ولذلك فھو ال يملك أيّ تصوّ ر عن حياته بعد ا لوالدة ،كذلك اإلن سان ا لذي يع يش الح ياة ا لدنيا وي شعر
بمحيطه الخاصّ ،فإ ّنه يصعب عليه تصور الحياة األخرويّة تصوّ راً واقع ّيا ً.
وھذا األمر ال يضرّ في اعتقادنا بالمعاد ،إذ يكفي االعتقاد بھذه الحقيقة ضمن المقدار الثابت ،والذي أشار إليه القرآن بشكل
قطعيّ محكم ،فيكفينا
348
االعتقاد بوجود حياة أخرى غير الحياة الدنيا ،وأ ّنھا خالدة ،وأنّ ھناك ارتباطا ً وثيقا ً بين الحياتين ،من قبيل ارت باط المق ّد مة
بالنتيجة والزرع بالحصاد.
فھذه الثوابت والحقائق التي أخبر بھا القرآن ال يمكن إنكارھا .في المقابل فإ ّنه ليس من ال ضروريّ معر فة كيفي ّة ال عود ،أو
كيف تكون الحياة ھناك ،أو علّة خلود الحياة األخرى وما شابه ...وال يجب على المُسلِم االعتقاد بذلك.
القيامة في القرآن
سـا َ
ھا ة أَيﱠانَ ُ
م ْر َ الساعَ ِ
ﱠ سأَلونَ َ
ك عَ ِ
ن ﴿يَ ْ يثبت القرآن أن القيامة حتمية ،لك ّنه يشير إلى أن توقيتھا مجھول ال يعلمه إال ﷲ:
ُل إِنﱠ َما ِع ْل ُم َھا ِع ْن َد َربِّي.﴾12
ق ْ
ويصف القرآن القيامة وصفا ً يصعب على اإلنسان تصوّ ره ،فھي ال تقتصر على اإلنسان ،بل تقترن بانقالب كو نيّ جذريّ
وشامل ،يستوعب ك ّل ما في الكون.
يستبطن المعاد جنبة تربويّة بارزة ،وھي اإلرتباط الوثيق بين الحياتين الدنيا
349
واآلخرة ،وقد ُعبّر عنھا في الحديث النبويّ الشريف) :الدنيا مزرعة اآلخرة( ،17بل ك ّل أحاديث المعاد صدرت في إ طار
ھذه الجنبة.
ر
خ ْي ٍ
ن َ
م ْ ملَ ْ
ت ِ ما عَ ِ
ْس َ ك ﱡ
ل نَف ٍ م تَجِ ُد ُ ﴿يَ ْ
و َ ومفاد ھذه الفكرة أنّ ك ّل ما نفعله في دار الدنيا سنجده في تلك الدار ،يقول تعالى:
ُم ْحضَراً﴿ ،﴾18فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ،﴾19...وكذا في كثير من اآليات...
ث ّم إ ّنه لش ّدة تأكيد القرآن على حضور األعمال يوم القيامة ،ذھب بعضُ المفسّرين إلى ال قول بح ضورھا حقي قة ،في ما ح مل
آخرون التعبير القرآنيّ على الم جاز ،ألنّ األع مال تح صل في ا لدنيا وت فنى ،في ما قال فر يق ثا لث إنّ صورتھا ھي ال تي
تحضر في اآلخرة ،ولعلّه ھو األقرب!
وعلى ك ّل حال فالتعبير القرآنيّ صريح بأنّ ك ّل ما نعمله في الدنيا نجده في اآلخرة .وما أبلغ التعبير ا لذي ا ستخدمه ال قرآن
في بيان ھذا المعنى ،إذ يدعو اإلنسان إلى النظر في أعمال الدنيا على أ ّنھا واقعة في اآلخرة ،حيث ي قول ت عالى:
﴿ َ
و ْل َت ْنظُـ ْر
د.﴾20 ت لِ َ
غ ٍ م ْ
د َ ما َ
ق ﱠ ْس َ
نَف ٌ
ط ِرحت في العصور القديمة إشكاالت حول المعاد .وقد أعان العلم الحديث بتطوره على ح ّل ھذه اإلشكاالت ،و ساعد ع لى ُ
فھم المعاد بشكل عا ّم أكثر ممّا سبق.
350
فقد تو ّقف القدماء أمام مجموعة من تفاصيل المعاد ،التي لم ت كن مقبو لة علمي ّا ً لديھم ،بح يث أل جأھم ذ لك إ لى ضرب من
التأويل والتوجيه ،كمسألة تحوّ ل األرض إلى دخان ،ح يث كانوا يفتر ضون أنّ ن ظام األ فالك كان ع لى ھذه ال صورة م نذ
القدم وسيدوم عليھا إلى األبد ،وكذا الكالم بالنسبة إلى ك ّل ما يشير إليه ال قرآن من ان قالب كو نيّ في أنظ مة الو جود ح يث
يطال التغيّر الشمس والنجوم والبحار...
أمّا في عصرنا الحالي وبعد اإلكتشافات العلميّة الحديثة ،فإنّ ھذه المسائل أصبحت محلولة ومقبولة ،ولم يعد الع لم الحد يث
معارضا ً لنظريّة المعاد بالشكل الذي طرحه القرآن وفھمه المفسّرون ،فھذا العلم إن لم يؤيّدھا ويتوقعھا ،فھو ع لى األ ق ّل ال
ينفيھا.
351
كلھا أمثلة على إمكانيّة تعطيل الحياة اإلنسانيّة وإحيائھا مجدّداً في شروط مالئ مة ،بل إذا عمّم نا نظرت نا إ لى الح ياة بح يث
تشمل الحيوانات والنباتات ،فسنجد أمثلة أبرز نشھد فيھا بقاء الحياة ونموّ ھا وتش ّكلھا مج ّدداً.
352
ھذا كلّه يندرج تحت النظري ّة العلمي ّة القائ مة ع لى أ ساس أنّ أي ّة قط عة من ج سم اإلن سان ت ستطيع أن تع يد إن تاج اإلن سان
األوّ ل عينه بشكله وصفاته وخواطره ذاتھا لو وضعت في مح يط منا سب ون مت ،تما ما ً ك ما تف عل النط فة وال بذرة وال جذر
وغيرھا ...وھذا الشخص سيكون وارثا ً للشخص الذي سبقه واستمراراً له.
ولو كان المحيط الجديد ينطوي على شروط أف ضل وتتوا فر ف يه لوازم أن سب من ت لك المو جودة في ا لدنيا ،لح صل لت لك
ّ
المتمثلة بصورة ملكات وروحيّات مكت سبة القطعة نموّ إستثنائيّ بحيث يرى الشخص الجديد نتاج وعواقب األعمال السابقة
ّ
حو وا سع و شديد ج ّداً ،و ستبرز في و جود اإلن سان مكت سبات وتب عات ما تعا طاه اإلن سان مع المؤث رات الخارجي ّةعلى ن ٍ
ّ
بحسب رد الفعل الصادر عنه والسلوك الذي انتھجه ،وسيكون ل ھذه ال حاالت و ما أنت جه ال شخص أو المل كات والمكت سبات
إنعكاس في جميع أنحاء بدنه..
في النتيجة :إن في الطبيعة قدرة على أن تختزل وتستخلص عدّة أجيال في نق طة صغيرة ،ت ستودعھا الخلي ّة الحي ّة ھذه أو
النطفة والبيضة .ث ّم إنّ ھذه األشياء ّ
تتنزل عن حدود الذرّ ة -بمعناھا الكيميائيّ -لتبلغ حالة اإللكترون ،وبالتالي تؤمّن لنف سھا
ّ
عندئذ حماية كاملة ومصونيّة تامّة ،وتكون بمنأى عن تقلبات الھواء والبرد والح ّر والعوامل الميكانيكيّة.
وھكذا يكون إلحدى خاليا جسم اإلنسان -التي تحمل جميعھا خصائصه -مسؤوليّة إحياء كل فرد من أفراده .22وھذه الخلي ّة
على غاية من الصغر ومحفوظة وفق ما ب ّي ّنا ،بحيث لو افترضنا أن ذئبا ً أكل ھذا اإلنسان ،ث ّم أكل النم ُر
353
ھذا الذئب ،لبقيت ھذه الذرّ ة محفوظة في أي صورة كانت في أعماق الب حر أو أ عالي الج بال ،فإ ّن ھا ستكون وار ثة لجم يع
خصوصيّات الشخصيّة ومكتسباتھا والذاكرة من بين ذلك ،ثم في القيامة تح ّل حالة التمايز واإلنفصال ،وتبدأ في ذ لك ال يوم
تلك الذرة المحفوظة بالنموّ لتنتج اإلنسان بكامل شخصيّته .نعم قد يكون البدن الذي يعود فيه ھو بدن جديد فحسب.23
إنّ ھذا كلّه يثبت أ ّنه باإلمكان عودة اإلنسان بمعطياته واستعداداته وشخصيّته ذات ھا .وي ّت ضح من خالل ذ لك أنّ ما نتخ ّي له
من فاصلة كبيرة ج ّداً بين الحياة والموت ليست كذلك ،بل كأنّ الموت والحياة درج تان لحقي قة وا حدة ،بح يث ي كون م صير
اإلنسان بعد القيامة بحسب ما كان عليه في الدنيا من عقيدة ومقصد ومسير ،وما قام به من أفعال وأع مال ،وطبي عة الحا لة
التي اعتمدھا في تنظيم نفسه واستكماله ،إذ سيكون ذلك كلّه ميراثا ً يرجع إليه في القيامة مج ّدداً.
354
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
-إنّ المنھج الصحيح إلدراك المعاد وب ناء صيغته ،ھو اإلعت ماد ع لى اآل يات القرآني ّة ،دون اإلن طالق من خلفي ّات مع ّي نة
نمارس على أساسھا االستدالل العلميّ والعقليّ .
-يقيم القرآن الدليل على المعاد تارة انطالقا ً من التوحيد ،فا حكيم ال يخلق شيئا ً عبثاً ،و ھو قادر ع لى ب عث األ شياء ب عد
ك أو ريب.موتھا ،وأخرى انطالقا ً من نظام الخلق والتكوين الذي يسير بشكل تدريجيّ نحو المعاد بال ش ّ
-إنّ ذھن اإلنسان قاصر عن تصوّ ر المعاد ،ألنّ اإلنسان يعيش في محي طه وعال مه ا لذي يخت لف عن عالم الم عاد .ول كن
ھذا ال ّ
يؤثر في اعتقاد المسلم بالمعاد ،إذ يكفيه االعتقاد به ضمن المقدار الذي أشار إليه القرآن ب غض الن ظر عن تفا صيله
وكيفيّته.
-يشير القرآن إلى المعاد على أ ّنه انقالب جذريّ وشامل بحيث يصعب على اإلنسان تصوّ ره.
-ت ش ّكل م سألة الم عاد عامالً تربوي ّا ً بامت ياز .وال قرآن يؤك ّ د ع لى ھذا العا مل ع لى أ ساس أنّ األع مال في ا لدنيا سيجدھا
اإلنسان حاضرة في تلك الدار.
-أعان العلم ال حديث ع لى ف ھم مجمو عة من م سائل الم عاد ،ا لتي كا نت ت ع ّد و فق ال قدماء م شكلة .وب شكل عا ّم فإنّ الع لم
الحديث إن لم يتبنّ مسائل المعاد فھو لم يعد ينفيھا ،بل يرتفع من خالله اإلستبعاد للقيامة وللحياة مرّ ة أخرى.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ما ھو المنھج الصحيح في إدراك المعاد؟
-2كيف استدل القرآن على المعاد؟
-3ما ھي الجنبة التربوية في المعاد؟
-4ھل يجب على المسلم االعتقاد بتفاصيل المعاد؟
-5ما ھو رأي العلم الحديث في المعاد؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1لكون الحديث عنه يرجع إلى الحديث عن شيء لم نشھد له مثيال ً من قبل.
ي في اعتراضه على مسألة عودة األرواح إلى األبـدان؛ ح يث ت ساءل ل أوّل من ذكر مسألة عدم ورود كلمة )المعاد( في النصوص اإلسالمية ،العالمة المجلس ّ -2ولع ّ
ل على عودة األرواح لألجساد. فيما إذا كانت ھناك كلمة باألصل تد ّ
ودونَ } األعراف ،29 /فھي وإن دل ّت على العود ،إال أنّھا لم تذكر "المعا د" بھـذا الـوزن بمعـنى زمـان أو ما بَ َدأَك ْ
ُم تَ ُع ُ -3وأما استخدام القرآن لكلمة "تعودون" كما في { َك َ
مكان العود.
-4الرعد.36:
-5العلق.8:
-6النجم.42:
-7المؤمنون.115/
-8الروم.27 :
-9الحج.5:
المؤمنون.16-15 / -10
كما نجد ذلك في األمثلة التي يطرحھا القرآن عن المعاد ،فإنّھا ترتبط بعالم غريب عن تصوّر ذھننا. -11
سورة األعراف.187 : -12
سورة القارعة.5 : -13
-14سورة ابراھيم.48 :
-15سورة التكوير.2-1:
-16سورة التكوير.6:
-17بحار األنوار ج ،67ص.225
-18آل عمران.30:
-19الزلزلة.8-7/
ت لِغَـ ٍد َواتﱠ ُقـوا ﷲ
ـس َمـا قَـ ﱠد َم ْ ل ما نبعثه زاداً إلى تلك الدار{ :يَا أَيﱡ َھا الﱠذ َ
ِين آ َم ُنـوا اتﱠ ُقـوا ﷲ َو ْل َت ْنظُـ ْر نَ ْف ٌ -20الحشر .18 /وتُلفت ھذه اآلية إلى ضرورة مراعاة الدقّة في ك ّ
ملُونَ }. ما تَ ْع َ ير بِ َ
خبِ ٌ
ن الناقد بصير{ ،إِنﱠ ﷲ َ د أن نخلص العمل ونضع ﷲ نصب أعيننا ،فإ ّ } مؤكّد ًة على المراعاة بتكرار قوله )اتقوا ﷲ( ،فال ب ّ
ھري من خالل المداخالت التي جـرت بينـه وب ين ھـذا -21ھذا الكالم ذكره المھندس بازركان في كتابيه )الطريق القويم( و )درس التديّن( ،وقد تعرّض لھا الشھيد مط ّ
المھندس خالل ھذه البحوث.
-22إذاً تكون خليّة واحدة من بين الخاليا التي كانت تحمل خصائص اإلنسان ھي المسؤولة عن إحيائه ،ولذلك ال يص ّ
ح اإلشكال بأنّه ما دامت خصائص اإلنسان تتـوزّع
دث فــي ح شر ل إنسان شخصيّات كثيرة ،كما تنبـت مـن أ قالم األشـجار المغروسـة أشـجار كثـيرة؟ والقـرآن ال يتحـ ّ على الخاليا كل ّھا ،فما الذي يمنع أن يحشر من ك ّ
اإلنسان الواحد عن أكثر من شخصيّة واحدة.
ل شبھة اآلكل وال مأكول دل بدننا في حياتنا مرات عديدة ،من دون أن يؤث ّر ذلك في كوننا ذاتنا ،وبھذا تنح ّ
-23وھذا ال يضرّ في كون الُمعاد ھو نفس الشخص ،فنحن نب ّ
التي طُرحت في الكتب الكالميّة وغيرھا...
اﻟﺪرس اﻟﺜﺎﻟﺚ واﻟﻌﺸﺮون :ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺒﺮزخ
أھداف الدرس
357
تمھيد:
نعتقد -نحن المتديّنين -أنّ اإلنسان بعد أن يموت سوف يُبعث في يوم القيا مة يوم الج مع األ كبر .ل كن ھ ناك فا صلة زمني ّة
طويلة بين الموت والقيامة تمت ّد آالف بل ربما ماليين السنين ،فكيف تكون الحال في ھذه الفاصلة؟
359
أمّا القرآن الكريم فينظر إلى ھذه األمور بشكل أعمق ،ويراھا على حقيقتھا ،فالموت في المنطق القرآنيّ ليس تلفا ً وفساداً
مكان جديد يبقى فيه اإلنسان ح ّيا ً إلى يوم القيامة ،حيث إنبعاث البشر من القبور أحيا ًء
ٍ وصرف انھدام ،بل ھو انتقال إلى
َ
وحيث الحشر .وسنتعرّ ض إلى تفصيل ذلك في ما يلي.
تشير مجموعة من اآليات القرآنيّة إلى حقيقة الفترة الفاصلة بين الموت والقيامة ،وإلى أنّ اإلنسان يكون ح ّيا ً في ھذه
الفترة .وتستمرّ حال اإلنسان ھذه إلى يوم القيامة ،حيث يعيش في عالم أطلق عليه القرآن اسم )البرزخ( ،وتبعت القرآن
الكريم على ذلك األحاديث وكلمات العلماء.
والبرزخ في اللغة ھو الحائل والفاصل بين شيئين .وفي القرآن تشير ھذه الكلمة إلى فترة ما بعد الموت إلى يوم البعث﴿ :
ت في المستقبل( بقرينة﴿:
ِن َو َرائ ِِھ ْم َب ْر َز ٌخ إِلَى يَ ْو ِم ُي ْب َع ُثونَ ،﴾1وبالطبع فإنّ كلمة )وراء( استعملت بمعنى) :ما ھو آ ٍوم ْ
َ
ع ُثونَ ﴾. م ُي ْب َ
و ِ إِلَى يَ ْ
ونستعرض في ما يلي اآليات التي أشارت إلى حياة اإلنسان في عالم البرزخ:
-1الوفاة:
360
فيستخدم مشتقات مادّة )وفى( ،ومعناھا) :إستيفاء الشيء وقبضه بتمامه( 4بإجماع أھل اللغة ،فالمعنى أنّ ﷲ يأخذ األنفس
بتمامھا وكمالھا عندما يحين أجلھا.
وال تعني ھذه المادة الفوت والھالك والزوال -كما قد يتوھّمه البعض -وال ربط لھا بذلك.
والقرآن في إحدى ھذه اآليات يردف الموت بالنوم ،ويعتبر أ ّنھما معا ً من نوع تو ّفي النفس وعزلھا ،ونحو من اإلنفصال﴿ :
ھا...﴾5
م َ
م َنا ِ
ت فِي َ
م ْ ھا َوالﱠتِي لَ ْ
م تَ ُ م ْوتِ َ
ِين َ األَ ْنف َ
ُس ح َ و ﱠ
فى ْ ﷲ يَ َت َ
فالنوم الذي ال ندرك من حقيقته سوى ضعف شعور اإلنسان بحيث يكون منقطعا ً عن واقعنا ،يفسّره القرآن على أ ّنه نوع
من عزل النفس المؤقت.
والموت حالة شبيھة بھذه الحالة وليس ھو ھالكا ً وفساداً وتلفا ً.
-2التصريح بالحياة:
ات
و ٌ يل ﷲ أَ ْ
م َ سبِ ِ ن ُي ْق َت ُ
ل فِي َ م ْ تعالىَ ﴿:
وال تَقُولُوا لِ َ من أصرح اآليات الدالّة على عدم الفناء والحياة بعد الموت ،قوله
َش ُع ُرونَ ،﴾6كما َتكرّ ر مفادھا في آية ثانية. ل أَ ْ
حيَا ٌء َولَك ْ
ِن ال ت ْ بَ ْ
361
وھذه اآلية واضحة في الداللة على الحياة بعد الموت ،بل ال تدانيھا بصراحتھا آية أخرى.
لكن الذين أنكروا الحياة بعد الموت أوّ لوا اآلية وحملوھا على المجاز ،فقالوا إ ّنھا بمعنى أنّ الشھداء يبقون بعد موتھم أحياء
في قلوب الناس ،أي إنّ ذكر الشھداء وأسمائھم خالدة حي ّة بعد فقدھم ،فھي من قبيل التعبير) :أعيانھم مفقودة وأمثالھم في
القلوب موجودة(_-7مصدر_نھج_البالغة_،قصار_الحكم_،الحكمة_.147.7
أوالً :إنّ تعبير اآلية الكريمة في ذيلھا ﴿ولكن ال تشعرون﴾ ينافي تماما ً ما ُذكِر ،إذ لو كان المعنى أ ّنه مع عدم حياتھم فإ ّنھم
ما زالوا خالدين في النفوس والقلوب ،فيشعر الناس بھم كأ ّنھم أحياء ،فكيف يعود ليخاطبھم القرآن بأنه ﴿ولكن ال تشعرون
﴾؟!
ل
َ ْ ب ً ا اتو م
ْ َ َ أ ﷲ يل ب
َ ِ ِس ِي ف ُوا
ل ت
ِ ُ
ق ِين
َ ذ ﱠ ل ا ن ب سَح
ْ َ َ ﱠ ت الوَ ﴿ :تعالى قوله وھي اآلية، ھذه مفاد رت كرّ التي الثانية اآلية إنّ :ً ا ثاني
ف م أَ ﱠال َ
خ ْو ٌ خ ْلف ِ
ِھ ْ ِن َ
مم ْ
ھ ْ
حقُوا بِ ِ ِين لَ ْ
م يَ ْل َ ش ُرونَ بِالﱠذ َ
س َت ْب ِ
ه َويَ ْ
ضلِ ِ ِن َ
ف ْ ُم ﷲ م ْ
ما آتَاھ ُ
ِين بِ َ
رح َ م ُي ْر َزقُونَ َ
ف ِ ھ ْ
د َربِّ ِ
ع ْن َ أَ ْ
حيَا ٌء ِ
َعلَ ْي ِھ ْم َوال ھُ ْم يَ ْح َزنُونَ ﴾ ،إنّ ھذه اآلية تتحدّث بصراحة عن أنّ ھؤالء الشھداء بعد موتھم يُرزقون ويفرحون
8
ويستبشرون ،وھذا يتنافى مع القول بأنّ حياتھم مجرّ د خلود أسمائھم في القلوب.
ث ّم إنّ البعض ادّعى اختصاص ھذه الحياة بالشھداء ،ألنّ ھذه اآلية خاصّة بھم.
362
ولكن نقول :صحيح أنّ تلك الحالة من الرزق والفرح واإلستبشار خاصّة بالشھداء ،إال أ ّنه من غير المحتمل في المقابل
أن تكون األصناف األخرى من البشر -غير الشھداء -يل ّفھا سكون وفناء مطلق ،بل ال ب ّد أ ّنھم يعيشون حياة تتناسب مع ما
ّ
استحق الشھداء ھذا النوع من الحياة. يليق بما عملوه في ھذه الدنيا ،كما
فاآلية حينما تشير إلى الحياة السعيدة التي يحياھا الشھداء بعد موتھم ،فھي تنبّه إلى أنّ لكل بني البشر حيا ًة بعد الموت
تناسب ما عملوه في الدنيا.
مالئِكَةُ م ا ْل َفاھُ ُ و ﱠ تشير اآليات القرآنيّة إلى حوار يجري بين المالئكة وبين جماعة من األشقياء ،يقول تعالى﴿ :إِنﱠ الﱠذ َ
ِين تَ َ
ج ُرواھا ِ َ ً
عة ف ُت َ س َض ﷲ َوا ِ ُن أَ ْر ُ قالُوا أَلَ ْ
م تَك ْ األَ ْرضِ َ
ِين فِي ْ
عف َض َ
س َت ْ
م ْ
ك ﱠنا ُ
قالُوا ُم َ ك ْن ُت ْ
م ُقالُوا فِي َم َ ظَالِمِي أَ ْن ُفس ِ
ِھ ْ
ت َمصِيراً ﴾ ،وھذا الحوار خير دليل على أنّ ھؤالء يعيشون ضربا ً من الحياة. 9
سا َء ْ و َ م َھ ﱠن ُ
ج َ
م َ م ْأ َ
واھُ ْ ف ُأولَئِ َ
ك َ ھا َ
فِي َ
كما ورد حوار آخر بين المالئكة وجماعة من الطيّبين بعد الموت مباشرة ،ويد ّل على المراد أيضا ً بوضوح ،جاء في
ملُونَ .﴾10
م تَ ْع َ
ك ْن ُت ْ
ما ُ ج ﱠن َ
ة بِ َ ْخلُوا ا ْل َ م عَ لَ ْيك ُ
ُم اد ُ مالئِكَةُ طَ ِي ّ ِب َ
ين َيقُولُونَ َ
سال ٌ م ا ْل َ و ﱠ
فاھُ ُ اآليات الشريفة﴿:الﱠذ َ
ِين تَ َت َ
كما تصرّ ح مجموعة آيات أخرى بأنّ بعض األموات عندما يرى وضعه وخيماً ،يطلب العودة إلى الدنيا ليعمل الصالحات:
صالِحاً
ل َ علِّي أَعْ َ
م ُ ن لَ َ
عو ِ
ج ُ ﴿ َر ّ ِ
ب ا ْر ِ
363
أمان وطلبات...
ٍ ْت ،﴾11وھذا يد ّل على أنّ اإلنسان يبقى ح ّيا ً بعد موته ،فيكون له شعور وإدراك ،بل يكون له
ما تَ َرك ُ
فِي َ
-4مؤمن آل ياسين:
يذكر القرآن في سورة ياسين )يس( قصّة رجل آمن بالرسل الثالثة الذين أُرسلوا إلى قريته وقام بتبليغ رسالتھم اإللھيّة.12
مي ت َ
ق ْو ِ ل يَا لَ ْي َ ة َ
قا َ ج ﱠن َ
ل ا ْل َ
خ ِ يتحدّث القرآن عن أ ّنه وبعد أن قُتل أُدخل مباشرة إلى ج ّنة في عالم البرزخ﴿ :قِي َ
ل ا ْد ُ
ِين .﴾13وحيا ُته في ج ّنة بعد موته مباشرة ،وتأ ّسفُه على قومه وتم ّنيه أن ك َرم َ ن ا ْل ُ
م ْ علَنِي ِ
م َ ج َ
و َ
ف َر لِي َربِ ّي َ ما َ
غ َ علَ ُ
مونَ بِ َ َي ْ
يھتدوا لينالوا مثلھا ،خي ُر دليل على الحياة بعد الموت وقبل القيامة.
وھنا نلفت إلى أ ّنه ليس من الغريب أن يدخل مؤمن آل ياسين الج ّنة قبل يوم القيامة ،إذ اآليات القرآنيّة ال تتحدّث عن ج ّنة
واحدة فقط بل عن ج ّنات متعدّدة ،فھناك )ج ّنة الخلد( ،و)ج ّنة عدن( ،و)ج ّنة ﷲ( التي ھي فوق بقيّة الجنان...والذي يفھم
من القرآن أنّ الج ّنة ليست مكانا ً يختصّ باآلخرة .وقد نقل الفريقان ،الس ّنة والشيعة ،الحديث عن النبيّ صلى ﷲ عليه وآله
وسلم):القبر إمّا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران( ،14فالمراد ج ّنة البرزخ أو ناره ال اآلخرة.
ورد في مقطع من آيات سورة الواقعة إشارة إلى الفترة األخيرة من حياة اإلنسان في الدنيا ،ولحظات إنتھاء ھذه الحياة﴿ :
م َوأَ ْن ُت ْ
م ْح ْلقُو َ
ت ال ُ ذا بَلَ َ
غ ِ وال إِ َ َ
فلَ ْ
364
في ھذا المقطع يذكر القرآن أنّ الح ّد الفاصل واألخير بين الحياة والموت ھو بلوغ الروح الحلقوم ،حيث ال يمكن إعادة
الحياة للمحتضر عندما تبلغ ذلك المكان -كما يستفاد من األخبار والروايات -وأنّ اإلنسان في ھذه الحالة يعيش حالتين :من
ناحية ھو ينظر إلى ھذه الدنيا ومن حوله من الناس ،ومن ناحية أخرى يعاين بعضا ً من معالم العالم اآلخر فيشاھد وضعه
ّ
الحق. ھناك ،فيرى أعماله واألشياء بصورة مثاليّة ،كما يرى المالئكة وأولياء
وفي النتيجة ،تشير ھذه اآليات إلى خروج النفس أو الروح من البدن تدريج ّيا ً حتى تصل إلى الحلقوم ،المرحلة الحاسمة
التي يعاين فيھا الميت عالمه القادم فضالً عن الحالي .وھذه الحالة ھي حالة الموت .وعلى ضوئھا ي ّتضح أنّ ماھية الموت
قرآن ّيا ً ھي اإلنفصال واإلنقطاع ،وليس الفناء واإلندثار.
-6تصنيف البشر:
ِيم َوأَ ﱠ
ما إِنْ ت نَع ٍ
ج ﱠن ُ و َ
حانٌ َ ح َو َر ْي َ ين َ
ف َر ْو ٌ ق ﱠربِ َ ِن ا ْل ُ
م َ ف َأ ﱠ
ما إِنْ كَانَ م َ واآليات في سورة الواقعة تشير إلى ھذا التصنيفَ ﴿ :
ِن
لم ْ َ
ِين ف ُن ُز ٌضال ّ َين ال ﱠ ذبِ َ ك ِّ ِن ا ْل ُ
م َ ما إِنْ كَانَ م َ َ
ين َوأ ﱠ
م ِ حابِ ا ْليَ ِ ِن أَ ْ
ص َ م لَ َ
كم ْ سال ٌ ِين َ
ف َ حابِ ا ْليَم ِ ص َ ِن أَ ْكَانَ م ْ
16
يم ﴾.ٍ ح
ِ ج
َ ة
ُ ي
َ ل
ِ ص
ْ َ توم َ
حمِي ٍ
َ
365
وتأتي ھذه اآليات عقب اآليات التي تحدّثت عن وصول الروح إلى الحلقوم ،والتعبير عند التصنيف فيھا ب)-أمّا( ،التي
تد ّل على اإلتصال في اللغة ،يشير إلى أنّ ھذا التصنيف يصار إليه مباشرة بعد الموت بال أيّ تأخير وال حالة منتظرة
ساكنة ،أي قبل يوم القيامة.
كما أنّ ھذه اآليات أشارت إلى مرحلتين من الثواب والعقاب ،تكون المرحلة األولى منھما بمنزلة المقدمة للثانية:
بالنسبة للمقربين فھم في)روح وريحان( في مرحلتھم األولى -أي في عالم البرزخ -وفي الثانية -أي في يوم القيامة -في
ّ
المكذبون فيُستقبلون أوّ الً في ) ُن ُزل من حميم( ،17إلى أن يأتي يوم القيامة ليساقوا إلى ) َتصْ لِ َية جحيم( .ولم )ج ّنة نعيم( .أمّا
ّ ً
تشِ ر اآليات إلى مصير أصحاب اليمين تفصيال ،سوى أنھم في مأمن وسالم.
من ذلك كلّه نستفيد وجود حياة بعد الموت مباشرة تستمرّ إلى يوم القيامة ،حيث الحساب بالكمال والتمام.
كما أنّ اطمئنان النفس الذي تشير إليه اآلية ال يمكن أن يت ّم إال بذكر
366
ُوب ،﴾19وھذا الذكر ينطلق على أساس اإليمان والمعرفة التامّة ،فال يكون إال من كائن
ا ْل ُقل ُ مئِنﱡ ر ﷲ تَ ْ
ط َ ﴿أَال بِ ِ
ذ ْك ِ ﷲ:
حيّ مدرك وعارف.
كذلك طلب الرجوع إلى ﷲ من ھذه النفس ال يكون له معنى إذا كانت تذوي وتتالشى وتسير نحو الفناء واإلنتھاء.
وجودي:
ّ -8الموت أمر
يتعاطى القرآن مع الموت على أنّ له َم َلكا ً معيّنا ً ومالئكة مخصّصين ،تماما ً كما يتعامل مع الحياة .ولو كان الموت نھاية
الحياة فال معنى لبعث رسل ومالئكة تقوم بالقبض والتو ّفي وما إلى ھنالك.20
نعم ،يذكر القرآن أنّ الرزق ينعدم بعد الموت مباشرة ،21مع أنّ الرزق من خصائص الحياة .إال أنّ ذلك في الواقع ال يعني
يمثل حالة أقوى وأش ّد وأكثر نورانيّة من الحياة العاديّة ،فھو ليس بحاجة إلى رسل أن الميت يفنى ،بل ذلك ألن الموت ّ
رزق أصالً ،لكونه أسمى من الحياة العاديّة وليس لكونه فنا ًء وانتھا ًء.
ويمكن تشبيه ھذه الحالة بخروج الجنين من رحم أمّه ،حيث ينتقل إلى حياته الطبيعيّة التي ھي أش ّد من حياته الجنينيّة،
وھذا يت ّم دون أن ُتسلب منه حياته السابقة.
مرتين:
-9الموت والحياة ّ
367
س ِبيل .﴾22في اآلية إشارة وداللة على الموت والحياة ِن َ ل إِلَى ُ
خ ُروجٍ م ْ ھ ْ فاعْ َت َر ْف َنا بِ ُذ ُنوبِ َنا َ
ف َ ن َ ن َوأَ ْ
ح َي ْي َت َنا ا ْث َن َت ْي ِ ا ْث َن َت ْي ِ
مرّتين ،ولو لم يكن ھناك برزخ لقالوا) :ربّنا أم ّتنا مرّ ة واحدة ،وأحييتنا مرّ ة واحدة( .فاآلية تد ّل على وجود عالمين قبل
يوم القيامة :عالم الدنيا والطبيعة ،وعالم البرزخ ،فاإلنسان يكون ح ّيا ً ث ّم يغادر ھذه الدنيا ،فيحيا في البرزخ ،وعندما يحين
موعد القيامة يغادر البرزخ ليحيا في عالم ثالث جديد.23
ث ّم إنّ ك ّل حياة جديدة ّ
تمثل الموت بالنسبة إلى سابقتھا .فعندما يغادر اإلنسان ھذا العالم إلى البرزخ بالموت ،يع ّد ميتا ً في
ھذه الحياة الدنيا وح ّيا ً حسب البرزخ ،وعندما ينھض في القيامة فكأ ّنه مات في البرزخ وأُحيي فيھا .فالحياة في البرزخ
موت الدنيا ،كما أنّ حياة القيامة موت البرزخ.
لكن مع التأمّل ي ّتضح أنّ الكفار ھنا ال يستشكلون ب)-تف ّتت العظام وصيرورتھا
368
وسيأتي التعرّ ض تفصيالً إلى ھذه الروح التي بھا يحيا اإلنسان حياته في البرزخ بعد تلف وتالشي جسده وبدنه.27
النتيجة:
تد ّل مجموعة اآليات التي رصدناھا ،على أنّ لإلنسان ما بين الموت والقيامة نوعا ً من الحياة ،أُطلق عليھا اسم )الحياة
البرزخيّة(.
369
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
-ينظر الطبّ إلى موت اإلنسان على أ ّنه انعدام وفناء ،أم ّا ال قرآن فيع تبر ال موت ح يا ًة جد يدة لإلن سان في عالم جد يد من
عوالم اآلخرة ھو عالم البرزخ .ويتبيّن ذلك بمراجعة اآليات القرآنيّة المتعرضة للموت:
-1يعتبر القرآن الموت وفاة .والوفاة ليست أكثر من استيفاء الشيء وقبضه بتمامه .فالموت ليس سوى استيفاء ﷲ الن فوس
وأخذھا بتمامھا ،دون أن يكون ھناك زوال أو ھالك أو ما شابه...
-2وتصرّ ح آيات أخرى بأنّ اإلنسان بعد الموت يعيش حياة أخرى .وتشير إلى أنّ ھذه الحياة تتناسب مع ما قدّمه في ھذه
الدنيا.
-3وتورد آيات أ خرى حوارات ت جري ب ين المالئ كة واأل موات مبا شرة ب عد ال موت ،مم ّا يد ّل ع لى أنّ اإلن سان في ت لك
المرحلة حيّ في عالم آخر.
-4من اآليات التي توضح بعض مالمح عالم ما بعد الموت -البرزخ -اآليات التي تتحدّث عن مؤمن آل فر عون .وي ستفاد
منھا أنّ في ذلك العالم أيضا ً ھناك ج ّنة يمكن لإلنسان أن يدخلھا مباشرة بعد موته وقبل يوم القيامة وجنانه.
-5تت عرّض آ يات أ خرى لحا لة ال موت ،وتبي ّن أ ّن ھا نوع من اإلنف صال واإلنق طاع ا لذي يح صل تدريج ّيا ً .و في مراح له
األخيرة يعاين المحتضر عالمين ،عالمه الحالي والعالم القادم بعد موته.
-6كما تشير اآليات إلى مصير الميت في ذلك العالم ،وأنّ فيه أيضا ً نو عا ً من ال جزاء .و لذا ھي ت شير إ لى مرحلتين من
الجزاء ،المرحلة األولى ھي في عالم البرزخ ،والمرحلة الثانية و ھي ا لتي ي ت ّم في ھا ال جزاء والح ساب بالت مام والك مال في
يوم القيامة.
-7يخاطب ﷲ النفس المطمئنة بعد موتھا ،كما يُبيّن بعض اآليات .و ھذا الخ طاب من ﷲ و ھذا اإلطمئ نان للن فس ال يم كن
أن يكون إال من كائن له شعور وإدراك.
ً
-8إنّ للموت في القرآن مالئكة مخصّصين ،تماما ك ما للح ياة ا لدنيا مالئكت ھا ،و ھذا ي عني أنّ ال موت أ مر و جوديّ ول يس
انعداما ً وفناءً ،وإال لم يكن معنى لذلك.
ّ
-9تشير اآليات إلى عالمين يسبقان عالم القيامة :عالم الدنيا والطبيعة ،وعالم البرزخ .واإلنتقال من كل عالم يمث ل ال موت
في ھذا العالم ،والدخول في عالم جديد ّ
يمثل حياة فيه.
-10ويعيش اإلنسان حياته في عالم البرزخ بروحه ،بعد أن يفنى ويتالشى جسده ،كما تبيّن اآليات الشريفة.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1أين يكون اإلنسان في الفاصلة الزمنيّة بين الموت والقيامة؟
-2كيف ينظر الطبّ إلى اإلنسان بعد الموت؟ وما ھو رأي القرآن؟
-3اآليات التي تصرّ ح بأنّ الشھداء أحياء يرزقون ھل ھي خاصة بالشھداء أم ال؟
-4كيف نستفيد من تصنيف البشر وأحوال النفس في إثبات الحياة بعد الموت؟
-5ھل الموت وجود أم عدم؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1سورة المؤمنون.100 :
-2سورة السجدة.11:
-3سورة يونس.104:
-4معجم مقاييس اللغة ج ،6ص ،129مادة )وفى(.
-5سورة الزمر42:
-6سورة البقرة.154:
-7مصدر نھج البالغة ،قصار الحكم ،الحكمة .147
-8آل عمران.170 -169:
-9النساء .97:وھذه اآلية في مقام بيان وظيفة الذين تضرّ بدينھم حياتھم في دار الكفر ،وأنّه كان عليھم أن ينتقلوا ويھاجروا إلى حيث يمكنھم حفظ دينھم.
-10النحل.32:
-11سورة المؤمنون 99 :و .100
ل
جـ ٌ
ة َر ُ ِـن أَ ْق َ
صـى ا ْل َ
مدِي َنـ ِ جـا َء م ْ
سـلُونَ }َ {....و َ ما َف َع ﱠز ْزنَا بِثَالِثٍ َفقَالُوا إِنﱠـا إِلَ ْيك ْ
ُـم ُم ْر َ وھ َ ن َف َ
كذ ُﱠب ُ م ا ْث َن ْي ِ سلُونَ إِ ْذ أَ ْر َ
س ْل َنا إِلَ ْي ِھ ُ ْم ْر َ
ھا ال ُ
جا َء َ اب ا ْل َق ْريَ ِ
ة إِ ْذ َ ح َ ص َ م َم َثال ً أَ ْ
ب ل َُھ ْض ِر ْ
َ { -12وا ْ
ِين} )يّـس (14 -13:و ...يّـس.20: سل َ ل يَا َق ْو ِم اتﱠبِ ُعوا ا ْل ُ
م ْر َ س َعى قَا َ يَ ْ
-13سورة يـس.27-26 :
-14بحار األنوار /ج ،6ص .275
-15سورة الواقعة.85 -84-83:
-16سورة الواقعة 88:إلى .94
حابِ ا ْليَم ِ
ِين }. ِن أَ ْ
ص َ م لﱠ َ
كم ْ َس َال ٌ
-17لم تشِر اآليات إلى تفصيل ما يعيشه أصحاب اليمين في المرحلتين ،سوى أنّھا عبّرت عن أنّھم في حالة جيّدة وعلى خير{ف َ
-18الفجر.28 -27:
-19الرعد.28 :
م ًال} سورة تبارك ـ آية .2 ن َع َ س ُح َ ُم أَ ْ
ُم أَيﱡك ْ ت َوا ْل َ
حيَا َة لِيَ ْبلُ َوك ْ َق ا ْل َ
م ْو َ ي قوله تعالى{ :الﱠذِي َ
خل َ ن الموت أمر وجود ّ
-20ويشير إلى حقيقة أ ّ
م ُي ْر َزقُونَ } ،فھذا الرزق المذكور في ذلـك العــالم ليــس
ھ ْ
ع ْن َد َربِ ّ ِح َيا ٌء ِل أَ ْما اآليات التي تشير إلى الرزق ھناك ،كما في اآليات التي ذكرناھا في مقام الشھداءَ { :ب ْ -21أ ّ
من قبيل الرزق الذي يقسمه ﷲ في الحياة الدنيا ،بل المقصود أنّھم مكرّمون منعمون في ذلك العالم.
غافر.11: -22
ل بھذه اآلية على الرجعة ،فالحظ!
البعض يستد ّ -23
سورة السجدة.10: -24
سورة السجدة.11 : -25
-26سورة يـس.78:
-27الحظ الفصلين الرابع والخامس.
اﻟﺪرس اﻟﺮاﺑﻊ واﻟﻌﺸﺮون :ﻫﺪﻓﻴﺔ اﻟﺨﻠﻖ ﻓﻲ اﻟﻘﺮآن
أھداف الدرس
373
-األول :آيات قرآنيّة تر ّد استبعاد المنكرين للقيامة فحسب ،من دون أن تقيم دليالً برھان ّيا ً قائما ً بذاته على ثبوت المعاد.
واآليات في ھذا المجال ھي تلك المستندة إلى القدرة اإللھيّة ،حيث تر ّد ع لى الم ستبعدين أنّ ا لذي قدِر ع لى الن شأة األو لى
م ﴾ ،ح يث يجيب ھم﴿ :ق ْ
ُـل 1
مي ٌ
ِـي َر ِ عظَا َ
م َوھ َ حيِي ا ْل ِ
ن ُي ْ
م ْ
ل َ قادر على األخرى ،كما في قوله تعالى حكاية عن الكف َّارَ ﴿ :
قا َ
م.﴾2 خ ْل ٍ
ق عَ لِي ٌ ل َ
ك ِّ
و بِ ُ
وھُ َ
م ﱠر ٍة َ
ل َ ھا أ َ ﱠ
و َ ْشأَ َ
ھا الﱠذِي أَن َ
ح ِيي َ
ُي ْ
فھذه اآليات ال تنطوي على أكثر من ر فع ھذا اإل ستبعاد ،ب عد اال ستناد إ لى ال قدرة اإللھي ّة المطل قة ،ح يث ال ي كون مع نى
للتعجّب من المعاد بعد أن تبيّنت القدرة اإللھية الكاملة في النشأة األولى.
-الثاني :تذھب آيات أخرى إلى أبعد من نفي اإلستبعاد ،فتقيم دليالً على
375
قاعدة) :إنّ خير دليل ع لى إم كان ال شيء وقو عه( ،و ھي مجمو عة اآل يات ا لتي ت شير إ لى ن ظام الح ياة وال موت في ھذه
الدنيا ،من حياة األرض بعد موتھا ،ونشأة اإلنسان وتطوّ رات حياته .وھذه األمور حقائق مشھودة ال سبيل إلى إنكارھا.3
ث ّم تشير اآليات إلى أنّ الذي يحصل في اآلخرة ھو ا ستمرار لن ظام الح ياة وال موت ا لذي ن شھد جزءاً م نه في ھذه ا لدنيا.
فلھذا النظام مسيرة ال ب ّد أن تستمرّ ،وليس المعاد أمراً◌ً جديداً.
-الثالث :ينطلق القرآن في مجموعة ثالثة من اآليات ليقيم ا لدليل ا لذي يأ خذ شكل األدل ّة الكالمي ّة والفل سفيّة التام ّة ،وذ لك
حين تشير اآليات إلى عدم عبثيّة الخلق ،وھذا ا لدليل ھو دل يل منب ثق عن التوح يد ،فإنّ اإلي مان بالتوح يد يم نع من عبثي ّة
الخلق ،وذلك ال يكون إال بوجود القيامة.
376
تشير مجموعة أخرى من اآليات -في سياق االستدالل على المعاد -إلى عدم عبثيّة خلق السماوات واألرض -ب غضّ الن ظر
ِن أَ ْك َث َر ْ
ھُم ال ق َولَك ﱠ خلَ ْق َناھُ َ
ما إِ ﱠال بِا ْل َ
ح ِّ ما َ
ين َ
ع ِب َ
ما ال ِ
ما بَ ْي َن ُھ َ األَ ْر َ
ض َو َ و ْما َواتِ َ
الس َ
ﱠ خلَ ْق َناما َ عن البشر ،-يقول ت عالىَ ﴿ :
و َ
5
ِين ﴾.
مع َج َ
مأ َْ ل مِيقَا ُت ُھ ْص ِ م ا ْل َ
ف ْ و َ علَ ُ
مونَ إِنﱠ يَ ْ يَ ْ
تنفي اآل يات أن ي كون خ لق ال سماوات واألرض لع باً ،بأن ال يترت ّب ع لى خ لق ﷲ لھ ما أ ث ٌر وغا ية ،فل يس خلقھ ما كع مل
األطفال الذي ال أثر له سوى اللعب واللھو .وفي المقابل لو لم تكن قيامة لكان خلقھما بال غاية أو أثر.6
377
نھاية المطاف:
إذاً ،يستد ّل القرآن على المعاد بأنّ الخلق والكون قائمان على أساس الحق ال الباطل ،و لو لم ت كن قيا مة ل كان الخ لق عب ثاً،
تعالى ﷲ عن ذلك علوّ اً كبيراً.
والسؤال الذي يطرح نفسه ھنا ھو أ ّنه :ما معنى ما يذكره القرآن من أنّ تفسير الخلق ي كون بالقيا مة ف قط وإال ف ھو مخ لوق
عبثاً؟ فما ھو سر الربط بين عدم عبثية الخلق و وجود القيامة؟
أال يمكن اإليمان بالتوحيد وبأنّ ﷲ ھو الخالق ،دون القول برجوع األشياء إلى ﷲ ،بل ھي تفنى وتنعدم؟!
ث ّم إنّ الجميع قائل بأنّ الجمادات توجد وتفنى ،كذلك بدن اإلنسان وصورته ،من دون أن يلزم من ذلك العبث ،فلي كن األ مر
كذلك في اإلنسان وغيره.
وللجواب على ذلك ھناك نظريّتان نتعرّ ض لھما مع ما يمكن أن يرد على البعض من إشكال.
378
النتيجة :فلو لم يكن يوم القيامة لذھبت الصالحات والسيّئات ھدراً ،ح يث ُي ھدر حق ال صالحين وال يب لغ الم سيئون ال جزاء،
وحينھا يكون خلق اإلنسان -الذي تنطوي أبعاده على استعداد فعل الصالح أو السيّئ -عبثاً ،ومن ھنا ال بد لرفع ھذه العبث ية
من يوم للحساب.
أمر وجز ٍء و ِجد لتالفي النقص الحاصل في ا لدنيا .فھ ناك ن قص ثانيا ً :يلزم من ھذه النظريّة القول بأنّ اآلخرة ليست سوى ٍ
في ھذه الدنيا يح صل نتي جة عدم و جود جزاء الخت يار اإلن سان الح سنة أو ال سيّئة .و ھذا الن قص ال يم كن تالف يه إال بذ لك
العالم األخرويّ ،فتكون القيامة مجرّ د عالم تابع لھذه الدنيا.
ات
ما َو ُ
ھا الس ﱠ َ
ضـ َ وھذا القول ال ينسجم ال مع من طق ال قرآن وال مع قانون الخ لق ،ح يث إنّ عال ما ً آ خر ف يه:
ة عَ ْر ُ ﴿َ ...
جن ﱠ ٍ
ِين ،﴾7ويخلد فيه الناس إلى األبد ،ھكذا عالم يزيد على عالم ا لدنيا بأ ضعاف ال تح صى ،ك يف يم كن ت لِ ْل ُ
م ﱠتق َ د ْ ض ُأ ِ
ع ﱠ األ َ ْر ُ
و َْ
ً ً
أن يكون قد وُ جد لمجرّ د س ّد النقص الحاصل في عالم الدنيا ،ويكون تابعا له طفيل ّيا؟!
379
ونتيجة ھذا القول أنّ كل األ شياء المو جودة باق ية ،و لو ع لى ن حو المقد مة لغير ھا ،فال شيء ي سير ن حو اإلن عدام والف ناء،
وعليه فك ّل ما في الكون ھادف ألنه يسير نحو األبديّة والبقاء.
نعم ھناك فريق يذھب إلى عدم ضرورة بقاء المخلوقات جميعا ً دون أن يفنى منھا شيء مطلقاً ،بل ربما ال ي ساعدنا ال قرآن
على ھذا الفھم .ويكفينا لنفي العبث أن يكون قسم من المو جودات يب قى وال ي فنى ،8ھي ز بدة المو جودات ا لتي تر جع إ لى
ﷲ ،فتتحقق الھدفيّة بھا ،وھي تعلّل الغرض من وجود بقية الموجودات
380
في ھذا الكون ،فيكفي لھدفيّة خلق ما في الكون جميعا ً أن تكون قد وُ جدت ألجل بقاء اإلنسان وديمومته ،فھي بمنزلة المھد
لھذا الموجود الذي ينبغي أن يتصل باألبديّة.
ب -البيان الثاني :وھو تفسير أعم وأشمل وأسھل من سابقه ،ويستند إلى الوضع الموجود والمشھود ،وتوضيحه:
إذا كان لشيء ثمّة غاية وھدف ،فال ب ّد أ ّنه يسير نحوھا ،وتكون ھذه الغاية ھي المتمِّمة له بحيث ينتھي إليھا.
والقاعدة األساسيّة للعبث ھي أن يقوم أيُّ عاقل عالم بتمھيد مقدمات لھا غاية وھدف ما ،ث َّم يع مد إ لى ن قض الم قدّمات ق بل
أن تبلغ ھدفھا وغايتھا ،وقبل أن تثمر ،فمثل ھذا العمل يع ّد عبثا ً.
على سبيل المثال :نحن نعرف أنّ الجنين وھو في ا لرحم مزوّ د بأع ضاء و جوارح من قب يل الع ين واألذن وج ھاز التن فس
و ...مع أ ّنه يعيش في الرحم حياة نباتيّة حيث ال حاجة إلى م ثل ھذه األع ضاء .و ھذه اآلالت إ ّن ما تنا سب ح ياة أ خرى في
عالم خارج ا لرحم .ووجود ھا ي ش ّكل مق ّد مة ليع يش في ال عالم ال خارجيّ .ف لو كا نت ح ياة األج نة تقت صر ع لى خ صوص
األشھر التسعة األولى فقط لكان خلق الجوارح المذكورة عبثا ً و باطالً ،ول كان تزو يد الجن ين ب ھذه اال ستعدادات)الم قدمات(
لغواً و بال معنى.
وإذا أردنا أن نطبّق ذلك على اإلن سان لنرى ك يف ي كون خل قه عبثي ّ ا ً وك يف ي كون ھاد فاً ،فال ب ّد أن نن ظر في ھد فه و في
اإلستعدادات التي جھّز بھا لتحقيق ھذا الھدف.
381
إذا تأمّلنا في اإلنسان وجدنا أ ّنه يسعى إلى التكا مل ،ف ھو ھد فه وغاي ته ،و ھو ي سير ن حو تحق يق ھد فه وغاي ته ،فإنّ تحق يق
التكامل ال يكون اتفاق ّيا ً.
وقد يتوھّم البعض أنّ تحقيق التكامل يت ّم تلقائي ّ ا ً وف قا ً ل ما ط ُ رح في الم يادين العلمي ّة من )التكي ّف مع البي ئة( ،ك ما طرح ھا
داروين.
لكن التكيّف مع البيئة ال يعني التخل ّي عن الغا ية وال ھدف )التكا مل( تما ماً ،بل بم عنى أنّ اإلن سان يوجّ ه األو ضاع البيئي ّة
والطبيعيّة التي يواجھھا بحيث تتالءم مع غايته وھدفه ،ودون أن َيضرَّ بھا.
ھذا يشبه عمل السياسيّ الذي يحاول التكيّف مع الظروف الطارئة واألوضاع الموجودة ،ويتفاعل معھا لكن ليس إلقرار ھا
بل لتكييفھا بحيث تعينه على بلوغ ھدفه.
استعدادات اإلنسان
إذا نظرنا إلى استعدادات اإلنسان وجدنا أ ّنه كما ھو مجھّز بقدرات تتناسب مع الحياة الدنيا ،فإنّ لديه استعدادات وإمكانيات
وأجھزة ووسائل أبديّة تتناسب مع حياة أخرى بعد الموت،برزخيّة وأخرويّة.
فلإلنسان وراء ھذا ال بدن حقي قة ب سيطة )ا لروح( ال ت جري علي ھا أح كام ال مادّة وال تق بل اإلن عدام ،ألن ھا مو جود ب سيط ال
ترك يب ف يه ،والب سيط ال يق بل التجز ئة وال التغي ّر ،أي ال يق بل ما ي سبب اإلن عدام .9و في الوا قع فإنّ ھذه اإل ستعدادات
والجواھر اإلستثنائية ھي حقيقة اإلنسان وبھا إنسانيّته .فھي التي
382
تمنحه العواطف السامية الرفيعة للتوجه إلى ﷲ ،واستعداد لإلتصال بالحق سبحانه ،وبال تالي للو صول إ لى ھد فه وغاي ته،
الكمال.
نعم اإلنسان ال يلتفت غالبا ً إال إلى الجا نب ا لدنيويّ ال ماديّ م نه ،و لو تعم ّق في نف سه اللت فت إ لى الجوا نب واإل ستعدادات
األخرى ،التي بھا يكون حفظ شخصيّته ومعاده.10
إن اإلنسان الذي ُجھّز بكل ھذه اإلستعدادات التي ليست من سنخ العالم الذي يعيشه في الدنيا ،لو انتھت حياته في ھذه الدنيا
التي ال يستفيد فيھا من ھذه اإل ستعدادات واإلمكا نات ،و لم ت كن قيا مة وح ياة ما ب عد ال موت ،لكا نت ك ّل ھذه اإل ستعدادات
عبث ّيــة وال معــنى لھـا ،تمامـا ً كـالجنين إذا كانـت نھايــة حياتـه بانتھــاء فــترة الحمــل دون أن يكـون ھنــاك حسـاب لألجھــزة
واإلستعدادات التي زوّ د بھا.
فھذه اآليات تريد أن تنبّھنا إلى وجودنا بكامل جوانبه ،وإلى أ ّننا كما انحدرنا من عند ﷲ فسنعود ونرجع ون صعد إل يه ،ألنّ
كال القوّ تين -النزول والصعود -موجود فينا.12
383
نعم ،إن مثل النباتات والجمادات التي جھّزت باستعدادات تتناسب مع ھذه ا لدنيا ل يس أ كثر ،فإنّ م صيرھا ينت ھي في ھذه
الدنيا دون أن يكون ذلك عبثا ً وباطالً.
النتيجة:
بھذا البيان يتبيّن سر العالقة بين ضرورة وجود القيامة وعدم العبثية في الخلق ،وي ّت ضح أنّ ا لدنيا ھي مق ّد مة لح ياة أو سع
وأشمل يستفيد اإلنسان فيھا من كامل استعداداته الھائلة ا لتي ال يل يق ب ھا أن ت كون مق صورة ع لى ا لدنيا فح سب ،وأنَّ ھذه
الدنيا ھي بمثابة المزرعة لذلك العالم ،ومرحلة من المرا حل ا لتي يجتاز ھا اإلن سان في سيره الطو يل ،وال ت كون اآل خرة
مجرّ د تابع طفيليّ وتتمّة للنقص الحاصل في ھذه الدنيا ،كما تبيّن من تحليل بيان المتكلمين.
ھذا الطريق في استدالل القرآن على المعاد ،والمنبثق عن التوح يدُ ،ي ش ّكل منطل قا ً إلث بات الن بوّ ة ،فب ما أنّ الم عاد والرج عة
إلى ﷲ حتميّة وواقعيّة ،ال ب ّد إذاً من نبوّ ة تضطلع بھداية البشر وإرشادھم إلى ھذه الحقيقة.
وھذا االستدالل يتش ّكل على خالف المألوف عندنا ،والذي اعتدنا عليه في حياتنا اإلجتماعيّة ،إذ الطري قة المألو فة أنّ ھ ناك
قانونا ً تشريع ّيا ً ما )يشبه دور النبوّ ة( ولضمان تنفيذ ھذا القانون نجعل ثوابا ً وعقابا ً )المعاد(.
384
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
-يكتفي القرآن أحيانا ً بر فع اإل ستبعاد ا لذي يذكره المن كرون للم عاد ،وذ لك باإلعت ماد ع لى ال قدرة اإللھ ية ا لتي تجل ّت في
الخلقة األولى ،ويشير أخرى إلى أنّ حقيقة المعاد ليست سوى استمرار لنظام الموت والحياة الذي نشھد جزءاً منه في ھذه
الدنيا ،فيما يقيم ثالثة دليالً تا ّما ً على المعاد منطلقا ً من التوحيد وعدم عبثيّة الخلق ،وال يكون ذلك إال بالمعاد.
-تبيّن مجموعة من اآليات أنّ خلق اإلنسان لو كان بال معاد لكان ذلك الخلق عبث ّياً ،تعالى ﷲ الحكيم عن ذلك علوّ اً ك بيراً،
فيما تبيّن آيات أخرى ذلك باإلشارة إلى خلق السماوات واألرض بغض النظر عن خلق البشر.
-يذھب المتكلمون في تفسيرھم لھذه العبثيّة إلى أ ّنه لوال القيامة ل ما و صل ل ك ّل من الم سيء والمح سن جزاء أعما له ال تي
كانت تحت اختياره في ھذه الدنيا.
ً ّ
-يرد على نظرية المتكلمين :أنّ نظريّتھم إنما تعلل خلق اإلنسان دون خلق السماوات واألرض ،فضال عن أنّ ھكذا تفسير
إ ّنما يجعل القيامة مجرّ د تابع متمّم للنقص الحاصل في الدنيا ،وھذا ال ينسجم مع منطق القرآن وال طبيعة الخلق.
-يبيّن آخرون الھدفيّة ،بأنّ الخلق إ ّنما يكون ھادفا ً إذا كان وجوده باقيا ً ومستمراً ،بحيث ال ينقطع تل ّقيه للفيض اإللھي.
نعم ال مانع من أن يكون الھدفُ من إيجاد بعض الموجودات التي قد تفنى ،ھو م ن ُح اإل ستمراريّة والب قاء للمو جودات ال تي
ستبقى إلى األبد.
-ھناك بيان أشمل وأسھل من البيان السابق في تبيين الھدفيّة وعدم العبثية ،ويبتنى على أنّ القاعدة األساس في العبثيّة ھي
في أن يبني العاقل مقدّمات لغاية ما ،ث ّم ينقض ھذه المقدّمات قبل أن تصل إلى غايتھا.
ولتطب يق ذ لك ع لى اإلن سان ن جد أنّ لد يه م قدّمات وا ستعدادات للع يش في عالم غير عالم ا لدنيا ،ولد يه ھدفا ً وراء ھذه
اإلستعدادات ،وھو الوصول إلى الكمال .فلو انتھت حياة اإلنسان في الدنيا من دون أن يستفيد من إمكاناته ويصل إلى ھدفه
لكان خلقه عبثاً ،أمّا بوجود القيامة والحياة األخرى التي يستفيد فيھا اإلنسان من ھذه اال ستعدادات وينط لق إلك مال م سيرة
تحقيق ھدفه فإنّ خلقه ال يكون عبثا ً.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ھل في خلق البشر داللة على ضرورة وجود المعاد؟
-2ما ھو سر العالقة بين ضرورة القيامة وعدم عبثية الخلق؟
-3ھل َيسْ لم تفسير المتكلمين لھذه العالقة من اإلشكال؟
-4كيف تكون الھدفية تفسيراً لس ّر العالقة بين القيامة وعدم العبثية؟
-5ما معنى أن ال شيء ينعدم في ھذا الوجود؟
ﻫﻮاﻣﺶ
-1يـس.78 :
-2يـس.79:
ور} فاطر ـ 9
ﱡش ُ
ك الن ُ األَ ْر َ
ض بَ ْع َد َم ْوتِ َھا َك َذلِ َ ه ْ َس ْق َنا ُه إِلَى بَلَ ٍد َم ِي ّتٍ فَأَ ْ
حيَ ْي َنا بِ ِ حاباً ف ُ
س َ ح َف ُتث ُ
ِير َ ل الرِّيَا َ -3وذلك كقوله تعالىَ { :وﷲ الﱠذِي أَ ْر َ
س َ
-4المؤمنون.116-115:
-5الدخان.39-38:
-6ھناك مجموعة آيات أخرى أشارت أيضاً إلى عدم عبثيّة خلق السماوات واألرض ،كما في :ص) ،(28-26األنبياء) ،(18-16والجاثية21) :ـ .(22
-7آل عمران.133 :
مم ذلك لكل موجود له ا ستعداد البقـاء األبـدي ،وربمـا كـان
ت} التكوير .5:ويمكن أن نع ّ
ش َر ْ
ح ِ
وش ُ
ح ُ -8وھو اإلنسان ،والحيوانات كذلك كما في اآلية الشريفةَ { :وإِذَا ال ُْو ُ
موجوداً في كوكب آخر.
-9فجميع األعدام في الدنيا ھي تعبير عن تجزئة المركّبات وتغيير في الحاالت.
ي
ن البعث مـاد ّن القرآن عندما يمثّل للقيامة يطرح مسألة اإلحياء واإلماتة في الطبيعة ثم يقول{ :كذلك تخرجون} ،أو {كذلك النشور} ،ليقول إ ّ
-10قد يعترض البعض بأ ّ
ن التشبيه في اللغة يكون من جھة وال يكون من ك ّ
ل الجھات ،وھنا األمر كـذلك فالت شبيه يـراد محض من باب تجديد المثل وال عودة فيه للشخص ذاته .لكن الصحيح أ ّ
م
ي التـا ّ
ما النموذج الحقيق ّ
ل تفاصيلھا .أ ّ
منه ھنا اإلشارة إلى أصل مسألة اإلحياء التي ھي بيد ﷲ ،وليس األمر أنّه يوم القيامة ھو بنفس ھذه الطريقة من اإلحياء بك ّ
للقيامة فھو ما أتى به األنبياء من معجزة إحياء الموتى ،وھذا اإلحياء ال نعثر على نموذج واحد مشابه له في المسارات الطبيعيّة.
-11المؤمنون.115:
ن ھذا ال يعني أن البحث ينتھي ھنا وأن ال مكان للرأي اآلخـر ،بل ربمـا يمكـن
-12ھذا ما توصّل إليه الشھيد المطھري بعد التدبر في ھذه اآليات ،وھو نفسه يقول بأ ّ
استكشاف غير ذلك بعد التدبّر والتأمّل في اآليات.
اﻟﺪرس اﻟﺨﺎﻣﺲ واﻟﻌﺸﺮون :اﻟﺮوح
أھداف الدرس
387
تمھيد
يطلق القرآن لفظ )الروح( على مجموعة من الحقائق غير الجسميّة ،التي لم ُت َ
برأ في ھذه ا لدنيا بل جاءت من م ح ّل أع لى
ِن ُروحِي ﴾.
1
هم ْ
ت فِي ِ ح اإلنسان ،يقول تعالىَ ﴿:
ونَفَخْ ُ وعالم أسمى ،ومن ھذه األمور رو ُ
ويطلق على روح اإلنسان اسم )النفس( أيضا ً .ونفس الشيء ھو عينه وذاته.فھذا اإلطالق ھو لتب يان أنّ ا لروح ھي حقي قة
اإلنسان وشخصيّته الواقعيّة فھي نفسه وذاته ،2فيما ّ
يمثل الجسد والبدن ما يشبه اآللة واللباس لھا فحسب.
وحقيقة الروح تبقى حيّة بعد أن يفنى الجسد ،من ھنا نرى القرآن بعد أن يت حدّث عن الر فات وتال شي الج سد .نراه ير جع
فيعبّر عن صاحبه بأ ّنه حيّ ،وھذا إشارة إلى تلك الحقيقة التي بھا يحيا الجسد ،والتي ل ھا ُب عد وراء ال بدن بح يث تب قى حي ّة
بعد تحوّ ل الجسد إلى رفات.
389
-1الروح تبقى رھينة :وذلك في الخطبة الغرّاء ،حيث يقول األمير عليه السالم) :فھل دفعت األقارب أو نفعت النواحب،
وقد غودر في محلّة األموات رھيناً ،(...)،وصارت األجساد شحبة بعد بضّتھا ،والعظام نخر ًة بعد قوّ تھا ،واألرواح
مرتھنة بثقل أعبائھا ،موقنة بغيب أنبائھا.4(...
ومحل الشاھد ھو المقارنة التي يبيّنھا اإلمام عليه السالم بين مآل األجساد واألرواح ،فالعظام تتيبَّس في القبر ويصيبھا
النخر ،فيما األرواح تبقى رھينة بما كسبت ،وقد صارت على يقين من الغيب الذي كانت ُتذ ّكر به في الدنيا ولم تستيقنه،
فالجسد يؤول إلى التھرّؤ والتفُّ -تت ،والروح باقية في عالم آخر.
-2سكرات الموت :ويتحدّث فيھا اإلمام عليه السالم عن حال المحتضر وھو بين أھله فيقول) :يردّد طرفه بالنظر في
وجوھھم ،يرى حركات ألسنتھم ،وال يسمع رجع كالمھم ،ث ّم ازداد الموت التياطاً ،فقبض بصره كما قبض سمعه،
ً
جيفة بين أھله(.5 وخرجت الروح من جسده ،فصار
ففي ھذا النص يبيّن اإلمام عليه السالم أنّ حقيقة الموت ھي خروج الروح من البدن.
390
-3ملك الموت :فيصفه عليه السالم ،ويشير إلى كيفية وفاة الجنين في بطن أمّه ،فيقول) :بل ،كيف يتو ّفى{مل ُ
ك الموت
ج عليه من بعض جوارحھا؟! أم الروح أجابته بإذن ربّھا!(.6 الجنين في بطن أمّه؟! أيل ُ
َ }
يؤ ّكد ھذا النص أنّ أمير المؤمنين ينظر إلى الموت على أ ّنه انفصال للروح عن الجسد.
النتيجة:
ھذه النصوص الثالثة من نھج البالغة تصرّ ح بالروح على أ ّنھا حقيقة واقعيّة ،وھذا ال يتعدّى كونه نموذجا ً لما في النھج
واألحاديث واألدعية ،7فضالً عن القرآن.
الروح في القرآن
معان مختلفة ،سنتوفر على ذكر ھذه الموارد ،ث ّم سيتبيّن لنا أ ّنھا في الواقع تعود إلى حقيقة
ٍ إستعمل القرآن الروح في
واحدة تصدق على عدّة أمور.
ح غي ُر المالئكة:
-1الرو ُ
يتحدّث بعض آيات القرآن الكريم عن الروح على أ ّنھا أمر وحقيقة غير المالئكة ،كما ورد ذلك في ع ّدة آيات ،ففي ع ّم﴿ :
ﱡوح فِي َھا ،﴾9وفي فاً ﴾ ،وفي القدر ورد﴿ :تَ َن ﱠز ُ
ل ا ْل َ
مالئِكَةُ َوالر ُ 8
ص ّ ﱡوح َوا ْل َ
مالئِكَةُ َ ُوم الر ُ
م يَق ُ
و َ
يَ ْ
391
ِن أَ ْم ِر ِه....﴾10 ك َ
ة بِالرﱡوحِ م ْ آية ثالثة { ُي َنزِّ ُ
ل ا ْل َ
مالئِ َ
ففي ھذه اآليات يتبيّن أن الروح ليست من المالئكة ،وإال لم يكن من المناسب ذكرھا في عرضھم.
وفي حديث مرويّ عن األمير عليه السالم االستدالل بأنّ الروح غير المالئكة ب الثالثة المذكورة.11
ق ْلبِ َ
ك... األَم ُ
ِين عَ لَى َ ﱡوح ْ
ه الر ُ ﴿نَ َز َ
ل بِ ِ في مواطن أخرى ،يصف القرآن الروح ب) -األمين( ،وب) -القدس( ،يقول تعالى:
ك.﴾13...
ِن َربِّ َ
سم ْ وح ا ْلق ُ
ُد ِ ه ُر ُ ﴾ ،وفي آية أخرى﴿ :ق ْ
ُل نَ ﱠزلَ ُ
12
وفي ھذه المواطن من اآليات ذھب البعض إلى القول بأنّ روح القدس والروح األمين ھو جبرائيل ،إذ ھو الذي نزل
بالقرآن على النبيّ صلى ﷲ عليه وآله وسلم.
فيما يذھب العالمة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان إلى أنّ ما يفھم من القرآن أنّ ثمّة مخلوقا ً أو موجوداً حامالً للقرآن
إلى جوار جبرائيل ،فإنّ جبرائيل وإن نزل بالوحي إال أ ّنه ليس الذي يحمله.
وحامل الوحي ھذا ھو الذي يطلق عليه القرآن اسم روح القدس األمين ،فھو في عرض المالئكة أيضاً ،وليس منھم.
392
ما
ت ت َْد ِري َ
ك ْن َ
ما ُ
رنَا َ ِن أَ ْ
م ِ ك ُروحاً م ْ ك أَ ْو َ
ذكرت آيات أخرى الرو َح كتوأم لكلمة الوحي ،يقول تعالى:
ح ْي َنا إِلَ ْي َ ك َذلِ َ ﴿ َ
و َ
األي َمانُ ،﴾14فيعبّر القرآن عن آيات القرآن بأنھا روح ،فھي التي أوحاھا إلى النبي صلى ﷲ عليه وآله وسلم. ا ْلكِ َت ُ
اب َوال ْ ِ
وھنا يمكن أن يقال بأن آيات القرآن ھي ضربٌ من تلك الحقيقة التي إسمھا )الروح( ،حيث تنزل على قلب النبي ّ صلى
ﷲ عليه وآله وسلم بتلك الحقيقة المجرّ دة أوالً ،ث ّم تكتسي اآليات في ما بعد الصيغة اللفظيّة.
لكن ّ
العالمة يذھب ھنا أيضا ً إلى أ ّنھا بمعنى حامل الوحي ،وليست ھي الوحي نفسه ،والمقصود من )أوحينا(ّ ) :
نزلنا(،
فتكون ھذه اآليات مشابھة لآليات السابقة.
ِيسى
ِيح ع َ
مس ُ ﴿إِن ﱠ َ
ما ا ْل َ ومن الموارد التي أطلقھا القرآن على الروح ھو اللقب الذي اكتسبه عيسى بن مريم عليھا السالم،
م َو ُرو ٌح ِم ْن ُه.﴾15
م ْريَ َ ه أَ ْلقَا َ
ھا إِلَى َ م ُت ُ ول ﷲ َو َ
كلِ َ س ُم َر ُ
م ْريَ َ
ن َ
ا ْب ُ
393
حيث ترسل لتأييد المؤمنين كما كانت مؤيّدة للمالئكة ،وإمّا أ ّنھا بمعنى الحالة المعنوية واإللھام والقوة التي ألقيت في
قلوب المؤمنين ،وھذا ليس ببعيد.
فأَ ْر َ
ومن المواطن التي استخدم فيھا القرآن كلمة الروح ما حدث مع السيدة مريم عليھا السالم ،يقول تعالى:
س ْل َنا إِلَ ْي َ
ھا ﴿ َ
ّ
متمثلة في ھيئة بشر ،وھبت الحياة لعيسى من غير س ِويّاً .﴾17...فا ج ّل وعال قد أرسل الروح
شراً َ ل لَ َ
ھا بَ َ م ﱠث َ ح َنا َ
ف َت َ ُرو َ
أب.
وليس ببعيد أن تكون الروح ھذه نفس تلك الحقيقة التي ُذكرت رديفا ً للمالئكة.
-7الروح اإلنسانية:
ونالحظ أن ھذا اللفظ كما استخدم في السور المدنيّة فإنه استخدم أيضا ً في السور المكية.20
394
في البداية ال ب ّد من معرفة ما ھي الروح التي وقع السؤال عنھا ،ث ّم نشرح ما ھي حقيقتھا وفقا ً لھذه .
395
ھنا ليس عن الروح بمعنىً خاصّ ،بل عندما رأوا القرآن يذكر لفظة الروح كثيراً لم ت ّتضح لديھم ،فسألوا عنھا.
وعلى أيّ حال فإنّ الجواب قد جاءھم﴿ :قُ ِل الرُّ و ُح مِنْ أَم ِْر َربِّي﴾ .وھو جواب واقعيّ ،فما ھي حقيقته ،وما ھي الروح؟
حقيقة الروح
تبيّن معنا أنّ القرآن يجيب السائلين عن الروح بأ ّنھا) :من أمر ربّي( .وھذا التعريف يشتمل على جزءين ،فھي أمر ،وھي
من ﷲ ،فما معنى ذلك؟
إذا أردنا أن نعرّف شيئا ً فتارة نعرّ فه بأجزائه الذاتية أي التي يتكوّ ن منھا ،كأن نعرّف السجادة بأ ّنھا مجموعة خيوط ملوّ نة
من القطن أو الصوف ،ويسمّى ھذا التعريف بالتعريف بالعلل الداخليّة )أي العلة المادية للشيء والعلة الصوريّة( ،وأخرى
نعرّف ھذا الشيء بأمور خارجة عن ذاته ،كالغاية والغرض الذي وُ جد ألجله ،بأن نعرّف السجادة بأ ّنھا ما يُفرش ويستفاد
منه بالجلوس ،كما أ ّنه قد نعرّ فه بفاعله ،كأن نقول إ ّنھا سجادة عجميّة من صناعة أھل يزد مثالً ،ويُسمّى التعريف بالغاية
أو بالفاعل تعريفا ً بالعلل الخارجية )أي العلّة الغائيّة والعلّة الفاعليّة(.
وليكون التعريف تا ّما ً فال ب ّد أن يتو ّفر على بيان العلل الداخليّة والخارجيّة ،ف ُتذكر أجزاؤه و ُتبيّن غايته وفاعله.
396
25
األمر في القرآن
حينما يعبّر القرآن بقوله )خلق ﷲ( فالمنظور ھو اإليجاد التدريجيّ ،الذي يرتبط بعاملي الزمان والمكان ،كما في خلق
السماوات واألرض في ستة أيام -أيا ً كان المقصود من األيّام الس ّتة ،-وكما في تحوّ الت النطفة في الرحم.
أمّا حين يعبّر ب) -أمر ﷲ( 26فالمقصود ھو الوجود الدفعيّ ،الذي ال مح ّل للتدرّ ج فيه ،فھو ينتسب إلى ﷲ مباشرة من
كلَ ْ
محٍ ة َ
ح َد ٌ ما أ َ ْ
م ُرنَا إِ ﱠال َ
وا ِ ف َيكُونُ َ ﴿ ،﴾27
و َ ُن َ
هك ْ ش ْيئاً أَنْ يَقُو َ
ل لَ ُ ذا أَ َرا َ
د َ م ُر ُه إِ َ دخل لعام َلي الزمان والمكان﴿ ،إِن ﱠ َ
ما أَ ْ ٍ دون
ص ِر ﴾ ،والمقصود أ ّنه ال محل للزمان والتدرّ ج وما شاكل في أمر ﷲ ،فقوله وفعله أي ما يريده عين الوجود وعين ما 28
بِا ْل َب َ
ً ُ
يوجده ،دون أن تكون ھناك لبثة انتظار أصال..
ق َو ْاألَ ْم ُر.﴾29
خ ْل ُ وقد اجتمع كال المعنيين في قوله تعالى﴿:أَال لَ ُ
ه ا ْل َ
ن أَ ْم ِر َربِّي﴾ ،فباإلضافة إلى أنھا منسوبة إلى ﷲ وحده ،فإ ّنھا من جنس
م ْ
ﱡوح ِ و ھكذا نفھم المراد من قوله تعالى﴿ :ق ِ
ُل الر ُ
أمره ،وليست من جنس خلقه كالسماوات واألرض وباقي موجودات ھذا العالم.
397
تبيّن في ما سبق أن الروح التي ذكرنا تشمل روح اإلنسان أيضاً ،و ھذا ي عني أنّ في اإلن سان ،باإل ضافة إ لى بد نه ،رو حا ً
ووجھتان وجوديّتان :الوجھة الخلقيّة والوجھة األمريّة.
ھي من موجودات )أمر ﷲ( ،ولذا فلإلنسان جنبتان ِ
والذي يظھر من اآليات أنّ اإلنسان بعد أن يصل في خلقته التدريجي ّة إ لى مرح لة مع ّي نة فإن ّ ه ُي فاض عل يه ب شيء من ع ند
ﷲ ،أي بشيء له أُفُق أرفع من ھذا األفق.
يبقى أن نشير إلى أنّ المتي ّقن ھو استخدام الروح األمريّة بأزاء اإلنسان دون بقيّة موجودات العالم.
398
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
تمثل الروح مجموعة من الحقائق غير الجسميّة ،ومنھا روح اإلنسان التي تش ّكل شخصيّته الحقيقيّة ،والتي تبقى بعد ف ناء ّ -
جسده.
-تتو ّفر الن صوص الديني ّة المختل فة ،من قرآن وأدع ية وأحاد يث ،ع لى ذ كر ا لروح ،بح يث بل غت ح ّد التوا تر ،وال تترك
ك فيھا. مجاالً للش ّ
-ذكر القرآن الروح في استعماالت متعدّدة ،وتعود جميعھا إلى حقيقة واحدة ،وھي كونھا مخلوقا ً من نوع أمر ﷲ.
-معنى كون الروح من أمر ﷲ مسألتان:
مـا ل للتدرّ ج والزمان وما شابه ف يه ،بل ينت سب إ لى ﷲ ﴿ َ
و َ -1فمعنى أنھا أمر وليست خلقاً ،كون إيجادھا دفعيّ ،ال مح ّ
ص ِر.﴾31 كلَ ْ
محٍ بِا ْلبَ َ ة َ أَ ْ
م ُرنَا إِ ﱠال َوا ِ
ح َد ٌ
-2ومعنى أ ّنھا من ﷲ كونھا مُنحت نفحة إلھية تمنحھا البساطة والتجرّ د والبقاء.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ما ھي الروح؟
-2أين تتجلّى شخصيّة اإلنسان الحقيقيّة؟
-3ھل ينھى القرآن عن السؤال عن طبيعة الروح؟
-4ما معنى الروح في القرآن الكريم؟
-5كيف يذكر القرآن موت اإلنسان وتالشيه ث ّم يذكر أ ّنه حيّ ؟!
ﻫﻮاﻣﺶ
-1الحجر 29 :و ص.72 :
-2والفالسفة عندما يعبّرون بـ )النفس( ينصرف المعنى أكثر إلى جھات تعلقات الروح الماديّة ،فيعنون باألمور النفسانية األمور الشـھوانية والبدنيـة ،وعنـدما يعـبرون بـ
)الروح واألمور الروحيّة( فأكثر ما يعنون بھا الجنبات المستقلة للروح عن البدن وعالم المادّة.
-3النحل.96:
-4نھج البالغة ،الخطبة ،81طبعة فيض اإلسالم.
-5نھج البالغة ،الخطبة ،107طبعة فيض اإلسالم.
-6نھج البالغة ،الخطبة ،110طبعة فيض اإلسالم.
دامنا عبدك وابن عبدك نزل بك وأنت خير منزول بـه ،(...) ،الل ّھـم إنّـك قبضـت
جى ق ّ
ن ھذا المس ّ
-7كما في الدعاء الذي ُيقرأ في صالة الميت قبل آخر تكبيرة) :الل ّھم إ ّ
روحه إليك.(...
-8النب.38 :
-9القدر.4:
ل على ذكر الروح في عرض المالئكة سواء كانت الباء في )بالروح( للمصاحبة ـ أي يـنزّل المالئكـة ويصـاحبھا ا لروح ،أو لإل ستمداد ــ أي تتـنزل -10النحل ،2:وھي تد ّ
المالئكة باإلستمداد من الروح واإلستعانة بھا.
-11الكافي ،ج ،1ص ،274حديث ) 6كتاب الحجة(.
-12الشعراء.194-193:
-13النحل.102:
-14الشورى.52:
-15النساء.171:
-16المجادلة.22:
-17مريم17:
-18السجدة.9:
الحجر.29: -19
ن ال ﱡروحِ". سأَلونَ َ
ك َع ِ كما في اآلتية من اإلسراءَ " :ويَ ْ -20
اإلسراء .85 : -21
وليست في مقام النھي عن السؤال عن حقيقة الروح!. -22
-23كھذه من النب ,38:واآليات 4و 2من سورتي القدر والنحل.
-24فغاية الروح أن ترجع إلى ﷲ ،والسائل ال يعرف معنى العودة إلى ﷲ.
-25يسوق ھذا الكالم العالمة الطباطبائي ،وھو معنى موجود في كلمات آخرين سبقوه كما في كلمات المال صدرا.
ُم"الن ساء ،59 :وقــد ينسـبھا األَ ْم ِ
ـر ِم ْنك ْ ل َو ُأولِي ْ
سو َ دين للشؤون ،كما في "أَطِي ُعوا ﷲ َوأَطِي ُعوا ﱠ
الر ُ ُ -26ينسب األمر في القرآن أحياناً إلى غير ﷲ ،كنسبته إلى المتص ّ
إلى أشياء أخر.
-27يس .82 :
-28القمر.50 :
-29األعراف.54:
-30المؤمنون.14:
-31القمر.50 :
اﻟﺪرس اﻟﺴﺎدس واﻟﻌﺸﺮون :اﻟﻌﻠﻢ واﻟﺮوح
أھداف الدرس
401
تمھيد:
نعرض في ھذا البحث الجنبة العلميّة المعاصرة للروح .وإذ نتحدّث عن الجنبة العلميّة فھذا ال يعني أننا نكت في بم جرّ د ن قل
ما َق ِبله علماء العلم الحديث ،بل نقوم بممارسة االستدالل وفق الصيغ والقوانين التي سلّم بھا ھؤالء العلماء مع مالحظة أ ّننا
نجد العلم الحديث .قد انحسرت قدرته وضعفت عن البيان عندما تجاوز األمر حدود الحسّ .لھذا ال يمكننا أن ن سلّم ب ك ّل ما
أ تى به العل ماء المعا صرون ب شكل تا ّم وأع مى ،بح يث إذا أن كروا ا لروح أنكرنا ھا وإذا آم نوا ب ھا آم نا ،بل ن ستفيد من
طروحاتھم لنصل بالعلم إلى أرقى مقاماته.
يقوم ھذا البرھان 1على أ ساس أ نه ال يم كن علمي ّا ً -وباإلعت ماد ع لى عن صري ال مادّة والطا قة ف قط -2ك ما يفع له ال ماديون-
تفسي ُر وجود بعض الظواھر
403
صــة اإلنســان ،كمــا ال يمكــن تقــديم تعليــل لإلختالفــاتالكون ّيــة ،ال س ـيّما التحــوّ الت والتغ ّيــرات فــي الكائنــات الح ّيــة ،خا ّ
ّ
والتنوّ عات ا لتي تح صل في مواد ھذا ال كون وف قا ً للعن صرين ال مذكورين ،بل ال ب ّد من و جود عن صر ثا لث يعل ل ذ لك
3
التحوّ ل والتغيّر وتلك اإلختالفات والتنوّ عات ،التي نراھا ونشاھدھا عيانا ً وبالحواسّ الماديّة.
تفصيل ذلك أنّ صور وحاالت الموا ّد األوليّة للكائنات غير ثابتة ،فھناك تغيّرات وتحوّ الت تحصل في ھا دائ ماً ،ك ما أنّ ب ين
ھذه الموا ّد اختالفات ،ك ّل ذلك ناشئ عن الصفات والخواصّ الموجودة في طبيعة األشياء والعناصر وكيفيّاتھا ،بح يث أدّت
إلى عدم ثبات موا ّد ال عالم وحاالت ھا .وال ب ّد أن ي كون وراء ھذا الت غير والت حول واإلخ تالف ق صد وإرادة وحر كة معي نة.
وھذا القصد واإلرادة غير موجودين في المادة والطاقة ،فال يب قى إال أنّ ثم ّة عن صرآً ثال ثا ً في ھذا ال كون ي كون الم سؤول
عن ھذه األمور.
أما عن مكان ھذا العنصر أو مركزه فليس له مح ٌّل أصالً ،كما أنّ ھذا العنصر ل يس من سنخ المو جودات المحسو سة ل نا،
عنصري المادّة والطاقة ،وإذا لم يكن ما ّدة فليس له حجم أو ح ّد ي ح ّده ،بل
َ وال من عناصر ھذا العالم المادي ،فھو أمر غير
إنّ لھذا العنصر قوة تمك ّنه من أن يكون حاكما ً على ال ما ّدة مھيم نا علي ھا ،ك ما نرى أ ثره في اإلن سان من خالل الع بادات
ً
بنحو يخرج من إسار الطبيعة ويتحرّ ر منھا ،وكذلك ٍ كالصوم مثالً ،حيث يحصل الصائم على استقاللية
404
األمر في التنويم المغناطيسيّ إذ يخضع اإلنسان لتأثيره بحيث يھيمن على جميع قواه .وھذه النقطة ّ
تمثل ذروة تسلّط الروح
على البدن ،وھي تعكس ذروة تسلّط اإلرادة الموجودة في البعد الثالث ،و ُتبرز ھيمن َتھا على المادّة والطاقة.
وبنا ًء عليه يتبيّن 4أن ّ ه بالم قدّمات ا لتي ذكرنا ھا تث بت ا لروح الم جرّ دة ،فإن نا ع ندما نت حدّث عن ُب ع ٍد ثا لث ل يس له أ صول
ماديّة ،وأ ّنه غير متغيّر وال متحوّ ل في ذاته ،وأ ّنه م جرّ د عن الم كان ،ن كون قد أثبت نا ا لروح الم جرّ دة ،فإنّ م عنى الت جرّ د
ليس سوى التجرّ د عن ھذه النواقص المذكورة.
من ناح ية أ خرى ال ب ّد أن ي كون ھذا العن صر ،ا لذي يھي من ع لى ال ما ّدة ويق بل التلق ين ،واع ياً ،بح يث يرتبط به شعورنا
اإلراديّ الواعي ،الذي ال يمكن أن يرتبط بالعنصر المادّي وال بالطاقة.
-2برھان التكامل
يع ّد تكامل الموجودات الحيّة وتطوّ رھا من مظاھر الحياة التي ال تقبل اإلنكار ،في ما ل يس بم قدور الع لم المعا صر ،بقواني نه
الحاك مة وبج ھاز عنا صره -ال قائم ع لى ا فتراض عن صرين ف قط في إ طار الز مان والم كان )ال مادّة والطا قة( -تف سير ھذا
ث وبُع ٍد آخر غير المادة والطاقة يفسر لنا ظاھرة التطور في الحياة. عنصر ثال ٍ
ٍ التكامل ،بل الب ّد من إثبات
وتوضيح ذلك:
ّ ً
إنّ جن بة اإلن سان المادي ّة ا لتي تخ ضع ل قوانين الع لم ال حديث -ا لتي ت شمل كال من ال ما ّدة والطا قة -ت سير ن حو التدا عي
والتالشي ،حيث تخضع لقانونين:
405
األول :قانون التداعي والكھولة )اآلنتروبي( القائل بأنّ ك ّل مادّة في ھذا العالم تتجه منذ اللح ظة األو لى ن حو ال ھرم
القانون ّ
والضعف ،حتى تضمحل وتتالشى ،كما ھو الحال في اآلالت الصناعيّة ،فإ ّنھا ت كون في أول يوم من إنتاج ھا أ قوى وأ ش ّد
وأكثر سالمة من أيّ وقت آخر ،ث ّم تراھا تضعف وتتداعى وتبلى كلّما مرَّ عليھا الزمن.
القانون الثاني :وھو القانون المضا ّد لل )اآلنتروبي( ،وھو حالة يطلق عليھا اسم )الطاقة المفيدة أو المؤثرة( ،و ھي تظ ھر
بأشكال مختلفة ،كما أ ّنھا قابلة لإلستفادة.
والعالقة بين القانونين ھي النسبية المعاكسة ،أي كلما يزداد اآلنتروبي تق ّل الطاقة المؤث ّ رة ،ف في كل كائن حيّ ر صيد من
الطاقة المؤثرة يستفيد منھا في نموّ ه ،وتكون ھذه الطاقة في أوج عطائھا في اللحظات األولى لنشأته ،5وعندما ي ستفيد من ھا
في ن موّ ھيك له وج سمه ت بدأ بالت ضاؤل يو ما ً ب عد يوم ،لتزداد ع لى ح سابھا الطا قة الم ضا ّدة ل ھا )اآلنترو بي( أي ان حدار
اإلنسان نحو التداعي والشيخوخة ،ويستمرّ ازدياد اآلنتروبي على حساب تضاؤل الطاقة المؤثرة إلى الح ّد ا لذي تظ ھر ف يه
حالة الركود والتعادل وعدم الحركة في اإلنسان وھي الموت نفسه ،سواء أكان الموجود ح ّيا ً أم غير حيّ .
وخال صة ال قول :إنّ ل كل إن سان ر صيداً تا ما ً من الطا قة المؤث ّرة في أول مرح لة من ن شوئه ،ت بدأ ھذه الطا قة بال ضعف
واإلضمحالل فتق ّل حركته شيئا ً
406
فشيئاً ،ويسير بذلك نحو الموت ،وھذا ما يعب ّر ع نه اإل مام ع ليّ عل يه ال سالم بأنّ اإلن سان يت حرّ ك ن حو ال موت م نذ ال يوم
األول لوالدته.6
ھذا في الجنبة الماديّة والنموّ الظاھريّ لإلنسان .إال أننا نرى في اإلنسان جنبة أخرى ،وتلك ھي الن موّ الجو ھري له ،فإ ّن نا
نرى اإلنسان في مسيرة حياته يسير من ناح ية أ خرى ن حو التكا مل والت طوّ ر ،ت شت ّد ذا ته وي قوى جو ھره ،وي ّت جه تدريجي ّا ً
نحو الشدّة والكمال ،وليس نحو التداعي والضعف !.
فنحن نرى اإلنسان كلمّا مرّ به الزمن ،قطع شوطا ً من العلم وحاز مجموعة من الملكات العلميّة واألخالقيّة ،ف ھو -في ھذه
الجنبة منه -دائما ً في حالة تصاعديّة إشتداديّة ،و ھذا يت نافى تما ما ً مع التف سير العل مي ،بل ي عد م حاالً علمي ّا ً وف قا ً للتفا سير
القائمة على المادة والطاقة فقط.
والواقع أنّ لإلنسان ،إ لى جا نب ال مادة والطا قة ا لتي تحكم ھا قوانين ت سير ب ھا ن حو ال تداعي واإل ضمحالل ،جن بة روحي ّة
وحياتيّة ،تشھد منذ اللحظة األولى لوجوده تكامالً واشتداداً.
ھكذا نرى أنّ القوانين الطبيعية ال تسري إلى تكامل اإلنسان ،كما أنّ الج ھاز المؤل ّف من عن صرين ف قط -ال مادّة والطا قة-
يقف عاجزاً عن تفسير ھذا التكامل الحاصل.
مالحظة مھمة:
إنّ ھذا االستدالل يت ّم بمجرّ د أن يكون ھناك تكامل ولو على مستوى الفرد،
407
سواء أكان ھناك تكامل آخر ع لى م ستوى ال نوع أم ال ،7ح يث إنّ التكا مل في أيّ شكل من أ شكاله يح تاج إ لى ذ لك الب عد
الثالث ،حيث ال يمكن لجھاز الطاقة والمادة وال لقانون اآلنتروبي تفسير ھذا التكامل.
وفي النتيجة فإن قوانين العلم الحديث ،بعنصريه -ال مادّة والطا قة -ال لذين ت ّم إكت شافھما ،إن ما تتحك ّ م بم سألة ال ھرم فالموت
فقط ،فيما يتحكم بمسألة الحياة وتجددھا وتكاملھا بعد ثالث غير المادّة والطاقة ال ب ّد من وجوده في اإلنسان.
فالتكامل -وطبقا ً لما يراه القدماء -يحكي جنبة ما ورائية ،أي ما وراء الجسم والمادّة )ما وراء الطبيعة(.
قد تفس ّر نظري ّة العن صرين -ال مادّة والطا قة -بالقوانين الحاك مة عليھ ما و َ
ضع ال مادّة والطا قة ب عد وجودھ ما ،لكن ھا ت قف
عاجزة عن تفسير أصل ظھور اإلنسان والحياة على صفحة الوجود ،بل أصل وجود ھذا الكون.
وتوضيحه :إنّ تفسير ظھور الحياة واإلنسان يتو ّقف على الحديث عن طفرة ،أي عن حلقة فارغة ومبھمة ،ھي ا لتي تول ّت
ھذا الوجود .وھذه الطفرة إمّا أن تكون معلولة للصدفة أو معلولة ألمر موجود آخر.
408
أمّا أن تكون معلولة للصدفة فذلك غير ممكن ،إذ الصدفة قائمة على م بدأ ظ ھور األ شياء من خالل التغ ييرات التدريجي ّة،
بنا ًء على أنّ تكرار الحوادث ماليين المرات يُظھر بالصدفة شيئا ً ناف عا ً يب قى ويت حوّ ل إ لى إرث للج يل ا لذي يل يه ،8و ھذا-
التغيير التدريجيّ -ال يمكن أن يص ّح في الكائنات الحيّة التي تتم ّتع بخصو صيّات عجي بة ،و لدقتھا وتعق يدھا و تزامن حا جة
ك ّل جزء من ھا إ لى أجزا ئه األ خرى في آن وا حد ال ب ّد أ ّن ھا وُ ج ِ دت دف عة وا حدة ،كالج ھاز الب صريّ ،ال يم كن أن ي كون
وجودھا تدريجيا ً بحيث يبقى النافع من األجزاء تدريج ّياً ،وال ب ّد أن توجد دفعة واحدة.
إذاً ،إنّ مثل ھذه األجھزة وھذه الخصوصيّات ال تتسق مع حسابات التصادف الماديّ ،وبالتالي فالطفرة في ظ ھور اإلن سان
بتجھيزاته ال يمكن أن تكون معلولة للصدفة بل ذلك يحكي عن وجود قوة أو عنصر ثالث ھو الذي أحدث ھذه الطفرة.
9
-4برھان التك ّيف مع البيئة
يتميّز وجود الكائنات الحيّة بخاصيّة مذھ لة ،و ھي تكي ّف ال كائن ال حيّ مع شروط البي ئة ،بح يث تت طابق شروطه الحياتي ّة
والوجوديّة مع الشروط الخارجية ،وذلك إمّا بأن يكيّف ذاته معھا ،وإمّا بأن يكيّف البيئة والمحيط مع ما يناسبه.10
ھكذا تبرز في أجھزة الكائنات الحيّة الداخليّة تغييرات تتناسب مع المحيط الجديد ،كلما تغيّرت األوضاع عليھا ،فتلبّي بذلك
اإلحتياجات المستجدّة للحياة في البيئة الجديدة.
409
فاإلنسان -مثالً -عندما يعيش في بيئة تحتاج إلى نسبة أكبر من الكر يات البي ضاء ،ف سرعان ما ترى طبيع ته تت بدّل لتو جد
تعادالً وتوازناً ،ليعيش مع متطلبات البيئة الجديدة وضروراتھا ،وھذه األ مور قد ع ّدت اآلن من الثوا بت تقري با ً .وال سؤال
الذي يطرح نفسه ھو:
قد ثبت أن ھذا التغيير في أجھزة الكائن الحيّ ليس بتأثير العوامل الخارجي ّة ،و لذلك ال نرى له أ ثراً في الج مادات ،وإ ّن ما
المسبّب له قوّ ة الحياة الموجودة في الكائنات الحيّة ،وھي قوة ھادفة وموجّ ھة لھذا الجسد تبادر إلى تغيير و ضع ال بدن كل ما
دعت الحاجة إلى ذلك ،طبعا ً ضمن حدود قدرتھا.
-1ا لدماغ ظرف للمعلو مات :و ھي ا لتي كا نت سائدة سابقاً ،تب تنى ع لى أنّ خال يا ا لدماغ ھي ظرف للمعلو مات ال تي
يحص ّلھا اإلن سان ،ف مع ك ّل معلو مة يكت سبھا ويحفظ ھا -سواء أكا نت شِ عراً أم قانو نا ً علمي ّا ً أم غير ذ لك -تنت قش صورة
مص ّغرة لھا في نقطة معيّنة من دماغنا ،كذا في المعلومة الثانية ،وھكذا...
فكل معلومة تأخذ مكانا ً معيّنا ً في نقطة من دماغنا ،ومعنى ذلك أ ّنه إذا استوفى اإلنسان نقاط الدماغ جميعا ً فلن ي كون ھ ناك
مكان لمعلو مات جد يدة ،وال يم لك اإلن سان ب عدھا أيّ ا ستعداد للتعل ّم ،ح يث ي صير ا لدماغ تما ما ً كال صحيفة البي ضاء ال تي
امتألت كتابة في جميع جوانبھا وحواشيھا.
وفي النتيجة تكون قابلية اإلنسان بنا ًء على ھذه النظرية محدودة بمحدوديّة حجم دماغه.
410
-2الدماغ آ لة ارت باط :ب عد ر فض الع لم ال حديث للنظر ية ال سابقة ،قا مت النظر ية الثان ية ع لى اعت بار ا لدماغ آ لة ارت باط
بالظرف الواقعيّ للمعلومات .والظرف الواق عيّ ھو ت لك الحا لة ا لتي ن حسّ أ ّن ھا في داخل نا ح ضور ّياً ،و ھي حا لة روحي ّة
مجرّ دة غير ماديّة ،فال حدود لھا ،وبالتالي فإ ّنھا تقبل المعلومات إلى ما ال نھاية ،وال معنى المتالء الدماغ بالمعلومات.
نعم ،قد يتعب الدماغ على أثر الكبر والضعف ،فتضعف قابلية اإلن سان ع لى تلق ِّي المعلو مات ،وذ لك لت باطؤ أداة اإلرت باط
وليس المتالء الظرف 11الواقعيّ ،ولذا فلو أمكننا أن نأ خذ المعلو مات عن طر يق اإلل ھام واإل شراق ،من دون أن ن ستخدم
12
دماغنا وأعصابنا ،لحصلنا على العلم ال إلى نھاية.
وممّا يساعد على ھذه النظريّة -في تل ّقي المعلومات -كالم لإلمام عليه السالم في نھج البالغة) :ك ّل وعاء ي ضيق ب ما ج عل
13
فيه )حيث يتد ّنى استيعابه بمقدار ما وُ ضع فيه( ،إال وعاء العلم فإ ّنه يتسع به(.
في النتيجة ،إنّ عدم محدوديّة تل ّقي اإلنسان للمعلومات تث بت أنّ ف يه و عا ًء وظر فا ً غير م حدود في قابل ّي ته ،وال ي كون ف يه
سعة مكان ية مع ّي نة وم حدودة م عدّة لن قش الع لم ،بل ھو ظرف م جرّ د غير ماديّ يزداد ات ساعا ً ب قدر ما ي صبّ ف يه من
معلومات ،وليس ذلك سوى روحه التي بين جنبيه.
411
من المسائل غير المتناھية في اإلنسان مسألة أمانيه وآماله ،14فلكل إنسان أمنيات تحدّثه بھا نفسه ،وكلّما أُعطي ھا ترى قل به
يتمنى أموراً جديدة ،فوعاء أماني اإلنسان وقابليّته على التم ّني غير محدودة.
وإذا ما رأينا إنسانا ً محدود األماني فذلك يعود إلى األوضاع المحيطة به ا لتي ُتم لي عل يه ھذه المحدود ية ،ح يث يتمن ّ ى ما
يرى أنّ له نيله ويمكن تحقيقه ،فإذا ما حصل عليه تبرز لديه أمانيُّ وآمال جديدة.
وواقع األمر أنّ اإلنسان في أمنياته الالمحدودة إنما ينشد الكمال المطلق ،فھو ين فر من المحدودي ّة والن قص وال عدم ،يتمن ّى
شيئا ً ويسعى وراءه ظ ّنا ً منه أ ّنه مبتغاه وضالّته الواقعيّة ،وإذا ما حصل عليه وجده أق ّل من المطلوب فيسعى إلى شيء آخر
أكمل من األول.
إذاً ،ليست أماني اإلنسان الالمحدودة أمانيَّ مش ّتتة بال ھدف ،كما أ ّن ھا لي ست ت مني ما يف قده ف قط ،ك ما في ب عض الكتا بات
المعاصرة ،والصحيح أنّ اإلن سان إ ّن ما ي سعى في كل أمان يه إ لى الك مال المط لق ،و لذا لو ب لغ كما له ھذا ل ھدأ وا ستراح،
ولشعر براحة القلب واإلطمئنان ولم ينشد التحوّ ل عنه أبداً ،فاإلنسان في أعماق شعوره الباطني ال يبغي شيئا ً غير ﷲ الذي
ھو الكمال المطلق.
ر ﷲ أَال
ذ ْك ِ مئِنﱡ ُقلُو ُب ُھ ْ
م بِ ِ م ُنوا َوتَ ْ
ط َ ﴿الﱠذ َ
ِين آ َ وبشأن ھذه الفكرة يقول القرآن:
412
نتيجة البرھان:
وفي الخالصة ،إنّ في اإلنسان قوّ ة تدفعه للسعي وراء حقيقة ال أثر فيھا للنقص والمحدودية بل ھي الك مال المط لق .و ھذه
القوة الدافعة إلى الالمحدود ال يمكن أن تكون محدودة في ذات ھا ،و لذا لي ست ھي ال مادّة ،بل أ مر آ خر ل يس سوى ا لروح
المجرّ دة عن المادّة المحدودة.
ويبقــى أنّ ھنــاك أمــوراً أخــرى ُتعتــبر مــن خصــائص اإلنســان وال يمكــن تفســيرھا مــن وجھــة النظــر الماد ّيــة ،كــاألحالم
والتنبّؤات ،والتخاطر والكرا مات والم عاجز ،وأ مور إ ستثنائيّة أ خرى في اإلن سان ال يم كن إنكار ھا ،وي ستدعي ال قول ب ھا
وجود بعد ثالث في اإلن سان غير ال مادّة والطا قة ،وي ستدعي أي ضا ً أن ت كون ال قوى ا لتي في اإلن سان ت غاير ت لك ا لتي في
الكائنات الحية األخرى.
413
ﺧﻼﺻﺔ اﻟﺪرس
-يمكن إثبات الروح علم ّيا ً من خالل ممارسة االستدالل وفقا ً لقوانين العلم الحديث:
-1برھان التغيّرات الكونيّة :نالحظ في ھذا الكون وجود تغيّرات وتحوّ الت في عنا صره ،ك ما نال حظ تفاو تا ً وتنوّ عا ً ب ين
عناصره ،وال يمكن أن يكون منشأ ذلك المادّة والطاقة ،إذ إنّ ھذا األمر حاكم عليھ ما أي ضاً ،فال ب ّد من عن صر ثا لث ھو
يؤثر في ذلك ،وال بد أن يكون واعياً ،وأن ال يكون من نوع العناصر الماديّة ،فليس ذلك سوى الروح المجرّ دة. الذي ّ
-2برھان تكامل اإلنسان :يع ّد تكامل اإلنسان وتطوّ ره من المظاھر المسلّمة في الحياة ،فيما العلم المعاصر بقوانينه وجھاز
عناصره ،القائم على افتراض عنصري المادّة والطاقة ،يفترض أنّ األ شياء المؤلّ فة من ھذين العن صرين كل ھا ت سير ن حو
اإلضمحالل والتداعي ،فالبد من إثبات عنصر ثالث وبعد آخر وراء المادة والطاقة يفسر لنا ظاھرة التطور والتكامل ا لذي
نراه في اإلنسان ،وليس ھذا البعد أو العنصر سوى الجنبة الروحيّة لإلنسان.
-3برھان ظھور اإلنسان :إنّ الع لم ال حديث وعنا صره قد ي قدم تف سيراً لو ضع ال ما ّدة والطا قة ب عد ظھور ھا ع لى صفحة
الوجود ،ولكنه يقف عاجزاً عن تعليل أ صل ظ ھور الح ياة واإلن سان والعنا صر في ھذا ال كون .من ھ نا ن شأ ال حديث عن
ط فرة تول ّت ھذا الظ ھور .و ھذه الط فرة ال يم كن أن ت كون معلو لة لل صدفة ،ل عدم ان سجام ب عض التج ھيزات مع الو جود
الدفعيّ ،وال يبقى إال أن تكون معلولة لبعد ثالث ،وھو المبدأ سبحانه وتعالى.
-4برھان التكيّف مع البيئة :تتميّز الكائنات الحيّة بأ ّنھا تتكيّف مع البيئة ،بحيث تتغي ّر أجھزت ھا الداخلي ّة وف قا ً الحتياجات ھا،
ك أنّ سببه قوة داخل ال كائن ال حيّ ، وليس مسبّب ھذا التغيّر العوامل الخارجيّة ،وإال لوجدنا ذلك في الجمادات أيضاً ،فال ش ّ
ھي قوة الحياة والروح.
-5برھــان قابل ّيــة اإلنســان العلم ّيــة :أثبــت العلــم الحــديث أنّ لإلنســان قابل ّيــة ال متناھيــة لتل ّقــي المعلومــات .وھــذه القابل ّيــة
الالمتناھية تحتاج إلى ظرف غير محدود يتسع للمعلومات التي ترد عليه ،فھو ظرف مجرّ د غير مادّي ،ول يس ذ لك سوى
روح اإلنسان التي نشعر بھا في داخلنا حضور ّيا ً.
-6برھان ال محدوديّة أماني اإلنسان :إنّ في اإلنسان قوة تجعله غير محدود األ ماني ،وتدف عه ن حو الك مال المط لق ،و ھذه
القوة ال ب ّد أن تكون بنفسھا غير محدودة ،ولذا ال يمكن أن تكون الما ّدة ،فھي الروح المجرّ دة.
أﺳﺌﻠﺔ اﻟﺪرس
-1ھل يمكن تفسير التحوّ الت الكونيّة بواسطة عنصري الطاقة والمادة وحدھما؟
-2كيف نفسّر التكامل الحاصل في الكائنات الحيّة؟
-3ھل تكفي قوانين الطبيعة لتفسير ظھور اإلنسان؟
-4ما ھو دور فكرة التكيّف مع البيئة في إثبات الروح؟
-5ما السرّ في ال تناھي استعدادات اإلنسان وقابلياته وال محدودية أمانيه؟
ﻫﻮاﻣﺶ
ن الشھيد سيتعرّض له.ويـذكر صـاحب الكتـاب بأنّـه ليــس بصـدد إثبـات الـروح -1ھذا البيان مأخوذ من كتاب )الذرة الالمتناھية( لمؤل ّفه المھندس بازركان والذي قلنا بأ ّ
المجرّدة في اإلنسان ،فيما انتھى ـ من حيث يدري أو ال يدري ـ في النتيجة إلى إثباتھا ،كما سيأتي بيان ذلك.
د ھذين العنصرين عنصراً واحداًـ كما فعله القدماءـ حيث يمكن تبديل أحدھما باآلخر. -2من الممكن ع ّ
دث عن أبعاد لإلنسان وليس فقط عن عناصر له ـ كما ورد في أصـل الكتـاب "الـذرة ھري على اصطالح العنصر ھنا ،ويقول إنﱠه من األفضل أن نتح ّ -3يعترض الشھيد مط ّ
ن عناصر اإلنسان الثالثة تتآلف بينھا لتشكل مركّباً واحداً ،بـل المق صود أ ّ
ن ل ھذا اإلنسـان فــي شخصـيّته أبعــاداً ثالثـة تشـكّل الالمتناھية" ؛ حيث إنّه ليس المقصود أ ّ
جھات مختلفة من شخصية ھذا اإلنسان ،فاألفضل أن يكون التعبير بالبعد وليس بالعنصر .لكننا مضطرون أحياناً إلى مماشاة ما ورد في ھذا الكتاب ،لعرض الدليل كمـا
ھو.
دم تثبت الروح المجرّدة ،شاء مؤلف كتاب "الذرّة الالمتناھية" ذلك أم ال!
-4ھذا االستنتاج ھو من نفس الشھيد مطھري ،ويتبيّن كيف أنّه بنا ًء على ما تق ّ
ن نموّ اإلنسان في مرحلة تكوّنه جنيناً تعادل مرات نموّه بعد أن يولد ،إذ في مرحلة الجنينيّة تتكوّن أعضاء كاملة لإلنسان ،وھذا ال يحصل طيلـة فـترة
-5ولذلك نالحظ أ ّ
ن اإلنسان في مرحلة الطفولة ينمو بشكل أكبر وأسرع من المراحل التالية ،وھكذا إلى أن يصير اإلنسان في نم ّوه في حالة ركود ويسير باتجـاه معاكـس حياته ،كما أ ّ
نحو الشيخوخة والتداعي بعد أن يكون قد استنفد قدرة الطاقة المؤثرة المفيدة.
خطاه إلى أجله( .العالمة المجلسي ،بحار األنوار ،ج 75ص ،24دار إحياء التراث العربي. -6قال أمير المؤمنين عليه السالم ) -أنفاس المرء ُ
-7ولم نتعرض للتكامل في النوع ألنه في النتيجة يعود إلى التكامل على مستوى األفراد .وھذا ال يعني أنّنا ننكر التكامل في النوع ،بل العكس فإن تكامـل ال نوع أمـر
د موافقـاً للنظريّـة التوحيديّـة مئـة فـي المئـة ،بـل ج عل
ن ھذا التكامل فـي ال نوع يعـ ّ
يؤمن به الجميع اآلن ،وليس بالضرورة أن يكون على اساس نظرية داروين .كما أ ّ
نﷲ استدالل الموحدين واإللھيين أكثر قوة واستحكاماً ،حيث فرض وجود قوة غيبيّة بشكل دائم وراء ھذا التكامل الحاصل في النوع ،على خالف اليھود الذين قالوا بأ ّ
بعد أن أوجد العالم صارت يده مغلولة ،ولم يعد العالم محتاجاً إليه .نعم قد تتعارض ھذه النظرية مع ظواھر بعـض الكتـب الســماويّة ،ل كن فــي القـرآن نف سه مـا يؤيّـد
حصول التكامل في نوع اإلنسان ،بل يذھب أبعد من الذين تبنوا التكامل النوعي علمياً ،ففيما يقول ھؤالء إن اإلنسان منحدر من القرد أو مــن مو جود أحـادي الخليّـة ـ
ل ص ْل َ
صـا ٍ ِـن َ
سـانَ م ْ َـق ْ ِ
األ ْن َ خل َِين})السـجدة ،(7 :بل أكـثر مـن ذلـكَ { :
ِن ط ٍ
سانِ م ْ ْق ْ ِ
األ ْن َ أي من خلية واحدة ـ يذھب القرآن إلى أن اإلنسان مخلوق من طينَ { :وبَ َدأَ َ
خل َ
تمس بجوھر التوحيد أصالً ،بل على العكس تدعمولذا فمن الخطأ تصور البعض بأنّھا نظرية ماديّة محضة. ّ ن ھذه النظرية ال
ار} )الرحمن .(14:ففي النتيجة إ ّ
خ ِكَا ْل َف ﱠ
-8كما يؤمن بذلك داروين.
-9وھذه الخاصيّة أتى بھا داروين إال أنّھا ـ على خالف باقي نظريّاته ـ لم ينكرھا أو يعترض عليھا أحد ،وھي مسل ّمة حتى اآلن.
-10ويشترك اإلنسان والحيوان في تكييف ذاته مع البيئة ،ويختص اإلنسان بتكييف البيئة معه.
-11وھكذا يعتقد برغسون في مسألة النسيان ،فھو عبارة عن العجز عن قدرة اإلرجاع من الذاكرة إلـى الشـعور ،ومــن الخطـأ أن يت صوّر اإلنسـان بأنّـه ين سى شيئاً
بحيث تمحى األشياء أصال ً.
ي صلى ﷲ عليه وآله وسلم في آخر لحظات حياته صلى ﷲ عليه وآله وسلم ،حيث يذكر عليه -12ھذه الطريقة تلقى األمير عليه السالم بواسطتھا العلوم من النب ّ
ل باب ألف باب.
ي صلى ﷲ عليه وآله وسلم عل ّمه آخر لحظات حياته ألف باب من العلم ُيفتح له من ك ّ ن النب ّ
السالم أ ّ
-13نھج البالغة ،ج 4ص ،47دار الذخائر -قم.
-14واألمنية غير الغريزة ،فالغريزة قوة ماديّة حيوانيّة تجرّ اإلنسان إلشباعھا ،من قبيل األكل والنوم والشھوة الجنسيّة ،أمّا األمنيّة فھي حالة مثاليّة ينشـدھا الب شر،
فھي غير متطلباته الطبيعيّة.
-15الرعد.28:
-16طه.124:
-17االنشقاق.6: