Professional Documents
Culture Documents
صاِفَيُة
ال َ
قابلناها في سوق الَقْنذي ،وهو سوق للملبس المستعملة الرخيصةُ ،يَقاُم على هامش السوق الكبير ،قرب زريبة
المواشي في مكان خجول منزٍو حتى ُتضمن خصوصية الرواد ،البائع والبضاعة ،يرتاده الجنقو بين حين وآخر،
إما لبيع ملبسهم وأحذيتهم وما تبقى من زينتهم ،استبدالها ،أو شراء أخرى وذلك في شهور الفلس قبل موسم
الحصاد أو عندما يقبضون على ما تحصلوا عليه من نقود نتيجة للعمل في الحصاد ،ول يمنع أن يمروا عليه
.كذلك للبحث عن ملبوسات خاصة قد ل تتوفر في مكان آخر غيره
شاهدناها من بعيد تقف أمام البائع ،تتفاوض في شراء جلباب ،قال لي فيما يشبه الهمس
الصافية :
.الصافية الرهيبة ......أنا عايز اتكلم معاها ...يا صديق -
في حوش طرفي من بيت الم حيث جلسنا ،أنا وود أمونة وألم ِقشي ،وقد هيأ ود أمونة بخفة محترف كل شئ
وجلس قريبًا من الباب ،كنت أحس برغبته العارمة في التحدث معي ،ورغبته أيضًا في أن يتركني وألم ِقشي
وحدنا ،وتحسست بميتافيزيقية رعنة رغبة ألم ِقشي في أن تطارحني الفراش ،ورغبتها في أن يبقى ود أمونة
كما هو في موقعه .المهم حسمت المر بأن قلت لود أمونة جملة اعتراضية
-قلت لي اتربيت في السجن مش كدا؟
أحسست حينها أن ألم ِقشي وود أمونة كادا أن يطيرا من الشعور بالراحة ،قال وهو يأخذ نفسًا عميقًا من
:الشيشة
-آهـ ....السجن ،صاح ....اتربيت في السجن .
....ونواصل
_________________
َوْد َأُموَنْة
ظلمة للداخل،عْبر ال ُ
طية َطيَة ،تأتي أصوات المكان مخترقة قش وأقصاب الُق ِ حبشي يمل الُق ِ خوِر ال َطُر الَب ُ
عِْ
سَكَكه عبر الليل نحونا ،قال ود أمونة :إنها بوشاي .ثم واصل في ل رقيقًا يتلمس ِ غناًء جمي ً واستطعنا أن نميز ِ
حكي تفاصيل السجن ،تحدث بتلقائية وبساطة ،بهدوء ورقة ل تتوفر في شخص غيره ،ألم ِقشي تقاسمني
حّ
ك الوسادة البيضاء المستطيلة على طول عرض السرير ،تخلف ساقيها مع ساقي ،وبين وقت وآخر تتعمد َ
شَبَقًا وحشيًا تؤجله دائمًا حكايات ود أمونة المدهشة في السجن ،الليل أخمصَ قدمي بأحد أظافر رجليهاُ ،مثيرة َ
شي ،عبرت عنها بنهوض مفاجئ من حضني قائلة ت ِفكرٌة للم ِق ِ
عّن ْ:كعادته في هذه الشهور دافئ َمِرحَ ،
حأعمل ليكُم قهوة . َ-
جَبنة
.هكذا يعبر الناس عن حبهم واهتمامهم بالخر في هذه المكنة ،بأن :يعملوا لك َ
ل حكاية العازة ،لم تستطع عازة أن تقنع أمه لكي تتركه معها عندما تخرج من السجن في قال ود أمونة مواص ً
الغد ،وأرسلت لها الوسطاء من سجانين ومسجونين ،وحتى مأمور السجن نفسه ،ولم يقنعها سوى ما حدث لود
أمونة في ذلك المساء :كنت في طريقي إلى عنبر الُنسوان بعد أن عدت من مشوار كلفني به الشاويش خارج
السجن ،عندما وصل ود أمونة الممر المؤدي إلى الزنازين وهو الطريق القصر إلى الجزء الغربي من عنبر
الُنسوان حيث مقام أمه ،إذا بيد ناعمة قوية ُتمسك بذراعه ،وأخرى توضع في فمه ،كانت تفوح منها رائحة
البصل والثوم مما جعله يتعرف بسهولة على الطباخ ،ثم همس في أذنه
-ما تخاف ،دا أنا .
سحبت الكف عن فمه ،قال له ود أمونة ثم ُ
عايز مني شنو؟ -
قال الطباخ
إنت بكره ماشي مع عازة ،طبعًا حيطلعوها من السجن ،وإنت حتمشي معاها ،وأنا جيت عشان أقول ليك مع -
ش عيب عليك يا ود أمونة ،ما تقو لي مع السلمة؟ السلمة ،طالما إنت ما بادرت بالوداعُ ،م ْ
قال ود أمونة متضايقًا
ل فك يدي . -كويس ،مع السلمةَ ،ي ّ
قال الطباخ محاوًل أن يكون رقيقًا ومهذبًا
طقوس وفي احتفال صغير أنا عامله ليك في مخزن المطبخ برانا ،أنا - ل ....ما كدا ..مع السلمة دي عندها ُ
جبت شمع وعندي ليك هدية ،ملبس جديدة وجزمة وكرة وحلوة وحاجات حتعجبك .وإنتِ ..
قال ود أمونة وهو يحاول نزع يده
-إذا ما فكيت يدي حأصرخ وأمي تسمع وحتجي تقتلك .
فأدخل الطباخ يده في جيبه وأخرجها قابضة على نقود لها رنين
قال له ود أمونة
-أخير ليك تفكني .
بيد الطباخ الممسكة بالنقود ،أعاد النقود إلى جيبه وبسرعة ومهارة فتح زرار بنطاله وأخرجه ،شئ لم يستطع
ود أمونة تمييز معامله في الظلم ولكن عندما دفع به الطباخ إلى بطن و أمونة ،أحس به ود أمونة قويًا
ل ،قال الطباخ وطوي ً
خْد دقيقة واحدة ،وأنا أْدّيك أي حاجة عايزها .
-الموضوع بسيط ،وما ِبَيا ُ
عَرق العيش،وعندما َمّد َفَمه الذي تفوح منه رائحة الصعوط مختلطة بسجائر البرنجي محمولة على عبق َ
بحركة رشيقة خاطفة أمسك ود أمونة بشئ الطباخ ،كان مظلمًا ،كبيرًا وأملس ،أدخل ما يكفي في فمه وبين
أضراسه الحادة نفذ وصية أمه بحذافيرها ،الشئ الذي جعل كل من في السجن والذين يجاورونه والذين تصادف
مرورهم في تلك الليلة بتلك النحاء ،يقفزون رعبًا في الهواء من جراء صرخة الطباخ العنيفة البائسة التي لم
يسمع أحد في حياته مثلها ولن تتكرر في مقبل اليام ،صرخة أطارت العصافير الصغيرة النائمة في أشجار النيم
في وسط السجن ،جعلت السمبريات العجوزات الساكنات بالسنطة عند ِبركة المياه جنوب السجن ،تضرب
بأجنحتها في ذعر ،كانت الصرخات التي ألحقها بالصرخة الول ،أقل أهمية ،لن أحدًا لم يسمعها سوى ود
.أمونة ،كانت أكثر بؤسًا ورعبًا .ثم سقط
.-بصقت رأس الذكر من خشمي ،كان شئ مقرف
صبح في الساحة قالت لي أمي بعدما صلينا صلة ال ُ
إنت حتمشي مع عازة إلى بيتهم ،أنا تاني ما حأخاف عليك ،إنت بس حافظ على أسنانك ،حأديك قروش تشتري -
.بيها مساويك
....نوااااصل
_________________
)...الجنقو ...مسامير الرض )..بركه ساكن Re:
عليُ ،كّليقْة
خَتار َ
ُ،م ْ
سماعين .الجلبي ُ
ثم واصل مختار علي الحكاية ،يستطيع الن مختار علي الَمشي لقضاء الحاجة وحده ،بل أن يذهب للدكان عند
ناصية الطريق ،ويشتري حجارة البطارية .قال
سماعين ثلث مرات ..ال أكبر ...ال أكبر ...ال أكبر...ال - لما قلنا كدا بسم ال ودخلنا السمسمَ ،كّبْر الجلبي ُ
ن َيُوُوُوُو
صّ خل ُكلُه َ ن ال َ
.أكبرَ ...لّم ْ
سماعين بخروفين كبيرين أقرنين ،كرامة وسلمة وطلب منهم أن يذبحونهما وقتما شاؤا .ثم جاء الجلبي ُ
عندما يكون السمسم جيدًا ،فتيًا مرصوصًا كالدرر على ساق حمراء شامخة ،يجبر الجنقوجوراي على النحناء
لحصاده ،حينها يصبح الحصاد مهرجانًا من الرقص ،يغني الجنقو لحنًا واحدًا ثريًا ،حلوًا على إيقاع ضربات
:المِنجل ،خشخشة ربط الُكّليقْة ورميها بالخلف ،متعة النجاز
ُكّليقْة
ُكّليقْة
ُكّليقْة
ُكّليقْة
جنيهات ،وهو ثلثة أضغاف سعرها في حلة ،استطاعوا هذا العام أن يرفعوا سعرها إلى ثمانية ُ حلة( و ال ِ تصنع ) ِ
جل هي جزء من ثروة كبيرة ،كل ربطة ُكّليقْةُ ،كراع بوليس :هي بعض الحلم العام الماضي ،كل ضربة ِمْن َ
حلة انجزت؛ هي ثمانية جنيهات تنضاف إليها ثمانيات أخريات ،ثم ثمانيات أخريات ،ثم تسلم إلى يتحقق ،كل ِ
:الخالة؛ بالحلة
ثمانية +ثمانية +ثمانية +ثمانية +ثمانية +ثمانية +ثمانية +ثمانية +ثمانية +ثمانية +ثمانية +ثمانية
+ +....ثمانية +ثمانية
، +ث م ا
م ،نيـ ،+م
ا ،ة +ث
نيـ ،ث ث +نية
ة ،م +ة
نما ،ن ..ية + + + ....نية +
وأحس مختار علي برأسه ثقيلة ،بيديه مشلولتين ،رجليه؛ أين هي رجله؟
ل ،ينـ ....سـ ،حب ،،من حقل السمسم ،حقل الحياة ل قلي ً ،أحس أنه ينسحب ،قلي ً
ب ،حتين شافاني .-أّبكر آدم ما لحظ إُنُه أنا اتأخرت ،يمكن إل عندما وقعت في الواطا َت ْ
أسبوع بأكلمه قضاه مختار علي مريضًا في التاية ،وحيدًا ،حيث يذهب الجميع إلى العمل يتركونه مع الفئران،
.الزرازير ،أولد أبرق ،عشوشاي وكلب الخفير
سّيات ،كلمت سماعين الجلبي قلت ليُه أنا يمكن أموت هنا في الخل دا ساكت ،وديني - وال لّمان تقول جاتني نف ِ
حلة ،عندي أختًا لي هناك متزوجة ،وديني ليها ،وشالني جاباني هنا ،رماني رمية واحدة ،بت عمي ،أختي ال ِ
.سافرت إلى همدائييت ،راجلها اشتغل هناك في التهريب
عين مرة أخرى ،كأنما رمي بشئ قذر في واٍد مهمل مهجور ،كان قد وعده بأن يحضر سَما ِ
لم يره الجلبي ُ
المساعد الطبي أو يأخذه إلى المستشفى المحلي ،أو حتى ينادي له الفكي علي ود الزغراد ،وهو زول يده لحقة،
.لكنه هرب منه هروبًا ،كما وصفه بعض الجنقو فيما بعد :هروب جبان
ولكن بارك ال في الخوات الخوان ،علي رأسهم الصافية ،وهي غزالة سوداء نحيلة ،قل نحلة لنها دائمة
صنان مختلط ببقية الليلة الماضية وعرق كدح دؤوب ،هذه السيدة الحركة ،لها رائحة متميزة ،عبارة عن ُ
البسيطة الهزيلة ،التي يتبعها لفيف من الجنقو كظل لها ،المسالمة ،من يحتفي بالخوان ومجالسهم ،الطيبة ،هي
حلة خلف ذاتها الحيوان الشرس الضاري في المشروعات الزراعية ،الذي ،عندما يقتحم حقل السمسم يرمي ال ِ
.الحلة خلف الحلة خلف الحلة خلف الحلة خلف الحلة
وكأنها تعمل بماكينة ،ما شاء ال ،ينجح الجلبي صاحب المشروع حتمًا إذا نجح في أن يضم الصافية إلى فريق
عمله ،حكى مختار علي
قالت لي الصافية
سماعين ود الحايل . -أنا حأدب ليكم ُ
عُه .خليُه َيْبكي ِبِدمو ُ
حأ َ
َ
جابت لي الممرضة ،جابت لي الفكي علي ود الزغراد بنفسه ،جابت لي الِقضيم ،جابت لي العدسية ،جابت لي أم
ن ،قاطعة الشايقي ؛ وهو كما يعرف خْعْرَقَها الُمْر ،سوت لي المديدة ،الفيتريتة الحمراء وعصيدة الُد ُ جْل و ِ جل َِ
الجميع جعلي ،ولكنه ملقب بالشايقي لثار شلوخ في وجهه
قالوا الصافية دي فيها جنس مرا؟ -
.وعضّ يده في ألم ،ثم أضاف :لو كان بتنعرس ،و ال أعرسها
طرحضحك الجميع في آن واحد ،ولو أن بعضهم يخالفه الرأي ،بل يحتفظ في أضابير وعيه برأي عكس ما ُ
تمامًا ،لكنهم ضحكوا ،تململ البعض ،آثروا الستماع ،الكلم عن النساء وفيهن مثل أكل الُموليتةُ ،مر ،حارق
ولكنه لذيذ ،دائمًا له طعم متجدد ،ربما لنه يحرك حنينًا منطويًا في ذواتهم عن أم جميلة ُفقدت في موطن ما ،أو
أخت حنينة لم تنس تمامًا ولكنها مختبئة في ركن غيب الذاكرة بعيدة قريبة في آن واحد ،أو بنت استحال
إنجابها ،وربما زوجة ،عشيقة ،صديقة لم تتبين ملمحها بعد في موطن جاءوا جميعًا منه إلى هنا ،ولكن ؛ أيضًا
للصافية خصوصيتها ،هنالك جوانب مظلمة في حياتها ،خاصة فيما يتعلق بنشاطها الجسدي ،وكل ما يدور في
خرن في أودية وخيران دافئة ،تحت سنطات وسيالت عجفاوات، هذا الشأن ليس سوى اسطورات صغيرات َتْم ِ
حُلٌوْفات المكان ،أسطورات حالمات وديعات .وعلى حوافر الثعالب والرانب وال َ
قال له مختار علي متحديًا ،وقد نسي أم تناسى حكايته
-إنت لقيتها وين؟
قال أّبكر آدم
-لو ما لقيتها ما بكون سمعت بحكايتها مع َوْد ُفور؟! يا أخوي لو ما ُمتنا؛ شقينا المقابر .
حسنًا ،سوف ل نتطرق إلى هذه الحكاية الن ،لنها معروفة ومكرورة وقد يتولد لدى البعض بأننا نعرف كل ما
يحيط بها ،وهذا مجانب للحقيقة ،فكل شخص في هذا المكان يحتفظ برواية خاصة به عن الصافية وود فور،
حكيت من قبل من ِقبل عشرات الشخاص ،نساء ورجال وأطفال ،وكل حكاية ما كانت تشبه الخرى ،وما جاءت ُ
.به ،ما ُيشبه الندوة في بيت أَداليا َدانيال يوم مريستها؛ كان شيئًا آخر
الجناح الذي خصتنا به الم من بيتها الكبير المتسع ،يقع في آخر صف من القطاطي الملحقة برواكيب صغيرة
ممتدة في شريط قد يصل طوله مائتين مترًا ،وهو موقع شبه مهجور ،وربما خاص .اكتمل المزاج بالشيشة حيث
حلين طعم المؤانسة )القعدة( ويكسبن بعض المال، برع في إعدادها ود أمونة الذي لم يحتمل بقاءنا بدون نساء َي َ
ولم تعجبه فكرة أننا نكتفي بهذا الوحش -في نظره الصافية ،وذكر في أذني اسم ألم ِقشي كلما وجد فرصة
ت ذلك الصافية ،فتحدثت معه لفعل ذلك ،لنه ل يعرف عني زهدي في النساء ،ظل يلحقني ،إلى أن لحظ ْ
حلة وناسها وعن السجن ،وحرمنا من نفحات عطر بأسلوب غليظ ،حرمنا من نكاته وملحظاته الجميلة عن ال ِ
سمها .صمت ،ثم ،خرج ق َيْن ِ.را ٍ
.قالت لنا الصافية من بين قرقرات الشيشة ،وكأنها تمتص العالم كله في نفس واحد من النارجيلة
حُبوَبِتي الصافية ،أنا سموني عليها .لّمان جات ِهنا ،كان البلد ما فيها غير المرافعين والقرود - البلد دي أسستها َ
ف والجنون ،البلد ُكلها غابة ِكِتر ولُلوب وَنَب ْ
ك حُلٌو ْ .وال َ
سجناء يهربون ب)الِفرو( من سجن ت لنا حكايات كثيرة ممتعة ،عن المكان قبل عشرات السنين ،عن ُ حَك ْ
َ
حمرة( بأثيوبيا ،عن جنون يسكنون ويتزاوجون مع البشر )،ال ُ
.عن بشر يتحولون إلى حيوانات وغربان ،عن أناس يموتون ثم يحيون في شكل بعاعيت
وعن أناس عندما يموتون ويحيون سبع مرات يتحولون إلى أبي لمبة .وعن بشر يأكلون البشر ،وعن.......
.-عن
إلى أن قاطعها صديقي سائ ً
ل
شُنو مع ود فور؟ - قولي لينا حكايتك ُ
ت ،مد ْ
ت أنا والحق ُيقال ،خفت ولول مرة في حياتي أخشى ردود أفعال ل استطيع أن أتنبأ بها إطلقًا ،نهض ْ
ل عن َمجلسنا ،القطية الكبر حجمًا، ت نحو ُقطيٍة تبعد قلي ًي ِمَنا ،مش ْ
ي ،دون أن تنظر إلى أ ّ )خرطوش( الشيشة إل ّ
ن مسكنًا ،اختفتمنذ أن غابت الشمس أضاءها ود أمونة مع بقية القطاطي الفارغة ،حتى ل يتخذها الشيطا ُ
سَمْع لها حس ،لم استطع أن أتفوه بكلمة ،ولو أنني كنت في أشد الحاجة لكي ألومه ،وأن أكرر هناك ،لم ُي ْ
.ملحوظتي عن سلوكه الفظ ،وطريقته المباشرة الفجة عند مخاطبة الناس
-تعلم الكياسة ،تعلم كيف تخاطب الناس .
ت بأعلى صوتي ت ،نادي ُ
ت )الخرطوش( جانبًا ،نهض ُ لم اتفوه بكلمة واحدة ،وضع ُ
-؟ يا ود أمونة
وفي لمح البصر ،وكأنما كان ينتظر خلف الباب مترقبًا النداء ،جاء ووقف أمامي في أدب وهدوء قائ ً
ل
-نعم ؟
قلت له
-أرح ...نمشي .
لم َيُقل إلى أين ،ولكنه مضى أمامي ومشيت خلفه ،كنا نهرول هرولة ،دخلنا زقاقًا ضيقًا ،أفضى بنا إلى زقاق
ضيق ،عبر صف من الرواكيب والقطاطي ،عبرنا شجرتي نيم خلف زريبة ،تبيناها من رائحة روث الغنام
شك( ثم يتلوى بنا زقاق آخر ،ليلفظنا خارج بيت الم في طريق رحبة يؤمها والبهائم ،تفوح منها رائحة )الُم ٌ
السكارى والعاشقون ولفيف من خلق ال من الجنقو والجلبة وبعض عساكر الجيش .ومضى ود أمونة،
ومضيت خلفه صامتا .إلى أن دخل بيت مختار علي ،حينها قال لي
إنت عايز بيت مختار علي ،مش كدا؟-
قلت له
.-أيوه
ولم أسأله كيف عرف ذلك ،دخلنا ،وجدنا مختار علي وقد خلد إلى النوم ،استيقظ بمجرد أن ولجنا الحوش الكبير
وصاح
منو ؟ -
قال ود أمونة
-نحنا يا مختار .
.مرحبا ،اتفضلوا -
قال لي ود أمونة مستأذنًا
شُغل في بيت الم ،لو ما كدا كنت قعدت معاكم ،الليلة في ضيوف ُكتار في البيت ،،نتلقى الصباح - .أنا عندي ُ
ودون أن ينتظر ردًا مني ،ذهب واختفى في الزقة التي حتمًا ستسلمه إلى أزقة ،التي سوف تلقي به في بيت
.الم
بيني وبين نفسي كنت قد فسرت هروب ود أمونة مني وادعاءه المشغولية بعودته السريعة إلي بيت الم ،كان
يريد أن يشهد بأم عينيه ماذا سيجري ما بين صاحبي والصافية ،سألني مختار علي بصوت نعسان مرهق عن
صاحبي ،قلت له
-تركته في بيت أّدي مع الصافية .
قال محتجًا وقد طار النعاس من عينيه
-لييه ؟
قلت له في برود
-رغبته .
قال وقد جلس
-لكن مع الصافية؟
قلت مؤكدًا
-نعم مع الصافية .
قال لي
-؟ ما سمعت قصتها مع ود فور
قلت ببرود
-ولكن قصتها معك كانت مختلفة .
قال محتجًا
-الموضوع مختلف ،معاي براو ،ومع ود فور براو .
قلت له
-هل أنت متأكد من أن قصتها مع ود فور صحيحة؟
قال مستسلمًا
في الحقيقة مافي زول متأكد من الحصل بالضبط لود فور ،ولكن الناس كلها متأكدة إنو حصل ليُه شئ- ،
.كويس؟ كعب؟ ال يعلم .المهم ربنا يستر
قلت له وقد عاد واضطجع في السرير
ما يهمني إنو ما حتقتله ،لنه ما بيموت بالساهل ،وكل شئ غير الموت ،هو تجربة مفيدة في حياة الزول- ،
.بتنفعه وما بتضره ،كعب الموت بس
طية مثلما يحب صديقي ،أكدت له أنها رغبتي ولكي ينهي النقاش سألني مختار إذا كنت أرغب في النوم داخل الُق ِ
ي رغبة في النوم ،قلت لنفسي لجرجرنه في الكلم أنا أيضًا ،وأنني معتاد على ذلك منذ صغري ،طالما لم تكن لد ّ
.ولو في الموضوعات التي يحبها كبار السن مثله
-ليك كم سنة هنا؟
انقلب على جنبه اليسر ليقابلني وجهًا لوجه
حلة( دي بيت واحد كبير مزروب بشوك الكتر - وال ما بتذكر أنا جيت هنا متين ،أول مرة ،لكن من ما كانت )ال ِ
والسيال المرافعين والثعالب تحوم والشمس في نص السما ،كان الجلبة البيزرعوا هنا ،محسوبين على أصابع
اليد الواحدة ،والرض المزروعة ذاتها كانت صغيرة وضيقة ،كنت أنا وكيل مشروع ،أكبر مشروع ،ما بشوف
التاجر الجلبي دا إل يوم الحصاد وبس ،كل البوابير والعمال تحت إدارتي أنا ،ولكن نحنا ما فينا فايدة ،الواحد
بيلقى العشرة والعشرين في زمن القرش الواحد عندو قيمة ،ولكن الواحد مننا يشيل القروش وينكسر في كنابي
حمرة( في فريق قرش المريسة في )ال ُ
دي حلوة
دي ُمّرة
دي حامضة
دي فطيرة
دي خميرة
دي فتاة ،ودي عزباء ،دي شرموطة ،ودي شريفة .لحدي ما يكمل الفي جيبُه ،وتاني يبدأ من جديد .أكثر من
أربعين سنة بالصورة دي ،يمكن حتى تقوم الساعة دا لو ما انتهى الواحد مننا في شجرة الموت ،في فريق
.قرش ،و تبقى سوء الخاتمة
قلت له مندهشًا
-شجرة الموت؟ تقصد سدرة المنتهى؟
حمرة في فريق قرش ،لّمان يكبر الجنقوجوراي خلص ويقّرب من - ل ،دي شجرة الموت دي شجرة كبيرة في ال ُ
حَبشية صاحبة البيت في الشجرة دي الموت أو يمرض مرض تاني مافي عافية بعده ،يمشي وحده أو ترميه ال َ
حتى يموت ،الخوان ما بيقصروا منه يدوُه الفيها النصيب كان طعام ،كان ُقُروش ،كان ُهُدوم ،كان شراب،كان
ُ.تمباك
قلت له ثائرًا
-لييه ما يرجعوه لهله؟
مافي زول يقبل يرجع لهله بعد العمر دا كله ،يرجع ليهم زول موت؟ عيب وال؟ -
ثم حدثني أن الجنقوجوراي ،أي جنقوجوراي ،يأتي إلى هنا للعمل موسم واحد فقط ويقول لنفسه إنه بعد هذا
الموسم سوف يعود لهله ،يبسط أمه وأخواته ويتزوج ،فيعمل موسمه الول ،ولكن أولد الحرام وبنات الحرام
دائمًا له بالمرصاد ،فيشرب قروشه كلها مريسة وعرقي وينوم مع النسوان ويصاحب ،ويقول السنة الجاية بعد
حصاد السمسم مباشرة سوف أعود إلى أهلي ،وهكذا ،إلى أن يبلغ من العمر عتيًا ،فيمرض و يموت ،قال
ضاحكًا
-أنا في حياتي ما شفت جنقوجوراي واحد رجع لهله!! إل إذا جاء أهله وساقوه من ِهنا .
-؟ غريبة
ثم أضفت وقد طغى على ذهني موضوع الشجرة الغريبة
-؟ أنا أتمنى أشوف شجرة الموت دي
حمرة ،جنب بيت الُعمدة َدَوَدْة،هي مصير الزّينا ديل . -في حي قرش ،شجرة مشهورة في ال ُ
قلت له مشفقًا
-إنت أهلك وين يا مختار؟
قال في حسرة
أنا ما عندي أهل ،أنا حسي عمري اتجاوز الستين ،بعد دا في أم ول أب ول أخوان بيكونوا موجودين؟ وأنا -
.كنت أصغرواحد في السرة
-أولد أخوانك وأخواتك وين؟
ل أعرفهم ،ول هم يعرفوني .وقريتنا ذاتها في دارفور انمسحت بالواطا ،ضربتها الحكومة .أنا مصيري بس -
شجرة الموت يا ولدي .وأنا ما ندمان على شئ ،وال عشت زي ما عايز .واستمتعت بحياتي في شبابي ،وحتى
ن البلد دي ،وشرب مريستها تاني ما بيفارق سَوا ْ
الن أنا بعمل وبجيب دخل ،وأنا مقتنع أنه أي إنسان ضاق ُن ْ
حمرة ،ومن الحواتة حتى عيشتها ،وأنا ل خليت نساوين ول مرايس .من خشم القربة حتى فريق قرش في ال ُ
.الفزرا ،بس أنصحك يا ولدي؛ ما تفرط في حياتك
ت وإنتهي .قلت بيني وبين نفسي :وال فرط ُ
قلت له
-ال يستر ....ال يستر .
استيقظنا مبكرين كعادة ناس البلد هنا ،ينامون مع الدجاج ويستيقظون معه ،ما عدا السكارى والعشاق،
ي من ُتمباك وقصدت بيت الم يسهرون إلى ما بعد منتصف الليل ،ويستيقظون مبكرًا ،تركت له ما تبقى لد ّ
مباشرة ،كانت الشوارع تضج بالمارة القادمين من القرى القريبة في طريقهم إلى سوق الجمعة ،البربارات
مشحونة بالسمسم ،القرويون يقتسمون ظهرها الضيق ،مّر أمامي لوري،ثّم كارو لماء الشرب ،ناداني الطفل
الذي يقود الحمار باسمي ،عندما التفت إليه معيرَا إياه كل انتباهي خاطبني قائ ً
ل
حبك ُأمبارح نجمتو الصافية .-صا ِ
قلت مندهشًا
-شنو؟
قال مكررًا في استمتاع خاص ولذة قوالتية بالغة
حبك الصافية ُأمبارح ورُتُه نجوم النهار .-صا ِ
قلت بسرعة
وين؟ -
قال وهو يطرق برميل الماء إعلنًا لمائه
-أمبارح ،بعد ما مشيت خليُتُه،وسبُتُه إنت وود أمونة في بيت أّدي مع الصافية .
.....نوااصل
_________________
ق الُعَماْل
سو ْ
ُ
افتقدت ود أمونة بمجرد دخولي إلى حوش بيت الم ،كان غيابه واضحًا
قالت لي ألم ِقشي
. -ود أمونة قاعد َيعّلْم العروس
-؟ َيعّلْم العروس؟ يعلمها شنو
حّنان وحلق برضو؟ -يعلمها الرقيص ،إنت ما عارف إنه ود أمونة فنان؟ ورقاص و َ
هززت رأسي إيجابًا و لكنني كنت أقصد بيني وبين نفسي :نفيًا تامًا
أضافت في شهية
سّواق البربارا ،يمكن سمعت بحمدو . -بت أبرهيت ،حيعرسها محمد عوض َ
هززت رأسي إيجابًا بما يعني :إلى حد ما
قالت لي ألم ِقشي
-ود أمونة لو ما ال ستر كان حيجي بت .
ضحكت وقلت
-وبيعمل عمل البنات .ظاهر عليه ما راجل ،
قالت وهي تضحك
مافي )َمَرا( جربتُه حتى الن ،ومافي راجل برضو جربُه حسب علمنا و معرفتنا .غير حكاية الطباخ الفي -
.السجن لّمان كان صغير ،تاني مافي شئ .حسي هو راجل عمره ثمانية وعشرين سنة ،ولكن أبوه غير معروف
قاطعتها
-قال أبوه يماني .
شنو؟-عشان لوُنُه الصفر وّل ُ
-هو قال كدا؛ أمه قالت ليُه .
ي يعجينة دلكة قالت وهي تدلك رجل ّ
-أي زول عارف قصة أمه .
حكت له أن أمونة عندما هربت من أسرتها قبل ثمانية وعشرين عامًا ،وكانت أسرتها في قرية نائية في الغرب،
أن سائق اللوري الذي صادفته في الطريق مارس معها الجنس ،وأن المساعد الذي يعمل معه أيضًا مارس معها
الجنس ،وأن الجلبي صاحب العربة أيضًا ،وعندما وصلت مدينة القضارف ،صاحب الكارو الذي استقلته لحلة
البنات أيضًا مارس معها الجنس ،ثم اليماني صاحب الدكان ،النذير شيخ الحلة ،ود جبرين صاحب اللوكاندة
وراجل المرأة التي استضافتها في الحلة،و الستاذ زكريا الُمعلم بمرحلة الساس ،ثم حبلت بود أمونة .وهذه
.الحكاية أنا سمعتها مباشرة من كلتوم بت فضل وهي أعز صديقات أّمونة
-ولكن ود أمونة طلع يشبه منو؟
وال أنا الجماعة ديلك كلهم ما شفتهم ،ولكن لونو دا لون أمه ،إنت ما شفت أمه ،أمه بيضاء وجميلة زي -
القمر ،بالرغم من إنها كبيرة حسي ،ولكنها جميلة
-وين هي؟
شفت أمه الليلة تقول عمرها ثلثين سنة ،دلكة - ت،كان ُ متزوجة من عسكري سجون في القضارف ،ولدت ليُه ِب ْ
حّنة ودلل
خمرة و ِ
.و ُ
ثم أضافت
-يمكن أمه هي الخربتُه؟
-كييف؟
.-كان ُمدّلع
-لكنه قضى معظم حياته في السجن .
برضو في السجن كان ُمدّلع دلعنُه السجينات والمساجين والعساكر ،تحت تحت الناس بيقولوا العساكر كانوا -
.بيستعملوه
الجو صحٌو والسماء زرقاء وصافية ،كنا نجلس تحت الراكوبة الكبيرة أمام القطية ،وهي أجمل المكنة للونسة
:وشرب القهوة ،ول أظن أن أول من ابتكر الراكوبة كان يعني بها شيئًا آخر غير الموانسة ،سألتني
حَبك . -وين صا ِ
-مع مختار علي .
حبك دا زول غريب . -صا ِ
هززت رأسي إيجابًا
أضافت
-يوم حيكتلوه .
:قلت لها
-ل ،مافي زول حيكتله ،دا ما النوع البيموت مكتول .
:قالت
حمرة في فريق قرش ما بياخد عشرة دقايق ،شفت العملية العملتها فُيُه الصافية؟ - وال في ال ُ
:قلت لها
.الناس هنا يزيدوا الحكايات ،وكل زول بيحكي الشئ البيتخيلُه كواقع -
ثم أخذت تحكي لي القصة كما تظن أنها الحقيقة ،وقاطعتها عدة مرات ،محاوًل محاصرتها لكشف تناقض قد يبدو
لي هنا أو هناك في الحكاية ،ولكنها مضت في حكيها بثبات وثقة العارف المتأكد ،ثقة من شاف ،ولو أنها
خوض في هذا الموضوع ،خاصة بعدما وغيرها لم يروا شيئًا ،وهذا حسب ادعائي أنا أيضًا ،لكنني فضلت عدم ال ُ
خمرة والعطور الُنسوانية البلدية ،كان ناعمًا لمعًا ونسوانيًا أكثر انضم إلينا ود أُمونة ،كانت تفوح منه رائحة ال ُ
شَترا ولم يستطع أن يرقصها إل على الغاني مما رأيته من قبل ،قال إنه مستعجل واشتكى من أن العروس َ
.الحبشية
شَغلَنْة -
جهة ،وووب علينا من دي َ جهة والرقيص في ِ .وحتى الغاني الحبشية بال ويامين ،الدُلوَكة في ِ
خاطبني قائ ً
ل
ت َمَيِتِيُنُه
طّلع ْ
ح الصافية َ حَبك ُأْمَبار ْ
صا ْ
َ .-
وأخذ يقهقه بالضحك إلى أن سمعنا صوت صديقي يلقي السلم
شُنو مبسوطين ِكدا يا شباب -؟ ُ
استأذن ود أمونة ُمدعيًا أنه مشغول بالعروس .تناولنا وجبة الفطار فيما يشبه الصمت وخرجنا إلى سوق
العمال ،حين وصلنا كانت هناك بوادر ثورة على الجلبة في سوق العمال ،وبدى لنا أن المر جدير بالمشاهدة،
.فمثل هذه الحوادث نادرًا ما تحدث ،تركنا ألم ِقشي في المنزل
سوق العمال في كل سبت ،عند الميدان الكبير الذي يقع جنب المركز الصحي الذي شيدته منظمة عابرة تسمى
)كرستيان أوت ريتش( ،كمقر لرعاية المومة والطفولة ،احتلته فيما بعد مؤسسة التأمين الصحي التجارية
سوق )على جيرات النيم الخمس ،يقع ُ شَمشردة المهات والطفال ،فيعرف الن بميدان التأمين الصحي ،تحت ُ
ال( يؤمه العتالة ،الجنقو ،البناءون ،النجارون والسماسرة ،كانت لندروفرات ،باربارات ،بكاسي ولواري
سوق الميكانيكية والحدادين، شواك ،حيث ُ سوقُ ،قرب موقف ال ُ الجلبة تصطف عند الجانب الجنوبي من ال ُ
الزيوت والسبيرات .التجار الجلبة في جلليبهم الكبيرة ،أوجههم المنعمة ،يتوسطون حلقات العمال يساومون،
يفاصلون ،يخادعون ،يحاورون ،يجادلون ،يتاجرون ويسترضون ،قالت لي جنقوجورايٌة جميلٌة ُبِنّية
:استفسرناها ،شرحت لنا ما يحدث
. -أول مرة يحدث في البلد دي يتفق الجنقو على سعر واحد ،كلهم بدون فرز
ن ثّمة أمرًا قد تّم ترتيبه وأن اتفاقًا ما قد َوقع بين العاملين ،كانت وجوههم السوداء والُبنية،
كان واضحًا أ ّ
الغبشاء والتي يبدو عليها ما تبقى من ليلة المس واضحًا جليًا ،تلك الوجوه المرحة المتسامحة غير المبالية،
:تبدو اليوم أكثر جدية وخطورة ،تنطق جملة واحدة فقط
حلة السمسم بتسعة جنيه . ِ-
يقول التجار بسعر ثمانية ،ويشتكون بأن الثمانية التي يعطونها الن مقابل أن يقطع الجنقوجوراي حلة واحدة
طاق ،فكيف التسعة؟ من السمسم ل ت ُ
يعلم الجنقو ،ويعلم الجلبة أن السمسم هو صاحب الكلمة الخيرة ،وما هذه المساومات و الحجج التي تدور الن
ل ،عندما ارتفعت الشمس في قبة السماء ،هبت ريح شمالية حارقة ،أرقصت سوى مضيعة لوقت الجلبي ،وفع ً
سمعت أغنيات السمسم موقعة على دلوكة ود أمونة في محاولته البائسة في ترقيص العروس الشتراء، المكانُ ،
فتفتقت السنابل السمينة ممزقة ثيابًا يريد لها الجلبي أن تبقى إلى حين أن يصلها المنجل ،منجل الجنقوجوراي
الحنين ،الشمس الن في برج السمسم بالذات ،القمر الذي سوف يطلع عندما تغيب الشمس ،بفعل المّد والجزر،
هذان الفعلن الشيطانان ،سوف يفتقان فساتين السنابل ،فيندلق الذهب منها إلى الرض ،يلتقطه نمل نشط ل يكل
ول يمل العمل ،فيحتفظ به في صوامع أمينة تحت الرض ليام الشدة ،تحرسه َبَركة الملكات الرؤومات ،الجنقو
متأكدون من أنهم سوف يكسبون الرهان ،والجلبة أيضًا يعرفون أنهم سوف يخسرون ،ولكن بعض الحوار قد
يفيد ،دخل الوسطاء ،سماسرة ،وكلء مشاريع ،داعرات شهيرات ،أصحاب لكوندات ،سائقو بوابير ،تجار الكلم،
:واقترح البعض
أن يأتوا بعمال من محلية الفشقة المجاورة ،عمال مهرة ول يكلفون كثيرًا ،و أن يتركوا هؤلء الثائرين ،وسوف
.يندمون
.ضحك الجنقو عندما سمعوا بذلك قائلين لبعضهم البعض
-هه ....الفشقة؟ يخلوا سمسم الفشقة لمنو؟
اقترح الجلبة لنفسهم بصوت مسموع
. -نجيب عمال من معسكر اللجئين
ضحك الجنقو قائلين
-؟؟ لجئين............
.أنتوا بتحلموا؟؟ اللجئين في المعسكرات بقوا أغنى من المواطنين ،يحمدوا ربنا الخلقهم
.وما في لجيء فاضي لقطع السمسم
اقترح الجنقو لنفسهم بصوت مسموع
.أحسن نحن ذاتنا نسيب الشغلة بتاعة السمسم الما نافعة دي ،ونشتغل مع شركة التصالت في حفر الكوابل -
قال جنقوجوراي بصوت عاٍل غليظ
-أنا لو أشتغل زي ود أمونة ،ما بقطع السمسم بثمانية تاني .
قال الجلبة لنفسهم بصوت عاٍل
عمال من خشم القربة . -حنجيب ُ
.قال الجنقو لبعضهم البعض
طَنَبارة ومدرسين . -إل لو عايزين َ
ثم هتفت الصافية قائلة
سَكرة أمبارح ،النسوان في انتظاركم يا أولد -
.أرح يا شباب نمشو) ،الُقوُقو( قال داير الحلة ،أرح نكمل َ
حلة ،وعندما قاصد مباني البنك تحت التشييد ،تحدث السمسم سرًا لجيوب وعندما تحرك فوج العمال نحو ال ِ
الجلبة فقالوا
-رضينا بالتسعة ،وإن شاء ما تنفعكم وتبقى ليكم بالساحق والماحق والبل المتلحق .
قال الشايقي
-نحن قروشكم دي عندنا زي قروش الحرام ،نشربها بالنهار نبولها بالليل .
قبل الجنقو ولكن أل يذهبوا اليوم ،بل غدًا ،لن الُقوُقو إذا اتجه إلى مكان ما ،لبد أن يواصل مشواره سيكملون
.سكرة المس ،فالقوقو يتجه نحو الحلة
سماعين قالوا إن عليه أن يتأدب ،مما أعاد في الصباح الباكر غادروا إلى المشاريع ،ما عدا مشروع الجلبي ُ
العتبار إلي مختار علي ،فبكى من الفرح
حلة سألته ونحن راجعون إلى داخل ال ِ
-شنو حكايتك أمبارح مع الصافية؟
ً:قال لي وهو ينظر بعيدا
.-حأحكيها ليك بعدين ،حتعرف كل شئ
:قلت له
-قالوا فعلت بك .
قال مندهشًا
-فعلت بي شنو؟
ل .يعني قدر بتاع الدحش -قالوا إنو الصافية عندها )موضوع( زي ِبتاع الرجال ،وأكبر شويةُ ،نص حمار مث ً
.كدا
قال وهو يبتلع ريقه في ضيق بّين
حأحكي ليك ،الموضوع مختلف تمامًا الناس هنا مغرمين بالساطير ،هو موضوع غريب ،لكن ما عنده علقة -
.ببتاع حمار ول بتاع كلب ،ول بينة العقل التناسلي
جلسنا على قهوة في سوق العيش قرب الصيدلية ،كان الجنقو يعبرون أمامنا إلى بطن الحلة جماعات جماعات،
يتحدثون بأصوات عالية وبلكنات كثيرة مختلفة ،يثيرون الغبرة من مشيهم السريع حيث يسحبون أرجلهم سحبًا
على الرض ،يضحكون وهم يحاكون الجلبة ،أخذ أصحاب المطاعم يغلقون أماكنهم ونساء الشاي والطعام
ح( وأن الجنقو ل يقنعهم الن سوى مجلس الشراب، ح َوَرّب ْ
سّب ْ
يفعلن الشئ نفسه لنهن يعرفن أن السوق قد ) َ
على النساء أن يلحقن بهم في الحلة لكي يبعن لهم العرقي أو يهيئن لهم المفارش فهذه اليام هي أيام الحصاد
والمحصول هوالجنقوجورايَ ،دّينه مضمون ونقده أكثر ضمانًا ،بس كيف يدخل البيت
.فالنساء يتخاطفونهم من الشوارع
اعتذرت لنا صاحبة القهوة عن تقديم أي شئ لنا قائلة بوضوح
الرزق دخل الحلة ،وعندي عرقي خايفاه يبور ،أخير ألحق أبيع ُكباية ُكبايتين ،ول شنو يا أخواني؟ ربنا أجل -
سفرهم الليلة ،فرصة ،وّل شنو يا أخواني؟
هززنا رأسينا معًا باليجاب ،ونهضنا في وقت واحد من )البنبرين( مظهرين رضاًء تامًا بقرارها ،بل عن طريق
حركات مقصودة وهمهمات طيبة ،أكدنا لها أنها تفعل الشئ الكثر صوابًا ،ورُبَنا يكون في عونها ،تمنينا لها ذلك
ن( في الراكوبة طالبة منا عندما نغادر أن ندخلهما الحجرة ونغلقها بصدق وإخلص ،مما جعلها تترك لنا )الَبَنَبري ِ
.بالطبلة ،التي تركتها دون إغلق
سِمح يا أخواني -؟ َ
رد عليها بحّنية
سِمح .
سِمح يا أختيَ .. َ-
قلت لها
-شكرًا
وقالت وهي تنسحب وعلى رأسها قفة المهمات
-أنا بيتي جنب بيت الم .
ن كثيرة وتخّيل لكلينا أنها ابتسمت ،الشئ الذي أكدته لنفسي أنها لم تبتسم، ونظرت إلى صاحبي نظرة فيها معا ٍ
شُنو الُزولة
ت وهي تترنم بأغنية بنات هابطة ،قال لي :تقصد ُ رأيت وقع ذلك حزنًا طفيفًا على وجه صاحبي ،ذهب ْ
دي؟
قلت له دون مبالة
-تقصد موضوعك المبارح مع الصافية .
قال
-لبد من أن ود أمونة هو النشر الدعاية دي؟
سألته
ت شنو بالضبط؟- عَمل َ
إنت َ
ص الَعروس في ذلك الوقت ،بعد ما قام يتوصيلي الي بيت مختار علي ،سمعت و أكدت له أن ود أمونة كان ُيَرّق ْ
شيْة
حَب ِ
حُروك يا ُلوَلة ال َسَ.صوته يغني بـالدلوكة :الُلولّية َي ْ
ل ،وهي صفة يتسم بها أيضًا خاصة إذا كان يفكر في وتقريبًا ناس الحلة كلهم كانوا يسمعونه ،صمت صمتًا طوي ً
أمر شائك .لم أجد سببًا وجيهًا يمنعه من أن يخبرني بالحقيقة فبيني وبينه دائمًا الصراحة والوضوح .وليست
.الحواجز والصمت
مّر أمامنا نفر من ضباط الجيش ،يتبخترون في مشيهم كالطواويس ،سألنا موظفون من شركة التصالت ما إذا
كانت )بخيتة( موجودة ،قلنا لهم إنها في المنزل .فذهبوا نحو الميس ،كان صديقي يعرف بعضهم ومن بين هذا
البعض مدير الشركة ،مّر بنا عمال يلبسون أفرولت زرقاء وسوداء وبيضاء عليها بقع من الزيت ،تشهد الحلة
هذه اليام نهضة تنموية ينظر إليها الجميع بعين التفاؤل والتقدير ،ويهتم الهالي ويشجعون مظاهرها الخارجية
وتنظم البنات الغنيات عن المعلمين وضباط المحلية والشرطيين ومهندسي شركة التصالت ،وحتى عمال
.طلمبة الوقود بشارع همدائييت
:سألنا رجل وهو يدخل نصفه في الراكوبة
-بخيتة مشت وين؟
.قلت له :في البيت
فنظر إلى صاحبي نظرة فاحصة وقال:
جداد في البلد دي مش كدا؟ -إنتو ُ
.قلت له :نعم
نازلين في بيت الم؟
.قلت له :نعم
سر صاحبي هذه البتسامة بأنها ابتسم ابتسامة عريضة ،أظهرت أسنانًا متفرقة ُبنية بفعل التسوس والصعوط ،ف ّ
سخرية أو الشماتة ،وحكى لي ما أسماه كل شئ حدث بينه وبين الصافية ،حتى يغلق هذا الباب على نوع من ال ُ
.القل من جهتي
_________________
)...الجنقو ...مسامير الرض )..بركه ساكن Re:
ضيْه َبِعيْد(
عَو ّ
سَبَعْه ُيوْم َ
)َ
ل في شمس الصباح؛ لن كنا نسير ببطء عبر الزقة ،ل نهدف لمكان بعينه ،هي فكرة مختار علي ،أن نتمشى قلي ً
بها فيتامينات مهمة ،وأكد لي أنه حتى الثعابين تطلع من جحورها لتأخذ منها قوة النظر ،صحته بدت في تحسن
ل ويضحك لتفه السباب ،يتحدث بصوت عاٍل وهو ما ليس من طبيعته في شئ ،وجدنا ملحوظ اليوم ،كان متفائ ً
:نفسينا ندخل زقاق بيت أداليا دانيال ،التي فاجأتنا من أعلى صريف بيتها
جوه ،صاحبكم ذاتو قاعد هنا في بيتي ،تعالوا أشربوا ليكم مريسة وونسوا - يا مختار علي ،إنت وصاحبك تعالوا ُ
.خشم خشمين
قبلنا الدعوة الكريمة شاكرين ،فالدنيا صباح والمريسة أطيب ما ُيستفتح ،به وونسة الصباح هي مصيدة حكايات
الليلة السابقة ،سميتها وصديقي:جريدة الصباح ،فالمريسة تطلق الخيال ،الذي بدوره يطلق اللسان ،فينفتح
.القلب للقلب مباشرة وتهبط ملئكة الحكايات الرائعة في المجالس فتحلو
جوز ،وهو أشهر ج ،على َبْنَبٍر آخر ،قربه الَع ُسي من مذبحة الَعنَ ْوجدناه يجلس على َبْنَبٍر كبير ،كشيخ أسطوري ُن ِ
حلة والحلل المجاورة أيضًا ،بالحرى ،لم ير الساكنون مغنيًا يستخدم ُأم ِْكيِك ْ
ي ي ،في ال ِن يستخدم ُأم ِْكيِك ْ
مغ ِ
ل ممتعًا من الغنيات ،حيث إنهما الن يتحدثان عن سَمٍع ،يبدو أنهما أنهيا فاص ً
غيره ،ولم يسمعوا به مجرد َ
:مناسبة أغنية
...قيسان البعيدة
.قيسان البعيدة ،عندي ُفوُقو الحبيبة
.قيسان البعيدة ،عندي ُفوُقو الحبيبة
ولن كل أغانيه جماعية ،يستحيل أداؤها بدون كورس ،أخذنا نردد خلفه المقاطع الولى من الغنية ،وليست تلك
مهمة صعبة ،حيث إن كل الغاني معروفة لدى الجميع ،أنا وصديقي غريبين ،ولكن ترديد جملتين لحنيتين
بالسلم الخماسي ،بهما كلمتان من اللغة العربية وخمس كلمات من النقسنا ليس بالمر العسير ،ولو أننا قد
)نشُتر(نشذ عن اللحن و اليقاع أحيانًا ،ولكننا نغني خلفة بإصرار وحماس؛ مدتنا به عسلية ومريسة أداليا
غرباء هنا في الحلة؛ بمحرد أن تنزلك بربارا أو يلقي بك جْد ُ
دانيال بجمالها ومذاقها الحلو ،في الحقيقة ل ُيو َ
سوق ،تصبح أحد أفراد حلة ،أو بمكان ما في ال ُص كئيب أو تهبط من ظهر لندروفر أو يرمي بك لوري في ال ِ ب ٌ
حلة المؤسسين ،وتعرف كل شئ عن كل شئ بحمد ال ،في ذات اللحظة وذات مكان الوصول .ال ِ
ت أداليا دانيال بصدرها المملوء باللبن بصورة رائعة ،خلدت في ذهني إلى البد ،تبرع جنقوجوراي شاب َرقص ْ
ش السريع الصعب ،بواسطة وعاء بلستيكي ُيستخدم لتقديم المريسة، من قبائل المابان بالنقسنا بأداء إيقاع الَكَل ْ
عندما انتهت الغنية ،صفقنا جميعًا لنفسنا ،حيث كانت الغنية من أداء الجميع ،رقصت أداليا دانيال عنا
بصدرها الناهد الوافر ،مما جعلنا نطلب باقي المريسة )البايرة( عندها .لن الجنقو الفدادة ذهبوا ،وأعطيناها ثمن
شر لها صديقي في فراغ ما بين النهدين )في ما ح َ
حّر إرادتنا ووعينا ،و َ جردلين من المريسة لم نشربهماِ ،ب ُ
س( ،ورقة نقدية كبيرُة ،همس لي مختار علي في أذني ونحن ننصرف سَمى بوادي الَكداي ْ ُي ْ
-لو ما عملت ِكدا كان تبيع مريستها الحامضة دي لمنو؟! وعسليتها البايرة؟
وضعنا سريرينا ُقرب ُقرب في المساء ،كان الضوء الباهت يأتينا من داخل الُقطية في شكل عمود خضم ،حكى
.لي عن أسرة الصافية كما طلبت منه
حمرة وعلى رأسه الجدة ووالدها عبد الرازق ،حدثني أن الجد جاء إلى هنا بعد هروبه العجيب من سجن ال ُ
شخص في تاريخ الحبشة يهرب بـالِفرو ،وربما في إيطاليا ذاتها ،لن اليطاليين هم الذين )الِفرو( ،وهو أول َ
شة ،وكان ُيستخدم لتأديب الثوار واللصوص حَب َ
.جاءوا بالِفرو إلى ال َ
فُ ،مذكرة إيانا بأن اليوم هو عيد القديس صِري ْ
شربنا قهوة أعدتها لنا إحدى الجارات وناولتها لنا من على ال َ
ُيوَهِنس ،باركنا لها العيد وأعتذرنا على الُمباركة المتأخرة لننا ما كنا نعلم بأن اليوم هو يوم عيد القديس
ُ.يوَهِنس
قالت لي الجارة
-ألم ِقشي تسّلم عليك .
سألتها بسرعة
وين ألم ِقشي؟ -
قالت وبصوتها احتفالية جذلة
هي قاعدة معانا هنا ،عايز تشوفها؟-
وجودنا في بيت مختار علي ،حرمنا من حضور الحتفال العظيم الذي أقامته أّدي في منزلها احتفاًء بعيد القديس
ُيوَهِنس ،وحرمنا من وجبة الديوك الحمر والم َباَبا ،ولو أنه لم يكن هناك رقص وغناء نسبة لنشغال ود أمونة
حكي لنا لحقًا كان بتعليم العروس الشتراء ،إل أن اليوم كما ُ
-خطير .
على حسب تعبير ألم ِقشي ،وأشير هنا إلى أن ألم ِقشي هو السم الذي يلحقني في هذه اليام ،وأنا وهي متهمان
بأننا ننوي القيام بخطوة ما كانوا يتوقعونها ،يقولون إننا سوف نتزوج في عيد الضحى القادم ،وأقل القوال
حبي لها ،مثلها مثل الجميع إل أنا ،ل أعرف حبًا شديدًا ،وهي أيضًا متأكدة من ُ حبها ُ
تفاؤًل بعلقتنا هي أنني أ ُ
ب ،كل ما أعرفه أن ألم ِقشي أول من أنهت عذريتي بصورة واضحة وطبيعية وأنها ؛ لحد ما ح ْ شيئًا عن هذا ال ُ
خوف الذي بيني وبين المرأة؛ والحق ُيقال أيضًا ،كنت دائمًا ما أتخيل نفسي بأنني سوف أفشل كسرت حاجز ال ُ
ن يخفنني ،كما أنني كنت ُمْقَتِنَعًا بفكرة غريبة مفادها: ح لي الفرصة كاملة في ذلك ،لذا ك ّ مع النساء حالما ُتَتا ُ
عّنينًا بقية حياتي ،أي سوف أفشل مع جميع النساء .ولم تنفع أنني إذا فشلت مع المرأة الولى ،سوف أصبح ُ
حانة التي ل ذكري صاحبة الط ّ الشهادات الهشة التي كنت أستعين بها للدفاع عن رجولتي من حين لخر ،مث ً
شٌة وِمعزة أتيتهما وأصحابي المراهقين ،ذكري كلبٍة ح َاغتصبتني وأنا طفل ،وذكري أخت زميلي ،ذكري َد َ
سعف حول عنقها و اغتصبناها ،وأستاذة الجامعة وغيرها من الممارسات غير السوية طبقًا من ال َ ألبسناها َ
حرفية عالية ،بذكاء بالغ ،في متعة مدهشة ،وجدت نفسي المقرفة ،ألم ِقشي هي التي أعادت لي ثقتي بنفسي ِب َ
أتعامل مع امرأة كاملة طبيعية وإنسانة .أتينا الِفْعَل في ليلة واحدة ما ل يقل عن عشر مرات ،أو قل الليل كله
وعند الفجر وقبل وبعد الفطار ،أعطيتها أجرها بكرم سخي ،ثم لم نفعل مرة أخرى ولو أننا تقابلنا وشربنا
ب والزواج وغيره وغيره ،لم أعرف عنها شيئًا ،ولم أفكر فيهما أبدًا ،وإذا ح ْالقهوة معًا وتلمسنا ،أما مسألة ال ُ
ت الَقول ،أنا لم أحب في حياتي مطلقًا ،وغالبًا ما يصفني أصدقائي بأنني :بارد صَدق ُ
َ .
ط بهما حبشية حيث ُيحي ُ حمراء ،عيناها كبيرتان بالطريقة ال َ ألم ِقشي سيدة طويلة ،لها بشرة ذهبية ناعمة ،بل قل َ
ت المطيرة ،فوق ذلك سحرًا خاصًا بساكني المناطق الجبلية والهضاب العالية ذات الُمَناخا ِ ظل ثقيل يضيف إليهما ِ
لم تكن بالسيدة الفاتنة فتنة ظاهرة صارخة،على الرغم من أن لها جسٌد شهواني ،وإل لصبحت عاملة بار
حمرة أو ُقْنَدْر أو حتى أديس أبابا ذاتها ،ولكن ما يبدو من فتنتها أبعدها ،كما تقول دائمًا ،عن ناجحة في ال ُ
علَم
شِيَع و ُل و مهارًة هنالك ،وقادها إلى الراضي السودانية الجديدة ،حيث ِ ت المحترفات شك ً سَتا ْ
منافسة الَباِر ْ
حبهم للحبشيات وتفضيلهن على نسائهم الوطنيات وسبب ذلك ،كما تؤكد ألم ِقشي سودانيين ُ :عن ال ُ
حِنّيْة سببه الطهارة برضو حنّية .وعدم ال ِ
عَدْم ال ِ
طَهارَة و َ.-ال َ
ت للجارة الطيبة قل ُ
-قولي للم ِقشي َمبروك عيد القديس ُيوَهِنس ،وأنا حأجيها بعد شوية عندكم .
ت الجارُة صوتًا بباطن لسانها،وشفطت كمية من الهواء بنخريها فيما يعني في هذه النحاء :حسنًا .أصدر ْ
ب،
عَلى الستحمام ،وذلك لول مرة تقريبًا يستحم ،منذ أكثر من أسبوعين ،أي ُمنذ أن ُأصي َ ت مختار عِلي َ ساعد ُ
حيث ُنصح بعدم القتراب من الماء ،حتى لمجرد الوضوء للصلة ،عليه بالتيممَ ،نصحُه أفراد كثيرون أصيبوا
.فيما قبل بـضربة الدم ،وهو التصنيف المحلي لمرضه المجهول
ب عجوز دون عَنَقري ٍ
عندما فرغنا من الستحمام ،وجدناها في انتظارنا خارج الُقطية ،في الراكوبة مضجعًة على َ
ساقيها بصورة استعراضية إيروسية في غاية الغواء.قالت طالما أنا رافض أن أزورها، عري َ لحافُ ،تظهر ُ
عزة َنِف ْ
س عندَنا ِ
.فبادرت هي بالزيارة ،ولكنها أكدت أيضا ،أنها سوف ل تكرر هذه المحاولةُ :كلنا ِ
ي بأمر ملبسه و نظافته الشخصية عل ْخَتار َ.تشاغل ُم ْ
حبتني ،ولكن في ظاهر المر أنا الذي أغير عليها ،لنني طلبت منها أن تترك العمل سأعترف ُهنا ،أن ألم ِقشي أ َ
س شركة التصالت الجديدة ،قلت ُمعلقًا ومحببًا الفكرة :مع أّدي كفتاة َمبيت ،وتعمل طباخة في َمي ِ
-عمل شريف .
.قالت ِبغنج وهي تحاول أن تخفي عري ساقيها بحركة أخرى أكثر إثارة
.-عملي مع أّدي عمل شريف
قلت لها
-على القل أنا شايفه غير شريف .
قالت بإصرار
شُغل َيْعِني-
جاْلُ :شُغل ،العايز يدفع ،وأنا بصراحة ما قاعدة استمتع إطلقًا بالُر َ شايَفاُه عكس ِكَدا َتمامًاَ ،دا ُ أنا َ
شُغْل
ُ.
ح َبُيْو( ثم أضافت
سِر ْ
ح َ
سِر ْ
جِرنة ) َ :وأكدتها باللغة الِت ْ
شُنو؟-
الَعيب فيُه ُ
ت فيما بعد ،بعد سنوات كثيرة ،وذلك بعد أن قرأت كتاب َنْقُد الِفكِر الَيَوِمي لمهدي عامل ،أن العيب الذي فيه
عرف ُ
تربيتي أنا ،القيم الخاصة بي كآخر أقيم في ظرف مختلف ونوع مختلف وثقافة مختلفة ،تراني اعترف بأنها
جنسي معها ،ولكنني رغم فتحت لي آفاقًا إنسانية فيما يخص علقتي بالمرأة ،وتراني استمتعت تمامًا بالفعل ال ِ
ع آخرذلك أنظر إلى المر كله بميزان الخطأ والصواب ،وهذا فضح لرجل انتهازي يسكن في خبايا شخص مد ٍ
سلوك الشخصي ،المسألة وُهَما َأنا ،هذه شزوفرينيا أعاني منها كثيرًا ،ول أظن أن المر له علقة بالدين أو ال ُ
معرفة فحسب طالما ُكنا ،أنا وهي ُندرك أن الخير والشر و كل الديانات والُكْفر أيضًا من ذات المصدر ،وأن العمل
مقدس .ناداني ومختار علي في هدوء ،خاطبني قائ ً
ل
-تعال حأحكي ليك موضوع الصافية .
قلت له متعجبًا
-إنت ُمش حكيته لي أمبارح .
قال وفي فمه ابتسامة تعبة
الحكاية القصيتها ليك قطعتها من رأسي ،إنت حاصرتني وأنا حاولت أفوتك ،تعال يا مختار علي كون شاهدا-
على ما أقول ،هي حكاية على كل حال ظريفة ،ول رأيكم شنو؟
.أشرنا برأسينا في وقت واحد إيجابًا وجلسنا على عنقريب وبنبر قربه
ظ على إثر نداء الصافيِة له ،كان قد نام على الُكرسي الذي تركُته عليه ،دخل الُقطية الكبيرة ،كانت شبه استيَق َ
سنط مفروشين بلحافين لم يتبين تفاصيلهما ،الضاءة ،لحد ما جيدة، خالية من الثاث ،عدا سريرين من خشب ال ُ
ت منه أن يجلس في السرير الخر ،جل َ
س طلب َ
قالت له
عايز تعرف حكايتي مع ود ُفور؟-
رد عليها بدبلوماسية ليست من طبيعته
-لو ما بزعجك الموضوع دا .
ل من الشيشة فتصدر صوتًا بائسًا -قالت وهي تأخذ نفسًا طوي ً
ُ-كوّيس .
ت شغالة في مشروع الزبيدي ،تعرف مشروع الزبيدي؟ !الخريف الفات كن ُ
ل من الجنقو ،وتستطيع أن وقبل أن تسمع إجابته واصلت الحكاية ،كانت هي المرأة الوحيدة بين عشرين رج ً
.تتذكر أسماءهم ،اليوم ،الشهر والساعة
.-أنا وود فور كنا ماسكين مقاولة سوا في مشروع الزبيدي
ت أن ود فور في الونة الخيرة كان يتقرب منها كثيرًا ،و دائمًا ما يضع نفسه كانا يعملن في فريق واحد ،لحظ ْ
ت أنه يتعمد اللتصاق بها ومداعبتها ،وبغريزة المرأة ،تلك الغريزة التي في مجموعة العمل التي تضمها ،ولحظ ْ
ت أنه يرغب فيها كامرأة ،وعرفت أنها تريد ذلك ولي مدى ،إنها سوف ل ترفضه ،إذا طلبها ل ُتخيب ،عرف ْ
للزواج ،فهو شاب ونشط ومسئول و الهم أنه كان دائمًا ما يحترمها ،فهي ترغب في أن يكون لها أطفاٌل وبيت
ورجل ،وفوق ذلك كله ،لها رغباتها التي يجب أن ُتشَبْع ،لذا لم تدفعه عنها ولم تستمله إليها ،تركته يقوم بالدور
ل ،وهي طريقة تجيد النساء تمريرها للرجل الغبي المتعجل العاشق العمى ،وهي صفات لحسن الحظ، كام ً
.يشترك فيها الرجال كلهم
ت خلي المسألة على ال .-قلت لنفسي يا ِب ْ
حيله الصغيرة المسكينة ،التيت ِ
طعم ،أطلق المبادرة تلو المبادرة تلو المبادرة ،إلى أن نفد ْ وبلع المسكين ال ُ
.أجادت الصافيُة ادعاء تجاهلها
:قال لي ،والُدُنيا ليل ولكن القمر أبيض في السما وكل شئ واضح ،قال لي -
سو ،أنا ما قادر أنوم شايفة القمرة بيضا كيف؟ يا الصافية أرحكي معاي للحفيرة َنَوُن ُ
ب َكوبًا من الماء كان على التربيزة جنبه ،قفز على تفاصيل كثيرة كثيرة كثيرة ،تحدث عما شِر َ
تثاءب صديقيَ ،
رآه فقط مهمًا ،قال :إنها أصّرت على أن تحكي تفاصيل تفاصيل ،ما حدث بينها وود فور ،ربما يكون هو
الشخص الوحيد في الدنيا الذي يفهمها ،إنها لم تحكها لي كان من قبل ،ما من أحد طلب منها ذلك ،اكتفى
الجميع بالشاعة
:قالت له بألم
. -أنا تعبت ،تعبت من الحكاية دي ،عليك ال اسمعها كلها وما تزهج
وغرقت في التفاصيل .التفاصيل ،التفاصيل .أكدنا له ،أنا و مختار على أنه ليس مطالبا بأن يختصر ،فالليل طويل
خْذ راحتك.و نحن ليس لدينا ما نفعله بما يتبقى منهُ ،
قال قالت له
-مشينا الحفير ،طلعنا فوق الُدوَلة ،
عشب الخريف ،هي تخاف من الثعابين حصرًا ،ول تخاف شيئًا آخر، كان ذلك المكان هو الوحيد الذي لم ينُم به ُ
شرْة ُمجرب ،وأراها له مربوطًا بصورة محكمة على ذراعه الُيسرى ،سويًا مع ع َ
ن َ ضاِم ْ
طمأنها بأنه يمتلك َ
سكينته ،فرشا برشًا صغيرًا أتيا به ،قالت لي فجأة ،وقد عل شهيقها وزفيرها ِ
-؟ قام جاري
قال لها مندهشا
منو؟-
قالت وهي ُتمسك بيده بشفقة
-ود فور ،قام جاري مني .
لييه؟ -
.قال محتجًا
قالت بصوت عميق مخنوق بعبرة ُمّرة
-جرى مني أنا ،جرى ود فور .
ل وهي تقول ثم هدأت قلي ً
ت في حالة قريبة من الغيبوبة ،ولكنه قام جاري ،فجأة جرى زي - ت عايزاه ،وبدأنا كل شئ ،في الحقيقة كن ُ كن َ
.المجنون
أحسست أنها ل تستطيع أن تشرح أكثر من ذلك ،من الحسن أل أطالبها أو أجبرها على الحكي ،أحسست
بالشفقة تجاهها ،قررت في الحال أن أضاجعها ،وذلك لما توصلت إليه من تحليل ،متعجل بعض الشئ ،وسريع
:لحالتها وهو
أنها تفتقد الرجل في حياتها ،الذين يحيطون بها لم يعرفوا المرأة فيها ،ما عدا ود فور ،ولم ينتبهوا إلى النسانة
.البائسة ول يفهمون شيئًا عن حاجاتها الصغيرة الحقيقية .باختصار كانوا يعاملونها كرجل في ثوب امرأة ل أكثر
المفاجأة الخيرة ،التي لول ُقوة عودي وعزيمتي وصبري على المكروه لكانت القاتلة .قال إنه ليس بالسهل أن
.يصف لنا ما شاهد ،بدى ذلك واضحًا من الطريقة التي أخذ يتحدث بها
ل يمكن لشخص مثلي أن يتخيل ذلك مجرد تخيل ،بل ل يمكن أن يخطر ببال شيطان رجيم ،إذا كان للشيطان بال،
:قالت بصوت حزين
مما ولدوني إلى اليوم ،ما قطعت شعرة واحدة منه ،قالوا حلقتُه تجيب النحس وسوء الحظ ،وبرضو ما لقيت -
شويةشُغل ،بعد دا ،حأخلي بالي من نفسي ُ وقت ،وقتي كلُه لل ُ
:قلت لنفسي
-الموضوع ما بيستحق ،خلينا نخلص .
كنت مصممًا على أن أجعلها تدخل تجربة جديدة مثيرة في حياتها ،تجربة ل ُتنسى ،بما يساوي نقطة تحول،
:قالت
-قاعدة أنظُفُه وأسرحو بالمشط كل يوم جمعة .
ل ،بل مؤذيًا وضارًا جدًا ،ثم أقسم وأقسم وقال
:حكى لنا بالتفصيل الُمِمل ،في الحقيقة ليس ُمِم ً
ت َمَرَفِعين ْ.
-الصافية انقلب ْ
قلنا بصوت واحد
مرفعين؟-
-مرفعين عديل كدا .
سدها وبدأ يداعبها في أذنيها وأنفها الكبير ،بدأ الصوف ينمو في جسدها، ج َ
عري َ اللحظة التي وضع يده على ُ
حمار ،كان ينمو بصورة مذهلةِ ،بسرعة رهيبة ،ثم أخذ ْ
ت صوف ال ِ صوف أسود غليظ خشن وقبيح ،تمامًا مثل ُ ُ
ي ،كما لو كانت أسدًا ضاريًا،
ت عل ّ
ت ُتصدر صوتًا غليظًا ،ثم انقض ْ ح وجهها تتغير ،برزت أنَياُبها ،ثم أخذ ْ ملم ُ
ت من الهرب ،عبر الباب المغلق، ن معدودات .ل أدري كيف تمكن ُ وأنا فريسٌة بائسٌة جريحة ،حدث كل ذلك في ثوا ٍ
طّية ،خارج ك الصغير،أو أنني قد اخترقت السياج اختراقًا ،ل أدري ولكنني وجدت نفسي خارج الُق ِ شّبا ْ
أم عبر ال ُ
جلة كلها ،حدث ذلك ،بيت أّدي ،خارج ال ِ
.في لمح البصر
خدوشًا في ظهره وإليتيه :ضحكنا جلبابه وأراهما ُ .خلع ُ
نوااااااااااااااصل
_________________
طة ِنكاية
شرُمو َ
ل عند العجوز ،سألها عن فتى باسمه ولقبه واسم أمه مصحوبًا بكلمة ال َ طيان،توقفا قلي ً
شَر ِ
عاد ال َ
:وغضبا عليه ،قالت لهما
-مشى زهانة ،معزوم مع أصحابه كلهم عيد القديس ُيوَهِنس .
نواصل
_________________
)...الجنقو ...مسامير الرض )..بركه ساكن Re:
ي َوَكَرمل
ضوع ٌ
.حواٌر َمو ُ
أكّد لي أن مشروع الصافية بالنسبة إليه لم ينته بعد ،وأنه قرر أن يخوض المعركة إلى آخر طلقة ،ولم يكن
صحبة ،القراءة المشتركة ،السفر ،الفشل، تصريحه هذا غريبًا ،فأنا أعرفه فيما يزيد عن الثلثين عامًا من ال ُ
الحباط ،النجاحات الكبيرة ،العمل والعطالة ،سيكون تصريحه غريبًا إذا قال لي إنه تنازل عما سّماه بمشروع
.الصافية أو خاف،قال بثقة كبيرة
: -أنا بحلل وضع الصافية بالطريقة دي
جنسيًا ،ينمو الصوف في جسها كله ،تطول أظافرها ،وأذنيها ،تتحول ملمح وجهها إلي ما امرأة عندما ُتثار ِ
ُيشبه ذئب كبير ،أسٍد أو حتى قرد ،فتهاجم العشيق ،فيهرب،وهي نفسها ل تكون واعية بحقيقة ما يجري لها .ثم
طرح سؤاًل :الزول لو انتظر للنهاية حيحصل ليُه شنو؟
دعونا نفكر في هذا الموضوع بجدية ،دعونا نفكر كيف نتعامل معها ،يجب أل نتركها هكذا تعاني وحدها هذه
شركاء على القل في النسانية الزمة النسانية الفريدة ،نحن ُ
نحن بشر ،يعني ،هنالك مسألة تخص الفرد ،تخص الجميع ،وما يخص الجميع يخص الفرد ،مسألة مصير واحد،
مآل واحد ،ثقب واحد يجب أن نعبر به جميعًا نحو الحياة ،أن يعثر أحدنا فيه ،يعني أل يمر الخرون ،وأخذ يهذي
.في كلم أعرف أنه يجيده والسوأ أنه يؤمن به والسوأ أكثر أنه سيفعله
قدمت له نصيحة ل تفيده ،وقد تكون طوق نجاة لغيره
-أتمنى أنك ما ترمي بنفسك في التهلكة .
:قال بقلق
-تقصد ما أتطفل .
:قلت ضاحكًا
-أيوه .
:قال
حلة( ُمش نوع من التطفل؟! عندنا هنا شنو ،غير ناس مطرودين من وزارة الصحة للصالح وجودنا هنا في )ال ِ
العام ،كل يوم متطفلين على بلد من بلد ال ،وناس من ناس ال؟
فهمت أنه يعني فيما يعني أننا طالما تطفلنا على المكان ،فنحن أيضًا تطفلنا على النسان ،والمر سّيان .كان
ش ،وهذا الثر وهذه الدهشة ،ل دائمًا ما يكرر القول إنه يجب أن َيَتُرك أثرًا واضحًا ،أينما يذهب ،وأن ُيْدِه ْ
يتأتيان ما لم يفعل ما ل يستطيع فعله غيره وهم العامة والخاصة معًا ،ويختصر ذلك بالقول
.-اركب الصعب
أينما حللنا ،كان يبحث عن الصعب والصعب فقط ،يبحث عن الغرباء في الناس ،في المجتمع ،في المكان في كل
شئ ،كان يتصيد السؤال ول يخشى التهلكة ،بل يرمي فيها نفسه رميًا ،قلت له
-على العمل في ميس الشركة .إلم ِقشي وافقت
ً:قال مبتسما
-نسوقها للشركة معانا .
أكلنا طعامًا طبخه هو ومختار علي من اللوبيا البيضاء والفرندو بالشرموط ،اشترينا إنجيرا من بيت الم ،كان
،مختار علي دائمًا ما يحتفظ بمخزون من الدليخ في ُقطيته
حضرت ألم ِقشي ،وصنعت لنا القهوة بالزنجبيل والهبهان ،ذهبنا الثلثة إلى مقر الشركة جوار زريبة
ل قصيرًا المحاصيل ،حيث وجدنا العمال مجتهدين في بناء المؤسسة ،لكننا استطعنا أن نلتقي بالمدير ،وكان رج ً
نحيفًا مبتسمًا قليل الكلم مرحابًا مضيافًا أنيقًا ،بعينيه حول يسير ،شكرنا كثيرًا ،اعتبر قدومنا بألم ِقشي لكي
ل إنسانيًا كبيرًا ،بركة من ال ومساهمة في نجاح الشركة تعمل معهم في الميس ،في هذا الوقت بالذات ،عم ً
أيضًا
-نحن نحتاج لمرأة نثق بها لكي تعمل معنا ،امرأة نظيفة تحمل عبء بطوننا
و أكد أن العمل قدىعزلهم عن المجتمع
-لول وجودكم أنتم في الحلة ،ما عارف كان نحنا نعمل شنو .
ولكني أحسست بمسحة غبشاء من الحباط تعتري وجهه وهو يرحب بألم ِقشي ويكيل لنا ولها الشكر ،قالت ألم
ِ:قشي فيما بعد
-كانوا عايزين بت صغيرة في العمر ،على القل أجمل وأخف مني .
أضافت
-حيقتنعوا إُنُه أنا أجمل مرا في الدنيا .
:قلت لصديقي
ربما كان صاحبك عايز ملكة جمال في مكان في طرف الدنيا تحيط به الغابات والخيران الموسمية ومن سكانه -
ل من المطاريد .الصليين القرود ،هذا المكان البعيد ،الرض المهمشة النشأت أص ً
.تركنا ألم ِقشي هناك ترتب أمر وظيفتها الجديدة وعدنا أدراجنا إلى السوق
عّمال البنك يعملون بجد ونشاط ،سيدرك البنك الموسم الزراعي القادم، الساعة تشير إلى منتصف النهارُ ،
سلطة وعلقات النتاج في المنطقة لمصلحة محدودي الدخل، وُيشاع أن هذا البنك سيغير خارطة الثروة وال ُ
صغار المزارعين والفقراء ،وسوف يقدم قروضًا وسلفيات إسلمية غير ربوية لكل منتج ومزارع ،وقد اجتهد
البعض مفسرين كلمة منتج ،بأنه سوف ل ينسى أحدًا ويشمل ذلك فيما يشمل الندايات الكبيرة ،تجارة الشنطة
صِغيٍر على شاطئ النهر ،كذلك الذي يوجد على الضفة وبائعات عرقي البلح والفحامة ،وفكر ود أمونة في َباٍر َ
ل على قرية همدائييت ،يرتاده أصحاب المزاج والملماتية ما بعد منتصف حمرة ،مط ً الشرقية من نهر سيتيت بال ُ
النهار ،حيث يعبرون النهر سباحة ،بالرغم من أنه يوجد داخل حدود دولة أخرى وهي أثيوبيا إل أنه ليس
سلطات الثيوبية ل تسأل عن شئ، لحدهم جواز أو بطاقة ول حتى ورقة تحمل اسمه ،من جهة أخرى فإن ال ُ
سوف ُينشئ ود أمونة َبارًا يستقطب هؤلء الفارين إلي الكيف العابرين النهار وسوف ل يخاطرون بحياتهم
.غرقًا
ويبدو أن فكرة التمويل لم تكن إشاعة ،ولكن المحاضر الذي أوفده البنك يوم جمعة ل ُينسى قال كل ذلك ،أو لم
صل لذلك بآيات وأحاديث وخطب سَلم والمبايعة والمشاركة ،وأ ّ يقله ،ولكن المؤكد أنه تحدث باستفاضة عن ال َ
وشهادات فقهاء وفتاوى وذكر فيما ذكر اسم عالم غامض لم يسمع به أحد في القرية وهو القرضاوي ربما
إشتق إسمه من قرض :من يدري .لم يفهم العامة الشئ القليل من خطبته العصماء ،ولكنهم فهموا المهم والذي
:يخصهم وهو
سنة ال ورسوله .أن هناك قروضًا للجميع بدون فرز ،وحق للجميع ،بدون ربا ،على ُ
كل هذا تفوه به الخطيب ،ولم يجتهد الناس كثيرًا في التأويل ،وعلى بركة ذلك بادرت المحلية بتخصيص قطعة
سمح باستخدام وابور المحلية لنقل الحجارة والرملة السفاية والطوب أرض مجانية للبنك لكي ُينشأ عليها ،و ُ
الحمر بسعر رمزي يغطي تكلفة العمالة ،وتحصل إداريو البنك المشرفون على إنشائه على وقود وكهرباء
وإمداد مائي مجانًا ولوجه ال وحده وفي خاطر التنمية وابتغاء رفعة البلد ،وللحاق بركب هذا العطاء المجاني
سعى المقاول الذي يعمل بالتشييد بأن يحصل على عمالة مجانية للبناء من الجيش،طاما يجلس العساكر هنالك
في ثكناتهم دون عمل ،يلعبون الورق و الضالة ،ينتظرون حروبًا سوف ل تحدث في القريب العاجل ،ولكن لسوء
حظه أن قائد الحامية في ذلك الوقت كان جنديًا يمتلك رأسًا ُيسمى في الخفاء :ناشفًا ،لم يسعفه في تفهم التنمية
:والتطور ودور البنك العظيم المنتظر ،فرد إليه طلبه مشفوعًا بتهديد شفاهي
احذروا و احذزروا و احذروا ،الجيش دا قايلنوا شركة دانفوديو؟ -
صعوبة في الحصول على أي تسهيل ومباركة ،بل أن ُمعظم الناس سوى هذا الصد الواضح ،لم يجد البنك أية ُ ِ
طلب منهم ذلك ،كان البنك كانوا يحسون بأن لهم واجبًا ما تجاه البنك ول يتأخرون في مّد يد العون متى ما ُ
بمثابة :مهدي المكان المنتظر .شربنا كركدي عند عزيزة الزغاوية ،كان يجلس قربنا أثنان من السماسرة
يتحسران لجل سعر السمسم المنخفض في هذا الموسم مع أن النتاج شحيح ،يتعجبان ،لنهما يريان أن
انخفاض إنتاجية السمسم تؤدي مباشرة إلى ارتفاع سعره ،هذا ما تعلماه من التجربة ،الشئ الذي لم يحدث هذه
.اليام
-دا آخر أسبوع لحصاد السمسم ،تاني ما تبقى الحته .
ل بعض الشئ ،لن شركة السمسم حتى الن لم تدخل السوق لشراء متطلباتها السنوية ولكن كان أحدهما متفائ ً
من السمسم لجل التصدير
-حيرتفع ....حيرتفع أكثر من السنة الفاتت .
وهنا تدخل صديقي قائ ً
ل
-السبب إنتاج الفول ...الفول السوداني ....وبرضو عباد الشمس .
ل من الرقام مدهشة عن إنتاج الفول السوداني وعباد الشمس في هذا ودون أن يستأذنهما طرح من رأسه سي ً
الموسم ،ثم تحدث عن سعر رطل الزيت من الثنين ..إنه ينخفض ،وسوف ينخفض أكثر ،وربط ذلك بالمستخدم
من السمسم في زيت الطعام والحلوى وكيف أن الفول السوداني الرخيص حّل محله وزيت عباد الشمس النقي
الصحي منخفض الثمن المفضل لدى المصدرين أصبح إنتاجه ضخمًا ،ثم أسهب في الحديث عما أسماه بـ
!مستقبل إنتاج السمسم في السودان ،هل سيصبح مثل مستقبل إنتاج القطن والصمغ العربي؟
نظرا إليه باستغراب ،سأله أحدهما بعفوية
.-إنت في المن؟ مما جعلنا جميعًا نضحك في وقت واحد
:قال له صديقي
-ل ،أنا من القضارف .
قال الرجل هو يحملق في وجه صديقي
نعم ...عارف ...إنت الزول العندك حكاية مع الصافية؟ لكن إنت شغال شنو؟-
قال له صديقي وقد ظهر عليه بعض الغضب
-البلد دي غير القوالت والشاعات ما فيها شي ..بلد نكد .
قال الخر محاوًل الخروج من موضوع الصراع
-كدي أحسن نشوف موضوع السمسم .
وقطع الحوار صوت أبواق سيارات ونهيق ونباح بربارات ولندروفرات مختلط بزغاريد نساء وصبايا ،غناء
وجلبة ،ثم عّم المكان الغبار المختلق من رفس إطارات السيارات على الرض ،قالت عزيزة الزغاوية مستنكرة
-دا زمن عرس؟؟ لسع الحصاد ما انتهى .
قال أحد السماسرة مقررًا أمرًا قد يبدو معروفًا للجميع
العريس دا قايله منو؟! دا محمد عوض ،سّواق باربارة البرناوي ،ديل بيعرسوا في أي وقت ..طالما الخريف-
.انتهى وانفتحت الشوراع ،دي مرتو التالتة
شواك ،لوري الحفيرة ،تراكتور السيرة مكونة من عشرين باربارا ،خمسة لندروفرات ،بص همدائييت وبص ال ُ
بمقطورة يتبع لحد التجار من زهانة ،المغني المتفرد ود أمونة ،يصدح بصوت نسائي عليه بحة خفيفة ربما
نتيجة للسهر وتعليم العروس وشرب القهوة الكثير في بيت العرس ،حيث ل تنطفئ نار القهوة لما يزيد عن
.السبوع ،يتبعه كورس من الصبيات والنساء في حماس وإثارة
عّلق أحد السماسرة في ضيق
-؟ ال يسخته ...ما بتعرفو ،مرا ول راجل
ضحكت عزيزة قائلة
-دا ود أمونة وبس ..هو كدا .
قال السمسار الخر
-دا زول ُمخنث ما نافع ...وال لو ولدي كنت حأكتلو عديل كدا .
:قال عزيزة
-مالك ومال الزول دا ربنا الخلُقُه عايزو كدا .
ثم أضافت
إنتو عارفين إتزوج منو؟-
:قلت
-ل ،بالتأكيد .
:قالت
-إتزوج زينب بت أبرهيت الفلشاوي .
ً:قلت مندهشا
-الفلشاوي ...يعني من الفلشا .
:قال أحد السماسرة
أيوا ..وقالوا الفلشا ديل يهود ،هْم ذاتهم الباعهم جعفر نميري لسرائيلُ ،مش كدا؟-
قال جملته الخيرة موجهًا كلمه إلى صديقي
:قلت
ولكن هنا في فلشا؟-
:قال السمسار
-أسرة واحدة ،هي أسرة أبرهيت ولدو إسحق .
:قالت عزيزة
-ولكن أبرهيت دا مسلم ،قاعد يمشي صلة الجمعة ،كل الناس شافوه .
:قال أحد السماسرة
-اليهود ديل فيهم الُمسلم وفيهم الكافر ،زيهم زي الجن ،فيهم الُمسلم وفيهم الكافر .
،ثم أضاف
شنوُ ،مش يهود؟ وفي مسلمين يهود عديل كدا ،وديل الما بيصلوا ول بيصوموا ويأكلوا الربا ومال اليتيم ،ديل ُ
ثم أضاف فيما يعني أنه لو وجد أي إسرائيلي أو دولة تشتري منه الفلشا ،لباع لها أبرهيت وأسرته جميعًا
ليغنى للبد ،ديل بيعهم ُمش حلل؟! ربنا ذاته ما حّرم بيع العبيد ،سيبك من الفلشاُ ....مش كدا؟
.أومأت برأسي أن نعم ،وكنت أعني بيني وبين نفسي أني :امتنع
همس صاحبي في أذني ،الذي كان يتتبع النقاش بانتباه كبير
لزم نزور أسرة أبرهيت دي ،أنا أتمنى أشوف وأحاور يهودي ،فلشا ول أشكناز ول سفرديم ول أي يهودي-
.تاني ،حتى لو كانوا َبني ُقريظة أو بني الَنضير
:قلت له
ش حأمشي معاكِ ،كفاية العملية العملتها في الكنيسة السبوع الماضي مع الم َمَرَيم ُكِودي راعية الكنيسة-.أنا ُم ْ
:قال ُمحتجًا وقد عل صوته فجأة
عملتها أنا ول عملتها هي ،أنا كنت عايز أقيم معاها حوار موضوعي عن الديان ،وقصدي شريف جدًا ،ولكن-
الم مريم ما فهمتني واعتبرتني ُمخّرب ،هي عايزة تتحاور معاي كمسلم عربي وأنا عايز أتحاور معاها كإنسان
يتبنى كل الُتراث الروحي للبشرية بما فيه الدين المسيحي نفسه ،وكما تكلم زرادشت للفيلسوف نيتشه وكتاب
.الطبقات لود ضيف ال،غيرها من السرديات الُكبرى و الصغرى ،قلت له
-إنت طريقتك في تناول المواضيع هي المشكلة وليست نواياك .
.وخوفًا من أن ُيقال إني تركته في محنة جديدة وحده ذهبت معه
الذهاب إلى بيت أبرهيت لم يكن صعبًا ،فالبيت كان متاخمًا للسوق ،وأبرهيت نفسه معروف ومشهور كما أن
عرس كان أسهل الشياء هنا ،الذهاب إلى منزل فيه مناسبة ُ
ونحن نطرق الباب ،طلبت منا الصبايا وبعض النساء أن ندخل مباشرة ،ومافي داعي لدق الباب ،الشئ الذي
ل يلبس بنطلونًا وقميصًا نظيفين أدهشهن ،ونحن نرفض الدخول دون إعلن ،فإذا بأبرهيت يأتي مبتسمًا ،طوي ً
سّلم علينا وهو يسحبنا إلى داخل ديوانه ،ونادى بصوت خفيض لبنته التي وربما جديدين ،وبلكنة أمهراوية َ
.جاءت وفي يدها الماء والحلوى والمبابا والبتسامة الساحرة تحلق في فمها الصغير الحلو
انحنت الصبية العشرينية أمام كل واحد ِمنا ،وهي تصب الماء من وعاء زجاجي أزرق في أكواب عليها علم
ل في إثارة واضحة وانفعال باللغة النجليزية .وأسد أثيوبيا الشهيرين :همس صديقي في أذني قائ ً
. The Lion of Zion-أسد صهيون
حب بنا مرة أخرى ،فباركنا له زواج ابنته زينب من محمد عوض سائق تجاهلت همسه حتى ل ألفت النتباه ،ر ّ
البربارا ،وتمنينا لهما بيت الَمال والِعيال وسترة الحال ،قال
-الجبنة جاهزة ،والفطور برضو جاهز .
اعتذرنا بأننا شربنا الجبنة مع عزيزة الزغاوية وفطرنا في المنزل ،ثم دخل صديقي إلى الموضوع مباشرة ودون
عرف به وتهور .مقدمات وبوضوح تام ُ
ت بالطريقة الذكية البليغة التي حسم بها أبرهيت الموضوع ،في هدوء ورباطة جأش ،وكأنه جب ْ عِ
في الحقيقة أنا ُأ ْ
كان يعد الجابة منذ أن ُولد قبل خمسة وخمسين عامًا خلت،و أنه أجرى عليها تجاربًا كثيرة واختبارات صحة
وخطأ في شتى أصناف البشر وأحوالهم ،وربما الحيوانات والجن أيضًا للتأكد من مدى صلحيتها ،قبل أن يتبناها
أخيرًا كإجابة نموذجية تصلح ردًا شافيًا كافيًا لكل المتطفلين والمتحشرين والمتسكعين الكسالى ،الذين ل هّم
لديهم سوى البحث عن الغوامض ،مثيري السئلة ،المتشككين ،ضعيفي اليمان ،والمتطرفين من الناس والجن
:وهوام الرض كافة
قال بصوت واضح ،بينما كانت عربات السيرة تدور في الخارج ،وصوت ود أمونة يصدح بأغنيات بنات رائعات
محفزات للرقص ،وابنته العشرينية تضع مزيدًا من المبابا على وعاء الحلوى وهي تتفحصنا بركن قصي من
:عينيها الكبيرتين ،وتنصرف لتستقبل السيرة في الخارج ،قال
-أنا مسلم .
،تفحص وجهينا وابتسم ابتسامة ُبنّية قبل أن يواصل كلمه
،أنا مسلم ،مسح وجهه براحة كفيه ،قبل أن يضيف في حّدة
،وأشهد أن ل إله إل ال
وأن محمدًا رسول ال
،وأقيم الصلة
،وآتي الزكاة
وأصوم رمضان
ت إليه سبي ً
ل ت إذا استطع ُ ج البي َ
.وأح ُ
:ثم أضاف في برود كالصقيع ،بينما هو يحاول الحتفاظ بابتسامة دائمة لئيمة
سلْم عليك . - يل مع السلمة ،وقولوا لمدير المن أبرهيت ولدو اسحق َي ّ
.وبذلك قال لي صديقي فيما بعد أكد أنه يهودي ،ويهودي متطرف
ونحن نخرج من الباب معتذرين خائبين ،وناكرين لصلتنا بالمن ،إذا بابنته الِعشرينية الجميلة على الباب
مباشرة،كانت تصتنت للحوار الذي دار بين صديقي ووالدها ،الحوار القصير جدًا ،حيث إن صاحبي سأله :هل
أنت من َيهود الِفلشا حقًا؟
صِغيرٌة
حرَكٍة لغاظِتَنا ،بقٌع َ
جَتُه إليَناِ ،في َ
خَر َ
ساِنَها الذي َأ ْ
شاِئريَ ،وِبِل َ
جِميلٌةِ،في ِفسَتاِنَها الَبَيضِ الَع َ
ت ََكاَن ْ
حَلَوى َكَرَمل
حُة َ
سوَداَءَ ،وَراِئ َ
َ.
.....نواصل
_________________