You are on page 1of 3

‫تونس في ‪ 16‬فيفري ‪2011‬‬

‫اليسار التونسي‬
‫وعملية البناء الديمقراطي‬

‫تشهد تونس اليوم حراكا سياسيا ومدنيا) غير معتاد منذ سنوات كثيرة تتميز بايجابيات خروج العديد من‬
‫فصائل اليسار التونسي) من دهاليز العمل السري الذي فرض عليها ‪ ،‬والذي طبع عملها ودعايتها) بخاصية التشنج‬
‫واالنفعال وأعاق اتصالها الواسع بجماهير) الشعب ‪ ،‬هذا االنفصال (على المستوى التنظيمي) ) بين المثقفين‬
‫العضويين والسياسيين وبين الجماهير العريضة دفع بجل التنظيمات ( ان لم اقل اغلبها) الى التقوقع واالنغالق)‬
‫التنظيمي والبرنامجي الذي وجد تبريراته الموضوعية والذاتية في التصدي لمحاوالت االختراق) الدائم الذي‬
‫تنتهجه السلطة البوليسية تجاهها من اجل ضرب تواجدها او تقويض وحدتها التنظيمية ‪ ‬او تحويل وجهة برامجها‬
‫من جانب ‪ ،‬ومن جانب آخر الى االكتفاء بالمقاربات النظرية التاريخية وتغليب جوانب التحريض واالنضباط)‬
‫اإليديولوجي ‪ ‬على رسم خطط عمل معقولة وبرامج سياسية واقعية تنطلق) من رصد اإلشكاليات السياسية‬
‫واالجتماعية المطروحة وتقديم البدائل والحلول الالزمة لها ( إال في بعض األحيان)‬
‫لئن لم يدخر جهاز الديكتاتورية القائم جهدا او مؤسسات) في عزل تيارات اليسار وتشويه رموزه‬
‫واطروحاته ‪ ،‬فان قوى اليسار التونسي ورغم ممانعتها) االيديولوجية وتمسكها) باالصطفاف) مع قوى التقدم‬
‫والثورة ومع مصالح الفئات والطبقات المضطهدة ومع الوحدة الوطنية القائمة على تغليب المصلحة العامة‬
‫والمساواة التامة بين المواطنين ضمن قيم كونية تؤمن باالنفتاح واالخاء بين شعوب العالم وأممه المقهورة ‪،‬‬
‫فشلت في عملية الربط مع الجمهور الواسع وتناست أهمية التحول من حملة لمشروع انساني الى دعاة لهذا‬
‫المشروع ‪ ،‬من مفسرين للظلم واالظطهاد الى مناضلين من اجل أن يعي الناس بظروف اضطهادهم لتغييرها) ‪،‬‬
‫وبلغة اخرى في ان يتوحدوا مع قوى) الشعب في جبهة حقيقية وعملية تناضل بشكل سافرا وبندية ضد أجهزة‬
‫القمع واالستغالل ‪ ،‬فارتضت لنفسها موقعا معزوال عن الجماهير يضمن لها نقاوتها وعذريتها "الثورية" التي‬
‫قدمت لها بجمل وشعارات) للماضي الغابر تسترجع بها أمجاد شعوب وطبقات وشخوصا تمرغت في الوحل حتى‬
‫تنال شرف كتابة بعض فصول التاريخ الحديث كما صنعتها) الشعوب وليس كما تروج أساطير األولين‬
‫واآلخرين ‪ ،‬مما أسقطها في فصل النضال والمشروع النقابي والمدني عن المشروع السياسي (والحزبي) بشكل‬
‫خاص) فغلبت على جل تنظيمات اليسار العالقات النقابية التي فرضتها البيروقراطية على قاعدة المصلحية‬
‫الضيقة وتبادل المنافع وعقد التحالفات االنتخابية الظرفية والالمبدئية السياسية لنجد مجموعات من اليسار)‬
‫تتحالف مع أعدائها وأعداء الشعب أحيانا وتتآمر ضد حلفائها الطبقيين والسياسيين أحيانا أخرى للسيطرة على‬
‫هذه النقابة أو تلك ‪ ‬أو الستقطاب هذه المجموعة من العناصر) النقابية أو طالئع العمال أو تلك ‪ ،‬واقتصر) نضالها‬
‫السياسي على المناسبتية‪ (  ‬أحداث دولية أو قومية وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية)‪  ‬أو على الشعاراتية‬
‫الممانعة دون وجهة او برنامج مثلما كان الحال في أغلب األوقات بالنسبة لليسار الطالبي والجامعة وتحول)‬
‫الصراع ‪ ‬السياسي والفكري إلى اقتتال على هياكل االتحاد العام لطلبة تونس وانقالبات على الشرعية داخله‬
‫استعملت فيه أشكال متعددة ومتفاوتة من العنف من منع المختلفين من النشاط والتعبير) الى العنف الجسدي‬
‫والترهيب مرورا بالتشويه وتكسير التحركات من قبل المناضلين والتيارات السياسية بعضها البعض ‪.‬‬
‫قد يبو هذا التقديم جلدا للذات او انتقاصا من شان قوى اليسار التونسي ‪ ،‬ولكني ال أضن ذلك بقدر ما اعتقد‬
‫ان عملية مراجعة النفس هذه ضرورية جدا لتدرك قوى اليسار دورها) تجاه عملية التغيير الديمقراطي) المطروحة‬
‫في ساحتنا اليوم بما يخدم مصلحة السواد األعظم من أبناء الشعب التونسي) ‪ ‬ولكي تتحول بشكل نهائي الى‬
‫مؤسسات للتغيير تحمل مشاعل تتقدم بها الحركة وتنير) لها طريق الديمقراطية والعدالة االجتماعية وتتصدر)‬
‫مهمة تأصيل قيم الحرية والمواطنة والتقدم في مجتمعنا والمجتمعات) المحيطة بنا ‪،‬‬
‫‪ ‬ان من واجب قوى اليسار) والتقدم ليس في تونس ‪ ‬وحسب بل في مصر وفي كل الدول العربية التي تشهد‬
‫غليانا شعبيا واستعدادا) للنهوض من اجل استكمال مهمة التحرر الوطني) وإرساء أنظمة سياسية مدنية ديمقراطية‬
‫ذات طابع اجتماعي ‪ ،‬ان توسع دائرة العمل المشترك والنقاش الحر في كل الممنوعات وتفجير كل المواضيع)‬
‫‪1‬‬
‫المحرمة التي أثقلت كاهل مواطنيتنا) باطروحات القرن الماضي ووقائعه ومعضالته التاريخية التي غلبت عليها‬
‫قضايا االستقالل والمجتمعات القبلية والتخلف العلمي الفكري ‪..‬الخ و ان تتقدم الشعوب في مهمتها تلك لتحقيق‬
‫مطمح تاريخي) يجعلنا قادة حضاريين للعالم الحديث نطبعه بطابع حراكنا الثوري) ونخلصه من بقايا الميز‬
‫والشوفينية التي تقنن ثقافة االستغالل واالستعمار) والتعالي والغرور القومي أو الديني أو العرقي وندفع) البشرية‬
‫خطوة الى االمام‪  ‬نحو منظومة قيم ثقاقية وحضارية كونية تتعامل مع االنسان بوصفه إنسانا ال غير ‪ ،‬ان‬
‫النهوض بهذه المهمة يفترض من قوى) اليسار ان تقوم بمصالحة تاريخية مع جوهر أطروحاتها وتراثها) النير وان‬
‫تقوم بمراجعته مراجعة نقدية عميقة وصارمة حتى يستجيب لمتطلبات العصر ويكون سالحها النظري) والسياسي‬
‫واالخالقي) الذي ستمكن منه الشعب ليتصدى لقوى الردة والرجعية ودعاة الفوضى (خالقة او هدامة ) فوضى)‬
‫االنتاج والتوزيع ورافعي) رايات الخرافة واألوهام) وتأبيد السائد األخالقي والثقافي) ‪..‬الخ ‪ ،‬والمصالحة مع واقعها)‬
‫ومع جماهير) الشعب لتخرج من عزلتها التنظيمية والفكرية والبرنامجية لتتمكن من التوجه إلى الغالبية العظمى‬
‫من أبناء الشعب وتوحدها) حولها على قاعدة مصالحها المادية المباشرة وتنظمها) للنضال بنفس الحدة وبالشكل‬
‫األكثر سفورا ضد أعداء تحررها وانعتاقها مهما كانت مسمياتهم وعباءاتهم اإليديولوجية أو العقدية ‪ ،‬ان احد‬
‫األخطار المحدقة بعملية التغيير الديمقراطي وتحقيق) مطلب الجمهورية الديمقراطية االجتماعية يمكن تقسيمها‬
‫الى ثالث –‪ )1‬القوى الخارجية التي تمثل مصالح الراسمال العالمي في شقه الغربي‪  ‬ومطمحه في سوق عربية‬
‫استهالكية مفتوحة من المحيط إلى الخليج وما يتطلبه ذلك من استقرار سياسي ذو هدفين مباشرين يتمثل األول‬
‫في التصدي للتطرف واالرهاب وسحب البساط من تحت أقدام مريديه عبر استيعاب تيارات اإلسالم السياسي ما‬
‫يسمى بالمعتدل ‪ ،‬ويرتكز الثاني على اقامة انظمة سياسية مرنة وثابتة (يمكن تغييرها حسب المتغيرات) تمثل‬
‫عمقا استراتيجيا للغرب إليقاف التوسع االقتصادي والسياسي للقوى الصاعدة (مثل الصين في إفريقيا وإيران في‬
‫الشرق‪  )..‬وال هم لها في ذلك رقينا) الحضاري أو تقدمنا الثقافي او االجتماعي ‪)2-‬جزء من الرأسمال الوطني (أو‬
‫المحلي) والذي وان كان ممثلوه يساندون التغيير الديمقراطي ويرفعون مطلب الجمهورية الديمقراطية ليتمكنوا‬
‫من تحرير االستثمار من قيود) المافيات واالحتكار وليجدوا) لهم موقعا) تحت شمس قانون الربح العالمي ضمن‬
‫نادي الرأسمال العالمي إال أنهم يدفعون) في اتجاه تقليص حجم المكاسب االجتماعية التي يجب ان تقوم عليها‬
‫عملية التغيير ومحاولة فرض ديمقراطية كسيحة تحد من طابعها) االجتماعي المنحاز) لقضايا الفئات والطبقات‬
‫المسحوقة ‪ )3-‬المجموعات السياسية الرجعية واالنتهازية التي تتالعب بعواطف ومشاعير) الجماهير ومنها تلك‬
‫الداعية الى إعادة أمجاد الدولة التيوقراطية ورافعي) شعارات الدولة الدينية والممثلة لبقايا الرأسمال الريعي أو‬
‫الهامشي( المحلي أو األجنبي) الناتج عن عائدات البترول والمخدرات و تجارة الموت والدمار) (وباختصار) كل‬
‫ما ليس له عالقة معلنة باالستثمار واإلنتاج السلعي الرأسمالي) القانوني) ‪ ،‬والتي تعادي الديمقراطية شكال‬
‫ومضمونا) ومعها مصالح الشعب ‪ ،‬ساعية تاسيس الفصل بين مكونات المجتمع على أسس روحية وعاطفية تقسم‬
‫وحدته وتحوله الى كائنات متنافرة يسهل توجيهها واغراقها) في صراعات ال عالقة لها بمصالحهم) المباشرة‬
‫تحولهم ألى أدواة مطواعة في خدمة سلطة المال‪ .‬ان تحديد التناقاضات) األساسية التي تشق العالم والمجتمع‬
‫واجب وضرورة ملحة لكي تتمكن قوى اليسار من تعديل بوصلتها النضالية وتحديد أصدقائها وأعدائها وضبط)‬
‫سلوكها السياسي الذي تخوض به معاركها) الحقيقية انتصارا) لقضايا الحرية والعدالة والمساواة ‪ ،‬اما بغياب هذا‬
‫التحديد الدقيق فأنها تنزلق حتما الى معارك) جانبية وواهمة تندفع اليها بحماسة وانضباطية الهثة خلف اندفاعات‬
‫الشارع واهوائه لتخسر قواها في تحالفات مغلوطة وتهدر طاقة الجماهير هباءا مخلفة الساحة السياسية ألعداء‬
‫الديمقراطية وتحرر الشعوب ‪ ‬أو على أفضل تقدير أنصار) الديمقراطية الكسيحة والصارمة ضد مصالح األغلبية‬
‫ممن ال يملكون غير سواعدهم يتعيشون منها ‪.‬‬
‫ان المعركة اليوم تحددت منطلقاتها والفاعلين فيها بشكل يكاد يكون جليا (من تونس الى مصر) انها بين‬
‫الديمقراطية االجتماعية التي يجب ان تقود فيها قوى اليسار والتقدم تحالفا واسعا) مع الديمقراطيين وأبناء الشعوب‬
‫المنتفضة وبين أنصار) الردة وغالة الشوفينية (مسنودين من بعض الرجعيات العربية) ‪ ‬من ناحية وقوى الهيمنة‬
‫االستعمارية في شكلها المعولم‪  ‬من ناحية اخرى ‪ ،‬ان اعداء حرية الشعوب والديمقراطية والعدالة يجدون مطلبهم‬
‫في اشاعة الفوضى وتقويض االستقرار وإحداث الفراغ االقتصادي) والسياسي الذي ينهك قوى الشعب البسيطة‬
‫أصال (في مستوى تنظمها) وانظباطيتها ووعيها السياسي) مما يدفعها الى دائرة اليأس واالرتباك) الذي يسهل‬
‫عملية التالعب بعواطفها وتحويل) وجهة حركتها لتنكفئ على ذاتها وتدخل في جدال دفاعي حول عالقة‬
‫الخصوصي) بالكوني والصراع) بينهما ‪ ،‬وهي معركة لن تتمكن قوى اليسار من دخولها دون دعم جماهيري‬
‫‪2‬‬
‫وعمل طويل وشاق معها يمكنها من تنوير العقول ومسح ما علق بذاكترها) الجماعية من اوهام وخرافات‬
‫ونزعات ال انسانية كرستها) قرون من هيمنة دول وإيديولوجية وأخالق االستغالل واالستعمار) ‪ ،‬ان مطالب إسقاط‬
‫الحكومة أو تطهير مؤسسات الدولة أو إنشاء نظام برلماني او رئاسي ‪ ...‬الخ على أهميتها ليست ‪ ‬أساسية أو‬
‫جوهرية بقدر بقدر ما لمهمة استكمال بناء الدولة السياسية الكاملة ( التي تفصل بين المجالين العام والخاص‪ ،‬بين‬
‫الدين والدولة‪ ،‬بين الروحي) واالجتماعي ) التي تسمد مشروعية وجودها من المواطنية دون سواها على قاعدة‬
‫قوانين وضعية تضبط العالقات االجتماعية واالقتصادية والحقوقية وفق عقد اجتماعي مدني ينظر لإلنسان في‬
‫شموليته وبصفته تلك ‪،‬يفتح لنا الباب أمام إمكانيات تحقيق مطمح إرساء منظومة قيم إنسانية كونية تتجاوز‬
‫الحواجز والحدود) الضيقة لمقوالت الهوية والخصوصية وتدفع) باتجاه المصالحة الحضارية والثقافية بين شعوب‬
‫وأمم العالم وطبقاته المضطهدة لتوحد نضالها من اجل انعتاقها) االجتماعي والسياسي ‪ ،‬والخطر كل الخطر أن‬
‫تنجرف قوى اليسار) والتقدم يمينا‪  ‬وأن تصطف) مع أعداء الديمقراطية ‪،‬اويسارا) وان تأخذ بالمظاهر ‪ ‬وتخطأ) في‬
‫تحديد حالة موازين القوى ‪،‬ففي االولى ستجد نفسها مجبرة على تقديم التنازالت الواحد تلو اآلخر على حساب‬
‫مشروعية االحتجاج االجتماعي وفي الثانية ستدفع) بثوى الشعب الى معارك) خاسرة وفي كلتا الحالتين ستجد‬
‫نفسها مجبرة على االنعزال من جديد وستخسر شعوبنا) امكانية تاريخية لتتقدم خطوة نحو فجر الحرية ‪ ،‬ان‬
‫معضلة اليسار العربي عموما والتونسي) تحديدا انه لم يدرك بعد كيف يتحول من حالة حلقية تدير نقاشات فكرية‬
‫ونظرية سرية أو بين اسوار الجامعة تزينها وتطربها جمل رنانة وأشعار) ثورية الى أحزاب سياسية تلتحم مع‬
‫طليعة البروليتاريا والمحرومين لتقودهم بشكل منظم وشاق في عملية طويلة لتغيير الواقع والقضاء على‬
‫االستغالل يمكن أن ال يكون نصيبنا فيها غير كتابة بضع أسطر أو كلمات مضيئة في تاريخ البشرية الطويل التي‬
‫لن تتوقف طويال عند حدود عبر أي مستنقع عبرنا ولكنها ستحاسب بشدة وصرامة لو لم نعبره اصال وتركنا)‬
‫ثمار ما زرعه شعبنا بدماء أبنائه على الجانب اآلخر ليقطفه اللصوص‪.‬‬

‫محمد نجيب وهيبي‬

‫ناشط بالحزب االشتراكي اليساري‬

‫‪3‬‬

You might also like