You are on page 1of 30

‫نظام التأديب هو وسيلة من وسائل الرقابة الذاتية ‪ ،‬التي‬

‫تمارسها السلطة الرئاسية في أي من مجالت العمل‬


‫علي مرءوسيها والعاملين بها ‪ ،‬وهو محاسبة العامل علي‬
‫ما جنته يداه في عمله من أخطاء أو إخلل بما يفرضه نظام‬
‫‪.‬العمل عليه من واجبات‬
‫وهو نظام يتولد من علقات العمل ‪ ،‬ولقد ظهر وازدادت‬
‫‪.‬أهميته حيثما تظهر علقات العمل وتزدد أهميتها‬
‫وعلقات العمل تختلط بأوضاع قانونية متعددة ومتنوعة ‪،‬‬
‫حسب المحال الجتماعي الذي تلتبس به هذه العلقات‪.‬‬
‫فهي تلتبس بالقواعد القانونية للحوال الشخصية في‬
‫حالت النتاج العائلي ‪ ،‬وذلك في المشروعات والوحدات‬
‫صغيرة الحكم التي يتوحد فيها مجال العمل بملكية‬
‫المشروع النتاجي أو القتصادي ‪ ،‬وتكون هذه الوحدات‬
‫بحجم يكفيه في إعادة الجهد المبذول من العامل صاحب‬
‫المشروع وأفراد أسرته‪ .‬وهنا تكون علقة العمل‬
‫مستوعبة في علقات السرة ‪ ،‬ويذوب التأديب في السلطة‬
‫‪.‬البوية التي يملكها كبير العائلة تجاه عائلته‬
‫وعلقات العمل ترتبط بعلقات التعاقدات المدنية ‪ ،‬في‬
‫المشروعات النتاجية والقتصادية التي تعتمد علي العمل‬
‫المأجور ‪ ،‬وتتخذ شكل العلقات التعاقدية بين طرفين‬
‫منفصل كل منهما عن الخر ‪ ،‬أحدهما رب العمل صاحب‬
‫المشروع ومالكه ‪ ،‬والخر العامل الذي يعمل تحت إدارة‬
‫رب العمل وإشرافه وبأدوات عمل ل يملكها وفي مشروع‬
‫ل يملكه ‪ ،‬ولكنه يعمل لحساب رب العمل لقاء اجر‪ .‬وهذه‬
‫هي علقة العمل في صورتها النقية ‪ ،‬وهي الصورة التي‬
‫ينصرف إليها الذهن عادة عندما يشار إلى علقة العمل‪.‬‬
‫وهي المقصود الساسي في قوانين العمل ونظمه‬
‫الفردية والجماعية‪ .‬وهي حسب التصنيفات القانونية‬
‫الجارية ألن في علم القانون ‪ ،‬تعتبر من علقات القانون‬
‫الخاص ‪ ،‬التي تصل بين تعاملت الفراد بعضهم مع البعض‬
‫دون أن تتسم بأي من سمات السلطة العامة ‪ ،‬ول بأي‬
‫‪.‬من أربطة القانون العام‬
‫وعلقات العمل تتصل ثالثا ً بعلقات القانون العام ‪ ،‬بما‬
‫يسمي بالوظيفة العامة ‪ ،‬والقانون العام كما هو معروف‬
‫يتناول الدولة والهيئات العامة بوصفها سلطة عامة ‪ ،‬كما‬
‫يتناول الروابط القانوني التي تكون أي من هذه الهيئات‬
‫طرفا ً فيها ‪ ،‬فالوظيفة العامة هي علقة عمل ولكنها تتميز‬
‫بان أحد طرفي هذه العلقة واحد من الهيئات العامة‬
‫بوصفها سلطة عامة ‪ ،‬وان هذه الهيئات العامة تحتل‬
‫‪.‬مركز رب العمل في هذه العلقة‬
‫ووجه الخصوص في هذه العلقة انها علقة عمل يتصل‬
‫أعمالها بإدارة شئون الدولة وبتسيير المرافق العامة التي‬
‫تقوم عليها وظيفة الهيئات العامة‪ .‬وبذلك فان خصوص‬
‫علقة الوظيفة العامة يتصل بعموم علقات العمل التي‬
‫تنشا بين أرباب العمل والعمال ؛ ومن هنا وجه الطرافة‬
‫في هذه العلقة ‪ ،‬ذلك انها من العلقات المحكومة بأربطة‬
‫القانون العام ‪ ،‬ولكنها تتصل اتصال خصوص بعموم بعلقة‬
‫‪.‬العمل المحكومة بأربطة القانون الخاص‬
‫ومن هنا ترد الطرافة التي يتميز بها نظام التأديب في‬
‫الوظائف العامة ‪ ،‬طرافة تجعله يتردد بين المجال الجنائي‬
‫بوصفه نظام عقاب وردع تتوله سلطة عامة علي أفراد ‪،‬‬
‫‪.‬والمجال المدني بوصفه مسئولية عن إخلل بعمل‬
‫علي أننا نلحظ انه كما أمكن اختفاء علقة العمل في‬
‫علقة السرة فيما يسمي بنظام النتاج والقتصاد‬
‫العائلي ‪ ،‬واختفي نظام التأديب )الملزم لعلقة العمل( في‬
‫السلطة البوية ‪ ،‬كذلك فقد أمكن اختفاء علقة رب‬
‫العمل بالعامل في الوظيفة العامة والفرد ‪ ،‬أي بين حاكم‬
‫‪.‬ومحكوم‬
‫ويطرد الفقه علي أن يصف علقة الوظيفة العامة بأنها‬
‫علقة تنظيمية لئحية ‪ ،‬تتعلق بروابط القانون العام ‪،‬‬
‫وذلك بسبب كون أحد أطرافها هيئة عامة ولنها لزمة‬
‫لتسيير مرفق عام‪ .‬كما يطرد علي بيان أن هذه الصفة‬
‫تفرق بين علقة الوظيفة العامة وبين علقة العمل ‪ ،‬التي‬
‫‪.‬تعتبر علقة عقدية وتتعلق بروابط القانون الخاص‬
‫هذه الفروق تبدو كما لو كانت باهرة الوضوح في الوهلة‬
‫الولى ‪ ،‬ولكننا عند إمعان النظر نجد أن المتشابهات‬
‫عديدة ‪ ،‬ومساحة التداخل واسعة‪ .‬فان هناك مع روابط‬
‫القانون الخاص ما حظي من المشرع – لعتبارات‬
‫اجتماعية رآها – بقدر واسع جد من الضبط والحكام في‬
‫تحديد أساليب التعاقد وأثاره ‪ ،‬بحيث انه لم تبق لطرفي‬
‫العلقة العقدية إرادة حقيقية يعملونها وفق مشيئتهما‬
‫‪.‬الثنائية لتحديد آثار التعاقد المادي بينهما وإحكامه‬
‫إن عقد أيجار الماكن المبنية وعقد أيجار الراضي‬
‫الزراعية ‪ ،‬قد صدرت لهما في مصر ) مثل ً ( علي مدي‬
‫نصف قرن تقريبا ‪ ،‬قوانين وتشريعات وتعديلت تشريعية‬
‫رئيسية وفرعية وقرارات لئحية ‪ ،‬صدرت لهما من تلك ما‬
‫يجعلهما اقرب للعلقات اللئحية التنظيمية وليس‬
‫للعلقات العقدية الرضائية التي تولي عاقدوها تعيين‬
‫شروطها وأثارها‪ .‬وإن عقد العمل الفردي الذي ظل‬
‫محسوبا من أربطة العلقات الخاصة ‪ ،‬اطرد تنظيم‬
‫المشرع لحكامه وأثاره بحيث لم يعد لطرفيه مكنة‬
‫واسعة لتعديلها‪ .‬حتى أن فكرة مثل هذه العقود صارت‬
‫اقرب إلى مفهوم الفكرة " الجعلية " التي تحدث عنها‬
‫الشافعية في الفقه السلمي وخلصتها أن آثار العقد‬
‫تترتب بجعل من الشارع ‪ ،‬وان حدود الرادة تقتصر في‬
‫الغالب علي مبدأ رضاء الطرفين في اصل الدخول في‬
‫هذه العلقة أو عدم الدخول فيها ‪ ،‬فان تراضيا علي‬
‫الدخول فيها فقد ترتبت الثار علي ذلك " بجعل " من‬
‫‪ .‬الشارع اكثر مما تترتب " بشرط " من المتعاقدين‬
‫إن علقة التوظيف هي قمة هذا التصور ‪ ،‬من حيث كونها‬
‫علقة جعلية تترتب أثارها "بجعل" من القانون وليس‬
‫بشرط من المتعاقد ‪ ،‬وينحصر ما تتمتع به هذه العلقة‬
‫الجعلية من دور للرادة والرضاء في اصل الدخول فيها ‪،‬‬
‫فلبد للموظف أن يرتضي التوظف بطلب منه أو‬
‫موافقة ‪ ،‬ولبد لجهة الدارة ) رب العمل ( أن تقبله بقرار‬
‫تعيين وتوظيف – ثم بعد ذلك تترتب آثار ل دخل لي من‬
‫‪.‬الطرفين في اشتراطها وتحديدها‬
‫قد يظل الفارق الساسي بين العقود الجعلية الخاصة‬
‫) كإيجار الرض والمسكن وعقد العمل في مصر (‬
‫والعقود الجعلية العامة ‪ ،‬هو أن النوع الخاص منها أحكامه‬
‫مقررة لحماية الطرف الذي رآه المشرع طرفا ً ضعيفا ً ‪،‬‬
‫بما يسمح بتعديل تلك الحكام لصالح هذا الطرف وليس‬
‫ضده ‪ .‬بينما أحكام العلقة الوظيفية ل تتيح هذا السماح ‪،‬‬
‫ولكن يبقي وجه للتفاق حتى في هذا المجال ‪ ،‬مما تتيحه‬
‫علقة التوظف من مرونة في الترقي ومنح المزايا‬
‫بالختيار ‪ ،‬وما تتيحه للموظف من المطالبة بما يراه حقا‬
‫‪.‬له‬
‫علي آية حال فقد قصدت من هذا البيان ‪ ،‬إثارة أن‬
‫تخصيص علقات أيجار المساكن والراضي الزراعية بنمط‬
‫"جعلي" لئحي تنظيمي من العلقات ‪ ،‬لم يؤثر في اصل‬
‫بقائها متضمنة في طلب القوانين المدنية الخاصة التي تعتمد‬
‫‪.‬علي العلقات الشرطية غير اللئحية‬
‫ولكن تخصيص علقة التوظف بنمط جعلي لئحي ‪ ،‬قد‬
‫أدى بالفقه إلى أن ينقل هذه العلقة من روابط القانون‬
‫الخاص إلى مجال علقات القانون العام‪ .‬ويبدو لي أن‬
‫سبب هذا النقل لم يكن هو "لئحية" الحكام وجعليتها ‪،‬‬
‫فان علقات العمل الخاص ل تقل كثيرا من حيث اللئحية‬
‫والجعلية عن علقات التوظف ‪ ،‬إنما كان السبب الذي‬
‫حدا بالفقه إلى هذا النتقال هو أن إحدى طرفي العلقة‬
‫هيئة عامة تستخدم أساليب السلطة العامة ‪ ،‬وأنها علقة‬
‫تتصل بتسيير مرفق عام ومن ثم تداخل وصف السلطة‬
‫‪.‬بوصف رب العمل فيها‬
‫انعكست هذه الطبيعة المزدوجة للسلطة العامة ولرب‬
‫العمل اكثر ما انعكست علي نظام التأديب في الوظيفة‬
‫‪.‬العامة‬

‫الوضع التاريخي لنظام التأديب و التنظيم الدارى‬

‫المرحلة الول‪ :‬الطابع الشخصى‬


‫و قد يكون من المفيد أن نشير إلى الوضع التاريخي‬
‫للمسألة في بلدنا فنحن نعلم أن تنظيم الدارة العامة مر‬
‫‪.‬بمرحلتين تاريخيتين‬

‫المرحلة الول‪ :‬الطابع الشخصى‬


‫يتسم التنظيم الداري لهذه المرحلة بالطابع الشخصي‬
‫حيث تندمج الوظيفة في شخص القائم بها ‪ ،‬ويرتبط‬
‫أشخاص القائمين بالوظائف العامة بشخص الحاكم ‪،‬‬
‫ويمارسون وظائفهم وما تتيحها لهم من سلطات عن‬
‫طريق علقاتهم الشخصية بالحاكم ‪ ،‬وتنحدر مستويات‬
‫التنظيم الداري وتتشعب علي أساس من العلقات‬
‫الشخصية بين الرئيس والمرءوس ‪ ،‬وتنفصم بانقطاع تلك‬
‫العلقات ‪ ،‬وواجبات العمل العام تتحدد بمشيئة الرئيس ‪،‬‬
‫والوظائف غير محددة بالستمرار والنتظام ‪ ،‬والختيار‬
‫والترقي يحدث في صورة العطاء أو المنع بالريحية أو‬
‫بالغضب‪ .‬والعامل يقوم بعمله بأدوات مملوكة له في‬
‫الساس ‪ ،‬فل فرق بين مقر إقامته ومقر عمله ‪ ،‬ول بين‬
‫مرءوسيه وتابعيه ‪ ،‬ول بين ما يستخدمه من وسائل‬
‫الركوب لعمله وما يستخدمه لمعاشه الشخصي ‪ ،‬وكذلك‬
‫بالنسبة للوراق والسجلت وغيرها ‪ ،‬وكانت المناصب‬
‫‪.‬تتوارث كالحرف والمال‬
‫ومن الطبيعي أن يتسم الجزاء التأديبي للعامل بهذا‬
‫الطابع الشخصي المختلط ‪ ،‬فتترابط في الجزاء شئون‬
‫العمل العام وشئون العامل الخاصة ‪ ،‬ول يغيب عن ذهن‬
‫المطالع لحداث التاريخ الوسيط في العالم كله ‪ ،‬أن‬
‫العزل عن الوظيفة كان يختلط بمجموعة من الجراءات‬
‫المتعلقة بمصادرة أمواله أو الستيلء علي بيته أو حبسه ‪.‬‬
‫لن الندماج بين العمل والعامل كان غير منفك ‪،‬‬
‫والندماج بين سلطة الحكم وبين صفة رب العمل كان‬
‫اندماجا غير منفك ‪ .‬ومن هنا اختلط الجزاء التأديبي‬
‫بالعقاب الجنائي ‪ ،‬أو كانا أمرا واحدا ً ‪ ،‬ولكن التطور ألت به‬
‫‪.‬الوضاع إلى أن صرنا نميز بينهما في نظمنا الحديثة‬
‫__________________‬
‫المرحلة الثانية‪ :‬القواعد الموضوعية‬
‫والمرحلة الثانية أتت في العصور الحديثة ‪ ،‬إذ يقسم‬
‫العمل الداري العام إلى مجالت وظيفية تنظمها قواعد‬
‫موضوعية ‪ ،‬وتنظم مستوياتها تنظيما هرميا ً بصرف النظر‬
‫عن شاغل كل وظيفة في هذه المستويات ‪ ،‬وتحدد‬
‫العلقات بين مجالت العمل ومستوياته وقواعد شغل‬
‫العاملين له ومسئولياتهم وواجباتهم ‪ ،‬يحدد كل ذلك في‬
‫صورة قوانين وقرارات وتنظيمات إدارية‪ .‬ويعتمد العمل‬
‫علي الوثائق المكتوبة التي تحفظ أصولها ‪ ،‬ويختار‬
‫العاملون بمعايير محددة سلفا وفقا لقواعد موضوعية‬
‫وبما يتوافر في العامل المختار من أوصاف مؤهلة ‪،‬‬
‫والصل أن يجري ذلك وان يستمر وفق معايير ل تتعلق‬
‫بالصلت الشخصية أو القرابية ‪ ،‬ويتقاضى العامل اجره‬
‫راتبا ً دوريا ً ثابتا ً ومتدرجا ً وفقا ً لقواعد معدة سلفا ً ‪ ،‬وهي‬
‫تندرج من القل للكثر حسب تدرج العامل من الوظيفة‬
‫الدنى للوظيفة العلى‪ .‬ويخضع التنظيم لثلثة أصول ‪ ،‬أول ً‬
‫قاعدة تقسيم العمل ‪ ،‬إذ يتوزع العمل الواحد علي عدد‬
‫من المراحل يتخصص في كل منها بعض الناس ‪ ،‬وثانيا ً‬
‫انفصال العامل عن أدوات العمل وأحواله ووسائله ‪ ،‬وثالثا ً‬
‫‪.‬قاعدة الوثائق المكتوبة‬
‫وبهذا كله ينفصل العمل الوظيفي عن مجال النشاط‬
‫الشخصي والفردي للموظف ‪ ،‬ويمارس العمل ل وفقا‬
‫للمشيئة الفردية ولكن بالقرارات المجردة ‪ ،‬كما تنفصل‬
‫أدوات العمل من جهة منشاته وأماكن مزاولته ووسائله‬
‫كلها عن الملكية الشخصية والحوزة الشخصية للموظف‪.‬‬
‫وهذا التنظيم ينجح بمقدار ما يمكنه من تجريد العاملين‬
‫‪.‬فيه من عواطفهم وعلقاتهم الذاتية‬

‫تعديل النظام الداري‬

‫الرابطة الوثيقة بين نظام العقاب الجنائي ونظام التأديب الداري‬


‫في هذا الطار تعدل النظام الداري في بلدنا في مراحل‬
‫متفاوتة ‪ ،‬وفي هذا الطار من العلقات المعدلة والوضاع‬
‫التنظيمية والتشريعات المصاحبة جري تعديل نظام تأديب‬
‫العاملين في الدارة العامة ‪ .‬ويمكن ضرب المثل في ذلك‬
‫من تجربة محمد علي باشا في حكم مصر والسودان‬
‫والشام في فترات تراوحت بين أعوام ‪ 1805‬و ‪1848‬م‪.‬‬
‫وكانت هذه هي الفترة التي شهدت تعديل أساليب الدارة‬
‫العامة إلى النمط الحديث ‪ ،‬وهي ذاتها الفترة التي شهدت‬
‫‪.‬حركة مماثلة في عاصمة الدولة العثمانية في استانبول‬

‫الفصل الول‪ :‬الرابطة الوثيقة بين نظام العقاب الجنائي ونظام‬


‫التأديب الداري‬
‫وأول ما نلحظه هو تلك الرابطة الوثيقة بين نظام العقاب‬
‫الجنائي ونظام التأديب الداري ‪ ،‬وانعكس ذلك في أن عقوبات‬
‫اليذاء البدني التي تقتصر في تصوراتنا الحالية علي‬
‫الجرائم الجنائية دون المخالفات التأديبية – كالحبس‬
‫والجلد وغيرها – هذه العقوبات كانت توقع بوصفها من‬
‫جزاءات التأديب للعاملين بالدولة ‪ ،‬حتى بدا أن العقوبة ذات‬
‫الطابع الجنائي كانت هي الصل في نظام التأديب ‪ ،‬وكانت تصل‬
‫إلى حد العدام‪ .‬ومن الطريف أن عرف نظام التأديب وقتها‬
‫عقوبة الحبس في مكان العمل ‪ ،‬فيقضي العامل مدة‬
‫‪.‬العقوبة في مكان عمله يمارسه فيه‬
‫وفي عهد محمد علي صدر عدد من التشريعات ‪ ،‬منها ما‬
‫سمي " قانون الفلحة " الذي صدر في ‪ ، 1830‬ومنها "‬
‫قانون سياسة نامة " الذي صدر في ‪ ، 1837‬وقانون‬
‫"المنتجات" الذي جمع عددا ً من القوانين السابقة‪ .‬ونحن‬
‫عندما ننظر في قانون سياسة نامة نجد أن الفصل الثالث‬
‫منه خصص لمخالفات المصالح العامة ‪ ،‬ومنها ما يتصل‬
‫بالجرائم الجنائية التي يرتكبها الموظفون مثل الختلس‬
‫والرشوة والتزوير وأتلف المتعة ‪ ،‬وهذه الجرائم يتنوع‬
‫العقاب فيها بين الحبس في اللومان مع الربط بالزنجير‬
‫)القيود( مددا تتراوح بين الشهور والخمسة العوام وبين‬
‫الربط في القلعة ‪ ،‬ومنها ما ل يجاوز المخالفات التأديبية‬
‫بالمعني المحدد لها في مفاهيم الحاضر مثل مخالفة‬
‫"مضمون الوامر ومنطوق اللوائح والقوانين" وممارسة‬
‫ما يجاوز الختصاص المحدد للموظف والهمال والتكاسل‬
‫في العمل ‪ ،‬وهذه المخالفات يعاقب عليها بالحبس مددا‬
‫محددة أو بتحديد القامة بالمنازل "بل معاش" أو "الحبس‬
‫بمحل المصلحة المأمور بها بل معاش من ثلثة اشهر إلى‬
‫‪.‬ستة اشهر" ‪ . . .‬الخ‬
‫كما نجد انه من الصعب الفصل بين ما نتعارف علي‬
‫تسميته ألن بالختصاص القضائي ‪ ،‬وبين ما يعرف ألن‬
‫بوصف الختصاص الداري ‪ ،‬وجري نوع من الشيوع بين‬
‫الوظيفة القضائية وبين الوظيفة الدارية ‪ ،‬أضف الى ذلك‬
‫أنه لم يكن هناك تمييز واضح بين ما نسميه الن‬
‫بالوظائف المدنية وبين الوظائف العسكرية ‪ ،‬أي ما كان‬
‫يسمي في وثائق تلك اليام "بهيئة طوائف المستخدمين‬
‫)المدنيين( والعسكرية"‪ .‬وكانت مجالس الحكام تختص‬
‫‪".‬بنظر الدعاوى المتعلقة "بالعسكرية والهالي‬
‫وبالمقابل لهذه الصورة التي تقرن الجزاءات التأديبية‬
‫بالعقوبات الجنائية ‪ ،‬نجد العكس عندما ننظر في "قانون‬
‫الفلحة" وقد تضمن عديدا ً من المخالفات التي توقع علي‬
‫المزارعين بسبب إهمال الزراعة وأشغال الترع والجسور‬
‫أو عدم أداء الضرائب أو امتناع الفلح عن الحضور عند‬
‫استدعائه أو الرعي في الزراعة الغير أو أتلف السواقي ‪.‬‬
‫‪ . .‬الخ‪ .‬وقد اشتملت أنواعها من الجزاءات تتراوح بين‬
‫عقوبات اليذاء البدني أو الحرمان من بعض المزايا أو‬
‫الغرامات المالية‪ .‬وهنا اقترنت أحيانا العقوبات الجنائية‬
‫بما يشبه مخالفات العاملين والموظفين المستوجبة توقيع‬
‫الجزاء التأديبي ‪ ،‬وان بعض الفعال المعاقب عليها كانت‬
‫تدخل في وصف "الخلل بالعمل" المستوجب توقيع‬
‫الجزاء التأديبي منها في وصف الفعل المجرم المستوجب‬
‫العقاب الجنائي ‪ ،‬وهذا يعكس نظرة من الحكومة لجمهور‬
‫المواطنين بوصفهم من عمال الحكومة ‪ ،‬وخاصة في‬
‫مشروعات النتاج الزراعي ‪ ،‬فان صفة الحاكم التبست‬
‫بصفة رب العمل ‪ ،‬وكذلك التبست صفة المواطنة ببعض‬
‫‪.‬سمات صفة العامل‬
‫ويلحظ انه حتى ألن في نظمنا المعيشية المعاصرة ‪ ،‬ل‬
‫يزال يقوم قدر من التداخل بين أنواع العقوبات التأديبية‬
‫والجنائية ‪ ،‬وبين صفة الخلل بالعمل ووصف ارتكاب‬
‫الجرم ‪ ،‬وبين وصف المواطن ووصف العامل ‪ ،‬وبين‬
‫وصف رب العمل ووصف سلطة الحكم ‪ ،‬وذلك في مجال‬
‫الخدمة العسكرية وتنظيم الجيوش ونظمها النضباطية‬

‫طبيعة و عناصر عقد العمل‬


‫تنص المادة ‪ 674‬من القانون المدني المصري علي أن‬
‫"عقد العمل هو الذي يتعهد فيه أحد المتعاقدين بان يعمل‬
‫في خدمة المتعاقد الخر وتحت إدارته أو إشرافه مقابل‬
‫‪".‬اجر يتعهد به المتعاقد الخر‬
‫وقديما كان عقد العمل واحدا من أنواع عقد اليجار ‪ ،‬إذ‬
‫يوجد عقد أيجار الشياء وهو الذي يقع علي منفعة الشياء‬
‫‪ ،‬ويوجد عقد أيجار أهل الصنائع أي عقد المقاولة أو عقد‬
‫الستصناع الذي يتعلق بصنع شئ أو أداء عمل ‪ ،‬ثم عقد‬
‫أيجار الشخاص ‪ ،‬وهو عقد العمل الذي يتميز بان العامل‬
‫‪.‬يقدم عمله تحت "إدارة أو إشراف" رب العمل‬
‫عقد العمل إذا يقوم متميزا ً علي عنصرين ‪ :‬الجر وتقديم‬
‫‪.‬العمل تحت إدارة رب العمل وإشرافه‬
‫‪:‬الجر ‪1-‬‬
‫ولكن الجر ليس هو العنصر الوضح تمييزا ً ‪ ،‬ذلك لنه‬
‫عنصر مشترك في عقود بيع المنافع العامة سواء وردت‬
‫علي أشياء أو علي أشخاص ‪ ،‬وهي عنصر مشترك في‬
‫عقدي الستصناع ) المقاولة ( والعمل ‪ ،‬فل يفرقهما إل أن‬
‫الستصناع عمل ل يؤدي تحت إشراف رب العمل ول‬
‫بإدارته ‪ ،‬بينما عقد العمل ل يؤدي إل تحت هذا الشراف‬
‫‪.‬أو بهذه الدارة‬
‫ومن جهة ثانية فان المادة ‪ 681‬من القانون المدني تنص‬
‫علي انه "يفترض في أداء الخدمة أن يكون بأجر إذا كان‬
‫قوام هذه الخدمة عمل ً لم تجر العادة بالتبرع به أو عمل‬
‫داخل في مهنة من أداه" ومن هنا فان القانون يفترض‬
‫وجود عنصر الجر في العمل المؤدي ‪ ،‬وهذا الفتراض‬
‫يعني أن إغفال النص في العقد علي الجر ل يفيد بذاته‬
‫نفي علقة العمل ‪ ،‬وان عدم أداء رب العمل للجر‬
‫‪.‬المغفل ل يفيد بذاته أيضا نفي علقة العمل‬
‫وهذا يعني أنه عند المنازعة في طبيعة النشاط المبذول ‪،‬‬
‫وهل يكون علقة عمل أم ل‪ .‬فإن الفصاح عن الجر أو‬
‫عدم الفصاح عنه ‪ ،‬وأداءه أو عدم أدائه ‪ ،‬ل يصلح أي من‬
‫ذلك لتعيين طبيعة العلقة وحسم ما إذا كانت علقة عمل‬
‫أم ل ‪ ،‬لن المطلوب أن نحسم طبيعة العلقة لنفرع علي‬
‫ذلك وجوب الجر ووجوب استحقاقه للعامل‪ .‬وان الجر‬
‫وهو من العنصرين المميزين لهذه العلقة ‪ ،‬فهو العنصر‬
‫الذي يمكن أن يفترض وجوده ‪ ،‬وهو العنصر الذي يتقبل‬
‫منطق القانون ومنطق تنظيم العلقة أن يكون عنصرا‬
‫خفيا أو ضامرا ‪ ،‬وان يكون تقرير وجود الجر واستحقاقه‬
‫أثرا مترتبا علي الجزم بان العلقة علقة عمل ‪ ،‬وليس‬
‫‪.‬مقدمة لزمة لتقرير هذا الجزم وسابقة عليه‬
‫أقول هذا لصل إلى أن خفاء أحد عنصري علقة العمل أو‬
‫ضموره ‪ ،‬إنما يلقي علي العنصر الخر جهدا ً مضاعفا ً ‪،‬‬
‫لنه يصير من الناحية التطبيقية هو ما عليه المعول في‬
‫بيان طبيعة العلقة‪ .‬وهذا العنصر الحاسم هو عنصر‬
‫التابعية ‪ ،‬أي أن يكون العمل جاريا تحت إدارة رب العمل‬
‫أو إشرافه‪ .‬فان تحقق ذلك قامت علقة العمل بعنصريها‬
‫بحسبان ما يتمتع به عنصر الجر من وجود مفترض ‪ ،‬وهو‬
‫وجود ل ينفيه إل أن يثبت أن أداء العمل كان علي وجه‬
‫‪.‬التبرع‬
‫‪:‬التابعية‪2-‬‬
‫ول أريد أن استطرد في ذكر آراء تزخر بها أحكام المحاكم‬
‫وشروح الشراح ‪ ،‬وحسبي في ذلك بيان الخلصات‬
‫والتفريع عليها والتوليد منها‪ .‬والحاصل أن عنصر التبعية‬
‫المطلوب ل يلزم أن يقوم علي درجة من التبعية الفنية أو‬
‫التوجيه الفني‪ .‬وقد كان المشروع التمهيدي للقانون‬
‫المدني المصري يحمل حكما في المادة ‪ 933‬منه هو‬
‫"يتميز عقد العمل عن عقد المقاولة بأنه يخول رب العمل‬
‫حق توجيه ما يؤدي له من خدمات ‪ ،‬أو علي القل حق‬
‫الشراف علي طريقة القيام بهذه الخدمات"‪ .‬ومؤدي هذا‬
‫أن في "التوجيه" درجة أوثق في درجات التبعية من‬
‫الشراف والدارة ‪ ،‬لن في التوجيه نوع هيمنة فنية علي‬
‫العمل تتعلق بعلم الصنائع التي يقوم عليها العمل وبفنون‬
‫هذه الصنائع ‪ ،‬أما الشراف أو الدارة فيقوم أيهما علي‬
‫أساس من التبعية الدارية وحدها ‪ ،‬أو يكفي لتحققهما هذا‬
‫‪.‬النوع من التبعية التنظيمية ‪ ،‬المتعلقة بضبط العمل‬
‫وتتراوح تعبيرات الفقهاء في هذا الشأن بين أن التبعية‬
‫المميزة لعقد العمل هي التبعية القانونية ‪ ،‬دون لزوم أن‬
‫تكون تبعية فنية أو تبعية تخضع العامل للتوجيه الكامل أو‬
‫شبه الكامل لصاحب العمل ‪ ،‬وان التبعية المميزة لعقد‬
‫العمل هي ما ينحصر في خضوع العامل لصاحب العمل‬
‫في شان الظروف الخارجية التي تم في ظلها تنفيذه ‪.‬‬
‫ومن ثم يكفي لقيام التبعية القدرة علي تنظيم العمل‬
‫‪.‬بتعيين مكانه وزمانه‬
‫ويكاد يكون موضع استقرار في مدارس الفقه ومذاهبه ‪،‬‬
‫أن تقوم علقة العمل علي عنصر "التوجيه في أداء‬
‫الخدمات" أو علي القل "الشراف علي طريقة أداء‬
‫الخدمات"‪ .‬وثبت هذا المعيار في القضاء النجليزي‬
‫بحسبان انه كلما كان حق الرقابة المقرر لرب العمل قويا‬
‫فعال غلبت علي العلقة القانونية صفة عقد العمل ‪،‬‬
‫وكذلك القضاء اللماني الذي يربط بين علقة التبعية وبين‬
‫عقد العمل ‪ ،‬والقضاء الفرنسي واليطالي وقضاء‬
‫‪.‬الوليات المتحدة‬
‫وإن مطالعة كتب الشرح وأحكام المحاكم في هذا‬
‫الشأن ‪ ،‬تكشف عن أن الحركة التاريخية لفقه علقات‬
‫العمل ‪ ،‬شرحا وقضاء وتشريعا ‪ ،‬تتجه في دأب إلى‬
‫التوسعة والفساح في المعايير الضابطة لعلقة العمل ‪،‬‬
‫لتحمل كل الصنوف واللوان ‪ ،‬في نمط علقة تتميز‬
‫بالتنوع البالغ والتغير الدائب ‪ ،‬لما تضم من أعمال غير‬
‫محصورة ‪ ،‬ولما تتضمنه وتتميز به من تبعية اقتصادية تضع‬
‫أحد طرفيها في مراتب الذعان ‪ ،‬وتضع الطرف الخر في‬
‫مرتبة من فرض السيطرة ومحاولة التحلل من ضوابط‬
‫القانون ‪ ،‬فكان الجهد التاريخي للشرح وللقضاء وللتشريع‬
‫من بعد هو ملحقة صنوف التحايل علي هذه العلقة‬
‫وإسباغ وصف العمل المحمي علي كل هذه الضروب‬
‫‪.‬المتنوعة‬
‫كل ذلك يصل بنا إلى بيت القصيد من الستطراد‬
‫السابق ‪ ،‬وهو أهمية النظام التأديبي كوسيلة من أهم‬
‫وسائل الكشف عن وصف التبعية التنظيمية الذي يقوم‬
‫‪ .‬عليه المعول الساسي في تمييز علقة العمل‬

‫الجزاءات التي ينظمها ويسمح بها قانون العمل‬

‫التنفيذ بمقابل أي التعويض‬


‫تكاد قوانين العمل تطرد علي الفساح في أحكامها لما‬
‫يتعلق بالجزاءات التي يمكن لرب العمل أن يوقعها علي‬
‫‪.‬العامل ‪ ،‬في حالت إخلل العامل بأي من التزاماته‬
‫والجزاءات التي ينظمها ويسمح بها قانون العمل بالنسبة‬
‫لعلقات العمل الخاصة ‪ ،‬وبالرغم من انها علقات تقوم‬
‫في إطار روابط القانون الخاص ‪ ،‬فهي أنواع جزاءات‬
‫تتجاوز ما يتعارف علي كونه من جزاءات الخلل بالتنفيذ‬
‫‪.‬التي تقتصر عليها روابط القانون الخاص‬
‫وإيضاحا لهذه النقطة أقول ‪ :‬أن المطالع فقه القانون‬
‫المدني وفقه العقود ‪ ،‬يتبين له أن الخلل بالتنفيذ في أي‬
‫من عقود القانون الخاص ‪ ،‬يترتب عليه رضاء أو قضاء‬
‫عدد من الثار ‪ ،‬أما التنفيذ الجبري قضاء كتسليم العين‬
‫المبيعة للمشتري ‪ ،‬وأما فسخ العلقة العقدية وإنهاؤها ‪،‬‬
‫وأما التنفيذ بمقابل لما اختل الوفاء به مما يستحيل إنفاذه‬
‫‪.‬بالجبر عينا أي ترتيب تعويض عن عدم تنفيذ‬

‫الفصل الول‪ :‬التنفيذ بمقابل أي التعويض‬


‫ول تقوم مشكلة فقهية في سياق الموضوع المعروض‬
‫الن ‪ ،‬بالنسبة للتنفيذ الجبري لنه إنفاذ جبري لعين ما‬
‫كان اتفق العاقدان علي إبرامه ‪ ،‬وكما ل تقوم المشكلة‬
‫بالنسبة للفسخ لنه إنهاء للعلقة العقدية‪ .‬إنما ما نود لفت‬
‫النظر إليه هو ما يسمي في القانون المدني بالتنفيذ‬
‫بمقابل أي التعويض ‪ ،‬والتعويض كما هو معلوم أما أن‬
‫يكون اتفاقيا بما يسمي بالشرط الجزائي ‪ ،‬وأما أن يكون‬
‫قانونيا بما يسمي بالفائدة ‪ ،‬وأما أن يكون قضائيا‪ .‬وإذا‬
‫استثنينا التعويض القانوني المسمي بالفائدة لنه يتعلق‬
‫بإخلل بأداء التزام نقدي ‪ ،‬إذا استثنينا هذه الحالة‬
‫الخاصة ‪ ،‬فان التعويض اتفاقيا ً كان أو قضائيا ل يكفي‬
‫لستحقاقه أن يقوم خطا من المتعاقد أو إخلل منه في‬
‫تنفيذ التزامه ‪ ،‬إنما يتعين أن ينشا عن هذا الخطا أو الخلل‬
‫"ضرر" بالطرف الخر‪ .‬والتعويض القضائي يتحدد في‬
‫حدود "الضرر" الناشئ عن الخلل ‪ ،‬فليست العبرة في‬
‫تعيين التعويض بحجم الخطا الحادث أو الخلل الحاصل ‪،‬‬
‫‪.‬إنما العبرة هي بحجم الضرر الناشئ عن ذلك‬
‫كما أن حجم الضرر هو الحاكم لقدر التعويض في حالت‬
‫التعويض التفاقي أيضا‪ .‬آية ذلك أن للقاضي خفض‬
‫التعويض التفاقي إذا تبين له أنه اكبر كثيرا ً من حجم‬
‫الضرر المتحقق عن الخلل بالتزام ‪ ،‬رغم أنه تعويض‬
‫تراضي عليه الطرفان عند عقد العقد ‪ ،‬وآية ذلك أن‬
‫القاضي يمكن إل يقضي بالتعويض التفاقي أصل مع ثبوت‬
‫إخلل ‪ ،‬وذلك إذا اطمأن إلى عدم تحقق أي ضرر عنه ‪،‬‬
‫وآية ذلك أن ما يعرف بالغرامة التهديدية التي توقع علي‬
‫الطرف المخل باللتزام عن كل من أيام الخلل أو‬
‫أسابيعه ‪ ،‬فهي غرامة المقصود من توقيعها جبر المخل‬
‫علي الوفاء بالتزامه ‪ ،‬ولكن قيمتها النهائية كتعويض تتحدد‬
‫وفق حجم الضرر الناجم عن عدم التنفيذ ومدي عناد‬
‫‪.‬الطرف المخل‬
‫وبهذا فان نظام العقود المدنية ل يعرف جزاء علي الخلل‬
‫باللتزام إل أن يكون تعويضا ‪ ،‬وان يكون التعويض مقدار‬
‫في النهاية علي وفق حجم الضرر الناتج عن الخلل‬
‫وليس طبقا لنوع الخلل الحادث في ذاته أو لحجمه في‬
‫‪.‬ذاته‬
‫العقاب الجنائى‬
‫ومن جهة ثانية فانه من نافلة القول الحديث عن المبدأ‬
‫الخاص بالعقاب الجنائي ومدي ما يفترق به عن الجزاء‬
‫المدني ‪ .‬لن العقاب الجنائي ذو هدف رادع لضبط السلوك‬
‫الجتماعي للفراد ‪ ،‬أما الجزاء المدني فقد شرع لدرء ما‬
‫أصاب المضرور ‪ ،‬والعقاب الجنائي يقدر حسب نوع الفعل‬
‫المجرم وحجم الخطا الحاصل ‪ ،‬أما الجزاء المدني هو‬
‫يقدر حسب الضرر المتحقق عن الخطا أو الخلل‬
‫باللتزام ‪ ،‬والعقاب الجنائي شخصي يلحق الفاعل في‬
‫شخصه ‪ ،‬أما الجزاء المدني فهو مالي يشمل الذمة‬
‫‪.‬المالية ويئول إلى ما تئول إليه اللتزامات بعامة‬
‫في هذا الطار من النظر الفقهي لكل من مجالي‬
‫القانونين المدني والجنائي ‪ ،‬يمكن النظر في علقة العمل‬
‫‪ ،‬وهي علقة مدنية كما سبقت الشارة ‪ ،‬ومن ثم كانت‬
‫أحكام اللتزام بالعمل خاضعة حسب النظر الفقهي‬
‫الخالص لحكام اللتزامات المدنية بعامة ‪ ،‬وحسب هذا‬
‫النظر الفقهي الخالص أيضا يكون الخلل باللتزام بالعمل‬
‫خاضعا ً لحكام المسئولية المدنية العقدية اتفاقية وقضائية ‪،‬‬
‫وكل النوعين التفاقي والقضائي لهذه المسئولية يجعل‬
‫"الضرر" ودرءه مناطا لتحقيق المسئولية ومناطا لتقدير‬
‫حجم الجزاء المترتب عليها‪ .‬وقد نجد في أحكام‬
‫اللتزامات ما يؤدي هذا المعني ‪ ،‬عندما ننظر في المواد‬
‫من ‪ 208‬إلى ‪ 214‬من القانون المدني المصري التي‬
‫تتعرض لحكام التنفيذ العيني "في اللتزام بعمل" أو‬
‫‪.‬المتناع عن عمل‬

‫الطبيعة الخاصة المميزة لعقد العمل‬

‫فرض السطوة يفترض إمكان توقيع نوع عقاب‬


‫علي أن ما فارق بين هذا النظر الفقهي الخالص ‪،‬‬
‫والحكام القانونية المتعلقة بتنفيذ عقد العمل هو الطبيعة‬
‫الخاصة المميزة لهذا العقد المسمي وهو أن أحد طرفي‬
‫العلقة يتعهد بالعمل "في خدمة المتعاقد الخر وتحت‬
‫إداراته أو إشرافه" ومؤدي "العمل في الخدمة" و "تحت‬
‫الدارة أو الشراف" أن يلتزم العامل "بان يأتمر بأوامر‬
‫رب العمل الخاصة بتنفيذ العمل المتفق عليه أو العمل‬
‫الذي يدخل في وظيفة العامل ‪ ،‬إذا لم يكن في هذه‬
‫الوامر ما يخالف العقد أو القانون أو الداب ولم يكن في‬
‫أطاعتها ما يعرض للخطر"‪ .‬وهذا ما حرصت علي إثباته‬
‫المادة ‪ 685‬من القانون المدني المصري بحسبانه‬
‫اللتزام الثاني الذي "يقع علي عاتق العامل في عقد‬
‫العمل ‪ ،‬وهو اللتزام التالي مباشرة للتزام العامل بان‬
‫‪.‬يؤدي العمل بنفسه‬

‫الفصل الول‪ :‬فرض السطوة يفترض إمكان توقيع نوع‬


‫عقاب‬
‫وموجب جريان تنفيذ العقد بالعمل "في الخدمة" و "تحت‬
‫الدارة أو الشراف" أن يكون للطرف المخدوم والمدير‬
‫للعمل سلطة تتحقق بها الدارة في التنفيذ العملي‬
‫اليومي الجاري لللتزام‪ .‬فل إدارة ول إشراف إل بنوع‬
‫سطوة يمارسها المدير أو المشرف علي من يدير أو‬
‫يشرف عليه‪ .‬وفرض السطوة يفترض إمكان توقيع نوع‬
‫عقاب من المر علي المأمور ‪ ،‬ردعا للعامل وضبطا‬
‫‪.‬لنظام العمل وكفالة لمضاء المر علي المأمور‬
‫وأيد هذا المعني وأوجبه ظهور منشآت العمل ‪ ،‬إذ صارت‬
‫"وحدة العمل" والنتاج ذات سعة وتستدعي عمل العديد‬
‫من العمال ‪ ،‬وإذا كان كل منهم يرتبط بعلقة عمل فردي‬
‫مع صاحب العمل ‪ ،‬فان سعة العمل توجب وضع نظام‬
‫للعامل يخضع له العمال جميعا ً من حيث مكانه ومواعيد‬
‫إنجازه وطرائق التعامل‪ .‬ومن هنا تظهر أهمية الجزاء‬
‫التأديبي الذي يضمن ضبط نظام العمل وعقاب المخل ‪،‬‬
‫وهذا الجزاء يستعير من منطق العقاب الجنائي سمته وصبغته‬
‫فهو مقصود به الردع ‪ ،‬وهو شخصي يتعلق بالمخطي ‪،‬‬
‫وهو يقدر علي حسب نوع الخطا ودرجته دون النظر في‬
‫حجم الضرر المترتب علي هذا الخطا ‪ ،‬وكل هذه السمات‬
‫‪.‬تقربه من العقاب الجنائي‬
‫علي انه ينبغي التدبر في أن هذه "الستعارة" لسمت‬
‫العقاب الجنائي وصبغته ‪ ،‬في الجزاء التأديبي ‪ ،‬قد جرت التحاقا ً‬
‫بتنظيم مدني بالضرورة وبالتعريف ‪ ،‬وعلقات العمل‬
‫الخاصة ليست فقط فرعا ً من فروع العلقات المدنية ‪،‬‬
‫وليست تنظيما فرعيا ً من نظم القانون الخاص فحسب ‪،‬‬
‫وانما هي علقة ل تقوم في جوهرها وبمنطقها إل في ظل‬
‫نظرية العقود بعامة ‪ ،‬ونظرية اللتزام علي الوجه العم‪.‬‬
‫ومن ثم كانت أربطة القانون الخاص هي الضابط والحاكم‬
‫وهي المهيمن علي التنظيم العقابي التأديبي المتصل‬
‫‪.‬بعلقة العمل‬
‫فإذا كان الجزاء التأديبي يتخذ طبيعة العقاب )الرادع‬
‫الشخصي المكتفي بالخطأ( ‪ ،‬فإن نوع هذا العقاب ومضمونه‬
‫ومؤداه يتصل ويرتبط أوثق ارتباط "بالحقوق العقدية" لنه‬
‫‪.‬في النهاية يدور في إطار هذه الحقوق‬

‫العقاب يشكل انتقاصا للحقوق‬


‫لذلك فان نوع العقاب الجنائي يشكل انتقاصا ً لما يتعارف علي‬
‫كونه من حقوق النسان بوصفه النساني ‪ ،‬فالعقاب‬
‫بالعدام ينتقص من حق النسان في الحياة ‪ ،‬والعقاب‬
‫بالشغال الشاقة أو السجن أو الحبس ينتقص من حقوق‬
‫النسان في الحرية وفي العمل المأجور ‪ . .‬الخ‪.‬‬
‫والعقوبات التبيعة الجنائية تنتقص من حق المواطن‬
‫بموجب كونه مواطنا ً في دولة ‪ ،‬سواء حق التوظف أو‬
‫‪.‬الترشيح أو أهل صلحيته للولية العامة‬
‫أما نوع العقاب التأديبي فهو يشكل انتقاصا ً لما يتعارف علي‬
‫كونه من الحقوق العقدية للعامل ‪ ،‬فعقاب الفصل يعني‬
‫فصم العلقة العقدية للعمل ‪ ،‬وعقاب الخصم من الجر‬
‫ينتقص من حق العامل التعاقدي في الجر ‪ ،‬وعقاب‬
‫الحرمان من العلوة أو المكافأة أو الترقي ينتقص من‬
‫‪.‬حقوقه العقدية لي من هذه المور‬
‫والحاصل أن فقه القانون يكاد يطرد علي بيان الفروق‬
‫بين العقاب الجنائي والجزاء التأديبي في عدد من الجوانب‬
‫تتعلق بعموم العقاب الجنائي للمواطنين جميعا ً وخصوص‬
‫الجزاء التأديبي للعاملين في منشاة معينة ‪ ،‬وبان الول ل‬
‫يكون إل بحكم بينما الثاني قد يصدر من سلطات إدارية ‪،‬‬
‫وبان درجة اللم تختلف في النظامين ‪ ،‬كما تختلف أنواع‬
‫الخطأ‪ .‬والحقيق بالنظر انه مع صواب كل من هذه‬
‫الفروق ‪ ،‬فإنني أتصور أن الفارق الرئيس بين النظامين ‪،‬‬
‫هو ما أسلفت الشارة إليه مما يتعلق بأصل الوضع‬
‫القانوني الذي يندرج النظام العقابي بين طياته ‪ ،‬ويتصل‬
‫بنوع الحقوق التي ينتقص منها العقاب ‪ ،‬وهل هي من حقوق‬
‫النسان والمواطنة ‪ ،‬أم من الحقوق المدنية والعقدية‪ .‬وهذا‬
‫الفارق الصلي يتفرع عنه فارق أخر وهو أن العقاب الجنائي‬
‫الذي ينتقص من حقوق النسان والمواطن ‪ ،‬دائما يحدد‬
‫عن أفعال ترد في القانون علي سبيل الحصر ‪ ،‬فل جريمة‬
‫ول عقوبة إل بنص ‪ ،‬أما الجزاء التأديبي فإنه لكونه ينتقص‬
‫من الحقوق المدنية والعقدية ومحصورا ً في الطار التعاقدي‬
‫الذي يقوم بين طرفين ‪ ،‬فهو بالمقابل يتعلق بأفعال‬
‫ليست محصورة ول يمكن حصرها ‪ ،‬شانها في ذلك شان‬
‫الخلل باللتزام المدني الذي تحكمه قواعد المسئولية‬
‫المدنية‪ .‬والجزاء التأديبي في النهاية وبأي من درجاته‬
‫القصوى ل يزيد عن مجمل الحقوق المكفولة للمتعاقد‬
‫في العقد المبرم ‪ ،‬لن غاية القدرة العقابية فيه هي‬
‫‪.‬الفصل وهو ل يعدو أن يكون فسخا ً للتعاقد‬
‫وان التنظيم القانوني "الجعلي" لعقد العمل حسبما‬
‫سلفت الشارة إليه ‪ ،‬قد عمل علي أن يشمل بتنظيمه‬
‫السس العامة لحكام الجزاء التأديبي‪ .‬وقد اعتادت النظم‬
‫القانونية الخاصة بالعمل علي أن تضع ضوابط وقيودا ً علي‬
‫سطوة رب العمل في استخدام سلطته التأديبية ‪ ،‬وخاصة‬
‫عند استخدام جزاء الفصل ‪ ،‬فهي تحدد أحيانا ً الحالت‬
‫التي ل يوقع جزاء الفصل إل عند قيامها ‪ ،‬كما توضح‬
‫إجراءات معينة لتمام توقيع هذا الجزاء ‪ ،‬وذلك كفالة‬
‫لبعض الضمانات الجرائية للعامل‪ .‬ثم هي توجب أحيانا ً‬
‫علي رب العمل أن يعد لئحة الجزاءات وان يضعها في‬
‫مكان ظاهر ‪ ،‬ليتاح للخاضعين لها أن يكونوا علي بينة‬
‫بحجم الجزاء الممكن تقريره لكل من أنواع المخالفات‬
‫التأديبية التي يمكن تسميتها ثم هي توجب أحيانا ً أن تصدر‬
‫الجهة الدارية )الحكومية( الوصائية علي تنظيم علقة‬
‫العمل لوائح تأديب نموذجية أو أن تعتمد لوائح التأديب التي‬
‫يقترحها أرباب العمال لمنشآتهم )علي سبيل المثال‬
‫المادة ‪ 59‬من قانون العمل المصري الحالي الصادر به‬
‫‪).‬القانون رقم ‪ 137‬لسنة ‪ 1981‬م‬
‫والخلصة أن النظام التأديبي في إطار علقات العمل‬
‫الخاصة ‪ ،‬رغم استعارته بعضا ً من قواعد العقاب الجنائي‬
‫كوسيلة لجراء الجزاء التأديبي علي نحو يحقق التبعية‬
‫اللزمة لتحقق طبيعة علقة العمل ‪ ،‬فان هذا النظام‬
‫مصمم وقائم علي أساس من روابط القانون الخاص ‪.‬‬
‫وهو قائم في إطار العلقة العقدية ‪ ،‬محكوم بأنواع عقاب‬
‫تتجانس مع الحقوق التعاقدية ‪ .‬والختصاص القضائي‬
‫بشأنه يتصل بالختصاص المدني وحده دون القضاء الجنائي ‪،‬‬
‫والمنازعة بشأنه تخضع لقواعد المرافعات المدنية دون‬
‫أحكام الجراءات الجنائية ‪ ،‬قول واحدا ً ‪ .‬وذلك رغم‬
‫السمت الجنائي للجزاء من حيث الردع وشخصية العقوبة‬
‫وارتباطها بالخطأ وحده ‪ ،‬ورغم السلوب الجعلي لنظام‬
‫‪.‬العمل ونظام التأديب‬

‫النظام التأديبى للموظفين العمومين‬

‫رابطة الموظف العام بجهة الدارة‬


‫نصل بعد ذلك إلى النظام التأديبي للموظفين العموميين‬
‫‪.‬أو ما يسمي بنظام العاملين المدنيين بالدولة‬

‫الفصل الول‪ :‬رابطة الموظف العام بجهة الدارة‬


‫والموظف العام هو بأجمال من يشغل وظيفة دائمة مما‬
‫تسير به المرافق العامة ‪ ،‬بطريق الستغلل المباشر من‬
‫الدولة أو وحداتها العامة ‪ .‬وكان الرأي السائد حتى خواتيم‬
‫القرن الماضي وفواتيح هذا القرن ‪ ،‬أن رابطة الموظف‬
‫بجهة الدارة رابطة عقدية ‪ .‬وكان يتردد الوصف القانوني‬
‫لهذه الرابطة العقدية بين عقد " إجازة الشخاص "‬
‫بالنسبة لمن يقوم بعمل مادي ‪ ،‬وقعد الوكالة بالنسبة‬
‫لمن يقوم بعمل قانوني يمارس به ولية إنفاذ وإمضاء‬
‫لشان من الشئون العامة ‪ ،‬وأحيانا ما كانت توصف العلقة‬
‫‪.‬بأنها من العقود غير المسماة‬
‫ولكن جري العدول عن هذا النظر في فرنسا ثم في‬
‫غيرها ‪ ،‬لما تعرضت له النظرة العقدية لهذه العلقة من‬
‫نقد ‪ ،‬وذلك )من جهة أولى( انها نظرة ل تفسر تماما ً‬
‫حقيقة الوضع القانوني‪ .‬ووجه النقد أن موضوع العقد‬
‫وشروط التعاقد والحقوق واللتزامات المتبادلة ل يجري‬
‫التفاق عليها بين طرفي العلقة ‪ ،‬ول يملك أي من‬
‫العاقدين تعديل أوضاع هذه العلقة ‪ ،‬ول جهة الدارة رب‬
‫العمل تملك ذلك‪) .‬ومن جهة ثانية( فان التصور الساسي‬
‫للعقود أن طرفيها يملكان تعديل أحكامها ‪ ،‬المر غير‬
‫القائم في علقات التوظف مادامت السلطة إلدارية ل‬
‫تملك أن تتفق مع العامل علي تعديل أحكام العلقة‬
‫القائمة بينهما ‪ ،‬والمنظمة بموجب القوانين واللوائح‬
‫المعينة للوظيفة العامة‪) .‬ومن جهة ثالثة( فانه يمكن تغيير‬
‫مركز الموظف في أي وقت دون أن يستطيع أن يحتج‬
‫بالحق المكتسب في أن يعامل بالنظام القديم الذي عين‬
‫في ظله مادام التعديل يشمل أوضاعه اللحقة علي هذا‬
‫‪ .‬التعديل‬
‫ومع العدول عن النظرة العقدية لهذه السباب ‪ ،‬تبني‬
‫الفقه والقضاء فكرة المركز التنظيمي ‪ ،‬وهو مركز ينشا‬
‫بإرادة طرف واحد هو جهة الدارة وينتهي بإرادة هذا‬
‫الطرف وحده‪ .‬ويخضع للحكام والشروط واللوائح‬
‫الصادرة بها القوانين واللوائح دون أن يكون في مكنة أي‬
‫من طرفي العلقة تعديل هذه العلقة علي خلف الوضاع‬
‫الواردة بالقوانين واللوائح ‪ ،‬ويمكن تعديل هذه العلقة‬
‫علي خلف الوضاع الواردة بالقوانين واللوائح ‪ ،‬ويمكن‬
‫تعديل مراكز الموظفين ويسري النظام الجديد المعدل‬
‫عليهم بالنسبة للمستقبل دون أن يملكوا التمسك بالنظام‬
‫‪ .‬القديم الذي عينوا في ظله‬
‫ومن هذا النظر للمركز التنظيمي للموظف ‪ ،‬نظر إلى‬
‫طبيعة السلطة التأديبية التي يخضع لها عند اخلله بما‬
‫يلتزم به ويأتمر ‪ .‬ونظر إلى المسئولية التأديبية بوصفها‬
‫نوعا قائما برأسه من نظم المسئوليات ‪ ،‬وهي تتميز بذلك‬
‫‪ .‬عن كل من المسئولية الجنائية والمسئولية المدنية‬
‫وفي ظني أن العتبار بمفهوم العقد الجعلي المعروف‬
‫لدي الشافعية في الفقه السلمي ‪ ،‬والتوليد علي هذه‬
‫الفكرة ‪ ،‬إنما يحل كثيرا من اللبس القائم حول العلقة‬
‫الوظيفية ‪ ،‬فالعقد تترتب آثاره بجعل من المشرع ‪،‬‬
‫والرادة هي السبب المحرك لهذه الثار ‪ ،‬دون أن يكون‬
‫للرادة دخل في ترتيب أنواع الثار المقررة علي الدخول‬
‫في علقة ما ‪ .‬والمثل الفذ علي هذا النوع من العقود هو‬
‫عقد الزواج ‪ ،‬يدخله الداخلون بإرادتهم ‪ ،‬ولكن أحكامه‬
‫كلها مقررة بجعل من الشارع سبحانه وتعالي ‪ .‬ونحن ل‬
‫نقول بان العقود كلها عقود جعلية كما يفهم من فقه‬
‫الشافعية ‪ ،‬ولكننا نقول أن هذا نمط من العقود مقصود‬
‫بذاته ‪ ،‬يمكن أن يضاف إلى نوع أخر هو العقد الرادي ‪،‬‬
‫وان ما نسميه اليوم بالعلقة التنظيمية ‪ ،‬يمكن أن يكون‬
‫مجال ً لعمال مفهوم العقد الجعلي ‪ ،‬فنجمع بذلك بين دور‬
‫الرادة في اصل إنشاء العلقة واصل إنهائها وبين الجعل‬
‫‪.‬الشرعي الحاكم لثار هذه العلقة‬
‫وأيا ً كان المر ‪ ،‬فقد سلفت الشارة إلى أن لما نسميه‬
‫بالعلقة التنظيمية في مجال القانون العام ‪ ،‬وجه شبه بما‬
‫فصله المشرع بأحكام ملزمة بالنسبة لبعض أنماط‬
‫العلقات العقدية التي تدخل المشرع لتعرض فروضه‬
‫بشأنها حماية لضعف طرفيها ‪ ،‬مثل إجارة الراضي‬
‫‪.‬الزراعية وإجارة المساكن وعقد العمل‬
‫وما أريد أن اصل إليه مما سبق ‪ ،‬هو أن الوصف الجعلي‬
‫أو الوصف التنظيمي للعلقة ل يفيد بذاته استقلل العلقة‬
‫القانونية المعنية من إطار القانون الخاص وصيرورتها من‬
‫شئون القانون العام ‪ .‬ومن ناحية أخرى فليس من فاصل‬
‫صارم بين نوعي أربطة القانون الخاص والقانون العام ‪،‬‬
‫وأية ذلك أن العقد الداري هو من مباحث القانون الداري‬
‫بوصفه من فروع القانون العام – ومع ذلك فنحت نعتبر‬
‫العقد الداري تنظيما ً خاصا ‪ ،‬ونلجا ً عند النص فيه علي‬
‫حكم ما ‪ ،‬نلجا ً إلى القانون العام له ‪ ،‬وهو القانوني‬
‫‪.‬المدني ‪ ،‬وهو عمدة فروع القانون الخاص‬
‫وبالمثل فان نظام العلقة الوظيفية ‪ ،‬بوصفها من مباحث‬
‫القانون الداري أحد فروع القانون العام ‪ ،‬تعتبر أحكامها‬
‫إحكاما ً خاصة ونظامها القانوني العام هو عقد العمل ‪،‬‬
‫وهو من الفروع النوعية للقانون المدني عمدة فروع‬
‫‪.‬القانون الخاص‬
‫ومع تبين تلك الوشيجة التي تصل العلقة الوظيفية في‬
‫نهاية مالها من حيث الطار المرجعي الحاكم لها ‪ ،‬تصلها‬
‫بقانون العمل والقانون المدني ‪ ،‬مع تبين ذلك ‪ ،‬يلزم‬
‫فحص نظام التأديب في نظم الموظفين ومدي قربه أو بعده‬
‫‪.‬من التنظيم المدني لعلقة العمل‬
‫والحادث أن مطالعة أي ثبت ورد بأي تنظيم قانوني أو‬
‫لئحي للجزاءات التي توقع علي الموظفين مرتكبي‬
‫المخالفات الوظيفية يظهر أن هذه الجزاءات تتعلق كلها‬
‫بالحقوق الوظيفية للموظف ‪ ،‬فهي أما تتعلق بالخصم من‬
‫الراتب أو بتأجيل استحقاق العلوات الدورية أو الترقية أو‬
‫بخفض الدرجة التي يشغلها الموظف أو بالوقف عن‬
‫العمل ‪ ،‬أو بالفصل وهو أقصى العقوبات ‪ .‬والنظام‬
‫التأديبي الوظيفي في ذلك يتفق تماما ً مع النظام التأديبي‬
‫في علقات العمل الخاصة ‪ ،‬ومن ثم جاز اعتبار الحكام‬
‫العامة للتأديب في المجالين متصلة بعضها ببعض اتصال‬
‫خصوص بعموم شانها في ذلك شان صلة علقة التوظف‬
‫‪.‬بعلقة العمل ‪ ،‬حسبما سلف البيان‬
‫وخلصة هذا المر كله ‪ ،‬انه أيا كان وجه اتصال علقات‬
‫التوظف بعلقات العمل الخاصة ‪ ،‬ووجه اتصال نظام تأديب‬
‫الموظفين بقواعد تنظيم تأديب العمال بعامة ‪ ،‬وسواء‬
‫قويت الصرة أو ضعفت بين هذين المجالين ‪ ،‬وسواء‬
‫اعتبر اتصال التوظف بالعمل اتصال خصوص بعموم أو‬
‫اتصال اصلين ندين في مجال قانوني واحد ‪ ،‬أو حتى إذا‬
‫اعتبر كل منهما قائما ً برأسه ‪ .‬فل يظهر علي أي من‬
‫الفروض السابقة صلة بين أي من النظامين التأديبيين‬
‫وبين نظام العقاب الجنائي ‪ ،‬إل أن يكون استعارة لبعض‬
‫الوصاف التي سلفت الشارة إليها ‪ ،‬ولكنها استعارة‬
‫أخضعت لنظام قانوني أخر وتحددت طبيعتها ل بتلك‬
‫الوصاف )الردع والشخصية واعتبار الخطأ وحده( ولكن‬
‫بنوع العقاب الذي ينحصر في إطار الحقوق العقدية‬
‫‪.‬والوظيفية‬

‫إجراءات التأديب تحقيقا ودعوي‬


‫تبقي عندي فقرة واحدة في هذا الموضوع ‪ ،‬وهي فقرة‬
‫تعيدني من جديد إلى مجال التردد وعدم الحسم‪ .‬وهي‬
‫تتعلق بإجراءات التأديب تحقيقا ودعوي ‪ ،‬بالنسبة للموظفين‬
‫العموميين‪ .‬وإذا كانت الفقرات السابقة قد أفضت إلى‬
‫ترجيح وضع النظام التأديبي برمته في النطاق الداري‬
‫المدني ‪ ،‬بعيدا عن المجال الجنائي ‪ ،‬فان التعرض لما يتبع‬
‫وما هو مرسوم من إجراءات للتحقيق والدعوى تعيدنا‬
‫‪.‬ثانية علي الحفاف من القانون الجنائي‬
‫ومن المعروف أن قانون الجراءات الجنائية يفترض وجود‬
‫قانون العقوبات ‪ ،‬فالجريمة والعقوبة المحددتان في‬
‫قانون العقوبات هما ما يتعلق بهما نشاط السلطات‬
‫العامة الذي ينظمه قانون الجراءات الجنائية ‪ ،‬فقانون‬
‫‪.‬الجراءات هو وسيلة تحريك قانون العقوبات‬
‫وإذا كان الجريمة تمثل عدوانا علي المجتمع وعلي أمنه‬
‫وسلمته واستقراره ‪ ،‬فان نوع العقاب المحدد لمواجهة‬
‫الجرائم ‪ ،‬يبلغ من الشدة ما يبرره الحفاظ علي أمن‬
‫الجماعة وسلمته‪ .‬وهي شدة تصل كما سبقت الشارة‬
‫إلى حد إهدار حياة المجرم أو حريته أو ماله‪ .‬فالجريمة‬
‫التي يقررها قانون العقوبات فادحة الثر علي المجتمع‬
‫والعقاب الذي يواجهها به القانون عينه فادح الثر علي‬
‫‪.‬مرتكب الجريمة‬
‫وعلي هذا المستوي الخطير من الخلل وردعه ‪ ،‬ترك‬
‫أحكام قانون الجراءات الجنائية ‪ ،‬لذلك فهي تفوق أنواعا‬
‫من التدابير من جنس المخاطر والمعالجات التي يتضمنها‬
‫القانون العقابي ‪ ،‬أي تعرف الحبس الحتياطي ‪ ،‬والتفتيش‬
‫‪.‬وغير ذلك مما يمس مبادئ حقوق النسان والمواطن‬
‫وعلي قدر هذه الخطورة ترد الضمانات التي يوردها‬
‫قانون الجراءات الجنائية ‪ ،‬كفالة لحصر استخدام‬
‫السلطات العامة نشاطها في مواجهة الجريمة ‪ ،‬حصره‬
‫في أضيق نطاق يمكن من تعقب الجريمة ومرتكبيها‬
‫ومحاكمتهم والحكم عليهم ‪ .‬لذلك يتضمن هذا القانون‬
‫تقسيما للسلطات العامة التي تتولى معالجة الجرائم ‪،‬‬
‫بين هيئات عديدة ‪ ،‬لكل منها من الضمانات ما يكفل‬
‫أعمالها للسلطة في احسن حال يرتجي ‪ .‬وهذه الهيئات‬
‫في النظام المصري هي‪ :‬الضبطية القضائية ‪ ،‬والنيابة‬
‫العامة ‪ ،‬وقاضي التحقيق ‪ ،‬والمحاكم ‪ ،‬وسلطات تنفيذ‬
‫‪.‬العقاب‬
‫ومن أهم الضمانات أيضا ً الكافلة لحسن أعمال السلطة‬
‫في هذا الشأن ‪ .‬أن تكون الهيئات المنوطة بها هذه‬
‫السلطة ذات وضع احتكاري لما نيط بها من نوع نشاط ‪،‬‬
‫ليكون لها من الستقلل ومن السطوة ما تستطيع به‬
‫إنفاذ مهامها في إطار التوازن الدقيق بين ملحقة الجريمة‬
‫وفرض نظام المجتمع وبين مراعاة حقوق الفراد‬
‫‪.‬وضماناتهم كبشر ومواطنين ‪ ،‬وكفالة حرياتهم وكراماتهم‬
‫إن ذكر كل ما سبق يكشف عن فروق عميقة واسعة بين‬
‫النظام الجنائي والنظام التأديبي للموظفين والعاملين‬
‫بعامة ‪ .‬فالقانون الجنائي – عقوبة وإجراءات – يهدف إلى‬
‫حماية المجتمع ‪ ،‬والنظام التأديبي يهدف إلى حماية‬
‫مؤسسة العمل ‪ ،‬هيئة كانت أو مرفقا ً عاما ً ‪ ،‬أو منشاة‬
‫خاصة ‪ .‬والجريرة هنا تتعلق بأوضاع العمل في المرفق ‪،‬‬
‫وعقوبتها هي من جنسها خطرا ً ‪ ،‬فهي تنحصر في الحقوق‬
‫العقدية أو الوظيفية التي ترتبت علي عمل العامل في‬
‫هذا المرفق‪ .‬ولذلك فان المجال التأديبي جرائر وجزاءات‬
‫ل يحمل ثقل الدوات التي أعدها نظام الجراءات الجنائية‬
‫‪.‬للمجال الجنائي‬
‫لذلك لم يكن التنظيم الداري بحاجة إلى توزيع السلطات‬
‫العامة التي تتداول تحريك نظام العقاب التأديبي بمثل ما صنع‬
‫قانون الجراءات الجنائية‪ .‬ول كان التنظيم الداري بحاجة‬
‫ماسة إلى أن يقيم هيئات ذات وضع احتكاري بالنسبة لي‬
‫من مستويات تتبع الجريرة الدارية وتوقيع الجزاء عليها ‪،‬‬
‫وان كان ثمة حرص علي التأكيد علي كفالة نوع الضمانات‬
‫التي تحمي العامل والموظف مما عسي أن تعتسفه‬
‫السلطات الرئاسية من حقوق في العمل فاشترطت‬
‫القوانين وجوب التحقيق لثبات واقعة المخالفة ومواجهة‬
‫العامل بما نسب إليه وسماع أقواله بشأنه ‪ ،‬وذلك قبل‬
‫توقيع الجزاء عليه‪ .‬واشترطت بعض الجراءات بالنسبة‬
‫ل‪ .‬وكان‬‫لوضاع توقيع الجزاءات الشديدة كالفصل مث ً‬
‫توقيع الجزاءات أمرا ً يسند إلى الجهات الرئاسية في كل‬
‫مجال عمل أو إلى لجان أو مجالس يتوافر في تشكيلها‬
‫‪.‬بعض الحيدة ومراعاة النصفة‬
‫ولكن حدث أن بدا النظام التأديبي يقتبس من النظام‬
‫الجنائي من حيث الجراءات والضمانات والهيئات المنوط بها‬
‫التحقيق وتقرير الجزاء‪ .‬ومن هنا في ظني يعود اقترابه‬
‫‪.‬من النظام الجنائي ‪ ،‬من الناحية الجرائية‬
‫هناك ملحظات أوردها سريعة ‪ ،‬وهي اقرب إلى مباحث‬
‫علم اجتماع القانون منها إلى النظر القانوني الفقهي ‪،‬‬
‫)الملحظة الولى(‪ :‬وهي أن الوظيفة العامة في بلدنا‬
‫تشغل وضعا اجتماعيا ل يبلغه عمل أخر إل في القليل‬
‫النادر ‪ ،‬وهي سمة من سمات غالب المجتمعات الشرقية‬
‫وخاصة المجتمعات التي تعتمد علي الزراعة النهرية ‪،‬‬
‫حيث كان للدولة المركزية من قديم الزمان وظيفة‬
‫اجتماعية تتعلق بضبط موارد المياه والشراف علي‬
‫توزيعها وعلي شبكات الري ‪ ،‬وهي وظيفة تتصل بأصل‬
‫انتظام الجماعة ومعاشها في هذه القطار‪ .‬وهذا أمر‬
‫تشهد به أوضاع الجغرافيا السياسية ‪ .‬فللدولة سيطرة‬
‫‪.‬وللعمل فيها كرامة ‪ ،‬هذه واحدة‬
‫والملحظة الثانية( وهي مستدعاة من التاريخ المصري ‪(،‬‬
‫وهي أن ذوي الفكر السياسي ودعاة الصلح الجتماعي‬
‫منذ الثلثينيات من هذا القرن ‪ ،‬كانوا يعتبرون اصلح أداة‬
‫الحكم وإصلح أوضاع الدارة العامة في مقدمة عواصل‬
‫النهضة بالمجتمع كله ‪ ،‬وقد نظروا إلى تداول الحزاب‬
‫والقوي السياسية للحكم بوصفه عامل اضطراب وعدم‬
‫استقرار لجهاز الدارة العامة ‪ ،‬لختلف السياسات‬
‫وتعارضها ‪ ،‬ولن كل حزب يصل إلى الحكم يميل إلى‬
‫إفادة أنصاره في الوظائف العامة ‪ ،‬مما أشاع ما عرف‬
‫باسم "المحسوبية" و "الستثناءات" في توليه الوظائف‬
‫والترقي فيها‪ .‬وكاد أن يستقر عن مطالب الصلح في‬
‫الفكر الجتماعي السائد منذ ذلك الوقت ‪ ،‬موضوع إقرار‬
‫ضمانات للموظفين يؤمن استقرار هذا الجهاز ‪ ،‬وانصرافه‬
‫عن الضطرابات والصراعات الحزبية ‪ ،‬إلى وضع‬
‫السياسات الجتماعية اللزمة للنهوض وتنفيذها علي‬
‫المدى الطويل‪ .‬ومن هنا عاد التفكير في إنشاء " مجلس‬
‫الدولة " ليكون من وظائفه إلغاء القرارات الدارية غير‬
‫المشروعة ومنها ما يتعلق بدعاوى الموظفين ‪ ،‬ومن هنا‬
‫أيضا جد التفكير في إنشاء " ديوان الموظفين " ليكون‬
‫جهة مركزية تضع السياسات العامة للتوظف وتشرف‬
‫عليها في أجهزة الدارة كلها‪ .‬وقد تم الصلح الول في‬
‫‪ 1946‬والثاني في ‪1950‬م‪ .‬وصار تأمين الوضاع‬
‫الوظيفية من شروط النهضة الوطنية ومن عوامل‬
‫‪.‬الستقرار الجتماعي‬
‫والملحظة الثالثة( أن المرحلة التاريخية التي مرت بها(‬
‫مصر في الخمسينيات والستينيات ‪ ،‬قد قرنت أهداف‬
‫النهوض الجتماعي والقتصادي بسيطرة الدولة علي‬
‫المقدرات القتصادية ‪ ،‬وعرفت حركة التاميمات وظهور‬
‫القطاع العام في كل مجالت النتاج والخدمات ‪ ،‬وادي‬
‫ذلك إلى أن صارت الهيئات المشرفة عليها الدولة سواء‬
‫أجهزة الدارة العامة أو هيئات الخدمات أو النتاج ‪ ،‬صارت‬
‫هذه كلها هي مجال العمل الساسي بالنسبة لكافة فئات‬
‫العمالة وأنواعها ‪ ،‬وخاصة بالنسبة لخريجي الجامعات‬
‫‪.‬والمعاهد العليا‬
‫تكشف لي الملحظات السابقة عن ثلثة عوامل اخذ‬
‫بعضها بسناد بعض ‪ ،‬لتقضي مجتمعة إلى شعور عام‬
‫اجتماعي بان الوظيفة العامة تكاد أن تصل إلى أن تكون‬
‫من حقوق المواطنة ‪ ،‬وان الضمانات التي تكفل للموظف‬
‫استقراره إنما تكفل للمواطن أمنه الجتماعي في‬
‫الحصول علي العمل والبقاء فيه والحصول علي دخله ‪،‬‬
‫وفي الترقي وكسب القيمة الجتماعية ‪ .‬ل أقول أن قائل‬
‫افصح عن ذلك ‪ ،‬ول أقول أن مذهبا سياسيا أو اجتماعيا‬
‫دعا إلى ذلك ‪ ،‬ول أقول أن مبدأ قانونيا ً جرت به أحكام‬
‫المحاكم أو آراء الفقهاء ‪ ،‬قعد قاعدة بهذا المدلول ‪ .‬ولكن‬
‫أقول أن شعورا ً جمعيا ً وتوافقا ً اجتماعيا ً عاما ً ‪ ،‬كان يهدي‬
‫السالكين في مجال الفتاء والقضاء إلى ما به يتحقق هذا‬
‫المفاد ‪ ،‬وكان ذلك ينعكس في الحلول التشريعية‬
‫‪.‬التنظيمية والجرائية‬
‫ولقد ظهر في مصر تنظيم "النيابة الدارية" كهيئة تتولى‬
‫التحقيق في المخالفات الدارية للموظفين واقامة‬
‫الدعوى التأديبية عليهم‪ .‬ظهر هذا التنظيم في ‪ 1954‬م‬
‫بالقانون رقم ‪ ، 480‬ثم أعيد تشكليها بالقانون رقم ‪117‬‬
‫في سنة ‪ .1958‬وقد تكونت علي صورة قريبة من صورة‬
‫النيابة العامة التي تتولى شان الدعوى الجنائية ‪ ،‬ولكن‬
‫جاء تكوينا ً – بطبيعة الحال – ايسر كثيرا ً مما يلئم يسر‬
‫الدعوى التأديبية مقارنة بالدعوى الجنائية‪ .‬ولم يجز للنيابة‬
‫الدارية حبس المتهم احتياطيا ً وان أجاز لها القانون الذن‬
‫بتفتيش الشخاص والمنازل )م ‪ ، (9‬ولم اعلم أن هذه‬
‫السلطة مورست ‪ ،‬إل أن يكون ذلك في النذر النادر من‬
‫الحالت ‪ ،‬وبعد ذلك نشأت المحاكم التأديبية بمجلس‬
‫الدولة تقام أمامها الدعاوى من النيابة الدارية‪ .‬ثم ما لبث‬
‫دستور ‪ 1971‬أن خص مجلس الدولة بنظر المنازعات‬
‫الدارية والدعاوى التأديبية ‪ ،‬بوصف ذلك من جوهر أعمال‬
‫‪.‬حكم المؤسسات ومراعاة ضمانات الفراد‬
‫كل ذلك أحاط النظام التأديبي بعبق جنائي ‪ ،‬ولم يكن‬
‫أساس ذلك طبيعة المخالفة ول نوع العقاب ‪ ،‬ولكن كان‬
‫أساسه ومحركه ومثيره هو التشابه في التكوين التنظيمي‬
‫والجرائي بين النيابة الدارية والنيابة العامة وبين مرحلتي‬
‫التحقيق والدعوى في كل منهما‪ .‬وتردد استخدام‬
‫‪.‬المصطلح الجنائي في هذا الشأن بما يلئم النظام التأديبي‬
‫وإذا كانت المحكمة الدارية العليا قد ذهبت في عامي‬
‫‪ 1962 ، 1961‬م إلى تطبيق الجراءات الخاصة بقانون‬
‫المرافعات المدنية والتجارية في شان الدعاوى التأديبية ‪،‬‬
‫بحسبان أن هذا القانون هو ما أحالت إليه أحكام قانون‬
‫مجلس الدولة فيما ل يرد بشأنه حكم في قانون‬
‫المجلس ‪ ،‬فان المحكمة عدلت من بعد عن ذلك‬
‫المذهب ‪ ،‬وصارت في شئون الدعاوى التأديبية تستعين‬
‫وتستهدي بقانون الجراءات الجنائية فيما ل نص فيه في‬
‫قانون مجلس الدولة وأيدها في ذلك غالب فقه القانون‬
‫‪.‬الداري ‪ .‬وهذا ما عليه العمل إلى ألن‬

‫بعض التحفظات‬
‫‪ :‬علي انه في هذا المجال يحسن إظهار التحفظات التالية‬

‫أول ً ‪ :‬أشير إلى ما أسلفت بيانه من قبل ‪ ،‬من أن العبرة‬


‫في تصوري بما يدخل المجال الجنائي وما ل يدخل ‪ ،‬هو بنوع‬
‫المخالفة وما إذا كانت تمثل انتهاكا لنظام المجتمع وأمنه‬
‫أو تمثل انتهاكا لمؤسسة معينة ‪ ،‬وبنوع العقاب وما إذا كان‬
‫ينتقص من حقوق النسان والمواطن أو ينتقص من‬
‫الحقوق العقدية والوظيفية‪ .‬والنوع الول من المخالفات‬
‫والعقوبات هو إدخال في المجال الجنائي ‪ ،‬والنوع الثاني‬
‫منهما هو ادخل في المجال المدني ‪ ،‬حتى وان علقت به‬
‫بعض أوصاف العقاب من حيث كونه رادعا ً وشخصيا ً‬
‫ومرتبطا ً بحجم الخطأ ونوعه‪ .‬أن العقد الداري يتضمن‬
‫إمكان توقع ما يسمي "غرامات التأخير" وهي توقع علي‬
‫المتعاقد مع الجهة الدارية بمحض تأخره في إنجاز ما‬
‫اتفق علي إنجازه دون نظر في حجم الضرر المترتب‬
‫علي ذلك‪ .‬وهذا السمت سمت عقابي ‪ ،‬ومع ذلك لم يقل‬
‫أحد بإخراج العقد الداري أو النزاع علي غرامات التأخير‬
‫‪.‬من المجال المدني العام‬
‫ثانيا ً ‪ :‬إذا كان التنظيم الجرائي هو ما قارب بين الدعويين‬
‫الجنائية والتأديبية بإنشاء النيابة الدارية ثم تنظيم الدعوى‬
‫التأديبية والمحاكمات التأديبية ‪ ،‬فل يزال البون شاسعا ً بين‬
‫المجالين ‪ ،‬حتى من هذه النواحي الجرائية‪ .‬لن النيابة‬
‫الدارية ل تملك سلطة التحقيق وحيدة بمثل ما تملك‬
‫النيابة العامة في الشأن الجنائي‪ .‬أن جهات الدارة‬
‫تشارك النيابة الدارية في سلطة التحقيق‪ .‬كما أن النيابة‬
‫الدارية ل تحتكر سلطة السير في الجراءات حتى توقيع‬
‫العقاب ‪ ،‬ول تستمد سلطتها في ذلك من القانون وحده ‪،‬‬
‫وانما تشاركها جهة الدارة في قرارها تقديم الدعوى إلى‬
‫‪.‬المحاكمة أو عدم تقديمها‬
‫كما أن المحكمة التأديبية ليست الجهة الوحيدة التي تملك‬
‫سلطة توقيع الجزاء التأديبي ‪ ،‬لن السلطة الرئاسية‬
‫تشارك المحكمة في توقيع بعض الجزاءات ‪ ،‬وفي هذه‬
‫الحالت تتحول المحكمة التأديبية من محكمة ترفع لها‬
‫الدعوى التأديبية لتوقع الجزاء ‪ ،‬إلى محكمة يطعن أمامها‬
‫في الجزاء الموقع من الجهة الدارية لتنظر المحكمة في‬
‫‪.‬مدي مشروعيته‬
‫وفضل ً عن ذلك ‪ ،‬فثمة مجالس خاصة للتأديب خولت‬
‫سلطة التحقيق وتوقيع العقاب التأديبي بالنسبة لبعض فئات‬
‫العاملين الذين تنظم شئونهم الوظيفية قوانين خاصة ‪،‬‬
‫مثل جهات القضاء وأعضاء هيئات التدريس بالجامعات‬
‫‪.‬والشرطة والقوات المسلحة وغير ذلك‬
‫ثالثا ً ‪ :‬لمحكمة النقض المصرية قضاء مستقر علي أن‬
‫قانون المرافعات المدنية والتجارية يعتبر هو "القانون العام"‬
‫في الجراءات القانونية علي اختلف فروعها ‪ ،‬وبهذا يكون‬
‫قانون الجراءات الجنائية "قانونا ً خاصًا" بالنسبة لجراءات‬
‫التحقيق والدعوى الجنائية‪ .‬وهو ينطق في مجاله ‪ ،‬وما ل‬
‫يرد فيه نص في قانون الجراءات الجنائية ‪ ،‬فيمكن‬
‫الرجوع إلى قانون المرافعات دون أن يستلزم هذا‬
‫الرجوع إحالة صريحة إليه ترد في قانون الجراءات‬
‫الجنائية‪ .‬ويكون هذا الرجوع أيضا ً في تفسير ما غمض من‬
‫‪.‬أحكام الجراءات أو سد ما نقص‬
‫ومن جهة ثانية فان قانون مجلس الدولة المصري يحيل‬
‫إلى أحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية فيما ل يرد‬
‫فيه نص إجرائي في قانون المجلس‪ .‬ومن ثم ل يقوم‬
‫قانون الجراءات الجنائية بوصفه قانونا ً عاما ً لدي محاكم‬
‫مجلس الدولة‪ .‬إنما ما يقوم بهذا الوصف هو قانون‬
‫‪.‬المرافعات‬
‫والحاصل أن الرجوع لحكام قانون غير القانون المنظم‬
‫للحالة المعروضة ‪ ،‬أي في غير حالة الخضوع المباشر‬
‫لمجال انطباق القانون ‪ ،‬يكون هذا الرجوع بوصف أن‬
‫القانون المرجوع إليه هو القانون العام ‪ ،‬أو بطريق‬
‫‪.‬القياس‬
‫ومادام قانون الجراءات الجنائية ل يمثل قانونا ً للقضاء‬
‫الداري ومنه القضاء التأديبي ‪ ،‬وهو ل يعتبر الشريعة‬
‫العامة في الجراءات القانونية بعامة ‪ ،‬فان الرجوع إليه‬
‫يكون بطريق القياس وحده‪ .‬وهنا تثور مشكلتان ‪ ،‬مشكلة‬
‫إمكان القياس علي قاعدة اجرائية ‪ ،‬ومشكلة إمكان‬
‫القياس علي قاعدة تتعلق بالمجال الجنائي‪ .‬والمر هنا‬
‫يحتاج في التطبيق إلى تدقيق شديد في وزن كل حالة‬
‫خاصة وفي مراعاة الضبط اللزم لحكام القانون ومناهج‬
‫‪.‬القياس في شانه‬

‫خاتمة‬
‫وحسبي من هذه الدراسة أن أكون قد أثرت عددا ً من‬
‫الفكار حول مدي ما يتردد نظام التأديب بين النظام الجنائي‬
‫‪ .‬عقابا وإجراءات وبين النظام المدني جزاء وإجراءات‬
‫وقد يدرك القارئ ما أكاد أرجحه في هذا الشأن من أن‬
‫نظام التأديب هو جزء من أنظمة العمل التي تقع في النهاية‬
‫في المجال المدني ل الجنائي ‪ ،‬حتى ولو كانت داخلة في‬
‫صميم القانون الداري‪ .‬إل تري أننا في شئون العاملين‬
‫المدنيين بالدولة نتبع أحكام النظم القانونية الخاصة بهؤلء‬
‫العاملين ‪ ،‬فان لم نجد طبقنا أحكام قوانين العمل ‪ ،‬فان‬
‫لم نجد طبقنا الحكام المدنية ‪ ،‬ما يتلءم منها بطبيعة الحال‬
‫مع الطبيعة الخاصة لعلقات التوظف العام وتسيير‬
‫‪.‬المرافق العامة‬
‫وفي النهاية فأرجو للقارئ أن يلحظ معي ‪ ،‬من قراءة‬
‫هذا الموضوع – أن المسالة ليست مسالة ترجيح فكري‬
‫محض بين وجهتي نظر إحداهما تذهب إلى حاكمية‬
‫المجال المدني علي نظام تأديب العاملين ‪ ،‬والخرى تذهب‬
‫إلى حاكمية المجال الجنائي ‪ ،‬كما أن المسالة ليست محض‬
‫اجتهاد فردي من كاتب هذه الدراسة أو من غيره‪ .‬إنما‬
‫يتأثر الترجيح في النهاية باعتبارات ترد "مما وراء‬
‫القانون" مما يعبر عنه بعلم اجتماع القانون ‪ ،‬وبهذا أرجو‬
‫أن يلحظ القارئ معي أن نظام التأديب موضوع هذا الحديث‬
‫هو بين المجالين المدني والجنائي كبندول الساعة ‪ ،‬وانه‬
‫حيثما ترجح في أوضاع المجتمع المشروعات الخاصة يمل‬
‫البندول نحو المجال المدني ‪ ،‬وحيثما ترجح المشروعات‬
‫العامة ويزيد دور الدولة ينجذب البندول نحو المجال الجنائي‬
‫‪ ،.‬هكذا نلحظ حركته عبر القرنين الماضيين‬
‫__________________‬

You might also like