You are on page 1of 250

‫نفحات‬

‫الولية في‬
‫شرح نهج‬
‫البلغة‬
‫جزء ‪1‬‬

‫مكارم الشيرازي‬
‫شرح عصري لنهج البلغة‬

‫‪1 4 3 2/ 0 6 / 2 0‬‬
‫المجلد الول‬

‫بمساعدة مجموعة من الفضلء‬

‫‪ 1‬ـ محمد جعفر المامي‬

‫‪ 2‬ـ محمد رضا الشتياني‬

‫‪ 3‬ـ محمد إحساني فر‬

‫‪ 4‬ـ محمد جواد أرسطا‬

‫‪ 5‬ـ إبراهيم البهادري‬

‫‪ 6‬ـ سعيد داودي‬

‫‪ 7‬ـ أحمد القدسي‬

‫‪ 8‬ـ مهدي حسينيان القمي‬

‫]‪[5‬‬

‫الدافع الرئيسي لتأليف هذا الكتاب‬


‫لم يحظ كتاب بالعناية والرعاية ـ بعد القرآن الكريم ـ كما حظي نهج البلغة ولم يتيسر لغيره مثل هذه المنزلة‬
‫السامية النامية‪.‬‬

‫ل وأساسًا‬ ‫ل ومنه ً‬
‫فما أكثر البحوث والدراسات في تصويره الفني وفصاحته وبلغته وصياغته حتى أضحى موئ ً‬
‫ونبراسًا للدراسات السلمية ومعينًا ثرا للمعارف النسانية‪ .‬وهل رأينا كالنهج يرغب المؤلفون بشرحه والتعرف‬
‫عليه والقتباس منه والستشهاد به وحفظ ولو بعض حكمه ومواعظه‪ .‬إّنه كتاب المعاني الروحية‪ ،‬والعدالة‬
‫لدلة والكمال والنقاء‪ ،‬ونابض بكل مفيد وسديد ورشيد‪ ،‬ورافض‬ ‫الجتماعية‪ ،‬والتربية الرسالية‪ ،‬والقيم الخلقية‪ ،‬وا ّ‬
‫لكل ألوان الشرور والفجور والغرور ومهما استجدت من أفكار وآراء ونظريات واكتشافات خلل هذه القرون‬
‫ل انسجامًا واحترامًا‪ ،‬لّنه‬
‫ل تسديدًا وتأييدًا وتخليدًا‪ ،‬ول يزداد المفكرون والباحثون نحوه إ ّ‬
‫المتطاولة فل تزيده إ ّ‬
‫الكتاب الزاهر بالحجج البالغة والزاخرة بالموارد السائغة والجامع بين جلل البلغة وجمال الصياغة‪ ،‬وبين‬
‫إصالة المعاني وجزالة المباني وبين دّقة التصوير ورقة التعبير‪.‬‬

‫لقد عكفت كأغلب الفراد الشغفين بنهج البلغة على مطالعة بعض أجزائه‪ .‬بحسبما كانت تتطلبه الضرورة‬
‫ى برفقة طائفة من كبار‬
‫والحاجة‪ ،‬حتى لحت بوادر الخامس عشر من خرداد عام ‪ 1963‬م فُالقي القبض عل ّ‬
‫لولى حيث عمدت جلوزة‬ ‫العلماء والمفكرين فاودعنا السجن‪ .‬كانت ظروف السجن عصيبة جّدا في اليام ا ُ‬
‫ن الضغوط التي مارسها الرأي العام‬ ‫النظام الشاهنشاهي البائد إلى حظر أغلب الشياء عن الوصول إلينا‪ ،‬غير أ ّ‬
‫دفعت بذلك النظام‬

‫]‪[6‬‬

‫إلى التخفيف من وطأته والتنازل عن بعض المحظورات الثقافية; المر الذي جعلنا نطلب من أصدقائنا وذوينا‬
‫إتياننا ببعض الكتب إلى السجن‪ .‬أّما أنا فقد ناشدتهم كتاب نهج البلغة لستغل تلك الفرصة المناسبة وأتفرغ فيها‬
‫ي ووّفقني للتدبر والتحقيق في دراسة القسم الثاني من هذا الكتاب‬
‫ن ال عل ّ‬
‫للتأمل في هذا الكتاب العظيم‪ ،‬وقد م ّ‬
‫والذي يشمل الرسائل والوصايا السياسية والخلقية‪ ،‬آنذاك أيقنت بأنّ نهج البلغة لعظم وأكبر مّما كّنا نفكر فيه‬
‫ونتصوره عنه‪ .‬فقد رأيت نفسي حينها أمام بحر زاخر من العلوم والمعارف التي تعالج أهم قضايا النسان في‬
‫كافة أبعاده المعنوية والمادية‪ ،‬كما يمد النسان بمختلف المواهب المعنوية التي تمكنها من بلوغ شأطئ المان في‬
‫هذه الدنيا المحفوفة بالمكاره‪.‬‬

‫آنذاك أدركت عمق خيبة وخسران أولئك الذين وّلوا ظهورهم لهذا الكنز الفّياض والمنهل العذب وجعلوا يسيلون‬
‫لعابهم لموائد الجانب بما يعجزون عن التيان بمثل قطرة من بحره المتلطم!‬

‫من عجائب هذا الكتاب الذي اقتفى آثا رالقرآن حتى طبع بصفاته وسماته إّنه وخلفًا للمدارس الفكرية والخلقية‬
‫ن خطب أمير المؤمنين)عليه‬ ‫والسياسية التي يبليها الزمان فاّنه يحمل في طياته صفات العصرنة والتجدد وكأ ّ‬
‫السلم( ومواعظه وتوجيهاته تقرع سمع المعاصر وتجعله يعيش أجواء مسجد الكوفة‪ .‬وما أجدر عشاق الحق‬
‫والحقيقة والمتعطشين لمعرفة العلوم الرّبانية والمتطلعين لعيش الحياة الحرة الكريمة أن يقصدوا كل يوم ضريح‬
‫هذا العالم الفذ السيد الشريف الرضي )جامع نهج البلغة( فيؤدوا له طقوس الجلل والكبار ويقرأوا الفاتحة‬
‫على روحه الطاهرة بفضل الجهود المضنية التي بذلها من أجل جمع كلمات أميرالمؤمنين)عليه السلم( فزود بها‬
‫ل عن المجتمعات السلمية‪.‬‬ ‫البشرية جمعاء فض ً‬

‫وماذا بوسعي أن أقول بشأن نهج البلغة الذي حار في وصفه البلغاء وعجز عن تصويره الفصحاء وعيت عن‬
‫الحاطة بكنهه العلماء‪ ،‬وعليه ل أرى من جدوى في الستغراق في هذا الموضوع‪ ،‬وأخوض في الغرض والدافع‬
‫لدباء على هذا الكتاب النفيس ـ نهج البلغة ـ بين حافظ وناسخ وشارح‪ ،‬حيث‬ ‫من هذا الكتاب‪ .‬فقد أقبل العلماء وا ُ‬
‫بلغ عدد شّراحه في العصر القديم والحديث ما جاوز الخمسين شارحًا الذين بذلوا ما بوسعهم لسبر أغواره‬
‫واستخراج‬

‫]‪[7‬‬
‫ن هذا الكتاب ما يزال‬ ‫ن النصاف هو أ ّ‬ ‫لأّ‬ ‫كنوزه وجواهره حتى قدموا خدمة جليلة لطلب المعرفة والحكمة‪ ،‬إ ّ‬
‫يعيش مظلومية كبرى وغربة عظمى‪ ،‬وليس هناك من سبيل لزالتها سوى في تظافر الجهود وتعبئة الفكار‬
‫والطاقات من أجل إعادة النظر والسهاب في تفاصيل وجزئيات هذا الكتاب الثر‪ ،‬ول سيما في عصرنا الراهن‬
‫الذي تشهد فيه المجتمعات النسانية ذروة المشاكل والمطبات التي تعترض حياتها اليومية‪ ،‬إلى جانب ظهور‬
‫المذاهب والمدارس الفكرية المختلفة والحملت الشعواء التي تمارسها الجهزة الستكبارية والدوائر النفعية‬
‫الغارقة في الهواء والشهوات وحب الدنيا والخلود إليها ضد العقائد والخلق والفضيلة والتقوى بغية تحقيق‬
‫أهدافها المشؤومة في ضمان مصالحها ونهب خيرات البشرية وتجريدها من هويتها النسانية‪ .‬أجل فالعصر‬
‫الحاضر يجعل نهج البلغة يتطلب جهودًا أكثر وأنشطة أوسع وأشمل من شأنها التوصل إلى الطرق والساليب‬
‫التي تذلل الصعاب المادية والمعنوية والفردية والجتماعية‪ ،‬إلى جانب التصدي إلى النزعات الفكرية الهدامة التي‬
‫تستهدف الدين والخلق‪ .‬وعلى هذا الساس وما أن فرغنا من نشاطنا القرآني في التفسير الذي دوناه ـ التفسير‬
‫المثل ـ وكتابنا رسالة القرآن والتي حظيت باقبال المحافل العلمية والوساط التحقيقية حتى آلينا على أنفسنا أن‬
‫نواصل نفس هذه الجهود وبمعونة الخوة الفضلء من العلماء بخصوص نهج البلغة على غرار الجهود‬
‫ن التجارب السابقة قد جعلت هذا الجهد‬ ‫والساليب التحقيقية التي إعتمدناها في التفسير القرآني ـ المثل ـ بل إ ّ‬
‫المتواضع أقرب من غيره إلى التقان والكمال‪ .‬نعم لقد عزمنا على مباشرة هذا العمل رغم كثرة المشاكل‬
‫والعراقيل وسعة حجم المسؤوليات مستلهمين العزم والمداد من البارئ سبحانه وعبده الخالص ربيب النبي)صلى‬
‫ال عليه وآله( أمير المؤمنين ويعسوب الدين وقائد الغر المحجلين علي بن أبي طالب)عليه السلم( وبعد أن وعدنا‬
‫الخوة الذين وقفوا إلى جانبنا في التفسير القرآني بتقديم كافة أشكال الدعم والعون في هذا المجال لكي نعد شرحا‬
‫جديدًا جامعًا لهذا الكتاب من شأنه تلبية حاجات العصر ووضع الحلول الوافية الشافية للمعضلت الفكرية‬
‫والجتماعية‪ ،‬كما استعنا في بعض المواقيع بما أورده المفسرون والشارحون القدماء والمعاصرون من أجل‬
‫إغناء كافة جوانب المواضيع‪ ،‬إلى جانب اعتماد الفكار والطروحات الحديثة المعاصرة‪.‬‬

‫]‪[8‬‬

‫لقد باشرنا هذا العمل غرة الثالث عشر من شهر رجب المرجب لعام ‪ 1413‬هـ الميلد الميمون لمير‬
‫المؤمنين)عليه السلم(وسار بخطوات بطيئة هادئة حتى استغرق إعداد المجلد الول ـ رغم الجهود الجماعية‬
‫المشتركة ـ ما يقارب الثلث سنوات )ومن الطبيعي أن ل تشوب العمال العجلة في بدايتها(‪ .‬حتى اتسقت لنا‬
‫لمور فأخذنا نحث السير وننهض سريعًا بهذا العمل‪ ،‬رغم يقيننا بأننا مازلنا نحوم في هذا المحيط المتلطم‬
‫اُ‬
‫والبحر العميق; المر الذي ليبد ويسيرًا قط‪ .‬والفضل أل أخوض في التفاصيل التي اعتمدت في هذا الشرح‬
‫وأترك ذلك للخوة القراء‪ ،‬ويسرني هنا أن أناشد كافة الخوة الفضلء أن يتحفونا بآرائهم بما يقرب هذا العمل من‬
‫أهدافه ومقاصده‪ ،‬إلى جانب النظر بعين العفو والصفح إلى الخطأ والزلل‪.‬‬

‫وأخيرًا أسأل ال أن يتفضل علينا باتمام هذا الجهد المتواضع بغية التزود من مائدة نهج البلغة لنا ولكافة جياع‬
‫ل بال عليه توكلت وإليه أنيب‪ ،‬وآخر دعوانا أن الحمد‬ ‫الفكر والعقيدة‪ ،‬إّنه نعم المولى ونعم المجيب‪ ،‬وما توفيقي إ ّ‬
‫ل رب العالمين‪.‬‬

‫قم ـ الحوزة العلمية‬

‫ناصر مكارم الشيرازي‬

‫‪ 3‬ربيع الثاني ‪ 1417‬هـ‬

‫‪ / 20‬تموز ‪ 1996 /‬م‬

‫]‪[9‬‬
‫السيد الرضي جامع نهج البلغة‬

‫هو أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي‪ ،‬ولد في بغداد سنة تسع وخمسن وثلثمائة للهجرة‪ُ .‬أّمه فاطمة بنت‬
‫الحسين بن أبي محمد الحسن الطروش بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب)عليه السلم(‪،‬‬
‫وهى إمرأة فاضلة عرفت بالورع والتقوى والبصيرة الثاقبة‪ ،‬فقد قال فيها السيد الرضي)ره(‪:‬‬

‫ن الباِء‬
‫عِ‬
‫ن ِبها َ‬
‫ى الَبُنو َ‬
‫غِن َ‬
‫ل ُاّم َبّرة *** َ‬
‫ن ِمثَلك ك ّ‬
‫َلْو كا َ‬

‫كما يتصل نسب جّده بالمام موسى بن جعفر الكاظم)عليهما السلم( وهو أبو أحمد الحسين بن موسى بن محمد‬
‫بن موسى بن إبراهيم بن المام أبي إبراهيم موسى الكاظم)عليه السلم(‪ .‬وقد كانت له منزلة عظيمة في الدولة‬
‫العباسية والدولة البويهية‪ ،‬حتى لقبه أبو نصر بهاء الدين بالطاهر الوحد‪.‬‬

‫أقبل السيد الرضي على العلم والفقه والدب حتى بات أبدع أبناء زمانه‪ ،‬وقد خلف أبيه عام ‪ 388‬بتولي نقابة‬
‫الطالبيين في حياته‪ ،‬وعهد إليه بالنظر في المظالم والحج بالناس‪ .‬إبتدأ ينظم الشعر وله من العمر عشر سنين أ‬
‫ل‪ ،‬اّما المرحوم‬
‫ل‪ ،‬حكم بعض النقاد بأّنه أشعر الطالبيين‪ ،‬وإلى جانب ذلك فقد كان كاتبًا بليغًا مترس ً‬
‫وتزيد قلي ً‬
‫لمة الميني فقد صّرح بشأن السيد الشريف الرضي قائل‪» :‬وسيدنا الشريف الرضي هو مفخرة من مفاخر‬ ‫الع ّ‬
‫العترة الطاهرة‪ ،‬وإمام العلم والحديث والدب‪ ،‬وبطل من أبطال الدين والعلم والمذهب‪ ،‬ومهما تشدق الكاتب فان‬
‫في البيان قصورًا عن بلوغ مداه«‪(1).‬‬

‫أساتذة السيد الرضي‬

‫لمة الميني إسم أربعة عشر من أساتذة السيد الرضي ومنهم‪:‬‬


‫لقد ذكر الع ّ‬

‫‪ .1‬الغدير ‪.181/ 4‬‬

‫] ‪[ 10‬‬

‫‪ 1‬ـ أبو سعيد الحسن بن عبدال بن مرزبان النحوي المعروف بالسيرافي المتوفى عام ‪368‬هـ فقد درس السيد‬
‫الرضي عليه النحو ولما يبلغ العاشرة من عمره‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ النحوي المعروف أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي المتوفى عام ‪ 377‬هـ ‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ هارون بن موسى‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ الخطيب المشهور أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد المعروف بابن نباتة المتوفى عام ‪394‬هـ ‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ القاضي عبد الجبار‪ ،‬العالم الشافعي المعتزلي‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ الفقيه والمحدث والمتكلم الشيعي الكبير الشيخ المفيد والذي يعّد من أعظم أساتذة السيد الرضي‪ .‬وهناك قصة‬
‫رائعة جديرة بالسماع بشأن كيفية تتلمذه وأخيه السيد المرتضى على يد الشيخ المفيد‪ .‬فقد قال مؤلف كتاب‬
‫ن فاطمة بنت رسول‬ ‫»الدرجات الرفيعة«‪ :‬رأى المفيد أبو عبد ال محمد بن النعمان الفقيه المام في منامه‪ ،‬كأ ّ‬
‫ال)صلى ال عليه وآله(دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها والداها الحسن والحسين)عليهما السلم(‬
‫صغيرين فسلمتهما إليه‪) ،‬وقالت له‪ :‬علمهما الفقه(‪ .‬فانتبه متعجبًا من ذلك‪ ،‬فلّما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة‬
‫التي رأى فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر‪ ،‬وحولها جواريها وبين يديها ابناها محمد الرضي‬
‫وعلي المرتضى صغيرين‪ ،‬فقام إليها وسّلم عليها‪ .‬فقالت له‪ :‬أّيها الشيخ هذان ولداي‪ ،‬قد أحضرتهما لتعلمهما الفقه‪.‬‬

‫ص عليها المنام وتولى تعليمهما الفقه‪ ،‬وأنعم ال عليهما‪ ،‬وفتح لهما من أبواب‬
‫فبكى أبو عبد ال ـ الشيخ المفيد ـ وق ّ‬
‫العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا; وهو باق ما بقى الدهر »وردت هذه القصة في شرح ابن أبي‬
‫الحديد‪ ،‬ج ‪.«41 / 1‬‬

‫تلمذة السيد الرضي‬

‫لمة الميني ذكر تسعة من تلمذة السيد الرضي‪ ،‬ويمكن الشارة هنا إلى أبرز‬
‫ن الع ّ‬
‫روى كبار علماء الفريقين أ ّ‬
‫من روى عنه ومنهم شقيقه السيد المرتضى وشيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي كانت للسيد‬
‫الرضي همة كبيرة جعلته يؤسس مدرسة لطلب العلوم‬

‫] ‪[ 11‬‬

‫الدينية أسماها »دار العلم« ولعلها أول مدرسة يتلقى فيها الطلب الدروس صباحًا بينما يخلدون إلى الراحة‬
‫والسكن مساًء في نفس المدرسة‪ ،‬وهى على غرار مدرسة أخيه السيد المرتضى‪ ،‬وقد كان الشيخ الطوسي‬
‫والقاضي عبد العزيز بن براج من تلميذها وسبقت مدرسته »المدرسة النظامية« ببغداد بحوالي ‪ 80‬سنة وربما‬
‫كانت تقليدًا لها)‪.(1‬‬

‫كتب ومؤلفات السيد الرضي‬

‫ن السيد الرضي خلف أكثر من تسعة عشر كتابًا‪ ،‬أهمها أثره الخالد نهج البلغة الذي يضم‬ ‫لمة الميني أ ّ‬
‫ذكر الع ّ‬
‫خطب ورسائل وكلمات المام علي)عليه السلم(‪ .‬ثم يورد الشيخ الميني أسماء واحد وثمانين كتابًا زمان السيد‬
‫تعرضت لشرح نهج البلغة أ وترجمته‪.‬‬

‫ومن أهم الكتب التي ألفها السيد الرضي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ خصائص الئمة‪ ،‬والذي أشار إليه المؤلف في مقدمة نهج البلغة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ مجازات الثار النبوية‪ ،‬والذي طبع عام ‪ 1328‬هـ في بغداد‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ الرسائل العلمية في ثلثة مجلدات‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ معاني القرآن‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ حقائق التأويل في متشابه التنزيل والذي عّبر عنه الكشي بحقائق التنزيل‪.‬‬

‫السيد الرضي والشعر‬

‫ن الشعر لم يضف شيئًا لشخصيته العظيمة‪ ،‬ورغم ذلك فقد جادت‬ ‫كان السيد الرضي نابغة في الشعر‪ ،‬علمًا أ ّ‬
‫قريحته الشعرية بمختلف الفنون والداب والصنوف الشعرية التي تكشف عن مدى قدرته في نظم الشعر‪ .‬يذكر أ ّ‬
‫ن‬
‫السيد الرضي قد أنشد قصيدة غّراء كشف فيها النقاب عن علو نسبه ولما يبلغ العاشرة من عمره ولذلك عّده بعض‬
‫جح شعره على المتنبي‪ ،‬وهناك رسائل ومبادلت بينه وبين الصاحب بن‬
‫لدباء أشعر شعراء قريش‪ ،‬ورّبما ر ّ‬
‫اُ‬
‫عباد وأبي اسحاق‬

‫لمة الشريف الرضي ‪.29 /‬‬


‫‪ .1‬مذكرات الع ّ‬

‫] ‪[ 12‬‬

‫ل‪ :‬سمعت محمد بن عبد ال الكاتب أّنه قال عند أبي الحسين بن‬ ‫الصابي‪ ،‬وذكر الخطيب البغدادي في تأريخه قائ ً‬
‫ل‪:‬‬
‫لدباء أّنهم قالوا‪ :‬السيد الرضي أشعر شعراء قريش‪ .‬فرّد ابن محفوظ قائ ً‬ ‫محفوظ قال‪ :‬سمعت من فريق من ا ُ‬
‫ل أّنهم قليلوا النظم‬
‫نعم‪ ،‬هذا كلم صحيح‪ ،‬ثم أضاف‪ :‬كان هناك بعض الفراد الذين يحسنون الشعر في قريش إ ّ‬
‫للشعر‪ ،‬ولم يكن سوى السيد الرضي يكثر إنشاد الشعر إلى جانب إتصافه بالعذوبة والجمال‪.‬‬

‫القابه ومناصبه‬

‫لقبه بهاء الدولة سنة ‪ 388‬بالشريف الجل‪ ،‬وفي سنة ‪ 392‬بذي المنقبتين‪ ،‬وفي سنة ‪ 389‬بالرضي ذي الحسبين‪،‬‬
‫وفي سنة ‪ 401‬أمر أن تكون مخاطباته ومكاتباته بعنوان الشريف الرضي أن المناصب والوليات كانت منكثرة‬
‫على عهد سيدنا الشريف من الوزارة التنفيذية والتفويضية والمارة على البلد بقسميها العامة والخاصة‪ ،‬تولى‬
‫الشريف نقابة الطالبيين وامارة الحاج والنظر في المظالم سنة ‪ 380‬وهو ابن ‪ 21‬عاما على عهد الطائع‪ ،‬ثم عهد‬
‫إليه في ‪ 16‬محرم سنة ‪ 403‬بولية ُأمور الطالبيين في جميع البلد فدعي »نقيب النقباء«‪(1).‬‬

‫‪ .1‬النقابة‪ :‬موضوعة على صيانة ذوي النساب الشريفة عن ولية ول يكافئهم في النسب ول يساويهم في الشرف‪ ،‬ليكون عليهم‬
‫أحبى وأمره فيهم أمضى وهى على ضربين‪ :‬خاصة وعامة‪ ،‬وأّما الخاصة فهو أن يقتصر بنظره على مجرد النقابة من غير تجاوز لها‬
‫إلى حكم وإقامة حد فل يكون العلم معتبرًا في شروطها ويلزمه في النقابة على أهله من حقوق النظر اثنا عشر حقًا‪:‬‬

‫‪1‬ـ حفظ أنسابهم من داخل فيها وليس هو منها‪ ،‬أ وخارج عنها‪.‬‬

‫‪2‬ـ تميييز بطونهم ومعرفة أنسابهم حتى ل يخفى عليه منه يتوأب‪.‬‬

‫‪3‬ـ معرفة من ولد منهم من ذكر أ وانثى فيثبته‪.‬‬

‫ل)صلى ال‬
‫‪4‬ـ أن يأخذهم من الداب بما يضافي شرف أنسابهم وكرم محتدهم لتكون حشمتهم في النفوس موقورة وحرمة رسول ا ّ‬
‫عليه وآله( فيهم محضورة‪.‬‬

‫‪5‬ـ أن ينزههم عن المكاسب الدنيئة ويمنعهم من المطالب الخبيثة‪.‬‬

‫‪6‬ـ أن يكّفهم عن ارتكاب المآثم‪.‬‬

‫‪7‬ـ أن يمنعهم من التسلط على العامة لشرفهم‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ أن يكون عونًا لهم في استيفاء الحقوق‪.‬‬

‫‪9‬ـ أن ينوب عنهم في المطالبة بحقوقهم العامة‪.‬‬

‫‪10‬ـ أن يمنع أمائهم أن يتزوجن إّل من الكفاء‪.‬‬

‫‪11‬ـ أن يقوم ذوي الهفوات منهم فيما سوى الحدود‪.‬‬

‫‪12‬ـ مراعاة وقوفهم بحفظ اصولها وتنمية فروعها‪.‬‬


‫] ‪[ 13‬‬

‫وفاة السيد الرضي‬

‫توفي السيد الرضي)رحمه ال( في السادس من شهر محرم الحرام من سنة ست وأربعمائة ـ وله من العمر ما‬
‫يناهز السابعة والربعين ـ‪ ،‬وحضر جنازته الوزير فخر الملك‪ ،‬وجميع العيان والشراف والقضاة والصلة‬
‫عليه‪ ،‬وقد أقيمت مراسم العزاء في داره في الكرخ‪.‬‬

‫ن جسده الطاهر قد حمل إلى كربلء فدفن إلى جوار قبر جّده‪ ،‬والذي يفهم من بعض‬‫روى أغلب المؤرخين أ ّ‬
‫النقول التأريخية أن قبره في مقدمة الحائر الحسيني‪ .‬ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن‬
‫جعفر)عليه السلم(; لّنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه وصلى عليه فخر الملك أبو غالب‪ ،‬ومضى بنفسه‬
‫آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الشريف الكاظمي‪ ،‬فألزمه بالعود إلى داره‪(1).‬‬

‫ل‪:‬‬
‫رثاه الكثير من الدباء والشعراء وفي مقدمتهم أخيه السيد المرتضى الذي أنشده قائ ً‬

‫ي براسي‬
‫يا للرجال لفجعة جذمت يدي *** وددت لو ذهبت عل ّ‬

‫ب عمر طال بالدناس‬


‫ل عمرك من قصير طاهر *** ولر ّ‬

‫—–‬

‫‪ .1‬أغلب ما أوردناه بالنسبة لحياة السيد الرضي قد اقتبسناه من كتاب الغدير ‪ 181 / 4‬ـ ‪ ،211‬إضافة إلى شرح نهج البلغة لبن أبي‬
‫الحديد‪ ،‬عبقرية الشريف الرضي‪ ،‬سفينة البحار ومذكرات العلمة الشريف الرضي‪.‬‬

‫] ‪[ 14‬‬

‫] ‪[ 15‬‬

‫كلم بشأن نهج البلغة وصاحبه‬

‫ل وفي نفس الوقت وليس بسهل! فهو ليس بسهل‬ ‫ل سه ً‬


‫يعد الحديث عن علي)عليه السلم( أو نهج البلغة عم ً‬
‫بالنسبة لمن يروم الغوص في أعماق علي)عليه السلم( والوقوف على كنهه وحقيقته والحاطة بكافة جوانبه‬
‫الفكرية وسعة إيمانه وقوة صبره وعظم فضائله وملكاته‪ ،‬أو أن يتعرف على نهج البلغة كما هو في حقيقته‪.‬‬
‫ولكن من السهل الوقوف على بعض قبسات هذين النبراسين العظيمين والقمرين الزاهرين‪ .‬ل تخفى شخصية‬
‫علي)عليه السلم( على مسلم‪ ،‬فكل من له أدنى معرفة بعلي)عليه السلم(وتاريخه وسيرة حياته سيوقن بأّنه‬
‫النسان الكامل ـ بعد رسول ال)صلى ال عليه وآله(ـ وأّنه آية من آيات الحق جل وعل وان كتابه نهج البلغة‬
‫ل شعاعًا من شمسه المنيرة‪ .‬فنهج البلغة بحر من العلم ومحيط من الحكمة وكنز ل ينضب وحديقة غناء‬
‫ليس ا ّ‬
‫بالزهور وسماء مزينة بالنجوم ومصدر لسعادة النسان في مسيرته الدنيوية‪.‬‬

‫لمور‪،‬‬
‫ن من يروم إقتحام هذا الميدان عليه أن يعّد الكتب والمجلدات عّله يحصي بعض حقائق ا ُ‬ ‫ومّما لشك فيه أ ّ‬
‫ل إلى التطرق إلى بعض الشارات المقتضبة من أجل التمهيد للخوض في‬ ‫بينما ل نهدف ـ في هذه المقدمة ـ إ ّ‬
‫شرح كلمات أمير المؤمنين)عليه السلم( والتي نراها أفضل طريقة للتعريف به‪ ،‬وهل الجو المشمس إلّ دليل‬
‫على وجود الشمس‪.‬‬

‫ن عددًا كبيرًا من العلماء والدباء والزعماء ـ ول سيما من غير‬


‫وهنا أود أن ألفت إنتباه الخوة القراء إلى أ ّ‬
‫المسلمين ـ قد تناولوا بالبحث والدرس كتاب نهج البلغة فرأوا أعظم مّما ظنوا وتصوروا فأطلقوا عباراتهم‬
‫المعروفة بشأن نهج البلغة بما يكشف عن مدى تأثرهم والذهول الذي أصابهم فلم يتمالكوا أنفسهم ويعبروا عن‬
‫أحاسيسهم ومشاعرهم وعواطفهم‪.‬‬

‫] ‪[ 16‬‬

‫ويبدو أن كل واحد من هؤلء قد تأثر بجانب معين من نهج البلغة‪ ،‬وربما أمكننا إيجاز هذه الجوانب في المحاور‬
‫الرئيسية الثلث التية‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ فصاحة وبلغة نهج البلغة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ المضامين العميقة لنهج البلغة‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ الجاذبية الخارقة لنهج البلغة‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 17‬‬

‫‪1‬ـ فصاحة النهج وبلغته‬

‫لبّد في هذا المر من الستشهاد بأقوال البلغاء والفصحاء والدباء والشّراح والكّتاب الذين سيروا ـ حسب قدرتهم‬
‫ـ أغوار نهج البلغة فتأثروا بما لمسوه من حلوة وطلوة في فصاحته وبلغته وسحر بيانه بما لم يعهدوه‪،‬‬
‫فأطلقوا عباراتهم بشأنه ومنهم‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ وما أحرانا أن نتجه بادئ ذي بدء صوب جامع نهج البلغة والذي يعتبر من جهابذة الفصاحة والبلغة الذي‬
‫احتل الصدارة من بين فصحاء العرب وبلغائها وقد أفنى عمره في جمع خطب نهج البلغة‪ ،‬أل وهو السيد‬
‫الرضي الذي وصفه الكاتب المصري المعروف الدكتور »زكي مبارك« في كتابه »عبقرية الشريف الرضي«‬
‫ل‪» :‬هو اليوم أبدع أبناء الزمان‪ ،‬وأنجب سادة العراق‪ ،‬يتحلى بأدب ظاهر‪ ،‬وفضل باهر‪ ،‬وحظ من جميع‬ ‫قائ ً‬
‫المحاسن وافر‪ ،‬ثم هو أشعر الطالبيين‪ ،‬ولو قلت إّنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق«‪.‬‬
‫حةِ‬
‫ع اْلَفصا َ‬
‫شِر َ‬
‫ن)عليه السلم( َم ْ‬ ‫ن أميُر اْلُمؤِمني َ‬ ‫يقول الشريف الرضي في مقدمته الرائعة لنهج البلغة‪» :‬كا َ‬
‫خطيب‬ ‫ل قاِئل َ‬ ‫حذا ُك ّ‬
‫على أْمِثَلِتِه َ‬
‫ت قوانيُنها َو َ‬ ‫عْنُه أخَذ ْ‬ ‫ظَهَر َمْكُنوُنها َو َ‬‫غِة َوَمْوِلَدها َوِمْنُه َ‬
‫شأ اْلبل َ‬
‫َوَمْوِرَدها َوَمْن َ‬
‫خروا«‪ ،‬ثم يفسر هذا الكلم فيقول‪» :‬لن‬ ‫صُروا َوَقْد َتَقّدَم َوَتأ ّ‬‫ق َوَق ّ‬
‫سَب َ‬‫عظ َبليغ َوَمَع ذِلك َفَقْد َ‬ ‫ل وا ِ‬
‫ن ُك ّ‬
‫سَتعا َ‬ ‫َوِبكلِمِه ا ْ‬
‫كلمه)عليه السلم( الكلم الذي عليه مسحة من العلم اللهي وفيه عبقة من الكلم النبوي«‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الشارح المعروف الذي أفنى عمرًا في شرح وتفسير نهج البلغة وتحدث بشغف وإعجاب عن علي)عليه‬
‫السلم( وهو عز الدين عبد الحميد ابن أبي الحديد المعتزلي الذي يعّد من أشهر علماء العامة للقرن السابع‬
‫الهجري)‪.(1‬‬

‫‪ .1‬يقع شرحه في عشرين مجلدًا وقد استغرق في تأليفه أقل بقليل من خمس سنوات وهى مّدة خلفة علي)عليه السلم(على حد‬
‫تعبيره‪.‬‬

‫] ‪[ 18‬‬

‫فقد تحدث مرارًا وكرارًا بهذا الشأن في شرحه وأذعن لعظمة فصاحة وبلغة النهج‪ .‬فقد قال على سبيل المثال‬
‫بشأن الخطبة ‪ 221‬التي أوردها علي)عليه السلم( ـ بشأن البرزخ ـ »وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في‬
‫مجلس وتلي عليهم‪ ،‬أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدي ابن الرقاع‪ :‬قلم أصاب من الدواة مدادها‪ ...‬فلم‬
‫قيل لهم في ذلك قالوا إنا نعرف مواضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع السجود في القرآن«)‪.(1‬‬

‫ثم قال في موضع آخر حين عرض للمقارنة بين كلم أمير المؤمنين علي)عليه السلم(وكلم »ابن نباتة«)‪(2‬‬
‫الخطيب المعروف الذي عاش في القرن الهجري الرابع‪» :‬فليتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة والبيان هذا الكلم‬
‫ن سطرًا واحدًا من كلم نهج البلغة يساوي ألف سطر منه بل يزيد ويربي على ذلك«)‬ ‫بعين النصاف ليعلموا أ ّ‬
‫‪ .(3‬وينقل أيضًا إحدى خطب ابن نباتة في الجهاد والتي تمثل قمة الفصاحة وقد ضمنها عبارات أمير‬
‫ل ذّلوا« فيقول‪» :‬فانظر إلى هذه العبارة‬
‫المؤمنين)عليه السلم( الواردة في الجهاد »ما غزي قوم في عقر دارهم إ ّ‬
‫كيف تصيح من بين الخطبة صياحًا وتنادي على نفسها نداًء فصيحًا‪ ،‬وتعلم سامعها أّنها ليست من المعدن الذي‬
‫خرج باقي الكلم منه‪ ،‬ول من الخاطر الذي صدر ذلك السجح عنه‪ ،‬ولعمر ال‪ ،‬لقد جّملت الخطبة وحسنتها‬
‫ل كآية من الكتاب العزيز يتمثل بها في رسالة أو خطبة‪ ،‬فاّنها تكون كاللؤلؤة المضيئة‬
‫وزانتها وما مثلها فيها إ ّ‬
‫تزهر وتنير‪ ،‬وتقوم بنفسها‪ ،‬وتكتسي الرسالة بها رونقًا‪ ،‬وتكتسب بها ديباجة«)‪.(4‬‬

‫وأخيرًا نختتم كلمه بما أورده في مقدمة شرحه للنهج حيث قال‪» :‬وأّما الفصاحة فهو)عليه السلم(إمام الفصحاء‬
‫وسيد البلغاء وفي كلمه قيل‪ :‬دون كلم الخالق وفوق كلم المخلوقين ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة«)‪.(5‬‬

‫‪ 3‬ـ »جورج جرداق« الكاتب المسيحي اللبناني المعروف الذي ألف كتابه المشهور‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.153 / 11‬‬

‫‪ .2‬هو أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن اسماعيل بن نباتة المتوفى عام ‪.374‬‬

‫‪ .3‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.214 / 7‬‬

‫‪ .4‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪. 84 / 2‬‬

‫‪ .5‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.24 / 1‬‬

‫] ‪[ 19‬‬
‫ل من كتابه لبيان خصائص المام علي)عليه السلم( فقال‬
‫»المام علي صوت العدالة النسانية« حيث أفرد فص ً‬
‫بخصوص نهج البلغة‪» :‬أّما في البلغة‪ ،‬فهو فوق البلغات‪ ،‬كلم ضم جميع جمالت اللغة العربية في الماضي‬
‫والمستقبل‪ ،‬حتى قيل عنه‪ :‬كلم دون كلم الخالق وفوق كلم المخلوقين«)‪.(1‬‬

‫‪ 4‬ـ »الجاحظ« الذي عاش مطلع القرن الهجري الثالث ويعّد من أبرز أدباء العرب ونوابغهم‪ ،‬حيث أورد بعض‬
‫كلمات أمير المؤمنين)عليه السلم( في كتابه المعروف »البيان والتبيين« فجعل يثني عليه‪ .‬ومن ذلك قال في‬
‫المجلد الول من كتابه المذكور حين طالعته كلمته)عليه السلم(‪» :‬قيمة كل امرء ما يحسنه«)‪ ;(2‬لو لم تكن في‬
‫ل ومفهومه ظاهر جلي ويغنيك عن‬ ‫ل هذه الجملة لكفت‪ ،‬بل وزادت‪ ،‬فأفضل الحديث ما كان قلي ً‬ ‫كل هذا الكتاب إ ّ‬
‫ن ال كساه ثوبًا من الجلل والعظمة وحجابًا من نور الحكمة بما يتناسب وطهر قائله وعلو فكره وشدة‬‫الكثير‪ ،‬وكأ ّ‬
‫تقواه‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ »أمير يحيى العلوي« مؤلف كتاب »الطراز« حيث أورد في كتابه عبارة عن الجاحظ اّنه قال‪» :‬إّنه الرجل‬
‫الذي ل يجارى في الفصاحة ول يبارى في البلغة‪ ،‬وفي كلمه قيل دون كلم الخالق وفوق كلم المخلوقين‪ ،‬ولم‬
‫يطرق سمعي كلم بعد كلم ال ورسوله سوى كلمات أمير المؤمنين كرم ال وجهه من قبيل قصار كلماته »ما‬
‫هلك امرء عرف قدره« و»من عرف نفسه عرف ربه« و»المرء عدو ما جهل« و»استغن عمن شئت تكن نظيره‬
‫واحسن إلى من شئت تكن أميره واحتج إلى من شئت تكن أسيره«‪ .‬وعليه فليس من العبث أن يعرب هذا الديب‬
‫الزيدي »صاحب كتاب الطراز« عن دهشته لستناد كبار علماء المعاني والبيان بدواوين شعراء العرب وأدبائهم‬
‫بغية السبيل إلى الفصاحة والبلغة بعد كلم ال وكلم النبي)صلى ال عليه وآله( وولوا ظهورهم لكلمات المام‬
‫علي)عليه السلم(‪ ،‬بينما كانوا يعلمون أّنه يمثل قمة الفصاحة والبلغة وفي كتاب نهج البلغة كل ما يريدون من‬
‫فنون أدبية من قبيل الستعارة والتمثيل والكناية والمجاز والمعاني و‪.(3)«...‬‬

‫‪ .1‬علي صوت العدالة النساني ‪.47 / 1‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬قصار الكلمات ‪. 81‬‬

‫‪ .3‬الطراز ‪ 165 / 1‬ـ ‪.168‬‬

‫] ‪[ 20‬‬

‫‪ 6‬ـ الكاتب المشهور »محمد الغزالي« الذي نقل في كتابه »نظرات في القرآن« عن اليازجي أنه أوصى ولده‬
‫ل‪» :‬إذا شئت أن تفوق أقرانك في العلم والدب وصناعة النشاء فعليك بحفظ القرآن ونهج البلغة«‪(1).‬‬
‫قائ ً‬

‫ن انتخاب هذا السم‬


‫‪ 7‬ـ المفسر المعروف »شهاب الدين اللوسي« الذي قال ـ حين بلغ اسم نهج البلغة ـ ‪» :‬إ ّ‬
‫لهذا الكتاب نابع من كونه يشتمل على كلم فوق كلم المخلوق ودون كلم الخالق المتعال‪ ،‬وهو كلم يقترب من‬
‫العجاز يضم البدائع في الحقيقة والمجاز«)‪(2‬‬

‫ل هذه المزايا مجتمعة‪ ،‬وتلك‬


‫‪ 8‬ـ الستاذ »محمد محيي الدين عبد الحميد« الذي قال في وصفه لنهج البلغة‪» :‬ك ّ‬
‫ي من وجوه البيان‪ ،‬وملكته‬
‫الصفات متآزرة متناصرة; وما صاحبها من نفح إلهي وإفهام قدسى‪ ،‬مكنت للمام عل ّ‬
‫أعّنة الكلم‪ ،‬وألهمته أسمى المعانى وأكرمها‪ ،‬وهيأت له أشرف المواقف وأعزها‪ ،‬فجرت على لسانه الخطب‬
‫الرائعة والرسائل الجامعة والوصايا النافعة«‪(3).‬‬

‫‪ 9‬ـ أحد شّراح نهج البلغة »الشيخ محمد عبده« إمام العامة والكاتب العربي المعروف‪ ،‬الذي قال بشأن النهج في‬
‫ن هذه قضية جديرة بالتأمل‬
‫مقدمته عليه ـ بعد أن إعترف بأّنه تعرف مصادفة على هذا الكتاب الشريف ـ ويبدو أ ّ‬
‫ن هذا الكتاب عبارة عن معارك عظيمة‪ ،‬الحكومة‬ ‫ـ ‪» :‬حين تصفحت نهج البلغة وتأملت موضوعاته بدا لي وكأ ّ‬
‫فيها للبلغة والقّوة للفصاحة وقد حملت من كل حدب وصوب على جنود الظنون الباطلة وسلحها الدلة القوّية‬
‫والبراهين الساطعة«‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ »السبط بن الجوزي« أحد أبرز الخطباء والمؤرخين والمفسرين المعروفين العامة‪ ،‬الذي صّرح في »تذكرة‬
‫ل‪» :‬وقد جمع ال له بين الحلوة والملحة والطلوة والفصاحة لم يسقط منه كلمة ول بادت له‬‫الخواص« قائ ً‬
‫حجة‪ ،‬أعجز الناطقين وحاز قصب السبق في السابقين الفاظ يشرق عليها نور النبوة ويحير الفهام واللباب«‪(4).‬‬

‫‪ .1‬نظرات في القرآن ‪ ،154 /‬طبق نهج البلغة ‪.91 / 1‬‬

‫ل عن كتاب )الجريدة الغيبية( عن مصادر نهج البلغة ‪.1 /‬‬


‫‪ .2‬نق ً‬

‫‪ .3‬مصادر نهج البلغة ‪.1/96‬‬

‫‪ .4‬تذكرة الخواص‪ ،‬الباب السادس ‪.128 /‬‬

‫] ‪[ 21‬‬

‫‪ 11‬و ‪ 12‬ـ ونختتم هذا الفصل بقولين لديب مسيحي معروف وهو الكاتب والمفكر العربي المشهور »ميخائيل‬
‫نعيمة« الذي قال‪ :‬لو كان علي مقتصرًا على السلم لم يتعرض شخص مسيحي )يشير إلى الكاتب والمفكر‬
‫المسيحي اللبناني جورج جرداق صاحب كتاب المام علي صوت العدالة النسانية( لسيرته وحياته ويتابع‬
‫الحداث التي واجهته فيترنم بشجاعته التي أصابته بالدهشة والذهول; ولم تقتصر شجاعة المام وبسالته على‬
‫ميدان الحرب‪ ،‬فقد كان رائدًا في البلغة وسحر البيان والخلق الفاضلة وعلو الهّمة وعمق اليمان ونصرة‬
‫المظلومين واتباع الحق وبسط العدل‪ .‬ثم قال في موضع آخر بأن ما قاله وفعله هذا النابغة ما لم تره عين وتسمعه‬
‫أذن‪ ،‬وأّنه لعظم من أن يسع المؤرخ بيانه بقلمه ولسانه‪ .‬وأخيرًا فقد قال فيه ابن أبي الحديد‪ :‬وأّما الشجاعة فانه‬
‫أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله‪ ،‬ومحا اسم من يأتي بعده‪ ،‬ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها المثال‬
‫ل قتله‪ ،‬ول ضرب ضربة قط‬ ‫إلى يوم القيامة; وهو الشجاع الذي مافّر قط‪ ،‬ول ارتاع من كتيبة‪ ،‬ول بارز أحدًا إ ّ‬
‫فاحتاجت الولى إلى ثانية‪ ،‬وأّما السخاء والجود ففيه يضرب المثل فيهما‪ ،‬فكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده‪ ،‬وقال‬
‫الشعبي‪ :‬كان أسخى الناس; كان على الخلق الذي يحبه ال‪ :‬السخاء والجود‪ ،‬ما قال )ل( لسائل قط‪ .‬وأّما الحلم‬
‫والصفح‪ :‬فكان أحلم الناس عن ذنب‪ ،‬وأصفحهم عن مسيء; وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر‬
‫بمروان بن الحكم ـ وكان أعدى الناس له وأشّدهم بغضا ـ فصفح عنه‪ ،‬وأّما الفصاحة فهو)عليه السلم( إمام‬
‫الفصحاء وسيد البلغاء‪ ،‬ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة‪ ،‬ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية‪ :‬جئتك من عند‬
‫أعيا الناس‪ ،‬قال له‪ :‬ويحك! كيف يكون أعيا الناس! فو ال ماسن الفصاحة لقريش غيره‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 22‬‬

‫] ‪[ 23‬‬

‫‪2‬ـ المضامين الرصينة الشاملة لنهج البلغة‬

‫من المميزات التي يتصف بها نهج البلغة التي تلفت انتباه القارئ إذا ما أقبل عليه إّنما تكمن في شموليته وتنوع‬
‫ن هذه القوال المتقنة الدقيقة التي تعالج ُامور شتى تصل إلى حّد‬ ‫مضامينه الرصينة‪ ،‬بحيث »تجعله يصدق أ ّ‬
‫ل من أمير المؤمنين علي)عليه‬ ‫ن هذا المر ل يصدر إ ّ‬ ‫التضارب إّنما تصدر من عين واحدة‪ ،‬ومن المسلم به أ ّ‬
‫السلم(الذي أودع قلبًا حافظًا وروحًا سامية تفيض علومًا ومعارفًا إلهية حقة وأسرارًا جمة ل يسعها سوى ذلك‬
‫القلب‪ .‬ويسرنا هنا أن نستشهد بالقوال التي ساقها كبار العلماء والمفكرين بهذا الخصوص‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ ونستهل ذلك بما أروده العالم المعروف »محمد عبده« إمام العامة‪ ،‬فقد رسم صورة رائعة عن حاله وهو‬
‫يطالع لول مرة نهج البلغة وما اشتمل عليه من خطب ورسائل وكلمات قصار عجزت العقول أن تجود بمثلها‬
‫ي الجوهر‪ ،‬وضاء الّنفس; سليَم الّذوق‪ ،‬مستقيم الرأي‪،‬‬ ‫س‪ ،‬نق ّ‬‫ح ّ‬‫فصاحة وصياغة وبلغة‪ ،‬فقال‪» :‬وكان لطيف ال ِ‬
‫لمور إصدارًا وإيرادًا‪.‬‬ ‫ن الطريقة سريع البديهة‪ ،‬حاضر الخاطر; حّول قلًبا; عارفًا بمهّمات ا ُ‬
‫حتس َ‬

‫‪ 3‬ـ نقل »الشيخ البهائي« في »كشكوله« عن كتاب »الجواهر« ان »أبو عبيدة« قال‪ :‬قال علي)عليه السلم( تسع‬
‫جمل عجزت بلغاء العرب عن التيان بواحدة منها; ثلث في المناجاة‪ ،‬وثلث في العلوم‪ ،‬وثلث في الدب‪(1).‬‬
‫ثم خاض في شرح هذه العبارات التي وردت ضمن كلماته في نهج البلغة وسائر أحاديثه‪.‬‬

‫‪ .1‬كشكول الشيخ البهائي ‪.397 / 3‬‬

‫‪ .2‬عبقرية الشريف الرضي ‪.396 / 1‬‬

‫] ‪[ 24‬‬

‫فالكلم هنا ل يتناول سعة المعلومات وكسب المعارف والعلوم‪ ،‬بل قصره على استشعار الهمة والمروءة وسمو‬
‫النفس في ظل التمعن بالنهج‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ »ابن أبي الحديد« هو الخر أعطى الكلم حّقه فقال‪ :‬ولم تحصل العدالة الكاملة لحد من البشر بعد رسول‬
‫ل لهذا الرجل‪ ،‬ومن أنصف علم صحة ذلك‪ ،‬فان شجاعته وجوده وعفته وقناعته وزهده‬ ‫ال)صلى ال عليه وآله( إ ّ‬
‫لمور اللهية‪ ،‬فلم يكن من فن أحد من العرب‪ ،‬وهذا فن كانت‬ ‫يضرب بها المثال‪ .‬وأّما الحكمة والبحث في ا ُ‬
‫اليونان وأوائل الحكماء وأساطين الحكمة ينفر دون به‪ ،‬وأول من خاض فيه من العرب علي)عليه السلم( ولهذا‬
‫تجد المباحث الدقيقة في العدل والتوحيد مبثوثة عنه في فرش كلمه وخطبه‪ ،‬ول تجد في كلم أحد من الصحابة‬
‫والتابعين كلمة واحدة من ذلك‪(1).‬‬

‫‪ 6‬ـ أورد »المرحوم السيد الرضي« بعض العبارات المقتضبة العميقة المعنى في كتابه الشريف بشأن مضامين‬
‫نهج البلغة‪ ،‬وهى جديرة بالتأمل والهتمام‪ ،‬من ذلك ما ذكره ذيل الخطبة »‪ «21‬حيث قال‪:‬‬

‫ن هذا الكلم لو وزن بعد كلم ال سبحانه وبعد كلم رسول ال)صلى ال عليه وآله( بكل كلم لمال به راجحًا‬ ‫»إ ّ‬
‫وبرز عليه سابقًا«‪ .‬أّما الخطبة »‪ «21‬فهى‪:‬‬

‫ن وراءكم الساعة تحدوكم‪ ،‬تخففوا تلحقوا فاّنما ينتظر بأولكم آخركم«‪ .‬كما أورد مثل هذا‬
‫ن الغاية أمامكم وإ ّ‬
‫»فإ ّ‬
‫المعنى ذيل الحكمة »‪ «81‬من كلماته القصار فقال‪» :‬وهى الكلمة التي ل تصاب لها قيمة ول توزن بها حكمة‪،‬‬
‫ول تقرن إليها كلمة«‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ ونطلق الحديث هنا للكاتب المصري المعروف »عباس محمود العقاد« الذي يعّد من كبار الدباء المعاصرين‬
‫لنرى مدى اعجابه بنهج البلغة‪ ،‬فقد أورد بعض العبارات الجزيلة في مواضع من كتاب »عبقرية المام‬
‫علي)عليه السلم(« والتي تبّين عمق معرفته بشخصية المام ومدى تأثره بكلماته‪ ،‬فقد قال‪» :‬إن نهج البلغة عين‬
‫متدفقة بآيات التوحيد والحكمة اللهية التي توسع معارف الباحثين في العقائد والتوحيد والمعارف اللهية«)‪.(2‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.16/146‬‬

‫‪ .2‬العبقريات ‪) 138 / 2‬طبعة دار الكتاب اللبناني(‪.‬‬


‫] ‪[ 25‬‬

‫ن كل نموذج من كلماته شهادة؟‬


‫وقال في موضع آخر‪» :‬إ ّ‬

‫على قدرته اللهية بيان الحقائق‪ ،‬أّنه ل شك من أبناء آدم الذي علم السماء‪ ،‬فهو مصداق لقوله تعالى‪) :‬اوتوا‬
‫الكتاب( و )فصل الخطاب()‪.(1‬‬

‫ن كلماته)عليه السلم( تمثل قمة الحكمة والفصاحة والبلغة‪ ،‬وقد قال رسول ال)صلى ال عليه‬ ‫وقال أيضًا‪» :‬إ ّ‬
‫وآله(‪» :‬علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل«‪ .‬فهذا الحديث يصدق على علي)عليه السلم(قبل غيره‪ ،‬فكلماته‬
‫الحكيمة في مصاف كلمات النبياء)عليهم السلم()‪.(2‬‬

‫‪ 8‬ـ وقال الكاتب والديب المعاصر »محمد أمين النووي« يصف نهج البلغة‪» :‬إّنه الكتاب الذي جعله ال حجة‬
‫واضحة وقد ضمنه علي)عليه السلم( المثال القرآنية والحكم الربانية بفصاحة وبلغة قل نظيرها«‪(3).‬‬

‫‪ 9‬ـ وهذا الديب المصري المعروف »طه حسين« الذي يعتبر عميد الدب العربي‪ ،‬فقد قال بعد أن تعرض لردّ‬
‫علي)عليه السلم( على السائل الذي كان شاكًا في حرب الجمل‪» :‬إني لم أر ولم أعرف جوابًا بعد الوحي وكلم‬
‫ال أعظم وأروع من هذا الجواب«‪(4).‬‬

‫‪ 10‬ـ المرحوم »ثقة السلم الكليني« الذي نقل في الجلد الول من كتابه الكافي إحدى خطبه)عليه السلم( في‬
‫التوحيد‪ ،‬فقال‪» :‬هذه من خطبه المعروفة ولو اجتمعت النس والجن لبيان حقائق التوحيد لعجزت عّما بينه‬
‫علي)عليه السلم( ولوله لما عرف الناس سبيل الوحدانية«‪(5).‬‬

‫لمة الفقية آية ال الخوئي‪ ،‬إذ قال‪» :‬حين يرد المام)عليه السلم(بحثًا في خطبه‬
‫‪ 11‬ـ ونختتم البحث بما أورده الع ّ‬
‫لولئك الذين ل علم لهم بسيرة أمير المؤمنين)عليه‬
‫ل بعده للحديث حتى يخيل ُ‬ ‫من نهج البلغة فانه ل يترك مجا ً‬
‫السلم( أّنه قضى عمره في ذلك الموضوع«)‪.(6‬‬

‫‪ .1‬العبقريات ‪.144 / 2‬‬

‫‪ .2‬العبقريات ‪.145 / 2‬‬

‫‪ .3‬مصادر نهج البلغة ‪.90 / 1‬‬

‫‪ .4‬جولة في نهج البلغة ‪ 18 /‬و ‪.19‬‬

‫‪ .5‬أصول الكافي ‪.1/136‬‬

‫‪ .6‬البيان ‪.90 /‬‬

‫] ‪[ 26‬‬

‫] ‪[ 27‬‬
‫‪3‬ـ جاذبة نهج البلغة الخارقة‬

‫لدباء المسلمين‬
‫لقد شعر جميع من تعامل مع نهج البلغة ـ من قبل أشياع علي)عليه السلم( أو سائر العلماء وا ُ‬
‫ومن سائر الديان ـ دون استثناء بوجود قوة كامنة تشدهم إليه وتجعلهم يتأثرون به ويتكهربون بأجوائه‪.‬‬

‫ن مثل هذه الجاذبة التي اتسمت بها كافة خطبه ورسائله وكلماته هى التي دفعت بفريق من العلماء لتناول‬ ‫والحق إ ّ‬
‫هذا الكتاب النفيس بالشرح والتفسير وتدوين المقالت والبحاث والستغراق في مختلف جوانب شخصية المام‬
‫علي)عليه السلم(‪ .‬بدورنا نرى أن هذه الجاذبة تختزن عّدة دوافع‪ ،‬يمكن إيجاز أهمها في ما يلي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ لقد شحن نهج البلغة بالقوال التي تصرح بمواساة الطبقات المحرومة والمستضعفة‪ ،‬إلى جانب الحديث عن‬
‫مجابهة الظلم والطغيان ومقارعة حكام الجور والطواغيت‪ .‬فقد تعرض في عهده الذي عهده إلى مالك الشتر حين‬
‫وله مصر إلى الخطط والبرامج التي ينبغي اعتمادها في كيفية إدارة شؤون البلد‪ .‬يتحدث)عليه السلم( في هذا‬
‫العهد عن حقوق ووظائف الطبقات الجتماعية السبع‪ ،‬حتى إذا بلغ الطبقة المحرومة من الناس أفصح عن‬
‫ل له‪» :‬ال ال في الطبقة السفلى من الذين ل حيلة لهم‬
‫مكنوبات نفسه وسيرته في التعامل معها فيوصي عامله قائ ً‬
‫من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى‪ ،«...‬ثم يؤكد عليه‪» :‬فل يشغلنك عنهم بطر فاّنك ل تعذر‬
‫بتضييعك التافه لحكامه الكثير المهم‪ .‬فل تشخص همك عنهم‪ ،‬ول تصعر خدك لهم‪ ،‬وتفقد ُامور من ل يصل إليك‬
‫منهم ممن تقتحمه العيون‪ ،‬وتحقره الرجال« ولم تقتصر وصاياه)عليه السلم(بهذا المجال في هذا العهد فحسب‪،‬‬
‫بل لم ينفك يؤكد ذلك في كل خطبة من خطبه وموعظة من مواعظه لعماله وولته‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ لقد سلك نهج البلغة سبيل تحرير النسان من أسر الهوى والشهوات التي تؤدي به‬

‫] ‪[ 28‬‬

‫إلى البؤس والشقاء‪ ،‬وكذلك تحريره من قيود الطواغيت والظلمة‪ ،‬فهو يستفيد من كل فرصة لتحقيق هذا الهدف‬
‫ل بما متع به غني‪ ،‬وأن تراكم الثروة يفيد تضييع الحقوق وعدم‬
‫المقدس‪ ،‬إلى جانب تأكيده على أّنه ما جاع فقير إ ّ‬
‫العمل بالحكام الشرعية‪(1).‬‬

‫ويصرح المام )عليه السلم(‪» :‬أّما والذي فلق الحبة‪ ،‬وبرأ النسمة‪ ،‬لول حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود‬
‫الناصر‪ ،‬وما أخذ ال على العلماء أن ل يقاروا على كظة ظالم‪ ،‬ول سغب مظلوم‪ ،‬للقيت حبلها على غاربها‪،‬‬
‫ولسقيت آخرها بكأس أولها‪ ،‬وللقيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز«! فهو يؤكد على شدة تنمره في إعادة‬
‫روح الحرية والعدالة والمساواة التي ل يعرف المهادنة فيها‪ ،‬بل أبعد من ذلك في أّنه ل يرى المرة والحكومة‬
‫ن عليًا)عليه السلم( يمكنه أن يتهاون في‬
‫سوى وسيلة ووظيفة لتحقيق هذه الهداف)‪ .(2‬ويخطىء كل من يظن أ ّ‬
‫هذا المر‪ ،‬ولم يعرف عمق شخصية علي; المر الذي أكده في رسالته إلى عثمان بن حنيف)‪.(3‬‬

‫‪ 3‬ـ النفحات العرفانية التي ينبض بها نهج البلغة إّنما تناغم الرواح المتعطشة للحكمة فتسقيها الشراب الطهور‬
‫الذي يسكرها بالعلم والمعرفة!‬

‫فل يرى القارئ لخطبه في ال وصفاته الجمالية والجللية سوى أّنه يحلق مع الملئكة ليخترق حجب المعرفة‬
‫ل وكأّنه‬
‫والكمال)‪ (4‬اّما إذا تحدث عن أهوال القيامة وسكرات الموت والعاقبة التي تنتظر النسان فل تراه إ ّ‬
‫أمسك بقبضة الغافلين وأخذ يسوقهم نحو المصير الذي منه يهربون والعاقبة التي عنها لهون‪(5).‬‬

‫لخرى التي يختزنها نهج البلغة والتي أشرنا إليها سابقًا أّنه)عليه السلم(أمير الكلم في كل‬‫‪ 4‬ـ قوة الجاذبية ا ُ‬
‫موضوع يطرقه بما يجعلك تتصور أّنه بارع في هذا الموضوع وقد أفنى عمره في بيان عناصره ومقوماته‬
‫وسائر جوانبه‪ ،‬ول يحسن شيئًا آخر سواه وسرعان ما يتبدد هذا التصور حين تطالعه وقد تحدث في موضوع‬
‫آخر ـ فاذا تناول ـ على سبيل المثال ـ قضية‬
‫‪ .1‬المام علي صوت العدالة النسانية ‪.3/177‬‬

‫‪ .2‬الخطبة الشقشقية )الخطبة ‪.(3‬‬

‫‪ .3‬الرسالة رقم ‪.45‬‬

‫‪ .4‬الخطبة الولى وخطبة الشباح ‪ 91 /‬وسائر الخطب بهذا الشأن‪.‬‬

‫‪ .5‬الخطب ‪ 109‬ـ ‪ 111‬ـ ‪ 113‬وما شابهها‪.‬‬

‫] ‪[ 29‬‬

‫التوحيد وشرح أسماء ال وصفات الجلل‪ ،‬خيل إليك أّنه فيلسوف رباني سبر أغوار التوحيد وانهمك فيه لسنوات‬
‫متمادية وليس له مثل هذا العمق فيما سواه; فليس للتجسم من سبيل إلى حديثه‪ ،‬ول من سبيل إلى سلبه الصفات‪،‬‬
‫بل يقدم صورة عن التوحيد تجعل النسان يرى رّبه ببصيرته في كافة السموات والرضين حاضر فيها وفي‬
‫نفسه فيمتلئ قلبه حّبا ل ومعرفة به‪ .‬بينما ل تكاد العين تقع على خطبته في الجهاد‪ ،‬حتى ل تغيب عنها صورته‬
‫كآمر شجاع ومقاتل باسل مغوار قد ارتدى بزته العسكرية وأخذ يستعرض أساليب الحرب وفنون القتال‬
‫وستراتيجية الدفاع والهجوم‪ ،‬وكأّنه أفنى عمره في ميادين الوغى وساحات القتال ولم تدعه يفكر في ما سواها‪.‬‬

‫لمور وتزعم قيادة الُّمة‪ ،‬رأيناه‬‫فاذا تصفحنا نهج البلغة وطالعتنا خطبه ووصاياه لعماله وولته حين أخذ بزمام ا ُ‬
‫يكشف النقاب عن عناصر تألق الحضارات وازدهارها وأسباب سقوطها وانهيارها‪ ،‬إلى جانب استعراض مصير‬
‫لمم المستبدة بالضافة إلى السس والمبادئ التي من شأنها ضمان سلمة النظمة الجتماعية‬ ‫القوام الظالمة وا ُ‬
‫لمور ويختص بها دون الهتمام بسائر ميادين‬ ‫والسياسية الحاكمة‪ ،‬بما يجعلك تظن بأّنه عكف عمرًا على هذه ا ُ‬
‫الحياة ونواحيها‪ .‬ثم نقلب صفحات النهج لنراه زعيمًا أخلقيًا هاديًا البشرية نحو تهذيب النفس ومكارم الخلق‪.‬‬
‫يلتقيه أحد الصفياء من أصحابه ويدعى »همام« الذي يسأله أن يصف له المتقين‪ .‬فيعدد له)عليه السلم( ما‬
‫يقارب المئة من صفاتهم بعبارات أحكم صياغتها وبلغتها كأّنه جلس عمرًا لدروس الخلق والتهذيب وتربية‬
‫ن هذه البحاث العميقة الفريدة المتنوعة التي شحن بها‬ ‫النفوس حتى يصعق همام صعقة كانت نفسه فيها‪ .‬حقًا إ ّ‬
‫نهج البلغة تعّد من الخصائص والمميزات التي اتصف بها هذا الكتاب العجيب‪.‬‬

‫أقوال العظماء بشأن جاذبية نهج البلغة‬

‫القوال التي ساقها كبار جهابذة العلماء بخصوص الجاذبية الكامنة في نهج البلغة تعتبر من الشواهد التي تعزز‬
‫ما أوردناه سابقًا بهذا الشأن‪:‬‬

‫لدباء العرب يصرح‬


‫فالسيد الرضي جامع نهج البلغة الرائد الذي يعّد من مشاهير ا ُ‬

‫] ‪[ 30‬‬

‫أحيانًا حين نقله لبعض الخطب ببعض العبارات التي تكشف عن عمق افتتانه بما يورد وعدم تمالكه لنفسه تجاه‬
‫قوة سبك عبارات صاحب النهج‪ .‬ومن ذلك أّنه قال إثر نقله للخطبة رقم »‪ «83‬من نهج البلغة »وفي الخبر أّنه‬
‫لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت له الجلود وبكت العيون ورجفت القلوب« ونقرأ في خطبة المتقين ـ حين سأله‬
‫ذلك العارف »همام« عن صفات المتقين ـ أّنه حين بلغ ذلك الموضع من الخطبة‪ ،‬صعق همام صعقة كانت نفسه‬
‫فيها‪ ،‬فقال أميرالمؤمنين)عليه السلم(‪» :‬اّما وال لقد خفتها عليه‪ ،‬هكذا تفعل المواعظ البالغة في أهلها«‪.‬‬

‫كما علق السيد الرضي على الخطبة رقم »‪ «28‬ليعرب عن عمق أثرها في روحه وعقله فقال‪» :‬إّنه لو كان كلم‬
‫يأخذ بالعناق إلى الزهد في الدنيا‪ ،‬ويضطر إلى عمل الخرة لكان هذا الكلم‪ ،‬وكفى به قاطعًا لعلئق المال‪،‬‬
‫ن اليوم المضمار وغدا‬‫وقادحًا زناد التعاظ والزدجار‪ «...‬وأضاف‪» :‬ومن أعجبه قوله)عليه السلم(‪» :‬أل إ ّ‬
‫السباق‪ ،‬والسبقة الجّنة والغاية النار« فان فيه مع فخامة اللفظ‪ ،‬وعظم قدر المعنى‪ ،‬وصادق التمثيل وواقع التشبيه‬
‫سرًا عجيبًا ومعنى لطيفًا‪ ...‬فتأمل ذلك فان باطن كلمه عجيب‪ ،‬وغوره بعيد لطيف‪ ،‬وكذلك أكثر كلمه)عليه‬
‫السلم(«‪.‬‬

‫ن في هذا الكلم الدنى من مواقع الحسان مال تبلغه مواقع الستحسان‪ ،‬وان حظ‬ ‫وقال ذيل الخطبة »‪» :«16‬إ ّ‬
‫العجب منه أكثر من حظ العجب به«‪ .‬وفيه ـ مع الحال التي وصفنا ـ زوائد من الفصاحة ل يقوم بها لسان‪ ،‬ول‬
‫ل من ضرب في هذه الصناعة بحق‪ ،‬وجرى فيها على عرق »وما يعقلها‬ ‫يطلع فجها إنسان‪ ،‬ول يعرف ما أقول إ ّ‬
‫ل العالمون«‪.‬‬
‫إّ‬

‫وهكذا نقل ما أورده المفسر والمحدث المعروف »ابن عباس« حين ألقى المام خطبته الشقشقية حين قام إليه‬
‫رجل من أهل السواد فناوله كتابًا‪ ،‬فأقبل ينظر فيه‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬لو أطردت خطبتك من حيث‬
‫أفضيت‪ .‬فقال‪» :‬هيهات يابن عباس! تلك شقشقة هدرت ثم قرت«‪ .‬قال ابن عباس‪» :‬فو ال ما أسفت على كلم قط‬
‫كأسفي على هذا الكلم أل يكون أمير المؤمنين)عليه السلم( بلغ منه حيث أراد«‪.‬‬

‫فقد قال ابن أبي الحديد‪» :‬هو سيد المجاهدين وأبلغ الواعظين ورئيس الفقهاء والمفسرين وإمام أهل العدل‬
‫والموحدين«‪(1).‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪) .7/202‬بتلخيص(‬

‫] ‪[ 31‬‬

‫أسناد نهج البلغة‬

‫ن خطب ورسائل نهج البلغة وكلماته القصار وردت )على ضوء جمعها من قبل المرحوم السيد‬ ‫مامن شك في أ ّ‬
‫الرضي( على نحو الروايات المرسلة; أي لم تذكر أسانيدها بما يجعلها متصلة بالمعصومين‪ ،‬وقد أدى هذه بدوره‬
‫لولئك الذين ظنوا بأن نهج البلغة وبفضل مضامينه العظيمة قد‬ ‫إلى تشكيك البعض أحيانًا‪ ،‬ول سيما بالنسبة ُ‬
‫يكون سندًا لثبات حقانية مذهب الشيعة وأفضلية علي)عليه السلم(على جميع الصحابة; فاتخذوا ذلك ذريعة‬
‫لفرض طوق من العزلة على هذا الكتاب في أوساط الرأي العام السلمي‪ .‬وإن كانت هذه الزوبعة ـ ولحسن الحظ‬
‫ـ لم يكن لها أدنى تأثير في أفكار علماء وأدباء الفريقين الذين كسروا حاجز الصمت وكالوا له المديح والثناء‬
‫وخاضوا في شرحه وتفسيره‪ ،‬وقد مرت علينا نماذج من ذلك‪ ،‬مع ذلك نرى من الضروري الخوض في قضية‬
‫أسناد النهج بغية إزالة الشك وإماطة اللثام عن حقيقة هذا الكتاب وهنا لبّد من اللتفات إلى أمرين‪:‬‬

‫ن أغلب خطب نهج البلغة ورسائله وكلماته القصار ـ إذا لم نقل جميعها سوى معشاره ـ إّنما هى من قبيل‬ ‫‪1‬ـأّ‬
‫المطالب المستدلة المبرهنة أو ذات الستدلل المنطقي‪ ،‬بعبارة ُاخرى من قبيل »القضايا التي قياساتها معها«‪.‬‬
‫وعليه فهى ليست بحاجة إلى سلسلة السند بصفتها مباحث تعبدية‪ ،‬فالعم الغلب من المضامين وردت بشأن‬
‫المعارف العقائدية من قبيل‪ :‬المبدأ والمعاد والصفات وأدلة عظمة القرآن ونبي السلم)صلى ال عليه وآله( وما‬
‫لمم السابقة ونظم إدارة‬
‫شاكل ذلك‪ .‬كما وردت بعض المضامين كمواعظ ونصائح ودروس وعبر بشأن حياة ا ُ‬
‫شؤون البلد والحياة الجتماعية والداب ومسائل الجهاد وما إلى ذلك من المباحث المنطقية الستدللية الخاضعة‬
‫للدليل والبرهان‪.‬‬

‫ولما كانت نتاجات كبار الفلسفة وعلماء العلوم المختلفة وحتى النتاجات الدبية الشعرية‬
‫] ‪[ 32‬‬

‫لفطاحل الشعراء تؤخذ دون الحاجة إلى سلسلة السانيد‪ ،‬فان هذا المر يجري على مضامين نهج البلغة بما‬
‫يجعله غنيًا عن تلك السلسلة‪ ،‬وحقيقة المر أّنها تحمل أدلتها معها »قضايا قياساتها معها«‪ .‬نعم هناك محور‬
‫صغير في النهج قد عنى ببعض الحكام الفرعية التعبدية‪ ،‬فان كان من حديث عن السند‪ ،‬أمكن إقتصاره على هذا‬
‫المحور والذي ل يشكل قطعًا عشر كتاب نهج البلغة‪ .‬ونخلص من هذا إلى عدم جدوى هذه الضجة المفتعلة بشأن‬
‫أسانيد النهج‪ ،‬وهى زوبعة جوفاء عديمة الثر‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ بغض النظر عّما سبق‪ ،‬فاننا ل نرى من عقبة في هذا المر حتى وإن اعتمدنا المعايير المتعارفة لحجية السند‬
‫ن المعيار الصلي لقبول الحديث والرواية ـ على ضوء ما فرغ منه في علم‬ ‫بالنسبة لنهج البلغة; وذلك ل ّ‬
‫لصول وبرهن في محله ـ إّنما يتأتى الوثوق بها من طرق مختلفة; فأحيانًا يحصل الوثوق بالرواية من خلل‬ ‫اُ‬
‫سلسلة السند وثقة الرواة‪ ،‬كما يحصل أحيانًا ُاخرى مثل هذا الوثوق بواسطة كثرة الرواة ـ وفي الكتب المشهورة‬
‫والمعتبرة ـ‪ ،‬وأخيرًا قد يكون مضمون الرواية على درجة من العمق والرصانة على أّنه إّنما صدر من‬
‫النبي)صلى ال عليه وآله( أو المام المعصوم; المر الذي يجعلنا نثق بهذه الرواية وهذا ما ذكروه بالنسبة لزبور‬
‫آل محمد)صلى ال عليه وآله(الصحيفة السجادية )إلى جانب السناد المعتبرة التي أوردها بهذا الشأن(‪ ،‬بفضلها‬
‫ضمت أدعية رفيعة سامية ذات مضامين عميقة صدرت عن المام السجاد علي بن الحسين زين العابدين)عليه‬
‫السلم(‪ .‬ول شبهة ول ريب أن من يتمعن في خطب نهج البلغة ويتدبر مضامينها ويتأمل أسرارها‪ ،‬فاّنه ل يملك‬
‫ن مثل هذه الكلمات محالة الصدور عن النسان العادي وأّنها لم تصدر سوى عن النبي)صلى ال‬ ‫سوى الذعان بأ ّ‬
‫عليه وآله( أو امتداده المام المعصوم)عليه السلم(‪.‬‬

‫ن كلمه فوق كلم المخلوقين ودون كلم الخالق«‪.‬‬


‫وعلى حد تعبير كبار علماء الفريقين‪» :‬إ ّ‬

‫وبناًء على هذا وعلى ضوء بزوغ الشمس دليل على وجودها‪ ،‬فان مضمون نهج البلغة دليل على اعتبار سنده‬
‫وصدوره عن المعصوم)عليه السلم(‪ ،‬واننا لنوقن بذلك على أّنه لم ينسب لمعصوم سوى لعلي)عليه السلم(‪ .‬فمن‬
‫ذا الذي يحتمل أّنه صدر من فرد عادي ثم نسبه لعلي)عليه السلم(؟! إذا كان مثل هذا البداع أو حتى عشر من‬
‫أعشاره فلم ل ينسبه لنفسه ويفوز بهذا الشرف؟ وناهيك عّما تقدم وعلى ضوء ما نعرفه عن شخصية »السيد‬
‫الرضي« ووثاقته وعلو مقامه‪ ،‬فاننا نقطع بأّنه لم‬

‫] ‪[ 33‬‬

‫ينسبه إلى علي)عليه السلم(مالم يكن قد رأى مصادره المعتبرة‪ ،‬فهو ل يقول روي عن أمير المؤمنين علي)عليه‬
‫السلم(أّنه قال كذا‪ ،‬بل اعتاد القول »ومن خطبة)عليه السلم( ومن رسائله ومن كلماته القصار«‪ .‬فكيف وأنى‬
‫لهذا العملق أن يتحدث بهذه الثقة والقطع وينسب الكلمات لمامه المعصوم دون أن يستند إلى أسناد معتبرة‬
‫وردت بهذا الشأن؟!‪ .‬أضف إلى ذلك فقد دونت عّدة مصنفات قبل »السيد الرضي« ضمت أغلب خطب ورسائل‬
‫ن هذه الكلمات كانت متداولة أيضًا ـ قبل السيد الرضي ـ‬
‫نهج البلغة والكلمات القصار; المر الذي يثبت أ ّ‬
‫ومعروفة بين العلماء والمحدثين والرواة وأحيانًا بين عوام الناس‪.‬‬

‫ن الخطب التي اشتهرت بين الناس‬ ‫ومن شأن هذه الشهرة أن تغنينا عن السناد‪ .‬بل ذهب بعض كبار المؤرخين أ ّ‬
‫ن النهج عبقات من‬ ‫كانت أكثر بكثير من هذا المقدار الذي جمعه »السيد الرضي« في نهج البلغة‪ ،‬والواقع هو أ ّ‬
‫تلك الخطب‪ .‬ومنهم المؤرخ المعروف »المسعودي« الذي عاش لقرن قبل »السيد الرضي«‪ ،‬الذي صّرح في‬
‫ل‪» :‬والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر‬ ‫كتابه »مروج الذهب« بشأن خطب المام علي)عليه السلم( قائ ً‬
‫مقاماته أربع مائة ونيف وثمانون خطبة«)‪ ،(1‬والحال ل يضم النهج أكثر من مئتين وأربعين خطبة‪ .‬ونقل العالم‬
‫المعروف »السبط بن الجوزي« في كتابه »تذكرة الخواص« عن »السيد المرتضى« اّنه قال‪» :‬بلغتني أربعمة‬
‫خطبة من خطب المام علي«)‪ .(2‬وقال صاحب »البيان والتبيين« العالم المعروف‪» :‬كانت خطب المام‬
‫علي)عليه السلم( مدونه ومحفوظة ومشهورة«)‪ .(3‬وقال »ابن واضح« في كتابه »مشاكلة الناس لزمانهم«‪:‬‬
‫»لقد حفظ الناس الكثير من خطب المام علي)عليه السلم(‪ ،‬فقد ألقى أربعمئة خطبة حفظها الناس‪ ،‬وهى هذه‬
‫الخطب المتداولة بيننا«)‪.(4‬‬
‫وهنا لبّد من القول بأن جمعًا من العلماء المعاصرين والفضلء ألقوا كتبًا كمصادر وأسناد لنهج البلغة‪ ،‬حيث‬
‫استخرجوا أسانيد الخطب من الكتب التي صنفت قبل »السيد الرضي« وصرحوا بها في كتبهم‪ ،‬من قبيل كتاب‬
‫»مصادر نهج البلغة وأسانيده« تأليف العالم المحقق‬

‫‪ .1‬مروج الذهب ‪ ،419 / 2‬طبعة دار الهجرة قم‪.‬‬

‫‪ .2‬تذكرة الخواص ‪.128 /‬‬

‫‪ .3‬البيان والتبيين ‪. 83 / 1‬‬

‫‪ .4‬مشاكلة الناس لزمانهم ‪.15 /‬‬

‫] ‪[ 34‬‬

‫ن السيد الرضي لم‬


‫»السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب« الذي يجعل الباحث يقف على هذه الحقيقة‪ ،‬وهى أ ّ‬
‫ينفرد قط بنقله لهذه الخطب‪.‬‬

‫ن أكثر من عشرين منها قد دونت‬


‫ن نهج البلغة قد جمع من مئة وأربعة عشر كتابًا‪ ،‬وأ ّ‬ ‫ن هذا الكتاب يفيد بأ ّ‬
‫يذكر أ ّ‬
‫من قبل علماء كانوا يعيشون قبل السيد الرضي‪ .‬ومن أراد المزيد فليراجع الكتاب المذكور حيث ل نرى المقام‬
‫ن السيد الرضي قد استفاد من خمسة عشر‬ ‫يسع للستغراق أكثر من هذه العجالة‪ .‬والذي تجدر الشارة إليه هنا أ ّ‬
‫كتابًا ـ ذكرها خلل بعض تعليقاته على كلمات نهج البلغة ـ في جمعه لنهج البلغة‪(1).‬‬

‫ونستنتج مّما مّر معنا خواء الشكوك التي نشأت من عدم وجود السانيد‪.‬‬

‫شروح نهج البلغة‬

‫حديثنا الخير في هذه المقدمة‪ ،‬كلم مختصر بشأن الشروح والتراجم التي أوردها علماء المسلمين بخصوص هذا‬
‫الكتاب منذ عصر السيد الرضي حتى عصرنا الحاضر‪ ،‬ويبدو أن هذه الشروح إّنما تتضاعف وتزداد كلما ابتعدنا‬
‫أكثر عن عصر السيد الرضي‪ ،‬والسبب في ذلك يعود إلى تنامي المعرفة بهذا الكنز النفيس كل يوم‪ ،‬وما هذه‬
‫المؤتمرات والندوات التي أقيمت وما‬

‫‪.1‬‬

‫‪ 1‬ـ البيان والتبيين للجاحظ‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ تأريخ الطبري‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ الجمل للواقدي‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ المغازي لسعيد بن يحيى الموي‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ المقامات لبي جعفر السكافي‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ المقتضب للمبرد‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ حكاية أبي جعفر محمد بن علي الباقر)عليه السلم(‪.‬‬


‫‪ 8‬ـ حكاية ثعلب عن ابن العرأبي‪.‬‬

‫‪ 9‬ـ خبر ضرار الضبابي‪.‬‬

‫‪ 10‬ـ رواية أبي جحيفة‪.‬‬

‫‪ 11‬ـ رواية كميل بن زياد النخعي‪.‬‬

‫‪ 12‬ـ رواية مسعدة بن صدقة لخطبة الشباح عن الصادق جعفر بن محمد‪.‬‬

‫‪ 13‬ـ رواية نوف البكالي‪.‬‬

‫‪ 14‬ـ ماذكره أبو عبيد القاسم بن سلم من غريب الحديث‪.‬‬

‫‪ 15‬ـ ماوجد بخط هشام بن الكلبي‪.‬‬

‫] ‪[ 35‬‬

‫لمة الميني‬‫ل شهادة حية ُاخرى على صحة ما أوردناه‪ .‬فقد أشار المرحوم الع ّ‬ ‫زالت تقام بخصوص نهج البلغة إ ّ‬
‫في المجلد الرابع من كتابه الغدير في ترجمته لحياة المرحوم السيد الرضي إلى هذه المسألة وقال‪» :‬لقد كتب أكثر‬
‫من خمسين شرحًا على نهج البلغة منذ عصر المرحوم السيد الرضي لحد الن‪ «...‬ثم خاض في ذكر هذه‬
‫الشروح‪ ،‬إلى جانب ذكر مؤلفيها وتأريخ وفاتهم‪ ،‬وباضافة التراجم التي ظهرت في هذه الواخر‪ ،‬فقد أحصى ما‬
‫يقارب الحادي والثمانين ترجمة وشرحًا«)‪ (1‬وبالطبع فان كل شرح من هذه الشروح )كتفاسير القرآن( قد سلط‬
‫الضوء على جانب من جوانب نهج البلغة‪ ،‬فقد خاض البعض في جانبه الدبي بينما تناول البعض الخر أبعاده‬
‫التأريخية أو الفلسفية أو القضايا التربوية والجتماعية وما إلى ذلك‪.‬‬

‫هذا وقد ذكر مؤلف كتاب »مصادر نهج البلغة« أكثر من مئة وعشرة شروح وتفاسير لنهج البلغة‪ ،‬بينما ذكر‬
‫بعض الفضلء في كتبهم أسماء ثلثمائة وسبعين كتابًا ألفت في شرح نهج البلغة وترجمته وتفسيره)‪ .(2‬وبالرغم‬
‫من ذلك لبّد من العتراف بأن هذا الكتاب ما زال لم يظفر ببغيته من سبر أغواره والغوص في أعماقه من أجل‬
‫استخراج كنه معانيه لتعالج متطلبات العصر والزمان وأنين البشرية‪ ،‬كيف ل وأبعاده كأبعاد شخصية علي)عليه‬
‫السلم( التي ل يحيطها الكلم ول يلم بتفاصيلها القلم والبيان‪ .‬وهنا لبّد من القول بأن الشروح والتراجم المذكورة‬
‫ن بعضها قد اكتفى بمحور من محاور نهج البلغة‪ ،‬ولم يشذ منها سوى النزر القليل من‬ ‫ليست واسعة كاملة‪ ،‬وأ ّ‬
‫الشروح التي تعاملت بشمولية مع النهج ومنها‪:‬‬

‫لمة الميني من أقدم شروح نهج البلغة‪ ،‬ومؤلفه »علي بن الناصر«‬


‫‪ 1‬ـ »أعلم نهج البلغة« والذي اعتبره الع ّ‬
‫من معاصري المرحوم السيد الرضي‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ »منهاج البراعة« لمؤلفه سعيد الدين هبة ال القطب الراوندي‪ ،‬وهو من أعلمالقرن الهجري السادس‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد المعتزلي ـ من أعلم القرن السابع الهجري ـ وهو‬

‫‪ .1‬الغدير ‪ 186 / 4‬ـ ‪.193‬‬

‫‪ .2‬المعجم المفهرس للفاظ نهج البلغة ‪) 10 /‬جدير ذكره أن عدد الشروح التي وردت في مصادر نهج البلغة مئة وواحد ل مئة‬
‫وعشرة(‪.‬‬

‫] ‪[ 36‬‬

‫من الشروح المشهورة ويقع في عشرين مجلدًا‪.‬‬


‫‪ 4‬ـ شرح ابن ميثم البحراني ـ من علماء القرن السابع ـ وهو من الشروح الواسعة الرائعة‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ منهاج البراعة للمرحوم الحاج الميرزا حبيب ال الموسوي الخوئي‪ ،‬والمعروف بشرح الخوئي‪ ،‬وهو من‬
‫علماء القرن الثالث عشر والرابع عشر الهجري‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ شرح »الشيخ محمد عبدة« من مشاهير علماء العامة الذي عاش في القرن الثالث عشر الهجري‪.‬‬

‫وأخيرًا ل يسعنا المقال لن نذكر أسماء طائفة من الفضلء المعاصرين الذين صّنفوا شروحًا عظيمة لهذا الكتاب‬
‫ن صاحب كتاب »الذريعة« الفاضل المرحوم المحدث الطهراني قد ذكر مئة‬ ‫النفيس‪ .‬وما يجدر ذكره هو أ ّ‬
‫وأربعين شرحًا للنهج أوردها علماء الشيعة‪ ،‬بينما أحصى ستة عشر شرحًا لعلماء العامة‪ ،‬يعّد أقدمها شرح الفخر‬
‫الرازي المتوفي عام ‪ 606‬هـ«‪(1).‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬الذريعة ‪ 111 / 14‬ـ ‪.160‬‬

‫] ‪[ 37‬‬

‫مقدمة السيد الشريف الرضي)رحمه ال(‬

‫لماذا جمعت نهج البلغة‬

‫ل إلى جنانه‪ ،‬وسببًا لزيادة إحسانه‪ ،‬والصلة‬


‫أّما بعد حمد ال الذي جعل الحمد ثمنًا لنعمائه‪ ،‬ومعاذًا من بلئه‪ ،‬وسبي ً‬
‫على رسوله نبي الرحمة‪ ،‬وإمام الئمة‪ ،‬وسراج المة‪ ،‬المنتخب من طينة الكرم‪ ،‬وسللة المجد القدم‪ ،‬ومغرس‬
‫الفخار المعرق‪ ،‬وفرع العلء المثمر المورق‪ .‬وعلى أهل بيته مصابيح الظلم‪ ،‬وعصم المم‪ ،‬ومنار الدين‬
‫الواضحة‪ ،‬ومثاقيل الفضل الراجحة صلى ال عليهم أجمعين‪ ،‬صلة تكون إزاء لفضلهم‪ ،‬ومكافأة لعملهم‪ ،‬وكفاء‬
‫لطيب قرعهم وأصلهم‪ ،‬ما أنار فجر ساطع‪ ،‬وخوى نجم طالع‪ ،‬فاني كنت في عنفوان السن‪ ،‬وغضاضة الغصن‪،‬‬
‫ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الئمة)عليهم السلم(‪ :‬يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلمهم‪ ،‬حداني‬
‫عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب‪ ،‬وجعلته أمام الكلم‪ ،‬وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين‬
‫عليًا)عليه السلم(‪ ،‬وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات اليام‪ ،‬ومماطلت الزمان‪ .‬وكنت قد بّوبت ما خرج‬
‫ل‪ ،‬فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه السلم من الكلم القصير‬ ‫صلته فصو ً‬ ‫من ذلك أبوبًا‪ ،‬وف ّ‬
‫في المواعظ والحكم والمثال والداب; دون الخطب الطويلة‪ ،‬والكتب المبسوطة‪ .‬فاستحسن جماعة من الصدقاء‬
‫ل المقدم ذكره معجبين ببدائعه‪ ،‬ومتعجبين من نواصحه‪ ،‬وسألوني عند ذلك أن أبتدىء بتأليف‬ ‫ما اشتمل عليه الفص ُ‬
‫كتاب يحتوي على مختار كلم مولنا أمير المؤمنين عليه السلم في جميع فنونه‪ ،‬ومتشعّبات غصونه‪ :‬من خطب‪،‬‬
‫ن ذلك يتضمن من عجائب البلغة‪ ،‬وغرائب الفصاحة‪ ،‬وجواهر العربية‪ ،‬وثواقب‬ ‫وكتب‪ ،‬ومواعظ‪ ،‬وأدب‪ .‬علمًا أ ّ‬
‫الكلم الدينية والدنيوية‪ ،‬ما ل يوجد مجتمعًا في كلم‪ ،‬ول مجموع الطراف في كتاب; إذ كان أميرالمؤمنين عليه‬
‫السلم مشرع الفصاحة‬
‫] ‪[ 38‬‬

‫وموردها‪ ،‬ومنشأ البلغة ومولدها; ومنه عليه السلم ظهر مكنونها‪ ،‬وعنه أخذت قوانينها; وعلى أمثلته حذا كل‬
‫قائل خطيب‪ ،‬وبكلمه استعان كل واعظ بليغ‪ .‬ومع ذلك فقد سبق وقصروا وقد تقدم وتأخروا‪ ،‬لن كلمه عليه‬
‫السلم الكلم الذي عليه مسحة من العلم اللهي وفيه عبقة من الكلم النبوي‪ ،‬فأجبتهم إلى البتداء بذلك عالمًا بما‬
‫فيه من عظيم النفع‪ ،‬ومنشور الذكر‪ ،‬ومذخور الجر‪ .‬اعتمدت به أن أبين عن عظيم قدر أميرالمؤمنين عليه السلم‬
‫في هذه الفضيلة‪ ،‬مضافًة إلى المحاسن الدثرة‪ ،‬والفضائل الجمة‪ .‬وأّنه عليه السلم انفرد ببلوغ غايتها عن جميع‬
‫السلف الولين الذين إّنما يؤثر عنهم منها القليل النادر‪ ،‬والشاذ الشارد فأما كلمه فهو البحر الذي ل ُيساجل والجم‬
‫الذي ل يحافل وأردت أن يسوغ لي التمثل في الفتخار به عليه السلم بقول الفرزدق‪:‬‬

‫أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع‬

‫ورأيت كلمه عليه السلم يدور على أقطاب ثلثة‪ :‬أولها‪ :‬الخطب والوامر‪ ،‬وثانيها‪ :‬الكتب والرسائل‪ ،‬وثالثها‪:‬‬
‫الحكم والمواعظ; فأجمعت بتوفيق ال تعالى على البتداء باختبار محاسن الخطب‪ ،‬ثم محاسن الكتب‪ ،‬ثم محاسن‬
‫صل فيه أوراقًا‪ ،‬لتكون مقدمة لستدراك ما عساه يشذ عّني‬‫الحكم والدب‪ .‬مفردًا لكل صنف من ذلك بابًا‪ ،‬ومف ّ‬
‫ل‪ .‬وإذا جاء شيء من كلمه عليه السلم الخارج في أثناء حوار‪ ،‬أو جواب سؤال‪ ،‬أو غرض‬ ‫ي آج ً‬
‫ل‪ ،‬ويقع إل ّ‬
‫عاج ً‬
‫آخر من الغراض به‪ ،‬وأشدها ملمحة لغرضه‪ .‬وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة‪ ،‬ومحاسن كلم‬
‫غير منتظمة; لّني أورد النكت واللمع‪ ،‬ول أقصد التتالي والنسق‪.‬‬

‫ن كلمه الوارد في الزهد والمواعظ‪ ،‬والتذكير‬ ‫ومن عجائبه‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬التي انفرد بها‪ ،‬وأمن المشاركة فيها‪ ،‬أ ّ‬
‫والزواجر‪ ،‬إذا تأمله المتأمل‪ ،‬وفكر فيه المتفكر‪ ،‬وخلع من قلبه أّنه كلم مثله ممن عظم قدره‪ ،‬ونفذ أمره‪ ،‬وأحاط‬
‫بالرقاب ملكه‪ ،‬لم يعترضه الشك في أّنه كلم من لحظ له في غير الّزهادة‪ ،‬ول شغل له بغير العبادة‪ ،‬قد قبع في‬
‫ل نفسه‪ ،‬ول يكاد يوقن بأّنه كلم من ينغمس في‬ ‫سه‪ ،‬ول يرى إ ّ‬‫لحّ‬ ‫كسر بيت‪ .‬أو انقطع إلى سفح جبل‪ ،‬ل يسمع إ ّ‬
‫ط الرقاب‪ ،‬ويجدل البطال‪ ،‬ويعود به ينطف دمًا‪ ،‬ويقطر مهجًا‪ .‬وهو مع تلك الحال زاهد‬ ‫الحرب مصلتًا سيفه‪ ،‬فيق ّ‬
‫الزهاد‪ ،‬وبدل البدال وهذه من فضائله العجيبة‪ ،‬وخصائصه اللطيفة‪ ،‬التي جمع بها‬

‫] ‪[ 39‬‬

‫بين الضداد‪ ،‬وألف بين الشتات‪ ،‬وكثيرًا ما أذاكر الخوان بها‪ ،‬وأستخرج عجبهم منها‪ ،‬وهى موضع للعبرة بها‪،‬‬
‫والفكرة بها‪.‬‬

‫ن روايات كلمه تختلف اختلفًا‬ ‫ظ المردد‪ ،‬والمعنى المكرر; والعذر في ذلك أ ّ‬ ‫وربما جاء في أثناء هذا الختيار اللف ُ‬
‫شديدًا‪ :‬فربما اتفق الكلم المختار في رواية فنقل على وجه‪ ،‬ثم وجد بعد ذلك في رواية ُاخرى موضوعًا غير‬
‫موضعه الول‪ :‬إّما بزيادة مختارة‪ ،‬أو لفظ أحسن عبارة فتقضي الحال أن يعاد‪ ،‬استظهارًا للختيار‪ ،‬وغيرًة على‬
‫ل فأعيد بعضه سهوًا أو نسيانًا‪ ،‬ل قصدًا واعتمادًا‪ .‬ورأيت من‬
‫عقائل الكلم‪ .‬وربما بعد العهد أيضا بما اختير أو ً‬
‫بعد تسمية هذا الكتاب بـ »نهج البلغة« إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها‪ ،‬ويقّرب عليه طلبها‪ ،‬فيه حاجة العالم‬
‫والمتعلم‪ ،‬وبغية البليغ والزاهد‪ ،‬ويمضي في أثنائه من عجيب الكلم في التوحيد والعدل‪ ،‬وتنزيه ال سبحانه‬
‫وتعالى عن شبه الخلق‪ ،‬ما هو بلل كل غّلة‪ ،‬وشفاء كل علة‪ ،‬وجلء كل شبهة‪.‬‬

‫جز التسديد والمعونة‪ ،‬وأستعيذه من خطأ الجنان‪ ،‬قبل خطأ اللسان‪،‬‬


‫ومن ال سبحانه أستمد التوفيق والعصمة‪ ،‬وأتن ّ‬
‫ومن زلة الكلم‪ ،‬قبل زلة القدم; وهو حسبي ونعم الوكيل‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 40‬‬

‫] ‪[ 41‬‬
‫الخطبة)‪1 (1‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ل دللة واضحة على براعة السيد الرضي في‬ ‫تعتبر هذه الخطبة من أهم خطب نهج البلغة‪ ،‬وما تصدرها النهج إ ّ‬
‫الختيار‪ .‬فالخطبة تتضمن الرؤية السلمية للصفات الكمالية والجمالية‪ ،‬ثم تشير إلى قضية خلق العالم بصورة‬
‫عامة ومن ثم خلق السموات والرض والملئكة‪ ،‬كما تخوض في خلق آدم)عليه السلم( وتتعرض لقصة سجود‬
‫الملئكة وإعتراض إبليس وهبوط آدم)عليه السلم( إلى الرض‪ .‬ثم يتطرق)عليه السلم( إلى فلسفة بعثة النبياء‬
‫ول سيما خاتمهم نبي السلم)صلى ال عليه وآله( إلى جانب التحدث عن عظمة القرآن الكريم وأهمية سّنة‬
‫النبي)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬كما يتوقف عند مسألة الحج من بين الحكام السلمية كفرع من فروع الدين بصفته‬
‫فريضة إلهية كبرى تختزن بعض السرار واللطائف‪ ،‬بالشكل الذي يمد المتتبع لهذه الخطبة برؤية شمولية لهم‬
‫القضايا السلمية‪ ،‬من شأنها تقديم الحلول لكافة المصاعب التي تنطوي عليها والتي تعترض سبيلها‪.‬‬

‫‪ .1‬وردت هذه الخطبة )ليست بصورة كاملة بل بعضها( في عدة كتب قبل السيد الرضي )ره( و بعده‪ .‬وكان ممن‬
‫رواها قبله‪1 :‬ـ المرحوم الصدوق في كتاب التوحيد ‪2‬ـ المرحوم ابن شعبة الحراني في كتاب تحف العقول‪ .‬أما من‬
‫نقلها بعده‪1 :‬ـ الواسطي في كتاب عيون الحكمة والمواعظ ‪2‬ـ المرحوم الطبرسي في الحتجاج ‪3‬ـ ابن طلحة في‬
‫كتاب مطالب السؤال ‪4‬ـ القاضي القضاعي في دستور معالم الحكم ‪5‬ـ الفخر الرازي في التفسير الكبير ‪6‬ـ‬
‫الزمخشري في ربيع البرار ‪7‬ـ القطب الراوندي في منهاج البراعة ‪8‬ـ المرحوم العلمة المجلسي في ج ‪،11 ،4‬‬
‫‪ 92 ،77 ،57 ،18‬و ‪ 99‬من بحارالنوار‪ .‬طبعًا هناك تفاوت بين العبارات التي وردت في الكتب المذكورة مع ما‬
‫ورد في نهج البلغة‪.‬‬

‫] ‪[ 42‬‬

‫وأخيرًا فالخطبة من وجهة نظر بمثابة فاتحة الكتاب‪ ،‬حيث تقدم صورة كلية عن المسائل التي درج عليها نهج‬
‫البلغة والتي وردت في المحاور الرئيسية لخطبه ورسائله وكلماته القصار‪.‬‬

‫وقد قسمنا هذه الخطبة إلى خمسة عشر قسمًا تناولنا كل قسم منه بالبحث بصورة مستقلة لنخلص إلى النتائج الكلية‬
‫التي يمكن التوصل إليها من الخطبة كوحدة كاملة‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 43‬‬
‫القسم الول‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫يذكر فيها ابتداًء خلق السماء والرض وخلق آدم وفيها ذكر الحج وتحتوي على حمد ال وخلق العالم وخلق‬
‫الملئكة واختيار النبياء ومبعث النبي والقرآن والحكام الشرعية‪:‬‬

‫ن‪ ،‬اّلِذي ل ُيْدِرُكُه‬‫جَتِهُدو َ‬


‫حّقُه اْلُم ْ‬
‫ن َول ُيَؤّدي َ‬ ‫صي َنْعماَءُه اْلعاّدو َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن َول ُي ْ‬
‫حَتُه اْلقاِئُلو َ‬‫ل اّلِذي ل َيْبُلُغ ِمْد َ‬‫حْمُد ّ‬‫»اْل َ‬
‫جٌل‬
‫ت َمْعُدوٌد‪َ ،‬ول َأ َ‬
‫جوٌد‪َ ،‬ول َوْق ٌ‬ ‫ت َمْو ُ‬
‫حُدوٌد َول َنْع ٌ‬‫حّد َم ْ‬
‫صَفِتِه َ‬‫س ِل ِ‬‫ن‪ ،‬اّلِذي َلْي َ‬‫طِ‬ ‫ص اْلِف َ‬‫غْو ُ‬ ‫ُبْعُد اْلِهَمِم َول َيناُلُه َ‬
‫ضِه«‪.‬‬‫ن َأْر ِ‬
‫خوِر َمَيدا َ‬‫صُ‬‫حَمِتِه َوَوّتَد ِبال ّ‬
‫ح ِبَر ْ‬
‫شَر الّريا َ‬
‫ق ِبُقْدَرِتِه َوَن َ‬‫خلِئ َ‬‫طَر اْل َ‬
‫َمْمُدوٌد‪َ ،‬ف َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫بعد العقول عن معرفة الذات اللهية!‬

‫ن نظرة عابرة إلى مضامين هذه الخطبة تفيد إشارة المام علي)عليه السلم( إلى إثنتي عشرة صفة من الصفات‬
‫إّ‬
‫اللهية بتصوير فني رائع ونظم شاهق‪:‬‬

‫ففي المرحلة الولى يشير إلى كيفية عجز العباد عن إظهار المدح والثناء وأداء حق الشكر اللهي )أشير في هذه‬
‫المرحلة إلى ثلثة أوصاف( ويبين في المرحلة الثانية عجز البشرية من الناحية الفكرية عن إدراك عظمة ال‬
‫وكنه ذاته المقدسة )إشارة إلى وصفين في هذه المرحلة( وفي المرحلة الثالثة يورد الدليل على ما أشار إليه سابقًا‬
‫والذي يكمن في خروج هذه الذات‬

‫] ‪[ 44‬‬

‫عن الحدود وعدم تناهي نعمه وآلئه; المر الذي يستبطن ويعلل عجزنا عن إدراك ذاته القدسية واستحالة أداء‬
‫حّقه في الشكر والحمد )وهو يشير في هذه المرحلة إلى أربعة أوصاف( وأخيرًا يشير)عليه السلم(في المرحلة‬
‫الرابعة إلى خلق العالم والكائنات‪ ،‬وكأنه أراد أن يكشف النقاب عن هذه الحقيقة وهى أن معرفة الذات اللهية إّنما‬
‫تقتصر على هذا السبيل‪ ،‬والذي يمثل منتهى قدرتنا واستطاعتنا )ويشير في هذه المرحلة إلى ثلث من صفاته‬
‫الفعلية(‪.‬‬

‫ن الدقة والنظام هى السس التي استندت إليها هذه العبارات الرفيعة التي تضمنتها الخطبة التي‬
‫ويفيد هذا المر أ ّ‬
‫أوردها هذا المعلم الرباني‪.‬‬

‫الن وبعد هذه النظرة العامة نعود إلى بحث وتفسير هذه الوصاف الثني عشر التي اشتملت عليها الخطبة‪:‬‬

‫فقد استهل المام )عليه السلم( خطبته بحمد ال والثناء عليه مع التصريح بالعجز عن أداء حق الحمد‪ ،‬فقال)عليه‬
‫ن(‪(1).‬‬‫حَتُه اْلقاِئُلو َ‬
‫ل اّلِذي ل َيْبُلُغ ِمْد َ‬
‫حْمُد ّ‬
‫السلم(‪) :‬اْل َ‬
‫ن أوصافه »الكمالية« و»الجمالية« ل تعرف الحدود‪ ،‬فما يؤديه الملئكة والناس من حمد ومدح إّنما‬
‫وذلك ل ّ‬
‫يتوقف على مقدار معرفتهم بالذات المطلقة ل بمقدار كمالته جل وعل‪ .‬وأنى لسائر الفراد بزعم المعرفة وهذا‬
‫ل‪» :‬ما عرفناك حق‬ ‫النبي الكريم الذي يمثل أعظم أنبياء ال يظهر عجزه عن معرفة الخالق المتعال فيصرح قائ ً‬
‫معرفتك«)‪ .(2‬فاذا عجز النسان عن معرفته فكيف يسعه حمده ومدحه؟ وعليه فان ذروة حمدنا‪ ،‬ما أورده المام‬
‫)عليه السلم(; أي إظهار العجز عن حمده وثنائه والعتراف باستحالة بلوغ هذه الدرجة على جميع مخلوقاته‬
‫سبحانه‪.‬‬

‫ن ال أوحى إلى نبّيه موسى)عليه السلم(أن اشكرني‬


‫فقد ورد في الحديث عن المام الصادق)عليه السلم( أ ّ‬

‫ن الحمد هو كل‬ ‫ن المشهور بينهم أ ّ‬


‫‪ .1‬كثر الكلم بين اللغوين ومفسري القرآن ونهج البلغة بشأن معنى الحمد والمدح والشكر‪ ،‬غير أ ّ‬
‫مدح إزاء العمال الحسنة الختيارية; بينما ينطوي المدح على مفهوم أوسع يشمل العمال الختيارية وغير الختيارية‪ ،‬أّما الشكر‬
‫فأخص من المدح ويقتصر على إيصال أحدهم نعمة إلى آخر فيشكره على تلك النعمة‪) .‬من أراد المزيد فليراجع مجمع البحرين‪ ،‬لسان‬
‫لمة الخوئي(‪ .‬بينما صّرح بعض مفسري القرآن ونهج البلغة كالزمخشري في‬ ‫العرب‪ ،‬المفردات‪ ،‬شرح ابن الهيثم وشرح الع ّ‬
‫الكشاف وابن أبي الحديد في شرحه أن »الحمد والمدح أخوان‪ ،‬ل فرق بينهما(‪ ،‬ويبدو أن التفسير الول أصح‪.‬‬

‫لمة المجلسي ضمن توضيحه لبعض الخبار في البحار‪ ،‬تعليقًا على كلم المحقق الطوسي هذا الحديث »ما عبدناك حق‬‫‪ .2‬أورد الع ّ‬
‫عبادتك وما عرفناك حق معرفتك« دون ذكر سنده‪ .‬بحار النوار ‪.23/ 68‬‬

‫] ‪[ 45‬‬

‫حق شكري‪ .‬قال)عليه السلم(‪ :‬إلهي! كيف أؤدي حق شكرك‪ ،‬وشكرك نعمة تحتاج إلى شكر )وهكذا يكون‬
‫ن ذلك ِمّني«)‪.(1‬‬
‫التوفيق إلى الشكر نعمة اخرى تستحق الشكر(‪ .‬فقال‪» :‬يا موسى الن شكرتني حين علمت أ ّ‬

‫ل أن يكون في حق ال‪،‬‬ ‫ل دون نقيصة‪ ،‬إ ّ‬‫ن النسان إذا ما قال‪ :‬الحمد ل‪ ،‬فانه أتى به كام ً‬
‫وهنا لبّد من القول بأ ّ‬
‫ن المام الصادق)عليه السلم( خرج من المسجد ولم يظفر بدابته‪ ،‬فقال)عليه السلم(‪ ،‬إن‬ ‫ولذلك جاء في الخبر أ ّ‬
‫أعادها لي ال شكرته حق شكره‪ ،‬فلم تمض مّدة حتى أتي بها إليه فقال)عليه السلم(‪ :‬الحمد ل‪ .‬فقيل له‪ :‬جعلت‬
‫فداك ألم تقل أشكره حق شكره؟ فقال)عليه السلم(‪ :‬ألم تسمع قولي الحمدل‪(2).‬‬

‫ن نعمه المادية والمعنوية والظاهرية‬‫أّما في الوصف الثاني فقد قال‪» :‬ول يحصي نعمائه العادون«‪ .‬وذلك ل ّ‬
‫والباطنية والفردية والجماعية لكثر وأعظم من أن تعّد وتحصى‪ .‬فبدن النسان ـ على سبيل المثال ـ مؤلف مّما ل‬
‫يحصى من الخليا والنسجة )يبلغ متوسطها عشرة مليارات( التي تشكل كل وحدة منها كائنًا حيًا ومركبًا معقدًا‬
‫للوف من السنين‪ ،‬فاذا عجز النسان عن‬ ‫ونعمة من نعمه سبحانه والتي يتعذر إحصاء عددها في عشرات ا َ‬
‫إحصاء نعم ال في هذا الجانب اليسير فقط‪ ،‬فكيف يسعه أن يحصي جميع هذه النعم واللء على المستويات‬
‫المادية أو المعنوية؟ في الواقع ليس لدينا من علم بكافة نعمه ليتسنى لنا عّدها أو إحصائها‪ .‬فأغلب نعمه قد أغرقت‬
‫ل بعد فقدانها(‪،‬‬
‫كياننا وأحاطت بوجودنا‪ ،‬وحيث لم نسلبها قط فقد غفلنا عنها ولم نحط بها )فل يشعر بالنعمة إ ّ‬
‫أضف إلى ذلك فان ظفر النسان بالنعم واللء إّنما يتناسب طرديًا واتساع مدى علمه ومعرفته; المر الذي يؤدي‬
‫إلى الذعان ـ وكما قال أميرالمؤمنين)عليه السلم( ـ بهذه الحقيقة »ول يحصي نعمائه العادون«‪ .‬ويمكن لهذه‬
‫العبارة أن تكون علة للعبارة السابقة »ل يبلغ مدحته القائلون« إذ كيف يمكن حمد ال والثناء عليه في ظل العجز‬
‫ن هذه النعم ما زالت ل تعرف الحدود رغم الحالة المؤسفة في قيام بعض الظلمة‬ ‫عن إحصاء نعمه! ويبدون أ ّ‬
‫والفئات النفعية باحتكار أغلب النعم أو تضييعها من خلل البذخ‬

‫‪ .1‬اصول الكافي ‪ ،98 / 2‬ح ‪.27‬‬

‫‪ .2‬المصدر السابق ‪ ،97 /‬ح ‪.18‬‬

‫] ‪[ 46‬‬

‫والسراف والتبذير‪ ،‬وتعريض طبقات المجتمع للتعب والرهاق‪ .‬ويقول)عليه السلم(في الوصف الثالث‪» :‬ول‬
‫يؤدي حّقه المجتهدون«‪ .‬وهذه الجملة في الحقيقة استنتاج ترتب على العبارة السابقة‪ ،‬فاذا تعذر إحصاء النعم‬
‫فكيف يمكن أداء حقها؟ بعبارة ُاخرى فإن حّقه بقدر عظمة ذاته القدسية‪ ،‬في حين شكرنا وحمدنا بقدر قدرتنا‬
‫الزهيدة‪ ،‬فأين هذا الحمد من ذلك الحق! ول يقتصر هذا المدح والثناء وأداء الحق على العجز في الجانب العملي‬
‫فحسب بل هو قائم حتى من الناحية الفكرية‪.‬‬

‫ل‪» :‬الذي ل يدركه بعد الهمم ول يناله غوص‬ ‫ولذلك أردف)عليه السلم( ـ وفي إطار بيانه لوصفين آخرين ـ قائ ً‬
‫ن الفكار الخارقة مهما انطلقت في‬‫ن التعبير ببعد الهمم وغوص الفطن إشارة إلى حقيقة مؤداها أ ّ‬‫الفطن)‪ .«(1‬وكأ ّ‬
‫قوس الصعود والفطن المتوهجة في قوس النزول فأنها تبقى عاجزة عن إدراك كنه ذاته المقدسة‪ .‬ول يترك المام‬
‫القرار بهذا العجز دون تقديم الدليل‪ ،‬فيقول‪» :‬الذي ليس لصفته حد محدود‪ ،‬ول نعت)‪ (2‬موجود‪ ،‬ول وقت‬
‫معدود‪ ،‬ول أجل ممدود«‪.‬‬

‫أي أنى لنا الحاطة بكنه ذاته‪ ،‬والحال أن فكرنا بل جميع كياننا محدودًا ل يحسن سوى إدراك الشياء المحدودة‪،‬‬
‫بينما ل تعرف الذات اللهية من حدود من جميع النواحي‪ ،‬فليس هنالك من حد أو وصف قابل للدراك لصفاته‬
‫المطلقة من الزل إلى البد والتي تأبى الولية والخروية والبداية والنهاية‪ .‬ول يقتصر هذا المر على الذات‪،‬‬
‫لخرى ليس لها من حدود‪ ،‬فعلمه ل يعرف الحدود‪ ،‬وقدرته ل متناهية‪ ،‬ول غرو فصفاته عين ذاته‬ ‫فصفاته هى ا ُ‬
‫التي ليس لها حد محدود‪.‬‬

‫ن ال وجود مطلق ليس له أي قيد وشرط‪ ،‬ولو كان لقيد أو شرط وحد من الحدود من سبيل إلى‬ ‫بعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫ذاته لصبح مركبا‪ ،‬في حين نعلم بأن المركب ـ كما يقول الفلسفة ـ‬

‫‪» .1‬همم« جمع همة تعني في الصل الذويان والجريان والحركة ولهذا يطلق الهم حيث بسبب ذويان الجسم النسان وروحه‪ ،‬ثم‬
‫أطلق على كل أمر مهم أو ما يشغل فكر النسان )ورد شبه ذلك في المفردات(‪.‬‬

‫»غوص« تعني فى الصل الغمس في الماء‪ ،‬ثم أطلقت على الدخول في كل عمل مهم‪.‬‬

‫»فطن« جمع فطنة على وزن فتنة الفهم و الذكاء حسب لسان العرب‪.‬‬

‫‪» .2‬الجل« بمعنى انتهاء الشيء كعمر النسان وما إلى ذلك كالعقود والعهود‪.‬‬

‫] ‪[ 47‬‬

‫ممكن الوجود ل واجب الوجود ـ وعليه فواجب الوجود ذات مطلقة غير محدودة في كافة أبعادها‪ ،‬ولذلك كان‬
‫ن هذا‬
‫سبحانه وترًا واحدًا ليس له كفؤًا ول شبيهًا‪ ،‬لستحالة قيام وجودين مطلقين من جميع الجهات‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫التناقض إّنما يؤدي إلى محدودية الطرفين‪ ،‬فهذا فاقد لوجود ذلك‪ ،‬وذاك أيضًا فاقد لوجود هذا )تأمل هذا‬
‫الموضوع(‪.‬‬

‫وبعد أن تعرض المام )عليه السلم( لصفات الجمال والجلل )الصفات الثبوتية والسلبية(‪ ،‬أشار)عليه السلم(إلى‬
‫جانب من صفاته الفعلية سبحانه‪ ،‬فقال‪» :‬فطر)‪ (1‬الخلئق بقدرته‪ ،‬ونشر الرياح برحمته‪ ،‬ووتد)‪ (2‬بالصخور)‪(3‬‬
‫ميدان)‪ (4‬أرضه«‪ .‬لقد استوحيت هذه التعبيرات من بعض اليات القرآنية‪ ،‬فالعبارة »فطر الخلئق بقدرته«‬
‫ض(التي وردت في عّدة سور قرآنية من قبيل‪ :‬سورة يوسف ‪/‬‬ ‫لر ِ‬ ‫ت َوا َ‬
‫سمـوا ِ‬
‫طِر ال ّ‬
‫مستوحاة من الية الشريفة )فا ِ‬
‫‪ 101‬وسورة إبراهيم ‪ 100 /‬وسورة فاطر ‪ 35 /‬وسائر السور المباركة‪.‬‬

‫حَمِتِه(‪(5).‬‬
‫ى َر ْ‬
‫ن َيَد ْ‬
‫شرًا َبْي َ‬
‫ح ُب ْ‬
‫ل الّريا َ‬
‫سُ‬
‫والعبارة »نشر الرياح برحمته« من الية الشريفة )َوُهَو اّلِذي ُيْر ِ‬

‫ن َتِميَد ِبُكْم(‪).‬‬
‫ى َأ ْ‬
‫سَ‬‫ض َروا ِ‬
‫لْر ِ‬
‫والعبارة »ووتد بالصخور ميدان أرضه« من الية ‪ 15‬من سورة النمل )َوَأْلقى ِفي ا َ‬
‫‪(6‬‬

‫وباللتفات إلى ما ذكرنا من معنى »فطر« فانه شبه الخلق بشق الحجاب الظلماني للعدم; الحجاب المتسق‬
‫والمنسجم الذي ل شق فيه‪ ،‬غير أن قدرته المطلقة تشقه وتخرج منه المخلوقات‪ ،‬وليس من شأن أية قدرة سوى‬
‫قدرته أن تفعل هذا‪ .‬فقد اتفقت كلمة الفلسفة والمفكرين على استحالة استحداثنا لشيء من العدم‪ ،‬أو تحويلنا من‬
‫وجود إلى عدم‪ ،‬وكل‬
‫‪» .1‬فطر« من مادة »فطر« على وزن بمعنى شق الشيء من الطول ومنه الفطار في الصوم‬

‫‪» .2‬وتد« من مادة »وند« )على وزن وقت( بمعنى إثبات الشيء ولذلك يطلق الوتد على المسمار الذي يثبت في الشياء ويمنحها‬
‫الثبات أيضًا‪ ،‬وأحيانًا يطلق »الوتد« على وزن »الوقت«‪.‬‬

‫‪» .3‬الصخور« جمع »صخرة«‪ ،‬وقال صاحب لسان العرب تعني الحجر الكبير الصلب‪.‬‬

‫‪» .4‬ميدان« من مادة »ميد« على وزن )صيد( بمعنى الحركة والضطراب وميدان على وزن )ضربان( بهذا المعنى أيضًا و»ميدان«‬
‫على وزن )حيران( وجمعه ميادين بمعنى الفضاء الواسع‪.‬‬

‫‪ .5‬سورة العراف ‪.57/‬‬

‫‪ .6‬سورة النحل ‪.15 /‬‬

‫] ‪[ 48‬‬

‫مامن شأن قدرتنا فعله هوتغيير شكل الموجودات من شكل إلى آخر ول غير!‬

‫أّما التعبير بالرحمة عن حركة الرياح فهو تعبير عذب رائع ينسجم ولطافة النسيم وهبوب الرياح وآثاره المختلفة‬
‫من قبيل حركة السحب والغيوم نحو الراضي القفار وتلقيح الزهار ونمو النباتات واعتدال الجو وحركة السفن‬
‫والفلك في البحر وانخفاض درجات الحرارة وسائر الخيرات والبركات المكنونة في هذه الحركة‪ .‬اّما عن كيفية‬
‫توتيد الرض بهذه الجبال والصخور‪ ،‬فالحق ل يمكن الن قبول النظريات والطروحات التي أوردها قدماء‬
‫العلماء بهذا الشأن إثر قولهم بسكون الرض وعدم حركتها‪ ،‬حتى جاءت النظريات الحديثة التي تنسجم مع‬
‫الحقائق العلمية من جهة وتتفق واليات القرآنية والروايات الواردة بهذا الخصوص من جهة ُاخرى‪ ،‬وذلك لنه‪:‬‬

‫ن وجود الجبال على سطح الكرة الرضية يؤدي إلى الحد من آثار ظاهرة المد والجزر التي تشهدها اليابسة‬
‫‪1‬ـأّ‬
‫بفعل جاذبية الشمس والقمر‪ .‬فلو اجتاحت الراضي الرخوة سطح الرض لصبح المد والجزر كالبحار والنهار‬
‫بما يجعل من المتعذر العيش على هذه الرض‪.‬‬

‫ن جذور الجبال متصلة مع بعضها تحت القشرة الرضية وكأّنها درع قد أحاط بالرض‪ ،‬ولولها لماجت‬ ‫‪2‬ـأّ‬
‫الرض وعاشت الحركة باستمرار وفقدت استقرارها بفعل الضغط الداخلي الذي تفرزه الغازات الداخلية والمواد‬
‫ل نتيجة طبيعية لمثل هذا الضغط الذي يتجاوز الحدود المعينة‪ ،‬ولول هذه الجبال‬
‫المذابة‪ .‬وما الزلزل التي تقع إ ّ‬
‫لتواصلت هذه الزلزلة دون انقطاع‪.‬‬

‫وبناًء على ما تقدم فان هذه الصخور )الجبال( إّنما توتد الرض وتحول دون فقدانها لستقرارها‪ ،‬وناهيك عّما‬
‫ن كافة العيون والنهار إّنما تنبع من مصادر‬
‫ن الجبال تعّد من أهم مصادر الحياة الجوفية للنسان‪ ،‬وأ ّ‬
‫تقدم فا ّ‬
‫الجبال الجوفية وتلك التي على سطح الرض‪.‬‬

‫ويّتضح مّما ذكرنا سابقًا بشأن الدور الحيوي الذي تلعبه الرياح والجبال في حياة النسان وسائر الكائنات الحية‪،‬‬
‫علة تأكيد المام على )عليه السلم( هذين المرين بعيد الشارة إلى مسألة الخلق والخليقة‪.‬‬

‫] ‪[ 49‬‬

‫القسم الثاني‬
‫ص َلُه َوَكمالُ‬‫خل ُ‬ ‫حيِدِه اِْل ْ‬
‫حيُدُه َوَكماُل َتْو ِ‬‫ق ِبِه َتْو ِ‬
‫صِدي ِ‬
‫ق ِبِه َوَكماُل الّت ْ‬ ‫صِدي ُ‬ ‫ن َمْعِرَفُتُه َوَكماُل َمْعِرَفِتِه الّت ْ‬ ‫»َأّوُل الّدي ِ‬
‫صَفِة‪َ ،‬فَم ْ‬
‫ن‬ ‫غْيُر ال ّ‬ ‫صوف َأّنُه َ‬ ‫شهاَدِة ُكّل َمْو ُ‬ ‫صوفِ َو َ‬ ‫غْيُر اْلَمْو ُ‬
‫صَفة َأّنها َ‬‫شهاَدِة ُكّل ِ‬ ‫عْنُه ِل َ‬
‫ت َ‬ ‫صفا ِ‬ ‫ي ال ّ‬ ‫ص َلُه َنْف ُ‬
‫خل ِ‬ ‫اِْل ْ‬
‫جِهَلُه َفَقْد َأشاَر‬
‫ن َ‬‫جِهَلُه َوَم ْ‬
‫جّزَأُه َفَقْد َ‬
‫ن َ‬‫جّزَأُه َوَم ْ‬
‫ن َثّناه َفَقْد َ‬
‫ن َقَرَنُه َفَقْد َثّناه َوَم ْ‬‫سْبحاَنُه َفَقْد َقَرَنُه َوَم ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫فا ّ‬ ‫ص َ‬‫َو َ‬
‫عّدُه«‪.‬‬‫ن َأشاَر ِإَلْيِه َفَقْد َ‬ ‫ِإَلْيِه َوَم ْ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫توحيد الذات والصفات‬

‫تمثل هذه العبارات دورة تربوية تامة في المعرفة اللهية‪ .‬فقد اعتمد أمير المؤمنين)عليه السلم(عبارات مقتضبة‬
‫عميقة المعنى بحيث قدم صورة عن الحق تبارك وتعالى ل يمكن التيان بأحسن منها حتى ولو جمعنا كافة دروس‬
‫التوحيد والمعارف إليها وجعلنا بعضها إلى جانب البعض الخر‪ ،‬فاّنها تعجز عن رسم مثل تلك الصورة‪.‬‬

‫فقد ذكر)عليه السلم( في هذا الجانب من خطبته خمسة مراحل لمعرفة ال يمكن ايجازها في مايلي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ المعرفة الجمالية والناقصة‬

‫‪ 2‬ـ المعرفة التفصيلية‬

‫‪ 3‬ـ توحيد الذات والصفات‬

‫‪ 4‬ـ الخلص‬

‫‪ 5‬ـ نفي التشبيه‬

‫ن الدين هنا يعني مجموعة العقائد‬


‫فقد قال)عليه السلم( مبتدأ »أول الدين معرفته«‪ .‬ل شك أ ّ‬

‫] ‪[ 50‬‬

‫ن دعامتها الساسية هى »معرفة ال«‪ ،‬وعليه فمعرفة ال تمثل‬ ‫والواجبات والوظائف والخلق‪ ،‬ومن المعلوم أ ّ‬
‫الخطوة الولى على الطريق من جانب والمحور الرئيسي لكافة أصول الدين وفروعه‪ ،‬وليس لهذا الدين من‬
‫ل وهو النظر في طريق‬ ‫ن هناك شيئًا آخر قبل معرفة ال‪ ،‬إ ّ‬
‫حيوية دون هذه المعرفة ـ أّما أولئك الذين يعتقدون بأ ّ‬
‫ن وجوب التحقيق يمثل أول‬ ‫معرفة ال والتحقيق بشأن الدين ووجوب المطالعة‪ ،‬فهم على خطأ كبير‪ .‬وذلك ل ّ‬
‫الواجبات‪ ،‬بينما تمثل معرفة ال أول دعامة للدين‪ ،‬أو بعبارة ُأخرى فان التحقيق مقدمة ومعرفة ال أولى مراحل‬
‫ذي المقدمة‪(1).‬‬

‫ن المعرفة الجمالية قد أودعت فطرة النسان ول تتطلب أدنى تبليغ بهذا‬ ‫لخرى المفروغ منها هى أ ّ‬ ‫والنقطة ا ُ‬
‫الشأن‪ ،‬وإنما بعث النبياء لستبدال هذه المعرفة الجمالية بتلك المعرفة التفصيلية الكاملة المتقنة وإغناء جوانبها‬
‫وتطهير الفكر البشري من أدران الشرك وأرجاسه‪.‬‬

‫—–‬

‫ثم قال)عليه السلم(‪» :‬وكمال معرفته التصديق به«‪ .‬هنالك عّدة تفاسير للفارق بين التصديق والمعرفة‪ .‬بادئ ذي‬
‫ن المراد‬ ‫بدء المراد هنا بالمعرفة هى المعرفة الفطرية‪ ،‬والمقصود بالتصديق المعرفة العلمية والستدللية‪ .‬أو أ ّ‬
‫ن المعرفة تشير إلى العلم بال‪،‬‬ ‫بالمعرفة هنا المعرفة الجمالية‪ ،‬والمقصود بالتصديق المعرفة التفصيلية‪ .‬أو أ ّ‬
‫ل أّنه ل يؤمن به قلبيًا ـ بمعنى‬
‫ن العلم ل يفارق اليمان‪ ،‬فالنسان قد يوقن بشيء إ ّ‬‫والتصديق يشير إلى اليمان‪ ،‬ل ّ‬
‫ل لنفصال هذين المرين‬ ‫التسليم له والذعان به قلبيًا‪ ،‬أو بتعبير آخر العتقاد به ـ‪ .‬وأحيانًا يضرب الفضلء مث ً‬
‫ن أغلب الفراد يشعرون بالهلع ول سيما في الليلة المظلمة حين البقاء إلى جانب ميت‬ ‫عن بعضهما‪ ،‬فيقولون‪ :‬إ ّ‬
‫في غرفة خالية‪ ،‬رغم علمهم بانه ميت‪ ،‬لكن كأن العلم لم ينفذ إلى أعماقهم ويتسلل إلى قلوبهم‪ ،‬فلم يحصل ذلك‬
‫اليمان المطلوب وبالتالي فقد تمخض عن هذا الهلع والخشية‪.‬‬

‫ل أّنها قد تكتسب صبغة‬


‫ن العلم هو تلك المعرفة القطعية بالشيء‪ ،‬إ ّ‬
‫وبعبارة ُاخرى فا ّ‬

‫ن هذه المعرفة تعني الطاعة‬ ‫لمة المعروف »محمد جواد مغنية« في كتابه »في ظلل نهج البلغة« إلى أ ّ‬ ‫‪ .1‬لقد ذهب المرحوم الع ّ‬
‫والنقياد لوامر ال ونواهيه‪ ،‬وهذا هو المعنى الذي اختاره من قبله الشارح الخوئي ـ رضوان ال عليه‪ ،‬فان كان مرادهما الطاعة‬
‫بالمعنى الشامل للكلمة بما فيها اُلمور العقائدية صح ذلك‪ ،‬وإن اقتصر على الجوانب العملية فقط يرد عليهما ما أوردناه سابقًا‪.‬‬

‫] ‪[ 51‬‬

‫سطحية فل تنفذ إلى أعماق وجود النسان وروحه‪ ،‬فاذا نفذت إلى أعماقه وبلغت مرحلة اليقين بحيث أذعن‬
‫النسان بذلك قلبيًا‪ ،‬فان ذلك العلم يكتسب صفة اليمان‪.‬‬

‫—–‬

‫ن النسان لم يبلغ مرحلة‬‫ثم قال)عليه السلم( في المرحلة الثالثة »وكمال التصديق به توحيده«‪ .‬فمما لشك فيه أ ّ‬
‫التوحيد الكامل على أساس معرفته التفصيلية ل أو بتعبير آخر بالمعرفة القائمة على أساس الدليل والبرهان‪.‬‬
‫ن من جعل له شبيه وصنو لم يعرفه‪،‬‬ ‫فالتوحيد التام في أن ينزه الذات اللهية عن كل شبه ومثيل ونظير‪ .‬وذلك ل ّ‬
‫فال وجود مطلق غنى بالذات عّما سواه وليس كمثله شيء‪ ،‬ومن طبيعة الشياء التي لها أشباه وأمثال أن تكون‬
‫ن أي من الشبيهين منفصل عن الخر وفاقد لكمالته‪.‬‬‫محدودة‪ ،‬ل ّ‬

‫ل بالتصديق بذاته المنزهة في أّنه واحد; واحد ل عن عدد‪ ،‬بل واحد بمعنى‬
‫إذن فالنسان ل يبلغ مرحلة الكمال إ ّ‬
‫خلوه من الشبيه والمثيل‪.‬‬

‫—–‬

‫ثم ينتقل المام)عليه السلم( إلى المرحلة الرابعة وهى مرحلة الخلص فيقول‪» :‬وكمال توحيده الخلص له«‪.‬‬
‫والخلص من مادة الخلوص بمعنى تصفية الشيء عن الغير‪ ،‬بمعنى التصفية والتنزه‪ .‬وهناك خلف بين مفسري‬
‫نهج البلغة بشأن هذا الخلص‪ ،‬وهل المراد به الخلص العملي أم القلبي أم العقائدي‪ .‬والمراد بالخلص‬
‫العملي هو أن يعيش الفرد ذروة التوحيد اللهي فل يسأل سواه ول يرى غيره فيما يقوم به من أفعال وأعمال‪.‬‬
‫وهو المر الذي تناوله الفقهاء في بحث الخلص في العبادة‪ ،‬وقد أورد »الشارح الخوئي«)ره( هذا التفسير‬
‫بصفته أحد القوال دون أن يذكر من قال به‪(1).‬‬

‫أّما الخلص القلبي والذي عبر عنه »الشارح البحراني ابن ميثم« بالزهد الحقيقي فهو يعنى توجه القلب إلى ال‬
‫ن الخلص‬ ‫ل أننا نرى أ ّ‬
‫وعدم التفكير بما سواه‪ ،‬والنشغال بغيره)‪ .(2‬إ ّ‬

‫ن لصدر الدين الشيرازي مثل هذا العتقاد في شرح الكافي‪.‬‬


‫‪ .1‬منهاج البراعة ‪ .321 / 1‬وقد نقل الشارح الخوئي بأ ّ‬

‫‪ .2‬شرح نهج البلغة لبن ميثم ‪.122 / 1‬‬

‫] ‪[ 52‬‬

‫مفهوم عظيم وسامي ل ينسجم وما أورده الشّراح في هذه العبارات‪ ،‬ومن المستبعد أن يكون هذا هو المراد به‪ .‬أّما‬
‫المفهوم الوحيد الذي يناسبه هو تنزيه العتقاد بال تبارك وتعالى; أي تنزيهه في وحدته عن كل شبيه ومثيل‪ ،‬إلى‬
‫جانب تقديسه عن التركيب من الجزاء‪.‬‬
‫—–‬

‫وقد أشار المام)عليه السلم( إلى هذا المعنى في المرحلة الخامسة حين قال‪» :‬وكمال الخلص له نفي الصفات‬
‫عنه«‪ .‬وبعبارة اخرى فان الحديث في المرحلة السابقة قد تناول الخلص على نحو الجمال‪ ،‬فلما بلغ الخلص‬
‫ن الخلص في التوحيد يتطلب تنزيهه عن كافة الصفات‬ ‫هنا مرحلة الكمال غاص في التفاصيل‪ ،‬ليتضح من ذلك أ ّ‬
‫التي يتصف بها المخلوق‪ ،‬سواء كانت هذه الصفات بمعنى التركب من الجزاء أم غيرها‪ ،‬وذلك لننا نعلم بأ ّ‬
‫ن‬
‫جميع الممكنات بما فيها العقول والنفوس المجردة هى في الواقع مركبة )على القل مركبة من الوجود والماهية(‬
‫لخرى ليست مستثناة من هذا التركب‪ ،‬أّما الموجودات‬ ‫وحتى المجردات; أي الموجودات الخارجة عن المادة هى ا ُ‬
‫المادية فكلها متركبة من الجزاء الخارجية‪ ،‬لكن الذات اللهية المقدسة ل تشتمل على الجزاء الخارجية ول‬
‫الجزاء العقلية‪ ،‬ليمكن تجزأته في الخارج ول في إدراكنا وفهمنا‪ .‬وكل من غفل عن هذه الحقيقة لم يظفر‬
‫ن مراده)عليه السلم( بقوله »كمال توحيده نفي الصفات عنه« ليس الصفات‬ ‫بالتوحيد الخالص‪ ،‬ومن هنا يتضح بأ ّ‬
‫ن كافة الصفات الكمالية من قبيل العلم والقدرة والحياة وما إلى ذلك من الصفات ثابتة له‪ ،‬بل المراد‬ ‫الكمالية; ل ّ‬
‫الصفات التي ألفناها وتعرفنا عليها وهى صفات المخلوقين المشوبة بالنقص‪ .‬فالمخلوقات لها حظ من علم وقدرة‪،‬‬
‫ن علمها وقدرتها محدودة ناقصة مشوبة بالجهل والضعف والعجز‪ ،‬بينما الذات اللهية منزهة عن مثل هذا‬ ‫غير أ ّ‬
‫العلم والقدرة وأفضل دليل على ذلك ما أورده المام)عليه السلم(في ذيل هذه الخطبة بشأن الملئكة فوصفهم‬
‫بقوله‪» :‬ل يتوهمون ربهم بالتصوير ول يجرون عليه صفات المصنوعين«‪ .‬أضف إلى ذلك فان صفات‬
‫ن صفاتها زائدة على ذواتها‪ .‬فالنسان شيء وعلمه‬ ‫المخلوقات منفصلة دائمًا عن ذواتها‪ ،‬أو بعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫ن صفات ال عين ذاته وليس هنالك من‬ ‫وقدرته آخر‪ ،‬وبناًء على هذا فوجوده مركب من هذين الشيئين‪ ،‬والحال أ ّ‬
‫ن أعظم عقبة تعترض مسيرة التوحيد إّنما تكمن في قضية‬ ‫سبيل لهذا التركب‪ .‬والواقع أ ّ‬

‫] ‪[ 53‬‬

‫»القياس«; أي قياس صفات ال بصفات المخلوقات المفعمة بأنواع النقص والعيب‪ ،‬أو العتقاد بالصفات الزائدة‬
‫على الذات; الورطة التي وقعت فيها الشاعرة »فرقة من المسلمين«‪(1).‬‬

‫—–‬

‫ل‪» :‬لشهادة كل صفة ـ من الممكنات ـ أّنها غير الموصوف وشهادة كل‬


‫ولذلك أردف المام)عليه السلم( قائ ً‬
‫موصوف ـ من الممكنات ـ أّنه غير الصفة«‪.‬‬

‫ن الصفات الزائدة على الذات تشهد بلسان حالها أّنها غير‬ ‫فكلمه)عليه السلم( دليل واضح وجلي في أ ّ‬
‫ن ال‬
‫ن صفاته عين ذاته‪ ،‬ونؤمن بأ ّ‬ ‫ل أن نقول بأ ّ‬‫الموصوف‪ ،‬وكل موصوف يشهد بأّنه ليس من الصفات‪ ،‬الّلهم إ ّ‬
‫ذات جميعها علم وجميعها قدرة وجميعها حياة وأزلية وأبدية‪ ،‬وإن كان إدراك مثل هذا العتقاد متعذر علينا نحن‬
‫ن النسان شيء وعلمه وقدرته شيئًا مضافًا للذات زائدًا‬ ‫المخلوقات الذين أنسنا بصفات المخلوق فقط ونرى أ ّ‬
‫عليها‪ ،‬لننا نلد من أمهاتنا وليس لنا من علم وقدرة ثم نحصل عليها لحقًا‪.‬‬

‫—–‬

‫ل أّنها عميقة المعنى فيقول‪» :‬فمن وصف ال‬


‫ثم يواصل المام)عليه السلم( خطبته ويردفها بعبارة قصيرة إ ّ‬
‫سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله«‪.‬‬

‫ن كلم المام)عليه السلم( يفيد أن اثبات الصفات التي تتصف بها المخلوقات ل يستلزم التركب في‬ ‫فالواقع أ ّ‬
‫ن المخلوق ـ النسان ـ مركب من الذات والصفات فان ال مركب كذلك; بينما ل ينسجم‬ ‫وجوده سبحانه; أي كما أ ّ‬
‫ن كل مركب يحتاج إلى أجزائه والحاجة تتناقض والغنى المطلق لواجب الوجود‪.‬‬‫هذا المعنى وواجب الوجود‪ ،‬ل ّ‬

‫‪ .1‬الشاعرة هم أتباع »أبو الحسن الشعري« الذين يؤمنون بالمعاني‪ ،‬والمراد بالمعاني هو أن مفهوم الصفات من قبيل العالمية‬
‫والغالبية و‪ ...‬كالذات اللهية قديمة أزلية‪ ،‬كما أّنها في نفس الوقت غير الذات اللهية‪ ،‬وعليه فهم يعتقدون بأزلية بعض الشياء‪،‬‬
‫بعبارة ُاخرى يقولون بتعدد القدماء‪ ،‬وهى العقيدة التي تتنافى تمامًا والوحدانية الخالصة‪ ،‬ولذلك ينفي أتباع أهل البيت)عليهم السلم(ـ‬
‫على ضوء ما تلقوه عنهم من تعاليم كالذي جاء في هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلغة وكلمات أئمة العصمة)عليهم السلم( ـ هذه‬
‫المعاني التي تمثل الصفات الزائدة على الذات‪ ،‬وقد أشارت العبارة »ل شريك له ول معاني« لهذا المر‪.‬‬
‫] ‪[ 54‬‬

‫وهناك تفسيران آخران ذكرا لهذه العبارة‪:‬‬

‫ن الذات والصفات على فرض‬ ‫ن ذاته ستكون مركبة‪ ،‬ل ّ‬


‫الول‪ :‬أننا إذا اعتبرنا صفاته سبحانه غير ذاته‪ ،‬فا ّ‬
‫التناقض ستشتملن على جهات مشتركة ومتمايزة والذي يعّبر عنه »ما به الشتراك« و»ما به المتياز«‪ .‬ل ّ‬
‫ن‬
‫كليهما مشترك في الوجود وفي نفس الوقت متمايزان عن بعضهما‪ ،‬وفي هذه الحالة لبّد أن نعتبر ذاته مركبة من‬
‫جهتين مختلفتين أيضًا‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن نؤمن بوحدة الذات اللهية‪ ،‬ول نعني بها الوحدة العددية‪ ،‬بل يعني مفهوم الوحدة بالنسبة للذات اللهية‬
‫ن الوجود المطلق من كل الجهات يأبى أن يكون له شبيه‬ ‫أّنها منزهة عن الشبيه والمثيل والنظير‪ .‬وبشكل عام فا ّ‬
‫ن صفات ال كذاته أزلية وأبدية ومطلقة‪ ،‬نكون قد حددناه سبحانه من جانب وقلنا بشبيه له من‬ ‫ومثيل‪ ،‬فان قلنا بأ ّ‬
‫جانب آخر )لبّد من التأمل في هذا الكلم( وهذا هو المعنى الذي كشف عنه المام)عليه السلم( في إطار‬
‫لخرى‬ ‫توضيحه للخلص‪ ،‬فقال »فمن وصف ال سبحانه« أي وصفه بصفات المخلوقين »فقد قرنه« بالشياء ا ُ‬
‫»ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزاه ومن جزاه فقد جهله« لّنه حين جزاه بمعنى جعل ذاته متركبة من أجزاء‬
‫وحقًا لم يعرف ال من اعتقد بتركب ذاته; وذلك لّنه تصور كائنًا على شاكلته ـ من حيث التركيب والمحدودية ـ‬
‫وأسماه ال‪.‬‬

‫—–‬

‫ثم يقول)عليه السلم(‪» :‬ومن جهله فقد أشار إليه‪ ،‬ومن أشار إليه فقد حده‪ ،‬ومن حده فقد عده«‪ .‬ويوجد احتمالن‬
‫بشأن قوله)عليه السلم(‪» :‬ومن أشار إليه« الول أن يكون المراد بها الشارة العقلية‪ ،‬والثاني أن يكون المراد بها‬
‫ن النسان إذا لم يعرف ال بتلك الحقيقة المطلقة اللمتناهية فاّنه سيمتلك‬
‫الشارة العقلية والحسية‪ .‬وتوضيح ذلك أ ّ‬
‫في ذهنه مفهومًا محدودًا وخاصًا عنه سبحانه‪ ،‬أو بتعبير آخر فاّنه سيشير إليه بالشارة العقلية‪ ،‬وبالطبع سيكون‬
‫محدودًا في هذه الحالة تصورًا‪ ،‬وذلك لتعذر إدراك وتصور اللمحدود واللمتناهي على النسان المحدود‬
‫والمتناهي‪ .‬فالنسان إّنما يدرك ما يحيط به من أشياء يسعه تجسيمها في فكره المحدود‪ ،‬وبالطبع فان مثل هذه‬
‫ن من‬
‫الموجودات محدودة‪ .‬وعلى هذا الضوء فان ال سيكون في مصاف المعدودات والشياء القابلة للعدد‪ ،‬ل ّ‬
‫لوازم المحدود هو إمكان تصور موجود آخر في موضع آخر مثله‪.‬‬

‫] ‪[ 55‬‬

‫والول الوحيد الذي ليس له ثان من كان غير محدود من جميع الجهات ول يسعه العدد‪ .‬وعلى هذا الساس فان‬
‫مولى الموحدين ـ علي بن أبي طالب)عليه السلم( ـ قد عكس حقيقة التوحيد في هذه العبارة القصيرة ذات المعنى‬
‫العميق‪ ،‬فوصف البارئ سبحانه بما يفوق الخيال والقياس والظن والوهم‪ .‬وهى ذات الحقيقة التي كشف النقاب‬
‫عنها المام الباقر)عليه السلم( حين قال‪» :‬كل ما ميزتموه باوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود‬
‫إليكم«)‪.(1‬‬

‫ن ال‬
‫والحتمال الخر مازال قائمًا بأن يكون المراد »بالشارة« الشارة العقلية والشارة الحسية أيضًا; وذلك ل ّ‬
‫ن كل مشار‬
‫ليس بجسم ول عرض والعتقاد بجسمية ال جهل محض‪ ،‬ونتيجة ذلك كون الذات اللهية محدودة ل ّ‬
‫إليه فهو محدود‪ ،‬فالمشار إليه لبّد أن يكون في جهة مخصوصة‪ ،‬وكل ما هو في جهة فله حد وحدود‪.‬‬

‫سؤال‬

‫ن معنى ذلك تعطيل معرفة ال وإغلق‬ ‫هنا يبرز سؤال يطرح نفسه‪ :‬إذا تعذرت حتى الشارة العقلنية ل‪ ،‬فا ّ‬
‫أبواب المعرفة بوجه النسان وبالتالي سوف لن يكون هناك من مفهوم لمعرفة ال‪ .‬وذلك لننا كلما حاولنا التوجه‬
‫ل بعدًا عنه‪ ،‬فما‬
‫إلى تلك الذات المقدسة ارتطمنا بمخلوق من نسج أفكارنا‪ ،‬كلما أردنا القتراب منه لم نزدد إ ّ‬
‫أحرانا والحالة هذه ال نقتحم ميدان المعرفة بغية عدم البتلء بالشرك‪.‬‬

‫الجواب‬
‫ن الجواب على هذا السؤال يتضح من خلل اللتفات إلى نقطة مهّمة ـ من شأنها أن تحل المشكلة هنا وفي سائر‬ ‫إّ‬
‫ن المعرفة على نوعين‪ :‬معرفة إجمالية ومعرفة تفصيلية‪ ،‬أو بتعبير آخر معرفة كنه الذات‬ ‫الموارد ـ وهى أ ّ‬
‫ومعرفة مبدأ الفعال‪ .‬فاننا حين نتأمل عالم الوجود بما يضم من العجائب والغرائب والكائنات بتلك الروعة‬
‫ن هنالك خالقًا ومدبرًا لهذا الكون وهذا هو العلم‬
‫والجمال والعظمة‪ ،‬بما في ذلك وجودنا نحن الفراد لنشعر بأ ّ‬
‫الجمالي الذي يمثل ذروة معرفة النسان بال )غاية مافي المر أننا كلما تعرفنا أكثر على أسرار الوجود وقفنا‬
‫بصورة‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪.293 / 66‬‬

‫] ‪[ 56‬‬

‫ل أننا حين نعود بالسؤال لنفسنا عن ماهيته‬


‫أعمق على عظمته وتعززت به معرفتنا الجمالية أكثر فأكثر( إ ّ‬
‫وكيفيته ونحاول القتراب من حقيقة ذاته المقدسة ل نحظى سوى بالحيرة والغموض; المر الذي يجعلنا نقول بأ ّ‬
‫ن‬
‫السبيل إليه مفتوح على مصراعيه وفي نفس الوقت مؤصد ومغلق تمامًا‪.‬‬

‫] ‪[ 57‬‬

‫القسم الثالث‬

‫عَدم‪َ ،‬مَع ُكّل‬‫ن َ‬ ‫عْ‬ ‫جوٌد ل َ‬ ‫حَدث‪َ ،‬مْو ُ‬‫ن َ‬ ‫عْ‬‫نل َ‬ ‫خَلى ِمْنُه‪ .‬كاِئ ٌ‬‫علَم«؟ َفَقْد َأ ْ‬ ‫ن قاَل » َ‬ ‫ضّمَنُه‪َ ،‬وَم ْ‬
‫ن قاَل »ِفيَم« َفَقْد َ‬ ‫»َو َم ْ‬
‫خْلِقِه‪،‬‬
‫ن َ‬
‫ظوَر ِإَلْيِه ِم ْ‬
‫صيٌر ِإْذ ل َمْن ُ‬
‫ت َواْلَلِة‪َ ،‬ب ِ‬‫حَركا ِ‬‫عٌل ل ِبَمْعَنى اْل َ‬ ‫يء ل ِبُمزاَيَلة‪ ،‬فا ِ‬ ‫ش ْ‬
‫غْيُر ُكّل َ‬ ‫شيء ل ِبُمقاَرَنة‪َ ،‬و َ‬
‫ش ِلَفْقِدِه«‪.‬‬
‫ح ُ‬‫سَتْو ِ‬
‫س ِبِه َول َي ْ‬‫سَتْأِن ُ‬‫ن َي ْ‬
‫سَك َ‬
‫حٌد ِإْذ ل َ‬
‫ُمَتَو ّ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫ليس كمثله شيء‬

‫لقد تعرض المام)عليه السلم( في هذا القسم من الخطبة إلى عّدة نقاط حساسة ودقيقة بشأن مباحث التوحيد‬
‫بكلمات قليلة ومعان عميقة يمكن إيجازها في خمس‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ كون الذات اللهية المطلقة منزهة عن المكان‪ ،‬فقد قال)عليه السلم(‪» :‬ومن قال فيم؟ فقد ضمنه«‪ .‬فالكلمة‬
‫)في( إّنما تستعمل بشأن المكان الذي يحوي الشيء ويحيط به‪ ،‬من قبيل قولنا فلن في الدار‪ ،‬والورد في البستان‬
‫ن كافة أدلة التوحيد تفيد كون الذات‬
‫وما إلى ذلك‪ ،‬ونتيجة ما تقدم هو محدودية ذاته سبحانه‪ ،‬بينما أشرنا سابقًا إلى أ ّ‬
‫المقدسة مطلقة من جميع الجهات‪.‬‬
‫وهكذا من سأل »علم« بشأن ال؟ )على العرش‪ ،‬على الكرسي‪ ،‬على السموات( فقد حده لنه أخلى منه سائر‬
‫المواضع »ومن قال علم؟ فقد أخلى منه(‪ .‬فمثل هذه السئلة تستلزم كون الذات القدسية محدودة‪ ،‬وهذا مال‬
‫ينسجم وكونه واجب الوجود‪ .‬وبناًء على هذا فكل من تصوره على العرش أو على السموات أو أي مكان آخر فقد‬
‫جرد نفسه من التوحيد الخالص‪ ،‬وفي الواقع فاّنه يعبد مخلوقًا من نسج خياله الفكري ويسميه ال‪ .‬فقد ذهب بعض‬
‫الجهال إلى‬

‫] ‪[ 58‬‬

‫سَتوى()‪ (1‬دليل على جسمية ال وأّنه على العرش‪ ،‬بينما تفيد كلمة »استوى«‬ ‫شا ْ‬
‫على الَعْر ِ‬
‫ن َ‬
‫حمـ ُ‬
‫ن الشريفة )الّر ْ‬‫أّ‬
‫معنى السيطرة على الشيء ول تقتصر على معنى التربع على الشيء أو الستقرار عليه‪ ،‬بل هناك تعبير كنائي‬
‫سَتوى‬
‫لمور والخذ بزمامها في مقابل اعتزال السلطة وانفلت القدرة‪ ،‬فيقال )ا ْ‬‫معروف ومتداول بشأن تزعم ا ُ‬
‫ش(في مقابل »ثل عرشه« ول يراد كسر عرش السلطة أو التربع عليه‪ .‬وعليه فالذي تفيده الية الكريمة‬ ‫على الَعْر ِ‬
‫َ‬
‫ش( هو استقرار حكومته وسلطته سبحانه على العرش‪ .‬على كل حال يبدو من السذاجة‬ ‫على الَعْر ِ‬‫سَتوى َ‬‫)ا ْ‬
‫والسخرية الستدلل بهذه الية على جسميته سبحانه‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ يشرح المام)عليه السلم( في هذه العبارة »كائن ل عن حدث« أزليته سبحانه وكون ذاته غنية عن الحدود‬
‫من ناحية الزمان‪ ،‬ثم يقول)عليه السلم(‪» :‬موجود ل عن عدم« وهذا هو الفارق بينه وبين جميع المخلوقات‬
‫المسبوقة بالعدم والحدوث‪ ،‬بينما لم تسبق الذات اللهية بمثل ذلك العدم والحدوث‪ .‬بل ل يمكن وصفه بصفتي‬
‫»الكائن« و»الموجود« دون تنقية مفهومها من صفات المخلوقات المسبوقة بالعدم‪(2).‬‬

‫لخرى تضمنت إشارة رائعة إلى كيفية الرابطة السائدة بين المخلوقات والخالق والممكنات بواجب‬ ‫‪ 3‬ـ العبارة ا ُ‬
‫الوجود‪ ،‬حيث قال)عليه السلم(‪» :‬مع كل شيء ل بمقارنة وغير كل شيء ل بمزايلة«‪ .‬لقد ذهب أغلب الناس‬
‫ن الرابطة التي تسود المخلوقات بال‪ ،‬هى رابطة بين وجودين مستقلين في أ ّ‬
‫ن‬ ‫وحتى أغلب الفلسفة والعلماء إلى أ ّ‬
‫أحدهما مخلوق للخر‪ ،‬كوجود الشعلة العظيمة والشمعة الصغيرة التي نوقدها من تلك الشعلة‪ ،‬في حين الحقيقة‬
‫شيء آخر‬

‫‪ .1‬سورة طه ‪.5 /‬‬

‫ن العبارتين المذكورتين إّنما تبينان موضوعًا واحدًا‪ ،‬بينما اعتبر البعض الخر ـ مثل ابن أبي‬
‫‪ .2‬لقد ذهب بعض شّراح النهج إلى أ ّ‬
‫الحديد ـ أن قوله)عليه السلم(‪» :‬كائن ل عن حدث« إشارة إلى الحدوث الزماني في العبارة الولى‪ ،‬ولم ينف حدوثه الذاتي ال في‬
‫كلمته الثانية بغض النظر عن الزمان لّنه واجب الوجود‪) .‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ .(79 / 1‬في حين ذهب آخرون إلى‬
‫عكس ذلك ففسروا العبارة الولى بنفي الحدوث الذاتي أو الذاتي والزماني‪ ،‬والعبارة الثانية بنفي الحدوث الزماني‪) .‬شرح نهج‬
‫البلغة لبن ميثم‪ .(127 / 1 ،‬ولكن لم يقم دليل واضح على أي من هذا التفاوت‪ ،‬لن مفردة الحدوث عادة ما تطلق على الحدوث‬
‫الزماني‪ ،‬كما يمكن حملها على الحدوث الذاتي أيضًا‪ ،‬وهكذا يمكن إطلق نقطة العدم على العدم الذاتي والتي غالبًا ما تطلق على العدم‬
‫الزماني‪ .‬وعليه تبدو هاتان العبارتان متأكدتان في معناهما وهو نفي الحدوث الزماني والذاتي; على أّنهما تنفيان أي حدوث وعدم‬
‫عن الذات اللهية سواًء بالنسبة للذات والزمان‪.‬‬

‫] ‪[ 59‬‬

‫تمامًا‪ .‬فالفارق بين المخلوق والخالق هو ليس من قبيل الفارق بين وجود ضعيف وقوي قط‪ ،‬بل الفارق هو فارق‬
‫بين وجود مستقل من جميع الجهات ووجود تابع‪ .‬فعالم الوجود برمته تابع له ويتغذى في كل آن من نور وجوده‬
‫ل عن عالم الوجودكما أّنه ليس عين الموجودات )كما ذهب إلى ذلك الصوفية التي‬ ‫عليه‪ .‬فال سبحانه ليس منفص ً‬
‫ن التوحيد الواقعي إّنما يتوقف على إدراك هذه الحقيقة‪ .‬ويمكن إيضاح هذه‬‫تقول بوحدة الوجود والموجود(‪ ،‬وأ ّ‬
‫الحقيقة بهذا المثال )رغم النقص الذي يشوب مثل هذه المثلة(‪ .‬فشعاع الشمس رغم وجوده وكونه غير قرص‬
‫ل أّنه متصل بها تابع لها‪ ،‬هو غيرها لكن ل على نحو المغايرة وبمعنى النفصال والستقلل‪ ،‬ومعها‬ ‫الشمس‪ ،‬إ ّ‬
‫ولكن ليس بمعنى اللتحام والتحاد‪ .‬وهما لشك فيه أن ارتباط موجودات هذا العالم بالذات اللهية المقدسة أكثر‬
‫قربًا وتبعية مّما صدره هذا المثال‪ ،‬والحق ل يمكن العثور على مثال دقيق في هذا العالم لتصوير عمق هذه التبعية‬
‫ن المثلة ومنها المثال المذكور ـ أو كالتصورات‬‫والوحدة وفي نفس الوقت الثنائية )أي الوحدة في الكثرة(‪ .‬رغم أ ّ‬
‫الذهنية للنسان التابعة من روحه وغير المنفصلة عنها وفي نفس الوقت تابعة لها وليس لها من مفهوم دونها ـ‬
‫يمكنها أن توضح إلى حد ما هذا الموضوع‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تناول المام)عليه السلم( صفة ُاخرى من صفات الذات اللهية المقدسة‪ ،‬فقد قال)عليه السلم(‪» :‬فاعل ل‬
‫بمعنى الحركات واللة«‪ .‬لقد جرت المحاورات اليومية عادة على الصطلح بالفاعل على الفرد الذي يقوم‬
‫ببعض العمال من خلل حركات اليد والرجل أو الرأس والرقبة وسائر العضاء‪ ،‬ولما كانت قدرة النسان‬
‫وسائر الكائنات محدودة وتعذر التيان بكافة الفعال والعمال على هذه العضاء‪ ،‬فاّنه يستعين ببعض الوسائل‬
‫والدوات ليسد بها ذلك النقص الذي يشوب قدرته‪ ،‬فهو يستعين بالمطرقة لدق المسمار‪ ،‬وبالمنشار لنشر الخشب‬
‫لمور هى من آثار الجسام‬ ‫وبالمكائن واللت الضخمة لنقل الحمال الثقلية من مكان إلى آخر‪ ،‬وكل هذه ا ُ‬
‫والجسمانيات‪.‬‬

‫ولما كان ال منزهًا عن الجسمية‪ ،‬وقدرته غنية مطلقة خارجة عن الحد والحدود فان فاعليته ل تعني القيام‬
‫ن قدرته المطلقة أغنته عن الستعانة بالدوات واللت‪ .‬فال سبحانه فاعل قبل أن تخلق اللة‬ ‫بالحركات أبدًا‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ولو كان محتاجًا لللة لعجز عن خلقه لولى‬

‫] ‪[ 60‬‬

‫الشياء‪ ،‬وبعبارة ُاخرى فان فعله إبداع‪ .‬نعم فهو قادر على خلق عالم الوجود أو اعدامه في طرفة عين أو أقرب‬
‫بإرادته وقوله )كن(‪ ،‬كما له خلقه تدريجيًا أو في أية مّدة نبتغيها إرادته‪ .‬والذي يجدر اللتفات إليه هنا هو أننا حين‬
‫ن هذا‬‫نصفه سبحانه بأّنه فاعل فل ينبغي أن نقارن فاعليته بذواتنا وأّنها تستعين بالدوات واللت‪ .‬وبالطبع فا ّ‬
‫ت َأْمرًا(‪.‬‬
‫الكلم ل يعني أن ليس ل من ملئكة تتولى تدبير المر والتي وصفها القرآن )‪َ...‬فاْلـُمَدّبرا ِ‬

‫فقد جرت عادته على ايجاد الحوادث عن طريق السباب‪ ،‬لن إرادته شاءت ذلك لمحتاج لها‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ ثم قال المام)عليه السلم(‪» :‬بصير إذ ل منظور إليه من خلقه«‪.‬‬

‫ل أّنها تطلق بالمعنى المجازي على ال سبحانه ل الحقيقي‪.‬‬ ‫صحيح أن مفردة بصير مشتقة من مادة البصر‪ ،‬إ ّ‬
‫فكونه بصيرًا يعني عليمًا بجميع الشياء القابلة للرؤية وحتى الشياء التي ترى ولم تخلق بعد‪ .‬وبناًء على هذا فان‬
‫ن علمه أزلي‪ .‬وأخيرًا فقد تحدث المام)عليه السلم( عن‬ ‫بصيرته تعود إلى علمه اللمتناهي‪ ،‬حيث نعلم جميعًا بأ ّ‬
‫وحدانيته سبحانه في غناه عن النيس فقال‪» :‬متوحد إذ ل سكن يستأنس به ول يستوحش لفقده«)‪(1‬‬

‫ن الناس وسائر الكائنات الحية وبحكم كون قدرتها محدودة في نيل المنافع ودفع الضرار فاّنها‬
‫وتوضيح ذلك هو أ ّ‬
‫مضطرة للستعانة ببني جنسها ومن غيرها لتشعر بالمن تجاه بعض الخطار التي تهددها‪ .‬وهنا يتفاقم شعور‬
‫النسان بالستيحاش لوحدته‪ ،‬بينما يأنس بوجود سائر الفراد إلى جانبه ولسيما أثناء تعرضه للخطار والفات‬
‫والبليا والمراض والوبئة‪ .‬وأحيانًا يندفع النسان الضيق النظر ليقارن ال بنفسه فيشعر بالدهشة والذهول كيف‬
‫يكون ال وحيدًا قبل ايجاده لهذه المخلوقات‪ ،‬وكيف ل يكون له من أنيس يسكن إليه‪ ،‬وأخيرًا كيف يشعر‬
‫ل عن أّنه وجود مطلق ل يحتاج الستعانة‬‫بالستئناس بهذه الوحدة؟! غاف ً‬

‫‪ .1‬هناك احتمالن بشأن »إذ« الواردة في العبارة; الحتمال الول‪ :‬هل هى ظرفية تشير إلى عدم وجود شيء خلق في الزل ولم تكن‬
‫سوى ذاته المقدسة ليأنس بها ويستوحش لفقدها؟ أم إن »إذ« هنا بمقام التعليل‪ ،‬يعني كان وما زال واحدًا لّنه لم يكن هناك من‬
‫وجود‪ ،‬حيث ل يحتاج إلى أحد؟‬

‫ن الحتمال الثاني هو القوى‪ .‬كما إن »ل« في قوله »ل يستوحش« زائدة وردت للتأكيد‪ ،‬بينما ذهب البعض إلى أّنها جملة‬
‫يبدو أ ّ‬
‫استئنافية‪.‬‬

‫] ‪[ 61‬‬

‫بأحد‪ ،‬وليس له من خشية لعدو ليستعين عليه بظهير‪ ،‬كما ليس له من صنو يستأنس به‪ .‬ولذلك كان وسيكون‬
‫متوحدًا‪.‬‬

‫ويتضح مّما ذكرنا سابقًا أن لمفردة »المتوحد« مفهوم يختلف عن مفهوم »الواحد« و»الحد«‪.‬‬
‫تأّملت‬
‫لقد تضمنت هذه العبارات العميقة المعاني والعظيمة المضامين عّدة معطيات ودروس قيمة من شأنها حل أغلب‬
‫المشاكل العقائدية على مستوى »معرفة ال وأسمائه وصفاته« ومنها‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ علقة الخلق بالخالق ومسألة »وحدة الوجود«!‬

‫لقد كثر الكلم في أوساط الفلسفة والعلماء بشأن كيفية الرابطة بين الخالق والمخلوق‪ ،‬فقد أفرط البعض منهم‬
‫ن الخالق هو عين المخلوق إثر رؤيتهم القائمة على أساس وحدة الوجود والموجود‪ .‬فهم يقولون ليس‬ ‫حتى اعتقد بأ ّ‬
‫هنالك أثر من وجود شخصي واحد في عالم الوجود وكل ماسواه ترشحات من ذاته‪ ،‬أو بتعبير آخر‪ :‬هناك شيء‬
‫واحد فقط أّما الكثرة والتعدد فهى خيالت وظنون وسراب يحسبه الظمآن ماء‪ .‬أحيانًا يستعيضون عن الوحدة‬
‫ل في كل وقت بينما يشعر الجهال‬‫والتحاد بقولهم بالحلول على أّنه ذات حلت في كافة الشياء وتتخذ لها شك ً‬
‫ل شيء واحد ل غير‪ (1).‬وزبدة القول أّنهم يرون عالم الوجود بمثابة بحر وقطراته‬ ‫بالزدواج والحال ليس الكل إ ّ‬
‫سائر الموجودات‪ .‬وبعبارة ُاخرى فان أي ازدواجية في هذا العالم ليست سوى ضربًا من الخيال والوهم‪ .‬بل يعتقد‬
‫ن الفرد ل يعّد صوفيًا‬
‫البعض منهم أ ّ‬

‫‪ .1‬هذه هى عقيدة أغلب المتصوفة‪ ،‬وشاهد ذلك العبارة المشهورة التي يطلقها زعماء هذه الفرقة »إني أنا ال« وأعظم من ذلك ما‬
‫يرددوه من قولهم »سبحاني ما أعظم شأني«‪ ،‬اّما البعض الخر فقد نظم أبياتًا من الشعر وصرح فيها بقوله »أن الصنمية والوثنية‬
‫هى ذات العبودية«! كما ورد في الشعار الطائشة للمولوي التي تصور ال بشكل صنم عّيار )وهو عبارة عن موجود مشكوك( يتلبس‬
‫يومًا بهيئة آدم! ويومًا بهيئة نوح وآخر موسى وعيسى! وأخيرًا بشكل محمد)صلى ال عليه وآله( كما يتلبس بهيئة علي وسيفه ذو‬
‫ل بتلخيص عن العارف الصوفي وماذا يقولن ‪.(117 /‬‬ ‫الفقار! وبالتالي بشكل منصور الذي اعتلى أعواد المشنقة! )نق ً‬

‫] ‪[ 62‬‬

‫ن وحدة الوجود تشكل الركيزة الصلية لقضية التصوف!‬


‫حقيقيًا مالم يؤمن بوحدة الوجود والموجود‪ ،‬وذلك ل ّ‬

‫ن الوجود الحقيقي القائم‬


‫ن بعض كلماتهم يمكن حملها على المعاني الصحيحة والصائبة من قبيل أ ّ‬ ‫وبالطبع فا ّ‬
‫بالذات في العالم واحد وكل ما سواه تابع له مستمد وجوده منه )كما أوردنا ذلك سابقًا في التشبيه بالمعاني السمية‬
‫والحرفية( أو كل ما عدا الذات اللهية المقدسة ـ الوجود المطلق من جميع الجهات ـ يمثل موجودات صغيرة‬
‫ضئيلة ليس لها شأنًا يذكر ولكن ل يعني ذلك أّنها ل تمتلك وجودًا واقعيًا حقيقيًا‪ .‬ولكن الذي ل شك فيه هو أ ّ‬
‫ن‬
‫بعض أقوالهم وعقائدهم ل يمكن تبريرها والتماس التفسير الصائب لها‪ ،‬فهم يصرحون بأن ليس في عالم الوجود‬
‫ن الوثنية وعبادة الصنام لو‬‫أكثر من وجود واحد وكل ما سواه سراب وخيال‪ ،‬وأبعد من ذلك تصريحهم بأ ّ‬
‫ن كل العالم هو‪ ،‬وهو كل العالم‪ .‬فهذا الكلم يستتبع لوازم فاسدة‬ ‫خرجت عن شكلها المحدود فهى عين عبادة ال‪ ،‬ل ّ‬
‫ليست بخافية على أحد على ضوء العقائد والتعاليم السلمية‪ ،‬ناهيك عن تعارضها والوجدان بل البديهيات‬
‫وانكارها للعلة والمعلول والخالق والمخلوق والعابد والمعبود‪ ،‬وذلك لّنه لم يعّد هناك من مفهوم للفارق بين‬
‫المعبود والعبد والشارع والمكلف‪ ،‬بل حتى الجّنة والنار وأهلهما‪ ،‬فكلها واحدة وكلها عين ذاته وما هذه الكثرة‬
‫ل وجوده سبحانه! إلى جانب ذلك‬ ‫والتعدد ال وهم وخيال ولو أزيلت هذه الغشاوة عن أبصارنا فسوف ل نرى إ ّ‬
‫فان من لوازم ذلك القول بجسمية ال والحلول وما إلى ذلك‪ .‬وعليه فعقائدهم ل تنسجم مع الوجدانيات والدلة‬
‫العقلية ول تتفق مع العقائد السلمية وتعاليم القرآن الكريم‪ ،‬ومن هنا انبرى المرحوم المحقق اليزدي)ره( ـ الفقيه‬
‫المعروف ـ ليكتب في عروته الوثقى في مبحث الكفار‪» :‬ل إشكال في نجاسة الغلة)‪ (1‬والخوارج والنواصب‬
‫سمة والمجّبرة والقائلين بوحدة الوجود من الصوفية إذا التزموا بأحكام السلم فالقوى عدم نجاستهم إ ّ‬
‫ل‬ ‫وأّما المج ّ‬
‫مع العلم بالتزامهم بلوازم مذهبهم من المفاسد«)‪.(2‬‬

‫‪» .1‬الغلة« هم المغالون في الئمة)عليهم السلم( ول سيما علي)عليه السلم( فعدوه هو ال أو أّنه اتحد به‪ .‬و»الخوارج« هم‬
‫أصحاب النهروان الذين أسماهم النبي)صلى ال عليه وآله(بالمارقين وقد قتلهم المام شر قتلة في النهروان‪ .‬وأّما »النواصب« فهم‬
‫أعداء أهل البيت)عليهم السلم(‪.‬‬
‫‪ .2‬العروة الوثقى‪ ،‬بحث نجاسة الكافر‪ ،‬المسألة ‪.2‬‬

‫] ‪[ 63‬‬

‫وتتضمن المسألة أمرين مهمين يجدر اللتفات إليهما‪ :‬أحدهما عطف أصحاب عقيدة وحدة الوجود على المجبرة‬
‫والمجسمة وجعل الجميع بمنزلة واحدة‪ ،‬والخر بان عقائدهم تنطوي على مفاسد دينية إذا التزموا بها خرجوا من‬
‫ن مذهب هؤلء يتصف ببعض‬ ‫ربقة السلم وإن لم يلتزموا بها فهم مسلمون‪ .‬فالكلم يفيد بما ل يقبل الشك أ ّ‬
‫ن كافة العلماء الذين كتبوا‬
‫المفاسد التي يؤدي اللتزام بها إلى الخروج عن صف المسلمين‪ .‬أّما الجدير بالذكر هو أ ّ‬
‫حاشية على العروة الوثقى ـ حيث جرت عادة العلماء الكشف عن اجتهادهم وقدرة استنباطهم للحكام الشرعية من‬
‫مصادرها المقررة على كتابة تعليقة على العروة الوثقى ـ قد أقروا بما أورده صاحب العروة أو أضافوا لما ذكره‬
‫بعض القيود )من قبيل قولهم بما ل يوجب إنكار التوحيد والرسالة()‪.(1‬‬

‫وللوقوف على عمق المفاسد التي انطوت عليها هذه المسألة‪ ،‬نرى من الضروري هنا الشارة إلى نموذج ورد في‬
‫الدفتر الرابع للشاعر المثنوي حين نقل قصة طويلة بشأن قول »بايزيد« سبحاني ما أعظم شأني‪ ،‬فقد واجه‬
‫ل أنا فاعبدون« فقالوا له ما تقول؟! قال‪ :‬سأقول ذلك ثانية فاحملوا‬
‫اعتراضًا من صحبه‪ ،‬فقال لهم‪» :‬ل إله إ ّ‬
‫ل أّنهم شعروا بأن كل طعنة كانت تمزق‬ ‫السكاكين واطعنوني بها‪ .‬فشهر صحبه سكاكينهم وجعلوا يطعنونه‪ ،‬إ ّ‬
‫أجسادهم ل جسده‪ .‬فهذه السطورة الخرافية من شأنها الشارة إلى مدى الندفاع والتيه الذي بلغه أصحاب هذا‬
‫المسلك‪.‬‬

‫ن هذا‬
‫وأخيرًا نختتم هذا الموضوع بما أورده أحد المعاصرين من شّراح نهج البلغة إذ قال بهذا الخصوص‪ :‬ا ّ‬
‫لسس الوجدانية وروح‬‫المذهب )القائل بوحدة الوجود بمعنى وحدة الموجود( إّنما يتنكر لكافة القوانين العقلية وا ُ‬
‫الديان اللهية‪ ،‬ويرفع من شأن عالم الوجود ليبلغ به المرتبة الوجودية اللهية أو ينزل بالوجود اللهي إلى‬
‫الحضيض فيسويه بسائر مخلوقاته‪ ،‬ويبدو أن مثل هذا المذهب إلى الذهان والذواق والهروب من الشكالت‬
‫أقرب منه إلى التعقل واللمام بالواقعيات‪(2).‬‬

‫‪ .1‬للوقوف على المزيد راجع كتاب مصباح الهدى ‪ 410 / 1‬للمرحوم آية ال الشيخ محمد تقي الملي )الفقيه والفيلسوف المعروف(‬
‫وكذلك تقريرات المرحوم آية ال الخوئي ‪ 81 / 3‬ـ ‪. 82‬‬

‫‪ .2‬ترجمة وتفسير نهج البلغة‪ ،‬الستاذ الجعفري ‪.64 / 2‬‬

‫] ‪[ 64‬‬

‫‪ 2‬ـ انحراف الجهال عن حقيقة صفات ال‬

‫لو تأملنا بدّقة وأجلنا الفكر في كلماته)عليه السلم( لكتشفنا مدى قطعه الطريق أمام أي انحراف عن مبدأ التوحيد‬
‫ل الَوِريِد()‪(1‬‬
‫حْب ِ‬
‫ن َ‬
‫ب ِإَلْيِه ِم ْ‬
‫ن َأْقَر ُ‬
‫حُ‬‫وحقيقة صفات ال‪ ،‬واتضح لدينا المفهوم الحقيقي لقوله سبحانه وتعالى )َوَن ْ‬
‫ض()‪(4‬‬
‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َ‬
‫سمـوا ِ‬ ‫ل ُنوُر ال ّ‬ ‫ل ُهَو راِبعُُهْم()‪ (3‬و)ا ّ‬
‫جوى َثلَثة ِإ ّ‬
‫ن َن ْ‬
‫ن ِم ْ‬
‫و)َوُهَو َمَعُكْم َأْيَنما ُكْنُتْم()‪ (2‬و)َوما َيُكو ُ‬
‫ن الَمْرِء َوَقْلِبِه()‪ (5‬وما إلى ذلك من المضامين القرآنية الشريفة‪.‬‬ ‫ل َبْي َ‬
‫حو ُ‬
‫ل َي ُ‬
‫نا ّ‬ ‫عَلُموا َأ ّ‬
‫و)َوا ْ‬

‫ل أمام‬
‫فهذه المسألة وإضافة لكمالها البحاث المتعلقة بوحدة الوجود ـ بمعناها الصحيح ـ من شأنها أن تقف حائ ً‬
‫ن أصحاب الضللة قد وطأوا واديًا ل يجر عليهم سوى الخجل والخيبة‪،‬‬ ‫لأّ‬‫أي انحراف في فهم الصفات اللهية‪ .‬إ ّ‬
‫ومنهم طائفة »المجسمة« التي أضفت صفات الممكنات على ال تبارك وتعالى فصوروه كجسم من الجسام وقد‬
‫انطوى على بعض العضاء من قبيل الجسم واليد والرجل والشعر المجعد ومن باب أولى أن يحدوه بالمكان‬
‫والزمان فذهب البعض إلى إمكانية رؤيته سبحانه في الدنيا‪ ،‬بينما اقتصر بها البعض الخر على الخرة‪.‬‬

‫ن‪» :‬المشبهة منهم من قال‪ :‬إّنه جسم‬


‫فقد قال المحقق الدواني ـ من مشاهير الفلسفة ـ طبق نقل بحار النوار ـ أ ّ‬
‫حقيقة‪ ،‬ثم افترقوا فقال بعضهم‪ :‬إّنه مركب من لحم ودم وقال بعضهم‪ :‬هو نور متللىء كالسبيكة البيضاء‪ ،‬طوله‬
‫سبعة أشبار بشبر نفسه‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬إّنه على صورة إنسان‪ ،‬فمنهم من يقول‪ :‬إّنه شاب أمرد جعد قطط‪ ،‬ومنهم‬
‫من قال‪ :‬إّنه شيخ أشمط الرأس«‪(6).‬‬
‫والدهى من ذلك أّنهم قالوا ببعض الصفات الجسمية ل سبحانه من خلل ما نقلوه من‬

‫‪ .1‬سورة ق ‪.16 /‬‬

‫‪ .2‬سورة الحديد ‪.4 /‬‬

‫‪ .3‬سورة المجادلة ‪.7 /‬‬

‫‪ .4‬سورة النور ‪.36 /‬‬

‫‪ .5‬سورة النفال ‪.24 /‬‬

‫‪ .6‬بحارالنوار ‪.3/289‬‬

‫] ‪[ 65‬‬

‫روايات عن النبي)صلى ال عليه وآله( ـ وهى روايات موضوعة بالطبع ـ وصحيحه‪ .‬ومن ذلك أّنه سئل ابن‬
‫عباس‪ :‬هل رأى محمد)صلى ال عليه وآله( رّبه؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬فسئل‪ :‬كيف رآه؟ قال‪ :‬رآه على كرسي ذهبي مفروش‬
‫بالذهب ويحمله أربعة من الملئكة في حديقة خضراء)‪.(1‬‬

‫وبغض النظر عّما سبق فقد شحن »صحيح البخاري« و»سنن ابن ماجة« وغيرها بالروايات التي صّرحت بأنّ‬
‫ن أهل الجّنة سيرونه كما يرى القمر بدرًا)‪(3‬‬ ‫ن بعض الروايات صّرحت بأ ّ‬ ‫ال سيرى في يوم القيامة)‪ ،(2‬حتى أ ّ‬
‫ن مثل هذه الروايات دفعت بالكثير من علماء العامة للعتقاد برؤية ال يوم القيامة والستماتة في الدفاع‬ ‫والحق أ ّ‬
‫لْبصاُر()‪ (4‬وقد خاطب سبحانه كليمه‬ ‫عن هذه العقيدة‪ .‬بينما هذا القرآن يهتف آناء الليل والنهار )ل ُتْدِرُكُه ا َ‬
‫ن َتراِني()‪ (5‬ونعلم بأن »لن« نافيه أبدية‪ .‬وقد تصدى المام علي)عليه السلم(لبيان‬ ‫ل )َل ْ‬
‫موسى)عليه السلم(قائ ً‬
‫هذه المسألة في خطبة الشباح‪ ،‬فقال)عليه السلم(‪» :‬والرادع أناسي البصار عن أن تناله أو تدركه أو تبصره«)‬
‫‪ .(6‬كما قال)عليه السلم( في خطبة ُاخرى ببلغته وفصاحته الجلية‪» :‬الحمد ل الذي ل تدركه الشواهد ول‬
‫تحويه المشاهد ول تراه النواظر ول تحجبه السواتر«)‪ .(7‬وناهيك عّما تقدم فان هذه العقائد تمثل مخالفة صريحة‬
‫ن الرؤية لو كانت جائزة على ال لكان جسمًا له مكان وجهة‪ ،‬المر الذي يعنى‬ ‫لما يحكم به العقل; وذلك ل ّ‬
‫محدويته وتغيره وبالتالي سلبه وجوب الوجود وجعله من ممكناته‪ .‬وهنا يأتي دور عبارات أمير المؤمنين المام‬
‫علي)عليه السلم(ومنها العبارة السابقة لتكون كالشمس في رابعة النهار فتميط اللثام عن الحقائق وتسحق العقائد‬
‫الباطلة والخرافية وتستعرض الدروس القيمة في التوحيد ومعرفة الصفات اللهية‪ .‬ولما جرت العادة أن يقابل‬

‫‪ .1‬توحيد ابن خزيمة ‪) 217 /‬طبق نقل بحوث في الملل والنحل( ‪.145 / 1‬‬

‫‪ .2‬صحيح البخاري ‪ .56 / 6‬تفسير سورة النساء; سنن ابن ماجة ج ‪ 1‬مقدمة الباب ‪ 13‬ح ‪.177‬‬

‫‪ .3‬للوقوف على هذه الروايات الموضوعة يقينًا وكذلك تفنيد هذه الروايات واستعراض الدلة التي تضمنتها اليات والروايات‬
‫المعتبرة التي صّرحت باستحالة رؤية ال في الدنيا والخرة‪ ،‬راجع من التفسير الموضوعي للقرآن نفحات القرآن ‪ 4/241‬ـ ‪.251‬‬

‫‪ .4‬سورة النعام ‪.103 /‬‬

‫‪ .5‬سورة العراف ‪.143 /‬‬

‫‪ .6‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.91‬‬

‫‪ .7‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.185‬‬

‫] ‪[ 66‬‬
‫كل إفراط بتفريط فقد انبرت طائفة بوجه المجسمة التي نزلت بال سبحانه إلى مرتبة الجسم فاعتمدت عقيدة‬
‫التعطيل لتقول باستحالة معرفة ال ل على مستوى كنه ذاته ول أوصافه‪ ،‬ول تحسن سوى المفاهيم السلبية من‬
‫صفات ال‪ ،‬فكل ما نفهمه من قولنا أّنه عالم هو أّنه ليس بجاهل‪ ،‬اّما عالميته المطلقة فهى خافية علينا تمامًا‪ ،‬وعليه‬
‫فمن مواضع فخر النسان أن يودع مسألة معرفة ال بوتقة النسيان ول يقترب من هذا الوادي الذي ينطوي على‬
‫ظلمات دامسة ويتناقض والتعاليم القرآنية المسلمة التي تقودنا إلى معرفة ال‪.‬‬

‫ونختتم بحثنا بعبارات ُاخرى أوردها المام)عليه السلم( في نهج البلغة بهذا الخصوص فقال‪» :‬لم يطلع العقول‬
‫على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته فهو الذي تشهد له أعلم الوجود على إقرار قلب ذي الجحود‬
‫تعالى ال عّما يقول المشبهون به والجاحدون له علوًا كبيرًا«)‪.(1‬‬

‫ن هذا التعبير هو الخط المعتدل الفاصل بين الفراط والتفريط )المشبهة والمعطلة( في معرفة ال‪ .‬هذا وقد‬
‫فالحق أ ّ‬
‫شحن نهج البلغة بالكلمات البليغة الرائعة التي تضمنتها خطبه)عليه السلم(بشأن صفات ال والسبيل الصحيح‬
‫لتوحيده سبحانه‪ ،‬وسنتعرض في أبحاثنا القادمة لخطبه)عليه السلم(بهذا الخصوص‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ 3‬ـ نفي الحدوث الذاتي والزماني للذات القدسية‬

‫ن الذات اللهية منزهة عن الحدوث الذاتي والحدوث الزماني‪ .‬والمراد‬ ‫تفيد عباراته)عليه السلم( بهذا الشأن أ ّ‬
‫بالحدوث الزماني هو وجود الشيء في الزمان‪ ،‬أو بتعبير آخر مرور المّدة الزمانية على شيء لم يكن موجودًا ثم‬
‫ن الزمان انبثق من خلل خلقة العالم المادي بحيث‬
‫يوجد‪ .‬وهذا هو المعنى المتصور بعد خلقه عالم المادة; ل ّ‬
‫أصبح هناك مفهوم للحدوث والعدم الزماني‪ .‬أّما الحدوث الذاتي فالمراد به الشيء الحادث في ذاته بغض النظر‬
‫عن ظهور عالم المادة‪ ،‬أو‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.49‬‬

‫] ‪[ 67‬‬

‫ل لوجود آخر‪ ،‬ومن المسلم به أن ليس من سبيل‬


‫بتعبير آخر ل يترشح وجوده من باطن ذاته‪ ،‬بل يكون تابعًا ومعلو ً‬
‫لهذين الحدوثين إلى الذات المقدسة الواجبة الوجود في الماضي والمستقبل‪ ،‬بل وجوده هو الوجود الصلي )عليك‬
‫بالدقة والتأمل(‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ 4‬ـ هل يصح اطلق لفظ »الموجود« على ال؟‬

‫هل يمكن اطلق لفظ »الموجود« على ال؟ يبدو من تعبيره)عليه السلم(‪» :‬موجود ل عن عدم« إمكانية اطلق‬
‫هذا اللفظ على الذات اللهية المقدسة‪ ،‬ولكن من المسلم به أن المفهوم الصلي لهذا اللفظ الذي ورد بصيغة اسم‬
‫المفعول والذي يعني أن الخر هو الذي منحه الوجود‪ ،‬ل يصدق على ذاته المقدسة‪ ،‬فالموجود هنا يشتمل على‬
‫مفهوم آخر وهو يتضمن معنى ذي الوجود; وهو المعنى الذي صّرح به في بعض شروح نهج البلغة‪ ،‬بحيث‬
‫يطلق الموجود تارة على الماهيات الممكنة التي اتصفت بالوجود‪ ،‬كما يطلق تارة ُاخرى ويراد به أصل الوجود)‬
‫‪ .(1‬وقد ورد هذا التعبير )الموجود( في بعض روايات أصول الكافي أيضًا‪(2).‬‬

‫—–‬
‫‪ .1‬مفتاح السعادة في شرح نهج البلغة ‪.139 / 1‬‬

‫‪ .2‬أصول الكافي ‪ 1/‬باب أدنى المعرفة‪ ،‬ح ‪ ;1‬أيضا ‪ ،1‬باب النهي عن الصفة‪ ،‬ح ‪ ;1‬أيضًا ‪ ،1‬باب جوامع التوحيد‪ ،‬ح ‪.4‬‬

‫] ‪[ 68‬‬

‫] ‪[ 69‬‬

‫القسم الرابع‬

‫حَدَثها َول َهماَمِة َنْفس‬ ‫حَرَكة َأ ْ‬


‫سَتفاَدها َول َ‬ ‫جِرَبة ا ْ‬
‫جاَلَها َول َت ْ‬ ‫شاًء َواْبَتَدَأُه اْبِتَداًء ِبل َرِوّية َأ َ‬
‫ق ِإْن َ‬
‫خْل َ‬
‫شَأ اْل َ‬
‫»َأْن َ‬
‫عاِلمًا ِبَها َقْبَل اْبِتداِئها‬
‫حَها َ‬
‫شَبا َ‬
‫غَرائَِزَها َوَأْلَزَمَها َأ ْ‬
‫غّرَز َ‬
‫خَتِلَفاِتَها َو َ‬
‫ن ُم ْ‬‫شياَء َِلْوقاِتها َوَلَم َبْي َ‬ ‫ب ِفيها َأحاَل اَْل ْ‬ ‫طَر َ‬ ‫ضَ‬‫ا ْ‬
‫حناِئها«‪.‬‬ ‫حُدوِدها َواْنِتهاِئها عاِرفًا ِبَقراِئِنها َوَأ ْ‬ ‫حيطًا ِب ُ‬ ‫ُم ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫تصدر الكلم بشأن خلق العالم‬

‫لقد تضمنت بداية هذه الخطبة المهمة إشارات دقيقة عميقة المعاني إلى معرفة ال وصفاته والتي تمثل أولى‬
‫مراحل المعرفة النسانية ‪ ،‬ثم طرق)عليه السلم( بعد ذلك إلى خلق العالم وكيفية ابتداء الخلق والعجائب التي‬
‫انطوت عليها السماء والرض‪ ،‬وإن كانت مكملة للبحاث السابقة بشأن صفات ال‪ .‬فقد قال)عليه السلم(‪» :‬أنشأ)‬
‫‪ (1‬الخلق إنشاًء وابتدأه ابتداًء بل روية)‪ (2‬أجالها)‪ (3‬ول تجربة استفادها ول حركة أحدثه ول همامة)‪ (4‬نفس‬
‫اضطرب فيها‪.‬‬

‫‪» .1‬أنشأ« من مادة »إنشاء« بمعنى اليجاد وان ذكروا لها عّدة معان‪.‬‬

‫‪» .2‬روية« بمعنى الري من الماء كما ورد في مقاييس اللغة‪ ،‬ال اّنها تستعمل بمعنى التفكير المصحوب بالدقة‪ .‬وكأنه يروي فكره‬
‫بشأن تلك المسألة‪ ،‬أو ري تلك المسألة بفكره واداء حق التفكير‪.‬‬

‫‪» .3‬أجال« من مادة جولن بمعنى الحركة والتجوال‪.‬‬

‫‪» .4‬همامة«‪ :‬لقد ذكر شّراح ومفسروا نهج البلغة لهذه المفردة عّدة معان‪ .‬فقد عناها البعض بالرغبة القطعية الباطنية بالشيء‬
‫بحيث ينزعج لفقدانها )شرح ابن ميثم البحراني ‪ .(132 / 1‬بينما ذهب البعض الخر إلى أنها تعني الترديد في القيام بعمل )منهاج‬
‫البراعة ‪ .(51 / 1‬وقال آخرون اّنها تعني الهتمام بالشيء )شرح مغنية ‪.(1/27‬‬

‫وقال ابن أبي الحديد في شرحه المعروف لنهج البلغة‪ :‬وقوله)عليه السلم(‪» :‬ول همامة نفس اضطرب فيها« فيه رد على المجوس‬
‫ن النورالعظم حين هم بمجابهة الظلمة بدا عليه الشك والترديد فخرج من ذاته بشيء‬
‫والثنوية القائلين بالهمامة الذين يعتقدون بأ ّ‬
‫يسمى بالهمامة‪.‬‬
‫أّما في اللغة ـ كما ورد في لسان العرب ـ فالهمامة تعني الضعف والوهن والفتور ولذلك يطلق على كل رجل أو امرأة عجوز اسم‬
‫»ِهم« و»ِهمة«‪.‬‬

‫ويبدو مّما ذكر أن »الهمامة« الواردة في العبارة إّنما تعني الضعف والعجز في العزم والرادة بحيث يتعذر على الشخص اتخاذ‬
‫القرار‪ ،‬أو أّنه يتخذ القرار بصعوبة‪.‬‬

‫] ‪[ 70‬‬

‫فالمام)عليه السلم( يبين البون الشاسع بين الخلق اللهي والعمال والفعال التي تصدر عن المخلوقات‪.‬‬
‫ل إذا أراد أن يقوم بعمل ولم يكن لهذا العمل من سابقة وظن فكره وتأمله لينطلق إليه‪ ،‬وإن كان له‬ ‫فالنسان مث ً‬
‫سابقة احتذى بتجربته وتجارب الخرين كما يعمد إلى خزينه الذهني والفكري بشأن ترتيب مقدمات العمل بغية‬
‫التوصل إلى نتائجه وكيفية أدائه‪ ،‬وأحيانًا يتيه في ترديده وحيرته بحيث يحكم رأيه ويقوم بالعمل على أساسه‪.‬‬
‫وليس هنالك من سبيل لي من هذه الحالت والحتمالت للذات اللهية المقدسة‪ ،‬فما من حاجة إلى الفكر والتأمل‬
‫ول إلى التجارب السابقة ول الحركة الفكرية استنادًا إلى ترتيب المقدمات والحصول على النتائج ول الترديد‬
‫ل َلُه ُك ْ‬
‫ن‬ ‫ن َيُقو َ‬
‫شْيئًا َأ ْ‬
‫ل إرادته )ِإّنما َأْمُرُه ِإذا َأراَد َ‬
‫والضطراب في العمال والقرارات‪ .‬فليس وجود الشيء إ ّ‬
‫ن()‪ .(1‬بعبارة اخرى فان هذه الحتمالت الربع إّنما تتعلق بحصيلة أعمال الفراد الذين له حظ محدود من‬ ‫َفَيُكو ُ‬
‫العلم والقدرة‪ ،‬ولزمة ذلك الحاجة وأفكار الخرين وتجاربهم والشعور بالضطراب والقلق‪ .‬ول سبيل لهذه‬
‫الحالت إلى من خرج علمه وقدرته عن الحدود حين الخلق‪.‬‬

‫ن المراد بالحركة في العبارة المذكورة إّنما هى حركة الفكر في باطن النفس‪ .‬ولكن هناك‬ ‫ويّتضح بجلء مّما قيل أ ّ‬
‫ن المراد بها الحركة الجسمية الخارجية التي تعّد من لوازم‬
‫معنى آخر ساقه بعض المفسرون للحركة على أ ّ‬
‫ن الحالت‬‫الجسام وال أعظم وأجل وأسمى من الجسم والجسمانيات‪ .‬ويبدو أن المعنى الول أنسب من الثاني; ل ّ‬
‫لخرى التي وردت قبل وبعد العبارة المذكورة كلها مرتبطة باتخاذ القرار والتفكر والتأمل قبل التيان‬ ‫الثلث ا ُ‬
‫بالعمل‪.‬‬

‫ن أفعال ال ليست من جنس أفعال العباد وتختلف عنها تمامًا‪ ،‬وذلك ل ّ‬


‫ن‬ ‫وزبدة الكلم أ ّ‬

‫‪ .1‬سورة يس ‪. 82 /‬‬

‫] ‪[ 71‬‬

‫أفعاله سبحانه تستند إلى علمه المطلق بمصالح الشياء ومفاسدها ومعرفته الكاملة بالنظام الحسن للخلقة والقدرة‬
‫التامة على جميع الشياء‪ ،‬وإرادته قاطعة تامة ل لبس فيها ول ترديد ول تأمل وتفكير في إفاضة الوجود على‬
‫الموجودات‪ ،‬وإرادته كانت وما زالت نافذة في الخلق‪.‬‬

‫—–‬

‫ثم أشار)عليه السلم( إلى كيفية خلق الموجودات والتدبير اللهي في ظهور الشياء طبق الخطط والبرامج‬
‫ن خلقه‬
‫ن ال جعل لخلق كل موجود وقتًا معينًا )وذلك ل ّ‬ ‫المنظمة فقال)عليه السلم(‪» :‬أحال الشياء لوقاتها« أي أ ّ‬
‫قائم على أساس التدريج والتخطيط الزماني بغية إيضاح عظمة تدبيره وقدرته الفريدة الفائقة(‪ .‬فلما فرغ من‬
‫الشارة إلى التصنيف الزماني لخلقه الموجودات‪ ،‬تطرق)عليه السلم( إلى نظامها الخاص الداخلي والتركيبي‬
‫فقال)عليه السلم(‪» :‬ولم)‪ (1‬بين مختلفاتها«‪ .‬وهذا من عجائب عالم الخلقة‪ ،‬فقد ألف ال سبحانه بين مختلف‬
‫الموجودات لتبدو متسقة وكأّنها شيء واحد‪ ،‬فقد لئم بين البارد والحار والظلمة والنور والموت والحياة والماء‬
‫والنار‪ .‬لقد خلق النار من الشجر الخضر وخلق النسان والحيوان والنبات مركبًا من مواد تامة الختلف ذات‬
‫طبائع متنوعة‪.‬‬

‫وأبعد من ذلك فقد أوجد رابطة عميقة محكمة بين الروح والجسم وهما ينتميان إلى عالمين مختلفين تمامًا; أحدهما‬
‫مجّرد ونوراني وشفاف للغاية والخر مادي وظلماني وخشن للغاية‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬وغرز)‪(2‬‬
‫غرائزها«‪.‬‬
‫‪» .1‬لم« و»لئم« من مادة »لم« بمعنى الجمع والصلح وضم شيء إلى شيء آخر والملئمة بينهما‪ ،‬ومن هنا‬
‫اطلق على الدرع اسم »لمة« على وزن »رحمة« للتحام حلقاتها وتداخلها مع بعضها‪.‬‬

‫لبرة أو الجعل والدخال‪ ،‬ثم اطلقت‬ ‫‪» .2‬غّرز« من مادة »غرز« على وزن »قرص« تعني في الصل غرس ا ُ‬
‫ن هذه الطبائع بمثابة البذور التي غرست‬
‫فيما بعد على الطبائع التي أودعت النسان أو سائر الكائنات الحية‪ ،‬وكأ ّ‬
‫في أرض الوجود النساني‪.‬‬

‫] ‪[ 72‬‬

‫الشياء ولسادها الضطراب والفوضى‪ .‬وهناك اليوم تعبيران مختلفان بشأن هذه الدوافع الذاتية في النسان أو‬
‫ن معرفة ال مودعة في الفطرة النسانية ‪ ..‬وأحيانًا ُاخرى‬ ‫سائر الموجودات‪ ،‬فأحيانًا يطلق عليها اسم الفطرة وأ ّ‬
‫ن للنسان غريزة جنسية‪ ،‬أو يقولون بأن لحركات الحيوانات عمومًا صبغة‬ ‫ل يقولون أ ّ‬
‫يعبر عنها بالغريزة‪ .‬فمث ً‬
‫غريزية‪ .‬وهذا في الواقع اصطلح استعمله العلماء بهذا الشأن‪ .‬أحدهما بشأن الدوافع التي تتسم بالبعد الفكري‬
‫ن كليهما يعنى الخلقة‬‫لأّ‬‫)الفطرة( والخر بخصوص تلك التي ليس لها بعدًا فكريًا أو لها بعد عاطفي )الغريزة(‪ .‬إ ّ‬
‫على أساس المعنى اللغوي‪.‬‬

‫—–‬

‫ثم قال)عليه السلم(‪» :‬والزمها)‪ (1‬أشباحها«‪ .‬وقد تضاربت أقوال المفسرين ـ لنهج البلغة ـ بشأن هذه العبارة‪،‬‬
‫فذهب البعض ومنهم ابن أبي الحديد الذي قال ان الضمير المنصوب في »الزمها« عائد إلى الغرائز; أي ألزم‬
‫ن كل مطبوع على غريزة لزمة‪ ،‬وبالنتيجة فان العبارة تأكيد على ثبوت‬ ‫الغرائز أشباحها‪ ،‬أي أشخاصها ل ّ‬
‫ن المراد بالعبارة وجود التشخصات الخاصة لكل موجود‪ ،‬أي‬ ‫غرائز الموجودات‪ .‬بينما ذهب البعض الخر إلى أ ّ‬
‫ن ال سبحانه قد وهب كل موجود بعض الخصائص والمميزات‪ ،‬وبعد أن كان لها بعدًا كليًا في علم ال فقد‬ ‫أّ‬
‫تبلورت في الخارج على هيئة جزئيات وأشخاص وعلى ضوء هذا التفسير فان الضمير في ألزمها يعود إلى‬
‫)الشياء( كما ذكر البعض كل التفسيرين على نحو الحتمال‪ .‬ولكن لما كان التفسير الول ل يتضمن انسجام‬
‫ن الذي يبدو أ ّ‬
‫ن‬ ‫الضمير وما ذهب إليه‪ ،‬إضافة إلى كون العبارة تتخذ طابع التأكيد ل بيان موضوع جديد‪ ،‬فا ّ‬
‫التفسير الثاني أصح وأصوب من التفسير الول‪ .‬وتوضيح ذلك أن ال تبارك وتعالى قد وهب كل موجود نوعين‬
‫من الخصائص‪ .‬الخصائص التي أودعت باطن ذاتها والتي عبر عنها المام)عليه السلم( بالغرائز‪ ،‬والخصائص‬
‫في الجوانب الظاهرية من قبيل الزمان والمكان وسائر الجزئيات والتي عبر عنها المام)عليه السلم(بقوله‬
‫»ألزمها أشباحها« وعلى هذا‬

‫‪» .1‬أشباح« جمع »شبح« طبق ما أورده أغلب أرباب اللغة بمعنى الشخص في الصل‪ ،‬كما وردت بمعنى ظهور الشيء واتضاحه‪،‬‬
‫ومن هنا يطلق الشبح اليوم على الموجود الذي يتراءى ظله ثم يظهر فجأة‪.‬‬

‫] ‪[ 73‬‬

‫الساس يكون الحق واستنادًا لحكمته البالغة في افاضته للخصائص الباطنية والظاهرية لكل‬
‫موجود ليقوم بوظائفه الخاصة به على ما يرام ويتميز عن سائر الموجودات‪.‬‬

‫تنبيه‬
‫الهداية الفطرية والتكوينية لكافة موجودات العالم‬
‫ن لكافة‬ ‫لقد تضمنت عبارته)عليه السلم( إشارة لنقطة مهّمة طالما ورد التأكيد عليها كرارًا في القرآن‪ :‬وهى أ ّ‬
‫ل أّنها‬‫موجودات عالم الخلقة والمادة تصنيف زماني خاص وفي نفس الوقت الذي يحكمها التضاد والختلف إ ّ‬
‫منسجمة مع بعضها البعض ومكملة لها وأّنها مهدية على الدوام طبق نظمها الذاتي الباطني والظاهري وأّنها‬
‫تنطلق كقافلة منتظمة ومنسجمة نحو هدفها النهائي دون أي تعثر وانحراف‪ ،‬بل تسير إليه على نحو الدقة دون أن‬
‫تخطأه‪ .‬فتفتح الزهور وتحمل أوراق الشجار للفاكهة والثمار في فصلي الربيع‪ ،‬ذبولهاوجفافها وتساقطها في‬
‫فصلي الخريف والشتاء‪ ،‬حركة الشمس في البراج الثني عشر‪ ،‬تعاقب الليل والنهار‪ ،‬دوران الرض حول‬
‫نفسها وحول الشمس وما اودع النسان من قوى باطنية وظاهرية كلها شواهد على الهداية التكوينية اللهية‪ ،‬والتي‬
‫طَرَة ا ّ‬
‫ل‬ ‫خْلَقُه ُثّم َهدى()‪ (1‬وقال‪ِ) :‬ف ْ‬
‫شيء َ‬ ‫ل َ‬ ‫عطى كُ ّ‬ ‫صّرح بها القرآن على لسان موسى)عليه السلم(‪َ):‬رّبنا اّلِذي َأ ْ‬
‫ل ِبَقَدر َمْعُلوم(‪(3).‬‬
‫خزاِئُنُه َوما ُنَنـّزُلُه ِإ ّ‬
‫عْنَدنا َ‬
‫ل ِ‬‫شيء ِإ ّ‬
‫ن َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫عَلْيها()‪ (2‬و)َو ِإ ْ‬
‫طَر الّناس َ‬
‫اّلِتي َف َ‬

‫وهذا في الحقيقة يمثل آية من آياته سبحانه في عالم الوجود التي تجعل النسان أكثر معرفة بالهداية التكوينية‬
‫والنظم والتصنيف الزماني والتأليف بين الضداد والمختلفات كلما تعمق في التفكير بهذا العالم‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة طه ‪.50 /‬‬

‫‪ .2‬سورة الروم ‪.30 /‬‬

‫‪ .3‬سورة الحجر ‪.21 /‬‬

‫] ‪[ 74‬‬

‫ثم قال)عليه السلم(‪» :‬عالمًا بها قبل ابتدائها محيطًا بحدودها وانتهائها عارفًا بقرائنها)‪(1‬وأحنائها)‪.(3)«(2‬‬

‫ن من أراد أن يخلق‬‫ن هذه العبارات الثلث قد جاءت بمثابة دليل أو إيضاح للعبارات السابقة‪ ،‬وذلك ل ّ‬ ‫والواقع أ ّ‬
‫موجودًا في وقته المناسب ويلئم بين الشياء المختلفة ويودعها غرائزها الباطنية ولوازمها الظاهرية فانه يحتاج‬
‫إلى علم جامع كامل من جانب وإلى إحاطة وقدرة تامة وشاملة من جانب آخر‪ .‬ولذلك قال)عليه السلم(‪» :‬عالمًا‬
‫بها قبل ابتدائها‪ «...‬ول يقتصر علمه على ابتدائها وانتهائها فحسب‪ ،‬بل هو عالم محيط بلوازمها وعللها وآثارها‬
‫لمور قادرًا على التيان بها‪ ،‬فان له أن يضع كل شيء في‬ ‫أيضًا‪ .‬ومن المفروغ منه أن من كان عالمًا بهذه ا ُ‬
‫موضعه ومكانه ويفيض على كل منها لوازمه ويسوقه في مسيرته الوجودية إلى كماله المنشود‪.‬‬

‫—–‬

‫تأّملن‬
‫‪ 1‬ـ هل يصطلح بالعارف على ال؟‬

‫ن هذا الترديد ينبع من أمرين‪:‬‬


‫لقد تحفظ بعض مفسري نهج البلغة على وصف ال سبحانه بالعارف‪ .‬ويبدو أ ّ‬
‫ن المعرفة والعرفان تعني إدراك الشيء من خلل التفكر‬ ‫الول ما أورده »الراغب« في »المفردات« من أ ّ‬
‫والتأمل والتدبر في آثاره‪ ،‬أو بتعبير آخر إّنما يطلق اسم المعرفة على العلم المحدود الذي يتأتى عن طريق‬
‫ن العلم اللهي ليس‬
‫التفكير‪ ،‬ومن المسلم به أ ّ‬

‫‪» .1‬قرائن« جمع »قرينة« بمعنى المصاحب والرفيق‪ ،‬ولذلك يقال لزوجة الرجل قرينته )الصحاح والقاموس وسائر الكتب اللغوية(‪،‬‬
‫ن القرائن جمع قرونة )على وزن معونة( وهي النفس ولكن يبدو المعنى‬ ‫بينما ذهب بعض شراح نهج البلغة كابن أبي الحديد إلى أ ّ‬
‫الول أنسب بالستناد إلى التعبيرات التي وردت في الجملة‪.‬‬
‫حْنو« على وزن فعل »وحنو« على وزن حرف وتطلق على كل شيء فيه اعوجاج وانحناء ـ على ضوء ماورد في‬ ‫‪» .2‬أحناء« جمع » ِ‬
‫المقاييس ولسان العرب ـ كعظم الفك والضلع‪ .‬ثم وردت بمعنى الجوانب أيضًا )وذلك لن جوانب وأطراف الشياء غالبًا ما تشتمل‬
‫على انحناءات(‪.‬‬

‫ن الضمائر التي وردت في هذه العبارات إّنما تعود إلى الشياء ل الغرائز كما صرح بذلك بعض شّراح‬
‫‪ .3‬لبّد من اللتفات هنا إلى أ ّ‬
‫نهج البلغة; وذلك لعدم وجود النسجام بين الحتمال الثاني ومضمون الجملة‪.‬‬

‫] ‪[ 75‬‬

‫ن له )تعالى( تسعة وتسعين اسمًا من‬


‫كذلك‪ .‬والثاني الحديث الذي روي عن النبي)صلى ال عليه وآله( أّنه قال‪» :‬أ ّ‬
‫ن اسم العارف لم تكن واردة ضمن هذه التسعة والتسعين إسمًا)‪(1‬‬ ‫أحصاها دخل الجنة« حيث يجمع العلماء على أ ّ‬
‫ن هذا الوصف قد اطلق كرارًا على ال في الروايات السلمية‪ ،‬وبالضافة إلى‬ ‫ل أن الدراسة الجمالية تفيد أ ّ‬
‫إّ‬
‫نهج البلغة الذي تعرض هنا لهذا المر بصورة وصفية وفي موضع آخر بصورة فعلية‪ ،‬فقد ورد هذا الوصف‬
‫كثيرًا في الروايات التي نقلها أصول الكافي‪(2).‬‬

‫ن مفردة المعرفة وان كانت في الصل تعني المحدودية أو الحاجة إلى التفكر والتدبر‪ ،‬غير‬
‫ويشير هذا المر إلى أ ّ‬
‫أّنها اتسعت أثر كثرة الستعمال حتى صارت تطلق على كل نوع من العلم والمعرفة‪ ،‬وإن لم تكن وليدة الفكر‬
‫والتدبر‪.‬‬

‫ن هذه الرواية ل تقصر السماء على تسعة‬‫أّما بشأن الروايات المرتبطة بالتسع وتسعين اسمًا ل‪ ،‬فينبغي القول أ ّ‬
‫وتسعين أبدًا‪ ،‬بل هى تشير في الحقيقة إلى صفات ال وأسمائه الحسنى‪ ،‬ولذلك صّرحت بعض الروايات بألف اسم‬
‫للبارئ سبحانه‪ ،‬وأخيرًا أي دليل أعظم من أن يستفيد المام علي)عليه السلم( في نهج البلغة من هذا السم أو‬
‫مشتقاته بالنسبة ل وهو العرف والعلم أكثر من غيره بخصوص أسماء ال وصفاته‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ كيفية علم ال بالموجودات قبل ايجادها‬

‫ن ال سبحانه‬
‫ن أحد أعقد المباحث الفلسفية والعقائدية هو بحث »علم ال بالموجودات قبل ايجادها«‪ .‬فاننا نعلم بأ ّ‬
‫إّ‬
‫عالم بالحوادث التي ستقع‪ ،‬وهذا ما ورد التأكيد عليه في اليات القرآنية الشريفة‪ ،‬وهو ما ورد في العبارة‬
‫المذكورة‪ ،‬ومن جانب آخر فان علم ال ليس من قبيل »العلم الحصولي«; أي ليس هنالك من انعكاس للصورة‬
‫الذهنية للشياء في ذاته; وذلك‬

‫‪ .1‬لقد أورد ابن ميثم هذا الموضوع بصيغة اشكال ثم أجاب عنه بان أسماء ال أكثر من هذا العدد وقد ذكر عّدة شواهد على مدعاه‬
‫)شرح نهج البلغة‪ ،‬لبن ميثم ‪ .(137 / 1‬جدير بالذكر ان هذا الحديث قد ورد في الدر المنثور عن صحيح البخاري وصحيح مسلم‬
‫ومسند أحمد وسنن الترمذي وسائر المصادر الروائية ‪) 147 / 3‬نفحات القرآن ‪.(46 / 4‬‬

‫‪ .2‬أصول الكافي ‪ ،91 / 1‬باب النسبة‪ ،‬ح ‪ 2‬وص ‪ ،113‬باب حدوث السماء‪ ،‬ح ‪.2‬‬

‫] ‪[ 76‬‬

‫لّنه ليس له من »ذهن« كالمخلوقات‪ ،‬فعلمه ل يتأتى من خلل انعكاس صور الموجودات‪ ،‬بل علمه‬
‫ن المخلوقات حاضرة عنده‪ ،‬ونعلم أن ليس هناك من معنى للعلم الحضوري بشأن الشياء‬ ‫»علم حضوري«; أي أ ّ‬
‫التي لم تظهر للوجود; بل هذا الشكال وارد حتى بخصوص الموجودات التي زالت وانعدمت في الماضي; فان‬
‫كان لنا من علم بها بفضل صورها الذهنية التي تبلورت في أعماقنا وأفكارنا‪ .‬ولكن كيف لمن ليس له ذهن وصور‬
‫باطنية وليس من سبيل للحوادث إلى ذاته المقدسة أن يحيط بها؟! على سبيل المثال‪ :‬لقد زالت صورة فرعون‬
‫ورهطه وانقطع تأريخهم‪ ،‬وليس لنا سوى استحضار صورتهم في أذهاننا‪ ،‬ولكن ما كيفية علم ال به وهو ليس من‬
‫قبيل علمنا؟ فهل يمكن القول بأّنه ليس عالمًا بالماضي؟ أم ليس له من علم بالمستقبل؟ أبدًا ل يمكن ذلك! إذن إن‬
‫كان عليمًا فما كيفية هذا العلم؟‬
‫لقد أثارت هذه المسألة الجدل في أوساط الفلسفة والعلماء فقدموا عّدة أجوبة بهذا الشأن‪ ،‬سنقتصر هنا على‬
‫الشارة إلى بعضها‪:‬‬

‫ن لذاته أعظم‬
‫ن ال كان ومازال عالمًا بكافة الشياء بذاته التي تعتبر علة لجميعها‪ ،‬وبعبارة ُاخرى فا ّ‬ ‫‪1‬ـإّ‬
‫الحضور لدى لذاته‪ ،‬وهذا العلم بذاته هو علم إجمالي بكافة حوادث العالم وموجوداته قبل اليجاد وبعده‪ .‬وتوضيح‬
‫ذلك أننا لو علمنا على نحو الدقة بعلة الشياء فان مثل هذا العلم سيقود بالنتيجة إلى العلم بنتائجها ومعلولتها;‬
‫ن كل علة تشتمل على كافة كمالت المعلول وزيادة‪ ،‬ولما كان ال علة جميع الشياء ويعلمها بذاته ويحيط‬ ‫وذلك ل ّ‬
‫بها‪ ،‬وفي الواقع فان هذا نوع من الكشف التفصيلي تجاه جميع الشياء من خلل العلم الجمالي‪ .‬ويمكن توضيح‬
‫ن الحوادث الماضية لم تنعدم بالمرة أبدًا وإنما لها وجود وحضور في عمق حادث الحاضر‪.‬‬ ‫هذا الكلم بالقول‪ :‬إ ّ‬
‫ن الحوادث المستقبلية ليست معزولة عن الحوادث الحاضرة فهى مرتبطة بها ونابعة منها‪ .‬وعلى هذا‬ ‫كما أ ّ‬
‫ن العلم باحدى حلقاتها اّنما‬ ‫ن الماضي والحاضر والمستقبل إّنما يوجد سلسلة من العلل والمعاليل بحيث أ ّ‬ ‫الساس فا ّ‬
‫يعني العلم بما قبلها وما بعدها من حلقات‪ .‬على سبيل المثال لو علمنا بدّقة الوضاع الجوية للكرة الرضية‬
‫والعوامل المؤدية لظهور الجواء الفعلية وأحطنا بكافة جزئيات وروابط عللها ومعاليلها‪ ،‬فاننا سنستطيع التعرف‬
‫ن ملف‬
‫بدقة على أوضاع الجواء لما قبل أو بعد آلف السنين; وذلك ل ّ‬

‫] ‪[ 77‬‬

‫حوادث الماضي والمستقبل موجودة في الحاضر‪ .‬فاليوم يحمل انعكاسًا دقيقًا عن المس‪ ،‬والغد عن اليوم والعلم‬
‫ن ال سبحاه‬ ‫التام بجزئيات اليوم بمعنى العلم التام بالحوادث الماضية والمستقبلية‪ .‬فاذا التفتنا إلى هذه الحقيقة وهو أ ّ‬
‫ن له العلم بذاته المقدسة‪ ،‬فان علينا أن نقر بأّنه عالم أيضًا‬‫المصدر الصلي لجميع حوادث المس واليوم والغد وأ ّ‬
‫لأّ‬
‫ن‬ ‫ن آثار كل موجود مهما كان إّنما تتبع إرادة ال وأمره‪ ،‬إ ّ‬ ‫بحوادث المستقبل والحاضر والماضي‪ .‬وبالطبع فا ّ‬
‫سنته جرت في منح الموجودات القدرة على القيام بفعاليتها‪ ،‬فاذا شاء جردها منها‪(1).‬‬

‫‪ 2‬ـ الجابة الثانية التي يمكن إيرادها في هذا المجال أّنه يمكن لعلمنا تصور المس واليوم والغد‪ ،‬وذلك لننا‬
‫ن كافة‬
‫موجودات محدودة‪ .‬أّما بالنسبة ل الذي ل حدد لذاته فليس هنالك من مفهوم للمس واليوم والغد لديه‪ ،‬بل إ ّ‬
‫الشياء والحوادث حاضرة عنده بجميع جزئياتها وخصوصياتها‪.‬‬

‫ويمكننا الستشهاد بمثال على هذا الكلم‪:‬‬

‫ن هناك فردًا في زنزانة مظلمة ليس لها سوى نافذة صغيرة على الخارج‪ .‬فاذا مرت قافلة من الجمال من‬
‫افرض أ ّ‬
‫هذه النافذة فانه سيشاهد في بداية المر رأس وعنق جمل واحد ثم يرى رجليه وذنبه ومن ثم سائر الجمال في هذه‬
‫القافلة‪ .‬فصغر النافذة هو الذي يشكل السبب الذي يجعله يعيش حالة من الماضي والحاضر والمستقبل‪ ،‬بينما‬
‫يختلف هذا الموضوع تمامًا بالنسبة لذلك الفرد الواقف على سطح في محيط مكشوف خارج تلك الزنزانة وينظر‬
‫إلى الصحراء‪ ،‬فهو يرى قافلة الجمال معًا خلل حركتها‪.‬‬

‫—–‬

‫ن ليس ل من علم بكثرة‬ ‫ن لزمة هذا الكلم أ ّ‬‫ن من أورد هذا الجواب لحل الشكال المذكور قد واجه هذا السؤال‪ :‬وهو أ ّ‬‫‪ .1‬إ ّ‬
‫ن علمه متفاوت بالموجودات قبل‬ ‫الموجودات بوصف الكثرة قبل وجودها‪ ،‬لّنه ليس هنالك من كثرة في ذاته‪ ،‬أو بتعبير آخر‪ ،‬أ ّ‬
‫ن بعضهم قد اعترف بهذا‬‫وجودها وبعده‪ :‬فقد كان سابقًا على نحو العلم الجمالي‪ ،‬ولحقًا على نحو العلم التفصيلي‪ ،‬والعجيب أ ّ‬
‫التفاوت‪.‬‬

‫] ‪[ 78‬‬

‫] ‪[ 79‬‬
‫القسم الخامس‬

‫سَكاِئك اْلَهَواِء«‪.‬‬
‫جاِء َو َ‬
‫ق اَْلْر َ‬
‫شّ‬
‫جَواِء َو َ‬
‫ق اَْل ْ‬
‫حاَنُه َفْت َ‬
‫سْب َ‬
‫شَأ ُ‬
‫»ُثّم َأْن َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫كيفية بداية خلقة العالم‬

‫لقد تناول المام)عليه السلم( بداية انبثاق الخلق فقال)عليه السلم(‪» :‬ثم أنشأ سبحانه فتق)‪ (1‬الجواء)‪ «(2‬وهو‬
‫يشير إلى شق الطبقات الجوية‪ ،‬ثم فتح جوانبها وأطرافها »وشق)‪ (3‬الرجاء)‪ «(4‬وأوجد الفضاء والهواء‬
‫»وسكائك)‪ (5‬الهواء)‪ .«(6‬فقد أشير إلى فتق الجواء ثم ايجاد أطرافها وجوانبها‬

‫‪» .1‬فتق« على وزن مشق بمعنى الشق والضجوة بين شيئين وهى ضد الرتق )كما أورد ذلك الراغب في مفرداته(‪ .‬ويقال للصبح‬
‫»فتيق«‪ ،‬لّنه يشق الفق ويظهر‪ ،‬وقال صاحب لسان العرب اّنه يطلق »فتيق اللسان« على الفرد الخطيب والفصيح اللسان‪ ،‬لّنه‬
‫يتحلى بلسان طلق ذرب‪.‬‬

‫‪» .2‬أجواء« جمع »جو« بمعنى ـ حسب قول المفردات ولسان العرب ـ الفضاء الحاصل بين السماء والرض‪.‬‬

‫‪» .3‬شق« بمعنى الفتحة في الشيء‪ ،‬ومن هنا اطلق الشقاق على الختلف الذي يحدث بين الناس ويفصلهم عن بعضهم البعض‬
‫الخر‪.‬‬

‫‪» .4‬أرجاء« جمع »رجا« )دون همزة« تعني حسب »مقاييس اللغة« أطراف البئر أو أطراف أي شيء آخر‪،‬الرجاء بالهمزة فيعني‬
‫ن معناها الصلي الشيء الذي يرجى وقوعه في الجوانب الطراف‪ ،‬ولذلك يطلق‬ ‫المل‪ .‬بينما يعتقد البعض من قبيل كاتب »التحقيق« أ ّ‬
‫على هذه الجوانب والطراف المرجوة »رجا« دون همزة‪.‬‬

‫‪» .5‬سكائك« جمع »سكاكة« على وزن خلصة‪ ،‬قال صاحب لسان العرب أّنها تعني الفضاء الواقع بين السماء الرض‪ ،‬وقال ابن أبي‬
‫الحديد هى أعلى الفضاء‪.‬‬

‫‪» .6‬الهواء« بمعنى الخالي والساقط‪ ،‬ولذلك يطلق لفظ الهواء على كل شيء خال‪ ،‬ومن ذلك الفضاء بين السماء والرض‪ .‬وأّما سبب‬
‫إطلق لفظة »الهوى« على الشهوات والنزوات النفسية فهى أّنها تشكل مصدر سقوط النسان في الدنيا والخرة )مقاييس اللغة‪،‬‬
‫مفردات الراغب‪ ،‬لسان العرب(‪ .‬ويبدو ان اطلق هذه المفردة على الغاز اللمرئي المركب من الوكسجين والوزون إّنما هو من‬
‫الستعمالت الجديدة والذي يناسب أيضًا المعنى الصلي‪ ،‬لّنه يبدو موضعًا خاليًا )و إن ورد بهذا المعنى في بعض الروايات أيضًا(‪.‬‬

‫] ‪[ 80‬‬

‫ن الخلق الول في عالم المادة كان خلق فضاء العالم‪ ،‬الفضاء الذي‬ ‫ومن ثم طبقاتها‪ .‬وتشير العبارة بأجمعها إلى أ ّ‬
‫يسعه استيعاب الكرات السماوية والمنظومات وما إلى ذلك‪ ،‬بالضبط كالصفحة الورقية التي يعدها الرسام الماهر‬
‫ن كلمة »ثم« في العبارة ل تفيد معنى الترتيب التكويني‪ ،‬بل تفيد الترتيب‬ ‫مسبقًا لرسم ما يشاء‪ .‬ومن هنا يتضح أ ّ‬
‫والتأخير البياني; لّنه قد أشير في العبارات السابقة إلى خلق أنواع الموجودات والكائنات‪ ،‬ومن المتيقن أل تكون‬
‫قد أعقبت بخلق الفضاء ثم كريات السماء والرض‪ .‬وفي الواقع فقد تضمنت العبارات السابقة أبحاثًا بشأن خلق‬
‫ن ظاهر هذه العبارة تفيد أن‬
‫الموجودات بينما تكفلت هذه العبارة شرح تلك البحاث وتفصيلها‪ .‬على كل حال فا ّ‬
‫ن هناك ترديد لدى بعض الفلسفة والمتكلمين بشأن الفضاء في أّنه أمر‬ ‫الفضاء أول مخلوق في عالم المادة‪ ،‬غير أ ّ‬
‫ن الزمان هو وحدة‬ ‫ن الزمان قد ظهر بعد انبثاق الموجودات وحركتها )ل ّ‬ ‫وجودي أم عدمي؟ فهناك من يعتقد كما أ ّ‬
‫الحركة( فان المكان هوالخر قد حصل بعد ظهور الجسام المختلفة ومقارنتها مع بعضها‪ .‬والحال يتعذر علينا‬
‫تصور عدم وجود مكان مطلق إثر ظهور أول جسم إلى الوجود‪ .‬فلو أردنا أن نبني عمارة ذات عّدة طبقات فاننا‬
‫نحتاج إلى فضاء تشغله تلك العمارة كحاجتنا إلى مكان على الرض نبنيها عليه‪ ،‬وإذا أردنا أن نبني عمارة أكبر‬
‫فاّنها ستحتاج إلى فضاء أوسع‪ .‬والخلصة فاننا نؤمن بما أورده المام)عليه السلم(بقوله »ثم أنشأ سبحانه فتق‬
‫الجواء وشق الرجاء وسكائك الهواء« ونوكل الستغراق في هذا البحث إلى محله‪.‬‬

‫تأّمل‬
‫هل العالم المادي حادث؟‬

‫هناك كلم كثير يدور بين الفلسفة والعلماء بشأن العالم فهل العالم المادي حادث أم قديم أزلي؟ فالبعض يرى أّنه‬
‫قديم وأزلي بينما يعتقد العم الغلب أّنه حادث‪ .‬اّما دليل القائلين بالزلية والقدم فانما يستند إلى الذات اللهية‬
‫المقدسة القديمة وكل ما سواها فهو حادث ومخلوق وتابع لذاته المقدسة‪ .‬وأّما أنصار عقيدة حدوث العالم فأحيانًا‬
‫يستدلون بالدلة الفلسفية على مدعاهم وأحيانًا ُاخرى بالدلة العلمية‪ .‬فبرهان الحركة والسكون من الدلة‬

‫] ‪[ 81‬‬

‫لمور‬‫الفلسفية المعروفة التي تقول بأن عالم المادة دائمًا في حالة حركة وسكون‪ ،‬والحركة والسكون من »ا ُ‬
‫الحادثة« وما كان معروضًا للحركة والسكون فهو حادث أيضًا‪ .‬ويمكن ايراد هذا الدليل بتعبير أوسع وأشمل وهو‬
‫ن عالم المادة دائمًا في حالة تغيير‪ ،‬والتغيير والتبدل علمة على الحدوث‪ ،‬لّنه لو كان أزليًا وهو مسرح على‬ ‫أّ‬
‫لمور‬
‫الدوام للتغير والتبدل فان ذلك سيكون جمع بين الحدوث والقدم‪ ،‬أي لبّد أن نرى التغييرات وهى من ا ُ‬
‫الحادثة أزلية‪ ،‬وهذا تناقض صريح‪ .‬ويتضح هنا أكثر فأكثر اقرار هذا الدليل للحركة الجوهرية التي تقول بأ ّ‬
‫ن‬
‫ن وجود الحركة هذا المر الحادث في الزل ل معنى له‪.‬‬ ‫الحركة كامنة في ذات الشياء‪ ،‬بل هى عين ذاتها; ل ّ‬
‫ونترك دراسة وتحليل هذا الدليل إلى البحاث الفلسفية الواردة بهذا الشأن‪.‬الدليل العلمي فهو الدليل الذي يقول بأ ّ‬
‫ن‬
‫العالم في حالة تآكل دائمية وقد قامت الدلة والبراهين العلمية التي تثبت ذلك‪ ،‬ويصدق هذا المر على التيارات‬
‫والثوابت والرض وما كان على سطحها‪ .‬فالتآكل المستمر دليل على أن هناك نهاية وخاتمة لعالم المادة‪ .‬ل ّ‬
‫ن‬
‫ن للعالم المادي نهاية‪ ،‬يجب أن نذعن بأن له بداية‪ .‬لن الشيء‬ ‫التآكل ل يمكن أن يستمر إلى ما ل نهاية‪ ،‬فاذا قبلنا أ ّ‬
‫ل يكون أزليًا مالم يكن أبديًا‪ .‬فالبدية تعني اللنهاية‪ ،‬والشيء اللمنتهي ليس بمحدود‪ ،‬وإذا كان ليس بمحدود فل‬
‫بداية له‪ ،‬وعليه فالشيء إذا لم يكن أبديًا سوف لن يكون أزليًا‪ .‬ويمكن ايراد هذه الكلمة بصيغة ُاخرى وهى أ ّ‬
‫ن‬
‫ن تناهى التآكل يساوي العدم‪.‬‬ ‫العالم لو كان أزليًا وفي حالة تآكل‪ ،‬فلبّد أن يكون هذا التآكل قد أنهى عمر العالم ل ّ‬
‫ن العالم المادي يسير نحو الروتينية‪ .‬فالذرات تتلشى تدريجيًا‬ ‫وبتعبير آخر على ضوء آخر النظريات العلمية أ ّ‬
‫وتتحول إلى طاقة‪ ،‬والطاقة تسير نحو الروتينية )بالضبط كشعلة النار التي توقدها في غرفة فتتحول مادة النار‬
‫إلى حرارة فتنتشر هذه الحرارة تدريجيًا في وسط الغرفة حتى تكون بالتالي شيئًا روتينيًا ل أثر له(‪ .‬وكلما مرت‬
‫ل نهاية الزمان على العالم ستحصل هذه الحالة; أي تحول كافة المواد إلى طاقة وبالتالي تتحول هذه الطاقة الفعالة‬
‫إلى طاقة روتينية وباهتة‪.‬‬

‫ن ذاته الفياضة قد توقفت عن هذا الفيض‪ ،‬بل‬ ‫ن زمانًا قد مّر ولم يكن ل من خلق وأ ّ‬
‫لكن ل يعني هذا الكلم أ ّ‬
‫ن جميع هذه‬
‫ن المخلوقات كانت دائمًا تشهد حالة التغير والتبدل وأ ّ‬
‫لأّ‬‫بالعكس فان عملية الخلق مستمرة‪ ،‬إ ّ‬
‫المخلوقات تابعة لذاته المقدسة‪ ،‬أو بتعبير آخر كان له‬

‫] ‪[ 82‬‬

‫حدوثًا ذاتيًا ل زمانيًا‪ .‬وذلك لعدم إمكانية تصور الحدوث الزماني للجميع‪ .‬وما ورد في الرواية التي قالت‪» :‬كان‬
‫ال ول شيء معه«)‪ (1‬إّنما يراد بها أّنه لم يكن شيء مصاحبًا لذاته بل مخلوقًا لها )لبّد من التأمل(‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬توحيد الصدوق ‪ ،66 /‬كما ورد شبيه هذا المضمون في ‪ 145 /‬ـ ‪.226‬‬
‫] ‪[ 83‬‬

‫القسم السادس‬

‫صَفِة َفَأَمَرَها‬
‫ع اْلقا ِ‬
‫عَز ِ‬
‫صَفِة َوالّز ْ‬
‫ح اْلعا ِ‬
‫ن الّري ِ‬‫عَلى َمْت ِ‬‫حَمَلُه َ‬
‫خارُه‪َ ،‬‬ ‫طمًا َتّيارُه ُمَتراِكمًا َز ّ‬
‫جَرى ِفيَها ماًء ُمَتل ِ‬‫»َفَأ ْ‬
‫ق«‪.‬‬‫ن َفْوِقها َدِفي ٌ‬
‫ق َواْلماُء ِم ْ‬
‫حِتها َفِتي ٌ‬
‫ن َت ْ‬
‫حّدِه‪ ،‬اْلَهَواُء ِم ْ‬
‫شّدِه‪َ ،‬وَقَرَنَها ِإَلى َ‬
‫عَلى َ‬ ‫طَها َ‬
‫سّل َ‬
‫ِبَرّدِه‪َ ،‬و َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الماء كان أول مخلوق‬

‫ما يستفاد من كلمات أمير المؤمنين علي)عليه السلم( ولسيما في هذه العبارات وما سيتبعها في توضيح كيفية‬
‫ن ال سبحانه قد خلق ابتداًء الماء ـ أو بتعبير آخر ـ مائعًا يشبه الماء ثم حمله على ريح عاتية‬
‫خلق العالم هو أ ّ‬
‫شديدة‪ ،‬وقد أمرت هذه الريح أن تحفظ هذا المائع وتحول دون تشتته وتفرقه‪ .‬ثم هبت ريح شديدة ُاخرى بهدف‬
‫ايجاد أمواج في ذلك المائع العظيم والواسع فجعلت الريح تلك المواج أعظم وأشد ثم دكتها على بعضها‪ ،‬ثم تموج‬
‫ن الماء والريح‬
‫ذلك المائع تمويجًا شديدًا حتى ارتفع في الفضاء‪ ،‬فخلق منه السموات السبع‪ .‬جدير بالذكر أ ّ‬
‫والعاصفة وما شابه ذلك ـ في ذلك الوقت الذي لم يكن فيه ماء ول ريح ول عاصفة ـ كناية عن موجودات شبيهة‬
‫لمور‪ ،‬فلم‬‫ن واضعي المفردات قد جعلوا هذه الكلمات لمثل هذه ا ُ‬ ‫بما نراه اليوم من ماء وريح وهواء‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫يضعوا أية مفردة لما حدث أوائل خلقة العالم‪ .‬وان أدنى تأمل يجعل من الممكن تفسير ما ورد من عباراته)عليه‬
‫ن هذا هو‬
‫السلم( على ضوء آخر الفرضيات والنظريات التي طرحها العلماء المعاصرون بهذا الشأن‪ ،‬ول نقول إ ّ‬
‫مراد المام)عليه السلم( على سبيل القطع‪ ،‬بل نحتمل أن يكون تفسيره كذلك‪.‬‬

‫ن العالم برمته في‬


‫فآخر الفرضيات التي توصل إليها العلماء بشأن بداية ظهور العالم‪ ،‬هو أ ّ‬

‫] ‪[ 84‬‬

‫البداية كان بهيئة كتلة غازية عظيمة شبيهة بالمائع‪ ،‬كما يمكن الصطلح عليها باسم »الدخان«‪ ،‬أو بتعبير آخر‬
‫كانت الطبقات العليا من العالم دخانًا‪ ،‬وكان هذا الدخان يتخذ شكل المائع بفعل حالة الضغط كلما إقترب من مركز‬
‫العالم‪.‬‬

‫أّما الشيء الذي تكفل بحفظ تلك الكتلة العظيمة للغاية إّنما تمثل بالجاذبية التي تحكم جميع ذرات العالم‪ ،‬وقد‬
‫سلطت هذه الجاذبية على ذلك الغاز المائع فشدته وحالت دون خروجه من حدوده‪ .‬ثم ابتدأت هذه الكتلة العظيمة‬
‫بالدوران حول نفسها )أو أّنها كانت تدور حول نفسها منذ البداية( وهنا ظهرت قوة الطرد المركزية‪ (1).‬وقد أدت‬
‫قوة الطرد المركزية هذه بتلك الكتلة العظيمة من ذلك الغاز المضغوط أن تقذف في الفضاء الخالي‪ ،‬وعلى حد‬
‫تعبير نهج البلغة كما سيأتي في العبارات التالية من هذه الخطبة »فأمرها بتصفيق الماء الزخار وإثارة موج‬
‫البحار فمخضته مخض السقاء وعصفت به عصفها بالفضاء« ثم ظهرت منها المنظومات والكواكب والكرات‬
‫الصغيرة والكبيرة للعالم; المر الذي نعته القرآن ونهج البلغة بالسموات السبع‪ .‬طبعًا كل ما نريد أن نقوله ـ دون‬
‫الصرار على هذا الموضوع ـ هو النسجام القائم بين عبارته)عليه السلم( والفرضيات والنظريات العلمية‬
‫الواردة بذات الشأن‪ ،‬حيث يمكن استيعاب كلم المام علي)عليه السلم( على ضوء النظريات والطروحات‬
‫العلمية المعاصرة بخصوص ظهور السموات والرضين والكواكب والجرام السماوية وسائر الكرات‪ .‬وننتقل‬
‫الن إلى أصل عبارته‪ ،‬فقد قال المام)عليه السلم(‪» :‬فاجرى فيها ماء متلطمًا)‪ (2‬تياره)‪.«(3‬‬

‫»التلطم« بمعنى اصدام المواج ببعضها‪ ،‬والتيار يعني الموج‪ ،‬ول سيما المواج التي يقذفها الماء خارجًا‪،‬‬
‫أفليس هذا الماء المتلطم والمتدفق هو تلك الغازات الولية المضغوطة التي تمثل المادة الولية للعالم على ضوء‬
‫نظريات العلماء واطروحاتهم؟ ثم أكد المام علي)عليه السلم( على شدة‬

‫‪ .1‬كل شيء يدور حول نفسه اّنما يتعرض إلى قوة تحاول طرده من المركز‪ ،‬كالشعلة التي ندورها بايدينا فاذا تركناها فجأة قذفت إلى‬
‫نقطة بعيدة‪ ،‬وما هذا إّل لوجود قوة الطرد المركزية‪ ،‬وكلما تضاعفت هذه القوة فان شدة القذف خارجًا تتناسب طرديًا وازدياد تلك‬
‫القوة‪.‬‬

‫‪» .2‬متلطم« من مادة »لطم« على وزن ختم بمعنى صفع الوجه باليد‪ ،‬ثم استخدمت هذه المفردة لحقًا بمعنى اصطدام المواج مع‬
‫بعضها‪.‬‬

‫‪» .3‬التيار« بمعنى أمواج البحر التي يقذف بها الماء‪ ،‬وقد أطلقها البعض )مقاييس اللغة ولسان العرب( على كل نوع من المواج ‪.‬‬

‫] ‪[ 85‬‬

‫تدفق ذلك الماء وعظم تلطمه فقال‪» :‬متراكم)‪ (1‬زخاره)‪.«(2‬‬

‫ثم أضاف)عليه السلم(‪» :‬حمله على متن الريح العاصفة)‪ (3‬والزعزعة)‪ (4‬القاصفة)‪.«(5‬‬

‫فالعاصف بمعنى الضاربة والكاسرة والزعزع بمعنى الضطربة والشديدة الهبوب وكذلك القاصفة التي تهلك‬
‫ن كل هذه المفردات تأكيدات متتالية لبيان قوة تلك الريح وسعتها وشموليتها‪ .‬ثم ُامرت هذه‬
‫الناس بشدة هبوبها‪ ،‬وكأ ّ‬
‫العاصفة العظيمة المرعبة بحفظ أجزاء الماء مع بعضها البعض ضمن حدودها »فأمرها برده‪ ،‬وسلطها على‬
‫شدة)‪ ،(6‬وقرنا إلى حده«‪ .‬أو ليست هذه العاصفة العظيمة والشديدة إشارة إلى أمواج الجاذبية التي سلطها ال على‬
‫جميع ذرات عالم المادة والتي كانت سببًا لتماسك أجزائها وعدم تشتتها وتناثرها‪ ،‬وتقييدها بالحركة في إطار‬
‫حدودها؟ فهل هناك من تعبير أروع وأدق من الريح العاصفة القاصفة لتبيين المواج العظيمة للجاذبية في ظل‬
‫تلك الجواء‪.‬‬

‫لمور و»الهواء من تحتها فتيق)‪ (7‬والماء من فوقها دفيق)‪ «(8‬والفتيق من مادة فتق بمعنى‬
‫وقد حصلت كل هذه ا ُ‬
‫المفتوق; المفتوح‪ ،‬ودفيق من مادة دفق بمعنى الحركة السريعة‪.‬‬

‫‪» .1‬متراكم« من مادة »ركم« على وزن رزم بمعنى تراكم شيء والقاء بعضه على بعض‪ ،‬وتطلق على الغيوم والرمال والمياه وحتى‬
‫الجموع الغفيرة من الناس التي تتجمع في موضع )المفردات‪ ،‬لسان العرب ومقاييس اللغة(‪.‬‬

‫‪» .2‬زخار« من مادة »زخر« و»زخور« بمعنى المتداد والرتفاع‪ ،‬كما يطلق على امتلء البحر وتلطمه‪.‬‬

‫‪» .3‬عاصفة« من مادة »عصف« على وزن عصر بمعنى الخفة والسرعة‪ ،‬ومن هنا يطلق العصف على قشور الحبوب التي تكسر‬
‫بسرعة‪ ،‬كما يقال »عاصف« و»معصف« للشيء الذي يحطم سائر الشياء وينعمها )المفردات‪ ،‬لسان العرب ومقاييس اللغة(‪.‬‬

‫‪» .4‬زعزع« على وزن زمزم بمعنى الحركة والضطراب والهتزاز‪ ،‬كما تستعمل بمعنى الشديد )مقاييس اللغة ولسان العرب(‪.‬‬

‫‪» .5‬قاصفة« من مادة »قصف« على وزن حذف بمعنى كسر الشيء‪ ،‬ومن هنا يطلق القاصف على العواصف الشديدة التي تكسر‬
‫السفن في البحار وكذلك الرعد والبرق الشديد الكاسر )المفردات‪ ،‬لسان العرب ومقاييس اللغة(‪.‬‬

‫‪» .6‬شّد« على وزن مّد بمعنى قوة الشيء وقدرته‪ ،‬ولذلك يصطلح بالشديد على الفرد القوي )ول سيما القوي في الحرب(‪ .‬كما‬
‫تستعمل هذه المفردة بمعنى ربط العقدة وأحكام وثاقها )سواء كانت في البدن أو في القوى الباطنية والروحية أو في المصيبة‬
‫والعذاب(‪) .‬لسان العرب‪ ،‬المفردات ومقاييس اللغة(‪.‬‬

‫‪» .7‬فتيق« من مادة »فتق« ذكرناها سابقًا‪.‬‬


‫‪» .8‬دفيق« من مادة »دفق« على وزن دفن بمعنى دفع الشيء إلى المام‪ ،‬كما تستعمل بمعنى السرعة‪ .‬ولذلك يطلق »الدفق« على‬
‫الناقة السريعة‪.‬‬

‫] ‪[ 86‬‬

‫ن هذه المواج المتدفقة اّنما تحد بواسطة تلك الريح العاصفة‪ ،‬فتحول دنها ودون تجاوزها لحدودها ـ وهنا‬
‫نعم إ ّ‬
‫يبرز هذا السؤال‪ :‬كيف تظهر تلك المواج المتدفقة على سطح الماء رغم وجود تلك الريح العاصفة الحائلة‬
‫ن الرياح هنا تلعب‬
‫ن تلك المواج عادة ما تظهر بفعل حركة الرياح والعواصف‪ ،‬رغم أ ّ‬ ‫والمانعة‪ ،‬فالمعروف أ ّ‬
‫دور المانع والحائل لتلك المواج ‪ ،‬إذن ما العامل الذي يقف وراء حركة المواج‪.‬‬

‫ن العامل الذي يقف وراء ظهور هذه المواج هو شيء كامن في باطنها بحيث يجعله يتلطم على الدوام‪.‬‬ ‫يبدو أ ّ‬
‫ل أّنه ينسجم تمامًا والنظريات التي أوردها العلماء‬
‫ولكن ليست لدينا رؤية واضحة لماهية هذا العامل‪ ،‬إ ّ‬
‫المعاصرون بهذا الشأن‪ ،‬فهم يقولون أن انفجارات نووية متواصلة وقعت في جوف الغازات الولى ذات الطبيعة‬
‫المائعية‪ ،‬وهى هذه النفجارات التي تحدث اليوم في الشمس‪ .‬فهذه النفجارات العظيمة قضت على سكون‬
‫واستقرار هذه الغازات المائعية وأوجدت تلك التلطمات في أمواجها المتدفقة‪.‬‬

‫ولبد لنا من متابعة المقطع الخر لكمال هذا القسم فنقف على الصورة الدقيقة التي رسمها المام)عليه السلم(‬
‫لنبثاق الخليقة‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 87‬‬

‫القسم السابع‬

‫خار‬
‫ق اْلماِء الّز ّ‬ ‫صِفي ِ‬
‫شَأَها َفَأَمَرَها ِبَت ْ‬‫جراها وََأْبَعَد َمْن َ‬ ‫ف َم ْ‬‫ص َ‬ ‫ع َ‬ ‫عَتَقَم َمَهّبها َوَأداَم ُمَرّبها َوَأ ْ‬‫حاَنُه ِريحًا ا ْ‬
‫سْب َ‬
‫شَأ ُ‬ ‫»ُثّم َأْن َ‬
‫جَيهُ ِإَلى‬
‫خِرِه َوسا ِ‬ ‫صَفها ِباْلَفضاِء‪َ .‬تُرّد َأّوَلُه ِإَلى آ ِ‬ ‫ع ْ‬‫ت ِبِه َ‬ ‫صَف ْ‬ ‫ع َ‬ ‫سقاِء و َ‬‫خضَ ال ّ‬ ‫ضْتُه َم ْ‬
‫خ َ‬‫ج اْلِبحاِر َفَم َ‬
‫َوِإثاَرِة َمْو ِ‬
‫جَعَل‬
‫سَموات َ‬ ‫سْبَع َ‬‫سّوى ِمْنُه َ‬ ‫جّو ُمْنَفِهق َف َ‬ ‫عباُبُه وَرَمى ِبالّزَبِد ُركاُمُه َفَرَفَعُه ِفي َهواء ُمْنَفِتق َو َ‬ ‫ب ُ‬‫ع ّ‬‫حّتى َ‬ ‫ماِئِرِه َ‬
‫ظُمها ُثّم َزّيَنها‬
‫عُمها َول ِدسار َيْن ِ‬ ‫عَمد َيْد َ‬ ‫سْمكًا َمْرُفوعًا ِبَغْيِر َ‬ ‫حُفوظًا َو َ‬‫سْقفًا َم ْ‬
‫ن َ‬ ‫عْلياُه ّ‬‫ن َمْوجًا َمْكُفوفًا و ُ‬ ‫سْفلُه ّ‬ ‫ُ‬
‫سْقف ساِئر وََرِقيم‬ ‫طيرًا َوَقَمراً ُمِنيرًا ِفي َفَلك داِئر َو َ‬ ‫سَت ِ‬
‫سراجًا ُم ْ‬ ‫جَرى ِفيها ِ‬ ‫ب َوَأ ْ‬‫ضياِء الّثواِق ِ‬ ‫بو ِ‬ ‫ِبِزيَنِة اْلَكواِك ِ‬
‫ماِئر«‪.‬‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫دور العواصف في انبثاق الخلقة‬

‫ن هذه الكلمات امتداد لعباراته السابقة ونتجه بادئ ذي بدء إلى فهم التعبيرات الدقيقة والعميقة في‬
‫كما أوردنا فا ّ‬
‫كلم المام)عليه السلم( دون اصدار حكم بشأنها‪ ،‬ثم نتحدث بعد ذلك عن مدى انسجامها مع آراء ونظريات‬
‫العلماء المعاصرين بخصوص مسألة خلق العالم‪ .‬فالمام يشير في كلمه إلى عّدة مراحل‪ .‬فقال)عليه السلم(‪» :‬ثم‬
‫أنشأ سبحانه ريحًا اعتقم)‪ (1‬مهبها)‪.«(2‬‬
‫فالريح العقيم هى الريح الخالية من السحب التي تؤدي إلى نزول المطر‪ ،‬وبالتالي فهى ل‬

‫عقم« على وزن قفل بمعنى الجفاف المانع من قبول الثر‪ ،‬ويطلق العقيم على المرأة التي ل تتقبل نطفة‬
‫‪» .1‬اعتقم« من مادة » ُ‬
‫الرجل‪ ،‬كما تأتي بمعنى الضيق أيضًا كما ورد في المفردات ولسان العرب ومقاييس اللغة‪.‬‬

‫‪ .2‬مهبها من الهبوب على وزن السجود الحركة بالنسبة للسيف والضطراب ومن هنا تطلق على هبوب الرياح‪.‬‬

‫] ‪[ 88‬‬

‫ثم أشار في المرحلة الثانية إلى مهّمة هذه الرياح »فامرها بتصفيق)‪ (3‬الماء الزخار‪ ،‬واثارة موج البحار« فقامت‬
‫هذه الريح العاتية العظيمة بمخض الماء كقراب السّقاء »فمخضته)‪(4‬مخض السقاء«‪» .‬وعصفت به عصفها‬
‫بالفضاء« ثم قال)عليه السلم(‪» :‬ترد أوله إلى آخره وساجيه)‪ (5‬إلى مائره)‪.«(6‬‬

‫وقال)عليه السلم( في المرحلة الثالثة بشأن تراكم المياه وارتفاعها »حتى عب عبا)‪ «(7‬بمعنى ارتفع أعله‬
‫»ورمى بالزبد ركامه)‪ .«(8‬ثم قال)عليه السلم( في المرحلة الرابعة‪» :‬فرفعه في هواء منفتق وجو منفهق)‪«(9‬‬
‫فخلق منها تبارك وتعالى السموات السبع »فسوى منه سبع سموات« حيث جعل القسام السفلى‪ ،‬كالمواج‬
‫المكفوفة الممسوكة والطبقات العليا كالسقف المحفوظ »جعل‬

‫ب« التي تعني في الصل التربية‪ ،‬وتطلق الرب على المربي والمالك والخالق )وهو مصدر له معنى الفاعلية(‬‫‪» .1‬مرب« من مادة »ر ّ‬
‫ن التربية متعذرة دون الستمرار(‪.‬‬
‫ويفيد معنى الستمرار والملزمة إذا جاء من باب الفعال )إرباب( ل ّ‬

‫ب« مصدر ميمي بمعنى الدوام والبقاء‪.‬‬


‫ن »مر ّ‬
‫وبناًء على هذا فا ّ‬

‫‪» .2‬أعصف« من مادة »عصف« على وزن عصر‪ ،‬بمعنى السرعة والحركة والشدة كما ذكرنا‪.‬‬

‫‪» .3‬تصفيق« من مادة »صفق« على وزن سقف بمعنى تقليب الشيء بعضه على بعض بحيث يصاحبه الصوت‪ ،‬ومن هنا اطلق‬
‫التصفيق على ضرب الكفين ـ وهى هنا بمعنى تحريك المياه وتقليبها على بعضها )لسان العرب‪ ،‬مقاييس اللغة‪ ،‬شرح محمد عبدة(‪.‬‬

‫ض« من مادة »مخض« على وزن قرض بمعنى تحريك الموائع في ظروفها‪ ،‬ولذلك يستعمل هذا التعبير أثناء تحريك اللبن‬ ‫خ َ‬ ‫‪َ» .4‬م َ‬
‫في القربة لفصل الزبدة عنه‪.‬‬

‫‪» .5‬ساجي« من مادة »سجو« على وزن سهو بمعنى السكون والهدوء‪.‬‬

‫‪» .6‬مائر« من مادة »مور« على وزن فور بمعنى الحركة السريعة‪ ،‬وتطلق هذه المفردة على الجادة أيضًا لن الناس يتحركون عليها‬
‫ذهابًا وإيابًا‪.‬‬

‫‪» .7‬عباب« من مادة »عب« بمعنى شرب الماء سريعًا دون تريث‪ ،‬ومن هنا اطلق العباب على الماء الكثير والمطر الغزير والسيل‬
‫العظيم‪ ،‬وهى هنا بمعنى تراكم المياه على بعضها‪.‬‬

‫‪» .8‬ركام« أشرنا إلى معناها سابقًا )ما تراكم منه بعضه على بعض(‪.‬‬

‫‪» .9‬منفهق« من مادة »فهق« على وزن فرق بمعنى المفتوح الواسع‪ ،‬ولذلك يصطلح بالمنفهق على الجزء الواسع من الوادي‬
‫والوعاء المملوء بالماء‪.‬‬

‫] ‪[ 89‬‬

‫سفلهن موجًا مكفوفًا)‪ (1‬وعلياهن سقفا محفوظًا وسمكًا)‪ (2‬مرفوعًا«‪.‬‬


‫ثم أشار)عليه السلم( إلى عدم وجود العمدة التي تحملها ول المسامير التي تحكم وثاقها فقال‪» :‬بغير عمد)‪(3‬‬
‫يدعمها)‪ (4‬ول دسار ينظمها)‪ «(5‬وأخيرًا تأتي المرحلة الخيرة ـ الخامسة ـ »ثم زينها بزينة الكواكب وضياء‬
‫الثواقب)‪ .«(6‬ثم أشار)عليه السلم( إلىالقمر والشمس وتحرك كل منهما ضمن مداره »واجرى فيها سراجًا‬
‫مستطيرا)‪ (7‬وقمرًا منيرًا في فلك دائر وسقف سائر ورقيم)‪ (8‬مائر«‪.‬‬

‫تأّملت‬
‫‪ 1‬ـ دراسة العبارة على ضوء الفرضيات المعاصرة‬

‫للعلماء المعاصرين نظريات متعددة ل تتجاوز حدود الفرضيات بشأن خلق العالم; حيث لم يكن هناك مخلوق قبل‬
‫مليارات السنين ليشهد كيفية ظهور العالم‪ ،‬مع ذلك هناك بعض الشواهد والقرائن التي تؤيد صحة بعض هذه‬
‫الفرضيات‪ .‬اّما العبارات التي ساقها المام)عليه السلم(فهى تنطبق تمامًا على بعض الفرضيات المعروفة‪،‬‬
‫ن المام)عليه السلم( إّنما أراد هذه الفرضيات‪ .‬فكما أسلفنا في البحاث‬
‫سنتعرض لها الن دون الصرار على أ ّ‬
‫السابقة أن العالم كان في البداية كتلة ضخمة من الغازات المتراكمة الكثيرة الشبه بالمائعات بحيث يصح نعتها‬
‫بالماء‪ ،‬كما يصح‬

‫‪» .1‬مكفوف« من مادة »كف« على وزن سد بمعنى قبض الشيء وجمعه‪ ،‬ولذلك اطلق على راحة اليد الكف لّنها سبب قبض اليد‪،‬‬
‫كما يطلق المكفوف على العمى لقبض بصره‪.‬‬

‫‪» .2‬سمك« بمعنى الرتفاع ولهذا يسمى السقف بالسمك لرتفاعه‪.‬‬

‫عُمد كلهما جمع »عمود« بمعنى الدعامة‪.‬‬


‫‪» .3‬عمد« على وزن سبد و ُ‬

‫‪» .4‬يدعم« من مادة »دعم« على وزن فهم بمعنى دعامة الشيء ودعام ودعامة بمعنى الخشب الذي يحمل الشياء ويشدها‪ ،‬وتطلق‬
‫على الشيء والشخص الداعم‪.‬‬

‫‪» .5‬دسار« بمعنى المسمار والحبل الذي يربط به الشيء‪.‬‬

‫‪» .6‬ثواقب« من مادة »ثقب« على وزن سقف بمعنى الشيء; ثقب الشيء واختراقه ومن هنا اطلق الثواقب على الكواكب المضيئة‬
‫ن نورها يخترق السماء ليصلنا‪.‬‬
‫ن نورها يثقب البصر وينفذ فيه‪ ،‬أو أ ّ‬
‫المنيرة‪ ،‬فكأ ّ‬

‫‪» .7‬مستطير« من مادة »طير« بمعنى انتشار الشيء في الهواء‪ ،‬ثم استعمل كل شيء سريع وكذلك الطيور‪ .‬ومستطير بمعنى واسع‬
‫ومنتشر‪ .‬ومن هنا يقال استطار الفجر‪ ،‬أي انتشر ضوءه‪.‬‬

‫‪» .8‬رقيم« من مادة »رقم« بمعنى الخط والكتابة‪ ،‬كما وردت هذه المفردة بمعنى الكتاب‪ .‬وهو اسم من أسماء الفلك وسمي به لّنه‬
‫مرقوم بالكواكب‪.‬‬

‫] ‪[ 90‬‬

‫الصطلح عليها بالدخان على ضوء التصريحات القرآنية‪ .‬وقد سلط خالق العالم عليه قوتين عظيمتين‪ ،‬حيث عبر‬
‫عنهما في العبارة المذكورة بالريح‪:‬‬

‫قوة الجاذبية التي حفظته متماسكًا وحالة دون تشتته وزواله‪ ،‬والقوة الدافعة التي تدفعه إلى الخارج إثر الحركة‬
‫الدورانية حول نفسه وبفعل قوة الطرد المركزية‪ ،‬وهذه هى الريح والعاصفة الثانية‪ .‬فاذا أقررنا بالحركة الدورانية‬
‫للعالم الول على أّنها كانت متذبذبة تشتد أحيانًا وتنخفض أحيانًا ُاخرى فمن الطبيعي أن تكون قد ظهرت تلك‬
‫المواج العظيمة في تلك الكتلة الغازية العظيمة الشبيهة بالمائع بحث تراكمت تلك المواج على الدوام ثم أخذت‬
‫بالتساقط‪ .‬وفي الختام فان الطبقات الكثر خفة والقل وزنًا ـ والتي ورد التعبير عنها بالزبد من قبل المام)عليه‬
‫ن مفردة »الزبد« تطلق على ما يطفو من الماء‪ ،‬وكذلك على الزبدة‬
‫السلم( ـ قد قذف بها نحو الفضاء الخارجي )أ ّ‬
‫التي تطفو لخفتها على سطح محتويات القربة(‪.‬‬

‫وبهذا فقد اشتدت الحركة الدورانية‪ ،‬فانفصلت أجزاء كبيرة من هذه الكتلة العظيمة وانطلقت إلى الفضاء‪ ،‬فما كان‬
‫منها أكثر شدة بلغ نقاطًا مرتفعة وأّما ما كان منها أقل شدة فقد بلغ نقاطًا أوطئ‪ .‬لكن الجزاء التي بلغت نقاطًا‬
‫مرتفعة أصبحت على هيئة سقف محفوظ وذلك بفعل قوة الجاذبية التي لم تدعها تفلت تمامًا‪ ،‬بينما أصبحت‬
‫الجزاء السفلى القل ضغطًا موجًا مكفوفًا حسب تعبير المام)عليه السلم(‪.‬‬

‫ثم ظهرت في ذلك الفضاء المترامي السموات السبع )التي سنتناولها بالحديث لحقًا( دون أن تكون هناك عمد‬
‫ترفعها ومسامير تنظمها وتحكم وثاقها‪ ،‬ولم تستقر في مواقعها وتتزن في حركتها ضمن مداراتها سوى من خلل‬
‫تعادل القوتين الجاذبة والدافعة‪ .‬كان الفضاء آنذاك مملوءًا بالكرات الصغيرة والكبيرة‪ ،‬فانطلقت قطع متناثرة من‬
‫هذه المواج إلى الخارج‪ ،‬وقد انجذبت القطع الصغيرة تدريجيًا نحو الكرات الكبيرة بحكم الجاذبية فأصبح الفضاء‬
‫وأضاءت النجوم وزينت بالكواكب وأشرقت الشمس واضيء القمر وأخذت الجرام تتحرك ضمن أغلفتها‬
‫ومداراتها‪.‬‬

‫ن العامل الذي أدى إلى انفصال المنظومات والكرات السماوية‬


‫لقد ورد في بعض الفرضيات بشأن ظهور العالم أ ّ‬
‫عن الكتلة الولى إّنما يعزى إلى النفجار الداخلي العظيم والذي‬

‫] ‪[ 91‬‬

‫ل غامضًا لحد الن‪ .‬فالقى النفجار المذكور بأجزاء عظيمة من الكتلة الغازية الولى الشبيهة‬ ‫ظل سببه مجهو ً‬
‫بالمائع إلى الفضاء وكون الكرات والمنظومات ولعل قوله)عليه السلم(‪» :‬ثم انشأ سبحانه ريحًا اعتقم مهبها وأدام‬
‫مربها وأعصف مجراها وأبعد منشأها فامرها بتصفيق الماء الزخار‪ «...‬إشارة إلى هذا النفجار العظيم الذي‬
‫انطلق من أعماق المادة الولى‪ .‬لكن وكما قلنا سابقًا فان الهدف من هذا الكلم هو ايضاح مدى انسجام عبارات‬
‫الخطبة مع الفرضيات الواردة بشأن ظهور العالم ول يمثل إصدار حكم بهذا الشأن أبدًا‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ 2‬ـ كيفية ظهور العالم‬

‫تعد مسألة كيفية ظهور العالم من أعقد المسائل التي واجهها العلماء والمفكرون‪ .‬فالمسألة المذكورة تعود إلى ماقبل‬
‫ملياردات السنوات‪ ،‬ولعلها القضية التي لم تطرق فكر أحد; المر الذي حير كبار العلماء والمفكرين رغم الجهود‬
‫المفنية والتحقيقات والفرضيات الضخمة التي توصلوا إليها في هذا المجال وبالتالي لم يكن أمامهم سوى‬
‫ن روح حب الستطلع والتعرف على المجهول التي تسود‬ ‫لأّ‬‫العتراف بالعجز عن سير تحور هذه المسألة‪ .‬إ ّ‬
‫ن لسان حال العلماء هو‬ ‫الفكر البشري لم تدعه يقف مكتوف اليدي حيال هذه القضية والصمت إزائها‪ .‬فالواقع أ ّ‬
‫إننا وإن عجزنا عن بلوغ كنه هذا الموضوع‪ ،‬غير أننا نرغب برسم صورة في أذهاننا من شأنها إشباع حب‬
‫ن اليات القرآنية والروايات السلميه قد اكتفت بإشارات مقتضية بالنسبة‬ ‫تطلعنا واقتحامنا لهذا المر‪ .‬وبالطبع فا ّ‬
‫ل إلى رسم صورة باهتة في الذهن ل ترقى إلى إماطة اللثام عن طبيعتها‬ ‫لهذا الموضوع; المر الذي ل يؤدي إ ّ‬
‫وكنه حقيقتها‪ .‬على كل حال فان العبارات الواردة في هذه الخطبة اّنما تتناغم وما ورد في خطبته رقم ‪ 211‬التي‬
‫قال فيها)عليه السلم(‪» :‬وكان من اقتدار جبروته وبديع لطائف صنعته أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم‬
‫المتقاصف يبسًا جامدًا ثم فطر منه اطباقا ففتقها سبع سموات‪ ،‬بعد ارتتاقها«‪.‬‬

‫ن أغلب هذه الروايات تنسجم‬


‫من جانب آخر فقد شحنت الروايات السلمية بعدة أبحاث بهذا الشأن‪ ،‬والواضح أ ّ‬
‫وخطب نهج البلغة الواردة بهذا الخصوص مع فارق جاء في‬

‫] ‪[ 92‬‬
‫ن الزبد أول شيء ظهر على الماء ثم انبعث منه البخار أو الدخان الذي كّون السموات‪).‬‬
‫أغلبها وهو تصريحها بأ ّ‬
‫‪(1‬‬

‫ن المادة الولى على القوى كانت عبارة‬ ‫ولكن وكما أوردنا آنفًا فانه ليس هنالك من تضارب بين هذه العبارات‪ ،‬ل ّ‬
‫عن غازات مائعية مضغوطة يصدق عليها وصف الماء والبخار والدخان بالنظر لمراحلها المختلفة‪ .‬والجدير‬
‫ن أول ما خلق ال الماء‪ ،‬أو الشيء الول‬ ‫بالكذر هنا هو أّنه ليس هناك من تضاد بين الروايات التي صّرحت بأ ّ‬
‫ن بعض الروايات تحدثت عن خلق عالم‬ ‫الذي خلقه ال كان نور النبي)صلى ال عليه وآله( أو العقل; وذلك ل ّ‬
‫المادة بينما تحدث البعض الخر عن خلق عالم المجردات والرواح‪ .‬كما يتبّين عدم وجود التناقض بين ما‬
‫أوردناه من مضامين الروايات وما صّرحت به الية ‪ 11‬من سورة فصلت التي قالت‪» :‬ثم استوى إلى السماء‬
‫وهى دخان«‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ 3‬ـ الفرضيات السائدة بشأن العالم أبان نزول القرآن‬

‫الطريف أّنه كانت هناك نظريتين بشأن ظهور العالم في الوسط الذي نزل فيه القرآن ـ أو بعبارة أدق في العصر‬
‫الذي نزل فيه القرآن ـ ‪ :‬الولى نظرية »بطليموس« التي سادت المحافل العلمية لخمسة عشر قرنًا واستمرت حتى‬
‫ن الرض كانت مركز العالم وتدور حولها تسعة أفلك;‬ ‫أواخر القرون الوسطى‪ .‬وعلى ضوء هذه النظرية فا ّ‬
‫وهى أفلك تشبه الغطية البصلية وشفافة وبلورية ومتراكمة بعضها‪ ،‬وكان كل كوكب سّيار )عطارد‪ ،‬الزهرة‪،‬‬
‫المريخ‪ ،‬المشتري وزحل( في فلك‪ ،‬كما كان لكل من الشمس والقمر فلكهما‪ .‬واضافة إلى هذه الفلك السبع‪ ،‬هناك‬
‫فلك يرتبط بالكواكب الثابتة )المراد بالكواكب الثابتة هى تلك الكواكب التي تطلع معًا وتغرب معًا دون أن تغير‬
‫مواقعها في السماء بخلف الكواكب الخمس التي ذكرناها(‪ .‬وبعد الفلك الثامن; أي فلك الثوابت هناك فلك الطلس‬
‫الذي ليس له أي كوكب‪ ،‬اّما مهمته فهى‬

‫‪ .1‬للوقوف على هذه الروايات‪ ،‬انظر ‪ 10 / 3‬و ‪ 57‬من بحار النوار‪ ،‬طبعة بيروت‪ .‬وردت أغلب الحاديث في ج ‪.57‬‬

‫] ‪[ 93‬‬

‫سوق العالم العلوي للدوران حول الرض‪ ،‬وهو الفلك الذي يسمى أيضًا بفلك الفلك‪.‬‬

‫لخرى فهى الفرضية التي تستمد قوتها من فرضية بطليموس بشأن العالم وتفسره على أساس‬
‫أّما الفرضية ا ُ‬
‫العقول العشرة‪.‬‬

‫وعلى ضوء هذه النظرية التي طرحها جمع من الفلسفة اليونانيين فان ال لم يخلق بادئ ذي بدء سوى شيء‬
‫واحد هو العقل )الملك أو الروح العظيمة والمجردة التي اصطلح عليها بالعقل(‪ .‬وقد خلق هذا العقل شيئين هما‬
‫العقل الثاني والفلك التاسع‪ ،‬ثم خلق العقل الثاني العقل الثالث والفلك الثامن‪ ،‬وهكذا خلق عشرة عقول وتسعة‬
‫أفلك‪ ،‬ثم قام العقل العاشر بخلق موجودات هذا العالم‪ .‬والواقع ليس هنالك من دليل على هذه السلسلة من‬
‫الفرضيات‪ ،‬وهكذا هو الحال بالنسبة لفرضية بطليموس رغم ذلك فقد كانت هذه الفرضيات هى السائدة لقرون‪.‬‬
‫أّما القرآن والروايات السلمية فقد رفضت الفرضية الولى ـ فرضية بطليموس ـ كما رفضت الفرضية الثانية ـ‬
‫فرضية العقول العشرة ـ; وذلك لننا لم نر أثر لهما في اليات والروايات المعروفة ـ ول سيما في نهج البلغة ـ‪،‬‬
‫وهذا بدوره يمثل أحد الدلة والشواهد على استقللية القرآن وعظمة الخبار السلمية واستنادها إلى الوحي ل‬
‫ل لصطبغت بصبغتها‪(1).‬‬ ‫إلى الفكار البشرية‪ ،‬وإ ّ‬

‫وقد رأينا النسجام التام بين كلم أمير المؤمنين)عليه السلم( وسائر الروايات السلمية بشأن ظهور العالم‪.‬‬
‫فالمحور الصلي في اليات القرآنية والروايات السلمية إّنما كان الحديث عن السموات السبع ل الفلك التسع‬
‫ول العقول العشرة‪ ،‬وسنتناول لحقًا تفسير السموات السبع‪.‬‬
‫ن قدماء شّراح نهج البلغة ـ ممن تأثروا بفرضية العقول العشرة ونظرية بطليموس بشأن‬
‫لكن من المؤسف أ ّ‬
‫ظهور العالم ـ قد سحبوا هذه الفرضيات على شرح نهج البلغة‬

‫‪ .1‬لقد أشارت بعض اليات القرآنية إلى حركة الرض من قبيل الية ‪ 88‬من سورة النمل )وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر‬
‫السحاب صنع ال الذي اتقن كل شيء(والية ‪ 25‬من سورة المرسلت )الم نجعل الرض كفاتا(‪) .‬وطبق بعض التفاسير فان الية ‪40‬‬
‫ن الشمس والقمر يسبحان‬‫من سورة يس )ل الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ول الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون(تدل على أ ّ‬
‫في الفضاء العلوي‪ .‬للوقوف أكثر على التفاصيل‪ .‬انظر تفسير المثل‪.‬‬

‫] ‪[ 94‬‬

‫فسعوا جاهدين لحمل الخطبة المذكورة عليها دونما أية ضرورة أو حاجة إلى ذلك; فهى لم تكن سوى فرضيات‬
‫وقد ثبت بطلنها اليوم‪.‬‬

‫فقد أثبتت التحقيقات والمشاهدات العلمية وتجارب علماء الفلك عدم وجود فلك بالمعنى الذي ذهب إليه بطليموس‪،‬‬
‫ن‬
‫ن الكواكب الثابتة والسيارة والتي يفوق عددها بكثير مّما ظنه القدماء وأّنها تدور في فضاء خال )َو أ ّ‬
‫وأ ّ‬
‫ن الرض ليت مركزًا‬ ‫السيارات إّنما تدور حول الشمس ل حول الرض والثوابت على المحاور الخرى( وأ ّ‬
‫لخرى منظومة صغيرة من بين‬ ‫للعالم فحسب‪ ،‬بل هى سيارة صغيرة من سيارات المنظومة الشمسية وهذه ا ُ‬
‫مليين بل مليارات منظومات العالم العلوي‪ .‬أّما أنصار فرضية العقول العشرة ورغم تأثرها بفرضية بطليموس ـ‬
‫ل أّنهم يستندون إلى قاعّدة من القواعد العقلية »والتي تصرح بان الواحد ل يصدر منه‬ ‫التي سلم اليوم ببطلنها ـ إ ّ‬
‫ل واحد« لثبات صحة فرضيتهم ول نرى هنا من ضرورة للستغراق في شرح هذه القاعّدة ‪.‬‬ ‫إّ‬

‫ن أسسها تعتبر جوفاء ل قيمة لها‪(1).‬‬


‫ولما كانت هذه القاعّدة تفتقر إلى الدليل من وجهة نظر أغلب العلماء‪ ،‬فا ّ‬

‫—–‬

‫‪ 4‬ـ ما المراد بالسموات السبع؟‬

‫لم يقتصر الحديث عن السموات السبع على نهج البلغة ـ في هذه الخطبة والخطبة ‪ 211‬ـ فحسب بل سبقه القرآن‬
‫الكريم للحديث عن هذا الموضوع)‪.(2‬‬

‫وهناك عّدة تفاسير أوردها العلماء القدماء بشأن السموات السبع‪ ،‬ول نروح الخوض فيها‬

‫‪ .1‬لقد أشار المرحوم »الخواجة نصير الدين الطوسي« في كتابه »تجريد العتقاد« إلى الدلة الخمسة لفرضية العقول العشرة فيفندها‬
‫لمة الحلي بهذا‬
‫جميعًا ويقول في عبارة قصيرة »وأدلة وجوده مدخولة«‪ .‬وللوقوف أكثر على هذا الموضوع راجع كلم الخواجة والع ّ‬
‫الشأن‪.‬‬

‫ن القرآن أشار إلى السموات السبع في سبع من آياته‪ ،‬وهى الية ‪ 29‬من سورة البقرة‪ 44 ،‬من سورة السراء‪ ،‬الية‬
‫‪ .2‬الطريف أ ّ‬
‫‪ 86‬من سورة المؤمنون‪ ،‬الية ‪ 12‬من سورة فصلت‪ ،‬الية ‪ 12‬من سورة الطلق‪ ،‬الية ‪ 3‬من سورة الملك والية ‪ 15‬من سورة‬
‫نوح‪ .‬كما وردت بعض اليات التي أشارت بعبارات ُاخرى إلى هذا المر‪.‬‬

‫] ‪[ 95‬‬

‫ن المراد بالسموات السبع هو المعنى‬


‫جميعًا; ال ان التفسير الوحيد الذي يبدو صحيحًا من بينها هو ذلك الذي قال بأ ّ‬
‫الواقعي لهذه الكلمة; فالسماء هى مجموعة من الكواكب والنجوم في العالم العلوي‪ ،‬والسبع هو العدد سبعة‬
‫ن الذي نفهمه من اليات القرآنية هو أن ما نشاهده من كواكب‬ ‫المعروف ول يراد به الكثرة‪ ،‬غاية مافي المر أ ّ‬
‫وسيارات ثابتة ومتحركة كلها مرتبطة بالسماء الولى‪ .‬وبناًء على هذا فان وراء هذه السماء العظيمة ستة سموات‬
‫عظيمة أخر لم يتسنى لحد الن للعلم البشري التوصل إلى معرفتها‪.‬‬
‫ب(‪ ،‬كما ورد هذا‬‫سماَء الّدْنيا ِبِزيَنة اْلـَكواِكـ ِ‬ ‫والية السادسة من سورة الصافات تؤيد هذا المعنى‪ِ) :‬إّنا َزّيـّنا ال ّ‬
‫ح(‪ ،‬وجاء في الية الخامسة من سورة الملك‬ ‫سماَء الّدْنيا ِبَمصاِبي َ‬ ‫المعنى في الية ‪ 12‬من سورة فصلت )َوَزّيـّنا ال ّ‬
‫لمة المجلسي قد ذكر هذا التفسير ـ في‬ ‫ن المرحوم الع ّ‬ ‫ح(‪ .‬والطريف في المر أ ّ‬ ‫سماَء الّدْنيا ِبَمصاِبي َ‬
‫)َوَلَقْد َزّيـّنا ال ّ‬
‫بحار النوار ـ على أّنه إحتمال اقتدح في ذهنه‪ ،‬أو استنتاجه من اليات والروايات كما يعبر عن ذلك اليوم‪(1).‬‬

‫ن الدليل‬
‫لاّ‬‫ن الجهزة العلمية لم تتمكن حتى اليوم من إماطة اللثام عن هذه العوالم الست‪ ،‬إ ّ‬
‫وهنا لبّد من القول بأ ّ‬
‫ل‪ ،‬بل أفادت كشوف العلماء الفلكيين أ ّ‬
‫ن‬ ‫لم يقم على نفيها علميًا‪ ،‬ولعل العلم يكشف أسرار هذا الموضوع مستقب ً‬
‫ل عن‬ ‫هناك أشباحًا ترى من بعيد تفيد وجود عوالم ُاخرى‪ ،‬على سبيل أوردت بعض المجلت الفضائية نق ً‬
‫المراصد الجوية المعروفة »بالومار« قولها‪ :‬لقد تمكن ناظور مرصد بالومار من كشف مليين المجرات التي‬
‫يبعد بعضها عنا ألف مليون سنة ضوئية‪ .‬لكن هناك فضاء عظيم ومهيب مظلم بعد تلك المسافة البالغة ألف مليون‬
‫ن ذلك الفضاء المهيب والمظلم يضم مئات‬ ‫سنة ضوئية‪ ،‬غير أّنه يتعذر رؤية مافيه من أشياء‪ .‬ومما لشك فيه أ ّ‬
‫المليين من المجرات بحيث تكفلت جاذبيتها بحفظ البسيطة التي نعيش على وجهها‪ .‬وما هذه الدنيا العظيمة التي‬
‫ل ذرة تافهة ل قيمة لها مقارنة بدنيا أعظم وأوسع ولسنا متأكدين لحد‬ ‫تغص بمئات آلف المليين من المجرات إ ّ‬
‫الن من وجود دنيا ُاخرى‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪.78 / 55‬‬

‫] ‪[ 96‬‬

‫ن العوالم التي تّم كشفها من قبل البشرية ورغم عظمتها‬


‫عظيمة فيما وراء هذه الدنيا‪ (1).‬ونخلص مّما سبق إلى أ ّ‬
‫ل من عالم ضخم عملق‪ ،‬ولعل المستقبل سيكشف‬ ‫ل جزءًا ضئي ً‬ ‫وما تنطوي عليه من أسرار وأعاجيب ليست إ ّ‬
‫لخرى‪.‬‬‫النقاب عن العوالم الست ا ُ‬

‫—–‬

‫‪ 5‬ـ كيفية علم المام)عليه السلم( بهذه اُلمور‬

‫ن عبارات المام)عليه السلم( بشأن ظهور العالم لم ترد بصيغة فرضية واحتمال‬ ‫ما تجدر الشارة إليه هنا هو أ ّ‬
‫أبدًا‪ ،‬بل صورها)عليه السلم( وكأّنه يشهد ذلك الظهور‪ ،‬وهذا دليل على استناد علمه إلى خزانة علم الغيب اللهي‬
‫أو تعليمات النبي)صلى ال عليه وآله(ـ التي تستند إلى الوحي حتى تحدث ابن أبي الحديد بهذا الشأن فقال‪» :‬إ ّ‬
‫ن‬
‫أمير المؤمنين علي)عليه السلم( كان يعرف آراء المتقدمين والمتأخرين‪ ،‬ويعلم العلوم كلها وليس ذلك ببعيد من‬
‫فضائله ومناقبه)عليه السلم()‪ .«(2‬وكيف ل يكون المام)عليه السلم(كذلك وهو القائل‪» :‬أنا بطرق السماء أعلم‬
‫مّني بطرق الرض«‪(3).‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬مجلة الفضاء ‪ / 56‬آذار عام ‪ 1972‬م‪.‬‬

‫‪ .2‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪. 80 / 1‬‬

‫‪ .3‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.189‬‬

‫] ‪[ 97‬‬
‫القسم الثامن‬

‫ن‪،‬‬‫صُبو َ‬ ‫ع ل َيْنَت ِ‬ ‫ن‪َ ،‬وُرُكو ٌ‬ ‫جوٌد ل َيْرَكُعو َ‬ ‫سُ‬ ‫ن َملِئَكِتِه‪ِ ،‬مْنُهْم ُ‬ ‫طَوارًا ِم ْ‬ ‫ن َأ ْ‬‫لُه ّ‬‫ت اْلُعل َفَم َ‬ ‫سَموا ِ‬ ‫ن ال ّ‬‫ق ما َبْي َ‬‫»ُثّم َفَت َ‬
‫سْهُو اْلُعُقوِل َول َفْتَرُة اَْلْبدانِ َول‬ ‫ن‪َ ،‬ول َ‬ ‫ن‪ ،‬ل َيْغشاُهْم َنْوُم اْلُعُيو ِ‬ ‫سَأُمو َ‬ ‫ن ل َي ْ‬ ‫حو َ‬ ‫سّب ُ‬‫ن‪َ ،‬وُم َ‬ ‫ن ل َيَتزاَيُلو َ‬ ‫َوصاّفو َ‬
‫ظُة ِلِعباِدِه‬‫حَف َ‬
‫ن ِبَقضاِئِه َوَأْمِرِه‪َ ،‬وِمْنُهُم اْل َ‬ ‫خَتِلُفو َ‬
‫سِلِه‪َ ،‬وُم ْ‬ ‫سَنٌة ِإَلى ُر ُ‬ ‫حِيِه‪َ ،‬وَأْل ِ‬‫عَلى َو ْ‬ ‫ن َوِمْنُهْم ُأَمناُء َ‬ ‫سيا ِ‬‫غْفَلُة الّن ْ‬
‫َ‬
‫عناُقهُْم‬ ‫سماِء اْلُعْليا َأ ْ‬ ‫ن ال ّ‬
‫سْفَلى َأْقداُمُهْم‪َ ،‬واْلماِرَقُة ِم َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ضي َ‬ ‫جناِنِه‪َ ،‬وِمْنُهُم الّثابَتُة ِفي اَْلَر ِ‬ ‫ب ِ‬‫سَدَنُة َِلْبوا ِ‬‫َوال ّ‬
‫حَتُه‬
‫ن َت ْ‬‫سٌة ُدوَنُه َأْبصاُرُهْم ُمَتَلّفُعو َ‬‫ش َأْكتاُفُهْم ناِك َ‬ ‫سَبُة ِلَقواِئِم اْلَعْر ِ‬ ‫ن اَْلْقطاِر َأْركاُنُهْم‪َ ،‬واْلُمنا ِ‬ ‫جُة ِم َ‬‫َواْلخاِر َ‬
‫جُرو َ‬
‫ن‬ ‫صِويِر َول ُي ْ‬ ‫ن َرّبُهْم ِبالّت ْ‬‫ستاُر اْلُقدَْرِة‪ ،‬ل َيَتَوّهُمو َ‬ ‫ب اْلِعّزِة َوَأ ْ‬
‫ج ُ‬ ‫حُ‬ ‫ن ُدوَنُهْم ُ‬ ‫ن َم ْ‬ ‫ضُروَبٌة َبْيَنُهْم َوَبْي َ‬‫حِتِهْم‪َ ،‬م ْ‬ ‫جِن َ‬
‫ِبَأ ْ‬
‫ن ِإَلْيِه ِبالّنظاِئِر«‪.‬‬
‫شيُرو َ‬ ‫ن َول ُي ِ‬ ‫حّدوَنُه ِباَْلماِك ِ‬ ‫ن َول َي ُ‬ ‫عي َ‬ ‫صُنو ِ‬ ‫ت اْلَم ْ‬‫صفا ِ‬ ‫عَلْيِه ِ‬ ‫َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫عالم الملئكة‬

‫يواصل المام)عليه السلم( خطبته التي تطرق فيها إلى خلق السموات وكيفية ظهور العالم‪ ،‬فيتحدث عن خلق‬
‫الموجودات السماوية وملئكة العالم العلوي فيشير بعبارات قصيرة بليغة إلى أصناف الملئكة وصفاتهم‬
‫ن هذا القسم من الخطبة‬
‫وخصائصهم وطبيعة أنشطتهم ومهامهم وعظم خلقتهم ومدى علو معرفتهم‪ ،‬فالواقع هو أ ّ‬
‫يختص بالتعريف بالملئكة‪ .‬فاستهل كلمه‬

‫] ‪[ 98‬‬

‫ل‪» :‬ثم فتق مابين السموات العل«)‪ (1‬فالذي يستفاد من هذا التعبير أّنه كانت هناك فواصل بين السموات وقد‬
‫قائ ً‬
‫التحمت في البداية ثم ما لبثت أن انفصلت‪ ،‬وهذا بالضبط على الخلف مّما تضمنته نظرية بطليموس في أن‬
‫السموات كأغطية البصل متراكمة على بعضها دون وجود أية فجوة‪ .‬ثم قال المام)عليه السلم(‪» :‬فملهن‬
‫أطوارًا)‪ (2‬من ملئكته)‪ .«(3‬وقد ورد نظير هذه العبارة في الخطبة رقم ‪ 91‬المعروفة بخطبة الشباح حيث قال‪:‬‬
‫»ومل بهم فروج فجاجها وحشا بهم فتوق أجوائها« كما ورد في موضع آخر من هذه الخطبة قوله‪» :‬وليس في‬
‫ل وعليه ملك ساجد أو ساع حافد«‪.‬‬ ‫أطباق السماء موضع اهاب إ ّ‬

‫ثم يتطرق)عليه السلم( إلى أصناف‪ ،‬أو بعبارة أدق أطوار الملئكة فيقسمهم إلى أربعة أقسام‪:‬‬

‫القسم الول‪ :‬أرباب العبادة‪ ،‬ثم يقسم هؤلء إلى أقسام‪ ،‬فمنهم من هو ساجد أبدًا لم يقم من سجوده ليركع »منهم‬
‫سجود)‪ (4‬ل يركعون«‪ ،‬ومنهم من هو راكع أبدًا لم ينتصب قط »وركوع ل ينتصبون« ومنهم الصافون في‬
‫ن »صافون« هنا بمعنى‬ ‫الصلة بين يدي خالقهم ل يتزايلون »وصافون)‪ (5‬ل يتزايلون«‪ .‬ذهب البعض إلى أ ّ‬
‫ن معناها فتح أجنحتهم في السماء بدليل الية القرآنية القائلة‪َ) :‬أَو‬
‫الصف في العبادة‪ ،‬بينما ذهب البعض الخر إلى ا ّ‬
‫طْيِر َفْوَقُهْم صاّفات()‪ .(6‬وهناك إحتمال آخر أن يكون المراد بها الوقوف في صفوف منظمة‬ ‫َلْم َيَرْوا ِإلى ال ّ‬
‫والستعداد لطاعة أوامر ال وامتثالها‪.‬‬

‫ن الحتمال الول أكثر انسجامًا مع الجمل السابقة واللحقة‪ ،‬والواقع أّنهم يمارسون الحالت الثلث لعبادتنا‬ ‫لاّ‬ ‫إّ‬
‫في القيام والركوع والسجود‪ .‬فالتعبير بصافين إّما أّنه إشارة للصفوف المنظمة للملئكة‪ ،‬أو القيام المنظم لكل‬
‫منها‪ .‬وهذا عين ما ورد في خطبته)عليه السلم( في وصف المتقين‬
‫‪» .1‬العل« جمع »عليا« بمعنى العلى والشرف‪.‬‬

‫‪» .2‬أطوار« جمع »طور« على وزن قول بمعنى الصنف‪ ،‬كما تعني الحد والحالة أيضًا‪.‬‬

‫ن المراد الفواصل بين السموات بدليل قوله »ثم فتق‪«...‬‬


‫‪ .3‬ان الضمير »هن« في العبارة كما يشير ظاهرها يعود إلى السموات‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫وفاء التفريع في »فملهن«‪.‬‬

‫‪» .4‬سجود« جمع »ساجد«‪ ،‬كالركوع جمع راكع‪.‬‬

‫‪» .5‬صافون« جمع »صاف« على وزن حاد من مادة »صف« بمعنى المساواة وقد اقتبست في الصل من »صفصف« بمعنى الرض‬
‫المستوية‪.‬‬

‫‪ .6‬سورة الملك ‪.19 /‬‬

‫] ‪[ 99‬‬

‫لهمام »أّما الليل فصافون أقدامهم تالين لجزاء القرآن«)‪ .(1‬وأخيرًا المسبحون الذين ل يملون التسبيح والتحميد له‬
‫ن هؤلء طائفة ُاخرى غير الطوائف الثلث القائمة‬ ‫سبحانه »ومسبحون ل يسأمون«‪ .‬فظاهر هذه الجملة يفيد أ ّ‬
‫ن المسبحين هم الطوائف المذكورة سابقًا‪ ،‬حيث‬ ‫والراكعة والساجدة )و ان ذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أ ّ‬
‫يمكن الستشهاد ببعض الروايات التي تؤيد ماذهبوا إليه‪ .‬فقد روي أّنه سئل النبي)صلى ال عليه وآله(‪ :‬كيف‬
‫ن أهل‬‫صلة الملئكة؟ فأطرق رسول ال)صلى ال عليه وآله( حتى نزل عليه جبرئيل)عليه السلم(فقال له‪» :‬أ ّ‬
‫السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون سبحان ذي الملك والملكوت وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة‬
‫يقولون سبحانه ذي العزة وأهل الجبروت وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون سبحان الحي الذي ل‬
‫يموت«)‪.(2‬‬

‫لكن هل المراد بهذا السجود والركوع والقيام ذات أعمالنا في السجود والركوع والقيام أم إشارة إلى درجات‬
‫خضوع الملئكة وعبادتهم حسب مراتبهم ومقاماتهم‪ ،‬المسألة محل بحث ونقاش‪ .‬فاذا اعتبرنا الملئكة أجسامًا‬
‫لطيفة ولهم أيدي وأرجل ووجوه وجبهات فان المعنى الول أنسب‪ ،‬وإن نفينا عنهم الجسام‪ ،‬أو أقررنا بأن لهم‬
‫جسم غير أّنه ليس على غرار أجسامنا فان المعنى الثاني هو النسب )وسنتحدث في البحاث القادمة عن هذا‬
‫المر(‪.‬‬

‫ن هذه المجموعة من الملئكة منهمكة في عبادة ال وتسبيحه وتقديسه وكأن مهمتهم مقتصرة على‬ ‫على كل حال فا ّ‬
‫ن هذه آية بّينة من آياته سبحانه وعظمة مقامه وعلو شأنه وعدم حاجته إلى عبادة العباد‪،‬‬ ‫العبادة فقط‪ .‬والواقع هو أ ّ‬
‫ن فلسفة خلقة هؤلء الملئكة هو عدم اغترار العباد من الناس بعبادتهم وليعلموا‬ ‫ن المحتمل أ ّ‬ ‫وبعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫ن هناك الملئكة المنهمكين بالعبادة فل ينبغي أن يتصور عباد‬‫على فرض المحال أّنه لو كان بحاجة إلى العبادة فا ّ‬
‫ال في الرض ان عبادتهم أو عدمها ليست لها أدنى تأثير على كبرياء ال وعظمته‪ ،‬ولو كفروا جميعًا لما ضره‬
‫عْنُكْم()‪ .(3‬ثم أشار)عليه السلم(إلى صفات هؤلء الملئكة‬ ‫ي َ‬
‫غِن ّ‬
‫ل َ‬‫نا ّ‬‫ن َتْكُفُروا َفِإ ّ‬
‫ذلك ذرة )ِإ ْ‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.193‬‬

‫‪ .2‬بحار النوار ‪.198 / 59‬‬

‫‪ .3‬سورة الزمر ‪.7 /‬‬

‫] ‪[ 100‬‬

‫فقال)عليه السلم(‪» :‬ل يغشاهم نوم العيون ول سهو العقول ول فترة البدان ول غفلة النسيان«‪ .‬على العكس من‬
‫الناس الذين يشعرون تدريجيًا بالفتور من جراء تكرار العبادة فيخالطهم النعاس فيصاب الجسم بالوهن والضعف‬
‫ويعرض لهم السهو والنسيان‪.‬‬
‫ن الملئكة بعيدون كل البعد عن هذه الحالت والعوارض‪ .‬فهم على درجة من العشق للعبادة والستغراق في‬ ‫لأّ‬
‫إّ‬
‫المناجاة والتسبيح بحيث ل يعرض عليهم النوم والغفلة والفتور قط‪ .‬وبعبارة ُاخرى فان الفتور في إداء الوظائف‬
‫لمور بالتعب وغفو العين وسهو‬ ‫إّنما يستند إلى ُامور ليست لها من سبيل إلى الملئكة أبدًا‪ .‬فأحيانًا تتمثل تلك ا ُ‬
‫لمور ليست لها من سبيل إلى‬‫العقول وضعف البدن وأحيانًا ُاخرى بالغفلة والنسيان ولما كانت أي من هذه ا ُ‬
‫الملئكة‪ ،‬فاّنهم ل يفترو في عبادتهم قط‪.‬‬

‫—–‬

‫ثم يعرض)عليه السلم( إلى القسم الثاني من الملئكة وهم السفراء بينه تعالى وبين المكلفين من البشر بتحمل‬
‫الوحي اللهي إلى الرسل »ومنهم ُامناء على وحيه والسنة إلى رسله ومختلفون بقضائه وأمره« فهم في الواقع‬
‫ن السفارة اللهي ل تقتصر على جبرئيل)عليه السلم(‪ ،‬بل هو‬ ‫الواسطة بين ال والنبياء‪ .‬ونفهم من هذه العبارة أ ّ‬
‫ن َرّب َ‬
‫ك‬ ‫س ِم ْ‬
‫ح الُقُد ِ‬
‫ل َنّزَلُه ُرو ُ‬
‫في الحقيقة زعيم سفراء ال‪ ،‬القرآن بدوره أشار إلى هذا الصنف من الملئكة‪ُ) :‬ق ْ‬
‫ل()‪ ،(2‬كما أشار أحيانًا‬ ‫نا ّ‬‫ك ِبـِإذ ِ‬‫على َقْلِب َ‬
‫ل َفِإّنُه َنـّزَلُه َ‬
‫جْبِري َ‬
‫عُدّوا ِل ِ‬
‫ن َ‬
‫ن كا َ‬
‫ل َم ْ‬ ‫ق()‪ ،(1‬وقال في آية ُاخرى‪ُ) :‬ق ْ‬
‫حّ‬
‫ِبال َ‬
‫عباِدِه()‪.(3‬‬ ‫ن ِ‬‫ن َيشاُء ِم ْ‬ ‫على َم ْ‬‫ن َأْمِرِه َ‬ ‫ح ِم ْ‬ ‫ل الَملِئَكَة ِبالّرو ِ‬
‫إلى الملئكة من حملة الوحي فقال‪ُ) :‬يَنـّز ُ‬

‫كما أشارت بعض الروايات السلمية وسائر خطب نهج البلغة إلى هذا المعنى أيضًا‪ .‬وهنا لبّد من الشارة إلى‬
‫ن المراد بالقضاء والمر اللهي الوارد في العبارة التي نخوض فيها هو الحكام والوامر الدينية الشرعية‪ ،‬ل‬
‫أّ‬
‫القضاء والوامر التكوينية التي احتملها البعض‬

‫‪ .1‬سورة النحل ‪.102 /‬‬

‫‪ .2‬سورة البقرة ‪.97 /‬‬

‫‪ .3‬سورة النحل ‪.2 /‬‬

‫] ‪[ 101‬‬

‫من شارحي نهج البلغة; وذلك لعدم انسجام هذا الحتمال والعبارات السابقة ـ التي طرحت مسألة ُامناء الوحي ـ‪،‬‬
‫اّما مختلفون هنا فقد جاءت من مادة الختلف بمعنى الذهاب والياب والتردد على الماكن‪.‬‬

‫ثم أشار)عليه السلم( إلى القسم الثالث من الملئكة »ومنهم الحفظة لعباده والسدنة)‪ (1‬لبواب جنانه«‪» .‬حفظة«‬
‫جمع حافظ بمعنى الحارس‪ ،‬ويمكن أن يكون لها هنا معنيان‪ :‬أحدهما حفظهما للعباد بمراقبة أعمالهم واحصائها‬
‫ن(‬
‫ن * ِكرامًا كاِتـِبي َ‬ ‫ظـي َ‬
‫عَلْيُكْم َلحاِف ِ‬
‫ن َ‬
‫وتسجيلها‪ ،‬كما أشارت إلى ذلك الية الرابعة من سورة الطارق القائلة )َو ِإ ّ‬
‫وضرب آخر من هؤلء الملئكة الذين يحفظون البشر من المهالك والورطات والبلء‪ ،‬ولول ذلك لكان النسان‬
‫ت ِم ْ‬
‫ن‬ ‫مسرحًا للفناء والزوال والعطاب‪ ،‬وهذا ما صّرحت به الية الحادية عشرة من سورة الرعد‪َ) :‬لـُه ُمَعـّقبا ٌ‬
‫ل(‪.‬‬
‫ن َأْمِر ا ّ‬
‫ظوَنُه ِم ْ‬
‫حَف ُ‬
‫خْلِفِه َي ْ‬
‫ن َ‬
‫ن َيَدْيِه َوِم ْ‬
‫َبْي ِ‬

‫ن المعنى الول أنسب باللتفات إلى العبارات السابقة التي تحدثت عن الوحي والتكاليف الشرعية‪،‬‬ ‫ولكن يبدو أ ّ‬
‫والعبارة اللحقة التي أشارت إلى الجّنة وجزاء العمال‪ ،‬وإن لم يستبعد الجمع بين المعنيين عن مفهوم العبارة‪.‬‬

‫أّما مفردة سدنة فهى جمع سادن بمعنى البواب‪ ،‬وجنان على وزن كتاب واحدها جنة‪ ،‬والذي يستفاد من هذه‬
‫ن ل عّدة جنان‪ ،‬ذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أّنها ثمانية كما وصفها القرآن وهى »جّنة النعيم‪ ،‬جّنة‬
‫العبارة إ ّ‬
‫الفردوس‪ ،‬جنة الخلد‪ ،‬جّنة المأوى‪ ،‬جّنة عدن‪ ،‬دار السلم‪ ،‬دار القرار وجّنة عرضها السموات والرض«)‪.(2‬‬

‫—–‬

‫وأّما القسم الرابع من الملئكة فهم حملة العرش‪ ،‬الذين وصفهم)عليه السلم( بقوله »ومنهم الثابتة‬
‫‪» .1‬سدنة« جمع »سادن« بمعنى الخادم والبواب‪.‬‬

‫‪ .2‬شرح نهج البلغة لبن ميثم ‪ 158 / 1‬وشرح نهج البلغة للمرحوم الميرزا حبيب ال الخوئي ‪.26 / 2‬‬

‫] ‪[ 102‬‬

‫في الرضين السفلى أقدامهم والمارقة من السماء العيا أعناقهم والخارجة من القطار أركانهم والمناسبة لقوائم‬
‫العرش أكتافهم ناكسة)‪ (1‬دونه أبصارهم متلفعون)‪ (2‬تحته بأجنحتهم مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة‬
‫وأستار القدرة« ثم يستغرق)عليه السلم(أكثر في التعرض لصفاتهم فيقول‪» :‬ل يتوهمون رّبهم بالتصوير ول‬
‫يجرون عليه صفات المصنوعين ول يحدونه بالماكن ول يشيرون إليه بالنظائر«)‪ .(3‬أجل فقدرتهم ليست قدرة‬
‫جسمانية‪ ،‬بل يتمتعون بقدرة روحانية خارقة متعذرة على النسان‪ ،‬ومن هنا أوكلت لهم مهّمة حمل العرش‪.‬‬
‫والواقع أّنهم بلغوا أعظم مقامات التوحيد بحيث أصبحوا قدوة في التوحيد لكافة عباد ال ول سيما أولياء ال‬
‫البارزين من الناس‪ .‬فهم ل يرون من مثيل وشبيه ونظير ل قط‪ ،‬كما ل يرون من حدود لذاته وصفاته سبحانه‪،‬‬
‫ن كل ما يتصوره النسان أو الملك إّنما هو‬ ‫حتى أّنهم يرونه أعظم من الخيال والقياس والظن والوهم; وذلك ل ّ‬
‫مخلوق ل وال أعظم من أن يكون مخلوقًا‪ .‬أّما المراد بالعرش وحملة العرش وماهية وظائفهم والمفاهيم التي‬
‫وردت في هذه العبارات‪ ،‬فهذا ما سنتناوله في هذه البحاث‪.‬‬

‫تأّملت‬
‫‪ 1‬ـ ماهية الملئكة!‬

‫هنالك عّدة أبحاث تضمنتها اليات القرآنية بشأن الملئكة وصفاتهم وخصائصهم وأفعالهم والمهام المختلفة‬
‫الموكلة إليهم‪ .‬كما شحنت الروايات السلمية بالخبار التي تتحدث عن الملئكة ومقاماتهم وصفاتهم وأعمالهم‪،‬‬
‫غير اّنه لم يرد البحث في التحدث عن ماهيتهم‪ ،‬ومن هنا كثر الكلم بين العلماء والمتكلمين بهذا الشأن‪ .‬فيرى‬
‫ن الملئكة موجودات ذات أجسام لطيفة‪.‬‬‫علماء الكلم‪ ،‬بل أغلب علماء السلم أ ّ‬

‫‪» .1‬ناكسة« من مادة »نكس« على وزن عكس بمعنى النقلب رأسًا على عقب ولذلك يطلق المنكوس على الوليد الذي يسقط على‬
‫رجليه‪.‬‬

‫‪» .2‬متلفعون« من مادة »لفع« على وزن نفع بمعنى الشتمال على الشيء واللتفاف به‪ ،‬ومن هنا يقال للمرأة حين تلف عليها‬
‫عباءها »تلفعت المرأة«‪.‬‬

‫‪» .3‬نظائر« جمع »نظير« بمعنى المثل‪.‬‬

‫] ‪[ 103‬‬

‫كما وردت بعض العبارات التى أشارت إلى النور على أّنه المادة الصلية لخلقة الملئكة‪ ،‬فقد وردت العبارة‬
‫لمة‬‫المعروفة بشأنهم في أغلب المصادر السلمية التي وصفتهم قائلة‪» :‬الملك جسم نوري‪ .«...‬أّما المرحوم الع ّ‬
‫ن الملئكة هم أجسام لطيفة‬ ‫المجلسي فقد قال‪» :‬ترى المامية بل جميع المسلمين سوى طائفة قليلة من الفلسفة أ ّ‬
‫ن النبياء والوصياء العصومين كانوا يرونهم«)‪ .(1‬وبعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫ن‬ ‫نورانية ولها أن تأتي بأشكال مختلفة‪ ...‬وا ّ‬
‫ن الملئكة‬‫الملئكة أجسام نورية والجن أجسام نارية والنس أجسام كثيفة‪ .‬اّما ما عليه جمع من الفلسفة فهو أ ّ‬
‫ن لهم أوصاف ل يستوعبها الجسم‪ .‬وقد نقل المرحوم »الشارح الخوئي« في‬ ‫مجردون من الجسم والجسمانيات وأ ّ‬
‫ن أصحاب هذه القوال هم قلة قليلة جدًا‪.‬‬ ‫لأّ‬ ‫»منهاج البراعة« عّدة أقوال بهذا الخصوص بلغت ستة أقوال‪ ،‬إ ّ‬

‫ن وجود الملئكة ـ ول سيما باللتفات إلى تلك الصفات والمقامات والعمال التي ذكرها القرآن ـ لمن‬‫لشك أ ّ‬
‫ل من خلل الدلة النقلية‪.‬‬
‫لمور الغيبية التي ل يمكن إثباتها وبتلك الخصائص والصفات إ ّ‬
‫اُ‬
‫فالقرآن يصف خصائصهم على أّنهم‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ موجودات عاقلة ذات شعور‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ل يعصون ال وهم بأمره يعملون‪.‬‬

‫ن ال قد أوكل لهم عّدة وظائف ومهام‪ .‬فمنهم حملة العرش‪ ،‬ومدبرات المر‪ ،‬والمأمورة بقبض الرواح‪،‬‬ ‫‪3‬ـإّ‬
‫حفظة أعمال البشر‪ ،‬حفظة النسان من المهالك والخطار‪ ،‬المدد اللهي لنصرة المؤمنين في المعارك‪ ،‬عذاب‬
‫القوام الظالمة والطاغية ومبلغي الوحي إلى النبياء‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ اختلف مقامات الملئكة وتفاوتهم في الدرجات‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ المداومة على تسبيح ال وتقديسه وتمجيده‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ تمثلهم أحيانًا بهيئة البشر وما شاكل ذلك للنبياء وبعض العباد الصالحين كمريم)عليها السلم(‪.‬‬

‫وما إلى ذلك من أوصاف يتعذر إحصائها في هذا البحث‪ .‬وبحث ماهية الملئكة في أّنها‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪) 202 / 56‬باب حقيقة الملئكة(‪.‬‬

‫] ‪[ 104‬‬

‫ن ظاهر اليات والروايات ـ إذا لم نطرح لها توجيها‬ ‫لأّ‬ ‫مجردة عن الجسم أو غير مجردة ليس من ورائه طائل‪ ،‬إ ّ‬
‫ن الملئكة ليس من قبيل المواد الكثيفة والعناصر الخشنة‪ ،‬مع ذلك فهم ليسوا مجردات‬ ‫وتفسيرًا خاصًا ـ هو أ ّ‬
‫لخرى الملزمة للجسام‬ ‫مطلقة‪ ،‬لتضافر الروايات واليات التي صّرحت بعروض الزمان والمكان والوصاف ا ُ‬
‫عليهم‪ .‬وهذا ما تؤكده عبارات المام)عليه السلم( في هذا القسم من خطبته وكذلك ما ورد في خطبته المعروفة‬
‫لمور التي أكد عليها القرآن الكريم‪،‬‬ ‫ن اليمان بالملئكة على نحو الجمال لمن ا ُ‬ ‫بالشباح‪ .‬ولكن على كل حال فا ّ‬
‫ن ِبا ّ‬
‫ل‬ ‫ل آَم َ‬
‫ن ُك ّ‬
‫ن َرّبِه َوالُمْؤِمُنو َ‬
‫ل ِإَلْيِه ِم ْ‬
‫ل ِبما ُأْنِز َ‬
‫سو ُ‬
‫ن الّر ُ‬
‫فقد ورد في الية ‪ 285‬من سورة البقرة قوله تعالى‪) :‬آَم َ‬
‫سِلِه(‪(1).‬‬
‫ن ُر ُ‬
‫حد ِم ْ‬
‫ن َأ َ‬
‫ق َبْي َ‬
‫سِلِه ل ُنَفّر ُ‬
‫َوَملِئَكِتِه َوُكُتِبِه َوُر ُ‬

‫لولئك الذين ينكرون عوالم الغيب فقد عمدوا إلى تفسير‬


‫ن بعض المغفلين وارضاًء ُ‬ ‫الجدير بالذكر هنا هو أ ّ‬
‫ن أدنى تأمل‬
‫الملئكة بالقوى والطاقات التي تختزنها الطبيعة النسانية وسائر الموجودات والكائنات‪ ،‬والحال أ ّ‬
‫ونظرة إجمالية لليات القرآنية تفيد رفض هذه الفكرة تمامًا; كيف ل وقد ثبتت بعض الصفات للملئكة من قبيل‬
‫العقل والشعور واليمان والخلص والعصمة‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ 2‬ـ أصناف الملئكة‬

‫الملئكة على أصناف وأقسام عديدة على ضوء ما أشارت اليات والروايات‪ ،‬وقد وردت في هذه الخطبة‬
‫الصناف الربعة الرئيسية منهم »أرباب العبادة والسفراء وحفظة العباد كالكرام الكاتبين ومنهم سدنة الجنان‬
‫لخرى من الملئكة‪،‬‬ ‫ن اليات القرآنية قد أشارت إلى الصناف ا ُ‬ ‫وحملة العرش«‪ .‬ولكن وكما ذكرنا سابقًا فا ّ‬
‫ومنهم الموكلون بعذاب المّم الطاغية الظالمة‪ ،‬والموكلون بالمدادات الغيبية ونصرة المؤمنين ومدبرات المر‬
‫وقبضة الرواح‪ ،‬غير أّنه يمكن اختصار جميع هذه الطوائف في مدبرات المر التي تتولى إدارة شؤون‬

‫‪ .1‬سورة بقرة ‪.285 /‬‬


‫] ‪[ 105‬‬

‫العالم‪ .‬فقد اقتضت السنة اللهية وجرت بغية اظهار قدرته وعظمته وتحقق أهدافه وأغراضه أن تسند إدارة‬
‫شؤون العالم إلى الملئكة المأتمرين بأوامر ال والبعيدين كل البعد عن الوهن والضعف والفتور والسهو والنسيان‬
‫والتباطؤ في الطاعة ولكل صنف من أصناف الملئكة وظيفته المختصة به‪.‬‬

‫ن النسان إذا تأمل أقسام وأصناف الملئكة وسعة وعظمة الوظائف الموكلة إليها يشعر بالتصاغر‬ ‫والحق أ ّ‬
‫والحقارة ويتساءل من أكون في خضم هذا العالم الواسع المليء بعمال ال وجنوده الذين ل يفترون عن عبادته‬
‫وطاعته وامتثال أوامره؟ واين تكون عبادتي وطاعتي من هذه العبادة والطاعة التي تؤديها الملئكة؟ وما قيمة‬
‫قوتي وقدرتي مقارنة بقوة الملئكة وقدرتها؟ والخلصة فانه يقف على عظمة هذا العالم والعظم منه خالقه من‬
‫جانب وحقارته ودنو موضعه من جانب آخر‪ ،‬وهذه إحدى حكم وفلسفة وجود الملئكة‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ 3‬ـ العرش وحملته‬

‫لقد أشارت اليات القرآنية عشرين مرة إلى العرش اللهي‪ ،‬كما كثرت البحاث التي تضمنتها الروايات السلمية‬
‫ن عظمة العرش متعذرة على التصور البشري‪ ،‬حتى قيل‬ ‫الواردة بهذا الشأن‪ ،‬وعلى ضوء بعض هذه الروايات فا ّ‬
‫ل حلقة في صحراء عظيمة‪.‬‬‫بهذا الخصوص‪ :‬ما السموات والرضين وما فيها مقابل العرش إ ّ‬

‫ن أسرعوا في تحليقهم إلى‬


‫ن أعظم ملئكة ال يعجزون عن بلوغ ساق العرش وا ّ‬
‫كما صّرحت بعض الروايات بأ ّ‬
‫ن ال خلق للعرش ألف لسان وضمنه صورة جميع مخلوقاته في الصحاري‬ ‫يوم القيامة‪ .‬كا جاء في الخبر أ ّ‬
‫والبحار‪.‬‬

‫ن ال حين خلق العرش‪ ،‬أمر الملئكة بحمله‪ ،‬فما استطاعوا أن يحملوه‪ ،‬فخلق ملئكة‪ ،‬فعجزوا عن‬ ‫كما روي أ ّ‬
‫حمله‪ ،‬فحمله ال بقدرته‪ ،‬ثم أمر سبحانه ثمان من الملئكة المأمورين بحمل العرش أن احملوه‪.‬‬

‫فقالوا‪ :‬وهل يسعنا حمله وقد عجزت الملئكة‪ .‬فأمروا بذكر ال والقول »لحول ول قّوة‬

‫] ‪[ 106‬‬

‫ل بال العلي العظيم« والصلوات على محمد وآله‪ ،‬فلما فعلوا سهل عليهم حمله‪(1).‬‬
‫إّ‬

‫لمور التي كثر البحث فيها بين‬


‫وتشير كل هذه الكنايات إلى عظمة عرشه سبحانه‪ ،‬أّما ماهية العرش‪ ،‬فهى من ا ُ‬
‫العلماء‪ ،‬ونرى ان الستغراق في شرح هذا المر إّنما يبعدنا عن الهدف الصلي‪ ،‬ولذلك نكتفي بإشارة مختصرة‬
‫إلى هذا الموضوع‪:‬‬

‫فقد كان للملوك والسلطين عرشان‪ ،‬أحدهما منخفض يعتلونه في اليام العتيادية ويسيرون شؤون الحكم ودفة‬
‫ُامور البلد‪ ،‬وآخر مرتفع يرتقونه في اليام الخاصة والمرام المهمة والكبيرة‪ .‬وقد اصطلحت الداب العربية على‬
‫الول بالكرسي والثاني بالعرش‪ ،‬وقد درجت هذه الداب على التعبير بالعرش كناية عن القدرة والسلطة وإن‬
‫افتقر العرش للدعامات المرتفعة‪ ،‬كما هناك المعنى الكنائي الخر الذي يشير إلى فقدان السلطة والذي جسدته‬
‫العبارة المشهورة »ثل عرشه«‪ .‬ول هذان العرشان في المرة والحكومة كونه سلطان عالم الوجود )وبالطبع لما‬
‫كان ال ليس بجسم ول في زمرة الجسمانيات فالمفهوم الكنائي هو المراد هنا من العرش والكرسي(‪.‬‬

‫على كل حال يبرز هذا السؤال‪ :‬ما كنه هذا العرش اللهي؟ ومن التفاسير التي يمكن ايرادها بهذا الشأن هو أنّ‬
‫عالم المادة والسموات والرضين والمنظومات والمجرات كلها بمثابة الكرسي وعرشه المنخفض كما أشار إلى‬
‫ض(‪ ،‬والمراد بالعرش هو العالم الكامن وراء عالم المادة‬
‫لْر َ‬
‫ت َوا َ‬
‫سمـوا ِ‬
‫سـّيُه ال ّ‬
‫سَع ُكْر ِ‬
‫ذلك القرآن الكريم بقوله‪َ) :‬و ِ‬
‫)المادة الكثيفة والغليظة(‪ ،‬التي ل تحيط بعالم المادة فحسب‪ ،‬بل ليس عالم المادة أمامه سوى مقدار تافه ل أهميه‬
‫له‪ .‬اّما حملة العرش فمما لشك فيه انهم ليسوا ملئكة غلظ الهيكل وأقوياء الجسم والبنية بحيث يحملون على‬
‫ن للعرش ـ كما أشرنا سابقًا ـ معنى كنائي والقرائن العقلية‬
‫أكتافهم دعائم العرش الذي استوى عليه الرحمن; ل ّ‬
‫التي تفيد تنزه ال عن الجسم والجسمانية إّنما تؤيد صحة هذا المعنى‪ ،‬وعليه فحملة العرش ملئكة عظام ذوي‬
‫مقامات رفيعة وليس لهم من شبيه أو نظير ولهم تدبير عالم ما وراء الطبيعة وتنفيذ أوامره سبحانه في كل مكان‪،‬‬
‫اّما التعبيرات‬

‫لمة المجلسي الروايات المرتبطة بالعرش والكرسي في‬


‫‪ .1‬منهاج البراعة في شرح نهج البلغة ‪ 32 / 2‬ـ ‪ ،35‬وقد أورد المرحوم الع ّ‬
‫المجلد ‪ 55‬من بحار النوار‪ ،‬ومنها الروايات السابقة في ص ‪ 17 ،5‬و ‪.55‬‬

‫] ‪[ 107‬‬

‫التي ساقها المام في أوصافهم بقوله »الثابتة في الرضين السفلى أقدامهم‪ ،‬والمارقة من السماء العليا أعناقهم‪،‬‬
‫والخارجة من القطار أركانهم‪ ،‬والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم« فكل هذه تفيد مدى قدرتهم في تدبير شؤون‬
‫ل أّنه يتعذر علينا ذلك الحمل ول‬ ‫العالم‪ .‬طبعًا يجب علينا أن نحمل اللفاظ أينما وردت على معانيها الحقيقية‪ ،‬إ ّ‬
‫ق َأْيِديِهْم( إذا كانت هناك‬ ‫ل َفْو َ‬
‫يبقى أمامنا سوى المعنى الكنائي كالذي أوردناه بشأن الية القرآنية المباركة )َيُد ا ّ‬
‫لمور بالستناد إلى قوتهم وقدرتهم‪ ،‬بل بحول‬ ‫القرائن العقلية المسلمة‪ .‬نعم لقد نهض هؤلء الملئكة بالقيام بهذه ا ُ‬
‫ال وقوته‪ ،‬كما ينهمكون بالتسبيح والتقديس وعدم الفتور عن ذكر ال‪ ،‬وهذا ما صورته الية السابعة من سورة‬
‫حو َ‬
‫ن‬ ‫سّب ُ‬
‫حْوَلُه ُي َ‬
‫ن َ‬
‫ش َوَم ْ‬
‫ن الَعْر َ‬‫حِمُلو َ‬
‫ن َي ْ‬
‫المؤمن التي أكدت إلى جانب ذلك على دعائهم واستغفارهم للمؤمنين )اّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا(‪.‬‬
‫ن ِلّلِذي َ‬
‫سَتْغِفُرو َ‬
‫ن ِبِه َوَي ْ‬
‫حْمِد َرّبِهْم َوُيـْؤِمُنو َ‬
‫ِب َ‬

‫—–‬

‫‪ 4‬ـ عصمة الملئكة‬

‫يتمتع الملئكة بصفات جّمة وقد تكفلت عباراته المذكورة )الواردة بشأن الطائفة من الملئكة المشغولة بالعبادة(‬
‫ببيان بعض هذه الصفات‪» :‬ل يغشاهم نوم العيون‪ ،‬ول سهو العقول‪ ،‬ول فترة البدان«‪ .‬كما أشار القرآن إلى‬
‫ن()‪ ،(1‬ووصف الموكلين‬ ‫سِبُقوَنُه ِبالَقْولِ َوُهْم ِبَأْمِرهِ َيْعَمُلو َ‬
‫ن * لَي ْ‬
‫عباٌد ُمْكَرُمو َ‬
‫ل ِ‬
‫تنزههم عن الذنوب والمعاصي )َب ْ‬
‫ل ما َأَمَرُهْم()‪.(2‬‬
‫نا ّ‬
‫صو َ‬
‫بالعذاب منهم )ل َيْع ُ‬

‫ن هذا التصور ل يبدو صحيحًا;‬ ‫لأّ‬ ‫طبعًا يتصور البعض أّنه ليس هنالك من مفهوم لعصمة الملئكة من عدمها‪ ،‬إ ّ‬
‫ن الملئكة ل تنطوي على دوافع الذنب والمعصية من قبيل الشهوة والغضب )أو أّنها ضعيفة جدًا فيهم(‪،‬‬ ‫صحيح أ ّ‬
‫ن اليات القرآنية‬
‫ولكن ل ينبغي الغفلة عن أّنهم فاعلون ومختارون ولهم القدرة على ارتكاب المخالفة‪ ،‬بل إ ّ‬
‫تصرح بمدى خشيتهم من‬

‫‪ .1‬سورة النبياء ‪ 26 /‬ـ ‪.27‬‬

‫‪ .2‬سورة التحريم ‪.6 /‬‬

‫] ‪[ 108‬‬

‫ن()‪ ،(1‬فالية الشريفة تكشف عن عصمتهم وطهارتهم من المعاصي في‬ ‫شِفُقو َ‬


‫شَيِتِه ُم ْ‬
‫خْ‬‫ن َ‬
‫العقاب اللهي )َوُهْم ِم ْ‬
‫ذات الوقت الذي يسعهم ارتكابها‪ .‬ومن هنا تتضح مغازي بعض الروايات التي صّرحت بتباطؤ بعض الملئكة‬
‫في امتثال أوامر الحق وعقابهم على هذا التباطؤ بصفته يمثل ترك الولى الذي يصدق على النبياء‪ ،‬ونعلم جميعًا‬
‫ل أّنه يعتبر ترك الولى مقارنة بعمل يفوقه‪ ،‬ونوكل‬
‫ل مستحبًا‪ ،‬إ ّ‬
‫ن ترك الولى ل يعّد ذنبًا قط‪ ،‬بل قد يكون عم ً‬ ‫بأ ّ‬
‫الخوض في تفاصيل هذا الموضوع إلى أبحاثه المختصة به‪.‬‬
‫—–‬

‫‪ 5‬ـ مقام معرفة حملة العرش‬

‫ن العامل الذي جعل حملة العرش مؤهلين للقيام بهذه المسؤولية الخطيرة ل‬ ‫يفهم من العبارات الواردة بهذا الشأن أ ّ‬
‫يقتصر على قوتهم وقدرتهم‪ ،‬بل يمتد ذلك إلى سعة وسمو مستوى معرفتهم بال تبارك وتعالى‪ .‬فقد بلغوا أعظم‬
‫مقامات التوحيد ونفي كافة أشكال الشرك والشبيه والمثيل للحق تعالى‪ ،‬ومن هنا استحقوا أهلية تحمل تلك المهّمة‬
‫العظيمة; المر الذي يعتبر درسًا لبّد أن يتعلمه العباد وذوي المعرفة بال‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة النبياء ‪.28 /‬‬

‫] ‪[ 109‬‬

‫القسم التاسع‬

‫طها ِباْلَبّلِة‬ ‫ت‪َ ،‬ول َ‬ ‫ص ْ‬‫خَل َ‬‫حّتى َ‬ ‫سّنها ِباْلماِء َ‬‫خها‪ُ ،‬تْرَبًة َ‬ ‫سَب ِ‬‫عْذِبها َو َ‬ ‫سْهِلها‪َ ،‬و َ‬ ‫ض َو َ‬ ‫ن اَْلْر ِ‬ ‫حْز ِ‬‫ن َ‬‫سْبحاَنُه ِم ْ‬ ‫جَمَع ُ‬ ‫»ُثّم َ‬
‫حّتى‬ ‫صَلَدها َ‬ ‫ت‪َ ،‬وَأ ْ‬‫سَك ْ‬‫سَتْم َ‬‫حّتى ا ْ‬ ‫جَمَدها َ‬ ‫صول‪َ ،‬أ ْ‬ ‫عضاء َوُف ُ‬ ‫صول‪َ ،‬وَأ ْ‬ ‫حناء َوُو ُ‬ ‫ت َأ ْ‬
‫صوَرًة ذا َ‬ ‫جَبَل ِمْنها ُ‬ ‫ت َف َ‬‫حّتى َلَزَب ْ‬ ‫َ‬
‫ف ِبها‪،‬‬ ‫صّر ُ‬ ‫جيُلها‪َ ،‬وِفَكر َيَت َ‬ ‫ت ِإْنسانًا ذا َأْذهان ُي ِ‬ ‫حِه‪َ ،‬فَمُثَل ْ‬‫ن ُرو ِ‬ ‫خ ِفيها ِم ْ‬‫ت ِلَوْقت َمْعُدود‪َ ،‬وَأَمد َمْعُلوم‪ُ ،‬ثّم َنَف َ‬ ‫صَل ْ‬
‫صْل َ‬ ‫َ‬
‫س‪،‬‬‫جنا ِ‬ ‫ن َواَْل ْ‬‫ق َواْلَمشاّم َواَْلْلوا ِ‬ ‫ق َواْلباطِِل َواَْلْذوا ِ‬ ‫حّ‬‫ن اْل َ‬‫ق ِبها َبْي َ‬ ‫خَتِدُمها َوَأَدوات ُيَقّلُبها َوَمْعِرَفة َيْفُر ُ‬ ‫ح َي ْ‬‫جواِر َ‬ ‫َو َ‬
‫حّر َواْلَبْرِد‬ ‫ن اْل َ‬
‫ط اْلُمَتباِيَنِة ِم َ‬
‫خل ِ‬
‫ضداِد اْلُمَتعاِدَيِة‪َ ،‬واَْل ْ‬ ‫شباِه اْلُمْؤَتِلَفِة َواَْل ْ‬‫خَتِلَفِة‪َ ،‬واَْل ْ‬
‫ن اْلُم ْ‬
‫طيَنِة اَْلْلوا ِ‬‫جونًا ِب ِ‬‫َمْع ُ‬
‫جُموِد«‪.‬‬ ‫َواْلَبّلِة َواْل ُ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫خلق آدم)عليه السلم(‬

‫بعد الشارات البليغة التي وردت في القسام السابقة من هذه الخطبة العميقة المضامين بشأن خلق العالم‬
‫والسموات والرض تناولت خطبة المام)عليه السلم( هنا خلق العالم والسموات ثم عرجت هنا إلى سائر‬
‫مخلوقات هذا العالم ومن بينها خلق النسان ومراحله المختلفة والتي قسمها)عليه السلم(إلىخمس مراحل تكتنف‬
‫تمام مسيرة حياته وهى‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ خلقة آدم من ناحية الجسم والروح )يعني في مرحلتين(‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ سجود الملئكة لدم وتمرد ابليس‪.‬‬


‫‪ 3‬ـ إسكان آدم الجّنة ثم بيان ترك الولى الذي صدر من آدم)عليه السلم( وندمه وتوبته وأخيرًا قبول توبته‬
‫واخراجه من الجّنة والهبوط إلى الرض‪.‬‬

‫] ‪[ 110‬‬

‫‪ 4‬ـ لقد أصبح لدم ذرية ثم تكاثرت هذه الذرية فكونت المجتمعات البشرية ثم بعث ال أنبيائه)عليهم السلم( بكتبه‬
‫السماوية المقدسة من أجل هداية الناس وتنظيم شؤون المجتمعات البشرية والخذ بأيديها إلى حيث السمو الروحي‬
‫والرفعة والكمال‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ المجتمعات البشرية من جانبها خطت خطوات عريضة نحو التكامل حتى تأهلت لتقبل الدين الخاتم حيث‬
‫اصطفى ال رسوله محمد)صلى ال عليه وآله( فبعثه بالقرآن الكريم لهداية النسانية وانقاذها من خلل اطروحته‬
‫التي تتضمن السعادة والفلح‪ ،‬ثم تحدث المام)عليه السلم(عن القرآن‪.‬‬

‫مراحل خلقة آدم)عليه السلم( من الناحية الجسمية والروحية‬

‫قال المام)عليه السلم(بشأن خلق جسم آدم)عليه السلم(‪» :‬ثم جمع سبحانه من حزن)‪ (1‬الرض وسهلها‬
‫وعذبها)‪ (2‬وسبخها)‪ (3‬تربة«‪ .‬فالعبارة تشير إلى خلق النسان من التراب من جهة‪ ،‬كما تشير من جهة ُاخرى أن‬
‫ذلك التراب مركب من جميع المواد المختلفة على وجه الرض لتنطوي على مختلف الستعدادات وتشمل‬
‫التنوعات والتقلبات التي تحتاجها المجتمعات البشرية في مختلف مجالت حياتها‪ ،‬ثم أشارت إلى مادة ُاخرى هى‬
‫الماء والتي اختلطت بالتراب فقال)عليه السلم( بهذا الشأن »سنها)‪ (4‬بالماء حتى خلصت ولطها)‪ (5‬بالبلة حتى‬
‫لزبت)‪.«(6‬‬

‫ن دور الماء هو خلط تلك الجزاء المختلفة مع بعضها وتخليصها من شوائبها وارساء الوشيجة والرابطة‬ ‫فالواقع أ ّ‬
‫بين هذه الجزاء‪ .‬ثم أشار)عليه السلم( إلى مسألة تبلور خلقة النسان من ذلك التراب والطين فقال)عليه السلم(‪:‬‬
‫»فجبل منها صورة ذات أحناء)‪ (7‬ووصول وأعضاء وفصول«‪ .‬في الواقع »أحنا« جمع »حنو« إشارة إلى‬
‫انحناءات البدن من قبيل انحناء الضلع‬

‫حَزن على الهم والغم‪ ،‬لنه نوع وعورة‬


‫حزن أو ال َ‬
‫‪» .1‬حْزن« على وزن »وزن« بمعنى المواضع الوعرة على الرض‪ ،‬كما يطلق ال ُ‬
‫في روح النسان‪.‬‬

‫‪» .2‬عذب« على وزن »جذب« بمعنى الماء الطاهر والحلو الصالح للشرب‪.‬‬

‫‪» .3‬سبخ« وجمعها سباخ بمعنى ما ملح من الرض‪.‬‬

‫ن« من مادة »سن« على وزن ظن بمعنى صب الماء على شيء‪ ،‬كما تأتي بمعنى نعومة الشيء‪.‬‬
‫‪» .4‬س ّ‬

‫‪» .5‬لط« من مادة »لوط« على وزن صوت بمعنى خلط الشيء وعجنه‪.‬‬

‫‪» .6‬لزبت« من مادة »لزوب« على وزن سكوت بمعنى التصق وثبت واشتد‪.‬‬

‫‪» .7‬أحنا« جمع »حنو« على وزن حرص بمعنى النحناء والجوانب والطراف‪.‬‬

‫] ‪[ 111‬‬

‫والفك العلوي والسفلي وراحة القدم بحيث يتكيف البدن للقيام بمختلف العمال والفعاليات‪ ،‬وذلك لتعذر قيامه بمثل‬
‫هذه الفعال التي يمارسها اليوم لو كان البدن على هيئة جسم هندسي مكعب أو ما شابه ذلك‪ .‬أّما العبارة‬
‫»وأعضاء وفصول« فهى تشير إلى العضاء المختلفة التي ترتبط مع بعضها من خلل المفاصل; المر الذي‬
‫أكسب البدن القدرة العملية على ممارسة مختلف النشطة فلو كانت يد النسان على سبيل المثال مستوية ذات‬
‫ن البارئ سبحانه جعلها عّدة‬
‫عضو واحد وعظم واحدل تقوى على أداء الفعاليات التي تؤديها الن‪ ،‬بينما نعلم أ ّ‬
‫عظام وغضاريف وعّدة أعضاء متصلة مع بعضها البعض الخر; المر الذي جعل كل اصبع بل كل سلمية من‬
‫أصابعه واضافة لليد تتمتع بعملية خاصة وهذه بدورها تعّد آية من آيات حكمته وعظمته سبحانه‪ .‬ثم أشار‬
‫المام)عليه السلم( إلى مرحلة لحقة فقال‪» :‬اجمدها حتى استمسكت واصلدها)‪ (1‬حتى صلصلت)‪ «(2‬وبذلك فقد‬
‫أعد النسان إعدادًا تامًا من الناحة البدنية بحيث يسير إلى الغاية المعينة المرسومة له »لوقت معدود وأجل معلوم)‬
‫‪ .«(3‬فقد روي في بعض الروايات عن المام الباقر)عليه السلم( أن هذه الحالة دامت أربعين سنة‪ ،‬فكان جسد‬
‫آدم ملقى في موضع والملئكة تمر به وتقول لي أمر خلقت؟)‪(4‬‬

‫ولعل هذه المّدة الزمانية ـ كما صّرح بذلك بعض المحققين ـ كانت اختبارًا للملئكة أو إرشادًا وتعليمًا للناس‬
‫لمور وعدم الستعجال فيها‪ .‬وهنا جاءت المرحلة الثانية; مرحلة نفخ الروح في الجسد ليتحول إلى‬ ‫بالتأني في ا ُ‬
‫هذه الطبيعة النسانية التي زود فيها النسان بقوى العقل والدراك التي تسوقه لممارسة العمال‪» :‬ثم نفخ فيها‬
‫من روحه فمثلت)‪ (5‬إنسانًا ذا أذهان يجيلها«)‪ .(6‬العبارة »ذا أذهان يجيلها« إشارة إلى مختلف القوى العقلية‬
‫والذهنية التي‬

‫‪» .1‬أصلد« من مادة »صلد« على وزن صبر بمعنى أحكم وجعل الشيء صلبًا أصلتًا‪.‬‬

‫‪» .2‬صلصل« من مادة »صلصلة« بمعنى اليبوسة والجفاف بحيث تخرج منها الصوات بمجّرد ملمستها لشيء‪ ،‬كما وردت بمعنى‬
‫الجاف والمحكم‪.‬‬

‫ن هذا‬
‫ن المراد بهذه العبارة هو أ ّ‬
‫‪ .3‬اللم في »لوقت معدود« بمعنى إلى‪ .‬ذهب البعض إلى أّنها لم التعليل‪ ،‬بينما احتمل البعض أ ّ‬
‫ن هذا الحتمال يبدو مستبعدًا للغاية‪ ،‬لّنه من المراحل‬
‫الوضع سيستمر إلى قيام الساعة ثم تتفكك بعد ذلك أعضاء البدن تمامًا‪ ،‬إّل ا ّ‬
‫المختلفة لخلق النسان ولم تطرح لحد الن قضية نفخ الروح‪.‬‬

‫‪» .4‬فبقى أربعين سنة ملقى تمر به الملئكة فتقول لمر ما خلقت؟«‪ .‬منهاج البراعة ‪.44 / 2‬‬

‫‪» .5‬مثلت« من مادة »مثول« على وزن حصول بمعنى استوت وقامت‪.‬‬

‫‪» .6‬يجيل« من مادة »اجالة« )مصدر باب أفعال من جول وجولن بمعنى يدور(‪.‬‬

‫] ‪[ 112‬‬

‫ل منها في مجال من مجالت حياته بحيث يلئم بينها جميعًا في مسيرته نحو الهدف‬ ‫زود بها النسان ويوظف ك ً‬
‫المنشود )والقوى المذكورة عبارة عن قوة الدراك وقوة الحفظ وقوة الخيال و‪ .(...‬وهنا لبّد من اللتفات إلى أنّ‬
‫الذهن في الصل يعني القوة‪ ،‬ثم استعمل بمعنى العقل والفهم والدراية وسائر القوى العقلنية‪ ،‬فالعبارة تشير إلى‬
‫ن المام)عليه السلم(قد عنى مختلف هذه القوى معتبرًا كل واحدة منها نعمة وعناية من العنايات اللهية ثم‬ ‫أّ‬
‫ن هذا التعبير من قبيل العطف التفسيري والتعبير‬ ‫قال)عليه السلم(‪» :‬وفكر يتصرف بها«‪ .‬قد يتصور أحيانًا أ ّ‬
‫ن كل عبارة من العبارتين تشير إلى حقيقة‪ :‬فالعبارة »ذا أذهان‬ ‫ن الظاهر هو أ ّ‬‫الخر لمفهوم العبارة السابقة‪ ،‬غير أ ّ‬
‫يجيلها« إشارة إلى مراحل المعرفة والتصور والتصديق وفهم وإدراك الحقائق‪ ،‬وأّما العبارة »وفكر يتصرف‬
‫بها« فهى إشارة إلى الفكار التي تخضع لمرحلة التطبيق ويتصرف النسان بواسطتها في مختلف الشياء )لبّد‬
‫ن الفكر في الصل يعني الحركة الفكرية وتوظيف الذهن(‪ .‬على كل حال فقد جاءت مفردة‬ ‫من اللتفات هنا إلى أ ّ‬
‫»فكر« بصيغة الجمع )كالذهان بصيغة الجمع( لتفيدان القوى العقلية والفكار النسانية كثيرة للغاية ومتنوعة‪،‬‬
‫وهذه نقطة مهّمة أكدها كبار الفلسفة والمفكرين وعلماء النفس‪ ،‬وإليها تعزى الفوارق في الستعدادات الفكرية‬
‫لفراد البشرية‪ .‬فربما كان هناك الفراد القوى في قسم منها وأضعف في القسم الخر بينما هنالك العكس‪،‬‬
‫فالمسألة تنطوي على أسرار ورموز عجيبة للغاية‪ ،‬وكلما غاص النسان في كنهها تعرف أكثر على عظمة الحق‬
‫خالق هذه القوى الذهنية والفكرية‪ .‬ثم يتطرق)عليه السلم( بعد ذلك إلى شيئين يسهمان في ايصال النسان إلى‬
‫هدفه المطلوب وهما الجوارح والدوات التي زوده بها ال سبحانه لتسه له تحقيق ما يصبو إليه »وجوارح‬
‫يختدمها)‪ (1‬وأدوات يقلبها«‪ .‬فالواقع هو أّنه يجتاز أربع مراحل لبلوغ الهدف‪ :‬تمثلت المرحلة الولى بالمعرفة‬
‫والدراك والتصور والتصديق ومرحلة الفكر ومن ثم ائتمار العضاء والجوارح‪ ،‬وأخيرًا الستعانة بالدوات‬
‫ن كل مرحلة من هذه‬ ‫المختلفة التي خلقها ال في هذا العالم حين ل تجدي العضاء والجوارح بمفردها نفعًا‪ ،‬كما أ ّ‬
‫المراحل الربع متنوعة تتفرع منها عّدة فروع‪ .‬ولما‬
‫‪» .1‬يختدم« من مادة »اختدام« بمعنى الستخدام‪.‬‬

‫] ‪[ 113‬‬

‫كان بلوغ الهداف المرسومة يتطلب تشخيصًا وتمييزًا للحق من الباطل والصواب من عدمه وكافة المحسوسات‬
‫المختلفة‪ ،‬فاّنه يتحدث عن إحدى قوى النفس المهّمة والتي تعتبر في الواقع المرحلة الخامسة‪ ،‬أل وهى قوة التمييز‬
‫ول يراد بها سوى المعرفة »ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل«‪ .‬كما يتمكن بواسطة هذه القوة من تمييز‬
‫المحسوسات من قبيل الطعمة والذواق و‪» ...‬والذواق والمشام واللوان والجناس«)‪ .(1‬والواقع ان قدرة‬
‫لمور المعنوية كالحق والباطل كما تشمل‬ ‫التمييز والتشخيص والمعرفة لمن أهم قوى النسان العقلية التي تشمل ا ُ‬
‫لمور المادية المحسوسة كاللوان والمشام والذواق‪ .‬فهل قّوة التمييز هذه هى قوة مستقلة‪ ،‬أم داخلة في مفهوم‬ ‫اُ‬
‫ن الحديث تطرق‬ ‫الذهن والفكر في العبارة السابقة؟ يبدو من كلمه)عليه السلم( أّنها قّوة مستقلة‪ ،‬جدير بالذكر أ ّ‬
‫لمور المادية والمحسوسة وهى‪ :‬الذواق‪ ،‬المشام‪ ،‬اللوان والجناس التي تشير هنا إلى‬ ‫لربعة أصناف من ا ُ‬
‫مختلف أنواع الموجودات)‪ .(2‬من قبيل مختلف أنواع النباتات‪ ،‬الطيور والحيوانات وما إلى ذلك‪ ،‬اّما عدم الشارة‬
‫إلى المسموعات )الصوات( والملموسات فلن بيان القسام الثلث كان على نحو المثال‪ ،‬فذهن كل مستمع‬
‫سينتقل إلى بقية ذلك من خلل القسام الثلث المذكورة‪ .‬ثم ينتقل المام علي)عليه السلم(ليشير إلى أهّم‬
‫خصائص النسان التي تشكل المصدر الرئيسي لغلب ظواهر حياته فيقول‪» :‬معجونًا)‪ (3‬بطينة اللوان‬
‫المختلفة«‪ .‬ولعل هذه العبارة إشارة إلى اختلف ألوان الناس وأعراقهم المتفاوتة‪ ،‬أو اختلف لون أجزاء البدن‬
‫ن بعضها تام البياض )كبياض العين والعظام( والخر تام السواد )كالشعر( وسائر اللوان التي يكسبه‬ ‫حيث إ ّ‬
‫ل خاصًا‪ ،‬كما يمكن أن يكون المراد بها معنى أوسع بحيث يشمل سائر الستعدادات والغرائز‬ ‫خلطها جما ً‬
‫ل‪» :‬والشباه المؤتلفة« من قبيل الوردة والشرايين والعصاب‬ ‫المختلفة‪ .‬ثم أضاف المام)عليه السلم(قائ ً‬

‫ن العبارة »والذواق والمشام واللوان والجناس« هى عطف على عبارة الحق والباطل‪ ،‬بينما عدها البعض عطفًا على المعرفة‪.‬‬ ‫‪ .1‬أ ّ‬
‫في حين يفيد التأمل في كلمه)عليه السلم( أن المعنى الول هو النسب‪ .‬وعلى ضوء المعنى الول فان قّوة التمييز المعرفة ستشمل‬
‫ن المعرفة تعّد من النعم اللهية‪ ،‬كما أن قّوة الشامة والباصرة والذائقة هى نعمة‬
‫كل هذه اُلمور‪ ،‬اّما على أساس المعنى الثاني فا ّ‬
‫ُاخرى )لبّد من التأمل هنا(‪.‬‬

‫‪» .2‬الجنس« في اللغة بمعنى القسام والنواع المختلفة‪ ،‬وهناك القرائن الواردة في خطب نهج البلغة التي تدل على هذا المعنى‬
‫ومنها الخطبة رقم ‪.91‬‬

‫‪» .3‬معجونًا« حال للنسان الذي ورد في العبارة السابقة‪.‬‬

‫] ‪[ 114‬‬

‫والعظام التي تشبه إلى حّد بعيد بضها البعض الخر‪ ،‬وفي نفس الوقت تقوم بعدة وظائف ومهام‪ .‬وأخيرًا قال)عليه‬
‫السلم(‪» :‬والضداد المتعادية والخلط المتباينة من الحر والبرد والبلة والجمود«)‪ .(1‬والعبارة إشارة إلى‬
‫الطبائع الرباعية المعروفة في الطب التقليدي‪ ،‬والطباء المعاصرون وأن تنكروا لهذه الطبائع لفظًا‪ ،‬غير أّنهم‬
‫اوردوها بتعابير ُاخرى من قبيل الستعاضة عن الحرارة والبرودة بارتفاع ضغط الدم وانخفاضه‪ ،‬كما‬
‫ل من البلة والجمود‪.‬‬
‫يصطلحون بزيادة ماء الجسم وقلته بد ً‬

‫ن ال سبحانه قد خلق‬ ‫على كل حال فان عبارات المام)عليه السلم( آنفة الذكر إّنما تشير إلى قضية مهّمة في أ ّ‬
‫ن هذه‬
‫جسم النسان )بل جسمه وروحه( مركبًا من مواد مختلفة وكيفيات متنوعة واستعدادات وغرائز متباينة‪ ،‬وأ ّ‬
‫الفوارق والتباينات شكلت أساس التفاوت في أساليب التفكير لدى أفراد الجنس البشري; المر الذي أدى في خاتمة‬
‫المطاف إلى تلبية مختلف حاجات الجماعات البشرية واشغال المناصب الجتماعية على ضوء تلك الستعدادات‬
‫لمور ويوضع كل شيء في موضعه فيتسق النظام العام‪ ،‬ول يسع المقام الخوض أكثر في تفاصيل‬ ‫بحيث تنتظم ا ُ‬
‫هذا الموضوع‪.‬‬

‫—–‬
‫تأّملت‬
‫‪ 1‬ـ خلق آدم)عليه السلم(‬

‫ن خلق آدم)عليه السلم( قد تّم بصورة مستقلة متكاملة‬‫نفهم من العبارات التي تضمنتها خطبة المام)عليه السلم( أ ّ‬
‫على هذه الصورة التي نحن عليها اليوم دون أن يطوي مراحل النشوء والرتقاء من الكائنات الحية المتسافلة;‬
‫المر الذي أكده القرآن كرارًا على لسان آياته الشريفة‪ .‬طبعًا كلنا نعلم بأن »القرآن الكريم« وكذلك »نهج‬
‫البلغة« ليسا من قبيل كتب العلوم الطبيعية‪ ،‬بل هما كتابان تكفل بهداية النسان وتهذيبه بالدرجة الساس إلى‬
‫جانب الشارة حسب المقام وما‬

‫‪ .1‬يمكن أن تكون جملة »من الحر والبرد« بيانًا للخلط المتباينة‪ ،‬أو للضداد والخلط معًا‪.‬‬

‫] ‪[ 115‬‬

‫يتناسب وأبحاثه العقائدية والتربوية إلى بعض مسائل العلوم الطبيعية‪ .‬اّما النظرية السائدة اليوم في الوساط‬
‫ن كافة أنواع الكائنات الحية‬
‫العلمية بشأن خلق النسان فهى نظرية »تكامل النواع«‪ .‬ويرى أنصار هذه النظرية أ ّ‬
‫لم تكن سابقًا كما هى عليه اليوم‪ ،‬بل كانت موجودات بسيطة أحادية الخلية ثم تكاملت بعد أن سبحت في مياه‬
‫المحيطات وغاصت في أعماق البحار لتتكامل تدريجيًا فتغيرت من نوع إلى آخر من خلل تغييرها لشكالها‬
‫فانتقلت من البحار إلى الصحارى‪ .‬والنسان هو أحد هذه الكائنات الذي قطع مسيرته التكاملية بعد أن اجتاز تلك‬
‫المرحلة التي كان فيها قردًا بشكل إنسان‪ ،‬وعليه فقد انحدر النسان من تلك الكائنات المتسافلة‪ .‬وبالطبع فان‬
‫أنصار هذه الفرضية قد انقسموا إلى عّدة طوائف‪ ،‬فمنها اتباع »لمارك« و»داروين« و»الداروينية الحديثة«‬
‫وطائفة »موتاسيون« )نظرية الطفرة( وما إلى ذلك من الطوائف التي تقدم كل منها أدلتها على صحة نظريتها‬
‫بهذا الشأن‪.‬‬

‫ن أنواع الكائنات الحية قد ظهر كل منها بصورة منفصلة‬‫ويقف مقابل هؤلء‪ ،‬أتباع ثبوت النواع حيث يقولون بأ ّ‬
‫منذ البداية بهذه الهيئة الحاضرة‪ ،‬كما أقاموا أدلتهم وبراهينهم التي تعرض بالنقد للدلة التي اعتمدتها نظرية‬
‫التطور والتكامل‪ ،‬ول يسعنا الخوض في تفاصيل هذه النظرية‪ .‬ونكتفي هنا بالشارة بصورة مقتضبة للمواضيع‬
‫التالية‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ يستفاد من القرآن الكريم وكذلك خطب نهج البلغة مسألة ثبوت النواع على القل بالنسبة للنسان‪ ،‬بينما لم‬
‫ن بعض أنصار فرضية التطور والتكامل التي تشمل‬ ‫ترد مثل هذه التصريحات بشأن سائر أنواع الكائنات ـ رغم أ ّ‬
‫النسان بشكل عام يصرون على توجيه اليات القرآنية وعبارات خطب نهج البلغة بحيث تنسجم ونظرية‬
‫ن المتتبع المحايد يذعن بأ ّ‬
‫ن‬ ‫لأّ‬
‫ن هذه اليات والخطب أدلة على مزاعمهم‪ .‬إ ّ‬ ‫النشوء والرتقاء‪ ،‬حتى ذهبوا إلى أ ّ‬
‫ل من خلله‪.‬‬‫هذه المزاعم تنطوي على تكلفات وحرج ل يمكن قبولها إ ّ‬

‫ن قضية التكامل والرتقاء أو ثبوت النواع ليست من قبيل القضايا التي يمكن إثباتها من خلل التجربة‬‫‪2‬ـإّ‬
‫ن جذورها قد امتدت لمليين السنين السابقة‪ ،‬وعليه فان كل ما يورده أنصارها‬
‫والدلة الحسية والعقلية‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫أو مخالفوها إّنما هى فرضيات وأدلتها ليست سوى‬

‫] ‪[ 116‬‬

‫أدلة ظنية‪ ،‬وبناًء على ماتقوم فانه يتعذر القول بنفي آيات خلقة النسان وعبارات نهج البلغة وفقًا لقوال هؤلء‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ التركيب المزدوج للجسم والروح‬


‫ن النسان خلق من عنصرين‪ :‬العنصر المادي‬ ‫يستفاد مّما مّر معنا في هذه الخطبة المسنجمة واليات القرآنية أ ّ‬
‫المركب من الماء والتراب )أبسط مواد العالم( والعنصر الخر هو الروح اللهية السامية‪ ،‬وهذا هو سر التضاد‬
‫الباطني للنسان حيث تتنازعه الدوافع التي‬

‫‪ .1‬راجع من أجل الوقوف بصورة أعمق كتاب »الداروينية وآخر فرضيات التكامل«‪ .‬كما استعرضنا ذلك بصورة مقتضبة في تفسيرنا‬
‫المثل ‪ / 11‬الية ذيل اليات ‪ 26‬حتى ‪ 44‬من سورة الحجر‪.‬‬

‫] ‪[ 117‬‬

‫تسوقه إلى العالم المادي وتلك التي تدفعه إلى العالم الملئكي‪ .‬فهو يتصف بالخلق والطبيعة الحيوانية من جانب‬
‫ويتحلى بالطبيعة الملكوتية والروحانية من جانب آخر‪ .‬ولهذا أيضًا فهو يتمتع بقوس صعودي ونزولي تكاملي‬
‫غاية في العظمة بحيث زود بالملكات والستعدادات التي تبلغ به في قوس الصعود درجة »أعلى عليين« بينما‬
‫يهبط في النزول والنحطاط إلى »أسفل السافلين« وليت هناك مثل هذه الميزة في الكائنات سوى للنسان ول‬
‫تمنح سوى للمطهرين من الفراد فتكسبهم قيمة ومنزلة رفيعة‪ ،‬ول غرو فقد تماسك وحفظ نفسه مقابل جميع‬
‫عوامل النحطاط وعناصر التسافل والنسياق نحو المادة والمادية وقد اجتاز كافة العقبات والمطبات‪ .‬ولعل‬
‫الملئكة عجزت عن إدراك ذلك المر قبل خلق آدم فظنت التكرار في هذا الخلق دون حصول جديد‪ ،‬فحسبوا أ ّ‬
‫ن‬
‫ن ال سبحانه قد نسب الروح التي‬ ‫هذه الخلقة تحصيل حاصل من خلل تسبيحهم وتقديسهم‪ .‬والمهم في المر هو أ ّ‬
‫حي()‪ .(1‬ونعرف على نحو البداهة أن ليس ل من جسم ول‬ ‫ن ُرو ِ‬
‫ت ِفـيِه ِم ْ‬
‫خ ُ‬‫نفخها في آدم إليه سبحانه فقال‪َ) :‬وَنَف ْ‬
‫روح‪ ،‬وأّنه يهدف إلى بيان عظمة الشياء التي يضيفها إلى نفسه من قبيل »بيت ال« و»شهر ال« فالهدف هو أن‬
‫ن ال قد نفخ في آدم‬ ‫هذه الروح الدمية تتمتع بآثار من صفات ال كالعلم والقدرة والخلقية والبداع‪ .‬والواقع هو أ ّ‬
‫سُ‬
‫ن‬ ‫حـ َ‬
‫ل َأ ْ‬
‫كا ّ‬
‫خَر َفَتباَر َ‬
‫خـْلقًا آ َ‬
‫شـْأناُه َ‬
‫أشرف وأفضل روح‪ ،‬ولذلك نعت نفسه سبحانه بأحسن الخالقين فقال‪ُ) :‬ثّم َأْن َ‬
‫ن()‪ (2‬ويالها من مصيبة أليمة ومفجعة أن يحث النسان الخطى نحو السقوط بحيث يتحول إلى ما يجعله‬ ‫الخاِلِقـي َ‬
‫ل()‪ (3‬في حين يمتلك مثل هذه الستعدادات والقدرات والمكانات‬ ‫ضّ‬‫ل ُهْم َأ َ‬
‫لْنعاِم َب ْ‬
‫أسوأ من النعام )ُأولـِئك َ َكا َ‬
‫التي تبلغ به الكمال والمقام الذي ينتظره ويؤهله لن يتميز على كافة المخلوقات فيرتدي التاج العظيم الذي يكرمه‬
‫على من سواه )َوَلَقْد َكّرْمنا‪.(...‬‬

‫‪ 3‬ـ النسان‪ُ ،‬اعجوبة عالم الكون‬

‫يعتبر النسان ـ في الحقيقة ـ من أعجب ظواهر عالم الوجود‪ ،‬وقد تضمن كلم المام)عليه السلم(‬

‫‪ .1‬سورة الحجر ‪.29 /‬‬

‫‪ .2‬سورة المؤمنون ‪.14 /‬‬

‫‪ .3‬سورة العراف ‪.179 /‬‬

‫] ‪[ 118‬‬

‫إشارة إلى غيض من فيض أسرار الوجود‪ :‬الشتمال على الجوارح والعضاء المتنوعة والقوى المختلفة‬
‫والقدرات المتفاوتة‪ ،‬والتركيب من العناصر المتضادة والتشكل من عّدة عوامل عجنت بصورة بالغة التعقيد بحيث‬
‫جمع فيه كل شيء‪ ،‬حتى أصبح في الواقع نموذج مصغر لجميع عالم الوجود‪ ،‬وعالم صغير يضاهي العالم الكبير‪.‬‬

‫أتزعم أّنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الكبر‬


‫فهذه الميزة التي يتحلى بها النسان تجعلنا نتعرف بصورة أعمق على أهمية خلقه من جانب‪ ،‬كما تلفت انتباهنا‬
‫إلى مدى عظمة خالقه من جانب آخر‪ ،‬فمراد المام)عليه السلم( من هذه الميزة الفريدة للنسان إّنما يكمن‬
‫في الشارة إلى عظمة الخالق وعظمة المخلوق‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 119‬‬

‫القسم العاشر‬

‫ع ِلَتْكِرَمِتِه‬
‫خُنو ِ‬‫جوِد َلُه َواْل ُ‬‫سُ‬ ‫ن ِبال ّ‬‫صّيِتِه ِإَلْيِهْم ِفي اِْلْذعا ِ‬ ‫عْهَد َو ِ‬ ‫حاَنُه اْلَملِئَكَة َوِديَعَتُه َلَدْيِهْم َو َ‬
‫سْب َ‬
‫ل ُ‬ ‫سَتْأَدى ا ّ‬ ‫»َو ا ْ‬
‫سَتْوَهنَ‬ ‫خْلَقِة الّنار َوا ْ‬ ‫شْقَوُة َوَتَعّزَز ِب ِ‬‫عَلْيِه ال ّ‬
‫غَلَبتْ َ‬ ‫حِمّيُة َو َ‬
‫عَتَرْتُه اْل َ‬
‫سا ْ‬ ‫جُدوا ِإّل ِإْبِلي َ‬ ‫سَ‬ ‫جُدوا ِلَدَم َف َ‬‫سُ‬ ‫سْبحاَنُه ا ْ‬‫َفقاَل ُ‬
‫ن ِإلى‬‫ظِري َ‬ ‫ن اْلُمْن َ‬
‫سِتْتمامًا ِلْلَبِليِّة َوِإْنجازًا ِلْلِعَدِة َفقاَل َفِإّنك ِم َ‬
‫طِة َوا ْ‬‫خَ‬ ‫سْ‬ ‫حَقاقًا ِلل ّ‬‫سِت ْ‬
‫ظَرَة ا ْ‬‫ل الّن ِ‬
‫طاُه ا ّ‬ ‫عَ‬‫صْلصاِل َفَأ ْ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫خْل َ‬
‫َ‬
‫ت اْلَمْعُلوِم«‪.‬‬‫َيْوِم اْلَوْق ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫بداية انحراف ابليس‬

‫ما أن فرغ المام)عليه السلم( من بيانه لقضية خلق آدم حتى تطرق إلى موضوع آخر ذا صلة وثيقة به‬
‫مستخلصًا منه الدروس والعبر التي يمكن أن تحتذيها البشرية جمعاء في مسيرتها إلى ال‪ ،‬فقال)عليه السلم(‪:‬‬
‫»واستأدى ال سبحانه الملئكة وديعته لديهم وعهد وصيته إليهم في الذعان بالسجود له والخنوع)‪ (1‬لتكرمته‬
‫ن ال قد أخذ عهد الملئكة مسبقًا بالسجود لدم‬ ‫ل إبليس« فالذي تفيده العبارة أ ّ‬ ‫فقال سبحان اسجدوا لدم فسجدوا ا ّ‬
‫ل َرّب َ‬
‫ك‬ ‫حين خلقه; المر الذي وردت الشارات إليه في القرآن الكريم ومنها الية ‪ 70‬و ‪ 71‬من سورة ص‪ِ) :‬إذ قا َ‬
‫ن(‪(2).‬فقد كانت‬ ‫جِدي َ‬
‫حـي َفَقُعوا َلُه سا ِ‬‫ن ُرو ِ‬‫ت ِفـيِه ِم ْ‬
‫خ ُ‬
‫سـّوْيُتُه َوَنَف ْ‬
‫طـين * َفِإذا َ‬ ‫ن ِ‬
‫شرًا ِم ْ‬
‫ق َب َ‬
‫ِلْلَمـلِئَكِة ِإّني خاِلـ ٌ‬
‫ن الوفاء بذلك العهد إّنما يحصل حين خلق آدم وتكامله بهذه‬ ‫الملئكة تدرك أ ّ‬

‫‪» .1‬خنوع« بمعنى الخضوع والتواضع حسب »المقاييس« وأورد الخرون ما يشبه هذا المعنى أيضًا‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة ص ‪.71 - 70 /‬‬

‫] ‪[ 120‬‬

‫س()‪.(1‬‬
‫ل ِإْبِلـي َ‬
‫جُدوا ِإ ّ‬
‫سَ‬
‫لَدَم َف َ‬
‫جُدوا ِ‬
‫سُ‬‫الصورة النسانية ‪ ،‬ولذلك أمرهم ال سبحانه لما أتم خلقه بالسجود )ا ْ‬

‫ن هذا المر قد يكون مستغربًا لدى الملئكة ويثير اندهاشهم ولعلهم يتساهلون في‬ ‫ذهب بعض شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫ن مثل هذه‬
‫امتثاله لول تلك المقدمة بذلك العهد الذي أخذ عليهم‪ ،‬ولذلك أعدهم ال سبحانه لهذا المر مسبقًا ليعلم أ ّ‬
‫المقدمات ضرورية في الوامر المهّمة‪ .‬ثم يتطرق)عليه السلم( إلى الدوافع التي وقفت وراء تمرد ابليس‬
‫فقال)عليه السلم(‪» :‬اعترته الحمية)‪(2‬وغلبت عليه الشقوة وتعزز بخلقة النار واستوهن خلق الصلصال«‪.‬‬

‫ن العامل الصلي لتمرده إّنما كان تلوثه الباطني والذي عبر عنه بالشقوة إلى جانب الكبر والغرور‬ ‫فالواقع أ ّ‬
‫والحمية والنانية التي تفرزها طبيعة ذلك الدنس الباطني والذي غلب على فكره وأعمى بصيرته ليصده عن رؤية‬
‫الواقع فيغتر بخلقة النار ويراها أعظم شأنًا من خلقة الطين والتراب; التراب الذي يعتبر مصدر جميع الخيرات‬
‫والبركات والمنافع والفوائد‪ ،‬بالتالي حسب أن علمه ومعرفته إّنما تفوق حكمة ال ـ طبعًا ل يبدو هذا الحكم غريبًا‬
‫من الفراد الذين يغرقون في مثل هذا الحجب; فالنسان الناني المضروب عليه بحجاب الغرور قد يرى القبة‬
‫حبة والحبة قبة أحيانًا‪ ،‬فعباقرة الفكر وجهابذة العلم إذا ما ابتلوا بالغرور والنانية وحب الذات ربما يرتكبون‬
‫أفضع الخطاء والزلت‪ .‬فالمراد بالشقاوة هنا تلك الموانع الباطنية والصفات الرذيلة التي كانت لدى الشيطان‪،‬‬
‫ن الشقاوة‬‫وهى الموانع والصفات الختيارية النابعة من أفعاله السابقة وهى ليست شقوة ذاتية وغير اختيارية; ل ّ‬
‫تقابل السعادة‪ .‬وتعني السعادة توفير المكانات وتمهيد السبيل من أجل الحركة نحو الصلح والشقاوة تعني‬
‫لمور إّنما تنبع من ذات أفعال النسان وسائر‬ ‫ن كل هذه ا ُ‬
‫المطبات والصعوبات التي تعترض هذا السبيل; والمهم أ ّ‬
‫الموجودات المختارة ل أّنها تستند إلى العوامل الجبرية والقهرية‪ .‬على كل حال فان ابليس قد ارتكب هذه‬
‫المعصية الكبرى والخطأ الجسيم ليسقط‬

‫‪ .1‬سورة البقرة ‪.34 /‬‬

‫‪» .2‬الحمية« من مادة »حمى« على وزن نهى معناها الصلي الحرارة التي تنتج من الشمس والنار والمواد اُلخرى أو من داخل‬
‫ن حالة النسان تشتعل آنذاك‪ ،‬ويطلق الحمى على حرارة البدن حين‬‫جسم النسان‪ ،‬كما يعبر أحيانًا بالحمية عن القوة الغضبية حيث إ ّ‬
‫الرتفاع‪.‬‬

‫] ‪[ 121‬‬

‫بالمرة فيطرد من حظيرة القرب اللهي حتى أصبح من ألعن خلق ال وأبعدهم عن رحمته بفعل تلك المعصية‬
‫ن هذه اللعنة والطرد من الرحمة لم تكن لتوقظه فتمادى في غيه وغروره واستنادًا لسيرة‬ ‫الخطيرة; غير أ ّ‬
‫ل قبيحًا آخر تمثل بتوعده باغواء آدم وذريته‪ ،‬ثم‬‫المغرورين والمتعصبين من ذوي النفة والحمية فقد باشر عم ً‬
‫سأل ال ويداقع اشباع غريزة غضبه وحسده النظرة إلى يوم القيامة ليرتكب معصية ُاخرى أفدح من سابقتها )قا َ‬
‫ل‬
‫ل لبتلء العباد وتمحيصهم‬ ‫ن()‪ .(1‬فاستجاب ال له لثلث; استحقاقًا للغضب‪ ،‬وإكما ً‬ ‫ظْرِني ِإلى َيْوِم ُيْبَعُثو َ‬
‫ب َفَأْن ِ‬
‫َر ّ‬
‫وأخيرًا انجاز ما وعده به »فأعطاه ال النظرة استحقاقًا للسخطة واستتمامًا للبلية وانجازًا للعدة«‪ ،‬ولكن ليس على‬
‫ل معينًا »فقال أّنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم«)‪ .(2‬أّما ما المراد بيوم‬
‫ضوء ما سأل‪ ،‬بل جعل لذلك أج ً‬
‫الوقت المعلوم فهناك كلم واختلف بين مفسري القرآن ونهج البلغة‪.‬‬

‫ن المراد بذلك انتهاء العالم وانقطاع مّدة التكليف )وعلى ضوء هذا المعنى فقد كانت الموافقة‬ ‫فذهب البعض إلى أ ّ‬
‫على بعض سؤال ابليس‪ ،‬لّنه سأل النظرة إلى يوم القيامة بينما أجيب بالنظرة إلى ختام الدنيا(‪ .‬بينما ذهب البعض‬
‫ل لو أعلنه آنذاك لكان‬ ‫ل ال; وإ ّ‬ ‫ن المراد بذلك زمان معّين وهو انقطاع عمر ابليس; المر الذي ل يعلمه إ ّ‬ ‫الخر أ ّ‬
‫ن الية الخمسين‬ ‫ن المراد يوم القيامة; ل ّ‬ ‫إغراًء لبليس بالتمرد وارتكاب المعاصي‪ .‬وأخيرًا فقد احتمل البعض أ ّ‬
‫ن ِإلى ِمـيقا ِ‬
‫ت‬ ‫عو َ‬‫جـُمو ُ‬
‫ن * َلم ْ‬
‫خـِري َ‬
‫ن َوال ِ‬ ‫لّوِلـي َ‬
‫نا َ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫من سورة الواقعة عبرت باليوم المعلوم عن يوم القيامة )ُقـ ْ‬
‫ن هذا الحتمال يبدو مستبعدًا‪ ،‬لّنه وعلى ضوء هذا التفسير قد استجيب لجميع طلباته‪ ،‬في حين‬ ‫لاّ‬‫َيـْوم َمـْعُلوم(‪ .‬إ ّ‬
‫ن الية التي وردت في البحث قالت‬ ‫ل لبعض طلباته‪ ،‬أضف إلى ذلك فا ّ‬ ‫يفيد ظاهر اليات القرآنية أّنه لم يستجب إ ّ‬
‫»يوم الوقت المعلوم«بينما قالت الية الواردة في سورة الواقعة )َيـْوم َمـْعُلوم(فاليتان متفاوتتان‪ ،‬وعليه فالتفسير‬
‫ن المراد بيوم الوقت المعلوم هو زمان‬ ‫الصحيح هو التفسير الول أو الثاني‪ .‬من جانب آخر فقد جاء في الحديث أ ّ‬
‫ظهور إمام العصر والزمان المهدي)عج( والذي ينهي بدوره عمر ابليس)‪ .(3‬وبالطبع‬

‫‪ .1‬سورة الحجر ‪.36 /‬‬

‫ت الَمْعُلوِم(‪.‬‬
‫ن * ِإلى َيْوِم الَوْق ِ‬
‫ظِري َ‬
‫ن الُمْن َ‬
‫ك ِم َ‬
‫‪ .2‬إشارة إلى آية ‪ 37‬و ‪ 38‬من سورة الحجر )قاَل َفِإّن َ‬

‫‪ .3‬تفسير نور الثقلين ‪ 14 / 3‬ح ‪.46‬‬


‫] ‪[ 122‬‬

‫فان هذا لن يؤدي إلى اجتثاث جذور الذنب والمعصية عن العالم بالمرة وتنتفي قضية الطاعة والمتحان اللهي;‬
‫ن العامل الصلي إّنما يكمن في هوى النفس الذي يبقى سائدًا في النسان‪ ،‬بل حتى عامل انحراف الشيطان إّنما‬
‫لّ‬
‫يعزى إلى هوى نفسه‪(1).‬‬

‫تأّملت‬
‫‪ 1‬ـ عظمة مقام النسان‬

‫ن اليات القرآنية التي تناولت قضية سجود الملئكة للنسان في عّدة سور لتشكل أحد الدلة المهّمة على أن‬ ‫إّ‬
‫النسان يمثل أفضل موجود في عالم الخلقة وأشرف مخلوقات ال سبحانه)‪ ،(2‬كما تشير هذه اليات إلى سجود‬
‫جميع الملئكة دون استثناء وخضوعها لدم)عليه السلم(‪ ،‬وهذا بدوره دليل واضح على أفضليته)عليه السلم(‬
‫ن الهدف من هذه التأكيدات القرآنية المستمرة الفات انتباه النسان إلى عظم شخصيته‬ ‫حتى على الملئكة‪ ،‬ويبدو أ ّ‬
‫اللهية والمعنوية; المر الذي يلعب دورًا مهمًا في تربية النفس البشرية وتهذيبها وهدايتها‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ كيف كان السجود لدم؟‬

‫ن ذلك‬
‫هناك عّدة أبحاث لدى المفسرين بشأن كيفية السجود‪ ،‬وهل يجوز السجود لغير ال تعالى‪ .‬يرى البعض أ ّ‬
‫ل لخلق هذا الكائن العجيب; في حين ذهب‬‫ل ل تعالى‪ ،‬غير أّنه حصل أمام آدم بينما كان معلو ً‬ ‫السجود لم يكن إ ّ‬
‫ل اّنه لم يكن سجود العبادة المختص بال تبارك وتعالى‪ ،‬بل كان سجود‬ ‫ن السجود كان لدم‪ ،‬إ ّ‬
‫البعض الخر إلى أ ّ‬
‫خضوع واكرام واحترام‪ .‬وجاء في كتاب عيون الخبار عن كتاب المام علي بن موسى الرضا)عليه السلم( أّنه‬
‫قال‪» :‬كان سجودهم ل تعالى عبوديًة ولدم إكرامًا وطاعة لكوننا في صلبه«)‪ .(3‬فالذي يستفاد من هذا الحديث أن‬
‫السجدة كانت تنطوي على بعدين; أحدهما عباة ال والخر تكريم آدم)عليه السلم(‪ .‬وشبيه ماذكر‬

‫‪ .1‬لقد تكفلت المناجاة الثانية من المناجاة الخمسة عشر للمام علي بن الحسين)عليهما السلم( ببيان كيفية تأثير هوى النفس وكذلك‬
‫تأثير الشيطان في انحراف النسان بصورة مفصلة‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة البقرة ‪ 34 /‬وسورة العراف ‪ 11 /‬وسورة السراء ‪ 61 /‬وسورة الكهف ‪ 50 /‬وسورة طه ‪.116 /‬‬

‫‪ .3‬نور الثقلين ‪.58 / 1‬‬

‫] ‪[ 123‬‬

‫جدًا(‪ .‬فقد جاء في الحديث‬


‫سّ‬‫خّروا َلُه ُ‬
‫ش َو َ‬
‫على الَعْر ِ‬
‫سابقًا هو ماورد في الية ‪ 100‬من سورة يوسف )َوَرَفَع َأَبَوْيِه َ‬
‫الذي روي عن المام علي بن موسى الرضا)عليه السلم(بشأن الية السابقة أّنه قال‪» :‬أّما سجود يعقوب وولده‬
‫فاّنه لم يكن ليوسف وإّنما كان من يعقوب وولده طاعة ل وتحية ليوسف كما كان السجود من الملئكة لدم«‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ أسئلة واستفسارات بشأن خلق الشيطان‬


‫هنالك عّدة أسئلة واستفسارات بشأن خلق الشيطان وسوابقه وتمرده على الوامر اللهية ومن ثم امهاله حتى‬
‫ن المقام ل يسع السهاب والوقوف على التفاصيل‪ ،‬ولذلك سنقتصر على التعرض‬ ‫الزمان المعلوم‪ ،‬وبالطبع فا ّ‬
‫بأطناب لهذه المواضيع‪.‬‬

‫سؤال‪:‬‬

‫ن كان الجواب باليجاب فلم ارتكب تلك المعصية الخطيرة مع أن الملئكة معصومون‪،‬‬ ‫هل ابليس من الملئكة؟ إ ّ‬
‫وإن كان الجواب بالنفي في أّنه لم يكن من الملئكة‪ ،‬فما علة ذكره في عداد الملئكة على لسان اليات القرآنية؟‬

‫جواب‪:‬‬

‫ل أّنه قد اصطف مع‬


‫ن َأْمِر َرّبِه()‪ ،(1‬إ ّ‬
‫عْ‬
‫ق َ‬
‫سَ‬‫ن َفَف َ‬
‫جّ‬
‫ن ال ِ‬
‫ن ِم َ‬
‫ل‪) :‬كا َ‬ ‫يقينًا لم يكن من الملئكة‪ ،‬فقد صّرح القرآن قائ ً‬
‫الملئكة أثر جهوده في الطاعة والعبودية ولذلك عد واحد منهم‪ ،‬ولهذا السبب أيضًا وردت بعض خطب نهج‬
‫البلغة بما فيها الخطبة رقم ‪ 192‬المسماة بالقاصعة التي عبرت بالملك عن ابليس; وناهيك عن ذلك فقد صّرح‬
‫ن الجن قد خلقوا من النار ل الملئكة‪ ،‬وهذا ما صّرحت به الية‬ ‫ن نار()‪(2‬ونعلم جميعًا بأ ّ‬ ‫خَلْقَتِني ِم ْ‬
‫ل‪َ ) :‬‬
‫نفسه قائ ً‬
‫ن نار(‪ ،‬وقد أشارت بعض روايات أهل‬ ‫ن ماِرج ِمـ ْ‬ ‫ن ِمـ ْ‬‫ق اْلجا ّ‬
‫خَل َ‬
‫الخامسة عشرة من سورة الرحمن )َو َ‬
‫البيت)عليهم السلم(إلى هذا المعنى أيضًا)‪ .(3‬أضف إلى ذلك فقد أشار القرآن إلى ذرية ابليس وولده‬

‫‪ .1‬سورة الكهف ‪.50 /‬‬

‫‪ .2‬سورة ص ‪.76 /‬‬

‫‪ .3‬مجمع البيان ‪ ،82 / 1‬ذيل الية ‪ 34‬من سورة البقرة‪.‬‬

‫] ‪[ 124‬‬

‫عُدّو()‪ (1‬بينما ليست للملئكة من ذرية‪.‬‬


‫ن ُدوِني َوُهْم َلُكْم َ‬
‫خُذوَنُه َوُذّريّـَتُه َأْوِلـياَء ِم ْ‬
‫)َأَفَتـّت ِ‬

‫سؤال‪:‬‬

‫كيف جاز على ال سبحانه أن يسلط ابليس على الناس حتى أّنهم سلبوا قدرة الدفاع؟ أضف إلى ذلك فما الضرورة‬
‫في الغواء والضلل؟ ومنحه تلك المّدة الطويلة من العمر والمهلة ليسعى سعيه في اغواء بني آدم وتوظيف كافة‬
‫إمكاناته في سبيل تحقيق هذا الهدف؟‬

‫جواب‪:‬‬

‫ن الشيطان قد خلق طاهرًا عفيفًا وقد جّد لسنوات من أجل صون قدسيته وطّهره حتى قادته طاعته‬
‫ل‪ :‬أ ّ‬
‫أو ً‬
‫ل أّنه في نهاية المر وأثر حّبه لذاته وكبره وغروره واستغلله‬
‫وعبوديته لن يكون في مصاف الملئكة‪ ،‬إ ّ‬
‫لحريته قد سلك سبيل الضلل فسقط إلى الحضيض‪.‬‬

‫ن نفوذ الوساوس الشيطانية إلى باطن النسان ليس نفوذاً‬ ‫ثانيًا‪ :‬من الضروري اللتفات إلى نقطة مهّمة وهى أ ّ‬
‫ن النسان هو الذي يفسح المجال بإرادته واختياره لهذا النفوذ سيجعله يستحوذ على نفسه‪،‬‬ ‫عبثيًا وإجباريًا; بل إ ّ‬
‫س َل َ‬
‫ك‬ ‫عباِدي َلْي َ‬
‫ن ِ‬
‫حيث يمنح الشيطان تأشيرة الدخول إلى حدود قلبه وهذا ما عّبر عنه القرآن الكريم بقوله‪ِ) :‬إ ّ‬
‫ن()‪.(2‬‬‫ن الغاِوي َ‬
‫ك ِم َ‬
‫ن اّتـَبَع َ‬
‫ل َم ِ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫سْلطا ٌ‬
‫عَلْيـِهْم ُ‬
‫َ‬

‫ن(‪(3).‬‬
‫شِرُكو َ‬
‫ن ُهْم ِبِه مُ ْ‬
‫ن َيَتَوّلْوَنُه َواّلِذي َ‬
‫على اّلِذي َ‬
‫سْلطاُنُه َ‬
‫وقال في موضع آخر )ِإّنما ُ‬

‫ثالثًا‪ :‬لقد تضمنت عبارات المام علي)عليه السلم( ردًا لطيفًا رائعًا على السؤال المذكور حيث قال‪» :‬فأعطاه ال‬
‫ن ال قد أجزل عقابه بمنحه هذه المهلة من جانب;‬
‫النظرة استحقاقًا لسخطه واستتمامًا للبلية وانجازًا للعدة«; أي أ ّ‬
‫لولئك الذين يسيرون باتجاه الذنوب والمعاصي; فاذا فاد‬ ‫ن اليات القرآنية تفيد التحذير اللهي الشديد والمتكرر ُ‬ ‫لّ‬
‫ل أمهلهم ووكلهم إلى أنفسهم ليكون عذابهم أشد‪َ) :‬ول‬ ‫التحذير وأّثر بهم ورجعوا عن غّيهم كان ذلك خيرًا وإ ّ‬
‫عذا ٌ‬
‫ب‬ ‫سِهْم ِإّنما ُنْمِلي َلُهْم ِلـَيْزداُدوا ِإْثمًا َوَلُهْم َ‬
‫لْنُف ِ‬
‫خْيٌر َِ‬
‫ن َكَفُروا َأ ّنما ُنْمِلي َلُهْم َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫سَب ّ‬
‫حَ‬‫َي ْ‬

‫‪ .1‬سورة الكهف ‪.50 /‬‬

‫‪ .2‬سورة الحجر ‪.42 /‬‬

‫‪ .3‬سورة الحجر ‪.100 /‬‬

‫] ‪[ 125‬‬

‫ن وجود الشيطان يشكل اختبارًا وامتحانًا ضخمًا للناس‪،‬‬ ‫ن()‪ ،(1‬ومن جانب آخر فا ّ‬ ‫ُمِهـي ٌ‬
‫ن وجود هذا العدو المقتدر بالنسبة‬ ‫وبعبارة ُاخرى فاّنه يمثل جسر الفراد المؤمنين نحو السمو والتكامل ـ ل ّ‬
‫للمؤمنين الذين يرومون انتهاج سبيل الحق ليس فقط ليستبطن أي ضرر فحسب‪ ،‬بل سيكون وسيلة للتسامي‬
‫ن السمو والتكامل إّنما يتّم عادة في ظل التضاد وإذا ما رأى النسان نفسه أمام عدو‬ ‫والتكامل; حيث إننا نعلم بأ ّ‬
‫شرس فانه سيوظف كافة طاقاته وقدراته ونبوغاته‪ ،‬وبعبارة ُاخرى فان وجود هذا العدو القوي سيؤدي بالنسان‬
‫إلى ممارسة مزيد من الحركة والجهد; المر الذي يقوده بالتالي إلى السمو والرقي والتكامل‪ .‬بينما ليزيد هذا‬
‫المر مرضى القلوب والثمين المنحرفين سوى انحرافًا وبؤسًا وشقاًء‪ ،‬والحق أّنهم استحقوا ذلك بما كسبت‬
‫ن ال يختبر ُاولئك‬ ‫سـَيِة ُقُلوُبُهْم(فالهدف هو أ ّ‬ ‫ض َوالقا ِ‬
‫ن ِفي ُقُلوِبـِهْم َمَر ٌ‬ ‫ن ِفْتَنًة ِلّلِذي َ‬
‫شـْيطا ُ‬
‫ل ما ُيْلِقي ال ّ‬
‫جَع َ‬
‫أيديهم‪ِ) :‬لـَي ْ‬
‫ت َلُه‬
‫خِب َ‬
‫ك َفُيـْؤِمُنوا ِبِه َفُت ْ‬
‫ن َرّب َ‬‫ق ِم ْ‬
‫حـ ّ‬
‫ن ُأوُتوا الِعْلَم َأّنُه ال َ‬
‫القاسية قلوبهم وفيها مرض بالقاءات الشيطان‪َ) ،‬وِلـَيْعَلَم اّلِذي َ‬
‫ُقُلوُبـُهْم()‪.(2‬‬

‫سؤال‪:‬‬

‫كيف كانت شبهة ابليس بالتعزز بخلقة النار فيرى نفسه أفضل من آدم وبالتالي يعترض على حكمة ال؟‬

‫ن حب الذات والغرور تعّد من أضخم الحجب التي تحول دون رؤية الحقائق والواقعيات;‬ ‫ونقول في الجواب أ ّ‬
‫وهذا ما حصل لبليس‪ ،‬فلم يدفعه ذلك إلى التمرد والعصيان فحسب‪ ،‬بل اعترض على الحكمة اللهية ليجعل ذلك‬
‫حجة احتج بها في شرف عنصره على عنصر آدم‪ ،‬فكيف أسجد لهذا الموجود الذي خلقته من طين بينما خلقتني‬
‫ن التراب ينبوع مختلف الخيرات‬ ‫من النار‪ ،‬فقد ذهبت به الظنون إلى أفضلية النار على التراب‪ ،‬بينما ل يخفى أ ّ‬
‫والبركات ومصدر جميع المواد الحيوية والمهمة والوسيلة الرئيسية لمواصلة الحياة‪ ،‬كما يضم في طياته أنواع‬
‫ن النار والحرارة تعتبر من سائر الوسائل‬
‫المعادن والفلزات والجواهر وليس النار كذلك‪ .‬صحيح أ ّ‬

‫‪ .1‬سورة آل عمران ‪ ;178 /‬سورة الروم ‪.41 /‬‬

‫‪ .2‬سورة الحج ‪ 53 /‬ـ ‪.54‬‬

‫] ‪[ 126‬‬

‫الحياتية الضرورية‪ ،‬لكن مّما لشك فيه أن الدور الساسي إّنما تقوم به المواد الموجودة في التراب والنار ليست‬
‫سوى وسيلة من أجل تكامل هذه المواد‪.‬‬

‫ن النار أفضل من التراب‪ ،‬والحال إننا‬ ‫ن وحدة من أكاذيب ابليس هو زعمه بأ ّ‬ ‫لقد صّرحت بعض الروايات)‪ (1‬أ ّ‬
‫ن أصل الشجار هو التراب‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ن‬ ‫ن النار عادة ما تتولد من احتكاك الشجار أو من المواد الدهنية وا ّ‬
‫نعلم بأ ّ‬
‫ن امتياز آدم لم يقتصر على أفضلية‬ ‫الدهون النباتية والحيوانية إّنما تستخرج بواسطة من الرض‪ .‬أضف إلى ذلك أ ّ‬
‫ت ِفـيِه‬
‫خ ُ‬
‫عنصر التراب; بل تكرمته إّنما استندت إلى عامل أصلي تمثل بتلك الروح العظيمة التي نفخت فيه )َوَنَف ْ‬
‫ن المادة الولى في خلقة الشيطان كانت أفضل من مثيلتها لدى آدم‪ ،‬فان هذا المر‬ ‫لأّ‬‫حي(‪ .‬ولنفترض جد ً‬ ‫ن ُرو ِ‬‫ِم ْ‬
‫ل على تمرده وعدم امتثاله لمر ال بالسجود لدم بفضل تلك الروح اللهية التي حلت فيه‬ ‫هو الخر ل يقوى دلي ً‬
‫ن الكبر والغرور والعجب وحب الذات‬‫لأّ‬‫لمور إ ّ‬
‫واكسبته ذلك المقام العظيم‪ ،‬ولعل الشيطان كان يعلم بكل هذه ا ُ‬
‫أعمى بصره وبصيرته عن الذعان للحق‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ 4‬ـ تبريرات جوفاء‬

‫لقد حاول بعض الفلسفة ـ كما نقل ذلك ابن ميثم البحراني)رحمه ال(في شرحه لنهج البلغة ـ أن يبرروا ويأولوا‬
‫كافة تفاصيل قصة خلق آدم وسجود الملئكة وتمرد ابليس وعدم امتثاله لمر ال ليحملوها على مفاهيم ل تنسجم‬
‫ن المراد بالملئكة الذين ُامروا بالسجود لدم هو القوى البدنية المأمورة‬ ‫وظواهر تلك القصة‪ .‬ومن ذلك أّنهم قالوا أ ّ‬
‫بالخضوع أمام النفس العاقلة )الروح البشرية(‪ ،‬والمراد بابليس القوة الوهمية وجنود ابليس هى القوى النابعة من‬
‫الوهم وهوى النفس والتي تتعارض والقوى العقلية‪ ،‬اّما المقصود بالجّنة التي طرد منها آدم فاّنما يراد بها‬
‫المعارف الحقة وأنوار الكبرياء اللهية! وما إلى ذلك من التأويلت الجوفاء التي ل أساس لها من الصحة‪(2).‬‬

‫‪ .1‬تفسير نور الثقلين ‪ 472 / 4‬ح ‪.93‬‬

‫‪ .2‬شرح نهج البلغة لبن ميثم ‪ 190 / 1‬فصاعدًا‪.‬‬

‫] ‪[ 127‬‬

‫هذا نموذج من التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه في الحاديث والروايات على أّنه سبب السقوط والبتعاد عن‬
‫ال سبحانه‪.‬‬

‫ن التفسير بالرأي وتحميل الحكام الذهنية المسبقة على اليات والروايات يعّد على الدوام من أهم‬ ‫فكلنا نعلم بأ ّ‬
‫الوسائل التي تمسك بها المحرفون والمتصنعون المتلبسون بالدين الذين ل يألون جهدًا في توجيه اليات القرآنية‬
‫ن الباب لو فتح أمام تفسير اليات والروايات‬‫والروايات السلمية بما ينسجم ورغباتهم ونزعاتهم‪ ،‬كما نعلم بأ ّ‬
‫بالرأي فسوف لن يبقى هناك من أصول مسلمة ومباني وأحكام قانونية ثابتة وسيصبح كل شيء تابع للفكار‬
‫الخاطئة والهواء الضالة لهذا وذاك‪ ،‬بل سيهجر الكتاب والسنة ويصبحان طينة بيد المنحرفين والمغرضين‬
‫يصنعون منها ما شاءت أهوائهم ورغباتهم‪ .‬ومن هنا طالعنا إصرار كبار محققي السلم والباحثين بضرورة‬
‫استخدام القواعد المسلمة لباب اللفاظ في فهم معاني الكتاب والسنة‪ .‬فاللفاظ لبّد أن تحمل على معانيها الحقيقية‪،‬‬
‫ل أن تكون هناك قرائن جلية تدعو لحملها على المعاني المجازية; ويراد بها القرائن المقبولة لدى العرف‬ ‫الّلهم إ ّ‬
‫والعقلء الذين يستندون إليها في إقامة أدلتهم وبراهينهم)‪.(1‬‬

‫وأخيرًا فان ذكر قصة ابليس وعاقبته كما وردت في عبارات المام علي)عليه السلم(لتنطوي على الدروس‬
‫والعبر التي ينبغي أن تحتذيها البشرية في مسيرتها فينظروا بعين العتبار إلى نتائج الكبر والغرور وحب الذات‬
‫والحمية والعاقبة المشؤومة لبليس وطرده من ماقم القرب لتلحقه اللعنات والشقاء البدي‪ ،‬فتكون على حذر من‬
‫سلوك هذا الطريق الخطير‪ .‬ونختتم الحديث بما أورده العالم الجليل المرحوم مغنية في شرحه لنهج البلغة فقد‬
‫خلص إلى عّدة دروس من قصة ابليس منها‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ من حسد صاحب فضيلة أو عادى إنسانًا لرياسته وعمله فاّنه على دين ابليس ومن رهطه يوم القيامة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ليس هنالك من سبيل لمعرفة الدين والخلق الحميدة سوى سبيل واحد وهو‬

‫‪ .1‬راجع كتاب التفسير بالرأي لية ال مكارم الشيرازي بشأن هذا الموضوع‪.‬‬
‫] ‪[ 128‬‬

‫التسليم للحق والثبات عليه مهما كانت النتيجة‪.‬‬

‫ن أغلب الناس يصرون على الباطل ل على أساس عدم معرفتهم به‪ ،‬بل بسبب العناد واللجاجة ضد‬ ‫‪3‬ـأّ‬
‫مخالفيهم‪ ،‬وهذا الصرار الخاطئ إّنما ينتهي بهم إلى أسوأ العواقب‪ .‬فلو تاب ابليس ورجع عن خطأه لقبل ال‬
‫ل أّنه كان يعتقد بشرط وهو أل يأمره ال بالسجود لدم ثانية بينما اشترط‬
‫توبته وقد كان له مثل هذا الستعداد‪ ،‬إ ّ‬
‫ال قبول توبته بذلك الشرط‪(1).‬‬

‫‪ .1‬في ظلل نهج البلغة ‪.51 / 1‬‬

‫] ‪[ 129‬‬

‫القسم الحادي عشر‬

‫سةً‬
‫عُدّوُه َنفا َ‬‫غَتّرُه َ‬ ‫عداَوَتُه فا ْ‬
‫س َو َ‬ ‫حذَّرُه ِإْبِلي َ‬
‫حّلَتُه َو َ‬
‫ن ِفيها َم َ‬ ‫شُه َوآَم َ‬‫عْي َ‬‫غَد ِفيها َ‬ ‫سْبحاَنُه آَدَم دارًا َأْر َ‬‫ن ُ‬‫سَك َ‬
‫»ُثّم َأ ْ‬
‫غِتراِر َنَدمًا ُثّم‬
‫ل َوِباِل ْ‬ ‫جً‬‫جَذِل َو َ‬
‫سَتْبَدَل ِباْل َ‬
‫شّكِه َواْلَعِزيَمَة ِبَوْهِنِه َوا ْ‬
‫ن ِب َ‬
‫ع اْلَيِقي َ‬
‫عَلْيِه ِبداِر اْلُمقاِم َوُمراَفَقِة اَْلْبراِر َفبا َ‬
‫َ‬
‫سِل‬
‫طُه ِإَلى داِر اْلَبِلّيِة َوَتنا ُ‬‫جّنِتِه َوَأْهَب َ‬
‫عَدُه اْلَمَرّد ِإَلى َ‬
‫حَمِتِه َوَو َ‬
‫سْبحاَنُه َلُه ِفي َتْوَبِتِه َوَلّقاه َكِلَمَة َر ْ‬
‫ل ُ‬‫طا ّ‬ ‫سَ‬ ‫َب َ‬
‫الّذّرّيِة«‪.‬‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫عاقبة آدم‬

‫كان الحديث في مامضى عن اختبار الملئكة وتمرد ابليس‪ ،‬بينما تطرق الحديث هنا عن امتحان آدم والنتيجة التي‬
‫ن آدم قد خلق للعيش في الرض‪ .‬فقد‬ ‫تمخض عنها هذا المتحان‪ .‬ونقول هنا ما تفيده بعض اليات القرآنية هو أ ّ‬
‫خِلـيَفًة(‪ ،‬كما أشارت الية ‪ 36‬من نفس‬ ‫ض َ‬ ‫لر ِ‬ ‫ل ِفـي ا َ‬
‫عٌ‬
‫قال سبحانه وتعالى في الية ‪ 30‬من سورة البقرة )ِإّني جا ِ‬
‫عُدّو َوَلُكْم‬
‫ضُكْم ِلَبْعض َ‬
‫طوا َبْع ُ‬
‫السورة إلى المراد بالرض موضع غير الجّنة )الجّنة بأي معنى كانت(‪َ) :‬وُقلنا اْهِب ُ‬
‫حـين(‪.‬‬
‫ع ِإلى ِ‬
‫سَتَقّر َوَمتا ٌ‬
‫ض ُم ْ‬
‫لْر ِ‬
‫ِفـي ا َ‬

‫على كل حال كان لبّد لدم من دورة تدريبية وامتحان إلهي يمده بتجربة ليتعرف على المفاهيم من قبيل المر‬
‫والنهي والتكليف والطاعة والمعصية والندم والتوبة ويتعرف عن قرب على عدوه‪ ،‬ومن هنا أسكنه ال الجّنة‬
‫ن وساوس الشيطان ومكره وحيله قد‬ ‫لأّ‬‫وأباح له التمتع بنعيمها ولم يحظر عليه سوى القتراب من تلك الشجرة‪ ،‬إ ّ‬
‫أثرت في آدم ودفعته إلى ترك الولى‪ ،‬فتناول من تلك الشجرة ويهبط من الجّنة; المر الذي أدى بالتالي إلى يقظته‬
‫وعودته‬

‫] ‪[ 130‬‬
‫إلى ال في التوبة والنابة‪ ،‬فاحفه ال بلطفه وعنايته فالهمه كيفية التوبة‪ ،‬فتاب ال عليه ووعده بالعودة إلى الجّنة‪،‬‬
‫فكان من الثار الوضعية لفعل آدم أن يحرم من تلك النعم والدعة في الجّنة لن يهبط إلى الرض فيمارس الحياة‬
‫المليئة بالتعب والمشقة‪ .‬ما مر معنا لحد الن نظرة كلية عامة إلى خطبة المام بشأن قصة آدم)عليه السلم(‪،‬‬
‫ونخوض الن في شرح تفاصيل الخطبة‪.‬‬

‫—–‬

‫قال)عليه السلم(‪» :‬ثم اسكن سبحانه آدم دارًا أرغد)‪ (1‬فيها عيشه« ثم قال)عليه السلم(‪» :‬وآمن فيها محلته« في‬
‫ن البارئ سبحانه قد أفاض عليه ركنين رئيسيين من الركان المهّمة للحياة وهما‪ :‬المن‬ ‫إشارة واضحة إلى أ ّ‬
‫ن المام)عليه السلم( قد استوحى ذلك المعنى من الية ‪ 35‬من سورة البقرة‪َ) :‬وُقْلنا يا‬ ‫ووفور النعمة‪ .‬والواقع هو أ ّ‬
‫شْئُتما(‪ .‬كما حذر ال سبحانه آدم)عليه السلم( من عدوه ابليس‬ ‫ث ِ‬
‫حْي ُ‬
‫غدًا َ‬
‫جّنَة َوُكل ِمْنها َر َ‬
‫ك ال َ‬
‫جَ‬ ‫ت َوَزْو ُ‬‫ن أْن َ‬
‫سُك ْ‬‫آَدُم ا ْ‬
‫»وحذره ابليس عداوته« وبذلك فقد أرشده إلى سبيل السعادة والفلح‪ ،‬كما أتم عليه الحجة بابانته لطرق البؤس‬
‫ك َفل‬
‫جَ‬
‫ك َوِلَزْو ِ‬
‫عُدّو َل َ‬
‫ن هـذا َ‬
‫والشقاء‪ .‬وهذا ما صرحت به الية ‪ 17‬من سورة طه إذ قالت‪َ) :‬فُقْلنا يا آَدُم ِإ ّ‬
‫شقى(واتمامًا للحجة أكثر فقد دله على الشجرة التي ل ينبغي إليه القتراب منها‪ ،‬بينما أباح‬ ‫جّنِة َفَت ْ‬
‫ن ال َ‬
‫جـّنُكما ِم َ‬‫خِر َ‬
‫ُي ْ‬
‫ن آدم)عليه السلم(وبسبب عدم امتلكه التجربة الكافية بشأن مكائد‬ ‫له التمتع بثمار كافة أشجار الجّنة‪ ،‬غير أ ّ‬
‫الشيطان وحبائله قد آل أمره إلى الوقوع في مصيدة الشيطان‪ ،‬فأشار المام)عليه السلم(إلىهذه المسألة بقوله‪:‬‬
‫»فاغتره عدوه نفاسة)‪ (2‬عليه بدار المقام ومرافقة البرار«‪ .‬ويبدو أن هذه هى الوظيفة التي نهض بها الشيطان‪،‬‬
‫حيث يسعى للقتراب من الصالحين والخيرين ليوسوس لهم ويسلبهم النعم واللهية ويقودهم نحو البؤس والشقاء‪.‬‬
‫ثم أشار)عليه السلم( إلى المر الرئيسي في خطأ آدم)عليه السلم(‪» :‬فباع اليقين بشكه« كما ضعف تجاه‬
‫الوساوس‬

‫‪» .1‬أرغد« من مادة »الرغد« بمعنى الحياة الرغيدة الوادعة‪ ،‬كما ترد بمعنى النعمة الوافرة بالنسبة للنسان والحيوان أيضًا‬
‫)المفردات ومقاييس اللغة(‪.‬‬

‫‪» .2‬نفاسة« من مادة »النفس« على وزن »حبس« بمعنى الروح‪ ،‬ولما كان التنفس مصدر الحياة فقد استخدمت هذه المفردة لذلك‬
‫ن النسان يجهد نفسه في ذلك السعي‪ ،‬ومن هنا‬ ‫المعنى‪ ،‬ثم وردت »المنافسة« بمعنى السعي من أجل الوصول إلى مكانة مهّمة‪ ،‬ل ّ‬
‫استعملت »النفاسة« بمعنى الحسد والبخل )المفردات ومقاييس اللغة ولسان العرب(‪.‬‬

‫] ‪[ 131‬‬

‫—–‬

‫ثم تطرق)عليه السلم( إلى النتائج المريرة التي أفرزتها تلك المعاملة فقال‪» :‬واستبدل بالجذل«)‪(4‬وجل)‪(5‬‬
‫وبالغترار ندما«‪.‬‬

‫وهنا نسأل ماهى الحوادث التي دفعت بآدم لللتفات إلى خطأه وبالتالي حسرته وندمه‬

‫ن الضمير يعود إلى آدم; أي أن‬


‫‪ .1‬هناك احتمالن حول رجوع الضمير في »شكه« و»وهنه«‪ ،‬فقد صّرح أغلب شّراح نهج البلغة بأ ّ‬
‫آدم)عليه السلم( باع يقينه بشكه وعزمه بوهنه وضعفه‪ .‬بينما الحتمال الخر أن يكون الضمير عائدًا إلى إبليس في المفردتين وذلك‬
‫لّنه هو الذي أوجد هذا الشك والوهن‪ ،‬ففي الواقع هو اضافة إلى السبب ل مفعول‪ .‬لكن يبدو الحتمال الول أصوب من الثاني‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة طه ‪.115 /‬‬

‫‪ .3‬سورة العراف ‪.21 /‬‬

‫ن الجذل على وزن الجسم‬ ‫‪» .4‬الجذل« على وزن الجدل بمعنى الفرح والسرور كما وردت في صحاح اللغة‪ ،‬وقال صاحب المقاييس أ ّ‬
‫بمعنى جذر الشجرة الذي يقومها ويمنحها الستقامة‪ ،‬ومن هنا كانت قامة الفرحان مستوية بينما كانت قامة المغموم منحنية‪ ،‬كما‬
‫تطلق أحيانًا على الرض اللزجة‪ ،‬إّل أّنها استعملت بمعنى الفرح‪.‬‬
‫‪» .5‬وجل« على وزن أجل بمعنى الخوف والخشية‪.‬‬

‫] ‪[ 132‬‬

‫ن المام)عليه السلم( أجمل عبارته بهذا الشأن‪ ،‬بينما تصدى القرآن الكريم في أكثر من‬ ‫على ما فرط منه؟ يبدو أ ّ‬
‫آية لشرح التفاصيل‪ :‬فحين استسلم آدم لوساوس الشيطان وأكل من تلك الشجرة المحظورة‪ ،‬لم تمر عليه مّدة حتى‬
‫نزع عنه لباس الجّنة وبدت سوأته التي قدر لها أن تخفى‪ ،‬فشعر بالخجل من الملئكة وطفق يخصف عليها من‬
‫ورق الجّنة‪ ،‬ثم أعقب ذلك ما تلقاه من أمر بالهبوط من الجّنة على أّنه يمثل جزاء كل من يولي ظهره لوامر ال‬
‫ن آدم)عليه السلم(وخلفًا لسلوك الشيطان وتجربته الخاطئة‪ ،‬لم يصر على‬ ‫لأّ‬‫ويستجيب لوساوس الشيطان‪ .‬إ ّ‬
‫خطأه ويركب رأسه ويواصل معصيته‪ ،‬فأقبل فورًا على ال سائله بلطفه ورحمته أن يتوب عليه‪ ،‬فعلمه كيفية‬
‫التوبة ثم وعده العودة ثانية إلى الجّنة »ثم بسط ال سبحانه له في توبته ولقاه كلمة رحمته ووعده المرد إلى‬
‫جّنته«)‪.(1‬‬

‫على كل حال فان قبول التوبة لم يبق على آدم في الجّنة‪ ،‬حيث لم يعّد هنالك من مبرر لمواصلة حياته فيها‪ ،‬فقد‬
‫تعلم ما كان ينبغي عليه تعلمه وجرب ما كان لبّد له من تجربته‪ .‬ولذلك أهبطه ال إلى دار الدنيا ـ المتحان ـ; دار‬
‫ن الدنيا دار‬
‫التزاوج والذرية »وأهبطه إلى دار البلية وتناسل الذرية«‪ .‬فالذي يستشف بوضوح من هذه العبارة أ ّ‬
‫البلء والمتحان‪ ،‬وما مر في الجّنة كان تحضيرًا لخوض هذا المتحان‪ ،‬كما ل مكان في الجّنة للتزاوج والتناسل‪،‬‬
‫بل ذلك من مختصات الدنيا‪.‬‬

‫تأّملت‬
‫‪ 1‬ـ ما كانت جّنة آدم؟‬

‫ن الجّنة التي سكنها آدم)عليه السلم( كانت جّنة الخلد التي وعد ال عباده‬
‫ذهب جماعة إلى أ ّ‬

‫‪ .1‬هناك كلم في الضمير »جنته« هل يعود إلى ال أم إلى آدم‪ .‬فلو كان عائدًا إلى آدم‪ ،‬فان ظاهر العبارة يفيد إرجاعه إلى الجّنة التي‬
‫كان فيها)عليه السلم(‪ ،‬وإن عاد الضمير إلى ال فل لزوم أن تكون تلك الجّنة التي كان فيها آدم‪ ،‬ويمكن أن تكون جّنة آدم جّنة‬
‫دنيوية أو الجّنة التي سيعود إليها وهى الجّنة الخروية كجّنة الخلد‪ ،‬لكن الظاهر أن الضمير يرجع إلى لفظ الجللة بقرينة الضمير في‬
‫ن ظاهر كلمة )مرّد( يفيد العودة تلك الجّنة‪ ،‬ويمكن أن تكون مطلق الجّنة‪ ،‬بعبارة ُاخرى ليس هنالك من منافاة‬ ‫توبته ورحمته‪ ،‬رغم أ ّ‬
‫بين نوع الجّنة مع المفردة »مرّد«‪.‬‬

‫] ‪[ 133‬‬

‫الصالحين‪ ،‬بينما ذهبت جماعة ُاخرى إلى أّنها كانت جّنة دنيوية غنية بحدائقها وبساتينها‪ ،‬وقد استدلت هذه‬
‫الجماعة ببعض الدلة فيما اعتقدت‪:‬‬

‫ن الجّنة الموعودة بعد القيامة هى جّنة خالدة ل يعتريها الخروج‪ .‬وقد يقال فاذا كانت كذلك فأنى‬
‫بادئ ذي بدء أ ّ‬
‫لبليس الذي يفيض كفرًا وعنادًا وطغيانًا أن يدخل هذه الروضة المقدسة؟‬

‫ن ذلك ل‬
‫فاذا قيل بأن إبليس لم يوسوس لدم في الجّنة قط‪ ،‬بل وسوس له وقد وقف خارجًا على بابها‪ ،‬قلنا با ّ‬
‫عُدّو( التي تشمل آدم‬
‫ضُكْم ِلَبْعض َ‬
‫طوا َبْع ُ‬
‫ينسجم وما صّرحت به الية ‪ 36‬من سورة البقرة التي قالت‪َ) :‬وُقلنا اْهِب ُ‬
‫وحواء وابليس معًا‪.‬‬

‫ن تلك الجّنة كانت من‬


‫أضف إلى ذلك فقد صّرحت الروايات الكثيرة الواردة عن أئمة أهل البيت)عليهم السلم(أ ّ‬
‫جنان الدنيا‪.‬‬
‫فقد جاء عن حسين بن بشار أّنه قال‪ :‬سألت المام الصادق)عليه السلم( عن جّنة آدم‪ ،‬فقال)عليه السلم(‪» :‬جّنة‬
‫من جنان الدنيا يطلع عليها الشمس والقمر ولو كانت من جنان الخلد ما خرج منها أبدًا«)‪.(1‬‬

‫كما أورد المرحوم الكليني في الكافي عن حسين بن ميسر مثل هذا الحديث عن المام الصادق)عليه السلم()‪ (2‬ـ‬
‫اّما الشكال الوحيد الذي يرد على هذا الكلم فانما يكمن في العبارة السابقة من هذه الخطبة »نفاسة عليه بدار‬
‫المقام«‪ ،‬لكن من الممكن أن يكون معنى هذه العبارة هو أّنه لو لم يرتكب هذه المخالفة لبقى مّدة طويلة في هذه‬
‫ل أّنه تركه للولى أسرع في إخراجه من الجّنة وهبوطه إلى الرض‪ ،‬أو أن يقال أّنه‬ ‫الجّنة ثم يهبط إلى الرض‪ ،‬إ ّ‬
‫أراد سبحانه أن يحرم آدم من جّنة الخلد‪ ،‬فلو كان آدم مطيعًا لوامر ال للتمس طريقه إلى تلك الجّنة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ هل اقترف آدم معصية؟‬

‫لمور ـ أ ّ‬
‫ن‬ ‫يرى أولئك الذين يجوزون ارتكاب الذنب على النبياء ـ ولسيما في مثل هذه ا ُ‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪ ،143 / 11‬ح ‪.12‬‬

‫‪ .2‬الكافي ‪ ،247 / 3‬باب جّنة الدنيا‪ ،‬ح ‪.2‬‬

‫] ‪[ 134‬‬

‫آدم)عليه السلم( قد ارتكب المعصية‪ ،‬بينما ل يرى أتباع مدرسة أهل البيت)عليهم السلم( الذين يؤمنون بعصمة‬
‫النبياء عن كل خطأ وزلل ـ سواء في باب العقائد وتبليغ الحكام الشرعية أو في باب العمال والفعال اليومية‬
‫قبل النبّوة وبعدها ـ)‪.(1‬‬

‫ن آدم)عليه السلم( قد قارف أية معصية وأن نهي ال لدم)عليه السلم( عن تلك الشجرة المحظورة لم يكن نهيًا‬ ‫أّ‬
‫ل مكروهًا‪ ،‬ولما كان مقام النبياء ولسيما آدم)عليه السلم( الذي سجدت له الملئكة لمن‬ ‫تحريميًا‪ ،‬بل كان فع ً‬
‫العلو والرفعة بحيث ل يتوقع ارتكابهم للمكروه‪ ،‬فان فعلوا ذلك آخذهم الحق سبحانه فحسنات البرار سيئات‬
‫المقربين ـ وبعبارة ُاخرى الذنوب على قسمين‪ :‬ذنوب مطلقة وذنوب نسبية‪ .‬الذنوب المطلقة هى الذنوب لدى‬
‫الجميع من قبيل الكذب والسرقة وشرب الخمر‪ ،‬أّما الذنوب النسبية فهى ليست بذنوب لدى عامة الناس‪ ،‬بل قد‬
‫تكون مستحبة لدى البعض من الناس‪ ،‬بينما نفس هذه العمال المستحبة والمباحة قد يطلق عليها اسم المعصية‬
‫ل أّنها ليست من قبيل الذنوب المطلقة بل‬ ‫فيما إذا صدرت من المقربين الذين يستبعد أن يقوموا بمثل هذه الفعال‪ ،‬إ ّ‬
‫الذنوب النسبية والمراد بها هنا »ترك الولى«‪ .‬كما ذهبت جماعة إلى النهي عن تلك الشجرة المحظورة على‬
‫آدم)عليه السلم(كان نهيًا إرشاديًا ل نهيًا مولويًا‪ ،‬على غرار نصائح الطبيب وإرشاداته حين ينصح مريضه بعدم‬
‫ن مخالفة نصائح الطبيب ل تعتبر‬ ‫تناول الطعام الفلني خشية من استفحال المرض وازدياد مدته‪ .‬فمن البديهي أ ّ‬
‫اهانة له ول تعّد معصية لوامره‪ ،‬بل ستجر تلك المخالفة على صاحبها مزيدًا من اللم والمعاناة‪.‬‬

‫عُدّو‬
‫ن هـذا َ‬
‫وهذا هو المعنى الذي أشارت إليه بعض اليات القرآنية بشأن قصة آدم)عليه السلم(‪َ) :‬فُقْلنا يا آَدُم ِإ ّ‬
‫شقى()‪.(2‬‬‫جّنِة َفَت ْ‬
‫ن ال َ‬
‫جـّنُكما ِم َ‬
‫خِر َ‬
‫ك َفل ُي ْ‬
‫جَ‬
‫ك َوِلَزْو ِ‬
‫َل َ‬

‫ن آدم)عليه السلم( لم يتناول من تلك الشجرة المحظورة‪ ،‬بل أكل من شجرة مشابهة‬
‫وقد ورد في بعض الروايات أ ّ‬
‫ن ال لم ينهكما عن هذه الشجرة‬
‫لها‪ ،‬ولذلك قال لهما الشيطان في ضمن وساوسه إ ّ‬

‫‪ .1‬قال ابن أبي الحديد‪ :‬تعتقد المامية ليجوز على ال أن يبعث نبيًا وقد ارتكب المعاصي قبل نبوته سواء الكبيرة أو الصغيرة‪ ،‬عمدًا‬
‫أو سهوًا; وتختص هذه العقيدة بالمايمة‪ ،‬أّما أصحابنا فل يرون امتناع الكبائر على النبي قبل نبّوته‪ .‬وأضاف ابن أبي الحديد وهذا ما‬
‫يعتقده المامية بالنسبة لئمتهم الثني عشر حيث يرون لهم عصمة مطلقة كعصمة النبياء )شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪/ 7‬‬
‫‪.(10‬‬

‫‪ .2‬سورة طه ‪.117 /‬‬


‫] ‪[ 135‬‬

‫جَرِة()‪ .(1‬أضف إلى ذلك فهناك نقطة مهّمة لبّد من اللتفات لها والتي تكمن‬ ‫شَ‬‫ن هـِذِه ال ّ‬
‫عْ‬‫ل ما َنهيُكما َرّبُكما َ‬
‫)َوقا َ‬
‫ن()‪(2‬‬‫حـي َ‬
‫ن الّناص ِ‬
‫سَمُهما ِإّني َلُكما َلِم َ‬
‫في قسم الشيطان لثبات حسن نيته في دعوتهما للكل من تلك الشجرة )َوقا َ‬
‫ولم يكن آدم وحواء آنذاك سمعا من يقسم كاذبًا; المر الذي جعلهما يصغيان إلى وساوس الشيطان‪.‬‬

‫ن ال سبحانه قد حذرهما سابقًا مكائده وأّنه عدو لهما‪ ،‬ومن‬‫ل لكتشفا كذب الشيطان; ل ّ‬
‫بالطبع لو تأمل قلي ً‬
‫الواضح أّنه ليمكن الوثوق بكلم العدو وإن عززه باليمان المغلظة‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ ماحقيقة الشجرة المحظورة؟‬

‫اختلفت أقوال المفسرين بشأن الشجرة المحظورة على آدم)عليه السلم( هل كانت شجرة خارجية اعتيادية أم‬
‫مسألة معنوية أخلقية‪ ،‬وإن كانت مادية أو معنوية فما هى هذه الشجرة؟‬

‫ن أمير المؤمنين)عليه السلم( لم يتعرض في خطبته لتلك الشجرة‬


‫نتناول هذه القضية بالبحث المقتضب رغم أ ّ‬
‫حيث وردت الشارات فيها إلى قصة إبليس ووساوسه لدم)عليه السلم(‪.‬‬

‫فقد أشار القرآن الكريم في ستة مواضع إلى تلك الشجرة المحظورة دون الخوض في ماهية تلك الشجرة‪ ،‬غير أنّ‬
‫الخبار والروايات السلمية وكلمات المفسرين قد تضمنت أبحاثًا مسهبة بهذا الخصوص ـ حيث فسرها البعض‬
‫ن الشجرة تطلق على النبات أيضًا‪ ،‬وهذا ما صّرحت به الية ‪146‬‬‫بشجرة الحنطة )وهنا لبّد من اللتفات إلى أ ّ‬
‫طـين(‪ .‬في حين فسرها البعض الخر بشجرة العنب والنخيل‬‫ن َيْق ِ‬
‫جَرًة ِمـ ْ‬
‫شـ َ‬
‫عَلْيـِه َ‬
‫من سورة يونس‪َ) :‬وَأْنَبـْتنا َ‬
‫والكافور أيضًا‪(3).‬‬

‫ن تلك الشجرة كانت علم آل محمد)صلى ال عليه وآله(وقيل بل العلم بصورة‬


‫وأخيرًا فسرها البعض معنويًا على أ ّ‬
‫مطلقة كما قيل كانت الحسد‪ .‬وقد ورد عن المام علي بن موسى الرضا)عليه السلم( حين سئل عن علة اختلف‬
‫ن اشجار الجنان ليست من‬
‫الروايات بهذا الشأن أّنه قال‪» :‬كّله صحيح‪ ،‬ل ّ‬

‫‪ .1‬تفسير نور الثقلين ‪ 11 / 2‬ح ‪ ;34‬سورة العراف ‪.20 /‬‬

‫‪ .2‬سورة العراف ‪.21 /‬‬

‫‪ .3‬انظر تفسير نور الثقلين ‪ ;60 / 1‬الدر المنثور ‪ 52 / 1‬و ‪ 53‬وذيل الية ‪ 35‬من سورة البقرة‪.‬‬

‫] ‪[ 136‬‬

‫قبيل أشجار الدنيا‪ .‬فشجرة الجّنة تحمل أنواع الثمار‪ .‬ولما كرم ال آدم)عليه السلم(واسجد له الملئكة واسكنه‬
‫الجّنة حدث نفسه‪ :‬هل خلق ال خلقًا أكرم مّني؟ فأراه ال مقام محمد وآل محمد)صلى ال عليه وآله( فتمنى أن يبلغ‬
‫ن الشجرة المحظورة كانت شجرة العلم والمعرفة )معرفة الحسن‬ ‫ن التوراة صّرحت بأ ّ‬ ‫مقامهم«)‪ .(1‬جدير بالذكر أ ّ‬
‫من القبيح( وشجرة الحياة الخالدة وقد نهى ال آدم وحواء من التناول من تلك الشجرة فيحصل على المعرفة‬
‫ويصبحا خالدين كال‪(2).‬‬

‫وتكفي هذه العبارة لوحدها في إثبات تحريف التوراة الفعلية عن التوراة الحقيقية‪ ،‬حيث تثبت أّنها من وضع‬
‫الفراد والجهال الذين يرون العلم والمعرفة مثلبة على آدم وأّنه استحق الطرد من الجّنة بسبب هذا الذنب‪ .‬وكأن‬
‫ن الشجرة‬‫ن بعض الروايات التي ذهبت إلى أ ّ‬‫الجّنة ل تسع ذوي العلم والمعرفة‪ ،‬وهنا لبّد من الشارة إلى أ ّ‬
‫المحظورة كانت شجرة العلم والمعرفة إّنما هى روايات موضوعة أخذت عن التوراة المحرفة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الكلمات التي تاب ال بها على آدم)عليه السلم(‪.‬‬

‫لقد تحدث المام)عليه السلم( في الخطبة عن تلقي آدم)عليه السلم( لكلمة الرحمة من ال سبحانه دون الدخول‬
‫في تفاصيل هذه الكلمة‪ .‬القرآن من جانبه أيضًا أشار من بعيد إلى هذه المسألة دون الحديث عن ماهيتها وكنهها‪.‬‬
‫ن المراد‬ ‫ن الذي يفهم من هذه التعابير أن تلك الكلمات كانت تتضمن مسائل مهمة‪ ،‬فقد صّرح البعض بأ ّ‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫ن َلْم‬
‫سنا َو ِإ ْ‬
‫ظَلْمنا َأْنُف َ‬
‫بالكلمات هو العتراف بالخطأ‪ ،‬وهذا ما أشارت إليه الية ‪ 23‬من سورة العراف‪َ) :‬رّبنا َ‬
‫ن(‪ .‬كما استدل البعض الخر على هذا العتراف بالتقصير وطلب المغفرة‬ ‫سِري َ‬
‫ن الخا ِ‬
‫ن ِم َ‬
‫حْمنا َلَنُكوَن ّ‬
‫َتْغِفْر َلنا َوَتْر َ‬
‫ل أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءًا وظلمت نفسي فاغفر لي أّنك خير الغافرين«)‪ (3‬وقد ورد‬ ‫بالعبارة‪» :‬ل إله إ ّ‬
‫مثل هذا المعنى في بعض الروايات عن المام الباقر أو الصادق)عليهما السلم(‪(4).‬‬

‫ن تلك الكلمات كانت أسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن‬


‫بينما صّرحت أغلب الروايات بأ ّ‬

‫‪ .1‬نور الثقلين ‪) 60 / 1‬بتلخيص(‪.‬‬

‫‪ .2‬التوراة‪ ،‬سفر التكوين‪ ،‬الفصل الثاني‪ ،‬رقم ‪.17‬‬

‫‪ .3‬بحار النوار ‪.181 / 11‬‬

‫‪ .4‬تفسير نور الثقلين ‪.67 / 1‬‬

‫] ‪[ 137‬‬

‫والحسين)عليهم السلم(‪ .‬فقد جاء في كتاب الخصال أن ابن عباس قال‪ :‬سألت النبي)صلى ال عليه وآله( عن‬
‫الكلمات التي تلقاها آدم من رّبه فقال)صلى ال عليه وآله(‪» :‬سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إ ّ‬
‫ل‬
‫تبت عليه فتاب ال عليه إّنه هو التواب الرحيم«)‪.(1‬‬

‫ن هذا المعنى مع فارق طفيف قد ورد في »الدر المنثور« التفسير الروائي المشهور لدى العامة‪(2).‬‬ ‫جدير ذكره أ ّ‬
‫ن آدم)عليه السلم( حين ارتكب‬‫كما جاء في رواية ُاخرى عن تفسير المام الحسن العسكري)عليه السلم( أ ّ‬
‫الخطيئة وطلب المغفرة من ال‪ ،‬سأله أن يقبل توبته بعد أن اعترف بذنبه‪ .‬فقال له الحق سبحانه ألم أعلمك أن‬
‫تدعوني بمحمد وآل محمد لكل شدة نزلت بك؟ فقال آدم)عليه السلم(‪ :‬الّلهم بلى‪ .‬فقال ال‪ :‬ادعني بهؤلء محمد‬
‫وعلى وفاطمة والحسن والحسين)عليهم السلم(لقبل عذرك وأعطيك ما تريد‪(3).‬‬

‫ن الكلمات التي تلقاها آدم)عليه السلم(هى‪» :‬الّلهم‬‫وفي حديث آخر عن عائشة عن النبي)صلى ال عليه وآله( أ ّ‬
‫إّنك تعلم سري وعلنيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي الّلهم ّاني‬
‫ل ما كتبت لي وارضني بما قسمت لي«)‪(4‬‬ ‫أسألك ايمانًا يباشر قلبي ويقينًا صادقًا حتى أعلم أّنه ل يصيبني إ ّ‬

‫ونرى هنا أن ليس هناك من تضارب في هذه الروايات‪ ،‬فلعل آدم)عليه السلم( قد تضرع بهذا الدعاء إلى جانب‬
‫توسله بالنبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين)عليهم السلم(‪.‬‬

‫وأخيرًا فقد فسرها البعض بالحالة المعنوية لدم)عليه السلم( ومدى انشداده ل سبحانه; المر الذي رافق توسله‬
‫بالنبي)صلى ال عليه وآله(وأهل بيته)عليهم السلم(‪.‬‬

‫وبالطبع فليس هنالك من منافاة بين عدم علم آدم)عليه السلم( بهذه الكلمات قبل التعليم اللهي مع علمه بالسماء‪،‬‬
‫لخرى التي‬‫ن العلم بالسماء يعني العلم واللمام بأسرار الخليقة وهذا غير المقولة ا ُ‬
‫ن الحتمال القوي هو أ ّ‬
‫لّ‬
‫تتناول سبل تزكية النفس وتهذيبها وتدارك التقصير والسير إلى ال تبارك وتعالى‪.‬‬

‫ل عن تفسير الثقلين ‪.68 / 1‬‬


‫‪ .1‬كتاب الخصال نق ً‬
‫‪ .2‬تفسير الدر المنثور ‪) 60 / 1‬ذيل الية ‪ 37‬من سورة البقرة(‪.‬‬

‫‪ .3‬شرح نهج البلغة للمرحوم الخوئي ‪.118 / 2‬‬

‫‪ .4‬تفسير الدر المنثور ‪.59 / 1‬‬

‫] ‪[ 138‬‬

‫] ‪[ 139‬‬

‫القسم الثاني عشر‬

‫خْلِقِه‬
‫عَلى َتْبِليِغ الّرساَلِة َأماَنَتُهْم َلّما َبّدَل َأْكَثُر َ‬ ‫ي ِميثاَقُهْم َو َ‬ ‫حِ‬ ‫عَلى اْلَو ْ‬‫خَذ َ‬ ‫ن َوَلِدِه َأْنِبياَء َأ َ‬‫سْبحاَنُه ِم ْ‬ ‫طَفى ُ‬ ‫صَ‬‫»َو ا ْ‬
‫عباَدِتهِ َفَبَعثَ‬ ‫ن ِ‬ ‫عْ‬ ‫طَعْتُهْم َ‬‫ن َمْعِرَفِتِه َواْقَت َ‬ ‫عْ‬‫ن َ‬ ‫طي ُ‬‫شيا ِ‬ ‫جتاَلْتُهُم ال ّ‬‫خُذوا اَْلْنداَد َمَعُه َوا ْ‬ ‫حّقُه َواّت َ‬ ‫جِهُلوا َ‬ ‫ل ِإَلْيِهْم َف َ‬
‫عْهَد ا ّ‬‫َ‬
‫عَلْيِهْم ِبالّتْبِليِغ‬
‫جوا َ‬ ‫حَت ّ‬
‫ي ِنْعَمِتِه َوَي ْ‬‫سّ‬ ‫طَرِتِه َوُيَذّكُروُهْم َمْن ِ‬ ‫ق ِف ْ‬‫سَتْأُدوُهْم ِميَثا َ‬ ‫سَلُه َوواَتَر ِإَلْيِهْم َأْنِبياَءُه ِلَي ْ‬ ‫ِفيِهْم ُر ُ‬
‫ضوع َوَمعاِي َ‬
‫ش‬ ‫حَتُهْم َمْو ُ‬ ‫سْقف َفْوَقُهْم َمْرُفوع َوِمهاد َت ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ت اْلَمْقِدَرِة‪ِ :‬م ْ‬ ‫ن اْلُعُقوِل َوُيُروُهْم آيا ِ‬ ‫َوُيِثيُروا َلُهْم َدفاِئ َ‬
‫سل َأْو ِكتاب‬ ‫ي ُمْر َ‬ ‫ن َنِب ّ‬
‫خْلَقُه ِم ْ‬
‫سْبحاَنُه َ‬ ‫ل ُ‬ ‫عَلْيِهْم َوَلْم ُيخِْل ا ّ‬
‫حداث َتتاَبُع َ‬ ‫حِييِهْم َوآجال ُتْفِنيِهْم َوَأْوصاب ُتْهِرُمُهْم َوَأ ْ‬ ‫ُت ْ‬
‫سّميَ َلُه‬ ‫ن ساِبق ُ‬ ‫ن َلُهْم ِم ْ‬ ‫عَدِدِهْم َول َكْثَرُة اْلُمَكّذِبي َ‬ ‫صُر ِبِهْم ِقّلُة َ‬ ‫سٌل ل ُتَق ّ‬ ‫جة قاِئَمة‪ُ .‬ر ُ‬ ‫حّ‬‫جة لِزَمة َأْو َم َ‬ ‫حّ‬ ‫ُمْنَزل َأْو ُ‬
‫ت اَْلْبناُء«‪.‬‬ ‫خَلَف ِ‬‫ت اْلباُء َو َ‬ ‫سَلَف ِ‬‫ت الدُّهوُر َو َ‬ ‫ض ِ‬‫ن َوَم َ‬ ‫ت اْلُقُرو ُ‬ ‫سَل ِ‬
‫عَلى َذِلك َن َ‬ ‫ن َقْبَلُه‪َ .‬‬ ‫عّرَفُه َم ْ‬ ‫ن َبْعَدُه َأْو غاِبر َ‬ ‫َم ْ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫بعثة النبياء وعظم مسؤوليتهم‬

‫لقد تحدث المام)عليه السلم( في هذا المقطع من خطبته عن قضية بعث النبياء‪ .‬وهى المرحلة التي أعقبت‬
‫مرحلة خلق آدم وممارسة للحياة على الرض‪ ،‬وقد تطرق المام)عليه السلم( بادئ ذي بدء إلى علة بعث النبياء‬
‫وارسال الرسل‪ ،‬ثم أشار إلى ماهية مضمون دعوات النبياء ورسالتهم‪ ،‬إلى جانب استعراض الخطوط الرئيسية‬
‫لتعاليمهم وإرشاداتهم‪ ،‬وأخيرًا خصائص النبياء وصمودهم أمام الصعاب والمشاكل والطار العام الذي كان‬
‫يحكم علقاتهم فيما بينهم وكيفية‬

‫] ‪[ 140‬‬

‫ل‪» :‬واصطفى سبحانه من ولده‬


‫إرتباط بعضهم مع البعض الخر‪ .‬فقد استهل كلمه)عليه السلم( بهذا الشأن قائ ً‬
‫أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم)‪ (1‬وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم«‪.‬‬

‫ن النبياء قد عاهدوا ال منذ بداية الوحي برعايته وايصاله إلى الناس على أّنه أمانة وعهد‬
‫وعلى هذا الساس فا ّ‬
‫في أعناقهم‪.‬‬
‫نعم لقد تقبل النبياء)عليهم السلم( هذه المسؤولية العظيمة فجّدوا واجتهدوا في حملها وايصالها إلى الناس كأمانة‬
‫لمور من قبيل‪ :‬كيف اختار ال هذه الصفوة من النبياء‪ ،‬وما حقيقة‬ ‫ووديعة الهية‪ .‬أّما الحديث بشأن بعض ا ُ‬
‫الوحي‪ ،‬وكيف يوحى للبعض بينما ل يوحى للبعض الخر منهم‪ ،‬فنوكله إلى موضعه)‪.(2‬‬

‫ن ُنوح َو ِإْبراِهـيَم َوُموسى‬


‫ك َوِم ْ‬
‫ن ِمـيثاَقُهْم َوِمْن َ‬
‫ن الّنِبّيي َ‬
‫خذنا ِم َ‬
‫ن العبارة المذكورة إشارة للية‪َ) :‬و ِإذ َأ َ‬ ‫والواقع هو أ ّ‬
‫غِلـيظًا()‪.(3‬‬
‫خذنا ِمْنُهْم ِمـيثاقًا َ‬
‫ن َمْرَيَم َوَأ َ‬
‫عـيسى اْب ِ‬
‫َو ِ‬

‫ثم أشار)عليه السلم( إلى السبب الرئيسي لبعثة النبياء فقال‪» :‬لما بدل أكثر خلقه عهد ال إليهم فجهلوا حّقه‬
‫واتخذوا النداد)‪ (4‬معه واجتالتهم)‪ (5‬الشياطين عن معرفته واقتطعتهم عن عبادته«‪.‬‬

‫ن يهووا في أودية الشرك الرهيبة ومن ثم تتلقفهم‬ ‫فالواقع لقد كانت إنعدام معرفة هؤلء بال سبحانه سببًا ل ّ‬
‫الشياطين فتصدهم عن طاعة ال وعبادته‪ .‬أّما بشأن المراد بهذه العّدة وماهية العهد اللهي‪ ،‬فقد أشار أغلب‬
‫ن المراد به ميثاق عالم الذر‪ ،‬ويمكن اعتبار ذلك إشارة إلى الفطرة)‪ (6‬التي‬ ‫المفسرين وشّراح نهج البلغة إلى أ ّ‬
‫تطرق لها المام)عليه السلم( في عباراته اللحقة‪.‬‬

‫‪» .1‬الميثاق« كما ورد في صحاح اللغة من مادة »الوثوق« بمعنى العتماد على أمانة الشخص‪ .‬ومن هنا أطلق على الميثاق اسم‬
‫العهد‪ ،‬لّنه يدعو إلى الطمئنان والوثوق )طبعًا كان الصل موثاق ثم بدلت الواو بالياء(‪.‬‬

‫‪ .2‬انظر التفسير الموضوعي »نفحات القرآن« ‪.317 / 7‬‬

‫‪ .3‬سورة الحزاب ‪.7 /‬‬

‫‪» .4‬أنداد« جمع »ند« على )وزن( ضد بمعنى المثل‪ ،‬وأراد هنا المعبودين من دونه سبحانه وتعالى‪ ،‬بينما قال صاحب المقاييس أّنها‬
‫تعني النفصال والهروب والمخالفة‪ .‬ولهذا قال اللغويون بأن الند ل يطلق على كل مثل‪ ،‬بل تطلق على المثل الذي يتخذ مسارًا يخالف‬
‫آخر في أعماله وأفعاله كالفرد الذي يماثل آخر إّل أّنه يحاربه‪.‬‬

‫‪» .5‬اجتال« من مادة »جولن« بمعنى العصر‪ ،‬إّل أّنها اقترنت بالحرف )عن( في عبارة المام)عليه السلم( فعنت النصراف عن‬
‫الشيء‪ ،‬ومعناها هنا صرفتهم عن قصدهم‪.‬‬

‫‪ .6‬لقد ذكر هذا الحتمال في البحاث المتعلقة بعالم الذر‪ ،‬حيث يمكن أن يكون تفسيرها بالمسائل الفطرية والستعدادات اللهية التي‬
‫أودعها ال الذات النسانية ‪ .‬وللوقوف أكثر على هذا الموضوع‪ ،‬راجع تفسير المثل ‪.4 / 7‬‬

‫] ‪[ 141‬‬

‫وبعبارة ُاخرى فان ال قد خلق النسان على هذه الفطرة الطاهرة التي تجعله يتعرف على حقيقة التوحيد في باطنه‬
‫ويتطلع إلى الخير وينبذ الشر‪ .‬ولو بقيت هذه الفطرة السليمة على حالها لحفت العنايات اللهية النسانية جمعاء‬
‫ولهدتها إلى السمو والكمال ولسهل لهم النبياء السبل إلى ذلك الكمال ولقل حجم المسؤولية التي نهض بعبئها‬
‫هؤلء العظام‪ ،‬غير أن النحراف عن الفطرة سواء على مستوى المعارف التوحيدية لينتهي بالنزوع نحو الشرك‬
‫والوثنية وعلى المستوى العملي ليقود الستسلم إلى الهواء والشياطين‪ ،‬قد أدى إلى مواترة بعث ال للنبياء‬
‫وتحملهم لتلك المسؤوليات الخطيرة بغية إعادة البشرية إلى فطرتها الصلية‪ ،‬وهذا ما تطرق له المام)عليه‬
‫السلم( في العبارات اللحقة من الخطبة والتي أشار فيها إلى عظم مسؤوليات النبياء وما اتصفوا به من خصال‬
‫عملية ومكارم أخلقية‪ .‬ثم أشار المام)عليه السلم( إلى فلسفة بعثة النبياء فقال‪» :‬فبعث فيهم رسله وواتر)‪(1‬‬
‫إليهم أنبيائه ليستادوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول«‪.‬‬

‫ن المام)عليه السلم( أشار إلى أربعة أهداف رئيسية تقف وراء بعث النبياء‪ .‬أولها‪ :‬طلب أداء ميثاق‬ ‫فالواقع هو أ ّ‬
‫الفطرة فقد ذكرنا أن ال سبحانه قد أودع المعارف التوحيدية فطرة النسان التي تقوده بصورة طبيعية ـ مالم تدنس‬
‫وتلوث وتتعرف على النحراف ودون نشأة صاحبها وولدته على الشرك بفعل انحداره من والدين مشركين ـ إلى‬
‫عبادة الواحد الحد وسوف يتطلع إلى الصالحات ويعشق الحق والعدل في ظل هذه الفطرة السليمة الموحدة‪ ،‬فقد‬
‫جاء النبياء ليعيدوا الفراد المنحرفين إلى هذه الفطرة التوحيدية المودعة لديهم‪.‬‬
‫الهدف الثاني‪ :‬لتذكير الناس بنعم ال التي اعترتها الغفلة والنسيان‪ ،‬فالنسان ينطوي على نعم مادية ومعنوية جمة‬
‫ولو استغلها كما ينبغي فاّنه سيشيد صروح سعادته وفلحه في حين سيفقد مثل هذه السعاة إذا ما نساها وتجاهل‬
‫استعمالها واستغللها‪ .‬ومثله كمثل الفلح‬

‫ن النبياء قد أتوا الواحد تلو‬


‫‪» .1‬واتر« من مادة »وتر« بمعنى الفرد في مقابل الشفع بمعنى الزوج‪ ،‬وجاءت هنا بمعنى الواحد; أي أ ّ‬
‫الخر من أجل هداية الناس‪ .‬وقال البعض معناها الموالة مع الفاصلة‪ ،‬كأن يقال »واتر ما عليه من الصوم«; أي صام يومًا وأفطر‬
‫آخر‪ ،‬في قبال »متدارك« الذي يعني الموالة دون تخلل الفاصلة‪.‬‬

‫] ‪[ 142‬‬

‫الذي ل يستفيد من المياه لسقي أشجار حديقته ول يقطف ثمار أشجاره حين الحصاد‪ .‬فاذا ما جاء أحدهم وذكره‬
‫بهذه النعم المنسية فانه يكون قد أسدى له أعظم خدمة‪ ،‬وهذا ما ينهض به النبياء‪.‬‬

‫الهدف الثالث‪ :‬اتمام الحجة على الناس من خلل الدلة العقلية ـ إلى جانب المسائل الفطرية ـ وإرشادهم إلى‬
‫الكمال في ظل التعاليم السماوية والوامر والحكام الشرعية‪.‬‬

‫الهدف الرابع‪» :‬يثيروا لهم دفائن العقول« ليكشفوا للناس كنوز العلوم والمعارف الكامنة في عقولهم‪ ،‬فقد أودع ال‬
‫هذه العقول كنوزًا عظيمة قيمة لو ظهرت واستغلت لشهدت العلوم والمعارف نهضة عظيمة وجبارة‪ ،‬غير أن هذه‬
‫الكنوز اختفت واستترت اثر هذه الغفلة والتعاليم الفاسدة والذنوب والمعاصي والتلوث الخلقي‪ ،‬ومن هنا فان‬
‫إحدى وظائف النبياء تكمن في ازالة هذه الحجب واثارة تلك الكنوز المفعمة بالعلوم والمعارف‪.‬‬

‫—–‬

‫ثم أشار المام)عليه السلم( إلى الهدف الخامس في استعراض اليات اللهية للناس في عالم الخلقة فقال)عليه‬
‫السلم(‪» :‬ويروهم آيات المقدرة« ثم يشير)عليه السلم( إلى هذه اليات فيقول‪» :‬من سقف فوقهم مرفوع ومهاد‬
‫تحتهم موضوع ومعايش تحييهم وآجال تفنيهم وأوصاب)‪ (1‬تهرمهم)‪(2‬وأحداث تتابع عليهم«‪.‬‬

‫لمور تمثل سلسلة من أسرار الخلقة في السماء والرض وعوامل الحياة وأسباب الفناء‬ ‫ن هذه ا ُ‬
‫والواقع هى أ ّ‬
‫واللم والعناء والتي تذكر كل واحدة منها النسان بال سبحانه وتعالى إضافة إلى الحوادث والوقائع التي تدعو‬
‫النسان إلى اليقظة والعتبار‪ ،‬وعليه فان النبياء يحملون إلى الناس تعاليم سامية ومفاهيم نبيلة من شأن كل منها‬
‫رفع المستوى العلمي والمعرفي لدى النسان أو ايقاظه من غفلته وجعله يتحلى بالفطنة والذكاء‪ .‬ثم قال)عليه‬
‫السلم(‪» :‬ولم يخل ال سبحانه خلقه من نبي مرسل أو كتاب منزل أو حجة لزمة أو محجة قائمة«‪ .‬فالعبارة‬

‫‪» .1‬أوصاب« من مادة »وصب« بمعنى مرض مزمن‪ ،‬والواصب يطلق على الشيء الموجود دائمًا حسب المفردات‪ ،‬وجاءت هنا‬
‫بمعنى المتاعب والمشاكل والمعاناة‪.‬‬

‫‪» .2‬تهرمهم« من مادة »هرم« على وزن حرم بمعنى الكهولة والعجز‪.‬‬

‫] ‪[ 143‬‬

‫تشير إلى أربعة مواضيع ل يعدم الوجود بعضها طرفة عين أبدا; المر الذي يتّم الحجة على الناس‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ وجود النبياء ـ سواء من كان له كتاب سماوي أم لم يكن ـ الذي يتضمن هداية البشرية وانتشالها من غفلتها‬
‫واتمام الحجة عليها‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الكتب السماوية المتداولة بين المم رغم وفاة النبياء الذين أتوا بها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الوصياء وأئمة العصمة والذين عبر عنهم المام)عليه السلم( بقوله »حجة لزمة«‪ .‬وهناك من احتمل أنّ‬
‫المراد بالحجة اللزمة دليل العقل‪ ،‬لكن يبدو هذا الحتمال مستبعدًا لّنه ل يكفي في هداية الناس‪ ،‬ول مانع من‬
‫الجمع بينهما في هذه العبارة‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ سنة النبياء والوصياء والئمة والتي عبر عنها بالمحجة القائمة‪ ،‬حيث عنوا المحجة بالطريق الواضح‬
‫والمستقيم ـ سواء الظاهري أو الباطني ـ الذي يوصل النسان إلى هدفه المنشود)‪ (1‬وبهذا فان الحق سبحانه قد أتم‬
‫لمم والمجتمعات البشرية في جميع العصار والمصار وأمدهم بأسباب الهداية‪ ،‬ثم تطرق)عليه‬ ‫حجته على كافة ا ُ‬
‫السلم(لخصائص هؤلء النبياء فقال‪» :‬رسل ل تقصر بهم قلة عددهم ول كثرة المكذبين لهم«‪ .‬أجل كانوا مث ً‬
‫ل‬
‫في الرجولة والقدام والشجاعة بحيث كان أحدهم يصمد بوجه اللف من خصوم الدعوة فيلقى بالنار فتشمله‬
‫عناية ال ورحمته ليخرج منها سالمًا مرفوع الرأس‪ ،‬ويحطم الخر الصنام ثم يحتج بالدلة القاطعة التي تفند‬
‫عقائدهم الباطلة وتثبت صحة دعواه‪ .‬كما كان البعض يحاصر من قبل جموع الكفر والشرك بيد عزلء وقد شهر‬
‫خصومهم سيوفهم فلم يضعفوا ويهنوا ووقفوا بكل صمود وشموخ‪ .‬والجدير بالذكر في خصائص النبياء التأكيد‬
‫هنا على صمودهم وشهامتهم‪ .‬ثم يواصل)عليه السلم(حديثه عن النبياء وكيفية ارتباط بعضهم بالبعض الخر‬
‫ووحدة رسالتهم وهدفهم فقال‪» :‬من سابق سمى له من بعده أو غابر)‪ (2‬عرفه من قبله«‪ .‬فقد حدد)عليه السلم(في‬
‫هذه العبارة اسلوب من أساليب التعرف على النبياء في أن يقوم نبي ببشارة قومه‬

‫‪ .1‬التحقيق في كلمات القرآن الكريم‪ ،‬مادة الحج‪.‬‬

‫‪» .2‬غابر« من مادة »غبار« و»غبور« بمعنى الشيء المتبقي‪ ،‬ومن هنا يطلق على الحليب المتبقي في الثدي اسم الغبرة‪ ،‬كما يطلق‬
‫الغبار على التراب المتبقي في الهواء‪ ،‬ويقال الغابر للشخاص والزمنة الماضية )راجع المقاييس والمفردات ولسان العرب(‪.‬‬

‫] ‪[ 144‬‬

‫بالنبي الذي يأتي من بعده وبهذا يعرف النبي من خلل البشارة به‪(1).‬‬

‫ل‪» :‬على ذلك نسلت)‪ (2‬القرون ومضت الدهور وسلفت الباء‬


‫ثم يشير)عليه السلم( إلى ثبوت هذه السنة قائ ً‬
‫وخلقت البناء«‪.‬‬

‫تأّملت‬
‫‪ 1‬ـ النبياء بمثابة المزارعين‬

‫ن القدرة اللهية المطلقة قد أودعت الذات النسانية قابلية كافة أسباب‬ ‫ما تفيده عبارة أمير المؤمنين)عليه السلم( أ ّ‬
‫الخير والصلح والفلح‪ ،‬وقد نشرت كافة البذور والرياحين العطرة ساحة قلب النسانية الخصبة‪ .‬والنبياء من‬
‫جانبهم يقومون بري هذه البذور لتنبت أشجارًا محملة بالثمار والفاكهة فيستثيروا هذه الكنوز الكامنة في النفس‬
‫البشرية »ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته‪ ...‬ويثيروا لهم دفائن العقول« واستنادًا لهذا فان النبياء‬
‫ل يمنحون النسان شيئًا خارجًا عن وجوده‪ ،‬بل ينمون ما لديه ويظهروا له مكنونه‪ ،‬حتى ذهب البعض إلى أ ّ‬
‫ن‬
‫التعاليم والمفاهيم التي تلقى على النسان إّنما تمثل تذكيرًا له‪ ،‬فالعلوم والمعارف قد اودعت النفس البشرية وما‬
‫ن هذه المعارف‬ ‫وظيفة المعلمين ـ سواء النبياء أو امتداداتهم ـ سوى إثارة هذه المعارف من خلل تعاليمهم‪ ،‬وكأ ّ‬
‫مصادر مياه جوفية تشق طريقها إلى سطح الرض بعد الحفر والتنقيب ولعل التعبير بالتذكير الذي ورد على‬
‫ن(شاهدًا على صحة المعنى الذي‬ ‫ن الّذْكرى َتْنَفُع الُمـْؤِمِنـي َ‬
‫ن(و)َوَذّكـْر َفِإ ّ‬
‫لسان اليات القرآنية )َلَعّلُهْم َيَتَذّكُرو َ‬
‫أوردناه‪ .‬والواقع أن هذا البحث متشعب وشامل ل يسعنا استيعابه في هذه العجالة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ حوادث العتبار واليقظة‬


‫ن النبياء وإلى جانب تعليمهم‬
‫لقد تضمنت العبارة المذكورة إشارة إلى حقيقة وهى أ ّ‬

‫‪ .1‬لقد ورد الفعل »سمى« بصيغة المجهول في بعض نسخ نهج البلغة وما ذكرناه سابقًا يتفق وهذه النسخة‪ ،‬أّما إذا ذكر بصيغة‬
‫ن الحتمال الول أنسب‪.‬‬ ‫المعلوم تصبح العبارة بهذا الشكل »من سابق سمى له من بعده« إّل ا ّ‬

‫‪» .2‬نسلت« القرون من مادة »نسل« بمعنى تكاثر الولد‪ ،‬والعبارة كناية رائعة عن توالي القرون وكأن كل قرن قد ولد من القرن‬
‫السابق‪.‬‬

‫] ‪[ 145‬‬

‫الناس المعارف اللهية الحقة وبيان آيات القدرة وعظمة خالق الوجود‪ ،‬فانهم يلفتون انتباه الناس إلى الحوادث ذات‬
‫الدروس والعبر من قبيل حلول الجل وانتهاء العمر وآجال النعم المادية واستعراض المحن والخطوب والوقائع‬
‫الشديدة‪ .‬فالعبارات الواردة في الخطبة إشارة ُاخرى لفلسفة الحداث الخطيرة التي تنطوي عليها الحياة البشرية‪،‬‬
‫بحيث لول هذه الحداث لغطت البشرية في سبات عميق وحجاب من الغفلة يتعذر معه صحوتها وافاقتها من‬
‫سيادتها‪(1).‬‬

‫الدرس الخر الذي تعرضت له الخطبة هو دور الدين في حياة النسان ولول النبياء لتاهت البشرية في غياهب‬
‫الشرك والوثنية وعبادة الصنام ولستحوذت عليها الشياطين وحالت دون عبوديتها ومعرفتها بال‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫ن‬
‫العقل بمفرده ل يسعه الخذ بيد النسان إلى السعادة بعد تجاوز موانع الطريق ومعوقاته‪.‬‬

‫ن شعاعه باهت خافت مالم يستند إلى ضياء الوحي الذي يخترق المكان ول يقف‬ ‫لأّ‬ ‫ن العقل نور خالد إ ّ‬‫صحيح أ ّ‬
‫عند حدود فيهديه في اجتياز ظلمات الطريق‪ .‬ومن هنا تتضح جسامة الخطأ الذي أصاب البراهمة الذين تنكروا‬
‫لبعثة النبياء وارسال الرسل‪ .‬ولو كان العقل يدرك كافة أسرار النسان الباطنية والظاهرية ويحيط بالعلقة التي‬
‫تحكم الماضي والحاضر والمستقبل ول يخطئ في تشخيصه للحداث لمكن القول بالكتفاء بإدراكه وفهمه لكافة‬
‫ن محدودية هذا الفهم والدراكوضآلة المعاليم مقارنة بالمجاهيل‬
‫وقائع الحياة في هذا العالم والعالم الخر‪ ،‬غير أ ّ‬
‫)وهى المعاليم التي تتسم بالسعة والشمولية( ل تجعل من الصواب الستناد إليها بمفردها‪.‬‬

‫ن العقل هو حجة ال; المر الذي أكده المام)عليه السلم( في هذه الخطبة‪ ،‬بل تواترت الروايات‬
‫طبعًا ل ننكر أ ّ‬
‫التي صّرحت بأّنه »الرسول الباطني« حيث ورد في الحديث المروي عن المام‬

‫‪ .1‬للوقوف على تفاصيل هذا الموضوع‪ ،‬انظر كتاب نفحات القرآن ‪ 440 / 4‬فصاعدًا‪.‬‬

‫] ‪[ 146‬‬

‫ن ل على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة‪ ،‬فأّما الحجة الظاهرة فالرسل‬ ‫الكاظم)عليه السلم( أّنه قال‪» :‬إ ّ‬
‫والنبياء والئمة)عليهم السلم( وأّما الباطنة فالعقول«)‪ .(1‬مع ذلك فرسالة هذا الرسول الباطن محدودة‪ ،‬بينما‬
‫ليست كذلك رسالة الرسول الظاهر الذي يستند إلى الوحي والعلم اللهي المطلق‪ .‬وبناًء على ما تقدم فقد اتضح‬
‫الرد على البراهمة السوفسطائيين الذين يقولون‪ :‬ما يأتي به النبياء ل يخرج عن حالتين‪ :‬اّما أن يدرك العقول ما‬
‫يقوله أو ل يدرك‪ ،‬فان أدركه العقل فل حاجة للنبياء‪ ،‬وإن لم يدركه فو ليس بمعقول ول يمكن قبوله لن النسان‬
‫ل يقبل قبط ما ليعقل‪ .‬والشكال الذي يرد على هذا الستدلل هو أن هؤلء لم يفرقوا بين اللمعقول والمجهول‪،‬‬
‫ن العقل يدرك جميع الشياء‪ ،‬والحال لدينا تصنيف ثلثي بشأن المواضيع المطروحة‪.‬‬ ‫وكأّنهم تصوروا أ ّ‬
‫ن نقول‬‫لأّ‬ ‫فالمواضيع التي تعرض علينا إّما أن تكن موافقة لحكم العقل أو مخالفة له أو مجهولة‪ .‬ول يسعنا هنا إ ّ‬
‫بكل تأكيد أن أغلب الموضوعات من قبيل القسم الثالث; أي هى من قبيل المجاهيل التي كرست رسالة النبياء‬
‫وظيفتها في هذا المجال‪ .‬أضف إلى ذلك فغالبنا ما يعترينا هاجس الخطأ والزلل في إدراكاتنا العقلية; ومن هنا‬
‫برزت حاجتنا الملحة للنبياء‪ ،‬وبعبارة ُاخرى إلى تأييد العقل بالنقل الذي يسعه منحنا السكينة والطمئنان في‬
‫إدراكاتنا العقلية ويزيل الوساوس والهواجس ويأخذ بأيدينا إلى السبيل القويم‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ل تخلو الرض من حجة‬

‫لقد أكد المام علي)عليه السلم( على حقيقة ُاخرى وهى عدم خلو الرض من الحجة اللهية الظاهرية أو الباطنية‬
‫»ولم يخل ال سبحانه خلقه من نبي مرسل أو كتاب منزل أو حجة لزمة أو محجة قائمة« والطريف في كلم‬
‫المام)عليه السلم( أّنه قرن الكتب السماوية بالنبياء والحجج اللهية والسيرة المعتبرة‪ .‬نعم وراء كل كتاب‬
‫سماوي نبي من أنبياء ال يكشف أسراره ويوضح معالمه ويبّين أحكامه إلى جانب إجراءه وتنفيذ مفاهيمه‪ ،‬كما‬
‫يواصل نهجه بواسطة سنته‬

‫‪ .1‬أصول الكافي ‪.16 / 1‬‬

‫] ‪[ 147‬‬

‫واستخلفه للوصي والمام من بعده ليحفظ رسالته ويواصل نهجه‪ .‬وهذه من أهم عقائدنا في هذا المجال‪ ،‬حيث‬
‫ل اثنان لكان أحدهما الحجة«)‪ .(1‬وهو‬
‫ورد عن إمامنا الصادق)عليه السلم( أّنه قال‪» :‬لو لم يبق في الرض إ ّ‬
‫المر الذي أكده أمير المؤمنين)عليه السلم( في قصار كلماته‪» :‬الّلهم بلى ل تخلو الرض من قائم ل بحجة إّما‬
‫ظاهرًا مشهورًا وإّما خائفًا مغمورًا لئل تبطل حجج ال وبيناته«)‪.(2‬‬

‫‪ 5‬ـ مميزات النبياء‬

‫ن النبياء الذين يبعثهم ال من أجل هداية الخلق ليسوا من قبيل الفراد العاديين‪ ،‬بل يتصفون بجميع الخصال‬ ‫إّ‬
‫والمميزات اللزمة لقيامهم بوظيفتهم الرسالية الخطيرة ومنها البسالة والشجاعة الفائقة في ابلغ الرسالة‬
‫والصمود بوجه خصوم الدعوة من القوام الجاهلة والمعاندة والذود عن هذه الرسالة إلى حد الستماتة والشهادة‬
‫في سبيل تحقيق أهداف الرسالة‪ .‬وهذا ما أشار إليه المام)عليه السلم(في تصدي النبياء لخصومهم والمكذبين‬
‫والمستهزئين من أعدائهم; المر الذي يشاهد بوضوح في تاريخ النبياء ولسيما خاتمهم المصطفى)صلى ال‬
‫عليه وآله(‪» :‬رسل ل تقصر بهم قّلة عددهم ول كثرة المكذبين لهم«‪ .‬كما أكد القرآن الكريم على تحلي النبياء‬
‫ل()‪.(3‬‬
‫لا ّ‬‫حدًا ِإ ّ‬
‫ن َأ َ‬
‫شْو َ‬
‫خَ‬
‫شْوَنُه َول َي ْ‬
‫خَ‬‫ل َوَي ْ‬
‫تا ّ‬
‫ن ِرسال ِ‬
‫ن ُيَبّلُغو َ‬
‫بصفتهم مبلغي الرسالت بهذه الصفة‪) :‬اّلِذي َ‬

‫والذي يفهم من عبارة المام)عليه السلم( ـ كما صّرح بذلك صاحب منهاج البراعة ـ أن التقية لتجوز على‬
‫النبياء‪ ،‬ومن هنا يتضح بطلن ما نسبه الفخر الرازي للشيعة المامية من أّنها ل تجّوز على النبياء حتى إظهار‬
‫ن التقية حرام على الئمة بل وحتى الفراد العاديين في الحالت التي‬ ‫الكفر تقية‪ (4).‬بل المر أبعد من ذلك ل ّ‬
‫يتعرض فيها الدين للخطر‪ ،‬بعبارة ُاخرى قد تكون التقية واجبًا وقد تكون حرامًا‪ .‬فاذا كان تركها يؤدي إلى سفك‬
‫الدماء دون حلها فهى واجبة‪،‬‬

‫‪ .1‬الكافي ‪.179 / 1‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الكلمات القصار‪.147 ،‬‬

‫‪ .3‬سورة الحزاب ‪.39 /‬‬

‫‪ .4‬منهاج البراعة ‪.160 / 2‬‬

‫] ‪[ 148‬‬

‫كأن تقع جماعة من المسلمين في يد العداء بحيث يراق دمهم إذا أظهروا إسلمهم‪ ،‬فهنا يجب عليهم اخفاء دينهم‬
‫كي ل يمكنوا العدو من قتلهم‪ ،‬في حين قد يؤدي اخفاء الدين والفصاح عن العقيدة أحيانًا إلى ضعف المسلمين‬
‫وذلتهم‪ ،‬ففي هذه الحالة يحرم على الفراد كتم دينهم وعليهم أن يكشفوا عنها بكل شجاعة مهما كلف المر )وما‬
‫واقعة كربلء عنك ببعيد التي جسد فيها المام الحسين وصحبه الكرام حرمة التقية حفظًا للدين(‪.‬‬

‫ن التقية ليست من‬


‫ولما كان كتم النبياء لمعتقداتهم يهدد أصل رسالتهم كانت وظيفتهم ترك التقية‪ .‬جدير ذكره أ ّ‬
‫المفاهيم التي تقتصر على الشيعة أو المسلمين فحسب‪ ،‬بل مفهوم من المفاهيم العقلئية الذي يدعو النسان إلى‬
‫حفظ نفسه وعدم هدر دمه إذا لم يكن هناك من جدوى لبداء عقيدته‪(1).‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬راجع كتاب القواعد الفقهية ‪ ،383 / 1‬قاعّدة التقية للوقوف بصورة أشمل على مفهوم التقية وتقسيمها إلى الحكام الخمسة‬
‫)الواجب والحرام والمستحب والمكروه والمباح( واليات والروايات الواردة بهذا الشأن‪.‬‬

‫] ‪[ 149‬‬

‫القسم الثالث عشر‬

‫عَلى الّنِبّيينَ‬ ‫خوذًا َ‬ ‫عَدِتِه َوِإْتماِم ُنُبّوِتِه َمْأ ُ‬


‫ل)صلى ال عليه وآله( ِلْنجاِز ِ‬ ‫سوَل ا ّ‬ ‫حّمدًا َر ُ‬
‫سْبحاَنُه ُم َ‬ ‫ل ُ‬‫ثا ّ‬ ‫ن َبَع َ‬ ‫»ِإَلى َأ ْ‬
‫شّتَتٌة‪َ ،‬بْي َ‬
‫ن‬ ‫ق ُمَت َ‬‫طراِئ ُ‬ ‫شَرٌة َو َ‬ ‫ض َيْوَمِئذ ِمَلٌل ُمَتَفّرَقٌة َوَأْهواٌء ُمْنَت ِ‬
‫سَماُتُه‪َ ،‬كِريمًا ِميلُدُه‪َ ،‬وَأْهُل اَْلْر ِ‬ ‫شُهوَرًة ِ‬ ‫ِميَثاُقُه َم ْ‬
‫جهاَلِة ُثّم‬‫ن اْل َ‬
‫ضلَلِة َوَأْنَقَذُهْم ِبَمكاِنِه ِم َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫غْيِرِه َفَهداُهْم ِبِه ِم َ‬
‫شير ِإَلى َ‬ ‫سِمِه َأْو ُم ِ‬
‫حد ِفي ا ْ‬ ‫خْلِقِه َأْو ُمْل ِ‬
‫ل ِب َ‬
‫شّبه ِّ‬ ‫ُم َ‬
‫ن َمقاِم‬ ‫عْ‬ ‫ب ِبِه َ‬‫غ َ‬‫ن داِر الّدْنيا َوَر ِ‬ ‫عْ‬ ‫عْنَدُه‪َ ،‬وَأْكَرَمُه َ‬
‫ي َلُه ما ِ‬ ‫ضَ‬‫حّمد)صلى ال عليه وآله( ِلقاَءُه َوَر ِ‬ ‫سْبحاَنُه ِلُم َ‬ ‫ختاَر ُ‬ ‫اْ‬
‫ل ِبَغْيِر‬ ‫خّلَفتِ اَْلْنِبياُء ِفي ُأَمِمها ِإْذ َلْم َيْتُرُكوُهْم َهَم ً‬ ‫ف ِفيُكْم ما َ‬ ‫خّل َ‬
‫ضُه ِإَلْيِه َكِريمًا)صلى ال عليه وآله( َو َ‬ ‫اْلَبْلَوى َفَقَب َ‬
‫عَلم قاِئم«‪.‬‬ ‫ضح َول َ‬ ‫طِريق وا ِ‬ ‫َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫بزوغ شمس السلم‬

‫أشار المام)عليه السلم( في هذا القسم من الخطبة إلى أربعة ُامور‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ قضية بعثة نبي السلم محمد)صلى ال عليه وآله( وبعض خصائصه وصفاته وفضائله وعلئم نبوته‪.‬‬

‫لّمة أبان انبثاق الدعوة السلمية من حيث النحرافات الدينية والعقائدية وانقاذها‬
‫‪ 2‬ـ الوضع الذي كانت تعيشه ا ُ‬
‫من تلك الظلمات بنور رسالة النبي)صلى ال عليه وآله(‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ رحيل النبي)صلى ال عليه وآله( من الدنيا‪.‬‬

‫لّمة )القرآن الكريم(‪.‬‬


‫‪ 4‬ـ الرث الذي خلفه النبي)صلى ال عليه وآله( ل ُ‬
‫] ‪[ 150‬‬

‫فقد قال)عليه السلم(‪» :‬إلى أن بعث ال سبحانه محمدًا)صلى ال عليه وآله( لنجاز)‪ (1‬عدته واتمام نبوته)‪.«(2‬‬

‫ثم أشار إلى شمة من فضائله والميثاق الذي أخذ من النبيين من قبله بالبشارة به »مأخوذًا على النبيين ميثاقه‬
‫مشهورة سماته)‪ ،(3‬كريمًا ميلده« ولعل العبارة الخيرة إشارة إلى كرامة آبائه وأجداده‪ ،‬أو بركات ولدته التي‬
‫عمت أرجاء العالم‪ ،‬فقد صّرحت بعض السير التأريخية بتهاوي أوثان الكعبة وانطفاء نار المجوس وجفاف بحيرة‬
‫ساوة التي كانت تحظى بعبادة بعض الناس وتهدم قصور بعض الجبابرة تزامنًا مع الولدة الميمونة للنبي‬
‫الكرم)صلى ال عليه وآله(وكل هذه الحداث دللة واضحة على بداية عصر جديد بانطلقة شرارة التوحيد‬
‫والوقوف بوجه كافة مظاهر الشرك واللحاد‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬وأهل الرض يومئذ ملل متفرقة وأهواء‬
‫منتشرة وطرائف متشتتة بين مشبه ل بخلقه أو ملحد في اسمه أو مشير إلى غيره«‪.‬‬

‫»ملحد« من مادة »لحد« على وزن مهد بمعنى الحفرة الواقعة على جانب ومن هنا اطلق على مثل هذه الحفرة‬
‫اسم اللحد‪ ،‬كما أطلق اللحاد على كل عمل يخرج عن حالة العتدال ويجنح نحو الفراط والتفريط‪ ،‬ومن هنا‬
‫نعتت الوثنية والشرك باللحاد‪ .‬وعليه فالمراد بقوله)عليه السلم(‪» :‬ملحد في اسمه« هو ما أشرنا إليه سابقًا من‬
‫نعت الصنام بأسماء ال‪ ،‬على سبيل المثال كانوا يسمون أحد الصنام باللت والخر بالعزى والثالث بمناة‪ ،‬وهى‬
‫السماء التي اشتقت على التوالي من أسماء ال والعزيز والمنان‪ ،‬أو أن يكون المراد منها اضفاء صفات ال على‬
‫المخلوقين‪ ،‬ول مانع من الجمع بين التفسيرين‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬فهداهم به من الضللة وانقذهم بمكانه من‬
‫الجهالة‪ ،‬ثم اختار سبحانه لمحمد)صلى ال عليه وآله( لقائه‪ ،‬ورضى له ما عنده‪ ،‬وأكرمه عن دار الدنيا ورغب به‬
‫عن مقام البلوى«)‪.(4‬‬

‫‪» .1‬انجاز« من مادة »نجز« على وزن رجز بمعنى النهاء وتحقيق الشيء‪.‬‬

‫‪ .2‬الضمير في )نبوته( يعود إلى النبي‪ ،‬أّما الضمير في )عدته( ففيه احتمالن‪ :‬أن يكون عائدًا على ال أو عائدًا على النبي‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫ن‬
‫الول أنسب‪ ،‬وذلك لن بعثة النبي كانت وعدًا إلهيًا وعد بها نبي ال إبراهيم الخليل)عليه السلم( وسائر النبياء‪ ،‬كما يحتمل أن يكون‬
‫الضميران عائدين ل سبحانه‪.‬‬

‫‪» .3‬سماته« جمع »سمة« بمعنى العلمة‪.‬‬

‫‪ .4‬إذا تعدت رغب بحرف في عنت الرغبة في الشيء والقبال عليه‪ ،‬بينما تعنى العزوف عن الشيء والنصراف عنه‪ ،‬حيث يكون‬
‫معنى العبارة أن ال لم يرد لنبيه أن يعيش صعاب الدنيا أكثر من هذا الحد‪ ،‬فقبضه من هذا العالم الدني ليضمه إلى جواره في العالم‬
‫العلوي‪.‬‬

‫] ‪[ 151‬‬

‫أجل فقد قبضه إليه قبض اختيار وكرامة »فقبضه إليه كريمًا)صلى ال عليه وآله(« وقد ورث أمته ما ورثت‬
‫النبياء من قبله ُاممها »وخلف فيكم ما خلفت النبياء في ُاممها« ـ فالنبياء لم يتركوا ُاممهم من بعدهم سدى‪ ،‬بل‬
‫ل«)‪ (1‬بغير طريق واضح ول علم قائم«‪ .‬من‬ ‫أضاءوا له معالم الطريق ونصبوا عليهم الحجج »إذ لم يتركوهم هم ً‬
‫البداهة أن يكون مراد المام)عليه السلم( من هذه العبارة ما ورد في حديث الثقلين الذي تواترت الروايات بشأنه‬
‫حيث قال رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪» :‬إّني مخلف فيكم الثقلين‪ :‬كتاب ال وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم‬
‫بهما لن تضلوا بعدي أبدًا وقد نبأني اللطيف الخبير إّنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض«‪(2).‬‬

‫ل أّنه لم يتطرق إلى‬


‫ن المام)عليه السلم( واصل حديثه في بحث جامع عن كتاب ال )القرآن الكريم( إ ّ‬ ‫وبالطبع فا ّ‬
‫العترة‪ ،‬حيث تعرض بصورة مفصلة ـ كما سنشير لحقًا ـ إلى العترة في عّدة خطب من نهج البلغة‪ .‬ولعل‬
‫عبارته)عليه السلم(‪» :‬علم قائم« في آخر كلمه إشارة إلى الوصياء‪ .‬على كل حال فان حرص النبياء على‬
‫ُاممهم لم يقتصر على حياتهم‪ ،‬بل كانوا قلقين على مستقبلهم إلى حد يفوق قلق الوالد الشفيق حال احتضاره على‬
‫ولده الصغير; ومن هنا يتعذر تصور ترك النبياء لممهم دون استخلفهم لوصياءهم عليهم لكي ل تذهب‬
‫لّمة وهدايتها أدراج الرياح‪.‬‬
‫مساعيهم في إرشاد ا ُ‬
‫تأّملن‬
‫‪ 1‬ـ الديان قبل البعثة البنوية‬

‫لقد تضمنت عبارته)عليه السلم( إشارات مقتضبة عميقة المعنى بشأن أديان العرب وغير العرب في العصر‬
‫الجاهلي وقبل البعثة النبوية‪ .‬بحيث صّرح المؤرخون والمحققون بأنّ العرب وعلى غرار سائر القوام كانت‬
‫تعيش عّدة أديان ومذاهب ل يحصى عددها إلى جانب النحرافات والخرافات الجمة‪ .‬وقد قال ابن أبي الحديد ـ‬
‫الشارح المعروف لنهج البلغة ـ بشأن أديان‬

‫ل« من مادة »همل« على وزن حمل بمعنى ترك الشيء إلى جانب اهماله وعدم الهتمام به‪.‬‬
‫‪» .1‬هم ً‬

‫‪ .2‬راجع كتاب »نفحات القرآن« المجلد التاسع للوقوف على أسناد حديث الثقلين وتواتره عند علماء الفريقين‪.‬‬

‫] ‪[ 152‬‬

‫لّمة التي بعث النبي محمد)صلى ال عليه وآله( فيها فهم العرب‪ ،‬وكانوا أصنافًا شتى‪،‬‬ ‫العرب في الجاهلية‪ :‬فأّما ا ُ‬
‫فمنهم معطلة ومنهم غير معطلة‪ ،‬فأّما المعطلة منهم‪ ،‬فبعضهم أنكر الخالق والبعث والعادة‪ ،‬وقالوا ما قال القرآن‬
‫ل الّدهُْر()‪ (1‬فجعلوا الجامع لهم الطبع‪ ،‬والمهلك‬ ‫حيا َوما ُيْهِلُكنا ِإ ّ‬
‫ت َوَن ْ‬
‫حياُتنا الّدْنيا َنُمو ُ‬
‫ل َ‬‫ي ِإ ّ‬
‫العزيز عنهم‪) :‬ما ِه َ‬
‫حِ‬
‫ي‬ ‫ن ُي ْ‬
‫ل َم ْ‬
‫لهم الدهر‪ .‬وبعضهم اعترف بالخالق سبحانه وأنكر البعث‪ .‬وهم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله‪) :‬قا َ‬
‫ى َرِمـيٌم()‪.(2‬‬
‫الِعظاَم َوِه َ‬

‫ومنهم من ل يطلق عليها لفظ الشريك‪ ،‬ويجعلها وسائل وذرائع إلى الخالق سبحانه‪ ،‬وهم الذين قالوا‪) :‬ما َنْعُبُدُهْم‬
‫ل ُزْلفى()‪ .(3‬وكان في العرب مشبهة ومجسمة‪ ،‬منهم أمية بن الصلت‪ ،‬وهو القائل‪:‬‬ ‫ل ِلـُيَقّرُبونا ِإلى ا ّ‬
‫ِإ ّ‬

‫ن البارئ تعالى‬
‫من فوق عرش جالس قد حط رجليه إلى كرسيه منصوب وذهب بعض متكلمي المجسمة إلى أ ّ‬
‫مركب من أعضاء على حروف المعجم‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬إّنه ينزل على حمار في صورة غلم أمرد‪ ،‬في رجليه‬
‫نعلن من ذهب‪ ،‬وعلى وجهه فراش من ذهب يتطاير‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬إّنه في صورة غلم أمرد صبيح الوجه‪،‬‬
‫عليه كساء أسود‪ ،‬ملتحف به‪(4).‬‬

‫وأّما الذين ليسوا بمعطلة من العرب; فالقليل منهم‪ ،‬وهم المتألهون أصحاب الورع والتحرج عن القبائح كعبد ال‪،‬‬
‫وعبد المطلب وابنه أبي طالب‪ ،‬وزيد بن عمرو بن نفيل‪ ،‬وقس بن ساعّدة البادي‪ ،‬وعامر بن الظرب العدواني‬
‫وجماعة غير هؤلء‪ (5).‬أّما البعض الخر من شّراح نهج البلغة فقد صنفوا علماء العرب إلى عّدة طوائف منهم‬
‫العارفين بالنساب‪ ،‬ومفسري الحلم ومتخصصين في علم النواء )نوع من التنجيم المشوب بالخرافات( والكهنة‬
‫الذين يوحون إلى الناس بأّنهم يخبرون عن مغيبات المستقبل‪ .‬أّما من غير العرب كان البراهمة الذين عاشوا في‬
‫الهند ينكرون كافة الديان ول يؤمنون سوى بالحكام العقلية‪ .‬وطائفة ُاخرى من عبدة الكواكب والشمس والقمر‬
‫التي تمثل أنواعًا من الوثنية)‪.(6‬‬

‫‪ .1‬سورة الجاثية ‪.24 /‬‬

‫‪ .2‬سورة يس ‪.78 /‬‬

‫‪ .3‬سورة الزمر ‪.3 /‬‬

‫‪ .4‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.227 / 3‬‬

‫‪ .5‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.117 / 1‬‬

‫‪ .6‬شرح نهج البلغة لبن ميثم ‪.1/205‬‬


‫] ‪[ 153‬‬

‫وإلى جانب هذه الطائفة هناك اليهود والنصارى والمجوس‪ .‬وقد شهدت كل طائفة منهم انحرافًا عقائديًا‪ ،‬فالمجوس‬
‫قالت باله الخير والشر‪ .‬وقد انطوت المجوسية ـ التي قد تكون في بدايتها منسوبة لبعض النبياء ـ على خرافات‬
‫جمة حتى ذهب بعض المحققين إلى أّنهم يعتقدون باله الخير واله الشر الذين تقاتل حتى تدخلت الملئكة فأصلحت‬
‫ذات بينهما بشرط تفويض العالم السفلي لله الشر مّدة سبعة آلف سنة )ويفوض العالم العلوي لله الخير(‪(1).‬‬

‫بينما ابتليت النصرانية بالتثليث )القانيم الثلث( كما حرفت اليهود كتاب التوراة وشحنته بالنحرافات والخرافات‬
‫التي ل يسعنا الخوض فيها في هذه البحاث‪ .‬فقد أوجز المام جميع هذه الطوائف في ثلث‪ :‬الولى‪ :‬المشبهة التي‬
‫جعلت ل شريكًا‪ ،‬كالمجوس والنصارى‪ ،‬أو أولئك الذين يجعلون ل صفات المخلوقين كاليهود‪ .‬الثانية‪ :‬أولئك‬
‫الذين عدلوا باسمه إلى غيره كأغلب الوثنيين الذين أسموا أوثانهم بأسماء ال سبحانه فجعلوهم شفعائهم عند ال‪.‬‬
‫ن الطبيعة هى خالقة الوجود‪ ،‬أو عبدة الصنام والكواكب‬ ‫الثالثة‪ :‬أولئك الذين عبدوا غير ال كالدهرية التي تعتقد بأ ّ‬
‫والشمس والقمر التي ترى الصالة للكواكب والصنام; أي تراها هى ال‪.‬‬

‫أجل لقد بعث رسول ال)صلى ال عليه وآله( في ظل هذه الوضاع ليحمل مشعل الهداية ويضيء الظلمات بنور‬
‫لمم بأسمى مفاهيم التوحيد وأعظم المعارف والعلوم‬ ‫القرآن‪ .‬لقد أتى رسول ال)صلى ال عليه وآله( تلك ا ُ‬
‫وأرصن الصفات اللهية‪ ،‬حيث جاءهم بالحنيفية السمحاء الخالية من الساطير والخرافات والنحرافات التي‬
‫سادت سائر الديان‪ ،‬ولم تهدف قوانينه وتعاليمه سوى إلى حماية المحرومين والمستضعفين وبسط العدل والقسط‬
‫لّمة من الضلل المبين وتعليمها الحكمة وتهذيب نفوس أبناءها‪ُ) :‬هَو‬ ‫وحتى أوجز القرآن الكريم وظيفته في انقاذ ا ُ‬
‫ل َلـِفي‬
‫ن َقْب ُ‬
‫ن كاُنوا ِم ْ‬
‫حْكَمَة َو ِإ ْ‬
‫ب َوال ِ‬
‫عَلْيِهْم آياِتِه َوُيَزّكيِهْم َوُيَعّلُمُهُم الِكتا َ‬
‫ل ِمْنُهْم َيْتُلوا َ‬
‫سو ً‬
‫ن َر ُ‬
‫لّمـّيي َ‬
‫ث ِفي ا ُ‬
‫اّلِذي َبَع َ‬
‫ضلل ُمِبين()‪.(2‬‬ ‫َ‬

‫نعم لقد ظهرت معالم الدين الحق بظهور هذا النبي الكريم وانهارت الساطير والخرافات‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن ميثم‪.206 / 1 ،‬‬

‫‪ .2‬سورة الجمعة ‪.2 /‬‬

‫] ‪[ 154‬‬

‫ل عن الصدقاء والفضل ما شهدت به العداء‪.‬‬ ‫لتشهد البشرية عصرها الجديد; الحقيقة التي أذعن لها العداء فض ً‬
‫فقد تناول الكاتب النجليزي المعروف »برناردشو« هذا المر ليصف دين محمد بأّنه الدين الوحيد الذي يصلح‬
‫لقيادة البشرية ويتكيف مع حياتها على مدى التأريخ بحيث يسعه استقطاب جميع الشعوب والقوام‪ ،‬كما ذهب إلى‬
‫القول بأن محمد منقذ البشرية جمعاء ولو قدر لزعيم على غراره أن ينهض بقيادة العالم اليوم لتغلب على كافة‬
‫المشاكل التي تعاني منها النسانية ولقادها إلى السعادة والسلم‪ ،‬فمحمد أكمل إنسان عرفه الماضي والحاضر ول‬
‫يتصور أن يجود الزمان بمثله في المستقبل‪(1).‬‬

‫‪ 2‬ـ آفاق النبياء المستقبلية‬

‫يستفاد من عبارات المام)عليه السلم( في هذه الخطبة أن تفكير النبياء والرسل ل يقتصر على عصرهم‪ ،‬بل‬
‫لّمة ومصيرها بعد وفاتهم‪ ،‬ومن هنا جهدوا في تبيين كل مامن شأنه هدايتهم في المستقبل‪ ،‬فلم‬ ‫يفكرون بمستقبل ا ُ‬
‫يألوا جهدًا في إضاءة معالم الطريق وبيان سبل النجاة‪ .‬ول شك أن نبي السلم لم يكن بدعا من الرسل في هذا‬
‫لّمة وايكالها إلى نفسها دون دليل على‬
‫لّمة بعد رحيلها عنها؟ أفكان يسعه وداع ا ُ‬
‫الشأن‪ .‬أو يمكن تصور تركه ل ُ‬
‫الطريق؟ أو ليس حديث الثقلين المتواتر لدى الشيعة والسنة والذي قال فيه‪» :‬إّني مخلف فيكم الثقلين‪ :‬كتاب ال‬
‫لّمة من بعده وصونها من اللبس والنحراف؟‬ ‫وعترتي أهل بيتي« نموذج من نماذج إضاءة الطريق ل ُ‬

‫—–‬
‫‪ .1‬في ظلل نهج البلغة ‪.63 / 1‬‬

‫] ‪[ 155‬‬

‫القسم الرابع عشر‬

‫صهُ‬
‫عزاِئَمُه َوخا ّ‬ ‫صُه َو َ‬ ‫خ َ‬‫خُه َوُر َ‬ ‫سو َ‬ ‫خُه َوَمْن ُ‬‫سَ‬ ‫ضُه َوَفضاِئَلُه َونا ِ‬‫حراَمُه َوَفراِئ َ‬ ‫حلَلُه َو َ‬ ‫ب َرّبُكْم ِفيُكْم‪ُ :‬مَبّينًا َ‬‫»ِكتا َ‬
‫خوذ‬ ‫ن َمْأ ُ‬‫ضُه‪َ ،‬بْي َ‬‫غواِم َ‬ ‫جَمَلُه َوُمَبّينًا َ‬
‫سرًا ُم ْ‬ ‫حَكَمُه َوُمَتشاِبَهُه‪ُ ،‬مَف ّ‬‫حُدوَدُه َوُم ْ‬ ‫سَلُه َوَم ْ‬
‫عَبَرُه َوَأْمثاَلُه َوُمْر َ‬‫َوعاّمُه َو ِ‬
‫جب ِفي‬ ‫خُه َووا ِ‬ ‫سُ‬ ‫سّنِة َن ْ‬
‫ضُه َوَمْعُلوم ِفي ال ّ‬ ‫ب َفْر ُ‬ ‫ن ُمْثَبت ِفي اْلِكتا ِ‬‫جْهِلِه َوَبْي َ‬‫عَلى اْلِعَباِد ِفي َ‬ ‫سع َ‬ ‫عْلِمِه َوُمَو ّ‬ ‫ق ِ‬ ‫ِميَثا ُ‬
‫عَد‬
‫ن َكِبير َأْو َ‬ ‫ن َمحاِرِمِه ِم ْ‬ ‫ن َبْي َ‬
‫سَتْقَبِلِه َوُمباَي ٌ‬
‫جب ِبَوْقِتِه َوزاِئل ِفي ُم ْ‬ ‫ن وا ِ‬ ‫ب َتْرُكُه َوَبْي َ‬
‫خص ِفي اْلِكتا ِ‬ ‫خُذُه َوُمَر ّ‬ ‫سّنِة َأ ْ‬
‫ال ّ‬
‫سع ِفي َأْقصاُه«‪.‬‬ ‫ن َمْقُبول ِفي َأْدناُه ُمَو ّ‬ ‫غْفراَنُه َوَبْي َ‬ ‫صَد َلُه ُ‬
‫صِغير َأْر َ‬ ‫عَلْيِه ِنيراَنُه َأْو َ‬ ‫َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫خصائص القرآن‬

‫لقد بحثت أهمية القرآن الكريم وعظمته كرارًا ومرارًا في خطب نهج البلغة بحيث تناولت كل خطبة جانبًا من‬
‫الجوانب القرآنية‪.‬‬

‫وقد أشار المام)عليه السلم( بشكل جامع إلى شمولية القرآن وخطوطه العريضة في هذه العبارات‪ ،‬فقد هدف‬
‫ن ورثها كتاب‬‫لّمة بعد أ ّ‬
‫المام)عليه السلم(لبيان حقيقة مهّمة وهى أن رسول ال)صلى ال عليه وآله(رحل عن ا ُ‬
‫لّمة المادية والمعنوية; الفردية والجتماعية في كافة الميادين والمجالت; فقد‬
‫ال الذي نظم جميع شؤون حياة ا ُ‬
‫قال)عليه السلم(‪» :‬كتاب رّبكم فيكم«)‪ (1‬ثم أشار)عليه السلم(إلى أربعة عشر نقطة بشأن شمولية القرآن‬
‫وخصائصه‪:‬‬

‫‪ .1‬كتاب منصوب بصفته عطف بيان للحرف مافي الجملة )خلف فيكم ما خلفت النبياء( أو أّنه مفعول لفعل تقديره )خلف( أو )أعنى(‪.‬‬

‫] ‪[ 156‬‬

‫‪ 1‬ـ اتضاح الحلل والحرام والواجب والمستحب »مبينًا حلله وحرامه وفرائضه وفضائله«‪ .‬والعبارة إشارة إلى‬
‫الحكام السلمية الخمس المعروفة‪ ،‬فالفرائض إلى تشيرالواجبات‪ ،‬والفضائل إلى المستحبات‪ ،‬والحرام إلى‬
‫المحرمات وأخيرًا الحلل الذي يشمل المباحاة والمكروهات‪(1).‬‬

‫‪ 2‬ـ بيان الناسخ والمنسوخ »وناسخه ومنسوخه«‪.‬‬

‫المراد بالناسخ والمنسوخ الحكام الجديدة التي تزيل الحكام القديمة والتي تقتصر على عصر الرسالة حين نزول‬
‫الوحي الذي كان يعني إمكانية تغيير الحكام‪ .‬فبعض الحكام وإن كانت مطلقة في ظاهرها‪ ،‬غير أّنها مقيدة باطنيًا‬
‫ومختصة بزمان معين‪ ،‬فاذا انتهى ذلك الزمان نفد حكمها بحكم جديد آخر يطلق عليه اسم الناسخ من قبيل التصدق‬
‫صَدَقًة()‪.(2‬‬‫جواُكْم َ‬ ‫ي َن ْ‬
‫ن َيَد ْ‬
‫ل َفَقّدُموا َبْي َ‬
‫سو َ‬
‫جْيُتُم الّر ُ‬
‫ن آَمُنوا ِإذا نا َ‬
‫قبل مناجاة النبي)صلى ال عليه وآله(‪) :‬يا َأّيها اّلِذي َ‬
‫فقد كان هذا المر امتحانًا للمسلمين لم يعمل به سوى أمير المؤمنين)عليه السلم( حتى نسخ بقوله تعالى‪:‬‬
‫طـيُعوا‬
‫صلةَ َوآُتوا الّزكاَة َوَأ ِ‬‫عَلْيُكْم َفَأِقـيُموا ال ّ‬
‫ل َ‬‫با ّ‬ ‫صَدقات َفِإذ َلْم َتْفَعُلوا َوتا َ‬‫جواُكْم َ‬
‫ى َن ْ‬‫ن َيَد ْ‬
‫ن ُتَقّدُموا َبْي َ‬
‫شَفْقُتْم َأ ْ‬
‫)َأ َأ ْ‬
‫ن()‪.(3‬‬‫خِبيٌر ِبما َتْعَمُلو َ‬‫ل َ‬‫سوَلُه َوا ّ‬ ‫ل َوَر ُ‬ ‫ا ّ‬

‫‪ 3‬ـ »ورخصه وعزائمه«‪ .‬فلعل هذه العبارة إشارة إلى ما تعارف اليوم في علم الفقه والصول بأن حكم الواجب‬
‫ن الصيد ليس‬ ‫صطاُدوا()‪ .(4‬فمن المسلم به أ ّ‬ ‫حَلْلُتْم َفا ْ‬
‫أو الحرام إذا رفع قد يستبدل بحكم الباحة كقوله‪َ) :‬و ِإذا َ‬
‫لرضِ َفَلْي َ‬
‫س‬ ‫ت ِفي ا َ‬
‫ضَرْب ُ‬
‫واجبًا بعد الخروج من الحرام‪ ،‬بل مباح‪ ،‬وأحيانًا يستبدل بحكم ضده‪ ،‬كقوله‪َ) :‬و ِإذا َ‬
‫ن صلة القصر في السفر واجبة ليست مباحة‪ ،‬فيقال للولى‬ ‫صلِة()‪ (5‬ومعلوم أ ّ‬
‫ن ال ّ‬
‫صُروا ِم َ‬
‫ن َتْق ُ‬
‫ح َأ ْ‬
‫جنا ٌ‬
‫عَلْيُكْم ُ‬
‫َ‬

‫‪ .1‬وردت كلمة »مبينًا« بصيغة اسم الفاعل وهى حال لفاعل خلق )أي الرسول الكرم)صلى ال عليه وآله(( والضمير في حلله‬
‫وحرامه و‪ ..‬يعود على القرآن بينما ذهب بعض شّراح النهج إلى أن مبينًا وسائر الوصاف التي وردت لحقًا من قبيل مفسرًا هى حال‬
‫ن القول الول أنسب‪.‬‬
‫لكتاب ال‪ ،‬والضمائر في حلله وحرامه و‪ ...‬تعود إلى كتاب ال أو رّبكم‪ ،‬إّل ا ّ‬

‫‪ .2‬سورة المجادلة ‪.12 /‬‬

‫‪ .3‬سورة المجادلة ‪.13 /‬‬

‫‪ .4‬سورة المائدة ‪.2 /‬‬

‫‪ .5‬سورة النساء ‪.101 /‬‬

‫] ‪[ 157‬‬

‫رخصة وذلك لجواز طرفي العمل ويقال للثانية عزيمة حيث يجب على المكلف جزم عزمه بالعمل‪ .‬وهنالك‬
‫إحتمال آخر في تفسير هاتين المفردتين‪ ،‬كأن يكون المراد بالرخص الحكام الواجبة أو المحرمة التي استثنيت في‬
‫غْيَر باغ َول عاد َفل ِإْثَم عََلْيِه()‪ .(1‬أّما العزائم فهى الحكام التي ل‬ ‫طّر َ‬‫ضُ‬ ‫نا ْ‬ ‫بعض الموارد من قبيل قوله‪َ) :‬فَم ِ‬
‫شْيئًا()‪.(2‬‬ ‫شِرُكوا ِبِه َ‬
‫ل َول ُت ْ‬
‫عُبُدوا ا ّ‬
‫سبيل إلى الستثناء اليها‪ ،‬كقوله‪َ) :‬وا ْ‬

‫‪ 4‬ـ »وخاصه وعامه«‪ ،‬فالخاص هو الحكم الذي ل يشمل كافة المسلمين كحكم الحج الذي يختص بمن له‬
‫ل()‪(3‬والعام هو الحكم الذي يشمل جميع المسلمين‬ ‫سِبـي ً‬‫ع ِإَلْيِه َ‬
‫سَتطا َ‬ ‫نا ْ‬ ‫ت َمـ ِ‬
‫ج الَبـْي ِ‬
‫حـ ّ‬
‫على الّناس ِ‬ ‫ل َ‬
‫الستطاعة )َو ِّ‬
‫ن المراد بها حالة‬ ‫كاقامة الصلة )وأقيموا الصلة(‪ .‬وقيل أيضًا بأ المراد بالخاص اليات التي لها ظاهر عام غير أ ّ‬
‫ن()‬
‫ن الّزكاةَ َوُهْم راِكُعو َ‬
‫صلَة َوُيْؤُتو َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن ُيِقـيُمو َ‬
‫ن آَمُنوا اّلِذي َ‬ ‫سوُلُه َواّلِذي َ‬
‫ل َوَر ُ‬‫خاصة كآية الولية‪ِ) :‬إّنما َوِلـّيـُكُم ا ّ‬
‫‪ .(4‬حيث نعلم بوجود مصداق واحد لهذه الية فقط وهو أمير المؤمنين علي)عليه السلم(‪.‬‬

‫طُعوا َأْيِدَيُهْما()‬
‫سارَقُة َفاْق َ‬
‫ق َوال ّ‬
‫سار ُ‬
‫أّما العام فيراد به اليات ذات العموم والتي تشمل الجميع كقوله عز وجل‪َ) :‬وال ّ‬
‫‪.(5‬‬

‫‪ 5‬ـ »وعبره وأمثاله«‪ ،‬عبر من مادة عبرة وقد اشتقت من العبور‪ ،‬ولذلك يصطلح بالعبرة على الحادثة التي‬
‫تعرض للنسان ويتخطاها‪ ،‬والقرآن الكريم مليء بالدروس والعبر بشأن تواريخ النبياء والمم السالفة حيث‬
‫تتضمن كل حادثة من تلك الحوادث المعاني والدروس للقيمة التي تستفيدها البشرية في مسيرتها الحياتية‪.‬‬

‫ل َكِلَمًة‬
‫ل َمَث ً‬
‫با ّ‬
‫ضَر َ‬
‫أّما المثال فقد تكون إشارة إلى المثال التي وردت في القرآن الكريم بتلك الكثرة من قبيل‪َ ) :‬‬
‫طـّيَبة()‪ ،(6‬كما يمكن أن تكون إشارة إلى بعض‬
‫جَرة َ‬
‫شَ‬‫طـّيَبًة َك َ‬
‫َ‬

‫‪ .1‬سورة البقرة ‪.173 /‬‬

‫‪ .2‬سورة النساء ‪.36 /‬‬


‫‪ .3‬سورة آل عمران ‪.97 /‬‬

‫‪ .4‬سورة المائدة ‪.55 /‬‬

‫‪ .5‬سورة المائدة ‪.38 /‬‬

‫‪ .6‬سورة إبراهيم ‪.24 /‬‬

‫] ‪[ 158‬‬

‫ن آَمُنوا اْمَرَأَة‬
‫ل ِلّلِذي َ‬
‫ل َمَث ً‬
‫با ّ‬ ‫ضَر َ‬‫ل يحتذى به كقوله عز من قائل‪َ) :‬و َ‬ ‫الفراد الذين أصبحت سيرتهم وحياتهم مث ً‬
‫ن()‪.(1‬‬ ‫ظالِمـي َ‬‫ن الَقْوِم ال ّ‬‫جِني ِم َ‬‫عَمِلِه َوَن ّ‬
‫عْونَ َو َ‬
‫ن ِفْر َ‬
‫جِني ِم ْ‬
‫جّنـة َوَن ّ‬
‫عْنَدك َ َبْيتًا ِفي ال َ‬
‫ن ِلي ِ‬
‫ب اْب ِ‬
‫ت َر ّ‬
‫ن ِإذ قاَل ْ‬
‫عْو َ‬
‫ِفْر َ‬

‫‪ 6‬ـ كما بّين القرآن أحكام المطلق والمقّيد »ومرسله ومحدوده« فالمطلق الحكام التي بّينت دون قيد أو شرط‬
‫ل الَبْيَع()‪ (2‬وأّما المقيد فهو الحكم الذي وضعت له بعض القيود والحدود كقوله‪ِ) :‬تجاَرًة‬
‫لا ّ‬
‫حّ‬‫كقوله سبحانه‪َ) :‬وَأ َ‬
‫ن َتراض ِمْنُكْم()‪.(3‬‬
‫عْ‬‫َ‬

‫ن الجمع بين المطلق والمقّيد يتطلب منا تقييد المطلق بواسطة المقّيد‪ ،‬ففي المثال المذكور ل تصح‬ ‫ومن الواضح أ ّ‬
‫ل بتراضي الطرفين‪ .‬ويمكن أن يكون المراد بالمطلق الحكام الخالية من القيود والشروط‪ ،‬في حين‬ ‫المعاملة إ ّ‬
‫حِريُر َرَقَبة()‪،(4‬‬
‫الحكام المقّيدة هى الحكام المحّددة بالقيود والشروط من قبيل كفارة القسم التي جاء فيها )َأْو َت ْ‬
‫حِريُر َرَقَبة ُمْؤِمَنة()‪.(5‬‬
‫بينما جاء في كفارة القتل الخطأ )َفَت ْ‬

‫‪ 7‬ـ »ومحكمه ومتشابهه«‪ .‬فالمراد بالمحكم اليات الواضحة الدللة التي ل تحتمل سوى وجه واحد كقوله‬
‫حٌد( بينما تحتمل اليات المتشابهة عّدة وجوه‪ ،‬وإن أمكن بيانها من خلل سائر اليات‬ ‫ل َأ َ‬
‫ل ُهَو ا ّ‬
‫سبحانه‪ُ) :‬ق ْ‬
‫ظَرٌة()‪ (6‬حيث يزال ابهام هذه الية وغموضها من خلل اليات التي نزهت ال عن‬ ‫القرآنية كقوله‪ِ) :‬إلى َرّبها نا ِ‬
‫لْبصاَر()‪.(7‬‬
‫كا َ‬
‫لْبصاُر َوُهَو ُيْدِر ُ‬
‫المكان والزمان والجهة والجسم والرؤية وما إلى ذلك كقوله‪) :‬ل ُتْدِرُكُه ا َ‬

‫لخرى هى بيان لمجمل القرآن وغوامضه من خلل السّنة النبوية »مفسرًا مجمله ومبينًا‬ ‫‪ 8‬ـ من الخصائص ا ُ‬
‫غوامضه«‪ .‬فالمجمل اليات التيى تأمر باقامة الصلة ولم تشر إلى أركانها وعدد ركعاتها فيقوم النبي)صلى ال‬
‫عليه وآله( بشرحها‪ ،‬أّما المراد بالغوامض الحروف القرآنية المقطعة‬

‫سورة البقرة ‪.275 /‬‬

‫‪ .3‬سورة النساء ‪.29 /‬‬

‫‪ .4‬سورة المائدة ‪. 89 /‬‬

‫‪ .5‬سورة النساء ‪.92 /‬‬

‫‪ .6‬سورة القيامة ‪.23 /‬‬

‫‪ .7‬سورة النعام ‪.103 /‬‬

‫] ‪[ 159‬‬

‫والتي بّينت بواسطة الحاديث النبوية‪ .‬ولعل الفارق بين الغوامض والمتشابهات هو أن المتشابهات تنطوي على‬
‫معان ومفاهيم للوهلة الولى بينما يكتنف الولى البهام كالمثال السابق‪.‬‬

‫‪ 9‬ـ هناك بعض الحقائق القرآنية التي أخذ الميثاق على معرفتها ول يعذر أحد بجهلها في حين يعذر في بعضها‬
‫الخر‪» :‬بين مأخوذ ميثاق علمه وموسع على العباد في جهله« فالحقائق التي ل يعذر أحد بجهلها من قبيل آيات‬
‫التوحيد والصفات اللهية التي تجب معرفتها على جميع المؤمنين‪ ،‬والثانية من قبيل الذات اللهية التي ليس لحد‬
‫من سبيل إلى معرفتها وكذلك مسألة المعاد والقيامة التي ينبغي اليمان بها‪ ،‬في حين ليست هنالك من ضرورة‬
‫لللمام بالتفاصيل المتعلقة بالجّنة والنار‪.‬‬

‫‪ 10‬ـ وهناك بعض الحكام القرآنية المختصة بزمان معّين والتي نسختها السّنة النبوية »وبين مثبت في الكتاب‬
‫لتي‬ ‫فرضه ومعلوم في السّنة نسخه« من قبيل عقاب المرأة المحصنة بالحبس المؤبد إذا ارتكبت فاحشة الزنا )َوالـ ّ‬
‫ت َأْو‬‫ن الَمْو ُ‬
‫حّتى َيَتَوّفاه ّ‬
‫ت َ‬
‫ن ِفي الُبُيو ِ‬
‫سُكوُه ّ‬
‫شِهُدوا َفَأْم ِ‬
‫ن َ‬
‫ن َأْرَبَعًة ِمْنُكْم َفِإ ْ‬
‫عَلْيِه ّ‬
‫شِهُدوا َ‬
‫سَت ْ‬
‫ن ِنساِئُكْم َفا ْ‬
‫شَة ِم ْ‬
‫حَ‬ ‫ن الفا ِ‬
‫َيْأِتـي َ‬
‫ل()‪ (1‬ثم نسخت السّنة النبوية هذا الحكم بالحاديث التي وردت في باب رجم المحصنة‪.‬‬ ‫سِبـي ً‬
‫ن َ‬‫ل َلُه ّ‬
‫لا ّ‬‫جَع َ‬
‫َي ْ‬

‫‪ 11‬ـ اليات الناسخة للسّنة بشأن بعض الحكام التي صّرحت السّنة بالعمل بها بينما أجازت اليات القرآنية تركها‬
‫»وواجب في السّنة أخذه ومرخص في الكتاب تركه« من قبيل حكم الصوم في بداية التشريع حيث لم يكن يسع‬
‫الصائم الفطار سوى أوائل الليل‪ ،‬فاذا نام وأفاق لم يجز له تناول شيء من المفطرات‪ ،‬غير أن هذه السّنة النبوية‬
‫سَوِد ِم َ‬
‫ن‬ ‫لْ‬‫طا َ‬
‫خْي ِ‬
‫ن ال َ‬
‫ض ِم َ‬
‫لْبَي ُ‬
‫طا َ‬
‫خْي ُ‬
‫حّتى َيَتَبّينَ َلُكُم ال َ‬
‫شَرُبوا َ‬
‫نسخت فيما بعد بالية القرآنية الشريفة‪َ ...) :‬وُكُلوا َوا ْ‬
‫جِر()‪.(2‬‬
‫الَف ْ‬

‫‪ 12‬ـ الحكام الواجبة لبعض الوقات »وبين واجب بوقته وزائل في مستقبله«‬

‫‪ .1‬سورة النساء ‪.15 /‬‬

‫‪ .2‬سورة البقرة ‪.178 /‬‬

‫] ‪[ 160‬‬

‫فالعبارة تشير إلى الواجب المؤقت وغير المؤقت; الواجب المؤقت من قبيل صوم شهر رمضان وارتفاعه في‬
‫غير هذا الشهر‪ ،‬خلفًا للتكاليف الدائمية كالمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحق والعدل الواجبة على‬
‫ن العبارة تشير إلى بعض الواجبات كالحج الذي يجب على المكلف لمرة واحدة في‬ ‫الدوام)‪ .(1‬وذهب البعض إلى أ ّ‬
‫العمر ثم يزول‪ ،‬واستدلوا على ذلك بالهجرة التي وجبت على المسلمين في بداية انبثاق الدعوة السلمية ـ حيث‬
‫كان المسلمون يعيشون حالة من المحدودية ـ ثم زال هذا الوجوب بعد فتح مكة‪ ،‬وإن كانت الهجرة على حالها إلى‬
‫يومنا هذا في المناطق التي تشهد الحالة المكية قبل الهجرة‪.‬‬

‫‪ 13‬ـ فرز أنواع المحرمات عن بعضها وبيان كل واحدة منها في إشارة إلى الكبائر التي توعد ال مرتكبيها‬
‫والصغائر التي وعد بمغفرتها »ومباين)‪ (2‬بين محارمه من كبير أوعد عليه نيراّنه أو صغير أرصد له غفرانه«‬
‫فالكبائر من قبيل الشرك وقتل النفس التي صّرحت اليات القرآنية بتوعد مرتكبيها بالعذاب‪ ،‬فقد ورد في الية ‪72‬‬
‫جّنَة َوَمْأواهُ الّنار ( وفي الية ‪ 93‬من‬
‫علَْيِه ال َ‬
‫ل َ‬
‫حّرَم ا ّ‬‫ل َفَقْد َ‬
‫ك ِبا ّ‬ ‫شِر ْ‬ ‫ن ُي ْ‬
‫من سورة المائدة بخصوص الشرك )َوَم ْ‬
‫جَهّنُم خاِلدًا فيها( وأّما الصغائر فمن قبيل اللمم‬ ‫جزاُؤُه َ‬ ‫ل ُمْؤِمنًا ُمَتَعّمدًا َف َ‬‫ن َيْقُت ْ‬
‫سورة النساء بشأن قتل النفس )َوَم ْ‬
‫ل الّلـَمَم(حيث ذهب بعض المفسرين‬ ‫ش ِإ ّ‬
‫ح َ‬ ‫لْثِم َوالَفوا ِ‬
‫ن َكباِئَر ا ِ‬‫جَتِنُبو َ‬
‫ن َي ْ‬‫الواردة في الية ‪ 32‬من سورة النجم )اّلِذي َ‬
‫ن المراد باللمم انعقاد النية على المعصية دون التيان بها أو المعاصي عديمة الهمية‪.‬‬ ‫إلى أ ّ‬

‫‪ 14‬ـ العمال التي يقبل القليل منها وورد الحث على كثيرها »وبين مقبول في أدناه‪ ،‬موسع في أقصاه«‪ .‬فالعبارة‬
‫لّمة التيان بالمزيد‪.‬‬
‫تشير إلى العمال التي ورد التأكيد على التيان بقليلها ول ُ‬

‫ن()‪ .(3‬فقراءة اليسير من‬


‫ن الُقْرآ ِ‬
‫سَر ِم َ‬
‫وقد استدل بعض شّراح نهج البلغة على ذلك بتلوة القرآن)َفاْقَرُءوا ما َتَي ّ‬
‫القرآن مؤكدة وترك للناس قراءة الكثير )وهذا ما نلمسه‬

‫‪ .1‬هناك محذوف في هذه العبارة‪ ،‬ففي الحالة الثانية يكون تقدير العبارة كالتي‪» :‬وبين ما يكون واجبًا دائما«‪.‬‬

‫ن الذي أوردناه هو‬


‫‪ .2‬مباين خبر لمبتدأ محذوف تقير الجملة هو مباين‪ ،‬والضمير هو يعود إلى الكتاب‪ ،‬وهنالك إحتمال آخر إلّ أ ّ‬
‫النسب‪.‬‬
‫‪ .3‬سورة المزمل ‪.20 /‬‬

‫] ‪[ 161‬‬

‫بوضوح في أواخر سورة المزمل(‪ .‬وبالمقابل هنالك الحكام اللزامية التي ل يسير ول كثير فيها من قبيل صوم‬
‫شهر رمضان‪ ،‬حيث يلزم المكلف بصوم شهر معّين دون زيادة أو نقيصة )اليات ‪ 183‬إلى ‪ 185‬من سورة‬
‫البقرة(‪.‬‬

‫تأّملت‬
‫‪ 1‬ـ شمولية القرآن‬

‫المسألة الولى التي تطالعنا في كلم المام)عليه السلم( شمولية القرآن الكريم‪ ،‬أو بعبارة ُاخرى اعجاز القرآن‬
‫من حيث المضمون; لن خاض من خلل النقاط الربعة عشر بشأن القرآن في تفاصيله الدقيقة وتنوع مضامينه‬
‫لمور العقائدية والقضايا العلمية‬‫على جميع المستويات في إطار تلبيته لمتطلبات النسان و احتياجاته من حيث ا ُ‬
‫والخلقية والحكام الواجبة والمحرمة والعلقة القائمة بين القرآن والسنة والحكام الثابتة والمؤقتة والعام‬
‫لمور مدى حساسية المضامين القرآنية‬ ‫والخاص والمطلق والمقّيد والناسخ والمنسوخ‪ ،‬حيث يفيد تأمل هذه ا ُ‬
‫المدروسة والتي تنسجم ومتطلبات النسانية‪ .‬فالمضامين الرصينة الدقيقة والعميقة المتنوعة والشاملة ـ كما أشرنا‬
‫إلى ذلك في بحث اعجاز القرآن ـ تمثل أحد أبعاد اعجاز القرآن فأدنى لنسان ُامي تربى في وسط الجهل والظلم‬
‫أن يأتي بمثل هذا الكتاب مكتفيًا بما يمليه عليه فكره دون الستناد إلى فيوضات الغيب والوحي; الكتاب الذي‬
‫غص بالدروس والعبر والمثال الرائعة البليغة والحكام الجامعة والمعارف الجمة العميقة‪ .‬والطريف في المر‬
‫لصول الفقهية وأشار إلى موضوعات‬ ‫ن المام)عليه السلم(بهذا البيان القصير قد استعرض دورة جامعة في ا ُ‬ ‫أّ‬
‫ل بعد قرون طويلة‪ ،‬ثم فصل الحكام عن بعضها البعض ليميط اللثام عن‬ ‫لصول إ ّ‬
‫واسعة لم تتكامل في علم ا ُ‬
‫القواعد المتعلقة بالحلل والحرام والناسخ والمنسوخ والرخصة والعزيمة والخاص والعام والمطلق والمقيد‬
‫والمحكم والمتشابه والمجمل والمبين والمؤقت وغير المؤقت والواجب والمستحب المؤكد والمستحب غير المؤكد‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ من عنده علم الكتاب؟‬

‫ن النبي)صلى ال عليه وآله( موظف بتبيين بعض مجملت القرآن الكريم وإزالة‬
‫يفهم من عباراته)عليه السلم( أ ّ‬

‫] ‪[ 162‬‬

‫خُذوُه()‪ .(1‬قد يقتدح في‬


‫ل َف ُ‬
‫سو ُ‬
‫غوامضه بما ل يدع لحد من مجال للشك‪ ،‬ولهذا قال القرآن المجيد‪َ) :‬وما آتاُكُم الّر ُ‬
‫ل‪ :‬كيف يحتاج القرآن إلى تفسير مجمله وإزالة غوامضه وتبيين مبهمه وقد نزل هداية للناس ولبّد‬ ‫الذهان سؤا ً‬
‫للعامة من فهمه وإدراكه؟‬

‫وللجابة على هذا السؤال لبّد من اللتفات إلى أمرين‪:‬‬

‫الول‪ :‬إن القرآن بفضله يتضمن سلسلة من القوانين والحكام السلمية ل يسعه أن يخوض في التفاصيل‪ ،‬فهو‬
‫يشير إلى هذه القوانين على نحو العموم بينما يفوض شرحها والخوض في تفاصيلها إلى النبي)صلى ال عليه‬
‫وآله(‪ .‬على سبيل المثال فقد وردت أحكام الصلة والحج والصوم وبعض كلياتها في القرآن الكريم‪ ،‬ونعلم جميعًا‬
‫ن هذه العبادات تشتمل على شرائط واركان وفروع كثيرة يحتاج شرح كل ركن منها إلى كتاب مستقل‪ ،‬بل هناك‬ ‫أّ‬
‫لمور المرتبطة بالمعاملت والقضاء والحدود والشهادات والسياسات‬ ‫لمور التي تتطلب عّدة مجلدات من قبيل ا ُ‬
‫اُ‬
‫السلمية بصورة عامة‪.‬‬
‫لّمة للنبي)صلى ال عليه وآله( في تبيين المبهمات وتفسير المجملت تؤدي إلى تعزيز‬ ‫ن حاجة ا ُ‬
‫الثاني‪ :‬أ ّ‬
‫إرتباطها بالسّنة النبوية; الرتباط الذي يهديها وينير معالم طريقها في جميع الميادين‪ ،‬وبعبارة ُاخرى فان القرآن‬
‫ليس بدعًا من الكتب التي يتطلب فهم بعض مواضيعها من قبل الطلب وجود المعلم‪ ،‬الذي يسعه ايضاح الحقائق‬
‫لتلمذته من خلل الرابطة السائدة بينهما‪ .‬وهنا يبدو هذا السؤال‪ :‬هل يوجد مثل هذا المعلم اللهي في الوسط‬
‫ل بقيت‬
‫السلمي بعد رحيل النبي)صلى ال عليه وآله(أم ل؟ لشك‪ .‬لبّد أن يستمر وجود مثل هذا المعلم وإ ّ‬
‫المشاكل على حالها دون حل وبيان‪ .‬ومن هنا اعتقدت الشيعة بوجود المام المعصوم في كل عصر والذي لديه‬
‫علم الكتاب‪ ،‬وهذا ما يراد بالعترة الواردة في حديث الثقلين المتواتر المروي عن رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪،‬‬
‫والتي أشار إلى امتناع مفارقتها للكتاب إلى يوم القيامة‪ ،‬فقال)صلى ال عليه وآله(‪» :‬إّني تارك فيكم الثقلين كتاب‬
‫ي الحوض«)‪.(2‬‬ ‫ال وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدًا وإّنهما لن يفترقا حتى يردا عل ّ‬

‫‪ .1‬سورة الحشر ‪.7 /‬‬

‫‪ .2‬لقد ورد هذا الحديث بعدة تعابير في مصادر الشيعة والسّنة‪ ،‬فراجع احقاق الحق‪ 309 / 9 ،‬ـ ‪ ;375‬بحار النوار ‪،118 / 23‬‬
‫‪ ;155 ،134 ،133 ،132‬رسالة الثقلين ‪.9‬‬

‫] ‪[ 163‬‬

‫‪ 3‬ـ معيار التمييز بين الكبائر والصغائر‬

‫لمور النسبية التي تخضع‬ ‫هناك اختلف بين العلماء بشأن الكبائر والصغائر‪ .‬فقد اعتبرهما البعض من قبيل ا ُ‬
‫للمقارنة في أهميتها‪ ،‬فما كانت أهميتها كبيرة فهى من الكبائر وما كانت أهميتها صغيرة فهى من الصغائر )وقد‬
‫ن أغلبهم‬‫نسب المرحوم الطبرسي في مجمع البيان هذا القول إلى الشيعة‪ ،‬ويبدو أّنه أراد بعض علماء الشيعة‪ ،‬ل ّ‬
‫ن الكبيرة كما يتضح من اسمها هى المعصية الكبيرة حقًا‬ ‫يرى غير ذلك كما سنشير لحقًا(‪ .‬وقال البعض الخر أ ّ‬
‫والتي تحظى بأهمية لدى الشرع والعقل كقتل النفس وغصب حقوق الخرين والربا والزنا ـ ولعل هذا هو الدليل‬
‫ن المعيار في الكبائر هو الوعيد بالعذاب‬ ‫الذي جعل الروايات الواردة عن أهل البيت)عليهم السلم( تصرح بأ ّ‬
‫اللهي على ارتكابها‪ ،‬فقد جاء في الحديث المعروف الذي روي عن المام الباقر والمام الصادق والمام‬
‫الرضا)عليه السلم( اّنه قال‪» :‬الكبائر التي أوجب ال عز وجل عليها النار«)‪ (1‬ويتضح مّما مر معنا أ ّ‬
‫ن‬
‫ن الكبائر سبع وقيل‬ ‫الصغائر ماليست لها مثل هذه الهمية‪ .‬وقد وردت بعض الحاديث التي أشارت إلى أ ّ‬
‫عشرون‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ الناسخ والمنسوخ وفلسفتهما‬

‫لعل هذين الحكمين يثيران الجدل والذهول لدى أغلب الناس وتعجبهم من كيفية اشتمال القرآن على اليات‬
‫الناسخة والمنسوخة )فالمراد باناسخ والمنسوخ هو الحكم الذي يلغي حكمًا آخر من قبيل استقبال الكعبة في الصلة‬
‫التي نسخت حكم استقبال بيت المقدس في الصلة(‪ .‬وقد تزول هذه الدهشة والذهول بالنسبة للناسخ والمنسوخ في‬
‫القوانين الوضعية التي يشرعها أفراد البشر; لهم قد يسنون اليوم قانونًا ويكتشفون غدًا بعض أخطائه فيعمدون‬
‫إلى نسخه‪ ،‬ولكن ما بال القوانين التي يشرعها الحكيم سبحانه؟‬

‫ن علم ال المطلق ل يعتريه التغيير قط‪ ،‬غير‬


‫يمكن خلصة الجابة على السؤال المذكور في جملة واحدة وهى أ ّ‬
‫ن بعض الموضوعات تتغير بمرور الزمان‪ .‬على سبيل المثال قد يكون‬
‫أّ‬

‫‪ .1‬تفسير نور الثقلين ‪.473 / 1‬‬

‫] ‪[ 164‬‬
‫ل أّنه قد يصبح خطرًا ومضاعفًا لذلك المرض بعيد مّدة من الزمان‪ .‬فالطبيب‬ ‫هناك دواء هو شفاء لمرض اليوم‪ ،‬إ ّ‬
‫ل أّنه ينسخه فيما بعد ويحظر استعماله على المريض‪ .‬ويصدق هذا الكلم‬ ‫ينصح المريض باستعمال ذلك الدواء إ ّ‬
‫ل‪ .‬فقد تنطوي الصلة إلى بيت المقدس يومًا على منافع ومصالح معينة إذا كانت‬ ‫لمور الدينية على القبلة مث ً‬
‫في ا ُ‬
‫الكعبة بؤرة للصنام والوثان واتخذت لنفسها بعدًا قوميًا بحيث يدعو استقبالها في الصلة أبان انبثاق الدعوة‬
‫السلمية إلى بعض المشاكل‪ ،‬في حين تنتفي هذه المشاكل بالصلة ثلث عشرة سنة إلى بيت المقدس‪ .‬بينما‬
‫تتحول الكعبة إلى مركز للتوحيد بعيد الهجرة إلى المدينة فتنطوي الصلة إلى جانبها على مصالح جمة وتنعدم‬
‫الضرار‪.‬‬

‫ن مباحث النسخ واسعة جدًا ل يسعها المقام ولذلك‬


‫ن أغلب أحكام النسخ من هذا القبيل; وبالطبع فا ّ‬
‫فالواقع هو أ ّ‬
‫نكتفي بهذه الشارة العابرة إلى فلسفة النسخ‪(1).‬‬

‫‪ 5‬ـ تأريخ اُلمم الماضية والمثال القرآنية‬

‫لمم السابقة ول سيما أنبياء ال حيزًا مهما من القرآن الكريم المفعم بالدروس والعبر والتجارب‬ ‫يشغل تأريخ ا ُ‬
‫القّيمة التي تحتذيها البشرية في كل عصر ومصر; المر الذي جعل القرآن يتابع حركة النبياء في مختلف السور‬
‫ويسلط الضوء على تأريخ أحدهم أحيانًا )كسرده لوقائع النبي إبراهيم ونوح وموسى وعيسى)عليهم السلم((‬
‫ن القرآن يعرض لزاوية من‬ ‫ويكرر قصته في أكثر من سورة‪ ،‬وبالطبع ل نرى كلمة التكرار مناسبة هنا حيث إ ّ‬
‫ب()‪ .(2‬وأحيانًا‬
‫للبا ِ‬
‫لوِلي ا َ‬‫عْبَرٌة ُِ‬
‫صـِهْم ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫ن ِفي قَ َ‬
‫زوايا هذه القصص في كل مرة‪ ،‬فقد قال عز من قائل‪َ) :‬لَقْد كا َ‬
‫أبعد من ذلك واضافة إلى التأريخ يدعو البشرية لتأمل آثار القوام السابقة والذي يعتبر بحد ذاته نوعًا من أنواع‬
‫ل()‪.(3‬‬‫ن َقْب ُ‬‫ن ِم ْ‬
‫ن عاِقـَبُة اّلِذي َ‬‫ف كا َ‬
‫ظُروا َكْي َ‬ ‫ض َفاْن ُ‬
‫لْر ِ‬
‫سـيُروا ِفي ا َ‬
‫ل ِ‬
‫التأريخ التكويني والحي )ُق ْ‬

‫‪ .1‬راجع تفسير المثل ‪ 390 / 1‬ذيل الية ‪ 106‬من سورة البقرة‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة يوسف ‪.111 /‬‬

‫‪ .3‬سورة الروم ‪.42 /‬‬

‫] ‪[ 165‬‬

‫وإلى جانب القصص والتأريخ فقد درج القرآن على استعمال المثال بغية هداية الناس; وقد تكون هذه المثال‬
‫لمور الطبيعية في عالم النبات‬ ‫نماذج حية واقعية مستقاة من حياة بعض الفراد تارة‪ ،‬وتارة ُاخرى تشبيهات با ُ‬
‫والحيوان وما شاكل ذلك‪ .‬وقد انطوت هذه المثال على جمالية وروعة في الدقة والتصوير بحيث غدت من‬
‫ن ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ضَرْبنا ِللّناس ِفي هـذا الُقْرآ ِ‬
‫معاجز القرآن التي يقود التأمل فيها والتدبر إلى العودة إلى العقل والرشد )َوَلَقْد َ‬
‫ن()‪.(1‬‬ ‫ل َمَثل َلَعّلُهْم َيَتَذّكُرو َ‬
‫ُك ّ‬

‫ومن هنا أشار المام)عليه السلم( في هذه الخطبة إلى شمولية القرآن الكريم مؤكدًا على تدبر قصصه وأمثاله‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة الزمر ‪.27 /‬‬

‫] ‪[ 166‬‬

‫] ‪[ 167‬‬
‫القسم الخامس عشر‬

‫جَعَلهُ‬
‫حَماِم َو َ‬ ‫ن ِإَلْيِه ُوُلوَه اْل َ‬
‫لناِم َيِرُدوَنُه ُوُروَد اَْلْنعاِم َوَيْأَلُهو َ‬ ‫جَعَلُه ِقْبَلًة ِل َْ‬
‫حراِم اّلِذي َ‬ ‫ج َبْيِتِه اْل َ‬
‫حّ‬ ‫عَلْيُكْم َ‬
‫ض َ‬‫»َو َفَر َ‬
‫صّدُقوا َكِلَمَتُه‬
‫عَوَتُه َو َ‬ ‫سّماعا َأجاُبوا ِإَلْيِه َد ْ‬ ‫خْلِقِه ُ‬
‫ن َ‬‫ختاَر ِم ْ‬ ‫ظَمِتِه َوِإْذعاِنِهْم ِلِعّزِتِه َوا ْ‬ ‫ضِعِهْم ِلَع َ‬ ‫علَمًة ِلَتوا ُ‬ ‫حاَنُه َ‬ ‫سْب َ‬
‫ُ‬
‫عْنَدُه‬‫ن ِ‬ ‫عباَدِتِه َوَيَتباَدُرو َ‬‫جِر ِ‬ ‫ح ِفي َمْت َ‬ ‫ن اَْلْربا َ‬‫حِرُزو َ‬‫شِه ُي ْ‬
‫ن ِبَعْر ِ‬ ‫طيِفي َ‬ ‫شّبُهوا ِبَملِئَكِتِه اْلُم ِ‬ ‫ف َأْنِبياِئِه َوَت َ‬
‫َوَوَقُفوا َمواِق َ‬
‫عَلْيُكْم ِوفاَدَتُه‬‫ب َ‬ ‫جُه َوَكَت َ‬‫حّ‬‫ب َ‬ ‫ج َ‬ ‫حّقُه َوَأْو َ‬ ‫ض َ‬ ‫حَرمًا َفَر َ‬‫ن َ‬ ‫عَلمًا َوِلْلعاِئِذي َ‬ ‫سلِم َ‬ ‫ل ْ‬‫سْبحاَنُه َوَتعاَلى ِل ِْ‬ ‫جَعَلُه ُ‬‫عَد َمْغِفَرِتِه َ‬
‫َمْو ِ‬
‫ن(«‪.‬‬ ‫ن اْلعاَلِمي َ‬ ‫عِ‬‫ي َ‬‫غِن ّ‬ ‫ل َ‬ ‫نا ّ‬ ‫ن َكَفَر َفِإ ّ‬
‫ل َوَم ْ‬
‫سِبي ً‬
‫ع ِإَلْيِه َ‬‫سَتطا َ‬ ‫نا ْ‬ ‫ت َم ِ‬ ‫ج اْلَبْي ِ‬
‫حّ‬
‫عَلى الّناس ِ‬ ‫ل َ‬
‫سْبحاَنُه‪َ) :‬و ِّ‬ ‫َفقاَل ُ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫أهمية فريضة الحج‬

‫ن السيد الرضي‬‫ل يعلم أي الحكام الدينية أشار إليها المام)عليه السلم( بعد بيانه لخصائص القرآن‪ ،‬لننا نعلم بأ ّ‬
‫ـ جامع نهج البلغة ـ لم يروم ذكر خطبه)عليه السلم( بصورة كاملة بقدر ما كان يختار منها بعض القطوف‪ ،‬مع‬
‫ذلك فان التأكيد على فريضة الحج من بين سائر الفرائض السلمية المختلفة والفردية وفي خطبة تكفلت بالحديث‬
‫عن بداية نشوء الخليقة والمراحل المختلفة لسير النسان منذ انطلقته حتى انبثاق الدعوة السلمية بظهور خاتم‬
‫النبياء محمد المصطفى)صلى ال عليه وآله(إّنما يتضمن معنًا ومفهومًا خاصًا‪ ،‬كما يفيد أن حج بيت ال الحرام‬
‫يمثل عصارة الفكر السلمي وشموليته للمسائل المهّمة الفردية والجتماعية والتربوية والخلقية والسياسية‪،‬‬
‫وهذا ما سنتطرق إليه في آخر البحث‪ .‬ونخوض الن في تفسير هذا القسم من الخطبة‪:‬‬

‫] ‪[ 168‬‬

‫فقد أشار المام)عليه السلم( في البداية إلى مسألة وجوب الحج‪ ،‬حيث اعتمد عبارات في غاية الروعة واللطافة‬
‫بغية حث المسلمين على أداء هذه الفريضة اللهية العظيمة‪ ،‬فقال)عليه السلم(‪» :‬وفرض عليكم حج بيته الحرام«‬
‫ثم كشف عن صفة هذا البيت بقوله »الذي جعله قبلة للنام«)‪ (1‬فهى القبلة التي يتجه إليها المسلمون في صلواتهم‬
‫اليومية على أّنها رمز وحدة جميع المسلمين الذين ينظمون صفوفهم في التجاه اليها‪ .‬ثم يتطرق)عليه السلم( إلى‬
‫وصف الشعائر والمراسم التي يؤديها عشاق الحق فيشبههم)عليه السلم( بالعطاش الذين يردون على الماء العذب‬
‫والطيور التي تبحث عن الملذ »يردونه)‪ (2‬وورود النعام ويألهون)‪ (3‬إليه ولوه الحمام)‪.«(4‬‬

‫ن من أدرك معنى الحج فاّنه يرد البيت على هذه الشاكلة فتكاد روحه وقلبه تسبقه إلى البيت فيعيش الوفادة‬‫حقًا أ ّ‬
‫عليه بكل كيانه ويستعيد به من شر الشياطين وأهواء النفس وتبعات الذنوب فيلبي دعوة الحبيب ويسعى بين الصفا‬
‫والمروة ويحلق في أجواء الكعبة التي تفيض بالمعنويات‪ .‬أّما التشبيه بالنعام فلعله إشارة إلى التواضع المطلق‬
‫الذي يستشعره الحجاج تجاه بيت ال أو حالة الضطراب حين القبال على الكعبة والطواف‪ ،‬أّما التعبير بالحمام‬
‫فذلك لّنه يرمز إلى الحب والسلم والوئام‪.‬‬

‫ن مراسم الحج تستهل بالحرام والتلبية التي تفيد اجابة الدعوة اللهية‪ ،‬فال سبحانه قد دعى زوار‬
‫جدير بالذكر أ ّ‬
‫بيته الحرام للضيافة وقد تقاطر عليه الضيوف بقلوب مفعمة بالعشق لتعيش القرب اللهي وهم يلمسون معاني‬
‫الورع والتقوى والنس بالمحبوب‪ .‬ثم‬
‫‪» .1‬أنام« فسرها البعض بالناس‪ ،‬والبعض الخر بالموجودات العاقلة التي تعيش على الرض من النس والجن‪ .‬وعلى ضوء‬
‫التفسير الول يصبح مفهوم العبارة اختصاص القبلة بالناس‪ ،‬بينما تكون قبلة النس والجن حسب التفسير الثاني‪ .‬وقيل هى مشتقة‬
‫من مادة ونام بمعنى الصوت ثم اطلقت فيما بعد على جميع الكائنات الحية ول سيما النس والجن )تاج العروس‪ ،‬مادة أنم(‪.‬‬

‫‪» .2‬يردون« من مادة »ورود« بمعنى دخول الحيوانات على حياضها عند عطشها ثم اطلق على كل دخول لمكان‪.‬‬

‫ن النسان‬‫ن مادته تعني الحيرة; ل ّ‬


‫‪» .3‬يألهون« من مادة »أَله‪ ،‬ألوهًا« بمعنى العبادة‪ .‬بناًء على هذا يألهون بمعنى يعبدون‪ ،‬كما قيل إ ّ‬
‫يتحير حين يفكر في ذات ال وصفاته‪ .‬وقيل أصله )وله( وقد استدلت واوه بالهمزة )ويؤيد هذا المعنى ورود كلمة الولوه في العبارة‬
‫بصيغة المفعول المطلق( والوله بمعنى التضرع بلهفة‪.‬‬

‫‪» .4‬الحمام« بالفتح بمعنى الطيور والحمام بالكسر بمعنى الموت‪ ،‬وقد أريد المعنى الول في العبارة )أي الحمام بالفتح(‪.‬‬

‫] ‪[ 169‬‬

‫خاض)عليه السلم( في جانب من الجوانب الفلسفية لشعيرة الحج فقال‪» :‬وجعله سبحانه علمة لتواضعهم لعظمته‬
‫واذعانهم لعزته«‪ .‬فأعمال الحج من مناسك ومراسم إّنما تشتمل على أفعال غاية في التواضع لعظمة ال قلما نجد‬
‫نظيرها في سائر الشعائر العبادية‪ .‬وهذا ما يتجسد بوضوح في الحرام والتخلي عن اللباس الفاخر والكتفاء‬
‫بثياب الحرام البيضاء غير الموصولة والطواف في الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف على جبل‬
‫عرفة والتوقف في منى والمشعر الحرام ورمي الجمرات والتقصير ما إلى ذلك من العمال التي تحطم ما تعيشه‬
‫ن الوقوف في تلك المشاهد المشرفة والوفادة على‬
‫النفس البشرية من غرور وكبر‪ .‬ثم يشير)عليه السلم( إلى أ ّ‬
‫البيت لمن المفاخر الكبرى والنعم الجزيلة التي يمن ال بها على بعض عباده فيقول)عليه السلم(‪» :‬واختار من‬
‫خلقه سماعًا)‪ (1‬أجابوا إليه)‪ (2‬دعوته وصدقوا كلمته«‪.‬‬

‫ن ال أمر خليله إبراهيم)عليه السلم( لما فرغ من بناء الكعبة بدعوة‬


‫فقد ورد في بعض الحاديث السلمية أ ّ‬
‫الناس إلى الحج‪.‬‬

‫ن صوتي ل يبلغهم‪ .‬فجاءه الخطاب‪ :‬إّنما عليك دعوتهم وعلينا البلغ‪ .‬فارتقى الخليل)عليه‬ ‫فقال)عليه السلم(‪ :‬إ ّ‬
‫السلم( المقام الذي كان ملصقًا للكعبة آنذاك فجعل اصبعيه في أذنيه وقد استقبل الشرق والغرب فنادى بأعلى‬
‫صوته‪» :‬أّيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا رّبكم« فناداه من خلف البحار السبع مابين المشرق‬
‫والمغرب بل حتى النطف في قرارات النساء وأصلب الرجال ممن سمع صوته »ولبيك الّلهم لبيك«)‪ .(3‬كما‬
‫ورد في الروايات أن من لبى حج بعدد تلبيته ومن لم يلب لم يحج)‪ (4‬ثم يواصل المام)عليه السلم( حديثه عن‬
‫فلسفة الحج وآثاره وبركاته فيقول‪» :‬ووقفوا مواقف أنبيائه وتشبهوا بملئكته المطيفين بعرشه«‪.‬‬

‫ولعل التعبير بمواقف النبياء يشير إلى كثرة النبياء من بعد إبراهيم بل حتى قبله طبقًا لبعض الروايات ممن‬
‫حجوا البيت)‪ (5‬أّما العبارة التي صّرحت بتشبههم بالملئكة المطيفين‬

‫‪» .1‬سماع« على وزن طلب جمع »سامع« كطلب جمع طالب‪.‬‬

‫‪ .2‬ليس هنالك من فارق يذكر بشأن الضمير في )إليه( ان كان عائدًا لبيت ال أو إلى لفظ الجللة‪.‬‬

‫‪ .3‬نور الثقلين ‪ ،488 / 3‬ح ‪.74‬‬

‫ل عن الكافي; بحار النوار ‪.187 / 96‬‬


‫‪ .4‬شرح نهج البلغة للمرحوم الخوئي ‪ 249 / 2‬نق ً‬

‫ن من النبياء الذين حجوا البيت هم آدم ونوح وابراهيم وموسى ويونس وعيسى وسليمان ونبي السلم)صلى‬
‫‪ .5‬ورد في الحاديث أ ّ‬
‫ال عليه وآله( )شرح نهج البلغة للمرحوم الخوئي ‪.(252 / 2‬‬

‫] ‪[ 170‬‬

‫ن في السماء بيتًا يطوف به الملئكة طواف البشر بهذا البيت‪ (1).‬ثم‬


‫بعرشه‪ ،‬فقد جاء في الخبر الصحيح أ ّ‬
‫قال)عليه السلم(‪» :‬يحرزون)‪ (2‬الرباح في متجر عبادته ويتبادرون عنده موعد مغفرته« ويالها من تجارة‬
‫عظيمة مربحة تلك التي يتطهر فيها النسان من جميع ذنوبه إذا أتى بالعمل على وجه الصحة; بل ورد أّنه يعود‬
‫كيوم ولدته أمه ول ذنب عليه كما صّرحت بذلك بعض الحاديث السلمية‪.‬‬

‫ثم قال)عليه السلم(‪» :‬جعله سبحانه وتعالى للسلم علمًا وللعائذين حرمًا«‪.‬‬

‫ن الكعبة تمثل الراية السلمية الخفاقة على الدوام; الراية التي يتمحور حولها المسلمون من أجل‬ ‫فالواقع هو أ ّ‬
‫تحقيق استقللهم ومجدهم وعزتهم‪ .‬وكل عام تنفخ روح جديدة بمشاهدتها في جسد المسلمين ويجري دم جديد في‬
‫عروقهم‪ .‬وما إن يفرغ المام)عليه السلم( من ذكر هذه الفضائل حتى يشير إلى وجوب حج البيت فيقول‪» :‬فرض‬
‫ل َوَم ْ‬
‫ن‬ ‫سِبـي ً‬
‫ع ِإَلْيِه َ‬
‫سَتطا َ‬
‫نا ْ‬
‫ت َمـ ِ‬
‫ج الَبـْي ِ‬
‫حـ ّ‬
‫على الّناس ِ‬
‫ل َ‬
‫حّقه وأوجب حجه وكتب عليكم وفادته)‪(3‬فقال سبحانه‪َ) :‬و ِّ‬
‫ن(‪.‬‬
‫ن العاَلِمـي َ‬
‫عِ‬
‫ي َ‬
‫غِن ّ‬
‫ل َ‬‫نا ّ‬
‫َكَفَر َفِإ ّ‬

‫تأّملن‬
‫هنالك عّدة مسائل ومباحث متعلقة بالحج ل يمكن استيعابها في هذا البحث‪ ،‬وعليه سنكتفي بالشارة إلى بعض‬
‫لمور التي تتمتع بأهمية كبيرة‪:‬‬
‫اُ‬

‫‪ 1‬ـ نبذة تأريخية عن الكعبة‬

‫للكعبة ـ التي يطلق عليها اسم بيت ال الحرام أيضًا ـ تأريخ عريق يعود إلى زمان آدم)عليه السلم(‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.1/124‬‬

‫‪» .2‬يحرزون« من مادة »الحراز« بمعنى الحفظ والدخار والخزن‪ .‬ومن هنا يطلق الحرز على الموضع المحفوظ كالصندوق‬
‫والمخزن وما شابه ذلك‪.‬‬

‫‪» .3‬وفادة« بمعنى البزوغ والطلوع‪ ،‬ثم أصبحت بمعنى النزول والدخول‪ ،‬كما يصطلح بالوفد على الهيئة والجماعة التي ترد على‬
‫دولة أو زعيم أو فئة ذات مكانة‪.‬‬

‫] ‪[ 171‬‬

‫حسب ما أشارت الروايات)‪ (1‬فآدم)عليه السلم( هو أول من بناها وطاف حولها‪ ،‬ثم اندرست في الطوفان الذي‬
‫عم الرض زمان نبي ال نوح)عليه السلم(‪ ،‬ثم أعاد بنائها إبراهيم)عليه السلم( وولده إسماعيل ـ على ضوء‬
‫ل‪ (2)(..‬ـ فأديا مراسم‬ ‫عـي ُ‬
‫سمـا ِ‬
‫ت َو ِإ ْ‬‫ن الَبْي ِ‬
‫عَد ِم َ‬
‫صريح اليات القرآنية كقوله سبحانه‪َ) :‬و ِإذ َيْرَفُع ِإْبراِهـيُم الَقوا ِ‬
‫ضَع ِللّناس َلّلِذي ِبَبّكَة ُمباَركًا()‪ .(3‬وكما‬‫ل َبْيت ُو ِ‬ ‫ن َأّو َ‬
‫الحج حيث أصبحت الكعبة أول مركز للتوحيد للنسانية‪ِ) :‬إ ّ‬
‫ن في السماء بيتًا يطوف به الملئكة طواف البشر بهذا‬ ‫أشرنا سابقًا وعلى ضوء بعض الروايات الصحيحة أ ّ‬
‫ن البيت أول من عتق من الماء)‪ (4‬كما ورد هذا المعنى في قصة دحو الرض‪ .‬وقد تظافرت الروايات ـ‬ ‫البيت‪ ،‬وا ّ‬
‫في نهج البلغة وغيره من المصادر السلمية ـ التي كشفت عن عظمة الكعبة ومدى أهميتها‪ ،‬ومنها ماروي عن‬
‫المام الباقر)عليه السلم( أّنه قال‪» :‬ما خلق ال عز وجل بقعة في الرض أحب إليه منها ـ ثم أومأ بيده نحو‬
‫ن النظر إليها عبادة)‪ (5‬فالكعبة هى‬ ‫الكعبة ـ ول أكرم على ال عز وجل منها« بل ورد في مقدمة هذا الحديث أ ّ‬
‫رمز الوحدة السلمية التي تتطلع إليها الجماعة السلمية في العالم أجمع‪ .‬جدير ذكره بشأن أهمية البيت أن‬
‫زرارة ـ من كبار صحابة المام الباقر والصادق)عليهما السلم(ـ دخل على المام الصادق)عليه السلم( فقال‪:‬‬
‫ل‪» :‬يا زرارة بيت يحج إليه قبل آدم‬ ‫)جعلني ال فداك أسألك في الحج منذ أربعين عامًا فتفتيني«‪ .‬فرد المام قائ ً‬
‫ن الملئكة والمخلوقات التي‬ ‫بألفي عام تريد أن تفتى مسائله في أربعين عامًا«)‪ .(6‬فالذي يستفاد من هذا الحديث أ ّ‬
‫ن آدم لما قضى مناسكه وطاف بالبيت‬ ‫عاشت على الرض قبل آدم)عليه السلم( كانت تحج البيت‪ .‬ففي الحديث أ ّ‬
‫لقيته الملئكة‪ ،‬فقالت‪ :‬يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام‪.‬‬
‫‪ .1‬بحار النوار ‪. 86 / 12‬‬

‫‪ .2‬سورة البقرة ‪.127 /‬‬

‫‪ .3‬سورة آل عمران ‪.96 /‬‬

‫‪ .4‬شرح نهج البلغة للخوئي ‪.235 / 2‬‬

‫‪ .5‬فروع الكافي ‪) 240 / 4‬باب فضل النظر إلى الكعبة(‪.‬‬

‫‪ .6‬وسائل الشيعة ‪) 7 / 8‬باب وجوبه على كل مكلف مستطيع(‪.‬‬

‫] ‪[ 172‬‬

‫‪ 2‬ـ فلسفة الحج‬

‫لقد تضمنت عبارات المام)عليه السلم( إشارات عميقة لفلسفة الححج وما ينطوي عليه من أسرار‪ .‬إلى جانب‬
‫ن هذه المناسك‬
‫ذلك فقد وردت الروايات التي صّرحت بمثل هذا المعنى‪ ،‬والذي يخلص إليه من مجموعها أ ّ‬
‫العظيمة تشتمل على أربعة جوانب هى‪:‬‬

‫الجانب الخلقي والعبادي‪ ،‬الجانب السياسي والجتماعي‪ ،‬الجانب الثقافي والجانب القتصادي‪.‬‬

‫أّما الجانب الخلقي والعبادي الذي يمثل أهم جوانب فلسفة الحج بفضل تنبيه لتربية النفس وتهذب الخلق‬
‫والتحلي بالورع والتقوى والخلص‪ .‬حيث صّرحت الروايات السلمية بشأن من يحج البيت »يخرج من ذنوبه‬
‫كهيئة يوم ولدته أمه«)‪ .(1‬والرواية بدورها دليل واضح على مدى التأثير الذي يلعبه الحج في النفس النسانية‬
‫وتنقيتها من الذنوب والمعاصي التي دنست عفتها طيلة العمر وهذه أعظم فائدة يصيبها الوافد على بيت ال‪ .‬ولو‬
‫التفت الحاج إلى أسرار المناسك التي يؤديها والشعائر التي يؤتي بها فان كل خطوة ستجعله أكثر قربًا من ال‬
‫ليرى موله حاضرًا في كل مكان فهو معبوده الحق الذي ل يفارقه طرفة عين‪ .‬أجل سيعود إلى الحياة من جديد‬
‫كيوم ولدته أمه‪.‬‬

‫ول غرو فمن أدرك الحج بمعناه الحقيقي سيشعر بآثاره الروحية والمعنوية إلى آخر عمره‪ ،‬ولعل هذا هو السبب‬
‫في وجوب الحج مرة واحدة طيلة العمر‪.‬‬

‫ن التيان بمراسم الحج على ضوء التعاليم السلمية والحج‬ ‫وأّما على صعيد الجانب السياسي والجتماعي فا ّ‬
‫البراهيمي الذي دعي الناس لمتثاله إّنما يؤدي إلى عزة المسلمين وتحكيم دعائم الدين وارساء أسس الخاء‬
‫والوحدة وتنامي شوكة الدين وصلبته والوقوف بوجه العداء والمستكبرين واعلن البراءة من المشركين‬
‫والملحدين‪ .‬كما يمنح هذا المؤتمر اللهي العظيم الذي يعقد كل عام في البيت العتيق المسلمين الفرصة الذهبية في‬
‫إعادة بناء أنفسهم وتقوية أواصر الخوة فيما بينهم ورص صفوفهم بما يحبط مؤامرات أعداء الدين وافشال‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪.26 / 99‬‬

‫] ‪[ 173‬‬

‫ل لتمكنوا ـ في‬
‫ن المسلمين لم يقفوا لحد الن على عظمة الحج ويدركوا كنهه وإ ّ‬
‫خطط الشياطين‪ ،‬وما يؤسف له أ ّ‬
‫ظل هذه الشعيرة ـ من إسداء أعظم الخدمات للسلم وتسديد أوجع الضربات إلى ركائز الشرك والكفر; المر‬
‫الذي نلمسه بوضوح في الروايات السلمية ولسيما تلك التي وصفته‪» :‬ليزال الدين قائمًا ماقامت الكعبة«)‪.(1‬‬
‫وكأن أعداء السلم أدركوا الدور العظيم الذي يلعبه الحج على صعيد المسائل السياسية فمارسوا أقصى ردود‬
‫الفعل تجاهه بغية الحؤول دون تحقيق أهدافه‪ .‬فهذا »غلدستون« ـ رئيس وزراء بريطانيا ـ يخاطب مجلس العموم‬
‫ن المسيحية مهددة بالخطر وسنعجز عن إصلح العالم )طبعًا ليس الصلح من وجهة نظرهم سوى الستعمار(‬ ‫بأ ّ‬
‫مادام اسم محمد يذكر صباح مساء من على المآذن والقرآن هو دستور حياة المسلمين‪ ،‬الذين يقيمون مراسم الحج‬
‫كل عام بهذا الشكل)‪ .(2‬بل قيل أن غلدستون اختتم خطابه لمجلس العموم بقوله‪ :‬يجب عليكم يا ساسة المسيحية‬
‫أن تزيلوا اسم محمد من آذان المسلمين فتنسونهم ذكره وتحرقون القرآن وتخربون الكعبة‪ .‬وهناك جملة ُاخرى‬
‫ل‪» :‬الويل للمسلمين إن غفلوا عن معنى الحج‪ ،‬الويل لمن‬
‫معروفة أطلقها أحد زعماء النصرانية في الغرب قائ ً‬
‫سواهم إن فهموا معناه«‪ .‬وبالبداهة أّنهم ل ينوون من هذا الحراق ظاهر القرآن‪ ،‬كما أّنهم لن ينجحوا في تخريب‬
‫الكعبة‪ ،‬غير أّنهم يستطيعون وفي ظل غفلة المسلمين من تحقيق مآربهم بالقضاء على أحكام الدين وافراغ الحج‬
‫من محتواه الصيل‪.‬‬

‫وأخيرًا الجانب الرابع الذي يشير إلى الفلسفة القتصادية للحج‪ .‬فقد وردت الروايات‬

‫‪ .1‬فروع الكافي ‪) 271 / 4‬باب أّنه لو ترك الناس الحج لجاءهم العذاب(‪.‬‬

‫ل عن قول القمر(‪.‬‬
‫‪ .2‬دليل الحرمين الشريفين ‪) 54 / 1‬نق ً‬

‫] ‪[ 174‬‬

‫والخبار التي تفيد أن من معطيات الحج تفعيل القدرة القتصادية للمسلمين وانقاذهم من الزمات المالية التي‬
‫لأّ‬
‫ن‬ ‫تعصف بحياتهم وحياة مجتمعاتهم‪ .‬ولعل البعض ل يرى من رابطة من قريب أو بعيد بالجانب القتصادي‪ ،‬إ ّ‬
‫ن الخطر العظيم الذي يهدد كيان المسلمين إّنما يتمثل اليوم بالتبعية‬
‫أدنى تأمل لهذه القضية سيكشف بوضوح بأ ّ‬
‫القتصادية للجانب‪ ،‬فما الضير في اقامة المؤتمرات والندوات القتصادية من قبل المعنيين والمتخصصين في‬
‫تلك الديار المقدسة بصفتها مراسم عبادية تهذف إلى انتشال المسلمين من مخالب الفقر والتبعية وطرح المشاريع‬
‫والبرامج القتصادية التي من شأنها معالجة الوضاع المزرية؟ ول نرى لهذه القضية من طابع فردي لتعالى‬
‫الصوات بالنشغال بزخارف الدنيا وحطامها الزائل‪ ،‬بل الهدف أنبل وأسمى حيث يكمن في خدمة السلم‬
‫والمسلمين في هذا الجانب الحيوي‪ (1).‬ويتضح من قوله)عليه السلم(‪» :‬ووقفوا مواقف أنبيائه وتشبهوا بملئكته‬
‫المطيفين بعرشه‪ ،‬يحرزون الرباح في متجر عبادته ويتبادرون عنده موعد مغفرته« مدى الهمية التي أولها‬
‫المام)عليه السلم( لحج بيت ال الحرام; ول عجب فهى عبادة اجتماعية عامة تقسم في طياتها الدنيا والخرة‬
‫والخلق والمعنويات وعزة المسلمين وتنامي شوكتهم‪.‬‬

‫ل أننا سنستغرق أكثر في هذا الموضوع حين شرحنا‬‫طبعًا واسع وشامل البحث المتعلق بالحج وأبعد مّما ذكرنا إ ّ‬
‫لسائر خطب المام)عليه السلم( الواردة بهذا الشأن‪ ،‬ونكتفي هنا بهذا المقدار المتواضع‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬لقد أشارت الرواية التي نقلها هشام بن الحكم عن المام الصادق)عليه السلم( بصورة إجمالية إلى فلسفة هذه الجوانب الربعة‬
‫للحج )وسائل الشيعة ‪ (9 / 8‬كما يمكن لمن أراد المزيد أن يراجع التفسير المثل ‪ 14 /‬بشأن فلسفة الحج‪.‬‬

‫] ‪[ 175‬‬
‫الخطبة ‪2‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫بعد انصرافه من صفين وفيها حال الناس قبل البعثة وصفة آل النبي)صلى ال عليه وآله( ثم صفة قوم آخرين‪.‬‬

‫القسم الول‬

‫ضّل َمنْ‬ ‫سَتِعيُنُه فاَقًة ِإَلى ِكفاَيِتِه ِإّنُه ل َي ِ‬


‫صَيِتِه‪َ .‬وَأ ْ‬
‫ن َمْع ِ‬‫سِتْعصامًا ِم ْ‬ ‫سلمًا ِلِعّزِتِه َوا ْ‬ ‫سِت ْ‬
‫سِتْتمامًا ِلِنْعَمِتِه َوا ْ‬
‫حَمُدُه ا ْ‬
‫»َأ ْ‬
‫حَدُه ل‬ ‫ل وَ ْ‬
‫ن ل ِإَلَه ِإّل ا ّ‬ ‫شَهُد َأ ْ‬
‫ن َوَأ ْ‬‫خِز َ‬
‫ضُل َما ُ‬ ‫ن َوَأْف َ‬‫ح َما ُوِز َ‬ ‫جُ‬‫ن َكفاُه َفِإّنُه َأْر َ‬‫ن عاداُه َول َيْفَتِقُر َم ْ‬ ‫َهداُه َول َيِئُل َم ْ‬
‫خُرها َِلهاِويِل ما َيْلقانا َفِإّنَها‬ ‫سك ِبها َأَبدًا ما َأْبقانا‪َ ،‬وَنّد ِ‬ ‫صها َنَتَم ّ‬‫صها ُمْعَتَقدًا ُمصا ُ‬ ‫خل ُ‬ ‫حنًا ِإ ْ‬
‫شهاَدًة ُمْمَت َ‬‫شِريك َلُه َ‬ ‫َ‬
‫سَلُه‬
‫سولُُه‪َ ،‬أْر َ‬ ‫عْبُدُه َوَر ُ‬ ‫حّمدًا َ‬‫ن ُم َ‬‫شَهُد َأ ّ‬
‫ن‪َ .‬وَأ ْ‬ ‫شْيطا ِ‬‫حَرُة ال ّ‬‫ن‪َ ،‬وَمْد َ‬‫حَم ِ‬
‫ن‪َ ،‬وَمْرضاُة الّر ْ‬ ‫حسا ِ‬ ‫حُة اِْل ْ‬‫ن َوفاِت َ‬‫عِزيَمُة اِْليَما ِ‬‫َ‬
‫حًة‬
‫ع‪ِ ،‬إزا َ‬ ‫صاد ِ‬‫لِمِع‪َ ،‬واَْلْمِر ال ّ‬ ‫ضياِء ال ّ‬ ‫ساطِع َوال ّ‬ ‫طوِر‪َ ،‬والّنوِر ال ّ‬ ‫سُ‬ ‫ب اْلَم ْ‬ ‫شُهوِر َواْلَعَلِم اْلَمْأُثوِر َواْلِكَتا ِ‬‫ن اْلَم ْ‬‫ِبالّدي ِ‬
‫ت«‪.‬‬ ‫خِويفًا ِباْلَمُثل ِ‬
‫ت َوَت ْ‬ ‫حِذيرًا ِباْليا ِ‬ ‫ت وَت ْ‬‫حِتجاجًا ِباْلَبّينا ِ‬ ‫ت َوا ْ‬ ‫شُبها ِ‬‫ِلل ّ‬

‫—–‬

‫] ‪[ 176‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫تشتمل هذه الخطبة على خمسة مضامين )تبحث في أربعة أقسام(‪:‬‬

‫المضمون الول في حمد ال والثناء عليه والملذ بفضله وكرمه ورحمته‪ ،‬والثاني في الشهادة ل بالوحدانية‬
‫ومعطيات اليمان بالتوحيد‪ ،‬والثالث في الشهادة بالنبوة والعبودية إلى جانب التذكير بفضائل النبي)صلى ال عليه‬
‫وآله( واوضاع العصر الجاهلي والملمات والخطوب التي شهدها المجتمع السلمي آنذاك والجهود التي بذلها‬
‫الرسول الكريم)صلى ال عليه وآله(من أجل مجابهة تلك الخطوب وتحمل المصاعب والويلت بهذا الشأن‪،‬‬
‫والرابع في منزلة أهل البيت وعلو مقامهم وسمو مكانتهم واللجوء إليهم في ُامور الدين‪ ،‬والمضمون الخير الذي‬
‫لّمة من مقارنة أنفسها بهم‪ ،‬متطرقًا إلى عدم إمكانية تشبه أي‬
‫يواصل فيه المعنى المذكور بصيغة ُاخرى محذرًا ا ُ‬
‫من الفراد بهم ومستعرضًا لفضائلهم والعراب عن الرتياح لعودة الحق السليب لهله‪.‬‬

‫ظروف وملبسات الخطبة‬


‫ن المام)عليه السلم(أورد هذه الخطبة بعد‬
‫كما مر علينا سابقًا فقد صّرح المرحوم السيد الشريف الرضي أ ّ‬
‫انصرافه من صفين‪.‬‬

‫لّمة في‬
‫ومضامين الخطبة ومعانيها تبدو منسجمة والمعنى المذكور; الحقيقة التي تجسدت في استعراض حياة ا ُ‬
‫العصر الجاهلي حيث يحذرها من مغبة تكرار الجاهلية الولى والحؤول دون تمكن من تبقى من رواد تلك‬
‫الجاهلية الذين كانوا يشكلون غالبية معسكر الشام في صفين من تحقيق أطماعهم ومآربهم‪ .‬كما يؤكد)عليه السلم(‬
‫لّمة بأهل بيت النبي)صلى ال عليه وآله( بغية التحصن من الخطار التي كانت تهدد‬ ‫على ضرورة تمسك ا ُ‬
‫السلم آنذاك‪ ،‬فهم الذين قال فيهم رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪» :‬إّني مخلف فيكم الثقلين كتاب ال وعترتي‬
‫أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدًا وإّنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض« فالنجاة بالتمسك‬
‫بالكتاب والعترة معًا‪.‬‬

‫ن هذه الكلمات وهى‬


‫ومن هنا يتضح بطلن ماذهب إليه ابن أبي الحديد بشأن صدور الخطبة حيث قال‪ :‬واعلم أ ّ‬
‫قوله)عليه السلم(‪» :‬الن إذا رجع الحق إلى أهله« إلى آخرها يبعد عندي أن‬

‫] ‪[ 177‬‬

‫تكون مقولة عقيب انصرافه)عليه السلم( من صفين‪ ،‬لّنه انصرف عنها وقتئذ مضطرب المر‪ ،‬منتشر الحبل‪،‬‬
‫بواقعة التحكيم‪ ،‬ومكيدة ابن العاص‪ ،‬وما تم لمعاوية عليه من الستظهار‪ ،‬وما شاهد في عسكره من الخذلن‪،‬‬
‫وهذه الكلمات ل تقال في مثل هذه الحال‪ ،‬وأخلق بها أن تكون قيلت في ابتداء بيعته‪ ،‬قبل أن يخرج من المدينة إلى‬
‫ن الرضي رحمه ال تعالى نقل ماوجد‪ ،‬وحكى ماسمع والغلط من غيره‪ ،‬والوهم سابق له‪ ،‬وما ذكرناه‬ ‫البصرة‪ ،‬وأ ّ‬
‫واضح‪(1).‬‬

‫ن هذا الكلم ينبغي أل يقال بشأن فرد يعتبر علمًا في العلم وبحرًا من الوقار واسطورة‬ ‫وقد صّرح بعض العلماء بأ ّ‬
‫ن فردًا مثل علي)عليه السلم(لتهزه هذه الحادثة وأنى للضطراب والقلق من سبيل إلى‬ ‫في الجهاد والمقاومة‪ .‬فا ّ‬
‫هذه الروح الملحمية والفكار الربانية التي كان يتحلى بها علي)عليه السلم(‪ .‬بل بالعكس وكما أوردنا سابقًا فان‬
‫لّمة من الستسلم إلى الدعايات السامة والمشاريع الشيطانية التي‬ ‫المام)عليه السلم( يحذر ـ في هذه الخطبة ـ ا ُ‬
‫كان يمارسها ولة الشام ومن مغبة العودة القهقري إلى العصر الجاهلي والصمود في الذود عن الحق بعد أن عاد‬
‫إلى أهله‪ .‬وعليه فل يبدو رأي ابن أبي الحديد صائبًا في أن معاوية هو الذي انتصر في الميدان ول سيما قول‬
‫المام)عليه السلم(‪» :‬الن إذا راجع الحق إلى اهله« وذلك للسباب التالية‪:‬‬

‫ن معاوية لم يكسب تلك المعركة قط‪ ،‬غاية مافي المر أّنه نجى من هزيمة منكرة بفعل خدعة عمرو بن‬ ‫ل‪ :‬أ ّ‬
‫أو ً‬
‫لّمة من التغابي عنه إلى جانب الذود‬
‫العاص فما زال المام)عليه السلم( يرى الحق )هو وأهل بيته( ويحذر ا ُ‬
‫عنه وعدم زحزحته عن أهله‪.‬‬

‫ن التحكيم الغادر لعمرو بن العاص ـ وخلفًا لما يراه الكثيرون ـ لم يحصل في صفين بحضور المام)عليه‬ ‫ثانيًا‪ :‬إ ّ‬
‫ن ابن أبي الحديد قد صّرح بهذا المعنى في موضع آخر من شرحه‪.‬‬ ‫السلم(بل وقع بعيد بضعة أشهر‪ ،‬والطريف أ ّ‬
‫ن الدليل الذي حاول أن يتمسك به ابن أبي الحديد والذي تمثل بالجملة الخيرة في الخطبة‬
‫ونخلص مّما سبق إلى أ ّ‬
‫ن الخطبة صدرت بعد موقعة صفين‪ ،‬هو دليل باطل وشاهد عاري من الصحة‪.‬‬ ‫لثبات صحة مدعاه في أ ّ‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.143 / 1‬‬

‫] ‪[ 178‬‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الركنان الساسيان في السلم‬


‫ل أّنه يكشف عن الدوافع الثلث لهذا‬
‫استهل المام)عليه السلم( الخطبة ـ كسائر خطبه ـ بحمد ال والثناء عليه‪ ،‬إ ّ‬
‫الحمد والثناء‪:‬‬

‫الول الستزادة من النعم اللهية‪ ،‬واظهار الستسلم والخضوع للعزة اللهية والقدرة المطلقة‪ ،‬وأخيرًا العتصام‬
‫بالطافه من المعاصي‪ .‬فقد قال)عليه السلم(‪» :‬أحمده استتمامًا)‪ (1‬لنعمته واستسلمًا)‪ (2‬لعزته واستعصامًا)‪ (3‬من‬
‫ن الشكر ممزوج بالمدح‬ ‫ن مفهوم الحمد أشمل من الشكر‪ ،‬وبعبارة ُاخرى فا ّ‬ ‫معصيته«‪ .‬لبّد من اللتفات هنا إلى أ ّ‬
‫لِزيَدّنُكْم()‪ (4‬ويشكل القيام بوظيفة‬
‫شَكْرُتْم َ‬
‫ن َ‬
‫وهذا يدعو من جانب لستزادة النعم اللهية كما قال سبحانه‪َ) :‬لِئ ْ‬
‫العبودية من جانب آخر وهذا هو التسليم مقابل عزة ال وأخيرًا يوجب عنايات ال وألطافه الغيبية في حفظ‬
‫النسان وعصمته من الذنوب والمعاصي‪ .‬ثم يستعين)عليه السلم( بال بعد حمده والثناء عليه موعزًا ذلك إلى‬
‫حاجته إليه سبحانه وعدم غناه عنه »واستعينه فاقة إلى كفايته«‪ .‬أجل إذا رأى العبد نفسه محتاجًا لتلك الذات الغنية‬
‫وصاحب الكمال المطلق فانه يلجأ إلى الحق سبحانه ليشمله بفضله ورحمته ويعينه في كافة شؤون حياته‪ .‬آنذاك‬
‫يشير إلى دليل آخر لهذه الستعانة فيقول‪» :‬اّنه ل يضل من هداه ول يئل)‪ (5‬من عاداه ول يفتقر من كفاه«‪ .‬نعم‬
‫فقدرته على درجة من القوة والعظمة بحيث ل يسع أحد الوقوف أمامها‪ ،‬وإن علمه ثاقب ليس للخطأ من سبيل‬
‫ن الدوافع الثلث دليل آخر على الحمد والثناء ودليل على الستعانة أيضًا‪.‬‬ ‫إليه‪ .‬وهناك إحتمال أيضًا أ ّ‬

‫ثم يشير في آخر العبارة إلى دليل آخر يوجب الحمد ل والثناء عليه »فانه أرجح ما وزن‬

‫‪» .1‬استتمام« قد تعني التمام أو المطالبة بالتمام‪ ،‬وقد أريد بها هنا المعنى الثاني ويؤيد ذلك الجملة اللحقة‪.‬‬

‫‪» .2‬استسلم« بمعنى النقياد والتسليم‪ ،‬وعناها بعض اللغويين بموافقة الظاهر للباطن بالنسبة للشيء والنقياد من لوازمها‪.‬‬

‫‪» .3‬استعصام« بمعنى المطالبة والحفظ ودفع اُلمور المكروهة‪.‬‬

‫‪ .4‬سورة إبراهيم ‪.7 /‬‬

‫‪» .5‬يئل« من مادة »وأل« على وزن وعد بمعنى النجاة واللجوء والعودة‪.‬‬

‫] ‪[ 179‬‬

‫ن الفوائد والثار التي وردت في العبارات السابقة إّنما تتعلق بهذا العالم‪ ،‬بينما‬
‫وأفضل ما خزن«‪ .‬والواقع هو أ ّ‬
‫ترتبط الفوائد الواردة في العبارتين الخيرتين بالعالم الخر وزاد المعاد يوم القيامة‪ ،‬وهكذا يكون حمد ال والثناء‬
‫عليه سبب النجاة في الدنيا والخرة‪ ،‬وما أروع عبارات المام )عليه السلم( المقتضية التي تضمنت تلك المعاني‬
‫العميقة‪ .‬فل يبدو من العبث أن يصرح ابن أبي الحديد حين يتناول بالشرح هذه الخطبة فيذهل للكنايات والبديع‬
‫ل‪» :‬فسبحان من خصه بالفضائل التي ل تنتهي‬ ‫وعذوبة التعبير الذي تضمنته عبارات المام)عليه السلم( قائ ً‬
‫السنة الفقهاء إلى وصفها وجعله إمام كل ذي علم وقدوة كل صاحب خصية«‪.‬‬

‫ثم يتطرق)عليه السلم( إلى الشهادة بالوحدانية بصفتها تشكل مصدر جميع الفضائل والكمالت‪» :‬واشهد ان ل إله‬
‫ل ال وحده ل شريك له« وتمسك المام)عليه السلم( بالتوحيد على أنه دعامة كافة العقائد والفكار الطاهرة‬ ‫إّ‬
‫والعمال الصالحة من جانب‪ ،‬ومن جانب آخر ليلتفت من يرى الوهيته)عليه السلم( إلى خطأ إعتقاده‪ .‬ثم يضيف‬
‫ن شهادته هذه شهادة حقيقية تستند إلى الخلص والتقوى وليست لقلقة لسان »شهادة‬ ‫المام)عليه السلم( بأ ّ‬
‫ممتحنا)‪ (1‬اخلصها معتقدًا مصاصها)‪.«(2‬‬

‫فهى شهادة حقة دائمة مادامت الحياة مدخرة حيث الهوال والخطوب »نتمسك بها أبدًا ما أبقانا وندخرها لهاويل)‬
‫‪ (3‬ما يلقانا«‪.‬‬

‫فالمام)عليه السلم( يعلن عن عمق إيمانه وإذعانه بحقيقة التوحيد في كافة شؤون الحياة وعلى جميع المستويات;‬
‫الحقيقة التي تجسدت في سيرته)عليه السلم( والمشهودة في كافة جوانب حياته حتى لم يتطرق الشرك إليه طرفة‬
‫عين‪ ،‬فلم يسجد لصنم قط وكانت سكناته وحركاته في ظل التوحيد البعيد عن أدنى شرك خفي‪ .‬ثم يذكر)عليه‬
‫السلم(أربعة دعائم لهذا الركن الركين في السلم »فانها عزيمة اليمان وفاتحة الحسان ومرضاة الرحمن‬
‫ومدحرة)‪ (4‬الشيطان«‪.‬‬

‫ن بعض أرباب اللغة قالوا أصلها استخراج التراب‬


‫‪» .1‬ممتحن« من مادة »محن« على وزن وهن بمعنى الختبار والمتحان‪ ،‬إّل ا ّ‬
‫حين حفر البئر‪.‬‬

‫‪» .2‬مصاص« من مادة »مص« على وزن نص بمعنى التذوق والمتصاص ومن هنا اصطلح بالمصاص على عصارة الشيء‬
‫الممتص حين وروده بدن النسان‪.‬‬

‫‪» .3‬الهاويل« جمع أهوال »وهول« بمعنى الخشية والخوف‪.‬‬

‫‪» .4‬مدحرة« من مادة »دحر« بمعنى الطرد والبعاد‪.‬‬

‫] ‪[ 180‬‬

‫ن اليمان بأي من أصول الدين إّنما هو إيمان أجوف مالم يستند إلى التوحيد‪ ،‬كما أنّ‬‫سنرى في البحاث القادمة أ ّ‬
‫ن الوسيلة المهّمة‬
‫الصالحات بأجمعها إّنما تستقى من حقيقة التوحيد‪ ،‬ومن هنا كان مرضاة ل ومدحرة للشيطان‪ ،‬ل ّ‬
‫الهدامة للشيطان إّنما تتمثل بالشرك سواء كان جليًا واضحًا أم مخفيًا مستترًا‪.‬‬

‫ن المراد بفاتحة الحسان هو الجر والثواب اللهي الذي التوحيد مفتاحه‪،‬‬ ‫ذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أ ّ‬
‫غير أن التفسير الذي ذكرناه يبدو أكثر صحة من هذا‪ .‬وما أن يفرغ المام)عليه السلم( من هذه الشهادة الخالصة‬
‫الحقة حتى يردفها بمتممتها التي تتمثل بالشهادة بالنبوة‪» :‬وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله«‪ .‬نعم فهو عبد ال قبل‬
‫أن يكون رسوله‪ ،‬فليس من مجال لبلوغ مقام النبوة دون العبودية‪ ،‬وفي هذا رد على أولئك الذين قد يبالغون في‬
‫مقام الرسول ليبلغوا درجة اللوهية‪ .‬آنذاك يصف رسالة ووظيفة النبي فيقول‪:‬‬

‫»أرسله بالدين المشهور والعلم المأثور)‪ (1‬والكتاب المسطور والنور الساطع)‪(2‬والضياء اللمع والمر الصادع)‬
‫لمور التي تشير اليها‪ .‬منها أ ّ‬
‫ن‬ ‫‪ .«(3‬والواقع هنالك عّدة تفاسير بشأن هذه العبارات الست العميقة المعاني وا ُ‬
‫المراد بالدين المشهور هو السلم الحنيف والعلم المأثور المعجزات والكتاب المسطور القرآن الكريم والنور‬
‫الساطع علوم النبي)صلى ال عليه وآله(والضياء اللمع سنته)صلى ال عليه وآله( والمر الصادع ـ بقرينة الية‬
‫ع ِبما ُتْؤَمُر()‪ (4‬ـ ترك التقية واظهار التوحيد في مقابل المشركين‬
‫صَد ْ‬
‫الشريفة ‪ 94‬من سورة الحجر )َفا ْ‬
‫والكافرين‪ .‬كما يحتمل أن يكون المراد بالضياء اللمع والنور الساطع تبيين القرآن الكريم‪ ،‬فالقرآن مصدر اشعاع‬
‫أفكار المجتمعات النسانية‪ .‬ثم يخوض المام)عليه السلم( في الهدف النهائي لرسالة النبي)صلى ال عليه‬
‫وآله(والقرآن والمعجزات والقوانين والحكام الشرعية‪ ،‬فيوضح أهداف النبي)صلى ال عليه وآله( في ثلث‬
‫محاور‪ :‬ازالة‬

‫‪» .1‬المأثور« من مادة »أثر« بمعنى العلمة الباقية من الشيء ولذلك يطلق على العلوم المتبقية من الماضين »علم المأثور«‪.‬‬

‫‪» .2‬الساطع« من مادة »سطوع« بمعنى النتشار‪ ،‬فالنور الساطع هو النور الواسع المنتشر كما ورد بمعنى المرتفع‪.‬‬

‫‪» .3‬صادع« من مادة »صدع« بمعنى الشق في الجسم الصلب والمحكم ثم أطلق على كل شيء قاطع‪.‬‬

‫‪ .4‬سورة حجر ‪.94 /‬‬

‫] ‪[ 181‬‬

‫الشبهات بالدلة والبراهين واستقطاب الخصوم من خلل إرشادها باليات البّينات وتحذيرهم من العقاب الليم ان‬
‫هم تمادوا في غّيهم وعصيانهم »إزاحة)‪ (1‬للشبهات واحتجاجًا بالبّينات وتحذيرًا باليات وتخويفًا بالمثلت)‪.«(2‬‬
‫يمكن أن يكون المراد من قوله »ازاحة الشبهات« الحقائق التي تعززها البراهين والدلة الربانّية والتي ل تدع‬
‫لولئك الذين ل يسلمون سوى للستدللت‬ ‫ل لشك أو شبهة‪» ،‬واحتجاجًا بالبّينات« المعجزات الحسية بالنسبة ُ‬ ‫مجا ً‬
‫لخروي »تخويف‬ ‫العقلية والتي من شأنها سوقهم نحو اليمان واليقين‪» ،‬تحذيرًا باليات« الوعيد بالعذاب ا ُ‬
‫جُلوَن َ‬
‫ك‬ ‫سَتْع ِ‬
‫بالمثلت« الوعيد بالعذاب الدنيوي كما ورد ذلك في بعض اليات القرآنية كقوله سبحانه وتعالى‪َ) :‬وَي ْ‬
‫ت(‪(3).‬‬
‫ن َقْبِلِهُم الَمُثل ُ‬
‫ت ِم ْ‬
‫خَل ْ‬
‫سَنِة َوَقْد َ‬
‫حَ‬‫ل ال َ‬
‫سـّيـَئِة َقْب َ‬
‫ِبال ّ‬

‫تأّملن‬
‫‪1‬ـ التوحيد ركيزة الصالحات‬

‫ن هذا استنتاج ساذج لهذا‬


‫لأّ‬
‫لصول العقائدية المسلمة بالنسبة لسائر الصول; إ ّ‬
‫تعتير الشهادة ل بالواحدانية من ا ُ‬
‫الصل السلمي المهم‪ .‬فالتمعن في المصادر السلمية والتحليلت العقلية يدل على أن التوحيد أصل جار على‬
‫لصول والفروع‪ ،‬بعبارة ُاخرى فان كافة أصول السلم وفروعه تشكل بلورة لمفهوم التوحيد; ول يقتصر‬ ‫سائر ا ُ‬
‫هذا المر على المباحث العقائدية والعبادية في المسائل الجتماعية والسياسية والخلقية بل تسري روح التوحيد‬
‫لتحكم جميع المجالت‪.‬‬

‫لمور المسلمة الواضحة ول نقتصر به على نبّينا‬


‫فالتوحيد على مستوى الذات والصفات والفعال والعبودية لمن ا ُ‬
‫حد ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ن َأ َ‬
‫ق َبْي َ‬
‫دون سائر النبياء بحكم الية الشريفة )ل ُنَفّر ُ‬

‫‪» .1‬ازاحة« من مادة »زيح« على وزن زيد بمعنى البعاد والقصاء‪.‬‬

‫‪» .2‬مثلت« جمع »مثله« على وزن عضلة بمعنى البلء والمصاب الذي يحل بالنسان فيصبح مثالً وعبرة للخرين )مفردات‬
‫الراغب‪ ،‬تحقيق‪ ،‬الصحاح ومجمع البحرين(‪.‬‬

‫‪ .3‬سورة الرعد ‪.6 /‬‬

‫] ‪[ 182‬‬

‫ن جميع النبياء والمرسلين إّنما يتفقون في أهدافهم ووحدة رسالتهم وبرامجهم رغم‬
‫سِلِه()‪ (1‬وعليه فاننا نؤمن بأ ّ‬
‫ُر ُ‬
‫أن بعض الحكام والمشاريع والبرامج التي تلبس حلل جديدة وتتخذ طابعا حديثا بفعل تطور المجتمعات البشرية‬
‫وتقدم مسيرتها‪.‬‬

‫ن الجميع سيقف بمفرده يوماً‬‫أّما بالنسبة للمعاد وعلى ضوء الية الشريفة )َوُكّلُهْم آِتـيِه َيْوَم الِقـياَمِة َفـْردًا()‪ (2‬فا ّ‬
‫في محكمة العدل اللهي لينالوا جزائهم من ثواب أو عقاب يتناسب مع طبيعة أعمالهم وفقا لمعايير إلهية واحدة‪.‬‬

‫فالمجتمعات البشرية تنتمي إلى جذور واحدة تحكمها أصول ثابتة ومعينة‪ ،‬بل تحكم جميع عالم الوجود‪ .‬والواقع‬
‫ن مستقاها واحد‪،‬‬
‫لأّ‬‫ن هنالك تفاوتا في القوانين اللهية في الديان السماوية من حيث آلياتها وتفرعاتها‪ ،‬إ ّ‬
‫صحيح أ ّ‬
‫ن العالم برمته سيشهد في خاتمة المطاف‬ ‫ومن هنا فاننا نؤمن بوحدة دعوة النبياء للمجتمع العالمي الموحد‪ ،‬وأ ّ‬
‫حكومة العدل اللهي‪.‬‬

‫ن الفضائل الخلقية إّنما تنبع من التوحيد بينما تنبع‬


‫أّما على صعيد المسائل الخلقية فليس هنالك من يتردد في أ ّ‬
‫الرذائل من الشرك‪.‬‬

‫و عادة ما يتورط بالشرك الفراد المرائين وأولئك الذين يصابون بأمراض الحسد والبخل و الحرص والتكبر‪،‬‬
‫ن العزة والذلة والرزق والحياة والممات‬
‫ل فالفرد الذي يعيش توحيد الفعال بكل كيانه وفي أعماقه ويؤمن بأ ّ‬
‫وإ ّ‬
‫والنصر والغلبة ل بيده وحده ليرى من مسوغ لن يستشعر قلبه معاني الرياء والحرص والبخل والحسد‪.‬‬
‫ن التوحيد ليس بمثابة حبة مسبحة بالنسبة لسائر الحبات‪ ،‬بل هو بمثابة الخيط الذي يشد الحبات‬
‫و زبدة الكلم فا ّ‬
‫إلى بعضها البعض الخر‪.‬‬

‫و من هنا يتضح عمق كلمات المام)عليه السلم( بالنسبة لمفهوم التوحيد ـ في الخطبة ـ‪ ،‬فالتوحيد هو الدعامة‬
‫الرئيسية لليمان وانطلقة العمال الصالحة ويستبطن رضى الرحمن وطرد الشيطان‪ ،‬وإذا ما أشرقت شمس‬
‫التوحيد على جسم المجتمع البشري وروحه فاّنه سيتخذ طابعا متبلورا في ظل أشعته الزاهرة‪ .‬وإذا رأينا أمير‬
‫المؤمنين ومولى المتقين علي)عليه السلم( الذي يمثل‬

‫‪ .1‬سورة البقرة ‪.285 /‬‬

‫‪ .2‬سورة مريم ‪.95 /‬‬

‫] ‪[ 183‬‬

‫بدوره روح التوحيد لينفك عن تكرار التعرض للتوحيد ـ في خطب نهج البلغة ـ وتعليم أتباع مدرسة أهل البيت‬
‫الخلص في التوحيد فإّنما يعزى ذلك إلى ضرورة البقاء على جذوة هذه الشعلة الخالدة متقدة في القلوب وري‬
‫أرض الحياة بهذه المياه العذبة لتورق ثمار أشجارها وتنضج في ظل صبغة التوحيد اللهية‪.‬‬

‫ن الشهادة بالنبوة واللتفات إلى وظائفها ومسؤولياتها وكتبها السماوية إّنما يعّد أفضل أرضية‬
‫و مّما ل شك فيه أ ّ‬
‫خصبة لبلورة حقيقة التوحيد في أعماق كيان النسانية‪.‬‬

‫‪2‬ـ التوحيد الخالص الذي طبع حياة أميرالمؤمنين)عليه السلم(‬

‫كان علي)عليه السلم( مجسمة التوحيد ومظهره التام قبل أن يدعو الخرين لهذه الحقيقة الخالصة‪.‬‬

‫ل ويرى ال فيه‬
‫لم يسجد لصنم طرفة عين طيلة حياته قط ليلوث صفو روحه غبار الشرك‪ .‬كان ل يفعل شيئا إ ّ‬
‫وقبله ومعه ليروم سوى رضاه‪.‬‬

‫كما وقف كالطود الشامخ يشد أزره ويذود عنه بغية استتباب التوحيد والعبودية‪ .‬ول يخفى على أحد موقفه في‬
‫الخندق ومبارزته لعمرو بن العاص‪ ،‬فقد صرعه المام)عليه السلم( وأو شك أن يقتله; وقد أصيب جيش السلم‬
‫بالذهول حين رأى المام)عليه السلم(قد انصرف عن قتله )و لعله نهض من عنده وتركه لمّدة بعد أن تجول في‬
‫الميدان( ثم عاد إليه وقتله‪.‬‬

‫فلما سسئل عن علة ذلك قال)عليه السلم(‪» :‬قد كان شتم أمي وتفل في وجهي فخشيت أن أضربه لحظ نفسي‬
‫فتركته حتى سكن ما بي ثم قتله في ال«)‪ (1‬وقد وقف بكل قوة تجاه بعض أصحابه الذين اعترضوا عليه بالتسوية‬
‫في العطاء من بيت المال قال‪» :‬أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه! وال ل أطور به ما سمر‬
‫سمير‪ ،‬وما أم نجم في السماء نجمًا! لو كان المال لي لسويت بينهم‪ ،‬فكيف وإّنما المال مال ال«‪ (2).‬ولما كان‬
‫يقف للصلة كان يستغرق في صفات ال وجلله وجماله بحيث لم يكن يرى سوى ال ول يفكر في سواه‪ ،‬حتى‬
‫ورد في الخبار أن سهما أصاب رجله في موقعة أحد وكان يصعب سله من رجله فأمر‬

‫‪ .1‬مناقب ابن شهر آشوب‪) 115 / 2 ،‬مستدرك الوسائل; ‪ 28 / 18‬وبحار النوار‪.(51 / 41 ،‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغه‪ ،‬الخطبة ‪.126‬‬

‫] ‪[ 184‬‬
‫رسول ال)صلى ال عليه وآله(سسله حين يقف للصلة‪ .‬فلما فرغ)عليه السلم( من صلته قال لم أشعر بالسهم‬
‫حين الصلة‪ (1).‬وما أكثر هذه التماذج التوحيدية في حياة المام)عليه السلم(‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬كتاب »المناقب المرتضوية« تأليف المولى محمد صالح الكشفي الحنفي ‪ ،364 /‬طبعة يومباي )مطابق نقل احقاق الحق ‪/ 8‬‬
‫‪.(602‬‬

‫] ‪[ 185‬‬

‫القسم الثاني‬

‫ت اَْلْمُر َوضا َ‬
‫ق‬ ‫شّت َ‬‫جُر َوَت َ‬
‫ف الّن ْ‬
‫خَتَل َ‬
‫ن‪َ ،‬وا ْ‬‫سواِري اْلَيِقي ِ‬ ‫ت َ‬‫ع ْ‬‫عَز َ‬‫ن‪َ ،‬وَتَز ْ‬ ‫حْبُل الّدي ِ‬
‫جَذَم ِفيها َ‬ ‫»َوالّناس ِفي ِفَتن اْن َ‬
‫ن فاْنهاَرتْ‬ ‫خِذَل اِْليما ُ‬‫ن َو ُ‬‫شْيطا ُ‬‫صَر ال ّ‬‫ن َوُن ِ‬‫حَم ُ‬ ‫ي الّر ْ‬ ‫صَ‬ ‫ع ِ‬ ‫صَدُر فاْلُهَدى خاِمٌل َواْلَعَمى شاِمٌل ُ‬ ‫ي اْلَم ْ‬
‫عِم َ‬‫ج َو َ‬ ‫خَر ُ‬‫اْلَم ْ‬
‫سَلُكوا َمساِلَكُه َوَوَرُدوا َمناِهَلُه‪ِ ،‬بِهْم‬ ‫ن َف َ‬‫شْيطا َ‬ ‫عوا ال ّ‬ ‫شُرُكُه َأطا ُ‬‫ت ُ‬ ‫عَف ْ‬‫سُبُلُه َو َ‬
‫ت ُ‬ ‫س ْ‬‫ت َمعاِلُمُه َوَدَر َ‬
‫َدعاِئُمُه َوَتَنّكَر ْ‬
‫سناِبِكها‪َ ،‬فُهْم ِفيها‬ ‫عَلى َ‬ ‫ت َ‬‫ظلِفها‪َ ،‬وقاَم ْ‬ ‫طَئْتُهْم ِبَأ ْ‬
‫خفاِفها َوَو ِ‬ ‫سْتُهْم ِبَأ ْ‬‫علُمُه‪َ ،‬وقاَم ِلواُؤُه‪ِ ،‬في ِفَتن دا َ‬ ‫ت َأ ْ‬
‫ساَر ْ‬
‫جٌم‬
‫ع ِبَأْرض عاِلُمها ُمْل َ‬ ‫حُلُهْم ُدُمو ٌ‬‫سُهوٌد‪َ ،‬وُك ْ‬ ‫جيران َنْوُمُهْم ُ‬ ‫شّر ِ‬‫خْيِر دار َو َ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫ن َمْفُتوُنو َ‬‫ن جاِهُلو َ‬ ‫ن حاِئُرو َ‬ ‫تاِئُهو َ‬
‫َوجاِهُلها ُمْكَرٌم«‪.‬‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫العصر الجاهلي‬

‫يصور المام)عليه السلم( بهذه العبارات القصيرة والبليغة أوضاع العصر الجاهلي وكأن السامع يشهد عن قرب‬
‫تلك الوضاع ويرى نفسه في خضم ذلك العصر ليلمس الفوضى والبؤس والشقاء الذي كان عليه الناس‪ .‬ول نرى‬
‫ن المام)عليه السلم( قد إختصر كتابا ضخما بهذه العبارات الموجزة; المر الذي يعّد‬
‫أنفسنا نبالغ إذا ما قلنا بأ ّ‬
‫دللة ُاخرى على مدى رصانة بيانه وعمق الفصاحة والبلغة والروعة في التصوير والدقة في التعبير التي‬
‫تشتمل عليها كلماته وخطبه)عليه السلم(‪(1).‬‬

‫ن ال سبحانه بعث النبي )صلى ال عليه وآله(حين كان‬ ‫‪ .1‬طبقا لما ورد آنفا فان الواو في قوله »و الناس في فتن‪ «....‬حالية أي أ ّ‬
‫ن بعض شّراح نهج البلغة إحتملوا أن الواو إبتدائية والعبارات رسمت صورة عن أوضاع الناس في‬ ‫الناس على هذه الحالة‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫ن هذه العبارات يمكن أن تكون‬
‫ن هذا الحتمال ل يبدو صحيحا والحق هو الحتمال الول‪ ،‬رغم ا ّ‬ ‫عصر المام)عليه السلم(‪ ،‬غير أ ّ‬
‫لّمة في عصره من العودة إلى عصر الجاهلية بفعل أمراض حب الذات واطاعة الهواء‪.‬‬ ‫تحذيرا ل ُ‬

‫] ‪[ 186‬‬
‫ل تتضح عظمة رسالة النبي )صلى ال عليه وآله( وسمو الخدمات التي أسداها إلى البشرية وحلوة‬ ‫ومن البديهي إ ّ‬
‫اليمان التي حملها الدين الحنيف ما لم تكن هناك صورة واضحة عن الوضاع السائدة لدى القوام السابقة التي‬
‫سبقت عصر الرسالة وانبثاق الدعوة السلمية‪.‬‬

‫فمن شأن هذه المقارنة أن تميز عظمة مشاريع النبياء وبرامج الولياء والعباقرة على مدى التاريخ‪ .‬فقد‬
‫لّمة آنذاك بحيث تصدعت عرى الدين وتزعزعت أعمدة‬ ‫أشار)عليه السلم( إلى الفتن التي كانت تعصف با ُ‬
‫اليمان وتلوثت الفطرة وتغيرت القيم وسادت الفرقة بين الناس‪ ،‬فغدوا حيارى قد ضلوا المخرج »والناس في فتن‬
‫إنجذم)‪ (1‬فيها حبل الدين وتزعزعت)‪ (2‬سواري)‪(3‬اليقين واختلف النجر)‪ (4‬وتشتت المر وضاق المخرج‬
‫وعمي المصدر«‪.‬‬

‫فقد تقطعت حبائل الدين وغيبت المعارف الدينية الحقة إثر فتن الشياطين ووساوس عبدة الهواء من جانب‪ ،‬ومن‬
‫لّمة وتصاعدت بين أوساطها حدة الفرقة والختلف; والنكى من ذلك وفي ظل‬ ‫جانب آخر فان الفوضى عمت ا ُ‬
‫هذه الظروف لم يكن هناك من سبيل للخروج من المأزق ول من كهف يؤى إليه; المر الذي اضطر الناس للبقاء‬
‫على النحراف والدنس الذي ساد ذلك المحيط والعوم في مستنقعه العفن‪ .‬والعبارة »حبل الدين« ـ التي وردت‬
‫بصيغة المفرد ـ إشارة إلى وحدة الدين الحق ووحدة المصدر الذي تستقى منه كافة أصول وتعاليم النبياء وإن‬
‫لصول والتعاليم بعض الفوارق التي تفرزها طبيعة تقادم الزمان‪ ،‬وهذا ما يجوزه القرآن الكريم على‬ ‫شهدت هذه ا ُ‬
‫سِلِه()‪ (5‬وقوله)عليه السلم( »إختلف النجر« ل يشير‬ ‫ن ُر ُ‬
‫حد ِم ْ‬
‫ن َأ َ‬
‫ق َبْي َ‬
‫لسان المؤمنين الصادقين بقوله‪) :‬ل ُنَفّر ُ‬
‫إلى الختلفات التي شهدها العصر‬

‫‪» .1‬إنجذم« من مادة »النجذام« بمعنى إنقطع وإنفصل ومن هنا يطلق إسم الجذام على ذلك المرض الذي يصيب الجسم فيؤدي إلى‬
‫انفصال العضاء‪.‬‬

‫‪» .2‬تزعزعت« من مادة »زعزع« بمعنى تحركت واضطربت‪ ،‬فيقال على سبيل المثال‪ :‬زعزع الريح الشجرة‪.‬‬

‫‪» .3‬سواري« جمع سارية العمود و الدعامة‪.‬‬

‫‪» .4‬نجر« على وزن فجر يعني الصل‪ ،‬كما يعني الصلح والشكل والهيئة ومنه اطلق اسم النجار‪ .‬وقد وردت هذه المفردة في‬
‫العبارة بالمعنى الول‪.‬‬

‫‪ .5‬سورة البقرة ‪285 /‬‬

‫] ‪[ 187‬‬

‫الجاهلي على أّنها إختلفات صورية في تفرعاتها واطيافها فحسب‪ ،‬بل كانت إختلفات أصولية وأساسية جذرية‪.‬‬

‫لصول الفطرية التي‬ ‫ن العبارة إشارة إلى معنى يتضمن تزلزل حتى أركان الفطرة النسانية وا ُ‬ ‫بل يمكن القول إ ّ‬
‫جبل عليها النسان من قبيل التوحيد وعشق العمال الصالحة والخيرة; أو تغير قيم المجتمع النساني وتنكرها‬
‫حتى عاد لكل معاييره الخاصة للتعامل مع القضايا; المر الذي أدى إلى تلك الحالة من الفرقة والتشتت و»تشتت‬
‫ن المراد بهذا المر هو أمر‬‫المر« يمكن أن تكون أشارة إلى شدة الخلفات الدينية القصوى آنذاك )على أساس أ ّ‬
‫لمور الدينية والدنيوية والمسائل‬
‫لمور الجتماعية‪ ،‬سواء ا ُ‬‫الدين( أو إشارة إلى الفرقة والشقاق في كافة ا ُ‬
‫المرتبطة بالمجتمع والسرة أو القضايا القتصادية أو الخلقية‪.‬‬

‫ن المعنى الثاني أكثر إنسجاما والعصر الجاهلي; وهنا تكمن الطامة الكبرى حيث يغط النسان في هالة من‬
‫ويبدو أ ّ‬
‫الشك والترديد وإنعدام اليمان وأنواع الختلفات والشقاقات والفساد والنحراف وليس هنالك من سبيل أمامه‬
‫للخروج من هذا المأزق حتى يعيش اليأس والقنوط من رأسه إلى أخمص قدمه‪ .‬وهذه هى الصورة الحقيقية التي‬
‫رسمها المام)عليه السلم(لذلك العصر‪.‬‬

‫ثم يتطرق)عليه السلم( إلى المعطيات السلبية التي أفرزتها تلك الوضاع المزرية آنذاك فوصفها)عليه‬
‫ل‪»:‬فالهدى خامل)‪ (1‬والعمى شامل‪ ،‬عصي الرحمن ونصر الشيطان وخذل اليمان«‪.‬‬ ‫السلم(قائ ً‬
‫من الطبيعي أن يتطلب سبيل طاعة ال نور الهداية من جانب والبصيرة التي تهتدي إلى ذلك النور من جانب‬
‫لّمة تتحول إلى رعيل شيطاني تتكالب على الفواحش والرذائل شاءت أم أبت إذا إنعدم في وسطها ذلك‬
‫آخر; فا ُ‬
‫النور وفقدت تلك البصيرة‪.‬‬

‫والجدير بالذكر في العبارة »عصي الرحمن« أن المام)عليه السلم( قد إختار هنا اسم الرحمن من بين أسماء ال‬
‫ن طاعته أمر فطري وبديهي‬ ‫الحسنى في إشارة إلى أّنه ورغم الرحمة اللهية التي عمت الجميع دون إستثناء وا ّ‬
‫ن هؤلء العمي البصائر في العصر‬ ‫لأّ‬
‫جبلت عليه النفس البشرية إ ّ‬

‫‪» .1‬خامل« بمعنى الشيء المنسي الذي لقيمة له‪.‬‬

‫] ‪[ 188‬‬

‫الجاهلي قد صموا أبصارهم حتى عن رؤية هذه الحقيقة القائمة‪ .‬ثم يؤكد هذه النتائج المرة التي أصيبوا بها آنذاك‬
‫فيلخصها)عليه السلم( قائل‪» :‬فانهارت)‪ (1‬دعائمه وتنكرت معالمه ودرست)‪ (2‬سبله و عفت شركه)‪ «(3‬ولعل‬
‫التعبير بالدعائم إشارة إلى أولياء ال ورواد سبيل الحق أو التعليمات الصولية للنبياء‪.‬‬

‫و قوله إنهارت تعود إلى القضاء على هذه الدعائم أو التعليمات; والمعالم ممكن أن تكون إشارة إلى الكتب‬
‫ن المراد بالسبل والشرك طرق المعرفة سواء الطرق العقلئية والفطرية‬ ‫السماوية السابقة أو التعاليم النبوية‪ ،‬كما أ ّ‬
‫أو طريق الوحي والتعاليم السماوية‪.‬‬

‫ن »الشرك« كما أشرنا سابقًا بمعنى الطريق الرئيسي‪ .‬فالطرق الصغيرة قد تكون‬ ‫النقطة الجديرة بالذكر هنا هى أ ّ‬
‫عرضة للهمال والنسيان في حين ليس الطريق الرئيسي كذلك‪ ،‬مع ذلك ففي مثل هذا المجتمع وحتى الطرق‬
‫الرئيسية قد فقدت وزالت غايتها في إرشاد المارة‪.‬‬

‫ولم تكن نتيجة ذلك سوى ما قاله المام)عليه السلم(‪»:‬بهم سارت)‪ (5‬اعلمه‪ ،‬وقام لواؤه«‪ .‬ثم قال)عليه‬
‫السلم(‪»:‬في فتن داستهم)‪ (6‬باخفاقها)‪ (7‬ووطئتهم باظلفها)‪ (8‬وقامت على سنابكها)‪(10).«(9‬‬

‫و السؤال المطروح هنا‪ :‬هل هذه الفتن هى تلك التي أشير لها سابقًا أم هى فتن ُاخرى; يبدو أّنها الفتن المذكورة‬
‫ن المام)عليه السلم( أشار إلى تفاصيلها الخرى‪ ،‬حيث يشبه المام)عليه السلم(‬ ‫آنفا‪ ،‬غير أ ّ‬

‫‪» .1‬إنهارت« من مادة »النهيار« بمعنى الندراس والزوال‪.‬‬

‫‪» .2‬درست« من مادة »دروس« بمعنى إندثار آثار الشيء وزوالها‪.‬‬

‫‪» .3‬شرك« جمع »شركة« على وزن حسنه‪ ،‬وقال البعض جمع أشراك بمعنى الطرق العامة‪.‬‬

‫‪» .4‬مناهل« جمع »منهل« بمعنى مورد النهى‪.‬‬

‫‪» .5‬سارت« من مادة »سور« بمعنى الرفع والعلء‪.‬‬

‫‪» .6‬داست« من مادة »دوس« و»دياس« بمعنى الهضم‪.‬‬

‫‪» .7‬أخفاف« جمع »خف« وهو للبعير كالقدم للنسان‪.‬‬

‫‪» . 8‬اظلف« جمع »ظلف« بالكسر للبقر والشاء وشبههما كالخف للبعير والقدم للنسان‪.‬‬

‫‪» .9‬سنابك« جمع »سنبك« على وزن قنفذ بمعنى طرف الحافر‪.‬‬
‫ن الجار‬
‫‪ .10‬يمكن أن تكون جملة »في فتن داستهم« متعلقة بمحذوف تقديره ل والناس في فتن داستهم«‪ ،‬كما إحتمل البعض أ ّ‬
‫والمجرور متعلق بسارت في الجملة السابقة ويبدو الحتمال الول أقوى‪.‬‬

‫] ‪[ 189‬‬

‫فتن الجاهلية بالحيوان الوحشي الذي يركل صاحبه بحافره‪ .‬والذي يقف على رجليه ليدوس بها أدني حركة تبدو‬
‫أمامه‪.‬‬

‫ن هذه الفتن ل‬
‫أّما تعبيره)عليه السلم( بالسنابك التي تعني طرف الحافر فهى إشارة لطيفة إلى حقيقة مفادها أ ّ‬
‫تعرف النكسار وهى باقية في إلقاء ضللها الوخيمة على الناس )لن مثل هذه الحيوانات حين تقف على أطراف‬
‫حوافرها إّنما تعلن عن تأهبها لبداء ردود الفعل العنيفة تجاه كل من يقف أمامها«‪.‬‬

‫و عليه فقد كانت الوضاع في ذلك الزمان على درجة من التعقيد والوخامة بحيث لم يعّد هنالك من أمل في التغلب‬
‫عليها‪ .‬وهذا بالذات ما جعل المام)عليه السلم( يخلص إلى هذه النتيجة بالنسبة لما عليه الناس في ظل تلك الفتن‬
‫»فهم فيها تائهون)‪ (1‬حائرون جاهلون مفتونون«‪.‬‬

‫تائهون إشارة إلى أّنهم قد ضلوا سبيل الحق بالمرة حتى نسوا أنفسهم وخسروا ذاتهم‪ .‬حائرون إشارة إلى الحيرة‬
‫التي سيطرت عليهم فسلبتهم حتى القدرة على اتخاذ القرار الذي من شأنه إنقاذهم من تلك الفتنة‪ .‬جاهلون أي أّنهم‬
‫ن الجهل والتخبط سوف لن يدعهم يبلغون السبيل السليم‪.‬‬ ‫وعلى فرض عزمهم على إتخاذ القرار لنجاتهم فا ّ‬

‫ل ل عيب والحيل التي استهوتهم فجعلتهم يرون السراب ماءًا والمجاز‬‫مفتونون إشارة إلى الوهام والخيالت وإ ّ‬
‫حقيقة‪ .‬وقد حصل كل هذا حين كان الناس في خير أرض )في جوار بيت ال الحرام وديار النبياء العظام( واسوأ‬
‫جيران »في خير دار وشر جيران«)‪ (2‬وأثر ذلك فقد أصبح »نومهم سهود)‪ (3‬وكحلهم دموع«‪ .‬والدهى من ذلك‬
‫أّنهم يعيشون في مجتمع ل يقيم زنا للعالم بما جعله يفقد قدرته على هدايتهم وإرشادهم بينما يخطى الجاهل في ذلك‬
‫المجتمع بمكانة ل يحلم بها »بارض عالمها ملجم وجاهلها مكرم« هنالك أربعة تفاسير أوردها شّراح نهج البلغه‬
‫ن المراد بها مكة )بيت ال‬
‫بشأنه قوله)عليه السلم(»فى خير دار« فقد ذهب البعض إلى أ ّ‬

‫‪ .1‬تائهون جمع تائه بمعنى الضائع‪.‬‬

‫‪ .2‬ذهب البعض إلى أن الجار والمجرور في قوله »في خير دار« يتعلق بمفتونين‪ ،‬والحال أن النسب أن يكون خبر لمبتدأ محذوف‬
‫تقديره »و الناس في خير دار« والجملة حال لعصر الجاهلية والواو في قوله وشر جيران هى واو المعية‪.‬‬

‫‪ .3‬سهود مصدر بمعنى الرق وقلة النوم )الصحاح‪ ،‬المفردات‪ ،‬لسان العرب والمقاييس(‪.‬‬

‫] ‪[ 190‬‬

‫الحرام()و على هذا الضوء فان العبارات المذكورة وصف لعصر الجاهلية( بينما قال البعض الخر أريد بها‬
‫الشام حيث كانت من الراضي المقدسة ومهبط النبياء وأهلها شر جيران; أي أصحاب معاوية )إذا اعتبرنا‬
‫عبارات المام)عليه السلم( واردة بشأن عصره(‪.‬‬

‫الحتمال الثالث أن يراد بقوله خيردار الكوفة التي كان يقيم فيها المام)عليه السلم(بينما كان أهلها ومن يحيط بها‬
‫من شر الجيران من قبيل المنافقين والناكثين الذين ل يلتزمون بالعهود‪ .‬وأخيرًا الحتمال الرابع أن يكون المراد‬
‫بها دار الدنيا التي يسكنها أغلب الطالحين والثمين ويبدو التفسير الول هو النسب والصوب حيث ينسجم‬
‫والعبارات المذكورة سابقًا‪.‬‬

‫و على ضوء هذا التفسير فان قوله)عليه السلم( »نومهم سهود« إشارة إلى الفوضى والضطراب وإنعدام المن‬
‫والمصائب التي عمت عصر الجاهلية‪ ،‬والعلماء أولئك الصلحاء الذين تمحوروا حول رسول ال)صلى ال عليه‬
‫وآله(والجهال أولئك المفسدون من قريش ومن لف لفهم; أّما على ضوء سائر التفاسير فان المراد الفوضى وإنعدم‬
‫المن في زمان معاوية والمشاكل التي برزت بين العراق والشام آنذاك‪ ،‬وقد ألمحنا سابقًا إلى عدم انسجام هذه‬
‫التفاسير وروح الخطبة‪.‬‬
‫والشاهد على ذلك إضافة لما ذكر‪ ،‬ما أورده إبن َأبي الحديد في شرحه لنهج البلغة حيث قال‪ :‬أّنه)عليه السلم(لم‬
‫يخرج من صفة أهل الجاهلية وقوله »في خير دار« يعني مكة و»شر جيران« يعني قريشا‪ ،‬وهذا لفظ النبي‬
‫)صلى ال عليه وآله( حين حكى بالمدينة حالة كانت في مبدأ البعثة فقال »كنت في خير دار وشر جيران«)‪.(1‬‬

‫أّما قوله)عليه السلم( »نومهم سهود وكحلهم دموع« فهو إشارة لطيفة إلى تفاقم الفوضى والضطراب ومصائب‬
‫ذلك الزمان بحيث إذا خلدوا ليل إلى النوم كان نومهم مضطربا مشوبا بالخوف والرعب والسهاد‪ ،‬وقد إتسعت‬
‫ل من تزينها بالكحل‪.‬‬
‫هوة الفتن بحيث إكتحلت عيونهم بالدموع التي تحرق أجفانها بد ً‬

‫و من الطبيعي وفي ظل هذه الجواء وفي تلك الديار والمجتمعات أن يغيب دور العلماء وتهمل مكانتهم وبالمقابل‬
‫يبرز الجهال الذين كانوا يمثلون زعماء قريش وكبرائها ليحظوا‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغه لبن أبي الحديد ‪.137 / 1‬‬

‫] ‪[ 191‬‬

‫باحترام الخرين وتقديرهم بعد أن قلبت الموازين وضاعت القيم‪.‬‬

‫و أخيرًا فهناك إحتمال آخر أن يكون المراد بالعلماء هم ذلك النفر القليل من الموحدين قبل بعثة النبي محمد)صلى‬
‫ال عليه وآله(من قبيل عبدالمطلب وأبوطالب وقس بن ساعّدة ولبيد بن ربيعة وأمثالهم‪.‬‬

‫صورة الحياة الميتة في العصر الجاهلي‬

‫لقد قدم المام)عليه السلم( بهذه العبارات القصيرة والعميقة المضامين صورة دقيقة حية عن الوضاع التي‬
‫عاشها العرب في العصر الجاهلي بحيث يجد كل من تأملها نفسه في خضم ذلك العصر ليرى بُأم عينه كل تلك‬
‫الفوضى والقبائح والرذائل‪.‬‬

‫فقد عكس المام)عليه السلم( عظمة مقام النبي)صلى ال عليه وآله( وسمو منزلته من جانب حيث تتضح شدة‬
‫النور و عمق خطفه للبصار كلما كان الظلم دامسا والعتمة شديدة‪ ،‬المر الذي يكشف عن عظمة خدمات نبي‬
‫السلم)صلى ال عليه وآله( ونجاعة دينه في خلق المجتمع‪ .‬ول غرو فان استبدال ذلك المجتمع ـ بالمواصفات‬
‫المذكورة ـ إلى ذلك المجتمع الذي إلتف حول الرسول لم يكن يبدو أمرًا ممكنًا‪ ،‬وليس ذلك سوى للعجاز والوحي‬
‫وعظمة التعاليم السلمية التي تمكتت من انتشال ذلك المجتمع وطبعه بهذه الصفات العالية‪.‬‬

‫من جانب آخر فهى إشارة إلى تجديد الفكار والداب والسنن الجاهلية في عصر النبي)صلى ال عليه وآله( والتي‬
‫لّمة عن تعاليم النبي)صلى ال عليه وآله(‪.‬‬
‫ظهرت في عصر الخلفة الراشدة إثر انحراف ا ُ‬

‫لّمة في زمانه من الخطار التي تتهددها من جراء إحياء سنن الجاهلية والعادات‬ ‫فالمام)عليه السلم( يحذر ا ُ‬
‫ن المام)عليه السلم(قد أورد هذه الخطبة بعد إنصرافه‬‫والتقاليد البالية التي تفتك بالمجتمع‪ .‬الجدير بالذكرهنا هو أ ّ‬
‫من صفين حيث أراد الفات نظر أصحابه إلى العناصر التي أدت إلى تلك النتيجة باسلوب بليغ يعرف بـ »إياك‬
‫أعني واسمعي باجارة«‪.‬‬

‫ن عبارات المام)عليه السلم( تستبطن الدروس والعبر التي ينبغي أن نحتذيها نحن المسلمون في العصر‬ ‫لشك أ ّ‬
‫الحاضر الذي يتصف بالمدينة والتطور والتقدم‪ ،‬فهى تحذير جدي لنا; فعباراته تنطبق تماما على الوضاع التي‬
‫لّمة اليوم في هالة من الفتن وتزعزعت عرى اليمان واليقين واندرست‬ ‫يشهدها عصرنا الراهن حيث غاصت ا ُ‬
‫سبل معرفة الحق بفعل تفاقم سعة‬

‫] ‪[ 192‬‬
‫حجم الدعايات المسمومة وانتشار الرذيلة والفساد وتفرق الناس أيادي سبأ وكثرت الهواء وتعذرت طرق النجاة‬
‫وقد استفحل الضلل وإنعدام الهدى واستشرت الذنوب والمعاصي وخلى الميدان للشياطين والمستكربين‪.‬‬

‫لّمة‬
‫نا ُ‬
‫لّمة وأقبلت على سنن الجاهلية‪ ،‬والعجيب أ ّ‬
‫نعم لقد شهد عصر المام)عليه السلم( تلك الغفلة فعادت ا ُ‬
‫آنذاك قد خلدت إلى السبات والكسل بحيث لم يعّد يؤثر فيها صراخ حتى هذا الولي الرباني وأخذوا يتهافتون على‬
‫احياء سنن الجاهلية حتى آل المر إلى تحول الحكومة السلمية إلى حكومة وراثية تلقفها بنو امية وبنوالعباس‪،‬‬
‫فلم تتعثر المسيرة السلمية آنذاك فحسيت‪ ،‬بل وجهت إليها ضربات موجعة جعلتها تلعق جراحها لحد الن!‬
‫ونرى هنا ضرورة تسليط الضوء على أوضاع الناس في العصر الجاهلي من مختلف الجوانب ودراسة ما أورده‬
‫المام)عليه السلم( بهذا الشأن لنقف بوضوح على تفاصيل هذا الموضوع‪.‬‬

‫فجاهلية العرب ـ وهكذا الجاهلية التي كانت تعيشها سائر القوام ـ إّنما تشير إلى سلسلة من العقائد الباطلة‬
‫والخرافات والساطير والسنن الخاطئة والقبيحة المخجلة إلى أحيانا‪،‬جانب الفعال العبثية والسلوكية العنيفة‬
‫القائمة على الظلم والضطهاد والنحرافات الفكرية من قبيل نحت الوثان من الخشب والحجر والعتكاف على‬
‫عبادتها واللجوء إليها عند حدوث الخطوب والمصائب حيث جعلوها شفعائهم إلى ال بعد أن اعتقدوا بقدرتها‬
‫ن الخير والشر بيدها‪.‬‬
‫المطلقة وأ ّ‬

‫و لم تقتصر أفعالهم الطائشة على وأد البنات كدفاع عن العرض والشرف أو أّنهن يجلبن عليهم الخزي والعار‬
‫فحسب‪ ،‬بل كانوا يعمدون لقتل أولدهم تحت ذرائع شتى منها تقديمهم إياهم كقرابين إلى آلهتهم أو بدافع الفقر‬
‫شَيَة ِإْملق()‪ (2‬و)َو ِإذا‬
‫خْ‬
‫شَركاُؤُهْم()‪ (1‬و)َول َتْقُتُلوا َأْولَدُكْم َ‬
‫ل َأْولِدِهْم ُ‬
‫ن َقْت َ‬
‫شِرِكـي َ‬‫ن الُم ْ‬
‫ن ِلَكِثـير ِم َ‬
‫ك َزّي َ‬
‫)َوَكذ ِل َ‬
‫ت()‪.(3‬‬ ‫ي َذْنب ُقِتَل ْ‬
‫ت * ِبَأ ّ‬‫سِئَل ْ‬
‫الَمْوُءوَدُة ُ‬

‫‪ .1‬سورة النعام ‪.137 /‬‬

‫‪ .2‬سورة السراء ‪.31 /‬‬

‫‪ .3‬سورة التكوير ‪. 8 /‬‬

‫] ‪[ 193‬‬

‫و لم يعيشوا أي هاحبس من قلق لفظاعة هذه الجرائم‪ ،‬بل أبعد من ذلك كانوا يتفاخرون بها على أّنها من العناصر‬
‫المشرفة في حياة السرة التي كانت تعمد لرتكاب مثل تلك الجنايات المهوولة‪.‬‬

‫أّما المراسم العبادية في البيت فلم تكن سوى المكاء والتصدية والعري التي كانت عليه النساء حين العبادة وهن‬
‫صِدَيًة()‪ (1‬كانوا يتفاخرون بالحروب وسفك الدماء‬
‫ل ُمكاءًا َوَت ْ‬
‫ت ِإ ّ‬
‫عْنَد الَبْي ِ‬
‫ن صلُتُهْم ِ‬
‫يطفن حول الكعبة )َوما كا َ‬
‫والسلب والنهب‪ ،‬كما لم يكونوا يقيموا أدنى وزن للمرأة فهى ليست سوى سلعة رخيصة فل تتمتع بأدنى حقوق بل‬
‫كانوا أحيانا يقامرون بها‪.‬‬

‫ن لِّ‬
‫جَعُلو َ‬
‫كانوا يرون الملئكة بنات ال ـ وكما أشرنا سابقًا فاّنهم كانوا يرون في البنت العار والفضيحة ـ )َوَي ْ‬
‫ن()‪ (3‬أّما على مستوى الخرافات‬ ‫خَلْقنا الَمـلِئَكَة ِإناثًا َوُهـْم شاِهُدو َ‬ ‫ن()‪ (2‬و)َأْم َ‬ ‫شَتُهو َ‬
‫سْبحاَنُه َوَلُهْم ما َي ْ‬
‫ت ُ‬
‫الَبنا ِ‬
‫ن هـِذِه‬
‫طو ِ‬‫والساطير التي كانت سائدة لديهم فقد كانت عجيبة مذهلة ومنها ما وصفه القرآن الكريم )َوقاُلوا ما ِفي ُب ُ‬
‫شَركاُء()‪.(4‬‬‫ن َمْيَتًة َفُهْم ِفـيِه ُ‬
‫ن َيُك ْ‬
‫جنا َو ِإ ْ‬‫على َأْزوا ِ‬
‫حّرٌم َ‬
‫صٌة ِلُذُكوِرنا َوُم َ‬ ‫لْنعاِم خاِل َ‬
‫اَ‬

‫ن هذا‬ ‫إذا غضب أحدهم على إمرأته وأراد أن يوبخها كفاه وأن يخاطبها »أنت علي كظهر أمي« فهم يعتقدون أ ّ‬
‫القول يكفي أن تحرم عليه لّنها عادت كامه دون إجراء حكم الطلق عليها‪ ،‬المر الذي شجبه القرآن ولم يقره‪:‬‬
‫ن ُمْنَكرًا‬‫لئـي َوَلْدَنُهْم َو ِإّنُهْم َلَيُقوُلو َ‬
‫ل الـ ّ‬
‫ن ُأّمهاُتهُْم ِإ ّ‬
‫ن ُأّمهاِتُكْم()‪ِ) ،(5‬إ ْ‬
‫ن ِمْنُه ّ‬
‫لئـي ُتظاِهُرو َ‬
‫جُكُم ال ّ‬
‫ل َأْزوا َ‬
‫جَع َ‬
‫)َوما َ‬
‫ل َوُزورًا()‪ (6‬أّما الطابع السائد الذي كان يميز العصر الجاهلي فانما يكمن في شن الحروب والغارات‬ ‫ن الَقْو ِ‬
‫ِم َ‬
‫التي‬
‫‪ .1‬سورة النفال ‪ .35 /‬اّما المشهور بالنسبة لسبب نزول سورة التوبة ومن اُلمور التي أمر أمير المؤمنين )عليه السلم(بابلغها‬
‫المشركين »و ل يطوفن يا لبيت عريانا«‪ .‬نور اليقلين‪179 / 2 ،‬ـ ‪ 181‬ح ‪ 14‬و ‪ 17‬و ‪ 18‬و ‪ 20‬ومجمع البيان‪.3 / 5 ،‬‬

‫‪ .2‬سورة النحل ‪.57 /‬‬

‫‪ .3‬سورة الصافات ‪.150 /‬‬

‫‪ .4‬سورة النعام ‪.139 /‬‬

‫‪ .5‬سورة الحزاب ‪.4 /‬‬

‫‪ .6‬سورة المجادلة ‪.2 /‬‬

‫] ‪[ 194‬‬

‫تستبطن سفك الدماء وتأجيج الحقاد والضغان التي توارثتها القوام أبا عن جد‪ ،‬المر الذي شبهه القرآن بشفا‬
‫على‬
‫خوانًا َوُكْنُتْم َ‬
‫حُتْم ِبِنْعَمِتِه ِإ ْ‬
‫صَب ْ‬
‫ن ُقُلوِبُكْم َفَأ ْ‬
‫ف َبْي َ‬
‫عداًء َفَأّل َ‬
‫عَلْيُكْم ِإذ ُكْنُتْم َأ ْ‬
‫ل َ‬
‫حفرة من النار‪ ،‬فقال )َواذُكُروا ِنْعَمَة ا ّ‬
‫ن الّنار َفَأْنَقَذُكْم()‪.(1‬‬
‫حْفَرة ِم َ‬
‫شفا ُ‬
‫َ‬

‫لخرى التي كانت تسود في الذهان هو العتقاد بالرابطة القائمة بين نزول المطر وبزوغ واختفاء‬ ‫الخرافة ا ُ‬
‫بعض الكواكب‪ ،‬والتفؤل بالطيور واليمان بالغول الصحراوي والعفاريت وما شابه ذلك; المر الذي عبر عنه‬
‫عَلْيِهْم آياِتهِ َوُيَزّكيِهْم‬
‫ل ِمْنُهْم َيْتُلوا َ‬
‫سو ً‬
‫ن َر ُ‬
‫لّمـّيي َ‬
‫ث ِفي ا ُ‬
‫القرآن الكريم في أكثر من أية بالضلل المبين‪ُ) .‬هَو اّلِذي َبَع َ‬
‫ضلل ُمِبين()‪.(2‬‬ ‫ل َلـِفي َ‬
‫ن َقْب ُ‬
‫ن كاُنوا ِم ْ‬
‫حْكَمَة َو ِإ ْ‬
‫ب َوال ِ‬
‫َوُيَعّلُمُهُم الِكتا َ‬

‫نعم هذه صورة مقتضبة من الحالة التي كانت عليها العرب في الجاهلية ـ بل هذه مميزات سائر القوام في‬
‫الجاهلية التي تعددت أشكالها واتفقت مضامينها‪.‬‬

‫و من هنا يمكن الوقوف على عظمة السلم والقرآن وحامل رسالتها النبي الكرم )صلى ال عليه وآله(‪ ،‬المر‬
‫ن ال هدى العرب من الظلمات إلى النور بالسلم‬ ‫الذي توصل إليه أحد أعلم الغرب ويدعى توماس كارل في أ ّ‬
‫ومن ُاّمة راكدة متقاعسة لصوت فيها ولحركة إلى أّمة ذات شهرة ومن الضعف والوهن إلى اليقظة والقوة‪،‬‬
‫ومن الضعة إلى العزة ومن العجز إلى القدرة‪ .‬فقد شع نور السلم على العالم من جهاته الربع ولم يمضى عليه‬
‫أكثر من قرن فبلغ المسلمون الهندالندلس‪ ،‬بل استطاع السلم أن يبسط نوره على تصف المعمورة بهذه المّدة‬
‫القصيرة‪(3).‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة آل عمران ‪103 /‬‬

‫‪ .2‬سورة الجمعة ‪.2 /‬‬

‫‪ .3‬عذر التقصير لدى محمد والقرآن‪ ،‬ص ‪) 77‬نقل عن تفسير المثل‪.(31 / 3 ،‬‬

‫] ‪[ 195‬‬

‫القسم الثالث‬
‫و منها يعني آل النبي عليه الصلة والسلم‬

‫ظْهِرِه‪،‬‬
‫حناَء َ‬
‫جباُل ِديِنِه‪ِ ،‬بِهْم َأقاَم اْن ِ‬
‫ف ُكُتِبِه‪َ ،‬و ِ‬
‫حْكِمِه‪َ ،‬وُكُهو ُ‬
‫عْلِمِه‪َ ،‬وَمْوِئُل ُ‬
‫عْيَبُة ِ‬
‫جُأ َأْمِرِه‪َ ،‬و َ‬
‫سّرِه َوَل َ‬
‫ضُع ِ‬
‫»ُهْم َمْو ِ‬
‫صِه«‪.‬‬ ‫ب اْرِتعاَد َفراِئ ِ‬
‫َوَأْذَه َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫المنزلة السامية لل محمد)صلى ال عليه وآله(‬

‫يصف المام)عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة الئمة من أهل بيت النبي)صلى ال عليه وآله(بعبارات‬
‫قصيرة عميقة المعاني‪ ،‬حيث يتطرق إلى مكانتهم بعد رسول ال)صلى ال عليه وآله(على ضوء ماورد في‬
‫الحاديث النبوية الشريفة من قبيل حديث الثقلين وسفينة نوح والنجوم‪(1).‬‬

‫فقد وصفهم في عباراته الست الولى بقوله)عليه السلم(‪» :‬هم موضع سره‪ ،‬ولجأ)‪ (2‬أمره‪ ،‬وعيبة)‪(3‬علمه‪،‬‬
‫ن كل عبارة من هذه العبارات تشير‬
‫وموئل)‪ (4‬حكمه‪ ،‬وكهوف)‪ (5‬كتبه وجبال دينه«)‪ (6‬أ ّ‬

‫‪ .1‬فقد تصدت هذه الحاديث التي روتها مصادر الفريقيين لبيان مكانة أهل البيت)عليه السلم(‪.‬‬

‫ن أهل البيت)عليه السلم( هم عدل القرآن الذين ل يفترقون عنه حتى يردا على النبي )صلى ال عليه‬ ‫فقد صّرح حديث الثقلين بأ ّ‬
‫وآله(حوضه‪ .‬أّما الحديث الثاني فقد شبههم بسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق‪ .‬وأخيرًا حديث)صلى ال عليه‬
‫ن النجوم أمان لهل السماء وأهل بيتي أمان لهل‬
‫وآله(الذي قال فيه‪» :‬مثل أهل بيتي فيكم كمثل النجوم باي إقتديتم إهتديتم وإ ّ‬
‫الرض«‪.‬‬

‫‪» .2‬لجأ« و»ملجأ« بمعنى الملذ‪.‬‬

‫‪» .3‬عيبة« بمعنى الوعاء و الصندوق أو الشيئى الذي تحفظ فيه الشياء و قد ُاشتق في الواقع من العيب و قد استعمل بالمعنى‬
‫ن العيوب عادة ما تستر‪.‬‬
‫المذكور ل ّ‬

‫‪» .4‬موئل« من مادة »وأل« على وزن سهل بمعنى المرجع والملذ وموضع النجاة‪.‬‬

‫ن البعض قال الكهف هو الغار الواسع‪ ،‬ولما كان الناس يلجأون إلى الغيران في أغلب‬
‫‪» .5‬كهوف« جمع »كهف« بمعنى الغار‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫الوقات فقد احتمل أن يكون بمعنى الملذ والموضع الذي يحفظ الشياء‪.‬‬

‫‪ .6‬اعلم ان هنالك اختلفا بين الشّراح بشأن الضمير في هذه العبارات الست‪ .‬فقد ذهب البعض إلى أّنها ترجع جميعا إلى النبي )صلى‬
‫ن الضمير فيها يعود إلى ال سبحانه )و ل يسما باللتفات إلى قوله وكهوف كتبه( بينما يعود‬
‫ال عليه وآله( بينما تفيد القرائن أ ّ‬
‫الضمير في العبارة الخيرة إلى الدين كما سيأتي توضيح ذلك لحقا‪.‬‬

‫] ‪[ 196‬‬

‫إلى أمر معين رغم ما ذهب إليه بعض العلماء والشّراح من ترادف العبارات وأّنها شبيهة لبعضها البعض الخر‪.‬‬

‫ن السرار اللهية مودعة لديهم‪ .‬وبالبداهة أن يلم بجميع السرار من‬


‫فقد أشارت العبارة الولى إلى حقيقة مؤادها أ ّ‬
‫ينهض بمسؤولية زعامة الدين; حيث ل ينتظم أمرهم في هداية الناس وتدبير شؤون حياتهم دون النطواء على‬
‫ن زعامتهم ل تختص بزمان دون آخر بل تتعلق بجميع البشرية على مدى العصور والدهور‬ ‫ذلك العلم‪ ،‬ول سيما أ ّ‬
‫ن أحدى مقومات زعامتهم تستند إلى علمهم‬ ‫)وقد ذكرنا في مبحث علم غيب النبياء والوصياء المعصومين أ ّ‬
‫ل لنطوت زعامتهم على العيب والنقص(‪.‬‬ ‫بالغيب وإ ّ‬
‫ثم أشار في العبارة الثانية إلى أّنهم ملجأ أمر ال‪ .‬والسؤال الذي يبرز هنا هل يقتصر هذا المر على الوامر‬
‫التشريعية أم يشمل الوامر التكوينية أيضا؟ يبدو من ظاهر العبارات السابقة واللحقة أن الوامر تقتصر على‬
‫لّمة أن ترجع إلى أئمة العصمة في تلقي أوامرهم وإمتثال تعاليهم‪.‬‬
‫التشريعية منها حيث يجب على ا ُ‬

‫أّما العبارة الثالثة فقد اعتبرتهم)عليه السلم( عيبة علوم ال سبحانه‪ ،‬ول يقتصر ذلك على السرار و الوامر‪ ،‬بل‬
‫يشمل جميع العلوم اللزمة لهداية الناس أو ذات الصلة بهذه الهداية فهى مودعة لديهم مخزونة عندهم‪ .‬وفي‬
‫لّمة الرجوع إليهم في الختلفات على‬
‫العبارة الرابعة يتضح أّنهم المرجع في الحكام اللهية التي يجب على ا ُ‬
‫المستوى الفكري أو القضائي ليزيلوا عنهم الفرقة والختلف ويهدوهم سواء الصراط‪.‬‬

‫ن فارق هذه العبارة مع العبارات السابقة سيتضح تمامًا‪،‬‬


‫وإذا اعتبرنا »موئل حكمه« على وزن إرم جمع حكمة فا ّ‬
‫ن الكلم هنا سيكون في فلسفة وحكمة الحكام اللهية التي تؤلف جزءًا من علوم النبياء والئمة‬‫لّ‬
‫المعصومين)عليهم السلم(‪.‬‬

‫ن مضامين جميع الكتب السماوية‬‫أّما قوله)عليه السلم( »و كهوف كتبه« فيكشف اللثام عن هذه الحقيقة وهى أ ّ‬
‫موجودة عندهم‪ .‬وهذا يشبه إلى حّد بعيد ما قاله علي)عليه السلم(‪» :‬أّما وال لو ثنيت‬

‫] ‪[ 197‬‬

‫لي الوسادة فجلست عليها لفتيت أهل التوراة بتوراتهم‪ ...‬وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم‪(1).«...‬‬

‫و أخيرًا فقد وصفهم)عليه السلم( بأّنهم جبال دينه‪ ،‬ولعل العبارة إشارة واضحة إلى ما أورده القرآن الكريم في‬
‫عدد من آياته الشريفة بشأن خصائص الجبال ودورها في حفظ إستقرارونزول البركات والخيرات فقد صّرحت‬
‫ن(فالواقع أ ّ‬
‫ن‬ ‫ل َلَعّلـُكْم َتْهَتُدو َ‬
‫سُب ً‬
‫ن َتِميَد ِبُكْم َو َأْنهارًا َو ُ‬
‫ى َأ ْ‬
‫سَ‬‫ض َروا ِ‬
‫لْر ِ‬
‫الية ‪ 15‬من سورة النحل قائلة )َوَأْلقى ِفي ا َ‬
‫الجبال ـ كما ورد في تفسير هذه الية وسائر اليات المشابهة ـ تقوم من جانب باحتواء الضغوط المسلطة على‬
‫الرض من باطنها وظاهرها‪ ،‬ومن جانب آخر فهى مصادر عظيمة للنهار والبار وعيون الماء‪.‬‬

‫ن أئمة العصمة)عليه السلم( مصدر‬


‫و بالتالي فهى معين ل ينضب من المعادن النفيسة القيمة‪ .‬ووجه الشبه هو أ ّ‬
‫لّمة بما يختزنونه من معادن نفيسة‪(2).‬ثم يواصل المام)عليه السلم(كلمه‬ ‫لسكينة الفكار وري القلوب واغناء ا ُ‬
‫إثر ذكره لهذه الصفات فيقول »بهم أقام انحناء ظهره وأذهب إرتعاد)‪ (3‬فرائصه)‪.«(4‬‬

‫أّما انحناء الظهر فهى كناية رائعة لشدة المعضلت التي طالت الدين من من قبل العداء العلماء والصدقاء‬
‫الجهلء فانبرى لها هؤلء الكرام ليبقوا على الدين شامخًا ليناله تحريف المحرفين ول فتن المبطلين‪ .‬والتعبير‬
‫»ارتعاد الفرائص« ارتعاد اللحمة التي تغطي القلب بين الجنب والكتف وهى كناية لطيفة عن الضطراب‬
‫والختلل الذي يطيل الدين من قبل المدارس اللحادية والنحرافات الدينية والتي يقف بوجهها أئمة الهدى‬
‫فيقضوا عليها فيعيدوا للدين صبغته الحقيقة الناصعة‪.‬‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪ ،118 / 10‬ح ‪.1‬‬

‫‪ .2‬راجع التفسير المثل‪ ،‬ذيل آية ‪ 15‬من سورة النحل‪.‬‬

‫‪» .3‬إرتعاد« من مادة »رعّدة« بمعنى الهتزاز‪ ،‬ومن هنا يطلق الرعد على الصوت العظيم الذي تحدثه السحب والغيوم‪.‬‬

‫‪» .4‬فرائص« جمع »فريصة« هى اللحمة بين الجنب والكتف التي ترعد حين الخوف ولذلك كانت )ارتعاد الفرائض( كناية عن‬
‫الخشية والضطراب‪ ،‬ومن هنا كانت الفرصة تطلق على المّدة الزمانية للقيام بعمل )المقاييس‪ ،‬المفردات ولسان العرب(‪.‬‬

‫] ‪[ 198‬‬

‫تأّملن‬
‫‪1‬ـ آل النبي)صلى ال عليه وآله( كهف اُلّمة السلمية‬

‫ما ورد في عباراته)عليه السلم( يمثل الحقائف البعيدة عن أية مبالغة والتي تشهد عليها سيرة أئمة العصمة)عليه‬
‫السلم( ول سيما عصر أمير المؤمنين والمام الباقر والصادق والرضا)عليه السلم( وكيف وقف هؤلء العظام‬
‫بوجه المدارس المنحرفة التي ظهرت إثر إتساع رقعة السلم وورود الفكار المنحرفة للمناطق السلمية إلى‬
‫جانب الخرافات والساطير والعقائد الفاسدة والتفاسير الخاطئة المشبوهة التي أوردها الغلة والقلة للنيل من‬
‫السلم المحمدي الصيل‪.‬‬

‫فقد أفاد التاريخ أّنهم لم يعجزوا عن جواب أي سوال‪ ،‬بل كانوا يجيبون بما يثلج صدر الصديق ويغيظ العدو‪ .‬من‬
‫جانب آخر فقد شهد رحيل النبى الكرم)صلى ال عليه وآله(العواصف الهوجاء التي تكاد تغرق السفينة السلمية‬
‫لول هذه الصفوة الطاهرة‪ ،‬وقد تنوعت أدوارهم واتحدت أهدافهم فتارة يذود عن الدين بما يظهر من علمه‬
‫ومعرفته وتبيينه لحقائق السلم‪ ،‬وُاخرى بدمه الشريف إن تطلب حفظ الدين ذلك وهذا ما تمثل بحركة المام‬
‫الحسين)عليه السلم( وصحبه الميامين الذين ذادوا بمهجهم دون حياض الدين وبيضة السلم‪.‬‬

‫و لو تأملنا النحرافات العقائدية والفكار العجيبة التي سطرتها كتب الملل والنحل وقارناها مع المعارف والعقائد‬
‫التي حمل رايتها أئمة أهل البيت)عليه السلم( ـ ونموذج ذلك نهج البلغة والصحيفة السجادية »زبور آل محمد«‬
‫ـ والروايات الورادة عنهم)عليه السلم(في الكتب من قبيل توحيد الصدوق والمصادر المشابهة لتضحت لنا‬
‫الحقيقة التي ذكرت سابقًا في صفاتهم)عليه السلم(‪.‬‬

‫و أخيرًا هؤلء هم الذين وصفهم المام)عليه السلم( في موضع آخر من نهج البلغه لكميل بن زياد فقال‪» :‬الّلهم‬
‫بلى ل تخلو الرض من قائم ل بحجة أّما ظاهرًا مشهورًا أو خائقًا مغمورًا لئل تبطل حجج ال وبيناته‪ ...‬يحفظ ال‬
‫بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظرائهم يزرعوها في قلوب أشباههم«‪(1).‬‬

‫وهم الذين قال فيهم رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪» :‬إّني مخلف فيكم الثقلين كتاب ال وعترتي أهل‬

‫‪ .1‬نهج البلغه‪ ،‬الكلمات قصار‪.147 ،‬‬

‫] ‪[ 199‬‬

‫بيتي وأّنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما«‪(1).‬‬

‫‪2‬ـ من هم آل النبي)صلى ال عليه وآله(؟‬

‫ن المراد بأهل البيت الئمة المعصومين)عليهم السلم(; ل ما ذهب إليه بعض‬


‫ما يفهم مّما مرمعنا سابقًا أ ّ‬
‫ن المراد بأهل البيت أولئك الذين حفظوا السلم على عهد رسول ال)صلى ال عليه‬ ‫المفسرين لنهج البلغة من أ ّ‬
‫وآله( مثل حمزة والعباس وجعفر‪ .‬طبعا ل يخفى الدور الذي لعبه هؤلء في الذود عن بيضة السلم‪ ،‬غير أن‬
‫مضمون العبارات السابقة يبدو أبعد من ذلك ول يراد بهؤلء سوى أئمة العصمة)عليه السلم(‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬راجع الى تفسير نفحات القرآن‪ ،‬ج ‪.9‬‬

‫] ‪[ 200‬‬

‫] ‪[ 201‬‬
‫القسم الرابع‬

‫حٌد‪،‬‬
‫ن َهِذِه اْلُّمِة َأ َ‬ ‫س ِبآِل ُمحَّمد)صلى ال عليه وآله(ِم ْ‬ ‫صُدوا الّثُبوَر‪ ،‬ل ُيقا ُ‬ ‫ح َ‬ ‫سَقْوُه اْلُغُروَر‪َ ،‬و َ‬
‫جوَر‪َ ،‬و َ‬ ‫عوا اْلُف ُ‬‫»َزَر ُ‬
‫حُ‬
‫ق‬ ‫ن ِإَلْيِهْم َيِفيُء اْلغاِلي‪َ ،‬وِبِهْم ُيلْ َ‬
‫عمادُ اْلَيِقي ِ‬
‫ن‪َ ،‬و ِ‬‫س الّدي ِ‬‫عَلْيِه َأَبدًا‪ُ .‬هْم َأسا ُ‬
‫ت ِنْعَمُتُهْم َ‬
‫جَر ْ‬‫ن َ‬‫سّوى ِبِهْم َم ْ‬ ‫َول ُي َ‬
‫ق ِإَلى َأْهِلِه َوُنِقَل ِإَلى ُمْنَتَقِلِه!«‪.‬‬
‫حّ‬‫جَع اْل َ‬‫ن إِْذ َر َ‬‫صّيُة َواْلِوراَثُة‪ :‬اْل َ‬
‫ق اْلِولَيِة‪َ ،‬وِفيِهُم اْلَو ِ‬‫حّ‬ ‫خصاِئصُ َ‬ ‫الّتالي‪َ ،‬وَلُهْم َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫ل يقاس بآل محمد أحد من الناس‬

‫ن المام)عليه السلم(أورد هذه الخطبة حين‬ ‫ن الضمائر في العبارات الثلث الولى ـ بالستناد إلى أ ّ‬‫يبدو أ ّ‬
‫إنصرافه من صفين ـ تعود إلى القاسطين )أصحاب معاوية( والخوارج المارقين; كما ذهب البعض إلى أّنها تعود‬
‫إلى المنافقين‪ ،‬أو جميع أولئك الذين خالفوا المام)عليه السلم(هبوا لقتاله‪.‬‬

‫على كل حال فقد شبههم)عليه السلم( تشبيه دقيق فقال)عليه السلم(‪» :‬زرعوا الفجور)‪ (1‬وسقوه الغرور)‬
‫‪(2‬وحصدوا الثبور)‪.«(3‬‬

‫ثم يعود)عليه السلم( لبيان أوصاف آل محمد)صلى ال عليه وآله( بعبارات أكثر صراحة ووضوح ضمن إشارته‬
‫ـ كعادته في قلة اللفاظ وسعة المعاني ـ إلى منزلتهم الرفيعة وحقوقهم السليبة فيقول‪» :‬ل يقاس‬

‫‪» .1‬فجور« من مادة »فجر« بمعنى الشق في الشي ومن هنا يطلق الفجر على طلوع الصبح وكأن ضياء الصبح يشق حجاب الليل‬
‫المظلم‪ ،‬كما يصطلح على العمال غير المشروعة بالفجور لّنها تخترق حجب الدين‪.‬‬

‫‪» .2‬الغرور« بمعنى الغفلة في اليقظة‪ ،‬ووردت بمعنى المكر والحيلة‪ ،‬والغرور بفتح الغين بمعنى الشيء الذي يخدع النسان‬
‫ويستغفله‪ ،‬كما فسر بمعنى الشيطان‪ ،‬لنه يخدع الناس بوعوده الكاذبة‪.‬‬

‫‪» .3‬الثبور« من مادة »ثبر« على وزن صبر بمعنى الحبس والهلك والفساد الذي يصد النسان عن بلوغ الهدف‪.‬‬

‫] ‪[ 202‬‬

‫لّمة أحد« ودليل ذلك ل نقاش فيه‪ ،‬لّنهم وعلى ضوء صريح الحديث‬ ‫بآل محّمد صلى ال عليه وآله من هذه ا ُ‬
‫النبوي الشريف حديث الثقلين الذي نقلته جميع مصادر الفريقين عدل القرآن الكريم‪ ،‬ونعلم جميعًا أن ليس هنالك‬
‫لّمة أحد من قرن بالقرآن‪ ،‬أضف إلى ذلك فهناك اليات القرآنية التي تؤيد هذا المعنى من قبيل آية التطهير‬‫من ا ُ‬
‫التي تصرح بعصمتهم وآية المباهلة التي عدت البعض منهم كنفس رسول ال )صلى ال عليه وآله( وسائر اليات‬
‫والروايات‪.‬‬

‫لخرى ليمكن مقارنتها بعلوم الناس‬


‫و بغض النظر عّما تقدم فان علومهم ومعارفهم التي رويت عنهم هى ا ُ‬
‫ومعارفهم‪.‬‬

‫لخرون عشر معشار ما ورد في نهج البلغه؟ وهل هناك من يقوى على التيان بدعاء من أدعية‬ ‫فهل روى ا ُ‬
‫الصحيفة السجادية‪ .‬وما بالك في الحكام الشاملة الواسعة التي رويت عن المام الباقر والصادق)عليهما السلم(‬
‫بشأن جزئيات المسائل الدينية‪ ،‬والمناظرات التي عقدها المام الرضا)عليه السلم( مع سائر زعماء الديان حول‬
‫مختلف المسائل العقائدية والبواب الفقهية؟ آنذاك يتحدث عن دليل العبارة السابقة‪» :‬و ل يسوى بهم من جرت‬
‫نعمتهم عليه أبدا« وأي نعمة أعظم من تلك النعمة!‬

‫لخرون طعم السلم‪ .‬فسيرة علي)عليه السلم( منذ ليلة المبيت‬ ‫فلو ل تضحيات علي)عليه السلم( لما ذاق ا ُ‬
‫ومرورا بموقعة بدر وأحد والخندق وخيبر وغزوات السلم كلها شواهد على المعنى المذكور و قد بلغت منزلته‬
‫من السمو والرفعة بحيث قال رسول ال)صلى ال عليه وآله( »ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين«‬
‫وفي عبارة ُاخرى »لمبارزة علي)عليه السلم( لعمرو بن عبدود أفضل من أعمال ُاّمتي إلى يوم القيامة«)‪.(1‬‬

‫‪ .1‬انظر إحقاق الحق ‪ 402 / 16 ;4 / 6‬واعيان الشيعه ‪.264 / 1‬‬

‫] ‪[ 203‬‬

‫أضف إلى ذلك سائر مواقفه المشهورة في تاريخ السلم سواء في عصر النبي)صلى ال عليه وآله( أو ما تله‬
‫من العصور ودافع فيها بعلمه وعمله عن السلم‪ .‬أّما في عصر الخلفة الراشدة والعصر المظلم لبني أمية وبني‬
‫العباس لم يكن سوى هولء الطهار من أهل البيت)عليهم السلم(الذين أضاءوا تلك الظلمات بنور علمهم‬
‫ومعرفتهم حتى أنقذوا المسلمين من تلك الحملت الثقافية المسعورة التي تبنت إحياء سنن الجاهلية وإطفاء السنن‬
‫اللهية ول نرى هذا الدور خافيا على أحد رغم الجهود المضنية التي‪ ،‬بذلها أعدائهم لطفاء نورهم وطمس‬
‫فضائلهم‪.‬‬

‫ن المام)عليه السلم( يتحدث عن نعمة وجود أهل البيت بشكل دائمي مستمر و خالد دون‬ ‫و الطريف في المر أ ّ‬
‫اقتصارهم على عصر دون آخر‪ ،‬ول غرو فثمار الشجرة السلمية المباركة التي نقطضها إّنما زرعها الرسول‬
‫لّمة أحد‪،‬‬
‫الكريم)صلى ال عليه وآله( وأهل بيته)عليهم السلم(‪» :‬ل يقاس بآل محمد صلى ال عليه وآله من هذه ا ُ‬
‫ول يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا«‪ .‬ثم يتعرض)عليه السلم( إلى أمرين آخرين ينبعان من المر السابق‬
‫فيقول‪» :‬هم أساس الدين وعماد اليقين«‪ .‬نعم فقد نزل الوحي في بيتهم وتربوا في أحضانه وما عندهم من علوم‬
‫ومعارف إّنما أخذوها عن رسول ال )صلى ال عليه وآله( ولما كانت العلوم والسرار اللهية مودعة لديهم فهم‬
‫أئمة اليمان ودعاة اليقين‪ .‬ثم يخلص المام)عليه السلم( إلى هذه النتيجة‪» :‬إليهم يفيىء الغالي‪ ،‬وبهم يلحق‬
‫لّمة الوسطى )‪ (2‬وعندهم المعارف اللهية الحقة‬ ‫التالي« وكيف ل يكونوا كذلك و هم الصراط المستقيم)‪ (1‬وا ُ‬
‫والعقائد السلمية الصيلة البعيدة عن كل إفراط وتفريط‪.‬‬

‫و لو تصفحنا تاريخ الفرق والمذاهب السلمية البعيدة عن مدرسة أهل البيت)عليهم السلم( لرأينا النحراف‬
‫العقائدي الخطير من قبيل السقوط في حبال الجبر والتفويض والتشبيه واللحاد في أسماء ال وصفاته‪ ،‬بل غالى‬
‫البعض في أسماء ال وصفاته حتى قالوا بتعطيل الصفات اللهية أن ليس هناك من سبيل لمعرفته سبحانه )سواء‬
‫المعرفة الجمالية أو المعرفة التفصيلة(‪ ،‬وبالمقابل هناك الفرق التي هبطت بالذات اللهية المقدسة إلى الحضيض‬
‫فوصفته سبحانه بأّنه رجل أمرد صبيح الوجه عليه كساء أسود ملتحف به‪.‬‬

‫‪ .1‬تفسير نور الثقلين ‪20 / 1‬ـ ‪.21‬‬

‫‪ .2‬تفسير نور الثقلين ‪.134 / 1‬‬

‫] ‪[ 204‬‬

‫ن النسان كائن مسلوب‬ ‫أّما بشأن مسألة الجبر والتفويض‪ ،‬فقد ذهبت الجبرية ـ فرقة من الفرق الضالة ـ إلى أ ّ‬
‫ن قدر له الكفر كفر وإن‬
‫الرادة والختيار وأّنه مجبر على أفعاله المقدرة عليه على ضوء القضاء والقدر اللهي فا ّ‬
‫قدر له اليمان آمن‪.‬‬
‫ن جميع الفعال‬
‫بينما وقفت المفوضة التي رأت للنسان استقلل تامًا إزاء الذات اللهية المقدسة‪ ،‬فاعتقدت با ّ‬
‫مفوضة للنسان‪ ،‬وهكذا هوت في وادي الشرك‪.‬‬

‫بينما تبنت مدرسة أهل البيت)عليهم السلم( إطروحة »المر بين المرين« لتنفي مسألة الجبر والتفويض وتحذر‬
‫المسلمين من الفراط والتفريط الذي يقود إلى الكفر والشرك‪ ،‬ومن هنا يتضح معنى كلم المام)عليه‬
‫السلم(‪»:‬إليهم يفيئى الغالي‪ ،‬وبهم يلحق التالي« فالعبارة تشبيه لطيف كأن هنالك قافلة يقودها عدد من الرواد‬
‫الماهرين‪ ،‬تقسم بعض الفراد الذين يندفعون أكثر من غيرهم قدما فيضلون في الصحراء‪ ،‬بينما يهن الخرون‬
‫ويتخلفون عن الركب فيصبحوا طعمة لذئاب الصحراء‪.‬‬

‫ثم يقول)عليه السلم(‪» :‬و لهم خصائص الولية«‪ .‬وتصدر الجمله بلهم تفيد إقتصار هذه المزية عليهم)عليه‬
‫السلم(‪ .‬وكيف ل يكونوا أصلح من الجميع وهم دعائم الدين واركان اليقين الذين يمثلون السلم الصيل الذي ل‬
‫لّمة إلى يوم القيامة‪ .‬ولذلك قال)عليه السلم(‪» :‬و فيهم‬
‫يعرف الفراط والتفريط‪ ،‬وهم النعمة الجارية على أفراد ا ُ‬
‫الوصية والوراثة«‪.‬‬

‫ن وصية النبي)صلى ال عليه وآله( بهم واستخلفهم من بعده إّنما تستند لمامر معنًا سابقًا‪ ،‬ل‬ ‫نستنتج مّما سبق أ ّ‬
‫ن المراد بالوصية والوارثة هنا الخلفة والنبوة‪ ،‬بل حتى لو افترضنا أنّ‬ ‫على أساس القرابة والنسب‪ .‬ول يخفى أ ّ‬
‫ن المر سيقود بالتالي إلى‬ ‫الوراثة هنا هى وراثة علوم النبي)صلى ال عليه وآله(ـ كما ذهب إلى ذلك البعض ـ فا ّ‬
‫ن خليفة النبي وإمام الخلق لبّد أن يكون وارثًا لعلوم النبي)صلى ال عليه وآله(‪،‬‬ ‫جدارتهم باحراز هذا المقام; ل ّ‬
‫لمور الشخصية والعتيادية ل‬ ‫ن خليفته هو وصيه; فوراثة الموال ـ كما نعلم ـ ليست بذات قيمة والوصية في ا ُ‬ ‫وأ ّ‬
‫ن ُاولئك الذين سعوا جاهدين لتفسير الوصية والوراثة بمثل هذه المعاني إّنما يكشفون‬ ‫تحظى بأية أهمية‪ ،‬ولشك أ ّ‬
‫عن مدى تعصبهم استنادهم إلى العناد والفكار المسبقة‪.‬‬

‫فليس هنالك من مسألة مهّمة تنسجم وقوله)عليه السلم(‪» :‬أساس الدين وعماد اليقين‬

‫] ‪[ 205‬‬

‫لّمة‬
‫وخصائص حق الولية« سوى مسألة خلفة رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪ .‬وأخيرًا يخاطب)عليه السلم( ا ُ‬
‫في زمانه وكأّنهم قد تنكروا لبعض النعم ول يسما عودة الحق السليب »الن إذا رجع الحق إلى أهله ونقل إلى‬
‫منقله«‪(1).‬‬

‫ن المراد بالحق هنا هو الولية والخلفة التي ل تليق سوى بأهل‬


‫يتضح مّما قيل بشأن الوصية والوارثة أ ّ‬
‫ن محلهم من الخلفة محل القطب من الرحى‪.‬‬ ‫البيت)عليهم السلم( وأ ّ‬

‫تأّملن‬
‫‪1‬ـ مكانة أهل البيت في القرآن والرويات‬

‫لقد صّرحت أغلب اليات القرآنية والروايات السلمية بفضل أهل البيت)عليهم السلم(بما ل يبقى معه مجال‬
‫للشك في سمو مكانتهم وعلو منزلتهم‪ .‬فآية التطهير واضحة في طهارة أهل البيت)عليهم السلم(من كل رين‬
‫طِهـيرًا(‪(2).‬‬
‫طّهَرُكْم َت ْ‬
‫ت َوُي َ‬
‫ل الَبْي ِ‬
‫س َأْه َ‬
‫ج َ‬
‫عْنُكُم الّر ْ‬
‫ب َ‬
‫ل ِلـُيذِه َ‬
‫وعصمتهم من كل رجس )ِإّنما ُيِريُد ا ّ‬

‫ن أقرب المقربين ل‬ ‫وآية المباهلة التي وصفت نفس علي)عليه السلم( بأّنها نفس النبي)صلى ال عليه وآله( وأ ّ‬
‫ل َتعاَلْوا َنْد ُ‬
‫ع‬ ‫ورسوله )صلى ال عليه وآله( والمجابين الدعوة لديه هم الزهراء والحسن والحسين)عليه السلم(‪ُ) :‬ق ْ‬
‫سُكْم‪.(3)(...‬‬
‫سنا َوَأْنُف َ‬
‫َأْبناَءنا َوَأْبناَءُكْم َوِنساَءنا َوِنساَءُكْم َوَأْنُف َ‬

‫وآية التبليغ التي اعتبرت وظيفة النبي)صلى ال عليه وآله( في إبلغ ولية علي)عليه السلم( من أخطر الوظائف‬
‫ل َفما َبّلْغ َ‬
‫ت‬ ‫ن َلْم َتْفَع ْ‬
‫ك َو ِإ ْ‬
‫ن َرّب َ‬
‫ك ِم ْ‬
‫ل ِإَلْي َ‬
‫ل َبّلْغ ما ُأْنِز َ‬
‫سو ُ‬
‫ن عدم البلغ بمثابة عدم ابلغ الرسالة‪) :‬يا َأّيها الّر ُ‬
‫وأ ّ‬
‫ِرساَلَتُه‪ .(4)(...‬إلى جانب ما ل يحصى من اليات التي ل يسعنا الخوض فيها في هذه العجالة‪ ،‬ويضاف إلى ذلك‬
‫مصادر الفريقين والتي صّرحت بتواتر وصحة الخبار الواردة في فضائل أهل البيت)عليهم السلم(‪(5).‬‬

‫‪ .1‬هنالك محذوف في الجملة تقديره‪»:‬الن إذا رجع الحق إلى أهله لم ل تؤدون حقه«‪ .‬وقد ورد تقدير ذلك في مصادر نهج‬
‫البلغة‪»:‬الن إذا رجع الحق إلى أهله من أهل بيت البنوة يجري ما يجري من الحوادث ويقع ما يقع من الختلف؟«‪) .‬مصادر نهج‬
‫البلغة‪ (302 / 1 ،‬وكل النتجيتين واحدة‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة الحزاب ‪.33 /‬‬

‫‪ .3‬سورة آل عمران ‪.61 /‬‬

‫‪ .4‬سورة المائدة ‪.67 /‬‬

‫‪ .5‬لقد أشرنا في ذيل كل آية واردة بهذا الشأن في التفسير المثل إلى المصادر ; ومن أراد الوقوف على ‪2‬التفاصيل فليراجع احقاق‬
‫الحق‪ ،‬ج ‪ 3‬ورسالة القرآن‪ ،‬ج ‪.9‬‬

‫] ‪[ 206‬‬

‫أّما الروايات السلمية الورادة في الصحاح الستة فقد نقلت من فضائل أهل البيت ومناقبهم بما ل يمكن تصوره‪،‬‬
‫بل أوجز بعض علماء العامة تلك الفضائل في عّدة مجلدات)‪ ،(1‬بينما ألفت عشرات المجلدات من علماء العامة‬
‫في جمع الروايات والخبار الواردة بشأن فضائل أهل البيت‪(2).‬‬

‫ن الموسف ما قامت به اليدي الثيمة إبان الحكومات الظالمة بعد رحيل رسول ال)صلى ال عليه وآله(‬ ‫غير أ ّ‬
‫لّمة بعيدًا عن الخط الرسالي الصيل المتمثل بأهل‬
‫والتي جهدت على طمس فضائلهم ومناقبهم لينأوا با ُ‬
‫البيت)عليهم السلم(ُامناء الوحي وحماة العقيدة‪ .‬فاوئلك الذين صدوا أهل البيت)عليهم السلم( عن حقهم بعد رحيل‬
‫رسول ال)صلى ال عليه وآله(هم الذين سعوا جاهدين لطمس فضائلهم‪ ،‬وأدهى من ذلك ما مارسه خلفاء بني ُامية‬
‫والعباس الذين كموا الفواه عن التحدث بفضائلهم حتى عد ذلك جرما يعاقب عليه بالسجن أو العدام‪.‬‬

‫ل أن نورد ما‬
‫و لول لطف ال وعنايته لما بقيت من آثار هم شيئًا ول ختفت فضائلهم ومناقبهم ول يسعنا هنا إ ّ‬
‫ذكره شارح نهج البلغه ابن أبي الحديد المعتزلي بهذا للشأن فقد قال‪:‬‬

‫فأّما فضائله)عليه السلم(; فاّنها قد بلغت من العظم والجللة والنتشار والشتهار مبلغًا يسمج معه التعرض‬
‫لذكرها‪ ،‬والتصدي لتفصيلها; فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد ال بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل‪ :‬رأيتني فيما‬
‫أتعاط من وصف فضلك‪ ،‬كالمخبر عن ضوء النهار الباهر‪ ،‬والقمر الزاهر‪ ،‬الذي ل يخفى على الناظر‪ ،‬فأيقنت‬
‫أني حيث إنتهى بي القول منسوب إلى الدعاء لك‪ ،‬ووكلت الخبار عنك إلى علم الناس بك‪ .‬وما أقول في رجل أقر‬
‫له أعداؤه وخصومه بالفضل‪ ،‬ولم يمكنهم جحد مناقبه‪ ،‬ول كتمان فضائله‪ ،‬فقد علمت أّنه استولى بنو ُامية على‬
‫سلطان السلم في شرق الرض وغربها‪ ،‬وإجتهدوا بكل حيلة في اطفاء نوره‪ ،‬والتحريض عليه‪ ،‬ووضع‬
‫المعايب والمثالب له‪ ،‬ولعنوه على جميع المنابر‪ ،‬وتوعدوا ماد حيه‪ ،‬بل حبسوهم قتلوهم‪ ،‬ومنعوا من رواية حديث‬
‫يتضمن له فضيلة‪ ،‬أو يرفع له ذكرًا‪ ،‬حتى حظروا‬

‫‪ .1‬كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة للمرحوم المحقق الفيروز آبادي‪.‬‬

‫‪ .2‬عبقات النوار للسيد حامد حسين الهندي‪.‬‬

‫] ‪[ 207‬‬

‫ل رفعة وسموا; وكان كالمسك كلما ستر إنتشر عرفه‪ ،‬وكلما كتم تضوع‬
‫أن يسمى أحد باسمه; فما زاده ذلك إ ّ‬
‫نشره; وكالشمس ل تستر بالراح‪ ،‬وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة‪ ،‬أدركته عيون كثيرة‪(1).‬‬
‫وقد نقل مثل هذا المعنى في بعض المصادر‪ ،‬حيث صّرح الشافعي‪ :‬عجبا لرجل أخفى أعداؤه فضائله حسدا‬
‫وأولياؤه خوفا فظهر بين هذا وذلك ما ملئ الخافقين‪(2).‬‬

‫وقد روي مثل هذا المضمون أيضا عن عامر بن عبدال بن الزبير)‪.(3‬‬

‫‪2‬ـ تبريرات واهية‬

‫ن إبن أبي الحديد حين يصل عبارة المام)عليه السلم( »الن إذا رجع الحق إلى أهله‪ «...‬في شرحه‬ ‫جدير ذكره أ ّ‬
‫لنهج البلغة يقول‪ :‬لقد ذكر المام)عليه السلم( أن الحق رجع الن إلى أهله; وهذا يقتضي أن يكون فيما قبل في‬
‫غير أهله‪ ،‬ونحن نتأول ذلك على غير ما تذكره المامية‪ ،‬ونقول‪ِ :‬انه)عليه السلم( كان أولى بالمر وأحق‪ ،‬ل‬
‫على وجه النص‪ ،‬بل على وجه الفضلية‪ ،‬فاّنه أفضل البشر بعد رسول ال )صلى ال عليه وآله(‪ ،‬وأحق بالخلفة‬
‫من جميع المسلمين‪ ،‬لكنه ترك حّقه لما علمه من المصلحة‪ ،‬وما تفرس فيه هو والمسلمون من إضطراب السلم‪،‬‬
‫وانتشار الكلمة‪ ،‬لحسد العرب له وضغنهم عليه وجائز لمن كان أولى بشي فتركه ثم استرجعه أن يقول‪ :‬قد رجع‬
‫المر إلى أهله)‪.(4‬‬

‫ن الحكام المسبقة هى التي تحول دون القرار بمفهوم هذه العبارة الواضحة‪ ،‬فلو أراد المام)عليه السلم(أن‬ ‫حقًا أ ّ‬
‫يقول‪ :‬لم يودع الحق أهله قبل هذا والن رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله فله أن يذهب إلى ما ذهب إليه‪ ،‬هذا‬
‫من جانب ومن جانب آخر فاننا نعلم بأن القول‪ :‬ان العرب تحسده وتكن له البغض والعداء إّنما هو قول أجوف ل‬
‫أساس له‪ .‬نعم كانت هذه الحالة تسود فئة قليلة ممن تبقى من أعقاب المشركين والكافرين‪ ،‬وبعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫ن‬
‫العداء كان يعيش في‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغه لبن أبي الحديد ‪.17 / 1‬‬

‫‪ .2‬علي في الكتاب والسنة ‪.10 / 1‬‬

‫‪ .3‬الغدير ‪.271 / 10‬‬

‫‪ .4‬شرح نهج البلغه لبن أبي الحديد ‪.140 / 1‬‬

‫] ‪[ 208‬‬

‫قلوب زعماء قريش وأحبار اليهود وكبار المنافقين الذين تلقوا من المام)عليه السلم(الضربات المهلكة والموجعة‬
‫لّمة بابنائها تحب عليًا)عليه السلم( ولذلك ورد في الحديث‬
‫في المعارك من قبيل بدر وخيبر وحنين‪ ،‬بينما كانت ا ُ‬
‫ن رسول ال )صلى ال عليه وآله( قال لعلي)عليه‬ ‫النبوي المعروف الذي نقلته المصادر السلمية المعتبرة أ ّ‬
‫ل منافق«)‪.(1‬‬
‫السلم(‪» :‬ل يبغضك إ ّ‬

‫وجاء في صحيح الترمذي ـ أحد الصحاح الستة المعتمدة لدى أبناء العامة ـ عن أبي سعيد الخدري قال‪» :‬إنا كّنا‬
‫لنعرف المنافقين ببغضهم علي بن أبي طالب«)‪.(2‬‬

‫فهل يرضى إبن أبي الحديد أن تكون الكثرية الساحقة من المسلمين آنذاك منافقة؟ ومن هنا نرى مدى الفرح‬
‫ن أغلب‬‫والسرور الذي عم أوساط المسلمين حين توليه الخلفة بما ل يمكن مقارنته وسائر الخلفاء‪ ،‬والحال أ ّ‬
‫معاصريه وممن مد له يد البيعة هم من صحابة النبي)صلى ال عليه وآله( أو أبنائهم‪.‬‬

‫و عليه فتبريره واهي ل يصمد إمام الحقائق والواقعيات‪ .‬وأّما قوله‪ :‬إّنه كان أولى بالمر وأحق لعلى وجه‬
‫النص‪ ،‬فهو الخر كلم أجوف يجانب الحق وسنثبت بطلنه في محله‪(3).‬‬

‫—–‬
‫‪ .1‬شواهد التنزيل ‪.329 / 1‬‬

‫‪ .2‬صحيح الترمذي‪ ،168 / 13 ،‬طبع الصاوي مصر ) ‪ 635 / 5‬طبع دار احياء التراث العربي(‪.‬‬

‫‪ .3‬انظر »رسالة القرآن« ‪.9 /‬‬

‫] ‪[ 209‬‬

‫الخطبة ‪3‬‬

‫و من خطبة له )عليه السلم(‬

‫وهى المعروفة بالشقشقية وتشتمل على الشكوى من أمر الخلفة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له‪.‬‬

‫القسم الول‬

‫سْيُل َول َيْرَقى ِإَل ّ‬


‫ي‬ ‫عّني ال ّ‬ ‫حِدُر َ‬ ‫حى‪َ .‬يْن َ‬
‫ن الّر َ‬
‫ب ِم َ‬‫ط ِ‬ ‫حّل اْلُق ْ‬
‫حّلي ِمْنها َم َ‬ ‫ن َم َ‬ ‫ن َوِإّنُه َلَيْعَلُم َأ ّ‬ ‫صها ُفل ٌ‬ ‫ل َلَقْد َتَقّم َ‬
‫»َأما َوا ّ‬
‫خَية‬
‫طْ‬‫عَلى َ‬ ‫صِبَر َ‬‫جّذاء‪َ ،‬أْو َأ ْ‬ ‫صوَل ِبَيد َ‬ ‫ن َأ ُ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ت َأْرَتِئي َبْي َ‬‫طِفْق ُ‬
‫شحًا‪َ .‬و َ‬ ‫عْنها َك ْ‬ ‫ت َ‬ ‫طَوْي ُ‬ ‫ت ُدوَنها َثْوبًا‪َ ،‬و َ‬ ‫سَدْل ُ‬‫طْيُر َف َ‬
‫ال ّ‬
‫عَلى َهاَتا‬ ‫صْبَر َ‬
‫ن ال ّ‬‫ت َأ ّ‬
‫ن حَّتى َيْلَقى َرّبُه! َفَرَأْي ُ‬‫ح ِفيها ُمْؤِم ٌ‬ ‫صِغيُر‪َ ،‬وَيْكَد ُ‬‫ب ِفيها ال ّ‬ ‫شي ُ‬ ‫عْمياَء‪َ ،‬يْهَرُم ِفيها اْلَكِبيُر َوَي ِ‬ ‫َ‬
‫جا‪َ ،‬أَرى ُتراِثي َنْهبًا«‪.‬‬ ‫شً‬ ‫ق َ‬‫حْل ِ‬‫ن َقًذى‪َ ،‬وِفي اْل َ‬ ‫ت َوِفي اْلَعْي ِ‬
‫صَبْر ُ‬ ‫جى‪َ ،‬ف َ‬ ‫حَ‬ ‫َأ ْ‬

‫—–‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫تعتبر هذه الخطبة من أهم خطب نهج البلغة حيث تتكفل بشرح مسألة الخلفة بعد رحيل رسول ال)صلى ال‬
‫لمور التي تضمنتها هذه الخطبة بما لم يرد شبيهها في سائر خطب نهج البلغة‪،‬‬
‫عليه وآله(‪ .‬وهنالك بعض ا ُ‬
‫ل أّنها أوجزت عصر الخلفة الراشدة التي‬‫ورغم قلة عباراتها‪ ،‬إ ّ‬

‫] ‪[ 210‬‬
‫نهضت بالمر بعيد وفاة رسول ال )صلى ال عليه وآله(‪ .‬إلى جانب ذلك هناك التحليلت الدقيقة والرائعة التي‬
‫لمور قبل أن نخوض في شرح وتفسير هذه‬ ‫تلفت إليها إنتباه المحققين والباحثين‪ .‬ونرى هنا أن نشير إلى بعض ا ُ‬
‫الخطبة‪:‬‬

‫‪1‬ـ اسم الخطبة‪ :‬لقد ُاقتبس اسم الخطبة من عبارتها الخيرة التي أطلقها المام)عليه السلم( حين قاطع أحدهم‬
‫المام)عليه السلم(فتوقف‪ ،‬فناشده ابن عباس مواصلة الخطبة فقال له)عليه السلم(‪» :‬تلك شقشقة هدرت ثم‬
‫قرت« وهكذا رفض)عليه السلم( طلب ابن عباس‪ ،‬حيث تغير الجو الذي كان سائدًا لطلق المام)عليه السلم(‬
‫تلك العبارات الحماسية الخطيرة‪ ،‬فقد قام أحد الفراد من بين الناس وسلم المام)عليه السلم( كتابا )قيل ان فيه‬
‫مسائل كان يريد الجابة عنها( فانصرف ذهن المام)عليه السلم(إلى ُامور ُاخرى‪.‬‬

‫‪2‬ـ زمان صدور الخطبة‪ :‬هنالك خلف بين شّراح نهج البلغة بشأن زمان صدور هذه الخطبة‪ .‬فيعتقد البعض ـ‬
‫ن المام)عليه السلم( وبالستناد إلى مضامين الخطبة وطرق أسنادها وروايتها ِاّنه أوردها‬
‫كالمحقق الخوئي ـ أ ّ‬
‫أواخر عمره الشريف بعيد موقعة الجمل وصفين والنهروان حين قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)‪ .(1‬والحق‬
‫ن مضمون الخطبة يؤيد هذا الرأي‪.‬‬ ‫أّ‬

‫ن‬
‫‪3‬ـ مكان الخطبة‪ :‬لقد سكت جمع من شّراح نهج البلغة عن مكان صدور الخطبة‪ ،‬بينما يعتقد البعض أ ّ‬
‫المام)عليه السلم(أورد هذه الخطبة حين ارتقى المنبر في مسجد الكوفة‪ ،‬وقال ابن عباس‪:‬‬

‫لقد ألقى المام)عليه السلم( هذه الخطبة في الرحبة)‪ (2‬حين وقع الكلم عن الخلفة‪.‬‬

‫‪4‬ـ سند الخطبة‪ :‬هناك بحث في سند الخطبة أيضا‪ .‬قال البعض‪ :‬هذه الخطبة من الخطب المتواترة بينما صّرح‬
‫البعض الخر بعكس ذلك ولم ينسب هذه الخطبة لعلي)عليه السلم( وإّنه لم يشكو قط من الخلفة وإّنما ذلك من‬
‫ن المذكوران باطلن وفيهما‬‫وضع الشريف الرضي‪ .‬أّما الشارح المعروف ابن ميثم البحراني فقد قال‪ :‬الدعاء ا ّ‬
‫إفراط وتفريط‪ .‬فسند الخطبة لم يبلغ حد‬

‫‪ .1‬منهاج البراعة في شرح نهج البلغة‪.32 / 3 ،‬‬

‫‪» .2‬الرحبة« بمعنى المكان الواسع‪ ،‬ويعتقد البعض أّنها اسم موضع في الكوفة‪ ،‬بينما يرى البعض الخر هى موضع يبعد ثمانية‬
‫فراسخ عن الكوفة )مجمع البحرين ومراصد الطلع(‪.‬‬

‫] ‪[ 211‬‬

‫التواتر‪ ،‬ول أساس للزعم القائل أّنها من وضع الشريف الرضي‪ ،‬والحق آنهاصدرت من المام)عليه السلم()‪.(1‬‬

‫ن الشكالت الواردة على الخطبة لم تتأتى من ضعفها أو ركاكتها أو تفاوتها من حيث العتبار مع سائر‬‫و يبدو أ ّ‬
‫ن الخطبة تشتمل على عّدة أسناد يتعذر وجود مثلها في‬
‫خطب نهج البلغة‪ ،‬بل بالعكس وكما سيأتي خلل البحث أ ّ‬
‫سائر بعض خطب نهج البلغة‪.‬‬

‫أّما السبب الوحيد الذي يمكن إسناد الشكال إليه إّنما يكمن في عدم إنسجام مضامين الخطبة والذهنية السائدة‬
‫ل من اتهام ذهنيتهم وبلورتها على أساس‬‫لبعض الفراد الذين ينتمون إلى عدد من الفرق والمذاهب‪ .‬فهولء وبد ً‬
‫مضمون الخطبة جهدوا في القدح باسنادها بغية البقاء على ما يسود أذهانهم من أفكار منحرفة وعقائد باطلة‪ .‬أّما‬
‫السناد التي ذكرت للخطبة من غير نهج البلغة فهى كالتي‪:‬‬

‫أ ـ قال ابن الجوزي في تذكرة الخواص‪ :‬لقد أورد المام علي)عليه السلم( هذه الخطية حين صعد المنبر جوابًا‬
‫لمن سأله‪»:‬ما الذي أبطأبك إلى الن«)‪ .(2‬وهذا يدل على أن ابن الجوزي كان يملك سندا آخر لهذه الخطبة; لن‬
‫هذا السؤال لم يرد في نهج البلغة‪ ،‬وعليه فقد كان له طريقا آخر‪.‬‬

‫ب ـ قال الشارح المعروف ابن ميثم البحراني‪ :‬لقد عثرت على هذه الخطبة في كتابين ُالفا قبل ولدة الشريف‬
‫الرضي‪:‬‬
‫الول كتاب النصاف لبي جعفر ابن قبة تلميذ الكعبي أحد كبار المعتزلة الذي توفي قبل ولدة الشريف الرضي‪.‬‬
‫والثاني النسخة التي كتب عليها بخط أبو الحسن علي بن محمد بن فرات وزير المقتدر بال‪ ،‬وقد توفي لستين سنة‬
‫ن تلك النسخة كتبت منذمدة قبل ولدة ابن فرات)‪.(3‬‬
‫ونيف قبل ولدة الشريف الرضي‪ ،‬ثم يضيف‪ :‬يقوى ظني أ ّ‬

‫و قال ابن أبي الحديد‪ :‬قال مصدق‪ :‬وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل‪ ،‬قال‪ :‬فقلت له‪ :‬أتقول أّنها منحولة!‬
‫فقال‪ :‬ل وال‪ ،‬وإّني لعلم أّنها كلمه‪ ،‬كما أعلم أّنك مصدق‪.‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن ميثم ‪.251 / 1‬‬

‫‪ .2‬تذكرة الخواص ‪.124 /‬‬

‫‪ .3‬شرح ابن ميثم بحرانى ‪.252 / 1‬‬

‫] ‪[ 212‬‬

‫ن كثيرًا من الناس يقولون أّنها من كلم الرضي رحمه ال تعالى‪ .‬فقال‪ :‬أنى للرضي ولغير الرضي‬
‫قال‪ :‬فقلت له‪ :‬إ ّ‬
‫هذا النفس وهذا السلوب! قد وقفنا على رسائل الرضي‪ ،‬وعرفنا طريقته وفنه في الكلم المنثور‪ ،‬وما يقع مع هذا‬
‫الكلم في خل ولخمر‪ :‬ثم قال‪ :‬وال لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي‬
‫سنة‪ ،‬ولقد وجدتها مسطورة‪.‬‬

‫بخطوط أعرفها‪ ،‬وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وقد وجدت أنا كثيرًا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المتعزلة‪،‬‬
‫وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة‪ .‬ووجدت كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد‬
‫متكلمي المامية وهو الكتاب المشهور والمعروف بكتاب »النصاف« وكان أبو جعفر هذا من تلمذة الشيخ أبي‬
‫القاسم البخلي رحمه ال تعالى‪ ،‬ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه ال تعالى موجودًا)‪.(1‬‬

‫لمة الميني فقد نقل هذه الخطبة في المجلد السابع من كتابه الغدير على أّنها نقلت في ثمانية وعشرين‬
‫أّما الع ّ‬
‫كتابا‪.‬‬

‫مضمون الخطبة‬

‫ذكرنا سابقًا أن الخطبة تتعرض بجميع نصوصها إلى مسألة الخلفة بعد رحيل الرسول الكرم )صلى ال عليه‬
‫وآله( والمشاكل التي أفرزها عصر الخلفاء ممن سبقوه ثم يتطرق صراحة إلى أحقيته بالخلفة من الجميع معربا‬
‫عن أسفه وابتئاسه لخروج الخلفة عن محورها الصلي الذي خطط له السلم والنبي‪ .‬وأخيرًا يتحدث عن قضية‬
‫لّمة والهداف الكامنة وراء قبول البيعة بعبارات قصيرة غاية الروعة والبيان‪.‬‬
‫مبايعة ا ُ‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪205 / 1‬‬

‫] ‪[ 213‬‬

‫الشرح والتفسير‬
‫تحليل مهم لمسألة الخلفة‬

‫لّمة السلمية وحرفت خلفة‬ ‫تشير الخطبة ـ كما ذكرنا سابقًا ـ إلى العواصف العنيفة والخطيرة التي هزت ا ُ‬
‫رسول ال )صلى ال عليه وآله(بعيد وفاته عن مسارها السليم‪ ،‬كما تتعرض لصلح الفراد وأجدرهم بالخذ‬
‫لّمة وزعامتها على ضوء المنطق والدليل والبرهان‪ ،‬كما تعرج الخطبة على وخامة المعضلت‬ ‫بزمام شؤون ا ُ‬
‫التي أفرزها تقاعس المسلمين عن اللتزام بنصوص النبي)صلى ال عليه وآله(الواردة بشأن زعامة المسلمين‪.‬‬

‫فقد إستهل المام)عليه السلم( الخطبة بشكواه مّما آلت إليه الخلفة فقال‪» :‬أما وال لقد تقمصها)‪(1‬فلن وإّنه ليعلم‬
‫ن محلي منها محل القطب من الرحا)‪.«(2‬‬‫أّ‬

‫ن الضمير في »تقمصها« يعود إلى الخلفة‪ ،‬ولعل التعبير بالقميص إشارة إلى أمر وهو أ ّ‬
‫ن‬ ‫ل شك ول إشكال في أ ّ‬
‫ن هذه الرحا تتطلب محورًا قويًا يحفظ نظامها في‬
‫فلنًا قد استغل مسألة الخلفة كقميص يزين به نفسه‪ ،‬والحال أ ّ‬
‫الحركة ويحول دون إنحراف مسارها وتعثر بفعل المطبات التي تواجهها وتسيرها بما يضمن مصالح السلم‬
‫والمسلمين‪ .‬أجل فالخلفة ليست قميصا‪ ،‬بل هى رحى الجامعة‪ ،‬وليس للخلفة من غنى عن المحور‪.‬‬

‫هى ليست ثوبًا يرتدى‪ .‬ثم يستدل)عليه السلم( بدليل واضح على المعنى المذكور ليكشف عن مدى علمه وسمو‬
‫مقامه »ينحدر)‪ (3‬عني السيل ول يرقى الي الطير«‪ .‬فقوله)عليه السلم( »ينحدر عّني السيل« يعني رفعة‬
‫منزلته)عليه السلم(كأّنه في ذروة جبل أو يقاع مشرف‪ ،‬ينحدر السيل عنه إلى الوهاد والغيطان‪ ،‬وقوله)عليه‬
‫ى الطير« هذه أعظم في الرفعة والعلو من التي قبلها‪ ،‬لن السيل ينحدر عن الرابية‬‫السلم( »و ل يرقى إل ّ‬
‫والهضبة‪ ،‬وأّما تعذر رقى الطير فر بما يكون للقلل الشاهقة جدا‪ ،‬بل ما هو أعلى من قلل الجبال‪ ،‬كأنه يقول‪:‬‬
‫إّني لعلو منزلتي كمن في السماء التي يستحيل أن يرقى الطير إليها‪.‬‬

‫‪» .1‬تقمص« من مادة فميص بمعنى لبسها كالقميص‪.‬‬

‫‪» .2‬الرحا« بمعنى الطاحونة‪ ،‬وقد استعملت مادتها بصورة ناقص واوي وناقص يائي‪.‬‬

‫‪» .3‬ينحدر« من مادة إنحدار بمعنى النهمار والسقوط على وجه الكثرة‪.‬‬

‫] ‪[ 214‬‬

‫والتشبيه المذكور ينسجم وما ورد في القرآن الكريم بشأن دور الجبال في إستقرار الرض )َوَأْلقى ِفي الَْرضِ‬
‫ن()‪ .(1‬أجل لول هذه السلسلة العظيمة من الجبال لسلبت السكينة‬‫ل َلَعّلـُكْم َتْهَتُدو َ‬
‫سُب ً‬
‫ن َتِميَد ِبُكْم َو َأْنهارًا َو ُ‬
‫ى َأ ْ‬
‫سَ‬‫َروا ِ‬
‫والستقرار من الناس بفعل الضغوط الجوفية لباطن الرض من جانب وتأثير جاذبية الشمس والقمر وجزر ومد‬
‫القشرة الرضية من جانب آخر وأخيرًا هبوب العواصف‪ ،‬ول نعدمت المياه التي تنهمر من السماء فتصب في‬
‫البحار والمحيطات وتشكل مصادر النهار والبار والعيون‪ .‬فوجود المام المعصوم والعالم العارف يشكل معين‬
‫الخير البركة والسكينة لكل ُاّمة‪.‬‬

‫إلى جانب كون تعبير المام)عليه السلم( يشير إلى تعذر سبر أغوار أفكار المام)عليه السلم( والوقوف على‬
‫ل لمعلم المام نبي السلم محمد المصطفى)صلى ال عليه‬ ‫كنه شخصيته وذروة علمه ومعرفته‪ ،‬وليتيسر ذلك إ ّ‬
‫وآله(‪ .‬حتى صحابة المام)عليه السلم( كانوا ينتهلون حسب إستعدادهم من منهله العذب ويحيطوا بظاهره على‬
‫قدر معرفتهم وعلمهم)‪.(2‬‬

‫لخرى الجديرة بالذكر تكمن في الستفادة من النهار في حركة الرحى وتنبع هذه النهار من الجبال كما‬ ‫النقطة ا ُ‬
‫أّنها تفصل هذه الرحى عن الجبال‪ .‬ولعل العبارة المذكورة إشارة إلى هذا المعنى‪ ،‬أي أنا المحور والرحى والقوة‬
‫المحركة المليئة بالعلم والمعرفة‪ .‬وكما أشرنا آنفا فان قمم الجبال تختزن بركات السماء كحبات ثلج ثم تفيض بها‬
‫على الرض الهامدة المتعطشة للماء‪ ،‬ويمكن أن تكون العبارة إشارة إلى قرب المام)عليه السلم( من الوحي‬
‫والغتراف من كوثر النبي)صلى ال عليه وآله(‪.‬‬
‫ن المراد بالسيل في العبارة هو علم المام)عليه السلم( الذي وصفه رسول‬ ‫ذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أ ّ‬
‫ال )صلى ال عليه وآله(بقوله‪» :‬أنا مدينة العلم وعلي بابها«)‪ (3‬كما ورد عن المام الرضا)عليه السلم(أّنه فسر‬
‫ن َيْأِتـيكْم ِبماء َمِعـين( بعلم‬
‫غْورًا َفَم ْ‬
‫ح ماُؤُكْم َ‬
‫صَب َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ل َأَرَأْيُتْم ِإ ْ‬
‫»ماء معين« الواردة في الية ‪ 30‬من سورة الملك )ُق ْ‬
‫المام)عليه السلم()‪.(4‬‬

‫‪ .1‬سورة النحل ‪.11 /‬‬

‫‪ .2‬للوقوف على حقيقة التعبيرات الواردة بشأن أميرالمؤمنين علي)عليه السلم( وأفضليته المطلقة على من سواه من أفراد اُلّمة‪،‬‬
‫نكتفي باليضاحات التي وردت في مقدمة الكتاب بشأن فضائله ومناقبه)عليه السلم(‪.‬‬

‫‪ .3‬للوقوف على إسناد هذا الحديث المعروف في مصادر العامة‪ ،‬انظر إحقاق الحق ‪468 / 5‬ـ ‪.501‬‬

‫‪ .4‬تفسير نور الثقلين ‪ 386 / 5‬وليس هنالك من منافاة بين هذا التفسير وذلك الذي فسره بالماء الجاري‪2 ،‬ول التفسير الذي ورد في‬
‫ن المراد بالماء المعين أصل وجود المام)عليه السلم(‪ ،‬وذلك لمكانية جمع هذه المعاني في مفهوم الية ‪.‬‬
‫بعض الروايات من أ ّ‬

‫] ‪[ 215‬‬

‫و هنا تطرح بعض السئلة نفسها من قبيل‪:‬‬

‫الول‪ :‬لم مدح المام)عليه السلم( نفسه والحال ورد الذم على ذلك كقوله »تزكية المرء لنفسه قبيح«‪ .‬وللجابة‬
‫لّمة أحيانا جاهلة بشخصية فرد;‬
‫على هذا السؤال نقول‪ :‬هنالك فارق بين مدح النفس والتعريف بها‪ .‬فقد تكون ا ُ‬
‫المر الذي ل يجعلها تستفيد منه ومن طاقاته كما ينبغي فالتعريف بالشخص هنا سواء من قبله أو من قبل الخرين‬
‫ليس فقط ل ضير فيه فحسب‪ ،‬بل هو عين الصواب والسبيل الصحيح للنجاة وهو بالضبط من قبيل تعريف‬
‫الطبيب بمجال تخصصه الذي يضعه على الوصفة الطبية‪ ،‬المر الذي يهدف إلى إرشاد المرضى في مراجعته‬
‫ول ينطوي على أي مديح للشخص‪.‬‬

‫ى الطير« هو زعم منه)عليه السلم(ليس أكثر‬


‫السؤال الثاني‪ :‬قوله)عليه السلم(‪» :‬ينحدر عّني السبيل ول يرقى إل ّ‬
‫فهل قام الدليل عليه؟‬

‫ن الجابة على هذا هى أوضح منها على السؤال الول؟ لن المقام العلمي الذي ُاختص به أمير المؤمنين‬ ‫يبدو أ ّ‬
‫علي)عليه السلم(ليس بخاف على من له أدنى إطلع بتأريخ السلم والمسلمين‪ .‬فنا هيك عن تواتر الحاديث‬
‫النبوية الجمة الواردة عن رسول ال )صلى ال عليه وآله(في فضل علمه وتصريحات العلماء العلم في أّنه‬
‫مصدر كافة العلوم والمعارف السلمية وزعيمها)‪ ،(1‬إلى جانب تصديه لعقد المسائل التي كان يعجز عنها من‬
‫سبقه من الخلفاء فان أدنى مطالعة لرسائله خطبه وقصار كلماته التي جمعت في نهج البلغة لكافية في الوقوف‬
‫على هذه الحقيقة‪ .‬فلو تصفح كل إنسان منصف ـ مسلما كان أم غير مسلم ـ نهج البلغة لخضع متواضعا لعظمة‬
‫ى الطير«‪.‬‬
‫المام ولعاش عمليًا مفهوم قوله)عليه السلم(‪» :‬ينحدر عّني السيل ول يرقى إل ّ‬

‫السؤال الثالث‪ :‬كيف يشكو)عليه السلم( الحوادث المرتبطة بالخلفة بعد رحيل رسول ال )صلى ال عليه وآله(‪،‬‬
‫أل يتنافى ذلك ومفهوم الصبر والرضا والتسليم؟‬

‫تبدو الجابة على هذا السؤال سهلة يسيرة‪ .‬فالصبر والرضا والتسليم موضوع‪ ،‬وتبيين‬

‫ل بهذا الشأن في شرحه لنهج البلغة‪ ،‬ثم تطرق إلى العلوم السلمية وشرح كيفية إرتباطها‬
‫‪ .1‬لقد ذكر ابن أبي الحديد بحثا مفص ً‬
‫بعلم المام)عليه السلم( من الناحية التاريخية )شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪1/17‬ـ ‪.(20‬‬

‫] ‪[ 216‬‬

‫لّمة في الحاضر والمستقبل موضوع آخر‪ ،‬بحيث ليتضمن المر أية‬ ‫الحقائق ليدونها التاريخ ويلم بها أبناء ا ُ‬
‫ل نموذج حي من هذه النماذج‪ .‬ففي‬
‫منافاة فحسب‪ ،‬بل هو من أوجب الواجبات‪ ،‬وما القضايا المتعلقة بالخلفة إ ّ‬
‫ن مصالح المجتمع السلمي والجيال السلمية القادمة هى التي تحتم تبيين هذه الحقائق كي ل‬
‫الحقيقة والواقع أ ّ‬
‫تودع بوتقة النسيان‪.‬‬

‫ثم قال)عليه السلم(‪» :‬فسدلت)‪ (1‬دونها ثويًا‪ ،‬وطويت عنها كشحًا)‪.«(2‬‬

‫ن رد فعل المام)عليه السلم( حيال تلك الحادثة لم يكن يتضمن الستعداد والتاهب‬
‫تفيد هذه العبارة بوضوح أ ّ‬
‫لخوض الصراع والشتباك مع الخرين ‪ ،‬بل تجاهل بكل بسالة وزهد ذلك المر لسباب سنتطرق إلى ذكرها‪.‬‬

‫لّمة‬
‫فالمام)عليه السلم( يكشف في هذه العبارة عن حقيقة وهى‪ :‬أنني لم أنس طرفة عين مسئوليتي تجاه ا ُ‬
‫والوظيفة التي وضعها ال ورسوله )صلى ال عليه وآله( على عاتقي‪ ،‬ولكن ليت شعري ما أنا فاعل وهناك‬
‫محذوران‪ :‬المحذور الول‪ :‬هل أنهض بالمر وأخوض الصراع مع الغاصبين‪ ،‬والحال ل أملك العّدة والعدد من‬
‫جانب‪ ،‬ومن جانب آخر فان من شأن هذه النهضة أن تشق عصا المسلمين وتفرق صفوفهم وتثلج صدور العداء‬
‫والمنافقين الذين يتربصون بالمسلمين مثل هذه الفرصة ليجهزوا على السلم‪.‬‬

‫ن ألتزم الصبر والصمت حيال هذه الحادثة في ظل هذه الجواء الدامسة الظلم‪ .‬والتعبير‬
‫المحذور الثانى‪ :‬أ ّ‬
‫بالطخية العمياء ينطوي على روعة في الدقة والبيان فالطخية تعني الظلم‪،‬‬

‫‪» .1‬سدلت« من مادة »سدل« على وزن عدل بمعنى نزول الشيء من العلى إلى السفل بحيث يغطى‪ ،‬وعليه فان مفهوم سدلت هنا‬
‫تركتها وارخيت عليها شيئا‪.‬‬

‫‪» .2‬كشح« على وزن فتح بمعنى الضلع و»طوى عنه كشحه« كناية عن عدم الهتمام بشيء والنصراف عنه‪.‬‬

‫‪» .3‬جذاء« بمعنى القطع والكسر‪.‬‬

‫‪» .4‬طخية« بمعنى الظلمة وتاتي بمعنى السحب الخفيفة و»الطخياء« بمعنى الليلة الظلماء‪.‬‬

‫] ‪[ 217‬‬

‫ن هذه الظلمة من الشدة والعتمة‬


‫وأحيانا يمكن إختراق الظلمة ـ إذا لم تكن شديدة ـ لمشاهدة شبح ما خللها‪ ،‬غير أ ّ‬
‫بحيث أطلق عليها العمياء لتعذر رؤية أي شيء من خللها‪ .‬ثم يتحدث المام)عليه السلم( عن خصائص تلك‬
‫الظلمة والفتنة ليوجزها في عبارات ثلث عميقة المعنى فيقول‪» :‬يهرم فيها الكبير‪ ،‬ويشيب فيها الصغير‪ ،‬ويكدح)‬
‫‪ (1‬فيها مومن حتى يلقى ربه«‪.‬‬

‫ن المعاناة ستعم الجميع‪ .‬فهى تشيب الصغير وتهرم الكبير بينما ستتضاعف معاناة‬
‫و يفهم من هذه العبارة أ ّ‬
‫المؤمنين بفعل تصاعد حدة المشاكل التي سيشهدها المجتمع السلمي والخطار التي تهدد كيانه بما يجعلهم‬
‫يعيشون هالة من الغم والحزن على مصير السلم‪ .‬فلم تمض مّدة حتى تبلورت تلك الخطار لتشهد ولدة العصر‬
‫الموي الذي تمكن خلل مّدة قياسية من القضاء على الصرح السلمي الذي شيده رسول ال )صلى ال عليه‬
‫وآله( وصحبه بجهودهم المضنية ومساعيهم العظيمة‪.‬‬

‫ثم يواصل المام)عليه السلم( خطبته ليعلن عن موقفه تجاه القضية وعزمه على التحلي بالصبر‪» :‬فرأيت أن‬
‫الصبر على هاتا)‪ (2‬أحجى)‪ .«(3‬ثم يصف)عليه السلم( طبيعة ذلك الصبر فيقول‪» :‬فصبرت وفي العين قذى)‪(4‬‬
‫وفي الحلق شجا«‪(5).‬‬

‫فالعبارة صورة واضحة عن ذروة إستياء المام)عليه السلم( وتذمره في تلك السنوات من المحنة والمصيبة‪،‬‬
‫بحيث لم يكن يسعه أن يغمض عينه عن تلك الحداث أو يفتحها‪ ،‬كما لم يكن يسعه أن يرفع صوته ويعلن عن مدى‬
‫حرقته‪ ،‬وكيف ل يكون كذلك »أرى تراثي نهبا«‪.‬‬
‫تأّملت‬
‫‪1‬ـ لم آثر المام)عليه السلم( الصبر؟‬

‫ن المنافقين وخصوم الدعوة كانوا يتربصون بالنبي )صلى ال عليه وآله(ورحيله عن دار‬
‫يشهد التاريخ أ ّ‬

‫‪» .1‬يكدح« من مادة »كدح« بمعنى السعي المصحوب بالتعب‪.‬‬

‫‪ .2‬الهاء في هاتا علمة تنبيه والتاء إسم إشارة مونث‪ ،‬إشارة إلى »طخية« »الظلمة« التي وردت في العبارة السابقة‪ .‬واعتبر البعض‬
‫ن الصبر على هذه الحالة أحجى«‪.‬‬
‫أن المشار إليه الحالة المستفادة من العبارة فيكون المعنى »فرأيت أ ّ‬

‫‪» .3‬احجى« من مادة »حجا« بمعنى العقل‪ ،‬وعليه أحجى تعني العقل‪.‬‬

‫‪» .4‬قذى« بمعنى التلوث‪.‬‬

‫‪» .5‬الشجى« بمعنى الهم والغم والشدة واللم‪ ،‬وتعنى أيضا ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه‪.‬‬

‫] ‪[ 218‬‬

‫الدنيا لتتفتت وحدة المسلمين ويتصدع كيانهم ليتمهد أمامهم السبيل من النقضاض على الدين وأهله وبالتالي كسر‬
‫شوكته والقضاء عليه; فلو نهض المام )عليه السلم( بالمر في ظل هذه الظروف من أجل نيل حّقه أو بعبارة‬
‫ُاخرى بغية اعادة المسلمين إلى المسار السلمي الصحيح لعصر النبي )صلى ال عليه وآله( وباللتفات إلى‬
‫ل سينشب لتعم الفوضى والضطراب‬ ‫ن قتا ً‬
‫القرارات التي ُاتخذت سلفا باقصاء المام)عليه السلم( عن الخلفة فا ّ‬
‫في صفوف المجتمع السلمي بما يمهّد السبيل أمام المنافقين والمتربصين لنيل أطماعهم ومآربهم‪ ،‬والشاهد الحي‬
‫على ذلك تمرد المرتدين عقيب وفاة رسول ال )صلى ال عليه وآله( الذين هبوا للوقوف بوجه الحكومة‬
‫لّمة تجاههم‪.‬‬
‫السلمية‪ ،‬ولم يكتب لهم النجاح بفعل المقاومة التي أبدتها ا ُ‬

‫فقد صّرحت بعض السير التاريخية بهذا المجال‪» :‬لما توفي رسول ال)صلى ال عليه وآله( إرتدت العرب‬
‫واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية«)‪.(1‬‬

‫هذا كله من جانب‪ ،‬ومن جانب آخر فان نهوض المام)عليه السلم( بالمر قد ل تبدو فيه بارقة أمل بالنصر بفعل‬
‫غياب العّدة والعدد من أنصار الحق‪ ،‬ولعل قيام المام)عليه السلم( بالمر ل يفسر من أغلب الجهال كانتصار‬
‫للدين والعقيدة بل يعزوه إلى قضايا شخصية محضة‪.‬‬

‫ن الخسائر التي تكبدها المسلمون على مرور الزمان إثر انحراف مسار الخلفة عن محورها قد صورها‬ ‫غير أ ّ‬
‫المام)عليه السلم(بمثابة القذى في العين والشجا في الحلق‪ .‬وهذا درس كبير لكافة المسلمين على مدى التاريخ‬
‫ن إحقاق الحق إذا استلزم توجيه ضربة إلى دعائم الدين وجب التحفظ عنه وعدم المبادرة إليه‪ ،‬لن حفظ‬ ‫وهو أ ّ‬
‫الدين مقدم عى كل ماسواه‪ ،‬وليس هنالك من سبيل في مثل هذه الحالة سوى التحلي بالصبر والتحمل‪ .‬وقد ورد‬
‫ل أهل بيتي‪...‬‬
‫شبيه هذا المعنى في الخطبة رقم ‪ 60‬حيث قال)عليه السلم(‪» :‬فنظرت فاذا ليس لي معين إ ّ‬
‫وأغضيت على القذى وشربت على الشجى«‪.‬‬

‫‪ .1‬سيرة ابن هشام ‪.316 / 4‬‬

‫] ‪[ 219‬‬

‫‪2‬ـ لماذا التعبير بالتراث عن الخلفة؟‬


‫لقد قال المام)عليه السلم(‪» :‬أرى تراثي نهبا« وهنا يبرز هذا السؤال‪ :‬لم عبر المام)عليه السلم(عن الخلفة‬
‫بالرث؟!‬

‫ن الخلفة إرث معنوي وإلهي ينتقل‬


‫و تتضح الجابة على هذا السؤال من خلل اللتفات إلى هذه النقطة وهى أ ّ‬
‫من النبي )صلى ال عليه وآله(إلى أوصيائه المعصومين)عليه السلم( فهو ليس من قبيل الرث الشخصي‬
‫والمادي والحكومة الظاهرية‪ .‬وقد ورد شبيه هذا المعنى في اليات القرآنية بشأن »زكريا« الذي سأل ال من يرثه‬
‫ب()‪.(1‬‬‫ل َيْعُقو َ‬
‫نآِ‬
‫ث ِم ْ‬
‫ك َوِلّيا * َيِرُثِني َوَيِر ُ‬
‫ن َلُدْن َ‬
‫ب ِلي ِم ْ‬
‫ويرث آل يعقوب )َفَه ْ‬

‫ن المام خليفة النبي )صلى ال عليه وآله( هو الذي ينهض به‪.‬‬ ‫لأّ‬ ‫لّمة إ ّ‬ ‫ن هذا الرث يتعلق بجميع ا ُ‬‫و الحق أ ّ‬
‫عـباِدنا()‪.(2‬‬
‫ن ِ‬
‫طَفْينا ِم ْ‬
‫صَ‬
‫نا ْ‬
‫ب اّلِذي َ‬
‫ونقرأ بشأن وراثة الكتاب السماوي‪ُ) :‬ثّم َأْوَرْثنا الِكتا َ‬

‫وعلى غرار ذلك ورد الحديث النبوي المشهور »العلماء ورثة النبياء«)‪.(3‬‬

‫وشاهدنا على مامّر معنا سيرة المام)عليه السلم( وحياته التي أفادت عدم تعلقه من قريب أو بعيد بمال الدنيا‬
‫ن ينهض بوظيفته في إحقاق حق أو ازهاق باطل ـ التي لم تكن تعدل عنده عفطة عنز أو‬ ‫لأّ‬‫وحطامها والخلفة ـ إ ّ‬
‫قيمة نعليه‪ .‬لكن والحال هذه كيف يصف صبره على فقدان الخلفة بالقذى في العين والشجى في الحلق؟ لقد ذهب‬
‫ن مراده بالثراث المنهوب هو فدك التي ورثها رسول ال )صلى ال عليه وآله( بنته الزهراء)عليه‬ ‫البعض إلى أ ّ‬
‫ن الخطبة‬ ‫ن هذا الحتمال ييدو مستبعدا ل ّ‬
‫السلم(‪ ،‬وقد اعتبر ذلك أرثه لمال الزوجة بحكم مال الزوج)‪ ،(4‬غير أ ّ‬
‫بجميع مضامينها تعالج قضية الخلفة‪.‬‬

‫‪3‬ـ المام)عليه السلم( جليس البيت‬

‫ل أحد يسعه إنكار الخسائر الفادحة التي تكبدها العالم السلمي إثر إقصاء علي)عليه السلم(‬

‫‪ .1‬سورة مريم ‪ 5 /‬ـ ‪.6‬‬

‫‪ .2‬سورة فاطر ‪.32 /‬‬

‫‪ .3‬اصول الكافي ‪32 / 1‬ـ ‪.34‬‬

‫‪ .4‬منهاج البراعة ‪.45 / 3‬‬

‫] ‪[ 220‬‬

‫وجلوسه في داره‪ ،‬فلو قصرنا نظرنا على البعد العلمي حين تصفحنا لنهج البلغة الذي يمثل جزءا من خطبه‬
‫ورسائله وكلماته القصار التي أوردها خلل تلك المّدة القصيرة من حكومته رغم ما انطوت عليه من أحداث‬
‫مريرة وحروب دامية‪ ،‬ل كتشفنا بيسر مدى العلوم والمعارف والخيرات والبركات التي كانت ستعم العالم‬
‫السلمي بل الدنيا برمتها لول تلك المّدة المديدة ـ ‪ 25‬سنة ـ التي اضطر فيها المام)عليه السلم( للجلوس في‬
‫ن حرمان المجتمع من فيوض المام)عليه السلم( قد جر عليها الويلت والدمار‪ .‬ولكن ما العمل يا‬ ‫بيته‪ .‬ل شك أ ّ‬
‫ترى وقد سلبت المة هذا الفيض العظيم لتبدو خسائره واضحة على مدى التأريخ‪.‬‬

‫‪4‬ـ لماذا تعرض المام)عليه السلم( لقضية الخلفة؟‬

‫يتساءل البعض‪ :‬ألم يكن من الفضل أن يسدل المام)عليه السلم( الستار على الماضي ول يتطرق إلى مسألة‬
‫الخلفة; المر الذي قد يثير الفرقة والتشتت في صفوف المسلمين ويشق وحدتهم؟‬
‫ن المام أحق بها واولى‬
‫و ل عجب فاننا نرى اليوم البعض ممن يردد هذا الكلح‪ ،‬فما أن تطرح قضية الخلفة وأ ّ‬
‫من غيره حتى تتعالى الصوات مطالبة بالصمت ونسيان الماضي تحت ذريعة الحفاظ على الوحدة السلمية‬
‫وأننا نواجه اليوم أعداء السلم والمخاطر الكبرى ومن شأن إثارة هذه الحاديث أن تضعف المسلمين في مجابهة‬
‫أعدائهم; بل هل من جدوى لمثل هذه الحاديث والحال أن أتباع كل مذهب يواصلون مسيرتهم دون الكتراث لهذا‬
‫لمور أي دور على مستوى إخوة المسلمين ووحدتهم‪.‬‬‫الصوت أو ذاك‪ ،‬وعليه فمن المستبعد أن تلعب هذه ا ُ‬

‫وللجابة على هذا التساؤل لبّد من التذكير بأمرين‪:‬‬

‫ن النبي)صلى ال عليه وآله(‪ .‬قد أكد‬ ‫ن الوقائع الموجودة ل يمكنها إخفاء الحقائق البتة‪ .‬فهذه حقيقة قائمة وهى أ ّ‬
‫أـإّ‬
‫في أكثر من مناسبة على إستخلفه‪ .‬فما الذي حدث لتشوه هذه الحقيقة وينصح بعدم إثارتها بعد تأكيدها من قبل‬
‫ن عليًا)عليه السلم(الذي يتبنى الحق حيثما كان له الحق في‬ ‫النبي)صلى ال عليه وآله( وبناءًا على ما تقدم فا ّ‬
‫التصدي للوقائع القائمة التي ل تنسجم والحقيقة‪ ،‬فيتعرض للحقائق المرتبطة بالخلفة بعد رسول ال )صلى ال‬
‫عليه وآله(ليتسنى للمحققين أن يصدروا أحكامهم بهذا الشأن ولو بعد‬

‫] ‪[ 221‬‬

‫قرون مديدة ليعرفوا الحق وأهله والباطل وأهله فيسلكوا سبيل الحق على ضوء دراساتهم وتحقيقاتهم‪ .‬على كل‬
‫حال ل يمكن منع إنسان عن بيان الحقيقة‪ ،‬ولو افترضنا قدرتنا على ذلك فاننا ل نمتلك الحق في منعه‪ ،‬لما يتضمته‬
‫المنع من خسائر فادحة‪ ،‬وذلك لن الواقع القائم غالبا ما يختلف والحقيقة وقد يبتعد عنها مسافة شاسعة‪ .‬فالوضع‬
‫القائم ل يعني أبدًا أن يكون هو السائد على الدوام حيث يلهمنا السلم أن نسعى ل قتفاء ما ينبغي أن يكون‪ ،‬ومّما‬
‫ن مسألة الخلفة والمامة بعد النبي)صلى ال عليه وآله(لمن المباحث الدينية الرئيسية; سواء كانت‬ ‫ل شك فيه أ ّ‬
‫جزءًا من أصول الدين كما يعتقد بذلك أتباع مدرسة أهل البيت)عليه السلم(‪ ،‬أو جزءًا من فروع الدين‪ .‬مهما كان‬
‫فهى مسألة مصيرية من وجهة النظر الدينية ول تنطوي على أية صيغة شخصية‪،‬خلفًا لما يزعمه البعض من‬
‫الجهال والغافلين فهى ليست مبحثًا تأريخيًا يتعلق بالماضي قد أكل عليه الدهر وشرب; بل هى قضية تنطوي على‬
‫عّدة معطيات مؤثرة في حاضر المسلمين ومستقبلهم‪ ،‬كما ل يخفى أثرها في العديد من المسائل السلمية‬
‫المرتبطة بُاصول الدين وفروعه; وهذا هو المر الذي يقف وراء إثارة المام)عليه السلم(لمسألة الخلفة كرارًا‬
‫ومرارًا‪.‬‬

‫ن البحاث العقيمة والجدل الفارغ القائم على أساس التعصب والجمود هى التي تشكل الخطر الساس على‬ ‫بـإّ‬
‫لّمة السلمية وشق صفوفها; أّما البحاث العلمية والمنطقية التي يراعي فيها أطراف الحوار والبحث‬ ‫وحدة ا ُ‬
‫الحدود والموازين العلمية والمنطقية فليست بذات خطر على الوحدة السلمية فحسب‪ ،‬بل من شأنها أن تساعد في‬
‫إرسائها وتوثيق دعائمها‪ .‬طبعا هذا ليس ضربا من الخيال الفكري بل عشناه على مستوى الواقع والتجربة‪ .‬فقد‬
‫أقيمت أخيرًا ندوة في إحدى المدن بمناسبة أسبوع الوحدة حضرها كبار العلماء والمفكرين من الفريقين نوقشت‬
‫خللها أغلب القضايا الخلفية وقد تمخضت عن عّدة نتائج طيبة حيث قربت وجهات النظر وضغطت حدة‬
‫ن مثل هذه البحاث والحوارات يمكنها أن تقضي على الفجوة بين المذاهب‬ ‫الخلفات‪ ،‬بما جعل الجميع يوقنون بأ ّ‬
‫السلمية وتوطيد أواصر الخوة بما يخدم وحدة المسلمين)‪.(1‬‬

‫‪ .1‬انظر مجلة رسالة الحوزة للوقوف على المباحث المهّمة التي طرحت في تلك الندوةو التقارب الذي حصل بين الفراد‪.‬‬

‫] ‪[ 222‬‬

‫بل أبعد من ذلك أننا نرى الحوار بشأن الديان السماوية هو الخر من شأنه أن يتمخض عن نتائج مفيدة بما يقلل‬
‫من هوة الخلف‪ ،‬وليعلم أولئك الذين يقفون بوجه هذه الحوارات البناءة أّنهم يساهمون بشكل أو بآخر في مضاعفة‬
‫الخلفات وتعميق الفجوة بين الديان والمذاهب‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 223‬‬
‫القسم الثاني‬

‫شى‪:‬‬
‫عَ‬‫لْ‬
‫ل ا َْ‬
‫ل ِبَقْو ِ‬
‫سِبيِلِه َفَأْدَلى ِبَها ِإَلى ُفلن َبْعَدُه ُثّم َتَمّث َ‬
‫ل ِل َ‬
‫لّو ُ‬
‫ضى ا َْ‬
‫حّتى َم َ‬
‫َ‬

‫خي جاِبِر‬
‫حّيان َأ ِ‬
‫عَلى ُكوِرها *** َو َيْوُم َ‬
‫شّتان ما َيْوِمي َ‬
‫» َ‬

‫حْوَزة‬‫صّيَرها ِفي َ‬ ‫عْيها ـ َف َ‬‫ضْر َ‬


‫طرا َ‬ ‫شّ‬‫شّد ما َت َ‬
‫خَر َبْعَد َوفاِتِه ـ َل َ‬
‫عَقَدها ِل َ‬
‫حياِتِه ِإْذ َ‬‫سَتِقيُلها ِفي َ‬ ‫جبًا!! َبْينا ُهَو َي ْ‬ ‫عَ‬
‫َفيا َ‬
‫ق َلها‬
‫شَن َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫صْعَبِة ِإ ْ‬
‫ب ال ّ‬
‫حُبها َكراِك ِ‬‫عِتذاُر ِمْنها‪َ ،‬فصا ِ‬ ‫سها َوَيْكُثُر اْلِعثاُر ِفيها َواِل ْ‬‫ن َم ّ‬ ‫شُ‬‫خُ‬‫ظ َكْلُمها‪َ ،‬وَي ْ‬ ‫شناَء َيْغُل ُ‬‫خ ْ‬
‫َ‬
‫طوِل‬‫عَلى ُ‬ ‫ت َ‬ ‫صَبْر ُ‬ ‫عِتراض َف َ‬ ‫شماس‪َ ،‬وَتَلّون َوا ْ‬ ‫خْبط َو ِ‬ ‫ل ـ ِب َ‬
‫ي الّناس ـ َلَعْمُر ا ّ‬ ‫حَم‪َ ،‬فُمِن َ‬
‫س َلها َتَق ّ‬‫سَل َ‬ ‫ن َأ ْ‬‫خَرَم‪َ ،‬وِإ ْ‬
‫َ‬
‫حَنِة«‪.‬‬‫شّدِة اْلِم ْ‬
‫اْلُمّدِة‪َ ،‬و ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫عصر الخليفة الثاني‬

‫أشار المام علي)عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة إلى عهد الخليفة الثاني فقال‪» :‬حتى مضى الول لسبيله‬
‫فأدلى بها إلى فلن بعده«‪ (1).‬أدلى من مادة دلو وهى تستعمل في سحب الماء من البئر بالحبل والدلو كما تستعمل‬
‫حّكام()‪.(2‬‬
‫لجرة والرشوة في الحكم‪ ،‬فقد قال القرآن بهذا المجال‪َ) :‬وُتْدُلوا ِبها ِإلى ال ُ‬
‫بمعنى الجائزة وا ُ‬

‫قال ابن أبي الحديد المعتزلي‪ :‬وعمر هو الذي شد بيعة أبي بكر‪ ،‬ورغم المخالفين فيها فكسر سيف الزبير لما‬
‫جرده‪ ،‬ودفع في صدر المقداد‪ ،‬ووطىء في السقيفة سعد بن عبادة‪ ،‬وقال‪ :‬اقتلوا‬

‫‪ .1‬توفي في العام الثالث عشر من الهجرة بعد أن تولى الخلفة لمدة سنتين وثلثة أشهر‪» .‬مروج الذهب ‪ 2/304‬الطبعة الرابعة«‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة بقرة ‪.188 /‬‬

‫] ‪[ 224‬‬

‫سعدًا‪ ،‬قتل ال سعدًا‪ .‬وحطم أنف الخباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة‪ :‬أنا جذيلها المحك‪ ،‬و غذيقها المرجب‪.‬‬

‫و توعد من لجأ إلى دار فاطمة)عليه السلم( من الها شميين‪ ،‬وأخرجهم منها‪ ،‬ولوله لما يثبت لبي بكر أمر‪ ،‬ول‬
‫قامت له قائمة)‪.(1‬‬

‫و من هنا تتضح روعة تعبيره)عليه السلم( بأدلى‪ ،‬ثم تمثل بقول العشى‪:‬‬

‫شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخى جابر)‪(2‬‬


‫حيث أراد المام)عليه السلم( أن يقول كنت أقرب الناس من رسول ال )صلى ال عليه وآله( وأعظمهم منزلة‬
‫وحرمة بل كنت نفس رسول ال )صلى ال عليه وآله(غير أّنهم أقصوني بعده وأخذوا يتلقفون الخلفة التي ل‬
‫ل لي فيرمون بها لمن يشاؤون‪.‬‬
‫تصلح إ ّ‬

‫وذهب البعض إلى أّنه أراد أن يقارن بين خلفته ـ من تمثله بهذا الشعر ـ وخلفة من سبقوه ممن كانوا في نعمة‬
‫ورخاء بينما حفل عهده ل بتعاده عن عصر رسول ال )صلى ال عليه وآله(بالويلت و المصائب »بالطبع هذا‬
‫إذا كان العشى أراد مقارنة حاله بحال حيان«‪(3).‬‬

‫ثم يعّبر المام)عليه السلم( عن اندهاشه وذهوله لما يحصل »فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها‬
‫لخر بعد وفاته«‪.‬‬

‫ن هذه إلعبارة إشارة إلى حديث معروف نقل عن أبي بكر خاطب به الناس أوائل خلفته حيث قال‪:‬‬
‫الواقع هو أ ّ‬
‫»أقيلوني فلست بخير كم«‪ .‬ورواه البعض الخر »و ليتكم ولست بخيركم«‪(4).‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.174 / 1‬‬

‫‪ .2‬العشى من أبرز شعراء الجاهلية‪ .‬سئل يونس النحوي‪ :‬من أشعر الشعراء؟ قال‪ :‬ل أعلم أشعر هم إلّ أني أقول إمرء القيس فارسا‬
‫والنابغة حين الخوف وزهير عند الحب وإّل عشى عند الطرب‪ ،‬أدرك السلم ولم يسلم‪ ،‬لقب بالعشى لضعف بصره وقد عمي آخر‬
‫عمره واسمه ميمون بن قيس‪ ،‬وأراد بشعره السابق الزمان الذي كان يجالس فيه حيان أخو جابر أحد أشراف اليمامة حين كان يعيش‬
‫العشى آنذاك في نعمة موفورة فيقارنها مع عيشه الن في صحاري مكة والمدينة فيقول أين تلك الحياة من هذه!‬

‫‪ .3‬شرح ابن ميثم البحراني ‪.257 / 1‬‬

‫‪ .4‬لقد استفاضت مصادر الفريقين التي روت هذا الحديث‪ ،‬وقد أورده إبن أبي الحديد في شرحه لنهج البلغة‪.169 / 1 ،‬‬

‫ن أبابكر لما تمت له البيعة‬


‫و صّرح العالم المصري الكبير الشيخ محمد عبده في شرحه لنهج البلغة قائل‪ :‬روى البعض أ ّ‬
‫قال‪»:‬أقيلوني فلست بخيركم« لكن أغلب العلماء رو وا الحديث أّنه قال‪»:‬و ليتكم ولست بخيركم« )شرح نهج البلغة لمحمد عبده‪،‬‬
‫ص ‪ 86‬ذيل هذه الخطبة(‪ .‬وجاء في حاشية إحقاق الحق عن ابن حسنويه المحدث الحنفي الموصلي في كتابه »در بحر المناقب«‬
‫ن أبابكر قال‪»:‬أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم« )إحقاق الحق ‪ .(240 / 8‬وروى الطبري في تأريخه لما بويع أبي‬ ‫حديثا مفصل أ ّ‬
‫بكر في السقيفة قال‪»:‬أّيها الناس فاّني قد وليت عليكم ولست بخيركم« )تأريخ الطبري ‪ 450 / 2‬طبع بيروت مؤسسة العلمي(‪.‬‬
‫ن أبابكر خطب الناس باكيًا فقال‪»:‬ل حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي« )المامة‬
‫وروى ابن قتيبة الدينوري في المامة والسياسة أ ّ‬
‫والسياسة ‪.(20 / 1‬‬

‫] ‪[ 225‬‬

‫و كيفا كان مضمون الرواية فهى تشير إلى عدم رغبته بقبول الخلفة أو كما ذهب البعض لم يكن يكترث لها أو‬
‫ن هذا الكلم ل ينسجم وما فعله‬‫أّنه لم يكن يرى نفسه جديرًا بالخلفة مع وجود علي)عليه السلم(‪ ،‬ورغم ذلك فا ّ‬
‫لّمة‪:‬‬
‫أواخر عمره; المر الذي أثار دهشة المام)عليه السلم( في كيفية تفويض الخلفة دون الرجوع إلى آراء ا ُ‬
‫ثم قال)عليه السلم( »لشّد ما تشطر ضرعيها« الضرع بمعنى الثدي وتشطرا من مادة شطر بمعنى جزء من‬
‫الشيء ‪.‬‬

‫فالعبارة تشبيه رائع بالنسبة للفراد الذي يستفيدون من شيء على وجه التناوب فالمراد بتشطر ضرعيها‪ :‬إّنهما‬
‫إقتسما فائدتها ونفعها‪ ،‬والضمير للخلفة‪ ،‬وسمى القادمين معًا ضرعًا وسمى الخرين معًا ضرعا لما كان‬
‫ل معًا‪ ،‬كشيء واحد فالعبارة بصورة عامة تشير إلى مشروع معد ومبرمج مسبقًا‬ ‫لتجاورهما‪ ،‬ولكونها ل يحلبان إ ّ‬
‫ولم يكن من قبيل الصدفة أبدًا‪.‬‬

‫إجابة على إستفسار‬


‫ن أبابكر قال‪ :‬أقيلوني فلست بخيركم‪ ،‬وقد ورد مثل هذا الكلم عن علي)عليه السلم( في نهج‬ ‫لقد قال البعض بأ ّ‬
‫البلغة بعد مقتل عثمان حيث قال‪» :‬دعوني والتمسوا غيري‪ ...‬وان تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعكم‬
‫وأطوعكم لمن وليتموه أمركم وأنا لكم وزيرًا خيرًا لكم منى أميرًا« فما تقولون؟‬

‫للرد على ذلك نقول لبن أبي الحديد كلم بهذا الشأن ولنا كلم‪ ،‬فقد قال ابن أبي الحديد‪ :‬قالت المامية هذا غير‬
‫ن عليًا)عليه السلم( لم يقل‪ :‬إّني ل أصلح‪ ،‬ولكنه كره الفتنة‪ ،‬وأبوبكر قال‬
‫لزم والفرق بين الموضعين ظاهر ل ّ‬
‫كلمًا معناه‪ :‬إّني ل أصلح لها‪ ،‬لقوله »لست بخيركم«‪ ،‬ومن نفى‬

‫] ‪[ 226‬‬

‫ن الكلم في هذا الموضع مبني على أن‬


‫عن نفسه صلحيته للمامة‪ ،‬ل يجوز أن يعهد بها إلى غيره ـ واعلم أ ّ‬
‫الفضلية هل هى شرط في المامة أم ل؟ )في إشارة إلى أّنه يمكن القول بعدم اشتراط الفضلية في المامة;‬
‫الكلم الذي ل يقره أي منطق وعقل ول يدعو سوى الخجل«)‪.(1‬‬

‫ل أّننا نرى القضية أعمق من ذلك‪ .‬فلو تأملنا الخطبة رقم ‪ 92‬التي استدلوا بها والتفتنا إلى بعض عباراتها التي لم‬
‫إّ‬
‫يستشهد بها عند الستدلل ل تضح لنا تمامًا مراد المام)عليه السلم(‪ .‬فقد صّرح ضمن الخطبة المذكورة قائل‪:‬‬
‫»فأنا مستقبلون أمرًا له وجوه وألوان ل تقوم له القلوب ول تثبت عليه العقول« )إشارة إلى مدى التغييرات التي‬
‫طالت الحكام الشرعية والتعاليم النبوية‪،‬عليه فلبّد لي من القيام ببعض الصلحات الثورية والتي ستودي‬
‫لعتراض البعضى منكم وبالتالي نشوب المواجهة(‪.‬‬

‫ثم أضاف)عليه السلم(‪» :‬و ان الفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت«‪ ،‬ثم يشير)عليه السلم( إلى كبد الحقيقة‬
‫فيقول‪» :‬و اعلموا أّني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب«‪.‬‬

‫ن المام)عليه السلم( يرى وجوب الفضلية كشرط في الخلفة ما أورده)عليه السلم( في‬ ‫أّما الشاهد على أ ّ‬
‫ن أحق الناس بهذا المر أقواهم عليه و أعلمهم‬
‫الخطبة ‪ 173‬من نهج البلغة إذ قال )عليه السلم(‪» :‬أّيها الناس إ ّ‬
‫ن المقارنة بين كلم المام علي)عليه السلم( وأبي بكر هو »قياس مع‬ ‫بأمر ال فيه«‪ (2).‬ونخلص مّما سبق إلى أ ّ‬
‫الفارق« لنعدام أي تشابه بين الكلمين‪.‬‬

‫و نختتم هذا الكلم بما أورده إبن أبي الحديد حين حاول تبرير حديث الخليفة الول حيث قال‪ :‬واحتج بذلك من لم‬
‫يشترط الفضلية في المامة‪.‬‬

‫و من رواها إعتذر لبي بكر فقال‪ :‬إّنما قال‪ :‬أقيلوني‪ ،‬ليثور ما في نفوس الناس من بيعته‪ ،‬ويخبر ما عندهم من‬
‫وليته‪ ،‬فيعلم مريدهم وكارههم‪ ،‬ومحبهم ومبغضهم‪ .‬فلما رأى النفوس إليه ساكنة‪ ،‬والقلوب لبيعته مذعنة‪ ،‬استمر‬
‫على امارته‪ ،‬وحكم حكم الخلفاء في رعيته‪ ،‬ولم‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.169 / 1‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬خطبة ‪.173‬‬

‫] ‪[ 227‬‬

‫يكن منكرًا منه أن يعهد إلى من استصلحه لخلفته)‪.(1‬‬

‫ن إعتراف كل فرد ينبغي أن يحمل على معناه الواقعي‪ ،‬وصرف‬ ‫و ل يخفى على أحد خواء هده التبريرات‪ ،‬ل ّ‬
‫ن هذا العتراف قانوني يؤخذ به‬
‫اللفظ عن معناه الحقيقي إّنما يحتاج إلى قرينة ليست متوفرة هنا‪ .‬بعبارة ُاخرى إ ّ‬
‫في كل محكمة وليس من عذر لهذا العتراف فهو إقرار جائز عقلئيًا‪.‬‬

‫ثم يصف المام)عليه السلم( شخصية الخليفة الثاني وما انطوت عليه من خصائص ومميزات فقال)عليه‬
‫السلم(‪» :‬فصيرها في حوزة)‪ (2‬خشتاء يغلظ كلمها)‪ (3‬ويخشن مسها ويكثر العثار)‪(4‬فيها‪،‬العتذار منها«‬
‫المراد بالحوزة هنا أخلق الخليفة الثاني وصفاته فالواقع قد ذكر له أربعة صفات‪ ،‬الولى خشونته وعنفه التي‬
‫عبر عنها بقوله »يغلظ كلمها« في إشارة إلى الجروح الروحية والجسمية التي يفرزها الصطدام به‪ .‬الصفة‬
‫الثانية الشدة في التعامل »و يخشن مسها« وعليه فالحوزة الخشناء قد فسرت بالعبارتين اللحقتين التين أشارتا إلى‬
‫العنف في الكلم والعنف في المعاملة‪ .‬الصفة الثالثة هى كثرة الخطاء والرابعة العتذار من تلك الخطاء »و‬
‫يكثر العثار فيها العتذار منها«‪.‬‬

‫أّما بشأن كثرة أخطاء الخليفة الثاني ول سيما أخطائه في بيان الحكام واقراره بتلك الخطاء والعتذار منها‬
‫والعنف في المعاملة فقد حفلت بها السير التاريخية بل أفرد لها علماء العامة عددًا من الكتب وسنكتفي لحقا‬
‫بالشارة إلى نماذج منها‪.‬‬

‫ثم قال)عليه السلم(‪» :‬فصاحبها كراكب الصعبة)‪ (5‬إن أشنق)‪ (6‬لها خرم)‪ (7‬وإن أسلس)‪ (8‬لها تقحم)‪.«(9‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.169 / 1‬‬

‫‪» .2‬حوزة« بمعنى الناحية والطبيعة‪ ،‬من مادة »حيازة« بمعنى الجمع والحاطة‪.‬‬

‫‪» .3‬الكلم« في الصل بمعنى الجرح‪ ،‬واطلق لفظ الكلم لثره القاطع في المقابل‪.‬‬

‫‪» .4‬العثار« بمعنى السقوط والكبوة‪.‬‬

‫‪» .5‬الصعبة« بمعنى النسان أو الحيوان الطائش‪ ،‬ما ليست بذلول وُاريد بالصعبة هنا الناقة الجامحة‪.‬‬

‫‪» .6‬أشنق« بمعنى سحب زمام الناقة و»شناق« على وزن كتاب يطلق على الحبل الذي تربط به القربة‪.‬‬

‫‪» .7‬خرم« من مادة »خرم« بمعنى القطع‪.‬‬

‫‪» .8‬أسلس من« مادة »سلس« على وزن قضص وسلسة بمعنى السهولة وعليه فان أسلس بمعنى أرخى‪.‬‬

‫‪» .9‬تقحم« من مادة »قحوم« على وزن شعور بمعنى رمي النفس في الهلكة دون إجالة الفكر‪.‬‬

‫] ‪[ 228‬‬

‫فالمام)عليه السلم(يشرح بهذه العبارة حاله وحال فريق من المؤمنين على عهد خلفة الخليفة الثاني‪ ،‬بحيث إذا‬
‫أراد أحدهم أن يصطدم بالخليفة ـ واستنادًا إلى صفاته المذكورة سابقًا ـ فقد يؤدي ذلك إلى بروز الختلفات‬
‫والمشاجرات بين أوساط المسلمين أو الخطار التي سيتعرض إليها من جانب الخليفة‪ ،‬وِان فضل الصمت برزت‬
‫الخطار التي تهدد الكيان السلمي والخلفة السلمية‪ ،‬فالواقع هناك خطران ل ينفصلن‪ :‬خطر الصطدام‬
‫بالخليفة خطر فقدان المصالح السلمية ولهذا يشكو المام)عليه السلم( ما ألم به وبالمومنين آنذاك يعرض‬
‫للمشاكل المتفاقمة التي أصابت المسلمين‪.‬‬

‫ن طبيعة الخلفة‬
‫ن الضمير في )صاحبها( يعود إلى مطلق الخلفة; أي أ ّ‬ ‫كما إحتمل بعضى شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫تختزن دائما أحد هذين الخطرين‪ ،‬فلو أراد الحاكم ـ الخليفة ـ أن يتعامل بخرم مع كل شيء كانت هنالك ردود‬
‫الفعل الحادة والعنيفة‪ ،‬ولو أراد التعامل على أساس الرفق واللين برز خطر السقوط في وادي النحراف والخطا‬
‫ن المعنى الول هو المراد بالعبارة وهذا ما يتضح بجلء من خلل‬ ‫لأّ‬‫وزوال القيم السلمية‪ .‬لكن تشير القرائن إ ّ‬
‫التأمل في العبارات اللحقة)‪ .(1‬ثم قال )عليه السلم(‪» :‬فمني)‪ (2‬الناس لعمر ال بخبط)‪ (3‬وشماس)‪ (4‬وتلون)‬
‫‪ (5‬و اعتراض)‪.«(6‬‬

‫لّمة في عهد الخليفة الثاني كأّنها تقتبس من رئيس الحكومة‪،‬‬


‫فقد تضمنت العبارة إشارة إلى أربع ظواهر نفسية ل ُ‬
‫لّمة وقد قيل سابقًا »الناس على دين ملوكهم«‪.‬‬ ‫ن لسلوك الحاكم إنعكاس واسع على نفوس أبناء ا ُ‬
‫لّ‬

‫ن أتشطتهم وقراراتهم الطائشة سبب ظهور الفوضى في المجتمع‪.‬‬


‫الولى‪ :‬أ ّ‬
‫الثانية‪ :‬أّنهم خارجون على القوانين الشرعية والنظم الجتماعية‪.‬‬

‫ن المراد الخلفة على عهد المام علي)عليه السلم(‪ ،‬حيث شهدت الوضاع بروز خطرين‪ ،‬ويبدو‬
‫‪ .1‬هنالك إحتمال ثالث ذكرهنا في أ ّ‬
‫هذا الحتمال مستبعدًا‪.‬‬

‫‪» .2‬منى« من مادة »منو« بمعنى ابتلي واصيب‪.‬‬

‫‪» .3‬خبط« بمعنى »ضرب« الناقة للرض‪ ،‬واريد بها السير على غير هدى‪.‬‬

‫‪» .4‬شماس« بمعنى الباء والطيش )إباء ظهر الفرس عن الركوب(‪.‬‬

‫‪» .5‬تلون« بمعنى تغيير الحال أو اللون‪.‬‬

‫‪» .6‬إعتراض« بمعنى السير على غير خط مستقيم‪ ،‬كأّنه يسير عرضًا في حال سيره طوًل‪.‬‬

‫] ‪[ 229‬‬

‫الثالثة‪ :‬التلون المستمر وركوب الموجة والتخبط والنسلخ من فئة واللتحاق بُاخرى وعدم امتلك الهدف المعين‬
‫في الحياة‪.‬‬

‫الرابعة‪ :‬النحراف عن مسار الحق والسير على سبيل غير الهدى‪.‬‬

‫ن السياسة الخارجية في عصر الخليفة الثاني‬ ‫و مّما ل شك فيه ـ وكما سنتعرض إلى ذلك بالتفصيل لحقا ـ أ ّ‬
‫والفتوحات السلمية والمتداد خارج الحجاز قد خلقت ذهنية للناس بشأن شكل الحكومة في أّنها موفقة على‬
‫جميع الصعدة فيقل إهتمامهم بالمشاكل الداخلية التي يعاني منها المجتمع السلمي‪ ،‬والحال كما أشار المام)عليه‬
‫ن طائفة من المسلمين قد شهدت حالة من التخبط على مستوى العقائد والعمل والقضايا‬ ‫السلم(في هذه العبارات أ ّ‬
‫الخلقية والبتعاد تدريجيًا عن السلم الصيل بفعل الخطاء والجتهادات في مقابل النصوص القرآنية‬
‫والحاديث النبوية; المر الذي أدى في خاتمة المطاف إلى تلك الثورة العارمة على الخليفة الثالث وبما مهد‬
‫لموي والعباسي التي تفتقر لدنى شبه بالحكومة السلمية‬ ‫السبيل أمام ظهور الحكومة الستبدادية في العصر ا ُ‬
‫على عهد النبي)صلى ال عليه وآله(‪.‬‬

‫ن هذه الحالة العشوائية لم تكن وليدة ساعتها‪ ،‬بل ظهرت إثر تصاعد حدة الخطاء المتواصلة طيلة‬
‫والمفروغ منه أ ّ‬
‫عصر الخلفة‪ .‬ثم قال المام)عليه السلم(‪» :‬فصبرت على طول المدة‪ ،‬وشدة المحنة«‪.‬‬

‫ن المحنة التي عاناها‬


‫فقد عانى)عليه السلم( من ذات الظروف والتحمل التي كانت أبان عهد الخليفة الول‪ ،‬غير أ ّ‬
‫المام)عليه السلم(كانت أشد وأعظم بفعل تلك الظروف القهر والمدة الطول‪.‬‬

‫ن المام)عليه السلم( أشار إلى قضيتين كان لهما الثر البالغ في إستياء‬‫قال بعض شّراح نهج البلغة إ ّ‬
‫المام)عليه السلم(‪ :‬الولى ازدياد مّدة البتعاد عن محور الخلفة‪ ،‬والثانية الستياء والتذمر الذي أفرزته ظاهرة‬
‫انشقاق الخلفة عن مسارها الصلي في عدم سيادة النظم الصحيحة بالنسبة لشؤون الناس الدينية‪ .‬لكن على كل‬
‫لمور الثانوية من أجل‬
‫حال فقد كانت هناك المصالح المهّمة التي تتطلب سكوت المام)عليه السلم( والتضحية با ُ‬
‫الهداف السمى‪ .‬فقد استمر هذا الوضع حتى إنتهى عصر الخليفة الثاني‪.‬‬

‫] ‪[ 230‬‬

‫تأّملت‬
‫‪1‬ـ نماذج الفضاضة الخلقية على عهد الخليفة الثاني‬

‫لقد ُالفت عّدة كتب ـ سواء كتب الحديث والتاريخ ـ من قبل علماء العامة بشأن الخليفة الثاني ول سيما إبان خلفته‬
‫ن خروقاته في هذا‬‫التي تكشف عن مدى دقة عبارات المام)عليه السلم( في وصف خصائصه‪.‬و مّما ل شك فيه أ ّ‬
‫المجال كثيرة نكتفي ببعضى نماذجها‪:‬‬

‫لمة الميني في المجلد السادس من كتاب الغدير عن مصادر العامة المعروفة من قبيل سنن‬ ‫‪1‬ـ روى المرحوم الع ّ‬
‫الدارمي وتأريخ ابن عساكر وتفسير ابن كثير واتقان السيوطي والدر المنثور وفتح البارىء عّدة قصص مروعة‬
‫بشأن الخليفة الثاني والرجل الذي يدعى »صبيغ العراقي«‪ .‬فالذي تفيده السير التاريخية أّنه كان رجل بحاثة كثيرا‬
‫ن عمر كان يجابهه بكل عنف بما يدعو للدهشة والعجب ومن ذلك‪.‬‬ ‫ما يسأل عن اليات القرآنية‪ ،‬غير أ ّ‬

‫الرجل وعليه ثياب وعمامة صفدي حتى إذا فرغ قال‪ :‬يا اميرالمؤمنين والذاريات ذروا فالحاملت وقرا فقال عمر‬
‫أنت هو؟ فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال‪ :‬والذي نفس عمر بيده لو وجدتك‬
‫محلوقًا لضربت رأسك ألبسوه ثيابًا واحملوه على قتب وأخرجوه حتى تقدموا به بلده ثم ليقم خطيب ثم يقول‪ :‬إن‬
‫صبيغًا ابتغى العلم فأخطأ فلم يزل وضيعًا في قومه حتى هلك وكان سيد قومه‪ (1).‬وأول من ضرب عمر بالّدرة أم‬
‫ن يعاودن‪،‬‬‫ن عمر مرارًا‪ ،‬وه ّ‬
‫ن أخته أم فروة‪ ،‬فنهاه ّ‬
‫فروة بنت أبى قحافة‪ ،‬مات أبوبكر فناح النساء عليه‪ ،‬وفيه ّ‬
‫فأخرج أّم فروة من بينهن‪،‬وعلها بالّدرة‪ ،‬فهربن وتفّرقن‪.‬‬

‫ن عند رسول ال)صلى ال عليه وآله( قد‬ ‫ن نسوًة ك ّ‬


‫كان يقال‪ :‬دّرة عمر أهيب من سيف الحجاج‪ .‬وفي الصحيح أ ّ‬
‫ن رسول ال! قلن‪ :‬نعم‪ ،‬أنت‬
‫عدّيات أنفسهن! أَتهْبَنني ول تهب َ‬
‫ن‪ :‬يا ُ‬
‫ن هيبة له‪ ،‬فقال له ّ‬
‫ن‪ ،‬فجاء عمر فهرْب َ‬
‫كثر لغطه ّ‬
‫أغلظ وأفظ‪(2).‬‬

‫‪2‬ـ العثار والعتذار‬

‫ب من فتيان النصار وهو ظمآن‪ ،‬فاستسقاه‪ ،‬فجدع له ماء بعسل فلم يشربه‪،‬‬ ‫قال ابن أبي الحديد‪ :‬ومّر يومًا بشا ّ‬
‫حياِتُكُم الّدْنيا(فقال له الفتى‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إّنها ليست لك ول‬ ‫طّيباِتُكْم ِفي َ‬
‫ن ال تعالى يقول‪َ) :‬أذَهْبُتْم َ‬
‫وقال‪ :‬إ ّ‬
‫حياِتُكُم الّدْنيا( فقال‬
‫طّيباِتُكْم ِفي َ‬
‫على الّنار َأذَهْبُتْم َ‬
‫ن َكَفُروا َ‬
‫ض اّلِذي َ‬
‫لحد من هذه القبيلة‪ ،‬اقرأ ما قبلها‪َ) :‬وَيْوَم ُيْعَر ُ‬
‫ل الناس أفقه من عمر!‬ ‫عمر‪ :‬ك ّ‬

‫ل‪،‬‬
‫ن عمر كان يعس بالليل‪ ،‬فسمع صوت رجل وامرأة في بيت‪ ،‬فارتاب فتسّور الحائط‪ ،‬فوجد امرأة ورج ً‬ ‫وقيل‪ :‬إ ّ‬
‫ل يسترك وأنت على معصيته! قال‪ :‬يا أميرالمؤمنين‪ ،‬إن‬ ‫نا ّ‬‫ق خمر‪ ،‬فقال‪ :‬يا عدّو ال‪ ،‬أكنت ترى أ ّ‬ ‫وعندهما ز ّ‬
‫ت ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ست‪ .‬وقال‪) :‬وُأُتوا اْلُبُيو َ‬
‫سوا(‪ ،‬وقد تج ّ‬
‫ل تعالى‪) :‬ول َتجَ ّ‬
‫كنت أخطأت في واحدة فقط أخطأت في ثلث‪ ،‬قال ا ّ‬
‫سّلُموا(‪ ،‬وما سّلمت!)‪(3‬‬‫خْلُتْم ُبُيوتًا َف َ‬
‫َأْبواِبها(‪ ،‬وقد تسّورت‪ ،‬وقال‪) :‬فإذا َد َ‬

‫‪ .1‬الغدير ‪.290 / 6‬‬

‫‪ .2‬شرح نهج بلغة لبن أبي الحديد ‪.181 / 1‬‬

‫‪ .3‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.182 / 1‬‬

‫] ‪[ 232‬‬

‫لّمة فقام معهما‬


‫وأخرج الحافظان الدراقطني وابن عساكر‪ :‬إن رجلين أتيا عمر بن الخطاب وسأله عن طلق ا ُ‬
‫لّمة؟ فرفع إليه رأسه ثم‬
‫فمش حتى أتى حلقة في المسجد فيها رجل أصلع فقال‪ :‬أّيها الصلع! ما ترى في طلق ا ُ‬
‫أومىء إليه بالسبابة والوسطى فقال لهما عمر‪ :‬تطليقتان‪ ،‬فقال أحدهما‪ :‬سبحان ال جئناك وأنت أميرالمؤمنين‬
‫فمشيت معنا حتى وقفت على هذا الرجل فسألته فرضيت منه أن أومىء إليك‪ ،‬وأتي عمر بن الخطاب بامرأة حامل‬
‫قد اعترفت بالفجور فأمر برجمها فتلقاها علي فقال‪ :‬ما بال هذه؟ فقالوا‪ :‬أمر عمر برجمها فردها علي وقال‪ :‬قد‬
‫كان ذلك‪ .‬قال أو ما سمعت رسول ال)صلى ال عليه وآله( قال‪ :‬لحد على معترف بعد بلء‪ ،‬أّنه من قيد أو حبس‬
‫أو تهدد فل إقرار له‪ ،‬فخل سبيلها ثم قال‪ :‬عجزت النساء أن تلدن مثل علي بن أبي طالب‪ ،‬لول علي لهلك عمر‪.‬‬
‫ن امرأة من قريش تزوجها رجل‬ ‫وأخرج ابن مبارك قال‪ :‬حدثنا الشعث عن الشعبي عن مسروق قال‪ :‬بلغ عمر أ ّ‬
‫من ثقيف في عّدتها فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما وقال‪ :‬ل ينكحها أبدًا وجعل الصداق في بيت المال وفشا‬
‫ذلك بين الناس فبلغ عليًا كرم ال وجهه فقال‪ :‬ما بال الصداق وبيت المال؟ إّنهما جهل فينبغي للمام أن يردهما‬
‫إلى السنة قيل‪ :‬فما تقول أنت فيها؟ قال لها الصداق بما استحل من فرجها‪ ،‬ويفرق بينهما‪ ،‬ول جلد عليهما‪ ،‬وتكمل‬
‫عّدتها من الول ثم تكمل العّدة من الخر‪ ،‬ثم يكون خاطبًا‪ .‬فبلغ ذلك عمر فقال‪ :‬يا أّيها الناس ردوا الجهالت إلى‬
‫السنة‪(1).‬‬

‫‪3‬ـ رد على سوال‬

‫لعل الصورة التي رسمها المام)عليه السلم( في الخطبة عن مشاكل المسلمين والفوضى التي سادتهم على عهد‬
‫ل بالنتصارات والمكتسبات; المر‬
‫الخيلفة الثاني تتنافى والذهنية السائدة لدى البعض في أن عهده كان مشرقًا حاف ً‬
‫الذي يثير السؤال التي‪ :‬كيف يمكن التوفيق بين تلك الصورة والوقائع التي عكسها التاريخ السلمي؟‬

‫و اللتفات إلى هذه القضية من شأنه أن يقدم الجواب الشافي لهذا السؤال‪ ،‬فما ل شك فيه ـ‬

‫‪ .1‬الغدير ‪.110 / 6‬‬

‫] ‪[ 233‬‬

‫ن عهد الخليفة الثاني كان عصر النتصارات والفتوحات على صعيد السياسة الخارجية للبلد;‬ ‫كما أشرنا سابقًاـ أ ّ‬
‫ن المسلمين وعلى ضوء التعاليم السلمية واليات القرآنية التي تدعو إلى الجهاد قد مارسوا هذه الفريضة‬ ‫لّ‬
‫بشكل واسع بحيث لم تمض مّدة حتى حققوا الفتوحات السلمية الباهرة خارج البلد السلمية فتم لهم نيل ما ل‬
‫يحصى من الغنائم المادية‪ ،‬المر الذي جعل هذه الفتوحات تغطي على ضعف الجبهة الداخلية والفوضى التي‬
‫كانت سائدة آنذاك‪ ،‬وهو المعنى الذي نلمسه اليوم بوضوح في السياسة المتبعة في العصر الراهن‪ ،‬فقد يؤدي‬
‫النتصار الذي تحرزه الدولة على صعيد السياسة الخارجية إلى التغطية على كل شيء ول سيما المشاكل‬
‫والمعضلت التي تعيشها على مستوى الداخل‪ ،‬ومن هنا نرى ساسة الستكبار الذين يحاولون التغطية على‬
‫مشاكلهم الداخلية باخماد فورتها من خلل اللجوء إلى عّدة أنشطة ـ بما فيها شن الحروب ـ خارجية‪.‬‬

‫ن المام)عليه السلم( إّنما تحدث عن مدى العنف والضطهاد والخطاء الفادحة وسعة حجم‬ ‫وزبدة الكلم فا ّ‬
‫المشاكل الداخلية إبان عهد الخليفة الثاني; المر الذي تم التعامل معه بمعزل عن مسألة الفتوحات‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 234‬‬

‫] ‪[ 235‬‬

‫القسم الثالث‬
‫ي َمَع اَْلّوِل‬ ‫ب ِف ّ‬‫ض الّرْي ُ‬‫عَتَر َ‬ ‫شوَرى َمَتى ا ْ‬ ‫ل َوِلل ّ‬‫حُدُهْم َفيا َِّ‬ ‫عَم َأّني َأ َ‬
‫عة َز َ‬ ‫جما َ‬‫جَعَلها ِفي َ‬ ‫سِبيِلِه َ‬‫ضى ِل َ‬‫حّتى ِإذا َم َ‬
‫»َ‬
‫ضْغِنِه‬
‫جٌل ِمْنُهْم ِل ِ‬ ‫صغا َر ُ‬ ‫ت ِإْذ طاُروا‪َ :‬ف َ‬ ‫سّفوا‪َ ،‬وطِْر ُ‬ ‫ت ِإْذ َأ َ‬
‫سَفْف ُ‬
‫ن ِإَلى َهِذِه الّنظاِئِر َلِكّني َأ ْ‬ ‫ت ُأْقَر ُ‬
‫صْر ُ‬
‫حّتى ِ‬ ‫ِمْنُهْم‪َ ،‬‬
‫ن َنِثيِلِه َوُمْعَتَلِفِه‪َ ،‬وقاَم َمَعُه َبُنو َأِبيِه‬
‫ضَنْيِه َبْي َ‬
‫ح ْ‬ ‫ث اْلَقْوِم ناِفجًا ِ‬ ‫ن قاَم ثاِل ُ‬‫صْهِرِه َمَع َهن َوَهن‪ِ ،‬إَلى َأ ْ‬ ‫خُر ِل ِ‬
‫َوماَل اْل َ‬
‫طَنُتُه«‪.‬‬
‫ت ِبِه ِب ْ‬‫عَمُلُه‪َ ،‬وَكَب ْ‬
‫عَلْيِه َ‬‫جَهَز َ‬ ‫عَلْيِه َفْتُلُه‪َ ،‬وَأ ْ‬
‫ث َ‬‫ن اْنَتَك َ‬‫ضَمَة اِْلِبِل ِنْبَتَة الّرِبيِع‪ِ ،‬إَلى َأ ِ‬
‫خ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ن ماَل ا ّ‬‫ضُمو َ‬‫خ َ‬‫َي ْ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫عصر الخليفة الثالث‬

‫أشار المام)عليه السلم( ـ في هذا القسم من خطبته ـ إلى انتهاء عصر الخليفة الثاني والحداث التي مهدت‬
‫السبيل أمام عثمان للستيلء على الخلفة بعد أن أماط اللثام عن التفاصيل التاريخية والسرار التي إنطوت عليها‬
‫لّمة السلمية على عهد عثمان‬
‫هذه القضية ويعلن موقفه من ذلك‪ ،‬ثم عرج على المشاكل والفتن التي عاشتها ا ُ‬
‫والنتفاضة الشعبية العارمة التي أدت إلى قتله بعبارات مقتضبة عميقة المعنى من خلل الكنايات والستعارات‬
‫والتشبيهات البلغية الرائعة التي طبعت كلماته وخطبه)عليه السلم(‪.‬‬

‫فقد قال)عليه السلم(‪» :‬حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم«‪.‬‬

‫و لعل قوله)عليه السلم( »زعم أني أحدهم« تشير إلى معنيين‪ :‬الول‪ :‬أّنه جعلني ظاهريًا أحد أعضاء هذه‬
‫الشورى بينما كان يعلم باطنيًا بالنتيجة التي ستتمخض عنها ومن يفوز بالمر‪.‬‬

‫] ‪[ 236‬‬

‫الثاني‪ :‬أّنه أراد أن يجعلني ظاهريًا في مصاف هؤلء الخمسة‪ ،‬والحال كان يعلم باطنيًا عدم إمكانية مقارنتي بأي‬
‫منهم)‪.(1‬‬

‫و العبارة تشير إلى الزمان الذي جرح فيه عمر جرحًا بليغًا من قبل ذلك الرجل الذي يدعى فيروز والمكنى بأبي‬
‫لؤلؤة بعد أن رأى نفسه على فراش الموت‪ .‬فقد حضره جمع من الصحابة وأشاروا عليه باستخلف من يرضاه‪،‬‬
‫ل أن خطب خطبة ـ سنشير إلى مضامينها لحقًا ـ واقترح الشورى وهم‪:‬‬ ‫فما كان منه إ ّ‬

‫علي)عليه السلم( وعثمان وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬على أن يجتمعوا لثلثة‬
‫أيام ويختاروا من بينهم الخليفة‪ ،‬فاجتمعوا لتتمخض نتيجة الجتماع عن إختيار عثمان‪.‬‬

‫فقد أشار المام)عليه السلم( إلى هذه الشورى قائل‪» :‬فيال وللشورى«)‪ ،(2‬ثم يتطرق)عليه السلم( إلى اولى‬
‫نقاط ضعف هذه الشورى وهى أّنه متى كان هناك من شك وترديد في أرجحيته على الخليفة الول فضل عن‬
‫إقترانه بهذه النظائر »متى اعترض الريب في مع الول منهم حتى صرت ُاقرن إلى هذه النظائر«‪ .‬فالعبارة‬
‫تكشف عن قمة أسى المام)عليه السلم(على هضم الحقوق الذي تعرض له‪ ،‬ويشير إلى حقيقة وهى أّنهم ينبغي‬
‫أن يختاروني لو أخذوا بنظر العتبار استحقاق الخلفة والجدارة والحقية بها‪.‬‬

‫ن المؤسف له أّنه كانت هناك أهداف ُاخرى أدت إلى جعل من كان بمنزلة رسول ال)صلى ال عليه وآله(‬ ‫غير أ ّ‬
‫وباب مدينة علمه والعالم بالكتاب والسنة والعارف بأسرار المسائل السلمية وبطل التوحيد الذي تربى في حجر‬
‫النبي )صلى ال عليه وآله( في مصاف عبدالرحمن بن عوف وسعد بن وقاص وامثالهما‪.‬‬

‫ثم أضاف)عليه السلم(‪» :‬لكني اسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا«)‪ (3‬قالواقع هذه كناية بشأن‬
‫‪ .1‬ورد في مقاييس اللغة أن »الزعم« عبارة عن الكلم الذي ل واقعية له وصاحبه ليس متأكدًا منه‪.‬‬

‫‪ .2‬اللم في لفظ الجللة مفتوحة للستغاثة واللم في الشورى مكسورة وللمستغاث منه‪.‬‬

‫‪» .3‬أسففت« من مادة »إسفاف« بمعنى إقتراب شيء من آخر ويستعمل هذا اللفظ في الطائر إذا دنا من الرض‪ ،‬كما يستعمل في‬
‫نسج الحصير لن خيوطه تقترب من بعضها البعض الخر‪ ،‬كما وردت بمعنى شدة النظر )راجع مقاييس اللغة ولسان العرب(‪.‬‬

‫] ‪[ 237‬‬

‫الطيور التي تطير عى هيئة ُاسراب فتحلق أحيانا وتنخضض ُاخرى إلى الرض وفي الحركتين تكون معًا‪ .‬ومن‬
‫ن الوضاع المزرية في زمان الخلفاء ـ ل سيما إذا ابعد الخليفة وأقصي ـ تتطلب البتعاد عن كافة‬ ‫الواضح أ ّ‬
‫أشكال الفرقة والتشتت حذرًا من إستغللها من قبل خصوم الدعوة والتأهب للجهاض عليها‪ .‬هنالك إحتمال آخر‬
‫ن مراده منها‪ :‬أني أدور حيث مدار الحق والهث خلفه لكني طلبت المر وهو‬ ‫أيضا بشأن تفسير هذه العبارة في أ ّ‬
‫ل وهو موسوم بأكابرهم‪ ،‬أي هو حقي فل أستنكف من طلبه‪ ،‬إن كان‬ ‫موسوم بالصاغر منهم‪ ،‬كما طلبته أو ً‬
‫المنازغ فيه جليل القدر أو صغير المنزلة ثم أشار)عليه السلم( إلى نتيجة تلك الشورى وأعمالها المريية حيث‬
‫تحرك أحدهم بدافع من حقده وضغينته بينما إندفع الخر بوحي من قرابته ونسبه لينتهي المر إلى عثمان‪:‬‬
‫»فصغا)‪ (1‬رجل منهم لضغنه)‪ (2‬ومال الخر لصهره‪ ،‬مع هن)‪ (3‬وهن«‪.‬‬

‫فقد قصد المام)عليه السلم( بالعبارة الولى »سعد بن أبي وقاص« الذي كان ينتمي من طرف أمه إلى بني أمية‬
‫وقد قتل أخواله وأقربائه على يد علي)عليه السلم( في المعارك السلمية ضد الكفر والشرك‪ ،‬ولذلك لم يكن‬
‫مستعدًا لمبايعة علي)عليه السلم(حتى في خلفته‪.‬‬

‫و عمر بن سعد ذلك المجرم الجبار الذي قتل الحسين)عليه السلم( وصحبة في كربلء هو ابنه‪ .‬وعليه فقد كانت‬
‫ضغينته لعلي)عليه السلم( أشهر من نار على علم وهى التي جعلته ل يصوت لصالح المام)عليه السلم(‪ ،‬وهذا‬
‫ما أدى إلى فوز عثمان بعد أن منحه رأيه بواسطة عبدالرحمن بن عوف‪ .‬وقال البعض المراد به »طلحة«‬
‫المفروغ من كراهيته للمام)عليه السلم( وهو الذي أشعل إلى جانب الزبير حرب الجمل التي أدت حسب قول‬
‫المؤرخين إلى قتل سبعة عشر ألف‪.‬‬

‫ن طلحة وإن رشح للشورى من قبل‬


‫و قد قوى هذا الحتمال ابن أبي الحديد‪ ،‬بينما يرى بعض شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫ل أّنه لم يكن في المدينة ولم يوفق لحضور جلسة الشورى)‪.(4‬‬
‫عمر إ ّ‬

‫‪» .1‬صغا« من مادة »صغو« بمعنى الميل‪.‬‬

‫‪» .2‬ضغن« على وزن ضمن بمعنى البغض والعداوة‪.‬‬

‫‪» .3‬هن« سيأتي التفسير ل حقا‪.‬‬

‫‪ .4‬نقل الخوئي في شرحه عن الطبري عدم حضور طلحة في الشورى بل في المدينة )شرح الخوئى‪.(73 / 3،‬‬

‫] ‪[ 238‬‬

‫أّما الفرد الذي مال إلى صهره فهو عبدالرحمن بن عوف زوج ُام كلثوم بنت عثمان‪ .‬وقوله)عليه السلم(‪» :‬مع‬
‫ن المفردة »هن« كناية عن أعمال قبيحة يكره ذكرها‪ ،‬فالعبارة يمكن أن تكون إشارة‬ ‫هن وهن«)‪ ،(1‬استنادا إلى أ ّ‬
‫لخرى التي كان يطمع بها عبدالرحمن بن عوف من خلل تصويته لصالح عثمان من قبيل مد‬ ‫إلى الغراض ا ُ‬
‫لمور‪.‬‬‫إليه إلى بيت مال المسلمين أو التسلط على الناس أو الستيلء على الخلفة بعد عثمان أو جميع هذه ا ُ‬
‫ن الشورى قد عقدت في أجواء متوترة‪ ،‬والشئ المغيب فيها إّنما كان المصالح‬‫فالذي نستفيده من هذا الكلم أ ّ‬
‫السلمية‪ ،‬وعليه فمن الطبيعي التؤدي لضمان مصالح المسلمين‪ ،‬وقد أثبتت الحوادث التي وقعت على عهد‬
‫عثمان مدى الخسائر الفادحة التي تكبدها المسلمون‪.‬‬
‫ثم أشار المام)عليه السلم( إلى النتيجة النهائية للشورى فقال‪» :‬إلى أن قام ثالث القوم نافجا)‪(2‬حضنيه)‪ (3‬بين‬
‫نثيله)‪ (4‬ومعتلفه)‪ .«(5‬ولم يقتصر هذا المر على عثمان بل سار معه في هذا النهج قرابته وبطانته »و قام معه‬
‫بنو أبيه يخضمون)‪ (6‬مال ال خضمة البل نبتة الربيع«‪.‬‬

‫أّما التعبير بنبتة الربيع للشارة إلى أّنها نبتة سائغة وطعمة سهلة للحيوان فيتنا ولها بكل شره ووله‪ .‬والعبارة‬
‫ن بني ُامية قد اقتحمت الميدان بكل ثقلها‬
‫»يخضمون مال ال‪ «...‬ـ وباللتفات إلى المعنى اللغوي لخضم ـ تفيد أ ّ‬
‫لتنهب بيت المال فتبتلع منه ما شاءت‪ .‬وقال ابن أبي الحديد لقد سلط الخليفة الثالث ـ عثمان ـ بني امية على رقاب‬
‫الناس وأغدق عليهم الموال فقد أعطى عبد ال بن خالد أربعمأة ألف درهم‪ ،‬وأعطى عبدال بن أبي سرح جميع ما‬
‫أفاء ال عليه من فتح افريقية بالمغرب‪ ،‬وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال‪،‬‬

‫‪ .1‬صّرح علماء اللغة بان »هن« تعنى فلن وتقال حين يريد النسان الشارة من بعيد إلى شيء لقباحته أو لسباب ُاخرى‪ ،‬وعادة ما‬
‫تستعمل هذه المفردة في الصفات السيئة والقبيحة ول تستعمل في اُلمور الحسنة‪.‬‬

‫‪» .2‬نافجا« من مادة »نفج« على وزن رفع بمعنى رافعا‪.‬‬

‫‪» .3‬الحضن« ما بين البط والكشح ونافجًا حضنيه تقال للمتكبر ولمن إمتل بطنه طعامًا‪.‬‬

‫‪» .4‬نثيل« من مادة »نثل« على وزن نسل بمعنى غائط النسان وروث الحيوان‪.‬‬

‫‪» .5‬معتلف« من مادة »علف« بمعنى موضع العلف‪ ،‬وقد أراد بالعبارة الشخص الذي همه جمع الموال وملىء البطن وافراغها‪.‬‬

‫‪» .6‬الخضم« أكل الشيء الرطب بتمام الفم وهى تقابل القضم التي تعني الكل بأطراف السنان‪ ،‬وقال البعض الخضم بمعنى أكل العلف‬
‫الطري والقضم بمعنى أكل العلف الجاف‪.‬‬

‫] ‪[ 239‬‬

‫واعطى الحارث بن الحكم ـ زوج بنت‪ ،‬عائشة ـ مائة ألف من بيت المال‪ ،‬واعطى طلحه ثلثمأة واثنين وعشرين‬
‫ألف‪ ،‬والزبير خمسمأة وثمانية وتسعين دينارا‪ ،‬حتى بلغ ما أغدقه من بيت المال مئة وستة وعشرين مليون‬
‫وسبعمأة دينار‪.‬‬

‫و العجب من ذلك الدنانير التي أغدقها على بني أمية فقد منح مروان بن الحكم خمسمأة الف دينار‪ ،‬ويعلي بن‬
‫ُامية خمسمأة الف دينار‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوف مليونين وخمسمأة وستين الف دينار والمجموع أربعة مليين‬
‫وثلثمأئة وعشرة دنانير)‪ .(1‬وهنا يتضح عمق المعنى لقوله)عليه السلم(‪» :‬يخضمون مال ال خضمة البل نبتة‬
‫الربيع«‪ .‬وبالطبع فان هذا الوضع لم يكن ليستمر لمّدة طويلة حيث ل يسع المسلمون تحمل مثل هذه الظروف‬
‫ولذلك لم تمض مّدة حتى انطلقت تلك النهضة ضد عثمان لتطيح به في خاتمة المطاف وتقتله بمرأى ومسمع من‬
‫لّمة دون أن يهب أحد من المسلمين لنصرته وهذا بعينه ما أشار إليه المام)عليه السلم(حين قال‪» :‬إلى أن‬
‫اُ‬
‫انتكث)‪ (2‬عليه فتله)‪ (3‬وأجهز)‪ (4‬عليه عمله‪ ،‬وكبت)‪ (5‬به بطنته)‪.«(6‬‬

‫ن المام)عليه السلم( رسم بثلث عبارات صورة واضحة كاملة عن وضع الخليفة الثالث و انتهاء أمره‬ ‫و الواقع أ ّ‬
‫وقتله‪ .‬فقد صور في العبارة الولى إزالته لكافة مظاهر القدسية والزهد التي عرفها عنه الناس ليقفوا على مدى‬
‫تكالبه على الدنيا‪.‬‬

‫كما يصور في العبارة الثانية سوء أعماله التي وجهت له الضربة القاصمة‪ ،‬وأخيرًا تخمته وامتلء جوفه بالطعام‬
‫بالشكل الذي لم يتمكن معه من الوقوف على قدميه حتى كب على وجهه على الرض‪ .‬فقد بين المام علي)عليه‬
‫السلم( بهذه العبارات الدروس والعبر التي ينبغي أن يقتدي بها ساسة البلدان ويضعوها نصب أعينهم بحيث إذا‬
‫ن ذلك سيؤدي إلى زوال سوابقهم الحسنة بما يعبىء الرأي العام‬
‫إستغلوا مكانتهم وأقبلوا يتهافتون على الدنيا فا ّ‬
‫ضدهم وبالتالي الطاحة بهم وبحكومتهم‪.‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.198 / 1‬‬


‫‪» .2‬انتكث« من مادة »نكث« على وزن عكس بمعنى النقض والكسر ومن هنا يقال لعدم اللتزام بالعهد نقضه‪.‬‬

‫‪» .3‬فتل« بمعنى اللف‪ ،‬ومقتول وفتيلة من هذا الباب‪.‬‬

‫‪» .4‬أجهز« من مادة »إجهاز«‪ ،‬تطلق على المجروح وتفيد التسريع في الموت واتمام العمل‪.‬‬

‫‪» .5‬كيت« من مادة »كبو« بمعنى السقوط والوقوع على الوجه‪ ،‬ومن هنا يقال كبابه الجواد إذ سقط لوجهه‪.‬‬

‫‪» .6‬بطنته« من مادة »بطن« بمعنى التخمة )ملىء الجوف الطعام أو النهم في الكل(‪.‬‬

‫] ‪[ 240‬‬

‫ن العوامل التي بلورة ظهور وانبثاق خلفة عثمان هى ذاتها التي أّدت إلى القضاء عليه‪ ،‬فقد دفع‬ ‫جدير بالذكر أ ّ‬
‫حب المال والثروة بعض الفراد من قبيل سعد بن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وطلحة )بناء اعلى كونه‬
‫حاضرا في الشورى( لن يضموا أصواتهم لعثمان واختياره للخلفة‪ ،‬وهكذا إتسعت هذه المسألة واستفحلت حتى‬
‫لّمة وإطاحتها به‪ .‬أّما بعض شّراح نهج البلغة‬ ‫فقد عثمان مكانته لدى الرأي العام والذي أدى بالتالى إلى ثورة ا ُ‬
‫ن المراد بقوله »إنتكث عليه فتله« انهيار الجراءات والتدابير التي مارسها لتوطيد حكومته‪ ،‬ولعل‬ ‫فقد ذهبوا إلى أ ّ‬
‫تفويضه بعض العمال والمناصب لبطانته وقرابته قد كانت ضمن تلك الجراءات المتخذة‪ ،‬لكن نفس هذا المر‬
‫قد أعطى نتائج معكوسة أسهمت في تقويض حكومة عثمان‪.‬‬

‫تأّملت‬
‫‪1‬ـ كيفية انتخاب خليفة الثاني والثالث‬

‫ن الخليفة الثاني قد نصب من قبل أبي بكر الذي عهد إليه بالخلفة في وصيته حين نزل به الموت‪ .‬فقد جاء‬ ‫نعلم أ ّ‬
‫ن أبابكر أحضر عثمان ـ وهو يجود بنفسه ـ فأمره أن يكتب عهدا‪ ،‬وقال‪ :‬اكتب بسم ال‬ ‫في بعض التواريخ أ ّ‬
‫الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبوبكر إلى المسلمين‪ ،‬ثم أّما بعد‪ ،‬ثم ُاغمي عليه‪ ،‬فكتب عثمان‪َ» :‬اما بعد فاني قد‬
‫استخلفت عليكم عمر بن الخطاب لم آلكم خيرًا«‪(1).‬‬

‫و أفاق أبوبكر فقال‪ :‬إقرأ فقرأه‪ ،‬فكبر أبوبكر وسرب وقال‪ :‬أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي! قال‬
‫عثمان‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬جزاك ال خيرًا عن السلم وأهله)‪.(2‬‬

‫يتضح بجلء من هذا الخبر أن عثمان قد خاط هذا القميص ـ الخلفة ـ لقامة عمر‪ ،‬ولو افترض عدم إفاقة أبي بكر‬
‫لنشرت هذه الوصية على أّنها وصية أبي بكر‪ .‬وعليه فلم هنالك‬

‫‪» .1‬آلكم« من مادة »ال« يألو بمعنى التقصير‪ ،‬وعلى هذا الساس فان »لم آلكم« يعني لم ُأقصر في حقكم‪» .‬لسان العرب«‪.‬‬

‫‪ .2‬الكامل لبن أثير ‪.425 / 2‬‬

‫] ‪[ 241‬‬

‫ل إلى استخلف عثمان‪.‬‬


‫من مجال للتعجب في إقتراح عمر لتلك الشورى وبذلك التركيب الذي سوف لن يؤدي إ ّ‬

‫لسلوب الذي إتبعه الخليفة الثاني في السقيفة حين مهد السبيل أمام خلفة أبي بكر‪ ،‬لكي يسارع هذا‬
‫و هو ذات ا ُ‬
‫لّمة وفرقتها هى التي تقف وراء تعجيل‬
‫ن الحيلولة دون إختلف ا ُ‬‫الخير فيعوضه عّما قدمه له‪ .‬ويفهم ضمنيا أ ّ‬
‫أبي بكر وعثمان في تعيين الخليفة‪ .‬فاذا كان المر كذلك‪ ،‬فما بالك برسول ال )صلى ال عليه وآله(؟! ألم يكن من‬
‫لّمته مع وجود تلك النزاعات والصراعات‬ ‫الواجب على النبي)صلى ال عليه وآله(أن يتكهن بهذا المر بالنسبة ُ‬
‫لّمة مسألة‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله( قد فوض ل ُ‬ ‫التي كشفت عن نفسها في السقيفة؟ كيف يمكن العتقاد بأ ّ‬
‫ن خوف الفتنة منع من تفويض المر‬ ‫إنتخاب الخليفة‪ ،‬بينما ل يرعى هذا المر في خلفة الثاني والثالث‪ ،‬حتى أ ّ‬
‫لّمة؟! هذه هى السئلة التي ينبغي لكل محقق الرد عليها‪.‬‬
‫لُ‬

‫‪2‬ـ الشورى وحكومة عثمان‬

‫ن عمر لما طعنه أبولؤلؤه‪ ،‬وعلم أّنه ميت‪ ،‬استشار فيمن يوّليه المر بعده‪ ،‬فأشير عليه بابنه‬‫وصورة هذه الواقعة أ ّ‬
‫ل! ل‬
‫حّمل! حسب عمرًا احتقب‪ ،‬لها ا ّ‬ ‫ل إذا! ليليها رجلن من َوَلد الخطاب! حسب عمر ما ُ‬ ‫ل‪ ،‬فقال‪ :‬لها ا ّ‬ ‫عبدا ّ‬
‫ل مات وهو راض عن هذه الستة من قريش‪ :‬على‪ ،‬وعثمان وطلحة‪،‬‬ ‫ن رسول ا ّ‬‫أتحملها حيًا وميتًا! ثم قال‪ :‬إ ّ‬
‫والزبير‪ ،‬وسعد‪ ،‬وعبدالرحمن بن عوف; وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لنفسهم‪ .‬ثم قال‪ :‬إن أسَتخلف‬
‫ل)صلى ال عليه‬ ‫فقد استخلف من هو خير مّني يعنى أبابكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مّني يعنى رسول ا ّ‬
‫وآله(ثم قال‪ :‬ادعوهم لي‪ ،‬فدعوهم‪ ،‬فدخلوا عليه وهو ُملقى على فراشه يجود بنفسه‪.‬‬

‫فنظر إليهم‪ ،‬فقال‪ :‬أكّلكم يطمع في الخلفة بعدى! فوجموا‪ ،‬فقال لهم ثانية‪ ،‬فأجابة الّزبير وقال‪ :‬وما الذي ُيبعدنا‬
‫سنا دونك في قريش ولفي السابقة ول في القرابة‪.‬‬ ‫منها! وليتها أنت فقمت بها‪ ،‬ول ْ‬

‫ن عمر يموت في مجلسه ذلك لم يقدم على أن يفوه من هذا الكلم‬


‫ل لول علمه أ ّ‬
‫قال الشيخ أبو عثمان الجاحظ‪ :‬وا ّ‬
‫بكلمة‪ ،‬ول أن تنّفس منه بلفظه‪.‬‬

‫] ‪[ 242‬‬

‫فقال عمر‪ :‬أفل أخبركم عن أنفسكم! قال‪ :‬قل‪ ،‬فإنا لو استعفيناك لم ُتعفنا‪ .‬فقال‪ :‬اّما أنت يا زبير فوعق لقس‪ ،‬مؤمن‬
‫الرضا كافر الغضب‪ ،‬يومًا إنسان‪ ،‬ويومًا شيطان‪ ،‬ولعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلطم بالبطحاء على مد من‬
‫شعير! أفرأيت إن أفضت إليك‪ ،‬فليت شعري‪ ،‬من يكون للناس يوم تكون شيطانًا‪ ،‬ومن يكون يوم تغضب! وما‬
‫لّمة‪ ،‬وأنت على هذه الصفة‪.‬‬ ‫ل ليجمع لك أمر هذه ا ُ‬
‫كان ا ّ‬

‫ثم أقبل على طلحة وكان له مبغضًا منذ قال لبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر فقال له‪ :‬أقول أم أسكت‪ :‬قال‪ :‬قل‪،‬‬
‫حد وائبا بالذي حدث لك‪ ،‬ولقد مات‬‫ت إصبعك يوم أ ُ‬‫فإّنك ل تقول من الخير شيئًا‪ ،‬قال‪ :‬أّما إّني أعرفك منذ أصيب ْ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(ساخطًا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنِزلت آية الحجاب‪.‬‬ ‫رسول ا ّ‬

‫ل لئن وليتهم لتحملّنهم على الحق الواضح‪،‬‬


‫ل أنت لول ُدعابة فيك! اّما وا ّ‬
‫ثم أقبل على علي)عليه السلم(‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬
‫جة البيضاء‪.‬‬
‫والمح ّ‬

‫ثم أقبل على عثمان‪ ،‬فقال‪ :‬هيهًا إليك! كأّنى بك قد قلدتك قريش هذا المر لحّبها إياك‪ ،‬فحملت بني أمية وبني أبى‬
‫ُمعيط على رقاب الناس‪ ،‬وآثرتهم بالفىء‪ ،‬فسارت إليك عصابة من ذوبان العرب‪ ،‬فذبحوك على فراشك ذبحًا‪.‬‬
‫ن‪ ،‬ثم أخذ بناصيته‪ ،‬فقال‪ :‬فإذا كان ذلك فاذكر قولى; فإّنه كائن‪.‬‬
‫ن فعلت ليفعل ّ‬
‫ل لئن فعلوا لتفعل ّ‬
‫وا ّ‬

‫حْفرتي‪ ،‬فكن في خمسين‬‫ثم قال‪ :‬ادعوا إلي أبا طلحة النصارى‪ ،‬فدعوه له فقال‪ :‬انظر يا أبا طلحة‪ ،‬إذ عدتم من ُ‬
‫ل من النصار حاملي سيوفكم‪ ،‬فخذ هؤلء النفر بإمضاء المر وتعجيله‪ ،‬واجمعهم في بيت‪ ،‬وقف بأصحابك‬ ‫رج ً‬
‫على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحدًا منهم‪ ،‬فإن اّتفق ثلثة وخالف ثلثة‪ ،‬فانظر الثلثة التي فيها‬
‫لخرى على خلفها فاضرب أعناقها‪ ،‬وإن مضت‬ ‫عبدالرحمن‪ ،‬فارجع إلى ما قد اتفقت عليه‪ ،‬فإن أصّرت الثلثة ا ُ‬
‫ثلثة أيام ولم يتفقوا على أمر‪ ،‬فاضرب أعناق السّتة‪ ،‬ودع المسلمين يختاروا لنفسهم‪.‬‬

‫جَمَعم أبو طلحة‪ ،‬ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من النصار‪ ،‬حاملي سيوفهم‪ ،‬ثم تكّلم‬ ‫فلما ُدفن عمر‪َ ،‬‬
‫القوم وتنازعوا‪ ،‬فأّول ما عمل طلحة أّنه أشدهم على نفسه أّنه قد وهب حّقه من الشورى لعثمان‪ ،‬وذلك لعامه أ ّ‬
‫ن‬
‫ن الخلفة ل‬ ‫الناس ل يعدلون به علّيا وعثمان‪ ،‬وأ ّ‬

‫] ‪[ 243‬‬
‫تخلص له وهذان موجودان‪ ،‬فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي عليه السلم‪ ،‬بهبة أمر ل انتفاع له به‪،‬‬
‫ول تمّكن له منه‪.‬‬

‫ي‪ ،‬وإنما فعل ذلك لّنه لما‬‫ت حّقى من الشورى لعل ّ‬ ‫فقال الزبير في معارضته‪ :‬وأنا أشهدكم على نفسي أّني قد وهب ُ‬
‫رأى علّيا قد ضعف وانخزل بهَبِة طلحة حّقه لعثمان‪ ،‬دخلته حمّية الّنسب‪ ،‬لّنه ابن عمة أميرالمؤمنين عليه‬
‫السلم‪ ،‬وهى صفّية بنت عبدالمطلب‪ ،‬وأبوطالب خاُله‪ .‬وإّنما مال طلحة إلى عثمان لنحرافه عن علي)عليه‬
‫السلم(‪ ،‬باعتبار أّنه تيمى وابن عم أبي بكر‪ ،‬وقد كان حصل في نفوس بني هاشم من بني تيم حنق شديد لجل‬
‫الخلفة‪ ،‬وكذلك صار في صدور تيم على بني هاشم‪.‬‬

‫فمّما ل شك فيه هنالك عّدة اسئلة لبّد من طرحها بشأن هذه الشورى ومنها‪:‬‬

‫لّمة فلم ل يرجع إليها؟ وإن كانت الخلفة قائمة على أساس‬
‫ل‪ :‬لو كانت الضابطة في الخلفة تكمن في آراء ا ُ‬
‫أو ً‬
‫التعيين فما معنى الشورى المركبة من ستة أعضاء وما بال إهمال سائر الشخصيات المعروفة وعدم إشراكها في‬
‫الشورى؟‬

‫ن رسول ال )صلى ال عليه وآله( مات وهو راض عن هذه الستة من قريش‪ ،‬فكيف التوفيق بين‬ ‫ثانيًا‪ :‬لقد قيل أ ّ‬
‫هذا وما صّرح بأن رسول ال )صلى ال عليه وآله( مات وهو ساخط على طلحة بالثلمة التي قالها يوم ُانزلت آية‬
‫الحجاب)‪(1‬؟‬

‫ثالثًا‪ :‬لو افترض عدم تمكنهم من القيام بوظيفتهم فكيف يؤمر بضرب أعناقهم؟‬

‫لّمة السلمية من‬


‫رابعًا‪ :‬لو كانت الشورى حقا فما معنى الوصية بعثمان وذكره صراحة؟ ولو كان يخشى على ا ُ‬
‫خلفته للزم عدم جعله أحد أعضاء تلك الشورى ليأتي آخر غيره؟‬

‫خامسًا‪ :‬إذا إنقسمت الشورى إلى قسمين فلم ل ترجح الكفة التي فيها علي)عليه السلم( والذي قال له عمر‪ :‬أّما‬
‫وال لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح‪ ،‬والحجة البيضاء‪ .‬وليس له من إشكال عليه سوى قوله »لول دعابة‬
‫فيك«‪.‬‬

‫‪ .1‬المراد بآية الحجاب قوله سبحانه‪»:‬فاسئلوهن من وراء حجاب« الذي نزل في نساء النبي )صلى ال عليه وآله( والكلمة المذكورة‬
‫أن طلحة لما أنزلت آية الحجاب قال بمحضر ممن نقل عنه إلى رسول ال )صلى ال عليه وآله(‪ :‬ما الذي يعنيه حجابهن اليوم‪،‬‬
‫وسيموت غدا فننكحهن‪.‬‬

‫] ‪[ 244‬‬

‫سادسًا‪ :‬وهل للدعابة من أثر سلبي على الخلفة وهل يرقى هذا الشكال إلى الشكال على عثمان باّنه إذا ولي‬
‫ل؟‬
‫ل وماله دو ً‬
‫الخلفة وسيسلط بني ُامية على رقاب المسلمين فيتخذون عباد ال خو ً‬

‫هذه هى السئلة والستفسارات التي ليست لها من إجابة‪.‬‬

‫‪3‬ـ أسباب الخروج على عثمان‬

‫و يجب أن نذُكر في هذا الموضع ابتداء اضطراب المر على عثمان إلى أن ُقِتل‪.‬‬

‫و أصح ما ذكر في ذلك ما أورده أبوجعفر محمد بن جرير الطبري في »التاريخ«)‪.(1‬‬

‫ن عثمان أحدث أحداثًا مشهورة َنِقَمها الّناس عليه‪ ،‬من تأمير بني أمّية‪ ،‬ول سّيما الفساق منهم‬
‫و خلصة ذلك أ ّ‬
‫سفه وقّلة الّدين‪ ،‬واخراج مال الفىء إليهم‪ ،‬وما جرى في أمر عّمار وأبى ذر وعبدال بن مسعود‪ ،‬وغير‬ ‫ب ال ّ‬
‫وأربا ُ‬
‫عقبه لّما كان عامله على الكوفة وشهد عليه‬
‫ن الوليد بن ُ‬
‫لمور التى جرت في أواخر خلفته‪ .‬ثم اتفق إ ّ‬ ‫ذلك من ا ُ‬
‫ى سعيد بن العاص مكانه‪ ،‬فقدم سعيد الكوفة‪ ،‬استخلص من أهلها قومًا يسمرون عنده‪،‬‬ ‫بشرب الخمر‪ ،‬صرفه وول ّ‬
‫ن السواد الذي أفاءه ال على‬‫ن السواد بستان لُقريش وبنى أمية‪ .‬فقال الشتر النخعي‪ :‬وتزعم أ ّ‬ ‫فقال سعيد يومًا‪ :‬إ ّ‬
‫المسلمين بأسيافنا بستان لك لقومك! فقال صاحب شرطته‪ :‬أترّد على المير مقالته! وأغلظ له‪ ،‬فقال الشتر لمن‬
‫كان حوله من الّنخع وغيرهم من أشراف الكوفة‪ :‬أل تسمعون! فوثبوا عليه بحضرة سعيد فوطئوه وطأ عنيفًا‪،‬‬
‫سّماره فلم يأذن بعد لهم‪ ،‬فجعلوا يشتمون سعيدًا في مجالسهم‪ ،‬ثم تعّدوا‬‫وجّرول برجله‪ ،‬فغلظ ذلك على سعيد‪،‬أبعد ُ‬
‫ل يفسدوا أهل الكوفه‪ ،‬وكتب إلى معاوية وهو وإلى‬ ‫ذلك إلى عثمان في أمرهم‪ ،‬فكتب إليه أن يسيرهم إلى الشام; لئ ّ‬
‫ن نفرًا من أهل الكوفة قد هّموا بإثارة الفتنة‪ ،‬وقد سيرتهم إليك‪ ،‬فانهم; فإن آنست منهم رشدًا فأحسن إليهم‪،‬‬ ‫الشام‪ :‬إ ّ‬
‫وارددهم إلى بلدهم‪.‬‬

‫ثم إن سعيد بن العاص قدم على عثمان سنة إحدى عشرة من خلفته‪ .‬فلما دخل المدينة‬

‫‪ .1‬في حوادث ‪ ،35 33‬مع تصرف واختصار في جميع ما أورده في هذا الفصل )‪ 9‬نهج ‪.(2‬‬

‫] ‪[ 245‬‬

‫اجتمع قوٌم من الصحابة‪ ،‬فذكروا سعيدًا وأعماله‪ ،‬وذكروا قرابات عثمان وما سّوغهم من مال المسلمين‪ ،‬وعابوا‬
‫أفعال عثمان‪ ،‬فأرسلو إليه عامر بن عبد القيس وكان متألها )‪ ،(1‬واسم أبيه عبدال‪ ،‬وهو من تميم‪ ،‬ثم من بني‬
‫ن ناسًا من الصحابة اجتمعوا ونظروا في أعمالك‪ ،‬فوجدوك قد ركبت ُامورًا‬ ‫العنبر فدخل على عثمان‪ ،‬فقال له‪ :‬إ ّ‬
‫عظامًا‪ ،‬فاتق ال وتب إليه‪.‬‬

‫فأخرجه عثمان‪ ،‬وأرسل إلى عبدال بن سعد بن أبى سرح‪ ،‬وإلى معاوية وسعيد ابن العاص وعمرو بن العاص‬
‫وعبيدال بن عامر وكان قد استقدم المراء من أعمالهم فشاورهم‪،‬وقال‪ :‬إن لكل أمير وزراء ونصحاء‪ ،‬وإنكم‬
‫ى أن أعزل عّمالي‪ ،‬وأن أرجع عن جميع‬
‫وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي‪ ،‬وقد صنع الناس ما قد رأيتم‪ ،‬وطلبوا إل ّ‬
‫مايكرهون إلى مايحبون‪ ،‬فاجتهدوا رأيكم‪.‬‬

‫فقال عبدال بن عامر‪ :‬أرى لك ياأميرالمؤمنين أن تشغلهم عنك بالجهاد حتى يذّلوا لك‪ ،‬ول تكون همة أحدهم إ ّ‬
‫ل‬
‫في نفسه‪ ،‬وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته‪.‬‬

‫ن هذا لهو الرأى لول مافيه‪.‬‬


‫فقال عثمان‪ :‬إ ّ‬

‫ثم كاتب عّماله واستقدمهم‪ ،‬فلما قدموا عليه جمعهم‪ ،‬وقال‪ :‬ما شكايُة الناس منكم؟ إّني لخائف أن تكونوا مصدوقًا‬
‫ل بي‪ .‬فقالو له‪ :‬وال ما صدق من رفع إليك ول بر‪ ،‬ول نعلم لهذا المر أصل‪.‬‬ ‫عليكم‪ ،‬وما يعصب هذا المر إ ّ‬
‫ي‪ ،‬فقال سعيد بن العاص‪ :‬هذه ُامور مصنوعة تلقى في السر فيتحدث بها الناس‪ ،‬ودواء‬ ‫فقال عثمان‪ :‬فأشيروا عل ّ‬
‫ذلك السيف‪.‬‬

‫وروى محمد بن عمر الواقدي رحمة ال تعالى‪ ،‬قال‪ :‬لما أجلب الناس على عثمان‪ ،‬وكثرت الفالة فيه‪ ،‬خرج ناس‬
‫من مصر ; منهم عبدالرحمن عديس البوى‪ ،‬وكنانة بن بشر الليثي‪ ،‬وسودان بن حمران السكوني‪ ،‬وقتيرة بن وهب‬
‫السكسكي; وعليهم جميعًا أبوحرب الغافقي‪ ،‬وكانوا في ألفين‪ .‬وخرج ناس من الكوفة‪ ،‬منهم زيد بن صوحان‬
‫العبدى‪ ،‬ومالك الشتر النخعي‪ ،‬وزياد بن النضر الحارثي‪ ،‬وعبدال بن الصم الغامدي‪ ،‬في ألفين‪ .‬وخرج ناس من‬
‫أهل البصرة‪ .‬منهم حكيم بن جبلة العبدى‪ ،‬وجماعة من أمرائهم‪ ،‬وعليهم حرقوص بن زهير السعدي; وذلك في‬
‫شوال من سنة خمس وثلثين‪ ،‬وأظهروا أّنهم يريدون الحج‪ .‬فلما كانوا من‬

‫‪ .1‬المتأله‪ :‬المتعبد المتنسك‪.‬‬

‫] ‪[ 246‬‬
‫المدينة على ثلث‪ ،‬تقدم أهل البصرة‪ ،‬فنزلوا ذاخشب وكان هواهم في طلحة‪ .‬وتقدم أهل الكوفة‪ ،‬فنزلوا العوص‬
‫وكان هواهم في الزبير‪ .‬وجاء أهل مصر فنزلوا المروة وكان هواهم في علي )عليه السلم(‪ .‬ودخل ناس منهم إلى‬
‫المدينة يخبرون ما في قلوب الناس لعثمان‪ ،‬فلقوا جماعة من المهاجرين والنصار‪ ،‬ولقوا أزواج النبي صلى ال‬
‫عليه وآله‪ ،‬وقالوا‪ :‬إّنما نريد الحج‪ ،‬ونستعفى من عمالنا‪.‬‬

‫وخرج عثمان يوم الجمعة‪ ،‬فصلى بالناس‪ ،‬وقام على المنبر‪ ،‬فقال‪ :‬ياهؤلء‪ ،‬ال ال; فوال إن أهل المدينة يعلمون‬
‫أّنكم ملعونون على لسان محمد صلى ال عليه‪ ،‬فامحوا الخطأ بالصواب‪.‬‬

‫وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيًا عليه ; فأدخل داره; واستقتل نفر من أهل المدينة مع عثمان; منهم‬
‫سعد بن أبي وقاص‪ ،‬والحسن بن على عليه السلم‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬وأبو هريرة; فأرسل إليهم عثمان‪ :‬عزمت‬
‫عليكم أن تنصرفوا; فانصرفوا‪.‬‬

‫وأقبل على وطلحة والزبير‪ ،‬فدخلوا على عثمان يعودنه من صرعته‪ ،‬ويشكون إليه ما يجدون لجله; وعند عثمان‬
‫نفر من بين أمية‪ ،‬منهم مروان بن الحكم‪ ،‬فقالوا لعلى عليه السلم‪ :‬أهلكتنا وصنعت هذا الذي صنعت! وال إن‬
‫بلغت هذا المر الذي تريده لتمرن عليك الدنيا; فقام مغضبًا‪ ،‬وخرج الجماعة الذين حضروا معه إلى منازلهم‪.‬‬

‫وروى المدائني‪ ،‬قال‪ :‬كان عثمان محصورًا محاطًابه‪ ،‬وهو يصلى بالناس في المسجد‪ ،‬وأهل مصر والكوفة‬
‫والبصرة الحاضرون له يصلون خلفه‪ ،‬وهم أدق في عينه من التراب‪.‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.143 / 2‬‬

‫] ‪[ 247‬‬

‫‪4‬ـ هل سار جميع الصحابة على نهج النبي)صلى ال عليه وآله(‬

‫ن لصحابة رسول ال )صلى ال عليه وآله( ـ دون إستثناء ـ قدسية‬ ‫المعروف بين أوساط الخوة من أبناء العامة أ ّ‬
‫ن أحدا منهم لم يؤتي بما يخالف ما أمر به ال في الكتاب والسنة‪ ،‬بينما تعتقد الشيعة من أتباع مدرسة‬ ‫وعدالة وأ ّ‬
‫ن الصحابة ليست سواسية ولها رأي بكل صحابي بما ينسجم وسلوكه سواء على عهد‬ ‫أهل البيت)عليهم السلم(أ ّ‬
‫رسول ال)صلى ال عليه وآله( أو بعد وفاته‪.‬‬

‫ن هنالك من‬
‫ن العتقاد السائد لدى الخوة السنة بشأن الصحابة قد قادهم إلى مشاكل كثيرة; وذلك ل ّ‬ ‫و لشك أ ّ‬
‫الصحابة ممن إختلفوا فيما بينم إلى حد القتتال‪ .‬فيكف يمكن تبرير تلك العقيدة التي تتضمن عدالتهم وقدسيتهم‪.‬‬
‫على سبيل المثال موقعة صفين التي قام فيها معاوية ضد إمام زمانه بما أدى إلى اراقة تلك الدماء‪ ،‬فهل هناك‬
‫مورخ نزيه يمكنه توجيه ذلك العمل؟! أو الدماء التي سفكت في معركة الجمل التي قادها طلحة والزبير ضد‬
‫المام علي)عليه السلم(بعد أن نكثا بيعته حتى قيل أن عدد القتلى بلغ أكثر من سبعة عشر الف قتيل‪ ،‬فهل لهما‬
‫من عدالة بعد تلك الفجائع التي ارتكبت بحق المسلمين وخروجها على المام)عليه السلم(؟!‬

‫أّما بشأن عثمان وكما مّر معنا وعلى ضوء إجماع كافة مؤرخي السلم فاّننا نصطدم بموضوعين مهمين‪ :‬الول‬
‫اغداقه المناصب الحساسة على بني ُامية وتسليطهم على رقاب المسلمين ومن أولئك الذين عرفوا بفسقهم‬
‫ومجونهم حتى تعالت عليهم أصوات المسلمين من كل حدب وصوب‪ ،‬والخر نهب أموال بيت المال واغداقها‬
‫لّمة وأجج مشاعرها للغضب والثورة عليه‪.‬‬‫دون حساب على هذا وذاك بالشكل الذي آثار حفيظة ا ُ‬

‫فهل من إنسجام بين هذه العمال والخطوط العامة للقداسة وتنزيه الصحابة؟! فلو كان هنالك من تبرير لمثل هذه‬
‫العمال فهل ستبقى هنالك من أعمال يمكن إدانتها؟!‬

‫لقد ذكرني هذا الكلم بقصة عجيبة وقعت لي ول يسعني نسيانها أبدا‪ .‬فقد تشرفت احدى السنوات بزيارة مكة‬
‫لداء العمرة وقد سنحت لي الفرصة لن ألتقي بعض علماء العامة ـ ول سيما أثناء الليالي في المسجد الحرام‬
‫وبين صلتي المغرب والعشاء التي كانت فرصة مناسبة ـ في احدى الليالى )طبعا كان البعض منهم من مشاهير‬
‫علماء العامة(‪.‬‬

‫و في المسجد الحرام وسعينا لن نبقي على البحاث تعيش أجواء المنطق والعلم‬

‫] ‪[ 248‬‬

‫والستدلل والبرهان وابعادها عن عناصر العداء والكراهية وجرح المشاعر‪ .‬وقد جرنا الكلم إلى الحديث عن‬
‫»تنزيه الصحابة وعدالتهم« فكانوا يعتقدون جميعهم بعدم إمكانية جرأة أحد على توجيه أدنى تهمة إليهم‪ .‬فسألت‬
‫أحدهم‪» :‬لو شهدت صفين حيث معسكر علي)عليه السلم(معسكر معاوية‪ ،‬فمع من كنت تقاتل«؟ فاجاب من‬
‫فوره‪ :‬مع معسكر علي)عليه السلم(‪.‬‬

‫فقلت‪ :‬لو أعطاك عليًا)عليه السلم( سيفًا وقال لك‪» :‬خذ هذا واقتل معاوية فهل كنت تمتثل أمره؟«هنا أجاب إجابة‬
‫عجيبة ل أظنكم تتصورنها‪ ،‬فقد قال‪» :‬كنت أقتله ول أذكره بسوء« نعم قضية تنزيه الصحابة قصة ذات شجون‬
‫ول يسعني الخوض في كافة تفاصيلها‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 249‬‬

‫القسم الرابع‬

‫ي‪،‬‬
‫طفا َ‬ ‫عْ‬‫ق ِ‬ ‫شّ‬ ‫ن‪َ ،‬و ُ‬ ‫سنا ِ‬ ‫ح َ‬
‫ىء اْل َ‬
‫طَ‬
‫حّتى َلَقْد ُو ِ‬ ‫ن ُكّل جاِنب َ‬ ‫ي ِم ْ‬
‫عَل ّ‬
‫ن َ‬ ‫ي َيْنثاُلو َ‬ ‫ضُبِع ِإَل ّ‬
‫ف ال ّ‬‫عِني ِإّل َوالّناس َكُعْر ِ‬ ‫»َفما را َ‬
‫سَمُعوا‬‫ن‪َ ،‬كَأّنُهْم َلْم َي ْ‬‫خُرو َ‬ ‫طآَ‬ ‫سَ‬
‫خَرى‪َ ،‬وَق َ‬ ‫ت ُأ ْ‬
‫ت طاِئَفٌة َوَمَرَق ْ‬‫ت ِباَْلْمِر َنَكَث ْ‬‫ض ُ‬‫ضِة اْلَغَنِم َفَلّما َنَه ْ‬
‫حْوِلي َكَرِبي َ‬‫ن َ‬ ‫جَتِمِعي َ‬
‫ُم ْ‬
‫ن«‪،‬‬ ‫ض َول َفسادًا‪َ ،‬واْلعاِقَبُة ِلْلُمّتِقي َ‬ ‫عُلّوا ِفي اَْلْر ِ‬ ‫ن ُ‬‫ن ل ُيِريُدو َ‬ ‫جَعُلها ِلّلِذي َ‬‫خَرُة َن ْ‬
‫حاَنُه َيُقوُل‪ِ» :‬تْلك الّدار اْل ِ‬ ‫سْب َ‬
‫ل ُ‬ ‫ا َّ‬
‫جها«‪.‬‬ ‫عُيِنِهْم َوراَقُهْم ِزْبِر ُ‬
‫ت الّدْنيا ِفي َأ ْ‬‫حِلَي ِ‬‫عْوها‪َ ،‬وَلِكّنُهْم َ‬ ‫سِمُعوها َوَو َ‬ ‫ل َلَقْد َ‬
‫َبَلى! َوا ّ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫لّمة‬
‫أشار المام)عليه السلم( في هذه الخطبة إلى عصر خلفته ول سيما أبان البيعة التي شهدت حضورًا خارقًا ل ُ‬
‫ن عددًا كثيرًا‬‫في مبا يعته والوقوف إلى جانبه‪ ،‬البيعة الفريدة التي لم يعرف التأريخ السلمي لها من نظير‪ ،‬غير أ ّ‬
‫لما جوبه بعدالة المام)عليه السلم( وتنمره في الحق قد إنفرجوا عنه وهبوا لمخالفته وبالتالي أججوا نيران‬
‫الحرب »الجمل وصفين والنهروان« وشقوا صفوف المسلمين وحالوا دون تتويج جهود المام)عليه السلم(‬
‫ومساعيه في النهوض بالمجتمع السلمي والخذ بيده إلى السمو والتكامل‪.‬‬

‫فقد وصف)عليه السلم( بادىء ذي بدء كيفية إقبال الناس عليه وهجومهم من أجل البيعة قائل‪» :‬فما راعني)‪(1‬‬
‫ي من كل جانب« فالتعبير بعرف‬‫ى ينثالون)‪ (4‬عل ّ‬ ‫ل والناس كعرف)‪ (2‬الضبع)‪ (3‬إل ّ‬
‫إّ‬
‫‪» .1‬راعني« من مادة »روع« على وزن نوع بمعنى الخوف والخشية والقلق كما وردت بمعنى الدهشة والذهول‪.‬‬

‫‪» .2‬عرف« بمعنى الكثرة والزدحام ومن هنا يطلق على شعر عنق الضبع‪.‬‬

‫‪2‬‬ ‫‪» .3‬ضبع« له ثلثة معان‪ ،‬الحيوان المعروف وأحدا أعضاء النسان )العضد( والثالث أّنه أحد صفات‬
‫الناقة‪ .‬وقد تكون كناية عن سنين القحط التي تهجم على النسان‪.‬‬

‫‪» .4‬ينثالون« من مادة »ثول« على وزن قول بمعنى ازدحام زنابير العسل حين تجتمع وتروح وتجيىء ثم اطلقت على كل ازدحام‬
‫يتخلله ذهاب واياب )مقاييس اللغة والصحاح ولسان العرب(‪.‬‬

‫] ‪[ 250‬‬

‫الضبع إشارة إلى الزدحام الشديد للناس واندفاعهم لمبايعة المام)عليه السلم( فهو مثل يضرب للكثرة‬
‫والزدحام‪.‬‬

‫ن مثل هذه البيعة الحماسية من شأنها أن تقلد‬‫أّما قلقه من الهجوم المفاجىء للناس من أجل البيعة فلعله يعزى إلى أ ّ‬
‫المام )عليه السلم(مسؤولية جديدة ول سيما أّنه كان يتوقع نقض البيعة من قبل ُاولئك الذين يتهافتون على الدنيا‬
‫وحطامها‪ ،‬وهذا ما أشار إليه المام)عليه السلم(بوضوح في الخطبة ‪ 92‬حيث قال‪» :‬دعوني والتمسوا غيري‪،‬‬
‫فانا مستقبلون أمراله وجوه وألوان‪ ،‬لتقوم له القلوب‪ ،‬ول تثبت عيه العقول‪ ،‬وان الفاق قد أغامت والمحجة قد‬
‫تنكرت‪ ،‬واعلموا أّني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم‪ ،‬ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب‪ ،‬وإن تركتموني فأنا‬
‫كأحدكم‪ ،‬ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم‪ ،‬وأنا لكم وزيرًا‪ ،‬خيرلكم مني أميرا«‪.‬‬

‫أضف إلى ذلك كان يشعر بالقلق من جهة ُاخرى وهى أن تشير إليه أصابع التهام من قبل المنافقين وخصوم‬
‫الدعوة بقتل عثمان‪ .‬ثم يخوض المام)عليه السلم( في عمق ذلك الزدحام والنهيال عليه بالبيعة فقال)عليه‬
‫السلم(‪» :‬حتى لقد وطىء الحسنان‪ ،‬وشق عطفاي‪ ،‬مجتمعين حولي كربيضة الغنم«‪.‬‬

‫ن المراد بالحسنين هما المام الحسن والحسين)عليهما السلم(‪ .‬فقد كان‬


‫و يرى أغلب شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫ن الهجوم الشعبي العام قد جعلهما في موقع حرج في الحفاظ على‬
‫لأّ‬
‫المامان)عليهما السلم(في عنفوان شبابهما إ ّ‬
‫والدهما‪ .‬بينما ذكر بعض الشّراح احتمالين آخرين; الول أن يكون المراد اصبعي الرجل البارزين ـ كما روي‬
‫ذلك عن الشريف الرضي)رحمه ال( ـ نقل عن بعض اللغويين )أبي عمر( و قد استدلوا على ذلك باشعار العرب‪،‬‬
‫ن وطىء اصبعي الرجل قضية عادية تحصل عند أدنى زحام ول يمكنها أن‬ ‫ن هذا المعنى يبدو مستبعدًا ل ّ‬
‫لأّ‬
‫إّ‬
‫تعكس ذلك الهجوم العظيم‪.‬‬

‫ن المراد بها عظمي اليد وذلك‬


‫والبعد من ذلك التفسير الثالث الذي أورده البعض على أ ّ‬

‫] ‪[ 251‬‬

‫ل حين يقع النسان على الرض‪.‬‬


‫لتعذر وطىء إصبعي اليد عادة سواء عظمي العضد أو الساعد‪ ،‬ول يوطئان إ ّ‬

‫أّما تشبيهم بربيضة الغنم فهو ل يرمز إلى جهل الناس كما فسره بعض الشارحين‪ ،‬بل يتضمن إشارة إلى ما‬
‫أوردناه سابقًا حيث يرمز إلى لو إذ الغنم بالراعي كلواذها بالمرعى حين تتعرض لهجوم الذئاب‪.‬‬

‫فالمسلمون الذين تفرقوا هنا وهناك إثر الهجوم الذي تعرضوا له من قبل ذؤبان عصر الخليفة الثالث وتفككت‬
‫عرى الوحدة بينهم قد رأوا في المام)عليه السلم(حلقة الوصل فاندفعوا إليه بلهفة ليتجمهروا حوله ويشعروا‬
‫ن الندفاع لم يكتب له الدوام حين عرضوا للختبار لتفشل فيه طوائف‬
‫ن المؤسف هو أ ّ‬‫بالسكينة والستقرار‪ .‬غير أ ّ‬
‫من المسلمين‪ ،‬وهذا ما صوره المام علي)عليه السلم( إذ قال‪» :‬فلما نهضت بالمر نكثت طائفة‪ ،‬ومرقت)‪(1‬‬
‫ُاخرى‪ ،‬وقسط)‪ (2‬آخرون«‪.‬‬

‫ن أصحاب‬ ‫ن المراد بهم أصحاب الجمل والنهروان وصفين فقد ذكروا أ ّ‬


‫و قد أجمع أغلب شّراح نهج البلغة على أ ّ‬
‫معركة الجمل )هم طلحة والزبير الذين استغل وجود عائشة لتأليب الناس ضد أمير المؤمنين( الذين نقضوا البيعة‬
‫هم »الناكثين« فقد بايعا عليًا )عليه السلم( وهما يطمعان بالخلصة فلما لم يتّم لهما ذلك قدما البصرة وبثا بذور‬
‫الشقاق والفرقة‪.‬‬

‫و »المارقين« هم أصحاب النهروان ويراد بهم الخوارج الذي خرجوا على المام)عليه السلم(وهبوا لقتاله بعد‬
‫قضية التحكيم في صفين‪ .‬وهم من وصفوا بالمروق عن الدين كمروق السهم من الرمية‪ .‬في إشارة إلى أّنهم قد‬
‫ن تعصبهم العمى وجهلهم وحبهم لذاتهم قد أمرقهم من ذلك الحق‪ .‬و»القاسطين« هم أهل‬ ‫لأّ‬
‫كانوا على الحق إ ّ‬
‫الشام جيش معاوية‪ ،‬حيث وردت مفردة‬

‫‪» .1‬مرق« من مادة »مروق« على وزن غروب بمعنى الخروج من الشيء حيث تستعمل في خروج السهم ـ ويقول صاحب صحاح‬
‫اللغة ولسان العرب ـ المراد به المرور من الهدف واصابة طرفه ومن هنا سمي الخوارج بـ »المارقين« لنهم كانوا جماعة مفرطة‬
‫متعصبة رأت نفسها أكثر إسلمية من أمير المؤمنين علي)عليه السلم(‪.‬‬

‫‪» .2‬قسط‪ «،‬وردت أحيانا بمعنى الظلم والعدول عن الحق ولذلك يقال قسط على وزن فقط للفراد الذين إعوجت أرجلهم‪ ،‬كما وردت‬
‫بمعنى العدل‪ .‬قال الراغب في المفردات القسط بمعنى السهم والنصيب فاذا أخذ سهم شخصى قيل له قسط وهذا مصداق الظلم‪ ،‬واقساط‬
‫تعني دفع سهم الخر وهذا عين العدالة‪ .‬وعليه فالمعنيان يعودان الى مادة واحدة فقد صّرح صاحب لسان العرب أنّه جاء في حديث‬
‫علي)عليه السلم( قال‪ُ» :‬امرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين« واضاف صاحب لسان العرب »و القاسطون أهل صفين«‪.‬‬

‫] ‪[ 252‬‬

‫القسط بمعنى العدل إلى جانب ورودها بمعنى الظلم والطغيان والفسق‪.‬‬

‫ن هذه التسميات لهذه الفئات الثلث ـ وعلى ضوء المصادر السلمية ـ مّما صّرحت بها‬‫و الجدير بالذكر هنا أ ّ‬
‫الحاديث النبوية الشريفة‪.‬‬

‫فقد روى الحاكم النيسابوري في مستدرك الصحيحين عن أبي أيوب النصاري أّنه قال‪»:‬أمر رسول ال )صلى‬
‫ال عليه وآله(علي بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين«)‪.(1‬‬

‫كما ورد هذا المعنى في تلخيص المستدرك للذهبي)‪ .(2‬ووردت هذه الرواية في كتاب ُاسد الغابة في شرح سيرة‬
‫المام علي)عليه السلم()‪.(3‬‬

‫بينما وردت هذه الرواية مفصلة في تاريخ بغداد‪ ،‬حيث جاء عن أبي أيوب النصارى أّنه قال‪ :‬أمرنا رسول ال‬
‫)صلى ال عليه وآله( بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين في ركاب علي)عليه السلم(‪ .‬أّما الناكثين فقد قاتلناهم‬
‫وهم ـ أصحاب الجمل ـ طلحة والزبير‪ ،‬وأّما القاسطين فهم من عدنا الن من عندهم; أي معاوية وعمرو بن‬
‫ل أنني أعلم‬‫العاص )لقد قال ذلك حين عاد من صفين( وأّما المارقين فهم أصحاب النهروان‪ ،‬وال ل أعلم أين هم إ ّ‬
‫بأناسنقاتلهم«)‪(4‬‬

‫لولئك الجهال الذين لم تحسم لديهم الحروب التي وقعت إبان خلفة علي)عليه‬
‫ن هذا جواب قاطع ُ‬
‫و الحق ا ّ‬
‫السلم(‪.‬‬

‫نعم فُاولئك الذين تهافتوا في بادى المر على علي)عليه السلم( من أجل البيعة لم يطيقوا تحمل عدالته وشدته في‬
‫الحق; ول سيما ممارسته للعدالة التي أوشكت أن تموت بعد تلك المّدة الطويلة التي شهدت إنعدامها وقد تمثل‬
‫ابسط مظاهرها في التطاول على بيت المال وسلبه ونهبه الذي أقدم عليه الكثيرون فانى لهم بتحملها‪ ،‬ولذلك لم‬
‫ل ثلة معدودة التزمت بعهودها بينما إنفرج عنه العم الغلب ممن بايعوه; المر الذي أشار إليه‬ ‫تصمد معه إ ّ‬
‫نل‬‫جَعُلها ِلّلِذي َ‬
‫خَرُة َن ْ‬
‫ك الّدار ال ِ‬
‫المام)عليه السلم(في خطبته فقال‪» :‬كأّنهم لم يسمعوا كلم ال سبحانه يقول‪ِ) :‬تْل َ‬
‫عُلّوا‬
‫ن ُ‬
‫ُيِريُدو َ‬

‫‪ .1‬مستدرك الصحيحين ‪) 139 / 3‬طبعة دار المعرفة(‪.‬‬

‫‪ .2‬لقد طبع هذا الكتاب في ذيل المستدرك )المجلد السابق والصفحة السابقة(‪.‬‬
‫‪ .3‬اسد الغابة ‪.33 / 4‬‬

‫‪ .4‬تاريخ بغداد ‪) 187/ 13‬طبعة دار الكفر(‪.‬‬

‫] ‪[ 253‬‬

‫ن(‪(1).‬‬
‫ض َول َفسادًا َوالعاِقـَبُة ِلْلُمـّتِقـي َ‬
‫لْر ِ‬
‫ِفي ا َ‬

‫ثم أضاف)عليه السلم(‪» :‬وال لقد سمعوها ووعوها)‪ (2‬ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم‪ ،‬وراقهم)‪(3‬زبرجها)‪)«(4‬‬
‫‪.(5‬‬

‫فالمام)عليه السلم( يشبههم في البداية بالجهال الذين دفعهم جهلهم لمخالفته‪ ،‬ثم ينتقل في المرحلة اللحقة ليصفهم‬
‫ن حب الدنيا والتكالب على حطامها‬ ‫لأّ‬
‫بأّنهم سمعوا هذه الخبار والحقائق ووعوها وهى ليست خافية عليهم‪ ،‬إ ّ‬
‫والغترار بزبرجها ـ ول سيما بعد الفتوحات السلمية الكبرى التي جرت عليهم ما ل يحصى من الغنائم النفيسة‬
‫والتعود على الحياة الوادعة المرفهة خاصة تلك التي ظهرت أبان خلفة عثمان ـ جعلتهم يؤثرون الدنيا على الدين‬
‫ويبيعون الحقيقة بالخرافة ويضحون بالدار الخرة ويزهدون فيها‪.‬‬

‫فالعبارات التي أوردها المام)عليه السلم( هى في الواقع عصارة التحليلت بشأن نشوب المعارك الثلث في‬
‫عهد المام)عليه السلم( ; المر الذي يعتبر درسا لجميع المسلمين على مدى التاريخ في أّنهم يعيشون الفرقة‬
‫والتشتت وتمزق عرى الوحدة كلما أقبلوا على الدنيا واغتروا بزخارفها وزبرجها‪ ،‬فليس لهم من سبيل سوى‬
‫ن الختلفات السائدة في أوساط‬ ‫الورع والتقوى والزهد بغية الثبات على الطريق‪ .‬ونشاهد اليوم بكل وضوح أ ّ‬
‫المسلمين إّنما تعزى لما بينه المام)عليه السلم( وأو جزته الية القرآنية الشريفة‪»:‬تلك الدار الخرة نجعلها للذين‬
‫ل يريدون علوا في الرض ول فسادا والعاقبة للمتقين«‪.‬‬

‫‪ .1‬سورة القصص ‪. 83 /‬‬

‫‪» .2‬وعوها« من مادة »وعى« على وزن نفى‪ ،‬قال صاحب المقاييس تغني صنم الشيء إلى آخر‪ ،‬وقال صاحب المفردات تعني حفظ‬
‫الحديث وما شابه ذلك )وكلهما بمعنى واحد(‪.‬‬

‫‪» .3‬راق« من مادة »روق« ‪ -‬حسب المقاييس ‪ -‬بمعنى تقدم شيء على آخر و تأتي أحيانا بمعنى الحسن والجمال ومن هنا يصطلح‬
‫بالرواق على مقدمة البيت أو الضرحة المقدسة و قد جاءت هنا بمعنى الحسن والجمال‪.‬‬

‫‪» .4‬زبرج« بمعنى الزينة والذهب كما تأتي بمعنى نقوش القماش‪.‬‬

‫ن الضمائر في هذه العبارة والعبارات السابقة إّنما يعود إلى الفرق الثلث الناكثين والمارقين والقاسطين التي ُاشير‬
‫‪ .5‬يتضح بجلء أ ّ‬
‫ن هذا‬
‫ن هذه الضمائر إّنما تعود إلى الخلفاء الثلث‪ ،‬غير أ ّ‬
‫لمة المجلسي في البحار أ ّ‬‫إليها في العبارة السابقة‪ ،‬بينما يرجح المرحوم الع ّ‬
‫الحتمال يبدو مستبعدًا‪ .‬ولعل هذا هو الذي دفع المرحوم المجلسي لن يختتم كلمه باحتمال رجوع الضمائر إلى كافة من أشارت إليهم‬
‫الخطبة‪.‬‬

‫] ‪[ 254‬‬

‫فالعلو في الرض والفساد والتكالب على الدنيا وحطامها هما أساس الفرقة والختلف و التشتت في المجتمعات‬
‫السلمية‪.‬‬

‫تأّملت‬
‫‪1‬ـ البيعة الشعبية لمير المؤمنين)عليه السلم(‬
‫إّنها البيعة التي ل يمكن مقارنتها بتلك التي حدثت مع الخلفاء الثلث‪.‬‬

‫لّمة المستضعفة التي ذاقت‬ ‫كانت بيعة عفوية شعبية عامة بعيدة عن البرمجة والتخطيط‪ ،‬بل نابعة من أعماق ا ُ‬
‫لّمة نفسها أمام‬
‫الظلم والضطهاد‪ ،‬فهى ليست كبيعة السقيفة التي مثل إتخاذ القرار فيها بعض الفراد لترى ا ُ‬
‫نتيجة حسمت سابقًا‪ ،‬وهى ليست كبيعة عمر التي ُاسندت بطولتها لفرد واحد هو الخليفة الول‪ ،‬وأخيرًا ليست‬
‫كبيعة عثمان التي استندت للشورى السداسية وعلى ضوء التركيبة التي شكلها عمر‪.‬‬

‫بل هى بيعة واقعية وحقيقيقة جردت ماسواها من إنتحال هذا السم بعد أن برمجت وخططت بهذه الكيفية‪.‬‬

‫ن الثوار الذين أودوا بحياة عثمان إتجهوا صوب المام علي)عليه‬ ‫فقد ذكر بعض شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫السلم(ليبايعوه على الخلفة‪ ،‬فلم يجبهم فلما أصروا عليه‪ ،‬خاطبهم قائل‪» :‬أنا لكم وزيرًا خير مني اميرًا«‪.‬‬

‫ن عثمان قتل مع سبق الصرار‬


‫ن سبقت هؤلء في البيعة سيثير تهمة مفادها أ ّ‬
‫حيث كان يعلم)عليه السلم( بأ ّ‬
‫والترصد طبق خطة مدروسة‪.‬‬

‫ن قتلة عثمان فقط هم الذين بسطوا له أيديهم بالبيعة‪ ،‬وناهيك عّما تقدم‬
‫أضف إلى ذلك فلو بايعوه‪ ،‬لزعم البعض أ ّ‬
‫ن المام)عليه‬‫لأّ‬
‫ن المام)عليه السلم(كان يتوسم فيهم عدم القدرة على إحتمال الحق; نعم فالحق ثقيل وبيىء‪ ،‬إ ّ‬ ‫فا ّ‬
‫السلم(فوجىء بتقاطر المهاجرين والنصار الذين اصروا عليه بقبول الخلفة‪.‬‬

‫لّمة زرافات ووحدانا وهى تعلن بيعتها‬


‫فلم يكن له من سبيل سوى قبولها‪ ،‬فارتقى المنبر)عليه السلم( لتندفع إليه ا ُ‬
‫له‪ ،‬ولم يشذ منها سوى النزر اليسير من قبيل سعد بن أبي وقاص وعبدال‬

‫] ‪[ 255‬‬

‫بن عمر ولم يجبر هم المام)عليه السلم( على مبايعته)‪.(1‬‬

‫ن النبي )صلى ال عليه وآله( قد إستخلف عليًا)عليه‬ ‫إننا نعتقد وعلى ضوء المصادر السلمية المعتبرة أ ّ‬
‫السلم(بأمر ال‪ ،‬ولم يقتصر ذلك على »غدير خم« بل أكده النبي )صلى ال عليه وآله( في عّدة مواضع‬
‫ومناسبات‪ ،‬ورغم مخالفة البعض ـ لسباب ليسعنا المجال إلى الخوض في تفاصيلها ـ بعد رحيل النبي )صلى ال‬
‫لّمة بشكل عجيب على المام)عليه السلم( وهى تعلن عن‬ ‫عليه وآله(مع ذلك فما أن قتل عثمان حتى تدفقت ا ُ‬
‫تظامنها ودعمها واسنادها للمام)عليه السلم(; الدعم الذي لم تشهده النظم الديمقراطية طيلة تجاربها‪ ،‬بل قل‬
‫نظيرها سوى بعض النماذج التي حصلت على عهد رسول ال )صلى ال عليه وآله(كبيعة الشجرة‪.‬‬

‫لّمة بمنزلة علي)عليه السلم(وسعة علومه ومعارفه‬ ‫ن تلك البيعة إّنما كانت تنبع من معرفة ا ُ‬
‫و مّما ل شك فيه أ ّ‬
‫ومدى ورعه وتقواه وزهده وادارته الناجعة التي لم يكن فيها من مكان للتيارات والتحزبات‪ ،‬فقد كانت من العفوية‬
‫والنسيابية بحيث سلبت زمام المبادرة من الخصوم لتجعلهم يعيشون حالة الدهشة ُامام عمل تم ول سبيل إلى‬
‫لّمة وحالها وتخلوا عن مؤامراتهم وغدرهم لنهض ذلك المجتمع نهضات ولعاش‬ ‫الرجعة منه‪ ،‬ولو تركوا ا ُ‬
‫الطروحة التي حملها له القرآن والمتمثلة بقيام مجتمع الحرية والعدالة‪.‬‬

‫ن هذه العناصر المشبوهة العثمانية التي تطاولت على بيت أموال المسلمين وردت الميدان‬
‫و سنرى لحقا أ ّ‬
‫السياسي لتعبث الناس وتتل عب بمشاعرها الدينية وتقودها في خاتمة المطاف إلى إشعال نيران الجمل وصفين‬
‫والنهروان وتسدد تلك الضربات الموجعة للسلم والمسيرة السلمية‪.‬‬

‫‪2‬ـ مصدر النحرافات الجتماعية‬

‫ن العامل الصلي الذي يقف وراء النحراف عن الحق في عصره‬ ‫يعتبر المام)عليه السلم( ـ في هذه الخطبة ـ أ ّ‬
‫)و في كل العصور( إّنما يكمن في حب الدنيا والغترار بزخرفها وزبرجها الذي أجج نار حروب الجمل وصفين‬
‫والنهروان‪ ،‬ثم يؤكد)عليه السلم(على الية الشريفة التي تصرح بأن الخرة‬
‫‪ .1‬في ظلل نهج البلغة ‪.96 / 1‬‬

‫] ‪[ 256‬‬

‫من نصيب ُاولئك الذين ل يريدون علوا في الرض ول فسادا‪ .‬فهذه العبارات القصيرة إّنما تكشف عن حقائق‬
‫مهّمة تلمس آثارها على مدى التاريخ‪.‬‬

‫فالطماع هى أساس الحروب والنزاعات الدموية‪ ،‬والهواء والفساد في الرض هو العنصر الرئيسي الذي يقف‬
‫وراء الفوضى والهرج والمرج ومن هنا فاذا لم تجابه هذه العادات الشيطانية باليمان والعتقاد الراسخ فل مناص‬
‫من نشوب هذه الحروب الفتاكة وانعدام العدالة وسيادة الفوضى والقلق والضطراب‪ ،‬بل ستبرز هناك العناصر‬
‫لصول من قبيل الحرية وحقوق النسان لتسخرها من‬ ‫التي تتلعب بالقيم النسانية والمفاهيم الخلقية وسائر ا ُ‬
‫أجل تحقيق أهدافها وأطماعها‪.‬‬

‫ن المام)عليه السلم( يتحدث عن أولئك الذين تتضارب عقائدهم مع أعمالهم‪ ،‬ويبدو أّنهم‬ ‫والذي يجدر ذكره أ ّ‬
‫مسلمون حيث سمعوااليات القرآنية ومنها »تلك الدار الخرة‪.«...‬‬

‫ن دعائم إيمانهم قد تزعزعت وتفككت بفعل دوافعهم التي شدتهم إلى الدنيا والتكالب على‬‫و آمنوا بها‪ ،‬غير أ ّ‬
‫زخارفها والغترار بزبرجها‪ ،‬وهذه هى النتيجة الطبيعية لكل ُاولئك الذين يؤثرون دنياهم على دينهم‪.‬‬

‫‪3‬ـ المعارك الثلث على عهد المام علي)عليه السلم(‬

‫لقد تضمنت خطبته)عليه السلم( إشارة إلى المعارك الثلث‪ :‬الجمل‪ ،‬وصفين والنهروان التي ُاشعلت من قبل‬
‫الناكثين والقاسطين والمارقين‪ .‬وسنشير هنا إلى هذه المعارك بصورة مختصرة‪:‬‬

‫أ ـ معركة الجمل‬

‫لم تمر على بيعة امير المؤمنين)عليه السلم( أكثر من ثلثة أشهر حتى ضاقت طوائف من المستكبرين ذرعا‬
‫بعدالة المام)عليه السلم( ولم تطق تحمله فهبت لمخالفته‪ .‬معاوية من جانبه أعلن في الشام عن عدم استعداده‬
‫لمبايعة علي)عليه السلم( ثم تأهب للقتال‪ .‬فكتب المام)عليه السلم(رسائل إلى ولته على الكوفة البصرة ومصر‬
‫ليجهزوا الجيش من أجل مقاتله معاوية‪ ...‬في هذه الثناء هم طلحة الزبير بالسفر إلى مكة بذريعة أداء العمرة‪.‬‬

‫فالتقيا في مكة عائشة التي كانت متذمرة من مبايعة علي)عليه السلم( فانضمت إليهما واتجهوا إلى‬

‫] ‪[ 257‬‬

‫ن هؤلء لم يكونوا يطالبون بدم عثمان‪ ،‬ولم يكن لهم‬


‫ن كافة القرائن تشير إلى أ ّ‬
‫البصرة لنصرة عثمان‪ .‬وبالطبع فا ّ‬
‫من تعصب للسلم; قتلة عثمان لم يكونوا في البصرة‪ ،‬أضف إلى ذلك فان نصرة عثمان ل تسلتزم مخالفة أمير‬
‫ن طلحة من قادة الثورة على عثمان‪.‬‬ ‫المؤمنين علي)عليه السلم(‪ ،‬ناهيك عن أ ّ‬

‫ن هدف هؤلء من نقض بيعتهم لعلي)عليه السلم( هو عدم حصولهم على المناصب التي كانوا يحلمون‬ ‫و واضح أ ّ‬
‫بها‪ .‬وأخيرًا تمكن طلحة والزبير مع عائشة في شهر ربيع الثاني عام ‪ 36‬هـ بالمكر و الخداع من الستيلء على‬
‫لّمة السلمية‪.‬‬
‫البصرة ثم أخذوا لنفسهم البيعة من الناس حيث سددوا أولى ضرباتهم لوحدة ا ُ‬

‫المام)عليه السلم( بدوره لما كان عالمًا بهذا المر أنفذ جيشه الذي جهزه لقتال معاوية نحو البصرة ثم كتب‬
‫ن أبا موسى لم يرد بال يجاب‬
‫رسالة لعامله على الكوفة »أبو موسى الشعري« يطلب منه تعزيز الجيش ـ ورغم أ ّ‬
‫ل أّنه انفذ جيشًا قوامه تسعة آلف مقاتل إلى الكوفة ـ وفي جمادي الخرة التحم الجيشان‪،‬‬
‫على رسالة المام إ ّ‬
‫ن المعركة استغرقت أربع ساعات هزم فيها جيش طلحة والزبير‪ ،‬فانبرت عائشة‬ ‫وطبق نقل »تاريخ اليعقوبي« فا ّ‬
‫لتعبئة أهل البصرة فركبت الجمل ومن هنا سميت هذه المعركة بمعركة الجمل; وقد أبدى الجيش الذي تمحور‬
‫حول الجمل مقاومة عنيفة‪.‬‬

‫فنادى المام)عليه السلم(‪»:‬إعقروا الجمل« فلما عقر الجمل إنتهت المعركة حيث قتل طلحة والزبير )فقد قتل‬
‫طلحة في الميدان على يد مروان‪ ،‬بينما فر الزبير ليقتل خارج ميدان المعركة( فسرح المام)عليه السلم( عائشة‬
‫بكل إحترام على أّنها زوج النبي)صلى ال عليه وآله( إلى المدينة‪.‬‬

‫ن عدد القتلي في الجمل قد بلغ عشرة آلف وقيل سبعة عشر ألفًا‪ ،‬وهكذا حسمت المعركة لصالح‬
‫و قيل أ ّ‬
‫المام)عليه السلم( واخمدت تلك الفتنة‪(1).‬‬

‫ب ـ معركة صفين‬

‫عاد المام)عليه السلم( إلى الكوفة بعد الجمل‪ ،‬فكتب لمعاوية كتابا طالبه بالبيعة‪ .‬فلم يجبه معاوية‬

‫‪ .1‬ما ورد أعله‪ُ ،‬اقتبس من »الكامل في التأريخ« لبن الثير ج ‪ 3‬مع تلخيص«‪.‬‬

‫] ‪[ 258‬‬

‫ن قاتل عثمان هو علي بن أبي‬


‫وأخذ يدعو الناس للطلب بدم عثمان حتى أمر البعض بان يعلنوا على الناس أ ّ‬
‫طالب)عليه السلم(‪.‬‬

‫و بعد مضي مّدة كتب رسالة لعلي)عليه السلم( يعلن فيه الحرب بعد أن جيش جيوش الشام‪.‬‬

‫ل القليل منهم‪.‬‬
‫فجهز المام)عليه السلم( أهل الكوفة لينفذ جيشه إلى صفين وقد أجابه أغلب الناس إ ّ‬

‫فجعل المام)عليه السلم( جيشه طوائف وجعل لكل طائفة أمير‪ .‬وصل المام)عليه السلم(صفين لثمان بقين من‬
‫محرم عام ‪ 37‬هـ ليلتقي جيش معاوية هناك‪ .‬حاول بعض أصحاب المام)عليه السلم( البدو بالقتال‪ ،‬فكتب‬
‫معاوية رسالة للمام)عليه السلم(يناشده عدم التعجيل بالقتال‪.‬‬

‫المام)عليه السلم( من جانبه كان يسعى جاهدا للحيلولة دون نشوب القتال فكان يرسل الرسائل و الفراد يناشده‬
‫جيش معاوية اللتحاق بصفوف المسلمين حتى مرت عّدة شهور ولم يأذن المام)عليه السلم( بالقتال رغم‬
‫لمور لم تكن تجدي نفعًا‪ ،‬حتى نشبت المعركة في شهر ذي الحجة عام ‪37‬‬ ‫ن كل هذه ا ُ‬
‫لأّ‬
‫اصرار أصحابه عليه‪ .‬إ ّ‬
‫هـ ووقع بين الطرفين قتال شديد‪ ،‬ثم توقف القتال بحلول شهر محرم الحرام‪ ،‬ثم أخذ المام)عليه السلم( يرسل‬
‫رسائله ويبعث بأصحابه‪ ،‬وما ان انتهى شهر محرم حتى نشب القتال ثانية حتى زحف جيش المام ومني جيش‬
‫الشام بالفشل‪.‬‬

‫و أخيرًا شعر معاوية بهزيمة جيشه فعمد إلى الجيش بحمل المصاحف‪ ،‬فحدث انشقاق في جيش المام)عليه‬
‫السلم(بعد أن تعالت أصوات المنافقين بالكف عن القتال ثم انتهى المر إلى التحكيم الذي فرض على المام‪.‬‬

‫فاختاروا أبا موسى الشعري المعروف بسذاجته ممثل عن المام)عليه السلم( وعمرو بن العاص عن معاوية‬
‫بعد أن أتفقا على أن يخلع كل صاحبه‪.‬‬

‫فقام أبو موسى الشعري وخاطب الناس أّني خلعت عليًا)عليه السلم( كما أخلع خاتمي‪ ،‬بينما خدعه عمرو بن‬
‫العاص ولم يخلع معاوية‪ .‬وهكذا ضاعت أعظم فرصة كادت أن تقضي على بني ُامية و تغير وجه التاريخ فندم‬
‫جيش المام)عليه السلم(حيث ل ينفع الندم‪.‬‬

‫ج ـ معركة النهروان‬

‫ن الخوارج فئة أفرزتها تلك المعركة بعد مسألة التحكيم‪.‬‬


‫يفهم من أحداث معركة صفين أ ّ‬
‫] ‪[ 259‬‬

‫حيث أصروا على المام)عليه السلم( بقبول التحكيم فلما قاد إلى تلك النتيجة ندموا ندمًا شديدًا ليعتبروا التحكيم‬
‫ل هبوا‬
‫مخالفة صريحة للقرآن وأّنه الكفر بعينه‪ ،‬وقد بلغت بهم الوقاحة أن طالبوا المام)عليه السلم( بالتوبة وإ ّ‬
‫لقتاله‪ .‬فلما رأى المام)عليه السلم(الختلف قد دب بين جيشه )ولحظ عناصر النفاق التي كانت تحاول إثارة‬
‫الفتنة( أصدر أمره بالعودة إلى الكوفة‪.‬‬

‫فلما عاد الجيش إلى الكوفة‪ ،‬انشق منه اثنا عشر ألف من الفراد المتعصبين ليلجأوا إلى الحروراء ـ قرية تبعد‬
‫ميلين عن الكوفة ـ ومن هنا اطلق عليهم إسم الخوارج الحرورية‪ ،‬وأخيرًا استعدوا للقتال بعد أن تجمعوا في‬
‫النهروان قرب الحروراء‪.‬‬

‫ل أّنهم كانوا يعرفون بالجهل والتعصب‬


‫و الغريب في المر كان البعض منهم من أصحاب البرانس من الحفاظ‪ .‬إ ّ‬
‫واللتزام بظواهر الدين دون باطنه ومن هنا استحقوا إسم »المارقين«‪.‬‬

‫سعى المام)عليه السلم( بادىء ذي بدء إلى نصحهم والعذار إليهم فبعث لهم الواحد تلو الخر‪ ،‬فكان من ذلك‬
‫ن ثمانية آلف منهم قد رجعوا‬
‫أن استجاب عدد منهم وهم ينادون »التوبة التوبة يا أمير المؤمنين« حيث قيل إ ّ‬
‫ن المام )عليه السلم( قد جعل راية في الميدان وأمر التوابين بالنضواء تحتها(‪ ،‬مع ذلك‬‫وتابوا )تفيد الروايات أ ّ‬
‫لم ياذن المام)عليه السلم(بمقاتلتهم أمل بعودة من تبقى منهم‪.‬‬

‫ل شديدًا بعد أن أخبر أصحابه بأن‬


‫حتى بعث لهم من يحاججهم فقتلوه ثم نشب القتال‪ ،‬فقاتل)عليه السلم( قتا ً‬
‫مصارعهم دون النطفة ولن ينجو منهم عشرة ولن يهلك من جيشه عشرة‪ .‬فكان المر كما أخبر)عليه السلم(‪(1).‬‬

‫وقعت هذه الحرب في اليوم التاسع من شهر صفر عام ‪ 38‬أو ‪ 39‬هجري‪ ،‬ولم تدم اكثر من ساعة‪(2).‬‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.59‬‬

‫‪» .2‬الكامل في التاريخ« لبن الثير‪ ،‬شرح نهج البلغة للخوئى‪ ،‬تاريخ الطبرى‪ ،‬ج ‪ ،4‬نور الولية‪ ،‬مروج الذهب‪ ،‬ج ‪» 2‬مع‬
‫التلخيص والختصار«‪.‬‬

‫] ‪[ 260‬‬

‫] ‪[ 261‬‬

‫القسم الخامس‬

‫عَلى‬‫ل َ‬‫خَذ ا ّ‬‫جوِد الّناصِر‪َ ،‬وما َأ َ‬ ‫جِة ِبُو ُ‬


‫حّ‬‫ضِر َوِقياُم اْل ُ‬‫حا ِ‬ ‫ضوُر اْل َ‬‫ح ُ‬ ‫سَمَة‪َ ،‬لْو ل ُ‬‫حّبَة َوَبَرَأ الّن َ‬
‫ق اْل َ‬
‫»َأما َواّلِذي َفَل َ‬
‫س َأّوِلها‪،‬‬
‫خَرَها ِبَكْأ ِ‬
‫تآِ‬ ‫سَقْي ُ‬
‫غاِرِبَها‪َ ،‬وَل َ‬
‫عَلى َ‬ ‫حْبَلَها َ‬
‫ت َ‬ ‫ظُلوم‪َ ،‬لْلَقْي ُ‬ ‫ب َم ْ‬‫سَغ ِ‬‫ظِة ظاِلم‪َ ،‬ول َ‬ ‫عَلى ِك ّ‬ ‫اْلُعَلماِء َأّل ُيقاّروا َ‬
‫عْنز«‪.‬‬‫طِة َ‬ ‫عْف َ‬
‫ن َ‬
‫عْنِدي ِم ْ‬ ‫َوَلْلَفْيُتْم ُدْنَياُكْم َهِذِه َأْزَهَد ِ‬

‫—–‬
‫الشرح والتفسير‬

‫قبول البيعة والخلفة‬

‫يبّين المام)عليه السلم( السباب التي دعته إلى قبول البيعة والهداف التي يتوخاها من الخلفة‪ ،‬كما يشير إلى‬
‫ن هذه الخلفة والمرة ل تعدل عنده شيء لول تلك الهداف الكبرى‪.‬‬ ‫أّ‬

‫فقال)عليه السلم( »أّما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة‪ (1)،‬لول حضور الحاضر)‪ ،(2‬وقيام الحجة بوجود‬
‫الناصر‪ ،‬وما أخذ ال على العماء أن ل يقاروا)‪ (3‬على كظة)‪ (4‬ظالم‪ ،‬ول سغب)‪(5‬مظلموم‪ ،‬ل لقيت حبلها على‬
‫غاربها)‪ ،(6‬ولسقيت آخرها بكأس أولها«‪.‬‬

‫سَمة« في الصل بمعنى هبوب الرياح بشكل هادىء‪ ،‬وتستعمل أحيانا للشارة إلى التنفس‪ ،‬وُيطلق أحيانًا على النسان‪ ،‬فيقال‬ ‫‪َ» .1‬ن َ‬
‫سَمة‪ ،‬أما المقصود بها في بحثنا هذا فهو »النسان« أو »الروح«‪.‬‬
‫»َن َ‬

‫‪» .2‬حاضر« بمعنى حضور الشخص أو الشئى‪ ،‬وقال أرباب اللغة آنهاتأتي بمعنى القبيلة والطائفة الكبيرة‪ ،‬ولعلها وردت هنا بهذين‬
‫المعنيين‪.‬‬

‫‪» .3‬ليقاروا« من مادة »قرار« بمعنى السكون‪ ،‬وعليه فالمراد بالعبارة أن ل يسكتوا ول يسكنوا‪.‬‬

‫‪ .4‬كظة ما يعتري الكل من الثقل والكرب عند امتلء البطن بالطعام‪ ،‬والمراد استئثار الظالم بالحقوق‪.‬‬

‫‪» .5‬سغب« تعني الجوع‪ ،‬و لذلك يقال »ذو مسغبة على القحط« و ورد في القرآن »أو اطعام في يوم ذي مستغبة« و جاءت في كلم‬
‫المام)عليه السلم( كناية عن هضم حقوق المظلومين‪.‬‬

‫‪» .6‬غارب«‪ ،‬الكاهل والكلم تمثيل للترك وارسال المر‪.‬‬

‫] ‪[ 262‬‬

‫و قوله)عليه السلم( »لول حضور الحاضر« في إشارة إلى حضور الحاضرين بالبيعة له‪ ،‬وإن ذهب البعض إلى‬
‫ن المراد بالحاضر ذات البيعة والذي ل يختلف كثيرا والمعنى الول‪.‬‬
‫أّ‬

‫ن المراد حضور ال أو حضور الزمان الذي تنبئ به الرسول الكريم )صلى ال عليه وآله(لعلي)عليه‬ ‫أّما القول بأ ّ‬
‫السلم(فهو مستبعد جدًا‪ ،‬وإن أورده بعض الفضلء كتفسير لتلك العبارة‪ .‬على كل حال فان هذه العبارة تتحد في‬
‫المعنى مع قوله)عليه السلم(‪» :‬و قيام الحجة بوجود الناصر« لتشير كلهما لتمام الحجة عليه)عليه السلم( في‬
‫أن ينهض بالمر بعد توفر العّدة من الصحاب والبيعة اّما قوله)عليه السلم(»للقيت حلها على غاربها« فهو‬
‫كناية عن النصراف عن الشيء‪ ،‬حيث جرت العادة أن يطرح زمام الناقة على ظهرها إذا لم يكن هناك من حاجة‬
‫إليها في عمل‪.‬‬

‫و قوله)عليه السلم(‪» :‬لسقيت آخرها بكأس أولها« كناية عن الصير على المر وتركه كما صبر عليه ازاء‬
‫ن المام )عليه السلم( يرى نفسه ملزما بالنهوض بالمر والتصدي للخلفة لسيين‪:‬‬ ‫لأّ‬ ‫الخلفاء الثلثة)‪ .(3‬إ ّ‬
‫أحدهما وجود الناصر الذي يتّم الحجة عليه بالقيام من جانب‪ ،‬والثاني العهد الذي أخذه ال على العلماء بالقيام‬
‫بالمر إذا ما غيبت العدالة واستفحل الظلم وضيعت الحقوق »لول حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر‬
‫وما أخذ ال على العلماء أن ل يقاروا على كظة ظالم ول سغب مظلموم«‪.‬‬

‫‪ .1‬سورة النعام ‪.95 /‬‬

‫‪ .2‬سورة المومنون ‪.14 /‬‬

‫‪ .3‬والشاهد على ذلك الشعر الذي تمثل به)عليه السلم( في قضية مخالفة طلحة والزبير والتمهيد لنشوب معركة الجمل‪ .‬حيث قال‪:‬‬
‫فتن تحل بهم وهن شوارع *** تسقى آواخرها بكأس الول‬

‫بحار النوار‪.118 / 32 ،‬‬

‫] ‪[ 263‬‬

‫ن كلم المام)عليه السلم( تحذير لكافة علماء في ممارسة مسؤوليتهم في تشكيل الحكومة وبسط العدل‬ ‫فالواقع أ ّ‬
‫والقسط في ربوع المجتمع وعدم السكوت والتخاذل في حالة توفر هذه السباب‪ .‬ويخطىء كل أولئك الذين يرون‬
‫وظيفتهم إّنما تقتصر على إقامة الشعائر العبادية كالصوم والصلة والحج والزكاة إلى جانب التيان بالمستحبات‪.‬‬
‫فبسط العدل والقسط والدفاع عن المظلوم والقيام بوجه الظالم تعّد من جوهر الوظائف السلمية لهؤلء العلماء‪.‬‬

‫ثم يقول)عليه السلم(‪» :‬و ل لفيتم)‪ (1‬ديناكم هذه أزهد عندي من عفطة)‪ (2‬عنز«‪.‬‬

‫وباللتفات إلى ما ورد في صحاح اللغة من أن العفطة تعني الماء الذي يترشح من أنف الشاة )أو العنز حين‬
‫العطسة( تتضح مدى تفاهة الدنيا ـ التي تحظى بفائق الهمية لدى أهلها ـ عند علي)عليه السلم(‪ ،‬فما قيمة العنز‬
‫لولئك الذين ل يعرفون شخصية‬ ‫فضل عن ماء أنفها والحق ان مثل هذه التعبيرات قد تبدو غريبة بالنسبة ُ‬
‫ن هذه الغرابة رّبما تزول بأدنى نظرة إلى سيرته)عليه السلم( وحياته التي عاشها‪.‬‬ ‫لأّ‬‫علي)عليه السلم(; إ ّ‬

‫قال السيد الرضي )ره( في ذيل الخطبة‪.‬‬

‫ن فيه مسائل كان يريد‬


‫»قالوا وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه هذا الموضع من خطبته فناوله كتابًا ـ قيل أ ّ‬
‫الجابة عنها ـ فاقبل ينظر فيه )فلما فرغ من قرائته( قال له ابن عباس‪ :‬يا أمير المؤمنين لو أطردت خطبتك من‬
‫حيث أفضيت‪.‬‬

‫فقال‪» :‬هيهات يا بن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قّرت« قال ابن عباس فو ال ما َاسفت على كلم قط كأسفي على‬
‫هذا الكلم أل يكون أمير المؤمنين)عليه السلم( بلغ منه حيث يريد«‪.‬‬

‫ن اللون‬
‫أّما التعبير بأهل السواد فهو إشارة إلى المناطق الغنية بالزرع والشجار التي تبدو من بعيد سوداء‪ ،‬ل ّ‬
‫الخضر يتركز من بعيد ليميل إلى السواد‪ ،‬ولما كان هل الحجاز ألفوا الرض اليابسة الخالية التي يصصطلح‬
‫عليها بالبياض فاّنهم إذا ما انطلقوا نحو العراق المخضر بفضل‬

‫‪» .1‬ألفيتم« من مادة »الفاء«‪ ،‬بمعنى وجدتم ورأيتم‪.‬‬

‫‪ .2‬عفطة العنز‪ :‬ما تنثره من أنفها‪ ،‬واكثر ما يستعمل ذلك في النعمة وإن كان الشهر في الستعمال بالنون »النقطة«‪.‬‬

‫] ‪[ 264‬‬

‫نهريه دجلة والفرات وتلوح أشجاره وزرعه من بعيد يبدو أسودًا فيصطلحون عليه بأرض السواد كما يطلقوا على‬
‫أهله اسم أهل السواد‪.‬‬

‫أّما مضمون الكتاب والمسائل التي فيه فقد تطرق إليها بعض شّراح‪ .‬نهج البلغة وسنعرض لها في البحث القادم‪.‬‬

‫وقد روى ابن أبي الحديد بهذا الشأن عن استاذه مصدق بن شبيب أّنه قال‪ :‬قرأت على الشيخ أبي محمد عبد ال بن‬
‫أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة‪ ،‬فلما إنتهيت إلى هذا الموضع‪ ،‬قال لي‪ :‬لو سمعت ابن عباس يقول هذا‬
‫لقلت له‪ :‬وهل بقي في نفس ابن عّمك أمر لم يبلغه فوال مارجع عن الولين ول عن الخرين ‪ ،‬ول بقى في نفسه‬
‫ل رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪.‬‬ ‫أحد لم يذكره إ ّ‬

‫قال مصدق‪ :‬وكان ابن الخشات صاحب دعاية وهزل‪ ،‬قال‪ :‬فقلت له‪ :‬أتقول إنها منحولة‪ .‬فقال‪ :‬ل وال وإني لعلم‬
‫أّنها كلمه‪ ،‬كما أعلم أّنك مصدق‪(1).‬‬
‫قال الشريف الرضي)رحمه ال(‪ :‬قوله)عليه السلم( »كراكب الصعبة إن اشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم«‬
‫يريد أّنه إذا شدد عليها في جذب الزمام وهى تنازعه رأسها خرم أنفها وإن َارخى لها شيئًا مع صعوبتها تقحمت به‬
‫فلم يملكها يقال »أشنق الناقة« إذا جذب رأسها بالزمام فرفعها و»شنقها« أيضا‪ ،‬ذكر ذلك »ابن السكيت« في‬
‫اصلح المنطق« وإّنما قال »اشنق لها« ولم يقل »اشنقها« لّنه جعله في مقابلة قوله »أسلس لها« فكانه)عليه‬
‫السلم( قال‪ :‬إن رفع رأسها بمعنى أمسكه عليها بالزمام(‪.‬‬

‫تأّملت‬
‫‪1‬ـ الرد على سؤال‬

‫ل تعالى بواسطة‬
‫ن المام ينصب من قبل ا ّ‬ ‫قد يقال‪ :‬تعتقد المامية واتباع مدرسة أهل البيت)عليهم السلم( أ ّ‬
‫لّمة‪ ،‬بينما صّرح المام)عليه السلم(في هذه‬
‫النبي الكرم )صلى ال عليه وآله(‪ ،‬لعلى أساس إنتخابه من قبل ا ُ‬

‫‪ .1‬شرح نهج الباغة ابن أبى الحديد ‪205 / 1‬‬

‫] ‪[ 265‬‬

‫الخطبة قائل‪»:‬لول حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر و‪ ...‬للقيت حبلها على غاربها« فكيف التوفيق‬
‫بينهما؟‬

‫ن للمامة والخلفة واقع ومقام ظهور وبروز فواقعها أّنها تعين من قيل ال‬ ‫و نقول في الرّد على هذا السؤال أ ّ‬
‫بواسطة نبّيه)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬أّما ظهورها وبروزها والتصرف في شؤون المسلمين والمجتمع السلمي‬
‫لّمة‪.‬‬
‫ل من خلل بيعة ا ُ‬‫لّمة ونهوض أبنائها في توفير الدعم والسناد; المر الذي ل يتأتى إ ّ‬‫إّنما يتوقف على ا ُ‬

‫و من هنا أصبح المام)عليه السلم( جليس الدار إبان خلفة الخلفاء الثلثة ـ طيلة خمس وعشرين سنة ـ ولم‬
‫يتدخل في شؤون الخلفة‪ ،‬والحال لم تكن هنالك من ثلمة في إمامته المنصوص عليها من جانب ال بواسطة النبي‬
‫)صلى ال عليه وآله( ويصدق هذا الكلم على بعض أئمة العصمة والطهارة‪ ،‬فقد إقترح أبومسلم الخلفة على‬
‫المام الصادق)عليه السلم(‪ ،‬ولعلمه)عليه السلم(بالمؤامرة لم يجيبه‪.‬‬

‫بل كان البعض يطالب الئمة بالقيام وتولي الخلفة‪ .‬فيجيبون باننا ل نملك ما يكفي من النصار)‪.(1‬‬

‫‪2‬ـ المسائل التي تضمنها الكتاب‬

‫ن الكتاب الذي سلم إلى علي)عليه السلم(‬


‫روى المرحوم »الشارح البحراني« في كتابه عن أبي الحسن الكيدري أ ّ‬
‫آخر الخطبة كان يقسم عشرة أسئلة هى‪:‬‬

‫‪1‬ـ الذي خرج من بطن وليس له بولد؟‬

‫قال)عليه السلم(‪ :‬يونس)عليه السلم( الذي خرج من بطن الحوت‪.‬‬

‫‪2‬ـ ما كان قليله مباح وكثيره حرام؟‬

‫قال)عليه السلم(‪ :‬نهر طالوت‪.‬‬


‫‪3‬ـ العبادة التي يعاقب على التيان بها أو تركها؟‬

‫قال)عليه السلم(‪ :‬الصلة في السكر‪.‬‬

‫‪ .1‬اصول الكافي ‪ 242 / 2‬كتاب اليمان والكفر‪ ،‬باب قلة عدد المؤمنين‪ ،‬ح ‪.4‬‬

‫] ‪[ 266‬‬

‫‪4‬ـ الطائر الذي ليس له أصل )أم(؟‬

‫قال)عليه السلم(‪ :‬الطائر الذي خلقه عيسى)عليه السلم( باذن ال‪.‬‬

‫‪5‬ـ رجل مدين الف درهم وله الف درهم وضمنه آخر وكان له الف درهم‪ ،‬وقد مضى عليه عام‪ ،‬فالزكاة على أي‬
‫من المالين؟‬

‫قال)عليه السلم(‪ :‬إذا فعل الضامن ذلك باذن المدين فل زكاة عليه‪ ،‬وإن فعله بدون إذنه وجبت عليه الزكاة‪.‬‬

‫‪6‬ـ حج جماعة فنزلوا بيتًا في مكة وأغلق أحدهم باب البيت فكان فيه طيور فماتت عطشا‪ ،‬فعلى من تجب الكفارة؟‬

‫قال)عليه السلم(‪ :‬على من أغلق الباب ولم يخرج الطيور ولم يسقيها‪.‬‬

‫‪7‬ـ شهد أربعة على رجل بالزنا‪ ،‬فأمرهم المام برجمه )لّنه كان محصنًا( فرجمه أحدهم وساعده جماعة وامتنع‬
‫الثلث‪ .‬ثم رجع عن شهادته )وأقر بكذبه( ولم يمت المتهم‪ .‬ثم مات وبعد موته رجع الثلث عن شهادتهم‪ .‬على من‬
‫تجب دينه؟‬

‫قال)عليه السلم(‪ :‬على ذلك الرجل والجماعة الذين ساعدوه)‪.(1‬‬

‫‪8‬ـ هل تقيل شهادة يهوديين لثالث باعتناق السلم؟‬

‫قال)عليه السلم(‪ :‬ل تقبل شهادتهما; لّنهم يحرفون كلم ال ويجوزون الشهادة بالباطل‪.‬‬

‫‪9‬ـ هل تقبل شهادة نصرانيين لنصراني أو يهودي أو مجوسي بالسلم؟‬

‫ن قاُلوا ِإّنا َنصارى()‪.(2‬‬


‫ن آَمُنوا اّلِذي َ‬
‫ن َأْقَرَبُهْم َمَوّدًة ِلّلِذي َ‬
‫جَد ّ‬
‫قال)عليه السلم(‪ :‬تقبل لقوله سبحانه‪َ) :‬وَلَت ِ‬

‫‪10‬ـ قطع شخص يد آخر‪ ،‬فشهد أربعة عند المام قطعت يده وقد زنا بمحصنة‪ ،‬فاراد المام أن يرجمه فتوفى قبل‬
‫الرجم‪ ،‬فما حكمه؟‬

‫‪ .1‬هذا إذا أخطا الشهود فان كان عن عمد فحكمهم القصاص كما ورد في كتاب القصاص‪ .‬والنقطة الجديرة بالذكر للشهود الذين‬
‫حصل الرجم لشهادتهم أن يرجعوا وما دفع يؤخذ من الربعة بالتساوي وللوقوف أكثر راجع كتاب الجواهر‪ ،225 / 41 ،‬ولبّد من‬
‫اللتفات هنا إلى وجود بعض التفاوت بين ما ورد في هذا الحديث وما جاء في الكتب الفقيهة‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة المائدة ‪. 82 /‬‬

‫] ‪[ 267‬‬
‫قال)عليه السلم(‪ :‬تجب الدية على من قطع يده‪ ،‬لكن ان شهدوا أّنه سرق بحد النصاب فل تجب الدية على القاطع)‬
‫‪ .(1‬طبعا ما ذكر هو مضمون رواية مرسلة رويت عن الكيدري ولم تثبت صحة سند الحديث‪ ،‬ولذلك هناك‬
‫أبحاث كثيرة من وجهة النظر الفقيهة بشأن بعض الفروع المذكورة في هذا الحديث‪.‬‬

‫‪3‬ـ مميزات الخطبة الشقشقية‬

‫ن الخطبة الشقشقية هى من الخطب التي قل نظيرها إن لم نقل ل‬ ‫ن نظرة عامة إلى خطب نهج البلغة تفيد أ ّ‬‫إّ‬
‫ن المام)عليه السلم(قد أوردها في ظروف خاصة للحيلولة دون‬ ‫نظير لها في نهج البلغة; المر الذي يثبت أ ّ‬
‫نسيان الحقائق المتعلقة بالخلفة بعد رسول ال )صلى ال عليه وآله( لتخلد في التاريخ ومن هنا أطلق عباراته‬
‫بصراحة تامة‪ .‬فقد أوضح المام)عليه السلم( في هذه الخطبة عّدة ُامور منها‪:‬‬

‫‪1‬ـ أحقيته وجدارته بالخلفة التي بينها بوضوح وهذه هى الحقيقة التي إتفق عليها تقريبًا كافة المحققين المسلمين‬
‫وغير المسلمين‪ ،‬حتى إعترف معاوية أعدى أعداء المام)عليه السلم( با فضليته)‪.(2‬‬

‫‪2‬ـ مظلموميته)عليه السلم( رغم أحقيته وكفائته‪.‬‬

‫‪3‬ـ يفيد كلم المام)عليه السلم( عدم وجود مرجع واضح لنتخاب أي من الخلفاء الثلثة‪ ،‬اضافة إلى المعايير‬
‫المتعددة التي حكمت ذلك النتخاب‪ ،‬فقد كانت خلفة أحدهم تستند إلى رأي واحد‪ ،‬وآخر لنصف من شورى‬
‫سداسية وثالث لعدد من الراء‪.‬‬

‫لّمة في عصر الخلفاء عن تعاليم النبي الكرام )صلى ال عليه وآله( وتفاقم الزمات على مرور‬
‫‪4‬ـ ابتعاد ا ُ‬
‫الزمان‪ ،‬بحيث كانت من أبلغ الصعوبات التي واجهت المام)عليه السلم( حين تولى الخلفة تكمن في‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن ميثم البحراني ‪ ،269 / 1‬المتسدرك ‪.55 / 7‬‬

‫‪ .2‬ورد هذا المعنى في الرسالة التي كتبها معاوية وبعث بها لمحمد بن أبي بكر والتي نقلتها أغلب المصادر السلمية ومنها مروج‬
‫ن أبيك وفاروقه )عمر( هما أول من خالفه بعد وفاة النبي )صلى ال‬
‫الذهب‪ ،‬فقد قال فيها أني وأبيك نقر بفضل علي وحّقه علينا‪ ...‬إّل أ ّ‬
‫عليه وآله(‪ .‬وقال اليعقوبي في تاريخه‪ :‬وكان المهاجرون والنصار ل يشكون في علي)عليه السلم(‪) .‬تاريخ اليعقوبي ‪.(2/124‬‬

‫] ‪[ 268‬‬

‫لّمة إلى القيم السلمية التي كانت سائدة على عهد رسول ال )صلى ال عليه وآله(‪.‬‬
‫إعادة ا ُ‬

‫ن التهافت على الدنيا والغترار بزخرفها هو العامل الذي يقف وراء الفوضى والضطراب والحروب التي‬
‫‪5‬ـ أ ّ‬
‫نشبت على عهد المام علي)عليه السلم(‪.‬‬

‫ن عدالة علي)عليه السلم( وشدته في‬


‫ن ما حصل للمام علي)عليه السلم( هو البيعة الحقيقة بعينها‪ ،‬غير أ ّ‬
‫‪6‬ـ أ ّ‬
‫الحق أثارت حفيظة بعض زعماء المجتمع لينقضوا البيعة ويقسط ويمرق آخرون‪.‬‬

‫‪7‬ـ لم يكن للمام)عليه السلم( أية رغبة بالخلفة ولم يراها هدفا قط‪ ،‬بل هى وسيلة لحقاق الحق ابطال الباطل‬
‫وبسط العدل والقسط‪.‬‬

‫‪8‬ـ كانت النتفاضات التي حدثت في زمان عثمان والتي أدت بالتالي إلى قتله طبيعية جدًا ونتيجة لسلوكه وبطانته‬
‫ل وولة على بعض المناطق فعبثوا ببيت المال‬ ‫من بني ُامية الذين سلطهم على رقاب المسلمين فجعلهم عما ً‬
‫لّمة بعد أن انطلقت شرارة الرفض من المناطق البعيدة عن مركز الخلفة‬ ‫واسرفوا في تبذيره حتى ثارت ا ُ‬
‫كمصر والبصرة والكوفة‪.‬‬
‫‪9‬ـ كانت المعارك الثلث ـ الجمل وصفين والنهروان ـ قد فرضت على المام)عليه السلم( من قبل الفراد الذين‬
‫لم يطيقوا عدله)عليه السلم( إلى جانب أولئك الذين يبحثون عن الجاه والمنصب‪.‬‬

‫‪10‬ـ عدم انسجام عقيدة تنزيه الصحابة وعدالتهم لمجّرد صحبتهم مع أي من المعايير والوقائع التاريخية; وهو‬
‫العتقاد الذي يقود إلى التناقض‪ ،‬فاصحاب فتنة الجمل هما إثنان من الصحابة وصاحب صفين من الصحابة أيضا‬
‫بينما كانت طائفة من الصحابة من مشعلي نار النهروان وقد خرج جميع هولء على إمام زمانهم فاختاروا سبيل‬
‫لّمة السلمية وبث الفرقة والختلف في صفوفها‪ .‬فكيف والحال هذه نقول علي)عليه‬ ‫البغي وشق عصا ا ُ‬
‫السلم(‪.‬‬

‫لمور فهو توجيه يفتقر إلى المنطق‬


‫على الحق وطلحة والزبير ومعاوية كذلك؟! أّما الستدلل بالجتهاد في هذه ا ُ‬
‫ومدعاة حتى لرتكاب الكبائر‪.‬‬

‫] ‪[ 269‬‬

‫الخطبة ‪4‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫و هى من أفصح كلمه)عليه السلم( وفيها يعظ الناس ويهديهم من ضللتهم ويقال‪:‬‬

‫»إّنه خطبها بعد قتل طلحة والزبير«‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫يمكن أن تكون هذه الخطبة كما يفهم من عنوانها قد وردت بعد أحداث معركة الجمل وقتل طلحة والزبير فهى‬
‫تتحدت عن وقائع المعركة والدروس والعبر التي ينبغي أن يتعلمها المسلمون‪ .‬حيث يمكن خلصة الخطبة في‬
‫محاور رئيسية ثلث‪:‬‬

‫لّمة من الظلمات بواسطة أهل بيت النبي)صلى ال عليه وآله(حتى بلغت‬


‫‪ 1‬ـ التصريح بهذه الحقيقة وهى هداية ا ُ‬
‫ذروة تكاملها ورقيها‪ ،‬وعليه فعليها أن تعيرهم آذانا صاغية وتتفاعل مع مواعظهم ونصائحهم‪.‬‬

‫ن جلباب الدين لم يدعه يكشف تلك‬


‫لأّ‬
‫ن المام)عليه السلم( كان يعلم بالخيانة ونقض العهود والتمرد‪ ،‬إ ّ‬
‫‪2‬ـإّ‬
‫الحقائق‪.‬‬
‫ن اليوم لم يعّد يوم التستر على الحقائق; لبّد من‬
‫‪ 3‬ـ يشير المام)عليه السلم( في المقطع الخير من الخطبة إلى أ ّ‬
‫لّمة من الضلل وهذا بذاته ما يجعل المام)عليه السلم( يعيش هاجس‬ ‫ل يخشى على ا ُ‬
‫إعلن هذه الحقائق وإ ّ‬
‫القلق‪.‬‬

‫] ‪[ 270‬‬

‫] ‪[ 271‬‬

‫القسم الول‬

‫عَيَة‪ ،‬وََكْي َ‬
‫ف‬ ‫سْمٌع َلْم َيْفَقِه اْلوا ِ‬
‫سراِر ُوِقَر َ‬
‫ن ال ّ‬
‫عِ‬‫جْرُتْم َ‬‫سّنْمُتْم ُذْرَوَة اْلَعْلياِء‪َ ،‬وِبنا َأْف َ‬
‫ظْلماِء‪َ ،‬وَت َ‬
‫»ِبنا اْهَتَدْيُتْم ِفي ال ّ‬
‫ن«‪.‬‬‫خَفقا ُ‬‫ن َلْم ُيفاِرْقُه اْل َ‬
‫جنا ٌ‬‫ط َ‬ ‫حُة؟ ُرِب َ‬ ‫صْي َ‬
‫صّمْتُه ال ّ‬
‫ن َأ َ‬
‫عي الّنْبَأَة َم ْ‬‫ُيرا ِ‬

‫الشرح والتفسير‬

‫التحلي بالوعي واليقظة‬

‫أشار المام)عليه السلم( في بداية الخطبة إلى النعم الجمة التي تمتع بها المسلمون ـ ول سيما في صدر السلم ـ‬
‫في ظل السلم‪ ،‬حيث وضح هذا المر بثلث عبارات قصيرة ذات تشبيهات رائعة فقال)عليه السلم(‪» :‬بنا‬
‫إهتديتم)‪ (1‬في الظلماء)‪(2‬وتسنمتم)‪ (3‬ذروة)‪ (4‬العلياء‪ ،‬وبنا افجرتم)‪ (5‬عن السرار)‪ .«(6‬فالمام)عليه السلم(‬
‫يشير في العبارة الول إلى ظروف الجاهلية التي خيم فيها الظلم والجهل والفساد والجريمة على كافة الماكن‬
‫حتى تبددت هذه الظلمات بظهور النبي)صلى ال عليه وآله(‬

‫‪» .1‬اهتديتم« من »الهتداء« تستعمل ـ حسب قول بعض شّراح نهج البلغة وارباب اللغة ـ حيث يميل النسان بإرادته للهداية وهكذا‬
‫جاءت في العبارة‪.‬‬

‫‪» .2‬ظلماء« على وزن صحراء بمعنى ظلمة أول الليل أو بعبارة ُاخرى النور بعد الظلمة; خلفا للظلمة بمفهومها العام ولعل‬
‫المام)عليه السلم( أراد بها عصر الجاهلية الذي يعتبر في الواقع ظلمة بعد النور; أي دعوة النبياء أولي العزم‪.‬‬

‫‪» .3‬تسنمتم« من مادة سنم على وزن قلم بمعنى العلو ومن هنا يطلق على ذروة الجمل إسم سنام‪.‬‬

‫‪» .4‬ذروة« من مادة »ذرو«‪ ،‬لها معنيان‪ :‬أحدهما إشراف شيء على آخر ومن هنا تطلق الذروة على قمة الجبل‪ ،‬والخر تفتت‬
‫الشيء وتفرقه‪.‬‬

‫‪» .5‬أفجرتم« من مادة »فجر« بمعنى الفجوة الواسعة قي الشيء ومن هنا اطلق الفجر على الصباح الذي يشق عتمة الليل‪ ،‬وأفجرتم‬
‫بمعنى دخول الفجر‪.‬‬

‫‪» .6‬سرار« من مادة »سر« بمعنى الخفاء وما يقابل العلن‪ ،‬وتطلق مفردة السرار عادة على الليالي الخيرة للشهر حيث يكون الجو‬
‫ظلما دامسًا‪.‬‬

‫] ‪[ 272‬‬
‫وانبثاق الدعوة السلمية ليهتدي الناس إلى الصراط المستقيم ويتجهون نحو الهدف المنشود‪.‬‬
‫ويشبه في العبارة الثانية حركة الرقي والتكامل والزدهار بالجمل ذي السنام )حيث اقتبست المفردة تسنتم من‬
‫مادة سنام أعلى قمة في الجمل( فقال)عليه السلم( لقد بلغتم هذه الذروة وقطعتم مسيرة الرقي والتكامل في ظل‬
‫السلم; الحقيقة التي إذعن لها جميع مؤرخي الشرق والغرب في كتبهم التي تعرضوا فيها للمدنية السلمية‬
‫وحضارتها‪ .‬ثم شبه في العبارة الثالثة أوضاع المجتمع الجاهلي بليالي الشهر الظلماء والمحاق )حيث تعني‬
‫ن هذه‬‫السرار الليالي التي ليبزغ فيها القمر أبدًا( فقال)عليه السلم(‪» :‬و بنا أفجرتم عن السرار«‪ .‬والواقع هو أ ّ‬
‫جُهْم ِم َ‬
‫ن‬ ‫خِر ُ‬‫ن آَمُنوا ُي ْ‬
‫ي اّلِذي َ‬
‫ل َوِل ّ‬
‫التعبيرات إّنما تنبع من القرآن الذي شبه السلم واليمان والوحي بالنور‪ ،‬فقال‪) :‬ا ّ‬
‫ن اّتَبَع‬
‫ل َم ِ‬
‫ن * َيْهِدي ِبِه ا ّ‬ ‫ب ُمِبـي ٌ‬ ‫ل ُنوٌر َوِكتا ٌ‬
‫نا ّ‬
‫ت ِإلى الّنوِر()‪ (1‬وقال في موضع آخر‪َ):‬قْد جاَءُكْم ِم َ‬ ‫ظُلما ِ‬
‫ال ّ‬
‫ك()‪ (3‬ـ ثم يذم)عليه‬ ‫ت ِإلى الّنوِر ِبِإذِنِه()‪ (2‬وقال‪َ) :‬و ِإّنُه َلِذْكٌر َل َ‬
‫ظُلما ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫جُهْم ِم َ‬
‫خِر ُ‬
‫سلِم َوُي ْ‬
‫ل ال ّ‬
‫سُب َ‬
‫ضواَنُه ُ‬
‫ِر ْ‬
‫السلم(الفراد الذين صخت آذانهم عن سماع الحق بينما يثني على غيرهم من ذوي السماع فقال)عليه السلم(‪:‬‬
‫»وقر سمع لم يفقه الواعية«‪ .‬تستعمل مفردة »الوقر« بشأن الصمم كما تستعمل في ثقل السمع‪ ،‬والمراد بالواعية‬
‫الصوات المرتفعة‪ ،‬وهى إشارة ليات القرآن التي تقرع السماع بشأن المسائل المهّمة العقائدية والعملية‬
‫ل من »لم يسمع« تفيد عدم جدوى السمع مالم‬ ‫والخلقية وكذلك السنة النبوية الشريفة‪ .‬أّما التعبير »لم يفقه« بد ً‬
‫يصحبه الدراك والفهم‪ .‬ثم واصل المام)عليه السلم( كلمه فقال‪» :‬وكيف يراعى النباة)‪ (4‬من أصمته‬
‫الصيحة«)‪ .(5‬والمراد كيف يصغي لي ويستمع قولي من ليراعي أو امر ال ونبّيه)صلى ال عليه وآله(فقد شبه‬

‫‪ .1‬سورة البقرة ‪.257 /‬‬

‫‪ .2‬سورة المائدة ‪ 15 /‬ـ ‪.16‬‬

‫‪ .3‬سورة الزخرف ‪.44 /‬‬

‫‪» .4‬النبأة« من مادة »نبأ« بمعنى القدوم من مكان إلى آخر ومن هنا اطلق النبأ على الخبر الذي ينتقل من مكان إلى آخر والنبأة‬
‫بمعنى الصوت الخفي لن الصوت ينتقل من مكان إلى آخر )مقاييس اللغة(‪.‬‬

‫‪ .5‬قال بعضى شّراح نهج البلغة أن قوله »أصمته الصيحة« ليس معناه أن الصيحة كانت علة لصممه‪ ،‬بل معناه أّنهم كانوا صمما‬
‫عن سماع صوت الوحي‪ ،‬كقوله سبحانه »أفأنت تسمع الصم ولو كانوا ليعقلون« )سورة يونس ‪.(42 /‬‬

‫] ‪[ 273‬‬

‫ذلك بمن أصمته الصيحة القوية فانه محال أن يراعي بعد ذلك الصوت الضعيف‪ .‬ولما كانت‬
‫لخرى المتعصبة للحق فقد قال)عليه السلم(‪» :‬ربط جنان)‪ (1‬لم يفارق الخفقان)‪.(2‬‬
‫هنالك الفئة ا ُ‬

‫ملحظة‬
‫الهداية في ظل أهل البيت)عليهم السلم(‬

‫ما مر معنا في هذا القسم من الخطبة هو إشارة إلى واقعة تأريخية مهّمة تتضح من خلل مقارنة عصر العرب‬
‫الجاهلية بعصر التطور والزدهار الذي أعقب بزوغ شمس السلم‪ ،‬كيف كان عرب الجاهلية من حيث العقائد‬
‫الدينية والقضايا المتعلقة بالمبدأ والمعاد والنظام الجتماعي ونظام السرة والخلق والتقوى والوضاع‬
‫لمور أبان انبثاق الدعوة السلمية ونزول القرآن الكريم‪ .‬والحق أن التفاوت‬ ‫القتصادية وكيف أصبحت هذه ا ُ‬
‫ل تعذر تصور ذلك التفاوت‪ .‬فما‬ ‫بينهما إلى درجة من المدى والعمق بحيث ليمكن سوى نعته بالمعجزة الكبرى وإ ّ‬
‫صوره المام)عليه السلم(في هذه الخطبة لم يكن سوى الظلم المطلق الذي القى بظلله على جميع المجتمع‪ ،‬ولم‬
‫يكد ينبثق السلم حتى تبددت هذه الظلمة بفجر السلم ليأخذ بيد المجتمع إلى العلم والمعرفة والثقافة والحضارة‬
‫ل بالرجوع إلى الكتب التي ألفت بشأن‬
‫والمدنية‪ .‬ولم تكن سوى إشارة قصيرة ول يمكن اللمام بتفاصيلها إ ّ‬
‫الحضارة السلمية‪ .‬كما وردت بعض التفاصيل في سائر خطبه)عليه السلم( في نهج البلغة‪.‬‬
‫—–‬

‫‪» .1‬جنان« بمعنى القلب لنه في صدر النسان وقد اشتقت هذه المفردة من جن )على وزن فن( بمعنى الستتار ومن هنا يطلق جّنة‬
‫على الحديقة الغناء والرض المغطاة بالشجار‪ ،‬ويطلق الجنين على الطفل المستتر في بطن ُاّمه كما تطلق مفردة الجن لّنهم استجنوا‬
‫فل يروا والمجنون تطلق على من ستر عقله‪.‬‬

‫‪» .2‬خفقان« بمعنى الضطراب‪ ،‬ويستعمل للخوف والخشية لنها تدعو للضطراب والمراد بها في العبارة خوف ال‪.‬‬

‫] ‪[ 274‬‬

‫] ‪[ 275‬‬

‫القسم الثانى‬

‫صْد ُ‬
‫ق‬ ‫صَرِنيُكْم ِ‬
‫ن‪َ ،‬وَب ّ‬
‫ب الّدي ِ‬
‫جْلبا ُ‬
‫عْنُكْم ِ‬
‫سَتَرِني َ‬ ‫حّتى َ‬ ‫ن‪َ ،‬‬‫حْلَيِة اْلُمْغَتّري َ‬
‫سُمُكْم ِب ِ‬
‫ب اْلَغْدِر َوَأَتَو ّ‬
‫عواِق َ‬ ‫ظُر ِبُكْم َ‬
‫ت َأْنَت ِ‬
‫»ما ِزْل ُ‬
‫ن«‪.‬‬‫ن َول ُتِميُهو َ‬
‫حَتِفُرو َ‬‫ن َول َدِليَل‪َ ،‬وَت ْ‬
‫ث َتْلَتُقو َ‬
‫حْي ُ‬
‫ضّلِة‪َ ،‬‬ ‫جواّد اْلَم َ‬ ‫ق ِفي َ‬ ‫حّ‬ ‫ن اْل َ‬
‫سَن ِ‬
‫عَلى َ‬ ‫ت َلُكْم َ‬ ‫الّنّيِة َأَقْم ُ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫كنت أتوقع غدركم‪ ،‬ولكن‪...‬‬

‫لقد خاطب المام علي)عليه السلم( ـ في هذا المقطع من الخطبة ـ سليلي أصحاب الجمل من تبقى منهم قائل‪:‬‬
‫ي )عليه‬
‫»مازلت انتظر بكم عواقب الغدر‪ ،‬واتوسمكم)‪ (1‬بحلية المغترين)‪ .«(2‬فقد روى أّنه لما بويع عل ّ‬
‫ن الناس قتلوا عثمان عن غير مشورة مّني وبايعوني عن مشورة منهم‬ ‫السلم(كتب إلى معاوية‪ :‬أّما بعد فإ ّ‬
‫ى أشراف أهل الشام قبلك‪.‬‬
‫واجتماع‪ ،‬فإذا أتاك كتابي فبايع لى‪ ،‬وأوفد إل ّ‬

‫ل من بني عميس‪ ،‬وكتب معه كتابًا إلى الزبير بن العوام‪،‬‬


‫فلما قدم رسوله على معاوية‪ ،‬وقرأ كتابه‪ ،‬بعث رج ً‬
‫وفيه‪:‬‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‪ ،‬لعبد ال الزبير أميرالمؤمنين من معاوية بن أبي سفيان‪:‬‬

‫سلم عليك‪ ،‬أّما بعد‪ ،‬فإّني قد بايعت لك أهل الشام‪ ،‬فأجابوا واستوسقوا‪ ،‬كما يستوسق الجلب‪ ،‬فدونك الكوفة‬
‫والبصرة‪ ،‬ل يسبقك إليها ابن أبي طالب‪ ،‬فإّنه ل شيء بعد هذين‬

‫لمة; أي كنت أرى فيكم علئم الغدر منذ البداية‪.‬‬


‫‪» .1‬أتوسمكم« من مادة »وسم« على وزن ولم أتفرس فيكم‪ ،‬الثر والع ّ‬

‫‪» .2‬مغترين« من مادة »غرور« بمعنى مخدوعين‪.‬‬


‫] ‪[ 276‬‬

‫عوا الناس إلى ذلك‪ ،‬وليكن منكما‬‫المصرين‪ ،‬وقد بايعت لطلحة بن عبيدال من بعدك‪ ،‬فأظهر الطلب بدم ثمان‪ ،‬واْد ُ‬
‫سّر به‪ ،‬وأعلم به طلحة وأقرأه‬
‫الجّد والتشمير‪ ،‬أظفركما ال‪ ،‬وخذل مناوئكما! فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير ُ‬
‫إياه‪ ،‬فلم يشكًا في النصح لهما من قبل معاوية‪ ،‬وأجمعا عند ذلك على خلف علي)عليه السلم(‪.‬‬

‫جاء الزبير وطلحة إلى علي )عليه السلم( بعد البيعة بأيام‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أميرالمؤمنين‪ ،‬قد رأيت ما كّنا فيه من‬
‫ل الخلفة من بعده‪ ،‬فوّلنا بعض‬ ‫لك ا ّ‬
‫الجفوة في ولية عثمان كّلها‪ ،‬وعلمت رأى عثمان كان في بني أمية‪ ،‬وقد و ّ‬
‫ل من أرضى بدينه‬ ‫سم ال لكما‪ ،‬حتى أرى رأيي‪ ،‬واعلما أّني ل أشرك في أمانتي إ ّ‬ ‫أعمالك‪ ،‬فقال لهما‪ :‬ارضيا بق ْ‬
‫وأمانته من أصحابي‪ ،‬ومن قد عرفت دخيلته‪ ،‬فانصرفا عنه وقد دخلهما اليأس‪ ،‬فاستأذناه في العمرة‪.‬‬

‫طلب طلحة والزبير من علي )عليه السلم( أن يوّليهما المصرين‪ :‬البصرة والكوفة‪ ،‬فقال حتى أنظر‪ .‬ثم استشار‬
‫المغيرة بن شعبة‪ ،‬فقال له‪ :‬أرى أن توّلَيهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس‪ .‬فخل بابن عباس‪ ،‬وقال‪ :‬ماترى؟ قال‪ :‬يا‬
‫عْين الخلفة‪ ،‬وبهما كنوز الرجال‪ ،‬ومكان طلحة والزبير من السلم ما قد‬ ‫ن الكوفة والبصرة َ‬ ‫أميرالمؤمنين‪ ،‬إ ّ‬
‫حِدثا أمرًا‪ .‬فأخذ علي )عليه السلم(برأى ابن عباس‪.‬‬
‫ت آمنهما إن وّليتُهما أن ُي ْ‬
‫علمت‪ ،‬ولس ُ‬

‫ل وقال له‪ :‬ليس لعلي في أعناقنا بيعة‪ ،‬وإّنما بايعناه‬‫لما خرج الزبير وطلحة من المدينة إلى مّكة لم يلقيا أحدا إ ّ‬
‫ت أّنهما سيقُتلن‬ ‫ل لقد علم ُ‬‫ل وأغرب دارهما‪ ،‬اّما وا ّ‬‫مكَرهين‪ .‬فبلغ عليًا )عليه السلم( قولهما‪ ،‬فقال‪ :‬أبعدهما ا ّ‬
‫ل ما الُعمرَة يريدان‪ ،‬ولقد أتياني بوجهي فاجرْين‪،‬‬ ‫أنفسهما أخبث مقتل‪ ،‬ويأتيان من وردا عليه بأشأم يوم‪ ،‬وا ّ‬
‫ل في كتيبة خشناء‪ ،‬يقتلن فيها أنفسهما‪ ،‬فُبْعدًا لهما‬‫ل ل يلقياننى بعد اليوم إ ّ‬‫ورجعا بوجهي غادرين ناكثين‪ ،‬وا ّ‬
‫وسحقًا‪(1).‬‬

‫ن لباس الدين وجلبابه هو الذي يجعلني أغض الطرف عنكم )ول أهتك سريرتكم(‪:‬‬ ‫ثم أضاف)عليه السلم( أ ّ‬
‫ن عبارة المام)عليه السلم( إجابة‬
‫»حتى سترني عنكم جلباب)‪ (2‬الدين‪ ،‬وبصرنيكم صدق النّية«‪ .‬والواقع هو أ ّ‬
‫عن سؤالين هما‪ :‬أول‪ :‬لو كان المام)عليه السلم( يتوقع نقضهم للعهد ويتوسم‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 230 / 1‬و ‪.231‬‬

‫‪» .2‬جلباب« بمعنى الثوب والستر‪.‬‬

‫] ‪[ 277‬‬

‫ذلك فيهم فلم لم يعلن ذلك على المل؟ وثانيًا‪ :‬من أين له هذا العلم بباطن هؤلء؟ فقد رد المام)عليه السلم( على‬
‫السؤال بقوله‪» :‬سترني عنكم جلباب الدين« ورد على السؤال الثاني بقوله »وبصرنيكم صدق النية«‪ .‬بينما ذهب‬
‫ل لسوء فهمكم للدين‪ ،‬أو أن تديني‬‫بعض شّراح نهج البلغة إلى تفسير العبارة الولى باّنكم لم تعرفوني‪ ،‬وما ذلك إ ّ‬
‫ن هذا المعنى يبدو مستبعدًا لما ينطوي عليه من تكلف إلى جانب عدم إنسجامه والعبارات‬ ‫لأّ‬‫منعكم من معرفتي; إ ّ‬
‫السابقة‪ ،‬فالمعنى الول هو النسب‪ .‬ثم إختتم كلمه)عليه السلم(بالقول‪» :‬أقمت لكم على سنن الحق في جواد)‬
‫‪(1‬المضلة)‪ (2‬حيث تلتقون ولدليل‪ ،‬وتحتقرون ولتميهون«)‪ (3‬يشبه المام علي)عليه السلم(الناس في عصر‬
‫عثمان ول سيما أواخر عمره بالرحالة الذين ضلوا الطريق وساروا على غير هدى فهم يتضوون عطشًا وهم‬
‫يحفرون الرض موضعًا موضعًا من أجل الوصول إلى الماء فل يحصلون عليه; فيهب المام)عليه‬
‫السلم(لنجدتهم فيهديهم إلى الصراط المستقيم فينتهلون من منهله العذب‪ .‬ثم يلفت إنتباههم إلى عظم الفتن الدينية‬
‫والدنيوية التي كانت ستلتهمهم في ذلك العصر المظلم لول وجوده)عليه السلم(‪.‬‬

‫تأّملن‬
‫‪ 1‬ـ البصيرة‬
‫ن صفاء النفس وصدق النية من العناصر التي تكمن وراء‬ ‫لقد أشار المام)عليه السلم( إلى قضية مهّمة وهى أ ّ‬
‫البصيرة والفراسة‪ .‬فالمؤمنون الصفياء الباطن يرون ما ليرى غيرهم‪ ،‬وهى الحقيقة التي صّرح بها القرآن‬
‫الكريم وأكدتها الروايات السلمية‪ .‬فقد جاء في القرآن‪) :‬ان تتقوا ال يجعل لكم فرقانًا()‪ .(4‬وورد في الحديث‬
‫المعروف عن النبي)صلى ال عليه وآله( أّنه قال‪» :‬إتقوا فراسة المؤمن فاّنه ينظر بنور ال«)‪ (5‬وقال المام‬
‫ل وله فراسة ينظر‬ ‫الرضا)عليه السلم(‪» :‬ما من مؤمن إ ّ‬

‫‪» .1‬جواد« جمع »جادة« بمعنى الطرق الكبيرة و الواسعة‪.‬‬

‫‪» .2‬مضلة« من مادة »ضلل« الموضع الذي يضل سالكه وعليه فمعنى جواد المضلة طرق الضلل‪.‬‬

‫‪» .3‬تميهون« من مادة »موه« على وزن نوع بمعنى تجدون ماءًا‪ ،‬ومنه أخذت مفردة الماء وأماه بمعنى بلغ الماء‪.‬عليه فمعنى‬
‫لتميهون ل تبلغون الماء )و إن أجهدتم أنفسكم في حفر البار(‪.‬‬

‫‪ .4‬سورة النفال ‪.29 /‬‬

‫‪ .5‬اصول الكافي ‪.218 / 1‬‬

‫] ‪[ 278‬‬

‫‪ 2‬ـ ستر عيوب الناس‬

‫غالبا ما يتصف الفراد بالعيوب الخفية التي قد يطلع عليها النسان من خلل الطرق العادية أو إستنادًا إلى‬
‫لّمة وقادة المجتمع ـ أن‬ ‫ن الواجب يحتم عليه ـ ولسيما إذا إطلع ذلك ولة ا ُ‬
‫الفراسة واليمان; فاذا إطلع عليها فا ّ‬
‫يسعى جاهدًا لسترها وعدم هتك حجابها مادامت لتشكل خطرا يتهدد المجتمع; وذلك لن هتك سريرة الخرين‬
‫وكشف عيوبهم يجردهم من حرمتهم من جانب ويفسح المجال أمامهم لرتكاب المعاصي والجرأة على مقارفتها‬
‫ن هتك وافتضح أمره فل يراع شيئًا‪ ،‬وناهيك عن كل‬ ‫من جانب آخر; فالفرد يبقى محتاطًا مادام عيبه مستور‪ ،‬فا ّ‬
‫ذلك فان هتك العيوب مدعاة لشاعة الفاحشة في المجتمع وتلوث الخرين بارتكاب الذنب‪ .‬ومن هنا ورد التأكيد‬
‫في الروايات والحاديث على كتم السر على أّنه حق من حقوق المؤمنين على بعضهم البعض الخر‪ .‬فقد جاء في‬
‫الحديث‪» :‬واكتم سره وعيبه واظهر منه الحسن«)‪ .(3‬وعن المام الصادق)عليه السلم( اّنه قال‪» :‬من ستر على‬
‫مؤمن عورة يخافها ستر ال‬

‫‪ .1‬بحارالنوار ‪ 128 / 24‬ح ‪.13‬‬

‫‪ .2‬بحارالنوار ‪) 59 / 67‬باب القلب وصلحه(‪.‬‬

‫‪ .3‬أصول الكافي ‪ 249 / 2‬ح ‪) 3‬باب ان المؤمن صنفان(‪.‬‬

‫] ‪[ 279‬‬

‫عليه سبعين عورة من عورات الدنيا والخرة«)‪ (1‬فقد أشار المام علي)عليه السلم(إلى هذه الوصية السلمية‬
‫وأعلن طاعته وامتثاله لها‪ ،‬وبالطبع فقد قلنا إّنما يكون ذلك مالم تقود تلك العيوب التي يراد سترها إلى بعض‬
‫ل فالوظيفة تقتضي إعلن الحقائق‪ .‬ولكن لينبغي التذرع بهذا‬
‫المشاكل الجتماعية التي تهدد كيان المجتمع‪ ،‬وإ ّ‬
‫الستثناء من أجل هتك عيوب الناس وأسرارهم‪.‬‬

‫—–‬
‫‪ .1‬اصول الكافي ‪ ،200 / 2‬ح ‪.5‬‬

‫] ‪[ 280‬‬

‫] ‪[ 281‬‬

‫القسم الثالث‬

‫جسْ‬ ‫ق ُمْذ ُأِريُتُه! َلْم ُيو ِ‬


‫حّ‬
‫ت ِفي اْل َ‬ ‫شَكْك ُ‬
‫عّني! َما َ‬‫ف َ‬ ‫خّل َ‬‫ي اْمِرئ َت َ‬ ‫ب َرْأ ُ‬
‫عَز َ‬ ‫ن! َ‬ ‫ت اْلَبيا ِ‬
‫جماَء ذا َ‬ ‫ق َلُكُم اْلَع ْ‬
‫طُ‬‫»اْلَيْوَم ُأْن ِ‬
‫حّ‬
‫ق‬‫سِبيِل اْل َ‬
‫عَلى َ‬ ‫ضلِل اْلَيْوَم َتواَقْفنا َ‬ ‫جّهال َوُدَوِل ال ّ‬‫غَلَبِة اْل ُ‬
‫ن َ‬
‫ق ِم ْ‬
‫شَف َ‬‫سِه‪َ ،‬بْل َأ ْ‬
‫عَلى َنْف ِ‬‫خيَفًة َ‬ ‫سى)عليه السلم( ِ‬ ‫ُمو َ‬
‫ظَمْأ«‪.‬‬‫ق ِبماء َلْم َي ْ‬ ‫ن َوِث َ‬‫طِل‪َ .‬م ْ‬ ‫َواْلبا ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫اليوم أكشف الحجاب‬

‫ن هنالك عّدة جمل تخللت هذه‬ ‫لقد تضمن هذا القسم من الخطبة عّدة عبارات أشارت لعدة ُامور مهّمة‪ ،‬ويبدو أ ّ‬
‫العبارات قد أسقطها السيد الرضي)رحمه ال( حين التلخيص‪ ،‬فقد كانت عادة السيد في إختيار مقتطفات من‬
‫ن المر الذي أشار إليه المام)عليه السلم( هنا هو قوله‪» :‬اليوم‬ ‫الخطب وحذف بعض العبارات‪ ،‬على كل حال فا ّ‬
‫ل أّنها تطلق أحيانا على الحوادث والقضايا‬‫أنطق لكم العجماء ذات البيان«‪ .‬والعجماء البهيمة التي لنطق لها‪ ،‬إ ّ‬
‫ن المراد بالعجماء الحوادث‬
‫الصماء التي ليست لها قابلية على النطق‪ .‬ومن هنا يرى أغلب شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫التي تنطوي على العبر والدروس التي حدثث على عهد المام)عليه السلم( أو العهود الماضية وكل حادثة مع‬
‫غموضها وخفائها فكأّنها تنطق لولي اللباب‪ .‬فالمام)عليه السلم( يتعرض لبيان عبرها ودروسها التي ينبغي أن‬
‫ن المرادبها صفاته الكمالية)عليه السلم( أو الوامر اللهية فكأّنها هى‬ ‫يتعظ بها المسلمون‪ .‬كما ذهب البعض إلى أ ّ‬
‫لخرى صامتة والمام)عليه السلم(يكشف عن منطقها‪ .‬ثم قال)عليه السلم( في العبارة الثانية‪» :‬عزب رأي‬ ‫اُ‬
‫إمرئ تخلف عني‪ ،‬ما شككت في الحق مذ ُاريته« في الواقع يبدو صدر وذيل هذه العبارة من قبيل العلة والمعلول‬
‫أو الدليل والمدعى‪ ،‬وإذا أخذ بنظر العتبار تربية المام)عليه السلم( في‬

‫] ‪[ 282‬‬

‫حضن النبي)صلى ال عليه وآله( على الحق والستقامة وبفضله كاتب الوحي وشاهد المعاجز والعظم من ذلك‬
‫كونه باب مدينة علم رسول ال)صلى ال عليه وآله( إلى جانب علمه بالشهود إضافة لعلمه بالظاهر فا ّ‬
‫ن‬
‫ن جملة »عزب رأي إمرئ‪«...‬‬ ‫كلمه)عليه السلم(ليعرف معنى للغراق والمبالغة قط‪ .‬واحتمل بعض الشّراح أ ّ‬
‫من قبيل الدعاء; أي بعدا وترحا لمن تخلف عن أوامري‪ .‬ويبدو المعنى الول أنسب‪ ،‬أّما العبارة الثالثة فقد أورد‬
‫فيها المام)عليه السلم(ردًا على سؤال قد يقتدح في ذهن البعض بعد موقعة الجمل وهو‪ :‬لم كان المام)عليه‬
‫ن هذا القلق ليس على نفسه قط‪ ،‬بل خشية من‬ ‫السلم( قلقًا من أحداث تلك الموقعة؟ فالمام)عليه السلم(يجيب با ّ‬
‫تسرب الشك والريب إلى قلوب عوام الناس بفعل إقتحام الميدان من قبل زوج النبي)صلى ال عليه وآله(وبعض‬
‫الصحابة من قبيل طلحة والزبير وارتفاع الصوات المطالبة بدم عثمان; كالقلق الذي عاشه موسى)عليه‬
‫السلم(حين واجهه السحرة بسحرهم خشية غلبتهم واضلل الناس »لم يوجس موسى)عليه السلم( خيفة على‬
‫نفسه بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلل«‪ .‬وهى إشارة إلى اليات التي وردت في سورة طه بشأن‬
‫حـباُلُهْم‬
‫ل َأْلُقوا َفِإذا ِ‬
‫ل َب ْ‬
‫ن َأْلقى * قا َ‬
‫ل َم ْ‬
‫ن َأّو َ‬
‫ن َنُكو َ‬
‫ى َو ِإّما َأ ْ‬‫ن ُتْلِق َ‬
‫موسى)عليه السلم(والسحرة )قاُلوا يا ُموسى ِإّما َأ ْ‬
‫خـيَفًة ُموسى()‪ .(1‬أّما في العبارة الرابعة فيحذر‬ ‫سِه ِ‬ ‫س ِفي َنْف ِ‬ ‫جـ َ‬ ‫سعى* َفَأْو َ‬ ‫حِرِهْم َأ ّنها َت ْ‬
‫سْ‬
‫ن ِ‬‫ل ِإَلْيِه ِم ْ‬
‫خـّي ُ‬
‫صـّيـُهْم ُي ُ‬
‫ع ِ‬
‫َو ِ‬
‫من تبقى من مثيري فتنة الجمل في أننا وإّياكم قد وقفنا على مفترق طرق نتجه فيه إلى الحق بينما تتجهون نحو‬
‫ن المام)عليه السلم(يقول لهم‪ ،‬افتحوا أعينكم وانظروا‬ ‫الباطل »اليوم توافقنا)‪ (2‬على سبيل الحق والباطل«‪ .‬كأ ّ‬
‫إلى ما أنتم عليه فانكم إّنما خرجتم على إمام زمانكم! لقد نكثتم البيعة ولم تقيموا حرمة للمواثيق! لقد شققتم عصا‬
‫المسلمين وفرقتم صفوفهم! وسفكتم دماءًا غزيرة! وقلدتم أنفسكم مسؤولية كبرى ستطيل وقوفكم أمام ال يوم‬
‫القيامة! ارجعوا إلى رشدكم واعيدوا النظرا في أوضاعكم!‪ .‬وأخيرًا يختتم المام)عليه السلم(خطبته بقوله‪» :‬من‬
‫ن من كان له واعظ وقائد موثوق ليتسلل إليه الشك والترديد والوساوس‬ ‫وثق بماء لم يظلمأ« مراده)عليه السلم( أ ّ‬
‫الشيطانية والقلق والضطراب وإنعدام الثقة; وذلك لنه يرى نفسه على جرف ماء المعرفة الفرات العذب ويلوذ‬
‫بامامه عند الفزع فيأتمر بأوامره‬

‫‪ .1‬سورة طه ‪ 65 /‬ـ ‪.67‬‬

‫‪» .2‬توافقنا« من مادة »الوقوف« والقاف مقدمة على الفاء‪.‬‬

‫] ‪[ 283‬‬

‫والستضاءة بنور علمه‪ .‬وأنتم كذلك لو عرفتم زعيمكم ووثقتم به فاعلموا أّنكم سائرون على الحق وآمنون من‬
‫كافة أشكال الشكوك و الهواء النفسية والوساوس الشيطانية‪.‬‬

‫الصراع بين الحق والباطل‬

‫لقد شبه المام)عليه السلم( الحق والباطل بطريقين سلك فريق أحدهما والخر الثاني‪ ،‬وإذا أردنا تفسير هاتين‬
‫ن الحق هو الواقع والباطل هو الخيال والسراب الذي يحسبه الظمآن ماء‪.‬‬ ‫المفردتين باختصار‪ ،‬فلبّد أن نقول با ّ‬
‫ومن هنا فان الذات اللهية المقدسة التي تعّد أعظم من كل واقع اكتسبت أول اسم وهو الحق‪ ،‬وغيره على الحق‬
‫بقدر إرتباطه به وكلما ابتعد عنه فهو على الباطل‪ .‬فعالم المكان لنتمائه ل فهو حق‪ ،‬وهو باطل لمتزاجه ببعض‬
‫جوانب العدم‪ .‬فالعالم ميدان لصراع الحق والباطل وقد صور القرآن الكريم أبعاد هذا الصراع وعاقبته نتائجه‬
‫ل َزَبدًا راِبيًا َو ِمّما‬
‫سْي ُ‬
‫ل ال ّ‬
‫حَتَم َ‬
‫ت َأْوِدَيٌة ِبَقَدِرها َفا ْ‬
‫سماِء ماءًا َفساَل ْ‬ ‫ن ال ّ‬‫ل ِم َ‬ ‫بمثال رائع في سورة الرعد حيث قال‪َ) :‬أْنَز َ‬
‫جفاءًا َوَأّما‬‫ب ُ‬
‫ل َفَأّما الّزَبُد َفَيذَه ُ‬
‫طَ‬‫ق َوالبا ِ‬ ‫حّ‬ ‫ل ال َ‬ ‫با ّ‬‫ضِر ُ‬ ‫ك َي ْ‬‫حْلَية َأْو َمتاع َزَبٌد ِمْثُلُه َكذ ِل َ‬
‫عَلْيِه ِفي الّنار اْبِتغاَء ِ‬
‫ن َ‬
‫ُيوِقُدو َ‬
‫ل()‪.(1‬‬ ‫لْمثا َ‬
‫لا َ‬ ‫با ّ‬ ‫ضِر ُ‬ ‫ك َي ْ‬ ‫ض َكذ ِل َ‬
‫لر ِ‬ ‫ث ِفي ا َ‬ ‫ما َيْنَفُع الّناس َفَيْمُك ُ‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة الرعد ‪ .17 /‬للوقوف على تفاصيل هذا المثل القرآني راجع تفسير المثل ‪ 10 /‬ذيل هذه الية‪.‬‬

‫] ‪[ 284‬‬

‫] ‪[ 285‬‬
‫الخطبة ‪5‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫لما قبض رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم وخاطبه العباس وابوسفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلفة )و‬
‫خلقه وعلمه()‪.(1‬‬
‫ذلك بعد أن تمت البيعة لبي بكر في السقيفة وفيها ينهى عن الفتنة ويبين عن ُ‬

‫—–‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫هذه واحدة من الخطب التي نقلت عن المام)عليه السلم( في أّنها خطبها قبل خلفته‪ .‬والذي يستفاد من هذه‬
‫الخطبة والمقدمة التي أوردها الشريف الرضي )ره( عليها أن أباسفيان والعباس إنطلقا إلى علي)عليه السلم( بعد‬
‫وفاة رسول ال)صلى ال عليه وآله( )و لعل أباسفيان دفع العباس إلى ذلك( واقترحا على المام)عليه السلم(‬
‫ن المام)عليه السلم( الذي كان‬ ‫لأّ‬
‫النهوض بالمر والبيعة له على أنه خليفة رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪ .‬إ ّ‬
‫يحرص على بيضة السلم واستنادًا إلى علمه التام بالظروف التي كانت تهدد الدين آنذاك وضرورة قبر المؤ‬
‫امرات والفتن في مهدها ليس فقط لم يجبهم لتلك البيعة نحسب‪ ،‬بل حذرهما بكل صرامة من مغبة هذا العمل‬
‫ونصحهما بالبتعاد عنه‪ .‬ولما كان)عليه السلم(‬

‫‪ .1‬لقد نقلت هذه الخطية من سائر المصادر اُلخرى غير نهج البلغة‪ .‬ومن بين مصادر نهج البلغة ماروي عن كتاب المحاسن‬
‫والمساوئ للبيهقي‪ ،139 / 2 ،‬تذكرة الخواص للسبط الجوزي والحتجاج للطبرسي ‪ 1/127‬كما يستفاد من كلمات ابن أبي الحديد أّنه‬
‫نقل هذه الخطية من طرق ُاخرى‪.‬‬

‫] ‪[ 286‬‬

‫عالما ببعض المغرضين أو الجهال الذين قد يشكلون على سكوته فقد رد)عليه السلم( على هذا الشكال‪ ،‬ثم إختتم‬
‫كلمه ببيان مدى عشقه للموت وانطوائه على العلم الذي ليسع الخرين سماعه فضل عن احتماله‪ .‬ولم يأذن له‬
‫في الكشف عن أسراره‪.‬‬

‫] ‪[ 287‬‬

‫القسم الول‬
‫ح َم ْ‬
‫ن‬ ‫خَرِة‪َ .‬أْفَل َ‬
‫ن اْلُمفا َ‬
‫ضُعوا ِتيجا َ‬ ‫ق اْلُمناَفَرِة‪َ ،‬و َ‬‫طِري ِ‬‫ن َ‬‫عْ‬
‫جوا َ‬ ‫عّر ُ‬ ‫ن الّنجاِة‪َ ،‬و َ‬‫سُف ِ‬
‫ن ِب ُ‬‫ج اْلِفَت ِ‬
‫شّقوا َأْموا َ‬‫»َأّيها الّناس ُ‬
‫عها‬ ‫ت ِإينا ِ‬‫جَتِني الّثَمَرِة ِلَغْيِر َوْق ِ‬
‫ن‪َ ،‬وُلْقَمٌة َيَغصّ ِبَها آِكُلَها‪َ .‬وُم ْ‬‫جٌ‬‫ح‪َ .‬هَذا َماٌء آ ِ‬‫سَلَم َفَأَرا َ‬
‫سَت ْ‬
‫جناح‪َ ،‬أِو ا ْ‬ ‫َنَهضَ ِب َ‬
‫ضِه«‪.‬‬‫ع ِبَغْيِر َأْر ِ‬‫كالّزار ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫احذروا مثيري الفتن‬

‫ن سبب هذه الخطبة هو‪ :‬لما قبض رسول ال)صلى ال عليه وآله( واشتغل علي)عليه السلم( بغسله ودفنه وبويع‬ ‫إّ‬
‫أبوبكر في سقيفة بني ساعّدة ‪ ،‬خل الزبير وأبوسفيان بالعباس عم النبي)صلى ال عليه وآله(قال‪ :‬اّما وال إني‬
‫ل الدم‪ ،‬يا لعبد مناف‪ ،‬فيم أبوبكر من أمركم‪ ،‬مابال هذا في أقل حي من قريش‪ .‬ثم قال‬ ‫لرى عجاجة ليطفئها إ ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫ل ورج ً‬ ‫لعلي)عليه السلم( أبسط يدك أبايعك‪ ،‬فو ال إن شئت لملنها على أبي فضيل ـ يعني أبابكر ـ خي ً‬
‫فامتنع علي)عليه السلم( حيث كان يعلم المام)عليه السلم(بأّنه لينشد سوى الفساد والفتنة ومن هنا خطب هذه‬
‫ن عليًا)عليه السلم( رّد على أبي سفيان باّنك‬
‫الخطبة‪ (1).‬واورد المؤرخ المعروف ابن أثير في كتابه الكامل أ ّ‬
‫تريد الفتنة ولتضمر للسلم سوى الشر فل حاجة لنا بنصحك‪ (2).‬ومن هنا تتضح أجواء الخطبة وسهولة تفسير‬
‫ماورد فيها من عبارات‪ .‬فقد أشار)عليه السلم(في القسم الول من هذه الخطبة إلى أربعة مواضيع مهّمة‪.‬‬
‫فقال)عليه السلم(‪» :‬أّيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة وعرجوا)‪ (3‬عن طريق المنافرة)‪ ،(4‬وضعوا‬
‫تيجان المفاخرة«‪.‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن ميثم ‪.276 / 1‬‬

‫‪ .2‬الكامل لبن أثير ‪.326 / 2‬‬

‫‪» .3‬عرجوا« من مادة »تعريج« بمعنى الرغبة أو الترغيب وهى هنا بمعنى العتزال‪.‬‬

‫‪» .4‬المنافرة« حسب قول صاحب مقاييس اللغة تعنى التحاكم لدى القاضي ومن لوازمها النزاع والمخاصمة‪.‬‬

‫] ‪[ 288‬‬

‫ل عن ذانك الفردين‪ .‬ويؤيد هذا المعنى بعض‬ ‫قوله)عليه السلم(أّيها الناس يفيد حضور عدد كبير من الناس فض ً‬
‫ن المام)عليه السلم(شبه الفتن بالمواج العاتية الكاسحة‬ ‫الروايات الواردة بهذا الشأن‪ .‬والنقطة الجديرة بالذكر أ ّ‬
‫والتي يوصي بمجابهتها من خلل العتصام بسفن النجاة‪ .‬والمراد بسفن النجاة تلك السفن العملقة التي تشق‬
‫عباب البحر ولتصمد أمامها الرياح العواتي فتبلغ بركابها شاطئ المان‪ ،‬ويراد بهم هنا الزعماء الربانيين‬
‫ولسيما أهل بيت النبي)صلى ال عليه وآله()‪ ،(1‬أي إسمعوا وأطيعوا لما نقول ل لما تريدون‪ ،‬وللتأكيد على هذا‬
‫المعنى فقد شبه)عليه السلم(التفاخر القبلي والفئوي بالطريق الخطير المرعب الذي ينبغي إجتنابه )لبّد من‬
‫ن المعنى الصلي للمنافرة هو أن يذكر كل واحد من الرجلين مفاخره وفضائله‪ ،‬ثم يتحاكما إلى‬ ‫اللتفات هنا إلى أ ّ‬
‫ن المام)عليه السلم( أراد بهذا الكلم القيم أن يركز على العامل الصلي للم البشرية‬ ‫ثالث( ـ فالواقع هو أ ّ‬
‫ومعاناتها‪ ،‬التي تفرزها على الدوام الحروب الدموية والختلفات والنزاعات والقتتالت التي تستند إلى التفاخر;‬
‫فاذا ما حطم هذا الصنم أمكن حل كافة مشاكل المجتمعات البشرية وعاد إلى الدنيا المن والصلح والسلم‪ .‬طبعا‬
‫ن طلب القدرة والمنصب إّنما يتقنعون بالدفاع عن حقوق المجتمع وحفظ القيم والمثل‪ ،‬ولكن ليس هنا لك‬ ‫صحيح أ ّ‬
‫من يشك في أّنهم إّنما يتظاهرون بهذه الشعارات من أجل تحقيق أغراضهم ومآربهم بغية التفاخر على الخرين ‪.‬‬
‫ثم قال)عليه السلم(‪» :‬أفلح من نهض بجناح‪ ،‬أو استسلم فاراح«)‪ .(2‬فالمام)عليه السلم(أشار إلى نقطة أساسية‬
‫ن القيام بالحق تتطلب بعض الشرائط; فلو توفرت هذه الشرائط لما ترددت في القيام بالمر‪ ،‬أّما إذا لم تتوفر‬ ‫هى أ ّ‬
‫ن القيام ليس بمجد فحسب‪ ،‬بل من شأنه أن يثير الفرقه والختلف والذى‬ ‫فالعقل والمنطق والدين ليحكم بأ ّ‬
‫لصول الثابتة التي ينبغي‬ ‫والمعاناة للخرين كما يؤدي إلى القضاء على القوى الناهضة بالحق‪ ،‬وهذا أصل من ا ُ‬
‫لخرى التي تطرق‬
‫رعايتها في كافة النشطة الجتماعية ولسيما في النهضات والثورات السياسية‪ .‬أّما النقطة ا ُ‬
‫إليها المام)عليه السلم( فاّنما تكمن في‬

‫‪ .1‬جاء في الرواية المشهورة عن النبي)صلى ال عليه وآله(‪» :‬مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق«‪.‬‬
‫اّما قول ابن أبي الحديد أن هذا الحديث صحيح ال ان أهل البيت)عليه السلم(لم يرادوا بهذه اللفظة فهو خاطئ‪ .‬فقد أراد المام)عليه‬
‫السلم(بهذه العبارة أن اسمعوا لما آمركم به وَاطيعوا ولتتبعوا ما تمليه عليه إرادتكم‪.‬‬

‫‪ .2‬لبّد من اللتفات هنا ألى الفعل )أراح( قد يأتي لزما أحيانا ومتعديا أحيانا ُاخرى‪ ،‬ومفهومه على ضوء المعنى الول أراح نفسه‬
‫بينما معناه أراح الخرين متعديا‪.‬‬

‫] ‪[ 289‬‬

‫لّمة التي جعلها البعضى شماعة ليجيزوا حتى الوسائل غير المشروعة من‬ ‫مسألة الخلفة والخذ بزمام ُامور ا ُ‬
‫أجل الوصول إليها فقال)عليه السلم(‪» :‬هذا ماء آجن)‪ ،(1‬ولقمة يغص)‪ (2‬بها آكلها«‪ .‬فحياة النسان متقومة‬
‫بالماء والغذاء‪ ،‬ولكن أي ماء وغذاء؟ طبعا الماء النقي والغذاء الزكي‪ ،‬فالمام)عليه السلم(شبه هنا طبيعة‬
‫الحكومة بالماء المتعفن والغذاء الغصة‪ .‬والحق كما صوره المام)عليه السلم(‪ ،‬فالنسان كلما إقترب من حياة‬
‫الحكام والساسة إكتشف مدى عظم مشاكلهم وشدة إستيائهم ووخامة أوضاعهم‪ ،‬فليس لهم من هدوء ولسكينة كما‬
‫ليس لهم من أمن أو إستقرار‪ .‬وليس لهم سوى المظاهر الكاذبة الفارغة التي لتنطلي سوى على بعض السذج‪.‬‬
‫وبالطبع فان أولياء ال يسارعون لحتواء هذه المشاكل ويتحملون كافة الصعاب والمعضلت كما يضحون‬
‫ن اسم الشارة )هذا( يشير إلى نوع الحكومة‬ ‫بهدوءهم واستقرارهم خدمة لدين ال وعباده‪ .‬كما ذهب البعض إلى أ ّ‬
‫ل أّنها كانت ومازالت‬‫التي إقترحها أبوسفيان‪ .‬على كل حال صحيح أن الحكومة كالماء الذي يعّد قوام حياة المم‪ ،‬إ ّ‬
‫مطمع أهل الدنيا الذين هبوا بكل قوة لمنازعة أولياء ال على تلك الحكومة فلوثوا هذا الماء كما جعلوا طعام الحياة‬
‫غصصًا; المر الذي جعل الولياء يترفعون عنها ويعلنوها صراحة »لول حضور الحاضر وقيام الحجة‪ ...‬للقيت‬
‫حبلها على غاربها وللفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز«‪ .‬اّما في النقطة الرابعة فيشير إلى أحد أبعاد‬
‫هذه المسألة وهو أن من أراد القيام بالمر لتشكيل الحكومة السلمية فلبّد أن تكون المقدمات والظروف معدة‬
‫ل فليست هنالك من قيمة أو أثر لهذا القيام وليتمخض سوى عن‬ ‫لذلك أو أن يتولى هو تهيئة هذه الظروف وإ ّ‬
‫الهزيمة والفشل ـ فقد قال المام)عليه السلم( بهذا الشأن‪» :‬و مجتني الثمرة لغير وقت إيناعها)‪ (3‬كالزارع بغير‬
‫ن الضمير في )بغير أرضه( يعود إلى الزارع ومفهوم العبارة‪:‬‬ ‫ارضه«‪ .‬وقد ذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أ ّ‬
‫لأّ‬
‫ن‬ ‫كمن زرع في غير أرضه ولينتفع بذلك الزرع بل يعود ثمره على الخرين ; إ ّ‬

‫‪» .1‬آجن« من مادة »أجن« على وزن ضرب واجون المتعفن المتغير اللون والطعم وقد وردت هنا كإشارة للخلفة‪.‬‬

‫‪» .2‬يغص« من مادة »غصص« على وزن هوس بمعنى صعبة البتلع‪.‬‬

‫‪» .3‬ايناع« من مادة »ينع« على وزن منع بمعنى النضج والبلوغ‪ ،‬وعادة ما تستعمل هذه المفردة بشان نضج الثمار‪ ،‬كما تأتي بهذا‬
‫المعنى أيضًا إذا جاءت من باب الفعال‪.‬‬

‫] ‪[ 290‬‬

‫ضعف هذا التفسير يبدو واضحًا من خلل كلم المام)عليه السلم(الذي قرن ذلك بجني الثمار غير الناضجة‪.‬‬
‫لصول الساسية والدروس القيمة المعتمدة في تشكيل الحكومات‬ ‫ن هذه العبارات قد تناولت ا ُ‬ ‫وهنا لبّد من القول با ّ‬
‫اللهية ; المر الذي يدعو دعاة الحق وعشاق العدالة لعدم النفعال بالعواطف والحاسيس العابرة والقتصار‬
‫على الدراسات المحدودة من أجل ممارسة أنشطتهم وعليهم أن يتربصوا بكل ُاناة وتحسب للوقوف على توقر‬
‫الشروط وتأهب القوى وإن إحتاج هذا المر لمّدة من الزمان‪ ،‬على غرار المزارعين الذين ليقصدون قطف‬
‫الثمار غير الناضجة رغم حاجته القصوى لهذه الثمار من أجل توفير قوته أو تسويقها وبيعها بغية تغطية حاجاته‬
‫ن المزارع الماهر ليغرس بذوره في أرض ليست خصبة أبدا‪ ،‬بل يتأنى قبل ذلك‬ ‫الساسية‪ ،‬أضف إلى ذلك فا ّ‬
‫بحرث الرض وسقيها بالماء ثم ينثر بذره‪.‬‬
‫سكوت المام)عليه السلم( بعد النبي)صلى ال عليه وآله(‬

‫ل من السكوت رغم كونه الجدر والحق‬ ‫يتساءل الكثيرون لماذا لم ينهض المام علي)عليه السلم( بالمر بد ً‬
‫بخلفة رسول ال)صلى ال عليه وآله( إلى جانب تأكيدات النبي)صلى ال عليه وآله(على إستخلفه بما يثبت أ ّ‬
‫ن‬
‫لّمة السلمية؟‬
‫الخلفة من حقوقه المسلمة بل من حقوق ا ُ‬

‫ن الجابة على هذا السؤال قد وردت في العبارات القصيرة البعيدة المعنى في هذه الخطبة‪ ،‬حيث ذكر‬ ‫و يبدو أ ّ‬
‫بعض السباب التي دعته لعدم القيام والنهوض بالمر‪ .‬أولها عدم إنطواء الفراد ـ كابي سفيان ـ على حسن النية‬
‫في اقتراح النهوض بالمر والتصدي للخلفة‪ ،‬أو أّنهم ـ كالعباس ـ كانوا ممن دفعوا من أصحاب الغراض‬
‫السيئة; المر الذي جعل المام)عليه السلم(يتعامل مع هذه القتراحات كفتن وبل بل تستهدف القضاء على‬
‫ل أهل بيتي‪،‬‬
‫المسيرة ولم يكن معه ال القليل‪ ،‬وهذا ما صّرح به المام)عليه السلم(‪» :‬فنظرت فاذا ليس لي معين إ ّ‬
‫فضننت بهم عن الموت‪ ،‬وأغضيت على القذى‪ .‬وشربت على الشجا‪ ،‬وصبرت على أخذ الكظم‪ ،‬وعلى أمر أمّر‬
‫ن الخلفة والحكومة لم تكن هدفا بالنسبة‬
‫من طعم العلقم«)‪ (1‬وناهيك عن كل ذلك فا ّ‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.26‬‬

‫] ‪[ 291‬‬

‫للمام)عليه السلم(حيث كان يراها المام)عليه السلم( كالماء السن المتعفن والطعام المنغص; بل يراها وسيلة‬
‫لحقاق الحق وإبطال الباطل »قال عبدال بن عباس‪ :‬دخلت على أميرالمؤمنين)عليه السلم( بذي قار وهو‬
‫يخصف نعله‪ .‬فقال لي‪ :‬ما قيمة هذا النعل؟ فقلت‪ :‬ل قيمة لها! فقال)عليه السلم(‪ :‬وال لهي أحب إلى من إمرتكم‪،‬‬
‫ن المام)عليه السلم(حين يرى هذا القيام ليؤدي إلى تحقيق الهدف‪ ،‬بل‬ ‫لأّ‬
‫ل«)‪ .(1‬إ ّ‬
‫ل أن ُاقيم حقا‪ ،‬أو أدفع باط ً‬
‫إّ‬
‫بالعكس إّنما يثير الخلف والشقاق والفرقة في صفوف المسلمين ولعله يتيح الفرصة للمنافقين الذين يتربصون‬
‫بالسلم الدوائر فل يرى هناك من سبيل سوى الصمت والسكوت‪ .‬وقد أورد ابن أبي الحديد أن فاطمة)عليها‬
‫ن محمدًا رسول ال« إلتفت‬ ‫السلم(حدثت المام)عليه السلم(بالنهوض بالمر‪ ،‬فلما ارتفع صوت المؤذن »أشهد أ ّ‬
‫إليها قائل‪ :‬أيسرك زوال هذا النداء من الرض؟ قالت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فلبدّ من الصبر والسكوت)‪ .(2‬وبغض النظر عّما‬
‫تقدم فان كل عمل ـ ولسيما النهضات الجتماعية السلمية ـ يتطلب بعض المقدمات ولبّد من توفر كافة‬
‫لّمة وتبديد قواها‪،‬‬
‫ل فليست هنالك من نتيجة سوى الهزيمة والفشل والخذلن وهدر طاقات ا ُ‬ ‫الشروط اللزمة‪ ،‬وإ ّ‬
‫وهذا المر أشبه بقطف الثمار غير الناضجة أو نثر البذور في الرض المالحة‪ .‬ومن هنا كان المام)عليه السلم(‬
‫قيامه يكمن في السكوت والصمت‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.33‬‬

‫‪ .2‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.113 / 11‬‬

‫] ‪[ 292‬‬

‫] ‪[ 293‬‬

‫القسم الثاني‬
‫ل لْب ُ‬
‫ن‬ ‫ت َبْعَد الّلَتّيا َواّلِتي! َوا ّ‬
‫ت! َهْيها َ‬ ‫ن اْلَمْو ِ‬
‫ع ِم َ‬
‫جِز َ‬
‫ت َيُقوُلوا َ‬‫سُك ْ‬‫ن َأ ْ‬
‫ك‪َ ،‬وِإ ْ‬‫عَلى اْلُمْل ِ‬
‫حَرصَ َ‬ ‫ن َأُقْل َيُقوُلوا‪َ :‬‬
‫»َفِإ ْ‬
‫طرا َ‬
‫ب‬ ‫ضِ‬ ‫طَرْبُتْم ا ْ‬
‫ضَ‬‫ت ِبِه ل ْ‬ ‫ح ُ‬
‫عْلم َلْو ُب ْ‬
‫ن ِ‬
‫عَلى َمْكُنو ِ‬‫ت َ‬‫ج ُ‬
‫ي ُأّمِه‪َ ،‬بِل اْنَدَم ْ‬
‫طْفِل ِبَثْد ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ت ِم َ‬
‫س ِباْلَمْو ِ‬
‫َأِبي طاِلب آَن ُ‬
‫ي اْلَبِعيَدِة«‪.‬‬
‫طِو ّ‬
‫شَيِة ِفي ال ّ‬‫اَْلْر ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫ترى ماالعمل مع المتربصين؟!‬

‫يتعرض المام)عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة إلى الحجج والذرائع الواهية المتضاربة التي يردها‬
‫ن هذه القلوب العمي والبصائر الخافتة ل‬‫الجهال والحساد على المام)عليه السلم(‪ .‬فيقول المام)عليه السلم( إ ّ‬
‫تنفك تعترض علي في كل موقف اتخذه‪ ،‬فان اتحدث عن أحقيتي بالخلفة وعدم صلحية الخرين لها‪ ،‬فالبي‬
‫ن آثرت الصمت والسكوت صوروه خوفا من الموت‪:‬‬ ‫لّمة يتخرصون بأّني حريص على الحكومة‪ ،‬وأ ّ‬ ‫دعوة ا ُ‬
‫»فان أقل يقولوا‪ :‬حرص على الملك وإن أسكت يقولوا‪ :‬جزع من الموت«‪ .‬نعم فهذا هو السلوب الرخيص الذي‬
‫ينتهجه الجهال والمتخرصين ليعترضوا على أولياء ال في كل حركة وسكنة وموقف يمارسونه‪ ،‬وهم ليتحفظون‬
‫حتى عن التناقض والتضارب في هذا المجال‪ ،‬فان قاموا أشكلوا عليهم وإن قعدوا أشكلوا كذلك‪ .‬ومن هنا فان‬
‫ن هذا هو المر الذي أشار إليه المام الصادق)عليه‬ ‫المؤمنين ليعيرون هذه التناقضات أية آذان صاغية‪ .‬ويبدو أ ّ‬
‫ن رضى الناس ل يملك‬ ‫السلم( في الحديث المروي عنه أّنه قال‪» :‬إ ّ‬

‫] ‪[ 294‬‬

‫وألسنتهم ل تضبط«)‪ .(1‬كما ورد شبيه هذا المعنى في الخطبة ‪ 172‬من نهج البلغة‪» :‬و قد قال قائل‪ :‬إّنك على‬
‫هذا المر يابن أبي طالب حريص‪ ،‬فقلت‪ :‬بل أنتم وال لحرص وأبعد‪،‬أنا أخص وأقرب‪ ،‬وإّنما حليت حقًا لي‬
‫وأنتم تحولون بيني وبينه‪ ،‬وتضربون وجهي دونه‪ ،‬فلما قرعته بالحجة في أعل الحاضرين هب كأّنه بهت ليدري‬
‫سر سكوته بالخوف من الموت متعجبًا من‬ ‫ما يجيبني به« ثم يواصل كلمه)عليه السلم(في إطار رّده على من ف ّ‬
‫ذلك وهو الذي ثبت حين نكصت البطال في بدر وأحد وحنين والحزاب وخيبر التي أثبتت مدى ولهه وشغفه‬
‫بالشهادة وله الرضيع بثدي ُامه‪» :‬هيهات بعد اللتيا والتي! وال لبن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي‬
‫لمور لتطيقون سماعه »بل إندمجت)‪ (2‬على مكنون علم لو بحت)‬ ‫ُامه«‪ .‬غير أن سكوتي يستند إلى علم بخفايا ا ُ‬
‫‪ (3‬به لضطربتم إضطراب الرشية)‪ (4‬في الطوى)‪(5‬البعيدة«‪.‬‬

‫تأّملت‬
‫‪ 1‬ـ سوابق المام)عليه السلم(‬

‫يشير المام)عليه السلم( باختصار إلى الشجاعة والبسالة التي أبداها في الغزوات والمعارك السلمية وفي‬
‫بعض المواضع الخطيرة كمبيته على فراش رسول ال)صلى ال عليه وآله( وما إلى ذلك ليذكر أولئك المرضى‬
‫الذين يشكلون عليه بأّنه ليخشى أية حادثة مروعة وقدخرج مرفوع الرأس من كل تلك الختيارات والتمحيصات‪،‬‬
‫ل على ضعفي قط; وليس وراء هذا السكوت سوى مصالح السلم والمسلمين‪ ،‬ثم‬ ‫وعليه فسكوتي ليقوى دلي ً‬
‫يستشهد على ذلك بالمثل العربي المعروف فيقول »بعد اللتيا والتي«‪.‬‬

‫‪ .1‬بحارالنوار ‪ ;2 / 67‬تفسير نور الثقلين ‪.405 / 1‬‬


‫‪» .2‬اندمجت« من مادة »اندماج« النطواء وهى هنا إشارة للسرار المودعة قلب المام)عليه السلم(‪.‬‬

‫‪» .3‬بحت« من مادة »بوح« على وزن لوح بمعنى العلن وترك الكتمان ومن هنا يطلق »الباحة« على المحيط الواسع و»المباح«‬
‫على العمال الجائزة‪.‬‬

‫‪» .4‬أرشية« جمع »رشاء« على وزن رضاء بمعنى الحبل الطويل‪ ،‬ومن هنا سميت الرشوة لّنها كالحبال التي تتصل بالدلو ليسحب‬
‫الماء من البئر‪.‬‬

‫‪» .5‬طوى« من مادة »طي« و هي البئر العميقة البعيدة‪.‬‬

‫] ‪[ 295‬‬

‫ل تزوج من إمرأة كانت قصيرة القامة وصغيرة وسيئة الخلق فذاق منها المرين حتى‬ ‫ن رج ً‬‫و قصة هذا المثل أ ّ‬
‫طلقها‪ .‬ثم تزوج من إمرأة طويلة القامة فآذته كسابقتها حتى اضطر لطلقها‪ ،‬فلما عرضى عليه الزواج قال‪» :‬بعد‬
‫ل يضرب من أجل الحوادث الكبيرة والصغيرة‪ ،‬فالمام)عليه السلم(‬
‫اللتيا والتي ل أتزوج أبدًا« فصار ذلك مث ً‬
‫يشير إلى أّنه إجتاز كل تلك الحوادث والخطوب فهل من سبيل إلى الخوف والخشية‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ لم أخاف الموت؟!‬

‫لخرى التي أشار إليها المام)عليه السلم( قوله‪» :‬لبن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي ُامه«‪.‬‬ ‫القضية ا ُ‬
‫لم أساس حياة الطفل‪ ،‬ومن هنا فان هذا الطفل يعيش حالة من الجزع والنين والصراخ إذا ما جرد‬ ‫فالثدي ولبن ا ُ‬
‫من هذا الثدي وكأّنه سلب الدنيا برمتها‪ ،‬فاذا عاد إليه سكن وقر وشعر بالفرح والسرور وكأّنه نال الدنيا بما فيها;‬
‫ن هذه العلقة مهما كانت فهى تستند إلى الغريزة; أّما علقة المام)عليه السلم( والعرفاء بالموت ولقاء ال‬ ‫لأّ‬
‫إّ‬
‫)و ل سيما الشهادة في سبيل ال( فهى علقة قائمة على أساس العقل والمنطق والعشق‪ .‬فهم ليرون الموت سوى‬
‫إنطلقة الحياة الجديدة في ذلك العالم الوسع والشمل‪ .‬يرون الموت نافذة على عالم البقاء والخلود والخلص من‬
‫هذا السجن وتحطيم قيوده وأغلله والتحليق نحو العالم العلوي ومجاورة الرحمن‪ .‬فهل من عاقل يتردد في التحرر‬
‫من قضيان السجن والخلص من هذه القيود والنحلل)‪ .(1‬نعم إّنما يخشى الموت من يراه فاتحة لكل شيء‬
‫وبداية للعذاب الذي ينتظره بفعل ما قارفه من رذائل وفواحش‪ .‬فأنى للمام)عليه السلم(بالخوف من الموت وهو‬
‫ما عليه من المعارف والعلوم والسمو والرفعة؟ ومن هنا يقسم)عليه السلم( باّنه آنس بالموت من الطفل بثدي ُامه‪.‬‬
‫كما قال في موضع آخر‪» :‬فوال ما ُابالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إلى«)‪ .(2‬بل هذا ماجسده عمليا حين‬
‫ب الكعبة«)‪.(3‬‬
‫ضربه ابن ملجم بالسيف على رأسه فصرخ قائل‪» :‬فزت ور ّ‬

‫‪ .1‬لقد تناول أحد الشعراء المعروفين هذه الحالة ليشبهها بنوعين من الفراد‪ ،‬طائفة قليلة المعرفة فهى كالثمار الخام التي تلتصق‬
‫بشدة في الشجرة‪ ،‬وُاخرى عارفة وهى كالثمار الناضجة التي تتساقط بيسر وسهولة من الشجرة‪.‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.55‬‬

‫‪ .3‬بحارالنوار ‪.239 / 42‬‬

‫] ‪[ 296‬‬

‫‪ 3‬ـ لم السكوت؟‬

‫—–‬

‫] ‪[ 297‬‬
‫الخطبة ‪6‬‬

‫ومن كلم له )عليه السلم(‬

‫ل يتبع طلحة والزبير ول يرصد لهما القتال‬


‫لما أشير عليه َبا ّ‬

‫وفيه يبّين عن صفته بأّنه)عليه السلم(ل يخدع)‪.(1‬‬

‫—–‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ن المام)عليه السلم(‬ ‫حين نكث طلحة والزبير البيعة وقصدا عائشة في البصرة واستوليا عليها‪ ،‬إعتقد البعض بأ ّ‬
‫لن يصطدم بهما وسيتركهما ريثمًا يوطد دعائم خلفته فل تمّر مّدة حتى يعلنا إستسلمها‪ .‬فالمام)عليه السلم(‬
‫ن هذا الكلم خطأ محض وأني لن أقف مكتوف اليدي لتشتد قوة العدو فيباغتني‪ .‬ثم يبّين)عليه‬ ‫يستهل خطبته بأ ّ‬
‫ن هذا هو السلوب الذي سيتبعه‬ ‫السلم(عزمه الراسخ على مقاتلة هؤلء والزحف إليهم بجنده المطيع‪ ،‬ثم يعلن أ ّ‬
‫ن هذه المخالفة والعتراض ليست بالشيء‬ ‫إلى آخر حياته‪ .‬وأخيرًا يختتم الخطبة بالشارة إلى هذه الحقيقة في أ ّ‬
‫ن جذورها تمتد إلى زمان رحيل رسول ال)صلى ال عليه وآله( ومازالت مستمرة ليومنا هذا‪.‬‬ ‫الجديد وأ ّ‬

‫ن َكالضبع تنام على طول اللدم‪ ،‬حتى يصل إليها طالبها‪ ،‬ويختلها راصدها‪ ،‬ولكني أضرب بالمقبل‬
‫»َوال ل أُكو ُ‬
‫إلى الحق المدبر عنه‪ ،‬وبالسامع المطيع العاصي‬

‫‪ .1‬كثر الكلم بين الشّراح والمفسرين بشأن من أشار بهذا على المام)عليه السلم(‪ .‬فقد نسبه المرحوم الشيخ المفيد في كتاب الجمل‬
‫إلى إسامة بن زيد‪ ،‬بينما نسبه بعض المؤرخين والشّراح من غير المامية للمام الحسن)عليه السلم(‪ ،‬ولكن ليبدو هذا التفسير‬
‫ن هذه‬
‫صحيحًا بالستناد إلى الرابطة التي كانت قائمة بين المام الحسن)عليه السلم(وأبيه)عليه السلم(‪ .‬الحتمال الخير فهو أ ّ‬
‫الشارة لم تكن من قبل فرد بل من قبل طائفة ضالة خلدت إلى الراحة والدعة‪.‬‬

‫] ‪[ 298‬‬

‫ي‪ ،‬منذ قبض ال نبيه صلى ال‬


‫المريب أبدا‪ ،‬حتى يأتي علي يومي‪ .‬فوال مازلت مدفوعا عن حقي‪ ،‬مستأثرا عل ّ‬
‫عليه وآله وسلم حتى يوم الناس هذا‪(1)«.‬‬

‫الشرح والتفسير‬
‫الحيطة والحذر تجاه العداء‬

‫لقد رد المام)عليه السلم( على ُاولئك الذين يقترحون عدم مطاردة طلحة والزبير الذين نقضا بيعتهما‪ ،‬فقال)عليه‬
‫السلم(‪» :‬وال لأكون كالضبع)‪ (2‬تنام على طول اللدم)‪ (3‬حتى يصل إليها طالبها‪ ،‬ويختلها)‪ (4‬راصدها)‪(5‬‬
‫ن المثل يضرب بالضبع على أّنه حيوان أبله يمكن صيده بكل سهولة; حيث يقوم الصياد بدق قطعة من‬ ‫ويبدو أ ّ‬
‫الحجر أو العصا أمام عش الضبع فاذا نام تقدم إليه الصياد ليصيده بسهولة‪ .‬وقد سطرت الخرافات والساطير بهذا‬
‫الشأن ومن ذلك أن يخاطب الصياد الضبع فيقول له‪ :‬يا ضبع نم في عشك‪ ،‬ثم يكرر ذلك عّدة مرات‪ ،‬فيتجه الضبع‬
‫إلى أقصى غاره وينام‪ .‬فينادي الصياد‪ :‬الضبع ليس في العش‪ ،‬الضبع نائم‪ ،‬ثم يدخل عليه العش فيربطه بحبل‬
‫ويخرجه من عشه ومن هنا شبه الفراد الذين يعيشون الغفلة تجاه العدو بالضبع‪ .‬أّما الوقائع التأريخية آنداك فهى‬
‫تشير إلى سذاجة القتراح القاضي بعدم مطاردة طلحة والزبير; وذلك لن خطتهما كانت تستهدف السيطرة على‬
‫البصرة والكوفة ثم يبايعهما معاوية ويأخذ لهما البيعة من أهل الشام فتخضع أغلب المناطق السلمية لسيطرتهما‬
‫فليبقى لعلي)عليه السلم(سوى المدينة‪ .‬أضف إلى ذلك فان هؤلء إستطاعوا أن يؤلبوا أكثر عدد ممكن من الناس‬
‫من خلل‬

‫‪ .1‬أشار مؤلف كتاب »مصادر نهج البلغة« إلى المصادر اُلخرى التي نقلت هذه الخطبة ومنها »تأريخ الطبري‪ ،‬أمالي الشيخ‬
‫الطوسي‪ ،‬صحاح اللغة وغريب الحديث لبي عبيد القاسم بن سلم«‪.‬‬

‫‪» .2‬ضبع« على وزن سبع‪ ،‬يطلق أحيانا على القحط والجفاف لّنه يأكل كل شيىء ويقضي عليه‪.‬‬

‫‪» .3‬اللدم« حسب ما صّرح به بعضى أرباب اللغة هو صوت الحجر أو العصا أو غيرهما‪ ،‬تضرب به الرض ضربًا غير شديد‪ ،‬ومن‬
‫ن مثل هذا الصوت إذا تكرر يمكنه أن يؤدي إلى النوم‪.‬‬
‫الطبيعي أ ّ‬

‫‪» .4‬يختلها« من مادة »ختل« على وزن ختم بمعنى الخداع والمخاتلة بمعنى المشي بهدوء نحو الصيد بحيث ليهرب‪.‬‬

‫‪» .5‬الراصد« من مادة »الرصد« بمعنى المترقب ومن هنا يطلق على مراقبة المنجمين اسم الرصد كما يطلق على موضع الرصد اسم‬
‫المرصد‪.‬‬

‫] ‪[ 299‬‬

‫ن قاتل عثمان هو علي)عليه السلم(‪ .‬ومن الواضح‬ ‫الشعار الذي يطالب بدم عثمان حتى رسخ في أذهان الناس أ ّ‬
‫ن تلك الخطة كادت أن ترد الميدان عمليا لول مبادرة المام)عليه السلم( وتسريعه بمواجهة الفتنة حتى استطاع‬ ‫أّ‬
‫أن يقبر تلك المؤامرة في مهدها فتمكن من إنقاذ البصرة والكوفة بل والعراق بأجمعه‪ ،‬ولول المعارضة التي أبداها‬
‫الجهال تجاه المام)عليه السلم(في إطار تعامله مع ظلمة الشام لراح المسلمين وإلى البد من شرهم ولعاد العالم‬
‫ن المؤسف له ـ وكما أشير إلى ذلك في ذيل الخطبة الشقشقية ـ تعالت أصوات‬ ‫السلمي برمته وحدة واحدة; غير أ ّ‬
‫الجهال المغرضين الذين انطلت عليهم الدعايات ليوقفوا تلك المعركة التي كان النصر فيها للمام)عليه‬
‫السلم(قاب قوسين أو أدنى‪ .‬ثم يواصل المام)عليه السلم( كلمه ليقول‪» :‬ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق‬
‫المدبر عنه‪ ،‬وبالسامع المطيع العاصي المريب أبدًا‪ ،‬حتى يأتي علي يومي«‪.‬‬

‫ن المجتمع ليتبنى الحق بجميع أفراده; فهناك ضعاف اليمان وعبدة الهواء وأصحاب الجاه والمناصب‬ ‫طبيعي أ ّ‬
‫الذين ليروق لهم إمام عادل حيث يهدد منافعهم اللمشروعة فيلجأون إلى أساليب الدعاية والخداع والكذب‬
‫والزيف وإثارة الشائعات; المر الذي يدعو الساسة والحكام إلى الجهاض على هذه العناصر الفاسدة وإجتثاثها‬
‫من المجتمع بصفتها غدة سرطانية يمكنها أن تلوث المجتمع‪ ،‬أو السعي للحد من نشاطهم وفعاليتهم ألم تكن‬
‫مخاطرهم شديدة‪ ،‬كما ينبغي على دعاة الحق أن يكونوا على أهبة الستعداد على الدوام للنقضاض على هذه‬
‫العناصر والقضاء عليها‪ .‬وأخيرًا يصف المام)عليه السلم( هذه المعوقات بأّنها ليست جديدة وإّنما لها جذورها‬
‫ي‪ ،‬منذ‬‫التي تمتد إلى زمان رحيل رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪» :‬فو ال مازلت مدفوعًا عن حقي‪ ،‬مستأثرًا عل ّ‬
‫قبض ال نبّيه صلى ال عليه وآله وسلم حتى يوم الناس هذا« في إشارة إلى قضية طلحة والزبير في إّنها تأتي في‬
‫إطار حلقة مستمرة منذ وفاة رسول ال)صلى ال عليه وآله(مازالت قائمة حتى اليوم‪ .‬اّما تعبيره بمدفوعًا ومستأثرًا‬
‫فهى إشارة إلى المقاومة التي أبداها العداء حيال المام)عليه السلم(لزحز حته عن حّقه وتقديم الخرين عليه‪،‬‬
‫لنهم ليطيقون عدله وشدته‪ .‬أّما قوله)عليه السلم(‪» :‬حتى يوم الناس هذا« ـ باللتفات إلى إضافة اليوم إلى الناس‬
‫ـ يمكن أن يكون إشارة إلى ذلك اليوم الذي كنت فيه وحيدا وقد غصبوا حقي‪ ،‬واليوم قدهب البعض لمخافتي رغم‬
‫لّمة التي بايعتني‪ .‬والجدير بالذكر أن المرحوم الشيخ المفيد أورد في إرشاده‬
‫وجود هذه ا ُ‬

‫] ‪[ 300‬‬

‫عن المام علي )عليه السلم( أّنه قال‪ »:‬هذا طلحة والزبير ليسا من أهل النبوة ول من ذرية رسول ال)صلى ال‬
‫ل حتى وثبا على‬
‫ل واحدًا ول شهرًا كام ً‬
‫ن ال قد رد علينا حقنا بعد أعصر فلم يصبرا حو ً‬
‫عليه وآله( حين رأيا أ ّ‬
‫دأب الماضين قبلهما ليذهبا بحقي ويفرقا جماعة المسلمين عّني«)‪.(1‬‬

‫تأّمل‬
‫رسالة إلى جميع المسؤولين‬

‫لقد لّقن المام)عليه السلم( بهذه العبارات التأريخية كافة الزعماء من أهل اليقظة واليمان وساسة البلدان‬
‫السلمية درسًا بليغًا في التأهب لمواجهة العداء‪ ،‬ولينبغي التخلي عن الفرصة بكل سهولة وعدم الستسلم‬
‫للحلول والقتراحات التي يتقدم بها من يؤثر السكون ويخلد إلى الراحة والدعة‪ .‬فقد شبه المام)عليه السلم( من‬
‫ينخدع بهذه القتراحات ويفقد زمام المبادرة في تلك اللحظات الحساسة بالضبع‪ ،‬ويكمن وجه الشبه في عّدة ُامور‬
‫منها‪:‬‬

‫ل أّنه ينام لسماع بعضى الصوات التي يرددها; النوم الذي يؤدي به في خاتمة‬
‫ن الضبع يشعر بوجود العدو إ ّ‬
‫‪1‬ـأّ‬
‫المطاف إلى السر والموت‪.‬‬

‫ن الضبع يصطاد في غاره‪.‬‬


‫‪2‬ـأّ‬

‫‪ 3‬ـ ليبدي الضبع أدنى مقاومة للذب عن نفسه وإّنما يقع في مخالبه بكل سهولة‪.‬‬

‫فالفراد الذين ليتعاملون بحزم تجاه العدو ويبدون حالة من الضعف والوهن إزائه فهم كالضباع التي تنام في‬
‫مخادعها وتستسلم للقتل دون مقاومة‪.‬‬

‫و أخيرًا فليعني هذا أن يقدم النسان على عمل دون التأني والتامل والستشارة والوقوف على كافة جوانبه; بل‬
‫لبّد من إستشارة ذوي الحجى والشجاعة واتخاذ القرار قبل فوات الوان والقدام في الوقت المناسب‪.‬‬

‫‪ .1‬إرشاد المفيد ‪ ،243 / 1‬طبع دار النشر العلمية السلمية‪.‬‬

‫] ‪[ 301‬‬

‫الخطبة ‪7‬‬
‫ومن خطبة له )عليه السلم(‬

‫يذم فيها اتباع الشيطان‬

‫جوِرِهْم‬
‫حُ‬ ‫ج ِفي ُ‬
‫ب َوَدَر َ‬
‫صُدوِرِهْم‪َ ،‬وَد ّ‬
‫خ ِفي ُ‬ ‫ض َوَفّر َ‬‫شراكًا‪َ ،‬فبا َ‬ ‫خَذُهْم َلُه َأ ْ‬
‫ن َِلْمِرِهْم ِملكًا‪َ ،‬واّت َ‬ ‫شْيطا َ‬ ‫خُذوا ال ّ‬ ‫»اّت َ‬
‫ط َ‬
‫ق‬ ‫سْلطاِنِه َوَن َ‬‫ن ِفي ُ‬
‫شْيطا ُ‬‫شِرَكُه ال ّ‬
‫ن َقْد َ‬
‫طَل ِفْعَل َم ْ‬
‫خَ‬ ‫ن َلُهُم اْل َ‬
‫ب ِبِهُم الّزَلَل‪َ ،‬وَزّي َ‬‫سَنِتِهْم َفَرِك َ‬
‫ق ِبَأْل ِ‬
‫ط َ‬
‫عُيِنِهْم َوَن َ‬
‫ظَر ِبَأ ْ‬‫َفَن َ‬
‫عَلى ِلساِنِه«‪(1) .‬‬ ‫طِل َ‬ ‫ِباْلبا ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫أتباع الشيطان‬

‫ن الخطبة رغم قصرها تصور بدقة أتباع الشيطان وكيفية نفوذهم إليهم‪ ،‬ومن ثم تبين الثار الوخيمة والعواقب‬
‫إّ‬
‫المشئوومة والطرق التي يسلكها الشيطان في التغلغل إلى النسان واللقاء به في شباكه وحبائله‪ ،‬فيتلعب به‬
‫كيفما يشاء‪ .‬والحق أّنها تخدير جدي لتباع الحق في ضرورة توفي الحيطة والحذر من تسلل الشيطان والوقوف‬
‫بوجهه حال الشعور بأدنى آثاره‪ .‬والخطبة وإن تحدثت عن بعض الفراد من قبيل طلحة والزبير أو معاوية وأهل‬
‫الشام‬

‫‪ .1‬جاء في »مصادر نهج البلغة« أن هذه الخطبة وردت في ربيع البرار للزمخشري‪ 109 / 1 ،‬والنهاية لبن أثير في غريب‬
‫الحديث ‪.50 / 2‬‬

‫] ‪[ 302‬‬

‫ل أّنها لتقتصر عليهم البتة‪ ،‬بل هى رسالة واضحة )لكافة‬


‫أو أصحاب النهروان الذين سقطوا في فخ الشيطان‪ ،‬إ ّ‬
‫الفراد من أجل مراقبة الشيطان وعدم فسح المجال أمامه‪.‬‬

‫فقد تكّفلت الخطبة بتبيين المراحل التي يعقبها تسلل الشيطان في أتباعه‪ ،‬حيث شرحها المام)عليه السلم( بما‬
‫عرف عنه من فصاحة وبلغة وتشبيه رائع بحيث ليمكن تقديم صورة فنية أروع من تلك التي رسمها‬
‫ن هذا التسلل والنفوذ إلى النسان إختيارى وليمت بصلة‬ ‫المام)عليه السلم(‪ .‬فقد أشار في المرحلة الولى إلى أ ّ‬
‫إلى الجبار‪ .‬فالنسان هو الذي يعطيه الضوء الخضر ويدعه يلجه ويتصرف بوجوده حتى يجعله ملكًا ومعيارًا‬
‫لنشاطاته وفعالياته »إتخذوا الشيطان لمرهم ملكًا«‪ .‬فملك من مادة ملك بمعنى أساس الشيء ودعامته‪ ،‬كأن‬
‫يقال القلب ملك البدن‪ ،‬أي أن أساس وقوام البدن هو القلب وهذا هو المر الذي أشار إليه القرآن الكريم بوضوح‬
‫ن َيَتَوّلْوَنُه‬
‫على اّلِذي َ‬
‫سْلطاُنُه َ‬
‫ن * ِإّنما ُ‬
‫على َرّبِهْم َيَتَوكُّلو َ‬
‫ن آَمُنوا َو َ‬
‫على اّلِذي َ‬
‫ن َ‬‫سْلطا ٌ‬
‫س َلُه ُ‬
‫على لسان آياته )ِإّنُه َلْي َ‬
‫ن()‪ .(1‬بناءًا على هذا فالعبارة المذكورة كاليات القرآنية بمثابة رد على أولئك الذين‬ ‫شِرُكو َ‬ ‫ن ُهْم ِبِه ُم ْ‬
‫َواّلِذي َ‬
‫يتساءلون عن سلطة الشيطان على بني آدم فيقولون‪ :‬كيف سلط ال سبحانه هذا المخلوق الخطير على النسان ثم‬
‫ن الشيطان ليخترق الجدران غيلة‪ ،‬بل يأتي من الباب ويطرقها فان فتح له ولج‬ ‫طالبه بعدم إتباعه‪ .‬فالعبارة تقول أ ّ‬
‫ل عاد من حيث أتى‪ .‬صحيح أّنه يصر على طرق الباب دون الشعور بالكلل والملل‪ ،‬لكن بالمقابل هنالك‬ ‫وإ ّ‬
‫الملئكة الذين يهبون لنجدة النسان ويحذروه من مغبة فتح الباب‪ .‬ثم أشار في المرحلة الثانية إلى النتخاب الذي‬
‫يتوله الشيطان بعد ذلك النتخاب حيث يصطفى هؤلء كاعوان وشركاء »واتخذهم له اشراكًا«)‪ (2‬ثم‬
‫وضح)عليه السلم(ذلك بقوله‪» :‬فباض وفرخ في صدورهم«)‪ .(3‬فالمام)عليه السلم(يشبه صدور تبعة الشيطان‬
‫بعش إبليس الذي يبيض فيه ويفرخ‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬و دب ودرج في حجورهم«‪ .‬صّرح بعض شّراح نهج‬
‫البلغة بان دب من مادة الدبيب بمعنى الحركة البطيئة الضعيفة‪ ،‬والدرج الحركة القوى منها كحركات الطفل في‬
‫حضن‬

‫‪ .1‬سورة النحل ‪ 99 /‬ـ ‪.100‬‬

‫شَرك« بمعنى افتح ويحتمل المعنيان في العبارة المذكورة‪ ،‬وقد اختار كل شارح من شّراح نهج‬
‫‪» .2‬اشراك« جمع »شريك« و» َ‬
‫البلغة أحد هذين المعنيين‪.‬‬

‫‪ .3‬لقد استهلت العبارة بفاء التفريع لبيان شرحها للعبارة السابقة‪.‬‬

‫] ‪[ 303‬‬

‫ن الفكار والعادات الشيطانية ليست طارئة ومفاجئة على‬‫ُامه‪ .‬ولعل التعبير بدرج إشارة إلى حقيقة وهى أ ّ‬
‫النسان; بل تتجذر فيه بصورة تدريجية; كما عبر عنه في حذر المؤمنين منها حيث يتسنى له اقتياد النسان‬
‫خطوة خطوة نحو الفساد والضلل والكفر‪(1).‬‬

‫ن هذه البيوض والفراخ الشيطانية ستنمو وتترعرع حتى تتبدل إلى‬ ‫فقال‪» :‬فنظر باعينهم‪ ،‬ونطق بالسنتهم«‪ .‬أي أ ّ‬
‫شياطين تتحد معهم بحيث تنفذ في جميع أعضائهم وجوارحهم حتى يعيشون الزدواج في شخصياتهم‪ ،‬فهم من‬
‫جانب إنسان‪ ،‬ومن آخر شيطان‪ ،‬ظاهرهم إنساني أّما باطنهم شيطاني‪ .‬عيونهم وآذانهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم‬
‫ن آذانهم تطرب لسماع‬ ‫أدوات تأتمر بأوامر الشيطان‪ ،‬فمن الطبيعي أن يروا جميع الشياء بصيغة شيطانية كما أ ّ‬
‫النغام الشيطانية‪ .‬أّما في المرحلة الرابعة فيتناول)عليه السلم(النتيجة النهائية لهذه المسيرة التدريجية المنحرفة‬
‫فيقول‪» :‬فركب بهم الزلل‪ ،‬وزين لهم الخطل«)‪ (2‬ويشبه هذا الكلم ما أورده المام)عليه السلم( في موضع آخر‬
‫ن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها«)‪ .(3‬ثم قال)عليه السلم( في المرحلة الخيرة‬ ‫ل وأ ّ‬
‫من نهج البلغة »إ ّ‬
‫ن أعمال هؤلء تدل‬ ‫»فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه‪ ،‬ونطق بالباطل على لسانه«)‪ .(4‬إشارة إلى أ ّ‬
‫ن الشيطان استحوذ عليهم فتصرف فيهم كيف يشاء‪ .‬فحديثهم حديث الشيطان ونظرهم نظر‬ ‫بوضوح على أ ّ‬
‫ن المام)عليه السلم( أراد في هذه المرحلة‬ ‫الشيطان وبالنتيجة فان بصمات الشيطان متجسمة فيهم‪ ،‬والواقع هو أ ّ‬
‫ن مراده)عليه السلم(بعض الفراد كطلحة والزبير‬ ‫أن يعرف هؤلء الفراد من خلل أعمالهم الشيطانية‪ .‬ويبدو أ ّ‬
‫ن الكتب المعروفة لشرح نهج البلغة‬ ‫وانصارهما وأصحاب معاوية والخوارج ومن كان على شالكتهم‪ ،‬رغم أ ّ‬
‫وأسانيدها لم تتعرض إلى الفراد أو الطوائف المرادة بكلم المام)عليه السلم(‪ .‬مع‬

‫‪ .1‬سورة البقرة ‪ 168 /‬و ‪ ;208‬سورة النعام ‪ ;142 /‬سورة النور ‪.21 /‬‬

‫ن الشيطان‬‫ن مفهوم الجملة سيصبح أ ّ‬‫ن حرف الباء في بهم للتعدية‪ ،‬اّما إذا فسرت بالستعانة فا ّ‬
‫‪ .2‬هذا التفسير على أساس أ ّ‬
‫بالستعانة بهؤلء سيركب الخطأ والزلل؟ ولكن باللتفات إلى العبارة »وزين لهم الخطل« وفاء التفريع في فركب يبدو التفسير الول‬
‫أنسب‪.‬‬

‫‪ .3‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.16‬‬

‫‪ .4‬كلمة »فعل« يمكن أن تكون مفعوًل مطلقًا لفعل محذوف تقديره »فعلوا ذلك فعل‪ «...‬كما يمكن أن تكون مفعوًل مطلقًا لما سبق‬
‫)نظر‪ ،‬نطق‪ ،‬ركب وزين( وسيصبح مفهوم الجملة أن أفعال هؤلء أفعال من شرك الشيطان في عمله‪.‬‬

‫] ‪[ 304‬‬

‫ذلك فالكلم دقيق وعميق وليختص بطائفة معينة‪ ،‬بل يشمل كل من وضع رجله على مسار الشيطان وخضع‬
‫لسيطرته وامتثل أوامره‪.‬‬
‫تأّمل‬
‫خطط الشياطين‬

‫شائك وشامل هو البحث بشأن الشيطان وفلسفة خلقه وكيفية نفوذه إلى النسان وطول عمره وقصته مع آدم‬
‫لمور التي ليسع المجال شرحها والغوص في أعماقها‪.‬‬ ‫وجنوده وأعواّنه من الجن والنس وما إلى ذلك من ا ُ‬
‫وسنكتفي ببعض الشارات التي يمكنها أن تغني البحث بما ينسجم وما ورد في الخطبة المذكورة‪.‬‬

‫ن الشيطان لم يخلق كموجود شرير منذ بداية الخليقة‪ ،‬بل خلق طاهرا حتى اصطف‬ ‫فالذي تفيده اليات القرآنية أ ّ‬
‫ن حب الذات والكبر دفعه للتمرد على أمر ال والمتناع عن السجود‬ ‫مع الملئكة )و إن لم يكن ملكًا(‪ .‬غير أ ّ‬
‫لدم)عليه السلم(‪ ،‬فلم يرتكب المعصية فحسب‪ ،‬بل إّتهم علم البارئ سبحانه وحكمته ليهوي في وادي الشرك‬
‫والضلل‪ .‬لقد سأل ال النظرة إلى يوم القيامة فأجابه ال بالنظرة إلى يوم الوقت المعلوم ليتم تمحيص العباد‪ ،‬أو‬
‫ن وجود الشهوات المركبة في النسان البشرية ومقاومة العقل واليمان تجاه القوى المخالفة‬ ‫بعبارة ُاخرى فكما أ ّ‬
‫ن الوساوس الشيطانية الخارجية ومجابهتها من قبل النسان‬ ‫إّنما تضاعف قدرة النسان في مسار الطاعة ل; فا ّ‬
‫إّنما تقوده إلى السمو والتكامل; وذلك لن وجود العدو إّنما يشكل العامل الذي يقف وراء حركة النسان وقوته‬
‫ن للشيطان نفوذ إجباري في النسان‪ ،‬بل النسان هو الذي يمهد لهذا النفوذ‪،‬‬ ‫ن هذا ليعني أ ّ‬ ‫لأّ‬ ‫وتطوره وتكامله‪ .‬إ ّ‬
‫ن()‪ ،(1‬وقال في موضع آخر )ِإّنُه َلْي َ‬
‫س‬ ‫سْلطا ٌ‬
‫عَلْيـِهمْ ُ‬
‫ك َ‬
‫س َل َ‬‫عباِدي َلْي َ‬ ‫ن ِ‬ ‫فقد صّرح القرآن الكريم بهذا الشأن قائل‪ِ) :‬إ ّ‬
‫ن()‪ (2‬كما صّرحت إحدى اليات القرآنية على لسان الشيطان أّنه‬ ‫على َرّبِهْم َيَتَوّكُلو َ‬
‫ن آَمُنوا َو َ‬ ‫على اّلِذي َ‬
‫ن َ‬‫سْلطا ٌ‬
‫َلُه ُ‬
‫سُكْم(‪(3).‬‬
‫جْبُتْم ِلي َفل َتُلوُموِني َوُلوُموا َأْنُف َ‬
‫سَت َ‬
‫عْوُتُكْم َفا ْ‬
‫ن َد َ‬‫ل َأ ْ‬‫سْلطان ِإ ّ‬‫ن ُ‬ ‫عَلْيُكْم ِم ْ‬
‫ن ِلي َ‬ ‫قال‪َ) :‬وما كا َ‬

‫‪ .1‬سورة السراء ‪.65 /‬‬

‫‪ .2‬سورة النحل ‪.99 /‬‬

‫‪ .3‬سورة إبراهيم ‪.22 /‬‬

‫] ‪[ 305‬‬

‫ن ال سبحانه قد خلق جنودا للقضاء على وساوس الشيطان ومخططاته‪ ،‬ومنها العقل والفطرة‬ ‫الجدير بالذكر أ ّ‬
‫والنبياء والملئكة التي تتولى حفظ المؤمنين وطرد الوساوس الشيطانية عنهم‪ .‬فكل من سار على درب هذه‬
‫الجنود حظى بدعمها وإسنادها وأبعد عنه وساوس الشيطان‪ ،‬ومن سار على درب الشياطين وأقام على العناد‬
‫لخرى الجديرة بالهتمام هى أنّ الشيطان يسعى للنفوذ في أعماق النفس‬ ‫واللجاجة رفعوا أيديهم عنه‪ .‬القضية ا ُ‬
‫البشرية ليؤثر من هناك على أعماله‪ ،‬كما ُاشير لهذا في الخطبة المذكورة وكأنه باض وفرخ في الصدور فتكاملت‬
‫الفروخ شياطين إتحدت معه حتى عاد نظره وسمعه وقوله ويده ورجله شيطانيًا‪ .‬وقد ورد عن أميرالمؤمنين)عليه‬
‫السلم( في غرر الحكم أّنه قال‪» :‬احذروا عدوا نفذ في الصدور خفيًا ونفث في الذان نجيًا« كما ورد شبيه هذا‬
‫المعنى ـ مع فارق طفيف ـ في الخطبة ‪ 83‬من نهج البلغة‪ .‬كما قال)عليه السلم(في الخطبة ‪ 121‬من نهج‬
‫ن الشيطان يسني لكم طرقه ويريد أن يحل لكم دينكم عقدة عقدة«‪ .‬على كل حال فان الغرض من‬ ‫البلغة‪» :‬إ ّ‬
‫الخطبة هو تحذير النسان من عدوره اللدود الشيطان الذي تعود جذور عدائه منذ خلق آدم)عليه السلم(‪.‬‬
‫وضرورة التوكل على ال والتكاء على العقل والفطرة والوجدان والستضاءة بارشادات النبياء وتعاليمهم‬
‫والستمداد من الملئكة بغية حفظ النسان لنفسه من وساوس الشيطان‪.‬‬

‫ن الشياطين ليست‬ ‫وأخيرًا فالنقطة التي أرى ضرورة التعرض لها وعلى ضوء صريح بعض اليات القرآنية أ ّ‬
‫منحصرة بابليس وجنوده السريين‪ ،‬بل هناك مجموعة من النس التي تشملها الشياطين‪ ،‬فأعمالهم هى أعمال‬
‫ف الَقْو ِ‬
‫ل‬ ‫خُر َ‬
‫ضُهْم ِإلى َبْعض ُز ْ‬
‫حي َبْع ُ‬
‫ن ُيو ِ‬
‫جّ‬
‫س َوال ِ‬
‫لْن ِ‬
‫نا ِ‬
‫طـي َ‬
‫شيا ِ‬
‫عُدّوا َ‬
‫ى َ‬
‫ل َنِب ّ‬
‫جَعْلنا ِلُك ّ‬
‫ك َ‬
‫الشياطين بعينها )َوَكذ ِل َ‬
‫غُرورًا()‪.(1‬‬
‫ُ‬

‫نعم لبد من الحذار من وساوسهم‪.‬‬

‫—–‬
‫‪ .1‬سورة النعام ‪.112 /‬‬

‫] ‪[ 306‬‬

‫] ‪[ 307‬‬

‫الخطبة ‪8‬‬

‫ومن كلم له )عليه السلم(‬

‫يعني به الّزبير في حال إقتضت ذلك ويدعوه في الدخول في البيعة‪ ،‬ثانيا‪.‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫دخل الزبير وطلحة على علي)عليه السلم(‪ ،‬فاستأذناه في العمرة‪ ،‬فقال‪ :‬ما العمرة تريدان‪ ،‬فحلفا له بال أّنهما ما‬
‫يريدان غير العمرة‪ ،‬فقال لهما‪ :‬ما العمرة تريدان‪ ،‬وإّنما تريدان الغدرة ونكث البيعة‪ ،‬فحلفا بال ما الخلف عليه‬
‫ول نكث بيعة يريدان‪ ،‬وما رأيهما غير العمرة‪ .‬قال لهما‪ :‬فأعيدا البيعة لي ثانية‪ ،‬فأعاداها بأشد مايكون من اليمان‬
‫ل في فتنة يقتتلن فيها‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫والمواثيق‪ ،‬فأذن لهما‪ ،‬فلما خرجا من عنده‪ ،‬قال لمن كان حاضرًا‪ :‬وال لترونهما إ ّ‬
‫ل‪ (1).‬أّما الزبير فقد حاول أن يتذرع بما‬‫يا أميرالمؤمنين‪ ،‬فمر بردهما عليك‪ ،‬قال‪ :‬ليقضى ال أمرًا كان مفعو ً‬
‫يبرر له نكث البيعة‪ ،‬ويقول ليس لعلي في عنقي بيعة حيث بايعته مكرها‪ .‬فالقى المام)عليه السلم( هذه الخطبة‬
‫ن البعض قد نسب هذا الكلم للمام الحسن)عليه السلم( وقد القاها بأمر من أبيه في يوم الجمل‬ ‫)جدير بالذكر أ ّ‬
‫بعد خطبة عبدال بن الزبير‪ ،‬لكن ليستبعد أن يكون المام)عليه السلم( قد أورده مسبقا ردًا على إدعاءات الزبير‬
‫ثم استشهد بها المام الحسن)عليه السلم( في الجمل‪(2).‬‬

‫ل فليدخل‬
‫»يزعم أّنه قد بايع بيده‪ ،‬ولم يبايع بقلبه‪ ،‬فقد أقر بالبيعة‪ ،‬وادعى الوليجة‪ ،‬فليأت عليها بأمر يعرف‪ ،‬وإ ّ‬
‫فيما خرج منه«‪.‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.232 / 1‬‬

‫‪ .2‬كتاب مصادر نهج البلغة ‪ 334 / 1‬ـ ‪.335‬‬

‫] ‪[ 308‬‬
‫الشرح والتفسير‬

‫عذر أقبح من ذنب‬

‫ن المام)عليه السلم( ألقى هذه الخطبة كرد على الزبير الذي حاول تبرير نكثه للبيعة بأّنه بايع‬ ‫كما أوردنا آنفا فا ّ‬
‫مكرها بيده دون قلبه; لن معاوية بعث له بكتاب قال فيه‪ :‬أّما بعد‪ ،‬فاّني قد بايعت لك أهل الشام‪ ،‬فأجابوا‬
‫واستوسقوا‪ ،‬كما يستوسق الجلب فدونك الكوفة والبصرة‪ ،‬ليسبقك إليها ابن أبي طالب فانه لشيء بعد هذين‬
‫المصرين‪(1).‬‬

‫ن نكثا بيعتهما للمام علي)عليه السلم(‪ .‬أّما‬ ‫لأّ‬ ‫فما كان من طلحة والزبير الذين كانا يطمعان بالمناصب إ ّ‬
‫المام)عليه السلم( فقد رد على زعم الزبير رّدا حقوقيًا يحظى بكافة التبعات المتعارفة اليوم في القوانين‬
‫القضائية‪ ،‬فقد قال)عليه السلم(‪» :‬يزعم أّنه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه‪ ،‬فقد أقر بالبيعة‪ ،‬وادعى الوليجة«)‪(2‬‬
‫ن كلمه مركب من إقرار وإدعاء‪ ،‬فاقراره مسموع ومقبول‪ ،‬أّما إدعائه فيحتاج إلى إقامة دليل‪ .‬ولذلك‬ ‫فالواقع أ ّ‬
‫ل وجب عليه اللتزام‬ ‫طالبه المام)عليه السلم( باقامة الدليل )ليثبت أن بيعته قد حصلت من خلل الكراه( وإ ّ‬
‫ل فليدخل فيما خرج منه« لقد رأى أغلب الناس الزبير وطلحة قد‬ ‫بلوازم البيعة‪» :‬فليأت عليها بأمر يعرف‪ ،‬وإ ّ‬
‫دخل على المام)عليه السلم( وبايعاه طائعين; فقد كانا من أوائل من بايعه في المسجد‪ ،‬فالبيعة ملزمة‪ ،‬ومن‬
‫إدعى خلف ذلك عليه أن يأتي بالدليل‪ ،‬أضف إلى ذلك فالكل يعلم بعدم وجود الكراه والجبار في بيعة‬
‫علي)عليه السلم(‪ ،‬فقد كان هنالك من لم يبايع‪ ،‬ولم يضطرهم المام)عليه السلم(إلى البيعة‪ ،‬وعليه فليس هنالك‬
‫لصول الساسية في كافة المحافل الحقوقية والقضائية‪ ،‬في‬ ‫ن هذا من ا ُ‬‫من مبرر لنكث البيعة‪ .‬وكما ذكرنا سابقًا فا ّ‬
‫ن من أبرم عقدًا راغبًا بالظاهر فقد وجب عليه اللتزام به وليقبل منه إدعاء الكراه الجبار وعدم تأييد القلب لما‬ ‫أّ‬
‫ل لمكن لكل واحد أن يقوض ما أبرمه بهذه الذريعة‪ .‬فالمشتري والبائع والزوج والواقف و‪ ...‬إذا‬ ‫فعله باليد‪ ،‬وإ ّ‬
‫أبرم عقدا ولم يرى فيه من مصلحة لحقا أمكنه أن يدعي بأّنه أبرمه لسانًا ولم يكن قلبًا موافقًا عليه‪ .‬وإذا كان‬
‫المر‬

‫‪ .1‬شرح ابن أبي الحديد ‪.231 / 1‬‬

‫‪» .2‬وليجة« من مادة »ولوج« بمعنى الدخول‪ ،‬كما تعني الدخول الخفي ويقال وليجة لما يضمر في القلب ويكتم‪ ،‬وقد جاءت هنا‬
‫بمعنى المر الخفي‪.‬‬

‫] ‪[ 309‬‬

‫كذلك فقد عرضت كافة النظم والعقود والمواثيق الفردية والدولية للتصدع والنهيار وهذا مال يقره عقل أو‬
‫ل أّنه استهدف تضليل الرأي العام الذي قد يسأله لم نكثت‬
‫ن الزبير كان يعلم جيدا بهذا المر إ ّ‬
‫منطق; والحق أ ّ‬
‫البيعة؟‬

‫ن كل هذا نابع من كون العرب آنذاك كانت تولي البيعة أهمية فائقة ولم تكن تتساهل في نقضها‬
‫جدير بالذكر أ ّ‬
‫وعدم اللتزام بها‪ ،‬وترى ذلك خطيئة كبيرة‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 310‬‬

‫] ‪[ 311‬‬
‫الخطبة ‪9‬‬

‫ومن كلم له )عليه السلم(‬

‫جَم ْ‬
‫ل‬ ‫خصومه ويقال إّنها في أصحاب اْل َ‬
‫صَفة ُ‬
‫صَفته َو ِ‬
‫في ِ‬

‫طَر«‪(1).‬‬
‫حّتى ُنْم ِ‬
‫سيُل َ‬
‫حّتى ُنوِقَع َول ُن ِ‬
‫عُد َ‬
‫سنا ُنْر ِ‬
‫شُل َوَل ْ‬
‫ن اْلَف َ‬
‫ن اَْلْمَرْي ِ‬
‫عُدوا َوَأْبَرُقوا َوَمَع َهَذْي ِ‬
‫»َوَقْد َأْر َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫ضجة فارغة‬

‫يستفاد من كلمه)عليه السلم( أّنه أورده بعد انتهاء معركة الجمل كاشارة للضجة الفارغة التي إفتعلها طلحة‬
‫والزبير ورهطهما في بداية موقعة الجمل‪ ،‬غير أّنه لم يجدهم نفعا حيث هزم »طلحة والزبير« شر هزيمة حتى‬
‫قتل‪ .‬فقد قال)عليه السلم(‪» :‬و قد ارعدوا وابرقوا‪ ،‬ومع هذين المرين الفشل«‪ .‬فهو تشبيه رائع بالسحب التي‬
‫ل أّنها سرعان ما تتبدد‬
‫تتخللها ظاهرة الرعد والبرق كبشارة للناس بالمطار التي تجلب عليهم الخير والبركة‪ ،‬إ ّ‬
‫دون أن تحمل قطرة من المطر‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬ولسنا نرعد حتى نوقع‪ ،‬ولنسيل حتى نمطر« يريد)عليه‬
‫السلم( أننا لن نرعد‬

‫‪ .1‬قال صاحب »مصادر نهج البلغة« علوة على نقل الشريف الرضي لهذا الكلم في نهج البلغة‪ ،‬فقد رواه الواقدي ضمن إحدى‬
‫خطبه)عليه السلم( يوم الجمل‪ .‬كما نقله المرحوم الشيخ المفيد في كتاب الجمل )ص ‪ (177‬عن كتاب الجمل للواقدي‪ .‬وأخيرًا ذكره‬
‫ابن عثم الكوفي في كتاب الفتوحات‪.‬‬

‫] ‪[ 312‬‬

‫ونزبد مالم نسدد ضربات موجعة إلى العدو‪ ،‬ولسنا من أهل الضجيج حتى نقتحم الميدان ونقهر الخصم‪ .‬فالواقع‬
‫ن العبارتين رغم قصرهما تشيران إلى مدرستين لكل منهما أسسهما في النشطة الجتماعية والعسكرية‬ ‫هو أ ّ‬
‫ل أّنها لتستبطن سوى الضعف والعجز والفشل‬ ‫والسياسية; مدرسة تتبنى الكلم والضجيج حين ترد الميدان; إ ّ‬
‫لخرى فهى المعروفة بالسلوك والعمل‪ ،‬قليل كلمها كثير عملها‪ .‬هى مدرسة صامتة‬ ‫حين العمل‪ .‬أّما المدرسة ا ُ‬
‫ن النبياء والولياء وأتباع الحق ينتمون للمدرسة الثانية‪ ،‬بينما‬‫ل أّنها بطلة باسلة في الميدان وبالطبع فا ّ‬
‫هادئة إ ّ‬
‫ينتمي أتباع الباطل وجنود الشيطان إلى المدرسة الولى‪.‬‬

‫ن هناك البعض الذي‬


‫ن الرعد والبرق قبل المطر ثم يأتي السيل‪ ،‬غير أ ّ‬ ‫و هنا نقطة مهّمة يجب اللتفات إليها وهى أ ّ‬
‫يرعد ويبرق دون المطر‪ ،‬والسوأ من ذلك البعض الخر الذي يتوعد بالسيول رغم إنعدام قطرة مطر‪ ،‬أي أّنهم‬
‫يتشدقون بالنصر والغلبة والنجاح حتى بعد الهزائم المنكرة التي يمنون بها‪ ،‬فالطائفة الولى كاذبة في مزاعمها‬
‫ن المام علي)عليه السلم( بعث برسله‬ ‫وإدعاءاتها‪ ،‬أّما الثانية باطلة عديمة الحياء‪ .‬فالذي تفيده بعض الروايات أ ّ‬
‫يدعون إلى اللتزام بالبيعة و عدم شق الصف السلمي والعودة إلى إحضان الحكومة السلمية‪ ،‬فعادوا يحملون‬
‫ن أبوا‬
‫رسائل الحرب حيث تضمنت رسائلهم التهديد بشن الحرب‪ ،‬فرّد المام)عليه السلم( ذلك الرد الحاسم »فا ّ‬
‫أعطيتهم حد السيف وكفى به شافيًا من الباطل‪ ،‬وناصرا للحق! ومن العجب بعثهم إلي أن ابرز للطعان وأن أصبر‬
‫للجلد‪ ،‬هبلتهم الهبول‪ ،‬لقد كنت وما ُاهدد بالحرب‪ ،‬ول ُارهب بالضرب‪ ،‬وإني لعلى يقين من رّبي‪ ،‬وغير شبهة‬
‫من ديني«)‪.(1‬‬

‫تأّملن‬
‫‪ 1‬ـ رجل العمل‬

‫ما تضمنه كلمه)عليه السلم( ـ كما أشرنا سابقًا ـ بعض الصفات البارزة لساليب الدارة لولياء ال‪ ،‬فهم ليسوا‬
‫من أهل الكلم والضجيج‪ ،‬بل بالعكس كلمهم العمل والتنفيذ‪ .‬وقد تجسد‬

‫‪ .1‬بحارالنوار ‪ 60 / 32‬ـ ‪.188‬‬

‫] ‪[ 313‬‬

‫نموذج ذلك في معركة بدر حين ذهل أبوسفيان للنفر القليل الذي كان مع رسول ال)صلى ال عليه وآله(فبعث‬
‫عمير ليرى هل هناك من جند خلف الميدان‪ ،‬فعاد إلى أبي سفيان وقال له‪» :‬مالهم من كمين ولمدد ولكن نواضح‬
‫ل سيوفهم‪ ،‬ما‬
‫يثرب قد حملت الموت النافع اّما ترونهم خرسًا ليتكلمون‪ ،‬يتلمظون تلمظ الفاعي‪ ،‬مالهم ملجأ إ ّ‬
‫أراهم يولون حتى يقتلوا وليقتلون حتى يقتلوا بعددهم فار تأوا رأيكم‪ .‬فقال له أبوجهل‪ :‬كذبت وجبنت‪(1)«.‬‬

‫ن الحق ماذهب إليه عمير ل ما قاله أبوجهل‪ .‬وبالطبع فليس هناك من منافاة بين هذا‬
‫بالتالي أتبتت موقعة بدر أ ّ‬
‫الكلم والستفادة من الساليب النفسية في ميدان الحرب والرجز وممارسة الحماس وامطار العدو بوابل التبليغات‬
‫وزرع الرعب في صفوفه‪ .‬فالمشكلة إّنما تكمن في خلصة كل شيء في الكلم والتهديد والوعيد‪ .‬فالعمل هو‬
‫الساس والمحور والكلم ترجمة لذلك العمل‪ .‬فنموذج الفريق الول طلحة والزبير ورهطهما‪ ،‬ونموذج الفريق‬
‫الثاني علي)عليه السلم(واتباعه‪ .‬فقد وردت عبارات واضحة للمام)عليه السلم( ـ في الخطبة ‪ 124‬من‬
‫نهج البلغة ـ بهذا الشأن‪ ،‬ففي الوقت الذي يحث اتباعه وجنده على الثبات في الميدان والشدة في الضرب‬
‫يوصيهم قائل‪َ» :‬اميتوا الصوات فانه أطرد للفشل«‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الفارق بين الدعاية والعلم الفعال‬

‫الواقع هنالك فارق واضح بين هذين المرين‪ .‬فالنهي إّنما جاء بشأن الكلم الفارغ الذي‬

‫‪ .1‬بحارالنوار ‪.224 / 19‬‬

‫] ‪[ 314‬‬

‫ينطوي على الرعد والبرق الكاذب والذي تصطلح عليه بالبلف حيث تفيد القرائن والشواهد بعدم وجود أي عمل‬
‫ن مثل هذا البلف والكلم الفارغ أّنما هو ديدن الشيطان واتباعه من الفراد عديمي‬
‫خلف ذلك الكلم‪ .‬ول شك أ ّ‬
‫المنطق‪ .‬أّما الترغيب والترهيب الذي يتبع ذلك والعمل والنشاط الذي يخرج الكلم من دائرته ليزج به في ميدان‬
‫العمل الذي ينتهجه الفريق الثاني فاّنه ليس فقط غير مذموم فحسب‪ ،‬بل إّنما يأتي في نطاق الحرب النفسية التي‬
‫ن النهماك بالرجز والخطابة أثناء‬
‫تفعل فعلها في الواقع‪ .‬وبالطبع فان التذكير بهذه النقطة ضروري وهى أ ّ‬
‫المعركة إّنما يشغل قسما من طاقات النسان ويحد من الثر المطلوب لصولته وحملته‪ ،‬ومن هنا ورد النهي عن‬
‫ذلك‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 315‬‬

‫الخطبة ‪10‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫يريد الشيطان أو يكني به عن قوم‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫تشير هذه الخطبة إلى موقعة الجمل والحوادث الليمة التي تخللتها; حيث يصف المام)عليه السلم(اعوان طلحة‬
‫والزبير بانهم جنود الشيطان‪ ،‬ثم يشير إلى خصائصه في الميدان‪ ،‬كما يتطرق إلى تبيين خطته المستقبلية بهذا‬
‫الشأن في عبارات قصيرة وقارعة مشوبة بتوعد العدو مع تكهن بما ستؤول إليه هذه المعركة‪.‬‬

‫سي‪َ ،‬ول ُلّب َ‬


‫س‬ ‫عَلى َنْف ِ‬
‫ت َ‬
‫س ُ‬
‫صيَرِتي‪ :‬ما َلّب ْ‬
‫ن َمِعي َلَب ِ‬‫جَلُه َوِإ ّ‬
‫خْيَلُه َوَر ِ‬
‫ب َ‬
‫جَل َ‬‫سَت ْ‬
‫حْزَبُه َوا ْ‬
‫جَمَع ِ‬ ‫ن َقْد َ‬
‫شْيطا َ‬‫ن ال ّ‬‫»َأل َوِإ ّ‬
‫ن ِإَلْيِه«‪(1).‬‬
‫عْنُه َول يَُعوُدو َ‬
‫ن َ‬ ‫صُدُرو َ‬‫حُه! ل َي ْ‬ ‫حْوضًا َأنا ماِت ُ‬ ‫ن َلُهْم َ‬
‫طّ‬‫ل َُلْفِر َ‬
‫ي‪َ .‬واْيُم ا ّ‬‫عَل ّ‬
‫َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫تحذير المسلمين ثانية‬

‫ن خطبة المام)عليه السلم( تعالج القضايا المرتبطة بموقعة الجمل‪ ،‬واستنادا إلى‬
‫كما ذكرنا سابقًا فا ّ‬
‫ن المرحوم المفيد نقل هذه الخطبة في الرشاد ‪.188 /‬‬
‫‪ .1‬جاء في مصادر نهج البلغة أ ّ‬

‫] ‪[ 316‬‬

‫العلقة الوثيقة بين هذه الخطبة والخطبة الثانية والعشرين وأبعد من ذلك إرتباطها بالخطبة ‪ ،173‬والواقع هو أنّ‬
‫هذه الخطبة قد استوعبت في تلك الخطبة وأصبحت جزءًا منها‪ ،‬فل يبقى هنالك من مجال للشك والترديد في أ ّ‬
‫ن‬
‫سروها بالشارة إلى موقعة صفين وأهل‬ ‫الهدف من هذه الخطبة هو الشارة لموقعة الجمل‪ ،‬وكأّني بُاولئك الذين ف ّ‬
‫الشام قد أهملوا تلك العلقة‪ .‬فالمحور الول لهذه الخطبة هو تشبيه أعوان طلحة والزبير بجنود الشيطان‬
‫فقال)عليه السلم(‪» :‬أل وان الشيطان قد جمع حزبه‪ ،‬واستجلب خيله ورجله«‪.‬‬

‫و كيف ليكونوا جنود الشيطان وقد نقضوا عهدهم مع المام)عليه السلم( وقد دفعهم الحرص على المناصب لبث‬
‫لّمة السلمية واشعال فتيل الحرب الذي أودى بحياة الكثيرين حتى احترقوا‬ ‫بذور الفرقة والنفاق بين صفوف ا ُ‬
‫بتلك النيران‪ .‬اّما التعبير بالحزب فهو إشارة إلى النسجام بين أهداف هؤلء وأهداف الشيطان‪ ،‬وأّما التعبير‬
‫عو‬
‫بالخيل والرجل فهو إشارة لتنوع الجنود‪ .‬القرآن الكريم من جانبه أشار إلى حزب الشيطان بقوله‪ِ) :‬إّنما َيْد ُ‬
‫سِعـير()‪ ،(1‬ويشير في موضع آخر إلى حزبه من الراجلة والخيالة الذين يختبر بهم‬ ‫ب ال ّ‬‫صحا ِ‬ ‫ن َأ ْ‬ ‫حْزَبُه ِلـَيُكوُنوا ِم ْ‬
‫ِ‬
‫ك()‪ .(2‬ولشك أن تتابع هذه التنبيهات إّنما تستهدف تحلي المؤمنين باليقظة‬ ‫جِل َ‬
‫ك َوَر ِ‬‫خْيِل َ‬
‫عَلْيِهْم ِب َ‬
‫ب َ‬ ‫جِل ْ‬
‫بني آدم )َوَأ ْ‬
‫ن هذا المصير‬ ‫والوعي والحذار من الوقوع في حبائل الشيطان والنضمام إلى حزبه واللتحاق بجنوده‪ ،‬غير أ ّ‬
‫المشؤوم قد طال طلحة والزبير وأعوانها ومن سار على نهجهما قد دفعهم حب الجاه والمنصب لن يكون لقمة‬
‫سائغة للشيطان‪.‬‬

‫ثم تناول)عليه السلم( المحور الثاني الذي بين فيه سماته وعمق بصيرته بما ليجعل للشبهة والشك من سبيل إليه‬
‫ن معي لبصيرتي ما لبست على نفسي‪ ،‬ول لبس علي«‪ .‬الحق أنّ مصدر ضلل أي فرد إّنما يمكن في أحد‬ ‫»و إ ّ‬
‫ثلث‪ :‬الول أل يمتلك البصيرة والمعرفة اللزمة بالعمل الذي يقدم عليه‪ ،‬فيرد الميدان جهل فيتصرف بما‬
‫ن حجب هوى النفس وحب الذات إّنما تحول دون رؤيته للحق‬ ‫لأّ‬
‫ليرضى ال‪ .‬والثاني قد يتمتع بالمعرفة إ ّ‬
‫ل أّنهم يصطنعون لنفسهم العذار الناشئة‬ ‫وتسوقه للخطأ والزلل‪ ،‬وما أكثر الفراد الذين يعلمون ببشاعة الذنب إ ّ‬
‫من‬

‫‪ .1‬سورة فاطر ‪.6 /‬‬

‫‪ .2‬سورة السراء ‪.64 /‬‬

‫] ‪[ 317‬‬

‫وساوس النفس والدوافع الشيطانية التي تسول لنفسهم عد تلك الذنوب من الفرائض‪ ،‬وكما صورهم القرآن الكريم‬
‫صْنعًا()‪ .(1‬والثالث أن يمنع شياطين الجن والنس الذن بالنفوذ إلى قلبه ويشوهوا‬
‫ن ُ‬
‫سُنو َ‬
‫حِ‬‫ن َأ ّنـُهْم ُي ْ‬
‫سُبو َ‬
‫حَ‬
‫)َوُهْم َي ْ‬
‫عليه الحقيقة‪ .‬ولم يكن لي من هذه المحاور الثلث من سبيل إلى المام)عليه السلم(; وذلك لّنه أوصد كافة‬
‫البواب الباطنية والظاهرية للخطأ والنحراف بوجه الوساوس والهواء وتحلى بتقوى وورع وبصيرة جعلته‬
‫يرى الحقيقة كما هى‪.‬‬

‫ن البصيرة التي كانت‬ ‫ن معي لبصيرتي«‪ ،‬أ ّ‬ ‫ن المراد يقول)عليه السلم(‪» :‬إ ّ‬ ‫ذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أ ّ‬
‫معى في زمن رسول ال)صلى ال عليه وآله(في كافة الحداث المهّمة التي وقعت على عهده مازالت معي ولم‬
‫ن اّتَبَعِني()‪ .(2‬بينما‬
‫صـيَرة َأَنا َوَم ِ‬
‫على َب ِ‬
‫ل َ‬
‫عوا ِإلى ا ّ‬
‫سِبـيِلي َأْد ُ‬
‫ل هـِذِه َ‬
‫تتغير‪ .‬والعبارة إشارة إلى الية الشريفة )ُق ْ‬
‫ن معي‬ ‫يرى البعض الخر أن قوله )عليه السلم(‪» :‬ما لبست على نفسي‪ ،‬ول لبس علي« هو تفسير لقوله »و إ ّ‬
‫ن ما ذكر سابقًا أنسب‪.‬‬
‫لأّ‬‫لبصيرتي« إ ّ‬

‫ن المام)عليه السلم( قال‪ :‬ما لبست على نفسي‪ ،‬ثم قال‪ :‬ول لبس علي; المر الذي يكشف عن‬ ‫الجدير بالذكر أ ّ‬
‫ترتيب طبيعي ينبغي فيه أل يخدع النسان من قبل نفسه أول ثم يأمن مكر الخرين وخداعهم‪ .‬ثم خاض فى‬
‫لفرطن )‪ (4‬لهم‬ ‫المحور الثالث ليكشف عّما ستؤول إليه نتيجة موقعة الجمل محذرا خصومه بشدة »و آيم)‪ (3‬ال ُ‬
‫ن المام)عليه السلم( شبه ميدان القتال‬
‫حوضا أنا ماتحه)‪ !(5‬ليصدرون عنه ول يعودون إليه«‪ .‬والواقع هو أ ّ‬
‫بالحوض الذي يريد مله بالماء بحيث ليبقى معه من مجال; أراد)عليه السلم( لملن لهم حياض الحرب التي‬
‫هى دربتي وأنا مجرب لها‪ ،‬ثم يشير)عليه السلم( إلى النتيجة التي سيؤول إليها أهل الجمل وهى لن تكون سوى‬
‫القتل وإزهاق‬

‫‪ .1‬سورة الكهف ‪.104 /‬‬

‫‪ .2‬سورة يوسف ‪.108 /‬‬

‫‪ .3‬يرى بعض أرباب اللغة أن »آيم« جمع »يمين« بمعنى القسم وقد سقطت النون وهى مبتدأ لخبر محذوف تقديره )و ايمن ال‬
‫قسمي(‪.‬‬

‫‪ُ» .4‬افرطن« من مادة »إفراط« بمعنى تجاوز الحد )ما يقابل التقريط(‪ ،‬كما تأتي بمعنى مل الشيء حتى يفيض‪ ،‬وقد جاءت بهذا‬
‫المعنى في العبارة‪.‬‬

‫ن الماتح لمن يستسقى‬


‫‪» .5‬ماتح« بمعنى امتداد الشيء ثم اطلقت على المستسقي الذي يدلي بدلوه لستخراج الماء من البئر‪ .‬وقيل إ ّ‬
‫الماء من أعلى البئر‪ ،‬بينما المايح من تحته‪.‬‬

‫] ‪[ 318‬‬

‫ن الفار لن يعود إلى الميدان ثانية‪.‬‬


‫النفس‪ ،‬وإن كان هنالك من سبيل إلى الفرار فا ّ‬

‫ن قوله)عليه السلم(‪» :‬لفرطن« ل تعني أّني سأفرط في هذا السبيل‪ ،‬بل المراد أّني‬ ‫و هنا لبّد من اللتفات إلى أ ّ‬
‫سأبذل قصارى جهدي لسد جميع الطرق على العدو )لبّد من الدقة هنا(‪ .‬وهذا بعينه ما جعل عائشة تعتبر من تلك‬
‫المعركة ولم تشترك في المعارك اللحقة‪.‬‬

‫تأّمل‬
‫جند الشيطان‬

‫ن الشيطان ليمارس وظيفته في الغواء والضلل لوحده; بل له جنوده‬ ‫ما نستفيده من الخطبة المذكورة أ ّ‬
‫وأعوانه والذين عبر عنهم فى الخطبة بالخيالة والرجالة )خيل ورجل( كماله اتباعه وانصاره الذين عبر عنهم‬
‫بالحزب‪ ،‬وكما ذكرنا فان القرآن هو الذي أورد هذين التعبيرين )لبّد من اللتفات إلى الخيل تعني أحيانا الفارس‬
‫وهذا هو المراد في العبارة لنفس الفرس(‪ .‬وبالطبع ليراد بحزب الشيطان ورجالته ما يتعارف اليوم في‬
‫ن له مساعدوه من بني جنسه ومن جنس بني آدم الذين‬ ‫ل أننا نعلم بأ ّ‬
‫المجتمعات المعاصرة وتشكيلت الجيوش; إ ّ‬
‫ينشطون في إغواء الناس وإضللهم‪ ،‬بل حتى الحزاب القائمة اليوم والجنود الذين أصجوا آلة بيد السلطان‬
‫الظالمة والمستبدة إّنما هى جنود الشيطان وأحزابه‪ .‬فما كان من الجنود أشد وأقوى فهو من خيله وما كان أضعف‬
‫وأصغر فهو من رجله‪ .‬بل هناك من يرى نفسه في صفوف حزب ال وهو في زمرة حزب الشيطان‪ .‬اّما أتباع‬
‫جُهْم ِم َ‬
‫ن‬ ‫خِر ُ‬
‫ن آَمُنوا ُي ْ‬
‫ي اّلِذي َ‬
‫ل َوِل ّ‬
‫الحق فان عليهم أن يتكلوا على ال وينضووا تحت وليته ليكونوا مصداقا لقوله‪) :‬ا ّ‬
‫ت ِإلى الّنوِر(ليحظوا بعناية ال ولطفه ويفوزوا بمضمون »إلهي لتكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا«‪ .‬أّما‬ ‫ظُلما ِ‬
‫ال ّ‬
‫شرط الوصول إلى هذا المقام فهو ما ذكره المام)عليه السلم(في الخطبة المذكورة‪ ،‬أي لبّد من التحلي بالبصيرة‬
‫والمعرفة والحذر من خداع النفس‪ ،‬إلى جانب الحذر من الوقوع فريسة لحبائل خداع الخرين ومكرهم‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 319‬‬
‫الخطبة ‪11‬‬

‫ومن كلم له )عليه السلم(‬

‫لبنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل‬

‫صى اْلَقْوِم‪،‬‬
‫صِرك َأْق َ‬
‫ك‪ .‬اْرِم ِبَب َ‬
‫ض َقَدَم َ‬
‫ك‪ِ .‬تْد ِفي اَْلْر ِ‬
‫جَمَت َ‬
‫جْم ُ‬
‫ل ُ‬ ‫عِر ا َّ‬
‫ك‪َ .‬أ ِ‬
‫جِذ َ‬
‫عَلى نا ِ‬‫عضّ َ‬ ‫جباُل َول َتُزْل! َ‬ ‫»َتُزوُل اْل ِ‬
‫سْبحاَنُه«‪.‬‬‫ل ُ‬ ‫عْنِد ا ّ‬
‫ن ِ‬‫صَر ِم ْ‬
‫ن الّن ْ‬
‫عَلْم َأ ّ‬
‫ك‪َ ،‬وا ْ‬
‫صَر َ‬
‫ض َب َ‬ ‫غ ّ‬ ‫َو ُ‬

‫—–‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ن أميرالمؤمنين علي)عليه السلم( كان شديد الحرص على عدم نشوب معركة الجمل بغية‬ ‫ما تفيده الروايات هو أ ّ‬
‫الحيلولة دون سفك دماء المسلمين‪ ،‬كما ورد أّنه سلم الراية يوم الجمل ابنه محمد بن الحنفية‪ ،‬فاستغل الفرصة من‬
‫الصباح حتى الظهر ليدعوهم إلى الصلح والصلح واللتزام بالبيعة‪ ،‬ثم خاطب عائشة قائل‪ :‬اتق ال وعود إلى‬
‫ن(‪ .‬ثم التفت إلى طلحة والزبير وقال لهم‪ :‬صنتم نسائكم وابرزتم‬ ‫ن ِفي ُبُيوِتُك ّ‬
‫بيتك فقد أمركن ال سبحانه )َوَقْر َ‬
‫زوج رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬ثم خرجتم تطالبون بدم عثمان بعد أن آلت الخلفة إلى الشورى )و قد‬
‫انتخب الناس أميرالمؤمنين وقد مددتما إليه يد البيعة(‪ .‬ثم قال للزبير أتذكر كّنا نتحدث يوما في المدينة فسألك‬
‫رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪ :‬أتحب علي؟ فقلت‪ :‬كيف لأحبه وهو قرابتي وإّني لحبه في ال‪ .‬فقال لك رسول‬
‫ال)صلى ال عليه وآله(فاعلم إّنك ستقاتله وأنت له ظالم! فقلت أعوذ بال من ذلك اليوم‪ .‬ثم واصل‬

‫] ‪[ 320‬‬

‫المام علي)عليه السلم(نصحهم ووعظهم حتى قال الّلهم إشهد أّني نصحت لهم وأمهلتهم‪ ،‬ثم تناول القرآن وقال‬
‫حوا َبْيَنُهما()‪ (1‬وهو مقطوع‬
‫صِل ُ‬
‫ن اْقَتَتُلوا َفَأ ْ‬
‫ن الُمـْؤِمِنـي َ‬
‫ن ِم َ‬
‫ن طاِئَفتا ِ‬
‫من يحاججهم بالقرآن فيقرأ عليهم الية )َو ِإ ْ‬
‫يمينه وشماله ومقتول؟ فتناوله مسلم المجاشعي فاقترب من العدو وحمل القرآن بيمينه وتلى عليهم الية‪ ،‬فحملوا‬
‫عليه وقطعوا يمينه‪ ،‬فتناول القرآن بشماله فقطعوها أيضًا‪ ،‬فاخذ القرآن بأسنانه فقتلوه‪ .‬فقال علي)عليه السلم(‪:‬‬
‫ُاحل لي الن قتالهم عن آخرهم‪ .‬ثم إلتفت إلى محمد بن الحنفية وخاطبه بتلك الكلمات‪ (2).‬على كل حال فان‬
‫المام)عليه السلم( يسلط الضوء على الفنون القتالية المهّمة والمسائل ذات الثر من الناحية النفسية والجسدية في‬
‫الجندي المسلم والتي تعده للتأهب والستبسال في ساحة المعركة‪ .‬والكلم يشتمل على سبع جمل‪ :‬تضمنت الجملة‬
‫لخرى إلى‬ ‫الولى الوامر الكلية بشأن المقاومة والصمود في ميدان الحرب‪ ،‬بينما أشارت الجمل الخمس ا ُ‬
‫لمور التي تلعب دورًا في الصمود وتحقيق النصر‪ .‬أّما الجملة السابعة والخيرة فهى تؤكد على‬ ‫الجزئيات وا ُ‬
‫ن النصر من عنده سبحانه ليمكن من خلل ذلك وبقوة اليمان تحمل المشاق والصعاب‬ ‫التكال على ال وأ ّ‬
‫والتحلي بالروحية العالية من أجل الصمود أمام العدو ومقاتلته‪.‬‬
‫الشرح والتفسير‬

‫كن كالجبل‬

‫ن الخطبة تعالج مجريات موقعة الجمل حيث أعطى المام)عليه السلم( الراية ولده الشجاع‬ ‫كما ُاشرنا سابقًا فا ّ‬
‫محمد بن الحنفية‪ ،‬وقد أوصاه عّدة وصايا مهّمة بشأن القتال وتحقيق النصر منها‪:‬‬

‫ن أهم مسألة في ميدان القتال هى الستقامة والصمود التي ليمكن‬


‫أّنه قال‪» :‬تزول الجبال ول تزل«)‪ .(3‬فالواقع إ ّ‬
‫تحقيق النصر بدونها‪ ،‬وهذا ما أكده المام)عليه السلم( في بداية المر‪ .‬ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة‬
‫لمضمون الرواية المعروفة »المؤمن كالجبل الراسخ لتحركه‬

‫‪ .1‬سورة الحجرات ‪.9 /‬‬

‫‪ .2‬منهاج البراعة للخوئي ‪ 167 / 3‬ـ ‪.169‬‬

‫‪ .3‬قال بعض شّراح نهج البلغة أن هذه العبارة جملة شرطية من حيث المعنى‪ ،‬تقد يرها لوزالت الجبال لتزل )شرح ابن ميثم ‪/ 1‬‬
‫‪.(287‬‬

‫] ‪[ 321‬‬

‫العواصف« كما ورد عن النبي الكرم)صلى ال عليه وآله( اّنه قال‪» :‬المؤمن أشد في دينه من الجبال الراسية‬
‫ن الجبل قد ينحت منه والمؤمن ليقدر أحد على أن ينحت من دينه شيئا«)‪ ،(1‬ثم تناول)عليه السلم( ما من‬ ‫وذلك ا ّ‬
‫سر بسن‬ ‫شأنه أن يؤثر في مسيرة المعركة فقال‪» :‬عض على ناجذك«‪ .‬فالناجذ قد يعنى أقصى الضرس‪ ،‬كما ف ّ‬
‫ن العض على النواجذ يتضمن فائدتين‪ :‬الولى أّنه يزيل الخوف والقلق‬ ‫العقل‪ ،‬وقيل بل جميع النسان‪ .‬وقيل أ ّ‬
‫والضطراب ومن هنا يعض النسان على أسنانه في مواطن الخوف ليهدأ وتسكن فورته‪ ،‬والثانية أّنهم ذكروا أ ّ‬
‫ن‬
‫ن عظام الرأس تشتد وتصلب; وقد جاء في كلمه)عليه السلم(هذا‬ ‫العاض على نواجذه ينبو السيف عن دماغه‪ ،‬ل ّ‬
‫مشروحًا في موضع آخر وهو قوله)عليه السلم(‪» :‬وعضوا على النواجذ‪ ،‬فإّنه أنبى للصوارم عن الهام«)‪ .(2‬أّما‬
‫في الجملة الثالثة فقد قال)عليه السلم(‪» :‬أعر ال جمجمتك« تعنى إستعد للتضحية والفداء والشهادة في سبيل ال‬
‫ن في العبارة إشعار له‬ ‫فان هذا الستعداد أساس الشجاعة والستبسال‪ .‬هذا وقد ذهب بعض شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫ن العارية مردودة‪ ،‬ولو قال له‪ :‬بع ال جمجمتك‪ ،‬لكان ذلك إشعار له بالشهادة‪ .‬ثم‬ ‫أّنه ليقتل في تلك الحرب‪ ،‬ل ّ‬
‫قال)عليه السلم( في الجملة الرابعة‪» :‬تد في الرض قدمك«‪ .‬في إشارة واضحة إلى الثبات في المعركة ورباطة‬
‫الجأش في مقابل العدو وعدم التفكير قط بالنسحاب أو الفرار من الميدان; المر الذي أوصى به القرآن الكريم‬
‫ن آَمُنوا ِإذا َلِقـيُتْم ِفَئًة َفاْثُبُتوا()‪ .(3‬ولعل الفارق بين هذه العبارة والعبارة الولى‪ ،‬هو‬
‫المؤمنين من قبل‪) :‬يا َأّيها اّلِذي َ‬
‫ن الجملة الولى تحدثت عن عدم التزلزل في الفكر والمعنويات بينما أشارت العبارة الخيرة إلى عدم التزلزل‬ ‫أّ‬
‫الظاهري والبدني وعدم النسحاب والتراجع وفي الجملة الخامسة قال)عليه السلم(‪» :‬ارم ببصرك أقصى القوم«‬
‫فمثل هذه النظرة تجعله يحيط بالميدان والعدو والسيطرة على حركة الجنود بحيث يتعرف على نقاط الضعف‬
‫والقوة فيصيب في الدفاع والهجوم والكر والفر‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬و غض بصرك«‪ .‬ليس هنالك من تناقض‬
‫بين قوله »ارم ببصرك«قوله »غض بصرك« وذلك لنه في الولى أمره أن يفتح عينه ويرفع طرفه‪ ،‬ويحدق إلى‬
‫أقاصي القوم‬

‫‪ .1‬سفينة البحار‪ ،‬مادة أمن‪.‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.124‬‬

‫‪ .3‬سورة النفال ‪.45 /‬‬

‫] ‪[ 322‬‬
‫ببصره‪ ،‬فعل الشجاع المقدام غير المكترث ولالمبالي‪ ،‬لن الجبان تضعف نفسه ويخفق قلبه فيقصر بصره ول‬
‫يرتفع طرفه ول يمتد عنقه‪ ،‬ويكون ناكس الرأس‪ ،‬غضيض الطرف‪ .‬وفي الثانية أمره أن يغض بصره عن بريق‬
‫سيوفهم ولمعان دروعهم‪ ،‬لئل يبرق بصره ويدهش ويستشعر خوفا‪ .‬والشاهد على ذلك ما أورده)عليه السلم(في‬
‫موضع آخر من نهج البلغة بهذا الشأن إذ قال‪» :‬و غضوا البصار فانه أربط للجأش وَاسكن للقلوب«)‪ .(1‬أّما‬
‫في الجملة السابعة والخيرة فقد أشار)عليه السلم(إلى نقطة مهّمة وأساسية تنطوي على أبعاد روحية معنوية‬
‫تطمئن النفوس وتحدوها بالتطلع إلى ال »و اعلم أن النصر من عند ال سبحانه« فالنصر ليستند إلى السباب‬
‫والمقدمات الظاهرية‪ ،‬بل المهم إرادة ال سبحانه ونصره‪ ،‬فتوكل على ال وثق به واسأله الغلبة فهو القادر على‬
‫حِكـيٌم()‪.(2‬‬
‫عِزيٌز َ‬
‫ل َ‬
‫نا ّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫عْنِد ا ّ‬
‫ن ِ‬
‫ل ِم ْ‬
‫صُر ِإ ّ‬‫كل شيء وهو الرحمن الرحيم بعباده المؤمنين المجاهدين )َوما الّن ْ‬
‫ل أّنه حث المؤمنين بالتضرع إلى ال بنزول‬ ‫والطريف في المر أن القرآن الكريم تحدث عن نصرة الملئكة إ ّ‬
‫النصر ل الملئكة »بلى ان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلف من الملئكة‬
‫ل من عند ال العزيز الحكيم«‪.‬‬ ‫مسومين وماجعله ال إل بشرى لكم وتطمئن قلوبكم به وما النصر إ ّ‬

‫تأّملن‬
‫‪ 1‬ـ محمد بن الحنفية ونسبه وبعض أخباره‬

‫هو أحد أبناء أميرالمؤمنين علي)عليه السلم( و»حنفية« لقب أمه واسمها خولة بنت أحد أشراف قبيلة »بني‬
‫حنيفة« وقد اسرت في أحد المعارك السلمية وأرادوا بيعها‪ ،‬فأعتقها)عليه السلم(وتزوجها‪ .‬ورث محمد‬
‫الشجاعة من علي)عليه السلم( وقيل كان يشق الدرع بيده لقوته‪ .‬ومن هنا سلمه)عليه السلم( الراية يوم الجمل‪،‬‬
‫كما أسند إليه مع محمد بن أبي بكر وهاشم المرقال ميسرة جيشه في صفين‪ .‬وكان شديد التواضع للحسن‬
‫والحسين)عليهما السلم(‪.‬‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.124‬‬

‫‪ .2‬سورة آل عمران ‪.126 /‬‬

‫] ‪[ 323‬‬

‫دفع أميرالمؤمنين )عليه السلم( يوم الجمل رايته إلى محمد ابنه )عليه السلم(‪ ،‬وقد استوت الصفوف‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫ب المطر! فدفع في صدره‪،‬‬ ‫سهام كأّنها شابي ُ‬
‫ل‪ ،‬فقال له‪ :‬احمل‪ ،‬فقال يا أميرالمؤمنين‪ ،‬أماترى ال ّ‬
‫احمل‪ ،‬فتوّقف قلي ً‬
‫عْرق من أّمك‪ ،‬ثم حمل وحمل الناس خلفه‪ ،‬فطحن عسكر البصره‪ .‬قيل لمحمد ِلَم ُيغّرُر بك أبوك في‬ ‫فقال‪ :‬أدركك ِ‬
‫الحرب ول يغّرر بالحسن والحسين عليهما السلم؟ فقال‪ :‬إّنهما عيناه وأنا يمينه‪ ،‬فهو يدفع عن عينْيه بيمينه‪.‬‬

‫إتهم البعض محمد بن الحنفية بأنه إدعى المامة بعد المام الحسين)عليه السلم(‪ ،‬بل قيل إدعى المهدوية‪ ،‬إل أن‬
‫الشيخ المفيد أبطل ذلك وقال لم يدع المامة )بل نسب الخرون ذلك إليه وهم من إدعى المامة والمهدوية من‬
‫الكيسانية‪ .‬توفى بن الحنفية عام ‪ 81‬هـ ـ و اختلف في محل دفنه‪ ،‬فقيل توفي في الطائف ودفن فيها‪ .‬وقيل في‬
‫البقيع‪ ،‬كما قيل في الجبل الرضوي قرب المدينة‪.‬‬

‫ن المام الحسين)عليه السلم( حين أراد الخروج من‬


‫أّما إحد الشواهد الحية على رفعة مكانته وعلو منزلته فهو أ ّ‬
‫المدينة إلى مكة جعله خليفته ووصيه في المدينة ليطلعه على الخبار‪ ،‬كما أودعه وصيته طبق لنقل أرباب‬
‫المقاتل‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الشرط المهم في النصر على العداء‬


‫ن العنصر الرئيسي الذي يقف وراء النصر والغلبة إّنما يكمن في‬ ‫تفيد اليات القرآنية والروايات السلمية أ ّ‬
‫الصبر والمقاومة والثبات‪ .‬فالقرآن يصف الفئة القليلة الصابرة بانها هى المنتصرة في مقابل الفئة المعادية الكثيرة‬
‫ن َكَفُروا ِبَأ ّنـُهْم‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ن َيُكنْ ِمْنُكْم ِمَئٌة َيْغِلُبوا َأْلفًا ِم َ‬
‫ن َو ِإ ْ‬
‫ن َيْغِلُبوا ِمَئَتْي ِ‬
‫ن صاِبُرو َ‬
‫شُرو َ‬
‫عْ‬‫ن ِمْنُكْم ِ‬
‫ن َيُك ْ‬
‫العدد والعدة‪ِ) :‬إ ْ‬
‫ن()‪ .(1‬كما ورد تأكيده)عليه السلم(على الصبر في سائر خطبه في نهج البلغة ومن ذلك قوله‬ ‫َقْوٌم ل َيْفَقُهو َ‬
‫)عليه السلم(‪» :‬و عليكم بالصبر فان الصبر من اليمان كالرأس من الجسد ول خير في جسد ل رأس معه ول‬
‫في إيمان ل صبر معه«)‪.(2‬‬

‫‪ .1‬سورة النفال ‪.65 /‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الكلمات قصار ‪. 82 /‬‬

‫] ‪[ 324‬‬

‫و هو المعنى الذي ورد التأكيد عليه كرارا في الخطبة التي نحن بصددها‪ ،‬فقد قال)عليه السلم(كإشارة لمواطن‬
‫الصبر »تزول الجبال ول تزل« وقال‪» :‬تد في الرض قدمك«‪ ،‬وهكذا سائر عباراته من قبيل العض على‬
‫لمور أن تلهم‬
‫ن النصرة والغلبة من ال سبحانه‪ ،‬حيث من شأن كل هذه ا ُ‬‫النواجذ واعارة ال الجمجمة واليمان با ّ‬
‫النسان الصمود والثبات والمقاومة التي تستبطن النصر‪ ،‬وهذا بعينه ما جعل المسلمين ينتصرون على خصومهم‬
‫حتى في المعارك التي لم تكن متكافئة‪ ،‬وهذا ما ينبغي أن يؤمن به ويستشعره جيلنا السلمي الجديد ليحقق‬
‫النتصارات الباهرة على العداء‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 325‬‬

‫الخطبة ‪12‬‬

‫ومن كلم له )عليه السلم(‬

‫ل ِبهِ‬
‫صَرك ا ّ‬ ‫ن شاِهَدنا ِلَيَرى ما َن َ‬ ‫خي ُفلنًا كا َ‬ ‫ن أَ ِ‬
‫ت َأ ّ‬
‫صحاِبِه‪َ :‬وِدْد ُ‬
‫ض َأ ْ‬
‫ل َلُه َبْع ُ‬
‫لما أظفره ال بأصحاب الجمل َوَقْد قا َ‬
‫سَكِرنا َهذا‬
‫ع ْ‬
‫شِهَدنا ِفي َ‬ ‫شِهَدنا‪َ ،‬وَلَقْد َ‬
‫خيك َمَعنا؟ َفقاَل‪َ :‬نَعْم‪ .‬قاَل َفَقْد َ‬ ‫عداِئك »َفقاَل)عليه السلم(‪َ :‬لُه َأَهَوى َأ ِ‬‫عَلى َأ ْ‬
‫َ‬
‫ن«‪(1).‬‬ ‫ن َوَيْقَوى ِبِهُم اِْليما ُ‬‫ف ِبِهُم الّزما ُ‬
‫ع ُ‬‫سَيْر َ‬
‫ب الّرجاِل َوَأْرحاِم الّنساِء‪َ ،‬‬
‫صل ِ‬
‫َأْقواٌم ِفي َأ ْ‬

‫—–‬
‫نظرة إلى الخطبة‬

‫يتضح مّما قاله السيد الرضي بشأن الخطبة أّنها متعلقة باحداث الجمل والنصر المبين الذي حققه المام)عليه‬
‫السلم(حيث إلتفت إليه أحد أصحابه وكان شديد الحب لخيه فقال له‪ :‬ليت أخي كان معنا ليشهد ما نحن فيه من‬
‫النصر والغلبة على هؤلء البغاة‪ .‬فاورد المام)عليه السلم( هذه الكلمات الرائعة ليطمئنه بالحضور المعنوي‬
‫لخيه وكل من سار على نهجه)عليه السلم( من حماة العقيدة‪ ،‬فالسلم يرى الرابطة الدينية تفوق كافة الروابط‬
‫ب عمل‬‫ن من أح ّ‬‫العرقية والسياسية والقتصادية وما إلى ذلك‪ .‬فقد تظافرت الروايات السلمية التي صّرحت بأ ّ‬
‫قوم حشر فيه معهم‬

‫‪ .1‬سند هذه الخطبة هو ماورد في كلم الشريف الرضي‪ ،‬وقد ورد شبيه هذا الكلم في كتاب مصابيح الظلم من كتب المحاسن البرقي‪.‬‬
‫ن أظفر ال المام)عليه السلم( بالخوارج في النهروان‪ ،‬طوبى لنا قاتلنا بين يديك فقتلنا‬
‫ن أحد أصحاب المام)عليه السلم( قال بعد أ ّ‬
‫أّ‬
‫الخوارج‪ ،‬فرد المام)عليه السلم(بعبارات شبيهة بما ورد في هذه الخطبة )مصادر نهج البلغة ‪.(339 / 1‬‬

‫] ‪[ 326‬‬

‫و الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم‪ .‬وبعبارة ُاخرى فان المام)عليه السلم( أشار في هذه الخطبة إلى أّنه قد‬
‫شهده في عسكره وشركه في نصره كافة الفراد الذين يقيمون اليوم في كافة أصقاع العالم والذين لم يشهدوا ـ‬
‫ل أّنهم وبسبب تعاطفهم العقائدي وكذلك الفراد الذين مازالوا نطف في أصلب الرجال‬ ‫لسباب ـ ميادين القتال إ ّ‬
‫وقرارات الفساد‪.‬‬

‫الشرح والتفسير‬

‫اللحمة العقائدية‬

‫ن المام)عليه السلم( اورد هذا الكلم في إطار رّده على أحد أصحابه الذي أعرب عن تمنيه‬ ‫يتضح مّما مر معنا أ ّ‬
‫في أن يكون أخيه قد حضر معه في تلك المعركة ويشهد النصر المؤزر الذي من ال به على جيش المام)عليه‬
‫السلم(فالتفت إليه المام)عليه السلم(‪» :‬فقال له‪ :‬أهوى أخيك معنا؟«‪» ،‬فقال‪ :‬نعم«‪ ،‬فرد عليه المام)عليه‬
‫السلم(‪» :‬فقد شهدنا‪ ،‬ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في اصلب الرجال وارحام النساء‪ ،‬سيرعف بهم الزمان‪،‬‬
‫ويقوى بهم اليمان«‪(1).‬‬

‫أجل من كان على عقيدتنا أينما كان فهو معنا وإن لم يكتب لهم ال الحضور الفعلي في الميدان‪ .‬أّما قوله)عليه‬
‫ل أّنه يظهر في أية‬‫ن الدم وان جرى مستترًا في عروق النسان إ ّ‬ ‫السلم(سيرعف بهم الزمان فهى إشارة إلى أ ّ‬
‫ل أّنهم سيظهرون تدريجيا طبق التصنيف‬ ‫لحظة وينتشر بكل سهولة‪ ،‬فهؤلء مستترون في باطن هذا العالم إ ّ‬
‫الزماني اللهي ومن خصائصهم »و يقوى بهم اليمان« فهم يتحركون باتجاه الحق; المر الذي يسهم في تقوية‬
‫أواصر الدين واليمان‪ .‬هذا وقد كثر الكلم بين شّراح نهج البلغة بشأن طريقة هذا الشهود والحضور للغائبين‬
‫فهل هو حضور روحي؟ أي هل أرواحهم حاضرة في ذلك المكان قبل أن تخلق البدان‪ ،‬أم هو حضور بالقوة؟‬
‫ن مراد المام)عليه السلم( بهذا الحضور هو شركتهم في‬ ‫أي هم حاضرون وان غابوا عن الميدان ظاهريا؟ يبدو أ ّ‬
‫ن هؤلء الذين قلوبهم معنا وهم على خطتا وحركتنا )حزب ال( فهم شركاءنا في‬ ‫الثواب والحسنات والنتائج; أي أ ّ‬
‫الجر والثواب‪ ،‬وعليه فلهم حضورهم الروحي الفعلي في كافة ميادين صراع الحق ضد الباطل‪ .‬فالواقع هو أ ّ‬
‫ن‬
‫المسار واحد والحركة واحدة والجميع كتلة‬

‫‪» .1‬الرعاف« خروج الدم من النف‪.‬‬

‫] ‪[ 327‬‬
‫واحدة إن تعا نقت عقائدهم وأهدافهم وليس للزمان أن يفصل بعضهم عن البعض الخر‪ .‬وهذا يصدق أيضًا على‬
‫خط الباطل‪ ،‬فالكل سائر على طريق الشيطان ويحمل نفس العقائد الفاسدة ويعيش حالة الظلم والعدوان ومقارفة‬
‫الذنوب والمعاصي فالمتأخر شريك للمتقدم في الجزاء والعقاب‪.‬‬

‫تأّمل‬
‫الرابطة الحق‬

‫ما ورد في الخطبة يكشف عن حقيقة معنوية ليس للمعادلت الدنيوية المادية من سبيل إلى الوقوف على كنهها‬
‫ن أهم رابطة تحكم المؤمنين هى رابطة الدين والعقيدة التي لتضاهيها‬ ‫والحاطة بها‪ .‬فالمام)عليه السلم( يرى أ ّ‬
‫رابطة )من قبيل رابطة الدم والجنس واللون والعرق واللغة والحزب والطائفة والقبيلة وما إلى ذلك( فهى أروع‬
‫وأقوى وأعظم‪ ،‬ومن شأن هذه الرابطة أن تشمل كافة الزمنة والمكنة وجميع أفراد البشر في الماضي والحاضر‬
‫والمستقبل ليصهرها في بوتقة الهية واحدة‪ .‬فقد قال)عليه السلم( »لقد شهدنا‪ ،‬ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام‬
‫في أصلب الرجال وارحام النساء‪ ،‬سيرعف بهم الزمان‪ ،‬ويقوى بهم اليمان« فالمعركة ليست صراع شخصي‬
‫من أجل السيطرة‪ ،‬بل هى معركة بين الحق والباطل‪ ،‬وهما صفان متقابلن خالدان حتى ينفخ في الصور‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن‬
‫المؤمنين سيهبون لمجابهة الباطل والذود عن الحق مازالت هنالك آثار للباطل‪ ،‬وكل من كان على الحق فهو‬
‫شريك في كل ما يترتب على هذه المجابهة من أجر وثواب‪ .‬والدليل واضح على ذلك حيث الحقيقة واحدة لينشد‬
‫أتباع الحق سواها فهم يتحركون بهذا التجاه ويشهرون سيوفهم من أجل تحقيق هذا الهدف‪ .‬وعلى أساس هذا‬
‫الصل الساسي تكون قد حلت أكثر المسائل الواردة في القرآن والحاديث والتي قد تبدو مستغربة للبعض‪ .‬فقد‬
‫سّوئها()‪ .(1‬بينما صّرحت‬
‫علَْيِهْم َرّبُهْم ِبَذْنِبِهْم َف َ‬
‫صّرح القرآن الكريم بشأن قوم ثمود قائل‪َ) :‬فَكّذُبوُه َفَعَقُروها َفَدْمَدَم َ‬
‫ن الذي عقر الناقة كان واحدًا منهم‪ ،‬في حين نسب ال العقر للجميع بفعل تضامنهم العقائدي معه فشملوا‬ ‫التواريخ أ ّ‬
‫جميعًا بالعذاب‪ .‬وهذا هو‬

‫‪ .1‬سورة الشمس ‪.14 /‬‬

‫] ‪[ 328‬‬

‫المفهوم الذي أوضحه المام)عليه السلم(بقوله‪» :‬أّيها الناس اّنما يجمع الناس الرضى والسخط وإّنما عقر ناقة‬
‫ثمود رجل واحد منهم فعمهم ال بالعذاب لما عموه بالرضا«)‪ (1‬وقوله)عليه السلم(‪» :‬الراضي بفعل قوم‬
‫كالداخل فيه معهم وعلى كل راض بالثم ذنبان; ذنب الرضى به وذنب العمل به«‪ .‬وورد في زيارة الربعين‬
‫لجابر بن عبدال النصاري أّنه انكب على قبر الحسين)عليه السلم(وجعل يزوره بهذه العبارت‪» :‬أشهد أّنك‬
‫أقمت الصلة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف نهيت عن المنكر وجاهدت في ال حق جهاده حتى أتاك اليقين‪،‬‬
‫والذي بعث محمدًا بالحق لقد شاركناكم فيما دختلم فيه« فلما سمعه صاحبه عطية تعجب من قوله قائل‪ :‬كيف ذاك‬
‫ولم نهيط واديًا وقد قاتل القوم دون الحسين)عليه السلم(فطاحت رؤوسهم وترملت نسائهم ويتمت أولدهم فقال‬
‫ب عمل قوم ُاشرك‬ ‫ب قومًا حشر معهم ومن أح ً‬ ‫جابر‪ :‬سمعت حبيبي رسول ال)صلى ال عليه وآله(قال‪ :‬من أح ّ‬
‫في عملهم‪ ،‬أّما والذي بعث محمدا)صلى ال عليه وآله(بالنبوة لنيتنا نية الحسين)عليه السلم(وأصحابه«)‪(2‬القرآن‬
‫من جانبه خاطب كرارًا يهود المدينة على عهد رسول ال)صلى ال عليه وآله(وبخهم على العمال التي أتى به‬
‫أصحابهم على عهد نبي ال موسى)عليه السلم(; بينما كانت هنالك عّدة قرون بين القومين‪ ،‬فجعلهم القرآن‬
‫ت َوِباّلِذي ُقْلُتْم‬
‫ن َقْبِلي ِبالَبّينا ِ‬
‫ل ِم ْ‬
‫سٌ‬‫ل َقدْ جاَءُكْم ُر ُ‬
‫كُاولئك لنتهاجهم مسيرتهم ورضاهم باعمالهم‪ ،‬ومن ذلك قوله )ُق ْ‬
‫ن()‪ .(3‬وهذا ما أشار إليه المام الصادق)عليه السلم(في ذيل هذه الية أن ال إعتبر‬ ‫ن ُكْنُتْم صاِدِقـي َ‬
‫َفِلَم َقَتْلُتُموُهْم ِإ ْ‬
‫هؤلء ـ ممن عاصر النبي)صلى ال عليه وآله( من اليهود ـ قتلة النبياء السابقين رغم عدم ارتكابهم لجريمة القتل‬
‫ولكن حيث كانوا على عقيدة أولئك القتلة وراضين بفعلهم فقد عدهم قتلة«)‪ .(4‬وقد روى المحدث الكبير عّدة‬
‫روايات في المجلد الحادي عشر من وسائل الشيعة بهذا المضمون في كتاب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫)‪(5‬‬
‫ومن شأن هذا اللون من التفكير أن يفتح أمامنا آفاقا واسعه ويجعلنا نقف على مضمون اليات والروايات‬
‫ويساعدنا في سلوك طريق الحق‪.‬‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.201‬‬

‫‪ .2‬بحارالنوار ‪.131 / 65‬‬

‫‪ .3‬سورة آل عمران ‪.183 /‬‬

‫‪ .4‬بحارالنوار ‪.94 / 97‬‬

‫الخطبة ‪13‬‬

‫ومن كلم له)عليه السلم(‬

‫في ذم أهل البصرة بعد وقعة الجمل‪.‬‬

‫ق‪،‬‬‫ق‪َ ،‬وِديُنُكْم ِنفا ٌ‬


‫شقا ٌ‬ ‫عْهُدُكْم ِ‬
‫ق‪َ ،‬و َ‬ ‫خلُقُكْم ِدقا ٌ‬‫عِقَر َفَهَرْبُتْم‪َ .‬أ ْ‬
‫جْبُتْم‪َ ،‬و ُ‬
‫ع اْلَبِهيَمِة; َرغا َفَأ َ‬ ‫جْنَد اْلَمْرَأِة‪َ ،‬وَأْتبا َ‬
‫»ُكْنُتْم ُ‬
‫جِدُكْم‬
‫سِ‬‫ن َرّبِه‪َ .‬كَأّني ِبَم ْ‬
‫حَمة ِم ْ‬ ‫عْنُكْم ُمَتداَرك ِبَر ْ‬‫شاخصُ َ‬ ‫ن ِبَذْنِبِه‪َ ،‬وال ّ‬
‫ظُهِرُكْم ُمْرَتَه ٌ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ق‪َ ،‬واْلُمِقيُم َبْي َ‬‫َوماُؤُكْم ُزعا ٌ‬
‫ضْمِنها«‪(1).‬‬ ‫ن ِفي ِ‬ ‫ق َم ْ‬‫غِر َ‬‫حِتها‪َ ،‬و َ‬ ‫ن َت ْ‬
‫ن َفْوِقها َوِم ْ‬ ‫ب ِم ْ‬ ‫عَلْيها اْلَعذا َ‬
‫ل َ‬‫ثا ّ‬ ‫سِفيَنة َقْد َبَع َ‬‫جِؤ َ‬ ‫جْؤ ُ‬ ‫َك ُ‬

‫—–‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫الخطبة كبعض الخطب السابقة واللحقة واردة بشأن موقعة الجمل‪ ،‬وقد ذم المام علي)عليه السلم(أهل البصرة‬
‫الذين أسلسلوا قيادهم لطلحة والزبير وفرقوا صفوف المسلمين‪ ،‬ثم توعدهم بعذاب ال سبحانه‪ ،‬ليعتبر من إعتبر‬
‫فل يقارف أعمالهم‪.‬‬

‫ن المام)عليه السلم( خطب هذه الخطبة بعد انتهاء معركة الجمل‪ ،‬ورواها ـ مع بعض الختلف ـ‬ ‫‪ .1‬قال المرحوم المحقق الخوئي أ ّ‬
‫المرحوم الطبرسي في الحتجاج وعلي بن إبراهيم القمي والمحدث البحراني‪ ،‬كما نقلها ـ حسب كتاب مصادر نهج البلغة ـ عدد من‬
‫العلماء من عاشوا قبل الشريف الرضي كالدينوري في الخبار الطوال والمسعودى في مروج الذهب وابن قتيبة في عيون الخبار‬
‫وابن عبد ربه في العقد الفريد )مصادر نهج البلغة ‪.(344 / 1‬‬

‫] ‪[ 330‬‬
‫الشرح والتفسير‬

‫خصائص أهل الجمل‬

‫لقد أشار)عليه السلم( في هذه الخطبة إلى الصفات الذميمة التي إتصف بها مؤججي البصرة ليجمعها في سبع‬
‫صفات‪ .‬فقد قال)عليه السلم(في البداية »كنتم جند المرأة«‪ .‬صحيح أن مؤججي نار الجمل هما طلحة والزبير‪،‬‬
‫ن حضور‬ ‫كما تشير الشواهد التأريخية إلى الدور المشبوه الذي لعبه معاوية في هذا الشأن‪ ،‬ولكن الذي لشك فيه أ ّ‬
‫عائشة وكونها زوج النبي)صلى ال عليه وآله( كان الدافع العظم الذي ساق الناس لقتال المام)عليه السلم(‬
‫والنخراط في صفوف أصحاب الجمل‪ ،‬ول سيما أن كنيتها بأم المؤمنين كان له أبلغ الثر في نخوة الناس للدفاع‬
‫عن ُامهم‪ ،‬ومن هنا خاطب المام)عليه السلم( أهل البصرة‪ .‬بجند المرأة‪ .‬الصفة الثانية لهم‪» :‬و اتباع البهيمة«‪،‬‬
‫ثم يوضح)عليه السلم( سبب استحقاقهم لهذه الصفة إثر تحزبهم واجابتهم حين كانت ترغي وهروبهم وتشتتهم‬
‫ن جمل عائشة ـ في معركة الجمل‬ ‫حين عقرت »رغا)‪ (1‬فاجبتم‪ ،‬وعقر)‪ (2‬فهربتم«‪ .‬فقد صّرح بعض المؤرخين أ ّ‬
‫ـ كان بمثابة راية عسكر البصرة‪ ،‬حيث كان الجنود يلتفون حوله ويضربون دونه حتى قتلوا كما تقتل الرجال‬
‫تحت راياتها‪ .‬وجاء في بعض الروايات أن سبعين ألفاقد أخذوا بزمام الجمل وكانوا يقتلون الواحد تلو الخر‪،‬‬
‫وكان أكثر من إلتف حول الجمل والدفاع عنه من قبيلتي بني ضبة والزد‪،‬لقد كانت الرؤوس تندر عن الكواهل‪،‬‬
‫واليدي تطيح من المعاصم وأفتاب البطن تند لق من الجواف وهم حول الجمل كالجراد الثابتة لتتحلحل ول‬
‫تتزلزل‪ ،‬حتى لقد صرخ علي)عليه السلم(بأعلى صوته‪» :‬ويلكم أعقروا الجمل‪ ،‬فانه شيطان« ثم قال‪ :‬إعقروه‬
‫وال فنيت العرب‪ .‬ليزال السيف قائما وراكعا حتى يهوي هذا البصير إلى الرض‪ ،‬فعمدوا له حتى عقروه فسقط‬
‫ن أميرالمؤمنين أمر بحرق الجمل وذر‬ ‫و له رغاء شديد‪ ،‬فلما برك كانت الهزيمة‪ .‬كما ورد في بعض الروايات أ ّ‬
‫عَلْيِه‬
‫ت َ‬
‫ظْل َ‬
‫ك اّلِذي َ‬
‫ظْر ِإلى ِإلـِه َ‬‫رماده في الرياح وقال‪ :‬لعنه ال من دابة ما أشبهه بعجل السامري‪ ،‬ثم تلى )َواْن ُ‬
‫سفًا()‪ (3‬والطريف في‬‫سَفـّنُه ِفي الَيّم َن ْ‬
‫حـّرَقـّنُه ُثّم َلـَنْن ِ‬
‫عاِكفًا َلـُن َ‬

‫‪» .1‬رغا« من مادة »رغاء« على وزن دعاء صوت الجمل كما يطلق على صوت الضبع أيضًا‪.‬‬

‫‪» .2‬عقر« من مادة »عقر« على وزن فقر بمعنى الصل والجذر‪ ،‬وتعني الجرح والقطع ِاذا استعملت للناقة كما تأتي بمعنى الهلك‪.‬‬

‫‪ .3‬سورة طه ‪.97 /‬‬

‫] ‪[ 331‬‬

‫موقعة الجمل أن عائشة أخذت كفا من حصى‪ ،‬فحصبت به أصحاب المام)عليه السلم( وصاحت بأعلى صوتها‪:‬‬
‫شاهت الوجوه كما صنع رسول ال)صلى ال عليه وآله( يوم بدر‪ .‬فقال لها قائل‪ :‬ومارميت إذ رميت ولكن‬
‫الشيطان رمى‪ (1).‬فقد كان حصب رسول ال)صلى ال عليه وآله(للمشركين أحد العوامل العجازية التي أدت‬
‫إلى إنهيار عسكر الكفر‪ ،‬بينما انتهت معركة الجمل بهزيمة منكرة مني بها أعداء المام)عليه السلم(‪ .‬أّما الصفة‬
‫الثالثة والرابعة والخامسة فهى تعالج أوضاعهم الخلقية حيث قال)عليه السلم(‪» :‬أخلقكم دقاق‪ ،‬وعهدكم شقاق‪،‬‬
‫ودينكم نفاق« دقاق من مادة دقت بمعنى الدنيئة هنا‪ ،‬يصف بها أهل البصرة من عبدة الهواء الذين نكثوا البيعة‬
‫والتحقوا بصفوف العداء‪ ،‬أّما نفاقهم فهو ناشئ من كون ظاهرهم هو السلم والدفاع عن زوج النبي)صلى ال‬
‫عليه وآله( وباطنهم القيام ضد الحكومة السلمية ووصي رسول ال)صلى ال عليه وآله(و التخندق في صفوف‬
‫أهل الشام‪ .‬ثم أشار)عليه السلم(إلى صفتهم السادسة »و ماؤكم زعاق«‪ .‬ومن المعلوم إن مثل هذا الماء وإضافة‬
‫إلى ملوحته ومرارته فانه ينطوي على كل عناصر التلوث بسبب مجاورته لشاطئ البحر; فهو مضر بالنسبة‬
‫لسلمة البدن‪ ،‬وهو يا لتالي مضر بروح النسان وفكره بفعل الرابطة القائمة بين الروح والبدن‪ .‬وعليه فان ذم‬
‫ماؤهم هو في الواقع نوع ذم لخلقهم‪ .‬ثم تطرق إلى صفتهم السابعة فقال‪» :‬و المقيم بين أظهركم)‪ (2‬مرتهن‬
‫بذنبه والشاخص)‪ (3‬عنكم متدارك برحمة من رّبه«‪ .‬والعبارة إشارة إلى ما ورد في عّدة روايات‪ ،‬ومنها الحديث‬
‫المعروف الذي نقله المرحوم الكليني في الكافي عن أبي الحسن المام الهادي)عليه السلم(حين قال لحد أصحابه‬
‫ويدعى جعفر‪ :‬مالي أراك تغشى عبدالرحمن بن يعقوب )و كان منحرفًا في عقائده(‪ ،‬أل تعلم أّنه ينسب ال إلى‬
‫صفات المخلوقين ثم نصحه)عليه السلم(بتركهم ومجالسة أعدائهم أو العكس‪ ،‬فرد جعفر على المام)عليه‬
‫السلم(فليقل ما يقل في إشارة إلى أّنه ل يتفق معه في العقيدة فل يضره‪ .‬فقال)عليه السلم(‪» :‬أما تخاف أن تنزل‬
‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 252 / 1‬ـ ‪ 266‬إّل أّنه كتب حنين خطأ بدًل من بدر‪.‬‬

‫‪» .2‬بين أظهركم« بمعنى بينكم‪ ،‬وأظهر جمع ظهر بمعنى الخلف وهو خلف الباطن‪ ،‬ويستعمل هذا اللفظ للشخص الذي يعيش بين‬
‫مجموعة تسانده و تحميه‪ ،‬و أحيانا يستعمل هذا اللفظ للعيش في مجموعة يؤيدونه ويحمونه أو ل يحمونه‪» .‬لسان العرب‪ ،‬منقول‬
‫عن الكامل في التاريخ أول يحمونه‪» .‬لسان العرب‪ ،‬منقول عن الكامل في التاريخ لبن الثير«‪.‬‬

‫‪» .3‬شاخص« من مادة »شخص« بمعنى المرتفع واطلقت على قامة النسان حين تلوح من بعيد‪ ،‬ومن هنا اطلق على الشخص‬
‫المسافر اسم الشاخص‪ ،‬وقد وردت بهذا المعنى في العبارة المذكورة‪.‬‬

‫] ‪[ 332‬‬

‫به نقمة فتصيبكم جميعا«)‪ (1‬ومن هنا وجبت الهجرة على المسلمين في صدر السلم حين عم الفساد كل شيء ـ‬
‫ول سيما الفساد العقائدي ـ ولم يسعهم القضاء عليه‪ ،‬بل كان يخشى تأثرهم به‪ .‬وقوله)عليه السلم(‪» :‬مرتهن‬
‫ن الذنب يأسر النسان وكأنه يجعله رهينة فل يطلقه‪ ،‬وهو مستوحى من قول القرآن الكريم‬ ‫بذنبه« إشارة إلى أ ّ‬
‫)كل نفس بما كسبت رهينة()‪ (2‬والذي نخلص إليه من هذه العبارة هو التأثير الذي يلعبه المحيط والوسط على‬
‫أخلق الناس‪ ،‬فاما يغير هذا النسان المحيط الفاسد والملوت أو يهجره‪ .‬ثم تطرق المام)عليه السلم( إلى العذاب‬
‫الدنيوي الذي ينتظر أهل البصرة فقال‪» :‬كاني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث ال عليها العذاب من فوقها ومن‬
‫ن البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها‪» ،‬فقد رأيت‬ ‫تحتها‪ ،‬وغرق من في ضمنها«‪ .‬وأّما إخباره)عليه السلم( أ ّ‬
‫ن البصرة تهلك بالماء السود ينفجر من أرضها‪ ،‬فتغرق ويبقى مسجدها‪.‬‬ ‫من يذكر أن كتب الملحم تدل على أ ّ‬
‫ن المخبر به قد وقع‪ ،‬فان البصرة غرقت مرتين‪ ،‬مرة في أّيام القادر بال)‪ (3‬ومرة في أيام القائم بأمر‬ ‫والصحيح أ ّ‬
‫ل مسجدها الجامع بارزًا بعضه كجؤجؤ الطائر‪ ،‬حسب ما أخير به‬ ‫ال)‪ (4‬غرقت بأجمعها ولم يبق منها إ ّ‬
‫أميرالمؤمنين)عليه السلم(‪ ،‬جاءها الماء من بحر فارس)‪ (5‬من جهة الموضع المعروف الن بجزيرة الفرس‪،‬‬
‫ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام‪ ،‬وخربت دورها وغرق كل ما في ضمنها‪ ،‬وهلك كثير من أهلها«)‪(6‬‬
‫أخبارهاتين الحادتثين معروفة عند أهل البصرة يتناقله خلفهم عن سلفهم‪.‬‬

‫—–‬

‫ثم نقل السيد الرضي آخر هذه الخطبة ثلث روايات بشأن العبارات الواردة في آخرها‪:‬‬

‫الرواية الولى‪» :‬و آيم ال لتغرقن بلدتكم حتى كأني انظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة«‪.‬‬

‫‪ .1‬اصول الكافي ‪ ،375 / 2‬باب مجالسة أهل المعاصي‪ ،‬وقد وردت في هذا الباب عّدة روايات بهذا المضمون‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة المدثر ‪.38 /‬‬

‫‪ .3‬الذي تولى الخلفة عام ‪ 381‬هـ )الكامل في التأريخ ‪.(1/80‬‬

‫‪» .4‬القائم بأمر ال«‪ ،‬من خلفاء الدولة العباسية‪ ،‬اصبح خليفة عام ‪ 422‬هجري »الكامل في التاريخ ‪.«9/417‬‬

‫‪ .5‬من النقاط التي تسترعي النتباه إن إبن أبي الحديد كان من الذين عاشوا في القرن السابع الهجري وكان ُيطلق على الخليج‬
‫الفارسي اسم »بحر الفرس«‪.‬‬

‫‪ .6‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.253 / 1‬‬

‫] ‪[ 333‬‬

‫الرواية الثانية‪» :‬كجؤجؤ طير في لجة بحر«‪.‬‬

‫الرواية الثالثة‪» :‬بلدكم أنتن بلد ال تربة‪ :‬أقربها من الماء‪ ،‬وأبعدها من السماء‪ ،‬وبها تسعة أعشار الشر‪،‬‬
‫المحتبس فيها بذنبه‪ ،‬والخارج بعفو ال‪ .‬كأّني أنظر إلى قريتكم هذه قد طبقها الماء‪ ،‬حتى ما يرى منها الشرف‬
‫المسجد‪ ،‬كانه جؤجؤ طير في لجة بحر«‪.‬‬
‫—–‬

‫لبّد من اللتفات إلى عدم وجود تفاوت يذكر بين ماورد فى الخطبة المذكورة والرواية الولى‪ .‬فكلهما قد‬
‫استهلت بالقسم وتحدثتا علنية عن غرق هذه المدينة‪ ،‬ثم اضافت تشبيه آخر لماورد سابقًا بشأن المسجد بالقول »و‬
‫ايم ال لتغرقن بلد تكم حتى كاّني انظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة«)‪.(1‬‬

‫أّما في الرواية الثانية فهناك تفاوت طفيف جدًا حيث استبدل تشبيه جؤجؤ السفينه بقولها »كجؤجؤ طير في لجة)‬
‫‪ (2‬بحر«‪.‬‬

‫بينما هنالك تفاوت كبير بين الخطبة الثالثة والخطبة الصلية‪ .‬فقد أشير في هذه الرواية إلى ثلث ُامور في ذم أهل‬
‫البصرة »بلدكم أنتن بلد ال تربة … اقربها من الماء‪ ،‬وأبعدها من السماء« والصفة الثانية »و بها تسعة أعشار‬
‫الشر« ولعل هذا المر ينبع من الخصائص الخلفية لناس تلك المنطقة أو بسبب كونها ميناءًا يكون مركزًا لتردد‬
‫مختلف الفراد وهجوم الثقافات الجنبية والتلوث الخلقي الذي يفرض عليها من الخارج‪ .‬ولذلك كانت هذه المنطقة‬
‫مسرحًا للحداث الليمة للقرون السلمية الولى‪ .‬أّما الصفة الثالثة فهى »المحتبس فيها بذنبه‪،‬الخارج بعفو ال«‪.‬‬
‫)‪ (3‬ثم يتطرق المام)عليه السلم( إلى شبيه ماورد في الروايات المذكورة بقوله‪:‬‬

‫‪» .1‬جاثمة« من مادة »جثوم« بمعنى الجمع والجثم بالصدر على الرض‪ ،‬وتطلق هذه المفردة على الفراد الذين يخلدون إلى الرض‬
‫وليس لهم من حركة سوى الكسل والنعاس‪.‬‬

‫‪» .2‬لجة« بمعنى الموجة والماء الواسع العميق‪ ،‬وتعني في الصل ذهاب واياب الشيء ومن هنا يطلق لجة على البحر المائج‪ ،‬كما‬
‫يطلق اللجوح على الفراد الذين يصرون على شيء‪ ،‬كما تطلق على موج البحر‪.‬‬

‫‪ .3‬هذا التفسير يصدق في حال كون الباء في »بذنبه« والباء في »بعفوال« باء السببية‪ ،‬ولكن اذا كانت الباء لللصاق فيكون مفهوم‬
‫الجملة‪ :‬الشخص الذي تلوث وابتلى بالذنوب‪ ،‬وبقي بعيدًا عن الناجين‪ ،‬ولكن العفو اللهي يشمل هذا الشخص فيصبح من الناجين‪.‬‬
‫لكن المعنى الول هو الرجح طبق المقاييس الدبية‪.‬‬

‫] ‪[ 334‬‬

‫»كاّني انظر إلى قريتكم هذه قد طبقها الماء‪ ،‬حتى ما يرى منها الشرف)‪ (1‬المسجد‪ ،‬كانه جؤجؤ طير في لجة‬
‫بحر«‪ .‬ويبدو أن اختلف العبارات يستند إلى رواة الحديث الذين قد نقلوا بعضها من حيث المعنى‪ ،‬أو أّنهم أخطأوا‬
‫ن المام)عليه السلم(قد كرر هذا الكلم في أكثر من موضع وقال فيه ما‬ ‫في تدوين الحديث‪ ،‬ويبعد الحتمال على أ ّ‬
‫يناسبه‪.‬‬

‫تأّملت‬
‫‪ 1‬ـ نبوءة النبي)صلى ال عليه وآله( بشأن موقعة الجمل‬

‫الجدير بالذكر أن عدة روايات صرحت بإخبار النبي)صلى ال عليه وآله( عن يوم الجمل وخروج عائشة‬
‫وتحذيره لها‪ .‬ومن ذلك لما عزمت عائشة على الخروج إلى البصرة طلبوا لها بعيرًا أّيدا يحمل َهْوَدجها‪ ،‬فجاءهم‬
‫سكرًا‪ ،‬وكان عظيم الخلق شديدًا‪ ،‬فلما رأْته أعجبها‪ ،‬وأنشأ الجّمال يحّدثها بقوته‬
‫عْ‬‫يعَلى بن أمية ببعيره المسمى َ‬
‫ت‪ ،‬وقالت‪ :‬رّدوه ل حاجة لى فيه‪،‬‬ ‫وشدته‪ ،‬ويقول في أثناء كلمه‪» :‬عسكر«‪ ،‬فلما سمعت هذه اللفظة‪ ،‬واسترجع ْ‬
‫ل عليه وآله ذكر لها هذا السم‪ ،‬ونهاها عن ركوبه‪ ،‬وأمَرت أن يطلب‬ ‫ل صلى ا ّ‬‫وذكرت حيث سئلت أن رسول ا ّ‬
‫لها غيرُه فلم يوجد لها ما يشبهه‪ ،‬فغّير لها بجلل غير جلله‪ ،‬وقيل لها‪ :‬قد أصْبنا لك أعظم منه خلقا‪ ،‬وأشّد قوة‪،‬‬
‫ت به فرضيت‪.‬‬ ‫وأتي ْ‬

‫ل بن عمر‪ ،‬فأّنى أخته فعزم عليها فأقامت‬


‫وأرسلت إلى حفصة تسألها الخروج والمسير معها‪ ،‬فبلغ ذلك عبدا ّ‬
‫ت الّرحال بعد ما هّمت‪.‬‬
‫ط ِ‬
‫وح ّ‬
‫ل عليه وآله‪ ،‬وقد أمرك أن‬
‫ل صلى ا ّ‬
‫كتب الشتر من المدينة إلى عائشة وهى بمكة‪ ،‬أّما بعد‪ :‬فإّنك ظعينة رسول ا ّ‬
‫ل أن تأخذي ِمْنسأتك‪ ،‬وُتلقى جلبابك‪ ،‬وتبدي للناس شعيراتك‪،‬‬
‫تإ ّ‬
‫ت فهو خير لك‪ ،‬فإن أبي ِ‬
‫ن فعل ِ‬
‫تقّرى في بيتك‪ ،‬فإ ْ‬
‫قاتلتك حتى أردك إلى بيتك‪ ،‬والموضع الذي يرضاه لك رّبك‪.‬‬

‫ب الفتنة‪ ،‬ودعا إلى الفرقة وخالف‬


‫ش ّ‬
‫فكتبت إليه في الجواب‪ :‬أّما بعد‪ ،‬فإّنك أول العرب َ‬

‫‪» .1‬شرف« على وزن هدف بمعنى الموضع المرتفع‪.‬‬

‫] ‪[ 335‬‬

‫ل حتى يصيبك منه بنقمة ينتصر بها منك للخليفة‬ ‫الئمة‪ ،‬وسعى في قتل الخليفة‪ ،‬وقد علمت أّنك لن تعجز ا ّ‬
‫ل لك في ضللك وغّيك‪ ،‬إن شاء‬ ‫ل من أصبح مماث ً‬‫ل; وك ّ‬‫المظلوم‪ ،‬وقد جاءني كتاُبك‪ ،‬وفهمت ما فيه; وسيكفينيك ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫ا ّ‬

‫وقال أبومحنف‪ :‬لما انتهت عائشة في مسيرها إلى الحوأب‪ ،‬وهو ماء لبني عامر بن صعصعة‪ ،‬نبحتها الكلب;‬
‫صعاب إبلها‪ ،‬فقال قائل من أصحابها‪ :‬أل ترون‪ ،‬ما أكثر كلب الحوأب‪ ،‬وما أشد ُنباحها! فأمسكت‬ ‫حتى نفرت ِ‬
‫ل عليه يقول‪...‬‬‫ل صلى ا ّ‬
‫زمام بعيرها‪ ،‬وقالت‪ :‬وإّنها لكلب الحوأب! رّدونى رّدونى; فإني سمعت رسول ا ّ‬
‫جْزنا ماء الحوأب; فقالت‪ :‬فهل من شاهد؟ فلّفقوا لها خمسين‬
‫ل! فقد ُ‬
‫ل يرحمك ا ّ‬
‫وذكرت الخبر‪ ،‬فقال لها قائل‪ :‬مه ً‬
‫جْعل‪ ،‬فحلفوا لها‪ :‬إن هذا ليس بماء الحوأب‪ ،‬فسارت لوجهها‪(1).‬‬ ‫أعرابيًا‪ ،‬جعلوا لهم ُ‬

‫والعجيب أن مثل هذه الروايات كانت سببا لتردد عائشة‪ ،‬بينما لم تكن كل تلك الروايات الصحاح عن رسول ال‬
‫)صلى ال عليه وآله( وقد روت أكثرها سببا لترددها وإنصرافها‪ .‬وهذا لعمري من العجائب‪ .‬كما يفهم من هذه‬
‫الحكايات أنها سرعان ما كانت تخدع وتغير رأيها‪.‬‬

‫‪2‬ـ ذم أهل البصرة‬

‫ما ورد من ذم للبصرة في الخطبة المذكورة يتعلق بعضه بتأثير المناخ وموقع المدينة وأوضاعها الجتماعية‬
‫)حيث كانت ميناءا وموضعا لستقطاب أنواع الثقافات والفكار والخلق الملوثة والتي كانت هناك ومازالت في‬
‫ن البعض الخر يرتبط بروحية وصفات سكنتها‪ ،‬والذي ل يلزم أن يكون كذلك في كل عصر‬ ‫مثيلتها( إل أ ّ‬
‫ومصر‪ ،‬بل هو إشارة لولئك الناس في ذلك العصر والزمان والذين كانوا يستسلمون لمحظطات طلحة والزبير‬
‫القبيحة فينقضوا البيعة ويريقوا تلك الدماء‪ .‬وعليه فل منع من أن يسود تلك المنطقة الخيار في سائر العصور‪.‬‬
‫ولذلك وردت بعض الخيار التي تقيد مدح هذه المنطقة‪ ،‬ومن ذلك ما روي عن أمير المؤمنين)عليه السلم( حين‬
‫إخباره منه‪ ...‬فقّراؤهم أفضل القّراء وزّهادهم أفضل الّزهاد وعّيادهم‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.6/225‬‬

‫] ‪[ 336‬‬

‫أفضل العّباد وتجارهم أصدق التجار‪ ...‬ونساؤهم خير النساء‪(1).‬‬

‫فل منافاة أبدا أن يجد قوم ويجتهدوا في طريق تهذيب النفس وتزكيتها فيتطهروا من الرذائل الخلقية وينطلقوا‬
‫صوب السمو والكمال‪ ،‬سيما إن كانت رذائلهم الخلقية من قبيل معركة الجمل وما ترتب عليها من نتائج هّزتهم‬
‫وأعادتهم إلى رشدهم‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ المحيط والخلق‬

‫تتضح مسألتان من عبارات المام)عليه السلم( في هذه الخطبة‪:‬‬

‫الولى الثر الذي بلعبه المحيط الطبيعي والجغرافي في خلق ومزاج النسان‪ ،‬حيث قال)عليه السلم(‪» :‬ماؤكم‬
‫لخرى تأثير المحيط الجتماعي في‬‫زعاق‪ ...‬بلدكم انتن بلدال تربة أقربها من الماء وَابعدها من السماء«‪ .‬وا ُ‬
‫أخلق الناس‪» :‬و المقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه«‪.‬‬

‫ن هذا التأثير يقتصر على تمهيد السبيل وتوفير الرضية ول يرقى لن يكون علة تامة قط;‬ ‫ولكن من المسلم به أ ّ‬
‫ولذلك هناك الفراد الخيار الذين يعيشون في هذه الوساط‪ .‬بل على العكس فهنا لك الفراد المعروفون بالفساد‬
‫والنحراف والسيرة الخبيثة والشريرة وهم يعيشون في المناطق التي تتمتع بالمناخ المناسب من أجل تعالي‬
‫الخلق وبلورة المزاج‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬بحارالنوار ‪) 256 / 32‬مضمون الرواية(‪.‬‬

‫] ‪[ 337‬‬

‫الخطبة ‪14‬‬

‫ومن كلم له)عليه السلم( في مثل ذلك‬

‫ض ِلَناِبل‪َ ،‬وُأْكلٌَة ِلِكل‪،‬‬


‫غَر ٌ‬
‫حُلوُمُكْم‪َ ،‬فَأْنُتْم َ‬
‫سِفَهتْ ُ‬
‫عُقوُلُكْم‪َ ،‬و َ‬
‫ت ُ‬
‫خّف ْ‬
‫سماِء‪َ ،‬‬
‫ن ال ّ‬
‫ن اْلماِء‪َ ،‬بِعيَدٌة ِم َ‬
‫ضُكْم َقِريَبٌة ِم َ‬‫»َأْر ُ‬
‫صاِئل«‪(1).‬‬ ‫سٌة ِل َ‬ ‫َوَفِري َ‬

‫—–‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫هذه خطبة ُاخرى أوردها المام)عليه السلم( بعد الجمل ولعلها تشكل مع سابقتها خطبة واحدة ثم فصلها الشريف‬
‫ن المام)عليه السلم( يعرض بالذم ثانية لهل البصرة ويتحدث عن خوائهم‬ ‫الرضي)رحمه ال( ‪ .‬على كل حال فا ّ‬
‫الفكري الذي جعلهم يتحولون إلى إلعوبة بيد المنافقين من َاصحاب المطامع‪ ،‬وأخيرًا يحذرهم)عليه السلم( من‬
‫مغبة مواصلة هذا الطريق الضال‪.‬‬
‫الشرح والتفسير‬

‫ذم أهل البصرة ثانية‬

‫كما أشرنا سابقًا فان هذا الكلم هو قسم آخر من تلك الخطبة التي أوردها المام)عليه السلم( في ذم‬

‫ن عليًا)عليه السلم(حين انتصر‬‫‪ .1‬جاء في مصادر نهج البلغة أن المرحوم الشيخ المفيد تقل في كتاب الجمل ‪ 217 /‬عن الواقدي أ ّ‬
‫في المعركة ووزع الغنائم على الجنود ألقى هذه الخطبة‪ :‬كما وردت مع إختلف طفيف في كتاب الخبار الطوال لبي حنيفة الدينوري‬
‫وكتاب عيون الخبار لبن قتيبة )مصادر نهج البلغة‪.(348 / 1 ،‬‬

‫] ‪[ 338‬‬

‫أهل البصرة بعد موقعة الجمل حيث ضمته)عليه السلم( سبع صفات قبيحة إتصفوا بها‪ .‬فقد وصفهم في العبارة‬
‫الولى والثانية »أرضكم قريبة من الماء‪ ،‬بعيدة من السماء«‪ .‬يمكن أن تكون العبارتان إشارة إلى الجوانب المادية‬
‫ن هذه المنطقة قريبة من ماء البحر والشط وهى بعيدة عن السماء‪ ،‬أو إشارة إلى الجوانب المعنوية كأن يكون‬ ‫في أ ّ‬
‫ل أّنها بعيدة عن سماء رحمة ال‬
‫المراد أن أرض قلوبكم ورغم قربها من ماء الحياة بفعل وجود المام‪ ،‬إ ّ‬
‫لخرى في المسائل المعنوية هناك نقاش‬ ‫ومغفرته‪ .‬أو أن تكون هذه العبارة واردة في المسائل المادية والعبارة ا ُ‬
‫ن ظاهر العبارة ـ باللتفات إلى المعنى الحقيقي للرض والسماء ـ فا ّ‬
‫ن‬ ‫وبحث بين الشّراح في هذا الشأن‪ ،‬غير أ ّ‬
‫ن أرضهم قريبة من الماء ولها المشاكل التي تنطوي عليها‬ ‫المراد المعنى الول‪ ،‬فليس هنالك من خلف في أ ّ‬
‫الحياة عند ساحل البحر‪ ،‬ول سيما البصرة التي يمر بها ذلك الشط الكبير ويصب في البحر مّما يجعلها عرضة‬
‫ن أرباب علم الهيئة‬
‫لظاهرة المد والجزر; أّما كيفية إبتعادها عن السماء‪ ،‬فقد ذكر بعض شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫وصناعة التنجيم يذكرون أن أبعد موضع في الرض عن السماء »البلة« وذلك موافق لقوله)عليه السلم( ـ‬
‫ومعنى البعد عن السماء ها هنا هو بعد تلك الرض المخصوصة عن دائرة معدل النهار والبقاع‪ ،‬والبلد تختلف‬
‫ن أبعد موضع في المعمورة عن دائرة معدل النهار هو البلة‬ ‫في ذلك‪ .‬وقد دلت الرصاد واللت النجومية على أ ّ‬
‫والبلة هى قصبة البصرة‪ .‬وهذا الموضع من خصائص أميرالمؤمنين)عليه السلم(لّنه أخبر عن أمر لتعرفه‬
‫العرب‪،‬لتهتدي إليه‪ ،‬وهو مخصوص بالمدققين من الحكماء‪ ،‬وهذا من أسراره وغرائبه البديعة‪.‬‬

‫ولكن ليبدو هذا الكلم مقبول لدى العلماء المعاصرين‪ ،‬لن البصرة كسائر الموانئ العالمية المساوية لسطح ماء‬
‫ن مياه بحيرات العالم متصلة مع بعضها وتقع في مستوى واحد; والحال هنالك عّدة مناطق على‬ ‫البحر‪ ،‬ونعلم أ ّ‬
‫سطح الكرة الرضية وهى أوطئ من سطح البحار‪ .‬لكن يحتمل أل تكون المقارنة بالنسبة لجميع المناطق على‬
‫سطح الكرة الرضية‪ ،‬بل مع بعض البلدان والمناطق السلمية المتعارفة آنذاك‪.‬‬

‫ثم قال)عليه السلم( في العبارة الثالثة والرابعة »خفت عقولكم‪ ،‬وسفهت حلومكم« والدليل الواضح على هذا ما‬
‫أورده المام)عليه السلم( في الخطب السابقة من انقيادهم السهل واستسلمهم لهواء‬

‫] ‪[ 339‬‬

‫طلحة والزبير وتقديمهم التضحيات الجسام ذودا عن جمل عائشة وبالتالي هزيمتهم وفضيحتهم المنكرة التي جرت‬
‫حلم( من آثار العقل بعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫ن‬ ‫حُلم وال ِ‬
‫عليهم الندم والحسرة‪ .‬عقول جمع عقل وحلوم جمع حلم‪ ،‬ويبدو أن )ال ُ‬
‫العقل هو القوة المدركة لدى النسان والفكر واعلم واجالة الرأي في العمال من نتائجه‪ ،‬ولما كانت عقول أهل‬
‫ن أفكارهم كانت ضعيفة تثار بسرعة إثر الدعايات السيئة التي يمارسها ذوي الهواء والمطامع‪.‬‬ ‫البصرة خفيفة فا ّ‬
‫ومن هنا قال المام)عليه السلم(في العبارة الخامسة والسادسة والسابعة‪» :‬فأنتم غرض)‪ (1‬لنا بل)‪ ،(2‬وُاكلة‬
‫لكل‪ ،‬وفريسة)‪ (3‬لصائل)‪.«(4‬‬

‫و من البد يهي أن يقع الفراد السذج من ذوي الفكار السطحية الهشة لقمة سائغة في شباك صيادي الدين‬
‫ن العنصر الذي يمكنه ضمان المجتمعات‬ ‫واليمان والمتعطشين إلى الشراء والمال والجاه والمنصب; ومن هنا فا ّ‬
‫لّمة على‬
‫النسانية إزاء هؤلء المكرة المخادعين‪ ،‬إّنما يكمن في رفع المستوى الثقافي لدى الرأي العام وايقاف ا ُ‬
‫مختلف القضايا الجتماعية والسياسية; المر الذي أكده السلم‪ ،‬وهذا هو أحد الهداف التي تستبطنها خطب‬
‫صلة الجمعة‪ .‬فلو إستدرك أهل البصرة وعادوا إلى أنفسهم وأفكارهم وألموا بشرائط الزمان والمكان لما أصبحوا‬
‫العوبة بيد طلحة والزبير الذين نقضنا بيعة المام)عليه السلم( وتظاهرا عليه وألبوا الناس على قتاله فسالت تلك‬
‫الدماء وحتى إنتهى المر إلى قتلهما‪ .‬والسؤال المطروح هنا‪ :‬هل هناك معنى واحد للعبارات الثلث »فأنتم‬
‫غرض لنابل« »و اكلة لكل« »و فريسة لصائل« أم لها معاني متعددة؟ ليبعد أن تكون كل عبارة إشارة إلى‬
‫ن الساسة يسعون لرميكم بسهامكم‬ ‫جانب من جوانب المسألة‪ .‬فالعبارة الولى تبّين الستهداف من بعيد في أ ّ‬
‫وايقاعكم في شباكهم ولو من بعيد‪ .‬والعبارة الثالثة تبّين هذا الستهداف من قريب بينما تبين العبارة الثانية النتيجة‬

‫‪» .1‬غرض« بمعنى الهدف وهو ما ينصب ليرمى بالسهام‪ ،‬ثم اطلق على كل هدف‪ ،‬كما ذكر له معان ُاخرى من قبيل الملل والشوق‪.‬‬

‫‪» .2‬نابل« من مادة »نبل« بمعنى الضارب بالنبل‪.‬‬

‫‪» .3‬فريسة« من مادة »فرس« على وزن فرض بمعنى الضرب‪ ،‬ولما كان الحيوان الوحشي يضرب فريسة بالرض ِاطلق عليه‬
‫المفترس‪ ،‬كما اطلق اسم الفرس على الحصان لضربه الرض برجله‪.‬‬

‫‪» .4‬صائل« من مادة »صول« و»صولة« بمعنى الحملة والقهر والغلبة‪.‬‬

‫] ‪[ 340‬‬

‫ن هذا الذم إّنما يرد بشأن ُاولئك الذين أصبحوا آلة‬


‫النهائية لهذا الستهداف والصيد‪ .‬وهنا لبّد من اللتفات إلى أ ّ‬
‫ل فالبصرة آنداك وما تبعه من أزمان قد حفلت بالفراد الخيار الذين أثنى عليهم‬ ‫رخيصة بيد المنافقين‪ ،‬وإ ّ‬
‫المام)عليه السلم( كما ورد في شرح الخطبة السابقة‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 341‬‬

‫الخطبة ‪15‬‬

‫ومن كلم له )عليه السلم(‬

‫فيما رده على المسلمين من قطائع)‪ (1‬عثمان‬

‫عَلْيِه اْلَعْدُل‬
‫ق َ‬
‫ن ضا َ‬
‫سَعًة‪َ .‬وَم ْ‬
‫ن ِفي اْلَعْدِل َ‬
‫ج ِبِه الّنساُء َوُمِلك ِبِه اِْلماُء‪َ ،‬لَرَدْدُتُه‪َ ،‬فِإ ّ‬
‫جْدُتُه َقْد ُتُزّو َ‬
‫ل َلْو َو َ‬
‫»َوا ّ‬
‫ق«‪(2).‬‬ ‫ضَي ُ‬‫عَلْيِه َأ ْ‬
‫جْوُر َ‬‫فاْل َ‬

‫—–‬
‫نظرة إلى الخطبة‬

‫هذه من الخطب التي أوردها المام)عليه السلم( بعد أن بايعه الناس في المدينة حيث توعد فيها كافة الفراد الذين‬
‫تطاولوا على بيت المال إبان عهد عثمان إلى جانب بطانته وقرابته ممن حذا حذوهم‪ ،‬ويطالبهم باعادتها إلى بيت‬
‫ل سيقف بوجههم بكل قوة‪ .‬وهكذا يضع المام)عليه السلم( حدًا لطماع الطامعين‪ ،‬ثم يختتمها بعبارات‬ ‫المال وإ ّ‬
‫قصيرة بعيدة المعنى بشأن العدالة وقيمتها في المجتمع‪.‬‬

‫‪» .1‬القطائع« ما يقطعه المام بعض الرعية من أرض بيت المال ذات الخراج‪ ،‬ويسقط عنه خراجه‪ ،‬ويجعل عليه ضريبة يسيرة‬
‫عوضا عن الخراج‪ ،‬وقد كان عثمان أقطع كثيرًا من بني ُامية وغير هم من أوليائه وأصحابه قطائع من أرض الخراج على هذه‬
‫الصورة‪ ،‬وقد كان عمر أقطع قطائع‪ ،‬ولكن لرباب الغناء في الحرب والثار المشهورة في الجهاد; عثمان أقطع القطائع صلة لرحمه‬
‫وميل إلى أصحابه من غير عناء في الحرب ول أثر ‪.‬‬

‫‪ .2‬جاء في مصادر نهج البلغة أن هذه الخطبة قد ذكرت في كتاب الوائل لبي هلل العسكري وكذلك كتاب دعائم السلم للقاضي‬
‫النعمان المصري وإثبات الوصية للمسعودي مع بعض الختلف )مصادر نهج البلغة ‪.(350 / 1‬‬

‫] ‪[ 342‬‬

‫الشرح والتفسير‬

‫القسم على إعادة الموال المغصوبة‬

‫كما يفهم من مضمون الخطبة فاّنها وردت في بداية الخلفة الظاهرية لميرالمؤمنين علي)عليه السلم(‪ .‬وقال ابن‬
‫ن عليًا)عليه‬
‫ن هذه الخطبة ذكرها الكلبي مروية مرفوعة إلى أبي صالح عن ابن عباس)رحمه ال( أ ّ‬ ‫أبي الحديد إ ّ‬
‫ن هذه الكلمات كانت كالماء البارد الذي سكب على‬ ‫السلم( خطبها في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة‪ .‬والحق أ ّ‬
‫لّمة ; فقد سادت السكينة والهدوء قلوب أولئك الذين كانوا يأنون من إنعدام‬ ‫ألسنة اللهب والنار المتقدة في صدور ا ُ‬
‫العدالة على زمن عثمان إلى جانب ُاولئك الذين شعروا بها جس القلق على النظام السلمي وقوانينه الحقة‪،‬‬
‫فاستبشروا بعودة السلم الصيل والحكومة السلمية التي كانت تتطلع لها الفطرة السلمية‪ ،‬ولول هذه السياسة‬
‫لّمة على دار عثمان‬ ‫التي أعلنها المام)عليه السلم( بهذه العبارات لما هدأت المدينة ولتكررت هجمات أبناء ا ُ‬
‫ولسفكت الدماء واهدرت الموال‪ .‬فقد إستهل المام)عليه السلم( كلمه بالقسم بارجاع كافة الموال التي نهبت‬
‫من بيت المال مهما فعل بها »و ال لو وجدته قد تزوج به النساء‪،‬ملك به الماء‪ ،‬لرددته«‪ .‬ثم أضاف)عليه السلم(‬
‫ن ذلك خطأ فادح‪ ،‬لن العدل أساس راحة المجتمع ومن‬ ‫لأّ‬‫ن إجراء العدالة قد يثير غضب البعض إ ّ‬ ‫مذكرا بأ ّ‬
‫ضاق صدره من العدل فاّنه سيكون أضيق إذا ماساد الجور والظلم »فان في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل‪،‬‬
‫فالجور عليه أضيق«‪ .‬فقد بّين المام)عليه السلم( في البداية عزمه الراسخ على إعادة الموال التي ُاخذت ظلمًا‬
‫وعدوانًا من بيت المال وإن تزوج بتلك الموال أو تملك بها الماء‪ ،‬فلبّد أن تعاد إلى بيت مال المسلمين‪ ،‬لتعلم‬
‫ن القانون الذي سادها سابقًا لم يكن قانون السلم فهو ليس النموذج السلمي الذي يحتذى به في المسيرة‬ ‫لّمة بأ ّ‬
‫اُ‬
‫لولئك الذين مد‬ ‫ن في العدل سعة«‪ .‬و أخيرًا يعرض بالنصح ُ‬ ‫السياسية‪ .‬ثم عزز هذا العزم بالمنطق والدليل »فا ّ‬
‫ن المر بالعكس سيكون‬ ‫ن عزم المام)عليه السلم(هذا سيتضمن ضررهم‪ ،‬في أ ّ‬ ‫أيديهم إلى بيت المال وظنوا بأ ّ‬
‫بنفعهم; لن من ضاق عليه العدل فالظلم عليه أضيق‪ ،‬فالعدالة تمنحه الموال الحلل ول تسلبه سوى الموال‬
‫المحرمة اللمشروعة‪ ،‬ولكن إذا لم يستجب للعدل وعاش الظلم والجور‪ ،‬فاّنه سيخاطر بجميع أمواله المحللة‬
‫ل أّنه‬
‫ن الظلم ممكن أن يجر نفعًا على الظالم خلل مّدة قصيرة‪ ،‬إ ّ‬ ‫منهاالمحرمة‪ .‬صحيح أ ّ‬

‫] ‪[ 343‬‬

‫ليس كذلك على المدى البعيد‪ ،‬وقد أثبت التأريخ كيفية تحطم الظلمة بنفس هذه القوانين الظالمة التي شرعوها‬
‫وفرضوها على الناس بقوة الحديد والنار; حتى خانهم أقرب مقربيهم وطعنوهم من خلفهم‪ .‬قال الكلبي‪ :‬ثم‬
‫أمر)عليه السلم( بكل سلح وجد لعثمان في داره;تقوى به على المسلمين فقبض‪ ،‬و أمر بقبض نجائب كانت في‬
‫داره من إبل الصدقة‪ ،‬فقبضت‪ ،‬وأمر بقبض سيفه ودرعه‪ ،‬وأمر أل يعرض لسلح وجد له لم يقاتل به المسلمين‪،‬‬
‫وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وفي غير داره‪ ،‬وأمر أن ترتجع الموال التي أجاز بها عثمان‬
‫حيث ُاصيبت أو أصيب أصحابها‪ .‬فبلغ ذلك عمرو بن العاص‪ ،‬وكان بأيلة من أرض الشام‪ ،‬أتاها حيث وثب الناس‬
‫على عثمان‪ ،‬فنزلها فكتب إلى معاوية‪ :‬ما كنت صانع فاصنع‪ ،‬إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما‬
‫تقشر عن العصا لحاها‪ .‬هذا وقد إختلفت أقوال المفسرين وشّراح نهج البلغة بشأن مراده بقوله »من ضاق عليه‬
‫العدل فالجور عليه أضيق« وأحد التفاسير هو ما ذكرناه سابقًا‪ .‬التفسير الخر هو أن بسط العدالة فيه رضى ال‬
‫وخلقه والنسجام مع نظام الوجود‪ ،‬بينما يوجب الظلم غضب ال وخلقه ويؤدي إلى ضيق الدنيا والخرة‪ .‬وتفسير‬
‫ن سلبه ظلمًا سيكون عليه أشق وأصعب‪ .‬وأخيرًا أ ّ‬
‫ن‬ ‫لأّ‬‫ن سلب النسان شيء بالعدل قد يشق عليه‪ ،‬إ ّ‬
‫آخر هو أ ّ‬
‫الوالي إذا ضاقت عليه تدبيرات ُاموره في مظنة أن يمنع ويصد عن جوره‪ .‬وإذا لم يطق النسان العدل والنصاف‬
‫فأّنى له بتحمل الظلم والجور‪ .‬ولنرى من ضير في جمع كل هذه التفاسير كمراد لمفهوم تلك العبارة‪.‬‬

‫تأّملت‬
‫‪ 1‬ـ معطيات العدالة في المجتمعات البشرية‬

‫ن المام علي)عليه السلم(‬


‫لقد ورد التأكيد كرارًا في نهج البلغة على مسألة العدل والنصاف‪ ،‬بل المعروف أ ّ‬
‫من كبار باسطي العدل في المجتمع النساني‪ ،‬حتى أسماه المفكر المسيحي المشهور جورج جرداق المام علي‬
‫صوت العدالة النسانية‪ .‬وقد تظافرت الروايات السلمية ـ وعلى غرار كلمات المام علي)عليه السلم(في نهج‬
‫البلغة ـ الواردة بهذا الشأن وبعبارات غاية في الروعة واللطافة‪ ،‬منها ما ورد عن المام السجاد علي بن‬
‫الحسين)عليه السلم( أّنه قال‪» :‬العدل أحلى من‬

‫] ‪[ 344‬‬

‫‪ 2‬ـ اسراف عثمان‬

‫سّيره ثم لم يرده‬
‫ل صلى ال عليه وآله‪ ،‬قد َ‬
‫ورد في التواريخ أّنه أعاد الحكم بن أبي العاص‪ ،‬بعد أن كان رسول ا ّ‬
‫أبوبكر ول عمر‪ ،‬وأعطاه مائة ألف درهم‪.‬‬

‫وأقطع مروان فدك‪ ،‬وقد كانت فاطمة عليها السلم طلبْتها بعد وفاة أبيها صلوات ا ّ‬
‫ل‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪.36 / 72‬‬

‫‪ .2‬بحار النوار ‪.39 / 72‬‬

‫‪ .3‬بحار النوار ‪. 83 / 75‬‬

‫‪ .4‬مستدرك الوسائل ‪.320 / 11‬‬

‫‪ .5‬تفسير الصافي‪ ،‬سورة الرحمن ‪.7 /‬‬

‫] ‪[ 345‬‬

‫حلة فُدِفعت عنها‪.‬‬


‫عليه‪ ،‬تارًة بالميراث‪ ،‬وتارة بالّن ْ‬

‫وأعطى عبدال بن أبى سْرح جميع ما جميع ما أفاء ال عليه من فتح إفريقّية بالمغرب; وهى من طرابلس الغرب‬
‫شَركه فيه أحد من المسلمين‪.‬‬
‫ن َي ْ‬
‫إلى طنجة من غير أ ْ‬
‫وأعطى أباسفيان بن حرب مائتى ألف من بيت المال‪ ،‬في المال‪ ،‬في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة‬
‫ألف من بيت المال‪ ،‬وقد كان زّوجه ابنته أم أبان‪ ،‬فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح‪ ،‬فوضعها بين‬
‫سمها كّلها‬
‫يدي عثمان وبكى فقال عثمان‪ :‬أتبكى أن وصلت رحمى! وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة‪ ،‬فق ّ‬
‫صْره زيد بن أرقم‬‫في بني أمّية‪ .‬وأنكح الحارث ابن الحكم ابنته عائشة‪ ،‬فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضا بعد َ‬
‫عن خزنه‪.‬‬

‫ضَرب عبدال‬ ‫ل تعالى إلى الّربذة; و َ‬


‫لمور ُاخرى نقمها عليه المسلمون‪ ،‬كتسيير أبي ذر رحمه ا ّ‬
‫وانضم إلى هذه ا ُ‬
‫بن مسعود حتى كسر أضلعه‪ ،‬وما أظهر من الحجاب والعدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود‪ ،‬ورّد المظالم‪،‬‬
‫ف اليدي العادية والنتصاب لسياسة الرعّية‪ ،‬وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من‬ ‫وك ّ‬
‫المسلمين‪(1).‬‬

‫ومن هنا يتضح أمران‪ :‬الول‪ :‬علة قيام الناس ضد عثمان‪ ،‬والثاني السبب الذي دفع ببعض الفراد من قبيل طلحة‬
‫والزبير ومعاوية وسائر كبار مكة والمدينة‪ .‬أو ليمكن خلصة ذلك فيما ورد في خطبته)عليه السلم( من قوله‪:‬‬
‫»وال لو وجدته قد تزوج به النساء‪ ،‬وملك به الماء‪ ،‬لرددته‪ ،‬فان في العدل سعة ـ ومن ضاق عليه العدل‪ ،‬فالجور‬
‫عليه أضيق«‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ الجابة عن سؤال مهم‬

‫يتساءل البعض ألم يكن من الفضل أن يتجاوز المام)عليه السلم( الماضي ـ عفا ال عّما سلف ـ ويستأنف في‬
‫زمان خلفته مسيرة العدالة ليجتث جذور الحقد والبغضاء من صدور العناصر النتهازية والنفعية؟ ويمكن العثور‬
‫على جواب هذا السؤال في كلمات أمير المؤمنين)عليه السلم(‪ ،‬فقد‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.199 / 1‬‬

‫] ‪[ 346‬‬

‫ورد في بعض الروايات والقسم الخر من هذه الخطبة أّنه قال)عليه السلم(‪» :‬ال أن كل قطيعة أقطعها عثمان‬
‫وكل مال اعطاه من مال ال فهو مردود في بيت المال فان الحق القديم ل يبطله شيء ولو وجدته‪.(1)«...‬‬

‫ن الناس لو رأوا ناهبي بيت المال يتقلبون في البلد بكل حرية ويسخرون عمليًا من جرحهم‬ ‫ومن البديهي أ ّ‬
‫ن العدالة ليست بصدد الماضي فاّنهم لن يطيقوا مثل هذه العدالة ول يرونها تنسجم وأي منطق‬ ‫لمشاعر الخرين وأ ّ‬
‫وعقل حيث ينعم لصوص المس بالحرية والراحة بينما ل تطال العدالة سوى لصوص اليوم; فهذا الزدواج من‬
‫شأنه أن يدخل اليأس في قلوب الناس من بسط العدالة‪ .‬الفقه السلمي هو الخر نص على وجوب عودة الموال‬
‫المغصوبة إلى أصحابها وليس هنالك من فارق بين المس واليوم‪ ،‬أّما مسألة تقادم الزمان المطروحة هذا اليوم‬
‫فبغض النظر عن اهمالها في الفقه السلمي‪ ،‬فاّنها إّنما ترتبط بالدعاوي ل بالموال المغصوبة‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.269 / 1‬‬

‫] ‪[ 347‬‬
‫الخطبة ‪16‬‬

‫ومن كلم له)عليه السلم(‬

‫لما بويع في المدينة وفيها يخبر الناس بعلمه بما تؤول إليه أحوالهم وفيها يقسمهم إلى اقسام‬

‫القسم الول‬
‫عْ‬
‫ن‬ ‫جَزْتُه الّتْقَوى َ‬ ‫حَ‬ ‫ت‪َ ،‬‬ ‫ن اْلَمُثل ِ‬ ‫ن َيَدْيِه ِم َ‬
‫عّما َبْي َ‬‫ت َلُه اْلِعَبُر َ‬
‫ح ْ‬‫صّر َ‬‫ن َ‬ ‫ن َم ْ‬ ‫عيٌم ِإ ّ‬‫»ِذّمِتي ِبما َأُقوُل َرِهيَنٌة‪َ .‬وَأنا ِبِه َز ِ‬
‫حّ‬
‫ق‬ ‫ل َنِبّيُه)صلى ال عليه وآله(‪َ .‬واّلِذي َبَعَثُه ِباْل َ‬ ‫ثا ّ‬ ‫ت َكَهْيَئِتها َيْوَم َبَع َ‬‫ن َبِلّيَتُكْم َقْد عاَد ْ‬
‫ت َأل َوِإ ّ‬ ‫شُبها ِ‬ ‫حِم ال ّ‬ ‫َتَق ّ‬
‫سِبقَ ّ‬
‫ن‬ ‫سَفَلُكْم َوَلَي ْ‬
‫علُكْم‪َ ،‬أ ْ‬ ‫علُكْم َوَأ ْ‬ ‫سَفُلُكْم َأ ْ‬
‫حّتى َيُعوَد َأ ْ‬‫ط اْلِقْدِر‪َ ،‬‬
‫سْو َ‬ ‫ن َ‬ ‫طّ‬ ‫غْرَبَلًة َوَلُتسا ُ‬‫ن َ‬‫ن َبْلَبَلًة َوَلُتَغْرَبُل ّ‬
‫َلُتَبْلَبُل ّ‬
‫ت ِبَهذا‬
‫ت ِكْذَبًة َوَلَقْد ُنّبْئ ُ‬
‫شَمًة‪َ ،‬ول َكَذْب ُ‬ ‫ت َو ْ‬ ‫ل ما َكَتْم ُ‬ ‫سَبُقوا‪َ .‬وا ّ‬ ‫ن كاُنوا َ‬ ‫سّباقو َ‬ ‫ن َ‬ ‫صَر ّ‬
‫صُروا‪َ ،‬وَلُيَق ّ‬ ‫ن كاُنوا َق ّ‬ ‫ساِبُقو َ‬
‫اْلَمقاِم َوَهذا اْلَيْوِم«‪(1).‬‬

‫—–‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫الخطبة من ُاولى خطبه)عليه السلم( بعد مقتل عثمان وتوليه)عليه السلم( الخلفة في المدينة‪ ،‬ويبدو تفسيرها‬

‫‪ .1‬لقد نقلت هذه الخطبة في عّدة كتب منها‪:‬‬

‫‪1‬ـ الشيخ الطوسي‪ ،‬تلخيص الشافي ‪2 ،53 / 3‬ـ الجاحظ‪ ،‬البيان والتبيين ‪3 ،44 / 3‬ـ العقد الفريد ‪4 ،132 / 4‬ـ إرشاد المفيد‪5 ،‬ـ‬
‫كتاب الجمل‪6 ،‬ـ عيون الخبار‪7 ،‬ـ المسعودي‪ ،‬اثبات الوصية‪8 ،‬ـ كنز العمال‪9 ،‬ـ الكليني‪ ،‬روضة الكافي ‪10 ،67 /‬ـ تاريخ اليعقوبي‪،‬‬
‫ج ‪11‬ـ المجلسي‪ ،‬بحار النوار‪.‬‬

‫] ‪[ 348‬‬

‫ل باللتفات إلى موقعها وزمان صدورها‪ ،‬وهى تدور حول أربعة محاور‪:‬‬
‫سه ً‬

‫لّمة إلى المتحان الذي ستمر به وتشبيه ذلك الزمان بزمان رسول ال)صلى ال عليه‬ ‫المحور الول‪ :‬الفات انتباه ا ُ‬
‫لّمة من عصر الجاهلية والظلمة إلى عصر‬ ‫وآله( واننهضته كنهضة النبي)صلى ال عليه وآله( التي طفرت با ُ‬
‫الهداية والنور‪ ،‬وإن كان إحتمال هذه النهضة صعب ثقيل على البعض وكون المتحان شاق‪ .‬فالنحرافات التي‬
‫لّمة‬
‫أعقبت رحيل النبي)صلى ال عليه وآله(والتي أدت إلى التمييز في عطاء بيت المال وسلب ونهب ثروات ا ُ‬
‫واغداق المناصب الحساسة على من تبقى من رجالت الجاهلية إّنما تتطلب ثورة إصلحية قام بها المام‬
‫علي)عليه السلم(‪ .‬ثم يذكر المام)عليه السلم( الناس بضرورة العودة إلى السلم الصيل والعتبار بعاقبة‬
‫ومصير القوام الماضية‪.‬‬

‫المحور الثاني‪ :‬يقارن)عليه السلم( بين المعصية والذنب والورع والتقوى ثم يبّين كل منهما وكيف تصعب‬
‫لّمة من المخاطر التي تتربص بمصيرها‪.‬‬ ‫السيطرة على المعاصي بينما يتيسر نهج التقوى ويحذر ا ُ‬

‫لّمة من عدم الستيحاش من الحق‬ ‫المحور الثالث‪ :‬إشارة مقتضبة عميقة المعنى لمسألة الحق والباطل محذرًا ا ُ‬
‫رغم قلة سالكيه والستئناس بالباطل لكثرة سالكيه‪ ،‬والعمل بالحق الذي ل يقود سوى للغلبة والنصرة اللهية‪.‬‬

‫المحور الرابع‪ :‬الذي يشمل سلسلة من النصائح والمواعظ التي تعّد كل واحدة منها ركن مهم من الركان التي‬
‫ينبغي اللتفات إليها في الحياة من قبيل الوعظ بالبتعاد عن الفراط والتفريط والتمسك بالقرآن والسّنة وضرورة‬
‫ن البركة والخير‬
‫معرفة الذات والدعوة إلى الخاء والتحاد وإصلح ذات البين والتوبة من المعاصي والوثوق بأ ّ‬
‫منه سبحانه‪.‬‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫اليقظة والوعي في المتحان‬

‫تعتبر هذه الخطبة ـ كما أشرنا سابقًا وعلى ضوء ما صّرح به بعض شّراح نهج البلغة مثل ابن أبي الحديد ـ من‬
‫لّمة مّما ينتظرها وأبان لها المخاطر‬
‫الخطب المهّمة التي أوردها)عليه السلم( لما تمت له البيعة بالخلفة‪ ،‬فحذر ا ُ‬
‫والنحرافات التي تتربص بها‪.‬‬

‫] ‪[ 349‬‬

‫فقد قال بادئ ذي بدء‪» :‬ذمتي بما أقول رهينة وأنابه زعيم«)‪ (1‬في إشارة إلى صدق القول وحقانيته ووجود‬
‫الضمانات القائمة عليه‪ ،‬ولذلك ينبغي عليكم تلقيه دون نقاش إلى جانب اللتزام به والعمل بمقتضاه‪ .‬اّما المغزى‬
‫الذي ينطوي عليه هذا التعبير فإّنما يكمن في إلفات نظر السامع إلى أهمية وخطورة المضمون الذي يختزنه الكلم‬
‫والتعامل مع أهدافه‪.‬‬

‫ثم خاض المام)عليه السلم( في تفاصيل هذا المضمون في أن من استشعر الورع والتقوى وخشى العواقب نأى‬
‫بنفسه بعيدًا عن الشبهات ومامن شأنه تعريضه لتلك العواقب »ان من صّرحت له العبر عّما بين يديه من‬
‫المثلت)‪ (2‬حجزته)‪ (3‬التقوى عن تقحم الشبهات«‪ .‬ارجعوا إلى التأريخ وتأملوا ما أصاب القوام الماضية من‬
‫عقوبات بفعل النحراف عن الحق والتلوث بالمعاصي والذنوب واستفحال الهوى والشهوات وحب الذات!‬
‫ارجعوا إلى زمان انبثاق الدعوة وقيام النبي)صلى ال عليه وآله(وتدارسوا المؤامرات التي حاكتها القوام‬
‫الجاهلية ضده ثم انظروا كيف كانت عواقبهم ومصائرهم لتتضح لكم معالم الطريق فتجوبوا الظلمة بنور التقوى‬
‫والهداية; الكهف الحصين الذي يأمنكم من الضربات الموجعة التي يمكن أن تسددها لكم النفس المارة وتزينها‬
‫الشياطين‪ .‬ثم يكشف المام)عليه السلم( النقاب عن الواقع الخطير الذي يعيشونه ويطلعهم على صعوبة المتحان‬
‫ن أمامكم امتحان ل ينحج فيه‬ ‫»أل وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث ال نبيه)صلى ال عليه وآله(«‪ .‬اعلموا أ ّ‬
‫لّمة في‬‫نا ُ‬‫سوى من استشعر نفسه كمال التقوى والخلص‪ .‬فالمام)عليه السلم(يميط اللثام عن هذه الحقيقة في أ ّ‬
‫عصر الخليفة الثالث ول سيما أواخر عمره قد عاشت البذخ في بيت المال والمناصب التي فوضت لغير أهلها من‬
‫الفراد الصالحين والمفاسد التي اجتاحت المجتمع السلمي والختلفات التي عصفت بوحدتها وكأّنها عادت‬
‫القهقري إلى عهد الجاهلية وكأن بيعته كبيعة رسول ال)صلى ال عليه وآله( التي تطالبه بنهضة تجديدة كتلك التي‬
‫لّمة في السلم الصيل‪.‬‬ ‫أسسها النبي)صلى ال عليه وآله(; تلك النهضة المعطاء التي صهرت ا ُ‬
‫‪» .1‬زعيم« من مادة »زعم« بمعنى بيان الكلم الذي يحتمل فيه الخلف‪ ،‬ثم أطلق الزعيم على من يكفل شخصًا ويضمنه لّنه يكون‬
‫عرضة للتهمة‪ ،‬وقد جاءت هذه المفردة في العبارة بمعنى الضامن والكفيل‪ ،‬كما يطلق الزعيم على القائد الذي يتولى زمام اُلمور لّنه‬
‫يتكفل بالعمال المهّمة‪.‬‬

‫‪» .2‬مثلت« جمع »مثلة« على وزن عضلة بمعنى مقارنة شيء بآخر‪ ،‬ثم ُاطلقت على العذاب اللهي والعقوبة التي تحذر النسان من‬
‫ارتكاب ما يوجبها‪.‬‬

‫‪» .3‬حجز« من »حجز« على وزن عجز بمعنى الحائل بين شيئين وقد وردت بهذا المعنى في العبارة‪ ،‬فالتقوى تحول دون الوقوع في‬
‫الشبهات‪.‬‬

‫] ‪[ 350‬‬

‫ومن الطبيعي أن تهب بعض الفئات التي تعرض مصالحهم اللمشروعة للخطر لبداء ردود الفعل واظهار‬
‫لّمة وينبهها إلى‬
‫المقاومة; المر الذي يعقد المتحان بما يجعل الحاكم الخبير كالمام علي)عليه السلم( يوقظ ا ُ‬
‫سر البلية بالبلء والمشاكل‪ ،‬في حين نراها تعني‬‫ن البعض ف ّ‬‫الخطار المتربصة بها وهنا لبّد من اللتفات إلى أ ّ‬
‫المتحان والختبار ويؤيد ذلك سائر عباراته الواردة في الخطبة‪ .‬ثم خاض)عليه السلم(في تفاصيل هذا المتحان‬
‫ل »والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة)‪ (1‬ولتغربلن غربلة«)‪ (2‬وهذه هى‬ ‫اللهي الكبير ليوضحه بمثالين‪ ،‬فقد ذكر أو ً‬
‫الطبيعة التي تسود كل نهضة ربانية في غربلة المجتمع حين تتويج مسيرتها بالنصر‪ .‬فهناك إقصاء لصحاب‬
‫السطوة الخونة واستبدالهم بالمجموعة الصالحة المستضعفة‪ ،‬وهذا بعينه ما مارسه رسول ال)صلى ال عليه‬
‫وآله( بعيد انتصار ثورته المباركة‪ .‬فقد نحي أبو سفيان ومن لف لفه من طغمة الفساد ليفسح المجال لصهيب‬
‫والخباب وبلل‪ .‬أضف إلى ذلك فقد نحيت الشخصيات المستبدة التي استندت إلى منطق القوة على عهد عثمان بعد‬
‫بيعة أمير المؤمنين علي)عليه السلم(لتخلفها القوى الشعبية المخلصة‪.‬‬

‫وثانيًا »ولتساطن سوط)‪ (3‬القدر حتى يعود أسفلكم أعلكم‪ ،‬وأعلكم أسفلكم«‪ .‬نعم فطبيعة كل ثورة أن تضع في‬
‫النهضات الربانية التي تنبثق في المجتمعات الفاسدة فاّنها تطيح بالمفسدين وترفع المستضعفين ليمارسوا دورهم‬
‫في السلطة‪.‬‬

‫ثم يواصل المام)عليه السلم( كلمه بالقول‪» :‬وليسبقن سابقون كانوا قصروا‪ ،‬وليقصرن سباقون كانوا سبقوا«‬
‫والعبارة الثانية إشارة إلى بعض الفراد كطلحة والزبير الذين كانا يومًا في الصفوف الولى بينما دفعتهم بعض‬
‫العوامل للتراجع عن تلك الصفوف‪ ،‬بينما تشير العبارة الولى إلى بعض الفراد كصحب المام)عليه السلم(‬
‫وأتباعه الذين أصبحوا يومًا جلساء الدار‪ ،‬بينما سنحت لهم الفرصة على عهد المام ليتقدموا ويسبقوا كما احتمل‬
‫لمور ويتأخر‬ ‫البعض أن يكون المراد المستقبل الذي سيشهد تردي الوضاع فيتقدم بنو أمية ويتصدرون ا ُ‬
‫السابقون‬

‫‪» .1‬بلبلة‪ «،‬ذكر أرباب اللغة عّدة معان لهذه المفردة منها الختلط وهذا هو المعنى المناسب لها في هذه العبارة‪.‬‬

‫‪» .2‬غربلة‪ «،‬لها معنيان أحدهما فصل الخبيث من الطيب بالغربال )بكسر الغين وضمها( والخر القطع والفصل‪.‬‬

‫‪» .3‬سوط« أي كما تختلط البزار ونحوها في القدر عند غليانه فينقلب أعلها أسفلها وأسفلها أعلها‪ ،‬وكل ذلك حكاية عّما يؤولون‬
‫إليه من الختلف وتقطع الرحام وفساد النظام‪.‬‬

‫] ‪[ 351‬‬

‫في السلم فتعود الجاهلية بأقطابها ليتسلموا زمام المور‪ ،‬ولكن لما كانت هذه الخطبة قد أوردت إثر مبايعة‬
‫المام)عليه السلم( مباشرة فان المعنى الول يبدو هو النسب‪ .‬ثم يؤكد المام)عليه السلم(هذا المر بقسم آخر‬
‫»وال ما كتمت وشمة)‪ (1‬ول كذبت كذبة‪ ،‬ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم«‪.‬‬

‫ل ليفيق الناس ول يستسلمون للمؤامرات كمؤامرة الجمل وصفين والنهروان ويعلموا أّنهم‬ ‫لمور إ ّ‬
‫وما كل هذه ا ُ‬
‫ن المؤسف له هو أّنهم لم يعيروا نصح المام)عليه السلم( أية آذان‬
‫لأّ‬
‫أمام امتحان صعب فيلتفتوا إلى أنفسهم‪ ،‬إ ّ‬
‫صاغية ولم يتدبروا المر فكان من ذلك أن فشلوا في المتحان أيما فشل‪.‬‬
‫ن مراد المام)عليه السلم( من هذه العبارة هو المغيبات التي أطلعه عليها رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪،‬‬ ‫يبدو أ ّ‬
‫ن الئمة المعصومين هم قادة‬
‫وكما ذكرنا في حينه ـ في مبحث علم غيب النبي)صلى ال عليه وآله( والمام ـ أ ّ‬
‫ل تنطوي على علم الغيب والحاطة بأسرار الماضي‬ ‫لّمة على مدى العصور والدهور ول يمكن لهذه القيادة إ ّ‬ ‫اُ‬
‫ن هناك رابطة وثيقة بين حوادث اليوم والمس والغد‪ ،‬ومن هنا كانوا يطلعون أصحابهم على‬ ‫والمستقبل; وذلك ل ّ‬
‫جانب مّما ينتظرهم في المستقبل أو يعلنوا ذلك للناس ليكونوا أكثر حزمًا ووعيًا في التعامل مع الحداث وينأوا‬
‫بأنفسهم بعيدًا عن حبال الشيطان وشراكه‪ .‬وهذا ما نلمسه بوضوح كرارًا ومرارًا في سيرة المام علي)عليه‬
‫لّمة ولفت انتباهها إلى الخطار التي تتربص بها‪ .‬ومن الطبيعي أن يتعظ البعض ويتمرد‬ ‫السلم(وكيف أّنه حذر ا ُ‬
‫البعض الخر‪.‬‬

‫—–‬

‫تأّملن‬
‫‪ 1‬ـ التأريخ يعيد نفسه‬

‫من المعروف أن الحداث التأريخية سلسلة من الوقائع المتكررة التي تتخذ أشكال مختلفة‪ ،‬ومن هنا فان الفراد‬
‫الذين يتأملون بعمق الماضي التأريخي يتمكنون من التعامل بمعرفة أفضل مع الحوادث الراهنة والتية‪ ،‬ومن هنا‬
‫رأينا القرآن الكريم مشحونًا بقصص‬

‫‪» .1‬الوشمة« في الصل بمعنى الخال الذي يوخز بالبرة ثم يطلي بمادة ملونة تحت الجلد‪ ،‬كما أطلقت على الشياء الصغيرة كقطرة‬
‫ماء المطر أو الحديث القصير‪ ،‬وقد وردت هنا بالمعنى الخير‪.‬‬

‫] ‪[ 352‬‬

‫النبياء والقوام السالفة التي تعكس بجلء أحداث اليوم والمستقبل‪ .‬المام)عليه السلم(ـ في هذا المقطع من‬
‫الخطبة ـ أشار إلى هذه النقطة المهّمة‪» :‬ان من صّرحت له العبر عّما بين يديه من المثلت‪ ،‬حجزته التقوى عن‬
‫تقحم الشبهات« ثم قال)عليه السلم(‪» :‬ال وان بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث ال نبيه)صلى ال عليه وآله(«‪.‬‬
‫ذات الفئات المناهضة للحق‪ ،‬والنحرافات والضلل والمؤامرات والفتن‪ .‬فافيقوا وانطلقوا خلف إمامكم مخافة ان‬
‫تضلوا ـ ولو أمعنا النظر وقارنا حوادث عصر المام)عليه السلم( بعصر النبي)صلى ال عليه وآله(لوجدنا شبهًا‬
‫ن المنافقين ومن تبقى من عصر الجاهلية سعوا وبشتى الطرق للقضاء تدريجيًا على تعاليم‬ ‫لأّ‬‫كبيرًا‪ ،‬وليس هذا إ ّ‬
‫النبي)صلى ال عليه وآله(; ول سيما أّنهم سعوا لختراق مراكز القوة لممارسة دور أكبر فى تشويه الثقافة‬
‫السلمية واستبدالها بثقافة جاهلية; المر الذي لمسنا آثاره بوضوح في العصر الموي‪.‬‬

‫ن هذه الظواهر لم يبقى منها إ ّ‬


‫ل‬ ‫لأّ‬
‫ن بعض الظواهر السلمية كانت قائمة في عصر الخليفة الثالث‪ ،‬إ ّ‬
‫فالحق أ ّ‬
‫قشورها في العصر الموي‪ .‬على غرار الشعائر السلمية كالصوم والصلة والحج التي كانت سائدة على عهد‬
‫بني ُامية ولكن أية صلة وصوم وحج؟!‬

‫‪ 2‬ـ بيان الحقيقة أم رعاية المصلحة‬

‫ن المصلحة تكمن في كتمان الحقائق عن الناس‪ ،‬حذرًا من ابداء ردود الفعل الطائشة‪،‬‬ ‫كثير هم الذين يعتقدون بأ ّ‬
‫لّمة ـ باستثناء بعض الحالت الخاصة ـ سوى اطلع الناس على‬ ‫والحال ليست مصلحة الزعماء ومصالح عموم ا ُ‬
‫لّمة عن الحداث يمثل‬ ‫الحقائق وفسح المجال أمامهم لقتحام الميدان عن علم ومعرفة‪ .‬فالتعتيم الخبري وتغييب ا ُ‬
‫السلوب الذي يعتمده الطغاة والجبابرة الذين ل يفكرون سوى في تحقيق أطماعهم ومآربهم‪ ،‬على العكس من‬
‫لّمة من مشاكلها المادية والمعنوية‪ ،‬فهم يسعون‬
‫الزعماء الربانيين وأئمة المسلمين الذين يكرسون جهودهم لنجاة ا ُ‬
‫لّمة ويرومون دعمها واسنادها‪ .‬والطريف في المر أ ّ‬
‫ن‬ ‫باخلص لكشف الحقائق والواقعيات لّنهم يستنصرون ا ُ‬
‫لّمة ـ كما ورد في هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلغة ـ فحسب‪ ،‬بل‬ ‫المام)عليه السلم( ل يكتم الوقائع عن ا ُ‬
‫يطلعها حتى على الحوادث المستقبلية التي سمعها من النبي الكرم)صلى ال عليه وآله( فيقول لهم ل أبخل عليكم‬
‫حتى بالخبار عن الكلمة الواحدة التي من شأنها أن تنبهكم إلى الخطار المحدقة بكم حرصًا على عدم الغترار‬
‫بوساوس الشيطان والوقوع في شباكه‪.‬‬

‫] ‪[ 353‬‬

‫القسم الثاني‬

‫ن الّتْقَوى َمطايا‬ ‫ت ِبِهْم ِفي الّنار‪َ ،‬أل َوِإ ّ‬ ‫جُمها‪َ ،‬فَتَقحَّم ْ‬


‫ت ُل ُ‬
‫خِلَع ْ‬
‫عَلْيها َأْهُلها‪َ ،‬و ُ‬ ‫حِمَل َ‬ ‫س ُ‬‫شُم ٌ‬ ‫خْيٌل ُ‬
‫خطايا َ‬ ‫ن اْل َ‬
‫»َأل َوِإ ّ‬
‫طُل َلَقِديماً َفَعَل‪،‬‬
‫ن َأِمَر اْلبا ِ‬
‫طٌل‪َ ،‬وِلُكّل َأْهٌل‪َ ،‬فَلِئ ْ‬
‫ق َوَبا ِ‬
‫حّ‬
‫جّنَة‪َ .‬‬ ‫طوا َأِزّمَتها َفَأْوَرَدْتُهُم اْل َ‬‫عُ‬‫عَلْيها َأْهُلها َوُأ ْ‬‫حِمَل َ‬ ‫ُذُلٌل‪ُ ،‬‬
‫يٌء َفَأْقَبَل«‪.‬‬‫ش ْ‬‫ق َفَلُرّبما َوَلَعّل‪َ ،‬وَلَقّلما َأْدَبَر َ‬
‫حّ‬ ‫ن َقّل اْل َ‬
‫َوَلِئ ْ‬

‫—–‬

‫ن حظ‬ ‫ن في هذا الكلم الدنى من مواقع الحسان ما ل تبلغه مواقع الستحسان‪ ،‬وإ ّ‬ ‫قال السيد الشريف‪ :‬وأقول‪ :‬إ ّ‬
‫العجب منه أكثر من حظ العجب به‪ .‬وفيه ـ مع الحال التي وصفنا ـ زوائد من الفصاحة ل يقوم بها لسان‪ ،‬ول‬
‫ل من ضرب في هذه الصناعة بحق‪ ،‬وجرى فيها على عرق »وما يعقلها‬ ‫يطلع فجها إنسان‪ ،‬ول يعرف ما أقول إ ّ‬
‫ل العالمون«‪.‬‬‫إّ‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الذنوب شماس كالخيل‬

‫يواصل المام)عليه السلم( البحث السابق بشأن الوضاع المتأزمة بعد بيعة المام)عليه السلم(والتي تمثل ثورة‬
‫تصحيحية في العالم السلمي‪ ،‬حيث يتطرق إلى نقطة غاية في الهمية من خلل تشبيه رائع‪ ،‬وهى ضرورة‬
‫السيطرة على الذنب منذ بدايته حيث إذا ترك له العنان وتمادي في مقارفة شبيهه‪ ،‬جذبه إليه وسيطر على كيانه‬
‫وسلبه زمام المبادرة وأوقعه في واد سحيق فقد وصف)عليه السلم(الذنوب والمعاصي بالخيول الجامحة التي‬
‫يصعب السيطرة عليها »أل وإن الخطايا خيل شمس)‪(1‬‬

‫‪» .1‬شمس« من مادة »شموس« و»شماس« على وزن فتوح وكتاب بمعنى التغيير وعدم الستقرار ومن هنا اطلق اسم الشمس‪،‬‬
‫حيث تتحرك على الدوام‪ ،‬وشمس التي وردت في العبارة جمع شموس بمعنى الفرس الجموح الذي يمنع ظهره من الركوب‪.‬‬

‫] ‪[ 354‬‬

‫حمل عليها أهلها‪ ،‬وخلعت نجمها‪ ،‬فتقحمت بهم في النار« ياله من تشبيه رائع‪ ،‬فركوب الفرس الجامح خطير‪،‬‬
‫وتشتد الخطورة إذا فقد لجامها الذي يلجم عنانها‪ ،‬ثم تتضاعف هذه الخطورة أكثر من ذي قبل إذا كان هذا الجموح‬
‫في أرض تشتمل على بعض المطيات‪ .‬وهذا هو التصوير الواقعي للذنب‪ ،‬فارتكاب الذنب يقود النسان إلى ذنب‬
‫آخر وهكذا‪ ،‬على سبيل المثال قد يرتكب النسان خيانة فيكتمها‪ ،‬وإذا استجوب حال مال يحصى من الكاذيب‬
‫للتغطية على خيانته كما يقسم كاذبًا أو يلجأ إلى اتهام الخرين‪ ،‬فاذا لم يجد ذلك نفعًا ربما ل يتورع عن سفك دم‬
‫من يعلم بخيانته‪ ،‬بغية عدم افتضاح أمره وهكذا يصبح أرضية خصبة لمقارفة ما شاء من الذنوب; ول غرو فقد‬
‫أصبح كالخيل الشموس التي خلع لجامها فهى تقذف بصاحبها إلى الهاوية‪.‬‬

‫ثم ذهب)عليه السلم( إلى الصورة المعاكسة التي شبه فيها التقوى بالخيل الذلول فأوصلت راكبهاالموضع الذي‬
‫يريد »أل وإن التقوى مطايا ذلل)‪ (1‬حمل عليها أهلها‪ ،‬وأعطوا أزمتها‪ ،‬فأوردتهم الجّنة« نعم فالعمال الصالحة‬
‫سلسلة متعاقبة الحلقات‪ ،‬فالعمل الصالح يكون سببًا لخر وهكذا التيان بسائر العمال الصالحة‪ .‬على سبيل المثال‬
‫إذا رّبى أحدهم ولده تربية صالحة فسيعده للتيان بالخيرات والبركات‪ ،‬وسيكون له تأثيره البالغ في وسطه بما‬
‫يحث رفاقه وأصحابه على القيام بمثل هذه العمال‪ ،‬وهكذا يسير المجتمع نحو السعادة والصلح والفلح‪ .‬جدير‬
‫ن المام)عليه السلم( عبر عن الذنوب بالخيل الشمس وعن التقوى بالمطايا الذل‪ ،‬فالخيل من مادة خيال‪،‬‬ ‫بالذكر أ ّ‬
‫فيطلق »المختال« على الفرد المغرور والمتكبر الذي يعيش الخيالت‪ ،‬ومن هنا اصطلح على الفرس بالخيل لّنه‬
‫عادة ما يدعو راكبه إلى الغرور والفخر‪ .‬على العكس من المطايا جمع مطية من مادة المطو على وزن العطف‬
‫بمعنى الجد والنجاة في السير; وبناًء عى هذا فان المطية دابة هنيئة سريعة تسير قدمًا نحو المام)عليه السلم(‬
‫بكل هدوء دون أن تجمح بصاحبها وتقحمه في المتاهات ـ ومن هنا تتضح ذروة فصاحته وبلغته في كلماته)عليه‬
‫السلم(‬

‫‪» .1‬ذلل« جمع »ذلول« وهى المروضة الطائعة‪.‬‬

‫] ‪[ 355‬‬

‫حتى تلك الكلمات القصيرة والعبارات الصغيرة‪ .‬ثم يحذر المام)عليه السلم(من صعوبة المتحان اللهي في ظل‬
‫ل البحث السابق بشأن الذنب والتقوى فقال)عليه السلم(‪» :‬حق وباطل‪ ،‬ولكل أهل«‪.‬‬
‫حكومته وطيلة حياتهم مواص ً‬

‫أجل فالحياة البشرية ومنذ بدء الخليقة كانت وما زالت مسرحًا للصراع بين هذين التجاهين ويختصر المام)عليه‬
‫ن الباطل إذا قدر له أن يحكم فل عجب في ذلك فهذا ما حصل‬ ‫السلم(كلمه بالشارة إلى مسألة حساسة وهى أ ّ‬
‫منذ قديم الزمان‪» :‬فلئن أمر الباطل لقديمًا فعل«‪ .‬وإن قل الحق وأتباعه فل داعي للقلق ولعله يزداد فيهزم الكفر‬
‫ن قصة الصراع بين الحق والباطل وما تخلله من وسائل وأدوات‬ ‫في عقر داره »ولئن قل الحق فلربما ولعل« أ ّ‬
‫وما تمخض عنه من نتائج طيلة التأريخ النساني قصة ذات شجون وسنتطرق إلى هذه التفاصيل في البحاث‬
‫القادمة بما يتناسب وسائر الخطب الواردة بهذا المجال‪.‬‬

‫أّما القضية الجديرة بالذكر والتي حظت باهتمام المام)عليه السلم( هى ضرورة عدم الستيحاش من الحق لقلة‬
‫ن التأريخ يشهد على الدوام بكثرة أتباع الباطل وقلة أتباع الحق‪،‬‬ ‫سالكيه والستئناس بالباطل لكثرة سالكيه; ل ّ‬
‫وكثيرًا ما كانت تحسم المعارك والصراعات لصالح الحق; وهذا ما صّرح به القرآن الكريم على لسان طالوت‪:‬‬
‫ل()‪ .(1‬وهو المعنى الذي أشارت إليه الية القرآنية الكريمة بالقول‪ُ) :‬ق ْ‬
‫ل‬ ‫نا ّ‬ ‫ت ِفَئًة َكِثـيَرًة ِبِإذ ِ‬
‫غَلَب ْ‬
‫ن ِفَئة َقِلـيَلة َ‬
‫)َكْم ِم ْ‬
‫ث()‪ .(2‬كما ورد هذا المعنى في الخطبة ‪ 1‬ـ ‪ 2‬من نهج‬ ‫خِبـي ِ‬
‫ك َكْثَرُة ال َ‬
‫جَب َ‬
‫عَ‬ ‫ب َوَلْو َأ ْ‬
‫طـّي ُ‬ ‫ث َوال ّ‬
‫خِبـي ُ‬‫سَتِوي ال َ‬ ‫ل َي ْ‬
‫ن هذه‬
‫البلغة »أّيها الناس ل تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله«‪ .‬اّما المسألة التي ينبغي اللتفات إليها هى أ ّ‬
‫ن الملك‬‫ل على الحقية ول النصر‪ ،‬بل يرى المنطق القرآني والروائي بل ومنطق الربانيين أ ّ‬ ‫الكثرة ليست دلي ً‬
‫إّنما يكمن في الكيفية ل الكمية‪ ،‬ومن هنا فان زوال حكومات الباطل يستتبع زوال كافة آثارها فل يبقى لها سوى‬
‫الخزي والعار‪ ،‬بينما تبقى آثار حكومات الحق باقية خالدة‪.‬‬

‫على كل حال فان الصراع بين الحق والباطل وكثرة جند الباطل إّنما هى في الواقع امتحان إلهي يهدف إلى‬
‫تمحيص طلب الحق‪.‬‬

‫‪ .1‬سورة البقرة ‪.249 /‬‬

‫‪ .2‬سورة المائدة ‪.100 /‬‬

‫] ‪[ 356‬‬
‫والنقطة الثانية التي يؤكد عليها المام)عليه السلم( قوله‪» :‬ولقلما أدبر شيء فاقبل«‪ .‬طبعًا يؤمن جميع المسلمين ـ‬
‫ن الحق سينتصر يومًا حين ظهور المهدي الموعود)عج( وسيدحر الباطل وإلى‬ ‫من سّنة وشيعة وسائرالفرق ـ أ ّ‬
‫البد وستسود العالم برمته حكومة العدل اللهي‪.‬‬

‫وعلى ضوء بعض الروايات فقد نقلت ذيل هذه الخطبة عبارة عن المام الصادق)عليه السلم( عن المام‬
‫علي)عليه السلم( اّنه قال‪» :‬وبنا فتح ل بكم ومنا نختم ل بكم«‪ .‬وقد صّرح ابن أبي الحديد بعد ذكره لهذه العبارة‬
‫ل‪ :‬إشارة إلى المهدي الذي يظهر في آخر الزمان‪ ،‬وأكثر المحدثين على أّنه من ولد فاطمة)عليها السلم(‬ ‫قائ ً‬
‫وأصحابنا المعتزلة ل ينكرونه«)‪.(1‬‬

‫نعم العبارة ترشد إلى عدم فقدان الفرصة والن وقد تمهدت جميع السبل من أجل بسط العدالة وإقامة حكومة الحق‬
‫في ربوع المجتمع السلمي فالحذار من وساوس شياطين النس والجن ومؤامرات ُاولئك الذين تبددت مصالحهم‬
‫اللمشروعة وخابت ظنونهم وآمالهم‪ ،‬فاذا ضاعت هذه الفرصة فان عودتها ل تبدو سهلة‪ ،‬وهذا مادلت عليه حياة‬
‫لّمة بوصاياه ومواعظه ففقدت زمام المبادرة وأضاعت الفرصة; فقد أوشك‬ ‫المام)عليه السلم( حيث لم تتعظ ا ُ‬
‫جيش الشام على النهيار المطلق وأصبح القضاء على طاغية بني أمية يكون قاب قوسين أو أدنى فعمد ابن‬
‫لّمة‪ ،‬فأبقت على تلك الحكومة الجائرة لتخلف من بعدها بني مروان وبني‬
‫العاص لتلك الخدعة التي انطلقت على ا ُ‬
‫العباس والحجاج و‪...‬‬

‫—–‬

‫ن في هذا الكلم الدنى من مواقع الحسان ما ل‬ ‫الطريف في المر ما أورده السيد الرضي بشأن الخطبة إذ قال‪ :‬إ ّ‬
‫ن حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به‪ .‬وفيه ـ مع الحال التي وصفنا ـ زوائد من‬ ‫تبلغه مواقع الستحسان‪ ،‬وإ ّ‬
‫ل من ضرب في هذه الصناعة بحق‪،‬‬ ‫الفصاحة ل يقوم بها لسان‪ ،‬ول يطلع فجها إنسان‪ ،‬ول يعرف ما أقول إ ّ‬
‫ل العالمون«‪.‬‬
‫وجرى فيها على عرق »وما يعقلها إ ّ‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.281 / 1‬‬

‫] ‪[ 357‬‬

‫القسم الثالث‬

‫شماُل‬‫ن َوال ّ‬‫صٌر ِفي الّنار َهَوى‪ .‬اْلَيِمي ُ‬ ‫طيٌء َرجا‪َ ،‬وُمَق ّ‬ ‫ب َب ِ‬
‫سِريٌع َنجا‪َ ،‬وطاِل ٌ‬ ‫جّنُة َوالّنار َأماَمُه! ساع َ‬ ‫ن اْل َ‬‫شِغَل َم ِ‬‫»ُ‬
‫صيُر اْلعاِقَبةِ‬
‫سّنِة‪َ ،‬وِإَلْيها َم ِ‬‫ب َوآثاُر الّنُبّوِة‪َ ،‬وِمْنها َمْنَفُذ ال ّ‬ ‫عَلْيها باِقي اْلِكتا ِ‬ ‫ي اْلجاّدُة‪َ ،‬‬ ‫طى ِه َ‬ ‫سَ‬‫ق اْلُو ْ‬
‫طِري ُ‬‫ضّلٌة‪َ ،‬وال ّ‬‫َم َ‬
‫عَلى‬ ‫ف َقْدَرُه‪ .‬ل َيْهِلك َ‬ ‫ل َأّل َيْعِر َ‬‫جْه ً‬
‫ك‪َ.‬كَفى ِباْلَمْرِء َ‬ ‫ق َهَل َ‬‫حّ‬ ‫حَتُه ِلْل َ‬
‫صْف َ‬
‫ن َأْبَدى َ‬ ‫ن اْفَترى‪َ .‬م ْ‬ ‫ب َم ِ‬‫عى‪َ ،‬وخا َ‬ ‫ن اّد َ‬‫ك‪َ .‬م ِ‬‫َهَل َ‬
‫ن َوراِئُكْم‪َ ،‬و‬ ‫ت َبْيِنُكْم‪َ ،‬والّتْوَبُة ِم ْ‬
‫حوا ذا َ‬‫صِل ُ‬‫سَتِتُروا ِفي ُبُيوِتُكْم‪َ ،‬وَأ ْ‬ ‫ع َقْوم‪َ .‬فا ْ‬‫عَلْيَها َزْر ُ‬
‫ظَمُأ َ‬ ‫صل‪َ ،‬ول َي ْ‬ ‫خ َأ ْ‬‫سْن ُ‬‫الّتْقَوى ِ‬
‫سُه«‪.‬‬ ‫حَمْد حاِمٌد ِإّل َرّبُه‪َ ،‬ول َيُلْم لِئٌم ِإّل َنْف َ‬ ‫ل َي ْ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬
‫سبيل النجاة‬

‫لّمة من وبال الذنوب والمعاصي‬ ‫لما فرغ المام)عليه السلم( من التحدث عن صعوبة المتحان بعد بيعته وحذر ا ُ‬
‫مشيرًا إلى الحق والباطل‪ ،‬عرج هنا بالشارة إلى سبيل النجاة من مخالب الهوى والهوس وبلوغ السعادة ونيل‬
‫الفلح‪ ،‬ليكشف عن الحقائق الواردة بهذا المجال‪ .‬فقد صنف الناس في مسيرتهم إلى السعادة والنجاة إلى ثلث‬
‫طوائف‪ ،‬فمن شغل بالجّنة والنار »وآمن بهما اعتزل كل ما يصده عن ذلك« وانهمك بالتفكير بالعاقبة )على‬
‫ثلث(‪ ،‬منهم من حث السير وبلغ الهدف سريعًا فهو ناجي‪ .‬ومنهم من تباطأ في السير فهو مؤمل للنجاة أيضًا‪ .‬أّما‬
‫الخير من قصر في السير فهوى في النار »شغل من الجّنة والنار أمامه! ساع سريع نجا‪ ،‬وطالب بطيء رجا‪،‬‬
‫ومقصر في النار هوى«‪.‬‬

‫ن هذه الطوائف هى تلك التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة فاطر بقوله‪:‬‬
‫يرى البعض أ ّ‬

‫] ‪[ 358‬‬

‫ل()‬
‫نا ّ‬‫ت ِبـِإذ ِ‬
‫خْيرا ِ‬
‫ق ِبال َ‬
‫صٌد َوِمْنُهْم ساِب ٌ‬‫سِه َوِمْنُهْم ُمـْقَت ِ‬
‫عـباِدنا َفِمْنُهْم ظاِلٌم ِلَنْف ِ‬
‫ن ِ‬‫طَفْينا ِم ْ‬
‫صَ‬‫نا ْ‬ ‫ب اّلِذي َ‬
‫)ُثّم َأْوَرْثنا الِكتا َ‬
‫صحا ُ‬
‫ب‬ ‫‪ .(1‬وقيل بل هم من أشارت لهم الية القرآنية الشريفة في سورة الواقعة‪َ) :‬وُكْنُتـْم َأْزواجـًا َثـلَثـًة * َفـَأ ْ‬
‫ن * ُأولـِئ َ‬
‫ك‬ ‫سـابُقو َ‬‫ن ال ّ‬
‫سـابُقو َ‬‫شـَأَمِة * َوال ّ‬ ‫ب الَم ْ‬ ‫صـحا ُ‬ ‫شَأَمِة ما َأ ْ‬ ‫ب الَم ْ‬ ‫صـحا ُ‬‫ب الَمـْيَمَنِة َوَأ ْ‬
‫صـحا ُ‬ ‫الَمـْيَمَنِة * ما َأ ْ‬
‫ن()‪ .(2‬على كل حال فان هذه الطوائف الثلث مطروحة على الدوام في المجتمع النساني وإذا ما اشتد‬ ‫الُمَقـّرُبو َ‬
‫المتحان )كالذي عليه الحال إبان خلفة المام علي)عليه السلم(( تمايزت هذه الطوائف عن بعضها البعض;‬
‫فهناك طائفة )وإن كانت غالبًا قليلة( تتبع الحق دون أدنى ترديد أو تراجع وهى تحث الخطى سريعة نحو الهدف‪.‬‬
‫ل وتؤخر ُاخرى فأحيانًا تحث الخطى وتسير بوثوق نحو‬ ‫وطائفة ُاخرى أضعف ايمانًا من سابقتها فهى تقدم رج ً‬
‫ل أّنها تؤمل بأن‬ ‫الهدف فتعمل الصالحات بينما تتأخر أحيانًا فتقارف الطالحات فتخلط العمل الصالح بالسيء إ ّ‬
‫يشملها لطف ال وفضله فيبلغ بها الهدف المطلوب‪.‬‬

‫وأخيرًا الطائفة الثالثة التي فارقت اليمان والتقوى وغلبت عليها الشقوة وهوى النفس فضاعوا وضّيعوا أنفسهم‬
‫ن اليمان بالمعاد فقط من شأنه أن يصون النسان من‬ ‫حتى وقعوا في الهاوية‪ .‬فالعبارة المذكورة تبّين بوضوح أ ّ‬
‫الفساد والنحراف والذنب‪ .‬وتتناسب هذه الصيانة والحصانة من الذنب طرديًا ودرجة اليمان‪ .‬وقد ذهب البعض‬
‫ن من يرى الجّنة والنار أمامه‬
‫ن العبارة‪» :‬شغل من الجّنة والنار أمامه« جملة خيرية تفيد معنى النشاء; أي أ ّ‬ ‫إلى أ ّ‬
‫عليه أن يغض الطرف عن زخارف الدنيا وزبرجها! ولكن ليس هنالك من ضير في تفسير هذه الجملة بصورة‬
‫الخبار ـ على نحو الجملة الخيرية ـ أي أن مثل هؤلء المؤمنون سيغضون طرفهم عن زخارف الدنيا‪ .‬ولما فرغ‬
‫لّمة إلى انتهاج السبيل القويم والبتعاد عن‬
‫المام)عليه السلم( من بيان خصائص الطوائف الثلث‪ ،‬أخذ يدعو ا ُ‬
‫سبل النحراف مبينًا علمات كل منهما فقال‪» :‬اليمين والشمال مضلة)‪ (3‬والطرق الوسطى هى الجادة«‪.‬‬

‫‪ .1‬سورة فاطر ‪.32 /‬‬

‫‪» .3‬مضلة« على وزن »مفعلة‪ «،‬قال أرباب اللغة اّنها تعني كثرة وجود الشيء في المكان وعليه فمفهوم العبارة‬
‫ن النحراف إلى اليمين واليسار يدعو إلى ضلل عظيم‪.‬‬ ‫أّ‬

‫] ‪[ 359‬‬

‫ن السبل المنحرفة التي تقود النسان إلى الضلل‪ .‬ولعل المراد باليمين‬ ‫فالعبارة إشارة للمسألة المعروفة لدينا بأ ّ‬
‫والشمال هو الفراط والتفريط الذين ل يوصلن إلى الهدف الذي ل سبيل إليه سوى الصراط المستقيم الذي يمثل‬
‫سطًا()‪ .(1‬وقد‬
‫جَعْلناُكْم ُأّمًة َو َ‬
‫ك َ‬
‫العتدال بين الفراط والتفريط‪ ،‬ومن هنا صّرح القرآن الكريم بقوله‪َ) :‬وَكذ ِل َ‬
‫صّرح كبار علماء الخلق بأن كافة الصفات الفضلى إّنما هى العتدال بين الصفات الرذيلة التي تقع على طرفي‬
‫الفراط والتفريط‪.‬‬

‫ن المراد بالطريق الوسطى مسألة المامة وولية الئمة المعصومين التي‬ ‫سري نهج البلغة إلى أ ّ‬ ‫وذهب بعض مف ّ‬
‫يقود الفراط والتفريط فيها إلى الضلل‪ .‬ول نرى من ضير في ان تختزن هذه العبارة كافة المعاني فتشمل قضية‬
‫الولية كما تشمل سائر المسائل العقائدية والعملية والخلقية‪.‬‬
‫أّما بشأن معرفة ال فقد وقعت طائفة في مصيدة التشبيه فتشبهت الخالق بمخلوقاته‪ ،‬بينما ذهبت ُاخرى إلى تعطيل‬
‫معرفته على أن ذات الخالق وصفاته متعذرة على البشر حتى المعرفة الجمالية‪ ،‬وهناك الحد الوسط بين التشبيه‬
‫والتعطيل والذي يعني معرفة ال عن طريق أفعاله دون كنه الذات‪ .‬وبالنسبة لفعال العباد فليس الجبر صحيحًا ول‬
‫التفويض‪ ،‬والطريق الوسط هو المر بين المرين‪ ،‬وهكذا القول بشأن الولية ل الغلو صحيح ول التقصير‪ ،‬وهذا‬
‫ل في النفاق الصحيح هو الحد الوسط بين البخل والسراف‪.‬‬ ‫ما يصدق على الخلقيات والعمال‪ ،‬فمث ً‬

‫ن الفرق التي وقفت بوجه المام)عليه السلم( لم تخرج من تلك الحالتين‪ ،‬ففرقة الخوارج سلكت‬ ‫والطريف أ ّ‬
‫الفراط‪ ،‬بينما انتهج أهل الشام التفريط‪ ،‬وقد ضلت الفئتان في معرفة المام)عليه السلم(‪ .‬ثم خاض)عليه السلم(‬
‫في خصائص الجادة الوسطى المعتدلة »عليها باقي الكتاب وآثار النبوة‪ ،‬ومنها منفذ السّنة‪ ،‬وإليها مصير العاقبة«‪.‬‬
‫هناك تفسيران لقوله)عليه السلم(‪» :‬عليها باقي الكتاب«‪ :‬أحدهما المراد القرآن الكريم; الكتاب الخالد والذي انفرد‬
‫بالمعارف والقوانين والحكام التي‬

‫‪ .1‬سورة البقرة ‪.143 /‬‬

‫] ‪[ 360‬‬

‫يتعذر العثور عليها في ما سواه‪ .‬والخر المراد بالكتاب الخالد المام المعصوم الحافظ لكتاب ال‪ ،‬وهو عدل‬
‫القرآن كما صّرح بذلك حديث الثقلين المعروف‪ ،‬ولكن يبدو المعنى الول أنسب‪ ،‬ول سيما أن آثار النبوة التي‬
‫أعقبت العبارة يمكن تفسيرها بالثار الباقية لدى الئمة‪.‬‬

‫كما أوردت عّدة تفاسير بهذا الشأن ل تبدو صائبة‪.‬‬

‫ن الطريق الوسطى فقط التي‬


‫ن المراد هو أ ّ‬
‫وقوله)عليه السلم(‪» :‬منها منفذ السّنة« فباللتفات إلى كلمة منفذ يبدو أ ّ‬
‫يمكن من خللها الوقوف على السنة النبوية والتعرف على جوهر الدعوة‪ ،‬ومن هنا يتضح الفارق في هذه الملل‬
‫الربعة‪.‬‬

‫ن الكتاب على هذه الجادة‪ ،‬ثم قال)عليه السلم( وعليها آثار النبوة‪ ،‬ثم أضاف ومنها‬
‫فقد أشار)عليه السلم( إلى أ ّ‬
‫منفذ السنة‪ ،‬وأخيرًا قال وإليها مصير العاقبة من خلل هذه الجادة ل غير; كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم‬
‫ن()‪.(1‬‬
‫)َوالعاِقَبُة ِلْلُمـّتِقـي َ‬

‫ثم تطرق المام)عليه السلم( إلى مصير من يزعم المامة وولية الناس بالباطل‪ ،‬حيث يصفهم في أربع عبارات‪:‬‬
‫ن من يطلب هذا المقام كذبًا‬
‫الولى هلك من يدعي المامة بغير حق فهو ضال مضل »هلك من ادعى« والثانية أ ّ‬
‫وافتراًء على رسول ال)صلى ال عليه وآله(لم يظفر بما طلب »وخاب)‪ (2‬من افترى«‪.‬‬

‫والثالثة هلك من يقف بوجه الحق‪» :‬من أبدى صفحته)‪ (3‬للحق هلك«‪.‬‬

‫ل ال يعرف قدره«‪.‬‬ ‫والخيرة يكفي النسان جهل أّنه ل يعرف قدره فيتمدد أكثر من حجمه »وكفى بالمرء جه ً‬
‫طبعًا هناك إحتمال قائم في أل تكون هذه العبارات الربع تعالج مسألة المامة التي تعرضت لها هذه الخطبة; بل‬
‫تشمل معنا أوسع وهو كل ادعاء باطل سواء في مجال المامة أو سائر المجالت‪.‬‬

‫فالواقع هى تحذير لهل الباطل من مغبة التمادي في غيهم بما ل يجلب عليهم سوى البؤس والشقاء والهلك‪.‬‬

‫‪ .1‬سورة العراف ‪.128 /‬‬

‫‪» .2‬خاب« من مادة »خيبة« بمعنى الفشل والحرمان وعدم الظفر بالشيء‪.‬‬

‫‪» .3‬صفحة« بمعنى عرض الشيء وقد يراد بها الوجه ومنها المصافحة‪.‬‬
‫] ‪[ 361‬‬

‫ن من أبدى صفحته‬
‫أّما قوله)عليه السلم(‪» :‬من أبدى صفحته للحق هلك« فقد فسره بعض شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫لنصرة الحق غلبه أهل الجهل‪ ،‬لّنهم العامة‪ ،‬وفيهم الكثرة‪ ،‬فهلك‪.‬‬

‫ل أّنه ل يمكن أن يكون تفسيرًا للعبارة المذكورة وذلك لّنه ل ينسجم والعبارات‬ ‫فهذا الكلم وان كان واقعيًا إ ّ‬
‫السابقة بشأن أدعياء الباطل‪ ،‬كما ل يتفق والعبارة اللحقة بشأن الفراد الجهال الذين ل يعرفون قدر أنفسهم‪.‬‬
‫وأخيرًا يختتم المام )عليه السلم( هذه العبارات يعرض بالنصح والموعظة التي من شأنها تخليصهم من مخالب‬
‫المنافقين وأدعياء الباطل‪ ،‬فقد دعاهم في البداية إلى التحلي بالورع والتقوى التي تعّد الركن الركين لكل حركة‬
‫وعمل صالح‪ ،‬فقال)عليه السلم(‪» :‬ل يهلك على التقوى سنخ)‪ (1‬اصل‪ ،‬ول يظمأ عليها زرع قوم« فالواقع هو أ ّ‬
‫ن‬
‫المام)عليه السلم( قد شبه ـ بهذه العبارة العميقة المعنى ـ التقوى بالرض الخصبة ذات المناخ المناسب التي ل‬
‫تجف فيها جذور الشجار ول يموت فيها الزرع من قلة الماء; أرض خصبة صالحة للزراعة ذات أنهار وآبار‬
‫ن كافة العمال كالبذور والحبوب التي ينبغي أن تنثر في أرض خصبة‬ ‫تمد الزرع بما يحتاج‪ ،‬ففي الحقيقة أ ّ‬
‫وتسقى بالمياه; وليست هذه الرض والمياه سوى التقوى‪ ،‬ثم قال في الموعظة الثانية‪» :‬فاستتروا في بيوتكم«‬
‫ن حكومته ستضيق الخناق على ُاولئك الذين عملوا إبان عهد عثمان‬ ‫فالمام)عليه السلم(وبنظرته الثاقبة يعلم بأ ّ‬
‫على سلب ونهب بيت مال المسلمين ونشروا الظلم في ربوع المجتمع السلمي‪ ،‬وعليه فهم سوف لن يسكتوا‬
‫وسيسعون إلى تأليب الناس واستقطاب الجهال‪ ،‬وهذا هو الوقت الذي يتطلب من النسان أن يلزم بيته ل حين‬
‫العمل والجهاد‪.‬‬

‫وعلى حد قول بعض شّراح نهج البلغة فان أفضل حركة في المجتمع الذي يضره العدل والحق هى السكون‬
‫والصمت والسكوت‪.‬‬

‫والموعظة الثالثة بشأن الخاء والوحدة بين صفوف أتباع الحق ونبذ كافة مظاهر الفرقة والشقاق بهدف ملحقة‬
‫الباطل والقضاء عليه‪ ،‬فقد قال)عليه السلم(‪» :‬وأصلحوا ذات بينكم«‪ .‬وأخيرًا‬

‫‪» .1‬سنخ« بمعنى الصل والجذر‪ ،‬وكذلك محل غرس الشجر‪ ،‬وهو المكان الذي َتثبت فيه جذور وأصل الشجرة‪ .‬ويستعمل هذا اللفظ‬
‫أحيانا بمعنى الرسوخ في شيء‪ ،‬وكل هذه المعاني مقاربة لبعضها‪ ،‬وفي العبارة أعله تشير إلى جذور العلوم والمعارف والعمال‬
‫الصالحة والتي رسخت في أرضية التقوي والتي ليمكن أن ُتجّتث جذورها‪.‬‬

‫] ‪[ 362‬‬

‫يعرض بالنصح لمن اتسخ قلبه بالذنوب على عهد الحكومة السابقة أن يغسلها بماء التوبة »والتوبة من وراءكم)‬
‫‪.«(1‬‬

‫ن كافة النعم من عند ال وما‬


‫ل نفسه« إشارة إلى أ ّ‬
‫ل رّبه ول يلم لئم إ ّ‬
‫ثم يقول)عليه السلم(‪» :‬ول يحمد حامد إ ّ‬
‫ن مرجع الذنوب‬‫يصيب النسان من توفيق وسعادة فبلطفه وفضله‪ ،‬وعليه فل ينبغي الغترار بالطاعة‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ل نفسه ول ينسب أخطائه إلى الخرين أو يبررها بالقضاء‬ ‫والمعاصي تقصير النسان فل ينبغي أن يلوم النسان إ ّ‬
‫والقدر‪ ،‬بل عليه أن يسارع إلى التوبة‪.‬‬

‫تأّملن‬
‫‪ 1‬ـ الجاهل من جهل قدر نفسه‬

‫ن أغلب المشاكل الجتماعية إّنما تنبع من الطموحات الطائشة‪ ،‬أو تجاوز النسان لحدوده الطبيعية والطمع‬
‫إّ‬
‫ن كل هذا إّنما تفرزه قضية مهّمة‬
‫بالمنصب الذي ل يستحقه أو ل يمتلك الجدارة اللزمة للنهوض به; ول شك أ ّ‬
‫ل لحب الذات والمبالغة في نقاط القوة‬‫تكمن في جهل النسان بقدره وعدم تقييمه له بصورة صحيحة‪ ،‬وما ذلك إ ّ‬
‫ن اضرار هذا المر ل تقتصر على النسان لوحده فحسب‪ ،‬بل‬ ‫وعدم اللتفات إلى نقاط الضعف‪ .‬ول شك أ ّ‬
‫تنسحب على المجتمع بأسره‪ ،‬ولربما استطاع الفرد أن يشغل منصبًا فيقوم بوظيفته على أحسن وجه بما يضمن له‬
‫السعادة وإلى المجتمع الرفاه والمن‪ ،‬غير أّنه وإثر جهله بنفسه وطمعه بما ل يستحقه يبدد طاقاته عبثًا ويكبد نفسه‬
‫والمجتمع مال يحصى من الخسائر والضرار‪ .‬وياليت الجميع كبيرهم وصغيرهم وعالمهم وجاهلهم أعادوا النظر‬
‫في هذا المر الحيوي واقصوا عن أنفسهم الحجب التي تحول دون معرفتهم لذواتهم ليجدوا من أجل تحقيق‬
‫أهدافهم وسعادة مجتمعاتهم‪ .‬ومن هنا ورد التأكيد كرارًا في نهج البلغة على هذه المسألة‪ ،‬ومن ذلك ما ورد في‬
‫ل ال يعرف قدره«‪ .‬كما ورد في الرسالة ‪ 31‬من نهج‬ ‫الخطبة ‪» 103‬العالم من عرف قدره وكفى بالمرء جه ً‬

‫حجب عن النظار‬
‫‪» .1‬وراء« من مادة »ورى« على وزن »وزن« وفي الصل بمعنى الستتار‪ ،‬وأحيانا يطلق على الشيء الذي ُ‬
‫بواسطة حاجز فاصبح غير منظور باعتباره خلف الشيء أو وراءه‪.‬‬

‫وفي العبارة أعله جاءت هذه الكلمة بمعنى‪ ،‬الخلف أو الوراء‪.‬‬

‫] ‪[ 363‬‬

‫البلغة التي يعظ فيها ولده الحسن)عليه السلم( أّنه قال‪» :‬ومن اقتصر على قدره كان ابقى له« وجاء في الكلمة‬
‫ن شخصًا قال للمام الكاظم)عليه‬ ‫‪ 149‬من قصار الحكم »هلك امرء لم يعرف قدره«‪ .‬كما ورد في الرواية أ ّ‬
‫السلم( مررت بالسوق فاذا هو يقول أنا من شيعة محمد وآل محمد)صلى ال عليه وآله( وهو يبيع الثياب بأكثر‬
‫من ثمنها‪ .‬فقال المام)عليه السلم(‪» :‬ما جهل ول ضاع امرء عرف قدر نفسه«‪(1).‬‬

‫هناك إحتمال آخر بالمراد من معرفد قدر النفس في العبارة المذكورة وهو أل ينسى النسان طبيعة خلقته فيقتصر‬
‫لمور المادية التي‬ ‫بها على الجانب المادي المتعلق بالجسم دون الهتمام بالمسائل المعنوية فيبيع نفسه ببعض ا ُ‬
‫تفتقر إلى القيمة الحقيقية‪ .‬فالنسان يتمتع بالروح التي تنتمي إلى عالم السمو والرفعة‪ ،‬أّنه خليفة ال في الرض‪.‬‬
‫أّنه كائن ملكوتي ل موجود ترأبي وإن تقولب مّدة معينة في هذا القفص المادي من أجل نيل الكمال‪ .‬وعليه فالعالم‬
‫من عرف نفسه ووقف على قدرها ومنزلتها‪ ،‬ويلتفت إلى تكريم ال سبحانه له على من سواه‪ ،‬والجاهل من جهل‬
‫قدر نفسه فقذف بها في مستنقع الهواء والشهوات‪ .‬بالكن باللتفات إلى قوله »من اقتصر على قدره كان ابقى له«‬
‫وكذلك العبارة المعروفة لدى العلماء استنباطًا من الحاديث المشهورة »العالم من عرف قدره ولم يتجاوز حده«‬
‫ن النسب هو المعنى الول‪ ،‬ويؤيده مضمون الخطبة الذي يتناول قصة طلحة والزبير وآمالهم الزائفة‪.‬‬ ‫يبدو أ ّ‬

‫‪ 2‬ـ العتدال هو الصراط المستقيم‬

‫ن بقاء العالم إّنما يستند إلى مسألة العتدال والتوازن في القوى‪ .‬فالمنظومات‬‫ن أدنى نظرة إلى عالم الخلقة تفيد أ ّ‬
‫إّ‬
‫لخرى أو ابتعدت‬ ‫السماوية العظيمة إّنما حفظت بتوازن القوة الجاذبة مع القوة الدافعة‪ ،‬فلو تقدمت أحداهما على ا ُ‬
‫لما بقي أثر لتلك المنظومات‪ ،‬ولو اقتربتا وتصادمتا لّديا إلى انفجار هائل يقود إلى إنعدامها‪ .‬والقانون المذكور‬
‫الذي يحكم ذلك العالم الكبير كما يصدق على العالم الصغير أي عالم النسان‪ ،‬حيث تكون سلمة حياته ورمز‬
‫بقائها مرهونة بحالة التزان التي تسود مختلف قواه الروحية والجسدية‪ ،‬من قبيل العناصر الداخلة في‬

‫‪ .1‬بحارالنوار ‪» 65/157‬مع قليل من التخليص واليجاز«‪.‬‬

‫] ‪[ 364‬‬

‫تركيب الدم وتوازن حركات العصاب السمبثاوية والباراسمبثاوية وضربات القلب ووزن الجسم وضغط الدم‬
‫ن كافة أجهزته تمارس وظائفها بكل اعتدال‬
‫وتوازن أجهزة الجسم كالجهاز التنفسي والجهاز الهضمي وبالتالي فا ّ‬
‫واتزان بما يحفظ سلمة النسان ويكفل بقائه‪ ،‬ولو انحرفت هذه الجهزة ذرة عن خط التزان وجنحت نحو‬
‫الفراط او التفريط لنعكس ذلك سلبًا على سلمة جسم النسان وروحه‪.‬‬
‫لمم‪ .‬وهذه هى‬ ‫لّمة الوسط‪ ،‬ومن هنا جعلها حجة على سائر ا ُ‬ ‫لّمة السلمية بصفتها ا ُ‬‫القرآن من جانبه أثنى على ا ُ‬
‫ن الجادة الوسطى هى الطريق وعليها باقي الكتاب وآثار النبوة ومنها‬ ‫المسألة التي أكدها المام)عليه السلم( في أ ّ‬
‫ن الفراط والتفريط قد أدى إلى ظهور النزعة‬ ‫منفذ السّنة‪ .‬وإليها مصير العاقبة‪ .‬أّما في المجال القتصادي فا ّ‬
‫الرأسمالية المقيتة التي بالغت في الملكية الشخصية بينما بالغت النزعة الشتراكية في الملكية العامة ليعيش‬
‫لخرى المعدمة الفقيرة‪.‬‬
‫المجتمع ذلك التمايز الطبقي الفاحش بوجود الطبقات المرفهة الثرية وا ُ‬

‫ن الفراط والتفريط هو الذي يقف وراء كل‬


‫لخرى ـ العقائدية والسياسية والجتماعية ـ فا ّ‬
‫وأّما على المستويات ا ُ‬
‫هذا البؤس والشقاء الذي تعيشه البشرية‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 365‬‬

‫الخطبة ‪17‬‬

‫ومن كلم له)عليه السلم(‬

‫لّمة وليس لذلك بأهل وفيها‪:‬‬


‫في صفة من يتصدى للحكم بين ا ُ‬

‫أبغض الخلئق إلى ال صنفان‪:‬‬

‫القسم الول‬
‫سِبيِل‪،‬‬‫صِد ال ّ‬ ‫ن َق ْ‬
‫عْ‬ ‫سِه َفُهَو جاِئٌر َ‬‫ل إَِلى َنْف ِ‬
‫جٌل َوَكَلُه ا ّ‬‫ن‪َ :‬ر ُ‬ ‫جل ِ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫ق ِإَلى ا ّ‬
‫خلِئ ِ‬
‫ن َأْبَغضَ اْل َ‬
‫»الصنف الول‪ :‬إ ّ‬
‫ن اْقَتَدى ِبِه‬
‫ضّل ِلَم ِ‬‫ن َقْبَلُه ُم ِ‬
‫ن كا َ‬
‫ي َم ْ‬
‫ن َهْد ِ‬‫عْ‬
‫ن ِبِه‪ ،‬ضاّل َ‬ ‫ن اْفَتَت َ‬
‫ضلَلة‪َ ،‬فُهَو ِفْتَنٌة ِلَم ِ‬‫عة‪َ ،‬وُدعاِء َ‬ ‫ف ِبَكلِم ِبْد َ‬
‫شُغو ٌ‬‫َم ْ‬
‫طيَئِتِه«‪(1).‬‬ ‫خِ‬ ‫ن ِب َ‬
‫غْيِرِه‪َ ،‬رْه ٌ‬ ‫خطايا َ‬‫حّمال َ‬ ‫حياِتِه َوَبْعَد َوفاِتِه‪َ ،‬‬
‫ِفي َ‬

‫—–‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫وردت الخطبة ـ كما يتضح من عنوانها ـ في صفات من يتصدى للقضاء وهو ليس له بأهل‬
‫‪ .1‬نقل صاحب كتاب »مصادر نهج البلغة« هذه الخطبة عن طائفة من العلماء ممن عاشوا قبل السيد الرضي ومنهم‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الكليني في الكافي بطريقين ‪ 2‬ـ ابن قتيبة في كتاب غريب الحديث ‪ 3‬ـ أبو طالب المكي في قوت القلوب ‪ 4‬ـ الهروي في الجمع بين‬
‫الغريبين ‪ 5‬ـ القاضي النعمان في كتاب اصول المذهب‪.‬‬

‫كما نقلها عن طائفة ُاخرى من العلماء بعد السيد الرضي كالطوسي في المالي والطبرسي في الحتجاج والمفيد في الرشاد‪.‬‬

‫] ‪[ 366‬‬

‫لّمة إلى الضلل والهاوية‪.‬‬


‫فيسوق ا ُ‬

‫فقد صنف المام)عليه السلم( هؤلء الفراد إلى صنفين‪:‬‬

‫الصنف الول‪ :‬من يشق طريق الضلل عن علم ويحكم هوى النفس ويبتدع في الدين فهو ضال لنفسه مضل‬
‫لغيره‪.‬‬

‫الصنف الثاني‪ :‬الجاهل المتشبه بالعالم ويجهل بجهله فهو يعيش الجهل المركب; وليس له ذرة مما يؤهله للتصدي‬
‫للقضاء‪ ،‬فهو فريسة للخطأ والزلل والشبهات‪ ،‬يخرج الحق بالباطل ويريق دماء البرياء بغير حلها ويهدر الموال‬
‫لغير أصحابها‪ .‬ويحتمل أن يكون المراد بالصنف الول حكام الظلم والجور والبدعة والضللة‪ ،‬والصنف الثاني‬
‫القضاة الجهال‪ .‬وعليه فكلمة الحكم الواردة في الخطبة ذات معنى عام واسع تشمل القضاء والحكومة‪.‬‬

‫ويختتم المام)عليه السلم( خطبته بالشكوى إلى ال من هؤلء الفراد الذين ولوا ظهورهم للقرآن وحسبوا‬
‫المعروف منكرًا والمنكر معروفًا‪ .‬وبناًء على ما تقدم فالخطبة على ثلثة أقسام‪ ،‬يختص الول والثاني منها‬
‫بوصف هذين الصنفين والثالث بالشكوى إلى ال منهم ومن كان على شاكلتهم‪.‬‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫أبغض الخلئق‬

‫ن أبغض الخلئق إلى ال رجلن« ومن‬ ‫استهل المام)عليه السلم( كلمه بتصنيف أبغض الخلئق إلى صنفين »إ ّ‬
‫ن الحب والبغض من قبيل‬ ‫ن للحب والبغض بالنسبة ل مفهوم يختلف عّما هو عليه بالنسبة للنسان; ل ّ‬
‫البديهي أ ّ‬
‫الحالت والتغيرات التي تطرأ على روح النسان إثر رغبته واشمئزازه تجاه بعض الشياء; بينما يكتسب الحب‬
‫بالنسبة ل معنى الشمول بالرحمة والبغض معنى الطرد منها‪ .‬ثم يخوض المام)عليه السلم(في صفات الصنف‬
‫الول; أي أصحاب الهواء من الحكام‪ ،‬فيشير قبل أي شيء إلى أصل بؤسهم وشقائهم‪ ،‬فقال)عليه السلم(‪:‬‬
‫»رجل وكله ال إلى نفسه«‪ .‬فروح النسان حية بالتوكل على ال والوثوق بما عنده; أي أّنه يسعى سعيه ويبذل‬

‫] ‪[ 367‬‬

‫ن الذات اللهية هى مصدر كل خير‬ ‫قصارى جهده من أجل النهوض بعمله وتطوير حياته‪ ،‬مع ذلك لبّد أن يعلم بأ ّ‬
‫ل عن هذه الحقيقة فيرى نفسه‬ ‫ن الغرور والكبر وحب الذات قد يجعل النسان غاف ً‬ ‫لأّ‬‫وبركة ونعمة وعطاء‪ .‬إ ّ‬
‫ل في مقابل ال فتتشوه بنظره جميع الشياء‪ .‬هذا النقطاع عن ال هو ايكال النسان إلى نفسه; وهو أساس‬ ‫مستق ً‬
‫بؤس النسان وشقائه‪ .‬ومن هنا ترى رسول ال)صلى ال عليه وآله( ل ينفك عن التضرع إلى رّبه مناديًا‪:‬‬
‫»الّلهم‪ ...‬لتكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا«)‪ (1‬وهو ذات المعنى الذي صّرح به أميرالمؤمنين علي)عليه‬
‫السلم(‪» :‬إلهي كفى بي عزا أن أكون لك عبدًا‪ ،‬وكفى بي فخرًا أن تكون لي رّبا«)‪ (2‬كما ورد ذلك عن‬
‫المعصوم)عليه السلم(قوله‪» :‬إّنك ان وّكلتني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير«)‪.(3‬‬

‫وما أن يفرغ المام)عليه السلم( من بيان السبب الرئيسي لشقوة هؤلء حتى يتطرق إلى افرازات ذلك الشقاء‬
‫ليوجزها في ثمانية ارتبطت مع بعضها برباط العلة والمعلول فقال)عليه السلم(‪» :‬فهو حائر عن قصد السبيل«‬
‫والمراد بقصد السبيل هو الحد الوسط الفاصل بين الفراط والتفريط والذي يوصل النسان إلى ال; المر الذي‬
‫ن النسان إّنما يستطيع تمييز السبيل ـ‬
‫ل()‪ (4‬ومن البديهي أ ّ‬
‫سِبـي ِ‬
‫صُد ال ّ‬
‫ل َق ْ‬
‫أشار له القرآن الكريم بالقول )َوعلى ا ّ‬
‫الذي صورته الروايات بأّنه أرفع من الشعرة وأحد من السيف ـ من بين آلف السبل النحرافية إذا شملته اللطاف‬
‫والعنايات اللهية; اّما إذا انفصل عن ال ووكل إلى نفسه فانه سيعيش الحيرة والقلق التي تنتهي به إلى الضلل‬
‫والسقوط في الهاوية‪.‬‬

‫الفراز الثاني »مشغوف بكلم بدعة« ومن هنا ينطلق نحو الفراز الثالث »ودعاء ضللة«‪ .‬شغف من مادة‬
‫شغاف على وزن كلف بمعنى المولع بالشيء حتى بلغ حبه شغاف قلبه‪ ،‬وهو غلفه; وهو التعبير الذي أورده‬
‫القرآن الكريم بشأن حب زليخا لنبي ال يوسف)عليه السلم(على لسان طائفة من نساء مصر »قد شغفها حبًا«‪،‬‬
‫ن مثل هؤلء الفراد‬ ‫فالعبارة إشارة إلى أ ّ‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪.153 / 83‬‬

‫‪ .2‬بحار النوار ‪.94 / 91‬‬

‫‪ .3‬بحار النوار ‪.152 / 83‬‬

‫‪ .4‬سورة النحل ‪.9 /‬‬

‫] ‪[ 368‬‬

‫ب الذات يتعلقون بشدة بأحاديثهم المبتدعة; التعلق الذي يؤدي إلى دعوة الخرين إلى الضلل‬
‫من ذوي ح ّ‬
‫والنحراف‪.‬‬

‫ضلل()‪ ،(1‬وسنتطرق في البحاث القادمة ـ تأملت ـ إلى حقيقة‬ ‫ل ِفي َ‬‫ن ِإ ّ‬


‫القرآن أيضًا يقول‪َ) :‬وما ُدعاُء الكاِفِري َ‬
‫البدعة ودوافعها ونتائجها‪ .‬أّما الوصف الرابع »فهو فتنة لمن افتتن به«‪.‬‬

‫وفي الصفة الخامسة والسادسة »ضال عن هدى من كان قبله‪ ،‬مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته«‪ .‬المراد‬
‫بمن كان قبله النبياء وأوصيائهم بالحق; في إشارة إلى اتضاح سبيل الهداية مسبقًا بما ل يدع من مجال لسلوك‬
‫طريق الضلل; مع ذلك فقد ولى ظهره لسبيل الهداية والقى بنفسه في ظلمات الضلل‪ .‬والنكى من ذلك أ ّ‬
‫ن‬
‫اضلل هؤلء الفراد للخرين ل يقتصر على حياتهم فهم مدعاة للضللة حتى بعد وفاتهم‪ ،‬فهم شركاء في هذه‬
‫ن سّنة حسنة عمل بها من بعده كان له أجره ومثل‬‫الضللة‪ ،‬حيث ورد في الحديث النبوي المشهور‪» :‬من س ّ‬
‫ن سّنة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزره ومثل أوزارهم‬‫ُاجورهم من غير أن ينقص من ُاجورهم شيئًا‪ ،‬ومن س ّ‬
‫من غير ان ينقص من اوزراهم شيئًا«)‪.(2‬‬

‫ن شقائهم وبؤسهم‬ ‫لولئك الذين يحثون الخطى نحو البدع ويشيدون صروح الضللة‪ ،‬في أ ّ‬ ‫فالعبارة تحذير حاد ُ‬
‫سوف لن يقتصر على حياتهم بل قد يتجاوز حتى مماتهم بآلف السنين وعليهم أن يدفعوا كفارة تلك البدع‬
‫ويستعدوا لتحمل تبعاتها‪ .‬كما ورد عن المام علي)عليه السلم(تحذير شديد آخر في الخطبة ‪ 164‬حيث قال‪:‬‬
‫ن شر الناس عند ال إمام جائر ضل وضل به فأمات سنة مأخوذة واحيى بدعة متروكة« وأّما الوصفان‬ ‫»وإ ّ‬
‫الخيران المترتبان على الصفات السابقة فهما »حمال خطايا غيره‪ ،‬رهن بخطيئته« فالعبارة ليست كلمًا تعبديًا;‬
‫ن أية معونة ومساعّدة في ارتكاب الذنب تعّد شركة فيه; ولما كان أتباع هؤلء‬ ‫بل هى منطقية تمامًا‪ .‬وذلك ل ّ‬
‫المضلين يقارفون الذنوب بمحض إرادتهم فل ينقص من ذنبهم شيئًا‪ ،‬وهذا ما أشار له القرآن الكريم صراحة في‬
‫حِمُلوا َأْوزاَرُهْم كاِمَلًة‬
‫الية ‪ 25‬من سورة النحل إذ قال )ِلَي ْ‬
‫‪ .1‬سورة رعد ‪.14 /‬‬

‫‪ .2‬ميزان الحكمة ‪ ،566 / 4‬كما ورد مضمون هذا الحديث في عّدة روايات نقلتها أغلب الكتب‪.‬‬

‫] ‪[ 369‬‬

‫ن(‪ (1).‬والتعبير الخر الذي اعتمده القرآن‬ ‫عْلم َأل ساَء ما َيِزُرو َ‬
‫ضّلوَنُهْم ِبَغْيِر ِ‬
‫ن ُي ِ‬
‫ن َأْوزاِر اّلِذي َ‬
‫َيْوَم الِقـياَمِة َوِم ْ‬
‫ت َرِهـيَنٌة()‪.(2‬‬
‫سَب ْ‬
‫ل َنْفس ِبما َك َ‬
‫بشأن ارتهان النسان بذنبه هو تعبير غاية في الروعة والدقة )ُك ّ‬

‫ن التعبير باكمال بالنسبة لذنوب الخرين هو‬


‫ن المحجوز ل يطلق من العذاب مالم يكفر عن ذنوبه; كما أ ّ‬
‫فكما أ ّ‬
‫الخر تعبير عميق‪ ،‬كأن الذنوب )كما يفهم من كلمة وزر( حمل عظيم بثقل صاحبها ومن أسس لها وتصده عن‬
‫القرب اللهي وتلقي به في قعر جهنم‪ .‬ومن هنا تتضح مدى خطورة الوادي الذي يسقط فيه من وكله ال إلى نفسه‪،‬‬
‫وأي مصير مشؤوم ينتظره‪.‬‬

‫—–‬

‫تأّملن‬
‫‪ 1‬ـ ما البدعة ومن المبتدع؟‬

‫لقد ورد الذم في هذه الخطبة للبدعة والمبتدع الذي يسوق الناس إلى الضلل; كما تضافرت الروايات السلمية ـ‬
‫إلى جانب سائر خطب نهج البلغة ـ التي تذم البدعة وأصحابها‪ ،‬ومن ذلك ما روي عن رسول ال)صلى ال عليه‬
‫وآله( اّنه قال‪» :‬كل بدعة ضللة وكل ضللة في النار«)‪ .(3‬كما ورد عنه)صلى ال عليه وآله( أّنه قال‪» :‬أبى ال‬
‫لصاحب البدعة بالتوبة قيل يا رسول ال وكيف ذاك؟ قال‪ :‬إّنه قد ُاشرب قلبه حينها«)‪.(4‬‬

‫والبدعة في اللغة بمعنى التيان بشيء ل سابقة له‪ ،‬اّما فقهاء السلم فقد عرفوها باضافة شيء إلى الدين أو‬
‫نقصانه دون قيام دليل معتبر على ذلك; ولما كانت المعارف والحكام اللهية واجبة الثبوت عن طريق الوحي‬
‫والدلة المعتبرة‪ ،‬فان البدعة من الكبائر‪ ،‬وهى أساس الفساد والنحراف‪ ،‬ولو لم تمنع البدع لضاف الفراد‬
‫بعقولهم القاصرة إلى الدين ما شاءوا وانقصوا منه ما أرادوا‪ ،‬فل يبقى من الدين شيئًا وتمحى آثاره; ول شك أ ّ‬
‫ن‬
‫قانون تحريم البدع‬

‫‪ .1‬سورة نحل ‪.25 /‬‬

‫‪ .2‬سورة المدثر ‪.38 /‬‬

‫‪ .3‬شرح نهج البلغة للمحقق الخوئي ‪.251 / 3‬‬

‫‪ .4‬اصول الكافي ‪ ،54 / 1‬باب البدع‪.‬‬

‫] ‪[ 370‬‬

‫هو الذي صان القرآن والسلم وحفظه من تلعب الجهال وأصحاب الهواء‪ .‬والذي ينبغي أن نخلص إليه مّما‬
‫ن البدعة ل تشمل الختراعات والبداعات العلمية والفنون الطبيعية‬ ‫سبق وعلى ضوء التعاريف الفهقية هو أ ّ‬
‫والطبية والصناعية‪ ،‬كما ل تشمل التجديد في الثقافة والدب والسنن والعادات والتقاليد‪ .‬فالبدعة ما أحلت حرامًا أو‬
‫ل وأضافت دين ال أو انقصت منه مّما ليس فيه دون قيام دليل معتبر على تلك الضافة أو النقصان‪،‬‬ ‫حرمت حل ً‬
‫أو التيان بدين جديد ودعوة الناس إليه دون الستناد إلى الوحي أو الدليل‪ ،‬هذه هى البدعة‪ ،‬وهى من الكبائر التي‬
‫توعد ال عليها بالعذاب‪ .‬ومن هنا نقف على خواء الوهابية التي اعترضت حتى على ركوب الدراجة على أّنها‬
‫مركب الشيطان أو ما قام به بعض التباع ممن عمد إلى خطوط الهواتف فقطعها على أّنها بدعة فمما لشك فيه‬
‫ن مثل هذه العمال تعّد ممارسات حمقاء ليس لها أدنى صلة بمفهوم البدعة كما صورها الفقهاء‪ ،‬ومما يؤسف له‬ ‫أّ‬
‫ن تأريخ هذه الحركة مليء بمثل هذه الممارسات الشائتة‪ .‬ويماثلهم ُاولئك الذين سلكوا سبيل الفراط تجاه هذه‬ ‫أّ‬
‫الحركة ليقولوا بعدم وجود أية ثوابت في الدين; المر الذي يهدد كافة قيم الدين ومثله ويعرضها للزوال‪ ،‬حيث‬
‫يمهدون السبيل أمام هذا وذلك للدس في الدين ما شاءوا‪ .‬ونختتم بحثنا هذا بما قاله أمير المؤمنين)عليه السلم( ـ‬
‫في كلماته القصار‪ ،‬الكلمة ‪» :123‬طوبى لمن ذل في نفسه‪ ...‬وعزل عن الناس شره ووسعته السنة ولم ينسب إلى‬
‫البدعة«‪ .‬فقد ورد السنة في المام مقابل البدعة‪ ،‬فمن أطاع ال واستن بسنة رسوله)صلى ال عليه وآله(فارق‬
‫البدعة‪ ،‬أّما من عصى ال وفارق سنة نبّيه)صلى ال عليه وآله( فهو على البدعة‪ ،‬وهو ضال لنفسه مضل لغيره‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ أخطر الذنوب‪ ،‬حمل ذنوب الخرين‬

‫تقتصر أغلب الذنوب على المسؤولية الفردية وإن كانت من قبيل الكبائر كالفعال المنافية للعفة وشرب الخمر‬
‫ن أخطر الذنوب هى تلك التي تدعو الخرين لمقارفتها بحيث يبوء صاحبها بوزر تلك‬ ‫وسائر المحرمات‪ ،‬غير أ ّ‬
‫الذنوب من دون أن ينقص من أوزار ُاولئك شيئًا‪ ،‬وهذا ما يصدق على أئمة الظلم والفساد من أهل البدع المرون‬
‫بالمنكر والناهون عن المعروف‪ .‬وأحيانًا تطالهم تبعة الذنب بل وتطال نسلهم لقرون بعد مماتهم‪ ،‬وعلى الثم أن‬
‫يدفع‬

‫] ‪[ 371‬‬

‫ن العمل الصالح كذلك قد تشمله بركاته لقرون(‪.‬‬


‫ثمن ذنوب هؤلء بأجمعها )كما أ ّ‬

‫عّما‬
‫ن َيْوَم الِقـياَمِة َ‬
‫سَأُل ّ‬
‫ل َمَع َأْثقاِلـِهْم َوَلُي ْ‬
‫ن َأْثقاَلُهْم َوَأْثقا ً‬
‫حِمُل ّ‬
‫وقد صور القرآن الكريم وضع هؤلء الثمة بقوله )َوَلَيـ ْ‬
‫ن من شروط‬ ‫ن()‪ .(1‬وأعظم خطر تختزنه هذه الذنوب في الغالب عدم صدق التوبة عليها; وذلك ل ّ‬ ‫كاُنوا َيْفَتُرو َ‬
‫التوبة إزالة آثار الذنب; فأنى للنسان بإزالة آثار مثل هذه الذنوب التي قد تتخذ أبعادًا واسعة لتشمل منطقة‬
‫بأكملها‪ ،‬أو موت الكثير من الفراد على هذه الذنوب التي ساقهم لرتكابها‪ ،‬أو ظهور الجيل الجديد الذي يعمل‬
‫بهذه الذنوب بعد وفاته؟‬

‫بالتالي لبّد لهذا النسان من التأني في حركته‪ ،‬حذرًامن مقارفة مثل هذه الذنوب التي ل سبيل للتخلص من تبعاتها‬
‫»حمال خطايا غيره‪ ،‬رهن بخطيئته«‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة العنكبوت ‪.13 /‬‬

‫] ‪[ 372‬‬

‫] ‪[ 373‬‬

‫القسم الثاني‬
‫عْقِد اْلهُْدَنِة; َقْد‬‫عم ِبما ِفي َ‬ ‫ش اْلِفْتَنِة َ‬
‫غبا ِ‬ ‫جّهال اُْلّمِة‪ ،‬عاد ِفي َأ ْ‬ ‫ضٌع ِفي ُ‬ ‫ل‪ُ ،‬مو ِ‬ ‫جْه ً‬ ‫ش َ‬ ‫جٌل َقَم َ‬ ‫»الصنف الثاني‪َ :‬وَر ُ‬
‫حّتى ِإذا اْرَتَوى ِمنْ ماء‬ ‫خْيٌر ِمّما َكُثَر‪َ ،‬‬ ‫جْمع; ما َقّل ِمنُْه َ‬ ‫ن َ‬ ‫سَتْكَثَر ِم ْ‬
‫س ِبِه‪َ ،‬بّكَر فا ْ‬ ‫شباُه الّناس عاِلمًا َوَلْي َ‬ ‫سّماه َأ ْ‬
‫َ‬
‫حَدى‬ ‫ت ِبِه ِإ ْ‬‫ن َنَزَل ْ‬‫غْيِرِه‪َ ،‬فِإ ْ‬‫عَلى َ‬ ‫س َ‬ ‫ص ما اْلَتَب َ‬ ‫خِلي ِ‬ ‫ضيًا ضاِمنًا ِلَت ْ‬ ‫ن الّناس قا ِ‬ ‫س َبْي َ‬
‫جَل َ‬ ‫غْيِر طاِئل‪َ ،‬‬ ‫ن َ‬ ‫جن‪َ ،‬واْكَتَثَر ِم ْ‬ ‫آِ‬
‫ت‪ :‬ل َيْدِري‬ ‫ج اْلَعْنَكُبو ِ‬‫سِ‬ ‫ت ِفي ِمْثِل َن ْ‬ ‫شُبها ِ‬ ‫س ال ّ‬
‫ن َلْب ِ‬ ‫طَع ِبِه‪َ ،‬فُهَو ِم ْ‬ ‫ن َرْأِيِه‪ُ ،‬ثّم َق َ‬ ‫شوًا َرّثا ِم ْ‬ ‫ح ْ‬
‫ت َهّيَأ َلَها َ‬ ‫اْلُمْبَهَما ِ‬
‫جهالت‪،‬‬ ‫خّباط َ‬ ‫جاِهٌل َ‬ ‫بـ َ‬ ‫صا َ‬‫ن َقْد َأ َ‬
‫ن َيُكو َ‬ ‫جا َأ ْ‬
‫طَأ َر َ‬‫خَ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫طَأ َوِإ ْ‬‫خَ‬‫ن َقْد َأ ْ‬‫ن َيُكو َ‬ ‫ف َأ ْ‬‫ب خا َ‬ ‫ن َأصا َ‬ ‫طَأ‪َ :‬فِإ ْ‬‫خَ‬ ‫ب َأْم َأ ْ‬
‫َأصا َ‬
‫صداِر‬ ‫ل ِبِإ ْ‬‫ي َوا ّ‬ ‫شيَم‪ .‬ل َمِل ّ‬ ‫ح اْلَه ِ‬‫ت َذْرَو الّري ِ‬ ‫طع‪َ ،‬يْذُرو الّروايا ِ‬ ‫ضْرس قا ِ‬ ‫عَلى اْلِعْلِم ِب ِ‬ ‫شوات‪َ ،‬لْم َيَعضّ َ‬ ‫عَ‬ ‫عاش َرّكاب َ‬
‫ن َوراِء ما َبَلَغ َمْذَهبًا‬ ‫ن ِم ْ‬‫يء ِمّما َأْنَكَرُه‪َ ،‬ول َيَرى َأ ّ‬ ‫ش ْ‬‫ب اْلِعْلَم ِفي َ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬‫ظ ِبِه‪ ،‬ل َي ْ‬ ‫عَلْيِه َول َأْهٌل ِلما ُقّر َ‬ ‫ما َوَرَد َ‬
‫ج ِمْنهُ‬‫جْوِر َقضاِئِه الّدماُء‪َ ،‬وَتَع ّ‬ ‫ن َ‬ ‫خ ِم ْ‬ ‫صُر ُ‬
‫سِه‪َ ،‬ت ْ‬ ‫جْهِل َنْف ِ‬ ‫ن َ‬‫عَلْيِه َأْمٌر اْكَتَتَم ِبِه ِلما َيْعَلُم ِم ْ‬‫ظَلَم َ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫ِلَغْيِرِه‪َ ،‬وِإ ْ‬
‫ث«‪.‬‬ ‫اْلَمواِري ُ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الجاهل المتشبه بالعالم‬

‫بعد أن فرغ المام)عليه السلم( من بيان الصنف الول بشكل جامع‪ ،‬تطرق إلى صفات الصنف الثاني ليتحدث‬
‫عن ذلك الشخص الذي يغط في هالة من الجهل والتخبط في حين يرى نفسه عالمًا دون الستناد إلى ركن وثيق‬
‫ل« فاستنادًا إلى‬
‫من علم أو عالم‪ .‬فيبين بادئ ذي بدء خمس صفات لمثل هؤلء الفراد‪ .‬الولى »ورجل قمش جه ً‬
‫ما أورده أرباب اللغة بشأن مفردة‬

‫] ‪[ 374‬‬

‫القمش التي تعني جمع الشياء المتناثرة دون تناسب وكذلك بمعنى الشياء التي ل قيمة لها‪ ،‬فان الذي يفهم من‬
‫ن هؤلء الجهال المتشبهون بالعلماء إّنما يتجهون صوب خواء من العلم الذي يفتقر إلى‬ ‫كلم المام)عليه السلم(أ ّ‬
‫لمة الخوئي في شرحه لهذا الكلم على أّنهم يحصلون‬ ‫القيمة كما يفتقر إلى النسبة المنطقية‪ .‬وقد علق المرحوم الع ّ‬
‫على المعلومات من فم هذا وذاك ومن الروايات الضعيفة غير المعتبرة وعن طريق القياس والستحسان‬
‫والمصادر من هذا القبيل )ذات الحجم الكبير والقيمة القليلة أو المعدومة(‪.‬‬

‫لّمة ليجمع له بعض النصار‪» :‬موضع)‪ (1‬في‬ ‫الصفة الثانية أّنه يهرع بسرعة في أوساط الجهال من عوام ا ُ‬
‫جهال المة« ومن الطبيعي أل يهب لنصرة هؤلء ويتمحور حولهم سوى تلك الطائفة من الجهال‪ ،‬وليس لهؤلء‬
‫من مكان بين العقال‪ .‬فهدفهم هو لفت انتباه الجهال إليهم والنفوذ في أوساطهم لّنهم يعيشون اليأس من اقتحام دنيا‬
‫العقلء‪.‬‬

‫ن بعض أرباب اللغة)‪ (3‬قد عنى غبش من مادة أغباش‬ ‫الصفة الثالثة »عاد)‪ (2‬في أغباش الفتنة« باللتفات إلى أ ّ‬
‫ن مثل هؤلء الفراد‬ ‫بشّدة الظلمة أو ظلمة آخر الليل التي تعتبر أفضل فترة للسارقين واللصوص‪ ،‬يتضح أ ّ‬
‫يفكرون دائمًا في الصطياد من ماء الفتن‪ .‬فهم يهربون دائمًا من النور والضياء ويلوذون بالظلمة وعتمة الليل‬
‫كفرصة مناسبة من أجل خداع الجهال; ول غرو فلو تبددت ظلمة الفتنة وبزغت شمس العلم والمعرفة لنكشف‬
‫النقاب عن صورتهم الحقيقية ولفتضحوا أمام القاصي والداني‪.‬‬

‫وأشار)عليه السلم( إلى الصفة الرابعة من صفات تعاسة هؤلء الفراد »عم بما في عقد الهدنة«)‪ .(4‬ومن‬
‫ن الكلم وبشهادة العبارات اللحقة‬
‫الواضح أّنه ليس المراد بالهدنة هنا الصلح بين المسلمين وغير المسلمين‪ ،‬ل ّ‬
‫وارد بشأن القاضي بين الناس‪ .‬وبناًء على هذا فالمراد بالهدنة الصلح بين الناس وحل المنازعات بالطرق السلمية;‬
‫ن الهدنة هنا تقابل‬
‫وبعبارة ُاخرى فا ّ‬

‫‪» .1‬موضع« من مادة »ايضاع« بمعنى السرعة في الحركة )وهو يعطي معنى اللزم ل المتعدي رغم أّنه من باب الفعال( وهو هنا‬
‫إشارة لحركة الجهال المتشبهين بالعلماء السريعة بين الجهال‪.‬‬
‫‪» .2‬عاد« من مادة »العدو« بمعنى الركض‪.‬‬

‫‪ .3‬مقاييس اللغة‪ ،‬الجوهري‪ ،‬لسان العرب‪.‬‬

‫‪» .4‬هدنة« بمعنى الصلح والمسالمة بين الناس‪.‬‬

‫] ‪[ 375‬‬

‫ن قوة الجاذبية التي تربط‬ ‫وقال)عليه السلم( في صفتهم الخامسة »قد سماه اشباه الناس عالمًا وليس به« يبدو أ ّ‬
‫ن هذه القوة تحكم هذه الفئات‬ ‫ذرات هذا العالم في الرض والسماء بحيث يميل كل موجود وينجذب إلى شبهه‪ ،‬فا ّ‬
‫والفراد أيضًا‪ .‬وما أروع تعبيره)عليه السلم( عن أتباع من تشبه بالعلماء بأشباه الناس‪ ،‬في إشارة واضحة إلى‬
‫ن شباهة هؤلء بالناس كشباهة أئمتهم الجهال بالعلماء إّنما‬ ‫ن أشباه الناس هم خدمة أشباه العلماء‪ .‬ومن البديهي أ ّ‬
‫أّ‬
‫هى شباهة صورية ليس أكثر‪ ،‬وغالبًا ما يستعمل هذا التعبير بشأن الموارد ذات الشبه الصوري كقوله)عليه‬
‫السلم(في الخطبة ‪ 27‬من نهج البلغة »يا أشباه الرجال ول رجال«‪.‬‬

‫وما أن فرغ المام)عليه السلم( من بيان صفاتهم حتى تطرق إلى جانب من أفعالهم القبيحة النابعة بصورة‬
‫مباشرة من تلك الصفات ونقاط الضعف التي تحكم كيانهم‪ ،‬فقال)عليه السلم(‪» :‬بكر)‪ (1‬فاستكثر من جمع; ما قل‬
‫منه خير مّما كثر«)‪ .(2‬يمكن ان تكون هذه العبارة إشارة إلى المكانات المادية والدنيوية التي تؤدي كثرتها إلى‬
‫الغفلة والتكبر والنهماك الدائم بالماديات والبتعاد عن المعنويات; وغلبًا مايكون قليلها أفضل من كثيرها وأ ّ‬
‫ن‬
‫الكفاف والعفاف أقرب إلى السعادة والفلح من التكاثر والتفاخر‪ .‬أو إشارة إلى فضول الكلم والمسائل العلمية‬
‫ن المراد بها الراء الباطلة والعقائد‬
‫لصول والمبادئ وذهب البعض إلى أ ّ‬ ‫التي ل طائل من وراءها على حساب ا ُ‬
‫ن القليل من هذه الراء والعقائد فيه الضرر‬
‫الفاسدة‪ ،‬ولكن يبدو هذا الحتمال مستبعدًا; ل ّ‬

‫ن الجهال‬
‫‪» .1‬بكر« من مادة»« بكرة على وزن لقمة بمعنى أول النهار ثم أطلقت على كل بداية وانطلقة‪ ،‬وهى هنا إشارة إلى أ ّ‬
‫المتشبهين بالعلماء إّنما يلهثون خلف العمال العابثة من أول النهار حتى الليل‪.‬‬

‫‪ .2‬يمكن أن تكون الجملة )ما قل منه خير مّما كثر( صفة لجمع مفهومه‪ :‬يجمع شيئًا قليله خير من كثيره‪ ،‬كما قيل يمكن أن تكون‬
‫مضافة‪ ،‬وفي هذه الحالة تتطلب تقديرًا; أي من جمع شيء ما قل منه خير مّما كثر‪ ،‬ولكن ليس هنالك من فارق في المعنى‪.‬‬

‫] ‪[ 376‬‬

‫أيضًا‪ ،‬وإن كان هذا التفسير ل ينسجم وبعض العبارات القادمة‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬حتى إذا ارتوى من ماء‬
‫آجن)‪ (1‬واكتثر من غير طائل)‪ ،(2‬جلس بين الناس قاضيًا ضامنًا لتخليص ما التبس على غيره«‪.‬‬

‫ن هذا الفرد الجاهل والضال المتشبه بالعالم الذي يتمتع برصيد علمي مشوه مفعم بالخطاء وله روح ونفس‬ ‫أجل أ ّ‬
‫ولعة بعالم المادة شغفة بزخارف الدنيا وزبرجها‪ ،‬إّنما وضع نفسه في موضع ل يتصدره سوى نبي أو وصي‪ ،‬كما‬
‫ل‪» :‬يا شريح قد‬
‫ورد ذلك في الحديث المعروف عن المام علي)عليه السلم(حين خاطب شريح القاضي قائ ً‬
‫ن هنالك حقائق‪ ،‬ول غرو‬ ‫ل نبي أو وصي نبي أو شقي«)‪ ،(3‬والدهى من ذلك يزعم أ ّ‬ ‫جلست مجلسًا ل يجلسه إ ّ‬
‫فهذه هى المزاعم والدعاءات الفارغة التي يتشدق بها كافة الجهال المتشبهين بالعلماء‪.‬‬

‫والن بعد أن تصدى هذا الجاهل للقضاء فما عساه أن يفعل‪ ،‬قال المام)عليه السلم(بهذا الشأن‪» :‬فان نزلت به‬
‫احدى المبهمات هيا لها حشوا رثامن رأيه‪ ،‬ثم قطع به«‪.‬‬

‫الحشو بمعنى الكلم الزائد الذي ل فائدة فيه‪ ،‬والرث بمعنى الخلق القديم ضد الجديد‪ ،‬فقوله)عليه السلم(‪» :‬حشوا‬
‫رثامن رأيه« كأّنها إشارة إلى أّنه ليس من أهل الخلقية والمبادرة‪ ،‬كما ليس له ذهنية متفتحة‪ ،‬وأخيرًا ليمكنه أن‬
‫يجمع الدلة المقيدة التي تعينه على اصدار الحكم‪ .‬فليس له رصيد سوى حفنة من الفكار الزائدة التي ل طائل من‬
‫وراءها وهى رثة قديمة أكل الدهر عليها وشرب‪ ،‬وهذا هو اسلوبه وديدنه ويقينه في الحكم‪.‬‬
‫ومن الطبيعي أن ل تؤدي هذه المقدمات الباطلة والفاسدة إلى أي يقين‪ ،‬فهو يخدع الناس متظاهرًا لهم باليقين‪،‬‬
‫وعلى فرض كونه وصل إلى اليقين فانه ليس معذورًا عند ال لّنه سلك الخطأ والتقصير في المقدمات‪ .‬فالمشاكل‬
‫القضائية كسائر المشاكل العلمية والجتماعية والسياسية إّنما تعالج دائمًا عن طريق دراسة المقدمات الصحيحة‬
‫والمنطقية; فذلك الذي ليست لديه أدنى معرفة بهذه المقدمات الصحيحة وقد تعلقت أفكاره بالمسائل الباطلة فاّنه‬
‫ليس‬

‫‪» .1‬آجن« بمعنى الماء العفن‪.‬‬

‫‪» .2‬طائل« من مادة »طول« على وزن قول بمعنى الفائدة والمتداد‪ ،‬ومن غير طائل تعني دون فائدة‪.‬‬

‫‪ .3‬الوسائل الشيعه ‪) 37 / 17‬واضح أن وصي النبي هنا تنطوي على مفهوم واسع يشمل العلماء العدول من أتباع النبي(‪.‬‬

‫] ‪[ 377‬‬

‫فقط ل يتوصل إلى النتيجة الصائبة فحسب‪ ،‬بل سيغط في هالة من الحيرة والتخبط والضلل كما سيسوق الخرين‬
‫إلى الضلل; والنكى من ذلك أّنه كلما تقدم أكثر في هذا المجال ابتعد اكثر عن الوقائع والحقائق‪.‬‬

‫ثم يواصل المام)عليه السلم( كلمه »فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت)‪ .«(1‬وقد اختلفت أقوال‬
‫الشّراح بشأن التشبيه الذي استعمله المام)عليه السلم(في هذه العبارة‪ ،‬فاوردوا بعض التفاسير التي ل تخلو من‬
‫ن المام)عليه السلم( شبه هؤلء الفراد‬ ‫التكلف والتقدير والتغيير في العبارة ـ أّما التفسير الذي يبدو مناسبًا هو أ ّ‬
‫الجهال المغرورين ضعيفي الفكر بالعنكبوت حيث ينسج لنفسه خيوطًا تكون حرزًا لبيته كما تكون فخًا لصيده‪ ،‬اّما‬
‫ن فخه ل يطيل سوى الحشرات الضعيفة العاجزة‪.‬‬ ‫بيته فهو أوهن البيوت ول يمكن الوثوق به أبدًا‪ ،‬كما أ ّ‬

‫نعم هذا الجاهل أيضًا ليس لفخه من دور سوى صيد أمثاله من الجهال الحمقى‪ .‬وعليه فهو كالعنكبوت وأفكاره‬
‫كخيوطه وهمية ضعيفة وحيدة يقتصر على المغفلين عديمي العلم والمعرفة‪» .‬ل يدري أصاب أم أخطأ‪ ،‬فان‬
‫أصاب خاف أن يكون قد أخطأ‪ ،‬وان أخطأ رجا أن يكون قد أصاب«‪ .‬هذا هو حال الفراد الجهال الذين يتصدون‬
‫ن اتجهة صوب‬ ‫إلى المناصب الهاّمة التي ل يمتلكون الجدارة لممارستها‪ .‬فهم على شك وترديد دائمًا‪ ،‬حتى أ ّ‬
‫الصواب فحيث ل يؤمن بذلك فهو متزلزل يطلق سهمه في الظلم دائمًا عله يصيب الهدف‪ .‬ويتصور بعض‬
‫ن تلك العبارة تحدثت عن القطع واليقين‬ ‫ن الجملة الخيرة تتناقض والعبارة »ثم قطع به« ل ّ‬‫شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫ن العبارة »ثم قطع به« تعني الحكم القاطع ل قطع القاضي‬ ‫بينما تتحدث هذه العبارة عن الشك والترديد‪ .‬والحال أ ّ‬
‫ويقينه‪ ،‬فالواقع أّنه يحكم فقط ويتخذ لنفسه صيغة القطع‪ ،‬بينما يفيض باطنه بعاصفة من الشك والترديد‪ .‬نعم‬
‫مصيبته الكبرى في دينه‪ ،‬فان أصاب الواقع مصادفة شعر بالتزلزل لّنه ل يملك اليمان واليقين‪ ،‬وان هذا‬
‫التزلزل يؤرقه ول يجعله قادرًا على اتخاذ القرار; وان أخطأ فان سبيل الرجوع مغلق بوجهه لّنه ليس واقفًا على‬
‫خطأه‪ .‬ثم انتقل المام)عليه السلم( إلى صفة ُاخرى ليصور حال هؤلء الفراد بتعبيرات قارعة‬

‫‪» .1‬العنكبوت« هى الحشرة المعروفة‪ ،‬وهناك اختلف في أصلها من مادة عكب أن عنكب‪ ،‬وقيل اقتبست من مادة »عكوب« بمعنى‬
‫ن خيوطه تشبه الغبار‪.‬‬
‫الغبار ل ّ‬

‫] ‪[ 378‬‬

‫وتشبيهات غاية في البلغة والجمال فقال)عليه السلم(‪» :‬جاهل خباط)‪ (1‬جهالت«‪ ،‬فهو كالعمى في الظلمات‬
‫المليئة بالمخاطر »عاش ركاب عشوات«)‪ (2‬فالمام)عليه السلم( ل يكتفي بوصفه بالجاهل‪ ،‬بل يؤكد ذلك ليصفه‬
‫بأّنه يغط دائمًا في هالة من الجهل‪ ،‬كما ل يكتفي المام)عليه السلم(بعشوته وعماه بل يصوره بانه يمتطي الظلمة‬
‫والعتمة ويحث السير دون أن يعلم أين يسير وإلى أين سينتهي به هذا المسير‪ .‬المفردة عاش من مادة عشا‪ ،‬فسرت‬
‫ن المراد هو أن‬
‫بالعمى المطلق‪ ،‬كما فسرت يضعف الرؤية وقيل أيضا يراد به عشوة الليل‪ ،‬ومهما كانت فا ّ‬
‫صاحبها ل يستطيع رؤية ما حوله من الشياء‪ ،‬فاذا ما تحرك سقط في الهاوية‪ ،‬بل قادته حركته إلى الجحيم‪ ،‬وهذا‬
‫هو حال من يتصدى للقضاء بين الناس دون الستناد إلى العلم والمعرفة ويزج بنفسه في هذا الطريق الشائك‬
‫المليء بالمخاطر‪ ،‬فكلما مر عليه يوم من حياته كثر بؤسه وشقائه لنفسه وللناس حتى ينتهي به المطاف إلى‬
‫ن مثل هذا الفرد يرى نفسه عالمًا ضالعًا بموازين القضاء‬
‫السقوط في وادي الكفر والضلل‪ ،‬والنكى من كل ذلك أ ّ‬
‫والحق والعدل فل يسع أحد احصاء خطاياه وذنوبه!‬

‫ثم ينتقل المام)عليه السلم( لبيان صفة ُاخرى من صفات هذا الجاهل المتخبط »لم يعض على العلم بضرس‬
‫قاطع«‪ ،‬فقد شبهه المام)عليه السلم( بمن يتناول الطعام دون المضغ بحيث ل يسع الجسم هضمه‪ .‬ذهب بعض‬
‫شّراح نهج البلغة إلى أن المراد بالضرس هنا سن العقل الذي يظهر في مرحلة تكامل العقل‪ ،‬وكأن هؤلء‬
‫الجهال ليس لهم سن عقل‪ ،‬فهم ل يقيمون القضايا بشكل سليم‪ ،‬وبالمقابل هنالك الفراد العلماء الحلماء الذين‬
‫ن حديثهم يستند إلى أسس العقل والمنطق السليم‪.‬‬‫يتحدثون بالضرس القاطع; أي أ ّ‬

‫وقال)عليه السلم( في صفتهم الثالثة أّنهم كالريح العاصف التي تهلك الحرث والزرع فهى تهب هوجاء دون‬
‫هدف وهذا حال تعامل الجاهل مع الروايات السلمية »يذرو)‪ (3‬الروايات ذرو الريح الهشيم)‪ .«(4‬إشارة إلى‬
‫أّنه يطالع ظاهريًا الموضوعات التي تصدت لبيانها الروايات‬

‫‪» .1‬خباط« من مادة »خبط«‪ ،‬صيغة مبالغة من خبط الليل إذ سار فيه على غير هدى‪ ،‬ومن هنا يطلق خابط أو ضابط على الفرد‬
‫المجنون او الذي ل يستطيع توازنه‪.‬‬

‫‪» .2‬عشوات« جمع »عشوة« بمعنى الظلمة‪.‬‬

‫‪» .3‬يذرو« من مادة »ذرو« على وزن ضرب بمعنى ينثر )وقد وردت هذه المفرة بهيئة ناقص واوي وناقص يائي(‪.‬‬

‫‪» .4‬هشيم« من مادة »هشم« بمعنى ما يبس من النبات وتهشم وتفتت‪.‬‬

‫] ‪[ 379‬‬

‫والسّنة النبوية‪ ،‬ولكن ما جدوى ذلك وهو يفتقر إلى تقييمها الصحيح‪ ،‬فهو ل يمتلك العلم بمضمونها ول بقوة سندها‬
‫من ضعفه‪ ،‬كما ل يعرف الجمع بين الروايات المتعارضة ول يميز المحكمة من المتشابهة‪ .‬فهو بالضبط كالريح‬
‫الهشيم التي تذرو النباتات هنا وهناك‪ .‬فالنباتات الجافة )الهشيم( قد ل تكون لها أية فائدة‪ ،‬بينما قد تفيد إذا جمعت‪،‬‬
‫أّما الريح الهوجاء تزيل حتى هذه الفائدة الضئيلة من خلل ذروها وتفريقها‪ ،‬وهذا ما عليه الحال بالنسبة للفراد‬
‫الجهال الذين يتعاملون مع الروايات دوتن أن تكون لهم معرفة صحيحة بغشها من سمينها وصحيحها من سقيمها‪.‬‬

‫ن هؤلء الجهال ليسوا حريين بحل ما ترد عليهم من‬


‫ثم يتطرق المام)عليه السلم( إلى صفتهم الرابعة‪ ،‬ليقسم بأ ّ‬
‫قضايا ول جديرين بأدنى مدح واطراء يمارسه المتلمقون تجاههم »لملي ـ وال ـ باصدار)‪ (1‬ما ورد عليه‪ ،‬ول‬
‫أهل لما قرظ)‪ (2‬به«‪.‬‬

‫ن الفصل في الخصومات القضائية والذي يصطلح عليه الفقهاء برد الفروع إلى الصول إّنما‬ ‫مّما ل شك فيه أ ّ‬
‫يتطلب رصيدًا علميًا ثرًا ل يتحلى به هؤلء الجهال المغرورون‪ ،‬وهذه الضحالة العلمية تفحمهم وتجعلهم يضلون‬
‫سبل التعامل مع القضايا فل يميزوا كيفية الدخول فيها أو الخروج منها )المراد بالدخول والخروج هنا ما تعارف‬
‫بشأن الموضوعات المطروحة على العلماء فيقال أن فلنًا يعلم كيف يرد هذه المسائل وكيف يخرج منها‪ ،‬والفرد‬
‫الجاهل يفتقر بالمرة لهذه المسألة(‪.‬‬

‫أّما إحدى مشاكل هؤلء الفراد هى إطاحتهم بثلة من المتملقين الذين يهدفون إلى تحقيق مطامعهم الدنيوية‬
‫فيطرونهم بمختلف ألوان المدح والثناء ويضفون عليهم ما ل يستحقونه من الصفات‪ ،‬فيطرب هؤلء الجهال لمثل‬
‫ل أّنهم وبمرور الزمان يظنون أّنهم كذلك وهذه قمة‬
‫هذه الكاذيب والنعوت الفارغة رغم علمهم بكذبها وزيفها إ ّ‬
‫البؤس والشقاء التي يبلغونها بحيث تغلق أمامهم كافة سبل النجاة‪(3).‬‬

‫‪» .1‬اصدار« من مادة »صدور« ضد الدخول‪.‬‬

‫‪» .2‬قرظ« بمنى مدح‪.‬‬


‫‪ .3‬ذكر بعض شّراح نهج البلغة هنا المفردة »فرط« من مادة التفريط و»فوض« من مادة التفويض بدلً من »قرظ« من مادة‬
‫»التقريظ« بمعنى المدح والثناء‪ .‬وحيث آلينا على أنفسنا أل نجري خلف اختلف نسخ نهج البلغة ونكتفي بالنسخة المعروفة‬
‫المتداولة اليوم‪ ،‬لذلك نغض الطرف عن الخوض في ما ذكروه‪.‬‬

‫] ‪[ 380‬‬

‫ن من وراء ما بلغ مذهبًا‬ ‫وقال)عليه السلم( في صفتهم الخامسة »ل يحسب العلم في شيء مّما أنكره‪ ،‬ول يرى أ ّ‬
‫ن هذا من لوازم الضحالة الفكرية وضيق العلم والمعرفة حيث يرى النسان نفسه هو العلم‬ ‫لغيره«‪ .‬والواقع أ ّ‬
‫الكامل فينكر كل ما ورائه فل يرى من حرمة لفكار الخرين وعلومهم‪ ،‬بينما ل يرى العالم الحق في العلم‬
‫عـباِد* اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫شْر ِ‬
‫والمعرفة سوى العتراف بالجهل‪ ،‬فيسوقه ذلك إلى التواضع للخرين والستماع إلى أقوالهم )َفَب ّ‬
‫سَنُه()‪ (1‬فهم يستمعون إلى الخرين ويصطفون أحسن مايرد في كلمهم‪ ،‬في حين‬ ‫حَ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ل َفَيّتِبُعو َ‬
‫ن الَقْو َ‬
‫سَتِمُعو َ‬
‫َي ْ‬
‫يطالعك الجاهل المغرور الذي يتحدث على سبيل القطع وهو ليس على شيء‪.‬‬

‫وصفته السادسة التي ذكرها المام)عليه السلم(‪» :‬وان أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه« هذا هو‬
‫الفارق والحد الفاصل بين العالم والجاهل‪ ،‬فالعالم إذا عرض له أمر مبهم كرس له اهتمامه فان صعب عليه حله‬
‫وإزالة ابهامه استشار من حوله واستفاد من أفكارهم وانفتح على تجاربهم‪ ،‬بينما يهمله الجاهل ويمر عليه مرورًا‬
‫ن يعلم بأن التعامل معه والتفكير فيه ل تزيده سوى فضيحة‪ .‬وزبدة الكلم فهو يعمل على الخلف مّما‬ ‫عابرًا‪ ،‬ل ّ‬
‫ورد في الروايات السلمية بعدم الحياء من قول ل أدري إذا عرض عليه ما ل يعلمه ول ينبغي أن يستنكف عن‬
‫تعلمه »وليستحين أحد منكم إذا سئل عّما ل يعلم أن يقول‪ :‬ل أعلم‪ ،‬ول يستحين أحد إذا لم يعلم الشيء أن‬
‫ن عدم اللتزام بمضمون هذه الرواية إّنما يقود إلى اضرار فادحة تطيل الشخص‬ ‫يتعلمه«)‪ .(2‬والواقع هو أ ّ‬
‫والمجتمع الذي يعيش كواحد من أفراده‪.‬‬

‫ثم أشار المام)عليه السلم( إلى حصيلة عمل هؤلء القضاة الجهال عديمي الورع والتقوى بقوله‪» :‬تصرخ من‬
‫جور قضائه الدما‪ ،‬وتعج)‪ (3‬منه المواريث«‪ .‬أجل فما أكثر الدماء التي تسفك والموال التي تهدر وهى تضج‬
‫بصراخها من الحكام المجحفة التي يصدرها هؤلء القضاة الجهال‪ ،‬فيطرق هذا الصراخ ضمير السامع فيهز‬
‫أعماقه‪ ،‬بينما يعيش هذا الجاهل نشوة الغرور‬

‫‪ .1‬سورة الزمر ‪ 17 /‬ـ ‪.18‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الكلمات قصار‪ ،‬الكلمة ‪. 82‬‬

‫‪» .3‬تعج« من مادة »عج« و»عجيج« بمعنى ارتفاع الصوت وهنا بمعنى الصراخ‪.‬‬

‫] ‪[ 381‬‬

‫فل يسمع ول يرى ما حوله‪ .‬اّما تعبيره)عليه السلم( بـ »تصرخ« و»تعج« فهو تعبير في منتهى الروعة‬
‫والجمال‪ ،‬حيث عبر عن الدماء التي تراق من غير حلها بالصراخ وكأن لهذه الدماء علم وشعور وإدراك‪ ،‬في‬
‫ن ما ذكره بعض‬ ‫حين ليس لهذا الجاهل المغرور مثل هذه المعاني فهو يعيش في جهل مطلق‪ .‬ومن هنا نعتقد بأ ّ‬
‫ن في الجملة تقدير ينسبون من خلله هذه الصراخ إلى أولياء الدم وأصحاب الموال إّنما يقضي على‬‫الشّراح من أ ّ‬
‫هذه اللطافة والروعة في التعبير‪ .‬على كل حال فان رسالة القضاء والقضاة التي تهدف إلى حفظ دماء الناس‬
‫وأموالهم إّنما تضيع في ظل تصدي هؤلء الجهال لمسند القضاء; المر الذي يقود بالتالي إلى تغييب أمن المجتمع‬
‫وسيادة الفوضى‪.‬‬

‫والكلم شبيه ما ورد عن المام الصادق)عليه السلم( في رواية »أبو ولد« حين سمع)عليه السلم(اصدار بعض‬
‫الحكام القضائية الظالمة فقال‪» :‬في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتمنع الرض بركاتها«)‪.(1‬‬

‫تأّملت‬
‫‪ 1‬ـ آفات علماء السوء‬

‫لقد أشار المام)عليه السلم( في الخطبة إلى الفات الخطيرة للجهال المتشبهين بالعلماء وعلماء السوء الذين‬
‫يشقون أنفسهم وقومهم‪ .‬وقد تتسبب بعض هذه الخطار والفات في سفك دماء البرياء وهضم حقوق المظلومين‬
‫المستضعفين‪ ،‬فتصرخ تلك الدماء من الحكام الظالمة كما فأن الموال المهدروة من القضاء الجائر‪ .‬فقد جاء عن‬
‫رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪» :‬من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مّما يصلح«)‪ (2‬كما قال)صلى ال‬
‫عليه وآله(‪» :‬من أفتى الناس بغير علم وهو ل يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك«)‬
‫‪.(3‬‬

‫والعجيب أن هؤلء الفراد كلما عملوا أكثر كان ضررهم أعظم‪ ،‬وهذا ما أشار إليه المام‬

‫‪ .1‬وسائل الشيعة ‪.256 / 13‬‬

‫‪ .2‬اصول الكافي ‪.44 / 1‬‬

‫‪ .3‬اصول الكافي ‪.43 / 1‬‬

‫] ‪[ 382‬‬

‫ل بعدًا«)‪.(1‬‬
‫الصادق)عليه السلم(‪» :‬العالم على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق ل يزيده سرعة السير إ ّ‬

‫‪ 2‬ـ علم كخيط العنكبوت‬

‫لقد شبه)عليه السلم( علم هؤلء الجهال المتلبسين بزي العلماء بخيوط العنكبوت; وهو التشبيه الذي اقتبس في‬
‫خـُذوا ِمنْ‬
‫ن اتّـ َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫الواقع من القرآن الكريم ـ سورة العنكبوت ـ الذي شبه أولياء المشركين ببيت العنكبوت )َمَث ُ‬
‫ن(‪ .‬والعنكبوت‬ ‫ت َلْو كاُنوا َيْعَلُمو َ‬
‫ت الَعْنَكُبو ِ‬
‫ت َلَبْي ُ‬
‫ن الُبُيو ِ‬
‫ن َأْوَه َ‬
‫ت َبْيتًا َو ِإ ّ‬
‫خـَذ ْ‬
‫ت اّت َ‬
‫ل الَعْنَكُبو ِ‬
‫ل َأْوِلـياَء َكَمَث ِ‬
‫نا ّ‬
‫ُدو ِ‬
‫ينطوي على بعض خصائص العجائب في الخلقة‪ .‬فالعنكبوت تنسج خيوطها من قطرة لزجة غاية في الصغر في‬
‫بطنها تلصقها في الخارج بمساعّدة مخلبها; حيث لهذا المائع تركيب خاص يتصلب وينجمد بمجرد ملمسته‬
‫للهواء‪ ،‬ويعتقد بعض العلماء أن للعنكبوت القدرة على نسج ما يعادل خمسمئة متر من هذه الخيوط بالستفادة من‬
‫ن أوهن‬ ‫ن القرآن أشار إلى أ ّ‬ ‫لأّ‬ ‫تلك المادة اللزجة الصغيرة‪ .‬وهذه الخيوط هى التي تشكل بيت العنكبوت وفخه‪ ،‬إ ّ‬
‫ن قطرة الماء تخترقه‪ ،‬وأدنى شعلة‬ ‫البيوت هو بيت العنكبوت‪ ،‬فأية ريح مهما كانت خفيفة تحطم هذا البيت‪ ،‬كما أ ّ‬
‫لخرى تقضي عليه‪ ،‬وهذه هى الصورة الحقيقية‬ ‫نار تخربه‪ ،‬بل ليس له قابيلة استقطاب التراب والغبار فهى ا ُ‬
‫لولياء الشرك وعلم الجهال‪ .‬فالعلماء الذين يستندون في علمهم إلى القياس والستحسان وما إلى ذلك إّنما علمهم‬
‫كبيت العنكبوت أجوف هزيل ل يصمد أمام شيء وليس من شأنه فعل شيء‪.‬‬

‫ن فرائسهم كفرائس العنكبوت حيث ينحصر في‬‫كما يفهم من هذا التشبيه بشأن هؤلء الجهال المتشبهين بالعلماء أ ّ‬
‫الفراد الضحلين الذين ل قيمة لهم كفرائس العنكبوت من الحشرات التافهة‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ اطراء المتملقين‬

‫لقد تطرق المام)عليه السلم( في الخطبة إلى عدم استحقاق هؤلء إلى المدح والثناء الذي يكيله لهم‬

‫‪ .1‬اصول الكافي ‪.43 / 1‬‬


‫] ‪[ 383‬‬

‫المتملقون من أشباه الرجال; وهو المر الذي يستبطن البلء الذي يعود على هؤلء الجهال إلى العتقاد بالتدريج‬
‫ن لديهم العلم والمعرفة والجدارة والهلية‪ ،‬فيرون في أنفسهم الكفاءة في التصدي لهذا المنصب الخطير الذي‬
‫أّ‬
‫يؤدي بالتالي إلى هلكهم واهلكهم‪ .‬فضرر هؤلء المتملقين الذين يحيطون بهؤلء الجهال ويسوقونهم للتصدي‬
‫للقضاء ل يقل عن خطر هؤلء الجهال في التصدي إن لم يكن أعظم وأفدح؟ المر الذي ذمه القرآن الكريم إلى‬
‫ن رسول ال)صلى ال عليه وآله( قال‪» :‬إذا مدح الفاجر اهتز العرش‬ ‫جانب الروايات السلمية‪ .‬ومن ذلك أ ّ‬
‫وغضب الرب«)‪ (1‬وقال)صلى ال عليه وآله(‪» :‬من مدح سلطانًا جائرًا وتخفف وتضعضع له طمعًا فيه كان‬
‫قرينه إلى النار«)‪ .(2‬ومن هنا ورد التحذير من مطلق المدح والطراء لتنبه إلى ذلك حتى الفراد من أهل الورع‬
‫والتقوى إلى الخطار التي ينطوي عليها هذا المديح‪ ،‬فقد ورد عن رسول ال )صلى ال عليه وآله(أّنه قال‪:‬‬
‫»احثوا في وجوه المداحين التراب«)‪ (3‬وهذا ما حذر منه أمير المؤمنين)عليه السلم( مالك الشتر في عهده الذي‬
‫عهده إليه حين وله مصر بعد أن دعاه إلى مجالسة أهل الورع والتقوى والصدق‪» :‬ثم رضهم على أل يطروك‬
‫ول يبجحوك بباطل لم تفعله فان كثرة الطراء تحدث الزهو وتدني من العزة«)‪.(4‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪.150 / 74‬‬

‫‪ .2‬بحار النوار ‪.369 / 72‬‬

‫‪ .3‬بحار النوار ‪.294 / 70‬‬

‫‪ .4‬نهج البلغة‪ ،‬الرسالة ‪.53‬‬

‫] ‪[ 384‬‬

‫] ‪[ 385‬‬

‫القسم الثالث‬

‫حّ‬
‫ق‬ ‫ي َ‬ ‫ب ِإذا ُتِل َ‬
‫ن اْلِكتا ِ‬ ‫سْلَعٌة َأْبَوُر ِم َ‬
‫س ِفيِهْم ِ‬
‫لًل‪َ ،‬لْي َ‬
‫ضّ‬‫ن ُ‬ ‫جّهال‪َ ،‬وَيُموُتو َ‬ ‫ن ُ‬‫شِر َيعيشو َ‬ ‫ن َمْع َ‬‫شُكو ِم ْ‬ ‫لأ ْ‬‫»إَلى ا ّ‬
‫ف‪َ ،‬ول‬
‫ن اْلَمْعُرو ِ‬‫عْنَدُهْم َأْنَكُر ِم َ‬
‫ضِعِه َول ِ‬ ‫ن َموا ِ‬‫عْ‬ ‫ف َ‬
‫حّر َ‬ ‫ب ِإذا ُ‬
‫ن اْلِكتا ِ‬
‫غَلى َثَمنًا ِم َ‬
‫ق َبْيعًا َول َأ ْ‬
‫سْلَعٌة َأْنَف ُ‬
‫ِتلَوِتِه‪َ ،‬ول ِ‬
‫ن اْلُمْنَكِر!«‪.‬‬
‫ف ِم َ‬
‫عَر ُ‬
‫َأ ْ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫يختتم المام)عليه السلم( خطبته بالشكوى إلى ال بقلب كسير وأنين متواصل من مثل هؤلء الجهال المتشبهين‬
‫بالعلماء والقضاة من عبدة الهواء والشهوات الذين مردوا على الغرور وحب الذات‪ ،‬فقال)عليه السلم(‪» :‬إلى ال‬
‫ن المام)عليه السلم( ينعتهم بصفات ُاخرى‬
‫ل«‪ .‬والواقع هو أ ّ‬
‫ل‪ ،‬ويموتون ضل ً‬
‫أشكو من معشر يعيشون جها ً‬
‫استمرارًا لما وصفهم به في السابق‪ ،‬فحياتهم بأكملها جهل في جهل فلم يكن موتهم سوى ضلل في ضلل )ففي‬
‫الحقيقة ان العبارة الثانية نتيجة حتمية للعبارة الولى( فكيف ل يموت على الضلل من يفني عمره في الجهل‪.‬‬

‫لخرى لهم والتي تعّد علمة فارقة للتعرف عليهم هى‪» :‬ليس فيهم سلعة)‪(1‬أبور)‪ (2‬من الكتاب إذا‬ ‫أّما الصفة ا ُ‬
‫تلى حق تلوته‪ ،‬ول سلعة أنفق)‪ (3‬بيعًا ول أغلى ثمنًا من الكتاب إذا‬

‫سْلع« بمعنى الفتحة أو الُفرجة أو الشق‪،‬‬


‫‪» .1‬سلعة« على وزن فرقة‪ ،‬المتاع والبضائع التجارية‪ ،‬وفي الصل جاءت من مادة » َ‬
‫وتطلق على ثغرة الجبل أو شق الجبل‪ ،‬وبما أن البضائع التجارية توضع بشكل علني في منظر ومرآى العيون‪ ،‬لذلك سميت »سلعة«‪.‬‬

‫غْور بمعنى الهلك والفساد‪ ،‬ومن هنا يطلق هذا اللفظ على الركود في السوق لنه يتسبب في‬
‫‪» .2‬أبور« من مادة »َبْور« على وزن َ‬
‫أضرار لرؤوس المال‪.‬‬

‫‪» .3‬أنفق« من مادة »نفاق ونفوق«‪ ،‬وفي الصل بمعنى الزوال والنعدام‪ ،‬ومن هنا يقال للعطاء والصرف »انفاق«‪ ،‬والظاهر بان‬
‫ذلك يطلق على الموال التي تصرف أو تنفق‪ ،‬أي التي تخرج من اليد‪ ،‬واذا استفيد من اللفظ في موضوع النفاق والعطاء فيكون‬
‫معناها‪ ،‬البذل والمساعدة‪ ،‬حيث يقصد بها الموال التي يتم انفاقها‪.‬‬

‫سترى بسرعة من قبل الناس‪ ،‬وبذلك تخرج من‬


‫ويطلق أيضا على رواج المتعة في السوق »َنفاق« على وزن »طلق« وذلك لنها ُت ْ‬
‫السوق‪.‬‬

‫] ‪[ 386‬‬

‫صرف عن مواضعه«‪ .‬إّنهم يريدون قرآنًا ينسجم مع أهوائهم وأغراضهم الفاسدة ونياتهم السيئة‪ ،‬ولما كان القرآن‬
‫بتفسيره الحق ل ينسجم مع تطلعاتهم‪ ،‬فهم ينبذوه ويعمدون إلى تحريفه وتفسيره برأيهم وما تمليه عليهم خيالتهم‪.‬‬

‫والنقطة الجديرة بالذكر هنا هى أّنهم يعيشون في وسط يكن للقرآن منتهى القدسية والجلل والكبار على أّنه‬
‫وحي ال الذي أوحاه إلى نبّيه)صلى ال عليه وآله(; المر الذي يدفع بهم ولتحقيق أغراضهم ومآربهم إلى التظاهر‬
‫بالنضواء تحت رايته فيسعون جاهدين لضفاء الصيغة القرآنية على تحريفاتهم وتفسيراتهم الخاطئة‪ ،‬فيعود هذا‬
‫الكتاب السماوي الذي يفيض نورًا وهداية إلى وسيلة لضلل الناس‪.‬‬

‫أّما الصفة الخيرة التي ينعتها بهم المام)عليه السلم( فهى »ول عندهم أنكر من المعروف‪ ،‬ول أعرف من‬
‫المنكر«‪.‬‬

‫ملحظة‬
‫التفسير بالرأي وقلب الحقائق‬

‫ن أعظم فارق بين المؤمنين المتقين وعديمي التقوى إّنما يكمن في كون الفريق الول يتعامل مع القرآن الكريم‬ ‫إّ‬
‫والحكام الشرعية كأصل ثابت ويسعى لتكييف إرادته وشؤونه على ضوئه‪ ،‬فان شعروا بأّنهم أخطأوا أو خرجوا‬
‫ف ِم َ‬
‫ن‬ ‫سُهْم طاِئ ٌ‬
‫ن اّتـَقْوا ِإذا َم ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫من دائرة تلك الحكام ندموا وتضرعوا إلى ال وطلبوا منه العفو والمغفرة )ِإ ّ‬
‫ن(‪.‬‬
‫صُرو َ‬
‫ن َتَذّكُروا َفِإذا ُهْم ُمْب ِ‬
‫شـْيطا ِ‬
‫ال ّ‬

‫أّما الفريق الثاني الناني المغرور فهو يمنح هذه الصالة لرادته وأهوائه الطائشة التي ل تعرف القيود والحدود‪،‬‬
‫فهو يسعى لتكييف اليات القرآنية مع أهوائه ورغباته; ول عجب‬

‫] ‪[ 387‬‬
‫فهو يرى نفسه الصل والقرآن الفرع‪ ،‬فالحكام اللهية محترمة لديه ما كانت منسجمة مع هواه وهوسه‪ ،‬فان لم‬
‫ن ِبَبْعض‬
‫تكن كذلك ضربها عرض الجدار‪ .‬ومن هنا وصفه القرآن بالزدواج في التعامل مع اليات القرآنية )ُنْؤِم ُ‬
‫خـَذ ِإلـَهُه َهواُه(‪ .‬اّما السلوب الخر الذي درج‬ ‫ن اتّـ َ‬
‫ت َم ِ‬‫َوَنْكُفُر ِبَبْعض( فهو مصداق بارز لقوله سبحانه )َأَرَأْيـ َ‬
‫عليه هذا الفريق فاّنما يكمن في التحريف المعنوى للقرآن وتفسيره برأيه‪ ،‬ول ينشد من ذلك سوى خداع الناس‬
‫أحيانًا أو خداع نفسه أحيانًا ُاخرى‪ ،‬وهذا ما ذمته بشدة اليات القرآنية والروايات السلمية‪ .‬فقد أشار القرآن‬
‫ن َكلَم‬
‫سَمُعو َ‬‫ق ِمْنُهْم َي ْ‬
‫ن َفِري ٌ‬
‫ن ُيْؤِمُنوا َلـُكْم َوَقْد كا َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫طَمُعو َ‬‫الكريم إلى اليهود التي مارست هذا السلوب بالقول‪َ) :‬أَفَت ْ‬
‫ن مثل هؤلء الفراد ل يسلمون لية حقيقة‬ ‫ن()‪ (1‬ومن المسلم به أ ّ‬ ‫عَقُلوُه َوُهْم َيْعَلُمو َ‬
‫ن َبْعِد ما َ‬
‫حّرُفوَنُه ِم ْ‬
‫ل ُثّم ُي َ‬
‫ا ّ‬
‫تطرح عليهم‪ ،‬أّنهم كخفافيش الليل التي تعادي الشمس الحقة‪ ،‬وفوق ذلك أّنهم لم يؤمنوا بال طرفة عين; ولذلك‬
‫ورد في الحديث النبوي الشريف عن رسول ال)صلى ال عليه وآله( اّنه قال‪» :‬قال ال جل جلله‪ :‬ما آمن بي من‬
‫فسر برأيه كلمي«)‪.(2‬‬

‫كما قال)صلى ال عليه وآله(‪» :‬أشد ما يتخوف على ُامتي ثلث‪ :‬زلة عالم‪ ،‬أو جدال منافق بالقرآن‪ ،‬أو دنيا تقطع‬
‫رقابكم«)‪.(3‬‬

‫أّما الحديث عن التفسير بالرأي ومفهومه والخطار المترتبة عليه فهذا ما سنعرض له في محله في البحاث‬
‫القادمة إن شاء ال‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة البقرة ‪.75 /‬‬

‫‪ .2‬بحار النوار ‪.107 / 89‬‬

‫‪ .3‬بحار النوار ‪.108 / 89‬‬

‫] ‪[ 388‬‬

‫] ‪[ 389‬‬

‫الخطبة ‪18‬‬

‫ومن كلم له)عليه السلم(‬

‫في ذم اختلف العلماء في الفتيا وفيه يذم أهل الرأي ويكل أمر الحكم في ُامور الدين للقرآن‪(1).‬‬
‫القسم الول‬

‫حُكمُ‬
‫غْيِرِه َفَي ْ‬
‫عَلى َ‬
‫ضّيُة ِبَعْيِنها َ‬
‫حُكُم ِفيها ِبَرْأِيِه‪ُ ،‬ثّم َتِرُد ِتْلك اْلَق ِ‬
‫حكاِم َفَي ْ‬
‫ن اَْل ْ‬
‫حْكم ِم َ‬
‫ضّيُة ِفي ُ‬ ‫حِدِهُم اْلَق ِ‬ ‫عَلى َأ َ‬
‫»َتِرُد َ‬
‫حٌد!‬
‫جِميعًا‪َ ،‬وِإَلُهُهْم وا ِ‬
‫ب آراَءُهْم َ‬ ‫صّو ُ‬
‫سَتْقضاهُْم َفُي َ‬ ‫عْنَد اِْلماِم اّلِذي ا ْ‬ ‫جَتِمُع اْلُقضاُة ِبَذِلك ِ‬
‫ف َقْوِلِه‪ُ ،‬ثّم َي ْ‬
‫خل ِ‬ ‫ِفيها ِب ِ‬
‫حٌد!«‪.‬‬‫حٌد! َوِكتاُبُهْم وا ِ‬ ‫َوَنِبّيُهْم وا ِ‬

‫—–‬

‫‪ .1‬طبق ماورد في مصادر نهج البلغة بشأن سند الخطبة‪ ،‬رواها محمد بن طلحة الشافعي في كتاب مطالب السؤال ‪ 141 / 1‬وصرح‬
‫ن رواية هذه الخطبة مع بعض الختلف الطفيف دليل على وجود مصدر آخر‬ ‫بأن محمد بن طلحة وان عاش بعد الشريف الرضي إّل أ ّ‬
‫لديه غير نهج البلغة‪ ،‬ثم أضاف‪ :‬يستفاد من رواية القاضي نعمان المصري فى »دعائم السلم« الذي عاش قبل الشريف الرضي أ ّ‬
‫ن‬
‫ن هذا الكلم هو جزء من الخطبة السابقة‪ ،‬والواقع‬
‫هذه الخطبة كانت معروفة عند الشيعة‪ .‬والذي يستفاد من كلم محمد بن طلحة أ ّ‬
‫أّنهما خطبة واحدة مع سابقتها فهى مرتبطة بها تمامًا‪ ،‬ولذلك يبرز هنا هذا السؤال‪ :‬لم فصلهما الشريف الرضي عن بعضهما؟ ذهب‬
‫صاحب مصادر نهج البلغة إلى احتمالين‪:‬‬

‫ن هذا الكلم جزء من الخطبة‬‫الول أن يكون الشريف الرضي نقلهما من مصدرين‪ ،‬والخر أّنه كتب حقًا‪ :‬ومن هذا الكلم; أي أ ّ‬
‫ل«‪) .‬مصادر‬‫ن نساخ نهج البلغة التبس عليهم المر فكتبوا »ومن كلم له)عليه السلم( الذي يفيد كونه كلمًا مستق ً‬
‫السابقة‪ ،‬إّل أ ّ‬
‫نهج البلغة ‪ 362 / 1‬مع شيء من التوضيح(‪.‬‬

‫] ‪[ 390‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ن هذه الخطبة هى جزء من الخطبة السابقة وقد فككها الشريف‬ ‫يعتقد بعض المحققين ـ كما ذكرنا سابقًا ـ أ ّ‬
‫الرضي)ره(; المر الذي يؤيده مضمون الخطبة ومحتواها; فالخطبة السابقة تحدثت عن القضاة والجهال‬
‫لّمة وصيانة عرضها وأموالها‬‫المنحرفين الذين يصدرون الحكام الجائرة في قضائهم بما يهدد بالصميم أمن ا ُ‬
‫وأنفسها وبالتالي استشراء الفوضى والفساد في صفوف المجتمع‪.‬‬

‫لخرى عن القضاة الذين يستندون في أحكامهم إلى الدلة الواهية الضعيفة من قبيل‬ ‫كما تحدثت هذه الخطبة هى ا ُ‬
‫القياس والرأي والستحسان فتوصلهم إلى نتائج خاطئة‪ ،‬والنكى من ذلك يصوب رئيسهم كل هذه الحكام‬
‫المتناقضة ويرى فيها أحكام ال المطابقة للواقع‪ .‬ثم يتطرق المام)عليه السلم( إلى ابطال نظرية التصويب‬
‫)النظرية التي ترى أن آراء القضاة وفتيا الفقهاء تمثل الحكام اللهية الواقعية رغم تضادها وتضاربها مع‬
‫بعضها(‪ ،‬على أساس الدلة المنطقية التي تفند مثل هذه العقيدة‪ ،‬ثم يكشف النقاب عن السبيل الذي يقود إلى الحق‬
‫في هذه القضايا السلمية التي ضل فيها الكثيرون‪.‬‬

‫والخطبة على ثلثة أقسام‪:‬‬

‫القسم الول‪ :‬في الحديث عن السلوب الذي اعتمده القضاة في تعاملهم مع القضايا والتي تستبطن الحكام‬
‫المتناقضة التي تخالف أحكام ال‪.‬‬

‫والقسم الثاني‪ :‬في ابطال النظرية التي تصرح بصواب الجميع‪.‬‬

‫وأخيرًا القسم الثالث الذي يتحدث في المام)عليه السلم( عن عظمة القرآن وكونه المرجع الفصل في حل جميع‬
‫الختلفات‪.‬‬

‫—–‬
‫الشرح والتفسير‬

‫ما عّلة كل هذا الختلف؟‬

‫يستهل المام)عليه السلم( كلمه بالقول‪» :‬ترد على أحدهم القضية في حكم من الحكام فيحكم‬

‫] ‪[ 391‬‬

‫فيها برأيه‪ ،‬ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلف قوله« ثم أردفه)عليه السلم(بالقول »ثم يجتمع‬
‫القضاة بذلك عند المام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعًا‪ ،‬وإلههم واحد أو نييهم واحد! وكتابهم واحد«‪.‬‬

‫ن المام)عليه السلم( يوجه ضربة قاصمة إلى دعائم هذه العقيدة المنحرفة بقوله »والههم واحد ونبيهم واحد‬
‫لأّ‬‫إّ‬
‫وكتابهم واحد«‪.‬‬

‫فمما لشك فيه ل يصدر من ال الواحد في مسألة واحدة سوى حكم واحد‪ ،‬فهو العالم بكافة الحقائق المحيط بجميع‬
‫الشياء فيحكم فيها بحكم واحد على ضوء المصالح والمفاسد‪.‬‬

‫فل يخطئ في هذا الحكم ول من سبيل للنسيان إلى ذاته المقدسة ليختلف الحكم ول يندم ول ينكشف له بمرور‬
‫ل ـ إذن فل يمكن تصور الختلف من جانب ال أبدًا‪.‬‬ ‫الزمان ما كان مجهو ً‬

‫ن نبّيهم واحد‪ ،‬وهو معصوم في اصدار الحكام‪ ،‬فيبّين الحكم اللهي دون زيادة أو نقيصة‪،‬‬ ‫أضف إلى ذلك فا ّ‬
‫وعليه فليس هنالك اختلفًا من جانبه أيضًا‪ .‬وأخيرًا كتابهم واحد; الكتاب الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من‬
‫خلفه‪ ،‬وليس للتحريف من سبيل إليه‪ ،‬فهو يستند إلى الوحي اللهي الذي يأبى الختلف والتضاد; فهو كتاب ال‬
‫خِتلفًا َكِثـيرًا()‪.(1‬‬
‫جُدوا ِفـيِه ا ْ‬
‫ل َلَو َ‬
‫غْيِر ا ّ‬
‫عْنِد َ‬
‫ن ِ‬
‫ن ِم ْ‬
‫)َوَلْو كا َ‬

‫إذن فليس هنالك اختلفًا من جانب الكتاب‪ .‬فهذه العبارات في الواقع مقدمة لما سيأتي‬

‫‪ .1‬سورة النساء ‪. 82 /‬‬

‫] ‪[ 392‬‬

‫ن هذه العبارات‬
‫ن هذا الختلف اّنما ينبع من أفكارهم القاصرة وعجزهم العلمي‪ ،‬وبعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫من كلم في أ ّ‬
‫اجابة ورد على مسألة التصويب التي تعرض لها المام)عليه السلم( بصورة مفصلة لحقًا‪.‬‬

‫ن العتقاد بالتصويب وصحة الراء المتناقضة إّنما هو انحراف عن أصل التوحيد ونزوع نحو نوع‬ ‫والواقع هو أ ّ‬
‫ن ال واحد‪ ،‬وتوحيد النبوة يرى أنّ نبوة ُاولي العزم واحدة في كل عصر‪،‬‬
‫من الشرك‪ .‬فالتوحيد اللهي يعني أ ّ‬
‫وتوحيد الشريعة في أن الكتاب السماوي واحد‪.‬‬

‫وعليه فالميل نحو تعدد الحكام الواقعية ليس سوى الشرك الذي يتقاطع صراحة وأصل التوحيد‪.‬‬

‫تأّملت‬
‫‪ 1‬ـ مسألة التصويب ونشأتها‬

‫تعتبر هذه المسألة من أهم المسائل السلمية ذات الصلة الحميمة بمسألة »الجتهاد« و»الرأي« و»القياس«‬
‫و»الستحسان« وما إلى ذلك‪ ،‬كما ترتبط بالحداث السياسية والتأريخية التي أعقبت وفاة النبي)صلى ال عليه‬
‫وآله(‪ .‬وإليك شرحها باختصار بعيدًا عن الطالة والخروج عن ُاسلوب البحث‪:‬‬

‫ن عصر الرسالة كان مفعمًا بالحداث المعقدة الجتماعية والسياسية والعسكرية بحيث لم تدع للمسلمين من‬
‫‪1‬ـأّ‬
‫مجال للوقوف على كافة الحكام‪ ،‬وإن بينت اصولها الساسية في القرآن‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ لقد اتسعت رقعة الدولة السلمية بعد النبي)صلى ال عليه وآله( بحيث كانت تظهر مسائل جديدة كل يوم في‬
‫الحكام الفقهية السلمية حتى رأى المسلمون أنفسهم أمام كم هائل من المسائل المستحدثة ولم يروا أجوبتها في‬
‫الحاديث النبوية الشريفة‪.‬‬

‫أضف إلى ذلك منع بعض الخلفاء )عمر( الصحابة من تدوين السّنة)‪ (1‬مخافة أن تختلط‬

‫لمة الميني ذكر في المجلد السادس من الغدير الدلة على هذه المسألة من أهم مصادر العامة من قبيل سنن ابن‬
‫‪ .1‬المرحوم الع ّ‬
‫ماجة وسنن الدارمي ومستدرك الحاكم في تذكرة الحفاظ وكنز العمال وغيرها تحت عنوان »نهي الخليفة عن الحديث« وبّين كيف ان‬
‫عمر نهى عن تدوين أحاديث رسول ال)صلى ال عليه وآله( وهدد بالحبس والنفي كل من رواها‪.‬‬

‫] ‪[ 393‬‬

‫بالقرآن‪ ،‬حتى اندثرت أغلب أحاديث رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬فأصبح هناك نقصًا حادًا في المصادر‬
‫السلمية‪ ،‬حتى رأى الفقهاء ول سيما الخلفاء الذين كانوا يشهدون كل يوم هجوم المسائل الفقهية الجديدة أّنهم‬
‫ن السلم ل يمتلك الردود تجاه مختلف القضايا الحقوقية والجزائية‬ ‫يعيشون حرجًا شديدًا‪ ،‬بحيث إذا زعموا أ ّ‬
‫ت َلُكُم‬
‫ضـي ُ‬
‫عَلْيُكْم ِنْعَمِتي َوَر ِ‬
‫ت َ‬
‫ت َلُكْم ِديَنُكْم َوَأْتَمْم ُ‬
‫والفردية والجتماعية‪ ،‬فند زعمهم بالية القرآنية )الَيْوَم َأْكَمْل ُ‬
‫سلَم ِدينًا()‪.(1‬‬
‫لْ‬‫اِ‬

‫فالدين الخاتم الذي ل يعرف معنى للمكان والزمان بل يتصف بالعالمية والخلود لبّد أن يلبي كافة الحاجات على‬
‫مدى الدهور والعصور إلى نهاية الدنيا‪ ،‬ولكن كيف بذلك مع هذه الحاديث القليلة التي نقلت عن رسول ال)صلى‬
‫ن هذا المأزق الحرج إّنما نشأ من تجاهل وصية رسول ال)صلى ال‬ ‫ال عليه وآله(‪ .‬وهنا ل ينبغي أن ننسى بأ ّ‬
‫لّمة‬
‫نا ُ‬
‫عليه وآله(وحديثه المعروف بحديث الثقلين الذي قرن فيه العترة الطاهرة من أهل بيته بالقرآن الكريم وأ ّ‬
‫ان تمسكت بهما معًا فاّنها لن تضل بعده أبدًا)‪ .(2‬فلو عمل المسلمون بهذه الوصية وتلقوا أحاديث الئمة‬
‫ن مشكلة لم تكن لتحدث قط‬ ‫المعصومين التي تمثل المتداد الطبيعي لحاديث رسول ال)صلى ال عليه وآله( فا ّ‬
‫ولم يشهد المسلمون هذه المعضلة التي عصفت بالفرق السلمية‪ ،‬وهذا بعينه ما جعل أتباع مدرسة أهل‬
‫البيت)عليهم السلم(ل يشعرون بنقص تجاه أية مسألة من المسائل الفقهية‪ ،‬وقد نقلت اللف المؤلفة من أحاديث‬
‫هذه العترة لتمكن فقهاء المامية من التعامل مع كافة القضايا الفقهية على ضوء النظرة السلمية‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ أخيرًا وبهدف خروج فقهاء العامة من هذا المأزق والطريق المسدود لم يكن لهم من سبيل سواء اللجوء إلى‬
‫القياس والستحسان والجتهاد بالمعنى الخص وتشريع القوانين والحكام من الفقهاء ـ فانبروا ليقسموا المسائل‬
‫إلى قمسين‪ :‬مسائل منصوصة ومسائل ل نص فيها )أي المسائل التي ورد بشأنها حكم في الكتاب والسّنة‬
‫والمسائل التي لم يرد فيها نص في‬

‫‪ .1‬سورة المائدة ‪.3 /‬‬

‫‪ .2‬لقد تحدثنا بالتفصيل في كتاب نفحات القرآن ج ‪ 9‬بحث »الولية والمامة العامة في السّنة« عن حديث الثقلين وتواتره في‬
‫المصادر الروائية للفريقين ومصادره المعروفة في صحيح مسلم والترمذي والدارمي ومسند أحمد وخصائص النسائي ومستدرك‬
‫الصحيحين وسنن البيهقي وغيرها من المصادر‪.‬‬

‫] ‪[ 394‬‬
‫الكتاب ول السّنة(‪ .‬فافتوا في المسائل المنصوصة طبق ماورد في النص‪ .‬وأّما المسائل التي لم يرد فيها نص‬
‫ل إذا ورد في باب‬
‫فقالوا‪ :‬حل المشكلة يكمن في أّنه إن كان له شبيه ونظير في الحكام السلمية قاسوا عليه‪ ،‬مث ً‬
‫الصلة حكم قاسوا الصوم بذلك الحكم‪ ،‬ان ورد حكم في الحج قاسوا عليه أحكام العمرة‪ ،‬وإذا لم يكن هناك من‬
‫شبيه في الحكام السلمية يجتمع الفقهاء ويتدارسوا مصالح ومفاسد ذلك المر ثم يتخذوا بشأنه حكمًا وهذا ما‬
‫أسموه بالجتهاد )بالمعنى الخص(‪.‬‬

‫وبعبارة ُاخرى فان هناك من قال صراحة‪ :‬مالم يرد فيه النص ليس له في السلم قانون خاص‪ ،‬وهذه وظيفة‬
‫الفقهاء في أن يضعوا له حكمًا من خلل الظن وتخفيف ثقل المصالح والمفاسد وما يرونه أقرب إلى المصلحة‪.‬‬
‫ل بينهم‪(1).‬‬
‫وهكذا أصبح الجتهاد بمعنى حق الفقيه في التشريع متداو ً‬

‫ن للجتهاد معنيان مختلفان إذا لم يميز بينهما فان ذلك يؤدي إلى عّدة نتائج سيئة‪:‬‬
‫وهنا لبّد من اللتفات إلى أ ّ‬

‫المعنى الول للجتهاد هو الجتهاد العام والذي يعني استنباط الحكام من الكتاب والسنة وسائر الدلة الشرعية‪.‬‬
‫ل‪،‬‬
‫ل واعتقدوا به عم ً‬
‫وهذا هو الجتهاد الذي يعتقد به كافة علماء الشيعة‪ ،‬وهو الجتهاد الذي أنكره الخباريون قو ً‬
‫ن كبار الخباريين يستدلون بالكتاب والسنة لثبات الحكام الشرعية كما يراعون أحكام العام والخاص والمطلق‬ ‫لّ‬
‫والمقيد وأمثال ذلك‪.‬‬

‫المعنى الثاني للجتهاد هو الجتهاد الخاص وهو الجتهاد في المسائل التي لم يرد فيها نص في الكتاب أو السنة‪،‬‬
‫فيلجأ على ضوئه إلى التشريع وسن الحكام مع الخذ بنظر العتبار المصالح والمفاسد والتشابه والتناظر‪ .‬وهذا‬
‫النوع من الجتهاد يختص بجمع كثير من علماء العامة وهو ما يصطلحون عليه بالجتهاد بالمعنى الخص‪ .‬وأّما‬
‫ما ذكرنا آنفًا بعدم وجود مثل هذا الجتهاد لدى علماء الشيعة إّنما يعزى إلى الثر الهائل الذي لديهم من أحاديث‬
‫الئمة‬

‫‪ .1‬الصول العامة للفقه المقارن ‪.617 /‬‬

‫] ‪[ 395‬‬

‫ن الموارد التي ل نص فيها قليلة جدًا ول تتطلب الجتهاد بالمعنى الثاني‪،‬‬‫المعصومين)عليهم السلم(كما يرون أ ّ‬
‫وذلك لّنهم يلجأون في مثل هذه الحالت إلى القواعد الكلية أو ما اصطلحوا عليه بـ »الصول اللفظية«‬
‫ن الموارد التي لنص فيها اّنه ل‬
‫و»العملية« التي تبّين حكم المسألة والعجيب أن طائفة من علماء العامة تعتقد بأ ّ‬
‫حكم لها »مال نص فيه ل حكم فيه« وهذه وظيفة العلماء في وضع الحكام لمثل هذه الحوادث )واللتفات إلى هذه‬
‫المسألة يعّد ضرورة لفهم الكلمات القادمة في الخطبة(; المر الذي يتنافى تمامًا وإكمال الشريعة‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ إذا ما اعطي حق التشريع ووضع الحكام في »ما ل نص فيه« للفقيه وباللتفات إلى كثرة عدد الفقهاء ولكل‬
‫ن ذلك سيؤدي إلى‬ ‫منهم الحق في التشريع‪ ،‬وليس هنالك من الزام في جمعهم في شورى لتصوب حكمًا واحدًا فا ّ‬
‫اختلف الراء وربما تناقضها في المسألة الواحدة وهنا يبرز مأزقًا آخر وهو‪ :‬هل يمكن قبول جميع هذه الراء‬
‫المختلفة على أّنها حكم ال‪ ،‬أم هناك حكم واحد حق والبقية باطل؟ ولما لم يكن هناك من تفاوت بين هذه الراء‬
‫لّنها صادرة من الفقهاء; وليس هنالك من حكم واقعي ل ليكون معيارًا في تمييز الصحيح من السقيم فسوف لن‬
‫يبقى هنالك من سبيل سوى التمسك بعقيدة التصويب‪ ،‬أو بعبارة أفضل فقد سقطوا في وادي التصويب وقالوا كل‬
‫هذه الراء تمثل الحكم الواقعي! ويعزز ذلك أّنهم يقولون بعدالة الصحابة وأحيانًا عدم خطأهم في الرأي‪ ،‬ومن هنا‬
‫كانت هناك آراء متعددة بعدد المجتهدين في الموضوع الواحد‪ ،‬وكلها تعتبر الحكم الواقعي للمسألة‪.‬‬

‫ن المرجع في تعيين الخلفة رغم خطورتها إّنما وكل إلى أهل الحل والعقد )العلماء( فما المانع‬‫فهم حين اعتقدوا بأ ّ‬
‫في أن يوكل للعلماء الحق في سن القوانين والحكام في المسائل الفرعية التي لم يرد نص بحقها ـ ومن هنا‬
‫ظهرت عقيدة التصويب بكل نتائجها وأخطارها بين طائفة من المسلمين إثر عدم العمل بوصية الرسول)صلى ال‬
‫عليه وآله( واللتزام بحديث الثقلين‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ غلق باب الجتهاد‪ :‬فقد أدت هذه المسألة إلى تنامي الراء والعقائد المختلفة والمتضاربة في المجتمع‬
‫لّمة في مسائلها الدينية واتاحة‬
‫السلمي وبين فقهاء المسلمين‪ ،‬لتتخذ صبغة خطيرة‪ ،‬كما كانت السبب في ترديد ا ُ‬
‫الفرصة لعداء السلم بالتفوه ضد السلم والمسلمين والحكام السلمية وهنا انبرت طائفة من المسلمين‬
‫لتوضع حدًا لهذا الوضع‬

‫] ‪[ 396‬‬

‫ل قبيحًا تجسد في غلق باب الجتهاد‪ .‬فقد صرحوا بأن هذا الحد يكفي ول يحق لحد بعد هذا‬ ‫المؤسف فارتكبت عم ً‬
‫لّمة طوائف في الحكام الشرعية وذهبت كل طائفة لتباع عالم‪ .‬فاختاروا‬ ‫ممارسة الجتهاد! وحيث اختلفت ا ُ‬
‫أربعة من هؤلء الفقهاء ممن لهم أتباع كثيرون )وهم أبو حنيفة ومالك ومحمد بن ادريس الشافعي وأحمد بن‬
‫حنبل( ثم الزموا الناس بتقليد أحد هؤلء الربعة وأبطلوا سائر الراء والعقائد للحيلولة دون الختلف والتمزق;‬
‫بينما ل نرى هنالك من دليل في الكتاب أو السّنة على إمامة هؤلء الفقهاء الربعة‪ ،‬وليس لهم أدنى امتياز على‬
‫من سواهم سوى كثرة أتباعهم‪ ،‬كما لم يقم الدليل على غلق باب الجتهاد وحصره بهؤلء الربعة لكل عصر‬
‫ومصر! وكما أشار المام)عليه السلم( في الخطبة رقم ‪» 16‬أل وأنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها‪،‬‬
‫ن هذه الهفوات العظيمة إّنما افرزتها الزلت الولى حتى تبلورت‬‫وخلعت لجمها‪ ،‬فتقحمت بهم في النار«‪ .‬فا ّ‬
‫كسلسلة ارتبطت حلقاتها لتؤدي بالتالي بأصحابها إلى النار‪ .‬لقد خلق غلق باب الجتهاد اليوم مشاكل عويصة‬
‫لفقهاء العامة وعلمائهم; وذلك لّنهم يرون أنفسهم اليوم أمام سيل جارف من المسائل المستحدثة التي ليس لها من‬
‫حكم في المذاهب الربعة; ومن هنا انبرت جماعة منهم علنية وُاخرى خفية تطالب بفتح باب الجتهاد بوجه‬
‫الفقهاء والخروج من حالة التقوقع والنطواء على المذاهب الربعة‪ ،‬كما خاضوا في ضرورة الفتاء في المسائل‬
‫المستحدثة وإعادة النظر في المسائل السابقة وهم يتساءلون عن علية حصر الجتهاد في المذاهب المذكورة‪ ،‬مع‬
‫العلم قد ظهر العلماء الذين فاقوهم‪ ،‬وحتى على فرض عدم تفوقهم على أسلفهم‪ ،‬فمثل هذا السؤال يبقى مطروحًا‪،‬‬
‫إذا ُاغلق باب الجتهاد فمن يتصدى للجابة على المسائل المطروحة اليوم؟‬

‫أّما أتباع أهل البيت)عليهم السلم( فقد بقوا في أمان من هذه العاصفة الهوجاء‪ ،‬فهم لم يعتقدوا بغلق باب الجتهاد‬
‫)طبعًا الجتهاد بالمعنى الول ل الثاني( طرفة عين أبدًا‪ ،‬وقد منحوا فقهائهم وعلمائهم حق استنباط الحكام‬
‫الشرعية من أدلتها المعروفة‪ ،‬في ذات الوقت الذي حظروا فيه الجتهاد بالمعنى الثاني على كائن من كان‪.‬‬

‫سؤال‪:‬‬

‫هنا سؤال يطرح نفسه‪ :‬الجتهاد بالمعنى الول هو الخر يقود إلى الختلف وعليه‬

‫] ‪[ 397‬‬

‫فليس هنالك من فارق بين الجتهاد بالمعنى الول أو الثاني؟‬

‫جواب‪:‬‬

‫ن الجتهاد بالمعنى الول يعني استنباط‬‫ن اللتفات إلى نقطة قد يوضح الجواب على السؤال المذكور‪ ،‬وهى أ ّ‬
‫إّ‬
‫الحكام من الكتاب والسّنة‪ ،‬وعليه فالمحور الصلي للجتهاد هو نصوص الكتاب والسّنة التي يجمع عليها‬
‫ن هذه‬
‫لاّ‬ ‫الفقهاء‪ ،‬فهناك الوحدة التي تجمع هؤلء الفقهاء‪ ،‬وإن كان هنالك بعض الختلف في الستنتاجات; إ ّ‬
‫الختلفات طفيفة عادة‪ ،‬ومن هنا نرى وحدة آراء الفقهاء في غالبية المسائل المشهورة‪ ،‬ول يوجد سوى اختلف‬
‫بسيط في بعض تفاصيل المسائل‪.‬‬

‫أّما الجتهاد بالمعنى الثاني فهو ل ينطوي على محور معين يجتمع حوله الفقهاء‪ ،‬بل المعيار لدى كل فقيه فكره‬
‫ورأيه‪ ،‬ومن هنا كانت الخلفات لتعد ول تحصى‪ ،‬فقد تطالعنا عّدة آراء في المسألة الواحدة; المر الذي يشوه‬
‫ن أنصار الجتهاد بالمعنى الول الذي يعني‬ ‫سمعة الشريعة السلمية ويسيء إلى كيانها‪ .‬أضف إلى ذلك فا ّ‬
‫ن دين ال لم ولن يكون ناقصًا‪ ،‬وليس هنالك من واقعة ـ بالمس واليوم‬ ‫استنباط الحكم من القرآن والسّنة يقولون‪ :‬إ ّ‬
‫والغد ـ أل ول فيها حكم قد ورد في العمومات والطلقات أو الدلة الخاصة للكتاب والسّنة وهى واضحة لدى‬
‫أئمة العصمة)عليهم السلم(‪ .‬فمن بلغ باجتهاده ذلك الحكم فقد أصاب‪ ،‬ومن لم يبلغه فقد أخطأ‪ ،‬فان لم يقصر في‬
‫مقدمات الجتهاد واستفرغ مافي وسعه كان معذورًا عند ال ومأجورًا‪ .‬وهذا هو العتقاد بالتخطئة في مقابل‬
‫العتقاد بالتصويب ولذلك يقول أصحاب هذا العتقاد »للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد« بينما زعم أنصار‬
‫ن كافة الحكام المتناقضة للمجتهدين والتي تمثل آرائهم هى‬
‫الجتهاد بالمعنى الثاني أن »كل مجتهد مصيب« أي أ ّ‬
‫أحكام إلهية واقعية حقة )لبّد من اللتفات والتأمل في هذا المر(‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ 2‬ـ نتائج القول بالتصويب وغلق باب الجتهاد‬

‫نشير بصورة مختصرة إلى المفاسد التي ترتبت على القول بالتصويب وغلق باب الجتهاد‪:‬‬

‫] ‪[ 398‬‬

‫‪ 1‬ـ العتراف بنقصان الدين )والعياذ بال( من حيث الحكام والعتماد على آراء الفقهاء وأفكار الفراد غير‬
‫المعصومين من الخطأ في إكمال أحكام الشريعة وسد النقص‪.‬‬

‫ن فتح هذا‬
‫‪ 2‬ـ غلق باب الجتهاد يعني العتقاد بعدم أحقية أي فرد في الجتهاد بعد الفقهاء الربعة من العامة! ل ّ‬
‫ن غلق باب‬ ‫الباب قد يؤدي أحيانًا إلى ظهور عشرات الراء والفتاوى المختلفة في المسألة الواحدة; كما نعلم أ ّ‬
‫الجتهاد‪ ،‬يغلق الطريق على فقهاء السلم في التصدي للرد على المسائل المستحدثة فيزج بمسلمي العالم بمأزق‬
‫خانق ل يمكنه النجاة منه بالنسبة للحكام الشرعية‪.‬‬

‫ن هذه البدعة في السلم وبسلبها‬


‫فالقتصار على المذاهب بأربعة تأريخ خطير ذا شجون‪ ،‬كما دل على أ ّ‬
‫لستقللية الفقهاء قد جرت الويلت‪ .‬وعلى ضوء ما أورده المقريزي في كتاب الخطط المقريزية وكذلك ابن‬
‫ن كثرة المذاهب قد‬‫الفوطي وآخرين أّنه لم تكن هناك من ضابطة معينة في انتخاب هذه المذاهب الربعة سوى أ ّ‬
‫ارعبت ولة البلدان السلمية المختلفة وأدت إلى ظهور موجة من الفوضى والهرج والمرج من جانب‪ ،‬ومن‬
‫ن العلل السياسية والجتماعية هى التي أدت إلى انتشار هذه المذاهب في كافة بلدان العالم السلمي;‬
‫جانب آخر أ ّ‬
‫وعليه فلم يكن بالمكان اسقاطها‪ .‬ولذلك تواطئ الفقهاء والحكام آنذاك بالوقوف بحزم بوجه كل من يتفوه بما لم‬
‫ن هذه المسألة قد حدثت في القرن السابع عشر‪ .‬فقد انطلقت في‬‫يرد في المذاهب الربعة المذكورة‪ ،‬والعجيب أ ّ‬
‫مصر عام ‪ 665‬وفي بغداد ‪ 631‬بحيث قرر أساتذة المدرسة المستنصرية المعروفة في عام ‪ 645‬عدم قبول أي‬
‫طالب ينتمي إلى غير هذه المذاهب‪.‬‬

‫وهكذا فقد اغلق باب الجتهاد بعد مرور سبعة قرون على ظهور السلم وبلوغ الجتهاد ذروته‪ ،‬ليصبح كافة‬
‫ل نتيجة طبيعية لذلك النحراف الذي وقع‬
‫الفقهاء مقلدين لهؤلء الئمة الربع ففقدوا استقلليتهم الفقهية‪ .‬وما هذا إ ّ‬
‫في القرن الول‪ .‬فقد ُاقصيت العترة الطاهرة عدل القرآن الكريم وأحد الثقلين وفتح باب القياس والستحسان‬
‫والجتهاد بالرأي وظهرت هذه الراء المتناقضة التي جرت الفوضى‪ ،‬فكان كل رأي حكم ال‪ ،‬والمؤسف له هو‬

‫] ‪[ 399‬‬

‫ن مدرسة أهل البيت)عليهم السلم( لم تتخذ مكانها حتى في مصاف المذاهب الربعة‪(1).‬‬
‫أّ‬

‫ن ذلك النحراف الول هو سبب ظهور هذه البدعة‪ ،‬البدعة التي لم يكن هنالك من سبيل سواها‪.‬‬
‫فالحق أ ّ‬

‫‪ 3‬ـ الهرج والمرج الفقهي والقضائي الذي أفرزته الراء المتعددة والمتناقضة التي قد يصل عددها أحيانًا إلى عدد‬
‫ن المشاكل آنذاك تفوق مشاكل المجالس التشريعية في عصرنا الحاضر بكثير‪ ،‬وذلك‬ ‫المجتهدين; ومما لشك فيه أ ّ‬
‫ن مجالس العصر تشهد على القل حضور الوكلء لبلد أو منطقة من العالم في مكان واحد فيتخذ القرارات على‬ ‫لّ‬
‫أساس أكثرية الراء التي تتمتع بالوحدة كحد أدنى بالنسبة لمنطقة معينة; أّما الجتهاد بالرأي والتصويب فهو‬
‫يسمح لكل مجتهد من المجتهدين أن يشرع بمفرده‪ ،‬والعجب من ذلك كل ما يتوصل إليه من حكم فهو حكم ال‬
‫ن أحكام المجتهدين آنذاك تمثل‬
‫الواقعي‪ ،‬وخلفًا لمجالسنا المعاصرة التي تكون أحكامها أحكامًا وضعية بشرية‪ ،‬فا ّ‬
‫الحكام اللهية التي يلزم الناس بأتباعها‪.‬‬
‫وأخيرًا ل نروم الخروج من بحثنا في الشرح والتفسير ولذلك نوكل من أراد المزيد بهذا الشأن إلى المصادر‬
‫المعروفة‪(2).‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬للوقوف على التفاصيل انظر كتاب »توضيح الرشاد في تأريخ عصر الجتهاد« للمحدث المحقق المرحوم الحاج الشيخ آقا بزرك‬
‫الطهراني‪.‬‬

‫‪ .2‬أنوار اُلصول ‪ 519 / 2‬ـ ‪ 543‬و ‪ 632 / 3‬ـ ‪ ،658‬المستصفى للغزالي ‪ ،234 / 2‬اُلصول العامة للفقه المقارن ‪ 305 /‬و ‪.617‬‬

‫] ‪[ 400‬‬

‫] ‪[ 401‬‬

‫القسم الثانى‬

‫ن ِبِهْم‬
‫سَتعا َ‬‫سْبحاَنُه ِدينًا ناِقصًا فا ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫صْوُه! َأْم َأْنَزَل ا ّ‬
‫عْنُه َفَع َ‬‫عوُه! َأْم َنَهاُهْم َ‬ ‫طا ُ‬
‫ف َفَأ َ‬‫خِتل ِ‬ ‫سْبحاَنُه ِباِلا ْ‬‫ل ُ‬ ‫»َأَفَاَمَرُهُم ا ّ‬
‫صَر‬
‫سْبحاَنُه ِدينًا تاّما َفَق ّ‬
‫ل ُ‬ ‫ضى؟ َأْم َأْنَزَل ا ّ‬ ‫ن َيْر َ‬
‫عَلْيِه َأ ْ‬
‫ن َيُقوُلوا‪َ ،‬و َ‬
‫شَركاَء َلُه‪َ ،‬فَلُهْم َأ ْ‬ ‫عَلى ِإْتماِمِه! َأْم كاُنوا ُ‬ ‫َ‬
‫يء«‬ ‫ش ْ‬‫ن َ‬‫ب ِم ْ‬ ‫طنا ِفي اْلِكتا ِ‬‫سْبحاَنُه َيُقوُل‪» :‬ما َفّر ْ‬ ‫ل ُ‬‫ن َتْبِليِغِه َوَأداِئِه‪َ ،‬وا ّ‬‫عْ‬‫سّلَم َ‬ ‫عَلْيِه َوآِلِه َو َ‬
‫ل َ‬‫صّلى ا ّ‬ ‫سوُل َ‬ ‫الّر ُ‬
‫ن ِم ْ‬
‫ن‬ ‫سْبحاَنُه‪َ» :‬وَلْو كا َ‬ ‫ف ِفيِه َفقاَل ُ‬
‫خِتل َ‬ ‫ضُه َبْعضًا‪َ ،‬وَأّنُه ل ا ْ‬ ‫ق َبْع ُ‬
‫صّد ُ‬
‫ب ُي َ‬‫ن اْلِكتا َ‬‫يء‪َ ،‬وَذَكَر َأ ّ‬ ‫ش ْ‬
‫ن ِلُكّل َ‬‫َوِفيِه ِتْبيا ٌ‬
‫خِتلفًا َكِثيرًا«‪.‬‬ ‫جُدوا ِفيِه ا ْ‬ ‫ل َلَو َ‬
‫غْيِر ا ّ‬‫عْنِد َ‬ ‫ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الختلفات غير المبررة‬

‫يفند المام)عليه السلم( في هذا الكلم بالدلة المحكمة مسألة الجتهاد بالرأي وتصويب آراء المجتهدين وبالتالى‬
‫حق الفقهاء في اصدار الحكام‪ ،‬ثم يصنف المام)عليه السلم( ذلك إلى خمسة ُاسس ويغلق كافة الطرق على‬
‫هولء‪ ،‬ثم يبين بجلء تام خطأ هذا اللون من التفكير‪.‬‬

‫فقد قال)عليه السلم( بعد أن تساءل على نحو الستنكار عن السب الذي يقف وراء هذا الختلف في المسائل‬
‫الفقهية »أفامرهم ال سبحانه بالختلف فاطاعوه«‪.‬‬

‫حقا ل يمكن قبول هذا المر‪ ،‬فال واحد أحد يدعو إلى الوحدة ويحذر من الختلف والفرق فهو القائل‪:‬‬
‫جِمـيعًا َول َتَفّرُقوا()‪ (1‬وبناءا على هذا فان‬
‫ل َ‬
‫لا ّ‬
‫حْب ِ‬
‫صُموا ِب َ‬
‫عَت ِ‬
‫)َوا ْ‬

‫‪ .1‬سورة آل عمران ‪.103 /‬‬


‫] ‪[ 402‬‬

‫ن هذا المر‬
‫الختلف تابع من موضع آخر‪ ،‬رام المام)عليه السلم(الشارة إليه »أم نهاهم عنه فعصوه« فالحق أ ّ‬
‫يشكل أحد مصادر الختلف; غير أن القضاة الذين يوردون عّدة آراء بشأن مسألة واحدة ليسعهم القرار بمثل‬
‫هذا الحتمال!‬

‫و عليه فان رّدهم على هذا السؤال سيكون بالسلب‪ .‬ثم تطرق المام)عليه السلم( إلى الحتمال الثالث فقال)عليه‬
‫السلم(‪َ» :‬ام انزل ال سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه«‪ .‬من المسلم به أّنه ليس هنالك مسلم يقول‬
‫بنقصان دين ال وإن ال استعان بالعباد ل كماله‪ ،‬بل بالعكس قد صرحت اليات القرآنية باكمال هذا الدين من‬
‫سلَم ِدينًا()‪.(1‬‬
‫لْ‬‫ضـيتُ َلُكُم ا ِ‬
‫عَلْيُكْم ِنْعَمِتي َوَر ِ‬
‫ت َ‬
‫ت َلُكْم ِديَنُكْم َوَأْتَمْم ُ‬
‫جميع الجهات )الَيْوَم َأْكَمْل ُ‬

‫ثم يورد المام)عليه السلم( الحتمال الخر الذي يبدو بطلنه واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار ل أم‬
‫ن من قال يتعدد اللهة فاّنه عليه أن يؤمن با ّ‬
‫ن‬ ‫كانوا شركاء له‪ ،‬قلهم أن يقولوا‪ ،‬وعليه أن يرضى« فمن البداهة أ ّ‬
‫لكل منهم سهم في التشريع واصدار الحكام; فهل للمسلم الذي ينطلق في عقيدته من التوحيد أن يعتقد بوجود‬
‫الشركاء ويرى في الفقهاء والقضاة شركاء ل؟ وبعبارة ُاخرى فان أحد فروع التوحيد )بعد توحيد الذات‬
‫والصفات( هو توحيد الفعال‪،‬أحد تفرعات توحيد الفعال هو توحيد الحاكمية والتشريع; وعلى ضوء ذلك فا ّ‬
‫ن‬
‫ل أمره!‬‫ل حكمه ول أمر إ ّ‬
‫الحكومة ل وحده وتنتهي إليه‪ ،‬فل حكم إ ّ‬

‫و لو لم يكن المر كذلك لختفى الحق سبحانه بقسم من التشريع ثم يفوض القسم الخر منه للعقول البشرية‬
‫العاخرة‪.‬‬

‫و هل لغيره من إحاطة قامة بمصالح الحكام ومفاسدها! أو يجوز على ال أن يفوض زمام ُامور عباه لمشرعين‬
‫يصدر كل منهم حكمًا وقانونًا على ضوء ظنه ورأيه القاصر بحيث يعيش العباد في هالة من الفوضى والقلق‬
‫والحيرة في ظل الراء المتناقضة المتضاربة!‬

‫ثم يتطرق المام)عليه السلم( إلى آخر احتمال فيقول‪» :‬أم أنزل ال سبحانه دينًا تامًا فقصر الرسول صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم عن تبليغه وأدائه«‪ .‬ل شك ول شبهة أّنه ليس هنالك من ينسب‬

‫‪ .1‬سورة المائدة ‪.3 /‬‬

‫] ‪[ 403‬‬

‫ن حتى ُاولئك الذين ليقرون بمسألة العصمة بصورة‬ ‫مثل هذا القول إلى النبي)صلى ال عليه وآله(; وذلك ل ّ‬
‫ن الحد الدنى أّنهم‬
‫مطلقة ويظنون بعدم وجود الدليل على عصمة النبي)صلى ال عليه وآله( في كافة الميادين‪ ،‬فا ّ‬
‫يسلمون بعصمته في التبليغ وأداء الوحي‪ ،‬حيث ل يبقى من مفهوم للنبوة والرسالة دون العتقاد بالمعنى المذكور‪.‬‬

‫ن السلم قد شرع كل ما‬ ‫آنذاك يعود المام)عليه السلم( إلى أصل المسألة فيكشف النقاب عن هذه الحقيقة وهى أ ّ‬
‫من شأنه تلبية حاجات البشرية ومتطلياتها‪ ،‬وعليه فالمام)عليه السلم(يصادر ما أوردوه من قولهم »ما ل نص‬
‫فيه لحكم فيه« بالستناد إلى قوله »و ال سبحانه يقول‪) :‬ما فرطنا في الكتاب من شيء وفيه تبيان لكل شيء()‪(1‬‬
‫فاليتان دليلن واضحان على أن ال لم ينزل دينًا ناقصًا عولهم يستعن باحد ل كماله; بل جاء في القرآن كل ما‬
‫يحتاج إليه‪ ،‬بعضها في العمومات وبعضها الخر في الحكام الخاصة التي سيأتي الحديث عنها إن شاء ال في‬
‫مبحث التأملت ولم ينس المام)عليه السلم( أن يسلب حربة التناقض من القضاة الذين يستشهد كل منهم بآية‬
‫يتباين مفهومًا وسائر اليات فقال)عليه السلم(‪» :‬و ذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأّنه ل إختلف فيه« ثم‬
‫يعزز المام)عليه السلم(دعوى عدم الختيارات في اليات القرآنية متشهدا بالقرآن »فقال سبحانه! ولو كان من‬
‫عند غير ال لوجدوا فيه إختلفًا كثيرًا«)‪.(2‬‬

‫ن تقادم الزمان أو تغيير المكان وكشف الظواهر الجديدة إّنما يدعوه إلى تغيير‬
‫ن علم النسان محدود‪ ،‬وأ ّ‬
‫فالواقع أ ّ‬
‫أفكاره باستمرار‪ ،‬ومن هنا فقد يورد كاتب بعض الموضوعات المتناقضة خلل حياته‪ ،‬وليس ذلك بعجيب‪ ،‬هذا‬
‫من جانب‪ ،‬ومن جانب آخر فان رصيد النسان النسيان‪ ،‬فلعه يتحدث اليوم عن شيء فينساه بعد شهر أو سنة‬
‫لمور ل تصدق على البارىء سبحانه العالم بكل شيء »و ما كان وما يكون«‬ ‫ن هذه ا ُ‬
‫لأّ‬
‫ليتحدث عن خلفه‪ .‬إ ّ‬
‫والعالم بالمحال لو كان كيف يكون‪ ،‬فليس لمرور الزمان من أثر على ذاته المقدسه; فهو فوق الزمان والمكان‪،‬‬
‫وناهيك عن هذا فليس هنالك من مفهوم للنسيان بالنسبة ل سبحانه‪،‬‬

‫‪ .1‬لبّد من اللتفات إلى أن قوله »ما فرطنا في الكتاب من شئى« هو نص الية ‪ 38‬من سورة النعام‪ ،‬أّما قوله »فيه تبيان لكل‬
‫شيء« فهو مضمون الية ‪ 89‬من سورة النحل ل عينها »ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء«‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة النساء ‪. 82 /‬‬

‫] ‪[ 404‬‬

‫فكيف الحال هذه ان يصدر عنه أدنى إختلف أو تناقض‪.‬‬

‫ن المام)عليه السلم( قد قند ببيان واضح بليغ عقيدة التصويب والتمسك بالقياس والستمسان‬ ‫وزيدة الكلم أ ّ‬
‫ن رسول ال)صلى ال‬ ‫ل وقرآنا جامعا يلبي كافة حاجات البشرية‪ ،‬وإ ّ‬‫والجتهاد بالرأي‪ ،‬فال سبحانه أنل دينًا كام ً‬
‫لّمة السلمية أي اختلف ودعا االمة مرارا إلى‬ ‫ن ال لم يقبل ل ُ‬
‫عليه وآله( لم يتوانى في تبليغ الرسالة‪ ،‬كما أ ّ‬
‫الخاء والوحدة‪ .‬وبناءًا على ما تقدم فما تفسير العتقاد بصحة الراء المتناقضة وتصويب الفتاوى المختلفة على‬
‫أّنها جميع حكم ال المطابق للواقع‪ ،‬سوى النحراف والضلل‪.‬‬

‫شمولية القرآن‬

‫لقد تضمن القرآن الكريم اليات الصريحة التي تبّين كافة ُامور المسلمين ومتطلباتهم وحاجاتهم إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫كما صّرحت الروايات السلمية بهذا المر‪ ،‬ومن ذلك ما ورد عن المام الصادق)عليه السلم( أّنه قال‪» :‬ان ال‬
‫تبارك وتعالى انزل في القرآن تبيان كل شيء حتى وال ما ترك شيئًا تحتاج إليه العباد‪ ،‬حتى ليستطيع عبد يقول‬
‫ل وقد أنزل ال فيه«)‪ (1‬ولكن هنا يبرز هذا السؤال‪ :‬إننا نرى أحكامًا مختلفة لم ترد‬‫لو كان هذا أنزل في القرآن‪ ،‬إ ّ‬
‫في القرآن الكريم وهذا المر لينسجم وشمولية القرآن الكريم; مثل لم يرد في القرآن شيء بشأن عدد ركعات‬
‫الصلة والسلع التي تجب عليها الزكاة وتصاب الزكاة وبعض مناسك الحج وعدد اشواط السعي بين الصفا‬
‫والمروة والطواف ومسائل ُاخرى في القصاص والحدود والديات وآداب القضاء وشرائط المعاملت وأنواع‬
‫المعاملت المستحدثة وما شاكل ذلك من الموضوعات الشرعية‪ .‬وللجابة على هذا السؤال لبّد من اللتفات إلى‬
‫ثلثة ُامور‪:‬‬

‫ن القرآن يشتمل على الحكام الكلية والقواعد العامة والعمومات والطلقات التي يتّم حل أغلب‬ ‫الول‪ :‬أ ّ‬
‫ل الية )َأْوُفوا ِبالُعُقوِد()‪ (2‬في المعاملت والية‬
‫المشكلت على ضوئها‪ .‬فمث ً‬

‫ن »لو« شرطية‪ ،‬والخر أّنها‬


‫‪ .1‬تفسير نور الثقلين‪ ،74 / 3 ،‬اصول الكافي‪) 59 / 1 ،‬هناك احتمالن بشأن هذه الرواية‪ :‬الول ا ّ‬
‫حرف تمني و»إّل« احيانًا للستثناء واخرى للتنبيه‪ ،‬راجع مرآة العقول‪.202 / 1 ،‬‬

‫‪ .2‬سورة المائدة ‪.1 /‬‬

‫] ‪[ 405‬‬

‫حَرج()‪ (1‬في أبواب العبادات و)ل ُتضاّر واِلَدةٌ ِبَوَلِدها َول َمْوُلوٌد َلُه ِبَوَلِدِه()‪ (2‬في‬ ‫ن َ‬ ‫ن ِم ْ‬ ‫عَلْيـُكْم ِفي الّدي ِ‬ ‫ل َ‬ ‫جَع َ‬
‫)َوما َ‬
‫حقوق الو الذين وسائراليات من هذا القبيل التي من شأنها الجابة على أغلب السئلة والمسائل المستحدثة أضف‬
‫ن السنة النبوية تمثل إحدى المصادر الرئيسية للحكام الشرعية والمعارف‬ ‫إلى ذلك فان القرآن الكريم صّرح بأ ّ‬
‫عْنُه َفاْنَتُهوا()‪ (3‬كما وصفة في آية ُاخرى باّنه مبين القرآن‬ ‫خُذوُه َوما َنهيُكْم َ‬
‫ل َف ُ‬ ‫سو ُ‬ ‫السلمية )َوما آتاُكُم الّر ُ‬
‫ل ِإَلْيِهْم()‪.(4‬‬
‫ن ِللّناس ما ُنـّز َ‬
‫ك الّذْكَر ِلُتَبـّي َ‬
‫ومفسره )َوَأْنَزْلنا ِإَلْي َ‬
‫النبي)صلى ال عليه وآله( من جانبه وعلى ضوء حديث الثقلين فقد جعل أهل بيته وعترته)عليه السلم(من‬
‫مصادر الحكام الشرعية والمعارف السلمية‪ ،‬ولو التزم المسلمون بوصية القرآن والنبي الكرام)صلى ال عليه‬
‫وآله(بما بقي هناك سوال في مجال الحكام دون إجابة‪.‬‬

‫ن للقرآن ظاهر وباطن‪ ،‬وظاهره المعاني والمفاهيم المعلومة‬


‫و أخيرًا يستفاد من الروايات السلمية المختلفة أ ّ‬
‫لدى الجميع ويعملون على ضوئها‪ ،‬أّما باطنه فهو معاني ومفاهيم ُاخرى ليس لحد من سبيل إليها سوى‬
‫النبي)صلى ال عليه وآله( والئمة المعصومين)عليهم السلم(‪ ،‬الذين يتعاملون مع اليات وفق روية وإدراك‬
‫آخر‪.‬‬

‫و بناءًا على هذا لو إصطف الثقلن )القرآن وأهل البيت( ولم يفصلهما المسلمون عن بعضهما‪ ،‬ل ستفادوا من هذا‬
‫العدل القرآني الذي يحل أغلب معضلتهم‪.‬‬

‫فقد قال المام الصادق)عليه السلم(‪» :‬أنا اعلم كتاب ال وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة وفيه خير‬
‫السماء وخير الرض وخير الجّنة وخبر النار وخبر ما كان وما هو كائن‪ ،‬اعلم ذلك كما أنظر إلى كفي ان ال‬
‫يقول فيه تبيان كل شيء«)‪ (5‬وجاء في نهج البلغة‬

‫‪ .1‬سورة الحج ‪.78 /‬‬

‫‪ .2‬سورة البقرة ‪.233 /‬‬

‫‪ .3‬سورة الحشر ‪.7 /‬‬

‫‪ .4‬سورة النحل ‪.44 /‬‬

‫‪ .5‬اصول الكافي‪) 61 / 1 ،‬كما نقل المرحوم الكليني في هذا الباب عّدة روايات(‪.‬‬

‫] ‪[ 406‬‬

‫»و في القرآن نبأ ما قبلكم وخير ما بعدكم وحكم ما بينكم«)‪ (1‬وقال)عليه السلم(في موضع آخر بشأن القرآن‬
‫ن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم«)‪ (2‬ولم يقتصر نقل هذه الحاديث‬ ‫لأّ‬ ‫»إ ّ‬
‫على أهل البيت)عليهم السلم(‪ ،‬بل نقلت من طرق العامة أيضا‪ ،‬فقد روى السيوطي في الدر المنشور عن‬
‫ن فيه علم الولين والخرين«‪ .‬وروى عن الوزاعي في تفسير الية »و نزلنا‬ ‫الصحابي المعروف ابن مسعود »أ ّ‬
‫عليك الكتاب تبيانا لكل شيء‪ .‬قال‪ :‬بالسنة«)‪ .(3‬وقد روى السيوطي في كتاب التقان هذا المعنى عن النبي)صلى‬
‫ال عليه وآله( أّنه قال‪» :‬في كتاب ال نبأ ما قبلكم وخبر ما يعدكم وحكم ما بينكم«)‪ (4‬ثم قال‪ :‬وقد أورده الترمذي‬
‫وغيره‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الكلمات قصار‪ ،‬الحكمة ‪.313‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.158‬‬

‫‪ .3‬الدر المنشور ‪ 127 / 4‬ـ ‪.128‬‬

‫‪ .4‬التقان‪ ،‬نوع ‪ 65‬من العلوم المستفادة من القرآن‪.‬‬

‫] ‪[ 407‬‬
‫القسم الثالث‬

‫ت ِإّل ِبِه«‪.‬‬
‫ظُلما ُ‬
‫ف ال ّ‬
‫ش ُ‬
‫غراِئُبُه‪َ ،‬ول ُتْك َ‬
‫ضي َ‬
‫عجاِئُبُه‪َ ،‬ول َتْنَق ِ‬
‫ق‪ ،‬ل َتْفَنى َ‬
‫عِمي ٌ‬
‫طُنُه َ‬
‫ق َوبا ِ‬
‫ن ظاِهُرُه َأِني ٌ‬
‫ن اْلُقْرآ َ‬
‫»َوِإ ّ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫أناقة القرآن وعمقه‬

‫يختتم المام)عليه السلم( خطيته ـ في القسم الثالث ـ يوصف القرآن الكريم بخمس صفات تنطوي على حقائق‬
‫عظيمة بشأن أهمية القرآن‪ ،‬مشيرا إلى ضرورة عدم غفلة القضاة والفقهاء عن هذا القرآن والستضاءة بنور‬
‫لخرى سوى السنة التي تستند‬ ‫ن القرآن يغنيسهم عّما سواه من المصادر ا ُ‬
‫حقائقه ومعارفه‪ ،‬إلى جانب الشعور با ّ‬
‫لخرى سوى السنة التي تستند إلى القرآن وتفسير مضامينه‪ .‬فقد قال في‬‫القرآن يغنيسهم عّما سواه من المصادر ا ُ‬
‫ن القرآن ظاهره أنيق«)‪.(1‬‬
‫صفته الولى »و إ ّ‬

‫وأّما صفته الثانية »و باطنه عميق«‪ .‬غالبًا ما يبتعد النسان عن رصانة المعنى إذا ما خاض في جمال الظاهر‪،‬‬
‫والعكس صحيح أيضًا فعادة ما يتعذر على النسان حسن إختيار اللفاظ إذا‬

‫‪» .1‬أنيق« من مادة »انق« على وزن رمق بمعنى الشيء الجميل‪.‬‬

‫‪ .2‬للوقوف على المزيد راجع كتاب نفحات القرآن‪ 114 / 8 ،‬بحث »اعجاز القرآن من حيث الفصاحة والبلغة«‪.‬‬

‫] ‪[ 408‬‬

‫رام الدقة في أداء المعنى‪ ،‬والخلصة تبدو عملية الجمع بين المعنى واللفظ ليست بالهينة; الحقيقة التي يمكن‬
‫مشاهدتها بوضوح في القرآن الكريم الذي جمع العمق في المعنى إلى جانب الرصانة والسبك في اللفظ‪.‬‬

‫أّما عمق القرآن فقد تلشت على سطحه كافة الفكار وتصاغرت أمامه جهايذة العقول‪ ،‬و كيف ل يكون كذلك‬
‫وهو كلم ال الثابع من ذاته المقدسة المطلقة‪ ،‬ولعل المتتبع يشعر بحقيقة هذه الكلمات ارا ما طالع أي من السور‬
‫القرآنية لتتجسد أمامه بوضوح الصفتين التين أوردها المام)عليه السلم( بشأن القرآن‪.‬‬

‫وأّما الصفة والرابعة للقرآن فهى »ل تفنى عجائبه‪ ،‬ول تنقضي غرائبه«‪ .‬ولعل الفارق بين هاتين العبارتين هو أ ّ‬
‫ن‬
‫العبارة الولى تتحدث عن خلود العجائب والحقائق القرآنية السامية‪ ،‬و ذلك لننا الكثير من الكتب والمؤلفات‬
‫ن تقادم الزمان قد سلبها تلك الميزة وجردها من ُاعجوبتها‪،‬‬‫لأّ‬‫والمصنفات التي كانت ُاعجوبة في زمانها‪ ،‬إ ّ‬
‫ن قراءته قد تشكف له كل يوم‬‫ل لذة وحلوة وطلوة‪ ،‬بل إ ّ‬ ‫والقرآن ليس كذلك‪ ،‬فل يزداد قارىء القرآن ومعبده إ ّ‬
‫ما كان غائبًا عنه بالمس; فتظل للفاظه ومعانيه مواقع السحر في النفس‪.‬‬
‫وأّما العبارة الثانية فهى تتحدث عن أسرار القرآن التي تتكشف يوما بعد آخر‪.‬‬

‫ل به« ليس فقط ظلمة الجهل وظلمة الكفر وإنعدام اليمان‬ ‫أّما الصفة الخيرة للقرآن فهى »و ل تكشف الظلمات إ ّ‬
‫والتقوى‪ ،‬بل ليس لظلمات الحياة الجتماعية والسياسية والقتصادية دون التعاليم القرآنية‪ .‬فاليوم وإن ازدهر‬
‫العالم من حيث الصناعة وقطع أشواطًا في الرقي التطور‪ ،‬مع ذلك فهناك الظلمات الهائلة التي ألقت بظللها‬
‫ن من المعارك والقتال وسفك الدماء واستضحال أنواع الظلم والجور‬ ‫المشؤومة على المجتمعات البشرية التي فأ ّ‬
‫والضطهاد والفقر والحرمان‪ ،‬والنكى من كل ذلك إنعدام ال من والستقرار وسيادة الفوض والقلق‬
‫ل نتيجة مباشرة لغياب معاني اليمان والتقوى والفقر الخلقي والمعنوي‪ ،‬وليس هنالك‬ ‫والضطراب‪ ،‬وما ذلك إ ّ‬
‫من سبيل للخروج من هذه المآزق سوى بالتمسك بالقرآن بل الدهى من ذلك هجر القرآن واللجوء إلى الراء‬
‫الظنية والفكار البشرية القاصرة على مستوى الحكام من قبل قطاعات واسعة من المسلمين‪.‬‬

‫] ‪[ 409‬‬

‫تأّملن‬
‫‪1‬ـ القرآن والمسائل المستحدثة‬

‫ن المجتمع البشري في حالة حركة وتطور مستمر بحيث تستجد يوميا عّدة‬
‫هنالك سوال يقتدح في الذهان وهو‪ :‬أ ّ‬
‫مسائل على الساحة‪ ،‬فكيف للقرآن أن يواكب هذه الحركة في حين تتصف أحكامه بالثبات وعدم التغيير؟ وكيف‬
‫يسعه الرّد على المسائل المستحدثة؟‬

‫و للجابة على هذا السؤال نقول‪ :‬هنالك نوعان من الحكام في القرآن الكريم هما‪ :‬الحكام الجزئية والحكام‬
‫الكّلية‪ .‬فالحكام الجزئية من قبيل الحكام التي ذكرت للصلة ككيفية الوضوء والغسل والتيمم وسائر المسائل‬
‫كالقبلة وعدد الصلوات وما شابه ذلك‪.‬‬

‫وأّما الحكام الكّلية فيراد بها القواعد العامة الواردة في القرآن والتي تتصف بالسعة والشمولية‪ ،‬كقاعّدة وجوب‬
‫الوفاء بالعقود والمعاهدات )َأْوُفوا ِبالُعُقوِد()‪ (1‬وقاعّدة »ل حرج« )و ما جعل عليكم في الدين من حرج()‪(2‬‬
‫وقاعّدة »ل ضرر ول ضرار« التي استفيدت من بعض اليات القرآنية‪ ،‬وهى القواعد التي تلبي المتطلبات‬
‫لصول والقواعد الكلية التي صّرح بها الئمة)عليهم السلم( في كلماتهم‪ .‬بعبارة‬ ‫النسانية في اضفنا إلى القرآن ا ُ‬
‫لصول الكلية فهى ثابتة ل يعتربها التغيير‪ ،‬وتغيير‬
‫ُاخرى‪ :‬الموضوعات في حالة تغيير مستمر‪ ،‬أّما ا ُ‬
‫الموضوعات ل يعني سوى تبدل أحكامها حيث تخرج من حكم وتنضوي تحت حكم آخر‪ ،‬وعليه فاننا نستطيع‬
‫اليوم وبالستناد إلى القواعد الكلية أن نستنبط كافة الجابات على المسائل المستحدثة التي لم يرد ذكرها على وجه‬
‫الخصوص في الكتاب والسنة‪ ،‬فجعلها في كتاب نطلق عليه اسم المسائل المستحدثة‪ ،‬ويقال أن أفضل دليل على‬
‫إمكان الشيء وقوعه )في إشارة إلى وجود مثل هذه الكتب وبكثرة لغلب فقهاء الشيعة والتي تصدت للجابة على‬
‫كافة المسائل المسجدة اليوم على الساحة(‪.‬‬

‫و من أراد المزيد فليراجع كتب العلماء بشأن المسائل المستحدثة‪.‬‬

‫‪ .1‬سورة المائدة ‪.1 /‬‬

‫‪ .2‬سورة الحج ‪.78 /‬‬

‫] ‪[ 410‬‬

‫‪2‬ـ لم ل تنقضي عجائب القرآن‬


‫لقد صّرح المام)عليه السلم( في عبارته الخيرة بشأن القرآن قائل‪» :‬ل تفنى عجائبه ول تنقضي غرائبه«‪.‬‬
‫فكلما تقادم الزمان واجال العلماء والمفكرون أفكارهم في أسرار القرآن‪ ،‬كشفوا حقائق جديدة كانت خافية عليهم‪،‬‬
‫ن حلوة القرآن وطلوته حقيقة خالدة ل تعرف معنى للزمان‪ ،‬وهى الحقيقة التي ثبتت لدينا‬ ‫أضف إلى ذلك فا ّ‬
‫بالتجربة فما أكثر ما قرآنا القرآن وتلوناه و ل نزداد تجاهه سوى حيوية دون أن نشعر بأدنى ملل أو تعب; ول‬
‫غرو فالقرآن كلم ال‪ ،‬وكلم ال كذاته مطلق ل يقيد بالحدود‪ ،‬فهو ليس كلم المخلوق ليكتسب صفات عقله فكره‬
‫ن الخطاب القرآني متواصل إلى يوم القيامة‪ ،‬فاودعه ال‬
‫المعروف بالحدود والزمان والمكان‪ ،‬أضف إلى ذلك فا ّ‬
‫من السرار التي تتجدد على مدى الزمان‪.‬‬

‫ل سأل المام‬
‫ن رج ً‬‫و نختتم البحث بحديث المام الصادق)عليه السلم( عن المام الرضا)عليه السلم( أ ّ‬
‫ن ال‬
‫ل غضاضة« فقال المام)عليه السلم(ل ّ‬ ‫الصادق)عليه السلم( »ما بال القرآن ليزداد على الدرس والنشر إ ّ‬
‫تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ول لناس دون ناس فهو في كل زمان جديدعند كل يوم غض إلى يوم‬
‫القيامة«‪(1).‬‬

‫‪ .1‬ميزان الحكمة ‪ ;70 / 8‬بحار النوار ‪.15 / 92‬‬

‫] ‪[ 411‬‬

‫الخطبة ‪19‬‬

‫ومن كلم له )عليه السلم(‬

‫قال للشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة يخطب فمضى في بعض كلمه شيء اعترضه الشعث فيه فقال يا‬
‫أمير المؤمنين‪ ،‬هذه عليك ل لك‪ ،‬فخفض)عليه السلم( إليه بصره ثم قال‪:‬‬

‫سَرك‬ ‫ل َلَقْد َأ َ‬
‫ن كاِفر! َوا ّ‬ ‫ق اْب ُ‬
‫ن حاِئك! ُمناِف ٌ‬ ‫ن! حاِئك اْب ُ‬
‫عِني َ‬
‫لِ‬‫ل َوَلْعَنُة ال ّ‬
‫عَلْيك َلْعَنُة ا ّ‬
‫ي ِمّما ِلي‪َ ،‬‬‫عَل ّ‬
‫»ما ُيْدِريك ما َ‬
‫سا َ‬
‫ق‬ ‫ف‪َ ،‬و َ‬ ‫سْي َ‬ ‫عَلى َقْوِمِه ال ّ‬
‫ن اْمَرًأ َدّل َ‬
‫ك! َوِإ ّ‬
‫سُب َ‬
‫ح َ‬
‫حَدة ِمْنُهما ماُلك َول َ‬ ‫ن وا ِ‬‫خَرى! َفما َفداك ِم ْ‬ ‫سلُم ُأ ْ‬ ‫اْلُكْفُر َمّرًة َواِْل ْ‬
‫ف!‬
‫حْت َ‬‫ِإَلْيِهُم اْل َ‬

‫ب‪َ ،‬ول َيْأَمَنُه اَْلْبَعُد«‪(1).‬‬


‫ن َيْمُقَتُه اَْلْقَر ُ‬
‫ي َأ ْ‬
‫حِر ّ‬
‫َل َ‬

‫—–‬
‫قال السيد الشريف‪ :‬يريد)عليه السلم( اّنه اسري الكفر مرة وفي السلم مرة واما قوله‪ :‬دل على قومه السيف‬
‫فأراد به حديثًا كان للشعث مع خالد بن الوليد باليمامة‪ ،‬غر فيه قومه ومكر بهم حتى أوقع بهم خالد وكان قومه‬
‫بعد ذلك يسمونه »عرف النار« وهو اسم للغادر عندهم‪.‬‬

‫‪ .1‬جاء في كتاب مصادر نهج البلغة عدم وجود الختلف بين العلماء في نقل هذه الخطبة‪،‬قد نقلها من عاش قبل السيد الرضي‪،‬‬
‫كأبي الفرج الصفهاني في كتاب الغاني‪ ،‬وقد توفي الصفهاني قبل نشر نهج البلغة ‪ 44‬سنة )مصادر نهج البلغة ‪.(369 / 1،‬‬

‫] ‪[ 412‬‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الصطدام بمنافق طائش‬

‫لبّد من الشارة إلى نقطتين قبل الخوض في شرح هذه الخطبة‪:‬‬

‫ج في‬
‫شّ‬‫ج; لّنه ُ‬
‫ج سمى الش ّ‬
‫ن أسمه الشعث معدى كرب‪ ،‬وأبوه قيس الش ّ‬ ‫‪ 1‬ـ جاء في التأريخ بشأن الشعث أ ّ‬
‫شرحبيل بن يزيد بن امرىء القيس بن‬‫بعض حروبهم بن معدى كرب بن معاوية‪ .‬وأم الشعث كبشة بنت يزيد بن ُ‬
‫عمرو المقصور الملك‪.‬‬

‫كان الشعث أبدًا أشعث الرأس‪ ،‬فسّمي الشعث‪ ،‬وغلب عليه حتى ُنسي اسمه‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ اّما بشأن المناسبة التي دعت المام)عليه السلم( لمخاطبة الشعث بهذه الكلمات فهناك إختلف بين العلماء‬
‫ن أمير المؤمنين)عليه السلم( استوى جالسًا على منبر الكوفة فاخرج كتابًا فيه كلم رسول‬
‫فقد ورد في رواية أ ّ‬
‫ال)صلى ال عليه وآله( أّنه قال‪» :‬المسلمون تتكافؤ دماؤهم وهم يد على من سواهم من أحدث حدثا أو آوى محدثا‬
‫فعليه لعنة ال والناس أجمعين«)‪.(1‬‬

‫فانبرى الشعث بن قيس المنافق قائل‪»:‬هذا وال عليك ل لك« فخفض المام)عليه السلم( إليه بصره فخاطبه‬
‫بهذه الكلمات أمام المل‪ .‬ولعل مراد الشعث بن قيس إذا كانت دماء المسلمين متكافئة وهم يد على من سواهم‪ ،‬فما‬
‫معنى قتالك لطائفة من المسلمين؟ )و الحال أن المنافقين الذين أوقدوا نار الجمل وصفين والنهروان كانوا يرون‬
‫المام)عليه السلم( خليفة رسول ال)صلى ال عليه وآله(فبالضافة إلى نص النبي)صلى ال عليه وآله(على‬
‫خلفته فقد بايعه الناس(‪.‬‬

‫نعود الن إلى شرح الخطبة‪ ،‬فقد رد المام)عليه السلم( على الشعث بن قيس حين اعترضه بقوله »يا‬
‫أميرالمؤمنين هذا عليك ل لك« فقال‪» :‬ما يدريك ما علي مّما لي«‪.‬‬

‫حيث أراد المام)عليه السلم( أّنك لم تفهم كلمي وما أريد أن أقول‪ .‬فمرادي هو دعوة المسلمين إلى الوحدة‬
‫ل أّنك فهمت الكلم بالعكس‪ .‬ثم‬
‫وانبههم إلى خطاهم في مسألة التحكيم ليرعووا عن تكرار مثل هذه الخطاء‪ ،‬إ ّ‬
‫اغلظ عليه)عليه السلم(فقال‪» :‬عليك لعنة ال ولعنة اللعنيين«‪.‬‬

‫ن كل‬
‫و يشهد تاريخ الشعث وسيرته الخبيثة أّنه كان مستحقًا لمثل هذه اللعنة وعلى حد قول ابن أبي الحديد فا ّ‬
‫فساد في خلفة علي)عليه السلم( وكل اضطراب حدث فاصله الشعث)‪ (2‬ثم‬

‫‪ .1‬ورد في عّدة روايات ان المراد بقوله »من أحدث حدثا« القتل وسفك الدماء وهو المعنى النسب لهذه العبارة‪ ،‬راجع وسائل‬
‫الشعية‪11 / 19 ،‬ـ ‪ 19‬ابواب القصاص‪ ،‬الباب ‪4‬و ‪. 8‬‬

‫‪ .2‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.279 / 2‬‬


‫] ‪[ 413‬‬

‫قال)عليه السلم(»حائك بن حائك‪ ،‬منافق بن كافر«‪.‬‬

‫ن الحياكة كانت‬ ‫إختلفت أقول الشّراح بشأن المراد من »حائك« فقد حملها البعض على المعنى الظاهري على أ ّ‬
‫ل للشعث وأبيه وقد كانت مهنة تمارس من الطبفة الوضيعة في المجتمع آنذاك البعيدة عن معاني المعارف‬ ‫شغ ً‬
‫ن هذا المعنى لينسجم وما ورد في ترجمة الشعث وأبيه; لّنهما لم‬‫الدينية والداب الجتماعية والمدنية‪ ،‬غير أ ّ‬
‫يكونا يعملن بهذه المهنة‪.‬‬

‫ن احد معاني »حائك« بمعنى الشخص الذي‬ ‫ن المراد بها النسان المتكبر والناني ل ّ‬ ‫و ذهب البعض الخر إلى أ ّ‬
‫ن المراد بها المعنى الكنائي وهو حياكة الباطيل والكاذيب وهذا ما‬
‫يتبختر في مشيه ويتكبر)‪ (1‬وأخيرًا قيل بأ ّ‬
‫كانت عليه سيرة الشعث وأبيه; ول تقتصر هذه الكناية على اللغة العربية فحسب بل وردت في سائر اللغات‬
‫أيضًا‪.‬‬

‫ن هناك رواية أشارت بوضوح إلى هذا المعنى‪ ،‬فقد ورد الكلم عن الحائك عند المام‬ ‫والجدير بالذكر فا ّ‬
‫الصادق)عليه السلم( فقال)عليه السلم(‪» :‬اّنه ملعون‪ ،‬الحائك ملعون« ثم قال)عليه السلم( في تفسير ذلك »إّنما‬
‫ذلك الذي يحوك الكذب على ال وعلى رسوله«)‪.(2‬‬

‫ن أفعاله في زمان حكومة المام)عليه السلم(إّنما‬ ‫ن المام)عليه السلم( عده منافقًا فذلك مّما ل نقاش فيه ل ّ‬
‫إّما أ ّ‬
‫تشير إلى أّنه كان من رؤوس النفاق‪ ،‬فقد كان يشكل أحد العوامل التي أدت إلى شهادة أميرالمؤمنين على)عليه‬
‫السلم( وفشل المسلمين في معركة صفين ونشوب معركة النهروان وبروز مسألة التحكيم‪ ،‬وقد كان في أصحاب‬
‫أمير المؤمنين)عليه السلم( كما كان عبد ال بن أبي بن سلول في أصحاب رسول ال)صلى ال عليه وآله( كل‬
‫ن نفاقه أشهر من نار على علم‪ ،‬واّما التعبير بالكفار عن‬
‫واحد منهما رأس النفاق في زمانه‪ (3).‬وزيدة الكلم فا ّ‬
‫أبيه فذلك من مسلمات التاريخ حيث كان من المشركين وقد قتل في الجاهلية إثر خلفات قبلية‪.‬‬

‫ثم قال)عليه السلم(‪» :‬وال لقد أسرك الكفر مرة والسلم ُاخرى! فما فداك من واحدة منهما مالك ولحسبك«‪ .‬فقد‬
‫أورد ابن أبي الحديد‪ :‬فأّما السر الذي أشار إليه أميرالمؤمنين)عليه السلم( إليه في الجاهلية فقد ذكره ابن الكلبي‬
‫ج‪ ،‬خرج‬‫ن ُمرادا لما قتلت قيسًا الش ّ‬
‫في »جهرة النسب« فقال‪ :‬إ ّ‬

‫‪» .1‬حائك«‪ :‬وتأتي أحيانا من مادة »حوك« بمعنى الحياكة والنسيج‪ ،‬وتأتي أحيانا من »حيك« بمعنى التكبر والخيلء أثناء المشي‪.‬‬

‫‪ .2‬وسائل الشيعة‪ ،101 / 12 ،‬الباب ‪ ،23‬من أبواب ما يكتسب به‪ ،‬الحديث ‪.2‬‬

‫‪ .3‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.296 / 1‬‬

‫] ‪[ 414‬‬

‫حبيل بن‬
‫شَر ْ‬
‫الشعث طالبًا بثأره‪ ،‬فخرجت ِكندة ُمتساندين على ثلثة ألوية‪ :‬على أحد اللوية َكْبس ابن هانى بن ُ‬
‫طلعت بني فلن‪،‬‬ ‫ى بن ربيعة بن معاوية الكرمين ويعرف هاني بالمطلع‪ ،‬لّنه كان يغزو فيقول‪ :‬ا ّ‬ ‫الحارث بن عد ّ‬
‫فسّمى الُمطِلع‪ ،‬وعلى أحدها القشعم أبو جبر بن يزيد الرقم‪ .‬وعلى أحدها الشعث أبو جبر‪ ،‬وأسر الشعث‪ ،‬فُفدى‬
‫ل)صلى ال عليه‬ ‫ن رسول ا ّ‬‫بثلثة آلف بعير‪ ،‬لم يفَد بها عربي بعده ول قبله‪ ،‬وأّما السر الثاني في السلم‪ ،‬فإ ّ‬
‫ل عليه وآله نفسه عليهم‪ ،‬كما كان يعرض نفسه‬ ‫ل صلى ا ّ‬ ‫جاجا قبل الهجرة‪ ،‬عرض رسول ا ّ‬ ‫وآله(لما قدمت كنده ح ّ‬
‫على أحياء العرب‪ ،‬فدفعه بنو َوليَعَة‪ ،‬من بني عمرو بن معاوية ولم يقبلوه‪ ،‬فلما هاجر)صلى ال عليه‬
‫وآله(وتمهدت دعوته‪ ،‬وجاءته وفود العرب‪ ،‬جاءه وفد ِكندة‪ ،‬فيهم الشعث وبنو َوليعَة فأسلموا فأطعم رسول‬
‫ضَر موت زياد بن‬ ‫ح ْ‬ ‫ضَر َموت‪ ،‬وكان قد استعمل على َ‬‫ح ْ‬‫طعمة من صدقات َ‬ ‫ل)صلى ال عليه وآله( بني َوليعة ُ‬ ‫ا ّ‬
‫ي النصاري‪ ،‬فدفعها زياد إليهم‪ ،‬فأبوا أخذها‪ ،‬وقالوا‪ :‬ل ظهر لنا‪ ،‬فابعث بها إلى بلدنا على ظهر من‬ ‫لبيد البياض ّ‬
‫ل)صلى ال عليه‬ ‫حَدث بينهم وبين زياد شّر‪ ،‬كاد يكون حربًا‪ ،‬فرجع منهم قوم إلى رسول ا ّ‬ ‫عندك‪ ،‬فأبي زياد‪َ ،‬و َ‬
‫وآله(‪ ،‬وكتب زياد إليه)عليه السلم( يشكوهم‪.‬‬
‫ن يا بني َوليعة‪،‬‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( قال لبني َوليعَة‪َ» :‬لتَنَتُه ّ‬
‫وفي هذه الَوقعة كان الخبر المشهور عن رسول ا ّ‬
‫ل عديل نفسى‪ ،‬يقتل ُمقاتلتكم‪ ،‬وبشيء ذراريكم«‪ .‬قال عمر بن الخطاب‪ :‬فما تمنيت المارة‬ ‫ن عليكم رج ً‬ ‫ل بعَث ّ‬
‫أو ً‬
‫ل يومئذ‪ ،‬وجعلت أنصب له صدرى رجاء أن يقول‪ :‬هو هذا‪ ،‬فأخذ بيد على عليه السلم‪ ،‬وقال‪» :‬هو هذا«‪.‬‬ ‫إّ‬

‫ل)صلى ال عليه‬‫ل)صلى ال عليه وآله( إلى زياد‪ ،‬فوصول إليه الكتاب‪ ،‬وقد توّفى رسول ا ّ‬ ‫ثم كتب لهم رسول ا ّ‬
‫ن‪.‬‬
‫ن له أيديُه ّ‬
‫ضْب َ‬
‫خ َ‬
‫ت َبغاياهم‪ ،‬و َ‬
‫وآله(وطار الخبر بموته إلى قبائل العرب‪ ،‬فارتّدت بنو َوليعة‪ ،‬وغّن ْ‬

‫ل)صلى ال عليه وآله( يعلم ذلك منهم‪ .‬ولما‬ ‫وقال محمد بن حبيب‪ :‬كان إسلم بني َوليعه ضعيفا‪ ،‬وكان رسول ا ّ‬
‫شعب دخل أسامة بن زيد ليبول‪ ،‬فانتظره رسول‬ ‫جة الوداع‪ ،‬وانتهى إلى فم ال ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(ح ّ‬‫ج رسول ا ّ‬
‫حّ‬
‫حَبسنا! فكانت الّردة في أنفسهم‪.‬‬
‫ل عليه وآله‪ ،‬وكان أسامة أسوة أْفطس‪ ،‬فقال بنو َوليعَة‪ :‬هذا الحبشى َ‬
‫ل صلى ا ّ‬
‫ا ّ‬

‫قال أبو جعفر محمد بن جرير‪ :‬فأّمر أبوبكر زيادًا على حضر موت‪ ،‬وأمره بأخذ البيعة على أهلها واستيفاء‬
‫صدقات من بني عمرو بن معاوية‪ ،‬أخذ ناقًة لغلم منهم‬ ‫ل بني وليعة‪ ،‬فلما خرج ليقبض ال ّ‬
‫صدقاتهم‪ ،‬فبايعوه إ ّ‬
‫حجر‪ ،‬وكانت صفّية نفيسة‪ ،‬اسمها شذرة‪ ،‬فمنعه‬‫يعرف بشيطان بن ُ‬

‫] ‪[ 415‬‬

‫عها‬
‫جر‪ ،‬فقال لزياد‪َ :‬د ْ‬
‫حْ‬
‫ج‪ ،‬فاستغاث شيطان بأخيه العّداء بن ُ‬ ‫الغلم عنها‪ ،‬وقال‪ :‬خذ غيرها‪ ،‬فأبى زياد ذلك ول ّ‬
‫ن شذرة عليكما كالَبسوس‪،‬‬ ‫ج زياد وقال لهما‪ :‬ل تكوَن ّ‬ ‫ج الغلمان في أخذها ول ّ‬ ‫وخذ غيرها‪ ،‬فأبى زياد ذلك‪َ ،‬وَل ّ‬
‫ل في داره‪ .‬وهتفا بمسروق بن معدى كرب‪ ،‬فقال‬ ‫ن أِك َ‬
‫ن الذليل َم ْ‬
‫فهتف الغلمان‪ :‬يالعمرو! ُأنضام وُنضطهد! إ ّ‬
‫مسروق لزياد أطلقها‪.‬‬

‫ثم قام فأطلقها‪ ،‬فاجتمع إلى زياد بن َلبيد أصحابه‪ ،‬واجتمع بنو َوليعة‪ ،‬وأظهروا أمرهم‪ ،‬فبّيتهم زياد وهم غارون‪،‬‬
‫فقتل منهم جمعا كثير‪ ،‬ونهب وسبى‪ ،‬ولحق فّلهم بالشعث بن قيس‪ ،‬فاستنصروه فقال‪ :‬ل أنصركم حتى تمّلكونى‬
‫عليكم‪ .‬فمّلكوه فخرج إلى زياد في جمع كثيف‪ ،‬وكتب أبو بكر إلى المهاجر ابن أبي أمية وهو على صنعاء‪ ،‬أن‬
‫يسير بمن معه إلى زياد‪ ،‬فاستخلف على صنعاء‪ ،‬وسار إلى زياد‪ ،‬فلقواالشعث فهزموه وُقِتل مسروق‪،‬‬
‫جْير‪ .‬فحاصرهم المسلمون حصارًا شديدًا حتى ضعفوا‪،‬‬ ‫ولجأالشعث والباقون إلى الحصن المعروف بالّن َ‬
‫ونزل ليل إلى المهاجر وزياد‪ ،‬فسألهما المان على نفسه‪ ،‬حتى قدما به على أبى بكر فيرى فيه رأيه; على أن يفتح‬
‫سلم إليهم من فيه‪ .‬فحملواالشعث إلى أبي بكر مؤثقًا في الحديد‪ ،‬فعفى عنه وزّوجه‪ ،‬أخته أّم فروة‬
‫لهم الحصن وُي ْ‬
‫بنت أبى ُقحافة وكانت عمياء فولدت للشعث محمدًا وإسمعيل وإسحاق‪.‬‬

‫تأّملن‬
‫‪1‬ـ علة هذا الصطدام العنيف‬

‫لعل هنالك من يصاب بالذهول ممن ل يعرف مدى نفاق الشعث بن قيس لهذا الصطدام العنيف الذي اتبعه المام‬
‫إزائه حتى خاطبه بلعنة ال والناس أجمعين‪ ،‬ثم وصفه بتلك الصفات الشائنة كقوله‪» :‬حائك بن حائك‪ ،‬منافق بن‬
‫ل على‬‫كافر‪ ،‬وال لقد أسرك الكفر مرة والسلم ُاخرى! فما فداك من واحدة منهما مالك ول حسبك! وإن إمرًا د ّ‬
‫ن أدنى نظرة إلى التاريخ السود‬‫قومه السيف وساق إليهم الحتف! لحري أن يمقته القرب‪ ،‬ول يأمنه إلبعد« أل أ ّ‬
‫الذي حفلت به حياة هذا المنافق لتكشف عن مدى فساده وافساده للوسط السلمي‪ ،‬بل كان منقوتا حتى في‬
‫الجاهلية‪ ،‬إلى جانب كونه اليد الخبيثه في تأجيج نار الحروب حتى اشتهر بلقب »عرف النار«‪.‬‬

‫] ‪[ 416‬‬

‫نعم‪ ،‬ليس هنالك ما يثير الدهشة والعجب في مخاطبته بهذه الكلمات من قبل المام)عليه السلم(‪.‬‬
‫والواقع لم يرد في كلم المام)عليه السلم( سوى بعض صفاته الشنيعة التي تحتم على القائد الحكيم في ظل‬
‫لّمة وانظارها لكي ل تنطلي عليها حيله والعيبه‪،‬‬ ‫بعض الظروف أن يعري بعض الفراد المتآمرين أمام أعين ا ُ‬
‫ول سيما طائفة الشباب من المجتمع التي قد ل تمتلك الطلع الكافي عن حياة وماضي ُاولئك الفراد‪ ،‬اذن فقد‬
‫لّمة‪ ،‬لّنها إنطلقت بدافع الساءة والسب والشتم‪.‬‬‫كانت كلماته من قبل التعريف به ل ُ‬

‫‪2‬ـ كيف صبر المام)عليه السلم( على هذا المنافق‬

‫لعل ما ورد في الخطبة المذكورة يثير لدى البعض هذا السؤال‪:‬‬

‫إذا كانت للشعث بن قيس مثل هذه السابقة في الغدر والنفاق واثارة القلقل والمفاسد‪ ،‬لم صبر عليه المام )عليه‬
‫السلم( ولم يأمر بقتله؟ والجواب على هذا السؤال هو أن تعامل أئمة المسلمين مع عناصر النفاق ينطوي على‬
‫شيء من التعقبيد; فقد كانت عناصر النفاق تعيش الزدواج في تظاهرها بالسلم وأدائها لشعائره من قبيل الصوم‬
‫والصلة وقراءة القرآن‪ ،‬واضمارها للكفر والتآمر والخيانة والفساد وعليه فالصطدام بهم قد يؤدي إلى إثارة‬
‫بعض التوترات وتعالي أصوات الرأي العام في قتل المسلمين من أهل القبلة دون التورع في سفك دمائهم‪ ،‬ول‬
‫سيما بالنسبة للشعث الذي كان ينتمي إلى قوم وقبيلة; المر الذي يصعد من حدة التوتر ل محالة‪.‬‬

‫و قد شهد الرسول)صلى ال عليه وآله( مثل هذه المشكلة‪ ،‬بل كانت أعظم حدة مّما هى عليه في عهد‬
‫ن يقال ان محمدًا)صلى‬
‫أميرالمؤمنين)عليه السلم(حتى ورد عنه)صلى ال عليه وآله( أّنه قال‪» :‬لول أّني أكره أ ّ‬
‫ال عليه وآله( استعان بقوم حتى إذا ظفر بعدوه فتلهم لضربت أعناق قوم كثير«‪(1).‬‬

‫أجل فقد كانت هنالك طوائف من المنافقين التي إندست بين صفوف المسلمين‪ ،‬بل كانت تشهد حتى الغزوات إلى‬
‫جانبهم‪ ،‬ولعل الصطدام بهم كان يعني أن السلم ليقيم وزنا لدماء المسلمين‪ ،‬ومن هنا لم نسمع بان رسول‬
‫ن ذلك لم يكن ليمنع الرسول)صلى ال عليه‬‫لأّ‬‫ال)صلى ال عليه وآله( أمر بقتل أحدهم طيلة حياته المباركة‪ ،‬إ ّ‬
‫لّمة‪.‬‬
‫وآله( بل القرآن في التصدي لهم وتعريتهم أمام ا ُ‬

‫—–‬

‫‪ .1‬وسائل الشيعة‪ ،‬أبواب حد المرتد ‪ /‬الباب ‪ 5‬ح ‪.3‬‬

‫] ‪[ 417‬‬

‫الخطبة ‪20‬‬

‫ومن كلم له )عليه السلم(‬


‫وفيه ينفر من الغفلة وينبه إلى الفرار ّ‬
‫ل‬

‫عْنُكْم ما َقدْ‬‫ب َ‬ ‫جو ٌ‬ ‫حُ‬ ‫ن َم ْ‬ ‫طْعُتْم‪َ ،‬وَلِك ْ‬


‫سِمْعُتْم َوَأ َ‬‫عُتْم َوَوِهْلُتْم‪َ ،‬و َ‬‫جِز ْ‬‫ت ِمْنُكْم َل َ‬
‫ن َما َ‬ ‫ن َم ْ‬‫عاَي َ‬
‫عاَيْنُتْم َما َقْد َ‬
‫»َفِإّنُكْم َلْو َقْد َ‬
‫حّ‬
‫ق‬ ‫ن اْهَتَدْيُتْم‪َ ،‬وِب َ‬
‫سِمْعُتْم‪َ ،‬وُهِديُتْم ِإ ِ‬‫ن َ‬ ‫سِمْعُتْم ِإ ْ‬
‫صْرُتْم‪َ ،‬وُأ ْ‬
‫ن َأْب َ‬ ‫صْرُتْم ِإ ْ‬
‫ب! َوَلَقْد ُب ّ‬ ‫حجا ُ‬ ‫ح اْل ِ‬
‫طَر ُ‬ ‫ب ما ُي ْ‬‫عاَيُنوا‪َ ،‬وَقِري ٌ‬
‫شُر«‪(1).‬‬ ‫سماِء ِإّل اْلَب َ‬ ‫سِل ال ّ‬ ‫ل َبْعَد ُر ُ‬ ‫نا ّ‬ ‫عِ‬ ‫جٌر‪َ ،‬وما ُيَبّلُغ َ‬ ‫جْرُتْم ِبما ِفيِه ُمْزَد َ‬ ‫َأُقوُل َلُكْم‪َ :‬لَقْد جاَهَرْتُكُم اْلِعَبُر‪َ ،‬وُز ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫طرح الحجب قريبًا‬

‫لّمة من الغفلة ودعاها للتحلي باليقظة وتدارك ما فاتها من خلل العبودية والطاعة‬
‫لقد حذر المام)عليه السلم( ا ُ‬
‫خشية من الحداث التي تتنظرها في المستقبل القريب‪ .‬فقد استهل‬

‫‪ .1‬أورد المرحوم الكليني في كتاب الكافي في باب »ما يجب من حق المام على الرعية« بعض هذه الخطبة في ذيل رواية )راجع‬
‫كتاب الكافي‪ 405 / 1 ،‬ح ‪ ،3‬باب ما يجب من حق المام على الرعية(‪.‬‬

‫] ‪[ 418‬‬

‫كلمه)عليه السلم(بالقول »فاّنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم)‪ (1‬وسمعتم واطعتم«‪.‬‬

‫ن المام)عليه السلم( قد القى هذه الخطبة في الجمعة الولى بعد البيعة‪ ،‬و قد حذر‬ ‫و الذي يستفاد من الروايات أ ّ‬
‫لّمة ـ طبق رواية الكافي ـ من خيانة ائمتها ودعاها إلى الوحدة ورص الصفوف واجتناب الختلف والفرقة‪ ،‬ثم‬ ‫اُ‬
‫أورد هذه الكلمات لتأكيد المعنى المذكور‪ .‬اّما ما هى المواضيع التي سيشهدها النسان في عالم ما بعد الموت بعد‬
‫أن تطرح عنه الحجب فيسوده القلق والضطراب والجزع‪ ،‬فهذا مّما اختلفت فيه أقوال العلماء‪ ،‬لكن المسلم به أن‬
‫هناك موضوعين مهمين‪ :‬أحدهما اّنه سيرى نتائج أعماله وما ينتظره من جزاء وعقاب عليها‪ ،‬والثاني مدى‬
‫الحسرة والسف الذي سيشعر به تجاه تقصيراته التي صدرت منه في حياته الدنيا‪،‬المكانات التي كان من شأن‬
‫إستثمارها أن تبلغ به السعادة والفلح والفوز بالقرب اللهي ومجاورة الرحمن‪ ،‬غير أنه ضيع كل تلك الفرص‪،‬‬
‫والدهى من ذلك لسبيل إلى الرجوع إلى الحياة ثانية‪.‬‬

‫ن هذه الحجب هى‬ ‫ثم قال)عليه السلم(‪» :‬ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا‪ ،‬وقريب ما يطرح الحجاب« نعم أ ّ‬
‫ن هذه الحجب آيلة إلى الزوال‬‫التي جعلتكم تغطون في هذه الغفلة وتتعلقون بالدنيا وتغترون بها‪ ،‬ولكن اعلموا إ ّ‬
‫وسترون الشياء والحقائق كما هى حيث لينفع حينها القلق والجزع والفزع‪ ،‬كما ليس هنا لك من مجال للتوبة‪.‬‬

‫وهنا يبرز هذا السؤال‪ :‬لم ل يطرح البارىء سبحانه هذه الحجب عن النسان في الحياة الدنيا لينتبه إلى نفسه ول‬
‫ن اليات القرآنية قد تكّفلت بالجابة على هذا السؤال‪ :‬فلو طرحت هذه الحجب ورأى‬ ‫يعيش السكر والغفلة؟ يبدو أ ّ‬
‫ن أدنى تمرد سيؤدي إلى مواجتهم للعذاب الشديد حيث لم يعّد هنالك من عذر‬ ‫الناس الحقائق على صورتها فا ّ‬
‫للتقصير‪.‬‬

‫فقد صّرحت الية الثامنة من سورة النعام و)ولو أنزلنا ملكًا لقضي المر ثم ل ينظرون(‪.‬‬

‫ن اليمان من جراء مشاهدة الحقائق المترتبة على ما بعد الموت سوف لن يكون‬
‫و بغض النظر عن هذا المر فا ّ‬
‫مدعاة للعبودية والطاعة وسيكون نوعًا من الجبار والضطرار‪ ،‬كما‬
‫‪» .1‬وهلتم« من مادة »وهل« على وزن »وهب« بمعنى فقد صبره في مقابل الحوادث الصعبة‪ ،‬وتأتي بمعنى الخوف واحيانا بمعنى‬
‫التأوه والنين‪.‬‬

‫] ‪[ 419‬‬

‫نشاهد ذلك في الفراد ـ حتى الصبية منهم ـ حين يبدون ردود فعلهم المباشرة إذا ما إقتربت أيديهم من النار‪،‬‬
‫فاجتناب المعصية على هذا الضوء سوف لن يكون بدافع من الورع والتقوى و العبودية أبدًا‪.‬‬

‫أّما قوله)عليه السلم( »قريب ما يطرح الحجاب« فعمر النسان مهما كان ليس سوى لحظات عابرة مقارنة بعمر‬
‫الدنيا وزمان الخرة‪ .‬ثم أشار المام)عليه السلم( إلى مسألة مهّمة بهذا الشأن وهى أّنكم وإن لم تروا عالم ما بعد‬
‫ن الدلة عليه قائمة لديكم ومعالمه واضحة أمامكم »ولقد بصرتم ان ابصرتم‪ ،‬واسمعتم ان سمعتم‪،‬‬ ‫لأّ‬‫الموت‪ ،‬إ ّ‬
‫وهديتم إن اهتديتم«‪.‬‬

‫وعليه فليس هنالك من عذر لمن ضل السبيل وأخطأ المسيرة‪ ،‬فالحقائق المرتبطة بعالم الخرة وان حجبت عنكم‪،‬‬
‫ل أّنكم على علم بها من خلل ثلثة طرق‪ :‬الول من العتبار بما تشاهدونه في هذا العالم‪ ،‬فاثار الفراعنة وقبور‬ ‫إّ‬
‫ن ال‬
‫السلف لدلة واضحة على العاقبة المريرة التي تنتهي إليها مسيرة القوام الظالمة والتي تشير إلى أ ّ‬
‫ن الدلة العقلية ليست بالقليلة وهى‬
‫بالمرصاد‪ ،‬كما لديكم الكتب السماوية و الرسالت النبوية‪ ،‬أضف إلى ذلك فا ّ‬
‫تقودكم بكل بساطة إلى المعاد واليوم الخر‪.‬‬

‫و عليه فعبارته)عليه السلم( إّنما تشير إلى الدلة الحسية والنقلية والعقلية‪.‬‬

‫ن البصيرة تطلق على الدراك العقلي‬ ‫كما يحتمل أن تكون الجملة الولى إشارة إلى الدلة الحسية والعقلية )ل ّ‬
‫أيضا( والجملة الثانية تلمح إلى الدلة النقلية‪ ،‬بينما تشير الجملة الثالثة الهداية الناجعة من هذه الدلة‪ .‬ثم قال)عليه‬
‫السلم(‪» :‬وبحق أقول لكم‪ :‬لقد جاهرتكم العبر«‬

‫فالعالم مليىء بحوادث العبرة والعتبار التي ل تخفى على أحد‪ ،‬فتلك آثار الفراعنة والقاصرة والكاسرة التي‬
‫عَلْيِهْم‬
‫ن َ‬
‫لمم السالفة‪ .‬وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله‪َ) :‬و ِإّنـُكْم َلـَتُمّرو َ‬‫تخبر عن أحوال من كان من ا ُ‬
‫ن()‪(1‬‬‫ل َأَفـل َتـْعِقُلو َ‬
‫ن* َوِبالّلـْي ِ‬
‫حـي َ‬
‫صِب ِ‬
‫ُم ْ‬

‫ك َوَأْوَرْثناها‬
‫ن* َكذ ِل َ‬
‫عُيون * َوُزُروع َوَمقام َكِريم * َوَنْعَمة كاُنوا ِفـيها فاِكِهـي َ‬ ‫جّنات َو ُ‬
‫ن َ‬
‫و قال ايضا‪َ) :‬كْم َتَرُكوا ِم ْ‬
‫ن()‪.(2‬‬ ‫ظِري َ‬
‫ض َوما كاُنوا ُمْن َ‬‫لْر ُ‬‫سماُء َوا َ‬‫عَلْيِهُم ال ّ‬
‫ت َ‬
‫ن(‪ .‬وقال في موضع آخر )َفما َبَك ْ‬ ‫خِري َ‬
‫َقْومًا آ َ‬

‫‪ .1‬سورة الصافات ‪137 /‬ـ ‪.138‬‬

‫‪ .2‬سورة الدخان ‪25 /‬ـ ‪.29‬‬

‫] ‪[ 420‬‬

‫لدباء والشعراء تعرضوا‬ ‫فقد شحن القرآن بهذه اليات إلى جانب الروايات السلمية التي أكدت هذا المعنى‪ .‬ا ُ‬
‫لهذه الحوادث في نتاجانهم مّما يثبت حقيقة قوله)عليه السلم(‪» :‬لقد جاهرتكم العبر«‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬و‬
‫زجرتم بما فيه مزدجر«)‪ .(1‬ولعل هذا الزجر يستند إلى لسان التكوين الذي ينطلق من أعماق التاريخ واخبار‬
‫جٌر()‪.(2‬‬
‫لْنباِء ما ِفـيِه ُمْزَد َ‬
‫نا َ‬
‫الماضين كما صور ذلك القرآن الكريم )َوَلَقْد جاَءُهْم ِم َ‬

‫أو عن طريق لسان التشريع والوحي الذي ورد في الكتب السماوية‪ .‬وعليه فقد تمت الحجة تكوينًا وتشريعًا ولم‬
‫ل البشر«‪ .‬فما هذا النتظار؟‬ ‫يعّد هنالك من عذر‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬و ما يبلغ عن ال بعد رسل السماء إ ّ‬
‫أتتوقعون أن تهيط عليكم الملئكة ويتلون عليكم اليات؟ فقد تشدق بذلك الكفار على عهد النبي)صلى ال عليه‬
‫ل الَملِئَكَة ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫ن()‪ .(3‬فرد عليهم القرآن بالقول‪):‬ما ُنَنـّز ُ‬
‫صادِقـي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ت ِم َ‬
‫ن ُكْن َ‬
‫وآله(قائلين‪َ) :‬لْو ما َتْأِتـينا ِبالَملِئَكِة ِإ ْ‬
‫لمم‬
‫ن()‪ (4‬وخلصة القول فان ال قد أتم حجته عن طريق المشاهدات الحسية لثار ا ُ‬ ‫ظِري َ‬‫ق َوما كاُنوا ِإذًا ُمْن َ‬
‫حـ ّ‬
‫ِبال َ‬
‫السابقة ومن خلل العقل وأخيرًا الوحي‪ ،‬وليس لحد أن يخرج عن سبيل الطاعة بحجة »لول أنزل علينا‬
‫الملئكة«‪.‬‬

‫ملحظة‬
‫عالم ما بعد الموت‬

‫ن الحجب الظلمانية ل تدعنا نرى حوادث‬ ‫ن هنالك الغشية الغليظة التي تحول بيننا وبين ذلك العالم وأ ّ‬
‫صحيح أ ّ‬
‫عالم البرزخ )و ينبغي أن يكون المر كذلك ; فلو طرحت الحجب لفقد المتحان حرارته ول نطلق الجميع في‬
‫ن اليات القرآنية‬
‫حالة شبه إضطرارية نحو الحق فلم يعّد هنالك من معيار لتمييز المطيع من العاصي(‪ ،‬غير أ ّ‬
‫والروايات السلمية الواردة عن أئمة‬

‫‪» .1‬زجرتم« و»مزدجر« من مادة »زجر« بمعنى الصدعن عمل بصوت عال‪ ،‬ثم اطلق على كل منع صدر كما يستعمل في التهي عن‬
‫الذنوب‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة القمر ‪.4 /‬‬

‫‪ .3‬سورة الحجر ‪.7 /‬‬

‫‪ .4‬سورة الحجر ‪. 8 /‬‬

‫] ‪[ 421‬‬

‫العصمة)عليه السلم( قد أشارت إلى طبيعة هذا العالم المرعب‪ ،‬كما بينت مدى الهلع الذي يعتري النسان حين‬
‫ب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما‬ ‫مشاهدته لملك الموت وحين يرى ما عمل حاضرا أمامه‪ ،‬فينطلق صوته »ر ّ‬
‫تركت«)‪ (1‬فيأتيه الجواب بالسلب‪ ،‬فليس هنالك من سبيل إلى الرجعة كاستحالة عودة الجنين إلى رحم ُاّمه‪.‬‬

‫و قد أشار المام علي)عليه السلم( في بعض خطبه في نهج البلغة إلى هذا المر‪ ،‬من ذلك أّنه قال‪» :‬يفكر فيم‬
‫ل جمعها اغمض في مطالبها‪ ...‬واشرف على فراقها تبقى لمن ورائه«)‬ ‫أفنى عمره وفيم أذهب دهره ويتذكر أموا ً‬
‫ن كل هذا الجزع والفزع من جراء مشاهدة ذلك العالم الخطير ورؤية ملك الموت‪ .‬وقد أسمعنا أولياء ال‬ ‫‪ (2‬أجل أ ّ‬
‫من ائمة الدين ما ينبغي سماعه عن تلك المنازل المرعبة‪ ،‬إن كانت لنا آذانا صاغية‪.‬‬

‫»الّلهم ارزقنا عينًا بصيرة واذنًا سميعة وقلبًا حافظًا‪ ،‬لنتزود لتلك الدار قبل وفاتنا وفوات الوان‪ ،‬فنحلق إلى‬
‫ذلك العالم بقلب مطمئن ونفس واثقة ونفوز بقرب اوليائك من الشهداء والصديقين »و حسن ُاولئك رفيقا«‪.‬‬

‫الّلهم تقبل مّنا هذا الجهد المتواضع ومن علينا باكماله بفضلك ورحمتك‪.‬‬

‫الختام‬

‫النصف من شهر رمضان المبارك‬

‫الولدة الميمونة للمام المجتبى)عليه السلم(‬

‫سنة ‪ 1416‬الموافق ‪ 7/3/1995‬م‬


‫‪ .1‬سورة مؤمنون ‪ 99 /‬ـ ‪.100‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.109‬‬

You might also like