Professional Documents
Culture Documents
-ورقة مقدمة لمؤتمر رابطة العالم السلمي "الخطاب السلمي وإشكاليات العصر" المنعقد
بمكة المكرمة 7/12/1428-5هـ
الخطاب هو :فعال مصدر من خاطبه خطابا ومخاطبة .وهو يعني كلما موجها إلى طرف
آخر .قال تعالى (:وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلما) ( ول تخاطبني في الذين ظلموا)
( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب)
1
والخطاب عند الصوليين حسب عبارة الزركشي في البحر المحيط عرفه المتقدمون بأنه كلم
المقصود به إفهام من هو متهيئ للفهم .وعرفه قوم بأنه :ما يقصد به الفهام فهو أعم من أن
يكون ما قصد افهامه متهيئا أم ل".
وهو في الصطلح الغربي :شرح شفوي يتعلق بموضوع معين يوجه إلى الجمهور وهو
عبارة عن مجموعة المظاهر القولية والمكتوبة التي تمثل إيديولوجية.
وقد ينقسم إلى مستويات كثيرة هي عند فوكو خطاب متغيير وخطاب ثابت فالول هو خطاب
الناس اليومي المعتاد الذي يفنى وينقضي بانقضاء زمنه والثاني هو خطاب يتردد في حياة
الناس ول ينقضى كالخطاب الوارد في الكتب المقدسة.
كما عبروا عن مستويات الخطاب بأنها ترجع إلى موضوعاته ومصادره وفحواه ومحتواه فمنه
الخطاب الديني والخطاب الفلسفي والخطاب الخلقي والخطاب القانوني والتاريخي والخطاب
الجتماعي السياسي إلى غير ذلك من أنواع الخطاب.
والخطاب السلمي بالنظر لشموله يحتوي كل هذه المناحى باعتبار عموم مفهوم الدين
وكونيته التي تلج كل مجالت الحياة ليس بالمعنى الضيق الكنسي للدين الذي يقابل العقل ولكن
بالمعنى الواسع الفسيح الذي يجعل كل نشاط إنساني وجداني أو عقلي أو سلوكي بمختلف
تعبيراته النافعة موزونا بميزان القيم ومصالح العباد من الدين.
وحيث إن البحث يتعلق بالخطاب السلمي في جوهره في قواطعه واجتهادياته في ثوابته
ومتغيراته فينبغي أن نقرر أن الخطاب السلمي مبني في أصله على خطاب ال تعالى لعباده
فهو تقديم لمضمون الخطاب اللهي إلى البشرية سواء تعلق بالكليات أو الجزئيات أو بالشكل
أو الساس أو بالوسائل أو بالمقاصد.
وهنا تكون القواطع والجتهادات الظنية.
ومعلوم أن خطاب ال تعالى للعباد ينقسم إلى نوعين خطاب إخباري يجب اليمان بمقتضاه
كاخباره عن ذاته وصفاته وعن الكون من سموات وأرض وملئكة وجن وعن الخرة وما
فيها من جنان ونيران وحساب وميزان وثواب وعقاب .وخطاب يتعلق بأفعال المكلفين من
حيث إنهم به مكلفون فهذا هو الذي يسمى بالحكم وينقسم إلى خطاب تكليف وخطاب وضع
لنه إما أن يكون طلبا أو تخييرا أو وضعا على التفصيل المعروف عند الصوليين.
فالقواطع من الخطاب سواء تعلق المر بالخبار أو الحكام هي ما كان دليلها قطعيا وغير
القواطع هي ما بني على اجتهادات وظنيات.
يقول الصفهاني في شرح المحصول :من الحكام ما يثبت بأدلة حصل العلم بمقتضاها وذلك
في الحكام الثابتة بنصوص احتفت بقرائن تدفع الحتمالت المتعارضة عنها بانحصار تعيين
المدلول في واحد .ومنها ما ثبت بأخبار آحاد أو نصوص لم تعتضد بما يدفع الحتمالت فتلك
2
الحكام مظنونة ل معلومة ،قال :هذا هو الحق الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من
خلفه.
وذلك بسبب انقسام الطرق إلى الدلة والمارات.
ويرى ابن دقيق العيد أن الحكام تنقسم إلى متواترات وهي مقطوع بها وإلى ما ليس كذلك.
والحق انقسام الحكم إلى قطعي وظني وممن صرح بذلك من القدمين الشيخ أبو إسحاق
الشيرازي في كتاب "الحدود" وابن السمعاني في "القواطع" (.الزركشي البحر المحيط ) /1
ولشرح ما أشار إليه الصفهاني من كون القواطع تنشئو عن أدلة يحصل بها القطع.
فلبد من لمحة هنا عن الدلة القطعية التي إذا ثبت خطاب أو حكم بها يكون قاطعا ،إن الدلة
القطعية من حيث الدللة هي نصوص من الشارع كتابا أوسنة ل تحتمل التأويل ومن حيث
الثبوت قطعية الورد ل نها في القرآن الكريم بين دفتي المصحف أو في متواتر الحديث على
الختلف المعروف في حده أو الجماع النطقي المستند إلى دليل ويشترط في الجميع الخلو
عن المعارض القوي الذي ينهض حجة.
وهناك ما هو قريب من القطعي كالمستفيض إذا رواه أربعة فما فوق أو اشتهر ،وكخبر
الحاد السالم من العلل المروي في الصحيحين عند بعض العلماء وقد ندد إمام الحرمين في
البرهان بقائل ذلك في خبر الحاد ببداهة احتمال الخطأ على رواية العدل.
وكالعام المتكرر عند الشاطبي وكالكلي المستفاد معناه من معقول النصوص المشهود له
بتفاريق الدلة وبشتى القرائن الحافة والجماع السكوتي على خلف مع الخلو من المعارض
وكذلك قياس الولى أو المساوي إذا كان مستند الصل قطعيا
شرط وفي القطع إلى القطع انتمى وجود جامع به متمما
بهذه المقدمة يراد إثبات نوعين من الخطاب ل ترجع إلى القسمة المعهودة للخطاب بين خطاب
تكليفي وخطاب وضعي ،وإنما ترجع إلى مرتبة الدليل ودرجته قوة وضعفا ووضوحا
وغموضا تواترا أو انفرادا شيوعا واستفاضة أو خمولً وزمانة.
ل يرفعه من درجة العمل
فيكسب الدليل القوي المتواتر الواضح مدلوله قوة وقبولً وشمو ً
بمقتضاه إلى مكانة تحتم العتقاد بمحتواه وذلك ما علم من الدين ضرورة.
وهذه هي القواطع التي تمثل أساس بناء هذا الدين ومرتكزاته ودعائمه.
فالساس هو اليمان وما يجري مجراه وما يتعلق بمقتضياته.
أما الدعائم فهي تلك الركان التي ترفع سقف الدين فهي برهان اليمان وتتفاوت بعد الساس
والدعائم مشمولت البناء التي تمثلها أحكام الشريعة الغراء حيث تتشكل منظومة كاملة وشاملة
3
لمناحي الحياة موزرعة في مختلف المهمات وموجهة إلى مختلف المرامي والغايات ،متناغمة
في اختلفها متجانسة في تنوع أهدافها.
فقواطع الخطاب السلمي إنما هي تذكير دائم بالساسيات القطعية في السلم اعتقادا وسلوكا
ومعاملة.
قد ل تكون هناك ضرورة لذكر الدلة من الكتاب والسنة وأقوال الئمة المعروفة والمتداولة
في مختلف المصادر وإنما التذكير بكبريات قضايا هذا الدين الذي يقوم على التوحيد
ومقتضياته والنبوة ولوازمها وتكريم النسان وتكليفه والمحافظة على ضرورات ليجاد توازن
بين الدنيا والخرة وبين الروح والجسد.
إيمان بعالم الغيب ل يلغي عالم الشهادة الذي يقوم دليل وبرهانا على عالم الغيب ومعبرا إليه
(فل أقسم بما تبصرون وما ل تبصرون)
( إن في خلق السموات والرض)
القواطع الكبرى
تمهيد :إن معظم القواطع كانت في القرآن المكي فيما يتعلق بالصول العقدية ،قال الشاطبي:
وغالب المكي أنه مقرر لثلثة معان ،أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة ال تعالى:
أحدها :تقرير الوحدانية ل الواحد الحق ،غير أنه يأتي على وجوه؛ كنفي الشريك بإطلق ،أو
نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة من كونه مقربا إلى ال زلفى أو كونه ولدا أو غير
ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة.
والثاني تقرير النبوة للنبي محمد وأنه رسول ال إليهم جميعا صادق فيما جاء به من عند ال
إل أنه وارد على وجوه أيضا كإثبات كونه رسول حقا ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب أو
ساحر أو مجنون أو يعلمه بشر أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم.
والثالث إثبات أمر البعث والدار الخرة وأنه حق ل ريب فيه بالدلة الواضحة والرد على من
أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به فرد بكل وجه يلزم الحجة ويبكت الخصم ويوضح
المر.
4
فهذه المعانى الثلثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة في عامة المر وما ظهر
ببادي الرأي خروجه عنها فراجع إليها في محصول المر ويتبع ذلك الترغيب والترهيب
والمثال والقصص وذكر الجنة والنار ووصف يوم القيامة وأشباه ذلك".
وطبق ذلك الشاطبي على سورة المؤمنين قائل إنها " :افتتحت بثلث جمل:
إحداها وهي الكد في المقام بيان الوصاف المكتسبة للعبد التى إذا اتصف بها رفعة ال
وأكرمه وذلك قوله قد أفلح المؤمنون إلى قوله هم فيها خالدون.
والثانية بيان أصل التكوين للنسان وتطويره الذى حصل له جاريا على مجارى العتبار
والختيار بحيث ل يجد الطاعن إلى الطعن على من هذا حاله سبيل.
والثالثة بيان وجوه المداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق والعانة على إقامة
الحياة وأن ذلك له بتسخير السموات والرض وما بينهما وكفى بهذا تشريفا وتكريماً(.
الموافقات )3/416
مما تقدم ومن قوله تعالى (:الرحمن علم القرآن خلق النسان) نتحدث عن ثلث قواطع:
الرحمن( اللوهية والتوحيد) القرآن( الرسالة والنبوة) النسان ( مناط الخطاب)
القاطع الول :توحيد ال تعالى الخالص
وما يتعلق به من قدرة وقدر وعلم ورحمة ورزق وخلق ونفع وضر إلى آخر الصفات.
فالخطاب في هذا المجال على ثلثة مستويات
المستوى الول :خطاب التوحيد الموجه إلي المسلمين وإنما يراد منه أن يتمسكوا بالتوحيد
الخالص الكامل طبقا لقوله تعالى( قل إن صلتي ونسكي ومحياي ومماتي ل رب العالمين ل
شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) دون تشكيك في عقائد المسلمين ونواياهم.
وفي سياق هذا الخطاب تجب الشارة إلى شيئين هما :أن تكون دعوة التوحيد مقرونة
بالحسان الذي هو قرين اليمان مما يعني أن تكون التربية اليمانية الروحية الرامية إلى
تطهير النفوس والرتقاء بها في مدارج التوكل والرضا والزهد والحب حاضرة.
أما الشيء الثاني فهو :العمل فاليمان قول وعمل ،عبادة ومعاملة فذلك أدنى إلى الهدي
النبوي وأنئ عن الجدل والمراء الذي ل يجدي فتيل.
المستوى الثاني :الدعوة الموجهة إلى أتباع الديانات السماوية السابقة وهي تذكير لهم بما في
كتبهم ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ....إلى قوله :أن ل نعبد إل ال ول نشرك
به شيء ول يتخذ بعضنا بعضا من دون ال )
( وقال المسيح يا بني إسرائيل أعبدوا ال ربي وربكم إنه من يشرك بال فقد حرم ال عليه
الجنة ومأويه النار)
( ما كان لبشر أن يأتيه ال الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون ال)
5
إنه تذكير دائم بأن رسالة التوحيد هي رسالة كل النبياء وأنه عليه الصلة والسلم إنما هو
مكمل لسلسلة النبياء ومتمم لمكارم الخلق.
وبهذا الصدد تمكن الستعانة بما في كتبهم كقول عيسى عليه السلم في أنجيل مرقس :إن
أول الوصايا هي :اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا ربّ واحد .وتحب إلهك من كل قلبك ومن كل
نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك هذه هي الوصية الولى ).إلى غير ذلك من النصوص
الواردة في العهد القديم والجديد.
المستوى الثالث :خطاب موجه إلى سائر الجناس واللدينين انطلقا من قوله( قل يأيها الناس
إني رسول ال إليكم جميعا الذي له ما في السموات والرض ل إله إل هو يحي ويميت) وهذا
الخطاب –وكل خطاب -يجب أن يعتمد على المنطق والعلم والدلة الكونية والمنهج القرآني(
أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والرض )
لقد كان محمد بن أبي زيد القيرواني موفقا عندما قال في عقيدته :نبهه بآثار صنعته واعذر
إليه على ألسنة المرسلين."....
ومعنى كلمه أنه سبحانه وتعالى أقام على وجوده ووحدانيته دلئل من كونه الذي أبرز فيه
بالغ حكمته ودقيق صنعته ودليل عنايته وهي دلئل يتلقاها العقل المركب في النسان وكأنها
كلم ينطق وضوء يشرق فتنتبه الفطرة النسانية إلى التشوف للخالق.
فتتدخل العناية اللهية ببيان الوحي الناطق على ألسنة رسله الذين أيدهم باسمى آيات الصدق
فقامت في نفوسهم وفي نفوس من باشرهم معان اضطرارية بصدق أخبارهم وسطوع أنوارهم
فكان حديثهم عن الغيب كحال الشاهد الذي ل يتمارى أحد في صدقه يحدثك عن مدينة لم
ترها فتصدقه لما عرفت قبل ذلك وجربته من صدق لهجته.
واليمان بال يقتضى اليمان بدعائم السلم الكبرى المتواترة من صلة وزكاة وصيام وحج
إذ تلك قواطع معلومة من الدين ضرورة.
ولكل مستوى من هذه المستويات أسلوبه في الخطاب ووسائله.
وهو خطاب يرد كل الشبهات والمتشابهات إلى المحكمات ككون عيسى يبرئ الكمه
والبرص ويحي الموتى فإنه يرد إلى أصل التوحيد المحكم وهو أن كل ذلك بقدرة ال تعالى
وإذنه.
وهكذا فإن كرامات الولياء وخوارق العادات لهم أمر واقع ومقبول عند المسلمين لكنه مردود
إلى الصل الثابت وهو قدرة الباري فهو سبحانه جل وعل الخالق لذلك والمقدر له ( ليهلك
من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة)
القاطع الثاني :النبوة ولوازمها.
6
وهذا القاطع الثاني يستلزم اليمان بظاهرة الوحي الذي هو إتصال إلهي بالنسان المصطفى
لطلعه على جملة من الحقائق وإبلغه برسالة إلى البشرية هي مراد الخالق من الخلق تبين
له أساسيات فوق سقف العقل إل أن العقل ل يحيلها فهو يعرفه على الخالق جل وعل وما
يجب في حقه جلت قدرته وعلى شرائعه وعلى أصل الكون ومصير البشرية وأحوال الخرة
والبعث والنشور.
بل إن العلماء الكونيين إنما يعرفون العلل الثانوية كما يقول اللودبيرنارد الفيزيولوجي الفرنسي
في القرن التاسع عشر.
تلك هي الحقائق الكبرى التي جاءت بها الرسل ،والسلم يؤكد أن رسالة الرسل هي في
جوهرها واحدة ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده)..
ورسالة الرسل تقوم عليها دلئل المعجزات " :فعن أبي هريرة رضي ال عنه أن النبي صلى
ال عليه وسلم قال" :ما من نبي إل أعطي من اليات ما مثله آمن عليه البشر ،وإنما كان الذي
أوتيته وحيًا أوحاه ال إليّ ،فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامةً".
وأهم دليل على صدق النبي الخاتم صلى ال عليه وسلم القرآن الصادق الذي تضمن الرسالة
والدليل في نفس الوقت والدعوى والبينة فكان تحديا للبشرية بنظمه وبمعانيه وأخباره التي لم
يزدها الزمان إل جدة وصدقا فلم يأت أحد بقرآن يتلى ( إن هو إل وحي يوحى) محفوظ في
الصدور والسطور فلم تستطيع يد الدهر أن تسطو عليه فيخرج خب الضمائر وينفذ إلى خبايا
النفوس.
وهذا العجاز العلمي في هذا العصر دليل على أنه من عالم الغيب والشهادة.
ولقد أقام الباري جل وعل الدليل على النبوة في النسان نفسه ( وفي أنفسكم أفل تبصرون )
وذلك بواردات استشعار الحداث خارج السياق المعتاد لدراك الموجودات وذلك من خلل
الرّأي التي ل يتمارى أحد في وقوعها والتي تقدم الحداث مرموزة فتفسرها الوقائع أو يفك
شفرتها من له علم من الكتاب.
وأحيانا تقدم المشهد الذي سيكون كما هو فيكون ولقد نبه عليه الصلة والسلم على الرؤيا في
الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري وغيره فيه :ان الرويا الصالحة جزء من ستة وأربعين
جزءا من النبوة".
وقد اضطرب شراح الحديث في المراد بهذه التجزئة وفسرها بعضهم بفترة النبوية قبل الوحي
وسكت البعض الخر ويمكن أن تفسر – وال أعلم -بأن الجزء يشير إلى أن النبوة تشتمل
على معان كثيرة وأن الرؤيا في كشفها للحقيقة الغيبية واستيعابها لها بوضوح تمثل هذا الجزء
الصغير من حالة انكشاف المغيبات والوضوح والصدق فهي مثال للطلع والصدق لكنه
ضعيف ل يرقى إلى الطلع الواضح للنبوة كما ليجب العتقاد به فقد يتطرق إليها الوهم
7
والخطإ والضبابية ما ل يتطرق إلى إنكشاف الحقائق في حالة النبوة ما لم تكن رؤيا نبي من
النبياء فإنها حق سواء كانت مرموزة كرؤيا إبراهيم إنه يذبح ولده فكانت ابتلء لتصدق على
كبش عظيم يكون سنة وقربة إلى ال تعالى في الغابرين ( وفدينه بذبح عظيم وتركنا عليه في
الخرين) أو رؤيا يوسف عليه السلم ( إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي
ساجدين) أو رؤيا دانيال من أنبياء بني اسرائيل التي لم يتأكد شراح أهل الكتاب من إدراك
حقيقتها.
أما رؤى نبينا عليه الصلة والسلم وهي التي بدأ بها الوحي فكان ل يرى رؤيا إل جاءت
كفلق الصبح.
وكثير من الرؤى من غير النبياء كانت صادقة وصحيحة كرؤيا ملك مصر الواردة في
القرآن الكريم التي فسرها يوسف عليه الصلة والسلم ( أني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن
سبع عجاف وسبع سنبلت خضر وأخر يابسات)
ورؤيا الموبذان قبل مبعث النبي عليه الصلة والسلم رأى إبل صعابا تقود خيلً عرابا قد
قطعت دجلة وانتشرت في بلدهم.
ورؤيا الرئيس المريكي إبراهام لنكولن الذي رأى أنه قتل وسجل ذلك فكان كما رأى.
والكثير من الناس قد رأى أو سمع في نومه إنها شهادة للنبوة قائمة في النسان.
ومن مستلزمات النبوة العصمة التي تنافي الكذب والخطأ في البلغ مع وجوب العتقاد
والقتداء ( وما ينطق عن الهوى إن هو إل وحي إل يوحى)
وكذلك فإن من مستلزمات ذلك أن ل تكون العصمة لغير النبي إذ من شأن ذلك أن يوجد
مصدرا للوحي غير المصدر النبوي وهو مناف للعصمة الخاصة ومؤد إلى انتشار المصادر.
فمن العقائد أنه ل قول لحد مع قوله الثابت جزما الواضح دللة حتما ،ولهذا فقد تبرأ الئمة
المقتدى بهم من مخالفة ما ثبت عنه عليه الصلة والسلم في عبارات قوية وحاسمة كتلك
الواردة عن مالك " كل كلم يأخذ منه ويرد إل كلم صاحب هذا القبر.
وكقول الشافعي :إذا خالف قولي الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط .وكقول أبي حنيفة:
إذا ثبت الحديث فهو مذهبي" .وقول أحمد :ضعيف الحديث أحب إلي من رأي الرجال".
ومن مستلزمات النبوة ومكملت إبلغ الرسالة العتراف بمكانة أصحاب رسول ال صلى ال
عليه وسلم المبلغين لرسالته والمطبقين لوامره والمرآة المينة التي تتراءى من خللها صورة
الرسالة النبوية الشريفة.
ولهذا فإن أي دعوة ترمي إلى تجريح الصحابة حملة الرسالة وأمناء الوحي إنما هي في
حقيقتها وفي مئالتها تجريح في الرسالة يكاد يصل إلى التشكيك فيها .ولهذا فإن تظافر
النصوص القرآنية والحديثية في الثناء على ذلك الرعيل في الجملة وفي التفصيل لخير دليل
8
على أن تعظيم جنابهم ورعاية حرمتهم والذب عن حريم حماهم بمكانة من الدين فلنقرأ قوله
تعالى( محمد رسول ال والذين آمنوا معه ...إلى قوله :ليغيظ بهم الكفار )..
وقوله تعالى( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) وقوله( فالذين آمنوا به وعزروه ونصره )..
وقوله( للفقراء المهاجرين ..إلى قوله :والذين جاءوا من بعدهم)...
ولنستمع لقوله عليه الصلة والسلم في الصحيح :ل تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل
جبل أحد ما بلغ مدّ أحدهم ول نصيفه".
وعن أبي بردة قال صلّينا المغرب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قُلنا لو جلسنا حتى
نُصلّي معه العشاء قال فجلسنا فخرج علينا فقال ما زلتم هاهنا قلنا يا رسول اللّه صلّينا معك
المغرب ثم قلنا نجلس حتى نُصلِي معك العشاء قال أحسنتم أو أصبتم قال فرفع رأسه إلى
السماء وكان كثيرًا ما يرفع رأسه إلى السماء فقال النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى
صحَابِي َأ َمنَ ٌة ِلُأ ّمتِي
عدُونَ وََأ ْ
صحَابِي مَا يُو َ
ت َأتَى َأ ْ
السماء ما توعد وأنا أمنة لصحابي فإذا ذَ َهبْ ُ
فإذا ذهب أصحابي أَتى ُأمّتي ما يُوعدون ".رواه مسلم.
وقوله ::يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيُقال لهم :فيكم من رأى رسول ال
صلى ال عليه وسلم ؟ فيقولون :نعم ،فيُفتح لهم ،ثم يغزو فئام من الناس ،فيُقال لهم :فيكم
من رأى من صحب رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ فيقولون :نعم ،فيُفتح لهم ،ثم يغزو فئام
صحِب رسول ال صلى ال عليه
صحِب َمنْ َ
من الناس ،فيقال لهم :هل فيكم من رأى َمنْ َ
وسلم ؟ فيقولون :نعم ،فيفتح لهم .رواه البخاري ومسلم.
إلى ما ل يحصى.
ولهذا أجمع علماؤنا على تقديم أصحابه صلى ال عليه وسلم على غيرهم والكف عما شجر
بينهم رعاية لحرمة الرسول صلى ال عليه وسلم وحرمة الرسالة ونأيا بجانب الشريعة عن
الطعن بالضافة إلى أن لوك تاريخ يفرق المة وينشر التفرقة واللعن والسباب ل يفيد المة
في دينها ول في دنياها ول يرضى ال ورسوله ولهذا فيرد المتشابه إلى المحكم وبنفس المبدإ
فإن آل بيت رسول ال صلى ال عليه وسلم لهم عظيم الحرمة وجزيل الحترام ابناء وبنات
وزوجات فقد اذهب ال تعالى عنهم الرجس وجعل حبهم عنوان اليمان وطهارة النفس ( إنما
يريد ال ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)
ولقد أحسن الطحاوي في قوله :ومن أحسن القول في أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم
وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس فقد برئ من النفاق".
وكل ما خالف هذا من المتشابهات فيرد إلى المحكمات.
ويجب تربية المة على أنه ل يوجد تناقض ول تناف بين حب آل بيت رسول ال صلى ال
عليه وسلم وحب الصحابة وأن المة المحمدية بريئة ممن ولغوا في دماء آل بيت رسول ال
9
صلى ال عليه وسلم وهم فئة قليلة عليها ما اكتسبت من الثم ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت
وعليها ما اكتسبت ول تسألون عما كانوا يعملون) وفي هذا المجال يكون الخطاب على
مستويات طبقا للمخاطبين.
القاطع الثالث النسان
النسان هو هذا المخلوق الذي تحير الفلسفة في وصفه فهو مادة وروح وعقل وعاطفة وعالم
الغيب والشهادة هذا النسان المكرم بالعلم وتسخير الكائنات ولعل ذلك ما تشير إليه آيتان
( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير
ممن خلقنا تفضيل) ( خلق النسان علمه البيان)
ويرجع النسان إلى آدم الذي خلقه ال تعالى ونفخ فيه من روحه وقد كان ذلك اجماع البشرية
وهو رأي الفلسفة وكل البشر إلى عهد داروين ولمارك ؛ حيث أصبح التمايز بين الجناس
موضوع مراجعة ،وأصبح البحث جاريًا عن أصل جديد للنسان بين البريمات التي يجمعها به
كمال السنان والقدرة على المشي على رجلين واستعمال اليدين ،وأصبحت اكتشافات الحفريات
والخيال تمثل مرجعيات لهذا الصل الذي لم يثبت علميّا .
فنحن نؤمن بالوحي السماوي ،ونعتقد أنه الجهة المؤهلة بجدارة للتحدث عن أصل
النسان الذي هو من المقولت التي تقع فوق سقف الرؤية العقلية .
-الوجه النساني ،الذي يطمح إلى الرقي وإلى ملكوت السماء ،ويتعرف على
الخالق ،ويتوق إلى عالم القيم والروحانيات .
فهو مزيج من الجسم والروح ،وفي هذا المزيج تتمثل أوجه الطبيعة :الروح الشفافة ،
الرفافة ،والمادة الثقيلة وحاجاتها الضاغطة .
إن الوحي يضع النسان أمام مرآة الحقيقة ليرى صورته بدون مجاملة ول محاباة ،فهو
العلق . 7 - 6 : () سورة 1
10
كائن مميز بطبيعته الزدواجية المنسجمة وتركيبه النفسي الفريد في عالم ينسجم مع طبيعته
وحاجاته وتكوينه في تركيبه العجيب وترتيبه الغريب -سبحان الخالق .-
ل فِي
ولذا كان مخلوقًا مميزًا سخر له الكون ،وكان ذلك مظهر الستخلف ِ :إنّي جَاعِ ٌ
س َت ْعمَ َر ُكمْ فِيهَا (، )6
لرْضِ وَا ْ
شَأكُم مّنَ ا َلرْضِ خَلِيفَةً ( ، )5والستعمار للرض :أَن َ اَ
لرْضَووضعت الرض مجهزة بمختلف الحتياجات لستقبال هذا الضيف النساني :وَا َ
صفِ وَال ّر ْيحَانُ (. )7 ت ال ْكمَامِ وَا ْلحَبّ ذُو ا ْل َع ْ
ض َعهَا لِلنَامِ فِيهَا فَا ِكهَةٌ وَال ّنخْلُ ذَا ُ
َو َ
إن هذا الستخلف للنسان مثّل تشريفًا وتكليفًا أيضًا ،اقتضته حكمة الباري -جل وعل
-ليحمل النسان مسؤولية الخلفة في الرض :أيشكر أم يكفر ؟ أيصلح أم يفسد ؟ وهكذا
كان النسان مخلوقًا مكرمًا ،وليس سيدًا مطلقًا ،وقد وصف الفيلسوف الفرنسي لمارك
النسان بأنه مشروع ال في الرض .
إل أنه سبحانه وتعالى انطلقا من هذا التكريم ورحمة بالنسان ومتاعا له إلى حين.
أحاطه للمحافظة على كيانه وصيانة لوجوده بكليات تشريعية هي من الثوابت والقطعيات تتمثل
في حماية دينه ونفسه وعقله ونسله وماله.
وتبعا لذلك فهم العلماء مقصدا أعلى للشريعة الغراء أنها إنما جاءت لمصالح العباد حيث
عيّ ؛ ففيهِ حقّ للعبادِ إما عاجلً وإمّا آجلً ؛ بناء على أنّ
ل حُكمٍ شر ِيقول الشاطبي :كما أنّ ك ّ
ل إذَا عبدُوه
ح العبادِ ،ولذلك قال في الحديث« :حقّ العبادِ علَى ا ِ
الشريع َة إنما وُضعتْ لمصال ِ
ل ُيعَذّبهم».8
شرِكوا بهِ شيئا أ ّ
ولمْ ُي ْ
ويقول العز بن عبدالسلم :معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل وذلك معظم
الشرائع".
ولهذا كانت حقوق النسان الكثيرة بإزاء واجباته خادمة لمصالحه في المعاش والمعاد
فعلى الخطاب السلمي في هذا القاطع أن ينبه على كبريات قضايا النسان وثوابت حقوقه
وأن يشارك الخرين في القيم النسانية النبيلة التي تسهم في التعايش البشري وإقامة العدل
ودرء المفاسد وجلب المصالح ومؤكدا على مصدر القيم والحقوق في السلم وهو الوحي
الذي جعل النسان مكرما وهذا هو المصدر المتعالى الذي كرم النسان وليس النسان منشئ
حقوق ول مصدر قيم باستقلله إنها مجالت مهمة يجب أن يلجها الخطاب السلمي.
- 8جزء من حديث أخرجه البخاري ف صحيحه "كتاب الهاد" وغيه .ومسلم ف صحيحه "كتاب اليان".
11
ثانيا :الجتهاديات في الخطاب:
لقد قدمنا في المقدمة أن الخطاب ينقسم إلى قاطع وظني باعتبار الدليل والقرآئن الحافة فإذا
قوي الدليل إلى حد تحصيل العلم صار قاطعا وإذا ضعف نزل إلى مرتبة الظن وأحيانا إلى
مرتبة التخمين وقد قدمنا هناك صنفي الدلة الواردة على الحكام والتي مهدت لهذا التصنيف
ولهذا فسنعرف الجتهاد والمجتهد فيه
أما الظنيات فهي أخبار الحاد الصحيحة التي يجب العمل بها إذا خلت عن معارض إل أنها ل
تقيد العلم عند جمهور الصوليين خلفا للبعض .قال:
ول يفيد العلم بالطلق لدى الجماهير من الحذاق
والظواهر ومفهوم المخالفة والقيسة والمصالح المرسلة وسد الذرائع والجماع السكوتي وقول
الصحابي....
التعريف وتحرير المصطلح :عرف العلماء الجتهاد بأنه :بذل الوسع من قبل المجتهد
للوصول إلى ظن أو قطع بأن حكم ال تعالى هو كذا.
قال الرازي :وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أيّ فعل كان يقال :استفرغ
وسعه في حمل الثقيل ول يقال :استفرغ وسعه في حمل النواة.
وأما في عرف الفقهاء فهو :استفراغ الوسع في النظر فيما ل يلحقه فيه لوم مع
استفراغ الوسع فيه.
12
وهذا سبيل مسائل الفروع ولذلك تسمى هذه المسائل مسائل الجتهاد والناظر فيها
مجتهد وليس هذا حال الصول".9
قال :الزركشي :وهو لغة :افتعال من الجهد وهو المشقة وهو الطاقة ويلزم من ذلك
أن يختص هذا السم بما فيه مشقة لتخرج عنه المور الضرورية التي تدرك ضرورة
من الشرع إذ ل مشقة في تحصيلها ول شك أنّ ذلك من الحكام الشرعية.
وفي الصطلح :بذل الوسع في نيل حكم شرعيّ عملي بطريق الستنباط فقولنا:
"بذل" أي بحيث يحس من نفسه العجز عن مزيد طلبٍ حتى ل يقع لوم في التقصير.
وقال أبو بكر الرازيّ :اسم الجتهاد يقع في الشّرع على ثلثة معانٍ:
أحدها :القياس الشرعي لن العلة لما لم تكن موجبة الحكم لجواز وجودها خالية منه
لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب فلذلك كان طريقه الجتهاد.
والثاني :ما يغلب في الظن من غير علة كالجتهاد في المياه والوقت والقبلة وتقويم
المتلفات وجزاء الصيد ومهر المثل والمتعة والنفقة وغير ذلك.
والثالث :الستدلل بالصول".10
ومع تخصيص ولوج باب الجتهاد بالمجتهد مطلقا أو مقيدا فإن الفقيه المتبصر إذا
تمكن من ترتيب الدلة الجزئية على المقاصد الكلية وأحسن عملية التنزيل على الواقع
يكون أهل لتقديم الخطاب.
قال في مراقي السعود :
ظَنّا بأنّ ذاكَ حَتْمُ مَثَل بَ ْذلُ الفَقِيهِ الوُسْعَ أن يُحصّل
فل بد من بذل الجهد و استفراغ الطاقة من الفقيه أما غير الفقيه المجتهد وهو المقلد
فاستفراغ طاقته ل يكون اجتهادا بالمعنى الخص.11
المجتهد فيه وهو كل حكم شرعي عملي أو علمي يقصد به العمل ليس فيه دليل قطعي فخرج
بالشرعي العقلي فالحق فيها واحد والمراد بالعمل ما هو كسب للمكلف إقداما وإحجاما.
وبالعملي ما تضمنه علم الصول من المظنونات التي يستند العمل إليها .وقولنا :ليس فيها دليل
قاطع –احترازا -عما وجد فيه ذلك من الحكام فإنه إذا ظفر فيه بالدليل حرم الرجوع إلى
الظن.
13
ومما يجرى هذا المجرى قول الحناف :إن المجتهد فيه الذي يسوغ فيه الجتهاد هو :ما لم
يخالف كتابا ول سنة مشهورة ول إجماعا ،إذ لو خالف شيئا من ذلك في رأى المجتهد لم يكن
مجتهدا فيه حتى لو حكم به حاكم يراه ل ينفذ.12
قال في الفتح :وعدم تسويغ الجتهاد لوجود الجماع أو النص الغير المحتمل بل معارضة
نص آخر في نظر المجتهد وإن كانت المعارضة ثابتة في الواقع.13
فالمعارضة المشار إليها في كلم صاحب الفتح يردها الحناف بأحد أمرين باحتمال ناشئ
عن الدللة ،كما أن الحتمال قد يكون ناشئا عن الثبوت.
إن الجتهادات تتعلق بتفاصيل قيم التسامح والعدل والشورى والتعايش والتواصل والوحدة
والتعدد في إطار الثوابت وهو تعدد تجليه مرونة الفقه وسعته وتنوع دللت النصوص وتوسع
نطاق الدلة الجمالية في ضوء الزمان؛ لتحقيق مقولة هي بالتأكيد حق :إن الشريعة صالحة
لكل زمان ومكان؛ وذلك بتسليط الجتهاد على الربط المتواصل بين الزمان وبين الشريعة
نصوصًا ومقاصد وأصولً وقواعد ،انطلقًا من مبدأي :العقل المصلحة .وترجمة لثلثة
مقاصد :الضروري الحاجي -والتحسيني.
إن تقرير وجود مساحة واسعة وفسيحة للجتهاد في الشريعة يجب أن يكسو الخطاب
السلمي ثلث سمات هي :
-1التسامح
-2التصالح
-3التيسير
ويمكن ترجمة ذلك في ثلث قضايا أساسية هي :التسامح في الختلف والتصالح مع الخرين
والكف عن التكفير .والتيسير على الناس.
السمة الولى :التسامح في الختلف
إن الختلف ظاهرة ل يمكن تحاشيها باعتبارها مظهرا من مظاهر الرادة التي ركبت في
النسان إذ الرادة بالضرورة يؤديان إلى وقوع الختلف والتفاوت في الرأي.
وقد انتبه لذلك العلمة ابن القيم عندما يقول" :وقوع الختلف بين الناس أمر ضروري ل
بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض
14
وعدوانه"
2/560 -12نفس الرجع
2/574 -13نفس الرجع
إعلم الوقعي - 14ابن القيم
14
قال ابن عابدين في تعليقه على قول صاحب الدر المختار" :وعلم بأن الختلف من آثار
الرحمة فمهما كان الختلف أكثر كانت الرحمة أوفر".
وهذا يشير إلى الحديث المشهور على ألسنة الناس وهو اختلف أمتي رحمة قال في
المقاصد الحسنة :رواه البيهقي بسند منقطع عن ابن عباس رضي ال تعالى عنهما بلفظ قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم مهما أوتيتم من كتاب ال فالعمل به ل عذر لحد في تركه،
فإن لم يكن في كتاب ال فسنة مني ،فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي ،إن أصحابي
بمنزلة النجوم في السماء ،فأيما أخذتم به اهتديتم ،واختلف أصحابي لكم رحمة .وأورده ابن
الحاجب في المختصر بلفظ اختلف أمتي رحمة للناس.
وقال مل علي القارئ :إن السيوطي قال :أخرجه نصر المقدسي في الحجة و البيهقي في
الرسالة الشعرية بغير سند ورواه الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم ولعله
خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا.
ونقل السيوطي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول ما سرني أن أصحاب محمد صلى
ال عليه وسلم لم يختلفوا لنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة وأخرج الخطيب أن هارون
الرشيد قال لمالك بن أنس :يا أبا عبد ال نكتب هذه الكتب – يعنى مؤلفات المام مالك-
ونفرقها في آفاق السلم لنحمل عليها المة .قال :يا أمير المؤمنين إن اختلف العلماء رحمة
من ال تعالى على هذه المة كل يتبع ما صح عنده وكلهم على هدى وكل يريد ال تعالى.
وتمامه في كشف الخفاء ومزيل اللباس.15
ولهذا اعتبر العلماء معرفة الختلف ضرورية للفقيه حتى يتسع صدره وينفسح أفقه.
فقد قال قتادة :من لم يعرف الختلف لم يشم أنفه الفقه.
وعن هشام بن عبيد ال الرازي :من لم يعرف اختلف الفقهاء فليس بفقيه.
وعن عطاء :ل ينبغي لحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلف الناس.
وقال يحي بن سلم :ل ينبغي لمن ل يعرف الختلف أن يفتي ول يجوز لمن ل يعلم القاويل
أن يقول :هذا أحب ألي.
إلى غير ذلك من القوال يراجع الشاطبي في الموافقات ،فقد عد معرفة الختلف من المزايا
التي على المجتهد أن يتصف بها.
كما في مسألة أمره عليه الصلة والسلم بصلة العصر في بني قريظة فقد صلها
بعضهم بالمدينة ولم يصلها البعض الخر إل وقت صلة العشاء ،ولم يعنف أحدا منهم
كما جاء في الصحيحين.
15
وفي السفر كان منهم المفطر والصائم .وما عاب أحد على أحد كما جاء في الصحيح حتى
في الختلف في القراءة في حديث ابن مسعود وحديث عمر وأبي بن كعب...
إنها التربية النبوية للصحابة ليتصرفوا داخل دائرة الشريعة حسب جهدهم طبقا لجتهادهم.
وبعده عليه الصلة والسلم كانت بينهم اختلفات حسمت أحيانا كثيرة بالتفاق كما في
اختلفهم حول الخليفة بعده صلى ال عليه وسلم.
وكما في اختلفهم حول قتال مانعي الزكاة وحول جمع القرآن الكريم ورجوع عمر إلى
قول علي في مسألة المنكوحة في العدة حيث كان عمر يرى التفريق بينها وبين من
تزوجها في العدة وتحريمها أبدا عليه وإعطاءها الصداق من بيت المال ،وكان علي يرى
أنها ل يتأبد تحريمها فرجع عمر إلى رأيه.
وتارة يظل الطرفان على موقفهما وهما في غاية الحترام لبعضهما البعض.
كقصة عمر مع ربيعة بن عياش في التفضيل بين مكة المكرمة والمدينة المنورة .
وقصة الراضي المفتوحة هل تصير خراجية أم توزع على الغانمين.
وقصة عائشة وابن عباس في رؤيته عليه الصلة والسلم للباري جل وعل.
وبين عائشة وبين الصحابة في سماع الموتى.
وبين عمر وبين فاطمة بنت قيس في مسألة سكنى المبتوتة ونفقتها حيث قالت بنت قيس
إنه ل سكنى لها ول نفقة وقال عمر بخلفها قائل :ل نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول
امرأة ل ندرى أحفظت أم نسيت.
واختلف ابن مسعود وأبي موسى الشعري في مسألة إرضاع الكبير حيث رآه الول غير
مؤثر وراءه الثاني مؤثرا.
واختلف أبي هريرة وابن عباس في الوضوء مما مست النار حيث أوجبه الول ولم
يوجبه الثاني.
واختلف عمر مع أبي عبيدة في دخول الرض التي بها وباء حيث رأى عمر المتناع
من دخولها ورأى أبو عبيدة القدام عليها قبل أن يخبرهما عبدالرحمن بن عوف بالحديث.
ويدخل التابعون في بعض الحيان في حلبة الخلف كأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف
مع ابن عباس في عدة الحامل المتوفى عنها هل تعتد بأبعد الجلين أو تعتد بالوضع.
وتقف عائشة إلى جانب ابن عباس قائلة لبي سلمة إنما أنت فروج – رأى الديكة تصيح
فصاح – معتبرة أنه لم يبلع بعد درجة الجتهاد ولكن المر ل يتجاوز ذلك.
وموضوعات الختلف كثيرة جدا ولكنها تحسم بالتراضي أحيانا ،ويسجل لعمر رضي
ال عنه كثرة رجوعه إلى آراء إخوانه من الصحابة واعترافه أمام المل بذلك قائل أحيانا:
امرأة أصابت ورجل أخطأ .وتأصيله للقاعدة الذهبية وهي " :أن الجتهاد ل ينقض
16
بالجتهاد " وهي قاعدة تبناها العلماء فيما بعد فأمضوا أحكام القضاة التي تخالف رأيهم
واجتهادهم حرصا على مصلحة إنهاء الخصومات وحسم المنازعات وهي مصلحة مقدمة
في سلم الوليات على الرأي المخالف الذي قد يكون صاحبه مقتنعا به.
أقوال العلماء في الختلف -:
يقول الحافظ بن رجب :ولما كثر اختلف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب
ذلك تباغضهم وتلعنهم وكل منهم يظن أنه يبغض ل وقد يكون في نفس المر معذورا وقد ل
يكون معذورا بل يكون متبعا لهواه مقصرا في البحث عن معرفة ما يبغض فإن كثيرا كذلك
إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه ل يقول إل الحق وهذا الظن قد يخطئ ويصيب وقد يكون
الحامل على الميل إليه مجرد الهوى واللفة أو العادة وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض
ل فالواجب على المسلم أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز وما أشكل منه فل
يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم.
وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أن كثيرا من أئمة الدين قد يقول قول مرجوحا ويكون
فيه مجتهدا مأجورا على اجتهاده فيه موضوعا عنه خطؤه فيه ول يكون المنتصر لمقالته تلك
بمنزلته في هذه الدرجة لنه قد ل ينتصر لهذا القول إل لكون متبوعه قد قاله بحيث لو أنه قد
قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ول انتصر له ول والى من يوافقه ول عادى من خالفه وهو
مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه وليس كذلك فإن متبوعه إنما كان قصد
النتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده.
وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظن أنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأنه ل
ينسب إلى الخطأ وهذه دسيسة تقدح في قصده النتصار للحق فافهم هذا فإنه مهم عظيم وال
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) .
انتهى كلم الحافظ وهو كلم في غاية الفضل.
قال الشافعي " :أل يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة "
وقال " :ما ناظرت أحدا إل قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني
وإذا كان الحق معه اتبعته".
-العذر باختلف العلماء :
عدم النكار في مسائل الختلف ومسائل الجتهاد يقول ابن القيم :إذا لم يكن في المسألة
16
سنة ول إجماع وللجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل فيها مجتهدا أو مقلدا.
17
ويقول العز بن عبد السلم :من أتى شيئا مختلفا في تحريمه إن اعتقد تحليله لم يجز
17
النكار عليه إل أن يكون مأخذ المحلل ضعيفا.
ويقول إمام الحرمين :ثم ليس للمجتهد أن يعترض بالردع والزجر على مجتهد آخر في
موقع الخلف إذ كل مجتهد في الفروع مصيب عندنا ومن قال إن المصيب واحد فهو غير
متعين عنده فيمتنع زجر أحد المجتهدين الخر على المذهبين.18
وكان مالك رحمه ال تعالى يستعظم أن يقول المفتي هذا حرام في مسائل الجتهاد
الخلفية وإنما يقول :أكره.
قال ابن رشد في البيان والتحصيل :قال مالك :لم تكن فتيا الناس أن يقال هذا حلل وهذا
حرام ولكن يقال أنا أكره هذا ولم أكن لصنع هذا فكان الناس يكتفون بذلك ويرضون به
وكانوا يقولون إنا لنكره هذا وإن هذا ليتقى لم يكونوا يقولون هذا حلل وهذا حرام .وقال:
وهذا الذي يعجبني والسنة ببلدنا.
أسباب الختلف
إن أسباب الختلف بعضها يرجع إلى فطرة البشر وإلى طبيعة الدلة فمن الول ما يقول
فيه ابن القيم :وقوع الختلف بين الناس أمر ضروري لبد منه لتفاوت أغراضهم
وأفهامهم وقوى إدراكهم ،ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه.
أما طبيعة الدلة فيمكن إجمالها في أربعة أوجه تعتبر عناوين كبيرة لسباب الختلف
الكثيرة والمتنوعة.
-1اختلف في دللت اللفاظ وضوحا وغموضا واعتبارا وردا.
-2اختلف في أدلة معقول النص التي ترجع إلى مقاصد الشريعة قبولً ورفضا
-3اختلف في وسائل ثبوت النصوص الشرعية ودرجات الثبوت.
-4اختلف في ترتيب الدلة عند التعارض قوة وضعفا.
فهذه العناوين الربعة يرجع إليها اختلف العلماء ،وقد ذكر ابن السيد ثمانية أسباب
لختلف العلماء .
وأما الحافظ ابن رجب فقد قال عن أسباب الخلف :منها أنه قد يكون النص عليه خفيا،
لم ينقله إل قليل من الناس ،فلم يبلغ جميع حملة العلم.
ومنها :أنه قد ينقل فيه نصان ،أحدهما :بالتحليل والخر :بالتحريم ،فيبلغ طائفة منهم أحد
النصين دون الخر فيتمسكون بما بلغهم :أو يبلغ النصان معا من ل يبلغه التاريخ فيقف لعدم
معرفته بالناسخ.
18
ومنها :ما ليس فيه نص صريح ،وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس ،فتختلف أفهام
العلماء في هذا كثيرا.
ومنها :ما يكون فيه أمر أو نهي ،فتختلف أفهام العلماء في حمل المر على الوجوب أو
الندب ،وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه.19
إنه بالنظر إلى منهجية مختلف المذاهب ندرك بداهة أنها ل تختلف في اعتبار الكتاب
والسنة مصدرين منشأين للتشريع وهو أصل عقدي للمسلم كما أنها تعتبر الجماع والقياس
مصدرين معرفين على الصلين ،وهذا في الجملة.
أما في التفصيل فإن ملمح الختلف تتحدد على ضوء اجتهاد يتوسع في معتبر الحديث
فيعمل بالمراسل والبلغات والمنقطع والضعيف أحيانا مقدما ذلك في الرتبة على معقول النص
المدرك بالجتهاد .وبين مقتصر على اعتبار ما صح بمعايير حديثية صارمة تاركا للجتهاد
بالقياس وما في حكمه أو للستصحاب مساحة أوسع وربما قدم بعضهم عمل الراوي على
العمل بمرويه.
كما أن تفاصيل التعامل مع الجماع يعرض فيها الختلف بين موسع لمفهوم الجماع
ي وإجماع سائر القرون والعصور ومعتبر إجماع أهل المدينة.
ليشمل الجماع السكوت ّ
وبين مضيق في مفهوم الجماع لحصره في النطقي ومن يحصره في إجماع الصحابة فقط.
وكذلك فإن قياس العلة يتفق على اعتباره أكثر العلماء ،غير أن الختلف يعرض في أنواع
أخرى من القياس كقياس الشبه وقياس العكس وكذلك بعض مسالك العلة.
أما الدلة الخرى كالمصالح المرسلة وسد الذرائع والستحسان وقول الصحابي وشرع من
قبلنا.
تتفاوت المذاهب بالخذ بها وأنها ل تعرو عنها والتباين إنما هو في التنائي عن النص
والشسوع عنه أو اللياطة به واللصوق كما يشير له إمام الحرمين وهو يقرر موقف الشافعي
من المصالح المرسلة.
وبصفة عامة يختلف الئمة في الخذ بالمقاصد فمن متوسع في الخذ بها متعمق في
أغوارها دائر مع إيرادها وإصدارها ومن متشبث بالنصوص متمسك بأهدابها.
وكل المذاهب بدون استثناء اعتمدت قادة مجتهدين ومجتهدى مذهب ومقلدين متبصرين
ومقلدين ناقلين وجعلت من سلك سبيلهم من عوام المسلمين في سعة في دينه وسداد في أمره
كما أنها اعتمدت ما اشتهر من أقوال هؤلء وترجح لكنها أيضا ذكرت جواز العمل بغير
الراجح وبغير المشهور لضرورة أو حاجة منزلة منزلتها.
19
السمة الثانية :التصالح في الخطاب والكف عن التبديع والتكفير.
()20
لخطورة التكفير فقد ورد في الحديث :من رمي مؤمنًا بكفر فهو كقتله".
()21
:إذا قال الرجل لخيه :يا كافر ،فقد باء بها أحدهما".
والحاديث بمثل هذا المعني كثيرة ،وما ذلك إل لما يستلزمه الكفر من النتائج الخطيرة التي
من جملتها إباحة الدم ،والمال ،وفسخ عصمة الزوجية ،وامتناع التوارث ،وعدم الصلة عليه،
ومنع دفنه في مقابر المسلمين ،وغيرها من البليا والرزايا نعوذ بال تعالى منها.
هذا وقد اختلف العلماء في مسائل التكفير وتبادلت الطوائف تهمته بحق أو بغير حق ،إل
أنه بسبب ما ورد فيه من الوعيد حذّر أشد التحذير من التكفير جماعة من العلماء حتى قال
المام السبكي :ما دام النسان يعتقد شهادة أن ل إله إل ال وأن محمدًا رسول ال صلى ال
عليه وسلم فتكفيره صعب".
وقد بالغ المام أبو حامد الغزالي حتى نفي الكفر عن كل الطوائف فقال :هؤلء أمرهم في
محل الجتهاد ،والذي ينبغي الحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلً ،فإن استباحة الدماء
والموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بالتوحيد خطا ،والخطأ في ترك ألف كافر في
الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم.
قال :والسبب في هذه الورطة الجهل بموقع التكذيب والتصديق ،ووجهه أن كل من نزل
قولً من أقوال الشرع على شيء من الدرجات العقلية التي ل تحقق نقصًا فهو من التعبد،
وإنما الكذب أن ينفي جميع هذه المعاني ويزعم أن ما قاله ل معني له إنما هو كذب محض،
وذلك هو الكفر المحض ،ولهذا ل يكفر المبتدع المتأول ما دام ملزمًا لقانون التأويل؛ لقيام
()22
البرهان عنده على استحالة الظواهر".
"وفي جامع الفصوليين روي الطحاوي عن أصحابنا :ل يخرج الرجل من اليمان إل
جحود ما أدخله فيه ،ثم ما تيقن أنه ردة يحكم بها ،وما يشك أنه ردة ل يحكم بها؛ إذا السلم
الثابت ل يزول بالشك ،مع أن السلم يعلو وينبغي للعالم إذا رُفع إليه هذا أن ل بادر بتكفير
أهل السلم مع أنه يقضي بصحة إسلم المُكره".
() هو جزء من حديث أوله(( :من خلف بلّة غي السلم كاذبًا فهو كما قال)) ،فتح الباري .8/32 20
20
أقول :قدمت هذا ليصير ميزانًا فيما نقلته في هذا الفصل من المسائل ،فإنه قد ذكر في
بعضها أنه كفر مع أنه ل يكفر على قياس هذه المقدمة ،فليتأمل أحد ما في جامع الفصوليين.
وفي الفتاوى الصغرى :الكفر شيء عظيم فل أجعل المؤمن كافرًا متى وجدت رواية أنه ل
يكفر".
وفي الخلصة وغيرها :إذا كان في المسألة وجوه توجب الكفر ووجه واحد يمنعه ،فعلى
المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينًا للظن بالمسلم ،زاد في البزازية :إل إذا
صرح بإرادة موجب الكفر فل ينفعه التأويل ،وفي التتار خانية :ل يكفر بالمحتمل؛ لن الكفر
نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية في الجناية والحتمال ل نهاية معه ".
"والذي تحرر أنه ل يفتي بكفر مسلم أمكن حمل كلمه على محمل حسن أو كان في كفره
اختلف ولو رواية ضعيفة ،فعلي هذا فأكثر ألفاظ التكفير المذكور ل يفتي بالتكفير فيها ،ولقد
ألزمت نفسي أن ل أفتي بشيء منها" .أ.هـ كلم البحر –باختصار.)23(-
ومثله نص عليه في تنوير البصار مع شرحه رد المحتار ،وعلق ابن عابدين على قوله:
ولو رواية ضعيفة بقوله :قال الخير الرملي :أقول :ولو كانت الرواية في غير أهل مذهبنا،
()24
ويدل على ذلك اشتراط كون ما يوجب الكفر مجمعًا عليه".
وقال شيخ السلم ابن تيمية في الفتاوى :وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أن
ل أخطأ فيه أنه يكفر بذلك وإن كان قوله مخالفًا للسنة ،فتكفير كل مخطئ
ليس كل من قال قو ً
خلف الجماع ،لكن للناس نزاع في مسائل التكفير قد بسطت في غير هذا الموضع –
والمقصود هنا -أن ليس لكل من الطوائف المنتسبين إلى شيخ من الشيوخ أو لمام من الئمة
أن يكفروا من عداهم ،بل في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال :إذا قال الرجل
()25
لخيه :يا كافر ،فقد باء بها أحدهما".
ولهذا فالخطاب السلمي ينبغي أن ل يكفر أحدا من المة المحمدية من دخل الدائرة الكبرى
وهي دائرة التوحيد والعتراف بالنبوة الخاتمة إل أن يأتي بناقض غير محتمل عليه من ال
برهان قاطع.
هذا الذي رجع إليه العلماء وارتضاه الفقهاء ورجع إليه من خاضوا بحور علم الكلم ودونوا
مقالت أهل البدع وأهل السلم.
21
ولعلي اختم بكلمات للحافظ الذهبي وهي قوله :رأيت للشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة
رواها البيهقي ،سمعت أبا حازم العبدوي ،سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول :لما قرب
حضور أجل أبي الحسن الشعري في داري ببغداد ،دعاني فأتيته ،فقال :أشهد على أني ل
أكفر أحدا من أهل القبلة ،لن الكل يشيرون إلى معبود واحد ،وإنما هذا كله اختلف
العبارات..
قلت :وبنحو هذا أدين ،وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول :أنا ل أكفر أحدا من
المة ،ويقول :قال النبي صلى ال عليه وسلم " :ل يحافظ على الوضوء إل مؤمن " فمن لزم
الصلوات بوضوء فهو مسلم" (.الذهبي سير أعلم النبلء )
22
والثاني :ما ثبت أيضا من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومما علم من دين المة
ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الضطرار ،فإن هذا نمط يدل
قطعا على مطلق رفع الحرج والمشقّة ،وكذلك ماجاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب
في النقطاع عن دوام العمال.
ولو كان الشارع قاصدا للمشقة في التكلف لما كان ثم ترخيص ول تخفيف.36
وأطال النفس قائلً :إلى جزئيات كثيرة جدا يحصل من مجموعها قصد لرفع الحرج فإنا
نحكم بمطلق رفع الحرج في البواب كلها عملً بالستقراء.37
والتيسير قاعدة من قواعد الترجيح في الخلف لما تقدم ومن مظاهر التيسير التعامل مع عامل
الزمن.
ومن مظاهر التيسير النظر في مئالت الفعال والقوال واعتبار العراف والعادات.
فالخطاب السلمي يجب أن يستوعب كل هذه القواعد ليكون أكثر نجاعة وجدة وتأثيرا لنه
أكثر تيسيرا وتبشيرا.
23
خلصة القول:
إن الخطاب السلمي يقوم على قواطع وثوابت علمت من الدين بالضرورة هي أساس الدين
ودعائمه كاللوهية والتوحيد والنبوة والرسالة ومكانة النسان في التشريع والكليات التي تحميه
وتصوب حياته.
هذه الثوابت يجب أن توظف كل الساليب العلمية في بيانها وجمع المة حولها وتقديمها
للبشرية مدعومة بالحجج العلمية والبراهين العقلية ليهدي ال تعالى بها من يشاء من عباده.
ولحسن حظنا وحظ النسانية ليس فيها ما يناقض العلم أو ينافي العقل بل إن العلم والعقل خير
معين على بيان صحة هذا الدين فهل أحسنا العرض وأجدنا البرام والنقض.
إن الخطاب الجديد في عصر العولمة والقرية الكونية وطغيان القيم المادية الخالية من كل قيم
إلهية أو إنسانية نبيلة مما أوجد النسان الحسي أو الجسدي الذي يعيش لذاته مستغرقا في
لذاته فل نبل ول كرم ول إيثار ول تضامن ول نظر في المئالت إل مئالت الربح بل روح
والثروة بل رائحة ،إنه نذل ل غيرة له حسب ما يقول فوكوياما وهو الهلباجة في مفهوم
العرابي وخلف الحمر.
فالخطاب السلمي متسامح لنه يقبل الختلف ويتسع لمختلف وجهات النظر والراء فل
انكار في مختلف فيه كما أصلنا ذلك إذا كان اختلفا معتبرا ومن ل يستطيع إدراك طبيعة
الختلف فليس من أهل الميدان ول من فرسان الشان.
والخطاب السلمي متصالح لنه ل يكفر من دخل الدائرة الكبرى إل بناقض مجمع عليه قام
عليه برهان قاطع.
والخطاب الٍسلمي ميسر لنه يتوخى مصالح الناس ويراعى ضعفهم ( يريد ال أن يخفف
عنكم وخلق النسان ضعيفا)
والخطاب السلمي إنساني لنه يرفع قيمة النسان.
والخطاب السلمي ثابت صلب في جوهره مرن في تعبيراته.
ومع ذلك فإن خطابنا بقواطعه وثوابته راسخ رسوخ الجبال الراسيات شامخ شموخ الطواد
المشمخرات ولكنه في تفريعاته مائس مع رياح المصالح ميس فروع البان بنسائم السحار
على وعساء الكثبان.
ي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وال سبحانه وتعالى ول ّ
24