Professional Documents
Culture Documents
. :
"جميع الشخصيات الواردة في هذه الرواية هي من وحي الخيال ،وأي تشابه في
مسمى أو وصف كبر أو صغر قرب أوبعد هو من قبيل الصدفة والقتراب الروائي من
الواقع"
الحلم الواعد
() 1
وقع البحر في هوى الصحراء ،يدفع أمواجه في بحر العشق تيار شوق لزمان مضت ،
احتضن فيها الصحراء بين ذراعيه ،تظللها زرقته ،وتخضل ترابها أمواجه .لكن المسافة
بينهما كانت جد طويلة ،فلم تكن الصحراء لتنسى انحساره عنها وتركه لها .فاكتفى منها
بنظرات الغرام ،وهي تتربع بعيداً عنه خلف الرمال البيضاء يبثها لواعج نفسه عبر
النسام الباردة .وتذكر إحدى الروايات أن البحر ولما بلغ به الشوق قدراً لم يستطيع له
مداراة ،تمرد على قوانينه طالباً من الصحراء وصلً ،لكن آماله تكسرت تكسر أمواجه
على الشاطئ كل يوم فلم يبقى من هذا الغرام غير خليج يذكر بتخطي بحر لشواطئه في
لحظة حب .وفي زمن تالٍ ابتعدت فيه السطورة عن رومانسية اللهة ،وهو زمن أقرب
إلى عهد السيادة الرومانية ،ظهرت رواية ثانية ،أرجعت سبب تكون هذا الخليج إلى أن
الشواطئ تأففت يومًا من الحذاء اليطالي الممتد في البحر البيض ،فابتعدت عنه لتحفظ
طهارة تربتها ونقاء هواءها .
على شواطئ هذا الخليج امتدت رمال بيضاء ،تلتها على بعد عدة أميال من البحر
مرتفعات بسيطة ،لم يغامر أحد ما في يوم من اليام بنسبة اسم الجبل إلى أي منها ،
بجانب هذه المرتفعات امتدت وديان لم يحكى عن أحد منها أنه فاض بالماء ذات شتاء ،
فهذا مكان شحيح المطر مما يضطر سكانه إلى العتماد على آبار يحفرونها بأيدي
أقويائهم من الرجال ليرتووا ويرووا عطش أنعامهم ،هذه الصفة التي وجد فيها بعض
المتشائمين مصدراً لكلمة إجدابيا ،السم الذي حملته المدينة القريبة من هذا المكان ،
والتي ل تفصلها عن شاطئ الخليج أكثر من خمسة عشر ميلً .شوق هذه الوديان الممتدة
إلى أن تفيض بالماء في مواسم المطر ،جعل منها أماكن وادعة آمنة ،وداعة وأمناً
يغريان النجوع باتخاذها سكناً لهم لتجد بيوت كل نجع وقد امتدت بالوادي يتحاذى فيه
البيت بالبيت وتتشابك فيه الرمة بالرمة .
كان سكان هذه الوديان ناساً بسطاء ،يؤمنون كما يتعلم أطفالهم أن الصالحين سعداء ،وأن
كل المور تأتي كما ينبغي أن تكون .تصل أساطيرهم إلى نهاياتها السعيدة ،فل يقاسي
فيها غير المغضوب عليهم مستحقين لما نالوا .يجلبون المطر بالصلة ،ويبعدون
الشياطين بالبخور ،ويستبصرون مصير غائبهم بالضرب في الرمل ،وقراءة الكف
والتشبير .تحذر المهات أطفالهن من سرد الحكايات في النهار ،ومن أن تراهم الطيرة
في المساء فتنقر رؤوسهم الصغيرة ،ليطلقن عليهم الغول في الليل ،عبر حكايات تعاد كل
يوم يستمع إليها الطفال بذات الفرح والفضول ،حتى يسرقهم النوم وهم مندسين في
أحضانهن ،خشية أن يباغت نجعهم غول يبحث عن أمير لم يكن يوماً بين يديه ،أو تدخل
بيتهم غولة تطلب طفلً رفض أن يرضع من حليب ثديها .
وكل مساء وحالما تشعل أول نساء النجع النار في تنورها ويتصاعد منه الدخان ،تسارع
الشمس إلى الختفاء خلف المرتفعات الغربية ،وكأنها تخشى على ثوبها الجميل أن يتشوه
.وبابتعاد الشمس عن النجع تتضآل شجاعة الطفال ،فتتقلص دائرة الليبرة لتنتهي مع
ظهور أول نجم في السماء إلى مجموعة من الطفال يدور كل منهم حول أمه ،ينتظر
القنان الذي وعدته به والذي ل يتوانى عن إطعام نصفه لحد كلب النجع ،ومن تجاوز
في تلك اللحظة ضوضاء الطفال ،تناهى إلى سمعه صوت قطعان الماشية آتٍ من بعيد
يكسر صمت هذه الوديان ،وكأنها تغني أغنية جماعية صاغتها على لحن زمارة راعيها ،
وما يكاد يتضح صوت القطيع ويختفي صوت الزمارة ،حتى تسارع نساء النجع إلى
تنظيف معالف الماشية مما علق بها من التراب ليضعن فيها الشعير ،ثم تولي كل منهن
راجعة إلى تنورها لتلتقط طبق الخبز وتنادي أطفالها أن أدخلوا إلى البيت ،فالنهار قد ولى
،والليل قد حل ،وفي الليل يحوم البوم ويخرج الغول من بيته ،ويمتلئ الوادي بالشياطين
يذرعونه جيئة وذهاباً ،وتجلس الساحرات على قمم المرتفعات ،ويترك الموتى قبورهم
فيأتوا البيوت لينظروا مَن مِن الطفال لم ينام .
في أحد هذه الوديان ،تقلص النجع إلى بيت شعر واحد ،اهتمت صاحبته بنظافته دون أن
تهتم بتجديد أي من أجزائه التي يظهر عليها واضحاً أثر ليالي الشتاء العاصفة ،وشمس
الصيف الحارقة ،وتقلصت القبيلة في هذا الوادي إلى ثلثة أشخاص ،عجوز اعتلها
الحزن واعتراها قلق النتظار ،وشيخ أقعده الكبر وأسكته المرض ،وابن خذلته الشمس
بغروبها فصار في الدرب وحيداً وكان لزاماً عليه أن يتأخر .
تخرج الحاجة حليمة لتقف أمام البيت ،وتنظر إلى الدرب المؤدية إلى البلدة لعلها ترى
ابنها يخترق هذا الظلم ،الذي بدأ يرخي سدوله على المكان فيبدد مجيئه ما اعتراها من
قلق ،وإذ لم ترى أحد استدارت الحاجة حليمة وهمت بالدخول حانية ظهرها حذر أن
تلتطم جبهتها بالشارب ، )(1وقبل أن تدخل ترأى لها في السماء شيئاً ،فتوقفت ونظرت إلى
أعلى لتتبينه فلمحت غراباً يحوم في السماء ،اعتلى وجهها مزيجاً من الحزن والخوف ،
ودخلت البيت وهي تتمتم :
اللهم أحمينا ول تشمت عدو فينا ...اللهم باعد عنا الشر والشرار يا كريم ياستار .داخل
البيت كان الشيخ عبد ال يرقد على بطانية قديمة بهت لونها البني ،مستنداً وسادتين ،وقد
دس جسده النحيل تحت عباءة وبر مهترئة تركت عليها الفئران بصمات أكثر من زيارة ،
وحالما دخلت الحاجة حليمة البيت ،لمح في وجهها خوفاً ارتسم عليه لرؤيتها غراباً حام
في سماء واديهم ،فنظر إليها دون أن يتكلم نظرة قرأت فيها سؤاله الذي لم يطرحه ،
فقالت وهي تجلس بجانبه وتربت على كتفه :
-لشيء هناك ...فقط أنا قلقة بعض الشيء على امعيزيق ،فالدنيا أظلمت وهو غير معتاد
على الخروج في الليل .
* * *
لم تكن روحه الجهادية التي غرسها فيه والده لتدعه يستقر على حال ،فها هو وقد طوى
شبابه في طلب العلم بين الكتاتيب والزوايا ،ثم الزهر ،يعود إلى زاوية الجغبوب ،
يجلس مع علمائها كما جلس والده بالمس ،ويضرب طالباً جلس بذات المكان الذي جلس
به هو بالمس ،ويعنف أخر لم يفلح في تنظيف لوحة طالما عانى هو من تنظيفها .ولكن
هيهات للروح الجهادية التي تعمُر نفسه ،والتي ترك لها قياده ،أن تقنع برضاه عن عمل
يمكن لي من رفاقه أن يأتيه على أكمل وجه ،فتحركت هذه الروح لتهز الجذع من
جديد ،لعله يسقط ثمراً أكثر نضجاً ،فالشيخ عبد ال وإن كان عقيماً ل ينجب أطفالً لكنه
مازال ينجب خيراً ويشع عطاءً ،ولم يكن من أسلم نفسه للجانب الخير فيه أن يتركه في
لحظة جزع أو يخذله في ساعة حسم ،فكان أن ودع الشيخ رفاقه ورحل إلى الجنوب لنشر
تعاليم الدين السلمي في تشاد والنيجر وما تلها من البلد الفريقية ،سلخ في ذلك العام
تلو العام ل تفتر له همة ول يداخل نفسه شيء من ملل ،حتى جاء عاماً ل يمكن له أن
ينقضي في هذا الشأن .أدرك الشيخ عبد ال ذلك حين توقفت اللقمة في حلقه لحظة سماعه
خبر غزو الطليان لبلده ،وما كادت اللقمة تنزل إِثر شربة ماء إل وكانت روحه الجهادية
قد انتفضت من جديد وأشاحت بكليتها عما هي فيه لتقرر أنه لم يعد للشيخ من العوام ما
يسلخه في هذا المكان .فشد الرحيل وودع رفاقاً خلقتهم الغربة ،قالوا له إن الطريق طويل
،وإن السن كبير وإن الفرقة صعبة .لم يقل لهم إن مسافة اللف ميل تبدأ بخطوة ،ولكن
لبد وأنه فكر في شيء كهذا وهو يستحث ناقته على النهوض .وفي طريق طويل ل ترى
فيه العين نهاية لمتداد ،ول تلمس القدام غير الحصى ليس هناك من الوساوس بد ...
-ماذا جنيت من هذه السنوات التي سلختها في هذه الصحراء الموحشة يا شيخ عبد ال ؟
-ل شيء … فقط أضعت ملعقتي الخشبية التي أحضرتها معي من سيدي جغبوب …
ل … كدت أنسى ،لقد كسبت حبة دوم …
أخرج من جيبه حبة دوم نقش عليها اسم ال .نظر إليها ملياً ثم أرجعها إلى جيبه ...
-لقد أهداها لي عمر ...إنه رجل عجوز هداه ال على يدي ...الحمد ل لقد وفقت في هداية
الكثير من الناس ،وهذا ما قد أتيت لجله .
حقاً أتعب نفسه ،قطع هذه الفيافي ليلتقي به هنا ،ظناً منه أن النسان تضعفه وحشة
الصحراء وتحط من عزيمته متاعب الترحال ...لكن الشيخ عبد ال كانت روحه الجهادية
هي التي تقوده ،وما دامت ترى الهدف أمامها فليس لها أن تلين أو تستكين لهاجس من
الهواجس ...انقطعت به السبل ،فولى مندحراً باحثاً عن ضحية أخرى .أما الشيخ عبد ال
فلم يكن لتنقطع به السبل ،ولم يكن ليظل عن سبيله ،فقد كانت روحه تعرف الطريق جيداً
،فليس أسهل على النسان من الوصول حين تكون أهدافه مرسومة بوضوح.ولنه كان
رجل كللة )(1اعتاد شغف العيش وصعوبة إدراك المطالب ،مضى ينص )(2ناقته بل كلل
ولملل ،فلم يستغرقه الوصول إلى طرابلس وقتاً أطول مما قدر ،ولكنه أضاع أياماً غير
قلئل في التصال ببعض أصدقائه القدماء الذين ما توانوا في تحقيق مراده بالوصول إلى
قيادة الجيش التركي لينظم إليه .إذ كان يرى في هذا الجيش القوة المنظمة الوحيدة المؤهلة
لن تحمي ديار المسلمين .
وهكذا صار الشيخ عبد ال جندياً من جنود الجيش التركي ،وضُم إلى أحد السرايا العربية
في الجيش ،فأمر له قائد سريته ببندقية ،وملعقة من الصيني ،وصحن نحاسي صغير .
* * *
* * *
بعد ثلثة أشهر من مجيء الشيخ عبد ال رأى الشيخ أمبارك أن يعود بيت حليمة لينتصب
جابره ،ويدق موثقه ،فيكون كتاباً يُعلم فيه أطفال النجع القراءة والكتابة ويُحفظون كتاب
ال ،وفي صباح اليوم التالي كان ثلثة من الرعاة يقفون وبجوارهم حمار ناءَ به ثقل بيت
بأعمدته وأروقته ،كانوا ينتظرون حليمة أن تأتي فتشرف على بناء بيتها الذي أراد له
الشيخ أمبارك أن يتشرف بأن يكون مكاناً للكتّاب ،وحالما وصلت حليمة المكان أنزل
الرعاة البيت وطرحوه الرض فصار وكأنه فراش عظيم لم يرى بدوي مثله،وعلي أبعاد
متماثله دقت المواثق علي كل جوانب البيت ،وربطت بكل موثق رمته التي مدت فإذا
وصلت البيت لم تربط بافتعال ثقب فيه لن هذا منافِ لما كانت عليه خبرة هؤلء البدو في
بناء بيوتهم وجعلها مقامات معمره ،فهم يدركون جيداً أن ثقباً في البيت يوضع فيه حبل
تشده اليادي ،وتعصف به النواء ،لبد لهذا الثقب أن يكبر مع اليام حتى يصير شرخاً
يهدد البيت كله ،لهذا اجتنب البدو افتعال أي خرق في بيوتهم ،واستعاضوا عن ذلك
بجعل "الزازل" واسطة بين البيت والجزء القريب منه من الرمة ،وهو عود منحني
كالقوس يعتبر صغيراً جداً وثقيلً جداً لمن قارنه بقوس الحرب ،فيخاط طرفي هذا القوس
في حاشية البيت وتربط كل رمة في الزازل المقابل لها في الجزء المقوس منه ،ولن بيت
حليمه ليس كبيراً ،لم يكن محتاجاً في أطرافه لكثر من ثلث رمم عن يمين وثلث عن
شمال ،أما من أمام ومن خلف فبيت حليمة كباقي بيوت النجع كان يحتاج أربعة من
الوتاد لتثبيته إلى الرض ،رمتين في الطراف ،ورمتين في الوسط من أمام تناظرها
أربعة أخرى من الخلف .
عندما أكمل الرعاة دق مواثق البيت واطمئنوا إلى ربط حليمة لجميع الرمم كل في
زازلها ،إندس أحد الرعاة تحت البيت حاملً معه الجبر ،أطول العمدة لينصبه في مكانه
مجاوزاً منتصف البيت إلى اليمين قليلً ،ولحقه رفيقه بالجبر الخر لينصبه بذات مستوى
الجبر الول مجاوزاً هو الخر منتصف البيت إلى اليسار قليلً ،محاذرين أن تجاوز
العمدة وهم ينصبونها " الطريقة " ذلك النسيج القوي المصنوع من الشعر والذي يمتد
تحت جسم البيت يفصله عن العمدة ،فيحميه من تأثير رؤوسها المنغرزة في جسده .بعد
ذلك رفعوا جوانب البيت بأعمدة أخرى ،فإذا به يرتفع ويـبان الظل تحته ،فأطلقت حليمة
زغرودة عالية بادرت بعدها تثبت الروقة في مكانها ،ومضى الرعاة الثلثة في حال
سبيلهم بعد أن رأوا نساء النجع يتجهن ناحية البيت وقد احتملن الحطب على رؤوسهن ،
وما أن وصلن حتى شرع بعضهن يساعد حليمة في تثبيت الروقة ،وتنظيف البيت مما
فيه من أعشاب ،بينما أنهمكت باقي النسوة فيما أحضرن من حطب ،ولم يتركنه حتى
أبتنين منه جدارين في كل طرفي البيت الماميين فكان الجداران مقوسي الطرفين ؛
اليمن إلى اليسار ،واليسر إلى اليمين ،فشكل هذان القوسان المتقابلن سناحاً يحمي
البيت من البرد والريح .
بني هذا البيت في الجهة الغربية متأخراً قليلً عن باقي بيوت النجع ،كما أشار بذلك الشيخ
أمبارك ،فكان إذا رفع رواقه من الجهتين الشمالية والغربية دخلته الريح الباردة تطرد ما
دخله من حر شمس الضحى دون أن ينشغل الطفال عن الدرس بالنظر إلى ما يدور في
النجع ،إذ أن الرواقين الشرقي والقبلي الذين يحفظا مسدولين طيلة ساعات الدرس ،يقفان
خير حاجز أمام من أراد أن يسترق النظر من الطفال ناحية بيوتهم.
بعد ستة أشهر كان جل ما نسجه خيال أهل النجع من حكايات حول الشيخ عبد ال قد تحقق
،فالشيخ الذي طلبه الشيخ أمبارك من زاوية سيدي جغبوب قد بدأ يعلم الطفال القراءة
والكتابة ،ويحفظهم القرآن .وقريب الحاجة أمدل الذي قيل أنه جاء ليأخذها معه قد قرر
أن يبقى بجانبها عندما رفضت هي أن ترافقه ،وذلك الحاج التائه عن دربه أو النافذ زاده
قد طاب له المقام في هذا النجع ،وهذه حليمة في رأي نساء النجع قد فكرت وحكمت عقلها
عندما اقتنعت بالزواج من الشيخ عبد ال ،وها هي بعد طول تأبّد قد زفت إليه في بيتها .
وحدها حكايات الطفال عن العيون الزرقاء والشامة في الخد اليسر لم تتحقق ،لن أحد
منهم لم يعد يذكرها ،ولو أن مسعوداً شقيق مريم تذكر حكايته القديمة التي كان يرويها
للطفال ذات يوم ،لقال أن الشيخ قد تزوج حليمة لتنجب له ولداً بعيون زرقاء وله شامة
في خده اليسر .لكن مسعود لم يذكر هذه القصة ،والشيخ عبد ال لم يكن يحلم أن يكون
له ولد لنه كان عقيماً ل ينجب الطفال .
وداع الحلم الواعد
()3
مضى منتصف الليل وقد أخذ معه أهل النجع في نوم عميق ،إل رجالً ثلثة ما برحوا
مكانهم ول تغير حالهم منذ صلتهم ركعات المغرب الثلث .مكانهم بيت المضافة الذي
جعله الشيخ أمبارك ليستقبل ضيوفه فيه ،ويجتمع فيه برجال النجع يفضون إليه بما
عرض لهم ويعطيهم الرأي فيما عرضوا عليه .أما حال هؤلء الرجال الثلثة فقد كان قلق
اعتراهم على صاحب هذا البيت الذي طلبه الطليان ليمثل أمام قائد المركز ولما يعود بعد
ول عاد من يخبرهم من أمره شيئاً .كان الرجال متربصين وسط ظلم الليل على نور
فنار خافت ينتظرون عودة من بعثوا به يتقصى أخباراً عن الشيخ أمبارك .فما سمعوا
نباح الكلب قد عل إل والشيخ الفضيل قد قفز قائماً وخرج من البيت ،ثم اتجه ناحية
الشبح الذي بان له تحت ضؤ القمر ليولي ناحية البيت صحبة مبعوثهم للبلدة ،الذي ما كاد
يدخل البيت حتى طلب جرعة ماء يروي بها عطشه .ناوله أحد الرجال الثلثة قدح الماء .
وضع القدح بين شفتيه وقتاً لم يكن قصيراً للرجال المترقبين ،رفعه بعد ذلك وقال وهو
يضع القدح على الرض غير بعيد عنه ويغرسه في التراب بقصد تثبيته :
-اطمئنوا إن الشيخ أمبارك بخير لم يمسه سؤ ،لكنه يطلب منكم أن ترحلوا فوراً وأن
تتعمقوا في الصحراء بقدر ما استطعتم ،فالطليان قد طالتهم إخبارية أن نجعنا هذا يساعد
المجاهدين ويمدهم بالطعام والسلح ،لهذا قد يقدمون في أي لحظة على تفتيش النجع
وأسر رجاله .
مر الشيخ الفضيل بنظره على الرجال الثلثة ثم قال :
-لبد من الرحيل إذاً .
قال أحد الرجال :
-نعم ...يجب أن نرحل فوراً ،وعلينا الن أن نقوم فنوقظ أهل النجع ليستعدوا للرحيل .
أطرق الشيخ الفضيل قليلً وهو يفكر ثم قال :
-الليل بالكاد قد انتصف ولو قمنا بإيقاظ النساء والطفال الن فلن ينتصف نهار الغد إل
وقد نالهم جميعاً التعب وغالبهم النعاس ،لذا أرى أن ننتظر طلوع الفجر ليكون الجميع قد
نال قسطاً وافراً من الراحة والنوم .أما أنتم فعليكم أخذ أربعة من البل لتتجهوا بها ناحية
الكوف )(1فانظروا إلى أقربها لكوم العوسج ،وستجدون حجراً كبيراً في ناحيته الشرقية ،
احفروا على يمين هذا الحجر ،وحملوا ما تجدوه من سلح على ظهور البل ثم ضعوا
فوقه بعض التبن وأذهبوا به إلى أي مكان تأمنون فيه عليه غير هذا المكان ،ادفنوه فيه
وعلموه بمعلم تحفظونه وعودوا إليّ بسرعة .
تساتل )(1الرجال الثلثة بينما جلس الشيخ الفضيل منتظراً طلوع الفجر مفكراً في والده ،
فليس أصعب على القوم من غياب رجل منهاة )(2كالشيخ أمبارك في وقت يحتاجون فيه
لحسن التدبير .لما سمع الديكة باشرت صياحها قام فصلى ركعتي الفجر ثم اتجه إلى
البيوت يوقظ أهلها بيتاً بيتاً ويدعوهم للستعداد للرحيل ،لكنه بعد فترة لم يجد من داعٍ لن
( )1الكوف :جمع كاف وهي الحفرة التي يخزن فيها التبن والحبوب .
( )1تساتل :تساتل الرجال أي خرجوا متتابعين واحداً تلو الخر .
( )2منهاة :رجل منهاة أي رجل عاقل .
يستمر في مروره على باقي البيوت لن الخبر قد انتشر وصار يستبق كل بشير ،فعاد إلى
بيته يساعد أهله في ضم بيته وبيت المضافة .
كل من نام من أهل النجع نهض بعد طلوع الفجر ،إل مريم تلك الفتاة ذات الثلثة عشر
ربيعاً نهضت كعادتها كل يوم قبل طلوع الفجر ،فاتجهت إلى بيت الحاجة أمدل لتحل
وثاق الحمار وتربط على ظهره البراميل الفارغة ،ثم قادته إلى بيتهم فوجدت أخيها
مسعوداً قد صحى من نومه ،ناولته كسرة من خبز الشعير وهي تقول له :
-ل تتأخر عليّ كما فعلت بالمس ،فأنا ل أستطيع ترك نعاج الحاجة أمدل قبل عودتك ،
فإذا تأخرتُ مع الشياه تأخرتُ في إعداد الطعام وهذا يجعل الحاجة أمدل تغضب وتشتمني
،هز مسعود رأسه وهو يمضغ كسرة الخبز اليابسة ،ثم مضى يتخطى رمم البيت وهو
يجر الحمار ورأه .نظفت مريم عشهم المتواضع الذي يطلقون عليه اسم البيت دون تردد ،
وأخذت بطانية مسعود وأضافتها إلى غطاء أخيها الصغير جبر ،أكثر من يستمتع بالنوم
في هذا البيت وربما في النجع كله ،فهو ل يستيقظ إل بعد طلوع الشمس .كانت مريم قد
أحضرت الفأس الذي تقطع به الحطب ،والحبل الذي تربطه به عندما ذهبت لجلب الحمار
،فلم تجد نفسها مضطرة لمعاودة الذهاب لبيت الحاجة أمدل ،واتجهت مباشرة لتحتطب ،
وحاولت أن تبتعد قدر ما تستطيع حتى ل تزعج فأسها الصغيرة سكان النجع فيدعون
عليها وهي تكره أن يدعوا عليها أحد في الصباح ،فالحاجة أمدل تقول دائماً :
إن دعاء الصباح كلم صلح ...عمر اللي يجيه ما ينال فلح .لهذا ابتعدت بفأسها الصغير
وحبلها القصير بقدر ما استطاعت لتتجنب دعاء ناس يصبح دعائهم في الصباح وكأنه
كلم أولياء صلح .بهذه الفأس التي ل تقطع الحطب إل بعناء ،وبهذا الحبل القصير الذي
ل يكاد الحطب يجتمع فيه حتى ينفرط من جديد ،ولن مكان الحتطاب بعيدٌ بعيدْ ،لم
تدرك مريم النجع إل والشمس قد أشرقت ،ولما ارتقت التل المشرف على النجع من
الناحية الشرقية رأت مريم وكأن النجع ليس نجعهم وكأن البيوت ليست بيوتهم ،رأت
البل بين واقف وبارك أمام البيوت التي بات معظمها يفترش الرض بعد أن كان يظللها ،
ورأت النساء كل تجري في سبيلها ،هذه تقلع مواثق بيتها ،وتلك تضم أعمدته ،وهذه
أخرى مازالت لم تفك الروقة بعد .لم تجد مريم تفسيراً لما يجري فرمت بما تحمل من
حطب وجرت نازلة التل نحو بيت الحاجة أمدل فوصلت وقد انتهت حليمة والحاجة أمدل
من إخراج جميع محتويات البيت وشرعن في فك أروقته ،سألت مريم عما يجري
فأجابتها حليمة أن النجع راحل لتوه ،لم تتكلم مريم وكأن المفاجأة قد خاطت لسانها في
لهاتها ،فصارت عاجزة عن النطق ،جرت نحو بيتهم فوجدت شقيقها جبر مازال يغط في
نومه ،عادت تجري وأمسكت بتلبيب أول رجل قابلته وقالت له إن أخيها مسعود ذهب
إلى البئر ،قال لها أنه سيعود مع غيره من الرجال إلى مكانهم الجديد ،كاد يعود
الطمئنان إليها لول أنها رأت الكثير من حمير النجع واقفة أمام بيوت أصحابها ،فدارت
تجري في النجع فراءت كل الوجوه التي يمكن أن ترد البئر ،وأدركت أن أخيها قد ذهب
إلى البئر وحده ،وسيعود إلى هنا فل يجد أحداً .كان هذا التفكير مدعاة لها لن تجري
وتجري لعلها تلحق بأخيها مسعود .
كانت مريم تتوقف بين الحين والخر لتسترد أنفاسها ،ثم تواصل الركض من جديد ،
والحمار يجري دون توقف ،والزمن ل ينتظر أحداً ،ومسعود يستحث حماره على
الجري فإذا ما لحظ عليه تباطئاً وخزه بدبوس صغير اختلسه من الحاجة أمدل في غفلة
منها ليتخذه لهذا الغرض ،هذه الوخزات تعودها الحمار المسكين ،إذ تذكره دائماً أن عليه
أن يضاعف سرعته .مريم تجري ،والحمار يجري ،وأنّا لمريم أن تدرك الحمار ،
فحمار الحاجة أمدل يُضرب به المثل في النجع لنها تعلفه كل يوم مرتين دون كل حمير
النجع التي ل يعلفها أصحابها أبداً فتأكل مضطرة النبق والعوسج والعنصل ،أما حمار
الحاجة أمدل فلم يشهد أحد على أنه قد أكل العوسج ذات يوم ،وهو إلى جانب ذلك لم يراه
أحداً يحمل أكثر من برميلين إثنين .ولكنه ككل الحمير ليس له أن يحتمل وخزة دبوس ،
فتجده يجري ويجري نحو البئر وكأنه يتحدى مريم أن تدركه ،وها هو الزمن يجري نحو
اللحظة القادمة منه يستحثه إلى ذلك طفل بدبوس في يده ،ليصل البئر بسرعة فيمل
براميله ويرجع ليوصلها لبيت الحاجة أمدل ،ثم يذهب إلى أخته مريم في المرعى فيستلم
منها الماشية لتعود هي وتجهز الطعام قبل أن يرفع الشيخ عبد ال أذان صلة الظهر ،
وبهذا تجتنب أخته مريم دعوات الحاجة أمدل التي تخشاها كل نساء النجع اللواتي يرددن
دائماً أن من دعت عليها الحاجة أمدل امرأة الشيخ أمبارك أصابها البوار فل يدنوا منها
عريس ،ومن دعت عليه من الرجال أصيب بالعقم ،ل ينجب أطفالً إل إذا سامحته
الحاجة أمدل ،ولنه ل يريد لخته البوار ول يريد أن يصبح رجلً عقيماً ،استحث
مسعود الحمار على الجري بوخزه بين الفينة والخرى بدبوس يحتفظ به في يده ،ومريم
مازالت تجري حتى أنهكها التعب وأدركت أنها لن تلحق بأخيها إل وقد وصل البئر لهذا
اخذت تمشي في عجلة حتى إذا ما شعرت أن لهاثها قد خف عادت تجري من جديد ،وكما
توقعت لم تلحق به إل وقد شرع في ملء البراميل .
كان وحيداً على البئر ،شعر بدوي أقدامٍ فنظر ورأه ،ولما رأى أخته مريم قادمة نحوه فتح
فمه مشدوهاً لحظة بادرها بعدها بالسؤال قبل أن تصل إليه :
-ماذا حدث يا مريم ؟ لماذا تلحقين بي ؟ هل أصاب شقيقنا جبر شيئاً ؟
وقبل أن تصل إليه ردت عليه وهي تلهث :
-ل ..لكن النجع مرتحل الن وبالكاد نلحق بهم .
رمى مسعود الدلو مكانها وقفز على ظهر الحمار وطلب من مريم التي كان الجري أنهكها
أن تركب وراءه ،ركبت مريم لكن الحمار رفض أن يجاوز مكانه فحمار الحاجة أمدل
مدلل غير معتاد على حمل أثقال تجاوز البرميلين ،نزل مسعود وأخذ يسحب الحمار
وراءه ،تحرك الحمار بصعوبة ،حركة لم تكن مرضية لمسعود الذي بحث عن دبوسه فلم
يجده ،رجع إلى مؤخرة الحمار وأخذ يضربه بكف يده لكن الحمار كان يريد العودة إلى
البئر فمسعود يطلب منه العودة دون أن يسقيه ماءً ،أدركت مريم أن هذا الحمار لن يكون
ذا كبير فائدة لهما بل هو سبب لما هما فيه من العطلة الن ،فقفزت إلى الرض وهي
تقول لمسعود :
-هيا بنا ...دعه فهو ليريد أن يذهب .
-لكن الحاجة أمدل ستغضب إذا تركنا الحمار والبراميل .
-وإذا أخذناه معنا فلن نلحق بالنجع أبداً .
قالت مريم هذا وسحبت مسعوداً من يده وأخذت تجري ،فجرى وراءها دون أن يكف عن
تصور غضب الحاجة أمدل وهو عائد إليها بدون الحمار والبراميل .
كان مسعود راغباً أشد الرغبة أن ينطلق بسرعة ،لكن الجهد الذي بذله في ملء البراميل
استغرق منه كل قوة ،فليس هناك ما هو أكثر تعباً لصبي من أن يمل البراميل وهي على
ظهر حمار ،فهذا التعب ل يقاس بما يبذل في ملئها وقد استقرت على الرض ،المر
الذي ل يأتيه مسعود إل إذا اطمئن لوجود من يساعده في حمل هذه البراميل على ظهر
الحمار ،وهو مالم يتأتى له اليوم فقد وجد نفسه عند البئر وحيداً ،المر الذي استغرقه
بالستغراب تماماً حتى وصلت إليه شقيقته مريم .
* * *
لم يطل مسعود وأخته على الوادي إل بعد وقت كان كافٍ للنجع لن يرتحل ،فلم يجدا في
الوادي غير بيتهما في أقصى شرق الوادي ،وبيت الشيخ عبد ال ،أو بيت الكُتّاب إذا
أردنا مجاراة أهل الوادي في كلمهم ،هذا البيت الذي استقر في أقصى غرب الوادي .
ولما رأى مسعود النهاك بادٍ على أخته طلب منها أن تصعد التل القبلي وتنظر لعلها ترى
أثراً للنجع الراحل ،ريثما ينزل هو ويحضر شقيقهم جبر إذا لم يذهب مع النجع .لم يكد
مسعود يصل بيتهم حتى سمع أخته مريم تناديه وهي تلوح له بيدها من فوق التل القبلي ،
دخل البيت فوجد أخيه جبراً يبكي فأخذه من يده وأمسك باليد الخرى مطارة مياه
صغيرة ،وخرج يجري ناحية التل القبلي دون أن يلقي ولو نظرة على بيت الشيخ عبد ال
.
* * *
كان الشيخ الفضيل قد مر بعد أن أدى صلة الفجر على أغلب البيوت ،يطلب منهم التأهب
للرحيل فكانوا يباشرون التجهيز دون أن يفكر أحد منهم في النقاش ،فهم لم يسلموا أمرهم
لهؤلء إل لثقتهم في رجاحة رائهم ،وحسن تدبيرهم وتسييرهم للمور ،واستمرت هذه
الموافقة للشيخ الفضيل حتى وصل بيت الشيخ عبد ال الذي قال بأنه لن يرافق النجع لن
حليمة ترفض أن تترك هذا الوادي ،فهي ستبقى هنا تنتظر شقيقها رجب حتى يعود ،
فقاطعه الشيخ الفضيل مشتطاً :
-لكن شقيقها لن يعود ...أنت تعرف ذلك ...ألم تقل ...أقصد أل تظن أنه ...قاطعه الشيخ
عبد ال :
-أنا قلت أنه قد ذهب ومن معه يقاتلون الطليان وحدهم ،ولم أقل أنهم ماتوا .
-حاول أن تقنعها يا شيخ عبد ال ،كيف لكم أن تعيشوا هنا لوحدكم !!
-منذ وصلنا خبر الرحيل وأنا أحاول إقناعها ،ولكن دون فائدة ...لذا سنبقى هنا ،وليفعل
ال بنا ما يشاء .
لم يتركهما الشيخ الفضيل إل بعدما أعياه الكلم ،وخذلته الحجة فهو لم يكن ليرضى
بتخلف أحد عن النجع ،لكنه رأى في حجة حليمة وموافقة الشيخ عبد ال لها بعض عذر له
في إذعانه لما قد قرراه ،لكنه لم يكن ليعذر نفسه عن تخلف صبية صغاراً عن النجع ،
وتركهم في قفر لمعين لهم فيه ،فذلك لم يحدث عن رغبة متعمد أو إهمال غافل ،فهو
كان أخر من ترك الوادي وقد رأى من على ظهر جواده ذلك العش الصغير ما يزال
قائماً ،لكنه ظن أن صاحبه قد تركه زهداً فيه أو لعدم وجود دابة تحمله .
* * *
وصل مسعود يجر جبراً وراءه إلى قمة التل القبلي ،قالت له مريم أنها رأت عتمة تتحرك
فوق قمة تل بعيد وأكدت على أنها النجع المرتحل ،جلس مسعود أمام جبر طالباً منه أن
يعتلى ظهره وهو يقول :
-هيا بنا نلحق بالنجع يا مريم ،فقد ابتعدوا كثيراً .
جروا كثيراً ومشوا أكثر وبكوا أكثر وأكثر ،وتفطرت أقدامهم ،وأدمت من كثرة ما
أصطدمت به من حجارة ،تعب مسعود وأحس بثقل جبر ينزل على ظهره كالجبل فأنزله ،
مشى جبر قليلً ثم سقط ،رجعت إليه مريم وحملته على ظهرها ،لكنها سرعان ما
وضعته على ظهر مسعود عندما وجدت نفسها عاجزة عن الحراك وهي تحمله ،وما
كادوا يصلوا إلى أسفل أحد الوديان حتى سقط مسعود على الرض وسقط معه جبر ،
رفعت مريم المطارة التي سقطت على الرض فوجدت غطاءها قد وقع وماءها قد اندلق
فلم تظفر مها بغير قطرات لم تكفِ لتبل لسانها الذي جف من شدة العطش ،أقامت مسعوداً
من على الرض وأسندته على كتفها ،بينما سحبت جبر من يده ،وارتقت بهما التل وهي
تتمايل تحت ثقلهما ،لقد كانت مريم قدمان يئنان تحت ثقل ثلثة أجساد فمسعود كان بالكاد
يرفع قدميه عن الرض ،أما جبر فقد كانت تجره من يده كما تجر حزمة حطب ،وما
أدركوا قمة التل حتى سقطوا ثلثتهم ،رفعت مريم رأسها ونظرت فرأت تلك العتمة تبان
عليها من جديد على قمة بعيدة ،فعم نفسها بعض التفاءُل وقامت قبل أن تسترد أنفاسها
لتسند أخويها بذات الطريقة التي أوصلتهما بها إلى قمة هذا التل ،وهبطت بهما الوادي ،
ولكنها شعرت وكأن الدنيا قد بدأت تدور بها ورأت حجراً كبيراً فاتجهت نحوه ووضعت
أخويها في ظله وهي تشعر بالتعب والعطش والدوار الشديد ،سمعت مسعوداً يطلب الماء
ويهذي بكلمات أخرى لم تستطع أن تتبينها ،أما جبر فلم يكن يتكلم ،ولم يكن يهذي ،
وحتى لم يكن يتحرك .
قامت وكأنها تنتزع جسدها من الرض إنتزاعاً ،ومشت خطوات قليلة توقفت بعدها
ونظرت وراءها وإذ رأت مسعود ينظر إليها ،انحدرت دموع من عينيها ،اختلطت
بقطرات عرق انحدرت من جبينها ،مسحت دموعها بكف يدها ،ومضت تصعد التل
القادم ،وقد خلفت وراءها أخوين صغيرين .
سمعت مسعود يناديها بصوت خافت ،فمضت دون أن تنظر إليه ،وعندما وصلت قمة
التل كان مسعود يراها شبحاً أسود لم يكن ليتبين فيه ملمح أخته ولم يكن ليعرف إنها هي
لو لم يكن يعلم أنه ليس فوق ذلك التل سواها .
* **
لقد ارتحل النجع الذي ترك واديه ،وتبعته مريم التي تركت أخويها ،فلم يبقى في هذا
الوادي غير الشيخ عبد ال والحاجة حليمة ،وحمار الحاجة أمدل الذي عاد من عند البئر
وبراميله ما تزال على ظهره ،وهذا كلب الشيخ أمبارك يعود بعد أن ودع النجع وكأنه
يرفض أن يغادر الوادي منتظراً لعل صاحبه يعود ذات يوم .بقى هؤلء كأنهم أشباح
تحمي ما حوى هذا الوادي من ذكريات .
عندما اختار الشيخ عبدال الستقرار في هذا النجع كان يأمل نيل جسده راحة طالما افتقدها
،فالترحال الذي استغرق جل ما مضى من عمره ،كان يجد فيه كل المتعة و الطمئنان .
لكن العمر أصدر أحكامه فلم يجد له من مهرب منها فأمتثل لهذه الحكام راجياً أل يخيب
أمله في استحقاق الراحة الجسدية لما ضحى به لجلها .لكن رجاءه خاب من جديد
وصار الفال السيء يلزمه حتى بات يعتقد أنه صار بذاته فأل سيئ ل تفلح حبة الدوم التي
يحملها في أبعاده .فالجيش التركي ما كاد ينظم إلى صفوفه حتى أسلم مواقعه ورحل ،
وهذا النجع ما كاد يستقر فيه حتى ضم بيوته ورحل ،فلم يبقى معه في هذا الوادي غير
حليمة التي بات يخشى أن يطالها الفأل السيء فهو مصاب بالمالريا وطبيب الجيش
التركي أكد له أن هذا المرض قد يعاوده في أي وقت وإن طال غيابه ،وتوقع كهذا يعوزه
التفاءل ،والفأل السيء الذي يتبعه يجعله يخشى على حليمة أن تبقى وحدها إذا أصابه
مكروه ،لذلك قال لها وهو يرى النجع يختفي خلف التل القبلي :
-لقد ذهب الجميع وبقينا وحدنا ياحليمة ،كان يجب أن نرافقهم ،لني أخشى أن أذهب أنا
أيضاً وأتركك وحيدة في هذا الوادي .
إمعيزيق
()4
الماضي يظل في الذاكرة ل يغادر ،والغد يظل في الحلم ل يأتي ،والحاضر يستمر رغم
أنه لم يعد مرضياً ،يستمد استمراره من ذكريات المس ،ويستحضر تواصله بأحلم الغد
.
توقفت الحاجة حليمة عن خض الشكوة التي تضعها على ركبتيها ،وأنزلتها على الرض
لتحل رباطها ثم ضربتها بكلتا يديها على الجانبين ،حصرت بعد ذلك ما تكون في أعلها
من زبدة لترتفع إلى فم الشكوة الذي أمالته على وعاء صغير جهزته لهذا الغرض فسقطت
الزبدة فيه دون مقاومة .أعادت ربط الشكوة جيداً وأسندتها الحجر الذي كانت تتخذه
مجلساً ،واتجهت إلى حيث ينام الشيخ عبد ال ،تحمل الوعاء الصغير في يدها وكأنها
أرادت أن تفرحه بما فيه من الزبدة ،لكنها أهملت الوعاء بما فيه عندما وجدت عينيه
مفتوحتين ل يطرف لهما جفن ،نادته فلم تفز منه بجواب ولم يكن في ميسورها أن تسمع
له نفس يتردد ،أمسكت بيده ورفعتها إلى أعلى ثم تركتها فلما رأتها سقطت إلى جواره
دون إبطاء نظرت إلى امعيزيق الجالس غير بعيد ،يقرأ القرآن وقالت له :
-عندما رأى النجع يغادر هذا الوادي ،قال لي :لقد تركنا الجميع يا حليمة وأخشى أن
يأتي يوماً أذهب فيه لتركك وحيدة .
-ماذا تعنين يا أم ؟
-يبدوا أنه قد جاء ذلك اليوم يا ولدي .
وضع أمعيزيق الكتاب جانباً وأقترب من الشيخ ،فهز جسده ،وناداه ثم لما لم يسمع منه
جواباً ارتمى عليه وهو يبكي ،تنحدر دموعه على خديه إنحدار المزنة الهاطلة ،بينما
جلست الحاجة حليمة قريباً منهما ،تكاد تخنقها عبراتها وهي تشعر أن هذا العزاء ،هو
الشد حزناً في حياتها ،فكل المآتم حزينة ،لكنها تكون أشد حزناً عندما تكون مآتم
تعيسة ،وليس أشد تعاسة على المرء من أن يجد نفسه يحزن وحيداً .لم تغيب شمس ذلك
اليوم إل والشيخ عبد ال قد توارى تحت تراب قمة التل القبلي التي اختار أن يدفن فيها
وحيداً ،بعيداً عن المقبرة التي كان يدفن فيها أهل الوادي موتاهم .لم يبقى من أثر له ،
غاب ظله ،غاب صوته ،غاب اسمه ،لم يبقى له اسم حتى في سجلت البلدية التي لم
يدون فيها يوماً ،حتى حبة الدوم التي رافقته لكثر من عشرين عاماً ضاعت عندما قاموا
بدفنه .لم يبقى منه فوق الرض غير كتبه القديمة ،وبعض مواقف حفظتها ذاكرة شاب و
امرأة عجوز ،لم يبرحا يبكيان عند قبره الذي ما يزال قائماً حتى الن .تستدل عليه من
بعيد بقبته البيضاء التي يقال أن الشيخ الفضيل أمر ببناءها عندما عرج في إحدى زياراته
إلى البلدة على القبر لقراءة الفاتحة والترحم على صاحبه ،ولما كان القبر قائماً في مكان
مرتفع فقد بان للشيخ الفضيل الثر الذي أحدثته الرياح فيه ،حتى أن بعض العظام قد
برزت من تحت الثرى وكأنها تبغي اللحاق بروح صاحبها ،وما كان هذا المر إل ليزعج
الفضيل ،إذ ليس لدى هؤلء القوم ما هو أكرم وأعز من الميت وأشياءه ،فأعطى بعض
المال للتاجر اليهودي بندرلي سائلً إياه أن يكلف من يحيط القبر بسور ويجعل له قبة
بيضاء ،فكان ما أراد الفضيل قد تم على أكمل وجه على يد ذلك اليهودي ،المستعد دائماً
لفعل أي شيء يعود عليه بالمال والذي ل يفتأ يردد أنه لمستعد لعمل درب في البحر مادام
المال موجوداً .وفي إحدى زياراته التالية للقبر أحضر الشيخ الفضيل راية بيضاء من
البلدة ،قام من رافقه من أبناءه بتثبيتها على أعلى القبة فأحدثت حركتها مع الريح صوتاً
أضفى على المكان المزيد من الهيبة والجلل .وقد داوم الموسرون ممن يمرون بالقبر
على تغيير هذه الراية ،إذ لم يكن لها أن تعيش طويلً مع إقدام كل زائر على اقتطاع
أجزاء منها يربطها حول معاصم أطفاله ورقابهم لتحميهم من العين والحسد .ول ينسى
هؤلء الزوار أخذ سفة من تراب أرض الضريح يرشونها فوق رؤوس أبناءهم أو يقذفون
بها داخل أفواههم ليبعدوا عنهم الطيرة .
* * *
بعدما أنهت الحاجة حليمة صلة ركعتين جديدتين ،جلست لتواصل الدعاء لروح الشيخ
عبد ال ،فهي تعلم جيداً أنه إذا مات المرء انقطع عمله إل من ثلث ...وحالما انتهت من
دعاءها اتجهت إلى أمعيزيق فوجدته مايزال على حاله يستند أحجار القبر ويبكي ،قالت له
:
-إن الظلم قد حل ويجب أن نذهب ،وخطت عدة خطوات مبتعدة عن القبر ،لكنها
توقفت عندما لم تحس به يأتي بأي حركة ،وعادت إليه لتأخذ بجذبه وهي تحثه على
النهوض ،حتى استجاب بقيامه مكفكفاً دموعه ،فأمسكته من يده ،وسحبته وراءها ولما
اطمأنت إلى انقياده وراءها تركت يده فسار يتبع خطواتها دون أن ينطق بكلمة .
عادت به الذاكرة إلى الوراء لكثر من عشرين عاماً عندما استيقظ ليجد أخيه الصغير
يستند ركبته ،حاول أيقاضه فلم يستيقظ ،هز جسده فلم يستجيب ،رفع رأسه من فوق
ركبته ووضعه على الرض ونهض ناظراً حوله لعله يرى من ينجدهما ،فلم يجد غير
حجر كبير خير ما يقدمه لهما هو الظل الذي استظل به ،لكنه سمع صوت فأس يضرب
الرض وكأن شخص يحتطب غير بعيد عنهما ،فلم يجد في ذاكرته ما يدعوا به هذا
الشخص غير البكاء ،فلبى الحطاب النداء ،ولم يكن سوى الحاجة حليمة التي يتبعها
الن ،نظرت إلى أخيه فقال لها أنه نائم ،حاولت إيقاظه فلم يستيقظ ،رفعت رأسه
وحاولت فتح عينيه فلم تجده يبدي أيما استجابة ،تذكر أنها أخذت بيده ومضت بخطى
مسرعة حاملة الفأس على كتفها مخلفة الحبل وما احتطبت وراءها ،وما أن استراحت إلى
مطاوعته لها حتى تركت يده ،فتبعها دون أن يتكلم ،وظل صامتاً لسبوع كامل لم يجب
خلله على أيٍ من أسئلة الحاجة حليمة المتواصلة .ورغم أنها رأته كثيراً في النجع -
عندما كان هناك نجع -يحضر براميل الماء لبيت الحاجة أمدل ،إل أنها لم تتذكر أنها
تعرف له اسماً غير أنه شقيق مريم ،والشيخ عبد ال كذلك يتذكر أنه ميزه حين رآه لنه
كان كثير المشاكسة في الكُتّاب دون باقي الطفال ،فلم يكن يحفظ الدرس ولم يكن ليهتم
بتنظيف لوحه ،إل أن الشيخ عبد ال لم يدعي أنه يعرف لهذا الصغير اسما ،لنه لم يكن
يسجل أسماء طلبه الذين يعلمهم فكان يكتفي بتسجيل كل طالب اسمه على اللوح الخاص
به حتى ل يختلط مع لوح غيره .
ولن الناس في الوادي ل يستسيغون أن تبقى الشياء بل أسماء رغم أن واديهم نفسه ظل
بل اسم حتى جاء من ألصق به اسم وادي سيدي عبد ال ،رأت الحاجة حليمة أن تعطي
هذا الفتى اسماً تناديه به حتى ينطق ويبوح باسمه ،ولما كان فتىً وجدته مرمياً في مكان
احتطابها ،لم تحار في تسميته ،واكتفت باتخاذ هذه الصفة اسماً له وصارت تناديه
امعيزيق ،هذا السم الذي لم يفارقه حتى حين تذكر اسمه القديم .وعندما حُلت عقدة لسانه
كان شقيقه جبر أول من سأل عنه ،فأجابته الحاجة حليمة أن أمه قد اشتاقت إليه فأخذته
معها .توقف عن السير ورفع رأسه ناظراً إلى السماء .
-أمي التي لم أراها أخذت أخي الصغير فلم أعد أراه ،وها هي اليوم تأخذ الشيخ عبد ال
الذي لن أراه ...لماذا ل تشتاق أمي إليّ ...لماذا ...لماذا ؟
كانت الحاجة حليمة تبان وسط سيل الذكريات من خلل أهدابه المتشابكة التي بللها الدمع ،
كنقطة سوداء باهتة خلف شبكة قاتمة غير ثابتة تتحرك ذات اليمين وذات الشمال ،وكان
هو يتبع هذه النقطة دون أن يحاول قطع حبل الذكريات الطويل الذي إمتد من القبر في قمة
التل القبلي إلى بيتهم في أقصى غرب الوادي .
عندما وصل إلى البيت تربع في فراش الشيخ عبد ال ،وسحب عباءة الوبر لتغطي ركبتيه
،وعندما عادت الحاجة حليمة بالفنار ،رأت فيه الشيخ عبد ال الذي ابتلعته الرض منذ
قليل فعادت دمعتها تسقط بعدما اكتفت منذ ساعة بأن تترقرق على سفح جفونها دون أن
تغادره ،جلست بجوار امعيزيق ونظرت في عينيه وهي تقول :
-عندما رحل نجع الفضيل عن هذا الوادي رأيته يجلس في المكان الذي كان يعلم فيه
صغار النجع وكأنه يستعيد الذكريات ،ويتأسف على بقاءه معلماً بل طلب ،وبعد أن
ي وقال :لقد صرنا وحيدين في هذا الودي يا حليمة ، قضى ساعات على هذا الحال جاء إل ّ
قلت له :أتمنى لو كنا ثلثة ،فرد عليّ والدمعة تترقرق في عينيه :الشيخ عبد ال عقيم ل
ينجب يا حليمة .كرهت نفسي في تلك اللحظة ،إذ أني لم أجيد اختيار كلماتي ،لقد كنت
أريد تهدئته فإذا بي أزيد نار فؤاده اشتعالً ،لم أجد ما أتفوه به فأخذت الفأس والحبل
وخرجت بحجة الحتطاب ،وحاولت أن أبتعد عن البيت بقدر ما أستطيع .كانت ذكريات
النجع الراحل تحوطني من كل جانب فأخذت أضرب الرض بالفأس بشدة لعل صوته
يغطي على صوت الذكريات .ل أعلم إن كنت أقطع حطباً أم أضرب حجراً ،ولم أقف
عما أنا فيه حتى قطع حبل الذكريات الذي لفني بكاء طفل غير بعيد عني ،فتوقفت عن
الضرب بالفأس واتجهت إلى مكان البكاء لجدك وأخيك الصغير ،لقد كان المسكين مرمياً
على الرض ،حاولت ايقاضه فلم يستيقظ ،حركت رأسه ،وفتحت عينيه ،ولما لم يبدِ
حركة أيقنت أنه قد مات ،أخذت بيدك وسحبتك ورأي حتى أدركنا البيت فدخلت على
الشيخ عبد ال وأنا أجرك من يدك فلما صرت أمامه رفعتك نحوه وأنا أقول له :ل تحزن
أيها الشيخ فها نحن قد صرنا ثلثة ...يأبى ال إل أن يحقق أحلمي .فرحنا بك فرحاً شديداً
واكتسبت حياتنا طعماً أخر .وانبعثت فينا روح الحياة من جديد .أخبرته عن شقيقك فذهب
ليكفنه ويدفنه ،في ذاك المكان الذي وجدتكما فيه بجانب ذات الحجر الذي حماكما ظله .لم
تتكلم إل بعد اسبوع وحالما تكلمت سألت عن أخيك الصغير .قالت هذا وطأطأت رأسها
فرأى دمعة تسقط على حافة الفنار ،ثم تواصل طريقها حتى تصل التراب فتدفن فيه نفسها
،رفع رأسه وقال بحزن :
-قلتِ لي يومها أن أمي قد اشتاقت إليه فأخذته ،وها هي اليوم تأخذ أبي الشيخ عبد ال
لنعود بعد أكثر من عشرين عاماً أثنين وحيدين في ذات الوادي وبين ذات الروقة .
قالت وهي تكفكف دمعة في مكانها :
-ل تحزن يا ولدي غداً عندما تتزوج سنصبح ثلثة ثم أربعة ثم خمسة حتى نبني لنا في
هذا الوادي نجعاً جديداً .
حلق مع أحلم أمه بعيداً بعيداً ،ليسقط من ذلك العلو في بحر الحزن على أبيه من جديد .
فيها أحداً ،فأتجه نحو ذلك الدخان ليتبين مصدره ،ولما تجاوز الكثيب الفاصل لمصدر
ذلك الدخان عن البيوت ،وجد رجلً يشتوي اللحم لثلثة أطفال افترشوا الرض بجواره
وعيونهم ل تحيد عما في النار ،رأى قطع اللحم وهي تحترق على النار ،سلم أمعيزيق
من بعيد وقد أضمر في قرارة نفسه أن يهجم على النار ويفتك من فوقها ما يطال من قطع
اللحم إن فكر هذا الرجل في طرده ،لكن ذلك الشاوي خيب ما كانت عدوانية روحه قد
صارت إليه فأهل به هذا الرجل تأهيلً لم يتوقع أمعيزيق أحداً يجود به في مثل هذه اليام ،
استجاب لدعوة الرجل بالجلوس منتظراً ،وهو ينظر إلى النار نظرة لم تختلف كثيراً عن
نظرة الطفال إليها ،ولم تكد قطع اللحم تقارب الستواء حتى تلفتها اليادي تلهمها لفواه
جائعة لم تعد تذكر آخر مرة ذاقت فيها الطعام .
فكر أمعيزيق في أن هذا اللحم قد يكون مسروقاً ،لكنه طرد هذه الفكرة وهو يتذوق أول
قطعه منه ،أحس وكأنه يتناول اللحم لول مرة ،كان يمضغ في سرعة قدر أنها تمنحه
فرصة الحصول على قطعة أخرى ،محاولً أل ينتبه أحداً لستعجاله في الكل لكنه
سرعان ما توقف عن المضغ كلياً عندما لحظ الرجل الذي كان يوري النار يتلفت تلفتاً
شديداً كأنه يتسمع لصوت غريب ،أرهف سمعه هو الخر فتناهى إلى أذنه وكأن أصواتاً
تتقدم نحوهم ،ألتفت إلى الرجل ليسأله فوجده وقد بدأ يهيل تراباً على النار فيكتم دخانها ،
منع ثعبان بطنه الهائج من القفز على الرجل بأن قفز ناحية الكثيب ليرى ما ورأه ويتبين
حقيقة ما سمع فتداعت لذاكرته صورة التل الشرقي لواديهم وهو يرى جمعاً كبير من
الناس ،وكأن كل من حصرتهم السلك قد إتجه نحوهم ،نظر وراءه وسأله عما يحدث
فأجابه الرجل الذي كان قد انتهى من طبن النار لتوه بصوت لم يكن فيه الكثير من
النزعاج :
-لبد وأنهم سيشنقون أحداً ،إنهم يتجهون ناحية الميدان الكبير حيث تنتصب المشانق .
-وماذا نفعل نحن ؟
-نظر إليه الرجل وهو يواري قطع اللحم المتبقية تحت التراب بعد أن غطاها بقطع من
حطب المثنان وقال له .
-ل شيء ..سنختبىء هنا وراء هذا الكثيب حتى إذا أقتربوا ،ضعنا وسطهم وكأننا قد
أتينا معهم .
-ولكن من سيشنقون ؟
-لبد وأنهم أمسكوا ببعض من يحاول التسلل إلى ما وراء هذه السلك بحثاً عن قوته
وقوت عياله خارج مقبرة الحياء هذه .
-ولماذا يشنقونهم ؟
-لذات السبب الذي دعاهم لن يحبسوك داخل هذا الجحيم .
-ولماذا يسوقون كل هؤلء .أجابه الرجل وشعور بالمرارة بادٍ على وجهه .
-ليشهدوا على أن من يشنق يموت ..
بعد لحظات كان أمعيزيق وسط الحشد العظيم ،وغير بعيد من المكان الذي نال فيه ما
أسكت ثعبان بطنه أحس قدمه تطأ شيئاً ناعماً لم يستطيع أن يفكر فيما يمكن أن يكون ولما
نظر إليه تبين فيه جلد كلب قد سلخ بعناية شديدة ..واصل السير وهو يتمنى أل يكون ما
أكله منذ قليل من اللحم مسروقاً .
وصلوا إلى حيث نصبت المشانق ،وكان عليهم جميعاً رجالً ،وأطفالً ،ونساءً أن
ينتظروا حتى المساء لتنتهي مراسم إثبات أن من يشنق يموت ،كانت وسائل اليضاح هذه
المرة تسعة رجال وامرأة رأى فيها أمعيزيق وجه أمه وهي تطلق زغرودة عالية وحبل
المشنقة يتدلى فوق رأسها ،ولما سألها الضابط الذي كان ينفذ أمر الشنق عما دعاها لن
تزغرد قالت بأعلى صوتها :
لقد تأكدت الن أنني قد صرت من البطال .
وأطلقت زغرودة أخرى أكد كل من ذكرها في حديثه فيما بعد أنها لم تكتمل .
كانت وسائل اليضاح طيعة في أيدي جلديها ،ولم يكن الموت بتلك الهمية التي كان
يتصورها أمعيزيق فها هي عشر أرواح تقضي كما يقضى على الدجاج بغير حرمة ول
قدسية .
في طريق عودتهم توقف أمعيزيق عند نار مضيفه في ذلك الصباح ونظر إلى كوم التراب
الذي علها مفكراً فيما تحته من لحم ولما لم يقفز ثعبان بطنه واصل المشي وقد ظهر على
وجه الشمئزاز ،وهو يسمع نباح كلب كان يتوسط السائرين ظن لوهلة أن نباحه كان
صادراً من بطنه .
النين والحنين
()7
كان الحزن والشعور بالقهر قد غشى قلوب الكثيرين من أمثال أمعيزيق ،أولئك الذين ما
صادف أن شهدوا إعمال المشانق وتأرجح الرقاب في حبالها من قبل ،وما كان شعورهم
هذا إل لينعكس على وجوههم ،فكان منهم الماشي واجمًا والجار قدميه ناحباً ،والمترنح
في مشيته والدمع منه قاطر ،ومنهم من خفض الخطى مستعبراً مغالباً الدمع حتى يتوارى
داخل بيته ،لكن ما قرب الجمع من بيوتهم حتى توقف ،إذ كانت الدرب إلى البيوت قد
سدها جنود أحباش ذوي ألعاط ( )1يمسكون بنادقهم مانعين كل من أراد تقدماً ،فوقفوا
مكانهم حتى تعبوا ،فلما تعبوا جلسوا ،ولما طال بهم الجلوس ملوه فأفترشوا الرض مما
جعل بعضهم يستغرق في نوم لم يكن بأي حال نوماً مطمئناً ،إذ ما كادوا يستشعرون
حركة في مقدم الجمع حتى تقدم الواقف ،ووقف الجالس ،وصحى النائم ،لكن نظرة
واحدة كانت كافية لبيان أن من سمح لهم بالنصراف إلى بيوتهم هم النساء والطفال ،
فعاد أمعيزيق إلى حاله ،بعد أن نظر حوله فلم يرى غير الرجال ،وقد أبانت له نظرته
تلك قلتهم بقدر لم يكن يتصوره ،بعد حين تقدم أحد الجنود ،وأخذ يختار من الرجال من ل
يرى فيه ضعفاً ول هزالً ،أحس أمعيزيق بخوف شديد لم يدري كنهه ،وأخذ يتراجع إلى
الوراء متوارياً خلف الرجال ،مما أثار إنتباه الجندي فدعاه لن يأتيه ،وما أن إقترب منه
حتى بادره بصفعة شديدة وهو يواصل العد بقوله ثلثة وتسعين ،لم يأتي أمعيزيق بأي
حركة غير ترديده ذلك الرقم ،وكأنه أراد أن ينقشه في ذاكرته فل ينساه ،ليتجنب صفعة
أخرى ،لم يكد يكرر الرقم ثلثاً وهو واقف مكانه حتى أحس وكزة في ظهره وجهها له
أحد الجنود بعقب بندقيته وهو يأمره أن يقف ضمن صف طويل ،جر قدميه نحو الصف ،
لكن سوطاً ألهب ظهره جعله يجري ناحية صف من الرجال ،ما كاد يستقر في طرفه
حتى سمع من يقف على يساره يذكر العدد إثنين وتسعين ويحثه على الكلم بهمهمة لم
يتبينها ،فبادر إلى نطق ثلث وتسعين ،التي خرجت من فمه عالية جداً مما جعل وجهه
يحمر خجلً إذ خشى أن يظن فيه الجزع والخوف ،وتمنى لو أمكنه أن يصرخ للجميع أنا
مرتبك ولست بخائف ،لكنه أحجم عن ذلك وهو يرى السياط والبنادق أمامه .
لم يستطع أمعيزيق تكوين أيما فكرة عما يراد به ومن معه ،وقد أخافه تسجيل السماء
كثيراً لنه سمع الضابط يتلو أسماء أولئك العشرة الذين تم شنقهم ،لكنه اطمئن وقد ذكر أن
عددهم مائة ،وكان قد عرف هذا بتوقف عملية العد عند هذا الرقم ،بينما عدد المشانق
المنتصبة في ذلك الميدان المتدلية حبالها أبداً ل يتجاوز عددها العشرة ،ثم أنه ل يوجد
سبباً يدعوهم لن يشنقوه ،لكنه عاد لبتلع ريقه وهو يتذكر ما أكله من لحم في الصباح ،
حاول أن يسترق النظر ليتبين إن كان ذلك الرجل الذي أولمه الطعام يقف بينهم ،لكنه
خشي أن يلمحه أحد الجنود ،ففضل أن يسأل من حاذاه من الرجال عن سبب جمعهم ،
ولما لم ينل جواباً عاد إلى أفكاره تتجاذبه بين مرعبة ومطمئنة لحين حضر من الجنود من
يخبرهم أن عليهم أن يحضروا في الصباح أمام إدارة المعتقل ،أحس أمعيزيق وكأن
كابوساً قد زال من على صدره ،ولم يدرك أن الصباح لم تعد تقف دونه غير ساعات
معدودات .
ومع شروق الشمس كان أمعيزيق بقميصه الكتاني المتسخ وسرواله الزرق الغليظ
الممزق عند الركبتين يقف وسط مائة من الرجال ،لم تكن رؤيتهم توحي للناظر بغير
البؤس الذي كان يلفهم من كل جانب ،اقتربت منهم عربة كبيرة فلم تترك من تلك المائة
غير أحد عشرة منها ،غضب أمعيزيق كثيراً لنه ترك هنا ،ليس لظنه الخير في ركوب
العربة ولكن لعتقاده أن البؤس ضمن تسعين ل يمكن إل أن يكون أهون منه وسط عشرة
رجال .
أخذت العربة من أخذت واتجهت بهم خارج المعتقل ،وبقي أمعيزيق ضمن عشرة من
البائسين ،عشرة رجال كانوا يشعرون بالغربة رغم قربهم ،ويحس كل منهم الوحدة رغم
وقوفهم في صف واحد ،أمروا بإتباع أحد الجنود فتبعوه ل يعرفون أين يقصدون .
قادهم الجندي خارج المعتقل ثم أتجه بهم جهة الشمال ،فساروا وراءه حتى أدركوا مكاناً
جمع فيه من البل الكثير ،أخذ أمعيزيق ينظر إليها مستغرباً ،فهو لم يرى إبلً بهذا
الضعف والهزال من قبل ،لم يلبث هذا الستغراب أن زال وهو يرى أربعة من الرجال
انهمكوا في سلخ ناقة ،وكانوا بمثل حاله من رثاثة الملبس وانحناءة الرؤوس التي وقف
عندها جندي لم يتبين فيه من فرق عن ذلك الذي يرافقهم ..شد انتباهه جملً لمحه وسط
البل فأثار ذكرياته التي عادت به إلى جمل الشيخ أمبارك وقد أحتمل هودجاً زفت فيه
حليمة إلى الشيخ عبدال ،لقد كان منظراً رائعاً والجمل يمشي مختالً على إيقاع الزمارة
ودفوف النساء ..كان يمد عنقه مختالً وكأنه يعانق السماء مفاخراً أقرانه بما اختير له من
دونهم ..أنقطع حبل ذكرياته وصوت الجندي المرافق لهم يرتفع آمراً إياهم باختيار عشرة
من البل ،فتقدم أمعيزيق يشق البل ويبعدها من أمامه حتى وصل إلى ذلك الجمل فحاول
عزله عن بقية البل لكن الجمل هرب من أمامه منضماً إلى رفاقه ،فقنع أمعيزيق بالعودة
يسوق أمامه ناقة بالكاد تمشي مما هي فيه من الضعف .
عرجوا تبعاً لمر الجندي على مكان جمع فيه الكثير من التبن احتملوا منه على ظهور
أربع من النوق ثم مضوا عائدين إلى المعتقل ،باتوا فيه ليلتهم تلك ولما أصبحوا أخبروهم
بأنهم سيرافقون أثنين من المهندسين الطليان يرتدون ملبس العرب ليصالهم إلى الكفرة ،
وكل من قابلهم أخبروه أنهم حجيج عائدون من الجزيرة ،هز العشرة رؤوسهم يوافقون
على ما سمعوا قالوا لهم أن من يحاول الهرب أو يعصي أوامر أي من اليطاليين
سيعرض أهله في المعتقل للموت وطلبوا منهم تسجيل أسماء عائلتهم ،سألوا أمعيزيق
عن أهله فأجابهم أن ليس له غير أم ،طلبوا منه معرفة مكانها فقال أنه أضاعها ولم يعثر
عليها حتى الن .
هددوه بالموت فكرر ما قال ،ضربوه فأقسم على صحة ما قال ،زادوه ضرباً فلم يزد
على تكرار قسمه ،أقسم لهم بحياة أمه فأدرك أن حياتها ل تساوي عندهم شيئاً .
قادوه إلى السجن فسلكوه في سلسلة غليظة الحلقات قد غطى سطحها الصدأ وتيبس عليه
الدم ،وأغلقوا وراءه باباً ليظل موثوقاً وثق الكلب ،ظن أن تبادره رفسة قدم أو وكزة
عقب بندقية أو لطمة ،فلما مر وقت دون أن يلمس جسده شيئاً من ذلك فتح عينيه في بطء
المتوقع شراً ،فما استطاع تبين شيء ،حتى الظلمة نفسها ،مد يده متلمساً فالتقت قدم
إنسان ،سحبها ومدها في جانب آخر فلمس وجهاً أستغرب عدم محاولة صاحبه إبعاده عن
يده .
بعد أيام فتح باب السجن فتسلل منه بعض من ضوء الشمس في وقت كان يخاله بداية ليل ،
واستطاع على هذا الضوء تبين جندياً أقترب منه ومد يده إلى السلسلة المثبتة في الجدار
فأنتزعها وسحبه صارخاً به أن ينهض ،نهض أمعيزيق وتبع الجندي دون قول شيء أو
التفكير في شيء ،حتى لم يتسآل إن كانوا يطلقون سراحه أم أنه يقاد للمشنقة ،قاده
الجندي خارج السجن حتى وصل به إلى عمود قائم في الرض فربطه ومضى إلى زميل
له ناداه لتناول الفطار .
ظل أمعيزيق مرمياً على الرض بذات الوضع الذي كانت عليه سقطته يتابع بنظره الجنود
وما حملوا في أيديهم من كسر الخبز وأقداح الحليب ،أنتبه إليه أحدهم ينظر إلى ما حمل
من فطور فأقترب منه ورفسه رفسة جعلته يصرخ ألماً ،ثم سكب على وجهه ما أحتوى
الكوب من حليب ساخن ،شعر أمعيزيق بذل شديد وكف عما هو فيه عندما رأى أحد
الجنود يقهقه ضارباً بقدمه الرض مشيراً إليه وهو يلحس بلسانه ما سال من الحليب على
وجهه .
* * *
اقتادوه إلى إحدى العربات ورموا به في مؤخرتها ،فظل ساكناً بإحدى الزوايا ل يبدي أيما
حركة .
شعر بمن يركب العربة معه ،ثم شعر بالعداد تتزايد من تزايد النفاس ،والكلمات
المتقطعة الخائفة ،وطأ أحدهم قدمه فضمها إليه منكمشاً وهو يشعر أنه قد بدأ يتضآل منذ
اللحظة التي لحس فيها الحليب كالكلب ولم نفسه على ما فعله ،جلس ونظر حوله فوجد
العربة قد امتلت وشعر بأجساد تلمسه من يمين ومن شمال فأحس ضيقاً في صدره دفعه
لن ينهض مستعيناً على ذلك بالمساك بما جاوره من أجساد ،فلما تحركت العربة مالوا
بعضهم على بعض ،أما أمعيزيق فكان بتمايله يصطدم بحديد العربة مما جعله يحس ألماً
شديداً في خاصرته اليمنى ،نظر إلى من حوله فرأى البؤس يقطر من وجوههم ،فكتم
ألمه وأحال بصره بعيداً عن العربة وعمن معه ناظراً لما أمتد أمامه من فضاء واسع لعله
ينسى ألمه ويبعد فكره عما يحيطه من وجوه بائسة .
* * *
علم بسؤاله من جاوره أنهم يأخذونهم كل يوم للعمل في رصف الطريق ،ففكر أنه ربما
استطاع الهرب من هذا العمل كما أفلت من مرافقة القافلة المتجهة إلى الكفرة لكن المر
هنا يبدو أنه كان مختلفاً .
لقد جعل العمل في رصف الطريق بصورة ل نستطيع إل أن نصفها بالحكام لنها كانت
تضمن من جميع البؤساء أحسن أداء يقدرون عليه ،فهم كانوا يدركون جيداً أن المديح
حيلة ل تنطلي على من يعرف أنه مجبر على العمل ،والتهديد ل يجدي مع بدوي لم يعتد
تلقي الوامر من أحد ،وضربه لن يزيد أداؤه إل سوءاً وهم ل يتقاضون رواتب لتقطع
عنهم ،ومع ذلك وجد ما يجعل الواحد من هؤلء يعمل بكل ما أوتي من قوة ،وهذا ما
جعل العمل يبدو منظماً بصورة محكمة ،إذ وزع من سخر من بؤساء المعتقل لهذا العمل
إلى مجموعات كلفت كل منها بالقيام بمرحلة من مراحل العمل ،وتعمل هذه المجموعات
متتابعة فمجموعة تنظف المكان المعد للرصف من النباتات وتزيل ما به من رمال ،
والمجموعة الثانية تتكفل بالمرحلة الثانية التي تحضر فيها الحجار وتصف على ما تم
إعداده من الرض ،ثم تأتي المجموعة الثالثة لتقوم بتسوية هذه الحجار لتكون بمستوى
واحد ،وهكذا كان العمل في الطريق موزعاً على مجموعات فإذا أدركت إحدى هذه
المجموعات المجموعة التي تتقدمها كان هذا خير دليل على تقاعس المجموعة التي لحُقت
مما يعرضها للعقاب بالعمل طيلة الليل ،وحتى ل تتقاعس كل المجموعات عن العمل فل
تدرك واحدتها الخرى عُمد إلى وضع المساجين للعمل ضمن المجموعة الخيرة ،فتحدد
لهم مسافة من الطريق متى أنهوا العمل أُخرجوا من السجن فكان في هذا الدافع لهم لن
يسرعوا في إنجاز ما بين أيديهم من عمل لينالوا تحرراً من السجن ،وتكون سرعتهم هذه
مدعاة للخرين ليسرعوا في العمل حتى ل يطالهم العقاب .
وضع أمعيزيق في المجموعة المكلفة بجلب الحجارة فكان عليه المشي مسافة طويلة ،
ليصل المكان الذي تجمع منه فيمل منها صندوقاً كبيراً يساعده رفاقه في وضعه على
رأسه ليمسكه بكلتا يديه إمساكه الكنز الثمين ليعود به أدراجه ل يستطيع من أثر ضغط
الصندوق عليه أن يلتفت إلى يمين أو شمال ،بل هو بالكاد يرى موضع قدمه رؤية لم تكن
منجية له بأي حال من اللتطام بنبتة راسخة أو حجر منغرس في الرض .لم يكن يستطيع
إدارة رأسه تحت ثقل الصندوق ولم يكن ليضمن ثبات الصندوق فوقه في حال تحريره
لحدى ذراعيه ،فتراه يمشي مشدود العضلت بعينين جاحضتين ل تبصرا غير نقطة
واحدة ،حتى تفكيره لم يكن له أن يغادر أرض الواقع ،فموضع قدميه أولى وأضمن من
قطعة حلم في السماء ،لكن الحنين ليس لنا أن نحجره داخل قمقم ينوء بحمل ثقيل ،والحلم
ليس لنا أن نقيده بواضع جسد ل يؤمن هو به ،فتسافر الروح معه رغم الثقال تشاركه
حالة شوق للحظات فرح الماضي التي تقتنصها من بين أسنان الرونج القاطعة للواقع
والتي تفقد معها كل ثقة فيما هو قادم ،لكن الثقل لم يكن ليدع الحلم يجاوز محيطه وما كان
الحمل إل ليحجر التفكير فيه ويحيط ما يدور في الذهن بدائرة حمله الثقيل.
فكر أن الحمل هو قدره الدائم ،حمل البراميل ،وحمل أكوام الزرع وأكوام الديس
المقطوع ،لقد اعتاد حمل الشياء لكنه أبداً لم يعتد هذه الذلة التي يشعر بها الن فحمل
الحجارة وبل شك يختلف ويثير أثقالً أخرى غير ثقل حمله ،لم يكن في ذلك الزمن الغابر
ليئن تحت ثقل ما يحمل ،لنه كان يشعر بود لما يحمله فحبل الود متين مع سنابل القمح
التي يحتضن ،والبراميل التي يرفع ،والدلو التي ينشل ،وأكوام الديس التي يقطع .
جميعها لم تكن لديه أشياء تحتمل أحكاماً مجردة فالزرع رمز للخير ومدعاة للبشر ،
فبحرثه يزرعون المل ،وبرؤيته يخرج من الرض يرون إطللة الخير ،ومع تفتح
سنابله وإنبثاق بذره يستشعرون إشراقات الفرح والمن ،وبالحصاد تطال الفرحة بالعرس
منتهاها ليحس الجميع حلوة النصر على التعب والمعاناة والقدر ،وتنتابهم لذة الشعور
بالمان من أقدار ل ترحم ،لم يكن الزرع شيئًا ولم تكن البذرة بذرة ولم تكن الرض
جماداً كانت كلها تعبق بالحياة ،الرض تهتز وتربو والبذور قطعة منهم يودعونها أمهم
الرض ،كانت هذه الشياء هم ،كانوا يتحسون أنفاسها ويستمعون لهمساتها ،يحزنون إذا
إِف الزرع ويفرحون إذا أسبل .يجمعونه بذرة بذرة ،يعرفون كل بذرة بعرق من
ارتوت ،ونفس من بث الروح فيها ،فالشياء كلها تولد أمامهم وتعيش معهم لتفعل بهم
وتتفاعل معهم فيصبح من الصعب على الواحد منهم القتران بأشياء أو حمل أشياء ل
تعني غير أشياءها ،هكذا تمضي به أفكاره كما يمضي ،حتى إذا طال المكان المعد أنزل
الصندوق من فوق رأسه وهو يحس وكأن هذا الرأس قد بدأ يتمدد بعد طول انكماش تحت
ثقل الصندوق ،ويشرع في إفراغ الحجارة وصفها متجاورة ،حتى إذا انتهى من ذلك عاد
مسرعاً إلى حيث يمل الصندوق من جديد .
كانوا يعملون منذ الساعات الولى من الفجر وحتى غروب الشمس فكان هذا الوقت طويلً
بقدر جعل أمعيزيق يقدم على العمل دون تقاعس لدراكه أن تعاونه في العمل سيكلفه عملً
طيلة ساعات الليل وهذا ما ل يريده ،إذ أن الليل كله بالكاد كان كافياً ليرتاح من عناء
حمل الحجارة طوال النهار .
* * *
الحاضر لم يعد مرضياً وذكريات الماضي صارت تغتاله لحظة بلحظة فما يجد أمامه غير
أحلم الغد ،يهرب نحوها ليبحث بينها عما يقتات به حاضره .قام أمعيزيق من نومه وكما
بيت البارحة قبل طلوع الفجر ،نظر إلى رفاقه الذين يشاركونه بيتاً خل من أهله بعد
اعتفادهم )(1فيه ،فوجدهم ما يزالوا يغطون في نوم عميق ،هو ميزة نوم المتعبين ،نهض
غير خاشٍ استيقظ أحد منهم ،وخرج يتخطى الرمم المتشابكة التي صعب عليه تمييز
الكثير منها فتعثر بها غير مرة ساقطاً على الرض يلتقيها بيدين مفتوحتي الكفين محاولً
بهما بعضاً من وقاية لجسده من أثر الوقعة وهو يلعن بينه وبين نفسه هذه الرمم ومن جمع
أهل هذه البيوت لتتشابك رممها إلى هذا الحد .
لما تجاوز البيوت وصار مطمئناً لعدم التقائه رمماً جديدة بتخليفها وراءه ،عاد يدور في
ذهنه منظر رفاقه في جمع الحجارة ،حين اجتمعوا على الغداء يوم أمس ،قالوا له أن ليس
لديه ما يمنعه من الهرب ،ما مادم ليس لديه من يخشى عليه في المعتقل ،فهم ل يمنعهم
من ذلك إل أُسر حُجزت معهم فل يملكوا إل أن يخشوا عليها ،فل تدع لهم هذه الخشية من
فرصة للتفكير في مغادرة العذاب الذي يقاسون ،هذا الحديث كان مدعاة ما بيت البارحة ،
وسبب خروجه في هذا الوقت المبكر ،هو لم يقرر شيئاً بعد ،لكنه أراد أن يلقي نظرة
على السلك الشائكة ،فلما أقترب منها اتجه إلى جانب خفت فيه حدة الضواء الكاشفة
ليتبين سماكة السلك واتساع ما تركت بينها من فراغ ،لكنه ما كاد يتحقق له ما أراد من
اقتراب منها حتى ذهل عنها وتلشى من فكره أيما اهتمام بها ليتركز على ما قد علق بينها
،لقد رأى جثة رجل معلقة هناك ،أقترب منها بحذر فوجد الدم ما يزال رطباً لم يجف
بعد ،بينما اندلقت الحشاء على السلك الشائكة .زم شفتيه وقطب جبينه وهو ينظر إلى
الجثة الهامدة في سكون ،ثم ولى عائداً يسحب قدميه وكأنه صار ينؤ بحملهما ل يلوي
على شيء سوى إدراك العربة التي تنقلهم كل يوم إلى حيث يعملون طوال ساعات النهار.
عندما اجتمعوا على الغداء روى لرفاقه ما رأه ،فلم يلحظ في وجوههم علمة تعجب ول
إمارة استغراب ،مما جعله يفتح فمه مشدوهاً ،ولم تتلشى دهشته تلك إل وهو يلتفت
مستمعاً لمن تبرع منهم بالتعليق على ما رواه قائلً :
-هذا يحدث كل يوم فل المتسللون ييأسون من محاولة الفلت ول السلك تمل التهام ما
يرمى إليها من جثث .
( )1العتقاد :لزوم المرء بيته في أوقات الجدب ،فل يسأل أحداً حتى يموت جوعاً .
وضع أمعيزيق يده على خده مطرقاً للحظة رفع بعدها رأسه مخاطباً رفاقه بنبرة فيها حسم
القرار :
-أما أنا فل أستطيع أن أخوض مثل هذه المغامرة ،إنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة .
-قد يكون ذلك صحيحاً ،لكن الهلك بالموت يرى فيه البعض راحة مما هم فيه من
البؤس ،أما أنت فلست مرغماً على ما يقدمون عليه من المغامرة .
نظر أمعيزيق إلى محادثه وقد لحت في وجهه بارقة تفاؤل قائلً :
-ماذا تقصد ؟
-أنت يجب أن يكون فرارك من هنا ..من هذا المكان ..
-وإلى أين التجئ ؟ ..ل شك سيقبضون عليّ .
-عندما يفكر المرء في الهرب يجب أن يطرد الخوف من قلبه ..أذهب إلى أي مكان ،
وبأذن ال لن يطالك منهم أحد ..
قال هذا ونهض طالباً من أمعيزيق أن يتبعه ،غابا بعض الوقت ثم عادا يواصلن عملهما
بنقل الحجارة ،كل في الصندوق المخصص له ،وعند حلول المساء لم يكد يتلشى صف
العمال أمام العربة التي تنقلهم كل يوم حتى بادر أحد الجنود يصرخ منبهاً إلى غياب أحد
العمال ،ثم أخذ يقرأ السماء حتى توقف عند اسم لم يكن صراخه به يثير أحداً ،أنتشر
الجنود في جميع الجهات يفتشون المنطقة المحيطة بهم يبحثون عنه .لكن الظلم كان قد
جثم على المكان مما دعاهم للكف عن البحث وركوب العربة عائدين إلى المعتقل .
* * *
كان أمعيزيق متعباً من أثر عمله طيلة النهار ،وكان الظلم شديداً ،فلم يكن ليقطع مسافة
تذكر حتى يجلس محاولً استرداد أنفاسه ،طالباً الراحة لقدميه المتورمتين من أثر
التطامهما بالحجارة ،وما تكاد نفسه تهدأ من أثر تعب المشي حتى تعاودها مشاعر الخوف
فينهض مواصلً سيره وهو يتلفت حوله يرى في كل ضبع أو ذئب مطارداً له ويسمع في
صوت الريح مناداة عليه ،لم يكن يعرف مكاناً غير واديهم ،ولم يكن يعرف عنه غير أنه
في الجهة الشرقية ،فسار سير التائه ،ضالته عند من قابلهم من الرعيان سبخة الملح
الكبيرة ،فلما استدل عليها وطالها دار بوجهته إلى اليسار فوجد نفسه يسلك دروباً يعرفها
جيداً ويعشقها بقدر معرفتها .
ما إن أطل على الوادي الذي ساده صمت رهيب وخيم عليه سكون مهيب حتى توقفت
قدماه عن المشي وتلشى الخوف وكأنما ذاب وذهب مع النسام التية من الشمال وتداعت
عليه الذكريات فإذا بدمعة رقراقة تترجح في مقلتيه كلما حاولت أن تسيل أمسكها .ها هو
الوادي الذي طوى أيام شبابه وحوى ذكريات ماضيه ،يراه وقد أمسى ل قطان ول
سكان ،ل يعلو فيه غير نعيق البوم ،ول تدوس أرضه غير السائبة .أدرك أن حبل
الذكريات قد إلتف به وشعر أن ثقلها على قلبه ليس بأخف من الخوف ،فنزل إلى الوادي
لعل المشي يقطع عنه سيل الذكريات هذا .لكن النزول صاعد ذكرياته ونقض جروحه
التي كانت مطوية ،فكانت كل خطوة يخطوها تذكره بساعة من الماضي ،وكل حجر
يضربه بقدمه يصطدم بآخر ليصدر صوتاً يتحول إلى كلمة من كلمات الحاجة حليمة ،أو
موعظة من مواعظ الشيخ عبدال ،لم يستطع إيقاف دمعته هذه المرة ،فتركها تنحدر على
خده لعل ذلك يخفف من آلمه .لفت انتباهه غراب يحوم في السماء فتابعه ببصره حتى
أعلى المرتفع الغربي فترأى له الشيخ عبدال وهو يصلي ،مسح عينيه من أثر الدمع
وعاود النظر لذات المكان فرأى جندياً إيطالياً يحمل بندقيته الطويلة على كتفه ،أغمض
عينيه وأعتصر جبينه بيده اليمنى ثم هز رأسه متمعناً وهو يبسط كفه حذاء جبهته يتقي بها
أشعة الشمس المباشرة ،فتبين الحجر الكبير الذي طالما أستند عليه الشيخ عبدال وهو يقرأ
ل الفلت من ذكرياته فوجد القرآن بعد صلة العصر ،عاد ببصره إلى الرض محاو ً
نفسه يقف عند الحجار الثلثة التي طالما اكتوت بالنار وهي تئن تحت حمل قدر الحاجة
حليمة ،ها هي ما زالت مكانها ،لم تبرحه وكأن طوارق الحدثان قد وقفت وقفة الجلل
والعظام أمام هذه الحجار ،أو كأن أرواح من استطعموا مما حملت هذه الحجار قد
وقفت حامية لها تحفظها من الدرس احتراماً لذكرى أصحابها .
لم يرى له فكاكاً مما تسارع عليه من الذكريات غير ترك الوادي ،فغادره متجهاً ناحية
البئر سالكاً ذات الدرب الذي كان يقطعه كل يوم في صغره وأيام صباه ،لكنه ودون
إعمال الرأي منه وجد نفسه معرجاً على مقبرة الوادي ،وحالما أقترب منها رأى بين
القبور شيخاً طاعناً في السن قد اختطت التجاعيد في وجهه أخاديد عميقة لم تفلح اللحية
البيضاء في مواراتها ،ظنه لوهلة مما يترأى له من خيالت الماضي ،لكنه ولما أقترب
منه رأي في وجهه نور البساطة والطهارة والنبل فأطمئن من جانبه وتقرب إليه مسلماً ،
ظل واقفاً مكانه ينظر إليه منتظراً أن يتم صلته ،فرد عليه الشيخ سلمه بمجرد ختمه
الصلة وألقى عليه نظرة هادئة مطمئنة وقال له :
-مرحباً بك يا ولدي ..من أين قدومك ؟ أنا لم أراك هنا من قبل .
-إني عابر سبيل يا شيخ ..آتٍ من مكان بعيد .
-أنا أسكن في المدينة هناك ..وقد اعتدت القدوم إلى هذه المقبرة لعلي أنال بعضاً من
الراحة التي ينعم بها سكانها .
-حقاً إنهم في راحة يحسدون عليها .
-لكنهم هم أيضاً يحسدوننا على ما نحن فيه .
-ما الذي يمكن أن يحسد عليه بؤساء في مثل حالنا يا شيخ .
-على القل أرى إنه ما يزال أمامنا خيار الفعل .
-وأي خيار ذلك الذي يستطيعه مقهور مسكين .
-أما القهر فهو حال علينا التعامل معه ،أما الستكانة فهي الخيار الذي نتحكم به ونقرره
لنفسنا .
-لكن القهر شديد حتى ل يدع لنا من خيار غير الستكانة .
-ذلك منطق الضعفاء يا ولدي ،ول أراك واحداً منهم .
-ل تعلق عليا الكثير من المال فأنت بعد لم تعرفني .
لم يكد يكمل جملته إل والشيخ قد نهض واضعاً بلغته تحت إبطه شاقاً طريقه بين القبور
المتناثرة .
سار أمعيزيق وراءه دون أن يتكلم محاولً أل يصدر أي صوت قد يزعج الشيخ أو يقطع
عليه أفكاره التي رأه غارقاً فيها .بعد حين توقف أمعيزيق عن متابعة الشيخ ليغير وجهته
ناحية البئر ،لكنه سرعان ما توقف مكانه مطأطأ الرأس ثم استدار وعاود متابعة الشيخ ،
حتى إذ أدرك التل الذي تعتليه قبة الشيخ عبدال ترك الشيخ يتابع طريقه ،بينما أخذ يصعد
التل ونظره معلقاً في الراية المرفرفة فوق القبر ،فلما صار فوق قمة التل ألقى نظرة على
الوادي فرأى الشمس تودعه وهي تتواري خلف التل الغربي تاركة الساحة للظلم يسدل
أروقته السوداء على أطراف الوادي ..راقب الشمس بعيون رقراقة حتى توارت ،ثم عاد
ينظر إلى ما حوله من القبة إلى الراية إلى القبر ،وفي حال إمراره البصر على أحجار
القبر لمعت في ذهنه صورة الشيخ عبدال وهو يحفر بجانب حجر كبير أستقر في وادٍ غير
بعيد عن هذا التل ..أعاد هذا الجزء من شريط الذاكرة مركزاً ذهنه فيه ،محاولً تذكر ما
يفعله الشيخ ،ولم تخيب ذاكرته ما أرتجاه منها إذ بانت له من بين تلفيف ما أحتوت
صورة الشيخ عبدال وهو يطمر بندقيته بجوار ذلك الحجر ،حالما برقت هذه الصورة في
ذهنه نهض وهم بأن يهبط التل مسرعاً لكنه وحال نهوضه أحس أن جلوسه كان فيه الكثير
من الراحة له إذ ما كاد ينهض حتى عاوده الشعور باللم يتمدد داخل ساقيه ،ثم إن الظلم
كان قد خيم على المكان وخشي أن يعيقه هذا عن رؤية ذلك الحجر فعاد إلى مكانه ممداً
جسده جوار القبر ناظراً إلى النجوم المتللئة في السماء ،ولم يدرك بعد النجوم المائة حتى
كان النوم قد أبعده عن الخيالت والذكريات ليدخله إلى عالم الحلم الذي لم يكن بحال أقل
رعبًا من واقعه فلم يمضي الليل إل متقلباً تعاوده الكوابيس فنهض غير مرة في حال فزع
ورعب ل يعرف أين نام ول يدرك ما جرى له .
بندرلي
()8
لم يكن نهوضه قبل الفجر بكافٍ لطالة نهاره بالقدر الذي يريد مما يجعله يستلب من الليل
ساعات يضيفها إلى نهاره الطويل ،الذي يفقد صفة الطول ،وكل الصفات بين لحظات
العمل الذي ل ينتهي .
كان رجل ضخم الجثة ذو وجه مستطيل تتوسطه عينان غائرتان ل تكاد تستبين في
نظراتهما شيئاً ،يرتدي جلباباً أسود طويل وقلنسوة صغيرة ل تكاد تخفي صلعة في مقدمة
رأسه دائمة التصبب عرقاً ،يدرك اليوم وقد بدى على ظهره بعض إنحناءة أنه قد بعد به
العمر عن حيوية الشباب ،وإن كان ما يزال محتفظاً بكثير من طموحاته التي لم تعرف لها
في يوم من اليام حداً ،فحين وصل إلى هذه الرض مع أول طلئع الجيش اليطالي منذ
ما يربوا على العشرين عاماً ،سرعان ما تحركت فيه طبيعة اليهودي الساكنة أعماقه فأقام
له داراً ابتناها بنفسه ثم أخذ يشتري ما يحضره المتجولون من التجار ليعيد بيعه لهل ما
أستقر حوله من نجوع ،ولم يكن يرى في هذه الدار إل نقطة بدء لتلك الطموحات التي
يجري وراءها ،إذ كان يفكر دائماً أن طموحاته تلك ليس لها أن تتحقق إذا لم يجعل من
نفسه محور العالم ومركزه ،وقد كان له في اتخاذ الدار دكاناً خير سبيل حقق له ما أراد ،
إذ يأتيه طالب الحاجة يشتري ،وراغب المال يعرض بضاعته ،ويقصده في دكانه من
ضاقت به الحال فلم يجد سواه يستدين منه ،يرهن عنده أرضاً ،أو دابة أو حلي زوجته أو
أمه ،وبهذا يصبح اليهودي بندرلي مركز العالم ونقطة الوصل بين سكانه ،يرى في نفسه
المحور الذي يدور حوله ،ويصدر عنه كل شيء ،وقد نجح في هذا أيما نجاح المر الذي
يجعل البعض يتسآل عن غفلة الخرين عما سبقهم اليهودي بندرلي إليه وتقاعسهم عن فعل
ما فعله ،والحقيقة إنه لم يكن لغيره أن يحقق ما حققه ،لنه كان مستعداً للمتاجرة في كل
شيء ،فهو يدفع المال يشتري به كل شيء حتى ذمم الناس وشرفهم ،وهو مستعد في
سبيل المال لبيع أي بضاعة وإن كانت بعض من كرامته ،لهذا قلنا أنه لم يكن لحد أن
يحقق ما حققه بندرلي ،ولم تكن طموحاته لتحدها قرية أو مدينة ،أو لترضى بنشاط أو
عمل محدد ثابت ،فهو يبيع أي شيء ويشتري أي شيء ومستعد لعمل كل شيء ،فكان
يردد دائماً أنه مستعد لعمل شق في البحر ما دام المال موجوداً وربما هذا هو الشيء الذي
لم يأتيه ،فقط لن أحداً لم يطلبه منه ،وقد كان له في صراع الطليان ودفاع المجاهدين لهم
وصراع الناس مع الفقر والجوع خير مجال تتفتق فيه عبقرية تاجر يهودي قضى أيام
شبابه في شوارع روما وأسواق السمك فيها ،فكان يشتري السلح من هؤلء ليبيعه
لولئك ويستلب الخبر من هنا ليقايض به هناك ،حتى ليقال أن له دوراً في غرق ( بابور
باله) عام 1936التابع لسطول أجينو باله الذي أسس تنارة جليانه ،وكان يملك أسطولً
ضخماً يحمل به ما يعتصر من خيرات البلد من الحبوب والجلود والحيوانات
والصداف ،إلى روما ومالطه واليونان ،فقد قيل أن بندرلي أقنع قبطان تلك السفينة
بصورة ما ليضيف كمية أخرى من القمح إلى ما تحمل السفينة ،فتجاوزت حمولتها بحد
كبير الكمية التي يمكن للسفينة أن تحتملها ،فكان هذا سبباً في غرقها ولم ينجي من ركابها
غير بحار ليبي وامرأة إيطالية ،وضاعت شحنة القمح ،وهذا حسبما قيل هو ما رمى إليه
بندرلي إذ لم يكن يرضى بأن ينازعه أحد على أسواق القمح في روما ،ولم يكن ما دبره
بندرلي ليخفى على رجل كأجينو باله اعتاد التعامل حتى مع أباطرة المافيا ،ومع ذلك لم
يحرك ساكناً خشية على نفسه من بندرلي أن يفضح أسرار تعاملهما في تجارة من نوع
خاص .تلك هي تجارة في الجنود اليطاليين مستغلين روحاً قتالية مدمرة وحالة نفسية
منهارة ،إذ أن من وصل منهم إلى ليبيا بعد مجيء موسوليني بحكومته الفاشية كان مجبراً
على المجيء تحت وطئة هراوات ذوي القمصان السوداء ،وأولئك الذين قدموا مع بداية
الغزو أدركوا أن المر أبداً لم يكن مجرد نزهة كما صور لهم ،فكان هؤلء الجنود على
استعداد لفعل أي شيء لمن يقدم لهم عرضاً يخلصهم مما هم فيه ،ليعيدهم إلى ديارهم
وأهلهم وإن عاشوا بقية العمر في الظلم ،وكان في هذا خير فرصة لظهار إبداعات
بندرلي الكامنة نتيجة انتشار الفقر وكساد السوق ،فكان يتدخل لهؤلء الجنود عند الضباط
الطليان مستغلً في سبيل ذلك زمالته القديمة لهم ،وباذلً لجل ذلك ما يطلبون ،مقدماً
أنواعاً شتى من الغراءات ليسمحوا للجنود بالعودة إلى أهلهم فمن لم يحصل له على مثل
هذا التصريح عمد إلى تهريبه متعاوناً لتحقيق ذلك مع أجينو باله الذي كان يملك أسطولً
ضخماً ل يكاد يمر أسبوع دون أن تغادر سفنه إلى إيطاليا ،هذا ما كان يخشى منه باله أن
يصل الحكومة اليطالية التي تربطه بها مصالح كثيرة ل يريد لها أن تفسد لذلك سكت عما
فعل به بندرلي مكتفياً بالحذر منه حين التعامل معه .
هذا ما كان في مرحلة متأخرة من حياة بندرلي ،أما قبل ذلك وحتى عام ( ضمة النواجع)
سنة 1931لم يكن فكره التجاري قد تطور إلى هذا الحد ولم تكن إمكانياته قد اتسعت بهذا
القدر ،بل أن تجارته شهدت في هذا العام كساداً واعترى مكاسبه انحساراً لم يشهده من
قبل ،إذ أفقده جمع الناس في المعتقل أغلب المشترين ،والمستدينين ،وحتى بعض الباعة
المتجولين ،فلم يبقى من مريدي دكانه غير الجنود الطليان الذين ل تكاد مشترياتهم
تتجاوز السجائر ،وبعض أهل البلدة الذين صاروا عاجزين عن تجاوز شراء القمح
والطماطم والزيت والكبريت .لكن حجز الناس وراء السلك الشائكة جعلهم يواجهون
صعوبة كبيرة في التصال بمن اختار الجهاد منهم ،المر الذي خلق لبندرلي فرصة في
تحصيل بعض المال من خلل تجارة السلح ،وإن لم تجري المور كما قدر لنه لم يكن
محل ثقة للجميع ،ولم يكن التعامل معه مطمئناً بالقدر الكافي .ول أحد له أن يقرر إن كان
مجرد صدفة أم هو تدبير محكم وجود دكانه في بلدة تتوسط معتقل العقيلة الذي جمع آلف
البؤساء فيه ،ومدينة بنغازي التي يستقبل ميناءها الجنود القادمين من وراء البحر ويودع
الذاهبين منهم ،هذا الموقع الذي جعل من دكان بندرلي إستراحة يتوقف عندها الجنود
الطليان فيدخنون السجائر ويشربون البيرة ول يخلو المر من شرائهم أشياء من عند
بندرلي ،لهذا لم يكن هذا اليهودي ليتضايق منهم ،بل كان يحاول أن يريحهم بالقدر الذي
يستطيع ،فيضع لهم أمام الدكان حجارة ملساء مستوية السطوح ،يجلسون عليها ،فيعد
لهم الشاي ويقدم لهم البيرة وأردأ أنواع الخمر غير هياب لدعاء عتاقة له لم تكن فيه .بعد
ذلك وعندما لحظ تزايداً في عدد الجنود الذين يؤمون دكانه ويتخذون منه مجلساً واستراحة
،ابتنى بندرلي داراً خلف دكانه غطى أعلها بسعف النخيل وجريده ليكون لها سقفاً
يحجب الشمس دون أن يمنع دخول الريح الباردة ،ووضع في هذه الدار طاولتين وبعض
من كراسي بل مساند ،صنعها من خشب أحضره له رجل ذو يد مشلولة ،جمعه من على
شاطئ البحر مقابل بعض الدقيق وأربعة قوالب صغيرة من السكر وعلبة طماطم .
كان الجنود يسهرون في حانة بندرلي حتى ساعة متأخرة من الليل ،يشربون ،
ويقصفون ،حتى إذا ذهبت الخمر بعقولهم ملئوا المكان صراخاً وهتافًا وتعادوا بعضهم
وراء بعض ،وربما مضوا إلى البيوت القريبة منهم فاعتدوا على أهلها النائمين ،فما
تمضي ساعات على ذهاب هؤلء ،حتى يلفي غيرهم إلى الحانة مع شروق الشمس ،فما
يكاد بندرلي ينال من النوم ساعات قلئل حتى ينهض مسابقاً الشمس شروقها ،يعد
الفطار لعله يكف عنه شيئاً من شتائم تتكرر مع كل صباح ،لذلك استطاع امعيزيق أن
يصيب عنده بيضة وكسرة خبز أعادت له قدرة على الوقوف كاد يفقدها من أثر الجوع ،
ومنحت وجهه قدرة على بعث تعابير الستغراب في وجهه وهو يستمع إلى بندرلي الذي
قال له :
-ما رأيك أن تبقى لتعمل معي هنا ...ستأكل وتشرب وتنام ...إنه عرض جيد لن تفوز به
إل إذا كنت ذو حظ حسن .
-أخبرتك إني رجل هارب من المعتقل فإذا قبضوا عليّ قتلوني .
-ماذا تريد إذاً ...ماذا أستطيع أن أفعل لك ؟
-أي شئ غير البقاء في هذه البلدة … إن هذا هو الخطر بعينه … .أرجوك ساعدنى فأنا
ل أعرف أحداً هنا للتجئ إليه .
-فى الحقيقة ل اعرف ماذا أفعل لك لساعدك …
-إسمع أيها اليهودى … إن عندي بندقية سأمنحك أياها إذا ساعدتني .
توقف بندرلي عن تحريك ما احتوى الطاجين الذى كان يكتوي بنار الموقد ،ناظراً الى
امعيزيق وقد بدت على وجهه ملمح ابتسامة ماكره ،ليضل عنها أبداً كل من عرفه ،
وقال وهو يحاول أن يخفى فرحته بصفقة ل يمكن إل أن تكون رابحه :
-حسناً … هكذا نستطيع التفاهم بصورة أفضل … إسمع أستطيع أن أبعث بك الى
إحدى المدن اليطالية ...هناك ستجد عملً جيداً … أم أنك تريد أن تعمل هنا ،عند
أحد اليطاليين ؟
أنت بدوى ولشك تفيد في الزارعة … وهم سيعطوك أجراً جيداً …
-قلت لك إنى إنسان هارب من المعتقل ،ولن أرمي بنفسي في أحضانهم .
-إذا رضيت بما أعرضه عليك فلن يطالك منهم السؤ أبداً ،وأنا أضمن لك ذلك ..نظر
فى وجه أمعيزيق ،ولما لم يرد عليه واصل بندرلي حديثه :
-على كل حال أستطيع أن أرسلك الى بنغازى ،وهناك تستطيع التصرف كما تريد …
إنى أسمع أصوات جنود يدخلون الحانه ،ول أعتقد انك تريد أن تراهم …هيا إذهب
الن ولتحضر لى البندقية فى المساء ،وحتى ذلك الوقت تكون قد إخترت مايناسبك
مما عرضته عليك ،فأما البحار الى أيطاليا فى سفينة تمخر عباب البحر او العمل فى
مزرعة واسعه أو أرمى بك فى بنغازي تتدبر فيها أمرك بنفسك.
قال له هذا ودفعه ناحية الباب حاثاً أياه على الخروج .
عاد أمعيزيق أدراجه ناحية واديهم عبر درب يستطيع السير فيه مغمض العينين من كثر
أعتياده المشي فيه ،وإن لم يكن مغمض العينين هذه المره فإن مايفكر فيه كان أعظم
شاغل له عن ذلك الدرب .
()9
النفي
من كان له في سفينة الصحراء غنىً عن البحر وسفينته ،لشك يصيبه دوار البحر عند
ركوبه أول مره ،لكننا نجانب الحقيقة كثيراً بظننا أن ركوب البحر وحده كان سببًا للدوار
الذى أحسه رحيل وهو يقف فى صف طويل على ظهر السيفنة .لقد كان مايدور فى رأسه
من أفكار ومايعتري هذه الرأس من الحيرة سبباً ل يمكن بأي حال أن نغفله ،عز عليه أن
يترك رفاقه فى الجبل يعانقون الموت كل يوم ،عز عليه ترك نجعه وزوجته وأطفاله ،
وكأن الماضي وحده ليكفي ،فهذا غدٌ قادم ليعرف عنه شيئاً ،ماضٍ الى أرض يساق
اليها سوق البهائم ليعرف فيها أحداً ،وليدري ما الذي ينتظره فيها ،وهذا الطابور
الطويل الذي لينتهي إل الى فتحة يرى الرؤوس تتوارى عندها ،فل يعرف الى إين
تذهب بهم ،ومن تكلم أو تحرك كان نصيبه السياط المصطفة على جانبي الصف فى
أنتظاره ،كانت الشمس حارة والصف مايزال طويلً والعرق يتصبب على جبهته ليطال
عينيه دون أن يأبه به ،فجميع إحساساته قد تملكتها طعنات الخناجر فى خصره وظهره ،
طعنات لم تكن غير لدغ برغوث أزعجته حرارة الشمس بعد أعتياده رطوبة السجن .
كان الدوار يشتد عليه شيئاً فشيئاً ،فأحس وكأن ساقيه ينثنيان تحت ثقل البرغوث والعرق
والدوار ،فكر أن يجلس مكانه ،لكن السياط كانت تنظر إليه .برغوث لعين طعنه طعنة
شديدة فى ظهره لم يستطيع معها مقاومة رغبة فى الحك ،رفع يده لكن شيئاً آخر أحسه
يلمس جلده غير يده ،ولم يكن خنجر البرغوث،لكنه كان شيئاً آخر إعتاد عليه فلم يعد
يذكره كبداية عهده بالسجن ،بالجمال في مواسم الحرث والدرس .حاول أن ينتصب
متشنجاً لعله يفقد الحساس بلدغ البرغوث الذى تكاثر عليه ،لكن الدوار كان شديداً يشل
جسده الذى صار واهياً مضعضعاً ليقوى على شىء .كاد أن يقع لول أنه رأى الطابور
يتحرك ،فتحرك متقدماً خطوتين ،ليعاود الوقوف والنتظار ،أحس الدوار يشتد عليه
فأغمض عينيه وهز رأسه محاذراً أن تتتبه السياط اليه ،لكن الحذر لم يكن يوماً منجياً من
قدر ،فها هو أحدهم ينظر اليه ويتقدم نحوه مبتسما ً .بعد ذلك لم يدرك شيئًا ولم يعد يذكر
شيئاً مما حدث له حتى وجد نفسه يقف أمام حفرة مربعة وأحد الجنود يحثه على النزول ،
نظر الى أسفل لكنه لم يرى غير السواد ،فهو لم يعد يرى الشياء على ظهر السفينة ليرى
ما فى أسفلها ،سمع أحد الجنود يصرخ قائلً :أنزل بنفسك وإل دفعتك فتحطم رأسك.
لم تكن لديه أى فكرة عن النزول فى مثل هذا المكان ،لم يعتد غير النزول الى قعر اليئر
بواسطة حبل يلف حوله ،او بحفر يحتفرها فى جوانب البئر ،ليبادل فيها بين قدميه حتى
يصل الى قاعه ،ثم يصعد بذات الطريقة .سمع ذات الصوت الذى يهدد بدفعه مرة
أخرى ،وإذا أحس نخسة عصى تصاحب هذا الصوت أدرك أنه المقصود بالخطاب ،رفع
قدمه ومدها ببطء داخل الحفره ليتحسس إن كانت تلتقى حبلً أو سلماً من لوح أوسواه ،فلم
يكد يتحسس ذلك حتى بادرته دفعة قوية كادت تهوى به الى أسفل لول أنه تمسك بجواف
الفتحة فضل معلقاً يتأرجح فى الهواء ،لكن حذاء ثقيلً كان قد أٌعمل فى يديه الممسكتين
بحواف الحفرة ،كانت ضربات قوية حاول أن يحتملها لكن ألم تكسر أظافره كان أقسى
من أى احتمال ،فتركت يداه تلك الحواف الممسكة بها لتترك الجسد ينحدر فى هوة
ليعرف لها قرار .
كان أسفل السفينة مكاناً مظلماً ل يستطيع المرء أن يرى فيه شيئاً لول شقوق بسيطة يتسلل
منها النور هنا وهناك ،وليس لمن يمشي فى مكان إل أن يلتطم بالقضبان الحديدية
والسلسل الطويلة التي تمله ،وكانت تسوده رائحة نتنة ،ورطوبة شديده ،وقد زاد المر
سوءً رمى هذه الجثث القرب الى الموت منها الى الحياة ،فصارت الرائحة لتطاق ،
وصار الجنود يتأففون من النزول ،وينجزون عمليات المبادلة من بعيد فيرمون أكياس
الخبز ويتناولون جثث الموتى من جثث الحياء ،وهم وقوف عند البوابة ليجرؤ أحد منهم
على النزول .
لم يكن من سبيل للخروج من هذا المكان غير فتحة السقف التى ل يمكن الوصول إليها إل
عبر سلم ثقيل ربطت به سلسة عظيمة يسحبها الجنود ،وهم على ظهر السفينة فتسحب
معها السلم حتى يطال السقف حيث تثبت السلسة ليثبت السلم فى مكانه ،فإذا أطلقت
السلسة سقط السلم الى أسفل وإنعزل أسفل السفينة عن ظهرها ليصبح سجناً كبيراً به أسوأ
ما فى السجون من صفات ،ولحفظ السلم فى مكانه،ليجاوزه عند إطلق السلسة المثبت
فيها وضع على جانبيه لوحين كبيرين ثبتا فحصرا بينهما مجالً يتحرك السلم فيه
فليجاوزه .كان أرتفاع اللوح اليمن منها ليجاوز المترين ،وسمكه بسمك باب غليظ ،
ولم يكن أحداً ليهتم به إل من اختار أن يجعل منه متكئاً له ،وما كنا إل لنهمله إهمالنا
لقرينه اليسر لول أن سقوط رحيل لم يختر له مكاناً غير هذا اللوح ،فأطلق صرخة ل
يمكن إل أن تكون ناتجة عن ألم مرير لحظة التطام جسده بحافة اللوح العليا التى التصقت
بأبطه فكانت ذارعه بجانب من اللوح وباقى جسده بالجانب الخر ،ولن أرتفاع هذا اللوح
بالكاد جاوز طول رحيل ،فقد طالت قدماه لحظة سقوطه على اللوح من كان قد جعل من
هذا اللوح متكئاً له ،فتنادت اليادي المتعبة ونهضت الجساد المنهكة لتمسك رحيل
وترفعه من على اللوح الذى تعلق به ليمدد على الرض مغماً عليه .
والمريض فى قعر سفينة تمخر عباب البحر من المستحيل أن يصل طبيباً ،ومن الصعب
ان يطال طعاماً .فالطبيب غائب ،والطعام ليس غير كيس من الخبز يرمى لهم فى
الصباح وكيس فى المساء تتنازعه اليدي ،فل يكاد يحصل على شىء من هذا الخبز غير
القوياء الذين مازالوا يحتفظون ببقية من صحه ،أما الضعفاء فليس لهم غير المقامرة
والمغامره فأما الحصول على مايؤجل موتهم أو تحقق الموت السريع ،ومن هؤلء كان
رحيل الذى وجد بعد أن أستيقظ من غيبوبته أنه ل يستطيع تحريك ذراعه اليمن ،فلم يكن
قادراً على أن يحصل على شىء من طعام ،وكان سيقضي جوعاً فى هذا السجن المظلم
ويرمى فى البحر ليكون طعاماً للحيتان ،لول أن قيضت له القدار شيخاً كان يجلس
بجواره لحظة أستيقظ ،فأخذ يقسم معه مايحصل عليه من كسر الخبز ،الطعام الوحيد
المتاح لهم ،والذى كان عليهم الحتفاظ بالكسرة منه فى أفواههم وقتاً ليس بالقصير
لتبتل ،فيستطيعون مضغها دون أن تصيب افواههم حوافها التى قاربت الحجارة فى
قساوتها .
لقد تعرض رحيل عند وقوعه ،لصابة بعصب يده اليمنى قاد الى شلها عن الحركة ،
وهى إصابة نادرة ،لكنها تتكرر بين رواد الحانات عندما يغالون فى الشرب ليالى الحاد
فإذا أنهكت الخمرة أحدهم وذهبت بكل قواه تهالك على أقرب كرسى اليه مستنداً مسنده
رامياً يده خلف الكرسى ،المر الذى يُحدث إصابة لعصب اليد .هذه الصابة التى
يعرفها أهل الطب بمتلزمة ليالي الحاد ،ويبدو أن هذا ماحدث لرحيل رغم أنه لم يكن
يوماً من رواد الحانات ،لكنه ورغماً عنه هو أحد زبائن سفينة تحدث القامة فيها دواراً
شديداً ليطال شدته فعل خمر .
لم يستطيع رحيل أن يرى أحد أطباء قبرص التى عرجت السفينة عليها ،وحتى الطبيب
الذى رأه فى أيطاليا لم يأتي له بكثير فائده ،إذا أن يده كانت قد شلت ولم يعد من مجال
للمساعدة ،ولم تكن هذه الميزه لتعين رحيلً فى شىء أثناء السنوات السبع التى قضاها فى
السجن والمنفى ،إذ كلف بأعمال يكاد يعجز عنها الصحاء ،ولم تسعفه فى الحصول على
طعام أو شراب فى يسر .
( ) 10
إجدابيا 1930
لم يغامر أحد بالبناء بالقرب من القصر المحصن القديم ،مما جعله على قدر مد البصر من
أقرب بيت إليه،ولم يكن أحد من أهل البلدة ليهتم باسم هذا القصر وليس لنا أن نوجه لهم
كثير لوم على ذلك ،فهذا المكان لم يعد له من صفات القصر غير اسمه ،إذ فقد سقفه
وتهدمت معظم جدرانه وما عاد فيه من جزء يبان للناظر من بعيد غير نصف قبة تعتلي
أعلى جدارين فيه ،واللذين وصل من ناحية واحدة بجدار بني مقوساً فأعطي هذا الجزء
من القصر شكلً أسطوانيا ما يزال قائماً حتى الن ،ولم يحدث هذا للقصر بغير فعل
الزمن الذي أعمل فأسه في قصر تاه تاريخه ضمن ماضٍ مغرق في القدم جعل آراء
رجالت الثار في تضارب حول مبتداه ل يعرف من سكنه قبل أن تعبث به يد البلى ،
وتعصف به عواصف الدهر وأرزاؤه ،فمن قائل أنه بقايا كنيسة بيزنطية ،ومن قائل أن
مشيده خليفة فاطمي ،وأنتشر غير ذلك من الروايات الكثير حول ماضي هذا القصر .
إن الكثير من الماكن المشابهة لهذا القصر ل نستطيع إذ نقترب منها أن نتمالك أنفسنا عن
التفكير في كونها مسكونة … فغربتها المكانية والزمانية وما ارتسم في مخيلتنا عنها ،
وإن لم يتبادر منه شئ إلى تيار الوعي،يظل يلفها بغلف من الغموض وهالة من الرهبه ،
ويجعلها في صورة مختلفة ومغايرة أبداً لما اعتد ناه من الطبيعي والمألوف .
نقترب من هذه الماكن بابتعادنا عما خلفناه وراءنا لنكون الحد الفاصل بين العالم
المسكون بالحياة وذلك الساكن بالموت ،وما نكاد ندخله إل وكأن الحياة سبقتنا إليه فما
بقى فيه من الموت غير أفكارنا عنه ،فالصمت السائد يعطي لكل شئ أبعاداً جديدة لم نكن
نلحظها من قبل ؛ دقات القلب تصبح مسموعة ،ملمسة القدم لحصى الرض تصبح
محسوسة ،وأعشاش العناكب تحفز احساسات اللمس في وجوهنا فتعتري الجسد رعشة
يُسمع لها في الذن هفيفاً ،رغم عواء شديد تحدثه الرياح الشرقية عندما يصدها الجدار
المقوس ،فل يدعها تعبر إل من خلل فتحة صغيرة محدثة عواء لم تسمع له مثيل
لتنتشر بعد خروجها فى أماكن شتى ،فإذا عادت لتصطدم بالجدار المقوس محدثة دوياً ،
شتتها هذا الجدار لتضيع من جديد وهى تصدر صوتا خافتاً ل يكاد يسمع ،ول تكاد تميزه
من فحيح الفاعي التى تجوب هذا المكان ،تنتظر طائراً صغيراً ل يؤمن بوجود الجن .
التحصين هو الصفة الصيلة الوحيدة التى حفظها الناس لهذا المكان فلم يفرطوا فيها ،ل
نعنى بها الحصن الذي كان يحيط القصر تعتليه ستة أبراج ،بل هو حصن آخر ابتناه الناس
في عقولهم فصار هذا القصر مقاماً للجنة يحمونه ويعيشون فيه ،فلي من سحرة هذه
المدينة عصبة من الجن السفلي سخرهم له زعيمهم من الجن العلوي ،لتصبح هذه العصبة
في خدمة الساحر يتأمرون بأمره في جلب ما أراد من الخبار ويفعلون مايؤمرون به ،
فإذا انتهوا من أعمالهم بخلود سيدهم إلى فراشه عادوا هم إلى القصر فمكثوا فيه منتظرين
ما يأمرهم به الساحر الذي يتبعون .
قديماً لم يكن أحداً ليهتم بترديد أشياء كهذه ،إنما كانت حجارة جدران القصر العالية
تتساقط ،فأبتعد عنه الكبار خشية أن يسقط أحد أحجاره على رؤوسهم ،وخافوا هذه
الحجارة على اطفالهم فاخافوهم بأن القصر مسكون ،وكبر الطفال وكبر خوفهم ،وكبرت
معهم الحكايه ،فلم يعد أحداً يجرؤ على القتراب من القصر فى ليل او نهار ،إل مضطرٍ
دخلت ماشيته القصر ،فجلس غير بعيد عنه يدعوا ماشيته فى رأرأة متواصلة ،محاولً
إغراءها بما حمل بين يديه من الشعير .
ويروي بعض لشيوخ أنه حدث في بعض الحيان أن خفت سطوة الخوف فأتخذ الطفال
من القصر مكاناً يصطادون الطيور فيه وجعله الشبان ملتقىً للعشق وتبادل الغرام عند
الغروب ،ولما يفتأ رجال الدين يحذرون من التعدي على حرمة الجن الساكن في القصر ،
لكن سَورة للحب عند الشباب ورغبة اللعب عند الطفال لم تنتهي إل عندما وجد رجلً
مقتولً ذات يوم وقد شج رأسه أسفل نصف القبة المعلق ،وقيل وقتها أن هذا الرجل قد
دخل القصر ليلً فتسلطت عليه الجنة ورمته بحجر كبير قضى عليه ،وبهذه الحادثة عادت
إلى القصر حرمته القديمة ،فلم يعد يجرؤ أحداً على القتراب منه ،حتى حاول أحد
الجنود الطليان استكشاف القصر من داخله ،فوجد في اليوم التالي مرمياً خارج القصر
ميتاً وقد إسود لونه .ومنذ ذلك اليوم لم يحاول أحد منهم القتراب من القصر ،وإن روى
البعض أنهم حاولوا ذات يوم هدم القصر فأرسل ال عليهم ريح صرصر ) (1استحال معها
رؤية أى شىء ،فعدلوا عن رأيهم ،ومنذ سمعت هذه الحكايه لم يتوقف الناس عن الحديث
عن اضواء تنبعث من القصر ليلً ،وتحدث البعض عن سماعهم لصوت تصدر من
القصر ،اختلفوا فى كنهها فمن قائل أنها كعواء الذئب ومن قائل أنها تبدوا كصوت رجل
( ) 1صر صر :ريح شديدة الصوت .
ينادى ،والبعض إدعى سماعه لحادٍ يحدو إبلً ،ولم يتفق هؤلء إل على أن هذه الصوات
مصدرها الجنة الذين يحرسون هذا القصر .
وقد حدث أحدهم أنه قد رأى حماراً من حمير الجن يدخل القصر وعلى ظهره براميل
كبيرة لم يرى براميل فى حجمها ،قيل وقتها إنها الجنة ترد البئر مرة كل عام لتعطش
بعدها حتى العام القادم .
وأخبر آخر أن إِمراة عجوز انحازت لها شياه داخل القصر ،فما أستطاعت أن تدخل
إليها ،وما استجابت الشياه لنداءها ،فجلست تلك العجوز تدعوا فإذا بالجن يخرج في
صورة رجل بي ٍد واحدة يطرد الشياه من القصر ويسوقها الى صاحبتها .
وهكذا كان هذا القصر قديماً ل يعرف له تاريخ ،محصناً تحميه الجنة ،مهجوراً ليجرؤ
على دخوله غير رجل واحد
وليهتم بالحديث عنه غير رجل واحد ،فأما من أحب الحديث عن هذا القصر فهو شيخ
طاعن في السن ل يمشى إل منحنياً ول يقف إل متكئاً على عصاة عجراء، ) (2ول يحلو له
حديث عن هذا القصر فكان يجتمع إليه الطفال فيحكي لهم قصصاً عن الجن ،روى لهم
فكانت حكايات هذا الشيخ الطاعن فى السن حصناً جديداً يضاف الى حصون القصور
القديم ،تحفظ له هيبته وتحمى الرجل الوحيد الساكن فيه ،فلتراه عين ولتطاله يد .
* * *
الساكن الوحيد فى هذا القصر لم يكن غير رحيل الذى قضى سبعاً من السنوات فى المنفى
يعانى بيدة المشلولة ويكلف بالصعب من العمال ،ويقاسى وهو يكافح بي ٍد واحدة فى سبيل
الحصول على لقمة يقتات بها .
عاد من المنفى بقليل من المل وكثير من الحزن ،فرجل بي ٍد واحدة لن يستطيع أن يفيد
بشىء فى المعركة،وإذا عاود اللتحاق برفاقه فى الجبل فلشك يكون عبئاً عليهم .رجل بيد
مشلولة لن يرضى به أحد لن يكون شيخاً للنجع ،هذه المكانة التى طالما منى النفس بها ،
وفعل الكثير لجل أن يكون أهل لها .أما الن فهو رجل ذو يدٍ مشلولة ،ولن تكون له
هيبة فى نجعه ليطلبها خارجه .حتى أهله لن يفيدهم فى شىء فهو غير قادر على نشل الدلو
من البئر ،وإذا حصد فهو غير قادر على جمع ما حصد .زوجته وأطفاله سينظرون إليه
وفى عيونهم الشفقة ،وسيجلس فى البيت جلسة العجائز ينتظر ما تجرى به القدار عليه
.كان يشعر بشوق عارم الى اطفاله فتمنى لو أنه يراهم لكنه أبداً لم يحب لهم أن يروه على
هذه الحال ،لذا قرر أن يأتي النجع ليلً فيراهم دون أن يروه لن ذلك سيكون أرحم لهم
وأقل ألما له .
عندما وصل ،لم يجد نفسه بحاجة الى إعمال تفكيره فى طريقة يدخل بها النجع دون أن
ينتبه لقدومه أحد ،إذلم يكن ثمة نجع ،وما وجد غير الطلل ،فكانت الديار خالية إل من
ذكريات أنهالت عليه كانها السيل فجلس مكانه يبكي مستعرضاً شريطاً طويلً لذكريات
قديمه .
قضى رحيل أشهراً غير قليلة يتسقط أخبار أمه وأخيه وزوجته وبنيه ،فطال منهم من طال
دون أن يجد له مستقر عند أحدهم ،وهو وأن لم يختر العزلة له سبيلً لكنه وجد نفسه
يعيش وحيداً فى القصر المحصن القديم .
( ) 2عجراء :ذات عجر أي عقد في وسطها .
* * *
إجدابيه اليوم مدينة صغيرة تفصل أجزاءها ثلث طرق مرصوفه تقودك من بوابتها
الشرقية الى الغربية فتسلمك لجسرها الوحيد فى أقصى الغرب بعد أن تكون قد مرت بك
أوسط الطرق الثلث فوق أنفاق وضعت ليعبر خللها أطفال المدارس فيأمنوا أخطار
العربات .أما عام 1930فلم يكن فيها هذه الكثرة من الطفال ولهذه الكثرة من السيارات ،
ولم يكن فيها جسر ول أنفاق ،إذ لم يكن ثمة مدارس يعبر الطفال إليها .لم يكن هناك
سوى بيوتات صغيرة بنيت من أحجار عريضة قصت بغير عناية ،فجاءت حوافها بغير
إنتظام استلزم المزيد من الطين للصقها الى بعضها ،وكانت تغطى سُقف هذه البيوت
بسعف النخيل فى معظم الحيان ،وخشب يرمى به البحر على شواطئه فى أفضل الحيان
،ولم يكن ثمة أنوار تضىء المسافات الفاصلة بين هذه البيوت ،فالكهرباء لم تكن طالت
هذه المدينة ،وحتى لو أنها طالتها ماكانت هذه الشوارع لتضاء لن أحداً لم يكن ليمر فيها
بعد غروب الشمس ،ليمان الناس هنا بأن الليل جعل سباتاً ،أولعتقادهم أن الشوارع
والميادين فى الليل تمتليء بالجن والعفاريت التى تجوبها .وربما لنه لم يكن هناك مايدعو
لخروج المرء ليلً فى مدينة كهذه ،إذ يتفق الناس على أنه ثمة ثلثة أشياء تدعوك
للخروج ليلً فأما أن تكون مريضاً يذهب للعلج أوراغب متعة يذهب طالباً ما أراد أو
لصاً يخرج باحثاً عن ضالته ،ولنه ل يوجد مكان يعالج المرضى في ليل ول في نهار ،
ولنه ل يوجد فسحة يمكن أن يقضي فيها المرء ليلة متعة غير حانة اليهودي بندرلي ،
ولن اللصوص في هذه المدينة تركوا مهنتهم بعدما ملوا مما اعتراهم من خيبات أمل ل
تعد ،فل يجوب هذه المدينة ليلً غير معتوه مسكين أو سَكْران ُملْتخ ذهبت به خمرة بندرلي
مذهباً جعله يعتقد اعتقاداً جازماً أنه في أحد شوارع فينيسيا .
مضى أمعيزيق وسط هذه الشوارع المظلمة الخالية ،وهو يتمنى أن تبقى على حالها تلك
فل يلتقي فيها أحداً ،ول يبصر فيها نوراً قد يريه للعيان ،رأى الضواء تتلل متحركة
أمام البيوت وسمع أصوات الطفال وهم يغنون ،فأدرك مما رأه أنه عيد المولد ،وعادت
به الذاكرة سريعاً إلى أيام طفولته حين كان يشعل النار في قطعة من الحلفا ،يمسك بها
بين يديه ليدور حول بيوت النجع وقد تبعه الطفال وهم يرددون بصوت واحد :
هذا قنديل الرسول ..فاطمة جابت منصور
هذا قنديل النبي ..فاطمة جابت علي
أقترب من أحد البيوت رأى جمعاً من الطفال أمامه محاذراً أن يراه منهم أحد ،وأصغى
إلى غنائهم لعله يسمع أغنية جديدة يرددها هؤلء الطفال ،لكنه ولما سمعهم يرددون ذات
أغانيه القديمة ،أبتسم وواصل طريقه وهو يردد في سره إحدى هذه الغاني .
وصل أمعيزيق إلى القصر المحصن القديم والذي لم يكن قد أحيط بجدار في ذلك الوقت
كما هو الحال الن ،فوجده مكاناً مظلماً يخيم في ظلمه صمت رهيب ،لم يطمئن إلى
عدم وجود أحد فيه ،لكنه ولما لم يكن له مكان يبات فيه ليلته طرد مخاوفه وظنونه وأختار
إحدى زوايا القصر فاستلقى فيها مستنداً يده ملتحفاً ظلم الليل ،ليس له من رفيق غير
الخوف الذي يمل أرجاء المكان ،كاد النوم أن يأخذه بعيداً عن الخوف لول أنه سمع
أصوات آتية من بعيد ،جلس مكانه وقد إعتله رعب شديد وهو يسمع تلك الصوات تزداد
بإقترابها منه ،كانت أصوات مختلطة حاول تبينها فعجز عن ذلك وعادت به الذاكرة
سريعاً إلى الصوات القادمة من عند التل الشرقي النازلة نحو واديهم ،فكر أن هذه
الصوات يمكن أن تقوده إلى المعتقل ثانية فسرت في جسده رعشة وقد أشتد خوفه وبدأت
آثار الرعب تبان على وجهه ،وهو ينظر حوله باحثاً عن مكان يكون له منه مهرباً إذا
دخل القادمون إلى هذا القصر ،لكنه سرعان ما عاد إليه اطمئنانه عندما تبين وسط تلك
الضوضاء أصوات الطفال وهي تردد أغاني المولد ،نظر من إحدى الفتحات التي ل
تحصى فيما جاوره من الجدار المطل على الناحية التي منها الصوت ،فلحظ عدد من
الطفال والرجال وهم يغنون على ضوء الشموع أمام المسجد غير البعيد عنه ،فكر قليلً
ثم قرر أن يخرج ويقضي معهم بعض الوقت .
عاد من ذلك الجمع وقد ولى الليل إل أقله ،ولم يبقى من سواده غير بقايا بالكاد تكفي لينال
مراده من النوم والراحة ،وما كاد يضع رأسه على يده لينام حتى سمع صوتاً آخر ،لكنه
هذه المرة كان قريباً جداً ،إذ ما كاد يجلس حتى وجد نفسه غير قادر على التفكير وهو
يرى شبحاً يقف أمامه ،لم يستطع أن يخمن أو يفترض شيئاً ،ولسانه خانه ولم يسعفه في
تلك اللحظة ليقول شيئاً ،فظل حبيس مكانه صامتًا ولو أتيح له النور الكافي ليبصر هذا
الجسد الطويل الواقف امامه لرأى في وجهه من الخوف والرعب بقدر ما أعتراه ،إذ وقف
هو الخر مسمراً مكانه ل يعرف ما يفعل ول يدري ما يقول ،مضى وقتاً وهما على هذه
الحال لم يكن قصيراً لكليهما ،تكلم بعدها ذلك الشبح الواقف قائلً :
-إسمع يا هذا ..لتكن من تكون ..ل تترك مكانك هذا حتى أعود إليك ..
لم يجد أمعيزيق ما يرد به سوى أنه هز رأسه غير مدرك في تلك اللحظة أن الظلم المخيم
ل يسمح برؤية هذه الحركة ،وأن الرؤوس ذاتها بالكاد ترى فيه ،لم يأتي بعد هذه الحركة
بشيء بل ظل جالساً مكانه والذهول يمل وجهه ،وكأنه يحاول أل يفكر فيما حدث له ،
وفيما يمكن أن يفعل به هذا الرجل ،ولم تطل به هذه الحال إذ لمحه يعود حاملً شمعة
وكسرة خبز كبيرة جمعهما بصعوبة في يده اليسرى ناول الشمعة لمعيزيق وجلس واضعاً
كسرة الخبز على حجر بجواره ،وشرع يخرج حبات تمر من جيب قميصه ويضعها فوق
كسرة الخبز .
رفع أمعيزيق الشمعة نحو وجه الرجل وحالما تبين ملمحه أنفرجت أساريره وارتمى
عليه يعانقه ورحيل ذاهل يفكر فيمن يكون ،لكن أمعيزيق أسعفه لحظتها وعفاه من حرج
السؤال قائلً :
-أنا أمعيزيق إبن الحاجة حليمة ،طالما عرجت على وادينا وأنت تحمل العنب
والكرموس من مزارع البحر في البلدة ،فكنت تصيب عندنا العشاء والغداء وتعطينا مما
حملت ..أل تذكرني .؟
-نعم تذكرتك الن يا أمعيزيق ،كيف حال الحاجة حليمة ؟ لقد مررت على واديكم فوجدته
خالياً فخمنت إنكم قد وقعتم أسرى المعتقل الذي لم ينجو منه أحد ،ولكن ماذا تفعل هنا
وأين الحاجة حلمية .
-لقد فقدتها عندما ساقونا سوق البهائم إلى المعتقل ومنذ ذلك اليوم وأنا أبحث عنها ولكن ل
أثر لها .
-ومن دلك على هذا المكان .؟
-لم أجد أحداً ألجأ إليه ليساعدني في الخروج من هذه المدينة غير التاجر اليهودي بندرلي
فنصحني أن أختبئ هنا لحين يبعث لي بمن يأخذني معه .
-ألم يجد هذا اللعين غير هذا المكان ليبعث بك إليه !! أنه مكان مسكون ؟
-أنا ل أخشى عفاريت هذا القصر بقدر ما أخشى عفريت ذلك اليهودي ،فأنا ل أثق به ،
وأخشى أن يبلغ الجنود على مكاني .
-ولماذا يطلبك الجنود ؟
-ألم أخبرك أني قد هربت من المعتقل ،ولبد أنهم يبحثون عني الن ليعيدوني إليه .
-وماذا عن بندرلي ،هل أخذ منك شيئاً .
-نعم ..لقد أعطيته ما طلب .
-إذاً فل تخف منه ،ولكن الخوف هو أن يتأخر الزغني فيطول بك البقاء هنا .
-من الزغني هذا ؟.
-الشخص الذي سيأخذك إلى بنغازي ..أل تريد الذهاب إلى هناك ..
-ل يهم المكان الذي أذهب إليه كل ما أريده هو أن أبتعد من هنا .
-حسناً ..ل تهتم فإذا لم يأتي في الغد فل شك إنه آتٍ بعد غد ..ل أظنه يتأخر أكثر من
ذلك ..أل تظن أنه قد حان الوقت لن تنام .
-ليس قبل أن تخبرني بما يدعوك للعيش وحيداً في هذا المكان ؟
-هذه قصة طويلة ..ستتعب كثيراً وأنت تستمع إليها .
-هل لها علقة بيدك .؟
نظر إلى يده وتنهد تنهيدة طويلة ثم قال :
-لقد قضيت في المنفى سبع سنوات عدت بعدها بيدي المشلولة هذه لجد أن أهلي قد
تشتتوا فلم يبقى من نجعنا القديم غير أطلل وبقايا حكايات ،بحثت عنهم فوجدتهم يعيشون
في حال ل يسر ،ولم أكن أنا لفيدهم في شيء بل لو أني أخترت البقاء معهم لضفت
لمعاناتهم معاناة وزدت همهم هماً ،فكما ترى أنا رجل بيد مشلولة وذو اليد المشلولة عاجز
ل يرجى منه الخير لحد ،لذلك فضلت أن أنسحب من حياتهم ،وقررت اللحاق بأعز
رفاقي في المنفى الشيخ أمبارك الذي طالما أعتنى بي ،ولول عطفه علي لما كتبت لي
الحياة حتى هذا اليوم ،لحقته وكان قد عرض علي أن أقوم بزيارته ،لكني لم أجد نجعه
هو الخر فلم يكن في ديارهم غير أطلل تبكي أصحابها .
-ألم تبحث عنه .؟
-لم أكن في حاجة للبحث عنه إذ ما كدت أسأل عنه حتى دللت عليه ،هو الخر عندما عاد
من المنفى لم يجد أهله في مكانهم سأل عنهم فلم يستدل عليهم إذ أن الفقر والظلم أجتمعا
على الناس وشتتاها شر شتات ،فلم يجد أمامه غير المسجد يأويه ولم يلتقي أهله إل بعد
إعتياده أعتكاف المسجد ،فلم يبرحه منذ ذلك اليوم وستراه في الغد وهو يجلس أمام
المسجد يحكي للطفال الحكايات كعادته كل يوم ..
أما أنا كما ترى لم أجد مكاناً يأويني غير هذا المكان الذي نحن فيه ،وجدت فيه نفقاً
صغيراً محفوراً في الرض فقمت بتوسيعه وإتخذته لي مسكناً كالجرذان تماماً .
-وماذا تعمل ؟ ومن أين تأكل .؟
-لقد أعتدت خلل حياتي في المنفى أن أمارس أصعب العمال وأكثرها مشقة رغم الحال
التي أنا فيها ،لهذا تجدني اليوم أمارس أي عمل أجده أمامي ،في فصل الصيف أذهب
إلى الساحل فأشتري بعض العنب والكرموس وأجلبه لبيعه هنا ،وفي الشتاء حين يشتد
البرد أجد رزقي في جلب الحطب .
-وهل هناك من هو في حال تسمح له بشراء الحطب في هذا الزمن .
-إني أبيع معظمه لليهودي بندرلي ،وما تبقى يشتريه مني الجنود .
توقف أمعيزيق عن مضغ كسرة الخبز ونظر إلى رحيل نظرة فيها الكثير من التساؤل .
-وهل تأخذ المال من هؤلء ؟ ..كيف تتعامل معهم وأنت تعرف ما يفعلون بنا !!
أجابه رحيل وقد علت نبرة صوته :
-إنها طريقة للعيش لبد منها أيها الفتى ..ستعرف ذلك لحقاً .
-آسف إذا كنت أزعجتك ،ولكن أعذرني فأنا ل أستطيع أكل هذا الخبز بعدما عرفت
مصدره .
-وما هو مصدره ؟ ليس له من مصدر غير مالك أيها الفتى .
-ماذا تقصد ؟ أنا ما أعطيتك شيئاً .
-ماذا أعطيت اليهودي بندرلي ليوصلك إلى هنا ،ويبعث لك بمن يأخذك بعيداً .
بان الغضب على وجه أمعيزيق وهو يقول :
-أخذ ما أخذه ،ذلك ل يعنيك أنت في شيء .
-صحيح ،ولكن مثلما أخذ منك سآخذ منك أنا أيضاً .
-ولماذا تأخذ مني ؟
-ثمن هذا الخبز وأجرة إقامتك وحمايتك ،صدقني يجب أن آخذ منك ..
-لكن بندرلي أخذ أجر كل هذا .
-ما أخذه بندرلي لم يكن غير ثمن لسكوته عنك .
-لكن ليس عندي ما أعطيك أياه ،كل ما معي أخذه ذلك اليهودي .
-أنا لست عجولً على رزقي فليأتي متى شاء ،ولتفي به متى أردت ،فقط أريدك أن تأكل
الن .
عاد أمعيزيق وأخذ كسرة الخبزة في تردد ،وبدأ يمضغها بصعوبة .
******
عندما نهض في الصباح خرج دون أن يجاول البحث عن رحيل متجهاً ناحية المسجد ،
كانت الشمس قد علت السماء ،وكما توقع لم يجد بالمسجد غير شيخ طاعن في السن تبين
فيه الشيخ الذي التقاه بالمس عند مقبرة واديهم ،أقترب منه مسلماً فأنتبه إليه الشيخ ودعاه
للجلوس ،قبل يد الشيخ وجلس ،وحالما أستقر في جلسته بادر الشيخ قائلً :
-أنا أمعيزيق ..لقد ألتقينا صباح المس عند مقبرة وادينا .
نظر إليه الشيخ في استغراب متسائلً :
-مقبرة واديكم !! هل كنتم تسكنون ذلك الوادي يا ولدي ؟ .أنا أيضاً كنت أسكنه ،بل أنا
شيخ النجع النازل فيه ،لكني بعد لم أعرفك ..إبن من أنت ؟
-أنا أمعيزيق أبن الشيخ عبدال وأمي الحاجة حليمة .
-الشيخ عبدال ..نعم تذكرته الن ،لقد جاء إلى النجع فجعلت له بيتاً يعلم الصبية فيه
القراءة والكتابة ،ثم تزوج حليمة ،بعد ذلك أسرت ولم أعد أعرف من أخباره شيئاً .
-في الحقيقة أنا لست أبنه ،ولكن هو والحاجة حليمة ربياني صغيرًا وعشت معهما
كبيراً ،فكان الشيخ عبدال لي خير أب ،كريماً واسع البر والحسان كثير العطف والحنان
،والحاجة حليمة أنزلتني من نفسها منزلة لم ينزلها أحد قبلي ،فلم أعرف لي غيرهما أبا
ول أم ،كان لي أخت أسمها مريم وأخ يصغرني أسمه جبر أما أبي فقد قيل لي أنه يدعى
عبد الغني .
-أنت أبن عبد الغني إذاً ..نعم أذكر أنه قد خلف وراءه أطفالً عندما ذهب .
-أنت تعرفه وتذكر ذهابه ،فهل تعرف أين ذهب ؟
-نعم أعرف ،لقد كان والدك رجلً شجاعاً ،كان من الفرسان الذين يعتمد عليهم ،عندما
علم بغزو الطليان لطرابلس ذهب صحبة أربعة من رجال النجع ليشاركوا في الدفاع عن
وطنهم .
-إذا كان ما ذهب لجله مشرفاً لهذا الحد فلماذا لم يخبرني أحد به ،لماذا أخفوا عني المر
حتى جعلوني أظن به السوء ،ظناً أوصلني أحياناً لحد كرهه والحقد عليه .
-لو أن الطليان علموا بذهاب أحد منا لمقاتلتهم لما تركونا نعيش في سلم ..لقد فعلنا ذلك
حماية للطفال والنساء من انتقام من ل يعرف لهم حرمة .
-ولم تعلموا شيئاً من أخباره بعد أن ترككم ؟
-ل ..ولكن الشيخ عبدال عندما جاء نجعنا أخبرني أن ترك الجيش التركي لرض
المعركة وعقده صلحاً مع اليطاليين لم يرضى رجالنا ،فقادوا هجمة على العدو بينما
فظل الشيخ عبدال مصاحبة الجيش التركي لنه كان قد أصيب بالمرض من أثر إقامته في
البلد الفريقية ،وقد عرج على نجعنا ليبلغ سلماً من رجب إلى شقيقته حليمة التي تقول
أنها قد ربتك ،ثم طاب المقام للشيخ عبال عندنا وفي أعتقادي أنه تجنب إخبارك عن
والدك لكي ل تصر على الذهاب للحرب على طريقه .
نظر الشيخ أمبارك إلى أمعيزيق فلما وجده مطرقاً أراد أن يبعد به عما آثار أشجانه فسأله
عن حاله الن وعن المكان الذي يعيش فيه .
-إني أقيم وسط بقايا القصر القائم بجانبك منتظراً شخصاً يأتي في الغد ليصحبني معه .
-لماذا تريد الرحيل وإلى أين ..الشر يعم كل مكان في هذا الزمن الصعب يا ولدي .
-لقد هربت من المعتقل يا شيخ ،ول شك أنهم يبحثون عني الن .
-إحذر أن يعثروا عليك ..إذا وقعت بين أيديهم فلن تأخذهم بك رأفة ،وهاهو الدليل أمامك
..عشرة أعوام قضيتها معهم في عذاب مستمر من السجن هنا إلى المنفى هناك وبعد هذا
حياة التشرد والفقر التي تراني فيها الن ،ورحيل ذو اليد المشلولة ل شك وجدته في
القصر ،إنه مثال على بشاعة ما يفعلون .
نعم لقد إلتقيته وروى لي ما حدث له ،لكن ما يؤسفني هو أنه ما زال يتعامل معهم ،يبيع
لهم الحطب ويأخذ منهم المال ،بئس اللقمة تلك التي نذل أنفسنا لجلها .
_ وإن أضطر بعضنا للتعامل معهم فأنهم يعملون مدى حقدنا عليهم وكرهنا لهم .
أمضى أمعيزيق ساعة يستمع إلى الشيخ أمبارك يحكي له حصاد معاناته الطويلة .
حدثه عن المنفى والعذاب الذي لقيه فيه ،وعن ذوي القمصان السوداء وكيف يذلون
اليطاليين أنفسهم فيرمون بأبنائهم إلى المستعمرات وقوداً للحرب ،ويعذبون كل شريف
منهم ينطق بكلمة حق .
كان الشيخ أمبارك مستمتعاً إلى أبعد حد برواية حكاياته تلك ،ولم يكن ليتوقف عن قص
ذكرياته لو لم يقاطعه أمعيزيق الذي أحس أن الوقت قد أخذه .
حسناً يا شيخ أمبارك ،إني أخشى أن يأتي من أنتظره فل يجدني ،سأتركك الن .
ولكن عدني أن تزورني إذا عدت إلى هنا ..
أل تفكر في العودة إلى أهلك أيها الشيخ .
ل ..فأنا ل أستطيع أن أترك عملي هنا .
أي عمل ذاك الذي تمارسه وأنت أبداً ل تغادر الجامع ؟
عندما عدت من المنفى ألتحقت بالمجاهدين وقضيت معهم أربع سنوات ،ولما منعني الكبر
من مجاراتهم لم أجد غير هذا المسجد مكاناً يأويني ،فأتخذته منبراً أدعوا منه الناس للجهاد
،وأدل من أراد منهم إلى أدوار المجاهدين .
ودع أمعيزيق الشيخ أمبارك وهو يؤكد له أنه لن ينسى زيارته إذا قادته الظروف إلى هنا
مرة أخرى ومشى قاصداً مدخل الجامع ،لكنه ما كاد يصل حتى وقف مكانه لحظات
مفكراً ثم ولى راجعاً ناحية الشيخ حتى صار حذاءه فجلس ،نظر إليه الشيخ مستغرباً
سائلً أياه عما دعاه لذلك ،فأجابه أمعيزيق في شيء من التردد :
لقد خطر لي يا شيخ أن أسألك سؤالً ،فأنت قد سكنت وادينا ولبد وأن أجد عندك جواباً .
أطرق برأسه ناظراً إلى الرض لحظة ثم رفع رأسه مواصلً حديثه :
إنه سؤال غريب ومضحك ،ولكنه يقلقني بعض الشيء بألحاحه الدائم علي .
ما ذاك يا وليد ..إسأل ول تخجل فالنشدة تل الذاهب ،ومن خجل في السؤال إحتار في
الجواب .
ل شك في ذلك يا شيخ ..هي حكاية قديمة كانت تحكيها لي الحاجة حليمة لكني تفاجأت
بالمس بأني لم أعد أعرف لها نهاية ،حاولت أن أنسى تلك الحكاية برمتها لكني وجدتها
تلزمني فل تفارقني أبداً ،إنها حكاية تلك الفتاة التي أختطفها الغول وتزوجها ،ترى ماذا
فعلت ؟ هل رضيت بالعيش معه في ذل أم أنه جاء من ينقذها من بين يديه أم …
قاطعه الشيخ أمبارك بهدوء قائلً :
في الحقيقة يا ولدي إن سنوات المنفى قد أنستني كل ما أعرف من حكايات الصبا ،لكن
أربع سنوات قضيتها مقاتلً أحمل بندقيتي وأعتلي صهوة جوادي ،أعطتني زاداً جديداً من
حكايات جديدة ،هو ما أقصه على الطفال الذين يجتمعون حولي كل يوم .
هز أمعيزيق رأسه دون أن يتكلم ،وودع الشيخ من جديد بحركة من يده ثم مضى خارجاً
من المسجد ،سار متلفتاً حوله شاعراً أن الطريق إلى القصر قد صار أطول مما كان ،
ولما جاوز منتصف الطريق ،أحس وكأن خطوات تتبعه إختلس نظرة وراءه فتبين ظلً
يتبعه ،سار قليلً ثم توقف وانحنى مظهراً إصلحاً لحذاءه ناظرًا وراءه من بين قدميه ،
فرأى ما كان يخشاه وواصل سيره متأكداً هذه المرة من جندي إيطالي يتعقبه ،متسائلً في
نفسه إن كان هذا الجندي باحثاً عنه هو بعينه ،أم أنه يتبعه متابتعهم لكل من يشكون
بأمره ،وكل المرين شر بالنسبة له ،لن شكهم الن سيتحول إلى يقين بمجرد قبضهم
عليه وسؤالهم له .
دخل القصر وهو ما يزال يحس خطوات ذلك الجندي تتعقبه ،وحين وصل إلى الجدار
المقوس إستدار حوله ليختفي وراءه منتظراً حتى إذا دخل الجندي استطاع هو مغادرة
القصر دون أن يراه ،إل أن هذا التدبير الذي استراح إليه للحظة ،غشاه تدبير آخر عندما
وقع نظره على حجر كبير عند قدميه ،رفعه بكلتا يديه وعندما بان الجندي أمامه وكان في
تلك اللحظة التي رأه فيها مديراً له ظهره وجد الفرصة سانحة فهوى بالحجر على مؤخرة
رأسه ،تقدم الجندي خطوتين مترنحاً وهو يحاول الستدارة ثم سقط بعد أن أفلت البندقية
من يده ،بادر أمعيزيق إلى إبعاد النبدقية عنه ،وأسرع إلى النفق الذي يبات فيه رحيل
ليعود منه بقطعة حبل ربط بها يدي الجندي ،وجلس يراقبه حتى عاد رحيل الذي أكد له
أنه يراقب ميتاً ،لم يصدق أمعيزيق ما قاله رحيل فأخذ يهز الجندي بكلتا يديه ،ولم يتوقف
عن ذلك إل بعد أن نهره رحيل وصرخ فيه قائلً :
كف عن مناداة الموتى ،وفكر معي في طريقة نتخلص بها من هذا الهم الذي أبتليتنا به .
لنحفر له حفرة وندفنه فيها .
ل ..هذا لن يحل المشكلة فربما هناك من رفاقه من يعلم بمجئه إلى هذا المكان ،وعندما
يختفي سيبحثون عنه ،وسيطال بحثهم هذا المكان .
إذاً لنرمي به بعيداً من هنا فنتخلص منه دون أن يشك فينا أحد .
ربما ،ولكننا نتعرض لخطر كبير بحملنا له ،ثم إني أفكر في شيء آخر ،هذا الجندي قد
مات ،ويجب أن نفيد من موته .
كيف لنا أن نستفيد من جثة ميت .؟
لقد فقد هذا المكان هيبته القديمة ،وقد جرت عليه القدم ،بالمس أنت ،واليوم هذا الجندي
ول ندري من سيأتينا غداً ،لذا يجب أن نعيد لهذا القصر هيبته ،ومقتل هذا الجندي مناسبة
جيدة لذلك .إسمع يا أمعيزيق دع الجثة مكانها حتى أعود إليك .
خرج رحيل بينما جلس أمعيزيق في مكانه يرقب الجثة الممددة على الرض بل حراك ،
تذكر حديث الشيخ أمبارك عن قسوة ذوي القمصان السوداء ،فتصور صاحب الجثة
الراقدة أمامه وهو ممسك بتلبيب أمه باكياً ،بينما أخذ أحد ذوي القمصان السوداء يجذبه
محاولً افتكاكه منها وهي تولول وتطلب الرأفة بها بترك أبنها الوحيد ،شعر بألم شديد
يعتصره عندما فكر في أنه هو قاتله ،فهز رأسه محاولً إبعاد هذه التصورات عن ذهنه
وعاد ينظر من جديد إلى الجثة الممددة أمامه ،يقارن بين هاتين اليدين الناعمتين وبين
يديه بسلمياتها القاسية ،لم يرى في اليدين المرميتين أمامه أيما أثر لية كدمة بينما
إمتلت يديه كدمات وشقوق من أثر فأس الحطب وحبل الدلو ومنجل الحصاد ،لم يستطع
تصور عمل هذا الجندي في بلده لكنه خمن أن يكون عملً مريحاً ،نظر إلى سترته
النظيفة وحذاؤه الخالي من أي رتوق ،ثم أحال نظره إلى السماء محاولً الهرب من رؤية
قميصه الممزق المتسخ وحذاءه الذي كره أعله أسفله فأبتعد عنه مخلفاً فتحات يصعب
عدها ،ما تكاد القدم تستقر فيه حتى تغادره من إحدى هذه الفتحات ـ لم يرى في السماء ما
يمكن أن يشغله ،فضوء النهار أغتال النجوم والقمر ،وفي مثل هذا الفصل تتمتع السحب
بإجازة طويلة فل تراها تجوب السماء إل نادراً ،وسماء خالية من النجوم والسحب تصبح
في هذا الفصل صفحة صافية تبلغ صفائها حد عكس ما في الذاكرة من صور ،وذاكرة
أمعيزيق ليس فيها غير صورة جندي ممدد بل حراك ،تمنى لو أنه يستطيع أن يوصل هذا
الجندي إلى أمه فتلقى عليه نظرة أخيره ،عاد بصره إلى الرض فالتقى جثة هامدة جعلت
بصره يرتد إليه مدحوراً ليعيده إلى السكون الذي يلف المكان بلحافه الفارغ من كل شيء
بدرجة تدعو إلى الغثيان .
رأي ذبابة تدور حول وجه الجندي الميت مصدرة طنيناً أحس وكأنه داخل رأسه ل خارجه
،نهض وطرد الذبابة ثم عاود الجلوس في مكانه مصغياً السمع منتظرًا معاودة الذبابة
طنينها من جديد ،لكن الذبابة أيضاً خذلته فلم تعد ،ظل الصمت مخيماً على المكان ،حتى
طنين الذبابة أختفى فشعر وطأة الصمت ثقيلة ،أحسها أشد وطئة من ضوضاء المعارك
التي طالما سمع عنها والمآتم التي رأها ،نهض وأخذ يدور في المكان لعله يستريح ،
معاوداً النظر بين الفينة والخرى ناحية الجثة الممددة بل حراك .
لم تكد تمضي ساعة حتى عاد رحيل يحمل كيساً ربط بأحكام ،وضعه على الرض ونظر
إلى أمعيزيق قائلً له :
رفض الجن تحمل مسئولية قتل هذا الجندي ،فأحضرت من يحمل هذه المسئولية عنا ..
أنظر إلى هذا الكيس ،إن بداخله القاتل الذي أمات هذا الجندي ،أو هو سيميته من جديد .
ماذا تعني ..
يجب أن نحمل الجثة ونرمي بها خارج هذا القصر ،ثم نضع عليها الفعي ،وبهذا تكون
الفعى هي القاتلة ول أعتقد الطليان يهتمون بالبحث عن الفاعي فليس هناك أكثر من
الفاعي عندنا وعندهم ..هيا بنا نحمل الجثة ..
هل نحتفظ بالبندقية ؟
ل أيها الغبي ،فالفاعي ل تسرق البنادق .
رفع أمعيزيق الجثة على ظهره بينما أخذ رحيل الكيس وخرجا يرقبان الطريق خشية أن
يراهما أحد ،وضعا الجثة غير بعيد عن القصر وتركاها بعدما استبدل القيد الذي أوثق
اليدين منها بأفعى كبيرة من النوع السـام .
" هنا ل أحد يضحك ول ؟؟؟ ،الطفال يظهر عليهم الجد ويسيرون بمحاذاة
الجدران يرفعون نحونا وجوهاً قذرة يكسوها الذباب تلمع فيها كالعادة
عيون واسعة متحسرة ،عيون عجائز تثير فينا الخوف "
ساندرو ساندري
؟؟؟
31ديسمبر 1929القرى والناس .
واقع يقتل الحلم
( ) 11
لقد اعتاد رحيل صرامة في تقدير ما يعرض له سواء كان في النجع أو خلل اشتراكه في
معارك الجبل ،فلم يكن ليدع فيما ينظره من المور متنفساً لصدفة أو مساحة لحظ ،أو
حسن طالع ،بل كان يتفحص المر من جميع جوانبه ،ويقلبه على كامل أوجهه ،ويطلب
المشورة ممن حوله فيما عجز فكره أن يطاله ،لكن السنين التي قضاها في المنفى ،
وغربته ،ويده المشلولة كلها أمور اجتمعت عليه فأفقدته آناته في التدبير وأكسبته بعضاً
من نزق المغامرين لم يعتده ،فلم يعد يحسب للمحاذير كثير حساب ،ول يهتم للغد كثير
اهتمام ،لكن ما حدث اليوم إحتاج منه أن يجلس ويضع يده على خده ،مفكراً ،مقلباً المر
ومعيداً تقليبه على كل الوجوه حاسباً لما قد يجر وراءه من سوء ،فإبعاد الجثة عن القصر
ورمي الفعى فوقها أمر ل يعتمد عليه كثيراً لجلب الطمئنان كله ،إذ يكفي أن يفكر
أحدهم في هذا القصر ========== جالساً مكانه ينظر إلى أمعيزيق طويلً ،ويهم أن
يكلمه ثم يطرق من جديد ،وكأن ثقل ما يعتمل به فكره لم يدع له غير هذه الحركات ،
أحس أمعيزيق حيرته فأقترب منه وقال :
يبدو أنك لست مطمئناً ..هل ترى أن ما فعلناه لم يكن كافٍ ؟
-أعتقد ذلك .
-ألن تكفهم رؤية الفعى وأثرها في الجثة عن البحث عمن قتل الجندي ؟
-حتى وإن اقتنعوا بأن السبب هو الفعى ،فأنهم قوم يحبون النتقام ..ليس لديهم أروع ول
أفضل منه ،سيأتون القصر ليبحثوا عنها وينتقموا منها .
-ولكن ربما وجدوها على الجثة .
-لن يجدوها فأنت ترى الشمس حارة جداً ،والفعى لن تبقى في هذا الحر ،ثم إن اقترابهم
من القصر إلى هذا الحد لشك يكون مغريًا لهم لدخوله والنظر فيه .
-والحل ،ماذا ترى ؟
-الفضل أن ترحل يا أمعيزيق ..
-وأنت ؟
-أنا سأبقى هنا .
قال هذه الجملة ونظر إلى وجه أمعيزيق فلم يرى في عينيه غير نظرة عتاب مرير
واحتقار شديد فعاد ينظر إلى الرض صامتاً ثم قال :
-أسمع يا أمعيزيق ..حاول أن تفهمني ..أنت هارب ،مطلوب لهم ،فهم الن يبحثون
عنك أما أنا ففي نظرهم رجل مشلول ل خوف منه ،فإذا وجدوك معي تغيرت نظرتهم
لي ،واشتد حصارهم علي ،مما يصعب مهمتي ويجعلني عاجزاً عن فعل أي شيء .
-قلت لي أنك كنت تطمح إلى أن تصبح شيخ نجع ..شيخ النجع ل يرمي بمن التجأ إليه
رمية الكلب هـذه .
-أنا ل تهمني نفسي ،ولكن يهمني أن أتجنب إثارة الشكوك حولي ما استطعت إلى ذلك
سبيلً ،فهناك أشياء ل تفهمها سأخبرك بها فيما بعد ،أما الن فعليك أن تصغي لكلمي
وتذهب وسألحق بك حالما أجد من يأخذك معه .
-وأين تريدني أن أرحل ؟
-هناك مغارة شرق البئر الذي كنت ترده ،هل تعرف مكانها .؟
-نعم ،إني أستطيع الستدلل عليها .
-حسناً ..حالما يحل الظلم ستذهب إلى هناك وتبقى في تلك المغارة ،ل تغادرها حتى أتي
إليك ،وعليك عندما تمر بالبئر الذي تعرفه جيداً أن تتزود بالماء ،ولتعقد عقدة في حبل
الدلو ،وأنتبه أن يراك أحداً وأنت تفعل ذلك .
-لماذا .؟
-ستعرف ذلك في وقته ..هيا حاول أن تستريح قليلً فأمامك طريق طويل .
نهض رحيل وتركه في حيرة من أمره تتلطمه أمواج أفكاره ،تبحر به إلى أعماق بعيدة
فل تعود به إل إلى صورته وهو يعقد عقدة في حبل دلو تتدلى في بئر مهجور ل يرى سبباً
لما يفعله ،هز رأسه محاولً إبعاد هذه الصورة عن ذهنه ،لكنها لم تكد تتلشى حتى
ظهرت مكانها صورة ذلك الرجل في المعتقل الذي أطعمه ذات يوم لحماً أكله وهو يخشى
أن يكون طعامًا مسروقاً .
* * *
كان الطريق طويلً جداً ،والحر ل يمكن إل أن يكون شديدًا وقت الضحى في يوم غائظ
من أيام الصيف ،والصمت المطبق على جنبات الصحراء كان يمكن أن يجعل صوت
حوافر الجواد ممتعاً لول اختلطه بجلبة عجلت العربة وهي تسير على أحجار الصوان
المتطايرة تحتها .
لم يكن أمعيزيق ليجد ما يشده في حديث الزغني الذي أختار أن يتحدث في كل شيء إل أن
يأتي على ما يمكن أن يجد فيه أمعيزيق بعض ما يثير اهتمامه ،وأمعيزيق لم يستطع التفوه
بشيء لنه لم يعتد بعد وجود جندي إيطالي معهم على ذات العربة ،فكان يغلق شفتيه بشدة
مانعاً خروج أسئلة كثيرة كانت تدور في ذهنه عن اصطحاب الزغني جندياً إيطالياً معه ،
وعن علقة الزغني بذلك اليهودي بندرلي حتى يعطيه مالً ،وعن هذه الكياس التي
تحملها العربة فتقلب جواداً عربياً أصيلً لحمار في سرعته ولهاثه ،بينما يتقلب عليها
الجندي اليطالي غير مدرك أن المجانين وحدهم ينقلون الملح إلى مدينة تمتلئ ميادينها
بأكوام منه حتى عرفت في زمن غابر بكوية الملح ،لكن السؤال الكثر إلحاحًا والذي لم
يبرحه منذ ركوب العربة هو ما ينتظره هناك ،في مكان يشد الرحال إليه ل يعرف فيه
أحداً ،وليس له فيه من معين ،سمع شخير الجندي اليطالي يعلو طارداً طنين ذبابة
حامت على وجهه فأغتنمها فرصة ليسأل رفيق ودليل الدرب الزغني لعله يذهب عن نفسه
ما فيها من تساؤلت ل يجلب البحث عن أجوبة لها غير الفزع وظن السوء ،وحتى وأن
لم ينل جواباً شافياً له من حيرته ،فأنه ل شك يجد في الحديث معه بعض الطمئنان ،نظر
إلى الزغني مختلساً النظر ناحية الجندي خشية تصنته حديثهما ثم مال بجسده ناحية
الزغني وقال :
-ما الذي أستطيع فعله هناك ؟ وأي عمل تعتقده يناسبني ،فأنا ل أعرف غير الرعي
والحصاد ول أرى اليوم أحداً يملك قطيعاً يحتاج راعياً ول أحد بمستطيع حرث ما يجاوز
قدرته على حصاده ليستعين بآخر .
-ل تخف فهناك الكثير من العمال مما تستطيع القيام به .
-لكني من النوع الذي ل يرضى بالعمل مع الطليان .
-أنتبه أن يسمعك هذا اللعين الذي يرافقنا .
-حقاً ..لماذا تصطحبه معك ؟
-ولماذا ل أصطحبه معي .
-أنا آسف ..لقد نسيت أنك صديق بندرلي ،وبندرلي مستعد لعمل أي شيء في سبيل المال
.
-لن تصدق إذ أخبترك أني لم أتقاضى منه مقابل ذلك شيء .
-لماذا تنقله إذاً ؟ ل تقل لي أنك تخافه ،لنك تستطيع رميه هنا ليقضي فيه هذه الصحراء .
-صدقني ،رغم أنه مسلح لكني ل أخاف منه أبداً .
-هو عمل الخير إذاً !! .
-نعم هو كما ذكرت ،ولكنه ليس صافياً للحد الذي أنال عليه أجراً ،لني أتخذ منه كرت
مرور .
-كيف ؟ لم أفهم ..
-إذا رأى الطليان هذا الجندي معناً اكتفوا بالتأكد منه ومتى بان لهم أنه منهم تركونا نمر
في سلم بل تفتيش ول عطلة .
-ومما تخاف ؟ أنت لست هارباً منهم ،وأنا ل أعتقد أن أحد منهم يستطيع التعرف علي
هنا .
نظر إليه الزغني بطرف عينه وهو يقول مبتسماً .
-وهل أنت هارب منهم ؟
رفع أمعيزيق يده يمسح عرقاً تصبب من جبهته محاولً إخفاء ارتباكاً كان الزغني يتوقعه
.
-ل ..أنا لست هارباً ،ولكن أنت تعرف أنه من الصعب على مسكين مثلي أن يكون بريئاً
في نظر عدالة الطليان .
-ل داعي للرتباك فقد أخبرني رحيل بكل شيء .
-فلماذا السؤال إذاً أيها المحتال .
ساد صمت استحسناه وقد أختفي صوت حوافر الحصان ،وهو يعبر كثيباً فلما جاوزه
وعادت الحجارة تتطاير تحت حوافره ،عاود الزغني الحديث ،وقد بانت على وجهه
ملمح جد لم يراها فيه أمعيزيق منذ ألتقاه .
-تستطيع أن تعمل هناك أي شيء ،لك أن تجلب الماء من البئر وتوزعه على البيوت ،أو
أن تجلب الحطب ،أو تعمل في الميناء تحمل السفن ،ولك أن أردت أن تعمل في جمع
الملح مع مسعود .
-ومن مسعود هذا ؟ ل تقل لي أنه عربي يملك سبخة ملح .
-وإن لم يقتلعوا السبخة ويحملوها إلى بلدهم ،فهم يسرقونها كل يوم .
-وكيف ذلك ؟.
-أنهم يسرقون عرق من يعمل فيها ،هم يشترون منهم ما يجمعون من ملح بأبخس
الثمان فمن لم يبيعهم بذلك السعر ،بات عياله جياعاً ،المر الذي يضطر هؤلء
المساكين للعمل طوال النهار في سبيل ل شيء ،ومسعود واحد من هولء ..إنه رجل
مسكين ،كان له نجع وبيت وأسرة ،كان يعيش مع أمه وأخيه وابنة عم له ،ضموها إليهم
بعد أن مات أهلها ،ويوم قبض على شقيقه مع المجاهدين جاء الجنود إلى نجعهم فأخذوا
الرجال وضربوا الشيخ والنساء ،أمه عجوز طيبة أخفت بندقية مسعود خشية أن يجدوها ،
لكنهم وجدوا ما هو أغلى وأثمن من البندقية وأعز ،أخذوا مريم أبنة عم مسعود ،فلم
يراها منذ ذلك اليوم .
كان فقده لمريم صدمة كبيرة بالكاد أحتملها ،فأعتزل النجع وابتني له كوخاً بجوار السبخة
حيث يعمل ،ثم لحقت به أمه ،وأستقر هناك لم يبرحا ذلك المكان حتى يومنا هذا .
كان ذكر اسم مريم مرساة للتفكير وجناح لذاكرة لم تحط رحالها إل وهو في زاوية بيت
مظلم بين شياه ،يحادث فتاة لم يكن له أن يتبين ملمح وجهها من شدة الظلمة ،هز رأسه
محاولً التخلص من إحساس بالندم اعتراه فلم يدري إن كان ندماً على استراق لحظة حب
في زمن القهر ،أم هو ندم على تركه تلك الفتاة فريسة في أيدي وحوش ل تعرف قلوبهم
الرحمة ،أم هو ندم على قراره الهرب الذي هو فيه الن ،كاد تفكيره في كونه هارباً
ينتزعه من أفكاره ليعيده إلى رفيقه الزغني لول أن بدت له صورة فتاة صغيرة فاعتراه
شعور بالذنب وإحساس بظلم لخته مريم التي أهملتها ذاكرته فقدمت عليها فتاة ل يعرف
ملمح وجهها ،ول يعرف لها اسماً ،التقاها في لحظة جوع وخوف وحب ،حاول الهرب
من تأنيب ضميره له بأن غاص عميقاً في ذاكرته لعله يطال من الذكريات ما يعيد له
رضاه على نفسه ،ولم يكن ليجد هذا إل في صورة أخته مريم وهي تبتعد تاركة أخويها
في ظل حجر .لكن روح الخوة عند البدوي ليس لها أن تسود في لحظات الحسم ،فامتنع
اللوعي عن إطلق هذه الصورة فما طالت الذكرى غير مريم التي تعد الطعام ،وتنظف
البيت وتحنو على أخيها الصغير جبراً .
غير من جلسته وتناول القربة فشرب منها شيئاً من الماء ثم بل يده ،ومسح بها وجهه
وكأنه أراد محو ذكريات قديمة أرهقته ،لكنها لم تغادره إل لتعاوده من زاوية أخرى في
حكاية الحاجة حليمة عن الفتاة التي أختطفها الغول ،فخطر له أن يسأل الزغني عن هذه
الحكاية لعله يسعفه بنهايتها التي تؤرقه فل ينساها ،ول تأتيه ،سأله بعد مقدمة لم تكن
بحال قصيرة إن كان يعرف حكاية الغول الذي اختطف فتاة واتخذ منها زوجة ،فأجابه
الزغني إجابة جعله يندم على سؤاله أياه ،قال الزغني :
-أنا ل أعرفها ولكن ربما تذكرتها إذا حكيتها لي .
-وبعدما روى امعيزيق ما يعرف من تلك الحكاية قال الزغني وهو يضحك :
-نعم ...نعم تذكرت هذه الحكاية ،لقد روتها لي جدتي ذات مرة .
-وماذا عن نهايتها ،هل استطاع شقيقها أن ينقذها منه .
-تقول جدتي رحمها ال وقتل الجوع الذي قتلها أن الفتاة أخفت شقيقها عن الغول
ووضعت الحناء على جميع محتويات البيت لكي ل تشي بمكانه ،لكنها نسيت قدر الطعام
ففضح هذا مكان شقيقها للغول ،فقام الغول بذبحه وطلب منها أن تطهيه له فقامت تلك
الفتاة المسكينة تطهي لحم شقيقها فلما وضعته أمامه طلب منها أن تأكل معه ولما لم تستطع
الرفض حذر الموت أخذت تدس اللحم وراءها وهي تدعي أكله فلما قام الغول جمعت هي
ما حصلت عليه من لحم شقيقها فحفرت له حفرة ووضعته فيها وأخذت تسقيه كل يوم ،
حتى جاء يوم خرجت من ذلك اللحم شجيرة صغيرة فرحت بها كثيراً .
صمت الزغني فاستفز ذلك امعيزيق أيما استفزاز واستشاط وهو يستحثه على مواصلة
الحديث قائلً :
-ثم ماذا بعد ذلك ..ماذا حدث .
واصل الزغني حديثه بغير كثير اهتمام :
-في الحقيقة ل أعرف ،لكننا نستطيع أن نقول أن تلك الشجيرة قد كبرت وكبرت ،لكنها
لم تخرج غير ثمرة وحادة أخذتها الفتاة المسكينة ،وجمعت ما بداخلها من بذور فنشرتها
في أركان الرض الربعة ...هل أعجبتك هذه النهاية ...انها نهاية رائعة ل شك .
شعر امعيزيق بخيبة أمل ،وعاوده الندم على سؤاله الزغني ،لما رأه من استخفافه به .
* * *
أماكن عافها حتى الذباب وامّحت من ذاكرة القطط كل علمة يمكن أن تقود إليها ،هذه
الكواخ البائسة لم يرضى بالعيش فيها غير بؤساء مساكين اعتادوا مرارة الصبر في
نفوسهم اعتيادهم الحرفة والحرقة في أيديهم ،وهم يجمعون الملح ،وكلب منعتها صفة
الوفاء فيها أن تبيع أصحابها بعظمة يرمي بها الجنود الطليان إليها ،كما فعلت ذلك قططاً
طالما جابت هذه الكواخ تختلس منها مما تجد فيها فلما يئست من أن تجد ما تختلسه باعت
الكواخ وأهلها وهرولت لجل بطونها .
اجتمعت هذه الكواخ عند شاطئ البحر وكأن أصحابها أرادوا من زرقة البحر أن تنسيهم
بياض ملح ما عادوا يرون فيه تفاؤلً ،ول يكتشفون فيه الفاءل الحسن .اختلطت أكواخهم
بأكواخ الصيادين يتوارون بينها عن الناس وعن أنفسهم وعن ضحكة استهزاء في وجه
قدر ل يرحم ،فالسارق مجرم والمال المسروق حرام وهم يُسرقون كل يوم .يجمعون
الملح من الصباح حتى المساء ،فل يعودون إل وقد كشطت طبقة من جلد أيديهم وأقدامهم
كما يكشطون الملح عن وجه الرض ،يبتنون منه قباباً تناطح السحاب فيأتيها سمسار قد
دحا بطنه يقتلعها من جذورها بقروش ل تكاد تسد الرمق فيعودون إلى أكواخهم يشدون
على ما نالوه بقوة ،وغصة في حلوقهم ل تفارق الواحد منهم ،وهو يتحسس تلك القروش
المستقرة في كف يده ،فما يبيعونه ليس ملحاً ،بل هو عرقهم ودمهم وماء وجوههم وأيام
من العمر تولي فل تعود ،والثمن قروش ل تكفل لحدهم سوى الستمرار في بيع عرقه
وجهده وأيام العمر البائس .
كان الجندي اليطالي قد نزل عند أول مجموعة جند التقوها ،وما حمل الكارو من أكياس
كان الملح المبعثر فوقها يفضح ما فيها ،فلم يكن في هذا الكارو من شيء يثير اهتمام وما
كان أحداً يجاوز السلم في كلمه إذا صدف مرور هذا الكارو أمامه .
بانت الكواخ لمعيزيق من بعيد ،ولم يكن الكارو ليقترب منها أكثر مما فعل لن الكوخ
الذي يقصدون كان معزولً عن بقية الكواخ ،وأبعدها عن البحر ،مما جعله القرب إلى
سبخة الملح لكنه أبداً لم يكن لحد أن يمر به في طريقه من الكواخ إلى السبخة لن بانيه
اختار أن يكون متنحياً عن الدرب بقدر جعله بالكاد يُرى للمار من هناك .
أوقف الزغني الكارو وأخذا ينزلن الكياس ليضعاها امام الكوخ الذي لم يكن بإتساع
يسمح حتى بتمدد صاحبه فيه .ألقى امعيزيق نظرة داخل الكوخ فرأى عجوزاً جالسة في
الزاوية البعيدة عنه ،نظرت إليه فأحس حرجاً وتمتم بكلمات لكنها لم تنبس ببنت شفه ،
رأى جرة من فخار غير بعيدة عن مدخل الكوخ فتقدم نحوها وهزها ،وقبل أن يتبين له
خلوها من قطرة ماء كانت عقدة لسان العجوز قد إنفكت وهي تقول :
-ولدي في السجن وابنتي مريم لم تعد ،فل أحد يحضر الماء .
خرج امعيزيق ،تناول القربة من على الكارو ،وعاد بها فسكب ما بقي فيها من ماء في
الجرة الفخارية ثم عاد يركب الكارو منتظراً الزغني أن ينهي ربط صواميل إحدى
العجلت .
تحرك الكارو وامعيزيق مازال مشغول البال بحال تلك العجوز المسكينة التي تنتظر إبنها
فل يأتي .
رفع يمنى رجليه المتدليتين في الهواء ليضعها على حافة لوح الكارو ،ونظر إلى الزغني
وهو يقول :
-مسكينة هذه العجوز ل تجد حتى من يجلب لها الماء .
-مثلها كثير بل وأشد منها بؤساً ...هي على القل عندها مسعود يطعمها ويهتم بشأنها ...
-أشك أن يكون ولدها الغائب ما يزال على قيد الحياة ؟
نظر إلى البعيد مفكراً ثم التفت إلى الزغني مواصلً حديثه :
-أخبرتني أن الطليان قد نفوه إلى بلدهم ...أليس كذلك ؟
-بلى …أعتقد أني أخبرتك بذلك .
-إذاً لبد وأن رحيل يعرفه ،إذا لم يعرفه رحيل عرفه ذلك الشيخ المعتكف في الجامع .
بانت إبتسامة فيها مكر على شفتي الزغني وهو يتكلم بل مبالة :
-الشيخ أمبارك لبد وأنه يعرفه أما رحيل فل أعتقد ...
-ولماذا لم تسأل هذا الشيخ مادمت تعتقد أنه يعرفه ؟
-لم يخطر لي ذلك على بال .
ظهرت ملمح غضب على وجه امعيزيق ،وضرب بقبضة يده لوح الكارو وهو يقول :
-يا سلم ...لم يخطر لك على بال ...يالك من إنسان قاسي القلب ...بل أنت بل قلب ...أل
تثير فيك رؤية هذه العجوز المفجوعة ولهفتها وسؤالها الدائم بعضاً من الشفقة يلين لها
قلبك المتحجر .
لم يأبه الزغني بغضب امعيزيق بل تابع يحادثه بذات اللمبالة دون أن يلتفت إليه :
-وكيف تريدني أن أسأل عن شخص أراه متى أردت .
-هل تعني أنه مات ؟
زم الزغني شفتيه ،وهز رأسه دون أن يتكلم فأنزل امعيزيق قدمه لتتدلى بجانب الخرى
واعتدل في جلسته بعد أن خفت حدة غضبه فما عاد يظهر على وجهه غير ملمح
استغراب وتعجب مما سمعه من الزغني الذي واصل كلمه دون أن يظهر على وجهه
كثير اهتمام بما يقول :
-إن ولدها حي يرزق ،وأنا أراه متى أردت .
-أين هو؟ لماذا لم تحضره إليها ؟
-إن ابن هذه العجوز هو رحيل بشحمه ولحمه .
-ماذا تقول ؟ …ل يمكن …
-تلك هي الحقيقة ،لكن تلك العجوز المسكينة قد تأثرت بما مر بها من مآسي وأحزان
فصار حالها كما تراه اليوم .
-ولماذا لم تخبرني بذلك منذ البداية يا باكبوندو ،لقد جعلتني أغضب منك وأحقد عليك .
-عندما يأتي إليها رحيل تتعرف عليه وتفرح به فإذا غادرها نسيت كل شيء عن قدومه
وصارت تسأل كل قادم عنه ،لقد إعتدنا منها ذلك .
كان الكارو قد وصل إلى بداية السبخة فذهل امعيزيق عن الزغني وحديثه بصوت عجلت
الكارو وهي تدك تراب السبخة وماعله من ملح تحتها .
* * *
تلشى المس وتلشى الغد فما عاد الحاضر غير خيط رفيع يصل بين شروق الشمس
وغروبها ،ليُرى فيه غير بندول يتحرك بين نقطتي البداية والنهاية ،دون أن يرسم أي
شيء .
لكل الرجال عمل ،وهو بل عمل ،لكل الرجال ذرية وهو بل ذرية ،ولكل الرجال أوطان
ووطنه قد سرق منه ،لم يكن امعيزيق يملك بيتاً ول مالً ،ول يملك إبلً ول ضاناً ،بل لم
يكن يملك شيئاً إل إذا اعتبرنا سرواله الممزق وقميصه الباهت عند الحديث عن الملك
والحيازه ،لم يكن يجيد من عمل غير رعى الغنام وحصاد الزرع وجلب الماء ،حتى
أمور الزراعة لم يكن له بها كثير معرفة ،وهاهو يدخل مدينة ليس له فيها شيئاً وليعرف
فيها أحداً ،وليملك بيده مال ولهو ضوطار( ... ) 1لم يعرف شوارع كهذه من قبل ،فتاه
بينها كما تاه سكانها بين أسماءها القديمة وأسماء جديدة ،كتبت بأحرف إيطالية فما
استطاع قراءتها ،الهم الوحيد الذي لم يظل عنه ولم يكن غريباً عنه هو هذا البؤس الذي ل
يفارق الوجوه وهؤلء الرجال منحني الظهور من تعب ،مطاطئ الجباه من ذل ،وهؤلء
الطفال تجعد الجلد منهم على عظم قد ثوى بعدما ذاب لحمهم من أثر جوع ل ينتهي .
وجد نفسه يدخل سوقاً ل عهد له به ،ول يعرف فيه أحداً يبحث عن عمل ،عونه في ذلك
حظ حسن لم يلتقيه يوماً يعطيه بعض التفاؤل أن لم يرى غراباً يحوم في السماء حين دخل
السوق ،لكن هذا التفاؤل والظن الحسن ،لم يحرماه سوء طالع لزمه حتى حلول المساء
فلم يجد له مأوى يقضي فيه ليلته غير جامع ذو منارة ل باب ول نوافذ له ،وفي اليوم
التالي نهض باكراً ليواصل رحلة البحث عن عمل ،فلم ينتصف النهار إل وقد صار طالب
عمل وطعام ،وفي المساء رأف به صانع سروج فوافق أن يجعل منه مساعداً له ،لكنه ما
أستطاع عليه صبراً وقد عجز عن إصلح إكافٍ )(1عهد به إليه ،فعاد أمعيزيق يجوب
الشوارع من جديد يبحث عن ذات الجامع الذي ضمه الليلة الماضية .
مدينة حزينة خيم على نهارها ظلم طويل فما عادت تضمن الحياة لهلها لتهتم بضمان
العمل لهم ،المخابز ما عادت تجد من يشتري منها ما تخبز فعجز أصحابها عن شراء
دقيق يخبزون به أو حتى فحم يورون به نار أفرانهم فكادو يغلقونها لول بقية من أمل ل
تفارق النفوس البائسة يرسخها أن من يترك عمله لن يجد عمل آخر ،وصناع السروج
أنقلب حالهم من بعد العز فقراً في وقت جاء فيه فرسان جدد ل يعرفون من أخلق
الفروسية شيئاً فيغتصبون سرج خيلهم من باعتها ليركبوها ركوبهم عرباتهم المتوحشة ،
* * *
كان أمعيزيق وكعادته كل ليلة ينام مفترشاً الرمال أمام الكوخ ،فلما أستيقظ على قغط ،
فتح عينيه دون أن يرفع جسده ليجد ثلثة رجال مجتمعين حول النار ،فعاد يغمض عينيه
بعد أن سحب على جسده ما أبتعد من البطانية عنه ،إذ لم يكن مستغرباً عنده استقبال
مسعود ضيوفاً في هذا الوقت ،لكنه ولما لم يعاوده النوم لم يستطع منع نفسه من تصنت ما
يدور ،فما كادت تطرق سمعه جملً ما رأى بينها من رابط حتى بدأ النوم يتسلل إلى
أجفانه فكاد أن يستغرقه من جديد لول أن سمع مسعوداً يناديه ويطلب منه أن ينهض ،
فأستجاب لنداءه مبعداً غطاءه عن جسده ونهض فأتخذ له مجلساً بينهم ،وعلى ضوء خافت
يصدر عن فنار لم يعني أحد ينتظيف مرشه تبين وجه رجل لم يراه من قبل ،وقبل أن
يطلق العنان لخياله كان مسعود يقدمه لهم بأن سالم أحد المجاهدين بالجبل ،جاء يطلب
العون لهم ،نظر أمعيزيق متمعناً في وجه الرجل ثم أطرق مفكراً ،حقاً إنه لموقف مذل
أن تظل جالساً مكان لحين سحبك من يدك ..لقد طلب ذلك مرة واحدة من الشيخ عبدال
فقال له أن الوقت لذلك لم يحن ،لنه والحاجة حليمة بحاجة إليه وطمأنه بأنه إذا رأى
الوقت مناسباً أخبره ،لكنه ذهب دون أن يفعل وهو لم يعاود التفكير في المر ،أما اليوم
فل أعذار له ،بل هو اليوم أحق من غيره بهذا الواجب فوالده مات لجله والشيخ عبدال
قام به حتى أقعده المرض عنه ،وذلك الشيخ الهرم المقيم في الجامع ..كيف لم يكفر في
هذا من قبل ،لم يكن مهتمهاً بغير لقمة العيش ،شعر بإنقباض شديد فهز رأسه محاولً
أيجاد ما يعذر به نفسه ..ل أنا لم أتخاذل ولم أجبن يوماً ،لكن الظروق كانت ترمي بي
من متاهة لخرى ،رفع رأسه ناظراً إلى الرجل أمامه ولما وجده يتفرس في وجهه عاود
إطراقه من جديد ..نعم أنا أحق من غيري ،أبي وأمي حليمة وبيتنا ورميم والنجع الذي
ضاع والمل الذي تشتت ،كل هذا وما زالت أوهام الخوف تراودني ،ل لن أحتفظ بها ،
سأبدد كل خوف وأطرد كل جبن ،رفع رأسه فوجد الرجل قائماً يودع مسعود والزغني
بينما هو ما يزال جالساً مكانه ،نهض واقفاً يعتمل في صدره في تلك اللحظة شعور واحد
دون أن يستطيع أحد قراءة شيء في عينيه ،مد له الرجل يده مودعاً فأمسك بها بكلتا يديه
وهو يقول :
بل أنا آتٍ معك .
نظر الرجل إلى مسعود مستغرباً وتسآل :
تأتي معي ! ..إلى أين ؟
ألم يقل مسعود أنك من المجاهدين .
قاطعه مسعود وهو يبتسم :
نحن نحتاج هنا يا أمعيزيق .
لكني أريد أن أذهب ،وقد مللت جمع الملح لعيش حياة ل طعم لها .
لو لم نكن نحتاجك لما قمت بإيقاظك في منتصف الليل .
رمى سلم طرف جرده على كتفه وهو يقول :
يجب أن تصدق مسعوداً يا فتى فدورك الكبر هنا ،سيشرح لك مسعود ذكلك .
خرج الرجل فتابع أمعيزيق خياله يتوارى وسط ظلم الليل الذي برط بكل ثقله على أكواخ
المساكين ،ولو لمرة شعر أنه ل يلوم رجلً رفض له طلب .
أخرج مسعود سكيناً من جيبه فرمى به على أقرب الكياس المكومة أمام الكوخ وقال
مخاطباً أمعيزيق :
-هيا خذ السكين .
أخذ امعيزيق السكين وبتردد قام بقطع رباط الكيس فأنفتح دون أن يرى فيه شيئاً غير الملح
.تقدم مسعود من الكيس فدس فيه يده وأخرج منه صرة كبيرة ،رمى بها على الرض
طالباً من امعيزيق أن يفضها .فض امعيزيق الصرة فوجدها مملؤة باروداً ،فأخذ يحيل
نظره بين الرجلين الواقفين عند رأسه والصرة المطروحة أمامه دون أن يتكلم .
تقدم منه الزغني قائلً :
-الزغني لم يكن يحمل ملح الطعام بل يحمل ملح الحياة .
نظر إليه امعيزيق نظرة طويلة ثم قال :
-أي حياة هذه ،إن آكله ل يتذوق سوى طعم الموت .
-إنها حياتنا نحن ؛ أنا وأنت ومسعود ،فيه موتهم وفيه حياة أطفالنا وشيوخنا ،فيه موت
من يجب أن يموت وحياة من يستحق أن يحيا .
تقدم منه مسعود فربت على كتفه قائلً :
-أنت منذ الليلة معنا يا امعيزيق ن إننا نحتاجك .
-وماذا يستطيع مسكين مثلي أن يعطيكم غير روحه التي رفضتم أخذها .
-امعيزيق اسمعني ..إن السلك الشائكة التي مدها الطليان على طول الحدود قد
حصرت المجاهدين وأضرت بهم أيما ضرر ،فمنعت عنهم كل شيء .لقد حرمهم احتلل
الكفرة من مورد كانوا يفيدون منه ،ثم جاءت هذه السلك فأغلقت الطريق أمامهم ،فقد
أخبرني سلم بذلك وهو الن يغامر بحياته ،بمحاولة الدخول إلى المعتقل لعله يحصل
على شيء .أما نحن فما عاد مانقوم به من إرسال الطعام والسلح كافٍ .لبد أن نكسر
السلك ونجتازها .
-أنا مستعد لفعل أي شيء ،واعتبراني رفيقكما منذ اليوم .
-حسناً ...الخطوة الولى ستكون عودتك للعمل عند اليهودي بندرلي .
-عند بندرلي !! لماذا ؟
-لننل بحاجة إلى المال ويجب أن نحصل عليه مهما كانت وسيلتنا لذلك .
-لقد سبق وأن عرض عليّ العمل عنده ،لكنه لن يرضى بإعطائي المال الذي نريد
...الزغني يعرفه جيداً .
-ذلك ل يهم الن ،ولترضى بكل شروطه ،المهم هو أن تعمل معه .
-ثم ماذا بعد ذلك ؟
-ل تستعجل …ستعرف كل سيء في حينه والن إذهب لتنام وتستريح ،فأمامك في الغد
طريق طويل .
* * *
لم يضع وقتاص عند وصوله إذ لم يكن له مايضيع الوقت فيه ،فإتجه إلى بندرلي وطلب
منه مابيت في سريرته ،فلم يعارض اليهودي في تشغيله ،وهو لم يعارض أياً من
شروطه ،لم ترق له تلك الشروط لكنه كان يدرك أن عليه الرضى بها مهما كانت
مجحفة ،فأختيار القهر ميزة ل يجود بها هذا الزمن الصعب على الكثيرين ،وكما توقع لم
يكن بندرلي مستعداً لدفع أي مال ،فما كان ينال على عمله طيلة النهار وأغلب الليل غير
وجبات الطعام والنوم لسلعات معدودة في الحانة بعد أن يغادرها الجنود .
عشية اليوم الرابع من عمله جاء إلى الدكان رجل سلم على بندرلي دون أن يأبه بالفتى
الواقف غير بعيد عن الحجر الذي جلس عليه .نظر امعيزيق إلى ذلك الرجل فرأى فيه
سلم الذي التقاه عند مسعود .
اشترى الرجل بعض الشاي واربعة قوالب صغيرة من السكر وطلب من بندرلي أن يضع
له الشاي على النار معللً ذلك بأنه مسافر وليس معه عدة الشاي .عرض عليه بندرلي أن
يأتي له بشاي جاهز من الحانة لكن الرجل أصر على طلبه ثم ترك الحجر الجالس عليه
ليفترش الرض وأشار إلى امعيزيق بيده قائلً :
-تعالى يافتى ...أظن شوكة انغرزت في قدمي حاول أن تنزعها إن كان نظرك جيداً .
اقترب امعيزيق منه فلما جاوره بادره سلم قائلً :
-اسمع ياامعيزيق أظن مسعوداً أخبرك إننا نحتاج مالً ...وواصل حديثه دون أن يأبه
بجواب امعيزيق :
-يجب أن تحصل على المال الليلة .
-وكيف ذلك ؟
-خذه من بندرلي بأي طريقة فإذا حصلت عليه تبعتني عند رحيل في القصر القديم …
لتنسى يجب أن تفعل ذلك الليلة .
احتار امعيزيق فيما طلبه منه سلم ،فأخذت تطوف به تلك الحيرة وتجوب به سبلً وعرة
ليجد منها منجـاة .فما أنفكت عنه إل بقدوم رحيل بعد حلول الظلم .فأستفاد من إنشغال
بندرلي في الحانة ليسأل رحيل عما طلبه منه سلم .جلس رحيل وهو يرفع ذراعه
اليسرى بيمناه ليضعها على ساقه ثم قال :
-امعيزيق ...نحن لن نبقى هنا بعد الن ،المجاهدون يفتقدون الطعام والسلح ونحن
ماعدنا قادرين على إفادتهم بشيء من هنا ،لذا علينا أن نجتاز السلك إلى مصر .هناك
من يحمل رسالة من الشيخ عمر المختار يطلب فيها سلحاً ومؤناً وهذا الرجل يحتاج من
يرافقه والرحلة تحتاج للمال وكل ما معنا قد وضعناه في صفقة سلح سنرسلها لهم .إننا
نحتاج مالً لشراء الخيل والسلح والطعام وكل ما سنحتاجه في رحلتنا .
-لكني ل أستطيع ...لم أعتد اختلس ماليس لي .بان شرار غريب في عيني رحيل وهم
أن يقول شيئاً ،لكن قدوم بندرلي منعه من ذلك وجعله يستدير نحوه يخاطبه .
-قد أحضرت لك المال يا بندرلي فإلي بما طلبته منك .
-ل ...هذه المرة ليس من هنا ،أنت تعلم أن الكمية كبيرة بعض الشيء فلم أقدر على
إحضارها إلى هنا ،عليك أن تستلمها من مكانها .تجدها مخفية بجانب قبة الشيخ عبد ال
إذهب إلى هناك وأحفر تحت حجر في الجهة اليمنى وستجد ما تطلب .
كان امعيزيق يختلس النظر إلى بندرلي يتابع خطواته متظاهراً بغسل الواني ،فلحظ
خروجه بيدين خاليتين بعد دخوله الغرفة بصرة المال التي أحضرها له رحيل .فلما سمع
صوته قد عل في الحانة يحادث الجنود ويضحك معهم دخل امعيزيق الحانة ولما تأكد له
اطمئنانه في جلوسه واستغراقه في الحديث معهم إتجه إلى غرفة بندرلي يحاول معرفة
المكان الذي وضع فيه صرة المال ،فوجدها ماتزال تحت فراشه لم يخفيها بعد .هم
بأخذها لكن ارتفاع الصوات في الحانة جعله يسوي الفراش كسابق عهده ويخرج ليطمئن
من جديد ،فوقف عند البوابة الصغيرة المؤدية إلى الحانة مستمعاً لما يجري منتظراً
دخول بندرلي في موضوع جديد من أحاديثه الطويلة ليضمن طول جلوسه في الحانة فل
يباغته ،لكن بندرلي لم يستحدث موضوع حديث جديد ول استمر في حديث سابق بل رأه
ينهض يجر القائد اليطالي معه بعيداً عن الجنود ليقفا قرب البوابة الصغيرة التي يختبئ
امعيزيق وراءها والحقيقة أنه لم ينزعج من اقترابهما منه ولم يكن لينزعج حتى من
رؤيتهما له لنه كان سيدّعيتنظيف الرض أو أي شيء آخر يكون له فيه عذر يبرر به
وقوفه عند البوابة .وقد كان وقوفهما في ذلك المكان يتيح لمعيزيق سماع ما يسه أحدهما
للخر فسمع من بندرلي ما أهاله وأربكه ،إذ كان هذا اليهودي يصف للقائد اليطالي مكاناً
يخبره أن العرب يخبئون فيه سلحهم وسمع توعد القائد اليطالي وشتائمه ثم كلمات
الوداع المختلطة التي كان يرمي بها وهو يترنح من أثر ما شرب .أحس امعيزيق
بإنقباض شديد وأسرع بدخول غرفة بندرلي حيث ظل واقفاً هناك ممسكاً بعصى غليظة ،
فما كاد يدخل ذلك العجوز حتى بادره بضربة على رأسه لم يتبين مصدرها من شدة الظلم
.فقيد امعيزيق يديه ورجليه وكم فمه بقطعة قماش حرص على إبعادها عن أنفه ليضمن له
تنفساً مريحاً إذ لم يكن ينوي قتله .وخرج بعد أن استبدل عصاه بقطعة قصيرة لكنها ثقيلة
من الحديد كان يستعملها بندرلي في طحن البن .فلما دخل الحانة أحزنه أن لم يجد القائد
الذي علم بسر السلح فكاد أن يتراجع لكن رغبة في نفسه استحثته أن يواصل ما قد عقد
العزم عليه ،فاقترب من الجنديين يساعده على إخفاء عصاه الظلم الذي لم تفلح شمعة
واحدة في طرده ،فما اقترب منهما حتى بادر أحدهما بضربة على رأسه بالقضيب
الحديدي الذي يحمل فسقط من على الكرسي وقد فار دمه من عقب رأسه ،فنهض الجندي
الخر الذي بان لمعيزيق أن الخمر لم تفقده قواه فلما وجد بندقيته غير قريبة من هجم على
امعيزيق ليصيبه إصابة شديدة على جانب فكه اليسر فلما تماسك ولم يسقط أتبعها بلكمة
أخرى على جسده ثم لكمة غير بعيد عن عينه اليمنى .أحس امعيزيق ألماً شديداً ودواراً
أشد فهجم على الجندي يحتضنه ويقوس ذراعيه حول رقبته ثم أخذ يضربه بقبضة يده
على مؤخر رأسه ،رفع الجندي يده ليضرب بها لكن قواه خذلته وسقط ممسكاً بقميص
امعيزيق ساحباً معه ردنه )(1اليمن .ضم امعيزيق قبضة يده ووجه ضربة قوية إلى وجه
الجندي ،لول الظلم لستبان ما أحدثته في وجهه من تهشيم .لم يضع وقتاً بل فر بعدما
أخذ المال وبندقيتي الجنديين متخفياً تحت جنح الظلم قاصداً قصراً يذكر أن شخصاً
( )1ردنه :الردن هو أصل كم القميص .
يرتدي أسماله ويحمل جسده قد قصد ذلك القصر ذات يوم .جمع القائد جنوده وألقى فيهم
خطبة حماسية تحت الضواء الكاشفة التي حجبت ضؤ الفجر المتسلل من خلف ظلم الليل
.حدثهم عن النجوم فتذكروا أمهاتهم .حدثهم عن الفاشية فتذكروا ذوي القمصان السوداء .
حدثهم عن أمجاد روما فحنوا لحانة بندرلي ،قال لهم أن من يجده في الحانة سيحبسه
فعادوا يتذكرون أمجاد روما ...ما تغيب عن خطبته تلك غير جنديين إثنين أمر أن يسجنا ،
وجعل بقية تحرس المكان وقاد جُل الجنود يجعل بهم كميناً للفلقة لعله يظفر بهم .قسم
جنوده عشرات .كل منهم يحفر له جحراً في الرض يدس فيه جسده أو يبحث له عن
حجر يتوارى في ظله ،يحاصرون قبراً تعلوه قبة ينتظرون جيشاً قادماً يهزمونه ويحققون
بهزيمته أمجاداً لقائدهم ،إنتظروا كثيراً في مكانهم ذاك فما ظفروا بغير معتوه يجوب تلك
الوديان كل يوم قتلوه ،واستمروا في ترقبهم لجيش القادم فما انفضوا عن ذلك حتى التقوا
هذا الجيش في رجل مسكين يركب حماراً يأتي البحر كل يوم لعله يجد على شاطئه ما يفيد
منه .قتلوا الرجل وقتلوا حماره الذي رسم لهم الرعب فيه حصان طروادة جديد ،ولما
كان في الحصان نهاية طروادة جعلوا من مقتل الحمار نهاية لترقبهم وانتظارهم فحفروا
عند قاعدة القبة وأخرجوا ماوجدوه من السلح فعادوا به عود الفاتح المنتصر ،كان قائدهم
يغلي قلبه غضباً وماكان يعتقد له من متنفس غير اليهودي بندرلي ،فترك الجنود يتابعون
مسيرهم ليعرج هو على الحانة ،فلما وصلها وجد فيها جنوده قتلى ووجد بندرلي لما بحث
عنه مكبلً مكموماً وما كان بحاجة لسؤال عن إذ كانت إزالة الكمامة عن فمه كافية لينطلق
لسانه يفضي بكل شيء عن السلح وامعيزيق ورحيل والقصر ولم يكن من هذه الشياء
بين يدي القائد اليطالي غير ذلك القصر القديم ،فسار نحوه بجنوده وعرباتهم ينوي دكه
على من فيه ومافيه لكن رياح القبلي كانت قد اشتدت فأظلمت الدنيا قبل غروب الشمس ،
وصار الجنود يتلمسون طريقهم فما تكاد تريهم عيونهم أبعد مما تطال أيديهم .المر الذي
جعلهم يولون الدبار بعرباتهم المجنزرة التي نست طحن الحجارة بعدما إعتادت على
طحن أجساد البشر .كانت الشياطين تتفث أنفاساً حامية من صدورها وكانت الجن تحوم
حول القصر تذري رماداً حارقاً وماكان في القصر من إنْس .
" ليسوا بمهزومين ول مسحوقين إنهم يعيشون من أجل أبنائهم ،ويتناقلون العزم من الب
إلى البن ،إن حضارتكم بغيضة لهم ،إنها حضارة تثريكم لكنها حقاً تزيدكم عوزاً "
باولوا فاليرا
كلمة السر
( ) 13
يطول نهار الصيف بشمسه المحرقة ترسل سياط غضبها على رمال الصحراء التي تمل
الحتراق كل يوم فما ترى في الخريف غير متسع لبث لواعج ألمها وغضبها عبر رياح
القبلي ،تلوم البحر على جفاءه ،فإذا لفحت هذه الريح البحر صبى إلى حبه العذري
واعتراه الحزن وكبت أنسامه الباردة ،فما عاد يجود بها إل في لحظات الصفو النادرة .
كانت الطريق أمامهم طويلة ،والصحراء واسعة ل تكاد ترى أيما نتوء في الدائرة
المحيطة بك ؛ ل جبل ول شجر ،ول نار ول دخان ،ول شيء سوى شمس ورمال
وحجارة .الشمس تعير الرؤوس دواراً ل يكاد ينتهي وتصيب الحلق بجفاف ل يزيله ما
يسكب فيه من ماء .ورمال الصحراء يصبح بياضها مملً ل يرى فيه غير َمسْحَفَ
الحيات ، )(1والحجارة الناتئة تشبع جوعها بعثرات القدام المتشققة النازفة ،والحصى
يتغذى بدماءها .
ساروا على هذه الحال متعبين مرهقين يطأطئون رؤوسهم متفادين الشمس فتنهال الرمال
في عيونهم فإذا رفعوا وجوههم كانت رياح القبلي لهم بالمرصاد تلفح وجوههم كالسياط .
كانت تلك المسافة التي قطعوها على أقدامهم مملة متعبة مضعضعة للنفس ،فما فارقهم
هذا إل بعدما اعتلوا ظهور الخيل يلهبونها بسياطهم يستحثونها على قطع الفيافي وكأنهم
يحاولون الفلت من جحيم رياح القبلي التي ل ترحم ،فجرت هذه الجياد بكل جهدها
جرياً مرضياً ،وماكان يتأتى لها هذا لوكان أحد فرسانها ذو يد مشلولة ،ذلك أن رحيل قد
فارقهم ،وولى راجعاً إلى أمه التي كانت تنتظره طول غيابه ،فإذا أتاها نسيت أنه كان
غائباً ،وهكذا لم يكن لها أن تشعر بفرحة اللقاء أبداً .
* * *
رغم أنها ل تحوي ميناء ول سوق ،ورغم أن أحداً منهم لم يفكر في إتخاذ مزرعة له
فيها ،لم تخلو الجغبوب من جنودهم يوماً ،ومالم يطاله الجنود طالته عيونهم التي يبثونها
في كل مكان .ربما كانوا يأملون حنين عمر المختار إلى هذا المكان الذي تعلم فيه
فيجعلون منه طعماً له ،وربما قربه من الحدود جعله كميناً مناسباً للمتسللين الذين ماقطع
دابرهم خبر من كان قبلهم .
هذه الكثرة من الجنود والعيون ،جعلت من المكان غولً لمن أتاه ينوي فعل شيء أو من
كان حاملً لشيء أو ذلك الهارب من شيء فعله ،ومسعود كان كل هؤلء ،كان آتٍ لفعل
شيء عقابه عندهم الموت ،ويحمل شيئاً عقاب حمله الموت ،وهارب من مطاردة الموت
له لفعل أتاه عقابه الموت ،لهذا كان مسعود مدركاً ضرورة حسابه لكل خطوة من خطواته
،فرغم تأخره في الطريق أسبوعاً كاملً ،لم يستعجل دخول المدينة ،بل تمهل حتى رأى
أتشاح الطبيعة بشالها السود يطمس معالمها ويحيل الجساد كتلً مظلمة ل تبان لها معالم ،
فأتجه إلى زاوية يدخلها مع من أتاها بنية الصلة ،فلما صلى مع المام وسلم دعى دعاء
متمهل ،نهض بعده إلى المصاحف المصطفة أمام المصلين وأستعرضها أمامه بنظرة
عابرة فما أطمئن حتى استقر بنظرة على مصحف يعرفه جيداً ،يختلف عن غيره في نقشه
ولون غلفه ،اقترب منه ثم سحبه في هدوء وتراجع خطوتين إلى حيث جلس بين
()1
سحَفَ الحيات :أثرها الذي تتركه في الرض .
مَ ْ
الجالسين فقرأ سورتي الخلص والنصر ثم قلب صفحات المصحف في هدوء حتى
وصل إلى الصفحة الولى منه ،فوجد مدوناً فيها الكلمات التالية :
وقف ل تعالــى
من إمام صلة العشاء
الطالب رحمة ربه
لم تكن هذه الجمل لتنال اهتمام أحد أو تثير انتباه أحد ،فما أحتفظ بهذه النسخة من
المصحف في متحف ول أهتم أحد هواة جمع التراث بوضعها في مكتبته ،ويصعب عليك
أن تجدها اليوم في أي مكان ،ذلك أن من عادة الناس هنا أن تجمع المصاحف التي تبلى
فتحرق ظناً بها على النجاسة أن تطالها .
لم تكن هذه الجمل لتعني شيئًا سوى لكاتبها الذي ينتظر تحقق مقصده منها ،ومسعود الذي
يقرأها الن .أعاد النظر في الجملة المكتوبة ثم أغلق المصحف وأعاده إلى مكانه ،ليتجه
إلى من أمهم في الصلة فجلس جواره ،نظر إليه المام متسائلً ،فقال له مسعود بكل
هدوء :
-أنا الطالب رحمة ربه .
-نظر إليه الشيخ نظرة طويلة ثم ابتسم له وهو يشير إلى رجل يجلس في الزاوية القربية
منه ،فمضى مسعود إليه ،ولما دنى منه سلم عليه ثم قال له :
-أنا مسعود ...أريد مقابلة سلم .
مد له الرجل يده مصافحًا وقال له :
-لتتبعني من بعيد ،فل تدركني ول تدعني أغيب عن ناظريك .
وبعد ما أوصله ذلك الرجل إلى المغارة تحادث قليلً مع سلم ثم عاد أدراجه واعداً
بالحضور في الغد .
أخذ مسعود مكاناً في المغارة جلس فيه صامتاً شاحب الوجه اللون ،تائه النظرات ،فكان
وقع هذا الصمت شديداً على رجلين طال بهما النتظار والترقب حتى كاد يعتريهما
اليأس ،قطع امعيزيق الصمت المطبق قائلً :
-ل أرى في وجهك خبر خير يا مسعود .
رفع سلم رأسه وأكد ما ذهب إليه امعيزيق قائلً :
-مبادي اللعب بادي قصيرها. )(1
-أين رفيقك يا مسعود ؟
-لقد طاردونا وأصابوه برصاصة في ظهره لم تمهله غير خمسة أيام ،لهذا تأخرت في
القدوم إليكم .
التفت إلى سلم ،وكأنه يحاول تغيير موضوع الحديث قال :
-لبد وأنه قد أصابكم الملل ...لقد خشيت أن تخرجوا وتتركوني هنا وحدي .
ابتسم امعيزيق وقد أدرك مخادعة مسعود نفسه بمحاولته نسيان فقد رفيقه ،وقال :
-كيف تريدنا أن نذهب والرسالة الذاهبون لجلها معك ...أقصد مع رفيقك الذي مات ؟
تنهد مسعود تنهيدة عميقة وقال:
-حقاً قد مات ...إنهم ينتظروننا والحال ليس حسن ،لذا علينا أن نسرع قدر ما نستطيع .
( )1مبادي اللعب بادي قصيرها :تعبير يستخدم في إحدى اللعب الشعبية ويقصد به الشارة إلى تأزم المور .
قال سلم :
-غداً يكون لدينا ما نحتاجه من الدوات لقطع السلك الشائكة ،وفي المساء يحين وقت
العمل الحقيقي ،فقط علينا وضع خطة محكمة لتنفيذ ذلك بكل الدقة .
-عندما تمر الدورية المكلفة بمراقبة السلك نعقبهم نحن لتمام مانريد .
-لكن الدوريات تكاد تمر كل ساعتين حسبما سمعت ،وإضاعتنا ساعة في قطع السلك
لن يدع لنا سوى ساعة واحدة قد لتكون كافية للبتعاد ،فإذا ما فطنوا لما إفتعلناه في
السلك من مهرب تعقبونا .
-وما الرأي عندك ؟
-الرأي عندي أن نضرب الدورية .
-لكن هذه مغامرة ل نضمن نتائجها ،ونحن نريد الخروج ،فسلمتنا أمر ضروري ،لن
الرسالة يجب أن تصل .في الغد أخبركم بما أفكر فيه وما يجب أن نفعله .
في اليوم التالي كان الرجال الثلثة قد تركوا المغارة فأتخذوا لهم مخبأً غير بعيد عن
السلك الشائكة ،فلما حل الظلم أفادوا من ستار ظلمته ليقتربوا أكثر من السلك ،
حيث دسوا أجسادهم بين حجارة وجدوها يحيط بها حطب كثيف ،وظلوا هناك يرقبون
مرور الدورية ليشرعوا في عمل ما اتفقوا عليه .
-حسبما قيل لي فإن الدورية لن تمر إل بعد ساعة من الن فهذا أوان عشائهم .
-لماذا ل تحاول الن إذاً ؟
-ل …ل نستطيع المغامرة …علينا أن ننتظر مرورهم لنضمن عدم عودتهم إلينا سريعاً
… والن استمر ا في المراقبة ،أما أنا فسأنام قليلً ،وإذا ما حدث جديد أيقضاني .
بعد دقائق اقترب سلم من امعيزيق بهدوء محاذراً إيقاض مسعود وقال له :
-إسمع يا امعيزيق ،إن حمل البندقية مع هذه الدوات أمر صعب ،ل شك سيصيبنا
بعطلة ل داعٍ لها ،لذلك سأحمل هذه الدوات لضعها في المكان المحدد ثم أعود إليك
.
-لكنهم إذا مروا وجدوها .
-ل ...ل تخاف ،لن يراها أحد منهم في هذه الليلة المظلمة ،لتستمر أنت في المراقبة
وإذا سمعت شيئاً غريباً أيقظ مسعود .
-يجب أن نخبره قبل ذهابك .
-ل ..دعه نائم ول تزعجه ..فقط أيقظه إذا سمعت شيئاً .
-إستل سلم في هدوء يحمل عدته بعد أن أزاح بندقيته بكل هدوء ناحية مسعود .
أنتظر أمعيزيق كثيراً لكن سلم لم يعود فأعتراه قلق شديد ولم يجد أبداً من أيقاض
مسعود ،الذي إنزعج كثيراً مما حدث ،حاول أمعيزيق أن يطمئنه لكن دون فائدة ،قال له
:
-دعنا ننتظر قليلً يا مسعود فربما عاد .
-أخشى أن يكون قد وقع في شرك السلك ..يجب أن أذهب إليه .
نهض إليه مسعود وهمّ بالتقدم ،لكن شل حركته أن رأى ضوء قادماً من بعيد .
-سلم الحمق أوقعنا في الفخ .
كان أمعيزيق قد أدركه الرعب والفزع الشديد لما قد يصيب سلم ،فنظر إلى مسعود وهو
يقول :
-والن ماذا علينا أن نفعل ..لبد من إنقاذه .
-لم يعد أمامنا من خيار ،يجب أن نستقبلهم قبل أن يصلوا إليه ..هيا بنا ..أنطلقا إلى
السلك منحرفين قليلً ناحية الجهة القادم منها الضوء ليدركا الدورية قبل أن تطال
سلم الذي لم يأخذ معه بندقيته ،لكن سرعة العربة لم تدع لهما من مجال للقاء بعيداً
عن سلم ،فأفترشا الرض يحتميان بظلم الليل وأحجار صغيرة ل تكاد تواري
رؤوسهم ،وانطلق دوي الموت يمل المكان باحثاً عن الحياة أينما كانت وسط ليل برك
بكل ثقله على ذلك المكان يزيد من ظلمته شبح الموت الذي خيم عليه ،ولم يكن هناك
سوى هدفين يبانان لطالبهما ،ضوء العربة ونقطة من السلك لمح عندها الجنود
الطليان شيئاً يتحرك ،ولم تدم المعركة طويلً ،ففي لحظات كان كل شيء قد أنتهى ،
وساد السكون من جديد ،فما عاد يمسع غير أنين منقطع .
-مسعود ..
-نعم .
-هل أنت بخير ؟
-أنا بخير ،وأنت ؟
-أنا ل شيء أصابني ،ولكن سلم .
-أبقي مكانك ..يجب أن نطمئن أولً .
-سحب مسعود بندقية سلم نحوه ووجهها إلى العربة التي كان ضوءها قد أختفى وأطلق
سيلً من الرصاص ثم أنتظرا ل يبرحان مكانهما ،فلما لم يجب عليهما أحداً ل
برصاص ول بكلم ،أتجها ببطء ناحية العربة فلما أطمئنا إلى الموت جنودها الربعة
أتجها إلى السلك ،يبحثان عن رفيقهما سلم الذي أرشدهما أنينه إليه ،كان مصاباً
في يده وكتفه وساقه ،وكان ينزف بشدة ،رمى مسعود ببندقيته إلى أمعيزيق ثم حمل
سلم على ظهره وأنطلقا دون أن يأبها بما فعل سلم في السلك الشائكة ،إذ كان
واضحاً ما فعلت هي به ،كانت جراح سلم قد نزفت كثيرأً فما أدركه مساء اليوم
التالي إل وقد فارق الحياة .
* * *
-كان يجب أن يذهب أحدنا بالرسالة .
نظر مسعود إلى الرض طويلً ثم ألتفت إلى أمعيزيق قائلً :
-ذلك ما ضحى سلم لجله ،لقد جعل من نفسه كبش فداء يحمينا به لنتمكن نحن من
الخروج ،لكن ماذا يستطيع شخص واحد أن يفعل ،حتى نحن الثنان ل تستطيع فعل
شيء ،بل حتى عندما كان معنا لم نكن بالعدد الكافي ،فالمر ليس مجرد حمل رسالة
لن من يوصل الرسالة يجب أن يعود بالمؤن والسلم ،كما أنه من الصعب على واحد
أو أثنين ضمان الوصول ،فنحن لم نقطع منتصف المسافة بعد ،ما تزال أمامنا فيافي
يجب أن نقطعها إذا أردنا الوصول ،لذا علينا البحث عن رفاق آخرين قبل التفكير في
معاودة الكره ..قطع مسعود حديثه فجأة وقد سمع صوتاً ينادي خارج المغارة وقام من
مكانه وهو يقول :
-غريب ..هذا صاحب سلم ..ما الذي عاد به الن ،لقد كان هنا منذ قليل .
خرج إليه أمعيزيق وناداه فقدم إليهما يجري مصفر الوجه متلحق النفاس ،فسلم بلسان
متلعثم ويد ترتجف .
-ما بك يا رجل ،وما الذي عاد بك وقد كنت عندنا منذ قليل .
-عدت إليكما وكل الشر على لساني .
-ماذا حدث ؟ تكلم بال عليك .
-لقد أسر عمر المختار .
تحجرت عينا مسعود عند فوهة الفنجان في يده حتى تفجرتا دمعاً فرماه غير آبه به أين
يكون منتهاه ،ومضى يجر قدميه جراً حتى أدرك نهاية المغارة حيث جلس هناك مطرقاً
ل يقول شيئاً ،ل يفكر في شيء ول يرى شيئاً غير صور تتناهى إلى الذاكرة ،تتبع من
ماضٍ يزخر بالحلم ،أما أمعيزيق فقد جلس في مكانه واضعاً خده في كفه اليسر بينما
أمسكت يمناه بعود طويل يرسم به على التراب دوائر متشابكة ،وقد عاودته ذكريات بيت
وحيد في وادٍ معزول ،والحاجة حليمة تحكي له عن فارس يحمل سيفاً قاطعاً يأتي على
حصانه البيض فيخطف الميرة من بين مخالب الغول .
عندما حل المساء كان الرجل الثالث قد ودعهما واعداً أنه سيعود إليهما بجوادين ليرجعا
بهما ،لم يرد عليه منهما أحد وهو يقدم عرضه ،فأنصرف مكتفياً من الوداع بعيون
رقراقة بالدمع ،شيعته بكل الود فرأى فيها كل الحزن .
مضى وقت طويل ما قطع صمته شيء فعاشت الذاكرة أزماناً وقطعت ودياناً وفيافي
وألتقت بكل الناس لتعود إلى مغارة مهجورة في أرض مهجورة ،ل تجد فيها غير قلبين
طرد منهما الحزن كل شيء فشل عقلين عن فعل أي شيء .
-ل بقاء لنا هنا بعد اليوم .
-نعم يا مسعود ،يجب أن نعود .
-ل ..لن أعود ،ولن أرضى بأن يضيع ما فعله سلم ،سأخرج من تلك الفتحة وإن
كانت تقود إلى القبر .
-ربما أصلحوها .
-سنفتح غيرها .
خرجا يتبعان خطوات الليلة البارحة ،كان يحس خطواته أكثر ثقة ونظراته أشد عمقاً ،
شعر أن الطريق أمامه واضحاً يراه رؤية النبياء ،وصور الماضي كانت تتراقص أمامه
بكل وضوح ،ينظر إليها بكل جرأة وثات ليرى الصورة تتلل في إطار يحيط بصره بكل
أبعادها ؛ المس الذي كاد أن ينساه ،والحاضر الذي كاد أن ينوه عنه ،والغد الذي كاد أن
ييأس منه .
عندما أدركا المكان الذي حدثت فيه معركة البارحة وجدا الفتحة التي يقصدان باقية لم
يصلحها أحد .خرج منها مسعود فصار على الجانب الخر من السلك ،ومد يده إلى
أمعيزيق يدعوه لن يتبعه .
-هل ستعود يا مسعود ؟
-لن أطمئن على أمي ،فرحيل ل يطيق صبراً على فراق ماقد إعتاد عليه .
نظر إلى الرض لحظة ثم رفع رأسه نحو امعيزيق يواصل حديثه قائلً :
-يجب أن نذهب ...هيا بنا .
-ل ...أنا لن أذهب معك ...هل أعطيتني الرسالة .
-لم تعد ذات فائدة ...لقد انتهى ...سيشنقوه ...
-لذلك أريد أن أخذ الرسالة ..سأحملها معي وأعود بها ،فلن عجزنا عن الفادة منها
وصاحبها حي فل أشك في أننا سنفيد منها بعد ذهابه ...هو رمز ..والرمز ليموت ..بل
يبقى يسري في دماءنا أبداً ..أعطني الرسالة يا مسعود لعود فأجوب بها كل نجع وأقرع
بها باب كل دار ،وأقرأها على على كل منبر جامع ...سأعطيها للشيخ أمبارك لينقشها في
عقول أطفالنا ،يحكي لهم القصص كل يوم ...سأحكي له قصة سلم ليرويها لهم ،ولن
أنسى أن أقص عليه حكاية الفارس التي على حصانه البيض يختطف أميرته الحسناء
من بين ذراعي الغول .
في اليوم التالي وحالما بدأ ظلم الليل يندحر مهزوماً أمام نور الفجر المتسلل في وجل من
بين السلك الشائكة ،كان رجل يعود بجوادين مخلفاً المغارة وراءه ،بعد أن مل الوقوف
منتظراً أمامها ،إذ لم يكن ثمة من يريد أن يعود فالكل قد عرف طريقه .