You are on page 1of 118

‫القتصاد في العتقاد‬

‫أبو حامد الغزالي‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫الفهرست‬
‫المقدمة‬
‫ترتيب الكتاب‬
‫مقدمة القطاب‬
‫التمهيد الول‪ :‬في بيان أن هذا العلم من المهمات في الدين‪.‬‬
‫التمهيد الثاني‪ :‬في بيان أنه ليس مهما ً لجميع المسلمين بل لطائفففة‬
‫منهم مخصوصين‪.‬‬
‫التمهيد الثالث‪ :‬ففي بيفان أنفه مفن ففروض الكفايفات ل مفن ففروض‬
‫العيان‪.‬‬
‫التمهيففد الرابففع‪ :‬فففي تفصففيل مناهففج الدلففة الففتي أوردتهففا فففي هففذا‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫القطب الول‪ :‬النظر في ذات الله تعالى‪.‬‬
‫الدعوى الولى‪ :‬وجوده تعالى وتقدس‬
‫الدعوى الثانية‪ :‬نفدعي أن السفبب الفذي أثبتنفاه لوجفود العفالم‬
‫قديم‬
‫الدعوى الثالثة‪ :‬ندعي أن صانع العالم مع كونه موجودا ً لم يزل‬
‫الدعوى الرابعة‪ :‬ندعي أن صانع العالم ليس بجوهر متحيز‬
‫الدعوى الخامسة‪ :‬ندعي أن صانع العالم ليس بجسم‬
‫الدعوى السادسة‪ :‬ندعي أن صانع العالم ليس بعرض‬
‫الدعوى السففابعة‪ :‬نفدعي أنففه ليففس فففي جهففة مخصوصفة مففن‬
‫الجهات الست‬
‫الدعوى الثامنة‪ :‬ندعي أن الله تعالى منزه‬
‫الدعوى التاسعة‪ :‬ندعي أن الله سبحانه وتعالى مرئي‬
‫الدعوى العاشرة‪ :‬ندعي أنه سبحانه واحد‪.‬‬
‫القطب الثاني‪ :‬في صفات الله تعالى‪.‬‬
‫القطب الثالث‪ :‬في أفعال الله تعالى‪.‬‬
‫القطب الرابع‪ :‬في رسل الله‬
‫الباب الول‪ :‬في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬فيما ورد على لسانه من أمور الخرة‪.‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬في المامة وشروطها‪.‬‬
‫الباب الرابع‪ :‬في بيان القانون في تكفير الفرق المبتدعة‪.‬‬

‫الحمد لله الذي اجتبى من صفوة عباده عصابة الحففق وأهففل السففنة‪،‬‬
‫وخصهم من بين سائر الفرق بمزايا اللطف والمنففة‪ ،‬وأفففاض عليهففم‬
‫من نور هدايته مففا كشففف بففه عففن حقففائق الففدين‪ ،‬وأنطففق ألسففنتهم‬
‫بحجته التي قمع بها ضلل الملحدين‪ ،‬وصفى سرائرهم من وساوس‬
‫الشياطين‪ ،‬وطهر ضمائرهم عففن نزغففات الزائغيففن‪ ،‬وعمففر أفئدتهففم‬
‫بأنوار اليقين حتى اهتدوا بها إلى أسرار مففا أنزلففه علففى لسففان نففبيه‬
‫وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين‪ ،‬واطلعففوا علففى‬
‫طريق التلفيق بين مقتضيات الشففرائع وموجبففات العقفول؛ وتحققففوا‬
‫أن ل معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقففول‪ .‬وعرفففوا أن مففن‬
‫ظن من الحشوية وجوب الجمود علففى التقليففد‪ ،‬واتبففاع الظففواهر مففا‬
‫أتوا به إل مففن ضففعف العقففول وقلففة البصففائر‪ .‬وإن مففن تغلغففل مففن‬
‫الفلسفة وغلة المعتزلة في تصرف العقل حتى صادموا بففه قواطففع‬
‫الشرع‪ ،‬ما أتوا به إل من خبث الضمائر‪ .‬فميففل أولئك إلففى التفريففط‬
‫وميل هؤلء إلى الفراط‪ ،‬وكلهما بعيففد عففن الحففزم والحتيففاط‪ .‬بففل‬
‫الواجب المحتوم في قواعد العتقاد ملزمة القتصاد والعتماد على‬
‫الصراط المستقيم؛ فكل طرفي قصففد المففور ذميففم‪ .‬وأنففى يسففتتب‬
‫الرشاد لمن يقنع بتقليد الثر والخبر‪ ،‬وينكر مناهج البحث والنظر‪ ،‬أو‬
‫ل يعلم انه ل مستند للشففرع إل قففول سففيد البشففر صففلى اللففه عليففه‬
‫وسلم‪ ،‬وبرهان العقل هو الذي عرف بففه صففدقه فيمففا أخففبر‪ ،‬وكيففف‬
‫يهتدي للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر‪ ،‬ومفا استضفاء بنفور‬
‫الشرع ول استبصر ؟ فليت شعري كيف يفزع إلى العقل مففن حيففث‬
‫يعتريه العي والحصر ؟ أو ل يعلم ان العقل قاصر وأن مجففاله ضففيق‬
‫منحصففر ؟ هيهففات قففد خففاب علففى القطففع والبتففات وتعففثر بأذيففال‬
‫الضللت من لم يجمع بتأليف الشرع والعقففل هففذا الشففتات‪ .‬فمثففال‬
‫العقل البصر السففليم عففن الفففات والذاء‪ .‬ومثففال القففرآن الشففمس‬
‫المنتشرة الضياء‪ .‬فاخلق بأن يكففون طففالب الهتففداء‪ .‬المسففتغني إذا‬
‫استغني بأحدهما عن الخر في غمار الغبياء‪ ،‬فالمعرض عففن العقففل‬
‫مكتفيا ً بنور القرآن‪ ،‬مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضفا ً للجفففان‪،‬‬
‫فل فففرق بينففه وبيففن العميففان‪ .‬فالعقففل مففع الشففرع نففور علففى نففور‪،‬‬
‫والملحظ بالعين العور لحدهما على الخصوص متففدل بحبففل غففرور‪.‬‬
‫وسيتضففح لففك أيهفا المشفوق إلففى الطلع علففى قواعففد عقففائد أهففل‬
‫السنة‪ ،‬المقترح تحقيقهففا بقواطففع الدلففة‪ ،‬أنففه لففم يسففتأثر بففالتوفيق‬
‫للجمع بين الشرع والتحقيق فريق سوى هففذا الفريففق‪ .‬فاشففكر اللففه‬
‫تعالى على إقتفائك لثارهم وانخراطك في سلك نظففامهم وعيففارهم‬
‫واختلطك بفرقتهم؛ فعسففاك أن تحشففر يففوم القيامففة فففي زمرتهففم‪.‬‬
‫نسأل الله تعالى أن يصفي أسرارنا عن كففدورات الضففلل‪ ،‬ويغمرهففا‬
‫بنور الحقيقففة‪ ،‬وأن يخففرس ألسففنتنا عففن النطففق بالباطففل‪ ،‬وينطقهففا‬
‫بالحق والحكمة إنه الكريم الفائض المنة الواسع الرحمة‪.‬‬
‫باب‬
‫ولنفتففح الكلم ببيففان اسففم الكتففاب‪ ،‬وتقسففيم المقففدمات والفصففول‬
‫والبواب‪ .‬أما اسم الكتاب فهو القتصففاد فففي العتقففاد‪ .‬وأمففا ترتيبففه‬
‫فهو مشتمل على أربع تمهيدات تجري مجرى التففوطئة والمقففدمات‪،‬‬
‫وعلى أربع أقطاب تجري مجرى المقاصد والغايات‪.‬‬
‫التمهيد الول‪ :‬في بيان أن هذا العلم من المهمات في الدين‪.‬‬
‫التمهيد الثاني‪ :‬في بيان أنه ليس مهم فا ً لجميففع المسففلمين بففل‬
‫لطائفة منهم مخصوصين‪.‬‬
‫التمهيففد الثففالث‪ :‬فففي بيففان أنففه مففن فففروض الكفايففات ل مففن‬
‫فروض العيان‪.‬‬
‫التمهيد الرابع‪ :‬في تفصيل مناهج الدلة التي أوردتهففا فففي هففذا‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫وأما القطاب المقصودة فأربعة وجملتها مقصورة علففى النظففر فففي‬
‫الله تعالى‪ .‬فإنا إذا نظرنا في العالم لم ننظر فيه من حيث أنه عالم‬
‫وجسم وسففماء وأرض‪ ،‬بففل مففن حيففث أنففه صففنع اللففه سففبحانه‪ .‬وإن‬
‫نظرنا في النبي عليه السففلم لففم ننظففر فيففه مففن حيففث أنففه انسففان‬
‫وشريف وعالم وفاضل؛ بل من حيث أنه رسول الله‪ .‬وان نظرنا في‬
‫أقواله لم ننظر من حيث أنها أقوال ومخاطبات وتفهيمففات؛ بففل مفن‬
‫حيث أنها تعريفات بواسطته من الله تعالى‪ ،‬فل نظر إل في اللففه ول‬
‫مطلوب سوى الله وجميع أطففراف هففذا العلففم يحصففرها النظففر فففي‬
‫ذات الله تعالى وففي صففاته سفبحانه وففي أفعفاله عفز وجفل وففي‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاءنا على لسانه مففن تعريففف‬
‫الله تعالى‪ .‬فهي إذن أربعة أقطاب‪:‬‬
‫القطب الول‪ :‬النظر في ذات الله تعففالى‪ .‬فنففبين فيففه وجففوده وانففه‬
‫قديم وأنه باق وأنه ليففس بجففوهر ول جسففم ول عففرض ول‬
‫محدود بحد ول هو مخصفوص بجهففة‪ ،‬وأنففه مففرئي كمفا أنفه‬
‫معلوم وأنففه واحففد؛ فهففذه عشففرة دعففاوى نبينهففا فففي هففذا‬
‫القطب‪.‬‬
‫القطب الثاني‪ :‬في صفات الله تعالى‪ .‬ونبين فيه أنه حي عالم قففادر‬
‫مريد سميع بصير متكلم وأن له حياة وعلما ً وقففدرة وإرادة‬
‫وسمعا ً وبصرا ً وكلمًا‪ ،‬ونذكر أحكام هذه الصفات ولوازمها‬
‫وما يفترق فيهففا ومفا يجتمففع فيهفا مفن الحكففام‪ ،‬وأن هفذه‬
‫الصفففات زائدة علففى الففذات وقديمففة وقائمففة بالففذات ول‬
‫يجوز أن يكون شيء من الصفات حادثًا‪.‬‬
‫القطب الثالث‪ :‬في أفعال الله تعالى‪ .‬وفيه سبعة دعاوى وهو انففه ل‬
‫يجب على الله تعالى التكليف ول الخلففق ول الثففواب علففى‬
‫التكليف ول رعاية صلح العباد ول يستحيل منه تكليففف مففا‬
‫ل يطاق ول يجب عليه العقاب على المعاصي ول يسففتحيل‬
‫منه بعثه النبياء عليهم السلم؛ بل يجوز ذلك‪ .‬وفي مقدمة‬
‫هذا القطب بيان معنى الواجب والحسن والقبيح‪.‬‬
‫القطب الرابع‪ :‬في رسل الله‪ ،‬وما جفاء علفى لسفان رسفولنا محمفد‬
‫صلى الله عليه وسلم مفن الحشففر والنشففر والجنففة والنففار‬
‫والشفاعة وعذاب القبر والميزان والصففراط‪ ،‬وفيففه أربعففة‬
‫أبواب‪:‬‬
‫الباب الول‪ :‬في إثبفات نبفوة محمفد صفلى اللفه عليفه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬فيما ورد على لسانه من أمور الخرة‪.‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬في المامة وشروطها‪.‬‬
‫البففاب الرابففع‪ :‬فففي بيففان القففانون فففي تكفيففر الفففرق‬
‫المبتدعة‪.‬‬

‫التمهيد الول في بيان أن الخوض في هذا العلم مهم في الدين‬


‫اعلم أن صرف الهمة إلى ما ليس بمهم‪ ،‬وتضييع الزمان بما عنه بففد‬
‫هو غاية الضلل ونهاية الخسران سواء كففان المنصففرف إليففه بالهمففة‬
‫من العلوم أو من العمال‪ ،‬فنعوذ بالله من علم ل ينفع‪ .‬وأهم المور‬
‫لكافة الخلق نيل السعادة البدية واجتناب الشقاوة الدائمة‪ ،‬وقد ورد‬
‫النبياء وأخبروا الخلق بأن لله تعالى على عباده حقوقا ً ووظائف في‬
‫أفعالهم وأقوالهم وعقائدهم‪ .‬وأن من لم ينطق بالصدق لسففانه ولففم‬
‫ينطو على الحق ضميره ولم تففتزين بالعففدل جففوارحه فمصففيره إلففى‬
‫النففار وعففاقبته للبففوار‪ .‬ثففم لففم يقتصففروا علففى مجففرد الخبففار بففل‬
‫استشهدوا على صدقهم بأمور غريبة وأفعال عجيبة خارقففة للعففادات‬
‫خارجة عن مقدورات البشر‪ ،‬فمن شاهدها أو سمع أحوالهففا بالخبففار‬
‫المتواترة سبق إلى عقله إمكان صدقهم‪ ،‬بل غلففب علففى ظنففه ذلففك‬
‫بأول السماع قبل أن يمعن النظر في تمييز المعجزات عففن عجففائب‬
‫الصناعات‪ .‬وهذا الظن البديهي أو التجويز الضروري ينزع الطمأنينففة‬
‫عن القلب ويحشوه بالستشعار والخففوف ويهيجففه للبحففث والفتكففار‬
‫ويسلب عنه الدعة والقرار ويحذره مغبة التسففاهل والهمففال ويقففرر‬
‫عنده أن الموت آت ل محالة وأن ما بعففد المففوت منطففو عففن أبصففار‬
‫الخلق وأن ما أخبر به هؤلء غير خففارج عففن حيففز المكففان‪ .‬فففالحزم‬
‫ترك التففواني فففي الكشففف عففن حقيقففة هففذا المففر‪ .‬فمففا هففؤلء مففع‬
‫العجائب التي أظهروها في إمكان صدقهم قبل البحففث عففن تحقيففق‬
‫قولهم بأقل من شخص واحد يخبرنا عففن خروجنففا مففن دارنففا ومحففل‬
‫استقرارنا بأن سبعا ً من السباع قد دخل الففدار فخففذ حففذرك واحففترز‬
‫منه لنفسك جهدك‪ ،‬فإنا بمجرد السماع إذا رأينا ما أخبرنففا عنففه فففي‬
‫محل المكان والجواز لم نقفدم علفى الفدخول وبالغنفا ففي الحفتراز‬
‫فالموت هو المستقر والوطن قطع فًا‪ ،‬فكيففف ل يكففون الحففتراز لمففا‬
‫بعده مهما ً ؟ فففإذن أهفم الممفات أن نبحفث عففن قففوله الففذي قضفى‬
‫الذهن في بادئ الرأي وسابق النظر بامكانه أهففو محففال فففي نفسففه‬
‫على التحقيق أو هو حق ل شك فيه ؟ فمن قوله ان لكم ربا ً كلفكففم‬
‫حقوقا ً وهو يعاقبكم على تركها ويثيبكم على فعلها وقد بعثني رسول ً‬
‫إليكم لبين ذلك لكم‪ ،‬فيلزمنففا ل محالففة أن نعففرف أن لنففا ربفا ً أم ل‪.‬‬
‫وإن كان فهل يمكن أن يكون حيا ً متكلما ً حففتى يففأمر وينهففى ويكلففف‬
‫ويبعث الرسل‪ ،‬وإن كان متكلما ً فهل هو قادر على أن يعاقب ويثيب‬
‫إذا عصيناه أو أطعناه‪ ،‬وإن كان قادرا ً فهل هذا الشخص بعينه صادق‬
‫في قوله أنا الرسول إليكم‪ .‬فإن اتضح لنففا ذلففك لزمنففا ل محالففة‪ ،‬إن‬
‫كنففا عقلء‪ ،‬أن نأخففذ حففذرنا وننظففر لنفسففنا ونسففتحقر هففذه الففدنيا‬
‫المنقرضة بالضافة إلى الخرة الباقية فالعاقل من ينظر لعففاقبته ول‬
‫يغتر بعاجلته‪ .‬ومقصود هذا العلم إقامففة البرهففان علففى وجففود الففرب‬
‫تعالى وصفاته وأفعاله وصدق الرسل كمففا فصففلناه فففي الفهرسففت‪.‬‬
‫وكل ذلك مهم ل محيص عنه لعاقل‪ .‬فإن قلت اني لست منكرا ً هففذا‬
‫النبعاث للطلفب مفن نفسفي ولكنفي لسفت أدري أنفه ثمفرة الجبلفة‬
‫والطبع وهو مقتضى العقل أو هو موجب الشرع إذ للنففاس كلم فففي‬
‫مدارك الوجففوب؛ فهففذا انمففا تعرفففه فففي آخففر الكتففاب عنففد تعرضففنا‬
‫لمدارك الوجوب‪ .‬والشتغال به الن فضول بفل ل سففبيل بعففد وقففوع‬
‫النبعاث إلى النتهففاض لطلففب الخلص‪ .‬فمثففال الملتفففت إلففى ذلففك‬
‫مثال رجل لدغته حية أو عقرب وهففي معففاودة اللففدغ والرجففل قففادر‬
‫على الفرار ولكنه متوقف ليعرف ان الحية جاءته من جففانب اليميففن‬
‫أو من جانب اليسار‪ ،‬وذلك من أفعال الغبياء الجهال نعوذ بالله مففن‬
‫الشتغال بالفضول مع تضييع المهمات والصول‪.‬‬

‫التمهيد الثاني في بيان الخوض في هذا العلم وإن كان مهما ً‬


‫فهو في حق بعض الخلق ليس بمهم بل المهم لهم تركه‬
‫إعلم أن الدلة التي نحررها في هذا العلم تجري مجرى الدوية التي‬
‫يعالج بها مرض القلوب‪ .‬والطبيب المستعمل لها إن لم يكففن حاذق فا ً‬
‫ثاقب العقل رصين الرأي كان ما يفسده بففدوائه أكففثر ممففا يصففلحه‪.‬‬
‫فليعلم المحصل لمضمون هذا الكتففاب والمسففتفيد لهففذه العلففوم أن‬
‫الناس أربع فرق‪:‬‬
‫الفرقففة الولففى‪ :‬آمنففت بففالله وصففدقت رسففوله واعتقففدت الحففق‬
‫وأضمرته واشتغلت إما بعبادة وإما بصناعة؛ فهؤلء ينبغي أن يففتركوا‬
‫وما هم عليه ول تحرك عقائدهم بالستحثاث على تعلففم هففذا العلففم‪،‬‬
‫فففإن صففاحب الشففرع صففلوات اللففه عليففه لففم يطففالب العففرب فففي‬
‫مخاطبته إياهم بأكثر مففن التصففديق ولففم يفففرق بيففن أن يكففون ذلففك‬
‫بإيمان وعقد تقليدي أو بيقين برهاني‪ .‬وهففذا ممففا علففم ضففرورة مفن‬
‫مجاري أحواله في تزكيته إيمان مففن سففبق مففن أجلف العففرب إلففى‬
‫تصديقه ببحث وبرهان؛ بل بمجرد قرينة ومخيلة سبقت إلى قلففوبهم‬
‫فقادتها إلى الذعان للحق والنقياد للصدق فهؤلء مؤمنففون حق فا ً فل‬
‫ينبغففي أن تشففوش عليهففم عقففائدهم‪ ،‬فففإنه إذا تليففت عليهففم هففذه‬
‫البراهين وما عليها من الشكالت وحلها لم يؤمن أن تعلق بأفهامهم‬
‫مشكلة من المشكلت وتستولي عليها ول تمحى عنها بما يفذكر مفن‬
‫طرق الحل‪ .‬ولهذا لم ينقل عن الصففحابة الخففوض فففي هففذا الفففن ل‬
‫بمباحثة ول بتدريس ول تصنيف‪ ،‬بل كففان شففغلهم بالعبففادة والففدعوة‬
‫إليهففا وحمففل الخلففق علففى مراشففدهم ومصففالحهم فففي أحففوالهم‬
‫وأعمالهم ومعاشهم فقط‪.‬‬
‫الفرقة الثانية‪ :‬طائفة مالت عن اعتقففاد الحففق كففالكفرة والمبتدعففة‪.‬‬
‫فالجافي الغليظ منهم الضعيف العقل الجامد على التقليففد الممففتري‬
‫على الباطل من مبتدأ النشوء إلى كبر السن ل ينفع معه إل السوط‬
‫والسيف‪ .‬فأكثر الكفرة أسلموا تحففت ظلل السففيوف إذ يفعففل اللففه‬
‫بالسففيف والسففنان مففا ل يفعففل بالبرهففان واللسففان‪ .‬وعففن هففذا إذا‬
‫استقرأت تواريخ الخبار لم تصادف ملحمة بيففن المسففلمين والكفففار‬
‫إل انكشفت عن جماعة من أهففل الضففلل مففالوا إلففى النقيففاد‪ ،‬ولففم‬
‫تصادف مجمع مناظرة ومجادلة انكشفت إل عن زيادة إصرار وعناد‪.‬‬
‫ول تظنن أن هذا الذي ذكرناه غض من منصب العقل وبرهانه ولكففن‬
‫نور العقل كرامة ل يخص اللففه بهففا إل الحففاد مففن أوليففائه‪ ،‬والغففالب‬
‫على الخلق القصففور والهمففال‪ ،‬فهففم لقصففورهم ل يفدركون براهيففن‬
‫العقول كما ل تدرك نور الشمس أبصار الخفافيش‪ .‬فهؤلء تضر بهم‬
‫العلوم كما تضر رياح الففورد بالجعففل‪ .‬وفففي مثففل هففؤلء قففال المففام‬
‫الشافعي رحمه الله‪)) :‬فمن منح الجهال علم فا ً أضففاعه(( ومففن منففع‬
‫المستوجبين فقد ظلم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الفرقة الثالثة‪ :‬طائفة اعتقدوا الحق تقليدا وسماعا ولكن خصوا فففي‬
‫الفطرة بذكاء وفطنة فتنبهوا من أنفسففهم لشففكالت تشففككهم فففي‬
‫عقففائدهم وزلزلففت عليهففم طمففأنينتهم‪ ،‬أو قففرع سففمعهم شففبهة مففن‬
‫الشففبهات وحففاكت فففي صففدورهم‪ .‬فهففؤلء يجففب التلطففف بهففم فففي‬
‫معالجتهم باعادة طمأنينتهم وإماطة شكوكهم بمففا أمكففن مففن الكلم‬
‫المقنع المقبول عندهم ولففو بمجففرد إسففتبعاد وتقبيففح أو تلوة آيففة أو‬
‫رواية حديث أو نقل كلم من شخص مشهور عنففدهم بالفضففل‪ .‬فففإذا‬
‫زال شكه بذلك القففدر فل ينبغففي أن يشففافه بالدلففة المحففررة علففى‬
‫مراسم الجدال‪ ،‬فإن ذلك ربما يفتح عليه أبوابا ً أخر من الشففكالت‪.‬‬
‫فإن كان ذكيا ً فطنا ً لم يقنعه إل كلم يسير على محك التحقيق‪ .‬فعند‬
‫ذلك يجوز أن يشافه بالففدليل الحقيقففي وذلففك علففى حسففب الحاجففة‬
‫وفي موضع الشكال على الخصوص‪.‬‬
‫الفرقة الرابعة‪ :‬طائفة من أهل الضلل يتفرس فيهم مخففائل الففذكاء‬
‫والفطنة ويتوقع منهم قبول الحففق بمففا اعففتراهم فففي عقففائدهم مففن‬
‫الريبة أو بما يلين قلوبهم لقبول التشكيك بالجبلة والفطففرة‪ .‬فهففؤلء‬
‫يجب التلطف بهم في استمالتهم إلى الحق وإرشادهم إلى العتقففاد‬
‫الصحيح ل في معرض المحاجة والتعصب‪ ،‬فإن ذلك يزيد في دواعي‬
‫الضلل ويهيج بواعث التمادي والصرار‪ .‬وأكثر الجهالت إنما رسخت‬
‫في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق‬
‫ففي معفرض التحفري والدلء‪ ،‬ونظففروا إلفى ضفعفاء الخصفوم بعيفن‬
‫التحقير والزراء‪ .‬فثارت مففن بففواطنهم دواعففي المعانففدة والمخالفففة‬
‫ورسففخت فففي نفوسففهم العتقففادات الباطلففة وعسففر علففى العلمففاء‬
‫المتلطفين محوها مع ظهور فسادها‪ ،‬حففتى انتهففى التعصففب بطائفففة‬
‫إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نظروا بها في الحال بعد السكوت‬
‫عنها طول العمففر قديمففة‪ .‬ولففول اسففتيلء الشففيطان بواسففطة العنففاد‬
‫والتعصب للهففواء لمففا وجففد مثففل هففذا العتقففاد مسففتقرا ً فففي قلففب‬
‫مجنون فضل ً عمن له قلب عاقل‪ .‬والمجادلة والمعاندة داء محففض ل‬
‫دواء له‪ ،‬فليتحرز المتدين منه جهده وليترك الحقد والضففغينة وينظففر‬
‫إلى كافة خلق الله بعيففن الرحمففة‪ ،‬وليسففتعن بففالرفق واللطففف فففي‬
‫ارشاد من ضل من هذه المة‪ ،‬وليتحفظ من النكد الذي يحرك داعية‬
‫الضلل‪ ،‬وليتحقق أن مهيج داعيففة الصففرار بالعنففاد والتعصففب معيففن‬
‫على الصرار على البدعة ومطالب بعهده اعانته في القيامة‪.‬‬

‫التمهيد الثالث في بيان الشتغال بهذا العلم من فروض الكفايات‬


‫إعلم أن التبحر في هذا العلم والشتغال بمجامعه ليس مففن فففروض‬
‫العيان وهو من فروض الكفايات‪ .‬فأما أنه ليس من فروض العيففان‬
‫فقد إتضح لك برهانه في التمهيد الثاني‪ .‬إذ تبين أنه ليس يجب علففى‬
‫كافة الخلق إل التصديق الجزم وتطهيفر القلفب عفن الريفب والشفك‬
‫في اليمان‪ .‬وإنما تصير إزالة الشك فرض عين في حق من اعففتراه‬
‫الشك‪ .‬فإن قلت فلم صار من فروض الكفايات وقد ذكرت أن أكففثر‬
‫الفففرق يضففرهم ذلففك ول ينفعهففم ؟ فففاعلم أنففه قففد سففبق أن ازالففة‬
‫الشكوك في أصول العقائد واجبة‪ ،‬واعتوار الشك غير مسففتحيل وإن‬
‫كان ل يقع إل في القل‪ ،‬ثم الدعوة إلى الحففق بالبرهففان مهمففة فففي‬
‫الدين‪ .‬ثم ل يبعد أن يثور مبتدع ويتصدى لغواء أهففل الحففق بإفاضففة‬
‫الشبهة فيهم فل بد ممففن يقففاوم شففبهته بالكشففف ويعففارض إغففواءه‬
‫بالتقبيح‪ ،‬ول يمكن ذلك إل بهذا العلم‪ .‬ول تنفك البلد عن أمثال هففذه‬
‫الوقائع‪ ،‬فففوجب أن يكففون فففي كففل قطففر مففن القطففار وصففقع مففن‬
‫الصففقاع قففائم بففالحق مشففتغل بهففذا العلففم يقففاوم دعففاة المبتدعففة‬
‫ويستميل المائلين عن الحق ويصفي قلوب أهل السنة عن عففوارض‬
‫الشبهة‪ .‬فلو خل عنه القطر خرج به أهففل القطففر كافففة‪ ،‬كمففا لفو خل‬
‫عن الطبيب والفقيه‪ .‬نعم من أنس من نفسه تعلففم الفقففه أو الكلم‬
‫وخل الصقع عن القائم بهما ولم يتسع زمانه للجمع بينهما واسففتفتي‬
‫في تعيين ما يشتغل به منهمففا؛ أوجبنففا عليففه الشففتغال بففالفقه فففإن‬
‫الحاجة إليه أعم والوقائع فيه أكثر فل يستغني أحد في ليلففه ونهففاره‬
‫عن الستعانة بالفقه‪ .‬واعتوار الشكوك المحوجة إلى علم الكلم باد‬
‫بالضافة إليه كما أنه لو خل البلد عن الطبيب والفقيه كان التشففاغل‬
‫بالفقه أهم؛ لنه يشترك في الحاجة إليففه الجمففاهير والففدهماء‪ .‬فأمففا‬
‫الطب فل يحتاج إليه الصحاء‪ ،‬والمرضى أقل عددا ً بالضففافة إليهففم‪.‬‬
‫ثم المريض ل يستغني عن الفقه كما ل يستغني عن الطب وحففاجته‬
‫إلى الطب لحيففاته الفانيففة وإلففى الفقففه لحيففاته الباقيففة وشففتان بيففن‬
‫الحالتين‪ .‬فإذا نسبت ثمرة الطب إلففى ثمففرة الفقففه علمففت مففا بيففن‬
‫الثمرتين‪ .‬ويدلك على أن الفقه أهم العلوم اشتغال الصففحابة رضففي‬
‫الله عنهم بالبحث عنه فففي مشفاورتهم ومفاوضفاتهم‪ .‬ول يغرنفك مفا‬
‫يهول به من يعظم صناعة الكلم من أنه الصل والفقه فرع له فإنها‬
‫كلمة حق ولكنها غير نافعة في هذا المقام‪ ،‬فإن الصل هففو العتقففاد‬
‫الصحيح والتصديق الجزم وذلك حاصل بالتقليد والحاجة إلى البرهان‬
‫ودقائق الجدل نادرة‪ .‬والطبيب أيضا ً قففد يلبففس فيقففول وجففودك ثففم‬
‫وجودك ثم وجود بدنك موقوف علففى صففناعتي وحياتففك منوطففة بففي‬
‫فالحياة والصحة أول ً ثفم الشفتغال بالفدين ثانيفًا‪ .‬ولكفن ل يخففى مفا‬
‫تحت هذا الكلم من التمويه وقد نبهنا عليه‪.‬‬

‫التمهيد الرابع في بيان مناهج الدلة التي انتهجناها في هذا الكتاب‬


‫إعلم أن مناهج الدلة متشعبة وقففد أوردنففا بعضففها فففي كتففاب محففك‬
‫النظر وأشبعنا القول فيها فففي كتففاب معيففار العلففم‪ .‬ولكنففا فففي هففذا‬
‫الكتففاب نحففترز عففن الطففرق المتغلقففة والمسففالك الغامضففة قصففدا ً‬
‫لليضففاح وميل ً إلففى اليجففاز واجتناب فا ً للتطويففل‪ .‬ونقتصففر علففى ثلثففة‬
‫مناهج‪:‬‬
‫المنهج الول‪ :‬السبر والتقسيم وهو ان نحصر المر في قسففمين ثففم‬
‫يبطل أحدهما فيلزم منه ثبوت الثاني‪ .‬كقولنا‪ :‬العالم إما حادث وإمففا‬
‫قديم‪ ،‬ومحال أن يكون قديما ً فيلزم منه ل محالة أن يكون حادثا ً أنه‬
‫حففادث وهففذا اللزم هففو مطلوبنففا وهففو علففم مقصففود إسففتفدناه مففن‬
‫علمين آخرين أحدهما قولنا‪ :‬العالم إما قففديم أو حففادث فففإن الحكففم‬
‫بهذا النحصار علم‪ .‬والثاني‪ :‬قولنا ومحال أن يكون قففديما ً فففإن هففذا‬
‫علم آخر‪ .‬والثالث‪ :‬هو اللزم منهما وهو المطلوب بأنه حففادث‪ .‬وكففل‬
‫علم مطلوب‪ ،‬فل يمكن أن يستفاد ال من علمين هما أصلن ول كل‬
‫أصففلين‪ ،‬بففل إذا وقففع بينهمففا إزدواج علففى وجففه مخصففوص وشففرط‬
‫مخصففوص‪ ،‬فففإذا وقففع الزدواج علففى شففرطه أفففاد علم فا ً ثالث فا ً وهففو‬
‫المطلوب‪ ،‬وهذا الثالث قد نسميه دعوى إذا كان لنا خصم‪ ،‬ونسففميه‬
‫مطلوبا ً إذا كان لم يكن لنا خصم‪ ،‬لنه مطلب الناظر ونسميه فففائدة‬
‫وفرعا ً بالضافة إلى الصلين فإنه مستفاد منهما‪ .‬ومهما أقر الخصففم‬
‫بالصلين يلزمه ل محالة القرار بالفرع المستفاد منهمففا وهففو صففحة‬
‫الدعوى‪.‬‬
‫المنهج الثاني‪ :‬أن نرتب أصلين على وجه آخر مثل قولنففا‪ :‬كففل مففا ل‬
‫يخلففو عففن الحففوادث فهففو حففادث وهففو أصففل‪ ،‬والعففالم ل يخلففو عففن‬
‫الحوادث فهو أصل آخر‪ ،‬فيلزم منهمففا صففحة دعوانففا وهففو أن العففالم‬
‫حادث وهو المطلوب فتأمل‪ .‬هل يتصور أن يقر الخصم بالصلين ثففم‬
‫يمكنه إنكار صحة الدعوى فتعلم قطعا ً أن ذلك محال‪.‬‬
‫المنهج الثالث‪ :‬أن ل نتعرض لثبوت دعوانا‪ ،‬بل ندعي إستحالة دعوى‬
‫الخصم بأن نبين أنه مفض إلى المحال وما يفضي إلى المحففال فهففو‬
‫محال ل محالة‪ .‬مثاله‪ :‬قولنا إن صح قول الخصم أن دورات الفلك ل‬
‫نهاية لها لزم منه صحة قول القففائل أن مففا ل نهايففة لففه قففد انقضففى‬
‫وففرغ منفه‪ ،‬ومعلفوم أن هفذا اللزم محفال فيعلفم منفه ل محالفة أن‬
‫المفضي إليه محال وهو مذهب الخصم‪ .‬فههنا أصلن‪ :‬أحدهما قولنففا‬
‫إن كانت دورات الفلك ل نهاية لها فقد انقضى مفا ل نهايففة لفه‪ ،‬فففإن‬
‫الحكم بلزوم إنقضاء ما ل نهاية لفه‪ -‬علففى القففول بنفففي النهايففة عفن‬
‫دورات الفلك‪ -‬علم ندعيه ونحكم به‪ .‬ولكن يتصور فيففه مففن الخصففم‬
‫إقرارا ً وإنكار بأن يقول‪ :‬ل أسلم أنه يلزم ذلك‪ .‬والثاني قولنا إن هذا‬
‫اللزم محال فإنه أيضا ً أصفل يتصفور فيفه إنكفار بفأن يقفول‪ :‬سفلمت‬
‫الصل الول ولكن ل أسلم هذا الثففاني وهففو إسففتحالة إنقضففاء مففا ل‬
‫نهاية له‪ ،‬ولكن لو أقر بالصلين كان القرار بففالمعلوم الثففالث اللزم‬
‫منهما واجبا ً بالضرورة؛ وهو القرار باسففتحالة مففذهبه المفضففي إلففى‬
‫هذا المحال‪ .‬فهذه ثلث مناهج في السففتدلل جليففة ل يتصففور إنكففار‬
‫حصول العلم منها‪ ،‬والعلم الحاصل هو المطلوب والمدلول‪ ،‬وازدواج‬
‫الصلين الملتزمين لهذا العلم هففو الففدليل‪ .‬والعلففم بففوجه لففزوم هففذا‬
‫المطلوب من ازدواج الصلين علم بوجه دللة الدليل‪ ،‬وفكرك الففذي‬
‫هو عبارة عن إحضارك الصلين فففي الففذهن وطلبففك التفطففن لففوجه‬
‫لزوم العلم الثالث من العلمين الصلين هو النظر؛ فففإذن عليففك فففي‬
‫درك العلم المطلوب وظيفتان؛ إحداهما‪ :‬إحضار الصلين في الففذهن‬
‫وهففذا يسففمى فكففرًا‪ ،‬والخففر‪ :‬تشففوقك إلففى التفطففن لففوجه لففزوم‬
‫المطلوب من ازدواج الصلين وهذا يسففمى طلب فًا‪ .‬فلففذلك قففال مففن‬
‫جرد التفاته إلى الوظيفففة الولففى حيففث أراد حففد النظففر أنففه الفكففر‪.‬‬
‫وقال من جرد التفاته إلى الوظيفة الثانية في حففد النظففر أنففه طلففب‬
‫علم أو غلبة ظن‪ .‬وقال من التفففت إلففى المريففن جميع فا ً أنففه الفكففر‬
‫الذي يطلب به من قام به علما ً أو غلبة ظن‪ .‬فهكذا ينبغففي أن تفهففم‬
‫الدليل والمدلول ووجه الدللة وحقيقة النظر ودع عنك ما سودت به‬
‫أوراق كثيرة من تطويلت وترديد عبارات ل تشفي غليففل طففالب ول‬
‫تسكن نهمة متعطش ولن يعرف قدر هذه الكلمات الوجيزة إل مففن‬
‫انصرف خائبا ً عن مقصده بعد مطالعة تصانيف كففثيرة‪ .‬فففإن رجعففت‬
‫الن في طلب الصحيح إلى ما قيل في حد النظر دل ذلك على انففك‬
‫تخص من هذا الكلم بطائل ولففن ترجففع منففه إلففى حاصففل‪ ،‬فإنففك إذا‬
‫عرفت أنه ليس ههنا إل علوم ثلثة‪ :‬علمان هما أصلن يترتبان ترتبففا ً‬
‫مخصوصًا‪ ،‬وعلم ثالث يلففزم منهمففا وليففس عليففك فيففه ال وظيفتففان‪:‬‬
‫إحداهما إحضار العلميففن فففي ذهنففك‪ ،‬والثانيففة التفطففن لففوجه العلففم‬
‫الثالث منهما‪ .‬والخيرة بعد ذلك اليك في اطلق لفظ النظففر فففي ان‬
‫تعبر به عن الفكر الذي هو احضار العلميففن‪ ،‬أو عففن التشففوف الففذي‬
‫هو طلب التفطن لوجه لزوم العلم الثففالث‪ ،‬أو عففن المريففن جميعفًا‪،‬‬
‫فإن العبارات مباحة والصطلحات ل مشاحة فيها‪ .‬فان قلت غرضي‬
‫أن أعرف اصطلح المتكلمين وأنهم عبروا بالنظر عماذا‪ ،‬فاعلم أنك‬
‫إذا سمعت واحدا ً يجد النظففر بففالفكر‪ ،‬وآخففر بففالطلب‪ ،‬وآخففر بففالفكر‬
‫الذي هو يطلب به‪ ،‬لم تسترب في اختلف اصففطلحاتهم علففى ثلثففة‬
‫أوجه‪ .‬والعجب ممن ل يتفطن هففذا ويفففرض الكلم فففي حففد النظففر‪.‬‬
‫مسألة خلفية‪ :‬ويستدل بصففحة واحففد مففن الحففدود وليففس يففدري أن‬
‫حظ المعنى المعقول من هذه المور ل خلف فيه وأن الصففطلح ل‬
‫معنى للخلف فيه‪ .‬وإذا أنت امعنت النظر واهتديت السففبيل عرفففت‬
‫قطعا ً أن أكثر الغاليط نشففأت مففن ضففلل مففن طلففب المعففاني مففن‬
‫اللفاظ‪ ،‬ولقد كففان مففن حقففه أن يقففدر المعففاني أول ً ثففم ينظففر فففي‬
‫اللفاظ ثانيًا‪ ،‬ويعلم أنها اصطلحات ل تتغيففر بهففا المعقففولت‪ .‬ولكففن‬
‫من حرم التوفيق استدبر الطريق‪ ،‬ونكل عففن التحقيففق‪ .‬فففإن قلففت‪:‬‬
‫إني ل استريب في لزوم صحة الدعوى مففن هففذين الصففلين إذا أقففر‬
‫الخصم بهما على هففذا الففوجه‪ ،‬ولكففن مففن أيففن يجففب علففى الخصففم‬
‫القرار بهما ومن أين تقتضي هذه الحوال المسلمة الواجبة التسليم‬
‫؟ فاعلم أن لها مدارك شتى ولكن الذي نسفتعمله ففي هفذا الكتفاب‬
‫نجتهففد أن ل يعففد سففتة‪ :‬الول منهففا‪ :‬الحسففيات‪ ،‬أعنففي المففدرك‬
‫بالمشاهدة الظاهرة والباطنة‪ ،‬مثاله أنا إذا قلنا مثل ً كففل حففادث فلففه‬
‫سبب‪ ،‬وفي العالم حوادث فل بد لها من سبب‪ .‬فقولنففا‪ :‬فففي العففالم‬
‫حوادث‪ ،‬أصل واحد يجب القرار به‪ ،‬فإنه يدرك بالمشاهدة الظففاهرة‬
‫حففدوث أشففخاص الحيوانففات والنباتففات والغيففوم والمطففار ومففن‬
‫العراض والصوات واللوان‪ .‬وان تخيل أنها منتقلة‪ ،‬فالنتقال حادث‬
‫ونحن لم ندع إل حادثا ً ولم نعين أن ذلك الحادث جففوهر أو عففرض أو‬
‫انتقففال أو غيففره‪ .‬وكففذلك يعلففم بالمشففاهدة الباطنففة حففدوث اللم‬
‫والفراح والغموم في قلبه فل يمكنه انكاره‪ .‬الثاني‪ :‬العقل المحض‪،‬‬
‫فإنا إذا قلنا‪ :‬العالم أما قديم مؤخر‪ ،‬وإما حففادث مقففدم‪ ،‬وليففس وراء‬
‫القسمين قسم ثالث‪ ،‬وجب العتراف به على كففل عاقففل‪ .‬مثففاله أن‬
‫تقففول‪ :‬كففل مففا ل يسففبق الحففوادث فهففو حففادث‪ ،‬والعففالم ل يسففبق‬
‫الحوادث فهو حادث‪ ،‬فأحد الصلين قولنففا أن مففا ل يسففبق الحففوادث‬
‫فهو حادث‪ .‬ويجب على الخصم القرار به‪ ،‬لن ما ل يسففبق الحففادث‬
‫إما أن يكون مع الحادث أو بعده ول يمكن قسففم ثففالث‪ ،‬فففإن ادعففى‬
‫قسما ً ثالثا ً كان منكرا ً لما هو بديهي في العقل‪ ،‬وإن انكر أن مففا هففو‬
‫مع الحادث أو بعده ليس بحفادث فهفو أيضفا ً منكفر للبديهفة‪ .‬الثفالث‪:‬‬
‫التواتر‪ ،‬مثاله أنا نقول محمد صلوات الله وسففلمه عليففه صففادق لن‬
‫كل من جاء بالمعجزة فهو صادق‪ ،‬وقففد جففاء هففو بففالمعجزة فهففو إذا ً‬
‫صادق‪ ،‬فإن قيل أنا ل نسففلم أنففه جففاء بففالمعجزة فنقففول‪ :‬قففد جاءنففا‬
‫بالقرآن والقرآن معجزة‪ ،‬فإذا ً قد جاء بالمعجزة‪ .‬فففإن سففلم الخصففم‬
‫أحد الصلين وهو أن القرآن معجففزة‪ ،‬أمففا بففالطوع أو بالففدليل‪ ،‬وأراد‬
‫إنكار الصففل الثففاني وهففو أنففه قففد جففاء بففالقرآن‪ ،‬وقففال ل أسففلم أن‬
‫القرآن مما جاء به محمد صلى الله عليه وسفلم تسفليمًا‪ ،‬لفم يمكنفه‬
‫ذلك لن التواتر يحصل العلم به كما حصل لنا العلم بوجوده وبدعواه‬
‫النبوة وبوجود مكة ووجود موسففى وعيسففى وسففائر النبيففاء صففلوات‬
‫الله عليهم أجمعين‪ .‬الرابع‪ :‬أن يكون الصل مثبتا ً بقياس آخر يسففتند‬
‫بدرجة واحففدة أو درجففات كففثيرة إمفا إلفى الحسفيات أو العقليففات أو‬
‫المتواترات‪ ،‬فإن ما هو فرع الصلين يمكن أن يجعل أصل ً في قياس‬
‫آخر‪ .‬مثاله أنا بعد أن نفرغ من الدليل على حدوث العفالم يمكننفا أن‬
‫نجعل حدوث العالم أصل ً في نظم قياس‪ ،‬مثل ً أن نقففول كففل حففادث‬
‫فله سبب والعالم حادث فإذا له سبب‪ ،‬فل يمكنهم انكار كون العالم‬
‫حادثا ً بعد أن اثبتنا بالدليل حففدوثه‪ .‬الخففامس‪ :‬السففمعيات‪ ،‬مثففاله انففا‬
‫ندعي مثل ً ان المعاصي بمشيئة الله تعففالى‪ ،‬ونقففول كففل كففائن فهففو‬
‫بمشيئة الله تعالى والمعاصي كائنة فهي إذا ً بمشيئة الله تعالى؛ فأما‬
‫قولنا هي كائنة فمعلفوم وجودهفا بفالحس‪ ،‬وكونهفا معصفية بالشفرع‪،‬‬
‫وأما قولنا كل كائن بمشيئة الله تعالى فإذا أنكر الخصففم ذلففك منعففه‬
‫الشرع مهما كان مقرا ً بالشرع أو كان قففد أثبففت عليففه بالففدليل فإنففا‬
‫نثبت هذا الصل بإجماع المة على صدق قول القففائل مففا شففاء اللففه‬
‫كان وما لم يشأ لم يكن فيكون السمع مانعا ً من النكففار‪ .‬السففادس‪:‬‬
‫أن يكون الصل مأخوذا ً من معتقدات الخصففم ومسففلماته‪ .‬فففإنه وإن‬
‫لم يقم لنا عليه دليل أو لم يكن حسيا ً ول عقليًا‪ ،‬انتفعنا باتخاذه إيففاه‬
‫أصل ً في قياسنا وامتنع عليه النكار الهادم لمذهبه‪ .‬وأمثلفة هفذا ممفا‬
‫تكففثر فل حاجففة إلففى تعيينففه‪ .‬فففإن قلففت‪ :‬فهففل مففن فففرق بيففن هففذه‬
‫المففدارك فففي النتفففاع بهففا فففي المقففاييس النظريففة ؟ فففاعلم أنهففا‬
‫متفاوتة في عموم الفائدة‪ ،‬فإن المدارك العقلية والحسية عامة مففع‬
‫كافة الخلق إل مففن ل عقففل لففه ول حففس لففه وكففان الصففل معلومفا ً‬
‫فالحس الذي فقده كالصل المعلوم بحاسة البصففر إذا اسففتعمل مففع‬
‫الكمه فإنه ل ينفع‪ ،‬والكمه إذا كان هففو النففاظر لففم يمكنففه أن يتخففذ‬
‫ل‪ ،‬وكذلك المسموع في حق الصم‪ .‬وأما المتواتر فإنه نففافع‬ ‫ذلك أص ً‬
‫ولكن في حق من تواتر إليه‪ ،‬فأما من لم يتواتر إليه ممن وصل إلينا‬
‫في الحال من مان بعيد لم تبلغه الدعوة فأردنا أن نففبين لففه بففالتواتر‬
‫أن نبينا وسيدنا محمففدا ً صففلى اللففه عليففه وسففلم تسففليما ً وعلففى آلففه‬
‫وصحبه تحدى بالقرآن‪ ،‬لم يقدر عليه ما لففم يمهلففه مففدة مففن يتففواتر‬
‫عنده‪ ،‬ورب شيء يتواتر عند قوم دون قوم‪ ،‬فقول الشففافعي رحمففه‬
‫الله تعالى في مسألة قتل المسلم بالذمي متواتر عنففد الفقهففاء مففن‬
‫أصحابه دون العفوام مفن المقلفدين وكفم مفن مفذهب لفه ففي أحفاد‬
‫المسائل لم يتواتر عند أكثر الفقهاء وأما الصل المستفاد من قياس‬
‫آخففر فل ينفففع إل مففع مففن قففدر معففه ذلففك القيففاس‪ .‬وأمففا مسففلمات‬
‫المذاهب فل تنفع النففاظر وإنمففا تنفففع المنففاظر مففع مفن يعتقففد ذلففك‬
‫المذهب‪ .‬وأما السمعيات فل تنفع إل مففن يثبففت السففمع عنففه‪ ،‬فهففذه‬
‫مدارك علوم هذه الصفول المفيفدة بترتيبهفا ونظمهفا العلفم بفالمور‬
‫المجهولة المطلوبة وقد فرغنا مففن التمهيففدات فلنشففتغل بالقطففاب‬
‫التي هي مقاصد الكتاب‪.‬‬

‫القطب الول في النظر في ذات الله تعالى وفيه عشر دعاوى‬

‫الدعوى الولى‪ :‬وجوده تعالى وتقدس‪ ،‬برهانه أنففا نقففول كففل حففادث‬
‫فلحدوثه سبب‪ ،‬والعالم حادث فيلزم منه إن له سببًا‪ ،‬ونعني بالعففالم‬
‫كل موجود سوى الله تعالى‪ .‬ونعني بكل موجففود سففوى اللففه تعففالى‬
‫الجسام كلها وأعراضها‪ ،‬وشرح ذلك بالتفصيل أنا ل نشك في أصففل‬
‫الوجود‪ ،‬ثم نعلم أن كل موجود اما متحيففزا ً أو غيففر متحيففز‪ ،‬وأن كففل‬
‫متحيز إن لم يكن فيه ائتلف فنسميه جوهرا ً فففردًا‪ ،‬وإن ائتلففف إلففى‬
‫غيففره سففميناه جسففمًا‪ ،‬وإن غيففر المتحيففز أمففا أن يسففتدعي وجففوده‬
‫جسما ً يقوم به ونسميه العراض‪ ،‬أو ل يسفتدعيه وهفو اللفه سفبحانه‬
‫وتعفالى‪ ،‬فأمففا ثبفوت الجسفام وأعراضفها‪ ،‬فمعلفوم بالمشفاهدة‪ ،‬ول‬
‫يلتفت إلى مففن ينففازع فففي العففراض وإن طففال فيهففا صففياحه وأخففذ‬
‫يلتمس منك دليل ً عليه‪ ،‬فإن شغبه ونزاعففه والتماسففه وصففياحه‪ ،‬وإن‬
‫لم يكن موجودا ً فكيف نشتغل بالجواب عنه والصغاء إليه‪ ،‬وإن كففان‬
‫موجودا ً فهو ل محالة غير جسم المنازع إذ كان جسففما ً موجففودا ً مففن‬
‫قبل‪ ،‬ولففم يكففن التنففازع موجففودا ً فقففد عرفففت أن الجسففم والعففرض‬
‫مدركان بالمشاهدة‪ .‬فإما موجود ليففس بجسففم ول جففوهر متحيففز ول‬
‫عرض فيه فل يدرك بالحس ونحن ندعي وجففوده ونففدعي أن العففالم‬
‫موجففود بففه‪ ،‬وبقففدرته‪ ،‬وهففذا يففدرك بالففدليل ل بففالحس‪ ،‬والففدليل مففا‬
‫ذكرناه‪ ،‬فلنرجع إلى تحقيقه‪ .‬فقد جمعنفا فيفه أصفلين فلعفل الخصفم‬
‫ينكرهما‪ ،‬فنقول له‪ :‬في أي الصلين تنازع ؟ فإن قال إنما أنازع فففي‬
‫قولك إن كل حادث فله سبب فمن أين عرفت هذا‪ ،‬فنقول‪ :‬إن هففذا‬
‫الصل يجب القرار به‪ ،‬فإنه أولي ضروري في العقل‪ ،‬ومففن يتوقففف‬
‫فيه فإنما يتوقف لنه ربما ل ينكشففف لففه مففا نريففده بلفففظ الحففادث‪،‬‬
‫ولفظ السبب‪ ،‬وإذا فهمهما صدق عقله بالضففرورة بففأن لكففل حففادث‬
‫سببًا‪ ،‬فانا نعني بالحادث ما كففان معففدوما ً ثففم صففار موجففودا ً فنقففول‬
‫وجوده قبل أن وجد كان محال ً أو ممكنًا‪ ،‬وباطل أن يكون محففال ً لن‬
‫المحال ل يوجد قط‪ ،‬وإن كففان ممكنفا ً فلسففنا نعنففي بففالممكن إل مففا‬
‫يجوز أن يوجد ويجوز أن ل يوجد ولكن لففم يكففن موجففودا ً لنففه ليففس‬
‫يجب وجوده لذاته إذ لو وجد وجوده لذاته لكان واجب فا ً ل ممكن فًا‪ ،‬بففل‬
‫قد افتقر وجوده إلى مرجح لوجوده على العففدم حففتى يتبففدل العففدم‬
‫بالوجود‪ .‬فإذا كان اسفتمرار عفدمه مفن حيفث أنفه ل مرجفح للوجفود‬
‫على العدم‪ ،‬فمن لم يوجد المرجففح ل يوجففد الوجففود‪ ،‬ونحففن ل نريففد‬
‫بالسبب إل المرجح‪ :‬والحاصل أن المعدوم المستمر العففدم ل يتبففدل‬
‫عدمه بالوجود ما لم يتحقق أمر من المور يرجح جانب الوجود على‬
‫استمرار العدم‪ ،‬وهذا إذا حصل في الذهن معنى لفظففه كففان العقففل‬
‫مضطرا ً إلى التصديق به‪ .‬فهففذا بيففان اثبففات هففذا الصففل وهففو علففى‬
‫التحقيق شرح للفظ الحادث والسبب لقامة دليل عليه‪ .‬فإن قيل لم‬
‫تنكرون على من ينففازع فففي الصففل الثففاني‪ ،‬وهففو قففولكم أن العففالم‬
‫حادث‪ ،‬فنقففول‪ :‬إن هففذا الصففل ليففس بففأولي فففي العقففل‪ ،‬بففل نثبتففه‬
‫ببرهان منظوم من أصففلين آخريففن هففو أنففا نقففول إذ قلنففا أن العففالم‬
‫حادث أردنا بالعالم الن‪ ،‬الجسام والجواهر فقط‪ ،‬فنقول كل جسففم‬
‫فل يخلو عن الحوادث وكففل مففا ل يخلففو عففن الحففوادث فهففو حففادث‪،‬‬
‫فيلزم منه أن كل جسم فهو حادث ففي أي الصففلين النففزاع ؟ فففإن‬
‫قيل لم قيل أن كل جسم أو متحيز فل يخلففو عففن الحففوادث ؟ قلنففا‪:‬‬
‫لنه ل يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثففان‪ ،‬فففإن قيففل‪ :‬ادعيتففم‬
‫وجودهما ثم حدوثهما‪ ،‬فل نسلم الوجود ول الحدوث‪ ،‬قلنا هذا سؤال‬
‫قففد طففال الجففواب عنففه فففي تصففانيف الكلم‪ ،‬وليففس يسففتحق هففذا‬
‫التطويل فإنه ل يصدر قط من مسترشففد إذ ل يسففتريب عاقففل قففط‬
‫في ثبوت العراض في ذاته من اللم والسففقام والجففوع والعطففش‬
‫وسائر الحوال‪ ،‬ول في حدوثها‪ .‬وكذلك إذا نظرنا إلى أجسام العففالم‬
‫لم نسترب في تبدل الحوال عليها‪ ،‬وإن تلففك التبففديلت حادثففة‪ ،‬وإن‬
‫صدر من خصم معاند فل معنى للشتغال به‪ ،‬وإن فففرض فيففه خصففم‬
‫ل‪ ،‬بل الخصففم‬ ‫معتقد لما نقوله فهو فرض محال إن كان الخصم عاق ً‬
‫فففي حففدوث العففالم الفلسفففة وهففم مصففرحون بففأن أجسففام العففالم‬
‫تنقسم إلى السموات‪ ،‬وهي متحركففة علففى الففدوام‪ ،‬وآحففاد حركاتهففا‬
‫حادثة ولكنها دائمة متلحقة على التصففال أزل ً وأبففدا ً وإلففى العناصففر‬
‫الربعة التي يحويها مقعر فلك القمر‪ ،‬وهي مشتركة في مادة حاملة‬
‫لصورها وأعراضففها وتلففك المففادة قديمففة والصففور والعففراض حادثففة‬
‫متعاقبة عليها أزل ً وأبففدا ً وإن المففاء ينقلففب بففالحرارة هففواء‪ ،‬والهففواء‬
‫يستحيل بالحرارة نارًا‪ ،‬وهكذا بقية العناصر‪ ،‬وإنهففا تمففتزج امتزاجففات‬
‫حادثة فتتكون منهما المعادن والنبففات والحيففوان‪ ،‬فل تنفففك العناصففر‬
‫عن هذه الصور الحادثة ول تنفففك السففموات عففن الحركففات الحادثففة‬
‫أبدًا‪ ،‬وإنما ينازعون في قولنا أن ما ل يخلو عن الحوادث فهو حادث‪،‬‬
‫فل معنففى للطنففاب فففي هففذا الصففل‪ ،‬ولكنففا لقامففة الرسففم نقففول‪:‬‬
‫الجوهر بالضرورة ل يخلو عن الحركة والسكون‪ ،‬وهمففا حادثففان‪ .‬أمففا‬
‫الحركة فحدوثها محسوس وإن فرض جوهر ساكن كالرض‪ ،‬ففرض‬
‫حركته ليس بمحال بل نعلم جوازه بالضرورة‪ ،‬وإذا وقع ذلففك الجففائز‬
‫كان حادثا ً وكان معدما ً للسكون‪ ،‬فيكون السففكون أيض فا ً قبلففه حادث فا ً‬
‫لن القديم ل ينعدم كما سنذكره في إقامففة الففدليل علففى بقففاء اللففه‬
‫تعالى‪ ،‬وإن أردنا سياق دليل على وجود الحركة زائدة على الجسففم‪،‬‬
‫قلنا‪ :‬إنا إذا قلنا هذا الجوهر متحرك أثبتنا شيئا ً سوى الجوهر متحرك‬
‫أثبتنا شيئا ً سوى الجوهر بدليل أنا إذا قلنا هذا الجوهر ليس بمتحرك‪،‬‬
‫صدق قولنا وإن كان الجففوهر باقي فا ً سففاكنًا‪ ،‬فلففو كففان المفهففوم مففن‬
‫الحركة عين الجوهر لكففان نفيهففا نفففي عيففن الجففوهر‪ .‬وهكففذا يطففرد‬
‫الدليل في إثبات السكون ونفيه‪ ،‬وعلى الجملة‪ .‬فتكلف الدليل علففى‬
‫الواضحات يزيدها غموضا ً ول يفيدها وضوحًا‪ .‬فإن قيل‪ :‬فبففم عرفتففم‬
‫أنها حادثة فلعلها كانت كامنة فظهرت‪ ،‬قلنا‪ :‬لو كنا نشتغل فففي هففذا‬
‫الكتففاب بالفضففول الخففارج عففن المقصففود لبطلنففا القففول بففالكمون‬
‫والظهور في العراض رأسًا‪ ،‬ولكن ما ل يبطل مقصودنا فل نشففتغل‬
‫به‪ ،‬بل نقول‪ :‬الجوهر ل يخلففو عففن كمففون الحركففة فيففه أو ظهورهففا‪،‬‬
‫وهما حادثان فقد ثبت أنه ل يخلو عففن الحففوادث‪ .‬فففإن قيففل‪ :‬فلعلهففا‬
‫انتقلففت إليففه مففن موضففع آخففر‪ ،‬فبففم يعففرف بطلن القففول‪ ،‬بانتقففال‬
‫العراض ؟ قلنففا‪ :‬قففد ذكففر فففي إبطففال ذلففك أدلففة ضففعيفة ل نطففول‬
‫الكتاب بنقلها ونقضها‪ ،‬ولكن الصففحيح فففي الكشففف عففن بطلنففه أن‬
‫نبين أن تجويز ذلك ل يتسع له عقل من لم يففذهل عففن فهففم حقيقففة‬
‫العرض وحقيقة النتقال‪ ،‬ومن فهم حقيقففة العففرض تحقففق اسففتحالة‬
‫النتقال فيه‪ .‬وبيانه أن النتقال عبارة أخذت من انتقال الجففوهر مففن‬
‫حيز إلى حيز‪ ،‬وذلك يثبت في العقل بأن فهففم الجففوهر وفهففم الحيففز‬
‫وفهم اختصاص الجوهر بالحيز زائد علففى ذات الجففوهر‪ ،‬ثففم علففم أن‬
‫العرض ل بد له من محففل كمففا ل بفد للجففوهر مففن حيففز‪ ،‬فتتخيففل أن‬
‫إضافة العرض إلى المحل كإضافة الجوهر إلففى الحيففز فيسففبق منففه‬
‫إلى الوهم إمكان النتقال عنففه‪ ،‬كمففا فففي الجففوهر‪ ،‬ولففو كففانت هففذه‬
‫المقايسة صحيحة لكان اختصاص العففرض بالمحففل كون فا ً زائدا ً علففى‬
‫ذات العرض والمحل كما كان اختصففاص الجففوهر بففالحيز كون فا ً زائدا ً‬
‫على ذات الجوهر والحيز‪ ،‬ولصار يقففوم بففالعرض عففرض‪ ،‬ثففم يفتقففر‬
‫قيام العرض بالعرض إلى إختصاص آخر يزيد علففى القففائم والمقففوم‬
‫به‪ ،‬وهكذا يتسلل ويؤدي إلى أن ل يوجد عففرض واحففد مففا لففم توجففد‬
‫أعراض ل نهايففة لهففا‪ ،‬فلنبحففث عففن السففبب الففذي لجلففه فففرق بيففن‬
‫اختصاص العرض بالمحل وبين اختصففاص الجففوهر بففالحيز فففي كففون‬
‫أحد الختصاصيين زائدا ً على ذات المختص ودون الخر‪ ،‬فمنففه يتففبين‬
‫الغلط في تففوهم النتقففال‪ .‬والسففر فيففه‪ ،‬أن المحففل وإن كففان لزمفا ً‬
‫للعرض كما أن الحيز لزم للجوهر‪ ،‬ولكن بين اللزمين فففرق‪ :‬إذ رب‬
‫لزم ذاتي للشيء‪ ،‬ورب لزم ليس بذاتي للشيء‪ ،‬وأعني بالذاتي ما‬
‫يجففب ببطلنففه بطلن الشففيء‪ ،‬فففإن بطففل الوجففود بطففل بففه وجففود‬
‫الشيء‪ ،‬وإن بطل في العقل بطل وجود العلم به في العقل‪ ،‬والحيز‬
‫ليس ذاتيا ً للجوهر فإنا نعلم الجسم والجوهر أول ً ثم ننظر بعففد ذلففك‬
‫في الحيز‪ ،‬أهو أمر ثابت أم هو أمر موهوم ونتوصل إلى تحقيق ذلك‬
‫بدليل وندرك الجسم بالحس في المشاهدة مففن غيففر دليففل‪ .‬فلففذلك‬
‫لم يكن الحيز المعين مثل ً لجسم زيد ذاتيا ً لزيد‪ ،‬ولم يلففزم مففن فقففد‬
‫ذلك الحيز وتبدله بطلن جسم زيد‪ ،‬وليس كذلك طول زيد مثل ً لنففه‬
‫عرض في زيد ل نعقله في نفسه دون زيد بل نعقففل زيففدا ً الطويففل‪،‬‬
‫فطول زيد يعلم تابعا ً لوجود زيد ويلزم مففن تقففدير عففدم زيففد بطلن‬
‫طول زيد‪ ،‬فليس لطول زيد قوام في الوجود وفي العقل دون زيففد‪.‬‬
‫فاختصاصففه بزيففد ذاتففي لففه‪ ،‬أي هففو لففذاته ل لمعنففى زائد عليففه هففو‬
‫اختصاص‪ ،‬فإن بطل ذلففك الختصففاص بطلففت ذاتففه والنتقففال يبطففل‬
‫الختصاص فتبطل ذاتففه‪ ،‬إذ ليففس اختصاصففه بزيففد زائدا ً علففى ذاتففه‪،‬‬
‫أعني ذات العرض‪ ،‬بخلف اختصاص الجوهر بففالحيز فففإنه زائد عليففه‬
‫فليس في بطلنففه‪ ،‬بالنتقففال مففا يبطففل ذاتففه‪ ،‬ورجففع الكلم إلففى أن‬
‫النتقال يبطل الختصاص بالمحل‪ ،‬فففإن كففان الختصففاص زائدا ً علففى‬
‫الذات لم تبطل به الذات‪ ،‬وإن لم يكففن معنففى زائدا ً بطلففت ببطلنففه‬
‫الذات‪ ،‬فقد انكشف هذا وآل النظر إلى أن اختصاص العرض بمحلففه‬
‫لفم يكفن زائدا ً علفى ذات العفرض كاختصفاص الجفوهر بحيفزه‪ ،‬وأمفا‬
‫العرض فإنه عقل بالجوهر ل بنفسه فففذات العففرض وكففونه للجففوهر‬
‫المعين وليففس لففه ذات سففواه‪ .‬فففإذا قففدرنا مفففارقته لففذلك الجففوهر‬
‫المعين فقد قدرنا عدم ذاته‪ ،‬وإنما فرضنا الكلم في الطففول لتفهيففم‬
‫المقصود فإنه وإن لم يكن عرضا ً ولكنه‪ ،‬عبارة عففن كففثرة الجسففام‬
‫في جهة واحدة‪ ،‬ولكنه مقرب لغرضنا إلى الفهم‪ ،‬فففإذا فهففم فلننقففل‬
‫البيان إلى العراض‪ .‬وهذا التوفيق والتحقيق وإن لم يكن لئق فا ً بهففذا‬
‫اليجاز ولكن افتقر إليه لن ما ذكر فيففه غيففر مقنففع ول شففاف‪ .‬فقففد‬
‫فرغنا من إثبات أحد الصلين‪ ،‬وهو أن العالم ل يخلو عففن الحففوادث‪،‬‬
‫فإنه ل يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثات وليسا بمنتقلين‪ ،‬مع‬
‫أن الطناب ليس في مقابلة خصم معتقد‪ ،‬إذ أجمففع الفلسفففة علففى‬
‫أن أجسام العففالم ل تخلففو عففن الحففوادث‪ ،‬وهففم المنكففرون لحففدوث‬
‫العالم‪ ،‬فإن قيل‪ :‬فقد بقي الصل الثاني وهو قففولكم إن مففا ل يخلففو‬
‫عن الحوادث فهو حادث فما الدليل عليه ؟ قلنا‪ :‬لن العالم لففو كففان‬
‫قديما ً مع أنه ل يخلو عن الحوادث‪ ،‬لثبتت حففوادث ل أول لهففا وللففزم‬
‫أن تكون دورات الفلك غير متناهية العداد‪ ،‬وذلك محال لن كففل مففا‬
‫يفضفي إلفى المحففال فهفو محفال‪ ،‬ونحفن نفبين أنفه يلفزم عيففه ثلثفة‬
‫محالت‪ :‬الول‪ -‬أن ذلك لو ثبت لكان قد انقضى ما ل نهاية له‪ ،‬ووقع‬
‫الفراغ منه وانتهى‪ ،‬ول فرق بين قولنا انقضففى ول بيففن قولنففا انتهففى‬
‫ول بين قولنا تناهى‪ ،‬فيلزم أن يقففال قففد تنففاهى مففا ل يتنففاهى‪ ،‬ومففن‬
‫المحففال الففبين أن يتنففاهى مففا ل يتنففاهى وأن ينتهففي وينقضففي مففا ل‬
‫يتناهى‪ .‬الثاني‪ -‬أن دورات الفلك إن لم تكن متناهية فهففي إمففا شفففع‬
‫وإما وتر‪ ،‬وإما ل شفع ول وتر‪ ،‬وإما شفع ووتر مع فًا‪ .‬وهففذه القسففام‬
‫الربعة محال؛ فالمفضي إليها محال إذ يستحيل عدد ل شفع ول وتر‪،‬‬
‫أو شفع ووتر‪ ،‬فإن الشفع هو الذي ينقسم إلى متسففاويين كالعشففرة‬
‫ل‪ ،‬والوتر هو أحد الذي ل ينقسفم إلفى متسفاويين كالتسفعة‪ ،‬وكفل‬ ‫مث ً‬
‫عففدد مركففب مففن آحففاد إمففا أن ينقسففم بمتسففاويين‪ ،‬أو ل ينقسففم‬
‫بمتسففاويين‪ ،‬وأمففا أن يتصففف بالنقسففام وعففدم النقسففام‪ ،‬أو ينفففك‬
‫عنهما جميعا ً فهو محال‪ ،‬وباطل أن يكففون شفففعا ً لن الشفففع إنمففا ل‬
‫يكون وترا ً لنه يعوزه واحد‪ ،‬فإذا انضاف إليه واحد صار وترًا‪ ،‬فكيففف‬
‫أعوز الذي ل يتناهى واحد ؟ ومحال أن يكون وتففرًا‪ .‬لن الففوتر يصففير‬
‫شفعا ً بواحد‪ ،‬فيبقى وترا ً لنه يعوزه ذلك الواحد‪ ،‬فكيف أعوز الذي ل‬
‫يتناهى واحد ؟ الثالث‪ -‬أنه يلففزم عليففه أن يكففون عففددان‪ ،‬كففل واحففد‬
‫منهما ل يتناهى‪ ،‬ثم أن أحدهما أقل من الخر‪ ،‬ومحال أن يكون ما ل‬
‫يتناهى أقل مما ل يتناهى لن القل هو الذي يعوزه شيء لو أضففيف‬
‫إليه لصار متساويًا‪ ،‬وما ل يتناهى كيف يعوزه شيء ؟ وبيانه أن زحل‬
‫عندهم يدور في كل ثلثيففن سففنة دورة واحففدة‪ ،‬والشففمس فففي كففل‬
‫سنة دورة واحدة‪ ،‬فيكون عدد دورات زحل مثففل ثلففث عشففر دورات‬
‫الشمس‪ ،‬إذ الشمس تدور في ثلثين سنة ثلثين دورة‪ ،‬وزحل يففدور‬
‫دورة واحدة‪ ،‬والواحفد مفن الثلثيفن ثلفث عشفر‪ .‬ثفم دورات زحفل ل‬
‫نهاية لها وهي أقل مففن دورات الشففمس‪ ،‬إذ يعلففم ضففرورة أن ثلففث‬
‫عشر الشيء أقل من الشيء‪ ،‬والقمر يدور في السنة اثنتي عشففرة‬
‫مرة‪ ،‬فيكون عدد دورات الشمس مثل ً نصف سففدس دورات القمففر‪،‬‬
‫وكل واحد ل نهاية لففه وبعضففه أقففل مففن بعففض‪ ،‬فففذلك مففن المحففال‬
‫البين‪ .‬فإن قيل‪ :‬مقدورات البففاري تعففالى عنففدكم ل نهايففة لهففا وكففذا‬
‫معلوماته‪ ،‬والمعلومات أكثر مففن المقففدورات إذ ذات القففديم تعففالى‬
‫وصفاته معلومة له وكذا الموجود المستمر الوجود‪ ،‬وليس شيء من‬
‫ذلك مقدورًا‪ .‬قلنا نحن‪ :‬إذا قلنا ل نهاية لمقدوراته‪ ،‬لم نرد به ما نريد‬
‫بقولنا ل نهاية لمعلوماته بل نريد به أن للففه تعففالى صفففة يعففبر عنهففا‬
‫بالقدرة‪ ،‬يتأتى بها اليجاد‪ ،‬وهففذا الثفاني ل ينعفدم قففط‪ .‬وليفس تحففت‬
‫قولنا‪ -‬هذا الثأني ل ينعدم‪ -‬إثبات أشففياء فضفل ً مففن أن توصففف بأنهففا‬
‫متناهية أو غير متناهية‪ ،‬وإنما يقع هذا الغلط لمن ينظر في المعففاني‬
‫من اللفاظ فيرى تفوازن لفففظ المعلومفات والمقففدورات مفن حيففث‬
‫التصريف في اللغة‪ ،‬فيظن أن المراد بهما واحففد‪ .‬هيهففات ل مناسففبة‬
‫بينهما البتة‪ .‬ثم تحت قولنا المعلومات ل نهاية لها أيض فا ً سففر يخففالف‬
‫السابق منفه إلففى الفهفم‪ ،‬إذ السفابق منفه إلفى الفهففم إثبففات أشففياء‬
‫تسففمى معلومففات ل نهايففة لهففا‪ ،‬وهففو محففال‪ ،‬بففل الشففياء هففي‬
‫الموجودات‪ ،‬وهي متناهية‪ ،‬ولكن بيففان ذلففك يسففتدعي تطففويل‪ .‬وقففد‬
‫اندفع الشكال بالكشفف عففن معنفى نفففي النهايفة عففن المقففدورات‪،‬‬
‫فالنظر في الطرف الثاني وهو المعلومات مسففتغنى عنففه فففي دفففع‬
‫اللزام‪ ،‬فقد بانت صحة هذا الصل بالمنهج الثالث من مناهففج الدلففة‬
‫المذكورة في التمهيد الرابع من الكتاب وعند هذا يعلم وجود الصانع‬
‫إذ بان القياس الذي ذكرناه‪ ،‬وهو قولنا أن العالم حادث وكففل حففادث‬
‫فله سبب فالعالم له سبب‪ .‬فقففد ثبتففت هففذه الففدعوى بهففذا المنهففج‪،‬‬
‫ولكن بعد لم يظهر لنا إل موجود السبب‪ ،‬فأما كونه حادثففا ً أو قففديما ً‬
‫وصفا ً له فلم يظهر بعد فلنشتغل به‪.‬‬
‫الدعوى الثانية‪ :‬ندعي أن السفبب الفذي أثبتنفاه لوجفود العفالم قفديم‬
‫فإنه لو كففان حادثفا ً لفتقففر إلففى سففبب آخففر‪ ،‬وكففذلك السففبب الخففر‬
‫ويتسلسل إما إلى غير نهاية وهو محال‪ ،‬وإما أن ينتهي إلففى قففديم ل‬
‫محالة يقف عنده وهو الذي نطلبه ونسميه صانع العفالم‪ .‬ول بفد مفن‬
‫العففتراف بففه بالضففرورة ول نعنففي بقولنففا قففديم إل أن وجففوده غيففر‬
‫مسبوق بعدم‪ ،‬فليس تحت لفظ القديم إل إثبات موجود ونفي عففدم‬
‫سابق‪ .‬فل تظنن أن القدم معنى زائد على ذات القديم‪ ،‬فيلزمففك أن‬
‫تقول ذلك المعنى أيضا ً قديم بقدم زائد عليه‪ ،‬ويتسلسل القففوم إلففى‬
‫غير نهاية‪.‬‬
‫الدعوى الثالثة‪ :‬ندعي أن صانع العالم مع كونه موجودا ً لم يزل فهففو‬
‫باق ل يزال لن ما ثبت قدمه استحال عدمه‪ .‬وإنما قلنا ذلك لنفه لفو‬
‫العدم لفتقر عدمه إلى سبب فإنه طارئ بعد اسففتمرار الوجففود فففي‬
‫القدم‪ .‬وقد ذكرنا ان كل طارئ فل بد له مففن سففبب مففن حيففث انففه‬
‫طارئ ل من حيث أنه موجود‪ ،‬وكما افتقر تبدل العففدم بففالوجود إلففى‬
‫مرجح للوجود على العدم‪ ،‬فكذلك يفتقفر تبفدل الوجفود بالعفدم إلفى‬
‫مرجح للعدم على الوجود‪ ،‬وذلك المرجح إما فاعل بعدم القففدرة‪ ،‬أو‬
‫ضففد انقطففاع شففرط مففن شففروط الوجففود‪ .‬ومحففال أن يحففال علففى‬
‫القدرة؛ إذ لوجود شيء ثفابت يجففوز أن يصففدر عففن القففدرة‪ ،‬فيكففون‬
‫القادر باستعماله فعل شيئا ً والعدم ليس بشيء‪ ،‬فيستحيل أن يكون‬
‫فعل ً واقعا ً بأثر القدرة‪ .‬فإنا نقول‪ :‬فاعل العدم هل فعل شيئا ً ؟ فففإن‬
‫ل‪ ،‬لن النفي ليس بشيء‪ .‬وإن قال المعففتزلي أن‬ ‫قيل نعم‪ ،‬كان محا ً‬
‫المعدوم شيء وذات‪ ،‬فليس ذلك الذات من أثر القففدرة‪ ،‬فل يتصففف‬
‫أن يقول الفعل الواقع بالقدرة فعل ذلففك الففذات فإنهففا أزليففة‪ ،‬وإنمففا‬
‫فعله نفي وجود الذات‪ ،‬ونفي وجود الذات ليس شيئًا‪ ،‬فاذا ً مففا فعففل‬
‫شيئًا‪ .‬وإذا صدق قولنا ما فعففل شففيئا ً صففدق قولنففا أنففه لففم يسففتعمل‬
‫القدرة في أثر البتة‪ ،‬فبقي كما كان ولم يفعل شيئًا‪ .‬وباطل أن يقال‬
‫أنه يعدمه ضففده لن الضففد إن فففرض حادث فا ً انففدفع وجففوده بمضففادة‬
‫القديم‪ ،‬وكان ذلك أولى من أن ينقطع به وجففود القففديم‪ .‬ومحففال أن‬
‫يكون له ضد قديم كففان موجففودا ً معففه فففي القففدم ولففم يعففدمه وقففد‬
‫أعففدمه الن‪ ،‬وباطففل أن يقففال انعففدم لنعففدام شففرط وجففوده‪ ،‬فففإن‬
‫الشرط إن كففان حادثفا ً اسففتحال أن يكففون وجففود القففديم مشففروطا ً‬
‫بحادث‪ ،‬وإن كان قديما ً فالكلم في استحالة عففدم الشففرط كففالكلم‬
‫في استحالة عدم المشروط فل يتصففور عففدمه‪ .‬فففإن قيففل فبمففا إذا ً‬
‫تفنى عنففدكم الجففواهر والعففراض ؟ قلنففا‪ :‬أمففا العففراض فبأنفسففها‪،‬‬
‫ونعني بقولنا بأنفسها أن ذواتها ل يتصور لهففا بقففاء‪ .‬ويفهففم المففذهب‬
‫فيففه بففأن يفففرض فففي الحركففة‪ ،‬فففإن الكففوان المتعاقبففة فففي أحيففان‬
‫متواصلة ل توصف بأنها حركات إل بتلحقها على سبيل دوام التجففدد‬
‫ودوام النعدام‪ ،‬فإنهففا إن فففرض بقاؤهففا كففانت سففكونا ً ل حركففة‪ ،‬ول‬
‫تعقل ذات الحركة ما لم يعقل معها العدم عقيب الوجود‪ .‬وهذا يفهم‬
‫في الحركة بغير برهان‪ .‬وأما اللوان وسففائر العففراض‪ ،‬فإنمففا تفهففم‬
‫بما ذكرناه من أنه لو بقي لستحال عدمه بالقدرة وبالضد كما سففبق‬
‫في القديم‪ ،‬ومثل هذا العدم محال في حق الله تعالى فإنا بينا قدمه‬
‫أول ً واستمرار وجوده فيما لم يفزل‪ ،‬فلفم يكفن مفن ضفرورة وجفوده‬
‫حقيقة فناؤه عقيبه‪ ،‬كما كان من ضففرورة وجففود الحركففة حقيقففة أن‬
‫تفنففى عقيففب الوجففود‪ .‬وأمففا الجففواهر فانعففدامها بففان ل تخلففق فيهففا‬
‫الحركة والسكون فينقطع شرط وجودها فل يعقل بقاؤها‪.‬‬
‫الدعوى الرابعة‪ :‬ندعي أن صانع العالم ليس بجفوهر متحيفز لنفه قفد‬
‫ثبت قدمه‪ ،‬ولو كان متحيزا ً لكان ل يخلو عففن الحركففة فففي حيففزه أو‬
‫السكون فيه‪ ،‬وما ل يخلو عن الحوادث‪ ،‬فهو حادث كمففا سففبق‪ .‬فففإن‬
‫قيل‪ :‬بم تنكرون على من يسميه جوهرًا‪ ،‬ول يعتقففده متحيففزا ً ؟ قلنففا‬
‫العقل عندنا ل يوجب المتناع من اطلق اللفاظ وإنما يمنع عنه إمففا‬
‫لحق اللغة وإما لحففق الشففرع‪ .‬أمففا حففق اللغففة فففذلك إذا ادعففى أنففه‬
‫موافق لوضع اللسان فيبحث عنه‪ ،‬فإن ادعى واضففعه لففه أنففه اسففمه‬
‫على الحقيقة‪ ،‬أي واضع اللغة وضففعه لفه‪ ،‬فهفو كففاذب علففى اللسففان‬
‫وإن زعم أنه استعاره نظرا ً إلى المعنى الففذي بففه شففارك المسففتعار‬
‫منه‪ ،‬فإن صلح للستعارة لم ينكر عليه بحق اللغة وإن لم يصلح قيل‬
‫له أخطأت على اللغة ول يستعظم ذلك إل بقدر استعظام صنيع مففن‬
‫يبعد في الستعارة‪ ،‬والنظر في ذلك ل يليق بمبففاحث العقففول‪ .‬وأمففا‬
‫حق الشرع وجواز ذلك وتحريمه‪ ،‬فهو بحث فقهي يجب طلبففه علففى‬
‫الفقهاء إذ ل فرق بين البحث عن جواز اطلق اللفاظ من غير إرادة‬
‫معنى فاسد وبين البحث عن جواز الفعال‪ .‬وفيه رأيان‪ :‬أحففدهما‪ ،‬أن‬
‫يقال‪ :‬ل يطلق اسم في حق الله تعالى إل بالذن‪ ،‬وهذا لم يففرد فيففه‬
‫إذن فيحرم‪ .‬وأما أن يقال ل يحرم إل بالنهي وهذا لم يففرد فيففه نهففي‬
‫فينظر‪ :‬فإن كان يوهم خطأ فيجب الحتراز منه لن إيهام الخطأ في‬
‫صفات الله تعالى حرام‪ .‬وإن لففم يففوهم خطففأ يحكففم بتحريمففه‪ ،‬فكل‬
‫الطريقين محتمل‪ .‬ثم اليهففام يختلففف باللغففات وعففادات السففتعمال‬
‫فرب لفظ يوهم عند قوم ول يوهم عند غيرهم‪.‬‬
‫الدعوى الخامسة‪ :‬ندعي أن صانع العالم ليس بجسم‪ ،‬لن كل جسم‬
‫فهو متألف من جففوهرين متحيزيففن‪ ،‬وإذا اسففتحال أن يكففون جففوهرا ً‬
‫استحال أن يكون جسمًا‪ ،‬ونحن ل نعني بالجسم إل هذا‪ .‬فففإن سففماه‬
‫جسما ً ولم يرد هذا المعنى كانت المضايقة معه بحق اللغففة أو بحففق‬
‫الشرع ل بحق العقل فإن العقل ل يحكم في اطلق اللفففاظ ونظففم‬
‫الحروف والصوات التي هي اصطلحات‪ ،‬ولنه لو كان جسففما ً لكففان‬
‫مقدارا ً بمقدار مخصففوص ويجففوز أن يكففون أصففغر منففه أو أكففبر‪ ،‬ول‬
‫يترجح أحد الجففائزين عففن الخففر إل بمخصففص ومرجففح‪ ،‬كمففا سففبق‪،‬‬
‫فيفتقر إلى مخصص يتصرف فيه فيقدره بمقدار مخصففوص‪ ،‬فيكففون‬
‫مصنوعا ً ل صانعا ً ومخلوقا ً ل خالقًا‪.‬‬
‫الدعوى السادسة‪ :‬نفدعي أن صفانع العفالم ليفس بعفرض‪ ،‬لنفا نعنفي‬
‫بالعرض ما يستدعي وجففوده ذاتفا ً تقففوم بففه‪ ،‬وذلففك الففذات جسففم أو‬
‫جوهر‪ ،‬ومهما كان الجسم واجب الحدوث كان الحال فيه أيضا ً حادثا ً‬
‫ل محالة‪ ،‬إذ يبطل انتقال العراض‪ ،‬وقد بينففا أن صففانع العففالم قففديم‬
‫فل يمكن أن يكون عرضًا‪ ،‬وإن فهم من العرض ما هو صفففة لشففيء‬
‫من غير أن يكون ذلك الشيء متحيزًا‪ ،‬فنحن ل ننكر وجففود هففذا فانففا‬
‫نستدل على صفات الله تعالى نعففم يرجففع النففزاع إلففى إطلق اسففم‬
‫الصانع والفاعل‪ ،‬فإن إطلقه على الذات الموصوفة بالصففات أولففى‬
‫من إطلقه على الصفات‪ .‬فإذا قلنا الصانع ليس بصفة‪ ،‬عنينففا بففه أن‬
‫الصنع مضاف إلى الذات التي تقففوم بهففا الصفففات ل إلففى الصفففات‪،‬‬
‫كما أنففا إذا قلنففا النجففار ليففس بعففرض ول صفففة‪ ،‬عنينففا بففه أن صففنعة‬
‫النجارة غير مضافة إلففى الصفففات بففل إلففى الففذات الففواجب وصفففها‬
‫بجملة من الصفات حتى يكون صانعًا‪ .‬فكذا القول في صانع العففالم‪،‬‬
‫وإن أراد المنازع بالعرض أمرا ً غير الحال في الجسففم وغيففر الصفففة‬
‫القائمة بالذات كان الحق في منعه للغة أو الشرع ل للعقل‪.‬‬
‫الدعوى السابعة‪ :‬ندعي أنه ليس ففي جهفة مخصوصفة مفن الجهفات‬
‫الست‪ ،‬ومن عرف معنى لفظ الجهة ومعنى لفففظ الختصففاص فهففم‬
‫قطع فا ً اسففتحالة الجهففات علففى غيففر الجففواهر والعففراض‪ ،‬إذ الحيففز‬
‫معقول وهو الذي يختص الجوهر به‪ ،‬ولكن الحيز إنما يصففير جهففة إذا‬
‫أضيف إلى شيء آخر متحيز‪ .‬فالجهففات سففت فففوق وأسفففل وقففدام‬
‫وخلف ويمين وشمال‪ .‬فمعنى كون الشيء فوقنففا هففو أنففه فففي حيففز‬
‫يلي جانب الرأس‪ .‬ومعنى كونه تحتا ً أنه في حيز يلي جففانب الرجففل‪.‬‬
‫وكذا سائر الجهات؛ فكل ما قيل قيه أنه في جهة فقد قيففل أنففه فففي‬
‫حيز مع زيادة إضافة‪ .‬وقولنا الشيء في حيز‪ ،‬يعقل بوجهين أحدهما‪:‬‬
‫أنه يختص به بحيث يمنففع مثلففه مففن أن يوجففد بحيففث هففو‪ ،‬وهففذا هففو‬
‫الجوهر‪ ،‬والخر أن يكون حال ً في الجوهر فإنه قففد يقففال إنففه بجهففة‪،‬‬
‫ولكن بطريق البتيعة للجوهر‪ ،‬فليس كون العففرض فففي جهففة ككففون‬
‫الجوهر‪ ،‬بل الجهة للجوهر أولى‪ ،‬وللعرض بطريففق التبعيففة للجففوهر‪،‬‬
‫فهذان وجهان معقففولن فففي الختصففاص بالجهففة‪ .‬فففإن أراد الخصففم‬
‫أحدهما دل على بطلنه ما دل علففى بطلن كففونه جففوهرا ً أو عرض فًا‪.‬‬
‫وإن أراد أمرا ً غير هففذا فهففو غيففر مفهففوم فيكففون الحففق فففي إطلق‬
‫لفظه لم ينفك عن معنى غير مفهوم للغففة والشففرع ل العقففل‪ ،‬فففإن‬
‫قال الخصم إنما ُأريد بكونه بجهة معنى سوى هذا فلم ننكره‪ ،‬ونقول‬
‫له‪ :‬أما لفظك فإنما ننكره من حيث أنه يوهم المفهفوم الظفاهر منفه‬
‫وهو ما يعقل الجوهر والعرض وذلففك كففذب علففى اللففه تعففالى‪ .‬وأمففا‬
‫مرادك منه فلست أنكره فإن ما ل أفهمه كيف أنكره! وعساك تريد‬
‫به علمه وقدرته وأنا ل أنكر كونه بجهة على معنى أنه عففالم وقففادر‪،‬‬
‫فإنك إذا فتحت هذا الباب‪ ،‬وهو أن تريد باللفظ غير ما وضففع اللفففظ‬
‫له ويدل عليه في التفاهم لم يكن لما تريد به حصر فل أنكره ما لففم‬
‫تعرب عن مرادك بما أفهمه من أمر يدل على الحدوث‪ ،‬فإن كان ما‬
‫يدل على الحدوث فهو في ذاته محال ويدل أيضا ً على بطلن القول‬
‫بالجهة‪ ،‬لن ذلك يطرق الجواز إليه ويحوجه إلففى مخصففص يخصصففه‬
‫بأحد وجوه الجواز وذلك من وجهين‪ ،‬أحدهما‪ :‬أن الجهة التي تختففص‬
‫به ل تختص بففه لففذاته‪ ،‬فففإن سففائر الجهففات متسففاوية بالضففافة إلففى‬
‫المقابل للجهة‪ ،‬فاختصاصه ببعض الجهات المعينة ليس بواجب لذاته‬
‫بل هو جائز فيحتاج إلى مخصص يخصصففه‪ ،‬ويكففون الختصففاص فيففه‬
‫معنى زائدا ً على ذاتفه ومفا يتطفرق الجفواز إليفه اسفتحال قفدمه بفل‬
‫القديم عبارة عما هو واجب الوجففود مففن جميففع الجهففات‪ .‬فففإن قيففل‬
‫اختص بجهة فوق لنه أشرف الجهففات‪ ،‬قلنففا أي إنمففا صففارت الجهففة‬
‫جهة فوق بخلقه العالم في هذا الحيز الذي خلقففه فيففه‪ .‬فقيففل خلففق‬
‫ل‪ .‬إذ همففا مشففتقان مففن الففرأس‬ ‫العالم لم يكففن فففوق ول تحففت أصف ً‬
‫والرجل ولم يكن إذ ذاك حيوان فتسمى الجهة التي تلي رأسه فففوق‬
‫والمقابل له تحت‪ .‬والفوجه الثفاني أنفه لفو كفان بجهفة لكفان محاذيفا ً‬
‫لجسم العالم‪ ،‬وكل محاذ فإما أصغر منه وإما أكبر وإما مساو‪ ،‬وكففل‬
‫ذلففك يففوجب التقففدير بمقففدار‪ ،‬وذلففك المقففدار يجففوز فففي العقففل أن‬
‫يفرض أصغر منه أو أكبر فيحتاج إلى مقدار ومخصص‪ .‬فإن قيل‪ :‬لففو‬
‫كان الختصاص بالجهة يففوجب التقففدير لكففان العففرض مقففدرًا‪ ،‬قلنففا‪:‬‬
‫العرض ليس في جهة بنفسه‪ ،‬بل بتبعيته للجوهر فل جرم هففو أيضففا ً‬
‫مقدر بالتبعية‪ .‬فإنا نعلم أنه ل توجد عشففرة أعففراض إل فففي عشففرة‬
‫جواهر‪ ،‬ول يتصور أن يكون في عشففرين‪ ،‬فتقففدير العففراض عشففرة‬
‫لزم بطريق التبعية لتقدير الجففواهر‪ ،‬كمففا لففزم كففونه بجهففة بطريففق‬
‫التبعية‪ .‬فإن قيل‪ :‬فإن لم يكن مخصوصا ً بجهة فوق‪ ،‬فما بال الوجوه‬
‫واليدي ترفع إلى السماء في الدعية شرعا ً وطبعًا‪ ،‬ومففا بففاله صففلى‬
‫الله عليه وسلم قال للجارية الففتي قصففد إعتاقهففا فففأراد أن يسففتيقن‬
‫إيمانها أين الله فأشارت إلى السماء فقففال إنهففا مؤمنففة ؟ فففالجواب‬
‫عن الول أن هذا يضاهي قول القائل‪ :‬إن لففم يكففن اللففه تعففالى فففي‬
‫الكعبة وهو بيته فما بالنا نحجه ونزوره‪ ،‬وما بالنا نستقبله في الصلة‬
‫؟ وإن لم يكن في الرض‪ ،‬فما بالنا نتذلل بوضع وجوهنا على الرض‬
‫في السجود ؟ وهذا هذيان‪ .‬بل يقال‪ :‬قصد الشرع مففن تعبففد الخلففق‬
‫بالكعبة في الصففلة ملزمففة الثبففوت فففي جهففة واحففدة‪ ،‬فففإن ذلففك ل‬
‫محالة أقرب إلى الخشوع وحضور القلب من الففتردد علففى الجهففات‪،‬‬
‫ثم لما كانت الجهات متساوية مففن حيففث إمكففان السففتقبال خصففص‬
‫الله بقعففة مخصوصففة بالتشففريف والتعظيففم وشففرفها بالضففافة إلففى‬
‫نفسه واستمال القلوب إليها بتشريفه ليثيب على استقبالها‪ ،‬فكذلك‬
‫السماء قبلة الدعاء‪ ،‬كما أن الففبيت قبلففة الصففلة‪ ،‬والمعبففود بالصففلة‬
‫والمقصود بالدعاء منزه عففن الحلففول فففي الففبيت والسففماء ثففم فففي‬
‫الشارة بالدعاء إلى السماء سر لطيف يعز مففن يتنبففه لمثففاله‪ ،‬وهففو‬
‫أن نجاة العبد وفففوزه فففي الخففرة‪ ،‬بففأن يتواضففع للففه تعففالى ويعتقففد‬
‫التعظيففم لربففه‪ ،‬والتواضففع والتعظيففم عمففل القلففب‪ ،‬وآلتففه العقففل‪.‬‬
‫والجوارح إنما استعملت لتطهير القلففب وتزكيتففه‪ ،‬فففإن القلففب خلففق‬
‫خلقه يتأثر بالمواظبففة علففى أعمففال الجففوارح‪ ،‬كمففا خلقففت الجففوارح‬
‫متأثرة لمعتقدات القلوب‪ ،‬ولما كان المقصود أن يتواضع في نفسففه‬
‫بعقله وقلبه‪ ،‬بأن يعرف قدره ليعرف بخسة رتبته في الوجففود لجلل‬
‫الله تعفالى وعلففوه‪ ،‬وكفان مفن أعظففم الدلففة علففى خسففته الموجبفة‬
‫لتواضعه أنه مخلوق من تراب‪ ،‬كلف أن يضع على التراب‪ ،‬الذي هففو‬
‫أذل الشياء‪ ،‬وجهه الذي هو أعز العضففاء‪ ،‬ليستشففعر قلبففه التواضففع‬
‫بفعل الجبهة في مماستها الرض‪ ،‬فيكون البدن متواضعا ً في جسمه‬
‫وشخصه وصورته بالوجه الممكن فيه وهففو معانقففة الففتراب الوضففيع‬
‫الخسيس ويكون العقففل متواضففعا ً لربففه بمففا يليففق بففه‪ ،‬وهففو معرفففة‬
‫الضعة وسقوط الرتبة وخسة المنزلة عند اللتفات إلى ما خلق منه‪.‬‬
‫فكذلك التعظيم لله تعالى وضيعة على القلب فيها نجاته‪ ،‬وذلك أيضا ً‬
‫ينبغففي أن تشففترك فيففه الجففوارح‪ ،‬وبالقففدر الففذي يمكنففه أن تحمففل‬
‫الجففوارح‪ ،‬وتعظيففم القلففب بالشففارة إلففى علففو الرتبففة علففى طريففق‬
‫المعرفة والعتقاد وتعظيم الجوارح بالشارة إلى جهة العلو الذي هو‬
‫أعلى الجهات وأرفعها فففي العتقففادات؛ ففإن غايفة تعظيفم الجارحففة‬
‫استعمالها في الجهات‪ ،‬حتى أن من المعتاد المفهوم في المحاورات‬
‫أن يفصح النسان عن علو رتبة غيره وعظيففم وليتففه فيقففول‪ :‬أمففره‬
‫في السماء السابعة‪ ،‬وهو إنما ينبه على علو الرتبة ولكن يستعير لففه‬
‫علو المكان‪ ،‬وقد يشير برأسففه إلففى السففماء فففي تعظيففم مففن يريففد‬
‫تعظيم أمره‪ ،‬أي أمره فففي السففماء‪ ،‬أي فففي العلففو وتكففون السففماء‬
‫عبففارة عففن العلففو‪ ،‬فففانظر كيففف تلطففف الشففرع بقلففوب الخلففق‬
‫وجففوارحهم فففي سففياقهم إلففى تعظيففم اللففه وكيففف جهففل مففن قلففت‬
‫بصيرته ولم يلتفت إل إلففى ظففواهر الجففوارح والجسففام وغفففل عففن‬
‫أسرار القلوب واستغنائها في التعظيم عن تقدير الجهات‪ ،‬وظففن أن‬
‫الصل ما يشار إليه بالجوارح ولم يعرف أن المظنة الولففى لتعظيففم‬
‫القلب وأن تعظيمه باعتقاد علو الرتبفة ل باعتقفاد علفو المكفان‪ ،‬وأن‬
‫الجوارح في ذلك خدم وأتبففاع يخففدمون القلففب علففى الموافقففة فففي‬
‫التعظيم بقدر الممكن فيها‪ ،‬ول يمكن في الجففوارح إل الشففارة إلففى‬
‫الجهات‪ ،‬فهذا هفو السفر ففي رففع الوجفوه إلفى السفماء عنفد قصفد‬
‫التعظيم‪ ،‬ويضاف إليه عند الدعاء أمر آخففر وهففو أن الففدعاء ل ينفففك‬
‫عن سففؤال نعمففة مففن نعففم اللففه تعففالى‪ ،‬وخففزائن نعمففه السففموات‪،‬‬
‫وخزان أرزاقه الملئكة ومقرهم ملكوت السففموات وهففم الموكلففون‬
‫بالرزاق‪ .‬وقد قال الله تعالى‪" :‬وفي السماء رزقكم ومففا توعففدون"‪.‬‬
‫والطبع يتقاضى القبال بالوجه على الخزانة الففتي هففي مقففر الففرزق‬
‫المطلففوب‪ ،‬فطلب الرزاق مفن الملففوك إذا أخففبروا بتفرقففة الرزاق‬
‫على باب الخزانة مالت وجوههم وقلوبهم إلى جهة الخزانة‪ ،‬وإن لففم‬
‫يعتقدوا أن الملك في الخزانة فهذا هففو محففرك وجففوه أربففاب الففدين‬
‫إلففى جهففة السففماء طبع فا ً وشففرعًا‪ .‬فأمففا العففوام فقففد يعتقففدون أن‬
‫معبودهم في السماء‪ ،‬فيكون ذلك أحد أسباب إشاراتهم‪ ،‬تعففالى رب‬
‫الرباب عما اعتقد الزائغون علوا ً كبير‪ .‬وأما حكمه صلوات الله عليه‬
‫باليمان للجارية لما أشارت إلى السفماء‪ ،‬فقففد انكشفف بفه أيضفا ً إذ‬
‫ظهر أن ل سبيل للخرس إلى تفهم علففو المرتبففة إل بالشففارة إلففى‬
‫جهة العلو‪ ،‬فقد كانت خرساء كما حكي‪ ،‬وقد كان يظن بها أنهففا مففن‬
‫عبدة الوثان‪ ،‬ومففن يعتقففد الففه فففي بيففت الصففنام فاسففتنطقت عففن‬
‫معتقدها فعرفت بالشارة إلى السماء أن معبودها ليففس فففي بيففوت‬
‫الصففنام كمففا يعتقففدوه أولئك‪ .‬فففإن قيففل فنفففي الجهففة يففؤدي إلففى‬
‫المحال‪ ،‬وهو إثبات موجود تخلو عنه الجهات الست ويكون ل داخففل‬
‫العالم ول خارجه ول متصل ً به‪ ،‬ول منفصل ً عنه‪ ،‬وذلففك محففال‪ ،‬قلنففا‪:‬‬
‫مسلم أن كل موجود يقبففل التصففال فوجففوده ل متص فل ً ول منفص فل ً‬
‫محال‪ ،‬وإن كان موجود يقبففل الختصففاص بالجهفة فوجففوده مففع خلفو‬
‫الجهففات السففت عنففه محففال‪ ،‬فإمففا موجففود ل يقبففل التصففال‪ ،‬ول‬
‫الختصاص بالجهة فخلو عن طرفي النقيض غير محفال‪ ،‬وهفو كقفول‬
‫القائل يستحيل موجود ل يكون عاجزا ً ول قادرا ً ول عالمففا ً ول جففاهل ً‬
‫فإن أحد المتضادين ل يخلففو الشففيء عنففه‪ ،‬فيقففال لففه إن كففان ذلففك‬
‫الشيء قابل ً للمتضادين فيستحيل خلوه عنهما وأمففا الجمففاد الففذي ل‬
‫يقبل واحدا ً منهما لنه فقد شرطهما وهو الحياة‪ ،‬فخلوه عنهما ليففس‬
‫بمحال‪ .‬فكذلك شرط التصال والختصاص بالجهات التحيففز والقيففام‬
‫بالمتحيز‪ .‬فإذا فقد هذا لم يستحل الخلق عن متضادته فرجففع النظففر‬
‫إذا ً إلى أن موجودا ً ليس بمتحيفز‪ ،‬ول هفو ففي متحيفز‪ ،‬بفل هفو فاقفد‬
‫شرط التصال‪ ،‬والختصاص هل هو محال أم ل ؟ فإن زعففم الخصففم‬
‫أن ذلك محال وجوده فقد دللنا عليه بأنه مهمففا بففان‪ ،‬أن كففل متحيففز‬
‫حففادث وأن كففل حففادث يفتقففر إلففى فاعففل ليففس بحففادث فقففد لففزم‬
‫بالضرورة مففن هففاتين المقففدمتين ثبففوت موجففود ليففس بمتحيففز‪ .‬أمففا‬
‫الصلن فقد أتبتناهمففا وأمففا الففدعوى اللزمففة منهمففا فل سففبيل إلففى‬
‫جحدها مع القرار بالصلين‪ .‬فإن قال الخصم إن مثل هففذا الموجففود‬
‫الذي ساق دليلكم إلى إثباته غير مفهوم‪ ،‬فيقففال لففه مففا الففذي أردت‬
‫بقولك غير مفهوم فإن أردت به أنه غير متخيل ول متصور ول داخففل‬
‫في الوهم فقد صدقت‪ ،‬فإنه ل يدخل في الوهم والتصور والخيال إل‬
‫جسم له لون وقدر‪ ،‬فالمنفك عن اللون والقففدر ل يتصففوره الخيففال‪،‬‬
‫فإن الخيال قد أنففس بالمبصففرات فل يتففوهم الشففيء إل علففى وفففق‬
‫مرآه ول يستطيع أن يتوهم ما ل يوافقه‪ .‬وإن أراد الخصم أنففه ليففس‬
‫بمعقول‪ ،‬أي ليس بمعلوم بدليل العقل فهو محففاذ إذا قففدمنا الففدليل‬
‫علفى ثبفوته ول معنفى للمعقفول إل مفا اضفطر العقفل إلفى الذعفان‬
‫للتصديق به بموجب الدليل الذي ل يمكن مخالفته‪ .‬وقد تحقففق هففذا‪،‬‬
‫فإن قال الخصم فما ل يتصور في الخيال ل وجود لففه‪ ،‬فلنحكففم بففأن‬
‫الخيال ل وجود له في نفسه‪ ،‬فإن الخيال نفسه ل يدخل في الخيففال‬
‫والرؤية ل تدخل في الخيال وكذلك العلم والقففدرة‪ ،‬وكففذلك الصففوت‬
‫والرائحففة ولففو كلففف الففوهم أن يتحقففق ذاتفا ً للصففوت لقففدر لففه لونفا ً‬
‫ومقدارا ً وتصوره كذلك‪ .‬وهكففذا جميففع أحففوال النفففس‪ ،‬مففن الخجففل‬
‫والوجل والفسق والغضففب والفففرح والحففزن والعجففب‪ ،‬فمففن يففدرك‬
‫بالضرورة هذه الحوال من نفسه ويسوم خياله أن يتحقق ذات هذه‬
‫الحوال فنجده يقصر عنه إل بتقدير خطفأ ثففم ينكففر بعففد ذلففك وجففود‬
‫موجود ل يدخل في خياله فهذا سبيل كشفف الغطففاء عففن المسفألة‪.‬‬
‫وقد جاوزنا حد الختصار ولكن المعتقدات المختصرة في هففذا الفففن‬
‫أراها مشتملة على الطناب في الواضحات والشروع فففي الزيففادات‬
‫الخارجة عن المهمات مع التساهل فففي مضففايق الشففكالت فرأيففت‬
‫نقل الطناب من مكان الوضوح‪ ،‬إلى مواقع الغموض أهم وأولى‪.‬‬
‫الففدعوى الثامنففة‪ :‬نففدعي أن اللففه تعففالى منففزه عففن أن يوصففف‬
‫بالستقرار على العرش‪ ،‬فإن كل متمكن على جسم ومسففتقر عليففه‬
‫مقدر ل محالة فإنه أما أن يكون أكبر منه أو أصففغر أو مسففاويا ً وكففل‬
‫ذلك ل يخلو عن التقففدير‪ ،‬وأنففه لففو جففاز أن يماسففه جسففم مففن هففذه‬
‫الجهة لجاز أن يماسه من سائر الجهات فيصير محاطا ً به والخصم ل‬
‫يعتقد ذلك بحفال وهففو لزم علففى مففذهبه بالضفرورة‪ ،‬وعلففى الجملفة‬
‫يستقر على الجسم إل جسم ول يحففل فيففه إل عففرض وقففد بففان أنففه‬
‫تعالى ليس بجسم ول عففرض‪ ،‬فل يحتففاج إلففى إقففران هففذه الففدعوى‬
‫بإقامة البرهان‪ .‬فإن قيففل فمففا معنففى قففوله تعففالى‪" :‬الرحمففن علففى‬
‫العرش استوى" ؟ وما معنى قوله عليه السلم‪" :‬ينزل الّله كل ليلففة‬
‫إلى السماء الدنيا" قلنا الكلم على الظواهر الواردة في هففذا البففاب‬
‫طويل ولكن نذكر منهجا ً في هذين الظففاهرين يرشففد إلففى مففا عففداه‬
‫وهو أنا نقول‪ :‬الناس ففي هفذا فريقفان عفوام وعلمفاء‪ ،‬والفذي نفراه‬
‫اللئق بعوام الخلق أن ل يخاض بهم في هذه التأويلت بل ننزع عففن‬
‫عقائدهم كل ما يوجب التشبيه ويدل على الحففدوث ونحقففق عنففدهم‬
‫أنه موجود ليس كمثله شيء‪ ،‬وهو السميع البصففير‪ ،‬وإذا سففألوا عففن‬
‫معاني هذه اليات زجففروا عنهففا‪ ،‬وقيففل ليففس هففذا بعشففكم فففادرجوا‬
‫فلكل علم رجال‪ .‬ويجاب بما أجاب به مالك بن أنس رضي الله عنه‪،‬‬
‫بعففض السففلف حيففث سففئل عففن السففتواء‪ ،‬فقففال‪ :‬السففتواء معلففوم‬
‫والكيفية مجهولة‪ ،‬والسؤال عنه بدعة‪ ،‬واليمان به واجب‪ ،‬وهففذا لن‬
‫عقول العوام ل تتسففع لقبففول المعقففولت ول إحففاطتهم باللغففات ول‬
‫تتسع لفهم توسيعات العرب في الستعارات‪ .‬وأمففا العلمففاء فففاللئق‬
‫بهم تعريف ذلك وتفهمه‪ ،‬ولست أقول أن ذلك فرض عين إذ لم يرد‬
‫به تكليف بل التكليف التنزيه عن كل ما تشبهه بغيففره‪ .‬فأمففا معففاني‬
‫القرآن‪ ،‬فلم يكلف العيان فهففم جميعهففا أصفل ً ولكففن لسففنا نرتضففي‬
‫قول من يقول‪ ،‬أن ذلك من المتشابهات كحروف أوائل السور‪ ،‬فففإن‬
‫حروف أوائل السور ليست موضوعة باصطلح سابق للعرب للدللة‬
‫على المعاني‪ ،‬ومن نطق بحروف وهففن كلمففات لففم يصففطلح عليهففا‪،‬‬
‫فواجب أن يكون معناه مجهفول ً إل أن يعفرف مفا أردتفه‪ ،‬ففإذا ذكفره‬
‫صارت تلك الحروف كاللغة المخترعة مففن جهتففه‪ .‬وأمففا قففوله صففلى‬
‫الله عليه وسلم‪" :‬ينزل الّله تعالى إلى السماء الدنيا"‪ ،‬فلفظ مفهوم‬
‫ذكر للتفهم وعلم أنه يسبق إلى الفهام منه المعنى الذي وضع له أو‬
‫المعنى الذي يستعار‪ ،‬فكيف يقال إنه متشففابه بففل هففو مخيففل معنففى‬
‫خطأ عنفد الجاهفل ومفهفم معنفى صفحيحا ً عنفد العفالم‪ ،‬وهفو كقفوله‬
‫تعالى‪" :‬وهو معكم أينمففا كنتففم"‪ .‬فففإنه يخيففل عنففد الجاهففل اجتماعفا ً‬
‫مناقصا ً لكونه على العرش‪ ،‬وعند العالم يفهم أنه مع الكل بالحاطففة‬
‫والعلم‪ ،‬وكقوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬قلب المففؤمن بيففن أصففبعين‬
‫من أصابع الرحمن"‪ ،‬فإنه عند الجاهففل يخيففل عضففوين مركففبين مففن‬
‫اللحم والعظم والعصب مشتملين على النامل والظفار‪ ،‬نابتين مففن‬
‫الكف‪ ،‬وعند العالم يدل على المعنى المستعار له دون الموضوع لففه‬
‫وهو ما كان الصبع له‪ ،‬وكان سر الصبع وروحه وحقيقته وهو القدرة‬
‫على التقليب كما يشاء‪ ،‬كما دلت المعية عليه في قوله وهففو معكففم‬
‫على ما تراد المعية له وهو العلم والحاطة ولكن من شفائع عبففارات‬
‫العرب العبارة بالسبب عن المسففبب‪ ،‬واسففتعارة السففبب للمسففتعار‬
‫ي شفبرا ً تقربفت إليفه ذراعفا ً ومفن‬‫منه وكقوله تعالى‪" :‬من تقّرب إلف ّ‬
‫أتاني بمشي أتيته بهرولة" فإن الهرولة عند الجاهل تففدل علففى نقففل‬
‫القدام وشدة العدو وكذا التيان يدل علففى القففرب فففي المسففافة‪.‬؟‬
‫وعند العاقل يدل على المعنففى المطلففوب مفن قففرب المسففافة بيففن‬
‫الناس وهو قرب الكرامففة والنعففام وإن معنففاه أن رحمففتي ونعمففتي‬
‫أشد انصبابا ً إلى عبادي من طاعتهم إلي وهو كمففا قففال‪" :‬لقففد طففال‬
‫شوق البرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم لشد شوقًا" تعالى الله عمففا‬
‫يفهم من معنى لفظ الشوق بالوضع الذي هو نففوع ألففم وحاجففة إلففى‬
‫استراحة‪ ،‬وهو عين النقص ولكن الشوق سبب لقبول المشتاق إليففه‬
‫والقبال عليه وإفاضة النعمة لديه فعبر به عن المسففبب‪ ،‬وكمففا عففبر‬
‫بالغضففب والرضففى عففن إرادة الثففواب والعقففاب الففذين همففا ثمرتففا‬
‫الغضب والرضى ومسففبباه فففي العففادة‪ .‬وكففذا لمففا قففال فففي الحجففر‬
‫السود إنه يمين الله فففي الرض يظففن الجاهففل انففه أراد بففه اليميففن‬
‫المقابل للشمال التي هي عضو مركب من لحم ودم وعظم منقسم‬
‫بخمسة أصابع‪ ،‬ثم إنه إن فتح بصيرته علم أنه كان على العففرش ول‬
‫يكون يمينه في الكعبة ثم ل يكون حجرا ً أسود فيدرك بففأدنى مسففكة‬
‫أنه استعير للمصافحة‪ ،‬فإنه يؤمر باستلم الحجر وتقففبيله كمففا يففؤمر‬
‫بتقبيل يمين الملك‪ ،‬فاستعير اللفظ لذلك‪ .‬والكامل العقل البصففير ل‬
‫تعظم عنده هذه المور‪ ،‬بل يفهم معانيها على البديهة‪ ،‬فلنرجففع إلففى‬
‫معنى الستواء والنزول؛ أما الستواء فهففو نسففبه للعففرش ل محالففة‪،‬‬
‫ول يمكن أن يكون للعرش إليه نسبة إل بكونه معلومفًا‪ ،‬أو مفرادًا‪ ،‬أو‬
‫مقففدورا ً عليففه‪ ،‬أو محل ً مثففل محففل العففرض‪ ،‬أو مكان فا ً مثففل مسففتقر‬
‫الجسم‪ .‬ولكففن بعففض هففذه النسففبة تسففتحيل عقل ً وبعضففها ل يصففلح‬
‫اللفظ للستعارة به له‪ ،‬فإن كان في جملة هففذه النسففبة‪ ،‬مففع أنففه ل‬
‫نسبة سواها‪ ،‬نسبة ل يخيلها العقل ول ينبو عنها اللفظ‪ ،‬فليعلففم أنهففا‬
‫ل‪ ،‬كما كان للجوهر والعرض‪ ،‬إذا ً اللفففظ‬ ‫المراد إما كونه مكانا ً أو مح ً‬
‫يصلح له ولكن العقل يخيله كمففا سففبق‪ ،‬وإمففا كففونه معلومفا ً ومففرادا ً‬
‫فالعقل ل يخيله‪ ،‬ولكن اللفظ ل يصلح له‪ ،‬وإمففا كففونه مقففدورا ً عليففه‬
‫وواقعا ً في قبضففة القففدرة ومسففخرا ً لففه مففع أنففه أعظففم المقففدورات‬
‫ويصلح الستيلء عليه لن يمتدح به وينبففه بففه علففى غيففره الففذي هففو‬
‫دونه في العظم‪ ،‬فهذا مما ل يخيله العقل ويصلح له اللفففظ‪ ،‬فففأخلق‬
‫بأن يكون هو المراد قطعًا‪ ،‬أما صلح اللفظ لففه فظففاهر عنففد الخففبير‬
‫بلسان العرب‪ ،‬وإنما ينبو عن فهم مثل هذا أفهففام المتطفليففن علففى‬
‫لغة العرب الناظرين إليها من بعد الملتفتين إليها التفات العرب إلى‬
‫لسان الترك حيث لم يتعلموا منها إل أوائلها‪ ،‬فمن المستحسففن فففي‬
‫اللغة أن يقال استوى المير على مملكتففه‪ ،‬حففتى قففال الشففاعر‪ :‬قففد‬
‫استوى بشير على العراق=من غير سيف ودم مهففراق ولففذلك قففال‬
‫بعض السلف رضي الله عنهم‪ :‬يفهم من قوله تعالى "الرحمن علففى‬
‫العرش استوى" ما فهم من قوله تعففالى "ثففم اسففتوى إلففى السففماء‬
‫وهي دخان"‪ .‬وأما قوله صلى الله عليه وسلم "ينزل الّله تعالى إلففى‬
‫السماء الدنيا" فللتأويل فيه مجال من وجهين‪ :‬أحففدهما‪ ،‬فففي اضففافة‬
‫النزول إليه وأنه مجاز‪ ،‬وبالحقيقة هو مضاف إلى ملك مففن الملئكففة‬
‫كما قال تعالى "واسأل القرية" والمسففؤول بالحقيقففة أهففل القريففة‪.‬‬
‫وهذا أيضا ً من المتداول في اللسنة‪ ،‬أعني إضافة أحوال التففابع إلففى‬
‫المتبوع‪ ،‬فيقال‪ :‬ترك الملك علففى بففاب البلففد‪ ،‬ويففراد عسففكره‪ ،‬فففإن‬
‫المخبر بنزول الملك على باب البلد قد يقال له هل خرجففت لزيففارته‬
‫فيقول ل‪ ،‬لنه عرج في طريقه على الصيد ولم ينزل بعففد‪ ،‬فل يقففال‬
‫له فلم نزل الملك والن تقول لم ينزل بعد ؟ فيكففون المفهففوم مففن‬
‫نزول الملك نففزول العسففكر‪ ،‬وهففذا جلففي واضففح‪ .‬والثففاني‪ ،‬أن لفففظ‬
‫النزول قد يستعمل للتلطف والتواضع في حق الخلق كمففا يسففتعمل‬
‫الرتفاع للتكبر‪ ،‬يقال فلن رفع رأسه إلففى عنففان السففماء‪ ،‬أي تكففبر‪،‬‬
‫ويقال ارتفع إلى أعلى عليين‪ ،‬أي تعظم؛ وإن عل أمره يقففال‪ :‬أمففره‬
‫في السماء السففابعة؛ وفففي معارضففته إذا سففقطت رتبتففه يقففال‪ :‬قففد‬
‫هوى به إلى أسفل السافلين؛ وإذا تواضففع وتلطففف لففه تطففامن إلففى‬
‫الرض ونزل إلى أدنى الدرجات‪ .‬فإذا فهم هذا وعلم أن النزول عففن‬
‫الرتبة بتركها أو سقوطها وفي النزول عففن الرتبففة بطريففق التلطففف‬
‫وترك العقل الذي يقتضيه علو الرتبة وكمال الستغناء‪ ،‬فبالنظر إلففى‬
‫هذه المعاني الثلثة التي يتردد اللفظ بينها ما الذي يجففوزه العقففل ؟‬
‫أما النزول بطريق النتقال فقد أحاله العقل كما سبق‪ ،‬فففإن ذلففك ل‬
‫يمكن إل في متحيز‪ ،‬وأما سقوط ا‬
‫لرتبة فهو محال لنه سبحانه قففديم بصفففاته وجللففه ول يمكففن زوال‬
‫علففوه‪ ،‬وأمففا النففزول بمعنففى اللطففف والرحمففة وتففرك الفعففل اللئق‬
‫بالستغناء وعدم المبالة فهو ممكن‪ ،‬فيتعين التنزيل عليه‪ ،‬وقيل إنففه‬
‫لما نزل قوله تعالى‪" :‬رفيع الدرجات ذو العرش" استشعر الصففحابة‬
‫رضففوان اللففه عليهففم مفن مهابففة عظيمففة واسففتبعدوا النبسففاط فففي‬
‫السؤال والدعاء مع ذلك الجلل‪ ،‬فأخبروا أن الله سبحانه وتعالى مع‬
‫عظمة جلله وعلو شأنه متلطف بعباده رحيم بهم مستجيب لهم مففع‬
‫الستغناء إذا دعوه‪ ،‬وكانت استجابة الدعوة نففزول ً بالضففافة إلففى مففا‬
‫يقتضيه ذلك الجلل مففن السففتغناء وعففدم المبففالة‪ ،‬فعففبر عففن ذلففك‬
‫بالنزول تشجيعا ً لقلففوب العبففاد علففى المباسففطة بالدعيففة بففل علففى‬
‫الركوع والسجود‪ ،‬فإن من يستشعر بقففدر طففاقته مبففادئ جلل اللففه‬
‫تعالى استبعد سجوده وركوعه‪ ،‬فإن تقرب العباد كلهم بالضافة إلى‬
‫جلل الله سبحانه أحس من تحريك العبففد أصففبعا ً مففن أصففابعه علففى‬
‫قصد التقرب إلى ملك من ملففوك الرض‪ ،‬ولففو عظففم بففه ملك فا ً مففن‬
‫الملوك لستحق به التوبيخ‪ ،‬بل من عفادة الملفوك زجفر الرزال عفن‬
‫الخدمة والسجود بين أيديهم والتقبيل لعتبففة دورهففم اسففتحقارا ً لهففم‬
‫عن الستخدام وتعاظم فا ً عففن اسففتخدام غيففر المففراء والكففابر‪ ،‬كمففا‬
‫جففرت بففه عففادة بعففض الخلفففاء‪ .‬فلففول النففزول عففن مقتضففى الجلل‬
‫باللطف والرحمة والستجابة لقتضى ذلك الجلل أن يبهففت القلففوب‬
‫عن الفكر‪ ،‬ويخرس اللسنة عن الذكر‪ ،‬ويخمد الجوارح عن الحركة‪،‬‬
‫فمن لحظ ذلففك الجلل وهففذا اللطففف اسففتبان لففه علففى القطففع أن‬
‫عبارة النففزول مطابقففة للجلل ومطلقففة فففي موضففوعها ل علففى مففا‬
‫فهمه الجهال؛ فإن قيل فلم خصص السماء الدنيا ؟ قلنا‪ :‬هففو عبففارة‬
‫عن الدرجة الخيرة التي ل درجة بعدها‪ ،‬كما يقال سقط إلففى الففثرى‬
‫وارتفع إلى الثريا‪ ،‬على تقدير أن الثريا أعلى الكواكب والثرى أسفل‬
‫المواضع‪ .‬فإن قيل‪ :‬فلم خصص بالليالي‪ ،‬فقال ينزل كل ليلة ؟ قلنا‪:‬‬
‫لن الخلوات مظنفة الفدعوات والليفالي أعفدت لفذلك‪ ،‬حيفث يسفكن‬
‫الخلق وينمحي عن القلوب ذكرهم‪ ،‬ويصفوا لفذكر اللفه تعفالى قلفب‬
‫الداعي‪ ،‬فمثل هذا الففدعاء هففو المرجففو السففتجابة ل مففا يصففدر عففن‬
‫غفلة القلوب عند تزاحم الشتغال‪.‬‬
‫الففدعوى التاسففعة‪ :‬نففدعي أن اللففه سففبحانه وتعففالى مففرئي‪ ،‬خلف فا ً‬
‫للمعتزلة‪ ،‬وإنما أوردنا هذه المسألة فففي القطففب الموسففوم بففالنظر‬
‫في ذات الله سبحانه وتعالى لمرين‪ :‬أحدهما أن ننفففي الرؤيففة عمففا‬
‫يلزم على نفي الجهة‪ ،‬فأردنا أن نففبين كيففف يجمففع بيففن نفففي الجهففة‬
‫وإثبات الرؤيففة‪ .‬والثففاني أنففه سففبحانه وتعففالى عنففدنا مففرئي لوجففوده‬
‫ووجود ذاته‪ ،‬فليس ذلك إل لففذاته‪ ،‬فففإنه ليففس لفعلففه ول لصفففة مففن‬
‫الصفات‪ ،‬بل كل موجود ذات فواجب أن يكون مرئيًا‪ ،‬كما أنه واجففب‬
‫أن يكون معلومًا‪ ،‬ولست أعني به أنه واجب أن يكون معلوما ً ومرئيا ً‬
‫بالفعل بل بالقوة‪ ،‬أي هو من حيث ذاته له‪ ،‬فإن امتنع وجففود الرؤيففة‬
‫فلمر آخر خارج عن ذاته‪ ،‬كما نقففول‪ :‬المففاء الففذي فففي النهففر مففرو‪،‬‬
‫والخمر الذي في الدن مسكر‪ ،‬وليس كذلك لنه يسففكر ويففروي عنففد‬
‫الشرب ولكن معناه أن ذاته مسففتعدة لففذلك فففإذا فهففم المففراد منففه‬
‫فالنظر في طرفين‪ :‬أحدهما في الجواز العقلي‪ ،‬والثاني في الوقففوع‬
‫الذي ل سبيل إلى دركه إل بالشرع‪ ،‬ومهما دل الشرع علففى وقففوعه‬
‫فقد دل أيضفا ً ل محالفة علفى جفوازه ولكنففا نفدل بمسفلكين واقعيفن‬
‫عقليين على جوازه‪ .‬المسلك الول‪ ،‬هو أنا نقول أن البففاري سففبحانه‬
‫موجود وذات‪ ،‬وله ثبوت وحقيقة‪ ،‬وإنما يخالف سائر الموجودات في‬
‫استحالة كونه حادثا ً أو موصوفا ً بما يدل على الحففدوث‪ ،‬أو موصففوفا ً‬
‫بصفة تناقض صفات اللهية من العلففم والقففدرة وغيرهمففا‪ .‬فكففل مففا‬
‫يصح لموجود فهو يصح في حقه تعالى إن لم يدل على الحدوث ولم‬
‫يناقض صفة من صفاته‪ .‬والدليل عليه تعلق العلم بففه؛ فففإنه لمففا لففم‬
‫يؤد إلى تغير في ذاته ول إلى مناقضة صفففاته ول إلففى الدللففة علففى‬
‫الحدوث‪ ،‬سوى بينه وبين الجسام والعراض في جواز تعلففق العلففم‬
‫بذاته وصفاته‪ .‬والرؤية نوع علم ل يوجب تعلقه بففالمرئي تغيففر صفففة‬
‫ول يدل على حدوث‪ ،‬فوجب الحكم بها على كل موجود‪ ،‬فففإن قيففل‪:‬‬
‫فكونه مرئيا ً يوجب كونه بجهففة وكففونه بجهففة يففوجب كففونه عرضفا ً أو‬
‫جوهرا ً وهو محال‪ ،‬ونظم القياس أنه إن كففان مرئيفا ً فهففو بجهففة مففن‬
‫الرأي وهذا اللزم محففال فالمفضففي إلففى الرؤيففة محففال‪ .‬قلنففا‪ :‬أحففد‬
‫الصلين من هففذا القيففاس مسففلم لكففم‪ ،‬وهففو أن هففذا اللزم محففال‪،‬‬
‫ولكن الصل الول وهو ادعاء هذا اللزم على اعتقاد الرؤية ممنففوع‪.‬‬
‫فنقول لم قلتم إنه إن كان مرئيا ً فهو بجهة من الرأي‪ ،‬أعلمتففم ذلففك‬
‫بضرورة‪ ،‬أم بنظر ؟ ول سبيل إلى دعوى الضرورة‪ ،‬وأمففا النظففر فل‬
‫بد من بيانه‪ ،‬ومنتهاهم أنهم لم يروا إلى الن شيئا ً إل وكان بجهة من‬
‫الرأي مخصوصة‪ ،‬فيقال‪ :‬وما لم يففر فل يحكففم باسففتحالته‪ ،‬ولففو جففاز‬
‫هذا لجاز للمجسم أن يقول إنه تعالى جسم‪ ،‬لنه فاعل‪ ،‬فإننا لم نففر‬
‫إلى الن فاعل ً إل جسمًا‪ .‬أو يقول إن كان فففاعل ً وموجففودا ً فهففو إمففا‬
‫داخل العالم وإما خارجه‪ ،‬وإما متصففل وإمففا منفصففل‪ ،‬ول تخلففو عنففه‬
‫الجهات الست‪ ،‬فإنه لم يعلم موجود إل وهو كففذلك فل فضففل بينكففم‬
‫وبين هؤلء‪ .‬وحاصله يرجع إلى الحكم بأن ما شوهد وعلم ينبغففي أن‬
‫ل يعلم غيره إل على وفقه‪ ،‬وهو كمفن يعلفم الجسفم وينكفر العفرض‬
‫ويقول‪ :‬لو كان موجودا ً لكان يختص بحيففز ويمنففع غيففره مففن الوجففود‬
‫بحيث هو كالجسم‪ .‬ومنشأ هذا إحالة موجودات اختلف الموجففودات‬
‫في حقائق الخواص مع الشففتراك فففي أمففور عامففة‪ .‬وذلففك بحكففم ل‬
‫أصل له‪ ،‬على أن هؤلء ل يغفل عن معارضتهم بأن الله يففرى نفسففه‬
‫ويرى العالم وهو ليس بجهة من نفسه ول من العالم‪ ،‬فإذا جاز ذلففك‬
‫فقد بطل هذا الخيال‪ .‬وهذا مما يعترف به أكففثر المعتزلففة ول نخففرج‬
‫عنه لمففن اعففترف بففه ومففن أنكففر منهففم فل يقففدر علففى انكففار رؤيففة‬
‫النسان نفسه في المرآة‪ ،‬ومعلوم أنه ليس في مقابلففة نفسففه فففإن‬
‫زعموا أنه ل يرى نفسه وإنما يرى صففورة محاكيففة لصففورته منطبعففة‬
‫فففي المففرآة انطبففاع النفففس فففي الحففائط‪ ،‬فيقففال إن هففذا ظففاهر‬
‫الستحالة‪ :‬فإن من تباعد عن مرآة منصوبة في حائط بقدر ذراعيففن‬
‫يرى صورته بعيدة عن جرم المرآة بففذراعين‪ ،‬وإن تباعففد بثلثففة أذرع‬
‫فكذلك‪ .‬فالبعيد عن المرآة بذراعين كيف يكون منطبعا ً فففي المففرآة‬
‫وسمك المرآة ربما ل يزيد على سمك شعيرة ؟ فإن كففانت الصففورة‬
‫في شيء وراء المرآة فهو محفال‪ ،‬إذ ليفس وراء المفرآة إل جفدار أو‬
‫هواء أو شخص آخر هو محجوب عنه‪ ،‬وهو ل يففراه‪ .‬وكففذا عففن يميففن‬
‫المرآة ويسارها وفوقهففا وتحتهففا وجهففات المففرآة السففت‪ ،‬وهففو يففرى‬
‫صورة بعيدة عن المرآة بذراعين‪ ،‬فلنطلب هذه الصورة من جففوانب‬
‫المرآة‪ :‬فحيففث وجففدت فهففو المففرئي ول وجففود لمثففل هففذه الصففورة‬
‫المرئية في الجسام المحيطة بالمرآة إل فففي جسففم والنففاظر‪ ،‬فهففو‬
‫المففرئي إذا ً بالضففرورة‪ .‬وقففد تطلففب المقابلففة والجهففة ول ينبغففي أن‬
‫تسففتحقر هففذا اللففزام فففإنه ل مخففرج للمعتزلففة عنففه‪ ،‬ونحففن نعلففم‬
‫بالضرورة أن النسان لو لم يبصر نفسه قط ول عرف المرآة وقيففل‬
‫له أن يمكن أن تبصر نفسك في مففرآة الحكففم بفأنه محففال‪ ،‬وقففال ل‬
‫يخلو إما أن أرى نفسففي وأنففا فففي المففرآة فهففو محففال‪ ،‬أو أرى مثففل‬
‫صورتي في جرم المرآة وهو محال‪ ،‬أو فففي جففرم وراء المففرآة وهففو‬
‫محال‪ ،‬أو المرآة في نفسها صففورة وللجسففام المحيطففة بهففا جسففم‬
‫صور‪ ،‬ول تجتمع صورتان فففي جسففم واحففد إذ محففال أن يكففون فففي‬
‫جسم واحد صورة إنسان وديد وحففائط وإن رأيففت نفسففي حيففث أنففا‬
‫فهو محال‪ ،‬إذ لست في مقابلة نفسي فكيف أرى نفسي‪ ،‬ول بد بين‬
‫المقابلة بين الرائي والمرئي وهففذا التقسففيم صففحيح عنففد المعففتزلي‬
‫ومعلوم أنه باطل‪ ،‬وبطلنه عندنا لقوله إني لست في مقابلة نفسي‬
‫فل أراهففا وإل فسففائر أقسففام كلمففه صففحيحة‪ ،‬فبهففذا يسففتبين ضففيق‬
‫حوصلة هؤلء عن التصديق بما لم يفألفوه ولفم تفأنس بفه حواسفهم‪.‬‬
‫المسلك الثاني‪ ،‬وهو الكشف البالغ أن تقول إنما أنكر الخصم الرؤية‬
‫لنه لم يفهم ما تريففده بالرؤيففة ولففم يحصففل معناهففا علففى التحقيففق‪،‬‬
‫وظن أنا نريد بها حالة تساوي الحالة التي يدركها الففرأي عنففد النظففر‬
‫إلى الجسام واللوان وهيهات ! فنحففن نعففترف باسففتحالة ذلففك فففي‬
‫حق اللفه سففبحانه‪ ،‬ولكفن ينبغففي أن نحصففل معنفى هفذا اللففظ فففي‬
‫الموضع المتفق‪ ،‬ونسبكه ثم نحذف منه مففا يسففتحيل فففي حففق اللففه‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬فإن نفي من معانيه معنى لم يستحل في حق اللففه‬
‫سبحانه وتعالى وأمكن أن يسمى ذلك المعنى رؤيففة حقيقففة‪ ،‬أثبتنففاه‬
‫في حق الله سبحانه وقضينا بأنه مرئي حقيقة‪ ،‬وإن لففم يكففى إطلق‬
‫اسففم الرؤيففة عليففه إل بالمجففاز أطلقنففا اللفففظ عليففه بففإذن الشففرع‬
‫واعتقدنا المعنى كما دل عليه العقل‪ .‬وتحصيله‪ ،‬أن الرؤية تدل علففى‬
‫معنى له محل وهو العين‪ ،‬وله متعلففق وهففو اللففون والقففدر والجسففم‬
‫وسائر المرئيات‪ ،‬فلننظر إلففى حقيقففة معنففاه ومحلففه‪ ،‬وإلففى متعلقففه‬
‫ولنتأمل أن الركن من جملتها في إطلق هذا السم ما هففو‪ ،‬فنقففول‪:‬‬
‫أما المحل فليس بركن في صحة هففذه التسففمية‪ ،‬فففإن الحالففة الففتي‬
‫ندركها بالعين من المرئي لففو أدركناهففا بففالقلب أو بالجبهففة مثل ً لكنففا‬
‫نقول قد رأينا الشيء وأبصرناه وصدق كلمنا‪ ،‬فإن العين محل وآلففة‬
‫ل تراد لعينها بل لتحل فيه هففذه الحالففة‪ ،‬فحيففث حلففت الحالففة تمففت‬
‫الحقيقة وصح السم‪ .‬ولنا أن نقول علمنا بقلبنا أو بدماغنا إن أدركنففا‬
‫الشيء بففالقلب‪ ،‬أو بالففدماغ إن أدركنففا الشففيء بالففدماغ‪ ،‬وكففذلك إن‬
‫أبصرنا بالقلب أو بالجبهة أو بالعين‪ .‬وأما المتعلق بعينه فليففس ركن فا ً‬
‫في إطلق هذا السم وثبففوت هففذه الحقيقفة‪ .‬فففإن الرؤيففة لفو كففانت‬
‫رؤية لتعلقهففا بالسففواد لمففا كففان المتعلففق بالبيففاض رؤيففة‪ ،‬ولففو كففان‬
‫لتعلقها باللون لمففا كففان المتعلففق بالحركففة رؤيففة‪ ،‬ولففو كففان لتعلقهففا‬
‫بالعرض لما كان المتعلق بالجسم رؤيففة‪ ،‬فففدل أن خصففوص صفففات‬
‫المتعلق ليس ركنفا ً لوجففود هففذه الحقيقففة‪ ،‬وإطلق هففذا السففم‪ ،‬بففل‬
‫الركن فيه من حيث أنه صفة متعلقة أن يكففون لهففا متعلففق موجففود؛‬
‫أي موجود كان وأي ذات كان‪ .‬فإذا ً الركن الذي السم مطلففق عليففه‬
‫هو المر الثففالث وهففو حقيقففة المعنففى مففن غيففر التفففات إلففى محلففه‬
‫ومتعلقه‪ ،‬فلنبحث عن الحقيقة مففا هففي‪ ،‬ول حقيقففة لهففا إل أنهففا نففوع‬
‫إدراك هففو كمففال ومزيففد كشففف بالضففافة إلففى التخيففل‪ ،‬فإنففا نففرى‬
‫الصديق مثل ً ثم نغمض العيفن فتكففون صفورة الصفديق حاضففرة ففي‬
‫دماغنا على سبيل التخيففل والتصففور‪ ،‬ولكنففا لففو فتحنففا البصففر أدركنففا‬
‫تفرقته ول ترجع تلك التفرقة إلى إدراك صففورة أخففرى مخالفففة لمففا‬
‫كانت في الخيال بل الصففورة المبصففرة مطابقففة للمتخيلففة مففن غيففر‬
‫فرق وليس بينهمففا افففتراق‪ ،‬إل أن هففذه الحالففة الثانيففة كالسففتكمال‬
‫لحالة التخيل‪ ،‬وكالكشف لها‪ ،‬فتحدث فيها صورة الصففديق عنففد فتففح‬
‫البصر حدوثا ً أوضح وأتم وأكمففل مفن الصففورة الجاريففة فففي الخيففال‪.‬‬
‫والحادثة في البصر بعينها تطابق بيان الصورة الحادثففة فففي الخيففال‪،‬‬
‫فإذا ً التخيل نوع إدراك على رتبة‪ ،‬ووراءه رتبففة أخففرى هففي أتففم منففه‬
‫في الوضوح والكشف‪ ،‬بل هي كالتكميل له‪ ،‬فنسمي هذا الستكمال‬
‫بالضافة إلى الخيال رؤية وإبصارًا‪ ،‬وكففذا مففن الشففياء مففا نعلمففه ول‬
‫نتخيله وهو ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته‪ ،‬وكل مففا ل صففورة لففه‪،‬‬
‫أي ل لون له ول قدر مثل القدرة والعلم والعشق والبصار والخيال؛‬
‫فإن هذه أمور نعلمها ول نتخيلها والعلم بها نففوع إدراك فلننظففر هففل‬
‫يحيل العقل أن يكون لهذا الدراك مزيد استكمال نسبته إليففه نسففبة‬
‫البصففار إلففى التخيففل؛ فففإن كففان ذلففك ممكنفا ً سففمينا ذلففك الكشففف‬
‫والستكمال بالضافة إلى العلففم رؤيففة‪ ،‬كمففا سففميناه بالضففافة إلففى‬
‫التخيففل رؤيففة‪ .‬ومعلففوم أن تقففدير هففذا السففتكمال فففي الستيضففاح‬
‫والستكشفاف غيفر محففال ففي الموجفودات المعلومفة الفتي ليسففت‬
‫متخيلففة كففالعلم والقففدرة وغيرهمففا‪ ،‬وكففذا فففي ذات اللففه سففبحانه‬
‫وصفاته‪ ،‬بل نكاد ندرك ضرورة من الطبع أنففه يتقاضففى طلففب مزيففد‬
‫استيضاح في ذات الله وصفاته وفي ذوات هففذه المعففاني المعلومففة‬
‫كلها‪ .‬فنن نقول إن ذلك غير محال فإنه ل محيل له بل العقففل دليففل‬
‫على إمكانه بففل علففى اسففتدعاء الطبففع لففه‪ .‬إل أن هففذا الكمففال فففي‬
‫الكشففف غيففر مبففذول فففي هففذا العففالم‪ ،‬والنفففس فففي شففغل البففدن‬
‫وكدورة صفائه‪ ،‬فهو مجوب عنففه‪ .‬وكمففا ل يبعففد أن يكففون الجفففن أو‬
‫الستر أو سواد ما في العين سببا ً بحكم اطراد العادة لمتناع البصار‬
‫للمتخيلت فل يبعد أن تكون كدورة النفس وتراكففم حجففب الشففغال‬
‫بحكم اطراد العادة مانعا ً من إبصار المعلومففات‪ .‬فففإذا بعففثر مففا فففي‬
‫القبور وحصل ما في الصففدور‪ ،‬وزكيففت القلففوب بالشففراب الطهففور‪،‬‬
‫وصفيت بأنوع التصفية والتنقية‪ ،‬لم يمتنع أن تشففتغل بسففببها لمزيففد‬
‫استكمال واستيضاح في ذات الله سبحانه أو في سائر المعلومففات‪،‬‬
‫يكون ارتفاع درجته عن العلم المعهففود كارتفففاع درجففة البصففار عففن‬
‫التخيل‪ ،‬يعبر عن ذلك بلقاء الله تعالى ومشاهدته أو رؤيته أو إبصاره‬
‫أو ما شئت من العبارات‪ .‬فل مشاحة فيها وبعد إيضاح المعاني‪ .‬وإذا‬
‫كان ذلك ممكنا ً بأن خلقت هذه الحالة في العين‪ ،‬كففان اسففم الرؤيففة‬
‫بحكم وضع اللغة عليه أصدق وخلقه في العيففن غيففر مسففتحيل‪ .‬كمففا‬
‫أن خلقها في القلب غير مستحيل فإذا فهم المراد بمففا أطلقففه أهففل‬
‫الحق من الرؤية‪ ،‬علم أن العقل ل يحيله بل يوجبه‪ ،‬وأن الشففرع قففد‬
‫شهد له فل يبقى للمنازعة وجه إل علففى سففبيل العنففاد أو المشففاحنة‬
‫في إطلق عبارة الرؤية أو القصور عن درك هففذه المعففاني الدقيقففة‬
‫التي ذكرناها‪ .‬ولنقتصر في هففذا المففوجز علففى هففذا القففدر‪ .‬الطففرف‬
‫الثاني في وقففوعه شففرعًا‪ .‬وقففد دل الشففرع علففى وقففوعه ومففداركه‬
‫كثيرة‪ ،‬ولكثرتها يمكن دعوى الجماع على الولين في ابتهففالهم إلففى‬
‫الله سبحانه في طلب لذة النظر إلى وجهه الكريم‪ .‬ونعلم قطعا ً من‬
‫عقائدهم أنهم كانوا ينتظرون ذلك وأنهم كانوا قد فهموا جواز انتظار‬
‫ذلك وسؤاله من الله سبحانه‪ ،‬بقرائن أحوال رسول الله صففلى اللففه‬
‫عليه وسلم وجملة من ألفاظه الصريحة التي ل تففدخل فففي الحضففر‪،‬‬
‫بالجماع الذي يدل على خروج المدارك عن الحصر‪ .‬ومن أقففوى مففا‬
‫يدل عليه سؤال موسى صلى الله عليه وسلم أرني أنظر إليك فففإنه‬
‫يستحيل أن يخفى عن نبي من أنبياء الله تعففالى انتهففى منصففبه إلففى‬
‫أن يكلمه الله سبحانه شفاها ً أن يجهل مففن صفففات ذاتففه تعففالى مففا‬
‫عرفه المعتزلة‪ .‬وهذا معلوم على الضرورة‪ ،‬فإن الجهل بكونه ممتنع‬
‫الرؤية عند الخصم يوجب التفكير أو التضليل وهو جهففل بصفففة ذاتففه‬
‫لن استحالتها عندهم لذاته ولنه ليس بجهة فكيف لم يعرف موسى‬
‫عليه أفضل الصلة أنه ليس بجهة‪ ،‬أو كيف عرف أنه ليس بجهة ولم‬
‫يعرف أن رؤية مفا ليففس بجهففة محففال ؟ فليففت شفعري مفاذا يضفمر‬
‫الخصم ويقدره من ذهول موسففى صففلى اللففه عليففه وسففلم‪ ،‬أيقففدره‬
‫معتقدا ً أنففه جسففم فففي جهففة ذو لففون‪ ،‬واتهففام النبيففاء صففلوات اللففه‬
‫سبحانه وتعالى عليهم وسلمه كفر صراح‪ ،‬فإنه تكفيففر للنففبي صففلى‬
‫الله عليه وسلم‪ ،‬فإن القائل بففأن اللففه سففبحانه جسففم وعابففد الففوثن‬
‫والشمس واحد ! أو يقول علم استحالة كونه بجهة‪ ،‬ولكنه لففم يعلففم‬
‫أن ما ليس بجهة فل يرى‪ ،‬وهذا تجهيل للنبي عليه أفضل السلم لن‬
‫الخصم يعتقد أن ذلك من الجليات ل من النظريات‪ .‬فففأنت الن أيهففا‬
‫المسترشد مخير من أن تميففل إلففى تجهيففل النففبي صففلى اللففه عليففه‬
‫وسلم تسليمًا‪ ،‬أو إلى تجهيل المعتزلي‪ ،‬فاختر لنفسك مففا أليففق بففك‬
‫والسلم‪ .‬فإن قيل‪ :‬إن دل هذا لكم فقد دل عليكم‪ ،‬لسففؤاله الرؤيففة‬
‫في الدنيا ودل عليكم قوله تعالى "لن تراني" ودل قوله سففبحانه "ل‬
‫تدركه البصار"‪ .‬قلنا‪ :‬أما سؤاله الرؤيففة فففي الففدنيا فهففو دليففل علففى‬
‫عدم معرفته بوقوع وقففت مففا هففو جففائز فففي نفسففه‪ ،‬والنبيففاء كلهففم‬
‫عليهم أفضل السلم ل يعرفون من الغيب إل ما عرفوا‪ ،‬وهو القليل‪،‬‬
‫فمن أين يبعد أن يدعو النبي عليه أفضل السلم كشف غمففة وإزالففة‬
‫بلية وهو يرتجي الجابة في وقففت لففم تسففبق فففي علففم اللففه تعففالى‬
‫الجابة فيه‪ .‬وهذا من ذلك الفن‪ .‬وأما قوله سبحانه "لن تراني" فهففو‬
‫دفع لما التمسه‪ ،‬وإنما التمس في الخرة‪ ،‬فلو قال أرني انظر إليففك‬
‫في الخرة‪ ،‬فقال لن تراني‪ ،‬لكان ذلك دليل ً على نفي الرؤية‪ ،‬ولكففن‬
‫في حق موسى صلوات الله سبحانه وسلمه عليه فففي الخصففوص ل‬
‫على العموم‪ .‬وما كان أيضا ً دليل ً على الستحالة‪ ،‬فكيف وهففو جففواب‬
‫عن السؤال في الحال ؟ وأما قوله ل تدركه البصار أي ل تحيففط بففه‬
‫ول تكتنفه من جوانبه كما تحيط الرؤية بالجسام‪ ،‬وذلك حففق‪ ،‬أو هففو‬
‫عام فأريد بة في الدنيا‪ ،‬وذلك أيضا ً حق‪ ،‬وهو ما أراده بقوله سبحانه‬
‫"لن تراني" في الدنيا‪ .‬ولنقتصر على هذا القدر في مسففألة الرؤيففة‪،‬‬
‫ولينظر المنصف كيف افترقت الفرق وتحزبت إلى مفرط ومفففرط‪.‬‬
‫أما الحشوية فإنهم لم يتمكنوا من فهم موجود إل ففي جهفة‪ ،‬ففأثبتوا‬
‫الجهففة حففتى ألزمتهففم بالضففرورة الجسففمية والتقففدير والختصففاص‬
‫بصفات الحدوث‪ .‬وأما المعتزلة وفانهم نفوا الجهة ولم يتمكنففوا مففن‬
‫إثبات الرؤية دونها‪ ،‬وخالفوا به قواطع الشرع‪ ،‬وظنوا أن فففي إثباتهففا‬
‫إثبفات الجهفة‪ ،‬فهفؤلء تغلغلفوا ففي التنزيفه محفترزين مفن التشفبيه‪،‬‬
‫ففأفرطوا‪ .‬والحشفوية أثبتفوا الجهفة احفترازا ً مفن التعطيفل فشفبهوا‪،‬‬
‫فوقف الله سففبحانه أهففل السففنة للقيففام بففالحق‪ ،‬فتفطنففوا للمسففلك‬
‫القصد وعرفففوا أن الجهففة منقيففة لنهففا للجسففمية تابعففة وتتمففة‪ ،‬وأن‬
‫الرؤيففة ثابتفة لنهفا رديففف العلففم وفريقففه‪ ،‬وهففي تكملففة لفه؛ فانتفففاء‬
‫الجسمية أوجب انتفاء الجهة التي من لوازمها‪ .‬وثبوت العلففم أوجففب‬
‫ثبففوت الرؤيففة الففتي هففي مففن روادفففه وتكملتففه ومشففاركة لففه فففي‬
‫خاصيته‪ ،‬وهي أنها ل توجب تغييرا ً فففي ذات المففرئي‪ ،‬بففل تتعلففق بففه‬
‫على ما هو عليه كالعلم‪ .‬ول يخفى عن عاقففل أن هففذا هففو القتصففاد‬
‫في العتقاد‪.‬‬
‫الدعوى العاشرة‪ :‬ندعي أنه سبحانه واحففد‪ .‬فففإن كففونه واحففدا ً يرجففع‬
‫إلى ثبوت ذاته ونفي غيفره‪ ،‬فليفس هفو نظفر ففي صففة زائدة علفى‬
‫الذات‪ ،‬فوجب ذكره فففي هففذا القطففب‪ .‬فنقففول‪ :‬الواحففد قففد يطلففب‬
‫ويراد به أنففه ل يقبففل القسففمة‪ ،‬أي ل كميففة لففه ول جففزء ول مقففدار‪،‬‬
‫والباري تعالى واحد بمعنى سفلب الكميففة المصففححة للقسفمة عنفه؛‬
‫فإنه غير قابل للنقسام‪ .‬إذ النقسام لما له كمية‪ ،‬والتقسيم تصففرف‬
‫في كمية بالتفريق والتصغير‪ ،‬وما ل كمية له ل بتصور انقسامه‪ .‬وقد‬
‫يطلق ويراد أنه ل نظير لفه ففي رتبتفه كمفا تقفول الشفمس واحففدة‪،‬‬
‫والباري تعالى أيضا ً بهذا المعنى واحد؛ فإنه ل ند له‪ .‬فأما انففه ل ضففد‬
‫له فظاهرًا‪ ،‬إذ المفهوم من الضد هو الذي يتعاقب مع الشففيء علففى‬
‫محل واحد ول تجامع وما ل محل له فل ضد لففه‪ ،‬والبففاري سففبحانه ل‬
‫محل له فل ضد له‪ .‬وأما قولنا ل ند لففه‪ ،‬نعنففي بففه أن مففا سففواه هففو‬
‫خالقه ل غير‪ ،‬وبرهانه أنففه لففو قففدر لففه شففريك لكففان مثلففه فففي كففل‬
‫الوجوه أو أرفع منه أو كان دونه‪ .‬وكل ذلففك محففال‪ .‬فالمفضففي إليففه‬
‫محال‪ ،‬ووجه استحالة كففونه مثلفه مفن كفل وجففه أن كففل اثنيفن همففا‬
‫متغايران‪ ،‬فإن لم يكن تغاير لم تكن الثنينية معقولففة‪ ،‬فإنففا ل نعقففل‬
‫سوادين إل في محلين‪ ،‬أو في محل واحد في وقتين‪ ،‬فيكون أحدهما‬
‫مفارقا ً للخر ومباينا ً له ومغففايرا ً إمفا ففي المحفل وإمففا ففي الفوقت‪،‬‬
‫والشيئان تارة يتغايران بتغاير الحد والحقيقة‪ ،‬كتغاير الحركة واللففون‬
‫فإنهما وإن اجتمعا في محل واحففد فففي وقففت واحففد فهمففا اثنففان‪ ،‬إذ‬
‫أحدهما مغاير للخر بحقيقته‪ ،‬فإن استوى اثنان فففي الحقيقففة والحففد‬
‫كالسوادين‪ ،‬فيكون الفرق بينهما إما في المحل أو في الزمان؛ فففإن‬
‫فرض سوادان مثل ً في جوهر واحد في حالة واحدة كان محال ً إذ لم‬
‫تعرف الثنينية‪ .‬ولو جاز أن يقال هما اثنان ول مغايرة‪ ،‬لجاز أن يشار‬
‫إلى إنسففان واحففد ويقففال أنففه انسففانان بففل عشففرة وكلهففا متسففاوية‬
‫متماثلة في الصفففة والمكففان وجميففع العففوارض واللففوازم‪ ،‬مففن غيففر‬
‫فرقان‪ ،‬وذلك محال بالضرورة‪ ،‬فإن كان ند الله سبحانه متساويا ً لففه‬
‫في الحقيقة والصفات استحال وجوده‪ ،‬إذ ليس مغايره بالمكان إذ ل‬
‫مكان ول زمان فإنهما قديمان‪ ،‬فإذا ً ل فرقان‪ ،‬وإذا ارتفففع كففل فففرق‬
‫ارتفع العففدد بالضففرورة‪ ،‬ولزمففت الوحففدة‪ .‬ومحففال أن يقففال يخففالفه‬
‫بكففونه أرفففع منففه‪ .‬فففإن الرفففع هففو اللففه واللففه عبففارة عففن أجففل‬
‫الموجودات وأرفعها‪ ،‬والخر المقدر ناقص ليففس بففالله‪ .‬ونحففن إنمففا‬
‫نمنع العدد في الله‪ ،‬والله هو الذي يقال فيففه بففالقول المطلففق أنففه‬
‫ل‪ ،‬لنففه نففاقص‬‫أرفع الموجودات وأجلها‪ .‬وإن كان أدنى منه كان محففا ً‬
‫ونحن نعبر بالله عففن أجففل الموجففودات فل يكففون الجففل إل واحففدًا‪،‬‬
‫وهو الله ول يتصور اثنففان متسففاويان فففي صفففات الجلل‪ ،‬إذ يرتفففع‬
‫عند ذلك الفتراق ويبطل العدد كمففا سففبق‪ .‬فففإن قيففل‪ :‬بففم تنكففرون‬
‫على من ل ينازعكم في إيجاد من يطلق عليه اسم الله‪ ،‬مهمفا كففان‬
‫الله‪ ،‬عبارة عن أجل الموجودات‪ ،‬ولكنففه يقففول العففالم كلففه بجملتففه‬
‫ليس بمخلوق خالق واحد‪ ،‬بل هو مخلوق خالقين‪ ،‬أحدهما مثل ً خالق‬
‫السففماء والخففر خففالق الرض‪ ،‬أو أحففدهما خففالق الجمففادات والخففر‬
‫خالق الحيوانات وخالق النبات‪ :‬فما المحيل لهذا ؟ فإن لم يكن على‬
‫استحالة هذا دليل‪ ،‬فمن أين ينفعكم قولكم أن اسففم اللففه ل يطلففق‬
‫علففى هففؤلء ؟ فففإن هففذا القففائل يعففبر بففالله عففن الخففالق‪ ،‬أو يقففول‬
‫أحدهما خالق الخير والخر خففالق الشففر‪ ،‬أو أحففدهما خفالق الجففواهر‬
‫والخر خالق العراض‪ ،‬فل بد من دليل على استحالة ذلففك‪ .‬فنقففول‪:‬‬
‫يففدل علففى اسففتحالة ذلففك أن هففذه التوزيعففات للمخلوقففات علففى‬
‫الخالقين في تقففدير هففذا السففائل ل تعففدو قسففمين‪ :‬إمففا أن تقتضففي‬
‫تقسيم الجواهر والعراض جميعا ً حتى خلق أحدهما بعففض الجسففام‬
‫والعففراض دون البعففض‪ ،‬أو يقففال كففل الجسففام مففن واحففد وكففل‬
‫العراض من واحد‪ ،‬وباطل أن يقال إن بعض الجسام بخلقهففا واحففد‬
‫كالسماء مثل ً دون الرض؛ فإنا نقول خالق السماء هل هو قادر على‬
‫خلق الرض أم ل‪ ،‬فإن كففان قففادرا ً كقففدرته‪ ،‬لففم يتميففز أحففدهما فففي‬
‫القدرة عن الخر‪ ،‬فل يتميز في المقدور عن الخر فيكففون المقففدور‬
‫بين قادرين ول تكون نسبته إلى أحففدهما بففأولى مففن الخففر‪ ،‬وترجففع‬
‫الستحالة إلى ما ذكرناه من تقدير تزاحم متمففاثلين مفن غيفر فففرق‪،‬‬
‫وهو محال‪ .‬وإن لم يكن قادرا ً عليه فهو محال لن الجففواهر متماثلففة‬
‫وأكوانها التي هي اختصاصات بالحياز متماثلة‪ ،‬والقادر على الشففيء‬
‫قففادر علففى مثلففه إذ كففانت قففدرته قديمففة بحيففث يجففوز أن يتعلففق‬
‫بمقففدورين وقففدرة كففل واحففد منهمففا تتعلففق بعففدة مففن الجسففام‬
‫والجواهر‪ ،‬فلم تتقيد بمقدور واحد‪ .‬وإذا جاوز المقففدور الواحففد علففى‬
‫خلف القدرة الحادثة‪ ،‬لم يكن بعض العففداد بففأولى مففن بعففض‪ ،‬بففل‬
‫يجب الحكم بنفي النهاية عففن مقففدوراته ويففدخل كففل جففوهر ممكففن‬
‫وجوده فففي قففدرته‪ .‬والقاسففم الثففاني أن يقففال‪ :‬أحففدهما يقففدر علففى‬
‫الجوهر والخر على العراض وهما مختلفان‪ ،‬فل تجففب مففن القففدرة‬
‫على أحدهما القدرة على الخر‪ ،‬وهذا محال‪ ،‬لن العرض ل يسففتغني‬
‫عن الجوهر‪ ،‬والجوهر ل يستغني عن العرض‪ ،‬فيكون فعل كل واحففد‬
‫منهما موقوففا ً علففى الخففر‪ ،‬فكيففف يخلقففه وربمففا ل يسففاعده خففالق‬
‫الجوهر على خلق الجوهر عند إرادته لخلق العففرض‪ ،‬فيبقففى عففاجزا ً‬
‫متحيرا ً والعاجز ل يكون قادرًا‪ .‬وكففذلك خففالق الجففوهر إن أراد خلففق‬
‫الجوهر بما خالفه خففالق العففرض فيمتنففع علففى الخففر خلففق الجففوهر‬
‫فيؤدي ذلك إلى التمانع‪ .‬فإن قيل‪ :‬مهما أراد واحد منهما خلق جوهر‬
‫ساعده الخر على العرض وكذا بالعكس‪ .‬قلنا‪ :‬هذه المسففاعدة هففل‬
‫هي واجبة ل يتصور في العقل خلفها فإن أوجبتموها فهو تحكم‪ ،‬بففل‬
‫هو أيضا ً مبطل للقدرة‪ ،‬فففإن خلففق الجففوهر مففن واحففد كففأنه يضففطر‬
‫الخر إلى خلففق العففرض‪ ،‬وكففذا بففالعكس؛ فل تكففون لفه قففدرة علففى‬
‫الترك ول تتحقق القدرة مع هذا‪ .‬وعلى الجملة فترك المسففاعدة إن‬
‫كان ممكنا ً فقد تعذر العقففل وبطففل معنففى المقففدرة والمسففاعدة إن‬
‫كانت واجبة صار الذي ل بد له مففن مسففاعدة مضففطرا ً ل قففدرة لففه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ .‬فيكون أحدهما خالق الشر والخر خالق الخيففر‪ ،‬قلنففا‪ :‬هففذا‬
‫هوس‪ ،‬لن الشر ليس شرا ً لذاته‪ ،‬بل هو من حيث ذاته مساو للخيففر‬
‫ومماثل له‪ ،‬والقدرة على الشيء قدرة على مثله‪ ،‬فإن إحففراق بففدن‬
‫المسلم بالنار شر‪ ،‬وإحراق بدن الكافر خيففر ودفففع شففر‪ ،‬والشففخص‬
‫الواحد إذا تكلم بكلمة السلم انقلب الحراق في حقه شرًا‪ ،‬فالقادر‬
‫على إحراق لحمه بالنار عند سكوته عن كلمة اليمان ل بد أن يقففدر‬
‫على إحراقه عند النطق بهففا‪ ،‬لن نطقففه بهففا صففوت ينقضففي ل يغيففر‬
‫ذات اللحم‪ ،‬ول ذات النار‪ ،‬ول ذات الحتراق‪ ،‬ول يغلب جنسا ً فتكففون‬
‫الحتراقات متماثلة‪ ،‬فيجب تعلق القدرة بالكل ويقتضي ذلففك تمانعفا ً‬
‫وتزاحمفًا‪ .‬وعلففى الجملففة‪ :‬كيفمففا فففرض المففر تولففد منففه اضففطراب‬
‫وفساد وهو الذي أراد الله سبحانه بقوله "لو كان فيهما آلهة إل الل ّففه‬
‫لفسدتا" فل مزيد على بيان القرآن‪ .‬ولنختففم هففذا القطففب بالففدعوى‬
‫العاشرة فلم يبق مما يليق بهذا الفن إل بيان استحالة كونه سففبحانه‬
‫محل ً للحوادث‪ ،‬وسنشير إليه في أثناء الكلم في الصفففات ردا ً علففى‬
‫من قال بحدوث العلم والرادة وغيرهما‪.‬‬
‫القطب الثاني في الصفات وفيه سبعة دعاوى إذ ندعى أنففه سففبحانه‬
‫قففادر عففالم حففي مريففد سففميع بصففير متكلففم‪ ،‬فهففذه سففبعة صفففات‪.‬‬
‫ويتشعب عنها نظر في أمرين أحدهما مففا بففه تخففص آحففاد الصفففات‪،‬‬
‫والثاني ما تشترك فيه جميع الصفات‪ .‬فلنفتح البدايففة بالقسففم الول‬
‫وهو اثآت أصل الصفات وشرح خصوص أحكامها‪ .‬القسم الول أصل‬
‫الصفات الصفة الولففى القفدرة نفدعي أن محففدث العففالم قففادر‪ ،‬لن‬
‫العالم فعل محكفم مرتففب متقففن منظففوم مشففتمل علففى أنفواع مفن‬
‫العجائب واليات‪ ،‬وذلك يدل على القدرة‪.‬‬
‫ونرتب القياس فنقول‪ :‬كل فعل محكم فهو صادر مففن فاعففل قففادر‪،‬‬
‫والعالم فعل محكم فهو إذا ً صادر من فاعل قادر‪ ،‬ففففي أي الصفلين‬
‫النزاع ؟‬
‫فإن قيل فلم قلتم أن العالم فعل محكم‪،‬‬
‫قلنا‪ :‬عنينففا بكففونه محكمفا ً ترتبففه ونظففامه وتناسففبه‪ ،‬فمففن نظففر فففي‬
‫أعضاء نفسه الظففاهرة والباطنففة ظهففر لففه مففن عجففائب التقففان مففا‬
‫يطول حصره‪ ،‬فهذا أصل تدرك معرفته بالحس والمشاهدة فل يسفع‬
‫جحده‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فبم عرفتم الصل الخر وهو أن كففل فعففل مرتففب محكففم‬
‫ففاعله قادر ؟‬
‫قلنا‪ :‬هذا مدركه ضرورة العقفل؛ فالعقفل يصفدق بفه بغيفر دليفل ول‬
‫يقدر العاقل على جحده‪ ،‬ولكنا مع هذا نجرد دليل ً يقطع دابر الجحود‬
‫والعناد‪ ،‬فنقول‪ :‬نعني بكونه قادرا ً أن الفعل الصادر منه ل يخلففو إمففا‬
‫أن يصدر عنه لذاته أو لزائد عليه‪ ،‬وباطل أن يقال صفدر عنففه لففذاته‪،‬‬
‫إذ لو كان كذلك لكان قديما ً مففع الففذات فففدل أنففه صففدر لففزائد علففى‬
‫ة‪ ،‬إذ‬ ‫ذاته‪ ،‬والصفة الزائدة التي بها تهيأ للفعل الموجود نسففميها قففدر ً‬
‫القدرة في وضع اللسان عبارة عن الصفة التي يتهيأ الفعففل للفاعففل‬
‫وبها يقع الفعل‪،‬‬
‫فإن قيل ينقلب عليكم هذا في القففدرة فإنهففا قديمففة والفعففل ليففس‬
‫بقديم‪،‬‬
‫قلنففا سففيأتي جففوابه فففي أحكففام الرادة فيمففا يقففع الفعففل بففه‪ ،‬وهففذا‬
‫الوصف مما دل عليه التقسففيم القففاطع الففذي ذكرنففاه‪ .‬ولسففنا نعنففي‬
‫بالقدرة إل هذه الصفة‪ ،‬وقد أثبتناهففا فلنففذكر أحكامهففا‪ .‬ومففن حكمهففا‬
‫أنها متعلقة بجميع المقدورات‪ ،‬وأعني بالمقففدورات الممكنففات كلهففا‬
‫التي ل نهاية لها‪ .‬ول يخفففى أن الممكنففات ل نهايففة لهففا فل نهايففة إذا ً‬
‫للمقدورات‪ ،‬ونعني بقولنا ل نهاية للممكنات أن خلففق الحففوادث بعففد‬
‫الحوادث ل ينتهي إلى حد يستحيل في العقففل حففدوث حففادث بعففده‪،‬‬
‫فالمكان مستمر أبففدا ً والقففدرة واسففعة لجميففع ذلففك‪ ،‬وبرهففان هففذه‬
‫الدعوى وهي عموم تعلق القدرة أنه قد ظهففر أن صففانع كففل العففالم‬
‫واحد‪ ،‬فإما أن يكون له بإزاء كل مقدور قدرة والمقففدورات ل نهايففة‬
‫لها فتثبت قدرة متعددة ل نهاية لها وهو محال كما سبق فففي إبطففال‬
‫دورات ل نهايفة لهفا‪ ،‬وإمففا أن تكففون القفدرة واحففدة كمفا سفبق ففي‬
‫إبطففال دورات ل نهايففة لهففا‪ ،‬وإمففا أن تكففون القففدرة واحففدة فيكففون‬
‫تعلقها مع اتحادها بما يتعلق به من الجواهر والعففراض مففع اختلفهففا‬
‫لمر تشترك فيه ول يشترك في أمر سوى المكففان‪ ،‬فيلففزم منففه أن‬
‫كل ممكن فهو مقدور ل محالة وواقع بالقدرة‪ .‬وبالجملة‪ ،‬إذا صدرت‬
‫منه الجواهر والعراض استحال أن ل يصدر منه أمثالها‪ ،‬فإن القدرة‬
‫على الشيء قدرة على مثله إذ لم يمتنع التعدد في المقدور لنسففبته‬
‫إلى الحركات كلها واللففوان كلهففا علففى وتيففرة واحففدة فتصففلح لخلففو‬
‫حركة بعد حركة على الدوام‪ ،‬وكذا لون بعد لون وجففوهر بعففد جففوهر‬
‫وهكذا ‪ ..‬وهو الذي عنيناه بقولنا إن قدرته تعالى متعلقة بكل ممكففن‬
‫فإن المكان ل ينحصر في عدد‪ .‬ومناسبة ذات القدرة ل تختص بعدد‬
‫دون عدد ول يمكن أن يشار إلى حركة فيقال أنها خارجة عن إمكان‬
‫تعلق القدرة بها‪ ،‬مففع أنهففا تعلقففت بمثلهففا إذ بالضففرورة تعلففم أن مففا‬
‫وجب للشيء وجففب لمثلففه ويتشففعب عففن هففذا ثلثففة فففروع‪ .‬الفففرع‬
‫الول‪ :‬إن قال قائل هل تقولففون أن خلف المعلففوم مقففدور ؟ قلنففا‪:‬‬
‫هذا مما اختلف فيه‪ ،‬ول يتصففور الخلف فيففه إذا حقففق وأزيففل تعقيففد‬
‫اللفاظ وبيانه أنه قد ثبت أن كل ممكففن مقففدور وأن المحففال ليففس‬
‫بمقدور‪ .‬فانظر أن خلف المعلوم محال أو ممكن ول تعرف ذلك إل‬
‫إذا عرفففت معنففى المحففال والممكففن وحصففلت حقيقتهمففا وإل فففإن‬
‫تساهلت في النظر‪ ،‬ربما صدق على خلف المعلوم أنه محففال وأنففه‬
‫ممكن وأنه ليس بمحال‪ ،‬فففإذا ً صففدق أنففه محففال وأنففه ليففس بمحففال‬
‫والنقيضففان ل يصففدفان مع فًا‪ .‬فففاعلم أن تحففت اللفففظ اجمففال ً وإنمففا‬
‫ينكشف لك ذلك بما أقوله وهو أن العالم مثل ً يصدق عليه أنه واجب‬
‫وأنه محال وأنه ممكن‪ .‬أما كففونه واجبفا ً فمففن حيففث أنففه إذا فرضففت‬
‫إرادة القديم موجودة وجودا ً واجبا ً كان المراد أيضا ً واجبفا ً بالضففرورة‬
‫ل جائزًا‪ ،‬إذ يستحيل عدم المراد مع تحقق الرادة القديمة وأما كونه‬
‫محال ً فهو أنه لفو قفدر عفدم تعلففق الرادة بايجفاده فيكففون ل محالففة‬
‫حدوثه محال ً إذ يؤدي إلففى حففدوث حففادث بل سففبب وقففد عففرف أنففه‬
‫محال‪ .‬وأما كونه ممكنا ً فهو أن تنظر إلى ذاته فقط‪ ،‬ول تعتففبر معففه‬
‫ل وجود الرادة ول عدمها‪ ،‬فيكون له وصف المكان‪ ،‬فإذا ً العتبارات‬
‫ثلثة‪ :‬الول أن يشترط فيه وجود الرادة وتعلقها فهففو بهففذا العتبففار‬
‫واجب‪ .‬الثاني أن يعتبر فقد الرادة فهو بهذا العتبففار محففال‪ .‬الثففالث‬
‫أن نقطع اللتفات عفن الرادة والسفبب فل نعتفبر وجفوده ول عفدمه‬
‫ونجرد النظر إلى ذات العالم فيبقى لففه بهففذا العتبففار المففر الثففالث‬
‫وهو المكان‪ .‬ونعني به أنه ممكن لذاته‪ ،‬أي إذا لم نشترط غير ذاتففه‬
‫كان ممكنا ً فظهففر منففه أنففه يجففوز أن يكففون الشففيء الواحففد ممكنفا ً‬
‫ل‪ ،‬ولكن ممكنفا ً باعتبففار ذاتففه محففال ً باعتبففار غيففره‪ ،‬ول يجففوز أن‬
‫محا ً‬
‫يكون ممكنا ً لذاته محفال ً لفذاته‪ ،‬فهمفا متناقضفان فنرجفع إلفى خلف‬
‫المعلوم فنقول‪ :‬إذا سبق في علم الله تعالى إماتة زيد صففبيحة يففوم‬
‫السبت مثل ً فنقول‪ :‬خلق الحياة لزيد صبيحة يوم السففبت ممكففن أم‬
‫ليس بممكن ؟ فالحق فيه أنه ممكن ومحال؛ أي هو ممكففن باعتبففار‬
‫ذاته إن قطع اللتفات إلففى غيففره‪ ،‬ومحففال لغيففره ل لففذاته وذلففك إذا‬
‫ل‪،‬‬‫اعتبر معه اللتفات إلى تعلق ذاتها وهففو ذات العلففم‪ ،‬إذ ينقلففب جه ً‬
‫ومحال أن ينقلب جهل ً فبان أنه ممكن لذاته محففال للففزوم اسففتحالة‬
‫في غيره‪ .‬فإذا قلنا حياة زيد في هذا الوقت مقدورة‪ ،‬لففم نففرد بففه إل‬
‫أن الحياة من حيففث أنهففا حيففاة ليففس بمحففال‪ ،‬كففالجمع بيففن السففواد‬
‫والبياض‪ .‬وقدرة الله تعالى من حيث أنهفا قفدرة ل تنبفو عفن التعلفق‬
‫بخلق الحيففاة ول تتقاصففر عنففه لفتفور ول ضففعف ول سففبب فففي ذات‬
‫القدرة‪ ،‬وهذان أمران يسففتحيل إنكارهمففا‪ ،‬أعنففي نفففي القصففور عففن‬
‫ذات القدرة وثبوت المكان لذات الحياة من حيففث أنهففا حيففاة فقففط‬
‫من غير التفات إلى غيرها‪ ،‬والخصم إذا قال غير مقدور علففى معنففى‬
‫أن وجوده يؤدي إلى استحالة فهو صادق في هذا المعنى‪ ،‬فإنا لسففنا‬
‫ننكره ويبقى النظر في اللفظ هل هو صواب من حيث اللغففة إطلق‬
‫هذا السم عليه أو سلبه‪ ،‬ول يخفى أن الصففواب إطلق اللفففظ فففإن‬
‫الناس يقولون فلن قففادر علففى الحركفة والسففكون‪ ،‬إن شفاء تحففرك‬
‫وإن شاء سكن‪ ،‬ويقولون إن له في كل وقففت قففدرة علففى الضففدين‬
‫ويعلمون أن الجاري في علم الله تعالى وقوع أحففدهما‪ ،‬فالطلقففات‬
‫شاهدة لما ذكرناه وحظ المعنى فيه ضففروري ل سففبيل إلففى جحففده‪.‬‬
‫الفرع الثففاني‪ :‬إن قففال قففائل إذا ادعيتففم عمففوم القففدرة فففي تعلقهفا‬
‫بالممكنات‪ ،‬فما قولكم في مقففدورات الحيففوان وسففائر الحيففاء مففن‬
‫المخلوقففات‪ ،‬أهففي مقففدورة للففه تعففالى أم ل ؟ فففإن قلتففم ليسففت‬
‫مقدورة‪ ،‬فقد نقضتم قففولكم إن تعلففق القففدرة عففام‪ ،‬وإن قلتففم إنهففا‬
‫مقدورة له لزمكم إثبات مقدور بين قادرين وهو محال‪ ،‬وإنكار كففون‬
‫النسففان وسففائر الحيففوان قففادرا ً فهففو منففاكرة للضففرورة ومجاحففدة‬
‫لمطالبات الشريعة‪ ،‬إذ تستحيل المطالبة بما ل قدرة عليه ويستحيل‬
‫أن يقول الله لعبده ينبغي أن تتعاطى ما هو مقدور لي وأنفا مسففتأثر‬
‫بالقدرة عليه ول قدرة لك عليه‪ .‬فنقففول‪ :‬فففي النفصففال قففد تحففزب‬
‫الناس في هذا أحزابًا؛ فذهبت المجبرة إلى انكار قدرة العبد فلزمها‬
‫إنكار ضرورة التفرقة بين حركة الرعدة والحركة الختيارية‪ ،‬ولزمهففا‬
‫أيضا ً استحالة تكاليف الشرع‪ ،‬وذهبت المعتزلة إلى انكار تعلق قدرة‬
‫الله تعالى بأفعال العبففاد مففن الحيوانففات والملئكففة والجففن والنففس‬
‫والشففياطين وزعمففت أن جميففع مففا يصففدر منهففا مففن خلففق العبففاد‬
‫واخففتراعهم ل قففدرة للففه تعففالى عليهففا بنفففي ول إيجففاب فلزمتهففا‬
‫شناعتان عظيمتان‪ :‬إحداهما انكار ما أطبق عليه السلف رضي اللففه‬
‫عنهففم مففن أنففه ل خففالق إل اللففه ول مخففترع سففواه‪ ،‬والثانيففة نسففبة‬
‫الختراع والخلق إلى قدرة من ل يعلم ما خلقه مففن الحركففات‪ ،‬فففإن‬
‫الحركات التي تصدر من النسان وسائر الحيوان لو سئل عن عددها‬
‫وتفاصيلها ومقاديرها لم يكن عنده خبر منها‪ ،‬بل الصبي كما ينفصففل‬
‫من المهد يدب إلى الثدي باختياره ويمتص‪ ،‬والهرة كما ولففدت تففدب‬
‫إلى ثدي أمها وهففي مغمضففة عينهففا‪ ،‬والعنكبففوت تنسففج مففن الففبيوت‬
‫أشففكال ً غريبففة يتحيففر المهنففدس فففي اسففتدارتها وتففوازي أضففلعها‬
‫وتناسففب ترتيبهففا وبالضففرورة تعلففم انفكاكهففا عففن العلففم بمففا تعجففز‬
‫المهندسون عن معرفته‪ ،‬والنحل تشكل بيوتها على شكل التسديس‬
‫فل يكون فهيا مربع ول مدور ول مسبع ول شففكل آخففر وذلففك لتميففز‬
‫شكل المسدس بخاصية دلت عليها البراهين الهندسفية ل توجفد ففي‬
‫غيرها‪ ،‬وهو مبني على اصففول أحففدها‪ ،‬أن أحففوى الشففكال وأوسففعها‬
‫الشففكل المسففتدير المنفففك عففن الزوايففا الخارجففة عففن السففتقامة‪،‬‬
‫والثاني‪ ،‬أن الشكال المستديرة إذا وضعت متراصة بقيت بينها فرج‬
‫معطلة ل محالة‪ ،‬والثالث‪ ،‬أن أقففرب الشففكال القليلففة الضففلع إلففى‬
‫المستديرة في الحتواء هو شكل المسدس‪ ،‬والرابع أن كل الشكال‬
‫القريبة مففن المسففتديرة كالمسففبع والمثمففن والمخمففس إذا وضففعت‬
‫جملة متراصة متجاورة بقيت بينها فرج معطلة ولففم تكففن متلصففقة‪،‬‬
‫وأما المربعة فإنها متلصقة ولكنها بعيدة عن احتففواء الففدوائر لتباعففد‬
‫زواياها عن أوساطها‪ ،‬ولما كان النحل محتاجا ً إلى شكل قريففب مففن‬
‫الففدوائر ليكففون حاويفا ً لشخصففه فففإنه قريففب مففن السففتدارة‪ ،‬وكففان‬
‫محتاجا ً لضففيق مكففانه وكففثرة عففدده إلففى أن ل يضففيع موضففعا ً بفففرج‬
‫تتخلل بين البيوت ول تتسع لشخاصففها ولففم يكفن فففي الشففكال مففع‬
‫خروجها عن النهاية شكل يقرب مففن السففتدارة ولففه هففذه الخاصففية‬
‫وهفو الفتراص والخلفو عفن بقفاء الففرج بيفن أعفدادها إل المسفدس‪،‬‬
‫فسخرها اللفه تعففالى لختيفار الشفكل المسفدس فففي صفناعة بيتهفا؛‬
‫فليت شعري أعرف النحل هذه الدقائق التي يقصر عن دركهففا أكففثر‬
‫عقلء النس أم سففخره لنيففل مفا هففو مضففطر إليففه الخففالق المنفففرد‬
‫بالجبروت وهو في الوسط مجفري فتقفدير اللفه تعفالى يجفري عليفه‬
‫وفيه‪ ،‬وهو ل يدريه ول قدرة له على المتناع عنه‪ ،‬وإن في صففناعات‬
‫الحيوانات من هففذا الجنففس عجففائب لففو أوردت منهففا طرففا ً لمتلت‬
‫الصدور من عظمة الله تعالى وجللففه‪ ،‬فتعسفا ً للزائغيففن عففن سففبيل‬
‫الله المغترين بقففدرتهم القاصففرة ومكنتهففم الضففعيفة الظففانين أنهففم‬
‫مساهمون الله تعالى في الخلق والختراع وإبداع مثل هذه العجائب‬
‫واليات‪ .‬هيهات هيهات ! ذلت المخلوقات وتفرد بالملففك والملكففوت‬
‫جبار الرض والسموات فهذه أنواع الشناعات اللزمففة علففى مففذهب‬
‫المعتزلة فانظر الن إلى أهل السنة كيففف وفقففوا للسففداد ورشففحوا‬
‫للقتصاد في العتقاد‪ .‬فقالوا‪ :‬القففول بففالجبر محففال باطففل‪ ،‬والقففول‬
‫بالختراع اقتحام هائل‪ ،‬وإنما الحق إثبات القدرتين على فعففل واحففد‪.‬‬
‫والقول بمقففدور منسففوب إلففى قففادرين فل يبقففى إل اسففتبعاد تففوارد‬
‫القدرتين على فعل واحد وهذا إنما يبعد إذا كان تعلق القدرتين على‬
‫وجه واحففد‪ ،‬فففإن اختلفففت القففدرتان واختلففف وجففه تعلقهمففا فتففوارد‬
‫التعلقين على شيء واحد غير محال كما سنبينه‪ .‬فإن قيل فما الذي‬
‫حملكم على اثبات مقدور بين قادرين ؟ قلنا‪ :‬البرهان القففاطع علففى‬
‫أن الحركة الختياريففة مفارقففة للرعففدة‪ ،‬وإن فرضففت الرعففدة مففراد‬
‫للمرتعد ومطلوبة له أيضا ً ول مفارقة إل بالقدرة‪ ،‬ثم البرهان القاطع‬
‫على أن كل ممكن تتعلق به قففدرة اللففه تعففالى وكففل حففادث ممكففن‬
‫وفعل العبد حادث فهو إذا ً ممكن فإن لم تتعلق به قدرة اللففه تعففالى‬
‫فهو محال‪ ،‬فإنا نقول‪ :‬الحركة الختيارية من حيث أنها حركففة حادثففة‬
‫ممكنة مماثلة لحركة الرعدة فيستحيل أن تتعلففق قففدرة اللففه تعفالى‬
‫بإحداهما وتقصر عن الخرى وهي مثلها‪ ،‬بل يلففزم عليففه محففال آخففر‬
‫وهو أن الله تعالى لو أراد تسكين يد العبد إذا أراد العبد تحريكهففا فل‬
‫يخلو إما أن توجد الحركة والسكون جميعا ً أو كلهما ل يوجد فيففؤدي‬
‫إلى اجتماع الحركة والسكون أو إلى الخلو عنهما‪ ،‬والخلو عنهما مففع‬
‫التناقض يوجب بطلن القدرتين‪ ،‬إذ القدرة مففا يحصففل بهففا المقففدور‬
‫عند تحقق الرادة وقبول المحل‪ ،‬فإن ظففن الخصففم أن مقففدور اللففه‬
‫تعالى يترجح لن قدرته أقوى فهو محففال‪ ،‬لن تعلففق القففدرة بحركففة‬
‫واحدة ل تفضل تعلق القدرة الخرى بهففا‪ ،‬إذ كففانت فففائدة القففدرتين‬
‫الختراع وإنما قوته باقتداره علففى غيففره واقتففداره علففى غيففره غيففر‬
‫مرجح في الحركة التي فيها الكلم‪ ،‬إذ حظ الحركة مففن كففل واحففدة‬
‫من القدرتين أن تصير مخترعفة بهفا والخفتراع يتسفاوى فليفس فيفه‬
‫أشد ول أضعف حتى يكففون فيففه ترجيففح‪ ،‬فففإذا ً الففدليل القففاطع علففى‬
‫إثبات القدرتين سففاقنا إلففى إثبففات مقففدور بيففن قففادرين‪ .‬فففإن قيففل‪:‬‬
‫الدليل ل يسوق إلى محال ل يفهم وما ذكرتموه غيففر مفهففوم‪ .‬قلنففا‪:‬‬
‫علينا تفهيمه وهو أنا نقول اخففتراع اللففه سففبحانه للحركففة فففي العبففد‬
‫معقول دون أن تكون الحركة مقففدورة للعبففد‪ ،‬فمهمففا خلففق الحركففة‬
‫وخلق معها قدرة عليها كان هو المستبد بالختراع للقدرة والمقففدور‬
‫جميعًا‪ ،‬فخرج منففه أنففه منفففرد بففالختراع وأن الحركففة موجففودة وأن‬
‫المتحرك عليها قادر وبسبب كفونه قفادرا ً ففارق حفاله حفال المرتعفد‬
‫فاندفعت الشكالت كلها‪ .‬وحاصله أن القادر الواسع القدرة هو قادر‬
‫علففى الخففتراع للقففدرة والمقففدور معففًا‪ ،‬ولمففا كففان اسففم الخففالق‬
‫والمخففترع مطلقفا ً علففى مففن أوجففد الشففيء بقففدرته وكففانت القففدرة‬
‫والمقدور جميعا ً بقدرة الله تعالى‪ ،‬سمي خالقا ً ومخترعًا‪ .‬ولففم يكففن‬
‫المقدور مخترعفا ً بقففدرة العبففد وإن كففان معففه فلففم يسففم خالقفا ً ول‬
‫مخترعا ً ووجب أن يطلب لهذا النمط من النسبة اسففم آخففر مخففالف‬
‫فطلب له اسم الكسب تيمنفا ً بكتففاب اللففه تعفالى‪ ،‬ففإنه وجفد إطلق‬
‫ذلك على أعمفال العبفاد ففي القفرآن وأمفا اسفم الفعفل ففتردد ففي‬
‫إطلقه ول مشاحة في السامي بعد فهم المعاني‪ .‬فإن قيل‪ :‬الشففأن‬
‫في فهم المعنى وما ذكرتموه غيففر مفهففوم‪ ،‬فففإن القففدرة المخلوقففة‬
‫الحادثة إن لم يكن لها تعلق بالمقدور لففم تفهففم؛ إذ قففدرة ل مقففدور‬
‫لها محال‪ ،‬كعلم ل معلوم له‪ .‬وإن تعلقت به فل يعقفل تعلفق القفدرة‬
‫بالمقدور إل من حيث التأثير واليجاد وحصول المقدور بففه‪ .‬فالنسففبة‬
‫بين المقدور والقدرة نسبة المسبب إلى السبب وهو كونه بففه‪ ،‬فففإذا‬
‫لم يكن به لم تكن علقة فلم تكن قدرة‪ ،‬إذ كل ما ل تعلق له فليس‬
‫بقدرة إذ القدرة من الصفات المتعلقة‪ .‬قلنففا‪ :‬هففي متعلقففة‪ ،‬وقففولكم‬
‫أن التعلق مقصور على الوقوع به يبطل بتعلففق الرادة والعلففم‪ ،‬وإن‬
‫قلتم أن تعلق القدرة مقصور على الوقوع بها فقط فهو أيضا ً باطل‪،‬‬
‫فإن القدرة عندكم تبقى إذا فرضت قبل الفعل‪ ،‬فهل هي متعلقة أم‬
‫ل ؟ فإن قلتم ل فهو محال‪ ،‬وإن قلتم نعم فليس المعنففي بهففا وقففوع‬
‫المقدور بها‪ ،‬إذ المقدور بعد لم يقع فل بد مفن إثبفات نفوع آخفر مفن‬
‫التعلق سوى الموقوع بها‪ ،‬إذ التعلق عند الحدوث يعبر عنففه بففالوقوع‬
‫به والتعلق قبل ذلك مخالف له فهو نوع آخر من التعلق‪ ،‬فقولكم إن‬
‫تعلق القدرة به نمط واحففد خطففأ وكففذلك القادريففة القديمففة عنففدهم‬
‫فإنها متعلقة بالعلم في الزل وقبل خلق العالم‪ ،‬فقولنا أنهففا متعلقففة‬
‫صادق وقولنا أن العالم واقع بها كففاذب‪ ،‬لنففه لففم يقففع بعففد فلففو كانففا‬
‫عبارتين عن معنى واحد لصدق أحدهما حيث يصدق الخر‪ .‬فإن قيل‪:‬‬
‫معنى تعلق القدرة قبل وقوع المقدور أن المقدور إذا وقع بها‪ .‬قلنا‪:‬‬
‫فليس هذا تعلقا ً في الحال بففل هففو انتظففار تعلففق‪ ،‬فينبغففي أن يقففال‬
‫القدرة موجودة وهي صفة ل تعلق لها ولكن ينتظر لها تعلق إذا وقع‬
‫وقع المقدور بها‪ ،‬وكذا القادرية ويلزم عليففه محففال‪ ،‬وهففو أن الصفففة‬
‫التي لم تكن من المتعلقات صارت من المتعلقات وهو محففال‪ .‬فففإن‬
‫قيل‪ :‬معناه أنها متهيئة لوقوع المقدور بها‪ .‬قلنا‪ :‬ول معنففى للتهيففؤ إل‬
‫انتظار الوقففوع بهفا‪ ،‬وذلففك ل يفوجب تعلقفا ً فففي الحففال‪ .‬فكمففا عقففل‬
‫عندكم قدرة موجودة متعلقة بالمقدور والمقدور غير واقع بها عقففل‬
‫عندنا أيضا ً قدرة كذلك والمقدور غير واقع بها ولكنه واقع بقدرة الله‬
‫تعالى‪ ،‬فلم يخالف مففذهبنا ههنففا مففذهبكم إل فففي قولنففا أنهففا وقعففت‬
‫بقدرة الله تعالى‪ ،‬فإذا لم يكن من ضرورة وجود القففدرة ول تعلقهففا‬
‫بالمقدور وجود المقدور بها؛ فمن أين يستدعي عدم وقوعهففا بقففدرة‬
‫الله تعالى ووجوده بقدرة الله تعففالى ل فضففل لففه علففى عففدمه مففن‬
‫حيث انقطاع النسففبة عففن القففدرة الحادثففة إذ النسففبة‪ ،‬إذا لففم تمتنففع‬
‫بعففدم المقففدور‪ ،‬فكيففف تمتنففع بوجففود المقففدور ؟ وكيففف مففا فففرض‬
‫المقدور موجودا ً أو معدوما ً فل بد من قدرة متعلقة ل مقدور لها في‬
‫الحال‪ .‬فإن قيل‪ :‬فقدرة ل يقع بها مقففدور‪ ،‬والعجففز‪ ،‬بمثابففة واحففدة‪،‬‬
‫قلنا‪ :‬إن عنيتم به أن الحالة التي يدركها النسان عند وجودها مثل ما‬
‫يدركها عند العجز في الرعدة فهو مناكرة للضرورة وإن عنيتففم أنهففا‬
‫بمثابة العجز في أن المقدور لم يقع بهففا فهففو صففدق ولكففن تسففميته‬
‫عجزا ً خطأ وإن كان مففن حيففث القصففور إذا نسففبت إلففى قففدرة اللففه‬
‫تعالى ظن أنه مثل العجز‪ ،‬وهذا كما أنه لو قيل القدرة قبففل الفعففل‪،‬‬
‫على أصلهم‪ ،‬مساوية للعجز من حيث أن المقدور غير واقع بها لكان‬
‫اللفظ منكرا ً من حيث أنها حالة مدركة يفففارق إدراكهففا فففي النفففس‬
‫إدراك العجز‪ ،‬فكذلك هذا‪ ،‬ول فرق وعلى الجملفة فل بففد مففن إثبففات‬
‫قففدرتين متفففاوتتين‪ ،‬إحففداهما أعلففى والخففرى بففالعجز أشففبه مهمففا‬
‫أضيفت إلى العلى‪ ،‬وأنت بالخيفار بيفن أن تثبفت للعبفد قفدرة تفوهم‬
‫نسبة العجز للعبد من وجه‪ ،‬وبين أن تثبت للففه سففبحانه ذلففك تعففالى‬
‫الله عما يقول الزائغون‪ .‬ول تستريب إن كنت منصفا ً فففي أن نسففبة‬
‫القصور والعجز بالمخلوقات أولى بل ل يقففال أولففى لسففتحالة ذلففك‬
‫في حق الله تعالى فهففذا غايففة مففا يحتملففه هففذا المختصففر مففن هففذه‬
‫المسألة‪ .‬الفرع الثالث‪ :‬فإن قال قففائل‪ :‬كيففف تففدعون عمففوم تعلففق‬
‫القدرة بجملة الحوادث وأكثر ما فففي العففالم مففن الحركففات وغيرهففا‬
‫متولدات يتولد بعضففها مففن بعففض بالضففرورة‪ ،‬فففإن حركففة اليففد مثل ً‬
‫بالضرورة تولد حركة الخاتم‪ ،‬وحركة اليد في الماء تولد حركة الماء‪،‬‬
‫وهو مشاهد‪ ،‬والعقل أيضا ً يدل عليه إذ لو كانت حركة الماء والخففاتم‬
‫بخلق الله تعالى لجاز أن يخلق حركة اليد دون الخففاتم وحركففة اليففد‬
‫دون الماء‪ ،‬وهو محال‪ ،‬وكذا في المتولدات مع انشعابها‪ .‬فنقول‪ :‬مففا‬
‫ل يفهم ل يمكن التصففرف فيففه بففالرد والقبففول‪ ،‬فففإن كففون المففذهب‬
‫ل‪ .‬والمعلوم عندنا من عبارة التولففد‬ ‫مردودا ً أو مقبول ً بعد كونه معقو ً‬
‫أن يخرج جسم من جوف جسففم كمففا يخففرج الجنيففن مففن بطففن الم‬
‫والنبات من بطن الرض‪ ،‬وهذا محال في العراض؛ إذ ليففس لحركففة‬
‫اليد جوف حتى تخرج منه حركففة الخففاتم ول هففو شففيء حففاو لشففياء‬
‫حتى يرشح منه بعض ما فيه‪ ،‬فحركة الخاتم إذا لم تكففن كامنففة فففي‬
‫ذات حركة اليد فما معنى تولدها منها ؟ فل بد مففن تفهيمففه‪ ،‬وإذا لففم‬
‫يكن هذا مفهوما ً فقولكم إنه مشففاهد حماقففة‪ ،‬إذ كونهففا حادثففة معهففا‬
‫مشاهد ل غير‪ ،‬فأما كونها متولد منها فغير مشفاهد‪ ،‬وقفولكم إنفه لفو‬
‫كان بخلق الله تعالى لقففدر علففى أن يخلففق حركففة اليففد دون الخففاتم‬
‫وحركة اليد دون الماء فهذا هوس يضاهي قفول القفائل لفو لففم يكفن‬
‫العلم متولدا ً من الرادة لقففدر علففى أن يخلففق الرادة دون العلففم أو‬
‫العلففم دون الحيففاة‪ ،‬ولكففن نقففول‪ :‬المحففال غيففر مقففدور ووجففود‬
‫المشروط دون الشرط غير معقول‪ ،‬والرادة شرطها العلففم والعلففم‬
‫شرطه الحياة وكذلك شرط شغل الجففوهر لحيففز فففراغ ذلففك الحيففز‪،‬‬
‫فإذا حرك الله تعالى اليد فل بد أن يشغل بها حيزا ً فففي جففوار الحيففز‬
‫الذي كانت فيه‪ ،‬فمفا لفم يفرغفه كيفف يشفغله بفه ؟ ففراغفه شفرط‬
‫اشتغاله باليد‪ ،‬إذ لو تحرك ولم يفرغ الحيز من المففاء بعففدم المففاء أو‬
‫حركته لجتمع جسمان في حيز واحد وهو محال‪ ،‬فكان خلو أحففدهما‬
‫شرطا ً للخر فتلزما فظن أن أحففدهما متولففد مففن الخففر وهففو خطففأ‬
‫فأما اللزمات التي ليست شرطا ً فعندنا يجوز أن تنفك عن القتران‬
‫بما هو لزم لها‪ ،‬بل لزومه بحكم طرد العادة كففاحتراق القطففن عنففد‬
‫مجاورة النار وحصول البرودة في اليد عند مماسففة الثلففج‪ ،‬فففإن كففل‬
‫ذلك مستمر بجريان سنة الله تعفالى‪ ،‬وإل فالقففدرة مفن حيففث ذاتهففا‬
‫غير قاصرة عن خلق البرودة في الثلج والمماسة في اليد مففع خلففق‬
‫الحرارة في اليففد بففدل ً عففن الففبرودة‪ .‬فففإذا ً مففا يففراه الخصففم متولففدا ً‬
‫قسمان‪ :‬أحدهما شففرط فل يتصففور فيففه إل القففتران‪ ،‬والثففاني ليففس‬
‫بشرط فيتصور فيه غير القتران إذ خرقت العادات‪ .‬فإن قففال قففائل‬
‫لم تدلوا على بطلن التولد ولكن أنكرتم فهمه وهففو مفهففوم‪ ،‬فإنففا ل‬
‫نريد به ترشففح الحركففة مففن الحركففة بخروجهففا مففن جوفهففا ول تولففد‬
‫برودة من برودة الثلج بخروج البرودة من الثلج وانتقالها أو بخروجها‬
‫من ذات البرودة‪ ،‬بل نعني بففه وجففود موجففود عقيففب موجففود وكففونه‬
‫موجودا ً وحادثا ً به فالحادث نسميه متولدا ً والذي به الحدوث نسففميه‬
‫مولدا ً وهذه التسمية مفهومة فما الذي يدل على بطلنففه ؟ قلنففا‪ :‬إذا‬
‫أقررتم بذلك دل على بطلنه ما دل على بطلن كون القدرة الحادثة‬
‫موجودة فإنا إذا أحلنا أن نقول حصل مقدور بقففدرة حادثففة فكيففف ل‬
‫يخيل الحصول بما ليس بقدرة واستحالته راجعففة إلففى عمففوم تعلففق‬
‫القدرة‪ ،‬وإن خروجه عن القدرة مبطل لعموم تعلقها وهو محففال ثففم‬
‫هو موجب للعجز والتمانع كما سبق‪ .‬نعم‪ ،‬وعلففى المعتزلففة القففائلين‬
‫بالتولد مناقضات فففي تفصففيل التولففد ل تحصففى‪ ،‬كقففولهم إن النظففر‬
‫يولد العلم‪ ،‬وتذكره ل يولده إلى غير ذلك ممففا ل نطففول بففذكره‪ ،‬فل‬
‫معنى للطناب فيما هو مستغنى عنه‪ ،‬وقد عرفت من جملة هففذا أن‬
‫الحادثات كلها‪ ،‬جواهرهففا وأعراضففها الحادثففة منهففا فففي ذات الحيففاء‬
‫والجمادات‪ ،‬واقعة بقدرة الله تعالى‪ ،‬وهو المستبد باختراعها‪ ،‬وليس‬
‫تقع بعض المخلوقات ببعض بل الكل يقع بالقدرة وذلك مففا أردنففا أن‬
‫نبين من إثبات صفة القدرة لله تعالى وعموم حكمها وما اتصففل بهففا‬
‫من الفروع واللوازم‪ .‬الصفة الثانية العلم ندعي أن الله تعالى عففالم‬
‫بجميففع المعلومففات الموجففودات والمعففدومات؛ فففإن الموجففودات‬
‫منقسمة إلى قديم وحادث‪ ،‬والقديم ذاتففه وصفففاته ومففن علففم غيففره‬
‫فهففو بففذاته وصفففاته أعلففم‪ ،‬فيجففب ضففرورة أن يكففون بففذاته عالم فا ً‬
‫وصفاته إن ثبت أنه عففالم بغيففره‪ .‬ومعلففوم أنففه عففالم بغيففره لن مففا‬
‫ينطلق عليه اسم الغير فهو صنعه المتقففن وفعلففه المحكففم المرتففب‬
‫وذلك يدل على قدرته على ما سبق؛ فإن من رأى خطوطا ً منظومة‬
‫تصدر على التساق من كاتب ثم اسففتراب فففي كففونه عالم فا ً بصففنعة‬
‫الكتابة كان سفيها ً في استرابته‪ ،‬فإذا ً قد ثبت أنه عالم بذاته وبغيره‪.‬‬
‫فإن قيل فهل لمعلوماته نهاية ؟ قلنا‪ :‬ل؛ فإن الموجودات في الحففال‬
‫وإن كانت متناهية فالممكنات في الستقبال غير متناهية‪ ،‬ونعلففم أن‬
‫الممكنات التي ليست بموجودة أنه سيوجدها أول يوجدها‪ ،‬فيعلم إذا ً‬
‫ما ل نهاية له بففل لففو أردنففا أن نكففثر علففى شففيء واحففد وجوهفا ً مففن‬
‫النسب والتقديرات لخرج عن النهاية والله تعالى عالم بجميعها‪ .‬فإنا‬
‫نقففول مثل ً ضففعف الثنيففن أربعففة‪ ،‬وضففعف الربعففة ثمانيففة‪ ،‬وضففعف‬
‫الثمانية سففتة عشففر‪ ،‬وهكففذا نضففعف ضففعف الثنيففن وضففعف ضففعف‬
‫الضعف ول يتناهى‪ ،‬والنسان ل يعلم من مراتبها إل ما يقدره بذهنه‪،‬‬
‫وسينقطع عمره ويبقى مفن التضفعيفات مفا ل يتنفاهى‪ .‬ففإذا ً معرففة‬
‫أضعاف أضعاف الثنين‪ ،‬وهو عدد واحد‪ ،‬يخففرج عففن الحصففر وكففذلك‬
‫كل عدد‪ ،‬فكيف غير ذلك من النسففب والتقففديرات‪ ،‬وهففذا العلففم مففع‬
‫تعلقه بمعلومات ل نهاية لها واحد كما سيأتي بيانه من بعد مع سففائر‬
‫الصفات‪ .‬الصفة الثالثففة الحيففاة نففدعي أنففه تعففالى حففي وهففو معلففوم‬
‫بالضرورة‪ ،‬ولم ينكره أحد ممن اعففترف بكففونه تعففالى عالمفا ً قففادرًا‪.‬‬
‫فإن كون العالم القادر حيا ً ضروري إذ ل يعنففي بففالحي إل مففا يشففعر‬
‫بنفسه ويعلم ذاته وغيره‪ ،‬والعفالم بجميفع المعلومفات والقفادر علفى‬
‫جميع المقدورات كيف ل يكون حيًا‪ ،‬وهذا واضففح والنظففر فففي صفففة‬
‫الحياة ل يطول‪ .‬الصفة الرابعة الرادة نففدعي أن اللففه تعففالى مريففد‬
‫لفعاله وبرهانه أن الفعل الصادر منه مختص بضروب مفن الجفواز ل‬
‫يتميز بعضففها مففن البعففض إل بمرجففح‪ ،‬ول تكفففي ذاتففه للترجيففح‪ ،‬لن‬
‫نسبة الذات إلففى الضففدين واحففدة فمففا الففذي خصففص أحففد الضففدين‬
‫بالوقوع في حال دون حال ؟ وكذلك القدرة ل تكفففي فيففه‪ ،‬إذ نسففبة‬
‫القدرة إلى الضففدين واحففدة‪ ،‬وكففذلك العلففم ل يكفففي خلففا ً للكعففبي‬
‫حيث اكتفى بالعلم عففن الرادة لن العلففم يتبففع المعلفوم ويتعلففق بفه‬
‫على ما هو عليه ول يؤثر فيه ول يغيره‪ .‬فإن كان الشيء ممكنا ً فففي‬
‫نفسه مساويا ً للممكن الخر الذي في مقابلته فالعلم يتعلق به علففى‬
‫ما هو عليه ول يجعل أحد الممكنين مرجح فا ً علففى الخففر‪ ،‬بففل نعقففل‬
‫الممكنين ويعقل تسففاويهما‪ ،‬واللففه سففبحانه وتعففالى يعلففم أن وجففود‬
‫العالم في الوقت الذي وجد فيه كان ممكن فًا‪ ،‬وأن وجففوده بعففد ذلففك‬
‫وقبل ذلك كان مساويا ً له في المكان لن هذه المكانات متسففاوية‪،‬‬
‫فحق العلم أن يتعلق بهففا كمففا هففو عليففه فففإن اقتضففت صفففة الرادة‬
‫وقوعه في وقت معين تعلق العلم بتعيين وجففوده فففي ذلففك الففوقت‬
‫لعلة تعلق الرادة به فتكون الرادة للتعيين علة ويكون العلم متعلقا ً‬
‫به تابعا ً له غيففر مففؤثر فيففه‪ ،‬ولففو جففاز أن يكتفففى بففالعلم عففن الرادة‬
‫لكتفي به عن القدرة‪ ،‬بل كان ذلك يكفي في وجففود أفعالنففا حففتى ل‬
‫نحتاج إلى الرادة‪ ،‬إذ يترجح أحد الجانبين بتعلق علم اللففه تعففالى بففه‬
‫وكل ذلك محال‪ .‬فإن قيل‪ :‬وهففذا ينقلففب عليكففم فففي نفففس الرادة‪،‬‬
‫فإن القدرة كمففا ل تناسففب أحففد الضففدين فففالرادة القديمففة أيضفا ً ل‬
‫تتعيففن لحففد الضففدين‪ ،‬فاختصاصففها بأحففد الضففدين ينبغففي أن يكففون‬
‫بمخصص ويتسلسل ذلففك إلففى غيففر نهايففة‪ ،‬إذ يقففال الففذات ل تكفففي‬
‫للحدوث‪ ،‬إذ لو حدث من الذات لكان مففع الففذات غيففر متففأخر فل بففد‬
‫من القففدرة والقففدرة ل تكفففي إذ لففو كففان للقففدرة لمففا اختففص بهففذا‬
‫الوقت وما قبله وما بعده في النسففبة إلففى جففواز تعلففق القففدرة بهففا‬
‫على وتيففرة‪ ،‬فمففا الففذي خصففص هففذا الففوقت فيحتففاج إلففى الرادة ؟‬
‫فيقال‪ :‬والرادة ل تكفي‪ ،‬فإن الرادة القديمة عامة التعلق كالقففدرة‪،‬‬
‫فنسبتها إلى الوقات واحدة ونسبتها إلى الضدين واحففدة‪ ،‬فففإن وقففع‬
‫الحركفففة مثل ً بفففدل ً عفففن السفففكون لن الرادة تعلقفففت بالحركفففة ل‬
‫بالسكون‪ .‬فيقال‪ :‬وهل كان يمكن أن يتعلق بالسففكون ؟ فففإن قيففل‪:‬‬
‫ل‪ ،‬فهففو محففال؛ وإن قيففل‪ :‬نعففم‪ ،‬فهمففا متسففاويان؛ أعنففي الحركففة‬
‫والسكون ففي مناسفبة الرادة القديمفة فمفا الفذي أوجفب تخصفيص‬
‫الرادة القديمة بالحركة دون السكون فيحتاج إلى مخصص ثم يلففزم‬
‫السؤال في مخصص المخصص ويتسلسل إلى غير نهاية ‪ ..‬قلنا‪ :‬هذا‬
‫سؤال غير معقول حير عقول الفرق ولم يوفق للحق إل أهل السففنة‬
‫فالناس فيه أربع فرق‪ :‬قائل يقول إن العالم وجد لذات الله سففبحانه‬
‫وتعالى وإنه ليس للذات صفة زائدة البتة‪ ،‬ولمففا كففان الففذات قديمففة‬
‫كان العالم قديما ً وكانت نسبة العالم إليه كنسبة المعلول إلى العلة‪،‬‬
‫ونسففبة النففور إلففى الشففمس‪ ،‬والظففل إلففى الشففخص؛ وهففؤلء هففم‬
‫الفلسفة‪ .‬وقائل يقول إن العالم حادث ولكن حدث في الوقت الذي‬
‫حففدث فيففه ل قبلففه ول بعففده لرادة حادثففة حففدثت لففه ل فففي محففل‬
‫فاقتضت حدوث العالم‪ ،‬وهففؤلء هففم المعتزلففة‪ .‬وقففائل يقففول حففدث‬
‫بففإرادة حادثففة حففدثت فففي ذاتففه‪ ،‬وهففؤلء هففم القففائلون بكففونه محل ً‬
‫للحوادث‪ .‬وقائل يقول حدث العالم في الوقت الففذي تعلقففت الرادة‬
‫القديمة بحدوثه في ذلك الففوقت‪ ،‬مففن غيففر حففدوث إرادة ومففن غيففر‬
‫تغير صفة القديم‪ ،‬فانظر إلى الفرق وانسففب مقففام كففل واحففد إلففى‬
‫الخر‪ ،‬فإنه ل ينفك فريق عن إشكال ل يمكففن حلففه إل إشففكال أهففل‬
‫السنة فإنه سريع النحلل‪ .‬أما الفلسفة فقد قالوا بقدم العالم‪ ،‬وهو‬
‫محال‪ ،‬لن الفعل يستحيل أن يكون قففديمًا؛ إذ معنففى كففونه فعل ً أنففه‬
‫لم يكن ثم كان‪ ،‬فإن كان موجودا ً مع اللفه أبفدا ً فكيفف يكفون فعل ً ؟‬
‫بل يلزم من ذلك دورات ل نهاية لها على ما سبق‪ ،‬وهففو محففال مففن‬
‫وجوه‪ ،‬ثففم إنهففم مففع اقتحففام هففذا الشففكال لففم يتخلصففوا مففن أصففل‬
‫السؤال وهو أن الرادة لم تعلقت بالحدوث فففي وقففت مخصففوص ل‬
‫قبلففه ول بعففده‪ ،‬مففع تسففاوي نسففب الوقففات إلففى الرادة‪ ،‬فففإنهم إن‬
‫تخلصوا عن خصوص الوقت لم يتخلصوا عففن خصففوص الصفففات‪ ،‬إذ‬
‫العالم مخصوص بمقدار مخصوص ووضع مخصوص‪ ،‬وكانت نقايضها‬
‫ممكنة في العقل‪ ،‬والذات القديمة ل تناسففب بعففض الممكنففات دون‬
‫بعض‪ ،‬ومن أعظم ما يلزمهم فيه‪ ،‬ول عذر لهم عنه أمران أوردناهما‬
‫في كتاب تهافت الفلسفة ول محيص لهم عنهما البتففة‪ :‬أحففدهما‪ ،‬أن‬
‫حركففات الفلك بعضففها مشففرقية أي مففن المشففرق إلففى المغففرب‪،‬‬
‫وبعضها مغربية أي من مغرب الشمس إلى المشرق‪ ،‬وكففان عكففس‬
‫ذلك في المكففان مسففاويا ً لففه‪ ،‬إذ الجهففات فففي الحركففات متسففاوية‪،‬‬
‫فكيف لزم من الففذات القديمففة أو مففن دورات الفلك وهففي قديمففة‬
‫عندهم أن تتعين جهة عن جهة تقابلها وتساويها من كل وجه ؟ وهففذا‬
‫ل جواب عنففه‪ .‬الثففاني‪ ،‬أن الفلففك القصففى الففذي هففو الفلففك التاسففع‬
‫عندهم المحرك لجميع السماوات بطريفق القهفر ففي اليفوم والليلفة‬
‫مرة واحدة يتحرك على قطففبين شففمالي وجنففوبي‪ ،‬والقطففب عبففارة‬
‫عن النقطتين المتقابلتين على الكرة الثابتتين عند حركة الكرة على‬
‫نفسها‪ ،‬والمنطقة عبارة عن دائرة عظيمة على وسط الكففرة بعففدها‬
‫من النقطتين واحد‪ .‬فنقول‪ :‬جرم الفلك القصففى متشففابه‪ ،‬ومففا مففن‬
‫نقطة إل ويتصور أن تكون قطبًا‪ .‬فما الذي أوجب تعيين نقطتين من‬
‫بين سائر النقط التي ل نهاية لها عندهم‪ ،‬فل بد من وصف زائد على‬
‫الذات من شأنه تخصيص الشيء عففن مثلففه وليففس ذلففك إل الرادة‪.‬‬
‫وقد استوفينا تحقيق اللتزامين فففي كتففاب التهففافت‪ .‬وأمففا المعتزلففة‬
‫فقد اقتحموا أمرين شففنيعين بففاطلين‪ :‬أحففدهما‪ ،‬كففون البففاري تعففالى‬
‫مريدا ً بإرادة حادثة ل في محل‪ ،‬وإذا لم تكن الرادة قائمة به فقففول‬
‫القائل إنه مريدها هجففر مفن الكلم‪ ،‬كقفوله إنفه مريفد بفإرادة قائمفة‬
‫بغيره‪ .‬والثاني‪ ،‬أن الرادة لم حدثت في هذا الوقت على الخصوص‪،‬‬
‫ففففإن كفففانت بففإرادة أخفففرى فالسفففؤال ففففي الرادة الخفففرى لزم‪،‬‬
‫ويتسلسل إلى غير نهاية‪ ،‬وإن كان ليس بإرادة فليحدث العففالم فففي‬
‫هذا الوقت على الخصوص ل بارادة‪ ،‬فإن افتقار الحادث إلففى الرادة‬
‫لجوازه ل لكونه جسما ً أو اسما ً أو إرادة أو علمًا‪ .‬والحادثات في هذا‬
‫متساوية‪ ،‬ثم لم يتخلصوا من الشكال إذ يقال لهم لم حدثت الرادة‬
‫في هذا الوقت على الخصوص ولم حففدثت إرادة الحركففة دون إرادة‬
‫السكون‪ ،‬فإن عندهم يحدث لكل حففادث إرادة حادثففة متعلقففة بففذلك‬
‫الحادث فلم لم تحدث إرادة تتعلق بضففده ؟ وأمففا الففذين ذهبففوا إلففى‬
‫حدوث الرادة في ذاته تعالى ل متعلقة بذلك الحادث فقد دفعوا أحد‬
‫الشكالين وهو كونه مريدا ً بإرادة في غير ذاتففه ولكففن زادوا إشففكال ً‬
‫آخر وهو كونه محل ً للحففوادث‪ ،‬وذلففك يففوجب حففدوثه‪ .‬ثففم قففد بقيففت‬
‫عليهم بقية الشفكال ولففم يتخلصفوا مفن السفؤال‪ .‬وأمفا أهفل الحففق‬
‫فإنهم قالوا إن الحادثات تحدث بإرادة قديمة تعلقت بها فميزتها عن‬
‫أضدادها المماثلة لها‪ ،‬وقول القائل إنه لم تعلقت بها وأضدادها مثلها‬
‫في المكان‪ ،‬هذا سؤال خطأ فإن الرادة ليست إل عبارة عن صفففة‬
‫شففأنها تمييففز الشففيء علففى مثلففه‪ .‬فقففول القففائل لففم ميففزت الرادة‬
‫الشيء عن مثله‪ ،‬كقول القائل لم أوجب العلففم انكشففاف المعلففوم‪،‬‬
‫فيقال‪ :‬ل معنى للعلم إل ما أوجب انكشاف المعلوم‪ ،‬فقففول القففائل‬
‫لم أوجب النكشاف كقوله لم كان العلففم علمفًا‪ ،‬ولففم كففان الممكففن‬
‫ممكنفًا‪ ،‬والففواجب واجبفًا‪ ،‬وهففذا محففال؛ لن العلففم علففم لففذاته وكففذا‬
‫الممكن والففواجب وسففائر الففذوات‪ ،‬فكففذلك الرادة وحقيقتهففا تمييففز‬
‫الشيء عن مثله‪ .‬فقول القائل لم ميزت الشيء عن مثله كقوله لم‬
‫كانت الرادة إرادة والقدرة قدرة‪ ،‬وهو محففال‪ ،‬وكففل فريففق مضففطر‬
‫إلى اثبات صفة شأنها تمييز الشيء عن مثله وليس ذلففك إل الرادة‪،‬‬
‫فكان أقوم الفرق قيل ً وأهفداهم سففبيل ً مفن أثبفت هففذه الصففة ولفم‬
‫يجعلهففا حادثففة‪ ،‬بففل قففال هففي قديمففة متعلقففة بالحففداث فففي وقففت‬
‫مخصوص‪ ،‬فكان الحدوث في ذلك الوقت لذلك‪ ،‬وهذا ما ل يسففتغني‬
‫عنه فريق من الفرق وبه ينقطع التسلسل في لففزوم هففذا السففؤال‪.‬‬
‫والن فكما تمهد القول في أصل الرادة ففاعلم انهفا متعلقفة بجميفع‬
‫الحادثات عندنا من حيث أنه ظهففر أن كففل حففادث فمخففترع بقففدرته‪،‬‬
‫وكل مخترع بالقدرة محتاج إلى ارادة تصرف القففدرة إلففى المقففدور‬
‫وتخصصها به‪ ،‬فكل مقدور مراد‪ ،‬وكففل حففادث مقففدور‪ ،‬فكففل حففادث‬
‫مراد والشر والكفر والمعصية حوادث‪ ،‬فهي إذا ً ل محالة مرادة‪ .‬فما‬
‫شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬فهففذا مففذهب السففلف الصففالحين‬
‫ومعتقد أهل السنة أجمعين وقد قامت عليه البراهين‪ .‬وأما المعتزلففة‬
‫فإنهم يقولون إن المعاصي كلها والشرور حادثة بغير إرادته‪ ،‬بفل هففو‬
‫كاره لها‪ .‬ومعلوم أن أكثر ما يجففري فففي العففالم المعاصففي فففإذا ً مففا‬
‫يكرهه أكثر مما يريففده فهففو إلففى العجففز والقصففور أقففرب بزعمهففم‪،‬‬
‫تعالى رب العالمين عن قول الظالمين‪ .‬فإن قيل‪ :‬فكيف يأمر بمففا ل‬
‫يريد ؟ وكيف يريد شيئا ً وينهى عنه ؟ وكيف يريد الفجور والمعاصففي‬
‫والظلم والقبيح ومريد القبيح سفففيه ؟ قلنففا‪ :‬إذا كشفففنا عففن حقيقففة‬
‫المر وبينا أنه مباين للرادة وكشفففنا عففن القبيففح والحسففن وبينففا أن‬
‫ذلك يرجع إلى موافقة العراض ومخالفتها‪ ،‬وهو سففبحانه منففزه عففن‬
‫العراض فاندفعت هذه الشكالت وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء‬
‫الله تعالى‪ .‬الصفة الخامسة والسادسة في السمع والبصر ندعي ان‬
‫صانع العالم سميع بصير‪ ،‬ويففدل عليففه الشففرع والعقففل‪ .‬أمففا الشففرع‬
‫فيدل عليه آيات مففن القففرآن كففثيرة كقففوله "وهففو السففميع البصففير"‬
‫وكقول إبراهيم عليه السلم لم تعبد ما ل يسفمع ول يبصففر ول يعنفي‬
‫عنك شيئا ً ونعلم أن الدليل غير منقلب عليه فففي معبففوده وأنففه كففان‬
‫يعبد سميعا ً بصيرا ً ول يشاركه في اللزام‪ .‬فففإن قيففل‪ :‬إنمففا أريففد بففه‬
‫العلم‪ .‬قلنا‪ :‬إنما تصرف ألفففاظ الشففارع عففن موضففوعاتها المفهومففة‬
‫السابقة إلى الفهام إذا كفان يسفتحيل تقفديرها علفى الموضفوع‪ ،‬ول‬
‫استحالة في كونه سميعا ً بصيرًا‪ ،‬بل يجب أن يكون كذلك‪ ،‬فل معنففى‬
‫للتحكم بإنكار ما فهمه أهففل الجمففاع مففن القففرآن‪ .‬فففإن قيففل‪ :‬وجففه‬
‫استالته إنه إن كان سمعه وبصره حادثين كففان محل ً للحففوادث‪ ،‬وهففو‬
‫محال‪ ،‬وإن كانففا قففديمين فكيففف يسففمع صففوتا ً معففدوما ً وكيففف يففرى‬
‫العففالم فففي الزل والعففالم معففدوم والمعففدوم ل يففرى ؟ قلنففا‪ :‬هففذا‬
‫السوال يصدر عن معتزلي أو فلسفي‪ .‬أمففا المعففتزلي فففدفعه هيففن‪،‬‬
‫فإنه سلم أنه يعلم الحادثات‪ ،‬فنقول‪ :‬يعلم اللفه الن إن العفالم كفان‬
‫موجودا ً قبل هذا فكيف علم في الزل أنه يكون موجودا ً وهو بعد لم‬
‫يكن موجودا ً ؟ فإن جز إثبات صفة تكون عند وجود العالم علما بففأنه‬
‫كائن‪ ،‬وفعله بأنه سيكون وبعده بأنه كان وقبله بأنه سففيكون‪ ،‬وهففو ل‬
‫يتغيففر عففبر عنففه بففالعلم بالعففالم والعلميففة‪ ،‬جففاز ذلففك فففي السففمع‬
‫والسمعية والبصر والبصرية‪ .‬وإن صدر من فلسفي فهو منكر لكففونه‬
‫عالما ً بالحادثات المعينة الداخلة فففي الماضففي والحففال والمسففتقبل‪،‬‬
‫فسفبيلنا أن ننقففل الكلم إلفى العلفم ونثبففت عليففه جفواز علفم قففديم‬
‫متعلق بالحادثات كما سنذكره‪ ،‬ثم إذا ثبت ذلك في العلم قسنا عليه‬
‫السمع والبصففر‪ .‬وأمففا المسففلك العقلففي‪ ،‬فهففو أن نقففول‪ :‬معلففوم أن‬
‫الخالق أكمل من المخلوق‪ ،‬ومعلوم أن البصير أكمل ممن ل يبصففر‪،‬‬
‫والسميع أكمل ممففن ل يسففمع‪ ،‬فيسففتحيل أن يثبففت وصففف الكمففال‬
‫للمخلففوق ول نثبتففه للخففالق‪ .‬وهففذان أصففلن يوجبففان القففرار بصففحة‬
‫دعوانا ففي أيهما النزاع ؟ فإن قيففل‪ :‬النففزاع فففي قففولكم واجففب أن‬
‫يكون الخالق أكمل من المخلوق‪ .‬قلنا‪ :‬هذا مما يجففب العففتراف بففه‬
‫ل‪ ،‬والمة والعقلء مجمعون عليه‪ ،‬فل يصدر هففذا السففؤال‬ ‫شرعا ً وعق ً‬
‫من معتقد‪ .‬ومن اتسع عقله لقبول قادر يقففدر علففى اخففتراع مففا هففو‬
‫أعلى وأشرف منه فقد انخلع عن غريزة البشرية ونطق لسففانه بمففا‬
‫ينبو عن قبوله قلبه إن كان يفهم ما يقوله‪ ،‬ولهذا ل نرى عاقل ً يعتقد‬
‫هذا العتقاد‪ .‬فإن قيففل‪ :‬النففزاع فففي الصففل الثففاني‪ ،‬وقففو قففولكم إن‬
‫البصير أكمل وإن السمع والبصر كمال‪ .‬قلنا‪ :‬هذا أيضا ً مدرك ببديهففة‬
‫العقل‪ ،‬فإن العلم كمال والسمع والبصر كمال ثففان للعلففم‪ ،‬فإنففا بينففا‬
‫أنه استكمال للعلم والتخيل‪ ،‬ومن علم شيئا ً ولم يره ثم رآه اسففتفاد‬
‫مزيد كشف وكمففال فكيففف يقففال إن ذلففك حاصففل للمخلففوق وليففس‬
‫بحاصل للخالق أو يقال إن ذلك ليس بكمال‪ ،‬فإن لم يكن كمال ً فهففو‬
‫نقص أو ل هو نقص ول هو كمال‪ ،‬وجميع هذه القسام محال‪ ،‬فظهر‬
‫ان الحق ما ذكرناه‪ .‬فففإن قيففل‪ :‬هففذا يلزمكففم فففي الدراك الحاصففل‬
‫بالشففم والففذوق واللمففس لن فقففدها نقصففان ووجودهففا كمففال فففي‬
‫الدراك‪ ،‬فليس كمال علم من علم الرائحففة ككمففال علففم مففن أدرك‬
‫بالشم‪ ،‬وكذلك بالففذوق فففأين العلففم بففالطعوم مففن إدراكهففا بالففذوق‪.‬‬
‫والجففواب إن المحققيففن مففن أهففل الحففق صففرحوا بإثبففات أنففواع‬
‫الدراكات مع السمع والبصر والعلم الذي هو كمال في الدراك دون‬
‫السباب التي هي مقترنة بها في العادة من المماسة والملقاة‪ ،‬فإن‬
‫ذلك محال على الله تعالى‪ .‬كما جوزوا ادراك البصر من غير مقابلففة‬
‫بينه وبين المبصر‪ ،‬وفي طرد هذا القياس دفع هذا السففؤال ول مففانع‬
‫منه ولكن لما لم يرد الشرع إل بلفففظ العلففم والسففمع والبصففر فلففم‬
‫يمكن لنا إطلق غيره‪ .‬وأما ما هو نقصان في الدراك فل يجففوز فففي‬
‫حقه تعالى البتة‪ ،‬فإن قيل يجر هذا إلى إثبات التلذذ والتألم‪ ،‬فالخففدر‬
‫الذي ل يتألم بالضرب ناقص‪ ،‬والعنين الذي ل يتلذذ بالجمففاع نففاقص‪،‬‬
‫وكذا فساد الشهوة نقصان‪ ،‬فينبغي أن نثبت فففي حقففه شففهوة‪ ،‬قلنففا‬
‫هفذه المفور تفدل علفى الحفدوث وهفي ففي أنفسفها إذا بحفث عنهفا‬
‫نقصانات‪ ،‬وهي محوجة إلى أمور توجب الحدوث‪ ،‬فاللم نقصان‪ ،‬ثم‬
‫هففو محففوج إلففى سففبب هففو ضففرب‪ ،‬والضففرب مماسففة تجففري بيففن‬
‫الجسام‪ ،‬واللذة ترجع إلى زوال اللم إذا حققت أو ترجففع إلففى درك‬
‫مففا هففو محتففاج إليففه ومشففتاق إليففه‪ ،‬والشففوق والحاجففة نقصففان‪،‬‬
‫فففالموقوف علففى النقصففان نفاقص‪ ،‬ومعنففى الشففهوة طلففب الشففيء‬
‫الملئم ول طلب إل عند فقد المطلوب ول لذة إل عند نيل مففا ليففس‬
‫بموجود‪ ،‬وكل ما هو ممكففن وجففوده للففه فهففو موجففود فليففس يفففوته‬
‫شيء حتى يكون بطلبه مشتهيا ً وبنيله ملتذًا‪ ،‬فلم تتصور هذه المففور‬
‫في حقه تعالى وإذا قيل إن فقد التألم والحساس بالضففرب نقصففان‬
‫في حق الخدر‪ ،‬وإن إدراكه كمففال وإن سففقوط الشففهوة مففن معففدته‬
‫نقصان‪ ،‬وثبوتها كمال أريد به أنه كمال بالضافة إلى ضده الففذي هففو‬
‫مهلك في حقه‪ ،‬فصار كمال ً بالضافة إلففى الهلك لن النقصففان خيففر‬
‫مففن الهلك فهففو إذا ً ليففس كمففال ً فففي ذاتففه بخلف العلففم وهففذه‬
‫الدراكات‪ .‬الصفة السابعة الكلم ندعي أن صانع العالم متكلففم كمففا‬
‫أجمع عليه المسلمون‪ ،‬واعلم أن مففن أراد إثبففات الكلم بففأن العقففل‬
‫يقضي بجواز كون الخلففق مردديففن تحففت المففر والنهففي وكففل صفففة‬
‫جائزة في المخلوقات تستند إلى صفة واجبة في الخففالق‪ ،‬فهففو فففي‬
‫شطط‪ ،‬إذ يقال له‪ :‬إن أردت جواز كونهم مأمورين من جهففة الخلففق‬
‫الذين يتصور منهم الكلم‪ ،‬فمسلم‪ ،‬وإن أردت جففوازه علففى العمففوم‬
‫من الخلق والخالق فقد أخذت محل النزاع مسلما ً في نفس الففدليل‬
‫وهو غير مسلم‪ ،‬ومن أراد إثبففات الكلم بالجمففاع أو بقففول الرسففول‬
‫فقد سام نفسه خطة خسف لن الجماع يستند إلففى قففول الرسففول‬
‫عليه السلم ومن أنكر كون الباري متكلم فا ً فبالضففرورة ينكففر تصففور‬
‫الرسول‪ ،‬إذ معنى الرسول المبلغ لرسففالة المرسففل‪ ،‬فففإن لففم يكففن‬
‫للكلم متصور في حق من ادعى أنه مرسل كيف يتصففور الرسففول؟‬
‫ومن قال أنا رسول الرض أو رسففول الجبففل إليكففم فل يصففغى إليففه‬
‫لعتقادنا استحالة الكلم والرسالة مفن الجبففل والرض‪ ،‬وللفه المثففل‬
‫العلى‪ ،‬ولكن من يعتقد استحالة الكلم في حق الله تعالى اسففتحال‬
‫منه أن يصففدق الرسففول إذ المكففذب بففالكلم ل بففد أن يكففذب بتبليففغ‬
‫الكلم‪ ،‬والرسففالة عبففارة عففن تبليففغ الكلم‪ ،‬والرسففول عبففارة عففن‬
‫المبلغ‪ ،‬فلعل القوم منهج ثالث وهو الذي سلكناه في اثبات السففمع‬
‫والبصر في أن الكلم للحي أما أن يقال هو كمال أو يقال هو نقص‪،‬‬
‫أو يقال ل هو نقص ول هو كمال‪ ،‬وباطل أن يقال هو نقففص أو هففو ل‬
‫نقص ول كمال فثبت بالضرورة أنه كمال‪ ،‬وكل كمال وجد للمخلففوق‬
‫فهو واجفب الوجفود للخفالق بطريفق الولفى كمفا سفبق‪ .‬ففإن قيفل‪:‬‬
‫الكلم الذي جعلتموه منشأ نظركففم هففو كلم الخلففق‪ ،‬وذلففك إمففا أن‬
‫يراد به الصوات والحروف أو يراد به القففدرة علففى ايجففاد الصففوات‬
‫والحروف في نفس القادر أو يراد به معنى ثالث سواهما‪ ،‬فإن أريففد‬
‫به الصوات والحروف فهي حوادث ومن الحففوادث مففا هففي كمففالت‬
‫في حقنا ولكن ل يتصور قيامها في ذات اللففه سففبحانه وتعففالى‪ ،‬وإن‬
‫قام بغيره لم يكن هو متكلما ً به بل كان المتكلم به المحل الذي قام‬
‫به؛ وإن أريد به القدرة على خلق الصوات فهو كمال ولكن المتكلم‬
‫ليس متكلما ً باعتبار قففدرته علففى خلففق الصففوات فقففط بففل باعتبففار‬
‫خلقه للكلم في نفسه‪ ،‬والله تعالى قادر علففى خلففق الصففوات فلففه‬
‫كمففال القففدرة ولكففن ل يكففون متكلمفا ً بففه إل إذا خلففق الصففوت فففي‬
‫نفسه‪ ،‬وهففو محفال إذ يصففير بفه محل ً للحففوادث فاسفتحال أن يكفون‬
‫متكلمًا؛ وإن أريد بالكلم أمر ثالث فليس بمفهوم وإثبات ما ل يفهففم‬
‫محال‪ .‬قلنا‪ :‬هذا التقسيم صحيح والسؤال في جميع أقسامه معترف‬
‫بففه إل فففي إنكففار القسففم الثففالث‪ ،‬فإنففا معففترفون باسففتحالة قيففام‬
‫الصوات بذاته وباسفتحالة كفونه متكلمفا ً بهفذا العتبفار‪ .‬ولكنفا نقفول‬
‫النسان يسمى متكلما ً باعتبارين أحدهما بالصففوت والحففرف والخففر‬
‫بكلم النفس الذي ليس بصوت وحرف‪ ،‬وذلك كمففال وهففو فففي حففق‬
‫الله تعالى غير محال‪ ،‬ول هو دال على الحدوث‪ .‬ونحففن ل نثبففت فففي‬
‫حق الله تعالى إل كلم النفس‪ ،‬وكلم النفففس ل سففبيل إلففى إنكففاره‬
‫في حق النسان زائدا ً علففى القففدرة والصففوت حففتى يقففول النسففان‬
‫زورت البارحة في نفسي كلما ً ويقال في نفس فلن كلم وهو يريد‬
‫أن ينطق به ويقول الشاعر‪ :‬ل يعجبنك من أثيففر خطففه=حففتى يكففون‬
‫مع الكلم أصففيل إن الكلم لفففي الفففؤاد وإنمففا=جعففل اللسففان علففى‬
‫الفؤاد دليل ً وما ينطق به الشعراء يدل على أنففه مففن الجليففات الففتي‬
‫يشترك كافة الخلق في دركها فكيف ينكفر‪ .‬ففإن قيفل‪ :‬كلم النففس‬
‫بهذا التأويل معترف بففه ولكنففه ليففس خارجفا ً عففن العلففوم الدراكففات‬
‫وليففس جنسفا ً برأسففه البتففة‪ ،‬ولكففن مففا يسففميه النففاس كلم النفففس‬
‫وحديث النفس هو العلم بنظم اللفففاظ والعبففارات وتففأليف المعففاني‬
‫المعلومة على وجه مخصوص فليس في القلففب إل معففاني معلومففة‬
‫وهي العلوم وألفاظ مسموعة هي معلومة بالسماع‪ ،‬وهو أيضا ً علففم‬
‫معلوم اللفظ‪ .‬وينضاف إليه تفأليف المعفاني واللففاظ علفى ترتيفب‪.‬‬
‫وذلك فعل يسمى فكرا ً وتسميه القدرة التي عنها يصدر الفعل قففوة‬
‫مفكرة‪ .‬فإن أثبتم فففي النفففس شففيئا ً سففوى نفففس الفكففر الففذي هففو‬
‫ترتيب اللفاظ والمعاني وتأليفها‪ ،‬وسوى القففوة المفكففرة الففتي هففي‬
‫قدرة عليا وسوى العلم بالمعاني مفترقها ومجموعها‪ ،‬وسففوى العلففم‬
‫باللفاظ المرتبة من الحروف مفترقهففا ومجموعهففا فقففد أثبتففم أمففرا ً‬
‫منكففرا ً ل نعرفففه‪ .‬وإيضففاحه أن الكلم إمففا أمففر أو نهففي أو خففبر أو‬
‫استخبار‪ .‬أما الخبر فلفظ يدل علففى علففم فففي نفففس المخففبر‪ ،‬فمففن‬
‫علففم الشففيء وعلففم اللفففظ الموضففوع للدللففة علففى ذلففك الشففيء‬
‫كالضرب مثل ً فإنه معنى معلوم يدرك بالحس‪ ،‬ولفظ الضففرب الففذي‬
‫هو مؤلف من الضاد والراء والباء الذي وضعته العففرب للدللففة علففى‬
‫المعنى المحسوس وهي معرفة أخرى‪ ،‬فكان له قدرة على اكتساب‬
‫هففذه الصففوات بلسففانه‪ ،‬وكففانت لففه إرادة للدللففة وإرادة لكتسففاب‬
‫اللفظ ثم منه قوله ضرب ولم يفتقر إلى أمر زائد على هذه المففور‪.‬‬
‫فكل أمر قدرتموه سوى هذا فنحن نقدر نفيه‪ ،‬ويتم مففع ذلففك قولففك‬
‫ضرب ويكون خبرا ً وكلمًا‪ ،‬وأما السففتخبار فهففو دللففة علففى أن فففي‬
‫النفس طلب معرفة‪ ،‬وأما المر فهو دللة على أن في النفس طلب‬
‫فعل المأمور وعلى هذا يقاس النهي وسائر القسففام مففن الكلم ول‬
‫يعقل أمر آخر خارج عففن هففذا وهففذه الجملففة‪ ،‬فبعضففها محففال عليففه‬
‫كالصوات وبعضها موجود لله كالرادة والعلم والقدرة‪ ،‬وأما مففا عففدا‬
‫هذا فغير مفهوم‪ .‬والجواب أن الكلم الففذي نريففده معنففى زائد علففى‬
‫هذه الجملة ولنذكره في قسم واحفد مفن أقسفام الكلم وهفو المفر‬
‫حتى ل يطول الكلم‪ .‬فنقول‪ :‬قول السيد لغلمه قم‪ ،‬لفظ يدل علففى‬
‫معنى‪ ،‬والمعنى المدلول عليه في نفسه هو كلم‪ ،‬وليس ذلففك شففيئا ً‬
‫مما ذكرتموه‪ ،‬ول حاجة إلى الطناب فففي التقسففيمات وإنمففا بتففوهم‬
‫رده ما أراد إلى المر أو إلى إرادة الدللة ومحال أن يقال إنففه إرادة‬
‫الدللة‪ ،‬لن الدللة تستدعي مدلول ً والمدلول غير الدليل وغير إرادة‬
‫الدللة‪ ،‬ومحال أن يقال إنه إرادة المر ‪ ..‬لنه قد يففأمر وهففو ل يريففد‬
‫المتثال بل يكرهه‪ ،‬كالذي يعتذر عند السلطان الهام بقتله توبيخا ً لففه‬
‫على ضرب غلمه‪ ،‬بأنه إنما ضربه لعصيانه‪ ،‬وآيته أنه يأمره بين يففدي‬
‫الملك فيعصيه‪ ،‬فإذا أراد الحتجاج به وقففال للغلم بيففن يففدي الملففك‬
‫قم فإني عازم عليك بأمر جزم ل عذر لك فيه ول يريد أن تقوم فهو‬
‫في هذا الفوقت آمفر بالقيفام قطعفًا‪ ،‬وهفو غيفر مريفد للقيفام قطعفًا‪،‬‬
‫فالطلب الذي قام بنفسه الذي دل لفظ المر عليففه هففو الكلم وهففو‬
‫غير إرادة القيام وهذا واضح عند المصنف‪ .‬فففإن قيففل هففذا الشففخص‬
‫ليس بآمر على الحقيقة ولكنه موهم أنه أمر‪ ،‬قلنففا‪ :‬هففذا باطففل مففن‬
‫وجهين‪ :‬أحدهما‪ ،‬أنه لو لفم يكفن آمفرا ً لمفا تمهفد عفذره عنفد الملفك‬
‫ولقيل له أنت في هففذا الففوقت ل يتصففور منففك المففر لن المففر هففو‬
‫طلب المتثال ويستحيل أن تريففد الن المتثففال وهففو سففبب هلكففك‪،‬‬
‫فكيف تطمع في أن تحتج بمعصيتك لمرك وأنت عاجز عن أمففره إذ‬
‫أنت عاجز عن إرادة ما فيه هلكففك وفففي امتثففاله هلكففك ؟ ول شففك‬
‫في أنه قادر على الحتجاج وأن حجته قائمة وممهدة لعذره‪ ،‬وحجتففه‬
‫بمعصية المر‪ ،‬فلو تصور المر مع تحقق كراهة المتثففال لمففا تصففور‬
‫احتجاج السيد بذلك البتة‪ ،‬وهذا قاطع في نفسه لمن تأمله‪ .‬والثاني‪،‬‬
‫هو أن هذا الرجل لو حكى الواقعة للمفتيين وحلففف بففالطلق الثلث‬
‫إني أمرت العبد بالقيام بين يففدي الملففك بعففد جريففان عقففاب الملففك‬
‫فعصى‪ ،‬لفتى كل مسلم بففأن طلقففه غيففر واقففع وليففس للمفففتي أن‬
‫يقول أنا أعلم أن يستحيل أن تريد في مثل هذا الوقت امتثال الغلم‬
‫وهو سبب هلكك‪ ،‬والمر هو إرادة المتثففال فففإذا مفا أمففرت هففذا لففو‬
‫قاله المفتي فهو باطففل بالتفففاق‪ ،‬فقففد انكشففف الغطففاء ولح وجففود‬
‫معنى هو مففدلول اللفففظ زائدا ً علففى مففا عففداه مففن المعففاني‪ ،‬ونحففن‬
‫نسمي ذلك كلما ً وهو جنس مخالف للعلوم والرادات والعتقففادات‪،‬‬
‫وذلك ل يستحيل ثبوته لله تعالى بل يجب ثبوته فففإنه نففوع كلم فففإذا‬
‫هو المعني بالكلم القديم‪ .‬وأمففا الحففروف فهففي حادثففة وهففي دللت‬
‫على الكلم والدليل غيففر المففدلول ول يتصففف بصفففة المففدلول‪ ،‬وإن‬
‫كانت دللته ذاتية كالعالم فإنه حادث ويففدل علففى صففانع قففديم فمففن‬
‫أين يبعد أن تدل حروف حادثة على صفة قديمففة مففع أن هففذه دللففة‬
‫بالصطلح ؟ ولما كففان كففل كلم النفففس دقيقفا ً زل عففى ذهففن أكففثر‬
‫الضعفاء فلم يثبتوا إل حروفا ً وأصواتا ً ويتوجه لهم على هذا المففذهب‬
‫أسئلة واستبعادات نشير إلى بعضها ليستدل بها علففى طريففق الففدفع‬
‫في غيرها‪ .‬الستبعاد الول‪ :‬قول القائل كيف سمع موسى كلم اللفه‬
‫تعالى؛ أسمع صوتا ً وحرفا ً ؟ فإن قلتم ذلك فإذا لم يسففمع كلم اللففه‬
‫فإن كلم الله ليفس بحفرف‪ ،‬وإن لفم يسفمع حرففا ً ول صفوتا ً فكيفف‬
‫يسمع ما ليس بحرف ول صوت ؟ قلنا‪ :‬سففمع كلم اللففه تعففالى وهففو‬
‫صفة قديمة قائمة بذات الله تعالى ليس بحرف ول صفوت‪ ،‬فقفولكم‬
‫كيف سمع كلم الله تعالى كلم مفن ل يفهففم المطلففوب مفن سففؤال‬
‫كيف‪ ،‬وإنه ماذا يطلففب بففه وبمففاذا يمكففن جففوابه فلتفهففم ذلففك حففتى‬
‫تعرف استحالة السؤال‪ .‬فنقول‪ :‬السففمع نففوع إدراك‪ ،‬فقففول القففائل‬
‫كيف سمع كقول القائل كيف أدركت بحاسففة الففذوق حلوة السففكر‪،‬‬
‫وهذا السؤال ل سبيل إلى شفائه إل بوجهين أحدهما أن نسلم سكرا ً‬
‫إلى هذا السائل حتى يذوقه ويدرك طعمه وحلوتففه‪ ،‬فنقففول أدركففت‬
‫أنا كما أدركته أنت الن وهذا هو الجففواب الشففافي والتعريففف التففام‪.‬‬
‫والثاني أن يتعذر ذلك إما لفقد السكر أو لعففدم الففذوق فففي السففائل‬
‫للسكر‪ ،‬فنقول‪ :‬أدركت طعمه كما أدركت أنت حلوة العسل فيكون‬
‫هذا جوابا ً صوابا ً من وجه وخطأ من وجه‪ .‬أما وجه كونه صففوابا ً فففإنه‬
‫تعريف بشيء يشبه المسؤول عنه من وجه‪ ،‬وإن كان ل يشبهه مففن‬
‫كل الوجوه وهو أصل الحلوة‪ ،‬فإن طعم العسل يخالف طعم السكر‬
‫وإن قاربه من بعض الوجوه وهو أصل الحلوة‪ ،‬وهذا غايففة الممكففن‪.‬‬
‫فإن لم يكن السائل قد ذاق حلوة شيء أصل ً تعذر جوابه وتفهيم ما‬
‫سأل عنه وكان كالعنين يسأل عن لذه الجماع وقط ما أدركه فيمتنع‬
‫تفهيمه‪ ،‬إل أن نشبهه لففه الحالففة الففتي يففدركها المجففامع بلففذة الكففل‬
‫فيكون خطأ من وجه إذ لذة الجماع والحالة التي يففدركها المجففامع ل‬
‫تساوي الحالة التي يدركها الكل إل مففن حيففث أن عمففوم اللففذة قففد‬
‫شملها فإن لم يكن قد التذ بشيء قط تعذر أصففل الجففواب‪ .‬وكففذلك‬
‫من قال كيف سمع كلم الله تعالى فل يمكن شفاؤه في السؤال إل‬
‫بففأن نسففمعه كلم اللففه تعففالى القففديم وهففو متعففذر‪ ،‬فففإن ذلففك مففن‬
‫خصائص الكليم عليه السلم‪ ،‬فنحن ل نقدر على إسففماعه أو تشففبيه‬
‫ذلك بشيء من مسموعاته وليس في مسموعاته ما يشبه كلم اللففه‬
‫تعالى‪ ،‬فإن كل مسموعاته التي ألفها أصوات والصوات ل تشبه مففا‬
‫ليففس بأصففوات فيتعففذر تفهيمففه‪ ،‬بففل الصففم لففو سففأل وقففال كيففف‬
‫تسمعون أنتم الصوات وهو ما سمع قط صوتا ً لم نقدر على جففوابه‪،‬‬
‫فإنا إن قلنا كما تدرك أنت المبصرات فهو إدراك فففي الذن كففإدراك‬
‫البصر في العين كان هذا خطأ‪ ،‬فإن إدراك الصوات ل يشففبه إبصففار‬
‫اللوان‪ ،‬فدل أن هذا السؤال محال بل لو قال القائل كيف يرى رب‬
‫الرباب في الخرة‪ ،‬كان جوابه محال ً ل محالة لنه يسأل عففن كيفيففة‬
‫ما ل كيفية له‪ ،‬إذ معنى قول القائل كيف هو أي مثففل أي شففيء هففو‬
‫مما عرفناه‪ ،‬فإن كان ما يسأل عنه غير مماثففل لشففيء ممففا عرفففه‪،‬‬
‫كان الجواب محال ً ولم يدل ذلك على عدم ذات الله تعالى‪ ،‬فكففذلك‬
‫تعذر هذا ل يدل على عدم كلم اللفه تعفالى بفل ينبغفي أن يعتقفد أن‬
‫كلمه سففبحانه صفففة قديمففة ليففس كمثلهففا شففي‪ ،‬كمففا أن ذاتففه ذات‬
‫قديمة ليس كمثلها شيء‪ ،‬وكما ترى ذاته رؤية تخالف رؤية الجسام‬
‫والعففراض ول تشففبهها فيسففمع كلمففه سففماعا ً يخففالف الحففروف‬
‫والصوات ول يشبهها‪ .‬الستبعاد الثاني‪ :‬أن يقففال كلم اللففه سففبحانه‬
‫حال في المصاحف أم ل‪ ،‬ففإن كفان حفال ً فكيفف حمفل القفديم ففي‬
‫الحففادث ؟ فففإن قلتففم ل‪ ،‬فهففو خلف الجمففاع‪ ،‬إذ احففترام المصففحف‬
‫مجمع عليه حتى حرم على المحففدث مسفه وليففس ذلفك إل لن فيفه‬
‫كلم الله تعففالى‪ .‬فنقففول‪ :‬كلم اللففه تعففالى مكتففوب فففي المصففاحف‬
‫محفوظ في القلوب مقروء باللسنة‪ ،‬وأمففا الكاغففد والحففبر والكتابففة‬
‫والحروف والصوات كلها حادثة لنها أجسففام وأعففراض فففي أجسففام‬
‫فكل ذلك حادث‪ .‬وإن قلنا إنه مكتففوب فففي المصففحف‪ ،‬أعنففي صفففة‬
‫تعالى القديم‪ ،‬لم يلزم أن تكون ذات القديم في المصحف‪ ،‬كمففا أنففا‬
‫إذا قلنا النار مكتوبة في الكتففاب لففم يلففزم منففه أن تكففون ذات النففار‬
‫حالة فيه‪ ،‬إذ لو حلت فيه لحترق المصففحف‪ ،‬ومففن تكلففم بالنففار فلففو‬
‫كانت ذات النار بلسانه لحترق لسانه‪ ،‬فالنار جسم حار وعليه دللففة‬
‫هي الصوات المقطعفة تقطيعفا ً يحصفل منفه النفون واللفف والفراء‪،‬‬
‫فالحار المحرق ذات المدلول عليففه ل نفففس الدللففة‪ ،‬فكففذلك الكلم‬
‫القديم القائم بذات الله تعالى هو المدلول ل ذات الدليل والحففروف‬
‫أدلة وللدلة حرمة إذ جعل الشرع لهففا حرمففة فلففذلك وجففب احففترام‬
‫المصحف لن فيه دللة على صفة الله تعالى‪ .‬السففتبعاد الثففالث‪ :‬إن‬
‫القرآن كلم الله تعالى أم ل ؟ فإن قلتم ل فقد خرقتم الجماع‪ ،‬وإن‬
‫قلتم نعففم فمففا هففو سففوى الحففروف والصففوات‪ ،‬ومعلففوم أن قففراءة‬
‫القارئ هي الحروف والصوات‪ .‬فنقول‪ :‬ها هنا ثلثة ألفففاظ‪ :‬قففراءة‪،‬‬
‫ومقروء‪ ،‬وقرآن‪ .‬أمففا المقففروء فهففو كلم اللففه تعففالى‪ ،‬أعنففي صفففته‬
‫القديمة القائمة بذاته‪ ،‬وأما القففراءة‪ :‬فهفي فففي اللسفان عبففارة عففن‬
‫فعل القارئ الذي كان ابتدأه بعد أن كان تاركا ً له‪ ،‬ول معنى للحادث‬
‫إل أنه ابتففدأ بعففد أن لففم يكففن‪ ،‬فففإن كففان الخصففم ل يفهففم هففذا مففن‬
‫الحادث فلنترك لفظ الحادث والمخلوق‪ ،‬ولكن نقول‪ :‬القففراءة فعففل‬
‫ابتدأه القارئ بعد أن لم يكن يفعلففه وهففو محسففوس‪ .‬وأمففا القففرآن‪،‬‬
‫فقد يطلق ويراد به المقروء فإن أريد به ذلك فهو قديم غير مخلففوق‬
‫وهو الذي أراده السلف رضوان الله عليهم بقولهم القرآن كلم اللففه‬
‫تعالى غير مخلوق‪ ،‬أي المقروء باللسنة‪ ،‬وإن أريد به القففراءة الففتي‬
‫هي فعل القارئ ففعل القارئ ل يسبق وجود القففارئ ومففا ل يسففبق‬
‫وجففود الحففادث فهففو حففادث‪ .‬وعلففى الجملففة‪ :‬مففن يقففول مففا أحففدثته‬
‫باختياري من الصوت وتقطيعه وكنت ساكتا ً عنه قبله فهو قففديم‪ ،‬فل‬
‫ينبغي أن يخاطب ويكلففف بففل ينبغففي أن يعلففم المسففكين أنففه ليففس‬
‫يدري مففا يقففوله‪ ،‬ول هففو يفهففم معنففى الحففرف‪ ،‬ول هففو يعلففم معنففى‬
‫الحادث‪ ،‬ولو علمهما لعلم أنه فففي نفسففه إذا كففان مخلوق فا ً كففان مففا‬
‫يصدر عنه مخلوقًا‪ ،‬وعلم أن القديم ل ينتقل إلى ذات حادثة‪ .‬فلنترك‬
‫التطويل في الجليات فإن قول القائل بسم الله إن لم تكففن السففين‬
‫فيه بعد الباء لم يكن قرآنا ً بل كان خطأ‪ ،‬وإذا كان بعد غيره ومتأخرا ً‬
‫عنه فكيف يكون قديما ً ونحفن نريفد بالقفديم مفا ل يتفأخر عفن غيفره‬
‫ل‪ .‬الستبعاد الرابع‪ :‬قولهم‪ :‬أجمعت المة على أن القرآن معجزة‬ ‫أص ً‬
‫للرسول عليه السلم وأنه كلم الله تعففالى‪ ،‬فففإنه سففور وآيففات ولهففا‬
‫مقففاطع ومفاتففح ؟ وكيففف يكففون للقففديم مقففاطع ومفاتففح ؟ وكيففف‬
‫ينقسم بالسور واليات ؟ وكيف يكون القديم معجزة للرسففول عليففه‬
‫السلم والمعجزة هي فعل خارق للعادة ؟ وكففل فعففل فهففو مخلففوق‬
‫فكيف يكون كلم الله تعالى قديما ً ؟ قلنا‪ :‬أتنكرون أن لفففظ القففرآن‬
‫مشترك بيفن القفراءة والمقفروء أم ل ؟ ففإن اعفترفتم بفه فكفل مفا‬
‫أورده المسلمون من وصف القرآن بما هففو قففديم‪ ،‬كقففولهم القففرآن‬
‫كلم الله تعالى غير مخلوق‪ ،‬أرادوا به المقروء وكفل مفا وصففوه بفه‬
‫مما ل يحتملففه القففديم‪ ،‬ككففونه سففورا ً وآيففات ولهففا مقففاطع ومفاتففح‪،‬‬
‫أرادوا به العبارات الدالة على الصفة القديمة التي هففي قففراءة‪ ،‬وإذا‬
‫صار السم مشتركا ً امتنع التناقض‪ ،‬فالجماع منعقد على أن ل قديم‬
‫إل الله تعالى‪ ،‬والله تعالى يقول حتى عاد كالعرجون القففديم‪ .‬ولكففن‬
‫نقول‪ :‬اسم القففديم مشففترك بيففن معنييففن‪ ،‬فففإذا ثبففت مففن وجففه لففم‬
‫يستحل نفيه من وجه آخر‪ ،‬فكذا يسمى القرآن وهو جواب عففن كففل‬
‫ما يوردونه مففن الطلقففات المتناقضففة فففإن أنكففروا كففونه مشففتركًا‪،‬‬
‫فنقول‪ :‬أما إطلقه لرادة المقروء دل عليه كلم السلف رضففي اللففه‬
‫عنهم إن القرآن كلم الله سففبحانه غيففر مخلففوق‪ ،‬مففع علمهففم بففأنهم‬
‫وأصواتهم وقراءاتهم وأفعالهم مخلوقة وأمففا إطلقففه لرادة القففراءة‬
‫فقد قال الشاعر‪ :‬ضحوا بأشمط عنففوان السففجود بففه=يقط ّففع الليففل‬
‫تسبيحا ً وقرآنا يعني القراءة‪ ،‬وقد قال رسول اللففه صففلى اللففه عليففه‬
‫وسلم‪ :‬ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي حسن الترنم بففالقرآن والففترنم‬
‫يكون بالقراءة‪ .‬وقال كافة السلف‪ :‬القففرآن كلم اللففه غيففر مخلففوق‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬القرآن معجزة‪ ،‬وهي فعل الله تعالى إذ علمففوا أن القففديم ل‬
‫يكون معجزا ً فبان أنه اسم مشترك‪ .‬ومن لم يفهففم اشففتراك اللفففظ‬
‫ظن تناقضا ً في هذه الطلقات‪ .‬الستبعاد الخامس‪ :‬أن يقال‪ :‬معلوم‬
‫أنه ل مسموع الن إل الصففوات‪ ،‬وكلم اللففه مسففموع الن بالجمففاع‬
‫وبدليل قوله تعالى "وإن أحد من المشركين استجارك فففأجره حففتى‬
‫يسمع كلم الّله" فنقول‪ :‬إن كان الصففوت المسففموع للمشففرك عنففد‬
‫الجارة هو كلم الله تعالى القديم القائم بذاته فففأي فضففل لموسففى‬
‫عليه السلم في اختصاصه بكونه كليم فا ً للففه علففى المشففركين وهففم‬
‫يسمعون ؟ ول يتصور عن هذا جواب إل أن نقفول‪ :‬مسفموع موسفى‬
‫عليه السلم صفففة قديمففة قائمففة بففالله تعففالى‪ ،‬ومسففموع المشففرك‬
‫أصوات دالة على تلك الصفة‪ .‬وتبين بفه علفى القطفع الشفتراك إمفا‬
‫في اسم الكلم وهو تسمية الدللت باسففم المففدلولت‪ ،‬فففإن الكلم‬
‫هو كلم النفس تحقيقًا‪ ،‬ولكففن اللفففاظ لففدللتها عليففه أيض فا ً تسففمى‬
‫كلما ً كما تسمى علمًا؛ إذ يقال سمعت علم فلن وإنما نسمع كلمففه‬
‫الدال على علمه‪ .‬وأما في اسففم المسففموع فففإن المفهففوم المعلففوم‬
‫بسماع غيره قد يسففمى مسففموعًا‪ ،‬كمففا يقففال‪ :‬سففمعت كلم الميففر‬
‫على لسان رسوله ومعلوم أن كلم المير ل يقوم بلسان رسوله بل‬
‫المسموع كلم الرسول الدال علففى كلم الميففر‪ .‬فهففذا مففا أردنففا أن‬
‫نذكره في إيضاح مذهب أهل السنة فففي كلم النفففس المعففدود مففن‬
‫الغوامض‪ ،‬وبقية أحكام الكلم نذكرها عند التعرض لحكام الصففات‪.‬‬
‫القسم الثاني من هذا القطب في أحكام الصفات عامة مففا يشففترك‬
‫فيها أو يفترق وهي أربعة أحكففام الحكففم الول إن الصفففات السففبعة‬
‫التي دللنا عليها ليست هي الذات بل هي زائدة على الذات‪ ،‬فصففانع‬
‫العالم تعالى عندنا عالم بعلم وحي بحيففاة وقففادر بقففدرة‪ ،‬هكففذا فففي‬
‫جميع الصفات‪ ،‬وذهبت المعتزلة والفلسفة إلى إنكار ذلففك‪ .‬وقففالوا‪:‬‬
‫القديم ذات واحدة قديمة ول يجوز إثبات ذوات قديمة متعددة‪ ،‬وإنما‬
‫الففدليل يففدل علففى كففونه عالم فا ً قففادرا ً حي فا ً ل علففى العلففم والقففدرة‬
‫والحياة‪ .‬ولنعين العلم من الصفات حتى ل نحتففاج إلففى تكريففر جميففع‬
‫الصفففات‪ ،‬وزعمففوا أن العلميففة حففال للففذات وليسففت بصفففة‪ ،‬لكففن‬
‫المعتزلة ناقضوا في صفففتين إذ قففالوا إنففه مريففد بففإرادة زائدة علففى‬
‫الذات ومتكلم بكلم هو زائد على الففذات‪ ،‬إل أن الرادة يخلقهففا فففي‬
‫غير محل والكلم يخلقه فففي جسففم جمففاد ويكففون هففو المتكلففم بففه‪.‬‬
‫والفلسفة طردوا قياسهم في الرادة‪ .‬وأمفا الكلم ففإنهم قفالوا إنفه‬
‫متكلم بمعنى أنه يخلق في ذات النبي عليه السففلم سففماع أصففوات‬
‫منظومة‪ ،‬إما في النوم وإما ففي اليقظفة‪ ،‬ول يكفون لتلفك الصفوات‬
‫وجود من خارج البتة‪ ،‬بل في سمع النبي‪ ،‬كما يرى النائم أشخاصا ً ل‬
‫وجود لها‪ ،‬ولكن تحدث صورها في دمففاغه‪ ،‬وكففذلك يسففمع أصففواتا ً ل‬
‫وجود لها حتى أن الحاضر عند النففائم ل يسففمع‪ ،‬والنففائم قففد يسففمع‪،‬‬
‫ويهوله الصفوت الهفائل ويزعجففه وينتبففه خائففا ً مفذعورًا‪ .‬وزعمفوا أن‬
‫النبي إذا كان عالي الرتبة في النبوة ينتهي صفاء نفسه إلى أن يرى‬
‫في اليقظة صورا ً عجيبففة ويسففمع منهففا أصففواتا ً منظومففة فيحفظهففا‪،‬‬
‫ومففن حففواليه ل يففرون ول يسففمعون‪ .‬وهففذا المعنففي عنففدهم برؤيففه‬
‫الملئكة وسماع القرآن منهم‪ ،‬ومن ليففس فففي الدرجففة العاليففة فففي‬
‫النبوة فل يرى ذلفك إل ففي المنفام‪ .‬فهفذا تفصفيل مفذاهب الضفلل‪،‬‬
‫والغرض إثبات الصفات والبرهان القاطع هو أن من ساعد على أنففه‬
‫تعالى عالم فقد ساعد على أن لففه علمفًا‪ ،‬فففإن المفهففوم مففن قولنففا‬
‫عالم ومن له علم واحد‪ ،‬فإن العاقل يعقل ذات فا ً ويعقلهففا علففى حالففة‬
‫وصفة بعد ذلك‪ ،‬فيكون قد عقل صفة وموصففوفا ً والصفففة علففم مث ً‬
‫ل‪.‬‬
‫وله عبارتان‪ :‬إحداهما طويلة وهي أن نقول هذه الذات قففد قففام بهففا‬
‫علم والخرى وجيزة أوجزت بالتصريف والشتقاق‪ .‬وهففي أن الففذات‬
‫عالمة كما نشاهد النسان شخصا ً ونشاهد نعل ً ونشاهد دخول رجلففه‬
‫في النعل‪ ،‬فله عبارة طويلة وهو أن نقول هذا الشخص رجله داخلففة‬
‫في نعله أو نقول هو منتعل ول معنى لكونه منتعل ً إل أنه ذو نعل وما‬
‫يظن من أن قيام العلم بالذات يوجب للففذات حالفة تسفمى عالميفة‪،‬‬
‫هوس محض‪ ،‬بل العلم هي الحالة‪ ،‬فل معنففى لكففونه عالمفا ً إل كففون‬
‫الذات على صفة وحال تلك الصفة الحال وهففي العلففم فقففط‪ ،‬ولكففن‬
‫من يأخذ المعاني من اللفاظ فل بد أن يغلط‪ .‬فإذا تكففررت اللفففاظ‬
‫بالشتقاقات فاشتقاق صفة العالم من لفظ العلم أورث هذا الغلط‪،‬‬
‫فل ينبغي أن يغتر به‪ .‬وبهذا يبطل جميففع مففا قيففل وطففول مففن العلففة‬
‫والمعلول وبطلن ذلك جلي بأول العقل لمن لم يتكرر علففى سففمعه‬
‫ترديد تلك اللفاظ‪ ،‬ومن علففق ذلففك بفهمففه فل يمكففن نزعففه منففه إل‬
‫بكلم طويففل ل يحتملففه هففذا المختصففر‪ .‬والحاصففل هففو أنففا نقففول‬
‫للفلسفة والمعتزلة‪ :‬هل المفهوم من قولنا عالم عين المفهوم مففن‬
‫قولنا موجودا ً وفيه إشارة إلى وجود وزيادة‪ .‬فإن قففالوا ل‪ ،‬فففإذا ً كففل‬
‫مففن قففال هففو موجففود عففالم‪ ،‬كففأنه قففال هففو موجففود وهففذا ظففاهر‬
‫الستحالة‪ ،‬وإذا كان في مفهومه زيادة فتلك الزيادة هل هي مختصة‬
‫بذات الموجود أم ل ؟ فإن قالوا ل فهففو محففال إذ يخففرج بففه عففن أن‬
‫يكون وصفا ً له وإن كان مختصا ً بذاته فنحن ل نعنففي بففالعلم إل ذلففك‬
‫وهي الزيادة المختصة بالذات الموجودة الزائدة علففى الوجففود الففتي‬
‫يحسن أن يشتق للموجود بسببه منه اسم العالم‪ ،‬فقد ساعدتم على‬
‫المعنى وعاد النفزاع إلفى اللفففظ‪ ،‬وإن أردت إيفراده علفى الفلسففة‬
‫قلت‪ :‬مفهوم قولنا قادر مفهوم قولنا عالم أم غيره ؟ فففإن كففان هففو‬
‫ذلك بعينه فكأنا قلنا قادر قادر‪ ،‬فففإنه تكففرار محففض‪ ،‬وإن كففان غيففره‬
‫فإذا هو المراد فقد أثبتم مفهومين أحدهما يعبر عنه بالقدرة والخففر‬
‫بالعلم ورجع النكار إلى اللفظ‪ .‬فإن قيل‪ :‬قولكم أمر مفهففومه عيففن‬
‫المفهوم من قولكم آمر وناه ومخبر أو غيففره‪ ،‬فففإن كففان عينففه فهففو‬
‫تكرار محض‪ ،‬وإن كان غيره فليكن له كلم هفو أمفر وآخفر هفو نهفي‬
‫وآخر هو خبر‪ .‬وليكن خطاب كل شيء مفارقا ً لخطاب غيره‪ .‬وكذلك‬
‫مفهوم قولكم إنه عالم بالعراض أهو عين مفهوم قولكم إنففه عففالم‬
‫بالجواهر أو غيره ؟ فإن كان عينففه فليكففن النسففان العففالم بففالجوهر‬
‫عالما ً بالعرض بعين ذلك العلففم‪ ،‬حففتى يتعلففق علففم واحففد بمتعلقففات‬
‫مختلفة ل نهاية لها‪ ،‬وإن كان غيره فليكن لله علوم مختلفففة ل نهايففة‬
‫لها وكففذلك الكلم والقففدرة والرادة وكففل صفففة ل نهايففة لمتعلقاتهففا‬
‫ينبغي أن ل يكون لعداد تلك الصفة نهاية‪ ،‬وهذا محال‪ ،‬فإن جففاز أن‬
‫تكون صفة واحدة تكون هي المر وهففي النهففي وهففي الخففبر وتنففوب‬
‫عن هذه المختلفففات جففاز أن تكففون صفففة واحففدة تنففوب عففن العلففم‬
‫والقدرة والحيففاة وسففائر الصفففات‪ .‬ثففم إذا جففاز ذلففك جففاز أن تكففون‬
‫الففذات بنفسففها كافيففة ويكففون فيهففا معنففى القففدرة والعلففم وسففائر‬
‫الصفات من غير زيادة وعند ذلك يلزم مذهب المعتزلففة والفلسفففة‪.‬‬
‫والجواب أن نقول‪ :‬هذا السؤال يحرك قطب فا ً عظيم فا ً مففن اشففكالت‬
‫الصفففات ول يليففق حلهففا بالمختصففرات‪ .‬ولكففن إذا سففبق القلففم إلففى‬
‫إيففراده فلنرمففز إلففى مبففدأ الطريففق فففي حلففه‪ ،‬وقففد كففع عنففه أكففثر‬
‫المحصففلين وعففدلوا إلففى التمسففك بالكتففاب والجمففاع‪ ،‬وقففالوا هففذه‬
‫الصفات قد ورد الشففرع بهفا‪ ،‬إذ دل الشففرع علففى العلففم وفهففم منففه‬
‫الواحد ل محالة والزائد على الواحد لم يرد فل يعتقده‪ .‬وهذا ل يكففاد‬
‫يشفي فإنه قد ورد بالمر والنهي والخبر والتوراة والنجيل والقففرآن‬
‫فما المانع من أن يقال‪ :‬المر غير النهي والقففرآن غيففر التففوراة وقففد‬
‫ورد بففأنه تعففالى يعلففم السففر والعلنيففة والظففاهر والبففاطن والرطففب‬
‫واليابس وهلم جرا إلى ما يشتمل القرآن عليه ‪ ..‬فلعل الجففواب مففا‬
‫نشير إلى مطلع تحقيقه وهو أن كل فريق مففن العقلء مضففطر إلففى‬
‫أن يعترف بأن الدليل قد دل على أمر زائد على وجففود ذات الصففانع‬
‫سبحانه‪ ،‬وهو الذي يعبر عنه بأنه عالم وقادر وغيره‪ .‬والحتمالت فيه‬
‫ثلثة‪ :‬طرفان وواسطة‪ ،‬والقتصاد أقرب إلى السداد‪ .‬أمففا الطرفففان‬
‫فأحدهما في التفريط وهو القتصففار علففى ذات واحففدة تففؤدي جميففع‬
‫هففذه المعففاني وتنففوب عنهففا كمففا قففالت الفلسفففة‪ .‬والثففاني طففرف‬
‫الفففراط وهففو إثبففات صفففة ل نهايففة لحادهففا مففن العلففوم والكلم‬
‫والقدرة‪ ،‬وذلك بحسب عدد متعلقات هذه الصفات؛ وهذا إسففراف ل‬
‫صائر إليه إل بعففض المعتزلففة وبعففض الكراميففة‪ .‬والففرأي الثففالث هففو‬
‫القصد والوسط‪ .‬وهففو أن يقففال‪ :‬المختلفففات لختلفهففا درجففات فففي‬
‫التقارب والتباعد؛ فرب شففيين مختلفيففن بففذاتيهما كففاختلف الحركففة‬
‫والسكون واختلف القففدرة والعلففم الجففوهر والعففرض‪ ،‬ورب شففيئين‬
‫يدخلن تحت حد وحقيقفة واحفدة ول يختلففان لفذاتيهما وإنمفا يكفون‬
‫الختلف فيهما من جهة تغاير التعلففق؛ فليففس الختلف بيففن القففدرة‬
‫والعلم كالختلف بين العلم بسواد والعلم بسواد آخر أو بياض آخففر‪،‬‬
‫ولذلك إذ حددت العلم تجد دخل فيه العلم بالمعلومات كلها‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫القتصاد في العتقاد أن يقال‪ :‬كل اختلف يرجع إلففى تبففاين الففذوات‬
‫بأنفسها فل يمكن أن يكفففي الواحففد منهففا‪ ،‬وينففوب عففن المختلفففات‪.‬‬
‫فوجب أن يكففون العلففم غيففر القففدرة وكففذلك الحيففاة وكففذا الصفففات‬
‫السبعة‪ ،‬وأن تكون الصفات غيففر الفذات مفن حيففث أن المباينفة بيفن‬
‫الذات الموصوفة وبين الصفة أشد من المباينة بيففن الصفففتين‪ .‬وأمففا‬
‫العلم بالشيء فل يخالف العلم بغيره إل مففن جهففة تعلقففه بفالمتعلق‪،‬‬
‫فل يبعد أن تتميز الصفففة القديمففة بهففذه الخاصففية وهففو أن ل يفوجب‬
‫تباين المتعلقات فيها تباينا ً وتعددًا‪ .‬فإن قيل فليس في هذا قففع دابففر‬
‫الشففكال‪ ،‬لنففك إذ اعففترفت بففاختلف مففا بسففبب اختلف المتعلففق‪،‬‬
‫فالشففكال قففائم‪ ،‬فمففا لففك وللنظففر فففي سففبب الختلف بعففد وجففود‬
‫الختلف ‪ ..‬فأقول‪ :‬غاية الناصر لمذهب معين أن يظهر على القطففع‬
‫ترجيح اعتقاده على اعتقاد غيره‪ ،‬وقد حصل هذا علففى القطففع‪ ،‬إذ ل‬
‫طريق إل واحد من هذه الثلث‪ ،‬أو اختراع رابع ل يعقل‪ .‬وهذا الواحد‬
‫إذا قوبل بطرفيه المتقابلين لففه علففم علففى القطففع رجحففانه‪ ،‬وإذ لففم‬
‫يكن بد مففن اعتقففاد ول معتقففد إل هففذه الثلث‪ ،‬وهففذا أقففرب الثلث‪،‬‬
‫فيجب اعتقاده وإن بقي ما يحبك في الصدر من اشكال يلففزم علففى‬
‫هذا‪ .‬واللزم على غيره أعظم منه وتعليل الشكال ممكن إما قطعه‬
‫بالكلية والمنظور فيففه هففي الصفففات القديمففة المتعاليففة عففن افهففام‬
‫الخلق فهو أمر ممتنع إل بتطويل ل يحتملففه الكتففاب‪ ،‬هففذا هففو الكلم‬
‫العام‪ .‬وأما المعتزلة فإنا نخصفهم بالسففتفراق بيففن القففدرة والرادة‪.‬‬
‫ونقول لو جاز أن يكون قادرا ً بغير قفدرة جفاز أن يكفون مريفدا ً بغيفر‬
‫إرادة ول فرقان بينهما‪ .‬فإن قيل‪ :‬هو قادر لنفسه فلذلك كان قففادرا ً‬
‫على جميع المقدورات ولو كففان مريففدا ً لنفسففه لكففان مريففدا ً لجملففة‬
‫المرادات‪ ،‬وهو محال‪ ،‬لن المتضادات يمكففن إرادتهففا علففى البففدل ل‬
‫على الجمع‪ ،‬وأما القففدرة فيجففوز أن تتعلففق بالضففدين‪ .‬والجففواب أن‬
‫نقول‪ :‬قولوا إنه مريد لنفسه ثم يختففص ببعففض الحادثففات المففرادات‬
‫كما قلتففم قفادر لنفسففه ول تتعلفق قففدرته إل ببعففض الحادثففات‪ ،‬ففإن‬
‫جملة أفعال الحيوانات والمتولدات خارجة عن قدرته وإرادته جميع فا ً‬
‫عنففدكم‪ ،‬فففإذا جففاز ذلففك فففي القففدرة جففاز فففي الرادة أيض فًا‪ .‬وأمففا‬
‫الفلسفة فإنهم ناقضوا في الكلم وهو باطففل مففن وجهيففن‪ .‬أحففدهما‬
‫قولهم إن الله تعالى متكلم مع انهم ل يثبتون كلم النفس ول يثبتون‬
‫الصوات في الوجود‪ ،‬وإنما يثبتون سففماع الصففوت بففالحلق فففي اذن‬
‫النبي من غير صوت من خارج‪ .‬ولو جففاز أن يكففون ذلففك بمففا يحففدث‬
‫في دماغ غيره موصففوفا ً بففأنه متكلففم لجففاز أن يكففون موصففوفا ً بففأنه‬
‫مصوت ومتحرك لوجود الصوت والحركففة فففي غيففره‪ ،‬وذلففك محففال‪،‬‬
‫والثاني أن ما ذكروه رد للشرع كله؛ فففإن مففا يففدركه النففائم خيففال ل‬
‫حقيقة له‪ ،‬فإذا رددت معرفففة النففبي لكلم اللففه تعففالى إلففى التخيففل‬
‫الذي يشففبه اضففغاث أحلم فل يثففق بففه النففبي ول يكففون ذلففك علمفًا‪.‬‬
‫وبالجملة هؤلء ل يعتقدون الدين والسففلم وإنمففا يتجملففون بففإطلق‬
‫عبارات احتراز من السيف والكلم معهم فففي أصففل الفعففل‪ ،‬وحففدث‬
‫العففالم والقففدرة فل تشففتغل معهففم بهففذه التفصففيلت‪ .‬فففإن قيففل‬
‫أفتقولون إن صفات الله تعالى غير الله تعالى ؟ قلنا‪ :‬هذا خطأ فإنففا‬
‫إذا قلنا الله تعالى‪ ،‬فقد دللنففا بفه علففى الففذات مففع الصفففات ل علففى‬
‫الذات بمجردها‪ ،‬إذ اسم الله تعالى ل يصففدق علففى ذات قففد أخلوهففا‬
‫عن صفات اللهية‪ ،‬كما ل يقال الفقه غير الفقيففه ويففد زيففد غيففر زيففد‬
‫ويد النجار غير النجار‪ ،‬لن بعففض الففداخل فففي السففم ل يكففون عيففن‬
‫الداخل في السم‪ ،‬فيد زيففد ليففس هففو زيففد ول هففو غيففر زيففد بففل كل‬
‫اللفظين محال‪ ،‬وهكذا كل بعض فليس غير الكل ول هو بعينه الكل‪،‬‬
‫فلو قيل الفقه غير النسان فهو تجوز ول يجوز أن يقال غير الفقيففه‪،‬‬
‫فإن النسان ل يدل على صفة الفقه‪ ،‬فل جرم يجوز أن يقال الصفففة‬
‫غير الذات التي تقوم بها الصفة‪ ،‬كما يقال العففرض القففائم بففالجوهر‬
‫هو غير الجوهر على معنى ان مفهوم اسمه غير مفهوم اسم الخففر‪،‬‬
‫وهذا حصر جائز بشرطين‪ :‬أحدهما‪ ،‬أن ل يمنع الشففرع مففن اطلقففه‪،‬‬
‫وهذا مختص بالله تعففالى‪ ،‬والثففاني‪ ،‬أن ل يفهففم مففن الغيففر مففا يجففوز‬
‫وجوده دون الذي هو غيره بالضففافات إليففه‪ ،‬فففإنه إن فهففم ذلففك لففم‬
‫يمكن أن يقال سواد زيد غير زيد‪ ،‬لنه ل يوجد دون زيد‪ ،‬قد انكشففف‬
‫بهذا ما هو حظ المعنى وما هو حظ اللفففظ فل معنففى للتطويففل فففي‬
‫الجليات‪ .‬الحكم الثاني في الصفففات‪ :‬نففدعي أن هففذه الصفففات كلهففا‬
‫قائمة بذاته ل يجوز أن يقوم شيء منها بغيففر ذاتففه‪ ،‬سففواء كففان فففي‬
‫محل أو لم يكن في محل‪ .‬وأما المعتزلة فإنهم حكموا بأن الرادة ل‬
‫تقوم بذاته تعالى‪ ،‬فإنها حادثففة وليففس هففو محل ً للحففوادث‪ ،‬ول يقففوم‬
‫بمحل آخر لنه يؤدي إلى أن يكون ذلك المحل هو المريففد بففه‪ ،‬فهففي‬
‫توجد ل في محل‪ ،‬وزعموا أن الكلم ل يقوم بذاته لنه حففادث ولكففن‬
‫يقوم بجسم هو جماد حتى ل يكون هو المتكلم بففه‪ ،‬بففل المتكلففم بففه‬
‫هففو اللففه سففبحانه‪ ،‬أمففا البرهففان علففى أن الصفففات ينبغففي أن تقففوم‬
‫بالذات فهو عند من فهم ما قدمناه مستغنى عنففه‪ ،‬فففإن الففدليل لمففا‬
‫دل على وجود الصانع سبحانه دل بعده على أن الصانع تعالى بصفففة‬
‫كذا ول نعني بففأنه تعففالى علففى صفففة كففذا‪ ،‬إل أنففه تعففالى علففى تلففك‬
‫الصفة‪ ،‬ول فرق بين كونه على تلك الصفة وبين قيام الصفففة بففذاته‪.‬‬
‫وقففد بينففا أن مفهففوم قولنففا عففالم واحففد وبففذاته تعففالى علففم واحففد‪،‬‬
‫كمفهوم قولنا مريد‪ ،‬وقامت بذاته تعالى إرادة واحدة‪ ،‬ومفهوم قولنا‬
‫لم تقم بذاته إرادة وليس بمريد واحد‪ .‬فتسميته الذات مريدة بإرادة‬
‫لم تقم به كتسميته متحركا ً بحركة لم تقم به‪ .‬وإذا لم تقم الرادة بة‬
‫فسواء كانت موجودة أو معدومة فقول القائل إنه مريد لفففظ خطففأ‪،‬‬
‫ل معنى له‪ ،‬وهكذا المتكلم‪ ،‬فإنه متكلم باعتبار كففونه محل ً للكلم‪ ،‬إذ‬
‫ل فرق بين قولنا هو متكلم وبين قولنا قام الكلم بففه‪ ،‬ول فففرق بيففن‬
‫قولنا ليس بمتكلم وقولنا لم يقم بذاته كلم‪ ،‬كمففا فففي كففونه مصفوتا ً‬
‫ومتحركًا‪ .‬فإن صدق على الله تعالى قولنا لم يقم بففذاته كلم صففدق‬
‫قولنا ليس بمتكلم لنهمففا عبارتففان عففن معنففى واحففد‪ .‬والعجففب مففن‬
‫قففولهم إن الرادة توجففد ل فففي محففل‪ ،‬فففإن جففاز وجففود صفففة مففن‬
‫الصفات ل في محل فليجز وجود العلم والقدرة والسففواد والحركففة‪،‬‬
‫بل الكلم فلم قالوا يخلق الصوات في محل فلتخلق في غير محل‪.‬‬
‫وإن لم يعقل الصوت إل في محل لنه عففرض وصفففة فكففذا الرادة‪.‬‬
‫ولو عكس هذا لقيل إنفه خلفق كلمفا ً ل ففي محفل وخلفق إرادة ففي‬
‫محل لكان العكس كالطرد‪ .‬ولكن لمففا كففان أول المخلوقففات يحتففاج‬
‫إلى الرادة‪ ،‬والمحل مخلوق‪ ،‬لم يمكنهم تقدير محل الرادة موجودا ً‬
‫قبل الرادة؛ فإنه ل محل قبل الرادة إل ذات الله تعالى ولم يجعلوه‬
‫محل ً للحوادث‪ .‬ومففن جعلففه محل ً للحففوادث أقففرب حففال منهففم فففإن‬
‫استحالة وجود إرادة في غير محل‪ ،‬واستحالة كففونه مريففدا ً بففإرادة ل‬
‫تقوم بففه‪ ،‬واسففتحالة حففدوث إرادة حادثففة بففه بل إرادة تففدرك ببديهففة‬
‫العقل أو نظره الجلي فهففذه ثلثففة اسففتحالت جليففة‪ .‬وامففا اسففتحالة‬
‫كونه محل ً للحوادث فل يففدرك إل بنظففر دقيففق كمففا سففنذكر‪ .‬الحكففم‬
‫الثالث إن الصفات كلها قديمة‪ ،‬فإنهففا إن كففانت حادثففة كففان القففديم‬
‫سبحانه محل ً للحوادث‪ ،‬وهو محال‪ .‬أو كان يتصف بصفة ل تقففوم بففه‬
‫وذلك أظهر استحالة‪ ،‬كما سبق‪ ،‬ولم يذهب أحد إلففى حففدوث الحيففاة‬
‫والقدرة وإنما اعتقدوا ذلك في العلففم بففالحوادث وفففي الرادة وفففي‬
‫الكلم ونحن نستدل علففى اسففتحالة كففونه محل ً للحففوادث مففن ثلثففة‬
‫أوجه‪:‬‬
‫الدليل الول‪ :‬إن كل حادث فهو جائز الوجود‪ ،‬والقديم الزلي واجففب‬
‫الوجود‪ ،‬ولو تطرق الجواز إلففى صفففاته لكففان ذلففك مناقضفا ً لوجففوب‬
‫وجوده فإن الجواز والوجوب يتناقضان‪ .‬فكففل مففا هففو واجففب الففذات‬
‫فمن المحال أن يكون جائز الصفات وهذا واضح بنفسه‪.‬‬
‫الدليل الثاني‪ :‬وهو القوى‪ ،‬أنه لو قففدر حلففول حففادث بففذاته لكففان ل‬
‫يخلو إمفا أن يرتقفي الفوهم إلفى حفادث يسفتحيل قبلفه حفادث‪ ،‬أو ل‬
‫يرتقي إليه‪ ،‬بل كان حادث‪ ،‬فيجففوز أن يكففون قبلففه حففادث‪ ،‬فففإن لففم‬
‫يرتق الوهم إليه لزم جواز اتصافه بالحوادث أبدًا‪ ،‬ولزم منه حففوادث‬
‫ل أول لها‪ .‬وقد قام الدليل على استحالته‪ .‬وهذا القسم ما ذهب إليه‬
‫أحد من العقلء وإن ارتقى الوهم إلى حففادث اسففتحال قبلففه حففدوث‬
‫حادث فتلك الستحالة لقبول الحادث في ذاته‪ ،‬ل تخلو إما أن تكففون‬
‫لففذاته أو لففزائد عليففه‪ .‬وباطففل أن يكففون لففزائد عليففه‪ ،‬فففإن كففل زائد‬
‫يفرض ممكن تقدير عدمه‪ ،‬فيلففزم منففه تواصففل الحففوادث أبففدا ً وهففو‬
‫محال‪ ،‬فلم يبق إل أن استحالته من حيففث أن واجففب الوجففود يكففون‬
‫علففى صفففة يسففتحيل معهففا قبففول الحففوادث لففذاته‪ .‬فففإذا كففان ذلففك‬
‫ل‪ .‬فإن ذلك يبقى فيما ل يزال لنه لذاته ل يقبل‬ ‫مستحيل ً في ذاته أز ً‬
‫اللون باتفاق العقلء‪ .‬ولم يجز أن تتغير تلففك السففتحالة إلففى الجففواز‬
‫فكذلك سائر الحوادث‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬هذا يبطل يحدث العالم‪ ،‬فإنه كان ممكنا ً قبل حففدوثه ولففم‬
‫يكن الوهم يرتقي إلى وقت يستحيل حدوثه قبله ومع ذلك يسففتحيل‬
‫حدوثه أزل ً ولم يستحل على الجملة حدوثه‪.‬‬
‫قلنا هذا اللزام فاسد؛ فإنا لم نحل إثبات ذات تنبو عن قبول حففادث‬
‫لكونها واجبة الوجود‪ ،‬ثم تتقلب إلى جففواز قبففول الحففوادث‪ .‬والعففالم‬
‫ليس له ذات قبل الحدوث موصوفة بأنها قابلة للحدوث أو غير قابلة‬
‫حتى ينقلب إلى قبول جواز الحدوث‪ ،‬فيلزم ذلك على مساق دليلنففا‪،‬‬
‫نعم‪ ،‬يلزم ذلك المعتزلة حيث قالوا للعففالم ذات فففي العففدم قديمففة‪،‬‬
‫قابلة للحدوث‪ ،‬يطرأ عليها الحدوث بعد أن لم يكن‪ ،‬فأما على أصفلنا‬
‫فغير لزم‪ ،‬وإنما الذي نقوله في العالم أنه فعل وقدم الفعل محففال‪،‬‬
‫لن القديم ل يكون فع ً‬
‫ل‪.‬‬
‫الدليل الثالث‪ :‬هو أنا نقول‪ :‬إذا قدرنا قيام حادث بذاته فهو قبل ذلك‬
‫إما أن يتصف بضد ذلك الحادث أو بالنفكاك عن ذلك الحادث‪ .‬وذلك‬
‫الضد أو ذلك النفكففاك إن كففان قففديما ً اسففتحال بطلنففه وزوالففه لن‬
‫القديم ل يعدم وإن كان حادثا ً كان قبله حففادث ل محالففة‪ ،‬وكففذا قبففل‬
‫ذلك الحادث حادث يؤدي إلى حوادث ل أول لها وهو محففال‪ ،‬ويتضففح‬
‫ل‪ ،‬فإن الكرامية قالوا إنه‬ ‫ذلك بأن تفرض في صفة معينة كالكلم مث ً‬
‫في الزل متكلم‪ ،‬على معنى أنه قففادر علففى خلففق الكلم فففي ذاتففه‪.‬‬
‫ومهما أحدث شيئا ً في غير ذاته أحدث في ذاته قففوله كففن ول بففد أن‬
‫يكون قبل إحداث هذا القول ساكتًا‪ ،‬ويكون سكوته قديمًا‪.‬‬
‫وإذا قال جهم أنه يحدث في ذاته علما ً فل بففد أن يكففون قبلففه غففافل ً‬
‫وتكون غفلته قديمة‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬السففكوت القففديم والغفلففة القديمففة يسففتحيل بطلنهمففا لمففا‬
‫سبق من الدليل على استحالة عدم القديم‪ .‬فإن قيل السكوت ليس‬
‫بشيء إنما يرجع إلى عففدم الكلم‪ ،‬والغفلففة ترجففع إلففى عففدم العلففم‬
‫والجهل وأضداده‪ ،‬فإذا وجد الكلم لم يبطل شيء إذ لم يكففن شففيء‬
‫إل الذات القديمة‪ ،‬وهي باقية‪ ،‬ولكن انضاف إليها موجففود آخففر وهففو‬
‫الكلم والعلم‪.‬‬
‫فأما أن يقال‪ :‬انعدم شيء فلن ويتنففزل ذلففك منزلففة وجففود العففالم‪،‬‬
‫فإنه يبطل العففدم القففديم ولكففن العففدم ليففس بشففيء حففتى يوصففف‬
‫بالقدم ويقدر بطلنه‪ .‬والواجب من وجهين أحففدهما أن قففول القففائل‬
‫السكوت هو عدم الكلم وليس بصفة والغفلففة عففدم العلففم وليسففت‬
‫بصفة‪ ،‬كقوله البياض هو عدم السواد وسففائر اللففوان وليففس بلففون‪.‬‬
‫والسكون هو عدم الحركة وليس بعرض‪ ،‬وذلك محال‪ .‬والدليل الذي‬
‫دل على استحالته بعينه يدل على استحالة هذا‪ ،‬والخصوم فففي هففذه‬
‫المسألة معترفون بأن السكون وصف زائد على عدم الحركففة‪ ،‬فففإن‬
‫كل مفن يفدعي أن السفكون هفو عفدم الحركفة ل يقفدر علفى اثبفات‬
‫حدوث العففالم‪ .‬فظهففور الحركففة بعففد السففكون إذا ً دل علففى حففدوث‬
‫المتحففرك‪ ،‬فكففذلك ظهففور الكلم بعففد السففكوت يففدل علففى حففدوث‬
‫المتكلم‪ ،‬من غير فرق‪ .‬إذ المسلك الففذي بففه يعففرف كففون السففكون‬
‫معنى هو مضاد للحركة بعينه يعرف به كففون السففكوت معنففى يضففاد‬
‫الكلم‪ ،‬وكون الغفلة معنى يضاد العلم‪ ،‬وهو أنا إذا أدركنا تفرقة بيففن‬
‫حالتي الذات الساكنة والمتحركة فإن الذات مدركة علففى الحففالتين‪.‬‬
‫والتفرقففة مدركففة بيففن الحففالتين ول نرجففع التفرقففة إلففى زوال أمففر‬
‫وحدوث أمر فإن الشيء ل يفففارق نفسففه‪ ،‬فففدل ذلففك علففى أن كففل‬
‫قابل للشيء فل يخلفو عنففه‪ ،‬أو عففن ضفده وهفذا مطففرد ففي الكلم‪،‬‬
‫وفي العلم‪ .‬ول يلزم على هذا الفرق بين وجود العلففم وعففدمه‪ ،‬فففإن‬
‫ذلك ل يوجب ذاتين‪ .‬فإنه لم تدرك فففي الحففالتين ذات واحففدة يطففرأ‬
‫عليها الوجففود بففل ل ذات للعففالم قبففل الحففدوث‪ ،‬والقففديم ذات قبففل‬
‫حدوث الكلم‪ ،‬علم على وجه مخففالف للففوجه الففذي علففم عليففه بعففد‬
‫حدوث الكلم‪ ،‬يعبر عن ذلك الوجه بالسكوت وعن هذا بالكلم‪ ،‬فهما‬
‫وجهان مختلفان أدركت عليهما ذات مستمرة الوجففود فففي الحففالتين‬
‫وللففذات هيئة وصفففة وحالففة بكففونه سففاكتًا‪ ،‬كمففا أن لففه هيئة بكففونه‬
‫متكلمًا‪ ،‬وكما له هيئة بكففونه سففاكتا ً ومتحرك فا ً وأبيففض وأسففود وهففذه‬
‫الموازنة مطابقة ل مخرج منها‪ .‬الوجه الثففاني فففي النفصففال هففو أن‬
‫يسلم أيضا ً أن السففكوت ليففس بمعنففى‪ ،‬وإنمففا يرجففع ذلففك إلففى ذات‬
‫منفكة عن الكلم‪ ،‬فالنفكاك عن الكلم حال للمنفك ل محالة ينعدم‬
‫بطريان الكلم‪ ،‬فحال النفكففاك تسففمى عففدما ً أو وجففودا ً أو صفففة أو‬
‫هيئة‪ ،‬فقففد انتفففى الكلم والمنتفففي قففديم‪ .‬وقففد ذكرنففا أن القففديم ل‬
‫ينتفي سواء كان ذاتا ً أو حال ً أو صفة‪ ،‬وليست الستحالة لكففونه ذات فا ً‬
‫فقط بل لكونه قديمًا‪ ،‬ول يلزم عدم العالم‪ ،‬فففإنه انتفففى مففع القففديم‬
‫لن عدم العالم ليس بففذات ول حصففل منففه حففال لففذات حففتى يقففدر‬
‫تغيرها وتبدلها على الذات والفرق بينهما ظاهر‪.‬‬
‫فإن قيل العراض كثيرة والخصم ل يدعي كون الباري محل حففدوث‬
‫شففيء منهففا كففاللوان واللم واللففذات وغيرهففا‪ ،‬وإنمففا الكلم فففي‬
‫الصفات السففبعة الففتي ذكرتموهففا ول نففزاع مففن جملتهففا فففي الحيففاة‬
‫والقدرة‪ ،‬وإنما النزاع في ثلثفة‪ :‬ففي القفدرة والرادة والعلفم‪ ،‬وففي‬
‫معنى العلم السمع والبصر عند من يثبتهما‪ .‬وهذه الصفات الثلثففة ل‬
‫بد أن تكون حادثة‪ ،‬ثم يستحيل أن تقوم بغيره‪ ،‬لنه ل يكففون متصفففا ً‬
‫بها فيجب أن تقوم بذاته فيلزم منه كونه محل ً للحففوادث‪ .‬أمففا العلففم‬
‫بالحوادث فقد ذهب جهم إلى أنها علوم حادثة وذلك لن الله تعففالى‬
‫الن عالم بأن العالم كان قد وجد قبل هذا‪ ،‬وهففو فففي الزل إن كففان‬
‫عالما ً بأنه كان قد وجد كان هذا جهل ً ل علمًا‪ ،‬وإذا لم يكن عالما ً بأنه‬
‫قد وجد كان جهل ً ل علمًا‪ ،‬وإذا لم يكففن عالم فا ً وهففو الن عففالم فقففد‬
‫ظهر حدوث العلم بأن العالم كان قد وجد قبففل هففذا‪ .‬وهكففذا القففول‬
‫في كل حادث‪ .‬وأما الرادة فل بد من حدوثها فإنها لففو كففانت قديمففة‬
‫لكان المراد معها‪ .‬فإن القدرة والرادة مهما تمتا وارتفعففت العففوائق‬
‫منها وجب حصول المراد‪ ،‬فكيف يتأخر المففراد عففن الرادة والقففدرة‬
‫من غير عائق ؟ فلهذا قالت المعتزلة بحففدوث إرادة فففي غيففر محففل‬
‫وقالت الكرامية بحدوثها في ذاته وربما عبروا عنه بأنه يخلق ايجففادا ً‬
‫في ذاته عند وجود كل موجود وهففذا راجففع إلففى الرادة‪ .‬وأمففا الكلم‬
‫فكيف يكون قديما ً وفيه إخبار عما مضى‪ ،‬فكيف قال في الزل "إنففا‬
‫أرسلنا نوحا ً إلى قومه" ولم يكن قد خلق نوحا ً بعد‪ ،‬وكيف قففال فففي‬
‫الزل لموسى "فاخلع نعليك" ولففم يخلففق بعففد موسففى‪ ،‬فكيففف أمففر‬
‫ونهففى مففن غيففر مففأمور ول منهففي‪ .‬وإذا كففان ذلففك محففال ً ثففم علففم‬
‫بالضرورة أنه آمر وناه‪ ،‬واستحال ذلففك فففي القففدم‪ ،‬علففم قطعفا ً أنففه‬
‫صار آمرا ً ناهيا ً بعد أن لففم يكففن‪ ،‬فل معنففى لكففونه محل ً للحففوادث إل‬
‫هذا‪.‬‬
‫والجواب أنا نقففول‪ :‬مهمففا حللنففا الشففبهة فففي هففذه الصفففات الثلثففة‬
‫انتهض منه دليل مسففتقل علففى إبطففال كففونه محل ً للحففوادث‪ ،‬إذ لففم‬
‫يذهب إليه ذاهب إل بسبب هذه الشبهة‪ ،‬وإذا انكشف كان القول بها‬
‫بففاطل ً كففالقول بففأنه محففل لللففوان وغيرهففا ممففا ل يففدل دليففل علففى‬
‫التصاف بها‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬الباري تعالى في الزل علم بوجود العالم في وقت وجففوده‬
‫وهذا العلم صفة واحدة مقتضاها في الزل العلم بففأن العففالم يكففون‬
‫من بعد‪ ،‬وعند الوجود العلم بأنه كائن وبعده العلم بففأنه كففان‪ ،‬وهففذه‬
‫الحوال تتعاقب على العالم ويكون مكشوفا ً لله تعففالى تلففك الصفففة‬
‫وهي لم تتغير‪ .‬وإنما المتغير أحوال العالم‪ ،‬وإيضاحه بمثففال وهففو أنففا‬
‫إذا فرضنا للواحد منا علما ً بقدوم زيد عند طلوع الشمس وحصل له‬
‫هذا العلم قبل طلوع الشمس ولم ينعدم بل بقي ولم يخلق له علففم‬
‫آخر عند طلوع الشمس فما حال هذا الشخص عند الطلوع‪ .،‬أيكففون‬
‫عالما ً بقدوم زيد أو غير عالم ؟ ومحال أن يكون غير عالم لنففه قففدر‬
‫بقفاء العلفم بالقفدوم عنفد الطلفوع‪ ،‬وقفد علفم الن الطلفوع فيلزمفه‬
‫بالضرورة أن يكون عالما ً بالقدوم‪ ،‬فلو دام عند انقضففاء الطلففوع فل‬
‫بد أن يكون عالما ً بأن كان قد قدم والعلم الواحد أفاد الحاطففة بففأنه‬
‫سيكون وإنه كائن وأنففه قففد كففان فهكففذا ينبغففي أن يفهففم علففم اللففه‬
‫القففديم المففوجب بالحاطففة بففالحوادث‪ ،‬وعلففى هففذا ينبغففي أن يقففال‬
‫السففمع والبصففر‪ ،‬فففإن كففل واحففد منهمففا صفففة يتصففف بهففا المففرئي‬
‫والمسموع عند الوجود من غير حدوث تلففك الصفففة ول حففدوث أمففر‬
‫فيها‪ ،‬وإنما الحادث المسموع والمرئي‪ .‬والدليل القاطع على هذا هو‬
‫أن الختلف بين الحوال شيء واحد فففي انقسففامه إلففى الففذي كففان‬
‫ويكففون وهففو كففائن ل يزيففد علففى الختلف بيففن الففذوات المختلفففة‪.‬‬
‫ومعلوم أن العلم ل يتعدد بتعدد الفذوات فكيفف يتعفدد بتعففدد أحفوال‬
‫ذات واحدة‪ .‬وإذا كان علم واحد يفيد الحاطة بذوات مختلفة متباينة‬
‫فمن أيففن يسففتحيل أن يكفون علففم واحففد يفيفد إحاطففة بفأحوال ذات‬
‫واحدة بالضافة إلى الماضفي والمسفتقبل‪ ،‬ول شفك أن جهمفا ً ينففي‬
‫النهاية عن معلومات الله تعالى ثم ل يثبت علوما ً ل نهاية لها فيلزمه‬
‫أن يعترف بعلم واحد يتعلق بمعلومات مختلفة فكيففف يسففتبعد ذلففك‬
‫في أحوال معلوم واحد يحققه أنه لو حدث له علم بكل حادث لكففان‬
‫ذلك العلم ل يخلو إما أن يكون معلوما ً أو غير معلوم‪ ،‬فففإن لففم يكففن‬
‫معلوما ً فهو محال‪ ،‬لنه حادث‪ ،‬وإن جاز حادث ل يعلمه مففع أنففه فففي‬
‫ذاته أولى بأن يكون متضحا ً له فبان يجوز أل يعلم الحوادث المباينففة‬
‫لذاته أولى‪ ،‬وإن كان معلوما ً فإمفا أن يفتقفر إلففى علففم آخففر وكففذلك‬
‫العلم يفتقر إلى علوم أخر ل نهاية لها‪ ،‬وذلففك محففال‪ .‬وإمففا أن يعلففم‬
‫الحادث والعلم بالحادث نفس ذلك العلم فتكففون ذات العلففم واحففدة‬
‫ولهففا معلومففان‪ :‬أحففدهما ذات‪ ،‬والخففر ذات الحففادث‪ ،‬فيلففزم منففه ل‬
‫محالة تجويز علم واحفد يتعلففق بمعلففومين مختلفيففن فكيفف ل يجفوز‬
‫علم واحد يتعلق بأحوال معلوم واحففد مففع اتحففاد العلففم وتنزهففه عففن‬
‫التغير‪ ،‬وهذا ل مخرج منه؛ فأما الرادة فقففد ذكرنففا أن حففدوثها بغيففر‬
‫إرادة أخرى محال‪ ،‬وحففدوثها بففإرادة بتسلسففل إلففى غيففر نهايففة‪ ،‬وإن‬
‫تعلففق الرادة القديمففة بالحففداث غيففر محففال‪ .‬ويسففتحيل أن تتعلففق‬
‫الرادة بالقديم فلم يكن العالم قففديما ً لن الرادة تعلقففت باحففداثه ل‬
‫بوجوده في القدم‪ .‬وقد سبق إيضاح ذلك‪ .‬وكذلك الكرامففي إذا قففال‬
‫يحدث في ذاته إيجادا ً في حال حدوث العففالم بففذلك يحصففل حففدوث‬
‫العالم في ذلففك الففوقت‪ ،‬فيحتففاج إلففى مخصففص آخففر فيلزمهففم فففي‬
‫اليجاد ما لزم المعتزلة في الرادة الحادثة‪ ،‬ومن قال منهم إن ذلففك‬
‫اليجاد هو قوله كن‪ ،‬وهو صوت‪ ،‬فهو محال من ثلثة أوجه‪،‬‬
‫أحدها‪ :‬استحالة قيام الصوت بذاته‪،‬‬
‫والخر‪ :‬أن قوله كن حادث أيضًا‪ ،‬فإن حدث من غير أن يقول له كن‬
‫فليحدث العالم من غير أن يقال له كن‪ ،‬فإن افتقر قوله كن فففي أن‬
‫يكون‪ ،‬إلى قول آخر‪ ،‬افتقفر القفول الخفر إلفى ثفالث‪ ،‬والثفالث إلفى‬
‫رابع‪ ،‬ويتسلسل إلى غير نهاية‪ .‬ثم ل ينبغي أن يناظر من انتهى عقله‬
‫إلى أن يقول يحدث في ذاته بعدد كل حادث في كل وقت‪ ،‬قوله كن‬
‫فيجتمع آلف آلف أصوات في كل لحظة‪ .‬ومعلوم أن النون والكاف‬
‫ل يمكن النطق بهما في وقت واحد بل ينبغففي أن تكففون النففون بعففد‬
‫الكاف لن الجمع بين الحرفين محال وإن جمع ولفم يرتفب لففم يكفن‬
‫قول ً مفهوما ً ول كلمًا‪ ،‬وكما يسففتحيل الجمففع بيففن حرفيففن مختلفيففن‬
‫فكذلك بين حرفين متماثلين‪ ،‬ول يعقل في أوان ألف ألف كاف كمففا‬
‫ل يعقل الكاف والنون فهؤلء حقهم أن يسترزقوا الله عقل ً وهو أهم‬
‫لهم من الشتغال بالنظر‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أن قوله كن خطاب مع العالم في حالة العدم أو فففي حالفة‬
‫الوجود‪ ،‬فإن كان في حالة العدم فالمعدوم ل يفهم الخطاب‪ ،‬فكيف‬
‫يمتثل بأن يتكون بقوله كففن ؟ وإن كففان فففي حالففة الوجففود فالكففائن‬
‫كيف يقال له كن ؟ فانظر ماذا يفعل الله تعالى بمن ضل عن سبيله‬
‫فقد انتهى ركاكففة عقلففه إلففى أن ل يفهففم المعنففي بقففوله تعففالى "إذا‬
‫أردناه أن نقول له كن فيكون" وأنه كناية عن نفففاذ القففدرة وكمالهففا‬
‫حتى انجر بهم إلى هذه المخازي‪ ،‬نعوذ بالله مففن الخففزي والفضففيحة‬
‫يوم الفزع الكبر يوم تكشففف الضففمائر وتبلففى السففرائر فيكشففف إذ‬
‫ذاك ستر الله عن خبائث الجهال‪ ،‬ويقففال للجاهففل الففذي اعتقففد فففي‬
‫الله تعالى وفي صفاته غير الرأي السديد لقففد كنففت فففي غفلففة مففن‬
‫هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد‪.‬‬
‫وأما الكلم فهو قديم‪ ،‬وما استبعدوه من قوله تعالى "فاخلع نعليففك"‬
‫ومن قوله تعالى "إنا أرسلنا نوحًا" استبعاد مستنده تقففديرهم الكلم‬
‫صوتا ً وهو محال فيه‪ ،‬وليس بمحال إذ فهم كلم النفففس‪ .‬فإنففا نقفول‬
‫يقوم بذات الله تعالى خبر عن إرسال نوح العبارة عنه قبل إرساله‪:‬‬
‫إنا نرسله‪ ،‬وبعد إرساله‪ :‬إنا أرسلنا‪ ،‬واللفظ يختلف باختلف الحوال‬
‫والمعنى القائم بذاته تعالى ل يختلف‪ ،‬فإن حقيقتففه أنففه خففبر متعلففق‬
‫بمخبر ذلك الخبر هو إرسال نوح في الوقت المعلوم وذلك ل يختلف‬
‫باختلف الحوال كما سبق في العلم‪ ،‬وكذلك قوله اخلع نعليك لفظة‬
‫تدل على المر والمر اقتضاء وطلب يقوم بذات المر وليس شففرط‬
‫قيامه به أن يكون المأمور موجودا ً ولكن يجوز أن يقففوم بففذاته قبففل‬
‫وجود المأمور‪ ،‬فإذا وجد المأمور كان مففأمورا ً بففذلك القتضففاء بعينففه‬
‫من غير تحدد اقتضاء آخر‪ .‬وكم من شخص ليس له ولد ويقوم بذاته‬
‫اقتضاء طلب العلم منه على تقدير وجففوده‪ ،‬إذ يقففدر فففي نفسففه أن‬
‫يقول لولده اطلب العلم وهذا القتضاء يتنجز في نفسه علفى تقفدير‬
‫الوجود‪ ،‬فلو وجد الولد وخلق له عقل وخلق له علم بمففا فففي نفففس‬
‫الب من غير تقدير صياغة لفظ مسموع‪ ،‬وقدر بقففاء ذلففك القتضففاء‬
‫على وجوده لعلم البن أنه مأمور مففن جهففة الب بطلففب العلففم فففي‬
‫غير استئناف اقتضاء متجدد في النفس‪ ،‬بل يبقى ذلك القتضاء نعففم‬
‫العادة جارية بأن البن ل يحدث له علم إل بلفظ يدل على القتضففاء‬
‫الباطن‪ ،‬فيكون قوله بلسانه أطلب العلم‪ ،‬دللة على القتضاء الففذي‬
‫في ذاته سواء حدث في الوقت أو كان قديما ً بذاته قبل وجود ولده‪.‬‬
‫فهكذا ينبغي أن يفهم قيام المر بففذات اللففه تعففالى فتكففون اللفففاظ‬
‫الدالة عليه حادثة والمدلول قديما ً ووجود ذلك المففدلول ل يسففتدعي‬
‫وجود المأمور بل تصور وجوده مهما كان المأمور مقدر الوجود‪ ،‬فإن‬
‫كففان مسففتحيل الوجففود ربمففا ل يتصففور وجففود القتضففاء ممففن يعلففم‬
‫استحالة وجوده‪ .‬فلذلك ل نقول إن الله تعففالى يقففوم بففذاته اقتضففاء‬
‫فعل ممن يستحيل وجوده‪ ،‬بل ممن علم وجوده‪ ،‬وذلك غيففر محففال‪.‬‬
‫فإن قيل أفتقولون إن الله تعالى في الزل آمر وناه‪ ،‬فإن قلتففم أنففه‬
‫آمر فكيف يكون آمر ل مأمور له ؟ وإن قلتم ل فقد صففار آمففرا ً بعففد‬
‫أن لم يكن‪ .‬قلنا‪ :‬واختلففف الصففحاب فففي جففواب هففذا‪ ،‬والمختففار أن‬
‫تقول هذا نظر يتعلق أحد طرفيه بالمعنى والخر بإطلق السم مففن‬
‫حيث اللغة‪ .‬فأما حظ المعنى فقد انكشف وهو أن القتضففاء القففديم‬
‫معقول وإن كان سابقا ً على وجود المأمور كما في حق الولد ينبغففي‬
‫أن يقال اسم المر ينطلق عليه بعد فهم المأمور ووجوده أم ينطلق‬
‫عليه قبله ؟ وهذا أمففر لفظففي ل ينبغففي للنففاظر أن يشففتغل بأمثففاله‪،‬‬
‫ولكن الحق أنه يجوز اطلقففه عليففه كمففا جففوزوا تسففمية اللففه تعففالى‬
‫قادرا ً قبففل وجففود المقففدور‪ ،‬ولففم يسففتبعدوا قففادرا ً ليففس لففه مقففدور‬
‫موجود بل قالوا القادر يستدعي مقدورا ً معلوم فا ً ل موجففودا ً فكففذلك‬
‫المر يستدعي مأمورا ً معلوما ً موجودا ً والمعدوم معلوم الوجود قبففل‬
‫الوجففود‪ ،‬بففل يسففتدعي المففر مففأمورا ً بففه كمففا يسففتدعي مففأمورا ً‬
‫ويستدعي آمرا ً أيضا ً والمأمور به يكففون معففدوما ً ول يقففال إنففه كيففف‬
‫يكون آمر من غير مأمور به‪ ،‬بل يقال له مأمور به هو معلوم وليففس‬
‫يشترط كونه موجودًا‪ ،‬بل يشترط كونه معففدوما ً بففل مففن أمففر ولففده‬
‫على سبيل الوصية بأمر ثم توفي فففأتى الولففد بمففا أوصففي بففه يقففال‬
‫امتثل أمر والده والمر معدوم والمر في نفسففه معففدوم ونحففن مففع‬
‫هذا نطلق اسم امتثال المر‪ ،‬فإذا لففم يسففتبعد كففون المففأمور ممتثل ً‬
‫للمر ول وجود للمر ول للمففر ولففم يسففتبعد كففون المففر أمففرا ً قبففل‬
‫وجود المأمور به‪ ،‬فمن أين يستدعي وجود المففأمور ؟ فقففد انكشففف‬
‫من هذا حظ اللفظ والمعنى جميعا ً ول نظر إل فيهما‪ .‬فهذا مففا أردنففا‬
‫أن نذكره في استحالة كونه محل ً للحوادث إجمال ً وتفصي ً‬
‫ل‪.‬‬
‫الحكم الرابع إن السامي المشففتقة للففه تعففالى مففن هففذه الصفففات‬
‫السبعة صادقة عليه أزل ً وأبدًا‪ ،‬فهو في القدم كان حيفا ً قففادرا ً عالمفا ً‬
‫سميعا ً بصيرا ً متكلمًا‪ ،‬وأما ما يشتق له من الفعال كالرازق والخالق‬
‫والمعز والمذل فقد اختلف في أنه يصدق فففي الزل أم ل‪ .‬وهففذا إذا‬
‫كشف الغطاء عنففه تففبين اسففتحالة الخلف فيففه‪ .‬والقففول الجففامع أن‬
‫السامي التي يسمى بها الله تعالى أربعة‪:‬‬
‫الول‪ :‬أن ل يدل إل على ذاته كالموجود‪ ،‬وهذا صادق أزل ً وأبدًا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ما يدل على الذات مع زيادة سلب كالقديم‪ ،‬ففإنه يفدل علفى‬
‫ل‪ ،‬والباقي فإنه يدل على الوجففود وسففلب‬ ‫وجود غير مسبوق بعدم أز ً‬
‫العدم عنه آخرا ً وكالواحد فإنه يففدل علففى الوجففود وسففلب الشففريك‪،‬‬
‫وكالغنى فإنه يدل على الوجود وسلب الحاجة فهذا أيضا ً يصففدق أزل ً‬
‫وأبدا ً لن ما يسلب عنه يسلب لذاته فيلزم الذات على الدوام‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ما يدل على الوجود وصفة زائدة من صفات المعنى كففالحي‬
‫والقادر والمتكلم والمريد والسميع والبصير والعالم ومففا يرجففع إلففى‬
‫هذه الصفات السبعة كالمر والناهي والخبير ونظففائره‪ ،‬فففذلك أيض فا ً‬
‫يصدق عليه أزل ً وأبدا ً عند من يعتقد قدم جميع الصفات‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ما يدل على الوجود مع إضافة إلى فعل من أفعففاله كففالجواد‬
‫والرزاق والخالق والمعز والمذل وأمثاله‪ ،‬وهففذا مختلففف فيففه‪ ،‬فقففال‬
‫قوم هو صادق أزل ً إذ لو لم يصففدق لكففان اتصففافه بففه موجبفا ً للتغيففر‬
‫وقال قوم ل يصدق إذ ل خلق في الزل فكيف خالقًا‪.‬‬
‫والكاشف للغطاء عن هذا أن السيف في الغمد يسمى صارما ً وعنففد‬
‫حصول القطع به وفففي تلففك الحالففة علففى القففتران يسففمى صففارمًا‪،‬‬
‫وهما بمعنيين مختلفين‪ ،‬فهو في الغمد صففارم بففالقوة وعنففد حصففول‬
‫القطع صارم بالفعل وكففذلك المففاء فففي الكففوز يسففمى مرويفا ً وعنففد‬
‫الشرب يسمى مرويا ً وهما إطلقان مختلفان فمعنى تسمية السيف‬
‫في الغمد صارما ً أن الصفة التي يحصل بها القطع في الحال لقصور‬
‫في ذات السيف وحدته واستعداده بل لمر آخر وراء ذاته‪ .‬فبالمعنى‬
‫الذي يسمى السيف في الغمد صارما ً يصدق اسم الخالق على اللففه‬
‫تعالى في الزل فإن الخلق إذ أجري بالفعل لم يكن لتجدد أمففر فففي‬
‫الذات لم يكن‪ ،‬بل كل ما يشترط لتحقيق الفعل موجففود فففي الزل‪.‬‬
‫وبالمعنى الذي يطلق حالة مباشرة القطع للسففيف اسففم الصففارم ل‬
‫يصدق في الزل فهذا حففظ المعنففى‪ .‬فقففد ظهففر أن مففن قففال إنففه ل‬
‫يصدق في الزل هذا السم فهو محق وأراد به المعنى الثاني‪ ،‬ومففن‬
‫قال يصدق في الزل فهو محق وأراد بفه المعنفى الول‪ .‬وإذا كشفف‬
‫الغطاء على هذا الوجه ارتفع الخلف‪ .‬فهذا تمام ما أردنا ذكففره فففي‬
‫قطب الصفففات وقففد اشففتمل علفى سففبعة دعفاو‪ ،‬وتفففرع عففن صففة‬
‫القدرة ثلثة فروع‪ ،‬وعن صفة الكلم خمسة استبعادات‪ ،‬واجتمع من‬
‫الحكام المشتركة بين الصفات أربعة أحكام‪ ،‬فكان المجمففوع قريب فا ً‬
‫من عشرين دعوى هي أصول الففدعاوى وإن كففان تنبنففي كففل دعففوى‬
‫على دعاوى بها يتوصل إلففى اثباتهففا فلنشففتغل بففالقطب الثففالث مففن‬
‫الكتاب إن شاء الله تعالى‪.‬‬

‫القطب الثالث في أفعال الله تعالى‬


‫وجملة أفعال جائزة ل يوصف شيء منها بالوجوب ونففدعي فففي هففذا‬
‫القطب سبعة أمور‪ :‬ندعي أنه يجوز للففه تعففالى أن ل يكلففف عبففاده‪،‬‬
‫وأنه يجوز أن يكلفهم ما ل يطاق‪ ،‬وأنففه يجففوز منففه إيلم العبففاد بغيففر‬
‫عوض وجناية؛ وأنه ل يجب رعايففة الصففلح لهففم‪ ،‬وأنففه ل يجففب عليففه‬
‫ثواب الطاعة وعقاب المعصية‪ ،‬وأن العبد ل يجب عليه شيء بالعقل‬
‫بل بالشرع‪ ،‬وأنه ل يجب على الله بعثففه الرسففل‪ ،‬وأنففه لففو بعففث لففم‬
‫يكن قبيحا ً ول محال ً بل أمكن اظهار صدقهم بالمعجزة‪ ،‬وجملة هففذه‬
‫الدعاوى تنبني على البحففث عففن معنففى الففواجب والحسففن والقبيففح‪،‬‬
‫ولقد خاض الخائضون فيه وطولوا القول في أن العقففل هففل يحسفن‬
‫ويقبح وهل يوجب‪ .‬وإنما كثر الخبففط لنهففم لففم يحصففلوا معنففى هففذه‬
‫اللفاظ واختلفات الصطلحات فيها وكيف تخاطب خصمان فففي أن‬
‫العقل واجب وهما بعد لم يفهما معنى الواجب‪ ،‬فهما محص فل ً متفق فا ً‬
‫عليه بينهما‪ ،‬فلنقدم البحففث عففن الصففطلحات ول بففد مففن الوقففوف‬
‫على معنى ستة ألفاظ وهي‪ :‬الواجب‪ ،‬والحسففن‪ ،‬والقبيففح‪ ،‬والعبففث‪،‬‬
‫والسفففه‪ ،‬والحكمففة؛ فففإن هففذه اللفففاظ مشففتركة ومثففار الغففاليط‬
‫إجمالها‪ ،‬والوجه في أمثال هذه المباحث أن نطرح اللفففاظ ونحصففل‬
‫المعاني في العقل بعبارات أخرى ثم نلتفت إلففى اللفففاظ المبحففوث‬
‫عنها وننظر إلى تفاوت الصطلحات فيها‪ ،‬فنقول‪ :‬أما الففواجب فففإنه‬
‫يطلق على فعل ل محالة‪ ،‬ويطلفق علفى القفديم إنفه واجففب‪ ،‬وعلفى‬
‫الشمس إذا غربت إنها واجبة‪ ،‬وليس من غرضففنا‪ .‬وليففس يخفففى أن‬
‫الفعل الذي ل يترجح فعله على تركه ول يكون صففدوره مففن صففاحبه‬
‫أولى من تركه ل يسمى واجبا ً وإن ترجح وكففان أول ً ل يسففميه أيض فا ً‬
‫بكل ترجيح بل ل بد من خصوص ترجيح‪ .‬ومعلوم أن الفعل قد يكون‬
‫بحيث يعلففم أنفه يعلففم أنففه نسففتعقب تركففه ضففررًا‪ ،‬أو يتففوهم‪ ،‬وذلففك‬
‫الضرر إما عاجل في الدنيا وإما آجففل فففي العاقبففة‪ ،‬وهففو إمففا قريففب‬
‫محتمل وإما عظيم ل يطاق مثلففه‪ .‬فانقسففام الفعففل ووجففوه ترجحففه‬
‫لهذه القسام ثابت ففي العقفل مفن غيفر لففظ فلنرجفع إلفى اللففظ‬
‫فنقول‪ :‬معلوم أن ما فيففه ضففرر قريففب محتمففل ل يسففمى واجبفًا؛ إذ‬
‫العطشان إذا لم يبادر إلى شرب الماء تضرر تضررا ً قريبففا ً ول يقففال‬
‫إن الشرب عليه واجب‪ .‬ومعلوم أن ما ل ضرر فيه أص فل ً ولكففن فففي‬
‫فعله فائدة ل يسمى واجبًا‪ ،‬فإن التجارة واكتسففاب المففال والنوافففل‬
‫فيه فائدة ول يسمى واجبًا‪ ،‬بففل المخصففوص باسففم الفواجب مفا فففي‬
‫تركه ضرر ظاهر فإن كان ذلك فففي العاقبففة أعنففي الخففرة‪ ،‬وعففرف‬
‫بالشرع فنحن نسميه واجبًا‪ ،‬وإن كان ذلك في الدنيا وعففرف بالعقففل‬
‫فقد يسمى أيضفا ً ذلفك واجبفًا‪ ،‬ففإن مفن ل يعتقفد الشفرع قفد يقفول‬
‫واجب على الجائع الذي يموت مففن الجففوع أن يأكففل إذا وجففد الخففبز‬
‫ونعني بوجوب الكل ترجح فعله علففى تركففه بمفا يتعلففق مففن الضففرر‬
‫بتركه‪ ،‬ولسنا نحرم هذا الصطلح بالشرع فإن الصففطلحات مباحففة‬
‫ل حجر فيها للشرع ول للعقل‪ ،‬وإنما تمنع منه اللغة إذا لم يكن على‬
‫وفق الموضوع المعروف فقد تحصفلنا علففى معنييففن للفواجب ورجففع‬
‫كلهما إلى التعرض للضففرر وكففان أحففدهما أعففم ل يختففص بففالخرة‪،‬‬
‫والخر أخص وهو اصطلحنا‪ ،‬وقد يطلق الففواجب بمعنففى ثففالث وهففو‬
‫الذي يؤدي عدم وقوعه إلى أمر محال‪ ،‬كما يقففال‪ :‬مففا علففم وقففوعه‬
‫فوقوعه واجب‪ ،‬ومعناه أنه إن لفم يقفع يفؤدي إلفى أن ينقلفب العلفم‬
‫جهل ً وذلك محال‪ ،‬فيكون معنى وجوبه أن ضده محففال‪ ،‬فليسففم هففذا‬
‫المعنى الثالث الواجب‪ .‬وأما الحسففن فحففظ المعنففى منففه أن الفعففل‬
‫في حق الفاعل ينقسم إلى ثلثة أقسففام أحففدها أن تففوافقه أي تلئم‬
‫غرضه‪ ،‬والثاني أن ينافر غرضه‪ ،‬والثالث أن ل يكون له في فعله ول‬
‫في تركه غففرض‪ .‬وهففذا النقسففام ثففابت فففي العقففل؛ فالففذي يوافففق‬
‫الفاعل يسمى حسنا ً في حقه ول معنى لحسنه إل موافقته لغرضففه‪،‬‬
‫والذي ينافي غرضه يسمى قبيحا ً ول معنى لقبحه إل منافاته لغرضه‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وفاعففل‬‫والذي ل ينافي ول يوافق يسمى عبثا ً أي ل فائدة فيه أصفف ً‬
‫العبث يسمى عابثا ً وربما يسمى سفيهًا‪ ،‬وفاعل القبيح أعنففي الفعففل‬
‫الذي ينضر به يسمى سفيها ً واسم السفيه أصدق منه على العففابث‪،‬‬
‫وهذا كله إذا لم يلتفت إلى غير الفاعل أو لففم يرتبففط الفعفل بغفرض‬
‫غير الفاعل‪ ،‬فإن ارتبط بغيففر الفاعففل وكففان موافق فا ً لغرضففه سففمي‬
‫حسنا ً في حق مففن وافقففه وإن كففان منافيفا ً سففمي قبيحفًا‪ ،‬وإن كففان‬
‫موافقا ً لشخص دون شخص سمي في حق أحدهما حسنا ً وفي حففق‬
‫الخر قبيحا ً إذ اسم القبيح والحسن بأن الموافقففة والمخالفففة‪ ،‬وهمففا‬
‫أمران إضافيان‪ ،‬مختلفان بالشخاص ويختلف في حق شخص واحففد‬
‫بففالحوال ويختلففف فففي حففال واحففد بففالعراض؛ فففرب فعففل يوافففق‬
‫الشخص من وجه ويخالفه من وجه فيكون حسنا ً من وجه قبيحا ً من‬
‫وجه‪ ،‬فمن ل ديانة له يستحسن الزنا بزوجة الغيففر ويعففد الظفففر بهففا‬
‫نعمة ويستقبح فعل الذي يكشف عررته ويسميه غمازا ً قبيففح الفعففل‬
‫والمتدين يسميه محتسبا ً حسن الفعل‪ ،‬وكففل بحسففب غرضففه يطلففق‬
‫اسم الحسن والقبح بففل يقتففل ملففك مففن الملففوك فيستحسففن فعففل‬
‫القاتل جميع أعدائه ويسففتقبحه جميففع أوليففائه‪ ،‬بففل هففذا القاتففل فففي‬
‫الحسن المخصوص جفار‪ ،‬ففففي الطبففاع مفا خلففق مفايل ً مفن اللففوان‬
‫الحسان إلى السمرة‪ ،‬فصاحبه يستحسفن السفمر ويعشففقه‪ ،‬والفذي‬
‫خلففق مففايل ً إلففى البيففاض المشففرب بففالحمرة يسففتقبحه ويسففتكرهه‬
‫ويسفه عقل المستحسن المستهتر به؛ فبهذا يتففبين علففى القطففع أن‬
‫الحسففن والقبيففح عبارتففان عففن الخلففق كلهففم عففن أمريففن إضففافيين‬
‫يختلفان بالضافات عن صفات الذوات التي ل تختلففف بالضففافة‪ .‬فل‬
‫جرم جاز أن يكون الشيء حسنا ً في حق زيد قبيحا ً فففي حففق عمففرو‬
‫ول يجوز أن يكون الشيء أسود في حق زيد أبيض فففي حففق عمففرو‬
‫لما لم تكففن اللففوان مففن الوصففاف الضففافية؛ فففإذا فهمففت المعنففى‬
‫فافهم أن الصطلح في لفظ الحسن أيضا ً ثلثة‪ :‬فقائل يطلقه علففى‬
‫ل؛ وقائل يخصففص بمففا يوافففق‬ ‫كل ما يوافق الغرض عاجل ً كان أو آج ً‬
‫الغرض فففي الخففر وهففو الففذي حسففنه الشففرع أي حففث عليففه ووعففد‬
‫بالثواب عليه وهو اصطلح أصحابنا‪ ،‬والقبيح عند كل فريق ما يقابففل‬
‫الحسن‪ ،‬فالول أعم وهذا أخص‪ ،‬وبهذا الصففطلح قففد يسففمي بعففض‬
‫من ل يتحاشففى فعففل اللففه تعففالى قبيحفا ً إذ كففان ل يوافففق غرضففهم‪،‬‬
‫ولذلك تراهم يسبون الفلك والدهر ويقولون خرف الفلففك ومففا أقبففح‬
‫أفعاله ويعلمون إن الفاعل خففالق الفلففك؛ ولففذلك قففال رسففول اللففه‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ :‬ل تسبوا الففدهر‪ ،‬فففإن اللففه هففو الففدهر؛ وفيففه‬
‫اصطلح ثالث إذ قد يقال فعل الله تعالى حسن كيف كان مع إنففه ل‬
‫غرض في حقه؛ ويكون معناه أنففه ل تبعففة عليففه فيففه ول لئمففة وأنففه‬
‫فاعل في ملكه الذي ل يساهم فيه ما يشففاء‪ .‬وأمففا الحكمففة فتطلففق‬
‫علففى معنييففن‪ :‬أحففدهما الحاطففة المجففردة بنظففم المففور ومعانيهففا‬
‫الدقيقة والجليلة والحكم عليها بأنها كيف ينبغي أن تكففون حففتى تتففم‬
‫منها الغاية المطلوبة بها‪ ،‬والثاني أن تنضاف إليه القدرة علففى إيجففاد‬
‫الترتيب والنظام واتقانه وإحكامه فيقال حكيم من الحكمة‪ ،‬وهو نوع‬
‫من العلم‪ ،‬ويقال حكيم من الحكام وهو نوع من الفعل‪ ،‬فقففد اتضففح‬
‫لك معنى هذه اللفاظ في الصففل ولكففن ههنففا ثلث غلطففات للففوهم‬
‫يستفاد من الوقوف عليها الخلص مففن إشففكالت تغففتر بهففا طففوائف‬
‫كثيرة‪ :‬الغلطة الولى‪ :‬أن النسان قد يطلففق اسففم القبيففح علففى مففا‬
‫يخالف غرضه وإن كففان يوافففق غففرض غيففره‪ ،‬ولكنففه ل يلتفففت إلففى‬
‫الغير‪ ،‬فكل طبع مشغوف بنفسه ومستحقر مففا عففداه ولففذلك يحكففم‬
‫على الفعل مطلقا ً بأنه قبيح وقد يقول أنه قبيح في عينه‪ ،‬وسببه أنه‬
‫قبيح في حقه بمعنى أنه مخالف لغرضففه‪ ،‬ولكففن أغراضففه كففأنه كففل‬
‫العففالم فففي حقففه فيتففوهم أن المخففالف لحقففه مخففالف فففي نفسففه‪،‬‬
‫فيضيف القبح إلى ذات الشيء ويحكففم بففالطلق؛ فهففو مصففيب فففي‬
‫أصل السقباح ولكنه مخطيء في حكمه بالقبح على الطلق؛ وفففي‬
‫إضافة القبفح إلفى ذات الشفيء ومنشفؤه غفلتفه عففن اللتففات إلففى‬
‫غيره‪ ،‬بل عن اللتفات إلى بعض أحوال نفسففه‪ ،‬فففإنه قففد يستحسففن‬
‫في بعففض أحففواله غيففر مفا يسففتقبحه مهمففا انقلففب موافقفا ً لغرضففه‪.‬‬
‫الغلطة الثانية فيه‪ :‬أن ما هو مخالف للغراض في جميع الحففوال إل‬
‫في حالة نادرة‪ ،‬فقد يحكم النسان عليففه مطلقفا ً بففأنه قبيففح لففذهوله‬
‫عن الحالة النادرة ورسوخ غالب الحوال في نفسه واسففتيلئه علففى‬
‫ذكره‪ ،‬فيقضي مثل ً على الكذب بأنه قبيح مطلقا ً فففي كففل حففال وأن‬
‫قبحه لنه كذب لذاته فقط ل لمعنففى زائد‪ ،‬وسففبب ذلففك غفلتففه عففن‬
‫ارتباط مصالح كثيرة بالكذب في بعض الحوال‪ ،‬ولكن لو وقعت تلك‬
‫الحالة ربما نفر طبعه عن استحسان الكذب لكثرة إلفه باسففتقباحه‪،‬‬
‫وذلفففك لن الطبفففع ينففففر عنفففه مفففن أول الصفففبا بطريفففق التفففأديب‬
‫والستصلح‪ ،‬ويلقي إليه أن الكذب قبيح في نفسه وأنه ل ينبغففي أن‬
‫يكذب قط‪ ،‬فهو قبيح ولكن بشرط يلزمففه فففي أكففثر الوقففات وإنمففا‬
‫يقع نادرًا‪ ،‬فلذلك ل ينبه على ذلك الشرط ويغرس فففي طبعففه قبحففه‬
‫والتنفير عنه مطلقًا‪ .‬الغلطة الثالثة‪ :‬سبق الوهم إلففى العكففس‪ ،‬فففإن‬
‫ما رئي مقرونا ً بالشيء يظن أن الشيء أيضا ً ل محالة يكون مقرونا ً‬
‫به مطلقا ً ول يدري أن الخص أبدا ً يكون مقرونا ً بالعم‪ ،‬وأمففا العففم‬
‫فل يلزم أن يكون مقرونا ً بالخص‪ .‬ومثاله ما يقففال مففن أن السففليم‪،‬‬
‫أعني الذي نهشته الحية‪ ،‬يخاف من الحبل المبرقش اللون‪ ،‬وهو كما‬
‫قيل‪ ،‬وسببه أنه أدرك المؤذي وهففو متصففور بصففورة حبففل مففبرقش‪،‬‬
‫فإذا أدرك الحبل سبق الففوهم إلفى العكففس وحكففم بفأنه مفؤذ فينفففر‬
‫الطبع تابعا ً للوهم والخيال وإن كان العقل مكذبا ً به‪ ،‬بل النسان قففد‬
‫ينفر عن أكل الخبيض الصفر لشبهه بالعذرة‪ ،‬فيكاد يتقيأ عنففد قففول‬
‫القائل إنه عذرة‪ ،‬يتعذر عليه تناوله مع كون العقل مكففذبا ً بففه‪ ،‬وذلففك‬
‫لسبق الوهم إلى العكس فإنه أدرك المستقذر رطبا ً أضفر فإذا رأى‬
‫الرطب الصفر حكم بأنه مستقذر‪ ،‬بل في الطبع ما هففو أعظففم مففن‬
‫هذا فإن السامي التي تطلق عليها الهنود والزنففوج لمففا كففان يقففترن‬
‫قبح المسمى به يؤثر في الطبع ويبلغ إلى حففد لففو سففمى بففه أجمففل‬
‫التراك والروم لنفر الطبع عنه‪ ،‬لنه أدرك الوهم القبيح مقرونا ً بهففذا‬
‫السم فيحكم بالعكس‪ ،‬فإذا أدرك السم حكم بالقبح على المسففمى‬
‫ونفر الطبع‪ .‬وهذا مففع وضففوحه للعقففل فل ينبغففي أن يغفففل عنففه لن‬
‫إقدام الخلق وإحجامهم في أقوالهم وعقائدهم وأفعففالهم تففابع لمثففل‬
‫هذه الوهام‪ .‬وأما اتباع العقل الصرف فل يقوى عليه إل أوليففاء اللففه‬
‫تعالى الذين أراهم الله الحق حقا ً وقواهم على اتباعه‪ ،‬وإن أردت أن‬
‫تجرب هذا في العتقادات فأورد على فهم العامي المعتزلي مسففألة‬
‫معقولة جلية فيسارع إلى قبولها‪ ،‬فلو قلت له إنه مففذهب الشففعري‬
‫رضي الله عنه لنفر وامتنع عن القبول وانقلب مكذبا ً بعين ما صففدق‬
‫به مهما كان سيء الظن بالشعري‪ ،‬إذ كان قبح ذلك في نفسه منففذ‬
‫الصبا‪ .‬وكذلك تقرر أمرا ً معقول ً عند العامي الشففعري ثففم تقففول لففه‬
‫إن هذا قول المعففتزلي فينفففر عففن قبففوله بعففد التصففديق ويعففود لففي‬
‫التكذيب‪ .‬ولست أقول هذا طبع العوام بل طبع أكثر مففن رأيتففه مففن‬
‫المتوسمين باسم العلم؛ فإنهم لم يفارقوا العوام فففي أصففل التقليففد‬
‫بل أضففافوا إلففى تقليففد المففذهب تقليففد الففدليل فهففم فففي نظرهففم ل‬
‫يطلبون الحق بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما اعتقففدوه حق فا ً‬
‫بالسماع والتقليد‪ ،‬فإن صادفوا في نظرهم ما يؤكففد عقففائدهم قففالوا‬
‫قففد ظفرنففا بالففدليل‪ ،‬وإن ظهففر لهففم مففا يضففعف مففذهبهم قففالوا قففد‬
‫عرضت لنا شبهة‪ ،‬فيضعون العتقاد المتلقف بالتقليد أص فل ً وينففبزون‬
‫بالشبهة كل ما يخالفه‪ ،‬وبالدليل كلى ما يوافقه‪ ،‬وإنمففا الحففق ضففده؛‬
‫وهو أن ل يعتقد شيئا ً أصل ً وينظر إلى الدليل ويسمي مقتضففاه حقففا ً‬
‫ونقيضففه بففاطل ً وكففل ذلففك منشفؤه الستحسففان والسففتقباح بتقففديم‬
‫اللفه والتخلق بأخلق منذ الصبا‪ .‬فففإذا وقفففت علففى هففذه المثففارات‬
‫سهل عليك دفع الشفكالت‪ .‬ففإن قيفل‪ :‬فقفد رجفع كلمكففم إلفى أن‬
‫الحسن والقبيح يرجعان إلى الموافقففة والمخالفففة للغففراض‪ ،‬ونحففن‬
‫نرى العاقل يستحسن ما ل فائدة له فيه ويستقبح ما له فيففه فففائدة‪.‬‬
‫أمففا الستحسففان فمففن رأى إنسففانا ً أو حيوان فا ً مشففرفا ً علففى الهلك‬
‫استحسن إنقاذه ولو بشربة ماء معأنه ربما ل يعتقد الشرع ول يتوقع‬
‫منه غرضا ً في الدنيا ول هو بمرآى من الناس حتى ينتظفر عليفه ثنفاء‬
‫بل يمكن أن يقدر انتفاء كل غرض ومع ذلك يرجح جهة النقاذ علففى‬
‫جهففة الهمففال بتحسففين هففذا وتقبيففح ذلففك‪ .‬وأمففا الففذي يسففتقبح مففع‬
‫الغراض‪ ،‬كالذي يحمل على كلمة الكفر بالسيف والشرع قد رخففص‬
‫له في اطلقها‪ ،‬فإنه قد يستحسن منففه الصففبر علففى السففيف وتففرك‬
‫النطق به‪ .‬أو الذي ل يعتقد الشرع وحمل بالسيف على نقففض عهففد‪،‬‬
‫ول ضرر عليه في نقضه وفي الوفاء به هلكه‪ ،‬فإنه يستحسن الوفاء‬
‫بالعهد والمتناع من النقض‪ .‬فبان أن الحسن والقبح معنى سوى مففا‬
‫ذكرتموه‪ .‬والجففواب أن فففي الوقففوف علففى الغلطففات المففذكورة مففا‬
‫يشفي هذا الغليل‪ .‬أما ترجيح النقاذ علففى الهمففال فففي حففق مففن ل‬
‫يعتقد الشرع فهو دفع للذى الذي يلحق النسان في رقففة الجنسففية‪،‬‬
‫وهو طبع يستحيل النفكاك عنه‪ .‬ولن النسان يقدر نفسه فففي تلففك‬
‫البلية ويقدر غيره قادرا ً على انقففاذه مففع العففراض عنففه‪ ،‬ويجففد مففن‬
‫نفسه استقباح ذلففك فيعففود عليففه ويقففدر ذلففك مففن المشففرف علففى‬
‫الهلك في حق نفسه فينفره طبعففه عمففا يعتقففده مففن أن المشففرف‬
‫على الهلك في حقه‪ ،‬فيندفع ذلك عففن نفسففه بالنقففاذ‪ ،‬فففإن فففرض‬
‫ذلك في بهيمة ل يتوهم استقباحها أو فرض في شففخص ل رقففة فيففه‬
‫ول رحمة فهذا مجال تصففوره‪ ،‬إذ النسففان ل ينفففك عنففه فففإن فففرض‬
‫على الستحالة فيبقى أمر آخر وهو الثنففاء بحسففن الخلففق والشفففقة‬
‫على الخلق‪ ،‬فإن فرض حيث ل يعلمففه أحففد فهففو ممكففن أن يعلمففه‪،‬‬
‫فإن فرض فففي موضففع يسففتحيل أن يعلففم فيبقففى أيضفا ً ترجيففح فففي‬
‫نفسه وميل يضاهي نفرة طبفع السفليم عفن الخبففل‪ ،‬وذلففك أنفه رأى‬
‫الثناء مقرونا ً بمثل هذا الفعل علففى الطففراد‪ ،‬وهففو يميففل إلففى الثنففاء‬
‫فيميل إلى المقرون به‪ .‬وإن علم بعقله عدم الثناء‪ .‬كما إنه لمففا رأى‬
‫الذى مقرون فا ً بصففورة الخبففل‪ .‬وطبعففه ينفففر عففن الذى فينفففر عففن‬
‫المقففرون بففه‪ ،‬وإن علففم بعقلففه عففدم الذى بففل الطبففع إذا رأى مففن‬
‫يعشقه في موضع وطال معه أنسه فيه فإنه يحس من نفسه تفرقة‬
‫بين ذلك الموضع وحيطانه وبين سائر المواضع ولذلك قال الشففاعر‪:‬‬
‫أمر على جدار ديار ليلى=أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما تلك الففديار‬
‫شغفن قلبي=ولكن حب من سكن الديارا وقال ابن الرومففي منبهففا ً‬
‫على سبب حب الناس الوطان ونعم ما قال‪ :‬وحّبب أوطان الرجففال‬
‫إليهفففم=مفففآرب قضفففاها الشفففباب هنالكفففا إذا ذكفففروا أوطفففانهم‬
‫ذكرتهم=عهففود الصففبا فيهففا فحنففوا لففذلكا وإذا تتبففع النسففان الخلق‬
‫والعادات رأى شواهد هذا خارجة عن الحصر‪ ،‬فهذا هو السبب الففذي‬
‫هففو غلففط المغففترين بظففاهر المففور‪ ،‬الففذاهلين عففن أسففرار أخلق‬
‫النفوس‪ ،‬الجاهلين بأن هذا الميل وأمثاله يرجففع إلففى طاعففة النفففس‬
‫بحكم الفطرة والطبع بمجرد الوهم‪ .‬والخيال الففذي هففو غلففط يحكففم‬
‫العقل ولكن خلقت قففوى النفففس مطيعففة للوهففام والتخيلت بحكففم‬
‫اجراء العادات‪ ،‬حتى إذا تخيل النسان طعاما ً طيبا ً بالتذكر أو بالرؤية‬
‫سال في الحال لعفابه وتحلبفت أشفداقه‪ ،‬وذلفك بطاعفة القفوة الفتي‬
‫سففخرها اللففه تعففالى لفاضففة اللعففاب المعيففن علففى المضففغ للتخيففل‬
‫والوهم‪ ،‬فففإن شففأنها أن تنبعففث بحسففب التخيففل وإن كففان الشففخص‬
‫عالما ً بأنه ليس يريد القدام على الكل بصوم أو بسبب آخر وكففذلك‬
‫يتخيل الصورة الجميلة التي يشتهي مجامعتها‪ ،‬فكما ثبففت ذلففك فففي‬
‫الخيال انبعثت القوة الناشرة للة الفعل وساقت الرياح إلى تجاويف‬
‫العصففاب وملتهففا‪ ،‬وثففارت القففوة المففأمورة بصففب المففذي الرطففب‬
‫المعين على الوقاع‪ ،‬وذلك كله مع التحقيق بحكم العقل للمتناع عن‬
‫الفعل في ذلك الوقت‪ .‬ولكفن اللفه تعفالى خلفق هفذه القفوى بحكفم‬
‫طرد العادة مطيعة مسخرة تحت حكم الخيال‪ ،‬والوهم ساعد العقل‬
‫الوهم أو لم يساعده‪ ،‬فهذا وأمثاله منشففأ الغلففط فففي سففبب ترجيففح‬
‫أحد جانبي الفعل على الخر‪ .‬وكل ذلففك راجففع إلففى الغففراض‪ ،‬فأمففا‬
‫النطففق بكلمففة الكفففر وإن كففان كففذلك فل يسففتقبحه العاقففل تحففت‬
‫السيف البتة بل ربما يستقبح الصرار‪ ،‬فإن استحسففن الصففرار فلففه‬
‫سببان‪ :‬أحدهما‪ ،‬اعتقاده أن الثواب علففى الصففبر والستسففلم أكففثر‪،‬‬
‫والخر‪ ،‬ما ينتظر من من الثناء عليه بصففلبته فففي الففدين‪ ،‬فكففم مففن‬
‫شجاع يمتطي متن الخطر ويتهجففم علففى عففدد يعلففم أنفه ل يطيقهففم‬
‫ويستحقر ما يناله بما يعتاضه عنه من لذة الثنففاء والحمففد بعففد مففوته‬
‫وكذلك المتناع عن نقض العهففد بسففببه ثنففاء الخلففق علففى مففن يفففي‬
‫بالعهد‪ ،‬وتواصيهم به على مر الوقات لما فيهفا مفن مصفالح النفاس‪.‬‬
‫فإن قدر حيث ل ينتظر ثناء فسببه حكم الوهم من حيث أنه لم يففزل‬
‫مقرونففا ً بالثنففاء الففذي هففو لذيففذ‪ ،‬والمقففرون باللذيففذ لذيففذ‪ ،‬كمففا أن‬
‫المقرون بالمكروه مكروه كما سبق في المثلة‪ ،‬فهذا ما يحتمله هذا‬
‫المختصر من بث أسرار هذا الفصل‪ ،‬وإنمففا يعففرف قففدره مففن طففال‬
‫في المعقولت نظره‪ ،‬وقد استفدنا بهذه المقدمففة إيجففاز الكلم فففي‬
‫الدعاوى فلنرجع إليها‪ .‬الدعوى الولى‪ :‬ندعي أنه يجوز لله تعففالى أن‬
‫ل يخلق الخلق‪ ،‬وإذا خلق فلم يكن ذلك واجبا ً عليه‪ ،‬وإذا خلقهم فلففه‬
‫أن ل يكلفهم‪ ،‬وإذا كلفهم فلم يكن ذلك واجبفا ً عليففه‪ .‬وقففالت طائففة‬
‫من المعتزلة يجب عليه الخلق والتكليفف واجفب‪ ،‬غيفر مفهفوم؛ فإنفا‬
‫بينا أن المفهوم عندنا من لفففظ الففواجب مففا ينففال تففاركه ضففرر‪ ،‬إمففا‬
‫ل‪ ،‬أو ما يكون نقيضه محال‪ ،‬والضففرر محففال فففي حففق‬ ‫عاجل ً وإما آج ً‬
‫الله تعالى‪ .‬وليس في ترك التكليف وترك الخلق لزوم محال‪ ،‬إل أن‬
‫يقال كان يؤدي ذلك إلففى خلف مففا سففبق بففه العلففم فففي الزل ومففا‬
‫سبقت به المشيئة في الزل‪ ،‬فهذا حق وهو بهذا التأويل واجب‪ ،‬فإن‬
‫الرادة إذا فرضت موجودة‪ ،‬أو العلم إذا فرض متعلقا ً بالشيء‪ ،‬كففان‬
‫حصول المراد والمعلوم واجبا ً ل محالة‪ .‬فإن قيففل‪ :‬إنمففا يجففب عليففه‬
‫ذلك لفائدة الخلق ل لفائدة ترجع إلى الخالق سبحانه وتعففالى‪ ،‬قلنففا‪:‬‬
‫الكلم فففي قففولكم لفففائدة الخلففق للتعليففل‪ ،‬والحكففم المعلففل هففو‬
‫الوجوب‪ ،‬ونحن نطالبكم بتفهيم الحكففم فل يعنيكففم ذكففر العلففة؛ فمففا‬
‫معنى قولكم إنه يجب لفففائدة الخلففق ومففا معنففى الوجففوب ونحففن ل‬
‫نفهم من الوجوب إل المعاني الثلثة‪ ،‬وهي منعدمة‪ ،‬فإن أردتم معنى‬
‫رابعا ً ففسروه أول ً ثم اذكروا علته‪ ،‬فإنا ربما ل ننكففر أن للخلففق فففي‬
‫الخلق فائدة‪ ،‬وكذا في التكليف‪ ،‬ولكن ما فيه فائدة غيففره لففم يجففب‬
‫عليه إذا لم يكن له فائدة في فائدة غيره‪ .‬وهذا ل مخففرج عنففه أبففدًا‪،‬‬
‫على أنا نقول إنما يستقيم هذا الكلم في الخلق ل في التكليففف‪ ،‬ول‬
‫يسفتقيم ففي هفذا الخلفق الموجفود بفل ففي أن يخلقهفم ففي الجنفة‬
‫متنعمين‪ ،‬من غير هم وضرر وغم وألففم‪ ،‬وأمففا هففذا الخلففق الموجففود‬
‫فالعقلء كلهففم قففد تمنففوا العففدم‪ ،‬وقففال بعضففهم‪ :‬ليتنففي كنففت نسففيا ً‬
‫منسيًا‪ ،‬وقال آخر ليتني لم أك شيئًا‪ ،‬وقال آخر ليتني كنت تبنة رفعها‬
‫من الرض‪ ،‬قال آخر يشير إلى طائر ليتني كنت ذلففك الطففائر‪ .‬وهففذا‬
‫قففول النبيففاء والوليففاء وهففم العقلء‪ ،‬فبعضففهم يتمنففى عففدم الخلففق‬
‫وبعضففهم يتمنففى عففدم التكليففف بففأن يكففون جمففادا ً أو طففائرًا‪ ،‬فليففت‬
‫شعري كيف يستجيز العاقل في أن يقول‪ :‬للخلق في التكليف فائدة‬
‫وإنما معنى الفائدة نفي الكلفة‪ ،‬والتكليف في عينه إلزام كلفة وهففو‬
‫ألم‪ ،‬وإن نظر إلى الثففواب فهففو الفففائدة‪ ،‬وكففان قففادرا ً علففى إيصففاله‬
‫إليهم بغير تكليف‪ ،‬فففإن قيففل‪ :‬الثففواب إذا كففان باسففتحقاق كففان ألففذ‬
‫وأوقع من أن يكون بالمتنان والبتداء‪ ،‬والجواب‪ :‬أن الستعاذة بففالله‬
‫تعالى من عقل ينتهي إلى التكبر علففى اللففه عففز وجففل والففترفع مففن‬
‫احتمال منته وتقدير اللذة في الخروج من نعمته أولى من الستعاذة‬
‫بالله من الشيطان الرجيم؛ وليت شعري كيف يعففد مففن العقلء مففن‬
‫يخطر بباله مثل هذه الوساوس‪ ،‬ومن يستثقل المقام أبد البففاد فففي‬
‫الجنة من غير تقدم تعب وتكليف أخففس مففن أن ينففاظر أو يخففاطب‪.‬‬
‫هذا لو سلم أن الثواب بعد التكليف يكون مستحقًا‪ ،‬وسنبين نقيضففه‪.‬‬
‫ثم ليت شعري الطاعة التي بها يستحق الثواب من أين وجدها العبد‬
‫؟ وهففل لهففا سففبب سففوى وجففوده وقففدرته وإرادتففه وصففحة أعضففائه‬
‫وحضور أسبابه ؟ وهل لكل ذلك مصدر إل فضل الله ونعمته؛ فنعففوذ‬
‫بالله من النخلع عن غريزة العقل بالكلية‪ ،‬فإن هذا الكلم مففن هففذا‬
‫النمففط‪ ،‬فينبغففي أن يسففترزق اللففه تعففالى عقل ً لصففاحبه ول يشففتغل‬
‫بمناظرته‪ .‬الدعوى الثانية‪ :‬إن لله تعالى أن يكلف العباد ما يطيقففونه‬
‫وما ل يطيقونه‪ ،‬وذهب المعتزلة إلى انكار ذلك‪ ،‬ومعتقد أهففل السففنة‬
‫أن التكليفف لفه حقيقففة فففي نفسفه وهفو أنففه كلم ولفه مصفدر وهففو‬
‫المكلف‪ ،‬ول شرط فيففه إل كففونه متكلمفًا‪ ،‬ولففه مففورد وهففو المكلففف‬
‫وشفففرطه أن يكفففون فاهمفففا ً للكلم فل يسفففمى الكلم مفففع الجمفففاد‬
‫والمجنون خطابا ً ول تكليفًا‪ ،‬والتكليف نوع خطففاب ولففه متعلففق وهففو‬
‫المكلف به وشرطه أن يكون مفهوما ً فقط‪ ،‬وأما كونه ممكنا ً فليففس‬
‫بشرط لتحقيق الكلم فإن التكليف كلم‪ ،‬فإذا صدر ممففن يفهففم مففع‬
‫من يفهم فيما يفهم وكان المخاطب دون المخففاطب سففمي تكليف فًا‪،‬‬
‫ل‪،‬‬‫وإن كان مثله سمي التماسًا‪ ،‬وإن كففان فففوقه سففمي دعففاء وسففؤا ً‬
‫فالقتضففاء فففي ذاتففه واحففد وهففذه السففامي تختلففف عليففه بففاختلف‬
‫النسبة‪ ،‬وبرهان جواز ذلك أن استحالته ل تخلو إما أن تكون لمتنففاع‬
‫تصففور ذاتففه‪ ،‬كاجتمففاع السففواد والبيففاض‪ ،‬أو كففان لجففل السففتقباح‪،‬‬
‫وباطل أن يكون امتنففاعه لففذاته‪ ،‬فففإن السففواد والبيففاض ل يمكففن أن‬
‫يفرض مجتمعًا‪ ،‬وفرض هذا ممكن إذ التكليف ل يخلففو إمففا أن يكففون‬
‫لفظا ً وهو مذهب الخصم وليففس بمسففتحيل أن يقففول الرجففل لعبففده‬
‫الزمن قم‪ ،‬فهو على مذهبهم أظهر وأما نحن فإنا نعتقد أنففه اقتضففاء‬
‫يقوم بالنفس‪ .‬وكما يتصور أن يقوم اقتضاء القيام بالنفس من قففادر‬
‫فيتصور ذلك من عاجز بل ربما يقوم ذلك بنفسه من قادر ثففم يبقففى‬
‫ذلك القتضاء ونظر الزمانة والسيد ل يدري‪ .‬ويكون القتضففاء قائم فا ً‬
‫بذاته وهو اقتضاء قائم من عاجز في علم الله تعففالى‪ ،‬وإن لففم يكففن‬
‫معلوما ً عند المقتضي فإن علمففه ل يحيففل بقففاء القتضففاء مففع العلففم‬
‫بالعجز عن الوفاء وباطل أن يقال بطلن ذلك من جهة الستحسان‪،‬‬
‫فإن كلمنا في حق الله تعالى‪ ،‬وذلففك باطففل فففي حقففه لتنزهففه عففن‬
‫الغراض ورجوع ذلك إلى الغراض‪ .‬أما النسففان العاقففل المضففبوط‬
‫بغالب المر فقد يستقبح ذلك وليس ما يسففتقبح مففن العبففد يسففتقبح‬
‫من الله تعالى‪ .‬فإن قيل‪ :‬فهو مما ل فائدة فيه وما ل فائدة فيه فهو‬
‫عبث والعبث على الله تعالى محال‪ .‬قلنا‪ :‬هذه ثلث دعاوى‪ :‬الولى‪:‬‬
‫إنه ل فائدة فيه‪ ،‬ول نسلم‪ ،‬فلعل فيه فائدة لعبففاد اطلففع اللففه عليهففا‪.‬‬
‫وليست الفائدة هي المتثال والثواب عليه بل ربما يكون في إظهففار‬
‫المر وما يتبعه من اعتقففاد التكليففف فففائدة‪ ،‬فقففد ينسففخ المففر قبففل‬
‫المتثال كما أمر إبراهيفم عليفه السفلم بذبفح ولفده ثفم نسفخه قبفل‬
‫المتثال‪ ،‬وأمر أبففا جهففل باليمففان وأخففبر أنففه ل يففؤمن وخلف خففبره‬
‫محال‪ .‬الدعوى الثانية‪ :‬إن ما ل فففائدة فيففه فهففو عبففث‪ ،‬فهففذا تكريففر‬
‫عبارة؛ فإنا بينا أنه ل يراد بالعبث إل مففا ل فففائدة فيففه فففإن أريففد بففه‬
‫غيره فهو غير مفهوم‪ .‬الدعوى الثالثففة‪ :‬إن العبففث علففى اللففه تعففالى‬
‫محال‪ ،‬وهذا فيه تلبيس‪ ،‬لن لن العبث عبارة عن فعل ل فائدة فيففه‬
‫ممن يتعرض للفوائد‪ ،‬فمن ل يتعرض لها فتسميته عابثا ً مجاز محض‬
‫ل حقيقة له يضاهي قول القائل الريففح عابثففة بتحيكهففا الشففجار إذ ل‬
‫فائدة لها فيه‪ ،‬ويضاهي قول القائل الجففدار غافففل أي هففو خففال عففن‬
‫العلم والجهل وهففذا باطففل لن الغافففل يطلففق علففى القابففل للجهففل‬
‫والعلم إذا خل عنهما‪ ،‬فاطلقهما علففى الففذي ل يقبففل العلففم مجففاز ل‬
‫أصل له‪ ،‬وكذلك اطلق اسم العابث على الله تعفالى واطلق العبففث‬
‫على أفعاله سبحانه وتعالى‪ ،‬والدليل الثاني في المسألة‪ ،‬ول محيص‬
‫لحد عنه‪ ،‬أن الله تعالى كلف أبا جهل أن يؤمن وعلففم أنففه ل يففؤمن‪،‬‬
‫وأخبر عنه بأنه ل يؤمن‪ ،‬فكأنه أمر بأن يففؤمن بففأنه ل يففؤمن‪ ،‬إذ كففان‬
‫من قول الرسففول صففلى اللففه عليففه وسففلم إنففه ل يففؤمن وكففان هففو‬
‫مأمورا ً بتصديقه‪ ،‬فقد قيففل لففه صففدق بأنففك ل تصففدق‪ ،‬وهففذا محففال‪.‬‬
‫وتحقيقه أن خلف المعلوم محال وقوعه ولكن ليس محال ً لذاته‪ ،‬بل‬
‫هو محال لغيره‪ ،‬والمحال لغيره في امتناع الوقففوع كالمحففال لففذاته‪،‬‬
‫ومن قال إن الكفار الذين لم يؤمنوا ما كانوا مأمورين باليمان فقففد‬
‫جحد الشرع‪ ،‬ومن قففال كففان اليمففان منهففم متصففورا ً مففع علففم اللففه‬
‫سبحانه وتعالى بأنه ل يقع‪ ،‬فقد اضطر كل فريق إلى القففول بتصففور‬
‫المر بما ل يتصور امتثاله‪ ،‬ول يغني عففن هففذا قففول القففائل إنففه كففان‬
‫مقدورا ً عليه وكان للكافر عليه قدرة‪ ،‬أما على مثلنففا فل قففدرة قبففل‬
‫الفعل ولم تكن لهم قدرة إل على الكفر الذي صدر منهم‪ ،‬وأما عنففد‬
‫المعتزلة فل يمتنففع وجففود القففدرة ولكففن القففدرة غيففر كافيففة لوقففوع‬
‫المقدور بل له شرط كالرادة وغيرهففا‪ ،‬ومففن شففروطه أن ل ينقلففب‬
‫ل‪ .‬والقدرة ل تراد لعينها بففل لتيسففيير الفعففل بهفا‪،‬‬ ‫علم الله تعالى جه ً‬
‫فكيف يتيسر فعل يؤدي إلففى انقلب العلففم جهل ً ؟ فاسفتبان أن هففذا‬
‫واقع في ثبوت التكليف بما هو محال لغيره‪ ،‬فكذا يقاس عليه ما هو‬
‫محففال لففذاته إذ ل فففرق بينهمففا فففي إمكففان التلفففظ ول فففي تصففور‬
‫القتضاء ول في الستقباح والستحسان‪ .‬الدعوى الثالثففة‪ :‬نففدعي أن‬
‫الله تعالى قادر على إيلم الحيففوان الففبريء عففن الجنايففات ول يلففزم‬
‫عليه ثواب‪ .‬وقالت المعتزلة إن ذلك محال لنه قبيح‪ ،‬ولففذلك لزمهففم‬
‫المصير إلى أن كل بقة وبرغوث أو ذي بعرة أو صدمة فإن الله عففز‬
‫وجل يجب عليه أن يحشره ويثيبه عليه بثواب‪ ،‬وذهففب ذاهبففون إلففى‬
‫أن أرواحها تعود بالتناسخ إلى أبدان ُأخر وينالها من اللففذة مففا يقابففل‬
‫تعبها؛ وهذا مذهب ل يخفى فسففاده‪ ،‬ولكنففا نقففول‪ :‬أمففا إيلم الففبريء‬
‫عن الجناية من الحيوان والطفال والمجانين فمقدور بما هو مشاهد‬
‫محسوس‪ ،‬فيبقى قول الخصم إن ذلك يوجب عليه الحشر والثففواب‬
‫بعد ذلك فيعود إلى معنى الواجب‪ ،‬وقد بان استحالته فففي حففق اللففه‬
‫تعالى‪ ،‬وإن فسفروه بمعنفى رابفع فهففو غيفر مفهفوم‪ ،‬وإن زعمففوا أن‬
‫تركه يناقض كونه حكيما ً فنقول‪ :‬إن الحكمة إن اريد بها العلم بنظام‬
‫المور والقدرة على ترتيبها كما سففبق فليففس فففي هففذا مفا يناقضففه‪،‬‬
‫وإن أريد بها أمرا ً آخر فليس يجب له عندنا من الحكم إل ما ذكرناه‪،‬‬
‫وما وراء ذلك لفظ ل معنى له‪ .‬فإن قيل فيؤدي إلى أن يكون ظالما ً‬
‫وقد قال‪" :‬وما ربك بظلم للعبيد" قلنففا‪ :‬الظلففم منفففي عنففه بطريففق‬
‫السلب المحض كما تسلب الغفلة عففن الجففدار والعبففث عففن الريففح‪،‬‬
‫فإن الظلم إنما يتصور ممن يمكن أن يصادف فعلففه ملففك غيففره‪ ،‬ول‬
‫يتصور ذلك في حق الله تعالى أو يمكن أن يكون عليه أمر فيخففالف‬
‫فعله أمر غيره‪ ،‬ول يتصور من النسان أن يكون ظالما ً لما في ملففك‬
‫نفسه بكل ما يفعلففه إل إذا خففالف أمففر الشففرع فيكففون ظالمفا ً بهففذا‬
‫المعنى‪ ،‬فمن ل يتصور منه أن يتصرف في ملك غيره ول يتصور منه‬
‫أن يكون تحففت أمففر غيففره كففان الظلففم مسففلوبا ً عنففه لفقففد شففرطه‬
‫المصحح له ل لفقده في نفسففه‪ ،‬فلتفهففم هففذه الدقيقففة فإنهففا مزلففة‬
‫القدم‪ ،‬فإن فسر الظلم بمعنى سوى ذلك فهو غير مفهوم ول يتكلم‬
‫فيه بنفي ول إثبات‪ .‬الدعوى الرابعة‪ :‬ندعي أنه ل يجففب عليففه رعايففة‬
‫الصلح لعباده‪ ،‬بل لففه أن يفعففل مففا يشففاء ويحكففم بمففا يريففد‪ ،‬خلف فا ً‬
‫للمعتزلة فإنهم حجروا علففى اللففه تعففالى فففي أفعففاله وأوجبففوا عليففه‬
‫رعاية الصلح‪ .‬ويدل على بطلن ذلك ما دل على نفي الوجوب على‬
‫الله تعالى كما سبق وتدل عليه المشاهدة والوجود‪ ،‬فإنا نريهففم مففن‬
‫أفعال الله تعالى ما يلزمهم العتراف بففه بففأنه ل صففلح للعبيففد فيففه‪،‬‬
‫فإنا نفرض ثلثة أطفال مات أحففدهم وهففو مسففلم فففي الصففبا‪ ،‬وبلففغ‬
‫الخر وأسلم ومففات مسففلما ً بالغفًا‪ ،‬وبلففغ الثففالث كففافرا ً ومففات علففى‬
‫الكفر‪ ،‬فإن العدل عندهم أن يخلد الكافر البالغ في النار‪ ،‬وأن يكففون‬
‫للبالغ المسلم في الجنة رتبة فوق رتبة الصففبي المسففلم‪ ،‬فففإذا قففال‬
‫الصبي المسلم‪ :‬يا رب لم حططت رتبتي عن رتبتففه ؟ فيقففول‪ :‬لنففه‬
‫بلغ فأطاعني وأنت لم تطعني بالعبادات بعد البلففوغ‪ ،‬فيقففول‪ :‬يففا رب‬
‫لنك أمتني قبل البلوغ فكان صلحي في أن تمدني بالحياة حتى أبلغ‬
‫فأطيع فأنال رتبته فلم حرمتني هذه الرتبة أبد البدين وكنففت قففادرا ً‬
‫على أن توصلني لها ؟ فل يكون له جواب إل أن يقففول‪ :‬علمففت أنففك‬
‫لو بلغت لعصيت وما أطعت وتعرضت لعقابي وسخطي فرأيت هففذه‬
‫الرتبة النازلة أولى بك وأصلح لك من العقوبة‪ ،‬فينادي الكففافر البففالغ‬
‫من الهاوية ويقول‪ :‬يا رب أو مففا علمففت أنففي إذا بلغففت كفففرت فلففو‬
‫أمتني في الصبا وأنزلتني في تلك المنزلففة النازلففة لكففان أحففب إلففي‬
‫من تخليد النار وأصلح لي‪ ،‬فلم أحييتني وكان الموت خيرا ً لففي ؟ فل‬
‫يبقى له جواب البتة‪ ،‬ومعلوم أن هذه القسام الثلثففة موجفودة‪ ،‬وبفه‬
‫يظهففر علففى القطففع أن الصففلح للعبففاد كلهففم ليففس بففواجب ول هففو‬
‫موجففود‪ .‬الففدعوى الخامسففة‪ :‬نففدعي أن اللففه تعففالى إذا كلففف العبففاد‬
‫فأطاعوه لم يجب عليه الثواب‪ ،‬بل إن شاء أثابهم وإن شاء عففاقبهم‬
‫وإن شاء أعدمهم ولم يحشرهم‪ ،‬ول يبالي لو غفففر لجميففع الكففافرين‬
‫وعاقب جميع المؤمنين‪ ،‬ول يستحيل ذلك في نفسه ول يناقض صفة‬
‫من صفات اللهية‪ ،‬وهذا لن التكليف تصرف فففي عبيففده وممففاليكه‪،‬‬
‫أما الثواب ففعل آخففر علففى سففبيل البتففداء‪ ،‬وكففونه واجبفا ً بالمعففاني‬
‫الثلثة غير مفهوم ول معنى للحسن والقبيح‪ ،‬وإن أريد له معنى آخففر‬
‫فليس بمفهوم إل أن يقال إنه يصير وعده كففذبا ً وهففو محففال‪ ،‬ونحففن‬
‫نعتقد الوجوب بهذا المعنى ول ننكره‪ .‬فإن قيل‪ :‬التكليف مع القففدرة‬
‫على الثواب وترك الثواب قبيح‪ ،‬قلنا‪ :‬إن عنيتففم بالقبففح أنففه مخففالف‬
‫غرض المكلف فقد تعالى المكلف وتقدس عن الغراض‪ ،‬وإن عنيتم‬
‫به أنه مخالف غرض المكلف مسلم لكن ما هففو قبيففح عنففد المكلففف‬
‫لم يمتنع عليه فعله إذا كان القبيح والحسن عنده وفففي حقففه بمثابففة‬
‫واحدة‪ .‬على أنففا لففو نزلنففا علففى فاسففد معتقففدهم فل نسففلم أن مففن‬
‫يستخدم عبده يجب عليه في العادة ثواب‪ ،‬لن الثواب يكون عوضففا ً‬
‫عن العمل فتبطل فائدة الرق وحق على العبد أن يخدم مففوله لنففه‬
‫عبففده‪ ،‬فففإن كففان لجففل عففوض فليففس ذلففك خدمففة‪ ،‬ومففن العجففائب‬
‫قولهم‪ :‬إنه يجب الشكر على العباد لنهم عبففاد‪ ،‬قضففاًء لحففق نعمتففه‪،‬‬
‫ثم يجب عليه الثفواب علفى الشفكر وهفذا محفال؛ لن المسفتحق إذا‬
‫وفى لم يلزمه فيه عوض‪ ،‬ولففو جفاز ذلففك للففزم علففى الثففواب شففكر‬
‫مجدد وعلى هذا الشكر ثواب مجدد ويتسلسل إلى غيففر نهايففة‪ ،‬ولففم‬
‫يزل العبد والرب كل واحد منهما أبدا ً مقيدا ً بحق الخر‪ ،‬وهو محففال‪.‬‬
‫وأفحش من هذا قولهم‪ :‬إن كل من كفر فيجب على اللففه تعففالى أن‬
‫يعاقبه أبدا ً ويخلده في النار‪ ،‬بل كففل مففن قففارف كففبيرة ومففات قبففل‬
‫التوبة يخلد في النار‪ ،‬وهذا جهل بففالكرم والمففروءة والعقففل والعففادة‬
‫والشرع وجميع المور‪ ،‬فإنا نقول‪ :‬العبفادة قاضففية والعقفول مشففيرة‬
‫إلى أن التجاوز والصفح أحسن من العقوبفة‪ ،‬والنتقفام وثنفاء النفاس‬
‫على العافي أكففثر مففن ثنففائهم للمنتقففم‪ ،‬واستحسففانهم للعفففو أشففد‪،‬‬
‫فكيف يستقبح العفو والنعام ويستحسن طول النتقام ! ثم هذا فففي‬
‫حق من أذته الجناية وغضت من قدره المعصية‪ ،‬والله تعالى يستوي‬
‫في حقه الكفر واليمان والطاعات والعصيان فهما في حففق إلهيتففه‬
‫وجللففه سففيان‪ ،‬ثففم كيففف يستحسففن أن سففلك طريففق المجففازاة‬
‫واستحسن ذلففك تأييففد العقففاب خالففدا ً مخلففدا ً فففي مقففابلته العصففيان‬
‫بكلمة واحدة في لحظة‪ .‬ومن انتهى عقله في الستحسان إلففى هففذا‬
‫الحد كانت دار المرضى أليق به من مجامع العلماء‪ .‬على أنففا نقففول‪:‬‬
‫لو سلك سالك ضد هذا الطريق بعينه كففان أقففوم قيل وأجففرى علففى‬
‫قانون الستحسان والستقباح الذي تقضي به الوهام والخيالت كما‬
‫سبق‪ ،‬وهو أن نقول‪ :‬النسان يقبح منه أن يعاقب على جناية سبقت‬
‫وجنايففة تففداركها إل لففوجهين‪ :‬أحففدهما‪ ،‬أن يكففون فففي العقوبففة زجففر‬
‫ورعاية مصلحة في المستقبل فيحسن ذلك خيفة مفن ففوات غفرض‬
‫فففي المسففتقبل‪ ،‬فففإن لففم يكففن فيففه مصففلحة فففي المسففتقبل أصفل ً‬
‫فالعقوبة بمجففرد المجففازاة علففى مففا سففبق قبيففح لنففه ل فففائدة فيففه‬
‫للمعاقب ول لحد سواه‪ ،‬والجاني متأذ بففه ودفففع الذى عنففه أحسففن‪،‬‬
‫وإنما يحسن الذى لفائدة ول فائدة‪ ،‬وما مضى فل تدارك له فهو في‬
‫غاية القبففح‪ .‬والففوجه الثففاني‪ ،‬أن نقففول‪ :‬إنففه إذا تففأذى المجنففي عليففه‬
‫واشتد غيظه فذلك الغيظ مؤلم وشفاء الغيظ مريح من اللم‪ ،‬واللم‬
‫بالجاني أليففق‪ ،‬ومهمففا عففاقب الجففاني زال منففه ألففم الغيففظ واختففص‬
‫بالجاني فهو أولى‪ ،‬فهذا أيضا ً له وجه ما وإن كان دليل ً علففى نقصففان‬
‫العقففل وغلبففة الغضففب عليففه‪ .‬فأمففا إيجففاب العقففاب حيففث ل يتعلففق‬
‫بمصلحة في المستقبل لحد في عالم الله تعففالى ول فيففه دفففع أذى‬
‫عن المجني عليه ففي غاية القبح‪ ،‬فهذا أقوم من قول من يقففول إن‬
‫ترك العقاب في غاية القبح‪ ،‬والكففل باطففل واتبففاع المففوجب الوهففام‬
‫التي وقعت بتوهم الغراض‪ ،‬والله تعالى متقففدس عنهففا ولكنففا أردنففا‬
‫معارضة الفاسد ليتبين به بطلن خيالهم‪ .‬الدعوى السادسففة‪ :‬نففدعي‬
‫أنه لو لم يرد الشرع لما كان يجب علففى العبففاد معرفففة اللففه تعففالى‬
‫وشكر نعمته‪ ،‬خلفا ً للمعتزلة‪ ،‬حيث قالوا إن العقل بمجرده مففوجب‪،‬‬
‫وبرهانه أن نقول‪ :‬العقل يوجب النظر وطلب المعرفة لفائدة مرتبففة‬
‫عليه أو مع العتراف بأن وجوده وعدمه في حق الفوائد عاجل ً وآجل ً‬
‫بمثابة واحدة‪ ،‬فإن قلتم‪ :‬يقتضي بالوجوب مع العتراف بأنه ل فائدة‬
‫فيه قطعا ً عاجل ً وآجل ً فهذا حكم الجهل ل حكم العقل‪ ،‬فإن العقل ل‬
‫يأمل بالعبث‪ ،‬وكلما هو خال عن الفففوائد كلهففا فهففو عبففث‪ ،‬وإن كففان‬
‫لفائدة فل يخلو إما أن ترجع إلى المعبود تعالى وتقدس عن الفوائد‪،‬‬
‫وإن رجعت إلى العبد فل يخلو أن يكون في الحال أو في المآل‪ ،‬أما‬
‫في الحال فهو تعب ل فائدة فيه وأما فففي المففآل فففالمتوقع الثففواب‪.‬‬
‫ومن أين علمتم أنه يثاب علففى فعلففه بففل ربمففا يعففاقب علففى فعلففه‪،‬‬
‫فالحكم عليه بالثواب حماقة ل أصل لها ‪ ..‬فإن قيل‪ :‬يخطر ببففاله أن‬
‫له ربا ً إن شكره أثابه وأنعم عليففه وإن كفففر أنعمففه عففاقبه عليففه‪ ،‬ول‬
‫يخطر بباله البتة جواز العقوبففة علففى الشففكر والحففتزاز عففن الضففرر‬
‫الموهوم في قضية العقل كالحتراز عن العلفوم‪ .‬قلنفا‪ :‬نحفن ل ننكفر‬
‫أن العاقل يستحثه طبعه عن الحتراز من الضرر موهوم فا ً ومعلوم فًا‪،‬‬
‫فل يمنففع مففن إطلق اسففم اليجففاب علففى هففذا السففتحثاث فففإن‬
‫الصطلحات ل مشاحة فيها‪ ،‬ولكففن الكلم فففي ترجيففح جهففة الفعففل‬
‫على جهة الترك في تقرير الثففواب بالعقففاب مففع العلففم بففأن الشففكر‬
‫وتركه في حق الله تعالى سيان ل كالواحد منففا فففإنه يرتففاح بالشففكر‬
‫والثناء ويهتز لففه ويسففتلذه ويتففآلم بففالكفران ويتففأذى بففه‪ ،‬فففإذا ظهففر‬
‫استواء المرين في حق الله تعالى فالترجيح لحففد الجففانبين محففال‪،‬‬
‫بل ربما يخطر بباله نقيضه وهففو أنففه يعففاقب علففى الشففكر لففوجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪ ،‬أن اشتغاله به تصرف في فكره وقلبففه باتعففابه صففرفه عففن‬
‫الملذ والشففهوات وهففو عبففد مربففوب خلففق لففه شففهوة ومكففن مففن‬
‫الشهوات‪ ،‬فلعل المقصود أن يشففتغل بلففذات نفسففه واسففتيفاء نعففم‬
‫الله تعالى وأن ل يتعب نفسه فيما ل فائدة للففه فيففه فهففذا الحتمففال‬
‫أظهر‪ .‬الثاني‪ ،‬أن يقيس نفسه على من يشكر ملكا ً من الملوك بففأن‬
‫يبحث عن صففاته وأخلقففه ومكفانه وموضفع نفومه مفع أهلففه وجميفع‬
‫أسراره الباطنة مجازاة على إنعامه عليه‪ ،‬فيقال له أنت بهذا الشكر‬
‫مستحق لحز الرقبة‪ ،‬فما لك ولهذا الفضول ومففن أنففت حففتى تبحففث‬
‫عن أسرار الملوك وصفاتهم وأفعففالهم وأخلقهففم‪ ،‬ولمففاذا ل تشففتغل‬
‫بما يهمك‪ ،‬فالذي يطلب معرفة معرفففة اللففه تعففالى كففأنه إن تعففرف‬
‫دقائق صفات الله تعالى وأفعاله وحكمته وأسراره في أفعففاله وكففل‬
‫ذلك مما ل يؤهل له إل مفن لفه منصففب فمففن أيفن عفرف العبفد أنففه‬
‫مستحق لهذا المنصب ؟ فاستبان أن ما أخذهم أنهام رسففخت منهففم‬
‫من العادات‪ ،‬تعارضها أمثالها ول محيففص عنهففا‪ .‬فففإن قيففل‪ :‬فففإن لففم‬
‫يكن مدركا ً لوجوب مقتضى العقول أدى ذلك إلففى إفحففام الرسففول‪،‬‬
‫فإنه إذا جاء بالمعجزة وقال انظروا فيهففا‪ ،‬فللمخففاطب أن يقففول إن‬
‫لم يكن النظففر واجب فا ً فل اقففدم عليففه وإن كففان واجب فا ً فيسففتحيل أن‬
‫يكون مدركه العقل‪ ،‬والعقل ل يففوجب‪ ،‬ويسففتحيل أن يكففون مففدركه‬
‫الشرع‪ ،‬والشرع ل يثبت إل بالنظر في المعجزة ول يجب النظر قبل‬
‫ل‪ .‬والجففواب أن‬ ‫ثبوت الشرع فيؤدي إلى أن ل يظهر صحة النبوة أص ً‬
‫هذا السؤال مصففدره الجهففل بحقيقففة الوجففوب‪ ،‬وقففد بينففا أن معنففى‬
‫الوجوب ترجيح جانب الفعففل علففى الففترك بففدفع ضففرر موهففوم فففي‬
‫الترك أو معلوم‪ ،‬وإذا كان هذا هففو الوجففوب فففالموجب هففو المرجففح‬
‫وهو الله تعالى‪ ،‬فإنه إذا ناط العقاب بترك النظففر ترجففح فعلفه علفى‬
‫تركه‪ ،‬ومعنى قول النبي صلى اللففه عليففه وسففلم إنففه واجففب مرجففح‬
‫بترجح الله تعالى في ربطه العقاب بأحففدهما‪ .‬وأمففا المففدرك فعبففارة‬
‫عففن جهففة معرفففة الوجففوب ل عففن نفففس الوجففوب‪ ،‬وليففس شففرط‬
‫الواجب أن يكون وجوبه معلومفًا‪ ،‬بففل أن يكففون علمففه متمكنفا ً لمففن‬
‫أراده‪ .‬فيقول النبي إن الكفر سم مهلك واليمان شفففاء مسففعد بففأن‬
‫جعل الله تعالى أحدهما مسعدا ً والخر مهلكًا‪ ،‬ولسففت أوجففب عليففك‬
‫شيئًا‪ ،‬فزن اليجاب هو الترجيح والمرجففح هففو اللففه تعففالى وإنمففا أنففا‬
‫مخبر عن كونه سم ومرشد لك إلى طريفق تعفرف بفه صفدقي وهفو‬
‫النظر في المعجزة‪ ،‬فإن سلكت الطريق عرفت ونجوت؛ وإن تركت‬
‫هلكت‪ .‬ومثاله مثال طبيب انتهى إلى مريض وهو متردد بين دوائيففن‬
‫موضوعين بين يديه‪ ،‬فقال له أما هذا فل تتناوله فإنه لهلففك للحيففوان‬
‫وأنت قادر على معرفته بأن تطعمه هذا السنور فيموت علففى الفففور‬
‫فيظهر لك ما قلته‪ .‬وأما هذا ففيه شفاؤك وأنت قادر علففى معرفتففه‬
‫بالتجربات وهو إن تشربه فتشفى فل فففرق فففي حقففي ول فففي حففق‬
‫ُأستاذي بين أن يهلك أو يشفى فففإن ُأسففتاذي غنففي عففن بقففائك وأنففا‬
‫أيضا ً كذلك‪ ،‬فعند هذا لففو قففال المريففض هففذا يجففب علففي بالعقففل أو‬
‫بقولك وما لم يظهر لي هذا لم أشتغل بالتجربففة كففان مهلك فا ً نفسففه‬
‫ولم يكن عليه ضرر‪ ،‬فكذلك النبي قد أخبره الله تعالى بففأن الطاعففة‬
‫شفاء والمعصية داء وأن اليمان مسعد والكفففر مهلففك وأخففبره بففأنه‬
‫غني عفن العفالمين سفعدوا أم شفقوا فإنمفا شفأن الرسفول أن يبلفغ‬
‫ويرشد إلى طريقة المعرفة وينصرف‪ ،‬فمن نظر فلنفسه ومن قصر‬
‫فعليها‪ ،‬وهذا واضح‪ .‬فإن قيففل‪ :‬فقففد رجففع المففر إلففى أن العقففل هففو‬
‫الموجب من حيث أنه بسففماع كلمففه ودعففواه يتوقففع عقاب فا ً فيحملففه‬
‫العقل على الحذر ول يحصل إل بفالنظر فيفوجب عليففه النظففر‪ ،‬قلنففا‪:‬‬
‫الحق الذي يكشف الغطاء في هذا من غير اتباع وهم وتقليد أمر هو‬
‫أن الوجوب كما بأن عبارة عن نوع رجحان في الفعل‪ ،‬والموجب هو‬
‫الله تعالى لنه هو المرجح‪ ،‬والرسول مخبر عن الترجيح‪ ،‬والمعجففزة‬
‫دليل على صففدقه فففي الخففبر‪ ،‬والنظففر سففبب فففي معرفففة الصففدق‪،‬‬
‫والعقل آلة النظر‪ ،‬والفهم معنى الخبر‪ ،‬والطبع مستحث على الحففذر‬
‫بعد فهم المحذور بالعقل‪ ،‬فل بد مففن طبففع يخففالفه العقوبففة للففدعوة‬
‫ويوافقه الثواب الموعود ليكففون مسففتحثًا‪ ،‬ولكففن ل يسففتحث مففا لففم‬
‫يفهم المحذور ولم يقدره ظنا ً أو علمًا‪ ،‬ول يفهم إل بالعقل والعقل ل‬
‫يفهم الترجيح بنفسه بل بسماعه مففن الرسففول‪ ،‬والرسففول ل يرجففح‬
‫الفعل علففى الففترك بنفسفه بففل اللففه هففو المرجففح والرسففول مخففبر‪،‬‬
‫وصدق الرسول ل يظهر بنفسه بل المعجز‪ ،‬والمعجزة ل تدل ما لففم‬
‫ينظر فيها‪ ،‬والنظر بالعقل‪ ،‬فإذا ً قد انكشفت المعاني‪ ،‬والصحيح فففي‬
‫اللفاظ أن يقال‪ :‬الوجوب هو الرجحففان والمففوجب هففو اللففه تعففالى‪،‬‬
‫والمخبر هو الرسول‪ ،‬المعرف للمحذور وصدق الرسول هففو العقففل‪،‬‬
‫والمستحث على سلوك سبب الخلص وهو الطبع‪ ،‬وكذلك ينبغففي أن‬
‫يفهم الحق في هذه المسألة ول يلتفت إلففى الكلم المعتففاد الففذي ل‬
‫يشفي الغليل ول يزيل الغموض‪ .‬الففدعوى السففابعة‪ :‬نففدعي أن بعثففة‬
‫النبياء جائز‪ ،‬وليس بمحال ول واجب‪ ،‬وقففالت المعتزلففة إنففه واجففب‪،‬‬
‫وقد سبق وجفه الففرد عليهففم‪ .‬وقففالت البراهمففة إنفه محفال‪ ،‬وبرهفان‬
‫الجواز أنه مهما قام الدليل على أن الله تعالى متكلففم وقففام الففدليل‬
‫على أنه قادر ل يعجز على أن يدل علففى كلم النفففس بخلففق ألفففاظ‬
‫وأصوات ورقوم أو غيرها من الفدللت‪ ،‬وقفد قفام دليفل علفى جفواز‬
‫إرسال الرسل‪ ،‬فإنا لسنا نعني به إل أن يقوم بذات الله تعففالى خففبر‬
‫عن المر النافع في الخرة والمر الضار بحكم إجراء العادة‪ ،‬ويصدر‬
‫منه فعل هو دللة الشخص على ذلك الخبر وعلى أمره بتبليغ الخبر‪،‬‬
‫ويصدر منه فعل خارق للعادة مقرونا ً بدعوى ذلك الشخص الرسالة‪،‬‬
‫فليس شيء من ذلك محال ً لذاته‪ ،‬فإنه يرجع إلى كلم النفس وإلففى‬
‫اختراع ما هو دللة على الكلم وما هففو مصففدق للرسففول وإن حكففم‬
‫باستحالة ذلك من حيث الستقباح والستحسان‪ ،‬فقد استأصففلنا هففذا‬
‫الصل في حق الله تعالى ثم ل يمكن أن يدعي قبح إرسال الرسول‬
‫على قانون الستقباح‪ ،‬فالمعتزلة مع المصير إلى ذلك لم يسففتقبحوا‬
‫هذا فليس إدراك قبحه ول إدراك امتناعه في ذاته ضروريا ً فل بد من‬
‫ذكر سببه‪ .‬وغاية ما هو به ثلثة شبه‪ :‬الولففى‪ :‬قففولهم‪ :‬إنففه لففو بعففث‬
‫النبي بما تقتضيه العقففول ففففي العقففول غنيففة عنففه وبعثففة الرسففول‬
‫عبث‪ ،‬وذلك وعلى الله محال‪ ،‬وإن بعث بما يخالف العقول اسففتحال‬
‫التصديق والقبول‪ .‬الثانية‪ :‬إنه يستحيل العبفث لنفه يسففتحيل تعريفف‬
‫صدقه‪ ،‬لن الله تعالى لو شافه الخلففق بتصففديقه وكلمهففم جهففارا ً فل‬
‫حاجة إلى رسول‪ ،‬وإن لم يشافه به فغايته الدللة على صدقه بفعل‬
‫خففارق للعففادة‪ ،‬ول يتميففز ذلففك عففن السففحر والطلسففمات وعجففائب‬
‫الخواص وهي خارقة للعفادات عنفد مفن ل يعرفهفا‪ ،‬وإذا اسفتويا ففي‬
‫خرق العادة لم يؤمن ذلك فل يحصل العلم بالتصديق‪ .‬الثالثة‪ :‬إنه إن‬
‫عرف تمييزها عن السحر والطلسمات والتخيلت فمففن أيففن يعففرف‬
‫الصدق ؟ ولعل الله تعالى أراد إضللنا وإغواءنا بتصففديقه ولعففل كففل‬
‫ما قال النبي إنه مسعد فهو مشقي‪ ،‬وكلما قال مشقي فهو مسففعد‪،‬‬
‫ولكن الله أراد أن يسوقنا إلى الهلك ويغوينففا بقففول الرسففول‪ ،‬فففإن‬
‫الضلل والغواء غيففر محففال علففى اللففه تعففالى عنففدكم‪ ،‬إذ العقففل ل‬
‫يحسن ول يقبح؛ وهذه أقوى شففبهة ينبغففي أن يجففادل بهففا المعففتزلي‬
‫عند رومه إلزام القول بتقبيح العقل‪ ،‬إذ يقففول‪ :‬إن لففم يكففن الغففواء‬
‫قبيح فا ً فل يعففرف صففدق الرسففل قففط ول يعلففم أنففه ليففس باضففلل‪.‬‬
‫والجواب أن نقول‪ :‬أما الشبهة الولى فضعيفة؛ فإن النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم يرد مخبرا ً بما ل تشتغل العقول بمعرفته‪ ،‬ولكن تسففتقل‬
‫بفهمه إذا عرف‪ ،‬فإن العقل ل يرشد إلى النافع والضار من العمففال‬
‫والقوال والخلق والعقائد‪ ،‬ول يفرق بين المشقى والمسعد‪ ،‬كمففا ل‬
‫يستقل بدرك خواص الدوية والعقاقير‪ ،‬ولكنه إذا عرف فهم وصففدق‬
‫وانتفع بالسماع فيجتنففب الهلك ويقصففد المسففعد‪ ،‬كمففا ينتفففع بقففول‬
‫الطبيب في معرفففة الففداء والففدواء‪ ،‬ثففم كمففا يعففرف صففدق الطففبيب‬
‫بقرائن الحوال وأمور ُأخر‪ ،‬فكذلك يستدل على صدق الرسول عليه‬
‫السلم بمعجزات وقرائن وحالت فل فرق‪ .‬فأما الشبهة الثانية‪ ،‬وهو‬
‫عدم تمييز المعجزة عن السحر والتخيل‪ ،‬فليففس كففذلك‪ .‬فففإن أحففدا ً‬
‫من العقلء لم يجوز انتهاء السحر إلى إحيففاء المففوتى‪ ،‬وقلففب العصففا‬
‫ثعبانًا‪ ،‬وفلق القمر‪ ،‬وشففق البحففر‪ ،‬وإبففراء الكمففه والبففرص‪ ،‬وأمثففال‬
‫ذلك‪ .‬والقول الففوجيز إن هففذا القففائل إن ادعففى أن كففل مقففدور للففه‬
‫تعففالى فهففو ممكففن تحصففيله بالسففحر فهففو قففول معلففوم السففتحالة‬
‫بالضرورة‪ ،‬وإن فرق بين فعل قوم وفعفل قفوم فقفد تصفور تصففديق‬
‫الرسول بما يعلم أنه ليس من السحر ويبقى النظر بعده في أعيففان‬
‫الرسل عليهم السلم وآحاد المعجزات وأن ما أظهروه من جنس ما‬
‫يمكففن تحصففيله بالسففحر أم ل‪ ،‬ومهمففا وقففع الشففك فيففه لففم يحصففل‬
‫التصديق به ما لم يتحد به النففبي علففى مل مففن أكففابر السففحرة ولففم‬
‫يمهلهم مدة المعارضة ولم يعجزوا عنه‪ ،‬وليس الن من غرضنا آحففاد‬
‫المعجزات‪ .‬وأما الشبهة الثالثة‪ ،‬وهو تصفور الغففواء مفن اللففه تعفالى‬
‫والتشكيك لسبب ذلك‪ ،‬فنقول‪ :‬مهما علم وجه دللة المعجففزة علففى‬
‫صدق النبي‪ ،‬علم أن ذلك مأمون عليففه‪ ،‬وذلففك بففأن يعففرف الرسففالة‬
‫ومعناها ويعرف وجه الدللة فنقول‪ :‬لو تحدى إنسان بين يففدي ملففك‬
‫على جنده أنه رسول الملك إليهم وأن الملك أوجففب طففاعته عليهففم‬
‫في قسمة الرزاق والقطاعات‪ ،‬فطالبوه بالبرهان والملففك سففاكت‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أيها الملك إن كنت صادقا ً في ما ادعيته فصففدقني بففأن تقففوم‬
‫على سريرك ثلث مرات علففى التففوالي وتقعففد علففى خلف عادتففك؛‬
‫فقام الملك عقيب التماسه على التوالي ثلث مرات ثم قعد‪ ،‬حصففل‬
‫للحاضرين على ضروري بأنه رسول الملك قبل أن يخطر ببففالهم أن‬
‫هذا الملك من عادته الغواء أم يستحيل في حقه ذلك‪ .‬بففل لففو قففال‬
‫الملك صدقت وقد جعلت رسول ً ووكيل ً لعلم أنه وكيل ورسول‪ ،‬فإذا‬
‫خالف العادة بفعله كان ذلك كقوله أنت رسولي‪ ،‬وهذا ابتففداًء نصففب‬
‫وتولية وتفويض‪ ،‬ول يتصور الكذب فففي التفففويض وإنمففا يتصففور فففي‬
‫الخبار‪ ،‬والعلم يكون هذا تصديقا ً وتفويضا ً ضروريًا‪ ،‬ولففذلك لففم ينكففر‬
‫أحد صدق النبياء من هذه الجهة‪ ،‬بل أنكروا كون ما جففاء بففه النبيففاء‬
‫خارقا ً للعادة وحملففوه علففى السففحر والتلففبيس أو أنكففروا وجففود رب‬
‫متكلم آمر ناه مصدق مرسل‪ ،‬فأما من اعترف بجميع ذلك واعففترف‬
‫بكون المعجزة فعل الله تعالى حصل له العلم الضروري بالتصففديق‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهب أنهم رأوا الله تعالى بأعينهم وسففمعوه بففآذانهم وهففو‬
‫يقول هذا رسولي ليخبركم بطريق سعادتكم وشقاوتكم‪ ،‬فمففا الففذي‬
‫يؤمنكم أنه أغوى الرسول والمرسل إليه وأخففبر عففن المشففقى بففأنه‬
‫مسعد وعن المسعد بأنه مشقى فإن ذلك غير محففال إذا لففم تقولففوا‬
‫بتقبيح العقول ؟ بل لو قففدر عففدم الرسففول ولكففن قففال اللففه تعففالى‬
‫شفففاها ً وعيانففا ً ومشففاهدة‪ :‬نجففاتكم فففي الصففوم والصففلة والزكففاة‬
‫وهلككم في تركها‪ ،‬فبففم نعلففم صففدقه؟ فلعلففه يلبففس علينففا ليغوينففا‬
‫ويهلكنا‪ ،‬فإن الكففذب عنففدكم ليففس قبيحفا ً لعينففه وإن كففان قبيحفا ً فل‬
‫يمتنع على الله تعالى ما هو قبيح وظلم‪ ،‬ومففا فيففه فيففه هلك الخلففق‬
‫أجمعين‪ .‬والجواب‪ :‬إن الكففذب مففأمون عليففه‪ ،‬فففإنه إنمففا يكففون فففي‬
‫الكلم وكلم الله تعالى ليففس بصففوت ول حففرف حففتى يتطففرق إليففه‬
‫التلبيس بل هو معنى قائم بنفسه سبحانه‪ ،‬فكل مففا يعلمففه النسففان‬
‫يقوم بذاته خبر عن معلومه على وفق علمه ول يتصور الكفذب فيفه‪،‬‬
‫وكذلك في حق الله تعالى‪ .‬وعلى الجملة‪ :‬الكففذب فففي كلم النفففس‬
‫محال وفي ذلك المن عما قالوه‪ .‬وقففد اتضففح بهففذا أن الفعففل مهمففا‬
‫علم أنه فعل الله تعالى وأنه خارج عن مقدور البشر واقترن بدعوى‬
‫النبوة حصل العلم الضروري بالصدق وكان الشك مففن حيففث الشففك‬
‫في أنه مقدور البشر أم ل‪ ،‬فأمفا بعفد معرفتفه كفونه مفن فعفل اللفه‬
‫تعالى ل يبقففى للشففك مجففال أص فل ً البتففة‪ .‬فففإن قيففل فهففل تجففوزون‬
‫الكرامات ؟ قلنا‪ :‬اختلف الناس فيه‪ ،‬والحففق ذلففك جففائز فففإنه يرجففع‬
‫إلى خرق الله تعالى العادة بدعاء إنسان أو عند حاجته وذلك ممففا ل‬
‫يستحيل في نفسه لنه ممكففن‪ ،‬ول يففؤدي إلففى محففال آخففر‪ ،‬فففإنه ل‬
‫يؤدي إلى بطلن المعجزة لن الكرامفة عبفارة عمفا يظهففر مفن غيفر‬
‫اقتران التحدي به‪ ،‬فإن كان مع التحففدي فإنففا نسففميه معجففزة ويففدل‬
‫بالضرورة على صدق المتحدي؛ وإن لم تكن دعوى فقد يجوز ظهففور‬
‫ذلك على يد فاسففق لنففه مقففدور فففي نفسففه؛ فففإن قيففل‪ :‬فهففل مففن‬
‫المقفدور إظهفار معجفزة علفى يفد كفاذب ؟ قلنفا‪ :‬المعجفزة مقرونفة‬
‫بالتحففدي منففه سففبحانه نازلففة منزلففة قففوله صففدقت وأنففت رسففول‪،‬‬
‫وتصديق الكاذب محال لذاته وكففل مفن قفال لفه أنففت رسفولي صفار‬
‫رسول ً وخرج عن كونه كاذبًا‪ ،‬فالجمع بين كونه كاذبفا ً وبيفن مفا ينفزل‬
‫منزلة قوله أنت رسولي محال لن معنى كونه كاذبا ً أنه مففا قيففل لففه‬
‫أنت رسولي‪ ،‬ومعنى المعجزة أنه قيل له أنففت رسففولي؛ فففإن فعففل‬
‫الملك على ما ضففربنا مففن المثففال كقففوله أنففت رسففولي بالضففرورة‪،‬‬
‫فاستبان أن هذا غير مقدور لنه محال والمحال ل قدرة عليففه‪ .‬فهففذا‬
‫تمام هذا القطب ولنشرع في إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليففه‬
‫وسلم وإثبات ما اخبر هو عنه والله أعلم‪.‬‬

‫القطب الرابع إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات‬
‫ما أخبر هو عنه‬

‫وفيه أربعة أبواب‪:‬‬


‫الباب الول‪ :‬في اثبات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬في بيان إن ما جاء به مففن الحشففر والنشففر والصففراط‬
‫والميزان وعذاب القبر حق‪ ،‬وفيه مقدمة وفصلن‪.‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬فيه نظر في ثلثة أطراف‪.‬‬
‫الباب الرابع‪ :‬في بيان من يجب تكفيففره مففن الفففرق ومففن ل يجففب‪،‬‬
‫والشارة إلى القوانين التي ينبغي أن يعول عليها فففي التكفيففر‪ ،‬وبففه‬
‫اختتام الكتاب‪.‬‬

‫الباب الول في اثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسففلم وإنمففا‬
‫نفتقر إلى إثبات نبوته‪ ،‬على الخصففوص‪ ،‬وعلففى ثلثففة فففرق‪ :‬الفرقففة‬
‫الولى‪ ،‬العيسوية‪ :‬حيث ذهبوا إلى أنففه رسففول إلففى العففرب فقففط ل‬
‫إلى غيرهم‪ ،‬وهذا ظاهر البطلن فإنهم اعففترفوا بكففونه رسففول ً حق فًا‪،‬‬
‫ومعلوم أن الرسول ل يكذب‪ ،‬وقد ادعى هو أنه رسول مبعفوث إلفى‬
‫الثقلين‪ ،‬وبعففث رسففوله إلففى كسففرى وقيصففر وسففائر ملففوك العجففم‬
‫وتواتر ذلك منه فما قالوه محففال متنففاقض‪ .‬الفرقففة الثانيففة‪ ،‬اليهففود‪:‬‬
‫فإنهم انكروا صدقه ل بخصوص نظر فيه وفي معجزاته‪ ،‬بففل زعمففوا‬
‫أنه ل نبي بعد موسى عليففه السففلم‪ ،‬فففأنكروا نبففوة محمففد وعيسففى‬
‫عليهما السلم‪ .‬فينبغي أن تثبت عليهم نبوة عيسى لنه ربمففا يقصففر‬
‫فهمهم عن درك إعجاز القرآن ول يقصففرون عففن درك إعجففاز إحيففاء‬
‫الموتى وإبراء الكمه والبففرص فيقففال لهففم مففا الففذي حملكففم علففى‬
‫التفريق بين من يستدل على صدقه بإحياء الموتى وبين من يسففتدل‬
‫بقلففب العصففا ثعبان فا ً ؟ ول يجففدون إليففه سففبيل ً البتففة‪ ،‬إل أنهففم ضففلوا‬
‫بشبهتين‪ :‬إحداهما‪ ،‬قولهم‪ :‬النسخ محال ففي نفسفه لنفه يفدل علفى‬
‫البدء والتغيير وذلففك محففال علففى اللففه تعففالى‪ ،‬والثانيففة لفهففم بعففض‬
‫الملحدة أن يقولوا‪ :‬قد قال موسى عليه السففلم‪ :‬عليكففم بففديني مففا‬
‫دامت السموات والرض‪ ،‬وإنه قال إنففي خففاتم النبيففاء‪ .‬أمففا الشففبهة‬
‫الولى فبطلنها بفهم النسخ‪ ،‬وهو عبففارة عففن الخطففاب الففدال علففى‬
‫ارتفففاع الحكففم الثففابت المشففروط اسففتمراره بعففد لحقففوق خطففاب‬
‫يرفعه‪ ،‬وليس من المحال أن يقول السيد لعبده قم مطلقًا‪ ،‬ول يبين‬
‫له مدة القيام‪ ،‬وهففو يعلففم أن القيففام مقتضففى منففه إلففى وقففت بقففاء‬
‫مصلحته في القيام‪ ،‬ويعلم مدة مصلحته ولكن ل ينبه عليهففا‪ ،‬ويفهففم‬
‫العبد أنه مأمور بالقيام مطلقا ً وأن الواجب السففتمرار عليففه أبففدا ً إل‬
‫أن يخففاطبه السفيد بفالقعود؛ فففإذا خفاطبه بفالقعود قعففد ولففم يتفوهم‬
‫بالسيد أنه بدا لففه أو ظهففرت لففه مصففلحة كففان ل يعرفهففا‪ ،‬والن قففد‬
‫عرفها‪ ،‬بل يجوز أن يكون قد عرف مدة مصففلحة القيففام وعففرف أن‬
‫الصلح فففي أن ل ينبففه العبففد عليهففا ويطلففق المففر لففه إطلقفا ً حففتى‬
‫يستمر على المتثال‪ ،‬ثم إذا تغيرت مصففلحته أمففره بففالقعود‪ ،‬فهكففذا‬
‫ينبغي أن يفهم اختلف أحكام الشرائع‪ .‬فإن ورود النبي ليس بناسففخ‬
‫لشرع من قبله بمجففرد بعثتففه‪ ،‬ول فففي معظففم الحكففام‪ ،‬ولكففن فففي‬
‫بعض الحكام كتغير قبلة وتحليل محرم وغيففر ذلففك‪ ،‬وهففذه المصففالح‬
‫تختلف بالعصار والحوال فليس فيه مفا يفدل علفى التغيفر ول علفى‬
‫الستبانة بعد الجهل ول على التناقض‪ .‬ثم هذا إنما يسففتمر لليهففود إذ‬
‫لو اعتقدوا أنه لم يكن شريعة مففن لففدن آدم إلففى زمففن موسففى لففم‬
‫ينكروا وجود نوح وإبراهيم وشفرعهما‪ ،‬ول يتميفزون فيفه عمفن ينكفر‬
‫نبوة موسى وشرعه وكل ذلك إنكار مففا علففم علففى القطففع بففالتواتر‪.‬‬
‫وأما الشبهة الثانية فسخيفة مففن وجهيففن‪ .‬أحففدهما‪ ،‬أنففه لففو صففح مففا‬
‫قالوه عن موسى لما ظهرت المعجزات على يد عيسففى‪ ،‬فففإن ذلففك‬
‫تصديق بالضرورة‪ ،‬فكيف يصدق الله بففالمعجزة مففن يكففذب موسففى‬
‫وهو أيضا ً مصدق لففه‪ ،‬أفتنكففرون معجففزة عيسففى وجففودا ً أو تنكففرون‬
‫إحياء الموتى دليل ً على صففدق المتحففدي ؟ فففإن أنكففروا شففيئا ً منهففم‬
‫لزمهم في شرع موسى لزوما ً ل يجدون عنففه محيصفًا‪ ،‬وإذا اعففترفوا‬
‫به لزمهم تكذيب من نقل إليهم من موسى عليه السففلم قففوله إنففي‬
‫خاتم النبياء‪ .‬والثفاني‪ :‬أن هفذه الشففبهة إنمفا لقنوهفا بعفد بعثفة نبينفا‬
‫محمد عليه السلم وبعد وفاته‪ ،‬ولو كانت صحيحة لحتففج اليهففود بهففا‬
‫وقد حملوا بالسيف على السلم‪ ،‬وكان رسولنا عليه السلم مصدقا ً‬
‫بموسى عليه السلم وحاكما ً على اليهود بففالتوراة فففي حكففم الرجففم‬
‫وغيره‪ ،‬فل عرض عليفه مفن التفوارة ذلفك‪ ،‬ومفا الفذي صفرفهم عنفه‬
‫ومعلوم قطعا ً أن اليهود لم يحتجوا به لن ذلك لو كان لكان مفحمففا ً‬
‫ل جواب عنه ولتواتر نقله‪ ،‬ومعلوم أنهم لم يتركوه مع القففدرة عليففه‬
‫ة‬
‫ولقد كانوا يحرصون علففى الطعففن فففي شففرعه بكففل ممكففن حماي ف ً‬
‫لدمائهم وأموالهم ونسائهم‪ ،‬فإذا ثبت عليهم نبوة عيسى أثبتنففا نبففوة‬
‫نبينا عليففه السففلم بمفا نثبتهففا علففى النصففارى‪ .‬الفرقففة الثالثففة‪ ،‬وهففم‬
‫يجوزون النسخ ولكنهم ينكرون نبففوة نبينففا مففن حيففث أنهففم ينكففرون‬
‫معجزته في القرآن‪ .‬وفي إثبات نبوته بالمعجزة طريقتفان‪ :‬الطريقفة‬
‫الولى‪ ،‬التمسك بالقرآن‪ ،‬فإنا نقول‪ :‬ل معنى للمعجزة إل مففا يقففترن‬
‫بتحدي النبي عند استشهاده على صدقه على وجه يعجز الخلق عففن‬
‫معارضته‪ ،‬وتحديه على العرب مع شغفهم بالفصاحة وإغراقهم فيهففا‬
‫متففواتر‪ ،‬وعففدم المعارضففة معلففوم‪ ،‬إذ لففو كففان لظهففر‪ ،‬فففإن أرذل‬
‫الشففعراء لمففا تحففدوا بشففعرهم وعورضففوا ظهففرت المعارضففات‬
‫والمناقضات الجارية بينهم‪ ،‬فففإذا ً ل يمكففن إنكففار تحففديه بففالقرآن ول‬
‫يمكن إنكففار اقتففدار العففرب علففى طريففق الفصففاحة ول يمكففن انكففار‬
‫حرصهم على دفع نبوته بكل ممكففن حمايففة لففدينهم ودمهففم ومففالهم‬
‫وتخلصا ً من سففطوة المسففلمين وقهرهففم‪ ،‬ول يمكففن إنكففار عجزهففم‬
‫لنهم لو قدروا لفعلوا‪ ،‬فإن العادة قاضية بالضرورة بأن القادر علففى‬
‫دفع الهلك عن نفسه يشتغل بدفعه‪ ،‬ولففو فعلففوا لظهففر ذلففك ونقففل‪.‬‬
‫فهذه مقدمات بعضها بالتواتر وبعضها بجاري العادات وكل ذلك ممففا‬
‫يورث اليقين فل حاجة إلى التطويل‪ .‬وبمثل هذا الطريق تثبففت نبففوة‬
‫عيسى ول يقدر النصراني على إنكار شيء من ذلك؛ فإنه يمكففن أن‬
‫يقابل بعيسى فينكر تحففديه بففالنبوة أو استشففهاده باحيففاء المففوتى أو‬
‫وجود إحياء الموتى أو عدم المعارضة أو يقففال عففورض ولففم يظهففر‪،‬‬
‫وكل ذلك مجاحففدات ل يقففدر عليهففا المعففترف بأصففل النبففوات‪ ،‬فففإن‬
‫قيل‪ :‬ما وجه إعجففاز القففرآن ؟ قلنففا الجزالففة والفصففاحة مففع النظففم‬
‫العجيففب والمنهففاج الخففارج عففن مناهففج كلم العففرب فففي خطبهففم‬
‫وأشعارهم وسائر صففنوف كلمهففم‪ ،‬والجمففع بيففن هففذا النظففم وهففذه‬
‫الجزالة معجز خارج عن مقدور البشر‪ ،‬نعم ربما يرى للعرب أشففعار‬
‫وخطففب حكففم فيهففا بالجزالففة‪ ،‬وربمففا ينقففل عففن بعففض مففن قصففد‬
‫المعارضة مراعاة هذا النظم بعد تعلمه من القرآن‪ ،‬ولكففن مففن غيففر‬
‫جزالة بل مع ركاكة كما يحكى عففن ترهففات مسففيلمة الكففذاب حيففث‬
‫قال‪ :‬الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل وخرطوم طويل‪ .‬فهففذا‬
‫وأمثاله ربما يقدر عليه مع ركاكة يستغثها الفصحاء ويستهزؤون بهففا‪،‬‬
‫وأما جزالة القرآن فقد قضى كافة العففرب منهففا العجففب ولففم ينقففل‬
‫عن واحد منهم تشبث بطعن فففي فصففاحته‪ ،‬فهففذا إذا ً معجففز وخففارج‬
‫عن مقففدور البشففر مففن هففذين الففوجهين‪ ،‬أعنففي مففن اجتمففاع هففذين‬
‫الوجهين‪ ،‬فإن قيففل‪ :‬لعففل العففرب اشففتغلت بالمحاربففة والقتففال فلففم‬
‫تعرج علففى معارضففة القففرآن ولففو قصففدت لقففدرت عليففه‪ ،‬أو منعتهففا‬
‫العوائق عن الشتغال به‪ ،‬والجواب أن مففا ذكففروه هففوس‪ ،‬فففإن دفففع‬
‫تحدي المتحدي بنظم كلم أهون مففن الففدفع بالسففيف مففع مففا جففرى‬
‫على العرب من المسلمين بالسر والقتل والسففبي وشففن الغففارات‪،‬‬
‫ثم ما ذكروه غير دافع غرضنا‪ ،‬فإن انصرافهم عن المعارضة لم يكن‬
‫إل بصرف من الله تعالى‪ ،‬والصرف عن المقدور المعتاد من أعظففم‬
‫المعجزات‪ ،‬فلو قال نبي آية صدقي أني في هذا اليوم أحرك أصبعي‬
‫ول يقدر أحد من البشر على معارضتي‪ ،‬فلم يعارضه أحففد فففي ذلففك‬
‫اليففوم‪ ،‬ثبففت صففدقه‪ ،‬وكففان فقففد قففدرتهم علففى الحركففة مففع سففلمة‬
‫العضففاء مففن أعظففم المعجففزات‪ .‬وإن فففرض وجففود القففدرة ففقففد‬
‫داعيتهم وصرفهم عن المعارضة من أعظم المعجزات‪ ،‬مهمففا كففانت‬
‫ة إلفى الفدفع باسفتيلء النفبي علفى رقفابهم وأمفوالهم‪،‬‬ ‫حاجتهم ماسف ً‬
‫وذلك كلفه معلفوم علفى الضفرورة‪ .‬فهفذا طريفق تقفدير نبفوته علفى‬
‫النصارى‪ ،‬ومهما تشففبثوا بانكففار شففيء مففن هففذه المففور الجليلففة فل‬
‫تشتغل إل بمعارضففتهم بمثلففه فففي معجففزات عيسففى عليففه السففلم‪.‬‬
‫الطريقة الثانية‪ :‬أن تثبت نبوته بجملة من الفعال الخارقففة للعففادات‬
‫التي ظهرت عليه‪ ،‬كانشقاق القمر‪ ،‬ونطق العجماء‪ ،‬وتفجر الماء من‬
‫بين أصابعه‪ ،‬وتسبيح الحصى في كفه‪ ،‬وتكثير الطعام القليل‪ ،‬وغيففره‬
‫من خوارق العادات‪ ،‬وكل ذلك دليففل علففى صففدقه‪ .‬فففإن قيففل‪ :‬آحففاد‬
‫هذه الوقائع لم يبلغ نقلها مبلغ التواتر‪ .‬قلنا‪ :‬ذلففك أيض فا ً إن سففلم فل‬
‫يقدح في العرض مهما كان المجموع بالغا ً مبلغ التواتر‪ ،‬وهذا كما أن‬
‫شجاعة علي رضوان الله عليه وسففخاوة حففاتم معلومففان بالضففرورة‬
‫على القطع تواترًا‪ ،‬وآحاد تلك الوقائع لم تثبت تواترًا‪ ،‬ولكن يعلم من‬
‫مجموع الحاد على القطع ثبوت صفة الشجاعة والسففخاوة‪ ،‬فكففذلك‬
‫هذه الحوال العجيبففة بالغففة جملتهففا مبلففغ التففواتر‪ ،‬ل يسففتريب فيهففا‬
‫ل‪ .‬فإن قففال قففائل مففن النصففارى‪ :‬هففذه المففور لففم تتففواتر‬‫مسلم أص ً‬
‫عندي ل جملتها ول آحادها‪ .‬فيقال‪ :‬ولو انحاز يهففودي إلففى قطففر مففن‬
‫القطار ولم يخالط النصففارى وزعففم أنفه لفم تتفواتر عنففده معجففزات‬
‫عيسى‪ ،‬وإن تواترت فعلى لسان النصارى وهم مهتمون بففه‪ ،‬فبمففاذا‬
‫ينفصلون عنه ؟ ول انفصال عنه إل أن يقال‪ :‬ينبغي أن يخالط القففوم‬
‫الذين تواتر ذلك بينهم حتى يتواتر ذلففك إليففك‪ ،‬فففإن الصففم ل تتففواتر‬
‫عنده الخبار‪ ،‬وكذا المتصامم‪ ،‬فهذا أيضا ً عذرنا عند إنكار واحد منهم‬
‫التواتر على هذا الوجه‪.‬‬
‫الباب الثاني في بيان وجوب التصديق بأمور ورد بها الشففرع وقضففى‬
‫بجوازها العقل وفيه مقدمففة وفصففلن‪ ،‬أمففا المقدمففة‪ :‬فهففو أن مففا ل‬
‫يعلم بالضرورة ينقسم إلى ما يعلم بدليل العقل دون الشففرع‪ ،‬وإلففى‬
‫ما يعلم بالشرع دون العقل‪ ،‬وإلى ما يعلم بهما‪ .‬أما المعلففوم بففدليل‬
‫العقل دون الشرع فهو حدث العالم ووجود المحدث وقدرته وعلمففه‬
‫وارادته‪ ،‬فإن كل ذلك ما لم يثبت لم يثبففت الشففرع‪ ،‬إذ الشففرع يبنففى‬
‫على الكلم فإن لم يثبففت كلم النفففس لففم يثبففت الشففرع‪ .‬فكففل مففا‬
‫يتقدم في الرتبة على كلم النفس يستحيل إثباته بكلم النفففس ومففا‬
‫يستند إليه ونفس الكلم أيضا ً فيما اخترناه ل يمكففن اثبففاته بالشففرع‪.‬‬
‫ومن المحققين من تكلف ذلك وادعاه كما سبقت الشارة إليه‪ .‬وأما‬
‫المعلوم بمجرد السمع فتخصيص أحففد الجففائزين بففالوقوع فففإن ذلففك‬
‫من موافق العقول‪ ،‬وإنما يعرف من الله تعالى بوحي والهففام ونحففن‬
‫نعلم مفن الففوحي إليففه بسفماع كالحشففر والنشففر والثففواب والعقففاب‬
‫وأمثالهما‪ ،‬وأما المعلوم بهما فكففل مففا هففو واقففع فففي مجففال العقففل‬
‫ومتأخر في الرتبة عن إثبات كلم الله تعالى كمسألة الرؤية وانفففراد‬
‫الله تعالى بخلق الحركات والغراض كلها وما يجففري هففذا المجففرى‪،‬‬
‫ثم كلمففا ورد السففمع بففه ينظففر‪ ،‬فففإن كففان العقففل مجففوزا ً لففه وجففب‬
‫التصففديق بففه قطع فا ً إن كففانت الدلففة السففمعية قاطعففة فففي متنهففا‬
‫ومستندها ل يتطرق إليها احتمال‪ ،‬وجب التصديق بهففا ظنفا ً إن كففانت‬
‫ظنية‪ ،‬فإن وجوب التصديق باللسان والقلب عمل يبنى علففى الدلففة‬
‫الظنية كسائر العمال فنحن نعلففم قطعفا ً إنكففار الصففحابة علففى مففن‬
‫يدعي كون العبد خالقا ً لشيء مففن الشففياء وعففرض مففن العففراض‪،‬‬
‫وكانوا ينكرون ذلك بمجرد قوله تعالى "خالق كل شيء" ومعلوم أنه‬
‫عففام قابففل للتخصففيص فل يكففون عمففومه إل مظنون فًا‪ ،‬إنمففا صففارت‬
‫المسألة قطعية بالبحث على الطرق العقليففة الففتي ذكرناهففا‪ ،‬ونعلففم‬
‫أنهم كانوا ينكرون ذلك قبل البحث عن الطرق العقلية ول ينبغففي أن‬
‫يعتقد بهم أنهم لم يلتفتوا إلى المدارك الظنية إل في الفقهيففات بففل‬
‫اعتبروها أيضا ً في التصفديقات العتقاديفة والقوليفة‪ .‬وأمفا مفا قضفى‬
‫العقل باستحالته فيجب فيه تأويل مففا ورد السففمع بففه ول يتصففور أن‬
‫يشففمل السففمع علففى قففاطع مخففالف للمعقففول‪ ،‬وظففواهر أحففاديث‬
‫التشبيه أكثرها غير صحيحة‪ ،‬والصحيح منها ليس بقاطع بل هو قابففل‬
‫للتأويففل‪ ،‬فففإن توقففف العقففل فففي شففيء مففن ذلففك فلففم يقففض فيففه‬
‫باستحالة ول جواز وجفب التصفديق أيضفا ً لدلفة السفمع فيكففي ففي‬
‫وجوب التصديق انفكاك العقل عن القضاء بالحالة‪ ،‬وليففس يشففترط‬
‫اشتماله على القضاء لتجويز‪ ،‬وبيففن الرتبففتين فففرق ربمففا يففزل ذهففن‬
‫البليد حتى ل يدرك الفرق بيففن قففول القففائل‪ :‬اعلففم أن المففر جففائز‪،‬‬
‫وبيففن قففوله‪ :‬ل أدري إنففه محففال أم جففائز‪ ،‬وبينهمففا مففا بيففن السففماء‬
‫والرض‪ ،‬إذ الول جائز على الله تعالى والثاني غير جائز‪ ،‬فففإن الول‬
‫معرفة بالجواز والثاني عدم معرفة بالحالة‪ ،‬ووجوب التصديق جففائز‬
‫في القسمين جميعا ً فهذه هي المقدمة‪ .‬أما الفصل الول ففي بيففان‬
‫قضاء العقل بما جاء الشرع بففه مففن الحشففر والنشففر وعففذاب القففبر‬
‫والصراط والميزان أما الحشر فيعنى به إعادة الخلق وقد دلت عليه‬
‫القواطع الشرعية‪ ،‬وهو ممكن بدليل البتداء‪ .‬فإن العادة خلففق ثففان‬
‫ول فرق بينه وبين البتداء وإنما يسمى إعادة بالضففافة إلففى البتففداء‬
‫السففابق‪ ،‬والقففادر علففى النشففاء والبتففداء قففادر علففى العففادة وهففو‬
‫المعني بقوله‪ :‬قل يحييهففا الففذي أنشففأها أول مففرة فففإن قيففل فمففاذا‬
‫تقولففون‪ :‬أتعففدم الجففواهر والعففراض ثففم يعففادان جميعففًا‪ ،‬أو تعففدم‬
‫العراض دون الجواهر وإنما تعاد العراض ؟ قلنا‪ :‬كففل ذلففك ممكففن‬
‫وليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنففات‪ .‬وأحففد‬
‫الوجهين أن تنعدم العراض ويبقى جسففم النسففان متصففورا ً بصففورة‬
‫ل‪ ،‬فتكون قد زالت منه الحياة واللون والرطوبة والففتركيب‬ ‫التراب مث ً‬
‫والهيئة وجملة من العراض‪ ،‬ويكون معنى إعادتها أن تعاد إليها تلففك‬
‫العراض بعينها وتعاد إليها أمثالها‪ ،‬فإن العرض عندنا ل يبقى والحياة‬
‫عرض والموجود عندنا في كل ساعة عرض آخر‪ ،‬والنسان هفو ذلففك‬
‫النسان باعتبار جسمه فإنه واحد ل باعتبار أعراضه‪ ،‬فإن كل عففرض‬
‫يتجففدد هففو غيففر الخففر‪ ،‬فليففس مففن شففرط العففادة فففرض إعففادة‬
‫العراض‪ ،‬وإنما ذكرنا هذا لمصير بعض الصحاب إلى استحالة إعادة‬
‫العراض‪ ،‬وذلك باطل‪ ،‬ولكن القول في إبطاله يطول ول حاجة إليففه‬
‫فففي غرضففنا هففذا‪ .‬والففوجه الخففر أن تعففدم الجسففام أيضفا ً ثففم تعففاد‬
‫الجسام بأن تخترع‪ .‬مرة ثانية‪ ،‬فإن قيل‪ :‬فيم يتميز المعاد عن مثففل‬
‫الول ؟ وما معنى قولكم أن المعاد هو عين الول ولم يبق للمعدوم‬
‫عين حتى تعاد ؟ قلنا‪ :‬المعدوم منقسم في علم الله إلى ما سبق له‬
‫وجود وإلى ما لم يسبق له وجود‪ ،‬كمففا أن العففدم فففي الزل ينقسففم‬
‫إلى ما سيكون له وجود وإلى ما علم الله تعالى أنففه ل يوجففد؛ فهففذا‬
‫النقسام في علم الله ل سبيل إلى انكاره‪ ،‬والعلففم شففامل والقففدرة‬
‫واسففعة‪ ،‬فمعنففى العففادة أن نبففذل بففالوجود العففدم الففذي سففبق لففه‬
‫الوجود‪ ،‬ومعنى المثل أن يخترع الوجود لعفدم لفم يسفبق لفه وجفود‪،‬‬
‫فهذا معنى العادة‪ ،‬ومهما قدر الجسففم باقيفا ً ورد المففر إلففى تجديففد‬
‫أعراض تماثل الول حصل تصديق الشرع ووقع الخلص عن إشكال‬
‫العادة وتمييز المعاد عن المثل‪ ،‬وقد أطنبنا في هففذه المسففألة فففي‬
‫كتاب التهافت‪ ،‬وسلكنا في إبطال مذهبهم تقرير بقففاء النفففس الففتي‬
‫هي غير متحيز عندهم وتقدير عود تدبيرها إلى البدن سواء كان ذلك‬
‫البدن هو عيففن جسففم النسففان أو غيففره‪ ،‬وذلففك إلففزام ل يوافففق مففا‬
‫نعتقده؛ فإن ذلك الكتاب مصنف لبطال مذهبهم ل لثبففات المففذهب‬
‫الحق‪ ،‬ولكنهم لما قدروا أن النسان هففو مففا هففو باعتبففار نفسففه وأن‬
‫اشتغاله بتدبير كالعارض له والبدن آلة لهم‪ ،‬ألزمناهم بعد اعتقففادهم‬
‫بقاء النفس وجوب التصديق بالعادة وذلك برجوع النفس إلى تفدبير‬
‫بدن من البففدان‪ ،‬والنظففر الن فففي تحقيففق هففذا الفصففل ينجففر إلففى‬
‫البحث عن الروح والنفس والحياة وحقائقها‪ ،‬ول تحتمففل المعتقففدات‬
‫التغلغل إلى هذه الغايات في المعقولت‪ ،‬فما ذكرناه كاف في بيففان‬
‫القتصاد في العتقاد للتصديق بما جاء به الشرع‪ ،‬وأما عففذاب القففبر‬
‫فقد دلت عليه قواطع الشرع إذ تففواتر عففن النففبي صففلى اللففه عليففه‬
‫وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهففم بالسففتعاذة منففه فففي الدعيففة‬
‫واشتهر قوله عنففد المففرور بقففبرين‪ :‬إنهمففا ليعففذبان ودل عليففه قففوله‬
‫تعالى "وحاق بآل فرعون سوء العفذاب النفار يعرضفون عليهفا غفدوا ً‬
‫وعشيًا" الية‪ ،‬وهو ممكن‪ ،‬فيجب التصديق به‪ .‬ووجه إمكففانه ظففاهر‪،‬‬
‫وإنمففا تنكففره المعتزلففة مفن حيففث يقولففون إنففا نففرى شففخص الميففت‬
‫مشاهدة وهو غير معذب وإن الميت ربمففا تفترسففه السففباع وتففأكله‪،‬‬
‫وهذا هوس؛ أما مشاهدة الشففخص فهففو مشففاهدة لظففواهر الجسففم‬
‫والمدرك للعقاب جزء من القلب أو من الباطن كيف كان وليس من‬
‫ضرورة العذاب ظهور حركة في ظاهر البدن‪ ،‬بل الناظر إلى ظففاهر‬
‫النائم ل يشاهد ما يدركه النائم مففن اللففذة عنففد الحتلم ومففن اللففم‬
‫عند تخيل الضففرب وغيففره‪ ،‬ولففو انتبففه النففائم وأخففبر عففن مشففاهداته‬
‫وآلمه ولذاته من لم يجر له عهد بففالنوم لبففادر إلففى النكففار اغففترارا ً‬
‫بسكون ظاهر جسمه‪ ،‬كمشاهدة إنكار المعتزلففة لعففذاب القففبر وأمففا‬
‫الذي تأكله السباع فغاية ما في الباب أن يكففون بطففن السففبع قففبرًا‪،‬‬
‫فاعادة الحياة إلى جزء يدرك العذاب ممكن‪ ،‬فمففا كففل متففألم يففدرك‬
‫اللم من جميع بدنه‪ ،‬وأما سؤال منكففر ونكيففر فحففق‪ ،‬والتصففديق بففه‬
‫واجب لفورود الشفرع بفه وامكفانه‪ ،‬ففإن ذلفك ل يسفتدعي منهمفا إل‬
‫تفهيما ً بصوت أو بغير صوت‪ ،‬ول يستدعي منه إل فهمًا‪ ،‬ول يستدعي‬
‫الفهم إل حياة‪ ،‬والنسان ل يفهم بجميففع بففدنه بففل بجففزء مففن بففاطن‬
‫قلبه‪ ،‬واحياء جزء يفهم السؤال ويجيب ممكن مقففدور عليففه‪ ،‬فيبقففى‬
‫قففول القففائل إنففا نففرى الميففت ول نشففاهد منكففرا ً ونكيففرا ً ول نسففمع‬
‫صوتهما في السؤال ول صوت الميت في الجواب‪ ،‬فهذا يلزمففه منففه‬
‫أن ينكر مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريففل عليففه السففلم‬
‫وسماعه كلمه وسماع جبريل جوابه ول يستطيع مصففدق الشففرع أن‬
‫ينكر ذلففك‪ ،‬إذ ليففس فيففه إل أن اللففه تعففالى خلففق لففه سففماعا ً لففذلك‬
‫الصوت ومشاهدة لذلك الشففخص‪ ،‬ولففم يخلففق للحاضففرين عنففده ول‬
‫لعائشة رضي الله تعالى عنها وقففد كففانت تكففون عنففده حاضففرة فففي‬
‫وقت ظهور بركات الوحي‪ ،‬فانكار هذا مصدره اللحففاد وإنكففار سففعة‬
‫القدرة‪ ،‬وقد فرغنا عن إبطففاله ويلففزم منففه أيضفا ً إنكففار مففا يشففاهده‬
‫النائم ويسمعه من الصوات الهائلة المزعجففة‪ ،‬ولففول التجربففة لبففادر‬
‫إلى النكار كففل مففن سففمع مففن النففائم حكايففة أحففواله‪ ،‬فتعسفا ً لمففن‬
‫ضاقت حوصلته عن تقدير اتساع القففدرة لهففذه المففور المسففتحقرة‬
‫بالضافة إلى خلق السموات والرض وما بينهما‪ ،‬مففع مففا فيهمففا مففن‬
‫العجائب‪ .‬والسبب الذي ينفر طباع أهل الضلل عففن التصففديق بهففذه‬
‫المور بعينه منفر عن التصديق بخلق النسان من نطفة قذرة مع ما‬
‫فيه من العجائب واليات أول ً أن المشففاهدة تضففطره إلففى التصففديق‬
‫فإذا ً ما ل برهان على إحالته ل ينبغي أن ينكر بمجرد الستبعاد‪ .‬وأمففا‬
‫الميزان فهو أيضا ً حق وقد دلت عليففه قواطففع السففمع‪ ،‬وهففو ممكففن‬
‫فوجب التصديق به‪ .‬فإن قيل‪ :‬كيف توزن العمال وهي أعراض وقد‬
‫انعدمت‪ ،‬والمعدوم ل يوزن ؟ وإن قدرت إعادتها وخلقها فففي جسففم‬
‫الميزان كان محال ً لستحالة إعادة العراض‪ .‬ثم كيففف تخلففق حركففة‬
‫يد النسان وهي طاعته في جسففم الميففزان ؟ أيتحففرك بهففا الميففزان‬
‫فيكون ذلك حركة الميزان ل حركة يد النسان أم ل تتحففرك فتكففون‬
‫الحركة قد فاتت بجسم ليس هو متحركفا ً بهففا‪ ،‬وهففو محففال ؟ ثففم إن‬
‫تحرك فيتفاوت من الميزان بقففدر طففول الحركففات وكثرتهففا ل بقففدر‬
‫مراتب الجور‪ ،‬فرب حركة بجرء من البدن يزيففد إثمهففا علففى حركففة‬
‫جميع البدن فراسخ فهذا محال‪ .‬فنقول‪ :‬قد سففئل النففبي صففلى اللففه‬
‫عليه وسلم عن هففذا فقففال‪" :‬تففوزن صففحائف العمففال فففإن الكففرام‬
‫الكاتبين يكتبون العمال في صحائف هي أجسام‪ ،‬فففإذا وضففعت ففي‬
‫الميزان خلق الله تعالى في كفتها ميل ً بقدر رتبة الطاعات وهو على‬
‫ما يشاء قدير"‪ .‬فإن قيل‪ :‬فأي فائدة في هذا ؟ وما معنى المحاسفبة‬
‫؟ قلنا‪ :‬ل نطلب لفعل الله تعالى فففائدة‪" :‬ل يسفأل عمفا يفعففل وهففو‬
‫يسألون"‪ .‬تم قد دللنا على هذا‪ .‬ثم أي بعد في أن تكون الفائدة فيه‬
‫أن يشاهد العبد مقدار أعماله ويعلم أنه مجزي بها بالعدل أو يتجففاوز‬
‫عنه باللطف‪ ،‬ومن يعزم على معاقبففة وكيلففه بجنففايته فففي أمففواله أو‬
‫يعزم على البففراء فمففن أيففن يبعففد أن يعرفففه مقففدار جنففايته بأوضففح‬
‫الطرق ليعلم أنه في عقوبته عادل وفي التجاوز عنففه متفضففل‪ .‬هففذا‬
‫إن طلبت الفائدة لفعال الله تعففالى‪ ،‬وقففد سففبق بطلن ذلففك‪ .‬وأمففا‬
‫الصراط فهو أيضا ً حق‪ ،‬والتصديق به واجب‪ ،‬لنه ممكن‪ .‬فإنه عبففارة‬
‫عن جسر ممدود على متن جهنم يرده الخلق كافة‪ ،‬فإذا توافوا عليه‬
‫قيل للملئكة "وقفوهم إنهم مسؤولون" فإن قيل‪ :‬كيف يمكففن ذلففك‬
‫وفيما روى أدق من الشعر وأحد من السيف‪ ،‬فكيففف يمكففن المففرور‬
‫عليه ؟ قلنا هذا إن صدر ممن ينكر قدرة اللففه تعففالى‪ ،‬فففالكلم معففه‬
‫في إثبات عمففوم قففدرته وقففد فرغنففا عنهففا‪ .‬وإن صففدر مففن معففترف‬
‫بالقدرة فليس المشي على هففذا بففأعجب مففن المشففي فففي الهففواء‪،‬‬
‫والرب تعالى قادر على خلق قدرة عليه‪ ،‬ومعناه أن يخلق لففه قففدرة‬
‫المشي على الهففواء ول يخلففق فففي ذاتففه هويفا ً إلففى أسفففل‪ ،‬ول فففي‬
‫الهواء انحراف‪ ،‬فإذا أمكن هذا في الهواء فالصراط أثبت من الهففواء‬
‫بكل حال‪ .‬الفصل الثاني‪ :‬في العتذار عففن الخلل بفصففول شففحنت‬
‫بها المعتقففدات فرأيففت العففراض عففن ذكرهففا أولففى لن المعتقففدات‬
‫المختصرة حقها أن ل تشتمل إل علففى المهففم الففذي ل بففد منففه فففي‬
‫صحة العتقاد‪ .‬أما المففور الففتي ل حاجففة إلففى إخطارهففا بالبففال‪ ،‬وإن‬
‫خطرت بالبال فل معصية في عدم معرفتها وعففدم العلففم بأحكامهففا‪،‬‬
‫فالخوض فيها بحث عن حقائق المور وهي غير لئقة بمففا يففراد منففه‬
‫تهذيب العتقاد‪ ،‬وذلك الفففن تحصففره ثلثففة فنففون‪ :‬عقلففي‪ ،‬ولفظففي‪،‬‬
‫وفقهي‪ .‬أما العقلي‪ ،‬فالبحث عن القدرة الحادثة أنها تتعلق بالضدين‬
‫أم ل‪ ،‬وتتعلق بالمختلفات أم ل‪ ،‬وهل يجوز قدرة حادثة تتعلفق بفعفل‬
‫مباين لمحل القدرة وأمثال له‪ .‬وأما اللفظي فكالبحث عن المسمى‬
‫باسم الرزق ما هو‪ ،‬ولفظ التوفيففق والخففذلن واليمففان مففا حففدودها‬
‫ومسبباتها‪ .‬وأما الفقهي فكالبحث عن المر بففالمعروف مففتى يجففب‪،‬‬
‫وعن التوبة ما حكمها‪ ،‬إلى نظائر ذلك‪ .‬وكففل ذلففك ليففس بمهففم فففي‬
‫الدين‪ ،‬بل المهم أن ينفي النسان الشك عففن نفسففه فففي ذات اللففه‬
‫تعففالى‪ ،‬علففى القففدر الففذي حقففق فففي القطففب الول‪ ،‬وفففي صفففاته‬
‫وأحكامها كما حقق في القطب الثاني‪ ،‬وفي أفعاله بففأن يعتقففد فيهففا‬
‫الجواز دون الوجوب كما في القطب الثالث‪ ،‬وفي رسول الله صففلى‬
‫الله عليه وسلم بأن يعرف صدقه ويصدقه في كفل مفا جفاء بفه كمفا‬
‫ذكرناه في القطب الرابع‪ ،‬وما خرج عن هذا فغير مهم‪ .‬ونحففن نففورد‬
‫من كل فن مما أهملناه مسألة ليعرف بها نظائرها ويحقففق خروجهففا‬
‫عففن المهمففات المقصففودات فففي المعتقففدات‪ .‬أمففا المسففألة الولففى‬
‫العقلية‪ :‬فكاختلف الناس في أن من قتل هل يقال إنه مات بأجله ؟‬
‫ولو قدر عدم قتله هل كان يجب موته أم ل ؟ وهذا فن من العلففم ل‬
‫يضر تركه‪ ،‬ولكنا نشير إلى طريق الكشف فيه‪ .‬فنقول‪ :‬كففل شففيئين‬
‫ل ارتباط لحدهما بالخر‪ ،‬ثم اقترنففا فففي الوجففود‪ ،‬فليففس يلففزم مففن‬
‫تقدير نفي أحدهما انتفاء الخر‪ .‬فلو مات زيد وعمرو مع فا ً ثففم قففدرنا‬
‫عدم موت زيد لم يلففزم منففه ل عففدم مففوت عمففرو ول وجففود مففوته‪،‬‬
‫ل‪ ،‬فلو قدرنا عففدم المففوت‬ ‫وكذلك إذا مات زيد عند كسوف القمر مث ً‬
‫لم يلزم عدم الكسوف بالضرورة‪ ،‬ولو قدرنا عدم الكسوف لم يلزم‬
‫عدم الموت إذ ل ارتباط لحدهما بالخر‪ ،‬فأما الشيئان اللذان بينهمففا‬
‫علقة وارتباط فهما ثلثة أقسام‪ :‬أحدها‪ :‬أن تكففون العلقففة متكففافئة‬
‫كالعلقة بين اليمين والشمال والفوق والتحت‪ ،‬فهذا ممففا يلففزم فقففد‬
‫أحدهما عند تقدير فقد الخر لنهما مففن المتضففايفان الففتي ل يتقففوم‬
‫حقيقة أحدهما إل مع الخر‪ .‬الثاني‪ :‬أن ل يكففون علففى التكففافؤ‪ ،‬لكففن‬
‫لحدهما رتبة التقدم كالشرط مع المشروط‪ .‬ومعلوم أنه يلزم عففدم‬
‫الشرط‪ ،‬فإذا رأينا علم الشخص مع حياته وإرادته مع علمه فيلفزم ل‬
‫محالة من تقدير انتفاء الحياة انتفاء العلم‪ ،‬ومن تقففدير انتفففاء العلففم‬
‫انتفاء الرادة‪ ،‬ويعبر عن هذا بالشففرط وهففو الففذي ل بففد منففه لوجففود‬
‫الشيء ولكن ليس وجود الشيء به بل عنه ومعففه‪ .‬الثففالث‪ :‬العلقففة‬
‫التي بين العلة والمعلول‪ .‬ويلزم من تقدير عدم العلة عدم المعلففول‬
‫إن لم يكن للمعلففول إل علففة واحففدة‪ ،‬وإن تصففور أن تكففون لففه علففة‬
‫أخرى فيلزم من تقدير نفي كل العلل نفففي المعلففول‪ ،‬ول يلففزم مففن‬
‫تقدير نفي علة بعينها نفي المعلول مطلقًا‪ ،‬بل يلزم نفي معلول تلك‬
‫العلففة علففى الخصففوص‪ .‬فففإذا تمهففد هففذا المعنففى رجعنففا إلففى القتففل‬
‫والموت؛ فالقتل عبارة عن حز الرقبة وهو راجففع إلففى أعففراض هففي‬
‫حركات في يد الضارب والسيف وأعراض هي افتراقات فففي أجففزاء‬
‫رقبة المضروب‪ ،‬وقد اقترن بها عرض آخر وهو الموت‪ ،‬فإن لم يكن‬
‫بين الحز والموت ارتباط لم يلزم من تقدير نفي الحففز نففي المفوت‬
‫فإنهما شيئان مخلوقففان معفا ً علففى القففتران بحكففم إجففراء العففادة ل‬
‫ارتبففاط لحففدهما بففآخر‪ ،‬فهففو كففالمقترنين اللففذين لففم تجففر العففادة‬
‫باقترانهما وإن كففان الحففز علففة المففوت ومولففده‪ ،‬وإن لففم تكففن علففة‬
‫سواه لزم من انتفائه انتفاء الموت‪ ،‬ولكففن ل خلف فففي أن للمففوت‬
‫علل ً من أمراض وأسباب باطنة سوى الحز عند القائلين بالعلففل‪ ،‬فل‬
‫يلزم من نفي الحز نفي الموت مطلقا ً ما لففم يقففدر مففع ذلففك إنتفففاء‬
‫سائر العلل‪ ،‬فنرجع إلى غرضنا فنقول‪ :‬من اعتقد من أهل السنة أن‬
‫الله مستبد بالختراع بل تولد‪ ،‬ول يكون مخلوق علة مخلوق‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫الموت أمر اسففتبد الففرب تعففالى بفاختراعه مففع الحففز‪ ،‬فل يجففب مففن‬
‫تقدير عدم الحفز عفدم المفوت وهفو الحفق؛ ومفن اعتقفد كفونه علفة‬
‫وانضاف إليه مشاهدته صحة الجسم وعدم مهلك مففن خففارج اعتقففد‬
‫أنه لو انتفى الحز وليس ثم علة أخرى وجب انتفاء المعلففول لنتفففاء‬
‫جميع العلل‪ ،‬وهفذا العتقفاد صفحيح لفو صفح اعتقفاد التعليفل وحصفر‬
‫العلل فيما عرف انتفاؤه فإذا ً هذه المسألة يطول النفزاع فيهفا‪ ،‬ولففم‬
‫يشعر أكثر الخائضين فيها بمثارها فينبغي أن نطلب هذا من القانون‬
‫الذي ذكرناه في عموم قدرة الله تعالى وإبطال التولد‪ .‬ويبنففى علففى‬
‫هذا أن منق تل ينبغي أن يقال إنه مات بأجله لن الجل عبففارة عففن‬
‫الوقت الذي خلق الله تعالى فيه موته سواء كففان معففه حففز رقبففة أو‬
‫كسوف قمر أو نزول مطر أو لم يكن‪ ،‬لن كل هذه عنففدنا مقترنففات‬
‫وليسففت مففؤثرات ولكففن اقففتران بعضففها يتكففرر بالعففادة‪ ،‬وبعضففها ل‬
‫يتكرر‪ ،‬فأما من جعل الموت سببا ً طبيعيا ً من الفطرة وزعففم أن كففل‬
‫مزاج فله رتبة معلومة في القوة إذا خليت ونفسها تمادت إلى منتها‬
‫ل‪ ،‬بالضافة‬ ‫مدتها‪ ،‬ولو فسدت على سبيل الحترام كان ذلك استعجا ً‬
‫إلى مقتضى طباعها‪ ،‬والجل عبارة عن المففدة الطبيعيففة‪ ،‬كمففا يقففال‬
‫الحفائط مثل ً يبقفى مفائة سفنة بقفدر إحكفام بنفائه‪ ،‬ويمكفن أن يهفدم‬
‫بالفأس في الحال‪ ،‬والجل يعبر به عن مدته الففتي لففه بففذاته وقففوته‪،‬‬
‫فيلزم من ذلك أن يقال إذا هففدم بالفففأس لففم ينهففدم بففأجله وإن لففم‬
‫يتعرض له من خارج حتى انحطت أجزاؤه فيقال انهدم بففأجله‪ ،‬فهففذا‬
‫اللفففظ ينففبيء علففى ذلففك الصففل‪ .‬المسففألة الثانيففة وهففي اللفظيففة‪:‬‬
‫فكاختلفهم في أن اليمان هل يزيد وينقص أم هو على رتبة واحدة‪.‬‬
‫وهففذا الختلف منشففؤه الجهففل بكففون السففم مشففتركًا‪ ،‬أعنففي اسففم‬
‫اليمان‪ ،‬وإذا فصل مسميات هذا اللفظ ارتفع الخلف‪ .‬وهو مشففترك‬
‫بين ثلثة معان‪ :‬إذ قد يعبر به عففن التصففديق اليقيففن البرهففاني‪ ،‬وقففد‬
‫يعبر به عن العتقاد التقليدي إذا كان جزمًا‪ ،‬وقد يعبر به عن تصديق‬
‫معه العمل بموجب التصديق ودليل اطلقه على الول أن من عرف‬
‫الله تعالى بالدليل ومات عقيب معرفته فإنا نحكم بأنه مففات مؤمن فًا‪.‬‬
‫ودليففل اطلقففه علففى التصففديق التقليففدي أن جمففاهير العففرب كففانوا‬
‫يصدقون رسول الله تعالى صلى اللففه عليففه وسففلم بمجففرد إحسففانه‬
‫إليهم وتلطفه بهم ونظرهم في قوانين أحواله من غير نظر في أدلة‬
‫الواحدانية ووجه دللة المعجزة‪ ،‬وكان يحكم رسول اللففه صففلى اللففه‬
‫عليفه وسفلم بإيمفانهم وقفد قفال تعففالى "ومفا أنففت بمفؤمن لنفا" أي‬
‫بمصدق‪ ،‬ولم يفرق بين تصديق وتصديق‪ ،‬ودليل إطلقه على الفعل‪،‬‬
‫قوله عليه السلم‪ :‬ل يزني الزاني وهو مؤمن حين يزني وقوله عليه‬
‫السلم‪ :‬اليمان بضعة وسبعون بابا ً أدناها إماطة الذى عففن الطريففق‬
‫فنرجفع إلفى المقصفود ونقفول‪ :‬إن أطلفق اليمفان بمعنفى التصفديق‬
‫البرهاني لم يتصور زيادته ول نقصانه‪ ،‬بففل اليقيففن إن حصففل بكمففاله‬
‫فل مزيد عليففه‪ .‬وإن لففم يحصففل بكمففاله فليففس بيقيففن‪ ،‬وهففي خطففة‬
‫واحدة ول يتصور فيها زيادة ونقصان إل أن يراد به زيففادة وضففوح أي‬
‫زيادة طمأنينة النفس إليه بأن النفس تطمئن إلى اليقينيات النظرية‬
‫في البتداء إلى حل ما‪ ،‬فإذا تواردت الدلففة علففى شففيء واحففد أفففاد‬
‫بظاهر الدلة زيادة طمأنينة‪ .‬وكل من مارس العلوم أدرك تفاوتا ً في‬
‫طمأنينية نفسه إلى العلم الضروري‪ ،‬وهو العلم بأن الثنين أكثر مففن‬
‫الواحد وإلى العلم يحدث العالم وإن محففدثه واحفد‪ ،‬ثفم يفدرك أيضفا ً‬
‫تفرقة بين آحاد المسائل بكثرة أدلتها وقلتها‪ .‬فالتفاوت في طمأنينية‬
‫النفس مشاهد لكل ناظر مففن بففاطنه‪ ،‬فففإذا فسففرت الزيففادة بففه لففم‬
‫يمنعه أيضا ً في هذا التصديق‪ .‬أما إذا أطلق بمعنى التصديق التقليدي‬
‫فذلك ل سبيل إلى جحد التفففاوت فيففه؛ فإنففا نففدرك بالمشففاهدة مففن‬
‫حال اليهودي في تصميمه على عقده ومن حال النصراني والمسففلم‬
‫تفاوتًا‪ ،‬حففتى أن الواحففد منهففم ل يففؤثر فففي نفسففه وحففل عقففد لمبففه‬
‫التهويلت والتخويفات ول التحقيقات العلمية ول التخيلت القناعيففة‪،‬‬
‫والواحد منهم مع كونه جازما ً في اعتقاده تكون نفسه أطففوع لقبففول‬
‫اليقين‪ ،‬وذلك لن العتقاد على القلب مثل عقدة ليس فيها انشففراح‬
‫وبرد يقين‪ .‬والعقدة تختلف في شدتها وضعفها فل ينكر هذا التفاوت‬
‫منصف وإنما ينكره الذين سمعوا مفن العلففوم والعتقفادات أسففاميها‬
‫ولففم يففدركوا مففن أنفسففهم ذوقهففا‪ ،‬ولففم يلحظففوا اختلف أحففوالهم‬
‫وأحوال غيرهم فيها‪ .‬وأما إذا أطلق بالمعنى الثالث وهففو العمففل مففع‬
‫التصديق‪ ،‬فل يخفى بطرق التفاوت إلى نفس العمل‪ ،‬وهففل يتطففرق‬
‫بسبب المواظبة على العمل تفاوت إلففى نفففس التصففديق‪ ،‬هففذا فيففه‬
‫نظر‪ ،‬وترك المداهنة في مثل هذا المقام أولى والحق أحق ما قيففل‪.‬‬
‫فأقول‪ :‬إن المواظبة علففى الطاعففات لهففا تففأثير فففي تأكيففد طمأنينففة‬
‫النفس إلى العتقففاد التقليففدي ورسففوخه فففي النفففس‪ ،‬وهففذا أمففر ل‬
‫يعرفه إل من سبر أحوال نفسه وراقبهففا فففي وقففت المواظبففة علففى‬
‫الطاعة وفي وقت الفففترة ولحففظ تفففاوت الحففال فففي بففاطنه‪ ،‬فففإنه‬
‫يففزداد بسففبب المواظبففة علففى العمففل أنسففة لمعتقففداته‪ ،‬ويتأكففد بففه‬
‫طمأنينته‪ ،‬حتى أن المعتقد الذي طالت منففه المواظبففة علففى العمففل‬
‫بموجب اعتقاده أعصا نفسا ً على المحاول تغييره وتشكيكه ممن لم‬
‫تطل مواظبته‪ ،‬بل العادات تقضي بها‪ ،‬فإن مففن يعتقففد الرحمففة فففي‬
‫قلبه على يتيم فإن أقدم على مسح رأسه وتفقد أمففره صففادف فففي‬
‫قلبه عند ممارسة العمل بموجب الرحمة زيادة تأكيففد فففي الرحمففة‪،‬‬
‫ومن يتواضع بقلبه لغيره فإذا عمل بموجبه سففاجدا ً لففه أو مقبل ً يففده‬
‫ازداد التعظيم والتواضع في قلبه ولذلك تعبدنا بالمواظبة على أفعال‬
‫هفي مقتضفى تعظيفم القلفب مفن الركفوع والسفجود ليفزداد بسفببها‬
‫تعظيم القلوب‪ ،‬فهذه أمفور يجحففدها المتحفذلقون فففي الكلم الففذين‬
‫أدركوا ترتيب العلم بسماع اللفاظ ولم يدركوها بذوق النظر‪ .‬فهففذه‬
‫حقيقة المسألة‪ ،‬ومن هذا الخبر اختلفهم فففي معنففى الففرزق‪ .‬وقففول‬
‫المعتزلة‪ :‬إن ذلك مخصوص بما يملكه النسففان حففتى ألزمففوا أنففه ل‬
‫رزق لله تعال على البهائم‪ ،‬فربما قففالوا هففو ممففا لففم يحففرم تنففاوله‪،‬‬
‫فقيل لهم فالظلمة ماتوا وقد عاشوا عمرهم لففم يرزقففوا‪ ،‬وقففد قففال‬
‫أصحابنا إنه عبارة عن المنتفع به كيف كان‪ ،‬ثم هو منقسم إلى حلل‬
‫وحرام‪ ،‬ثم طولوا في حد الففرزق وحففد النعمفة وتضففييع الففوقت بهفذا‬
‫وأمثاله دأب من ل يميز بين المهم وغيره ول يعرف قدر بقية عمره‪،‬‬
‫وإنه ل قيمة له فينبغي أن يضيع العمر إل بالمهم وبين يففدي النظففار‬
‫أمففور مشففكلة البحففث عنهففا أهففم مففن البحففث عففن مففوجب اللفففاظ‬
‫ومقتضى الطلقفات‪ ،‬فنسفأل اللفه أن يوفقنفا للشفتغال لمفا يعنينفا‪.‬‬
‫المسألة الثالثة الفقهية‪ :‬فمثل اختلفهم في أن الفاسففق هففل لففه أن‬
‫يحتسب ؟ وهذا نظر فقهي‪ ،‬فمن أين يليق بالكلم ثم بالمختصرات‪.‬‬
‫ولكنا نقول الحق أن لفه أن يحتسفب وسفبيله التفدرج ففي التصفوير؛‬
‫وهو أن نقول‪ :‬هل يشترط في المر بالمعروف والنهي عففن المنكففر‬
‫كون المفر والنفاهي معصفوما ً عففن الصفغائر والكبفائر جميعفا ً ؟ فففإن‬
‫شرط ذلك كان خرقا ً للجماع‪ ،‬فإن عصمة النبياء عففن الكبففائر إنمففا‬
‫عرفت شرعًا‪ ،‬وعن الصغائر مختلففف فيهففا‪ ،‬فمففتى يوجففد فففي الففدنيا‬
‫معصوم ؟ وإن قلتم إن ذلك ل يشترط حتى يجوز للبس الحرير مثل ً‬
‫وهففو عففاص بففه أن يمنففع مفن الزنففى وشففرب الخمففر‪ ،‬فنقففول‪ :‬وهففل‬
‫لشارب الخمر أن يحتسب على الكففافر ويمنعففه مففن الكفففر ويقففاتله‬
‫عليه ؟ ففإن قفالوا ل‪ ،‬خرقففوا الجمففاع إذ جنففود المسففلمين لففم تفزل‬
‫مشتملة على العصاة والمطيعين ولم يمنعوا من الغزو ل فففي عصففر‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم ول في عصر الصحابة رضي اللففه عنهففم‬
‫والتابعين‪ ،‬فإن قالوا نعم‪ ،‬فنقول‪ :‬شارب الخمر هل له أن يمنففع مففن‬
‫القتل أم ل ؟ فإن قيففل ل‪ ،‬قلنففا‪ :‬فمففا الفففرق بيففن هففذا وبيففن لبففس‬
‫الحرير إذا منع مففن الخمففر والزانففي إذا منففع مففن الكفففر ؟ وكمففا أن‬
‫الكففبيرة فففوق الصففغيرة فالكبففائر أيض فا ً متفاوتففة‪ ،‬فففإن قففالوا نعففم‪،‬‬
‫وضبطوا ذلك بأن المقدم على شيء ل يمنع من مثله ول فيمففا دونفه‬
‫وله أن يمنع ممففا فففوقه‪ ،‬فهففذا الحكففم ل مسففتند لففه إذ الزنففى فففوق‬
‫الشرب ول يبعد أن يزني ويمنع من الشراب ويمنع منه‪ ،‬ربما يشرب‬
‫ويمنع غلمانه وأصحابه من الشرب‪ ،‬ويقول‪ :‬ترك ذلك واجب عليكففم‬
‫وعلي والمر بترك المحرم واجب علففي مففع الففترك فلففي أن أتقففرب‬
‫بأحد الواجبين‪ ،‬ولم يلزمني مع ترك أحدهما تففرك الخففر‪ ،‬فففإذن كمففا‬
‫يجوز أن يترك المر بترك الشرب وهو بتركه يجوز أن يشرب ويففأمر‬
‫بالترك فهما واجبان فل يلزم بترك أحففدهما تففرك الخففر‪ .‬فففإن قيففل‪:‬‬
‫فيلزم على هذا أمور شنيعة وهو أن يزني الرجل بامرأة مكرها ً إياها‬
‫على التمكيففن‪ ،‬ففإن قفال لهفا فففي أثنففاء الزنفى عنفد كشففها وجههفا‬
‫باختيارها ل تكشفي وجهك فاني لست محرم فا ً لففك‪ ،‬والكشففف لغيففر‬
‫المحرم حرام‪ ،‬وأنت مكرهة على الزنى مختففارة فففي كشففف الففوجه‬
‫فأمنعك من هذا‪ ،‬فل شك من أن هذه حسففبة بففاردة شففنيعة ل يصففير‬
‫إليها عاقففل؛ وكففذلك قففوله إن الففواجب علففي شففيئان العمففل والمففر‬
‫للغير‪ ،‬وأنا أتعففاطى أحففدهما وإن تركففت الثففاني كقففوله‪ :‬إن الففواجب‬
‫علي الوضوء دون الصلة وأنا أصلي وإن تركت الوضوء‪ ،‬والمسففنون‬
‫في حقي الصففوم والتسففحر وأنفا أتسفحر وإن تركففت الصفوم‪ ،‬وذلففك‬
‫محال‪ ،‬لن السحور للصوم والوضوء للصلة‪ ،‬وكل واحد شرط الخر‬
‫وهو متقدم في الرتبة على المشروط‪ ،‬فكذلك نففس المفرء مقدمفة‬
‫على غيره‪ ،‬فليهذب نفسه أول ثم غيره أما إذا أهمل نفسه واشففتغل‬
‫بغيره كان ذلك عكس الترتيب الففواجب‪ ،‬بخلف مففا إذا هففذب نفسففه‬
‫وترك الحسبة وتهذيب غيره‪ ،‬فإن ذلك معصية ولكنه ل تنففاقض فيففه‪.‬‬
‫وكذلك الكافر ليس له ولية الدعوة إلى السففلم مففا لففم يسففلم هففو‬
‫بنفسه‪ ،‬فلو قال الففواجب علففي شففيئان ولففي أن أتففرك أحففدهما دون‬
‫الثاني لم يكن منه‪ ،‬والجواب أن حسبة الزاني بالمرأة عليها ومنعهففا‬
‫من كشفها وجهها جائزة عندنا‪ ،‬وقولكم إن هذه حسبة باردة شففنيعة‬
‫فليففس الكلم فففي أنهففا حففارة أو بففاردة مسففتلذة أو مستبشففعة‪ ،‬بففل‬
‫الكلم في أنها حق أو باطل وكم من حق مستبرد مستثقل وكم من‬
‫باطل مستحلى مستعذب‪ ،‬فالحق غير اللذيذ والباطففل غيففر الشففنيع‪،‬‬
‫والبرهان القاطع فيه هو أنا نقول‪ :‬قوله لهفا ل تكشففي وجهفك ففإنه‬
‫حرام‪ ،‬ومنعه إياها بالعمل قول وفعل‪ ،‬وهففذا القففول والفعففل إمففا أن‬
‫يقال هو حرام أو يقال واجب أو يقال هو مباح‪ ،‬فإن قلتم إنه واجففب‬
‫فهو المقصود‪ ،‬وإن قلتم إنه مبففاح فلففه أن يفعففل مففا هففو مبففاح‪ ،‬وإن‬
‫قلتم إنه حرام فما مستند تحريمه ؟ وقد كان هذا واجبا ً قبل اشتغاله‬
‫بالزنى فمن أين يصير الواجب حراما ً باقتحففامه محرمفًا‪ ،‬وليففس فففي‬
‫قوله الخير صدق عن الشرع بأنه حرام‪ ،‬وليس فففي فعلففه إل المنففع‬
‫من اتحاد ما هو حرام‪ ،‬والقففول بتحريففم واحففد منهمففا محففال‪ .‬ولسففنا‬
‫نعني بقولنففا للفاسففق وليففة الحسففبة إل أن قففوله حففق وفعلففه ليففس‬
‫بحرام‪ ،‬وليس هذا كالصلة والوضفوء ففإن الصفلة هفي المفأمور بهفا‬
‫وشرطها الوضوء‪ ،‬فهي بغير وضوء معصية وليست بصلة‪ ،‬بل تخففرج‬
‫عن كونها صلة وهذا القول لم يخرج عن كونه حقا ً ول الفعففل خففرج‬
‫عن كونه منعا ً من الحرام‪ ،‬وكذلك السحور عبارة عن الستعانة على‬
‫الصوم بتقديم الطعام ول تعقل الستعانة من غير العزم علفى ايجفاد‬
‫المستعان عليه‪ .‬وأما قولكم أن تهففذيبه نفسففه أيض فا ً شففرط لتهففذيبه‬
‫غيره‪ ،‬فهذا محل النزاع‪ .‬فمففن أيففن عرفتففم ذلففك ؟ ولففو قففال قففائل‪:‬‬
‫تهذيب نفسه عن المعاصي شرط للغير ومنع الكفار‪ ،‬وتهذيبه نفسففه‬
‫عن الصغائر شرط للمنع عن الكبففائر كفان قفوله مثففل قفولكم‪ ،‬وهفو‬
‫خرق للجمففاع‪ .‬وأمففا الكففافر فففإن حمففل كففافرا ً آخففر بالسففيف علففى‬
‫السففلم فل يمنعففه منففه‪ ،‬ويقففول عليففه أن يقففول ل إلففه إل اللففه وأن‬
‫محمدا ً رسول اللففه وأن يففأمر غيففره بففه ولففم يثبففت أن قففوله شففرط‬
‫لمففره‪ ،‬فلففه أن يقففول وأن يففأمر وإن لففم ينطففق‪ .‬فهففذا غففور هففذه‬
‫المسألة‪ ،‬وإنما أردنا إيرادها لتعلم أن أمثففال هففذه المسففائل ل تليففق‬
‫بفن الكلم ول سيما بالمعتقدات المختصرة والله أعلم بالصواب‪.‬‬
‫الباب الثالث في المامة النظر في المامة أيضا ً ليس من المهمات‪،‬‬
‫وليس أيضا ً من ففن المعقفولت فيهفا مفن الفقهيفات‪ ،‬ثفم إنهفا مثفار‬
‫للتعصبات والمعرض عن الخوض فيهففا أسففلم مففن الخففائض بففل وإن‬
‫أصاب‪ ،‬فكيف إذا أخطأ ! ولكن إذا جرى الرسم باختتففام المعتقففدات‬
‫به أردنا أن نسلك المنهج المعتاد فإن القلوب عن المنهففج المخففالف‬
‫للمألوف شديدة النفار‪ ،‬ولكنا نوجز القففول فيففه ونقففول‪ :‬النظففر فيففه‬
‫يفدور علفى ثلثفة أطفراف‪ :‬الطفرف الول‪ :‬ففي بيفان وجفوب نصفب‬
‫المام‪ .‬ول ينبغي أن تظن أن وجوب ذلك مأخوذ من العقل‪ ،‬فإنا بينففا‬
‫أن الوجوب يؤخذ من الشرع إل أن يفسر الواجب بالفعل الذي فيففه‬
‫فائدة وفي تركه أدنى مضرة‪ ،‬وعند ذلك ل ينكر وجوب نصب المففام‬
‫لما فيه من الفوائد ودفففع المضففار فففي الففدنيا‪ ،‬ولكنففا نقيففم البرهففان‬
‫القطعي الشرعي علفى وجفوبه ولسفنا نكتففي بمفا فيفه مفن إجمفاع‬
‫المة‪ ،‬بل ننبه على مستند الجماع ونقول‪ :‬نظام أمر الففدين مقصففود‬
‫لصاحب الشرع عليه السلم قطعًا‪ ،‬وهففذه مقدمففة قطعيففة ل يتصففور‬
‫النزاع فيها‪ ،‬ونضففيف إليهففا مقدمففة أخففرى وهففو أنفه ل يحصففل نظففام‬
‫الدين إل بإمام مطاع فيحصففل مففن المقففدمتين صففحة الففدعوى وهففو‬
‫وجوب نصب المام‪ .‬فإن قيل‪ :‬المقدمة الخيرة غير مسلمة وهو أن‬
‫نظام الدين ل يحصل إل بإمام مطاع‪ ،‬فدلوا عليها‪ .‬فنقففول‪ :‬البرهففان‬
‫عيه أن نظام الدين ل يحصل إل بنظام الدنيا‪ ،‬ونظام الدنيا ل يحصففل‬
‫إل بإمام مطاع‪ ،‬فهاتان مقدمتان ففي أيهما النففزاع ؟ فففإن قيففل لففم‬
‫قلتففم إن نظففام الففدين ل يحصففل إل بنظففام الففدنيا‪ ،‬بففل ل يحصففل إل‬
‫بخراب الدنيا‪ ،‬فإن الدين والدنيا ضففدان والشففتغال بعمففارة أحففدهما‬
‫خراب الخر‪ ،‬قلنا‪ :‬هذا كلم من ل يفهم ما نريففده بالففدنيا الن‪ ،‬فففإنه‬
‫لفظ مشترك قد يطلق على فضففول التنعففم والتلففذذ والزيففادة علففى‬
‫الحاجة والضرورة‪ ،‬وقد يطلق على جميففع مففا هففو محتففاج إليففه قبففل‬
‫الموت‪ .‬وأحدهما ضد الدين والخر شرطه‪ ،‬وهكذا يغلط من ل يميففز‬
‫بيففن معففاني اللفففاظ المشففتركة‪ .‬فنقففول‪ :‬نظففام الففدين بالمعرفففة‬
‫والعبادة ل يتوصل إليهما إل بصحة البدن وبقاء الحيففاة وسففلمة قففدر‬
‫الحاجات من الكسوة والمسكن والقوات‪ ،‬والمن هففو آخففر الفففات‪،‬‬
‫ولعمري من أصبح آمنا ً في سربه معافى في بففدنه ولففه قففوت يففومه‬
‫فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها‪ ،‬وليس يأمن النسففان علففى روحففه‬
‫وبدنه وماله ومسكنه وقوته في جميففع الحففوال بففل فففي بعضفها‪ ،‬فل‬
‫ينتظم الدين إل بتحقيق المففن علففى هففذه المهمففات الضففرورية‪ ،‬وإل‬
‫فمن كان جميع أوقاته مستغرقا ً بحراسة نفسه من سففيوف الظلمففة‬
‫وطلفب قفوته مفن وجفوه الغلبفة‪ ،‬مفتى يتففرغ للعلفم والعمفل وهمفا‬
‫وسيلتاه إلى سعادة الخرة‪ ،‬فففإذن بففان نظففام الففدنيا‪ ،‬أعنففي مقففادير‬
‫الحاجة شففرط لنظففام الففدين‪ .‬وأمففا المقدمففة الثانيففة وهففو أن الففدنيا‬
‫والمن على النفس والموال ل ينتظم إل بسلطان مطاع فتشهد له‬
‫مشاهدة أوقات الفتن بمففوت السففلطين والئمففة‪ ،‬وإن ذلففك لففو دام‬
‫ولففم يتففدارك بنصففب سففلطان آخففر مطففاع دام الهففرج وعففم السففيف‬
‫وشمل القحط وهلكت المواشي وبطلت الصناعات‪ ،‬وكان كل غلففب‬
‫سلب ولم يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي حيًا‪ ،‬والكثرون يهلكففون‬
‫تحت ظلل السيوف‪ ،‬ولهذا قيففل‪ :‬الففدين والسففلطان توأمففان‪ ،‬ولهففذا‬
‫قيل‪ :‬الدين أس والسففلطان حففارس ومففا ل أس لففه فمهففدوم ومففا ل‬
‫حارس له فضائع‪ .‬وعلففى الجملففة ل يتمففارى العاقففل فففي أن الخلففق‬
‫على اختلف طبقاتهم وما هم عليه من تشتت الهففواء وتبففاين الراء‬
‫لو خلوا وراءهم ولمي كن رأي مطاع يجمع شتاتهم لهلكوا مففن عنففد‬
‫آخرهم‪ ،‬وهذا داء ل علج له إل بسففلطان قففاهر مطففاع يجمففع شففتات‬
‫الراء‪ ،‬فبففان أن السففلطان ضففروري فففي نظففام الففدنيا‪ ،‬ونففام الففدنيا‬
‫ضروري في نظام الدين‪ ،‬ونظام الدين ضروري فففي الفففوز بسففعادة‬
‫الخرة وهو مقصود النبياء قطع فًا‪ ،‬فكففان وجففوب نصففب المففام مففن‬
‫ضروريات الشففرع الففذي ل سففبيل إلففى تركففه فففاعلم ذلففك‪ .‬الطففرف‬
‫الثففاني‪ :‬فففي بيففان مففن يتعيففن مففن سففائر الخلففق لن ينصففب إمامفًا‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬ليس يخفى أن التنصيص على واحففد نجعلففه إمامفا ً بالتشففهي‬
‫غير ممكن‪ ،‬فل بد له مففن تميففز بخاصففية يفففارق سففائر الخلففق بهففذا‪،‬‬
‫فتلك خاصية في نفسه وخاصية من جهة غيره‪ .‬أما مففن نفسففه فففأن‬
‫يكون أهل ً لتدبير الخلففق وحملهففم علففى مراشففدهم‪ .‬وذلففك بالكفايففة‬
‫والعلم والورع‪ ،‬وبالجملة خصففائص القضففاة تشففترط فيففه مففع زيففادة‬
‫نسب قريش؛ وعلم هففذا الشففرط الرابففع بالسففمع حيففث قففال النففبي‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ :‬الئمة من قريش فهذا تميزه عن أكثر الخلق‬
‫ولكن ربما يجتمع في قريش جماعة موصوفون بهففذه الصفففة فل بففد‬
‫من خاصية أخففرى تميففزه‪ ،‬وليففس ذلففك إل التوليففة أو التفففويض مففن‬
‫غيففره‪ ،‬فإنمففا يتعيففن للمامففة مهمففا وجففدت التوليففة فففي حقففه علففى‬
‫الخصوص من دون غيره‪ ،‬فيبقى الن النظر في صفففة المففولى فففإن‬
‫ذلك ل يسلم لكل أحد بل ل بد فيه من خاصية وذلك ل يصدر إل مفن‬
‫أحد ثلثة‪ :‬إما التنصيص من جهة النبي صلى الله عليففه وسففلم‪ ،‬وإمففا‬
‫التنصيص من جهة إمام العصر بأن يعين لولية العهففد شخص فا ً معين فا ً‬
‫مففن أولده أو سففائر قريففش‪ ،‬وإمففا التفففويض مففن رجففل ذي شففوكة‬
‫يقتضي انقياده وتفويضه متابعففة الخريففن ومبففادرتهم إلففى المبايعففة‪،‬‬
‫وذلك قد يسلم في بعض العصار لشخص واحد مرموق فففي نفسففه‬
‫مرزوق بالمتابعة مسؤول على الكافة‪ ،‬ففففي بيعتففه وتفويضففه كفايففة‬
‫عففن تفففويض غيففره لن المقصففود أن يجتمففع شففتات الراء لشففخص‬
‫مطاع وقد صار المام بمبايعة هذا المطاع مطاعًا‪ ،‬وقد ل يتفق ذلففك‬
‫لشخص واحد بل لشخصين أو ثلثة أو جماعة فل بفد مففن اجتمفاعهم‬
‫وبيعتهم واتفاقهم على التفويض حتى تتم الطاعة‪ .‬بل أقففول‪ :‬لففو لففم‬
‫يكن بعد وفاة المففام القرشففي واحففد مطففاع متبففع فنهففض بالمامففة‬
‫وتولهففا بنفسففه ونشففأ بشففوكته وتشففاغل بهففا واسففتتبع كافففة الخلففق‬
‫بشوكته وكفايته وكان موصوفا ً بصفات الئمففة فقففد انعقففدت إمففامته‬
‫ووجبت طاعته‪ ،‬فإنه تعين بحكم شوكته وكفايته‪ ،‬وفي منازعته إثارة‬
‫الفتن إل أن من هذا حاله فل يعجز أيضا ً عففن أخففذ البيعففة مففن أكففابر‬
‫الزمان وأهل الحل والعقد‪ ،‬وذلك أبعففد مففن الشففبهة فلففذلك ل يتفففق‬
‫مثل هففذا فففي العففادة إل عففن بيعففة وتفففويض‪ .‬فففإن قيففل‪ :‬فففإن كففان‬
‫المقصود حصول ذي رأي مطاع يجمع شتات الراء ويمنع الخلق من‬
‫المحاربة والقتال ويحملهم على مصالح المعاش والمعاد‪ ،‬فلو انتهض‬
‫لهذا المر من فيه الشروط كلهفا سفوى شففروط القضفاء ولكنففه مفع‬
‫ذلك يراجع العلماء ويعمففل بقففولهم فمففاذا تففرون فيففه‪ ،‬أيجففب خلعففه‬
‫ومخالفته أم تجب طاعته ؟ قلنا‪ :‬الذي نراه ونقطع أنففه يجففب خلعففه‬
‫إن قدر على أن يستبدل عنه من هو موصوف بجميففع الشففروط مففن‬
‫غير إثارة فتنة وتهييج قتال‪ ،‬وإن لم يكن ذلك إل بتحريك قتال وجبت‬
‫طاعته وحكم بإمامته لن ما يفوتنا من المصففارفة بيففن كففونه عالم فا ً‬
‫بنفسه أو مستفتيا ً من غيره دون ما يفوتنففا بتقليففد غيففره إذا افتقرنففا‬
‫إلى تهييج فتنة ل ندري عاقبتها‪ .‬وربما يؤدي ذلك إلى هلك النفففوس‬
‫والموال‪ ،‬وزيادة صفة العلم إنمففا تراعففى مزيففة وتتمففة للمصففالح فل‬
‫يجوز أن يعطل أصل المصالح في التشففوق إلففى مزاياهففا وتكملتهففا‪،‬‬
‫وهذه مسائل فقهية فيلون المستعبد لمخالفته المشهود على نفسففه‬
‫استبعاده ولينزل من غلوائه فالمر أهون مما يظنفه‪ ،‬وقفد استقضفينا‬
‫تحقيق هذا المعنى في الكتاب الملقب بالمستظهري المصففنف فففي‬
‫الرد على الباطنية‪ ،‬فإن قيففل فففإن تسففامحتم بخصففلة العلففم لزمكففم‬
‫التسامح بخصلة العدالة وغير ذلك مفن الخصففال‪ ،‬قلنففا‪ :‬ليسففت هففذه‬
‫مسامحة عن الختيففار ولكففن الضففرورات تبيففح المحظففوارت‪ ،‬فنحففن‬
‫نعلم أن تناول الميتة محظور ولكن الموت أشد منه‪ ،‬فليففت شففعري‬
‫من ل يساعد على هذا ويقضي ببطلن المامففة فففي عصففرنا لفففوات‬
‫شففروطها وهففو عففاجز عففن السففتبدال بالمتصففدي لهففا بففل هففو فاقففد‬
‫للمتصف بشروطها‪ ،‬فأي أحواله أحسن‪ :‬أن يقول القضاة معزولففون‬
‫والوليات باطلة والنكحة غير منعقففدة وجميففع تصففرفات الففولة فففي‬
‫أقطار العالم غير نافذة‪ ،‬وإنما الخلق كلهم مقدمون على الحرام‪ ،‬أو‬
‫أن يقول المامة منعقدة والتصرفات والوليات نافففذة بحكففم الحففال‬
‫والضطرار‪ ،‬فهو بيففن ثلثففة أمففور إمففا أن يمنففع النففاس مففن النكحففة‬
‫والتصرفات المنوطفة بالقضفاة وهفو مسفتحيل ومفؤدي إلفى تعطيففل‬
‫المعايش كلها ويفضي إلى تشتيت الراء ومهلك للجماهير والففدهماء‬
‫أو يقول إنهم يقدمون علففى النكحففة والتصففرفات ولكنهففم مقففدمون‬
‫على الحرام‪ ،‬إل أنه ل يحكففم بفسففقهم ومعصففيتهم لضففرورة الحففال‪،‬‬
‫وإما أن نقول يحكفم بانعقفاد المامفة مفع ففوات شفروطها لضفرورة‬
‫الحففال ومعلففوم أن البعيففد مففع البعففد قريففب‪ ،‬وأهففون الشففرين خيففر‬
‫بالضافة‪ ،‬ويجب على العاقل اختياره‪ ،‬فهذا تحقيق هذا الفصل وفيففه‬
‫غنية عند البصير عن التطويل ولكففن مففن لففم يفهففم حقيقففة الشففيء‬
‫وعلته وإنمففا يثبففت بطففول اللفففة فففي سففمعه فل تففزال النفففرة عففن‬
‫نقيضه في طبعه إذ فطام الضعفاء عففن المففألوف شففديد عجففز عنففه‬
‫النبياء فكيف غيرهم‪ .‬فإن قيل‪ :‬فهل قلتم إن التنصففيص واجففب مففن‬
‫النففبي والخليفففة كففي يقطففع ذلففك دابففر الختلف كمففا قففالت بعففض‬
‫المامية إذ ادعوا أنففه واجففب‪ ،‬قلنففا‪ :‬لنففه لففو كففان واجبفا ً لنففص عليففه‬
‫الرسول عليه السلم‪ ،‬ولم ينص هو ولم ينففص عمففر أيضفا ً بففل ثبتففت‬
‫إمامففة أبففو بكففر وإمامففة عثمففان وإمامففة علففي رضففي اللففه عنهففم‬
‫بالتفويض‪ ،‬فل تلتفت إلففى تجاهففل مففن يففدعي أنففه صففلى اللففه عليففه‬
‫وسلم نص علففى علففي لقطففع النففزاع ولكففن الصففحابة كففابروا النففص‬
‫وكتموه‪ ،‬فأمثال ذلك يعارض بمثله ويقال‪ :‬بم تنكرون على من قففال‬
‫إنه نص على أبي بكر فأجمع الصحابة على موافقته النص ومتففابعته‪،‬‬
‫وهو أقرب من تقدير مكابرتهم النص وكتمانه‪ ،‬ثم إنما يتخيل وجففوب‬
‫ذلك لتعذر قطع الختلف وليس ذلك بمعتذر‪ ،‬فإن البيعة تقطع مففادة‬
‫الختلف والدليل عليه عدم الختلف فففي زمففان أبففي بكففر وعثمففان‬
‫رضي الله عنهم‪ ،‬وقد توليا البيعة‪ ،‬وكثرته في زمان علي رضي اللففه‬
‫عنه ومعتقد المامية أنه تففولى بففالنص‪ .‬الطففرف الثففالث‪ :‬فففي شففرح‬
‫عقيدة أهل السنة في الصحابة والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم‪.‬‬
‫اعلم أن للناس في الصحابة والخلفففاء إسففراف فففي أطففراف؛ فمففن‬
‫مبالغ في الثنففاء حففتى يففدعي العصففمة للئمففة‪ ،‬ومنهففم متهجففم علففى‬
‫الطعن بطلق اللسان بذم الصحابة‪ .‬فل تكونن من الفريقين واسففلك‬
‫طريق القتصاد فففي العتقففاد‪ .‬واعلففم أن كتففاب اللففه مشففتمل علففى‬
‫الثناء على المهاجرين والنصار وتواترت الخبار بتزكيففة النففبي صففلى‬
‫الله عليه وسلم إياهم بألفاظ مختلفة‪ ،‬كقوله أصحابي كالنجوم بأيهم‬
‫اقتديتم اهتديتم وكقوله‪ :‬خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ومففا مففن‬
‫واحد إل وورد عليففه ثنففاء خففاص فففي حقففه يطففول نقلففه‪ ،‬فينبغففي أن‬
‫تستصحب هذا العتقاد في حقهم ول تسيء الظففن بهففم كمففا يحكففى‬
‫عن أحوال تخففالف مقتضففى حسففن الظففن‪ ،‬فففأكثر مففا ينقففل مخففترع‬
‫بالتعصب في حقهم ول أصل له وما ثبت نقله فالتأويل متطرق إليففه‬
‫ولففم يجففز مففا ل يتسففع العقففل لتجففويز الخطففأ والسففهو فيففه‪ ،‬وحمففل‬
‫أفعففالهم علففى قصففد الخيففر وإن لففم يصففيبوه‪ .‬والمشففهور مففن قتففال‬
‫معاوية مع علي ومسير عائشه رضي الله عنهم إلى البصرة والظففن‬
‫بعائشة أنها كانت تطلب تطفئة الفتنة ولكن خرج المر من الضففبط‪،‬‬
‫فففأواخر المففور ل تبقففى علففى وفففق طلففب أوائلهففا‪ ،‬بففل تنسففل عففن‬
‫الضبط‪ ،‬والظن بمعاوية أنه كان على تأويل وظن فيما كان يتعاطففاه‬
‫ومففا يحكففى سففوى هففذا مففن روايففات الحففاد فالصففحيح منففه مختلففط‬
‫بالباطففل والختلف أكففثره اختراعففات الروافففض والخففوارج وأربففاب‬
‫الفضول الخائضون في هذه الفنون‪ .‬فينبغي أن تلزم النكار في كل‬
‫ل‪ .‬فما تعذر عليك فقففل‪ :‬لعففل‬ ‫ما لم يثبت‪ ،‬وما ثبت فيستنبط له تأوي ً‬
‫له تأويل ً وعذرا ً لم أطلع عليه‪ .‬واعلم أنففك فففي هففذا المقففام بيففن أن‬
‫تسيء الظن بمسلم وتطعن عليه وتكون كاذبا ً أو تحسففن الظففن بففه‬
‫ل‪ ،‬والخطففأ فففي حسففن‬ ‫وتكف لسانك عففن الطعففن وأنففت مخطففئ مث ً‬
‫الظن بالمسلم أسلم من الصواب بالطعن فيهم‪ ،‬فلو سففكت إنسففان‬
‫مثل ً عن لعن ابليس أو لعن أبي جهل أو أبي لهب أو من شففئت مففن‬
‫الشرار طول عمره لم يضره السكوت‪ ،‬ولو هفا هفوة بالطعن فففي‬
‫مسلم بما هو بريء عند الله تعالى منه فقد تعرض للهلك‪ ،‬بل أكففثر‬
‫ما يعلم في النففاس ل يحففل النطففق بففه لتعظيففم الشففرع الزجففر عففن‬
‫الغيبة‪ ،‬مع أنه إخبار عما هو متحقق في المغتاب‪ .‬فمن يلحففظ هففذه‬
‫الفصول ولم يكن في طبعه ميل إلى الفضول آثر ملزمته السففكوت‬
‫وحسن الظن بكافة المسففلمين وإطلق اللسففان بالثنففاء علففى جميففع‬
‫السلف الصالحين‪ .‬هذا حكم الصحابة عامة‪ .‬فأما الخلفاء الراشففدون‬
‫فهففم أفضففل مففن غيرهففم‪ ،‬وترتيبهففم فففي الفضففل عنففد أهففل السففنة‬
‫كترتيبهم في المامة‪ ،‬وهذا لمكان أن قولنا فلن أفضل من فلن أن‬
‫معناه إن محله عند الله تعالى في الخرة أرفع‪ ،‬وهذا غيففب ل يطلففع‬
‫عليه إل الله ورسوله إن أطلعه عليففه‪ ،‬ول يمكففن أن يففدعي نصففوص‬
‫قاطعففة مففن صففاحب الشففرع متففواترة مقتضففية للفضففيلة علففى هففذا‬
‫الففترتيب‪ ،‬بففل المنقففول الثنففاء علففى جميعهففم‪ .‬واسففتنباط حكففم‬
‫الترجيحات فففي الفضففل مفن دقففائق ثنففائه عليهففم رمففي فففي عمايفة‬
‫واقتحام أمر آخر أغنانا اللفه عنففه‪ ،‬ويعففرف الفضفل عنففد اللففه تعففالى‬
‫بالعمال مشكل أيضا ً وغايته رجففم ظففن‪ ،‬فكففم مففن شففخص متحففرم‬
‫الظاهر وهو عند الله بمكان ليس في قلبه وخلق خفففي فففي بففاطنه‪،‬‬
‫وكففم مففن مزيففن بالعبففادات الظففاهرة وهففو فففي سففخط اللففه لخبففث‬
‫مستكن في باطنه فل مطلع على السرائر إل الله تعففالى‪ .‬ولكففن إذا‬
‫ثبت أنه ل يعرف الفضل إل بالوحي ول يعرف من النبي إل بالسففماع‬
‫وأولففى النففاس بالسففماع مففا يففدل علففى تفففاوت الفضففائل الصففحابة‬
‫الملزمون لحوال النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وهم قد أجمعوا على‬
‫تقديم أبي بكر‪ ،‬ثم نص أبو بكر علففى عمففر‪ ،‬ثففم أجمعففوا بعففده علففى‬
‫عثمان‪ ،‬ثم على علي رضي الله عنهم‪ .‬وليس يظن منهم الخيانة في‬
‫دين الله تعالى لغرض من الغراض‪ ،‬وكان إجماعهم علففى ذلففك مففن‬
‫أحسن ما يستدل به على مراتبهم في الفضل‪ ،‬ومن هذا اعتقد أهففل‬
‫السنة هذا الترتيب في الفضل ثم بحثوا عن الخبار فوجدوا فيهففا مففا‬
‫عرف به مستند الصحابة وأهل الجماع فففي هففذا الففترتيب‪ .‬فهففذا مففا‬
‫أردنا أن نقتصر عليه من أحكام المامة والله أعلم وأحكم‪.‬‬
‫الباب الرابع بيان من يجب تكفيره من الفففرق اعلففم أن للفففرق فففي‬
‫هذا مبالغات وتعصبات‪ ،‬فربما انتهى بعض الطوائف إلففى تكفيففر كففل‬
‫فرقة سوى الفرقة الففتي يعففزى إليهففا‪ ،‬فففإذا أردت أن تعففرف سففبيل‬
‫الحق فيه فاعلم قبل كل شيء أن هذه مسألة فقهية‪ ،‬أعنففي الحكففم‬
‫بتكفير من قال قول ً وتعاطى فع ً‬
‫ل‪ ،‬فإنهففا تففارة تكففون معلومففة بأدلففة‬
‫سمعية وتارة تكون مظنونة بالجتهاد‪ ،‬ول مجففال لففدليل العقففل فيهففا‬
‫البتة‪ ،‬ول يمكن تفهيم هذا إل بعد تفهيم قولنا‪ :‬إن هذا الشخص كففافر‬
‫والكشف عن معناه‪ ،‬وذلك يرجع إلى الخبار عن مستقره في الففدار‬
‫الخرة وأنه في النار على التأبيد‪ ،‬وعن حكمه في الدنيا وأنه ل يجب‬
‫القصاص بقتله ول يمكن من نكاح مسففلمة ول عصففمة لففدمه ومففاله‪،‬‬
‫إلى غير ذلك من الحكام‪ ،‬وفيه أيضا ً إخبار عن قول صادر منففه وهففو‬
‫كذب‪ ،‬أو اعتقاد وهو جهل‪ ،‬ويجوز أن يعرف بأدلة العقل كون القففول‬
‫ل‪ ،‬ولكففن كففون هففذا الكففذب والجهففل موجب فا ً‬ ‫كذبا ً وكون العتقففاد جه ً‬
‫للتكفير أمر آخر‪ ،‬ومعناه كونه مسلطا ً على سفك دمه وأخذ أمففواله‪،‬‬
‫ومعنى كونه مسلطا ً على سفففك دمففه وأخففذ أمففواله ومبيح فا ً لطلق‬
‫القول بأنه مخلد في النار؛ وهذه المور شرعية ويجوز عندنا أن يففرد‬
‫الشرع بأن الكففذاب أو الجاهففل أو المكففذب مخلففد فففي الجنففة وغيففر‬
‫مكترث بكفره‪ ،‬وإن ماله ودمه معصوم ويجوز أن يرد بالعكس أيضا ً‬
‫نعم ليس يجور أن يرد بففأن الكففذب صففدق وأن الجهففل علففم‪ ،‬وذلففك‬
‫ليففس هففو المطلففوب بهففذه المسففألة بففل المطلففوب أن هففذا الجهففل‬
‫والكذب هل جعله الشرع سببا ً لبطفال عصفمته والحكففم بفأنه مخلفد‬
‫في النار ؟ وهو كنظرنا في أن الصبي إذا تكلم بكلمتي الشهادة فهو‬
‫كافر بعد أو مسففلم ؟ أي هففذا اللفففظ الففذي صففدر منففه وهففو صففدق‪،‬‬
‫والعتقاد الذي وجففد فففي قلبففه وهففو حففق‪ ،‬هففل جعلففه الشففرع سففببا ً‬
‫لعصمة دمه وماله أم ل ؟ وهذا إلى الشرع‪ .‬فأمففا وصففف قففوله بففأنه‬
‫كذب أو اعتقاده بأنه جهل‪ ،‬فليس إلى الشرع‪ ،‬فففإذا ً معرفففة الكففذب‬
‫والجهل يجففوز أن يكففون عقليفا ً وأمففا معرفففة كففونه كففافر أو مسففلما ً‬
‫فليس إل شرعيًا‪ ،‬بل هففو كنظرنففا فففي الفقففه فففي أن هففذا الشففخص‬
‫رقيق أو حر‪ ،‬ومعناه أن السبب الذي جرى هل نصففبه الشففرع مبطل ً‬
‫لشففهادته ووليتففه ومففزيل ً لملكففه ومسففقطا ً للقصففاص عففن سففيده‬
‫المستولي عليه‪ ،‬إذا قتله‪ ،‬فيكون كففل ذلففك طلبفا ً لحكففام شففرعية ل‬
‫يطلب دليلها إل من الشرع‪ .‬ويجففوز الفتففوى فففي ذلففك بففالقطع مففرة‬
‫وبالظن والجتهاد أخرى‪ ،‬فإذا تقرر هذا الصل فقد قررنا في أصففول‬
‫الفقه وفروعه أن كل حكم شرعي يدعيه مدع فإما أن يعرفه بأصففل‬
‫من أصول الشرع من إجماع أو نقل أو بقيففاس علففى أصففل‪ ،‬وكففذلك‬
‫كون الشخص كافرا ً إما أن يدرك بأصل أو بقياس على ذلك الصففل‪،‬‬
‫والصل المقطوع به أن كل من كذب محمدا ً صلى الله عليه وسففلم‬
‫فهو كافر أي مخلد في النار بعد الموت‪ ،‬ومستباح الدم والمففال فففي‬
‫الحياة‪ ،‬إلى جملة الحكام‪ .‬إل أن التكذيب على مراتب‪.‬‬
‫الرتبة الولففى‪ :‬تكففذيب اليهففود والنصففارى وأهففل الملففل كلهففم مففن‬
‫المجففوس وعبففدة الوثففان وغيرهففم‪ ،‬فتكفيرهففم منصفوص عليففه فففي‬
‫الكتاب ومجمع عليه بين المة‪ ،‬وهو الصل وما عداه كالملحق به‪.‬‬
‫الرتبة الثانية‪ :‬تكذيب البراهمة المنكريففن لصففل النبففوات‪ ،‬والدهريففة‬
‫المنكرين لصانع العالم‪ .‬وهذا ملحق بالمنصوص بطريق الولففى‪ ،‬لن‬
‫هففؤلء كففذبوه وكففذبوا غيففره مففن النبيففاء‪ ،‬أعنففي البراهمففة‪ ،‬فكففانوا‬
‫بالتكفير أولى من النصففارى واليهففود‪ ،‬والدهريففة أولففى بففالتكفير مففن‬
‫البراهمففة لنهففم أضففافوا إلففى تكففذيب النبيففاء إنكففار المرسففل ومففن‬
‫ضرورة إنكار النبوة‪ ،‬ويلتحق بهذه الرتبة كل مففن قففال قففول ً ل تثبففت‬
‫النبوة في أصلها أو نبوة نبينا محمففد علففى الخصففوص إل بعففد بطلن‬
‫قوله‪.‬‬
‫الرتبة الثالثة‪ :‬الذين يصدقون بالصانع والنبوة ويصدقون النبي‪ ،‬ولكن‬
‫يعتقدون أمورا ً تخالف نصوص الشرع ولكن يقولون أن النبي محففق‪،‬‬
‫وما قصد بما ذكره إل صلح الخلففق ولكففن لففم يقففدر علففى التصففريح‬
‫بالحق لكلل أفهام الخلق عن دركه‪ ،‬وهففؤلء هففم الفلسفففة‪ .‬ويجففب‬
‫القطع بتكفيرهم في ثلثفة مسفائل وهفي‪ :‬إنكفارهم لحشففر الجسفاد‬
‫والتعففذيب بالنففار‪ ،‬والتنعيففم فففي الجنففة بففالحور بففالعين والمففأكول‬
‫والمشروب والملبوس‪ .‬والخرى‪ :‬قفولهم إن اللفه ل يعلفم الجزئيفات‬
‫وتفصففيل الحففوادث وإنمففا يعلففم الكليففات‪ ،‬وإنمففا الجزئيففات تعلمهففا‬
‫الملئكة السماوية‪ .‬والثالثة‪ :‬قولهم إن العالم قففديم وإن اللففه تعففالى‬
‫متقدم على العالم بالرتبة مثل تقدم العلة علففى المعلففول‪ ،‬وإل فلففم‬
‫تر في الوجود إل متساويين‪ .‬وهؤلء إذا أوردوا عليهففم آيففات القففرآن‬
‫زعموا أن اللذات العقلية تقصر الفهام عن دركها‪ ،‬فمثففل لهففم ذلففك‬
‫باللذات الحسية وهذا كفر صريح‪ ،‬والقول به إبطال لفففائدة الشففرائع‬
‫وسد لباب الهتداء بنور القرآن واستبعاد للرشففد مفن قففول الرسففل‪،‬‬
‫فإنه إذا جاز عليهم الكذب لجل المصالح بطلت الثقة بففأقوالهم فمففا‬
‫من قول يصدر عنهففم إل ويتصففور أن يكففون كففذبًا‪ ،‬وإنمففا قففالوا ذلففك‬
‫لمصلحة‪ .‬فإن قيل‪ :‬فلم قلتم مع ذلك بأنهم كفرة ؟ قلنا لنففه عففرف‬
‫قطعا ً من الشرع أن من كذب رسول الله فهو كافر وهؤلء مكذبون‬
‫ثم معالمون للكذب بمعاذير فاسدة وذلك ل يخففرج الكلم عففن كففونه‬
‫كذبًا‪.‬‬
‫الرتبة الرابعة‪ :‬المعتزلففة والمشففبهة والفففرق كلهففا سففوى الفلسفففة‪،‬‬
‫وهم الذين يصدقون ول يجوزون الكذب لمصلحة وغيففر مصففلحة‪ ،‬ول‬
‫يشتغلون بالتعليل لمصلحة الكذب بل بالتأويل ولكنهم مخطئون فففي‬
‫التأويل‪ ،‬فهؤلء أمرهم فففي محففل الجتهففاد‪ .‬والففذي ينبغففي أن يميففل‬
‫ل‪ .‬فففإن اسففتباحة‬ ‫المحصل إليه الحتراز من التكفير ما وجد إليه سبي ً‬
‫الدماء والموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقففول ل إلففه إل‬
‫الله محمد رسول الله خطأ‪ ،‬والخطأ في ترك ألف كافر فففي الحيففاة‬
‫أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسففلم‪ .‬وقففد قففال صففلى‬
‫الله عليه وسلم‪ :‬أمرت أن أقاتل الناس حففتى يقولففوا ل إلففه إل اللففه‬
‫محمد رسول الله‪ ،‬فإذا قالوها فقد عصموا منففي دمففاءهم وأمففوالهم‬
‫إل بحقهففا‪ .‬وهففذه الفففرق منقسففمون إلففى مسففرفين وغلة‪ ،‬وإلففى‬
‫مقتصدين بالضافة إليهم‪ ،‬ثم المجتهد يرى تكفيرهم وقد يكون ظنففه‬
‫في بعض المسائل وعلففى بعففض الفففرق أظهففر‪ .‬وتفصففيل آحففاد تلففك‬
‫المسائل يطول ثم يثير الفتن والحقاد‪ ،‬فإن أكثر الخائضين في هففذا‬
‫إنما يحركهم التعصب واتباع تكفير المكذب للرسول‪ ،‬وهففؤلء ليسففوا‬
‫مكذبين أصل ً ولم يثبت لنا أن الخطأ في التأويل موجب للتكفيففر‪ ،‬فل‬
‫بد من دليل عليه‪ ،‬وثبت أن العصمة مستفادة من قول ل إله إل الله‬
‫قطعًا‪ ،‬فل يدفع ذلك إل بقاطع‪ .‬وهذا القدر كاف في التنبيه علففى أن‬
‫إسراف من بالغ في التكفير ليس عن برهان فإن البرهان إما أصففل‬
‫أو قياس على أصل‪ ،‬والصل هو التكذيب الصريح ومن ليس بمكذب‬
‫فليس في معنى الكذب أص فل ً فيبقففى تحففت عمففوم العصففمة بكلمففة‬
‫الشهادة‪.‬‬
‫الرتبة الخامسة‪ :‬من تففرك التكففذيب الصففريح ولكففن ينكففر أصفل ً مففن‬
‫أصول الشرعيات المعلومة بالتواتر من رسول الله صلى اللففه عليففه‬
‫وسلم‪ ،‬كقول القائل‪ :‬الصلوات الخمس غير واجبة‪ ،‬فففإذا قففرئ عليففه‬
‫القرآن والخبار قال‪ :‬لست أعلم صدر هذا مففن رسففول اللففه‪ ،‬فلعلففه‬
‫غلط وتحريف‪ .‬وكمن يقول‪ :‬أنا معترف بوجوب الحففج ولكففن ل أدري‬
‫أيففن مكففة وأيففن الكعبففة‪ ،‬ول أدري أن البلففد الففذي تسففتقبله النففاس‬
‫ويحجففونه هففل هففي البلففد الففتي حجهففا النففبي عليففه السففلم ووصفففها‬
‫القرآن‪ .‬فهذا أيضا ً ينبغي أن يحكم بكفره لنه مكففذب ولكنففه محففترز‬
‫عن التصريح‪ ،‬وإل فالمتواترات تشترك في دركهففا العفوام والخففواص‬
‫وليس بطلن ما يقففوله كبطلن مففذهب المعتزلففة فففإن ذلففك يختففص‬
‫لدركه اؤلوا البصفائر مفن النظفار إل أن يكفون هفذا الشفخص قريفب‬
‫العهد بالسلم ولم يتواتر عنده بعد هذه المور فيمهله إلى أن يتواتر‬
‫عنده‪ ،‬ولسنا نكفره لنه أنكففر أمففرا ً معلومفا ً بففالتواتر‪ ،‬وإنففه لففو أنكففر‬
‫غزوة من غزوات النفبي صفلى اللفه عليفه وسفلم المتفواترة أو أنكفر‬
‫نكاحه حفصة بنت عمر‪ ،‬أو أنكفر وجفود أبفي بكفر وخلفتفه لفم يلفزم‬
‫تكفيفره لنفه ليففس تكففذيبا ً فففي أصففل مفن أصفول الففدين ممفا يجففب‬
‫التصديق بفه بخلف الحففج والصففلة وأركففان السفلم‪ ،‬ولسفنا نكففره‬
‫بمخالفة الجماع‪ ،‬فإن لنففا نظففرة فففي تكفيففر النظففام المنكففر لصففل‬
‫الجمففاع‪ ،‬لن الشففبه كففثيرة فففي كففون الجمففاع حجففة قاطعففة وإنمففا‬
‫الجماع عبارة عن التطابق على رأي نظففري وهففذا الففذي نحففن فيففه‬
‫تطابق على الخبار غير محسوس‪ ،‬وتطابق العدد الكبير على الخبار‬
‫غير محسوس على سبيل التواتر الموجب للعلم الضروري‪ ،‬وتطففابق‬
‫أهل الحق والعقد على رأي واحد نظري ل يوجب العلم إل من جهففة‬
‫الشرع ولذلك ل يجوز أن يستدل على حدوث العففالم بتففواتر الخبففار‬
‫من النظار الذين حكموا به‪ ،‬بل ل تواتر إل في المحسوسات‪.‬‬
‫الرتبة السادسة‪ :‬أن ل يصرح بالتكذيب ول يكذب أيضا ً أمففرا ً معلوم فا ً‬
‫على القطع بالتواتر من أصول الدين ولكن منكر مففا علففم صففحته إل‬
‫ل‪ ،‬إذ أنكر كون الجماع‬ ‫الجماع‪ ،‬فأما التواتر فل يشهد له كالنظام مث ً‬
‫حجة قاطعة في أصله‪ .‬وقال‪ :‬ليس يدل على اسففتحالة الخطففأ علففى‬
‫أهل الجماع دليل عقلي قطعي ول شرعي متواتر ل يحتمل التأويل‪،‬‬
‫فكلما تستشهد به من الخبفار واليفات لفه تأويفل بزعمفه‪ ،‬وهفو ففي‬
‫قوله خارق لجماع التابعين؛ فإنا نعلففم إجمففاعهم علففى أن مففا أجمففع‬
‫عليه الصحابة حففق مقطففوع بففه ل يمكففن خلفففه فقففد أنكففر الجمففاع‬
‫وخرق الجماع وهذا في محل الجتهاد‪ ،‬ولي فيه نظر‪ ،‬إذ الشففكالت‬
‫كثيرة في وجه كون الجماع حجة فيكففاد يكففون ذلففك الممهففد للعففذر‬
‫ولكن لو فتح هذا الباب انجر إلى أمور شنيعة وهو أن قائل ً لففو قففال‪:‬‬
‫يجوز أن يبعث رسول بعد نبينا محمد صلى الله عليففه وسففلم‪ ،‬فيبعففد‬
‫التوقف في تكفيره ومستند استحالة ذلففك عنففد البحففث تسففتمد مففن‬
‫الجماع ل محالة فإن العقل ل يحيله وما نقل فيه مفن قفوله‪ :‬ل نفبي‬
‫بعدي ومن قوله تعالى‪ :‬خاتم النبيين فل يعجز هذا القائل عن تففأويله‬
‫فيقول‪ :‬خاتم النفبيين أراد بفه أولفي العفزم مفن الرسفل‪ ،‬ففإن قفالوا‬
‫النبيين عام‪ ،‬فل يبعد تخصيص العام‪ .‬وقوله ل نبي بعدي لففم يففرد بففه‬
‫الرسول‪ ،‬وفرق بين النبي والرسول والنبي أعلى رتبة مففن الرسففول‬
‫إلى غير ذلك مففن أنففواع الهففذيان‪ .‬فهففذا وأمثففاله ل يمكففن أن نففدعي‬
‫استحالته من حيففث مجففرد اللفففظ فإنففا فففي تأويففل ظففواهر التشففبيه‬
‫قضينا باحتمالت أبعد من هذه ولم يكن ذلك مبطل ً للنصوص‪ ،‬ولكففن‬
‫الرد على هذا القائل أن المة فهمت بالجماع من هففذا اللفففظ ومففن‬
‫قرائن أحواله أنه أفهم عدم نبي بعده أبففدا ً وعففدم رسففول اللففه أبففدا ً‬
‫وأنففه ليففس فيففه تأويففل ول تخصففيص فمنكففر هففذا ل يكففون إل منكففر‬
‫الجماع‪ ،‬وعند هذا يتفرع مسائل متقاربة مشففتبكة يفتقففر كففل واحففد‬
‫منها إلى نظر‪ ،‬والمجتهد في جميفع ذلفك يحكفم بمفوجب ظنفه يقينفا ً‬
‫وإثباتا ً والغرض الن تحرير معاقد الصول الففتي يففاتي عليهففا التكفيففر‬
‫وقد نرجع إلى هذه المراتب السلتة ول يعترض فرع إل ويندرج تحت‬
‫رتبة من هذه الرتب‪ ،‬فالمقصود التأصيل دون التفصففيل‪ .‬فففإن قيففل‪:‬‬
‫السجود بين يدي الصنم كفر‪ ،‬وهو فعففل مجففرد ل يففدخل تحففت هففذه‬
‫الروابط‪ ،‬فهففل هففو أصففل آخففر ؟ قلنففا‪ :‬ل‪ ،‬فففإن الكفففر فففي اعتقففاده‬
‫تعظيم الصنم‪ ،‬وذلك تكففذيب لرسففول اللففه صففلى اللففه عليففه وسففلم‬
‫والقرآن ولكن يعرف اعتقففاده تعظيففم الصففنم تففارة بتصففريح لفظففه‪،‬‬
‫وتارة ً بالشارة إن كان أخرسًا‪ ،‬وتارة بفعل يدل عليففه دللففة قاطعففة‬
‫كالسجود حيث ل يحتمل أن يكون السجود لله وإنما الصنم بين يديه‬
‫كالحففائط وهففو غافففل عنففه أو غيففر معتقففد تعظيمففه‪ ،‬وذلففك يعففرف‬
‫بففالقرائن‪ .‬وهففذا كنظرنففا أن الكففافر إذا صففلى بجماعتنففا هففل يحكففم‬
‫باسلمه‪ ،‬أي هفل يسفتدل علفى اعتقفاد التصفديق ؟ فليفس هفذا إذن‬
‫نظرا ً خارجا ً عما ذكرناه‪ .‬ولنقتصر على هذا القدر في تعريف مدارك‬
‫التكفيففر وإنمففا أوردنففاه مففن حيففث أن الفقهففاء لففم يتعرضففوا لففه‬
‫والمتكلمون لم ينظروا فيه نظرا ً فقهيًا‪ ،‬إذ لم يكن ذلففك مففن فنهففم‪،‬‬
‫ولم ينبه بعضهم بها لقرب المسففألة مففن الفقهيففات‪ ،‬لن النظففر فففي‬
‫السباب الموجبة للتكفير من حيث أنها أكاذيب وجهالت نظر عقلي‪،‬‬
‫ولكن النظفر مفن حيفث أن تلفك الجهفالت مقتضفية بطلن العصفمة‬
‫وإنما الخلود في النار نظر فقهي وهو المطلوب‪.‬‬
‫ولنختففم الكتففاب بهففذا‪ ،‬فقففد أظهرنففا القتصففاد فففي العتقففاد وحففذفنا‬
‫الحشففو والفضففول المسففتغنى عنففه‪ ،‬الخففارج مففن أمهففات العقففائد‪،‬‬
‫وقواعدها‪ ،‬واقتصرنا من أدلة ما أوردناه على الجلي الواضح الذي ل‬
‫تقصر أكثر الفهام عن دركه‪ ،‬فنسأل الله تعالى أل يجعله وبال ً علينا‪،‬‬
‫وأن يضعه في ميزان الصالحات إذا ردت إلينا أعمالنففا‪ ،‬والحمففد للففه‬
‫رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلففى آلففه وسففلم‬
‫تسليما ً كثيرا ً آمين‪.‬‬
‫تم الكتاب بحمد الله وفضله‪ ،‬نرجو من القاري الكريم أن ل يبخل علينا بملحظاوته القيمة‪.‬‬
‫مع تحيات موقع الفلسفة السلمية‬
‫شارك في هذا النجاز‪ :‬محمد حزين في ايلول )سبتمر( ‪2002‬م‬

‫موقع المام الغزالي‬ ‫‪-‬‬ ‫عودة إلى موقع الفلسفة السلمية‬

You might also like