You are on page 1of 37

‫‪ )...‬الجنقو ‪...‬مسامير الرض ‪)..

‬بركه ساكن ‪Re:‬‬

‫صاِفَيُة‬
‫ال َ‬

‫قابلناها في سوق الَقْنذي‪ ،‬وهو سوق للملبس المستعملة الرخيصة‪ُ ،‬يَقاُم على هامش السوق الكبير‪ ،‬قرب زريبة‬
‫المواشي في مكان خجول منزٍو حتى ُتضمن خصوصية الرواد‪ ،‬البائع والبضاعة‪ ،‬يرتاده الجنقو بين حين وآخر‪،‬‬
‫إما لبيع ملبسهم وأحذيتهم وما تبقى من زينتهم‪ ،‬استبدالها‪ ،‬أو شراء أخرى وذلك في شهور الفلس قبل موسم‬
‫الحصاد أو عندما يقبضون على ما تحصلوا عليه من نقود نتيجة للعمل في الحصاد‪ ،‬ول يمنع أن يمروا عليه‬
‫‪.‬كذلك للبحث عن ملبوسات خاصة قد ل تتوفر في مكان آخر غيره‬
‫شاهدناها من بعيد تقف أمام البائع‪ ،‬تتفاوض في شراء جلباب‪ ،‬قال لي فيما يشبه الهمس‬
‫الصافية ‪:‬‬
‫‪.‬الصافية الرهيبة‪ ......‬أنا عايز اتكلم معاها‪ ...‬يا صديق ‪-‬‬

‫ي هذه الصفة عندما يشرع في الحديث عن موضوع يظنه بالغ الهمية‬ ‫ق عل ّ‬


‫طِل ْ‬
‫‪.‬وكان ُي ْ‬
‫المخلوقات البسيطة الصغيرة المهملة المرمية على هامش المجتمع والمكان‪ ،‬تجد فيها أسرارًا ل حد لها‪ ،‬أن ‪-‬‬
‫‪.‬ال دائمًا ما يستودع حكمته في نوع زي ديل‬
‫أنا عايز أصل لصل الحكمة فيها‬
‫قلت له ساخرًا بذات اللغة التي تحدث بها‬
‫‪-‬عايزها مشروع حياة ‪.‬‬
‫‪، -‬بالضبط‪ ،‬حتكون إضافة حقيقية لتجاربي النسانية‬
‫تصور لو عرفت كل تجربة مرت بحياتها‪ ،‬لو عرفت أحلمها وأحزانها وآمالها‪ ،‬لو عرفت كيف بتفكر الزولة دي‪،‬‬
‫ي‪ ،‬أنا عايز أصل‬ ‫عِل ْ‬
‫خَتاْر َ‬‫كل زول لقيته في الحلة دي يحكي لي عنها حاجات أقرب للساطير‪ ،‬كلمني عنها ُم ْ‬
‫‪.‬للحقايق بنفسي‪ ،‬وليس من سمع كمن شاف‬
‫سألته‬
‫‪ -‬منو هو مختار علي دا؟‬
‫‪. -‬واحد عجوز مريض اتعرفت عليه أمبارح بالليل رجل طيب‪ ،‬بت معاهو في البيت‬
‫ل ولكنها قبلت أخيرًا‪،‬‬ ‫وبأسلوبه المباشر‪ ،‬المعروف‪ ،‬طلب منها أن تسمح له بدفع ثمن الجلباب‪ ،‬مانعت قلي ً‬
‫ك وكوم الَكوَْل‪ ،‬الَُفرندو‬ ‫ك‪ ،‬دفع لها ثمن رطلين من السمك الجاف الَكجي ْ‬ ‫جي ْ‬
‫وشكرتنا الثنين وتبعناها إلى سوق الَك َ‬
‫ط‪ ،‬لفتين الُمصران وربع رطل الكمُبو‪ .‬قالت ممتنة‬ ‫شرُمو ْ‬ ‫‪:‬و ربع الّلوبة البيضاء‪ُ ،‬كَراعات ال َ‬
‫كدا تكونو وفرتوا لي قروش المريسة لسبوع كامل‪ ،‬ووفرتوا أكل لخمسة عمال مساكين لنه دا )الميز( ‪-‬‬
‫‪.‬بتاعهم‪ ...‬بعد يومين حنرجع الخلء‬
‫قال لي‪ ،‬وكأنه يهمس همسًا‬
‫ليه ما نمشي معاهم الخلء؟! أنا عايز أشوف الجنقو في مواقع عملهم‪ ،‬في بيئتهم الطبيعية‪ ..‬حتى ولو اشتغل ‪-‬‬
‫‪.‬معاهم‪ .‬أنا عايز أدرس حياتهم‪ ،‬دراسة من شاف وعايش وعاش‬
‫ضحكت من كل أعماقي‪ ،‬أنا أعرف أنه ل يستطيع فعل ذلك‪ ،‬وأعرف أنه ل ينفك من كونه برجوازيًا صغيرًا متخمًا‬
‫بالمتناقضات والدعاء والحلم الكبيرة‪ ،‬يحاول أن يقضي عطالته وصالحه العام في مكان يقدم له الدهشة‬
‫والنفعال‪ ،‬المتعة والثارة متعة المشاهدة أما أن يعمل في قطع السمسم‪ ،‬فهذا مستحيل‪ .‬العلقة بيني وبينه قائمة‬
‫طردنا للصالح العام معًا‪ ،‬إل‬ ‫على الصراحة والوضوح‪ ،‬بالضافة إلى أننا كنا نعمل في مؤسسة حكومية واحدة‪ُ ،‬‬
‫شلق الضباط حيث إن‬ ‫ق السجون بمدينة القضارف‪ ،‬ولو أنه كان يسكن في ِق ْ‬ ‫شل ِ‬‫أننا عشنا طفولة واحدة في ِق ْ‬
‫والده كان ضابطًا كبيرًا ومديرًا للسجن‪ ،‬ووالدي جنديًا بالسجن‪ ،‬امتدت علقتنا من المدرسة إلى الحي إلى البيت‪،‬‬
‫ثم لم ننفصل عن بعضنا البعض منذ أكثر من ثلثين عامًا‪ ،‬كلنا كان كتابًا مفتوحًا مفضوحًا أمام الخر‪ ،‬حيث إننا‬
‫سّيا ومعرفيًا بصورة تكاد أن تكون متطابقة‪ ،‬قرأنا في مدرسة ديم النور البتدائية‪ ،‬لعبنا خلف الَبيطري‬ ‫ّكّونا َنَف ِ‬
‫خور مجاديف‬ ‫سبحنا في ُ‬
‫لَمْة الَبِيْه جنبًا لجنب‪َ ،‬‬
‫سَ‬‫سا و َ‬ ‫وعلى ُتخوم مقابر المدينة معًا‪ ،‬تشاجرنا مع أطفال َدَل َ‬
‫ك‪ ،‬ولعبنا جيش جيش في وسط غابة الحسكنيت على سفح جبل مكي الشابك‪ ،‬قرأنا ذات الكتب‬ ‫شاِب ْ‬
‫ك َمِكي ال َ‬ ‫وِبَر ْ‬
‫جبران‪ ،‬مخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي‪ ،‬ومهرجان المدرسة القديمة‪ ،‬ونحن‬ ‫جبران خليل ُ‬ ‫واندهشنا معًا باكتشاف ُ‬
‫نكبر تدريجيًا عرفنا معًا نيتشه والنساء‪ ،‬ودقات ريشة ڤان جوخ‪ ،‬ثم حفظنا أشعار أمل دنقل‪ ،‬ناظم حكمت‪،‬‬
‫محمد محيي الدين‪ ،‬الُموِمس العمياء‪ ،‬ماريا وامبوي‪ ،‬عشقنا البنات أيضًا معًا‪ ،‬في باكورة مراهقتنا أحببت أخته‬
‫وأحب أختي‪ ،‬كأول مغامرات غرامية لكلينا‪ ،‬ولو أنني ما كنت أدري ماذا يفعل وأختي بالضبط حيث إنهما كانا‬
‫يحرصان على إخفاء نشاطاتهما عني‪ ،‬إل أنني‪ ،‬ولن أخته تكبرني بعامين أو ثلثة‪ ،‬كنا نعمل على اكتشاف‬
‫جسدينا بصورة محمومة وممتعة‪ ،‬أختي تصغره بعامين‪ ،‬مما جعلني أفترض أن شأنهما قد يختلف‪ ،‬لن البنات‬
‫الكبر سنًا هن دائمًا يبتدرن ما يخص الجسد وأنهن يعرفن كل شئ‪ ،‬ونسبة لصغر سن أختي ما كنت أظن أنها‬
‫بمهارة أخته‪ ،‬دائمًا ما أتخيلها بريئة مسكينة عويرة‪ ،‬على كل ليس فيها ما ُيعجب ولدًا ما‪ ،‬فهي في أحسن‬
‫الحوال مملة ومضجرة‪ ،‬وكنت ل أطيقها لحظة‪ ،‬ل تفلح في شئ غير فضح كل ما أقوم به عند أبي‪ ،‬ثم قرأت‬
‫ل جنسيًا كانت هي نفس المرأة‬‫وإياه ذات الجامعة‪ ،‬ذات الكلية‪ ،‬ذات التخصص‪ ،‬وأول امرأة أجرينا معها فع ً‬
‫محاضرة شبقة بالقسم‪ .‬أقول كنت أعرفه تمامًا‪ ،‬قلت له‬
‫ش حأمشي معاك للخلء حانتظر هنا‪.‬‬ ‫‪-‬أنا ُم ْ‬
‫قال ضاحكًا‬
‫ش ِكدا؟‬ ‫‪-‬مع ألم ِقشي‪ُ ،‬م ْ‬
‫قلت له‬
‫‪-‬بالتأكيد ‪.‬‬
‫قالت الصافية فجأة‬
‫‪-‬إنتو الليلة معزومين معاي في بيت أّدي ‪.‬‬
‫قال فزعًا‬
‫تاني بيت أّدي؟! من قبل قلعوا ساعتي الجوڤيال الصلية وشالوا كل القروش الفي جيبي ولو ما ستر ال ‪-‬‬
‫‪.‬كانوا كتلوني عديل كدا‬
‫قالت الصافية بثقة‬
‫‪-‬إنت حتكون في ضيافة الصافية ‪.‬‬
‫ن مختلط بعرق المريسة أضافت‬ ‫صَنا ْ‬
‫‪.‬قالت الجملة الخيرة وهي تندفع أمامنا مثيرة عاصفة من ال ُ‬
‫شَرُبوا؟‬‫أنا لزم أكرمكم‪ِ ،‬بِت ْ‬
‫قلنا معًا في آن واحد‬
‫ب‪.‬‬ ‫شَر ْ‬‫‪ِ-‬بِن ْ‬
‫ثم أضاف صديقي‬
‫‪-‬المستورد علينا ‪.‬‬
‫قالت‬
‫ي أبو حمار ‪.‬‬ ‫‪-‬أنا عل ّ‬
‫شك من كل‬ ‫شوك والقصب ورائحة المُ ُ‬ ‫طي وأصرفة ال ُ‬ ‫طا ِ‬
‫ضحكنا ونحن نتوغل في أزقة الحي الضيقة‪ ،‬تحيط بنا الَق َ‬
‫سكارى والُعشاق والطفال‪ ،‬يحييون الصافية بكلمة واحدة‬ ‫جانب‪َ ،‬يُمر ِبَنا ال ُ‬
‫الصافية‪. -‬‬
‫فترد بكلمتين حنينتين تسعا الجميع‬
‫ل أبوي ‪.‬‬ ‫‪-‬أه ً‬
‫ل أمي ‪.‬‬ ‫‪-‬أه ً‬
‫فاجأتني الصافية قائلة‬
‫حبك للمجرمين‪ ،‬ومشيت للم ِقشي‪ ،‬كييف لو كتلوُه؟ ‪-‬‬ ‫صا ِ‬‫ت َ‬ ‫سب ْ‬ ‫قالوا إنت ِ‬
‫قلت مندهشًا‬
‫منو القال ليك؟ ‪-‬‬
‫قالت ببرود‬
‫س‪.‬‬
‫‪-‬كل الناس بيعرفوا الموضوع دا‪ ،‬مافي شي هنا ينّد ْ‬
‫قلت لها مبررًا‬
‫‪-‬أنا عارف مافي زول بيقدر يكتلُه ‪.‬‬
‫أضاف ضاحكًا‬
‫‪.‬على القل قبل عشرين سنة‪ ،‬عندي مشروع ما بيخلص قبل عشرين سنة‪ ،‬بعد داك أصبح مستعد للموت ‪-‬‬
‫ت الصافيُة في براءة‬ ‫سأل ْ‬
‫شَقْة؟‬
‫‪ -‬مشروع في الَف َ‬
‫ت‪ ،‬قالت‬
‫حاول أن يشرح لها معنى مشروعه العشريني‪ ،‬ولكنه فشل فشرحت لها أنا‪َ ،‬فِهم ْ‬
‫‪-‬ولكن الموت بيد ال ‪.‬‬
‫قال‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬ولكن الحياة بيد النسان ‪.‬‬
‫قالت بيقين عميق‬
‫‪-‬الحياة والموت الثنين بيد ال‪ ،‬الزول ما بيُدُه حاجة ‪.‬‬
‫قال مغتاظًا‬
‫أذن النسان قاعد ساكت؟ ‪-‬‬
‫قالت في هدوء‬
‫‪-‬وال ما عارفة‪ ،‬أنا بس بعرف إنو الموت والحياة دي بيد ال ‪.‬‬
‫ل لفشله في كسب الحوار‪ ،‬وأعرف أنه لن يتنازل بسهولة‪ ،‬ولكنه الن يوفر نفسه لمعركة‬ ‫أعرف أنه اغتاظ قلي ً‬
‫أخرى في ميدان آخر‪ ،‬ظهرت طلئعها عندما همس في أذني‬
‫شْم ‪-‬‬
‫‪.‬عارف يا ولد‪ ،‬الصافية دي فيها أنوثة مجنونة عديل‪ ،‬أنوثة وحشية‪ ...‬أنوثة كلبة معوبلة‪ ،‬أنا شاميها َ‬
‫قلت له‬
‫‪-‬وإنت كلب عاير ‪.‬‬
‫قال بسرعة‬
‫‪-‬تمامًا‪ ....‬تمامًا‪ ....‬كلب عرمان ‪.‬‬

‫في حوش طرفي من بيت الم حيث جلسنا‪ ،‬أنا وود أمونة وألم ِقشي‪ ،‬وقد هيأ ود أمونة بخفة محترف كل شئ‬
‫وجلس قريبًا من الباب‪ ،‬كنت أحس برغبته العارمة في التحدث معي‪ ،‬ورغبته أيضًا في أن يتركني وألم ِقشي‬
‫وحدنا‪ ،‬وتحسست بميتافيزيقية رعنة رغبة ألم ِقشي في أن تطارحني الفراش‪ ،‬ورغبتها في أن يبقى ود أمونة‬
‫كما هو في موقعه‪ .‬المهم حسمت المر بأن قلت لود أمونة جملة اعتراضية‬
‫‪-‬قلت لي اتربيت في السجن مش كدا؟‬
‫أحسست حينها أن ألم ِقشي وود أمونة كادا أن يطيرا من الشعور بالراحة‪ ،‬قال وهو يأخذ نفسًا عميقًا من‬
‫‪:‬الشيشة‬
‫‪-‬آهـ‪ ....‬السجن‪ ،‬صاح‪ ....‬اتربيت في السجن ‪.‬‬
‫‪....‬ونواصل‬

‫_________________‬

‫‪ )...‬الجنقو ‪...‬مسامير الرض ‪)..‬بركه ساكن ‪Re:‬‬

‫‪:‬ابراهيم محمد صالح كتب‬


‫محسن ‪.‬اكملت سلمها حتي انهالت علي شعبي بالسب والشتم والكسل طبعا وتسألت كيف لتجد اعمال اخري لهذا‬
‫المبدع علي النت ده حتي اسمة موش موجود‬
‫قالت ان كانت هذه مسودة فيجب طبع الرواية باسرع ما يمكن ‪..‬لن الروايه المفروض تدخل مسابقة الجامعه‬
‫‪ ...‬المريكيه للروايه‬
‫وانا ابحث عن بركة ‪...‬مرة في كوستي ومره في الجنقو ‪....‬ول خبر ثم هاتف ل يعمل ثم لقاء بحليوة بمحض‬
‫‪ ...‬الصدفه‬
‫وضاااع الحلم وتبدد اذا الرواية لم تطبع في مصر كشرط الجامعه المريكيه‬
‫تري كم مبدع مثل هذا البركة ساكن‬
‫‪ ...‬يا محسن‬

‫اتمني ان ل تحزف الروايه لن اللغه فيها لتتجمل‬


‫المعاني كما هي ‪....‬باصلها‬
‫اتمني ذالك‬
‫‪ ..‬ساعود بالطواحين وربما بهذا الكاتب هنا يا محسن‬
‫‪ )...‬الجنقو ‪...‬مسامير الرض ‪)..‬بركه ساكن ‪Re:‬‬

‫َوْد َأُموَنْة‬

‫ظلمة للداخل‪،‬‬‫عْبر ال ُ‬
‫طية َ‬‫طيَة‪ ،‬تأتي أصوات المكان مخترقة قش وأقصاب الُق ِ‬ ‫حبشي يمل الُق ِ‬ ‫خوِر ال َ‬‫طُر الَب ُ‬
‫عْ‬‫ِ‬
‫سَكَكه عبر الليل نحونا‪ ،‬قال ود أمونة‪ :‬إنها بوشاي‪ .‬ثم واصل في‬ ‫ل رقيقًا يتلمس ِ‬ ‫غناًء جمي ً‬ ‫واستطعنا أن نميز ِ‬
‫حكي تفاصيل السجن‪ ،‬تحدث بتلقائية وبساطة‪ ،‬بهدوء ورقة ل تتوفر في شخص غيره‪ ،‬ألم ِقشي تقاسمني‬
‫حّ‬
‫ك‬ ‫الوسادة البيضاء المستطيلة على طول عرض السرير‪ ،‬تخلف ساقيها مع ساقي‪ ،‬وبين وقت وآخر تتعمد َ‬
‫شَبَقًا وحشيًا تؤجله دائمًا حكايات ود أمونة المدهشة في السجن‪ ،‬الليل‬ ‫أخمصَ قدمي بأحد أظافر رجليها‪ُ ،‬مثيرة َ‬
‫شي‪ ،‬عبرت عنها بنهوض مفاجئ من حضني قائلة‬ ‫ت ِفكرٌة للم ِق ِ‬
‫عّن ْ‬‫‪:‬كعادته في هذه الشهور دافئ َمِرح‪َ ،‬‬
‫حأعمل ليكُم قهوة ‪.‬‬ ‫‪َ-‬‬
‫جَبنة‬
‫‪.‬هكذا يعبر الناس عن حبهم واهتمامهم بالخر في هذه المكنة‪ ،‬بأن‪ :‬يعملوا لك َ‬
‫ل حكاية العازة‪ ،‬لم تستطع عازة أن تقنع أمه لكي تتركه معها عندما تخرج من السجن في‬ ‫قال ود أمونة مواص ً‬
‫الغد‪ ،‬وأرسلت لها الوسطاء من سجانين ومسجونين‪ ،‬وحتى مأمور السجن نفسه‪ ،‬ولم يقنعها سوى ما حدث لود‬
‫أمونة في ذلك المساء‪ :‬كنت في طريقي إلى عنبر الُنسوان بعد أن عدت من مشوار كلفني به الشاويش خارج‬
‫السجن‪ ،‬عندما وصل ود أمونة الممر المؤدي إلى الزنازين وهو الطريق القصر إلى الجزء الغربي من عنبر‬
‫الُنسوان حيث مقام أمه‪ ،‬إذا بيد ناعمة قوية ُتمسك بذراعه‪ ،‬وأخرى توضع في فمه‪ ،‬كانت تفوح منها رائحة‬
‫البصل والثوم مما جعله يتعرف بسهولة على الطباخ‪ ،‬ثم همس في أذنه‬
‫‪-‬ما تخاف‪ ،‬دا أنا ‪.‬‬
‫سحبت الكف عن فمه‪ ،‬قال له ود أمونة‬ ‫ثم ُ‬
‫عايز مني شنو؟ ‪-‬‬
‫قال الطباخ‬
‫إنت بكره ماشي مع عازة‪ ،‬طبعًا حيطلعوها من السجن‪ ،‬وإنت حتمشي معاها‪ ،‬وأنا جيت عشان أقول ليك مع ‪-‬‬
‫ش عيب عليك يا ود أمونة‪ ،‬ما تقو لي مع السلمة؟‬ ‫السلمة‪ ،‬طالما إنت ما بادرت بالوداع‪ُ ،‬م ْ‬
‫قال ود أمونة متضايقًا‬
‫ل فك يدي ‪.‬‬ ‫‪-‬كويس‪ ،‬مع السلمة‪َ ،‬ي ّ‬
‫قال الطباخ محاوًل أن يكون رقيقًا ومهذبًا‬
‫طقوس وفي احتفال صغير أنا عامله ليك في مخزن المطبخ برانا‪ ،‬أنا ‪-‬‬ ‫ل‪ ....‬ما كدا‪ ..‬مع السلمة دي عندها ُ‬
‫جبت شمع وعندي ليك هدية‪ ،‬ملبس جديدة وجزمة وكرة وحلوة وحاجات حتعجبك‬ ‫‪.‬وإنت‪ِ ..‬‬
‫قال ود أمونة وهو يحاول نزع يده‬
‫‪-‬إذا ما فكيت يدي حأصرخ وأمي تسمع وحتجي تقتلك ‪.‬‬
‫فأدخل الطباخ يده في جيبه وأخرجها قابضة على نقود لها رنين‬
‫قال له ود أمونة‬
‫‪-‬أخير ليك تفكني ‪.‬‬
‫بيد الطباخ الممسكة بالنقود‪ ،‬أعاد النقود إلى جيبه وبسرعة ومهارة فتح زرار بنطاله وأخرجه‪ ،‬شئ لم يستطع‬
‫ود أمونة تمييز معامله في الظلم ولكن عندما دفع به الطباخ إلى بطن و أمونة‪ ،‬أحس به ود أمونة قويًا‬
‫ل‪ ،‬قال الطباخ‬ ‫وطوي ً‬
‫خْد دقيقة واحدة‪ ،‬وأنا أْدّيك أي حاجة عايزها ‪.‬‬
‫‪-‬الموضوع بسيط‪ ،‬وما ِبَيا ُ‬
‫عَرق العيش‪،‬‬‫وعندما َمّد َفَمه الذي تفوح منه رائحة الصعوط مختلطة بسجائر البرنجي محمولة على عبق َ‬
‫بحركة رشيقة خاطفة أمسك ود أمونة بشئ الطباخ‪ ،‬كان مظلمًا‪ ،‬كبيرًا وأملس‪ ،‬أدخل ما يكفي في فمه وبين‬
‫أضراسه الحادة نفذ وصية أمه بحذافيرها‪ ،‬الشئ الذي جعل كل من في السجن والذين يجاورونه والذين تصادف‬
‫مرورهم في تلك الليلة بتلك النحاء‪ ،‬يقفزون رعبًا في الهواء من جراء صرخة الطباخ العنيفة البائسة التي لم‬
‫يسمع أحد في حياته مثلها ولن تتكرر في مقبل اليام‪ ،‬صرخة أطارت العصافير الصغيرة النائمة في أشجار النيم‬
‫في وسط السجن‪ ،‬جعلت السمبريات العجوزات الساكنات بالسنطة عند ِبركة المياه جنوب السجن‪ ،‬تضرب‬
‫بأجنحتها في ذعر‪ ،‬كانت الصرخات التي ألحقها بالصرخة الول‪ ،‬أقل أهمية‪ ،‬لن أحدًا لم يسمعها سوى ود‬
‫‪.‬أمونة‪ ،‬كانت أكثر بؤسًا ورعبًا‪ .‬ثم سقط‬
‫‪.-‬بصقت رأس الذكر من خشمي‪ ،‬كان شئ مقرف‬
‫صبح في الساحة‬ ‫قالت لي أمي بعدما صلينا صلة ال ُ‬
‫إنت حتمشي مع عازة إلى بيتهم‪ ،‬أنا تاني ما حأخاف عليك‪ ،‬إنت بس حافظ على أسنانك‪ ،‬حأديك قروش تشتري ‪-‬‬
‫‪.‬بيها مساويك‬

‫حلو يغني‪ ،‬فيأتي به الهواء الدافئ من حي‬ ‫شاي ال ُ‬


‫رائحة قلي الُبن الحبشي تمل رئتي عبقًا لذيذًا‪ ،‬وصوت ُبو َ‬
‫شهيًا‪ ،‬قالت ألم ِقشي‬‫طّية أّدي َ‬‫‪:‬الُعمدة إلى ُق ِ‬
‫سْع في السجن‪ ،‬سمين زي البغل‬ ‫‪.-‬بعد دا كله‪ ..‬الطباخ شغال ِل َ‬
‫‪.‬تحركت ألم ِقشي وهي تحمل الِمقلة تطوف بالُقطية مقربة إياها من أنوفنا‪ ،‬فنستنشق المزيد‬
‫قال ود أمونة‬
‫طلعت من السجن وأنا عمري عشر سنوات‪ ،‬لكن تقول راجل كبير‪ ،‬كنت بعرف كل شئ‪ ،‬ما تفوت عليّ كبيرة ‪-‬‬
‫‪.‬ول صغيرة‬
‫أضافت ألم ِقشي في زهو‬
‫‪ .‬ما شاء ال‪ ..‬ود أمونة دا‪ ...‬أصلو ما تقول كان طفل في يوم من اليام ‪.‬‬
‫‪.‬صّبت الُبن في الُفُندك وأخذت تدق بتنغيم اتبعته بغناء بلغة الحماسين‬
‫قال لي ود أمونة معتذرًا‬
‫معليش شغلتك بحكايات السجن والمور الفارغة دي‪ ،‬أنا حأخليك شوية مع ألم ِقشي وحنتلقى‪ ،‬أنا قاعد في ‪-‬‬
‫ُقطية ما بعيدة من هنا‪ .‬بالغرفة سرير واحد ولكنه ضخم‪ ،‬يساوي سريرين كبيرين‪ ،‬يسمونه‪ :‬السرير الَدُبل‪،‬‬
‫مصنوع من السنط‪ ،‬له قوائم ضخمة ثقيلة‪ ،‬عليه ُملءة بيضاء مطرزة بالكروشيه في شكل طاووسين كبيرين‬
‫متقابلين بالفم‪ ،‬ويبدو النهج الحبشي واضحًا في فن الحياكة والتطريز‪،‬من حيث استخدام اللون الصفر و الحمر‬
‫و الخضر‪ ،‬كانت ألم ِقشي كعادة الحبشيات تبدو في بشرة حمراء ناعمة وساقين طويلتين نحيفتين منتظمتين‬
‫وجميليتين‪ ،‬عليهما نقوش حناء باهتة ووشم على القدم غريب‪ ،‬بدى لي كصليب أو خاتم سليمان‪ ،‬أو ربما وردة‬
‫سحرية‪ ،‬على كٍل‪ ،‬كان شهيًا وطيبًا وطازجًا‬
‫ل أفهم كثيرًا في ممارسة الجنس‪ ،‬في صباي‪ ،‬أنا وغيري من صبية الحي‪ ،‬في أيام مراهقتنا الولى‪ ،‬أتينا الغنام‬
‫ل أمام أصحابك وإل ُلقبت بـ‬ ‫والدحوش وحتى الُعجول ولم يكن ذلك ممتعًا‪ ،‬ولكنه مهمًا حيث تبدو كبيرًا وفح ً‬
‫المرا‪ ،‬وهذا ل يجوز في حق أحدنا‪ ،‬ولكن‪ ،‬تجربة شريرة حدثت لي قبل ذلك أي قبل البلوغ بسنتين أو أقل‪ ،‬كانت‬
‫الكثر إدهاشًا وأكثر بقاء في ذهني وربما مازالت توجه بوصلة الجنس في ظلماء نفسي‪ ،‬إعتادت خالتي الَتاية‬
‫أن ترسلني إلى الِمطحنة عند الصباح الباكر‪ ،‬قبل الذهاب إلى المدرسة‪ ،‬لكي أوصل جردل العيش إلى هناك ثم‬
‫أعود لخذه في نهاية اليوم وأنا عائد من المدرسة‪ ،‬أي بعد أن يتم طحنه حيث تقوم بإعداده لصنع ِكسَرة يوم‬
‫غد‪ ،‬التي تبيعها في السوق الكبير‪ ،‬صاحبة المطحنة امرأة شابة ليس لديها أطفال‪ ،‬يعمل زوجها في سوق‬
‫الخضار‪ ،‬وكعادته ل يعود إل عند المغرب‪ ،‬وهي سيدة معروفة في مجتمع المراهقين بصورة جيدة وكل واحد‬
‫منهم له معها ِقصة‪ ،‬ربما أغرب من قصتها معي‪ ،‬ولكن ربما الشئ الذي يميز حكايتها معي؛ هي أنها كانت‬
‫تضربني ضربًا مبرحًا‪ ،‬ل أدري لماذا في ذلك الوقت‪ ،‬ولكني فهمت فيما بعد بعض الشئ‪ ،‬عندما أعود لخذ‬
‫الطحين كانت تأخذني إلى داخل المنزل عبر باب داخلي للمطحنة‪ ،‬وهناك تخلع ملبسها وملبسي‪ ،‬في أول مرة‬
‫شرحت لي وأرتني إياه‪ ،‬وخفت خوفًا حقيقيًا عندما رأيته لول مرة‪ ،‬كان ل يشبه كل التصورات التي رسمتها له‬
‫ل‪ ،‬جذابًا مثل الوردة‪ ،‬ولكن هذا الشيء الذي أمامي شيئًا آخر‪ ،‬إنه أشبه بفأر‬ ‫و أصحابي‪ ،‬كن نظن أنه شيئًا جمي ً‬
‫خدعنا به‬‫كبير على ظهره شعر أسود مرعب‪،‬له فم كبير وربما أسنان أيضًا‪ ،‬بل له رائحٌة كريهة‪،‬ل أدري كيف ُ‬
‫طوال تلك السنوات‪ ،‬فلم آلفه أبدًا‪،‬ولكنها بخبرة المرأة المجربة التي تعرف كيف ُتثير‪ ،‬أذالت مخاوفي‪ ،‬ثم عرف ُ‬
‫ت‬
‫‪:‬كل شئ‪ ،‬أو ما ظننت أنه كل شيء‪ ،‬ولكنها كانت تطلب مني غير اليلج أن أقذف‪ ،‬بالحرى كانت تأمرني قائلة‬
‫‪ُ -‬بول … ُبول‪ُ .....‬بول ‪.‬‬
‫‪:‬وأنا ل أعرف كيف أُبول هناك‪ ،‬وليس لدي ُبول في مثانتي‪ ،‬فكنت أقول لها ذلك فتغضب فتضربني قائلة‬
‫ك راجل ‪.‬‬ ‫ت َما ْ‬‫‪ُ-‬بول‪ُ ،‬بول الُرجال‪ ،‬إن َ‬
‫ي فأرها‬‫ولم أعرف ُبول الرجال هذا إل بعد سنوات كثيرة‪ ،‬عندما جاءتني في الحلم هي ذاتها عارية‪ ،‬وبحلق ف ّ‬
‫‪.‬المتوحش ‪ ،‬وضربتني عندما اشتد بها الشبق‬
‫‪ُ-‬بووووووووول ‪.‬‬
‫فبللت ملبسي بسائل دافئ‪ ،‬له رائحة الللوب الذي كنت أكثر من أكله في تلك اليام‪ ،‬خرج الُبول في لذة و ألم‬
‫ُمدهشين‪ .‬ثم لم أبل في سيدة بالفعل أبدًا‪ ،‬حيث لم تتح لي ُفرصة لذلك‪ ،‬أو أنني كنت خجوًل أمام النساء‪ ،‬ولم‬
‫جرأة تلك المرأة‪ ،‬أو لست أدري ما هي حكايتي بالضبط‪ ،‬كل ما امتحنت به جسدي‪ ،‬كانت‬ ‫تصادفني من هي في ُ‬
‫لمسات أخت صديقي الدافئة البريئة‪ ،‬إذن بعد خمسة وثلثين عامًا هائنزا وجهًا لوجه مع امرأة‪ ،‬ولول مرة في‬
‫حياتي‪ :‬امرأة فعلية مجربة وخبيرة وأنا رجل كبير في السن راشد وبالغ ول خبرة لي في النساء‪ ،‬ول أدري كيف‬
‫جال‪ ،‬كانت‬‫س الواقي؛ انتهاًء بالُبول‪ُ ،‬بول الُر َ‬
‫ت ألم ِقشي ذلك‪ ،‬ولكنها قامت بكل شئ بنفسها‪ ،‬بدءًا من ِلب ِ‬ ‫َفِهَم ْ‬
‫ن ولذٍة ل يوصفان‬ ‫جنو ٍ‬ ‫‪.‬تسحبه من أعماقي ِب ُ‬

‫‪ ....‬نوااااصل‬

‫_________________‬
‫‪ )...‬الجنقو ‪...‬مسامير الرض ‪)..‬بركه ساكن ‪Re:‬‬

‫علي‪ُ ،‬كّليقْة‬
‫خَتار َ‬
‫‪ُ،‬م ْ‬
‫سماعين‬ ‫‪.‬الجلبي ُ‬

‫ثم واصل مختار علي الحكاية‪ ،‬يستطيع الن مختار علي الَمشي لقضاء الحاجة وحده‪ ،‬بل أن يذهب للدكان عند‬
‫ناصية الطريق‪ ،‬ويشتري حجارة البطارية‪ .‬قال‬
‫سماعين ثلث مرات‪ ..‬ال أكبر‪ ...‬ال أكبر‪ ...‬ال أكبر‪...‬ال ‪-‬‬ ‫لما قلنا كدا بسم ال ودخلنا السمسم‪َ ،‬كّبْر الجلبي ُ‬
‫ن َيُوُوُوُو‬
‫صّ‬ ‫خل ُكلُه َ‬ ‫ن ال َ‬
‫‪.‬أكبر‪َ ...‬لّم ْ‬
‫سماعين بخروفين كبيرين أقرنين‪ ،‬كرامة وسلمة وطلب منهم أن يذبحونهما وقتما شاؤا‬ ‫‪.‬ثم جاء الجلبي ُ‬
‫عندما يكون السمسم جيدًا‪ ،‬فتيًا مرصوصًا كالدرر على ساق حمراء شامخة‪ ،‬يجبر الجنقوجوراي على النحناء‬
‫لحصاده‪ ،‬حينها يصبح الحصاد مهرجانًا من الرقص‪ ،‬يغني الجنقو لحنًا واحدًا ثريًا‪ ،‬حلوًا على إيقاع ضربات‬
‫‪:‬المِنجل‪ ،‬خشخشة ربط الُكّليقْة ورميها بالخلف‪ ،‬متعة النجاز‬
‫ُكّليقْة‬
‫ُكّليقْة‬
‫ُكّليقْة‬
‫ُكّليقْة‬
‫جنيهات‪ ،‬وهو ثلثة أضغاف سعرها في‬ ‫حلة‪ ،‬استطاعوا هذا العام أن يرفعوا سعرها إلى ثمانية ُ‬ ‫حلة( و ال ِ‬ ‫تصنع ) ِ‬
‫جل هي جزء من ثروة كبيرة‪ ،‬كل ربطة ُكّليقْة‪ُ ،‬كراع بوليس‪ :‬هي بعض الحلم‬ ‫العام الماضي‪ ،‬كل ضربة ِمْن َ‬
‫حلة انجزت؛ هي ثمانية جنيهات تنضاف إليها ثمانيات أخريات‪ ،‬ثم ثمانيات أخريات‪ ،‬ثم تسلم إلى‬ ‫يتحقق‪ ،‬كل ِ‬
‫‪:‬الخالة؛ بالحلة‬
‫ثمانية ‪ +‬ثمانية ‪ +‬ثمانية ‪ +‬ثمانية ‪ +‬ثمانية ‪ +‬ثمانية ‪ +‬ثمانية ‪ +‬ثمانية ‪ +‬ثمانية ‪ +‬ثمانية ‪ +‬ثمانية ‪ +‬ثمانية‬
‫‪ + +....‬ثمانية ‪ +‬ثمانية‬
‫‪، +‬ث م ا‬
‫م‪ ،‬نيـ ‪ ،+‬م‬
‫ا‪ ،‬ة ‪ +‬ث‬
‫نيـ‪ ،‬ث ث ‪ +‬نية‬
‫ة‪ ،‬م ‪ +‬ة‬
‫نما‪ ،‬ن‪ ..‬ية‪ + + + ....‬نية ‪+‬‬
‫وأحس مختار علي برأسه ثقيلة‪ ،‬بيديه مشلولتين‪ ،‬رجليه؛ أين هي رجله؟‬
‫ل‪ ،‬ينـ‪ ....‬سـ‪ ،‬حب‪ ،،‬من حقل السمسم‪ ،‬حقل الحياة‬ ‫ل قلي ً‬ ‫‪،‬أحس أنه ينسحب‪ ،‬قلي ً‬
‫ب‪ ،‬حتين شافاني‬ ‫‪.-‬أّبكر آدم ما لحظ إُنُه أنا اتأخرت‪ ،‬يمكن إل عندما وقعت في الواطا َت ْ‬

‫أسبوع بأكلمه قضاه مختار علي مريضًا في التاية‪ ،‬وحيدًا‪ ،‬حيث يذهب الجميع إلى العمل يتركونه مع الفئران‪،‬‬
‫‪.‬الزرازير‪ ،‬أولد أبرق‪ ،‬عشوشاي وكلب الخفير‬
‫سّيات‪ ،‬كلمت سماعين الجلبي قلت ليُه أنا يمكن أموت هنا في الخل دا ساكت‪ ،‬وديني ‪-‬‬ ‫وال لّمان تقول جاتني نف ِ‬
‫حلة‪ ،‬عندي أختًا لي هناك متزوجة‪ ،‬وديني ليها‪ ،‬وشالني جاباني هنا‪ ،‬رماني رمية واحدة‪ ،‬بت عمي‪ ،‬أختي‬ ‫ال ِ‬
‫‪.‬سافرت إلى همدائييت‪ ،‬راجلها اشتغل هناك في التهريب‬
‫عين مرة أخرى‪ ،‬كأنما رمي بشئ قذر في واٍد مهمل مهجور‪ ،‬كان قد وعده بأن يحضر‬ ‫سَما ِ‬
‫لم يره الجلبي ُ‬
‫المساعد الطبي أو يأخذه إلى المستشفى المحلي‪ ،‬أو حتى ينادي له الفكي علي ود الزغراد‪ ،‬وهو زول يده لحقة‪،‬‬
‫‪.‬لكنه هرب منه هروبًا‪ ،‬كما وصفه بعض الجنقو فيما بعد‪ :‬هروب جبان‬
‫ولكن بارك ال في الخوات الخوان‪ ،‬علي رأسهم الصافية‪ ،‬وهي غزالة سوداء نحيلة‪ ،‬قل نحلة لنها دائمة‬
‫صنان مختلط ببقية الليلة الماضية وعرق كدح دؤوب‪ ،‬هذه السيدة‬ ‫الحركة‪ ،‬لها رائحة متميزة‪ ،‬عبارة عن ُ‬
‫البسيطة الهزيلة‪ ،‬التي يتبعها لفيف من الجنقو كظل لها‪ ،‬المسالمة‪ ،‬من يحتفي بالخوان ومجالسهم‪ ،‬الطيبة‪ ،‬هي‬
‫حلة خلف‬ ‫ذاتها الحيوان الشرس الضاري في المشروعات الزراعية‪ ،‬الذي‪ ،‬عندما يقتحم حقل السمسم يرمي ال ِ‬
‫‪.‬الحلة خلف الحلة خلف الحلة خلف الحلة خلف الحلة‬
‫وكأنها تعمل بماكينة‪ ،‬ما شاء ال‪ ،‬ينجح الجلبي صاحب المشروع حتمًا إذا نجح في أن يضم الصافية إلى فريق‬
‫عمله‪ ،‬حكى مختار علي‬
‫قالت لي الصافية‬
‫سماعين ود الحايل ‪.‬‬ ‫‪-‬أنا حأدب ليكم ُ‬
‫عُه ‪.‬‬‫خليُه َيْبكي ِبِدمو ُ‬
‫حأ َ‬
‫َ‬
‫جابت لي الممرضة‪ ،‬جابت لي الفكي علي ود الزغراد بنفسه‪ ،‬جابت لي الِقضيم‪ ،‬جابت لي العدسية‪ ،‬جابت لي أم‬
‫ن‪ ،‬قاطعة الشايقي ؛ وهو كما يعرف‬ ‫خْ‬‫عْرَقَها الُمْر‪ ،‬سوت لي المديدة‪ ،‬الفيتريتة الحمراء وعصيدة الُد ُ‬ ‫جْل و ِ‬ ‫جل ِ‬‫َ‬
‫الجميع جعلي‪ ،‬ولكنه ملقب بالشايقي لثار شلوخ في وجهه‬
‫قالوا الصافية دي فيها جنس مرا؟ ‪-‬‬
‫‪.‬وعضّ يده في ألم‪ ،‬ثم أضاف‪ :‬لو كان بتنعرس‪ ،‬و ال أعرسها‬
‫طرح‬‫ضحك الجميع في آن واحد‪ ،‬ولو أن بعضهم يخالفه الرأي‪ ،‬بل يحتفظ في أضابير وعيه برأي عكس ما ُ‬
‫تمامًا‪ ،‬لكنهم ضحكوا‪ ،‬تململ البعض‪ ،‬آثروا الستماع‪ ،‬الكلم عن النساء وفيهن مثل أكل الُموليتة‪ُ ،‬مر‪ ،‬حارق‬
‫ولكنه لذيذ‪ ،‬دائمًا له طعم متجدد‪ ،‬ربما لنه يحرك حنينًا منطويًا في ذواتهم عن أم جميلة ُفقدت في موطن ما‪ ،‬أو‬
‫أخت حنينة لم تنس تمامًا ولكنها مختبئة في ركن غيب الذاكرة بعيدة قريبة في آن واحد‪ ،‬أو بنت استحال‬
‫إنجابها‪ ،‬وربما زوجة‪ ،‬عشيقة‪ ،‬صديقة لم تتبين ملمحها بعد في موطن جاءوا جميعًا منه إلى هنا‪ ،‬ولكن ؛ أيضًا‬
‫للصافية خصوصيتها‪ ،‬هنالك جوانب مظلمة في حياتها‪ ،‬خاصة فيما يتعلق بنشاطها الجسدي‪ ،‬وكل ما يدور في‬
‫خرن في أودية وخيران دافئة‪ ،‬تحت سنطات وسيالت عجفاوات‪،‬‬ ‫هذا الشأن ليس سوى اسطورات صغيرات َتْم ِ‬
‫حُلٌوْفات المكان‪ ،‬أسطورات حالمات وديعات‬ ‫‪.‬وعلى حوافر الثعالب والرانب وال َ‬
‫قال له مختار علي متحديًا‪ ،‬وقد نسي أم تناسى حكايته‬
‫‪-‬إنت لقيتها وين؟‬
‫قال أّبكر آدم‬
‫‪-‬لو ما لقيتها ما بكون سمعت بحكايتها مع َوْد ُفور؟! يا أخوي لو ما ُمتنا؛ شقينا المقابر ‪.‬‬
‫حسنًا‪ ،‬سوف ل نتطرق إلى هذه الحكاية الن‪ ،‬لنها معروفة ومكرورة وقد يتولد لدى البعض بأننا نعرف كل ما‬
‫يحيط بها‪ ،‬وهذا مجانب للحقيقة‪ ،‬فكل شخص في هذا المكان يحتفظ برواية خاصة به عن الصافية وود فور‪،‬‬
‫حكيت من قبل من ِقبل عشرات الشخاص‪ ،‬نساء ورجال وأطفال‪ ،‬وكل حكاية ما كانت تشبه الخرى‪ ،‬وما جاءت‬ ‫ُ‬
‫‪.‬به‪ ،‬ما ُيشبه الندوة في بيت أَداليا َدانيال يوم مريستها؛ كان شيئًا آخر‬
‫الجناح الذي خصتنا به الم من بيتها الكبير المتسع‪ ،‬يقع في آخر صف من القطاطي الملحقة برواكيب صغيرة‬
‫ممتدة في شريط قد يصل طوله مائتين مترًا‪ ،‬وهو موقع شبه مهجور‪ ،‬وربما خاص‪ .‬اكتمل المزاج بالشيشة حيث‬
‫حلين طعم المؤانسة )القعدة( ويكسبن بعض المال‪،‬‬ ‫برع في إعدادها ود أمونة الذي لم يحتمل بقاءنا بدون نساء َي َ‬
‫ولم تعجبه فكرة أننا نكتفي بهذا الوحش ‪ -‬في نظره الصافية‪ ،‬وذكر في أذني اسم ألم ِقشي كلما وجد فرصة‬
‫ت ذلك الصافية‪ ،‬فتحدثت معه‬ ‫لفعل ذلك‪ ،‬لنه ل يعرف عني زهدي في النساء‪ ،‬ظل يلحقني‪ ،‬إلى أن لحظ ْ‬
‫حلة وناسها وعن السجن‪ ،‬وحرمنا من نفحات عطر‬ ‫بأسلوب غليظ‪ ،‬حرمنا من نكاته وملحظاته الجميلة عن ال ِ‬
‫سمها‪ .‬صمت‪ ،‬ثم‪ ،‬خرج‬ ‫ق َيْن ِ‬‫‪.‬را ٍ‬
‫‪.‬قالت لنا الصافية من بين قرقرات الشيشة‪ ،‬وكأنها تمتص العالم كله في نفس واحد من النارجيلة‬
‫حُبوَبِتي الصافية‪ ،‬أنا سموني عليها‪ .‬لّمان جات ِهنا‪ ،‬كان البلد ما فيها غير المرافعين والقرود ‪-‬‬ ‫البلد دي أسستها َ‬
‫ف والجنون‪ ،‬البلد ُكلها غابة ِكِتر ولُلوب وَنَب ْ‬
‫ك‬ ‫حُلٌو ْ‬ ‫‪.‬وال َ‬
‫سجناء يهربون ب)الِفرو( من سجن‬ ‫ت لنا حكايات كثيرة ممتعة‪ ،‬عن المكان قبل عشرات السنين‪ ،‬عن ُ‬ ‫حَك ْ‬
‫َ‬
‫حمرة( بأثيوبيا‪ ،‬عن جنون يسكنون ويتزاوجون مع البشر‬ ‫‪)،‬ال ُ‬
‫‪.‬عن بشر يتحولون إلى حيوانات وغربان‪ ،‬عن أناس يموتون ثم يحيون في شكل بعاعيت‬
‫وعن أناس عندما يموتون ويحيون سبع مرات يتحولون إلى أبي لمبة‪ .‬وعن بشر يأكلون البشر‪ ،‬وعن‪.......‬‬
‫‪.-‬عن‬
‫إلى أن قاطعها صديقي سائ ً‬
‫ل‬
‫شُنو مع ود فور؟ ‪-‬‬ ‫قولي لينا حكايتك ُ‬
‫ت‪ ،‬مد ْ‬
‫ت‬ ‫أنا والحق ُيقال‪ ،‬خفت ولول مرة في حياتي أخشى ردود أفعال ل استطيع أن أتنبأ بها إطلقًا‪ ،‬نهض ْ‬
‫ل عن َمجلسنا‪ ،‬القطية الكبر حجمًا‪،‬‬ ‫ت نحو ُقطيٍة تبعد قلي ً‬‫ي ِمَنا‪ ،‬مش ْ‬
‫ي‪ ،‬دون أن تنظر إلى أ ّ‬ ‫)خرطوش( الشيشة إل ّ‬
‫ن مسكنًا‪ ،‬اختفت‬‫منذ أن غابت الشمس أضاءها ود أمونة مع بقية القطاطي الفارغة‪ ،‬حتى ل يتخذها الشيطا ُ‬
‫سَمْع لها حس‪ ،‬لم استطع أن أتفوه بكلمة‪ ،‬ولو أنني كنت في أشد الحاجة لكي ألومه‪ ،‬وأن أكرر‬ ‫هناك‪ ،‬لم ُي ْ‬
‫‪.‬ملحوظتي عن سلوكه الفظ‪ ،‬وطريقته المباشرة الفجة عند مخاطبة الناس‬
‫‪-‬تعلم الكياسة‪ ،‬تعلم كيف تخاطب الناس ‪.‬‬
‫ت بأعلى صوتي‬ ‫ت‪ ،‬نادي ُ‬
‫ت )الخرطوش( جانبًا‪ ،‬نهض ُ‬ ‫لم اتفوه بكلمة واحدة‪ ،‬وضع ُ‬
‫‪ -‬؟ يا ود أمونة‬
‫وفي لمح البصر‪ ،‬وكأنما كان ينتظر خلف الباب مترقبًا النداء‪ ،‬جاء ووقف أمامي في أدب وهدوء قائ ً‬
‫ل‬
‫‪-‬نعم ؟‬
‫قلت له‬
‫‪-‬أرح‪ ...‬نمشي ‪.‬‬
‫لم َيُقل إلى أين‪ ،‬ولكنه مضى أمامي ومشيت خلفه‪ ،‬كنا نهرول هرولة‪ ،‬دخلنا زقاقًا ضيقًا‪ ،‬أفضى بنا إلى زقاق‬
‫ضيق‪ ،‬عبر صف من الرواكيب والقطاطي‪ ،‬عبرنا شجرتي نيم خلف زريبة‪ ،‬تبيناها من رائحة روث الغنام‬
‫شك( ثم يتلوى بنا زقاق آخر‪ ،‬ليلفظنا خارج بيت الم في طريق رحبة يؤمها‬ ‫والبهائم‪ ،‬تفوح منها رائحة )الُم ٌ‬
‫السكارى والعاشقون ولفيف من خلق ال من الجنقو والجلبة وبعض عساكر الجيش‪ .‬ومضى ود أمونة‪،‬‬
‫ومضيت خلفه صامتا‪ .‬إلى أن دخل بيت مختار علي‪ ،‬حينها قال لي‬
‫إنت عايز بيت مختار علي‪ ،‬مش كدا؟‪-‬‬
‫قلت له‬
‫‪.-‬أيوه‬
‫ولم أسأله كيف عرف ذلك‪ ،‬دخلنا‪ ،‬وجدنا مختار علي وقد خلد إلى النوم‪ ،‬استيقظ بمجرد أن ولجنا الحوش الكبير‬
‫وصاح‬
‫منو ؟ ‪-‬‬
‫قال ود أمونة‬
‫‪ -‬نحنا يا مختار ‪.‬‬
‫‪.‬مرحبا‪ ،‬اتفضلوا ‪-‬‬
‫قال لي ود أمونة مستأذنًا‬
‫شُغل في بيت الم‪ ،‬لو ما كدا كنت قعدت معاكم‪ ،‬الليلة في ضيوف ُكتار في البيت‪ ،،‬نتلقى الصباح ‪-‬‬ ‫‪.‬أنا عندي ُ‬
‫ودون أن ينتظر ردًا مني‪ ،‬ذهب واختفى في الزقة التي حتمًا ستسلمه إلى أزقة‪ ،‬التي سوف تلقي به في بيت‬
‫‪.‬الم‬
‫بيني وبين نفسي كنت قد فسرت هروب ود أمونة مني وادعاءه المشغولية بعودته السريعة إلي بيت الم‪ ،‬كان‬
‫يريد أن يشهد بأم عينيه ماذا سيجري ما بين صاحبي والصافية‪ ،‬سألني مختار علي بصوت نعسان مرهق عن‬
‫صاحبي‪ ،‬قلت له‬
‫‪-‬تركته في بيت أّدي مع الصافية ‪.‬‬
‫قال محتجًا وقد طار النعاس من عينيه‬
‫‪ -‬لييه ؟‬
‫قلت له في برود‬
‫‪ -‬رغبته ‪.‬‬
‫قال وقد جلس‬
‫‪ -‬لكن مع الصافية؟‬
‫قلت مؤكدًا‬
‫‪-‬نعم مع الصافية ‪.‬‬
‫قال لي‬
‫‪-‬؟ ما سمعت قصتها مع ود فور‬
‫قلت ببرود‬
‫‪-‬ولكن قصتها معك كانت مختلفة ‪.‬‬
‫قال محتجًا‬
‫‪-‬الموضوع مختلف‪ ،‬معاي براو‪ ،‬ومع ود فور براو ‪.‬‬
‫قلت له‬
‫‪ -‬هل أنت متأكد من أن قصتها مع ود فور صحيحة؟‬
‫قال مستسلمًا‬
‫في الحقيقة مافي زول متأكد من الحصل بالضبط لود فور‪ ،‬ولكن الناس كلها متأكدة إنو حصل ليُه شئ‪- ،‬‬
‫‪.‬كويس؟ كعب؟ ال يعلم‪ .‬المهم ربنا يستر‬
‫قلت له وقد عاد واضطجع في السرير‬
‫ما يهمني إنو ما حتقتله‪ ،‬لنه ما بيموت بالساهل‪ ،‬وكل شئ غير الموت‪ ،‬هو تجربة مفيدة في حياة الزول‪- ،‬‬
‫‪.‬بتنفعه وما بتضره‪ ،‬كعب الموت بس‬
‫طية مثلما يحب صديقي‪ ،‬أكدت له أنها رغبتي‬ ‫ولكي ينهي النقاش سألني مختار إذا كنت أرغب في النوم داخل الُق ِ‬
‫ي رغبة في النوم‪ ،‬قلت لنفسي لجرجرنه في الكلم‬ ‫أنا أيضًا‪ ،‬وأنني معتاد على ذلك منذ صغري‪ ،‬طالما لم تكن لد ّ‬
‫‪.‬ولو في الموضوعات التي يحبها كبار السن مثله‬
‫‪ -‬ليك كم سنة هنا؟‬
‫انقلب على جنبه اليسر ليقابلني وجهًا لوجه‬
‫حلة( دي بيت واحد كبير مزروب بشوك الكتر ‪-‬‬ ‫وال ما بتذكر أنا جيت هنا متين‪ ،‬أول مرة‪ ،‬لكن من ما كانت )ال ِ‬
‫والسيال المرافعين والثعالب تحوم والشمس في نص السما‪ ،‬كان الجلبة البيزرعوا هنا‪ ،‬محسوبين على أصابع‬
‫اليد الواحدة‪ ،‬والرض المزروعة ذاتها كانت صغيرة وضيقة‪ ،‬كنت أنا وكيل مشروع‪ ،‬أكبر مشروع‪ ،‬ما بشوف‬
‫التاجر الجلبي دا إل يوم الحصاد وبس‪ ،‬كل البوابير والعمال تحت إدارتي أنا‪ ،‬ولكن نحنا ما فينا فايدة‪ ،‬الواحد‬
‫بيلقى العشرة والعشرين في زمن القرش الواحد عندو قيمة‪ ،‬ولكن الواحد مننا يشيل القروش وينكسر في كنابي‬
‫حمرة( في فريق قرش‬ ‫المريسة في )ال ُ‬
‫دي حلوة‬
‫دي ُمّرة‬
‫دي حامضة‬
‫دي فطيرة‬
‫دي خميرة‬
‫دي فتاة‪ ،‬ودي عزباء‪ ،‬دي شرموطة‪ ،‬ودي شريفة‪ .‬لحدي ما يكمل الفي جيبُه‪ ،‬وتاني يبدأ من جديد‪ .‬أكثر من‬
‫أربعين سنة بالصورة دي‪ ،‬يمكن حتى تقوم الساعة دا لو ما انتهى الواحد مننا في شجرة الموت‪ ،‬في فريق‬
‫‪.‬قرش‪ ،‬و تبقى سوء الخاتمة‬
‫قلت له مندهشًا‬
‫‪ -‬شجرة الموت؟ تقصد سدرة المنتهى؟‬
‫حمرة في فريق قرش‪ ،‬لّمان يكبر الجنقوجوراي خلص ويقّرب من ‪-‬‬ ‫ل‪ ،‬دي شجرة الموت دي شجرة كبيرة في ال ُ‬
‫حَبشية صاحبة البيت في الشجرة دي‬ ‫الموت أو يمرض مرض تاني مافي عافية بعده‪ ،‬يمشي وحده أو ترميه ال َ‬
‫حتى يموت‪ ،‬الخوان ما بيقصروا منه يدوُه الفيها النصيب كان طعام‪ ،‬كان ُقُروش‪ ،‬كان ُهُدوم‪ ،‬كان شراب‪،‬كان‬
‫‪ُ.‬تمباك‬
‫قلت له ثائرًا‬
‫‪ -‬لييه ما يرجعوه لهله؟‬
‫مافي زول يقبل يرجع لهله بعد العمر دا كله‪ ،‬يرجع ليهم زول موت؟ عيب وال؟ ‪-‬‬
‫ثم حدثني أن الجنقوجوراي‪ ،‬أي جنقوجوراي‪ ،‬يأتي إلى هنا للعمل موسم واحد فقط ويقول لنفسه إنه بعد هذا‬
‫الموسم سوف يعود لهله‪ ،‬يبسط أمه وأخواته ويتزوج‪ ،‬فيعمل موسمه الول‪ ،‬ولكن أولد الحرام وبنات الحرام‬
‫دائمًا له بالمرصاد‪ ،‬فيشرب قروشه كلها مريسة وعرقي وينوم مع النسوان ويصاحب‪ ،‬ويقول السنة الجاية بعد‬
‫حصاد السمسم مباشرة سوف أعود إلى أهلي‪ ،‬وهكذا‪ ،‬إلى أن يبلغ من العمر عتيًا‪ ،‬فيمرض و يموت‪ ،‬قال‬
‫ضاحكًا‬
‫‪-‬أنا في حياتي ما شفت جنقوجوراي واحد رجع لهله!! إل إذا جاء أهله وساقوه من ِهنا ‪.‬‬
‫‪-‬؟ غريبة‬
‫ثم أضفت وقد طغى على ذهني موضوع الشجرة الغريبة‬
‫‪-‬؟ أنا أتمنى أشوف شجرة الموت دي‬
‫حمرة‪ ،‬جنب بيت الُعمدة َدَوَدْة‪،‬هي مصير الزّينا ديل ‪.‬‬ ‫‪-‬في حي قرش‪ ،‬شجرة مشهورة في ال ُ‬
‫قلت له مشفقًا‬
‫‪ -‬إنت أهلك وين يا مختار؟‬
‫قال في حسرة‬
‫أنا ما عندي أهل‪ ،‬أنا حسي عمري اتجاوز الستين‪ ،‬بعد دا في أم ول أب ول أخوان بيكونوا موجودين؟ وأنا ‪-‬‬
‫‪.‬كنت أصغرواحد في السرة‬
‫‪ -‬أولد أخوانك وأخواتك وين؟‬
‫ل أعرفهم‪ ،‬ول هم يعرفوني‪ .‬وقريتنا ذاتها في دارفور انمسحت بالواطا‪ ،‬ضربتها الحكومة‪ .‬أنا مصيري بس ‪-‬‬
‫شجرة الموت يا ولدي‪ .‬وأنا ما ندمان على شئ‪ ،‬وال عشت زي ما عايز‪ .‬واستمتعت بحياتي في شبابي‪ ،‬وحتى‬
‫ن البلد دي‪ ،‬وشرب مريستها تاني ما بيفارق‬ ‫سَوا ْ‬
‫الن أنا بعمل وبجيب دخل‪ ،‬وأنا مقتنع أنه أي إنسان ضاق ُن ْ‬
‫حمرة‪ ،‬ومن الحواتة حتى‬ ‫عيشتها‪ ،‬وأنا ل خليت نساوين ول مرايس‪ .‬من خشم القربة حتى فريق قرش في ال ُ‬
‫‪.‬الفزرا‪ ،‬بس أنصحك يا ولدي؛ ما تفرط في حياتك‬
‫ت وإنتهي‬ ‫‪.‬قلت بيني وبين نفسي‪ :‬وال فرط ُ‬
‫قلت له‬
‫‪-‬ال يستر‪ ....‬ال يستر ‪.‬‬
‫استيقظنا مبكرين كعادة ناس البلد هنا‪ ،‬ينامون مع الدجاج ويستيقظون معه‪ ،‬ما عدا السكارى والعشاق‪،‬‬
‫ي من ُتمباك وقصدت بيت الم‬ ‫يسهرون إلى ما بعد منتصف الليل‪ ،‬ويستيقظون مبكرًا‪ ،‬تركت له ما تبقى لد ّ‬
‫مباشرة‪ ،‬كانت الشوارع تضج بالمارة القادمين من القرى القريبة في طريقهم إلى سوق الجمعة‪ ،‬البربارات‬
‫مشحونة بالسمسم‪ ،‬القرويون يقتسمون ظهرها الضيق‪ ،‬مّر أمامي لوري‪،‬ثّم كارو لماء الشرب‪ ،‬ناداني الطفل‬
‫الذي يقود الحمار باسمي‪ ،‬عندما التفت إليه معيرَا إياه كل انتباهي خاطبني قائ ً‬
‫ل‬
‫حبك ُأمبارح نجمتو الصافية ‪.‬‬‫‪-‬صا ِ‬
‫قلت مندهشًا‬
‫‪ -‬شنو؟‬
‫قال مكررًا في استمتاع خاص ولذة قوالتية بالغة‬
‫حبك الصافية ُأمبارح ورُتُه نجوم النهار ‪.‬‬‫‪-‬صا ِ‬
‫قلت بسرعة‬
‫وين؟ ‪-‬‬
‫قال وهو يطرق برميل الماء إعلنًا لمائه‬
‫‪-‬أمبارح‪ ،‬بعد ما مشيت خليُتُه‪،‬وسبُتُه إنت وود أمونة في بيت أّدي مع الصافية ‪.‬‬

‫‪.....‬نوااصل‬

‫_________________‬
‫ق الُعَماْل‬
‫سو ْ‬
‫ُ‬

‫افتقدت ود أمونة بمجرد دخولي إلى حوش بيت الم‪ ،‬كان غيابه واضحًا‬
‫قالت لي ألم ِقشي‬
‫‪. -‬ود أمونة قاعد َيعّلْم العروس‬
‫‪ -‬؟ َيعّلْم العروس؟ يعلمها شنو‬
‫حّنان وحلق برضو؟‬ ‫‪ -‬يعلمها الرقيص‪ ،‬إنت ما عارف إنه ود أمونة فنان؟ ورقاص و َ‬
‫هززت رأسي إيجابًا و لكنني كنت أقصد بيني وبين نفسي‪ :‬نفيًا تامًا‬
‫أضافت في شهية‬
‫سّواق البربارا‪ ،‬يمكن سمعت بحمدو ‪.‬‬ ‫‪ -‬بت أبرهيت‪ ،‬حيعرسها محمد عوض َ‬
‫هززت رأسي إيجابًا بما يعني‪ :‬إلى حد ما‬
‫قالت لي ألم ِقشي‬
‫‪ -‬ود أمونة لو ما ال ستر كان حيجي بت ‪.‬‬
‫ضحكت وقلت‬
‫‪-‬وبيعمل عمل البنات‪ .‬ظاهر عليه ما راجل ‪،‬‬
‫قالت وهي تضحك‬
‫مافي )َمَرا( جربتُه حتى الن‪ ،‬ومافي راجل برضو جربُه حسب علمنا و معرفتنا‪ .‬غير حكاية الطباخ الفي ‪-‬‬
‫‪.‬السجن لّمان كان صغير‪ ،‬تاني مافي شئ‪ .‬حسي هو راجل عمره ثمانية وعشرين سنة‪ ،‬ولكن أبوه غير معروف‬
‫قاطعتها‬
‫‪-‬قال أبوه يماني ‪.‬‬
‫شنو؟‬‫‪-‬عشان لوُنُه الصفر وّل ُ‬
‫‪-‬هو قال كدا؛ أمه قالت ليُه ‪.‬‬
‫ي يعجينة دلكة‬ ‫قالت وهي تدلك رجل ّ‬
‫‪-‬أي زول عارف قصة أمه ‪.‬‬
‫حكت له أن أمونة عندما هربت من أسرتها قبل ثمانية وعشرين عامًا‪ ،‬وكانت أسرتها في قرية نائية في الغرب‪،‬‬
‫أن سائق اللوري الذي صادفته في الطريق مارس معها الجنس‪ ،‬وأن المساعد الذي يعمل معه أيضًا مارس معها‬
‫الجنس‪ ،‬وأن الجلبي صاحب العربة أيضًا‪ ،‬وعندما وصلت مدينة القضارف‪ ،‬صاحب الكارو الذي استقلته لحلة‬
‫البنات أيضًا مارس معها الجنس‪ ،‬ثم اليماني صاحب الدكان‪ ،‬النذير شيخ الحلة‪ ،‬ود جبرين صاحب اللوكاندة‬
‫وراجل المرأة التي استضافتها في الحلة‪،‬و الستاذ زكريا الُمعلم بمرحلة الساس‪ ،‬ثم حبلت بود أمونة‪ .‬وهذه‬
‫‪.‬الحكاية أنا سمعتها مباشرة من كلتوم بت فضل وهي أعز صديقات أّمونة‬
‫‪-‬ولكن ود أمونة طلع يشبه منو؟‬
‫وال أنا الجماعة ديلك كلهم ما شفتهم‪ ،‬ولكن لونو دا لون أمه‪ ،‬إنت ما شفت أمه‪ ،‬أمه بيضاء وجميلة زي ‪-‬‬
‫القمر‪ ،‬بالرغم من إنها كبيرة حسي‪ ،‬ولكنها جميلة‬
‫‪ -‬وين هي؟‬
‫شفت أمه الليلة تقول عمرها ثلثين سنة‪ ،‬دلكة ‪-‬‬ ‫ت‪،‬كان ُ‬ ‫متزوجة من عسكري سجون في القضارف‪ ،‬ولدت ليُه ِب ْ‬
‫حّنة ودلل‬
‫خمرة و ِ‬
‫‪.‬و ُ‬
‫ثم أضافت‬
‫‪ -‬يمكن أمه هي الخربتُه؟‬
‫‪-‬كييف؟‬
‫‪.-‬كان ُمدّلع‬
‫‪-‬لكنه قضى معظم حياته في السجن ‪.‬‬
‫برضو في السجن كان ُمدّلع دلعنُه السجينات والمساجين والعساكر‪ ،‬تحت تحت الناس بيقولوا العساكر كانوا ‪-‬‬
‫‪.‬بيستعملوه‬
‫الجو صحٌو والسماء زرقاء وصافية‪ ،‬كنا نجلس تحت الراكوبة الكبيرة أمام القطية‪ ،‬وهي أجمل المكنة للونسة‬
‫‪:‬وشرب القهوة‪ ،‬ول أظن أن أول من ابتكر الراكوبة كان يعني بها شيئًا آخر غير الموانسة‪ ،‬سألتني‬
‫حَبك ‪.‬‬ ‫‪-‬وين صا ِ‬
‫‪-‬مع مختار علي ‪.‬‬
‫حبك دا زول غريب ‪.‬‬ ‫‪-‬صا ِ‬
‫هززت رأسي إيجابًا‬
‫أضافت‬
‫‪-‬يوم حيكتلوه ‪.‬‬
‫‪:‬قلت لها‬
‫‪-‬ل‪ ،‬مافي زول حيكتله‪ ،‬دا ما النوع البيموت مكتول ‪.‬‬
‫‪:‬قالت‬
‫حمرة في فريق قرش ما بياخد عشرة دقايق‪ ،‬شفت العملية العملتها فُيُه الصافية؟ ‪-‬‬ ‫وال في ال ُ‬
‫‪:‬قلت لها‬
‫‪.‬الناس هنا يزيدوا الحكايات‪ ،‬وكل زول بيحكي الشئ البيتخيلُه كواقع ‪-‬‬
‫ثم أخذت تحكي لي القصة كما تظن أنها الحقيقة‪ ،‬وقاطعتها عدة مرات‪ ،‬محاوًل محاصرتها لكشف تناقض قد يبدو‬
‫لي هنا أو هناك في الحكاية‪ ،‬ولكنها مضت في حكيها بثبات وثقة العارف المتأكد‪ ،‬ثقة من شاف‪ ،‬ولو أنها‬
‫خوض في هذا الموضوع‪ ،‬خاصة بعدما‬ ‫وغيرها لم يروا شيئًا‪ ،‬وهذا حسب ادعائي أنا أيضًا‪ ،‬لكنني فضلت عدم ال ُ‬
‫خمرة والعطور الُنسوانية البلدية‪ ،‬كان ناعمًا لمعًا ونسوانيًا أكثر‬ ‫انضم إلينا ود أُمونة‪ ،‬كانت تفوح منه رائحة ال ُ‬
‫شَترا ولم يستطع أن يرقصها إل على الغاني‬ ‫مما رأيته من قبل‪ ،‬قال إنه مستعجل واشتكى من أن العروس َ‬
‫‪.‬الحبشية‬
‫شَغلَنْة ‪-‬‬
‫جهة‪ ،‬وووب علينا من دي َ‬ ‫جهة والرقيص في ِ‬ ‫‪.‬وحتى الغاني الحبشية بال ويامين‪ ،‬الدُلوَكة في ِ‬
‫خاطبني قائ ً‬
‫ل‬
‫ت َمَيِتِيُنُه‬
‫طّلع ْ‬
‫ح الصافية َ‬ ‫حَبك ُأْمَبار ْ‬
‫صا ْ‬
‫‪َ .-‬‬
‫وأخذ يقهقه بالضحك إلى أن سمعنا صوت صديقي يلقي السلم‬
‫شُنو مبسوطين ِكدا يا شباب‬ ‫‪-‬؟ ُ‬
‫استأذن ود أمونة ُمدعيًا أنه مشغول بالعروس‪ .‬تناولنا وجبة الفطار فيما يشبه الصمت وخرجنا إلى سوق‬
‫العمال‪ ،‬حين وصلنا كانت هناك بوادر ثورة على الجلبة في سوق العمال‪ ،‬وبدى لنا أن المر جدير بالمشاهدة‪،‬‬
‫‪.‬فمثل هذه الحوادث نادرًا ما تحدث‪ ،‬تركنا ألم ِقشي في المنزل‬
‫سوق العمال في كل سبت‪ ،‬عند الميدان الكبير الذي يقع جنب المركز الصحي الذي شيدته منظمة عابرة تسمى‬
‫)كرستيان أوت ريتش(‪ ،‬كمقر لرعاية المومة والطفولة‪ ،‬احتلته فيما بعد مؤسسة التأمين الصحي التجارية‬
‫سوق )على‬ ‫جيرات النيم الخمس‪ ،‬يقع ُ‬ ‫شَ‬‫مشردة المهات والطفال‪ ،‬فيعرف الن بميدان التأمين الصحي‪ ،‬تحت ُ‬
‫ال( يؤمه العتالة‪ ،‬الجنقو‪ ،‬البناءون‪ ،‬النجارون والسماسرة‪ ،‬كانت لندروفرات‪ ،‬باربارات‪ ،‬بكاسي ولواري‬
‫سوق الميكانيكية والحدادين‪،‬‬ ‫شواك‪ ،‬حيث ُ‬ ‫سوق‪ُ ،‬قرب موقف ال ُ‬ ‫الجلبة تصطف عند الجانب الجنوبي من ال ُ‬
‫الزيوت والسبيرات‪ .‬التجار الجلبة في جلليبهم الكبيرة‪ ،‬أوجههم المنعمة‪ ،‬يتوسطون حلقات العمال يساومون‪،‬‬
‫يفاصلون‪ ،‬يخادعون‪ ،‬يحاورون‪ ،‬يجادلون‪ ،‬يتاجرون ويسترضون‪ ،‬قالت لي جنقوجورايٌة جميلٌة ُبِنّية‬
‫‪:‬استفسرناها‪ ،‬شرحت لنا ما يحدث‬
‫‪. -‬أول مرة يحدث في البلد دي يتفق الجنقو على سعر واحد‪ ،‬كلهم بدون فرز‬
‫ن ثّمة أمرًا قد تّم ترتيبه وأن اتفاقًا ما قد َوقع بين العاملين‪ ،‬كانت وجوههم السوداء والُبنية‪،‬‬
‫كان واضحًا أ ّ‬
‫الغبشاء والتي يبدو عليها ما تبقى من ليلة المس واضحًا جليًا‪ ،‬تلك الوجوه المرحة المتسامحة غير المبالية‪،‬‬
‫‪:‬تبدو اليوم أكثر جدية وخطورة‪ ،‬تنطق جملة واحدة فقط‬
‫حلة السمسم بتسعة جنيه ‪.‬‬ ‫‪ِ-‬‬
‫يقول التجار بسعر ثمانية‪ ،‬ويشتكون بأن الثمانية التي يعطونها الن مقابل أن يقطع الجنقوجوراي حلة واحدة‬
‫طاق‪ ،‬فكيف التسعة؟‬ ‫من السمسم ل ت ُ‬

‫يعلم الجنقو‪ ،‬ويعلم الجلبة أن السمسم هو صاحب الكلمة الخيرة‪ ،‬وما هذه المساومات و الحجج التي تدور الن‬
‫ل‪ ،‬عندما ارتفعت الشمس في قبة السماء‪ ،‬هبت ريح شمالية حارقة‪ ،‬أرقصت‬ ‫سوى مضيعة لوقت الجلبي‪ ،‬وفع ً‬
‫سمعت أغنيات السمسم موقعة على دلوكة ود أمونة في محاولته البائسة في ترقيص العروس الشتراء‪،‬‬ ‫المكان‪ُ ،‬‬
‫فتفتقت السنابل السمينة ممزقة ثيابًا يريد لها الجلبي أن تبقى إلى حين أن يصلها المنجل‪ ،‬منجل الجنقوجوراي‬
‫الحنين‪ ،‬الشمس الن في برج السمسم بالذات‪ ،‬القمر الذي سوف يطلع عندما تغيب الشمس‪ ،‬بفعل المّد والجزر‪،‬‬
‫هذان الفعلن الشيطانان‪ ،‬سوف يفتقان فساتين السنابل‪ ،‬فيندلق الذهب منها إلى الرض‪ ،‬يلتقطه نمل نشط ل يكل‬
‫ول يمل العمل‪ ،‬فيحتفظ به في صوامع أمينة تحت الرض ليام الشدة‪ ،‬تحرسه َبَركة الملكات الرؤومات‪ ،‬الجنقو‬
‫متأكدون من أنهم سوف يكسبون الرهان‪ ،‬والجلبة أيضًا يعرفون أنهم سوف يخسرون‪ ،‬ولكن بعض الحوار قد‬
‫يفيد‪ ،‬دخل الوسطاء‪ ،‬سماسرة‪ ،‬وكلء مشاريع‪ ،‬داعرات شهيرات‪ ،‬أصحاب لكوندات‪ ،‬سائقو بوابير‪ ،‬تجار الكلم‪،‬‬
‫‪:‬واقترح البعض‬
‫أن يأتوا بعمال من محلية الفشقة المجاورة‪ ،‬عمال مهرة ول يكلفون كثيرًا‪ ،‬و أن يتركوا هؤلء الثائرين‪ ،‬وسوف‬
‫‪.‬يندمون‬
‫‪.‬ضحك الجنقو عندما سمعوا بذلك قائلين لبعضهم البعض‬
‫‪ -‬هه‪ ....‬الفشقة؟ يخلوا سمسم الفشقة لمنو؟‬
‫اقترح الجلبة لنفسهم بصوت مسموع‬
‫‪. -‬نجيب عمال من معسكر اللجئين‬
‫ضحك الجنقو قائلين‬
‫‪-‬؟؟ لجئين‪............‬‬
‫‪.‬أنتوا بتحلموا؟؟ اللجئين في المعسكرات بقوا أغنى من المواطنين‪ ،‬يحمدوا ربنا الخلقهم‬
‫‪.‬وما في لجيء فاضي لقطع السمسم‬
‫اقترح الجنقو لنفسهم بصوت مسموع‬
‫‪.‬أحسن نحن ذاتنا نسيب الشغلة بتاعة السمسم الما نافعة دي‪ ،‬ونشتغل مع شركة التصالت في حفر الكوابل ‪-‬‬
‫قال جنقوجوراي بصوت عاٍل غليظ‬
‫‪-‬أنا لو أشتغل زي ود أمونة‪ ،‬ما بقطع السمسم بثمانية تاني ‪.‬‬
‫قال الجلبة لنفسهم بصوت عاٍل‬
‫عمال من خشم القربة ‪.‬‬ ‫‪-‬حنجيب ُ‬
‫‪.‬قال الجنقو لبعضهم البعض‬
‫طَنَبارة ومدرسين ‪.‬‬ ‫‪-‬إل لو عايزين َ‬
‫ثم هتفت الصافية قائلة‬
‫سَكرة أمبارح‪ ،‬النسوان في انتظاركم يا أولد ‪-‬‬
‫‪.‬أرح يا شباب نمشو‪) ،‬الُقوُقو( قال داير الحلة‪ ،‬أرح نكمل َ‬
‫حلة‪ ،‬وعندما قاصد مباني البنك تحت التشييد‪ ،‬تحدث السمسم سرًا لجيوب‬ ‫وعندما تحرك فوج العمال نحو ال ِ‬
‫الجلبة فقالوا‬
‫‪-‬رضينا بالتسعة‪ ،‬وإن شاء ما تنفعكم وتبقى ليكم بالساحق والماحق والبل المتلحق ‪.‬‬
‫قال الشايقي‬
‫‪-‬نحن قروشكم دي عندنا زي قروش الحرام‪ ،‬نشربها بالنهار نبولها بالليل ‪.‬‬
‫قبل الجنقو ولكن أل يذهبوا اليوم‪ ،‬بل غدًا‪ ،‬لن الُقوُقو إذا اتجه إلى مكان ما‪ ،‬لبد أن يواصل مشواره سيكملون‬
‫‪.‬سكرة المس‪ ،‬فالقوقو يتجه نحو الحلة‬
‫سماعين قالوا إن عليه أن يتأدب‪ ،‬مما أعاد‬ ‫في الصباح الباكر غادروا إلى المشاريع‪ ،‬ما عدا مشروع الجلبي ُ‬
‫العتبار إلي مختار علي‪ ،‬فبكى من الفرح‬
‫حلة سألته‬ ‫ونحن راجعون إلى داخل ال ِ‬
‫‪ -‬شنو حكايتك أمبارح مع الصافية؟‬
‫ً‪:‬قال لي وهو ينظر بعيدا‬
‫‪.-‬حأحكيها ليك بعدين‪ ،‬حتعرف كل شئ‬
‫‪:‬قلت له‬
‫‪ -‬قالوا فعلت بك ‪.‬‬
‫قال مندهشًا‬
‫‪-‬فعلت بي شنو؟‬
‫ل‪ .‬يعني قدر بتاع الدحش ‪-‬‬‫قالوا إنو الصافية عندها )موضوع( زي ِبتاع الرجال‪ ،‬وأكبر شوية‪ُ ،‬نص حمار مث ً‬
‫‪.‬كدا‬
‫قال وهو يبتلع ريقه في ضيق بّين‬
‫حأحكي ليك‪ ،‬الموضوع مختلف تمامًا الناس هنا مغرمين بالساطير‪ ،‬هو موضوع غريب‪ ،‬لكن ما عنده علقة ‪-‬‬
‫‪.‬ببتاع حمار ول بتاع كلب‪ ،‬ول بينة العقل التناسلي‬
‫جلسنا على قهوة في سوق العيش قرب الصيدلية‪ ،‬كان الجنقو يعبرون أمامنا إلى بطن الحلة جماعات جماعات‪،‬‬
‫يتحدثون بأصوات عالية وبلكنات كثيرة مختلفة‪ ،‬يثيرون الغبرة من مشيهم السريع حيث يسحبون أرجلهم سحبًا‬
‫على الرض‪ ،‬يضحكون وهم يحاكون الجلبة‪ ،‬أخذ أصحاب المطاعم يغلقون أماكنهم ونساء الشاي والطعام‬
‫ح( وأن الجنقو ل يقنعهم الن سوى مجلس الشراب‪،‬‬ ‫ح َوَرّب ْ‬
‫سّب ْ‬
‫يفعلن الشئ نفسه لنهن يعرفن أن السوق قد ) َ‬
‫على النساء أن يلحقن بهم في الحلة لكي يبعن لهم العرقي أو يهيئن لهم المفارش فهذه اليام هي أيام الحصاد‬
‫والمحصول هوالجنقوجوراي‪َ ،‬دّينه مضمون ونقده أكثر ضمانًا‪ ،‬بس كيف يدخل البيت‬
‫‪.‬فالنساء يتخاطفونهم من الشوارع‬
‫اعتذرت لنا صاحبة القهوة عن تقديم أي شئ لنا قائلة بوضوح‬
‫الرزق دخل الحلة‪ ،‬وعندي عرقي خايفاه يبور‪ ،‬أخير ألحق أبيع ُكباية ُكبايتين‪ ،‬ول شنو يا أخواني؟ ربنا أجل ‪-‬‬
‫سفرهم الليلة‪ ،‬فرصة‪ ،‬وّل شنو يا أخواني؟‬
‫هززنا رأسينا معًا باليجاب‪ ،‬ونهضنا في وقت واحد من )البنبرين( مظهرين رضاًء تامًا بقرارها‪ ،‬بل عن طريق‬
‫حركات مقصودة وهمهمات طيبة‪ ،‬أكدنا لها أنها تفعل الشئ الكثر صوابًا‪ ،‬ورُبَنا يكون في عونها‪ ،‬تمنينا لها ذلك‬
‫ن( في الراكوبة طالبة منا عندما نغادر أن ندخلهما الحجرة ونغلقها‬ ‫بصدق وإخلص‪ ،‬مما جعلها تترك لنا )الَبَنَبري ِ‬
‫‪.‬بالطبلة‪ ،‬التي تركتها دون إغلق‬
‫سِمح يا أخواني‬ ‫‪-‬؟ َ‬
‫رد عليها بحّنية‬
‫سِمح ‪.‬‬
‫سِمح يا أختي‪َ ..‬‬ ‫‪َ-‬‬
‫قلت لها‬
‫‪-‬شكرًا‬
‫وقالت وهي تنسحب وعلى رأسها قفة المهمات‬
‫‪-‬أنا بيتي جنب بيت الم ‪.‬‬
‫ن كثيرة وتخّيل لكلينا أنها ابتسمت‪ ،‬الشئ الذي أكدته لنفسي أنها لم تبتسم‪،‬‬ ‫ونظرت إلى صاحبي نظرة فيها معا ٍ‬
‫شُنو الُزولة‬
‫ت وهي تترنم بأغنية بنات هابطة‪ ،‬قال لي‪ :‬تقصد ُ‬ ‫رأيت وقع ذلك حزنًا طفيفًا على وجه صاحبي‪ ،‬ذهب ْ‬
‫دي؟‬
‫قلت له دون مبالة‬
‫‪-‬تقصد موضوعك المبارح مع الصافية ‪.‬‬
‫قال‬
‫‪ -‬لبد من أن ود أمونة هو النشر الدعاية دي؟‬
‫سألته‬
‫ت شنو بالضبط؟‪-‬‬ ‫عَمل َ‬
‫إنت َ‬
‫ص الَعروس في ذلك الوقت‪ ،‬بعد ما قام يتوصيلي الي بيت مختار علي‪ ،‬سمعت‬ ‫و أكدت له أن ود أمونة كان ُيَرّق ْ‬
‫شيْة‬
‫حَب ِ‬
‫حُروك يا ُلوَلة ال َ‬‫سَ‬‫‪.‬صوته يغني بـالدلوكة‪ :‬الُلولّية َي ْ‬
‫ل‪ ،‬وهي صفة يتسم بها أيضًا خاصة إذا كان يفكر في‬ ‫وتقريبًا ناس الحلة كلهم كانوا يسمعونه‪ ،‬صمت صمتًا طوي ً‬
‫أمر شائك‪ .‬لم أجد سببًا وجيهًا يمنعه من أن يخبرني بالحقيقة فبيني وبينه دائمًا الصراحة والوضوح‪ .‬وليست‬
‫‪.‬الحواجز والصمت‬
‫مّر أمامنا نفر من ضباط الجيش‪ ،‬يتبخترون في مشيهم كالطواويس‪ ،‬سألنا موظفون من شركة التصالت ما إذا‬
‫كانت )بخيتة( موجودة‪ ،‬قلنا لهم إنها في المنزل‪ .‬فذهبوا نحو الميس‪ ،‬كان صديقي يعرف بعضهم ومن بين هذا‬
‫البعض مدير الشركة‪ ،‬مّر بنا عمال يلبسون أفرولت زرقاء وسوداء وبيضاء عليها بقع من الزيت‪ ،‬تشهد الحلة‬
‫هذه اليام نهضة تنموية ينظر إليها الجميع بعين التفاؤل والتقدير‪ ،‬ويهتم الهالي ويشجعون مظاهرها الخارجية‬
‫وتنظم البنات الغنيات عن المعلمين وضباط المحلية والشرطيين ومهندسي شركة التصالت‪ ،‬وحتى عمال‬
‫‪.‬طلمبة الوقود بشارع همدائييت‬
‫‪:‬سألنا رجل وهو يدخل نصفه في الراكوبة‬
‫‪ -‬بخيتة مشت وين؟‬
‫‪.‬قلت له‪ :‬في البيت‬
‫فنظر إلى صاحبي نظرة فاحصة وقال‪:‬‬
‫جداد في البلد دي مش كدا؟‬ ‫‪ -‬إنتو ُ‬
‫‪.‬قلت له‪ :‬نعم‬
‫نازلين في بيت الم؟‬
‫‪.‬قلت له‪ :‬نعم‬
‫سر صاحبي هذه البتسامة بأنها‬ ‫ابتسم ابتسامة عريضة‪ ،‬أظهرت أسنانًا متفرقة ُبنية بفعل التسوس والصعوط‪ ،‬ف ّ‬
‫سخرية أو الشماتة‪ ،‬وحكى لي ما أسماه كل شئ حدث بينه وبين الصافية‪ ،‬حتى يغلق هذا الباب على‬ ‫نوع من ال ُ‬
‫‪.‬القل من جهتي‬

‫_________________‬
‫‪ )...‬الجنقو ‪...‬مسامير الرض ‪)..‬بركه ساكن ‪Re:‬‬

‫ضيْه َبِعيْد(‬
‫عَو ّ‬
‫سَبَعْه ُيوْم َ‬
‫)َ‬

‫ف‪ ،‬أبوالقدح والقرود والثعالب‪ ،‬وفي كل مكان‬ ‫حُلٌو ْ‬


‫حلة‪ ،‬ليس بها في الماضي سوى المرافعين‪ ،‬ال َ‬ ‫البلد‪ ،‬ويقصد ال ِ‬
‫حلة‬
‫تلقى الجنون‪ ،‬في الكرب وطرف البحر وحتى في باطن ال ِ‬
‫حلة كانت عبارة عن بيت واحد كبير جدًا مزروب بالشوك‪ ،‬بيت طوله حوالى ألف متر‬ ‫ساكنة مع الناس‪ .‬ال ِ‬
‫وعرضه أكثر من ذلك بكثير‪ ،‬ومحروس بالكلب وهو بيت الصافية الحبوبة‪ ،‬في الداخل كان مقسم لبيوت كثيرة‪،‬‬
‫كلها قطاطي من القش والقصب ورواكيب كبيرة من حطب الكتر والدهاسير‪ ،‬وفي المنتصف توجد مطامير الذرة‬
‫حلة‪ ،‬يجدون لنفسهم براحات يبنون فيها قطاطيهم داخل هذا‬ ‫جدد القادمين إلى ال ِ‬ ‫والدخن وخمارات الَكَوْل‪ ،‬كل ال ُ‬
‫ضافون‬‫الحوش الكبير‪ ،‬أما العابرون إلى جهات أثيوبيا وإريتريا‪ ،‬أو الصعيد‪ ،‬الذين أتى بهم الطريق‪ ،‬فإنهم ُيست َ‬
‫جدة الصافية‪ ،‬حيث توجد زاوية الصلة وسبيل للمياه والمستراح؛ وهو عبارة عن حفرة معروشة‬ ‫في ديوان ال َ‬
‫بالحطب القوي والقش تستخدم كمرحاض‪ .‬وقد عبر بهذا الديوان حجاج جاءوا من تشاد‪ ،‬نيجيريا‪ ،‬النيجر‬
‫والكميرون‪ ،‬وحتى مغاربة بيض الوجوه لهم ذقون ولحى طويلة شقراء‪ ،‬استراحوا هنا‪ ،‬وهم يمضون نحو باب‬
‫المندب إلى اليمن ثم إلى مكة‪ ،‬كان بعضهم يقيم لكثر من عام‪ ،‬فيتخذ لنفسه أرضًا‪ ،‬يقوم بفلحتها وزرعها‬
‫‪.‬بالسمسم والدخن‪ ،‬وقد يتزوجون وينجبون الطفال‬
‫منزل واحد كان مركز الدنيا‪ ،‬وامرأة واحدة كانت سمعتها تمل الشرق كله‪ ،‬وقد نقل سيرتها الحجاج إلى بيت ال‬
‫الحرام بمكة‪ ،‬ولّما رجعوا لهلهم‪ ،‬حكوا لهم عنها كذلك‪ ،‬في الحقيقة‪ ،‬ما كانت الصافية الجدة هي مؤسسة هذا‬
‫حمرة‪ ،‬في‬ ‫سللة جد جاء هاربًا من سجن في ال ُ‬ ‫ن في هذا المكان‪ُ ،‬‬ ‫شَ‬ ‫ع ْ‬
‫النزل‪ ،‬ولكنها الشهر بين صافيات كثيرات ِ‬
‫ب وهي نجمة ل تظهر إل في السنوات التي سوف تشهد أحداثًا عظيمة‪ ،‬كما‬ ‫ضَن ْ‬
‫جمة أم َ‬ ‫سنة موسومة بسنة الَن َ‬
‫تعلمون‪ ،‬كان نجمًا كبيرًا تبختر في السماء بذيله الطويل لسبوع كامل‪ ،‬جدها ُأِتِهَم في أثيوبيا بسرقة بيت‬
‫)الِقشي( نفسه‪ ،‬وسيقتلونه بالتأكيد‪ ،‬ضربًا أو جوعًا‪ ،‬المسجونون في ذلك الزمن الغابر‪ ،‬يخرجون في‬
‫طّوفون بالحياء والسواق والمطاعم‪ ،‬يأكلون البقايا ويسألون‬ ‫مجموعات‪ُ ،‬يْربطون على حبل واحد من التيل‪ُ ،‬ي َ‬
‫الناس الطعام والمال‪ ،‬التباكو والصعوط‪ ،‬وهي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الحياة وتجنب الموت جوعًا‪،‬‬
‫سقفًا يقيهم المطر وحر الشمس‪ .‬كان الجد عبد‬ ‫فالسجن ليس مسئوًل عن طعام الناس‪ ،‬يكفي أنه يوفر لهم َ‬
‫سوق همدائييت‪ ،‬وهو سوق يؤمه لفيف من السودانيين للبيع‬ ‫حمرة‪ُ ،‬قرب ُ‬ ‫ق مع بعض أصدقائه في مطعم بال ُ‬ ‫الَراِز ْ‬
‫والشراء‪ ،‬ولنهم يأتون عن طريق همدائييت عابرين نهر سيتيت فسمي بهذا السم‪ ،‬كانوا يتناولون الِزْقِني‬
‫بـالنجيرا‪ ،‬والشطة الدليخ وهي وجبتهم المفضلة في أثيوبيا‪ ،‬عندما رأى توأمه عبد الرّزاق مربوطًا من قدميه‬
‫في حبل من التيل مع عشرين من المساجين‪ ،‬كانت )حالته بالبل( ووجهه أصبح عظامًا من الجوع‪ ،‬تفوح منه‬
‫رائحة كريهة‪ ،‬احتضنا بعضهما البعض إلى أن فّرق بينهما السجان والمسجونون المتعجلون حيث إن زمن‬
‫البحث عن الطعام ل يمكن تضييعه في علقات اجتماعية ل فائدة ُترجى منها‪ ،‬وتكلما بلغة تخص قبيلتهما‪ ،‬ثم‬
‫‪.‬أعطى توأمه طعامًا وماًل ووعدًا صادقًا‬
‫يعرف عبد الرازق عن توأمه أنه خجول وعديم الحيلة‪ ،‬ول يمكن أن يسرق شيئًا مهما صُغر وُأْهِمل‪ ،‬ويعرف‬
‫ل مسؤوًل أو وجيهًا‬ ‫غربة‪ ،‬وهو ل يعرف رج ً‬ ‫أيضًا أن عبد الرّزاق قد يموت بالسجن إذا لم ينجده‪ ،‬الحبشة بلد ُ‬
‫أثيوبيًا يستعين به‪ ،‬وحتى صاحبة البار التي كان دائمًا ما يختلف إليها قالت له عندما حدثها عن محنة أخيه‬
‫‪:‬وتوأمه‬
‫‪-‬ل‪ ،‬القشي حيقتلني ‪.‬‬
‫وهو ليس لديه مال للرشوة‪ ،‬أمامه بديل واحد فقط‪ ،‬ومضى نحوه دون تردد‪ ،‬عليه أن ينقذ توأمه‪ ،‬مهما كلف‬
‫ذلك‪ .‬كان مختار علي يحكي لنا الحكاية كأنما حضر كل حادثة منها أو أنه أحد أبطالها‪ ،‬على الرغم من أنه يؤرخ‬
‫لذلك بين حين وآخر قائ ً‬
‫ل‬
‫دا حصل من أكثر من مية وخمسين سنة ‪.‬‬

‫ل في شمس الصباح؛ لن‬ ‫كنا نسير ببطء عبر الزقة‪ ،‬ل نهدف لمكان بعينه‪ ،‬هي فكرة مختار علي‪ ،‬أن نتمشى قلي ً‬
‫بها فيتامينات مهمة‪ ،‬وأكد لي أنه حتى الثعابين تطلع من جحورها لتأخذ منها قوة النظر‪ ،‬صحته بدت في تحسن‬
‫ل ويضحك لتفه السباب‪ ،‬يتحدث بصوت عاٍل وهو ما ليس من طبيعته في شئ‪ ،‬وجدنا‬ ‫ملحوظ اليوم‪ ،‬كان متفائ ً‬
‫‪:‬نفسينا ندخل زقاق بيت أداليا دانيال‪ ،‬التي فاجأتنا من أعلى صريف بيتها‬
‫جوه‪ ،‬صاحبكم ذاتو قاعد هنا في بيتي‪ ،‬تعالوا أشربوا ليكم مريسة وونسوا ‪-‬‬ ‫يا مختار علي‪ ،‬إنت وصاحبك تعالوا ُ‬
‫‪.‬خشم خشمين‬
‫قبلنا الدعوة الكريمة شاكرين‪ ،‬فالدنيا صباح والمريسة أطيب ما ُيستفتح‪ ،‬به وونسة الصباح هي مصيدة حكايات‬
‫الليلة السابقة‪ ،‬سميتها وصديقي‪:‬جريدة الصباح‪ ،‬فالمريسة تطلق الخيال‪ ،‬الذي بدوره يطلق اللسان‪ ،‬فينفتح‬
‫‪.‬القلب للقلب مباشرة وتهبط ملئكة الحكايات الرائعة في المجالس فتحلو‬
‫جوز‪ ،‬وهو أشهر‬ ‫ج‪ ،‬على َبْنَبٍر آخر‪ ،‬قربه الَع ُ‬‫سي من مذبحة الَعنَ ْ‬‫وجدناه يجلس على َبْنَبٍر كبير‪ ،‬كشيخ أسطوري ُن ِ‬
‫حلة والحلل المجاورة أيضًا‪ ،‬بالحرى‪ ،‬لم ير الساكنون مغنيًا يستخدم ُأم ِْكيِك ْ‬
‫ي‬ ‫ي‪ ،‬في ال ِ‬‫ن يستخدم ُأم ِْكيِك ْ‬
‫مغ ِ‬
‫ل ممتعًا من الغنيات‪ ،‬حيث إنهما الن يتحدثان عن‬ ‫سَمٍع‪ ،‬يبدو أنهما أنهيا فاص ً‬
‫غيره‪ ،‬ولم يسمعوا به مجرد َ‬
‫‪:‬مناسبة أغنية‬

‫سبَعْه يوم‬ ‫َ‬


‫ضّيْه َبَعيْد‬
‫عَو ِ‬
‫َ‬
‫أبو الّلقَني‬
‫‪ُ.‬رَوَداي بقنيص‬

‫فالتقطنا بقية كلم نطق به العجوز‬


‫ش هم أصحابها الحقيقيين‪ ،‬أنا جبتها من قيسان‪ ،‬وسمعتهم يغنوها في قنيص والكرمك‪ ،‬وحتى حي ‪-‬‬ ‫ناس الَكَل ْ‬
‫‪.‬الزهور وفي ياُبوس‪ ،‬وكل حفلت الروصيرص‪ ،‬لكن أنا أول زول يغنيها بُأم ِْكيِك ْ‬
‫ي‬
‫ل في انشراح‬‫التفت إلى صديقي قائ ً‬
‫وين إنت يا أبو الشباب؟ ‪-‬‬
‫ك هو في هستريا‪ ،‬قال لي‬ ‫ك مختار علي وضح َ‬ ‫ت أداليا دانيال‪ ،‬ضح َ‬
‫ك‪ ،‬ضحك ْ‬ ‫ضح َ‬
‫‪-‬إنت الوحيد البتضحك عن معرفة ‪.‬‬
‫قالت أداليا وهي تهّز صدرها الناهد فيما يشبه الرقص‬
‫‪-‬يوم ليك و يومين عليك‪ .‬كلنا عارفين يا أخوي‪ ،‬الدنيا أصلها كدا ‪،‬‬
‫ت بالشطة الخضراء والفول الدكوة‪ ،‬قالت‬ ‫أحضرت أداليا دانيال العسلية والمريسة‪ ،‬أحضرت الم ِفْتِف ْ‬
‫‪-‬عندي ُموليتة ‪.‬‬
‫قال العجوز‬
‫‪-‬أنا أحب الُموليتة ‪.‬‬
‫سألتها‬
‫عندك أُبْنَغاَزي؟‪-‬‬
‫‪.‬قالت وهي تشير بإصبع عليه خاتٌم كبيٌر من الذهب إلى الشطة‬
‫‪-‬فيها‪ ،‬الشطة فيها أبنغازي ‪.‬‬
‫قدمت لنا أداليا الكؤوس الولى بيديها الناعمتين السوداوين‪ ،‬تبدو الحناء على أظافرها رقيقة ساحرة‪ ،‬شهية‬
‫وأكثر سوادا‪ ،‬بمنزلها أيضًا قليل من الجنقو‪ ،‬حيث سافر الجميع في الصباح الباكر لقطع السمسم‪ ،‬كان مختار‬
‫‪.‬علي بين حين وآخر يذكر الناس بانتصاره على إسماعيل الجلبي‬
‫سماعين ود الِكِدك‪ ،‬ما لقى جنقوجوراي واحد يمشي معاُه ‪.‬‬ ‫‪ُ-‬‬
‫‪:‬ودون رد أو تعليق من الحاضرين‪ ،‬أخذ العجور يغني بصوته الشجي‬

‫‪...‬قيسان البعيدة‬
‫‪.‬قيسان البعيدة‪ ،‬عندي ُفوُقو الحبيبة‬
‫‪.‬قيسان البعيدة‪ ،‬عندي ُفوُقو الحبيبة‬
‫ولن كل أغانيه جماعية‪ ،‬يستحيل أداؤها بدون كورس‪ ،‬أخذنا نردد خلفه المقاطع الولى من الغنية‪ ،‬وليست تلك‬
‫مهمة صعبة‪ ،‬حيث إن كل الغاني معروفة لدى الجميع‪ ،‬أنا وصديقي غريبين‪ ،‬ولكن ترديد جملتين لحنيتين‬
‫بالسلم الخماسي‪ ،‬بهما كلمتان من اللغة العربية وخمس كلمات من النقسنا ليس بالمر العسير‪ ،‬ولو أننا قد‬
‫)نشُتر(نشذ عن اللحن و اليقاع أحيانًا‪ ،‬ولكننا نغني خلفة بإصرار وحماس؛ مدتنا به عسلية ومريسة أداليا‬
‫غرباء هنا في الحلة؛ بمحرد أن تنزلك بربارا أو يلقي بك‬ ‫جْد ُ‬
‫دانيال بجمالها ومذاقها الحلو‪ ،‬في الحقيقة ل ُيو َ‬
‫سوق‪ ،‬تصبح أحد أفراد‬ ‫حلة‪ ،‬أو بمكان ما في ال ُ‬‫ص كئيب أو تهبط من ظهر لندروفر أو يرمي بك لوري في ال ِ‬ ‫ب ٌ‬
‫حلة المؤسسين‪ ،‬وتعرف كل شئ عن كل شئ بحمد ال‪ ،‬في ذات اللحظة وذات مكان الوصول‬ ‫‪.‬ال ِ‬
‫ت أداليا دانيال بصدرها المملوء باللبن بصورة رائعة‪ ،‬خلدت في ذهني إلى البد‪ ،‬تبرع جنقوجوراي شاب‬ ‫َرقص ْ‬
‫ش السريع الصعب‪ ،‬بواسطة وعاء بلستيكي ُيستخدم لتقديم المريسة‪،‬‬ ‫من قبائل المابان بالنقسنا بأداء إيقاع الَكَل ْ‬
‫عندما انتهت الغنية‪ ،‬صفقنا جميعًا لنفسنا‪ ،‬حيث كانت الغنية من أداء الجميع‪ ،‬رقصت أداليا دانيال عنا‬
‫بصدرها الناهد الوافر‪ ،‬مما جعلنا نطلب باقي المريسة )البايرة( عندها‪ .‬لن الجنقو الفدادة ذهبوا‪ ،‬وأعطيناها ثمن‬
‫شر لها صديقي في فراغ ما بين النهدين )في ما‬ ‫ح َ‬
‫حّر إرادتنا ووعينا‪ ،‬و َ‬ ‫جردلين من المريسة لم نشربهما‪ِ ،‬ب ُ‬
‫س(‪ ،‬ورقة نقدية كبيرُة‪ ،‬همس لي مختار علي في أذني ونحن ننصرف‬ ‫سَمى بوادي الَكداي ْ‬ ‫ُي ْ‬
‫‪ -‬لو ما عملت ِكدا كان تبيع مريستها الحامضة دي لمنو؟! وعسليتها البايرة؟‬
‫وضعنا سريرينا ُقرب ُقرب في المساء‪ ،‬كان الضوء الباهت يأتينا من داخل الُقطية في شكل عمود خضم‪ ،‬حكى‬
‫‪.‬لي عن أسرة الصافية كما طلبت منه‬
‫حمرة وعلى رأسه‬ ‫الجدة ووالدها عبد الرازق‪ ،‬حدثني أن الجد جاء إلى هنا بعد هروبه العجيب من سجن ال ُ‬
‫شخص في تاريخ الحبشة يهرب بـالِفرو‪ ،‬وربما في إيطاليا ذاتها‪ ،‬لن اليطاليين هم الذين‬ ‫)الِفرو(‪ ،‬وهو أول َ‬
‫شة‪ ،‬وكان ُيستخدم لتأديب الثوار واللصوص‬ ‫حَب َ‬
‫‪.‬جاءوا بالِفرو إلى ال َ‬
‫ف‪ُ ،‬مذكرة إيانا بأن اليوم هو عيد القديس‬ ‫صِري ْ‬
‫شربنا قهوة أعدتها لنا إحدى الجارات وناولتها لنا من على ال َ‬
‫ُيوَهِنس‪ ،‬باركنا لها العيد وأعتذرنا على الُمباركة المتأخرة لننا ما كنا نعلم بأن اليوم هو يوم عيد القديس‬
‫‪ُ.‬يوَهِنس‬
‫قالت لي الجارة‬
‫‪-‬ألم ِقشي تسّلم عليك ‪.‬‬
‫سألتها بسرعة‬
‫وين ألم ِقشي؟ ‪-‬‬
‫قالت وبصوتها احتفالية جذلة‬
‫هي قاعدة معانا هنا‪ ،‬عايز تشوفها؟‪-‬‬
‫وجودنا في بيت مختار علي‪ ،‬حرمنا من حضور الحتفال العظيم الذي أقامته أّدي في منزلها احتفاًء بعيد القديس‬
‫ُيوَهِنس‪ ،‬وحرمنا من وجبة الديوك الحمر والم َباَبا‪ ،‬ولو أنه لم يكن هناك رقص وغناء نسبة لنشغال ود أمونة‬
‫حكي لنا لحقًا كان‬ ‫بتعليم العروس الشتراء‪ ،‬إل أن اليوم كما ُ‬
‫‪-‬خطير ‪.‬‬
‫على حسب تعبير ألم ِقشي‪ ،‬وأشير هنا إلى أن ألم ِقشي هو السم الذي يلحقني في هذه اليام‪ ،‬وأنا وهي متهمان‬
‫بأننا ننوي القيام بخطوة ما كانوا يتوقعونها‪ ،‬يقولون إننا سوف نتزوج في عيد الضحى القادم‪ ،‬وأقل القوال‬
‫حبي لها‪ ،‬مثلها مثل الجميع إل أنا‪ ،‬ل أعرف‬ ‫حبًا شديدًا‪ ،‬وهي أيضًا متأكدة من ُ‬ ‫حبها ُ‬
‫تفاؤًل بعلقتنا هي أنني أ ُ‬
‫ب‪ ،‬كل ما أعرفه أن ألم ِقشي أول من أنهت عذريتي بصورة واضحة وطبيعية وأنها ؛ لحد ما‬ ‫ح ْ‬ ‫شيئًا عن هذا ال ُ‬
‫خوف الذي بيني وبين المرأة؛ والحق ُيقال أيضًا‪ ،‬كنت دائمًا ما أتخيل نفسي بأنني سوف أفشل‬ ‫كسرت حاجز ال ُ‬
‫ن يخفنني‪ ،‬كما أنني كنت ُمْقَتِنَعًا بفكرة غريبة مفادها‪:‬‬ ‫ح لي الفرصة كاملة في ذلك‪ ،‬لذا ك ّ‬ ‫مع النساء حالما ُتَتا ُ‬
‫عّنينًا بقية حياتي‪ ،‬أي سوف أفشل مع جميع النساء‪ .‬ولم تنفع‬ ‫أنني إذا فشلت مع المرأة الولى‪ ،‬سوف أصبح ُ‬
‫حانة التي‬ ‫ل ذكري صاحبة الط ّ‬ ‫الشهادات الهشة التي كنت أستعين بها للدفاع عن رجولتي من حين لخر‪ ،‬مث ً‬
‫شٌة وِمعزة أتيتهما وأصحابي المراهقين‪ ،‬ذكري كلبٍة‬ ‫ح َ‬‫اغتصبتني وأنا طفل‪ ،‬وذكري أخت زميلي‪ ،‬ذكري َد َ‬
‫سعف حول عنقها و اغتصبناها‪ ،‬وأستاذة الجامعة وغيرها من الممارسات غير السوية‬ ‫طبقًا من ال َ‬ ‫ألبسناها َ‬
‫حرفية عالية‪ ،‬بذكاء بالغ‪ ،‬في متعة مدهشة‪ ،‬وجدت نفسي‬ ‫المقرفة‪ ،‬ألم ِقشي هي التي أعادت لي ثقتي بنفسي ِب َ‬
‫أتعامل مع امرأة كاملة طبيعية وإنسانة‪ .‬أتينا الِفْعَل في ليلة واحدة ما ل يقل عن عشر مرات‪ ،‬أو قل الليل كله‬
‫وعند الفجر وقبل وبعد الفطار‪ ،‬أعطيتها أجرها بكرم سخي‪ ،‬ثم لم نفعل مرة أخرى ولو أننا تقابلنا وشربنا‬
‫ب والزواج وغيره وغيره‪ ،‬لم أعرف عنها شيئًا‪ ،‬ولم أفكر فيهما أبدًا‪ ،‬وإذا‬ ‫ح ْ‬‫القهوة معًا وتلمسنا‪ ،‬أما مسألة ال ُ‬
‫ت الَقول‪ ،‬أنا لم أحب في حياتي مطلقًا‪ ،‬وغالبًا ما يصفني أصدقائي بأنني‪ :‬بارد‬ ‫صَدق ُ‬
‫‪َ .‬‬
‫ط بهما‬ ‫حبشية حيث ُيحي ُ‬ ‫حمراء‪ ،‬عيناها كبيرتان بالطريقة ال َ‬ ‫ألم ِقشي سيدة طويلة‪ ،‬لها بشرة ذهبية ناعمة‪ ،‬بل قل َ‬
‫ت المطيرة‪ ،‬فوق ذلك‬ ‫سحرًا خاصًا بساكني المناطق الجبلية والهضاب العالية ذات الُمَناخا ِ‬ ‫ظل ثقيل يضيف إليهما ِ‬
‫لم تكن بالسيدة الفاتنة فتنة ظاهرة صارخة‪،‬على الرغم من أن لها جسٌد شهواني‪ ،‬وإل لصبحت عاملة بار‬
‫حمرة أو ُقْنَدْر أو حتى أديس أبابا ذاتها‪ ،‬ولكن ما يبدو من فتنتها أبعدها‪ ،‬كما تقول دائمًا‪ ،‬عن‬ ‫ناجحة في ال ُ‬
‫علَم‬
‫شِيَع و ُ‬‫ل و مهارًة هنالك‪ ،‬وقادها إلى الراضي السودانية الجديدة‪ ،‬حيث ِ‬ ‫ت المحترفات شك ً‬ ‫سَتا ْ‬
‫منافسة الَباِر ْ‬
‫حبهم للحبشيات وتفضيلهن على نسائهم الوطنيات وسبب ذلك‪ ،‬كما تؤكد ألم ِقشي‬ ‫سودانيين ُ‬ ‫‪:‬عن ال ُ‬
‫حِنّيْة سببه الطهارة برضو‬ ‫حنّية‪ .‬وعدم ال ِ‬
‫عَدْم ال ِ‬
‫طَهارَة و َ‬‫‪.-‬ال َ‬
‫ت للجارة الطيبة‬ ‫قل ُ‬
‫‪-‬قولي للم ِقشي َمبروك عيد القديس ُيوَهِنس‪ ،‬وأنا حأجيها بعد شوية عندكم ‪.‬‬
‫ت الجارُة صوتًا بباطن لسانها‪،‬وشفطت كمية من الهواء بنخريها فيما يعني في هذه النحاء‪ :‬حسنًا‬ ‫‪.‬أصدر ْ‬
‫ب‪،‬‬
‫عَلى الستحمام‪ ،‬وذلك لول مرة تقريبًا يستحم‪ ،‬منذ أكثر من أسبوعين‪ ،‬أي ُمنذ أن ُأصي َ‬ ‫ت مختار عِلي َ‬ ‫ساعد ُ‬
‫حيث ُنصح بعدم القتراب من الماء‪ ،‬حتى لمجرد الوضوء للصلة‪ ،‬عليه بالتيمم‪َ ،‬نصحُه أفراد كثيرون أصيبوا‬
‫‪.‬فيما قبل بـضربة الدم‪ ،‬وهو التصنيف المحلي لمرضه المجهول‬
‫ب عجوز دون‬ ‫عَنَقري ٍ‬
‫عندما فرغنا من الستحمام‪ ،‬وجدناها في انتظارنا خارج الُقطية‪ ،‬في الراكوبة مضجعًة على َ‬
‫ساقيها بصورة استعراضية إيروسية في غاية الغواء‪.‬قالت طالما أنا رافض أن أزورها‪،‬‬ ‫عري َ‬ ‫لحاف‪ُ ،‬تظهر ُ‬
‫عزة َنِف ْ‬
‫س‬ ‫عندَنا ِ‬
‫‪.‬فبادرت هي بالزيارة‪ ،‬ولكنها أكدت أيضا‪ ،‬أنها سوف ل تكرر هذه المحاولة‪ُ :‬كلنا ِ‬
‫ي بأمر ملبسه و نظافته الشخصية‬ ‫عل ْ‬‫خَتار َ‬‫‪.‬تشاغل ُم ْ‬
‫حبتني‪ ،‬ولكن في ظاهر المر أنا الذي أغير عليها‪ ،‬لنني طلبت منها أن تترك العمل‬ ‫سأعترف ُهنا‪ ،‬أن ألم ِقشي أ َ‬
‫س شركة التصالت الجديدة‪ ،‬قلت ُمعلقًا ومحببًا الفكرة‬ ‫‪:‬مع أّدي كفتاة َمبيت‪ ،‬وتعمل طباخة في َمي ِ‬
‫‪-‬عمل شريف ‪.‬‬
‫‪.‬قالت ِبغنج وهي تحاول أن تخفي عري ساقيها بحركة أخرى أكثر إثارة‬
‫‪.-‬عملي مع أّدي عمل شريف‬
‫قلت لها‬
‫‪-‬على القل أنا شايفه غير شريف ‪.‬‬
‫قالت بإصرار‬
‫شُغل َيْعِني‪-‬‬
‫جاْل‪ُ :‬‬‫شُغل‪ ،‬العايز يدفع‪ ،‬وأنا بصراحة ما قاعدة استمتع إطلقًا بالُر َ‬ ‫شايَفاُه عكس ِكَدا َتمامًا‪َ ،‬دا ُ‬ ‫أنا َ‬
‫شُغْل‬
‫‪ُ.‬‬
‫ح َبُيْو( ثم أضافت‬
‫سِر ْ‬
‫ح َ‬
‫سِر ْ‬
‫جِرنة ) َ‬ ‫‪:‬وأكدتها باللغة الِت ْ‬
‫شُنو؟‪-‬‬
‫الَعيب فيُه ُ‬

‫ت فيما بعد‪ ،‬بعد سنوات كثيرة‪ ،‬وذلك بعد أن قرأت كتاب َنْقُد الِفكِر الَيَوِمي لمهدي عامل‪ ،‬أن العيب الذي فيه‬
‫عرف ُ‬
‫تربيتي أنا‪ ،‬القيم الخاصة بي كآخر أقيم في ظرف مختلف ونوع مختلف وثقافة مختلفة‪ ،‬تراني اعترف بأنها‬
‫جنسي معها‪ ،‬ولكنني رغم‬ ‫فتحت لي آفاقًا إنسانية فيما يخص علقتي بالمرأة‪ ،‬وتراني استمتعت تمامًا بالفعل ال ِ‬
‫ع آخر‬‫ذلك أنظر إلى المر كله بميزان الخطأ والصواب‪ ،‬وهذا فضح لرجل انتهازي يسكن في خبايا شخص مد ٍ‬
‫سلوك الشخصي‪ ،‬المسألة‬ ‫وُهَما َأنا‪ ،‬هذه شزوفرينيا أعاني منها كثيرًا‪ ،‬ول أظن أن المر له علقة بالدين أو ال ُ‬
‫معرفة فحسب طالما ُكنا‪ ،‬أنا وهي ُندرك أن الخير والشر و كل الديانات والُكْفر أيضًا من ذات المصدر‪ ،‬وأن العمل‬
‫مقدس‪ .‬ناداني ومختار علي في هدوء‪ ،‬خاطبني قائ ً‬
‫ل‬
‫‪-‬تعال حأحكي ليك موضوع الصافية ‪.‬‬
‫قلت له متعجبًا‬
‫‪-‬إنت ُمش حكيته لي أمبارح ‪.‬‬
‫قال وفي فمه ابتسامة تعبة‬
‫الحكاية القصيتها ليك قطعتها من رأسي‪ ،‬إنت حاصرتني وأنا حاولت أفوتك‪ ،‬تعال يا مختار علي كون شاهدا‪-‬‬
‫على ما أقول‪ ،‬هي حكاية على كل حال ظريفة‪ ،‬ول رأيكم شنو؟‬
‫‪.‬أشرنا برأسينا في وقت واحد إيجابًا وجلسنا على عنقريب وبنبر قربه‬

‫ظ على إثر نداء الصافيِة له‪ ،‬كان قد نام على الُكرسي الذي تركُته عليه‪ ،‬دخل الُقطية الكبيرة‪ ،‬كانت شبه‬ ‫استيَق َ‬
‫سنط مفروشين بلحافين لم يتبين تفاصيلهما‪ ،‬الضاءة‪ ،‬لحد ما جيدة‪،‬‬ ‫خالية من الثاث‪ ،‬عدا سريرين من خشب ال ُ‬
‫ت منه أن يجلس في السرير الخر‪ ،‬جل َ‬
‫س‬ ‫طلب َ‬
‫قالت له‬
‫عايز تعرف حكايتي مع ود ُفور؟‪-‬‬
‫رد عليها بدبلوماسية ليست من طبيعته‬
‫‪-‬لو ما بزعجك الموضوع دا ‪.‬‬
‫ل من الشيشة فتصدر صوتًا بائسًا‬ ‫‪-‬قالت وهي تأخذ نفسًا طوي ً‬
‫‪ُ-‬كوّيس ‪.‬‬
‫ت شغالة في مشروع الزبيدي‪ ،‬تعرف مشروع الزبيدي؟‬ ‫!الخريف الفات كن ُ‬
‫ل من الجنقو‪ ،‬وتستطيع أن‬ ‫وقبل أن تسمع إجابته واصلت الحكاية‪ ،‬كانت هي المرأة الوحيدة بين عشرين رج ً‬
‫‪.‬تتذكر أسماءهم‪ ،‬اليوم‪ ،‬الشهر والساعة‬
‫‪.-‬أنا وود فور كنا ماسكين مقاولة سوا في مشروع الزبيدي‬
‫ت أن ود فور في الونة الخيرة كان يتقرب منها كثيرًا‪ ،‬و دائمًا ما يضع نفسه‬ ‫كانا يعملن في فريق واحد‪ ،‬لحظ ْ‬
‫ت أنه يتعمد اللتصاق بها ومداعبتها‪ ،‬وبغريزة المرأة‪ ،‬تلك الغريزة التي‬ ‫في مجموعة العمل التي تضمها‪ ،‬ولحظ ْ‬
‫ت أنه يرغب فيها كامرأة‪ ،‬وعرفت أنها تريد ذلك ولي مدى‪ ،‬إنها سوف ل ترفضه‪ ،‬إذا طلبها‬ ‫ل ُتخيب‪ ،‬عرف ْ‬
‫للزواج‪ ،‬فهو شاب ونشط ومسئول و الهم أنه كان دائمًا ما يحترمها‪ ،‬فهي ترغب في أن يكون لها أطفاٌل وبيت‬
‫ورجل‪ ،‬وفوق ذلك كله‪ ،‬لها رغباتها التي يجب أن ُتشَبْع‪ ،‬لذا لم تدفعه عنها ولم تستمله إليها‪ ،‬تركته يقوم بالدور‬
‫ل‪ ،‬وهي طريقة تجيد النساء تمريرها للرجل الغبي المتعجل العاشق العمى‪ ،‬وهي صفات لحسن الحظ‪،‬‬ ‫كام ً‬
‫‪.‬يشترك فيها الرجال كلهم‬
‫ت خلي المسألة على ال‬ ‫‪.-‬قلت لنفسي يا ِب ْ‬
‫حيله الصغيرة المسكينة‪ ،‬التي‬‫ت ِ‬
‫طعم‪ ،‬أطلق المبادرة تلو المبادرة تلو المبادرة‪ ،‬إلى أن نفد ْ‬ ‫وبلع المسكين ال ُ‬
‫‪.‬أجادت الصافيُة ادعاء تجاهلها‬
‫‪:‬قال لي‪ ،‬والُدُنيا ليل ولكن القمر أبيض في السما وكل شئ واضح‪ ،‬قال لي ‪-‬‬
‫سو‪ ،‬أنا ما قادر أنوم شايفة القمرة بيضا كيف؟‬ ‫يا الصافية أرحكي معاي للحفيرة َنَوُن ُ‬

‫ب َكوبًا من الماء كان على التربيزة جنبه‪ ،‬قفز على تفاصيل كثيرة كثيرة كثيرة‪ ،‬تحدث عما‬ ‫شِر َ‬
‫تثاءب صديقي‪َ ،‬‬
‫رآه فقط مهمًا‪ ،‬قال‪ :‬إنها أصّرت على أن تحكي تفاصيل تفاصيل‪ ،‬ما حدث بينها وود فور‪ ،‬ربما يكون هو‬
‫الشخص الوحيد في الدنيا الذي يفهمها‪ ،‬إنها لم تحكها لي كان من قبل‪ ،‬ما من أحد طلب منها ذلك‪ ،‬اكتفى‬
‫الجميع بالشاعة‬
‫‪:‬قالت له بألم‬
‫‪. -‬أنا تعبت‪ ،‬تعبت من الحكاية دي‪ ،‬عليك ال اسمعها كلها وما تزهج‬
‫وغرقت في التفاصيل‪ .‬التفاصيل‪ ،‬التفاصيل‪ .‬أكدنا له‪ ،‬أنا و مختار على أنه ليس مطالبا بأن يختصر‪ ،‬فالليل طويل‬
‫خْذ راحتك‬‫‪.‬و نحن ليس لدينا ما نفعله بما يتبقى منه‪ُ ،‬‬
‫قال قالت له‬
‫‪-‬مشينا الحفير‪ ،‬طلعنا فوق الُدوَلة ‪،‬‬
‫عشب الخريف‪ ،‬هي تخاف من الثعابين حصرًا‪ ،‬ول تخاف شيئًا آخر‪،‬‬ ‫كان ذلك المكان هو الوحيد الذي لم ينُم به ُ‬
‫شرْة ُمجرب‪ ،‬وأراها له مربوطًا بصورة محكمة على ذراعه الُيسرى‪ ،‬سويًا مع‬ ‫ع َ‬
‫ن َ‬ ‫ضاِم ْ‬
‫طمأنها بأنه يمتلك َ‬
‫سكينته‪ ،‬فرشا برشًا صغيرًا أتيا به‪ ،‬قالت لي فجأة‪ ،‬وقد عل شهيقها وزفيرها‬ ‫ِ‬
‫‪-‬؟ قام جاري‬
‫قال لها مندهشا‬
‫منو؟‪-‬‬
‫قالت وهي ُتمسك بيده بشفقة‬
‫‪-‬ود فور‪ ،‬قام جاري مني ‪.‬‬
‫لييه؟ ‪-‬‬
‫‪.‬قال محتجًا‬
‫قالت بصوت عميق مخنوق بعبرة ُمّرة‬
‫‪-‬جرى مني أنا‪ ،‬جرى ود فور ‪.‬‬
‫ل وهي تقول‬ ‫ثم هدأت قلي ً‬
‫ت في حالة قريبة من الغيبوبة‪ ،‬ولكنه قام جاري‪ ،‬فجأة جرى زي ‪-‬‬ ‫ت عايزاه‪ ،‬وبدأنا كل شئ‪ ،‬في الحقيقة كن ُ‬ ‫كن َ‬
‫‪.‬المجنون‬
‫أحسست أنها ل تستطيع أن تشرح أكثر من ذلك‪ ،‬من الحسن أل أطالبها أو أجبرها على الحكي‪ ،‬أحسست‬
‫بالشفقة تجاهها‪ ،‬قررت في الحال أن أضاجعها‪ ،‬وذلك لما توصلت إليه من تحليل‪ ،‬متعجل بعض الشئ‪ ،‬وسريع‬
‫‪:‬لحالتها وهو‬
‫أنها تفتقد الرجل في حياتها‪ ،‬الذين يحيطون بها لم يعرفوا المرأة فيها‪ ،‬ما عدا ود فور‪ ،‬ولم ينتبهوا إلى النسانة‬
‫‪.‬البائسة ول يفهمون شيئًا عن حاجاتها الصغيرة الحقيقية‪ .‬باختصار كانوا يعاملونها كرجل في ثوب امرأة ل أكثر‬

‫سَدَها ل ُتطاق‪ ،‬وقالت صراحة في‬ ‫ج َ‬


‫ت لكتشاف الحقيقة‪ ،‬أو ما أسميته بالحقيقة الولى‪ .‬وهي أن رائحة َ‬ ‫صِدم ُ‬
‫ُ‬
‫‪:‬ذلك‬
‫‪-‬معليش‪ ،‬ما كان عندي وقت لنفسي ‪.‬‬
‫شيئًا َتح ْ‬
‫ت‬ ‫وقامت لجلي بمسح جسدها بالماء‪ُ ،‬مستخدمة ُملءة قديمة من ُملءات الم أّدي‪ ،‬كانت ل ترتدي َ‬
‫سرية م ْ‬
‫ن‬ ‫ي ُفوبيا ِ‬
‫ق رؤية ملبس المرأة الداخلية متسخة أو ممزقة‪ ،‬ولد ّ‬ ‫طي ُ‬
‫فستانها‪ ،‬وهذه فضيلة‪ ،‬لنني ل ُأ ِ‬
‫خمرة( في‬ ‫ذلك‪ ،‬فبمجرد رؤيتي لما ذكرت‪ ،‬أصاب بالعجز الجنسي التام‪ ،‬كانت تحتفظ ِبعطر نسائي بلدي الصنع ) ُ‬
‫الُقوُقو‪ ،‬لم تستخدمه من قبل‪ .‬قالت إنها اشترته من بائعة )دللية( متجولة قبل عام‪ ،‬وأخذت تدلك أطرافها به‪،‬‬
‫ق لي إطلقًا‪ ،‬المر ل يحتاج إلى كل هذا المجهود من جانبها لن الفكرة بسيطة‪،‬‬ ‫عطر قوي جدًا‪ ،‬كان تافهًا‪ ،‬لم َير ُ‬
‫‪:‬كما شرحتها لنفسي‬
‫سوف أحاول الجسد إلى أن يستجيب وتصل ذروة نشوتها ثم ينتهي كل شئ‪ .‬ل أكثر ول أقل‪.‬المر في الحقيقة‬
‫ل خيرًا‬ ‫أقرب لمقاولة‪ ،‬وهذا في ظني ما تحتاج إليه الصافية‪ ،‬واحتاج إليه أنا لقنع نفسي بأنني قدمت لها عم ً‬
‫ت هي‬ ‫ح ْ‬
‫ت منه طوال حياتها‪ ،‬وأتمنى أن أكون مخطئًا في هذه الفذلكة‪ ،‬اقتر َ‬ ‫حرم ْ‬ ‫ل ُ‬‫وإنسانيًا كبيرًا بل ونادرًا‪ ،‬فع ً‬
‫ح أيضًا من قبلي بالرفض‪ ،‬الموضوع ل‬ ‫ل‪ ،‬وُقوِبل هذا القترا ُ‬
‫اقتراحًا آخر‪ ،‬وهو أن أتركها تستحم استحمامًا كام ً‬
‫‪.‬يستحق كل هذا التعب‬

‫ت أن يقتحمنا أحد الزبائن‪ ،‬أو يتلصص علينا ود أمونة‪ ،‬أو قل ربما‬


‫ت الباب بصورة جيدة‪ ،‬ربما خاف ْ‬
‫ت‪ ،‬أغلق ْ‬
‫َقاَم ْ‬
‫ت أن يهرب منها كما هرب ود فور من قبل‪ ،‬ولو أنه رفض فكرة قفل الباب‪ ،‬ولكن يبدو أن ذلك حدث‬ ‫خشي ْ‬‫أنها َ‬
‫‪.‬بعد فوات الوان‬
‫ت هي أيضًا اقتراحًا آخر‪ .‬وهو أن تبقى الضاءة كما هي‪ ،‬وافق‬ ‫‪.‬اقترح ْ‬
‫ع لطرحها في ذلك الوقت بالذات‪ ،‬كل ما أرجوه‬
‫ي بسرعة مجموعة من الجراءات لم يكن هناك دا ٍ‬ ‫ت عل ّ‬‫ثم طرح ْ‬
‫‪.‬أن ينتهي هذا الموضوع وبأسرع ما يمكن‬

‫المفاجأة الخيرة‪ ،‬التي لول ُقوة عودي وعزيمتي وصبري على المكروه لكانت القاتلة‪ .‬قال إنه ليس بالسهل أن‬
‫‪.‬يصف لنا ما شاهد‪ ،‬بدى ذلك واضحًا من الطريقة التي أخذ يتحدث بها‬
‫ل يمكن لشخص مثلي أن يتخيل ذلك مجرد تخيل‪ ،‬بل ل يمكن أن يخطر ببال شيطان رجيم‪ ،‬إذا كان للشيطان بال‪،‬‬
‫‪:‬قالت بصوت حزين‬
‫مما ولدوني إلى اليوم‪ ،‬ما قطعت شعرة واحدة منه‪ ،‬قالوا حلقتُه تجيب النحس وسوء الحظ‪ ،‬وبرضو ما لقيت ‪-‬‬
‫شوية‬‫شُغل‪ ،‬بعد دا‪ ،‬حأخلي بالي من نفسي ُ‬ ‫وقت‪ ،‬وقتي كلُه لل ُ‬
‫‪:‬قلت لنفسي‬
‫‪-‬الموضوع ما بيستحق‪ ،‬خلينا نخلص ‪.‬‬
‫كنت مصممًا على أن أجعلها تدخل تجربة جديدة مثيرة في حياتها‪ ،‬تجربة ل ُتنسى‪ ،‬بما يساوي نقطة تحول‪،‬‬
‫‪:‬قالت‬
‫‪-‬قاعدة أنظُفُه وأسرحو بالمشط كل يوم جمعة ‪.‬‬
‫ل‪ ،‬بل مؤذيًا وضارًا جدًا‪ ،‬ثم أقسم وأقسم وقال‬
‫‪:‬حكى لنا بالتفصيل الُمِمل‪ ،‬في الحقيقة ليس ُمِم ً‬
‫ت َمَرَفِعين ْ‪.‬‬
‫‪-‬الصافية انقلب ْ‬
‫قلنا بصوت واحد‬
‫مرفعين؟‪-‬‬
‫‪-‬مرفعين عديل كدا ‪.‬‬
‫سدها وبدأ يداعبها في أذنيها وأنفها الكبير‪ ،‬بدأ الصوف ينمو في جسدها‪،‬‬ ‫ج َ‬
‫عري َ‬ ‫اللحظة التي وضع يده على ُ‬
‫حمار‪ ،‬كان ينمو بصورة مذهلة‪ِ ،‬بسرعة رهيبة‪ ،‬ثم أخذ ْ‬
‫ت‬ ‫صوف ال ِ‬ ‫صوف أسود غليظ خشن وقبيح‪ ،‬تمامًا مثل ُ‬ ‫ُ‬
‫ي‪ ،‬كما لو كانت أسدًا ضاريًا‪،‬‬
‫ت عل ّ‬
‫ت ُتصدر صوتًا غليظًا‪ ،‬ثم انقض ْ‬ ‫ح وجهها تتغير‪ ،‬برزت أنَياُبها‪ ،‬ثم أخذ ْ‬ ‫ملم ُ‬
‫ت من الهرب‪ ،‬عبر الباب المغلق‪،‬‬ ‫ن معدودات‪ .‬ل أدري كيف تمكن ُ‬ ‫وأنا فريسٌة بائسٌة جريحة‪ ،‬حدث كل ذلك في ثوا ٍ‬
‫طّية‪ ،‬خارج‬ ‫ك الصغير‪،‬أو أنني قد اخترقت السياج اختراقًا‪ ،‬ل أدري ولكنني وجدت نفسي خارج الُق ِ‬ ‫شّبا ْ‬
‫أم عبر ال ُ‬
‫جلة كلها‪ ،‬حدث ذلك‬ ‫‪،‬بيت أّدي‪ ،‬خارج ال ِ‬
‫‪.‬في لمح البصر‬
‫خدوشًا في ظهره وإليتيه‪ :‬ضحكنا‬ ‫جلبابه وأراهما ُ‬ ‫‪.‬خلع ُ‬

‫نوااااااااااااااصل‬

‫_________________‬

‫‪ )...‬الجنقو ‪...‬مسامير الرض ‪)..‬بركه ساكن ‪Re:‬‬


‫خرى‬ ‫شَياء ُأ ْ‬
‫شاي‪ ،‬وَأ ْ‬‫ب الِبَنّية‪ُ ،‬بو َ‬
‫‪ُ.‬أغنية الِفّرو‪َ ،‬تيرا ُ‬
‫ح باكر‪ ،‬أرسلت لي ألم ِقشي ود أمونة برسالة شفهية‪ ،‬فهمت منها أنها تريد مقابلتي في بيت أّدي‪:‬‬ ‫ذات صبا ٍ‬
‫‪.‬الن‬
‫المسافة ما بين بيت أّدي ومنزل مختار علي حيث أقيم وصاحبي‪ ،‬قريبة جدًا وبعيدة جدًا‪ ،‬يتوقف المر حسب‬
‫ل أم نهارًا‪ ،‬حيث يمكن استغلل ما يسمونه بباب الجيران لختصار‬ ‫العلقات الجتماعية مع الجيران و الوقت‪ :‬لي ً‬
‫مسافة كيلومتر من الهرولة عبر الزقة والطرق الجانبية‪ ،‬إلي ما ل يتعدى العشرين مترًا‪ ،‬وشخص مثلي غالبًا‬
‫سعاد‪ ،‬تبادلت التحايا وزوجها‪ ،‬ثم عبرت‬ ‫ما تكون علقته جيدة مع الجيران‪ ،‬لذا دخلت منزل أول جارة وهي ُ‬
‫خ عريضة و ابتسامة دائمة‪،‬‬ ‫شلو ٌ‬
‫ت الُبرون‪ ،‬وهي امرأة عجوز طيبة بوجهها ُ‬ ‫عرض المنزل إلى بيت الداية ِب ْ‬
‫ليس لها زوج‪ ،‬ليس لها أطفال‪ ،‬بنت أختها التي تقيم معها‪ ،‬كانت نائمة في تلك اللحظة‪ ،‬تبادلنا التحايا‪ ،‬وعبر‬
‫ت بيتها‪ ،‬لجد نفسي‬ ‫عَبر ْ‬‫ي أن أعبر منزل الدينكاوية الحسناء أداليا دانيال ولم تكن بالمنزل‪َ ،‬‬ ‫باب الشارع كان عل ّ‬
‫‪.‬وجهًا لوجه مع باب ُمجّمع أّدي السكني‬
‫سَبَقِني لبيت أّدي ولكي ل أموت دهشة‪ ،‬قال لي إنه ركب موتر مع الحاج البوليس الذي‬ ‫ت ود أمونة قد َ‬ ‫وجد ُ‬
‫وجده صدفة يمر بطريق منزل مختار علي‪ ،‬وذلك بعد أن أخبرني برسالة ألم ِقشي مباشرة‪ .‬أومأت برأسي أن‬
‫فهمت‪ ،‬بادرتني ألم ِقشس معاتبة‬
‫‪-‬إنت ما سألت مني تاني؟ دا أسبوع كامل ‪.‬‬
‫‪:‬أضاف ود أمونة‪ ،‬بأسلوبه الخاص‬
‫‪. -‬و حات ربي‪ ،‬ألم ِقشي مما نامت َمعاك‪ ،‬تاني رجلها دي ما رفعتها لزول‬
‫قالت ألم ِقشي بصورة مباغتة وهي تنظر في أم عيني‬
‫أنا ما عجبتك ول شنو؟ ‪-‬‬
‫أضاف ود أمونة‬
‫في زول ما بتعجبوا ألم ِقشي؟ ‪-‬‬
‫قالت ألم ِقشي بغنج وهي تحرك صدرها بما يشبه الرقص‬
‫‪-‬مزاج ناس الُمدن صعب يا ود أمونة‪ ،‬ديل متعودين على الَبنات الفي التلفزيون؟ يمكن ‪،‬‬
‫أضاف ود أمونة مخاطبًا ألم ِقشي برقة خبيثة فاجرة‬
‫شُنو؟‪-‬‬
‫خنت ليُه ول ُ‬ ‫ت َما إد ّ‬‫إن ِ‬
‫طاُد ِبه‪ُ ،‬قل ْ‬
‫ت‬ ‫صَ‬‫ادعت ألم ِقشي الخجل‪ ،‬أما أنا فكنت محرجًا من كل شئ‪،‬مع وعيي التام بالشرك الذي ُأ ْ‬
‫‪-‬العفو‪ ،‬العفو‪ ،‬ألم ِقشي جميلة‪ ..‬ونظيفة‪ ..‬كل في الكل ‪.‬‬
‫أضاف ود أمونة‬
‫خنها ليك الليلة وأدِلكها وأبقيها ليك عروس عديل كدا‪ ،‬قصرت معاك؟‪-‬‬ ‫أنا حأد ِ‬
‫قلت له مجام ً‬
‫ل‬
‫‪-‬إنت ما بتقصر‪ ،‬ولو إنها كدا كويسة معاي ‪.‬‬
‫قالت ألم ِقشي‬
‫شُغل مع ناس شركة التصالت ‪.‬‬ ‫‪-‬كويس‪ ،‬عايزاك في موضوع تاني‪ .‬موضوع ال ُ‬
‫شُغل؟‪-‬‬ ‫ت على ال ُ‬ ‫يعني خلص وافق ِ‬
‫قالت دون مبالة وهي تهّز صدرها بتلك الصورة الُمدهشة‬
‫‪-‬قلت أجّرب‪ ،‬يمكن ربنا كاتب لي رزق في مكان تاني ‪.‬‬
‫تعرف ألم ِقشي أن العلقة بيني وبين موظفي شركة التصالت الوافدة حديثًا للمنطقة هي عبرصديقي‪ ،‬تربطه‬
‫ي فكرة أن تعمل ألم ِقشي طباخة في َميس الشركة‪ ،‬إذ إن الموظفين لم‬ ‫علقة شخصية بالمدير‪ ،‬وقد طرح عل ّ‬
‫يحضروا زوجاتهم بعد‪ ،‬في انتظار اكتمال البرج والتوصيلت الرضية‪ ،‬وإحضار الجهزة اللكترونية وغيرها‬
‫من الشياء التي تؤكد استقرار العمل‪ ،‬قلت لها‬
‫‪-‬كويس‪ ،‬حأكلمُه أقول ليه ألم ِقشي وافقت ‪.‬‬
‫طلبا مني أن أشرب معهما قهوة الصباح‪ ،‬إل أنني تعللت بارتباطي بمختار علي وصديقي في البيت‪ ،‬وأننا سوف‬
‫نذهب معًا كما اعتدنا أن نفعل في اليام الخيرة إلى العجوز حيث نحتسي عندها القهوة‪ ،‬وأنا أخرج من المنزل‬
‫سألني ود أمونة إذا ما كنت سأحضر في المساء‪ ،‬أكدت له ذلك‪ ،‬فغمز لي بعينه اليسرى بما يعني ما يعني‪،‬‬
‫ت‪ ،‬أومأت برأسي مباركًا مساعيه وشاكرًا‬ ‫‪.‬ابتسم ُ‬
‫يبدأ صباحي كالعادة بكسل يتسم به العاطلون عن العمل ولديهم مصدر رزق يحول دونهم والموت جوعًا‪ ،‬وليست‬
‫ق( مثلي يبحثون‪ ،‬عن متعة المشاهدة ل‬ ‫طاِلي ْ‬
‫عليهم مسؤوليات أسرية‪ :‬زوجة‪ ،‬أطفال‪ ،‬أم أو أب أو أخوات )َم َ‬
‫شمطاء‪ ،‬تستغل راكوبة بيتها لتقدم الشاي‬ ‫أكثر‪ ،‬لدينا زبونة واحدة فقط نشرب عندها قهوة الصباح‪ ،‬عجوز َ‬
‫والقهوة للعابرين من الجنقو والعمال الخرين‪ ،‬حيث يقع بيتها في أقصى الشرق على طريق همدائييت‪ ،‬حيث‬
‫حلة‪ ،‬أما‬‫يعمل عدد من العمال على تأسيس طلمبة الوقود‪ ،‬ذهبت إليها وحدي إذ أن صديقي فضل )دخول( ال ِ‬
‫مختار علي فلبى دعوة جارة حبشية كريمة طلبت منه أن يشرب معهما وزوجها قهوة الصباح‪ ،‬وكما هو معروف‬
‫ل َيرفض عّينة هذه الدعوة إل شخصٌ أهبل‪ ،‬فالناس يؤمنون هنا أن ل أحد يصنع القهوة بمهارة تفوق مهارة‬
‫الحبشيات‪،‬أعدت لي العجوز قهوة وعليها كمية أكبر من الزنجبيل‪ ،‬وهي علمة أنني من مدينة كسل‪ ،‬بينما أنا‬
‫حلة وبعض أعضاء اللجنة الشعبية‪ ،‬رموا علينا السلم‬ ‫من مدينة القضارف‪ ،‬مّر أمامنا شرطيان‪ ،‬يتبعهما شيخ ال ِ‬
‫ومضوا في عجلة نحو الطلمبة‪ ،‬قالت لي العجوز‬
‫‪-‬أمبارح واحد من عمال الطرمبة ديل طعنوه ‪.‬‬
‫طعنه منو؟ ‪-‬‬
‫قالت وهي تحرك جمرة صغيرة بملعقة السكر‬
‫‪، -‬أولد من المعسكر‬
‫‪.‬معسكر اللجئين القريب دا‪ ،‬كانوا بيلعبوا الُقمار مع بعض واختلفوا‪ ،‬كلهم كانوا سكرانين واقفين َل ْ‬
‫ط‬
‫‪:‬قلت لها‬
‫إن شاء ال ما اتعوق شديد؟‪-‬‬
‫‪:‬قالت بحسرة‬
‫شوية في مستشفى الشجراب‪ ،‬شالوه بلوري عثمان عيسى لخشم القربة لكُنُه مات في السكة ‪-‬‬ ‫‪.‬مات قبل ُ‬
‫ثم أضافت‬
‫‪-‬إنت ذاتك بتعرُفُه ‪.‬‬
‫وأخذت تصفه لي‪ ،‬ولكني‪ ،‬وهي عادة سيئة عندي‪ ،‬عندما يموت شخص أعرفه معرفة غير عميقة‪ ،‬أقصد معرفة‬
‫ل إذا مازال على قيد الحياة‪ ،‬ل‬ ‫عابرة فإنني أنسى ملمحه‪ ،‬بل قد أتذكر أنني قابلته من قبل‪ .‬المر الذي يكون سه ً‬
‫أعرف ماذا وراء ذلك‪ ،‬هل هو خوف من الموت يقبع في ل وعيي و ينشط في صمت‬
‫‪-‬هو واحد من زبايني‪ ،‬أنت شفتو هنا في راكوبتي ذاتها‬
‫‪:‬قلت‬
‫‪-‬؟ الود البرناوي‬
‫‪:‬قالت ضاحكة‬
‫‪.-‬يشبه البرنو‪ ،‬ولكنه ُمّولد‬
‫حلة ليست لهم أجناس‪ .‬ليست لهم قبائل‪ ،‬كلهم ُمولدين‪،‬‬ ‫سكان ال ِ‬‫وشرحت لي أن تسعة وتسعين في المائة من ُ‬
‫أمهاتهم حبشيات بازاريات‪ ،‬بني عامر‪ ،‬حماسينيات‪ ،‬بللويات‪ ،‬أو أي جنس‪ ،‬وآباؤهم في الغالب إما غرابة‪:‬‬
‫شوايقة‬
‫حمران وشكرية أو شلك ونوبة ونوير‪ ،‬وفي ِقلة من ال َ‬ ‫مساليت‪ِ ،‬بللة‪ ،‬زغاوة‪ُ ،‬فور‪ ،‬فلتة‪ ،‬تاما‪ ،‬أو ُ‬
‫والجعليين‪ ،‬وكضاب الزول البقول عندو قبيلة هنا‪ ،‬ول جنس ول خشم بيت‪ ،‬قلت لها متحديًا‬
‫كويس أداليا دانيال؟‪-‬‬
‫‪:‬قالت‬
‫‪-‬أداليا دانيال أمها دينكاوية‪ ،‬أبوها أشولي وراجلها لكويا ‪.‬‬
‫‪:‬قلت‬
‫؟ ‪-‬إن ِ‬
‫ت‬
‫قالت‬
‫حباب من أسرة الكنتباي ذاتها‪ ،‬وأنت‪-‬‬ ‫أنا أمي بازاوية‪ ،‬وأبوي أمو حبشية وأبوه مسلتي وولدي متزوج من ال ُ‬
‫سمحين‪ ،‬وكل الجناس القلتها ليك دي هي مجرد أسماء ولكن في الحقيقة إنمحوا في‬ ‫حباب ديل ناس َ‬ ‫عارف ال ُ‬
‫بعض‪ ،‬بس الواحد فيهم بيتمسك بقبيلة الب‪ ،‬وطبعًا دا كلم ساي‪ ،‬الدم كلُه من الم‪ ،‬والروح من الم‪ ،‬والبو دا‬
‫شنو غير الُموية؟‬ ‫عنده ُ‬
‫خِلطوا‪ ،‬وختمت حديثها بما يعتبر من المسلمات‬ ‫ثم أخذت تعدد لي الشخاص وكيف ُ‬
‫‪-‬أهلنا ديل يموتوا في الحبشيات ‪.‬‬
‫وحكت لي قصة الحاج الذي ألهاه الشيطان عن الّلحاق بركب الحج‪ ،‬حيث تمثل له في شكل فرج أنثى على فرع‬
‫من شجرة للوب شائكة استظل تحتها بمصوع‪ ،‬في طريقه إلى مكة‪ ،‬حيث أخذ الحاج يرمي الُعضو بالحجارة لكي‬
‫ظّل الحاج يرمي الحجارة إلى انتهى‬ ‫ط ولكنه يبقى في مكانه‪ ،‬وهكذا َ‬ ‫سُق ْ‬
‫يسقط في الرض يهتز العضو‪ ،‬ويكاد أن َي َ‬
‫ظ بالحج‬ ‫حَ‬‫جّيْد‪ ،‬ولم ُي ْ‬‫‪.‬موسم الحج ولم يحظ بالعضو ال َ‬
‫‪:‬قلت لها‬
‫الصافية دي شنو؟‪-‬‬
‫جدها مسلتي‪ ،‬أمها من المهرا من جهة الم‪ ،‬فوراوية من جهة الب‪ ،‬وبيتهم فيُه البازاوي والحبابوي‪-‬‬
‫‪.‬والقمراوي و النقريابي‪ ،‬والرباطابي وحتى الحلفاوي والمحسي والدنقلوي‬
‫‪:‬قلت لها‬
‫س البينقلب مرفعين دا شنو؟‪-‬‬ ‫جِن ْ‬
‫كويس ال ِ‬
‫قالت بطمأنينة العالم العارف‬
‫‪-‬الحكاية ُكلها في اللبن ‪.‬‬
‫صبت لي فنجانًا آخر من القهوة وهي تكمل حديثها‬
‫الحكاية ُكلها في اللبن‪ ،‬من جهة الم‪ ،‬وخلط اللبن باللبن ما ُكويس‪ ،‬الواحدة تخلي أطفالها يرضعوا هنا وهناك‪،‬‬
‫غراب‪ ،‬وفيهم البنقلب أسد‬ ‫وهي لفة من بيت لبيت وما عارفة الناس‪ ،‬فيهم تيراب الِبنية البعاتي‪ ،‬وفيهم البنقلب ُ‬
‫شكل‬ ‫حار‪ ،‬والبلد ملنة بالجن‪ ،‬تلقاهم في َ‬ ‫سّ‬
‫أو مرفعين أو برطا برطا‪ ،‬وفيهم البياكل الناس عديل ِكدا‪ ،‬وفيهم ال َ‬
‫ضُعُه‪ ،‬و‬‫جْر‪ ،‬وربنا يكون في الُعون‪ .‬وحتى الُبومة دي لو لقت طفل وحدُه ِبْتَر ِ‬ ‫شَ‬‫سو َ‬ ‫ُنسوان ورجال وحمير وَكَداِي ْ‬
‫حارين‪ .‬اللهم أحفظنا وأحفظ المسلمين‪ ،‬آمين يا رب العالمين‬ ‫سَ‬‫‪.‬ربنا يكرم السامعين‪ :‬دا هو تيراب ال َ‬
‫‪:‬قلت لها‬
‫ش ِكدا؟ أسرة الصافية هي أول أسرة في البلد هنا ‪،‬‬ ‫‪ُ-‬م ْ‬
‫ً‪:‬قالت وقد بدأ عليها الرتباك قليل‬
‫منو القال ليك أسرة الصافية‪ ،‬الصافية السكرانة دي ربيناها نحنا في أسرتنا تربية‪ ،‬أمها ولدتها ورمتها لينا ‪-‬‬
‫هنا وفاتت مافي زول يعلم وين‪ ،‬وأنا السميتها الصافية على جدتي‪ ،‬السرة الكانت هنا‪ ،‬هي أسرتي أنا‪ .‬ثم حك َ‬
‫ت‬
‫سْد‪ ،‬عندما جاء أهلها إلي هذا‬ ‫ح َ‬
‫لي الحكاية الحقيقية وما عداها اعتبرته تشويهًا دافعه سوء الِنّية والجهل و ال َ‬
‫حبار‪ ،‬وأحيانًا‬ ‫ف‪ ،‬أبو القدح‪ ،‬الرانب والصقور وال ُ‬ ‫حُلٌو ْ‬
‫سوى الثعالب‪ ،‬المرافعين القرود‪ ،‬ال َ‬ ‫المكان‪ ،‬لم يكن به ُ‬
‫سّيال وعند‬ ‫يرى الناس بعض الُنمور‪ ،‬كانت هناك غابات كثيفة من شجر الكتر والللوب والهشاب وبعض ال َ‬
‫ط‪ ،‬أما في الَكَرب وعلى شاطئ النهر فالعرديب والتبلدي‪ ،‬ولكن البلد‬ ‫سُن ْ‬
‫الخيران وبرك المياه تنمو أشجار ال ُ‬
‫مشهورة بالجن وأبي لمبة‪ ،‬منذ أن تغرب الشمس يخرج أبو لمبة‪ ،‬كانت أسرتها في طريقها إلي مدينة القضارف‬
‫بعد أداء شعيرة الحج‪ ،‬حيث إنهم قدموا عن طريق اليمن‪ ،‬باب المندب‪ ،‬مصوع‪ ،‬الحبشة ثم إلى هنا‪ ،‬وقد داهمهم‬
‫الخريف في هذا المكان‪ ،‬فأقاموا وبنوا أول منزل‪ ،‬قطع جدها وأبناؤه الشجار‪ ،‬نظفوا الرض وزرعوا محصول‬
‫‪:‬الذرة والدخن والسمسم‪ ،‬قالت‬
‫‪-‬دا قبل أكثر من مية‪ ،‬مية وخمسين سنة ‪.‬‬
‫حكت لها بذلك جدتها عن جدتها عن جدتها‪ ،‬وهكذا‪ ....‬قالت جدنا الكبر اسمو عبد الرازق وله توأم اسمو عبد‬
‫‪:‬الرّزاق‪ ،‬حبوبتي قالت‪ ،‬حبوبتها قالت ليها‬
‫حمرة‬‫كانا يعملن في تجارة الحطب والمحاصيل الزراعية التي ينتجانها‪ ،‬حيث يقومان ببيعها إلى الحبش في ال ُ‬
‫وبحر دار وحتى نواحي ُقندر‪ ،‬قد يسافران ليام تطول‪ ،‬بينما يبقى أبواهما في المنزل مع أختهما الصغيرة وهي‬
‫عمرها ل يتجاوز الَعشر سنوات‪ ،‬في ذلك الوقت‬ ‫التي تسمى الصافية‪ ،‬حكت لها جدة عن جدة عن الصافية‪ ،‬كان ُ‬
‫طوق من الحديد‪ ،‬مربوط بشكل‬ ‫ولكنها تتذكر إلي الن اللحظة التي جاء فيها أخوها عبد الرازق التوم على رأسه ُ‬
‫محكم‪ ،‬عيناه محمرتان وبارزتان إلى الخارج ولسانه خارج فمه مثل لسان الكلب‪ ،‬ورغم ذلك كان صامتًا‪ ،‬فقط‬
‫يصدر صوتًا من صدره مثل نداء البوم‪ ،‬فهب إليه أبوها وأمها وأخوها عبد الرزاق‪ ،‬والذي خرج من السجن قبل‬
‫‪:‬يومين فقط‪ ،‬تذكر إلى الن جملة واحدة وهي‬
‫‪-‬أنا ممكون بالفرو ‪.‬‬
‫وكان جسده كله يتصبب عرقًا‪ ،‬أخذ أبي يقرأ على رأسه أيات من القرآن ولكن عبد الرازق قال له‬
‫‪-‬الُمبرد‪ ،‬الُمبرد يا حاج ‪.‬‬
‫ل أتى أخي عبد الرزاق بالمبرد وقاما بقطع الفرو‪ ،‬وكانت لحظة عجيبة جدًا‬ ‫وفع ً‬
‫‪.-‬كلنا أحسسنا بالراحة‬
‫وكأنما هو ُوِلَد من جديد في تلك اللحظة‪ ،‬ولم يهتم أحد من السرة إطلقًا بالهواء العظيم الذي اندفع من ُدبر‬
‫عُفونة إسهال حبيس بئيس‬ ‫‪.‬أخيها عبد الرازق‪ ،‬في شكل دوي هائٍل مدهشًا سكون هواء الخريف الثقيل‪ ،‬ناثرًا ُ‬
‫‪.‬ثم استفرغ‪ ،‬ثم نام‬
‫أيقظه أبوه في منتصف الليل‪ ،‬حيث أطعم‪ ،‬ثم نام مرة أخرى تاركًا السرة كلها قابعة قرب رأسه ينظرون إليه‬
‫مندهشين‪ ،‬وكان عبد الرزاق بين حين وآخر يردد‬
‫‪-‬أنا السبب‪ ،‬دا كله عشاني أنا ‪.‬‬
‫ولكن أمه كانت تخفف عنه بالقول‬
‫‪-‬في النهاية أخوك‪ ،‬تكررها في قلق ‪.‬‬
‫قالت لي العجوز وهي تحكي باستمتاع وقد نسينا فنجانًا من القهوة يقبع في صمت فتساقط عليه الذباب‪ ،‬قالت‬
‫تحكي‪ :‬كان المساجين في الحبشة وإلى وقت قريب‪ ،‬ل يطعمهم السجن‪ ،‬يربطوهم يشحدوا في السوق والندايات‪،‬‬
‫حمرة مع أصحابه التجار‪ ،‬إذا به يرى توأمه عبد الرزاق‬ ‫ق ال ُ‬‫سو ِ‬ ‫وأثناء ما كان عبد الرازق يتناول طعامًا في ُ‬
‫مربوطًا ضمن عدٍد من المسجونين يسأل الناس طعامًا‪ ،‬كاد أن يقف قلب عبد الرازق من المفاجأة‪ :‬تومي عبد‬
‫‪.‬الرزاق؟‬
‫أطعمه وأعطاه ماًل وقال له بلغة المساليت إنه سوف يأتي إليه يوم الجمعة في السجن‪ ،‬الجمعة التي بعد جمعتين‬
‫كاملتين‪ ،‬يرتدي نفس الملبس التي يرتديها توأمه الن‪ ،‬نفس الحذاء ونفس الطاقية‪ ،‬وسوف يطلب مقابلته‬
‫وهنالك في السجن يتبادلن المواقع‪ ،‬وأضاف‬
‫شفته والفالول سنة كاملة‪-‬‬ ‫‪.‬أنا بعرف بتعامل مع الجماعة ديل كويس‪ ،‬أنا بعرف ليهم‪ ،‬أنا عشت مع ال ِ‬
‫وبالفعل تبادل المواقع في التاريخ المتفق عليه‪ ،‬ولكن في اليوم الثالث بلغ عنه المساجين الذين اكتشفوا الخدعة‬
‫منذ اليوم الول‪ ،‬بالرغم من أن عبد الرازق عبارة عن ُنسخة أخرى من عبد الرزاق‪ ،‬كأنما الول صورة للخر‬
‫في المرآة‪،‬ولكن طبيعة عبد الرازق تختلف بصورة جوهرية عن توأمه‪ ،‬حيث إن عبد الرازق كان يميل لنوع من‬
‫الحياة ل يحبذها أخوه‪ ،‬حيث إنه كثيرًا ما يختفي لشهور كثيرة باحثًا عن المغامرة والمتعة‪ ،‬الخمرة والنساء‪ ،‬مع‬
‫طرق الحباش في أحراش أثيوبيا‪ ،‬كان ملوًل‪ ،‬سريع الغضب وعنيفًا و يتعاطى كل ما حرم ال‪ ،‬ولم يصل‬ ‫ع ال ُ‬
‫طا ْ‬
‫ُق ّ‬
‫أو يصم إل في صغره‪ ،‬عكس عبد الرزاق تمامًا‪ ،‬حيث كان طيبًا مسالمًا‪ ،‬ولو أنه ما كان مياًل للعبادة إل أنه كان‬
‫سِكرات ول حتى الصعوط والسجائر‬ ‫‪.‬ل يتعاطى الُم ْ‬
‫قدر ما قلت أقلد أخوي عبد الرزاق؛ ما ِقدرت خالص خالص ما قدرت‪ ،‬فالطبيعة جبل كما يقول الناس‪ .‬وأخبر ‪-‬‬
‫عنه المسجونون إدارة السجن علهم يجدون وضعًا مميزًا أو على القل يتجنبون المساءلة إذا اكتشف أمره‬
‫السجانون‪ ،‬بأنفسهم‪ .‬فقامت إدارة السجن بضربه ضربًا مبرحًا‪ ،‬ثم خيروه ما بين الخازوق أو الفرو‪ ،‬وكلهما‬
‫ط في رأسه بأقصى درجة ممكنة وقالوا له‬ ‫‪:‬يعني الموت ببطء وألم شديد‪ ،‬فاختار الفرو‪َ ،‬فُرِب َ‬
‫ف‪-‬‬ ‫‪).‬لو ما جبت أخوك خلل نصف ساعة‪ ،‬حتموت‪ ،‬ومفتاح الفرو عندنا هنا في السجن يلل )َقْلِت ْ‬
‫في الثواني الولى من ربط الِفرو‪ ،‬تمنى لو أنه وجد أخاه ليسلمه للسجانين حتى يفكوا من رأسه الفرو‪ ،‬ثم أخذ‬
‫طرقات وهو يجري في كل اتجاه باحثًا عن ل‬ ‫بالفعل يبحث عنه دون تركيزدون خطة‪ ،‬دون أمل‪ ،‬كان يصرخ في ال ُ‬
‫صيب بهلع شديد وحالة من التشتت‪ ،‬ولكنه كان يمضي بعيدًا عن السجن على أية‬ ‫شئ‪ ،‬كان يهتف باسمه‪ ،‬لقد ُأ ِ‬
‫حال‪ ،‬كانوا متأكدين من أنه سيعود‪ ،‬حتمًا سيعود أو يموت‪ ،‬ويعرفون أنه لن يموت بعيدًا عن السجن‪ ،‬يهمهم في‬
‫‪.‬المر الِفرو الذي لبد من إعادته للسجن‪ ،‬جثته سوف يرمون بها في البئر المهجورة عند سفح الجبل‬
‫‪-‬بعد لحظات بقيت أوعى‪ ،‬حسيت بنفسي‪ ،‬وتذكرت كيف الفالول يتعاملوامع الفرو‬
‫ادعى أن الذي يلتف حول رأسه ليس هو الفرو آلة الحديد القاسية المميتة؛ ولكن ثعبان‪ ،‬ثعبان قد يقتله بلدغة‬
‫واحدة وقد يتركه في حاله إذا تعامل معه برفق وكلمه بالحسنى وأقنعه بالمنطق‪ ،‬ولنه يريد أن يحيا ول يرغب‬
‫في الموت ملدوغًا من ُثعبان سام‪ ،‬عليه بسياسة الَنفس الطويل‪ ،‬طولة البال‪ ،‬وأن يربط مهمة أن يخرج من‬
‫ل يتكون من كلمات بسيطة‬ ‫ل بالتجرنة‪ ،‬كان نشيدًا طوي ً‬‫الحدود الحبشية بترضية الثعبان‪ ،‬وأخذ يتلو نشيدًا طوي ً‬
‫‪:‬قليلة‬
‫ل أموت ل أموت‬
‫ل أموت ل أموت‬
‫ل أموت ل أموت‬
‫ل أموت ل أموت‬
‫سوف أحيا‬
‫سوف أحيا‬
‫سوف أحيا‬
‫‪.‬ويستمر النشيد في كلمتين هما سوف أحيا‪ ،‬ولن ينتهي إلى أن يطلق الثعبان رأسه‬
‫واتجه نحو الحدود السودانية‪ ،‬مهروًل منشدًا في اتجاه الغرب متجنبًا طرق المشاة‪ ،‬السيارات‪ ،‬الحمارين‪ ،‬كل‬
‫ل جنوبًا‪ ،‬عبر غابة الطلح الصغيرة الواقعة على أرض حجرية‬ ‫السكك المطروقة إلى همدائييت‪ ،‬اتجه جنوبًا‪ ،‬قلي ً‬
‫صلدة حمراء‪ ،‬بها خوران وعران وبعض شجيرات الكتر الشوكية‪ ،‬تنبت ما بين هنا وهناك‪ ،‬يعرف هذا المكان‬
‫جيدًا‪ ،‬اشترى منه قبل عامين مائة قنطار من الصمغ العربي‪ ،‬مقابل عشر جوالت من السمسم الحمر النادر من‬
‫برهاني ِكداني الحبشي الممسوخ كما يحب أن يسميه‪ ،‬وهو أحد أكبر الَفالول في نواحي خور الحمرة وغابة‬
‫ل واحدًا منه ول يفهم في‬ ‫زهانة الكثر وعورة ورهبة‪ ،‬اشترى منه الصمغ على علمه التام أنه ل يمتلك ول رط ً‬
‫طلحة والِكترة‪ ،‬لكن ليس بإمكان المزارعين‬ ‫ق الصمغ ول لقيطه‪ ،‬وللمبالغة يقولون عنه إنه ل يفرق بين ال َ‬ ‫ط ْ‬
‫َ‬
‫الفقراء البائسين أن يبيعوا صمغهم إل من خلله هو فقط‪ ،‬وبالسعر الذي يضعه‪ ،‬وكان غالبًا ل يظلمهم ودائمًا ما‬
‫طرق واللصوص الخرين‪ ،‬إذا التقى به هنا سوف يساعده بدون شك في التخلص من الفرو‪،‬‬ ‫يحميهم من ُقطاع ال ُ‬
‫تبدو الشمس أمامه كبيرة حمراء مثل الدم تغيب الن‪ ،‬يمضي نحوها‪ ،‬يعرف أنهم أطلقوه في هذا الوقت بالذات‬
‫ليصعبوا أمامه خيارات النجاة‪ ،‬حيث إن الليل هنا عدو اللصوص أيضًا‪ ،‬في ذلك المغرب التقى بفالول وشياطين‪،‬‬
‫‪.‬فروا منه‪ .‬وقبل أن يكتمل الغروب استطاعت ساقه أن تسلمه إلى البيت‬

‫طة ِنكاية‬
‫شرُمو َ‬
‫ل عند العجوز‪ ،‬سألها عن فتى باسمه ولقبه واسم أمه مصحوبًا بكلمة ال َ‬ ‫طيان‪،‬توقفا قلي ً‬
‫شَر ِ‬
‫عاد ال َ‬
‫‪:‬وغضبا عليه‪ ،‬قالت لهما‬
‫‪-‬مشى زهانة‪ ،‬معزوم مع أصحابه كلهم عيد القديس ُيوَهِنس ‪.‬‬

‫نواصل‬

‫_________________‬
‫‪ )...‬الجنقو ‪...‬مسامير الرض ‪)..‬بركه ساكن ‪Re:‬‬
‫ي َوَكَرمل‬
‫ضوع ٌ‬
‫‪.‬حواٌر َمو ُ‬

‫أكّد لي أن مشروع الصافية بالنسبة إليه لم ينته بعد‪ ،‬وأنه قرر أن يخوض المعركة إلى آخر طلقة‪ ،‬ولم يكن‬
‫صحبة‪ ،‬القراءة المشتركة‪ ،‬السفر‪ ،‬الفشل‪،‬‬ ‫تصريحه هذا غريبًا‪ ،‬فأنا أعرفه فيما يزيد عن الثلثين عامًا من ال ُ‬
‫الحباط‪ ،‬النجاحات الكبيرة‪ ،‬العمل والعطالة‪ ،‬سيكون تصريحه غريبًا إذا قال لي إنه تنازل عما سّماه بمشروع‬
‫‪.‬الصافية أو خاف‪،‬قال بثقة كبيرة‬
‫‪: -‬أنا بحلل وضع الصافية بالطريقة دي‬
‫جنسيًا‪ ،‬ينمو الصوف في جسها كله‪ ،‬تطول أظافرها‪ ،‬وأذنيها‪ ،‬تتحول ملمح وجهها إلي ما‬ ‫امرأة عندما ُتثار ِ‬
‫ُيشبه ذئب كبير‪ ،‬أسٍد أو حتى قرد‪ ،‬فتهاجم العشيق‪ ،‬فيهرب‪،‬وهي نفسها ل تكون واعية بحقيقة ما يجري لها‪ .‬ثم‬
‫طرح سؤاًل‪ :‬الزول لو انتظر للنهاية حيحصل ليُه شنو؟‬
‫دعونا نفكر في هذا الموضوع بجدية‪ ،‬دعونا نفكر كيف نتعامل معها‪ ،‬يجب أل نتركها هكذا تعاني وحدها هذه‬
‫شركاء على القل في النسانية‬ ‫الزمة النسانية الفريدة‪ ،‬نحن ُ‬
‫نحن بشر‪ ،‬يعني‪ ،‬هنالك مسألة تخص الفرد‪ ،‬تخص الجميع‪ ،‬وما يخص الجميع يخص الفرد‪ ،‬مسألة مصير واحد‪،‬‬
‫مآل واحد‪ ،‬ثقب واحد يجب أن نعبر به جميعًا نحو الحياة‪ ،‬أن يعثر أحدنا فيه‪ ،‬يعني أل يمر الخرون‪ ،‬وأخذ يهذي‬
‫‪.‬في كلم أعرف أنه يجيده والسوأ أنه يؤمن به والسوأ أكثر أنه سيفعله‬
‫قدمت له نصيحة ل تفيده‪ ،‬وقد تكون طوق نجاة لغيره‬
‫‪-‬أتمنى أنك ما ترمي بنفسك في التهلكة ‪.‬‬
‫‪:‬قال بقلق‬
‫‪-‬تقصد ما أتطفل ‪.‬‬
‫‪:‬قلت ضاحكًا‬
‫‪-‬أيوه ‪.‬‬
‫‪:‬قال‬
‫حلة( ُمش نوع من التطفل؟! عندنا هنا شنو‪ ،‬غير ناس مطرودين من وزارة الصحة للصالح‬ ‫وجودنا هنا في )ال ِ‬
‫العام‪ ،‬كل يوم متطفلين على بلد من بلد ال‪ ،‬وناس من ناس ال؟‬
‫فهمت أنه يعني فيما يعني أننا طالما تطفلنا على المكان‪ ،‬فنحن أيضًا تطفلنا على النسان‪ ،‬والمر سّيان‪ .‬كان‬
‫ش‪ ،‬وهذا الثر وهذه الدهشة‪ ،‬ل‬ ‫دائمًا ما يكرر القول إنه يجب أن َيَتُرك أثرًا واضحًا‪ ،‬أينما يذهب‪ ،‬وأن ُيْدِه ْ‬
‫يتأتيان ما لم يفعل ما ل يستطيع فعله غيره وهم العامة والخاصة معًا‪ ،‬ويختصر ذلك بالقول‬
‫‪.-‬اركب الصعب‬
‫أينما حللنا‪ ،‬كان يبحث عن الصعب والصعب فقط‪ ،‬يبحث عن الغرباء في الناس‪ ،‬في المجتمع‪ ،‬في المكان في كل‬
‫شئ‪ ،‬كان يتصيد السؤال ول يخشى التهلكة‪ ،‬بل يرمي فيها نفسه رميًا‪ ،‬قلت له‬
‫‪-‬على العمل في ميس الشركة‪ .‬إلم ِقشي وافقت‬
‫ً‪:‬قال مبتسما‬
‫‪-‬نسوقها للشركة معانا ‪.‬‬
‫أكلنا طعامًا طبخه هو ومختار علي من اللوبيا البيضاء والفرندو بالشرموط‪ ،‬اشترينا إنجيرا من بيت الم‪ ،‬كان‬
‫‪،‬مختار علي دائمًا ما يحتفظ بمخزون من الدليخ في ُقطيته‬
‫حضرت ألم ِقشي‪ ،‬وصنعت لنا القهوة بالزنجبيل والهبهان‪ ،‬ذهبنا الثلثة إلى مقر الشركة جوار زريبة‬
‫ل قصيرًا‬ ‫المحاصيل‪ ،‬حيث وجدنا العمال مجتهدين في بناء المؤسسة‪ ،‬لكننا استطعنا أن نلتقي بالمدير‪ ،‬وكان رج ً‬
‫نحيفًا مبتسمًا قليل الكلم مرحابًا مضيافًا أنيقًا‪ ،‬بعينيه حول يسير‪ ،‬شكرنا كثيرًا‪ ،‬اعتبر قدومنا بألم ِقشي لكي‬
‫ل إنسانيًا كبيرًا‪ ،‬بركة من ال ومساهمة في نجاح الشركة‬ ‫تعمل معهم في الميس‪ ،‬في هذا الوقت بالذات‪ ،‬عم ً‬
‫أيضًا‬
‫‪-‬نحن نحتاج لمرأة نثق بها لكي تعمل معنا‪ ،‬امرأة نظيفة تحمل عبء بطوننا‬
‫و أكد أن العمل قدىعزلهم عن المجتمع‬
‫‪-‬لول وجودكم أنتم في الحلة‪ ،‬ما عارف كان نحنا نعمل شنو ‪.‬‬
‫ولكني أحسست بمسحة غبشاء من الحباط تعتري وجهه وهو يرحب بألم ِقشي ويكيل لنا ولها الشكر‪ ،‬قالت ألم‬
‫‪ِ:‬قشي فيما بعد‬
‫‪-‬كانوا عايزين بت صغيرة في العمر‪ ،‬على القل أجمل وأخف مني ‪.‬‬
‫أضافت‬
‫‪-‬حيقتنعوا إُنُه أنا أجمل مرا في الدنيا ‪.‬‬
‫‪:‬قلت لصديقي‬
‫ربما كان صاحبك عايز ملكة جمال في مكان في طرف الدنيا تحيط به الغابات والخيران الموسمية ومن سكانه ‪-‬‬
‫ل من المطاريد‬ ‫‪.‬الصليين القرود‪ ،‬هذا المكان البعيد‪ ،‬الرض المهمشة النشأت أص ً‬
‫‪.‬تركنا ألم ِقشي هناك ترتب أمر وظيفتها الجديدة وعدنا أدراجنا إلى السوق‬
‫عّمال البنك يعملون بجد ونشاط‪ ،‬سيدرك البنك الموسم الزراعي القادم‪،‬‬ ‫الساعة تشير إلى منتصف النهار‪ُ ،‬‬
‫سلطة وعلقات النتاج في المنطقة لمصلحة محدودي الدخل‪،‬‬ ‫وُيشاع أن هذا البنك سيغير خارطة الثروة وال ُ‬
‫صغار المزارعين والفقراء‪ ،‬وسوف يقدم قروضًا وسلفيات إسلمية غير ربوية لكل منتج ومزارع‪ ،‬وقد اجتهد‬
‫البعض مفسرين كلمة منتج‪ ،‬بأنه سوف ل ينسى أحدًا ويشمل ذلك فيما يشمل الندايات الكبيرة‪ ،‬تجارة الشنطة‬
‫صِغيٍر على شاطئ النهر‪ ،‬كذلك الذي يوجد على الضفة‬ ‫وبائعات عرقي البلح والفحامة‪ ،‬وفكر ود أمونة في َباٍر َ‬
‫ل على قرية همدائييت‪ ،‬يرتاده أصحاب المزاج والملماتية ما بعد منتصف‬ ‫حمرة‪ ،‬مط ً‬ ‫الشرقية من نهر سيتيت بال ُ‬
‫النهار‪ ،‬حيث يعبرون النهر سباحة‪ ،‬بالرغم من أنه يوجد داخل حدود دولة أخرى وهي أثيوبيا إل أنه ليس‬
‫سلطات الثيوبية ل تسأل عن شئ‪،‬‬ ‫لحدهم جواز أو بطاقة ول حتى ورقة تحمل اسمه‪ ،‬من جهة أخرى فإن ال ُ‬
‫سوف ُينشئ ود أمونة َبارًا يستقطب هؤلء الفارين إلي الكيف العابرين النهار وسوف ل يخاطرون بحياتهم‬
‫‪.‬غرقًا‬
‫ويبدو أن فكرة التمويل لم تكن إشاعة‪ ،‬ولكن المحاضر الذي أوفده البنك يوم جمعة ل ُينسى قال كل ذلك‪ ،‬أو لم‬
‫صل لذلك بآيات وأحاديث وخطب‬ ‫سَلم والمبايعة والمشاركة‪ ،‬وأ ّ‬ ‫يقله‪ ،‬ولكن المؤكد أنه تحدث باستفاضة عن ال َ‬
‫وشهادات فقهاء وفتاوى وذكر فيما ذكر اسم عالم غامض لم يسمع به أحد في القرية وهو القرضاوي ربما‬
‫إشتق إسمه من قرض‪ :‬من يدري‪ .‬لم يفهم العامة الشئ القليل من خطبته العصماء‪ ،‬ولكنهم فهموا المهم والذي‬
‫‪:‬يخصهم وهو‬
‫سنة ال ورسوله‬ ‫‪.‬أن هناك قروضًا للجميع بدون فرز‪ ،‬وحق للجميع‪ ،‬بدون ربا‪ ،‬على ُ‬
‫كل هذا تفوه به الخطيب‪ ،‬ولم يجتهد الناس كثيرًا في التأويل‪ ،‬وعلى بركة ذلك بادرت المحلية بتخصيص قطعة‬
‫سمح باستخدام وابور المحلية لنقل الحجارة والرملة السفاية والطوب‬ ‫أرض مجانية للبنك لكي ُينشأ عليها‪ ،‬و ُ‬
‫الحمر بسعر رمزي يغطي تكلفة العمالة‪ ،‬وتحصل إداريو البنك المشرفون على إنشائه على وقود وكهرباء‬
‫وإمداد مائي مجانًا ولوجه ال وحده وفي خاطر التنمية وابتغاء رفعة البلد‪ ،‬وللحاق بركب هذا العطاء المجاني‬
‫سعى المقاول الذي يعمل بالتشييد بأن يحصل على عمالة مجانية للبناء من الجيش‪،‬طاما يجلس العساكر هنالك‬
‫في ثكناتهم دون عمل‪ ،‬يلعبون الورق و الضالة‪ ،‬ينتظرون حروبًا سوف ل تحدث في القريب العاجل‪ ،‬ولكن لسوء‬
‫حظه أن قائد الحامية في ذلك الوقت كان جنديًا يمتلك رأسًا ُيسمى في الخفاء‪ :‬ناشفًا‪ ،‬لم يسعفه في تفهم التنمية‬
‫‪:‬والتطور ودور البنك العظيم المنتظر‪ ،‬فرد إليه طلبه مشفوعًا بتهديد شفاهي‬
‫احذروا و احذزروا و احذروا‪ ،‬الجيش دا قايلنوا شركة دانفوديو؟ ‪-‬‬
‫صعوبة في الحصول على أي تسهيل ومباركة‪ ،‬بل أن ُمعظم الناس‬ ‫سوى هذا الصد الواضح‪ ،‬لم يجد البنك أية ُ‬ ‫ِ‬
‫طلب منهم ذلك‪ ،‬كان البنك‬ ‫كانوا يحسون بأن لهم واجبًا ما تجاه البنك ول يتأخرون في مّد يد العون متى ما ُ‬
‫بمثابة‪ :‬مهدي المكان المنتظر‪ .‬شربنا كركدي عند عزيزة الزغاوية‪ ،‬كان يجلس قربنا أثنان من السماسرة‬
‫يتحسران لجل سعر السمسم المنخفض في هذا الموسم مع أن النتاج شحيح‪ ،‬يتعجبان‪ ،‬لنهما يريان أن‬
‫انخفاض إنتاجية السمسم تؤدي مباشرة إلى ارتفاع سعره‪ ،‬هذا ما تعلماه من التجربة‪ ،‬الشئ الذي لم يحدث هذه‬
‫‪.‬اليام‬
‫‪-‬دا آخر أسبوع لحصاد السمسم‪ ،‬تاني ما تبقى الحته ‪.‬‬
‫ل بعض الشئ‪ ،‬لن شركة السمسم حتى الن لم تدخل السوق لشراء متطلباتها السنوية‬ ‫ولكن كان أحدهما متفائ ً‬
‫من السمسم لجل التصدير‬
‫‪-‬حيرتفع‪ ....‬حيرتفع أكثر من السنة الفاتت ‪.‬‬
‫وهنا تدخل صديقي قائ ً‬
‫ل‬
‫‪-‬السبب إنتاج الفول‪ ...‬الفول السوداني‪ ....‬وبرضو عباد الشمس ‪.‬‬
‫ل من الرقام مدهشة عن إنتاج الفول السوداني وعباد الشمس في هذا‬ ‫ودون أن يستأذنهما طرح من رأسه سي ً‬
‫الموسم‪ ،‬ثم تحدث عن سعر رطل الزيت من الثنين‪ ..‬إنه ينخفض‪ ،‬وسوف ينخفض أكثر‪ ،‬وربط ذلك بالمستخدم‬
‫من السمسم في زيت الطعام والحلوى وكيف أن الفول السوداني الرخيص حّل محله وزيت عباد الشمس النقي‬
‫الصحي منخفض الثمن المفضل لدى المصدرين أصبح إنتاجه ضخمًا‪ ،‬ثم أسهب في الحديث عما أسماه بـ‬
‫!مستقبل إنتاج السمسم في السودان‪ ،‬هل سيصبح مثل مستقبل إنتاج القطن والصمغ العربي؟‬
‫نظرا إليه باستغراب‪ ،‬سأله أحدهما بعفوية‬
‫‪.-‬إنت في المن؟ مما جعلنا جميعًا نضحك في وقت واحد‬
‫‪:‬قال له صديقي‬
‫‪-‬ل‪ ،‬أنا من القضارف ‪.‬‬
‫قال الرجل هو يحملق في وجه صديقي‬
‫نعم‪ ...‬عارف‪ ...‬إنت الزول العندك حكاية مع الصافية؟ لكن إنت شغال شنو؟‪-‬‬
‫قال له صديقي وقد ظهر عليه بعض الغضب‬
‫‪-‬البلد دي غير القوالت والشاعات ما فيها شي‪ ..‬بلد نكد ‪.‬‬
‫قال الخر محاوًل الخروج من موضوع الصراع‬
‫‪-‬كدي أحسن نشوف موضوع السمسم ‪.‬‬
‫وقطع الحوار صوت أبواق سيارات ونهيق ونباح بربارات ولندروفرات مختلط بزغاريد نساء وصبايا‪ ،‬غناء‬
‫وجلبة‪ ،‬ثم عّم المكان الغبار المختلق من رفس إطارات السيارات على الرض‪ ،‬قالت عزيزة الزغاوية مستنكرة‬
‫‪-‬دا زمن عرس؟؟ لسع الحصاد ما انتهى ‪.‬‬
‫قال أحد السماسرة مقررًا أمرًا قد يبدو معروفًا للجميع‬
‫العريس دا قايله منو؟! دا محمد عوض‪ ،‬سّواق باربارة البرناوي‪ ،‬ديل بيعرسوا في أي وقت‪ ..‬طالما الخريف‪-‬‬
‫‪.‬انتهى وانفتحت الشوراع‪ ،‬دي مرتو التالتة‬

‫شواك‪ ،‬لوري الحفيرة‪ ،‬تراكتور‬ ‫السيرة مكونة من عشرين باربارا‪ ،‬خمسة لندروفرات‪ ،‬بص همدائييت وبص ال ُ‬
‫بمقطورة يتبع لحد التجار من زهانة‪ ،‬المغني المتفرد ود أمونة‪ ،‬يصدح بصوت نسائي عليه بحة خفيفة ربما‬
‫نتيجة للسهر وتعليم العروس وشرب القهوة الكثير في بيت العرس‪ ،‬حيث ل تنطفئ نار القهوة لما يزيد عن‬
‫‪.‬السبوع‪ ،‬يتبعه كورس من الصبيات والنساء في حماس وإثارة‬
‫عّلق أحد السماسرة في ضيق‬
‫‪-‬؟ ال يسخته‪ ...‬ما بتعرفو‪ ،‬مرا ول راجل‬
‫ضحكت عزيزة قائلة‬
‫‪-‬دا ود أمونة وبس‪ ..‬هو كدا ‪.‬‬
‫قال السمسار الخر‬
‫‪-‬دا زول ُمخنث ما نافع‪ ...‬وال لو ولدي كنت حأكتلو عديل كدا ‪.‬‬
‫‪:‬قال عزيزة‬
‫‪-‬مالك ومال الزول دا ربنا الخلُقُه عايزو كدا ‪.‬‬
‫ثم أضافت‬
‫إنتو عارفين إتزوج منو؟‪-‬‬
‫‪:‬قلت‬
‫‪-‬ل‪ ،‬بالتأكيد ‪.‬‬
‫‪:‬قالت‬
‫‪-‬إتزوج زينب بت أبرهيت الفلشاوي ‪.‬‬
‫ً‪:‬قلت مندهشا‬
‫‪-‬الفلشاوي‪ ...‬يعني من الفلشا ‪.‬‬
‫‪:‬قال أحد السماسرة‬
‫أيوا‪ ..‬وقالوا الفلشا ديل يهود‪ ،‬هْم ذاتهم الباعهم جعفر نميري لسرائيل‪ُ ،‬مش كدا؟‪-‬‬
‫قال جملته الخيرة موجهًا كلمه إلى صديقي‬
‫‪:‬قلت‬
‫ولكن هنا في فلشا؟‪-‬‬
‫‪:‬قال السمسار‬
‫‪-‬أسرة واحدة‪ ،‬هي أسرة أبرهيت ولدو إسحق ‪.‬‬
‫‪:‬قالت عزيزة‬
‫‪-‬ولكن أبرهيت دا مسلم‪ ،‬قاعد يمشي صلة الجمعة‪ ،‬كل الناس شافوه ‪.‬‬
‫‪:‬قال أحد السماسرة‬
‫‪-‬اليهود ديل فيهم الُمسلم وفيهم الكافر‪ ،‬زيهم زي الجن‪ ،‬فيهم الُمسلم وفيهم الكافر ‪.‬‬
‫‪،‬ثم أضاف‬
‫شنو‪ُ ،‬مش يهود؟‬ ‫وفي مسلمين يهود عديل كدا‪ ،‬وديل الما بيصلوا ول بيصوموا ويأكلوا الربا ومال اليتيم‪ ،‬ديل ُ‬
‫ثم أضاف فيما يعني أنه لو وجد أي إسرائيلي أو دولة تشتري منه الفلشا‪ ،‬لباع لها أبرهيت وأسرته جميعًا‬
‫ليغنى للبد‪ ،‬ديل بيعهم ُمش حلل؟! ربنا ذاته ما حّرم بيع العبيد‪ ،‬سيبك من الفلشا‪ُ ....‬مش كدا؟‬
‫‪.‬أومأت برأسي أن نعم‪ ،‬وكنت أعني بيني وبين نفسي أني‪ :‬امتنع‬
‫همس صاحبي في أذني‪ ،‬الذي كان يتتبع النقاش بانتباه كبير‬
‫لزم نزور أسرة أبرهيت دي‪ ،‬أنا أتمنى أشوف وأحاور يهودي‪ ،‬فلشا ول أشكناز ول سفرديم ول أي يهودي‪-‬‬
‫‪.‬تاني‪ ،‬حتى لو كانوا َبني ُقريظة أو بني الَنضير‬
‫‪:‬قلت له‬
‫ش حأمشي معاك‪ِ ،‬كفاية العملية العملتها في الكنيسة السبوع الماضي مع الم َمَرَيم ُكِودي راعية الكنيسة‪-‬‬‫‪.‬أنا ُم ْ‬
‫‪:‬قال ُمحتجًا وقد عل صوته فجأة‬
‫عملتها أنا ول عملتها هي‪ ،‬أنا كنت عايز أقيم معاها حوار موضوعي عن الديان‪ ،‬وقصدي شريف جدًا‪ ،‬ولكن‪-‬‬
‫الم مريم ما فهمتني واعتبرتني ُمخّرب‪ ،‬هي عايزة تتحاور معاي كمسلم عربي وأنا عايز أتحاور معاها كإنسان‬
‫يتبنى كل الُتراث الروحي للبشرية بما فيه الدين المسيحي نفسه‪ ،‬وكما تكلم زرادشت للفيلسوف نيتشه وكتاب‬
‫‪.‬الطبقات لود ضيف ال‪،‬غيرها من السرديات الُكبرى و الصغرى‪ ،‬قلت له‬
‫‪-‬إنت طريقتك في تناول المواضيع هي المشكلة وليست نواياك ‪.‬‬
‫‪.‬وخوفًا من أن ُيقال إني تركته في محنة جديدة وحده ذهبت معه‬

‫الذهاب إلى بيت أبرهيت لم يكن صعبًا‪ ،‬فالبيت كان متاخمًا للسوق‪ ،‬وأبرهيت نفسه معروف ومشهور كما أن‬
‫عرس كان أسهل الشياء هنا‬ ‫‪،‬الذهاب إلى منزل فيه مناسبة ُ‬
‫ونحن نطرق الباب‪ ،‬طلبت منا الصبايا وبعض النساء أن ندخل مباشرة‪ ،‬ومافي داعي لدق الباب‪ ،‬الشئ الذي‬
‫ل يلبس بنطلونًا وقميصًا نظيفين‬ ‫أدهشهن‪ ،‬ونحن نرفض الدخول دون إعلن‪ ،‬فإذا بأبرهيت يأتي مبتسمًا‪ ،‬طوي ً‬
‫سّلم علينا وهو يسحبنا إلى داخل ديوانه‪ ،‬ونادى بصوت خفيض لبنته التي‬ ‫وربما جديدين‪ ،‬وبلكنة أمهراوية َ‬
‫‪.‬جاءت وفي يدها الماء والحلوى والمبابا والبتسامة الساحرة تحلق في فمها الصغير الحلو‬
‫انحنت الصبية العشرينية أمام كل واحد ِمنا‪ ،‬وهي تصب الماء من وعاء زجاجي أزرق في أكواب عليها علم‬
‫ل في إثارة واضحة وانفعال باللغة النجليزية‬ ‫‪.‬وأسد أثيوبيا الشهيرين‪ :‬همس صديقي في أذني قائ ً‬
‫‪. The Lion of Zion-‬أسد صهيون‬
‫حب بنا مرة أخرى‪ ،‬فباركنا له زواج ابنته زينب من محمد عوض سائق‬ ‫تجاهلت همسه حتى ل ألفت النتباه‪ ،‬ر ّ‬
‫البربارا‪ ،‬وتمنينا لهما بيت الَمال والِعيال وسترة الحال‪ ،‬قال‬
‫‪-‬الجبنة جاهزة‪ ،‬والفطور برضو جاهز ‪.‬‬
‫اعتذرنا بأننا شربنا الجبنة مع عزيزة الزغاوية وفطرنا في المنزل‪ ،‬ثم دخل صديقي إلى الموضوع مباشرة ودون‬
‫عرف به وتهور‬ ‫‪.‬مقدمات وبوضوح تام ُ‬
‫ت بالطريقة الذكية البليغة التي حسم بها أبرهيت الموضوع‪ ،‬في هدوء ورباطة جأش‪ ،‬وكأنه‬ ‫جب ْ‬ ‫عِ‬
‫في الحقيقة أنا ُأ ْ‬
‫كان يعد الجابة منذ أن ُولد قبل خمسة وخمسين عامًا خلت‪،‬و أنه أجرى عليها تجاربًا كثيرة واختبارات صحة‬
‫وخطأ في شتى أصناف البشر وأحوالهم‪ ،‬وربما الحيوانات والجن أيضًا للتأكد من مدى صلحيتها‪ ،‬قبل أن يتبناها‬
‫أخيرًا كإجابة نموذجية تصلح ردًا شافيًا كافيًا لكل المتطفلين والمتحشرين والمتسكعين الكسالى‪ ،‬الذين ل هّم‬
‫لديهم سوى البحث عن الغوامض‪ ،‬مثيري السئلة‪ ،‬المتشككين‪ ،‬ضعيفي اليمان‪ ،‬والمتطرفين من الناس والجن‬
‫‪:‬وهوام الرض كافة‬
‫قال بصوت واضح‪ ،‬بينما كانت عربات السيرة تدور في الخارج‪ ،‬وصوت ود أمونة يصدح بأغنيات بنات رائعات‬
‫محفزات للرقص‪ ،‬وابنته العشرينية تضع مزيدًا من المبابا على وعاء الحلوى وهي تتفحصنا بركن قصي من‬
‫‪:‬عينيها الكبيرتين‪ ،‬وتنصرف لتستقبل السيرة في الخارج‪ ،‬قال‬
‫‪-‬أنا مسلم ‪.‬‬
‫‪،‬تفحص وجهينا وابتسم ابتسامة ُبنّية قبل أن يواصل كلمه‬
‫‪،‬أنا مسلم‪ ،‬مسح وجهه براحة كفيه‪ ،‬قبل أن يضيف في حّدة‬
‫‪،‬وأشهد أن ل إله إل ال‬
‫وأن محمدًا رسول ال‬
‫‪،‬وأقيم الصلة‬
‫‪،‬وآتي الزكاة‬
‫وأصوم رمضان‬
‫ت إليه سبي ً‬
‫ل‬ ‫ت إذا استطع ُ‬ ‫ج البي َ‬
‫‪.‬وأح ُ‬
‫‪:‬ثم أضاف في برود كالصقيع‪ ،‬بينما هو يحاول الحتفاظ بابتسامة دائمة لئيمة‬
‫سلْم عليك ‪. -‬‬ ‫يل مع السلمة‪ ،‬وقولوا لمدير المن أبرهيت ولدو اسحق َي ّ‬
‫‪.‬وبذلك قال لي صديقي فيما بعد أكد أنه يهودي‪ ،‬ويهودي متطرف‬
‫ونحن نخرج من الباب معتذرين خائبين‪ ،‬وناكرين لصلتنا بالمن‪ ،‬إذا بابنته الِعشرينية الجميلة على الباب‬
‫مباشرة‪،‬كانت تصتنت للحوار الذي دار بين صديقي ووالدها‪ ،‬الحوار القصير جدًا‪ ،‬حيث إن صاحبي سأله‪ :‬هل‬
‫أنت من َيهود الِفلشا حقًا؟‬
‫صِغيرٌة‬
‫حرَكٍة لغاظِتَنا‪ ،‬بقٌع َ‬
‫جَتُه إليَنا‪ِ ،‬في َ‬
‫خَر َ‬
‫ساِنَها الذي َأ ْ‬
‫شاِئري‪َ ،‬وِبِل َ‬
‫جِميلٌة‪ِ،‬في ِفسَتاِنَها الَبَيضِ الَع َ‬
‫ت َ‬‫َكاَن ْ‬
‫حَلَوى َكَرَمل‬
‫حُة َ‬
‫سوَداَء‪َ ،‬وَراِئ َ‬
‫‪َ.‬‬

‫‪ .....‬نواصل‬

‫_________________‬

You might also like