Professional Documents
Culture Documents
ان األحداث التاريخية التي مرت بها تونس منذ 17ديسمبر 2010والتي توجت بهروب بن علي في
14جانفي 2011وبداية النهاية للشكل الديكتاتوري 0للحكم في تونس الذي أسس له طيلة أكثر من خمس
عقود من حكم الحزب الواحد والرأي الواحد ،واالعتماد المتعاظم 0من قبل مؤسسات الدولة على
مؤسسات 0القمع االيديولوجي ( 0االعالم والتربية والتعليم وحتى في المساجد) والقمع المباشر (تنوع
األجهزة األمنية وتفرعها وارتفاع 0أعداد أعوانها الرهيب) والتحام الحزب الحاكم بكل أجهزة الدولة
وتمازجهما ...الخ ،إلى أن وصل بنا الحد إلى تحول هذه األجهزة إلى خدم للمافيا االقتصادو-سياسية
للعائلة الحاكمة في تونس وهو تحول هدد شيئا فشيئا المصالح االقتصادية ال للبرجوازية التونسية فحسب
بل حتى العالمية واألمريكية بالخصوص ،قد دفعتني إلى إلقاء نظرة خاطفة إلى الماضي الدراك كيفية
وصوله إلى الحكم وموقعه من عملية التغيير الديمقراطي 0الذي ينشده التونسيون منذ سنين .
فمن ضمن ظروف موضوعية داخلية أخرى ربما أهمها تفاقم األزمة االجتماعية بتونس ( أظهرتها
تباعا أحداث 78و )84وانسداد األفق السياسي 0امام الناشطين النخب المعارضة ،وخارجية ربما اهمها
مطالبة الرسامال العالمي بأسواق حرة تتعارض مع السياسة البورقيبية القائمة على الدولة الحامية
ومؤسسات اإلنتاج العمومية ،ساهمت كلها مع ضعف رمزية بورقيبة وسلطته على أجهزته وجماعته
الى طرح مسالة اقصائه من الحكم وتعويضه ببن علي ليقوم بالتغيير االقتصادي والسياسي الذي يحقق
هدفي انفتاح السوق 0والخصخصة واستيعاب االحتقان السياسي والقضاء على التطرف .
لقد تمكن بن علي اثر االنقالب الذي قاده على بورقيبة بدعم أمريكي 0من تحقيق انفتاح سياسي جزئي مهد
له عملية التربع على عرش السلطة وإحكام سيطرته على الجهاز البوليسي 0وفرض تصوره ورؤيته حول
التطرف 0وتقيدم خدماته لتجفيف منابعه ،ساعده في ذلك اشتداد الصراع بين أمريكا والمتطرفين يمينا
ويسارا 0ليقنع بسياساته وعودته الى االنغالق واالنقالب مرة اخرى على ما اعلنه من انفتاح ،حيث
شهدت مؤسسات الدولة سيطرة كاملة من قبل التجمع وتنامي 0سريع في أعداد قوات القمع والميزانية
المرصودة لهم كما تكثفت كل السلطات بين يدي الرئيس ،فشهدت تونس قمعا وانغالقا متعاظما من سنة
إلى اخرى (رغم لحظات من التراجع في بعض القطاعات بدفع من قوى الكفاح المدني ) وتهميشا
للمواطن وعزله عن االهتمام بالشأن العام وانتشار الفساد والرشوة...الخ الى أن بلغ األمر أن تحولت
أجهزة الدولة الى أجهزة خاصة للمافيا العائلية ألصهار 0الرئيس (الفار) وأتباعهم الشيء الذي أعتدى على
البرجوازية الوطنية و أعاق االستثمار والوطني وهدد استقراره كما وصل بهم االمر الى تضييق 0الخناق
على المستثمر 0االجنبي وتعطيل 0نموه عبر التطفل عليه وفرض اتاوة وعموالت على تنقله ،ان هذا
المدى الذي بلغته المافيا 0الطرابلسية قد أضاف الى أعدائها الطبقيين الذين همتشهم وفقرتهم 0عبر سرقة
موارد 0الدولة ونشر الحيف االجتماعية على أوسع نطاق عداء حلفاء بن علي من البرجوازية الوطنية
والعالمية ،وهذا التحول في تقديري 0هو ما سرع في انهيار حكمهم وموافقة أمريكا وفرنسا 0على االنقالب
الذي أزاح بن علي عن سدة الحكم ،بعد االنتفاضة الشعبية العارمة التي أطلقها شباب الجهات المحرومة
احتجاجا على اوضاعهم االجتماعية المزرية وانتشرت في كامل تراب الجمهورية بحدة وتسارع ،
نتيجة الرتفاع عدد الشهداء الذين قتلوا 0عمدا ودون مبررات من قبل قناصة متربصين بهم وموزعين هلى
كامل تراب تونس وهو ما ممثل صدمة اججت غضب كل التونسيين ودفعتهم للخروج الجماعي الى
الشارع في انتفاضة عارمة تخطت المطلب االجتماعي وتوجهت 0رأسا الى المطالبة باسقاط راس النظام
وعصابته .
يقال ان تاريخ تونس الحديث لم يشهد ثورات حقيقية تغير األوضاع 0بشكل جذري ،لذا فقد غلبت على
الحياة االجتماعية والسياسية لدينا الرتابة والركود وربما الردة والتراجع 0أحيانا ،وهذا القول وان كان
مبالغا فيه فهو يدفعني 0إلى إجراء مقاربة بين انقالب 87واالنقالب-االنتفاضة لـ 2011تبين انه رغم
اختالف الوقائع الدقيقة واختالف 0المتغيرات الدولية والمحلية والفاعلين يسجل الحدثان نقاط التقاء أهمها
عجز السلطة القائمة على اإليفاء بالتزاماتها 0في توفير الضمانات حول حرية حركة الرأسمال
واالستثمار،وتحقيق االستقرار السياسي ، 0إضافة إلى تنامي االحتجاجات االجتماعية واالحتقان الشعبي ،
التي تعتبر إحدى مولدات التطرف واإلرهاب .ان فشل النظام حينها واليوم( 0رغم االختالفات) وارتكازه
على مؤسسة قمعية واسعة البطش واالنتشار واعتماد المركزة المفرطة للسلطة بيد الرئيس دفعه الى
الضرب الدائم لمعارضيه والحد من فاعليتهم وطنيا 0ودوليا وقمع حرية الرأي والتعبير وتغييب االختالف،
ليقزم البدائل الممكنة لالنتقال السلمي (الطبيعي والقانوني) للسلطة وقد كان هذا احد العوامل الدافعة الى
تفكك سلسلة حلفاء الديكتاتورية في الداخل والخارج خاصة وان أمريكا تعد منذ سنوات إلى فرض
مشروع" 0الشرق 0األوسط الكبير وشمال إفريقيا" لتتمكن من خلق سوق عربية استهالكية واسعة مستقرة
سياسيا 0وتمثل امتدادا استراتيجيا 0لسياساتها ضد إيران من ناحية والتوسع االقتصادي للصين من ناحية
وفشل 0خياراتها 0العسكرية في تحقيق ذلك (العراق ،وأفغانستان) وال دليل على ذلك أكثر من تتالي
انطالق محاوالت اإلصالح الديمقراطي في العديد من الدول العربية ( إقالة حكومة األردن ،تخلي علي
عبدهللا صالح عن تمديد الرئاسة ،انتفاضة الشعب المصري. )..
ولكن بين 87و 2011شهد المجتمع التونسي تحوالت عميقة على مستوى 0الوعي العام وتملك أدواة
االتصال الحديثة واالنفتاح على المتغيرات والتحوالت الدولية ،حيث كان االستثناء في 2011هو
الخروج المكثف للشعب التونسي 0إلى الشارع في حركة رفض عارمة ليعبر عن مطالبه ومصالحه
ويدلي 0بدلوه وكلمته في رسم مستقبل وطنه ،ان الفاعلين األساسيين في الساحة من الشباب متعلمون
جلهم من ذوي المستويات التعليمية العالية وحاملي الشهائد العليا الذين تلقوا تكوينا علميا ومعرفيا ال بأس
به ،وأغلبهم من مستعملي االنترنت والفايسبوك ، 0وهو ما مكنهم من الربط السريع بين بعضهم 0البعض
لتبادل األخبار والمعلومات وتنظيم التحركات ونقل االحداث الى الرأي العام اإلقليمي والدولي 0متجاوزين
بذلك احد أشرس االجهزة القمعية وهي مؤسسات اإلعالم الرسمية أو المتحالفة مع النظام فروج لحركته
وكسر 0جدار العزلة واكتسب حلفاء دوليين من أنصار 0حقوق اإلنسان ومن أخوته في القهر وهو الشيء
الذي ضيق الخناق على أجهزة القمع ،وقد كانت انتفاضة أهالي الحوض ألمنجمي التي قامت سنة
2008احتجاجا على الحيف االجتماعي والفساد اإلداري والسياسي 0واختالل التنمية الجهوية بين
المناطق 0التي أرهقت الديكتاتورية وعرت زيفها فقدمت لنا تجربة رائعة في تنظيم أشكال االحتجاج
والتصدي لقوات القمع ،رغم فشلها في تحقيق االنتصار 0الذي طمح إليه أهلها ( لم تنل نصيبها من
اإلعالم ،واالسناد 0الشعبي ) درسا عمليا ومباشرا 0خط بدماء شهادئها في محور نضالي عنوانه
"الجمهورية الديمقراطية" .
لقد كان انقالب 87تغييرا فوقيا للحكم لم يمس في العمق شكله السياسي 0ولم يحوله قط إلى الديمقراطية
ولم يسعى حتى إلى وضعها موضع نقاش جدي على الساحة السياسية والفكرية ،لذا وجدتنا عاجزين
دوما على فك الحصار األمني واإليديولوجي الذي ضربته الديكتاتورية على الشعب التونسي 0وظل
مطلب الديمقراطية والحريات 0مطلبا نخبويا 0ال يتعدى جدران احزاب المعارضة القانونية أو الحلقات
السرية لغيرها وفي 0أفضل األحوال أسوار بعض الجامعات التي تمكن الناشطون الطالبيون من الوصول
إليها غصبا ،فكان إن اقتصرت برامج أحزاب المعارضة وآليات عملها في عمومها على الرفض
واالحتجاج والمقاطعة والخطابات التحريضية دائمة التشنج ذات المطالب القصوى التي تمس هرم
السلطة في مواجهة مباشرة معه ،فغابت عنها في اغلب األوقات 0الخطابات العقالنية التي تمكنها من
اكتساب ود المواطن وتوسيع 0دائرة أنصارها ولم تتمكن من بلورة بدائل سياسية واجتماعية واضحة
للحكم وتخبطت في بناء تحالفاتها السياسية ثابتة ودائمة ذات أرضية دنيا مشتركة تؤصل للنظام
الجمهوري وتمهد لالنتقال الديمقراطي ، 0أربكها في ذلك حالة االنغالق السياسي والعزلة التي فرضت
عليها عن الجماهير والتي ارتضتها 0لنفسها فوقع 0جزء منها في ردود 0الفعل العاطفية وقام 0آخرون
باالنفصال عن الواقع ومتطلباته وغابوا بين كتب التاريخ الثوري يجترون شعاراتها وأدبياتها وليسقطوها0
على واقعنا 0مما دفعها إلى االعتداء على اطر المجتمع المدني وتحويلها إلى مظالت للعمل الحزبي
الضيق ومواقع 0للصراعات السياسية التي ساهمت في مزيد شرذمة القوى .ورغم محاولة جزء آخر من
الديمقراطيين واليساريين المؤمنين بتفعيل دور المشاركة السياسية ضمن أطر الديكتاتورية على ضيقها
والسعي 0الى الربط مع الجماهير وعدم القفز على وعيها واستقطابها إلى دائرة الفعل المدني والسياسي
للتمكن من صياغة بديل سياسي 0ومجتمعي شامل يستجيب لتطلعاتها 0ويجمعها حوله ،فانهم لك يتمكنوا
من السير كثيرا في هذا االتجاه دون وحدة صلبة للحركة الديمقراطية تفرض نفسها كقطب سياسي
مستقل وفعال منحاز بالكامل لقضايا الشعب والكادحين ولقيم العدالة والمساواة والمواطنة بشكل عام
يتصدر 0التصدي للديكتاتورية القائمة من جهة ،ولمشاريع 0الردة والتطرف 0واالرهاب (السياسي 0والفكري
والمادي ) 0من جهة أخرى .
إن خروج الشعب إلى الشوارع 0مثل فرصة تاريخية له ليتمكن من التقدم ليكون فاعال أساسيا 0وشريكا في
نحت المستقبل السياسي واالجتماعي لتونس ،ليستعيد مرة والى األبد سيادته على القرار الوطني عبر
ممارسته لمواطنة حقيقية ال تستلب من خاللها حقوقه الفردية والعامة وال يصادر 0منه أي كان سلطته
االجتماعية الجماعية القائمة على االختيار 0الحر والطوعي لممثليه ونوابه ومراقبتهم 0ومحاسبتهم 0وتنظيم
عالقاته االجتماعية و عالقاته معهم وفق 0قوانين وضعية يصوغها ويغيرها 0استجابة لمصالحه ومصالح
المجموعة الوطنية على قاعدة المساواة التامة و الغير القابلة للتجزئة أو االنتقاص بأي شكل من األشكال
بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات وعلى احترام حق األقليات في التعبير والتفكير والمشاركة
في إدارة الشأن العام ،ليتمكن من استكمال بناء الدولة السياسية الكاملة المحايدة تجاه أفكار الناس
ومعتقداتهم ، 0والتي تستمد مؤسساتها شرعية وجودها 0من االقتراع 0العام للمواطنين وتعمل تحت رقابة
أطر المجتمع المدني المستقلة عنها .انها فرصة تاريخية لو تمكن المجتمع السياسي في جزءه الديمقراطي
واليساري من التعاطي معها ليتقدم ويتحمل مسؤوليته في تاطير الناس وربط الصلة معهم وتمكينهم 0من
أدواة التفكير والتحليل السياسي وفتح حوار سياسي وعقالني معهم يمكننا من إدراك متطلبات التحول
الديمقراطي 0لنصوغ برامج سياسية واجتماعية تستمد مشروعيتها 0من ارتباطها بالمشاغل الواقعية للناس
وهمومهم ومصالحهم ولنتدرب سوية على الممارسة المدنية الديمقراطية ونؤصلها في سلوكنا الجماعي
اليومي ،ولكنها قد تتحول إلى إمكانية للردة وتحويل 0وجهة الجماهير الغاضبة والمنتفضة والتالعب
بعواطفها 0بخطابات عاطفية ومشحونة لجرها إلى خيارات معادية للديمقراطية والتقدم أو لتنخرط 0في
مشاريع 0سياسية رجعية أو متطرفة معادية للمساواة والديمقراطية يهدد بعضها بتقويض النظام الجمهوري
من أسسه .
ان انتفاضة الشعب ليست فوضى قطعا ،ولكن الركوب على انتفاضته والتالعب بشبابها 0ودفه إلى
مغامرات سياسيوية مشبوهة من أي طرف كان في السلطة أو المعارضة لتحسين شروط التفاوض بين
الفرقاء عبر استنفاره في عمليات مواجهة وانتحار 0ال تراعي مصالح الشعب و الوطن مثلها مثل نشر
األوهام تدمر وعيه المدني البادئ في التشكل ،ال يمكن له أن يتحكم بأي حال من األحوال اتجاهات
ردود 0األفعال وهو يؤدي 0حتما إلى فوضى عارمة لن تكون أبدا" خالقة" أو منتجة ألي قيم حضارية
لشعبنا سيدفع فيها الشباب قطعا الثمن األكبر من استقراره ومستقبله وربما 0أكثر .لذا فنحن اليوم بحاجة
ماسة إلى وحدة للقوى الديمقراطية والتقدمية على أرضية برنامج وطني ديمقراطي ذو طابع اجتماعي
قائم على اقتصاد 0تضامني يضع ضمن أولوياته الدفاع عن مصالح الشغالين والمفقرين ،يؤصل النظام
الجمهوري ويضمن تطوره إلى مرحلة الفصل البائن والتام بين السلط لنمتكن من العبور بالمشروع0
الديمقراطي 0الى طور الممارسة الفعلية