You are on page 1of 38

‫أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ السلم ابن تيمية‬

‫د‪.‬أحمد بن عبدالعزيز الحليبي‬

‫المقـدمـة‬

‫الحمد ل رب العالمين‪ ،‬والصلة والسلم على الهادي المين‪ ،‬نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه ومن‬
‫سار على نهجه واتبع سنته إلى يوم الدين‪.‬‬

‫أما بعد ‪:‬‬

‫فإن نقد مقالت المبتدعة وأعمالهم ومسالكهم‪ ،‬والرد عليهم‪ ،‬وكشف ما عندهم من باطل‪ ،‬والتحذير‬
‫من زيفهم‪ ،‬وظيفــة العلمــاء‪ ،‬ل يجوز التساهل فيها‪ ،‬أو التقصير في أدائها‪ ،‬إذ بها تتم حماية الدين‬
‫ونقاوته من شائبة الباطل‪ ،‬وقد أكمل ال دينه‪ ،‬وأتم نعمته‪ ،‬ورضي السلم الذي جاء به محمد صلى‬
‫ت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم السلم‬ ‫ال عليه و سلم ديًنا‪ ،‬قال تعالى ‪) :‬اليوم أكمل ُ‬
‫ديًنا( )المائدة ‪ .(3 :‬وقال تعالى ‪) :‬وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( )الحشر ‪.(7 :‬‬
‫ث ِفي َأْمــِرَنا َهــَذا ما ليس منه فهو َردّ( )‪ ،(1‬وفي رواية ‪:‬‬
‫حَد َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫وقال صلى ال عليه و سلم ‪َ) :‬م ْ‬
‫ل ليس عليه أمُرنا فهو َردّ( )‪.(2‬‬ ‫ل عم ً‬
‫عِم َ‬
‫)من َ‬

‫قد أقام ال تعالى للعلماء ميزان الحق‪ ،‬الذي َيِزُنون به القوال المخالفة‪ ،‬ويصدرون عنه أحكامهم‪..‬‬
‫أقامه على العلم والعدل ‪ :‬العلم الذي يتبين به الحق من الباطل‪ ،‬وُتقام به الحجة على قائله أو فاعــله‪،‬‬
‫قال تعالى ‪) :‬ول َتقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئول(‬
‫)السراء ‪ ،(36 :‬والعدل الذي يثبت به لكل ذي حق حقه من مدح أو ذم غير مغموط فيه‪ ،‬ول‬
‫متعتع‪ ،‬وبقدر متساٍو مع الولياء والعداء‪ ،‬قال تعالى ‪) :‬يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين ل شهداء‬
‫بالقسط ول يجرمنكم شنآن قوم على أن ل تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى( )المائدة ‪.(8 :‬‬

‫ح بلسانه وقلمه عن‬


‫عَلًما من أعلم الدين‪ ،‬وإماًما من أئمة الهدى‪َ ،‬ناَف َ‬
‫وُيعد شيخ السلم ابن تيمية َ‬
‫السّّنة‪ ،‬وجاهد بنفسه رؤوس الفتنة‪ ،‬ووقف موقف البطال من دعاة البدعة‪ ،‬وصبر على ما لقاه في‬
‫سبيل إعلء كلمة ال من الَعَنت والمحنة‪ ،‬فلم َتلن له قناة‪ ،‬ولم تهن له عزيمة‪ ،‬حتى أظهر ال بعلمه‬
‫وجهاده ومواقفه منهج أهل السنة‪ ،‬ونشر على يديه عقيدتهم‪ ،‬بعد أن كانت الغلبة في عصره لعقائد‬
‫أهل الكلم‪ ،‬والرواج لقوال أهل البتداع‪.‬‬

‫واعتمد ابن تيمية في كل ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في أصول الدين وفروعه‪ ،‬على‬
‫كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه و سلم‪ ،‬غير متبع لهوى‪ ،‬أو مقلد لشخاص‪ ،‬فإن ال ذم في‬
‫كتابه الذين يتبعون الظـن وما تهوى النفس‪ ،‬ويتركون اتباع ما جاءهم من ربهم الهدى‪ ،‬قــــال ال‬
‫تعالـــــى ‪) :‬إن هي إل أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل ال بها من سلطان إن يتبعون إل الظن‬
‫وما تهوى النفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ( )النجم ‪ ،(23 :‬وأقام العدل في حكمه على أقوال‬
‫الناس وأعمالهم‪ ،‬وإن كانوا من المخالفين له في الصول‪ ،‬مراعيا ما يسوغ فيه الخلف‪ ،‬أو ما يقع‬
‫فيه خطأ بسبب اجتهاد‪ ،‬أو تأول صحيــح‪ ،‬أو ما يلئمه التماس العذر للمخالف‪ ،‬فإن ذلك أسلم من‬
‫الوقوع في الظلم الذي حرمه ال تعالى على عباده‪ ،‬أو القول على ال بغير حق‪ ،‬وذلك أقرب‬
‫للتقوى‪.‬‬

‫فكان ابن تيمية قائًما بميزان الحق‪ ،‬الذي صّرح بوجوب الوزن به‪ ،‬وأنه الحد الفاصل بين منهج أهل‬
‫ل ‪) :‬والكلم في الناس يجب‬‫السنة والجماعة‪ ،‬ومنهج أهل البدع والغواية في الكلم على الناس‪ ،‬قائ ً‬
‫أن يكون بعلم وعدل‪ ،‬ل بجهل وظلم‪ ،‬كحال أهل البدع( )‪.(3‬‬

‫ذلك أن الصل حفظ جارحة اللسان من القول إل حًقا‪ ،‬وحماية أعراض الناس من انتهاكها زوًرا‬
‫ل حّقا أو‬
‫ل ولَيُق ْ‬‫ل واليوِم الخِر فليّتقِ ا َ‬
‫ن با ِ‬‫ن يؤم ُ‬‫وُبهتاًنا‪ ،‬قال صلى ال عليه و سلم ‪َ) :‬من كا َ‬
‫خاه المسلم‪ ،‬ك ّ‬
‫ل‬ ‫حِقَر َأ َ‬
‫ئ من الشّر أن َي ْ‬
‫ب امر ٍ‬‫س ِ‬‫حْ‬
‫سُكت( )‪ ،(4‬وقال صلى ال عليه و سلم ‪ِ) :‬ب َ‬ ‫لَي ْ‬
‫ضه( )‪.(5‬‬ ‫عْر ُ‬
‫حرام‪َ ،‬دُمُه وماُلُه و ِ‬
‫المسلِم على المسلم َ‬

‫وقد حّرَم ال سبحانه أذية المؤمنين‪ ،‬أو إساءة الظن بهم أو غيبتهم‪ ،‬فقال سبحـانــه ‪) :‬والذين يؤذون‬
‫المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاًنا وإثًما مبيًنا ( ) الحــزاب ‪ .( 58 :‬وقال‬
‫تعالى ‪) :‬يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيًرا من الظن إن بعض الظن إثم ول تجسسوا ول يغتب‬
‫ضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميًتا فكرهتموه واتقوا ال إن ال تواب رحيم(‬ ‫بعضكم بع ً‬
‫ظَم القول في المسلم بغير علم‪ ،‬مرشًدا إلى إمساك اللسان عن الخوض في‬ ‫عّ‬‫)الحجرات ‪ ،(12 :‬و َ‬
‫عرضه بغير حق‪ ،‬وموجًها إلى تبرئة ساحته مما قيل فيه‪ ،‬إبقاء على الصل ‪ :‬وهو عدالته من‬
‫الجارح‪ ،‬وسلمته من القادح‪ ،‬قال تعالى ‪) :‬إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم‬
‫وتحسبونه هيًنا وهو عند ال عظيم ولول إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك( )النور‬
‫‪.(1516 :‬‬

‫إن اعتماد العلم والعدل شرطان في الكلم على الناس عموًما‪ ،‬وفي الحكم على أقوال المخالفين‬
‫صا‪ ..‬ل يعني المداهنة مع المبتدعة‪ ،‬ول الدفاع عن باطلهم‪ ،‬ول تذويب العقيدة أو‬ ‫وأعمالهم خصو ً‬
‫إضعاف جانبها أمام الضللة‪ ،‬أو التقصير نحو إظهارها أو إعلئها على غيرها من القوال والراء‬
‫المخالفة‪ ،‬لكنه المنهج الحق الذي شرعه ال لنبيائه وعباده‪ ،‬وارتضاه لهم في كتبه‪ ،‬واتبعه رسوله‬
‫صلى ال عليه و سلم‪ ،‬وسار عليه سلف المة وعلماؤها‪ ..‬يقول عنه شيخ السلم ابن تيميــة بعد‬
‫ع النبياء هم أهل العلم والعدل‪ ،‬كان كلم أهل السلم والسنة‪ ،‬مع الكفار‬
‫تقريــره ‪) :‬ولما كان َأْتَبا ُ‬
‫وأهل البدع‪ ،‬بالعلم والعدل ل بالظن وما تهوى النفس( )‪.(6‬‬
‫يستهدف هذا المنهج ضبط الحكام‪ ،‬لتصدر بعد تحر وتثبت‪ ،‬وصيانتها من النسياق مع جواذب‬
‫الهواء‪ ،‬وسلمتها من الجهل على الناس وبخسهم حقوقهم‪ ..‬ويتحقق هذا المنهج في صياغة أصول‬
‫كلية قائمة على الدلة المعتبرة‪ ،‬يرجع إليها من احتاج الكلم في الناس‪ ،‬والحكم على أقوالهم‬
‫وأعمالهم كلما اقتضت الحاجة‪ ،‬تفادًيا لما ينشأ عن الجهل بها من مفاسد وعظائم ل تخفى‪.‬‬

‫ومن يراجع كتب شيخ السلم ابن تيمية ورسائله‪ ،‬يصل إلى نتيجة واضحة‪ ،‬هي تمّكنه من تحديد‬
‫هذه الصول‪ ،‬التي كثيًرا ما كان يشير إليها بحسب ما يقتضي المقام‪ ،‬عند حواره ومناقشته ورده‬
‫على مقالت المبتدعة وأعمالهم‪ ،‬والتي ساعدته على وحدة أسلوبه واستواء أحكامه‪ ..‬وقد أبان رحمه‬
‫ال‪ ،‬أهميتها‪ ،‬فقال ‪) :‬لبد أن يكون مع النسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات‪ ،‬ليتكلم بعلم وعدل‪،‬‬
‫ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت‪ ،‬وإل فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات‪ ،‬وجهل وظلم في‬
‫الكليات‪ ،‬فيتولد فساد عظيم( )‪.(7‬‬

‫إن أهمية هذه الصول تتلخص في أمرين ‪:‬‬

‫الول ‪ :‬أنها قاعدة الوصول إلى أحكام دقيقة ومنضبطة ومنصفة‪ ،‬مبنية على العلم والعدل‪ ،‬وملتزمة‬
‫بالمنهج الحق‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬أنها سبيل الوقاية من التخبط في الحكام على غير هدى‪ ،‬وما يتولد عنه من أضرار كبيرة‬
‫ومفاسد عظيمة‪ ،‬تلحق بالفراد والجماعات‪.‬‬

‫ت جمع هذه الصول المتناثرة في مواضع مختلفة من مؤلفات شيخ السلم ابن‬ ‫لهذه الهمية‪ ،‬رأي ُ‬
‫ت على نصها‪ ،‬معتمًدا على النقل من‬‫تيمية‪ ،‬لكي يسهل النتفاع بها والرجوع إليها‪ ،‬وقد حافظ ُ‬
‫ل غاية جهدي في التعرف على الصول‬ ‫مظانها‪ ،‬ومجتهًدا في ترتيبها على حسب مراده منها‪ ،‬باذ ً‬
‫ت الحاطة بجميعها أو‬ ‫التي اعتمدها في الحكم على المبتدعة والكلم فيهم‪ ،‬ول أقول ‪ :‬إني استطع ُ‬
‫اللمام بأجزائها‪ ،‬ولكن حسبي أني جمعت ما تيسر لي منها مما أمكنني الوقوف عليه‪.‬‬

‫وال أسأل أن يلهمني رشدي‪ ،‬وأن يرزقني صواًبا في القول والعمل‪ ،‬وال وحده الهادي إلى سواء‬
‫السبيل‪.‬‬

‫د‪ .‬أحمد بن عبد العزيز الحليبي‬

‫ترجمة شيخ السلم ابن تيمية‬

‫هو المام المجتهد شيخ السلم‪ ،‬تقي الدين أبو العبـــاس أحمـــد ابن عبد الحليـــم بن عبد الســلم‬
‫بن عبــد ال بن الخضـــر بن محمـــد ابن الخضر بن علي بن عبد ال بن تيمية الحراني)‪.(8‬‬

‫حّران)‪ (9‬يوم الثنين عاشر ربيع الول‪ ،‬سنة إحدى وستين وستمائة‪ ،‬ونشأ في بيئة علمية‪،‬‬
‫ولد ب َ‬
‫فكان جده أبو البركات عبد السلم)‪ (10‬ابن عبد ال‪ ،‬صاحب كتاب ‪) :‬المنتقى من أخبار المصطفى‬
‫صلى ال عليه و سلم(‪ ،‬من أئمة علماء المذهب الحنبلي‪ ،‬ووالده من علماء المذهب‪ ،‬اشتغل بالتدريس‬
‫والفتوى‪ ،‬وولي مشيخة دار الحديث السكرية حتى وفاته)‪.(11‬‬

‫انتقل مع أسرته إلى دمشق على إثر تخريب التتار لبلده حران‪ ،‬وهو ابن سبع سنين‪ ،‬وبدت عليه‬
‫مخايل النجابة والذكاء والفطنة منذ صغره‪ ،‬فحفظ القرآن في سن مبكرة‪ ،‬ولم يتم العشرين إل وبلغ‬
‫من العلم مبلغه‪ ،‬ذكر ابن عبد الهادي)‪ (12‬في ترجمته ‪ :‬أن )شيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي‬
‫شيخ‪ ،‬سمع مسند المام أحمد بن حنبل)‪ (13‬مرات‪ ،‬وسمع الكتب الستة الكبار والجزاء‪ ،‬ومن‬
‫عني بالحديث‪ ،‬وقرأ ونسخ وتعلم الخط والحساب في‬ ‫مسموعاته معجم الطبراني)‪ (14‬الكبير‪ ،‬و ُ‬
‫المكتب‪ ،‬وحفظ القرآن‪ ،‬وأقبل على الفقه‪ ،‬وقرأ العربية على ابن عبد القوي)‪ ،(15‬ثم فهمها‪ ،‬وأخذ‬
‫صب‬‫ل كلًيا‪ ،‬حتى حاز فيه َق َ‬
‫يتأمل كتاب سيبويه)‪ ،(16‬حتى فهم في النحو‪ ،‬وأقبل على التفسير إقبا ً‬
‫سبق‪ ،‬وأحكم أصول الفقه وغير ذلك‪ ،‬هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة‪ ،‬فانبهر أهل دمشق‬ ‫ال ّ‬
‫من فرط ذكائه‪ ،‬وسيلن ذهنه‪ ،‬وقوة حافظته‪ ،‬وسرعة إدراكه( )‪.(17‬‬

‫أفتى وله تسع عشرة سنة‪ ،‬وشرع في التأليف وهو ابن هذا السن‪ ،‬وتولى التدريس بعد وفاة والده‪،‬‬
‫سنة ‪682‬هـ بدار الحديث السكرية‪ ،‬وله إحدى وعشرون سنة‪ ،‬حتى اشتهر أمره بين الناس‪ ،‬وبعد‬
‫صيته في الفاق)‪ ،(18‬نظًرا لغزارة علمه وسعة معرفته‪ ،‬فقد خصه ال باستعداد ذاتي أّهله لذلك‪،‬‬
‫منه قوة الحافظة‪ ،‬وإبطاء النسيان‪ ،‬فلم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء إل ويبقى غالًبا على‬
‫خاطره‪ ،‬إما بلفظه أو معناه)‪ .(19‬ففي محنته الولى بمصر‪ ،‬صنف عدة كتب وهو بالسجن‪ ،‬استدل‬
‫فيها بما احتاج إليه من الحاديث والثار‪ ،‬وذكر فيها أقوال المحدثين والفقهاء‪ ،‬وعزاها إلى قائليها‬
‫بأسمائهم‪ ،‬كل ذلك بديهة اعتماًدا على حفظه‪ ،‬فلما روجعت لم يعثر فيها على خطأ ول خلل)‪.(20‬‬

‫قضى حياته في التدريس والفتوى والتأليف والجهاد‪ ،‬فكانت تفد إليه الوفود لسماع دروسه‪ ،‬وَتِرُده‬
‫الرسائل للستفتاء في مسائل العقيدة والشريعة‪ ،‬فيجيب عليها كتابة‪ ..‬ترك ثروة علمية تدل على‬
‫غزارة علمه وسعة اطلعه‪ ،‬وتكامل إدراكه لطراف ما يبحثه واستوائه لديه‪ ،‬ومن ذلك مسائل علم‬
‫الكلم ومباحث الفلسفة‪ ،‬فهو يناقش المتكلمين والفلسفة بأدلتهم‪ ،‬وينقد مناهجهم‪ ،‬ويبطل حججهم بثقة‬
‫وعلم‪ ،‬ذكر ابن عبد الهادي أن مصنفاته وفتاواه ورسائله ل يمكن ضبط عددها‪ ،‬وأنه ل َيعلم أحًدا‬
‫من متقدمي المة جمع مثل ما جمعه‪ ،‬وصنف نحو ما صنفه)‪.(21‬‬

‫شارك في معركة شقحب‪ ،‬التي وقعت بين أهل الشام والُبغاة من التتار‪ ،‬بقرب دمشق في شهر‬
‫رمضان سنة ‪702‬هـ‪ ،‬وانتهت بانتصار أهل الشام ودحر التتار‪ ،‬الذين أرادوا بسط نفوذهم في الشام‪،‬‬
‫وتوسيع سلطتهم على أطرافها‪ ،‬وقد ضرب ابن تيمية في هذه المعركة أروع مثال للفارس الشجاع)‬
‫‪.(22‬‬

‫وجاهد المخالفين من أهل الهواء والبدع‪ ،‬مستعيًنا بسلح العلم‪ ،‬ومتحلًيا في منازلتهم بالعدل‬
‫والرحمة‪ ،‬فقد حاور أهل الكلم‪ ،‬مظهًرا منهج أهل السنة والجماعة في باب السماء والصفات‪،‬‬
‫ومفنًدا آراءهم بالحجة والبيان‪ ،‬وتصدى للفلسفة وغلة التصوف من أتباع ابن عربي)‪(23‬‬
‫وتلميذه‪ ،‬فكشف أستارهم‪ ،‬وأبان عوار مسلكهم‪.‬‬

‫اتبع مسلك الجتهاد في المسائل العلمية )ففي بعض الحكام يفتي بما أداه إليه اجتهاده من موافقة‬
‫أئمة المذاهب الربعة‪ ،‬وفي بعضها يفتي بخلفهم وبخلف المشهور من مذاهبهم‪ ،‬وله اختيارات‬
‫كثيرة في مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده‪ ،‬واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال‬
‫الصحابة والسلف( )‪.(24‬‬

‫ابتلي رحمه ال في سبيل إظهار الحق وبيانه‪ ،‬ونصيحة المسلمين‪ ،‬فصبر‪ ،‬فقد ُوشي به لدى‬
‫سجن بسبب ذلك مراًرا‪ ،‬لُيثنى عن منهجه‪ ،‬وُيحال بينه وبين‬ ‫السلطان‪ ،‬واتهم بالباطل زوًرا وبهتاًنا‪ ،‬و ُ‬
‫حْلم على من آذاه‪ ،‬والعفو‬‫الناس‪ ،‬ولكنه قابل ذلك كله بالصبر على َقَدر ال‪ ،‬والرضا بقضائه‪ ،‬وال ِ‬
‫ل على ذلك من رسالته التي بعثها من مصر إلى أهله وأنصاره في دمشق‪ ،‬يدعوهم‬ ‫عنهم‪ ،‬ول أد ّ‬
‫فيها إلى تأليف القلوب وجمع الكلمة‪ ،‬وإصلح ذات البين‪ ،‬ويحذرهم فيها من أذية مـن آذاه أو‬
‫إهانتهـــم‪ ،‬يقــول فيهــا ‪) :‬تعلمــون رضي ال عنكـم‪ ،‬أنــي ل أحب أن ُيؤذى أحٌد من عموم‬
‫ل‪ ،‬بل لهم عندي من الكرامة والجلل والمحبة والتعظيم‪،‬‬ ‫ل عن أصحابنا بشيء أص ً‬ ‫المسلمين فض ً‬
‫أضعاف أضعاف ما كان‪ ،‬كل بحسبه‪ ،‬ول يخلو الرجل إما أن يكون مجتهـًدا مصيًبا أو مخطًئا أو‬
‫مذنًبا‪ ،‬فالول مشكور‪ ،‬والثاني مع أجره على الجتهاد فمعفو عنه‪ ،‬مغفور له‪ ،‬والثالث فال يغفر لنا‬
‫وله ولسائر المسلمين‪ ،‬فنطوي بساط الكلم لهذا الصل‪ ،‬كقول القائل ‪ :‬فلن قصر‪ ،‬فلن ما عمل‪،‬‬
‫فلن أوذي الشيخ بسببه‪ ،‬فلن كان سبب هذه القضية‪ ،‬فلن يتكلم في كيد فلن‪ ،‬ونحو هذه الكلمات‬
‫التي فيها مذمة لبعض الصحاب والخوان‪ ،‬فإني ل أسامح من آذاهم من هذا البـاب‪ ،‬ول حول ول‬
‫قوة إل بال‪.(25) (...‬‬

‫اتصف بسلمة النفس‪ ،‬والبراءة من التشفي والنتقام حتى ممن كاده‪ُ ،‬ذكر أن الناصر بن قلوون)‬
‫‪ (26‬لما رجع إلى الحكم في مصر بعد خلعه‪ ،‬جلس معه‪) ،‬وأخرج من جيبه فتاوى لبعض المشايخ‬
‫من خصومه في قتله‪ ،‬واستفتاه في قتل بعضهم‪ ،‬قال ‪ :‬ففهمت مقصوده‪ ،‬وأن عنده حنًقا شدًيا عليهم‬
‫ت في مدحهم والثناء‬ ‫لما خلعوه‪ ،‬وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير)‪ ،(27‬فشرع ُ‬
‫ل من حقي ومن‬ ‫حّ‬
‫عليهم وشكرهم‪ ،‬وأن هؤلء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك‪ ،‬أما أنا فهم في ِ‬
‫ت ما عنده عليهم‪ .‬قال ‪ :‬فكان قاضي المالكية زين الدين بن مخلوف)‪ (28‬يقول بعد‬ ‫سّكْن ُ‬
‫جهتي‪ ،‬و َ‬
‫ذلك ‪ :‬ما رأينا أتقى من ابن تيميــة‪ ،‬لم ُنبق ممكًنا في السعي فيه‪ ،‬ولما َقِدَر علينا عفا عنا( )‪.(29‬‬

‫كان منهجه قائًما على اتباع الدليل‪ ،‬وغايته إظهار الحق والنتصار له‪ ،‬دون خوف من أحد ول‬
‫ل على المخالفين‪ ،‬وشجى في حلوق أهل الهواء المبتدعين‪ ،‬وإماًما‬ ‫مداهنة فيه‪ ،‬فإنه )كان سيًفا مسلو ً‬
‫قائًما ببيان الحق ونصرة الدين( )‪ .(30‬من قرأ رسائله وتراثه العلمي‪ ،‬أدرك دقة وصف تلميذه‬
‫الحافظ عمر بن علي البزار)‪ (31‬لمنهجه لما قال ‪) :‬إذا نظر المنصف إليه بعين العدل‪ ،‬يراه واقًفا‬
‫مع الكتاب والسنة‪ ،‬ل يميله عنهما قول أحد كائًنا من كان‪ ،‬ول يراقب في الخذ بعلومهما أحًدا‪ ،‬ول‬
‫طا ول سيًفا‪ ،‬ول يرجع عنهما لقول أحد‪ ،‬وهو مستمسك‬ ‫يخاف في ذلك أميًرا ول سلطاًنا ول سو ً‬
‫بالعروة الوثقى واليــد الطــولى‪ ،‬وعامــل بقــول ال تـعــالــــــى ‪) :‬فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى‬
‫ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر ذلك خير وأحسن تأويلً( )النســـــــاء ‪،(59 :‬‬
‫وبقــولـــه تعــالـــــى ‪) :‬وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى ال( )الشورى ‪ ،(10 :‬وما سمعنا أنه‬
‫اشتهر عن أحد منذ دهر طويل ما اشتهر عنه من كثرة متابعته للكتاب والسنة‪ ،‬والمعان في تتبع‬
‫ل للعلماء‪ ،‬إل وقد أفتى بأبلغها موافقة‬
‫معانيهما‪ ،‬والعمل بمقتضاهما‪ ،‬ولهذا ل يرى في مسألة أقوا ً‬
‫للكتاب والسنة‪ ،‬وتحرى الخذ بأقومها من جهة المنقول والمعقول( )‪.(32‬‬

‫توفي رحمه ال وأسكنه الفردوس العلى‪ ،‬ليلة الثنين‪ ،‬العشرين من ذي القعدة‪ ،‬سنة ثمان وعشرين‬
‫سا‪ ،‬بعد مرض أصابه بضعة وعشرين يوًما‪ ،‬فاشتد أسف الناس عليه‪..‬‬‫وسبعمائة‪ ،‬بقلعة دمشق محبو ً‬
‫قيل ‪ :‬إن عدد َمن حضر جنازته يزيد على نحو خمسمائة ألف)‪ ،(33‬وإنه لم يسمع بجنازة حضرها‬
‫مثل هذا الجمع‪ ،‬إل جنازة المام أحمد)‪ (34‬رحمه ال‪.‬‬

‫مفهوم السنة والبدعة عند ابن تيمية‬

‫يحسن قبل الشروع في بيان أصول شيخ السلم ابن تيمية في الحكم على أهل البدع‪ ،‬أن أعرض‬
‫بشيء من الختصار ما يبين مفهومه رحمه ال للسنة‪ ،‬ويحدد أهلها‪ ،‬ويوضح طريقتهم‪ ،‬ويبين‬
‫مفهومه للبدعة وتفاوتها‪ ،‬ودعوته إلى العتصام بالسنة‪ ،‬وتحذيره من البدعة وفسادها بحيث يتحدد‬
‫لنا موقفه من التباع والبتداع ابتداًء‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ تعريفه للسنة ‪:‬‬

‫يرى أن السنة من الفعل هي ‪) :‬ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة ل ورسوله‪ ،‬سواء فعله‬
‫رسول ال صلى ال عليه و سلم‪ ،‬أو ُفعل على زمانه‪ ،‬أم لم يفعله ولم يفعل على زمانه‪ ،‬لعدم‬
‫المقتضي حينئذ لفعله ‪،‬أو وجود المانع منه‪ ،‬فإنه إذا ثبت أنه أمر به أو استحبه فهو سنة‪ ،‬كما أمر‬
‫بإجلء اليهود والنصارى من جزيرة العرب)‪ ،(35‬وكما جمع الصحابة القرآن في المصحف)‪،(36‬‬
‫وكما داوموا على قيام رمضان في المسجد جماعة)‪.(38) ((37‬‬

‫قصد الشيخ في هذا التعريف‪ ،‬المعنى العام للسنة‪ ،‬وهو الطريقة الموافقة لهدي الرسول صلى ال‬
‫عليه و سلم وعمل الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬ول سيما الخلفاء الراشدون‪ ،‬وقد استقاه من وصية‬
‫رسول ال صلى ال عليه و سلم ‪) :‬عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين‪ ،‬تمسكوا بها‪،‬‬
‫ل بدعٍة ضللة( )‪.(39‬‬ ‫ل ُمحدثٍة بدعٌة‪ ،‬وك ّ‬
‫حَدَثات المور‪ ،‬فإن ُك ّ‬
‫ضوا عليها بالنواجذ‪ ،‬وإياكم وُم ْ‬
‫ع ّ‬
‫وَ‬

‫‪ 2‬ـ َمن هم أهل السنة ؟‬

‫يرى أنهم المتبعون لسلف المة‪ ،‬الذين عاشوا في القرون الثلثة المفضلة‪ ،‬وحازوا كل فضيلة‪،‬‬
‫وثبت لهم ذلك بالضرورة‪ ،‬وأنه )من المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة‪ ،‬وما اتفق عليه‬
‫أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف‪ ،‬أن خير قرون هذه المة في العمال والقوال والعتقاد‪...‬‬
‫القرن الول‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم ‪،‬كما ثبت ذلك عن النبي صلى ال عليه و سلم من‬
‫غير وجه)‪ ،(40‬وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة‪ ،‬من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان‬
‫وعبادة‪ ،‬وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل‪ ..‬هذا ل يدفعه إل من كابر المعلوم بالضرورة من دين‬
‫السلم‪ ،‬وأضله ال على علم( )‪ ،(41‬كما قال عبد ال بن عمر)‪ (42‬رضي ال عنهما ‪َ) :‬من كان‬
‫منكم مستًنا فليستن بمن قد مات‪ ،‬أولئك أصحاب محمد صلى ال عليه و سلم كانوا خير هذه المة‪،‬‬
‫أبرها قلوًبا‪ ،‬وأعمقها علًما‪ ،‬وأقلها تكلًفا‪ ..‬قوم اختارهم ال لصحبة نبيه‪ ،‬ونقل دينه‪ ،‬فتشبهوا بأخلقهم‬
‫وطرائقهم‪ ،‬فهم أصحاب محمد صلى ال عليه و سلم‪ ،‬كانوا على الهدى المستقيم( )‪.(43‬‬

‫سَلف‪ ،‬فإنهم جاءوا بما يكفي ويشفي‪ ،‬ولم يحدث بعدهم خير كامن لم‬
‫وقال غيره ‪) :‬عليكم بآثار َمن َ‬
‫يعلموه( )‪ ،(44‬وقال المام الشافعي)‪) : (45‬هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل‪ ،‬وكل سبب‬
‫ُينال به علم أو ُيدرك به هوى‪ ،‬ورأيهم لنا خير من رأينا لنفسنا( )‪.(46‬‬
‫حّدَد رحمه ال أهل السنة والجماعة‪ ،‬فقال ‪) :‬أهل السنة والجماعة من الصحابة جميعهم والتابعين‪،‬‬
‫وَ‬
‫وأئمة أهل السنة وأهل الحديث‪ ،‬وجماهير الفقهاء والصوفية)‪ ،(47‬مثل مالك)‪ (48‬والثوري)‪(49‬‬
‫والوزاعي)‪ (50‬وحماد بن زيد)‪ ،(51‬والشافعي‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬ومحققي أهل الكلم)‬
‫‪ ،(53) ((52‬فلم يحصر أهل السنة والجماعة في مدرسة معينة‪ ،‬لن طريق السنة يتسع لكل من‬
‫اعتصم بها‪ ،‬واتبع آثار السلف رحمهم ال تعالى(‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ طريقة أهل السنة ‪:‬‬

‫بين المام ابن تيمية أن )طريقة أهل السنة والجماعة‪ ،‬اتباع آثار رسول ال صلى ال عليه و سلم‬
‫باطًنا وظاهًرا‪ ،‬واتباع سبيل السابقين الولين من المهاجرين والنصار‪ ،‬واتباع وصية رسول ال‬
‫سموا‬
‫صلى ال عليه و سلم حيث قال ‪) :‬عليكم بسنتي( )‪ (54‬إلى آخر الحديث( )‪ ،(55‬فهم إنما ُ‬
‫سموا أهل الجماعة لن الجماعة هي الجتماع‪ ،‬وضدها الُفرقة‪ ،‬نسبة إلى‬‫بأهل السنة لهذا المعنى‪ ،‬و ُ‬
‫الصل الثالث وهو الجماع‪ ،‬ويقصد به الجماع المنضبط‪ ،‬وهو ما كان عليه السلف الصالح‪ ،‬إذ‬
‫َبْعَدهم َكُثر الختلف‪ ،‬وافترقت المة)‪.(56‬‬

‫وإنما كان السلف على السنة‪ ،‬لن غاية ما عندهم أن يكونوا موافقين لرسول ال صلى ال عليه و‬
‫سلم‪ ،‬ولن عامة ما عندهم من العلم واليمان استفادوه منه صلى ال عليه و سلم‪ ،‬الذي أخرجهم ال‬
‫به من الظلمات إلى النور‪ ،‬وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد)‪ ،(57‬لذا كان الحق معهم‪ ،‬لن‬
‫)الحق دائًما مع سنة رسول ال صلى ال عليه و سلم وآثاره الصحيحة‪ ،‬وأن كل طائفة تضاف إلى‬
‫غيره إذا انفردت بقول عن سائر المة‪ ،‬لم يكن القول الذي انفردت به إل خطأ‪ ،‬بخلف المضاف‬
‫إليه أهل السنة والحديث‪ ،‬فإن الصواب معهم دائًما‪ ،‬وَمن وافقهم كان الصواب معه دائًما لموافقته‬
‫إياهم‪ ،‬ومن خالفهم فإن الصواب معهم دونه في جميع أمور الدين‪ ،‬فإن الحق مع الرسول صلى ال‬
‫عليه و سلم‪ ،‬فمن كان أعلم بسنته وَأْتَبع لها كان الصواب معه‪ ،‬وهؤلء هم الذين ل ينتصرون إل‬
‫لقوله‪ ،‬ول يضافون إل إليه‪ ،‬وهم أعلم الناس بسنته‪ ،‬وأتبع لها‪ ،‬وأكثر سلف المة كذلك‪ ،‬لكن التفرق‬
‫والختلف كثير في المتأخرين( )‪.(58‬‬

‫لذا كانت متابعة السلف شعاًرا للتمييز بين أهل السنة وأهل البدعة‪ ،‬كما قال المام أحمد في رسالة‬
‫عبدوس بن مالك)‪) : (59‬أصول السنة عندنا ‪ :‬التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى ال عليه‬
‫و سلم( )‪ ،(60‬فعلم أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف‪ ..‬ولما كان الرافضة)‪(61‬‬
‫أشهر الطوائف بالبدعة‪ ،‬حتــى إن العامــة ل تعرف مـن شعـائـر البـدع إل الرفض‪ ،‬صار السني في‬
‫اصطلحهم َمن ل يكون رافضًيا‪ ،‬وذلك لنهم أكثر مخالفة للحاديث النبوية ولمعاني القرآن‪ ،‬وأكثر‬
‫حا في سلف المة وأئمتها‪ ،‬وطعًنا في جمهور المة من جميع الطوائف‪ ،‬فلما كانوا أبعد عن‬ ‫قد ً‬
‫متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة)‪ ،(62‬وهناك طوائف أقرب منهم إلى طريقة السلف مثل )متكلمة‬
‫لبية)‪ (63‬والكرامية)‪ (64‬والشعرية)‪ (65‬مع الفقهاء والصوفية وأهل الحديث‪،‬‬ ‫أهل الثبات من الُك ّ‬
‫فهؤلء في الجملة ل يطعنون في السلف‪ ،‬بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالتهم‪ ،‬لكن كل من كان‬
‫بالحديث من هؤلء أعلم‪ ،‬كان بمذهب السلف أعلم‪ ،‬وله أتبع‪ ،‬وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل‬
‫طائفة بقدر استنانها‪ ،‬وقلة ابتداعها( )‪.(66‬‬

‫‪ 4‬ـ تعريفه للبدعة ‪:‬‬


‫يرى البدعة في مقابل السنة‪ ،‬وهي ‪) :‬ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف المة من العتقادات‬
‫والعبادات( )‪ ،(67‬أو هي بمعنى أعم ‪) :‬ما لم يشرعه ال من الدين‪ ..‬فكل من دان بشيء لم يشرعه‬
‫ل فيه( )‪ ،(68‬أي مما استحدثه الناس‪ ،‬ولم يكن له مستند في الشريعة‪.‬‬
‫ال فذاك بدعة‪ ،‬وإن كان متأو ً‬

‫وهي )نوعان ‪ :‬نوع في القوال والعتقادات‪ ،‬ونوع في الفعال والعبادات‪ ،‬وهذا الثاني يتضمن‬
‫الول‪ ،‬كما أن الول يدعو إلى الثاني( )‪ ،(69‬فمثال الول في القوال ‪ :‬بدعة الوراد المحدثة‪ ،‬وفي‬
‫العتقادات ‪ :‬بدعة الرافضة والخوارج)‪ ، (70‬والمعتزلة)‪ ، (71‬والمرجئة)‪ ،(72‬والجهمية)‪..(73‬‬
‫ومثال الثاني في الفعال ‪ :‬لبس الصوف عبادًة‪ ،‬وعمل المولد)‪ ،(74‬وفي العبادات‪ ،‬الجهر بالنية في‬
‫الصلة‪ ،‬والذان في العيدين)‪.(75‬‬

‫ـ تفاوت البدعـة ‪:‬‬

‫ل على قدر ما فيها من مخالفة للكتاب والسنة‪ ،‬وابتعاد عن متابعة السلف‪،‬‬ ‫يرى أن البدعة تكون باط ً‬
‫ضا ل‬‫ضا‪ ،‬إذ لو كانت كذلك لظهرت وبانت وما ُقبلت‪ ،‬كما أنها ليست حًقا مح ً‬ ‫ل مح ً‬‫فهي ليست باط ً‬
‫ضا ل باطل فيه‪ ،‬وإنما تشتمل على‬‫شــوب فيه‪ ،‬وإل كـانت موافقــة للسنــة التي ل تنــاقض حًقا مح ً‬
‫حق وباطل)‪ ،(76‬وعلى هذا يكون بعضها أشد من بعض)‪ ،(77‬ويكون أهلها )على درجات ‪ :‬منهم‬
‫من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة‪ ،‬ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة( )‬
‫‪.(78‬‬

‫وهذا التفاوت يقع في مسائل العقيدة والعبادة على حد سواء‪ ،‬فإن )الجليل من كل واحد من الصنفين‪،‬‬
‫مسائل أصول‪ ،‬والدقيق مسائل فروع( )‪ ..(79‬وما درج عليه الناس من تسمية مسائل العقيدة‬
‫الخبرية بالصول‪ ،‬ومسائل العبادة العملية بالفروع‪ ،‬تسمية محدثة‪ ،‬قسمها طائفة من الفقهاء‬
‫المتكلمين‪ ،‬وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية فعندهم أن المسائل العملية آكد وأهم من المسائل‬
‫الخبرية المتنازع فيها‪ ،‬لذا كثر كلمهم فيها‪ ،‬وكرهوا الكلم في الخرى‪ ،‬كما أثر ذلك عن مالك‬
‫وغيره من أهل المدينة)‪.(80‬‬

‫ل ‪) :‬وأصحاب ابن‬‫وقد أشار الشيخ إلى هذا التفاوت من حيث ُقرب الِفَرق وُبْعدها عن الحق قائ ً‬
‫كلب)‪ (81‬كالحــارث المحاسبـــي)‪ ،(82‬وأبي العباس القلنسي)‪ ،(83‬ونحوهما‪ ،‬خير من‬
‫الشعرية في هذا وهذا‪ ،‬وكلما كان الرجل إلى السلف والئمة أقرب‪ ،‬كان قوله أعلى وأفضل( )‬
‫‪.(84‬‬

‫‪ 6‬ـ تأكيده على العمل بالسنة ‪:‬‬

‫يؤكد شيخ السلم على أنه ل عاصم من الوقوع في الباطل إل بملزمة السنة‪ ،‬ذلك أن )السنة مثال‬
‫خّلف عنها غرق‪ ،‬قال الزهري)‪ : (85‬كان من مضى‬ ‫سفينة نوح عليه السلم‪ ،‬من َرِكَبها نجا‪ ،‬ومن َت َ‬
‫من علمائنا يقولون ‪ :‬العتصام بالسنة نجاة( )‪ ،(86‬لذا فإن المبتدعة لما كانوا مخالفين للسنة‪ ،‬وقعوا‬
‫في الباطل وإن كانوا متأولين‪ ،‬لنهم اتبعوا الهوى‪ ،‬وضلوا طريق السنة المنصوب على العلم والعدل‬
‫سمي أصحاب البدع‪ ،‬أصحاب الهواء)‪.(87‬‬ ‫والهدى‪ ،‬ومن ُهنا ُ‬

‫أما أهل العلم واليمان من السلف‪ ،‬فإنهم تمسكوا بالسنة‪ ،‬وكان منهجهم على النقيض من منهج‬
‫المبتدعة‪ ،‬فهم )يجعلون كلم ال ورسوله هو الصل الذي يعتمد عليه‪ ،‬وإليه يرد ما تنازع الناس‬
‫ل‪ ،‬ومن كان قصده متابعته من المؤمنين‪ ،‬وأخطأ بعد‬ ‫فيه‪ ،‬فما وافقه كان حًقا‪ ،‬وما خالفه كان باط ً‬
‫اجتهاده الذي استفرغ به وسعه‪ ،‬غفر ال له خطأه‪ ،‬سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الخبرية أو‬
‫المسائل العملية‪ ،‬فإنه ليس كل ما كان معلوًما متيقًنا لبعض الناس‪ ،‬يجب أن يكون معلوًما متيقًنا‬
‫لغيره‪ ،‬وليس كل ما قاله رسول ال صلى ال عليه و سلم يعلمه كل الناس ويفهمونه‪ ،‬بل كثير منهم‬
‫لم يسمع كثيًرا منه‪ ،‬وكثير منهــم قد يشتبـــه عليـــه مـــا أراده‪ ،‬وإن كـــان كلمـــه في نفســـه‬
‫محكـًما مقــروًنا بما يبين مراده( )‪.(88‬‬

‫لكن إذا لم ُيّتَبع منهج السلف‪ ،‬فإنه ُيخاف على المنتسبين إلى العلم والنظر العقلي‪ ،‬وما َيْتَبع ذلك‪ ،‬من‬
‫الوقوع في بدعة القوال والعتقادات‪ ،‬وُيخاف على المنتسبين إلى العبادة والرادة‪ ،‬وما َيْتَبع ذلك‪،‬‬
‫من الوقوع في بدعة الفعال والعبادات‪ ،‬وكل ذلك من الضلل والبغي‪ ،‬وقد ُأمر المسلم أن يقول في‬
‫صلته ‪) :‬اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ول الضالين(‬
‫)الفاتحة ‪ ،(67 :‬آمين‪ ،‬وصح عن النبي صلى ال عليه و سلم أنه قال ‪) :‬اليهــود مغضوب عليهم‪،‬‬
‫سد من العلماء‬ ‫والنصــارى ضـالـون( )‪ ،(89‬قـــال سفيــان بن عيينة)‪ : (90‬كانوا يقولون ‪ :‬من َف َ‬
‫ففيه شبه من اليهود‪ ،‬ومن فسد من الُعّباد ففيه شبه من النصارى‪ ..‬وكان السلف يقولون ‪ :‬احذروا‬
‫فتنة الَعاِلم الفاجر‪ ،‬والعابد الجاهل‪ ،‬فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون‪ ،‬فطالب العلم إن لم يقترن بطلبه ِفْع ُ‬
‫ل‬
‫ك ما يحرم عليه من العتصام بالكتاب والسنة‪ ،‬وإل وقع في الضلل)‪.(91‬‬ ‫مــا يجـب عليـه‪ ،‬وَتْر ُ‬

‫‪ 7‬ـ تحذيره من البدعة‪ ،‬وبيانه لوجه فسادها ‪:‬‬

‫حذر الشيخ من البدعة‪ ،‬وبين أنها أشر من المعصيــة)‪ ،(92‬لـذم رسول ال صلى ال عليه و سلم‬
‫إياها في قوله ‪) :‬شر المور محدثاتها‪ ،‬وكل بدعة ضللة( )‪ ،(93‬وفي رواية ‪) :‬وكل ضللة في‬
‫النار( )‪ ..(94‬وذمه عليه الصلة والسلم الواقعين فيها‪ ،‬في ذمه للرجل الذي اعترض على رسول‬
‫حِقُر أحُدُكم‬
‫ضئي)‪ (95‬هذا قوٌم َي ْ‬ ‫ضْئ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫ج ِم ْ‬‫خُر ُ‬
‫ال صلى ال عليه و سلم في قسمته‪ ،‬فقال فيه ‪َ) :‬ي ْ‬
‫جاِوُز‬
‫ن ل ُي َ‬ ‫ن القرآ َ‬
‫صَياِمِهم‪ ،‬وِقَراَءَته َمَع ِقَراءِتهم‪ ،‬يقرؤو َ‬ ‫صلِتِهم‪ ،‬وصياَمُه َمَع ِ‬‫صلَتُه َمَع َ‬
‫لْقُتَلّنهم َقتلَ عاد( )‬
‫ن الّرِمّية‪َ ،‬لِئن أدركُتُهم َ‬
‫سْهُم ِم َ‬
‫ق ال ّ‬‫ن السلِم‪ ،‬كما َيْمُر ُ‬ ‫جَرُهم‪َ ،‬يْمُرُقون)‪ِ (96‬م َ‬
‫حَنا ِ‬
‫َ‬
‫‪ ..(97‬وفي رواية ‪) :‬لو يعلُم الذين يقاتلونهم ماذا لهم عن لسان محمٍد لّتَكُلوا عن العمل( )‪..(98‬‬
‫ن َقَتُلوه( )‪.(99‬‬ ‫ت أديِم السماء‪ ،‬خير َقْتَلى َم ْ‬ ‫وفي رواية ‪) :‬شر َقْتَلى تح َ‬

‫قال الشيخ معلًقا على هذا الحديث ‪) :‬فهؤلء مع كثرة صلتهم وصيامهم وقراءتهم‪ ،‬وما هم عليه من‬
‫ي صلى ال عليه و سلم بقتلهم‪ ،‬وَقَتَلهم علي بن أبي طالب)‪ (100‬وَمن معه‬
‫العبادة والزهادة‪ ،‬أمر النب ُ‬
‫سنة النبي وشريعته‪ ،‬وأظن أني‬
‫من أصحاب النبي صلى ال عليه و سلم‪ ،‬وذلك لخروجهم عن ُ‬
‫ت قول الشافعي ‪ :‬لن ُيبتلى العبد بكل ذنب‪ ،‬ما خل الشرك بال‪ ،‬خير من أن ُيبتلى بشيء من‬ ‫ذكر ُ‬
‫هذه الهواء( )‪.(101‬‬

‫كما بين الشيخ أن فساد البدعة وضررها من وجهين ‪:‬‬

‫الول ‪ :‬أن البدع مفسدة للقلوب‪ ،‬مزاحمة للسنة في إصلح النفوس‪ ،‬فهي أشبه ما تكون بالطعام‬
‫الخبيث‪ ،‬وفي هذا المعنى يقول )الشرائع أغذية القلوب‪ ،‬فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل‬
‫للسنن‪ ،‬فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث( )‪.(102‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن البدع معارضة للسنن‪ ،‬تقود أصحابها إلى العتقادات الباطلة والعمال الفاسدة والخروج‬
‫عن الشريعة‪ ،‬وفي هذا المعنى يقول ‪ :‬مبيًنا أن )من أسباب هذه العتقادات والحوال الفاسدة‪،‬‬
‫شرعة والمنهاج‪ ،‬الذي بعث به الرسول صلى ال عليه و سلم إلينا‪ ،‬فإن البدع هي‬ ‫الخروج عن ال ّ‬
‫مبادئ الكفر ومظان الكفر‪ ،‬كما أن السنن المشروعة هي مظاهر اليمان‪ ،‬ومقوية لليمان‪ ،‬فإنه يزيد‬
‫بالطاعة وينقص بالمعصية( )‪ ،(103‬وهذا ظاهر في منهج المبتدعة‪ ،‬القائم على معارضة الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬لـّما )جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هي القوال المحكمة‪ ،‬التي جعلوها أصول دينهم‪ ،‬وجعلوا‬
‫قول ال ورسوله من المجمل الذي ل ُيستفاد منه علم ول هدى‪ ،‬فجعلوا المتشابه من كلمهم هو‬
‫المحكم‪ ،‬والمحكم من كلم ال ورسوله هو المتشابــه‪ ،‬كمـا يجعـل الجهميـة من المتفلسفـة والمعتزلـة‬
‫عُلوه على‬ ‫ونحوهـم‪ ،‬ما أحدثوه من القوال التي نفوا بها صفات ال‪ ،‬ونفوا بها رؤيته في الخرة‪ ،‬و ُ‬
‫خْلقه‪ ،‬وكون القرآن كلمه ونحو ذلك‪ ،‬جعلوا تلك القوال محكمة‪ ،‬وجعلوا قول ال ورسوله مؤو ً‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫عليها‪ ،‬أو مردوًدا‪ ،‬أو غير ملتفت إليه‪ ،‬ول متلقى للهدى منه( )‪.(104‬‬

‫الصل الول ‪ :‬العتذار لهل الصلح والفضل عما وقعوا فيه من بدعة عن اجتهاد‪ ،‬وحمل كلمهم‬
‫المحتمل على أحسن محمل‬

‫ل ريب أن المجتهد إذا أخطأ فيما يسوغ فيه الجتهاد‪ ،‬يعفى عنه خطؤه‪ ،‬ويثاب‪ ،‬لقول رسول ال‬
‫صلى ال عليه و سلم ‪) :‬إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران‪ ،‬وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله‬
‫أجر( )‪ ،(106‬لذا ُيعذر كثير من العلماء والعباد‪ ،‬بل والمراء فيما أحدثوه لنوع اجتهاد)‪ ،(107‬فإن‬
‫كثيًرا )من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة‪ ،‬ولم يعلموا أنه بدعة‪ ،‬إما لحاديث‬
‫ضعيفة ظنوها صحيحة‪ ،‬وإما ليات فهموا منها ما لم ُيَرْد منها‪ ،‬وإما لرأي َرَأْوه وفي المسألة‬
‫نصوص لم تبلغهم‪ ،‬وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله تعالى ‪ ) :‬ربنا ل تؤاخذنا إن‬
‫نسينا أو أخطأنا( )البقرة ‪ ،(286 :‬وفي الصحيح أن ال قال ‪) :‬قد فعلتُ( )‪.(109) ((108‬‬

‫وقد اعتذر الشيخ لبعض أهل الفضل والصلح‪ ،‬ممن شهدوا سماع الصوفية ورقصهم متأولين‪ ،‬قائلً‬
‫‪) :‬والذين شهدوا هذا اللغو متأولين من أهل الصدق والخلص والصلح‪ ،‬غمرت حسناتهم ما كان‬
‫لهم فيه وفي غيره من السيئات‪ ،‬أو الخطأ في مواقع الجتهاد‪ ،‬وهذا سبيل كل صالحي هذه المة في‬
‫خطئهم وزلتهم( )‪ ،(110‬مستنًدا في هذا على قول ال تعالى ‪) :‬والذي جاء بالصدق وصّدق به‬
‫أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر ال عنهم أسوأ الذي عملوا‬
‫ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعلمون( )الزمر ‪.(35-33 :‬‬

‫كما اعتذر لشيوخ أهل التصوف‪ ،‬الذين حسن ذكرهم وثبت إيمانهم‪ ،‬فقال ‪) :‬لكن شيوخ أهل العلم‬
‫الذين لهم لسان صدق‪ ،‬وإن وقع في كلم بعضهم ما هو خطأ منكر‪ ،‬فأصل اليمان بال ورسوله إذا‬
‫كان ثابًتا‪ ،‬غفر لحدهم خطأه الذي أخطأه بعد اجتهاد( )‪.(111‬‬

‫وإذا كان الجتهاد عذًرا في العفو عن الخطأ البدعي‪ ،‬فإن هذا الخطأ ل ينقص من قدر المجتهد‪ ،‬متى‬
‫كان من أهل القدم في الصلح والتقوى‪ ،‬فإنه مع خطئه )قد يكون صّديًقا عظيًما‪ ،‬فليس من شرط‬
‫حا‪ ،‬وعمله كله سنة( )‪ ..(112‬كما أن فعل أهل الفضل للبدعة ليس‬
‫الصّديق أن يكون قوله كله صحي ً‬
‫ل على صحتها‪ ،‬فإن الصحة ُتعرف من كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه و سلم‪ ..‬قال رحمه‬ ‫دلي ً‬
‫ال مبيًنا هذا ‪) :‬إذا فعلها قوم ذوو فضل ودين‪ ،‬فقد تركها في زمان هؤلء من كان معتقًدا لكراهتها‪،‬‬
‫وأنكرها قوم إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها فليسوا دونهم‪ ،‬ولو كانوا دونهم في الفضل فقد تنازع‬
‫فيها أولو المر‪ ،‬فُترد إلى ال ورسوله( )‪ ..(113‬هذا إذا وقع الخطأ فيما يسوغ فيه الجتهاد‪ ،‬أما‬
‫من أخطأ مخالًفا )الكتاب المستبين‪ ،‬والسنة المستفيضة‪ ،‬أو ما أجمع عليه سلف المة‪ ،‬خلًفا ل يعذر‬
‫فيه‪ ،‬فهذا ُيعامل بما ُيعامل به أهل البدع( )‪.(114‬‬

‫وكذلك ُتحمل القوال المحتملة لهل الفضل والصلح‪ ،‬على أحسن محمل وأسلم مقصد‪ ،‬من ذلك‬
‫ل ‪) :‬هذا الكلم‬
‫حْمله رحمه ال لقول الجنيد)‪ (115‬رحمه ال ‪) :‬التوحيد إفراد الِقَدم من الحدث(‪ ،‬قائ ً‬ ‫َ‬
‫ل حسًنا‪ ،‬وغير المحق يدخل فيه أشياء‪ ...‬وأما الجنيد فمقصوده‬ ‫فيه إجمال‪ ،‬والمحق يحمله محم ً‬
‫التوحيد الذي يشير إليه المشايخ‪ ،‬وهو التوحيد في القصد والرادة‪ ،‬وما يدخل في ذلك من الخلص‬
‫والتوكل والمحبة‪ ،‬وهو أن ُيْفَرد الحق سبحانه وهو القـديم‪ ،‬بهــذا كلـه‪ ،‬فل يشركه في ذلك محدث‪،‬‬
‫وتمييز الرب من المربوب في اعتقادك وعبادتك‪ ،‬وهذا حق صحيح‪ ،‬وهو داخل في التوحيد الذي‬
‫بعث ال به رسله‪ ،‬وأنزل به كتبه‪ ..‬ومما يدخل في كلم الجنيد‪ ،‬تمييز القديم عن المحدث‪ ،‬وإثبات‬
‫مباينته له‪ ،‬بحيث يْعَلمه ويشهد أن الخالق مباين للخلق‪ ،‬خلًفا لما دخل فيه التحادية)‪ (116‬من‬
‫ضا حمله قول بعض‬ ‫المتصوفة وغيرهم من الذين يقولون بالتحاد معيًنا أو مطلًقا( )‪ .(117‬ومنه أي ً‬
‫ل لك ‪-‬مع ما‬‫الصوفية ‪ :‬ما عبدتك شوًقا إلى جنتك‪ ،‬ول خوًفا من نارك‪ ،‬ولكن لنظر إليك أو إجل ً‬
‫فيه من خطأ‪ ،‬على حسن القصد‪ -‬فيقول ‪) :‬وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين‪ ،‬وأرباب‬
‫جٌد صحيح‪ ،‬وذوق سليم‪ ،‬لكن ليس له عبارة تبين مراده‪ ،‬فيقع‬ ‫الحوال والمقامات‪ ،‬يكون لحدهم َو ْ‬
‫في كلمه غلط وسوء أدب)‪ (118‬مع صحة مقصوده( )‪.(119‬‬

‫الصل الثاني ‪ :‬عدم تأثيم مجتهد إذا أخطأ في مسائل أصولية أو فرعية ‪ ..‬وأولى من ذلك‪ ،‬عدم‬
‫تكفيره أو تفسيقه‬

‫نسب ابن تيميـــة هـــذا الحكـــم إلى السلف وأئمــة الفتــوى‪ ،‬كأبي حنيفة)‪ (120‬والشافعي والثوري‬
‫وداود)‪ (121‬بن علي وغيرهم‪ ،‬أنهم كانـوا ل يؤثمون مجتهًدا أخطأ في المسائل الصولية‬
‫والفروعية‪ ،‬وذكر ذلك عنهم ابن حزم)‪ (122‬وغيره‪ ،‬وعلل هذا بأن أبا حنيفة والشافعي وغيرهمــا‬
‫كــانــوا يقبلـــون شهـــادة أهـــل الهــــــواء‪ ،‬إل الخطابيـــة)‪ ،(123‬ويصححون الصلة خلفهم)‬
‫‪ ،(124‬والكافر ل ُتقبل شهادته على المسلمين‪ ،‬ول ُيصلى خلفه‪ ،‬وأنهم قالوا ‪ :‬هذا هو القول‬
‫سقــون ول‬‫المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين‪ ،‬أنهــم ل يكفــرون ول يف ّ‬
‫يؤثمون أحًدا من المجتهدين المخطئين‪ ،‬ل في مسألة عملية ول علمية‪ ،‬قالوا ‪ :‬والفرق بين مسائل‬
‫الصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع‪ ،‬من أهل الكلم من المعتزلة والجهمية‪ ،‬ومن سلك‬
‫سبيلهم‪ ،‬وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه‪ ،‬ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ول‬
‫غوره)‪.(125‬‬ ‫َ‬

‫وبّين رحمه ال بطلن رأي َمن قال ‪ :‬إن )مسائل الصول هي العلمية العتقادية‪ ،‬التي ُيطلب فيها‬
‫العلم والعتقاد فقط‪ ،‬ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل ‪-‬من جهة الحكم‪ -‬فإن‬
‫المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده‪ ،‬مثل وجوب الصلوات الخمس‪ ،‬والزكاة‪ ،‬وصوم شهر رمضان‪،‬‬
‫وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش‪ ،‬وفي المسائل العلمية‪ ،‬ما ل يأثم المتنازعون فيه‪ ،‬كتنازع‬
‫الصحابة ‪ :‬هل رأى محمد ربه؟ كتنازعهم في بعض النصوص ‪ :‬هل قاله النبي صلى ال عليه و‬
‫سلم أم ل؟ وما أراد بمعناه؟ وكتنازعهم في بعض الكلمات‪ ،‬هل هي من القرآن أم ل؟ وكتنازعهم في‬
‫بعض معاني القرآن والسنة ‪ :‬هل أراد ال ورسوله كذا وكذا؟ وكتنازع الناس في دقيق الكلم‪،‬‬
‫كمسألة الجوهر الفرد‪ ،‬وتماثل الجسام‪ ،‬وبقاء العراض‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فليس في هذا تكفيـر ول‬
‫تفسيق( )‪.(126‬‬

‫وأوضح الشيخ بطلن جعل العقائد هي الصول‪ ،‬والعبادات والمعاملت هي الفروع‪ ،‬فقال ‪) :‬الحق‬
‫أن الجليل من كل واحد من الصنفين مسائل أصول‪ ،‬والدقيق مسائل فروع‪ ،‬فالعلم بوجوب الواجبات‪،‬‬
‫كمباني السلم الخمس‪ ،‬وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة‪ ،‬كالعلم بأن ال على كل شيء قدير‪،‬‬
‫وبكل شيء عليم‪ ،‬وأنه سميع بصير‪ ،‬وأن القرآن كلم ال‪ ،‬ونحو ذلك من القضايا الظاهرة‬
‫المتواترة‪ ،‬ولهذا َمن جحد تلك الحكام العملية المجمع عليها َكَفر‪ ،‬كما أن َمن جحد هذه َكَفر‪ ..‬وقد‬
‫يكون القرار بالحكام العملية أوجب من القرار بالقضايا القولية‪ ،‬بل هذا هو الغالب‪ ،‬فإن القضايا‬
‫القولية يكفي فيها القرار بالجمل ‪ :‬وهو اليمان بال وملئكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت‪،‬‬
‫واليمان بالَقَدر خيره وشره‪ ..‬وأما العمال الواجبة‪ ،‬فلبد من معرفتها على التفصيل‪ ،‬لن العمل بها‬
‫ل يمكن إل بعد معرفتها مفصلة‪ ،‬ولهذا ُتِقّر المُة َمن ُيفصلها على الطلق وهم الفقهاء‪ ،‬وإن كان قد‬
‫ُينكر على َمن يتكلم في تفصيل الجمل القولية‪ ،‬للحاجة الداعية إلى تفصيل العمال الواجبة‪ ،‬وعدم‬
‫الحاجة إلى تفصيل الجمل التي وجب اليمان بها مجملة( )‪.(127‬‬

‫وعلل رحمه ال‪ ،‬عدم تأثيم المجتهد إذا أخطأ في مسائل أصولية أو فرعية بقوله ‪) :‬ليس كل َمن‬
‫اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق‪ ،‬ول يستحق الوعيد إل َمن ترك مأموًرا أو فعل محظوًرا‪،‬‬
‫وهذا قول الفقهاء والئمة)‪ ،(128‬وهو القول المعروف عن سلف المة‪ ،‬وقول جمهور المسلمين( )‬
‫‪.(129‬‬

‫ق بين خطأين ‪ :‬خطأ مؤاخذ عليه‪ ،‬وخطأ مغفور له‪ ،‬فيقول ‪َ) :‬من كان خطؤه لتفريطه فيما‬ ‫لكنه ُيَفّر ُ‬
‫ل‪ ،‬أو لتعديه حدود ال‪ ،‬بسلوك السبيل التي ُنهي عنها‪ ،‬أو‬‫يجب عليه من اتباع القرآن واليمان مث ً‬
‫ى من ال‪ ،‬فهو الظالم لنفسه‪ ،‬وهو من أهل الوعيد‪ ،‬بخلف المجتهد في طاعة‬ ‫لتباع هواه بغير هد ً‬
‫ال ورسوله باطًنا وظاهًرا‪ ،‬الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره ال ورسوله‪ ،‬فهذا مغفور له خطؤه‪،‬‬
‫كما قال تعالى ‪) :‬آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بال وملئكته وكتبه ورسله‬
‫ل نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا‪ (...‬إلى قوله ‪) :‬ربنا ل تؤاخذنا إن‬
‫نسينا أو أخطأنا( )البقرة ‪ ،(286-285 :‬وقد ثبت في صحيح مسلم‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه و‬
‫سلم‪ ،‬أن ال قال ‪) :‬قد فعلتُ( )‪ ،(130‬وكذلك ثبت فيه من حديث ابن عباس)‪ (131‬رضي ال‬
‫عنهما ‪) :‬أن النبي صلى ال عليه و سلم لم يقرأ بحرف من هاتين اليتين ومن سورة الفاتحة إل‬
‫أعطي ذلك( )‪ ،(132‬فهذا يبين استجابة هذا الدعاء للنبي والمؤمنين‪ ،‬وأن ال ل يؤاخذهم إن نسوا‬
‫أو أخطأوا( )‪.(133‬‬

‫وإذا كان خطأ المجتهد من علماء المسلمين مغفوًرا له‪ ،‬فإنه ل يجوز تكفير أحد منهم بمجرد الخطأ‪،‬‬
‫سق ول ُيؤثم‪ ،‬وفي هذا الشأن يقول شيخ السلم ‪) :‬إن علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا‬
‫بل ول ُيَف ّ‬
‫باجتهادهم‪ ،‬ل يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلمه‪ ...‬فإن تسليط الجهال على تكفير‬
‫علماء المسلمين من أعظم المنكرات‪ ،‬وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض‪ ،‬الذين يكّفرون أئمـة‬
‫المسلمين‪ ،‬لما يعتقدون أنهم أخطأوا فيه من الدين‪ ،‬وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء‬
‫المسلمين ل يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض‪ ،‬بل كل أحد يؤخذ من قوله وُيترك إل رسول ال‬
‫ض كلِمه لخطأ أخطأه‪ ،‬يكفر‪ ،‬ول يفسق‪ ،‬بل ول يأثم‪،‬‬ ‫صلى ال عليه و سلم‪ ،‬وليس ُكل َمن ُيترك بع ُ‬
‫فإن ال تعالى قال في دعاء المؤمنين ‪) :‬ربنا ل تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا( )البقرة ‪ ،(286 :‬وفي‬
‫الصحيح عن النبي صلى ال عليه و سلم قال ‪) :‬إن ال قال ‪ :‬قد فعلتُ( )‪.(135) ((134‬‬

‫بل يرى الشيخ أن )دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطأوا‪ ،‬هو من أحق الغراض‬
‫الشرعية‪.(136) (...‬‬

‫على أنه ينبغي أن يعلم أن رفع الثم عن العالم المجتهد إذا أخطـأ‪ ،‬ل يعني الغضاء عن البدعة التي‬
‫أخطأ فيها‪ ،‬فقد بّين رحمه ال أن إثمها يزول للجتهاد أو غيره‪ ،‬إل أنه يجب بيان حالها‪ ،‬وعدم‬
‫القتداء بمن استحلها‪ ،‬وأن ل يقصر أحد في طلب العلم المبّين لحقيقتها)‪ ،(137‬ذلك أن الثم مزال‬
‫عن المجتهد‪ ،‬ل عن وجه المخالفة من المبتدع‪.‬‬

‫وتأكيًدا لما سبق‪ ،‬فإن الشيخ يقرر أن مسلك أهل السنة‪ ،‬عدم تكفير المجتهد المخطئ في المسائل‬
‫صُده متابعُة الرسول صلى ال عليه و سلم‬ ‫العملية أو المسائل العتقادية‪ ،‬فيقول ‪) :‬إن المتأّول الذي َق ْ‬
‫سق إذا اجتهد فأخطأ‪ ،‬وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية‪ ،‬وأما مسائل العقائد‬ ‫ل ُيَكّفر ول ُيَف ّ‬
‫فكثيــر من النــاس كّفــروا المخطئين فيهــا‪ ،‬وهــذا القــول ل ُيعرف عن أحد من الصحابة والتابعين‬
‫لهم بإحسان‪ ،‬ول ُيعرف عن أحد من أئمة المسلمين‪ ،‬وإنما هو في الصل من أقوال أهل البدع‪،‬‬
‫الذين يبتدعون بدعة‪ ،‬ويكفرون من خالفهم‪ ،‬كالخوارج والمعتزلة والجهمية‪ ،‬ووقع ذلك في كثير من‬
‫أتباع الئمة‪ ،‬كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم‪ ،‬وقد يسلكون في التكفير ذلك‪ ،‬فمنهم‬
‫من ُيكّفر أهل البدع مطلًقا‪ ،‬ثم يجعل كل َمن خرج عما هو عليه‪ ،‬من أهل البدع‪ ..‬وهذا بعينه قول‬
‫ضا ل يوجد في طائفة من أصحاب الئمة الربعة ول‬ ‫الخوارج والمعتزلة والجهمية‪ ،‬وهذا القول أي ً‬
‫غيرهم‪ ،‬وليس فيهم من كّفر كل مبتدع‪ ،‬بل المنقولت الصريحة عنهم تناقض ذلك‪ ،‬ولكن قد ُينقل‬
‫عن أحدهم أنه كّفر َمن قال بعض القوال‪ ،‬ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر‪ ،‬ول يلزم إذا‬
‫ل َمن قاله مع الجهل والتأويل( )‪ ..(138‬لذا كان )من عيوب أهل البدع‪،‬‬ ‫كان القول كفًرا أن ُيكّفر ك ّ‬
‫طئــون ول يكّفرون( )‪.(139‬‬ ‫خّ‬
‫ضا‪ ،‬ومن ممادح أهل العلم أنهــم ُي َ‬ ‫تكفير بعضهم بع ً‬

‫الصل الثالث ‪:‬عذر المبتدع ل يقتضي إقراره على ما أظهره من بدعة‪ ،‬ول إباحة اّتباعه‪ ،‬بل يجب‬
‫النكار عليه فيما يسوغ إنكاره‪ ،‬مع مراعاة الدب في ذلك‬

‫يرى ابن تيمية أن المجتهد المبتدع ل ُيقر على إظهار البدعة والدعوة إليها)‪ ،(140‬متى تبينت‬
‫ل )‪ (141‬في هذا الشرع‪ ،‬أي‬ ‫مخالفتها للكتاب والسنة‪ ،‬بل ل يجوز متابعته فيها‪) ،‬نعم‪ ،‬قد يكون متأو ً‬
‫الذي ابتدعه‪ ،‬فُيغفر له لجل تأويله‪ ،‬إذا كان مجتهًدا الجتهاد الذي ُيعفى معه عن المخطئ‪ ،‬وُيثاب‬
‫ل قد‬
‫ضا على اجتهاده‪ ،‬لكن ل يجوز اتباعه في ذلك‪ ،‬كما ل يجوز اتباع سائر َمن قال أو عمل عم ً‬ ‫أي ً‬
‫علم الصواب في خلفه‪ ،‬وإن كان القائل أو الفاعل مأجوًرا أو معذوًرا‪ ،‬وقد قال سبحانه وتعالى ‪:‬‬ ‫ُ‬
‫)اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباًبا من دون ال والمسيح ابن مريم وما أمروا إل ليعبدوا إلًها واحًدا ل‬
‫إله إل هو سبحانه عما يشركون( )التوبة ‪ ،(31 :‬قال عـدي بن حاتم)‪ (142‬للنبي صلى ال عليه و‬
‫سلم ‪) :‬يـا رسـول ال! ما عبـــدوهم‪ .‬قـــال ‪) :‬ما عبدوهم‪ ،‬ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم‪،‬‬
‫وحّرموا عليهم الحلل فأطاعوهم( )‪ (143‬فمن أطاع أحًدا في دين لم يأذن به ال‪ ،‬في تحليل أو‬
‫تحريم أو استحباب أو إيجاب‪ ،‬فقد لحقه من هذا الذم نصيب( )‪.(144‬‬

‫ويؤكد رحمه ال‪ ،‬أنه ل يكون معذوًرا من اتبع مخالًفا لمر ال ورسوله صلى ال عليه و سلم مما‬
‫هو ظاهر بّين‪ ،‬فيقول ‪) :‬والذي يصدر عنه أمثال هذه المور)‪- (145‬أي المخالفة‪ -‬إن كان معذوًرا‬
‫بقصور في اجتهاده‪ ،‬أو غيبة في عقله‪ ،‬فليس َمن اتبعه بمعذور‪ ،‬مع وضوح الحق والسبيل‪ ،‬وإن‬
‫ح‪ ،‬فيجب بيان المحمود والمذموم‪،‬‬
‫ل صال ٍ‬
‫ن قصٍد‪ ،‬وعم ٍ‬
‫حس ِ‬
‫كانت سيئته مغفورة‪ ،‬لما اقترن بها من ُ‬
‫سا للحق والباطل( )‪.(146‬‬ ‫لئل يكون لب ً‬

‫وبّين متى تجب المتابعة في المور الشرعية‪ ،‬ومتى تمتنع‪ ،‬وأحوال المجتهدين معها‪ ،‬فقال ‪ :‬إن‬
‫)المور ‪-‬الشرعية‪ُ -‬تعطى حقها من الكتاب والسنة‪ ،‬فما جاء به الكتاب والسنة من الخبر والمر‬
‫والنهي وجب اتباعه‪ ،‬ولم ُيْلَتفت إلى َمن خالفه كائًنا َمن كان‪ ،‬ولم يجز اتباع أحد في خلف ذلك كائًنا‬
‫َمن كان‪ ،‬كما دل عليه الكتاب والسنة)‪ (147‬وإجماع المة‪ ،‬من اتباع الرسول وطاعته‪ ...‬فإن كل‬
‫أحد من الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله وُيترك إل رسول ال صلى ال عليه و سلم‪ ،‬وما من الئمة‬
‫ن مخالفتها للكتاب والسنة‪ -‬فهو ل يتبع عليها‪ ،‬مع أنه ل ُيذم عليها( )‬
‫إل من له أقوال وأفعال ‪َ-‬تَبّي َ‬
‫‪.(148‬‬

‫أما ما )لم ُيعلم قطًعا مخالفتها للكتاب والسنة‪ ،‬بل هي من موارد الجتهاد‪ ،‬التي تنازع فيها أهل العلم‬
‫واليمان‪ ،‬فهذه المور قد تكون قطعية عند بعض من بّين ال له الحق فيها‪ ،‬لكنه ل يمكنه أن ُيلزم‬
‫ضا‪ ،‬فهذه تسلم لكل مجتهد ومن قلده‪...‬‬‫الناس بما بان له ولم يبن لهم‪ ...‬وقد تكون اجتهادية عنده أي ً‬
‫بحيث ل ينكر ذلك عليهم( )‪ ،(149‬وأما الذي ل يسلم إليه حاله فهو آتي المحرمات وتارك‬
‫الواجبات‪ ،‬من غير تأويل سائغ أو عــذر مشـــروع‪ ،‬فإنــه يجب النكــار عليه بحسب ما جاءت به‬
‫الشريعة‪ ،‬من اليد واللسان والقلب)‪ ،(150‬ويلحق به كل من أظهر مقالة ُتخالف الكتاب والسنة‪،‬‬
‫فإنهــا من المنكــر الذي أمر ال بالنهــي عنـــه)‪ (151‬في قولـه تعالـى ‪) :‬ولتكن منكم أمة يدعون‬
‫إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر( )آل عمران ‪ ..(104 :‬أما َمن اشتبه أمره‬
‫فُيتوقف معه‪ ،‬فإن المام أن يخطئ في العفو‪ ،‬خير من أن يخطئ في العقوبة )‪.(152‬‬

‫وإذا كان الجتهاد يغفر للعالم خطأه‪ ،‬فإن هذا يقتضي التأدب معه‪ ،‬ومراعاة حقه عند إنكار ما أظهره‬
‫من بدعة وبيان مخالفته للسنة‪ ،‬وفي هذا يقول رحمه ال ‪) :‬وإن كان المخطئ المجتهد مغفوًرا له‬
‫خطؤه‪ ،‬وهو مأجور على اجتهاده‪ ،‬فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب‪ ،‬وإن‬
‫كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله‪ ،‬ومن علم منه الجتهاد السائغ‪ ،‬فل يجوز أن ُيذكر على وجه الذم‬
‫والتأثيم له‪ ،‬فإن ال غفر له خطأه‪ ،‬بل يجب لما فيه من اليمان والتقوى موالته ومحبته‪ ،‬والقيام بما‬
‫أوجب ال له من حقوقه‪ ،‬من ثناء ودعاء وغير ذلك( )‪.(153‬‬

‫الصل الرابع ‪ :‬عدم الحكم على من وقع في بدعة أنه من أهل الهواء والبـدع‪ ،‬ول معاداته بسببها‪،‬‬
‫إل إذا كانت البدعة مشتهرة مغلظة عند أهل العلم بالسنة‬
‫بّين ابن تيمية أن )البدعة التي يعد بها الرجل من أهـل الهواء‪ ،‬ما اشتهر عند أهل العلم مخالفتها‬
‫للكتاب والسنة‪ ،‬كبدعة الخوارج والروافض والقدرية)‪ (154‬والمرجئة( )‪ ..(155‬وغلظت أقوال‬
‫أصحابها فيها حتى أخرجتهم من عداد أهل السنة‪ ،‬وفي هذا يقول عند عرضه لقوال هؤلء انتهاًء‬
‫ببدعة المرجئة ‪) :‬أما المرجئة فليسوا من هذه البدع المعظلة)‪ ،(156‬بل قد دخل في قولهم طوائــف‬
‫من أهل الفقــه والعبــادة‪ ،‬وما كانوا يعدون إل من أهل السنة‪ ،‬حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من‬
‫القوال المغلظة( )‪ ،(157‬ويلحق بهؤلء‪ ،‬بل هم أشد بدعة‪) ،‬الحجاج إلى القبور‪ ،‬والمتخذون لها‬
‫أوثاًنا ومساجد وأعياًدا‪ ،‬فهؤلء لم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم منهم طائفة ُتعرف‪،‬‬
‫ول كان في السلم قبر ول مشهد ُيحج إليه‪ ،‬بل هذا إنما ظهر بعد القرون الثلثة‪ ..‬والبدعة كلما‬
‫ل ما كان أخفى‬ ‫كانت أظهر مخالفة للرسول صلى ال عليه و سلم يتأخر ظهورها‪ ،‬وإنما يحدث أو ً‬
‫مخالفة للكتاب والسنة‪ ،‬كبدعة الخوارج( )‪ ،(158‬وهكذا فإن غلظ البدعة ليس مقصوًرا على بدع‬
‫القرون الولى‪ ،‬فإن بدع الشرك ظهرت بعد ذلك‪ ،‬وهي أشد وأغلظ وأعظم خطًرا‪.‬‬

‫ويرى شيخ السلم ابن تيمية أن الذين يعدون من أهل الهواء والبدع‪ ،‬هم من اتصفوا بما يلي ‪:‬‬

‫ل يفارقون به جماعة المسلمين‪ ،‬يوالون عليه ويعادون)‪.(159‬‬


‫أ ـ أنهم يجعلون ما ابتدعوه‪ ،‬قو ً‬

‫ب ـ أنهم ينازعون فيما تواترت به السنة)‪.(160‬‬

‫وبهذا يتميز أهل السنة عن أهل البدعة‪ ،‬فإن الذين وقعوا في البدعة )إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولً‬
‫يفارقون به جماعة المسلمين‪ ،‬يوالون عليه ويعادون‪ ،‬كان من نوع الخطأ‪ ،‬وال سبحانه وتعالى يغفر‬
‫للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك‪ ،‬ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف المة وأئمتهـــا‪ ،‬لهــم مقــالت‬
‫قالـوها باجتهــاد‪ ،‬وهي تخــالف ما ثبت في الكتاب والسنة‪ ،‬بخلف من والى ُمَواِفَقُه‪ ،‬وعادى‬
‫خاِلَفه دون ُمَواِفَقه في مسائل الراء‬
‫سق ُم َ‬
‫خاِلَفُه‪ ،‬وفّرق بين جماعة المسلمين‪ ،‬وكّفر وف ّ‬
‫ُم َ‬
‫والجتهادات‪ ،‬واستحل قتال مخالفه دون موافقه‪ ،‬فهؤلء من أهل التفرق والختلفات( )‪.(161‬‬

‫وكذلك فإن أئمة المسلمين متفقون على تبديع َمن خالف في المور المعلومة بالضطرار‪ ،‬عند أهل‬
‫العلم بسنة رسول ال صلى ال عليه و سلم كالحاديث المتواترة عندهم في شفاعته وحوضه‪،‬‬
‫وخروج أهل الكبائر من النار‪ ،‬والحاديث المتواترة عندهم في الصفات والَقَدر والعلو والرؤية‪،‬‬
‫وغير ذلك من الصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته‪ ،‬كما تواترت عندهم عنه‪ ،‬بخــلف من‬
‫نــازع في مســائل الجتهــاد‪ ،‬التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن عنه‪ ،‬كالتنازع بينهم في الحكم‬
‫عة وغير ذلك)‪.(162‬‬ ‫سامة والُقْر َ‬
‫بشاهد ويمين‪ ،‬وفي الَق َ‬

‫فمن كانت بدعته غليظة‪ ،‬ظاهرة المخالفة للسنة عند أهل العلم‪ ،‬وجبت عداوته بقدر بدعته‪ ،‬بل يرى‬
‫شيخ السلم عقوبة َمن واله‪ ،‬فيقول في معرض رده على التحادية‪ ،‬وينتظم معهم َمن كان مثلهم ‪:‬‬
‫عِرف‬‫ظم كتبهم‪ ،‬أو ُ‬
‫ب عنهم‪ ،‬أو أثنى عليهم‪ ،‬أو ع ّ‬
‫)ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم‪ ،‬أو ذ ّ‬
‫بمساعدتهم ومعاونتهم‪ ،‬أو كره الكلم فيهم‪ ،‬أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلم ل يدري ما هو؟ أو َمن‬
‫قال إنه صنف هذا الكتاب؟ وأمثال هذه المعاذير التي ل يقولها إل جاهل أو منافق‪ ،‬بل تجب عقوبة‬
‫كل من عرف حالهم‪ ،‬ولم يعاون على القيام عليهم‪ ،‬فإن القيام على هؤلء من أعظم الواجبات‪ ،‬لنهم‬
‫ق من المشايخ والعلماء والملوك والمراء‪ ،‬وهم يسعون في الرض‬ ‫خْل ٍ‬
‫أفسدوا العقول والديان على َ‬
‫فساًدا‪ ،‬ويصدون عن سبيل ال( )‪.(163‬‬
‫أما ما كان دون ذلك من المسائل التي وقع فيها خلف‪ ،‬فإنه ل يستوجب الفرقة والمعاداة‪ ،‬والحكم‬
‫على المخالف من أهل البدعة والهوى‪ ،‬فقد ذكر ابن تيمية أن من مسائل العتقاد التي وقع فيها‬
‫خلف بين أهل السنة والتباع‪ ،‬مسألة رؤية الكفار ربهم في الخرة‪ ،‬فجمهور أهل السنة يرون أن‬
‫ن َأظَْهَر التوحيَد من منافقي‬
‫الكفار محجوبون عنها على الطلق‪ ،‬ومن العلماء َمن يرى أنه يراه َم ْ‬
‫عَرصات يوم القيامة‪ ،‬ثم يحتجب عنهم)‪ (164‬عقوبة لهم‪.‬‬ ‫هذه المة والكفار‪ ،‬في َ‬

‫لكــن أمـــــام هــــذه المســألـة‪ ،‬وغيـــرها من مثيــلتــها‪ ،‬تجب مراعــاة الداب التالية ‪:‬‬

‫أ ـ )أن َمن سكت عن الكلم في هذه المسألة‪ ،‬ولم يدع إلى شيء‪ ،‬فإنه ل يحل هجره‪ ،‬وإن كان يعتقد‬
‫أحد الطرفين‪ ،‬فإن البدع التي هي أعظم منها‪ ،‬ل ُيهجر فيها إل الداعية دون الساكت‪ ،‬فهذه أولى‪.‬‬

‫ب ـ أنه ل ينبغي لهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة محنة وشعاًرا‪ ،‬يفضلون بها بين إخوانهم‬
‫وأضدادهم‪ ،‬فإن مثل هذا مما يكرهه ال ورسوله صلى ال عليه و سلم‪.‬‬

‫جـ ـ وكذلك ل يفاتحوا فيها عوام المسلمين‪ ،‬الذين هم في عافية وسلم عن الفتن‪ ،‬ولكن إذا سئل‬
‫الرجل عنها‪ ،‬أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك‪ ،‬ألقى إليه مما عنده من العلم ما يرجو النفع به‪،‬‬
‫بخلف اليمان بأن المؤمنين يرون ربهم في الخرة‪ ،‬فإن اليمان بذلك فرض واجب‪ ،‬لما قد تواتر‬
‫فيها عن النبي صلى ال عليه و سلم‪ ،‬وصحابته وسلف المة( )‪.(165‬‬

‫الصل الخامس ‪:‬ل يحكم بالهلك جزًما على أحد خالف في العتقاد أو غيره‪ ،‬ول على طائفة معينة‬
‫بأنها من الفرق الضالة الثنتين والسبعين‪ ،‬إل إذا كانت المخالفة غليظة‬

‫ل ريب أن نجاة الفــراد والجماعـــات تكــون في السيــر على مثـل مـا ســـار عليــه رســول ال‬
‫صلى ال عليه و سلم وأصحابـــه رضــي ال عنهــم‪ ،‬لقـــول رســول ال صلى ال عليه و سلم ‪:‬‬
‫ث وسبعين فرقًة ‪ :‬اثنتان وسبعون في النار‪ ،‬وواحدٌة في الجنة‪ ،‬وهي َمن كان‬ ‫ق ُأّمِتي على ثل ٍ‬
‫)َتفتر ُ‬
‫ل ما أنا عليه اليوم وأصحابي( )‪ ،(166‬هذه هي الفرقة الناجية‪ ..‬فما مصير َمن خالف‬ ‫على ِمْث ِ‬
‫اعتقادها؟ وهل يعد من الثنتين والسبعين فرقــة التي أشــار إليهـا الحديث؟‬

‫يبين ابن تيمية أنه )ليس كل َمن خالف في شيء ِمن هذا العتقاد يجب أن يكون هالًكا‪ ،‬فإن المنازع‬
‫قد يكون مجتهًدا مخطًئا يغفر ال خطأه‪ ،‬وقد ل يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة‪،‬‬
‫وقد يكون له من الحسنات ما يمحو ال به سيئاته‪ ..‬وإذا كانت ألفاظ الوعيـــد المتناولــة له‪ ،‬ل يجــب‬
‫أن يدخــل فيهــــا المتـــأول والقـــانـت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك‪ ،‬فهذا أولى‪،‬‬
‫بل موجب هذا الكلم أن من اعتقد ذلك نجا في هذا العتقاد‪ ،‬ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجًيا‪ ،‬وقد‬
‫ل يكون ناجًيا‪ ،‬كما يقال ‪َ :‬من صمت نجا( )‪ ،(167‬فليس كل من تكّلم هلك‪.‬‬

‫كما يوضح ابن تيمية أنه ل ُيحكم على طائفة معينة بأنها من الفرق الضالة الثنتين والسبعين التي‬
‫ذكرها رسول ال صلى ال عليه و سلم في الحديث‪ ،‬وأنه ل سبيل إلى الجزم بأنها واحدة منها‪ ،‬لن‬
‫)الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لبد له من دليل‪ ،‬فإن ال حّرم القول‬
‫صا( )‪ ،(168‬قال تعالى ‪) :‬قل إنما حّرم ربي‬ ‫بل علم عموًما‪ ،‬وحّرم القول عليه بل علم خصو ً‬
‫الفواحش ما ظهر منها وما بطن والثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بال ما لم ينزل به سلطانا(‬
‫)العراف ‪.(33 :‬‬

‫ل طيًبا ول تتبعوا خطوات الشيطان إنه‬


‫وقــال تعــــالى ‪) :‬يا أيها الناس كلوا مما في الرض حل ً‬
‫لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على ال ما ل تعلمون( )البقرة ‪-168 :‬‬
‫‪ .(169‬وقـــال تعالى ‪) :‬ول تقف ما ليس لك به علم ( )السراء ‪.(36 :‬‬

‫نعم ورد تعيين بعض الفرق عن إمامين من أهل السنة همــا ‪ :‬يوسف بن أسباط)‪ ،(169‬وعبد ال‬
‫بن المبارك)‪ ،(170‬أنهما قال ‪ :‬أصول البدع أربعة ‪ :‬الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة‪ ،‬فقيل‬
‫لبن المبارك ‪ :‬والجهمية‪ ،‬فأجاب ‪ :‬بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى ال عليه و سلم‪ ،‬وكان يقول‬
‫‪ :‬إنا لنحكي كلم اليهود والنصارى‪ ،‬ول نستطيع أن نحكي كلم الجهمية‪ ..‬وهذا الذي قاله‪ ،‬اتبعه‬
‫عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم‪ ،‬قالوا ‪ :‬إن الجهمية كفار‪ ،‬فل يدخلون في الثنتين‬
‫والسبعين فرقة‪ ،‬كما ل يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون السلم وهم الزنادقة)‬
‫‪.(171‬‬

‫ت ‪ :‬يا أبا محمد! إنك بقية‬


‫وروى المسيب بن واضح)‪ (172‬أنه قال ‪) :‬أتيت يوسف بن أسباط‪ ،‬فقل ُ‬
‫ممن مضى من العلماء‪ ،‬وأنت حجة على من لقيت‪ ،‬وأنت إمام سنة‪ ،‬ولم آتك أسمع منك الحاديث‪،‬‬
‫ولكن أتيتك أسألك عن تفسيرها‪ ،‬وقد جاء هذا الحديث ‪) :‬إن بني إسرائيل افترقت على إحدى‬
‫وسبعين فرقة‪ ،‬وإن هذه المة ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة( )‪ ،(173‬فما هذه الفرق حتى‬
‫نجتنبهم؟ فقال ‪ :‬أصلها أربعة…( )‪.(174‬‬

‫فهذه الطوائف اشتهرت أقوالها المخالفة مخالفة غليظة للكتاب والسنة‪ ،‬وافترقت عن أهل السنة‬
‫والجماعة‪ ،‬افتراًقا بيًنا في الصول من الدين مما ثبت بالضرورة‪ ،‬فساغ لهذا المام الحكم عليها‬
‫بأنها من الفرق الضالة الثنتين والسبعين)‪.(175‬‬

‫الصل السادس ‪:‬التحري في حال الشخص المعين‪ ،‬المرتكب لموجب الكفر أو الفسق‪ ،‬قبل تكفيره أو‬
‫تفسيقه‪ ،‬بحيث ل يكفر ول يفسق أحد إل بعد إقامة الحجة عليه‬

‫نبه ابن تيمية إلى عظم مسألتي التكفير والتفسيق عموًما‪ ،‬فقال ‪) :‬اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق‬
‫هي من مسائل السماء والحكام‪ ،‬التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الخرة‪ ،‬وتتعلق بها‬
‫الموالة والمعاداة‪ ،‬والقتل والعصمة‪ ،‬وغير ذلك في الدار الدنيا‪ ،‬فإن ال سبحانه أوجب الجنة‬
‫للمؤمنين‪ ،‬وحّرم الجنة على الكافرين( )‪.(176‬‬

‫ولعظم المسألتين وخطرهما‪ ،‬فإن إطلق الكفر أو الفسق على أحد ل يكون إل بموجب قطعي‪،‬‬
‫ولسيما الكفر فإنه يكون )بمثل تكذيب الرسول صلى ال عليه و سلم فيما أخبر به‪ ،‬أو المتناع عن‬
‫متابعته مع العلم بصدقه‪ ،‬مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم( )‪ ،(177‬ويتعلق بما يتعلق به اليمان‪،‬‬
‫وكلهما متعلق بالكتاب والسنة‪ ،‬وهما متضادان‪ ،‬فل إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته‪ ،‬ول كفر‬
‫مع تصديقـــه وطاعتــه‪ ،‬وحكمــه ل يتبين إل عن طريق الشرع)‪ ،(178‬فليس لحد أن يكفر أحًدا‬
‫بهواه‪ ،‬لن التكفير حق ل تعالى‪ ،‬والذين يكّفرون بهواهم هم المبتدعة‪ ،‬كالروافض الذين كّفروا أبا‬
‫بكر)‪ ،(179‬وعمر)‪ (180‬رضي ال عنهما‪ ،‬والخوارج الحرورية)‪ (181‬الذين كّفروا علًيا رضي‬
‫ال عنه‪ ،‬وقاتلوا الناس على الدين‪) ،‬حتى يرجعــوا عمــا ثبت بالكتــاب والسنــــة وإجمــاع‬
‫الصحابــــة‪ ،‬إلى ما ابتدعه هؤلء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن‪ ..‬ومع هذا‪ ،‬فقد صّرح علي‬
‫رضي ال عنه بأنهم مؤمنون‪ ،‬ليسوا كفاًرا ول منافقين‪ ،‬وهذا بخلف ما كان يقوله بعض الناس‪،‬‬
‫كأبي إسحاق السفراييني)‪ (182‬ومن اتبعه‪ ،‬يقولون ‪ :‬ل نكّفر إل من يكّفرنا‪ ،‬فإن الكفر ليس حًقا‬
‫ب على مــن يكــذب عليـه‪ ،‬ول يفعل الفاحشة بأهل َمن‬ ‫لهم بل هو حق ل‪ ،‬وليس للنســان أن َيْكِذ َ‬
‫فعل الفاحشة بأهله‪ ،‬ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك‪ ،‬ولو قتله‬
‫بتجريع خمر أو تلوط لم يجز قتله بمثل ذلك‪ ،‬لن هذا حراٌم‪ ،‬لحق ال( )‪.(183‬‬

‫ويصّرح في موضع آخر بأن هذا المسلك هو مسلك أهل العلم والسنة‪ ،‬فيقول ‪) :‬فلهذا كان أهل العلم‬
‫ف يكّفرهم‪ ،‬لن الكفر حكم شرعي‪ ،‬فليس‬ ‫والسنة ل يكّفرون َمن خالفهم‪ ،‬وإن كان ذلك المخال ُ‬
‫للنسان أن يعاقب بمثله‪ ،‬كمن كذب عليك‪ ،‬وزنى بأهلك‪ ،‬ليس لك أن تكذب عليه‪ ،‬ول تزني بأهله‪،‬‬
‫لن الكذب والزنا حرام لحق ال تعالى‪ ،‬وكذلك التكفير حق ل‪ ،‬فل ُيَكّفر إل من َكّفره ال ورسوله( )‬
‫‪.(184‬‬

‫كما أن أهل السنة ل يكّفرون أحًدا من أهل القبلة بالذنب والمعصية‪ ،‬وإنما ذلك من فعل الخوارج‬
‫الذين يكّفرون بمطلق الذنوب)‪ ،(185‬وفي هذا يقول رحمه ال ‪) :‬من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون‬
‫ل يجعلونها واجبة في الدين‪ ،‬بل يجعلونها من اليمان الذي لبد منه‪ ،‬ويكّفرون َمن خالفهم فيها‬ ‫أقوا ً‬
‫ويستحلون دمه‪ ،‬كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم‪ ..‬وأهل السنة ل يبتدعون‬
‫ل لدمائهم‪ ،‬كما لم تكّفر‬
‫ل‪ ،‬ول يكّفرون من اجتهد فأخطأ‪ ،‬وإن كان مخالًفا لهم‪ ،‬مكّفرا لهم‪ ،‬مستح ً‬ ‫قو ً‬
‫الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان)‪ (186‬وعلي رضي ال عنهما‪ ،‬ومن والهما‪ ،‬واستحللهـم‬
‫لدماء المسلمين المخالفين لهم( )‪.(187‬‬

‫بل يقرر شيخ السلم )أنه ل ُيجعل أحٌد بمجرد ذنب يذنبــه‪ ،‬ول ببدعة ابتدعها‪ ،‬ولو دعا الناس‬
‫إليها‪ ،‬كافًرا في الباطن إل إذا كان منافًقا‪ ،‬فأما َمن كان في قلبه اليمان بالرسول وما جاء به‪ ،‬وقد‬
‫ل‪ ،‬والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة‬ ‫غلط في بعض ما تأوله من البدع‪ ،‬فهذا ليس بكافر أص ً‬ ‫َ‬
‫ل للمة وتكفيًرا لها‪ ،‬ولم يكن في الصحابة من يكّفرهم‪ ،‬ول علي بن أبي طالب ول غيره‪ ،‬بل‬ ‫وقتا ً‬
‫حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين( )‪.(188‬‬

‫طا وموانع تقتضي انتفاء العذر‪ ،‬كالجهل‬


‫ويعلل ابن تيمية منع إطلق الكفر على المعين‪ ،‬أن له شرو ً‬
‫بالحكم وثبوت الحكم بالعلم‪) ،‬فل يلزم إذا كان القول كفًرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل‪،‬‬
‫فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الخرة في حقه‪ ...‬وإذا لم يكونوا في‬
‫نفس المر كفاًرا‪ ،‬لم يكونوا منافقين‪ ،‬فيكونون من المؤمنين( )‪.(189‬‬

‫ذلك أن الكفر حكم شرعي‪ ،‬ل ُيحكم به على أحٍد بمجرد الخطأ والغلط‪ ،‬بل لبد من إقامة الحجة على‬
‫المحكوم عليه‪ ،‬وفي هذا الشأن يقول رحمه ال ‪) :‬ليس لحد أن يكّفر أحًدا من المسلمين وإن أخطأ‬
‫وغلط‪ ،‬حتى ُتقام عليه الحجة‪ ،‬وُتبين له المحجة‪ ،‬وَمن ثبت إسلمه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك‪ ،‬بل‬
‫ل يزول إل بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة( )‪.(190‬‬

‫وقد حّذر الشيخ من تكفير أو تفسيق أو نسبة معصية إلى مجتهد معين‪ ،‬أخطأ فيما يسوغ الجتهاد فيه‬
‫من المسائل العقدية والعملية‪ ،‬فيقول ‪) :‬إني من أعظم الناس نهًيا عن أن ُينسب معين إلى تكفير‬
‫علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية‪ ،‬التي من خالفها كان كافًرا تارة‪،‬‬
‫وتفسيق ومعصية‪ ،‬إل إذا ُ‬
‫وفاسًقا أخرى‪ ،‬وعاصًيا أخرى‪ ،‬وإني أقرر أن ال قد غفر لهذه المة خطأها‪ ،‬وذلك يعم الخطأ في‬
‫المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية‪ ،‬ومازال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل‪ ،‬ولم‬
‫شَريح)‪ (191‬قراءة من قرأ )بل‬ ‫يشهد أحد منهم على أحد ل بكفـر ول بفسق ول معصية‪ ،‬كما أنكر ُ‬
‫ت ويسخرون( )الصافات ‪ ،(12 :‬وقـــال ‪ :‬إن ال ل يعجب‪ ،‬فبلــغ ذلك إبراهيم النخعـــي)‬ ‫عجب ُ‬
‫شريــح شاعـــر يعجبه علمـــه‪ ،‬كـــان عبد ال)‪ (193‬أعلم منه‪ ،‬وكان يقرأ ‪:‬‬ ‫‪ ،(192‬فقال ‪ :‬إنما ُ‬
‫)بل عجبتَ( )‪ ..(194‬وكما نازعت عائشة)‪ (195‬رضي ال عنها‪ ،‬وغيرها من الصحابة في رؤية‬
‫محمد صلى ال عليه و سلم ربه‪ ،‬وقالت ‪َ) :‬من زعم أن محمًدا رأى ربه فقد أعظم على ال الفرية( )‬
‫‪ ،(196‬ومع هذا ل تقول لبن عباس رضي ال عنهما‪ ،‬ونحوه من المنازعين لها ‪ :‬إنه مفتر على‬
‫ال‪ ..‬وكما نازعت في سماع الميت كلم الحي‪ ،‬وفي تعذيب الميت ببكاء أهله‪ ،‬وغير ذلك‪ ..‬وقد آل‬
‫الشر بين السلف إلى القتتال‪ ،‬مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميًعا مؤمنتان‪ ،‬وأن القتتال ل‬
‫يمنع العدالة الثابتة لهم‪ ،‬لن المقاتل وإن كان باغًيا فهو متأول‪ ،‬والتأويل يمنع الفسوق( )‪.(197‬‬

‫وُيفّرق الشيخ بين التكفير العام والتكفير المعين‪ ،‬فهو يرى )أن التكفير العام كالوعيد العام‪ ،‬يجب‬
‫ل ُمتلّبسه‪ ،‬أما الكفر المعين فل‬
‫القول بإطلقه وعمومه( )‪ ،(198‬وفق الموجب‪ ،‬بغض النظر عن حا ِ‬
‫ُيحكم به على أحد إل إذا توافرت فيه شروط الكفر‪ ،‬وانتفت عنه موانعه‪ ،‬دون تفريق بين المسائل‬
‫العقدية والعملية‪ ..‬وتقريًرا لهـذا المعنــى يقـول رحمه ال ‪) :‬وحقيقة المر في ذلك‪ ،‬أن القول قد‬
‫يكون كفًرا‪ ،‬فُيطلق القول بتكفير صاحبه‪ ،‬ويقال ‪ :‬من قال كذا فهو كافر‪ ،‬لكن الشخص المعين الذي‬
‫قاله ل يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها‪ ،‬وهذا كما في نصوص الوعيد‪ ،‬فإن ال‬
‫سبحانه وتعالى يقول ‪) :‬إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلًما إنما يأكلون في بطونهم ناًرا وسيصلون‬
‫سعيًرا ( )النساء ‪ .(10 :‬فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق‪ ،‬لكن الشخص المعين ل ُيشهد عليه‬
‫بالوعيد‪ ،‬فل يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار‪ ،‬لجواز أن ل يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت‬
‫مانع‪ ،‬فقد ل يكون التحريم بلغه‪ ،‬وقد يتوب من فعل المحرم‪ ،‬وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو‬
‫عقوبة ذلك المحرم‪ ،‬وقد ُيبتلى بمصائب تكفر عنه‪ ،‬وقد يشفع فيه شفيع مطاع‪ ،‬وهكذا القوال التي‬
‫يكفر قائلها‪ ،‬قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق‪ ،‬وقد تكون عنده ولم تثبت‬
‫عنده‪ ،‬أو لم يتمكن من فهمها‪ ،‬وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره ال بها‪ ،‬فمن كان من المؤمنين‬
‫مجتهًدا في طلب الحق وأخطأ‪ ،‬فإن ال يغفر له خطأه كائًنا ما كان‪ ،‬سواء كان في المسائل النظرية‬
‫أو العملية‪ ،‬هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى ال عليه و سلم وجماهير أئمة المسلمين( )‪.(199‬‬

‫بل يرى الشيخ أن التحري في حال المتأول المخطئ في مسائل العتقاد‪ ،‬أولى من المخطئ في‬
‫المسائل العملية‪ ،‬لخفاء الولى وظهور الثانية‪ ،‬وفي هذا يقول ‪) :‬التحقيق في هذا ‪ :‬إن القول قد يكون‬
‫كفًرا‪ ،‬كمقالت الجهمية الذين قالوا ‪ :‬إن ال ل يتكلم ول يرى في الخرة‪ ،‬ولكن قد يخفى على بعض‬
‫الناس أنه كفر‪ ،‬فيطلق القول بتكفير القائل‪ ،‬كما قال السلف ‪َ :‬من قال ‪ :‬القرآن مخلوق فهو كافر‪،‬‬
‫وَمن قال ‪ :‬إن ال ل يرى في الخرة فهو كافر‪ ،‬ول يكّفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما‬
‫تقدم‪ ،‬كمن جحد وجوب الصلة والزكاة‪ ،‬واستحل الخمر والزنا وتأول‪ ،‬فإن ظهور تلك الحكام بين‬
‫المسلمين أعظم من ظهور هذه‪ ،‬فإذا كان المتأول المخطئ في تلك ل ُيحكم بكفره إل بعد البيان له‬
‫واستتابته‪ ،‬كما فعل الصحابة)‪ (200‬رضي ال عنهم‪ ،‬في الطائفة الذين استحلوا الخمر‪ ،‬ففي غير‬
‫ت فاحرقوني‪ ،‬ثم‬ ‫خرج الحديث الصحيح )في الذي قال ‪ :‬إذا أنا م ّ‬ ‫ذلك أولى وأحرى‪ ،‬وعلى هذا ُي َ‬
‫ي ليعذبني عذاًبا ما عّذبه أحًدا من العالمين( )‪ (201‬وقد‬
‫اسحقوني في اليم‪ ،‬فوال لئن قدر ال عل ّ‬
‫غفر ال لهذا‪ ،‬مع ما حصل له من الشك في قدرة ال وإعادته إذا حرقوه( )‪.(202‬‬
‫ويشهد لهذا المنهج فعل المام أحمد رحمه ال‪ ،‬الذي تعّرض لفتنة خلق القرآن من ِقَبل الجهمية ُنفاة‬
‫الصفات‪ ،‬فامتحنوه وضربوه وحبسوه بأمر من الخليفة المأمون)‪ ،(203‬الذي وافقهم على التجهم‪،‬‬
‫ومع ذلك فإن المام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم‪ ،‬وحللهم مما فعلوه به‬
‫من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر‪ .‬ولو كانوا مرتدين عن السلم لم يجز الستغفار لهم‪،‬‬
‫فإن الستغفار للكفار ل يجوز‪ ،‬بالكتاب)‪ (204‬والسنة)‪ (205‬والجماع‪ ،‬وهذا يدل على أنه لم يكفر‬
‫ل‪ ،‬بل‬‫المعين من الجهمية لجهلهم بالحكم أو غيره)‪ ،(206‬هذا مع أن الجهمية أشد المبتدعة ضل ً‬
‫المشهور عن المام أحمد وعامة أئمة السنة تكفيرهم‪ ،‬قال فيهم )عبد ال بن المبارك ‪ :‬إنا لنحكي‬
‫كلم اليهود والنصارى ول نستطيع أن نحكي كلم الجهمية‪ ،‬وقال غير واحد من الئمة ‪ :‬إنهم أكفر‬
‫من اليهود والنصارى( )‪.(207‬‬

‫ي على أبي بكر رضي ال‬ ‫ضلة لعل ّ‬


‫أما غيرهم من أهل البدع‪ ،‬فإنهم ل ُيَكّفرون‪ ،‬مثل الشيعة المف ّ‬
‫عنهما‪ ،‬وكذلك المرجئة‪ ،‬فإن بدعتهم من جنس اختلف الفقهاء في الفروع‪ ،‬أما القدرية الُمِقـّرون‬
‫بالعلم)‪ ،(208‬والروافض الذين ليسوا من الغالية)‪ ،(209‬والخوارج‪ ،‬فهم محل خلف بين أهل‬
‫العلم‪ ،‬وقد أثر عن المام أحمد التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم‪ ،‬والخوارج‪ ،‬مع قوله ‪ :‬ما‬
‫أعلم قوًما شًرا من الخـوارج‪ ،‬ونقل أبو نصر السجزي)‪ (210‬عن أئمة السنة‪ ،‬قولين في نوع كفر‬
‫الجهمية ‪ :‬الول أنه كفر ينقل عن الملة‪ ،‬هو قول الكثر‪ ،‬والثاني كفر ل ينقل عن الملة‪ ..‬وذكر‬
‫الخطابي)‪ : (211‬إن تكفير أهل السنة لهم‪ ،‬على سبيل التغليظ)‪.(212‬‬

‫الصل السابع ‪ :‬الحرص على تأليف القلوب واجتماع الكلمة‪ ،‬وإصلح ذات البين‪ ،‬والحذر من أن‬
‫عرى الخوة والولء والبراء‬ ‫يكون الخلف في المسائل الفرعية العقدية والعملية‪ ،‬سبًبا في نقض ُ‬
‫بين المسلمين‬

‫جماع الدين‪ ،‬تأليف القلوب‪،‬‬


‫يقول رحمه ال في هذا ‪) :‬تعلمون أن من القواعد العظيمة‪ ،‬التي هي من ِ‬
‫واجتماع الكلمة‪ ،‬وصلح ذات البين‪ ،‬فإن ال تعالى يقول ‪) :‬فاتقوا ال وأصلحوا ذات بينكم(‬
‫)النفال ‪ ،(1 :‬ويقول ‪) :‬واعتصموا بحبل ال جميًعا ول تفرقوا( )آل عمران ‪ ،(103 :‬ويقول ‪:‬‬
‫)ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم( )آل‬
‫عمران ‪ .(105 :‬وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والئتلف‪ ،‬وتنهى عن الفرقة‬
‫والختلف‪ ..‬وأهل هذا الصل‪ ،‬هم أهل الجماعة‪ ،‬كما أن الخارجين عنه هم أهل الُفرقة( )‪.(213‬‬

‫وبّين الشيخ أن الخلف في المسائل الفرعية العقدية والعملية‪ ،‬جرى بين الصحابة والتابعين من‬
‫سلف المة‪ ،‬مع محافظتهم على هذه القاعدة‪ ،‬وأن العاصم من ذلك كان في رد النزاع إلى كتاب ال‬
‫وسنة رسوله صلى ال عليه و سلم‪ ،‬وابتغاء الحق وحده‪ ،‬فيقول مقرًرا مسلكهم رضي ال عنهم ‪:‬‬
‫)وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين وَمن بعدهم‪ ،‬إذا تنازعوا في المر اتبعـــوا أمـــر ال تعالـى‬
‫في قولــه ‪) :‬فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر ذلك‬
‫خير وأحسن تأويلً( )النساء ‪ .(59 :‬وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة‪،‬‬
‫وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية‪ ،‬مع بقاء اللفة والعصمة وأخوة الدين‪ ..‬نعم من‬
‫خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة‪ ،‬أو ما أجمع عليه سلف المة‪ ،‬خلًفا ل ُيعذر فيه‪ ،‬فهـــذا‬
‫يعامــل بما ُيعامـــل به أهــل البــدع‪ ،‬فعائشــة ُأم المؤمنين رضي ال عنها‪ ،‬قد خالفت ابن عباس‬
‫وغيره من الصحابة‪ ،‬في أن محمًدا صلى ال عليه و سلم رأى ربه‪ ،‬وقالت ‪َ) :‬من زعم أن محمًدا‬
‫رأى ربه فقد أعظم على ال تعالى الفـرية( )‪ ،(214‬وجمهـــور المــــة علــى قــول ابن عباس‬
‫رضي ال عنهما‪ ،‬مع أنهم ل ُيبّدعون المانعين الذين وافقـــوا أم المؤمنين رضي ال عنها‪ ،‬وكذلك‬
‫أنكرت أن يكون الموات يسمعون دعاء الحي‪ ،‬لـّما قيل لها ‪ :‬إن النبي صلى ال عليه و سلم قال ‪:‬‬
‫ت لهم‬
‫)ما أنتــم بأسمع لمـا أقــول منهم( )‪ ،(215‬فقالت ‪ :‬إنما قال ‪) :‬إنهم ليعلمون الن أن ما قل ُ‬
‫حق( )‪ ..(216‬ومع هذا فل ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال‪ ،‬كما ثبت عن رسول ال صلى‬
‫ال عليه و سلم أنه قال ‪) :‬ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه‪ ،‬إل رّد ال‬
‫عليه روحه حتى يرد عليه السلم( )‪ ،(217‬وصح ذلك عن النبي صلى ال عليه و سلم‪ ،‬إلى غير‬
‫ذلك من الحاديث‪ ..‬وأم المؤمنين تأولت‪ ،‬وال يرضى عنها‪ ،‬وكذلك معاوية)‪ (218‬رضي ال عنه‪،‬‬
‫نقل عنه في أمر المعراج أنه قال ‪) :‬إنما كان بروحه( )‪ ،(219‬والناس على خلف معاوية رضي‬
‫ال عنه‪ ،‬ومثل هذا كثير(‪.‬‬

‫وأما الختلف في الحكام فأكثر من أن ينضبط‪ ،‬ولو كان كــل ما اختلف مسلمــان فــي شيء‬
‫تهاجــرا‪ ،‬لـم يبق بين المسلمين عصمـــة ول أخوة‪ ،‬ولقد كان أبو بكر وعمر رضي ال عنهما‪ ،‬سيدا‬
‫المسلمين‪ ،‬يتنازعان في أشياء ل يقصدان إل الخير‪ ..‬وقد قال النبي صلى ال عليه و سلم لصحابه‬
‫يوم بني قريظة)‪) : (220‬ل ُيصلين أحد العصَر إل في بني ُقريظة(‪ ،‬فأدركتهم العصُر في الطريق‪،‬‬
‫فقال قوم ‪ :‬ل نصلي إل في بني قريظة‪ ،‬وفاتتهم العصر‪ .‬وقال قوم ‪ :‬لم ُيرد منا تأخير الصلة‪،‬‬
‫فصلوا في الطريق‪ ،‬فلم يعب واحًدا من الطائفتين‪ ،‬أخرجاه في الصحيحين)‪ ،(221‬من حديث ابن‬
‫عمر رضي ال عنهما‪ ،‬وهذا وإن كــان في الحكــام‪ ،‬فما لم يكن من الصول المهمة فهو ملحق‬
‫بالحكام )‪.(222‬‬

‫وأكد الشيخ على مراعاة الخــوة والمــوالة بين المسلمين‪ ،‬بحيــث ل يؤثر عليها ما يقع من خلف‬
‫بسبب دواع اجتهادية‪ ،‬مبيًنا أن العاصم من ذلك تقديم حق ال على حق النفس‪ ،‬وفي هذا يقول ‪:‬‬
‫)جعل ال‪ ...‬عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض‪ ،‬وجعلهم إخوة‪ ،‬وجعلهم متناصرين متراحمين‬
‫متعاطفين‪ ،‬وأمرهم سبحانه بالئتلف‪ ،‬ونهاهم عن الفتراق والختلف‪ ،‬فقال تعالى ‪) :‬واعتصموا‬
‫بحبل ال جميًعا ول تفرقوا( )آل عمــران ‪ ، (103 :‬وقـــــال تعــــالـــــى ‪) :‬إن الذين فرقوا دينهم‬
‫وكانوا شيًعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى ال( )النعام ‪ (159 :‬الية‪ ،‬فكيف يجوز مع هذا‬
‫لمة محمد صلى ال عليه و سلم أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة‪ ،‬ويعادي طائفة أخرى‬
‫بالظن والهوى بل برهان من ال تعالى‪ ،‬وقد بّرأ ال نبيه صلى ال عليه و سلم ممن كان هكذا‪ .‬فهذا‬
‫ِفْعل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين‪ ،‬واستحلوا دماء َمن خالفهم‪ ..‬وأما أهل‬
‫السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل ال‪ ،‬وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه‪،‬‬
‫خره ال‬
‫وإن كان غيره أتقى ل منه‪ ،‬وإنما الواجب أن يقدم من قدمه ال ورسوله‪ ،‬ويؤخر من أ ّ‬
‫ورسوله‪ ،‬ويحـب مــا أحبــه ال ورســوله‪ ،‬ويبغـض ما أبغضه ال ورسوله‪ ،‬وينهى عما نهى ال‬
‫عنه ورســوله‪ ،‬وأن يرضــى بما رضي ال به ورسوله‪ ،‬وأن يكون المسلمون يًدا واحدة‪ ،‬فكيف إذا‬
‫بلغ المر ببعض الناس إلى أن ُيضلل غيره ويكّفره‪ ،‬وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين‪ ،‬فليس كل َمن أخطأ يكون كافًرا أو‬
‫فاسًقا‪ ،‬بل قد عفى ال لهذه المة عن الخطأ والنسيان‪ ،‬وقد قال ال تعالى في كتابه‪ ،‬في دعاء الرسول‬
‫صلى ال عليه و سلم والمؤمنين ‪) :‬ربنا ل تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا( )البقرة ‪ .(286 :‬وثبت في‬
‫الصحيح أن ال قال ‪) :‬قد فعلت( )‪ ،(223‬لسيما وقد يكون من يوافقكم في أخص من السلم‪ ،‬مثل‬
‫أن يكون مثلكم على مذهب الشافعي‪ ،‬أو منتسًبا إلى الشيخ عدي)‪ ،(224‬ثم بعد هذا قد يخالف في‬
‫عرضه ودمه وماله؟ مع ما قد ذكر ال تعالى من‬
‫شيء‪ ،‬وربما كان الصواب معه‪ ،‬فكيف يستحل ِ‬
‫حقوق المسلم والمؤمن( )‪.(225‬‬

‫ولعل أظهر ما يقّوي وشيجة الخوة بين المسلمين‪ ،‬ويحفظ تماسك جماعتهم‪ ،‬العمل بأحكام الولء‬
‫صب لطوائف‪ ،‬ذلك أن‬ ‫والبراء التي شرعها ال في كتابه‪ ،‬دون التفات إلى مناهج أخرى أو تع ّ‬
‫)الولية ضد العداوة‪ ،‬وأصل الولية المحبة والُقرب‪ ،‬وأصل العداوة البغض والُبعد( )‪ ،(226‬وهما‬
‫عرى اليمان الحب في ال‬ ‫عرى اليمان كما أخبر الرسول صلى ال عليه و سلم ‪) :‬أوثق ُ‬ ‫أوثق ُ‬
‫والبغض في ال( )‪ ..(227‬وقد بّين الشيخ أحكام الولء والبراء‪ ،‬ولمن يكونان ويعطيان‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫)فأما الحمد والذم والحب والبغض والموالة والمعاداة‪ ،‬فإنما تكون بالشياء التي أنزل ال بها‬
‫سلطانه‪ ،‬وسلطانه كتابه‪ ،‬فمن كان مؤمًنا وجبت موالته من أي صنف كان‪ ،‬ومن كان كافًرا وجبت‬
‫معادته من أي صنف كان‪ ،‬قال ال تعالى ‪) :‬إنما وليكم ال ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون‬
‫الصلة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول ال ورسوله والذين آمنوا فإن حزب ال هم الغالبون‬
‫( )المائدة ‪...(56-55 :‬‬

‫ومن كان فيه إيمان وفيه فجور‪ ،‬أعطي من الموالة بحسب إيمانه‪ ،‬ومن البغض بحسب فجوره‪ ،‬ول‬
‫يخرج من اليمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي‪ ،‬كما يقوله الخوارج والمعتزلة‪ ،‬ول ُيجعل‬
‫ساق في اليمان والدين والحب والبغض‬ ‫النبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الف ّ‬
‫والموالة والمعاداة‪ ،‬قال ال تعالى ‪) :‬وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت‬
‫إحداهما على الخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر ال فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل‬
‫وأقسطوا إن ال يحب المقسطين( إلى قولـه ‪) :‬إنما المؤمنون إخوة( )الحجرات ‪ ،(10-9 :‬فجعلهم‬
‫إخوة مع وجود القتتال والبغي( )‪.(228‬‬

‫كما ل يتنافى وجود الشر والمعصية والبدعة في شخص‪ ،‬مع استحقاقه للموالة والكرام بقدر ما فيه‬
‫من خير وطاعة وسنة‪ ،‬وفي هذا يقول الشيخ ‪) :‬وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور‪،‬‬
‫وطاعة ومعصية‪ ،‬وسنة وبدعة‪ ،‬استحق من الموالة والثواب بقدر ما فيه من الخير‪ ،‬واستحق من‬
‫المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر‪ ،‬فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الكرام والهانة‪،‬‬
‫فيجتمع له هذا وهذا( )‪.(229‬‬

‫ل بمبدأ الولء والبراء‪ ،‬فإن الشيخ يقرر ‪) :‬أن الواجب على المسلم إذا صار في مدينة من‬
‫وعم ً‬
‫مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة‪ ،‬ويوالي المؤمنين‪ ،‬ول يعاديهم‪ ،‬وإن رأى بعضهم‬
‫سا إل وسعها‪ ،‬وإذا كان قادًرا‬
‫ل أو غاوًيا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك‪ ،‬وإل فل يكّلف ال نف ً‬
‫ضا ً‬
‫له‪ ،‬وإن قدر أن يمنع من ُيظهر البدع والفجور منعه( )‬‫على أن ُيوّلي في إمامة المسلمين الفضل و ّ‬
‫‪ ..(230‬وهكذا على مقتضى اتباع الحق وإظهاره‪ ،‬خل المبتدعة الملحدة‪ ،‬فهؤلء يجب البراء‬
‫منهم‪ ،‬فإن الشيخ أنكر على من يعاون أو ينصر أهل الحلول والتحاد‪ ،‬فقال ‪) :‬ومن هؤلء من‬
‫يعاونهم وينصرهم على أهل اليمان المنكرين للحلول والتحاد‪ ،‬وهو شر ممن ينصر النصارى على‬
‫المسلمين‪ ،‬فإن قول هؤلء شر من قول النصارى‪ ،‬بل هو شر ممن ينصر المشركين على المسلمين‪،‬‬
‫فإن قول المشركين الذين يقولون ‪ :‬إنما نعبدهم ليقربونا إلى ال زلفى)‪ ،(231‬خير من قول هؤلء‪،‬‬
‫فإن هؤلء أثبتوا خالًقا ومخلوًقا غيره‪ ،‬يتقربون به إليه‪ ،‬وهؤلء يجعلون وجود الخالق وجود‬
‫المخلوق( )‪ ،(232‬بخلف أهل الصلح والتقوى إذا وقعوا في بدعة متأولة وليست غليظة)‪،(233‬‬
‫فهؤلء تجب موالتهم ومحبتهم‪ ،‬لن ما وقع منهم من قبيل الهفوة والزلة‪ ،‬التي ل تنسخ ما لهم من‬
‫صلح وتقوى‪ ،‬وقد وقع ذلك )من أكابر السلف المقتتلين في الفتنة‪ ،‬والسلف المستحلين لطائفة من‬
‫ضل والمتعة‪ ،‬والمستحلين للحشوش‪ ،‬كما قال عبد ال بن‬ ‫الشربة المسكرة‪ ،‬والمستحلين لربا الَف ْ‬
‫ب رجل في السلم‪ ،‬له قدم حسن وآثار صالحة‪ ،‬كانت منه الهفوة والزلة‪ ،‬ل ُيقتدى به‬ ‫المبارك ‪ُ :‬ر ّ‬
‫في هفوته وزلته( )‪ ..(234‬فهؤلء وأمثالهم معذورون‪ ،‬لنهم مجتهدون‪ ،‬لم يقصدوا فعل الحرام‪،‬‬
‫ول مخالفة السنة‪ ،‬فهم حين استحلوا ذلك ل يعتقدون )أنه من المحرمات‪ ،‬ول أنه داخل فيما ذمه ال‬
‫ل ل يعتقد أنه قتل مؤمًنا بغير حق‪ ،‬والمبيح للمتعة والحشوش‬ ‫ورسوله‪ ،‬فالمقاتل في الفتنة متأو ً‬
‫حا‪ ،‬والمبيح للنبيذ المتأول فيه‪ ،‬ولبعض أنواع المعاملت‬
‫ونكاح المحلل ل يعتقد أنا أباح زنا وسفا ً‬
‫الربوية وعقود المخاطرات‪ ،‬ل يعتقد أنه أباح الخمر والميسر والربا‪ ..‬ولكن وقوع مثل هذا التأويل‬
‫من الئمة المتبوعين‪ ،‬أهل العلم واليمان‪ ،‬صار من أسباب المحن والفتنة‪ ،‬فإن الذين يعظمونهم قد‬
‫يقتدون بهم في ذلك‪ ،‬وقد ل يقفون عند الحد الذي انتهى إليه أولئك‪ ،‬بل يتعدون ذلك ويزيدون‬
‫زيادات لم تصدر من أولئك الئمة السادة‪ ،‬والذين يعلمون تحريم جنس ذلك الفعل‪ ،‬قد يعتدون على‬
‫المتأولين بنوع من الذم فيما هو مغفور لهم‪ ،‬ويتبعهم آخرون فيزيدون في الذم ما يستحلون به من‬
‫أعراض إخوانهم وغير أعراضهم ما حّرمه ال ورسوله( )‪.(235‬‬

‫ل لحقوق المسلم‪ ،‬ومنها‬ ‫وبهذا يتقرر أن الشيخ ل يرى الوقوع في البدعة عن شبهة أو تأول مبط ً‬
‫الموالة‪ ،‬التي من معانيها المحبة والنصرة والحماية‪ ،‬بل هي ثابتة للمسلم المبتدع بقدر ما عنده من‬
‫إيمان‪ ،‬فيحب بقــدر ما فيه من صلح‪ ،‬وينصر على من ظلمه‪ ،‬وإن كان فيه سوء‪ ،‬وفي هذا يقول‬
‫رحمه ال ‪) :‬ومعلوم أن شر الكفار والمرتدين والخوارج‪ ،‬أعظم من شر الظالم‪ ،‬وأما إذا لم يكونوا‬
‫يظلمون المسلمين‪ ،‬والمقاتل لهم يريد أن يظلمهم‪ ،‬فهذا عدوان منه فل يعاون على عدوان( )‪،(236‬‬
‫سلمه( )‪ ،(237‬فما‬ ‫مصداق قول الرسول صلى ال عليه و سلم ‪) :‬المسلم أخو المسلم ل َيظلمه ول ُي ْ‬
‫دام المبتدع مسلًما‪ ،‬فإنه يثبت له هذا الحق‪.‬‬

‫الصل الثامن ‪ :‬النصاف في ذكر ما للمبتدعة من محامـد ومـذام‪ ،‬وقبـول ما عندهم من حق‪ ،‬ورّد‬
‫ما عندهم من باطل‪ ،‬وأن ذلك سبيل المة الوسط‬

‫قرر شيخ السلم أن منهج أهل السنة والجماعة في الثناء والذم‪ ،‬قائم على الكتاب والسنة والجماع‪،‬‬
‫فقال ‪) :‬وأهل السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والجماع‪ ،‬وهو أن المؤمن يستحق‬
‫وعد ال وفضله والثواب على حسناته‪ ،‬ويستحق العقاب على سيئاته‪ ،‬وأن الشخص الواحد يجتمع‬
‫فيه ما ُيثاب عليــه ومــا يعــاقب عليــه‪ ،‬وما يحمد عليه وما يذم‪ ،‬وما يحب منه وما يبغض منه( )‬
‫‪.(238‬‬

‫وبّين رحمه ال‪ ،‬أن هذا هو المنهج الصواب‪ ،‬فقال ‪) :‬والصواب أن ُيحمد من حال كل قوم ما حمده‬
‫ال ورسوله‪ ،‬كما جاء به الكتاب والسنة‪ ،‬ويذم من حال كل قوم ما ذمه ال ورسوله‪ ،‬كما جاء به‬
‫الكتاب والسنة( )‪ ،(239‬ووضح الشيخ أن هذا المنهج يضاده منهج أهل البدع‪ ،‬الذين ل يعذرون من‬
‫أخطأ مجتهًدا‪ ،‬فيذمونه متغافلين عن حسناته ومحامده‪ ،‬فقال ‪) :‬ومن جعل كل مجتهد في طاعة‪،‬‬
‫أخطأ في بعض المور‪ ،‬مذموًما معيًبا ممقوًتا‪ ،‬فهو مخطئ ضال مبتدع( )‪.(240‬‬
‫وقد أظهر شيخ السلم مسلك أهل السنة والجماعة‪ ،‬في ثنائه وذمه للرجال والطوائف والكتب‪،‬‬
‫وبيانه لقربهم من الحق وبعدهم عنه‪ ،‬متبًعا في ذلك سبيل المة الوسط‪ ،‬القائم على العدل‬
‫والنصاف‪ ،‬وإعطاء كل ذي حق حقه‪ ،‬من غير مداهنة في باطل‪ ،‬ول غمط في حق‪ ،‬ومن المثلة‬
‫على إنصافه ‪:‬‬

‫أ ـ ذكره بعض محامد أهل البدع والهواء‪ ،‬وبيانه أن أهل السنة يتبعون معهم العدل والنصاف‪،‬‬
‫يقول رحمه ال ‪) :‬والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد‪ ،‬لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من‬
‫أهل الهواء‪ ،‬فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين‪ ،‬والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة‪،‬‬
‫والزيدية)‪ (241‬من الشيعة خير منهم‪ ،‬وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم‪ ،‬وليس في أهل الهواء‬
‫أصدق ول أعبد من الخوارج‪ ،‬ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العـــدل والنصــاف ول‬
‫يظلمونهم‪ ،‬فإن الظلم حرام مطلًقا‪ ،‬بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلء‪ ،‬خير من بعضهم لبعض‪ ،‬بل‬
‫هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض‪ ،‬وهذا مما يعترفون هم به‪ ،‬ويقـــولون ‪ :‬أنتــم‬
‫ضا‪ ،‬وهذا لن الصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد‪ ،‬مبني على‬ ‫تنصفوننــا ما ل ينصف بعضنا بع ً‬
‫جهل وظلم‪ ،‬وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين‪ ،‬فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في‬
‫ظلم الناس‪ ،‬ول ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض‪ ..‬والخوارج تكّفر‬
‫سق‪،‬‬ ‫أهل الجماعة‪ ،‬وكذلك أكثر المعتزلة يكّفرون من خالفهم‪ ،‬وكذلك أكثر الرافضة‪ ،‬ومن لم يكّفر ف ّ‬
‫وكذلك أكثر أهل الهواء‪ ،‬يبتدعون رأًيا ويكّفرون من خالفهم فيه‪ ،‬وأهل السنــة يتبعــون الحـق من‬
‫ربهم الذي جاء به الرسول‪ ،‬ول يكّفرون من خالفهم فيه‪ ،‬بل هم أعلم بالحـــق وأرحـــم بالخلــق‪،‬‬
‫كمــا وصــف ال به المسلمين بقولــه ‪) :‬كنتم خير أمة أخرجت للناس( )آل عمران ‪ ،(110 :‬قال‬
‫أبو هريرة)‪ (242‬رضي ال عنه ‪) :‬كنتم خير الناس للناس( )‪ ،(243‬وأهل السنة نقاوة المسلمين‪،‬‬
‫فهم خير الناس للناس( )‪.(244‬‬

‫ويقول في موضع آخر ‪) :‬وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين‪ ،‬من الرافضة والجهمية وغيرهم‪،‬‬
‫إلى بلد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير‪ ،‬وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين‪ ،‬وهو خير من‬
‫أن يكونوا كفاًرا( )‪.(245‬‬

‫ب ـ تفصيله في الحكم على الصوفية والتصوف‪ ،‬بما يظهر النصاف ‪ :‬فقد َبّين رحمه ال تعالى‪ ،‬أنه‬
‫وقع الجتهاد والتنازع في طريق الصوفية )فطائفة ذمت الصوفية والتصوف‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنهم‬
‫مبتدعون خارجون عن السنة‪ ،‬وُنقل عن طائفة من الئمة في ذلك من الكلم ما هو معروف‪ ،‬وتبعهم‬
‫على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلم‪ ،‬وطائفة غلت فيهم‪ ،‬وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد‬
‫النبياء‪ ،‬وكل طرفي هذه المور ذميم‪ ،‬والصواب أنهم مجتهدون في طاعة ال‪ ،‬كما اجتهد غيرهم‬
‫من أهل طاعة ال‪ ،‬ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده‪ ،‬وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين‪،‬‬
‫وفي كل من الصنفين مــن قد يجتهـــد فيخطئ‪ ،‬وفيهـــم من يذنـب فيتـوب أو ل يتوب‪ ،‬ومن‬
‫المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه‪ ،‬عاص لربه‪ ،‬وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة‪،‬‬
‫ل‪ ،‬فإن أكثر مشايخ الطريق‬ ‫ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم‪ ،‬كالحلج)‪ (246‬مث ً‬
‫أنكروه وأخرجوه من الطريق‪ ،‬مثل الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره‪ ،‬كما ذكر ذلك الشيخ أبو‬
‫عبد الرحمـــن السلمي)‪ (247‬فــي طبقات الصوفية)‪ ،(248‬وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب)‬
‫‪ ،(249‬في تاريخ بغداد)‪.(251) ((250‬‬
‫جـ ـ دفاعـــه عـــن اعتقـــاد بعـض مشايــخ الصوفيــة‪ ،‬فقــد ناقـش أبا القاسم القشيري)‪ ،(252‬في‬
‫دعواه أن اعتقاد أكابر مشايخ الصوفية مثل ‪ :‬الفضيــل بن عيــاض)‪ ،(253‬وأبي سليمــان‬
‫الداراني)‪ ،(254‬ويوسـف ابن أسباط‪ ،‬وحذيفة المرعشي)‪ ،(255‬ومعروف الكــرخي)‪،(256‬‬
‫سَتري)‪ ،(257‬موافق لعتقاد كثير من المتكلمين‬ ‫والجنيــد ابن محمد‪ ،‬وسهل بن عبد ال الّت ْ‬
‫الشعرية بما يطول نقله‪ ،‬لذلك أقتصر منه على مقدمته ‪) :‬فصل فيما ذكره الشيخ أبو القاسم القشيري‬
‫في رسالته المشهورة‪ ،‬من اعتقاد مشايخ الصوفية‪ ،‬فإنه ذكر من متفرقات كلمهم‪ ،‬ما يستدل به على‬
‫أنهم كانوا يوافقون اعتقاد كثير من المتكلمين الشعرية‪ ،‬وذلك هو اعتقــــاد أبي القاســـم الذي تلقـــاه‬
‫عن أبي بكــر بن فــورك)‪ ،(258‬وأبي إسحاق السفراييني‪ .‬وهذا العتقاد غالبه موافق لصول‬
‫السلف وأهل السنة والجماعـــة‪ ،‬لكنه مقصـــر عن ذلك‪ ،‬ومتضمن تـرك بعض ما كانوا عليه‪،‬‬
‫وزيادة تخالف ما كانوا عليه‪ ،‬والثابت الصحيح عن أكابر المشايخ‪ ،‬يوافق ما كان عليه السلف‪ ،‬وهذا‬
‫هو الذي كان يجب أن يذكر‪ ،‬فإن في الصحيح الصريح المحفوظ عن أكابر المشايخ‪ ،‬مثل ‪ :‬الفضيل‬
‫بن عياض‪ ،‬وأبي سليمان الداراني‪ ،‬ويوسف بن أسباط‪ ،‬وحذيفة المرعشي‪ ،‬ومعروف الكرخي‪ ،‬وأبي‬
‫الجنيد بن محمد‪ ،‬وسهل ابن عبد ال التستري‪ ،‬وأمثال هؤلء‪ ،‬ما يبين حقيقة مقالت المشايخ( )‬
‫‪.(259‬‬

‫ل حال أهل التصوف بما يدل على النصاف والعدل ‪) :‬والشيوخ الكابر‬ ‫وفي موضع آخر قال مفص ً‬
‫الذين ذكرهم أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية‪ ،‬وأبو القاسم القشيري في الرسالة‪ ،‬كانوا‬
‫على مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب أهــل الحديث‪ ،‬كالفضيـل ابن عياض‪ ،‬والجنيد بن محمـــد‪،‬‬
‫وسهــل بن عبــد ال التستـري‪ ،‬وعمــرو بن عثمان)‪ (260‬المكي‪ ،‬وأبو عبد ال محمد بن خفيف‬
‫الشيرازي‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وكلمهم موجود في السنة‪ ،‬وصنفوا فيها الكتب‪ ،‬لكن بعض المتأخرين منهم‬
‫كان على طريقة بعض أهل الكلم في بعض فروع العقائد‪ ،‬ولم يكن فيهم أحد على مذهب الفلسفة‪،‬‬
‫وإنما ظهر التفلسف في المتصوفة المتأخرين‪ ،‬فصارت المتصوفة تارة على طريقة صوفية أهل‬
‫الحديث‪ ،‬وهم خيارهم وأعلمهم‪ ،‬وتارة على اعتقاد صوفية أهل الكلم فهؤلء دونهم‪ ،‬وتارة على‬
‫اعتقاد صوفية الفلسفة كهؤلء الملحدة( )‪ ،(261‬أي القائلين بوحدة الوجود‪ ،‬الملحدين في اليمان‬
‫بال ورسله واليوم الخر‪.‬‬

‫ت في اتباع سبيل المة الوسط‪،‬‬ ‫وبّين رحمه ال‪ ،‬منهجه في مناقشة ما ذكره أبو القاسم فقال ‪) :‬اجتهد ُ‬
‫الذين هم شهداء على الناس‪ ،‬دون سبيل من قد يرفعه فوق قدره‪ ،‬في اعتقاده وتصوفه على الطريقة‬
‫ل واعتقاًدا واقتصاًدا‪ ،‬أو يحطه دون قدره‬
‫ل وعم ً‬
‫ل وقو ً‬‫التي هي أكمل وأصح مما ذكره‪ ،‬علمًا وحا ً‬
‫فيهما‪ ،‬ممن يسرف في ذم أهل الكلم‪ ،‬أو ذم طريقة التصوف مطلًقا‪ ،‬وال أعلم‪ ..‬والذي ذكره أبو‬
‫القاسم‪ ،‬فيه الحسن الجميل الذي يجب اعتقاده واعتماده‪ ،‬وفيه المجمل الذي يأخذ المحق والمبطل‪،‬‬
‫وهذان قريبان‪ ،‬وفيــه منقـــولت ضعيفــة‪ ،‬ونقول عمــن ل يقتدى بهم في ذلك‪ ،‬فهذان مردودان‪،‬‬
‫وفيه كلم حمله على معنى‪ ،‬وصاحبه لم يقصد نفس ما أراده هو‪ ،‬ثم إنه لم يذكر عنهم إل كلمات‬
‫قليلة ل تشفي في هذا الباب‪ ،‬وعنهم في هذا الباب من الصحيح الصريح الكبير ما هو شفاء للمقتدي‬
‫ت هنا نكًتا ُيعرف بها الحال( )‪.(262‬‬‫بهم‪ ،‬الطالب لمعرفة أصولهم‪ ،‬وقد كتب ُ‬

‫د ـ تأكيده على اتباع منهج العدل‪ ،‬في قبول قول المخالفين وآثارهم ورواياتهم وردها‪ ،‬وذلك تصديًقا‬
‫لقول معاذ بن جبل)‪ (263‬رضي ال عنه ‪) :‬اقبلوا الحق من كل من جاء به‪ ،‬وإن كان كافًرا ‪-‬أو قال‬
‫فاجًرا‪ -‬واحذروا زيغة الحكيم‪ ،‬قالوا ‪ :‬كيف تعلــم أن الكافــر يقـول الحــق؟ قال ‪ :‬على الحق نور( )‬
‫‪ ،(264‬وهو ما عّبر عنه ابن تيمية بقوله ‪) :‬وال قد أمرنا أل نقول إل الحق‪ ،‬وأل نقول عليه إل‬
‫ل عن الرافضي‪ ،‬قو ً‬
‫ل‬ ‫بعلم‪ ،‬وأمرنا بالعدل والقسط‪ ،‬فل يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني‪ ،‬فض ً‬
‫فيه حق أن نتركه أو نرده كله‪ ،‬بل ل نرد إل ما فيه من الباطل دون مافيه من الحق( )‪.(265‬‬

‫ضح شيخ السلم كيفية الستفادة من هذا المنهج‪ ،‬في التعامل مـــع مـــرويــات المخالفين‬ ‫وو ّ‬
‫ل لهــا بمــــا )جمعـــــه الشيــخ أبو عبــد الرحمن السلمي ونحوه في تاريخ أهل‬‫وآثارهــــم‪ ،‬ممثـــ ً‬
‫صّفة‪ ،‬وأخبار زّهاد السلف‪ ،‬وطبقات الصوفية‪ُ ،‬يستفـــاد منه فوائـــد جليلــة‪ ،‬ويتجنب منه ما فيه‬ ‫ال ّ‬
‫من الروايات الباطلة‪ ،‬ويتوقف فيما فيه من الروايات الضعيفة‪ ،‬وهكذا كثير من أهل الروايات‪ ،‬ومن‬
‫أهل الراء والذواق‪ ،‬من الفقهاء والزهاد والمتكلمين وغيرهم‪ ،‬يوجد فيما يأثرونه عمن قبلهم‪ ،‬وفيما‬
‫يذكرونه معتقدين له‪ ،‬شيء كثير‪ ..‬وأمر عظيم من الهدى ودين الحق الذي بعث ال به رسوَله‪،‬‬
‫ويوجد أحياًنا عندهم من جنس الروايات الباطلة أو الضعيفة‪ ،‬ومن جنس الراء والذواق الفاسدة أو‬
‫المحتملة شيء كثير‪ ،‬ومن له في المة لسان صدق عام‪ ،‬بحيث ُيثنى عليه وُيحمد في جماهير أجناس‬
‫المة‪ ،‬فهؤلء هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى‪ ،‬وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم‪ ،‬وعامته من‬
‫موارد الجتهاد التي ُيعذرون فيها‪ ،‬وهم الذين يتبعون العدل والعلم‪ ،‬فهم بعداء عن الجهل والظلم‪،‬‬
‫وعن اتباع الظن وما تهوى النفس( )‪.(266‬‬

‫هـ ـ دفاعه عن بعض طوائف أهل الكلم)‪ ،(267‬وتفضيله لهم على من دونهم‪ ،‬لنتسابهم إلى‬
‫مذهب أهل السنة والجماعة‪ ،‬في ردهم على أهل البدع المشهورين بمخالفة السنة والجماعة‪،‬‬
‫كالخوارج‪ ،‬مما يدل على إنصافه‪ ،‬قال رحمه ال ‪) :‬ومعلوم باتفاق المسلمين أن َمن هو دون‬
‫الشعرية‪ ،‬كالمعتزلة والشيعة الذين يوجبون السلم ويحرمون ما وراءه‪ ،‬فهم خير من الفلسفة‬
‫الذين يسّوغون التدين بدين السلم واليهود والنصارى‪ ،‬فكيف بالطوائف المنتسبين إلى مذهب أهل‬
‫السنة والجماعة كالشعرية والكرامية والسالمية)‪ (268‬وغيرهم؟ فإن هؤلء مع إيجابهم دين‬
‫السلم وتحريمهم ما خالفه‪ ،‬يردون على أهل البدع المشهورين بمخالفة السنة والجماعة‪ ،‬كالخوارج‬
‫والشيعة والقدرية والجهمية‪ ،‬ولهم في تكفير هؤلء نزاع وتفصيل‪ ،‬فمن جعل الفيلسوف الذي يبيح‬
‫دين المشركين واليهود والنصارى‪ ،‬خير من اثنتين وسبعين فرقة فليس بمسلم‪ ،‬فكيف بمن جعله‬
‫خيًرا من طوائف أهل الكلم المنتسبين إلى الذب عن أهل السنة والجماعة( )‪.(269‬‬

‫و ـ ثناؤه على بعض علماء المسلمين ممن لهم قدم راسخة‪ ،‬واعتذاره عن خطئهم‪ ،‬من أمثال القاضي‬
‫أبي بكر الباقلني)‪ ،(270‬وأبي ذر الهروي)‪ ،(271‬وهما من علماء الشاعرة ‪:‬‬

‫قال عن القاضي الباقلني ‪) :‬فيه من الفضائل العظيمة‪ ،‬والمحاسن الكثيرة‪ ،‬والرد على الزنادقة‬
‫ل منه‪ ،‬ول أحسن‬‫لب والشعري أج ّ‬ ‫والملحدين وأهل البدع‪ ،‬حتى إنه لم يكن في المنتسبين إلى ابن ُك ّ‬
‫كتًبا وتصنيًفا‪ ،‬وبسببه انتشر هذا القول( )‪.(272‬‬

‫وقال عن الهروي ‪) :‬أبو ذر فيه من العلم والدين‪ ،‬والمعرفة بالحديث والسنة‪ ،‬وانتصابه لرواية‬
‫البخاري)‪ ،(273‬عن شيوخه الثلثة‪ ،‬وغير ذلك من المحاسن والفضائل‪ ،‬ما هو معروف به‪ ،‬وكان‬
‫قد قدم بغداد من هراة‪ ،‬فأخذ طريقة ابن الباقلني وحملها إلى الحرم‪ ،‬فتكّلم فيه وفي طريقته من‬
‫تكّلم‪ ،‬كأبي نصر السجزي‪ ،‬وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني)‪ (274‬وأمثالهما من أكابر أهل العلم‬
‫والدين‪ ،‬بما ليس هذا موضعه‪ ،‬وهو ممن يرجح طريقة الضبعي)‪ ،(275‬والثقفي)‪ ،(276‬على‬
‫طريقة ابن خزيمة)‪ (277‬وأمثاله من أهل الحديث‪ ..‬وأهل المغرب كانوا يحجون فيجتمعون به‬
‫ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة‪ ،‬ويدلهم على أصلها‪ ،‬فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق‪ ،‬كما‬
‫رحل أبو الوليد الباجي)‪ ،(278‬فأخذ طريقة أبي جعفر السمناني)‪ (279‬الحنفي‪ ،‬صاحب القاضي‬
‫أبي بكر)‪ ،(280‬ورحل بعده القاضي أبو بكر العربي‪ ،‬فأخذ طريقة أبي المعالي)‪ (281‬في الرشاد‪.‬‬
‫ثم إنه ما من هؤلء إل َمن له في السلم مساع مشكورة‪ ،‬وحسنات مبرورة‪ ،‬وله في الرد على كثير‬
‫من أهل اللحاد والبدع‪ ،‬والنتصار لكثير من مسائل أهل السنة والدين‪ ،‬ما ل يخفى على َمن عرف‬
‫أحوالهم‪ ،‬وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف‪ ،‬لكن لما التبس عليهم هذا الصل المأخوذ ابتداء‬
‫عن المعتزلة‪ ،‬وهم فضلء عقلء‪ ،‬احتاجوا طرده والتزام لوازمه‪ ،‬فلزمهم بسبب ذلك من القوال ما‬
‫ظمهم لما لهم من‬ ‫أنكره المسلمون من أهل العلم والدين‪ ،‬وصار الناس بسبب ذلك ‪ :‬منهم من يع ّ‬
‫المحاسن والفضائل‪ ،‬ومنهم من يذمهم لما وقع في كلمهم من البدع والباطل‪ ،‬وخيار المور‬
‫صا بهؤلء‪ ،‬بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين‪ ،‬وال يتقبل‬ ‫أوسطها‪ ،‬وهذا ليس مخصو ً‬
‫من جميع عباده المؤمنين الحسنات‪ ،‬ويتجاوز لهم عن السيئات ‪) :‬ربنا اغفر لنا ولخواننا الذين‬
‫ل للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم( )الحشر ‪ ،(10 :‬ول‬ ‫سبقونا باليمان ول تجعل في قلوبنا غ ً‬
‫ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين‪ ،‬من جهة الرسول صلى ال عليه و سلم‪ ،‬وأخطأ في بعض‬
‫ذلك‪ ،‬فال يغفر له خطأه‪ ،‬تحقيًقا للدعاء الذي استجابه ال لنبيه وللمؤمنين‪ ،‬حيث قالوا ‪) :‬ربنا ل‬
‫تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا( )البقرة ‪ ،(286 :‬ومن اتبع ظّنه وهواه‪ ،‬فأخذ يشنع على من خالفه بما‬
‫وقع فيه من خطأ ظّنه صواًبا َبْعَد اجتهاده ‪-‬وهو من البدع المخالفة للسنة‪ -‬فإنه يلزمه نظير ذلك أو‬
‫أعظم أو أصغر فيمن يعظمه هو من أصحابه( )‪.(282‬‬

‫ز ـ دقة تقويمه لكتابي قوت القلوب وإحياء علوم الدين‪ ،‬وإنصافه في إثبات ما لهما وما عليهما‪ ،‬في‬
‫إجابته لمن سأله عنهما‪ ،‬قال رحمه ال تعالى ‪) :‬أما كتاب قوت القلوب‪ ،‬وكتاب الحياء تبع له فيما‬
‫يذكره من أعمال القلوب ‪ :‬مثل الصبر والشكر والحب والتوكل والتوحيد ونحو ذلك‪ ،‬وأبو طالب)‬
‫‪ (283‬أعلم بالحديث والثر‪ ،‬وكلم أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم‪ ،‬من أبي حامد الغزالي)‬
‫‪ ،(284‬وكلمه أسّد وأجود تحقيًقا‪ ،‬وأبعد عن البدعة‪ ،‬مع أن في قوت القلوب أحاديث ضعيفة‬
‫وموضوعة وأشياء كثيرة مردودة‪ ،‬وأما ما في الحياء من الكلم في المهلكات‪ ،‬مثل الكلم على‬
‫الِكْبر والُعجب والرياء والحسد ونحو ذلك‪ ،‬فغالبه منقول من كلم الحارث المحاسبي في الرعاية‪،‬‬
‫ومنه ما هو مقبول‪ ،‬ومنه ما هو مردود‪ ،‬ومنه ما هو متنازع فيه‪ ،‬والحياء فيه فوائد كثيرة لكن فيه‬
‫مواد مذمومة‪ ،‬فإنه فيه مواد فاسدة من كلم الفلسفة‪ ،‬تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد‪ ،‬فإذا ذكر‬
‫معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدًوا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين‪ ،‬وقد أنكر أئمة الدين على‬
‫أبي حامد الغزالي هذا في كتبه)‪ ،(285‬وقالوا ‪ :‬مرضه الشفاء‪ ،‬يعني شفاء ابن سينا)‪ (286‬في‬
‫الفلسفة‪ ،‬وفيه أحاديث وآثار ضعيفة‪ ،‬بل موضوعة كثيرة‪ ،‬وفيه أشياء من أغاليط الصوفية‬
‫وُتّرَهاِتهم‪ ،‬وفيه مع ذلك من كلم المشايخ الصوفية‪ ،‬العارفين المستقيمين‪ ،‬في أعمال القلوب‪،‬‬
‫الموافق للكتاب والسنة‪ ،‬ومن غير ذلك من العبادات والدب‪ ،‬ما هو موافق للكتاب والسنة‪ ،‬ما هو‬
‫أكثر مما يرد منه‪ ،‬فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه( )‪.(287‬‬

‫الصل التاسع ‪ :‬رعاية شروط المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬في المر بالسنة والنهي عن‬
‫البدعة‪ ،‬وتقديم الهم فالهم في ذلك‬

‫أكد شيخ السلم ابن تيمية على أهمية العمل بشروط المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬في المر‬
‫بالسنة والنهي عن البدعة‪ ،‬وحّذر من سوء النية والنتصار للهوى‪ ،‬لما يؤديان إليه من إبطال العمل‪،‬‬
‫وإشاعة الفرقة‪ ،‬فقال ‪) :‬والمر بالسنة والنهي عن البدعة‪ ،‬هما أمر بمعروف ونهي عن منكر‪ ،‬وهو‬
‫من أفضل العمال الصالحة‪ ،‬فيجب أن يبتغى به وجه ال‪ ،‬وأن يكون مطابًقا للمر‪ ،‬وفي الحديث)‬
‫‪ (288‬من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر‪ ،‬فينبغي أن يكــون عالًما بمــا يأمــر بـــه‪ ،‬عالًما بما‬
‫ينهى عنه‪ ،‬رفيًقا بما يأمر به‪ ،‬رفيًقا فيما ينهى عنه‪ ،‬حليًما فيما يأمر به‪ ،‬حليًما فيما ينهى عنه‪ ،‬فالعلم‬
‫قبل المر‪ ،‬والرفق مع المر‪ ،‬والحلم مع المر‪ ،‬فإن لم يكن عالًما لم يكن له أن يقفو ما ليس له به‬
‫علم‪ ..‬وإن كان عالًما ولم يكن رفيًقا‪ ،‬كان كالطبيب الذي ل رفق فيه‪ ،‬فيغلظ على المريض فل يقبل‬
‫منه‪ ،‬وكالمؤدب الغليظ الذي ل يقبل منه الولد‪ ،‬وقد قال تعالى لموسى وهارون عليهما السلم ‪:‬‬
‫ل ليًنا لعله يتذكر أو يخشى( )طه ‪ ..(44 :‬ثم إذا أمر أو نهى‪ ،‬فلبد أن ُيؤذى في‬ ‫) فقول له قو ً‬
‫العادة‪ ،‬فعليه أن يصبر ويحلم‪ ،‬كما قال تعالى ‪) :‬أقم الصلة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر‬
‫واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم المور( )لقمان ‪ ..(17 :‬وقد أمر ال نبيه بالصبر على‬
‫أذى المشركين في غير موضع‪ ،‬وهو إمام المرين بالمعروف والناهين عن المنكر‪ ،‬فإن النسان‬
‫ل أن يكون أمره ل‪ ،‬وقصده طاعة ال فيما أمر به‪ ،‬وهو يحب صلح المأمور‪ ،‬أو إقامة‬ ‫عليه أو ً‬
‫ل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره‪ ،‬كان ذلك خطيئة ل يقبلها‬ ‫الحجة عليه‪ ..‬فإن َفَع َ‬
‫طا‪ ،‬ثم إذا ُرّد عليه ذلك‪ ،‬أو أوذي‪ ،‬أو‬ ‫ال‪ ،‬وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء‪ ،‬كان عمله حاب ً‬
‫نسب إلى أنه مخطئ‪ ،‬وغرضه فاسد‪ ،‬طلبت نفسه النتصار لنفسه‪ ،‬وأتاه الشيطان‪ ،‬فكان مبدأ عمله‬
‫ل‪ ،‬ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه‪ ،‬وربما اعتدى على ذلك المؤذي‪ ،‬وهكذا‬
‫يصيب أصحاب المقالت المختلفة‪ ،‬إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه‪ ،‬وأنه على السنة‪ ،‬فإن‬
‫أكثرهم قد صار لهم في ذلك هـــوى أن ينتصـــر جـاهــهـــم أو رياستــهــم‪ ،‬وما ُنســـب إليــهــم‪ ،‬ل‬
‫يقصدون أن تكون كلمة ال هي العليا‪ ،‬وأن يكون الدين كله ل‪ ،‬بل يغضبون على َمن خالفهم‪ ،‬وإن‬
‫ل سيء القصد‪،‬‬ ‫كان مجتهًدا معذوًرا ل يغضب ال عليه‪ ،‬ويرضون عمن كان يوافقهم‪ ،‬وإن كان جاه ً‬
‫ليس له علم ول حسن قصد‪ ،‬فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده ال ورسوله‪ ،‬ويذموا من لم‬
‫يذمه ال ورسوله‪ ،‬وتصير موالتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم‪ ،‬ل على دين ال ورسوله( )‬
‫‪.(289‬‬

‫ودعا شيخ السلم ابن تيمية إلى سلمة النية‪ ،‬واّتباع الحسان في مراتب النكار‪ ،‬مع جميع‬
‫المبتدعة مهما غلظت بدعتهم‪ ،‬ومنهم الرافضة‪ ،‬لقصد الصلح‪ ،‬فيقول ‪) :‬وهكذا الرد على أهل‬
‫البدع من الرافضة وغيرهم‪ ،‬إن لم يقصد فيه بيان الحق‪ ،‬وهدي الخلق ورحمتهم والحسان إليهم‪ ،‬لم‬
‫حا‪ ،‬وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد‪ ،‬ليحذرها‬
‫يكن عمله صال ً‬
‫العباد‪ ،‬كما في نصوص الوعيد وغيرها‪ ،‬وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيًرا‪ ،‬والمقصود بذلك ردعه‪،‬‬
‫وردع أمثاله‪ ،‬للرحمة والحسان ل للتشفي والنتقام‪ ...‬وهذا مبني على مسألتين ‪:‬‬

‫إحداهما أن الذنب ل يوجب كفر صاحبه‪ ،‬كما تقوله الخوارج‪ ،‬بل ول تخليده في النار ومنع الشفاعة‬
‫فيه‪ ،‬كما يقوله المعتزلة‪.‬‬

‫سق إذا اجتهد فأخطأ‪ ،‬وهذا مشهور‬ ‫الثاني ‪ :‬أن المتأول الذي قصده متابعة الرسول‪ ،‬ل ُيكّفر ول ُيف ّ‬
‫عند الناس في المسائل العملية‪ ،‬وأما مسائل العتقـــاد فكثيــر من الناس كّفروا المخطئين فيهــا‪،‬‬
‫وهذا القــول ل ُيعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان‪ ،‬ول ُيعرف عن أحد من أئمة‬
‫المسلمين‪ ،‬وإنما هو في الصل من أقوال أهل البدع‪ ،‬الذين يبتدعون بدعة‪ ،‬ويكّفرون من خالفهم‪،‬‬
‫كالخوارج والمعتزلة والجهمية( )‪.(290‬‬
‫ولما كان المر بالسنة والنهي عن البدعة من الواجبات العملية‪ ،‬فإن الشيخ يؤكد على مراعاة الدب‬
‫في ذلك‪ ،‬واتباع ما يؤدي إلى إصلح النفوس واستقامتها‪ ،‬من جهة القتداء والقبول‪ ،‬ودفع ما يؤول‬
‫إلى مفسدة أعظم‪ ،‬وتقديم الهم فالهم‪ ،‬ومراعاة المصالح‪ ،‬وفي هذا الشأن يدعو فيقول ‪) :‬عليك هنا‬
‫بأدبين ‪:‬‬

‫أحدهما ‪ :‬أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطًنا وظاهًرا‪ ،‬في خاصتك وخاصة من يطيعك‪،‬‬
‫واعرف المعروف وانكر المنكر‪.‬‬

‫ت َمن يعمل هذا ول يتركه إل إلى شر‬‫والثاني ‪ :‬أن تدعو الناس إلى السنة بحسب المكان‪ ،‬فإذا رأي َ‬
‫منه‪ ،‬فل تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه‪ ،‬أو بترك واجب أو مندوب‪ ،‬تركه أضر من فعل‬
‫ذلك المكروه‪ ،‬ولكن إذا كان في البدعة من الخير فعّوض عنه من الخير المشــــروع بحســـب‬
‫المكـــان‪ ،‬إذ النفــوس ل تتـــرك شيًئا إل بشــيء‪ ،‬ول ينبغي لحد أن يترك خيًرا إل إلى مثله أو‬
‫إلى خير منه(‪.‬‬

‫ثم قال ‪) :‬وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات‪ ،‬تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو‬
‫المر به‪ ،‬ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من‬
‫الكراهة‪ ،‬بل الدين هو المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ول قوام لحدهما إل بصاحبه‪ ،‬فل ُينهى‬
‫عن منكر إل وُيؤمر بمعروف يغني عنه‪ ،‬كما ُيؤمر بعبادة ال سبحانه‪ ،‬وُينهى عن عبادة ما سواه‪ ،‬إذ‬
‫خلقت لتعمل ل لتترك‪ ،‬وإنما الترك مقصود لغيره‪ ،‬فإن‬ ‫رأس المر شهادة أن ل إله إل ال‪ ،‬والنفوس ُ‬
‫لم يشتغل بعمل صالح وإل لم يترك العمل السيء أو الناقص‪ ،‬لكن لما كان في العمال السيئة ما‬
‫ظا للعمل الصالح( )‪.(291‬‬ ‫يفسد عليها العمل الصالح‪ُ ،‬نهيت عنه حف ً‬

‫وينبه الشيخ إلى أن حقيقة العلم تظهر من المر والناهي‪ ،‬في تقديم الهم فالهم عند ازدحام‬
‫المصالح والمفاسد‪ ،‬أو تركه النهي في حال إذا كان النتقال سيكون إلى ما هو أشد شًرا وفساًدا‪،‬‬
‫وهذا يقع في العمال المختلفة التي فيها خير وشر‪ ،‬ويضرب أمثلة عملية لهذا الفقه‪ ،‬فيقول ‪:‬‬
‫)فتعظيم المولد)‪ (292‬واتخاذه موسًما‪ ،‬قد يفعله بعض الناس ويكون فيه أجر عظيم لحسن قصده‪،‬‬
‫سن من بعض الناس ما ُيستقبح من‬ ‫حُ‬‫وتعظيمه لرسول ال صلى ال عليه و سلم‪ ،‬كما قدمُته لك أنه َي ْ‬
‫المؤمن المسدد‪ ،‬ولهذا قيل للمام أحمد عن بعض المراء ‪ :‬إنه أنفق على مصحف ألف دينار أو‬
‫نحو ذلك‪ ،‬فقال ‪ :‬دعهم‪ ،‬فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب‪ ،‬أو كما قال‪ .‬مع أن مذهبه أن زخرفة‬
‫المصاحف مكروهة‪ ،‬وقد تأول بعض الصحاب أنه أنفقها في تجويد الورق والخط‪ ،‬وليس مقصود‬
‫ضا مفسدة ُكره لجلها‪ ،‬فهـــؤلء إن لم‬ ‫أحمد هذا‪ ،‬وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة وفيه أي ً‬
‫يفعلوا هــذا وإل اعتاضــوا بفسـاٍد ل صلح فيه‪ ،‬مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور‪ ،‬من كتب‬
‫طن لحقيقة الدين‪ ،‬وانظر ما اشتملت عليه الفعال‬ ‫السمار أو الشعار‪ ،‬أو حكمة فارس والروم‪ .‬فتف ّ‬
‫من المصالح الشرعية والمفاسد‪ ،‬بحيث تعرف ما مراتب المعروف ومراتب المنكر‪ ،‬حتى تقدم أهمها‬
‫عند الزدحام‪ ،‬فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل( )‪.(293‬‬

‫ومن الوقائع العملية التي ُيقدم فيها الهم فالهم‪ ،‬دفًعا لمفسدة أعظم‪ ،‬ما ذكره ابن القيم)‪ (294‬في‬
‫ت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج‬‫هذا الشأن‪ ،‬مستشهًدا بفقــه شيخـه ابن تيمية ‪) :‬إذا رأي َ‬
‫كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة‪ ،‬إل إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى ال ورسوله‪،‬‬
‫ساق قد اجتمعوا على لهو أو لعب أو سماع‬
‫ت الف ّ‬
‫كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك‪ ..‬وإذا رأي َ‬
‫ُمكاء وتصدية‪ ،‬فإن نقلتهم عنه إلى طاعة ال فهو المراد‪ ،‬وإل كان تركهم على ذلك خيًرا من أن‬
‫ل لهم عن ذلك‪ ..‬وكما إذا كان الرجل مشتغ ً‬
‫ل‬ ‫تفرغهم لما هو أعظم من ذلك‪ ،‬فكان ما هم فيه شاغ ً‬
‫ت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلل والسحر‪ ،‬فدعه وُكُتَبه‬
‫خْف َ‬
‫بكتب المجون ونحوها‪ ،‬و ِ‬
‫ت شيخ السلم ابن تيمية‪ ،‬قدس ال روحه ونّور ضريحه‪ ،‬يقول ‪:‬‬ ‫الولى‪ ،‬وهذا باب واسع‪ ،‬وسمع ُ‬
‫ت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر‪ ،‬فأنكر عليهم َمن كان معي‪،‬‬ ‫مرر ُ‬
‫ت له ‪ :‬إنما حّرم ال الخمر لنها تصد عن ذكر ال وعن الصلة‪ ،‬وهؤلء يصدهم‬ ‫ت عليه‪ ،‬وقل ُ‬
‫فأنكر ُ‬
‫الخمر عن قتل النفوس‪ ،‬وسبي الذرية‪ ،‬وأخذ الموال‪ ،‬فدعهم( )‪.(295‬‬

‫ومن الوقائع التي ُتراعى فيها المصالح‪ ،‬وُتدفع فيها المفاسد‪ ،‬أو ُتقلل بحسب المكان‪ ،‬ما ذكره شيخ‬
‫ظِهر المنكر‪ ،‬إذا لم يمكن صرفه عن المامة )إل بشر‬ ‫السلم ابن تيمية في مسألة الصلة خلف ُم ْ‬
‫أعظم ضرًرا من ضرر ما أظهره من المنكر‪ ،‬فل يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير‪ ،‬ول دفع‬
‫أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين‪ ،‬فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها‪،‬‬
‫وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب المكان‪ ،‬ومطلوبها ترجيح خير الخيرين‪ ،‬إذا لم يمكن أن يجتمعا‬
‫جميًعا‪ ،‬ودفع شر الشرين‪ ،‬إذا لم يندفعا جميًعا‪ ،‬فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إل بضرر‬
‫جَمع والعياد‬ ‫زائد على ضرر إمامته‪ ،‬لم يجز ذلك‪ ،‬بل ُيصلى خلفه ما ل يمكن فعلها إل خلفه‪ ،‬كال ُ‬
‫والجماعة‪ ،‬إذا لم يكن هناك إمام غيره‪ ،‬ولهذا كان الصحابة ُيصّلون خلف الحجاج)‪ ،(296‬والمختار‬
‫بن أبي عبيد الثقفي)‪ ،(297‬وغيرهما الجمعة والجماعة‪ ،‬فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فساًدا‬
‫من القتداء فيها بإمام فاجر‪ ،‬ل سيما إذا كان التخلف عنهما ل يدفع فجوره‪ ،‬فيبقى ترك المصلحة‬
‫الشرعية بدون دفع تلك المفسدة( )‪.(298‬‬

‫ولما كان َقْدر النكار مراعى فيه المصلحة‪ ،‬فإنها قد تكون في استعمال القوة للقضاء على البدعة‬
‫جه شيخ السلم ابن تيمية في التعامل مع )أهل البدع والضلل‪ ،‬والكذب‬ ‫الغليظة‪ ،‬وإلى هذا و ّ‬
‫جاَهدوا باليد واللسان بحسب‬
‫والجهل‪ ،‬وتبديل الدين وتغيير شريعة الرسل ‪-‬وأنهم‪ -‬أولى بأن ُي َ‬
‫المكان‪ ،‬وأنهم فيما استحلوه من جهاد أهل العلم والسنة‪ ،‬من جنس الخوارج المارقين‪ ،‬بل هم شر‬
‫من أولئك‪ ،‬فإن أولئك لم يكونوا يدعون إلى الشرك ومعصية الرسول‪ ،‬وظنهم أنهم ينصرونهم‪ ،‬ظن‬
‫باطل ل ينفعهم( )‪.(299‬‬

‫وعلى العموم‪ ،‬فإن النكار على أئمة البدع من أهل المقالت المخالفة للكتاب والسنة‪ ،‬وبيان حالهم‪،‬‬
‫وتحذير المسلمين من باطلهم‪ ،‬ودفع أذاهم‪ ،‬واجب على الكفاية باتفاق المسلمين‪ ،‬ل يجوز التساهل‬
‫فيه أو التقصير نحوه‪ ،‬لما يترتب على ذلك من فساد القلوب وفساد الدين‪ ،‬وفي هذا يقول شيخ‬
‫السلم ‪) :‬ومثل أئمة البدع من أهل المقالت المخالفة للكتاب والسنة‪ ،‬أو العبادات المخالفة للكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬فإن بيان حالهم‪ ،‬وتحذير المة منهم‪ ،‬واجب باتفاق المسلمين‪ ،‬حتى قيل لحمد بن حنبل ‪:‬‬
‫الرجل يصوم ويصلي ويعتكف‪ ،‬أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال ‪ :‬إذا قام وصلى واعتكف‬
‫فإنما هو لنفسه‪ ،‬وإذا تكلم في أهل البدع‪ ،‬فإنما هو للمسلين‪ ،‬هذا أفضل‪ .‬فبّين أن نفع هذا عام‬
‫للمسلمين في دينهم‪ ،‬من جنس الجهاد في سبيل ال‪ ،‬إذ تطهير سبيل ال ودينه ومنهاجه وشرعته‪،‬‬
‫ودفع بغي هؤلء وعدوانهم على ذلك‪ ،‬واجب على الكفاية باتفاق المسلمين‪ ،‬ولول من يقيمه ال لدفع‬
‫ضرر هؤلء لفسد الدين‪ ،‬وكان فساده أعظم من فساد استيلء العدو من أهل الحرب‪ ،‬فإن هؤلءإذا‬
‫استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إل تبًعا‪ ،‬وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء( )‬
‫‪.(300‬‬
‫الصل العاشر ‪ :‬مشروعية عقوبة الداعي إلى البدعة بما يحقق الزجر والتأديب والمصلحة‪ ،‬لن‬
‫ضرره متعد إلى غيره‪ ،‬بخلف المسر فإنه ُتقبل علنيته‪ ،‬وُيوكل سره إلى ال تعالى‬

‫بّين شيخ السلم ابن تيمية أن السلف والئمة نهجوا منهج التفريق بين المبتدع الداعية وغير‬
‫الداعية‪ ،‬في التعامل معهما‪) ،‬فإن الدعاة إلى البدع ل ُتقبل شهادتهم‪ ،‬ول ُيصلى خلفهم‪ ،‬ول يؤخذ‬
‫عنهم العلم‪ ،‬ول ُيناَكحون‪ ،‬فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا‪ ،‬ولهذا يفّرقون بين الداعية وغير الداعية‪ ،‬لن‬
‫الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة‪ ،‬بخــلف الكــاتم فإنــه ليس شًرا مــن المنافقين الــذين‬
‫كــان النبي صلى ال عليه و سلم يقبل علنيتهم‪ ،‬ويِكل سرائرهم إلى ال‪ ،‬مع علمه بحال كثير منهم‪،‬‬
‫ولهذا جاء في الحديث ‪ :‬إن المعصيــة إذا خفيت لم تضـــر إل صاحبها‪ ،‬ولكن إذا ُأعلنت فلم ُتنكر‬
‫ضرت العامة‪ ،‬وذلك لن النبي صلى ال عليه و سلم قال ‪) :‬إن الناس إذا َرَأْوا المنكر فلم يغيروه‬
‫أوشك أن يعّمهم ال بعقاب منه( )‪ ..(301‬فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها بخلف الباطنة‪ ،‬فإن‬
‫عقوبتها على صاحبها خاصة( )‪.(302‬‬

‫ل‪ ،‬وكانت بدعته غليظة‪ ،‬وأدت إلى كّفه عن البدعة‪،‬‬


‫وهذه العقوبة مقيدة بما إذا لم يكن الداعي متأو ً‬
‫وتنفير الناس منها‪.‬‬

‫وعلى العموم‪) ،‬من قامت عليه الحجة استحق العقوبة‪ ،‬وإل كانت أعماله البدعية المنهي عنها باطلة‬
‫ل ثواب فيها‪ ،‬وكانت منقصة له خافضة له بحسب ُبعده عن السنة‪ ،‬فإن هذا حكم أهل الضلل‪ ،‬وهو‬
‫البعد عن الصراط المستقيم‪ ،‬وما يستحقه أهله من الكرامة‪ ،‬ثم َمن قامت عليه الحجة استحق العقوبة‪،‬‬
‫وإل كان بعده ونقصه وانخفاض درجته‪ ،‬وما يلحقه في الدنيا والخرة‪ ،‬من انخفاض منزلته وسقوط‬
‫حرمته وانحطاط درجته هو جزاؤه‪ ،‬وال حكم عدل ل يظلم مثقال ذرة‪ ،‬وهو عليم حكيم لطيف لما‬
‫يشاء‪ ،‬سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علًوا كبيًرا ‪) :‬له الحمد في الولى والخرة وله الحكم‬
‫وإليه ُترجعون( )القصص ‪.(303) ((70 :‬‬

‫ولما كانت الغاية من عقوبة المبتدع الداعية كّفه عن بدعته وزجره‪ ،‬وابتعاد العامة عن متابعته‪،‬‬
‫تنوعت العقوبة بما يحقق ذلك ويرعى المصلحة‪ ،‬فإنه قد يعاقب أحياًنا بالذم‪ ،‬وذكر ما فيه من فجور‬
‫ومعصية‪ ،‬لينكشف حاله للناس‪ .‬ويعلل شيخ السلم مشروعية هذه العقوبة فيقول ‪) :‬لهذا لم يكن‬
‫للمعلن بالبدع والفجور غيبة‪ ،‬كما روي ذلك عن الحسن البصري)‪ (304‬وغيره‪ ،‬لنه لما أعلن ذلك‬
‫استحق عقوبة المسلمين له‪ ،‬وأدنى ذلك أن ُيذم عليه لينزجر‪ ،‬ويكف الناس عنه وعن مخالطته‪ ،‬ولو‬
‫لم ُيذم وُيذّكر بما فيه من الفجور والمعصية أو البدعة لغتر به الناس‪ ،‬وربما حمل بعضهم على أن‬
‫ف‪ ،‬وانكف غيره‬ ‫ضا هو جرأة وفجوًرا ومعاصي‪ ،‬فإذا ُذّكر بما فيه انك ّ‬
‫يرتكب ما هو عليه‪ ،‬ويزداد أي ً‬
‫عن ذلك‪ ،‬وعن صحبته ومخالطته( )‪.(305‬‬

‫وقد تقتضي المصلحة إيقاع عقوبة أشد على الداعية المبتدع‪ ،‬متى دعا إلى مفسدة عظيمة‪ ،‬وواجه‬
‫الحق الظاهر‪ ،‬فُيعاقب بالهجر أو التعزير أو القتل‪ ،‬إذا كان ل يرتدع إل بإحداها‪ ،‬وإلى هذا أشار ابن‬
‫تيمية في قوله ‪) :‬فإن الحق إذا كان ظاهًرا قد عرفه المسلمون‪ ،‬وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى‬
‫عّزر‪ ،‬كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‬ ‫جر و ُ‬
‫بدعته‪ ،‬فإنه يجب منعه من ذلك‪ ،‬فإذا ُه ِ‬
‫سل التميمي)‪ ،(307‬وكما كان المسلمون يفعلونه‪ ،‬أو ُقتل كما َقَتل‬ ‫عْ‬
‫صِبيغ)‪ (306‬بن ِ‬
‫ال عنه‪ ،‬ب َ‬
‫جْعد بن درهم)‪ ،(308‬وغيلن القدري)‪ (309‬وغيرهما‪ ،‬كان ذلك هو المصلحة‪،‬‬ ‫المسلمون ال َ‬
‫بخلف ما إذا ترك داعًيا‪ ،‬وهو ل يقبل الحق إما لهواه وإما لفساد إدراكه‪ ،‬فإنه ليس في مخاطبته إل‬
‫مفسدة‪ ،‬وضرر عليه وعلى المسلمين‪ ...‬والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف‪ ،‬وكان مقصود الداعي‬
‫إلى البدعة إضرار الناس‪ ،‬قوبل بالعقوبة( )‪.(310‬‬

‫وبّين شيخ السلم أن )الهجر يختلف باختلف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم‪ ،‬فإن‬
‫المقصود به زجر المهجور وتأديبه‪ ،‬ورجوع العامة عن مثل حاله‪ ،‬فإن كانت المصلحة في ذلك‬
‫عا‪ ،‬وإن كان ل المهجور ول‬ ‫راجحة‪ ،‬بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته‪ ،‬كان مشرو ً‬
‫غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر‪ ،‬والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته‪ ،‬لم‬
‫يشرع الهجر‪ ،‬بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الَهجر‪ ،‬والَهجر لبعض الناس أنفع من‬
‫التأليف‪ ،‬ولهذا كان النبي صلى ال عليه و سلم يتألف قوًما ويهجر آخرين‪ ،‬كما أن الثلثة الذين‬
‫خّلفوا‪ ،‬كانوا خيًرا من أكثر المؤلفة قلوبهم‪ ،‬لما كان أولئك سادة مطاعين في عشائرهم‪ ،‬فكانت‬ ‫ُ‬
‫المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم‪ ،‬وهؤلء كانوا مؤمنين‪ ،‬والمؤمنون سواهم كثير‪ ،‬فكان في هجرهم‬
‫عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم‪ ،‬وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة‪ ،‬والمهادنة تارة‪ ،‬وأخذ‬
‫الجزية تارة‪ ،‬كل ذلك بحسب الحوال والمصالح( )‪ .(311‬على أنه ينبغي أن يعلم أن الهجر عقوبة‬
‫لدفع ضرر ناشئ عن بدعة غليظة أو معصية كبيرة‪ ،‬فل ُيهجر من كان مستتًرا على معصية‬
‫صغيرة‪ ،‬أو مسًرا لبدعة غير مكفرة)‪ ،(312‬أو من كانت بدعته فيما يسوغ فيه الجتهاد من المسائل‬
‫الدقيقة‪ ،‬وقد أشار شيخ السلم إلى بعض هذه المسائل عند جوابه على مسألة رؤية الكفار ربهم في‬
‫عَرصات يوم القيامة‪ ،‬فقال ‪) :‬ليست هذه المسألة فيما علمت مما يوجب المهاجرة والمقاطعة‪ ،‬فإن‬ ‫َ‬
‫الذين تكلموا فيها َقْبَلنا عامتهم أهل سنة واتباع‪ ،‬وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا‪ ،‬كما‬
‫اختلف الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬والناس بعدهم‪ ،‬في رؤية النبي صلى ال عليه و سلم ربه في‬
‫الدنيا‪ ،‬وقالوا فيها كلمات غليظة‪ ،‬كقول أم المؤمنين عائشة رضي ال عنها ‪َ) :‬من زعم أن محمًدا‬
‫رأى ربه فقد أعظم على ال الفرية( )‪ ،(313‬ومع هذا فمـــا أوجب هـــذا النــزاع تهاجًرا ول‬
‫تقاطًعا‪ ..‬وكذلك ناظر المام أحمد أقواًما من أهل السنة‪ ،‬في مسألة الشهادة للعشرة بالجنة‪ ،‬حتى آلت‬
‫المناظرة إلى ارتفاع الصوات‪ ،‬وكان أحمد وغيره يرون الشهادة‪ ،‬ولم يهجروا من امتنع من‬
‫الشهادة‪ ،‬إلى مسائل نظير هذه كثيرة( )‪ ..(314‬ومسائل الحكام العملية أكثر‪ ،‬بل الخلف فيها‬
‫طأ شيخ السلم الذين فهموا‬ ‫أشهر‪ ،‬ولم يتهاجر أئمة المسلمين في الفقه بسببها ولم يتقاطعوا‪ ،‬وقد خ ّ‬
‫أن الهجر عام في جميع الحوال‪ ،‬والذين أعرضوا عنه بالكلية‪ ،‬فقال ‪) :‬إن أقواًما جعلوا ذلك عاًما‪،‬‬
‫فاستعملوا من الهجـــر والنكــار ما لم يؤمــروا بـه‪ ،‬فل يجب ول يستحب‪ ،‬وربما تركوا به واجبات‬
‫أو مستحبات‪ ،‬وفعلوا به محرمات‪ ،‬وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره‬
‫من السيئات البدعية‪ ،‬بل تركوها ترك المعرض ل ترك المنتهي الكاره‪ ،‬أو وقعوا فيها‪ ،‬وقد‬
‫يتركونها ترك المنتهي الكاره‪ ،‬ول ينهون عنها غيرهم‪ ،‬ول يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق‬
‫العقوبة عليها‪ ،‬فيكونون قد ضّيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجاًبا أو استحباًبا‪ ،‬فهم بين فعل‬
‫المنكر أو ترك المنهي عنه‪ ،‬وذلك فعل ما نهوا عنه‪ ،‬وترك ما أمروا به‪ ،‬فهذا هذا‪ ،‬ودين ال وسط‬
‫بين الغالي فيه والجافي عنه( )‪.(315‬‬
‫ويقرر شيخ السلم أن القتل عقوبة تعزيرية‪ ،‬ذهب إليها المام مالك)‪ ،(316‬وطائفة من أصحاب‬
‫الشافعي وأحمد وغيرهم)‪ ،(317‬تشرع في حق )الداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد‪ ،‬فإن‬
‫النبي صلى ال عليه و سلم قال ‪) :‬أينما لقيتموهم فاقتلوهم( )‪ ،(318‬وقال ‪) :‬لئن أدركُتهم لقتلنهم‬
‫سل ‪) :‬لو وجدتك محلوًقا لضربتُ الذي‬ ‫عْ‬‫قتل عاد( )‪ ..(319‬وقال عمر رضي ال عنه لصبيغ بن ِ‬
‫فيــه عينــاك( )‪ ..(320‬ولن علي بن أبي طـالب رضي ال عنه طلب أن يقتل عبد ال بن سبأ)‬
‫‪ ،(321‬أول الرافضة‪ ،‬حتى هرب منه‪ ،‬ولن هؤلء من أعظم المفسدين في الرض‪ ،‬فإذا لم يندفع‬
‫فسادهم إل بالقتل ُقتلوا‪ ،‬ول يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول‪ ،‬أو كان في قتله مفسدة‬
‫راجحة‪ ،‬ولهذا ترك النبي صلى ال عليه و سلم قتل ذلك الخارجي ابتداًء‪ ،‬لئل يتحدث الناس أن‬
‫ي قتلهم أول ما ظهروا‪ ،‬لنهم‬ ‫محمًدا يقتل أصحابه‪ ،‬ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام‪ ،‬ولهذا ترك عل ّ‬
‫كانوا خلًقا كثيًرا‪ ،‬وكانوا داخلين في الطاعة والجماعــة ظاهــًرا‪ ،‬لم يحاربوا أهل الجماعة‪ ،‬ولم يكن‬
‫يتبين له أنهم هم( )‪.(322‬‬

‫وعقوبة القتل ل تدل على ردة صاحبها‪ ،‬فهو إنما )يقتل لكف ضرره عن الناس‪ ،‬كما يقتل المحارب‬
‫وإن لم يكن في نفس المر كافًرا‪ ،‬فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته‪ ،‬وعلى هذا قتل غيلن‬
‫القدري وغيره‪ ،‬قد يكون على هذا الوجه( )‪ ،(323‬وتتم هذه العقوبة بعد اليأس من صلح الداعي‬
‫إلى البدعة‪ ،‬وإقامة الحجة عليه‪ ،‬كما فعل المسلمون مع غيلن‪ ،‬فإنهم )ناظروه وبّينوا له الحق‪ ،‬كما‬
‫فعل عمــــر ابن عبد العزيز)‪ (324‬رضي ال عنه‪ ،‬واستتابه ثم نكث التوبة بعد ذلك فقتلوه‪ ،‬وكذلك‬
‫علي رضي ال عنه‪ ،‬بعث ابن عباس رضي ال عنهما‪ ،‬إلى الخوارج فناظرهم‪ ،‬ثم رجع نصفهم‪ ،‬ثم‬
‫قاتل الباقين( )‪.(325‬‬

‫ل على ما يلي ‪:‬‬


‫كذلك فإن عقوبة الداعي‪ ،‬بأي نوع من العقوبات الزاجرة له ليست دلي ً‬

‫أ ـ استحقاقه للثم‪ ،‬فإنه قد يكون المعاَقب معذوًرا‪ ،‬وفي هذا يقول شيخ السلم ‪) :‬يعاقب من دعا إلى‬
‫بدعة تضر الناس في دينهم‪ ،‬وإن كان قد يكون معذوًرا فيها في نفس المر‪ ،‬لجتهاد أو تقليد( )‬
‫‪.(326‬‬

‫حا‪) ،‬ومن هذا هجر المام أحمد‬ ‫ل صال ً‬‫ل أو رج ً‬‫ب ـ سلب العدالة منه‪ ،‬فإنه قد يكون المعاَقب عد ً‬
‫الذين أجابوا في المحنة ‪-‬أي محنة القول بخلق القرآن‪ -‬قبل القيد‪ ،‬ولمن تاب بعد الجابة‪ ،‬ولمن فعل‬
‫بدعة ما‪ ،‬مع أن فيهم أئمة الحديث والفقه والتصوف والعبادة‪ ،‬فإن هجره لهم والمسلمون معه‪ ،‬ل‬
‫خّلفوا‪ ،‬لما أمر النبي صلى ال عليه و سلم المسلمين‬ ‫يمنع معرفة قدر فضلهم‪ ،‬كما أن الثلثة الذين ُ‬
‫بهجرهم‪ ،‬لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق‪ ،‬حتى قد قيل ‪ :‬إن اثنين منهما شهدا بدًرا‪ ،‬وقد قال ‪:‬‬
‫ت لكم( )‪ …(327‬فإن عقوبة الدنيا‬ ‫)كأن ال اطلع على أهل بدر فقال ‪ :‬اعملوا ما شئتم فقد غفر ُ‬
‫حا( )‪.(328‬‬ ‫ل صال ً‬‫ل أو رج ً‬
‫المشروعة من الهجران إلى القتل‪ ،‬ل يمنع أن يكون المعاقب عد ً‬

‫أما غير الداعية ممن وقع في معصية أو بدعة‪ ،‬فإن حكمه حكم غيره من المسلمين‪ ،‬ول أدل على‬
‫صّفين‪ ،‬فإنهم كانوا )يوالي‬
‫جَمل و ِ‬
‫ذلك مما وقع بين السلف من الصحابة والتابعين من اقتتال في الـ َ‬
‫ضا موالة الدين‪ ،‬ل يعادون كمعاداة الكفار‪ ،‬فيقبل بعضهم شهادة بعض‪ ،‬ويأخذ بعضهم‬ ‫بعضهم بع ً‬
‫العلم عن بعض‪ ،‬ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض‪ ،‬مع ما كان‬
‫بينهم من القتال والتلعن وغير ذلك( )‪.(329‬‬
‫الصل العاشر ‪ :‬مشروعية عقوبة الداعي إلى البدعة بما يحقق الزجر والتأديب والمصلحة‪ ،‬لن‬
‫ضرره متعد إلى غيره‪ ،‬بخلف المسر فإنه ُتقبل علنيته‪ ،‬وُيوكل سره إلى ال تعالى‬

‫بّين شيخ السلم ابن تيمية أن السلف والئمة نهجوا منهج التفريق بين المبتدع الداعية وغير‬
‫الداعية‪ ،‬في التعامل معهما‪) ،‬فإن الدعاة إلى البدع ل ُتقبل شهادتهم‪ ،‬ول ُيصلى خلفهم‪ ،‬ول يؤخذ‬
‫عنهم العلم‪ ،‬ول ُيناَكحون‪ ،‬فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا‪ ،‬ولهذا يفّرقون بين الداعية وغير الداعية‪ ،‬لن‬
‫الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة‪ ،‬بخــلف الكــاتم فإنــه ليس شًرا مــن المنافقين الــذين‬
‫كــان النبي صلى ال عليه و سلم يقبل علنيتهم‪ ،‬ويِكل سرائرهم إلى ال‪ ،‬مع علمه بحال كثير منهم‪،‬‬
‫ولهذا جاء في الحديث ‪ :‬إن المعصيــة إذا خفيت لم تضـــر إل صاحبها‪ ،‬ولكن إذا ُأعلنت فلم ُتنكر‬
‫ضرت العامة‪ ،‬وذلك لن النبي صلى ال عليه و سلم قال ‪) :‬إن الناس إذا َرَأْوا المنكر فلم يغيروه‬
‫أوشك أن يعّمهم ال بعقاب منه( )‪ ..(301‬فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها بخلف الباطنة‪ ،‬فإن‬
‫عقوبتها على صاحبها خاصة( )‪.(302‬‬

‫ل‪ ،‬وكانت بدعته غليظة‪ ،‬وأدت إلى كّفه عن البدعة‪،‬‬


‫وهذه العقوبة مقيدة بما إذا لم يكن الداعي متأو ً‬
‫وتنفير الناس منها‪.‬‬

‫وعلى العموم‪) ،‬من قامت عليه الحجة استحق العقوبة‪ ،‬وإل كانت أعماله البدعية المنهي عنها باطلة‬
‫ل ثواب فيها‪ ،‬وكانت منقصة له خافضة له بحسب ُبعده عن السنة‪ ،‬فإن هذا حكم أهل الضلل‪ ،‬وهو‬
‫البعد عن الصراط المستقيم‪ ،‬وما يستحقه أهله من الكرامة‪ ،‬ثم َمن قامت عليه الحجة استحق العقوبة‪،‬‬
‫وإل كان بعده ونقصه وانخفاض درجته‪ ،‬وما يلحقه في الدنيا والخرة‪ ،‬من انخفاض منزلته وسقوط‬
‫حرمته وانحطاط درجته هو جزاؤه‪ ،‬وال حكم عدل ل يظلم مثقال ذرة‪ ،‬وهو عليم حكيم لطيف لما‬
‫يشاء‪ ،‬سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علًوا كبيًرا ‪) :‬له الحمد في الولى والخرة وله الحكم‬
‫وإليه ُترجعون( )القصص ‪.(303) ((70 :‬‬

‫ولما كانت الغاية من عقوبة المبتدع الداعية كّفه عن بدعته وزجره‪ ،‬وابتعاد العامة عن متابعته‪،‬‬
‫تنوعت العقوبة بما يحقق ذلك ويرعى المصلحة‪ ،‬فإنه قد يعاقب أحياًنا بالذم‪ ،‬وذكر ما فيه من فجور‬
‫ومعصية‪ ،‬لينكشف حاله للناس‪ .‬ويعلل شيخ السلم مشروعية هذه العقوبة فيقول ‪) :‬لهذا لم يكن‬
‫للمعلن بالبدع والفجور غيبة‪ ،‬كما روي ذلك عن الحسن البصري)‪ (304‬وغيره‪ ،‬لنه لما أعلن ذلك‬
‫استحق عقوبة المسلمين له‪ ،‬وأدنى ذلك أن ُيذم عليه لينزجر‪ ،‬ويكف الناس عنه وعن مخالطته‪ ،‬ولو‬
‫لم ُيذم وُيذّكر بما فيه من الفجور والمعصية أو البدعة لغتر به الناس‪ ،‬وربما حمل بعضهم على أن‬
‫ف‪ ،‬وانكف غيره‬ ‫ضا هو جرأة وفجوًرا ومعاصي‪ ،‬فإذا ُذّكر بما فيه انك ّ‬
‫يرتكب ما هو عليه‪ ،‬ويزداد أي ً‬
‫عن ذلك‪ ،‬وعن صحبته ومخالطته( )‪.(305‬‬

‫وقد تقتضي المصلحة إيقاع عقوبة أشد على الداعية المبتدع‪ ،‬متى دعا إلى مفسدة عظيمة‪ ،‬وواجه‬
‫الحق الظاهر‪ ،‬فُيعاقب بالهجر أو التعزير أو القتل‪ ،‬إذا كان ل يرتدع إل بإحداها‪ ،‬وإلى هذا أشار ابن‬
‫تيمية في قوله ‪) :‬فإن الحق إذا كان ظاهًرا قد عرفه المسلمون‪ ،‬وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى‬
‫عّزر‪ ،‬كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‬ ‫جر و ُ‬
‫بدعته‪ ،‬فإنه يجب منعه من ذلك‪ ،‬فإذا ُه ِ‬
‫سل التميمي)‪ ،(307‬وكما كان المسلمون يفعلونه‪ ،‬أو ُقتل كما َقَتل‬ ‫عْ‬
‫صِبيغ)‪ (306‬بن ِ‬
‫ال عنه‪ ،‬ب َ‬
‫جْعد بن درهم)‪ ،(308‬وغيلن القدري)‪ (309‬وغيرهما‪ ،‬كان ذلك هو المصلحة‪،‬‬ ‫المسلمون ال َ‬
‫بخلف ما إذا ترك داعًيا‪ ،‬وهو ل يقبل الحق إما لهواه وإما لفساد إدراكه‪ ،‬فإنه ليس في مخاطبته إل‬
‫مفسدة‪ ،‬وضرر عليه وعلى المسلمين‪ ...‬والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف‪ ،‬وكان مقصود الداعي‬
‫إلى البدعة إضرار الناس‪ ،‬قوبل بالعقوبة( )‪.(310‬‬

‫وبّين شيخ السلم أن )الهجر يختلف باختلف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم‪ ،‬فإن‬
‫المقصود به زجر المهجور وتأديبه‪ ،‬ورجوع العامة عن مثل حاله‪ ،‬فإن كانت المصلحة في ذلك‬
‫عا‪ ،‬وإن كان ل المهجور ول‬ ‫راجحة‪ ،‬بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته‪ ،‬كان مشرو ً‬
‫غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر‪ ،‬والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته‪ ،‬لم‬
‫يشرع الهجر‪ ،‬بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الَهجر‪ ،‬والَهجر لبعض الناس أنفع من‬
‫التأليف‪ ،‬ولهذا كان النبي صلى ال عليه و سلم يتألف قوًما ويهجر آخرين‪ ،‬كما أن الثلثة الذين‬
‫خّلفوا‪ ،‬كانوا خيًرا من أكثر المؤلفة قلوبهم‪ ،‬لما كان أولئك سادة مطاعين في عشائرهم‪ ،‬فكانت‬ ‫ُ‬
‫المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم‪ ،‬وهؤلء كانوا مؤمنين‪ ،‬والمؤمنون سواهم كثير‪ ،‬فكان في هجرهم‬
‫عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم‪ ،‬وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة‪ ،‬والمهادنة تارة‪ ،‬وأخذ‬
‫الجزية تارة‪ ،‬كل ذلك بحسب الحوال والمصالح( )‪ .(311‬على أنه ينبغي أن يعلم أن الهجر عقوبة‬
‫لدفع ضرر ناشئ عن بدعة غليظة أو معصية كبيرة‪ ،‬فل ُيهجر من كان مستتًرا على معصية‬
‫صغيرة‪ ،‬أو مسًرا لبدعة غير مكفرة)‪ ،(312‬أو من كانت بدعته فيما يسوغ فيه الجتهاد من المسائل‬
‫الدقيقة‪ ،‬وقد أشار شيخ السلم إلى بعض هذه المسائل عند جوابه على مسألة رؤية الكفار ربهم في‬
‫عَرصات يوم القيامة‪ ،‬فقال ‪) :‬ليست هذه المسألة فيما علمت مما يوجب المهاجرة والمقاطعة‪ ،‬فإن‬ ‫َ‬
‫الذين تكلموا فيها َقْبَلنا عامتهم أهل سنة واتباع‪ ،‬وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا‪ ،‬كما‬
‫اختلف الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬والناس بعدهم‪ ،‬في رؤية النبي صلى ال عليه و سلم ربه في‬
‫الدنيا‪ ،‬وقالوا فيها كلمات غليظة‪ ،‬كقول أم المؤمنين عائشة رضي ال عنها ‪َ) :‬من زعم أن محمًدا‬
‫رأى ربه فقد أعظم على ال الفرية( )‪ ،(313‬ومع هذا فمـــا أوجب هـــذا النــزاع تهاجًرا ول‬
‫تقاطًعا‪ ..‬وكذلك ناظر المام أحمد أقواًما من أهل السنة‪ ،‬في مسألة الشهادة للعشرة بالجنة‪ ،‬حتى آلت‬
‫المناظرة إلى ارتفاع الصوات‪ ،‬وكان أحمد وغيره يرون الشهادة‪ ،‬ولم يهجروا من امتنع من‬
‫الشهادة‪ ،‬إلى مسائل نظير هذه كثيرة( )‪ ..(314‬ومسائل الحكام العملية أكثر‪ ،‬بل الخلف فيها‬
‫طأ شيخ السلم الذين فهموا‬ ‫أشهر‪ ،‬ولم يتهاجر أئمة المسلمين في الفقه بسببها ولم يتقاطعوا‪ ،‬وقد خ ّ‬
‫أن الهجر عام في جميع الحوال‪ ،‬والذين أعرضوا عنه بالكلية‪ ،‬فقال ‪) :‬إن أقواًما جعلوا ذلك عاًما‪،‬‬
‫فاستعملوا من الهجـــر والنكــار ما لم يؤمــروا بـه‪ ،‬فل يجب ول يستحب‪ ،‬وربما تركوا به واجبات‬
‫أو مستحبات‪ ،‬وفعلوا به محرمات‪ ،‬وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره‬
‫من السيئات البدعية‪ ،‬بل تركوها ترك المعرض ل ترك المنتهي الكاره‪ ،‬أو وقعوا فيها‪ ،‬وقد‬
‫يتركونها ترك المنتهي الكاره‪ ،‬ول ينهون عنها غيرهم‪ ،‬ول يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق‬
‫العقوبة عليها‪ ،‬فيكونون قد ضّيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجاًبا أو استحباًبا‪ ،‬فهم بين فعل‬
‫المنكر أو ترك المنهي عنه‪ ،‬وذلك فعل ما نهوا عنه‪ ،‬وترك ما أمروا به‪ ،‬فهذا هذا‪ ،‬ودين ال وسط‬
‫بين الغالي فيه والجافي عنه( )‪.(315‬‬

‫ويقرر شيخ السلم أن القتل عقوبة تعزيرية‪ ،‬ذهب إليها المام مالك)‪ ،(316‬وطائفة من أصحاب‬
‫الشافعي وأحمد وغيرهم)‪ ،(317‬تشرع في حق )الداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد‪ ،‬فإن‬
‫النبي صلى ال عليه و سلم قال ‪) :‬أينما لقيتموهم فاقتلوهم( )‪ ،(318‬وقال ‪) :‬لئن أدركُتهم لقتلنهم‬
‫سل ‪) :‬لو وجدتك محلوًقا لضربتُ الذي‬ ‫عْ‬
‫قتل عاد( )‪ ..(319‬وقال عمر رضي ال عنه لصبيغ بن ِ‬
‫فيــه عينــاك( )‪ ..(320‬ولن علي بن أبي طـالب رضي ال عنه طلب أن يقتل عبد ال بن سبأ)‬
‫‪ ،(321‬أول الرافضة‪ ،‬حتى هرب منه‪ ،‬ولن هؤلء من أعظم المفسدين في الرض‪ ،‬فإذا لم يندفع‬
‫فسادهم إل بالقتل ُقتلوا‪ ،‬ول يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول‪ ،‬أو كان في قتله مفسدة‬
‫راجحة‪ ،‬ولهذا ترك النبي صلى ال عليه و سلم قتل ذلك الخارجي ابتداًء‪ ،‬لئل يتحدث الناس أن‬
‫ي قتلهم أول ما ظهروا‪ ،‬لنهم‬‫محمًدا يقتل أصحابه‪ ،‬ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام‪ ،‬ولهذا ترك عل ّ‬
‫كانوا خلًقا كثيًرا‪ ،‬وكانوا داخلين في الطاعة والجماعــة ظاهــًرا‪ ،‬لم يحاربوا أهل الجماعة‪ ،‬ولم يكن‬
‫يتبين له أنهم هم( )‪.(322‬‬

‫وعقوبة القتل ل تدل على ردة صاحبها‪ ،‬فهو إنما )يقتل لكف ضرره عن الناس‪ ،‬كما يقتل المحارب‬
‫وإن لم يكن في نفس المر كافًرا‪ ،‬فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته‪ ،‬وعلى هذا قتل غيلن‬
‫القدري وغيره‪ ،‬قد يكون على هذا الوجه( )‪ ،(323‬وتتم هذه العقوبة بعد اليأس من صلح الداعي‬
‫إلى البدعة‪ ،‬وإقامة الحجة عليه‪ ،‬كما فعل المسلمون مع غيلن‪ ،‬فإنهم )ناظروه وبّينوا له الحق‪ ،‬كما‬
‫فعل عمــــر ابن عبد العزيز)‪ (324‬رضي ال عنه‪ ،‬واستتابه ثم نكث التوبة بعد ذلك فقتلوه‪ ،‬وكذلك‬
‫علي رضي ال عنه‪ ،‬بعث ابن عباس رضي ال عنهما‪ ،‬إلى الخوارج فناظرهم‪ ،‬ثم رجع نصفهم‪ ،‬ثم‬
‫قاتل الباقين( )‪.(325‬‬

‫ل على ما يلي ‪:‬‬


‫كذلك فإن عقوبة الداعي‪ ،‬بأي نوع من العقوبات الزاجرة له ليست دلي ً‬

‫أ ـ استحقاقه للثم‪ ،‬فإنه قد يكون المعاَقب معذوًرا‪ ،‬وفي هذا يقول شيخ السلم ‪) :‬يعاقب من دعا إلى‬
‫بدعة تضر الناس في دينهم‪ ،‬وإن كان قد يكون معذوًرا فيها في نفس المر‪ ،‬لجتهاد أو تقليد( )‬
‫‪.(326‬‬

‫حا‪) ،‬ومن هذا هجر المام أحمد‬ ‫ل صال ً‬‫ل أو رج ً‬‫ب ـ سلب العدالة منه‪ ،‬فإنه قد يكون المعاَقب عد ً‬
‫الذين أجابوا في المحنة ‪-‬أي محنة القول بخلق القرآن‪ -‬قبل القيد‪ ،‬ولمن تاب بعد الجابة‪ ،‬ولمن فعل‬
‫بدعة ما‪ ،‬مع أن فيهم أئمة الحديث والفقه والتصوف والعبادة‪ ،‬فإن هجره لهم والمسلمون معه‪ ،‬ل‬
‫خّلفوا‪ ،‬لما أمر النبي صلى ال عليه و سلم المسلمين‬ ‫يمنع معرفة قدر فضلهم‪ ،‬كما أن الثلثة الذين ُ‬
‫بهجرهم‪ ،‬لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق‪ ،‬حتى قد قيل ‪ :‬إن اثنين منهما شهدا بدًرا‪ ،‬وقد قال ‪:‬‬
‫ت لكم( )‪ …(327‬فإن عقوبة الدنيا‬ ‫)كأن ال اطلع على أهل بدر فقال ‪ :‬اعملوا ما شئتم فقد غفر ُ‬
‫حا( )‪.(328‬‬ ‫ل صال ً‬‫ل أو رج ً‬
‫المشروعة من الهجران إلى القتل‪ ،‬ل يمنع أن يكون المعاقب عد ً‬

‫أما غير الداعية ممن وقع في معصية أو بدعة‪ ،‬فإن حكمه حكم غيره من المسلمين‪ ،‬ول أدل على‬
‫صّفين‪ ،‬فإنهم كانوا )يوالي‬
‫جَمل و ِ‬
‫ذلك مما وقع بين السلف من الصحابة والتابعين من اقتتال في الـ َ‬
‫ضا موالة الدين‪ ،‬ل يعادون كمعاداة الكفار‪ ،‬فيقبل بعضهم شهادة بعض‪ ،‬ويأخذ بعضهم‬ ‫بعضهم بع ً‬
‫العلم عن بعض‪ ،‬ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض‪ ،‬مع ما كان‬
‫بينهم من القتال والتلعن وغير ذلك( )‪.(329‬‬

‫الصل الثاني عشر ‪ :‬قبول توبة الداعي إلى البدعة‬

‫يذهب شيخ السلم ابن تيمية إلى أن البدعة مهما غلظت‪ ،‬ذنب من الـذنــوب‪ ،‬ومــا مــن ذنب إل‬
‫ل بقولـه تعالـى ‪) :‬قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ل تقنطوا من‬
‫ويغفـــره ال تعـالـى‪ ،‬مستــد ً‬
‫ل ‪ :‬هي )آية عظيمة جامعة‪ ،‬من أعظم‬ ‫رحمة ال إن ال يغفر الذنوب جميًعا( )الزمر ‪ ،(53 :‬قائ ً‬
‫اليات نفًعا‪ ،‬وفيها رد على طوائف‪ ،‬رد على من يقول ‪ :‬إن الداعي إلى البدعة ل تقبل توبته‪،‬‬
‫ويحتجون بحديث إسرائيلي‪ ،‬فيه )أنه قيل لذلك الداعية ‪ :‬فكيف بمن أضللت( )‪ ،(344‬وهذا يقوله‬
‫طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث‪ ،‬وليسوا من العلماء بذلك‪ ،‬كأبي علي الهوازي)‪(345‬‬
‫وأمثاله‪ ،‬ممن ل يميزون بين الحاديث الصحيحة والموضوعة‪ ،‬وما يحتج به وما ل يحتـــج به‪ ،‬بل‬
‫ل في مذهب أحمد أو رواية عنه‪،‬‬ ‫يـروون كل ما في الباب محتجين به‪ ،‬وقد حكى هذا طائفٌة قو ً‬
‫وظاهر مذهبه مع مذاهب سائر أئمة المسلمين‪ ،‬أنه ُتقبل توبته كما ُتقبل توبة الداعي إلى الكفر‪،‬‬
‫وتوبة من فتن الناس عن دينهم‪ ،‬وقد تاب قادة الحزاب‪ ،‬مثل أبي سفيان بن حرب)‪ ،(345‬والحارث‬
‫سهيل بن عمرو)‪ ،(347‬وصفوان بن أمية)‪ ،(348‬وعكرمة بن أبي جهل)‬ ‫بن هشام)‪ ،(346‬و ُ‬
‫‪ ،(349‬وغيرهم بعد أن ُقتل على الكفر بدعائهم من ُقتل‪ ،‬وكانوا من أحسن الناس إسلًما‪ ،‬وغفر ال‬
‫لهم‪ ،‬قال تعالــى ‪) :‬قل للذين كفروا إن ينتهوا ُيغفر لهم ما قد سلف( )النفال ‪ ..(38 :‬وعمرو بن‬
‫العاص)‪ (350‬كان من أعظم الدعاة إلى الكفر واليذاء للمسلمين‪ ،‬وقد قال له النبي صلى ال عليه و‬
‫ب ما كان قبله؟( )‪ ..( 352) ((351‬ومن البدع‬ ‫ج ّ‬
‫سلم لما أسلم ‪) :‬يا عمرو‪ ،‬أما علمت أن السلم َي ُ‬
‫الغليظة التي نص شيخ السلم ابن تيمية على قبول توبة التائب منها‪ ،‬بدعة سب الصحابة)‪(253‬‬
‫رضي ال عنهم‪ ،‬وبدعة التحادية ووحدة الوجود)‪.(254‬‬

‫وقد بّين شيخ السلم رحمه ال غلط َمن ذهب إلى أن توبة الداعي إلى البدعة ل ُتقبل‪ ،‬من جهة‬
‫الدليل من الكتاب والسنة‪ ،‬فإن ال بّين في كتابه أنه يتوب على أئمة الكفر‪ ،‬الذين أهم أعظم من أئمــة‬
‫البــدع‪ ،‬فـقال تعالــى ‪) :‬إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم‬
‫عذاب الحريق( )البروج ‪ .(10 :‬قال الحسن ‪) :‬انظروا إلى هذا الكلم‪ ،‬عّذبوا أولياءه وفتنوهم‪ ،‬ثم‬
‫حرم فاقتلوا‬
‫هو يدعوهم إلى التوبة( )‪ .(255‬وقال تعالى عن المشركين ‪) :‬فإذا انسلخ الشهر ال ُ‬
‫المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد‪ ،‬فإن تابوا وأقاموا الصلة‬
‫وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن ال غفور رحيم ( )التــوبــــة ‪ ..(5 :‬وقال تعالى ‪) :‬قد كفر الذين قالوا‬
‫إن ال ثالث ثلثة وما من إله إل إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب‬
‫أليم أفل يتوبون إلى ال ويستغفرونه وال غفور رحيم ( )المائدة ‪ ..(74-73 :‬وأما السنة فإنها دلت‬
‫سا‪ ،‬فسأل هل له من توبة‪ ،‬فُد ّ‬
‫ل‬ ‫على قبول توبة القاتل‪ ،‬كما في حديث )الذي قتل تسعة وتسعين نف ً‬
‫على رجل عالم‪ ،‬فقال ‪ :‬نعم‪ ،‬ومن يحول بينه وبين التوبة( )‪ ..(256‬والقتل من الذنوب الكبيرة‪ ،‬ثم‬
‫إنه ليس في الكتـاب والسنــة ما ينـافـي ذلك ول نصوص الوعيد‪ ،‬بل علم يقيًنا أن كل ذنب فيه‬
‫وعيد‪ ،‬فإن لحوق الوعيد به مشروط بعدم التوبة‪ ،‬إذ نصوص التوبة مبينة لتلك النصوص‪ ،‬كالوعيد‬
‫في الشرك وأكل الربا)‪.(257‬‬

‫جه رحمه ال أقوال القائلين بعدم قبول توبة الداعي إلى البدعة بما يلي ‪:‬‬
‫وو ّ‬

‫سقط حق ال في العقاب‪ ،‬دون‬


‫أ ـ َمن قال ‪ :‬توبة الداعي غير مقبولة‪ ،‬فيعني ‪ :‬أن التوبة المجردة ُت ْ‬
‫حق المظلومين)‪.(258‬‬

‫ب ـ وَمن قال ‪ :‬البدعة ل ُيتاب منها‪ ،‬فيقصد بذلك ‪) :‬أن المبتدع الذي يتخذ ديًنا لم يشرعه ال ول‬
‫رسـوله‪ ،‬قد ُزين له ســوء عملـه فـرآه حسًنا‪ ،‬فهـو ل يتوب مادام يراه حسًنا‪ ،‬لن أول التوبة العلم‬
‫بأن فعله سيء ليتوب منه‪ ،‬أو بأنه ترك حسًنا مأموًرا به أمر إيجاب أو استحباب‪ ،‬ليتوب ويفعله‪،‬‬
‫فمادام يرى فعله حسًنا‪ ،‬وهو سيء في نفس المر‪ ،‬فإنه ليتوب( )‪.(259‬‬
‫جـ ـ وَمن قال ‪ :‬إن ال حجر التوبة على كل صاحب بدعة‪ ،‬فإنه يقصد ‪ :‬إنه )ل يتوب منها‪ ،‬لنه‬
‫يحسب أنه على هدى‪ ،‬ولو تاب لتاب عليه‪ ،‬كما يتوب على الكافر( )‪.(260‬‬

‫وهكذا فما ورد مما يدل على عدم قبول التوبة‪ ،‬فمحمول على تلك المعاني‪ ،‬أو أن قائلي تلك القوال‬
‫قالوها على وجه التغليظ على أهل البدع‪ ،‬لتنفير الناس من البدع‪ ،‬وذلك لقوة دليل من يقول بقبول‬
‫التوبة‪.‬‬

‫الخــاتمــــة‬

‫وبعد هذا‪ ،‬فإن شيخ السلم ابن تيمية استطاع بتحرير هذه الصول ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ أن يقيم ميزان القسط في وزن أقوال المبتدعة وآرائهم‪ ،‬وأن يضبط به الحكم عليها‪ ،‬بحيث يقبل‬
‫منها ما وافق الحق‪ ،‬ويرد منها ما خالفه‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ أن يظهر منهج أهل السنة والجماعة فى الحكم على المبتدعة‪ ،‬وأن يبين أنه قائم على العدل‬
‫غْمط في حق‪.‬‬ ‫والعلـــم‪ ،‬من غيـــر مداهنـــة في باطــل‪ ،‬ول َ‬

‫‪ 3‬ـ أن ييسر لهل العلم سبيل النتهاء إلى أحكام دقيقة ومنضبطة‪ ،‬وسالمة من الظلم والجهل‪،‬‬
‫يردون إليها الجزئيات قبل إصدار أحكامهم‪ ،‬ويعلمون بها حقيقة القوال والراء‪ ،‬وما تستحقه من‬
‫أحكام‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ أن يدفع الفساد الناشئ عن مخالفة منهج العدل والعلم في الحكم على المبتدعة‪ ،‬من الوقوع في‬
‫الظلم والكذب‪ ،‬والساءة إلى الناس‪ ،‬وبخس حقوقهم‪ ،‬والتخبط في الحكام والمناهج‪ ،‬وإحداث الفرقة‬
‫والبغضاء‪ ،‬وإثارة الفتن والعداوات‪ ،‬إلى غير ذلك من العظائم‪.‬‬

‫فما أحوج طلب العلم إلى دراسة هذه الصول وتمعنها‪ ،‬والستفادة منها علمًيا وعملًيا‪ ..‬فإنها‬
‫رسمت المسلك العدل الذي أمر به القرآن الكريم‪ ،‬في قوله تعالى ‪) :‬يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين‬
‫ل شهداء بالقسط ول يجرمنكم شنآن قوم على أن ل تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا ال إن ال‬
‫خبير بما تعملون( )المائدة ‪.(8 :‬‬

‫والحمد ل رب العالمين‪ ،‬والصلة والسلم على الهادي المين نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪.‬‬

You might also like