You are on page 1of 78

‫رواية مواسم أكل الحنظل‬

‫‪.‬‬ ‫‪:‬‬

‫"جميع الشخصيات الواردة في هذه الرواية هي من وحي الخيال ‪ ،‬وأي تشابه في‬
‫مسمى أو وصف كبر أو صغر قرب أوبعد هو من قبيل الصدفة والقتراب الروائي من‬
‫الواقع"‬
‫الحلم الواعد‬
‫(‪) 1‬‬
‫وقع البحر في هوى الصحراء ‪ ،‬يدفع أمواجه في بحر العشق تيار شوق لزمان مضت ‪،‬‬
‫احتضن فيها الصحراء بين ذراعيه ‪ ،‬تظللها زرقته ‪ ،‬وتخضل ترابها أمواجه ‪.‬لكن المسافة‬
‫بينهما كانت جد طويلة ‪ ،‬فلم تكن الصحراء لتنسى انحساره عنها وتركه لها ‪ .‬فاكتفى منها‬
‫بنظرات الغرام ‪ ،‬وهي تتربع بعيداً عنه خلف الرمال البيضاء يبثها لواعج نفسه عبر‬
‫النسام الباردة ‪ .‬وتذكر إحدى الروايات أن البحر ولما بلغ به الشوق قدراً لم يستطيع له‬
‫مداراة ‪ ،‬تمرد على قوانينه طالباً من الصحراء وصلً ‪ ،‬لكن آماله تكسرت تكسر أمواجه‬
‫على الشاطئ كل يوم فلم يبقى من هذا الغرام غير خليج يذكر بتخطي بحر لشواطئه في‬
‫لحظة حب ‪ .‬وفي زمن تالٍ ابتعدت فيه السطورة عن رومانسية اللهة ‪ ،‬وهو زمن أقرب‬
‫إلى عهد السيادة الرومانية ‪ ،‬ظهرت رواية ثانية ‪ ،‬أرجعت سبب تكون هذا الخليج إلى أن‬
‫الشواطئ تأففت يومًا من الحذاء اليطالي الممتد في البحر البيض ‪ ،‬فابتعدت عنه لتحفظ‬
‫طهارة تربتها ونقاء هواءها ‪.‬‬
‫على شواطئ هذا الخليج امتدت رمال بيضاء ‪ ،‬تلتها على بعد عدة أميال من البحر‬
‫مرتفعات بسيطة ‪ ،‬لم يغامر أحد ما في يوم من اليام بنسبة اسم الجبل إلى أي منها ‪،‬‬
‫بجانب هذه المرتفعات امتدت وديان لم يحكى عن أحد منها أنه فاض بالماء ذات شتاء ‪،‬‬
‫فهذا مكان شحيح المطر مما يضطر سكانه إلى العتماد على آبار يحفرونها بأيدي‬
‫أقويائهم من الرجال ليرتووا ويرووا عطش أنعامهم ‪ ،‬هذه الصفة التي وجد فيها بعض‬
‫المتشائمين مصدراً لكلمة إجدابيا ‪ ،‬السم الذي حملته المدينة القريبة من هذا المكان ‪،‬‬
‫والتي ل تفصلها عن شاطئ الخليج أكثر من خمسة عشر ميلً ‪ .‬شوق هذه الوديان الممتدة‬
‫إلى أن تفيض بالماء في مواسم المطر ‪ ،‬جعل منها أماكن وادعة آمنة ‪ ،‬وداعة وأمناً‬
‫يغريان النجوع باتخاذها سكناً لهم لتجد بيوت كل نجع وقد امتدت بالوادي يتحاذى فيه‬
‫البيت بالبيت وتتشابك فيه الرمة بالرمة ‪.‬‬
‫كان سكان هذه الوديان ناساً بسطاء ‪ ،‬يؤمنون كما يتعلم أطفالهم أن الصالحين سعداء ‪ ،‬وأن‬
‫كل المور تأتي كما ينبغي أن تكون ‪ .‬تصل أساطيرهم إلى نهاياتها السعيدة ‪ ،‬فل يقاسي‬
‫فيها غير المغضوب عليهم مستحقين لما نالوا ‪ .‬يجلبون المطر بالصلة ‪ ،‬ويبعدون‬
‫الشياطين بالبخور ‪ ،‬ويستبصرون مصير غائبهم بالضرب في الرمل ‪ ،‬وقراءة الكف‬
‫والتشبير ‪ .‬تحذر المهات أطفالهن من سرد الحكايات في النهار ‪ ،‬ومن أن تراهم الطيرة‬
‫في المساء فتنقر رؤوسهم الصغيرة ‪ ،‬ليطلقن عليهم الغول في الليل ‪ ،‬عبر حكايات تعاد كل‬
‫يوم يستمع إليها الطفال بذات الفرح والفضول ‪ ،‬حتى يسرقهم النوم وهم مندسين في‬
‫أحضانهن ‪ ،‬خشية أن يباغت نجعهم غول يبحث عن أمير لم يكن يوماً بين يديه ‪ ،‬أو تدخل‬
‫بيتهم غولة تطلب طفلً رفض أن يرضع من حليب ثديها ‪.‬‬
‫وكل مساء وحالما تشعل أول نساء النجع النار في تنورها ويتصاعد منه الدخان ‪ ،‬تسارع‬
‫الشمس إلى الختفاء خلف المرتفعات الغربية ‪ ،‬وكأنها تخشى على ثوبها الجميل أن يتشوه‬
‫‪ .‬وبابتعاد الشمس عن النجع تتضآل شجاعة الطفال ‪ ،‬فتتقلص دائرة الليبرة لتنتهي مع‬
‫ظهور أول نجم في السماء إلى مجموعة من الطفال يدور كل منهم حول أمه ‪ ،‬ينتظر‬
‫القنان الذي وعدته به والذي ل يتوانى عن إطعام نصفه لحد كلب النجع ‪ ،‬ومن تجاوز‬
‫في تلك اللحظة ضوضاء الطفال ‪ ،‬تناهى إلى سمعه صوت قطعان الماشية آتٍ من بعيد‬
‫يكسر صمت هذه الوديان ‪ ،‬وكأنها تغني أغنية جماعية صاغتها على لحن زمارة راعيها ‪،‬‬
‫وما يكاد يتضح صوت القطيع ويختفي صوت الزمارة ‪ ،‬حتى تسارع نساء النجع إلى‬
‫تنظيف معالف الماشية مما علق بها من التراب ليضعن فيها الشعير ‪ ،‬ثم تولي كل منهن‬
‫راجعة إلى تنورها لتلتقط طبق الخبز وتنادي أطفالها أن أدخلوا إلى البيت ‪ ،‬فالنهار قد ولى‬
‫‪ ،‬والليل قد حل ‪ ،‬وفي الليل يحوم البوم ويخرج الغول من بيته ‪ ،‬ويمتلئ الوادي بالشياطين‬
‫يذرعونه جيئة وذهاباً ‪ ،‬وتجلس الساحرات على قمم المرتفعات ‪ ،‬ويترك الموتى قبورهم‬
‫فيأتوا البيوت لينظروا مَن مِن الطفال لم ينام ‪.‬‬
‫في أحد هذه الوديان ‪ ،‬تقلص النجع إلى بيت شعر واحد ‪ ،‬اهتمت صاحبته بنظافته دون أن‬
‫تهتم بتجديد أي من أجزائه التي يظهر عليها واضحاً أثر ليالي الشتاء العاصفة ‪ ،‬وشمس‬
‫الصيف الحارقة ‪ ،‬وتقلصت القبيلة في هذا الوادي إلى ثلثة أشخاص ‪ ،‬عجوز اعتلها‬
‫الحزن واعتراها قلق النتظار ‪ ،‬وشيخ أقعده الكبر وأسكته المرض ‪ ،‬وابن خذلته الشمس‬
‫بغروبها فصار في الدرب وحيداً وكان لزاماً عليه أن يتأخر ‪.‬‬
‫تخرج الحاجة حليمة لتقف أمام البيت ‪ ،‬وتنظر إلى الدرب المؤدية إلى البلدة لعلها ترى‬
‫ابنها يخترق هذا الظلم ‪ ،‬الذي بدأ يرخي سدوله على المكان فيبدد مجيئه ما اعتراها من‬
‫قلق ‪ ،‬وإذ لم ترى أحد استدارت الحاجة حليمة وهمت بالدخول حانية ظهرها حذر أن‬
‫تلتطم جبهتها بالشارب‪ ، )(1‬وقبل أن تدخل ترأى لها في السماء شيئاً ‪ ،‬فتوقفت ونظرت إلى‬
‫أعلى لتتبينه فلمحت غراباً يحوم في السماء ‪ ،‬اعتلى وجهها مزيجاً من الحزن والخوف ‪،‬‬
‫ودخلت البيت وهي تتمتم ‪:‬‬
‫اللهم أحمينا ول تشمت عدو فينا ‪...‬اللهم باعد عنا الشر والشرار يا كريم ياستار ‪ .‬داخل‬
‫البيت كان الشيخ عبد ال يرقد على بطانية قديمة بهت لونها البني ‪ ،‬مستنداً وسادتين ‪ ،‬وقد‬
‫دس جسده النحيل تحت عباءة وبر مهترئة تركت عليها الفئران بصمات أكثر من زيارة ‪،‬‬
‫وحالما دخلت الحاجة حليمة البيت ‪ ،‬لمح في وجهها خوفاً ارتسم عليه لرؤيتها غراباً حام‬
‫في سماء واديهم ‪ ،‬فنظر إليها دون أن يتكلم نظرة قرأت فيها سؤاله الذي لم يطرحه ‪،‬‬
‫فقالت وهي تجلس بجانبه وتربت على كتفه ‪:‬‬
‫‪ -‬لشيء هناك ‪...‬فقط أنا قلقة بعض الشيء على امعيزيق ‪ ،‬فالدنيا أظلمت وهو غير معتاد‬
‫على الخروج في الليل ‪.‬‬

‫(‪ )1‬الشارب ‪ :‬الحافة العليا من مقدمة البيت ‪.‬‬


‫نظر إليها نظرة حاولت أن تستشف منها بعض الطمئنان ‪ ،‬لكن لم ترى فيها غير التساؤل‬
‫‪ .‬أحست شعوره بالعجز ‪ ،‬فتدحرجت دمعة على خدها لم تحاول مسحها لكي ل يشعر‬
‫بشيء ‪ ،‬فسالت الدمعة عبر أخاديد خدها ثم سقطت على ركبتها ليمتصها الثوب باهت‬
‫اللوان ‪.‬‬
‫بعد ساعة من القلق المتواصل عل نباح الكلب ‪ ،‬فخرجت تترقب وصول القادم الذي لم‬
‫تشك لحظة في كونه امعيزيق ولدها ‪ ،‬وحالما لمحت شبحاً يلوح وسط الظلم نادت متسائلة‬
‫بصوت عال ‪:‬‬
‫‪-‬من هناك ؟‬
‫‪-‬أنا أمعيزيق يا أمي ‪ ،‬لقد أحضرت الدواء لبي ‪.‬‬
‫جاءها الرد وكأنه يمزق ظلم الليل قطعاً ‪ ،‬ويشيع النور في هذا الوادي المغفر ‪ .‬لم ترد ‪،‬‬
‫بل استدارت ودخلت البيت ‪ ،‬وإذ وصل أمعيزيق إلى فراش الشيخ عبد ال وجد أمه حليمة‬
‫جالسة إلى جواره ورأى على ضوء الفنار الخافت آثار الدمع في عينيها ‪ ،‬نظر إليها في‬
‫عطف وسألها ‪:‬‬
‫‪-‬ما بك يا أم ‪ ،‬هل أنت مريضة ؟‬
‫‪ -‬ل …الحمد ل ‪ ،‬لكنك تأخرت ‪ ،‬ووالدك ينتظر الدواء ‪.‬‬
‫‪-‬أنا لم أتأخر ‪ ،‬لم تكن سوى مسافة الطريق ‪ ،‬لكنكِ صرت حساسة بعض الشيء نتيجة‬
‫مرض الشيخ ‪...‬ل تخافي ‪ ،‬ها هو العسل ‪ ،‬إنه من النوع الجيد ‪ ،‬هيا هاتي الملعقة ‪.‬‬
‫نظرت إليه طويلً ثم ناولته ملعقة مصنوعة من الصيني ‪ ،‬وأردفتها بصحن صغير من‬
‫النحاس ‪ ،‬وهما شيئان عزيزان على الشيخ عبد ال لنهما يمثلن له ذكرى قديمة عندما‬
‫كان جندياً في الجيش التركي ‪.‬‬

‫* * *‬
‫لم تكن روحه الجهادية التي غرسها فيه والده لتدعه يستقر على حال ‪ ،‬فها هو وقد طوى‬
‫شبابه في طلب العلم بين الكتاتيب والزوايا ‪ ،‬ثم الزهر ‪ ،‬يعود إلى زاوية الجغبوب ‪،‬‬
‫يجلس مع علمائها كما جلس والده بالمس ‪ ،‬ويضرب طالباً جلس بذات المكان الذي جلس‬
‫به هو بالمس ‪ ،‬ويعنف أخر لم يفلح في تنظيف لوحة طالما عانى هو من تنظيفها ‪ .‬ولكن‬
‫هيهات للروح الجهادية التي تعمُر نفسه ‪ ،‬والتي ترك لها قياده ‪ ،‬أن تقنع برضاه عن عمل‬
‫يمكن لي من رفاقه أن يأتيه على أكمل وجه ‪ ،‬فتحركت هذه الروح لتهز الجذع من‬
‫جديد ‪ ،‬لعله يسقط ثمراً أكثر نضجاً ‪ ،‬فالشيخ عبد ال وإن كان عقيماً ل ينجب أطفالً لكنه‬
‫مازال ينجب خيراً ويشع عطاءً ‪ ،‬ولم يكن من أسلم نفسه للجانب الخير فيه أن يتركه في‬
‫لحظة جزع أو يخذله في ساعة حسم ‪ ،‬فكان أن ودع الشيخ رفاقه ورحل إلى الجنوب لنشر‬
‫تعاليم الدين السلمي في تشاد والنيجر وما تلها من البلد الفريقية ‪ ،‬سلخ في ذلك العام‬
‫تلو العام ل تفتر له همة ول يداخل نفسه شيء من ملل ‪ ،‬حتى جاء عاماً ل يمكن له أن‬
‫ينقضي في هذا الشأن ‪ .‬أدرك الشيخ عبد ال ذلك حين توقفت اللقمة في حلقه لحظة سماعه‬
‫خبر غزو الطليان لبلده ‪ ،‬وما كادت اللقمة تنزل إِثر شربة ماء إل وكانت روحه الجهادية‬
‫قد انتفضت من جديد وأشاحت بكليتها عما هي فيه لتقرر أنه لم يعد للشيخ من العوام ما‬
‫يسلخه في هذا المكان ‪ .‬فشد الرحيل وودع رفاقاً خلقتهم الغربة ‪ ،‬قالوا له إن الطريق طويل‬
‫‪ ،‬وإن السن كبير وإن الفرقة صعبة ‪.‬لم يقل لهم إن مسافة اللف ميل تبدأ بخطوة ‪ ،‬ولكن‬
‫لبد وأنه فكر في شيء كهذا وهو يستحث ناقته على النهوض ‪ .‬وفي طريق طويل ل ترى‬
‫فيه العين نهاية لمتداد ‪ ،‬ول تلمس القدام غير الحصى ليس هناك من الوساوس بد ‪...‬‬
‫‪-‬ماذا جنيت من هذه السنوات التي سلختها في هذه الصحراء الموحشة يا شيخ عبد ال ؟‬
‫‪ -‬ل شيء … فقط أضعت ملعقتي الخشبية التي أحضرتها معي من سيدي جغبوب …‬
‫ل … كدت أنسى ‪ ،‬لقد كسبت حبة دوم …‬
‫أخرج من جيبه حبة دوم نقش عليها اسم ال ‪ .‬نظر إليها ملياً ثم أرجعها إلى جيبه ‪...‬‬
‫‪ -‬لقد أهداها لي عمر ‪ ...‬إنه رجل عجوز هداه ال على يدي ‪...‬الحمد ل لقد وفقت في هداية‬
‫الكثير من الناس ‪ ،‬وهذا ما قد أتيت لجله ‪.‬‬
‫حقاً أتعب نفسه ‪ ،‬قطع هذه الفيافي ليلتقي به هنا ‪ ،‬ظناً منه أن النسان تضعفه وحشة‬
‫الصحراء وتحط من عزيمته متاعب الترحال ‪...‬لكن الشيخ عبد ال كانت روحه الجهادية‬
‫هي التي تقوده ‪ ،‬وما دامت ترى الهدف أمامها فليس لها أن تلين أو تستكين لهاجس من‬
‫الهواجس ‪...‬انقطعت به السبل ‪ ،‬فولى مندحراً باحثاً عن ضحية أخرى ‪ .‬أما الشيخ عبد ال‬
‫فلم يكن لتنقطع به السبل ‪ ،‬ولم يكن ليظل عن سبيله ‪ ،‬فقد كانت روحه تعرف الطريق جيداً‬
‫‪ ،‬فليس أسهل على النسان من الوصول حين تكون أهدافه مرسومة بوضوح‪.‬ولنه كان‬
‫رجل كللة‪ )(1‬اعتاد شغف العيش وصعوبة إدراك المطالب ‪ ،‬مضى ينص‪ )(2‬ناقته بل كلل‬
‫ولملل ‪ ،‬فلم يستغرقه الوصول إلى طرابلس وقتاً أطول مما قدر ‪ ،‬ولكنه أضاع أياماً غير‬
‫قلئل في التصال ببعض أصدقائه القدماء الذين ما توانوا في تحقيق مراده بالوصول إلى‬
‫قيادة الجيش التركي لينظم إليه‪ .‬إذ كان يرى في هذا الجيش القوة المنظمة الوحيدة المؤهلة‬
‫لن تحمي ديار المسلمين ‪.‬‬
‫وهكذا صار الشيخ عبد ال جندياً من جنود الجيش التركي ‪ ،‬وضُم إلى أحد السرايا العربية‬
‫في الجيش ‪ ،‬فأمر له قائد سريته ببندقية ‪ ،‬وملعقة من الصيني ‪ ،‬وصحن نحاسي صغير ‪.‬‬

‫* * *‬

‫وداعة الحلم الواعد‬


‫(‪)2‬‬
‫يقول المؤرخ الغريقي هيرودتس أن قبائل الناسامونيس التي سكنت في الفترة السابقة‬
‫لميلد المسيح في المنطقة الممتدة من الزويتينة شمالً إلى جالو جنوباً ‪ ،‬هذه المساحة التي‬
‫تحوي مدينة إجدابيا الن ‪ ،‬كانت تعتمد في حياتها أسلوب الترحال بحثاً عن الكل‬
‫لحيواناتها التي كانت مصدر رزقها ‪ ،‬فإذا جاء موسم جني التمور تركوا حيواناتهم بجوار‬
‫البحر وانتقلوا إلى الواحات الصحراوية ليجلبوا منها التمر ‪ .‬ورغم مرور أكثر من ألفي‬
‫عام على هذه الحقبة الزمنية ‪ ،‬ما يزال السلوب الذي أتبعه الناسامونيس في حياتهم هو‬
‫الغالب على سكان هذه المنطقة ‪ ،‬فشحة المطر وصعوبة الحصول على المياه الجوفية ‪،‬‬
‫ولن الرض صخرية في أغلبها‪ ،‬وما لم يكن منها صخرياً كان عقيماً غير خصب ‪ ،‬كانت‬

‫(‪ )1‬الكللة ‪ :‬من ل ولد ول والد له ‪.‬‬


‫(‪ )2‬ينص ‪ :‬نص ناقته أي استخرج أقصى ما عندها من سير ‪.‬‬
‫الزراعة من المهام الصعبة على سكان هذا المكان واستمر اعتمادهم كأسلفهم الرعي‬
‫مصدراً للرزق ‪ ،‬ينشدون لنعامهم ما تجود به الرض من عشب ‪ ،‬يتبعون مرودهم حتى‬
‫إذا طال ما طلبوا ‪ ،‬ارتحلوا إليه وأقاموا عنده حتى تأتي أنعامهم على ما حولهم مما جادت‬
‫به الرض ليشدوا رحالهم من جديد طالبين مكاناً غيره ‪ ،‬تستمر حالهم هذه حتى إذا جاء‬
‫موسم جني التمور في الواحات جم َع شداد الرجال منهم الرِحال وحملوا عليها ما جمعت‬
‫نساءهم من ؛ زبدٍ‪ ،‬وسمنٍ ‪ ،‬وكشك ‪ ،‬واقتسموا جزءً من أغنامهم فساروا بها إلى جالو تلك‬
‫الواحة العامرة بالتمر فاستبدلوا ما حملوا بأحمالٍ من تمر يعودون بها إلى ديارهم حاملين‬
‫معهم كماً من الذكريات عن مسيرة شهرين في الصحراء تشغل النجع ليالٍ تكون فيه مدار‬
‫حديث السمار ‪ ،‬فإذا مر على قدوم هذه القافلة شهراً أو بعض شهر صار اجترار حكاياتها‬
‫مجلبةً لملل السامعين ‪ ،‬فعاد الناس بحكاياتهم إلى أحلم ل تتحقق وخرافات لم تحدث ‪،‬‬
‫منتظرين حدثاً يكسر أسوار الملل الذي يحتوي واديهم في ليالي الشتاء الطويلة الباردة ‪،‬‬
‫انتظاراً كان في أغلب الحيان كأنتظارهم للمطر الذي ل يأتي ‪.‬‬
‫مر أسبوع واحد علي وصول الشيخ أمبارك بصحبة شيخ جليل مربوع القامة نحيف الوجه‬
‫أسمره ‪ ،‬سمرة لم تكن كافية لطمس علمة السجود في جبهته ‪ ،‬ذو لحية كثيفه خط البياض‬
‫أسفلها ‪ ،‬يلبس فرملة قديمة علي قميص كتاني واسع الكمين باهت اللون ‪ ،‬وسروال واسع ‪،‬‬
‫رق قماشه عند الركبتين حتي كانتا تبينان من خلله ‪،‬وقد ارتدى حذاءً ثقيلً فقد الخيط الذي‬
‫كان يمكن أن يضمه من أمامٍ فانفرج عن قدمين يغطيهما الشعر ‪.‬‬
‫هذا السبوع كان كافٍ لكي تتبلور الحكايات حول هذا الشيخ ‪،‬فالحكاية تبدأ بجملة تتلو‬
‫وقوع الحدث ‪ ،‬ثم تبدأ اللسن بعد ذلك بإضافة مايلزمها ‪ ،‬فتُمل الفراغات ‪ ،‬وتضاف‬
‫المبررات الي الحداث ‪ ،‬وتصبح الرقام أكثر تحديداً ‪،‬وتضاف أسماءً جديدة وأماكن‬
‫أخرى ‪ ،‬وتلغى أحداث ليرى الرواة لها أهميه ‪،‬فتظهر الحكاية في نهاية المر في صورة‬
‫جميلة يندر أن تدل على ذلك الحدث الذي وضعت لجله ‪.‬‬
‫أسبوع واحد كان كافٍ ليعرف كل أهل النجع حقيقة الشيخ ‪ ،‬وإن تضاربت الراء حول‬
‫هذه الحقيقة من شخص إلى أخر ‪ ،‬فمن قائل أن الشيخ هو أحد الحجاج قادم من الجزيرة قد‬
‫تاه في أوبته أو نفذ منه زاده فلم يجد بداً من اللتجاء إلى أول نجع صدف له يمكث فيه‬
‫حتى يتوفر له من الزاد ما يواصل به رحلته ‪ .‬ومن قائل أن الشيخ عبد ال هو أحد شيوخ‬
‫زاوية سيدي جغبوب قد طلبه الشيخ أمبارك ليعلم أطفال النجع ‪ ،‬فيكون رائداً في جعله‬
‫للنجع كتاباً ‪ ،‬أما من رآه يذهب إلى بيت الحاجة أمدل إِمرأة الشيخ أمبارك الولى والتي‬
‫اختارت أن تعيش في بيت وحدها ‪ ،‬فقد حدث بأن الشيخ عبد ال هو أبن عم للحاجة أمدل‬
‫جاء يدعوها للعودة معه إلى قبيلتهم ‪ ،‬أما النساء فلم يقنعن بهذا وكان أغلبهن قد وافق تلك‬
‫التي ذهبت إلى أن الشيخ ماذهب لبيت الحاجة أمدل إل ليخطب حليمة ‪ ،‬تلك المرأة التي‬
‫جاوز عمرها الثلثين وتعيش في بيت الحاجة أمدل التي اتخذتها رفيقة لها تؤنسها في‬
‫وحدتها ‪ ،‬وقد كانت الحاجة أمدل ترجوا بهذا العمل أن تسلو حليمة عن شقيقها رجب الذي‬
‫تركها وذهب ليلتحق بأحد أدوار المجاهدين ‪ .‬لكن مريم الفتاة ذات الثلثة عشر ربيعاً ‪،‬‬
‫والتي كانت تعمل عند الحاجة أمدل ‪ ،‬تعد لها الطعام ‪ ،‬وتنظف البيت أثارت علمة‬
‫استفهام كبيرة حول ما تفكر فيه النسوة عندما أخبرتهن أن حليمة كانت تبكي بعدما تركها‬
‫الشيخ ومن معه‪ ،‬وبهذا كادت مريم أن تنسف الرواية التي تعبت نساء النجع كثيراً في‬
‫صياغتها ونسج خيوطها ‪ .‬وفي سبيل الدفاع عن صرح هذه الرواية ‪ ،‬بادرت إحداهن‬
‫محاولة وضع مبرر منطقي لذرف حليمة الدموع بقولها ‪:‬‬
‫‪ -‬نعم ‪ ،‬لبد وأنها قد بكت كما قالت مريم ‪ ،‬لنها كانت تحلم بأن تتزوج رجلً ل شيخاً في‬
‫عمر والدها ‪ ،‬ولبد وأنها صدمت حين رأته ‪.‬‬
‫وتابعت امرأة أخرى وهي تضع قطعة صوف جديدة بين دفتي القرداش ‪:‬‬
‫‪ -‬وربما هو الذي رفض الزواج منها بعدما رآها ‪ ،‬فحليمة قد كبرت وهي تنتظر شقيقها‬
‫رجب أن يتزوج‪ ،‬لهذا بكت في حرقة وألم ‪.‬‬
‫الرجال أيضاً كانوا يرددون القصص التي ينسجها خيال نساءهم ‪ .‬أما الطفال فقد شطح‬
‫بهم الخيال أبعد مما فعل بنساء النجع ورجاله ‪ ،‬فهذا مسعود ‪ ،‬الخ الصغر لمريم يقف‬
‫وسط مجموعة من الطفال يحكي لهم أن هذا الشيخ قد جاء من بلد بعيد ‪ ،‬يبحث عن طفل‬
‫بعينين زرقاوين وشامة في خده اليسر ‪ ،‬يريد أن يعطيه للجن الحارس كي يفتح له‬
‫الطريق إلى كنز كبير في مغارة بعيدة ‪ ،‬والشيخ أمبارك يريد أن يتقاسم معه هذا الكنز ‪،‬‬
‫لهذا أحضره إلى هنا ‪ ،‬ألم تروه عندما جاء أول يوم إلى النجع ‪ ،‬لقد رأيته ‪ ،‬كان ينظر في‬
‫عيوننا جميعاً ‪ ،‬كما سمعته وهو يقول للشيخ أمبارك أنه اشتاق للنظر في عيون الطفال ‪،‬‬
‫ولما لم يجدوا منا أحد ذو عيون زرقاء قرر الشيخ أن يمكث بيننا لعل إحدى أمهاتنا تنجب‬
‫طفلً ذو عيون زرقاء وشامة في خده اليسر ‪ .‬كانوا يفتحون عيونهم بأقصى ما استطاعوا‬
‫وتدق قلوبهم بسرعة ‪ ،‬وهم يستمعون إلى قصة مسعود ‪ ،‬وكل منهم ينظر في وجوه‬
‫الخرين باحثاً عن ذي العيون الزرقاء متمنياً أن يظهر ليأخذه الشيخ ويذهب عن نجعهم ‪.‬‬
‫لم يتكلم من الطفال أحد حتى قال شقيق مسعود الذي يصغره بعامين ‪:‬‬
‫‪ -‬أخشى يا أخي أن أنهض في الصباح ‪ ،‬فأجد لون عيني وقد صار أزرقاً ‪.‬‬
‫ضرب مسعود شقيقه الصغير جبر على رأسه بكف يده وهو يقول له ‪:‬‬
‫‪ -‬ل تقل هذا يا مجنون فحتى لو تغير لون عينيك فليس لك شامة في خدك اليسر ‪.‬‬
‫لم يكن أحد في النجع مرتاحاً لسماع ما يحكى عن الشيخ عبد ال سوى الشيخ أمبارك الذي‬
‫كان يستحث الرجال أن يذكروا له ما يقال عن الشيخ عبد ال ‪ ،‬لن أياً من تلك الحكايات لم‬
‫يتعرض لحقيقة الشيخ عبد ال التي أراد له الشيخ أمبارك أن تظل خافية ل يعلمها أحد لكي‬
‫يعيش مرتاحاً ‪.‬‬

‫* * *‬
‫بعد ثلثة أشهر من مجيء الشيخ عبد ال رأى الشيخ أمبارك أن يعود بيت حليمة لينتصب‬
‫جابره ‪ ،‬ويدق موثقه ‪ ،‬فيكون كتاباً يُعلم فيه أطفال النجع القراءة والكتابة ويُحفظون كتاب‬
‫ال ‪ ،‬وفي صباح اليوم التالي كان ثلثة من الرعاة يقفون وبجوارهم حمار ناءَ به ثقل بيت‬
‫بأعمدته وأروقته ‪ ،‬كانوا ينتظرون حليمة أن تأتي فتشرف على بناء بيتها الذي أراد له‬
‫الشيخ أمبارك أن يتشرف بأن يكون مكاناً للكتّاب ‪ ،‬وحالما وصلت حليمة المكان أنزل‬
‫الرعاة البيت وطرحوه الرض فصار وكأنه فراش عظيم لم يرى بدوي مثله‪،‬وعلي أبعاد‬
‫متماثله دقت المواثق علي كل جوانب البيت ‪ ،‬وربطت بكل موثق رمته التي مدت فإذا‬
‫وصلت البيت لم تربط بافتعال ثقب فيه لن هذا منافِ لما كانت عليه خبرة هؤلء البدو في‬
‫بناء بيوتهم وجعلها مقامات معمره ‪ ،‬فهم يدركون جيداً أن ثقباً في البيت يوضع فيه حبل‬
‫تشده اليادي ‪ ،‬وتعصف به النواء ‪ ،‬لبد لهذا الثقب أن يكبر مع اليام حتى يصير شرخاً‬
‫يهدد البيت كله ‪ ،‬لهذا اجتنب البدو افتعال أي خرق في بيوتهم ‪ ،‬واستعاضوا عن ذلك‬
‫بجعل "الزازل" واسطة بين البيت والجزء القريب منه من الرمة ‪ ،‬وهو عود منحني‬
‫كالقوس يعتبر صغيراً جداً وثقيلً جداً لمن قارنه بقوس الحرب ‪ ،‬فيخاط طرفي هذا القوس‬
‫في حاشية البيت وتربط كل رمة في الزازل المقابل لها في الجزء المقوس منه ‪ ،‬ولن بيت‬
‫حليمه ليس كبيراً ‪ ،‬لم يكن محتاجاً في أطرافه لكثر من ثلث رمم عن يمين وثلث عن‬
‫شمال ‪ ،‬أما من أمام ومن خلف فبيت حليمة كباقي بيوت النجع كان يحتاج أربعة من‬
‫الوتاد لتثبيته إلى الرض ‪ ،‬رمتين في الطراف ‪ ،‬ورمتين في الوسط من أمام تناظرها‬
‫أربعة أخرى من الخلف ‪.‬‬
‫عندما أكمل الرعاة دق مواثق البيت واطمئنوا إلى ربط حليمة لجميع الرمم كل في‬
‫زازلها ‪ ،‬إندس أحد الرعاة تحت البيت حاملً معه الجبر ‪ ،‬أطول العمدة لينصبه في مكانه‬
‫مجاوزاً منتصف البيت إلى اليمين قليلً‪ ،‬ولحقه رفيقه بالجبر الخر لينصبه بذات مستوى‬
‫الجبر الول مجاوزاً هو الخر منتصف البيت إلى اليسار قليلً‪ ،‬محاذرين أن تجاوز‬
‫العمدة وهم ينصبونها " الطريقة " ذلك النسيج القوي المصنوع من الشعر والذي يمتد‬
‫تحت جسم البيت يفصله عن العمدة ‪ ،‬فيحميه من تأثير رؤوسها المنغرزة في جسده ‪ .‬بعد‬
‫ذلك رفعوا جوانب البيت بأعمدة أخرى ‪ ،‬فإذا به يرتفع ويـبان الظل تحته ‪ ،‬فأطلقت حليمة‬
‫زغرودة عالية بادرت بعدها تثبت الروقة في مكانها ‪ ،‬ومضى الرعاة الثلثة في حال‬
‫سبيلهم بعد أن رأوا نساء النجع يتجهن ناحية البيت وقد احتملن الحطب على رؤوسهن ‪،‬‬
‫وما أن وصلن حتى شرع بعضهن يساعد حليمة في تثبيت الروقة ‪ ،‬وتنظيف البيت مما‬
‫فيه من أعشاب ‪ ،‬بينما أنهمكت باقي النسوة فيما أحضرن من حطب ‪ ،‬ولم يتركنه حتى‬
‫أبتنين منه جدارين في كل طرفي البيت الماميين فكان الجداران مقوسي الطرفين ؛‬
‫اليمن إلى اليسار ‪ ،‬واليسر إلى اليمين ‪ ،‬فشكل هذان القوسان المتقابلن سناحاً يحمي‬
‫البيت من البرد والريح ‪.‬‬
‫بني هذا البيت في الجهة الغربية متأخراً قليلً عن باقي بيوت النجع ‪ ،‬كما أشار بذلك الشيخ‬
‫أمبارك ‪ ،‬فكان إذا رفع رواقه من الجهتين الشمالية والغربية دخلته الريح الباردة تطرد ما‬
‫دخله من حر شمس الضحى دون أن ينشغل الطفال عن الدرس بالنظر إلى ما يدور في‬
‫النجع ‪ ،‬إذ أن الرواقين الشرقي والقبلي الذين يحفظا مسدولين طيلة ساعات الدرس ‪ ،‬يقفان‬
‫خير حاجز أمام من أراد أن يسترق النظر من الطفال ناحية بيوتهم‪.‬‬
‫بعد ستة أشهر كان جل ما نسجه خيال أهل النجع من حكايات حول الشيخ عبد ال قد تحقق‬
‫‪ ،‬فالشيخ الذي طلبه الشيخ أمبارك من زاوية سيدي جغبوب قد بدأ يعلم الطفال القراءة‬
‫والكتابة ‪ ،‬ويحفظهم القرآن ‪ .‬وقريب الحاجة أمدل الذي قيل أنه جاء ليأخذها معه قد قرر‬
‫أن يبقى بجانبها عندما رفضت هي أن ترافقه ‪ ،‬وذلك الحاج التائه عن دربه أو النافذ زاده‬
‫قد طاب له المقام في هذا النجع ‪ ،‬وهذه حليمة في رأي نساء النجع قد فكرت وحكمت عقلها‬
‫عندما اقتنعت بالزواج من الشيخ عبد ال ‪ ،‬وها هي بعد طول تأبّد قد زفت إليه في بيتها ‪.‬‬
‫وحدها حكايات الطفال عن العيون الزرقاء والشامة في الخد اليسر لم تتحقق ‪ ،‬لن أحد‬
‫منهم لم يعد يذكرها ‪ ،‬ولو أن مسعوداً شقيق مريم تذكر حكايته القديمة التي كان يرويها‬
‫للطفال ذات يوم ‪ ،‬لقال أن الشيخ قد تزوج حليمة لتنجب له ولداً بعيون زرقاء وله شامة‬
‫في خده اليسر ‪ .‬لكن مسعود لم يذكر هذه القصة ‪ ،‬والشيخ عبد ال لم يكن يحلم أن يكون‬
‫له ولد لنه كان عقيماً ل ينجب الطفال ‪.‬‬
‫وداع الحلم الواعد‬
‫(‪)3‬‬
‫مضى منتصف الليل وقد أخذ معه أهل النجع في نوم عميق ‪ ،‬إل رجالً ثلثة ما برحوا‬
‫مكانهم ول تغير حالهم منذ صلتهم ركعات المغرب الثلث ‪ .‬مكانهم بيت المضافة الذي‬
‫جعله الشيخ أمبارك ليستقبل ضيوفه فيه ‪ ،‬ويجتمع فيه برجال النجع يفضون إليه بما‬
‫عرض لهم ويعطيهم الرأي فيما عرضوا عليه ‪ .‬أما حال هؤلء الرجال الثلثة فقد كان قلق‬
‫اعتراهم على صاحب هذا البيت الذي طلبه الطليان ليمثل أمام قائد المركز ولما يعود بعد‬
‫ول عاد من يخبرهم من أمره شيئاً ‪ .‬كان الرجال متربصين وسط ظلم الليل على نور‬
‫فنار خافت ينتظرون عودة من بعثوا به يتقصى أخباراً عن الشيخ أمبارك ‪ .‬فما سمعوا‬
‫نباح الكلب قد عل إل والشيخ الفضيل قد قفز قائماً وخرج من البيت ‪ ،‬ثم اتجه ناحية‬
‫الشبح الذي بان له تحت ضؤ القمر ليولي ناحية البيت صحبة مبعوثهم للبلدة ‪ ،‬الذي ما كاد‬
‫يدخل البيت حتى طلب جرعة ماء يروي بها عطشه ‪ .‬ناوله أحد الرجال الثلثة قدح الماء ‪.‬‬
‫وضع القدح بين شفتيه وقتاً لم يكن قصيراً للرجال المترقبين ‪ ،‬رفعه بعد ذلك وقال وهو‬
‫يضع القدح على الرض غير بعيد عنه ويغرسه في التراب بقصد تثبيته ‪:‬‬
‫‪ -‬اطمئنوا إن الشيخ أمبارك بخير لم يمسه سؤ ‪ ،‬لكنه يطلب منكم أن ترحلوا فوراً وأن‬
‫تتعمقوا في الصحراء بقدر ما استطعتم ‪ ،‬فالطليان قد طالتهم إخبارية أن نجعنا هذا يساعد‬
‫المجاهدين ويمدهم بالطعام والسلح ‪ ،‬لهذا قد يقدمون في أي لحظة على تفتيش النجع‬
‫وأسر رجاله ‪.‬‬
‫مر الشيخ الفضيل بنظره على الرجال الثلثة ثم قال ‪:‬‬
‫‪ -‬لبد من الرحيل إذاً ‪.‬‬
‫قال أحد الرجال ‪:‬‬
‫‪ -‬نعم ‪...‬يجب أن نرحل فوراً ‪ ،‬وعلينا الن أن نقوم فنوقظ أهل النجع ليستعدوا للرحيل ‪.‬‬
‫أطرق الشيخ الفضيل قليلً وهو يفكر ثم قال ‪:‬‬
‫‪ -‬الليل بالكاد قد انتصف ولو قمنا بإيقاظ النساء والطفال الن فلن ينتصف نهار الغد إل‬
‫وقد نالهم جميعاً التعب وغالبهم النعاس ‪ ،‬لذا أرى أن ننتظر طلوع الفجر ليكون الجميع قد‬
‫نال قسطاً وافراً من الراحة والنوم ‪ .‬أما أنتم فعليكم أخذ أربعة من البل لتتجهوا بها ناحية‬
‫الكوف‪ )(1‬فانظروا إلى أقربها لكوم العوسج‪ ،‬وستجدون حجراً كبيراً في ناحيته الشرقية ‪،‬‬
‫احفروا على يمين هذا الحجر ‪ ،‬وحملوا ما تجدوه من سلح على ظهور البل ثم ضعوا‬
‫فوقه بعض التبن وأذهبوا به إلى أي مكان تأمنون فيه عليه غير هذا المكان ‪ ،‬ادفنوه فيه‬
‫وعلموه بمعلم تحفظونه وعودوا إليّ بسرعة ‪.‬‬
‫تساتل‪ )(1‬الرجال الثلثة بينما جلس الشيخ الفضيل منتظراً طلوع الفجر مفكراً في والده ‪،‬‬
‫فليس أصعب على القوم من غياب رجل منهاة‪ )(2‬كالشيخ أمبارك في وقت يحتاجون فيه‬
‫لحسن التدبير ‪ .‬لما سمع الديكة باشرت صياحها قام فصلى ركعتي الفجر ثم اتجه إلى‬
‫البيوت يوقظ أهلها بيتاً بيتاً ويدعوهم للستعداد للرحيل ‪ ،‬لكنه بعد فترة لم يجد من داعٍ لن‬

‫(‪ )1‬الكوف ‪ :‬جمع كاف وهي الحفرة التي يخزن فيها التبن والحبوب ‪.‬‬
‫(‪ )1‬تساتل ‪ :‬تساتل الرجال أي خرجوا متتابعين واحداً تلو الخر ‪.‬‬
‫(‪ )2‬منهاة ‪ :‬رجل منهاة أي رجل عاقل ‪.‬‬
‫يستمر في مروره على باقي البيوت لن الخبر قد انتشر وصار يستبق كل بشير ‪ ،‬فعاد إلى‬
‫بيته يساعد أهله في ضم بيته وبيت المضافة ‪.‬‬
‫كل من نام من أهل النجع نهض بعد طلوع الفجر ‪ ،‬إل مريم تلك الفتاة ذات الثلثة عشر‬
‫ربيعاً نهضت كعادتها كل يوم قبل طلوع الفجر ‪ ،‬فاتجهت إلى بيت الحاجة أمدل لتحل‬
‫وثاق الحمار وتربط على ظهره البراميل الفارغة ‪ ،‬ثم قادته إلى بيتهم فوجدت أخيها‬
‫مسعوداً قد صحى من نومه ‪ ،‬ناولته كسرة من خبز الشعير وهي تقول له ‪:‬‬
‫‪ -‬ل تتأخر عليّ كما فعلت بالمس ‪ ،‬فأنا ل أستطيع ترك نعاج الحاجة أمدل قبل عودتك ‪،‬‬
‫فإذا تأخرتُ مع الشياه تأخرتُ في إعداد الطعام وهذا يجعل الحاجة أمدل تغضب وتشتمني‬
‫‪ ،‬هز مسعود رأسه وهو يمضغ كسرة الخبز اليابسة ‪،‬ثم مضى يتخطى رمم البيت وهو‬
‫يجر الحمار ورأه ‪ .‬نظفت مريم عشهم المتواضع الذي يطلقون عليه اسم البيت دون تردد ‪،‬‬
‫وأخذت بطانية مسعود وأضافتها إلى غطاء أخيها الصغير جبر ‪ ،‬أكثر من يستمتع بالنوم‬
‫في هذا البيت وربما في النجع كله ‪ ،‬فهو ل يستيقظ إل بعد طلوع الشمس ‪ .‬كانت مريم قد‬
‫أحضرت الفأس الذي تقطع به الحطب ‪ ،‬والحبل الذي تربطه به عندما ذهبت لجلب الحمار‬
‫‪ ،‬فلم تجد نفسها مضطرة لمعاودة الذهاب لبيت الحاجة أمدل ‪ ،‬واتجهت مباشرة لتحتطب ‪،‬‬
‫وحاولت أن تبتعد قدر ما تستطيع حتى ل تزعج فأسها الصغيرة سكان النجع فيدعون‬
‫عليها وهي تكره أن يدعوا عليها أحد في الصباح ‪ ،‬فالحاجة أمدل تقول دائماً ‪:‬‬
‫إن دعاء الصباح كلم صلح ‪...‬عمر اللي يجيه ما ينال فلح ‪ .‬لهذا ابتعدت بفأسها الصغير‬
‫وحبلها القصير بقدر ما استطاعت لتتجنب دعاء ناس يصبح دعائهم في الصباح وكأنه‬
‫كلم أولياء صلح ‪ .‬بهذه الفأس التي ل تقطع الحطب إل بعناء ‪ ،‬وبهذا الحبل القصير الذي‬
‫ل يكاد الحطب يجتمع فيه حتى ينفرط من جديد ‪ ،‬ولن مكان الحتطاب بعيدٌ بعيدْ ‪ ،‬لم‬
‫تدرك مريم النجع إل والشمس قد أشرقت ‪ ،‬ولما ارتقت التل المشرف على النجع من‬
‫الناحية الشرقية رأت مريم وكأن النجع ليس نجعهم وكأن البيوت ليست بيوتهم ‪ ،‬رأت‬
‫البل بين واقف وبارك أمام البيوت التي بات معظمها يفترش الرض بعد أن كان يظللها ‪،‬‬
‫ورأت النساء كل تجري في سبيلها ‪ ،‬هذه تقلع مواثق بيتها ‪ ،‬وتلك تضم أعمدته ‪ ،‬وهذه‬
‫أخرى مازالت لم تفك الروقة بعد ‪ .‬لم تجد مريم تفسيراً لما يجري فرمت بما تحمل من‬
‫حطب وجرت نازلة التل نحو بيت الحاجة أمدل فوصلت وقد انتهت حليمة والحاجة أمدل‬
‫من إخراج جميع محتويات البيت وشرعن في فك أروقته ‪ ،‬سألت مريم عما يجري‬
‫فأجابتها حليمة أن النجع راحل لتوه ‪ ،‬لم تتكلم مريم وكأن المفاجأة قد خاطت لسانها في‬
‫لهاتها ‪ ،‬فصارت عاجزة عن النطق ‪ ،‬جرت نحو بيتهم فوجدت شقيقها جبر مازال يغط في‬
‫نومه ‪ ،‬عادت تجري وأمسكت بتلبيب أول رجل قابلته وقالت له إن أخيها مسعود ذهب‬
‫إلى البئر ‪ ،‬قال لها أنه سيعود مع غيره من الرجال إلى مكانهم الجديد ‪ ،‬كاد يعود‬
‫الطمئنان إليها لول أنها رأت الكثير من حمير النجع واقفة أمام بيوت أصحابها ‪ ،‬فدارت‬
‫تجري في النجع فراءت كل الوجوه التي يمكن أن ترد البئر ‪ ،‬وأدركت أن أخيها قد ذهب‬
‫إلى البئر وحده ‪ ،‬وسيعود إلى هنا فل يجد أحداً ‪ .‬كان هذا التفكير مدعاة لها لن تجري‬
‫وتجري لعلها تلحق بأخيها مسعود ‪.‬‬
‫كانت مريم تتوقف بين الحين والخر لتسترد أنفاسها ‪ ،‬ثم تواصل الركض من جديد ‪،‬‬
‫والحمار يجري دون توقف ‪ ،‬والزمن ل ينتظر أحداً ‪ ،‬ومسعود يستحث حماره على‬
‫الجري فإذا ما لحظ عليه تباطئاً وخزه بدبوس صغير اختلسه من الحاجة أمدل في غفلة‬
‫منها ليتخذه لهذا الغرض ‪ ،‬هذه الوخزات تعودها الحمار المسكين ‪ ،‬إذ تذكره دائماً أن عليه‬
‫أن يضاعف سرعته ‪ .‬مريم تجري ‪ ،‬والحمار يجري ‪ ،‬وأنّا لمريم أن تدرك الحمار ‪،‬‬
‫فحمار الحاجة أمدل يُضرب به المثل في النجع لنها تعلفه كل يوم مرتين دون كل حمير‬
‫النجع التي ل يعلفها أصحابها أبداً فتأكل مضطرة النبق والعوسج والعنصل ‪ ،‬أما حمار‬
‫الحاجة أمدل فلم يشهد أحد على أنه قد أكل العوسج ذات يوم ‪ ،‬وهو إلى جانب ذلك لم يراه‬
‫أحداً يحمل أكثر من برميلين إثنين ‪ .‬ولكنه ككل الحمير ليس له أن يحتمل وخزة دبوس ‪،‬‬
‫فتجده يجري ويجري نحو البئر وكأنه يتحدى مريم أن تدركه ‪ ،‬وها هو الزمن يجري نحو‬
‫اللحظة القادمة منه يستحثه إلى ذلك طفل بدبوس في يده ‪ ،‬ليصل البئر بسرعة فيمل‬
‫براميله ويرجع ليوصلها لبيت الحاجة أمدل ‪ ،‬ثم يذهب إلى أخته مريم في المرعى فيستلم‬
‫منها الماشية لتعود هي وتجهز الطعام قبل أن يرفع الشيخ عبد ال أذان صلة الظهر ‪،‬‬
‫وبهذا تجتنب أخته مريم دعوات الحاجة أمدل التي تخشاها كل نساء النجع اللواتي يرددن‬
‫دائماً أن من دعت عليها الحاجة أمدل امرأة الشيخ أمبارك أصابها البوار فل يدنوا منها‬
‫عريس ‪ ،‬ومن دعت عليه من الرجال أصيب بالعقم ‪ ،‬ل ينجب أطفالً إل إذا سامحته‬
‫الحاجة أمدل ‪ ،‬ولنه ل يريد لخته البوار ول يريد أن يصبح رجلً عقيماً ‪ ،‬استحث‬
‫مسعود الحمار على الجري بوخزه بين الفينة والخرى بدبوس يحتفظ به في يده ‪ ،‬ومريم‬
‫مازالت تجري حتى أنهكها التعب وأدركت أنها لن تلحق بأخيها إل وقد وصل البئر لهذا‬
‫اخذت تمشي في عجلة حتى إذا ما شعرت أن لهاثها قد خف عادت تجري من جديد ‪ ،‬وكما‬
‫توقعت لم تلحق به إل وقد شرع في ملء البراميل ‪.‬‬
‫كان وحيداً على البئر ‪ ،‬شعر بدوي أقدامٍ فنظر ورأه ‪ ،‬ولما رأى أخته مريم قادمة نحوه فتح‬
‫فمه مشدوهاً لحظة بادرها بعدها بالسؤال قبل أن تصل إليه ‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا حدث يا مريم ؟ لماذا تلحقين بي ؟ هل أصاب شقيقنا جبر شيئاً ؟‬
‫وقبل أن تصل إليه ردت عليه وهي تلهث ‪:‬‬
‫‪ -‬ل ‪..‬لكن النجع مرتحل الن وبالكاد نلحق بهم ‪.‬‬
‫رمى مسعود الدلو مكانها وقفز على ظهر الحمار وطلب من مريم التي كان الجري أنهكها‬
‫أن تركب وراءه ‪ ،‬ركبت مريم لكن الحمار رفض أن يجاوز مكانه فحمار الحاجة أمدل‬
‫مدلل غير معتاد على حمل أثقال تجاوز البرميلين ‪ ،‬نزل مسعود وأخذ يسحب الحمار‬
‫وراءه ‪ ،‬تحرك الحمار بصعوبة ‪ ،‬حركة لم تكن مرضية لمسعود الذي بحث عن دبوسه فلم‬
‫يجده ‪ ،‬رجع إلى مؤخرة الحمار وأخذ يضربه بكف يده لكن الحمار كان يريد العودة إلى‬
‫البئر فمسعود يطلب منه العودة دون أن يسقيه ماءً ‪ ،‬أدركت مريم أن هذا الحمار لن يكون‬
‫ذا كبير فائدة لهما بل هو سبب لما هما فيه من العطلة الن ‪ ،‬فقفزت إلى الرض وهي‬
‫تقول لمسعود ‪:‬‬
‫‪ -‬هيا بنا ‪...‬دعه فهو ليريد أن يذهب ‪.‬‬
‫‪ -‬لكن الحاجة أمدل ستغضب إذا تركنا الحمار والبراميل ‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا أخذناه معنا فلن نلحق بالنجع أبداً ‪.‬‬
‫قالت مريم هذا وسحبت مسعوداً من يده وأخذت تجري ‪ ،‬فجرى وراءها دون أن يكف عن‬
‫تصور غضب الحاجة أمدل وهو عائد إليها بدون الحمار والبراميل ‪.‬‬
‫كان مسعود راغباً أشد الرغبة أن ينطلق بسرعة ‪ ،‬لكن الجهد الذي بذله في ملء البراميل‬
‫استغرق منه كل قوة ‪ ،‬فليس هناك ما هو أكثر تعباً لصبي من أن يمل البراميل وهي على‬
‫ظهر حمار ‪ ،‬فهذا التعب ل يقاس بما يبذل في ملئها وقد استقرت على الرض ‪ ،‬المر‬
‫الذي ل يأتيه مسعود إل إذا اطمئن لوجود من يساعده في حمل هذه البراميل على ظهر‬
‫الحمار ‪ ،‬وهو مالم يتأتى له اليوم فقد وجد نفسه عند البئر وحيداً ‪ ،‬المر الذي استغرقه‬
‫بالستغراب تماماً حتى وصلت إليه شقيقته مريم ‪.‬‬

‫* * *‬
‫لم يطل مسعود وأخته على الوادي إل بعد وقت كان كافٍ للنجع لن يرتحل ‪ ،‬فلم يجدا في‬
‫الوادي غير بيتهما في أقصى شرق الوادي ‪ ،‬وبيت الشيخ عبد ال ‪ ،‬أو بيت الكُتّاب إذا‬
‫أردنا مجاراة أهل الوادي في كلمهم ‪ ،‬هذا البيت الذي استقر في أقصى غرب الوادي ‪.‬‬
‫ولما رأى مسعود النهاك بادٍ على أخته طلب منها أن تصعد التل القبلي وتنظر لعلها ترى‬
‫أثراً للنجع الراحل ‪ ،‬ريثما ينزل هو ويحضر شقيقهم جبر إذا لم يذهب مع النجع ‪ .‬لم يكد‬
‫مسعود يصل بيتهم حتى سمع أخته مريم تناديه وهي تلوح له بيدها من فوق التل القبلي ‪،‬‬
‫دخل البيت فوجد أخيه جبراً يبكي فأخذه من يده وأمسك باليد الخرى مطارة مياه‬
‫صغيرة ‪ ،‬وخرج يجري ناحية التل القبلي دون أن يلقي ولو نظرة على بيت الشيخ عبد ال‬
‫‪.‬‬
‫* * *‬
‫كان الشيخ الفضيل قد مر بعد أن أدى صلة الفجر على أغلب البيوت ‪ ،‬يطلب منهم التأهب‬
‫للرحيل فكانوا يباشرون التجهيز دون أن يفكر أحد منهم في النقاش ‪ ،‬فهم لم يسلموا أمرهم‬
‫لهؤلء إل لثقتهم في رجاحة رائهم ‪ ،‬وحسن تدبيرهم وتسييرهم للمور ‪ ،‬واستمرت هذه‬
‫الموافقة للشيخ الفضيل حتى وصل بيت الشيخ عبد ال الذي قال بأنه لن يرافق النجع لن‬
‫حليمة ترفض أن تترك هذا الوادي ‪ ،‬فهي ستبقى هنا تنتظر شقيقها رجب حتى يعود ‪،‬‬
‫فقاطعه الشيخ الفضيل مشتطاً ‪:‬‬
‫‪ -‬لكن شقيقها لن يعود ‪...‬أنت تعرف ذلك ‪...‬ألم تقل ‪...‬أقصد أل تظن أنه ‪...‬قاطعه الشيخ‬
‫عبد ال ‪:‬‬
‫‪ -‬أنا قلت أنه قد ذهب ومن معه يقاتلون الطليان وحدهم ‪ ،‬ولم أقل أنهم ماتوا ‪.‬‬
‫‪ -‬حاول أن تقنعها يا شيخ عبد ال ‪ ،‬كيف لكم أن تعيشوا هنا لوحدكم !!‬
‫‪ -‬منذ وصلنا خبر الرحيل وأنا أحاول إقناعها ‪ ،‬ولكن دون فائدة ‪...‬لذا سنبقى هنا ‪ ،‬وليفعل‬
‫ال بنا ما يشاء ‪.‬‬
‫لم يتركهما الشيخ الفضيل إل بعدما أعياه الكلم ‪ ،‬وخذلته الحجة فهو لم يكن ليرضى‬
‫بتخلف أحد عن النجع ‪ ،‬لكنه رأى في حجة حليمة وموافقة الشيخ عبد ال لها بعض عذر له‬
‫في إذعانه لما قد قرراه ‪ ،‬لكنه لم يكن ليعذر نفسه عن تخلف صبية صغاراً عن النجع ‪،‬‬
‫وتركهم في قفر لمعين لهم فيه ‪ ،‬فذلك لم يحدث عن رغبة متعمد أو إهمال غافل ‪ ،‬فهو‬
‫كان أخر من ترك الوادي وقد رأى من على ظهر جواده ذلك العش الصغير ما يزال‬
‫قائماً ‪ ،‬لكنه ظن أن صاحبه قد تركه زهداً فيه أو لعدم وجود دابة تحمله ‪.‬‬
‫* * *‬
‫وصل مسعود يجر جبراً وراءه إلى قمة التل القبلي ‪ ،‬قالت له مريم أنها رأت عتمة تتحرك‬
‫فوق قمة تل بعيد وأكدت على أنها النجع المرتحل ‪ ،‬جلس مسعود أمام جبر طالباً منه أن‬
‫يعتلى ظهره وهو يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬هيا بنا نلحق بالنجع يا مريم ‪ ،‬فقد ابتعدوا كثيراً ‪.‬‬
‫جروا كثيراً ومشوا أكثر وبكوا أكثر وأكثر ‪ ،‬وتفطرت أقدامهم ‪ ،‬وأدمت من كثرة ما‬
‫أصطدمت به من حجارة ‪ ،‬تعب مسعود وأحس بثقل جبر ينزل على ظهره كالجبل فأنزله ‪،‬‬
‫مشى جبر قليلً ثم سقط ‪ ،‬رجعت إليه مريم وحملته على ظهرها ‪ ،‬لكنها سرعان ما‬
‫وضعته على ظهر مسعود عندما وجدت نفسها عاجزة عن الحراك وهي تحمله ‪ ،‬وما‬
‫كادوا يصلوا إلى أسفل أحد الوديان حتى سقط مسعود على الرض وسقط معه جبر ‪،‬‬
‫رفعت مريم المطارة التي سقطت على الرض فوجدت غطاءها قد وقع وماءها قد اندلق‬
‫فلم تظفر مها بغير قطرات لم تكفِ لتبل لسانها الذي جف من شدة العطش ‪ ،‬أقامت مسعوداً‬
‫من على الرض وأسندته على كتفها ‪ ،‬بينما سحبت جبر من يده ‪ ،‬وارتقت بهما التل وهي‬
‫تتمايل تحت ثقلهما ‪ ،‬لقد كانت مريم قدمان يئنان تحت ثقل ثلثة أجساد فمسعود كان بالكاد‬
‫يرفع قدميه عن الرض ‪ ،‬أما جبر فقد كانت تجره من يده كما تجر حزمة حطب ‪ ،‬وما‬
‫أدركوا قمة التل حتى سقطوا ثلثتهم ‪ ،‬رفعت مريم رأسها ونظرت فرأت تلك العتمة تبان‬
‫عليها من جديد على قمة بعيدة ‪ ،‬فعم نفسها بعض التفاءُل وقامت قبل أن تسترد أنفاسها‬
‫لتسند أخويها بذات الطريقة التي أوصلتهما بها إلى قمة هذا التل ‪ ،‬وهبطت بهما الوادي ‪،‬‬
‫ولكنها شعرت وكأن الدنيا قد بدأت تدور بها ورأت حجراً كبيراً فاتجهت نحوه ووضعت‬
‫أخويها في ظله وهي تشعر بالتعب والعطش والدوار الشديد ‪ ،‬سمعت مسعوداً يطلب الماء‬
‫ويهذي بكلمات أخرى لم تستطع أن تتبينها ‪ ،‬أما جبر فلم يكن يتكلم ‪ ،‬ولم يكن يهذي ‪،‬‬
‫وحتى لم يكن يتحرك ‪.‬‬
‫قامت وكأنها تنتزع جسدها من الرض إنتزاعاً ‪ ،‬ومشت خطوات قليلة توقفت بعدها‬
‫ونظرت وراءها وإذ رأت مسعود ينظر إليها ‪ ،‬انحدرت دموع من عينيها ‪ ،‬اختلطت‬
‫بقطرات عرق انحدرت من جبينها ‪ ،‬مسحت دموعها بكف يدها ‪ ،‬ومضت تصعد التل‬
‫القادم ‪ ،‬وقد خلفت وراءها أخوين صغيرين ‪.‬‬
‫سمعت مسعود يناديها بصوت خافت ‪ ،‬فمضت دون أن تنظر إليه ‪ ،‬وعندما وصلت قمة‬
‫التل كان مسعود يراها شبحاً أسود لم يكن ليتبين فيه ملمح أخته ولم يكن ليعرف إنها هي‬
‫لو لم يكن يعلم أنه ليس فوق ذلك التل سواها ‪.‬‬
‫* **‬
‫لقد ارتحل النجع الذي ترك واديه ‪ ،‬وتبعته مريم التي تركت أخويها ‪ ،‬فلم يبقى في هذا‬
‫الوادي غير الشيخ عبد ال والحاجة حليمة ‪ ،‬وحمار الحاجة أمدل الذي عاد من عند البئر‬
‫وبراميله ما تزال على ظهره ‪ ،‬وهذا كلب الشيخ أمبارك يعود بعد أن ودع النجع وكأنه‬
‫يرفض أن يغادر الوادي منتظراً لعل صاحبه يعود ذات يوم ‪ .‬بقى هؤلء كأنهم أشباح‬
‫تحمي ما حوى هذا الوادي من ذكريات ‪.‬‬
‫عندما اختار الشيخ عبدال الستقرار في هذا النجع كان يأمل نيل جسده راحة طالما افتقدها‬
‫‪ ،‬فالترحال الذي استغرق جل ما مضى من عمره ‪ ،‬كان يجد فيه كل المتعة و الطمئنان ‪.‬‬
‫لكن العمر أصدر أحكامه فلم يجد له من مهرب منها فأمتثل لهذه الحكام راجياً أل يخيب‬
‫أمله في استحقاق الراحة الجسدية لما ضحى به لجلها ‪ .‬لكن رجاءه خاب من جديد‬
‫وصار الفال السيء يلزمه حتى بات يعتقد أنه صار بذاته فأل سيئ ل تفلح حبة الدوم التي‬
‫يحملها في أبعاده ‪ .‬فالجيش التركي ما كاد ينظم إلى صفوفه حتى أسلم مواقعه ورحل ‪،‬‬
‫وهذا النجع ما كاد يستقر فيه حتى ضم بيوته ورحل ‪ ،‬فلم يبقى معه في هذا الوادي غير‬
‫حليمة التي بات يخشى أن يطالها الفأل السيء فهو مصاب بالمالريا وطبيب الجيش‬
‫التركي أكد له أن هذا المرض قد يعاوده في أي وقت وإن طال غيابه ‪ ،‬وتوقع كهذا يعوزه‬
‫التفاءل ‪ ،‬والفأل السيء الذي يتبعه يجعله يخشى على حليمة أن تبقى وحدها إذا أصابه‬
‫مكروه ‪ ،‬لذلك قال لها وهو يرى النجع يختفي خلف التل القبلي ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد ذهب الجميع وبقينا وحدنا ياحليمة ‪ ،‬كان يجب أن نرافقهم ‪ ،‬لني أخشى أن أذهب أنا‬
‫أيضاً وأتركك وحيدة في هذا الوادي ‪.‬‬
‫إمعيزيق‬
‫(‪)4‬‬
‫الماضي يظل في الذاكرة ل يغادر ‪ ،‬والغد يظل في الحلم ل يأتي ‪ ،‬والحاضر يستمر رغم‬
‫أنه لم يعد مرضياً ‪ ،‬يستمد استمراره من ذكريات المس ‪ ،‬ويستحضر تواصله بأحلم الغد‬
‫‪.‬‬
‫توقفت الحاجة حليمة عن خض الشكوة التي تضعها على ركبتيها ‪ ،‬وأنزلتها على الرض‬
‫لتحل رباطها ثم ضربتها بكلتا يديها على الجانبين ‪ ،‬حصرت بعد ذلك ما تكون في أعلها‬
‫من زبدة لترتفع إلى فم الشكوة الذي أمالته على وعاء صغير جهزته لهذا الغرض فسقطت‬
‫الزبدة فيه دون مقاومة ‪ .‬أعادت ربط الشكوة جيداً وأسندتها الحجر الذي كانت تتخذه‬
‫مجلساً ‪ ،‬واتجهت إلى حيث ينام الشيخ عبد ال ‪ ،‬تحمل الوعاء الصغير في يدها وكأنها‬
‫أرادت أن تفرحه بما فيه من الزبدة ‪ ،‬لكنها أهملت الوعاء بما فيه عندما وجدت عينيه‬
‫مفتوحتين ل يطرف لهما جفن ‪ ،‬نادته فلم تفز منه بجواب ولم يكن في ميسورها أن تسمع‬
‫له نفس يتردد ‪ ،‬أمسكت بيده ورفعتها إلى أعلى ثم تركتها فلما رأتها سقطت إلى جواره‬
‫دون إبطاء نظرت إلى امعيزيق الجالس غير بعيد ‪ ،‬يقرأ القرآن وقالت له ‪:‬‬
‫‪ -‬عندما رأى النجع يغادر هذا الوادي ‪ ،‬قال لي ‪ :‬لقد تركنا الجميع يا حليمة وأخشى أن‬
‫يأتي يوماً أذهب فيه لتركك وحيدة ‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تعنين يا أم ؟‬
‫‪ -‬يبدوا أنه قد جاء ذلك اليوم يا ولدي ‪.‬‬
‫وضع أمعيزيق الكتاب جانباً وأقترب من الشيخ ‪ ،‬فهز جسده ‪ ،‬وناداه ثم لما لم يسمع منه‬
‫جواباً ارتمى عليه وهو يبكي ‪ ،‬تنحدر دموعه على خديه إنحدار المزنة الهاطلة ‪ ،‬بينما‬
‫جلست الحاجة حليمة قريباً منهما ‪ ،‬تكاد تخنقها عبراتها وهي تشعر أن هذا العزاء ‪ ،‬هو‬
‫الشد حزناً في حياتها ‪ ،‬فكل المآتم حزينة ‪ ،‬لكنها تكون أشد حزناً عندما تكون مآتم‬
‫تعيسة ‪ ،‬وليس أشد تعاسة على المرء من أن يجد نفسه يحزن وحيداً ‪ .‬لم تغيب شمس ذلك‬
‫اليوم إل والشيخ عبد ال قد توارى تحت تراب قمة التل القبلي التي اختار أن يدفن فيها‬
‫وحيداً ‪ ،‬بعيداً عن المقبرة التي كان يدفن فيها أهل الوادي موتاهم ‪ .‬لم يبقى من أثر له ‪،‬‬
‫غاب ظله ‪ ،‬غاب صوته ‪ ،‬غاب اسمه ‪ ،‬لم يبقى له اسم حتى في سجلت البلدية التي لم‬
‫يدون فيها يوماً ‪ ،‬حتى حبة الدوم التي رافقته لكثر من عشرين عاماً ضاعت عندما قاموا‬
‫بدفنه ‪ .‬لم يبقى منه فوق الرض غير كتبه القديمة ‪ ،‬وبعض مواقف حفظتها ذاكرة شاب و‬
‫امرأة عجوز ‪ ،‬لم يبرحا يبكيان عند قبره الذي ما يزال قائماً حتى الن ‪ .‬تستدل عليه من‬
‫بعيد بقبته البيضاء التي يقال أن الشيخ الفضيل أمر ببناءها عندما عرج في إحدى زياراته‬
‫إلى البلدة على القبر لقراءة الفاتحة والترحم على صاحبه ‪ ،‬ولما كان القبر قائماً في مكان‬
‫مرتفع فقد بان للشيخ الفضيل الثر الذي أحدثته الرياح فيه ‪ ،‬حتى أن بعض العظام قد‬
‫برزت من تحت الثرى وكأنها تبغي اللحاق بروح صاحبها ‪ ،‬وما كان هذا المر إل ليزعج‬
‫الفضيل ‪ ،‬إذ ليس لدى هؤلء القوم ما هو أكرم وأعز من الميت وأشياءه ‪ ،‬فأعطى بعض‬
‫المال للتاجر اليهودي بندرلي سائلً إياه أن يكلف من يحيط القبر بسور ويجعل له قبة‬
‫بيضاء ‪ ،‬فكان ما أراد الفضيل قد تم على أكمل وجه على يد ذلك اليهودي ‪ ،‬المستعد دائماً‬
‫لفعل أي شيء يعود عليه بالمال والذي ل يفتأ يردد أنه لمستعد لعمل درب في البحر مادام‬
‫المال موجوداً ‪ .‬وفي إحدى زياراته التالية للقبر أحضر الشيخ الفضيل راية بيضاء من‬
‫البلدة ‪ ،‬قام من رافقه من أبناءه بتثبيتها على أعلى القبة فأحدثت حركتها مع الريح صوتاً‬
‫أضفى على المكان المزيد من الهيبة والجلل ‪ .‬وقد داوم الموسرون ممن يمرون بالقبر‬
‫على تغيير هذه الراية ‪ ،‬إذ لم يكن لها أن تعيش طويلً مع إقدام كل زائر على اقتطاع‬
‫أجزاء منها يربطها حول معاصم أطفاله ورقابهم لتحميهم من العين والحسد ‪ .‬ول ينسى‬
‫هؤلء الزوار أخذ سفة من تراب أرض الضريح يرشونها فوق رؤوس أبناءهم أو يقذفون‬
‫بها داخل أفواههم ليبعدوا عنهم الطيرة ‪.‬‬

‫* * *‬
‫بعدما أنهت الحاجة حليمة صلة ركعتين جديدتين ‪ ،‬جلست لتواصل الدعاء لروح الشيخ‬
‫عبد ال ‪ ،‬فهي تعلم جيداً أنه إذا مات المرء انقطع عمله إل من ثلث ‪...‬وحالما انتهت من‬
‫دعاءها اتجهت إلى أمعيزيق فوجدته مايزال على حاله يستند أحجار القبر ويبكي ‪ ،‬قالت له‬
‫‪:‬‬
‫‪ -‬إن الظلم قد حل ويجب أن نذهب ‪ ،‬وخطت عدة خطوات مبتعدة عن القبر ‪ ،‬لكنها‬
‫توقفت عندما لم تحس به يأتي بأي حركة ‪ ،‬وعادت إليه لتأخذ بجذبه وهي تحثه على‬
‫النهوض ‪ ،‬حتى استجاب بقيامه مكفكفاً دموعه ‪ ،‬فأمسكته من يده ‪ ،‬وسحبته وراءها ولما‬
‫اطمأنت إلى انقياده وراءها تركت يده فسار يتبع خطواتها دون أن ينطق بكلمة ‪.‬‬
‫عادت به الذاكرة إلى الوراء لكثر من عشرين عاماً عندما استيقظ ليجد أخيه الصغير‬
‫يستند ركبته ‪ ،‬حاول أيقاضه فلم يستيقظ ‪ ،‬هز جسده فلم يستجيب ‪ ،‬رفع رأسه من فوق‬
‫ركبته ووضعه على الرض ونهض ناظراً حوله لعله يرى من ينجدهما ‪ ،‬فلم يجد غير‬
‫حجر كبير خير ما يقدمه لهما هو الظل الذي استظل به ‪ ،‬لكنه سمع صوت فأس يضرب‬
‫الرض وكأن شخص يحتطب غير بعيد عنهما ‪ ،‬فلم يجد في ذاكرته ما يدعوا به هذا‬
‫الشخص غير البكاء ‪ ،‬فلبى الحطاب النداء ‪ ،‬ولم يكن سوى الحاجة حليمة التي يتبعها‬
‫الن ‪ ،‬نظرت إلى أخيه فقال لها أنه نائم ‪ ،‬حاولت إيقاظه فلم يستيقظ ‪ ،‬رفعت رأسه‬
‫وحاولت فتح عينيه فلم تجده يبدي أيما استجابة ‪ ،‬تذكر أنها أخذت بيده ومضت بخطى‬
‫مسرعة حاملة الفأس على كتفها مخلفة الحبل وما احتطبت وراءها ‪ ،‬وما أن استراحت إلى‬
‫مطاوعته لها حتى تركت يده ‪ ،‬فتبعها دون أن يتكلم ‪ ،‬وظل صامتاً لسبوع كامل لم يجب‬
‫خلله على أيٍ من أسئلة الحاجة حليمة المتواصلة ‪ .‬ورغم أنها رأته كثيراً في النجع ‪-‬‬
‫عندما كان هناك نجع ‪ -‬يحضر براميل الماء لبيت الحاجة أمدل ‪ ،‬إل أنها لم تتذكر أنها‬
‫تعرف له اسماً غير أنه شقيق مريم ‪ ،‬والشيخ عبد ال كذلك يتذكر أنه ميزه حين رآه لنه‬
‫كان كثير المشاكسة في الكُتّاب دون باقي الطفال ‪ ،‬فلم يكن يحفظ الدرس ولم يكن ليهتم‬
‫بتنظيف لوحه ‪ ،‬إل أن الشيخ عبد ال لم يدعي أنه يعرف لهذا الصغير اسما ‪ ،‬لنه لم يكن‬
‫يسجل أسماء طلبه الذين يعلمهم فكان يكتفي بتسجيل كل طالب اسمه على اللوح الخاص‬
‫به حتى ل يختلط مع لوح غيره ‪.‬‬
‫ولن الناس في الوادي ل يستسيغون أن تبقى الشياء بل أسماء رغم أن واديهم نفسه ظل‬
‫بل اسم حتى جاء من ألصق به اسم وادي سيدي عبد ال ‪ ،‬رأت الحاجة حليمة أن تعطي‬
‫هذا الفتى اسماً تناديه به حتى ينطق ويبوح باسمه ‪ ،‬ولما كان فتىً وجدته مرمياً في مكان‬
‫احتطابها ‪ ،‬لم تحار في تسميته ‪ ،‬واكتفت باتخاذ هذه الصفة اسماً له وصارت تناديه‬
‫امعيزيق ‪ ،‬هذا السم الذي لم يفارقه حتى حين تذكر اسمه القديم ‪ .‬وعندما حُلت عقدة لسانه‬
‫كان شقيقه جبر أول من سأل عنه ‪ ،‬فأجابته الحاجة حليمة أن أمه قد اشتاقت إليه فأخذته‬
‫معها ‪ .‬توقف عن السير ورفع رأسه ناظراً إلى السماء ‪.‬‬
‫‪ -‬أمي التي لم أراها أخذت أخي الصغير فلم أعد أراه ‪ ،‬وها هي اليوم تأخذ الشيخ عبد ال‬
‫الذي لن أراه ‪...‬لماذا ل تشتاق أمي إليّ ‪...‬لماذا ‪...‬لماذا ؟‬
‫كانت الحاجة حليمة تبان وسط سيل الذكريات من خلل أهدابه المتشابكة التي بللها الدمع ‪،‬‬
‫كنقطة سوداء باهتة خلف شبكة قاتمة غير ثابتة تتحرك ذات اليمين وذات الشمال ‪ ،‬وكان‬
‫هو يتبع هذه النقطة دون أن يحاول قطع حبل الذكريات الطويل الذي إمتد من القبر في قمة‬
‫التل القبلي إلى بيتهم في أقصى غرب الوادي ‪.‬‬
‫عندما وصل إلى البيت تربع في فراش الشيخ عبد ال ‪ ،‬وسحب عباءة الوبر لتغطي ركبتيه‬
‫‪ ،‬وعندما عادت الحاجة حليمة بالفنار ‪ ،‬رأت فيه الشيخ عبد ال الذي ابتلعته الرض منذ‬
‫قليل فعادت دمعتها تسقط بعدما اكتفت منذ ساعة بأن تترقرق على سفح جفونها دون أن‬
‫تغادره ‪ ،‬جلست بجوار امعيزيق ونظرت في عينيه وهي تقول ‪:‬‬
‫‪ -‬عندما رحل نجع الفضيل عن هذا الوادي رأيته يجلس في المكان الذي كان يعلم فيه‬
‫صغار النجع وكأنه يستعيد الذكريات ‪ ،‬ويتأسف على بقاءه معلماً بل طلب ‪ ،‬وبعد أن‬
‫ي وقال ‪ :‬لقد صرنا وحيدين في هذا الودي يا حليمة ‪،‬‬ ‫قضى ساعات على هذا الحال جاء إل ّ‬
‫قلت له ‪ :‬أتمنى لو كنا ثلثة ‪ ،‬فرد عليّ والدمعة تترقرق في عينيه ‪ :‬الشيخ عبد ال عقيم ل‬
‫ينجب يا حليمة ‪ .‬كرهت نفسي في تلك اللحظة ‪ ،‬إذ أني لم أجيد اختيار كلماتي ‪ ،‬لقد كنت‬
‫أريد تهدئته فإذا بي أزيد نار فؤاده اشتعالً ‪ ،‬لم أجد ما أتفوه به فأخذت الفأس والحبل‬
‫وخرجت بحجة الحتطاب ‪ ،‬وحاولت أن أبتعد عن البيت بقدر ما أستطيع ‪ .‬كانت ذكريات‬
‫النجع الراحل تحوطني من كل جانب فأخذت أضرب الرض بالفأس بشدة لعل صوته‬
‫يغطي على صوت الذكريات ‪ .‬ل أعلم إن كنت أقطع حطباً أم أضرب حجراً ‪ ،‬ولم أقف‬
‫عما أنا فيه حتى قطع حبل الذكريات الذي لفني بكاء طفل غير بعيد عني ‪ ،‬فتوقفت عن‬
‫الضرب بالفأس واتجهت إلى مكان البكاء لجدك وأخيك الصغير ‪ ،‬لقد كان المسكين مرمياً‬
‫على الرض ‪ ،‬حاولت ايقاضه فلم يستيقظ ‪ ،‬حركت رأسه ‪ ،‬وفتحت عينيه ‪ ،‬ولما لم يبدِ‬
‫حركة أيقنت أنه قد مات ‪ ،‬أخذت بيدك وسحبتك ورأي حتى أدركنا البيت فدخلت على‬
‫الشيخ عبد ال وأنا أجرك من يدك فلما صرت أمامه رفعتك نحوه وأنا أقول له ‪ :‬ل تحزن‬
‫أيها الشيخ فها نحن قد صرنا ثلثة ‪...‬يأبى ال إل أن يحقق أحلمي ‪ .‬فرحنا بك فرحاً شديداً‬
‫واكتسبت حياتنا طعماً أخر‪ .‬وانبعثت فينا روح الحياة من جديد ‪ .‬أخبرته عن شقيقك فذهب‬
‫ليكفنه ويدفنه ‪ ،‬في ذاك المكان الذي وجدتكما فيه بجانب ذات الحجر الذي حماكما ظله ‪ .‬لم‬
‫تتكلم إل بعد اسبوع وحالما تكلمت سألت عن أخيك الصغير ‪ .‬قالت هذا وطأطأت رأسها‬
‫فرأى دمعة تسقط على حافة الفنار ‪ ،‬ثم تواصل طريقها حتى تصل التراب فتدفن فيه نفسها‬
‫‪ ،‬رفع رأسه وقال بحزن ‪:‬‬
‫‪ -‬قلتِ لي يومها أن أمي قد اشتاقت إليه فأخذته ‪ ،‬وها هي اليوم تأخذ أبي الشيخ عبد ال‬
‫لنعود بعد أكثر من عشرين عاماً أثنين وحيدين في ذات الوادي وبين ذات الروقة ‪.‬‬
‫قالت وهي تكفكف دمعة في مكانها ‪:‬‬
‫‪ -‬ل تحزن يا ولدي غداً عندما تتزوج سنصبح ثلثة ثم أربعة ثم خمسة حتى نبني لنا في‬
‫هذا الوادي نجعاً جديداً ‪.‬‬
‫حلق مع أحلم أمه بعيداً بعيداً ‪ ،‬ليسقط من ذلك العلو في بحر الحزن على أبيه من جديد ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫" بطول الطريق ها هم المتساقطون ها هم التائهون ها هي بقايا القافلة الحزينة ها‬
‫هم المأسورون المشردون ذوو القلوب الكسيرة من السير الطويل "‬
‫فيديريكو رافالي‬
‫علىتخوم القارة السوداء‬
‫ماجي‪ //‬طرابلس‬
‫وداع مواطن الحلم‬
‫(‪)5‬‬
‫استدارت الحاجة حليمة على ظهرها ‪ ،‬دون أن تفتح عينيها ‪ ،‬منتظرة صياح ديكها مرة‬
‫أخرى لتتأكد أن موعد صلة الفجر قد حان ‪ ،‬طال انتظارها ولم تسمع للديك صياحاً ‪،‬‬
‫فتحت عينيها لتتبين إن كانت تستطيع أن تميز الخيط البيض من السود ‪ ،‬الطريقة التي‬
‫أخذتها عن الشيخ عبد ال لبيان طلوع الفجر ‪ ،‬لكن شيئاً شغلها عن ذلك ‪ ،‬سمعت أصواتاً‬
‫تأتي من خلف التل الشرقي ‪ ،‬هل هي بهائم جاءت تبحث عن رزق ‪ ،‬أم هو غزو ‪ ،‬ولكن‬
‫من يطلب غزواً في هذه الغِفار أم تراه البحر هاج وماج وطلب الناس ففروا أمامه والتجئوا‬
‫خوفًا من الطوفان إلى تلل هذا المكان ‪ ،‬لكن الصوت أزداد وضوحًا ولم يكن فيه شيء‬
‫من هدير البحر ول صهيل الخيل ‪ ،‬بل هي أصوات أنين وبكاء لطفال ونساء ‪ ،‬وأصوات‬
‫رجال تزجر وتزمجر ‪ .‬هل هو نجع مرتحل أم هو نجع الفضيل قد عاد ؟ أم هي عفاريت‬
‫المقابر قد اجتمعت علينا ؟ قادتها هذه الفكار زاحفة مرتجفة إلى حيث ينام ولدها‬
‫أمعيزيق ‪ ،‬أيقضته بصوت خافت ‪ ،‬وقالت له بكلمات ل تكاد تفهم ‪ ،‬تخرج من فم تصطك‬
‫أسنانه من شدة الخوف ‪:‬‬
‫‪ -‬امعيزيق هنالك أصوات غريبة عند التل الشرقي ‪.‬‬
‫جلس امعيزيق في فراشه ‪ ،‬ولم يجد فرصة للتساؤل ‪ ،‬فقد كانت الصوات واضحة ‪.‬‬
‫أوضح من أن تكون أصوات لصوص ليل ‪ ،‬وصادرة عن أفواه وأقدام أكثر من أن تكون‬
‫لبعض الغزاة أو حتى لنجع مرتحل ‪ ،‬لم يطل التفكير ‪ ،‬لنه أدرك أن تفكيره لن يوصله‬
‫لشيء ‪ ،‬نهض إلى الجبر وسحب الفنار من مكانه الذي علق فيه وناوله لمه طالباً منها أن‬
‫تشعله ‪ ،‬وأخذ محرمته من على الوسادة ولفها حول رقبته ‪ ،‬ثم رفع ما جاء منها تحت ذقنه‬
‫ليغطي به أنفه ‪ ،‬وتناول عصىً ثقيلة من تحت فراشه ‪ ،‬وناولته أمه الفنار فخرج من البيت‬
‫يهرول ناحية التل الشرقي ‪ ،‬الجهة التي منها الصوت ‪.‬‬
‫وما أن صعد التل ورأى ما ورأه حتى تجمدت أوصاله ‪ ،‬ومرت لحظة وهو واقف وكأنه‬
‫تمثال صمم خصيصاً ليستند على عصىً ويحمل في يمينه فناراً ينير به قمة هذا التل ‪ .‬لكن‬
‫تلك الصوات كانت عالية ومزعجة بالقدر الكافي ليقاضه كما أيقضته الحاجة حليمة من‬
‫نومها ‪ ،‬استدار وولى راجعاً يجري إلى البيت فاغراً فاه من هول المفاجأة لعله يجد عند‬
‫أمه ما يفسر ما رأه ‪ ،‬وجدها تنتظر أسفل التل ‪ ،‬قال لها وهو يلهث ‪:‬‬
‫‪ -‬أمي هناك ‪...‬‬
‫لم يستطع أن يكمل ‪ ،‬وأمه لم تنتظره حتى يكمل ‪ ،‬جرته من يده وهي ل تتوقع أي خير مما‬
‫رأته في وجهه ‪ ،‬لم يدركا البيت ‪ ،‬إل وتلك الكتل المعتمة التي رأها امعزيق منذ قليل قد‬
‫بدأت تظهر فوق رأس التل ‪ ،‬ثم تنزل إلى أسفل الوادي في اتجاه البيت ‪ ،‬وعلى ضؤ الفجر‬
‫الذي كان قد لح دون أن ينتبه أيما أحد لصياح ديك الحاجة حليمة ‪ ،‬استطاع امعيزيق أن‬
‫يتبين في تلك الكتل الجنود الطليان ببنادقهم الطويلة تتبعهم عرباتهم المتوحشة ‪ .‬أعتقد‬
‫لول وهلة أنه جيش إيطالي عابر ‪ ،‬لكنه رأى أطفالً ونساءً وماشية ‪ ،‬اختلطت عليه‬
‫المور ‪ ،‬وكلما عل الصوت كانت أفكاره تزداد تشتتاً ‪ ،‬رأى وكأن أحد الجنود يحادثه ‪،‬‬
‫رأى أمه وهي تصرخ خلف جندي أخذ براميل الماء ورما بها في إحدى العربات ‪ ،‬ورأى‬
‫معزاتهم الثلث وهن يضعن وسط الزحام ‪ ،‬شعر بأن رأسه قد صار ثقيلً جداً ‪ ،‬ولمح أحداً‬
‫يستل خماسية بيتهم فيسقط ‪ ،‬ورأى الناس يتقاسمونه بعضهم يفك مواثيقه والبعض الخر‬
‫يجمع الرمم والزوازل وأخر يحمل أروقته على حمار وآخرين يأخذون ما فيه من أدوات‬
‫وبطاطين ‪ .‬شعر أن الرض تدور وفكر كيف لها أن تدور وهي تحمل كل هذا الكم من‬
‫البشر والماشية والعربات ‪ ،‬شعر بكامل جسده يلتصق بالرض ‪ ،‬ولم يدرك أنه سقط إل‬
‫عندما أحس حذاءً يطأ أصابع يده اليمنى ‪ .‬أراد أن يكتم صرخة ألم لكنه تراجع وأطلقها‬
‫عندما أحس بالسوط يلهب ظهره ‪ ،‬وصاحب السوط يأمره أن يقوم ‪ ،‬تدخل أحدهم وأقامه‬
‫من على الرض ‪ ،‬وأخذ يسنده وهو يتمايل ‪ .‬وإذ مر بجواره حماراً يحمل أثقالً من ثلثة‬
‫براميل ورواق قديم ‪ ،‬أسنده على ظهره طالباً منه أن يضم يديه حول رقبة الحمار ‪ ،‬تمنى‬
‫لو إنه قد وضع على ظهر الحمار ولو لفترة قصيرة حتى يستطيع أن يستجمع أفكاره‬
‫ويدرك ما يجري حوله ‪ ،‬ولكن إلى أين يريد أن يركب ‪ ،‬بل إلى أين هو ذاهب الن تتبع‬
‫خطواته خطوات حمار ‪ .‬أمسك رقبة الحمار بشدة وتوقف فتوقف معه الحمار ‪ ،‬لم يرفع‬
‫رأسه ‪ ،‬بل ظل على حاله محاولً أن يركز أفكاره لعله يستطيع أن يعي ما يحدث حوله ‪،‬‬
‫لكن سوطاً أحمى ظهره لم يمهله ‪ ،‬فتحرك ترتطم قدميه بأرجل الحمار ‪ ،‬فكر أن يتوقف‬
‫مرة أخرى ‪ ،‬لكنه تراجع عندما رأى شيخاً ساقطاً على الرض بل حراك ورأى امرأة‬
‫تضع بجانب ذلك الشيخ رضيعاً وتذهب ‪ .‬في هذه اللحظة لم يعد يحس بألم السوط ‪ ،‬شعر‬
‫أن هناك ما هو أشد من اللم ‪ ،‬جذبه أحدهم من ثوبه فأبعده عن الحمار ‪ ،‬شعر بوخزة‬
‫شديدة في قدمه اليمنى ‪ ،‬توقف ونظر إليها فوجدها وقد تمردت على الحذاء وغادرت من‬
‫خلل ثقب في مقدمته ‪ ،‬كان صغيراً ويبدوا أنه اليوم صار كبيراً ‪ .‬نظر فيمن حوله لعله‬
‫يرى أمه فرأى عجوزاً تجلس على الرض تكاد تطأها القدام ‪ ،‬وهي تردد كلمات لم يتبين‬
‫منها سوى أنها تطلب ماءً ‪ .‬فأدرك أن جفاف حلقه الذي لزمه منذ ساعة سببه العطش ‪،‬‬
‫وبصعوبة نادى من أمامه وطلب أن يعطيه المطارة التي يحمل ليسقي منها عجوزاً مسكينة‬
‫‪ ،‬واستغرب أنه لم يرد عليه بأي كلمة مكتفياً برمي المطارة إليه ‪ ،‬التقطها بكلتا يديه فهجم‬
‫عليه ثلثة رجال كانوا حوله كلٌ يحاول أن يفتكها ‪ ،‬وأحس يدي طفل يدغبشان وجهه‬
‫يحاول هو الخر أن يطال المطارة ‪ ،‬ومن بين الرؤوس المتنازعة لمح إمرأة ترفع رضيعاً‬
‫نحوه دون أن تتفوه بكلمة ‪...‬ترك المطارة بين تلك اليدي المتشابكة لينتزعها أحدهم‬
‫ويهزها في الهواء ثم ينكسها فل تنزل منها قطرة ماء ‪ .‬شعر في قرارة نفسه بأرتياح‬
‫سرعان ما تلشى عندما تذكر تلك العجوز المسكينة التي تطلب الماء ‪ ،‬وفجاءة عاوده‬
‫الحنين إلى أمه ‪ ،‬حاول أن يبحث عنها فوجد صعوبة في اللتفات إلى اليمين وإلى‬
‫الشمال ‪ ،‬فاكتفى من بحثه برفع رأسه والنظر إلى المام لعله يرى أمه فيمن يبرز أمامه‬
‫من رؤوس ‪.‬‬
‫مع مرور الوقت أخذت الخطوات تتباطأ والصوات صارت تخفت شيئاً فشيئاً ‪ ،‬فيسود‬
‫الصمت الجميع ‪ ،‬حتى الماشية والكلب ‪ ،‬ليتحول الموكب إلى ما يشبه الجنازة ‪ ،‬وأي‬
‫جنازة ‪ ،‬إنها جنازة الحياء ‪ ،‬فياله من حزن صادق ‪ ،‬ويالها من جنازة مهيبة حين يشارك‬
‫الموتى في تشييع جنازاتهم ‪ ،‬فليس ثمة من يحزن عليك أكثر منك ‪ .‬تواصل جنازة الحياء‬
‫مسيرها ‪ ،‬تمر بالمقابر فتدفن فيها من تدفن وتغادر ‪ ،‬تنزل بالوديان فتترك فيها من تترك‬
‫وتغادر ‪ ،‬ترقى المرتفعات فتجد ثمة أرواح أنها قد صارت أقرب فتغادر ‪ ،‬ويمضي الموتى‬
‫الحياء والرؤوس مطأطأة والظهور تلهبها السياط والجباه تحرقها أشعة الشمس ‪ ،‬قلوب‬
‫أطفال تتمزق من جزع ‪ ،‬وأكباد نساء تتفتت على أطفال يذوون ويموتون من شدة‬
‫العطش ‪ ،‬ونفوس يدهمها الموت كل دقيقة من قهر رجال لرجال ‪.‬‬
‫ها هي القافلة تسير والكلب صامتة وسياط الجنود ل تكف ‪...‬ل يتخلف من هذا الموكب‬
‫الجنائزي سوى الموتى ‪ ،‬ومن تخلف من سواهم أماتته السياط ‪ ،‬وكلما تقدمت القافلة إنضم‬
‫إليها المزيد والمزيد من نجوع أمنه ‪ ،‬ومسافرين مسالمين ‪ ،‬ورعاة طيبين ‪ ،‬ولم يكن ما‬
‫ينضم إليها بكافٍ ليعوض القافلة ما تفقد ‪.‬‬
‫كانت الشمس قد قاربت على المغيب ‪ ،‬وبدأ عدد المتهالكين يزداد ‪ ،‬وبدأ صوت السياط‬
‫يرتفع ‪ ،‬ولم يعد بإستطاعة الجنود القضاء على كل من تخلف عن الركب فصاروا يلحقون‬
‫من استطاع اللحاق ‪ ،‬ثم يرمون بالباقون في أعقاب عرباتهم ‪.‬‬
‫كان أمعيزيق قد أنهكه المسير ‪ ،‬وأخذ منه التعب كل مأخذ ‪ ،‬وشعر بمرارة في حلقه من‬
‫شدة العطش مما جعله في مؤخرة السائرين ‪ ،‬المر الذي عرضه من حين لخر لسياط‬
‫بعض الجنود ‪ ،‬ففكر أنه لو سقط على الرض فربما سمحوا له بالتمسك بخلفية إحدى‬
‫العربات ‪ ،‬وربما حملوه بإحداها ‪ ،‬ولكنه سرعان ما عدل عن رأيه هذا وقد مرت به عربة‬
‫فرأى بها العشرات من الشيوخ والطفال وقد حشروا بعضهم فوق بعض ‪ ،‬وأدرك أنه ول‬
‫شك سينتهي لو أنه حشر مع هؤلء ‪ ،‬فقرر أن يتحامل على نفسه ويواصل السير ‪ ،‬ولنه‬
‫لحظ أن ملمسة السياط لجسده قد زاد ‪ ،‬قرر أن يوسع قليلً من خطواته لعله يبتعد عن‬
‫هذه المؤخرة الملعونة ‪ ،‬فليس فيها غير سياط ل ترحم ومنظر العربات المقرف ‪.‬‬
‫مضى وقت طويل من المسير في الظلم ‪ ،‬قبل أن تتوقف مقدمة الرحيل ويبادر الجنود‬
‫مستعينين بسياطهم بضم مؤخرته إلى تلك المقدمة التي توقفت ‪ ،‬فأنضم الناس بعضهم إلى‬
‫بعض أحاط بهم الجنود من كل جانب ‪ ،‬وبعد قليل سمع الجميع من خلل مكبر الصوت‬
‫من يطلب منهم أن يناموا ‪ ،‬واستمر ذلك المنادي يردد في رتابه ‪:‬‬
‫‪ -‬الن وقت الراحة يجب أن تناموا جميعاً وكل من نجده واقفاً سيموت ‪.‬‬
‫سارع البعض بالجلوس ‪ ،‬والبعض الخر بالستلقاء على الرض ‪ ،‬أما امعيزيق فقد ظل‬
‫واقفاً رغم إحساسه بالتعب دون أن يعرف لذلك سبباً ‪ ،‬ولكنه حالما سمع صوت الرصاص‬
‫يدوي بصداه وسط الظلم المطبق أدرك أن ما قاله المنادي لم يكن مجرد تهديد كما‬
‫اعتقد ‪ ،‬فبادر بالسقوط إلى الرض متمنياً أل يكون الرصاص قد أصابه ‪ ،‬فرغم أنه لم‬
‫يحس ألماً إل أنه لم يطمئن لذلك لنه لم يعد يثق كثيراً بإحساساته ‪ ،‬إذ أنه لم يعد يحس بألم‬
‫سياط الجنود منذ رأى العربات وما حملته من أكداس بشرية تفوح منها رائحة نتنة تذكره‬
‫برائحة الجيف ‪.‬‬
‫لم يكد النوم يثقل أجفانه حتى نهض مفزوعاً على صراخ فتاة غير بعيد عنه ‪ ،‬نظر للجهة‬
‫التي منها هذا الصراخ فلم يتأتى له أن يرى شيئاً إذ كان الظلم كثيفاً فالقمر يبدو أنه كان‬
‫يتأفف أن ينير مكاناً كهذا ‪ ،‬إبتعد صراخ الفتاة لينتهي إلى حيث تصاعدت ضحكات‬
‫مسعورة ‪ ،‬نظر إلى تلك الناحية التي تنطلق منها هذه الضحكات فأبصر أنوار عرباتهم ‪،‬‬
‫أحس بالمرارة تزداد في حلقه ‪ ،‬جلس وحاول أن يتخلص من سماعه لتلك الضحكات‬
‫بتركيزه إلى نواح أم كانت تبكي أبنتها غير بعيد عنه ‪.‬‬
‫إشتم رائحة خبز تتسلل من بين رائحة العرق والدم المتجمد والجروح النتنة ‪ ،‬فزحف على‬
‫بطنه باحثاً عن مصدر هذه الرائحة لعله ينال منه شيئاً ‪ ،‬فأنياب الجوع مضى عليها عدة‬
‫ساعات وهي تنهش بطنه دون رأفة ‪.‬‬
‫" برغم الصلح مع تركيا فإن الحرب ستتواصل مع القبائل العربية التي لن‬
‫تستسلم ‪ ،‬وسيجري تحضيرها فترة طويلة عن طريق الحربة والرصاصة‬
‫وحبل المشنقة والنار واغتصاب النساء "‬
‫ف ‪ .‬أ ‪ .‬لينين‬
‫نهاية حرب إيطاليا مع تركيا المجلد ‪22‬‬
‫المعتقل‬
‫(‪)6‬‬
‫لم تكد طلئع هذه المسيرة البشرية تصل إلى بوابة المعتقل حتى بادر جندي كان يقف بأحد‬
‫البراج القائمة على البوابة برفع مدفعه الرشاش إلى السماء وأطلق سيلً من الرصاص‬
‫أحدث دوياً هائلً غطى كل الجلبة السائدة ‪ .‬أحتار الزمان في حقيقة هذا الفعل ‪ ،‬فلم يعرف‬
‫إن كان هذا الجندي يرحب بهؤلء البؤساء ‪ ،‬أم هي نشوة لنصر لم يتحقق ‪ ،‬فسجل الزمان‬
‫في تلفيف الذاكرة أن هذا الجندي كان يعلن الوصول إلى قمة تراجيديا هذا الزمان ‪.‬‬
‫دخل أمعيزيق وهو يظن أن ل بؤس بعد بؤسه ‪ ،‬فوجد البؤس الحقيقي قد تجسد أمامه في‬
‫أشواط من بيوت متلحقة ‪ ،‬ل يستطيع الداخل من بوابة المعتقل أن يرى لها نهاية ل من‬
‫يمين ول من شمال ‪ ،‬فتمنى لو يصعد مع ذلك الجندي صاحب المدفع الرشاش إلى برجه‬
‫لينظر إن كان يرى نهاية لهذا النجع الذي لم يرى له مثل من قبل ‪.‬‬
‫رأى السلك الشائكة وهي تحتوي كل شيء ‪ ،‬ورأى رؤوسها الحادة قد تللت تحت‬
‫الضواء الكاشفة المسلطة عليها ‪ ،‬فرأي فيها أنياب الليث البارزة ‪ ،‬ولم يظن للحظة أن هذا‬
‫الليث كان يبتسم ‪ ،‬فاللوحات المعدنية المعلقة على هذه السلك كانت تشير إلى أنها أسلك‬
‫مكهربة حاملة لخطر الموت ‪ ،‬ففكر أمعيزيق في أن يكون الموت بهذه السلك أشد‬
‫وأقسى وأكثر شناعة من موت هؤلء الذين يرى جثثهم وقد تناثرت بين البيوت ‪ ،‬وبعض‬
‫الجنود وقد غطوا أنوفهم يجمعونها فتمر بهم عربة يرصون فيها هذه الكوام البشرية بغير‬
‫نظام وبل احترام ‪ ..‬تذكر الجثث التي كانت تكدس بالعربات أثناء مسيرهم ‪ ،‬لقد رأى تلك‬
‫العربات وهي تدخل البوابة فارغة فلم يستطع تصور ما يمكن أن يكون قد آل إليه حال‬
‫أولئك المساكين ‪ ..‬قطع تفكيره وصول رائحة نتنة إلى أنفه فسمع أنيناً يصدر من أحد‬
‫البيوت المغلقة ‪ ،‬أقترب منه وتشوف من خلل فتحة افتعلها برفعه لحد الروقة فرأى‬
‫أكثر من عشرين جسداً ‪ ،‬وقد تكومت حول بعضها ‪ ،‬لم يستطع تبين شيئاً أكثر من هذا ‪،‬‬
‫فالرائحة كانت شديدة بقدر أجبره على التراجع ‪ ،‬وقد اعتراه دوار شديد ورغبة ملحة في‬
‫قذف ما في جوفه ‪.‬‬
‫واصل طريقه بين البيوت ‪ ،‬يسير مبعثر الخطوات مضطرب الخواطر ‪ ،‬ل يعرف له‬
‫سبيلً ول يحدد هدفاً غير النظر في وجوه من يقابلهم لعله يرى وجه أمه التي ضاعت‬
‫وسط هذا الزحام ‪ ،‬يدور حول كل امرأة يقابلها ليرى وجهها ‪ ،‬وعندما تنظر إليه متسائلة‬
‫يتلعثم ويقول ‪:‬‬
‫أبن يبحث عن أم ضاعت منه ‪ ،‬ل تخافي سيجدها وإن طال البحث ‪.‬‬
‫ويخلف المرأة وراءه وقد اعترتها الحيرة ليبحث عن أخرى يضعها بذات الحيرة ‪ ،‬أحس‬
‫بألم في رأسه فأخذ يدور حول الفتيات ويقول أنه يبحث عن مريم ‪ ،‬أشتد به الدوار فشعر‬
‫وكأن ثعباناً يحاول أن يخرج من بطنه ‪ ،‬ثم أخذ يدور حول الرجال ويسألهم عن الشيخ عبد‬
‫ال ‪.‬‬
‫رأى دخاناً يتصاعد من بيت أمامه ‪ ،‬فأنتفض ثعبان بطنه من جديد ‪ ،‬ولم يجد مناصاً من أن‬
‫يقصد إلى ذلك البيت لعله يصيب فيه شيئاً ‪ ،‬وجد امرأة جالسة أمامه توري ناراً قد‬
‫انتصبت عليها قدراً ‪ ،‬ولما لم يرى فيها وجه أمه حليمة ‪ ،‬سألها أن تعطيه بعض الطعام‬
‫معللً طلبه بأنه لم يدخل جوفه شيئاً من الطعام منذ زمن طويل ‪.‬‬
‫نظرت إليه بيأس وقالت ‪:‬‬
‫إنه بعض العنصل يا ولدي وقد جمعته بشق النفس لطعمه لطفال صغار ‪.‬‬
‫تذكر عمر أبن الخطاب وحكايته مع امرأة تطبخ لطفالها الحجارة ‪ ،‬وتذكر الحجار‬
‫الثلثة التي طالما انتصبت عليها قدر أمه ‪ ،‬وتصور هذه الحجار وهي داخل القدر ‪ ،‬ثم‬
‫تصورها وهي تدخل بطنه فتقتل ذلك الثعبان الذي ل يفتأ يتلوى ‪ ،‬مضى دون أن ينبس‬
‫ببنت شفه وهو يشتهي تذوق طعم العنصل ‪.‬‬
‫كان الظلم قد بدأ يلون سماء المعتقل بلونه السود ‪ ،‬وبرد ليل الصحراء ينخر العظم كما‬
‫كانت تردد الحاجة حليمة ‪ ،‬مر على شيخ يجلس أمام بيته لهياً بتمرير حبات مسبحة بين‬
‫أصابعه ‪ ،‬طلب منه أن يطعمه أي شيء ‪ ،‬فلم يتكلم الشيخ واكتفى بهز رأسه ‪ ،‬طلب منه أن‬
‫يبيت عنده ‪ ،‬حك الشيخ رأسه مبيض الشعر ونظر إليه نظرة طويلة ثم قال ‪:‬‬
‫إمضي يا ولدي في حال سبيلك ‪ ،‬فال ل ينسى عباده ‪ ،‬وتعود أل تسأل العباد شيئاً ‪.‬‬
‫همّ أن يقول له إن الحكمة ل تشبع جائعاً ول تقيه من البرد ‪ ،‬لكنه تراجع عن ذلك ومضى‬
‫يمشي متمتماً بكلمات ل يعيها ‪ ،‬تذكر الشيخ عبدال وهو يتخطى رمة جاءت أمامه ‪ ،‬مشى‬
‫خطوات قليلة لكان الدور إشتد عليه وقد صار خلف بيت ذلك الشيخ الذي كان أمامه منذ‬
‫لحظات ‪ ،‬وإذ لم يعد قادراً على مقاومة ما اصابه من دوار أرتمى على الرواق الخلفي‬
‫لبيت الشيخ ‪ ،‬وهو يتذكر الطريقة التي كان ينام بها كلبهم على رواق البيت الخلفي ‪ ،‬حاول‬
‫أن ينهض لكن الدوار منعه ‪ ،‬حاول أن ينام لكن البرد نهاه ‪ ،‬فهيهات لجائع أن ينام في‬
‫عراء وهيهات لثعبان بطنه أن يسكت إل في دفء طعام وفراش ‪.‬‬
‫سمع صوت شياه تتحرك وتتنفس خلف الرواق ‪ ،‬فرفعه باحتراس شديد ونظر إلى داخل‬
‫البيت فرأي في الظلم عيون الشياه وهي ترقب الفتحة التي ينظر منها ‪ ،‬فكر في أن يندس‬
‫بينها لتدفئه أنفاسها ويحتمي بينها فل يراه الشيخ ‪ ،‬زحف ببطء حتى ل ينتبه أليه أحد ‪،‬‬
‫محاولً أل يثير رعباً بين الشياه لكنه أدرك أنه قد وقع فيما يخشاه فهذه يده تمسك بقدم‬
‫إنسان ينام وسط الشياه ‪ ،‬لبد وأنه الشيخ أحاطت به الشياه وهو نائم ولم يصحى بعد‬
‫ليبعدها عنه ‪ ،‬لبد وأنه سيشك فيه ‪ ،‬خاصة وهو يعرف أنه إنسان جائع ول مأوى له ‪ ،‬وقد‬
‫يبلغ عنه الجنود الذين سيضربونه بسياطهم ضرباً مبرحاً و ‪ ...‬لكن لم يكن ليستمر في‬
‫أفكاره هذه عندما صدر عن الجسد الذي لمسه منذ لحظة صوتاً رقيقاً ل يمكن إل أن يكون‬
‫لفتاة جميلة ‪ ،‬قالت بصوت خافت وقد أرادت التأكد من عدم وجود أحد فقد غلب على ظنها‬
‫أن ما لمس قدمها هو أحد الشياه ‪.‬‬
‫‪ -‬من هناك ؟‬
‫‪ -‬ل تخافي أنا رجل مسكين يريد أن يحتمي من البرد بين هذه الشياه ‪.‬‬
‫لم ترد عليه بل ساد الصمت بينهما لبعض الوقت ‪ ،‬قالت بعده ‪:‬‬
‫‪-‬تكلم بصوت خافت حتى ل يسمعك أبي ‪ ،‬صحيح أن سمعه قد ثقل ولكن ل ترفع‬
‫صوتك ‪..‬‬
‫‪-‬لماذا تنامين بين الشاه ‪.‬‬
‫‪-‬لبد وأنك جائع ‍‬
‫ولم تنتظر جوابه ‪ ،‬فقد كان واضحاً في أسنانه التي تصطك ‪.‬‬
‫زحفت بعيداً عنه إلى الجانب الخر من البيت حيث ينام أبوها ‪ ،‬ثم عادت لتناوله كسرة‬
‫خبز يابسة وهي تقول ‪:‬‬
‫‪-‬خذ ‪ ..‬هذه كسرة خبز كنت وفرتها للغد ‪ ،‬كلها ولك أن ترضع ضرع إحدى هذه الشياه‬
‫إن وجدت ما ترضعه فهي جائعة هزيلة ‪ .‬إنهم ل يتركون أحداً ينام مطمئناً ‪ ،‬لهذا يجب‬
‫أن أحتمي منهم ‪ ،‬في النهار يجلس أبي أمام البيت ويخبرني في حال اقتراب أحد منهم‬
‫ناحية بيتنا فأبادر بالخروج من المكان الذي دخلت منه أنت ‪ ،‬لختفي خلف البيت حتى‬
‫يناديني أبي ‪ ،‬أما في الليل فلبد أن أتخذ سبيلً كهذا لحمي نفسي ‪.‬‬
‫‪-‬حسناً ‪ ..‬لقد أصبت طعاماً الن ‪ ..‬وسأذهب يا مريم ‪.‬‬
‫وسط صمت الليل وظلمه سمع ضحكة خافتة إهتز لها فؤاده سرعان ما تلشت‬
‫وصاحبتها تسأله ‪:‬‬
‫‪-‬من مريم هذه ؟‬
‫‪-‬ل تهتمي للمر ‪ ..‬إنها أختي ‪..‬‬
‫‪-‬سأذهب الن فلن نتزاحم على فراش واحد ‪.‬‬
‫‪-‬بل أنا من يجب أن يذهب ‪.‬‬
‫‪-‬ل ‪ ..‬ستبقى وأنا سأنام هناك فالليل قد أوغل ولن يأتي منهم أحد حتى طلوع النهار ‪.‬‬
‫تركت له اللحاف ليتغطى به ‪ ،‬وزحفت مبتعدة عنه ‪ ،‬وما إن صار جسده داخل تلك‬
‫البطانية حتى غط في نوم عميق ‪ ،‬لكن الزمن زمن قهر ل تكتمل فيه الحلم المختلسة ول‬
‫تدم الراحة المغتنصة في غفلة منه ‪ ،‬إذ نهض بعد وقت ليس بطويل مفزوعاً على صراخ‬
‫فتاة في الجانب الخر من البيت وصوت حذاء يضرب جسداً بشرياً وهدير مدفع يخرج من‬
‫حنجرة بشرية ‪ ،‬أنتفضت الشياه فزعة وأخذت تتحرك مكانها فخشى أن يفتضح أمره ‪ ،‬وإذ‬
‫أدرك أنه ل يستطيع فعل شيء لجل أخته مريم ‪ ،‬إستل من تحت الرواق وخرج ‪ ،‬فوجد‬
‫أن الفجر قد لح ‪ ،‬وأستغرب أن رأي ديكاً ما يزال يغط في نوم عميق غير آبه بالنور الذي‬
‫بدأ يتسلل في خجل فاضحاً البؤس الذي كان يواريه ليل طويل ‪.‬‬
‫مضى يمشي حزيناً منكسر النفس ل يظن أحداً في الدنيا أذل منه ول أشقى ‪ ،‬وعلى حين‬
‫فجأة لحت في ذهنه إحدى حكايات الحاجة حليمة القديمة ‪ ،‬لم يدري لورودها سبباً ‪،‬‬
‫وشغله تتبع أحداثها عن البحث في هذا السبب ‪ ..‬ربما كان ما حدث أمامه لمريم هو ما أثار‬
‫هذه الحكاية من مكمن الذكريات ‪ ،‬فما حدث لمريم الليلة هو ما حدث للفتاة المسكينة في‬
‫هذه الحكاية ‪ ،‬إذ تركنها رفيقاتها من فتيات النجع فوق الكرمة بعد أن رمت لهن بالتوت‬
‫الذي ينشدن ‪ ،‬استغاثت بهن كثيراً أن ينزلنها ‪ ،‬فلم يأبهن بتوسلتها ‪ ،‬ثم جاءها الغول‬
‫فعرض أن ينزلها من فوق الشجرة بشرط قبولها الزواج منه فأنزلها ثم ‪ ..‬حاول أن يتابع‬
‫الحكاية ‪ ..‬توقف مكانه معيراً كل قواه للذاكرة لعلها تسعفه بما بقي منها ‪ ،‬لكن دون فائدة‬
‫فإلى هنا وانقطعت الحكاية‪ ،‬فما عاد يجد لها في ذاكرته من نهاية ‪ ،‬حك رأسه ثم مضى‬
‫يمشي بخطى متثاقلة مطأطأ الرأس ل يلوي على شيء وقد ضعف عن حجر تفكيره في‬
‫دائرة محددة ‪ ،‬فتارة ذهب به تفكيره إلى أمه حليمة والمكان الذي هي به الن ‪ ،‬وكيف‬
‫يستطيع أن يجدها ‪ ،‬وتارة يتجه به التفكير نحو غدٍ يراه غامضًا مجهولً ‪ ،‬ول يعرف ما‬
‫سيجد به عليه ‪ ،‬وتارة كان يفكر فيما دعا هؤلء إلى قيادته لهذا المكان ‪ ،‬والسباب التي‬
‫تدعوهم لحشر كل هؤلء البشر وراء هذه السلك ‪ ،‬لم يكن ليستطيع تكوين صورة محددة‬
‫بتفكيره التائه بين دوائر غير محدودة المعالم ‪ ،‬كان يود أن يستقر ذهنه على أياً منها لعله‬
‫يخرج بنتيجة تفيده ‪ ،‬المر الوحيد الذي ابتعد عن التفكير فيه ‪ ،‬فطرد كل بارقة تبرق في‬
‫ذهنه هو واقعه الذي يعيشه الن ‪ ،‬والذي ما يكاد يفكر فيه حتى تعتريه رعشة ويتخبط‬
‫ثعبان بطنه ‪ ،‬ويحس مرارة في حلقه ‪ ،‬لكن هيهات لي كان أن يتوارى عن واقعه إل‬
‫بالختفاء خلف حيلة من حيل النفس تظهره وكأنه قد إمتلك ذات جديدة لها خلق جديد‬
‫وصفات جديدة ‪ ،‬وتطلب طريقة أخرى للعيش ‪ ،‬لكن هذه الحال لم تدرك أمعيزيق بعد ‪،‬‬
‫وها هي الرائحة النتنة تداهمه من جديد ‪ ،‬إنتبه حوله ونظر أمامه فرأى جثة إمرأة مرمية‬
‫قد تدعص (‪ )1‬اللحم منها فكانت مصدراً لهذه الرائحة إستغرب كيف تركت حتى وصلت‬
‫لهذه الحال من التفسخ ‪ ،‬ولما نظر وراءه ‪ ،‬رأي البيوت وقد صارت غير قريبة منه فظن‬
‫لوهلة أنه قد صار خارج السلك الشائكة ‪ ،‬لكن نظرة حوله أكدت له غير ذلك ‪ ،‬وعاد‬
‫ففكر في أن هذه المساحة الواسعة لبد وأنها قد تركت لتحشر فيها نجوع أخرى ما زالت‬
‫تساق في الطريق إلى هذا المعتقل ‪ ،‬فكر في العودة إلى حيث تنام البيوت التي يعجز أهلها‬
‫عن النوم‪ ،‬وإن لم يكن له فيها من يستقبله ‪ ،‬لكنه عدل عن رأيه عندما رأى دخاناً يتصاعد‬
‫من منطقة خالية ‪ ،‬لم يرى‬
‫======‬
‫(‪)1‬تدعص‪:‬‬

‫فيها أحداً ‪ ،‬فأتجه نحو ذلك الدخان ليتبين مصدره ‪ ،‬ولما تجاوز الكثيب الفاصل لمصدر‬
‫ذلك الدخان عن البيوت ‪ ،‬وجد رجلً يشتوي اللحم لثلثة أطفال افترشوا الرض بجواره‬
‫وعيونهم ل تحيد عما في النار ‪ ،‬رأى قطع اللحم وهي تحترق على النار ‪ ،‬سلم أمعيزيق‬
‫من بعيد وقد أضمر في قرارة نفسه أن يهجم على النار ويفتك من فوقها ما يطال من قطع‬
‫اللحم إن فكر هذا الرجل في طرده ‪ ،‬لكن ذلك الشاوي خيب ما كانت عدوانية روحه قد‬
‫صارت إليه فأهل به هذا الرجل تأهيلً لم يتوقع أمعيزيق أحداً يجود به في مثل هذه اليام ‪،‬‬
‫استجاب لدعوة الرجل بالجلوس منتظراً ‪ ،‬وهو ينظر إلى النار نظرة لم تختلف كثيراً عن‬
‫نظرة الطفال إليها ‪ ،‬ولم تكد قطع اللحم تقارب الستواء حتى تلفتها اليادي تلهمها لفواه‬
‫جائعة لم تعد تذكر آخر مرة ذاقت فيها الطعام ‪.‬‬
‫فكر أمعيزيق في أن هذا اللحم قد يكون مسروقاً ‪ ،‬لكنه طرد هذه الفكرة وهو يتذوق أول‬
‫قطعه منه ‪ ،‬أحس وكأنه يتناول اللحم لول مرة ‪ ،‬كان يمضغ في سرعة قدر أنها تمنحه‬
‫فرصة الحصول على قطعة أخرى‪ ،‬محاولً أل ينتبه أحداً لستعجاله في الكل لكنه‬
‫سرعان ما توقف عن المضغ كلياً عندما لحظ الرجل الذي كان يوري النار يتلفت تلفتاً‬
‫شديداً كأنه يتسمع لصوت غريب ‪ ،‬أرهف سمعه هو الخر فتناهى إلى أذنه وكأن أصواتاً‬
‫تتقدم نحوهم ‪ ،‬ألتفت إلى الرجل ليسأله فوجده وقد بدأ يهيل تراباً على النار فيكتم دخانها ‪،‬‬
‫منع ثعبان بطنه الهائج من القفز على الرجل بأن قفز ناحية الكثيب ليرى ما ورأه ويتبين‬
‫حقيقة ما سمع فتداعت لذاكرته صورة التل الشرقي لواديهم وهو يرى جمعاً كبير من‬
‫الناس ‪ ،‬وكأن كل من حصرتهم السلك قد إتجه نحوهم ‪ ،‬نظر وراءه وسأله عما يحدث‬
‫فأجابه الرجل الذي كان قد انتهى من طبن النار لتوه بصوت لم يكن فيه الكثير من‬
‫النزعاج ‪:‬‬
‫‪-‬لبد وأنهم سيشنقون أحداً ‪ ،‬إنهم يتجهون ناحية الميدان الكبير حيث تنتصب المشانق ‪.‬‬
‫‪-‬وماذا نفعل نحن ؟‬
‫‪-‬نظر إليه الرجل وهو يواري قطع اللحم المتبقية تحت التراب بعد أن غطاها بقطع من‬
‫حطب المثنان وقال له ‪.‬‬
‫‪-‬ل شيء ‪ ..‬سنختبىء هنا وراء هذا الكثيب حتى إذا أقتربوا ‪ ،‬ضعنا وسطهم وكأننا قد‬
‫أتينا معهم ‪.‬‬
‫‪-‬ولكن من سيشنقون ؟‬
‫‪-‬لبد وأنهم أمسكوا ببعض من يحاول التسلل إلى ما وراء هذه السلك بحثاً عن قوته‬
‫وقوت عياله خارج مقبرة الحياء هذه ‪.‬‬
‫‪-‬ولماذا يشنقونهم ؟‬
‫‪-‬لذات السبب الذي دعاهم لن يحبسوك داخل هذا الجحيم ‪.‬‬
‫‪-‬ولماذا يسوقون كل هؤلء ‪ .‬أجابه الرجل وشعور بالمرارة بادٍ على وجهه ‪.‬‬
‫‪-‬ليشهدوا على أن من يشنق يموت ‪..‬‬
‫بعد لحظات كان أمعيزيق وسط الحشد العظيم ‪ ،‬وغير بعيد من المكان الذي نال فيه ما‬
‫أسكت ثعبان بطنه أحس قدمه تطأ شيئاً ناعماً لم يستطيع أن يفكر فيما يمكن أن يكون ولما‬
‫نظر إليه تبين فيه جلد كلب قد سلخ بعناية شديدة ‪ ..‬واصل السير وهو يتمنى أل يكون ما‬
‫أكله منذ قليل من اللحم مسروقاً ‪.‬‬
‫وصلوا إلى حيث نصبت المشانق ‪ ،‬وكان عليهم جميعاً رجالً ‪ ،‬وأطفالً ‪ ،‬ونساءً أن‬
‫ينتظروا حتى المساء لتنتهي مراسم إثبات أن من يشنق يموت ‪ ،‬كانت وسائل اليضاح هذه‬
‫المرة تسعة رجال وامرأة رأى فيها أمعيزيق وجه أمه وهي تطلق زغرودة عالية وحبل‬
‫المشنقة يتدلى فوق رأسها ‪ ،‬ولما سألها الضابط الذي كان ينفذ أمر الشنق عما دعاها لن‬
‫تزغرد قالت بأعلى صوتها ‪:‬‬
‫لقد تأكدت الن أنني قد صرت من البطال ‪.‬‬
‫وأطلقت زغرودة أخرى أكد كل من ذكرها في حديثه فيما بعد أنها لم تكتمل ‪.‬‬
‫كانت وسائل اليضاح طيعة في أيدي جلديها ‪ ،‬ولم يكن الموت بتلك الهمية التي كان‬
‫يتصورها أمعيزيق فها هي عشر أرواح تقضي كما يقضى على الدجاج بغير حرمة ول‬
‫قدسية ‪.‬‬
‫في طريق عودتهم توقف أمعيزيق عند نار مضيفه في ذلك الصباح ونظر إلى كوم التراب‬
‫الذي علها مفكراً فيما تحته من لحم ولما لم يقفز ثعبان بطنه واصل المشي وقد ظهر على‬
‫وجه الشمئزاز ‪ ،‬وهو يسمع نباح كلب كان يتوسط السائرين ظن لوهلة أن نباحه كان‬
‫صادراً من بطنه ‪.‬‬
‫النين والحنين‬
‫(‪)7‬‬
‫كان الحزن والشعور بالقهر قد غشى قلوب الكثيرين من أمثال أمعيزيق ‪ ،‬أولئك الذين ما‬
‫صادف أن شهدوا إعمال المشانق وتأرجح الرقاب في حبالها من قبل ‪ ،‬وما كان شعورهم‬
‫هذا إل لينعكس على وجوههم ‪ ،‬فكان منهم الماشي واجمًا والجار قدميه ناحباً ‪ ،‬والمترنح‬
‫في مشيته والدمع منه قاطر ‪ ،‬ومنهم من خفض الخطى مستعبراً مغالباً الدمع حتى يتوارى‬
‫داخل بيته ‪ ،‬لكن ما قرب الجمع من بيوتهم حتى توقف ‪ ،‬إذ كانت الدرب إلى البيوت قد‬
‫سدها جنود أحباش ذوي ألعاط (‪ )1‬يمسكون بنادقهم مانعين كل من أراد تقدماً ‪ ،‬فوقفوا‬
‫مكانهم حتى تعبوا ‪ ،‬فلما تعبوا جلسوا ‪ ،‬ولما طال بهم الجلوس ملوه فأفترشوا الرض مما‬
‫جعل بعضهم يستغرق في نوم لم يكن بأي حال نوماً مطمئناً ‪ ،‬إذ ما كادوا يستشعرون‬
‫حركة في مقدم الجمع حتى تقدم الواقف ‪ ،‬ووقف الجالس ‪ ،‬وصحى النائم ‪ ،‬لكن نظرة‬
‫واحدة كانت كافية لبيان أن من سمح لهم بالنصراف إلى بيوتهم هم النساء والطفال ‪،‬‬
‫فعاد أمعيزيق إلى حاله ‪ ،‬بعد أن نظر حوله فلم يرى غير الرجال ‪ ،‬وقد أبانت له نظرته‬
‫تلك قلتهم بقدر لم يكن يتصوره ‪ ،‬بعد حين تقدم أحد الجنود ‪ ،‬وأخذ يختار من الرجال من ل‬
‫يرى فيه ضعفاً ول هزالً ‪ ،‬أحس أمعيزيق بخوف شديد لم يدري كنهه ‪ ،‬وأخذ يتراجع إلى‬
‫الوراء متوارياً خلف الرجال ‪ ،‬مما أثار إنتباه الجندي فدعاه لن يأتيه ‪ ،‬وما أن إقترب منه‬
‫حتى بادره بصفعة شديدة وهو يواصل العد بقوله ثلثة وتسعين ‪ ،‬لم يأتي أمعيزيق بأي‬
‫حركة غير ترديده ذلك الرقم ‪ ،‬وكأنه أراد أن ينقشه في ذاكرته فل ينساه ‪ ،‬ليتجنب صفعة‬
‫أخرى ‪ ،‬لم يكد يكرر الرقم ثلثاً وهو واقف مكانه حتى أحس وكزة في ظهره وجهها له‬
‫أحد الجنود بعقب بندقيته وهو يأمره أن يقف ضمن صف طويل ‪ ،‬جر قدميه نحو الصف ‪،‬‬
‫لكن سوطاً ألهب ظهره جعله يجري ناحية صف من الرجال ‪ ،‬ما كاد يستقر في طرفه‬
‫حتى سمع من يقف على يساره يذكر العدد إثنين وتسعين ويحثه على الكلم بهمهمة لم‬
‫يتبينها ‪ ،‬فبادر إلى نطق ثلث وتسعين ‪ ،‬التي خرجت من فمه عالية جداً مما جعل وجهه‬
‫يحمر خجلً إذ خشى أن يظن فيه الجزع والخوف ‪ ،‬وتمنى لو أمكنه أن يصرخ للجميع أنا‬
‫مرتبك ولست بخائف ‪ ،‬لكنه أحجم عن ذلك وهو يرى السياط والبنادق أمامه ‪.‬‬
‫لم يستطع أمعيزيق تكوين أيما فكرة عما يراد به ومن معه ‪ ،‬وقد أخافه تسجيل السماء‬
‫كثيراً لنه سمع الضابط يتلو أسماء أولئك العشرة الذين تم شنقهم ‪ ،‬لكنه اطمئن وقد ذكر أن‬
‫عددهم مائة ‪ ،‬وكان قد عرف هذا بتوقف عملية العد عند هذا الرقم ‪ ،‬بينما عدد المشانق‬
‫المنتصبة في ذلك الميدان المتدلية حبالها أبداً ل يتجاوز عددها العشرة ‪ ،‬ثم أنه ل يوجد‬
‫سبباً يدعوهم لن يشنقوه ‪ ،‬لكنه عاد لبتلع ريقه وهو يتذكر ما أكله من لحم في الصباح ‪،‬‬
‫حاول أن يسترق النظر ليتبين إن كان ذلك الرجل الذي أولمه الطعام يقف بينهم‪ ،‬لكنه‬
‫خشي أن يلمحه أحد الجنود ‪ ،‬ففضل أن يسأل من حاذاه من الرجال عن سبب جمعهم ‪،‬‬
‫ولما لم ينل جواباً عاد إلى أفكاره تتجاذبه بين مرعبة ومطمئنة لحين حضر من الجنود من‬
‫يخبرهم أن عليهم أن يحضروا في الصباح أمام إدارة المعتقل ‪ ،‬أحس أمعيزيق وكأن‬
‫كابوساً قد زال من على صدره ‪ ،‬ولم يدرك أن الصباح لم تعد تقف دونه غير ساعات‬
‫معدودات ‪.‬‬
‫ومع شروق الشمس كان أمعيزيق بقميصه الكتاني المتسخ وسرواله الزرق الغليظ‬
‫الممزق عند الركبتين يقف وسط مائة من الرجال ‪ ،‬لم تكن رؤيتهم توحي للناظر بغير‬
‫البؤس الذي كان يلفهم من كل جانب ‪ ،‬اقتربت منهم عربة كبيرة فلم تترك من تلك المائة‬
‫غير أحد عشرة منها ‪ ،‬غضب أمعيزيق كثيراً لنه ترك هنا‪ ،‬ليس لظنه الخير في ركوب‬
‫العربة ولكن لعتقاده أن البؤس ضمن تسعين ل يمكن إل أن يكون أهون منه وسط عشرة‬
‫رجال ‪.‬‬
‫أخذت العربة من أخذت واتجهت بهم خارج المعتقل ‪ ،‬وبقي أمعيزيق ضمن عشرة من‬
‫البائسين ‪ ،‬عشرة رجال كانوا يشعرون بالغربة رغم قربهم ‪ ،‬ويحس كل منهم الوحدة رغم‬
‫وقوفهم في صف واحد ‪ ،‬أمروا بإتباع أحد الجنود فتبعوه ل يعرفون أين يقصدون ‪.‬‬
‫قادهم الجندي خارج المعتقل ثم أتجه بهم جهة الشمال ‪ ،‬فساروا وراءه حتى أدركوا مكاناً‬
‫جمع فيه من البل الكثير ‪ ،‬أخذ أمعيزيق ينظر إليها مستغرباً ‪ ،‬فهو لم يرى إبلً بهذا‬
‫الضعف والهزال من قبل ‪ ،‬لم يلبث هذا الستغراب أن زال وهو يرى أربعة من الرجال‬
‫انهمكوا في سلخ ناقة ‪ ،‬وكانوا بمثل حاله من رثاثة الملبس وانحناءة الرؤوس التي وقف‬
‫عندها جندي لم يتبين فيه من فرق عن ذلك الذي يرافقهم ‪ ..‬شد انتباهه جملً لمحه وسط‬
‫البل فأثار ذكرياته التي عادت به إلى جمل الشيخ أمبارك وقد أحتمل هودجاً زفت فيه‬
‫حليمة إلى الشيخ عبدال ‪ ،‬لقد كان منظراً رائعاً والجمل يمشي مختالً على إيقاع الزمارة‬
‫ودفوف النساء ‪ ..‬كان يمد عنقه مختالً وكأنه يعانق السماء مفاخراً أقرانه بما اختير له من‬
‫دونهم ‪ ..‬أنقطع حبل ذكرياته وصوت الجندي المرافق لهم يرتفع آمراً إياهم باختيار عشرة‬
‫من البل ‪ ،‬فتقدم أمعيزيق يشق البل ويبعدها من أمامه حتى وصل إلى ذلك الجمل فحاول‬
‫عزله عن بقية البل لكن الجمل هرب من أمامه منضماً إلى رفاقه ‪ ،‬فقنع أمعيزيق بالعودة‬
‫يسوق أمامه ناقة بالكاد تمشي مما هي فيه من الضعف ‪.‬‬
‫عرجوا تبعاً لمر الجندي على مكان جمع فيه الكثير من التبن احتملوا منه على ظهور‬
‫أربع من النوق ثم مضوا عائدين إلى المعتقل ‪ ،‬باتوا فيه ليلتهم تلك ولما أصبحوا أخبروهم‬
‫بأنهم سيرافقون أثنين من المهندسين الطليان يرتدون ملبس العرب ليصالهم إلى الكفرة ‪،‬‬
‫وكل من قابلهم أخبروه أنهم حجيج عائدون من الجزيرة ‪ ،‬هز العشرة رؤوسهم يوافقون‬
‫على ما سمعوا قالوا لهم أن من يحاول الهرب أو يعصي أوامر أي من اليطاليين‬
‫سيعرض أهله في المعتقل للموت وطلبوا منهم تسجيل أسماء عائلتهم ‪ ،‬سألوا أمعيزيق‬
‫عن أهله فأجابهم أن ليس له غير أم ‪ ،‬طلبوا منه معرفة مكانها فقال أنه أضاعها ولم يعثر‬
‫عليها حتى الن ‪.‬‬
‫هددوه بالموت فكرر ما قال ‪ ،‬ضربوه فأقسم على صحة ما قال ‪ ،‬زادوه ضرباً فلم يزد‬
‫على تكرار قسمه ‪ ،‬أقسم لهم بحياة أمه فأدرك أن حياتها ل تساوي عندهم شيئاً ‪.‬‬
‫قادوه إلى السجن فسلكوه في سلسلة غليظة الحلقات قد غطى سطحها الصدأ وتيبس عليه‬
‫الدم ‪ ،‬وأغلقوا وراءه باباً ليظل موثوقاً وثق الكلب ‪ ،‬ظن أن تبادره رفسة قدم أو وكزة‬
‫عقب بندقية أو لطمة ‪ ،‬فلما مر وقت دون أن يلمس جسده شيئاً من ذلك فتح عينيه في بطء‬
‫المتوقع شراً ‪ ،‬فما استطاع تبين شيء ‪ ،‬حتى الظلمة نفسها ‪ ،‬مد يده متلمساً فالتقت قدم‬
‫إنسان ‪ ،‬سحبها ومدها في جانب آخر فلمس وجهاً أستغرب عدم محاولة صاحبه إبعاده عن‬
‫يده ‪.‬‬
‫بعد أيام فتح باب السجن فتسلل منه بعض من ضوء الشمس في وقت كان يخاله بداية ليل ‪،‬‬
‫واستطاع على هذا الضوء تبين جندياً أقترب منه ومد يده إلى السلسلة المثبتة في الجدار‬
‫فأنتزعها وسحبه صارخاً به أن ينهض ‪ ،‬نهض أمعيزيق وتبع الجندي دون قول شيء أو‬
‫التفكير في شيء ‪ ،‬حتى لم يتسآل إن كانوا يطلقون سراحه أم أنه يقاد للمشنقة ‪ ،‬قاده‬
‫الجندي خارج السجن حتى وصل به إلى عمود قائم في الرض فربطه ومضى إلى زميل‬
‫له ناداه لتناول الفطار ‪.‬‬
‫ظل أمعيزيق مرمياً على الرض بذات الوضع الذي كانت عليه سقطته يتابع بنظره الجنود‬
‫وما حملوا في أيديهم من كسر الخبز وأقداح الحليب ‪ ،‬أنتبه إليه أحدهم ينظر إلى ما حمل‬
‫من فطور فأقترب منه ورفسه رفسة جعلته يصرخ ألماً ‪ ،‬ثم سكب على وجهه ما أحتوى‬
‫الكوب من حليب ساخن ‪ ،‬شعر أمعيزيق بذل شديد وكف عما هو فيه عندما رأى أحد‬
‫الجنود يقهقه ضارباً بقدمه الرض مشيراً إليه وهو يلحس بلسانه ما سال من الحليب على‬
‫وجهه ‪.‬‬
‫* * *‬
‫اقتادوه إلى إحدى العربات ورموا به في مؤخرتها ‪ ،‬فظل ساكناً بإحدى الزوايا ل يبدي أيما‬
‫حركة ‪.‬‬
‫شعر بمن يركب العربة معه ‪ ،‬ثم شعر بالعداد تتزايد من تزايد النفاس ‪ ،‬والكلمات‬
‫المتقطعة الخائفة ‪ ،‬وطأ أحدهم قدمه فضمها إليه منكمشاً وهو يشعر أنه قد بدأ يتضآل منذ‬
‫اللحظة التي لحس فيها الحليب كالكلب ولم نفسه على ما فعله ‪ ،‬جلس ونظر حوله فوجد‬
‫العربة قد امتلت وشعر بأجساد تلمسه من يمين ومن شمال فأحس ضيقاً في صدره دفعه‬
‫لن ينهض مستعيناً على ذلك بالمساك بما جاوره من أجساد ‪ ،‬فلما تحركت العربة مالوا‬
‫بعضهم على بعض ‪ ،‬أما أمعيزيق فكان بتمايله يصطدم بحديد العربة مما جعله يحس ألماً‬
‫شديداً في خاصرته اليمنى ‪ ،‬نظر إلى من حوله فرأى البؤس يقطر من وجوههم ‪ ،‬فكتم‬
‫ألمه وأحال بصره بعيداً عن العربة وعمن معه ناظراً لما أمتد أمامه من فضاء واسع لعله‬
‫ينسى ألمه ويبعد فكره عما يحيطه من وجوه بائسة ‪.‬‬
‫* * *‬
‫علم بسؤاله من جاوره أنهم يأخذونهم كل يوم للعمل في رصف الطريق ‪ ،‬ففكر أنه ربما‬
‫استطاع الهرب من هذا العمل كما أفلت من مرافقة القافلة المتجهة إلى الكفرة لكن المر‬
‫هنا يبدو أنه كان مختلفاً ‪.‬‬
‫لقد جعل العمل في رصف الطريق بصورة ل نستطيع إل أن نصفها بالحكام لنها كانت‬
‫تضمن من جميع البؤساء أحسن أداء يقدرون عليه ‪ ،‬فهم كانوا يدركون جيداً أن المديح‬
‫حيلة ل تنطلي على من يعرف أنه مجبر على العمل ‪ ،‬والتهديد ل يجدي مع بدوي لم يعتد‬
‫تلقي الوامر من أحد ‪ ،‬وضربه لن يزيد أداؤه إل سوءاً وهم ل يتقاضون رواتب لتقطع‬
‫عنهم ‪ ،‬ومع ذلك وجد ما يجعل الواحد من هؤلء يعمل بكل ما أوتي من قوة ‪ ،‬وهذا ما‬
‫جعل العمل يبدو منظماً بصورة محكمة ‪ ،‬إذ وزع من سخر من بؤساء المعتقل لهذا العمل‬
‫إلى مجموعات كلفت كل منها بالقيام بمرحلة من مراحل العمل ‪ ،‬وتعمل هذه المجموعات‬
‫متتابعة فمجموعة تنظف المكان المعد للرصف من النباتات وتزيل ما به من رمال ‪،‬‬
‫والمجموعة الثانية تتكفل بالمرحلة الثانية التي تحضر فيها الحجار وتصف على ما تم‬
‫إعداده من الرض ‪ ،‬ثم تأتي المجموعة الثالثة لتقوم بتسوية هذه الحجار لتكون بمستوى‬
‫واحد ‪ ،‬وهكذا كان العمل في الطريق موزعاً على مجموعات فإذا أدركت إحدى هذه‬
‫المجموعات المجموعة التي تتقدمها كان هذا خير دليل على تقاعس المجموعة التي لحُقت‬
‫مما يعرضها للعقاب بالعمل طيلة الليل ‪ ،‬وحتى ل تتقاعس كل المجموعات عن العمل فل‬
‫تدرك واحدتها الخرى عُمد إلى وضع المساجين للعمل ضمن المجموعة الخيرة ‪ ،‬فتحدد‬
‫لهم مسافة من الطريق متى أنهوا العمل أُخرجوا من السجن فكان في هذا الدافع لهم لن‬
‫يسرعوا في إنجاز ما بين أيديهم من عمل لينالوا تحرراً من السجن ‪ ،‬وتكون سرعتهم هذه‬
‫مدعاة للخرين ليسرعوا في العمل حتى ل يطالهم العقاب ‪.‬‬
‫وضع أمعيزيق في المجموعة المكلفة بجلب الحجارة فكان عليه المشي مسافة طويلة ‪،‬‬
‫ليصل المكان الذي تجمع منه فيمل منها صندوقاً كبيراً يساعده رفاقه في وضعه على‬
‫رأسه ليمسكه بكلتا يديه إمساكه الكنز الثمين ليعود به أدراجه ل يستطيع من أثر ضغط‬
‫الصندوق عليه أن يلتفت إلى يمين أو شمال ‪ ،‬بل هو بالكاد يرى موضع قدمه رؤية لم تكن‬
‫منجية له بأي حال من اللتطام بنبتة راسخة أو حجر منغرس في الرض ‪.‬لم يكن يستطيع‬
‫إدارة رأسه تحت ثقل الصندوق ولم يكن ليضمن ثبات الصندوق فوقه في حال تحريره‬
‫لحدى ذراعيه‪ ،‬فتراه يمشي مشدود العضلت بعينين جاحضتين ل تبصرا غير نقطة‬
‫واحدة ‪ ،‬حتى تفكيره لم يكن له أن يغادر أرض الواقع ‪ ،‬فموضع قدميه أولى وأضمن من‬
‫قطعة حلم في السماء ‪ ،‬لكن الحنين ليس لنا أن نحجره داخل قمقم ينوء بحمل ثقيل ‪ ،‬والحلم‬
‫ليس لنا أن نقيده بواضع جسد ل يؤمن هو به ‪ ،‬فتسافر الروح معه رغم الثقال تشاركه‬
‫حالة شوق للحظات فرح الماضي التي تقتنصها من بين أسنان الرونج القاطعة للواقع‬
‫والتي تفقد معها كل ثقة فيما هو قادم ‪ ،‬لكن الثقل لم يكن ليدع الحلم يجاوز محيطه وما كان‬
‫الحمل إل ليحجر التفكير فيه ويحيط ما يدور في الذهن بدائرة حمله الثقيل‪.‬‬
‫فكر أن الحمل هو قدره الدائم ‪ ،‬حمل البراميل ‪ ،‬وحمل أكوام الزرع وأكوام الديس‬
‫المقطوع ‪ ،‬لقد اعتاد حمل الشياء لكنه أبداً لم يعتد هذه الذلة التي يشعر بها الن فحمل‬
‫الحجارة وبل شك يختلف ويثير أثقالً أخرى غير ثقل حمله ‪ ،‬لم يكن في ذلك الزمن الغابر‬
‫ليئن تحت ثقل ما يحمل ‪ ،‬لنه كان يشعر بود لما يحمله فحبل الود متين مع سنابل القمح‬
‫التي يحتضن ‪ ،‬والبراميل التي يرفع ‪ ،‬والدلو التي ينشل ‪ ،‬وأكوام الديس التي يقطع ‪.‬‬
‫جميعها لم تكن لديه أشياء تحتمل أحكاماً مجردة فالزرع رمز للخير ومدعاة للبشر ‪،‬‬
‫فبحرثه يزرعون المل ‪ ،‬وبرؤيته يخرج من الرض يرون إطللة الخير ‪ ،‬ومع تفتح‬
‫سنابله وإنبثاق بذره يستشعرون إشراقات الفرح والمن ‪ ،‬وبالحصاد تطال الفرحة بالعرس‬
‫منتهاها ليحس الجميع حلوة النصر على التعب والمعاناة والقدر ‪ ،‬وتنتابهم لذة الشعور‬
‫بالمان من أقدار ل ترحم ‪ ،‬لم يكن الزرع شيئًا ولم تكن البذرة بذرة ولم تكن الرض‬
‫جماداً كانت كلها تعبق بالحياة ‪ ،‬الرض تهتز وتربو والبذور قطعة منهم يودعونها أمهم‬
‫الرض‪ ،‬كانت هذه الشياء هم ‪ ،‬كانوا يتحسون أنفاسها ويستمعون لهمساتها ‪ ،‬يحزنون إذا‬
‫إِف الزرع ويفرحون إذا أسبل ‪ .‬يجمعونه بذرة بذرة ‪ ،‬يعرفون كل بذرة بعرق من‬
‫ارتوت ‪ ،‬ونفس من بث الروح فيها ‪ ،‬فالشياء كلها تولد أمامهم وتعيش معهم لتفعل بهم‬
‫وتتفاعل معهم فيصبح من الصعب على الواحد منهم القتران بأشياء أو حمل أشياء ل‬
‫تعني غير أشياءها ‪ ،‬هكذا تمضي به أفكاره كما يمضي ‪ ،‬حتى إذا طال المكان المعد أنزل‬
‫الصندوق من فوق رأسه وهو يحس وكأن هذا الرأس قد بدأ يتمدد بعد طول انكماش تحت‬
‫ثقل الصندوق ‪ ،‬ويشرع في إفراغ الحجارة وصفها متجاورة ‪ ،‬حتى إذا انتهى من ذلك عاد‬
‫مسرعاً إلى حيث يمل الصندوق من جديد ‪.‬‬
‫كانوا يعملون منذ الساعات الولى من الفجر وحتى غروب الشمس فكان هذا الوقت طويلً‬
‫بقدر جعل أمعيزيق يقدم على العمل دون تقاعس لدراكه أن تعاونه في العمل سيكلفه عملً‬
‫طيلة ساعات الليل وهذا ما ل يريده ‪ ،‬إذ أن الليل كله بالكاد كان كافياً ليرتاح من عناء‬
‫حمل الحجارة طوال النهار ‪.‬‬

‫* * *‬
‫الحاضر لم يعد مرضياً وذكريات الماضي صارت تغتاله لحظة بلحظة فما يجد أمامه غير‬
‫أحلم الغد ‪ ،‬يهرب نحوها ليبحث بينها عما يقتات به حاضره ‪ .‬قام أمعيزيق من نومه وكما‬
‫بيت البارحة قبل طلوع الفجر ‪ ،‬نظر إلى رفاقه الذين يشاركونه بيتاً خل من أهله بعد‬
‫اعتفادهم‪ )(1‬فيه ‪ ،‬فوجدهم ما يزالوا يغطون في نوم عميق ‪ ،‬هو ميزة نوم المتعبين ‪ ،‬نهض‬
‫غير خاشٍ استيقظ أحد منهم ‪ ،‬وخرج يتخطى الرمم المتشابكة التي صعب عليه تمييز‬
‫الكثير منها فتعثر بها غير مرة ساقطاً على الرض يلتقيها بيدين مفتوحتي الكفين محاولً‬
‫بهما بعضاً من وقاية لجسده من أثر الوقعة وهو يلعن بينه وبين نفسه هذه الرمم ومن جمع‬
‫أهل هذه البيوت لتتشابك رممها إلى هذا الحد ‪.‬‬
‫لما تجاوز البيوت وصار مطمئناً لعدم التقائه رمماً جديدة بتخليفها وراءه ‪ ،‬عاد يدور في‬
‫ذهنه منظر رفاقه في جمع الحجارة ‪ ،‬حين اجتمعوا على الغداء يوم أمس ‪ ،‬قالوا له أن ليس‬
‫لديه ما يمنعه من الهرب ‪ ،‬ما مادم ليس لديه من يخشى عليه في المعتقل ‪ ،‬فهم ل يمنعهم‬
‫من ذلك إل أُسر حُجزت معهم فل يملكوا إل أن يخشوا عليها ‪ ،‬فل تدع لهم هذه الخشية من‬
‫فرصة للتفكير في مغادرة العذاب الذي يقاسون ‪ ،‬هذا الحديث كان مدعاة ما بيت البارحة ‪،‬‬
‫وسبب خروجه في هذا الوقت المبكر ‪ ،‬هو لم يقرر شيئاً بعد ‪ ،‬لكنه أراد أن يلقي نظرة‬
‫على السلك الشائكة ‪ ،‬فلما أقترب منها اتجه إلى جانب خفت فيه حدة الضواء الكاشفة‬
‫ليتبين سماكة السلك واتساع ما تركت بينها من فراغ ‪ ،‬لكنه ما كاد يتحقق له ما أراد من‬
‫اقتراب منها حتى ذهل عنها وتلشى من فكره أيما اهتمام بها ليتركز على ما قد علق بينها‬
‫‪ ،‬لقد رأى جثة رجل معلقة هناك ‪ ،‬أقترب منها بحذر فوجد الدم ما يزال رطباً لم يجف‬
‫بعد ‪ ،‬بينما اندلقت الحشاء على السلك الشائكة ‪ .‬زم شفتيه وقطب جبينه وهو ينظر إلى‬
‫الجثة الهامدة في سكون ‪ ،‬ثم ولى عائداً يسحب قدميه وكأنه صار ينؤ بحملهما ل يلوي‬
‫على شيء سوى إدراك العربة التي تنقلهم كل يوم إلى حيث يعملون طوال ساعات النهار‪.‬‬
‫عندما اجتمعوا على الغداء روى لرفاقه ما رأه ‪ ،‬فلم يلحظ في وجوههم علمة تعجب ول‬
‫إمارة استغراب ‪ ،‬مما جعله يفتح فمه مشدوهاً ‪ ،‬ولم تتلشى دهشته تلك إل وهو يلتفت‬
‫مستمعاً لمن تبرع منهم بالتعليق على ما رواه قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬هذا يحدث كل يوم فل المتسللون ييأسون من محاولة الفلت ول السلك تمل التهام ما‬
‫يرمى إليها من جثث ‪.‬‬

‫(‪ )1‬العتقاد ‪ :‬لزوم المرء بيته في أوقات الجدب ‪ ،‬فل يسأل أحداً حتى يموت جوعاً ‪.‬‬
‫وضع أمعيزيق يده على خده مطرقاً للحظة رفع بعدها رأسه مخاطباً رفاقه بنبرة فيها حسم‬
‫القرار ‪:‬‬
‫‪ -‬أما أنا فل أستطيع أن أخوض مثل هذه المغامرة ‪ ،‬إنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة ‪.‬‬
‫‪ -‬قد يكون ذلك صحيحاً ‪ ،‬لكن الهلك بالموت يرى فيه البعض راحة مما هم فيه من‬
‫البؤس ‪ ،‬أما أنت فلست مرغماً على ما يقدمون عليه من المغامرة ‪.‬‬
‫نظر أمعيزيق إلى محادثه وقد لحت في وجهه بارقة تفاؤل قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تقصد ؟‬
‫‪ -‬أنت يجب أن يكون فرارك من هنا ‪ ..‬من هذا المكان ‪..‬‬
‫‪ -‬وإلى أين التجئ ؟‪ ..‬ل شك سيقبضون عليّ ‪.‬‬
‫‪ -‬عندما يفكر المرء في الهرب يجب أن يطرد الخوف من قلبه ‪ ..‬أذهب إلى أي مكان ‪،‬‬
‫وبأذن ال لن يطالك منهم أحد ‪..‬‬
‫قال هذا ونهض طالباً من أمعيزيق أن يتبعه ‪ ،‬غابا بعض الوقت ثم عادا يواصلن عملهما‬
‫بنقل الحجارة ‪ ،‬كل في الصندوق المخصص له ‪ ،‬وعند حلول المساء لم يكد يتلشى صف‬
‫العمال أمام العربة التي تنقلهم كل يوم حتى بادر أحد الجنود يصرخ منبهاً إلى غياب أحد‬
‫العمال ‪ ،‬ثم أخذ يقرأ السماء حتى توقف عند اسم لم يكن صراخه به يثير أحداً ‪ ،‬أنتشر‬
‫الجنود في جميع الجهات يفتشون المنطقة المحيطة بهم يبحثون عنه ‪ .‬لكن الظلم كان قد‬
‫جثم على المكان مما دعاهم للكف عن البحث وركوب العربة عائدين إلى المعتقل ‪.‬‬

‫* * *‬
‫كان أمعيزيق متعباً من أثر عمله طيلة النهار ‪ ،‬وكان الظلم شديداً ‪ ،‬فلم يكن ليقطع مسافة‬
‫تذكر حتى يجلس محاولً استرداد أنفاسه ‪ ،‬طالباً الراحة لقدميه المتورمتين من أثر‬
‫التطامهما بالحجارة ‪ ،‬وما تكاد نفسه تهدأ من أثر تعب المشي حتى تعاودها مشاعر الخوف‬
‫فينهض مواصلً سيره وهو يتلفت حوله يرى في كل ضبع أو ذئب مطارداً له ويسمع في‬
‫صوت الريح مناداة عليه ‪ ،‬لم يكن يعرف مكاناً غير واديهم ‪ ،‬ولم يكن يعرف عنه غير أنه‬
‫في الجهة الشرقية ‪ ،‬فسار سير التائه ‪ ،‬ضالته عند من قابلهم من الرعيان سبخة الملح‬
‫الكبيرة ‪ ،‬فلما استدل عليها وطالها دار بوجهته إلى اليسار فوجد نفسه يسلك دروباً يعرفها‬
‫جيداً ويعشقها بقدر معرفتها ‪.‬‬
‫ما إن أطل على الوادي الذي ساده صمت رهيب وخيم عليه سكون مهيب حتى توقفت‬
‫قدماه عن المشي وتلشى الخوف وكأنما ذاب وذهب مع النسام التية من الشمال وتداعت‬
‫عليه الذكريات فإذا بدمعة رقراقة تترجح في مقلتيه كلما حاولت أن تسيل أمسكها ‪ .‬ها هو‬
‫الوادي الذي طوى أيام شبابه وحوى ذكريات ماضيه ‪ ،‬يراه وقد أمسى ل قطان ول‬
‫سكان ‪ ،‬ل يعلو فيه غير نعيق البوم ‪ ،‬ول تدوس أرضه غير السائبة ‪ .‬أدرك أن حبل‬
‫الذكريات قد إلتف به وشعر أن ثقلها على قلبه ليس بأخف من الخوف ‪ ،‬فنزل إلى الوادي‬
‫لعل المشي يقطع عنه سيل الذكريات هذا ‪ .‬لكن النزول صاعد ذكرياته ونقض جروحه‬
‫التي كانت مطوية ‪ ،‬فكانت كل خطوة يخطوها تذكره بساعة من الماضي ‪ ،‬وكل حجر‬
‫يضربه بقدمه يصطدم بآخر ليصدر صوتاً يتحول إلى كلمة من كلمات الحاجة حليمة ‪ ،‬أو‬
‫موعظة من مواعظ الشيخ عبدال ‪ ،‬لم يستطع إيقاف دمعته هذه المرة ‪ ،‬فتركها تنحدر على‬
‫خده لعل ذلك يخفف من آلمه ‪ .‬لفت انتباهه غراب يحوم في السماء فتابعه ببصره حتى‬
‫أعلى المرتفع الغربي فترأى له الشيخ عبدال وهو يصلي ‪ ،‬مسح عينيه من أثر الدمع‬
‫وعاود النظر لذات المكان فرأى جندياً إيطالياً يحمل بندقيته الطويلة على كتفه ‪ ،‬أغمض‬
‫عينيه وأعتصر جبينه بيده اليمنى ثم هز رأسه متمعناً وهو يبسط كفه حذاء جبهته يتقي بها‬
‫أشعة الشمس المباشرة ‪ ،‬فتبين الحجر الكبير الذي طالما أستند عليه الشيخ عبدال وهو يقرأ‬
‫ل الفلت من ذكرياته فوجد‬ ‫القرآن بعد صلة العصر ‪ ،‬عاد ببصره إلى الرض محاو ً‬
‫نفسه يقف عند الحجار الثلثة التي طالما اكتوت بالنار وهي تئن تحت حمل قدر الحاجة‬
‫حليمة ‪ ،‬ها هي ما زالت مكانها ‪ ،‬لم تبرحه وكأن طوارق الحدثان قد وقفت وقفة الجلل‬
‫والعظام أمام هذه الحجار ‪ ،‬أو كأن أرواح من استطعموا مما حملت هذه الحجار قد‬
‫وقفت حامية لها تحفظها من الدرس احتراماً لذكرى أصحابها ‪.‬‬
‫لم يرى له فكاكاً مما تسارع عليه من الذكريات غير ترك الوادي ‪ ،‬فغادره متجهاً ناحية‬
‫البئر سالكاً ذات الدرب الذي كان يقطعه كل يوم في صغره وأيام صباه ‪ ،‬لكنه ودون‬
‫إعمال الرأي منه وجد نفسه معرجاً على مقبرة الوادي ‪ ،‬وحالما أقترب منها رأى بين‬
‫القبور شيخاً طاعناً في السن قد اختطت التجاعيد في وجهه أخاديد عميقة لم تفلح اللحية‬
‫البيضاء في مواراتها ‪ ،‬ظنه لوهلة مما يترأى له من خيالت الماضي ‪ ،‬لكنه ولما أقترب‬
‫منه رأي في وجهه نور البساطة والطهارة والنبل فأطمئن من جانبه وتقرب إليه مسلماً ‪،‬‬
‫ظل واقفاً مكانه ينظر إليه منتظراً أن يتم صلته ‪ ،‬فرد عليه الشيخ سلمه بمجرد ختمه‬
‫الصلة وألقى عليه نظرة هادئة مطمئنة وقال له ‪:‬‬
‫‪ -‬مرحباً بك يا ولدي ‪ ..‬من أين قدومك ؟ أنا لم أراك هنا من قبل ‪.‬‬
‫‪ -‬إني عابر سبيل يا شيخ ‪ ..‬آتٍ من مكان بعيد ‪.‬‬
‫‪ -‬أنا أسكن في المدينة هناك ‪ ..‬وقد اعتدت القدوم إلى هذه المقبرة لعلي أنال بعضاً من‬
‫الراحة التي ينعم بها سكانها ‪.‬‬
‫‪ -‬حقاً إنهم في راحة يحسدون عليها ‪.‬‬
‫‪ -‬لكنهم هم أيضاً يحسدوننا على ما نحن فيه ‪.‬‬
‫‪ -‬ما الذي يمكن أن يحسد عليه بؤساء في مثل حالنا يا شيخ ‪.‬‬
‫‪ -‬على القل أرى إنه ما يزال أمامنا خيار الفعل ‪.‬‬
‫‪ -‬وأي خيار ذلك الذي يستطيعه مقهور مسكين ‪.‬‬
‫‪ -‬أما القهر فهو حال علينا التعامل معه ‪ ،‬أما الستكانة فهي الخيار الذي نتحكم به ونقرره‬
‫لنفسنا ‪.‬‬
‫‪ -‬لكن القهر شديد حتى ل يدع لنا من خيار غير الستكانة ‪.‬‬
‫‪ -‬ذلك منطق الضعفاء يا ولدي ‪ ،‬ول أراك واحداً منهم ‪.‬‬
‫‪ -‬ل تعلق عليا الكثير من المال فأنت بعد لم تعرفني ‪.‬‬
‫لم يكد يكمل جملته إل والشيخ قد نهض واضعاً بلغته تحت إبطه شاقاً طريقه بين القبور‬
‫المتناثرة ‪.‬‬
‫سار أمعيزيق وراءه دون أن يتكلم محاولً أل يصدر أي صوت قد يزعج الشيخ أو يقطع‬
‫عليه أفكاره التي رأه غارقاً فيها ‪ .‬بعد حين توقف أمعيزيق عن متابعة الشيخ ليغير وجهته‬
‫ناحية البئر ‪ ،‬لكنه سرعان ما توقف مكانه مطأطأ الرأس ثم استدار وعاود متابعة الشيخ ‪،‬‬
‫حتى إذ أدرك التل الذي تعتليه قبة الشيخ عبدال ترك الشيخ يتابع طريقه ‪ ،‬بينما أخذ يصعد‬
‫التل ونظره معلقاً في الراية المرفرفة فوق القبر ‪ ،‬فلما صار فوق قمة التل ألقى نظرة على‬
‫الوادي فرأى الشمس تودعه وهي تتواري خلف التل الغربي تاركة الساحة للظلم يسدل‬
‫أروقته السوداء على أطراف الوادي ‪ ..‬راقب الشمس بعيون رقراقة حتى توارت ‪ ،‬ثم عاد‬
‫ينظر إلى ما حوله من القبة إلى الراية إلى القبر ‪ ،‬وفي حال إمراره البصر على أحجار‬
‫القبر لمعت في ذهنه صورة الشيخ عبدال وهو يحفر بجانب حجر كبير أستقر في وادٍ غير‬
‫بعيد عن هذا التل ‪ ..‬أعاد هذا الجزء من شريط الذاكرة مركزاً ذهنه فيه ‪ ،‬محاولً تذكر ما‬
‫يفعله الشيخ ‪ ،‬ولم تخيب ذاكرته ما أرتجاه منها إذ بانت له من بين تلفيف ما أحتوت‬
‫صورة الشيخ عبدال وهو يطمر بندقيته بجوار ذلك الحجر ‪ ،‬حالما برقت هذه الصورة في‬
‫ذهنه نهض وهم بأن يهبط التل مسرعاً لكنه وحال نهوضه أحس أن جلوسه كان فيه الكثير‬
‫من الراحة له إذ ما كاد ينهض حتى عاوده الشعور باللم يتمدد داخل ساقيه ‪ ،‬ثم إن الظلم‬
‫كان قد خيم على المكان وخشي أن يعيقه هذا عن رؤية ذلك الحجر فعاد إلى مكانه ممداً‬
‫جسده جوار القبر ناظراً إلى النجوم المتللئة في السماء ‪ ،‬ولم يدرك بعد النجوم المائة حتى‬
‫كان النوم قد أبعده عن الخيالت والذكريات ليدخله إلى عالم الحلم الذي لم يكن بحال أقل‬
‫رعبًا من واقعه فلم يمضي الليل إل متقلباً تعاوده الكوابيس فنهض غير مرة في حال فزع‬
‫ورعب ل يعرف أين نام ول يدرك ما جرى له ‪.‬‬
‫بندرلي‬
‫(‪)8‬‬
‫لم يكن نهوضه قبل الفجر بكافٍ لطالة نهاره بالقدر الذي يريد مما يجعله يستلب من الليل‬
‫ساعات يضيفها إلى نهاره الطويل ‪ ،‬الذي يفقد صفة الطول ‪ ،‬وكل الصفات بين لحظات‬
‫العمل الذي ل ينتهي ‪.‬‬
‫كان رجل ضخم الجثة ذو وجه مستطيل تتوسطه عينان غائرتان ل تكاد تستبين في‬
‫نظراتهما شيئاً ‪ ،‬يرتدي جلباباً أسود طويل وقلنسوة صغيرة ل تكاد تخفي صلعة في مقدمة‬
‫رأسه دائمة التصبب عرقاً ‪ ،‬يدرك اليوم وقد بدى على ظهره بعض إنحناءة أنه قد بعد به‬
‫العمر عن حيوية الشباب ‪ ،‬وإن كان ما يزال محتفظاً بكثير من طموحاته التي لم تعرف لها‬
‫في يوم من اليام حداً ‪ ،‬فحين وصل إلى هذه الرض مع أول طلئع الجيش اليطالي منذ‬
‫ما يربوا على العشرين عاماً ‪ ،‬سرعان ما تحركت فيه طبيعة اليهودي الساكنة أعماقه فأقام‬
‫له داراً ابتناها بنفسه ثم أخذ يشتري ما يحضره المتجولون من التجار ليعيد بيعه لهل ما‬
‫أستقر حوله من نجوع‪ ،‬ولم يكن يرى في هذه الدار إل نقطة بدء لتلك الطموحات التي‬
‫يجري وراءها ‪ ،‬إذ كان يفكر دائماً أن طموحاته تلك ليس لها أن تتحقق إذا لم يجعل من‬
‫نفسه محور العالم ومركزه ‪ ،‬وقد كان له في اتخاذ الدار دكاناً خير سبيل حقق له ما أراد ‪،‬‬
‫إذ يأتيه طالب الحاجة يشتري ‪ ،‬وراغب المال يعرض بضاعته ‪ ،‬ويقصده في دكانه من‬
‫ضاقت به الحال فلم يجد سواه يستدين منه ‪ ،‬يرهن عنده أرضاً ‪ ،‬أو دابة أو حلي زوجته أو‬
‫أمه ‪ ،‬وبهذا يصبح اليهودي بندرلي مركز العالم ونقطة الوصل بين سكانه ‪ ،‬يرى في نفسه‬
‫المحور الذي يدور حوله ‪ ،‬ويصدر عنه كل شيء ‪ ،‬وقد نجح في هذا أيما نجاح المر الذي‬
‫يجعل البعض يتسآل عن غفلة الخرين عما سبقهم اليهودي بندرلي إليه وتقاعسهم عن فعل‬
‫ما فعله ‪ ،‬والحقيقة إنه لم يكن لغيره أن يحقق ما حققه ‪ ،‬لنه كان مستعداً للمتاجرة في كل‬
‫شيء ‪ ،‬فهو يدفع المال يشتري به كل شيء حتى ذمم الناس وشرفهم ‪ ،‬وهو مستعد في‬
‫سبيل المال لبيع أي بضاعة وإن كانت بعض من كرامته ‪ ،‬لهذا قلنا أنه لم يكن لحد أن‬
‫يحقق ما حققه بندرلي ‪ ،‬ولم تكن طموحاته لتحدها قرية أو مدينة ‪ ،‬أو لترضى بنشاط أو‬
‫عمل محدد ثابت ‪ ،‬فهو يبيع أي شيء ويشتري أي شيء ومستعد لعمل كل شيء ‪ ،‬فكان‬
‫يردد دائماً أنه مستعد لعمل شق في البحر ما دام المال موجوداً وربما هذا هو الشيء الذي‬
‫لم يأتيه ‪ ،‬فقط لن أحداً لم يطلبه منه ‪ ،‬وقد كان له في صراع الطليان ودفاع المجاهدين لهم‬
‫وصراع الناس مع الفقر والجوع خير مجال تتفتق فيه عبقرية تاجر يهودي قضى أيام‬
‫شبابه في شوارع روما وأسواق السمك فيها ‪ ،‬فكان يشتري السلح من هؤلء ليبيعه‬
‫لولئك ويستلب الخبر من هنا ليقايض به هناك ‪ ،‬حتى ليقال أن له دوراً في غرق ( بابور‬
‫باله) عام ‪ 1936‬التابع لسطول أجينو باله الذي أسس تنارة جليانه ‪ ،‬وكان يملك أسطولً‬
‫ضخماً يحمل به ما يعتصر من خيرات البلد من الحبوب والجلود والحيوانات‬
‫والصداف ‪ ،‬إلى روما ومالطه واليونان ‪ ،‬فقد قيل أن بندرلي أقنع قبطان تلك السفينة‬
‫بصورة ما ليضيف كمية أخرى من القمح إلى ما تحمل السفينة ‪ ،‬فتجاوزت حمولتها بحد‬
‫كبير الكمية التي يمكن للسفينة أن تحتملها ‪ ،‬فكان هذا سبباً في غرقها ولم ينجي من ركابها‬
‫غير بحار ليبي وامرأة إيطالية ‪ ،‬وضاعت شحنة القمح ‪ ،‬وهذا حسبما قيل هو ما رمى إليه‬
‫بندرلي إذ لم يكن يرضى بأن ينازعه أحد على أسواق القمح في روما ‪ ،‬ولم يكن ما دبره‬
‫بندرلي ليخفى على رجل كأجينو باله اعتاد التعامل حتى مع أباطرة المافيا ‪ ،‬ومع ذلك لم‬
‫يحرك ساكناً خشية على نفسه من بندرلي أن يفضح أسرار تعاملهما في تجارة من نوع‬
‫خاص ‪ .‬تلك هي تجارة في الجنود اليطاليين مستغلين روحاً قتالية مدمرة وحالة نفسية‬
‫منهارة ‪ ،‬إذ أن من وصل منهم إلى ليبيا بعد مجيء موسوليني بحكومته الفاشية كان مجبراً‬
‫على المجيء تحت وطئة هراوات ذوي القمصان السوداء ‪ ،‬وأولئك الذين قدموا مع بداية‬
‫الغزو أدركوا أن المر أبداً لم يكن مجرد نزهة كما صور لهم ‪ ،‬فكان هؤلء الجنود على‬
‫استعداد لفعل أي شيء لمن يقدم لهم عرضاً يخلصهم مما هم فيه ‪ ،‬ليعيدهم إلى ديارهم‬
‫وأهلهم وإن عاشوا بقية العمر في الظلم ‪ ،‬وكان في هذا خير فرصة لظهار إبداعات‬
‫بندرلي الكامنة نتيجة انتشار الفقر وكساد السوق ‪ ،‬فكان يتدخل لهؤلء الجنود عند الضباط‬
‫الطليان مستغلً في سبيل ذلك زمالته القديمة لهم ‪ ،‬وباذلً لجل ذلك ما يطلبون ‪ ،‬مقدماً‬
‫أنواعاً شتى من الغراءات ليسمحوا للجنود بالعودة إلى أهلهم فمن لم يحصل له على مثل‬
‫هذا التصريح عمد إلى تهريبه متعاوناً لتحقيق ذلك مع أجينو باله الذي كان يملك أسطولً‬
‫ضخماً ل يكاد يمر أسبوع دون أن تغادر سفنه إلى إيطاليا ‪ ،‬هذا ما كان يخشى منه باله أن‬
‫يصل الحكومة اليطالية التي تربطه بها مصالح كثيرة ل يريد لها أن تفسد لذلك سكت عما‬
‫فعل به بندرلي مكتفياً بالحذر منه حين التعامل معه ‪.‬‬
‫هذا ما كان في مرحلة متأخرة من حياة بندرلي ‪ ،‬أما قبل ذلك وحتى عام ( ضمة النواجع)‬
‫سنة ‪ 1931‬لم يكن فكره التجاري قد تطور إلى هذا الحد ولم تكن إمكانياته قد اتسعت بهذا‬
‫القدر ‪ ،‬بل أن تجارته شهدت في هذا العام كساداً واعترى مكاسبه انحساراً لم يشهده من‬
‫قبل ‪ ،‬إذ أفقده جمع الناس في المعتقل أغلب المشترين ‪ ،‬والمستدينين ‪ ،‬وحتى بعض الباعة‬
‫المتجولين ‪ ،‬فلم يبقى من مريدي دكانه غير الجنود الطليان الذين ل تكاد مشترياتهم‬
‫تتجاوز السجائر ‪ ،‬وبعض أهل البلدة الذين صاروا عاجزين عن تجاوز شراء القمح‬
‫والطماطم والزيت والكبريت ‪ .‬لكن حجز الناس وراء السلك الشائكة جعلهم يواجهون‬
‫صعوبة كبيرة في التصال بمن اختار الجهاد منهم ‪ ،‬المر الذي خلق لبندرلي فرصة في‬
‫تحصيل بعض المال من خلل تجارة السلح ‪ ،‬وإن لم تجري المور كما قدر لنه لم يكن‬
‫محل ثقة للجميع ‪ ،‬ولم يكن التعامل معه مطمئناً بالقدر الكافي ‪ .‬ول أحد له أن يقرر إن كان‬
‫مجرد صدفة أم هو تدبير محكم وجود دكانه في بلدة تتوسط معتقل العقيلة الذي جمع آلف‬
‫البؤساء فيه ‪ ،‬ومدينة بنغازي التي يستقبل ميناءها الجنود القادمين من وراء البحر ويودع‬
‫الذاهبين منهم ‪ ،‬هذا الموقع الذي جعل من دكان بندرلي إستراحة يتوقف عندها الجنود‬
‫الطليان فيدخنون السجائر ويشربون البيرة ول يخلو المر من شرائهم أشياء من عند‬
‫بندرلي ‪ ،‬لهذا لم يكن هذا اليهودي ليتضايق منهم ‪ ،‬بل كان يحاول أن يريحهم بالقدر الذي‬
‫يستطيع ‪ ،‬فيضع لهم أمام الدكان حجارة ملساء مستوية السطوح ‪ ،‬يجلسون عليها ‪ ،‬فيعد‬
‫لهم الشاي ويقدم لهم البيرة وأردأ أنواع الخمر غير هياب لدعاء عتاقة له لم تكن فيه ‪ .‬بعد‬
‫ذلك وعندما لحظ تزايداً في عدد الجنود الذين يؤمون دكانه ويتخذون منه مجلساً واستراحة‬
‫‪ ،‬ابتنى بندرلي داراً خلف دكانه غطى أعلها بسعف النخيل وجريده ليكون لها سقفاً‬
‫يحجب الشمس دون أن يمنع دخول الريح الباردة ‪ ،‬ووضع في هذه الدار طاولتين وبعض‬
‫من كراسي بل مساند ‪ ،‬صنعها من خشب أحضره له رجل ذو يد مشلولة ‪ ،‬جمعه من على‬
‫شاطئ البحر مقابل بعض الدقيق وأربعة قوالب صغيرة من السكر وعلبة طماطم ‪.‬‬
‫كان الجنود يسهرون في حانة بندرلي حتى ساعة متأخرة من الليل ‪ ،‬يشربون ‪،‬‬
‫ويقصفون ‪ ،‬حتى إذا ذهبت الخمر بعقولهم ملئوا المكان صراخاً وهتافًا وتعادوا بعضهم‬
‫وراء بعض ‪ ،‬وربما مضوا إلى البيوت القريبة منهم فاعتدوا على أهلها النائمين ‪ ،‬فما‬
‫تمضي ساعات على ذهاب هؤلء ‪ ،‬حتى يلفي غيرهم إلى الحانة مع شروق الشمس ‪ ،‬فما‬
‫يكاد بندرلي ينال من النوم ساعات قلئل حتى ينهض مسابقاً الشمس شروقها ‪ ،‬يعد‬
‫الفطار لعله يكف عنه شيئاً من شتائم تتكرر مع كل صباح ‪ ،‬لذلك استطاع امعيزيق أن‬
‫يصيب عنده بيضة وكسرة خبز أعادت له قدرة على الوقوف كاد يفقدها من أثر الجوع ‪،‬‬
‫ومنحت وجهه قدرة على بعث تعابير الستغراب في وجهه وهو يستمع إلى بندرلي الذي‬
‫قال له ‪:‬‬
‫‪ -‬ما رأيك أن تبقى لتعمل معي هنا ‪...‬ستأكل وتشرب وتنام ‪...‬إنه عرض جيد لن تفوز به‬
‫إل إذا كنت ذو حظ حسن ‪.‬‬
‫‪ -‬أخبرتك إني رجل هارب من المعتقل فإذا قبضوا عليّ قتلوني ‪.‬‬
‫‪-‬ماذا تريد إذاً ‪...‬ماذا أستطيع أن أفعل لك ؟‬
‫‪-‬أي شئ غير البقاء في هذه البلدة … إن هذا هو الخطر بعينه …‪ .‬أرجوك ساعدنى فأنا‬
‫ل أعرف أحداً هنا للتجئ إليه ‪.‬‬
‫‪-‬فى الحقيقة ل اعرف ماذا أفعل لك لساعدك …‬
‫‪-‬إسمع أيها اليهودى … إن عندي بندقية سأمنحك أياها إذا ساعدتني ‪.‬‬
‫توقف بندرلي عن تحريك ما احتوى الطاجين الذى كان يكتوي بنار الموقد ‪ ،‬ناظراً الى‬
‫امعيزيق وقد بدت على وجهه ملمح ابتسامة ماكره ‪ ،‬ليضل عنها أبداً كل من عرفه ‪،‬‬
‫وقال وهو يحاول أن يخفى فرحته بصفقة ل يمكن إل أن تكون رابحه ‪:‬‬
‫‪-‬حسناً … هكذا نستطيع التفاهم بصورة أفضل … إسمع أستطيع أن أبعث بك الى‬
‫إحدى المدن اليطالية ‪ ...‬هناك ستجد عملً جيداً … أم أنك تريد أن تعمل هنا ‪ ،‬عند‬
‫أحد اليطاليين ؟‬
‫أنت بدوى ولشك تفيد في الزارعة … وهم سيعطوك أجراً جيداً …‬
‫‪-‬قلت لك إنى إنسان هارب من المعتقل ‪ ،‬ولن أرمي بنفسي في أحضانهم ‪.‬‬
‫‪ -‬إذا رضيت بما أعرضه عليك فلن يطالك منهم السؤ أبداً ‪ ،‬وأنا أضمن لك ذلك ‪ ..‬نظر‬
‫فى وجه أمعيزيق ‪ ،‬ولما لم يرد عليه واصل بندرلي حديثه ‪:‬‬
‫‪-‬على كل حال أستطيع أن أرسلك الى بنغازى ‪ ،‬وهناك تستطيع التصرف كما تريد …‬
‫إنى أسمع أصوات جنود يدخلون الحانه ‪ ،‬ول أعتقد انك تريد أن تراهم …هيا إذهب‬
‫الن ولتحضر لى البندقية فى المساء ‪ ،‬وحتى ذلك الوقت تكون قد إخترت مايناسبك‬
‫مما عرضته عليك ‪ ،‬فأما البحار الى أيطاليا فى سفينة تمخر عباب البحر او العمل فى‬
‫مزرعة واسعه أو أرمى بك فى بنغازي تتدبر فيها أمرك بنفسك‪.‬‬
‫قال له هذا ودفعه ناحية الباب حاثاً أياه على الخروج ‪.‬‬
‫عاد أمعيزيق أدراجه ناحية واديهم عبر درب يستطيع السير فيه مغمض العينين من كثر‬
‫أعتياده المشي فيه ‪ ،‬وإن لم يكن مغمض العينين هذه المره فإن مايفكر فيه كان أعظم‬
‫شاغل له عن ذلك الدرب ‪.‬‬
‫(‪)9‬‬
‫النفي‬
‫من كان له في سفينة الصحراء غنىً عن البحر وسفينته ‪ ،‬لشك يصيبه دوار البحر عند‬
‫ركوبه أول مره ‪ ،‬لكننا نجانب الحقيقة كثيراً بظننا أن ركوب البحر وحده كان سببًا للدوار‬
‫الذى أحسه رحيل وهو يقف فى صف طويل على ظهر السيفنة ‪ .‬لقد كان مايدور فى رأسه‬
‫من أفكار ومايعتري هذه الرأس من الحيرة سبباً ل يمكن بأي حال أن نغفله ‪ ،‬عز عليه أن‬
‫يترك رفاقه فى الجبل يعانقون الموت كل يوم ‪ ،‬عز عليه ترك نجعه وزوجته وأطفاله ‪،‬‬
‫وكأن الماضي وحده ليكفي ‪ ،‬فهذا غدٌ قادم ليعرف عنه شيئاً ‪،‬ماضٍ الى أرض يساق‬
‫اليها سوق البهائم ليعرف فيها أحداً ‪ ،‬وليدري ما الذي ينتظره فيها ‪ ،‬وهذا الطابور‬
‫الطويل الذي لينتهي إل الى فتحة يرى الرؤوس تتوارى عندها ‪ ،‬فل يعرف الى إين‬
‫تذهب بهم ‪ ،‬ومن تكلم أو تحرك كان نصيبه السياط المصطفة على جانبي الصف فى‬
‫أنتظاره ‪ ،‬كانت الشمس حارة والصف مايزال طويلً والعرق يتصبب على جبهته ليطال‬
‫عينيه دون أن يأبه به ‪ ،‬فجميع إحساساته قد تملكتها طعنات الخناجر فى خصره وظهره ‪،‬‬
‫طعنات لم تكن غير لدغ برغوث أزعجته حرارة الشمس بعد أعتياده رطوبة السجن ‪.‬‬
‫كان الدوار يشتد عليه شيئاً فشيئاً ‪ ،‬فأحس وكأن ساقيه ينثنيان تحت ثقل البرغوث والعرق‬
‫والدوار ‪ ،‬فكر أن يجلس مكانه ‪ ،‬لكن السياط كانت تنظر إليه ‪ .‬برغوث لعين طعنه طعنة‬
‫شديدة فى ظهره لم يستطيع معها مقاومة رغبة فى الحك ‪ ،‬رفع يده لكن شيئاً آخر أحسه‬
‫يلمس جلده غير يده ‪ ،‬ولم يكن خنجر البرغوث‪،‬لكنه كان شيئاً آخر إعتاد عليه فلم يعد‬
‫يذكره كبداية عهده بالسجن ‪ ،‬بالجمال في مواسم الحرث والدرس ‪ .‬حاول أن ينتصب‬
‫متشنجاً لعله يفقد الحساس بلدغ البرغوث الذى تكاثر عليه ‪ ،‬لكن الدوار كان شديداً يشل‬
‫جسده الذى صار واهياً مضعضعاً ليقوى على شىء ‪.‬كاد أن يقع لول أنه رأى الطابور‬
‫يتحرك ‪،‬فتحرك متقدماً خطوتين ‪ ،‬ليعاود الوقوف والنتظار ‪ ،‬أحس الدوار يشتد عليه‬
‫فأغمض عينيه وهز رأسه محاذراً أن تتتبه السياط اليه ‪ ،‬لكن الحذر لم يكن يوماً منجياً من‬
‫قدر‪ ،‬فها هو أحدهم ينظر اليه ويتقدم نحوه مبتسما ً‪ .‬بعد ذلك لم يدرك شيئًا ولم يعد يذكر‬
‫شيئاً مما حدث له حتى وجد نفسه يقف أمام حفرة مربعة وأحد الجنود يحثه على النزول ‪،‬‬
‫نظر الى أسفل لكنه لم يرى غير السواد ‪،‬فهو لم يعد يرى الشياء على ظهر السفينة ليرى‬
‫ما فى أسفلها ‪ ،‬سمع أحد الجنود يصرخ قائلً ‪ :‬أنزل بنفسك وإل دفعتك فتحطم رأسك‪.‬‬
‫لم تكن لديه أى فكرة عن النزول فى مثل هذا المكان ‪ ،‬لم يعتد غير النزول الى قعر اليئر‬
‫بواسطة حبل يلف حوله ‪ ،‬او بحفر يحتفرها فى جوانب البئر ‪ ،‬ليبادل فيها بين قدميه حتى‬
‫يصل الى قاعه ‪ ،‬ثم يصعد بذات الطريقة ‪.‬سمع ذات الصوت الذى يهدد بدفعه مرة‬
‫أخرى ‪ ،‬وإذا أحس نخسة عصى تصاحب هذا الصوت أدرك أنه المقصود بالخطاب ‪ ،‬رفع‬
‫قدمه ومدها ببطء داخل الحفره ليتحسس إن كانت تلتقى حبلً أو سلماً من لوح أوسواه ‪ ،‬فلم‬
‫يكد يتحسس ذلك حتى بادرته دفعة قوية كادت تهوى به الى أسفل لول أنه تمسك بجواف‬
‫الفتحة فضل معلقاً يتأرجح فى الهواء ‪ ،‬لكن حذاء ثقيلً كان قد أٌعمل فى يديه الممسكتين‬
‫بحواف الحفرة ‪،‬كانت ضربات قوية حاول أن يحتملها لكن ألم تكسر أظافره كان أقسى‬
‫من أى احتمال ‪ ،‬فتركت يداه تلك الحواف الممسكة بها لتترك الجسد ينحدر فى هوة‬
‫ليعرف لها قرار ‪.‬‬
‫كان أسفل السفينة مكاناً مظلماً ل يستطيع المرء أن يرى فيه شيئاً لول شقوق بسيطة يتسلل‬
‫منها النور هنا وهناك ‪ ،‬وليس لمن يمشي فى مكان إل أن يلتطم بالقضبان الحديدية‬
‫والسلسل الطويلة التي تمله ‪،‬وكانت تسوده رائحة نتنة ‪ ،‬ورطوبة شديده ‪،‬وقد زاد المر‬
‫سوءً رمى هذه الجثث القرب الى الموت منها الى الحياة‪ ،‬فصارت الرائحة لتطاق ‪،‬‬
‫وصار الجنود يتأففون من النزول ‪ ،‬وينجزون عمليات المبادلة من بعيد فيرمون أكياس‬
‫الخبز ويتناولون جثث الموتى من جثث الحياء ‪ ،‬وهم وقوف عند البوابة ليجرؤ أحد منهم‬
‫على النزول ‪.‬‬
‫لم يكن من سبيل للخروج من هذا المكان غير فتحة السقف التى ل يمكن الوصول إليها إل‬
‫عبر سلم ثقيل ربطت به سلسة عظيمة يسحبها الجنود ‪ ،‬وهم على ظهر السفينة فتسحب‬
‫معها السلم حتى يطال السقف حيث تثبت السلسة ليثبت السلم فى مكانه ‪ ،‬فإذا أطلقت‬
‫السلسة سقط السلم الى أسفل وإنعزل أسفل السفينة عن ظهرها ليصبح سجناً كبيراً به أسوأ‬
‫ما فى السجون من صفات ‪ ،‬ولحفظ السلم فى مكانه‪،‬ليجاوزه عند إطلق السلسة المثبت‬
‫فيها وضع على جانبيه لوحين كبيرين ثبتا فحصرا بينهما مجالً يتحرك السلم فيه‬
‫فليجاوزه ‪.‬كان أرتفاع اللوح اليمن منها ليجاوز المترين ‪ ،‬وسمكه بسمك باب غليظ ‪،‬‬
‫ولم يكن أحداً ليهتم به إل من اختار أن يجعل منه متكئاً له ‪ ،‬وما كنا إل لنهمله إهمالنا‬
‫لقرينه اليسر لول أن سقوط رحيل لم يختر له مكاناً غير هذا اللوح ‪ ،‬فأطلق صرخة ل‬
‫يمكن إل أن تكون ناتجة عن ألم مرير لحظة التطام جسده بحافة اللوح العليا التى التصقت‬
‫بأبطه فكانت ذارعه بجانب من اللوح وباقى جسده بالجانب الخر ‪ ،‬ولن أرتفاع هذا اللوح‬
‫بالكاد جاوز طول رحيل ‪ ،‬فقد طالت قدماه لحظة سقوطه على اللوح من كان قد جعل من‬
‫هذا اللوح متكئاً له ‪ ،‬فتنادت اليادي المتعبة ونهضت الجساد المنهكة لتمسك رحيل‬
‫وترفعه من على اللوح الذى تعلق به ليمدد على الرض مغماً عليه ‪.‬‬
‫والمريض فى قعر سفينة تمخر عباب البحر من المستحيل أن يصل طبيباً ‪ ،‬ومن الصعب‬
‫ان يطال طعاماً ‪ .‬فالطبيب غائب ‪ ،‬والطعام ليس غير كيس من الخبز يرمى لهم فى‬
‫الصباح وكيس فى المساء تتنازعه اليدي ‪ ،‬فل يكاد يحصل على شىء من هذا الخبز غير‬
‫القوياء الذين مازالوا يحتفظون ببقية من صحه ‪ ،‬أما الضعفاء فليس لهم غير المقامرة‬
‫والمغامره فأما الحصول على مايؤجل موتهم أو تحقق الموت السريع ‪ ،‬ومن هؤلء كان‬
‫رحيل الذى وجد بعد أن أستيقظ من غيبوبته أنه ل يستطيع تحريك ذراعه اليمن ‪ ،‬فلم يكن‬
‫قادراً على أن يحصل على شىء من طعام ‪ ،‬وكان سيقضي جوعاً فى هذا السجن المظلم‬
‫ويرمى فى البحر ليكون طعاماً للحيتان ‪ ،‬لول أن قيضت له القدار شيخاً كان يجلس‬
‫بجواره لحظة أستيقظ ‪ ،‬فأخذ يقسم معه مايحصل عليه من كسر الخبز ‪ ،‬الطعام الوحيد‬
‫المتاح لهم ‪ ،‬والذى كان عليهم الحتفاظ بالكسرة منه فى أفواههم وقتاً ليس بالقصير‬
‫لتبتل ‪،‬فيستطيعون مضغها دون أن تصيب افواههم حوافها التى قاربت الحجارة فى‬
‫قساوتها ‪.‬‬
‫لقد تعرض رحيل عند وقوعه ‪ ،‬لصابة بعصب يده اليمنى قاد الى شلها عن الحركة ‪،‬‬
‫وهى إصابة نادرة ‪ ،‬لكنها تتكرر بين رواد الحانات عندما يغالون فى الشرب ليالى الحاد‬
‫فإذا أنهكت الخمرة أحدهم وذهبت بكل قواه تهالك على أقرب كرسى اليه مستنداً مسنده‬
‫رامياً يده خلف الكرسى ‪ ،‬المر الذى يُحدث إصابة لعصب اليد ‪ .‬هذه الصابة التى‬
‫يعرفها أهل الطب بمتلزمة ليالي الحاد ‪ ،‬ويبدو أن هذا ماحدث لرحيل رغم أنه لم يكن‬
‫يوماً من رواد الحانات ‪ ،‬لكنه ورغماً عنه هو أحد زبائن سفينة تحدث القامة فيها دواراً‬
‫شديداً ليطال شدته فعل خمر ‪.‬‬
‫لم يستطيع رحيل أن يرى أحد أطباء قبرص التى عرجت السفينة عليها ‪ ،‬وحتى الطبيب‬
‫الذى رأه فى أيطاليا لم يأتي له بكثير فائده‪ ،‬إذا أن يده كانت قد شلت ولم يعد من مجال‬
‫للمساعدة ‪ ،‬ولم تكن هذه الميزه لتعين رحيلً فى شىء أثناء السنوات السبع التى قضاها فى‬
‫السجن والمنفى ‪ ،‬إذ كلف بأعمال يكاد يعجز عنها الصحاء ‪ ،‬ولم تسعفه فى الحصول على‬
‫طعام أو شراب فى يسر ‪.‬‬

‫( ‪) 10‬‬
‫إجدابيا ‪1930‬‬
‫لم يغامر أحد بالبناء بالقرب من القصر المحصن القديم ‪ ،‬مما جعله على قدر مد البصر من‬
‫أقرب بيت إليه‪،‬ولم يكن أحد من أهل البلدة ليهتم باسم هذا القصر وليس لنا أن نوجه لهم‬
‫كثير لوم على ذلك ‪،‬فهذا المكان لم يعد له من صفات القصر غير اسمه ‪ ،‬إذ فقد سقفه‬
‫وتهدمت معظم جدرانه وما عاد فيه من جزء يبان للناظر من بعيد غير نصف قبة تعتلي‬
‫أعلى جدارين فيه ‪ ،‬واللذين وصل من ناحية واحدة بجدار بني مقوساً فأعطي هذا الجزء‬
‫من القصر شكلً أسطوانيا ما يزال قائماً حتى الن ‪ ،‬ولم يحدث هذا للقصر بغير فعل‬
‫الزمن الذي أعمل فأسه في قصر تاه تاريخه ضمن ماضٍ مغرق في القدم جعل آراء‬
‫رجالت الثار في تضارب حول مبتداه ل يعرف من سكنه قبل أن تعبث به يد البلى ‪،‬‬
‫وتعصف به عواصف الدهر وأرزاؤه ‪،‬فمن قائل أنه بقايا كنيسة بيزنطية ‪ ،‬ومن قائل أن‬
‫مشيده خليفة فاطمي ‪ ،‬وأنتشر غير ذلك من الروايات الكثير حول ماضي هذا القصر ‪.‬‬
‫إن الكثير من الماكن المشابهة لهذا القصر ل نستطيع إذ نقترب منها أن نتمالك أنفسنا عن‬
‫التفكير في كونها مسكونة … فغربتها المكانية والزمانية وما ارتسم في مخيلتنا عنها ‪،‬‬
‫وإن لم يتبادر منه شئ إلى تيار الوعي‪،‬يظل يلفها بغلف من الغموض وهالة من الرهبه ‪،‬‬
‫ويجعلها في صورة مختلفة ومغايرة أبداً لما اعتد ناه من الطبيعي والمألوف ‪.‬‬
‫نقترب من هذه الماكن بابتعادنا عما خلفناه وراءنا لنكون الحد الفاصل بين العالم‬
‫المسكون بالحياة وذلك الساكن بالموت ‪ ،‬وما نكاد ندخله إل وكأن الحياة سبقتنا إليه فما‬
‫بقى فيه من الموت غير أفكارنا عنه ‪ ،‬فالصمت السائد يعطي لكل شئ أبعاداً جديدة لم نكن‬
‫نلحظها من قبل ؛ دقات القلب تصبح مسموعة ‪ ،‬ملمسة القدم لحصى الرض تصبح‬
‫محسوسة ‪ ،‬وأعشاش العناكب تحفز احساسات اللمس في وجوهنا فتعتري الجسد رعشة‬
‫يُسمع لها في الذن هفيفاً ‪ ،‬رغم عواء شديد تحدثه الرياح الشرقية عندما يصدها الجدار‬
‫المقوس ‪ ،‬فل يدعها تعبر إل من خلل فتحة صغيرة محدثة عواء لم تسمع له مثيل‬
‫لتنتشر بعد خروجها فى أماكن شتى ‪ ،‬فإذا عادت لتصطدم بالجدار المقوس محدثة دوياً ‪،‬‬
‫شتتها هذا الجدار لتضيع من جديد وهى تصدر صوتا خافتاً ل يكاد يسمع ‪ ،‬ول تكاد تميزه‬
‫من فحيح الفاعي التى تجوب هذا المكان ‪ ،‬تنتظر طائراً صغيراً ل يؤمن بوجود الجن ‪.‬‬
‫التحصين هو الصفة الصيلة الوحيدة التى حفظها الناس لهذا المكان فلم يفرطوا فيها ‪،‬ل‬
‫نعنى بها الحصن الذي كان يحيط القصر تعتليه ستة أبراج ‪،‬بل هو حصن آخر ابتناه الناس‬
‫في عقولهم فصار هذا القصر مقاماً للجنة يحمونه ويعيشون فيه ‪ ،‬فلي من سحرة هذه‬
‫المدينة عصبة من الجن السفلي سخرهم له زعيمهم من الجن العلوي ‪ ،‬لتصبح هذه العصبة‬
‫في خدمة الساحر يتأمرون بأمره في جلب ما أراد من الخبار ويفعلون مايؤمرون به ‪،‬‬
‫فإذا انتهوا من أعمالهم بخلود سيدهم إلى فراشه عادوا هم إلى القصر فمكثوا فيه منتظرين‬
‫ما يأمرهم به الساحر الذي يتبعون ‪.‬‬
‫قديماً لم يكن أحداً ليهتم بترديد أشياء كهذه ‪ ،‬إنما كانت حجارة جدران القصر العالية‬
‫تتساقط ‪ ،‬فأبتعد عنه الكبار خشية أن يسقط أحد أحجاره على رؤوسهم ‪،‬وخافوا هذه‬
‫الحجارة على اطفالهم فاخافوهم بأن القصر مسكون ‪ ،‬وكبر الطفال وكبر خوفهم ‪،‬وكبرت‬
‫معهم الحكايه ‪ ،‬فلم يعد أحداً يجرؤ على القتراب من القصر فى ليل او نهار ‪ ،‬إل مضطرٍ‬
‫دخلت ماشيته القصر ‪ ،‬فجلس غير بعيد عنه يدعوا ماشيته فى رأرأة متواصلة ‪ ،‬محاولً‬
‫إغراءها بما حمل بين يديه من الشعير ‪.‬‬
‫ويروي بعض لشيوخ أنه حدث في بعض الحيان أن خفت سطوة الخوف فأتخذ الطفال‬
‫من القصر مكاناً يصطادون الطيور فيه وجعله الشبان ملتقىً للعشق وتبادل الغرام عند‬
‫الغروب ‪ ،‬ولما يفتأ رجال الدين يحذرون من التعدي على حرمة الجن الساكن في القصر ‪،‬‬
‫لكن سَورة للحب عند الشباب ورغبة اللعب عند الطفال لم تنتهي إل عندما وجد رجلً‬
‫مقتولً ذات يوم وقد شج رأسه أسفل نصف القبة المعلق ‪ ،‬وقيل وقتها أن هذا الرجل قد‬
‫دخل القصر ليلً فتسلطت عليه الجنة ورمته بحجر كبير قضى عليه ‪ ،‬وبهذه الحادثة عادت‬
‫إلى القصر حرمته القديمة ‪ ،‬فلم يعد يجرؤ أحداً على القتراب منه ‪ ،‬حتى حاول أحد‬
‫الجنود الطليان استكشاف القصر من داخله ‪ ،‬فوجد في اليوم التالي مرمياً خارج القصر‬
‫ميتاً وقد إسود لونه ‪ .‬ومنذ ذلك اليوم لم يحاول أحد منهم القتراب من القصر ‪ ،‬وإن روى‬
‫البعض أنهم حاولوا ذات يوم هدم القصر فأرسل ال عليهم ريح صرصر‪ ) (1‬استحال معها‬
‫رؤية أى شىء ‪ ،‬فعدلوا عن رأيهم ‪ ،‬ومنذ سمعت هذه الحكايه لم يتوقف الناس عن الحديث‬
‫عن اضواء تنبعث من القصر ليلً ‪ ،‬وتحدث البعض عن سماعهم لصوت تصدر من‬
‫القصر ‪ ،‬اختلفوا فى كنهها فمن قائل أنها كعواء الذئب ومن قائل أنها تبدوا كصوت رجل‬
‫(‪ ) 1‬صر صر ‪ :‬ريح شديدة الصوت ‪.‬‬
‫ينادى ‪ ،‬والبعض إدعى سماعه لحادٍ يحدو إبلً ‪،‬ولم يتفق هؤلء إل على أن هذه الصوات‬
‫مصدرها الجنة الذين يحرسون هذا القصر ‪.‬‬
‫وقد حدث أحدهم أنه قد رأى حماراً من حمير الجن يدخل القصر وعلى ظهره براميل‬
‫كبيرة لم يرى براميل فى حجمها ‪ ،‬قيل وقتها إنها الجنة ترد البئر مرة كل عام لتعطش‬
‫بعدها حتى العام القادم ‪.‬‬
‫وأخبر آخر أن إِمراة عجوز انحازت لها شياه داخل القصر ‪ ،‬فما أستطاعت أن تدخل‬
‫إليها ‪ ،‬وما استجابت الشياه لنداءها ‪ ،‬فجلست تلك العجوز تدعوا فإذا بالجن يخرج في‬
‫صورة رجل بي ٍد واحدة يطرد الشياه من القصر ويسوقها الى صاحبتها ‪.‬‬
‫وهكذا كان هذا القصر قديماً ل يعرف له تاريخ ‪ ،‬محصناً تحميه الجنة ‪ ،‬مهجوراً ليجرؤ‬
‫على دخوله غير رجل واحد‬
‫وليهتم بالحديث عنه غير رجل واحد ‪ ،‬فأما من أحب الحديث عن هذا القصر فهو شيخ‬
‫طاعن في السن ل يمشى إل منحنياً ول يقف إل متكئاً على عصاة عجراء‪، ) (2‬ول يحلو له‬
‫حديث عن هذا القصر فكان يجتمع إليه الطفال فيحكي لهم قصصاً عن الجن ‪ ،‬روى لهم‬
‫فكانت حكايات هذا الشيخ الطاعن فى السن حصناً جديداً يضاف الى حصون القصور‬
‫القديم ‪ ،‬تحفظ له هيبته وتحمى الرجل الوحيد الساكن فيه ‪ ،‬فلتراه عين ولتطاله يد ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫الساكن الوحيد فى هذا القصر لم يكن غير رحيل الذى قضى سبعاً من السنوات فى المنفى‬
‫يعانى بيدة المشلولة ويكلف بالصعب من العمال ‪ ،‬ويقاسى وهو يكافح بي ٍد واحدة فى سبيل‬
‫الحصول على لقمة يقتات بها ‪.‬‬
‫عاد من المنفى بقليل من المل وكثير من الحزن ‪،‬فرجل بي ٍد واحدة لن يستطيع أن يفيد‬
‫بشىء فى المعركة‪،‬وإذا عاود اللتحاق برفاقه فى الجبل فلشك يكون عبئاً عليهم ‪.‬رجل بيد‬
‫مشلولة لن يرضى به أحد لن يكون شيخاً للنجع ‪ ،‬هذه المكانة التى طالما منى النفس بها ‪،‬‬
‫وفعل الكثير لجل أن يكون أهل لها ‪ .‬أما الن فهو رجل ذو يدٍ مشلولة ‪ ،‬ولن تكون له‬
‫هيبة فى نجعه ليطلبها خارجه ‪.‬حتى أهله لن يفيدهم فى شىء فهو غير قادر على نشل الدلو‬
‫من البئر ‪ ،‬وإذا حصد فهو غير قادر على جمع ما حصد ‪ .‬زوجته وأطفاله سينظرون إليه‬
‫وفى عيونهم الشفقة ‪ ،‬وسيجلس فى البيت جلسة العجائز ينتظر ما تجرى به القدار عليه‬
‫‪.‬كان يشعر بشوق عارم الى اطفاله فتمنى لو أنه يراهم لكنه أبداً لم يحب لهم أن يروه على‬
‫هذه الحال ‪ ،‬لذا قرر أن يأتي النجع ليلً فيراهم دون أن يروه لن ذلك سيكون أرحم لهم‬
‫وأقل ألما له ‪.‬‬
‫عندما وصل ‪ ،‬لم يجد نفسه بحاجة الى إعمال تفكيره فى طريقة يدخل بها النجع دون أن‬
‫ينتبه لقدومه أحد ‪ ،‬إذلم يكن ثمة نجع ‪ ،‬وما وجد غير الطلل ‪ ،‬فكانت الديار خالية إل من‬
‫ذكريات أنهالت عليه كانها السيل فجلس مكانه يبكي مستعرضاً شريطاً طويلً لذكريات‬
‫قديمه ‪.‬‬
‫قضى رحيل أشهراً غير قليلة يتسقط أخبار أمه وأخيه وزوجته وبنيه ‪،‬فطال منهم من طال‬
‫دون أن يجد له مستقر عند أحدهم ‪ ،‬وهو وأن لم يختر العزلة له سبيلً لكنه وجد نفسه‬
‫يعيش وحيداً فى القصر المحصن القديم ‪.‬‬
‫(‪ ) 2‬عجراء ‪ :‬ذات عجر أي عقد في وسطها ‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫إجدابيه اليوم مدينة صغيرة تفصل أجزاءها ثلث طرق مرصوفه تقودك من بوابتها‬
‫الشرقية الى الغربية فتسلمك لجسرها الوحيد فى أقصى الغرب بعد أن تكون قد مرت بك‬
‫أوسط الطرق الثلث فوق أنفاق وضعت ليعبر خللها أطفال المدارس فيأمنوا أخطار‬
‫العربات ‪ .‬أما عام ‪ 1930‬فلم يكن فيها هذه الكثرة من الطفال ولهذه الكثرة من السيارات ‪،‬‬
‫ولم يكن فيها جسر ول أنفاق ‪ ،‬إذ لم يكن ثمة مدارس يعبر الطفال إليها ‪.‬لم يكن هناك‬
‫سوى بيوتات صغيرة بنيت من أحجار عريضة قصت بغير عناية ‪ ،‬فجاءت حوافها بغير‬
‫إنتظام استلزم المزيد من الطين للصقها الى بعضها ‪ ،‬وكانت تغطى سُقف هذه البيوت‬
‫بسعف النخيل فى معظم الحيان ‪ ،‬وخشب يرمى به البحر على شواطئه فى أفضل الحيان‬
‫‪ ،‬ولم يكن ثمة أنوار تضىء المسافات الفاصلة بين هذه البيوت ‪ ،‬فالكهرباء لم تكن طالت‬
‫هذه المدينة ‪ ،‬وحتى لو أنها طالتها ماكانت هذه الشوارع لتضاء لن أحداً لم يكن ليمر فيها‬
‫بعد غروب الشمس ‪ ،‬ليمان الناس هنا بأن الليل جعل سباتاً ‪ ،‬أولعتقادهم أن الشوارع‬
‫والميادين فى الليل تمتليء بالجن والعفاريت التى تجوبها ‪.‬وربما لنه لم يكن هناك مايدعو‬
‫لخروج المرء ليلً فى مدينة كهذه ‪ ،‬إذ يتفق الناس على أنه ثمة ثلثة أشياء تدعوك‬
‫للخروج ليلً فأما أن تكون مريضاً يذهب للعلج أوراغب متعة يذهب طالباً ما أراد أو‬
‫لصاً يخرج باحثاً عن ضالته ‪ ،‬ولنه ل يوجد مكان يعالج المرضى في ليل ول في نهار ‪،‬‬
‫ولنه ل يوجد فسحة يمكن أن يقضي فيها المرء ليلة متعة غير حانة اليهودي بندرلي ‪،‬‬
‫ولن اللصوص في هذه المدينة تركوا مهنتهم بعدما ملوا مما اعتراهم من خيبات أمل ل‬
‫تعد‪ ،‬فل يجوب هذه المدينة ليلً غير معتوه مسكين أو سَكْران ُملْتخ ذهبت به خمرة بندرلي‬
‫مذهباً جعله يعتقد اعتقاداً جازماً أنه في أحد شوارع فينيسيا ‪.‬‬
‫مضى أمعيزيق وسط هذه الشوارع المظلمة الخالية ‪ ،‬وهو يتمنى أن تبقى على حالها تلك‬
‫فل يلتقي فيها أحداً‪ ،‬ول يبصر فيها نوراً قد يريه للعيان ‪ ،‬رأى الضواء تتلل متحركة‬
‫أمام البيوت وسمع أصوات الطفال وهم يغنون ‪ ،‬فأدرك مما رأه أنه عيد المولد ‪ ،‬وعادت‬
‫به الذاكرة سريعاً إلى أيام طفولته حين كان يشعل النار في قطعة من الحلفا ‪ ،‬يمسك بها‬
‫بين يديه ليدور حول بيوت النجع وقد تبعه الطفال وهم يرددون بصوت واحد ‪:‬‬
‫هذا قنديل الرسول ‪ ..‬فاطمة جابت منصور‬
‫هذا قنديل النبي ‪ ..‬فاطمة جابت علي‬
‫أقترب من أحد البيوت رأى جمعاً من الطفال أمامه محاذراً أن يراه منهم أحد ‪ ،‬وأصغى‬
‫إلى غنائهم لعله يسمع أغنية جديدة يرددها هؤلء الطفال ‪ ،‬لكنه ولما سمعهم يرددون ذات‬
‫أغانيه القديمة ‪ ،‬أبتسم وواصل طريقه وهو يردد في سره إحدى هذه الغاني ‪.‬‬
‫وصل أمعيزيق إلى القصر المحصن القديم والذي لم يكن قد أحيط بجدار في ذلك الوقت‬
‫كما هو الحال الن ‪ ،‬فوجده مكاناً مظلماً يخيم في ظلمه صمت رهيب ‪ ،‬لم يطمئن إلى‬
‫عدم وجود أحد فيه ‪ ،‬لكنه ولما لم يكن له مكان يبات فيه ليلته طرد مخاوفه وظنونه وأختار‬
‫إحدى زوايا القصر فاستلقى فيها مستنداً يده ملتحفاً ظلم الليل ‪ ،‬ليس له من رفيق غير‬
‫الخوف الذي يمل أرجاء المكان ‪ ،‬كاد النوم أن يأخذه بعيداً عن الخوف لول أنه سمع‬
‫أصوات آتية من بعيد ‪ ،‬جلس مكانه وقد إعتله رعب شديد وهو يسمع تلك الصوات تزداد‬
‫بإقترابها منه ‪ ،‬كانت أصوات مختلطة حاول تبينها فعجز عن ذلك وعادت به الذاكرة‬
‫سريعاً إلى الصوات القادمة من عند التل الشرقي النازلة نحو واديهم ‪ ،‬فكر أن هذه‬
‫الصوات يمكن أن تقوده إلى المعتقل ثانية فسرت في جسده رعشة وقد أشتد خوفه وبدأت‬
‫آثار الرعب تبان على وجهه ‪ ،‬وهو ينظر حوله باحثاً عن مكان يكون له منه مهرباً إذا‬
‫دخل القادمون إلى هذا القصر ‪ ،‬لكنه سرعان ما عاد إليه اطمئنانه عندما تبين وسط تلك‬
‫الضوضاء أصوات الطفال وهي تردد أغاني المولد ‪ ،‬نظر من إحدى الفتحات التي ل‬
‫تحصى فيما جاوره من الجدار المطل على الناحية التي منها الصوت ‪ ،‬فلحظ عدد من‬
‫الطفال والرجال وهم يغنون على ضوء الشموع أمام المسجد غير البعيد عنه ‪ ،‬فكر قليلً‬
‫ثم قرر أن يخرج ويقضي معهم بعض الوقت ‪.‬‬
‫عاد من ذلك الجمع وقد ولى الليل إل أقله ‪ ،‬ولم يبقى من سواده غير بقايا بالكاد تكفي لينال‬
‫مراده من النوم والراحة ‪ ،‬وما كاد يضع رأسه على يده لينام حتى سمع صوتاً آخر ‪ ،‬لكنه‬
‫هذه المرة كان قريباً جداً ‪ ،‬إذ ما كاد يجلس حتى وجد نفسه غير قادر على التفكير وهو‬
‫يرى شبحاً يقف أمامه ‪ ،‬لم يستطع أن يخمن أو يفترض شيئاً ‪ ،‬ولسانه خانه ولم يسعفه في‬
‫تلك اللحظة ليقول شيئاً ‪ ،‬فظل حبيس مكانه صامتًا ولو أتيح له النور الكافي ليبصر هذا‬
‫الجسد الطويل الواقف امامه لرأى في وجهه من الخوف والرعب بقدر ما أعتراه ‪ ،‬إذ وقف‬
‫هو الخر مسمراً مكانه ل يعرف ما يفعل ول يدري ما يقول ‪ ،‬مضى وقتاً وهما على هذه‬
‫الحال لم يكن قصيراً لكليهما ‪ ،‬تكلم بعدها ذلك الشبح الواقف قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬إسمع يا هذا ‪ ..‬لتكن من تكون ‪ ..‬ل تترك مكانك هذا حتى أعود إليك ‪..‬‬
‫لم يجد أمعيزيق ما يرد به سوى أنه هز رأسه غير مدرك في تلك اللحظة أن الظلم المخيم‬
‫ل يسمح برؤية هذه الحركة ‪ ،‬وأن الرؤوس ذاتها بالكاد ترى فيه ‪ ،‬لم يأتي بعد هذه الحركة‬
‫بشيء بل ظل جالساً مكانه والذهول يمل وجهه ‪ ،‬وكأنه يحاول أل يفكر فيما حدث له ‪،‬‬
‫وفيما يمكن أن يفعل به هذا الرجل ‪ ،‬ولم تطل به هذه الحال إذ لمحه يعود حاملً شمعة‬
‫وكسرة خبز كبيرة جمعهما بصعوبة في يده اليسرى ناول الشمعة لمعيزيق وجلس واضعاً‬
‫كسرة الخبز على حجر بجواره ‪ ،‬وشرع يخرج حبات تمر من جيب قميصه ويضعها فوق‬
‫كسرة الخبز ‪.‬‬
‫رفع أمعيزيق الشمعة نحو وجه الرجل وحالما تبين ملمحه أنفرجت أساريره وارتمى‬
‫عليه يعانقه ورحيل ذاهل يفكر فيمن يكون ‪ ،‬لكن أمعيزيق أسعفه لحظتها وعفاه من حرج‬
‫السؤال قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬أنا أمعيزيق إبن الحاجة حليمة ‪ ،‬طالما عرجت على وادينا وأنت تحمل العنب‬
‫والكرموس من مزارع البحر في البلدة ‪ ،‬فكنت تصيب عندنا العشاء والغداء وتعطينا مما‬
‫حملت ‪ ..‬أل تذكرني ‪.‬؟‬
‫‪ -‬نعم تذكرتك الن يا أمعيزيق ‪ ،‬كيف حال الحاجة حليمة ؟ لقد مررت على واديكم فوجدته‬
‫خالياً فخمنت إنكم قد وقعتم أسرى المعتقل الذي لم ينجو منه أحد ‪ ،‬ولكن ماذا تفعل هنا‬
‫وأين الحاجة حلمية ‪.‬‬
‫‪ -‬لقد فقدتها عندما ساقونا سوق البهائم إلى المعتقل ومنذ ذلك اليوم وأنا أبحث عنها ولكن ل‬
‫أثر لها ‪.‬‬
‫‪-‬ومن دلك على هذا المكان ‪.‬؟‬
‫‪ -‬لم أجد أحداً ألجأ إليه ليساعدني في الخروج من هذه المدينة غير التاجر اليهودي بندرلي‬
‫فنصحني أن أختبئ هنا لحين يبعث لي بمن يأخذني معه ‪.‬‬
‫‪ -‬ألم يجد هذا اللعين غير هذا المكان ليبعث بك إليه !! أنه مكان مسكون ؟‬
‫‪ -‬أنا ل أخشى عفاريت هذا القصر بقدر ما أخشى عفريت ذلك اليهودي ‪ ،‬فأنا ل أثق به ‪،‬‬
‫وأخشى أن يبلغ الجنود على مكاني ‪.‬‬
‫‪ -‬ولماذا يطلبك الجنود ؟‬
‫‪ -‬ألم أخبرك أني قد هربت من المعتقل ‪ ،‬ولبد أنهم يبحثون عني الن ليعيدوني إليه ‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا عن بندرلي ‪ ،‬هل أخذ منك شيئاً ‪.‬‬
‫‪ -‬نعم ‪ ..‬لقد أعطيته ما طلب ‪.‬‬
‫‪ -‬إذاً فل تخف منه ‪ ،‬ولكن الخوف هو أن يتأخر الزغني فيطول بك البقاء هنا ‪.‬‬
‫‪ -‬من الزغني هذا ؟‪.‬‬
‫‪ -‬الشخص الذي سيأخذك إلى بنغازي ‪ ..‬أل تريد الذهاب إلى هناك ‪..‬‬
‫‪ -‬ل يهم المكان الذي أذهب إليه كل ما أريده هو أن أبتعد من هنا ‪.‬‬
‫‪ -‬حسناً ‪ ..‬ل تهتم فإذا لم يأتي في الغد فل شك إنه آتٍ بعد غد ‪ ..‬ل أظنه يتأخر أكثر من‬
‫ذلك ‪ ..‬أل تظن أنه قد حان الوقت لن تنام ‪.‬‬
‫‪ -‬ليس قبل أن تخبرني بما يدعوك للعيش وحيداً في هذا المكان ؟‬
‫‪ -‬هذه قصة طويلة ‪ ..‬ستتعب كثيراً وأنت تستمع إليها ‪.‬‬
‫‪ -‬هل لها علقة بيدك ‪.‬؟‬
‫نظر إلى يده وتنهد تنهيدة طويلة ثم قال ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قضيت في المنفى سبع سنوات عدت بعدها بيدي المشلولة هذه لجد أن أهلي قد‬
‫تشتتوا فلم يبقى من نجعنا القديم غير أطلل وبقايا حكايات ‪ ،‬بحثت عنهم فوجدتهم يعيشون‬
‫في حال ل يسر ‪ ،‬ولم أكن أنا لفيدهم في شيء بل لو أني أخترت البقاء معهم لضفت‬
‫لمعاناتهم معاناة وزدت همهم هماً ‪ ،‬فكما ترى أنا رجل بيد مشلولة وذو اليد المشلولة عاجز‬
‫ل يرجى منه الخير لحد ‪ ،‬لذلك فضلت أن أنسحب من حياتهم‪ ،‬وقررت اللحاق بأعز‬
‫رفاقي في المنفى الشيخ أمبارك الذي طالما أعتنى بي ‪ ،‬ولول عطفه علي لما كتبت لي‬
‫الحياة حتى هذا اليوم ‪ ،‬لحقته وكان قد عرض علي أن أقوم بزيارته ‪ ،‬لكني لم أجد نجعه‬
‫هو الخر فلم يكن في ديارهم غير أطلل تبكي أصحابها ‪.‬‬
‫‪-‬ألم تبحث عنه ‪.‬؟‬
‫‪-‬لم أكن في حاجة للبحث عنه إذ ما كدت أسأل عنه حتى دللت عليه ‪ ،‬هو الخر عندما عاد‬
‫من المنفى لم يجد أهله في مكانهم سأل عنهم فلم يستدل عليهم إذ أن الفقر والظلم أجتمعا‬
‫على الناس وشتتاها شر شتات‪ ،‬فلم يجد أمامه غير المسجد يأويه ولم يلتقي أهله إل بعد‬
‫إعتياده أعتكاف المسجد ‪ ،‬فلم يبرحه منذ ذلك اليوم وستراه في الغد وهو يجلس أمام‬
‫المسجد يحكي للطفال الحكايات كعادته كل يوم ‪..‬‬
‫أما أنا كما ترى لم أجد مكاناً يأويني غير هذا المكان الذي نحن فيه ‪ ،‬وجدت فيه نفقاً‬
‫صغيراً محفوراً في الرض فقمت بتوسيعه وإتخذته لي مسكناً كالجرذان تماماً ‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا تعمل ؟ ومن أين تأكل ‪.‬؟‬
‫‪ -‬لقد أعتدت خلل حياتي في المنفى أن أمارس أصعب العمال وأكثرها مشقة رغم الحال‬
‫التي أنا فيها ‪ ،‬لهذا تجدني اليوم أمارس أي عمل أجده أمامي ‪ ،‬في فصل الصيف أذهب‬
‫إلى الساحل فأشتري بعض العنب والكرموس وأجلبه لبيعه هنا ‪ ،‬وفي الشتاء حين يشتد‬
‫البرد أجد رزقي في جلب الحطب ‪.‬‬
‫‪ -‬وهل هناك من هو في حال تسمح له بشراء الحطب في هذا الزمن ‪.‬‬
‫‪ -‬إني أبيع معظمه لليهودي بندرلي ‪ ،‬وما تبقى يشتريه مني الجنود ‪.‬‬
‫توقف أمعيزيق عن مضغ كسرة الخبز ونظر إلى رحيل نظرة فيها الكثير من التساؤل ‪.‬‬
‫‪-‬وهل تأخذ المال من هؤلء ؟‪ ..‬كيف تتعامل معهم وأنت تعرف ما يفعلون بنا !!‬
‫أجابه رحيل وقد علت نبرة صوته ‪:‬‬
‫‪ -‬إنها طريقة للعيش لبد منها أيها الفتى ‪ ..‬ستعرف ذلك لحقاً ‪.‬‬
‫‪ -‬آسف إذا كنت أزعجتك ‪ ،‬ولكن أعذرني فأنا ل أستطيع أكل هذا الخبز بعدما عرفت‬
‫مصدره ‪.‬‬
‫‪ -‬وما هو مصدره ؟ ليس له من مصدر غير مالك أيها الفتى ‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تقصد ؟ أنا ما أعطيتك شيئاً ‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا أعطيت اليهودي بندرلي ليوصلك إلى هنا ‪ ،‬ويبعث لك بمن يأخذك بعيداً ‪.‬‬
‫بان الغضب على وجه أمعيزيق وهو يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬أخذ ما أخذه ‪ ،‬ذلك ل يعنيك أنت في شيء ‪.‬‬
‫‪ -‬صحيح ‪ ،‬ولكن مثلما أخذ منك سآخذ منك أنا أيضاً ‪.‬‬
‫‪ -‬ولماذا تأخذ مني ؟‬
‫‪ -‬ثمن هذا الخبز وأجرة إقامتك وحمايتك ‪ ،‬صدقني يجب أن آخذ منك ‪..‬‬
‫‪ -‬لكن بندرلي أخذ أجر كل هذا ‪.‬‬
‫‪ -‬ما أخذه بندرلي لم يكن غير ثمن لسكوته عنك ‪.‬‬
‫‪ -‬لكن ليس عندي ما أعطيك أياه ‪ ،‬كل ما معي أخذه ذلك اليهودي ‪.‬‬
‫‪ -‬أنا لست عجولً على رزقي فليأتي متى شاء ‪ ،‬ولتفي به متى أردت ‪ ،‬فقط أريدك أن تأكل‬
‫الن ‪.‬‬
‫عاد أمعيزيق وأخذ كسرة الخبزة في تردد ‪ ،‬وبدأ يمضغها بصعوبة ‪.‬‬

‫******‬
‫عندما نهض في الصباح خرج دون أن يجاول البحث عن رحيل متجهاً ناحية المسجد ‪،‬‬
‫كانت الشمس قد علت السماء ‪ ،‬وكما توقع لم يجد بالمسجد غير شيخ طاعن في السن تبين‬
‫فيه الشيخ الذي التقاه بالمس عند مقبرة واديهم ‪ ،‬أقترب منه مسلماً فأنتبه إليه الشيخ ودعاه‬
‫للجلوس ‪ ،‬قبل يد الشيخ وجلس ‪ ،‬وحالما أستقر في جلسته بادر الشيخ قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬أنا أمعيزيق ‪ ..‬لقد ألتقينا صباح المس عند مقبرة وادينا ‪.‬‬
‫نظر إليه الشيخ في استغراب متسائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬مقبرة واديكم !! هل كنتم تسكنون ذلك الوادي يا ولدي ؟‪ .‬أنا أيضاً كنت أسكنه ‪ ،‬بل أنا‬
‫شيخ النجع النازل فيه ‪ ،‬لكني بعد لم أعرفك ‪ ..‬إبن من أنت ؟‬
‫‪ -‬أنا أمعيزيق أبن الشيخ عبدال وأمي الحاجة حليمة ‪.‬‬
‫‪ -‬الشيخ عبدال ‪ ..‬نعم تذكرته الن ‪ ،‬لقد جاء إلى النجع فجعلت له بيتاً يعلم الصبية فيه‬
‫القراءة والكتابة ‪ ،‬ثم تزوج حليمة ‪ ،‬بعد ذلك أسرت ولم أعد أعرف من أخباره شيئاً ‪.‬‬
‫‪ -‬في الحقيقة أنا لست أبنه ‪ ،‬ولكن هو والحاجة حليمة ربياني صغيرًا وعشت معهما‬
‫كبيراً ‪ ،‬فكان الشيخ عبدال لي خير أب ‪ ،‬كريماً واسع البر والحسان كثير العطف والحنان‬
‫‪ ،‬والحاجة حليمة أنزلتني من نفسها منزلة لم ينزلها أحد قبلي ‪ ،‬فلم أعرف لي غيرهما أبا‬
‫ول أم ‪ ،‬كان لي أخت أسمها مريم وأخ يصغرني أسمه جبر أما أبي فقد قيل لي أنه يدعى‬
‫عبد الغني ‪.‬‬
‫‪ -‬أنت أبن عبد الغني إذاً ‪ ..‬نعم أذكر أنه قد خلف وراءه أطفالً عندما ذهب ‪.‬‬
‫‪ -‬أنت تعرفه وتذكر ذهابه ‪ ،‬فهل تعرف أين ذهب ؟‬
‫‪ -‬نعم أعرف ‪ ،‬لقد كان والدك رجلً شجاعاً ‪ ،‬كان من الفرسان الذين يعتمد عليهم ‪ ،‬عندما‬
‫علم بغزو الطليان لطرابلس ذهب صحبة أربعة من رجال النجع ليشاركوا في الدفاع عن‬
‫وطنهم ‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كان ما ذهب لجله مشرفاً لهذا الحد فلماذا لم يخبرني أحد به ‪ ،‬لماذا أخفوا عني المر‬
‫حتى جعلوني أظن به السوء ‪ ،‬ظناً أوصلني أحياناً لحد كرهه والحقد عليه ‪.‬‬
‫‪ -‬لو أن الطليان علموا بذهاب أحد منا لمقاتلتهم لما تركونا نعيش في سلم ‪ ..‬لقد فعلنا ذلك‬
‫حماية للطفال والنساء من انتقام من ل يعرف لهم حرمة ‪.‬‬
‫‪-‬ولم تعلموا شيئاً من أخباره بعد أن ترككم ؟‬
‫‪ -‬ل ‪ ..‬ولكن الشيخ عبدال عندما جاء نجعنا أخبرني أن ترك الجيش التركي لرض‬
‫المعركة وعقده صلحاً مع اليطاليين لم يرضى رجالنا ‪ ،‬فقادوا هجمة على العدو بينما‬
‫فظل الشيخ عبدال مصاحبة الجيش التركي لنه كان قد أصيب بالمرض من أثر إقامته في‬
‫البلد الفريقية ‪ ،‬وقد عرج على نجعنا ليبلغ سلماً من رجب إلى شقيقته حليمة التي تقول‬
‫أنها قد ربتك ‪ ،‬ثم طاب المقام للشيخ عبال عندنا وفي أعتقادي أنه تجنب إخبارك عن‬
‫والدك لكي ل تصر على الذهاب للحرب على طريقه ‪.‬‬
‫نظر الشيخ أمبارك إلى أمعيزيق فلما وجده مطرقاً أراد أن يبعد به عما آثار أشجانه فسأله‬
‫عن حاله الن وعن المكان الذي يعيش فيه ‪.‬‬
‫‪ -‬إني أقيم وسط بقايا القصر القائم بجانبك منتظراً شخصاً يأتي في الغد ليصحبني معه ‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا تريد الرحيل وإلى أين ‪ ..‬الشر يعم كل مكان في هذا الزمن الصعب يا ولدي ‪.‬‬
‫‪ -‬لقد هربت من المعتقل يا شيخ ‪ ،‬ول شك أنهم يبحثون عني الن ‪.‬‬
‫‪ -‬إحذر أن يعثروا عليك ‪ ..‬إذا وقعت بين أيديهم فلن تأخذهم بك رأفة ‪ ،‬وهاهو الدليل أمامك‬
‫‪ ..‬عشرة أعوام قضيتها معهم في عذاب مستمر من السجن هنا إلى المنفى هناك وبعد هذا‬
‫حياة التشرد والفقر التي تراني فيها الن ‪ ،‬ورحيل ذو اليد المشلولة ل شك وجدته في‬
‫القصر ‪ ،‬إنه مثال على بشاعة ما يفعلون ‪.‬‬
‫نعم لقد إلتقيته وروى لي ما حدث له ‪ ،‬لكن ما يؤسفني هو أنه ما زال يتعامل معهم ‪ ،‬يبيع‬
‫لهم الحطب ويأخذ منهم المال ‪ ،‬بئس اللقمة تلك التي نذل أنفسنا لجلها ‪.‬‬
‫_ وإن أضطر بعضنا للتعامل معهم فأنهم يعملون مدى حقدنا عليهم وكرهنا لهم ‪.‬‬
‫أمضى أمعيزيق ساعة يستمع إلى الشيخ أمبارك يحكي له حصاد معاناته الطويلة ‪.‬‬
‫حدثه عن المنفى والعذاب الذي لقيه فيه ‪ ،‬وعن ذوي القمصان السوداء وكيف يذلون‬
‫اليطاليين أنفسهم فيرمون بأبنائهم إلى المستعمرات وقوداً للحرب ‪ ،‬ويعذبون كل شريف‬
‫منهم ينطق بكلمة حق ‪.‬‬
‫كان الشيخ أمبارك مستمتعاً إلى أبعد حد برواية حكاياته تلك ‪ ،‬ولم يكن ليتوقف عن قص‬
‫ذكرياته لو لم يقاطعه أمعيزيق الذي أحس أن الوقت قد أخذه ‪.‬‬
‫حسناً يا شيخ أمبارك ‪ ،‬إني أخشى أن يأتي من أنتظره فل يجدني ‪ ،‬سأتركك الن ‪.‬‬
‫ولكن عدني أن تزورني إذا عدت إلى هنا ‪..‬‬
‫أل تفكر في العودة إلى أهلك أيها الشيخ ‪.‬‬
‫ل ‪ ..‬فأنا ل أستطيع أن أترك عملي هنا ‪.‬‬
‫أي عمل ذاك الذي تمارسه وأنت أبداً ل تغادر الجامع ؟‬
‫عندما عدت من المنفى ألتحقت بالمجاهدين وقضيت معهم أربع سنوات ‪ ،‬ولما منعني الكبر‬
‫من مجاراتهم لم أجد غير هذا المسجد مكاناً يأويني ‪ ،‬فأتخذته منبراً أدعوا منه الناس للجهاد‬
‫‪ ،‬وأدل من أراد منهم إلى أدوار المجاهدين ‪.‬‬
‫ودع أمعيزيق الشيخ أمبارك وهو يؤكد له أنه لن ينسى زيارته إذا قادته الظروف إلى هنا‬
‫مرة أخرى ومشى قاصداً مدخل الجامع ‪ ،‬لكنه ما كاد يصل حتى وقف مكانه لحظات‬
‫مفكراً ثم ولى راجعاً ناحية الشيخ حتى صار حذاءه فجلس ‪ ،‬نظر إليه الشيخ مستغرباً‬
‫سائلً أياه عما دعاه لذلك ‪ ،‬فأجابه أمعيزيق في شيء من التردد ‪:‬‬
‫لقد خطر لي يا شيخ أن أسألك سؤالً ‪ ،‬فأنت قد سكنت وادينا ولبد وأن أجد عندك جواباً ‪.‬‬
‫أطرق برأسه ناظراً إلى الرض لحظة ثم رفع رأسه مواصلً حديثه ‪:‬‬
‫إنه سؤال غريب ومضحك ‪ ،‬ولكنه يقلقني بعض الشيء بألحاحه الدائم علي ‪.‬‬
‫ما ذاك يا وليد ‪ ..‬إسأل ول تخجل فالنشدة تل الذاهب ‪ ،‬ومن خجل في السؤال إحتار في‬
‫الجواب ‪.‬‬
‫ل شك في ذلك يا شيخ ‪ ..‬هي حكاية قديمة كانت تحكيها لي الحاجة حليمة لكني تفاجأت‬
‫بالمس بأني لم أعد أعرف لها نهاية ‪ ،‬حاولت أن أنسى تلك الحكاية برمتها لكني وجدتها‬
‫تلزمني فل تفارقني أبداً ‪ ،‬إنها حكاية تلك الفتاة التي أختطفها الغول وتزوجها ‪ ،‬ترى ماذا‬
‫فعلت ؟ هل رضيت بالعيش معه في ذل أم أنه جاء من ينقذها من بين يديه أم …‬
‫قاطعه الشيخ أمبارك بهدوء قائلً ‪:‬‬
‫في الحقيقة يا ولدي إن سنوات المنفى قد أنستني كل ما أعرف من حكايات الصبا ‪ ،‬لكن‬
‫أربع سنوات قضيتها مقاتلً أحمل بندقيتي وأعتلي صهوة جوادي ‪ ،‬أعطتني زاداً جديداً من‬
‫حكايات جديدة ‪ ،‬هو ما أقصه على الطفال الذين يجتمعون حولي كل يوم ‪.‬‬
‫هز أمعيزيق رأسه دون أن يتكلم ‪ ،‬وودع الشيخ من جديد بحركة من يده ثم مضى خارجاً‬
‫من المسجد ‪ ،‬سار متلفتاً حوله شاعراً أن الطريق إلى القصر قد صار أطول مما كان ‪،‬‬
‫ولما جاوز منتصف الطريق ‪ ،‬أحس وكأن خطوات تتبعه إختلس نظرة وراءه فتبين ظلً‬
‫يتبعه ‪ ،‬سار قليلً ثم توقف وانحنى مظهراً إصلحاً لحذاءه ناظرًا وراءه من بين قدميه ‪،‬‬
‫فرأى ما كان يخشاه وواصل سيره متأكداً هذه المرة من جندي إيطالي يتعقبه ‪ ،‬متسائلً في‬
‫نفسه إن كان هذا الجندي باحثاً عنه هو بعينه ‪ ،‬أم أنه يتبعه متابتعهم لكل من يشكون‬
‫بأمره ‪ ،‬وكل المرين شر بالنسبة له ‪ ،‬لن شكهم الن سيتحول إلى يقين بمجرد قبضهم‬
‫عليه وسؤالهم له ‪.‬‬
‫دخل القصر وهو ما يزال يحس خطوات ذلك الجندي تتعقبه ‪ ،‬وحين وصل إلى الجدار‬
‫المقوس إستدار حوله ليختفي وراءه منتظراً حتى إذا دخل الجندي استطاع هو مغادرة‬
‫القصر دون أن يراه ‪ ،‬إل أن هذا التدبير الذي استراح إليه للحظة ‪ ،‬غشاه تدبير آخر عندما‬
‫وقع نظره على حجر كبير عند قدميه ‪ ،‬رفعه بكلتا يديه وعندما بان الجندي أمامه وكان في‬
‫تلك اللحظة التي رأه فيها مديراً له ظهره وجد الفرصة سانحة فهوى بالحجر على مؤخرة‬
‫رأسه ‪ ،‬تقدم الجندي خطوتين مترنحاً وهو يحاول الستدارة ثم سقط بعد أن أفلت البندقية‬
‫من يده ‪ ،‬بادر أمعيزيق إلى إبعاد النبدقية عنه ‪ ،‬وأسرع إلى النفق الذي يبات فيه رحيل‬
‫ليعود منه بقطعة حبل ربط بها يدي الجندي ‪ ،‬وجلس يراقبه حتى عاد رحيل الذي أكد له‬
‫أنه يراقب ميتاً ‪ ،‬لم يصدق أمعيزيق ما قاله رحيل فأخذ يهز الجندي بكلتا يديه ‪ ،‬ولم يتوقف‬
‫عن ذلك إل بعد أن نهره رحيل وصرخ فيه قائلً ‪:‬‬
‫كف عن مناداة الموتى ‪ ،‬وفكر معي في طريقة نتخلص بها من هذا الهم الذي أبتليتنا به ‪.‬‬
‫لنحفر له حفرة وندفنه فيها ‪.‬‬
‫ل ‪ ..‬هذا لن يحل المشكلة فربما هناك من رفاقه من يعلم بمجئه إلى هذا المكان ‪ ،‬وعندما‬
‫يختفي سيبحثون عنه‪ ،‬وسيطال بحثهم هذا المكان ‪.‬‬
‫إذاً لنرمي به بعيداً من هنا فنتخلص منه دون أن يشك فينا أحد ‪.‬‬
‫ربما ‪ ،‬ولكننا نتعرض لخطر كبير بحملنا له ‪ ،‬ثم إني أفكر في شيء آخر ‪ ،‬هذا الجندي قد‬
‫مات ‪ ،‬ويجب أن نفيد من موته ‪.‬‬
‫كيف لنا أن نستفيد من جثة ميت ‪.‬؟‬
‫لقد فقد هذا المكان هيبته القديمة ‪ ،‬وقد جرت عليه القدم ‪ ،‬بالمس أنت ‪ ،‬واليوم هذا الجندي‬
‫ول ندري من سيأتينا غداً ‪ ،‬لذا يجب أن نعيد لهذا القصر هيبته ‪ ،‬ومقتل هذا الجندي مناسبة‬
‫جيدة لذلك ‪ .‬إسمع يا أمعيزيق دع الجثة مكانها حتى أعود إليك ‪.‬‬
‫خرج رحيل بينما جلس أمعيزيق في مكانه يرقب الجثة الممددة على الرض بل حراك ‪،‬‬
‫تذكر حديث الشيخ أمبارك عن قسوة ذوي القمصان السوداء ‪ ،‬فتصور صاحب الجثة‬
‫الراقدة أمامه وهو ممسك بتلبيب أمه باكياً ‪ ،‬بينما أخذ أحد ذوي القمصان السوداء يجذبه‬
‫محاولً افتكاكه منها وهي تولول وتطلب الرأفة بها بترك أبنها الوحيد ‪ ،‬شعر بألم شديد‬
‫يعتصره عندما فكر في أنه هو قاتله ‪ ،‬فهز رأسه محاولً إبعاد هذه التصورات عن ذهنه‬
‫وعاد ينظر من جديد إلى الجثة الممددة أمامه ‪ ،‬يقارن بين هاتين اليدين الناعمتين وبين‬
‫يديه بسلمياتها القاسية ‪ ،‬لم يرى في اليدين المرميتين أمامه أيما أثر لية كدمة بينما‬
‫إمتلت يديه كدمات وشقوق من أثر فأس الحطب وحبل الدلو ومنجل الحصاد ‪ ،‬لم يستطع‬
‫تصور عمل هذا الجندي في بلده لكنه خمن أن يكون عملً مريحاً ‪ ،‬نظر إلى سترته‬
‫النظيفة وحذاؤه الخالي من أي رتوق ‪ ،‬ثم أحال نظره إلى السماء محاولً الهرب من رؤية‬
‫قميصه الممزق المتسخ وحذاءه الذي كره أعله أسفله فأبتعد عنه مخلفاً فتحات يصعب‬
‫عدها ‪ ،‬ما تكاد القدم تستقر فيه حتى تغادره من إحدى هذه الفتحات ـ لم يرى في السماء ما‬
‫يمكن أن يشغله ‪ ،‬فضوء النهار أغتال النجوم والقمر ‪ ،‬وفي مثل هذا الفصل تتمتع السحب‬
‫بإجازة طويلة فل تراها تجوب السماء إل نادراً ‪ ،‬وسماء خالية من النجوم والسحب تصبح‬
‫في هذا الفصل صفحة صافية تبلغ صفائها حد عكس ما في الذاكرة من صور ‪ ،‬وذاكرة‬
‫أمعيزيق ليس فيها غير صورة جندي ممدد بل حراك ‪ ،‬تمنى لو أنه يستطيع أن يوصل هذا‬
‫الجندي إلى أمه فتلقى عليه نظرة أخيره ‪ ،‬عاد بصره إلى الرض فالتقى جثة هامدة جعلت‬
‫بصره يرتد إليه مدحوراً ليعيده إلى السكون الذي يلف المكان بلحافه الفارغ من كل شيء‬
‫بدرجة تدعو إلى الغثيان ‪.‬‬
‫رأي ذبابة تدور حول وجه الجندي الميت مصدرة طنيناً أحس وكأنه داخل رأسه ل خارجه‬
‫‪ ،‬نهض وطرد الذبابة ثم عاود الجلوس في مكانه مصغياً السمع منتظرًا معاودة الذبابة‬
‫طنينها من جديد ‪ ،‬لكن الذبابة أيضاً خذلته فلم تعد ‪ ،‬ظل الصمت مخيماً على المكان ‪ ،‬حتى‬
‫طنين الذبابة أختفى فشعر وطأة الصمت ثقيلة ‪ ،‬أحسها أشد وطئة من ضوضاء المعارك‬
‫التي طالما سمع عنها والمآتم التي رأها ‪ ،‬نهض وأخذ يدور في المكان لعله يستريح ‪،‬‬
‫معاوداً النظر بين الفينة والخرى ناحية الجثة الممددة بل حراك ‪.‬‬
‫لم تكد تمضي ساعة حتى عاد رحيل يحمل كيساً ربط بأحكام ‪ ،‬وضعه على الرض ونظر‬
‫إلى أمعيزيق قائلً له ‪:‬‬
‫رفض الجن تحمل مسئولية قتل هذا الجندي ‪ ،‬فأحضرت من يحمل هذه المسئولية عنا ‪..‬‬
‫أنظر إلى هذا الكيس‪ ،‬إن بداخله القاتل الذي أمات هذا الجندي ‪ ،‬أو هو سيميته من جديد ‪.‬‬
‫ماذا تعني ‪..‬‬
‫يجب أن نحمل الجثة ونرمي بها خارج هذا القصر ‪ ،‬ثم نضع عليها الفعي ‪ ،‬وبهذا تكون‬
‫الفعى هي القاتلة ول أعتقد الطليان يهتمون بالبحث عن الفاعي فليس هناك أكثر من‬
‫الفاعي عندنا وعندهم ‪ ..‬هيا بنا نحمل الجثة ‪..‬‬
‫هل نحتفظ بالبندقية ؟‬
‫ل أيها الغبي ‪ ،‬فالفاعي ل تسرق البنادق ‪.‬‬
‫رفع أمعيزيق الجثة على ظهره بينما أخذ رحيل الكيس وخرجا يرقبان الطريق خشية أن‬
‫يراهما أحد ‪ ،‬وضعا الجثة غير بعيد عن القصر وتركاها بعدما استبدل القيد الذي أوثق‬
‫اليدين منها بأفعى كبيرة من النوع السـام ‪.‬‬
‫" هنا ل أحد يضحك ول ؟؟؟ ‪ ،‬الطفال يظهر عليهم الجد ويسيرون بمحاذاة‬
‫الجدران يرفعون نحونا وجوهاً قذرة يكسوها الذباب تلمع فيها كالعادة‬
‫عيون واسعة متحسرة ‪ ،‬عيون عجائز تثير فينا الخوف "‬
‫ساندرو ساندري‬
‫؟؟؟‬
‫‪ 31‬ديسمبر ‪ 1929‬القرى والناس ‪.‬‬
‫واقع يقتل الحلم‬
‫( ‪) 11‬‬

‫لقد اعتاد رحيل صرامة في تقدير ما يعرض له سواء كان في النجع أو خلل اشتراكه في‬
‫معارك الجبل ‪ ،‬فلم يكن ليدع فيما ينظره من المور متنفساً لصدفة أو مساحة لحظ ‪ ،‬أو‬
‫حسن طالع ‪ ،‬بل كان يتفحص المر من جميع جوانبه ‪ ،‬ويقلبه على كامل أوجهه ‪ ،‬ويطلب‬
‫المشورة ممن حوله فيما عجز فكره أن يطاله ‪ ،‬لكن السنين التي قضاها في المنفى ‪،‬‬
‫وغربته ‪ ،‬ويده المشلولة كلها أمور اجتمعت عليه فأفقدته آناته في التدبير وأكسبته بعضاً‬
‫من نزق المغامرين لم يعتده ‪ ،‬فلم يعد يحسب للمحاذير كثير حساب ‪ ،‬ول يهتم للغد كثير‬
‫اهتمام ‪ ،‬لكن ما حدث اليوم إحتاج منه أن يجلس ويضع يده على خده ‪ ،‬مفكراً ‪ ،‬مقلباً المر‬
‫ومعيداً تقليبه على كل الوجوه حاسباً لما قد يجر وراءه من سوء ‪ ،‬فإبعاد الجثة عن القصر‬
‫ورمي الفعى فوقها أمر ل يعتمد عليه كثيراً لجلب الطمئنان كله ‪ ،‬إذ يكفي أن يفكر‬
‫أحدهم في هذا القصر ========== جالساً مكانه ينظر إلى أمعيزيق طويلً ‪ ،‬ويهم أن‬
‫يكلمه ثم يطرق من جديد ‪ ،‬وكأن ثقل ما يعتمل به فكره لم يدع له غير هذه الحركات ‪،‬‬
‫أحس أمعيزيق حيرته فأقترب منه وقال ‪:‬‬
‫يبدو أنك لست مطمئناً ‪ ..‬هل ترى أن ما فعلناه لم يكن كافٍ ؟‬
‫‪-‬أعتقد ذلك ‪.‬‬
‫‪-‬ألن تكفهم رؤية الفعى وأثرها في الجثة عن البحث عمن قتل الجندي ؟‬
‫‪-‬حتى وإن اقتنعوا بأن السبب هو الفعى ‪ ،‬فأنهم قوم يحبون النتقام ‪ ..‬ليس لديهم أروع ول‬
‫أفضل منه ‪ ،‬سيأتون القصر ليبحثوا عنها وينتقموا منها ‪.‬‬
‫‪-‬ولكن ربما وجدوها على الجثة ‪.‬‬
‫‪-‬لن يجدوها فأنت ترى الشمس حارة جداً ‪ ،‬والفعى لن تبقى في هذا الحر ‪ ،‬ثم إن اقترابهم‬
‫من القصر إلى هذا الحد لشك يكون مغريًا لهم لدخوله والنظر فيه ‪.‬‬
‫‪-‬والحل ‪ ،‬ماذا ترى ؟‬
‫‪-‬الفضل أن ترحل يا أمعيزيق ‪..‬‬
‫‪-‬وأنت ؟‬
‫‪-‬أنا سأبقى هنا ‪.‬‬
‫قال هذه الجملة ونظر إلى وجه أمعيزيق فلم يرى في عينيه غير نظرة عتاب مرير‬
‫واحتقار شديد فعاد ينظر إلى الرض صامتاً ثم قال ‪:‬‬
‫‪-‬أسمع يا أمعيزيق ‪ ..‬حاول أن تفهمني ‪ ..‬أنت هارب ‪ ،‬مطلوب لهم ‪ ،‬فهم الن يبحثون‬
‫عنك أما أنا ففي نظرهم رجل مشلول ل خوف منه ‪ ،‬فإذا وجدوك معي تغيرت نظرتهم‬
‫لي ‪ ،‬واشتد حصارهم علي ‪ ،‬مما يصعب مهمتي ويجعلني عاجزاً عن فعل أي شيء ‪.‬‬
‫‪-‬قلت لي أنك كنت تطمح إلى أن تصبح شيخ نجع ‪ ..‬شيخ النجع ل يرمي بمن التجأ إليه‬
‫رمية الكلب هـذه ‪.‬‬
‫‪-‬أنا ل تهمني نفسي ‪ ،‬ولكن يهمني أن أتجنب إثارة الشكوك حولي ما استطعت إلى ذلك‬
‫سبيلً ‪ ،‬فهناك أشياء ل تفهمها سأخبرك بها فيما بعد ‪ ،‬أما الن فعليك أن تصغي لكلمي‬
‫وتذهب وسألحق بك حالما أجد من يأخذك معه ‪.‬‬
‫‪-‬وأين تريدني أن أرحل ؟‬
‫‪-‬هناك مغارة شرق البئر الذي كنت ترده ‪ ،‬هل تعرف مكانها ‪.‬؟‬
‫‪-‬نعم ‪ ،‬إني أستطيع الستدلل عليها ‪.‬‬
‫‪-‬حسناً ‪ ..‬حالما يحل الظلم ستذهب إلى هناك وتبقى في تلك المغارة ‪ ،‬ل تغادرها حتى أتي‬
‫إليك ‪ ،‬وعليك عندما تمر بالبئر الذي تعرفه جيداً أن تتزود بالماء ‪ ،‬ولتعقد عقدة في حبل‬
‫الدلو ‪ ،‬وأنتبه أن يراك أحداً وأنت تفعل ذلك ‪.‬‬
‫‪-‬لماذا ‪ .‬؟‬
‫‪-‬ستعرف ذلك في وقته ‪ ..‬هيا حاول أن تستريح قليلً فأمامك طريق طويل ‪.‬‬
‫نهض رحيل وتركه في حيرة من أمره تتلطمه أمواج أفكاره ‪ ،‬تبحر به إلى أعماق بعيدة‬
‫فل تعود به إل إلى صورته وهو يعقد عقدة في حبل دلو تتدلى في بئر مهجور ل يرى سبباً‬
‫لما يفعله ‪ ،‬هز رأسه محاولً إبعاد هذه الصورة عن ذهنه ‪ ،‬لكنها لم تكد تتلشى حتى‬
‫ظهرت مكانها صورة ذلك الرجل في المعتقل الذي أطعمه ذات يوم لحماً أكله وهو يخشى‬
‫أن يكون طعامًا مسروقاً ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫الحاضر صار غول يغتال كل ماضيه ‪ ،‬فلم يعد يجد أمامه غير آمال غدٍ ل يطاله إل وقد‬
‫طمسه الحاضر بصورته ‪ ،‬ليفقد كل معالم الجمال فيه ‪ ،‬وليفقد هو الشوق إليه ‪.‬‬
‫لم يكن أحداً يعرف أهمية لهذا الكهف غير اختزان بيوت الصيف في الشتاء وبيوت الربيع‬
‫في الصيف ‪ ،‬أما في زمن حشر فيه جميع الناس داخل معتقل يقيمون فيه في بيوت مهترئة‬
‫‪ ،‬لم يعد لمثل هذه الكهوف من فائدة ‪ ،‬وأصبحت أماكن مهجورة ‪.‬‬
‫كان الظلم داخل الكهف أشد حلكة من خارجه ‪ ،‬لذلك ليم يفكر أمعيزيق بالنظر داخله حال‬
‫وصوله ‪ ،‬وكما توقع لم يكن الكهف غير مسكون ‪ ،‬إذ خرجت منه بومتان تتبعهما مجموعة‬
‫من الخفافيش ‪ ،‬أفزعه خروجها بهذه الكثرة لكنه سرعان ما عاد إليه هدوءه ‪ ،‬وهو يحمد‬
‫حسن تدبيره برميه للحجر ‪.‬‬
‫ظل مستلقياً يراقب السماء بقمرها ونجومها مفكراً في تلك المرأة المسكينة المعلقة أبداً من‬
‫ثدييها في سقف القمر ‪ ،‬يراها كل ليلة منذ وعى هذه الحياة ‪ ،‬لم تمت ولم تتب عما فعلت ‪،‬‬
‫وكأنها أرادت أن تظل معلقة هناك في ذلك المكان البعيد يراها كل الناس لتبقى عبرة‬
‫يهتدي بها الجميع ‪ ،‬مرت سحابة صيف حجبت عن عينيه القمر لحظة ثم انزاحت ليبان له‬
‫من جديد فرأى على صفحته هذه المرة حبل مشنقة يتدلى وقد وقفت تحته امرأة تزغرد لم‬
‫يتبين ملمحها لنها كانت بعيدة في القمر ‪ ،‬لكنه لم يكن ليظل عن أمه حليمة بقامتها‬
‫المنتصبة ووجهها المشع نوراً وزغرودتها الرائعة ‪ ،‬عل نعيق بوم موحش يذكره بالليل‬
‫وما يحيط به من وحشه‪ ،‬ويصرف عنه ما أرتسم في ذهنه من خيالت ‪.‬‬
‫كان منهكاً وجائعاً وخائف ‪ ،‬فلم يكن نومه إل متقطعاً ملئاً بالكوابيس ‪ ،‬ولم يستطع معاودته‬
‫عندما طلعت الشمس ‪ ،‬إذ شعر بثعبان بطنه يتحرك داخل جسده ويتلوى ‪ ،‬فنهض وأخذ‬
‫يدور حول الكهف ناظراً إلى الرض حوله ل يدري عما يبحث ‪ ،‬لم يرى في المكان غير‬
‫حطب المثنان ‪ ،‬حتى العنصل ذو الجذور الغليظة لم يجده ‪ ،‬لكنه ولما قارب من اليأس من‬
‫أن يجد ما يسكت به ثعبان بطنه رأي يربوعاً يدخل جحره مسرعاً‪ ،‬دار حول هذا الجحر‬
‫محاولً تحديد كل نافقاء هذا اليربوع ‪.‬‬
‫وحالما ظن لنفسه انتهاء من ذلك أخذ حجراً حاد الرأس وبدأ يحفر به محاولً أن يطال‬
‫اليربوع ‪ ،‬لكن واحدة من النافقاء غفل عنها ‪ ،‬فكان فيها نجاة اليربوع وإفلته من بين‬
‫يديه ‪ ،‬ليظل يحاور ثعبان بطنه الذي ل يكف عما هو فيه ‪ .‬كاد اليأس أن يقوده إلى ترك‬
‫الكهف والتجاه إلى البئر لعله يلتقي هناك من يجد عنده طعاماً ‪ ،‬لكنه عاود التفكير ثم‬
‫فضل أن يحتمل جوعه وينتظر حتى الظهر ‪.‬‬
‫عندما تكبدت الشمس السماء كان الجوع قد بلغ به مدى ل يستطيع له احتمالً ‪ ،‬وأصبح‬
‫النتظار محال لنه لم يعد يرى فيه من رجاء ‪ ،‬فوجه شطر البئر ‪ ،‬وما كاد يخطو في‬
‫سبيله ذاك المائة خطوة حتى رأى خيال من بعيد ‪ ..‬أغمض عينيه وهز رأسه ثم فتحها‬
‫بأقصى ما استطاع ‪ ،‬فتأكد له قدوم ذلك الخيال نحوه ‪ ،‬وقد استبان في حالة تلفت الهارب‬
‫وخشية الخائف لحاق أحد به ‪ ،‬فخمن أن يكون القادم بمثل حاله ‪ ،‬وتمنى أن يكون معه شيئاً‬
‫من الطعام ‪ ،‬وليس طالب طعام مثله ‪.‬‬
‫بادر بالختفاء خلف حجر كبير غير بعيد عن الكهف ‪ ،‬وظل ساكناً مكانه ل يأتي بأي‬
‫حركة مراقباً ذلك القادم نحوه فلما مر به دون أن ينتبه إليه ‪ ،‬رأى فيه رجلً في مقتبل‬
‫العمر ذو ملبس رثه ‪ ،‬لكن ما شد انتباهه هو تلك المخلة التي كان يحملها على كتفه ‪ ،‬إذ‬
‫لم تكن أبداً مخلة خالية ‪ ،‬ورآه يقف أما الكهف وينادي قائلً ‪:‬‬
‫‪-‬أيها المختبئ بهذا الكهف ‪ ..‬أخرج وبأن عليك المان ‪ ،‬فقد أحضرت لك الطعام ‪.‬‬
‫أطمئن أمعيزيق وخرج إلى الرجل مخمناً أن يكون مرسلً إليه من عند رحيل ‪ ،‬تقدم نحوه‬
‫فسلم وذكر له اسمه لكن الرجل لم يزد على أن طلب منه أن يشعل ناراً ‪ ،‬وأتخذ له من‬
‫حجر وجده أمام المغارة مجلساً ‪ ،‬وألقى عصاه تحت قدميه ليخرج كيساً صغيراً من جيب‬
‫قميصه ‪ ،‬حل رباطه وأخرج منه مبسماً حشاه بالتبغ ‪ ،‬ووضعه بين شفتيه ‪ ،‬وحالما رأى‬
‫النار تشتعل ترك مقعده وأقترب منها ليشعل مبسمه ‪ ،‬فلما أستقاد طرفه أخذ منه نفساً‬
‫طويلً ونفثه في الهواء ‪ ،‬ثم سحب المخلة نحوه فأخرج منها عدة الشاي ثم رماها إلى‬
‫امعيزيق قائلً في حزم ‪:‬‬
‫‪-‬خذ تناول طعامك ‪.‬‬
‫سحب أمعيزيق المخلة نحوه ونظر بداخلها فلم يجد غير الجراد المجفف ‪ ،‬كان جائعاً‬
‫جداً ‪ ،‬فأقدم على الجراد يلتهمه ‪ ،‬ما يكاد يبصق جناحي إحداها ويبتلع ما بقى منها في فمه‬
‫حتى يلحقها بأخرى وهو يتذكر يوم غزى سرب كبير من الجراد المعتقل ‪ ،‬أو إن أردنا‬
‫الدقة يوم غامر ذاك السرب بالقدوم إلى هذا المعتقل ‪ ،‬فأخذ الناس يضربونه بأطراف‬
‫ثيابهم ثم يجمعونه ويجففونه بوضعه على أروقة البيوت التي يطرحونها تحت الشمس ‪،‬‬
‫فإذا جف ذروه لتذهب الجنحة مع الريح كما كانوا يذرون ذات يوم محاصيلهم من القمح‬
‫والشعير ‪ .‬واصل أمعيزيق التهام الجراد المجفف حتى أمسكت يده شيئاً ناعمًا مدوراً بحجم‬
‫حبة الدوم التي طالما رآها عند والده ‪ ،‬سحبها خارج المخلة ونظر إليها فإذا هي حبة‬
‫تمر ‪ ،‬هم بأكلها لكنه توقف عندما سمع الرجل ينطق بعد طول صمت صارخاً ‪:‬‬
‫‪ -‬إياك أن تفعل ‪.‬‬
‫أبعد أمعيزيق التمرة عن فمه وناولها للرجل الذي مد له يده فأخذها وقسمها نصفين ‪ ،‬ظنه‬
‫أمعيزيق سيعطيه نصفها لكن أمله خاب ‪ ،‬وهو يرى الرجل يعيد أحد النصفين إلى المخلة‬
‫ويضع النصف الخر داخل براد الشاي وهو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬كيف ستشرب الشاي إذا لم يكن فيها حلو ‪.‬‬
‫حاول خلل شربهما الشاي أن يعرف عن هذا الرجل شيئاً ‪ ،‬لكنه كان كتوماً عديم السئلة‬
‫قليل الجوبة ‪ ،‬وعندما نهض مودعاً ربت على كتف أمعيزيق وهو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬في المرة القادمة ل تعقد الحبل بشدة ‪ ،‬لقد أتعبتني حتى استطعت فكه ‪.‬‬
‫حاول امعيزيق الكلم لكنه لم يستطع أن يقول شيئاً ‪ ،‬وهو يرى الرجل يدير له ظهره عائداً‬
‫مع ذات الطريق التي جاء منها ‪.‬‬

‫* * *‬
‫كان الطريق طويلً جداً ‪ ،‬والحر ل يمكن إل أن يكون شديدًا وقت الضحى في يوم غائظ‬
‫من أيام الصيف ‪ ،‬والصمت المطبق على جنبات الصحراء كان يمكن أن يجعل صوت‬
‫حوافر الجواد ممتعاً لول اختلطه بجلبة عجلت العربة وهي تسير على أحجار الصوان‬
‫المتطايرة تحتها ‪.‬‬
‫لم يكن أمعيزيق ليجد ما يشده في حديث الزغني الذي أختار أن يتحدث في كل شيء إل أن‬
‫يأتي على ما يمكن أن يجد فيه أمعيزيق بعض ما يثير اهتمامه ‪ ،‬وأمعيزيق لم يستطع التفوه‬
‫بشيء لنه لم يعتد بعد وجود جندي إيطالي معهم على ذات العربة ‪ ،‬فكان يغلق شفتيه بشدة‬
‫مانعاً خروج أسئلة كثيرة كانت تدور في ذهنه عن اصطحاب الزغني جندياً إيطالياً معه ‪،‬‬
‫وعن علقة الزغني بذلك اليهودي بندرلي حتى يعطيه مالً ‪ ،‬وعن هذه الكياس التي‬
‫تحملها العربة فتقلب جواداً عربياً أصيلً لحمار في سرعته ولهاثه ‪ ،‬بينما يتقلب عليها‬
‫الجندي اليطالي غير مدرك أن المجانين وحدهم ينقلون الملح إلى مدينة تمتلئ ميادينها‬
‫بأكوام منه حتى عرفت في زمن غابر بكوية الملح ‪ ،‬لكن السؤال الكثر إلحاحًا والذي لم‬
‫يبرحه منذ ركوب العربة هو ما ينتظره هناك ‪ ،‬في مكان يشد الرحال إليه ل يعرف فيه‬
‫أحداً ‪ ،‬وليس له فيه من معين ‪ ،‬سمع شخير الجندي اليطالي يعلو طارداً طنين ذبابة‬
‫حامت على وجهه فأغتنمها فرصة ليسأل رفيق ودليل الدرب الزغني لعله يذهب عن نفسه‬
‫ما فيها من تساؤلت ل يجلب البحث عن أجوبة لها غير الفزع وظن السوء ‪ ،‬وحتى وأن‬
‫لم ينل جواباً شافياً له من حيرته ‪ ،‬فأنه ل شك يجد في الحديث معه بعض الطمئنان ‪ ،‬نظر‬
‫إلى الزغني مختلساً النظر ناحية الجندي خشية تصنته حديثهما ثم مال بجسده ناحية‬
‫الزغني وقال ‪:‬‬
‫‪-‬ما الذي أستطيع فعله هناك ؟ وأي عمل تعتقده يناسبني ‪ ،‬فأنا ل أعرف غير الرعي‬
‫والحصاد ول أرى اليوم أحداً يملك قطيعاً يحتاج راعياً ول أحد بمستطيع حرث ما يجاوز‬
‫قدرته على حصاده ليستعين بآخر ‪.‬‬
‫‪-‬ل تخف فهناك الكثير من العمال مما تستطيع القيام به ‪.‬‬
‫‪-‬لكني من النوع الذي ل يرضى بالعمل مع الطليان ‪.‬‬
‫‪-‬أنتبه أن يسمعك هذا اللعين الذي يرافقنا ‪.‬‬
‫‪-‬حقاً ‪ ..‬لماذا تصطحبه معك ؟‬
‫‪-‬ولماذا ل أصطحبه معي ‪.‬‬
‫‪-‬أنا آسف ‪ ..‬لقد نسيت أنك صديق بندرلي ‪ ،‬وبندرلي مستعد لعمل أي شيء في سبيل المال‬
‫‪.‬‬
‫‪-‬لن تصدق إذ أخبترك أني لم أتقاضى منه مقابل ذلك شيء ‪.‬‬
‫‪-‬لماذا تنقله إذاً ؟ ل تقل لي أنك تخافه ‪ ،‬لنك تستطيع رميه هنا ليقضي فيه هذه الصحراء ‪.‬‬
‫‪-‬صدقني ‪ ،‬رغم أنه مسلح لكني ل أخاف منه أبداً ‪.‬‬
‫‪-‬هو عمل الخير إذاً !! ‪.‬‬
‫‪ -‬نعم هو كما ذكرت ‪ ،‬ولكنه ليس صافياً للحد الذي أنال عليه أجراً ‪ ،‬لني أتخذ منه كرت‬
‫مرور ‪.‬‬
‫‪ -‬كيف ؟ لم أفهم ‪..‬‬
‫‪ -‬إذا رأى الطليان هذا الجندي معناً اكتفوا بالتأكد منه ومتى بان لهم أنه منهم تركونا نمر‬
‫في سلم بل تفتيش ول عطلة ‪.‬‬
‫‪ -‬ومما تخاف ؟ أنت لست هارباً منهم ‪ ،‬وأنا ل أعتقد أن أحد منهم يستطيع التعرف علي‬
‫هنا ‪.‬‬
‫نظر إليه الزغني بطرف عينه وهو يقول مبتسماً ‪.‬‬
‫‪-‬وهل أنت هارب منهم ؟‬
‫رفع أمعيزيق يده يمسح عرقاً تصبب من جبهته محاولً إخفاء ارتباكاً كان الزغني يتوقعه‬
‫‪.‬‬
‫‪ -‬ل ‪ ..‬أنا لست هارباً ‪ ،‬ولكن أنت تعرف أنه من الصعب على مسكين مثلي أن يكون بريئاً‬
‫في نظر عدالة الطليان ‪.‬‬
‫‪ -‬ل داعي للرتباك فقد أخبرني رحيل بكل شيء ‪.‬‬
‫‪ -‬فلماذا السؤال إذاً أيها المحتال ‪.‬‬
‫ساد صمت استحسناه وقد أختفي صوت حوافر الحصان ‪ ،‬وهو يعبر كثيباً فلما جاوزه‬
‫وعادت الحجارة تتطاير تحت حوافره ‪ ،‬عاود الزغني الحديث ‪ ،‬وقد بانت على وجهه‬
‫ملمح جد لم يراها فيه أمعيزيق منذ ألتقاه ‪.‬‬
‫‪ -‬تستطيع أن تعمل هناك أي شيء ‪ ،‬لك أن تجلب الماء من البئر وتوزعه على البيوت ‪ ،‬أو‬
‫أن تجلب الحطب ‪ ،‬أو تعمل في الميناء تحمل السفن ‪ ،‬ولك أن أردت أن تعمل في جمع‬
‫الملح مع مسعود ‪.‬‬
‫‪ -‬ومن مسعود هذا ؟ ل تقل لي أنه عربي يملك سبخة ملح ‪.‬‬
‫‪ -‬وإن لم يقتلعوا السبخة ويحملوها إلى بلدهم ‪ ،‬فهم يسرقونها كل يوم ‪.‬‬
‫‪-‬وكيف ذلك ؟‪.‬‬
‫‪ -‬أنهم يسرقون عرق من يعمل فيها ‪ ،‬هم يشترون منهم ما يجمعون من ملح بأبخس‬
‫الثمان فمن لم يبيعهم بذلك السعر ‪ ،‬بات عياله جياعاً ‪ ،‬المر الذي يضطر هؤلء‬
‫المساكين للعمل طوال النهار في سبيل ل شيء‪ ،‬ومسعود واحد من هولء ‪ ..‬إنه رجل‬
‫مسكين ‪ ،‬كان له نجع وبيت وأسرة ‪،‬كان يعيش مع أمه وأخيه وابنة عم له ‪ ،‬ضموها إليهم‬
‫بعد أن مات أهلها ‪ ،‬ويوم قبض على شقيقه مع المجاهدين جاء الجنود إلى نجعهم فأخذوا‬
‫الرجال وضربوا الشيخ والنساء ‪ ،‬أمه عجوز طيبة أخفت بندقية مسعود خشية أن يجدوها ‪،‬‬
‫لكنهم وجدوا ما هو أغلى وأثمن من البندقية وأعز ‪ ،‬أخذوا مريم أبنة عم مسعود ‪ ،‬فلم‬
‫يراها منذ ذلك اليوم ‪.‬‬
‫كان فقده لمريم صدمة كبيرة بالكاد أحتملها ‪ ،‬فأعتزل النجع وابتني له كوخاً بجوار السبخة‬
‫حيث يعمل ‪ ،‬ثم لحقت به أمه ‪ ،‬وأستقر هناك لم يبرحا ذلك المكان حتى يومنا هذا ‪.‬‬
‫كان ذكر اسم مريم مرساة للتفكير وجناح لذاكرة لم تحط رحالها إل وهو في زاوية بيت‬
‫مظلم بين شياه ‪ ،‬يحادث فتاة لم يكن له أن يتبين ملمح وجهها من شدة الظلمة ‪ ،‬هز رأسه‬
‫محاولً التخلص من إحساس بالندم اعتراه فلم يدري إن كان ندماً على استراق لحظة حب‬
‫في زمن القهر ‪ ،‬أم هو ندم على تركه تلك الفتاة فريسة في أيدي وحوش ل تعرف قلوبهم‬
‫الرحمة ‪ ،‬أم هو ندم على قراره الهرب الذي هو فيه الن ‪ ،‬كاد تفكيره في كونه هارباً‬
‫ينتزعه من أفكاره ليعيده إلى رفيقه الزغني لول أن بدت له صورة فتاة صغيرة فاعتراه‬
‫شعور بالذنب وإحساس بظلم لخته مريم التي أهملتها ذاكرته فقدمت عليها فتاة ل يعرف‬
‫ملمح وجهها ‪ ،‬ول يعرف لها اسماً ‪ ،‬التقاها في لحظة جوع وخوف وحب ‪ ،‬حاول الهرب‬
‫من تأنيب ضميره له بأن غاص عميقاً في ذاكرته لعله يطال من الذكريات ما يعيد له‬
‫رضاه على نفسه ‪ ،‬ولم يكن ليجد هذا إل في صورة أخته مريم وهي تبتعد تاركة أخويها‬
‫في ظل حجر ‪ .‬لكن روح الخوة عند البدوي ليس لها أن تسود في لحظات الحسم ‪ ،‬فامتنع‬
‫اللوعي عن إطلق هذه الصورة فما طالت الذكرى غير مريم التي تعد الطعام ‪ ،‬وتنظف‬
‫البيت وتحنو على أخيها الصغير جبراً ‪.‬‬
‫غير من جلسته وتناول القربة فشرب منها شيئاً من الماء ثم بل يده ‪ ،‬ومسح بها وجهه‬
‫وكأنه أراد محو ذكريات قديمة أرهقته ‪ ،‬لكنها لم تغادره إل لتعاوده من زاوية أخرى في‬
‫حكاية الحاجة حليمة عن الفتاة التي أختطفها الغول ‪ ،‬فخطر له أن يسأل الزغني عن هذه‬
‫الحكاية لعله يسعفه بنهايتها التي تؤرقه فل ينساها ‪ ،‬ول تأتيه ‪ ،‬سأله بعد مقدمة لم تكن‬
‫بحال قصيرة إن كان يعرف حكاية الغول الذي اختطف فتاة واتخذ منها زوجة ‪ ،‬فأجابه‬
‫الزغني إجابة جعله يندم على سؤاله أياه ‪ ،‬قال الزغني ‪:‬‬
‫‪ -‬أنا ل أعرفها ولكن ربما تذكرتها إذا حكيتها لي ‪.‬‬
‫‪ -‬وبعدما روى امعيزيق ما يعرف من تلك الحكاية قال الزغني وهو يضحك ‪:‬‬
‫‪ -‬نعم ‪...‬نعم تذكرت هذه الحكاية ‪ ،‬لقد روتها لي جدتي ذات مرة ‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا عن نهايتها ‪ ،‬هل استطاع شقيقها أن ينقذها منه ‪.‬‬
‫‪ -‬تقول جدتي رحمها ال وقتل الجوع الذي قتلها أن الفتاة أخفت شقيقها عن الغول‬
‫ووضعت الحناء على جميع محتويات البيت لكي ل تشي بمكانه ‪ ،‬لكنها نسيت قدر الطعام‬
‫ففضح هذا مكان شقيقها للغول ‪ ،‬فقام الغول بذبحه وطلب منها أن تطهيه له فقامت تلك‬
‫الفتاة المسكينة تطهي لحم شقيقها فلما وضعته أمامه طلب منها أن تأكل معه ولما لم تستطع‬
‫الرفض حذر الموت أخذت تدس اللحم وراءها وهي تدعي أكله فلما قام الغول جمعت هي‬
‫ما حصلت عليه من لحم شقيقها فحفرت له حفرة ووضعته فيها وأخذت تسقيه كل يوم ‪،‬‬
‫حتى جاء يوم خرجت من ذلك اللحم شجيرة صغيرة فرحت بها كثيراً ‪.‬‬
‫صمت الزغني فاستفز ذلك امعيزيق أيما استفزاز واستشاط وهو يستحثه على مواصلة‬
‫الحديث قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬ثم ماذا بعد ذلك ‪ ..‬ماذا حدث ‪.‬‬
‫واصل الزغني حديثه بغير كثير اهتمام ‪:‬‬
‫‪ -‬في الحقيقة ل أعرف ‪ ،‬لكننا نستطيع أن نقول أن تلك الشجيرة قد كبرت وكبرت ‪ ،‬لكنها‬
‫لم تخرج غير ثمرة وحادة أخذتها الفتاة المسكينة ‪ ،‬وجمعت ما بداخلها من بذور فنشرتها‬
‫في أركان الرض الربعة ‪...‬هل أعجبتك هذه النهاية ‪...‬انها نهاية رائعة ل شك ‪.‬‬
‫شعر امعيزيق بخيبة أمل ‪ ،‬وعاوده الندم على سؤاله الزغني ‪ ،‬لما رأه من استخفافه به ‪.‬‬

‫* * *‬
‫أماكن عافها حتى الذباب وامّحت من ذاكرة القطط كل علمة يمكن أن تقود إليها ‪ ،‬هذه‬
‫الكواخ البائسة لم يرضى بالعيش فيها غير بؤساء مساكين اعتادوا مرارة الصبر في‬
‫نفوسهم اعتيادهم الحرفة والحرقة في أيديهم ‪ ،‬وهم يجمعون الملح ‪ ،‬وكلب منعتها صفة‬
‫الوفاء فيها أن تبيع أصحابها بعظمة يرمي بها الجنود الطليان إليها ‪ ،‬كما فعلت ذلك قططاً‬
‫طالما جابت هذه الكواخ تختلس منها مما تجد فيها فلما يئست من أن تجد ما تختلسه باعت‬
‫الكواخ وأهلها وهرولت لجل بطونها ‪.‬‬
‫اجتمعت هذه الكواخ عند شاطئ البحر وكأن أصحابها أرادوا من زرقة البحر أن تنسيهم‬
‫بياض ملح ما عادوا يرون فيه تفاؤلً ‪ ،‬ول يكتشفون فيه الفاءل الحسن ‪ .‬اختلطت أكواخهم‬
‫بأكواخ الصيادين يتوارون بينها عن الناس وعن أنفسهم وعن ضحكة استهزاء في وجه‬
‫قدر ل يرحم ‪ ،‬فالسارق مجرم والمال المسروق حرام وهم يُسرقون كل يوم ‪ .‬يجمعون‬
‫الملح من الصباح حتى المساء ‪ ،‬فل يعودون إل وقد كشطت طبقة من جلد أيديهم وأقدامهم‬
‫كما يكشطون الملح عن وجه الرض ‪ ،‬يبتنون منه قباباً تناطح السحاب فيأتيها سمسار قد‬
‫دحا بطنه يقتلعها من جذورها بقروش ل تكاد تسد الرمق فيعودون إلى أكواخهم يشدون‬
‫على ما نالوه بقوة ‪ ،‬وغصة في حلوقهم ل تفارق الواحد منهم ‪ ،‬وهو يتحسس تلك القروش‬
‫المستقرة في كف يده‪ ،‬فما يبيعونه ليس ملحاً ‪ ،‬بل هو عرقهم ودمهم وماء وجوههم وأيام‬
‫من العمر تولي فل تعود ‪ ،‬والثمن قروش ل تكفل لحدهم سوى الستمرار في بيع عرقه‬
‫وجهده وأيام العمر البائس ‪.‬‬
‫كان الجندي اليطالي قد نزل عند أول مجموعة جند التقوها ‪ ،‬وما حمل الكارو من أكياس‬
‫كان الملح المبعثر فوقها يفضح ما فيها ‪ ،‬فلم يكن في هذا الكارو من شيء يثير اهتمام وما‬
‫كان أحداً يجاوز السلم في كلمه إذا صدف مرور هذا الكارو أمامه ‪.‬‬
‫بانت الكواخ لمعيزيق من بعيد ‪ ،‬ولم يكن الكارو ليقترب منها أكثر مما فعل لن الكوخ‬
‫الذي يقصدون كان معزولً عن بقية الكواخ ‪ ،‬وأبعدها عن البحر ‪ ،‬مما جعله القرب إلى‬
‫سبخة الملح لكنه أبداً لم يكن لحد أن يمر به في طريقه من الكواخ إلى السبخة لن بانيه‬
‫اختار أن يكون متنحياً عن الدرب بقدر جعله بالكاد يُرى للمار من هناك ‪.‬‬
‫أوقف الزغني الكارو وأخذا ينزلن الكياس ليضعاها امام الكوخ الذي لم يكن بإتساع‬
‫يسمح حتى بتمدد صاحبه فيه ‪ .‬ألقى امعيزيق نظرة داخل الكوخ فرأى عجوزاً جالسة في‬
‫الزاوية البعيدة عنه ‪ ،‬نظرت إليه فأحس حرجاً وتمتم بكلمات لكنها لم تنبس ببنت شفه ‪،‬‬
‫رأى جرة من فخار غير بعيدة عن مدخل الكوخ فتقدم نحوها وهزها ‪ ،‬وقبل أن يتبين له‬
‫خلوها من قطرة ماء كانت عقدة لسان العجوز قد إنفكت وهي تقول ‪:‬‬
‫‪ -‬ولدي في السجن وابنتي مريم لم تعد ‪ ،‬فل أحد يحضر الماء ‪.‬‬
‫خرج امعيزيق ‪ ،‬تناول القربة من على الكارو ‪ ،‬وعاد بها فسكب ما بقي فيها من ماء في‬
‫الجرة الفخارية ثم عاد يركب الكارو منتظراً الزغني أن ينهي ربط صواميل إحدى‬
‫العجلت ‪.‬‬
‫تحرك الكارو وامعيزيق مازال مشغول البال بحال تلك العجوز المسكينة التي تنتظر إبنها‬
‫فل يأتي ‪.‬‬
‫رفع يمنى رجليه المتدليتين في الهواء ليضعها على حافة لوح الكارو ‪ ،‬ونظر إلى الزغني‬
‫وهو يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬مسكينة هذه العجوز ل تجد حتى من يجلب لها الماء ‪.‬‬
‫‪ -‬مثلها كثير بل وأشد منها بؤساً ‪...‬هي على القل عندها مسعود يطعمها ويهتم بشأنها ‪...‬‬
‫‪ -‬أشك أن يكون ولدها الغائب ما يزال على قيد الحياة ؟‬
‫نظر إلى البعيد مفكراً ثم التفت إلى الزغني مواصلً حديثه ‪:‬‬
‫‪ -‬أخبرتني أن الطليان قد نفوه إلى بلدهم ‪...‬أليس كذلك ؟‬
‫‪ -‬بلى …أعتقد أني أخبرتك بذلك ‪.‬‬
‫‪ -‬إذاً لبد وأن رحيل يعرفه ‪ ،‬إذا لم يعرفه رحيل عرفه ذلك الشيخ المعتكف في الجامع ‪.‬‬
‫بانت إبتسامة فيها مكر على شفتي الزغني وهو يتكلم بل مبالة ‪:‬‬
‫‪ -‬الشيخ أمبارك لبد وأنه يعرفه أما رحيل فل أعتقد ‪...‬‬
‫‪-‬ولماذا لم تسأل هذا الشيخ مادمت تعتقد أنه يعرفه ؟‬
‫‪ -‬لم يخطر لي ذلك على بال ‪.‬‬
‫ظهرت ملمح غضب على وجه امعيزيق ‪ ،‬وضرب بقبضة يده لوح الكارو وهو يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬يا سلم ‪...‬لم يخطر لك على بال ‪...‬يالك من إنسان قاسي القلب ‪...‬بل أنت بل قلب ‪...‬أل‬
‫تثير فيك رؤية هذه العجوز المفجوعة ولهفتها وسؤالها الدائم بعضاً من الشفقة يلين لها‬
‫قلبك المتحجر ‪.‬‬
‫لم يأبه الزغني بغضب امعيزيق بل تابع يحادثه بذات اللمبالة دون أن يلتفت إليه ‪:‬‬
‫‪ -‬وكيف تريدني أن أسأل عن شخص أراه متى أردت ‪.‬‬
‫‪-‬هل تعني أنه مات ؟‬
‫زم الزغني شفتيه ‪ ،‬وهز رأسه دون أن يتكلم فأنزل امعيزيق قدمه لتتدلى بجانب الخرى‬
‫واعتدل في جلسته بعد أن خفت حدة غضبه فما عاد يظهر على وجهه غير ملمح‬
‫استغراب وتعجب مما سمعه من الزغني الذي واصل كلمه دون أن يظهر على وجهه‬
‫كثير اهتمام بما يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬إن ولدها حي يرزق ‪ ،‬وأنا أراه متى أردت ‪.‬‬
‫‪ -‬أين هو؟ لماذا لم تحضره إليها ؟‬
‫‪ -‬إن ابن هذه العجوز هو رحيل بشحمه ولحمه ‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تقول ؟ …ل يمكن …‬
‫‪ -‬تلك هي الحقيقة ‪ ،‬لكن تلك العجوز المسكينة قد تأثرت بما مر بها من مآسي وأحزان‬
‫فصار حالها كما تراه اليوم ‪.‬‬
‫‪ -‬ولماذا لم تخبرني بذلك منذ البداية يا باكبوندو ‪ ،‬لقد جعلتني أغضب منك وأحقد عليك ‪.‬‬
‫‪ -‬عندما يأتي إليها رحيل تتعرف عليه وتفرح به فإذا غادرها نسيت كل شيء عن قدومه‬
‫وصارت تسأل كل قادم عنه ‪ ،‬لقد إعتدنا منها ذلك ‪.‬‬
‫كان الكارو قد وصل إلى بداية السبخة فذهل امعيزيق عن الزغني وحديثه بصوت عجلت‬
‫الكارو وهي تدك تراب السبخة وماعله من ملح تحتها ‪.‬‬

‫* * *‬

‫تلشى المس وتلشى الغد فما عاد الحاضر غير خيط رفيع يصل بين شروق الشمس‬
‫وغروبها ‪ ،‬ليُرى فيه غير بندول يتحرك بين نقطتي البداية والنهاية ‪ ،‬دون أن يرسم أي‬
‫شيء ‪.‬‬
‫لكل الرجال عمل ‪ ،‬وهو بل عمل ‪ ،‬لكل الرجال ذرية وهو بل ذرية ‪ ،‬ولكل الرجال أوطان‬
‫ووطنه قد سرق منه ‪ ،‬لم يكن امعيزيق يملك بيتاً ول مالً ‪ ،‬ول يملك إبلً ول ضاناً ‪ ،‬بل لم‬
‫يكن يملك شيئاً إل إذا اعتبرنا سرواله الممزق وقميصه الباهت عند الحديث عن الملك‬
‫والحيازه ‪ ،‬لم يكن يجيد من عمل غير رعى الغنام وحصاد الزرع وجلب الماء ‪،‬حتى‬
‫أمور الزراعة لم يكن له بها كثير معرفة ‪ ،‬وهاهو يدخل مدينة ليس له فيها شيئاً وليعرف‬
‫فيها أحداً ‪ ،‬وليملك بيده مال ولهو ضوطار( ‪ ... ) 1‬لم يعرف شوارع كهذه من قبل ‪ ،‬فتاه‬
‫بينها كما تاه سكانها بين أسماءها القديمة وأسماء جديدة ‪ ،‬كتبت بأحرف إيطالية فما‬
‫استطاع قراءتها ‪ ،‬الهم الوحيد الذي لم يظل عنه ولم يكن غريباً عنه هو هذا البؤس الذي ل‬
‫يفارق الوجوه وهؤلء الرجال منحني الظهور من تعب ‪ ،‬مطاطئ الجباه من ذل ‪ ،‬وهؤلء‬
‫الطفال تجعد الجلد منهم على عظم قد ثوى بعدما ذاب لحمهم من أثر جوع ل ينتهي ‪.‬‬
‫وجد نفسه يدخل سوقاً ل عهد له به ‪ ،‬ول يعرف فيه أحداً يبحث عن عمل ‪ ،‬عونه في ذلك‬
‫حظ حسن لم يلتقيه يوماً يعطيه بعض التفاؤل أن لم يرى غراباً يحوم في السماء حين دخل‬
‫السوق ‪ ،‬لكن هذا التفاؤل والظن الحسن ‪ ،‬لم يحرماه سوء طالع لزمه حتى حلول المساء‬
‫فلم يجد له مأوى يقضي فيه ليلته غير جامع ذو منارة ل باب ول نوافذ له ‪ ،‬وفي اليوم‬
‫التالي نهض باكراً ليواصل رحلة البحث عن عمل ‪ ،‬فلم ينتصف النهار إل وقد صار طالب‬
‫عمل وطعام ‪ ،‬وفي المساء رأف به صانع سروج فوافق أن يجعل منه مساعداً له ‪ ،‬لكنه ما‬
‫أستطاع عليه صبراً وقد عجز عن إصلح إكافٍ‪ )(1‬عهد به إليه ‪ ،‬فعاد أمعيزيق يجوب‬
‫الشوارع من جديد يبحث عن ذات الجامع الذي ضمه الليلة الماضية ‪.‬‬
‫مدينة حزينة خيم على نهارها ظلم طويل فما عادت تضمن الحياة لهلها لتهتم بضمان‬
‫العمل لهم ‪ ،‬المخابز ما عادت تجد من يشتري منها ما تخبز فعجز أصحابها عن شراء‬
‫دقيق يخبزون به أو حتى فحم يورون به نار أفرانهم فكادو يغلقونها لول بقية من أمل ل‬
‫تفارق النفوس البائسة يرسخها أن من يترك عمله لن يجد عمل آخر ‪ ،‬وصناع السروج‬
‫أنقلب حالهم من بعد العز فقراً في وقت جاء فيه فرسان جدد ل يعرفون من أخلق‬
‫الفروسية شيئاً فيغتصبون سرج خيلهم من باعتها ليركبوها ركوبهم عرباتهم المتوحشة ‪،‬‬

‫( ‪ ) 1‬الضوطار ‪ :‬هو من يدخل السوق بل رأسمال فيحتال للكسب ‪.‬‬


‫(‪ )1‬إكاف ‪ :‬برذعة الحمار ‪.‬‬
‫والفلحين سرقت منهم أرضهم فما طاوعتهم النفس بتركها وروضا بالعمل فيها في ذل‬
‫وصغرة واحتقار ‪.‬‬
‫مدينة عشش في شوارعها الفقر فبدأ يبني في قلوب سكانها الذل ‪ ،‬فما كان يمنعهم من‬
‫التسول غير كثرة المتسولين وقلة المعطين ‪ ،‬حتى المتسولون كاد جلهم ينفض عما هو‬
‫فيه ‪ ،‬فشوارع الفقر ما عا يجوبها غير المتسولين وآخرين ل يمنعهم من التسول إل بقية‬
‫من ماء الوجه ما زالوا يمسكون بها ‪ ،‬أما الطليان فقد كانوا يجوبون هذه الشوارع في‬
‫معظم الحيان مخبولين من أثر ما شربوا فمن سار منهم حاملً عقله كان قلبه مع كلب‬
‫وقطط ومشانق هذا الوطن ‪.‬‬
‫في اليوم التالي ومع شروق الشمس كان أمعيزيق يغادر مخلفًا المدينة وراءه ل يدري إن‬
‫كان سوء الحظ يلزمه أم هو سوء الحال قد طال كل مكان ل ينجو منه أحد ‪ ،‬لم يكن‬
‫يعرف في هذه المدينة غير مسعود ‪ ،‬ولم يكن له من مكان يمكن أن يأوي إليه غير أكواخ‬
‫المساكين المصطفة على شاطء البحر تعلن بؤس أصحابها ‪ ،‬وتبكي حزنهم طوال الوقت ‪.‬‬
‫عندما ألتقى مسعود أول مرة رأى فيه رجلً هده الحزن وأنهكه التعب ‪ ،‬رأى الحزن في‬
‫عينيه والبؤس كان ظارهاً في وجنتيه ‪ ،‬وكأنه لحظ قراءة أمعيزيق لما أرتسم على وجهه ‪،‬‬
‫قطع مسعود اللقاء قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬إذهب ‪ ..‬فإذا وجدت نفسك وحيداً تعال إلى هنا ‪.‬‬
‫كيف استطاع مسعود أن يدرك مصيره الذي ينتظره ‪ ،‬هل وشى وجهه بسوء طالعه ‪ ،‬أم‬
‫هو رجل مبارك يقرأ الحداث قبل وقوعها ‪ ،‬هز رأسه مبعداً هذه الفكار عن ذهنه مسرعاً‬
‫في خطاه ‪ ،‬محاولً الفكاك من مستول رأه يلحق به ‪.‬‬
‫ولده‬
‫(‪(12‬‬
‫كانت النام الدافئة المحملة بندى البحر تداعب خيالت أمعيزيق ‪ ،‬فتقودها عبر صور من‬
‫الماضي ‪ ،‬من البئر والفتيات يملن جرارهن عنده ‪ ،‬إلى الوادي وهن يرقصن في أفراح‬
‫النجع النادرة ‪ ،‬كان يمكن لهذه الذكريات أن ترحل به أبعد من ذلك لول أن سمع تنهيدة‬
‫خارجة من أعماق النفس ‪ ،‬تنم عن حمل ثقيل ينؤ به صاحب هذا الجسد الراقد بجواره ‪،‬‬
‫أستدار أمعيزيق نحوه وقد ظن أن يكون له في الكلم بعض هون من حال الضيق والكرب‬
‫التي هو فيها فقال له ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد حكى لي الزغني الكثير عنك ‪.‬‬
‫التفت إليه دون أن يتكلم وكأني به كان يفضل الستماع على الكلم فواصل أمعيزيق كلمه‬
‫‪:‬‬
‫‪ -‬رحيل لم يخبرني شيئاً رغم أني خالطته أياماً ‪ ،‬أما الزغني فقد حدثني عن أشياء كثيرة ‪،‬‬
‫عن شقيقك ‪ ،‬وعن البندقية ‪ ،‬وعن مريم أيضاً ‪.‬‬
‫تنهد مسعود تنهيدة طويلة أختلجت لها أعضاؤه واستدار ناحية أمعيزيق ثم قال ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد كانت فتاة رائعة ‪.‬‬
‫سادت لحظة صمت فطعها أمعيزيق يستحثه على الكلم قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬هل كانت جميلة‬
‫‪ -‬كانت جميلة ‪ ..‬بظفيرة طويلة وعينين جميلتين وثغر دائم البتسام ووح أخف من الريح ‪،‬‬
‫كانت عندما أعود بالشياه عند الغروب أجدها تقابلني بقنان صغير كما تفعل المهات مع‬
‫أطفالهن ‪ ،‬وكنت أنا أيام الربيع أعود لها كل مساء بطوق من النوار أضعه لها في جيدها ‪،‬‬
‫فكانت تفرح من ذلك أشد الفرح وتنام به حتى الصباح ‪ ،‬كنا نحكي عن كل شيء ونضحك‬
‫من كل شيء ونرسم في أذهاننا صورة جميلة لكل شيء‪ ،‬المر الوحيد الذي لم نفكر فيه‬
‫يومأً هو أن تبادرنا في غفلة منا صفعة من صفعات القدر ‪ ،‬وقد كانت الصفعة شديدة‬
‫ومريرة ‪ ،‬أن الفراق دائماً صعب ل يطاق فما بالك به وقد جاء على تلك الحال من المرارة‬
‫والمهانة ‪ ،‬لقد حزنت وبكيت كثيراً ‪ ،‬وأنقطعت عن الطعام أياماً ‪ ،‬ثم ذهبت وراءها أبحث‬
‫عنها بحثت كثيراً وسألت كثيراً ‪ ،‬تنازلت حتى عن كرامتي في سبيل حبي بتذللي للخائن‬
‫عوض ليبحث لي عنها عند أسياده الطليان ‪ ،‬لكن ما من أحد أسعفني بجواب فأسلتنا عندهم‬
‫ل تعني شيئاً ‪ ،‬بل حتى ذواتنا ل تعني لهم شيئاً فنحن مجرد أجساد ل روح فيها ول أسماء‬
‫لها ‪ ،‬فكل النساء على لسانهم مبروكة ‪ ،‬وكل الرجال في عرفهم عبيد ‪ ،‬يئست من البحث‬
‫من النسيان ‪ ،‬فجعلت لها قبراً بين قبور الموتى ‪ ،‬دفنت فيه طوقاً من نوار وزرعت عنده‬
‫شجرة زيتون ‪ ،‬فأتخذت من ذلك المكان مقاماً أزوره كل جمعة لسكب الدمع عنده ‪،‬‬
‫وأستعيد ذكريات ماضٍ ما زلت أراها واضحة أمامي كأن لم يمضي عليها غير بعض يوم‬
‫‪.‬‬
‫كانت دمعة قد أنحدرت على خد أمعيزيق فمسحها بكم قميصه وجلس مكانه ناظراً إلى‬
‫مسعود نظرة ل يبدو فيها غير بؤس وحزن شديدين ‪ ،‬ظل على حاله تلك لحظات ممهلً‬
‫نار الغضب والحزن التي تعتمل في قلب مسعود أن تهدأ ثم فكر في أن يبعده عما هو فيه‬
‫من الذكريات ‪ ،‬فسأله إن كان يعرف نهاية حكاية الغول والفتاة التي تشغله بشكل مستمر ‪،‬‬
‫فنظر إليه مسعود نظرة طويلة وكأني به يلومه على حمله على الكلم دون رغبة منه في‬
‫ذلك ‪ ،‬لكنه شرع بعد هذه النظرة الطويلة يحكي له الحكاية ‪ ،‬فلما شرع الغول يأكل لحم‬
‫أخيها وقف عظم في زوره فلم يجاوزه ‪ ،‬وسيبقى هذا العظم في زوره حتى يقتله ‪ ،‬هز‬
‫أمعيزيق رأسه دون أن يبدي أي تعليق ‪ ،‬ثم نهض يمسك بيد رفيقه برفق يدعوه لن يذهب‬
‫للنوم ‪ ،‬لعل ذكريات الماضي تعوده في أحلمه فيكون له فيها بعض العزاء والسلوى عن‬
‫دموع ل تفيد ‪.‬‬
‫عشية اليوم التالي وقبل أن ينتهي من عمل كان منهمك فيه رمى مسعود اللوح العريض‬
‫الذي كان يكشط به الملح يفصله عن الرض ويجمعه إلى بعضه ‪ ،‬ونهض باحثاً عن‬
‫أمعيزيق بين الوجوه البائسة المنكبة على بياض ممل يعكس نور الشمس في عيونهم ويعيد‬
‫حرقتها نحو جلودهم ‪ ،‬وحالما أستقر نظره عليه دعاه بأسمه فلما التفت إليه طلب منه أن‬
‫يتبعه ‪ ،‬ودون أن ينتظر منه جواباً مضى يستحث الخطى نحو المقبرة ‪ ،‬المر الذي‬
‫أستغربه عمال الملحة من الشباب إذ لم يألفوا أن يقصد مسعود المقبرة في يوم غير‬
‫الجمعة ‪ ،‬وتشآم من ذلك العجائز وظنوا أمر سوء يحاك لهم في الفق ‪.‬‬
‫كان أمعيزيق قد أنهكه عملً ما أعتاد عليه ‪ ،‬وشغلته يدان تشقق الجلد منهما وتهشمت‬
‫الظافر ‪ ،‬فكانت المسافة بين وبين مسعود تتسع لكما بعد بهما الدرب عن الحياة وأقترب‬
‫بهما من أموات المقبرة ‪ ،‬أجتاز أمعيزيق القبور المتناثرة في صعوبة حتى وصل إلى‬
‫مسعود فوجده ما يزال غارقاً في طقوسه التعبدية اتجاه قبر بل جثة ‪ ،‬ل يحوي غير‬
‫الذكريات يسجد إليه تلتصق جبهته بأحجاره ‪ ،‬صلته العبرات ودعاءه الدموع التي ل‬
‫تكف ‪.‬‬
‫نظر إلى القبور حوله فوجدها متناثرة كثيرة ‪ ،‬كل قبر له قصة وكل قصة لها حياة شعر أن‬
‫القبور التي رأها قد صارت كثيرة ‪ ،‬قبر أخيه جبر وقبر الشيخ عبدال ومقبرة واديهم‬
‫وجثث ل قبور لها وقبور ل جثث فيها ‪ ،‬والموات صاروا يجوبون ذاكرته يقطنون كل‬
‫زاورة فيها فل يكاد يمر أمامه خيال من أمس إل وقطعته صورة ميت ‪ ،‬قاده هذا إلى‬
‫استغراب حنى معه رأسه ‪ ،‬كيف أنه يلتقي كل هؤلء الموتى ول يموت ‪ ،‬وأستغرب كيف‬
‫أنه ل يموت رغم إحساسه أنه قد قتل مئات المرات ‪ ،‬قتل يوم كان بل أب ول أم ‪ ،‬قتل يوم‬
‫وجد نفسه وحيداً حذاء حجر أصم ‪ ،‬قتل يوم تهدم بيتهم وضاعت أمه ‪ ،‬قتل مع كل مرة‬
‫ضاعت فيها منه مرين ‪ ،‬كان دائماً يكتفي بالبكاء ول يمون ‪ ،‬كيف ل يمون مسعود الذي‬
‫يعبد قبراً بل جثة ‪ ،‬وكيف ل يموت رحيل ذو اليد المشلولة ‪ ،‬وكيف يقاوم الموت الشيخ‬
‫الساكن ذلك الجامع ‪ ،‬يدعو لشياء لم يعد يرجو من وراءها شيئاً ‪.‬‬
‫عاد أمعيزيق أدراجه دون أن ينتبه إلى مسعود الذي خلفه وراءه كانت صورة الشيخ‬
‫عبدال وهو يقرأ القرآن ل تفارقه وقد صارت آيات تتردد في ذاكرته ‪ ،‬فمشى يسبح وسط‬
‫هذه الذكريات دون أن يحاول طردها ‪ ،‬فجأة صفى ذهنه فما عاد يسمع آيات تتردد ول‬
‫يرى صور تتراقص أمامه ‪ ،‬لتعاوده من جديد حكاية الحاجة حليمة القديمة التي ل تفتي‬
‫تدهمه ‪ ،‬أستغرب أن ترد هذه الحكاية في ذهنه الن ‪ ،‬فل أحد معه يلتمس عنده لها نهاية ‪،‬‬
‫وكان يمكن أن يحاول طردها أو تجاهل التفكير فيها لو لم تكن الطريق إلى الكوخ طويلة ‪،‬‬
‫لذلك واصل تتبع أحداث الحكاية في ذهنه لعله يخفف بذلك مما هو فيه من أنقباض لحين‬
‫يصل الكوخ ‪ ،‬وصلت ذكارته بالحكاية إلى الغول وهو بتخبط من ألم عظم وقف في‬
‫زوره ‪ ،‬توقع تلشي الحكاية بعد هذا المصير الذي طال الغول لكن ذلك لم يحدث ‪ ،‬إذ‬
‫كانت الفتاة تقطف ثمرة من شجيرة وتشقها بسيف من يدها ‪ ،‬تحفز ليرى البذور لكن‬
‫خروج طفل من داخل الثمر أذهله ‪ ،‬وما أن طالت قدمي هذا الطفل الرض حتى كبر‬
‫جسده وأشتدت عضلته فناولته شقيقته السيف الذي ضرب به الغول ضربة واحدة أوقعته‬
‫على الرض ‪.‬‬

‫* * *‬
‫كان أمعيزيق وكعادته كل ليلة ينام مفترشاً الرمال أمام الكوخ ‪ ،‬فلما أستيقظ على قغط ‪،‬‬
‫فتح عينيه دون أن يرفع جسده ليجد ثلثة رجال مجتمعين حول النار ‪ ،‬فعاد يغمض عينيه‬
‫بعد أن سحب على جسده ما أبتعد من البطانية عنه ‪ ،‬إذ لم يكن مستغرباً عنده استقبال‬
‫مسعود ضيوفاً في هذا الوقت ‪ ،‬لكنه ولما لم يعاوده النوم لم يستطع منع نفسه من تصنت ما‬
‫يدور ‪ ،‬فما كادت تطرق سمعه جملً ما رأى بينها من رابط حتى بدأ النوم يتسلل إلى‬
‫أجفانه فكاد أن يستغرقه من جديد لول أن سمع مسعوداً يناديه ويطلب منه أن ينهض ‪،‬‬
‫فأستجاب لنداءه مبعداً غطاءه عن جسده ونهض فأتخذ له مجلساً بينهم ‪ ،‬وعلى ضوء خافت‬
‫يصدر عن فنار لم يعني أحد ينتظيف مرشه تبين وجه رجل لم يراه من قبل ‪ ،‬وقبل أن‬
‫يطلق العنان لخياله كان مسعود يقدمه لهم بأن سالم أحد المجاهدين بالجبل ‪ ،‬جاء يطلب‬
‫العون لهم ‪ ،‬نظر أمعيزيق متمعناً في وجه الرجل ثم أطرق مفكراً ‪ ،‬حقاً إنه لموقف مذل‬
‫أن تظل جالساً مكان لحين سحبك من يدك ‪ ..‬لقد طلب ذلك مرة واحدة من الشيخ عبدال‬
‫فقال له أن الوقت لذلك لم يحن ‪ ،‬لنه والحاجة حليمة بحاجة إليه وطمأنه بأنه إذا رأى‬
‫الوقت مناسباً أخبره ‪ ،‬لكنه ذهب دون أن يفعل وهو لم يعاود التفكير في المر ‪ ،‬أما اليوم‬
‫فل أعذار له ‪ ،‬بل هو اليوم أحق من غيره بهذا الواجب فوالده مات لجله والشيخ عبدال‬
‫قام به حتى أقعده المرض عنه ‪ ،‬وذلك الشيخ الهرم المقيم في الجامع ‪ ..‬كيف لم يكفر في‬
‫هذا من قبل ‪ ،‬لم يكن مهتمهاً بغير لقمة العيش ‪ ،‬شعر بإنقباض شديد فهز رأسه محاولً‬
‫أيجاد ما يعذر به نفسه ‪ ..‬ل أنا لم أتخاذل ولم أجبن يوماً ‪ ،‬لكن الظروق كانت ترمي بي‬
‫من متاهة لخرى ‪ ،‬رفع رأسه ناظراً إلى الرجل أمامه ولما وجده يتفرس في وجهه عاود‬
‫إطراقه من جديد ‪ ..‬نعم أنا أحق من غيري ‪ ،‬أبي وأمي حليمة وبيتنا ورميم والنجع الذي‬
‫ضاع والمل الذي تشتت ‪ ،‬كل هذا وما زالت أوهام الخوف تراودني ‪ ،‬ل لن أحتفظ بها ‪،‬‬
‫سأبدد كل خوف وأطرد كل جبن ‪ ،‬رفع رأسه فوجد الرجل قائماً يودع مسعود والزغني‬
‫بينما هو ما يزال جالساً مكانه ‪ ،‬نهض واقفاً يعتمل في صدره في تلك اللحظة شعور واحد‬
‫دون أن يستطيع أحد قراءة شيء في عينيه ‪ ،‬مد له الرجل يده مودعاً فأمسك بها بكلتا يديه‬
‫وهو يقول ‪:‬‬
‫بل أنا آتٍ معك ‪.‬‬
‫نظر الرجل إلى مسعود مستغرباً وتسآل ‪:‬‬
‫تأتي معي ! ‪ ..‬إلى أين ؟‬
‫ألم يقل مسعود أنك من المجاهدين ‪.‬‬
‫قاطعه مسعود وهو يبتسم ‪:‬‬
‫نحن نحتاج هنا يا أمعيزيق ‪.‬‬
‫لكني أريد أن أذهب ‪ ،‬وقد مللت جمع الملح لعيش حياة ل طعم لها ‪.‬‬
‫لو لم نكن نحتاجك لما قمت بإيقاظك في منتصف الليل ‪.‬‬
‫رمى سلم طرف جرده على كتفه وهو يقول ‪:‬‬
‫يجب أن تصدق مسعوداً يا فتى فدورك الكبر هنا ‪ ،‬سيشرح لك مسعود ذكلك ‪.‬‬
‫خرج الرجل فتابع أمعيزيق خياله يتوارى وسط ظلم الليل الذي برط بكل ثقله على أكواخ‬
‫المساكين ‪ ،‬ولو لمرة شعر أنه ل يلوم رجلً رفض له طلب ‪.‬‬
‫أخرج مسعود سكيناً من جيبه فرمى به على أقرب الكياس المكومة أمام الكوخ وقال‬
‫مخاطباً أمعيزيق ‪:‬‬
‫‪ -‬هيا خذ السكين ‪.‬‬
‫أخذ امعيزيق السكين وبتردد قام بقطع رباط الكيس فأنفتح دون أن يرى فيه شيئاً غير الملح‬
‫‪ .‬تقدم مسعود من الكيس فدس فيه يده وأخرج منه صرة كبيرة ‪ ،‬رمى بها على الرض‬
‫طالباً من امعيزيق أن يفضها ‪ .‬فض امعيزيق الصرة فوجدها مملؤة باروداً ‪ ،‬فأخذ يحيل‬
‫نظره بين الرجلين الواقفين عند رأسه والصرة المطروحة أمامه دون أن يتكلم ‪.‬‬
‫تقدم منه الزغني قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬الزغني لم يكن يحمل ملح الطعام بل يحمل ملح الحياة ‪.‬‬
‫نظر إليه امعيزيق نظرة طويلة ثم قال ‪:‬‬
‫‪ -‬أي حياة هذه ‪ ،‬إن آكله ل يتذوق سوى طعم الموت ‪.‬‬
‫‪ -‬إنها حياتنا نحن ؛ أنا وأنت ومسعود ‪ ،‬فيه موتهم وفيه حياة أطفالنا وشيوخنا ‪ ،‬فيه موت‬
‫من يجب أن يموت وحياة من يستحق أن يحيا ‪.‬‬
‫تقدم منه مسعود فربت على كتفه قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬أنت منذ الليلة معنا يا امعيزيق ن إننا نحتاجك ‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا يستطيع مسكين مثلي أن يعطيكم غير روحه التي رفضتم أخذها ‪.‬‬
‫‪ -‬امعيزيق اسمعني ‪ ..‬إن السلك الشائكة التي مدها الطليان على طول الحدود قد‬
‫حصرت المجاهدين وأضرت بهم أيما ضرر ‪ ،‬فمنعت عنهم كل شيء ‪ .‬لقد حرمهم احتلل‬
‫الكفرة من مورد كانوا يفيدون منه ‪ ،‬ثم جاءت هذه السلك فأغلقت الطريق أمامهم ‪ ،‬فقد‬
‫أخبرني سلم بذلك وهو الن يغامر بحياته ‪ ،‬بمحاولة الدخول إلى المعتقل لعله يحصل‬
‫على شيء ‪ .‬أما نحن فما عاد مانقوم به من إرسال الطعام والسلح كافٍ ‪ .‬لبد أن نكسر‬
‫السلك ونجتازها ‪.‬‬
‫‪ -‬أنا مستعد لفعل أي شيء ‪ ،‬واعتبراني رفيقكما منذ اليوم ‪.‬‬
‫‪ -‬حسناً ‪...‬الخطوة الولى ستكون عودتك للعمل عند اليهودي بندرلي ‪.‬‬
‫‪ -‬عند بندرلي !! لماذا ؟‬
‫‪ -‬لننل بحاجة إلى المال ويجب أن نحصل عليه مهما كانت وسيلتنا لذلك ‪.‬‬
‫‪ -‬لقد سبق وأن عرض عليّ العمل عنده ‪ ،‬لكنه لن يرضى بإعطائي المال الذي نريد‬
‫‪...‬الزغني يعرفه جيداً ‪.‬‬
‫‪ -‬ذلك ل يهم الن ‪ ،‬ولترضى بكل شروطه ‪ ،‬المهم هو أن تعمل معه ‪.‬‬
‫‪-‬ثم ماذا بعد ذلك ؟‬
‫‪ -‬ل تستعجل …ستعرف كل سيء في حينه والن إذهب لتنام وتستريح ‪ ،‬فأمامك في الغد‬
‫طريق طويل ‪.‬‬

‫* * *‬
‫لم يضع وقتاص عند وصوله إذ لم يكن له مايضيع الوقت فيه ‪ ،‬فإتجه إلى بندرلي وطلب‬
‫منه مابيت في سريرته ‪ ،‬فلم يعارض اليهودي في تشغيله ‪ ،‬وهو لم يعارض أياً من‬
‫شروطه ‪ ،‬لم ترق له تلك الشروط لكنه كان يدرك أن عليه الرضى بها مهما كانت‬
‫مجحفة ‪ ،‬فأختيار القهر ميزة ل يجود بها هذا الزمن الصعب على الكثيرين ‪ ،‬وكما توقع لم‬
‫يكن بندرلي مستعداً لدفع أي مال ‪ ،‬فما كان ينال على عمله طيلة النهار وأغلب الليل غير‬
‫وجبات الطعام والنوم لسلعات معدودة في الحانة بعد أن يغادرها الجنود ‪.‬‬
‫عشية اليوم الرابع من عمله جاء إلى الدكان رجل سلم على بندرلي دون أن يأبه بالفتى‬
‫الواقف غير بعيد عن الحجر الذي جلس عليه ‪ .‬نظر امعيزيق إلى ذلك الرجل فرأى فيه‬
‫سلم الذي التقاه عند مسعود ‪.‬‬
‫اشترى الرجل بعض الشاي واربعة قوالب صغيرة من السكر وطلب من بندرلي أن يضع‬
‫له الشاي على النار معللً ذلك بأنه مسافر وليس معه عدة الشاي ‪ .‬عرض عليه بندرلي أن‬
‫يأتي له بشاي جاهز من الحانة لكن الرجل أصر على طلبه ثم ترك الحجر الجالس عليه‬
‫ليفترش الرض وأشار إلى امعيزيق بيده قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬تعالى يافتى ‪...‬أظن شوكة انغرزت في قدمي حاول أن تنزعها إن كان نظرك جيداً ‪.‬‬
‫اقترب امعيزيق منه فلما جاوره بادره سلم قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬اسمع ياامعيزيق أظن مسعوداً أخبرك إننا نحتاج مالً ‪...‬وواصل حديثه دون أن يأبه‬
‫بجواب امعيزيق ‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن تحصل على المال الليلة ‪.‬‬
‫‪-‬وكيف ذلك ؟‬
‫‪ -‬خذه من بندرلي بأي طريقة فإذا حصلت عليه تبعتني عند رحيل في القصر القديم …‬
‫لتنسى يجب أن تفعل ذلك الليلة ‪.‬‬
‫احتار امعيزيق فيما طلبه منه سلم ‪ ،‬فأخذت تطوف به تلك الحيرة وتجوب به سبلً وعرة‬
‫ليجد منها منجـاة ‪ .‬فما أنفكت عنه إل بقدوم رحيل بعد حلول الظلم ‪ .‬فأستفاد من إنشغال‬
‫بندرلي في الحانة ليسأل رحيل عما طلبه منه سلم ‪ .‬جلس رحيل وهو يرفع ذراعه‬
‫اليسرى بيمناه ليضعها على ساقه ثم قال ‪:‬‬
‫‪ -‬امعيزيق ‪...‬نحن لن نبقى هنا بعد الن ‪ ،‬المجاهدون يفتقدون الطعام والسلح ونحن‬
‫ماعدنا قادرين على إفادتهم بشيء من هنا ‪ ،‬لذا علينا أن نجتاز السلك إلى مصر ‪ .‬هناك‬
‫من يحمل رسالة من الشيخ عمر المختار يطلب فيها سلحاً ومؤناً وهذا الرجل يحتاج من‬
‫يرافقه والرحلة تحتاج للمال وكل ما معنا قد وضعناه في صفقة سلح سنرسلها لهم ‪ .‬إننا‬
‫نحتاج مالً لشراء الخيل والسلح والطعام وكل ما سنحتاجه في رحلتنا ‪.‬‬
‫‪ -‬لكني ل أستطيع ‪...‬لم أعتد اختلس ماليس لي ‪ .‬بان شرار غريب في عيني رحيل وهم‬
‫أن يقول شيئاً ‪ ،‬لكن قدوم بندرلي منعه من ذلك وجعله يستدير نحوه يخاطبه ‪.‬‬
‫‪ -‬قد أحضرت لك المال يا بندرلي فإلي بما طلبته منك ‪.‬‬
‫‪ -‬ل ‪...‬هذه المرة ليس من هنا ‪ ،‬أنت تعلم أن الكمية كبيرة بعض الشيء فلم أقدر على‬
‫إحضارها إلى هنا ‪ ،‬عليك أن تستلمها من مكانها ‪ .‬تجدها مخفية بجانب قبة الشيخ عبد ال‬
‫إذهب إلى هناك وأحفر تحت حجر في الجهة اليمنى وستجد ما تطلب ‪.‬‬
‫كان امعيزيق يختلس النظر إلى بندرلي يتابع خطواته متظاهراً بغسل الواني ‪ ،‬فلحظ‬
‫خروجه بيدين خاليتين بعد دخوله الغرفة بصرة المال التي أحضرها له رحيل ‪ .‬فلما سمع‬
‫صوته قد عل في الحانة يحادث الجنود ويضحك معهم دخل امعيزيق الحانة ولما تأكد له‬
‫اطمئنانه في جلوسه واستغراقه في الحديث معهم إتجه إلى غرفة بندرلي يحاول معرفة‬
‫المكان الذي وضع فيه صرة المال ‪ ،‬فوجدها ماتزال تحت فراشه لم يخفيها بعد ‪ .‬هم‬
‫بأخذها لكن ارتفاع الصوات في الحانة جعله يسوي الفراش كسابق عهده ويخرج ليطمئن‬
‫من جديد ‪ ،‬فوقف عند البوابة الصغيرة المؤدية إلى الحانة مستمعاً لما يجري منتظراً‬
‫دخول بندرلي في موضوع جديد من أحاديثه الطويلة ليضمن طول جلوسه في الحانة فل‬
‫يباغته ‪ ،‬لكن بندرلي لم يستحدث موضوع حديث جديد ول استمر في حديث سابق بل رأه‬
‫ينهض يجر القائد اليطالي معه بعيداً عن الجنود ليقفا قرب البوابة الصغيرة التي يختبئ‬
‫امعيزيق وراءها والحقيقة أنه لم ينزعج من اقترابهما منه ولم يكن لينزعج حتى من‬
‫رؤيتهما له لنه كان سيدّعيتنظيف الرض أو أي شيء آخر يكون له فيه عذر يبرر به‬
‫وقوفه عند البوابة ‪ .‬وقد كان وقوفهما في ذلك المكان يتيح لمعيزيق سماع ما يسه أحدهما‬
‫للخر فسمع من بندرلي ما أهاله وأربكه ‪ ،‬إذ كان هذا اليهودي يصف للقائد اليطالي مكاناً‬
‫يخبره أن العرب يخبئون فيه سلحهم وسمع توعد القائد اليطالي وشتائمه ثم كلمات‬
‫الوداع المختلطة التي كان يرمي بها وهو يترنح من أثر ما شرب ‪ .‬أحس امعيزيق‬
‫بإنقباض شديد وأسرع بدخول غرفة بندرلي حيث ظل واقفاً هناك ممسكاً بعصى غليظة ‪،‬‬
‫فما كاد يدخل ذلك العجوز حتى بادره بضربة على رأسه لم يتبين مصدرها من شدة الظلم‬
‫‪ .‬فقيد امعيزيق يديه ورجليه وكم فمه بقطعة قماش حرص على إبعادها عن أنفه ليضمن له‬
‫تنفساً مريحاً إذ لم يكن ينوي قتله ‪ .‬وخرج بعد أن استبدل عصاه بقطعة قصيرة لكنها ثقيلة‬
‫من الحديد كان يستعملها بندرلي في طحن البن ‪ .‬فلما دخل الحانة أحزنه أن لم يجد القائد‬
‫الذي علم بسر السلح فكاد أن يتراجع لكن رغبة في نفسه استحثته أن يواصل ما قد عقد‬
‫العزم عليه ‪ ،‬فاقترب من الجنديين يساعده على إخفاء عصاه الظلم الذي لم تفلح شمعة‬
‫واحدة في طرده ‪ ،‬فما اقترب منهما حتى بادر أحدهما بضربة على رأسه بالقضيب‬
‫الحديدي الذي يحمل فسقط من على الكرسي وقد فار دمه من عقب رأسه ‪ ،‬فنهض الجندي‬
‫الخر الذي بان لمعيزيق أن الخمر لم تفقده قواه فلما وجد بندقيته غير قريبة من هجم على‬
‫امعيزيق ليصيبه إصابة شديدة على جانب فكه اليسر فلما تماسك ولم يسقط أتبعها بلكمة‬
‫أخرى على جسده ثم لكمة غير بعيد عن عينه اليمنى ‪ .‬أحس امعيزيق ألماً شديداً ودواراً‬
‫أشد فهجم على الجندي يحتضنه ويقوس ذراعيه حول رقبته ثم أخذ يضربه بقبضة يده‬
‫على مؤخر رأسه ‪ ،‬رفع الجندي يده ليضرب بها لكن قواه خذلته وسقط ممسكاً بقميص‬
‫امعيزيق ساحباً معه ردنه‪ )(1‬اليمن ‪ .‬ضم امعيزيق قبضة يده ووجه ضربة قوية إلى وجه‬
‫الجندي ‪ ،‬لول الظلم لستبان ما أحدثته في وجهه من تهشيم ‪ .‬لم يضع وقتاً بل فر بعدما‬
‫أخذ المال وبندقيتي الجنديين متخفياً تحت جنح الظلم قاصداً قصراً يذكر أن شخصاً‬
‫(‪ )1‬ردنه ‪:‬الردن هو أصل كم القميص ‪.‬‬
‫يرتدي أسماله ويحمل جسده قد قصد ذلك القصر ذات يوم ‪ .‬جمع القائد جنوده وألقى فيهم‬
‫خطبة حماسية تحت الضواء الكاشفة التي حجبت ضؤ الفجر المتسلل من خلف ظلم الليل‬
‫‪ .‬حدثهم عن النجوم فتذكروا أمهاتهم ‪ .‬حدثهم عن الفاشية فتذكروا ذوي القمصان السوداء ‪.‬‬
‫حدثهم عن أمجاد روما فحنوا لحانة بندرلي ‪ ،‬قال لهم أن من يجده في الحانة سيحبسه‬
‫فعادوا يتذكرون أمجاد روما ‪...‬ما تغيب عن خطبته تلك غير جنديين إثنين أمر أن يسجنا ‪،‬‬
‫وجعل بقية تحرس المكان وقاد جُل الجنود يجعل بهم كميناً للفلقة لعله يظفر بهم ‪ .‬قسم‬
‫جنوده عشرات ‪ .‬كل منهم يحفر له جحراً في الرض يدس فيه جسده أو يبحث له عن‬
‫حجر يتوارى في ظله ‪ ،‬يحاصرون قبراً تعلوه قبة ينتظرون جيشاً قادماً يهزمونه ويحققون‬
‫بهزيمته أمجاداً لقائدهم ‪ ،‬إنتظروا كثيراً في مكانهم ذاك فما ظفروا بغير معتوه يجوب تلك‬
‫الوديان كل يوم قتلوه ‪ ،‬واستمروا في ترقبهم لجيش القادم فما انفضوا عن ذلك حتى التقوا‬
‫هذا الجيش في رجل مسكين يركب حماراً يأتي البحر كل يوم لعله يجد على شاطئه ما يفيد‬
‫منه ‪ .‬قتلوا الرجل وقتلوا حماره الذي رسم لهم الرعب فيه حصان طروادة جديد ‪ ،‬ولما‬
‫كان في الحصان نهاية طروادة جعلوا من مقتل الحمار نهاية لترقبهم وانتظارهم فحفروا‬
‫عند قاعدة القبة وأخرجوا ماوجدوه من السلح فعادوا به عود الفاتح المنتصر ‪ ،‬كان قائدهم‬
‫يغلي قلبه غضباً وماكان يعتقد له من متنفس غير اليهودي بندرلي ‪ ،‬فترك الجنود يتابعون‬
‫مسيرهم ليعرج هو على الحانة ‪ ،‬فلما وصلها وجد فيها جنوده قتلى ووجد بندرلي لما بحث‬
‫عنه مكبلً مكموماً وما كان بحاجة لسؤال عن إذ كانت إزالة الكمامة عن فمه كافية لينطلق‬
‫لسانه يفضي بكل شيء عن السلح وامعيزيق ورحيل والقصر ولم يكن من هذه الشياء‬
‫بين يدي القائد اليطالي غير ذلك القصر القديم ‪ ،‬فسار نحوه بجنوده وعرباتهم ينوي دكه‬
‫على من فيه ومافيه لكن رياح القبلي كانت قد اشتدت فأظلمت الدنيا قبل غروب الشمس ‪،‬‬
‫وصار الجنود يتلمسون طريقهم فما تكاد تريهم عيونهم أبعد مما تطال أيديهم ‪ .‬المر الذي‬
‫جعلهم يولون الدبار بعرباتهم المجنزرة التي نست طحن الحجارة بعدما إعتادت على‬
‫طحن أجساد البشر ‪ .‬كانت الشياطين تتفث أنفاساً حامية من صدورها وكانت الجن تحوم‬
‫حول القصر تذري رماداً حارقاً وماكان في القصر من إنْس ‪.‬‬
‫" ليسوا بمهزومين ول مسحوقين إنهم يعيشون من أجل أبنائهم ‪ ،‬ويتناقلون العزم من الب‬
‫إلى البن ‪ ،‬إن حضارتكم بغيضة لهم ‪ ،‬إنها حضارة تثريكم لكنها حقاً تزيدكم عوزاً "‬
‫باولوا فاليرا‬
‫كلمة السر‬
‫( ‪) 13‬‬
‫يطول نهار الصيف بشمسه المحرقة ترسل سياط غضبها على رمال الصحراء التي تمل‬
‫الحتراق كل يوم فما ترى في الخريف غير متسع لبث لواعج ألمها وغضبها عبر رياح‬
‫القبلي ‪ ،‬تلوم البحر على جفاءه ‪ ،‬فإذا لفحت هذه الريح البحر صبى إلى حبه العذري‬
‫واعتراه الحزن وكبت أنسامه الباردة ‪ ،‬فما عاد يجود بها إل في لحظات الصفو النادرة ‪.‬‬
‫كانت الطريق أمامهم طويلة ‪ ،‬والصحراء واسعة ل تكاد ترى أيما نتوء في الدائرة‬
‫المحيطة بك ؛ ل جبل ول شجر ‪ ،‬ول نار ول دخان ‪ ،‬ول شيء سوى شمس ورمال‬
‫وحجارة ‪ .‬الشمس تعير الرؤوس دواراً ل يكاد ينتهي وتصيب الحلق بجفاف ل يزيله ما‬
‫يسكب فيه من ماء ‪ .‬ورمال الصحراء يصبح بياضها مملً ل يرى فيه غير َمسْحَفَ‬
‫الحيات‪ ، )(1‬والحجارة الناتئة تشبع جوعها بعثرات القدام المتشققة النازفة ‪ ،‬والحصى‬
‫يتغذى بدماءها ‪.‬‬
‫ساروا على هذه الحال متعبين مرهقين يطأطئون رؤوسهم متفادين الشمس فتنهال الرمال‬
‫في عيونهم فإذا رفعوا وجوههم كانت رياح القبلي لهم بالمرصاد تلفح وجوههم كالسياط ‪.‬‬
‫كانت تلك المسافة التي قطعوها على أقدامهم مملة متعبة مضعضعة للنفس ‪ ،‬فما فارقهم‬
‫هذا إل بعدما اعتلوا ظهور الخيل يلهبونها بسياطهم يستحثونها على قطع الفيافي وكأنهم‬
‫يحاولون الفلت من جحيم رياح القبلي التي ل ترحم ‪ ،‬فجرت هذه الجياد بكل جهدها‬
‫جرياً مرضياً ‪ ،‬وماكان يتأتى لها هذا لوكان أحد فرسانها ذو يد مشلولة ‪ ،‬ذلك أن رحيل قد‬
‫فارقهم ‪ ،‬وولى راجعاً إلى أمه التي كانت تنتظره طول غيابه ‪ ،‬فإذا أتاها نسيت أنه كان‬
‫غائباً ‪ ،‬وهكذا لم يكن لها أن تشعر بفرحة اللقاء أبداً ‪.‬‬
‫* * *‬
‫رغم أنها ل تحوي ميناء ول سوق ‪ ،‬ورغم أن أحداً منهم لم يفكر في إتخاذ مزرعة له‬
‫فيها ‪ ،‬لم تخلو الجغبوب من جنودهم يوماً ‪ ،‬ومالم يطاله الجنود طالته عيونهم التي يبثونها‬
‫في كل مكان ‪ .‬ربما كانوا يأملون حنين عمر المختار إلى هذا المكان الذي تعلم فيه‬
‫فيجعلون منه طعماً له ‪ ،‬وربما قربه من الحدود جعله كميناً مناسباً للمتسللين الذين ماقطع‬
‫دابرهم خبر من كان قبلهم ‪.‬‬
‫هذه الكثرة من الجنود والعيون ‪ ،‬جعلت من المكان غولً لمن أتاه ينوي فعل شيء أو من‬
‫كان حاملً لشيء أو ذلك الهارب من شيء فعله ‪ ،‬ومسعود كان كل هؤلء ‪ ،‬كان آتٍ لفعل‬
‫شيء عقابه عندهم الموت ‪ ،‬ويحمل شيئاً عقاب حمله الموت ‪ ،‬وهارب من مطاردة الموت‬
‫له لفعل أتاه عقابه الموت ‪ ،‬لهذا كان مسعود مدركاً ضرورة حسابه لكل خطوة من خطواته‬
‫‪ ،‬فرغم تأخره في الطريق أسبوعاً كاملً ‪ ،‬لم يستعجل دخول المدينة ‪ ،‬بل تمهل حتى رأى‬
‫أتشاح الطبيعة بشالها السود يطمس معالمها ويحيل الجساد كتلً مظلمة ل تبان لها معالم ‪،‬‬
‫فأتجه إلى زاوية يدخلها مع من أتاها بنية الصلة ‪ ،‬فلما صلى مع المام وسلم دعى دعاء‬
‫متمهل ‪ ،‬نهض بعده إلى المصاحف المصطفة أمام المصلين وأستعرضها أمامه بنظرة‬
‫عابرة فما أطمئن حتى استقر بنظرة على مصحف يعرفه جيداً ‪ ،‬يختلف عن غيره في نقشه‬
‫ولون غلفه ‪ ،‬اقترب منه ثم سحبه في هدوء وتراجع خطوتين إلى حيث جلس بين‬
‫(‪)1‬‬
‫سحَفَ الحيات ‪ :‬أثرها الذي تتركه في الرض ‪.‬‬
‫مَ ْ‬
‫الجالسين فقرأ سورتي الخلص والنصر ثم قلب صفحات المصحف في هدوء حتى‬
‫وصل إلى الصفحة الولى منه ‪ ،‬فوجد مدوناً فيها الكلمات التالية ‪:‬‬
‫وقف ل تعالــى‬
‫من إمام صلة العشاء‬
‫الطالب رحمة ربه‬
‫لم تكن هذه الجمل لتنال اهتمام أحد أو تثير انتباه أحد ‪ ،‬فما أحتفظ بهذه النسخة من‬
‫المصحف في متحف ول أهتم أحد هواة جمع التراث بوضعها في مكتبته ‪ ،‬ويصعب عليك‬
‫أن تجدها اليوم في أي مكان ‪ ،‬ذلك أن من عادة الناس هنا أن تجمع المصاحف التي تبلى‬
‫فتحرق ظناً بها على النجاسة أن تطالها ‪.‬‬
‫لم تكن هذه الجمل لتعني شيئًا سوى لكاتبها الذي ينتظر تحقق مقصده منها ‪ ،‬ومسعود الذي‬
‫يقرأها الن ‪ .‬أعاد النظر في الجملة المكتوبة ثم أغلق المصحف وأعاده إلى مكانه ‪ ،‬ليتجه‬
‫إلى من أمهم في الصلة فجلس جواره ‪ ،‬نظر إليه المام متسائلً ‪ ،‬فقال له مسعود بكل‬
‫هدوء ‪:‬‬
‫‪ -‬أنا الطالب رحمة ربه ‪.‬‬
‫‪ -‬نظر إليه الشيخ نظرة طويلة ثم ابتسم له وهو يشير إلى رجل يجلس في الزاوية القربية‬
‫منه ‪ ،‬فمضى مسعود إليه ‪ ،‬ولما دنى منه سلم عليه ثم قال له ‪:‬‬
‫‪ -‬أنا مسعود ‪...‬أريد مقابلة سلم ‪.‬‬
‫مد له الرجل يده مصافحًا وقال له ‪:‬‬
‫‪ -‬لتتبعني من بعيد ‪ ،‬فل تدركني ول تدعني أغيب عن ناظريك ‪.‬‬
‫وبعد ما أوصله ذلك الرجل إلى المغارة تحادث قليلً مع سلم ثم عاد أدراجه واعداً‬
‫بالحضور في الغد ‪.‬‬
‫أخذ مسعود مكاناً في المغارة جلس فيه صامتاً شاحب الوجه اللون ‪ ،‬تائه النظرات ‪ ،‬فكان‬
‫وقع هذا الصمت شديداً على رجلين طال بهما النتظار والترقب حتى كاد يعتريهما‬
‫اليأس ‪ ،‬قطع امعيزيق الصمت المطبق قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬ل أرى في وجهك خبر خير يا مسعود ‪.‬‬
‫رفع سلم رأسه وأكد ما ذهب إليه امعيزيق قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬مبادي اللعب بادي قصيرها‪. )(1‬‬
‫‪ -‬أين رفيقك يا مسعود ؟‬
‫‪ -‬لقد طاردونا وأصابوه برصاصة في ظهره لم تمهله غير خمسة أيام ‪ ،‬لهذا تأخرت في‬
‫القدوم إليكم ‪.‬‬
‫التفت إلى سلم ‪ ،‬وكأنه يحاول تغيير موضوع الحديث قال ‪:‬‬
‫‪ -‬لبد وأنه قد أصابكم الملل ‪...‬لقد خشيت أن تخرجوا وتتركوني هنا وحدي ‪.‬‬
‫ابتسم امعيزيق وقد أدرك مخادعة مسعود نفسه بمحاولته نسيان فقد رفيقه ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫‪-‬كيف تريدنا أن نذهب والرسالة الذاهبون لجلها معك ‪...‬أقصد مع رفيقك الذي مات ؟‬
‫تنهد مسعود تنهيدة عميقة وقال‪:‬‬
‫‪ -‬حقاً قد مات ‪...‬إنهم ينتظروننا والحال ليس حسن ‪ ،‬لذا علينا أن نسرع قدر ما نستطيع ‪.‬‬
‫(‪ )1‬مبادي اللعب بادي قصيرها ‪ :‬تعبير يستخدم في إحدى اللعب الشعبية ويقصد به الشارة إلى تأزم المور ‪.‬‬
‫قال سلم ‪:‬‬
‫‪ -‬غداً يكون لدينا ما نحتاجه من الدوات لقطع السلك الشائكة ‪ ،‬وفي المساء يحين وقت‬
‫العمل الحقيقي ‪ ،‬فقط علينا وضع خطة محكمة لتنفيذ ذلك بكل الدقة ‪.‬‬
‫‪ -‬عندما تمر الدورية المكلفة بمراقبة السلك نعقبهم نحن لتمام مانريد ‪.‬‬
‫‪ -‬لكن الدوريات تكاد تمر كل ساعتين حسبما سمعت ‪ ،‬وإضاعتنا ساعة في قطع السلك‬
‫لن يدع لنا سوى ساعة واحدة قد لتكون كافية للبتعاد ‪ ،‬فإذا ما فطنوا لما إفتعلناه في‬
‫السلك من مهرب تعقبونا ‪.‬‬
‫‪ -‬وما الرأي عندك ؟‬
‫‪ -‬الرأي عندي أن نضرب الدورية ‪.‬‬
‫‪ -‬لكن هذه مغامرة ل نضمن نتائجها ‪ ،‬ونحن نريد الخروج ‪ ،‬فسلمتنا أمر ضروري ‪ ،‬لن‬
‫الرسالة يجب أن تصل ‪ .‬في الغد أخبركم بما أفكر فيه وما يجب أن نفعله ‪.‬‬
‫في اليوم التالي كان الرجال الثلثة قد تركوا المغارة فأتخذوا لهم مخبأً غير بعيد عن‬
‫السلك الشائكة ‪ ،‬فلما حل الظلم أفادوا من ستار ظلمته ليقتربوا أكثر من السلك ‪،‬‬
‫حيث دسوا أجسادهم بين حجارة وجدوها يحيط بها حطب كثيف ‪ ،‬وظلوا هناك يرقبون‬
‫مرور الدورية ليشرعوا في عمل ما اتفقوا عليه ‪.‬‬
‫‪ -‬حسبما قيل لي فإن الدورية لن تمر إل بعد ساعة من الن فهذا أوان عشائهم ‪.‬‬
‫‪-‬لماذا ل تحاول الن إذاً ؟‬
‫‪ -‬ل …ل نستطيع المغامرة …علينا أن ننتظر مرورهم لنضمن عدم عودتهم إلينا سريعاً‬
‫… والن استمر ا في المراقبة ‪ ،‬أما أنا فسأنام قليلً ‪ ،‬وإذا ما حدث جديد أيقضاني ‪.‬‬
‫بعد دقائق اقترب سلم من امعيزيق بهدوء محاذراً إيقاض مسعود وقال له ‪:‬‬
‫‪-‬إسمع يا امعيزيق ‪ ،‬إن حمل البندقية مع هذه الدوات أمر صعب ‪ ،‬ل شك سيصيبنا‬
‫بعطلة ل داعٍ لها ‪ ،‬لذلك سأحمل هذه الدوات لضعها في المكان المحدد ثم أعود إليك‬
‫‪.‬‬
‫‪-‬لكنهم إذا مروا وجدوها ‪.‬‬
‫‪-‬ل ‪ ...‬ل تخاف ‪ ،‬لن يراها أحد منهم في هذه الليلة المظلمة ‪ ،‬لتستمر أنت في المراقبة‬
‫وإذا سمعت شيئاً غريباً أيقظ مسعود ‪.‬‬
‫‪-‬يجب أن نخبره قبل ذهابك ‪.‬‬
‫‪-‬ل ‪ ..‬دعه نائم ول تزعجه ‪ ..‬فقط أيقظه إذا سمعت شيئاً ‪.‬‬
‫‪-‬إستل سلم في هدوء يحمل عدته بعد أن أزاح بندقيته بكل هدوء ناحية مسعود ‪.‬‬
‫أنتظر أمعيزيق كثيراً لكن سلم لم يعود فأعتراه قلق شديد ولم يجد أبداً من أيقاض‬
‫مسعود ‪ ،‬الذي إنزعج كثيراً مما حدث ‪ ،‬حاول أمعيزيق أن يطمئنه لكن دون فائدة ‪ ،‬قال له‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬دعنا ننتظر قليلً يا مسعود فربما عاد ‪.‬‬
‫‪-‬أخشى أن يكون قد وقع في شرك السلك ‪ ..‬يجب أن أذهب إليه ‪.‬‬
‫نهض إليه مسعود وهمّ بالتقدم ‪ ،‬لكن شل حركته أن رأى ضوء قادماً من بعيد ‪.‬‬
‫‪-‬سلم الحمق أوقعنا في الفخ ‪.‬‬
‫كان أمعيزيق قد أدركه الرعب والفزع الشديد لما قد يصيب سلم ‪ ،‬فنظر إلى مسعود وهو‬
‫يقول ‪:‬‬
‫‪-‬والن ماذا علينا أن نفعل ‪ ..‬لبد من إنقاذه ‪.‬‬
‫‪-‬لم يعد أمامنا من خيار ‪ ،‬يجب أن نستقبلهم قبل أن يصلوا إليه ‪ ..‬هيا بنا ‪ ..‬أنطلقا إلى‬
‫السلك منحرفين قليلً ناحية الجهة القادم منها الضوء ليدركا الدورية قبل أن تطال‬
‫سلم الذي لم يأخذ معه بندقيته ‪ ،‬لكن سرعة العربة لم تدع لهما من مجال للقاء بعيداً‬
‫عن سلم ‪ ،‬فأفترشا الرض يحتميان بظلم الليل وأحجار صغيرة ل تكاد تواري‬
‫رؤوسهم ‪ ،‬وانطلق دوي الموت يمل المكان باحثاً عن الحياة أينما كانت وسط ليل برك‬
‫بكل ثقله على ذلك المكان يزيد من ظلمته شبح الموت الذي خيم عليه ‪ ،‬ولم يكن هناك‬
‫سوى هدفين يبانان لطالبهما ‪ ،‬ضوء العربة ونقطة من السلك لمح عندها الجنود‬
‫الطليان شيئاً يتحرك ‪ ،‬ولم تدم المعركة طويلً ‪ ،‬ففي لحظات كان كل شيء قد أنتهى ‪،‬‬
‫وساد السكون من جديد ‪ ،‬فما عاد يمسع غير أنين منقطع ‪.‬‬
‫‪-‬مسعود ‪..‬‬
‫‪-‬نعم ‪.‬‬
‫‪-‬هل أنت بخير ؟‬
‫‪-‬أنا بخير ‪ ،‬وأنت ؟‬
‫‪-‬أنا ل شيء أصابني ‪ ،‬ولكن سلم ‪.‬‬
‫‪-‬أبقي مكانك ‪ ..‬يجب أن نطمئن أولً ‪.‬‬
‫‪-‬سحب مسعود بندقية سلم نحوه ووجهها إلى العربة التي كان ضوءها قد أختفى وأطلق‬
‫سيلً من الرصاص ثم أنتظرا ل يبرحان مكانهما ‪ ،‬فلما لم يجب عليهما أحداً ل‬
‫برصاص ول بكلم ‪ ،‬أتجها ببطء ناحية العربة فلما أطمئنا إلى الموت جنودها الربعة‬
‫أتجها إلى السلك ‪ ،‬يبحثان عن رفيقهما سلم الذي أرشدهما أنينه إليه ‪ ،‬كان مصاباً‬
‫في يده وكتفه وساقه ‪ ،‬وكان ينزف بشدة ‪ ،‬رمى مسعود ببندقيته إلى أمعيزيق ثم حمل‬
‫سلم على ظهره وأنطلقا دون أن يأبها بما فعل سلم في السلك الشائكة ‪ ،‬إذ كان‬
‫واضحاً ما فعلت هي به ‪ ،‬كانت جراح سلم قد نزفت كثيرأً فما أدركه مساء اليوم‬
‫التالي إل وقد فارق الحياة ‪.‬‬

‫* * *‬
‫‪-‬كان يجب أن يذهب أحدنا بالرسالة ‪.‬‬
‫نظر مسعود إلى الرض طويلً ثم ألتفت إلى أمعيزيق قائلً ‪:‬‬
‫‪-‬ذلك ما ضحى سلم لجله ‪ ،‬لقد جعل من نفسه كبش فداء يحمينا به لنتمكن نحن من‬
‫الخروج ‪ ،‬لكن ماذا يستطيع شخص واحد أن يفعل ‪ ،‬حتى نحن الثنان ل تستطيع فعل‬
‫شيء ‪ ،‬بل حتى عندما كان معنا لم نكن بالعدد الكافي ‪ ،‬فالمر ليس مجرد حمل رسالة‬
‫لن من يوصل الرسالة يجب أن يعود بالمؤن والسلم ‪ ،‬كما أنه من الصعب على واحد‬
‫أو أثنين ضمان الوصول ‪ ،‬فنحن لم نقطع منتصف المسافة بعد ‪ ،‬ما تزال أمامنا فيافي‬
‫يجب أن نقطعها إذا أردنا الوصول ‪ ،‬لذا علينا البحث عن رفاق آخرين قبل التفكير في‬
‫معاودة الكره ‪ ..‬قطع مسعود حديثه فجأة وقد سمع صوتاً ينادي خارج المغارة وقام من‬
‫مكانه وهو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬غريب ‪ ..‬هذا صاحب سلم ‪ ..‬ما الذي عاد به الن ‪ ،‬لقد كان هنا منذ قليل ‪.‬‬
‫خرج إليه أمعيزيق وناداه فقدم إليهما يجري مصفر الوجه متلحق النفاس ‪ ،‬فسلم بلسان‬
‫متلعثم ويد ترتجف ‪.‬‬
‫‪-‬ما بك يا رجل ‪ ،‬وما الذي عاد بك وقد كنت عندنا منذ قليل ‪.‬‬
‫‪-‬عدت إليكما وكل الشر على لساني ‪.‬‬
‫‪-‬ماذا حدث ؟ تكلم بال عليك ‪.‬‬
‫‪-‬لقد أسر عمر المختار ‪.‬‬
‫تحجرت عينا مسعود عند فوهة الفنجان في يده حتى تفجرتا دمعاً فرماه غير آبه به أين‬
‫يكون منتهاه ‪ ،‬ومضى يجر قدميه جراً حتى أدرك نهاية المغارة حيث جلس هناك مطرقاً‬
‫ل يقول شيئاً ‪ ،‬ل يفكر في شيء ول يرى شيئاً غير صور تتناهى إلى الذاكرة ‪ ،‬تتبع من‬
‫ماضٍ يزخر بالحلم ‪ ،‬أما أمعيزيق فقد جلس في مكانه واضعاً خده في كفه اليسر بينما‬
‫أمسكت يمناه بعود طويل يرسم به على التراب دوائر متشابكة ‪ ،‬وقد عاودته ذكريات بيت‬
‫وحيد في وادٍ معزول ‪ ،‬والحاجة حليمة تحكي له عن فارس يحمل سيفاً قاطعاً يأتي على‬
‫حصانه البيض فيخطف الميرة من بين مخالب الغول ‪.‬‬
‫عندما حل المساء كان الرجل الثالث قد ودعهما واعداً أنه سيعود إليهما بجوادين ليرجعا‬
‫بهما ‪ ،‬لم يرد عليه منهما أحد وهو يقدم عرضه ‪ ،‬فأنصرف مكتفياً من الوداع بعيون‬
‫رقراقة بالدمع ‪ ،‬شيعته بكل الود فرأى فيها كل الحزن ‪.‬‬
‫مضى وقت طويل ما قطع صمته شيء فعاشت الذاكرة أزماناً وقطعت ودياناً وفيافي‬
‫وألتقت بكل الناس لتعود إلى مغارة مهجورة في أرض مهجورة ‪ ،‬ل تجد فيها غير قلبين‬
‫طرد منهما الحزن كل شيء فشل عقلين عن فعل أي شيء ‪.‬‬
‫‪-‬ل بقاء لنا هنا بعد اليوم ‪.‬‬
‫‪-‬نعم يا مسعود ‪ ،‬يجب أن نعود ‪.‬‬
‫‪-‬ل ‪ ..‬لن أعود ‪ ،‬ولن أرضى بأن يضيع ما فعله سلم ‪ ،‬سأخرج من تلك الفتحة وإن‬
‫كانت تقود إلى القبر ‪.‬‬
‫‪-‬ربما أصلحوها ‪.‬‬
‫‪-‬سنفتح غيرها ‪.‬‬
‫خرجا يتبعان خطوات الليلة البارحة ‪ ،‬كان يحس خطواته أكثر ثقة ونظراته أشد عمقاً ‪،‬‬
‫شعر أن الطريق أمامه واضحاً يراه رؤية النبياء ‪ ،‬وصور الماضي كانت تتراقص أمامه‬
‫بكل وضوح ‪ ،‬ينظر إليها بكل جرأة وثات ليرى الصورة تتلل في إطار يحيط بصره بكل‬
‫أبعادها ؛ المس الذي كاد أن ينساه ‪ ،‬والحاضر الذي كاد أن ينوه عنه ‪ ،‬والغد الذي كاد أن‬
‫ييأس منه ‪.‬‬
‫عندما أدركا المكان الذي حدثت فيه معركة البارحة وجدا الفتحة التي يقصدان باقية لم‬
‫يصلحها أحد ‪ .‬خرج منها مسعود فصار على الجانب الخر من السلك ‪ ،‬ومد يده إلى‬
‫أمعيزيق يدعوه لن يتبعه ‪.‬‬
‫‪ -‬هل ستعود يا مسعود ؟‬
‫‪ -‬لن أطمئن على أمي ‪ ،‬فرحيل ل يطيق صبراً على فراق ماقد إعتاد عليه ‪.‬‬
‫نظر إلى الرض لحظة ثم رفع رأسه نحو امعيزيق يواصل حديثه قائلً ‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن نذهب ‪...‬هيا بنا ‪.‬‬
‫‪ -‬ل ‪...‬أنا لن أذهب معك ‪...‬هل أعطيتني الرسالة ‪.‬‬
‫‪ -‬لم تعد ذات فائدة ‪...‬لقد انتهى ‪...‬سيشنقوه ‪...‬‬
‫‪ -‬لذلك أريد أن أخذ الرسالة ‪ ..‬سأحملها معي وأعود بها ‪ ،‬فلن عجزنا عن الفادة منها‬
‫وصاحبها حي فل أشك في أننا سنفيد منها بعد ذهابه ‪...‬هو رمز ‪..‬والرمز ليموت ‪..‬بل‬
‫يبقى يسري في دماءنا أبداً ‪..‬أعطني الرسالة يا مسعود لعود فأجوب بها كل نجع وأقرع‬
‫بها باب كل دار ‪ ،‬وأقرأها على على كل منبر جامع ‪ ...‬سأعطيها للشيخ أمبارك لينقشها في‬
‫عقول أطفالنا ‪ ،‬يحكي لهم القصص كل يوم ‪...‬سأحكي له قصة سلم ليرويها لهم ‪ ،‬ولن‬
‫أنسى أن أقص عليه حكاية الفارس التي على حصانه البيض يختطف أميرته الحسناء‬
‫من بين ذراعي الغول ‪.‬‬
‫في اليوم التالي وحالما بدأ ظلم الليل يندحر مهزوماً أمام نور الفجر المتسلل في وجل من‬
‫بين السلك الشائكة ‪ ،‬كان رجل يعود بجوادين مخلفاً المغارة وراءه ‪ ،‬بعد أن مل الوقوف‬
‫منتظراً أمامها ‪ ،‬إذ لم يكن ثمة من يريد أن يعود فالكل قد عرف طريقه ‪.‬‬

‫(( تمت ))‬

You might also like