Professional Documents
Culture Documents
الولية في
شرح نهج
البلغة
جزء 1
مكارم الشيرازي
شرح عصري لنهج البلغة
1 4 3 2/ 0 6 / 2 0
المجلد الول
][5
ل وأساسًا ل ومنه ً
فما أكثر البحوث والدراسات في تصويره الفني وفصاحته وبلغته وصياغته حتى أضحى موئ ً
ونبراسًا للدراسات السلمية ومعينًا ثرا للمعارف النسانية .وهل رأينا كالنهج يرغب المؤلفون بشرحه والتعرف
عليه والقتباس منه والستشهاد به وحفظ ولو بعض حكمه ومواعظه .إّنه كتاب المعاني الروحية ،والعدالة
لدلة والكمال والنقاء ،ونابض بكل مفيد وسديد ورشيد ،ورافض الجتماعية ،والتربية الرسالية ،والقيم الخلقية ،وا ّ
لكل ألوان الشرور والفجور والغرور ومهما استجدت من أفكار وآراء ونظريات واكتشافات خلل هذه القرون
ل انسجامًا واحترامًا ،لّنه
ل تسديدًا وتأييدًا وتخليدًا ،ول يزداد المفكرون والباحثون نحوه إ ّ
المتطاولة فل تزيده إ ّ
الكتاب الزاهر بالحجج البالغة والزاخرة بالموارد السائغة والجامع بين جلل البلغة وجمال الصياغة ،وبين
إصالة المعاني وجزالة المباني وبين دّقة التصوير ورقة التعبير.
لقد عكفت كأغلب الفراد الشغفين بنهج البلغة على مطالعة بعض أجزائه .بحسبما كانت تتطلبه الضرورة
ى برفقة طائفة من كبار
والحاجة ،حتى لحت بوادر الخامس عشر من خرداد عام 1963م فُالقي القبض عل ّ
لولى حيث عمدت جلوزة العلماء والمفكرين فاودعنا السجن .كانت ظروف السجن عصيبة جّدا في اليام ا ُ
ن الضغوط التي مارسها الرأي العام النظام الشاهنشاهي البائد إلى حظر أغلب الشياء عن الوصول إلينا ،غير أ ّ
دفعت بذلك النظام
][6
إلى التخفيف من وطأته والتنازل عن بعض المحظورات الثقافية; المر الذي جعلنا نطلب من أصدقائنا وذوينا
إتياننا ببعض الكتب إلى السجن .أّما أنا فقد ناشدتهم كتاب نهج البلغة لستغل تلك الفرصة المناسبة وأتفرغ فيها
ي ووّفقني للتدبر والتحقيق في دراسة القسم الثاني من هذا الكتاب
ن ال عل ّ
للتأمل في هذا الكتاب العظيم ،وقد م ّ
والذي يشمل الرسائل والوصايا السياسية والخلقية ،آنذاك أيقنت بأنّ نهج البلغة لعظم وأكبر مّما كّنا نفكر فيه
ونتصوره عنه .فقد رأيت نفسي حينها أمام بحر زاخر من العلوم والمعارف التي تعالج أهم قضايا النسان في
كافة أبعاده المعنوية والمادية ،كما يمد النسان بمختلف المواهب المعنوية التي تمكنها من بلوغ شأطئ المان في
هذه الدنيا المحفوفة بالمكاره.
آنذاك أدركت عمق خيبة وخسران أولئك الذين وّلوا ظهورهم لهذا الكنز الفّياض والمنهل العذب وجعلوا يسيلون
لعابهم لموائد الجانب بما يعجزون عن التيان بمثل قطرة من بحره المتلطم!
من عجائب هذا الكتاب الذي اقتفى آثا رالقرآن حتى طبع بصفاته وسماته إّنه وخلفًا للمدارس الفكرية والخلقية
ن خطب أمير المؤمنين)عليه والسياسية التي يبليها الزمان فاّنه يحمل في طياته صفات العصرنة والتجدد وكأ ّ
السلم( ومواعظه وتوجيهاته تقرع سمع المعاصر وتجعله يعيش أجواء مسجد الكوفة .وما أجدر عشاق الحق
والحقيقة والمتعطشين لمعرفة العلوم الرّبانية والمتطلعين لعيش الحياة الحرة الكريمة أن يقصدوا كل يوم ضريح
هذا العالم الفذ السيد الشريف الرضي )جامع نهج البلغة( فيؤدوا له طقوس الجلل والكبار ويقرأوا الفاتحة
على روحه الطاهرة بفضل الجهود المضنية التي بذلها من أجل جمع كلمات أميرالمؤمنين)عليه السلم( فزود بها
ل عن المجتمعات السلمية. البشرية جمعاء فض ً
وماذا بوسعي أن أقول بشأن نهج البلغة الذي حار في وصفه البلغاء وعجز عن تصويره الفصحاء وعيت عن
الحاطة بكنهه العلماء ،وعليه ل أرى من جدوى في الستغراق في هذا الموضوع ،وأخوض في الغرض والدافع
لدباء على هذا الكتاب النفيس ـ نهج البلغة ـ بين حافظ وناسخ وشارح ،حيث من هذا الكتاب .فقد أقبل العلماء وا ُ
بلغ عدد شّراحه في العصر القديم والحديث ما جاوز الخمسين شارحًا الذين بذلوا ما بوسعهم لسبر أغواره
واستخراج
][7
ن هذا الكتاب ما يزال ن النصاف هو أ ّ لأّ كنوزه وجواهره حتى قدموا خدمة جليلة لطلب المعرفة والحكمة ،إ ّ
يعيش مظلومية كبرى وغربة عظمى ،وليس هناك من سبيل لزالتها سوى في تظافر الجهود وتعبئة الفكار
والطاقات من أجل إعادة النظر والسهاب في تفاصيل وجزئيات هذا الكتاب الثر ،ول سيما في عصرنا الراهن
الذي تشهد فيه المجتمعات النسانية ذروة المشاكل والمطبات التي تعترض حياتها اليومية ،إلى جانب ظهور
المذاهب والمدارس الفكرية المختلفة والحملت الشعواء التي تمارسها الجهزة الستكبارية والدوائر النفعية
الغارقة في الهواء والشهوات وحب الدنيا والخلود إليها ضد العقائد والخلق والفضيلة والتقوى بغية تحقيق
أهدافها المشؤومة في ضمان مصالحها ونهب خيرات البشرية وتجريدها من هويتها النسانية .أجل فالعصر
الحاضر يجعل نهج البلغة يتطلب جهودًا أكثر وأنشطة أوسع وأشمل من شأنها التوصل إلى الطرق والساليب
التي تذلل الصعاب المادية والمعنوية والفردية والجتماعية ،إلى جانب التصدي إلى النزعات الفكرية الهدامة التي
تستهدف الدين والخلق .وعلى هذا الساس وما أن فرغنا من نشاطنا القرآني في التفسير الذي دوناه ـ التفسير
المثل ـ وكتابنا رسالة القرآن والتي حظيت باقبال المحافل العلمية والوساط التحقيقية حتى آلينا على أنفسنا أن
نواصل نفس هذه الجهود وبمعونة الخوة الفضلء من العلماء بخصوص نهج البلغة على غرار الجهود
ن التجارب السابقة قد جعلت هذا الجهد والساليب التحقيقية التي إعتمدناها في التفسير القرآني ـ المثل ـ بل إ ّ
المتواضع أقرب من غيره إلى التقان والكمال .نعم لقد عزمنا على مباشرة هذا العمل رغم كثرة المشاكل
والعراقيل وسعة حجم المسؤوليات مستلهمين العزم والمداد من البارئ سبحانه وعبده الخالص ربيب النبي)صلى
ال عليه وآله( أمير المؤمنين ويعسوب الدين وقائد الغر المحجلين علي بن أبي طالب)عليه السلم( وبعد أن وعدنا
الخوة الذين وقفوا إلى جانبنا في التفسير القرآني بتقديم كافة أشكال الدعم والعون في هذا المجال لكي نعد شرحا
جديدًا جامعًا لهذا الكتاب من شأنه تلبية حاجات العصر ووضع الحلول الوافية الشافية للمعضلت الفكرية
والجتماعية ،كما استعنا في بعض المواقيع بما أورده المفسرون والشارحون القدماء والمعاصرون من أجل
إغناء كافة جوانب المواضيع ،إلى جانب اعتماد الفكار والطروحات الحديثة المعاصرة.
][8
لقد باشرنا هذا العمل غرة الثالث عشر من شهر رجب المرجب لعام 1413هـ الميلد الميمون لمير
المؤمنين)عليه السلم(وسار بخطوات بطيئة هادئة حتى استغرق إعداد المجلد الول ـ رغم الجهود الجماعية
المشتركة ـ ما يقارب الثلث سنوات )ومن الطبيعي أن ل تشوب العمال العجلة في بدايتها( .حتى اتسقت لنا
لمور فأخذنا نحث السير وننهض سريعًا بهذا العمل ،رغم يقيننا بأننا مازلنا نحوم في هذا المحيط المتلطم
اُ
والبحر العميق; المر الذي ليبد ويسيرًا قط .والفضل أل أخوض في التفاصيل التي اعتمدت في هذا الشرح
وأترك ذلك للخوة القراء ،ويسرني هنا أن أناشد كافة الخوة الفضلء أن يتحفونا بآرائهم بما يقرب هذا العمل من
أهدافه ومقاصده ،إلى جانب النظر بعين العفو والصفح إلى الخطأ والزلل.
وأخيرًا أسأل ال أن يتفضل علينا باتمام هذا الجهد المتواضع بغية التزود من مائدة نهج البلغة لنا ولكافة جياع
ل بال عليه توكلت وإليه أنيب ،وآخر دعوانا أن الحمد الفكر والعقيدة ،إّنه نعم المولى ونعم المجيب ،وما توفيقي إ ّ
ل رب العالمين.
][9
السيد الرضي جامع نهج البلغة
هو أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي ،ولد في بغداد سنة تسع وخمسن وثلثمائة للهجرةُ .أّمه فاطمة بنت
الحسين بن أبي محمد الحسن الطروش بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب)عليه السلم(،
وهى إمرأة فاضلة عرفت بالورع والتقوى والبصيرة الثاقبة ،فقد قال فيها السيد الرضي)ره(:
ن الباِء
عِ
ن ِبها َ
ى الَبُنو َ
غِن َ
ل ُاّم َبّرة *** َ
ن ِمثَلك ك ّ
َلْو كا َ
كما يتصل نسب جّده بالمام موسى بن جعفر الكاظم)عليهما السلم( وهو أبو أحمد الحسين بن موسى بن محمد
بن موسى بن إبراهيم بن المام أبي إبراهيم موسى الكاظم)عليه السلم( .وقد كانت له منزلة عظيمة في الدولة
العباسية والدولة البويهية ،حتى لقبه أبو نصر بهاء الدين بالطاهر الوحد.
أقبل السيد الرضي على العلم والفقه والدب حتى بات أبدع أبناء زمانه ،وقد خلف أبيه عام 388بتولي نقابة
الطالبيين في حياته ،وعهد إليه بالنظر في المظالم والحج بالناس .إبتدأ ينظم الشعر وله من العمر عشر سنين أ
ل ،اّما المرحوم
ل ،حكم بعض النقاد بأّنه أشعر الطالبيين ،وإلى جانب ذلك فقد كان كاتبًا بليغًا مترس ً
وتزيد قلي ً
لمة الميني فقد صّرح بشأن السيد الشريف الرضي قائل» :وسيدنا الشريف الرضي هو مفخرة من مفاخر الع ّ
العترة الطاهرة ،وإمام العلم والحديث والدب ،وبطل من أبطال الدين والعلم والمذهب ،ومهما تشدق الكاتب فان
في البيان قصورًا عن بلوغ مداه«(1).
] [ 10
1ـ أبو سعيد الحسن بن عبدال بن مرزبان النحوي المعروف بالسيرافي المتوفى عام 368هـ فقد درس السيد
الرضي عليه النحو ولما يبلغ العاشرة من عمره.
2ـ النحوي المعروف أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي المتوفى عام 377هـ .
4ـ الخطيب المشهور أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد المعروف بابن نباتة المتوفى عام 394هـ .
6ـ الفقيه والمحدث والمتكلم الشيعي الكبير الشيخ المفيد والذي يعّد من أعظم أساتذة السيد الرضي .وهناك قصة
رائعة جديرة بالسماع بشأن كيفية تتلمذه وأخيه السيد المرتضى على يد الشيخ المفيد .فقد قال مؤلف كتاب
ن فاطمة بنت رسول »الدرجات الرفيعة« :رأى المفيد أبو عبد ال محمد بن النعمان الفقيه المام في منامه ،كأ ّ
ال)صلى ال عليه وآله(دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها والداها الحسن والحسين)عليهما السلم(
صغيرين فسلمتهما إليه) ،وقالت له :علمهما الفقه( .فانتبه متعجبًا من ذلك ،فلّما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة
التي رأى فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر ،وحولها جواريها وبين يديها ابناها محمد الرضي
وعلي المرتضى صغيرين ،فقام إليها وسّلم عليها .فقالت له :أّيها الشيخ هذان ولداي ،قد أحضرتهما لتعلمهما الفقه.
ص عليها المنام وتولى تعليمهما الفقه ،وأنعم ال عليهما ،وفتح لهما من أبواب
فبكى أبو عبد ال ـ الشيخ المفيد ـ وق ّ
العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا; وهو باق ما بقى الدهر »وردت هذه القصة في شرح ابن أبي
الحديد ،ج .«41 / 1
لمة الميني ذكر تسعة من تلمذة السيد الرضي ،ويمكن الشارة هنا إلى أبرز
ن الع ّ
روى كبار علماء الفريقين أ ّ
من روى عنه ومنهم شقيقه السيد المرتضى وشيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي كانت للسيد
الرضي همة كبيرة جعلته يؤسس مدرسة لطلب العلوم
] [ 11
الدينية أسماها »دار العلم« ولعلها أول مدرسة يتلقى فيها الطلب الدروس صباحًا بينما يخلدون إلى الراحة
والسكن مساًء في نفس المدرسة ،وهى على غرار مدرسة أخيه السيد المرتضى ،وقد كان الشيخ الطوسي
والقاضي عبد العزيز بن براج من تلميذها وسبقت مدرسته »المدرسة النظامية« ببغداد بحوالي 80سنة وربما
كانت تقليدًا لها).(1
ن السيد الرضي خلف أكثر من تسعة عشر كتابًا ،أهمها أثره الخالد نهج البلغة الذي يضم لمة الميني أ ّ
ذكر الع ّ
خطب ورسائل وكلمات المام علي)عليه السلم( .ثم يورد الشيخ الميني أسماء واحد وثمانين كتابًا زمان السيد
تعرضت لشرح نهج البلغة أ وترجمته.
1ـ خصائص الئمة ،والذي أشار إليه المؤلف في مقدمة نهج البلغة.
5ـ حقائق التأويل في متشابه التنزيل والذي عّبر عنه الكشي بحقائق التنزيل.
ن الشعر لم يضف شيئًا لشخصيته العظيمة ،ورغم ذلك فقد جادت كان السيد الرضي نابغة في الشعر ،علمًا أ ّ
قريحته الشعرية بمختلف الفنون والداب والصنوف الشعرية التي تكشف عن مدى قدرته في نظم الشعر .يذكر أ ّ
ن
السيد الرضي قد أنشد قصيدة غّراء كشف فيها النقاب عن علو نسبه ولما يبلغ العاشرة من عمره ولذلك عّده بعض
جح شعره على المتنبي ،وهناك رسائل ومبادلت بينه وبين الصاحب بن
لدباء أشعر شعراء قريش ،ورّبما ر ّ
اُ
عباد وأبي اسحاق
] [ 12
ل :سمعت محمد بن عبد ال الكاتب أّنه قال عند أبي الحسين بن الصابي ،وذكر الخطيب البغدادي في تأريخه قائ ً
ل:
لدباء أّنهم قالوا :السيد الرضي أشعر شعراء قريش .فرّد ابن محفوظ قائ ً محفوظ قال :سمعت من فريق من ا ُ
ل أّنهم قليلوا النظم
نعم ،هذا كلم صحيح ،ثم أضاف :كان هناك بعض الفراد الذين يحسنون الشعر في قريش إ ّ
للشعر ،ولم يكن سوى السيد الرضي يكثر إنشاد الشعر إلى جانب إتصافه بالعذوبة والجمال.
القابه ومناصبه
لقبه بهاء الدولة سنة 388بالشريف الجل ،وفي سنة 392بذي المنقبتين ،وفي سنة 389بالرضي ذي الحسبين،
وفي سنة 401أمر أن تكون مخاطباته ومكاتباته بعنوان الشريف الرضي أن المناصب والوليات كانت منكثرة
على عهد سيدنا الشريف من الوزارة التنفيذية والتفويضية والمارة على البلد بقسميها العامة والخاصة ،تولى
الشريف نقابة الطالبيين وامارة الحاج والنظر في المظالم سنة 380وهو ابن 21عاما على عهد الطائع ،ثم عهد
إليه في 16محرم سنة 403بولية ُأمور الطالبيين في جميع البلد فدعي »نقيب النقباء«(1).
.1النقابة :موضوعة على صيانة ذوي النساب الشريفة عن ولية ول يكافئهم في النسب ول يساويهم في الشرف ،ليكون عليهم
أحبى وأمره فيهم أمضى وهى على ضربين :خاصة وعامة ،وأّما الخاصة فهو أن يقتصر بنظره على مجرد النقابة من غير تجاوز لها
إلى حكم وإقامة حد فل يكون العلم معتبرًا في شروطها ويلزمه في النقابة على أهله من حقوق النظر اثنا عشر حقًا:
1ـ حفظ أنسابهم من داخل فيها وليس هو منها ،أ وخارج عنها.
2ـ تميييز بطونهم ومعرفة أنسابهم حتى ل يخفى عليه منه يتوأب.
ل)صلى ال
4ـ أن يأخذهم من الداب بما يضافي شرف أنسابهم وكرم محتدهم لتكون حشمتهم في النفوس موقورة وحرمة رسول ا ّ
عليه وآله( فيهم محضورة.
توفي السيد الرضي)رحمه ال( في السادس من شهر محرم الحرام من سنة ست وأربعمائة ـ وله من العمر ما
يناهز السابعة والربعين ـ ،وحضر جنازته الوزير فخر الملك ،وجميع العيان والشراف والقضاة والصلة
عليه ،وقد أقيمت مراسم العزاء في داره في الكرخ.
ن جسده الطاهر قد حمل إلى كربلء فدفن إلى جوار قبر جّده ،والذي يفهم من بعضروى أغلب المؤرخين أ ّ
النقول التأريخية أن قبره في مقدمة الحائر الحسيني .ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن
جعفر)عليه السلم(; لّنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه وصلى عليه فخر الملك أبو غالب ،ومضى بنفسه
آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الشريف الكاظمي ،فألزمه بالعود إلى داره(1).
ل:
رثاه الكثير من الدباء والشعراء وفي مقدمتهم أخيه السيد المرتضى الذي أنشده قائ ً
ي براسي
يا للرجال لفجعة جذمت يدي *** وددت لو ذهبت عل ّ
—–
.1أغلب ما أوردناه بالنسبة لحياة السيد الرضي قد اقتبسناه من كتاب الغدير 181 / 4ـ ،211إضافة إلى شرح نهج البلغة لبن أبي
الحديد ،عبقرية الشريف الرضي ،سفينة البحار ومذكرات العلمة الشريف الرضي.
] [ 14
] [ 15
لمور،
ن من يروم إقتحام هذا الميدان عليه أن يعّد الكتب والمجلدات عّله يحصي بعض حقائق ا ُ ومّما لشك فيه أ ّ
ل إلى التطرق إلى بعض الشارات المقتضبة من أجل التمهيد للخوض في بينما ل نهدف ـ في هذه المقدمة ـ إ ّ
شرح كلمات أمير المؤمنين)عليه السلم( والتي نراها أفضل طريقة للتعريف به ،وهل الجو المشمس إلّ دليل
على وجود الشمس.
] [ 16
ويبدو أن كل واحد من هؤلء قد تأثر بجانب معين من نهج البلغة ،وربما أمكننا إيجاز هذه الجوانب في المحاور
الرئيسية الثلث التية:
—–
] [ 17
لبّد في هذا المر من الستشهاد بأقوال البلغاء والفصحاء والدباء والشّراح والكّتاب الذين سيروا ـ حسب قدرتهم
ـ أغوار نهج البلغة فتأثروا بما لمسوه من حلوة وطلوة في فصاحته وبلغته وسحر بيانه بما لم يعهدوه،
فأطلقوا عباراتهم بشأنه ومنهم:
1ـ وما أحرانا أن نتجه بادئ ذي بدء صوب جامع نهج البلغة والذي يعتبر من جهابذة الفصاحة والبلغة الذي
احتل الصدارة من بين فصحاء العرب وبلغائها وقد أفنى عمره في جمع خطب نهج البلغة ،أل وهو السيد
الرضي الذي وصفه الكاتب المصري المعروف الدكتور »زكي مبارك« في كتابه »عبقرية الشريف الرضي«
ل» :هو اليوم أبدع أبناء الزمان ،وأنجب سادة العراق ،يتحلى بأدب ظاهر ،وفضل باهر ،وحظ من جميع قائ ً
المحاسن وافر ،ثم هو أشعر الطالبيين ،ولو قلت إّنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق«.
حةِ
ع اْلَفصا َ
شِر َ
ن)عليه السلم( َم ْ ن أميُر اْلُمؤِمني َ يقول الشريف الرضي في مقدمته الرائعة لنهج البلغة» :كا َ
خطيب ل قاِئل َ حذا ُك ّ
على أْمِثَلِتِه َ
ت قوانيُنها َو َ عْنُه أخَذ ْ ظَهَر َمْكُنوُنها َو َغِة َوَمْوِلَدها َوِمْنُه َ
شأ اْلبل َ
َوَمْوِرَدها َوَمْن َ
خروا« ،ثم يفسر هذا الكلم فيقول» :لن صُروا َوَقْد َتَقّدَم َوَتأ ّق َوَق ّ
سَب َعظ َبليغ َوَمَع ذِلك َفَقْد َ ل وا ِ
ن ُك ّ
سَتعا َ َوِبكلِمِه ا ْ
كلمه)عليه السلم( الكلم الذي عليه مسحة من العلم اللهي وفيه عبقة من الكلم النبوي«.
2ـ الشارح المعروف الذي أفنى عمرًا في شرح وتفسير نهج البلغة وتحدث بشغف وإعجاب عن علي)عليه
السلم( وهو عز الدين عبد الحميد ابن أبي الحديد المعتزلي الذي يعّد من أشهر علماء العامة للقرن السابع
الهجري).(1
.1يقع شرحه في عشرين مجلدًا وقد استغرق في تأليفه أقل بقليل من خمس سنوات وهى مّدة خلفة علي)عليه السلم(على حد
تعبيره.
] [ 18
فقد تحدث مرارًا وكرارًا بهذا الشأن في شرحه وأذعن لعظمة فصاحة وبلغة النهج .فقد قال على سبيل المثال
بشأن الخطبة 221التي أوردها علي)عليه السلم( ـ بشأن البرزخ ـ »وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في
مجلس وتلي عليهم ،أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدي ابن الرقاع :قلم أصاب من الدواة مدادها ...فلم
قيل لهم في ذلك قالوا إنا نعرف مواضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع السجود في القرآن«).(1
ثم قال في موضع آخر حين عرض للمقارنة بين كلم أمير المؤمنين علي)عليه السلم(وكلم »ابن نباتة«)(2
الخطيب المعروف الذي عاش في القرن الهجري الرابع» :فليتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة والبيان هذا الكلم
ن سطرًا واحدًا من كلم نهج البلغة يساوي ألف سطر منه بل يزيد ويربي على ذلك«) بعين النصاف ليعلموا أ ّ
.(3وينقل أيضًا إحدى خطب ابن نباتة في الجهاد والتي تمثل قمة الفصاحة وقد ضمنها عبارات أمير
ل ذّلوا« فيقول» :فانظر إلى هذه العبارة
المؤمنين)عليه السلم( الواردة في الجهاد »ما غزي قوم في عقر دارهم إ ّ
كيف تصيح من بين الخطبة صياحًا وتنادي على نفسها نداًء فصيحًا ،وتعلم سامعها أّنها ليست من المعدن الذي
خرج باقي الكلم منه ،ول من الخاطر الذي صدر ذلك السجح عنه ،ولعمر ال ،لقد جّملت الخطبة وحسنتها
ل كآية من الكتاب العزيز يتمثل بها في رسالة أو خطبة ،فاّنها تكون كاللؤلؤة المضيئة
وزانتها وما مثلها فيها إ ّ
تزهر وتنير ،وتقوم بنفسها ،وتكتسي الرسالة بها رونقًا ،وتكتسب بها ديباجة«).(4
وأخيرًا نختتم كلمه بما أورده في مقدمة شرحه للنهج حيث قال» :وأّما الفصاحة فهو)عليه السلم(إمام الفصحاء
وسيد البلغاء وفي كلمه قيل :دون كلم الخالق وفوق كلم المخلوقين ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة«).(5
3ـ »جورج جرداق« الكاتب المسيحي اللبناني المعروف الذي ألف كتابه المشهور
.2هو أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن اسماعيل بن نباتة المتوفى عام .374
] [ 19
ل من كتابه لبيان خصائص المام علي)عليه السلم( فقال
»المام علي صوت العدالة النسانية« حيث أفرد فص ً
بخصوص نهج البلغة» :أّما في البلغة ،فهو فوق البلغات ،كلم ضم جميع جمالت اللغة العربية في الماضي
والمستقبل ،حتى قيل عنه :كلم دون كلم الخالق وفوق كلم المخلوقين«).(1
4ـ »الجاحظ« الذي عاش مطلع القرن الهجري الثالث ويعّد من أبرز أدباء العرب ونوابغهم ،حيث أورد بعض
كلمات أمير المؤمنين)عليه السلم( في كتابه المعروف »البيان والتبيين« فجعل يثني عليه .ومن ذلك قال في
المجلد الول من كتابه المذكور حين طالعته كلمته)عليه السلم(» :قيمة كل امرء ما يحسنه«) ;(2لو لم تكن في
ل ومفهومه ظاهر جلي ويغنيك عن ل هذه الجملة لكفت ،بل وزادت ،فأفضل الحديث ما كان قلي ً كل هذا الكتاب إ ّ
ن ال كساه ثوبًا من الجلل والعظمة وحجابًا من نور الحكمة بما يتناسب وطهر قائله وعلو فكره وشدةالكثير ،وكأ ّ
تقواه.
5ـ »أمير يحيى العلوي« مؤلف كتاب »الطراز« حيث أورد في كتابه عبارة عن الجاحظ اّنه قال» :إّنه الرجل
الذي ل يجارى في الفصاحة ول يبارى في البلغة ،وفي كلمه قيل دون كلم الخالق وفوق كلم المخلوقين ،ولم
يطرق سمعي كلم بعد كلم ال ورسوله سوى كلمات أمير المؤمنين كرم ال وجهه من قبيل قصار كلماته »ما
هلك امرء عرف قدره« و»من عرف نفسه عرف ربه« و»المرء عدو ما جهل« و»استغن عمن شئت تكن نظيره
واحسن إلى من شئت تكن أميره واحتج إلى من شئت تكن أسيره« .وعليه فليس من العبث أن يعرب هذا الديب
الزيدي »صاحب كتاب الطراز« عن دهشته لستناد كبار علماء المعاني والبيان بدواوين شعراء العرب وأدبائهم
بغية السبيل إلى الفصاحة والبلغة بعد كلم ال وكلم النبي)صلى ال عليه وآله( وولوا ظهورهم لكلمات المام
علي)عليه السلم( ،بينما كانوا يعلمون أّنه يمثل قمة الفصاحة والبلغة وفي كتاب نهج البلغة كل ما يريدون من
فنون أدبية من قبيل الستعارة والتمثيل والكناية والمجاز والمعاني و.(3)«...
] [ 20
6ـ الكاتب المشهور »محمد الغزالي« الذي نقل في كتابه »نظرات في القرآن« عن اليازجي أنه أوصى ولده
ل» :إذا شئت أن تفوق أقرانك في العلم والدب وصناعة النشاء فعليك بحفظ القرآن ونهج البلغة«(1).
قائ ً
9ـ أحد شّراح نهج البلغة »الشيخ محمد عبده« إمام العامة والكاتب العربي المعروف ،الذي قال بشأن النهج في
ن هذه قضية جديرة بالتأمل
مقدمته عليه ـ بعد أن إعترف بأّنه تعرف مصادفة على هذا الكتاب الشريف ـ ويبدو أ ّ
ن هذا الكتاب عبارة عن معارك عظيمة ،الحكومة ـ » :حين تصفحت نهج البلغة وتأملت موضوعاته بدا لي وكأ ّ
فيها للبلغة والقّوة للفصاحة وقد حملت من كل حدب وصوب على جنود الظنون الباطلة وسلحها الدلة القوّية
والبراهين الساطعة«.
10ـ »السبط بن الجوزي« أحد أبرز الخطباء والمؤرخين والمفسرين المعروفين العامة ،الذي صّرح في »تذكرة
ل» :وقد جمع ال له بين الحلوة والملحة والطلوة والفصاحة لم يسقط منه كلمة ول بادت لهالخواص« قائ ً
حجة ،أعجز الناطقين وحاز قصب السبق في السابقين الفاظ يشرق عليها نور النبوة ويحير الفهام واللباب«(4).
] [ 21
11و 12ـ ونختتم هذا الفصل بقولين لديب مسيحي معروف وهو الكاتب والمفكر العربي المشهور »ميخائيل
نعيمة« الذي قال :لو كان علي مقتصرًا على السلم لم يتعرض شخص مسيحي )يشير إلى الكاتب والمفكر
المسيحي اللبناني جورج جرداق صاحب كتاب المام علي صوت العدالة النسانية( لسيرته وحياته ويتابع
الحداث التي واجهته فيترنم بشجاعته التي أصابته بالدهشة والذهول; ولم تقتصر شجاعة المام وبسالته على
ميدان الحرب ،فقد كان رائدًا في البلغة وسحر البيان والخلق الفاضلة وعلو الهّمة وعمق اليمان ونصرة
المظلومين واتباع الحق وبسط العدل .ثم قال في موضع آخر بأن ما قاله وفعله هذا النابغة ما لم تره عين وتسمعه
أذن ،وأّنه لعظم من أن يسع المؤرخ بيانه بقلمه ولسانه .وأخيرًا فقد قال فيه ابن أبي الحديد :وأّما الشجاعة فانه
أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ،ومحا اسم من يأتي بعده ،ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها المثال
ل قتله ،ول ضرب ضربة قط إلى يوم القيامة; وهو الشجاع الذي مافّر قط ،ول ارتاع من كتيبة ،ول بارز أحدًا إ ّ
فاحتاجت الولى إلى ثانية ،وأّما السخاء والجود ففيه يضرب المثل فيهما ،فكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده ،وقال
الشعبي :كان أسخى الناس; كان على الخلق الذي يحبه ال :السخاء والجود ،ما قال )ل( لسائل قط .وأّما الحلم
والصفح :فكان أحلم الناس عن ذنب ،وأصفحهم عن مسيء; وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر
بمروان بن الحكم ـ وكان أعدى الناس له وأشّدهم بغضا ـ فصفح عنه ،وأّما الفصاحة فهو)عليه السلم( إمام
الفصحاء وسيد البلغاء ،ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة ،ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية :جئتك من عند
أعيا الناس ،قال له :ويحك! كيف يكون أعيا الناس! فو ال ماسن الفصاحة لقريش غيره.
—–
] [ 22
] [ 23
من المميزات التي يتصف بها نهج البلغة التي تلفت انتباه القارئ إذا ما أقبل عليه إّنما تكمن في شموليته وتنوع
ن هذه القوال المتقنة الدقيقة التي تعالج ُامور شتى تصل إلى حّد مضامينه الرصينة ،بحيث »تجعله يصدق أ ّ
ل من أمير المؤمنين علي)عليه ن هذا المر ل يصدر إ ّ التضارب إّنما تصدر من عين واحدة ،ومن المسلم به أ ّ
السلم(الذي أودع قلبًا حافظًا وروحًا سامية تفيض علومًا ومعارفًا إلهية حقة وأسرارًا جمة ل يسعها سوى ذلك
القلب .ويسرنا هنا أن نستشهد بالقوال التي ساقها كبار العلماء والمفكرين بهذا الخصوص.
1ـ ونستهل ذلك بما أروده العالم المعروف »محمد عبده« إمام العامة ،فقد رسم صورة رائعة عن حاله وهو
يطالع لول مرة نهج البلغة وما اشتمل عليه من خطب ورسائل وكلمات قصار عجزت العقول أن تجود بمثلها
ي الجوهر ،وضاء الّنفس; سليَم الّذوق ،مستقيم الرأي، س ،نق ّح ّفصاحة وصياغة وبلغة ،فقال» :وكان لطيف ال ِ
لمور إصدارًا وإيرادًا. ن الطريقة سريع البديهة ،حاضر الخاطر; حّول قلًبا; عارفًا بمهّمات ا ُ
حتس َ
3ـ نقل »الشيخ البهائي« في »كشكوله« عن كتاب »الجواهر« ان »أبو عبيدة« قال :قال علي)عليه السلم( تسع
جمل عجزت بلغاء العرب عن التيان بواحدة منها; ثلث في المناجاة ،وثلث في العلوم ،وثلث في الدب(1).
ثم خاض في شرح هذه العبارات التي وردت ضمن كلماته في نهج البلغة وسائر أحاديثه.
] [ 24
فالكلم هنا ل يتناول سعة المعلومات وكسب المعارف والعلوم ،بل قصره على استشعار الهمة والمروءة وسمو
النفس في ظل التمعن بالنهج.
5ـ »ابن أبي الحديد« هو الخر أعطى الكلم حّقه فقال :ولم تحصل العدالة الكاملة لحد من البشر بعد رسول
ل لهذا الرجل ،ومن أنصف علم صحة ذلك ،فان شجاعته وجوده وعفته وقناعته وزهده ال)صلى ال عليه وآله( إ ّ
لمور اللهية ،فلم يكن من فن أحد من العرب ،وهذا فن كانت يضرب بها المثال .وأّما الحكمة والبحث في ا ُ
اليونان وأوائل الحكماء وأساطين الحكمة ينفر دون به ،وأول من خاض فيه من العرب علي)عليه السلم( ولهذا
تجد المباحث الدقيقة في العدل والتوحيد مبثوثة عنه في فرش كلمه وخطبه ،ول تجد في كلم أحد من الصحابة
والتابعين كلمة واحدة من ذلك(1).
6ـ أورد »المرحوم السيد الرضي« بعض العبارات المقتضبة العميقة المعنى في كتابه الشريف بشأن مضامين
نهج البلغة ،وهى جديرة بالتأمل والهتمام ،من ذلك ما ذكره ذيل الخطبة » «21حيث قال:
ن هذا الكلم لو وزن بعد كلم ال سبحانه وبعد كلم رسول ال)صلى ال عليه وآله( بكل كلم لمال به راجحًا »إ ّ
وبرز عليه سابقًا« .أّما الخطبة » «21فهى:
ن وراءكم الساعة تحدوكم ،تخففوا تلحقوا فاّنما ينتظر بأولكم آخركم« .كما أورد مثل هذا
ن الغاية أمامكم وإ ّ
»فإ ّ
المعنى ذيل الحكمة » «81من كلماته القصار فقال» :وهى الكلمة التي ل تصاب لها قيمة ول توزن بها حكمة،
ول تقرن إليها كلمة«.
7ـ ونطلق الحديث هنا للكاتب المصري المعروف »عباس محمود العقاد« الذي يعّد من كبار الدباء المعاصرين
لنرى مدى اعجابه بنهج البلغة ،فقد أورد بعض العبارات الجزيلة في مواضع من كتاب »عبقرية المام
علي)عليه السلم(« والتي تبّين عمق معرفته بشخصية المام ومدى تأثره بكلماته ،فقد قال» :إن نهج البلغة عين
متدفقة بآيات التوحيد والحكمة اللهية التي توسع معارف الباحثين في العقائد والتوحيد والمعارف اللهية«).(2
على قدرته اللهية بيان الحقائق ،أّنه ل شك من أبناء آدم الذي علم السماء ،فهو مصداق لقوله تعالى) :اوتوا
الكتاب( و )فصل الخطاب().(1
ن كلماته)عليه السلم( تمثل قمة الحكمة والفصاحة والبلغة ،وقد قال رسول ال)صلى ال عليه وقال أيضًا» :إ ّ
وآله(» :علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل« .فهذا الحديث يصدق على علي)عليه السلم(قبل غيره ،فكلماته
الحكيمة في مصاف كلمات النبياء)عليهم السلم().(2
8ـ وقال الكاتب والديب المعاصر »محمد أمين النووي« يصف نهج البلغة» :إّنه الكتاب الذي جعله ال حجة
واضحة وقد ضمنه علي)عليه السلم( المثال القرآنية والحكم الربانية بفصاحة وبلغة قل نظيرها«(3).
9ـ وهذا الديب المصري المعروف »طه حسين« الذي يعتبر عميد الدب العربي ،فقد قال بعد أن تعرض لردّ
علي)عليه السلم( على السائل الذي كان شاكًا في حرب الجمل» :إني لم أر ولم أعرف جوابًا بعد الوحي وكلم
ال أعظم وأروع من هذا الجواب«(4).
10ـ المرحوم »ثقة السلم الكليني« الذي نقل في الجلد الول من كتابه الكافي إحدى خطبه)عليه السلم( في
التوحيد ،فقال» :هذه من خطبه المعروفة ولو اجتمعت النس والجن لبيان حقائق التوحيد لعجزت عّما بينه
علي)عليه السلم( ولوله لما عرف الناس سبيل الوحدانية«(5).
لمة الفقية آية ال الخوئي ،إذ قال» :حين يرد المام)عليه السلم(بحثًا في خطبه
11ـ ونختتم البحث بما أورده الع ّ
لولئك الذين ل علم لهم بسيرة أمير المؤمنين)عليه
ل بعده للحديث حتى يخيل ُ من نهج البلغة فانه ل يترك مجا ً
السلم( أّنه قضى عمره في ذلك الموضوع«).(6
] [ 26
] [ 27
3ـ جاذبة نهج البلغة الخارقة
لدباء المسلمين
لقد شعر جميع من تعامل مع نهج البلغة ـ من قبل أشياع علي)عليه السلم( أو سائر العلماء وا ُ
ومن سائر الديان ـ دون استثناء بوجود قوة كامنة تشدهم إليه وتجعلهم يتأثرون به ويتكهربون بأجوائه.
ن مثل هذه الجاذبة التي اتسمت بها كافة خطبه ورسائله وكلماته هى التي دفعت بفريق من العلماء لتناول والحق إ ّ
هذا الكتاب النفيس بالشرح والتفسير وتدوين المقالت والبحاث والستغراق في مختلف جوانب شخصية المام
علي)عليه السلم( .بدورنا نرى أن هذه الجاذبة تختزن عّدة دوافع ،يمكن إيجاز أهمها في ما يلي:
1ـ لقد شحن نهج البلغة بالقوال التي تصرح بمواساة الطبقات المحرومة والمستضعفة ،إلى جانب الحديث عن
مجابهة الظلم والطغيان ومقارعة حكام الجور والطواغيت .فقد تعرض في عهده الذي عهده إلى مالك الشتر حين
وله مصر إلى الخطط والبرامج التي ينبغي اعتمادها في كيفية إدارة شؤون البلد .يتحدث)عليه السلم( في هذا
العهد عن حقوق ووظائف الطبقات الجتماعية السبع ،حتى إذا بلغ الطبقة المحرومة من الناس أفصح عن
ل له» :ال ال في الطبقة السفلى من الذين ل حيلة لهم
مكنوبات نفسه وسيرته في التعامل معها فيوصي عامله قائ ً
من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى ،«...ثم يؤكد عليه» :فل يشغلنك عنهم بطر فاّنك ل تعذر
بتضييعك التافه لحكامه الكثير المهم .فل تشخص همك عنهم ،ول تصعر خدك لهم ،وتفقد ُامور من ل يصل إليك
منهم ممن تقتحمه العيون ،وتحقره الرجال« ولم تقتصر وصاياه)عليه السلم(بهذا المجال في هذا العهد فحسب،
بل لم ينفك يؤكد ذلك في كل خطبة من خطبه وموعظة من مواعظه لعماله وولته.
2ـ لقد سلك نهج البلغة سبيل تحرير النسان من أسر الهوى والشهوات التي تؤدي به
] [ 28
إلى البؤس والشقاء ،وكذلك تحريره من قيود الطواغيت والظلمة ،فهو يستفيد من كل فرصة لتحقيق هذا الهدف
ل بما متع به غني ،وأن تراكم الثروة يفيد تضييع الحقوق وعدم
المقدس ،إلى جانب تأكيده على أّنه ما جاع فقير إ ّ
العمل بالحكام الشرعية(1).
ويصرح المام )عليه السلم(» :أّما والذي فلق الحبة ،وبرأ النسمة ،لول حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود
الناصر ،وما أخذ ال على العلماء أن ل يقاروا على كظة ظالم ،ول سغب مظلوم ،للقيت حبلها على غاربها،
ولسقيت آخرها بكأس أولها ،وللقيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز«! فهو يؤكد على شدة تنمره في إعادة
روح الحرية والعدالة والمساواة التي ل يعرف المهادنة فيها ،بل أبعد من ذلك في أّنه ل يرى المرة والحكومة
ن عليًا)عليه السلم( يمكنه أن يتهاون في
سوى وسيلة ووظيفة لتحقيق هذه الهداف) .(2ويخطىء كل من يظن أ ّ
هذا المر ،ولم يعرف عمق شخصية علي; المر الذي أكده في رسالته إلى عثمان بن حنيف).(3
3ـ النفحات العرفانية التي ينبض بها نهج البلغة إّنما تناغم الرواح المتعطشة للحكمة فتسقيها الشراب الطهور
الذي يسكرها بالعلم والمعرفة!
فل يرى القارئ لخطبه في ال وصفاته الجمالية والجللية سوى أّنه يحلق مع الملئكة ليخترق حجب المعرفة
ل وكأّنه
والكمال) (4اّما إذا تحدث عن أهوال القيامة وسكرات الموت والعاقبة التي تنتظر النسان فل تراه إ ّ
أمسك بقبضة الغافلين وأخذ يسوقهم نحو المصير الذي منه يهربون والعاقبة التي عنها لهون(5).
لخرى التي يختزنها نهج البلغة والتي أشرنا إليها سابقًا أّنه)عليه السلم(أمير الكلم في كل 4ـ قوة الجاذبية ا ُ
موضوع يطرقه بما يجعلك تتصور أّنه بارع في هذا الموضوع وقد أفنى عمره في بيان عناصره ومقوماته
وسائر جوانبه ،ول يحسن شيئًا آخر سواه وسرعان ما يتبدد هذا التصور حين تطالعه وقد تحدث في موضوع
آخر ـ فاذا تناول ـ على سبيل المثال ـ قضية
.1المام علي صوت العدالة النسانية .3/177
] [ 29
التوحيد وشرح أسماء ال وصفات الجلل ،خيل إليك أّنه فيلسوف رباني سبر أغوار التوحيد وانهمك فيه لسنوات
متمادية وليس له مثل هذا العمق فيما سواه; فليس للتجسم من سبيل إلى حديثه ،ول من سبيل إلى سلبه الصفات،
بل يقدم صورة عن التوحيد تجعل النسان يرى رّبه ببصيرته في كافة السموات والرضين حاضر فيها وفي
نفسه فيمتلئ قلبه حّبا ل ومعرفة به .بينما ل تكاد العين تقع على خطبته في الجهاد ،حتى ل تغيب عنها صورته
كآمر شجاع ومقاتل باسل مغوار قد ارتدى بزته العسكرية وأخذ يستعرض أساليب الحرب وفنون القتال
وستراتيجية الدفاع والهجوم ،وكأّنه أفنى عمره في ميادين الوغى وساحات القتال ولم تدعه يفكر في ما سواها.
لمور وتزعم قيادة الُّمة ،رأيناهفاذا تصفحنا نهج البلغة وطالعتنا خطبه ووصاياه لعماله وولته حين أخذ بزمام ا ُ
يكشف النقاب عن عناصر تألق الحضارات وازدهارها وأسباب سقوطها وانهيارها ،إلى جانب استعراض مصير
لمم المستبدة بالضافة إلى السس والمبادئ التي من شأنها ضمان سلمة النظمة الجتماعية القوام الظالمة وا ُ
لمور ويختص بها دون الهتمام بسائر ميادين والسياسية الحاكمة ،بما يجعلك تظن بأّنه عكف عمرًا على هذه ا ُ
الحياة ونواحيها .ثم نقلب صفحات النهج لنراه زعيمًا أخلقيًا هاديًا البشرية نحو تهذيب النفس ومكارم الخلق.
يلتقيه أحد الصفياء من أصحابه ويدعى »همام« الذي يسأله أن يصف له المتقين .فيعدد له)عليه السلم( ما
يقارب المئة من صفاتهم بعبارات أحكم صياغتها وبلغتها كأّنه جلس عمرًا لدروس الخلق والتهذيب وتربية
ن هذه البحاث العميقة الفريدة المتنوعة التي شحن بها النفوس حتى يصعق همام صعقة كانت نفسه فيها .حقًا إ ّ
نهج البلغة تعّد من الخصائص والمميزات التي اتصف بها هذا الكتاب العجيب.
القوال التي ساقها كبار جهابذة العلماء بخصوص الجاذبية الكامنة في نهج البلغة تعتبر من الشواهد التي تعزز
ما أوردناه سابقًا بهذا الشأن:
] [ 30
أحيانًا حين نقله لبعض الخطب ببعض العبارات التي تكشف عن عمق افتتانه بما يورد وعدم تمالكه لنفسه تجاه
قوة سبك عبارات صاحب النهج .ومن ذلك أّنه قال إثر نقله للخطبة رقم » «83من نهج البلغة »وفي الخبر أّنه
لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت له الجلود وبكت العيون ورجفت القلوب« ونقرأ في خطبة المتقين ـ حين سأله
ذلك العارف »همام« عن صفات المتقين ـ أّنه حين بلغ ذلك الموضع من الخطبة ،صعق همام صعقة كانت نفسه
فيها ،فقال أميرالمؤمنين)عليه السلم(» :اّما وال لقد خفتها عليه ،هكذا تفعل المواعظ البالغة في أهلها«.
كما علق السيد الرضي على الخطبة رقم » «28ليعرب عن عمق أثرها في روحه وعقله فقال» :إّنه لو كان كلم
يأخذ بالعناق إلى الزهد في الدنيا ،ويضطر إلى عمل الخرة لكان هذا الكلم ،وكفى به قاطعًا لعلئق المال،
ن اليوم المضمار وغداوقادحًا زناد التعاظ والزدجار «...وأضاف» :ومن أعجبه قوله)عليه السلم(» :أل إ ّ
السباق ،والسبقة الجّنة والغاية النار« فان فيه مع فخامة اللفظ ،وعظم قدر المعنى ،وصادق التمثيل وواقع التشبيه
سرًا عجيبًا ومعنى لطيفًا ...فتأمل ذلك فان باطن كلمه عجيب ،وغوره بعيد لطيف ،وكذلك أكثر كلمه)عليه
السلم(«.
ن في هذا الكلم الدنى من مواقع الحسان مال تبلغه مواقع الستحسان ،وان حظ وقال ذيل الخطبة »» :«16إ ّ
العجب منه أكثر من حظ العجب به« .وفيه ـ مع الحال التي وصفنا ـ زوائد من الفصاحة ل يقوم بها لسان ،ول
ل من ضرب في هذه الصناعة بحق ،وجرى فيها على عرق »وما يعقلها يطلع فجها إنسان ،ول يعرف ما أقول إ ّ
ل العالمون«.
إّ
وهكذا نقل ما أورده المفسر والمحدث المعروف »ابن عباس« حين ألقى المام خطبته الشقشقية حين قام إليه
رجل من أهل السواد فناوله كتابًا ،فأقبل ينظر فيه ،فقال له :يا أمير المؤمنين ،لو أطردت خطبتك من حيث
أفضيت .فقال» :هيهات يابن عباس! تلك شقشقة هدرت ثم قرت« .قال ابن عباس» :فو ال ما أسفت على كلم قط
كأسفي على هذا الكلم أل يكون أمير المؤمنين)عليه السلم( بلغ منه حيث أراد«.
فقد قال ابن أبي الحديد» :هو سيد المجاهدين وأبلغ الواعظين ورئيس الفقهاء والمفسرين وإمام أهل العدل
والموحدين«(1).
] [ 31
ن خطب ورسائل نهج البلغة وكلماته القصار وردت )على ضوء جمعها من قبل المرحوم السيد مامن شك في أ ّ
الرضي( على نحو الروايات المرسلة; أي لم تذكر أسانيدها بما يجعلها متصلة بالمعصومين ،وقد أدى هذه بدوره
لولئك الذين ظنوا بأن نهج البلغة وبفضل مضامينه العظيمة قد إلى تشكيك البعض أحيانًا ،ول سيما بالنسبة ُ
يكون سندًا لثبات حقانية مذهب الشيعة وأفضلية علي)عليه السلم(على جميع الصحابة; فاتخذوا ذلك ذريعة
لفرض طوق من العزلة على هذا الكتاب في أوساط الرأي العام السلمي .وإن كانت هذه الزوبعة ـ ولحسن الحظ
ـ لم يكن لها أدنى تأثير في أفكار علماء وأدباء الفريقين الذين كسروا حاجز الصمت وكالوا له المديح والثناء
وخاضوا في شرحه وتفسيره ،وقد مرت علينا نماذج من ذلك ،مع ذلك نرى من الضروري الخوض في قضية
أسناد النهج بغية إزالة الشك وإماطة اللثام عن حقيقة هذا الكتاب وهنا لبّد من اللتفات إلى أمرين:
ن أغلب خطب نهج البلغة ورسائله وكلماته القصار ـ إذا لم نقل جميعها سوى معشاره ـ إّنما هى من قبيل 1ـأّ
المطالب المستدلة المبرهنة أو ذات الستدلل المنطقي ،بعبارة ُاخرى من قبيل »القضايا التي قياساتها معها«.
وعليه فهى ليست بحاجة إلى سلسلة السند بصفتها مباحث تعبدية ،فالعم الغلب من المضامين وردت بشأن
المعارف العقائدية من قبيل :المبدأ والمعاد والصفات وأدلة عظمة القرآن ونبي السلم)صلى ال عليه وآله( وما
لمم السابقة ونظم إدارة
شاكل ذلك .كما وردت بعض المضامين كمواعظ ونصائح ودروس وعبر بشأن حياة ا ُ
شؤون البلد والحياة الجتماعية والداب ومسائل الجهاد وما إلى ذلك من المباحث المنطقية الستدللية الخاضعة
للدليل والبرهان.
ولما كانت نتاجات كبار الفلسفة وعلماء العلوم المختلفة وحتى النتاجات الدبية الشعرية
] [ 32
لفطاحل الشعراء تؤخذ دون الحاجة إلى سلسلة السانيد ،فان هذا المر يجري على مضامين نهج البلغة بما
يجعله غنيًا عن تلك السلسلة ،وحقيقة المر أّنها تحمل أدلتها معها »قضايا قياساتها معها« .نعم هناك محور
صغير في النهج قد عنى ببعض الحكام الفرعية التعبدية ،فان كان من حديث عن السند ،أمكن إقتصاره على هذا
المحور والذي ل يشكل قطعًا عشر كتاب نهج البلغة .ونخلص من هذا إلى عدم جدوى هذه الضجة المفتعلة بشأن
أسانيد النهج ،وهى زوبعة جوفاء عديمة الثر.
2ـ بغض النظر عّما سبق ،فاننا ل نرى من عقبة في هذا المر حتى وإن اعتمدنا المعايير المتعارفة لحجية السند
ن المعيار الصلي لقبول الحديث والرواية ـ على ضوء ما فرغ منه في علم بالنسبة لنهج البلغة; وذلك ل ّ
لصول وبرهن في محله ـ إّنما يتأتى الوثوق بها من طرق مختلفة; فأحيانًا يحصل الوثوق بالرواية من خلل اُ
سلسلة السند وثقة الرواة ،كما يحصل أحيانًا ُاخرى مثل هذا الوثوق بواسطة كثرة الرواة ـ وفي الكتب المشهورة
والمعتبرة ـ ،وأخيرًا قد يكون مضمون الرواية على درجة من العمق والرصانة على أّنه إّنما صدر من
النبي)صلى ال عليه وآله( أو المام المعصوم; المر الذي يجعلنا نثق بهذه الرواية وهذا ما ذكروه بالنسبة لزبور
آل محمد)صلى ال عليه وآله(الصحيفة السجادية )إلى جانب السناد المعتبرة التي أوردها بهذا الشأن( ،بفضلها
ضمت أدعية رفيعة سامية ذات مضامين عميقة صدرت عن المام السجاد علي بن الحسين زين العابدين)عليه
السلم( .ول شبهة ول ريب أن من يتمعن في خطب نهج البلغة ويتدبر مضامينها ويتأمل أسرارها ،فاّنه ل يملك
ن مثل هذه الكلمات محالة الصدور عن النسان العادي وأّنها لم تصدر سوى عن النبي)صلى ال سوى الذعان بأ ّ
عليه وآله( أو امتداده المام المعصوم)عليه السلم(.
وبناًء على هذا وعلى ضوء بزوغ الشمس دليل على وجودها ،فان مضمون نهج البلغة دليل على اعتبار سنده
وصدوره عن المعصوم)عليه السلم( ،واننا لنوقن بذلك على أّنه لم ينسب لمعصوم سوى لعلي)عليه السلم( .فمن
ذا الذي يحتمل أّنه صدر من فرد عادي ثم نسبه لعلي)عليه السلم(؟! إذا كان مثل هذا البداع أو حتى عشر من
أعشاره فلم ل ينسبه لنفسه ويفوز بهذا الشرف؟ وناهيك عّما تقدم وعلى ضوء ما نعرفه عن شخصية »السيد
الرضي« ووثاقته وعلو مقامه ،فاننا نقطع بأّنه لم
] [ 33
ينسبه إلى علي)عليه السلم(مالم يكن قد رأى مصادره المعتبرة ،فهو ل يقول روي عن أمير المؤمنين علي)عليه
السلم(أّنه قال كذا ،بل اعتاد القول »ومن خطبة)عليه السلم( ومن رسائله ومن كلماته القصار« .فكيف وأنى
لهذا العملق أن يتحدث بهذه الثقة والقطع وينسب الكلمات لمامه المعصوم دون أن يستند إلى أسناد معتبرة
وردت بهذا الشأن؟! .أضف إلى ذلك فقد دونت عّدة مصنفات قبل »السيد الرضي« ضمت أغلب خطب ورسائل
ن هذه الكلمات كانت متداولة أيضًا ـ قبل السيد الرضي ـ
نهج البلغة والكلمات القصار; المر الذي يثبت أ ّ
ومعروفة بين العلماء والمحدثين والرواة وأحيانًا بين عوام الناس.
ن الخطب التي اشتهرت بين الناس ومن شأن هذه الشهرة أن تغنينا عن السناد .بل ذهب بعض كبار المؤرخين أ ّ
ن النهج عبقات من كانت أكثر بكثير من هذا المقدار الذي جمعه »السيد الرضي« في نهج البلغة ،والواقع هو أ ّ
تلك الخطب .ومنهم المؤرخ المعروف »المسعودي« الذي عاش لقرن قبل »السيد الرضي« ،الذي صّرح في
ل» :والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر كتابه »مروج الذهب« بشأن خطب المام علي)عليه السلم( قائ ً
مقاماته أربع مائة ونيف وثمانون خطبة«) ،(1والحال ل يضم النهج أكثر من مئتين وأربعين خطبة .ونقل العالم
المعروف »السبط بن الجوزي« في كتابه »تذكرة الخواص« عن »السيد المرتضى« اّنه قال» :بلغتني أربعمة
خطبة من خطب المام علي«) .(2وقال صاحب »البيان والتبيين« العالم المعروف» :كانت خطب المام
علي)عليه السلم( مدونه ومحفوظة ومشهورة«) .(3وقال »ابن واضح« في كتابه »مشاكلة الناس لزمانهم«:
»لقد حفظ الناس الكثير من خطب المام علي)عليه السلم( ،فقد ألقى أربعمئة خطبة حفظها الناس ،وهى هذه
الخطب المتداولة بيننا«).(4
وهنا لبّد من القول بأن جمعًا من العلماء المعاصرين والفضلء ألقوا كتبًا كمصادر وأسناد لنهج البلغة ،حيث
استخرجوا أسانيد الخطب من الكتب التي صنفت قبل »السيد الرضي« وصرحوا بها في كتبهم ،من قبيل كتاب
»مصادر نهج البلغة وأسانيده« تأليف العالم المحقق
] [ 34
ونستنتج مّما مّر معنا خواء الشكوك التي نشأت من عدم وجود السانيد.
حديثنا الخير في هذه المقدمة ،كلم مختصر بشأن الشروح والتراجم التي أوردها علماء المسلمين بخصوص هذا
الكتاب منذ عصر السيد الرضي حتى عصرنا الحاضر ،ويبدو أن هذه الشروح إّنما تتضاعف وتزداد كلما ابتعدنا
أكثر عن عصر السيد الرضي ،والسبب في ذلك يعود إلى تنامي المعرفة بهذا الكنز النفيس كل يوم ،وما هذه
المؤتمرات والندوات التي أقيمت وما
.1
] [ 35
لمة المينيل شهادة حية ُاخرى على صحة ما أوردناه .فقد أشار المرحوم الع ّ زالت تقام بخصوص نهج البلغة إ ّ
في المجلد الرابع من كتابه الغدير في ترجمته لحياة المرحوم السيد الرضي إلى هذه المسألة وقال» :لقد كتب أكثر
من خمسين شرحًا على نهج البلغة منذ عصر المرحوم السيد الرضي لحد الن «...ثم خاض في ذكر هذه
الشروح ،إلى جانب ذكر مؤلفيها وتأريخ وفاتهم ،وباضافة التراجم التي ظهرت في هذه الواخر ،فقد أحصى ما
يقارب الحادي والثمانين ترجمة وشرحًا«) (1وبالطبع فان كل شرح من هذه الشروح )كتفاسير القرآن( قد سلط
الضوء على جانب من جوانب نهج البلغة ،فقد خاض البعض في جانبه الدبي بينما تناول البعض الخر أبعاده
التأريخية أو الفلسفية أو القضايا التربوية والجتماعية وما إلى ذلك.
هذا وقد ذكر مؤلف كتاب »مصادر نهج البلغة« أكثر من مئة وعشرة شروح وتفاسير لنهج البلغة ،بينما ذكر
بعض الفضلء في كتبهم أسماء ثلثمائة وسبعين كتابًا ألفت في شرح نهج البلغة وترجمته وتفسيره) .(2وبالرغم
من ذلك لبّد من العتراف بأن هذا الكتاب ما زال لم يظفر ببغيته من سبر أغواره والغوص في أعماقه من أجل
استخراج كنه معانيه لتعالج متطلبات العصر والزمان وأنين البشرية ،كيف ل وأبعاده كأبعاد شخصية علي)عليه
السلم( التي ل يحيطها الكلم ول يلم بتفاصيلها القلم والبيان .وهنا لبّد من القول بأن الشروح والتراجم المذكورة
ن بعضها قد اكتفى بمحور من محاور نهج البلغة ،ولم يشذ منها سوى النزر القليل من ليست واسعة كاملة ،وأ ّ
الشروح التي تعاملت بشمولية مع النهج ومنها:
2ـ »منهاج البراعة« لمؤلفه سعيد الدين هبة ال القطب الراوندي ،وهو من أعلمالقرن الهجري السادس.
3ـ شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد المعتزلي ـ من أعلم القرن السابع الهجري ـ وهو
.2المعجم المفهرس للفاظ نهج البلغة ) 10 /جدير ذكره أن عدد الشروح التي وردت في مصادر نهج البلغة مئة وواحد ل مئة
وعشرة(.
] [ 36
5ـ منهاج البراعة للمرحوم الحاج الميرزا حبيب ال الموسوي الخوئي ،والمعروف بشرح الخوئي ،وهو من
علماء القرن الثالث عشر والرابع عشر الهجري.
6ـ شرح »الشيخ محمد عبدة« من مشاهير علماء العامة الذي عاش في القرن الثالث عشر الهجري.
وأخيرًا ل يسعنا المقال لن نذكر أسماء طائفة من الفضلء المعاصرين الذين صّنفوا شروحًا عظيمة لهذا الكتاب
ن صاحب كتاب »الذريعة« الفاضل المرحوم المحدث الطهراني قد ذكر مئة النفيس .وما يجدر ذكره هو أ ّ
وأربعين شرحًا للنهج أوردها علماء الشيعة ،بينما أحصى ستة عشر شرحًا لعلماء العامة ،يعّد أقدمها شرح الفخر
الرازي المتوفي عام 606هـ«(1).
—–
] [ 37
وموردها ،ومنشأ البلغة ومولدها; ومنه عليه السلم ظهر مكنونها ،وعنه أخذت قوانينها; وعلى أمثلته حذا كل
قائل خطيب ،وبكلمه استعان كل واعظ بليغ .ومع ذلك فقد سبق وقصروا وقد تقدم وتأخروا ،لن كلمه عليه
السلم الكلم الذي عليه مسحة من العلم اللهي وفيه عبقة من الكلم النبوي ،فأجبتهم إلى البتداء بذلك عالمًا بما
فيه من عظيم النفع ،ومنشور الذكر ،ومذخور الجر .اعتمدت به أن أبين عن عظيم قدر أميرالمؤمنين عليه السلم
في هذه الفضيلة ،مضافًة إلى المحاسن الدثرة ،والفضائل الجمة .وأّنه عليه السلم انفرد ببلوغ غايتها عن جميع
السلف الولين الذين إّنما يؤثر عنهم منها القليل النادر ،والشاذ الشارد فأما كلمه فهو البحر الذي ل ُيساجل والجم
الذي ل يحافل وأردت أن يسوغ لي التمثل في الفتخار به عليه السلم بقول الفرزدق:
ورأيت كلمه عليه السلم يدور على أقطاب ثلثة :أولها :الخطب والوامر ،وثانيها :الكتب والرسائل ،وثالثها:
الحكم والمواعظ; فأجمعت بتوفيق ال تعالى على البتداء باختبار محاسن الخطب ،ثم محاسن الكتب ،ثم محاسن
صل فيه أوراقًا ،لتكون مقدمة لستدراك ما عساه يشذ عّنيالحكم والدب .مفردًا لكل صنف من ذلك بابًا ،ومف ّ
ل .وإذا جاء شيء من كلمه عليه السلم الخارج في أثناء حوار ،أو جواب سؤال ،أو غرض ي آج ً
ل ،ويقع إل ّ
عاج ً
آخر من الغراض به ،وأشدها ملمحة لغرضه .وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة ،ومحاسن كلم
غير منتظمة; لّني أورد النكت واللمع ،ول أقصد التتالي والنسق.
ن كلمه الوارد في الزهد والمواعظ ،والتذكير ومن عجائبه ،عليه السلم ،التي انفرد بها ،وأمن المشاركة فيها ،أ ّ
والزواجر ،إذا تأمله المتأمل ،وفكر فيه المتفكر ،وخلع من قلبه أّنه كلم مثله ممن عظم قدره ،ونفذ أمره ،وأحاط
بالرقاب ملكه ،لم يعترضه الشك في أّنه كلم من لحظ له في غير الّزهادة ،ول شغل له بغير العبادة ،قد قبع في
ل نفسه ،ول يكاد يوقن بأّنه كلم من ينغمس في سه ،ول يرى إ ّلحّ كسر بيت .أو انقطع إلى سفح جبل ،ل يسمع إ ّ
ط الرقاب ،ويجدل البطال ،ويعود به ينطف دمًا ،ويقطر مهجًا .وهو مع تلك الحال زاهد الحرب مصلتًا سيفه ،فيق ّ
الزهاد ،وبدل البدال وهذه من فضائله العجيبة ،وخصائصه اللطيفة ،التي جمع بها
] [ 39
بين الضداد ،وألف بين الشتات ،وكثيرًا ما أذاكر الخوان بها ،وأستخرج عجبهم منها ،وهى موضع للعبرة بها،
والفكرة بها.
ن روايات كلمه تختلف اختلفًا ظ المردد ،والمعنى المكرر; والعذر في ذلك أ ّ وربما جاء في أثناء هذا الختيار اللف ُ
شديدًا :فربما اتفق الكلم المختار في رواية فنقل على وجه ،ثم وجد بعد ذلك في رواية ُاخرى موضوعًا غير
موضعه الول :إّما بزيادة مختارة ،أو لفظ أحسن عبارة فتقضي الحال أن يعاد ،استظهارًا للختيار ،وغيرًة على
ل فأعيد بعضه سهوًا أو نسيانًا ،ل قصدًا واعتمادًا .ورأيت من
عقائل الكلم .وربما بعد العهد أيضا بما اختير أو ً
بعد تسمية هذا الكتاب بـ »نهج البلغة« إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ،ويقّرب عليه طلبها ،فيه حاجة العالم
والمتعلم ،وبغية البليغ والزاهد ،ويمضي في أثنائه من عجيب الكلم في التوحيد والعدل ،وتنزيه ال سبحانه
وتعالى عن شبه الخلق ،ما هو بلل كل غّلة ،وشفاء كل علة ،وجلء كل شبهة.
—–
] [ 40
] [ 41
الخطبة)1 (1
ل دللة واضحة على براعة السيد الرضي في تعتبر هذه الخطبة من أهم خطب نهج البلغة ،وما تصدرها النهج إ ّ
الختيار .فالخطبة تتضمن الرؤية السلمية للصفات الكمالية والجمالية ،ثم تشير إلى قضية خلق العالم بصورة
عامة ومن ثم خلق السموات والرض والملئكة ،كما تخوض في خلق آدم)عليه السلم( وتتعرض لقصة سجود
الملئكة وإعتراض إبليس وهبوط آدم)عليه السلم( إلى الرض .ثم يتطرق)عليه السلم( إلى فلسفة بعثة النبياء
ول سيما خاتمهم نبي السلم)صلى ال عليه وآله( إلى جانب التحدث عن عظمة القرآن الكريم وأهمية سّنة
النبي)صلى ال عليه وآله( ،كما يتوقف عند مسألة الحج من بين الحكام السلمية كفرع من فروع الدين بصفته
فريضة إلهية كبرى تختزن بعض السرار واللطائف ،بالشكل الذي يمد المتتبع لهذه الخطبة برؤية شمولية لهم
القضايا السلمية ،من شأنها تقديم الحلول لكافة المصاعب التي تنطوي عليها والتي تعترض سبيلها.
.1وردت هذه الخطبة )ليست بصورة كاملة بل بعضها( في عدة كتب قبل السيد الرضي )ره( و بعده .وكان ممن
رواها قبله1 :ـ المرحوم الصدوق في كتاب التوحيد 2ـ المرحوم ابن شعبة الحراني في كتاب تحف العقول .أما من
نقلها بعده1 :ـ الواسطي في كتاب عيون الحكمة والمواعظ 2ـ المرحوم الطبرسي في الحتجاج 3ـ ابن طلحة في
كتاب مطالب السؤال 4ـ القاضي القضاعي في دستور معالم الحكم 5ـ الفخر الرازي في التفسير الكبير 6ـ
الزمخشري في ربيع البرار 7ـ القطب الراوندي في منهاج البراعة 8ـ المرحوم العلمة المجلسي في ج ،11 ،4
92 ،77 ،57 ،18و 99من بحارالنوار .طبعًا هناك تفاوت بين العبارات التي وردت في الكتب المذكورة مع ما
ورد في نهج البلغة.
] [ 42
وأخيرًا فالخطبة من وجهة نظر بمثابة فاتحة الكتاب ،حيث تقدم صورة كلية عن المسائل التي درج عليها نهج
البلغة والتي وردت في المحاور الرئيسية لخطبه ورسائله وكلماته القصار.
وقد قسمنا هذه الخطبة إلى خمسة عشر قسمًا تناولنا كل قسم منه بالبحث بصورة مستقلة لنخلص إلى النتائج الكلية
التي يمكن التوصل إليها من الخطبة كوحدة كاملة.
—–
] [ 43
القسم الول
يذكر فيها ابتداًء خلق السماء والرض وخلق آدم وفيها ذكر الحج وتحتوي على حمد ال وخلق العالم وخلق
الملئكة واختيار النبياء ومبعث النبي والقرآن والحكام الشرعية:
—–
الشرح والتفسير
ن نظرة عابرة إلى مضامين هذه الخطبة تفيد إشارة المام علي)عليه السلم( إلى إثنتي عشرة صفة من الصفات
إّ
اللهية بتصوير فني رائع ونظم شاهق:
ففي المرحلة الولى يشير إلى كيفية عجز العباد عن إظهار المدح والثناء وأداء حق الشكر اللهي )أشير في هذه
المرحلة إلى ثلثة أوصاف( ويبين في المرحلة الثانية عجز البشرية من الناحية الفكرية عن إدراك عظمة ال
وكنه ذاته المقدسة )إشارة إلى وصفين في هذه المرحلة( وفي المرحلة الثالثة يورد الدليل على ما أشار إليه سابقًا
والذي يكمن في خروج هذه الذات
] [ 44
عن الحدود وعدم تناهي نعمه وآلئه; المر الذي يستبطن ويعلل عجزنا عن إدراك ذاته القدسية واستحالة أداء
حّقه في الشكر والحمد )وهو يشير في هذه المرحلة إلى أربعة أوصاف( وأخيرًا يشير)عليه السلم(في المرحلة
الرابعة إلى خلق العالم والكائنات ،وكأنه أراد أن يكشف النقاب عن هذه الحقيقة وهى أن معرفة الذات اللهية إّنما
تقتصر على هذا السبيل ،والذي يمثل منتهى قدرتنا واستطاعتنا )ويشير في هذه المرحلة إلى ثلث من صفاته
الفعلية(.
ن الدقة والنظام هى السس التي استندت إليها هذه العبارات الرفيعة التي تضمنتها الخطبة التي
ويفيد هذا المر أ ّ
أوردها هذا المعلم الرباني.
الن وبعد هذه النظرة العامة نعود إلى بحث وتفسير هذه الوصاف الثني عشر التي اشتملت عليها الخطبة:
فقد استهل المام )عليه السلم( خطبته بحمد ال والثناء عليه مع التصريح بالعجز عن أداء حق الحمد ،فقال)عليه
ن((1).حَتُه اْلقاِئُلو َ
ل اّلِذي ل َيْبُلُغ ِمْد َ
حْمُد ّ
السلم() :اْل َ
ن أوصافه »الكمالية« و»الجمالية« ل تعرف الحدود ،فما يؤديه الملئكة والناس من حمد ومدح إّنما
وذلك ل ّ
يتوقف على مقدار معرفتهم بالذات المطلقة ل بمقدار كمالته جل وعل .وأنى لسائر الفراد بزعم المعرفة وهذا
ل» :ما عرفناك حق النبي الكريم الذي يمثل أعظم أنبياء ال يظهر عجزه عن معرفة الخالق المتعال فيصرح قائ ً
معرفتك«) .(2فاذا عجز النسان عن معرفته فكيف يسعه حمده ومدحه؟ وعليه فان ذروة حمدنا ،ما أورده المام
)عليه السلم(; أي إظهار العجز عن حمده وثنائه والعتراف باستحالة بلوغ هذه الدرجة على جميع مخلوقاته
سبحانه.
لمة المجلسي ضمن توضيحه لبعض الخبار في البحار ،تعليقًا على كلم المحقق الطوسي هذا الحديث »ما عبدناك حق .2أورد الع ّ
عبادتك وما عرفناك حق معرفتك« دون ذكر سنده .بحار النوار .23/ 68
] [ 45
حق شكري .قال)عليه السلم( :إلهي! كيف أؤدي حق شكرك ،وشكرك نعمة تحتاج إلى شكر )وهكذا يكون
ن ذلك ِمّني«).(1
التوفيق إلى الشكر نعمة اخرى تستحق الشكر( .فقال» :يا موسى الن شكرتني حين علمت أ ّ
ل أن يكون في حق ال، ل دون نقيصة ،إ ّن النسان إذا ما قال :الحمد ل ،فانه أتى به كام ً
وهنا لبّد من القول بأ ّ
ن المام الصادق)عليه السلم( خرج من المسجد ولم يظفر بدابته ،فقال)عليه السلم( ،إن ولذلك جاء في الخبر أ ّ
أعادها لي ال شكرته حق شكره ،فلم تمض مّدة حتى أتي بها إليه فقال)عليه السلم( :الحمد ل .فقيل له :جعلت
فداك ألم تقل أشكره حق شكره؟ فقال)عليه السلم( :ألم تسمع قولي الحمدل(2).
ن نعمه المادية والمعنوية والظاهريةأّما في الوصف الثاني فقد قال» :ول يحصي نعمائه العادون« .وذلك ل ّ
والباطنية والفردية والجماعية لكثر وأعظم من أن تعّد وتحصى .فبدن النسان ـ على سبيل المثال ـ مؤلف مّما ل
يحصى من الخليا والنسجة )يبلغ متوسطها عشرة مليارات( التي تشكل كل وحدة منها كائنًا حيًا ومركبًا معقدًا
للوف من السنين ،فاذا عجز النسان عن ونعمة من نعمه سبحانه والتي يتعذر إحصاء عددها في عشرات ا َ
إحصاء نعم ال في هذا الجانب اليسير فقط ،فكيف يسعه أن يحصي جميع هذه النعم واللء على المستويات
المادية أو المعنوية؟ في الواقع ليس لدينا من علم بكافة نعمه ليتسنى لنا عّدها أو إحصائها .فأغلب نعمه قد أغرقت
ل بعد فقدانها(،
كياننا وأحاطت بوجودنا ،وحيث لم نسلبها قط فقد غفلنا عنها ولم نحط بها )فل يشعر بالنعمة إ ّ
أضف إلى ذلك فان ظفر النسان بالنعم واللء إّنما يتناسب طرديًا واتساع مدى علمه ومعرفته; المر الذي يؤدي
إلى الذعان ـ وكما قال أميرالمؤمنين)عليه السلم( ـ بهذه الحقيقة »ول يحصي نعمائه العادون« .ويمكن لهذه
العبارة أن تكون علة للعبارة السابقة »ل يبلغ مدحته القائلون« إذ كيف يمكن حمد ال والثناء عليه في ظل العجز
ن هذه النعم ما زالت ل تعرف الحدود رغم الحالة المؤسفة في قيام بعض الظلمة عن إحصاء نعمه! ويبدون أ ّ
والفئات النفعية باحتكار أغلب النعم أو تضييعها من خلل البذخ
] [ 46
والسراف والتبذير ،وتعريض طبقات المجتمع للتعب والرهاق .ويقول)عليه السلم(في الوصف الثالث» :ول
يؤدي حّقه المجتهدون« .وهذه الجملة في الحقيقة استنتاج ترتب على العبارة السابقة ،فاذا تعذر إحصاء النعم
فكيف يمكن أداء حقها؟ بعبارة ُاخرى فإن حّقه بقدر عظمة ذاته القدسية ،في حين شكرنا وحمدنا بقدر قدرتنا
الزهيدة ،فأين هذا الحمد من ذلك الحق! ول يقتصر هذا المدح والثناء وأداء الحق على العجز في الجانب العملي
فحسب بل هو قائم حتى من الناحية الفكرية.
ل» :الذي ل يدركه بعد الهمم ول يناله غوص ولذلك أردف)عليه السلم( ـ وفي إطار بيانه لوصفين آخرين ـ قائ ً
ن الفكار الخارقة مهما انطلقت فين التعبير ببعد الهمم وغوص الفطن إشارة إلى حقيقة مؤداها أ ّالفطن) .«(1وكأ ّ
قوس الصعود والفطن المتوهجة في قوس النزول فأنها تبقى عاجزة عن إدراك كنه ذاته المقدسة .ول يترك المام
القرار بهذا العجز دون تقديم الدليل ،فيقول» :الذي ليس لصفته حد محدود ،ول نعت) (2موجود ،ول وقت
معدود ،ول أجل ممدود«.
أي أنى لنا الحاطة بكنه ذاته ،والحال أن فكرنا بل جميع كياننا محدودًا ل يحسن سوى إدراك الشياء المحدودة،
بينما ل تعرف الذات اللهية من حدود من جميع النواحي ،فليس هنالك من حد أو وصف قابل للدراك لصفاته
المطلقة من الزل إلى البد والتي تأبى الولية والخروية والبداية والنهاية .ول يقتصر هذا المر على الذات،
لخرى ليس لها من حدود ،فعلمه ل يعرف الحدود ،وقدرته ل متناهية ،ول غرو فصفاته عين ذاته فصفاته هى ا ُ
التي ليس لها حد محدود.
ن ال وجود مطلق ليس له أي قيد وشرط ،ولو كان لقيد أو شرط وحد من الحدود من سبيل إلى بعبارة ُاخرى فا ّ
ذاته لصبح مركبا ،في حين نعلم بأن المركب ـ كما يقول الفلسفة ـ
» .1همم« جمع همة تعني في الصل الذويان والجريان والحركة ولهذا يطلق الهم حيث بسبب ذويان الجسم النسان وروحه ،ثم
أطلق على كل أمر مهم أو ما يشغل فكر النسان )ورد شبه ذلك في المفردات(.
»غوص« تعني فى الصل الغمس في الماء ،ثم أطلقت على الدخول في كل عمل مهم.
»فطن« جمع فطنة على وزن فتنة الفهم و الذكاء حسب لسان العرب.
» .2الجل« بمعنى انتهاء الشيء كعمر النسان وما إلى ذلك كالعقود والعهود.
] [ 47
ممكن الوجود ل واجب الوجود ـ وعليه فواجب الوجود ذات مطلقة غير محدودة في كافة أبعادها ،ولذلك كان
ن هذا
سبحانه وترًا واحدًا ليس له كفؤًا ول شبيهًا ،لستحالة قيام وجودين مطلقين من جميع الجهات ،وذلك ل ّ
التناقض إّنما يؤدي إلى محدودية الطرفين ،فهذا فاقد لوجود ذلك ،وذاك أيضًا فاقد لوجود هذا )تأمل هذا
الموضوع(.
وبعد أن تعرض المام )عليه السلم( لصفات الجمال والجلل )الصفات الثبوتية والسلبية( ،أشار)عليه السلم(إلى
جانب من صفاته الفعلية سبحانه ،فقال» :فطر) (1الخلئق بقدرته ،ونشر الرياح برحمته ،ووتد) (2بالصخور)(3
ميدان) (4أرضه« .لقد استوحيت هذه التعبيرات من بعض اليات القرآنية ،فالعبارة »فطر الخلئق بقدرته«
ض(التي وردت في عّدة سور قرآنية من قبيل :سورة يوسف / لر ِ ت َوا َ
سمـوا ِ
طِر ال ّ
مستوحاة من الية الشريفة )فا ِ
101وسورة إبراهيم 100 /وسورة فاطر 35 /وسائر السور المباركة.
حَمِتِه((5).
ى َر ْ
ن َيَد ْ
شرًا َبْي َ
ح ُب ْ
ل الّريا َ
سُ
والعبارة »نشر الرياح برحمته« من الية الشريفة )َوُهَو اّلِذي ُيْر ِ
ن َتِميَد ِبُكْم().
ى َأ ْ
سَض َروا ِ
لْر ِ
والعبارة »ووتد بالصخور ميدان أرضه« من الية 15من سورة النمل )َوَأْلقى ِفي ا َ
(6
وباللتفات إلى ما ذكرنا من معنى »فطر« فانه شبه الخلق بشق الحجاب الظلماني للعدم; الحجاب المتسق
والمنسجم الذي ل شق فيه ،غير أن قدرته المطلقة تشقه وتخرج منه المخلوقات ،وليس من شأن أية قدرة سوى
قدرته أن تفعل هذا .فقد اتفقت كلمة الفلسفة والمفكرين على استحالة استحداثنا لشيء من العدم ،أو تحويلنا من
وجود إلى عدم ،وكل
» .1فطر« من مادة »فطر« على وزن بمعنى شق الشيء من الطول ومنه الفطار في الصوم
» .2وتد« من مادة »وند« )على وزن وقت( بمعنى إثبات الشيء ولذلك يطلق الوتد على المسمار الذي يثبت في الشياء ويمنحها
الثبات أيضًا ،وأحيانًا يطلق »الوتد« على وزن »الوقت«.
» .3الصخور« جمع »صخرة« ،وقال صاحب لسان العرب تعني الحجر الكبير الصلب.
» .4ميدان« من مادة »ميد« على وزن )صيد( بمعنى الحركة والضطراب وميدان على وزن )ضربان( بهذا المعنى أيضًا و»ميدان«
على وزن )حيران( وجمعه ميادين بمعنى الفضاء الواسع.
] [ 48
مامن شأن قدرتنا فعله هوتغيير شكل الموجودات من شكل إلى آخر ول غير!
أّما التعبير بالرحمة عن حركة الرياح فهو تعبير عذب رائع ينسجم ولطافة النسيم وهبوب الرياح وآثاره المختلفة
من قبيل حركة السحب والغيوم نحو الراضي القفار وتلقيح الزهار ونمو النباتات واعتدال الجو وحركة السفن
والفلك في البحر وانخفاض درجات الحرارة وسائر الخيرات والبركات المكنونة في هذه الحركة .اّما عن كيفية
توتيد الرض بهذه الجبال والصخور ،فالحق ل يمكن الن قبول النظريات والطروحات التي أوردها قدماء
العلماء بهذا الشأن إثر قولهم بسكون الرض وعدم حركتها ،حتى جاءت النظريات الحديثة التي تنسجم مع
الحقائق العلمية من جهة وتتفق واليات القرآنية والروايات الواردة بهذا الخصوص من جهة ُاخرى ،وذلك لنه:
ن وجود الجبال على سطح الكرة الرضية يؤدي إلى الحد من آثار ظاهرة المد والجزر التي تشهدها اليابسة
1ـأّ
بفعل جاذبية الشمس والقمر .فلو اجتاحت الراضي الرخوة سطح الرض لصبح المد والجزر كالبحار والنهار
بما يجعل من المتعذر العيش على هذه الرض.
ن جذور الجبال متصلة مع بعضها تحت القشرة الرضية وكأّنها درع قد أحاط بالرض ،ولولها لماجت 2ـأّ
الرض وعاشت الحركة باستمرار وفقدت استقرارها بفعل الضغط الداخلي الذي تفرزه الغازات الداخلية والمواد
ل نتيجة طبيعية لمثل هذا الضغط الذي يتجاوز الحدود المعينة ،ولول هذه الجبال
المذابة .وما الزلزل التي تقع إ ّ
لتواصلت هذه الزلزلة دون انقطاع.
وبناًء على ما تقدم فان هذه الصخور )الجبال( إّنما توتد الرض وتحول دون فقدانها لستقرارها ،وناهيك عّما
ن كافة العيون والنهار إّنما تنبع من مصادر
ن الجبال تعّد من أهم مصادر الحياة الجوفية للنسان ،وأ ّ
تقدم فا ّ
الجبال الجوفية وتلك التي على سطح الرض.
ويّتضح مّما ذكرنا سابقًا بشأن الدور الحيوي الذي تلعبه الرياح والجبال في حياة النسان وسائر الكائنات الحية،
علة تأكيد المام على )عليه السلم( هذين المرين بعيد الشارة إلى مسألة الخلق والخليقة.
] [ 49
القسم الثاني
ص َلُه َوَكمالُخل ُ حيِدِه اِْل ْ
حيُدُه َوَكماُل َتْو ِق ِبِه َتْو ِ
صِدي ِ
ق ِبِه َوَكماُل الّت ْ صِدي ُ ن َمْعِرَفُتُه َوَكماُل َمْعِرَفِتِه الّت ْ »َأّوُل الّدي ِ
صَفِةَ ،فَم ْ
ن غْيُر ال ّ صوف َأّنُه َ شهاَدِة ُكّل َمْو ُ صوفِ َو َ غْيُر اْلَمْو ُ
صَفة َأّنها َشهاَدِة ُكّل ِ عْنُه ِل َ
ت َ صفا ِ ي ال ّ ص َلُه َنْف ُ
خل ِ اِْل ْ
جِهَلُه َفَقْد َأشاَر
ن َجِهَلُه َوَم ْ
جّزَأُه َفَقْد َ
ن َجّزَأُه َوَم ْ
ن َثّناه َفَقْد َ
ن َقَرَنُه َفَقْد َثّناه َوَم ْسْبحاَنُه َفَقْد َقَرَنُه َوَم ْ ل ُ فا ّ ص ََو َ
عّدُه«.ن َأشاَر ِإَلْيِه َفَقْد َ ِإَلْيِه َوَم ْ
—–
الشرح والتفسير
تمثل هذه العبارات دورة تربوية تامة في المعرفة اللهية .فقد اعتمد أمير المؤمنين)عليه السلم(عبارات مقتضبة
عميقة المعنى بحيث قدم صورة عن الحق تبارك وتعالى ل يمكن التيان بأحسن منها حتى ولو جمعنا كافة دروس
التوحيد والمعارف إليها وجعلنا بعضها إلى جانب البعض الخر ،فاّنها تعجز عن رسم مثل تلك الصورة.
فقد ذكر)عليه السلم( في هذا الجانب من خطبته خمسة مراحل لمعرفة ال يمكن ايجازها في مايلي:
4ـ الخلص
] [ 50
ن دعامتها الساسية هى »معرفة ال« ،وعليه فمعرفة ال تمثل والواجبات والوظائف والخلق ،ومن المعلوم أ ّ
الخطوة الولى على الطريق من جانب والمحور الرئيسي لكافة أصول الدين وفروعه ،وليس لهذا الدين من
ل وهو النظر في طريق ن هناك شيئًا آخر قبل معرفة ال ،إ ّ
حيوية دون هذه المعرفة ـ أّما أولئك الذين يعتقدون بأ ّ
ن وجوب التحقيق يمثل أول معرفة ال والتحقيق بشأن الدين ووجوب المطالعة ،فهم على خطأ كبير .وذلك ل ّ
الواجبات ،بينما تمثل معرفة ال أول دعامة للدين ،أو بعبارة ُأخرى فان التحقيق مقدمة ومعرفة ال أولى مراحل
ذي المقدمة(1).
ن المعرفة الجمالية قد أودعت فطرة النسان ول تتطلب أدنى تبليغ بهذا لخرى المفروغ منها هى أ ّ والنقطة ا ُ
الشأن ،وإنما بعث النبياء لستبدال هذه المعرفة الجمالية بتلك المعرفة التفصيلية الكاملة المتقنة وإغناء جوانبها
وتطهير الفكر البشري من أدران الشرك وأرجاسه.
—–
ثم قال)عليه السلم(» :وكمال معرفته التصديق به« .هنالك عّدة تفاسير للفارق بين التصديق والمعرفة .بادئ ذي
ن المراد بدء المراد هنا بالمعرفة هى المعرفة الفطرية ،والمقصود بالتصديق المعرفة العلمية والستدللية .أو أ ّ
ن المعرفة تشير إلى العلم بال، بالمعرفة هنا المعرفة الجمالية ،والمقصود بالتصديق المعرفة التفصيلية .أو أ ّ
ل أّنه ل يؤمن به قلبيًا ـ بمعنى
ن العلم ل يفارق اليمان ،فالنسان قد يوقن بشيء إ ّوالتصديق يشير إلى اليمان ،ل ّ
ل لنفصال هذين المرين التسليم له والذعان به قلبيًا ،أو بتعبير آخر العتقاد به ـ .وأحيانًا يضرب الفضلء مث ً
ن أغلب الفراد يشعرون بالهلع ول سيما في الليلة المظلمة حين البقاء إلى جانب ميت عن بعضهما ،فيقولون :إ ّ
في غرفة خالية ،رغم علمهم بانه ميت ،لكن كأن العلم لم ينفذ إلى أعماقهم ويتسلل إلى قلوبهم ،فلم يحصل ذلك
اليمان المطلوب وبالتالي فقد تمخض عن هذا الهلع والخشية.
ن هذه المعرفة تعني الطاعة لمة المعروف »محمد جواد مغنية« في كتابه »في ظلل نهج البلغة« إلى أ ّ .1لقد ذهب المرحوم الع ّ
والنقياد لوامر ال ونواهيه ،وهذا هو المعنى الذي اختاره من قبله الشارح الخوئي ـ رضوان ال عليه ،فان كان مرادهما الطاعة
بالمعنى الشامل للكلمة بما فيها اُلمور العقائدية صح ذلك ،وإن اقتصر على الجوانب العملية فقط يرد عليهما ما أوردناه سابقًا.
] [ 51
سطحية فل تنفذ إلى أعماق وجود النسان وروحه ،فاذا نفذت إلى أعماقه وبلغت مرحلة اليقين بحيث أذعن
النسان بذلك قلبيًا ،فان ذلك العلم يكتسب صفة اليمان.
—–
ن النسان لم يبلغ مرحلةثم قال)عليه السلم( في المرحلة الثالثة »وكمال التصديق به توحيده« .فمما لشك فيه أ ّ
التوحيد الكامل على أساس معرفته التفصيلية ل أو بتعبير آخر بالمعرفة القائمة على أساس الدليل والبرهان.
ن من جعل له شبيه وصنو لم يعرفه، فالتوحيد التام في أن ينزه الذات اللهية عن كل شبه ومثيل ونظير .وذلك ل ّ
فال وجود مطلق غنى بالذات عّما سواه وليس كمثله شيء ،ومن طبيعة الشياء التي لها أشباه وأمثال أن تكون
ن أي من الشبيهين منفصل عن الخر وفاقد لكمالته.محدودة ،ل ّ
ل بالتصديق بذاته المنزهة في أّنه واحد; واحد ل عن عدد ،بل واحد بمعنى
إذن فالنسان ل يبلغ مرحلة الكمال إ ّ
خلوه من الشبيه والمثيل.
—–
ثم ينتقل المام)عليه السلم( إلى المرحلة الرابعة وهى مرحلة الخلص فيقول» :وكمال توحيده الخلص له«.
والخلص من مادة الخلوص بمعنى تصفية الشيء عن الغير ،بمعنى التصفية والتنزه .وهناك خلف بين مفسري
نهج البلغة بشأن هذا الخلص ،وهل المراد به الخلص العملي أم القلبي أم العقائدي .والمراد بالخلص
العملي هو أن يعيش الفرد ذروة التوحيد اللهي فل يسأل سواه ول يرى غيره فيما يقوم به من أفعال وأعمال.
وهو المر الذي تناوله الفقهاء في بحث الخلص في العبادة ،وقد أورد »الشارح الخوئي«)ره( هذا التفسير
بصفته أحد القوال دون أن يذكر من قال به(1).
أّما الخلص القلبي والذي عبر عنه »الشارح البحراني ابن ميثم« بالزهد الحقيقي فهو يعنى توجه القلب إلى ال
ن الخلص ل أننا نرى أ ّ
وعدم التفكير بما سواه ،والنشغال بغيره) .(2إ ّ
] [ 52
مفهوم عظيم وسامي ل ينسجم وما أورده الشّراح في هذه العبارات ،ومن المستبعد أن يكون هذا هو المراد به .أّما
المفهوم الوحيد الذي يناسبه هو تنزيه العتقاد بال تبارك وتعالى; أي تنزيهه في وحدته عن كل شبيه ومثيل ،إلى
جانب تقديسه عن التركيب من الجزاء.
—–
وقد أشار المام)عليه السلم( إلى هذا المعنى في المرحلة الخامسة حين قال» :وكمال الخلص له نفي الصفات
عنه« .وبعبارة اخرى فان الحديث في المرحلة السابقة قد تناول الخلص على نحو الجمال ،فلما بلغ الخلص
ن الخلص في التوحيد يتطلب تنزيهه عن كافة الصفات هنا مرحلة الكمال غاص في التفاصيل ،ليتضح من ذلك أ ّ
التي يتصف بها المخلوق ،سواء كانت هذه الصفات بمعنى التركب من الجزاء أم غيرها ،وذلك لننا نعلم بأ ّ
ن
جميع الممكنات بما فيها العقول والنفوس المجردة هى في الواقع مركبة )على القل مركبة من الوجود والماهية(
لخرى ليست مستثناة من هذا التركب ،أّما الموجودات وحتى المجردات; أي الموجودات الخارجة عن المادة هى ا ُ
المادية فكلها متركبة من الجزاء الخارجية ،لكن الذات اللهية المقدسة ل تشتمل على الجزاء الخارجية ول
الجزاء العقلية ،ليمكن تجزأته في الخارج ول في إدراكنا وفهمنا .وكل من غفل عن هذه الحقيقة لم يظفر
ن مراده)عليه السلم( بقوله »كمال توحيده نفي الصفات عنه« ليس الصفات بالتوحيد الخالص ،ومن هنا يتضح بأ ّ
ن كافة الصفات الكمالية من قبيل العلم والقدرة والحياة وما إلى ذلك من الصفات ثابتة له ،بل المراد الكمالية; ل ّ
الصفات التي ألفناها وتعرفنا عليها وهى صفات المخلوقين المشوبة بالنقص .فالمخلوقات لها حظ من علم وقدرة،
ن علمها وقدرتها محدودة ناقصة مشوبة بالجهل والضعف والعجز ،بينما الذات اللهية منزهة عن مثل هذا غير أ ّ
العلم والقدرة وأفضل دليل على ذلك ما أورده المام)عليه السلم(في ذيل هذه الخطبة بشأن الملئكة فوصفهم
بقوله» :ل يتوهمون ربهم بالتصوير ول يجرون عليه صفات المصنوعين« .أضف إلى ذلك فان صفات
ن صفاتها زائدة على ذواتها .فالنسان شيء وعلمه المخلوقات منفصلة دائمًا عن ذواتها ،أو بعبارة ُاخرى فا ّ
ن صفات ال عين ذاته وليس هنالك من وقدرته آخر ،وبناًء على هذا فوجوده مركب من هذين الشيئين ،والحال أ ّ
ن أعظم عقبة تعترض مسيرة التوحيد إّنما تكمن في قضية سبيل لهذا التركب .والواقع أ ّ
] [ 53
»القياس«; أي قياس صفات ال بصفات المخلوقات المفعمة بأنواع النقص والعيب ،أو العتقاد بالصفات الزائدة
على الذات; الورطة التي وقعت فيها الشاعرة »فرقة من المسلمين«(1).
—–
ن الصفات الزائدة على الذات تشهد بلسان حالها أّنها غير فكلمه)عليه السلم( دليل واضح وجلي في أ ّ
ن ال
ن صفاته عين ذاته ،ونؤمن بأ ّ ل أن نقول بأ ّالموصوف ،وكل موصوف يشهد بأّنه ليس من الصفات ،الّلهم إ ّ
ذات جميعها علم وجميعها قدرة وجميعها حياة وأزلية وأبدية ،وإن كان إدراك مثل هذا العتقاد متعذر علينا نحن
ن النسان شيء وعلمه وقدرته شيئًا مضافًا للذات زائدًا المخلوقات الذين أنسنا بصفات المخلوق فقط ونرى أ ّ
عليها ،لننا نلد من أمهاتنا وليس لنا من علم وقدرة ثم نحصل عليها لحقًا.
—–
ن كلم المام)عليه السلم( يفيد أن اثبات الصفات التي تتصف بها المخلوقات ل يستلزم التركب في فالواقع أ ّ
ن المخلوق ـ النسان ـ مركب من الذات والصفات فان ال مركب كذلك; بينما ل ينسجم وجوده سبحانه; أي كما أ ّ
ن كل مركب يحتاج إلى أجزائه والحاجة تتناقض والغنى المطلق لواجب الوجود.هذا المعنى وواجب الوجود ،ل ّ
.1الشاعرة هم أتباع »أبو الحسن الشعري« الذين يؤمنون بالمعاني ،والمراد بالمعاني هو أن مفهوم الصفات من قبيل العالمية
والغالبية و ...كالذات اللهية قديمة أزلية ،كما أّنها في نفس الوقت غير الذات اللهية ،وعليه فهم يعتقدون بأزلية بعض الشياء،
بعبارة ُاخرى يقولون بتعدد القدماء ،وهى العقيدة التي تتنافى تمامًا والوحدانية الخالصة ،ولذلك ينفي أتباع أهل البيت)عليهم السلم(ـ
على ضوء ما تلقوه عنهم من تعاليم كالذي جاء في هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلغة وكلمات أئمة العصمة)عليهم السلم( ـ هذه
المعاني التي تمثل الصفات الزائدة على الذات ،وقد أشارت العبارة »ل شريك له ول معاني« لهذا المر.
] [ 54
الثاني :أن نؤمن بوحدة الذات اللهية ،ول نعني بها الوحدة العددية ،بل يعني مفهوم الوحدة بالنسبة للذات اللهية
ن الوجود المطلق من كل الجهات يأبى أن يكون له شبيه أّنها منزهة عن الشبيه والمثيل والنظير .وبشكل عام فا ّ
ن صفات ال كذاته أزلية وأبدية ومطلقة ،نكون قد حددناه سبحانه من جانب وقلنا بشبيه له من ومثيل ،فان قلنا بأ ّ
جانب آخر )لبّد من التأمل في هذا الكلم( وهذا هو المعنى الذي كشف عنه المام)عليه السلم( في إطار
لخرى توضيحه للخلص ،فقال »فمن وصف ال سبحانه« أي وصفه بصفات المخلوقين »فقد قرنه« بالشياء ا ُ
»ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزاه ومن جزاه فقد جهله« لّنه حين جزاه بمعنى جعل ذاته متركبة من أجزاء
وحقًا لم يعرف ال من اعتقد بتركب ذاته; وذلك لّنه تصور كائنًا على شاكلته ـ من حيث التركيب والمحدودية ـ
وأسماه ال.
—–
ثم يقول)عليه السلم(» :ومن جهله فقد أشار إليه ،ومن أشار إليه فقد حده ،ومن حده فقد عده« .ويوجد احتمالن
بشأن قوله)عليه السلم(» :ومن أشار إليه« الول أن يكون المراد بها الشارة العقلية ،والثاني أن يكون المراد بها
ن النسان إذا لم يعرف ال بتلك الحقيقة المطلقة اللمتناهية فاّنه سيمتلك
الشارة العقلية والحسية .وتوضيح ذلك أ ّ
في ذهنه مفهومًا محدودًا وخاصًا عنه سبحانه ،أو بتعبير آخر فاّنه سيشير إليه بالشارة العقلية ،وبالطبع سيكون
محدودًا في هذه الحالة تصورًا ،وذلك لتعذر إدراك وتصور اللمحدود واللمتناهي على النسان المحدود
والمتناهي .فالنسان إّنما يدرك ما يحيط به من أشياء يسعه تجسيمها في فكره المحدود ،وبالطبع فان مثل هذه
ن من
الموجودات محدودة .وعلى هذا الضوء فان ال سيكون في مصاف المعدودات والشياء القابلة للعدد ،ل ّ
لوازم المحدود هو إمكان تصور موجود آخر في موضع آخر مثله.
] [ 55
والول الوحيد الذي ليس له ثان من كان غير محدود من جميع الجهات ول يسعه العدد .وعلى هذا الساس فان
مولى الموحدين ـ علي بن أبي طالب)عليه السلم( ـ قد عكس حقيقة التوحيد في هذه العبارة القصيرة ذات المعنى
العميق ،فوصف البارئ سبحانه بما يفوق الخيال والقياس والظن والوهم .وهى ذات الحقيقة التي كشف النقاب
عنها المام الباقر)عليه السلم( حين قال» :كل ما ميزتموه باوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود
إليكم«).(1
ن ال
والحتمال الخر مازال قائمًا بأن يكون المراد »بالشارة« الشارة العقلية والشارة الحسية أيضًا; وذلك ل ّ
ن كل مشار
ليس بجسم ول عرض والعتقاد بجسمية ال جهل محض ،ونتيجة ذلك كون الذات اللهية محدودة ل ّ
إليه فهو محدود ،فالمشار إليه لبّد أن يكون في جهة مخصوصة ،وكل ما هو في جهة فله حد وحدود.
سؤال
ن معنى ذلك تعطيل معرفة ال وإغلق هنا يبرز سؤال يطرح نفسه :إذا تعذرت حتى الشارة العقلنية ل ،فا ّ
أبواب المعرفة بوجه النسان وبالتالي سوف لن يكون هناك من مفهوم لمعرفة ال .وذلك لننا كلما حاولنا التوجه
ل بعدًا عنه ،فما
إلى تلك الذات المقدسة ارتطمنا بمخلوق من نسج أفكارنا ،كلما أردنا القتراب منه لم نزدد إ ّ
أحرانا والحالة هذه ال نقتحم ميدان المعرفة بغية عدم البتلء بالشرك.
الجواب
ن الجواب على هذا السؤال يتضح من خلل اللتفات إلى نقطة مهّمة ـ من شأنها أن تحل المشكلة هنا وفي سائر إّ
ن المعرفة على نوعين :معرفة إجمالية ومعرفة تفصيلية ،أو بتعبير آخر معرفة كنه الذات الموارد ـ وهى أ ّ
ومعرفة مبدأ الفعال .فاننا حين نتأمل عالم الوجود بما يضم من العجائب والغرائب والكائنات بتلك الروعة
ن هنالك خالقًا ومدبرًا لهذا الكون وهذا هو العلم
والجمال والعظمة ،بما في ذلك وجودنا نحن الفراد لنشعر بأ ّ
الجمالي الذي يمثل ذروة معرفة النسان بال )غاية مافي المر أننا كلما تعرفنا أكثر على أسرار الوجود وقفنا
بصورة
] [ 56
] [ 57
القسم الثالث
عَدمَ ،مَع ُكّلن َ عْ جوٌد ل َ حَدثَ ،مْو ُن َ عْنل َ خَلى ِمْنُه .كاِئ ٌعلَم«؟ َفَقْد َأ ْ ن قاَل » َ ضّمَنُهَ ،وَم ْ
ن قاَل »ِفيَم« َفَقْد َ »َو َم ْ
خْلِقِه،
ن َ
ظوَر ِإَلْيِه ِم ْ
صيٌر ِإْذ ل َمْن ُ
ت َواْلَلِةَ ،ب ِحَركا ِعٌل ل ِبَمْعَنى اْل َ يء ل ِبُمزاَيَلة ،فا ِ ش ْ
غْيُر ُكّل َ شيء ل ِبُمقاَرَنةَ ،و َ
ش ِلَفْقِدِه«.
ح ُسَتْو ِ
س ِبِه َول َي ْسَتْأِن ُن َي ْ
سَك َ
حٌد ِإْذ ل َ
ُمَتَو ّ
—–
الشرح والتفسير
لقد تعرض المام)عليه السلم( في هذا القسم من الخطبة إلى عّدة نقاط حساسة ودقيقة بشأن مباحث التوحيد
بكلمات قليلة ومعان عميقة يمكن إيجازها في خمس:
1ـ كون الذات اللهية المطلقة منزهة عن المكان ،فقد قال)عليه السلم(» :ومن قال فيم؟ فقد ضمنه« .فالكلمة
)في( إّنما تستعمل بشأن المكان الذي يحوي الشيء ويحيط به ،من قبيل قولنا فلن في الدار ،والورد في البستان
ن كافة أدلة التوحيد تفيد كون الذات
وما إلى ذلك ،ونتيجة ما تقدم هو محدودية ذاته سبحانه ،بينما أشرنا سابقًا إلى أ ّ
المقدسة مطلقة من جميع الجهات.
وهكذا من سأل »علم« بشأن ال؟ )على العرش ،على الكرسي ،على السموات( فقد حده لنه أخلى منه سائر
المواضع »ومن قال علم؟ فقد أخلى منه( .فمثل هذه السئلة تستلزم كون الذات القدسية محدودة ،وهذا مال
ينسجم وكونه واجب الوجود .وبناًء على هذا فكل من تصوره على العرش أو على السموات أو أي مكان آخر فقد
جرد نفسه من التوحيد الخالص ،وفي الواقع فاّنه يعبد مخلوقًا من نسج خياله الفكري ويسميه ال .فقد ذهب بعض
الجهال إلى
] [ 58
سَتوى() (1دليل على جسمية ال وأّنه على العرش ،بينما تفيد كلمة »استوى« شا ْ
على الَعْر ِ
ن َ
حمـ ُ
ن الشريفة )الّر ْأّ
معنى السيطرة على الشيء ول تقتصر على معنى التربع على الشيء أو الستقرار عليه ،بل هناك تعبير كنائي
سَتوى
لمور والخذ بزمامها في مقابل اعتزال السلطة وانفلت القدرة ،فيقال )ا ْمعروف ومتداول بشأن تزعم ا ُ
ش(في مقابل »ثل عرشه« ول يراد كسر عرش السلطة أو التربع عليه .وعليه فالذي تفيده الية الكريمة على الَعْر ِ
َ
ش( هو استقرار حكومته وسلطته سبحانه على العرش .على كل حال يبدو من السذاجة على الَعْر ِسَتوى َ)ا ْ
والسخرية الستدلل بهذه الية على جسميته سبحانه.
2ـ يشرح المام)عليه السلم( في هذه العبارة »كائن ل عن حدث« أزليته سبحانه وكون ذاته غنية عن الحدود
من ناحية الزمان ،ثم يقول)عليه السلم(» :موجود ل عن عدم« وهذا هو الفارق بينه وبين جميع المخلوقات
المسبوقة بالعدم والحدوث ،بينما لم تسبق الذات اللهية بمثل ذلك العدم والحدوث .بل ل يمكن وصفه بصفتي
»الكائن« و»الموجود« دون تنقية مفهومها من صفات المخلوقات المسبوقة بالعدم(2).
لخرى تضمنت إشارة رائعة إلى كيفية الرابطة السائدة بين المخلوقات والخالق والممكنات بواجب 3ـ العبارة ا ُ
الوجود ،حيث قال)عليه السلم(» :مع كل شيء ل بمقارنة وغير كل شيء ل بمزايلة« .لقد ذهب أغلب الناس
ن الرابطة التي تسود المخلوقات بال ،هى رابطة بين وجودين مستقلين في أ ّ
ن وحتى أغلب الفلسفة والعلماء إلى أ ّ
أحدهما مخلوق للخر ،كوجود الشعلة العظيمة والشمعة الصغيرة التي نوقدها من تلك الشعلة ،في حين الحقيقة
شيء آخر
ن العبارتين المذكورتين إّنما تبينان موضوعًا واحدًا ،بينما اعتبر البعض الخر ـ مثل ابن أبي
.2لقد ذهب بعض شّراح النهج إلى أ ّ
الحديد ـ أن قوله)عليه السلم(» :كائن ل عن حدث« إشارة إلى الحدوث الزماني في العبارة الولى ،ولم ينف حدوثه الذاتي ال في
كلمته الثانية بغض النظر عن الزمان لّنه واجب الوجود) .شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد .(79 / 1في حين ذهب آخرون إلى
عكس ذلك ففسروا العبارة الولى بنفي الحدوث الذاتي أو الذاتي والزماني ،والعبارة الثانية بنفي الحدوث الزماني) .شرح نهج
البلغة لبن ميثم .(127 / 1 ،ولكن لم يقم دليل واضح على أي من هذا التفاوت ،لن مفردة الحدوث عادة ما تطلق على الحدوث
الزماني ،كما يمكن حملها على الحدوث الذاتي أيضًا ،وهكذا يمكن إطلق نقطة العدم على العدم الذاتي والتي غالبًا ما تطلق على العدم
الزماني .وعليه تبدو هاتان العبارتان متأكدتان في معناهما وهو نفي الحدوث الزماني والذاتي; على أّنهما تنفيان أي حدوث وعدم
عن الذات اللهية سواًء بالنسبة للذات والزمان.
] [ 59
تمامًا .فالفارق بين المخلوق والخالق هو ليس من قبيل الفارق بين وجود ضعيف وقوي قط ،بل الفارق هو فارق
بين وجود مستقل من جميع الجهات ووجود تابع .فعالم الوجود برمته تابع له ويتغذى في كل آن من نور وجوده
ل عن عالم الوجودكما أّنه ليس عين الموجودات )كما ذهب إلى ذلك الصوفية التي عليه .فال سبحانه ليس منفص ً
ن التوحيد الواقعي إّنما يتوقف على إدراك هذه الحقيقة .ويمكن إيضاح هذهتقول بوحدة الوجود والموجود( ،وأ ّ
الحقيقة بهذا المثال )رغم النقص الذي يشوب مثل هذه المثلة( .فشعاع الشمس رغم وجوده وكونه غير قرص
ل أّنه متصل بها تابع لها ،هو غيرها لكن ل على نحو المغايرة وبمعنى النفصال والستقلل ،ومعها الشمس ،إ ّ
ولكن ليس بمعنى اللتحام والتحاد .وهما لشك فيه أن ارتباط موجودات هذا العالم بالذات اللهية المقدسة أكثر
قربًا وتبعية مّما صدره هذا المثال ،والحق ل يمكن العثور على مثال دقيق في هذا العالم لتصوير عمق هذه التبعية
ن المثلة ومنها المثال المذكور ـ أو كالتصوراتوالوحدة وفي نفس الوقت الثنائية )أي الوحدة في الكثرة( .رغم أ ّ
الذهنية للنسان التابعة من روحه وغير المنفصلة عنها وفي نفس الوقت تابعة لها وليس لها من مفهوم دونها ـ
يمكنها أن توضح إلى حد ما هذا الموضوع.
4ـ تناول المام)عليه السلم( صفة ُاخرى من صفات الذات اللهية المقدسة ،فقد قال)عليه السلم(» :فاعل ل
بمعنى الحركات واللة« .لقد جرت المحاورات اليومية عادة على الصطلح بالفاعل على الفرد الذي يقوم
ببعض العمال من خلل حركات اليد والرجل أو الرأس والرقبة وسائر العضاء ،ولما كانت قدرة النسان
وسائر الكائنات محدودة وتعذر التيان بكافة الفعال والعمال على هذه العضاء ،فاّنه يستعين ببعض الوسائل
والدوات ليسد بها ذلك النقص الذي يشوب قدرته ،فهو يستعين بالمطرقة لدق المسمار ،وبالمنشار لنشر الخشب
لمور هى من آثار الجسام وبالمكائن واللت الضخمة لنقل الحمال الثقلية من مكان إلى آخر ،وكل هذه ا ُ
والجسمانيات.
ولما كان ال منزهًا عن الجسمية ،وقدرته غنية مطلقة خارجة عن الحد والحدود فان فاعليته ل تعني القيام
ن قدرته المطلقة أغنته عن الستعانة بالدوات واللت .فال سبحانه فاعل قبل أن تخلق اللة بالحركات أبدًا ،كما أ ّ
ولو كان محتاجًا لللة لعجز عن خلقه لولى
] [ 60
الشياء ،وبعبارة ُاخرى فان فعله إبداع .نعم فهو قادر على خلق عالم الوجود أو اعدامه في طرفة عين أو أقرب
بإرادته وقوله )كن( ،كما له خلقه تدريجيًا أو في أية مّدة نبتغيها إرادته .والذي يجدر اللتفات إليه هنا هو أننا حين
ن هذانصفه سبحانه بأّنه فاعل فل ينبغي أن نقارن فاعليته بذواتنا وأّنها تستعين بالدوات واللت .وبالطبع فا ّ
ت َأْمرًا(.
الكلم ل يعني أن ليس ل من ملئكة تتولى تدبير المر والتي وصفها القرآن )َ...فاْلـُمَدّبرا ِ
فقد جرت عادته على ايجاد الحوادث عن طريق السباب ،لن إرادته شاءت ذلك لمحتاج لها.
ل أّنها تطلق بالمعنى المجازي على ال سبحانه ل الحقيقي. صحيح أن مفردة بصير مشتقة من مادة البصر ،إ ّ
فكونه بصيرًا يعني عليمًا بجميع الشياء القابلة للرؤية وحتى الشياء التي ترى ولم تخلق بعد .وبناًء على هذا فان
ن علمه أزلي .وأخيرًا فقد تحدث المام)عليه السلم( عن بصيرته تعود إلى علمه اللمتناهي ،حيث نعلم جميعًا بأ ّ
وحدانيته سبحانه في غناه عن النيس فقال» :متوحد إذ ل سكن يستأنس به ول يستوحش لفقده«)(1
ن الناس وسائر الكائنات الحية وبحكم كون قدرتها محدودة في نيل المنافع ودفع الضرار فاّنها
وتوضيح ذلك هو أ ّ
مضطرة للستعانة ببني جنسها ومن غيرها لتشعر بالمن تجاه بعض الخطار التي تهددها .وهنا يتفاقم شعور
النسان بالستيحاش لوحدته ،بينما يأنس بوجود سائر الفراد إلى جانبه ولسيما أثناء تعرضه للخطار والفات
والبليا والمراض والوبئة .وأحيانًا يندفع النسان الضيق النظر ليقارن ال بنفسه فيشعر بالدهشة والذهول كيف
يكون ال وحيدًا قبل ايجاده لهذه المخلوقات ،وكيف ل يكون له من أنيس يسكن إليه ،وأخيرًا كيف يشعر
ل عن أّنه وجود مطلق ل يحتاج الستعانةبالستئناس بهذه الوحدة؟! غاف ً
.1هناك احتمالن بشأن »إذ« الواردة في العبارة; الحتمال الول :هل هى ظرفية تشير إلى عدم وجود شيء خلق في الزل ولم تكن
سوى ذاته المقدسة ليأنس بها ويستوحش لفقدها؟ أم إن »إذ« هنا بمقام التعليل ،يعني كان وما زال واحدًا لّنه لم يكن هناك من
وجود ،حيث ل يحتاج إلى أحد؟
ن الحتمال الثاني هو القوى .كما إن »ل« في قوله »ل يستوحش« زائدة وردت للتأكيد ،بينما ذهب البعض إلى أّنها جملة
يبدو أ ّ
استئنافية.
] [ 61
بأحد ،وليس له من خشية لعدو ليستعين عليه بظهير ،كما ليس له من صنو يستأنس به .ولذلك كان وسيكون
متوحدًا.
ويتضح مّما ذكرنا سابقًا أن لمفردة »المتوحد« مفهوم يختلف عن مفهوم »الواحد« و»الحد«.
تأّملت
لقد تضمنت هذه العبارات العميقة المعاني والعظيمة المضامين عّدة معطيات ودروس قيمة من شأنها حل أغلب
المشاكل العقائدية على مستوى »معرفة ال وأسمائه وصفاته« ومنها:
لقد كثر الكلم في أوساط الفلسفة والعلماء بشأن كيفية الرابطة بين الخالق والمخلوق ،فقد أفرط البعض منهم
ن الخالق هو عين المخلوق إثر رؤيتهم القائمة على أساس وحدة الوجود والموجود .فهم يقولون ليس حتى اعتقد بأ ّ
هنالك أثر من وجود شخصي واحد في عالم الوجود وكل ماسواه ترشحات من ذاته ،أو بتعبير آخر :هناك شيء
واحد فقط أّما الكثرة والتعدد فهى خيالت وظنون وسراب يحسبه الظمآن ماء .أحيانًا يستعيضون عن الوحدة
ل في كل وقت بينما يشعر الجهالوالتحاد بقولهم بالحلول على أّنه ذات حلت في كافة الشياء وتتخذ لها شك ً
ل شيء واحد ل غير (1).وزبدة القول أّنهم يرون عالم الوجود بمثابة بحر وقطراته بالزدواج والحال ليس الكل إ ّ
سائر الموجودات .وبعبارة ُاخرى فان أي ازدواجية في هذا العالم ليست سوى ضربًا من الخيال والوهم .بل يعتقد
ن الفرد ل يعّد صوفيًا
البعض منهم أ ّ
.1هذه هى عقيدة أغلب المتصوفة ،وشاهد ذلك العبارة المشهورة التي يطلقها زعماء هذه الفرقة »إني أنا ال« وأعظم من ذلك ما
يرددوه من قولهم »سبحاني ما أعظم شأني« ،اّما البعض الخر فقد نظم أبياتًا من الشعر وصرح فيها بقوله »أن الصنمية والوثنية
هى ذات العبودية«! كما ورد في الشعار الطائشة للمولوي التي تصور ال بشكل صنم عّيار )وهو عبارة عن موجود مشكوك( يتلبس
يومًا بهيئة آدم! ويومًا بهيئة نوح وآخر موسى وعيسى! وأخيرًا بشكل محمد)صلى ال عليه وآله( كما يتلبس بهيئة علي وسيفه ذو
ل بتلخيص عن العارف الصوفي وماذا يقولن .(117 / الفقار! وبالتالي بشكل منصور الذي اعتلى أعواد المشنقة! )نق ً
] [ 62
» .1الغلة« هم المغالون في الئمة)عليهم السلم( ول سيما علي)عليه السلم( فعدوه هو ال أو أّنه اتحد به .و»الخوارج« هم
أصحاب النهروان الذين أسماهم النبي)صلى ال عليه وآله(بالمارقين وقد قتلهم المام شر قتلة في النهروان .وأّما »النواصب« فهم
أعداء أهل البيت)عليهم السلم(.
.2العروة الوثقى ،بحث نجاسة الكافر ،المسألة .2
] [ 63
وتتضمن المسألة أمرين مهمين يجدر اللتفات إليهما :أحدهما عطف أصحاب عقيدة وحدة الوجود على المجبرة
والمجسمة وجعل الجميع بمنزلة واحدة ،والخر بان عقائدهم تنطوي على مفاسد دينية إذا التزموا بها خرجوا من
ن مذهب هؤلء يتصف ببعض ربقة السلم وإن لم يلتزموا بها فهم مسلمون .فالكلم يفيد بما ل يقبل الشك أ ّ
ن كافة العلماء الذين كتبوا
المفاسد التي يؤدي اللتزام بها إلى الخروج عن صف المسلمين .أّما الجدير بالذكر هو أ ّ
حاشية على العروة الوثقى ـ حيث جرت عادة العلماء الكشف عن اجتهادهم وقدرة استنباطهم للحكام الشرعية من
مصادرها المقررة على كتابة تعليقة على العروة الوثقى ـ قد أقروا بما أورده صاحب العروة أو أضافوا لما ذكره
بعض القيود )من قبيل قولهم بما ل يوجب إنكار التوحيد والرسالة().(1
وللوقوف على عمق المفاسد التي انطوت عليها هذه المسألة ،نرى من الضروري هنا الشارة إلى نموذج ورد في
الدفتر الرابع للشاعر المثنوي حين نقل قصة طويلة بشأن قول »بايزيد« سبحاني ما أعظم شأني ،فقد واجه
ل أنا فاعبدون« فقالوا له ما تقول؟! قال :سأقول ذلك ثانية فاحملوا
اعتراضًا من صحبه ،فقال لهم» :ل إله إ ّ
ل أّنهم شعروا بأن كل طعنة كانت تمزق السكاكين واطعنوني بها .فشهر صحبه سكاكينهم وجعلوا يطعنونه ،إ ّ
أجسادهم ل جسده .فهذه السطورة الخرافية من شأنها الشارة إلى مدى الندفاع والتيه الذي بلغه أصحاب هذا
المسلك.
ن هذا
وأخيرًا نختتم هذا الموضوع بما أورده أحد المعاصرين من شّراح نهج البلغة إذ قال بهذا الخصوص :ا ّ
لسس الوجدانية وروحالمذهب )القائل بوحدة الوجود بمعنى وحدة الموجود( إّنما يتنكر لكافة القوانين العقلية وا ُ
الديان اللهية ،ويرفع من شأن عالم الوجود ليبلغ به المرتبة الوجودية اللهية أو ينزل بالوجود اللهي إلى
الحضيض فيسويه بسائر مخلوقاته ،ويبدو أن مثل هذا المذهب إلى الذهان والذواق والهروب من الشكالت
أقرب منه إلى التعقل واللمام بالواقعيات(2).
.1للوقوف على المزيد راجع كتاب مصباح الهدى 410 / 1للمرحوم آية ال الشيخ محمد تقي الملي )الفقيه والفيلسوف المعروف(
وكذلك تقريرات المرحوم آية ال الخوئي 81 / 3ـ . 82
] [ 64
لو تأملنا بدّقة وأجلنا الفكر في كلماته)عليه السلم( لكتشفنا مدى قطعه الطريق أمام أي انحراف عن مبدأ التوحيد
ل الَوِريِد()(1
حْب ِ
ن َ
ب ِإَلْيِه ِم ْ
ن َأْقَر ُ
حُوحقيقة صفات ال ،واتضح لدينا المفهوم الحقيقي لقوله سبحانه وتعالى )َوَن ْ
ض()(4
لْر ِ ت َوا َ
سمـوا ِ ل ُنوُر ال ّ ل ُهَو راِبعُُهْم() (3و)ا ّ
جوى َثلَثة ِإ ّ
ن َن ْ
ن ِم ْ
و)َوُهَو َمَعُكْم َأْيَنما ُكْنُتْم() (2و)َوما َيُكو ُ
ن الَمْرِء َوَقْلِبِه() (5وما إلى ذلك من المضامين القرآنية الشريفة. ل َبْي َ
حو ُ
ل َي ُ
نا ّ عَلُموا َأ ّ
و)َوا ْ
ل أمام
فهذه المسألة وإضافة لكمالها البحاث المتعلقة بوحدة الوجود ـ بمعناها الصحيح ـ من شأنها أن تقف حائ ً
ن أصحاب الضللة قد وطأوا واديًا ل يجر عليهم سوى الخجل والخيبة، لأّأي انحراف في فهم الصفات اللهية .إ ّ
ومنهم طائفة »المجسمة« التي أضفت صفات الممكنات على ال تبارك وتعالى فصوروه كجسم من الجسام وقد
انطوى على بعض العضاء من قبيل الجسم واليد والرجل والشعر المجعد ومن باب أولى أن يحدوه بالمكان
والزمان فذهب البعض إلى إمكانية رؤيته سبحانه في الدنيا ،بينما اقتصر بها البعض الخر على الخرة.
.6بحارالنوار .3/289
] [ 65
روايات عن النبي)صلى ال عليه وآله( ـ وهى روايات موضوعة بالطبع ـ وصحيحه .ومن ذلك أّنه سئل ابن
عباس :هل رأى محمد)صلى ال عليه وآله( رّبه؟ قال :بلى ،فسئل :كيف رآه؟ قال :رآه على كرسي ذهبي مفروش
بالذهب ويحمله أربعة من الملئكة في حديقة خضراء).(1
وبغض النظر عّما سبق فقد شحن »صحيح البخاري« و»سنن ابن ماجة« وغيرها بالروايات التي صّرحت بأنّ
ن أهل الجّنة سيرونه كما يرى القمر بدرًا)(3 ن بعض الروايات صّرحت بأ ّ ال سيرى في يوم القيامة) ،(2حتى أ ّ
ن مثل هذه الروايات دفعت بالكثير من علماء العامة للعتقاد برؤية ال يوم القيامة والستماتة في الدفاع والحق أ ّ
لْبصاُر() (4وقد خاطب سبحانه كليمه عن هذه العقيدة .بينما هذا القرآن يهتف آناء الليل والنهار )ل ُتْدِرُكُه ا َ
ن َتراِني() (5ونعلم بأن »لن« نافيه أبدية .وقد تصدى المام علي)عليه السلم(لبيان ل )َل ْ
موسى)عليه السلم(قائ ً
هذه المسألة في خطبة الشباح ،فقال)عليه السلم(» :والرادع أناسي البصار عن أن تناله أو تدركه أو تبصره«)
.(6كما قال)عليه السلم( في خطبة ُاخرى ببلغته وفصاحته الجلية» :الحمد ل الذي ل تدركه الشواهد ول
تحويه المشاهد ول تراه النواظر ول تحجبه السواتر«) .(7وناهيك عّما تقدم فان هذه العقائد تمثل مخالفة صريحة
ن الرؤية لو كانت جائزة على ال لكان جسمًا له مكان وجهة ،المر الذي يعنى لما يحكم به العقل; وذلك ل ّ
محدويته وتغيره وبالتالي سلبه وجوب الوجود وجعله من ممكناته .وهنا يأتي دور عبارات أمير المؤمنين المام
علي)عليه السلم(ومنها العبارة السابقة لتكون كالشمس في رابعة النهار فتميط اللثام عن الحقائق وتسحق العقائد
الباطلة والخرافية وتستعرض الدروس القيمة في التوحيد ومعرفة الصفات اللهية .ولما جرت العادة أن يقابل
.1توحيد ابن خزيمة ) 217 /طبق نقل بحوث في الملل والنحل( .145 / 1
.2صحيح البخاري .56 / 6تفسير سورة النساء; سنن ابن ماجة ج 1مقدمة الباب 13ح .177
.3للوقوف على هذه الروايات الموضوعة يقينًا وكذلك تفنيد هذه الروايات واستعراض الدلة التي تضمنتها اليات والروايات
المعتبرة التي صّرحت باستحالة رؤية ال في الدنيا والخرة ،راجع من التفسير الموضوعي للقرآن نفحات القرآن 4/241ـ .251
] [ 66
كل إفراط بتفريط فقد انبرت طائفة بوجه المجسمة التي نزلت بال سبحانه إلى مرتبة الجسم فاعتمدت عقيدة
التعطيل لتقول باستحالة معرفة ال ل على مستوى كنه ذاته ول أوصافه ،ول تحسن سوى المفاهيم السلبية من
صفات ال ،فكل ما نفهمه من قولنا أّنه عالم هو أّنه ليس بجاهل ،اّما عالميته المطلقة فهى خافية علينا تمامًا ،وعليه
فمن مواضع فخر النسان أن يودع مسألة معرفة ال بوتقة النسيان ول يقترب من هذا الوادي الذي ينطوي على
ظلمات دامسة ويتناقض والتعاليم القرآنية المسلمة التي تقودنا إلى معرفة ال.
ونختتم بحثنا بعبارات ُاخرى أوردها المام)عليه السلم( في نهج البلغة بهذا الخصوص فقال» :لم يطلع العقول
على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته فهو الذي تشهد له أعلم الوجود على إقرار قلب ذي الجحود
تعالى ال عّما يقول المشبهون به والجاحدون له علوًا كبيرًا«).(1
ن هذا التعبير هو الخط المعتدل الفاصل بين الفراط والتفريط )المشبهة والمعطلة( في معرفة ال .هذا وقد
فالحق أ ّ
شحن نهج البلغة بالكلمات البليغة الرائعة التي تضمنتها خطبه)عليه السلم(بشأن صفات ال والسبيل الصحيح
لتوحيده سبحانه ،وسنتعرض في أبحاثنا القادمة لخطبه)عليه السلم(بهذا الخصوص.
—–
ن الذات اللهية منزهة عن الحدوث الذاتي والحدوث الزماني .والمراد تفيد عباراته)عليه السلم( بهذا الشأن أ ّ
بالحدوث الزماني هو وجود الشيء في الزمان ،أو بتعبير آخر مرور المّدة الزمانية على شيء لم يكن موجودًا ثم
ن الزمان انبثق من خلل خلقة العالم المادي بحيث
يوجد .وهذا هو المعنى المتصور بعد خلقه عالم المادة; ل ّ
أصبح هناك مفهوم للحدوث والعدم الزماني .أّما الحدوث الذاتي فالمراد به الشيء الحادث في ذاته بغض النظر
عن ظهور عالم المادة ،أو
] [ 67
—–
هل يمكن اطلق لفظ »الموجود« على ال؟ يبدو من تعبيره)عليه السلم(» :موجود ل عن عدم« إمكانية اطلق
هذا اللفظ على الذات اللهية المقدسة ،ولكن من المسلم به أن المفهوم الصلي لهذا اللفظ الذي ورد بصيغة اسم
المفعول والذي يعني أن الخر هو الذي منحه الوجود ،ل يصدق على ذاته المقدسة ،فالموجود هنا يشتمل على
مفهوم آخر وهو يتضمن معنى ذي الوجود; وهو المعنى الذي صّرح به في بعض شروح نهج البلغة ،بحيث
يطلق الموجود تارة على الماهيات الممكنة التي اتصفت بالوجود ،كما يطلق تارة ُاخرى ويراد به أصل الوجود)
.(1وقد ورد هذا التعبير )الموجود( في بعض روايات أصول الكافي أيضًا(2).
—–
.1مفتاح السعادة في شرح نهج البلغة .139 / 1
.2أصول الكافي 1/باب أدنى المعرفة ،ح ;1أيضا ،1باب النهي عن الصفة ،ح ;1أيضًا ،1باب جوامع التوحيد ،ح .4
] [ 68
] [ 69
القسم الرابع
—–
الشرح والتفسير
لقد تضمنت بداية هذه الخطبة المهمة إشارات دقيقة عميقة المعاني إلى معرفة ال وصفاته والتي تمثل أولى
مراحل المعرفة النسانية ،ثم طرق)عليه السلم( بعد ذلك إلى خلق العالم وكيفية ابتداء الخلق والعجائب التي
انطوت عليها السماء والرض ،وإن كانت مكملة للبحاث السابقة بشأن صفات ال .فقد قال)عليه السلم(» :أنشأ)
(1الخلق إنشاًء وابتدأه ابتداًء بل روية) (2أجالها) (3ول تجربة استفادها ول حركة أحدثه ول همامة) (4نفس
اضطرب فيها.
» .1أنشأ« من مادة »إنشاء« بمعنى اليجاد وان ذكروا لها عّدة معان.
» .2روية« بمعنى الري من الماء كما ورد في مقاييس اللغة ،ال اّنها تستعمل بمعنى التفكير المصحوب بالدقة .وكأنه يروي فكره
بشأن تلك المسألة ،أو ري تلك المسألة بفكره واداء حق التفكير.
» .4همامة« :لقد ذكر شّراح ومفسروا نهج البلغة لهذه المفردة عّدة معان .فقد عناها البعض بالرغبة القطعية الباطنية بالشيء
بحيث ينزعج لفقدانها )شرح ابن ميثم البحراني .(132 / 1بينما ذهب البعض الخر إلى أنها تعني الترديد في القيام بعمل )منهاج
البراعة .(51 / 1وقال آخرون اّنها تعني الهتمام بالشيء )شرح مغنية .(1/27
وقال ابن أبي الحديد في شرحه المعروف لنهج البلغة :وقوله)عليه السلم(» :ول همامة نفس اضطرب فيها« فيه رد على المجوس
ن النورالعظم حين هم بمجابهة الظلمة بدا عليه الشك والترديد فخرج من ذاته بشيء
والثنوية القائلين بالهمامة الذين يعتقدون بأ ّ
يسمى بالهمامة.
أّما في اللغة ـ كما ورد في لسان العرب ـ فالهمامة تعني الضعف والوهن والفتور ولذلك يطلق على كل رجل أو امرأة عجوز اسم
»ِهم« و»ِهمة«.
ويبدو مّما ذكر أن »الهمامة« الواردة في العبارة إّنما تعني الضعف والعجز في العزم والرادة بحيث يتعذر على الشخص اتخاذ
القرار ،أو أّنه يتخذ القرار بصعوبة.
] [ 70
فالمام)عليه السلم( يبين البون الشاسع بين الخلق اللهي والعمال والفعال التي تصدر عن المخلوقات.
ل إذا أراد أن يقوم بعمل ولم يكن لهذا العمل من سابقة وظن فكره وتأمله لينطلق إليه ،وإن كان له فالنسان مث ً
سابقة احتذى بتجربته وتجارب الخرين كما يعمد إلى خزينه الذهني والفكري بشأن ترتيب مقدمات العمل بغية
التوصل إلى نتائجه وكيفية أدائه ،وأحيانًا يتيه في ترديده وحيرته بحيث يحكم رأيه ويقوم بالعمل على أساسه.
وليس هنالك من سبيل لي من هذه الحالت والحتمالت للذات اللهية المقدسة ،فما من حاجة إلى الفكر والتأمل
ول إلى التجارب السابقة ول الحركة الفكرية استنادًا إلى ترتيب المقدمات والحصول على النتائج ول الترديد
ل َلُه ُك ْ
ن ن َيُقو َ
شْيئًا َأ ْ
ل إرادته )ِإّنما َأْمُرُه ِإذا َأراَد َ
والضطراب في العمال والقرارات .فليس وجود الشيء إ ّ
ن() .(1بعبارة اخرى فان هذه الحتمالت الربع إّنما تتعلق بحصيلة أعمال الفراد الذين له حظ محدود من َفَيُكو ُ
العلم والقدرة ،ولزمة ذلك الحاجة وأفكار الخرين وتجاربهم والشعور بالضطراب والقلق .ول سبيل لهذه
الحالت إلى من خرج علمه وقدرته عن الحدود حين الخلق.
ن المراد بالحركة في العبارة المذكورة إّنما هى حركة الفكر في باطن النفس .ولكن هناك ويّتضح بجلء مّما قيل أ ّ
ن المراد بها الحركة الجسمية الخارجية التي تعّد من لوازم
معنى آخر ساقه بعض المفسرون للحركة على أ ّ
ن الحالتالجسام وال أعظم وأجل وأسمى من الجسم والجسمانيات .ويبدو أن المعنى الول أنسب من الثاني; ل ّ
لخرى التي وردت قبل وبعد العبارة المذكورة كلها مرتبطة باتخاذ القرار والتفكر والتأمل قبل التيان الثلث ا ُ
بالعمل.
.1سورة يس . 82 /
] [ 71
أفعاله سبحانه تستند إلى علمه المطلق بمصالح الشياء ومفاسدها ومعرفته الكاملة بالنظام الحسن للخلقة والقدرة
التامة على جميع الشياء ،وإرادته قاطعة تامة ل لبس فيها ول ترديد ول تأمل وتفكير في إفاضة الوجود على
الموجودات ،وإرادته كانت وما زالت نافذة في الخلق.
—–
ثم أشار)عليه السلم( إلى كيفية خلق الموجودات والتدبير اللهي في ظهور الشياء طبق الخطط والبرامج
ن خلقه
ن ال جعل لخلق كل موجود وقتًا معينًا )وذلك ل ّ المنظمة فقال)عليه السلم(» :أحال الشياء لوقاتها« أي أ ّ
قائم على أساس التدريج والتخطيط الزماني بغية إيضاح عظمة تدبيره وقدرته الفريدة الفائقة( .فلما فرغ من
الشارة إلى التصنيف الزماني لخلقه الموجودات ،تطرق)عليه السلم( إلى نظامها الخاص الداخلي والتركيبي
فقال)عليه السلم(» :ولم) (1بين مختلفاتها« .وهذا من عجائب عالم الخلقة ،فقد ألف ال سبحانه بين مختلف
الموجودات لتبدو متسقة وكأّنها شيء واحد ،فقد لئم بين البارد والحار والظلمة والنور والموت والحياة والماء
والنار .لقد خلق النار من الشجر الخضر وخلق النسان والحيوان والنبات مركبًا من مواد تامة الختلف ذات
طبائع متنوعة.
وأبعد من ذلك فقد أوجد رابطة عميقة محكمة بين الروح والجسم وهما ينتميان إلى عالمين مختلفين تمامًا; أحدهما
مجّرد ونوراني وشفاف للغاية والخر مادي وظلماني وخشن للغاية .ثم قال)عليه السلم(» :وغرز)(2
غرائزها«.
» .1لم« و»لئم« من مادة »لم« بمعنى الجمع والصلح وضم شيء إلى شيء آخر والملئمة بينهما ،ومن هنا
اطلق على الدرع اسم »لمة« على وزن »رحمة« للتحام حلقاتها وتداخلها مع بعضها.
لبرة أو الجعل والدخال ،ثم اطلقت » .2غّرز« من مادة »غرز« على وزن »قرص« تعني في الصل غرس ا ُ
ن هذه الطبائع بمثابة البذور التي غرست
فيما بعد على الطبائع التي أودعت النسان أو سائر الكائنات الحية ،وكأ ّ
في أرض الوجود النساني.
] [ 72
الشياء ولسادها الضطراب والفوضى .وهناك اليوم تعبيران مختلفان بشأن هذه الدوافع الذاتية في النسان أو
ن معرفة ال مودعة في الفطرة النسانية ..وأحيانًا ُاخرى سائر الموجودات ،فأحيانًا يطلق عليها اسم الفطرة وأ ّ
ن للنسان غريزة جنسية ،أو يقولون بأن لحركات الحيوانات عمومًا صبغة ل يقولون أ ّ
يعبر عنها بالغريزة .فمث ً
غريزية .وهذا في الواقع اصطلح استعمله العلماء بهذا الشأن .أحدهما بشأن الدوافع التي تتسم بالبعد الفكري
ن كليهما يعنى الخلقةلأّ)الفطرة( والخر بخصوص تلك التي ليس لها بعدًا فكريًا أو لها بعد عاطفي )الغريزة( .إ ّ
على أساس المعنى اللغوي.
—–
ثم قال)عليه السلم(» :والزمها) (1أشباحها« .وقد تضاربت أقوال المفسرين ـ لنهج البلغة ـ بشأن هذه العبارة،
فذهب البعض ومنهم ابن أبي الحديد الذي قال ان الضمير المنصوب في »الزمها« عائد إلى الغرائز; أي ألزم
ن كل مطبوع على غريزة لزمة ،وبالنتيجة فان العبارة تأكيد على ثبوت الغرائز أشباحها ،أي أشخاصها ل ّ
ن المراد بالعبارة وجود التشخصات الخاصة لكل موجود ،أي غرائز الموجودات .بينما ذهب البعض الخر إلى أ ّ
ن ال سبحانه قد وهب كل موجود بعض الخصائص والمميزات ،وبعد أن كان لها بعدًا كليًا في علم ال فقد أّ
تبلورت في الخارج على هيئة جزئيات وأشخاص وعلى ضوء هذا التفسير فان الضمير في ألزمها يعود إلى
)الشياء( كما ذكر البعض كل التفسيرين على نحو الحتمال .ولكن لما كان التفسير الول ل يتضمن انسجام
ن الذي يبدو أ ّ
ن الضمير وما ذهب إليه ،إضافة إلى كون العبارة تتخذ طابع التأكيد ل بيان موضوع جديد ،فا ّ
التفسير الثاني أصح وأصوب من التفسير الول .وتوضيح ذلك أن ال تبارك وتعالى قد وهب كل موجود نوعين
من الخصائص .الخصائص التي أودعت باطن ذاتها والتي عبر عنها المام)عليه السلم( بالغرائز ،والخصائص
في الجوانب الظاهرية من قبيل الزمان والمكان وسائر الجزئيات والتي عبر عنها المام)عليه السلم(بقوله
»ألزمها أشباحها« وعلى هذا
» .1أشباح« جمع »شبح« طبق ما أورده أغلب أرباب اللغة بمعنى الشخص في الصل ،كما وردت بمعنى ظهور الشيء واتضاحه،
ومن هنا يطلق الشبح اليوم على الموجود الذي يتراءى ظله ثم يظهر فجأة.
] [ 73
الساس يكون الحق واستنادًا لحكمته البالغة في افاضته للخصائص الباطنية والظاهرية لكل
موجود ليقوم بوظائفه الخاصة به على ما يرام ويتميز عن سائر الموجودات.
تنبيه
الهداية الفطرية والتكوينية لكافة موجودات العالم
ن لكافة لقد تضمنت عبارته)عليه السلم( إشارة لنقطة مهّمة طالما ورد التأكيد عليها كرارًا في القرآن :وهى أ ّ
ل أّنهاموجودات عالم الخلقة والمادة تصنيف زماني خاص وفي نفس الوقت الذي يحكمها التضاد والختلف إ ّ
منسجمة مع بعضها البعض ومكملة لها وأّنها مهدية على الدوام طبق نظمها الذاتي الباطني والظاهري وأّنها
تنطلق كقافلة منتظمة ومنسجمة نحو هدفها النهائي دون أي تعثر وانحراف ،بل تسير إليه على نحو الدقة دون أن
تخطأه .فتفتح الزهور وتحمل أوراق الشجار للفاكهة والثمار في فصلي الربيع ،ذبولهاوجفافها وتساقطها في
فصلي الخريف والشتاء ،حركة الشمس في البراج الثني عشر ،تعاقب الليل والنهار ،دوران الرض حول
نفسها وحول الشمس وما اودع النسان من قوى باطنية وظاهرية كلها شواهد على الهداية التكوينية اللهية ،والتي
طَرَة ا ّ
ل خْلَقُه ُثّم َهدى() (1وقالِ) :ف ْ
شيء َ ل َ عطى كُ ّ صّرح بها القرآن على لسان موسى)عليه السلم(َ):رّبنا اّلِذي َأ ْ
ل ِبَقَدر َمْعُلوم((3).
خزاِئُنُه َوما ُنَنـّزُلُه ِإ ّ
عْنَدنا َ
ل ِشيء ِإ ّ
ن َ
ن ِم ْ
عَلْيها() (2و)َو ِإ ْ
طَر الّناس َ
اّلِتي َف َ
وهذا في الحقيقة يمثل آية من آياته سبحانه في عالم الوجود التي تجعل النسان أكثر معرفة بالهداية التكوينية
والنظم والتصنيف الزماني والتأليف بين الضداد والمختلفات كلما تعمق في التفكير بهذا العالم.
—–
] [ 74
ثم قال)عليه السلم(» :عالمًا بها قبل ابتدائها محيطًا بحدودها وانتهائها عارفًا بقرائنها)(1وأحنائها).(3)«(2
ن من أراد أن يخلقن هذه العبارات الثلث قد جاءت بمثابة دليل أو إيضاح للعبارات السابقة ،وذلك ل ّ والواقع أ ّ
موجودًا في وقته المناسب ويلئم بين الشياء المختلفة ويودعها غرائزها الباطنية ولوازمها الظاهرية فانه يحتاج
إلى علم جامع كامل من جانب وإلى إحاطة وقدرة تامة وشاملة من جانب آخر .ولذلك قال)عليه السلم(» :عالمًا
بها قبل ابتدائها «...ول يقتصر علمه على ابتدائها وانتهائها فحسب ،بل هو عالم محيط بلوازمها وعللها وآثارها
لمور قادرًا على التيان بها ،فان له أن يضع كل شيء في أيضًا .ومن المفروغ منه أن من كان عالمًا بهذه ا ُ
موضعه ومكانه ويفيض على كل منها لوازمه ويسوقه في مسيرته الوجودية إلى كماله المنشود.
—–
تأّملن
1ـ هل يصطلح بالعارف على ال؟
» .1قرائن« جمع »قرينة« بمعنى المصاحب والرفيق ،ولذلك يقال لزوجة الرجل قرينته )الصحاح والقاموس وسائر الكتب اللغوية(،
ن القرائن جمع قرونة )على وزن معونة( وهي النفس ولكن يبدو المعنى بينما ذهب بعض شراح نهج البلغة كابن أبي الحديد إلى أ ّ
الول أنسب بالستناد إلى التعبيرات التي وردت في الجملة.
حْنو« على وزن فعل »وحنو« على وزن حرف وتطلق على كل شيء فيه اعوجاج وانحناء ـ على ضوء ماورد في » .2أحناء« جمع » ِ
المقاييس ولسان العرب ـ كعظم الفك والضلع .ثم وردت بمعنى الجوانب أيضًا )وذلك لن جوانب وأطراف الشياء غالبًا ما تشتمل
على انحناءات(.
ن الضمائر التي وردت في هذه العبارات إّنما تعود إلى الشياء ل الغرائز كما صرح بذلك بعض شّراح
.3لبّد من اللتفات هنا إلى أ ّ
نهج البلغة; وذلك لعدم وجود النسجام بين الحتمال الثاني ومضمون الجملة.
] [ 75
ن مفردة المعرفة وان كانت في الصل تعني المحدودية أو الحاجة إلى التفكر والتدبر ،غير
ويشير هذا المر إلى أ ّ
أّنها اتسعت أثر كثرة الستعمال حتى صارت تطلق على كل نوع من العلم والمعرفة ،وإن لم تكن وليدة الفكر
والتدبر.
ن هذه الرواية ل تقصر السماء على تسعةأّما بشأن الروايات المرتبطة بالتسع وتسعين اسمًا ل ،فينبغي القول أ ّ
وتسعين أبدًا ،بل هى تشير في الحقيقة إلى صفات ال وأسمائه الحسنى ،ولذلك صّرحت بعض الروايات بألف اسم
للبارئ سبحانه ،وأخيرًا أي دليل أعظم من أن يستفيد المام علي)عليه السلم( في نهج البلغة من هذا السم أو
مشتقاته بالنسبة ل وهو العرف والعلم أكثر من غيره بخصوص أسماء ال وصفاته.
ن ال سبحانه
ن أحد أعقد المباحث الفلسفية والعقائدية هو بحث »علم ال بالموجودات قبل ايجادها« .فاننا نعلم بأ ّ
إّ
عالم بالحوادث التي ستقع ،وهذا ما ورد التأكيد عليه في اليات القرآنية الشريفة ،وهو ما ورد في العبارة
المذكورة ،ومن جانب آخر فان علم ال ليس من قبيل »العلم الحصولي«; أي ليس هنالك من انعكاس للصورة
الذهنية للشياء في ذاته; وذلك
.1لقد أورد ابن ميثم هذا الموضوع بصيغة اشكال ثم أجاب عنه بان أسماء ال أكثر من هذا العدد وقد ذكر عّدة شواهد على مدعاه
)شرح نهج البلغة ،لبن ميثم .(137 / 1جدير بالذكر ان هذا الحديث قد ورد في الدر المنثور عن صحيح البخاري وصحيح مسلم
ومسند أحمد وسنن الترمذي وسائر المصادر الروائية ) 147 / 3نفحات القرآن .(46 / 4
.2أصول الكافي ،91 / 1باب النسبة ،ح 2وص ،113باب حدوث السماء ،ح .2
] [ 76
لّنه ليس له من »ذهن« كالمخلوقات ،فعلمه ل يتأتى من خلل انعكاس صور الموجودات ،بل علمه
ن المخلوقات حاضرة عنده ،ونعلم أن ليس هناك من معنى للعلم الحضوري بشأن الشياء »علم حضوري«; أي أ ّ
التي لم تظهر للوجود; بل هذا الشكال وارد حتى بخصوص الموجودات التي زالت وانعدمت في الماضي; فان
كان لنا من علم بها بفضل صورها الذهنية التي تبلورت في أعماقنا وأفكارنا .ولكن كيف لمن ليس له ذهن وصور
باطنية وليس من سبيل للحوادث إلى ذاته المقدسة أن يحيط بها؟! على سبيل المثال :لقد زالت صورة فرعون
ورهطه وانقطع تأريخهم ،وليس لنا سوى استحضار صورتهم في أذهاننا ،ولكن ما كيفية علم ال به وهو ليس من
قبيل علمنا؟ فهل يمكن القول بأّنه ليس عالمًا بالماضي؟ أم ليس له من علم بالمستقبل؟ أبدًا ل يمكن ذلك! إذن إن
كان عليمًا فما كيفية هذا العلم؟
لقد أثارت هذه المسألة الجدل في أوساط الفلسفة والعلماء فقدموا عّدة أجوبة بهذا الشأن ،سنقتصر هنا على
الشارة إلى بعضها:
ن لذاته أعظم
ن ال كان ومازال عالمًا بكافة الشياء بذاته التي تعتبر علة لجميعها ،وبعبارة ُاخرى فا ّ 1ـإّ
الحضور لدى لذاته ،وهذا العلم بذاته هو علم إجمالي بكافة حوادث العالم وموجوداته قبل اليجاد وبعده .وتوضيح
ذلك أننا لو علمنا على نحو الدقة بعلة الشياء فان مثل هذا العلم سيقود بالنتيجة إلى العلم بنتائجها ومعلولتها;
ن كل علة تشتمل على كافة كمالت المعلول وزيادة ،ولما كان ال علة جميع الشياء ويعلمها بذاته ويحيط وذلك ل ّ
بها ،وفي الواقع فان هذا نوع من الكشف التفصيلي تجاه جميع الشياء من خلل العلم الجمالي .ويمكن توضيح
ن الحوادث الماضية لم تنعدم بالمرة أبدًا وإنما لها وجود وحضور في عمق حادث الحاضر. هذا الكلم بالقول :إ ّ
ن الحوادث المستقبلية ليست معزولة عن الحوادث الحاضرة فهى مرتبطة بها ونابعة منها .وعلى هذا كما أ ّ
ن العلم باحدى حلقاتها اّنما ن الماضي والحاضر والمستقبل إّنما يوجد سلسلة من العلل والمعاليل بحيث أ ّ الساس فا ّ
يعني العلم بما قبلها وما بعدها من حلقات .على سبيل المثال لو علمنا بدّقة الوضاع الجوية للكرة الرضية
والعوامل المؤدية لظهور الجواء الفعلية وأحطنا بكافة جزئيات وروابط عللها ومعاليلها ،فاننا سنستطيع التعرف
ن ملف
بدقة على أوضاع الجواء لما قبل أو بعد آلف السنين; وذلك ل ّ
] [ 77
حوادث الماضي والمستقبل موجودة في الحاضر .فاليوم يحمل انعكاسًا دقيقًا عن المس ،والغد عن اليوم والعلم
ن ال سبحاه التام بجزئيات اليوم بمعنى العلم التام بالحوادث الماضية والمستقبلية .فاذا التفتنا إلى هذه الحقيقة وهو أ ّ
ن له العلم بذاته المقدسة ،فان علينا أن نقر بأّنه عالم أيضًاالمصدر الصلي لجميع حوادث المس واليوم والغد وأ ّ
لأّ
ن ن آثار كل موجود مهما كان إّنما تتبع إرادة ال وأمره ،إ ّ بحوادث المستقبل والحاضر والماضي .وبالطبع فا ّ
سنته جرت في منح الموجودات القدرة على القيام بفعاليتها ،فاذا شاء جردها منها(1).
2ـ الجابة الثانية التي يمكن إيرادها في هذا المجال أّنه يمكن لعلمنا تصور المس واليوم والغد ،وذلك لننا
ن كافة
موجودات محدودة .أّما بالنسبة ل الذي ل حدد لذاته فليس هنالك من مفهوم للمس واليوم والغد لديه ،بل إ ّ
الشياء والحوادث حاضرة عنده بجميع جزئياتها وخصوصياتها.
ن هناك فردًا في زنزانة مظلمة ليس لها سوى نافذة صغيرة على الخارج .فاذا مرت قافلة من الجمال من
افرض أ ّ
هذه النافذة فانه سيشاهد في بداية المر رأس وعنق جمل واحد ثم يرى رجليه وذنبه ومن ثم سائر الجمال في هذه
القافلة .فصغر النافذة هو الذي يشكل السبب الذي يجعله يعيش حالة من الماضي والحاضر والمستقبل ،بينما
يختلف هذا الموضوع تمامًا بالنسبة لذلك الفرد الواقف على سطح في محيط مكشوف خارج تلك الزنزانة وينظر
إلى الصحراء ،فهو يرى قافلة الجمال معًا خلل حركتها.
—–
ن ليس ل من علم بكثرة ن لزمة هذا الكلم أ ّن من أورد هذا الجواب لحل الشكال المذكور قد واجه هذا السؤال :وهو أ ّ .1إ ّ
ن علمه متفاوت بالموجودات قبل الموجودات بوصف الكثرة قبل وجودها ،لّنه ليس هنالك من كثرة في ذاته ،أو بتعبير آخر ،أ ّ
ن بعضهم قد اعترف بهذاوجودها وبعده :فقد كان سابقًا على نحو العلم الجمالي ،ولحقًا على نحو العلم التفصيلي ،والعجيب أ ّ
التفاوت.
] [ 78
] [ 79
القسم الخامس
سَكاِئك اْلَهَواِء«.
جاِء َو َ
ق اَْلْر َ
شّ
جَواِء َو َ
ق اَْل ْ
حاَنُه َفْت َ
سْب َ
شَأ ُ
»ُثّم َأْن َ
—–
الشرح والتفسير
لقد تناول المام)عليه السلم( بداية انبثاق الخلق فقال)عليه السلم(» :ثم أنشأ سبحانه فتق) (1الجواء) «(2وهو
يشير إلى شق الطبقات الجوية ،ثم فتح جوانبها وأطرافها »وشق) (3الرجاء) «(4وأوجد الفضاء والهواء
»وسكائك) (5الهواء) .«(6فقد أشير إلى فتق الجواء ثم ايجاد أطرافها وجوانبها
» .1فتق« على وزن مشق بمعنى الشق والضجوة بين شيئين وهى ضد الرتق )كما أورد ذلك الراغب في مفرداته( .ويقال للصبح
»فتيق« ،لّنه يشق الفق ويظهر ،وقال صاحب لسان العرب اّنه يطلق »فتيق اللسان« على الفرد الخطيب والفصيح اللسان ،لّنه
يتحلى بلسان طلق ذرب.
» .2أجواء« جمع »جو« بمعنى ـ حسب قول المفردات ولسان العرب ـ الفضاء الحاصل بين السماء والرض.
» .3شق« بمعنى الفتحة في الشيء ،ومن هنا اطلق الشقاق على الختلف الذي يحدث بين الناس ويفصلهم عن بعضهم البعض
الخر.
» .4أرجاء« جمع »رجا« )دون همزة« تعني حسب »مقاييس اللغة« أطراف البئر أو أطراف أي شيء آخر،الرجاء بالهمزة فيعني
ن معناها الصلي الشيء الذي يرجى وقوعه في الجوانب الطراف ،ولذلك يطلق المل .بينما يعتقد البعض من قبيل كاتب »التحقيق« أ ّ
على هذه الجوانب والطراف المرجوة »رجا« دون همزة.
» .5سكائك« جمع »سكاكة« على وزن خلصة ،قال صاحب لسان العرب أّنها تعني الفضاء الواقع بين السماء الرض ،وقال ابن أبي
الحديد هى أعلى الفضاء.
» .6الهواء« بمعنى الخالي والساقط ،ولذلك يطلق لفظ الهواء على كل شيء خال ،ومن ذلك الفضاء بين السماء والرض .وأّما سبب
إطلق لفظة »الهوى« على الشهوات والنزوات النفسية فهى أّنها تشكل مصدر سقوط النسان في الدنيا والخرة )مقاييس اللغة،
مفردات الراغب ،لسان العرب( .ويبدو ان اطلق هذه المفردة على الغاز اللمرئي المركب من الوكسجين والوزون إّنما هو من
الستعمالت الجديدة والذي يناسب أيضًا المعنى الصلي ،لّنه يبدو موضعًا خاليًا )و إن ورد بهذا المعنى في بعض الروايات أيضًا(.
] [ 80
ن الخلق الول في عالم المادة كان خلق فضاء العالم ،الفضاء الذي ومن ثم طبقاتها .وتشير العبارة بأجمعها إلى أ ّ
يسعه استيعاب الكرات السماوية والمنظومات وما إلى ذلك ،بالضبط كالصفحة الورقية التي يعدها الرسام الماهر
ن كلمة »ثم« في العبارة ل تفيد معنى الترتيب التكويني ،بل تفيد الترتيب مسبقًا لرسم ما يشاء .ومن هنا يتضح أ ّ
والتأخير البياني; لّنه قد أشير في العبارات السابقة إلى خلق أنواع الموجودات والكائنات ،ومن المتيقن أل تكون
قد أعقبت بخلق الفضاء ثم كريات السماء والرض .وفي الواقع فقد تضمنت العبارات السابقة أبحاثًا بشأن خلق
ن ظاهر هذه العبارة تفيد أن
الموجودات بينما تكفلت هذه العبارة شرح تلك البحاث وتفصيلها .على كل حال فا ّ
ن هناك ترديد لدى بعض الفلسفة والمتكلمين بشأن الفضاء في أّنه أمر الفضاء أول مخلوق في عالم المادة ،غير أ ّ
ن الزمان هو وحدة ن الزمان قد ظهر بعد انبثاق الموجودات وحركتها )ل ّ وجودي أم عدمي؟ فهناك من يعتقد كما أ ّ
الحركة( فان المكان هوالخر قد حصل بعد ظهور الجسام المختلفة ومقارنتها مع بعضها .والحال يتعذر علينا
تصور عدم وجود مكان مطلق إثر ظهور أول جسم إلى الوجود .فلو أردنا أن نبني عمارة ذات عّدة طبقات فاننا
نحتاج إلى فضاء تشغله تلك العمارة كحاجتنا إلى مكان على الرض نبنيها عليه ،وإذا أردنا أن نبني عمارة أكبر
فاّنها ستحتاج إلى فضاء أوسع .والخلصة فاننا نؤمن بما أورده المام)عليه السلم(بقوله »ثم أنشأ سبحانه فتق
الجواء وشق الرجاء وسكائك الهواء« ونوكل الستغراق في هذا البحث إلى محله.
تأّمل
هل العالم المادي حادث؟
هناك كلم كثير يدور بين الفلسفة والعلماء بشأن العالم فهل العالم المادي حادث أم قديم أزلي؟ فالبعض يرى أّنه
قديم وأزلي بينما يعتقد العم الغلب أّنه حادث .اّما دليل القائلين بالزلية والقدم فانما يستند إلى الذات اللهية
المقدسة القديمة وكل ما سواها فهو حادث ومخلوق وتابع لذاته المقدسة .وأّما أنصار عقيدة حدوث العالم فأحيانًا
يستدلون بالدلة الفلسفية على مدعاهم وأحيانًا ُاخرى بالدلة العلمية .فبرهان الحركة والسكون من الدلة
] [ 81
لمورالفلسفية المعروفة التي تقول بأن عالم المادة دائمًا في حالة حركة وسكون ،والحركة والسكون من »ا ُ
الحادثة« وما كان معروضًا للحركة والسكون فهو حادث أيضًا .ويمكن ايراد هذا الدليل بتعبير أوسع وأشمل وهو
ن عالم المادة دائمًا في حالة تغيير ،والتغيير والتبدل علمة على الحدوث ،لّنه لو كان أزليًا وهو مسرح على أّ
لمور
الدوام للتغير والتبدل فان ذلك سيكون جمع بين الحدوث والقدم ،أي لبّد أن نرى التغييرات وهى من ا ُ
الحادثة أزلية ،وهذا تناقض صريح .ويتضح هنا أكثر فأكثر اقرار هذا الدليل للحركة الجوهرية التي تقول بأ ّ
ن
ن وجود الحركة هذا المر الحادث في الزل ل معنى له. الحركة كامنة في ذات الشياء ،بل هى عين ذاتها; ل ّ
ونترك دراسة وتحليل هذا الدليل إلى البحاث الفلسفية الواردة بهذا الشأن.الدليل العلمي فهو الدليل الذي يقول بأ ّ
ن
العالم في حالة تآكل دائمية وقد قامت الدلة والبراهين العلمية التي تثبت ذلك ،ويصدق هذا المر على التيارات
والثوابت والرض وما كان على سطحها .فالتآكل المستمر دليل على أن هناك نهاية وخاتمة لعالم المادة .ل ّ
ن
ن للعالم المادي نهاية ،يجب أن نذعن بأن له بداية .لن الشيء التآكل ل يمكن أن يستمر إلى ما ل نهاية ،فاذا قبلنا أ ّ
ل يكون أزليًا مالم يكن أبديًا .فالبدية تعني اللنهاية ،والشيء اللمنتهي ليس بمحدود ،وإذا كان ليس بمحدود فل
بداية له ،وعليه فالشيء إذا لم يكن أبديًا سوف لن يكون أزليًا .ويمكن ايراد هذه الكلمة بصيغة ُاخرى وهى أ ّ
ن
ن تناهى التآكل يساوي العدم. العالم لو كان أزليًا وفي حالة تآكل ،فلبّد أن يكون هذا التآكل قد أنهى عمر العالم ل ّ
ن العالم المادي يسير نحو الروتينية .فالذرات تتلشى تدريجيًا وبتعبير آخر على ضوء آخر النظريات العلمية أ ّ
وتتحول إلى طاقة ،والطاقة تسير نحو الروتينية )بالضبط كشعلة النار التي توقدها في غرفة فتتحول مادة النار
إلى حرارة فتنتشر هذه الحرارة تدريجيًا في وسط الغرفة حتى تكون بالتالي شيئًا روتينيًا ل أثر له( .وكلما مرت
ل نهاية الزمان على العالم ستحصل هذه الحالة; أي تحول كافة المواد إلى طاقة وبالتالي تتحول هذه الطاقة الفعالة
إلى طاقة روتينية وباهتة.
ن ذاته الفياضة قد توقفت عن هذا الفيض ،بل ن زمانًا قد مّر ولم يكن ل من خلق وأ ّ
لكن ل يعني هذا الكلم أ ّ
ن جميع هذه
ن المخلوقات كانت دائمًا تشهد حالة التغير والتبدل وأ ّ
لأّبالعكس فان عملية الخلق مستمرة ،إ ّ
المخلوقات تابعة لذاته المقدسة ،أو بتعبير آخر كان له
] [ 82
حدوثًا ذاتيًا ل زمانيًا .وذلك لعدم إمكانية تصور الحدوث الزماني للجميع .وما ورد في الرواية التي قالت» :كان
ال ول شيء معه«) (1إّنما يراد بها أّنه لم يكن شيء مصاحبًا لذاته بل مخلوقًا لها )لبّد من التأمل(.
—–
.1توحيد الصدوق ،66 /كما ورد شبيه هذا المضمون في 145 /ـ .226
] [ 83
القسم السادس
صَفِة َفَأَمَرَها
ع اْلقا ِ
عَز ِ
صَفِة َوالّز ْ
ح اْلعا ِ
ن الّري ِعَلى َمْت ِحَمَلُه َ
خارُهَ ، طمًا َتّيارُه ُمَتراِكمًا َز ّ
جَرى ِفيَها ماًء ُمَتل ِ»َفَأ ْ
ق«.ن َفْوِقها َدِفي ٌ
ق َواْلماُء ِم ْ
حِتها َفِتي ٌ
ن َت ْ
حّدِه ،اْلَهَواُء ِم ْ
شّدِهَ ،وَقَرَنَها ِإَلى َ
عَلى َ طَها َ
سّل َ
ِبَرّدِهَ ،و َ
—–
الشرح والتفسير
ما يستفاد من كلمات أمير المؤمنين علي)عليه السلم( ولسيما في هذه العبارات وما سيتبعها في توضيح كيفية
ن ال سبحانه قد خلق ابتداًء الماء ـ أو بتعبير آخر ـ مائعًا يشبه الماء ثم حمله على ريح عاتية
خلق العالم هو أ ّ
شديدة ،وقد أمرت هذه الريح أن تحفظ هذا المائع وتحول دون تشتته وتفرقه .ثم هبت ريح شديدة ُاخرى بهدف
ايجاد أمواج في ذلك المائع العظيم والواسع فجعلت الريح تلك المواج أعظم وأشد ثم دكتها على بعضها ،ثم تموج
ن الماء والريح
ذلك المائع تمويجًا شديدًا حتى ارتفع في الفضاء ،فخلق منه السموات السبع .جدير بالذكر أ ّ
والعاصفة وما شابه ذلك ـ في ذلك الوقت الذي لم يكن فيه ماء ول ريح ول عاصفة ـ كناية عن موجودات شبيهة
لمور ،فلمن واضعي المفردات قد جعلوا هذه الكلمات لمثل هذه ا ُ بما نراه اليوم من ماء وريح وهواء ،وذلك ل ّ
يضعوا أية مفردة لما حدث أوائل خلقة العالم .وان أدنى تأمل يجعل من الممكن تفسير ما ورد من عباراته)عليه
ن هذا هو
السلم( على ضوء آخر الفرضيات والنظريات التي طرحها العلماء المعاصرون بهذا الشأن ،ول نقول إ ّ
مراد المام)عليه السلم( على سبيل القطع ،بل نحتمل أن يكون تفسيره كذلك.
] [ 84
البداية كان بهيئة كتلة غازية عظيمة شبيهة بالمائع ،كما يمكن الصطلح عليها باسم »الدخان« ،أو بتعبير آخر
كانت الطبقات العليا من العالم دخانًا ،وكان هذا الدخان يتخذ شكل المائع بفعل حالة الضغط كلما إقترب من مركز
العالم.
أّما الشيء الذي تكفل بحفظ تلك الكتلة العظيمة للغاية إّنما تمثل بالجاذبية التي تحكم جميع ذرات العالم ،وقد
سلطت هذه الجاذبية على ذلك الغاز المائع فشدته وحالت دون خروجه من حدوده .ثم ابتدأت هذه الكتلة العظيمة
بالدوران حول نفسها )أو أّنها كانت تدور حول نفسها منذ البداية( وهنا ظهرت قوة الطرد المركزية (1).وقد أدت
قوة الطرد المركزية هذه بتلك الكتلة العظيمة من ذلك الغاز المضغوط أن تقذف في الفضاء الخالي ،وعلى حد
تعبير نهج البلغة كما سيأتي في العبارات التالية من هذه الخطبة »فأمرها بتصفيق الماء الزخار وإثارة موج
البحار فمخضته مخض السقاء وعصفت به عصفها بالفضاء« ثم ظهرت منها المنظومات والكواكب والكرات
الصغيرة والكبيرة للعالم; المر الذي نعته القرآن ونهج البلغة بالسموات السبع .طبعًا كل ما نريد أن نقوله ـ دون
الصرار على هذا الموضوع ـ هو النسجام القائم بين عبارته)عليه السلم( والفرضيات والنظريات العلمية
الواردة بذات الشأن ،حيث يمكن استيعاب كلم المام علي)عليه السلم( على ضوء النظريات والطروحات
العلمية المعاصرة بخصوص ظهور السموات والرضين والكواكب والجرام السماوية وسائر الكرات .وننتقل
الن إلى أصل عبارته ،فقد قال المام)عليه السلم(» :فاجرى فيها ماء متلطمًا) (2تياره).«(3
»التلطم« بمعنى اصدام المواج ببعضها ،والتيار يعني الموج ،ول سيما المواج التي يقذفها الماء خارجًا،
أفليس هذا الماء المتلطم والمتدفق هو تلك الغازات الولية المضغوطة التي تمثل المادة الولية للعالم على ضوء
نظريات العلماء واطروحاتهم؟ ثم أكد المام علي)عليه السلم( على شدة
.1كل شيء يدور حول نفسه اّنما يتعرض إلى قوة تحاول طرده من المركز ،كالشعلة التي ندورها بايدينا فاذا تركناها فجأة قذفت إلى
نقطة بعيدة ،وما هذا إّل لوجود قوة الطرد المركزية ،وكلما تضاعفت هذه القوة فان شدة القذف خارجًا تتناسب طرديًا وازدياد تلك
القوة.
» .2متلطم« من مادة »لطم« على وزن ختم بمعنى صفع الوجه باليد ،ثم استخدمت هذه المفردة لحقًا بمعنى اصطدام المواج مع
بعضها.
» .3التيار« بمعنى أمواج البحر التي يقذف بها الماء ،وقد أطلقها البعض )مقاييس اللغة ولسان العرب( على كل نوع من المواج .
] [ 85
ثم أضاف)عليه السلم(» :حمله على متن الريح العاصفة) (3والزعزعة) (4القاصفة).«(5
فالعاصف بمعنى الضاربة والكاسرة والزعزع بمعنى الضطربة والشديدة الهبوب وكذلك القاصفة التي تهلك
ن كل هذه المفردات تأكيدات متتالية لبيان قوة تلك الريح وسعتها وشموليتها .ثم ُامرت هذه
الناس بشدة هبوبها ،وكأ ّ
العاصفة العظيمة المرعبة بحفظ أجزاء الماء مع بعضها البعض ضمن حدودها »فأمرها برده ،وسلطها على
شدة) ،(6وقرنا إلى حده« .أو ليست هذه العاصفة العظيمة والشديدة إشارة إلى أمواج الجاذبية التي سلطها ال على
جميع ذرات عالم المادة والتي كانت سببًا لتماسك أجزائها وعدم تشتتها وتناثرها ،وتقييدها بالحركة في إطار
حدودها؟ فهل هناك من تعبير أروع وأدق من الريح العاصفة القاصفة لتبيين المواج العظيمة للجاذبية في ظل
تلك الجواء.
لمور و»الهواء من تحتها فتيق) (7والماء من فوقها دفيق) «(8والفتيق من مادة فتق بمعنى
وقد حصلت كل هذه ا ُ
المفتوق; المفتوح ،ودفيق من مادة دفق بمعنى الحركة السريعة.
» .1متراكم« من مادة »ركم« على وزن رزم بمعنى تراكم شيء والقاء بعضه على بعض ،وتطلق على الغيوم والرمال والمياه وحتى
الجموع الغفيرة من الناس التي تتجمع في موضع )المفردات ،لسان العرب ومقاييس اللغة(.
» .2زخار« من مادة »زخر« و»زخور« بمعنى المتداد والرتفاع ،كما يطلق على امتلء البحر وتلطمه.
» .3عاصفة« من مادة »عصف« على وزن عصر بمعنى الخفة والسرعة ،ومن هنا يطلق العصف على قشور الحبوب التي تكسر
بسرعة ،كما يقال »عاصف« و»معصف« للشيء الذي يحطم سائر الشياء وينعمها )المفردات ،لسان العرب ومقاييس اللغة(.
» .4زعزع« على وزن زمزم بمعنى الحركة والضطراب والهتزاز ،كما تستعمل بمعنى الشديد )مقاييس اللغة ولسان العرب(.
» .5قاصفة« من مادة »قصف« على وزن حذف بمعنى كسر الشيء ،ومن هنا يطلق القاصف على العواصف الشديدة التي تكسر
السفن في البحار وكذلك الرعد والبرق الشديد الكاسر )المفردات ،لسان العرب ومقاييس اللغة(.
» .6شّد« على وزن مّد بمعنى قوة الشيء وقدرته ،ولذلك يصطلح بالشديد على الفرد القوي )ول سيما القوي في الحرب( .كما
تستعمل هذه المفردة بمعنى ربط العقدة وأحكام وثاقها )سواء كانت في البدن أو في القوى الباطنية والروحية أو في المصيبة
والعذاب() .لسان العرب ،المفردات ومقاييس اللغة(.
] [ 86
ن هذه المواج المتدفقة اّنما تحد بواسطة تلك الريح العاصفة ،فتحول دنها ودون تجاوزها لحدودها ـ وهنا
نعم إ ّ
يبرز هذا السؤال :كيف تظهر تلك المواج المتدفقة على سطح الماء رغم وجود تلك الريح العاصفة الحائلة
ن الرياح هنا تلعب
ن تلك المواج عادة ما تظهر بفعل حركة الرياح والعواصف ،رغم أ ّ والمانعة ،فالمعروف أ ّ
دور المانع والحائل لتلك المواج ،إذن ما العامل الذي يقف وراء حركة المواج.
ن العامل الذي يقف وراء ظهور هذه المواج هو شيء كامن في باطنها بحيث يجعله يتلطم على الدوام. يبدو أ ّ
ل أّنه ينسجم تمامًا والنظريات التي أوردها العلماء
ولكن ليست لدينا رؤية واضحة لماهية هذا العامل ،إ ّ
المعاصرون بهذا الشأن ،فهم يقولون أن انفجارات نووية متواصلة وقعت في جوف الغازات الولى ذات الطبيعة
المائعية ،وهى هذه النفجارات التي تحدث اليوم في الشمس .فهذه النفجارات العظيمة قضت على سكون
واستقرار هذه الغازات المائعية وأوجدت تلك التلطمات في أمواجها المتدفقة.
ولبد لنا من متابعة المقطع الخر لكمال هذا القسم فنقف على الصورة الدقيقة التي رسمها المام)عليه السلم(
لنبثاق الخليقة.
—–
] [ 87
القسم السابع
خار
ق اْلماِء الّز ّ صِفي ِ
شَأَها َفَأَمَرَها ِبَت ْجراها وََأْبَعَد َمْن َ ف َم ْص َ ع َ عَتَقَم َمَهّبها َوَأداَم ُمَرّبها َوَأ ْحاَنُه ِريحًا ا ْ
سْب َ
شَأ ُ »ُثّم َأْن َ
جَيهُ ِإَلى
خِرِه َوسا ِ صَفها ِباْلَفضاِءَ .تُرّد َأّوَلُه ِإَلى آ ِ ع ْت ِبِه َ صَف ْ ع َ سقاِء و َخضَ ال ّ ضْتُه َم ْ
خ َج اْلِبحاِر َفَم َ
َوِإثاَرِة َمْو ِ
جَعَل
سَموات َ سْبَع َسّوى ِمْنُه َ جّو ُمْنَفِهق َف َ عباُبُه وَرَمى ِبالّزَبِد ُركاُمُه َفَرَفَعُه ِفي َهواء ُمْنَفِتق َو َ ب ُع ّحّتى َ ماِئِرِه َ
ظُمها ُثّم َزّيَنها
عُمها َول ِدسار َيْن ِ عَمد َيْد َ سْمكًا َمْرُفوعًا ِبَغْيِر َ حُفوظًا َو َسْقفًا َم ْ
ن َ عْلياُه ّن َمْوجًا َمْكُفوفًا و ُ سْفلُه ّ ُ
سْقف ساِئر وََرِقيم طيرًا َوَقَمراً ُمِنيرًا ِفي َفَلك داِئر َو َ سَت ِ
سراجًا ُم ْ جَرى ِفيها ِ ب َوَأ ْضياِء الّثواِق ِ بو ِ ِبِزيَنِة اْلَكواِك ِ
ماِئر«.
—–
الشرح والتفسير
ن هذه الكلمات امتداد لعباراته السابقة ونتجه بادئ ذي بدء إلى فهم التعبيرات الدقيقة والعميقة في
كما أوردنا فا ّ
كلم المام)عليه السلم( دون اصدار حكم بشأنها ،ثم نتحدث بعد ذلك عن مدى انسجامها مع آراء ونظريات
العلماء المعاصرين بخصوص مسألة خلق العالم .فالمام يشير في كلمه إلى عّدة مراحل .فقال)عليه السلم(» :ثم
أنشأ سبحانه ريحًا اعتقم) (1مهبها).«(2
فالريح العقيم هى الريح الخالية من السحب التي تؤدي إلى نزول المطر ،وبالتالي فهى ل
عقم« على وزن قفل بمعنى الجفاف المانع من قبول الثر ،ويطلق العقيم على المرأة التي ل تتقبل نطفة
» .1اعتقم« من مادة » ُ
الرجل ،كما تأتي بمعنى الضيق أيضًا كما ورد في المفردات ولسان العرب ومقاييس اللغة.
.2مهبها من الهبوب على وزن السجود الحركة بالنسبة للسيف والضطراب ومن هنا تطلق على هبوب الرياح.
] [ 88
ثم أشار في المرحلة الثانية إلى مهّمة هذه الرياح »فامرها بتصفيق) (3الماء الزخار ،واثارة موج البحار« فقامت
هذه الريح العاتية العظيمة بمخض الماء كقراب السّقاء »فمخضته)(4مخض السقاء«» .وعصفت به عصفها
بالفضاء« ثم قال)عليه السلم(» :ترد أوله إلى آخره وساجيه) (5إلى مائره).«(6
وقال)عليه السلم( في المرحلة الثالثة بشأن تراكم المياه وارتفاعها »حتى عب عبا) «(7بمعنى ارتفع أعله
»ورمى بالزبد ركامه) .«(8ثم قال)عليه السلم( في المرحلة الرابعة» :فرفعه في هواء منفتق وجو منفهق)«(9
فخلق منها تبارك وتعالى السموات السبع »فسوى منه سبع سموات« حيث جعل القسام السفلى ،كالمواج
المكفوفة الممسوكة والطبقات العليا كالسقف المحفوظ »جعل
ب« التي تعني في الصل التربية ،وتطلق الرب على المربي والمالك والخالق )وهو مصدر له معنى الفاعلية(» .1مرب« من مادة »ر ّ
ن التربية متعذرة دون الستمرار(.
ويفيد معنى الستمرار والملزمة إذا جاء من باب الفعال )إرباب( ل ّ
» .2أعصف« من مادة »عصف« على وزن عصر ،بمعنى السرعة والحركة والشدة كما ذكرنا.
» .3تصفيق« من مادة »صفق« على وزن سقف بمعنى تقليب الشيء بعضه على بعض بحيث يصاحبه الصوت ،ومن هنا اطلق
التصفيق على ضرب الكفين ـ وهى هنا بمعنى تحريك المياه وتقليبها على بعضها )لسان العرب ،مقاييس اللغة ،شرح محمد عبدة(.
ض« من مادة »مخض« على وزن قرض بمعنى تحريك الموائع في ظروفها ،ولذلك يستعمل هذا التعبير أثناء تحريك اللبن خ َ َ» .4م َ
في القربة لفصل الزبدة عنه.
» .5ساجي« من مادة »سجو« على وزن سهو بمعنى السكون والهدوء.
» .6مائر« من مادة »مور« على وزن فور بمعنى الحركة السريعة ،وتطلق هذه المفردة على الجادة أيضًا لن الناس يتحركون عليها
ذهابًا وإيابًا.
» .7عباب« من مادة »عب« بمعنى شرب الماء سريعًا دون تريث ،ومن هنا اطلق العباب على الماء الكثير والمطر الغزير والسيل
العظيم ،وهى هنا بمعنى تراكم المياه على بعضها.
» .8ركام« أشرنا إلى معناها سابقًا )ما تراكم منه بعضه على بعض(.
» .9منفهق« من مادة »فهق« على وزن فرق بمعنى المفتوح الواسع ،ولذلك يصطلح بالمنفهق على الجزء الواسع من الوادي
والوعاء المملوء بالماء.
] [ 89
تأّملت
1ـ دراسة العبارة على ضوء الفرضيات المعاصرة
للعلماء المعاصرين نظريات متعددة ل تتجاوز حدود الفرضيات بشأن خلق العالم; حيث لم يكن هناك مخلوق قبل
مليارات السنين ليشهد كيفية ظهور العالم ،مع ذلك هناك بعض الشواهد والقرائن التي تؤيد صحة بعض هذه
الفرضيات .اّما العبارات التي ساقها المام)عليه السلم(فهى تنطبق تمامًا على بعض الفرضيات المعروفة،
ن المام)عليه السلم( إّنما أراد هذه الفرضيات .فكما أسلفنا في البحاث
سنتعرض لها الن دون الصرار على أ ّ
السابقة أن العالم كان في البداية كتلة ضخمة من الغازات المتراكمة الكثيرة الشبه بالمائعات بحيث يصح نعتها
بالماء ،كما يصح
» .1مكفوف« من مادة »كف« على وزن سد بمعنى قبض الشيء وجمعه ،ولذلك اطلق على راحة اليد الكف لّنها سبب قبض اليد،
كما يطلق المكفوف على العمى لقبض بصره.
» .4يدعم« من مادة »دعم« على وزن فهم بمعنى دعامة الشيء ودعام ودعامة بمعنى الخشب الذي يحمل الشياء ويشدها ،وتطلق
على الشيء والشخص الداعم.
» .6ثواقب« من مادة »ثقب« على وزن سقف بمعنى الشيء; ثقب الشيء واختراقه ومن هنا اطلق الثواقب على الكواكب المضيئة
ن نورها يخترق السماء ليصلنا.
ن نورها يثقب البصر وينفذ فيه ،أو أ ّ
المنيرة ،فكأ ّ
» .7مستطير« من مادة »طير« بمعنى انتشار الشيء في الهواء ،ثم استعمل كل شيء سريع وكذلك الطيور .ومستطير بمعنى واسع
ومنتشر .ومن هنا يقال استطار الفجر ،أي انتشر ضوءه.
» .8رقيم« من مادة »رقم« بمعنى الخط والكتابة ،كما وردت هذه المفردة بمعنى الكتاب .وهو اسم من أسماء الفلك وسمي به لّنه
مرقوم بالكواكب.
] [ 90
الصطلح عليها بالدخان على ضوء التصريحات القرآنية .وقد سلط خالق العالم عليه قوتين عظيمتين ،حيث عبر
عنهما في العبارة المذكورة بالريح:
قوة الجاذبية التي حفظته متماسكًا وحالة دون تشتته وزواله ،والقوة الدافعة التي تدفعه إلى الخارج إثر الحركة
الدورانية حول نفسه وبفعل قوة الطرد المركزية ،وهذه هى الريح والعاصفة الثانية .فاذا أقررنا بالحركة الدورانية
للعالم الول على أّنها كانت متذبذبة تشتد أحيانًا وتنخفض أحيانًا ُاخرى فمن الطبيعي أن تكون قد ظهرت تلك
المواج العظيمة في تلك الكتلة الغازية العظيمة الشبيهة بالمائع بحث تراكمت تلك المواج على الدوام ثم أخذت
بالتساقط .وفي الختام فان الطبقات الكثر خفة والقل وزنًا ـ والتي ورد التعبير عنها بالزبد من قبل المام)عليه
ن مفردة »الزبد« تطلق على ما يطفو من الماء ،وكذلك على الزبدة
السلم( ـ قد قذف بها نحو الفضاء الخارجي )أ ّ
التي تطفو لخفتها على سطح محتويات القربة(.
وبهذا فقد اشتدت الحركة الدورانية ،فانفصلت أجزاء كبيرة من هذه الكتلة العظيمة وانطلقت إلى الفضاء ،فما كان
منها أكثر شدة بلغ نقاطًا مرتفعة وأّما ما كان منها أقل شدة فقد بلغ نقاطًا أوطئ .لكن الجزاء التي بلغت نقاطًا
مرتفعة أصبحت على هيئة سقف محفوظ وذلك بفعل قوة الجاذبية التي لم تدعها تفلت تمامًا ،بينما أصبحت
الجزاء السفلى القل ضغطًا موجًا مكفوفًا حسب تعبير المام)عليه السلم(.
ثم ظهرت في ذلك الفضاء المترامي السموات السبع )التي سنتناولها بالحديث لحقًا( دون أن تكون هناك عمد
ترفعها ومسامير تنظمها وتحكم وثاقها ،ولم تستقر في مواقعها وتتزن في حركتها ضمن مداراتها سوى من خلل
تعادل القوتين الجاذبة والدافعة .كان الفضاء آنذاك مملوءًا بالكرات الصغيرة والكبيرة ،فانطلقت قطع متناثرة من
هذه المواج إلى الخارج ،وقد انجذبت القطع الصغيرة تدريجيًا نحو الكرات الكبيرة بحكم الجاذبية فأصبح الفضاء
وأضاءت النجوم وزينت بالكواكب وأشرقت الشمس واضيء القمر وأخذت الجرام تتحرك ضمن أغلفتها
ومداراتها.
] [ 91
ل غامضًا لحد الن .فالقى النفجار المذكور بأجزاء عظيمة من الكتلة الغازية الولى الشبيهة ظل سببه مجهو ً
بالمائع إلى الفضاء وكون الكرات والمنظومات ولعل قوله)عليه السلم(» :ثم انشأ سبحانه ريحًا اعتقم مهبها وأدام
مربها وأعصف مجراها وأبعد منشأها فامرها بتصفيق الماء الزخار «...إشارة إلى هذا النفجار العظيم الذي
انطلق من أعماق المادة الولى .لكن وكما قلنا سابقًا فان الهدف من هذا الكلم هو ايضاح مدى انسجام عبارات
الخطبة مع الفرضيات الواردة بشأن ظهور العالم ول يمثل إصدار حكم بهذا الشأن أبدًا.
—–
تعد مسألة كيفية ظهور العالم من أعقد المسائل التي واجهها العلماء والمفكرون .فالمسألة المذكورة تعود إلى ماقبل
ملياردات السنوات ،ولعلها القضية التي لم تطرق فكر أحد; المر الذي حير كبار العلماء والمفكرين رغم الجهود
المفنية والتحقيقات والفرضيات الضخمة التي توصلوا إليها في هذا المجال وبالتالي لم يكن أمامهم سوى
ن روح حب الستطلع والتعرف على المجهول التي تسود لأّالعتراف بالعجز عن سير تحور هذه المسألة .إ ّ
ن لسان حال العلماء هو الفكر البشري لم تدعه يقف مكتوف اليدي حيال هذه القضية والصمت إزائها .فالواقع أ ّ
إننا وإن عجزنا عن بلوغ كنه هذا الموضوع ،غير أننا نرغب برسم صورة في أذهاننا من شأنها إشباع حب
ن اليات القرآنية والروايات السلميه قد اكتفت بإشارات مقتضية بالنسبة تطلعنا واقتحامنا لهذا المر .وبالطبع فا ّ
ل إلى رسم صورة باهتة في الذهن ل ترقى إلى إماطة اللثام عن طبيعتها لهذا الموضوع; المر الذي ل يؤدي إ ّ
وكنه حقيقتها .على كل حال فان العبارات الواردة في هذه الخطبة اّنما تتناغم وما ورد في خطبته رقم 211التي
قال فيها)عليه السلم(» :وكان من اقتدار جبروته وبديع لطائف صنعته أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم
المتقاصف يبسًا جامدًا ثم فطر منه اطباقا ففتقها سبع سموات ،بعد ارتتاقها«.
] [ 92
ن الزبد أول شيء ظهر على الماء ثم انبعث منه البخار أو الدخان الذي كّون السموات).
أغلبها وهو تصريحها بأ ّ
(1
ن المادة الولى على القوى كانت عبارة ولكن وكما أوردنا آنفًا فانه ليس هنالك من تضارب بين هذه العبارات ،ل ّ
عن غازات مائعية مضغوطة يصدق عليها وصف الماء والبخار والدخان بالنظر لمراحلها المختلفة .والجدير
ن أول ما خلق ال الماء ،أو الشيء الول بالكذر هنا هو أّنه ليس هناك من تضاد بين الروايات التي صّرحت بأ ّ
ن بعض الروايات تحدثت عن خلق عالم الذي خلقه ال كان نور النبي)صلى ال عليه وآله( أو العقل; وذلك ل ّ
المادة بينما تحدث البعض الخر عن خلق عالم المجردات والرواح .كما يتبّين عدم وجود التناقض بين ما
أوردناه من مضامين الروايات وما صّرحت به الية 11من سورة فصلت التي قالت» :ثم استوى إلى السماء
وهى دخان«.
—–
الطريف أّنه كانت هناك نظريتين بشأن ظهور العالم في الوسط الذي نزل فيه القرآن ـ أو بعبارة أدق في العصر
الذي نزل فيه القرآن ـ :الولى نظرية »بطليموس« التي سادت المحافل العلمية لخمسة عشر قرنًا واستمرت حتى
ن الرض كانت مركز العالم وتدور حولها تسعة أفلك; أواخر القرون الوسطى .وعلى ضوء هذه النظرية فا ّ
وهى أفلك تشبه الغطية البصلية وشفافة وبلورية ومتراكمة بعضها ،وكان كل كوكب سّيار )عطارد ،الزهرة،
المريخ ،المشتري وزحل( في فلك ،كما كان لكل من الشمس والقمر فلكهما .واضافة إلى هذه الفلك السبع ،هناك
فلك يرتبط بالكواكب الثابتة )المراد بالكواكب الثابتة هى تلك الكواكب التي تطلع معًا وتغرب معًا دون أن تغير
مواقعها في السماء بخلف الكواكب الخمس التي ذكرناها( .وبعد الفلك الثامن; أي فلك الثوابت هناك فلك الطلس
الذي ليس له أي كوكب ،اّما مهمته فهى
.1للوقوف على هذه الروايات ،انظر 10 / 3و 57من بحار النوار ،طبعة بيروت .وردت أغلب الحاديث في ج .57
] [ 93
سوق العالم العلوي للدوران حول الرض ،وهو الفلك الذي يسمى أيضًا بفلك الفلك.
لخرى فهى الفرضية التي تستمد قوتها من فرضية بطليموس بشأن العالم وتفسره على أساس
أّما الفرضية ا ُ
العقول العشرة.
وعلى ضوء هذه النظرية التي طرحها جمع من الفلسفة اليونانيين فان ال لم يخلق بادئ ذي بدء سوى شيء
واحد هو العقل )الملك أو الروح العظيمة والمجردة التي اصطلح عليها بالعقل( .وقد خلق هذا العقل شيئين هما
العقل الثاني والفلك التاسع ،ثم خلق العقل الثاني العقل الثالث والفلك الثامن ،وهكذا خلق عشرة عقول وتسعة
أفلك ،ثم قام العقل العاشر بخلق موجودات هذا العالم .والواقع ليس هنالك من دليل على هذه السلسلة من
الفرضيات ،وهكذا هو الحال بالنسبة لفرضية بطليموس رغم ذلك فقد كانت هذه الفرضيات هى السائدة لقرون.
أّما القرآن والروايات السلمية فقد رفضت الفرضية الولى ـ فرضية بطليموس ـ كما رفضت الفرضية الثانية ـ
فرضية العقول العشرة ـ; وذلك لننا لم نر أثر لهما في اليات والروايات المعروفة ـ ول سيما في نهج البلغة ـ،
وهذا بدوره يمثل أحد الدلة والشواهد على استقللية القرآن وعظمة الخبار السلمية واستنادها إلى الوحي ل
ل لصطبغت بصبغتها(1). إلى الفكار البشرية ،وإ ّ
وقد رأينا النسجام التام بين كلم أمير المؤمنين)عليه السلم( وسائر الروايات السلمية بشأن ظهور العالم.
فالمحور الصلي في اليات القرآنية والروايات السلمية إّنما كان الحديث عن السموات السبع ل الفلك التسع
ول العقول العشرة ،وسنتناول لحقًا تفسير السموات السبع.
ن قدماء شّراح نهج البلغة ـ ممن تأثروا بفرضية العقول العشرة ونظرية بطليموس بشأن
لكن من المؤسف أ ّ
ظهور العالم ـ قد سحبوا هذه الفرضيات على شرح نهج البلغة
.1لقد أشارت بعض اليات القرآنية إلى حركة الرض من قبيل الية 88من سورة النمل )وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر
السحاب صنع ال الذي اتقن كل شيء(والية 25من سورة المرسلت )الم نجعل الرض كفاتا() .وطبق بعض التفاسير فان الية 40
ن الشمس والقمر يسبحانمن سورة يس )ل الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ول الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون(تدل على أ ّ
في الفضاء العلوي .للوقوف أكثر على التفاصيل .انظر تفسير المثل.
] [ 94
فسعوا جاهدين لحمل الخطبة المذكورة عليها دونما أية ضرورة أو حاجة إلى ذلك; فهى لم تكن سوى فرضيات
وقد ثبت بطلنها اليوم.
فقد أثبتت التحقيقات والمشاهدات العلمية وتجارب علماء الفلك عدم وجود فلك بالمعنى الذي ذهب إليه بطليموس،
ن
ن الكواكب الثابتة والسيارة والتي يفوق عددها بكثير مّما ظنه القدماء وأّنها تدور في فضاء خال )َو أ ّ
وأ ّ
ن الرض ليت مركزًا السيارات إّنما تدور حول الشمس ل حول الرض والثوابت على المحاور الخرى( وأ ّ
لخرى منظومة صغيرة من بين للعالم فحسب ،بل هى سيارة صغيرة من سيارات المنظومة الشمسية وهذه ا ُ
مليين بل مليارات منظومات العالم العلوي .أّما أنصار فرضية العقول العشرة ورغم تأثرها بفرضية بطليموس ـ
ل أّنهم يستندون إلى قاعّدة من القواعد العقلية »والتي تصرح بان الواحد ل يصدر منه التي سلم اليوم ببطلنها ـ إ ّ
ل واحد« لثبات صحة فرضيتهم ول نرى هنا من ضرورة للستغراق في شرح هذه القاعّدة . إّ
—–
لم يقتصر الحديث عن السموات السبع على نهج البلغة ـ في هذه الخطبة والخطبة 211ـ فحسب بل سبقه القرآن
الكريم للحديث عن هذا الموضوع).(2
وهناك عّدة تفاسير أوردها العلماء القدماء بشأن السموات السبع ،ول نروح الخوض فيها
.1لقد أشار المرحوم »الخواجة نصير الدين الطوسي« في كتابه »تجريد العتقاد« إلى الدلة الخمسة لفرضية العقول العشرة فيفندها
لمة الحلي بهذا
جميعًا ويقول في عبارة قصيرة »وأدلة وجوده مدخولة« .وللوقوف أكثر على هذا الموضوع راجع كلم الخواجة والع ّ
الشأن.
ن القرآن أشار إلى السموات السبع في سبع من آياته ،وهى الية 29من سورة البقرة 44 ،من سورة السراء ،الية
.2الطريف أ ّ
86من سورة المؤمنون ،الية 12من سورة فصلت ،الية 12من سورة الطلق ،الية 3من سورة الملك والية 15من سورة
نوح .كما وردت بعض اليات التي أشارت بعبارات ُاخرى إلى هذا المر.
] [ 95
ن الدليل
لاّن الجهزة العلمية لم تتمكن حتى اليوم من إماطة اللثام عن هذه العوالم الست ،إ ّ
وهنا لبّد من القول بأ ّ
ل ،بل أفادت كشوف العلماء الفلكيين أ ّ
ن لم يقم على نفيها علميًا ،ولعل العلم يكشف أسرار هذا الموضوع مستقب ً
ل عن هناك أشباحًا ترى من بعيد تفيد وجود عوالم ُاخرى ،على سبيل أوردت بعض المجلت الفضائية نق ً
المراصد الجوية المعروفة »بالومار« قولها :لقد تمكن ناظور مرصد بالومار من كشف مليين المجرات التي
يبعد بعضها عنا ألف مليون سنة ضوئية .لكن هناك فضاء عظيم ومهيب مظلم بعد تلك المسافة البالغة ألف مليون
ن ذلك الفضاء المهيب والمظلم يضم مئات سنة ضوئية ،غير أّنه يتعذر رؤية مافيه من أشياء .ومما لشك فيه أ ّ
المليين من المجرات بحيث تكفلت جاذبيتها بحفظ البسيطة التي نعيش على وجهها .وما هذه الدنيا العظيمة التي
ل ذرة تافهة ل قيمة لها مقارنة بدنيا أعظم وأوسع ولسنا متأكدين لحد تغص بمئات آلف المليين من المجرات إ ّ
الن من وجود دنيا ُاخرى
] [ 96
—–
ن عبارات المام)عليه السلم( بشأن ظهور العالم لم ترد بصيغة فرضية واحتمال ما تجدر الشارة إليه هنا هو أ ّ
أبدًا ،بل صورها)عليه السلم( وكأّنه يشهد ذلك الظهور ،وهذا دليل على استناد علمه إلى خزانة علم الغيب اللهي
أو تعليمات النبي)صلى ال عليه وآله(ـ التي تستند إلى الوحي حتى تحدث ابن أبي الحديد بهذا الشأن فقال» :إ ّ
ن
أمير المؤمنين علي)عليه السلم( كان يعرف آراء المتقدمين والمتأخرين ،ويعلم العلوم كلها وليس ذلك ببعيد من
فضائله ومناقبه)عليه السلم() .«(2وكيف ل يكون المام)عليه السلم(كذلك وهو القائل» :أنا بطرق السماء أعلم
مّني بطرق الرض«(3).
—–
] [ 97
القسم الثامن
ن،صُبو َ ع ل َيْنَت ِ نَ ،وُرُكو ٌ جوٌد ل َيْرَكُعو َ سُ ن َملِئَكِتِهِ ،مْنُهْم ُ طَوارًا ِم ْ ن َأ ْلُه ّت اْلُعل َفَم َ سَموا ِ ن ال ّق ما َبْي َ»ُثّم َفَت َ
سْهُو اْلُعُقوِل َول َفْتَرُة اَْلْبدانِ َول نَ ،ول َ ن ،ل َيْغشاُهْم َنْوُم اْلُعُيو ِ سَأُمو َ ن ل َي ْ حو َ سّب ُنَ ،وُم َ ن ل َيَتزاَيُلو َ َوصاّفو َ
ظُة ِلِعباِدِهحَف َ
ن ِبَقضاِئِه َوَأْمِرِهَ ،وِمْنُهُم اْل َ خَتِلُفو َ
سِلِهَ ،وُم ْ سَنٌة ِإَلى ُر ُ حِيِهَ ،وَأْل ِعَلى َو ْ ن َوِمْنُهْم ُأَمناُء َ سيا ِغْفَلُة الّن ْ
َ
عناُقهُْم سماِء اْلُعْليا َأ ْ ن ال ّ
سْفَلى َأْقداُمُهْمَ ،واْلماِرَقُة ِم َ ن ال ّ ضي َ جناِنِهَ ،وِمْنُهُم الّثابَتُة ِفي اَْلَر ِ ب ِسَدَنُة َِلْبوا َِوال ّ
حَتُه
ن َت ْسٌة ُدوَنُه َأْبصاُرُهْم ُمَتَلّفُعو َش َأْكتاُفُهْم ناِك َ سَبُة ِلَقواِئِم اْلَعْر ِ ن اَْلْقطاِر َأْركاُنُهْمَ ،واْلُمنا ِ جُة ِم ََواْلخاِر َ
جُرو َ
ن صِويِر َول ُي ْ ن َرّبُهْم ِبالّت ْستاُر اْلُقدَْرِة ،ل َيَتَوّهُمو َ ب اْلِعّزِة َوَأ ْ
ج ُ حُ ن ُدوَنُهْم ُ ن َم ْ ضُروَبٌة َبْيَنُهْم َوَبْي َحِتِهْمَ ،م ْ جِن َ
ِبَأ ْ
ن ِإَلْيِه ِبالّنظاِئِر«.
شيُرو َ ن َول ُي ِ حّدوَنُه ِباَْلماِك ِ ن َول َي ُ عي َ صُنو ِ ت اْلَم ْصفا ِ عَلْيِه ِ َ
—–
الشرح والتفسير
عالم الملئكة
يواصل المام)عليه السلم( خطبته التي تطرق فيها إلى خلق السموات وكيفية ظهور العالم ،فيتحدث عن خلق
الموجودات السماوية وملئكة العالم العلوي فيشير بعبارات قصيرة بليغة إلى أصناف الملئكة وصفاتهم
ن هذا القسم من الخطبة
وخصائصهم وطبيعة أنشطتهم ومهامهم وعظم خلقتهم ومدى علو معرفتهم ،فالواقع هو أ ّ
يختص بالتعريف بالملئكة .فاستهل كلمه
] [ 98
ل» :ثم فتق مابين السموات العل«) (1فالذي يستفاد من هذا التعبير أّنه كانت هناك فواصل بين السموات وقد
قائ ً
التحمت في البداية ثم ما لبثت أن انفصلت ،وهذا بالضبط على الخلف مّما تضمنته نظرية بطليموس في أن
السموات كأغطية البصل متراكمة على بعضها دون وجود أية فجوة .ثم قال المام)عليه السلم(» :فملهن
أطوارًا) (2من ملئكته) .«(3وقد ورد نظير هذه العبارة في الخطبة رقم 91المعروفة بخطبة الشباح حيث قال:
»ومل بهم فروج فجاجها وحشا بهم فتوق أجوائها« كما ورد في موضع آخر من هذه الخطبة قوله» :وليس في
ل وعليه ملك ساجد أو ساع حافد«. أطباق السماء موضع اهاب إ ّ
ثم يتطرق)عليه السلم( إلى أصناف ،أو بعبارة أدق أطوار الملئكة فيقسمهم إلى أربعة أقسام:
القسم الول :أرباب العبادة ،ثم يقسم هؤلء إلى أقسام ،فمنهم من هو ساجد أبدًا لم يقم من سجوده ليركع »منهم
سجود) (4ل يركعون« ،ومنهم من هو راكع أبدًا لم ينتصب قط »وركوع ل ينتصبون« ومنهم الصافون في
ن »صافون« هنا بمعنى الصلة بين يدي خالقهم ل يتزايلون »وصافون) (5ل يتزايلون« .ذهب البعض إلى أ ّ
ن معناها فتح أجنحتهم في السماء بدليل الية القرآنية القائلةَ) :أَو
الصف في العبادة ،بينما ذهب البعض الخر إلى ا ّ
طْيِر َفْوَقُهْم صاّفات() .(6وهناك إحتمال آخر أن يكون المراد بها الوقوف في صفوف منظمة َلْم َيَرْوا ِإلى ال ّ
والستعداد لطاعة أوامر ال وامتثالها.
ن الحتمال الول أكثر انسجامًا مع الجمل السابقة واللحقة ،والواقع أّنهم يمارسون الحالت الثلث لعبادتنا لاّ إّ
في القيام والركوع والسجود .فالتعبير بصافين إّما أّنه إشارة للصفوف المنظمة للملئكة ،أو القيام المنظم لكل
منها .وهذا عين ما ورد في خطبته)عليه السلم( في وصف المتقين
» .1العل« جمع »عليا« بمعنى العلى والشرف.
» .2أطوار« جمع »طور« على وزن قول بمعنى الصنف ،كما تعني الحد والحالة أيضًا.
» .5صافون« جمع »صاف« على وزن حاد من مادة »صف« بمعنى المساواة وقد اقتبست في الصل من »صفصف« بمعنى الرض
المستوية.
] [ 99
لهمام »أّما الليل فصافون أقدامهم تالين لجزاء القرآن«) .(1وأخيرًا المسبحون الذين ل يملون التسبيح والتحميد له
ن هؤلء طائفة ُاخرى غير الطوائف الثلث القائمة سبحانه »ومسبحون ل يسأمون« .فظاهر هذه الجملة يفيد أ ّ
ن المسبحين هم الطوائف المذكورة سابقًا ،حيث والراكعة والساجدة )و ان ذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أ ّ
يمكن الستشهاد ببعض الروايات التي تؤيد ماذهبوا إليه .فقد روي أّنه سئل النبي)صلى ال عليه وآله( :كيف
ن أهلصلة الملئكة؟ فأطرق رسول ال)صلى ال عليه وآله( حتى نزل عليه جبرئيل)عليه السلم(فقال له» :أ ّ
السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون سبحان ذي الملك والملكوت وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة
يقولون سبحانه ذي العزة وأهل الجبروت وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون سبحان الحي الذي ل
يموت«).(2
لكن هل المراد بهذا السجود والركوع والقيام ذات أعمالنا في السجود والركوع والقيام أم إشارة إلى درجات
خضوع الملئكة وعبادتهم حسب مراتبهم ومقاماتهم ،المسألة محل بحث ونقاش .فاذا اعتبرنا الملئكة أجسامًا
لطيفة ولهم أيدي وأرجل ووجوه وجبهات فان المعنى الول أنسب ،وإن نفينا عنهم الجسام ،أو أقررنا بأن لهم
جسم غير أّنه ليس على غرار أجسامنا فان المعنى الثاني هو النسب )وسنتحدث في البحاث القادمة عن هذا
المر(.
ن هذه المجموعة من الملئكة منهمكة في عبادة ال وتسبيحه وتقديسه وكأن مهمتهم مقتصرة على على كل حال فا ّ
ن هذه آية بّينة من آياته سبحانه وعظمة مقامه وعلو شأنه وعدم حاجته إلى عبادة العباد، العبادة فقط .والواقع هو أ ّ
ن فلسفة خلقة هؤلء الملئكة هو عدم اغترار العباد من الناس بعبادتهم وليعلموا ن المحتمل أ ّ وبعبارة ُاخرى فا ّ
ن هناك الملئكة المنهمكين بالعبادة فل ينبغي أن يتصور عبادعلى فرض المحال أّنه لو كان بحاجة إلى العبادة فا ّ
ال في الرض ان عبادتهم أو عدمها ليست لها أدنى تأثير على كبرياء ال وعظمته ،ولو كفروا جميعًا لما ضره
عْنُكْم() .(3ثم أشار)عليه السلم(إلى صفات هؤلء الملئكة ي َ
غِن ّ
ل َنا ّن َتْكُفُروا َفِإ ّ
ذلك ذرة )ِإ ْ
] [ 100
فقال)عليه السلم(» :ل يغشاهم نوم العيون ول سهو العقول ول فترة البدان ول غفلة النسيان« .على العكس من
الناس الذين يشعرون تدريجيًا بالفتور من جراء تكرار العبادة فيخالطهم النعاس فيصاب الجسم بالوهن والضعف
ويعرض لهم السهو والنسيان.
ن الملئكة بعيدون كل البعد عن هذه الحالت والعوارض .فهم على درجة من العشق للعبادة والستغراق في لأّ
إّ
المناجاة والتسبيح بحيث ل يعرض عليهم النوم والغفلة والفتور قط .وبعبارة ُاخرى فان الفتور في إداء الوظائف
لمور بالتعب وغفو العين وسهو إّنما يستند إلى ُامور ليست لها من سبيل إلى الملئكة أبدًا .فأحيانًا تتمثل تلك ا ُ
لمور ليست لها من سبيل إلىالعقول وضعف البدن وأحيانًا ُاخرى بالغفلة والنسيان ولما كانت أي من هذه ا ُ
الملئكة ،فاّنهم ل يفترو في عبادتهم قط.
—–
ثم يعرض)عليه السلم( إلى القسم الثاني من الملئكة وهم السفراء بينه تعالى وبين المكلفين من البشر بتحمل
الوحي اللهي إلى الرسل »ومنهم ُامناء على وحيه والسنة إلى رسله ومختلفون بقضائه وأمره« فهم في الواقع
ن السفارة اللهي ل تقتصر على جبرئيل)عليه السلم( ،بل هو الواسطة بين ال والنبياء .ونفهم من هذه العبارة أ ّ
ن َرّب َ
ك س ِم ْ
ح الُقُد ِ
ل َنّزَلُه ُرو ُ
في الحقيقة زعيم سفراء ال ،القرآن بدوره أشار إلى هذا الصنف من الملئكةُ) :ق ْ
ل() ،(2كما أشار أحيانًا نا ّك ِبـِإذ ِعلى َقْلِب َ
ل َفِإّنُه َنـّزَلُه َ
جْبِري َ
عُدّوا ِل ِ
ن َ
ن كا َ
ل َم ْ ق() ،(1وقال في آية ُاخرىُ) :ق ْ
حّ
ِبال َ
عباِدِه().(3 ن ِن َيشاُء ِم ْ على َم ْن َأْمِرِه َ ح ِم ْ ل الَملِئَكَة ِبالّرو ِ
إلى الملئكة من حملة الوحي فقالُ) :يَنـّز ُ
كما أشارت بعض الروايات السلمية وسائر خطب نهج البلغة إلى هذا المعنى أيضًا .وهنا لبّد من الشارة إلى
ن المراد بالقضاء والمر اللهي الوارد في العبارة التي نخوض فيها هو الحكام والوامر الدينية الشرعية ،ل
أّ
القضاء والوامر التكوينية التي احتملها البعض
] [ 101
من شارحي نهج البلغة; وذلك لعدم انسجام هذا الحتمال والعبارات السابقة ـ التي طرحت مسألة ُامناء الوحي ـ،
اّما مختلفون هنا فقد جاءت من مادة الختلف بمعنى الذهاب والياب والتردد على الماكن.
ثم أشار)عليه السلم( إلى القسم الثالث من الملئكة »ومنهم الحفظة لعباده والسدنة) (1لبواب جنانه«» .حفظة«
جمع حافظ بمعنى الحارس ،ويمكن أن يكون لها هنا معنيان :أحدهما حفظهما للعباد بمراقبة أعمالهم واحصائها
ن(
ن * ِكرامًا كاِتـِبي َ ظـي َ
عَلْيُكْم َلحاِف ِ
ن َ
وتسجيلها ،كما أشارت إلى ذلك الية الرابعة من سورة الطارق القائلة )َو ِإ ّ
وضرب آخر من هؤلء الملئكة الذين يحفظون البشر من المهالك والورطات والبلء ،ولول ذلك لكان النسان
ت ِم ْ
ن مسرحًا للفناء والزوال والعطاب ،وهذا ما صّرحت به الية الحادية عشرة من سورة الرعدَ) :لـُه ُمَعـّقبا ٌ
ل(.
ن َأْمِر ا ّ
ظوَنُه ِم ْ
حَف ُ
خْلِفِه َي ْ
ن َ
ن َيَدْيِه َوِم ْ
َبْي ِ
ن المعنى الول أنسب باللتفات إلى العبارات السابقة التي تحدثت عن الوحي والتكاليف الشرعية، ولكن يبدو أ ّ
والعبارة اللحقة التي أشارت إلى الجّنة وجزاء العمال ،وإن لم يستبعد الجمع بين المعنيين عن مفهوم العبارة.
أّما مفردة سدنة فهى جمع سادن بمعنى البواب ،وجنان على وزن كتاب واحدها جنة ،والذي يستفاد من هذه
ن ل عّدة جنان ،ذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أّنها ثمانية كما وصفها القرآن وهى »جّنة النعيم ،جّنة
العبارة إ ّ
الفردوس ،جنة الخلد ،جّنة المأوى ،جّنة عدن ،دار السلم ،دار القرار وجّنة عرضها السموات والرض«).(2
—–
وأّما القسم الرابع من الملئكة فهم حملة العرش ،الذين وصفهم)عليه السلم( بقوله »ومنهم الثابتة
» .1سدنة« جمع »سادن« بمعنى الخادم والبواب.
.2شرح نهج البلغة لبن ميثم 158 / 1وشرح نهج البلغة للمرحوم الميرزا حبيب ال الخوئي .26 / 2
] [ 102
في الرضين السفلى أقدامهم والمارقة من السماء العيا أعناقهم والخارجة من القطار أركانهم والمناسبة لقوائم
العرش أكتافهم ناكسة) (1دونه أبصارهم متلفعون) (2تحته بأجنحتهم مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة
وأستار القدرة« ثم يستغرق)عليه السلم(أكثر في التعرض لصفاتهم فيقول» :ل يتوهمون رّبهم بالتصوير ول
يجرون عليه صفات المصنوعين ول يحدونه بالماكن ول يشيرون إليه بالنظائر«) .(3أجل فقدرتهم ليست قدرة
جسمانية ،بل يتمتعون بقدرة روحانية خارقة متعذرة على النسان ،ومن هنا أوكلت لهم مهّمة حمل العرش.
والواقع أّنهم بلغوا أعظم مقامات التوحيد بحيث أصبحوا قدوة في التوحيد لكافة عباد ال ول سيما أولياء ال
البارزين من الناس .فهم ل يرون من مثيل وشبيه ونظير ل قط ،كما ل يرون من حدود لذاته وصفاته سبحانه،
ن كل ما يتصوره النسان أو الملك إّنما هو حتى أّنهم يرونه أعظم من الخيال والقياس والظن والوهم; وذلك ل ّ
مخلوق ل وال أعظم من أن يكون مخلوقًا .أّما المراد بالعرش وحملة العرش وماهية وظائفهم والمفاهيم التي
وردت في هذه العبارات ،فهذا ما سنتناوله في هذه البحاث.
تأّملت
1ـ ماهية الملئكة!
هنالك عّدة أبحاث تضمنتها اليات القرآنية بشأن الملئكة وصفاتهم وخصائصهم وأفعالهم والمهام المختلفة
الموكلة إليهم .كما شحنت الروايات السلمية بالخبار التي تتحدث عن الملئكة ومقاماتهم وصفاتهم وأعمالهم،
غير اّنه لم يرد البحث في التحدث عن ماهيتهم ،ومن هنا كثر الكلم بين العلماء والمتكلمين بهذا الشأن .فيرى
ن الملئكة موجودات ذات أجسام لطيفة.علماء الكلم ،بل أغلب علماء السلم أ ّ
» .1ناكسة« من مادة »نكس« على وزن عكس بمعنى النقلب رأسًا على عقب ولذلك يطلق المنكوس على الوليد الذي يسقط على
رجليه.
» .2متلفعون« من مادة »لفع« على وزن نفع بمعنى الشتمال على الشيء واللتفاف به ،ومن هنا يقال للمرأة حين تلف عليها
عباءها »تلفعت المرأة«.
] [ 103
كما وردت بعض العبارات التى أشارت إلى النور على أّنه المادة الصلية لخلقة الملئكة ،فقد وردت العبارة
لمةالمعروفة بشأنهم في أغلب المصادر السلمية التي وصفتهم قائلة» :الملك جسم نوري .«...أّما المرحوم الع ّ
ن الملئكة هم أجسام لطيفة المجلسي فقد قال» :ترى المامية بل جميع المسلمين سوى طائفة قليلة من الفلسفة أ ّ
ن النبياء والوصياء العصومين كانوا يرونهم«) .(1وبعبارة ُاخرى فا ّ
ن نورانية ولها أن تأتي بأشكال مختلفة ...وا ّ
ن الملئكةالملئكة أجسام نورية والجن أجسام نارية والنس أجسام كثيفة .اّما ما عليه جمع من الفلسفة فهو أ ّ
ن لهم أوصاف ل يستوعبها الجسم .وقد نقل المرحوم »الشارح الخوئي« في مجردون من الجسم والجسمانيات وأ ّ
ن أصحاب هذه القوال هم قلة قليلة جدًا. لأّ »منهاج البراعة« عّدة أقوال بهذا الخصوص بلغت ستة أقوال ،إ ّ
ن وجود الملئكة ـ ول سيما باللتفات إلى تلك الصفات والمقامات والعمال التي ذكرها القرآن ـ لمنلشك أ ّ
ل من خلل الدلة النقلية.
لمور الغيبية التي ل يمكن إثباتها وبتلك الخصائص والصفات إ ّ
اُ
فالقرآن يصف خصائصهم على أّنهم:
ن ال قد أوكل لهم عّدة وظائف ومهام .فمنهم حملة العرش ،ومدبرات المر ،والمأمورة بقبض الرواح، 3ـإّ
حفظة أعمال البشر ،حفظة النسان من المهالك والخطار ،المدد اللهي لنصرة المؤمنين في المعارك ،عذاب
القوام الظالمة والطاغية ومبلغي الوحي إلى النبياء.
6ـ تمثلهم أحيانًا بهيئة البشر وما شاكل ذلك للنبياء وبعض العباد الصالحين كمريم)عليها السلم(.
وما إلى ذلك من أوصاف يتعذر إحصائها في هذا البحث .وبحث ماهية الملئكة في أّنها
] [ 104
ن ظاهر اليات والروايات ـ إذا لم نطرح لها توجيها لأّ مجردة عن الجسم أو غير مجردة ليس من ورائه طائل ،إ ّ
ن الملئكة ليس من قبيل المواد الكثيفة والعناصر الخشنة ،مع ذلك فهم ليسوا مجردات وتفسيرًا خاصًا ـ هو أ ّ
لخرى الملزمة للجسام مطلقة ،لتضافر الروايات واليات التي صّرحت بعروض الزمان والمكان والوصاف ا ُ
عليهم .وهذا ما تؤكده عبارات المام)عليه السلم( في هذا القسم من خطبته وكذلك ما ورد في خطبته المعروفة
لمور التي أكد عليها القرآن الكريم، ن اليمان بالملئكة على نحو الجمال لمن ا ُ بالشباح .ولكن على كل حال فا ّ
ن ِبا ّ
ل ل آَم َ
ن ُك ّ
ن َرّبِه َوالُمْؤِمُنو َ
ل ِإَلْيِه ِم ْ
ل ِبما ُأْنِز َ
سو ُ
ن الّر ُ
فقد ورد في الية 285من سورة البقرة قوله تعالى) :آَم َ
سِلِه((1).
ن ُر ُ
حد ِم ْ
ن َأ َ
ق َبْي َ
سِلِه ل ُنَفّر ُ
َوَملِئَكِتِه َوُكُتِبِه َوُر ُ
—–
الملئكة على أصناف وأقسام عديدة على ضوء ما أشارت اليات والروايات ،وقد وردت في هذه الخطبة
الصناف الربعة الرئيسية منهم »أرباب العبادة والسفراء وحفظة العباد كالكرام الكاتبين ومنهم سدنة الجنان
لخرى من الملئكة، ن اليات القرآنية قد أشارت إلى الصناف ا ُ وحملة العرش« .ولكن وكما ذكرنا سابقًا فا ّ
ومنهم الموكلون بعذاب المّم الطاغية الظالمة ،والموكلون بالمدادات الغيبية ونصرة المؤمنين ومدبرات المر
وقبضة الرواح ،غير أّنه يمكن اختصار جميع هذه الطوائف في مدبرات المر التي تتولى إدارة شؤون
العالم .فقد اقتضت السنة اللهية وجرت بغية اظهار قدرته وعظمته وتحقق أهدافه وأغراضه أن تسند إدارة
شؤون العالم إلى الملئكة المأتمرين بأوامر ال والبعيدين كل البعد عن الوهن والضعف والفتور والسهو والنسيان
والتباطؤ في الطاعة ولكل صنف من أصناف الملئكة وظيفته المختصة به.
ن النسان إذا تأمل أقسام وأصناف الملئكة وسعة وعظمة الوظائف الموكلة إليها يشعر بالتصاغر والحق أ ّ
والحقارة ويتساءل من أكون في خضم هذا العالم الواسع المليء بعمال ال وجنوده الذين ل يفترون عن عبادته
وطاعته وامتثال أوامره؟ واين تكون عبادتي وطاعتي من هذه العبادة والطاعة التي تؤديها الملئكة؟ وما قيمة
قوتي وقدرتي مقارنة بقوة الملئكة وقدرتها؟ والخلصة فانه يقف على عظمة هذا العالم والعظم منه خالقه من
جانب وحقارته ودنو موضعه من جانب آخر ،وهذه إحدى حكم وفلسفة وجود الملئكة.
—–
لقد أشارت اليات القرآنية عشرين مرة إلى العرش اللهي ،كما كثرت البحاث التي تضمنتها الروايات السلمية
ن عظمة العرش متعذرة على التصور البشري ،حتى قيل الواردة بهذا الشأن ،وعلى ضوء بعض هذه الروايات فا ّ
ل حلقة في صحراء عظيمة.بهذا الخصوص :ما السموات والرضين وما فيها مقابل العرش إ ّ
ن ال حين خلق العرش ،أمر الملئكة بحمله ،فما استطاعوا أن يحملوه ،فخلق ملئكة ،فعجزوا عن كما روي أ ّ
حمله ،فحمله ال بقدرته ،ثم أمر سبحانه ثمان من الملئكة المأمورين بحمل العرش أن احملوه.
فقالوا :وهل يسعنا حمله وقد عجزت الملئكة .فأمروا بذكر ال والقول »لحول ول قّوة
] [ 106
ل بال العلي العظيم« والصلوات على محمد وآله ،فلما فعلوا سهل عليهم حمله(1).
إّ
فقد كان للملوك والسلطين عرشان ،أحدهما منخفض يعتلونه في اليام العتيادية ويسيرون شؤون الحكم ودفة
ُامور البلد ،وآخر مرتفع يرتقونه في اليام الخاصة والمرام المهمة والكبيرة .وقد اصطلحت الداب العربية على
الول بالكرسي والثاني بالعرش ،وقد درجت هذه الداب على التعبير بالعرش كناية عن القدرة والسلطة وإن
افتقر العرش للدعامات المرتفعة ،كما هناك المعنى الكنائي الخر الذي يشير إلى فقدان السلطة والذي جسدته
العبارة المشهورة »ثل عرشه« .ول هذان العرشان في المرة والحكومة كونه سلطان عالم الوجود )وبالطبع لما
كان ال ليس بجسم ول في زمرة الجسمانيات فالمفهوم الكنائي هو المراد هنا من العرش والكرسي(.
على كل حال يبرز هذا السؤال :ما كنه هذا العرش اللهي؟ ومن التفاسير التي يمكن ايرادها بهذا الشأن هو أنّ
عالم المادة والسموات والرضين والمنظومات والمجرات كلها بمثابة الكرسي وعرشه المنخفض كما أشار إلى
ض( ،والمراد بالعرش هو العالم الكامن وراء عالم المادة
لْر َ
ت َوا َ
سمـوا ِ
سـّيُه ال ّ
سَع ُكْر ِ
ذلك القرآن الكريم بقولهَ) :و ِ
)المادة الكثيفة والغليظة( ،التي ل تحيط بعالم المادة فحسب ،بل ليس عالم المادة أمامه سوى مقدار تافه ل أهميه
له .اّما حملة العرش فمما لشك فيه انهم ليسوا ملئكة غلظ الهيكل وأقوياء الجسم والبنية بحيث يحملون على
ن للعرش ـ كما أشرنا سابقًا ـ معنى كنائي والقرائن العقلية
أكتافهم دعائم العرش الذي استوى عليه الرحمن; ل ّ
التي تفيد تنزه ال عن الجسم والجسمانية إّنما تؤيد صحة هذا المعنى ،وعليه فحملة العرش ملئكة عظام ذوي
مقامات رفيعة وليس لهم من شبيه أو نظير ولهم تدبير عالم ما وراء الطبيعة وتنفيذ أوامره سبحانه في كل مكان،
اّما التعبيرات
] [ 107
التي ساقها المام في أوصافهم بقوله »الثابتة في الرضين السفلى أقدامهم ،والمارقة من السماء العليا أعناقهم،
والخارجة من القطار أركانهم ،والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم« فكل هذه تفيد مدى قدرتهم في تدبير شؤون
ل أّنه يتعذر علينا ذلك الحمل ول العالم .طبعًا يجب علينا أن نحمل اللفاظ أينما وردت على معانيها الحقيقية ،إ ّ
ق َأْيِديِهْم( إذا كانت هناك ل َفْو َ
يبقى أمامنا سوى المعنى الكنائي كالذي أوردناه بشأن الية القرآنية المباركة )َيُد ا ّ
لمور بالستناد إلى قوتهم وقدرتهم ،بل بحول القرائن العقلية المسلمة .نعم لقد نهض هؤلء الملئكة بالقيام بهذه ا ُ
ال وقوته ،كما ينهمكون بالتسبيح والتقديس وعدم الفتور عن ذكر ال ،وهذا ما صورته الية السابعة من سورة
حو َ
ن سّب ُ
حْوَلُه ُي َ
ن َ
ش َوَم ْ
ن الَعْر َحِمُلو َ
ن َي ْ
المؤمن التي أكدت إلى جانب ذلك على دعائهم واستغفارهم للمؤمنين )اّلِذي َ
ن آَمُنوا(.
ن ِلّلِذي َ
سَتْغِفُرو َ
ن ِبِه َوَي ْ
حْمِد َرّبِهْم َوُيـْؤِمُنو َ
ِب َ
—–
يتمتع الملئكة بصفات جّمة وقد تكفلت عباراته المذكورة )الواردة بشأن الطائفة من الملئكة المشغولة بالعبادة(
ببيان بعض هذه الصفات» :ل يغشاهم نوم العيون ،ول سهو العقول ،ول فترة البدان« .كما أشار القرآن إلى
ن() ،(1ووصف الموكلين سِبُقوَنُه ِبالَقْولِ َوُهْم ِبَأْمِرهِ َيْعَمُلو َ
ن * لَي ْ
عباٌد ُمْكَرُمو َ
ل ِ
تنزههم عن الذنوب والمعاصي )َب ْ
ل ما َأَمَرُهْم().(2
نا ّ
صو َ
بالعذاب منهم )ل َيْع ُ
ن هذا التصور ل يبدو صحيحًا; لأّ طبعًا يتصور البعض أّنه ليس هنالك من مفهوم لعصمة الملئكة من عدمها ،إ ّ
ن الملئكة ل تنطوي على دوافع الذنب والمعصية من قبيل الشهوة والغضب )أو أّنها ضعيفة جدًا فيهم(، صحيح أ ّ
ن اليات القرآنية
ولكن ل ينبغي الغفلة عن أّنهم فاعلون ومختارون ولهم القدرة على ارتكاب المخالفة ،بل إ ّ
تصرح بمدى خشيتهم من
] [ 108
ن العامل الذي جعل حملة العرش مؤهلين للقيام بهذه المسؤولية الخطيرة ل يفهم من العبارات الواردة بهذا الشأن أ ّ
يقتصر على قوتهم وقدرتهم ،بل يمتد ذلك إلى سعة وسمو مستوى معرفتهم بال تبارك وتعالى .فقد بلغوا أعظم
مقامات التوحيد ونفي كافة أشكال الشرك والشبيه والمثيل للحق تعالى ،ومن هنا استحقوا أهلية تحمل تلك المهّمة
العظيمة; المر الذي يعتبر درسًا لبّد أن يتعلمه العباد وذوي المعرفة بال.
—–
] [ 109
القسم التاسع
طها ِباْلَبّلِة تَ ،ول َ ص ْخَل َحّتى َ سّنها ِباْلماِء َخهاُ ،تْرَبًة َ سَب ِعْذِبها َو َ سْهِلهاَ ،و َ ض َو َ ن اَْلْر ِ حْز ِن َسْبحاَنُه ِم ْ جَمَع ُ »ُثّم َ
حّتى صَلَدها َ تَ ،وَأ ْسَك ْسَتْم َحّتى ا ْ جَمَدها َ صولَ ،أ ْ عضاء َوُف ُ صولَ ،وَأ ْ حناء َوُو ُ ت َأ ْ
صوَرًة ذا َ جَبَل ِمْنها ُ ت َف َحّتى َلَزَب ْ َ
ف ِبها، صّر ُ جيُلهاَ ،وِفَكر َيَت َ ت ِإْنسانًا ذا َأْذهان ُي ِ حِهَ ،فَمُثَل ْن ُرو ِ خ ِفيها ِم ْت ِلَوْقت َمْعُدودَ ،وَأَمد َمْعُلومُ ،ثّم َنَف َ صَل ْ
صْل َ َ
س،جنا ِ ن َواَْل ْق َواْلَمشاّم َواَْلْلوا ِ ق َواْلباطِِل َواَْلْذوا ِ حّن اْل َق ِبها َبْي َ خَتِدُمها َوَأَدوات ُيَقّلُبها َوَمْعِرَفة َيْفُر ُ ح َي ْجواِر َ َو َ
حّر َواْلَبْرِد ن اْل َ
ط اْلُمَتباِيَنِة ِم َ
خل ِ
ضداِد اْلُمَتعاِدَيِةَ ،واَْل ْ شباِه اْلُمْؤَتِلَفِة َواَْل ْخَتِلَفِةَ ،واَْل ْ
ن اْلُم ْ
طيَنِة اَْلْلوا ِجونًا ِب َِمْع ُ
جُموِد«. َواْلَبّلِة َواْل ُ
—–
الشرح والتفسير
بعد الشارات البليغة التي وردت في القسام السابقة من هذه الخطبة العميقة المضامين بشأن خلق العالم
والسموات والرض تناولت خطبة المام)عليه السلم( هنا خلق العالم والسموات ثم عرجت هنا إلى سائر
مخلوقات هذا العالم ومن بينها خلق النسان ومراحله المختلفة والتي قسمها)عليه السلم(إلىخمس مراحل تكتنف
تمام مسيرة حياته وهى:
] [ 110
4ـ لقد أصبح لدم ذرية ثم تكاثرت هذه الذرية فكونت المجتمعات البشرية ثم بعث ال أنبيائه)عليهم السلم( بكتبه
السماوية المقدسة من أجل هداية الناس وتنظيم شؤون المجتمعات البشرية والخذ بأيديها إلى حيث السمو الروحي
والرفعة والكمال.
5ـ المجتمعات البشرية من جانبها خطت خطوات عريضة نحو التكامل حتى تأهلت لتقبل الدين الخاتم حيث
اصطفى ال رسوله محمد)صلى ال عليه وآله( فبعثه بالقرآن الكريم لهداية النسانية وانقاذها من خلل اطروحته
التي تتضمن السعادة والفلح ،ثم تحدث المام)عليه السلم(عن القرآن.
قال المام)عليه السلم(بشأن خلق جسم آدم)عليه السلم(» :ثم جمع سبحانه من حزن) (1الرض وسهلها
وعذبها) (2وسبخها) (3تربة« .فالعبارة تشير إلى خلق النسان من التراب من جهة ،كما تشير من جهة ُاخرى أن
ذلك التراب مركب من جميع المواد المختلفة على وجه الرض لتنطوي على مختلف الستعدادات وتشمل
التنوعات والتقلبات التي تحتاجها المجتمعات البشرية في مختلف مجالت حياتها ،ثم أشارت إلى مادة ُاخرى هى
الماء والتي اختلطت بالتراب فقال)عليه السلم( بهذا الشأن »سنها) (4بالماء حتى خلصت ولطها) (5بالبلة حتى
لزبت).«(6
ن دور الماء هو خلط تلك الجزاء المختلفة مع بعضها وتخليصها من شوائبها وارساء الوشيجة والرابطة فالواقع أ ّ
بين هذه الجزاء .ثم أشار)عليه السلم( إلى مسألة تبلور خلقة النسان من ذلك التراب والطين فقال)عليه السلم(:
»فجبل منها صورة ذات أحناء) (7ووصول وأعضاء وفصول« .في الواقع »أحنا« جمع »حنو« إشارة إلى
انحناءات البدن من قبيل انحناء الضلع
» .2عذب« على وزن »جذب« بمعنى الماء الطاهر والحلو الصالح للشرب.
ن« من مادة »سن« على وزن ظن بمعنى صب الماء على شيء ،كما تأتي بمعنى نعومة الشيء.
» .4س ّ
» .5لط« من مادة »لوط« على وزن صوت بمعنى خلط الشيء وعجنه.
» .6لزبت« من مادة »لزوب« على وزن سكوت بمعنى التصق وثبت واشتد.
» .7أحنا« جمع »حنو« على وزن حرص بمعنى النحناء والجوانب والطراف.
] [ 111
والفك العلوي والسفلي وراحة القدم بحيث يتكيف البدن للقيام بمختلف العمال والفعاليات ،وذلك لتعذر قيامه بمثل
هذه الفعال التي يمارسها اليوم لو كان البدن على هيئة جسم هندسي مكعب أو ما شابه ذلك .أّما العبارة
»وأعضاء وفصول« فهى تشير إلى العضاء المختلفة التي ترتبط مع بعضها من خلل المفاصل; المر الذي
أكسب البدن القدرة العملية على ممارسة مختلف النشطة فلو كانت يد النسان على سبيل المثال مستوية ذات
ن البارئ سبحانه جعلها عّدة
عضو واحد وعظم واحدل تقوى على أداء الفعاليات التي تؤديها الن ،بينما نعلم أ ّ
عظام وغضاريف وعّدة أعضاء متصلة مع بعضها البعض الخر; المر الذي جعل كل اصبع بل كل سلمية من
أصابعه واضافة لليد تتمتع بعملية خاصة وهذه بدورها تعّد آية من آيات حكمته وعظمته سبحانه .ثم أشار
المام)عليه السلم( إلى مرحلة لحقة فقال» :اجمدها حتى استمسكت واصلدها) (1حتى صلصلت) «(2وبذلك فقد
أعد النسان إعدادًا تامًا من الناحة البدنية بحيث يسير إلى الغاية المعينة المرسومة له »لوقت معدود وأجل معلوم)
.«(3فقد روي في بعض الروايات عن المام الباقر)عليه السلم( أن هذه الحالة دامت أربعين سنة ،فكان جسد
آدم ملقى في موضع والملئكة تمر به وتقول لي أمر خلقت؟)(4
ولعل هذه المّدة الزمانية ـ كما صّرح بذلك بعض المحققين ـ كانت اختبارًا للملئكة أو إرشادًا وتعليمًا للناس
لمور وعدم الستعجال فيها .وهنا جاءت المرحلة الثانية; مرحلة نفخ الروح في الجسد ليتحول إلى بالتأني في ا ُ
هذه الطبيعة النسانية التي زود فيها النسان بقوى العقل والدراك التي تسوقه لممارسة العمال» :ثم نفخ فيها
من روحه فمثلت) (5إنسانًا ذا أذهان يجيلها«) .(6العبارة »ذا أذهان يجيلها« إشارة إلى مختلف القوى العقلية
والذهنية التي
» .1أصلد« من مادة »صلد« على وزن صبر بمعنى أحكم وجعل الشيء صلبًا أصلتًا.
» .2صلصل« من مادة »صلصلة« بمعنى اليبوسة والجفاف بحيث تخرج منها الصوات بمجّرد ملمستها لشيء ،كما وردت بمعنى
الجاف والمحكم.
ن هذا
ن المراد بهذه العبارة هو أ ّ
.3اللم في »لوقت معدود« بمعنى إلى .ذهب البعض إلى أّنها لم التعليل ،بينما احتمل البعض أ ّ
ن هذا الحتمال يبدو مستبعدًا للغاية ،لّنه من المراحل
الوضع سيستمر إلى قيام الساعة ثم تتفكك بعد ذلك أعضاء البدن تمامًا ،إّل ا ّ
المختلفة لخلق النسان ولم تطرح لحد الن قضية نفخ الروح.
» .4فبقى أربعين سنة ملقى تمر به الملئكة فتقول لمر ما خلقت؟« .منهاج البراعة .44 / 2
» .5مثلت« من مادة »مثول« على وزن حصول بمعنى استوت وقامت.
» .6يجيل« من مادة »اجالة« )مصدر باب أفعال من جول وجولن بمعنى يدور(.
] [ 112
ل منها في مجال من مجالت حياته بحيث يلئم بينها جميعًا في مسيرته نحو الهدف زود بها النسان ويوظف ك ً
المنشود )والقوى المذكورة عبارة عن قوة الدراك وقوة الحفظ وقوة الخيال و .(...وهنا لبّد من اللتفات إلى أنّ
الذهن في الصل يعني القوة ،ثم استعمل بمعنى العقل والفهم والدراية وسائر القوى العقلنية ،فالعبارة تشير إلى
ن المام)عليه السلم(قد عنى مختلف هذه القوى معتبرًا كل واحدة منها نعمة وعناية من العنايات اللهية ثم أّ
ن هذا التعبير من قبيل العطف التفسيري والتعبير قال)عليه السلم(» :وفكر يتصرف بها« .قد يتصور أحيانًا أ ّ
ن كل عبارة من العبارتين تشير إلى حقيقة :فالعبارة »ذا أذهان ن الظاهر هو أ ّالخر لمفهوم العبارة السابقة ،غير أ ّ
يجيلها« إشارة إلى مراحل المعرفة والتصور والتصديق وفهم وإدراك الحقائق ،وأّما العبارة »وفكر يتصرف
بها« فهى إشارة إلى الفكار التي تخضع لمرحلة التطبيق ويتصرف النسان بواسطتها في مختلف الشياء )لبّد
ن الفكر في الصل يعني الحركة الفكرية وتوظيف الذهن( .على كل حال فقد جاءت مفردة من اللتفات هنا إلى أ ّ
»فكر« بصيغة الجمع )كالذهان بصيغة الجمع( لتفيدان القوى العقلية والفكار النسانية كثيرة للغاية ومتنوعة،
وهذه نقطة مهّمة أكدها كبار الفلسفة والمفكرين وعلماء النفس ،وإليها تعزى الفوارق في الستعدادات الفكرية
لفراد البشرية .فربما كان هناك الفراد القوى في قسم منها وأضعف في القسم الخر بينما هنالك العكس،
فالمسألة تنطوي على أسرار ورموز عجيبة للغاية ،وكلما غاص النسان في كنهها تعرف أكثر على عظمة الحق
خالق هذه القوى الذهنية والفكرية .ثم يتطرق)عليه السلم( بعد ذلك إلى شيئين يسهمان في ايصال النسان إلى
هدفه المطلوب وهما الجوارح والدوات التي زوده بها ال سبحانه لتسه له تحقيق ما يصبو إليه »وجوارح
يختدمها) (1وأدوات يقلبها« .فالواقع هو أّنه يجتاز أربع مراحل لبلوغ الهدف :تمثلت المرحلة الولى بالمعرفة
والدراك والتصور والتصديق ومرحلة الفكر ومن ثم ائتمار العضاء والجوارح ،وأخيرًا الستعانة بالدوات
ن كل مرحلة من هذه المختلفة التي خلقها ال في هذا العالم حين ل تجدي العضاء والجوارح بمفردها نفعًا ،كما أ ّ
المراحل الربع متنوعة تتفرع منها عّدة فروع .ولما
» .1يختدم« من مادة »اختدام« بمعنى الستخدام.
] [ 113
كان بلوغ الهداف المرسومة يتطلب تشخيصًا وتمييزًا للحق من الباطل والصواب من عدمه وكافة المحسوسات
المختلفة ،فاّنه يتحدث عن إحدى قوى النفس المهّمة والتي تعتبر في الواقع المرحلة الخامسة ،أل وهى قوة التمييز
ول يراد بها سوى المعرفة »ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل« .كما يتمكن بواسطة هذه القوة من تمييز
المحسوسات من قبيل الطعمة والذواق و» ...والذواق والمشام واللوان والجناس«) .(1والواقع ان قدرة
لمور المعنوية كالحق والباطل كما تشمل التمييز والتشخيص والمعرفة لمن أهم قوى النسان العقلية التي تشمل ا ُ
لمور المادية المحسوسة كاللوان والمشام والذواق .فهل قّوة التمييز هذه هى قوة مستقلة ،أم داخلة في مفهوم اُ
ن الحديث تطرق الذهن والفكر في العبارة السابقة؟ يبدو من كلمه)عليه السلم( أّنها قّوة مستقلة ،جدير بالذكر أ ّ
لمور المادية والمحسوسة وهى :الذواق ،المشام ،اللوان والجناس التي تشير هنا إلى لربعة أصناف من ا ُ
مختلف أنواع الموجودات) .(2من قبيل مختلف أنواع النباتات ،الطيور والحيوانات وما إلى ذلك ،اّما عدم الشارة
إلى المسموعات )الصوات( والملموسات فلن بيان القسام الثلث كان على نحو المثال ،فذهن كل مستمع
سينتقل إلى بقية ذلك من خلل القسام الثلث المذكورة .ثم ينتقل المام علي)عليه السلم(ليشير إلى أهّم
خصائص النسان التي تشكل المصدر الرئيسي لغلب ظواهر حياته فيقول» :معجونًا) (3بطينة اللوان
المختلفة« .ولعل هذه العبارة إشارة إلى اختلف ألوان الناس وأعراقهم المتفاوتة ،أو اختلف لون أجزاء البدن
ن بعضها تام البياض )كبياض العين والعظام( والخر تام السواد )كالشعر( وسائر اللوان التي يكسبه حيث إ ّ
ل خاصًا ،كما يمكن أن يكون المراد بها معنى أوسع بحيث يشمل سائر الستعدادات والغرائز خلطها جما ً
ل» :والشباه المؤتلفة« من قبيل الوردة والشرايين والعصاب المختلفة .ثم أضاف المام)عليه السلم(قائ ً
ن العبارة »والذواق والمشام واللوان والجناس« هى عطف على عبارة الحق والباطل ،بينما عدها البعض عطفًا على المعرفة. .1أ ّ
في حين يفيد التأمل في كلمه)عليه السلم( أن المعنى الول هو النسب .وعلى ضوء المعنى الول فان قّوة التمييز المعرفة ستشمل
ن المعرفة تعّد من النعم اللهية ،كما أن قّوة الشامة والباصرة والذائقة هى نعمة
كل هذه اُلمور ،اّما على أساس المعنى الثاني فا ّ
ُاخرى )لبّد من التأمل هنا(.
» .2الجنس« في اللغة بمعنى القسام والنواع المختلفة ،وهناك القرائن الواردة في خطب نهج البلغة التي تدل على هذا المعنى
ومنها الخطبة رقم .91
] [ 114
والعظام التي تشبه إلى حّد بعيد بضها البعض الخر ،وفي نفس الوقت تقوم بعدة وظائف ومهام .وأخيرًا قال)عليه
السلم(» :والضداد المتعادية والخلط المتباينة من الحر والبرد والبلة والجمود«) .(1والعبارة إشارة إلى
الطبائع الرباعية المعروفة في الطب التقليدي ،والطباء المعاصرون وأن تنكروا لهذه الطبائع لفظًا ،غير أّنهم
اوردوها بتعابير ُاخرى من قبيل الستعاضة عن الحرارة والبرودة بارتفاع ضغط الدم وانخفاضه ،كما
ل من البلة والجمود.
يصطلحون بزيادة ماء الجسم وقلته بد ً
ن ال سبحانه قد خلق على كل حال فان عبارات المام)عليه السلم( آنفة الذكر إّنما تشير إلى قضية مهّمة في أ ّ
ن هذه
جسم النسان )بل جسمه وروحه( مركبًا من مواد مختلفة وكيفيات متنوعة واستعدادات وغرائز متباينة ،وأ ّ
الفوارق والتباينات شكلت أساس التفاوت في أساليب التفكير لدى أفراد الجنس البشري; المر الذي أدى في خاتمة
المطاف إلى تلبية مختلف حاجات الجماعات البشرية واشغال المناصب الجتماعية على ضوء تلك الستعدادات
لمور ويوضع كل شيء في موضعه فيتسق النظام العام ،ول يسع المقام الخوض أكثر في تفاصيل بحيث تنتظم ا ُ
هذا الموضوع.
—–
تأّملت
1ـ خلق آدم)عليه السلم(
ن خلق آدم)عليه السلم( قد تّم بصورة مستقلة متكاملةنفهم من العبارات التي تضمنتها خطبة المام)عليه السلم( أ ّ
على هذه الصورة التي نحن عليها اليوم دون أن يطوي مراحل النشوء والرتقاء من الكائنات الحية المتسافلة;
المر الذي أكده القرآن كرارًا على لسان آياته الشريفة .طبعًا كلنا نعلم بأن »القرآن الكريم« وكذلك »نهج
البلغة« ليسا من قبيل كتب العلوم الطبيعية ،بل هما كتابان تكفل بهداية النسان وتهذيبه بالدرجة الساس إلى
جانب الشارة حسب المقام وما
.1يمكن أن تكون جملة »من الحر والبرد« بيانًا للخلط المتباينة ،أو للضداد والخلط معًا.
] [ 115
يتناسب وأبحاثه العقائدية والتربوية إلى بعض مسائل العلوم الطبيعية .اّما النظرية السائدة اليوم في الوساط
ن كافة أنواع الكائنات الحية
العلمية بشأن خلق النسان فهى نظرية »تكامل النواع« .ويرى أنصار هذه النظرية أ ّ
لم تكن سابقًا كما هى عليه اليوم ،بل كانت موجودات بسيطة أحادية الخلية ثم تكاملت بعد أن سبحت في مياه
المحيطات وغاصت في أعماق البحار لتتكامل تدريجيًا فتغيرت من نوع إلى آخر من خلل تغييرها لشكالها
فانتقلت من البحار إلى الصحارى .والنسان هو أحد هذه الكائنات الذي قطع مسيرته التكاملية بعد أن اجتاز تلك
المرحلة التي كان فيها قردًا بشكل إنسان ،وعليه فقد انحدر النسان من تلك الكائنات المتسافلة .وبالطبع فان
أنصار هذه الفرضية قد انقسموا إلى عّدة طوائف ،فمنها اتباع »لمارك« و»داروين« و»الداروينية الحديثة«
وطائفة »موتاسيون« )نظرية الطفرة( وما إلى ذلك من الطوائف التي تقدم كل منها أدلتها على صحة نظريتها
بهذا الشأن.
ن أنواع الكائنات الحية قد ظهر كل منها بصورة منفصلةويقف مقابل هؤلء ،أتباع ثبوت النواع حيث يقولون بأ ّ
منذ البداية بهذه الهيئة الحاضرة ،كما أقاموا أدلتهم وبراهينهم التي تعرض بالنقد للدلة التي اعتمدتها نظرية
التطور والتكامل ،ول يسعنا الخوض في تفاصيل هذه النظرية .ونكتفي هنا بالشارة بصورة مقتضبة للمواضيع
التالية:
1ـ يستفاد من القرآن الكريم وكذلك خطب نهج البلغة مسألة ثبوت النواع على القل بالنسبة للنسان ،بينما لم
ن بعض أنصار فرضية التطور والتكامل التي تشمل ترد مثل هذه التصريحات بشأن سائر أنواع الكائنات ـ رغم أ ّ
النسان بشكل عام يصرون على توجيه اليات القرآنية وعبارات خطب نهج البلغة بحيث تنسجم ونظرية
ن المتتبع المحايد يذعن بأ ّ
ن لأّ
ن هذه اليات والخطب أدلة على مزاعمهم .إ ّ النشوء والرتقاء ،حتى ذهبوا إلى أ ّ
ل من خلله.هذه المزاعم تنطوي على تكلفات وحرج ل يمكن قبولها إ ّ
ن قضية التكامل والرتقاء أو ثبوت النواع ليست من قبيل القضايا التي يمكن إثباتها من خلل التجربة2ـإّ
ن جذورها قد امتدت لمليين السنين السابقة ،وعليه فان كل ما يورده أنصارها
والدلة الحسية والعقلية ،وذلك ل ّ
أو مخالفوها إّنما هى فرضيات وأدلتها ليست سوى
] [ 116
أدلة ظنية ،وبناًء على ماتقوم فانه يتعذر القول بنفي آيات خلقة النسان وعبارات نهج البلغة وفقًا لقوال هؤلء.
.1راجع من أجل الوقوف بصورة أعمق كتاب »الداروينية وآخر فرضيات التكامل« .كما استعرضنا ذلك بصورة مقتضبة في تفسيرنا
المثل / 11الية ذيل اليات 26حتى 44من سورة الحجر.
] [ 117
تسوقه إلى العالم المادي وتلك التي تدفعه إلى العالم الملئكي .فهو يتصف بالخلق والطبيعة الحيوانية من جانب
ويتحلى بالطبيعة الملكوتية والروحانية من جانب آخر .ولهذا أيضًا فهو يتمتع بقوس صعودي ونزولي تكاملي
غاية في العظمة بحيث زود بالملكات والستعدادات التي تبلغ به في قوس الصعود درجة »أعلى عليين« بينما
يهبط في النزول والنحطاط إلى »أسفل السافلين« وليت هناك مثل هذه الميزة في الكائنات سوى للنسان ول
تمنح سوى للمطهرين من الفراد فتكسبهم قيمة ومنزلة رفيعة ،ول غرو فقد تماسك وحفظ نفسه مقابل جميع
عوامل النحطاط وعناصر التسافل والنسياق نحو المادة والمادية وقد اجتاز كافة العقبات والمطبات .ولعل
الملئكة عجزت عن إدراك ذلك المر قبل خلق آدم فظنت التكرار في هذا الخلق دون حصول جديد ،فحسبوا أ ّ
ن
ن ال سبحانه قد نسب الروح التي هذه الخلقة تحصيل حاصل من خلل تسبيحهم وتقديسهم .والمهم في المر هو أ ّ
حي() .(1ونعرف على نحو البداهة أن ليس ل من جسم ول ن ُرو ِ
ت ِفـيِه ِم ْ
خ ُنفخها في آدم إليه سبحانه فقالَ) :وَنَف ْ
روح ،وأّنه يهدف إلى بيان عظمة الشياء التي يضيفها إلى نفسه من قبيل »بيت ال« و»شهر ال« فالهدف هو أن
ن ال قد نفخ في آدم هذه الروح الدمية تتمتع بآثار من صفات ال كالعلم والقدرة والخلقية والبداع .والواقع هو أ ّ
سُ
ن حـ َ
ل َأ ْ
كا ّ
خَر َفَتباَر َ
خـْلقًا آ َ
شـْأناُه َ
أشرف وأفضل روح ،ولذلك نعت نفسه سبحانه بأحسن الخالقين فقالُ) :ثّم َأْن َ
ن() (2ويالها من مصيبة أليمة ومفجعة أن يحث النسان الخطى نحو السقوط بحيث يتحول إلى ما يجعله الخاِلِقـي َ
ل() (3في حين يمتلك مثل هذه الستعدادات والقدرات والمكانات ضّل ُهْم َأ َ
لْنعاِم َب ْ
أسوأ من النعام )ُأولـِئك َ َكا َ
التي تبلغ به الكمال والمقام الذي ينتظره ويؤهله لن يتميز على كافة المخلوقات فيرتدي التاج العظيم الذي يكرمه
على من سواه )َوَلَقْد َكّرْمنا.(...
يعتبر النسان ـ في الحقيقة ـ من أعجب ظواهر عالم الوجود ،وقد تضمن كلم المام)عليه السلم(
] [ 118
إشارة إلى غيض من فيض أسرار الوجود :الشتمال على الجوارح والعضاء المتنوعة والقوى المختلفة
والقدرات المتفاوتة ،والتركيب من العناصر المتضادة والتشكل من عّدة عوامل عجنت بصورة بالغة التعقيد بحيث
جمع فيه كل شيء ،حتى أصبح في الواقع نموذج مصغر لجميع عالم الوجود ،وعالم صغير يضاهي العالم الكبير.
—–
] [ 119
القسم العاشر
ع ِلَتْكِرَمِتِه
خُنو ِجوِد َلُه َواْل ُسُ ن ِبال ّصّيِتِه ِإَلْيِهْم ِفي اِْلْذعا ِ عْهَد َو ِ حاَنُه اْلَملِئَكَة َوِديَعَتُه َلَدْيِهْم َو َ
سْب َ
ل ُ سَتْأَدى ا ّ »َو ا ْ
سَتْوَهنَ خْلَقِة الّنار َوا ْ شْقَوُة َوَتَعّزَز ِب ِعَلْيِه ال ّ
غَلَبتْ َ حِمّيُة َو َ
عَتَرْتُه اْل َ
سا ْ جُدوا ِإّل ِإْبِلي َ سَ جُدوا ِلَدَم َف َسُ سْبحاَنُه ا َْفقاَل ُ
ن ِإلىظِري َ ن اْلُمْن َ
سِتْتمامًا ِلْلَبِليِّة َوِإْنجازًا ِلْلِعَدِة َفقاَل َفِإّنك ِم َ
طِة َوا ْخَ سْ حَقاقًا ِلل ّسِت ْ
ظَرَة ا ْل الّن ِ
طاُه ا ّ عَصْلصاِل َفَأ ْ ق ال ّ خْل َ
َ
ت اْلَمْعُلوِم«.َيْوِم اْلَوْق ِ
—–
الشرح والتفسير
ما أن فرغ المام)عليه السلم( من بيانه لقضية خلق آدم حتى تطرق إلى موضوع آخر ذا صلة وثيقة به
مستخلصًا منه الدروس والعبر التي يمكن أن تحتذيها البشرية جمعاء في مسيرتها إلى ال ،فقال)عليه السلم(:
»واستأدى ال سبحانه الملئكة وديعته لديهم وعهد وصيته إليهم في الذعان بالسجود له والخنوع) (1لتكرمته
ن ال قد أخذ عهد الملئكة مسبقًا بالسجود لدم ل إبليس« فالذي تفيده العبارة أ ّ فقال سبحان اسجدوا لدم فسجدوا ا ّ
ل َرّب َ
ك حين خلقه; المر الذي وردت الشارات إليه في القرآن الكريم ومنها الية 70و 71من سورة صِ) :إذ قا َ
ن((2).فقد كانت جِدي َ
حـي َفَقُعوا َلُه سا ِن ُرو ِت ِفـيِه ِم ْ
خ ُ
سـّوْيُتُه َوَنَف ْ
طـين * َفِإذا َ ن ِ
شرًا ِم ْ
ق َب َ
ِلْلَمـلِئَكِة ِإّني خاِلـ ٌ
ن الوفاء بذلك العهد إّنما يحصل حين خلق آدم وتكامله بهذه الملئكة تدرك أ ّ
» .1خنوع« بمعنى الخضوع والتواضع حسب »المقاييس« وأورد الخرون ما يشبه هذا المعنى أيضًا.
] [ 120
س().(1
ل ِإْبِلـي َ
جُدوا ِإ ّ
سَ
لَدَم َف َ
جُدوا ِ
سُالصورة النسانية ،ولذلك أمرهم ال سبحانه لما أتم خلقه بالسجود )ا ْ
ن هذا المر قد يكون مستغربًا لدى الملئكة ويثير اندهاشهم ولعلهم يتساهلون في ذهب بعض شّراح نهج البلغة أ ّ
ن مثل هذه
امتثاله لول تلك المقدمة بذلك العهد الذي أخذ عليهم ،ولذلك أعدهم ال سبحانه لهذا المر مسبقًا ليعلم أ ّ
المقدمات ضرورية في الوامر المهّمة .ثم يتطرق)عليه السلم( إلى الدوافع التي وقفت وراء تمرد ابليس
فقال)عليه السلم(» :اعترته الحمية)(2وغلبت عليه الشقوة وتعزز بخلقة النار واستوهن خلق الصلصال«.
ن العامل الصلي لتمرده إّنما كان تلوثه الباطني والذي عبر عنه بالشقوة إلى جانب الكبر والغرور فالواقع أ ّ
والحمية والنانية التي تفرزها طبيعة ذلك الدنس الباطني والذي غلب على فكره وأعمى بصيرته ليصده عن رؤية
الواقع فيغتر بخلقة النار ويراها أعظم شأنًا من خلقة الطين والتراب; التراب الذي يعتبر مصدر جميع الخيرات
والبركات والمنافع والفوائد ،بالتالي حسب أن علمه ومعرفته إّنما تفوق حكمة ال ـ طبعًا ل يبدو هذا الحكم غريبًا
من الفراد الذين يغرقون في مثل هذا الحجب; فالنسان الناني المضروب عليه بحجاب الغرور قد يرى القبة
حبة والحبة قبة أحيانًا ،فعباقرة الفكر وجهابذة العلم إذا ما ابتلوا بالغرور والنانية وحب الذات ربما يرتكبون
أفضع الخطاء والزلت .فالمراد بالشقاوة هنا تلك الموانع الباطنية والصفات الرذيلة التي كانت لدى الشيطان،
ن الشقاوةوهى الموانع والصفات الختيارية النابعة من أفعاله السابقة وهى ليست شقوة ذاتية وغير اختيارية; ل ّ
تقابل السعادة .وتعني السعادة توفير المكانات وتمهيد السبيل من أجل الحركة نحو الصلح والشقاوة تعني
لمور إّنما تنبع من ذات أفعال النسان وسائر ن كل هذه ا ُ
المطبات والصعوبات التي تعترض هذا السبيل; والمهم أ ّ
الموجودات المختارة ل أّنها تستند إلى العوامل الجبرية والقهرية .على كل حال فان ابليس قد ارتكب هذه
المعصية الكبرى والخطأ الجسيم ليسقط
» .2الحمية« من مادة »حمى« على وزن نهى معناها الصلي الحرارة التي تنتج من الشمس والنار والمواد اُلخرى أو من داخل
ن حالة النسان تشتعل آنذاك ،ويطلق الحمى على حرارة البدن حينجسم النسان ،كما يعبر أحيانًا بالحمية عن القوة الغضبية حيث إ ّ
الرتفاع.
] [ 121
بالمرة فيطرد من حظيرة القرب اللهي حتى أصبح من ألعن خلق ال وأبعدهم عن رحمته بفعل تلك المعصية
ن هذه اللعنة والطرد من الرحمة لم تكن لتوقظه فتمادى في غيه وغروره واستنادًا لسيرة الخطيرة; غير أ ّ
ل قبيحًا آخر تمثل بتوعده باغواء آدم وذريته ،ثمالمغرورين والمتعصبين من ذوي النفة والحمية فقد باشر عم ً
سأل ال ويداقع اشباع غريزة غضبه وحسده النظرة إلى يوم القيامة ليرتكب معصية ُاخرى أفدح من سابقتها )قا َ
ل
ل لبتلء العباد وتمحيصهم ن() .(1فاستجاب ال له لثلث; استحقاقًا للغضب ،وإكما ً ظْرِني ِإلى َيْوِم ُيْبَعُثو َ
ب َفَأْن ِ
َر ّ
وأخيرًا انجاز ما وعده به »فأعطاه ال النظرة استحقاقًا للسخطة واستتمامًا للبلية وانجازًا للعدة« ،ولكن ليس على
ل معينًا »فقال أّنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم«) .(2أّما ما المراد بيوم
ضوء ما سأل ،بل جعل لذلك أج ً
الوقت المعلوم فهناك كلم واختلف بين مفسري القرآن ونهج البلغة.
ن المراد بذلك انتهاء العالم وانقطاع مّدة التكليف )وعلى ضوء هذا المعنى فقد كانت الموافقة فذهب البعض إلى أ ّ
على بعض سؤال ابليس ،لّنه سأل النظرة إلى يوم القيامة بينما أجيب بالنظرة إلى ختام الدنيا( .بينما ذهب البعض
ل لو أعلنه آنذاك لكان ل ال; وإ ّ ن المراد بذلك زمان معّين وهو انقطاع عمر ابليس; المر الذي ل يعلمه إ ّ الخر أ ّ
ن الية الخمسين ن المراد يوم القيامة; ل ّ إغراًء لبليس بالتمرد وارتكاب المعاصي .وأخيرًا فقد احتمل البعض أ ّ
ن ِإلى ِمـيقا ِ
ت عو َجـُمو ُ
ن * َلم ْ
خـِري َ
ن َوال ِ لّوِلـي َ
نا َ
ل ِإ ّ
من سورة الواقعة عبرت باليوم المعلوم عن يوم القيامة )ُقـ ْ
ن هذا الحتمال يبدو مستبعدًا ،لّنه وعلى ضوء هذا التفسير قد استجيب لجميع طلباته ،في حين لاَّيـْوم َمـْعُلوم( .إ ّ
ن الية التي وردت في البحث قالت ل لبعض طلباته ،أضف إلى ذلك فا ّ يفيد ظاهر اليات القرآنية أّنه لم يستجب إ ّ
»يوم الوقت المعلوم«بينما قالت الية الواردة في سورة الواقعة )َيـْوم َمـْعُلوم(فاليتان متفاوتتان ،وعليه فالتفسير
ن المراد بيوم الوقت المعلوم هو زمان الصحيح هو التفسير الول أو الثاني .من جانب آخر فقد جاء في الحديث أ ّ
ظهور إمام العصر والزمان المهدي)عج( والذي ينهي بدوره عمر ابليس) .(3وبالطبع
ت الَمْعُلوِم(.
ن * ِإلى َيْوِم الَوْق ِ
ظِري َ
ن الُمْن َ
ك ِم َ
.2إشارة إلى آية 37و 38من سورة الحجر )قاَل َفِإّن َ
فان هذا لن يؤدي إلى اجتثاث جذور الذنب والمعصية عن العالم بالمرة وتنتفي قضية الطاعة والمتحان اللهي;
ن العامل الصلي إّنما يكمن في هوى النفس الذي يبقى سائدًا في النسان ،بل حتى عامل انحراف الشيطان إّنما
لّ
يعزى إلى هوى نفسه(1).
تأّملت
1ـ عظمة مقام النسان
ن اليات القرآنية التي تناولت قضية سجود الملئكة للنسان في عّدة سور لتشكل أحد الدلة المهّمة على أن إّ
النسان يمثل أفضل موجود في عالم الخلقة وأشرف مخلوقات ال سبحانه) ،(2كما تشير هذه اليات إلى سجود
جميع الملئكة دون استثناء وخضوعها لدم)عليه السلم( ،وهذا بدوره دليل واضح على أفضليته)عليه السلم(
ن الهدف من هذه التأكيدات القرآنية المستمرة الفات انتباه النسان إلى عظم شخصيته حتى على الملئكة ،ويبدو أ ّ
اللهية والمعنوية; المر الذي يلعب دورًا مهمًا في تربية النفس البشرية وتهذيبها وهدايتها.
ن ذلك
هناك عّدة أبحاث لدى المفسرين بشأن كيفية السجود ،وهل يجوز السجود لغير ال تعالى .يرى البعض أ ّ
ل لخلق هذا الكائن العجيب; في حين ذهبل ل تعالى ،غير أّنه حصل أمام آدم بينما كان معلو ً السجود لم يكن إ ّ
ل اّنه لم يكن سجود العبادة المختص بال تبارك وتعالى ،بل كان سجود ن السجود كان لدم ،إ ّ
البعض الخر إلى أ ّ
خضوع واكرام واحترام .وجاء في كتاب عيون الخبار عن كتاب المام علي بن موسى الرضا)عليه السلم( أّنه
قال» :كان سجودهم ل تعالى عبوديًة ولدم إكرامًا وطاعة لكوننا في صلبه«) .(3فالذي يستفاد من هذا الحديث أن
السجدة كانت تنطوي على بعدين; أحدهما عباة ال والخر تكريم آدم)عليه السلم( .وشبيه ماذكر
.1لقد تكفلت المناجاة الثانية من المناجاة الخمسة عشر للمام علي بن الحسين)عليهما السلم( ببيان كيفية تأثير هوى النفس وكذلك
تأثير الشيطان في انحراف النسان بصورة مفصلة.
.2سورة البقرة 34 /وسورة العراف 11 /وسورة السراء 61 /وسورة الكهف 50 /وسورة طه .116 /
] [ 123
سؤال:
ن كان الجواب باليجاب فلم ارتكب تلك المعصية الخطيرة مع أن الملئكة معصومون، هل ابليس من الملئكة؟ إ ّ
وإن كان الجواب بالنفي في أّنه لم يكن من الملئكة ،فما علة ذكره في عداد الملئكة على لسان اليات القرآنية؟
جواب:
] [ 124
سؤال:
كيف جاز على ال سبحانه أن يسلط ابليس على الناس حتى أّنهم سلبوا قدرة الدفاع؟ أضف إلى ذلك فما الضرورة
في الغواء والضلل؟ ومنحه تلك المّدة الطويلة من العمر والمهلة ليسعى سعيه في اغواء بني آدم وتوظيف كافة
إمكاناته في سبيل تحقيق هذا الهدف؟
جواب:
ن الشيطان قد خلق طاهرًا عفيفًا وقد جّد لسنوات من أجل صون قدسيته وطّهره حتى قادته طاعته
ل :أ ّ
أو ً
ل أّنه في نهاية المر وأثر حّبه لذاته وكبره وغروره واستغلله
وعبوديته لن يكون في مصاف الملئكة ،إ ّ
لحريته قد سلك سبيل الضلل فسقط إلى الحضيض.
ن نفوذ الوساوس الشيطانية إلى باطن النسان ليس نفوذاً ثانيًا :من الضروري اللتفات إلى نقطة مهّمة وهى أ ّ
ن النسان هو الذي يفسح المجال بإرادته واختياره لهذا النفوذ سيجعله يستحوذ على نفسه، عبثيًا وإجباريًا; بل إ ّ
س َل َ
ك عباِدي َلْي َ
ن ِ
حيث يمنح الشيطان تأشيرة الدخول إلى حدود قلبه وهذا ما عّبر عنه القرآن الكريم بقولهِ) :إ ّ
ن().(2ن الغاِوي َ
ك ِم َ
ن اّتـَبَع َ
ل َم ِ
ن ِإ ّ
سْلطا ٌ
عَلْيـِهْم ُ
َ
ن((3).
شِرُكو َ
ن ُهْم ِبِه مُ ْ
ن َيَتَوّلْوَنُه َواّلِذي َ
على اّلِذي َ
سْلطاُنُه َ
وقال في موضع آخر )ِإّنما ُ
ثالثًا :لقد تضمنت عبارات المام علي)عليه السلم( ردًا لطيفًا رائعًا على السؤال المذكور حيث قال» :فأعطاه ال
ن ال قد أجزل عقابه بمنحه هذه المهلة من جانب;
النظرة استحقاقًا لسخطه واستتمامًا للبلية وانجازًا للعدة«; أي أ ّ
لولئك الذين يسيرون باتجاه الذنوب والمعاصي; فاذا فاد ن اليات القرآنية تفيد التحذير اللهي الشديد والمتكرر ُ لّ
ل أمهلهم ووكلهم إلى أنفسهم ليكون عذابهم أشدَ) :ول التحذير وأّثر بهم ورجعوا عن غّيهم كان ذلك خيرًا وإ ّ
عذا ٌ
ب سِهْم ِإّنما ُنْمِلي َلُهْم ِلـَيْزداُدوا ِإْثمًا َوَلُهْم َ
لْنُف ِ
خْيٌر َِ
ن َكَفُروا َأ ّنما ُنْمِلي َلُهْم َ
ن اّلِذي َ
سَب ّ
حََي ْ
] [ 125
ن وجود الشيطان يشكل اختبارًا وامتحانًا ضخمًا للناس، ن() ،(1ومن جانب آخر فا ّ ُمِهـي ٌ
ن وجود هذا العدو المقتدر بالنسبة وبعبارة ُاخرى فاّنه يمثل جسر الفراد المؤمنين نحو السمو والتكامل ـ ل ّ
للمؤمنين الذين يرومون انتهاج سبيل الحق ليس فقط ليستبطن أي ضرر فحسب ،بل سيكون وسيلة للتسامي
ن السمو والتكامل إّنما يتّم عادة في ظل التضاد وإذا ما رأى النسان نفسه أمام عدو والتكامل; حيث إننا نعلم بأ ّ
شرس فانه سيوظف كافة طاقاته وقدراته ونبوغاته ،وبعبارة ُاخرى فان وجود هذا العدو القوي سيؤدي بالنسان
إلى ممارسة مزيد من الحركة والجهد; المر الذي يقوده بالتالي إلى السمو والرقي والتكامل .بينما ليزيد هذا
المر مرضى القلوب والثمين المنحرفين سوى انحرافًا وبؤسًا وشقاًء ،والحق أّنهم استحقوا ذلك بما كسبت
ن ال يختبر ُاولئك سـَيِة ُقُلوُبُهْم(فالهدف هو أ ّ ض َوالقا ِ
ن ِفي ُقُلوِبـِهْم َمَر ٌ ن ِفْتَنًة ِلّلِذي َ
شـْيطا ُ
ل ما ُيْلِقي ال ّ
جَع َ
أيديهمِ) :لـَي ْ
ت َلُه
خِب َ
ك َفُيـْؤِمُنوا ِبِه َفُت ْ
ن َرّب َق ِم ْ
حـ ّ
ن ُأوُتوا الِعْلَم َأّنُه ال َ
القاسية قلوبهم وفيها مرض بالقاءات الشيطانَ) ،وِلـَيْعَلَم اّلِذي َ
ُقُلوُبـُهْم().(2
سؤال:
كيف كانت شبهة ابليس بالتعزز بخلقة النار فيرى نفسه أفضل من آدم وبالتالي يعترض على حكمة ال؟
ن حب الذات والغرور تعّد من أضخم الحجب التي تحول دون رؤية الحقائق والواقعيات; ونقول في الجواب أ ّ
وهذا ما حصل لبليس ،فلم يدفعه ذلك إلى التمرد والعصيان فحسب ،بل اعترض على الحكمة اللهية ليجعل ذلك
حجة احتج بها في شرف عنصره على عنصر آدم ،فكيف أسجد لهذا الموجود الذي خلقته من طين بينما خلقتني
ن التراب ينبوع مختلف الخيرات من النار ،فقد ذهبت به الظنون إلى أفضلية النار على التراب ،بينما ل يخفى أ ّ
والبركات ومصدر جميع المواد الحيوية والمهمة والوسيلة الرئيسية لمواصلة الحياة ،كما يضم في طياته أنواع
ن النار والحرارة تعتبر من سائر الوسائل
المعادن والفلزات والجواهر وليس النار كذلك .صحيح أ ّ
] [ 126
الحياتية الضرورية ،لكن مّما لشك فيه أن الدور الساسي إّنما تقوم به المواد الموجودة في التراب والنار ليست
سوى وسيلة من أجل تكامل هذه المواد.
ن النار أفضل من التراب ،والحال إننا ن وحدة من أكاذيب ابليس هو زعمه بأ ّ لقد صّرحت بعض الروايات) (1أ ّ
ن أصل الشجار هو التراب ،كما أ ّ
ن ن النار عادة ما تتولد من احتكاك الشجار أو من المواد الدهنية وا ّ
نعلم بأ ّ
ن امتياز آدم لم يقتصر على أفضلية الدهون النباتية والحيوانية إّنما تستخرج بواسطة من الرض .أضف إلى ذلك أ ّ
ت ِفـيِه
خ ُ
عنصر التراب; بل تكرمته إّنما استندت إلى عامل أصلي تمثل بتلك الروح العظيمة التي نفخت فيه )َوَنَف ْ
ن المادة الولى في خلقة الشيطان كانت أفضل من مثيلتها لدى آدم ،فان هذا المر لأّحي( .ولنفترض جد ً ن ُرو ِِم ْ
ل على تمرده وعدم امتثاله لمر ال بالسجود لدم بفضل تلك الروح اللهية التي حلت فيه هو الخر ل يقوى دلي ً
ن الكبر والغرور والعجب وحب الذاتلأّلمور إ ّ
واكسبته ذلك المقام العظيم ،ولعل الشيطان كان يعلم بكل هذه ا ُ
أعمى بصره وبصيرته عن الذعان للحق.
—–
لقد حاول بعض الفلسفة ـ كما نقل ذلك ابن ميثم البحراني)رحمه ال(في شرحه لنهج البلغة ـ أن يبرروا ويأولوا
كافة تفاصيل قصة خلق آدم وسجود الملئكة وتمرد ابليس وعدم امتثاله لمر ال ليحملوها على مفاهيم ل تنسجم
ن المراد بالملئكة الذين ُامروا بالسجود لدم هو القوى البدنية المأمورة وظواهر تلك القصة .ومن ذلك أّنهم قالوا أ ّ
بالخضوع أمام النفس العاقلة )الروح البشرية( ،والمراد بابليس القوة الوهمية وجنود ابليس هى القوى النابعة من
الوهم وهوى النفس والتي تتعارض والقوى العقلية ،اّما المقصود بالجّنة التي طرد منها آدم فاّنما يراد بها
المعارف الحقة وأنوار الكبرياء اللهية! وما إلى ذلك من التأويلت الجوفاء التي ل أساس لها من الصحة(2).
] [ 127
هذا نموذج من التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه في الحاديث والروايات على أّنه سبب السقوط والبتعاد عن
ال سبحانه.
ن التفسير بالرأي وتحميل الحكام الذهنية المسبقة على اليات والروايات يعّد على الدوام من أهم فكلنا نعلم بأ ّ
الوسائل التي تمسك بها المحرفون والمتصنعون المتلبسون بالدين الذين ل يألون جهدًا في توجيه اليات القرآنية
ن الباب لو فتح أمام تفسير اليات والرواياتوالروايات السلمية بما ينسجم ورغباتهم ونزعاتهم ،كما نعلم بأ ّ
بالرأي فسوف لن يبقى هناك من أصول مسلمة ومباني وأحكام قانونية ثابتة وسيصبح كل شيء تابع للفكار
الخاطئة والهواء الضالة لهذا وذاك ،بل سيهجر الكتاب والسنة ويصبحان طينة بيد المنحرفين والمغرضين
يصنعون منها ما شاءت أهوائهم ورغباتهم .ومن هنا طالعنا إصرار كبار محققي السلم والباحثين بضرورة
استخدام القواعد المسلمة لباب اللفاظ في فهم معاني الكتاب والسنة .فاللفاظ لبّد أن تحمل على معانيها الحقيقية،
ل أن تكون هناك قرائن جلية تدعو لحملها على المعاني المجازية; ويراد بها القرائن المقبولة لدى العرف الّلهم إ ّ
والعقلء الذين يستندون إليها في إقامة أدلتهم وبراهينهم).(1
وأخيرًا فان ذكر قصة ابليس وعاقبته كما وردت في عبارات المام علي)عليه السلم(لتنطوي على الدروس
والعبر التي ينبغي أن تحتذيها البشرية في مسيرتها فينظروا بعين العتبار إلى نتائج الكبر والغرور وحب الذات
والحمية والعاقبة المشؤومة لبليس وطرده من ماقم القرب لتلحقه اللعنات والشقاء البدي ،فتكون على حذر من
سلوك هذا الطريق الخطير .ونختتم الحديث بما أورده العالم الجليل المرحوم مغنية في شرحه لنهج البلغة فقد
خلص إلى عّدة دروس من قصة ابليس منها:
1ـ من حسد صاحب فضيلة أو عادى إنسانًا لرياسته وعمله فاّنه على دين ابليس ومن رهطه يوم القيامة.
2ـ ليس هنالك من سبيل لمعرفة الدين والخلق الحميدة سوى سبيل واحد وهو
.1راجع كتاب التفسير بالرأي لية ال مكارم الشيرازي بشأن هذا الموضوع.
] [ 128
ن أغلب الناس يصرون على الباطل ل على أساس عدم معرفتهم به ،بل بسبب العناد واللجاجة ضد 3ـأّ
مخالفيهم ،وهذا الصرار الخاطئ إّنما ينتهي بهم إلى أسوأ العواقب .فلو تاب ابليس ورجع عن خطأه لقبل ال
ل أّنه كان يعتقد بشرط وهو أل يأمره ال بالسجود لدم ثانية بينما اشترط
توبته وقد كان له مثل هذا الستعداد ،إ ّ
ال قبول توبته بذلك الشرط(1).
] [ 129
سةً
عُدّوُه َنفا َغَتّرُه َ عداَوَتُه فا ْ
س َو َ حذَّرُه ِإْبِلي َ
حّلَتُه َو َ
ن ِفيها َم َ شُه َوآَم َعْي َغَد ِفيها َ سْبحاَنُه آَدَم دارًا َأْر َن ُسَك َ
»ُثّم َأ ْ
غِتراِر َنَدمًا ُثّم
ل َوِباِل ْ جًجَذِل َو َ
سَتْبَدَل ِباْل َ
شّكِه َواْلَعِزيَمَة ِبَوْهِنِه َوا ْ
ن ِب َ
ع اْلَيِقي َ
عَلْيِه ِبداِر اْلُمقاِم َوُمراَفَقِة اَْلْبراِر َفبا َ
َ
سِل
طُه ِإَلى داِر اْلَبِلّيِة َوَتنا ُجّنِتِه َوَأْهَب َ
عَدُه اْلَمَرّد ِإَلى َ
حَمِتِه َوَو َ
سْبحاَنُه َلُه ِفي َتْوَبِتِه َوَلّقاه َكِلَمَة َر ْ
ل ُطا ّ سَ َب َ
الّذّرّيِة«.
—–
الشرح والتفسير
عاقبة آدم
كان الحديث في مامضى عن اختبار الملئكة وتمرد ابليس ،بينما تطرق الحديث هنا عن امتحان آدم والنتيجة التي
ن آدم قد خلق للعيش في الرض .فقد تمخض عنها هذا المتحان .ونقول هنا ما تفيده بعض اليات القرآنية هو أ ّ
خِلـيَفًة( ،كما أشارت الية 36من نفس ض َ لر ِ ل ِفـي ا َ
عٌ
قال سبحانه وتعالى في الية 30من سورة البقرة )ِإّني جا ِ
عُدّو َوَلُكْم
ضُكْم ِلَبْعض َ
طوا َبْع ُ
السورة إلى المراد بالرض موضع غير الجّنة )الجّنة بأي معنى كانت(َ) :وُقلنا اْهِب ُ
حـين(.
ع ِإلى ِ
سَتَقّر َوَمتا ٌ
ض ُم ْ
لْر ِ
ِفـي ا َ
على كل حال كان لبّد لدم من دورة تدريبية وامتحان إلهي يمده بتجربة ليتعرف على المفاهيم من قبيل المر
والنهي والتكليف والطاعة والمعصية والندم والتوبة ويتعرف عن قرب على عدوه ،ومن هنا أسكنه ال الجّنة
ن وساوس الشيطان ومكره وحيله قد لأّوأباح له التمتع بنعيمها ولم يحظر عليه سوى القتراب من تلك الشجرة ،إ ّ
أثرت في آدم ودفعته إلى ترك الولى ،فتناول من تلك الشجرة ويهبط من الجّنة; المر الذي أدى بالتالي إلى يقظته
وعودته
] [ 130
إلى ال في التوبة والنابة ،فاحفه ال بلطفه وعنايته فالهمه كيفية التوبة ،فتاب ال عليه ووعده بالعودة إلى الجّنة،
فكان من الثار الوضعية لفعل آدم أن يحرم من تلك النعم والدعة في الجّنة لن يهبط إلى الرض فيمارس الحياة
المليئة بالتعب والمشقة .ما مر معنا لحد الن نظرة كلية عامة إلى خطبة المام بشأن قصة آدم)عليه السلم(،
ونخوض الن في شرح تفاصيل الخطبة.
—–
قال)عليه السلم(» :ثم اسكن سبحانه آدم دارًا أرغد) (1فيها عيشه« ثم قال)عليه السلم(» :وآمن فيها محلته« في
ن البارئ سبحانه قد أفاض عليه ركنين رئيسيين من الركان المهّمة للحياة وهما :المن إشارة واضحة إلى أ ّ
ن المام)عليه السلم( قد استوحى ذلك المعنى من الية 35من سورة البقرةَ) :وُقْلنا يا ووفور النعمة .والواقع هو أ ّ
شْئُتما( .كما حذر ال سبحانه آدم)عليه السلم( من عدوه ابليس ث ِ
حْي ُ
غدًا َ
جّنَة َوُكل ِمْنها َر َ
ك ال َ
جَ ت َوَزْو ُن أْن َ
سُك ْآَدُم ا ْ
»وحذره ابليس عداوته« وبذلك فقد أرشده إلى سبيل السعادة والفلح ،كما أتم عليه الحجة بابانته لطرق البؤس
ك َفل
جَ
ك َوِلَزْو ِ
عُدّو َل َ
ن هـذا َ
والشقاء .وهذا ما صرحت به الية 17من سورة طه إذ قالتَ) :فُقْلنا يا آَدُم ِإ ّ
شقى(واتمامًا للحجة أكثر فقد دله على الشجرة التي ل ينبغي إليه القتراب منها ،بينما أباح جّنِة َفَت ْ
ن ال َ
جـّنُكما ِم َخِر َ
ُي ْ
ن آدم)عليه السلم(وبسبب عدم امتلكه التجربة الكافية بشأن مكائد له التمتع بثمار كافة أشجار الجّنة ،غير أ ّ
الشيطان وحبائله قد آل أمره إلى الوقوع في مصيدة الشيطان ،فأشار المام)عليه السلم(إلىهذه المسألة بقوله:
»فاغتره عدوه نفاسة) (2عليه بدار المقام ومرافقة البرار« .ويبدو أن هذه هى الوظيفة التي نهض بها الشيطان،
حيث يسعى للقتراب من الصالحين والخيرين ليوسوس لهم ويسلبهم النعم واللهية ويقودهم نحو البؤس والشقاء.
ثم أشار)عليه السلم( إلى المر الرئيسي في خطأ آدم)عليه السلم(» :فباع اليقين بشكه« كما ضعف تجاه
الوساوس
» .1أرغد« من مادة »الرغد« بمعنى الحياة الرغيدة الوادعة ،كما ترد بمعنى النعمة الوافرة بالنسبة للنسان والحيوان أيضًا
)المفردات ومقاييس اللغة(.
» .2نفاسة« من مادة »النفس« على وزن »حبس« بمعنى الروح ،ولما كان التنفس مصدر الحياة فقد استخدمت هذه المفردة لذلك
ن النسان يجهد نفسه في ذلك السعي ،ومن هنا المعنى ،ثم وردت »المنافسة« بمعنى السعي من أجل الوصول إلى مكانة مهّمة ،ل ّ
استعملت »النفاسة« بمعنى الحسد والبخل )المفردات ومقاييس اللغة ولسان العرب(.
] [ 131
—–
ثم تطرق)عليه السلم( إلى النتائج المريرة التي أفرزتها تلك المعاملة فقال» :واستبدل بالجذل«)(4وجل)(5
وبالغترار ندما«.
وهنا نسأل ماهى الحوادث التي دفعت بآدم لللتفات إلى خطأه وبالتالي حسرته وندمه
ن الجذل على وزن الجسم » .4الجذل« على وزن الجدل بمعنى الفرح والسرور كما وردت في صحاح اللغة ،وقال صاحب المقاييس أ ّ
بمعنى جذر الشجرة الذي يقومها ويمنحها الستقامة ،ومن هنا كانت قامة الفرحان مستوية بينما كانت قامة المغموم منحنية ،كما
تطلق أحيانًا على الرض اللزجة ،إّل أّنها استعملت بمعنى الفرح.
» .5وجل« على وزن أجل بمعنى الخوف والخشية.
] [ 132
ن المام)عليه السلم( أجمل عبارته بهذا الشأن ،بينما تصدى القرآن الكريم في أكثر من على ما فرط منه؟ يبدو أ ّ
آية لشرح التفاصيل :فحين استسلم آدم لوساوس الشيطان وأكل من تلك الشجرة المحظورة ،لم تمر عليه مّدة حتى
نزع عنه لباس الجّنة وبدت سوأته التي قدر لها أن تخفى ،فشعر بالخجل من الملئكة وطفق يخصف عليها من
ورق الجّنة ،ثم أعقب ذلك ما تلقاه من أمر بالهبوط من الجّنة على أّنه يمثل جزاء كل من يولي ظهره لوامر ال
ن آدم)عليه السلم(وخلفًا لسلوك الشيطان وتجربته الخاطئة ،لم يصر على لأّويستجيب لوساوس الشيطان .إ ّ
خطأه ويركب رأسه ويواصل معصيته ،فأقبل فورًا على ال سائله بلطفه ورحمته أن يتوب عليه ،فعلمه كيفية
التوبة ثم وعده العودة ثانية إلى الجّنة »ثم بسط ال سبحانه له في توبته ولقاه كلمة رحمته ووعده المرد إلى
جّنته«).(1
على كل حال فان قبول التوبة لم يبق على آدم في الجّنة ،حيث لم يعّد هنالك من مبرر لمواصلة حياته فيها ،فقد
تعلم ما كان ينبغي عليه تعلمه وجرب ما كان لبّد له من تجربته .ولذلك أهبطه ال إلى دار الدنيا ـ المتحان ـ; دار
ن الدنيا دار
التزاوج والذرية »وأهبطه إلى دار البلية وتناسل الذرية« .فالذي يستشف بوضوح من هذه العبارة أ ّ
البلء والمتحان ،وما مر في الجّنة كان تحضيرًا لخوض هذا المتحان ،كما ل مكان في الجّنة للتزاوج والتناسل،
بل ذلك من مختصات الدنيا.
تأّملت
1ـ ما كانت جّنة آدم؟
ن الجّنة التي سكنها آدم)عليه السلم( كانت جّنة الخلد التي وعد ال عباده
ذهب جماعة إلى أ ّ
.1هناك كلم في الضمير »جنته« هل يعود إلى ال أم إلى آدم .فلو كان عائدًا إلى آدم ،فان ظاهر العبارة يفيد إرجاعه إلى الجّنة التي
كان فيها)عليه السلم( ،وإن عاد الضمير إلى ال فل لزوم أن تكون تلك الجّنة التي كان فيها آدم ،ويمكن أن تكون جّنة آدم جّنة
دنيوية أو الجّنة التي سيعود إليها وهى الجّنة الخروية كجّنة الخلد ،لكن الظاهر أن الضمير يرجع إلى لفظ الجللة بقرينة الضمير في
ن ظاهر كلمة )مرّد( يفيد العودة تلك الجّنة ،ويمكن أن تكون مطلق الجّنة ،بعبارة ُاخرى ليس هنالك من منافاة توبته ورحمته ،رغم أ ّ
بين نوع الجّنة مع المفردة »مرّد«.
] [ 133
الصالحين ،بينما ذهبت جماعة ُاخرى إلى أّنها كانت جّنة دنيوية غنية بحدائقها وبساتينها ،وقد استدلت هذه
الجماعة ببعض الدلة فيما اعتقدت:
ن الجّنة الموعودة بعد القيامة هى جّنة خالدة ل يعتريها الخروج .وقد يقال فاذا كانت كذلك فأنى
بادئ ذي بدء أ ّ
لبليس الذي يفيض كفرًا وعنادًا وطغيانًا أن يدخل هذه الروضة المقدسة؟
ن ذلك ل
فاذا قيل بأن إبليس لم يوسوس لدم في الجّنة قط ،بل وسوس له وقد وقف خارجًا على بابها ،قلنا با ّ
عُدّو( التي تشمل آدم
ضُكْم ِلَبْعض َ
طوا َبْع ُ
ينسجم وما صّرحت به الية 36من سورة البقرة التي قالتَ) :وُقلنا اْهِب ُ
وحواء وابليس معًا.
كما أورد المرحوم الكليني في الكافي عن حسين بن ميسر مثل هذا الحديث عن المام الصادق)عليه السلم() (2ـ
اّما الشكال الوحيد الذي يرد على هذا الكلم فانما يكمن في العبارة السابقة من هذه الخطبة »نفاسة عليه بدار
المقام« ،لكن من الممكن أن يكون معنى هذه العبارة هو أّنه لو لم يرتكب هذه المخالفة لبقى مّدة طويلة في هذه
ل أّنه تركه للولى أسرع في إخراجه من الجّنة وهبوطه إلى الرض ،أو أن يقال أّنه الجّنة ثم يهبط إلى الرض ،إ ّ
أراد سبحانه أن يحرم آدم من جّنة الخلد ،فلو كان آدم مطيعًا لوامر ال للتمس طريقه إلى تلك الجّنة.
لمور ـ أ ّ
ن يرى أولئك الذين يجوزون ارتكاب الذنب على النبياء ـ ولسيما في مثل هذه ا ُ
] [ 134
آدم)عليه السلم( قد ارتكب المعصية ،بينما ل يرى أتباع مدرسة أهل البيت)عليهم السلم( الذين يؤمنون بعصمة
النبياء عن كل خطأ وزلل ـ سواء في باب العقائد وتبليغ الحكام الشرعية أو في باب العمال والفعال اليومية
قبل النبّوة وبعدها ـ).(1
ن آدم)عليه السلم( قد قارف أية معصية وأن نهي ال لدم)عليه السلم( عن تلك الشجرة المحظورة لم يكن نهيًا أّ
ل مكروهًا ،ولما كان مقام النبياء ولسيما آدم)عليه السلم( الذي سجدت له الملئكة لمن تحريميًا ،بل كان فع ً
العلو والرفعة بحيث ل يتوقع ارتكابهم للمكروه ،فان فعلوا ذلك آخذهم الحق سبحانه فحسنات البرار سيئات
المقربين ـ وبعبارة ُاخرى الذنوب على قسمين :ذنوب مطلقة وذنوب نسبية .الذنوب المطلقة هى الذنوب لدى
الجميع من قبيل الكذب والسرقة وشرب الخمر ،أّما الذنوب النسبية فهى ليست بذنوب لدى عامة الناس ،بل قد
تكون مستحبة لدى البعض من الناس ،بينما نفس هذه العمال المستحبة والمباحة قد يطلق عليها اسم المعصية
ل أّنها ليست من قبيل الذنوب المطلقة بل فيما إذا صدرت من المقربين الذين يستبعد أن يقوموا بمثل هذه الفعال ،إ ّ
الذنوب النسبية والمراد بها هنا »ترك الولى« .كما ذهبت جماعة إلى النهي عن تلك الشجرة المحظورة على
آدم)عليه السلم(كان نهيًا إرشاديًا ل نهيًا مولويًا ،على غرار نصائح الطبيب وإرشاداته حين ينصح مريضه بعدم
ن مخالفة نصائح الطبيب ل تعتبر تناول الطعام الفلني خشية من استفحال المرض وازدياد مدته .فمن البديهي أ ّ
اهانة له ول تعّد معصية لوامره ،بل ستجر تلك المخالفة على صاحبها مزيدًا من اللم والمعاناة.
عُدّو
ن هـذا َ
وهذا هو المعنى الذي أشارت إليه بعض اليات القرآنية بشأن قصة آدم)عليه السلم(َ) :فُقْلنا يا آَدُم ِإ ّ
شقى().(2جّنِة َفَت ْ
ن ال َ
جـّنُكما ِم َ
خِر َ
ك َفل ُي ْ
جَ
ك َوِلَزْو ِ
َل َ
ن آدم)عليه السلم( لم يتناول من تلك الشجرة المحظورة ،بل أكل من شجرة مشابهة
وقد ورد في بعض الروايات أ ّ
ن ال لم ينهكما عن هذه الشجرة
لها ،ولذلك قال لهما الشيطان في ضمن وساوسه إ ّ
.1قال ابن أبي الحديد :تعتقد المامية ليجوز على ال أن يبعث نبيًا وقد ارتكب المعاصي قبل نبوته سواء الكبيرة أو الصغيرة ،عمدًا
أو سهوًا; وتختص هذه العقيدة بالمايمة ،أّما أصحابنا فل يرون امتناع الكبائر على النبي قبل نبّوته .وأضاف ابن أبي الحديد وهذا ما
يعتقده المامية بالنسبة لئمتهم الثني عشر حيث يرون لهم عصمة مطلقة كعصمة النبياء )شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد / 7
.(10
جَرِة() .(1أضف إلى ذلك فهناك نقطة مهّمة لبّد من اللتفات لها والتي تكمن شَن هـِذِه ال ّ
عْل ما َنهيُكما َرّبُكما َ
)َوقا َ
ن()(2حـي َ
ن الّناص ِ
سَمُهما ِإّني َلُكما َلِم َ
في قسم الشيطان لثبات حسن نيته في دعوتهما للكل من تلك الشجرة )َوقا َ
ولم يكن آدم وحواء آنذاك سمعا من يقسم كاذبًا; المر الذي جعلهما يصغيان إلى وساوس الشيطان.
ن ال سبحانه قد حذرهما سابقًا مكائده وأّنه عدو لهما ،ومنل لكتشفا كذب الشيطان; ل ّ
بالطبع لو تأمل قلي ً
الواضح أّنه ليمكن الوثوق بكلم العدو وإن عززه باليمان المغلظة.
اختلفت أقوال المفسرين بشأن الشجرة المحظورة على آدم)عليه السلم( هل كانت شجرة خارجية اعتيادية أم
مسألة معنوية أخلقية ،وإن كانت مادية أو معنوية فما هى هذه الشجرة؟
فقد أشار القرآن الكريم في ستة مواضع إلى تلك الشجرة المحظورة دون الخوض في ماهية تلك الشجرة ،غير أنّ
الخبار والروايات السلمية وكلمات المفسرين قد تضمنت أبحاثًا مسهبة بهذا الخصوص ـ حيث فسرها البعض
ن الشجرة تطلق على النبات أيضًا ،وهذا ما صّرحت به الية 146بشجرة الحنطة )وهنا لبّد من اللتفات إلى أ ّ
طـين( .في حين فسرها البعض الخر بشجرة العنب والنخيلن َيْق ِ
جَرًة ِمـ ْ
شـ َ
عَلْيـِه َ
من سورة يونسَ) :وَأْنَبـْتنا َ
والكافور أيضًا(3).
.3انظر تفسير نور الثقلين ;60 / 1الدر المنثور 52 / 1و 53وذيل الية 35من سورة البقرة.
] [ 136
قبيل أشجار الدنيا .فشجرة الجّنة تحمل أنواع الثمار .ولما كرم ال آدم)عليه السلم(واسجد له الملئكة واسكنه
الجّنة حدث نفسه :هل خلق ال خلقًا أكرم مّني؟ فأراه ال مقام محمد وآل محمد)صلى ال عليه وآله( فتمنى أن يبلغ
ن الشجرة المحظورة كانت شجرة العلم والمعرفة )معرفة الحسن ن التوراة صّرحت بأ ّ مقامهم«) .(1جدير بالذكر أ ّ
من القبيح( وشجرة الحياة الخالدة وقد نهى ال آدم وحواء من التناول من تلك الشجرة فيحصل على المعرفة
ويصبحا خالدين كال(2).
وتكفي هذه العبارة لوحدها في إثبات تحريف التوراة الفعلية عن التوراة الحقيقية ،حيث تثبت أّنها من وضع
الفراد والجهال الذين يرون العلم والمعرفة مثلبة على آدم وأّنه استحق الطرد من الجّنة بسبب هذا الذنب .وكأن
ن الشجرةن بعض الروايات التي ذهبت إلى أ ّالجّنة ل تسع ذوي العلم والمعرفة ،وهنا لبّد من الشارة إلى أ ّ
المحظورة كانت شجرة العلم والمعرفة إّنما هى روايات موضوعة أخذت عن التوراة المحرفة.
4ـ الكلمات التي تاب ال بها على آدم)عليه السلم(.
لقد تحدث المام)عليه السلم( في الخطبة عن تلقي آدم)عليه السلم( لكلمة الرحمة من ال سبحانه دون الدخول
في تفاصيل هذه الكلمة .القرآن من جانبه أيضًا أشار من بعيد إلى هذه المسألة دون الحديث عن ماهيتها وكنهها.
ن المراد ن الذي يفهم من هذه التعابير أن تلك الكلمات كانت تتضمن مسائل مهمة ،فقد صّرح البعض بأ ّ لأّ إّ
ن َلْم
سنا َو ِإ ْ
ظَلْمنا َأْنُف َ
بالكلمات هو العتراف بالخطأ ،وهذا ما أشارت إليه الية 23من سورة العرافَ) :رّبنا َ
ن( .كما استدل البعض الخر على هذا العتراف بالتقصير وطلب المغفرة سِري َ
ن الخا ِ
ن ِم َ
حْمنا َلَنُكوَن ّ
َتْغِفْر َلنا َوَتْر َ
ل أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءًا وظلمت نفسي فاغفر لي أّنك خير الغافرين«) (3وقد ورد بالعبارة» :ل إله إ ّ
مثل هذا المعنى في بعض الروايات عن المام الباقر أو الصادق)عليهما السلم((4).
] [ 137
والحسين)عليهم السلم( .فقد جاء في كتاب الخصال أن ابن عباس قال :سألت النبي)صلى ال عليه وآله( عن
الكلمات التي تلقاها آدم من رّبه فقال)صلى ال عليه وآله(» :سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إ ّ
ل
تبت عليه فتاب ال عليه إّنه هو التواب الرحيم«).(1
ن هذا المعنى مع فارق طفيف قد ورد في »الدر المنثور« التفسير الروائي المشهور لدى العامة(2). جدير ذكره أ ّ
ن آدم)عليه السلم( حين ارتكبكما جاء في رواية ُاخرى عن تفسير المام الحسن العسكري)عليه السلم( أ ّ
الخطيئة وطلب المغفرة من ال ،سأله أن يقبل توبته بعد أن اعترف بذنبه .فقال له الحق سبحانه ألم أعلمك أن
تدعوني بمحمد وآل محمد لكل شدة نزلت بك؟ فقال آدم)عليه السلم( :الّلهم بلى .فقال ال :ادعني بهؤلء محمد
وعلى وفاطمة والحسن والحسين)عليهم السلم(لقبل عذرك وأعطيك ما تريد(3).
ن الكلمات التي تلقاها آدم)عليه السلم(هى» :الّلهموفي حديث آخر عن عائشة عن النبي)صلى ال عليه وآله( أ ّ
إّنك تعلم سري وعلنيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي الّلهم ّاني
ل ما كتبت لي وارضني بما قسمت لي«)(4 أسألك ايمانًا يباشر قلبي ويقينًا صادقًا حتى أعلم أّنه ل يصيبني إ ّ
ونرى هنا أن ليس هناك من تضارب في هذه الروايات ،فلعل آدم)عليه السلم( قد تضرع بهذا الدعاء إلى جانب
توسله بالنبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين)عليهم السلم(.
وأخيرًا فقد فسرها البعض بالحالة المعنوية لدم)عليه السلم( ومدى انشداده ل سبحانه; المر الذي رافق توسله
بالنبي)صلى ال عليه وآله(وأهل بيته)عليهم السلم(.
وبالطبع فليس هنالك من منافاة بين عدم علم آدم)عليه السلم( بهذه الكلمات قبل التعليم اللهي مع علمه بالسماء،
لخرى التين العلم بالسماء يعني العلم واللمام بأسرار الخليقة وهذا غير المقولة ا ُ
ن الحتمال القوي هو أ ّ
لّ
تتناول سبل تزكية النفس وتهذيبها وتدارك التقصير والسير إلى ال تبارك وتعالى.
] [ 138
] [ 139
خْلِقِه
عَلى َتْبِليِغ الّرساَلِة َأماَنَتُهْم َلّما َبّدَل َأْكَثُر َ ي ِميثاَقُهْم َو َ حِ عَلى اْلَو ْخَذ َ ن َوَلِدِه َأْنِبياَء َأ َسْبحاَنُه ِم ْ طَفى ُ صَ»َو ا ْ
عباَدِتهِ َفَبَعثَ ن ِ عْ طَعْتُهْم َن َمْعِرَفِتِه َواْقَت َ عْن َ طي ُشيا ِ جتاَلْتُهُم ال ّخُذوا اَْلْنداَد َمَعُه َوا ْ حّقُه َواّت َ جِهُلوا َ ل ِإَلْيِهْم َف َ
عْهَد ا َّ
عَلْيِهْم ِبالّتْبِليِغ
جوا َ حَت ّ
ي ِنْعَمِتِه َوَي ْسّ طَرِتِه َوُيَذّكُروُهْم َمْن ِ ق ِف ْسَتْأُدوُهْم ِميَثا َ سَلُه َوواَتَر ِإَلْيِهْم َأْنِبياَءُه ِلَي ْ ِفيِهْم ُر ُ
ضوع َوَمعاِي َ
ش حَتُهْم َمْو ُ سْقف َفْوَقُهْم َمْرُفوع َوِمهاد َت ْ ن َ ت اْلَمْقِدَرِةِ :م ْ ن اْلُعُقوِل َوُيُروُهْم آيا ِ َوُيِثيُروا َلُهْم َدفاِئ َ
سل َأْو ِكتاب ي ُمْر َ ن َنِب ّ
خْلَقُه ِم ْ
سْبحاَنُه َ ل ُ عَلْيِهْم َوَلْم ُيخِْل ا ّ
حداث َتتاَبُع َ حِييِهْم َوآجال ُتْفِنيِهْم َوَأْوصاب ُتْهِرُمُهْم َوَأ ْ ُت ْ
سّميَ َلُه ن ساِبق ُ ن َلُهْم ِم ْ عَدِدِهْم َول َكْثَرُة اْلُمَكّذِبي َ صُر ِبِهْم ِقّلُة َ سٌل ل ُتَق ّ جة قاِئَمةُ .ر ُ حّجة لِزَمة َأْو َم َ حّ ُمْنَزل َأْو ُ
ت اَْلْبناُء«. خَلَف ِت اْلباُء َو َ سَلَف ِت الدُّهوُر َو َ ض ِن َوَم َ ت اْلُقُرو ُ سَل ِ
عَلى َذِلك َن َ ن َقْبَلُهَ . عّرَفُه َم ْ ن َبْعَدُه َأْو غاِبر َ َم ْ
—–
الشرح والتفسير
لقد تحدث المام)عليه السلم( في هذا المقطع من خطبته عن قضية بعث النبياء .وهى المرحلة التي أعقبت
مرحلة خلق آدم وممارسة للحياة على الرض ،وقد تطرق المام)عليه السلم( بادئ ذي بدء إلى علة بعث النبياء
وارسال الرسل ،ثم أشار إلى ماهية مضمون دعوات النبياء ورسالتهم ،إلى جانب استعراض الخطوط الرئيسية
لتعاليمهم وإرشاداتهم ،وأخيرًا خصائص النبياء وصمودهم أمام الصعاب والمشاكل والطار العام الذي كان
يحكم علقاتهم فيما بينهم وكيفية
] [ 140
ن النبياء قد عاهدوا ال منذ بداية الوحي برعايته وايصاله إلى الناس على أّنه أمانة وعهد
وعلى هذا الساس فا ّ
في أعناقهم.
نعم لقد تقبل النبياء)عليهم السلم( هذه المسؤولية العظيمة فجّدوا واجتهدوا في حملها وايصالها إلى الناس كأمانة
لمور من قبيل :كيف اختار ال هذه الصفوة من النبياء ،وما حقيقة ووديعة الهية .أّما الحديث بشأن بعض ا ُ
الوحي ،وكيف يوحى للبعض بينما ل يوحى للبعض الخر منهم ،فنوكله إلى موضعه).(2
ثم أشار)عليه السلم( إلى السبب الرئيسي لبعثة النبياء فقال» :لما بدل أكثر خلقه عهد ال إليهم فجهلوا حّقه
واتخذوا النداد) (4معه واجتالتهم) (5الشياطين عن معرفته واقتطعتهم عن عبادته«.
ن يهووا في أودية الشرك الرهيبة ومن ثم تتلقفهم فالواقع لقد كانت إنعدام معرفة هؤلء بال سبحانه سببًا ل ّ
الشياطين فتصدهم عن طاعة ال وعبادته .أّما بشأن المراد بهذه العّدة وماهية العهد اللهي ،فقد أشار أغلب
ن المراد به ميثاق عالم الذر ،ويمكن اعتبار ذلك إشارة إلى الفطرة) (6التي المفسرين وشّراح نهج البلغة إلى أ ّ
تطرق لها المام)عليه السلم( في عباراته اللحقة.
» .1الميثاق« كما ورد في صحاح اللغة من مادة »الوثوق« بمعنى العتماد على أمانة الشخص .ومن هنا أطلق على الميثاق اسم
العهد ،لّنه يدعو إلى الطمئنان والوثوق )طبعًا كان الصل موثاق ثم بدلت الواو بالياء(.
» .4أنداد« جمع »ند« على )وزن( ضد بمعنى المثل ،وأراد هنا المعبودين من دونه سبحانه وتعالى ،بينما قال صاحب المقاييس أّنها
تعني النفصال والهروب والمخالفة .ولهذا قال اللغويون بأن الند ل يطلق على كل مثل ،بل تطلق على المثل الذي يتخذ مسارًا يخالف
آخر في أعماله وأفعاله كالفرد الذي يماثل آخر إّل أّنه يحاربه.
» .5اجتال« من مادة »جولن« بمعنى العصر ،إّل أّنها اقترنت بالحرف )عن( في عبارة المام)عليه السلم( فعنت النصراف عن
الشيء ،ومعناها هنا صرفتهم عن قصدهم.
.6لقد ذكر هذا الحتمال في البحاث المتعلقة بعالم الذر ،حيث يمكن أن يكون تفسيرها بالمسائل الفطرية والستعدادات اللهية التي
أودعها ال الذات النسانية .وللوقوف أكثر على هذا الموضوع ،راجع تفسير المثل .4 / 7
] [ 141
وبعبارة ُاخرى فان ال قد خلق النسان على هذه الفطرة الطاهرة التي تجعله يتعرف على حقيقة التوحيد في باطنه
ويتطلع إلى الخير وينبذ الشر .ولو بقيت هذه الفطرة السليمة على حالها لحفت العنايات اللهية النسانية جمعاء
ولهدتها إلى السمو والكمال ولسهل لهم النبياء السبل إلى ذلك الكمال ولقل حجم المسؤولية التي نهض بعبئها
هؤلء العظام ،غير أن النحراف عن الفطرة سواء على مستوى المعارف التوحيدية لينتهي بالنزوع نحو الشرك
والوثنية وعلى المستوى العملي ليقود الستسلم إلى الهواء والشياطين ،قد أدى إلى مواترة بعث ال للنبياء
وتحملهم لتلك المسؤوليات الخطيرة بغية إعادة البشرية إلى فطرتها الصلية ،وهذا ما تطرق له المام)عليه
السلم( في العبارات اللحقة من الخطبة والتي أشار فيها إلى عظم مسؤوليات النبياء وما اتصفوا به من خصال
عملية ومكارم أخلقية .ثم أشار المام)عليه السلم( إلى فلسفة بعثة النبياء فقال» :فبعث فيهم رسله وواتر)(1
إليهم أنبيائه ليستادوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول«.
ن المام)عليه السلم( أشار إلى أربعة أهداف رئيسية تقف وراء بعث النبياء .أولها :طلب أداء ميثاق فالواقع هو أ ّ
الفطرة فقد ذكرنا أن ال سبحانه قد أودع المعارف التوحيدية فطرة النسان التي تقوده بصورة طبيعية ـ مالم تدنس
وتلوث وتتعرف على النحراف ودون نشأة صاحبها وولدته على الشرك بفعل انحداره من والدين مشركين ـ إلى
عبادة الواحد الحد وسوف يتطلع إلى الصالحات ويعشق الحق والعدل في ظل هذه الفطرة السليمة الموحدة ،فقد
جاء النبياء ليعيدوا الفراد المنحرفين إلى هذه الفطرة التوحيدية المودعة لديهم.
الهدف الثاني :لتذكير الناس بنعم ال التي اعترتها الغفلة والنسيان ،فالنسان ينطوي على نعم مادية ومعنوية جمة
ولو استغلها كما ينبغي فاّنه سيشيد صروح سعادته وفلحه في حين سيفقد مثل هذه السعاة إذا ما نساها وتجاهل
استعمالها واستغللها .ومثله كمثل الفلح
] [ 142
الذي ل يستفيد من المياه لسقي أشجار حديقته ول يقطف ثمار أشجاره حين الحصاد .فاذا ما جاء أحدهم وذكره
بهذه النعم المنسية فانه يكون قد أسدى له أعظم خدمة ،وهذا ما ينهض به النبياء.
الهدف الثالث :اتمام الحجة على الناس من خلل الدلة العقلية ـ إلى جانب المسائل الفطرية ـ وإرشادهم إلى
الكمال في ظل التعاليم السماوية والوامر والحكام الشرعية.
الهدف الرابع» :يثيروا لهم دفائن العقول« ليكشفوا للناس كنوز العلوم والمعارف الكامنة في عقولهم ،فقد أودع ال
هذه العقول كنوزًا عظيمة قيمة لو ظهرت واستغلت لشهدت العلوم والمعارف نهضة عظيمة وجبارة ،غير أن هذه
الكنوز اختفت واستترت اثر هذه الغفلة والتعاليم الفاسدة والذنوب والمعاصي والتلوث الخلقي ،ومن هنا فان
إحدى وظائف النبياء تكمن في ازالة هذه الحجب واثارة تلك الكنوز المفعمة بالعلوم والمعارف.
—–
ثم أشار المام)عليه السلم( إلى الهدف الخامس في استعراض اليات اللهية للناس في عالم الخلقة فقال)عليه
السلم(» :ويروهم آيات المقدرة« ثم يشير)عليه السلم( إلى هذه اليات فيقول» :من سقف فوقهم مرفوع ومهاد
تحتهم موضوع ومعايش تحييهم وآجال تفنيهم وأوصاب) (1تهرمهم)(2وأحداث تتابع عليهم«.
لمور تمثل سلسلة من أسرار الخلقة في السماء والرض وعوامل الحياة وأسباب الفناء ن هذه ا ُ
والواقع هى أ ّ
واللم والعناء والتي تذكر كل واحدة منها النسان بال سبحانه وتعالى إضافة إلى الحوادث والوقائع التي تدعو
النسان إلى اليقظة والعتبار ،وعليه فان النبياء يحملون إلى الناس تعاليم سامية ومفاهيم نبيلة من شأن كل منها
رفع المستوى العلمي والمعرفي لدى النسان أو ايقاظه من غفلته وجعله يتحلى بالفطنة والذكاء .ثم قال)عليه
السلم(» :ولم يخل ال سبحانه خلقه من نبي مرسل أو كتاب منزل أو حجة لزمة أو محجة قائمة« .فالعبارة
» .1أوصاب« من مادة »وصب« بمعنى مرض مزمن ،والواصب يطلق على الشيء الموجود دائمًا حسب المفردات ،وجاءت هنا
بمعنى المتاعب والمشاكل والمعاناة.
» .2تهرمهم« من مادة »هرم« على وزن حرم بمعنى الكهولة والعجز.
] [ 143
تشير إلى أربعة مواضيع ل يعدم الوجود بعضها طرفة عين أبدا; المر الذي يتّم الحجة على الناس.
1ـ وجود النبياء ـ سواء من كان له كتاب سماوي أم لم يكن ـ الذي يتضمن هداية البشرية وانتشالها من غفلتها
واتمام الحجة عليها.
2ـ الكتب السماوية المتداولة بين المم رغم وفاة النبياء الذين أتوا بها.
3ـ الوصياء وأئمة العصمة والذين عبر عنهم المام)عليه السلم( بقوله »حجة لزمة« .وهناك من احتمل أنّ
المراد بالحجة اللزمة دليل العقل ،لكن يبدو هذا الحتمال مستبعدًا لّنه ل يكفي في هداية الناس ،ول مانع من
الجمع بينهما في هذه العبارة.
4ـ سنة النبياء والوصياء والئمة والتي عبر عنها بالمحجة القائمة ،حيث عنوا المحجة بالطريق الواضح
والمستقيم ـ سواء الظاهري أو الباطني ـ الذي يوصل النسان إلى هدفه المنشود) (1وبهذا فان الحق سبحانه قد أتم
لمم والمجتمعات البشرية في جميع العصار والمصار وأمدهم بأسباب الهداية ،ثم تطرق)عليه حجته على كافة ا ُ
السلم(لخصائص هؤلء النبياء فقال» :رسل ل تقصر بهم قلة عددهم ول كثرة المكذبين لهم« .أجل كانوا مث ً
ل
في الرجولة والقدام والشجاعة بحيث كان أحدهم يصمد بوجه اللف من خصوم الدعوة فيلقى بالنار فتشمله
عناية ال ورحمته ليخرج منها سالمًا مرفوع الرأس ،ويحطم الخر الصنام ثم يحتج بالدلة القاطعة التي تفند
عقائدهم الباطلة وتثبت صحة دعواه .كما كان البعض يحاصر من قبل جموع الكفر والشرك بيد عزلء وقد شهر
خصومهم سيوفهم فلم يضعفوا ويهنوا ووقفوا بكل صمود وشموخ .والجدير بالذكر في خصائص النبياء التأكيد
هنا على صمودهم وشهامتهم .ثم يواصل)عليه السلم(حديثه عن النبياء وكيفية ارتباط بعضهم بالبعض الخر
ووحدة رسالتهم وهدفهم فقال» :من سابق سمى له من بعده أو غابر) (2عرفه من قبله« .فقد حدد)عليه السلم(في
هذه العبارة اسلوب من أساليب التعرف على النبياء في أن يقوم نبي ببشارة قومه
» .2غابر« من مادة »غبار« و»غبور« بمعنى الشيء المتبقي ،ومن هنا يطلق على الحليب المتبقي في الثدي اسم الغبرة ،كما يطلق
الغبار على التراب المتبقي في الهواء ،ويقال الغابر للشخاص والزمنة الماضية )راجع المقاييس والمفردات ولسان العرب(.
] [ 144
بالنبي الذي يأتي من بعده وبهذا يعرف النبي من خلل البشارة به(1).
تأّملت
1ـ النبياء بمثابة المزارعين
ن القدرة اللهية المطلقة قد أودعت الذات النسانية قابلية كافة أسباب ما تفيده عبارة أمير المؤمنين)عليه السلم( أ ّ
الخير والصلح والفلح ،وقد نشرت كافة البذور والرياحين العطرة ساحة قلب النسانية الخصبة .والنبياء من
جانبهم يقومون بري هذه البذور لتنبت أشجارًا محملة بالثمار والفاكهة فيستثيروا هذه الكنوز الكامنة في النفس
البشرية »ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ...ويثيروا لهم دفائن العقول« واستنادًا لهذا فان النبياء
ل يمنحون النسان شيئًا خارجًا عن وجوده ،بل ينمون ما لديه ويظهروا له مكنونه ،حتى ذهب البعض إلى أ ّ
ن
التعاليم والمفاهيم التي تلقى على النسان إّنما تمثل تذكيرًا له ،فالعلوم والمعارف قد اودعت النفس البشرية وما
ن هذه المعارف وظيفة المعلمين ـ سواء النبياء أو امتداداتهم ـ سوى إثارة هذه المعارف من خلل تعاليمهم ،وكأ ّ
مصادر مياه جوفية تشق طريقها إلى سطح الرض بعد الحفر والتنقيب ولعل التعبير بالتذكير الذي ورد على
ن(شاهدًا على صحة المعنى الذي ن الّذْكرى َتْنَفُع الُمـْؤِمِنـي َ
ن(و)َوَذّكـْر َفِإ ّ
لسان اليات القرآنية )َلَعّلُهْم َيَتَذّكُرو َ
أوردناه .والواقع أن هذا البحث متشعب وشامل ل يسعنا استيعابه في هذه العجالة.
.1لقد ورد الفعل »سمى« بصيغة المجهول في بعض نسخ نهج البلغة وما ذكرناه سابقًا يتفق وهذه النسخة ،أّما إذا ذكر بصيغة
ن الحتمال الول أنسب. المعلوم تصبح العبارة بهذا الشكل »من سابق سمى له من بعده« إّل ا ّ
» .2نسلت« القرون من مادة »نسل« بمعنى تكاثر الولد ،والعبارة كناية رائعة عن توالي القرون وكأن كل قرن قد ولد من القرن
السابق.
] [ 145
الناس المعارف اللهية الحقة وبيان آيات القدرة وعظمة خالق الوجود ،فانهم يلفتون انتباه الناس إلى الحوادث ذات
الدروس والعبر من قبيل حلول الجل وانتهاء العمر وآجال النعم المادية واستعراض المحن والخطوب والوقائع
الشديدة .فالعبارات الواردة في الخطبة إشارة ُاخرى لفلسفة الحداث الخطيرة التي تنطوي عليها الحياة البشرية،
بحيث لول هذه الحداث لغطت البشرية في سبات عميق وحجاب من الغفلة يتعذر معه صحوتها وافاقتها من
سيادتها(1).
الدرس الخر الذي تعرضت له الخطبة هو دور الدين في حياة النسان ولول النبياء لتاهت البشرية في غياهب
الشرك والوثنية وعبادة الصنام ولستحوذت عليها الشياطين وحالت دون عبوديتها ومعرفتها بال ،وذلك ل ّ
ن
العقل بمفرده ل يسعه الخذ بيد النسان إلى السعادة بعد تجاوز موانع الطريق ومعوقاته.
ن شعاعه باهت خافت مالم يستند إلى ضياء الوحي الذي يخترق المكان ول يقف لأّ ن العقل نور خالد إ ّصحيح أ ّ
عند حدود فيهديه في اجتياز ظلمات الطريق .ومن هنا تتضح جسامة الخطأ الذي أصاب البراهمة الذين تنكروا
لبعثة النبياء وارسال الرسل .ولو كان العقل يدرك كافة أسرار النسان الباطنية والظاهرية ويحيط بالعلقة التي
تحكم الماضي والحاضر والمستقبل ول يخطئ في تشخيصه للحداث لمكن القول بالكتفاء بإدراكه وفهمه لكافة
ن محدودية هذا الفهم والدراكوضآلة المعاليم مقارنة بالمجاهيل
وقائع الحياة في هذا العالم والعالم الخر ،غير أ ّ
)وهى المعاليم التي تتسم بالسعة والشمولية( ل تجعل من الصواب الستناد إليها بمفردها.
ن العقل هو حجة ال; المر الذي أكده المام)عليه السلم( في هذه الخطبة ،بل تواترت الروايات
طبعًا ل ننكر أ ّ
التي صّرحت بأّنه »الرسول الباطني« حيث ورد في الحديث المروي عن المام
.1للوقوف على تفاصيل هذا الموضوع ،انظر كتاب نفحات القرآن 440 / 4فصاعدًا.
] [ 146
ن ل على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة ،فأّما الحجة الظاهرة فالرسل الكاظم)عليه السلم( أّنه قال» :إ ّ
والنبياء والئمة)عليهم السلم( وأّما الباطنة فالعقول«) .(1مع ذلك فرسالة هذا الرسول الباطن محدودة ،بينما
ليست كذلك رسالة الرسول الظاهر الذي يستند إلى الوحي والعلم اللهي المطلق .وبناًء على ما تقدم فقد اتضح
الرد على البراهمة السوفسطائيين الذين يقولون :ما يأتي به النبياء ل يخرج عن حالتين :اّما أن يدرك العقول ما
يقوله أو ل يدرك ،فان أدركه العقل فل حاجة للنبياء ،وإن لم يدركه فو ليس بمعقول ول يمكن قبوله لن النسان
ل يقبل قبط ما ليعقل .والشكال الذي يرد على هذا الستدلل هو أن هؤلء لم يفرقوا بين اللمعقول والمجهول،
ن العقل يدرك جميع الشياء ،والحال لدينا تصنيف ثلثي بشأن المواضيع المطروحة. وكأّنهم تصوروا أ ّ
ن نقوللأّ فالمواضيع التي تعرض علينا إّما أن تكن موافقة لحكم العقل أو مخالفة له أو مجهولة .ول يسعنا هنا إ ّ
بكل تأكيد أن أغلب الموضوعات من قبيل القسم الثالث; أي هى من قبيل المجاهيل التي كرست رسالة النبياء
وظيفتها في هذا المجال .أضف إلى ذلك فغالبنا ما يعترينا هاجس الخطأ والزلل في إدراكاتنا العقلية; ومن هنا
برزت حاجتنا الملحة للنبياء ،وبعبارة ُاخرى إلى تأييد العقل بالنقل الذي يسعه منحنا السكينة والطمئنان في
إدراكاتنا العقلية ويزيل الوساوس والهواجس ويأخذ بأيدينا إلى السبيل القويم.
4ـ ل تخلو الرض من حجة
لقد أكد المام علي)عليه السلم( على حقيقة ُاخرى وهى عدم خلو الرض من الحجة اللهية الظاهرية أو الباطنية
»ولم يخل ال سبحانه خلقه من نبي مرسل أو كتاب منزل أو حجة لزمة أو محجة قائمة« والطريف في كلم
المام)عليه السلم( أّنه قرن الكتب السماوية بالنبياء والحجج اللهية والسيرة المعتبرة .نعم وراء كل كتاب
سماوي نبي من أنبياء ال يكشف أسراره ويوضح معالمه ويبّين أحكامه إلى جانب إجراءه وتنفيذ مفاهيمه ،كما
يواصل نهجه بواسطة سنته
] [ 147
واستخلفه للوصي والمام من بعده ليحفظ رسالته ويواصل نهجه .وهذه من أهم عقائدنا في هذا المجال ،حيث
ل اثنان لكان أحدهما الحجة«) .(1وهو
ورد عن إمامنا الصادق)عليه السلم( أّنه قال» :لو لم يبق في الرض إ ّ
المر الذي أكده أمير المؤمنين)عليه السلم( في قصار كلماته» :الّلهم بلى ل تخلو الرض من قائم ل بحجة إّما
ظاهرًا مشهورًا وإّما خائفًا مغمورًا لئل تبطل حجج ال وبيناته«).(2
ن النبياء الذين يبعثهم ال من أجل هداية الخلق ليسوا من قبيل الفراد العاديين ،بل يتصفون بجميع الخصال إّ
والمميزات اللزمة لقيامهم بوظيفتهم الرسالية الخطيرة ومنها البسالة والشجاعة الفائقة في ابلغ الرسالة
والصمود بوجه خصوم الدعوة من القوام الجاهلة والمعاندة والذود عن هذه الرسالة إلى حد الستماتة والشهادة
في سبيل تحقيق أهداف الرسالة .وهذا ما أشار إليه المام)عليه السلم(في تصدي النبياء لخصومهم والمكذبين
والمستهزئين من أعدائهم; المر الذي يشاهد بوضوح في تاريخ النبياء ولسيما خاتمهم المصطفى)صلى ال
عليه وآله(» :رسل ل تقصر بهم قّلة عددهم ول كثرة المكذبين لهم« .كما أكد القرآن الكريم على تحلي النبياء
ل().(3
لا ّحدًا ِإ ّ
ن َأ َ
شْو َ
خَ
شْوَنُه َول َي ْ
خَل َوَي ْ
تا ّ
ن ِرسال ِ
ن ُيَبّلُغو َ
بصفتهم مبلغي الرسالت بهذه الصفة) :اّلِذي َ
والذي يفهم من عبارة المام)عليه السلم( ـ كما صّرح بذلك صاحب منهاج البراعة ـ أن التقية لتجوز على
النبياء ،ومن هنا يتضح بطلن ما نسبه الفخر الرازي للشيعة المامية من أّنها ل تجّوز على النبياء حتى إظهار
ن التقية حرام على الئمة بل وحتى الفراد العاديين في الحالت التي الكفر تقية (4).بل المر أبعد من ذلك ل ّ
يتعرض فيها الدين للخطر ،بعبارة ُاخرى قد تكون التقية واجبًا وقد تكون حرامًا .فاذا كان تركها يؤدي إلى سفك
الدماء دون حلها فهى واجبة،
] [ 148
كأن تقع جماعة من المسلمين في يد العداء بحيث يراق دمهم إذا أظهروا إسلمهم ،فهنا يجب عليهم اخفاء دينهم
كي ل يمكنوا العدو من قتلهم ،في حين قد يؤدي اخفاء الدين والفصاح عن العقيدة أحيانًا إلى ضعف المسلمين
وذلتهم ،ففي هذه الحالة يحرم على الفراد كتم دينهم وعليهم أن يكشفوا عنها بكل شجاعة مهما كلف المر )وما
واقعة كربلء عنك ببعيد التي جسد فيها المام الحسين وصحبه الكرام حرمة التقية حفظًا للدين(.
—–
.1راجع كتاب القواعد الفقهية ،383 / 1قاعّدة التقية للوقوف بصورة أشمل على مفهوم التقية وتقسيمها إلى الحكام الخمسة
)الواجب والحرام والمستحب والمكروه والمباح( واليات والروايات الواردة بهذا الشأن.
] [ 149
—–
الشرح والتفسير
1ـ قضية بعثة نبي السلم محمد)صلى ال عليه وآله( وبعض خصائصه وصفاته وفضائله وعلئم نبوته.
لّمة أبان انبثاق الدعوة السلمية من حيث النحرافات الدينية والعقائدية وانقاذها
2ـ الوضع الذي كانت تعيشه ا ُ
من تلك الظلمات بنور رسالة النبي)صلى ال عليه وآله(.
فقد قال)عليه السلم(» :إلى أن بعث ال سبحانه محمدًا)صلى ال عليه وآله( لنجاز) (1عدته واتمام نبوته).«(2
ثم أشار إلى شمة من فضائله والميثاق الذي أخذ من النبيين من قبله بالبشارة به »مأخوذًا على النبيين ميثاقه
مشهورة سماته) ،(3كريمًا ميلده« ولعل العبارة الخيرة إشارة إلى كرامة آبائه وأجداده ،أو بركات ولدته التي
عمت أرجاء العالم ،فقد صّرحت بعض السير التأريخية بتهاوي أوثان الكعبة وانطفاء نار المجوس وجفاف بحيرة
ساوة التي كانت تحظى بعبادة بعض الناس وتهدم قصور بعض الجبابرة تزامنًا مع الولدة الميمونة للنبي
الكرم)صلى ال عليه وآله(وكل هذه الحداث دللة واضحة على بداية عصر جديد بانطلقة شرارة التوحيد
والوقوف بوجه كافة مظاهر الشرك واللحاد .ثم قال)عليه السلم(» :وأهل الرض يومئذ ملل متفرقة وأهواء
منتشرة وطرائف متشتتة بين مشبه ل بخلقه أو ملحد في اسمه أو مشير إلى غيره«.
»ملحد« من مادة »لحد« على وزن مهد بمعنى الحفرة الواقعة على جانب ومن هنا اطلق على مثل هذه الحفرة
اسم اللحد ،كما أطلق اللحاد على كل عمل يخرج عن حالة العتدال ويجنح نحو الفراط والتفريط ،ومن هنا
نعتت الوثنية والشرك باللحاد .وعليه فالمراد بقوله)عليه السلم(» :ملحد في اسمه« هو ما أشرنا إليه سابقًا من
نعت الصنام بأسماء ال ،على سبيل المثال كانوا يسمون أحد الصنام باللت والخر بالعزى والثالث بمناة ،وهى
السماء التي اشتقت على التوالي من أسماء ال والعزيز والمنان ،أو أن يكون المراد منها اضفاء صفات ال على
المخلوقين ،ول مانع من الجمع بين التفسيرين .ثم قال)عليه السلم(» :فهداهم به من الضللة وانقذهم بمكانه من
الجهالة ،ثم اختار سبحانه لمحمد)صلى ال عليه وآله( لقائه ،ورضى له ما عنده ،وأكرمه عن دار الدنيا ورغب به
عن مقام البلوى«).(4
» .1انجاز« من مادة »نجز« على وزن رجز بمعنى النهاء وتحقيق الشيء.
.2الضمير في )نبوته( يعود إلى النبي ،أّما الضمير في )عدته( ففيه احتمالن :أن يكون عائدًا على ال أو عائدًا على النبي ،إّل أ ّ
ن
الول أنسب ،وذلك لن بعثة النبي كانت وعدًا إلهيًا وعد بها نبي ال إبراهيم الخليل)عليه السلم( وسائر النبياء ،كما يحتمل أن يكون
الضميران عائدين ل سبحانه.
.4إذا تعدت رغب بحرف في عنت الرغبة في الشيء والقبال عليه ،بينما تعنى العزوف عن الشيء والنصراف عنه ،حيث يكون
معنى العبارة أن ال لم يرد لنبيه أن يعيش صعاب الدنيا أكثر من هذا الحد ،فقبضه من هذا العالم الدني ليضمه إلى جواره في العالم
العلوي.
] [ 151
أجل فقد قبضه إليه قبض اختيار وكرامة »فقبضه إليه كريمًا)صلى ال عليه وآله(« وقد ورث أمته ما ورثت
النبياء من قبله ُاممها »وخلف فيكم ما خلفت النبياء في ُاممها« ـ فالنبياء لم يتركوا ُاممهم من بعدهم سدى ،بل
ل«) (1بغير طريق واضح ول علم قائم« .من أضاءوا له معالم الطريق ونصبوا عليهم الحجج »إذ لم يتركوهم هم ً
البداهة أن يكون مراد المام)عليه السلم( من هذه العبارة ما ورد في حديث الثقلين الذي تواترت الروايات بشأنه
حيث قال رسول ال)صلى ال عليه وآله(» :إّني مخلف فيكم الثقلين :كتاب ال وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم
بهما لن تضلوا بعدي أبدًا وقد نبأني اللطيف الخبير إّنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض«(2).
لقد تضمنت عبارته)عليه السلم( إشارات مقتضبة عميقة المعنى بشأن أديان العرب وغير العرب في العصر
الجاهلي وقبل البعثة النبوية .بحيث صّرح المؤرخون والمحققون بأنّ العرب وعلى غرار سائر القوام كانت
تعيش عّدة أديان ومذاهب ل يحصى عددها إلى جانب النحرافات والخرافات الجمة .وقد قال ابن أبي الحديد ـ
الشارح المعروف لنهج البلغة ـ بشأن أديان
ل« من مادة »همل« على وزن حمل بمعنى ترك الشيء إلى جانب اهماله وعدم الهتمام به.
» .1هم ً
.2راجع كتاب »نفحات القرآن« المجلد التاسع للوقوف على أسناد حديث الثقلين وتواتره عند علماء الفريقين.
] [ 152
لّمة التي بعث النبي محمد)صلى ال عليه وآله( فيها فهم العرب ،وكانوا أصنافًا شتى، العرب في الجاهلية :فأّما ا ُ
فمنهم معطلة ومنهم غير معطلة ،فأّما المعطلة منهم ،فبعضهم أنكر الخالق والبعث والعادة ،وقالوا ما قال القرآن
ل الّدهُْر() (1فجعلوا الجامع لهم الطبع ،والمهلك حيا َوما ُيْهِلُكنا ِإ ّ
ت َوَن ْ
حياُتنا الّدْنيا َنُمو ُ
ل َي ِإ ّ
العزيز عنهم) :ما ِه َ
حِ
ي ن ُي ْ
ل َم ْ
لهم الدهر .وبعضهم اعترف بالخالق سبحانه وأنكر البعث .وهم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله) :قا َ
ى َرِمـيٌم().(2
الِعظاَم َوِه َ
ومنهم من ل يطلق عليها لفظ الشريك ،ويجعلها وسائل وذرائع إلى الخالق سبحانه ،وهم الذين قالوا) :ما َنْعُبُدُهْم
ل ُزْلفى() .(3وكان في العرب مشبهة ومجسمة ،منهم أمية بن الصلت ،وهو القائل: ل ِلـُيَقّرُبونا ِإلى ا ّ
ِإ ّ
ن البارئ تعالى
من فوق عرش جالس قد حط رجليه إلى كرسيه منصوب وذهب بعض متكلمي المجسمة إلى أ ّ
مركب من أعضاء على حروف المعجم .وقال بعضهم :إّنه ينزل على حمار في صورة غلم أمرد ،في رجليه
نعلن من ذهب ،وعلى وجهه فراش من ذهب يتطاير .وقال بعضهم :إّنه في صورة غلم أمرد صبيح الوجه،
عليه كساء أسود ،ملتحف به(4).
وأّما الذين ليسوا بمعطلة من العرب; فالقليل منهم ،وهم المتألهون أصحاب الورع والتحرج عن القبائح كعبد ال،
وعبد المطلب وابنه أبي طالب ،وزيد بن عمرو بن نفيل ،وقس بن ساعّدة البادي ،وعامر بن الظرب العدواني
وجماعة غير هؤلء (5).أّما البعض الخر من شّراح نهج البلغة فقد صنفوا علماء العرب إلى عّدة طوائف منهم
العارفين بالنساب ،ومفسري الحلم ومتخصصين في علم النواء )نوع من التنجيم المشوب بالخرافات( والكهنة
الذين يوحون إلى الناس بأّنهم يخبرون عن مغيبات المستقبل .أّما من غير العرب كان البراهمة الذين عاشوا في
الهند ينكرون كافة الديان ول يؤمنون سوى بالحكام العقلية .وطائفة ُاخرى من عبدة الكواكب والشمس والقمر
التي تمثل أنواعًا من الوثنية).(6
وإلى جانب هذه الطائفة هناك اليهود والنصارى والمجوس .وقد شهدت كل طائفة منهم انحرافًا عقائديًا ،فالمجوس
قالت باله الخير والشر .وقد انطوت المجوسية ـ التي قد تكون في بدايتها منسوبة لبعض النبياء ـ على خرافات
جمة حتى ذهب بعض المحققين إلى أّنهم يعتقدون باله الخير واله الشر الذين تقاتل حتى تدخلت الملئكة فأصلحت
ذات بينهما بشرط تفويض العالم السفلي لله الشر مّدة سبعة آلف سنة )ويفوض العالم العلوي لله الخير((1).
بينما ابتليت النصرانية بالتثليث )القانيم الثلث( كما حرفت اليهود كتاب التوراة وشحنته بالنحرافات والخرافات
التي ل يسعنا الخوض فيها في هذه البحاث .فقد أوجز المام جميع هذه الطوائف في ثلث :الولى :المشبهة التي
جعلت ل شريكًا ،كالمجوس والنصارى ،أو أولئك الذين يجعلون ل صفات المخلوقين كاليهود .الثانية :أولئك
الذين عدلوا باسمه إلى غيره كأغلب الوثنيين الذين أسموا أوثانهم بأسماء ال سبحانه فجعلوهم شفعائهم عند ال.
ن الطبيعة هى خالقة الوجود ،أو عبدة الصنام والكواكب الثالثة :أولئك الذين عبدوا غير ال كالدهرية التي تعتقد بأ ّ
والشمس والقمر التي ترى الصالة للكواكب والصنام; أي تراها هى ال.
أجل لقد بعث رسول ال)صلى ال عليه وآله( في ظل هذه الوضاع ليحمل مشعل الهداية ويضيء الظلمات بنور
لمم بأسمى مفاهيم التوحيد وأعظم المعارف والعلوم القرآن .لقد أتى رسول ال)صلى ال عليه وآله( تلك ا ُ
وأرصن الصفات اللهية ،حيث جاءهم بالحنيفية السمحاء الخالية من الساطير والخرافات والنحرافات التي
سادت سائر الديان ،ولم تهدف قوانينه وتعاليمه سوى إلى حماية المحرومين والمستضعفين وبسط العدل والقسط
لّمة من الضلل المبين وتعليمها الحكمة وتهذيب نفوس أبناءهاُ) :هَو وحتى أوجز القرآن الكريم وظيفته في انقاذ ا ُ
ل َلـِفي
ن َقْب ُ
ن كاُنوا ِم ْ
حْكَمَة َو ِإ ْ
ب َوال ِ
عَلْيِهْم آياِتِه َوُيَزّكيِهْم َوُيَعّلُمُهُم الِكتا َ
ل ِمْنُهْم َيْتُلوا َ
سو ً
ن َر ُ
لّمـّيي َ
ث ِفي ا ُ
اّلِذي َبَع َ
ضلل ُمِبين().(2 َ
نعم لقد ظهرت معالم الدين الحق بظهور هذا النبي الكريم وانهارت الساطير والخرافات
] [ 154
ل عن الصدقاء والفضل ما شهدت به العداء. لتشهد البشرية عصرها الجديد; الحقيقة التي أذعن لها العداء فض ً
فقد تناول الكاتب النجليزي المعروف »برناردشو« هذا المر ليصف دين محمد بأّنه الدين الوحيد الذي يصلح
لقيادة البشرية ويتكيف مع حياتها على مدى التأريخ بحيث يسعه استقطاب جميع الشعوب والقوام ،كما ذهب إلى
القول بأن محمد منقذ البشرية جمعاء ولو قدر لزعيم على غراره أن ينهض بقيادة العالم اليوم لتغلب على كافة
المشاكل التي تعاني منها النسانية ولقادها إلى السعادة والسلم ،فمحمد أكمل إنسان عرفه الماضي والحاضر ول
يتصور أن يجود الزمان بمثله في المستقبل(1).
يستفاد من عبارات المام)عليه السلم( في هذه الخطبة أن تفكير النبياء والرسل ل يقتصر على عصرهم ،بل
لّمة ومصيرها بعد وفاتهم ،ومن هنا جهدوا في تبيين كل مامن شأنه هدايتهم في المستقبل ،فلم يفكرون بمستقبل ا ُ
يألوا جهدًا في إضاءة معالم الطريق وبيان سبل النجاة .ول شك أن نبي السلم لم يكن بدعا من الرسل في هذا
لّمة وايكالها إلى نفسها دون دليل على
لّمة بعد رحيلها عنها؟ أفكان يسعه وداع ا ُ
الشأن .أو يمكن تصور تركه ل ُ
الطريق؟ أو ليس حديث الثقلين المتواتر لدى الشيعة والسنة والذي قال فيه» :إّني مخلف فيكم الثقلين :كتاب ال
لّمة من بعده وصونها من اللبس والنحراف؟ وعترتي أهل بيتي« نموذج من نماذج إضاءة الطريق ل ُ
—–
.1في ظلل نهج البلغة .63 / 1
] [ 155
صهُ
عزاِئَمُه َوخا ّ صُه َو َ خ َخُه َوُر َ سو َ خُه َوَمْن ُسَ ضُه َوَفضاِئَلُه َونا ِحراَمُه َوَفراِئ َ حلَلُه َو َ ب َرّبُكْم ِفيُكْمُ :مَبّينًا َ»ِكتا َ
خوذ ن َمْأ ُضُهَ ،بْي َغواِم َ جَمَلُه َوُمَبّينًا َ
سرًا ُم ْ حَكَمُه َوُمَتشاِبَهُهُ ،مَف ّحُدوَدُه َوُم ْ سَلُه َوَم ْ
عَبَرُه َوَأْمثاَلُه َوُمْر ََوعاّمُه َو ِ
جب ِفي خُه َووا ِ سُ سّنِة َن ْ
ضُه َوَمْعُلوم ِفي ال ّ ب َفْر ُ ن ُمْثَبت ِفي اْلِكتا ِجْهِلِه َوَبْي َعَلى اْلِعَباِد ِفي َ سع َ عْلِمِه َوُمَو ّ ق ِ ِميَثا ُ
عَد
ن َكِبير َأْو َ ن َمحاِرِمِه ِم ْ ن َبْي َ
سَتْقَبِلِه َوُمباَي ٌ
جب ِبَوْقِتِه َوزاِئل ِفي ُم ْ ن وا ِ ب َتْرُكُه َوَبْي َ
خص ِفي اْلِكتا ِ خُذُه َوُمَر ّ سّنِة َأ ْ
ال ّ
سع ِفي َأْقصاُه«. ن َمْقُبول ِفي َأْدناُه ُمَو ّ غْفراَنُه َوَبْي َ صَد َلُه ُ
صِغير َأْر َ عَلْيِه ِنيراَنُه َأْو َ َ
—–
الشرح والتفسير
خصائص القرآن
لقد بحثت أهمية القرآن الكريم وعظمته كرارًا ومرارًا في خطب نهج البلغة بحيث تناولت كل خطبة جانبًا من
الجوانب القرآنية.
وقد أشار المام)عليه السلم( بشكل جامع إلى شمولية القرآن وخطوطه العريضة في هذه العبارات ،فقد هدف
ن ورثها كتابلّمة بعد أ ّ
المام)عليه السلم(لبيان حقيقة مهّمة وهى أن رسول ال)صلى ال عليه وآله(رحل عن ا ُ
لّمة المادية والمعنوية; الفردية والجتماعية في كافة الميادين والمجالت; فقد
ال الذي نظم جميع شؤون حياة ا ُ
قال)عليه السلم(» :كتاب رّبكم فيكم«) (1ثم أشار)عليه السلم(إلى أربعة عشر نقطة بشأن شمولية القرآن
وخصائصه:
.1كتاب منصوب بصفته عطف بيان للحرف مافي الجملة )خلف فيكم ما خلفت النبياء( أو أّنه مفعول لفعل تقديره )خلف( أو )أعنى(.
] [ 156
1ـ اتضاح الحلل والحرام والواجب والمستحب »مبينًا حلله وحرامه وفرائضه وفضائله« .والعبارة إشارة إلى
الحكام السلمية الخمس المعروفة ،فالفرائض إلى تشيرالواجبات ،والفضائل إلى المستحبات ،والحرام إلى
المحرمات وأخيرًا الحلل الذي يشمل المباحاة والمكروهات(1).
المراد بالناسخ والمنسوخ الحكام الجديدة التي تزيل الحكام القديمة والتي تقتصر على عصر الرسالة حين نزول
الوحي الذي كان يعني إمكانية تغيير الحكام .فبعض الحكام وإن كانت مطلقة في ظاهرها ،غير أّنها مقيدة باطنيًا
ومختصة بزمان معين ،فاذا انتهى ذلك الزمان نفد حكمها بحكم جديد آخر يطلق عليه اسم الناسخ من قبيل التصدق
صَدَقًة().(2جواُكْم َ ي َن ْ
ن َيَد ْ
ل َفَقّدُموا َبْي َ
سو َ
جْيُتُم الّر ُ
ن آَمُنوا ِإذا نا َ
قبل مناجاة النبي)صلى ال عليه وآله() :يا َأّيها اّلِذي َ
فقد كان هذا المر امتحانًا للمسلمين لم يعمل به سوى أمير المؤمنين)عليه السلم( حتى نسخ بقوله تعالى:
طـيُعوا
صلةَ َوآُتوا الّزكاَة َوَأ ِعَلْيُكْم َفَأِقـيُموا ال ّ
ل َبا ّ صَدقات َفِإذ َلْم َتْفَعُلوا َوتا َجواُكْم َ
ى َن ْن َيَد ْ
ن ُتَقّدُموا َبْي َ
شَفْقُتْم َأ ْ
)َأ َأ ْ
ن().(3خِبيٌر ِبما َتْعَمُلو َل َسوَلُه َوا ّ ل َوَر ُ ا ّ
3ـ »ورخصه وعزائمه« .فلعل هذه العبارة إشارة إلى ما تعارف اليوم في علم الفقه والصول بأن حكم الواجب
ن الصيد ليس صطاُدوا() .(4فمن المسلم به أ ّ حَلْلُتْم َفا ْ
أو الحرام إذا رفع قد يستبدل بحكم الباحة كقولهَ) :و ِإذا َ
لرضِ َفَلْي َ
س ت ِفي ا َ
ضَرْب ُ
واجبًا بعد الخروج من الحرام ،بل مباح ،وأحيانًا يستبدل بحكم ضده ،كقولهَ) :و ِإذا َ
ن صلة القصر في السفر واجبة ليست مباحة ،فيقال للولى صلِة() (5ومعلوم أ ّ
ن ال ّ
صُروا ِم َ
ن َتْق ُ
ح َأ ْ
جنا ٌ
عَلْيُكْم ُ
َ
.1وردت كلمة »مبينًا« بصيغة اسم الفاعل وهى حال لفاعل خلق )أي الرسول الكرم)صلى ال عليه وآله(( والضمير في حلله
وحرامه و ..يعود على القرآن بينما ذهب بعض شّراح النهج إلى أن مبينًا وسائر الوصاف التي وردت لحقًا من قبيل مفسرًا هى حال
ن القول الول أنسب.
لكتاب ال ،والضمائر في حلله وحرامه و ...تعود إلى كتاب ال أو رّبكم ،إّل ا ّ
] [ 157
رخصة وذلك لجواز طرفي العمل ويقال للثانية عزيمة حيث يجب على المكلف جزم عزمه بالعمل .وهنالك
إحتمال آخر في تفسير هاتين المفردتين ،كأن يكون المراد بالرخص الحكام الواجبة أو المحرمة التي استثنيت في
غْيَر باغ َول عاد َفل ِإْثَم عََلْيِه() .(1أّما العزائم فهى الحكام التي ل طّر َضُ نا ْ بعض الموارد من قبيل قولهَ) :فَم ِ
شْيئًا().(2 شِرُكوا ِبِه َ
ل َول ُت ْ
عُبُدوا ا ّ
سبيل إلى الستثناء اليها ،كقولهَ) :وا ْ
4ـ »وخاصه وعامه« ،فالخاص هو الحكم الذي ل يشمل كافة المسلمين كحكم الحج الذي يختص بمن له
ل()(3والعام هو الحكم الذي يشمل جميع المسلمين سِبـي ًع ِإَلْيِه َ
سَتطا َ نا ْ ت َمـ ِ
ج الَبـْي ِ
حـ ّ
على الّناس ِ ل َ
الستطاعة )َو ِّ
ن المراد بها حالة كاقامة الصلة )وأقيموا الصلة( .وقيل أيضًا بأ المراد بالخاص اليات التي لها ظاهر عام غير أ ّ
ن()
ن الّزكاةَ َوُهْم راِكُعو َ
صلَة َوُيْؤُتو َ
ن ال ّ
ن ُيِقـيُمو َ
ن آَمُنوا اّلِذي َ سوُلُه َواّلِذي َ
ل َوَر ُخاصة كآية الوليةِ) :إّنما َوِلـّيـُكُم ا ّ
.(4حيث نعلم بوجود مصداق واحد لهذه الية فقط وهو أمير المؤمنين علي)عليه السلم(.
طُعوا َأْيِدَيُهْما()
سارَقُة َفاْق َ
ق َوال ّ
سار ُ
أّما العام فيراد به اليات ذات العموم والتي تشمل الجميع كقوله عز وجلَ) :وال ّ
.(5
5ـ »وعبره وأمثاله« ،عبر من مادة عبرة وقد اشتقت من العبور ،ولذلك يصطلح بالعبرة على الحادثة التي
تعرض للنسان ويتخطاها ،والقرآن الكريم مليء بالدروس والعبر بشأن تواريخ النبياء والمم السالفة حيث
تتضمن كل حادثة من تلك الحوادث المعاني والدروس للقيمة التي تستفيدها البشرية في مسيرتها الحياتية.
ل َكِلَمًة
ل َمَث ً
با ّ
ضَر َ
أّما المثال فقد تكون إشارة إلى المثال التي وردت في القرآن الكريم بتلك الكثرة من قبيلَ ) :
طـّيَبة() ،(6كما يمكن أن تكون إشارة إلى بعض
جَرة َ
شَطـّيَبًة َك َ
َ
] [ 158
ن آَمُنوا اْمَرَأَة
ل ِلّلِذي َ
ل َمَث ً
با ّ ضَر َل يحتذى به كقوله عز من قائلَ) :و َ الفراد الذين أصبحت سيرتهم وحياتهم مث ً
ن().(1 ظالِمـي َن الَقْوِم ال ّجِني ِم َعَمِلِه َوَن ّ
عْونَ َو َ
ن ِفْر َ
جِني ِم ْ
جّنـة َوَن ّ
عْنَدك َ َبْيتًا ِفي ال َ
ن ِلي ِ
ب اْب ِ
ت َر ّ
ن ِإذ قاَل ْ
عْو َ
ِفْر َ
6ـ كما بّين القرآن أحكام المطلق والمقّيد »ومرسله ومحدوده« فالمطلق الحكام التي بّينت دون قيد أو شرط
ل الَبْيَع() (2وأّما المقيد فهو الحكم الذي وضعت له بعض القيود والحدود كقولهِ) :تجاَرًة
لا ّ
حّكقوله سبحانهَ) :وَأ َ
ن َتراض ِمْنُكْم().(3
عَْ
ن الجمع بين المطلق والمقّيد يتطلب منا تقييد المطلق بواسطة المقّيد ،ففي المثال المذكور ل تصح ومن الواضح أ ّ
ل بتراضي الطرفين .ويمكن أن يكون المراد بالمطلق الحكام الخالية من القيود والشروط ،في حين المعاملة إ ّ
حِريُر َرَقَبة()،(4
الحكام المقّيدة هى الحكام المحّددة بالقيود والشروط من قبيل كفارة القسم التي جاء فيها )َأْو َت ْ
حِريُر َرَقَبة ُمْؤِمَنة().(5
بينما جاء في كفارة القتل الخطأ )َفَت ْ
7ـ »ومحكمه ومتشابهه« .فالمراد بالمحكم اليات الواضحة الدللة التي ل تحتمل سوى وجه واحد كقوله
حٌد( بينما تحتمل اليات المتشابهة عّدة وجوه ،وإن أمكن بيانها من خلل سائر اليات ل َأ َ
ل ُهَو ا ّ
سبحانهُ) :ق ْ
ظَرٌة() (6حيث يزال ابهام هذه الية وغموضها من خلل اليات التي نزهت ال عن القرآنية كقولهِ) :إلى َرّبها نا ِ
لْبصاَر().(7
كا َ
لْبصاُر َوُهَو ُيْدِر ُ
المكان والزمان والجهة والجسم والرؤية وما إلى ذلك كقوله) :ل ُتْدِرُكُه ا َ
لخرى هى بيان لمجمل القرآن وغوامضه من خلل السّنة النبوية »مفسرًا مجمله ومبينًا 8ـ من الخصائص ا ُ
غوامضه« .فالمجمل اليات التيى تأمر باقامة الصلة ولم تشر إلى أركانها وعدد ركعاتها فيقوم النبي)صلى ال
عليه وآله( بشرحها ،أّما المراد بالغوامض الحروف القرآنية المقطعة
] [ 159
والتي بّينت بواسطة الحاديث النبوية .ولعل الفارق بين الغوامض والمتشابهات هو أن المتشابهات تنطوي على
معان ومفاهيم للوهلة الولى بينما يكتنف الولى البهام كالمثال السابق.
9ـ هناك بعض الحقائق القرآنية التي أخذ الميثاق على معرفتها ول يعذر أحد بجهلها في حين يعذر في بعضها
الخر» :بين مأخوذ ميثاق علمه وموسع على العباد في جهله« فالحقائق التي ل يعذر أحد بجهلها من قبيل آيات
التوحيد والصفات اللهية التي تجب معرفتها على جميع المؤمنين ،والثانية من قبيل الذات اللهية التي ليس لحد
من سبيل إلى معرفتها وكذلك مسألة المعاد والقيامة التي ينبغي اليمان بها ،في حين ليست هنالك من ضرورة
لللمام بالتفاصيل المتعلقة بالجّنة والنار.
10ـ وهناك بعض الحكام القرآنية المختصة بزمان معّين والتي نسختها السّنة النبوية »وبين مثبت في الكتاب
لتي فرضه ومعلوم في السّنة نسخه« من قبيل عقاب المرأة المحصنة بالحبس المؤبد إذا ارتكبت فاحشة الزنا )َوالـ ّ
ت َأْون الَمْو ُ
حّتى َيَتَوّفاه ّ
ت َ
ن ِفي الُبُيو ِ
سُكوُه ّ
شِهُدوا َفَأْم ِ
ن َ
ن َأْرَبَعًة ِمْنُكْم َفِإ ْ
عَلْيِه ّ
شِهُدوا َ
سَت ْ
ن ِنساِئُكْم َفا ْ
شَة ِم ْ
حَ ن الفا ِ
َيْأِتـي َ
ل() (1ثم نسخت السّنة النبوية هذا الحكم بالحاديث التي وردت في باب رجم المحصنة. سِبـي ً
ن َل َلُه ّ
لا ّجَع َ
َي ْ
11ـ اليات الناسخة للسّنة بشأن بعض الحكام التي صّرحت السّنة بالعمل بها بينما أجازت اليات القرآنية تركها
»وواجب في السّنة أخذه ومرخص في الكتاب تركه« من قبيل حكم الصوم في بداية التشريع حيث لم يكن يسع
الصائم الفطار سوى أوائل الليل ،فاذا نام وأفاق لم يجز له تناول شيء من المفطرات ،غير أن هذه السّنة النبوية
سَوِد ِم َ
ن لْطا َ
خْي ِ
ن ال َ
ض ِم َ
لْبَي ُ
طا َ
خْي ُ
حّتى َيَتَبّينَ َلُكُم ال َ
شَرُبوا َ
نسخت فيما بعد بالية القرآنية الشريفةَ ...) :وُكُلوا َوا ْ
جِر().(2
الَف ْ
12ـ الحكام الواجبة لبعض الوقات »وبين واجب بوقته وزائل في مستقبله«
] [ 160
فالعبارة تشير إلى الواجب المؤقت وغير المؤقت; الواجب المؤقت من قبيل صوم شهر رمضان وارتفاعه في
غير هذا الشهر ،خلفًا للتكاليف الدائمية كالمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحق والعدل الواجبة على
ن العبارة تشير إلى بعض الواجبات كالحج الذي يجب على المكلف لمرة واحدة في الدوام) .(1وذهب البعض إلى أ ّ
العمر ثم يزول ،واستدلوا على ذلك بالهجرة التي وجبت على المسلمين في بداية انبثاق الدعوة السلمية ـ حيث
كان المسلمون يعيشون حالة من المحدودية ـ ثم زال هذا الوجوب بعد فتح مكة ،وإن كانت الهجرة على حالها إلى
يومنا هذا في المناطق التي تشهد الحالة المكية قبل الهجرة.
13ـ فرز أنواع المحرمات عن بعضها وبيان كل واحدة منها في إشارة إلى الكبائر التي توعد ال مرتكبيها
والصغائر التي وعد بمغفرتها »ومباين) (2بين محارمه من كبير أوعد عليه نيراّنه أو صغير أرصد له غفرانه«
فالكبائر من قبيل الشرك وقتل النفس التي صّرحت اليات القرآنية بتوعد مرتكبيها بالعذاب ،فقد ورد في الية 72
جّنَة َوَمْأواهُ الّنار ( وفي الية 93من
علَْيِه ال َ
ل َ
حّرَم ا ّل َفَقْد َ
ك ِبا ّ شِر ْ ن ُي ْ
من سورة المائدة بخصوص الشرك )َوَم ْ
جَهّنُم خاِلدًا فيها( وأّما الصغائر فمن قبيل اللمم جزاُؤُه َ ل ُمْؤِمنًا ُمَتَعّمدًا َف َن َيْقُت ْ
سورة النساء بشأن قتل النفس )َوَم ْ
ل الّلـَمَم(حيث ذهب بعض المفسرين ش ِإ ّ
ح َ لْثِم َوالَفوا ِ
ن َكباِئَر ا ِجَتِنُبو َ
ن َي ْالواردة في الية 32من سورة النجم )اّلِذي َ
ن المراد باللمم انعقاد النية على المعصية دون التيان بها أو المعاصي عديمة الهمية. إلى أ ّ
14ـ العمال التي يقبل القليل منها وورد الحث على كثيرها »وبين مقبول في أدناه ،موسع في أقصاه« .فالعبارة
لّمة التيان بالمزيد.
تشير إلى العمال التي ورد التأكيد على التيان بقليلها ول ُ
.1هناك محذوف في هذه العبارة ،ففي الحالة الثانية يكون تقدير العبارة كالتي» :وبين ما يكون واجبًا دائما«.
] [ 161
بوضوح في أواخر سورة المزمل( .وبالمقابل هنالك الحكام اللزامية التي ل يسير ول كثير فيها من قبيل صوم
شهر رمضان ،حيث يلزم المكلف بصوم شهر معّين دون زيادة أو نقيصة )اليات 183إلى 185من سورة
البقرة(.
تأّملت
1ـ شمولية القرآن
المسألة الولى التي تطالعنا في كلم المام)عليه السلم( شمولية القرآن الكريم ،أو بعبارة ُاخرى اعجاز القرآن
من حيث المضمون; لن خاض من خلل النقاط الربعة عشر بشأن القرآن في تفاصيله الدقيقة وتنوع مضامينه
لمور العقائدية والقضايا العلميةعلى جميع المستويات في إطار تلبيته لمتطلبات النسان و احتياجاته من حيث ا ُ
والخلقية والحكام الواجبة والمحرمة والعلقة القائمة بين القرآن والسنة والحكام الثابتة والمؤقتة والعام
لمور مدى حساسية المضامين القرآنية والخاص والمطلق والمقّيد والناسخ والمنسوخ ،حيث يفيد تأمل هذه ا ُ
المدروسة والتي تنسجم ومتطلبات النسانية .فالمضامين الرصينة الدقيقة والعميقة المتنوعة والشاملة ـ كما أشرنا
إلى ذلك في بحث اعجاز القرآن ـ تمثل أحد أبعاد اعجاز القرآن فأدنى لنسان ُامي تربى في وسط الجهل والظلم
أن يأتي بمثل هذا الكتاب مكتفيًا بما يمليه عليه فكره دون الستناد إلى فيوضات الغيب والوحي; الكتاب الذي
غص بالدروس والعبر والمثال الرائعة البليغة والحكام الجامعة والمعارف الجمة العميقة .والطريف في المر
لصول الفقهية وأشار إلى موضوعات ن المام)عليه السلم(بهذا البيان القصير قد استعرض دورة جامعة في ا ُ أّ
ل بعد قرون طويلة ،ثم فصل الحكام عن بعضها البعض ليميط اللثام عن لصول إ ّ
واسعة لم تتكامل في علم ا ُ
القواعد المتعلقة بالحلل والحرام والناسخ والمنسوخ والرخصة والعزيمة والخاص والعام والمطلق والمقيد
والمحكم والمتشابه والمجمل والمبين والمؤقت وغير المؤقت والواجب والمستحب المؤكد والمستحب غير المؤكد.
ن النبي)صلى ال عليه وآله( موظف بتبيين بعض مجملت القرآن الكريم وإزالة
يفهم من عباراته)عليه السلم( أ ّ
] [ 162
الول :إن القرآن بفضله يتضمن سلسلة من القوانين والحكام السلمية ل يسعه أن يخوض في التفاصيل ،فهو
يشير إلى هذه القوانين على نحو العموم بينما يفوض شرحها والخوض في تفاصيلها إلى النبي)صلى ال عليه
وآله( .على سبيل المثال فقد وردت أحكام الصلة والحج والصوم وبعض كلياتها في القرآن الكريم ،ونعلم جميعًا
ن هذه العبادات تشتمل على شرائط واركان وفروع كثيرة يحتاج شرح كل ركن منها إلى كتاب مستقل ،بل هناك أّ
لمور المرتبطة بالمعاملت والقضاء والحدود والشهادات والسياسات لمور التي تتطلب عّدة مجلدات من قبيل ا ُ
اُ
السلمية بصورة عامة.
لّمة للنبي)صلى ال عليه وآله( في تبيين المبهمات وتفسير المجملت تؤدي إلى تعزيز ن حاجة ا ُ
الثاني :أ ّ
إرتباطها بالسّنة النبوية; الرتباط الذي يهديها وينير معالم طريقها في جميع الميادين ،وبعبارة ُاخرى فان القرآن
ليس بدعًا من الكتب التي يتطلب فهم بعض مواضيعها من قبل الطلب وجود المعلم ،الذي يسعه ايضاح الحقائق
لتلمذته من خلل الرابطة السائدة بينهما .وهنا يبدو هذا السؤال :هل يوجد مثل هذا المعلم اللهي في الوسط
ل بقيت
السلمي بعد رحيل النبي)صلى ال عليه وآله(أم ل؟ لشك .لبّد أن يستمر وجود مثل هذا المعلم وإ ّ
المشاكل على حالها دون حل وبيان .ومن هنا اعتقدت الشيعة بوجود المام المعصوم في كل عصر والذي لديه
علم الكتاب ،وهذا ما يراد بالعترة الواردة في حديث الثقلين المتواتر المروي عن رسول ال)صلى ال عليه وآله(،
والتي أشار إلى امتناع مفارقتها للكتاب إلى يوم القيامة ،فقال)صلى ال عليه وآله(» :إّني تارك فيكم الثقلين كتاب
ي الحوض«).(2 ال وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدًا وإّنهما لن يفترقا حتى يردا عل ّ
.2لقد ورد هذا الحديث بعدة تعابير في مصادر الشيعة والسّنة ،فراجع احقاق الحق 309 / 9 ،ـ ;375بحار النوار ،118 / 23
;155 ،134 ،133 ،132رسالة الثقلين .9
] [ 163
لمور النسبية التي تخضع هناك اختلف بين العلماء بشأن الكبائر والصغائر .فقد اعتبرهما البعض من قبيل ا ُ
للمقارنة في أهميتها ،فما كانت أهميتها كبيرة فهى من الكبائر وما كانت أهميتها صغيرة فهى من الصغائر )وقد
ن أغلبهمنسب المرحوم الطبرسي في مجمع البيان هذا القول إلى الشيعة ،ويبدو أّنه أراد بعض علماء الشيعة ،ل ّ
ن الكبيرة كما يتضح من اسمها هى المعصية الكبيرة حقًا يرى غير ذلك كما سنشير لحقًا( .وقال البعض الخر أ ّ
والتي تحظى بأهمية لدى الشرع والعقل كقتل النفس وغصب حقوق الخرين والربا والزنا ـ ولعل هذا هو الدليل
ن المعيار في الكبائر هو الوعيد بالعذاب الذي جعل الروايات الواردة عن أهل البيت)عليهم السلم( تصرح بأ ّ
اللهي على ارتكابها ،فقد جاء في الحديث المعروف الذي روي عن المام الباقر والمام الصادق والمام
الرضا)عليه السلم( اّنه قال» :الكبائر التي أوجب ال عز وجل عليها النار«) (1ويتضح مّما مر معنا أ ّ
ن
ن الكبائر سبع وقيل الصغائر ماليست لها مثل هذه الهمية .وقد وردت بعض الحاديث التي أشارت إلى أ ّ
عشرون.
لعل هذين الحكمين يثيران الجدل والذهول لدى أغلب الناس وتعجبهم من كيفية اشتمال القرآن على اليات
الناسخة والمنسوخة )فالمراد باناسخ والمنسوخ هو الحكم الذي يلغي حكمًا آخر من قبيل استقبال الكعبة في الصلة
التي نسخت حكم استقبال بيت المقدس في الصلة( .وقد تزول هذه الدهشة والذهول بالنسبة للناسخ والمنسوخ في
القوانين الوضعية التي يشرعها أفراد البشر; لهم قد يسنون اليوم قانونًا ويكتشفون غدًا بعض أخطائه فيعمدون
إلى نسخه ،ولكن ما بال القوانين التي يشرعها الحكيم سبحانه؟
] [ 164
ل أّنه قد يصبح خطرًا ومضاعفًا لذلك المرض بعيد مّدة من الزمان .فالطبيب هناك دواء هو شفاء لمرض اليوم ،إ ّ
ل أّنه ينسخه فيما بعد ويحظر استعماله على المريض .ويصدق هذا الكلم ينصح المريض باستعمال ذلك الدواء إ ّ
ل .فقد تنطوي الصلة إلى بيت المقدس يومًا على منافع ومصالح معينة إذا كانت لمور الدينية على القبلة مث ً
في ا ُ
الكعبة بؤرة للصنام والوثان واتخذت لنفسها بعدًا قوميًا بحيث يدعو استقبالها في الصلة أبان انبثاق الدعوة
السلمية إلى بعض المشاكل ،في حين تنتفي هذه المشاكل بالصلة ثلث عشرة سنة إلى بيت المقدس .بينما
تتحول الكعبة إلى مركز للتوحيد بعيد الهجرة إلى المدينة فتنطوي الصلة إلى جانبها على مصالح جمة وتنعدم
الضرار.
لمم السابقة ول سيما أنبياء ال حيزًا مهما من القرآن الكريم المفعم بالدروس والعبر والتجارب يشغل تأريخ ا ُ
القّيمة التي تحتذيها البشرية في كل عصر ومصر; المر الذي جعل القرآن يتابع حركة النبياء في مختلف السور
ويسلط الضوء على تأريخ أحدهم أحيانًا )كسرده لوقائع النبي إبراهيم ونوح وموسى وعيسى)عليهم السلم((
ن القرآن يعرض لزاوية من ويكرر قصته في أكثر من سورة ،وبالطبع ل نرى كلمة التكرار مناسبة هنا حيث إ ّ
ب() .(2وأحيانًا
للبا ِ
لوِلي ا َعْبَرٌة ُِ
صـِهْم ِ ص ِ ن ِفي قَ َ
زوايا هذه القصص في كل مرة ،فقد قال عز من قائلَ) :لَقْد كا َ
أبعد من ذلك واضافة إلى التأريخ يدعو البشرية لتأمل آثار القوام السابقة والذي يعتبر بحد ذاته نوعًا من أنواع
ل().(3ن َقْب ُن ِم ْ
ن عاِقـَبُة اّلِذي َف كا َ
ظُروا َكْي َ ض َفاْن ُ
لْر ِ
سـيُروا ِفي ا َ
ل ِ
التأريخ التكويني والحي )ُق ْ
] [ 165
وإلى جانب القصص والتأريخ فقد درج القرآن على استعمال المثال بغية هداية الناس; وقد تكون هذه المثال
لمور الطبيعية في عالم النبات نماذج حية واقعية مستقاة من حياة بعض الفراد تارة ،وتارة ُاخرى تشبيهات با ُ
والحيوان وما شاكل ذلك .وقد انطوت هذه المثال على جمالية وروعة في الدقة والتصوير بحيث غدت من
ن ِم ْ
ن ضَرْبنا ِللّناس ِفي هـذا الُقْرآ ِ
معاجز القرآن التي يقود التأمل فيها والتدبر إلى العودة إلى العقل والرشد )َوَلَقْد َ
ن().(1 ل َمَثل َلَعّلُهْم َيَتَذّكُرو َ
ُك ّ
ومن هنا أشار المام)عليه السلم( في هذه الخطبة إلى شمولية القرآن الكريم مؤكدًا على تدبر قصصه وأمثاله.
—–
] [ 166
] [ 167
القسم الخامس عشر
جَعَلهُ
حَماِم َو َ ن ِإَلْيِه ُوُلوَه اْل َ
لناِم َيِرُدوَنُه ُوُروَد اَْلْنعاِم َوَيْأَلُهو َ جَعَلُه ِقْبَلًة ِل َْ
حراِم اّلِذي َ ج َبْيِتِه اْل َ
حّ عَلْيُكْم َ
ض َ»َو َفَر َ
صّدُقوا َكِلَمَتُه
عَوَتُه َو َ سّماعا َأجاُبوا ِإَلْيِه َد ْ خْلِقِه ُ
ن َختاَر ِم ْ ظَمِتِه َوِإْذعاِنِهْم ِلِعّزِتِه َوا ْ ضِعِهْم ِلَع َ علَمًة ِلَتوا ُ حاَنُه َ سْب َ
ُ
عْنَدُهن ِ عباَدِتِه َوَيَتباَدُرو َجِر ِ ح ِفي َمْت َ ن اَْلْربا َحِرُزو َشِه ُي ْ
ن ِبَعْر ِ طيِفي َ شّبُهوا ِبَملِئَكِتِه اْلُم ِ ف َأْنِبياِئِه َوَت َ
َوَوَقُفوا َمواِق َ
عَلْيُكْم ِوفاَدَتُهب َ جُه َوَكَت َحّب َ ج َ حّقُه َوَأْو َ ض َ حَرمًا َفَر َن َ عَلمًا َوِلْلعاِئِذي َ سلِم َ ل ْسْبحاَنُه َوَتعاَلى ِل ِْ جَعَلُه ُعَد َمْغِفَرِتِه َ
َمْو ِ
ن(«. ن اْلعاَلِمي َ عِي َغِن ّ ل َ نا ّ ن َكَفَر َفِإ ّ
ل َوَم ْ
سِبي ً
ع ِإَلْيِه َسَتطا َ نا ْ ت َم ِ ج اْلَبْي ِ
حّ
عَلى الّناس ِ ل َ
سْبحاَنُهَ) :و ِّ َفقاَل ُ
—–
الشرح والتفسير
ن السيد الرضيل يعلم أي الحكام الدينية أشار إليها المام)عليه السلم( بعد بيانه لخصائص القرآن ،لننا نعلم بأ ّ
ـ جامع نهج البلغة ـ لم يروم ذكر خطبه)عليه السلم( بصورة كاملة بقدر ما كان يختار منها بعض القطوف ،مع
ذلك فان التأكيد على فريضة الحج من بين سائر الفرائض السلمية المختلفة والفردية وفي خطبة تكفلت بالحديث
عن بداية نشوء الخليقة والمراحل المختلفة لسير النسان منذ انطلقته حتى انبثاق الدعوة السلمية بظهور خاتم
النبياء محمد المصطفى)صلى ال عليه وآله(إّنما يتضمن معنًا ومفهومًا خاصًا ،كما يفيد أن حج بيت ال الحرام
يمثل عصارة الفكر السلمي وشموليته للمسائل المهّمة الفردية والجتماعية والتربوية والخلقية والسياسية،
وهذا ما سنتطرق إليه في آخر البحث .ونخوض الن في تفسير هذا القسم من الخطبة:
] [ 168
فقد أشار المام)عليه السلم( في البداية إلى مسألة وجوب الحج ،حيث اعتمد عبارات في غاية الروعة واللطافة
بغية حث المسلمين على أداء هذه الفريضة اللهية العظيمة ،فقال)عليه السلم(» :وفرض عليكم حج بيته الحرام«
ثم كشف عن صفة هذا البيت بقوله »الذي جعله قبلة للنام«) (1فهى القبلة التي يتجه إليها المسلمون في صلواتهم
اليومية على أّنها رمز وحدة جميع المسلمين الذين ينظمون صفوفهم في التجاه اليها .ثم يتطرق)عليه السلم( إلى
وصف الشعائر والمراسم التي يؤديها عشاق الحق فيشبههم)عليه السلم( بالعطاش الذين يردون على الماء العذب
والطيور التي تبحث عن الملذ »يردونه) (2وورود النعام ويألهون) (3إليه ولوه الحمام).«(4
ن من أدرك معنى الحج فاّنه يرد البيت على هذه الشاكلة فتكاد روحه وقلبه تسبقه إلى البيت فيعيش الوفادةحقًا أ ّ
عليه بكل كيانه ويستعيد به من شر الشياطين وأهواء النفس وتبعات الذنوب فيلبي دعوة الحبيب ويسعى بين الصفا
والمروة ويحلق في أجواء الكعبة التي تفيض بالمعنويات .أّما التشبيه بالنعام فلعله إشارة إلى التواضع المطلق
الذي يستشعره الحجاج تجاه بيت ال أو حالة الضطراب حين القبال على الكعبة والطواف ،أّما التعبير بالحمام
فذلك لّنه يرمز إلى الحب والسلم والوئام.
ن مراسم الحج تستهل بالحرام والتلبية التي تفيد اجابة الدعوة اللهية ،فال سبحانه قد دعى زوار
جدير بالذكر أ ّ
بيته الحرام للضيافة وقد تقاطر عليه الضيوف بقلوب مفعمة بالعشق لتعيش القرب اللهي وهم يلمسون معاني
الورع والتقوى والنس بالمحبوب .ثم
» .1أنام« فسرها البعض بالناس ،والبعض الخر بالموجودات العاقلة التي تعيش على الرض من النس والجن .وعلى ضوء
التفسير الول يصبح مفهوم العبارة اختصاص القبلة بالناس ،بينما تكون قبلة النس والجن حسب التفسير الثاني .وقيل هى مشتقة
من مادة ونام بمعنى الصوت ثم اطلقت فيما بعد على جميع الكائنات الحية ول سيما النس والجن )تاج العروس ،مادة أنم(.
» .2يردون« من مادة »ورود« بمعنى دخول الحيوانات على حياضها عند عطشها ثم اطلق على كل دخول لمكان.
» .4الحمام« بالفتح بمعنى الطيور والحمام بالكسر بمعنى الموت ،وقد أريد المعنى الول في العبارة )أي الحمام بالفتح(.
] [ 169
خاض)عليه السلم( في جانب من الجوانب الفلسفية لشعيرة الحج فقال» :وجعله سبحانه علمة لتواضعهم لعظمته
واذعانهم لعزته« .فأعمال الحج من مناسك ومراسم إّنما تشتمل على أفعال غاية في التواضع لعظمة ال قلما نجد
نظيرها في سائر الشعائر العبادية .وهذا ما يتجسد بوضوح في الحرام والتخلي عن اللباس الفاخر والكتفاء
بثياب الحرام البيضاء غير الموصولة والطواف في الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف على جبل
عرفة والتوقف في منى والمشعر الحرام ورمي الجمرات والتقصير ما إلى ذلك من العمال التي تحطم ما تعيشه
ن الوقوف في تلك المشاهد المشرفة والوفادة على
النفس البشرية من غرور وكبر .ثم يشير)عليه السلم( إلى أ ّ
البيت لمن المفاخر الكبرى والنعم الجزيلة التي يمن ال بها على بعض عباده فيقول)عليه السلم(» :واختار من
خلقه سماعًا) (1أجابوا إليه) (2دعوته وصدقوا كلمته«.
ن صوتي ل يبلغهم .فجاءه الخطاب :إّنما عليك دعوتهم وعلينا البلغ .فارتقى الخليل)عليه فقال)عليه السلم( :إ ّ
السلم( المقام الذي كان ملصقًا للكعبة آنذاك فجعل اصبعيه في أذنيه وقد استقبل الشرق والغرب فنادى بأعلى
صوته» :أّيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا رّبكم« فناداه من خلف البحار السبع مابين المشرق
والمغرب بل حتى النطف في قرارات النساء وأصلب الرجال ممن سمع صوته »ولبيك الّلهم لبيك«) .(3كما
ورد في الروايات أن من لبى حج بعدد تلبيته ومن لم يلب لم يحج) (4ثم يواصل المام)عليه السلم( حديثه عن
فلسفة الحج وآثاره وبركاته فيقول» :ووقفوا مواقف أنبيائه وتشبهوا بملئكته المطيفين بعرشه«.
ولعل التعبير بمواقف النبياء يشير إلى كثرة النبياء من بعد إبراهيم بل حتى قبله طبقًا لبعض الروايات ممن
حجوا البيت) (5أّما العبارة التي صّرحت بتشبههم بالملئكة المطيفين
» .1سماع« على وزن طلب جمع »سامع« كطلب جمع طالب.
.2ليس هنالك من فارق يذكر بشأن الضمير في )إليه( ان كان عائدًا لبيت ال أو إلى لفظ الجللة.
ن من النبياء الذين حجوا البيت هم آدم ونوح وابراهيم وموسى ويونس وعيسى وسليمان ونبي السلم)صلى
.5ورد في الحاديث أ ّ
ال عليه وآله( )شرح نهج البلغة للمرحوم الخوئي .(252 / 2
] [ 170
ثم قال)عليه السلم(» :جعله سبحانه وتعالى للسلم علمًا وللعائذين حرمًا«.
ن الكعبة تمثل الراية السلمية الخفاقة على الدوام; الراية التي يتمحور حولها المسلمون من أجل فالواقع هو أ ّ
تحقيق استقللهم ومجدهم وعزتهم .وكل عام تنفخ روح جديدة بمشاهدتها في جسد المسلمين ويجري دم جديد في
عروقهم .وما إن يفرغ المام)عليه السلم( من ذكر هذه الفضائل حتى يشير إلى وجوب حج البيت فيقول» :فرض
ل َوَم ْ
ن سِبـي ً
ع ِإَلْيِه َ
سَتطا َ
نا ْ
ت َمـ ِ
ج الَبـْي ِ
حـ ّ
على الّناس ِ
ل َ
حّقه وأوجب حجه وكتب عليكم وفادته)(3فقال سبحانهَ) :و ِّ
ن(.
ن العاَلِمـي َ
عِ
ي َ
غِن ّ
ل َنا ّ
َكَفَر َفِإ ّ
تأّملن
هنالك عّدة مسائل ومباحث متعلقة بالحج ل يمكن استيعابها في هذا البحث ،وعليه سنكتفي بالشارة إلى بعض
لمور التي تتمتع بأهمية كبيرة:
اُ
للكعبة ـ التي يطلق عليها اسم بيت ال الحرام أيضًا ـ تأريخ عريق يعود إلى زمان آدم)عليه السلم(
» .2يحرزون« من مادة »الحراز« بمعنى الحفظ والدخار والخزن .ومن هنا يطلق الحرز على الموضع المحفوظ كالصندوق
والمخزن وما شابه ذلك.
» .3وفادة« بمعنى البزوغ والطلوع ،ثم أصبحت بمعنى النزول والدخول ،كما يصطلح بالوفد على الهيئة والجماعة التي ترد على
دولة أو زعيم أو فئة ذات مكانة.
] [ 171
حسب ما أشارت الروايات) (1فآدم)عليه السلم( هو أول من بناها وطاف حولها ،ثم اندرست في الطوفان الذي
عم الرض زمان نبي ال نوح)عليه السلم( ،ثم أعاد بنائها إبراهيم)عليه السلم( وولده إسماعيل ـ على ضوء
ل (2)(..ـ فأديا مراسم عـي ُ
سمـا ِ
ت َو ِإ ْن الَبْي ِ
عَد ِم َ
صريح اليات القرآنية كقوله سبحانهَ) :و ِإذ َيْرَفُع ِإْبراِهـيُم الَقوا ِ
ضَع ِللّناس َلّلِذي ِبَبّكَة ُمباَركًا() .(3وكمال َبْيت ُو ِ ن َأّو َ
الحج حيث أصبحت الكعبة أول مركز للتوحيد للنسانيةِ) :إ ّ
ن في السماء بيتًا يطوف به الملئكة طواف البشر بهذا أشرنا سابقًا وعلى ضوء بعض الروايات الصحيحة أ ّ
ن البيت أول من عتق من الماء) (4كما ورد هذا المعنى في قصة دحو الرض .وقد تظافرت الروايات ـ البيت ،وا ّ
في نهج البلغة وغيره من المصادر السلمية ـ التي كشفت عن عظمة الكعبة ومدى أهميتها ،ومنها ماروي عن
المام الباقر)عليه السلم( أّنه قال» :ما خلق ال عز وجل بقعة في الرض أحب إليه منها ـ ثم أومأ بيده نحو
ن النظر إليها عبادة) (5فالكعبة هى الكعبة ـ ول أكرم على ال عز وجل منها« بل ورد في مقدمة هذا الحديث أ ّ
رمز الوحدة السلمية التي تتطلع إليها الجماعة السلمية في العالم أجمع .جدير ذكره بشأن أهمية البيت أن
زرارة ـ من كبار صحابة المام الباقر والصادق)عليهما السلم(ـ دخل على المام الصادق)عليه السلم( فقال:
ل» :يا زرارة بيت يحج إليه قبل آدم )جعلني ال فداك أسألك في الحج منذ أربعين عامًا فتفتيني« .فرد المام قائ ً
ن الملئكة والمخلوقات التي بألفي عام تريد أن تفتى مسائله في أربعين عامًا«) .(6فالذي يستفاد من هذا الحديث أ ّ
ن آدم لما قضى مناسكه وطاف بالبيت عاشت على الرض قبل آدم)عليه السلم( كانت تحج البيت .ففي الحديث أ ّ
لقيته الملئكة ،فقالت :يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
.1بحار النوار . 86 / 12
] [ 172
لقد تضمنت عبارات المام)عليه السلم( إشارات عميقة لفلسفة الححج وما ينطوي عليه من أسرار .إلى جانب
ن هذه المناسك
ذلك فقد وردت الروايات التي صّرحت بمثل هذا المعنى ،والذي يخلص إليه من مجموعها أ ّ
العظيمة تشتمل على أربعة جوانب هى:
الجانب الخلقي والعبادي ،الجانب السياسي والجتماعي ،الجانب الثقافي والجانب القتصادي.
أّما الجانب الخلقي والعبادي الذي يمثل أهم جوانب فلسفة الحج بفضل تنبيه لتربية النفس وتهذب الخلق
والتحلي بالورع والتقوى والخلص .حيث صّرحت الروايات السلمية بشأن من يحج البيت »يخرج من ذنوبه
كهيئة يوم ولدته أمه«) .(1والرواية بدورها دليل واضح على مدى التأثير الذي يلعبه الحج في النفس النسانية
وتنقيتها من الذنوب والمعاصي التي دنست عفتها طيلة العمر وهذه أعظم فائدة يصيبها الوافد على بيت ال .ولو
التفت الحاج إلى أسرار المناسك التي يؤديها والشعائر التي يؤتي بها فان كل خطوة ستجعله أكثر قربًا من ال
ليرى موله حاضرًا في كل مكان فهو معبوده الحق الذي ل يفارقه طرفة عين .أجل سيعود إلى الحياة من جديد
كيوم ولدته أمه.
ول غرو فمن أدرك الحج بمعناه الحقيقي سيشعر بآثاره الروحية والمعنوية إلى آخر عمره ،ولعل هذا هو السبب
في وجوب الحج مرة واحدة طيلة العمر.
ن التيان بمراسم الحج على ضوء التعاليم السلمية والحج وأّما على صعيد الجانب السياسي والجتماعي فا ّ
البراهيمي الذي دعي الناس لمتثاله إّنما يؤدي إلى عزة المسلمين وتحكيم دعائم الدين وارساء أسس الخاء
والوحدة وتنامي شوكة الدين وصلبته والوقوف بوجه العداء والمستكبرين واعلن البراءة من المشركين
والملحدين .كما يمنح هذا المؤتمر اللهي العظيم الذي يعقد كل عام في البيت العتيق المسلمين الفرصة الذهبية في
إعادة بناء أنفسهم وتقوية أواصر الخوة فيما بينهم ورص صفوفهم بما يحبط مؤامرات أعداء الدين وافشال
] [ 173
ل لتمكنوا ـ في
ن المسلمين لم يقفوا لحد الن على عظمة الحج ويدركوا كنهه وإ ّ
خطط الشياطين ،وما يؤسف له أ ّ
ظل هذه الشعيرة ـ من إسداء أعظم الخدمات للسلم وتسديد أوجع الضربات إلى ركائز الشرك والكفر; المر
الذي نلمسه بوضوح في الروايات السلمية ولسيما تلك التي وصفته» :ليزال الدين قائمًا ماقامت الكعبة«).(1
وكأن أعداء السلم أدركوا الدور العظيم الذي يلعبه الحج على صعيد المسائل السياسية فمارسوا أقصى ردود
الفعل تجاهه بغية الحؤول دون تحقيق أهدافه .فهذا »غلدستون« ـ رئيس وزراء بريطانيا ـ يخاطب مجلس العموم
ن المسيحية مهددة بالخطر وسنعجز عن إصلح العالم )طبعًا ليس الصلح من وجهة نظرهم سوى الستعمار( بأ ّ
مادام اسم محمد يذكر صباح مساء من على المآذن والقرآن هو دستور حياة المسلمين ،الذين يقيمون مراسم الحج
كل عام بهذا الشكل) .(2بل قيل أن غلدستون اختتم خطابه لمجلس العموم بقوله :يجب عليكم يا ساسة المسيحية
أن تزيلوا اسم محمد من آذان المسلمين فتنسونهم ذكره وتحرقون القرآن وتخربون الكعبة .وهناك جملة ُاخرى
ل» :الويل للمسلمين إن غفلوا عن معنى الحج ،الويل لمن
معروفة أطلقها أحد زعماء النصرانية في الغرب قائ ً
سواهم إن فهموا معناه« .وبالبداهة أّنهم ل ينوون من هذا الحراق ظاهر القرآن ،كما أّنهم لن ينجحوا في تخريب
الكعبة ،غير أّنهم يستطيعون وفي ظل غفلة المسلمين من تحقيق مآربهم بالقضاء على أحكام الدين وافراغ الحج
من محتواه الصيل.
وأخيرًا الجانب الرابع الذي يشير إلى الفلسفة القتصادية للحج .فقد وردت الروايات
.1فروع الكافي ) 271 / 4باب أّنه لو ترك الناس الحج لجاءهم العذاب(.
ل عن قول القمر(.
.2دليل الحرمين الشريفين ) 54 / 1نق ً
] [ 174
والخبار التي تفيد أن من معطيات الحج تفعيل القدرة القتصادية للمسلمين وانقاذهم من الزمات المالية التي
لأّ
ن تعصف بحياتهم وحياة مجتمعاتهم .ولعل البعض ل يرى من رابطة من قريب أو بعيد بالجانب القتصادي ،إ ّ
ن الخطر العظيم الذي يهدد كيان المسلمين إّنما يتمثل اليوم بالتبعية
أدنى تأمل لهذه القضية سيكشف بوضوح بأ ّ
القتصادية للجانب ،فما الضير في اقامة المؤتمرات والندوات القتصادية من قبل المعنيين والمتخصصين في
تلك الديار المقدسة بصفتها مراسم عبادية تهذف إلى انتشال المسلمين من مخالب الفقر والتبعية وطرح المشاريع
والبرامج القتصادية التي من شأنها معالجة الوضاع المزرية؟ ول نرى لهذه القضية من طابع فردي لتعالى
الصوات بالنشغال بزخارف الدنيا وحطامها الزائل ،بل الهدف أنبل وأسمى حيث يكمن في خدمة السلم
والمسلمين في هذا الجانب الحيوي (1).ويتضح من قوله)عليه السلم(» :ووقفوا مواقف أنبيائه وتشبهوا بملئكته
المطيفين بعرشه ،يحرزون الرباح في متجر عبادته ويتبادرون عنده موعد مغفرته« مدى الهمية التي أولها
المام)عليه السلم( لحج بيت ال الحرام; ول عجب فهى عبادة اجتماعية عامة تقسم في طياتها الدنيا والخرة
والخلق والمعنويات وعزة المسلمين وتنامي شوكتهم.
ل أننا سنستغرق أكثر في هذا الموضوع حين شرحناطبعًا واسع وشامل البحث المتعلق بالحج وأبعد مّما ذكرنا إ ّ
لسائر خطب المام)عليه السلم( الواردة بهذا الشأن ،ونكتفي هنا بهذا المقدار المتواضع.
—–
.1لقد أشارت الرواية التي نقلها هشام بن الحكم عن المام الصادق)عليه السلم( بصورة إجمالية إلى فلسفة هذه الجوانب الربعة
للحج )وسائل الشيعة (9 / 8كما يمكن لمن أراد المزيد أن يراجع التفسير المثل 14 /بشأن فلسفة الحج.
] [ 175
الخطبة 2
بعد انصرافه من صفين وفيها حال الناس قبل البعثة وصفة آل النبي)صلى ال عليه وآله( ثم صفة قوم آخرين.
القسم الول
—–
] [ 176
المضمون الول في حمد ال والثناء عليه والملذ بفضله وكرمه ورحمته ،والثاني في الشهادة ل بالوحدانية
ومعطيات اليمان بالتوحيد ،والثالث في الشهادة بالنبوة والعبودية إلى جانب التذكير بفضائل النبي)صلى ال عليه
وآله( واوضاع العصر الجاهلي والملمات والخطوب التي شهدها المجتمع السلمي آنذاك والجهود التي بذلها
الرسول الكريم)صلى ال عليه وآله(من أجل مجابهة تلك الخطوب وتحمل المصاعب والويلت بهذا الشأن،
والرابع في منزلة أهل البيت وعلو مقامهم وسمو مكانتهم واللجوء إليهم في ُامور الدين ،والمضمون الخير الذي
لّمة من مقارنة أنفسها بهم ،متطرقًا إلى عدم إمكانية تشبه أي
يواصل فيه المعنى المذكور بصيغة ُاخرى محذرًا ا ُ
من الفراد بهم ومستعرضًا لفضائلهم والعراب عن الرتياح لعودة الحق السليب لهله.
لّمة في
ومضامين الخطبة ومعانيها تبدو منسجمة والمعنى المذكور; الحقيقة التي تجسدت في استعراض حياة ا ُ
العصر الجاهلي حيث يحذرها من مغبة تكرار الجاهلية الولى والحؤول دون تمكن من تبقى من رواد تلك
الجاهلية الذين كانوا يشكلون غالبية معسكر الشام في صفين من تحقيق أطماعهم ومآربهم .كما يؤكد)عليه السلم(
لّمة بأهل بيت النبي)صلى ال عليه وآله( بغية التحصن من الخطار التي كانت تهدد على ضرورة تمسك ا ُ
السلم آنذاك ،فهم الذين قال فيهم رسول ال)صلى ال عليه وآله(» :إّني مخلف فيكم الثقلين كتاب ال وعترتي
أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدًا وإّنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض« فالنجاة بالتمسك
بالكتاب والعترة معًا.
] [ 177
تكون مقولة عقيب انصرافه)عليه السلم( من صفين ،لّنه انصرف عنها وقتئذ مضطرب المر ،منتشر الحبل،
بواقعة التحكيم ،ومكيدة ابن العاص ،وما تم لمعاوية عليه من الستظهار ،وما شاهد في عسكره من الخذلن،
وهذه الكلمات ل تقال في مثل هذه الحال ،وأخلق بها أن تكون قيلت في ابتداء بيعته ،قبل أن يخرج من المدينة إلى
ن الرضي رحمه ال تعالى نقل ماوجد ،وحكى ماسمع والغلط من غيره ،والوهم سابق له ،وما ذكرناه البصرة ،وأ ّ
واضح(1).
ن هذا الكلم ينبغي أل يقال بشأن فرد يعتبر علمًا في العلم وبحرًا من الوقار واسطورة وقد صّرح بعض العلماء بأ ّ
ن فردًا مثل علي)عليه السلم(لتهزه هذه الحادثة وأنى للضطراب والقلق من سبيل إلى في الجهاد والمقاومة .فا ّ
هذه الروح الملحمية والفكار الربانية التي كان يتحلى بها علي)عليه السلم( .بل بالعكس وكما أوردنا سابقًا فان
لّمة من الستسلم إلى الدعايات السامة والمشاريع الشيطانية التي المام)عليه السلم( يحذر ـ في هذه الخطبة ـ ا ُ
كان يمارسها ولة الشام ومن مغبة العودة القهقري إلى العصر الجاهلي والصمود في الذود عن الحق بعد أن عاد
إلى أهله .وعليه فل يبدو رأي ابن أبي الحديد صائبًا في أن معاوية هو الذي انتصر في الميدان ول سيما قول
المام)عليه السلم(» :الن إذا راجع الحق إلى اهله« وذلك للسباب التالية:
ن معاوية لم يكسب تلك المعركة قط ،غاية مافي المر أّنه نجى من هزيمة منكرة بفعل خدعة عمرو بن ل :أ ّ
أو ً
لّمة من التغابي عنه إلى جانب الذود
العاص فما زال المام)عليه السلم( يرى الحق )هو وأهل بيته( ويحذر ا ُ
عنه وعدم زحزحته عن أهله.
ن التحكيم الغادر لعمرو بن العاص ـ وخلفًا لما يراه الكثيرون ـ لم يحصل في صفين بحضور المام)عليه ثانيًا :إ ّ
ن ابن أبي الحديد قد صّرح بهذا المعنى في موضع آخر من شرحه. السلم(بل وقع بعيد بضعة أشهر ،والطريف أ ّ
ن الدليل الذي حاول أن يتمسك به ابن أبي الحديد والذي تمثل بالجملة الخيرة في الخطبة
ونخلص مّما سبق إلى أ ّ
ن الخطبة صدرت بعد موقعة صفين ،هو دليل باطل وشاهد عاري من الصحة. لثبات صحة مدعاه في أ ّ
] [ 178
الشرح والتفسير
الول الستزادة من النعم اللهية ،واظهار الستسلم والخضوع للعزة اللهية والقدرة المطلقة ،وأخيرًا العتصام
بالطافه من المعاصي .فقد قال)عليه السلم(» :أحمده استتمامًا) (1لنعمته واستسلمًا) (2لعزته واستعصامًا) (3من
ن الشكر ممزوج بالمدح ن مفهوم الحمد أشمل من الشكر ،وبعبارة ُاخرى فا ّ معصيته« .لبّد من اللتفات هنا إلى أ ّ
لِزيَدّنُكْم() (4ويشكل القيام بوظيفة
شَكْرُتْم َ
ن َ
وهذا يدعو من جانب لستزادة النعم اللهية كما قال سبحانهَ) :لِئ ْ
العبودية من جانب آخر وهذا هو التسليم مقابل عزة ال وأخيرًا يوجب عنايات ال وألطافه الغيبية في حفظ
النسان وعصمته من الذنوب والمعاصي .ثم يستعين)عليه السلم( بال بعد حمده والثناء عليه موعزًا ذلك إلى
حاجته إليه سبحانه وعدم غناه عنه »واستعينه فاقة إلى كفايته« .أجل إذا رأى العبد نفسه محتاجًا لتلك الذات الغنية
وصاحب الكمال المطلق فانه يلجأ إلى الحق سبحانه ليشمله بفضله ورحمته ويعينه في كافة شؤون حياته .آنذاك
يشير إلى دليل آخر لهذه الستعانة فيقول» :اّنه ل يضل من هداه ول يئل) (5من عاداه ول يفتقر من كفاه« .نعم
فقدرته على درجة من القوة والعظمة بحيث ل يسع أحد الوقوف أمامها ،وإن علمه ثاقب ليس للخطأ من سبيل
ن الدوافع الثلث دليل آخر على الحمد والثناء ودليل على الستعانة أيضًا. إليه .وهناك إحتمال أيضًا أ ّ
ثم يشير في آخر العبارة إلى دليل آخر يوجب الحمد ل والثناء عليه »فانه أرجح ما وزن
» .1استتمام« قد تعني التمام أو المطالبة بالتمام ،وقد أريد بها هنا المعنى الثاني ويؤيد ذلك الجملة اللحقة.
» .2استسلم« بمعنى النقياد والتسليم ،وعناها بعض اللغويين بموافقة الظاهر للباطن بالنسبة للشيء والنقياد من لوازمها.
» .5يئل« من مادة »وأل« على وزن وعد بمعنى النجاة واللجوء والعودة.
] [ 179
ن الفوائد والثار التي وردت في العبارات السابقة إّنما تتعلق بهذا العالم ،بينما
وأفضل ما خزن« .والواقع هو أ ّ
ترتبط الفوائد الواردة في العبارتين الخيرتين بالعالم الخر وزاد المعاد يوم القيامة ،وهكذا يكون حمد ال والثناء
عليه سبب النجاة في الدنيا والخرة ،وما أروع عبارات المام )عليه السلم( المقتضية التي تضمنت تلك المعاني
العميقة .فل يبدو من العبث أن يصرح ابن أبي الحديد حين يتناول بالشرح هذه الخطبة فيذهل للكنايات والبديع
ل» :فسبحان من خصه بالفضائل التي ل تنتهي وعذوبة التعبير الذي تضمنته عبارات المام)عليه السلم( قائ ً
السنة الفقهاء إلى وصفها وجعله إمام كل ذي علم وقدوة كل صاحب خصية«.
ثم يتطرق)عليه السلم( إلى الشهادة بالوحدانية بصفتها تشكل مصدر جميع الفضائل والكمالت» :واشهد ان ل إله
ل ال وحده ل شريك له« وتمسك المام)عليه السلم( بالتوحيد على أنه دعامة كافة العقائد والفكار الطاهرة إّ
والعمال الصالحة من جانب ،ومن جانب آخر ليلتفت من يرى الوهيته)عليه السلم( إلى خطأ إعتقاده .ثم يضيف
ن شهادته هذه شهادة حقيقية تستند إلى الخلص والتقوى وليست لقلقة لسان »شهادة المام)عليه السلم( بأ ّ
ممتحنا) (1اخلصها معتقدًا مصاصها).«(2
فهى شهادة حقة دائمة مادامت الحياة مدخرة حيث الهوال والخطوب »نتمسك بها أبدًا ما أبقانا وندخرها لهاويل)
(3ما يلقانا«.
فالمام)عليه السلم( يعلن عن عمق إيمانه وإذعانه بحقيقة التوحيد في كافة شؤون الحياة وعلى جميع المستويات;
الحقيقة التي تجسدت في سيرته)عليه السلم( والمشهودة في كافة جوانب حياته حتى لم يتطرق الشرك إليه طرفة
عين ،فلم يسجد لصنم قط وكانت سكناته وحركاته في ظل التوحيد البعيد عن أدنى شرك خفي .ثم يذكر)عليه
السلم(أربعة دعائم لهذا الركن الركين في السلم »فانها عزيمة اليمان وفاتحة الحسان ومرضاة الرحمن
ومدحرة) (4الشيطان«.
» .2مصاص« من مادة »مص« على وزن نص بمعنى التذوق والمتصاص ومن هنا اصطلح بالمصاص على عصارة الشيء
الممتص حين وروده بدن النسان.
] [ 180
ن اليمان بأي من أصول الدين إّنما هو إيمان أجوف مالم يستند إلى التوحيد ،كما أنّسنرى في البحاث القادمة أ ّ
ن الوسيلة المهّمة
الصالحات بأجمعها إّنما تستقى من حقيقة التوحيد ،ومن هنا كان مرضاة ل ومدحرة للشيطان ،ل ّ
الهدامة للشيطان إّنما تتمثل بالشرك سواء كان جليًا واضحًا أم مخفيًا مستترًا.
ن المراد بفاتحة الحسان هو الجر والثواب اللهي الذي التوحيد مفتاحه، ذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أ ّ
غير أن التفسير الذي ذكرناه يبدو أكثر صحة من هذا .وما أن يفرغ المام)عليه السلم( من هذه الشهادة الخالصة
الحقة حتى يردفها بمتممتها التي تتمثل بالشهادة بالنبوة» :وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله« .نعم فهو عبد ال قبل
أن يكون رسوله ،فليس من مجال لبلوغ مقام النبوة دون العبودية ،وفي هذا رد على أولئك الذين قد يبالغون في
مقام الرسول ليبلغوا درجة اللوهية .آنذاك يصف رسالة ووظيفة النبي فيقول:
»أرسله بالدين المشهور والعلم المأثور) (1والكتاب المسطور والنور الساطع)(2والضياء اللمع والمر الصادع)
لمور التي تشير اليها .منها أ ّ
ن .«(3والواقع هنالك عّدة تفاسير بشأن هذه العبارات الست العميقة المعاني وا ُ
المراد بالدين المشهور هو السلم الحنيف والعلم المأثور المعجزات والكتاب المسطور القرآن الكريم والنور
الساطع علوم النبي)صلى ال عليه وآله(والضياء اللمع سنته)صلى ال عليه وآله( والمر الصادع ـ بقرينة الية
ع ِبما ُتْؤَمُر() (4ـ ترك التقية واظهار التوحيد في مقابل المشركين
صَد ْ
الشريفة 94من سورة الحجر )َفا ْ
والكافرين .كما يحتمل أن يكون المراد بالضياء اللمع والنور الساطع تبيين القرآن الكريم ،فالقرآن مصدر اشعاع
أفكار المجتمعات النسانية .ثم يخوض المام)عليه السلم( في الهدف النهائي لرسالة النبي)صلى ال عليه
وآله(والقرآن والمعجزات والقوانين والحكام الشرعية ،فيوضح أهداف النبي)صلى ال عليه وآله( في ثلث
محاور :ازالة
» .1المأثور« من مادة »أثر« بمعنى العلمة الباقية من الشيء ولذلك يطلق على العلوم المتبقية من الماضين »علم المأثور«.
» .2الساطع« من مادة »سطوع« بمعنى النتشار ،فالنور الساطع هو النور الواسع المنتشر كما ورد بمعنى المرتفع.
» .3صادع« من مادة »صدع« بمعنى الشق في الجسم الصلب والمحكم ثم أطلق على كل شيء قاطع.
] [ 181
الشبهات بالدلة والبراهين واستقطاب الخصوم من خلل إرشادها باليات البّينات وتحذيرهم من العقاب الليم ان
هم تمادوا في غّيهم وعصيانهم »إزاحة) (1للشبهات واحتجاجًا بالبّينات وتحذيرًا باليات وتخويفًا بالمثلت).«(2
يمكن أن يكون المراد من قوله »ازاحة الشبهات« الحقائق التي تعززها البراهين والدلة الربانّية والتي ل تدع
لولئك الذين ل يسلمون سوى للستدللت ل لشك أو شبهة» ،واحتجاجًا بالبّينات« المعجزات الحسية بالنسبة ُ مجا ً
لخروي »تخويف العقلية والتي من شأنها سوقهم نحو اليمان واليقين» ،تحذيرًا باليات« الوعيد بالعذاب ا ُ
جُلوَن َ
ك سَتْع ِ
بالمثلت« الوعيد بالعذاب الدنيوي كما ورد ذلك في بعض اليات القرآنية كقوله سبحانه وتعالىَ) :وَي ْ
ت((3).
ن َقْبِلِهُم الَمُثل ُ
ت ِم ْ
خَل ْ
سَنِة َوَقْد َ
حَل ال َ
سـّيـَئِة َقْب َ
ِبال ّ
تأّملن
1ـ التوحيد ركيزة الصالحات
» .1ازاحة« من مادة »زيح« على وزن زيد بمعنى البعاد والقصاء.
» .2مثلت« جمع »مثله« على وزن عضلة بمعنى البلء والمصاب الذي يحل بالنسان فيصبح مثالً وعبرة للخرين )مفردات
الراغب ،تحقيق ،الصحاح ومجمع البحرين(.
] [ 182
ن جميع النبياء والمرسلين إّنما يتفقون في أهدافهم ووحدة رسالتهم وبرامجهم رغم
سِلِه() (1وعليه فاننا نؤمن بأ ّ
ُر ُ
أن بعض الحكام والمشاريع والبرامج التي تلبس حلل جديدة وتتخذ طابعا حديثا بفعل تطور المجتمعات البشرية
وتقدم مسيرتها.
ن الجميع سيقف بمفرده يوماًأّما بالنسبة للمعاد وعلى ضوء الية الشريفة )َوُكّلُهْم آِتـيِه َيْوَم الِقـياَمِة َفـْردًا() (2فا ّ
في محكمة العدل اللهي لينالوا جزائهم من ثواب أو عقاب يتناسب مع طبيعة أعمالهم وفقا لمعايير إلهية واحدة.
فالمجتمعات البشرية تنتمي إلى جذور واحدة تحكمها أصول ثابتة ومعينة ،بل تحكم جميع عالم الوجود .والواقع
ن مستقاها واحد،
لأّن هنالك تفاوتا في القوانين اللهية في الديان السماوية من حيث آلياتها وتفرعاتها ،إ ّ
صحيح أ ّ
ن العالم برمته سيشهد في خاتمة المطاف ومن هنا فاننا نؤمن بوحدة دعوة النبياء للمجتمع العالمي الموحد ،وأ ّ
حكومة العدل اللهي.
و عادة ما يتورط بالشرك الفراد المرائين وأولئك الذين يصابون بأمراض الحسد والبخل و الحرص والتكبر،
ن العزة والذلة والرزق والحياة والممات
ل فالفرد الذي يعيش توحيد الفعال بكل كيانه وفي أعماقه ويؤمن بأ ّ
وإ ّ
والنصر والغلبة ل بيده وحده ليرى من مسوغ لن يستشعر قلبه معاني الرياء والحرص والبخل والحسد.
ن التوحيد ليس بمثابة حبة مسبحة بالنسبة لسائر الحبات ،بل هو بمثابة الخيط الذي يشد الحبات
و زبدة الكلم فا ّ
إلى بعضها البعض الخر.
و من هنا يتضح عمق كلمات المام)عليه السلم( بالنسبة لمفهوم التوحيد ـ في الخطبة ـ ،فالتوحيد هو الدعامة
الرئيسية لليمان وانطلقة العمال الصالحة ويستبطن رضى الرحمن وطرد الشيطان ،وإذا ما أشرقت شمس
التوحيد على جسم المجتمع البشري وروحه فاّنه سيتخذ طابعا متبلورا في ظل أشعته الزاهرة .وإذا رأينا أمير
المؤمنين ومولى المتقين علي)عليه السلم( الذي يمثل
] [ 183
بدوره روح التوحيد لينفك عن تكرار التعرض للتوحيد ـ في خطب نهج البلغة ـ وتعليم أتباع مدرسة أهل البيت
الخلص في التوحيد فإّنما يعزى ذلك إلى ضرورة البقاء على جذوة هذه الشعلة الخالدة متقدة في القلوب وري
أرض الحياة بهذه المياه العذبة لتورق ثمار أشجارها وتنضج في ظل صبغة التوحيد اللهية.
ن الشهادة بالنبوة واللتفات إلى وظائفها ومسؤولياتها وكتبها السماوية إّنما يعّد أفضل أرضية
و مّما ل شك فيه أ ّ
خصبة لبلورة حقيقة التوحيد في أعماق كيان النسانية.
كان علي)عليه السلم( مجسمة التوحيد ومظهره التام قبل أن يدعو الخرين لهذه الحقيقة الخالصة.
ل ويرى ال فيه
لم يسجد لصنم طرفة عين طيلة حياته قط ليلوث صفو روحه غبار الشرك .كان ل يفعل شيئا إ ّ
وقبله ومعه ليروم سوى رضاه.
كما وقف كالطود الشامخ يشد أزره ويذود عنه بغية استتباب التوحيد والعبودية .ول يخفى على أحد موقفه في
الخندق ومبارزته لعمرو بن العاص ،فقد صرعه المام)عليه السلم( وأو شك أن يقتله; وقد أصيب جيش السلم
بالذهول حين رأى المام)عليه السلم(قد انصرف عن قتله )و لعله نهض من عنده وتركه لمّدة بعد أن تجول في
الميدان( ثم عاد إليه وقتله.
فلما سسئل عن علة ذلك قال)عليه السلم(» :قد كان شتم أمي وتفل في وجهي فخشيت أن أضربه لحظ نفسي
فتركته حتى سكن ما بي ثم قتله في ال«) (1وقد وقف بكل قوة تجاه بعض أصحابه الذين اعترضوا عليه بالتسوية
في العطاء من بيت المال قال» :أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه! وال ل أطور به ما سمر
سمير ،وما أم نجم في السماء نجمًا! لو كان المال لي لسويت بينهم ،فكيف وإّنما المال مال ال« (2).ولما كان
يقف للصلة كان يستغرق في صفات ال وجلله وجماله بحيث لم يكن يرى سوى ال ول يفكر في سواه ،حتى
ورد في الخبار أن سهما أصاب رجله في موقعة أحد وكان يصعب سله من رجله فأمر
.1مناقب ابن شهر آشوب) 115 / 2 ،مستدرك الوسائل; 28 / 18وبحار النوار.(51 / 41 ،
] [ 184
رسول ال)صلى ال عليه وآله(سسله حين يقف للصلة .فلما فرغ)عليه السلم( من صلته قال لم أشعر بالسهم
حين الصلة (1).وما أكثر هذه التماذج التوحيدية في حياة المام)عليه السلم(.
—–
.1كتاب »المناقب المرتضوية« تأليف المولى محمد صالح الكشفي الحنفي ،364 /طبعة يومباي )مطابق نقل احقاق الحق / 8
.(602
] [ 185
القسم الثاني
ت اَْلْمُر َوضا َ
ق شّت َجُر َوَت َ
ف الّن ْ
خَتَل َ
نَ ،وا ْسواِري اْلَيِقي ِ ت َع ْعَز َنَ ،وَتَز ْ حْبُل الّدي ِ
جَذَم ِفيها َ »َوالّناس ِفي ِفَتن اْن َ
ن فاْنهاَرتْ خِذَل اِْليما ُن َو ُشْيطا ُصَر ال ّن َوُن ِحَم ُ ي الّر ْ صَ ع ِ صَدُر فاْلُهَدى خاِمٌل َواْلَعَمى شاِمٌل ُ ي اْلَم ْ
عِم َج َو َ خَر ُاْلَم ْ
سَلُكوا َمساِلَكُه َوَوَرُدوا َمناِهَلُهِ ،بِهْم ن َف َشْيطا َ عوا ال ّ شُرُكُه َأطا ُت ُ عَف ْسُبُلُه َو َ
ت ُ س ْت َمعاِلُمُه َوَدَر َ
َدعاِئُمُه َوَتَنّكَر ْ
سناِبِكهاَ ،فُهْم ِفيها عَلى َ ت َظلِفهاَ ،وقاَم ْ طَئْتُهْم ِبَأ ْ
خفاِفها َوَو ِ سْتُهْم ِبَأ ْعلُمُهَ ،وقاَم ِلواُؤُهِ ،في ِفَتن دا َ ت َأ ْ
ساَر ْ
جٌم
ع ِبَأْرض عاِلُمها ُمْل َ حُلُهْم ُدُمو ٌسُهوٌدَ ،وُك ْ جيران َنْوُمُهْم ُ شّر ِخْيِر دار َو َ ن ِفي َ ن َمْفُتوُنو َن جاِهُلو َ ن حاِئُرو َ تاِئُهو َ
َوجاِهُلها ُمْكَرٌم«.
—–
الشرح والتفسير
العصر الجاهلي
يصور المام)عليه السلم( بهذه العبارات القصيرة والبليغة أوضاع العصر الجاهلي وكأن السامع يشهد عن قرب
تلك الوضاع ويرى نفسه في خضم ذلك العصر ليلمس الفوضى والبؤس والشقاء الذي كان عليه الناس .ول نرى
ن المام)عليه السلم( قد إختصر كتابا ضخما بهذه العبارات الموجزة; المر الذي يعّد
أنفسنا نبالغ إذا ما قلنا بأ ّ
دللة ُاخرى على مدى رصانة بيانه وعمق الفصاحة والبلغة والروعة في التصوير والدقة في التعبير التي
تشتمل عليها كلماته وخطبه)عليه السلم((1).
ن ال سبحانه بعث النبي )صلى ال عليه وآله(حين كان .1طبقا لما ورد آنفا فان الواو في قوله »و الناس في فتن «....حالية أي أ ّ
ن بعض شّراح نهج البلغة إحتملوا أن الواو إبتدائية والعبارات رسمت صورة عن أوضاع الناس في الناس على هذه الحالة ،إّل أ ّ
ن هذه العبارات يمكن أن تكون
ن هذا الحتمال ل يبدو صحيحا والحق هو الحتمال الول ،رغم ا ّ عصر المام)عليه السلم( ،غير أ ّ
لّمة في عصره من العودة إلى عصر الجاهلية بفعل أمراض حب الذات واطاعة الهواء. تحذيرا ل ُ
] [ 186
ل تتضح عظمة رسالة النبي )صلى ال عليه وآله( وسمو الخدمات التي أسداها إلى البشرية وحلوة ومن البديهي إ ّ
اليمان التي حملها الدين الحنيف ما لم تكن هناك صورة واضحة عن الوضاع السائدة لدى القوام السابقة التي
سبقت عصر الرسالة وانبثاق الدعوة السلمية.
فمن شأن هذه المقارنة أن تميز عظمة مشاريع النبياء وبرامج الولياء والعباقرة على مدى التاريخ .فقد
لّمة آنذاك بحيث تصدعت عرى الدين وتزعزعت أعمدة أشار)عليه السلم( إلى الفتن التي كانت تعصف با ُ
اليمان وتلوثت الفطرة وتغيرت القيم وسادت الفرقة بين الناس ،فغدوا حيارى قد ضلوا المخرج »والناس في فتن
إنجذم) (1فيها حبل الدين وتزعزعت) (2سواري)(3اليقين واختلف النجر) (4وتشتت المر وضاق المخرج
وعمي المصدر«.
فقد تقطعت حبائل الدين وغيبت المعارف الدينية الحقة إثر فتن الشياطين ووساوس عبدة الهواء من جانب ،ومن
لّمة وتصاعدت بين أوساطها حدة الفرقة والختلف; والنكى من ذلك وفي ظل جانب آخر فان الفوضى عمت ا ُ
هذه الظروف لم يكن هناك من سبيل للخروج من المأزق ول من كهف يؤى إليه; المر الذي اضطر الناس للبقاء
على النحراف والدنس الذي ساد ذلك المحيط والعوم في مستنقعه العفن .والعبارة »حبل الدين« ـ التي وردت
بصيغة المفرد ـ إشارة إلى وحدة الدين الحق ووحدة المصدر الذي تستقى منه كافة أصول وتعاليم النبياء وإن
لصول والتعاليم بعض الفوارق التي تفرزها طبيعة تقادم الزمان ،وهذا ما يجوزه القرآن الكريم على شهدت هذه ا ُ
سِلِه() (5وقوله)عليه السلم( »إختلف النجر« ل يشير ن ُر ُ
حد ِم ْ
ن َأ َ
ق َبْي َ
لسان المؤمنين الصادقين بقوله) :ل ُنَفّر ُ
إلى الختلفات التي شهدها العصر
» .1إنجذم« من مادة »النجذام« بمعنى إنقطع وإنفصل ومن هنا يطلق إسم الجذام على ذلك المرض الذي يصيب الجسم فيؤدي إلى
انفصال العضاء.
» .2تزعزعت« من مادة »زعزع« بمعنى تحركت واضطربت ،فيقال على سبيل المثال :زعزع الريح الشجرة.
» .4نجر« على وزن فجر يعني الصل ،كما يعني الصلح والشكل والهيئة ومنه اطلق اسم النجار .وقد وردت هذه المفردة في
العبارة بالمعنى الول.
] [ 187
الجاهلي على أّنها إختلفات صورية في تفرعاتها واطيافها فحسب ،بل كانت إختلفات أصولية وأساسية جذرية.
لصول الفطرية التي ن العبارة إشارة إلى معنى يتضمن تزلزل حتى أركان الفطرة النسانية وا ُ بل يمكن القول إ ّ
جبل عليها النسان من قبيل التوحيد وعشق العمال الصالحة والخيرة; أو تغير قيم المجتمع النساني وتنكرها
حتى عاد لكل معاييره الخاصة للتعامل مع القضايا; المر الذي أدى إلى تلك الحالة من الفرقة والتشتت و»تشتت
ن المراد بهذا المر هو أمرالمر« يمكن أن تكون أشارة إلى شدة الخلفات الدينية القصوى آنذاك )على أساس أ ّ
لمور الدينية والدنيوية والمسائل
لمور الجتماعية ،سواء ا ُالدين( أو إشارة إلى الفرقة والشقاق في كافة ا ُ
المرتبطة بالمجتمع والسرة أو القضايا القتصادية أو الخلقية.
ن المعنى الثاني أكثر إنسجاما والعصر الجاهلي; وهنا تكمن الطامة الكبرى حيث يغط النسان في هالة من
ويبدو أ ّ
الشك والترديد وإنعدام اليمان وأنواع الختلفات والشقاقات والفساد والنحراف وليس هنالك من سبيل أمامه
للخروج من هذا المأزق حتى يعيش اليأس والقنوط من رأسه إلى أخمص قدمه .وهذه هى الصورة الحقيقية التي
رسمها المام)عليه السلم(لذلك العصر.
ثم يتطرق)عليه السلم( إلى المعطيات السلبية التي أفرزتها تلك الوضاع المزرية آنذاك فوصفها)عليه
ل»:فالهدى خامل) (1والعمى شامل ،عصي الرحمن ونصر الشيطان وخذل اليمان«. السلم(قائ ً
من الطبيعي أن يتطلب سبيل طاعة ال نور الهداية من جانب والبصيرة التي تهتدي إلى ذلك النور من جانب
لّمة تتحول إلى رعيل شيطاني تتكالب على الفواحش والرذائل شاءت أم أبت إذا إنعدم في وسطها ذلك
آخر; فا ُ
النور وفقدت تلك البصيرة.
والجدير بالذكر في العبارة »عصي الرحمن« أن المام)عليه السلم( قد إختار هنا اسم الرحمن من بين أسماء ال
ن طاعته أمر فطري وبديهي الحسنى في إشارة إلى أّنه ورغم الرحمة اللهية التي عمت الجميع دون إستثناء وا ّ
ن هؤلء العمي البصائر في العصر لأّ
جبلت عليه النفس البشرية إ ّ
] [ 188
الجاهلي قد صموا أبصارهم حتى عن رؤية هذه الحقيقة القائمة .ثم يؤكد هذه النتائج المرة التي أصيبوا بها آنذاك
فيلخصها)عليه السلم( قائل» :فانهارت) (1دعائمه وتنكرت معالمه ودرست) (2سبله و عفت شركه) «(3ولعل
التعبير بالدعائم إشارة إلى أولياء ال ورواد سبيل الحق أو التعليمات الصولية للنبياء.
و قوله إنهارت تعود إلى القضاء على هذه الدعائم أو التعليمات; والمعالم ممكن أن تكون إشارة إلى الكتب
ن المراد بالسبل والشرك طرق المعرفة سواء الطرق العقلئية والفطرية السماوية السابقة أو التعاليم النبوية ،كما أ ّ
أو طريق الوحي والتعاليم السماوية.
ن »الشرك« كما أشرنا سابقًا بمعنى الطريق الرئيسي .فالطرق الصغيرة قد تكون النقطة الجديرة بالذكر هنا هى أ ّ
عرضة للهمال والنسيان في حين ليس الطريق الرئيسي كذلك ،مع ذلك ففي مثل هذا المجتمع وحتى الطرق
الرئيسية قد فقدت وزالت غايتها في إرشاد المارة.
ولم تكن نتيجة ذلك سوى ما قاله المام)عليه السلم(»:بهم سارت) (5اعلمه ،وقام لواؤه« .ثم قال)عليه
السلم(»:في فتن داستهم) (6باخفاقها) (7ووطئتهم باظلفها) (8وقامت على سنابكها)(10).«(9
و السؤال المطروح هنا :هل هذه الفتن هى تلك التي أشير لها سابقًا أم هى فتن ُاخرى; يبدو أّنها الفتن المذكورة
ن المام)عليه السلم( أشار إلى تفاصيلها الخرى ،حيث يشبه المام)عليه السلم( آنفا ،غير أ ّ
» .3شرك« جمع »شركة« على وزن حسنه ،وقال البعض جمع أشراك بمعنى الطرق العامة.
» . 8اظلف« جمع »ظلف« بالكسر للبقر والشاء وشبههما كالخف للبعير والقدم للنسان.
» .9سنابك« جمع »سنبك« على وزن قنفذ بمعنى طرف الحافر.
ن الجار
.10يمكن أن تكون جملة »في فتن داستهم« متعلقة بمحذوف تقديره ل والناس في فتن داستهم« ،كما إحتمل البعض أ ّ
والمجرور متعلق بسارت في الجملة السابقة ويبدو الحتمال الول أقوى.
] [ 189
فتن الجاهلية بالحيوان الوحشي الذي يركل صاحبه بحافره .والذي يقف على رجليه ليدوس بها أدني حركة تبدو
أمامه.
ن هذه الفتن ل
أّما تعبيره)عليه السلم( بالسنابك التي تعني طرف الحافر فهى إشارة لطيفة إلى حقيقة مفادها أ ّ
تعرف النكسار وهى باقية في إلقاء ضللها الوخيمة على الناس )لن مثل هذه الحيوانات حين تقف على أطراف
حوافرها إّنما تعلن عن تأهبها لبداء ردود الفعل العنيفة تجاه كل من يقف أمامها«.
و عليه فقد كانت الوضاع في ذلك الزمان على درجة من التعقيد والوخامة بحيث لم يعّد هنالك من أمل في التغلب
عليها .وهذا بالذات ما جعل المام)عليه السلم( يخلص إلى هذه النتيجة بالنسبة لما عليه الناس في ظل تلك الفتن
»فهم فيها تائهون) (1حائرون جاهلون مفتونون«.
تائهون إشارة إلى أّنهم قد ضلوا سبيل الحق بالمرة حتى نسوا أنفسهم وخسروا ذاتهم .حائرون إشارة إلى الحيرة
التي سيطرت عليهم فسلبتهم حتى القدرة على اتخاذ القرار الذي من شأنه إنقاذهم من تلك الفتنة .جاهلون أي أّنهم
ن الجهل والتخبط سوف لن يدعهم يبلغون السبيل السليم. وعلى فرض عزمهم على إتخاذ القرار لنجاتهم فا ّ
ل ل عيب والحيل التي استهوتهم فجعلتهم يرون السراب ماءًا والمجازمفتونون إشارة إلى الوهام والخيالت وإ ّ
حقيقة .وقد حصل كل هذا حين كان الناس في خير أرض )في جوار بيت ال الحرام وديار النبياء العظام( واسوأ
جيران »في خير دار وشر جيران«) (2وأثر ذلك فقد أصبح »نومهم سهود) (3وكحلهم دموع« .والدهى من ذلك
أّنهم يعيشون في مجتمع ل يقيم زنا للعالم بما جعله يفقد قدرته على هدايتهم وإرشادهم بينما يخطى الجاهل في ذلك
المجتمع بمكانة ل يحلم بها »بارض عالمها ملجم وجاهلها مكرم« هنالك أربعة تفاسير أوردها شّراح نهج البلغه
ن المراد بها مكة )بيت ال
بشأنه قوله)عليه السلم(»فى خير دار« فقد ذهب البعض إلى أ ّ
.2ذهب البعض إلى أن الجار والمجرور في قوله »في خير دار« يتعلق بمفتونين ،والحال أن النسب أن يكون خبر لمبتدأ محذوف
تقديره »و الناس في خير دار« والجملة حال لعصر الجاهلية والواو في قوله وشر جيران هى واو المعية.
.3سهود مصدر بمعنى الرق وقلة النوم )الصحاح ،المفردات ،لسان العرب والمقاييس(.
] [ 190
الحرام()و على هذا الضوء فان العبارات المذكورة وصف لعصر الجاهلية( بينما قال البعض الخر أريد بها
الشام حيث كانت من الراضي المقدسة ومهبط النبياء وأهلها شر جيران; أي أصحاب معاوية )إذا اعتبرنا
عبارات المام)عليه السلم( واردة بشأن عصره(.
الحتمال الثالث أن يراد بقوله خيردار الكوفة التي كان يقيم فيها المام)عليه السلم(بينما كان أهلها ومن يحيط بها
من شر الجيران من قبيل المنافقين والناكثين الذين ل يلتزمون بالعهود .وأخيرًا الحتمال الرابع أن يكون المراد
بها دار الدنيا التي يسكنها أغلب الطالحين والثمين ويبدو التفسير الول هو النسب والصوب حيث ينسجم
والعبارات المذكورة سابقًا.
و على ضوء هذا التفسير فان قوله)عليه السلم( »نومهم سهود« إشارة إلى الفوضى والضطراب وإنعدام المن
والمصائب التي عمت عصر الجاهلية ،والعلماء أولئك الصلحاء الذين تمحوروا حول رسول ال)صلى ال عليه
وآله(والجهال أولئك المفسدون من قريش ومن لف لفهم; أّما على ضوء سائر التفاسير فان المراد الفوضى وإنعدم
المن في زمان معاوية والمشاكل التي برزت بين العراق والشام آنذاك ،وقد ألمحنا سابقًا إلى عدم انسجام هذه
التفاسير وروح الخطبة.
والشاهد على ذلك إضافة لما ذكر ،ما أورده إبن َأبي الحديد في شرحه لنهج البلغة حيث قال :أّنه)عليه السلم(لم
يخرج من صفة أهل الجاهلية وقوله »في خير دار« يعني مكة و»شر جيران« يعني قريشا ،وهذا لفظ النبي
)صلى ال عليه وآله( حين حكى بالمدينة حالة كانت في مبدأ البعثة فقال »كنت في خير دار وشر جيران«).(1
أّما قوله)عليه السلم( »نومهم سهود وكحلهم دموع« فهو إشارة لطيفة إلى تفاقم الفوضى والضطراب ومصائب
ذلك الزمان بحيث إذا خلدوا ليل إلى النوم كان نومهم مضطربا مشوبا بالخوف والرعب والسهاد ،وقد إتسعت
ل من تزينها بالكحل.
هوة الفتن بحيث إكتحلت عيونهم بالدموع التي تحرق أجفانها بد ً
و من الطبيعي وفي ظل هذه الجواء وفي تلك الديار والمجتمعات أن يغيب دور العلماء وتهمل مكانتهم وبالمقابل
يبرز الجهال الذين كانوا يمثلون زعماء قريش وكبرائها ليحظوا
] [ 191
و أخيرًا فهناك إحتمال آخر أن يكون المراد بالعلماء هم ذلك النفر القليل من الموحدين قبل بعثة النبي محمد)صلى
ال عليه وآله(من قبيل عبدالمطلب وأبوطالب وقس بن ساعّدة ولبيد بن ربيعة وأمثالهم.
لقد قدم المام)عليه السلم( بهذه العبارات القصيرة والعميقة المضامين صورة دقيقة حية عن الوضاع التي
عاشها العرب في العصر الجاهلي بحيث يجد كل من تأملها نفسه في خضم ذلك العصر ليرى بُأم عينه كل تلك
الفوضى والقبائح والرذائل.
فقد عكس المام)عليه السلم( عظمة مقام النبي)صلى ال عليه وآله( وسمو منزلته من جانب حيث تتضح شدة
النور و عمق خطفه للبصار كلما كان الظلم دامسا والعتمة شديدة ،المر الذي يكشف عن عظمة خدمات نبي
السلم)صلى ال عليه وآله( ونجاعة دينه في خلق المجتمع .ول غرو فان استبدال ذلك المجتمع ـ بالمواصفات
المذكورة ـ إلى ذلك المجتمع الذي إلتف حول الرسول لم يكن يبدو أمرًا ممكنًا ،وليس ذلك سوى للعجاز والوحي
وعظمة التعاليم السلمية التي تمكتت من انتشال ذلك المجتمع وطبعه بهذه الصفات العالية.
من جانب آخر فهى إشارة إلى تجديد الفكار والداب والسنن الجاهلية في عصر النبي)صلى ال عليه وآله( والتي
لّمة عن تعاليم النبي)صلى ال عليه وآله(.
ظهرت في عصر الخلفة الراشدة إثر انحراف ا ُ
لّمة في زمانه من الخطار التي تتهددها من جراء إحياء سنن الجاهلية والعادات فالمام)عليه السلم( يحذر ا ُ
ن المام)عليه السلم(قد أورد هذه الخطبة بعد إنصرافهوالتقاليد البالية التي تفتك بالمجتمع .الجدير بالذكرهنا هو أ ّ
من صفين حيث أراد الفات نظر أصحابه إلى العناصر التي أدت إلى تلك النتيجة باسلوب بليغ يعرف بـ »إياك
أعني واسمعي باجارة«.
ن عبارات المام)عليه السلم( تستبطن الدروس والعبر التي ينبغي أن نحتذيها نحن المسلمون في العصر لشك أ ّ
الحاضر الذي يتصف بالمدينة والتطور والتقدم ،فهى تحذير جدي لنا; فعباراته تنطبق تماما على الوضاع التي
لّمة اليوم في هالة من الفتن وتزعزعت عرى اليمان واليقين واندرست يشهدها عصرنا الراهن حيث غاصت ا ُ
سبل معرفة الحق بفعل تفاقم سعة
] [ 192
حجم الدعايات المسمومة وانتشار الرذيلة والفساد وتفرق الناس أيادي سبأ وكثرت الهواء وتعذرت طرق النجاة
وقد استفحل الضلل وإنعدام الهدى واستشرت الذنوب والمعاصي وخلى الميدان للشياطين والمستكربين.
لّمة
نا ُ
لّمة وأقبلت على سنن الجاهلية ،والعجيب أ ّ
نعم لقد شهد عصر المام)عليه السلم( تلك الغفلة فعادت ا ُ
آنذاك قد خلدت إلى السبات والكسل بحيث لم يعّد يؤثر فيها صراخ حتى هذا الولي الرباني وأخذوا يتهافتون على
احياء سنن الجاهلية حتى آل المر إلى تحول الحكومة السلمية إلى حكومة وراثية تلقفها بنو امية وبنوالعباس،
فلم تتعثر المسيرة السلمية آنذاك فحسيت ،بل وجهت إليها ضربات موجعة جعلتها تلعق جراحها لحد الن!
ونرى هنا ضرورة تسليط الضوء على أوضاع الناس في العصر الجاهلي من مختلف الجوانب ودراسة ما أورده
المام)عليه السلم( بهذا الشأن لنقف بوضوح على تفاصيل هذا الموضوع.
فجاهلية العرب ـ وهكذا الجاهلية التي كانت تعيشها سائر القوام ـ إّنما تشير إلى سلسلة من العقائد الباطلة
والخرافات والساطير والسنن الخاطئة والقبيحة المخجلة إلى أحيانا،جانب الفعال العبثية والسلوكية العنيفة
القائمة على الظلم والضطهاد والنحرافات الفكرية من قبيل نحت الوثان من الخشب والحجر والعتكاف على
عبادتها واللجوء إليها عند حدوث الخطوب والمصائب حيث جعلوها شفعائهم إلى ال بعد أن اعتقدوا بقدرتها
ن الخير والشر بيدها.
المطلقة وأ ّ
و لم تقتصر أفعالهم الطائشة على وأد البنات كدفاع عن العرض والشرف أو أّنهن يجلبن عليهم الخزي والعار
فحسب ،بل كانوا يعمدون لقتل أولدهم تحت ذرائع شتى منها تقديمهم إياهم كقرابين إلى آلهتهم أو بدافع الفقر
شَيَة ِإْملق() (2و)َو ِإذا
خْ
شَركاُؤُهْم() (1و)َول َتْقُتُلوا َأْولَدُكْم َ
ل َأْولِدِهْم ُ
ن َقْت َ
شِرِكـي َن الُم ْ
ن ِلَكِثـير ِم َ
ك َزّي َ
)َوَكذ ِل َ
ت().(3 ي َذْنب ُقِتَل ْ
ت * ِبَأ ّسِئَل ْ
الَمْوُءوَدُة ُ
] [ 193
و لم يعيشوا أي هاحبس من قلق لفظاعة هذه الجرائم ،بل أبعد من ذلك كانوا يتفاخرون بها على أّنها من العناصر
المشرفة في حياة السرة التي كانت تعمد لرتكاب مثل تلك الجنايات المهوولة.
أّما المراسم العبادية في البيت فلم تكن سوى المكاء والتصدية والعري التي كانت عليه النساء حين العبادة وهن
صِدَيًة() (1كانوا يتفاخرون بالحروب وسفك الدماء
ل ُمكاءًا َوَت ْ
ت ِإ ّ
عْنَد الَبْي ِ
ن صلُتُهْم ِ
يطفن حول الكعبة )َوما كا َ
والسلب والنهب ،كما لم يكونوا يقيموا أدنى وزن للمرأة فهى ليست سوى سلعة رخيصة فل تتمتع بأدنى حقوق بل
كانوا أحيانا يقامرون بها.
ن لِّ
جَعُلو َ
كانوا يرون الملئكة بنات ال ـ وكما أشرنا سابقًا فاّنهم كانوا يرون في البنت العار والفضيحة ـ )َوَي ْ
ن() (3أّما على مستوى الخرافات خَلْقنا الَمـلِئَكَة ِإناثًا َوُهـْم شاِهُدو َ ن() (2و)َأْم َ شَتُهو َ
سْبحاَنُه َوَلُهْم ما َي ْ
ت ُ
الَبنا ِ
ن هـِذِه
طو ِوالساطير التي كانت سائدة لديهم فقد كانت عجيبة مذهلة ومنها ما وصفه القرآن الكريم )َوقاُلوا ما ِفي ُب ُ
شَركاُء().(4ن َمْيَتًة َفُهْم ِفـيِه ُ
ن َيُك ْ
جنا َو ِإ ْعلى َأْزوا ِ
حّرٌم َ
صٌة ِلُذُكوِرنا َوُم َ لْنعاِم خاِل َ
اَ
ن هذا إذا غضب أحدهم على إمرأته وأراد أن يوبخها كفاه وأن يخاطبها »أنت علي كظهر أمي« فهم يعتقدون أ ّ
القول يكفي أن تحرم عليه لّنها عادت كامه دون إجراء حكم الطلق عليها ،المر الذي شجبه القرآن ولم يقره:
ن ُمْنَكرًالئـي َوَلْدَنُهْم َو ِإّنُهْم َلَيُقوُلو َ
ل الـ ّ
ن ُأّمهاُتهُْم ِإ ّ
ن ُأّمهاِتُكْم()ِ) ،(5إ ْ
ن ِمْنُه ّ
لئـي ُتظاِهُرو َ
جُكُم ال ّ
ل َأْزوا َ
جَع َ
)َوما َ
ل َوُزورًا() (6أّما الطابع السائد الذي كان يميز العصر الجاهلي فانما يكمن في شن الحروب والغارات ن الَقْو ِ
ِم َ
التي
.1سورة النفال .35 /اّما المشهور بالنسبة لسبب نزول سورة التوبة ومن اُلمور التي أمر أمير المؤمنين )عليه السلم(بابلغها
المشركين »و ل يطوفن يا لبيت عريانا« .نور اليقلين179 / 2 ،ـ 181ح 14و 17و 18و 20ومجمع البيان.3 / 5 ،
] [ 194
تستبطن سفك الدماء وتأجيج الحقاد والضغان التي توارثتها القوام أبا عن جد ،المر الذي شبهه القرآن بشفا
على
خوانًا َوُكْنُتْم َ
حُتْم ِبِنْعَمِتِه ِإ ْ
صَب ْ
ن ُقُلوِبُكْم َفَأ ْ
ف َبْي َ
عداًء َفَأّل َ
عَلْيُكْم ِإذ ُكْنُتْم َأ ْ
ل َ
حفرة من النار ،فقال )َواذُكُروا ِنْعَمَة ا ّ
ن الّنار َفَأْنَقَذُكْم().(1
حْفَرة ِم َ
شفا ُ
َ
لخرى التي كانت تسود في الذهان هو العتقاد بالرابطة القائمة بين نزول المطر وبزوغ واختفاء الخرافة ا ُ
بعض الكواكب ،والتفؤل بالطيور واليمان بالغول الصحراوي والعفاريت وما شابه ذلك; المر الذي عبر عنه
عَلْيِهْم آياِتهِ َوُيَزّكيِهْم
ل ِمْنُهْم َيْتُلوا َ
سو ً
ن َر ُ
لّمـّيي َ
ث ِفي ا ُ
القرآن الكريم في أكثر من أية بالضلل المبينُ) .هَو اّلِذي َبَع َ
ضلل ُمِبين().(2 ل َلـِفي َ
ن َقْب ُ
ن كاُنوا ِم ْ
حْكَمَة َو ِإ ْ
ب َوال ِ
َوُيَعّلُمُهُم الِكتا َ
نعم هذه صورة مقتضبة من الحالة التي كانت عليها العرب في الجاهلية ـ بل هذه مميزات سائر القوام في
الجاهلية التي تعددت أشكالها واتفقت مضامينها.
و من هنا يمكن الوقوف على عظمة السلم والقرآن وحامل رسالتها النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( ،المر
ن ال هدى العرب من الظلمات إلى النور بالسلم الذي توصل إليه أحد أعلم الغرب ويدعى توماس كارل في أ ّ
ومن ُاّمة راكدة متقاعسة لصوت فيها ولحركة إلى أّمة ذات شهرة ومن الضعف والوهن إلى اليقظة والقوة،
ومن الضعة إلى العزة ومن العجز إلى القدرة .فقد شع نور السلم على العالم من جهاته الربع ولم يمضى عليه
أكثر من قرن فبلغ المسلمون الهندالندلس ،بل استطاع السلم أن يبسط نوره على تصف المعمورة بهذه المّدة
القصيرة(3).
—–
.3عذر التقصير لدى محمد والقرآن ،ص ) 77نقل عن تفسير المثل.(31 / 3 ،
] [ 195
القسم الثالث
و منها يعني آل النبي عليه الصلة والسلم
ظْهِرِه،
حناَء َ
جباُل ِديِنِهِ ،بِهْم َأقاَم اْن ِ
ف ُكُتِبِهَ ،و ِ
حْكِمِهَ ،وُكُهو ُ
عْلِمِهَ ،وَمْوِئُل ُ
عْيَبُة ِ
جُأ َأْمِرِهَ ،و َ
سّرِه َوَل َ
ضُع ِ
»ُهْم َمْو ِ
صِه«. ب اْرِتعاَد َفراِئ ِ
َوَأْذَه َ
—–
الشرح والتفسير
يصف المام)عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة الئمة من أهل بيت النبي)صلى ال عليه وآله(بعبارات
قصيرة عميقة المعاني ،حيث يتطرق إلى مكانتهم بعد رسول ال)صلى ال عليه وآله(على ضوء ماورد في
الحاديث النبوية الشريفة من قبيل حديث الثقلين وسفينة نوح والنجوم(1).
فقد وصفهم في عباراته الست الولى بقوله)عليه السلم(» :هم موضع سره ،ولجأ) (2أمره ،وعيبة)(3علمه،
ن كل عبارة من هذه العبارات تشير
وموئل) (4حكمه ،وكهوف) (5كتبه وجبال دينه«) (6أ ّ
.1فقد تصدت هذه الحاديث التي روتها مصادر الفريقيين لبيان مكانة أهل البيت)عليه السلم(.
ن أهل البيت)عليه السلم( هم عدل القرآن الذين ل يفترقون عنه حتى يردا على النبي )صلى ال عليه فقد صّرح حديث الثقلين بأ ّ
وآله(حوضه .أّما الحديث الثاني فقد شبههم بسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق .وأخيرًا حديث)صلى ال عليه
ن النجوم أمان لهل السماء وأهل بيتي أمان لهل
وآله(الذي قال فيه» :مثل أهل بيتي فيكم كمثل النجوم باي إقتديتم إهتديتم وإ ّ
الرض«.
» .3عيبة« بمعنى الوعاء و الصندوق أو الشيئى الذي تحفظ فيه الشياء و قد ُاشتق في الواقع من العيب و قد استعمل بالمعنى
ن العيوب عادة ما تستر.
المذكور ل ّ
» .4موئل« من مادة »وأل« على وزن سهل بمعنى المرجع والملذ وموضع النجاة.
ن البعض قال الكهف هو الغار الواسع ،ولما كان الناس يلجأون إلى الغيران في أغلب
» .5كهوف« جمع »كهف« بمعنى الغار ،إّل أ ّ
الوقات فقد احتمل أن يكون بمعنى الملذ والموضع الذي يحفظ الشياء.
.6اعلم ان هنالك اختلفا بين الشّراح بشأن الضمير في هذه العبارات الست .فقد ذهب البعض إلى أّنها ترجع جميعا إلى النبي )صلى
ن الضمير فيها يعود إلى ال سبحانه )و ل يسما باللتفات إلى قوله وكهوف كتبه( بينما يعود
ال عليه وآله( بينما تفيد القرائن أ ّ
الضمير في العبارة الخيرة إلى الدين كما سيأتي توضيح ذلك لحقا.
] [ 196
إلى أمر معين رغم ما ذهب إليه بعض العلماء والشّراح من ترادف العبارات وأّنها شبيهة لبعضها البعض الخر.
أّما العبارة الثالثة فقد اعتبرتهم)عليه السلم( عيبة علوم ال سبحانه ،ول يقتصر ذلك على السرار و الوامر ،بل
يشمل جميع العلوم اللزمة لهداية الناس أو ذات الصلة بهذه الهداية فهى مودعة لديهم مخزونة عندهم .وفي
لّمة الرجوع إليهم في الختلفات على
العبارة الرابعة يتضح أّنهم المرجع في الحكام اللهية التي يجب على ا ُ
المستوى الفكري أو القضائي ليزيلوا عنهم الفرقة والختلف ويهدوهم سواء الصراط.
ن مضامين جميع الكتب السماويةأّما قوله)عليه السلم( »و كهوف كتبه« فيكشف اللثام عن هذه الحقيقة وهى أ ّ
موجودة عندهم .وهذا يشبه إلى حّد بعيد ما قاله علي)عليه السلم(» :أّما وال لو ثنيت
] [ 197
لي الوسادة فجلست عليها لفتيت أهل التوراة بتوراتهم ...وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم(1).«...
و أخيرًا فقد وصفهم)عليه السلم( بأّنهم جبال دينه ،ولعل العبارة إشارة واضحة إلى ما أورده القرآن الكريم في
عدد من آياته الشريفة بشأن خصائص الجبال ودورها في حفظ إستقرارونزول البركات والخيرات فقد صّرحت
ن(فالواقع أ ّ
ن ل َلَعّلـُكْم َتْهَتُدو َ
سُب ً
ن َتِميَد ِبُكْم َو َأْنهارًا َو ُ
ى َأ ْ
سَض َروا ِ
لْر ِ
الية 15من سورة النحل قائلة )َوَأْلقى ِفي ا َ
الجبال ـ كما ورد في تفسير هذه الية وسائر اليات المشابهة ـ تقوم من جانب باحتواء الضغوط المسلطة على
الرض من باطنها وظاهرها ،ومن جانب آخر فهى مصادر عظيمة للنهار والبار وعيون الماء.
أّما انحناء الظهر فهى كناية رائعة لشدة المعضلت التي طالت الدين من من قبل العداء العلماء والصدقاء
الجهلء فانبرى لها هؤلء الكرام ليبقوا على الدين شامخًا ليناله تحريف المحرفين ول فتن المبطلين .والتعبير
»ارتعاد الفرائص« ارتعاد اللحمة التي تغطي القلب بين الجنب والكتف وهى كناية لطيفة عن الضطراب
والختلل الذي يطيل الدين من قبل المدارس اللحادية والنحرافات الدينية والتي يقف بوجهها أئمة الهدى
فيقضوا عليها فيعيدوا للدين صبغته الحقيقة الناصعة.
» .3إرتعاد« من مادة »رعّدة« بمعنى الهتزاز ،ومن هنا يطلق الرعد على الصوت العظيم الذي تحدثه السحب والغيوم.
» .4فرائص« جمع »فريصة« هى اللحمة بين الجنب والكتف التي ترعد حين الخوف ولذلك كانت )ارتعاد الفرائض( كناية عن
الخشية والضطراب ،ومن هنا كانت الفرصة تطلق على المّدة الزمانية للقيام بعمل )المقاييس ،المفردات ولسان العرب(.
] [ 198
تأّملن
1ـ آل النبي)صلى ال عليه وآله( كهف اُلّمة السلمية
ما ورد في عباراته)عليه السلم( يمثل الحقائف البعيدة عن أية مبالغة والتي تشهد عليها سيرة أئمة العصمة)عليه
السلم( ول سيما عصر أمير المؤمنين والمام الباقر والصادق والرضا)عليه السلم( وكيف وقف هؤلء العظام
بوجه المدارس المنحرفة التي ظهرت إثر إتساع رقعة السلم وورود الفكار المنحرفة للمناطق السلمية إلى
جانب الخرافات والساطير والعقائد الفاسدة والتفاسير الخاطئة المشبوهة التي أوردها الغلة والقلة للنيل من
السلم المحمدي الصيل.
فقد أفاد التاريخ أّنهم لم يعجزوا عن جواب أي سوال ،بل كانوا يجيبون بما يثلج صدر الصديق ويغيظ العدو .من
جانب آخر فقد شهد رحيل النبى الكرم)صلى ال عليه وآله(العواصف الهوجاء التي تكاد تغرق السفينة السلمية
لول هذه الصفوة الطاهرة ،وقد تنوعت أدوارهم واتحدت أهدافهم فتارة يذود عن الدين بما يظهر من علمه
ومعرفته وتبيينه لحقائق السلم ،وُاخرى بدمه الشريف إن تطلب حفظ الدين ذلك وهذا ما تمثل بحركة المام
الحسين)عليه السلم( وصحبه الميامين الذين ذادوا بمهجهم دون حياض الدين وبيضة السلم.
و لو تأملنا النحرافات العقائدية والفكار العجيبة التي سطرتها كتب الملل والنحل وقارناها مع المعارف والعقائد
التي حمل رايتها أئمة أهل البيت)عليه السلم( ـ ونموذج ذلك نهج البلغة والصحيفة السجادية »زبور آل محمد«
ـ والروايات الورادة عنهم)عليه السلم(في الكتب من قبيل توحيد الصدوق والمصادر المشابهة لتضحت لنا
الحقيقة التي ذكرت سابقًا في صفاتهم)عليه السلم(.
و أخيرًا هؤلء هم الذين وصفهم المام)عليه السلم( في موضع آخر من نهج البلغه لكميل بن زياد فقال» :الّلهم
بلى ل تخلو الرض من قائم ل بحجة أّما ظاهرًا مشهورًا أو خائقًا مغمورًا لئل تبطل حجج ال وبيناته ...يحفظ ال
بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظرائهم يزرعوها في قلوب أشباههم«(1).
وهم الذين قال فيهم رسول ال)صلى ال عليه وآله(» :إّني مخلف فيكم الثقلين كتاب ال وعترتي أهل
] [ 199
بيتي وأّنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما«(1).
—–
] [ 200
] [ 201
القسم الرابع
حٌد،
ن َهِذِه اْلُّمِة َأ َ س ِبآِل ُمحَّمد)صلى ال عليه وآله(ِم ْ صُدوا الّثُبوَر ،ل ُيقا ُ ح َ سَقْوُه اْلُغُروَرَ ،و َ
جوَرَ ،و َ عوا اْلُف ُ»َزَر ُ
حُ
ق ن ِإَلْيِهْم َيِفيُء اْلغاِليَ ،وِبِهْم ُيلْ َ
عمادُ اْلَيِقي ِ
نَ ،و ِس الّدي ِعَلْيِه َأَبدًاُ .هْم َأسا ُ
ت ِنْعَمُتُهْم َ
جَر ْن َسّوى ِبِهْم َم ْ َول ُي َ
ق ِإَلى َأْهِلِه َوُنِقَل ِإَلى ُمْنَتَقِلِه!«.
حّجَع اْل َن إِْذ َر َصّيُة َواْلِوراَثُة :اْل َ
ق اْلِولَيِةَ ،وِفيِهُم اْلَو ِحّ خصاِئصُ َ الّتاليَ ،وَلُهْم َ
—–
الشرح والتفسير
ن المام)عليه السلم(أورد هذه الخطبة حين ن الضمائر في العبارات الثلث الولى ـ بالستناد إلى أ ّيبدو أ ّ
إنصرافه من صفين ـ تعود إلى القاسطين )أصحاب معاوية( والخوارج المارقين; كما ذهب البعض إلى أّنها تعود
إلى المنافقين ،أو جميع أولئك الذين خالفوا المام)عليه السلم(هبوا لقتاله.
على كل حال فقد شبههم)عليه السلم( تشبيه دقيق فقال)عليه السلم(» :زرعوا الفجور) (1وسقوه الغرور)
(2وحصدوا الثبور).«(3
ثم يعود)عليه السلم( لبيان أوصاف آل محمد)صلى ال عليه وآله( بعبارات أكثر صراحة ووضوح ضمن إشارته
ـ كعادته في قلة اللفاظ وسعة المعاني ـ إلى منزلتهم الرفيعة وحقوقهم السليبة فيقول» :ل يقاس
» .1فجور« من مادة »فجر« بمعنى الشق في الشي ومن هنا يطلق الفجر على طلوع الصبح وكأن ضياء الصبح يشق حجاب الليل
المظلم ،كما يصطلح على العمال غير المشروعة بالفجور لّنها تخترق حجب الدين.
» .2الغرور« بمعنى الغفلة في اليقظة ،ووردت بمعنى المكر والحيلة ،والغرور بفتح الغين بمعنى الشيء الذي يخدع النسان
ويستغفله ،كما فسر بمعنى الشيطان ،لنه يخدع الناس بوعوده الكاذبة.
» .3الثبور« من مادة »ثبر« على وزن صبر بمعنى الحبس والهلك والفساد الذي يصد النسان عن بلوغ الهدف.
] [ 202
لّمة أحد« ودليل ذلك ل نقاش فيه ،لّنهم وعلى ضوء صريح الحديث بآل محّمد صلى ال عليه وآله من هذه ا ُ
النبوي الشريف حديث الثقلين الذي نقلته جميع مصادر الفريقين عدل القرآن الكريم ،ونعلم جميعًا أن ليس هنالك
لّمة أحد من قرن بالقرآن ،أضف إلى ذلك فهناك اليات القرآنية التي تؤيد هذا المعنى من قبيل آية التطهيرمن ا ُ
التي تصرح بعصمتهم وآية المباهلة التي عدت البعض منهم كنفس رسول ال )صلى ال عليه وآله( وسائر اليات
والروايات.
لخرون عشر معشار ما ورد في نهج البلغه؟ وهل هناك من يقوى على التيان بدعاء من أدعية فهل روى ا ُ
الصحيفة السجادية .وما بالك في الحكام الشاملة الواسعة التي رويت عن المام الباقر والصادق)عليهما السلم(
بشأن جزئيات المسائل الدينية ،والمناظرات التي عقدها المام الرضا)عليه السلم( مع سائر زعماء الديان حول
مختلف المسائل العقائدية والبواب الفقهية؟ آنذاك يتحدث عن دليل العبارة السابقة» :و ل يسوى بهم من جرت
نعمتهم عليه أبدا« وأي نعمة أعظم من تلك النعمة!
لخرون طعم السلم .فسيرة علي)عليه السلم( منذ ليلة المبيت فلو ل تضحيات علي)عليه السلم( لما ذاق ا ُ
ومرورا بموقعة بدر وأحد والخندق وخيبر وغزوات السلم كلها شواهد على المعنى المذكور و قد بلغت منزلته
من السمو والرفعة بحيث قال رسول ال)صلى ال عليه وآله( »ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين«
وفي عبارة ُاخرى »لمبارزة علي)عليه السلم( لعمرو بن عبدود أفضل من أعمال ُاّمتي إلى يوم القيامة«).(1
] [ 203
أضف إلى ذلك سائر مواقفه المشهورة في تاريخ السلم سواء في عصر النبي)صلى ال عليه وآله( أو ما تله
من العصور ودافع فيها بعلمه وعمله عن السلم .أّما في عصر الخلفة الراشدة والعصر المظلم لبني أمية وبني
العباس لم يكن سوى هولء الطهار من أهل البيت)عليهم السلم(الذين أضاءوا تلك الظلمات بنور علمهم
ومعرفتهم حتى أنقذوا المسلمين من تلك الحملت الثقافية المسعورة التي تبنت إحياء سنن الجاهلية وإطفاء السنن
اللهية ول نرى هذا الدور خافيا على أحد رغم الجهود المضنية التي ،بذلها أعدائهم لطفاء نورهم وطمس
فضائلهم.
ن المام)عليه السلم( يتحدث عن نعمة وجود أهل البيت بشكل دائمي مستمر و خالد دون و الطريف في المر أ ّ
اقتصارهم على عصر دون آخر ،ول غرو فثمار الشجرة السلمية المباركة التي نقطضها إّنما زرعها الرسول
لّمة أحد،
الكريم)صلى ال عليه وآله( وأهل بيته)عليهم السلم(» :ل يقاس بآل محمد صلى ال عليه وآله من هذه ا ُ
ول يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا« .ثم يتعرض)عليه السلم( إلى أمرين آخرين ينبعان من المر السابق
فيقول» :هم أساس الدين وعماد اليقين« .نعم فقد نزل الوحي في بيتهم وتربوا في أحضانه وما عندهم من علوم
ومعارف إّنما أخذوها عن رسول ال )صلى ال عليه وآله( ولما كانت العلوم والسرار اللهية مودعة لديهم فهم
أئمة اليمان ودعاة اليقين .ثم يخلص المام)عليه السلم( إلى هذه النتيجة» :إليهم يفيىء الغالي ،وبهم يلحق
لّمة الوسطى ) (2وعندهم المعارف اللهية الحقة التالي« وكيف ل يكونوا كذلك و هم الصراط المستقيم) (1وا ُ
والعقائد السلمية الصيلة البعيدة عن كل إفراط وتفريط.
و لو تصفحنا تاريخ الفرق والمذاهب السلمية البعيدة عن مدرسة أهل البيت)عليهم السلم( لرأينا النحراف
العقائدي الخطير من قبيل السقوط في حبال الجبر والتفويض والتشبيه واللحاد في أسماء ال وصفاته ،بل غالى
البعض في أسماء ال وصفاته حتى قالوا بتعطيل الصفات اللهية أن ليس هناك من سبيل لمعرفته سبحانه )سواء
المعرفة الجمالية أو المعرفة التفصيلة( ،وبالمقابل هناك الفرق التي هبطت بالذات اللهية المقدسة إلى الحضيض
فوصفته سبحانه بأّنه رجل أمرد صبيح الوجه عليه كساء أسود ملتحف به.
] [ 204
ن النسان كائن مسلوب أّما بشأن مسألة الجبر والتفويض ،فقد ذهبت الجبرية ـ فرقة من الفرق الضالة ـ إلى أ ّ
ن قدر له الكفر كفر وإن
الرادة والختيار وأّنه مجبر على أفعاله المقدرة عليه على ضوء القضاء والقدر اللهي فا ّ
قدر له اليمان آمن.
ن جميع الفعال
بينما وقفت المفوضة التي رأت للنسان استقلل تامًا إزاء الذات اللهية المقدسة ،فاعتقدت با ّ
مفوضة للنسان ،وهكذا هوت في وادي الشرك.
بينما تبنت مدرسة أهل البيت)عليهم السلم( إطروحة »المر بين المرين« لتنفي مسألة الجبر والتفويض وتحذر
المسلمين من الفراط والتفريط الذي يقود إلى الكفر والشرك ،ومن هنا يتضح معنى كلم المام)عليه
السلم(»:إليهم يفيئى الغالي ،وبهم يلحق التالي« فالعبارة تشبيه لطيف كأن هنالك قافلة يقودها عدد من الرواد
الماهرين ،تقسم بعض الفراد الذين يندفعون أكثر من غيرهم قدما فيضلون في الصحراء ،بينما يهن الخرون
ويتخلفون عن الركب فيصبحوا طعمة لذئاب الصحراء.
ثم يقول)عليه السلم(» :و لهم خصائص الولية« .وتصدر الجمله بلهم تفيد إقتصار هذه المزية عليهم)عليه
السلم( .وكيف ل يكونوا أصلح من الجميع وهم دعائم الدين واركان اليقين الذين يمثلون السلم الصيل الذي ل
لّمة إلى يوم القيامة .ولذلك قال)عليه السلم(» :و فيهم
يعرف الفراط والتفريط ،وهم النعمة الجارية على أفراد ا ُ
الوصية والوراثة«.
ن وصية النبي)صلى ال عليه وآله( بهم واستخلفهم من بعده إّنما تستند لمامر معنًا سابقًا ،ل نستنتج مّما سبق أ ّ
ن المراد بالوصية والوارثة هنا الخلفة والنبوة ،بل حتى لو افترضنا أنّ على أساس القرابة والنسب .ول يخفى أ ّ
ن المر سيقود بالتالي إلى الوراثة هنا هى وراثة علوم النبي)صلى ال عليه وآله(ـ كما ذهب إلى ذلك البعض ـ فا ّ
ن خليفة النبي وإمام الخلق لبّد أن يكون وارثًا لعلوم النبي)صلى ال عليه وآله(، جدارتهم باحراز هذا المقام; ل ّ
لمور الشخصية والعتيادية ل ن خليفته هو وصيه; فوراثة الموال ـ كما نعلم ـ ليست بذات قيمة والوصية في ا ُ وأ ّ
ن ُاولئك الذين سعوا جاهدين لتفسير الوصية والوراثة بمثل هذه المعاني إّنما يكشفون تحظى بأية أهمية ،ولشك أ ّ
عن مدى تعصبهم استنادهم إلى العناد والفكار المسبقة.
فليس هنالك من مسألة مهّمة تنسجم وقوله)عليه السلم(» :أساس الدين وعماد اليقين
] [ 205
لّمة
وخصائص حق الولية« سوى مسألة خلفة رسول ال)صلى ال عليه وآله( .وأخيرًا يخاطب)عليه السلم( ا ُ
في زمانه وكأّنهم قد تنكروا لبعض النعم ول يسما عودة الحق السليب »الن إذا رجع الحق إلى أهله ونقل إلى
منقله«(1).
تأّملن
1ـ مكانة أهل البيت في القرآن والرويات
لقد صّرحت أغلب اليات القرآنية والروايات السلمية بفضل أهل البيت)عليهم السلم(بما ل يبقى معه مجال
للشك في سمو مكانتهم وعلو منزلتهم .فآية التطهير واضحة في طهارة أهل البيت)عليهم السلم(من كل رين
طِهـيرًا((2).
طّهَرُكْم َت ْ
ت َوُي َ
ل الَبْي ِ
س َأْه َ
ج َ
عْنُكُم الّر ْ
ب َ
ل ِلـُيذِه َ
وعصمتهم من كل رجس )ِإّنما ُيِريُد ا ّ
ن أقرب المقربين ل وآية المباهلة التي وصفت نفس علي)عليه السلم( بأّنها نفس النبي)صلى ال عليه وآله( وأ ّ
ل َتعاَلْوا َنْد ُ
ع ورسوله )صلى ال عليه وآله( والمجابين الدعوة لديه هم الزهراء والحسن والحسين)عليه السلم(ُ) :ق ْ
سُكْم.(3)(...
سنا َوَأْنُف َ
َأْبناَءنا َوَأْبناَءُكْم َوِنساَءنا َوِنساَءُكْم َوَأْنُف َ
وآية التبليغ التي اعتبرت وظيفة النبي)صلى ال عليه وآله( في إبلغ ولية علي)عليه السلم( من أخطر الوظائف
ل َفما َبّلْغ َ
ت ن َلْم َتْفَع ْ
ك َو ِإ ْ
ن َرّب َ
ك ِم ْ
ل ِإَلْي َ
ل َبّلْغ ما ُأْنِز َ
سو ُ
ن عدم البلغ بمثابة عدم ابلغ الرسالة) :يا َأّيها الّر ُ
وأ ّ
ِرساَلَتُه .(4)(...إلى جانب ما ل يحصى من اليات التي ل يسعنا الخوض فيها في هذه العجالة ،ويضاف إلى ذلك
مصادر الفريقين والتي صّرحت بتواتر وصحة الخبار الواردة في فضائل أهل البيت)عليهم السلم((5).
.1هنالك محذوف في الجملة تقديره»:الن إذا رجع الحق إلى أهله لم ل تؤدون حقه« .وقد ورد تقدير ذلك في مصادر نهج
البلغة»:الن إذا رجع الحق إلى أهله من أهل بيت البنوة يجري ما يجري من الحوادث ويقع ما يقع من الختلف؟«) .مصادر نهج
البلغة (302 / 1 ،وكل النتجيتين واحدة.
.5لقد أشرنا في ذيل كل آية واردة بهذا الشأن في التفسير المثل إلى المصادر ; ومن أراد الوقوف على 2التفاصيل فليراجع احقاق
الحق ،ج 3ورسالة القرآن ،ج .9
] [ 206
أّما الروايات السلمية الورادة في الصحاح الستة فقد نقلت من فضائل أهل البيت ومناقبهم بما ل يمكن تصوره،
بل أوجز بعض علماء العامة تلك الفضائل في عّدة مجلدات) ،(1بينما ألفت عشرات المجلدات من علماء العامة
في جمع الروايات والخبار الواردة بشأن فضائل أهل البيت(2).
ن الموسف ما قامت به اليدي الثيمة إبان الحكومات الظالمة بعد رحيل رسول ال)صلى ال عليه وآله( غير أ ّ
لّمة بعيدًا عن الخط الرسالي الصيل المتمثل بأهل
والتي جهدت على طمس فضائلهم ومناقبهم لينأوا با ُ
البيت)عليهم السلم(ُامناء الوحي وحماة العقيدة .فاوئلك الذين صدوا أهل البيت)عليهم السلم( عن حقهم بعد رحيل
رسول ال)صلى ال عليه وآله(هم الذين سعوا جاهدين لطمس فضائلهم ،وأدهى من ذلك ما مارسه خلفاء بني ُامية
والعباس الذين كموا الفواه عن التحدث بفضائلهم حتى عد ذلك جرما يعاقب عليه بالسجن أو العدام.
ل أن نورد ما
و لول لطف ال وعنايته لما بقيت من آثار هم شيئًا ول ختفت فضائلهم ومناقبهم ول يسعنا هنا إ ّ
ذكره شارح نهج البلغه ابن أبي الحديد المعتزلي بهذا للشأن فقد قال:
فأّما فضائله)عليه السلم(; فاّنها قد بلغت من العظم والجللة والنتشار والشتهار مبلغًا يسمج معه التعرض
لذكرها ،والتصدي لتفصيلها; فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد ال بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل :رأيتني فيما
أتعاط من وصف فضلك ،كالمخبر عن ضوء النهار الباهر ،والقمر الزاهر ،الذي ل يخفى على الناظر ،فأيقنت
أني حيث إنتهى بي القول منسوب إلى الدعاء لك ،ووكلت الخبار عنك إلى علم الناس بك .وما أقول في رجل أقر
له أعداؤه وخصومه بالفضل ،ولم يمكنهم جحد مناقبه ،ول كتمان فضائله ،فقد علمت أّنه استولى بنو ُامية على
سلطان السلم في شرق الرض وغربها ،وإجتهدوا بكل حيلة في اطفاء نوره ،والتحريض عليه ،ووضع
المعايب والمثالب له ،ولعنوه على جميع المنابر ،وتوعدوا ماد حيه ،بل حبسوهم قتلوهم ،ومنعوا من رواية حديث
يتضمن له فضيلة ،أو يرفع له ذكرًا ،حتى حظروا
] [ 207
ل رفعة وسموا; وكان كالمسك كلما ستر إنتشر عرفه ،وكلما كتم تضوع
أن يسمى أحد باسمه; فما زاده ذلك إ ّ
نشره; وكالشمس ل تستر بالراح ،وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة ،أدركته عيون كثيرة(1).
وقد نقل مثل هذا المعنى في بعض المصادر ،حيث صّرح الشافعي :عجبا لرجل أخفى أعداؤه فضائله حسدا
وأولياؤه خوفا فظهر بين هذا وذلك ما ملئ الخافقين(2).
ن إبن أبي الحديد حين يصل عبارة المام)عليه السلم( »الن إذا رجع الحق إلى أهله «...في شرحه جدير ذكره أ ّ
لنهج البلغة يقول :لقد ذكر المام)عليه السلم( أن الحق رجع الن إلى أهله; وهذا يقتضي أن يكون فيما قبل في
غير أهله ،ونحن نتأول ذلك على غير ما تذكره المامية ،ونقولِ :انه)عليه السلم( كان أولى بالمر وأحق ،ل
على وجه النص ،بل على وجه الفضلية ،فاّنه أفضل البشر بعد رسول ال )صلى ال عليه وآله( ،وأحق بالخلفة
من جميع المسلمين ،لكنه ترك حّقه لما علمه من المصلحة ،وما تفرس فيه هو والمسلمون من إضطراب السلم،
وانتشار الكلمة ،لحسد العرب له وضغنهم عليه وجائز لمن كان أولى بشي فتركه ثم استرجعه أن يقول :قد رجع
المر إلى أهله).(4
ن الحكام المسبقة هى التي تحول دون القرار بمفهوم هذه العبارة الواضحة ،فلو أراد المام)عليه السلم(أن حقًا أ ّ
يقول :لم يودع الحق أهله قبل هذا والن رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله فله أن يذهب إلى ما ذهب إليه ،هذا
من جانب ومن جانب آخر فاننا نعلم بأن القول :ان العرب تحسده وتكن له البغض والعداء إّنما هو قول أجوف ل
أساس له .نعم كانت هذه الحالة تسود فئة قليلة ممن تبقى من أعقاب المشركين والكافرين ،وبعبارة ُاخرى فا ّ
ن
العداء كان يعيش في
] [ 208
قلوب زعماء قريش وأحبار اليهود وكبار المنافقين الذين تلقوا من المام)عليه السلم(الضربات المهلكة والموجعة
لّمة بابنائها تحب عليًا)عليه السلم( ولذلك ورد في الحديث
في المعارك من قبيل بدر وخيبر وحنين ،بينما كانت ا ُ
ن رسول ال )صلى ال عليه وآله( قال لعلي)عليه النبوي المعروف الذي نقلته المصادر السلمية المعتبرة أ ّ
ل منافق«).(1
السلم(» :ل يبغضك إ ّ
وجاء في صحيح الترمذي ـ أحد الصحاح الستة المعتمدة لدى أبناء العامة ـ عن أبي سعيد الخدري قال» :إنا كّنا
لنعرف المنافقين ببغضهم علي بن أبي طالب«).(2
فهل يرضى إبن أبي الحديد أن تكون الكثرية الساحقة من المسلمين آنذاك منافقة؟ ومن هنا نرى مدى الفرح
ن أغلبوالسرور الذي عم أوساط المسلمين حين توليه الخلفة بما ل يمكن مقارنته وسائر الخلفاء ،والحال أ ّ
معاصريه وممن مد له يد البيعة هم من صحابة النبي)صلى ال عليه وآله( أو أبنائهم.
و عليه فتبريره واهي ل يصمد إمام الحقائق والواقعيات .وأّما قوله :إّنه كان أولى بالمر وأحق لعلى وجه
النص ،فهو الخر كلم أجوف يجانب الحق وسنثبت بطلنه في محله(3).
—–
.1شواهد التنزيل .329 / 1
.2صحيح الترمذي ،168 / 13 ،طبع الصاوي مصر ) 635 / 5طبع دار احياء التراث العربي(.
] [ 209
الخطبة 3
وهى المعروفة بالشقشقية وتشتمل على الشكوى من أمر الخلفة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له.
القسم الول
—–
تعتبر هذه الخطبة من أهم خطب نهج البلغة حيث تتكفل بشرح مسألة الخلفة بعد رحيل رسول ال)صلى ال
لمور التي تضمنتها هذه الخطبة بما لم يرد شبيهها في سائر خطب نهج البلغة،
عليه وآله( .وهنالك بعض ا ُ
ل أّنها أوجزت عصر الخلفة الراشدة التيورغم قلة عباراتها ،إ ّ
] [ 210
نهضت بالمر بعيد وفاة رسول ال )صلى ال عليه وآله( .إلى جانب ذلك هناك التحليلت الدقيقة والرائعة التي
لمور قبل أن نخوض في شرح وتفسير هذه تلفت إليها إنتباه المحققين والباحثين .ونرى هنا أن نشير إلى بعض ا ُ
الخطبة:
1ـ اسم الخطبة :لقد ُاقتبس اسم الخطبة من عبارتها الخيرة التي أطلقها المام)عليه السلم( حين قاطع أحدهم
المام)عليه السلم(فتوقف ،فناشده ابن عباس مواصلة الخطبة فقال له)عليه السلم(» :تلك شقشقة هدرت ثم
قرت« وهكذا رفض)عليه السلم( طلب ابن عباس ،حيث تغير الجو الذي كان سائدًا لطلق المام)عليه السلم(
تلك العبارات الحماسية الخطيرة ،فقد قام أحد الفراد من بين الناس وسلم المام)عليه السلم( كتابا )قيل ان فيه
مسائل كان يريد الجابة عنها( فانصرف ذهن المام)عليه السلم(إلى ُامور ُاخرى.
2ـ زمان صدور الخطبة :هنالك خلف بين شّراح نهج البلغة بشأن زمان صدور هذه الخطبة .فيعتقد البعض ـ
ن المام)عليه السلم( وبالستناد إلى مضامين الخطبة وطرق أسنادها وروايتها ِاّنه أوردها
كالمحقق الخوئي ـ أ ّ
أواخر عمره الشريف بعيد موقعة الجمل وصفين والنهروان حين قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين) .(1والحق
ن مضمون الخطبة يؤيد هذا الرأي. أّ
ن
3ـ مكان الخطبة :لقد سكت جمع من شّراح نهج البلغة عن مكان صدور الخطبة ،بينما يعتقد البعض أ ّ
المام)عليه السلم(أورد هذه الخطبة حين ارتقى المنبر في مسجد الكوفة ،وقال ابن عباس:
لقد ألقى المام)عليه السلم( هذه الخطبة في الرحبة) (2حين وقع الكلم عن الخلفة.
4ـ سند الخطبة :هناك بحث في سند الخطبة أيضا .قال البعض :هذه الخطبة من الخطب المتواترة بينما صّرح
البعض الخر بعكس ذلك ولم ينسب هذه الخطبة لعلي)عليه السلم( وإّنه لم يشكو قط من الخلفة وإّنما ذلك من
ن المذكوران باطلن وفيهماوضع الشريف الرضي .أّما الشارح المعروف ابن ميثم البحراني فقد قال :الدعاء ا ّ
إفراط وتفريط .فسند الخطبة لم يبلغ حد
» .2الرحبة« بمعنى المكان الواسع ،ويعتقد البعض أّنها اسم موضع في الكوفة ،بينما يرى البعض الخر هى موضع يبعد ثمانية
فراسخ عن الكوفة )مجمع البحرين ومراصد الطلع(.
] [ 211
التواتر ،ول أساس للزعم القائل أّنها من وضع الشريف الرضي ،والحق آنهاصدرت من المام)عليه السلم().(1
ن الشكالت الواردة على الخطبة لم تتأتى من ضعفها أو ركاكتها أو تفاوتها من حيث العتبار مع سائرو يبدو أ ّ
ن الخطبة تشتمل على عّدة أسناد يتعذر وجود مثلها في
خطب نهج البلغة ،بل بالعكس وكما سيأتي خلل البحث أ ّ
سائر بعض خطب نهج البلغة.
أّما السبب الوحيد الذي يمكن إسناد الشكال إليه إّنما يكمن في عدم إنسجام مضامين الخطبة والذهنية السائدة
ل من اتهام ذهنيتهم وبلورتها على أساسلبعض الفراد الذين ينتمون إلى عدد من الفرق والمذاهب .فهولء وبد ً
مضمون الخطبة جهدوا في القدح باسنادها بغية البقاء على ما يسود أذهانهم من أفكار منحرفة وعقائد باطلة .أّما
السناد التي ذكرت للخطبة من غير نهج البلغة فهى كالتي:
أ ـ قال ابن الجوزي في تذكرة الخواص :لقد أورد المام علي)عليه السلم( هذه الخطية حين صعد المنبر جوابًا
لمن سأله»:ما الذي أبطأبك إلى الن«) .(2وهذا يدل على أن ابن الجوزي كان يملك سندا آخر لهذه الخطبة; لن
هذا السؤال لم يرد في نهج البلغة ،وعليه فقد كان له طريقا آخر.
ب ـ قال الشارح المعروف ابن ميثم البحراني :لقد عثرت على هذه الخطبة في كتابين ُالفا قبل ولدة الشريف
الرضي:
الول كتاب النصاف لبي جعفر ابن قبة تلميذ الكعبي أحد كبار المعتزلة الذي توفي قبل ولدة الشريف الرضي.
والثاني النسخة التي كتب عليها بخط أبو الحسن علي بن محمد بن فرات وزير المقتدر بال ،وقد توفي لستين سنة
ن تلك النسخة كتبت منذمدة قبل ولدة ابن فرات).(3
ونيف قبل ولدة الشريف الرضي ،ثم يضيف :يقوى ظني أ ّ
و قال ابن أبي الحديد :قال مصدق :وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل ،قال :فقلت له :أتقول أّنها منحولة!
فقال :ل وال ،وإّني لعلم أّنها كلمه ،كما أعلم أّنك مصدق.
] [ 212
ن كثيرًا من الناس يقولون أّنها من كلم الرضي رحمه ال تعالى .فقال :أنى للرضي ولغير الرضي
قال :فقلت له :إ ّ
هذا النفس وهذا السلوب! قد وقفنا على رسائل الرضي ،وعرفنا طريقته وفنه في الكلم المنثور ،وما يقع مع هذا
الكلم في خل ولخمر :ثم قال :وال لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي
سنة ،ولقد وجدتها مسطورة.
بخطوط أعرفها ،وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.
قلت :وقد وجدت أنا كثيرًا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المتعزلة،
وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة .ووجدت كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد
متكلمي المامية وهو الكتاب المشهور والمعروف بكتاب »النصاف« وكان أبو جعفر هذا من تلمذة الشيخ أبي
القاسم البخلي رحمه ال تعالى ،ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه ال تعالى موجودًا).(1
لمة الميني فقد نقل هذه الخطبة في المجلد السابع من كتابه الغدير على أّنها نقلت في ثمانية وعشرين
أّما الع ّ
كتابا.
مضمون الخطبة
ذكرنا سابقًا أن الخطبة تتعرض بجميع نصوصها إلى مسألة الخلفة بعد رحيل الرسول الكرم )صلى ال عليه
وآله( والمشاكل التي أفرزها عصر الخلفاء ممن سبقوه ثم يتطرق صراحة إلى أحقيته بالخلفة من الجميع معربا
عن أسفه وابتئاسه لخروج الخلفة عن محورها الصلي الذي خطط له السلم والنبي .وأخيرًا يتحدث عن قضية
لّمة والهداف الكامنة وراء قبول البيعة بعبارات قصيرة غاية الروعة والبيان.
مبايعة ا ُ
] [ 213
الشرح والتفسير
تحليل مهم لمسألة الخلفة
لّمة السلمية وحرفت خلفة تشير الخطبة ـ كما ذكرنا سابقًا ـ إلى العواصف العنيفة والخطيرة التي هزت ا ُ
رسول ال )صلى ال عليه وآله(بعيد وفاته عن مسارها السليم ،كما تتعرض لصلح الفراد وأجدرهم بالخذ
لّمة وزعامتها على ضوء المنطق والدليل والبرهان ،كما تعرج الخطبة على وخامة المعضلت بزمام شؤون ا ُ
التي أفرزها تقاعس المسلمين عن اللتزام بنصوص النبي)صلى ال عليه وآله(الواردة بشأن زعامة المسلمين.
فقد إستهل المام)عليه السلم( الخطبة بشكواه مّما آلت إليه الخلفة فقال» :أما وال لقد تقمصها)(1فلن وإّنه ليعلم
ن محلي منها محل القطب من الرحا).«(2أّ
ن الضمير في »تقمصها« يعود إلى الخلفة ،ولعل التعبير بالقميص إشارة إلى أمر وهو أ ّ
ن ل شك ول إشكال في أ ّ
ن هذه الرحا تتطلب محورًا قويًا يحفظ نظامها في
فلنًا قد استغل مسألة الخلفة كقميص يزين به نفسه ،والحال أ ّ
الحركة ويحول دون إنحراف مسارها وتعثر بفعل المطبات التي تواجهها وتسيرها بما يضمن مصالح السلم
والمسلمين .أجل فالخلفة ليست قميصا ،بل هى رحى الجامعة ،وليس للخلفة من غنى عن المحور.
هى ليست ثوبًا يرتدى .ثم يستدل)عليه السلم( بدليل واضح على المعنى المذكور ليكشف عن مدى علمه وسمو
مقامه »ينحدر) (3عني السيل ول يرقى الي الطير« .فقوله)عليه السلم( »ينحدر عّني السيل« يعني رفعة
منزلته)عليه السلم(كأّنه في ذروة جبل أو يقاع مشرف ،ينحدر السيل عنه إلى الوهاد والغيطان ،وقوله)عليه
ى الطير« هذه أعظم في الرفعة والعلو من التي قبلها ،لن السيل ينحدر عن الرابيةالسلم( »و ل يرقى إل ّ
والهضبة ،وأّما تعذر رقى الطير فر بما يكون للقلل الشاهقة جدا ،بل ما هو أعلى من قلل الجبال ،كأنه يقول:
إّني لعلو منزلتي كمن في السماء التي يستحيل أن يرقى الطير إليها.
» .2الرحا« بمعنى الطاحونة ،وقد استعملت مادتها بصورة ناقص واوي وناقص يائي.
» .3ينحدر« من مادة إنحدار بمعنى النهمار والسقوط على وجه الكثرة.
] [ 214
والتشبيه المذكور ينسجم وما ورد في القرآن الكريم بشأن دور الجبال في إستقرار الرض )َوَأْلقى ِفي الَْرضِ
ن() .(1أجل لول هذه السلسلة العظيمة من الجبال لسلبت السكينةل َلَعّلـُكْم َتْهَتُدو َ
سُب ً
ن َتِميَد ِبُكْم َو َأْنهارًا َو ُ
ى َأ ْ
سََروا ِ
والستقرار من الناس بفعل الضغوط الجوفية لباطن الرض من جانب وتأثير جاذبية الشمس والقمر وجزر ومد
القشرة الرضية من جانب آخر وأخيرًا هبوب العواصف ،ول نعدمت المياه التي تنهمر من السماء فتصب في
البحار والمحيطات وتشكل مصادر النهار والبار والعيون .فوجود المام المعصوم والعالم العارف يشكل معين
الخير البركة والسكينة لكل ُاّمة.
إلى جانب كون تعبير المام)عليه السلم( يشير إلى تعذر سبر أغوار أفكار المام)عليه السلم( والوقوف على
ل لمعلم المام نبي السلم محمد المصطفى)صلى ال عليه كنه شخصيته وذروة علمه ومعرفته ،وليتيسر ذلك إ ّ
وآله( .حتى صحابة المام)عليه السلم( كانوا ينتهلون حسب إستعدادهم من منهله العذب ويحيطوا بظاهره على
قدر معرفتهم وعلمهم).(2
لخرى الجديرة بالذكر تكمن في الستفادة من النهار في حركة الرحى وتنبع هذه النهار من الجبال كما النقطة ا ُ
أّنها تفصل هذه الرحى عن الجبال .ولعل العبارة المذكورة إشارة إلى هذا المعنى ،أي أنا المحور والرحى والقوة
المحركة المليئة بالعلم والمعرفة .وكما أشرنا آنفا فان قمم الجبال تختزن بركات السماء كحبات ثلج ثم تفيض بها
على الرض الهامدة المتعطشة للماء ،ويمكن أن تكون العبارة إشارة إلى قرب المام)عليه السلم( من الوحي
والغتراف من كوثر النبي)صلى ال عليه وآله(.
ن المراد بالسيل في العبارة هو علم المام)عليه السلم( الذي وصفه رسول ذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أ ّ
ال )صلى ال عليه وآله(بقوله» :أنا مدينة العلم وعلي بابها«) (3كما ورد عن المام الرضا)عليه السلم(أّنه فسر
ن َيْأِتـيكْم ِبماء َمِعـين( بعلم
غْورًا َفَم ْ
ح ماُؤُكْم َ
صَب َ
ن َأ ْ
ل َأَرَأْيُتْم ِإ ْ
»ماء معين« الواردة في الية 30من سورة الملك )ُق ْ
المام)عليه السلم().(4
.2للوقوف على حقيقة التعبيرات الواردة بشأن أميرالمؤمنين علي)عليه السلم( وأفضليته المطلقة على من سواه من أفراد اُلّمة،
نكتفي باليضاحات التي وردت في مقدمة الكتاب بشأن فضائله ومناقبه)عليه السلم(.
.3للوقوف على إسناد هذا الحديث المعروف في مصادر العامة ،انظر إحقاق الحق 468 / 5ـ .501
.4تفسير نور الثقلين 386 / 5وليس هنالك من منافاة بين هذا التفسير وذلك الذي فسره بالماء الجاري2 ،ول التفسير الذي ورد في
ن المراد بالماء المعين أصل وجود المام)عليه السلم( ،وذلك لمكانية جمع هذه المعاني في مفهوم الية .
بعض الروايات من أ ّ
] [ 215
الول :لم مدح المام)عليه السلم( نفسه والحال ورد الذم على ذلك كقوله »تزكية المرء لنفسه قبيح« .وللجابة
لّمة أحيانا جاهلة بشخصية فرد;
على هذا السؤال نقول :هنالك فارق بين مدح النفس والتعريف بها .فقد تكون ا ُ
المر الذي ل يجعلها تستفيد منه ومن طاقاته كما ينبغي فالتعريف بالشخص هنا سواء من قبله أو من قبل الخرين
ليس فقط ل ضير فيه فحسب ،بل هو عين الصواب والسبيل الصحيح للنجاة وهو بالضبط من قبيل تعريف
الطبيب بمجال تخصصه الذي يضعه على الوصفة الطبية ،المر الذي يهدف إلى إرشاد المرضى في مراجعته
ول ينطوي على أي مديح للشخص.
ن الجابة على هذا هى أوضح منها على السؤال الول؟ لن المقام العلمي الذي ُاختص به أمير المؤمنين يبدو أ ّ
علي)عليه السلم(ليس بخاف على من له أدنى إطلع بتأريخ السلم والمسلمين .فنا هيك عن تواتر الحاديث
النبوية الجمة الواردة عن رسول ال )صلى ال عليه وآله(في فضل علمه وتصريحات العلماء العلم في أّنه
مصدر كافة العلوم والمعارف السلمية وزعيمها) ،(1إلى جانب تصديه لعقد المسائل التي كان يعجز عنها من
سبقه من الخلفاء فان أدنى مطالعة لرسائله خطبه وقصار كلماته التي جمعت في نهج البلغة لكافية في الوقوف
على هذه الحقيقة .فلو تصفح كل إنسان منصف ـ مسلما كان أم غير مسلم ـ نهج البلغة لخضع متواضعا لعظمة
ى الطير«.
المام ولعاش عمليًا مفهوم قوله)عليه السلم(» :ينحدر عّني السيل ول يرقى إل ّ
السؤال الثالث :كيف يشكو)عليه السلم( الحوادث المرتبطة بالخلفة بعد رحيل رسول ال )صلى ال عليه وآله(،
أل يتنافى ذلك ومفهوم الصبر والرضا والتسليم؟
تبدو الجابة على هذا السؤال سهلة يسيرة .فالصبر والرضا والتسليم موضوع ،وتبيين
ل بهذا الشأن في شرحه لنهج البلغة ،ثم تطرق إلى العلوم السلمية وشرح كيفية إرتباطها
.1لقد ذكر ابن أبي الحديد بحثا مفص ً
بعلم المام)عليه السلم( من الناحية التاريخية )شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد 1/17ـ .(20
] [ 216
لّمة في الحاضر والمستقبل موضوع آخر ،بحيث ليتضمن المر أية الحقائق ليدونها التاريخ ويلم بها أبناء ا ُ
ل نموذج حي من هذه النماذج .ففي
منافاة فحسب ،بل هو من أوجب الواجبات ،وما القضايا المتعلقة بالخلفة إ ّ
ن مصالح المجتمع السلمي والجيال السلمية القادمة هى التي تحتم تبيين هذه الحقائق كي ل
الحقيقة والواقع أ ّ
تودع بوتقة النسيان.
ن رد فعل المام)عليه السلم( حيال تلك الحادثة لم يكن يتضمن الستعداد والتاهب
تفيد هذه العبارة بوضوح أ ّ
لخوض الصراع والشتباك مع الخرين ،بل تجاهل بكل بسالة وزهد ذلك المر لسباب سنتطرق إلى ذكرها.
لّمة
فالمام)عليه السلم( يكشف في هذه العبارة عن حقيقة وهى :أنني لم أنس طرفة عين مسئوليتي تجاه ا ُ
والوظيفة التي وضعها ال ورسوله )صلى ال عليه وآله( على عاتقي ،ولكن ليت شعري ما أنا فاعل وهناك
محذوران :المحذور الول :هل أنهض بالمر وأخوض الصراع مع الغاصبين ،والحال ل أملك العّدة والعدد من
جانب ،ومن جانب آخر فان من شأن هذه النهضة أن تشق عصا المسلمين وتفرق صفوفهم وتثلج صدور العداء
والمنافقين الذين يتربصون بالمسلمين مثل هذه الفرصة ليجهزوا على السلم.
ن ألتزم الصبر والصمت حيال هذه الحادثة في ظل هذه الجواء الدامسة الظلم .والتعبير
المحذور الثانى :أ ّ
بالطخية العمياء ينطوي على روعة في الدقة والبيان فالطخية تعني الظلم،
» .1سدلت« من مادة »سدل« على وزن عدل بمعنى نزول الشيء من العلى إلى السفل بحيث يغطى ،وعليه فان مفهوم سدلت هنا
تركتها وارخيت عليها شيئا.
» .2كشح« على وزن فتح بمعنى الضلع و»طوى عنه كشحه« كناية عن عدم الهتمام بشيء والنصراف عنه.
» .4طخية« بمعنى الظلمة وتاتي بمعنى السحب الخفيفة و»الطخياء« بمعنى الليلة الظلماء.
] [ 217
ن المعاناة ستعم الجميع .فهى تشيب الصغير وتهرم الكبير بينما ستتضاعف معاناة
و يفهم من هذه العبارة أ ّ
المؤمنين بفعل تصاعد حدة المشاكل التي سيشهدها المجتمع السلمي والخطار التي تهدد كيانه بما يجعلهم
يعيشون هالة من الغم والحزن على مصير السلم .فلم تمض مّدة حتى تبلورت تلك الخطار لتشهد ولدة العصر
الموي الذي تمكن خلل مّدة قياسية من القضاء على الصرح السلمي الذي شيده رسول ال )صلى ال عليه
وآله( وصحبه بجهودهم المضنية ومساعيهم العظيمة.
ثم يواصل المام)عليه السلم( خطبته ليعلن عن موقفه تجاه القضية وعزمه على التحلي بالصبر» :فرأيت أن
الصبر على هاتا) (2أحجى) .«(3ثم يصف)عليه السلم( طبيعة ذلك الصبر فيقول» :فصبرت وفي العين قذى)(4
وفي الحلق شجا«(5).
فالعبارة صورة واضحة عن ذروة إستياء المام)عليه السلم( وتذمره في تلك السنوات من المحنة والمصيبة،
بحيث لم يكن يسعه أن يغمض عينه عن تلك الحداث أو يفتحها ،كما لم يكن يسعه أن يرفع صوته ويعلن عن مدى
حرقته ،وكيف ل يكون كذلك »أرى تراثي نهبا«.
تأّملت
1ـ لم آثر المام)عليه السلم( الصبر؟
ن المنافقين وخصوم الدعوة كانوا يتربصون بالنبي )صلى ال عليه وآله(ورحيله عن دار
يشهد التاريخ أ ّ
.2الهاء في هاتا علمة تنبيه والتاء إسم إشارة مونث ،إشارة إلى »طخية« »الظلمة« التي وردت في العبارة السابقة .واعتبر البعض
ن الصبر على هذه الحالة أحجى«.
أن المشار إليه الحالة المستفادة من العبارة فيكون المعنى »فرأيت أ ّ
» .3احجى« من مادة »حجا« بمعنى العقل ،وعليه أحجى تعني العقل.
» .5الشجى« بمعنى الهم والغم والشدة واللم ،وتعنى أيضا ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه.
] [ 218
الدنيا لتتفتت وحدة المسلمين ويتصدع كيانهم ليتمهد أمامهم السبيل من النقضاض على الدين وأهله وبالتالي كسر
شوكته والقضاء عليه; فلو نهض المام )عليه السلم( بالمر في ظل هذه الظروف من أجل نيل حّقه أو بعبارة
ُاخرى بغية اعادة المسلمين إلى المسار السلمي الصحيح لعصر النبي )صلى ال عليه وآله( وباللتفات إلى
ل سينشب لتعم الفوضى والضطراب ن قتا ً
القرارات التي ُاتخذت سلفا باقصاء المام)عليه السلم( عن الخلفة فا ّ
في صفوف المجتمع السلمي بما يمهّد السبيل أمام المنافقين والمتربصين لنيل أطماعهم ومآربهم ،والشاهد الحي
على ذلك تمرد المرتدين عقيب وفاة رسول ال )صلى ال عليه وآله( الذين هبوا للوقوف بوجه الحكومة
لّمة تجاههم.
السلمية ،ولم يكتب لهم النجاح بفعل المقاومة التي أبدتها ا ُ
فقد صّرحت بعض السير التاريخية بهذا المجال» :لما توفي رسول ال)صلى ال عليه وآله( إرتدت العرب
واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية«).(1
هذا كله من جانب ،ومن جانب آخر فان نهوض المام)عليه السلم( بالمر قد ل تبدو فيه بارقة أمل بالنصر بفعل
غياب العّدة والعدد من أنصار الحق ،ولعل قيام المام)عليه السلم( بالمر ل يفسر من أغلب الجهال كانتصار
للدين والعقيدة بل يعزوه إلى قضايا شخصية محضة.
ن الخسائر التي تكبدها المسلمون على مرور الزمان إثر انحراف مسار الخلفة عن محورها قد صورها غير أ ّ
المام)عليه السلم(بمثابة القذى في العين والشجا في الحلق .وهذا درس كبير لكافة المسلمين على مدى التاريخ
ن إحقاق الحق إذا استلزم توجيه ضربة إلى دعائم الدين وجب التحفظ عنه وعدم المبادرة إليه ،لن حفظ وهو أ ّ
الدين مقدم عى كل ماسواه ،وليس هنالك من سبيل في مثل هذه الحالة سوى التحلي بالصبر والتحمل .وقد ورد
ل أهل بيتي...
شبيه هذا المعنى في الخطبة رقم 60حيث قال)عليه السلم(» :فنظرت فاذا ليس لي معين إ ّ
وأغضيت على القذى وشربت على الشجى«.
] [ 219
ن المام خليفة النبي )صلى ال عليه وآله( هو الذي ينهض به. لأّ لّمة إ ّ ن هذا الرث يتعلق بجميع ا ُو الحق أ ّ
عـباِدنا().(2
ن ِ
طَفْينا ِم ْ
صَ
نا ْ
ب اّلِذي َ
ونقرأ بشأن وراثة الكتاب السماويُ) :ثّم َأْوَرْثنا الِكتا َ
وعلى غرار ذلك ورد الحديث النبوي المشهور »العلماء ورثة النبياء«).(3
وشاهدنا على مامّر معنا سيرة المام)عليه السلم( وحياته التي أفادت عدم تعلقه من قريب أو بعيد بمال الدنيا
ن ينهض بوظيفته في إحقاق حق أو ازهاق باطل ـ التي لم تكن تعدل عنده عفطة عنز أو لأّوحطامها والخلفة ـ إ ّ
قيمة نعليه .لكن والحال هذه كيف يصف صبره على فقدان الخلفة بالقذى في العين والشجى في الحلق؟ لقد ذهب
ن مراده بالثراث المنهوب هو فدك التي ورثها رسول ال )صلى ال عليه وآله( بنته الزهراء)عليه البعض إلى أ ّ
ن الخطبة ن هذا الحتمال ييدو مستبعدا ل ّ
السلم( ،وقد اعتبر ذلك أرثه لمال الزوجة بحكم مال الزوج) ،(4غير أ ّ
بجميع مضامينها تعالج قضية الخلفة.
ل أحد يسعه إنكار الخسائر الفادحة التي تكبدها العالم السلمي إثر إقصاء علي)عليه السلم(
] [ 220
وجلوسه في داره ،فلو قصرنا نظرنا على البعد العلمي حين تصفحنا لنهج البلغة الذي يمثل جزءا من خطبه
ورسائله وكلماته القصار التي أوردها خلل تلك المّدة القصيرة من حكومته رغم ما انطوت عليه من أحداث
مريرة وحروب دامية ،ل كتشفنا بيسر مدى العلوم والمعارف والخيرات والبركات التي كانت ستعم العالم
السلمي بل الدنيا برمتها لول تلك المّدة المديدة ـ 25سنة ـ التي اضطر فيها المام)عليه السلم( للجلوس في
ن حرمان المجتمع من فيوض المام)عليه السلم( قد جر عليها الويلت والدمار .ولكن ما العمل يا بيته .ل شك أ ّ
ترى وقد سلبت المة هذا الفيض العظيم لتبدو خسائره واضحة على مدى التأريخ.
يتساءل البعض :ألم يكن من الفضل أن يسدل المام)عليه السلم( الستار على الماضي ول يتطرق إلى مسألة
الخلفة; المر الذي قد يثير الفرقة والتشتت في صفوف المسلمين ويشق وحدتهم؟
ن المام أحق بها واولى
و ل عجب فاننا نرى اليوم البعض ممن يردد هذا الكلح ،فما أن تطرح قضية الخلفة وأ ّ
من غيره حتى تتعالى الصوات مطالبة بالصمت ونسيان الماضي تحت ذريعة الحفاظ على الوحدة السلمية
وأننا نواجه اليوم أعداء السلم والمخاطر الكبرى ومن شأن إثارة هذه الحاديث أن تضعف المسلمين في مجابهة
أعدائهم; بل هل من جدوى لمثل هذه الحاديث والحال أن أتباع كل مذهب يواصلون مسيرتهم دون الكتراث لهذا
لمور أي دور على مستوى إخوة المسلمين ووحدتهم.الصوت أو ذاك ،وعليه فمن المستبعد أن تلعب هذه ا ُ
ن النبي)صلى ال عليه وآله( .قد أكد ن الوقائع الموجودة ل يمكنها إخفاء الحقائق البتة .فهذه حقيقة قائمة وهى أ ّ
أـإّ
في أكثر من مناسبة على إستخلفه .فما الذي حدث لتشوه هذه الحقيقة وينصح بعدم إثارتها بعد تأكيدها من قبل
ن عليًا)عليه السلم(الذي يتبنى الحق حيثما كان له الحق في النبي)صلى ال عليه وآله( وبناءًا على ما تقدم فا ّ
التصدي للوقائع القائمة التي ل تنسجم والحقيقة ،فيتعرض للحقائق المرتبطة بالخلفة بعد رسول ال )صلى ال
عليه وآله(ليتسنى للمحققين أن يصدروا أحكامهم بهذا الشأن ولو بعد
] [ 221
قرون مديدة ليعرفوا الحق وأهله والباطل وأهله فيسلكوا سبيل الحق على ضوء دراساتهم وتحقيقاتهم .على كل
حال ل يمكن منع إنسان عن بيان الحقيقة ،ولو افترضنا قدرتنا على ذلك فاننا ل نمتلك الحق في منعه ،لما يتضمته
المنع من خسائر فادحة ،وذلك لن الواقع القائم غالبا ما يختلف والحقيقة وقد يبتعد عنها مسافة شاسعة .فالوضع
القائم ل يعني أبدًا أن يكون هو السائد على الدوام حيث يلهمنا السلم أن نسعى ل قتفاء ما ينبغي أن يكون ،ومّما
ن مسألة الخلفة والمامة بعد النبي)صلى ال عليه وآله(لمن المباحث الدينية الرئيسية; سواء كانت ل شك فيه أ ّ
جزءًا من أصول الدين كما يعتقد بذلك أتباع مدرسة أهل البيت)عليه السلم( ،أو جزءًا من فروع الدين .مهما كان
فهى مسألة مصيرية من وجهة النظر الدينية ول تنطوي على أية صيغة شخصية،خلفًا لما يزعمه البعض من
الجهال والغافلين فهى ليست مبحثًا تأريخيًا يتعلق بالماضي قد أكل عليه الدهر وشرب; بل هى قضية تنطوي على
عّدة معطيات مؤثرة في حاضر المسلمين ومستقبلهم ،كما ل يخفى أثرها في العديد من المسائل السلمية
المرتبطة بُاصول الدين وفروعه; وهذا هو المر الذي يقف وراء إثارة المام)عليه السلم(لمسألة الخلفة كرارًا
ومرارًا.
ن البحاث العقيمة والجدل الفارغ القائم على أساس التعصب والجمود هى التي تشكل الخطر الساس على بـإّ
لّمة السلمية وشق صفوفها; أّما البحاث العلمية والمنطقية التي يراعي فيها أطراف الحوار والبحث وحدة ا ُ
الحدود والموازين العلمية والمنطقية فليست بذات خطر على الوحدة السلمية فحسب ،بل من شأنها أن تساعد في
إرسائها وتوثيق دعائمها .طبعا هذا ليس ضربا من الخيال الفكري بل عشناه على مستوى الواقع والتجربة .فقد
أقيمت أخيرًا ندوة في إحدى المدن بمناسبة أسبوع الوحدة حضرها كبار العلماء والمفكرين من الفريقين نوقشت
خللها أغلب القضايا الخلفية وقد تمخضت عن عّدة نتائج طيبة حيث قربت وجهات النظر وضغطت حدة
ن مثل هذه البحاث والحوارات يمكنها أن تقضي على الفجوة بين المذاهب الخلفات ،بما جعل الجميع يوقنون بأ ّ
السلمية وتوطيد أواصر الخوة بما يخدم وحدة المسلمين).(1
.1انظر مجلة رسالة الحوزة للوقوف على المباحث المهّمة التي طرحت في تلك الندوةو التقارب الذي حصل بين الفراد.
] [ 222
بل أبعد من ذلك أننا نرى الحوار بشأن الديان السماوية هو الخر من شأنه أن يتمخض عن نتائج مفيدة بما يقلل
من هوة الخلف ،وليعلم أولئك الذين يقفون بوجه هذه الحوارات البناءة أّنهم يساهمون بشكل أو بآخر في مضاعفة
الخلفات وتعميق الفجوة بين الديان والمذاهب.
—–
] [ 223
القسم الثاني
شى:
عَلْ
ل ا َْ
ل ِبَقْو ِ
سِبيِلِه َفَأْدَلى ِبَها ِإَلى ُفلن َبْعَدُه ُثّم َتَمّث َ
ل ِل َ
لّو ُ
ضى ا َْ
حّتى َم َ
َ
خي جاِبِر
حّيان َأ ِ
عَلى ُكوِرها *** َو َيْوُم َ
شّتان ما َيْوِمي َ
» َ
—–
الشرح والتفسير
أشار المام علي)عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة إلى عهد الخليفة الثاني فقال» :حتى مضى الول لسبيله
فأدلى بها إلى فلن بعده« (1).أدلى من مادة دلو وهى تستعمل في سحب الماء من البئر بالحبل والدلو كما تستعمل
حّكام().(2
لجرة والرشوة في الحكم ،فقد قال القرآن بهذا المجالَ) :وُتْدُلوا ِبها ِإلى ال ُ
بمعنى الجائزة وا ُ
قال ابن أبي الحديد المعتزلي :وعمر هو الذي شد بيعة أبي بكر ،ورغم المخالفين فيها فكسر سيف الزبير لما
جرده ،ودفع في صدر المقداد ،ووطىء في السقيفة سعد بن عبادة ،وقال :اقتلوا
.1توفي في العام الثالث عشر من الهجرة بعد أن تولى الخلفة لمدة سنتين وثلثة أشهر» .مروج الذهب 2/304الطبعة الرابعة«.
] [ 224
سعدًا ،قتل ال سعدًا .وحطم أنف الخباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة :أنا جذيلها المحك ،و غذيقها المرجب.
و توعد من لجأ إلى دار فاطمة)عليه السلم( من الها شميين ،وأخرجهم منها ،ولوله لما يثبت لبي بكر أمر ،ول
قامت له قائمة).(1
و من هنا تتضح روعة تعبيره)عليه السلم( بأدلى ،ثم تمثل بقول العشى:
وذهب البعض إلى أّنه أراد أن يقارن بين خلفته ـ من تمثله بهذا الشعر ـ وخلفة من سبقوه ممن كانوا في نعمة
ورخاء بينما حفل عهده ل بتعاده عن عصر رسول ال )صلى ال عليه وآله(بالويلت و المصائب »بالطبع هذا
إذا كان العشى أراد مقارنة حاله بحال حيان«(3).
ثم يعّبر المام)عليه السلم( عن اندهاشه وذهوله لما يحصل »فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها
لخر بعد وفاته«.
ن هذه إلعبارة إشارة إلى حديث معروف نقل عن أبي بكر خاطب به الناس أوائل خلفته حيث قال:
الواقع هو أ ّ
»أقيلوني فلست بخير كم« .ورواه البعض الخر »و ليتكم ولست بخيركم«(4).
.2العشى من أبرز شعراء الجاهلية .سئل يونس النحوي :من أشعر الشعراء؟ قال :ل أعلم أشعر هم إلّ أني أقول إمرء القيس فارسا
والنابغة حين الخوف وزهير عند الحب وإّل عشى عند الطرب ،أدرك السلم ولم يسلم ،لقب بالعشى لضعف بصره وقد عمي آخر
عمره واسمه ميمون بن قيس ،وأراد بشعره السابق الزمان الذي كان يجالس فيه حيان أخو جابر أحد أشراف اليمامة حين كان يعيش
العشى آنذاك في نعمة موفورة فيقارنها مع عيشه الن في صحاري مكة والمدينة فيقول أين تلك الحياة من هذه!
.4لقد استفاضت مصادر الفريقين التي روت هذا الحديث ،وقد أورده إبن أبي الحديد في شرحه لنهج البلغة.169 / 1 ،
] [ 225
و كيفا كان مضمون الرواية فهى تشير إلى عدم رغبته بقبول الخلفة أو كما ذهب البعض لم يكن يكترث لها أو
ن هذا الكلم ل ينسجم وما فعلهأّنه لم يكن يرى نفسه جديرًا بالخلفة مع وجود علي)عليه السلم( ،ورغم ذلك فا ّ
لّمة:
أواخر عمره; المر الذي أثار دهشة المام)عليه السلم( في كيفية تفويض الخلفة دون الرجوع إلى آراء ا ُ
ثم قال)عليه السلم( »لشّد ما تشطر ضرعيها« الضرع بمعنى الثدي وتشطرا من مادة شطر بمعنى جزء من
الشيء .
فالعبارة تشبيه رائع بالنسبة للفراد الذي يستفيدون من شيء على وجه التناوب فالمراد بتشطر ضرعيها :إّنهما
إقتسما فائدتها ونفعها ،والضمير للخلفة ،وسمى القادمين معًا ضرعًا وسمى الخرين معًا ضرعا لما كان
ل معًا ،كشيء واحد فالعبارة بصورة عامة تشير إلى مشروع معد ومبرمج مسبقًا لتجاورهما ،ولكونها ل يحلبان إ ّ
ولم يكن من قبيل الصدفة أبدًا.
للرد على ذلك نقول لبن أبي الحديد كلم بهذا الشأن ولنا كلم ،فقد قال ابن أبي الحديد :قالت المامية هذا غير
ن عليًا)عليه السلم( لم يقل :إّني ل أصلح ،ولكنه كره الفتنة ،وأبوبكر قال
لزم والفرق بين الموضعين ظاهر ل ّ
كلمًا معناه :إّني ل أصلح لها ،لقوله »لست بخيركم« ،ومن نفى
] [ 226
ل أّننا نرى القضية أعمق من ذلك .فلو تأملنا الخطبة رقم 92التي استدلوا بها والتفتنا إلى بعض عباراتها التي لم
إّ
يستشهد بها عند الستدلل ل تضح لنا تمامًا مراد المام)عليه السلم( .فقد صّرح ضمن الخطبة المذكورة قائل:
»فأنا مستقبلون أمرًا له وجوه وألوان ل تقوم له القلوب ول تثبت عليه العقول« )إشارة إلى مدى التغييرات التي
طالت الحكام الشرعية والتعاليم النبوية،عليه فلبّد لي من القيام ببعض الصلحات الثورية والتي ستودي
لعتراض البعضى منكم وبالتالي نشوب المواجهة(.
ثم أضاف)عليه السلم(» :و ان الفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت« ،ثم يشير)عليه السلم( إلى كبد الحقيقة
فيقول» :و اعلموا أّني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب«.
ن المام)عليه السلم( يرى وجوب الفضلية كشرط في الخلفة ما أورده)عليه السلم( في أّما الشاهد على أ ّ
ن أحق الناس بهذا المر أقواهم عليه و أعلمهم
الخطبة 173من نهج البلغة إذ قال )عليه السلم(» :أّيها الناس إ ّ
ن المقارنة بين كلم المام علي)عليه السلم( وأبي بكر هو »قياس مع بأمر ال فيه« (2).ونخلص مّما سبق إلى أ ّ
الفارق« لنعدام أي تشابه بين الكلمين.
و نختتم هذا الكلم بما أورده إبن أبي الحديد حين حاول تبرير حديث الخليفة الول حيث قال :واحتج بذلك من لم
يشترط الفضلية في المامة.
و من رواها إعتذر لبي بكر فقال :إّنما قال :أقيلوني ،ليثور ما في نفوس الناس من بيعته ،ويخبر ما عندهم من
وليته ،فيعلم مريدهم وكارههم ،ومحبهم ومبغضهم .فلما رأى النفوس إليه ساكنة ،والقلوب لبيعته مذعنة ،استمر
على امارته ،وحكم حكم الخلفاء في رعيته ،ولم
] [ 227
ن إعتراف كل فرد ينبغي أن يحمل على معناه الواقعي ،وصرف و ل يخفى على أحد خواء هده التبريرات ،ل ّ
ن هذا العتراف قانوني يؤخذ به
اللفظ عن معناه الحقيقي إّنما يحتاج إلى قرينة ليست متوفرة هنا .بعبارة ُاخرى إ ّ
في كل محكمة وليس من عذر لهذا العتراف فهو إقرار جائز عقلئيًا.
ثم يصف المام)عليه السلم( شخصية الخليفة الثاني وما انطوت عليه من خصائص ومميزات فقال)عليه
السلم(» :فصيرها في حوزة) (2خشتاء يغلظ كلمها) (3ويخشن مسها ويكثر العثار)(4فيها،العتذار منها«
المراد بالحوزة هنا أخلق الخليفة الثاني وصفاته فالواقع قد ذكر له أربعة صفات ،الولى خشونته وعنفه التي
عبر عنها بقوله »يغلظ كلمها« في إشارة إلى الجروح الروحية والجسمية التي يفرزها الصطدام به .الصفة
الثانية الشدة في التعامل »و يخشن مسها« وعليه فالحوزة الخشناء قد فسرت بالعبارتين اللحقتين التين أشارتا إلى
العنف في الكلم والعنف في المعاملة .الصفة الثالثة هى كثرة الخطاء والرابعة العتذار من تلك الخطاء »و
يكثر العثار فيها العتذار منها«.
أّما بشأن كثرة أخطاء الخليفة الثاني ول سيما أخطائه في بيان الحكام واقراره بتلك الخطاء والعتذار منها
والعنف في المعاملة فقد حفلت بها السير التاريخية بل أفرد لها علماء العامة عددًا من الكتب وسنكتفي لحقا
بالشارة إلى نماذج منها.
ثم قال)عليه السلم(» :فصاحبها كراكب الصعبة) (5إن أشنق) (6لها خرم) (7وإن أسلس) (8لها تقحم).«(9
» .2حوزة« بمعنى الناحية والطبيعة ،من مادة »حيازة« بمعنى الجمع والحاطة.
» .3الكلم« في الصل بمعنى الجرح ،واطلق لفظ الكلم لثره القاطع في المقابل.
» .5الصعبة« بمعنى النسان أو الحيوان الطائش ،ما ليست بذلول وُاريد بالصعبة هنا الناقة الجامحة.
» .6أشنق« بمعنى سحب زمام الناقة و»شناق« على وزن كتاب يطلق على الحبل الذي تربط به القربة.
» .8أسلس من« مادة »سلس« على وزن قضص وسلسة بمعنى السهولة وعليه فان أسلس بمعنى أرخى.
» .9تقحم« من مادة »قحوم« على وزن شعور بمعنى رمي النفس في الهلكة دون إجالة الفكر.
] [ 228
فالمام)عليه السلم(يشرح بهذه العبارة حاله وحال فريق من المؤمنين على عهد خلفة الخليفة الثاني ،بحيث إذا
أراد أحدهم أن يصطدم بالخليفة ـ واستنادًا إلى صفاته المذكورة سابقًا ـ فقد يؤدي ذلك إلى بروز الختلفات
والمشاجرات بين أوساط المسلمين أو الخطار التي سيتعرض إليها من جانب الخليفة ،وِان فضل الصمت برزت
الخطار التي تهدد الكيان السلمي والخلفة السلمية ،فالواقع هناك خطران ل ينفصلن :خطر الصطدام
بالخليفة خطر فقدان المصالح السلمية ولهذا يشكو المام)عليه السلم( ما ألم به وبالمومنين آنذاك يعرض
للمشاكل المتفاقمة التي أصابت المسلمين.
ن طبيعة الخلفة
ن الضمير في )صاحبها( يعود إلى مطلق الخلفة; أي أ ّ كما إحتمل بعضى شّراح نهج البلغة أ ّ
تختزن دائما أحد هذين الخطرين ،فلو أراد الحاكم ـ الخليفة ـ أن يتعامل بخرم مع كل شيء كانت هنالك ردود
الفعل الحادة والعنيفة ،ولو أراد التعامل على أساس الرفق واللين برز خطر السقوط في وادي النحراف والخطا
ن المعنى الول هو المراد بالعبارة وهذا ما يتضح بجلء من خلل لأّوزوال القيم السلمية .لكن تشير القرائن إ ّ
التأمل في العبارات اللحقة) .(1ثم قال )عليه السلم(» :فمني) (2الناس لعمر ال بخبط) (3وشماس) (4وتلون)
(5و اعتراض).«(6
ن المراد الخلفة على عهد المام علي)عليه السلم( ،حيث شهدت الوضاع بروز خطرين ،ويبدو
.1هنالك إحتمال ثالث ذكرهنا في أ ّ
هذا الحتمال مستبعدًا.
» .3خبط« بمعنى »ضرب« الناقة للرض ،واريد بها السير على غير هدى.
» .6إعتراض« بمعنى السير على غير خط مستقيم ،كأّنه يسير عرضًا في حال سيره طوًل.
] [ 229
الثالثة :التلون المستمر وركوب الموجة والتخبط والنسلخ من فئة واللتحاق بُاخرى وعدم امتلك الهدف المعين
في الحياة.
ن السياسة الخارجية في عصر الخليفة الثاني و مّما ل شك فيه ـ وكما سنتعرض إلى ذلك بالتفصيل لحقا ـ أ ّ
والفتوحات السلمية والمتداد خارج الحجاز قد خلقت ذهنية للناس بشأن شكل الحكومة في أّنها موفقة على
جميع الصعدة فيقل إهتمامهم بالمشاكل الداخلية التي يعاني منها المجتمع السلمي ،والحال كما أشار المام)عليه
ن طائفة من المسلمين قد شهدت حالة من التخبط على مستوى العقائد والعمل والقضايا السلم(في هذه العبارات أ ّ
الخلقية والبتعاد تدريجيًا عن السلم الصيل بفعل الخطاء والجتهادات في مقابل النصوص القرآنية
والحاديث النبوية; المر الذي أدى في خاتمة المطاف إلى تلك الثورة العارمة على الخليفة الثالث وبما مهد
لموي والعباسي التي تفتقر لدنى شبه بالحكومة السلمية السبيل أمام ظهور الحكومة الستبدادية في العصر ا ُ
على عهد النبي)صلى ال عليه وآله(.
ن هذه الحالة العشوائية لم تكن وليدة ساعتها ،بل ظهرت إثر تصاعد حدة الخطاء المتواصلة طيلة
والمفروغ منه أ ّ
عصر الخلفة .ثم قال المام)عليه السلم(» :فصبرت على طول المدة ،وشدة المحنة«.
ن المام)عليه السلم( أشار إلى قضيتين كان لهما الثر البالغ في إستياءقال بعض شّراح نهج البلغة إ ّ
المام)عليه السلم( :الولى ازدياد مّدة البتعاد عن محور الخلفة ،والثانية الستياء والتذمر الذي أفرزته ظاهرة
انشقاق الخلفة عن مسارها الصلي في عدم سيادة النظم الصحيحة بالنسبة لشؤون الناس الدينية .لكن على كل
لمور الثانوية من أجل
حال فقد كانت هناك المصالح المهّمة التي تتطلب سكوت المام)عليه السلم( والتضحية با ُ
الهداف السمى .فقد استمر هذا الوضع حتى إنتهى عصر الخليفة الثاني.
] [ 230
تأّملت
1ـ نماذج الفضاضة الخلقية على عهد الخليفة الثاني
لقد ُالفت عّدة كتب ـ سواء كتب الحديث والتاريخ ـ من قبل علماء العامة بشأن الخليفة الثاني ول سيما إبان خلفته
ن خروقاته في هذاالتي تكشف عن مدى دقة عبارات المام)عليه السلم( في وصف خصائصه.و مّما ل شك فيه أ ّ
المجال كثيرة نكتفي ببعضى نماذجها:
لمة الميني في المجلد السادس من كتاب الغدير عن مصادر العامة المعروفة من قبيل سنن 1ـ روى المرحوم الع ّ
الدارمي وتأريخ ابن عساكر وتفسير ابن كثير واتقان السيوطي والدر المنثور وفتح البارىء عّدة قصص مروعة
بشأن الخليفة الثاني والرجل الذي يدعى »صبيغ العراقي« .فالذي تفيده السير التاريخية أّنه كان رجل بحاثة كثيرا
ن عمر كان يجابهه بكل عنف بما يدعو للدهشة والعجب ومن ذلك. ما يسأل عن اليات القرآنية ،غير أ ّ
الرجل وعليه ثياب وعمامة صفدي حتى إذا فرغ قال :يا اميرالمؤمنين والذاريات ذروا فالحاملت وقرا فقال عمر
أنت هو؟ فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال :والذي نفس عمر بيده لو وجدتك
محلوقًا لضربت رأسك ألبسوه ثيابًا واحملوه على قتب وأخرجوه حتى تقدموا به بلده ثم ليقم خطيب ثم يقول :إن
صبيغًا ابتغى العلم فأخطأ فلم يزل وضيعًا في قومه حتى هلك وكان سيد قومه (1).وأول من ضرب عمر بالّدرة أم
ن يعاودن،ن عمر مرارًا ،وه ّ
ن أخته أم فروة ،فنهاه ّ
فروة بنت أبى قحافة ،مات أبوبكر فناح النساء عليه ،وفيه ّ
فأخرج أّم فروة من بينهن،وعلها بالّدرة ،فهربن وتفّرقن.
ب من فتيان النصار وهو ظمآن ،فاستسقاه ،فجدع له ماء بعسل فلم يشربه، قال ابن أبي الحديد :ومّر يومًا بشا ّ
حياِتُكُم الّدْنيا(فقال له الفتى :يا أمير المؤمنين ،إّنها ليست لك ول طّيباِتُكْم ِفي َ
ن ال تعالى يقولَ) :أذَهْبُتْم َ
وقال :إ ّ
حياِتُكُم الّدْنيا( فقال
طّيباِتُكْم ِفي َ
على الّنار َأذَهْبُتْم َ
ن َكَفُروا َ
ض اّلِذي َ
لحد من هذه القبيلة ،اقرأ ما قبلهاَ) :وَيْوَم ُيْعَر ُ
ل الناس أفقه من عمر! عمر :ك ّ
ل،
ن عمر كان يعس بالليل ،فسمع صوت رجل وامرأة في بيت ،فارتاب فتسّور الحائط ،فوجد امرأة ورج ً وقيل :إ ّ
ل يسترك وأنت على معصيته! قال :يا أميرالمؤمنين ،إن نا ّق خمر ،فقال :يا عدّو ال ،أكنت ترى أ ّ وعندهما ز ّ
ت ِم ْ
ن ست .وقال) :وُأُتوا اْلُبُيو َ
سوا( ،وقد تج ّ
ل تعالى) :ول َتجَ ّ
كنت أخطأت في واحدة فقط أخطأت في ثلث ،قال ا ّ
سّلُموا( ،وما سّلمت!)(3خْلُتْم ُبُيوتًا َف َ
َأْبواِبها( ،وقد تسّورت ،وقال) :فإذا َد َ
] [ 232
لعل الصورة التي رسمها المام)عليه السلم( في الخطبة عن مشاكل المسلمين والفوضى التي سادتهم على عهد
ل بالنتصارات والمكتسبات; المر
الخيلفة الثاني تتنافى والذهنية السائدة لدى البعض في أن عهده كان مشرقًا حاف ً
الذي يثير السؤال التي :كيف يمكن التوفيق بين تلك الصورة والوقائع التي عكسها التاريخ السلمي؟
و اللتفات إلى هذه القضية من شأنه أن يقدم الجواب الشافي لهذا السؤال ،فما ل شك فيه ـ
] [ 233
ن عهد الخليفة الثاني كان عصر النتصارات والفتوحات على صعيد السياسة الخارجية للبلد; كما أشرنا سابقًاـ أ ّ
ن المسلمين وعلى ضوء التعاليم السلمية واليات القرآنية التي تدعو إلى الجهاد قد مارسوا هذه الفريضة لّ
بشكل واسع بحيث لم تمض مّدة حتى حققوا الفتوحات السلمية الباهرة خارج البلد السلمية فتم لهم نيل ما ل
يحصى من الغنائم المادية ،المر الذي جعل هذه الفتوحات تغطي على ضعف الجبهة الداخلية والفوضى التي
كانت سائدة آنذاك ،وهو المعنى الذي نلمسه اليوم بوضوح في السياسة المتبعة في العصر الراهن ،فقد يؤدي
النتصار الذي تحرزه الدولة على صعيد السياسة الخارجية إلى التغطية على كل شيء ول سيما المشاكل
والمعضلت التي تعيشها على مستوى الداخل ،ومن هنا نرى ساسة الستكبار الذين يحاولون التغطية على
مشاكلهم الداخلية باخماد فورتها من خلل اللجوء إلى عّدة أنشطة ـ بما فيها شن الحروب ـ خارجية.
ن المام)عليه السلم( إّنما تحدث عن مدى العنف والضطهاد والخطاء الفادحة وسعة حجم وزبدة الكلم فا ّ
المشاكل الداخلية إبان عهد الخليفة الثاني; المر الذي تم التعامل معه بمعزل عن مسألة الفتوحات.
—–
] [ 234
] [ 235
القسم الثالث
ي َمَع اَْلّوِل ب ِف ّض الّرْي ُعَتَر َ شوَرى َمَتى ا ْ ل َوِلل ّحُدُهْم َفيا َِّ عَم َأّني َأ َ
عة َز َ جما َجَعَلها ِفي َ سِبيِلِه َضى ِل َحّتى ِإذا َم َ
»َ
ضْغِنِه
جٌل ِمْنُهْم ِل ِ صغا َر ُ ت ِإْذ طاُرواَ :ف َ سّفواَ ،وطِْر ُ ت ِإْذ َأ َ
سَفْف ُ
ن ِإَلى َهِذِه الّنظاِئِر َلِكّني َأ ْ ت ُأْقَر ُ
صْر ُ
حّتى ِ ِمْنُهْمَ ،
ن َنِثيِلِه َوُمْعَتَلِفِهَ ،وقاَم َمَعُه َبُنو َأِبيِه
ضَنْيِه َبْي َ
ح ْ ث اْلَقْوِم ناِفجًا ِ ن قاَم ثاِل ُصْهِرِه َمَع َهن َوَهنِ ،إَلى َأ ْ خُر ِل ِ
َوماَل اْل َ
طَنُتُه«.
ت ِبِه ِب ْعَمُلُهَ ،وَكَب ْ
عَلْيِه َجَهَز َ عَلْيِه َفْتُلُهَ ،وَأ ْ
ث َن اْنَتَك َضَمَة اِْلِبِل ِنْبَتَة الّرِبيِعِ ،إَلى َأ ِ
خ ْ ل ِ ن ماَل ا ّضُمو َخ ََي ْ
—–
الشرح والتفسير
أشار المام)عليه السلم( ـ في هذا القسم من خطبته ـ إلى انتهاء عصر الخليفة الثاني والحداث التي مهدت
السبيل أمام عثمان للستيلء على الخلفة بعد أن أماط اللثام عن التفاصيل التاريخية والسرار التي إنطوت عليها
لّمة السلمية على عهد عثمان
هذه القضية ويعلن موقفه من ذلك ،ثم عرج على المشاكل والفتن التي عاشتها ا ُ
والنتفاضة الشعبية العارمة التي أدت إلى قتله بعبارات مقتضبة عميقة المعنى من خلل الكنايات والستعارات
والتشبيهات البلغية الرائعة التي طبعت كلماته وخطبه)عليه السلم(.
فقد قال)عليه السلم(» :حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم«.
و لعل قوله)عليه السلم( »زعم أني أحدهم« تشير إلى معنيين :الول :أّنه جعلني ظاهريًا أحد أعضاء هذه
الشورى بينما كان يعلم باطنيًا بالنتيجة التي ستتمخض عنها ومن يفوز بالمر.
] [ 236
الثاني :أّنه أراد أن يجعلني ظاهريًا في مصاف هؤلء الخمسة ،والحال كان يعلم باطنيًا عدم إمكانية مقارنتي بأي
منهم).(1
و العبارة تشير إلى الزمان الذي جرح فيه عمر جرحًا بليغًا من قبل ذلك الرجل الذي يدعى فيروز والمكنى بأبي
لؤلؤة بعد أن رأى نفسه على فراش الموت .فقد حضره جمع من الصحابة وأشاروا عليه باستخلف من يرضاه،
ل أن خطب خطبة ـ سنشير إلى مضامينها لحقًا ـ واقترح الشورى وهم: فما كان منه إ ّ
علي)عليه السلم( وعثمان وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص ،على أن يجتمعوا لثلثة
أيام ويختاروا من بينهم الخليفة ،فاجتمعوا لتتمخض نتيجة الجتماع عن إختيار عثمان.
فقد أشار المام)عليه السلم( إلى هذه الشورى قائل» :فيال وللشورى«) ،(2ثم يتطرق)عليه السلم( إلى اولى
نقاط ضعف هذه الشورى وهى أّنه متى كان هناك من شك وترديد في أرجحيته على الخليفة الول فضل عن
إقترانه بهذه النظائر »متى اعترض الريب في مع الول منهم حتى صرت ُاقرن إلى هذه النظائر« .فالعبارة
تكشف عن قمة أسى المام)عليه السلم(على هضم الحقوق الذي تعرض له ،ويشير إلى حقيقة وهى أّنهم ينبغي
أن يختاروني لو أخذوا بنظر العتبار استحقاق الخلفة والجدارة والحقية بها.
ن المؤسف له أّنه كانت هناك أهداف ُاخرى أدت إلى جعل من كان بمنزلة رسول ال)صلى ال عليه وآله( غير أ ّ
وباب مدينة علمه والعالم بالكتاب والسنة والعارف بأسرار المسائل السلمية وبطل التوحيد الذي تربى في حجر
النبي )صلى ال عليه وآله( في مصاف عبدالرحمن بن عوف وسعد بن وقاص وامثالهما.
ثم أضاف)عليه السلم(» :لكني اسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا«) (3قالواقع هذه كناية بشأن
.1ورد في مقاييس اللغة أن »الزعم« عبارة عن الكلم الذي ل واقعية له وصاحبه ليس متأكدًا منه.
.2اللم في لفظ الجللة مفتوحة للستغاثة واللم في الشورى مكسورة وللمستغاث منه.
» .3أسففت« من مادة »إسفاف« بمعنى إقتراب شيء من آخر ويستعمل هذا اللفظ في الطائر إذا دنا من الرض ،كما يستعمل في
نسج الحصير لن خيوطه تقترب من بعضها البعض الخر ،كما وردت بمعنى شدة النظر )راجع مقاييس اللغة ولسان العرب(.
] [ 237
الطيور التي تطير عى هيئة ُاسراب فتحلق أحيانا وتنخضض ُاخرى إلى الرض وفي الحركتين تكون معًا .ومن
ن الوضاع المزرية في زمان الخلفاء ـ ل سيما إذا ابعد الخليفة وأقصي ـ تتطلب البتعاد عن كافة الواضح أ ّ
أشكال الفرقة والتشتت حذرًا من إستغللها من قبل خصوم الدعوة والتأهب للجهاض عليها .هنالك إحتمال آخر
ن مراده منها :أني أدور حيث مدار الحق والهث خلفه لكني طلبت المر وهو أيضا بشأن تفسير هذه العبارة في أ ّ
ل وهو موسوم بأكابرهم ،أي هو حقي فل أستنكف من طلبه ،إن كان موسوم بالصاغر منهم ،كما طلبته أو ً
المنازغ فيه جليل القدر أو صغير المنزلة ثم أشار)عليه السلم( إلى نتيجة تلك الشورى وأعمالها المريية حيث
تحرك أحدهم بدافع من حقده وضغينته بينما إندفع الخر بوحي من قرابته ونسبه لينتهي المر إلى عثمان:
»فصغا) (1رجل منهم لضغنه) (2ومال الخر لصهره ،مع هن) (3وهن«.
فقد قصد المام)عليه السلم( بالعبارة الولى »سعد بن أبي وقاص« الذي كان ينتمي من طرف أمه إلى بني أمية
وقد قتل أخواله وأقربائه على يد علي)عليه السلم( في المعارك السلمية ضد الكفر والشرك ،ولذلك لم يكن
مستعدًا لمبايعة علي)عليه السلم(حتى في خلفته.
و عمر بن سعد ذلك المجرم الجبار الذي قتل الحسين)عليه السلم( وصحبة في كربلء هو ابنه .وعليه فقد كانت
ضغينته لعلي)عليه السلم( أشهر من نار على علم وهى التي جعلته ل يصوت لصالح المام)عليه السلم( ،وهذا
ما أدى إلى فوز عثمان بعد أن منحه رأيه بواسطة عبدالرحمن بن عوف .وقال البعض المراد به »طلحة«
المفروغ من كراهيته للمام)عليه السلم( وهو الذي أشعل إلى جانب الزبير حرب الجمل التي أدت حسب قول
المؤرخين إلى قتل سبعة عشر ألف.
.4نقل الخوئي في شرحه عن الطبري عدم حضور طلحة في الشورى بل في المدينة )شرح الخوئى.(73 / 3،
] [ 238
أّما الفرد الذي مال إلى صهره فهو عبدالرحمن بن عوف زوج ُام كلثوم بنت عثمان .وقوله)عليه السلم(» :مع
ن المفردة »هن« كناية عن أعمال قبيحة يكره ذكرها ،فالعبارة يمكن أن تكون إشارة هن وهن«) ،(1استنادا إلى أ ّ
لخرى التي كان يطمع بها عبدالرحمن بن عوف من خلل تصويته لصالح عثمان من قبيل مد إلى الغراض ا ُ
لمور.إليه إلى بيت مال المسلمين أو التسلط على الناس أو الستيلء على الخلفة بعد عثمان أو جميع هذه ا ُ
ن الشورى قد عقدت في أجواء متوترة ،والشئ المغيب فيها إّنما كان المصالحفالذي نستفيده من هذا الكلم أ ّ
السلمية ،وعليه فمن الطبيعي التؤدي لضمان مصالح المسلمين ،وقد أثبتت الحوادث التي وقعت على عهد
عثمان مدى الخسائر الفادحة التي تكبدها المسلمون.
ثم أشار المام)عليه السلم( إلى النتيجة النهائية للشورى فقال» :إلى أن قام ثالث القوم نافجا)(2حضنيه) (3بين
نثيله) (4ومعتلفه) .«(5ولم يقتصر هذا المر على عثمان بل سار معه في هذا النهج قرابته وبطانته »و قام معه
بنو أبيه يخضمون) (6مال ال خضمة البل نبتة الربيع«.
أّما التعبير بنبتة الربيع للشارة إلى أّنها نبتة سائغة وطعمة سهلة للحيوان فيتنا ولها بكل شره ووله .والعبارة
ن بني ُامية قد اقتحمت الميدان بكل ثقلها
»يخضمون مال ال «...ـ وباللتفات إلى المعنى اللغوي لخضم ـ تفيد أ ّ
لتنهب بيت المال فتبتلع منه ما شاءت .وقال ابن أبي الحديد لقد سلط الخليفة الثالث ـ عثمان ـ بني امية على رقاب
الناس وأغدق عليهم الموال فقد أعطى عبد ال بن خالد أربعمأة ألف درهم ،وأعطى عبدال بن أبي سرح جميع ما
أفاء ال عليه من فتح افريقية بالمغرب ،وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال،
.1صّرح علماء اللغة بان »هن« تعنى فلن وتقال حين يريد النسان الشارة من بعيد إلى شيء لقباحته أو لسباب ُاخرى ،وعادة ما
تستعمل هذه المفردة في الصفات السيئة والقبيحة ول تستعمل في اُلمور الحسنة.
» .3الحضن« ما بين البط والكشح ونافجًا حضنيه تقال للمتكبر ولمن إمتل بطنه طعامًا.
» .4نثيل« من مادة »نثل« على وزن نسل بمعنى غائط النسان وروث الحيوان.
» .5معتلف« من مادة »علف« بمعنى موضع العلف ،وقد أراد بالعبارة الشخص الذي همه جمع الموال وملىء البطن وافراغها.
» .6الخضم« أكل الشيء الرطب بتمام الفم وهى تقابل القضم التي تعني الكل بأطراف السنان ،وقال البعض الخضم بمعنى أكل العلف
الطري والقضم بمعنى أكل العلف الجاف.
] [ 239
واعطى الحارث بن الحكم ـ زوج بنت ،عائشة ـ مائة ألف من بيت المال ،واعطى طلحه ثلثمأة واثنين وعشرين
ألف ،والزبير خمسمأة وثمانية وتسعين دينارا ،حتى بلغ ما أغدقه من بيت المال مئة وستة وعشرين مليون
وسبعمأة دينار.
و العجب من ذلك الدنانير التي أغدقها على بني أمية فقد منح مروان بن الحكم خمسمأة الف دينار ،ويعلي بن
ُامية خمسمأة الف دينار ،وعبد الرحمن بن عوف مليونين وخمسمأة وستين الف دينار والمجموع أربعة مليين
وثلثمأئة وعشرة دنانير) .(1وهنا يتضح عمق المعنى لقوله)عليه السلم(» :يخضمون مال ال خضمة البل نبتة
الربيع« .وبالطبع فان هذا الوضع لم يكن ليستمر لمّدة طويلة حيث ل يسع المسلمون تحمل مثل هذه الظروف
ولذلك لم تمض مّدة حتى انطلقت تلك النهضة ضد عثمان لتطيح به في خاتمة المطاف وتقتله بمرأى ومسمع من
لّمة دون أن يهب أحد من المسلمين لنصرته وهذا بعينه ما أشار إليه المام)عليه السلم(حين قال» :إلى أن
اُ
انتكث) (2عليه فتله) (3وأجهز) (4عليه عمله ،وكبت) (5به بطنته).«(6
ن المام)عليه السلم( رسم بثلث عبارات صورة واضحة كاملة عن وضع الخليفة الثالث و انتهاء أمره و الواقع أ ّ
وقتله .فقد صور في العبارة الولى إزالته لكافة مظاهر القدسية والزهد التي عرفها عنه الناس ليقفوا على مدى
تكالبه على الدنيا.
كما يصور في العبارة الثانية سوء أعماله التي وجهت له الضربة القاصمة ،وأخيرًا تخمته وامتلء جوفه بالطعام
بالشكل الذي لم يتمكن معه من الوقوف على قدميه حتى كب على وجهه على الرض .فقد بين المام علي)عليه
السلم( بهذه العبارات الدروس والعبر التي ينبغي أن يقتدي بها ساسة البلدان ويضعوها نصب أعينهم بحيث إذا
ن ذلك سيؤدي إلى زوال سوابقهم الحسنة بما يعبىء الرأي العام
إستغلوا مكانتهم وأقبلوا يتهافتون على الدنيا فا ّ
ضدهم وبالتالي الطاحة بهم وبحكومتهم.
» .4أجهز« من مادة »إجهاز« ،تطلق على المجروح وتفيد التسريع في الموت واتمام العمل.
» .5كيت« من مادة »كبو« بمعنى السقوط والوقوع على الوجه ،ومن هنا يقال كبابه الجواد إذ سقط لوجهه.
» .6بطنته« من مادة »بطن« بمعنى التخمة )ملىء الجوف الطعام أو النهم في الكل(.
] [ 240
ن العوامل التي بلورة ظهور وانبثاق خلفة عثمان هى ذاتها التي أّدت إلى القضاء عليه ،فقد دفع جدير بالذكر أ ّ
حب المال والثروة بعض الفراد من قبيل سعد بن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وطلحة )بناء اعلى كونه
حاضرا في الشورى( لن يضموا أصواتهم لعثمان واختياره للخلفة ،وهكذا إتسعت هذه المسألة واستفحلت حتى
لّمة وإطاحتها به .أّما بعض شّراح نهج البلغة فقد عثمان مكانته لدى الرأي العام والذي أدى بالتالى إلى ثورة ا ُ
ن المراد بقوله »إنتكث عليه فتله« انهيار الجراءات والتدابير التي مارسها لتوطيد حكومته ،ولعل فقد ذهبوا إلى أ ّ
تفويضه بعض العمال والمناصب لبطانته وقرابته قد كانت ضمن تلك الجراءات المتخذة ،لكن نفس هذا المر
قد أعطى نتائج معكوسة أسهمت في تقويض حكومة عثمان.
تأّملت
1ـ كيفية انتخاب خليفة الثاني والثالث
ن الخليفة الثاني قد نصب من قبل أبي بكر الذي عهد إليه بالخلفة في وصيته حين نزل به الموت .فقد جاء نعلم أ ّ
ن أبابكر أحضر عثمان ـ وهو يجود بنفسه ـ فأمره أن يكتب عهدا ،وقال :اكتب بسم ال في بعض التواريخ أ ّ
الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبوبكر إلى المسلمين ،ثم أّما بعد ،ثم ُاغمي عليه ،فكتب عثمانَ» :اما بعد فاني قد
استخلفت عليكم عمر بن الخطاب لم آلكم خيرًا«(1).
و أفاق أبوبكر فقال :إقرأ فقرأه ،فكبر أبوبكر وسرب وقال :أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي! قال
عثمان :نعم ،قال :جزاك ال خيرًا عن السلم وأهله).(2
يتضح بجلء من هذا الخبر أن عثمان قد خاط هذا القميص ـ الخلفة ـ لقامة عمر ،ولو افترض عدم إفاقة أبي بكر
لنشرت هذه الوصية على أّنها وصية أبي بكر .وعليه فلم هنالك
» .1آلكم« من مادة »ال« يألو بمعنى التقصير ،وعلى هذا الساس فان »لم آلكم« يعني لم ُأقصر في حقكم» .لسان العرب«.
] [ 241
لسلوب الذي إتبعه الخليفة الثاني في السقيفة حين مهد السبيل أمام خلفة أبي بكر ،لكي يسارع هذا
و هو ذات ا ُ
لّمة وفرقتها هى التي تقف وراء تعجيل
ن الحيلولة دون إختلف ا ُالخير فيعوضه عّما قدمه له .ويفهم ضمنيا أ ّ
أبي بكر وعثمان في تعيين الخليفة .فاذا كان المر كذلك ،فما بالك برسول ال )صلى ال عليه وآله(؟! ألم يكن من
لّمته مع وجود تلك النزاعات والصراعات الواجب على النبي)صلى ال عليه وآله(أن يتكهن بهذا المر بالنسبة ُ
لّمة مسألة
ن النبي )صلى ال عليه وآله( قد فوض ل ُ التي كشفت عن نفسها في السقيفة؟ كيف يمكن العتقاد بأ ّ
ن خوف الفتنة منع من تفويض المر إنتخاب الخليفة ،بينما ل يرعى هذا المر في خلفة الثاني والثالث ،حتى أ ّ
لّمة؟! هذه هى السئلة التي ينبغي لكل محقق الرد عليها.
لُ
ن عمر لما طعنه أبولؤلؤه ،وعلم أّنه ميت ،استشار فيمن يوّليه المر بعده ،فأشير عليه بابنهوصورة هذه الواقعة أ ّ
ل! ل
حّمل! حسب عمرًا احتقب ،لها ا ّ ل إذا! ليليها رجلن من َوَلد الخطاب! حسب عمر ما ُ ل ،فقال :لها ا ّ عبدا ّ
ل مات وهو راض عن هذه الستة من قريش :على ،وعثمان وطلحة، ن رسول ا ّأتحملها حيًا وميتًا! ثم قال :إ ّ
والزبير ،وسعد ،وعبدالرحمن بن عوف; وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لنفسهم .ثم قال :إن أسَتخلف
ل)صلى ال عليه فقد استخلف من هو خير مّني يعنى أبابكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مّني يعنى رسول ا ّ
وآله(ثم قال :ادعوهم لي ،فدعوهم ،فدخلوا عليه وهو ُملقى على فراشه يجود بنفسه.
فنظر إليهم ،فقال :أكّلكم يطمع في الخلفة بعدى! فوجموا ،فقال لهم ثانية ،فأجابة الّزبير وقال :وما الذي ُيبعدنا
سنا دونك في قريش ولفي السابقة ول في القرابة. منها! وليتها أنت فقمت بها ،ول ْ
] [ 242
فقال عمر :أفل أخبركم عن أنفسكم! قال :قل ،فإنا لو استعفيناك لم ُتعفنا .فقال :اّما أنت يا زبير فوعق لقس ،مؤمن
الرضا كافر الغضب ،يومًا إنسان ،ويومًا شيطان ،ولعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلطم بالبطحاء على مد من
شعير! أفرأيت إن أفضت إليك ،فليت شعري ،من يكون للناس يوم تكون شيطانًا ،ومن يكون يوم تغضب! وما
لّمة ،وأنت على هذه الصفة. ل ليجمع لك أمر هذه ا ُ
كان ا ّ
ثم أقبل على طلحة وكان له مبغضًا منذ قال لبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر فقال له :أقول أم أسكت :قال :قل،
حد وائبا بالذي حدث لك ،ولقد ماتت إصبعك يوم أ ُفإّنك ل تقول من الخير شيئًا ،قال :أّما إّني أعرفك منذ أصيب ْ
ل)صلى ال عليه وآله(ساخطًا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنِزلت آية الحجاب. رسول ا ّ
ثم أقبل على عثمان ،فقال :هيهًا إليك! كأّنى بك قد قلدتك قريش هذا المر لحّبها إياك ،فحملت بني أمية وبني أبى
ُمعيط على رقاب الناس ،وآثرتهم بالفىء ،فسارت إليك عصابة من ذوبان العرب ،فذبحوك على فراشك ذبحًا.
ن ،ثم أخذ بناصيته ،فقال :فإذا كان ذلك فاذكر قولى; فإّنه كائن.
ن فعلت ليفعل ّ
ل لئن فعلوا لتفعل ّ
وا ّ
حْفرتي ،فكن في خمسينثم قال :ادعوا إلي أبا طلحة النصارى ،فدعوه له فقال :انظر يا أبا طلحة ،إذ عدتم من ُ
ل من النصار حاملي سيوفكم ،فخذ هؤلء النفر بإمضاء المر وتعجيله ،واجمعهم في بيت ،وقف بأصحابك رج ً
على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحدًا منهم ،فإن اّتفق ثلثة وخالف ثلثة ،فانظر الثلثة التي فيها
لخرى على خلفها فاضرب أعناقها ،وإن مضت عبدالرحمن ،فارجع إلى ما قد اتفقت عليه ،فإن أصّرت الثلثة ا ُ
ثلثة أيام ولم يتفقوا على أمر ،فاضرب أعناق السّتة ،ودع المسلمين يختاروا لنفسهم.
جَمَعم أبو طلحة ،ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من النصار ،حاملي سيوفهم ،ثم تكّلم فلما ُدفن عمرَ ،
القوم وتنازعوا ،فأّول ما عمل طلحة أّنه أشدهم على نفسه أّنه قد وهب حّقه من الشورى لعثمان ،وذلك لعامه أ ّ
ن
ن الخلفة ل الناس ل يعدلون به علّيا وعثمان ،وأ ّ
] [ 243
تخلص له وهذان موجودان ،فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي عليه السلم ،بهبة أمر ل انتفاع له به،
ول تمّكن له منه.
ي ،وإنما فعل ذلك لّنه لمات حّقى من الشورى لعل ّ فقال الزبير في معارضته :وأنا أشهدكم على نفسي أّني قد وهب ُ
رأى علّيا قد ضعف وانخزل بهَبِة طلحة حّقه لعثمان ،دخلته حمّية الّنسب ،لّنه ابن عمة أميرالمؤمنين عليه
السلم ،وهى صفّية بنت عبدالمطلب ،وأبوطالب خاُله .وإّنما مال طلحة إلى عثمان لنحرافه عن علي)عليه
السلم( ،باعتبار أّنه تيمى وابن عم أبي بكر ،وقد كان حصل في نفوس بني هاشم من بني تيم حنق شديد لجل
الخلفة ،وكذلك صار في صدور تيم على بني هاشم.
فمّما ل شك فيه هنالك عّدة اسئلة لبّد من طرحها بشأن هذه الشورى ومنها:
لّمة فلم ل يرجع إليها؟ وإن كانت الخلفة قائمة على أساس
ل :لو كانت الضابطة في الخلفة تكمن في آراء ا ُ
أو ً
التعيين فما معنى الشورى المركبة من ستة أعضاء وما بال إهمال سائر الشخصيات المعروفة وعدم إشراكها في
الشورى؟
ن رسول ال )صلى ال عليه وآله( مات وهو راض عن هذه الستة من قريش ،فكيف التوفيق بين ثانيًا :لقد قيل أ ّ
هذا وما صّرح بأن رسول ال )صلى ال عليه وآله( مات وهو ساخط على طلحة بالثلمة التي قالها يوم ُانزلت آية
الحجاب)(1؟
ثالثًا :لو افترض عدم تمكنهم من القيام بوظيفتهم فكيف يؤمر بضرب أعناقهم؟
خامسًا :إذا إنقسمت الشورى إلى قسمين فلم ل ترجح الكفة التي فيها علي)عليه السلم( والذي قال له عمر :أّما
وال لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح ،والحجة البيضاء .وليس له من إشكال عليه سوى قوله »لول دعابة
فيك«.
.1المراد بآية الحجاب قوله سبحانه»:فاسئلوهن من وراء حجاب« الذي نزل في نساء النبي )صلى ال عليه وآله( والكلمة المذكورة
أن طلحة لما أنزلت آية الحجاب قال بمحضر ممن نقل عنه إلى رسول ال )صلى ال عليه وآله( :ما الذي يعنيه حجابهن اليوم،
وسيموت غدا فننكحهن.
] [ 244
سادسًا :وهل للدعابة من أثر سلبي على الخلفة وهل يرقى هذا الشكال إلى الشكال على عثمان باّنه إذا ولي
ل؟
ل وماله دو ً
الخلفة وسيسلط بني ُامية على رقاب المسلمين فيتخذون عباد ال خو ً
و يجب أن نذُكر في هذا الموضع ابتداء اضطراب المر على عثمان إلى أن ُقِتل.
ن عثمان أحدث أحداثًا مشهورة َنِقَمها الّناس عليه ،من تأمير بني أمّية ،ول سّيما الفساق منهم
و خلصة ذلك أ ّ
سفه وقّلة الّدين ،واخراج مال الفىء إليهم ،وما جرى في أمر عّمار وأبى ذر وعبدال بن مسعود ،وغير ب ال ّ
وأربا ُ
عقبه لّما كان عامله على الكوفة وشهد عليه
ن الوليد بن ُ
لمور التى جرت في أواخر خلفته .ثم اتفق إ ّ ذلك من ا ُ
ى سعيد بن العاص مكانه ،فقدم سعيد الكوفة ،استخلص من أهلها قومًا يسمرون عنده، بشرب الخمر ،صرفه وول ّ
ن السواد الذي أفاءه ال علىن السواد بستان لُقريش وبنى أمية .فقال الشتر النخعي :وتزعم أ ّ فقال سعيد يومًا :إ ّ
المسلمين بأسيافنا بستان لك لقومك! فقال صاحب شرطته :أترّد على المير مقالته! وأغلظ له ،فقال الشتر لمن
كان حوله من الّنخع وغيرهم من أشراف الكوفة :أل تسمعون! فوثبوا عليه بحضرة سعيد فوطئوه وطأ عنيفًا،
سّماره فلم يأذن بعد لهم ،فجعلوا يشتمون سعيدًا في مجالسهم ،ثم تعّدواوجّرول برجله ،فغلظ ذلك على سعيد،أبعد ُ
ل يفسدوا أهل الكوفه ،وكتب إلى معاوية وهو وإلى ذلك إلى عثمان في أمرهم ،فكتب إليه أن يسيرهم إلى الشام; لئ ّ
ن نفرًا من أهل الكوفة قد هّموا بإثارة الفتنة ،وقد سيرتهم إليك ،فانهم; فإن آنست منهم رشدًا فأحسن إليهم، الشام :إ ّ
وارددهم إلى بلدهم.
ثم إن سعيد بن العاص قدم على عثمان سنة إحدى عشرة من خلفته .فلما دخل المدينة
.1في حوادث ،35 33مع تصرف واختصار في جميع ما أورده في هذا الفصل ) 9نهج .(2
] [ 245
اجتمع قوٌم من الصحابة ،فذكروا سعيدًا وأعماله ،وذكروا قرابات عثمان وما سّوغهم من مال المسلمين ،وعابوا
أفعال عثمان ،فأرسلو إليه عامر بن عبد القيس وكان متألها ) ،(1واسم أبيه عبدال ،وهو من تميم ،ثم من بني
ن ناسًا من الصحابة اجتمعوا ونظروا في أعمالك ،فوجدوك قد ركبت ُامورًا العنبر فدخل على عثمان ،فقال له :إ ّ
عظامًا ،فاتق ال وتب إليه.
فأخرجه عثمان ،وأرسل إلى عبدال بن سعد بن أبى سرح ،وإلى معاوية وسعيد ابن العاص وعمرو بن العاص
وعبيدال بن عامر وكان قد استقدم المراء من أعمالهم فشاورهم،وقال :إن لكل أمير وزراء ونصحاء ،وإنكم
ى أن أعزل عّمالي ،وأن أرجع عن جميع
وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي ،وقد صنع الناس ما قد رأيتم ،وطلبوا إل ّ
مايكرهون إلى مايحبون ،فاجتهدوا رأيكم.
فقال عبدال بن عامر :أرى لك ياأميرالمؤمنين أن تشغلهم عنك بالجهاد حتى يذّلوا لك ،ول تكون همة أحدهم إ ّ
ل
في نفسه ،وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته.
ثم كاتب عّماله واستقدمهم ،فلما قدموا عليه جمعهم ،وقال :ما شكايُة الناس منكم؟ إّني لخائف أن تكونوا مصدوقًا
ل بي .فقالو له :وال ما صدق من رفع إليك ول بر ،ول نعلم لهذا المر أصل. عليكم ،وما يعصب هذا المر إ ّ
ي ،فقال سعيد بن العاص :هذه ُامور مصنوعة تلقى في السر فيتحدث بها الناس ،ودواء فقال عثمان :فأشيروا عل ّ
ذلك السيف.
وروى محمد بن عمر الواقدي رحمة ال تعالى ،قال :لما أجلب الناس على عثمان ،وكثرت الفالة فيه ،خرج ناس
من مصر ; منهم عبدالرحمن عديس البوى ،وكنانة بن بشر الليثي ،وسودان بن حمران السكوني ،وقتيرة بن وهب
السكسكي; وعليهم جميعًا أبوحرب الغافقي ،وكانوا في ألفين .وخرج ناس من الكوفة ،منهم زيد بن صوحان
العبدى ،ومالك الشتر النخعي ،وزياد بن النضر الحارثي ،وعبدال بن الصم الغامدي ،في ألفين .وخرج ناس من
أهل البصرة .منهم حكيم بن جبلة العبدى ،وجماعة من أمرائهم ،وعليهم حرقوص بن زهير السعدي; وذلك في
شوال من سنة خمس وثلثين ،وأظهروا أّنهم يريدون الحج .فلما كانوا من
] [ 246
المدينة على ثلث ،تقدم أهل البصرة ،فنزلوا ذاخشب وكان هواهم في طلحة .وتقدم أهل الكوفة ،فنزلوا العوص
وكان هواهم في الزبير .وجاء أهل مصر فنزلوا المروة وكان هواهم في علي )عليه السلم( .ودخل ناس منهم إلى
المدينة يخبرون ما في قلوب الناس لعثمان ،فلقوا جماعة من المهاجرين والنصار ،ولقوا أزواج النبي صلى ال
عليه وآله ،وقالوا :إّنما نريد الحج ،ونستعفى من عمالنا.
وخرج عثمان يوم الجمعة ،فصلى بالناس ،وقام على المنبر ،فقال :ياهؤلء ،ال ال; فوال إن أهل المدينة يعلمون
أّنكم ملعونون على لسان محمد صلى ال عليه ،فامحوا الخطأ بالصواب.
وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيًا عليه ; فأدخل داره; واستقتل نفر من أهل المدينة مع عثمان; منهم
سعد بن أبي وقاص ،والحسن بن على عليه السلم ،وزيد بن ثابت ،وأبو هريرة; فأرسل إليهم عثمان :عزمت
عليكم أن تنصرفوا; فانصرفوا.
وأقبل على وطلحة والزبير ،فدخلوا على عثمان يعودنه من صرعته ،ويشكون إليه ما يجدون لجله; وعند عثمان
نفر من بين أمية ،منهم مروان بن الحكم ،فقالوا لعلى عليه السلم :أهلكتنا وصنعت هذا الذي صنعت! وال إن
بلغت هذا المر الذي تريده لتمرن عليك الدنيا; فقام مغضبًا ،وخرج الجماعة الذين حضروا معه إلى منازلهم.
وروى المدائني ،قال :كان عثمان محصورًا محاطًابه ،وهو يصلى بالناس في المسجد ،وأهل مصر والكوفة
والبصرة الحاضرون له يصلون خلفه ،وهم أدق في عينه من التراب.
] [ 247
ن لصحابة رسول ال )صلى ال عليه وآله( ـ دون إستثناء ـ قدسية المعروف بين أوساط الخوة من أبناء العامة أ ّ
ن أحدا منهم لم يؤتي بما يخالف ما أمر به ال في الكتاب والسنة ،بينما تعتقد الشيعة من أتباع مدرسة وعدالة وأ ّ
ن الصحابة ليست سواسية ولها رأي بكل صحابي بما ينسجم وسلوكه سواء على عهد أهل البيت)عليهم السلم(أ ّ
رسول ال)صلى ال عليه وآله( أو بعد وفاته.
ن هنالك من
ن العتقاد السائد لدى الخوة السنة بشأن الصحابة قد قادهم إلى مشاكل كثيرة; وذلك ل ّ و لشك أ ّ
الصحابة ممن إختلفوا فيما بينم إلى حد القتتال .فيكف يمكن تبرير تلك العقيدة التي تتضمن عدالتهم وقدسيتهم.
على سبيل المثال موقعة صفين التي قام فيها معاوية ضد إمام زمانه بما أدى إلى اراقة تلك الدماء ،فهل هناك
مورخ نزيه يمكنه توجيه ذلك العمل؟! أو الدماء التي سفكت في معركة الجمل التي قادها طلحة والزبير ضد
المام علي)عليه السلم(بعد أن نكثا بيعته حتى قيل أن عدد القتلى بلغ أكثر من سبعة عشر الف قتيل ،فهل لهما
من عدالة بعد تلك الفجائع التي ارتكبت بحق المسلمين وخروجها على المام)عليه السلم(؟!
أّما بشأن عثمان وكما مّر معنا وعلى ضوء إجماع كافة مؤرخي السلم فاّننا نصطدم بموضوعين مهمين :الول
اغداقه المناصب الحساسة على بني ُامية وتسليطهم على رقاب المسلمين ومن أولئك الذين عرفوا بفسقهم
ومجونهم حتى تعالت عليهم أصوات المسلمين من كل حدب وصوب ،والخر نهب أموال بيت المال واغداقها
لّمة وأجج مشاعرها للغضب والثورة عليه.دون حساب على هذا وذاك بالشكل الذي آثار حفيظة ا ُ
فهل من إنسجام بين هذه العمال والخطوط العامة للقداسة وتنزيه الصحابة؟! فلو كان هنالك من تبرير لمثل هذه
العمال فهل ستبقى هنالك من أعمال يمكن إدانتها؟!
لقد ذكرني هذا الكلم بقصة عجيبة وقعت لي ول يسعني نسيانها أبدا .فقد تشرفت احدى السنوات بزيارة مكة
لداء العمرة وقد سنحت لي الفرصة لن ألتقي بعض علماء العامة ـ ول سيما أثناء الليالي في المسجد الحرام
وبين صلتي المغرب والعشاء التي كانت فرصة مناسبة ـ في احدى الليالى )طبعا كان البعض منهم من مشاهير
علماء العامة(.
و في المسجد الحرام وسعينا لن نبقي على البحاث تعيش أجواء المنطق والعلم
] [ 248
والستدلل والبرهان وابعادها عن عناصر العداء والكراهية وجرح المشاعر .وقد جرنا الكلم إلى الحديث عن
»تنزيه الصحابة وعدالتهم« فكانوا يعتقدون جميعهم بعدم إمكانية جرأة أحد على توجيه أدنى تهمة إليهم .فسألت
أحدهم» :لو شهدت صفين حيث معسكر علي)عليه السلم(معسكر معاوية ،فمع من كنت تقاتل«؟ فاجاب من
فوره :مع معسكر علي)عليه السلم(.
فقلت :لو أعطاك عليًا)عليه السلم( سيفًا وقال لك» :خذ هذا واقتل معاوية فهل كنت تمتثل أمره؟«هنا أجاب إجابة
عجيبة ل أظنكم تتصورنها ،فقد قال» :كنت أقتله ول أذكره بسوء« نعم قضية تنزيه الصحابة قصة ذات شجون
ول يسعني الخوض في كافة تفاصيلها.
—–
] [ 249
القسم الرابع
ي،
طفا َ عْق ِ شّ نَ ،و ُ سنا ِ ح َ
ىء اْل َ
طَ
حّتى َلَقْد ُو ِ ن ُكّل جاِنب َ ي ِم ْ
عَل ّ
ن َ ي َيْنثاُلو َ ضُبِع ِإَل ّ
ف ال ّعِني ِإّل َوالّناس َكُعْر ِ »َفما را َ
سَمُعوانَ ،كَأّنُهْم َلْم َي ْخُرو َ طآَ سَ
خَرىَ ،وَق َ ت ُأ ْ
ت طاِئَفٌة َوَمَرَق ْت ِباَْلْمِر َنَكَث ْض ُضِة اْلَغَنِم َفَلّما َنَه ْ
حْوِلي َكَرِبي َن َ جَتِمِعي َ
ُم ْ
ن«، ض َول َفسادًاَ ،واْلعاِقَبُة ِلْلُمّتِقي َ عُلّوا ِفي اَْلْر ِ ن ُن ل ُيِريُدو َ جَعُلها ِلّلِذي َخَرُة َن ْ
حاَنُه َيُقوُلِ» :تْلك الّدار اْل ِ سْب َ
ل ُ ا َّ
جها«. عُيِنِهْم َوراَقُهْم ِزْبِر ُ
ت الّدْنيا ِفي َأ ْحِلَي ِعْوهاَ ،وَلِكّنُهْم َ سِمُعوها َوَو َ ل َلَقْد َ
َبَلى! َوا ّ
—–
الشرح والتفسير
لّمة
أشار المام)عليه السلم( في هذه الخطبة إلى عصر خلفته ول سيما أبان البيعة التي شهدت حضورًا خارقًا ل ُ
ن عددًا كثيرًافي مبا يعته والوقوف إلى جانبه ،البيعة الفريدة التي لم يعرف التأريخ السلمي لها من نظير ،غير أ ّ
لما جوبه بعدالة المام)عليه السلم( وتنمره في الحق قد إنفرجوا عنه وهبوا لمخالفته وبالتالي أججوا نيران
الحرب »الجمل وصفين والنهروان« وشقوا صفوف المسلمين وحالوا دون تتويج جهود المام)عليه السلم(
ومساعيه في النهوض بالمجتمع السلمي والخذ بيده إلى السمو والتكامل.
فقد وصف)عليه السلم( بادىء ذي بدء كيفية إقبال الناس عليه وهجومهم من أجل البيعة قائل» :فما راعني)(1
ي من كل جانب« فالتعبير بعرفى ينثالون) (4عل ّ ل والناس كعرف) (2الضبع) (3إل ّ
إّ
» .1راعني« من مادة »روع« على وزن نوع بمعنى الخوف والخشية والقلق كما وردت بمعنى الدهشة والذهول.
» .2عرف« بمعنى الكثرة والزدحام ومن هنا يطلق على شعر عنق الضبع.
2 » .3ضبع« له ثلثة معان ،الحيوان المعروف وأحدا أعضاء النسان )العضد( والثالث أّنه أحد صفات
الناقة .وقد تكون كناية عن سنين القحط التي تهجم على النسان.
» .4ينثالون« من مادة »ثول« على وزن قول بمعنى ازدحام زنابير العسل حين تجتمع وتروح وتجيىء ثم اطلقت على كل ازدحام
يتخلله ذهاب واياب )مقاييس اللغة والصحاح ولسان العرب(.
] [ 250
الضبع إشارة إلى الزدحام الشديد للناس واندفاعهم لمبايعة المام)عليه السلم( فهو مثل يضرب للكثرة
والزدحام.
ن مثل هذه البيعة الحماسية من شأنها أن تقلدأّما قلقه من الهجوم المفاجىء للناس من أجل البيعة فلعله يعزى إلى أ ّ
المام )عليه السلم(مسؤولية جديدة ول سيما أّنه كان يتوقع نقض البيعة من قبل ُاولئك الذين يتهافتون على الدنيا
وحطامها ،وهذا ما أشار إليه المام)عليه السلم(بوضوح في الخطبة 92حيث قال» :دعوني والتمسوا غيري،
فانا مستقبلون أمراله وجوه وألوان ،لتقوم له القلوب ،ول تثبت عيه العقول ،وان الفاق قد أغامت والمحجة قد
تنكرت ،واعلموا أّني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ،ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب ،وإن تركتموني فأنا
كأحدكم ،ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ،وأنا لكم وزيرًا ،خيرلكم مني أميرا«.
أضف إلى ذلك كان يشعر بالقلق من جهة ُاخرى وهى أن تشير إليه أصابع التهام من قبل المنافقين وخصوم
الدعوة بقتل عثمان .ثم يخوض المام)عليه السلم( في عمق ذلك الزدحام والنهيال عليه بالبيعة فقال)عليه
السلم(» :حتى لقد وطىء الحسنان ،وشق عطفاي ،مجتمعين حولي كربيضة الغنم«.
] [ 251
أّما تشبيهم بربيضة الغنم فهو ل يرمز إلى جهل الناس كما فسره بعض الشارحين ،بل يتضمن إشارة إلى ما
أوردناه سابقًا حيث يرمز إلى لو إذ الغنم بالراعي كلواذها بالمرعى حين تتعرض لهجوم الذئاب.
فالمسلمون الذين تفرقوا هنا وهناك إثر الهجوم الذي تعرضوا له من قبل ذؤبان عصر الخليفة الثالث وتفككت
عرى الوحدة بينهم قد رأوا في المام)عليه السلم(حلقة الوصل فاندفعوا إليه بلهفة ليتجمهروا حوله ويشعروا
ن الندفاع لم يكتب له الدوام حين عرضوا للختبار لتفشل فيه طوائف
ن المؤسف هو أ ّبالسكينة والستقرار .غير أ ّ
من المسلمين ،وهذا ما صوره المام علي)عليه السلم( إذ قال» :فلما نهضت بالمر نكثت طائفة ،ومرقت)(1
ُاخرى ،وقسط) (2آخرون«.
و »المارقين« هم أصحاب النهروان ويراد بهم الخوارج الذي خرجوا على المام)عليه السلم(وهبوا لقتاله بعد
قضية التحكيم في صفين .وهم من وصفوا بالمروق عن الدين كمروق السهم من الرمية .في إشارة إلى أّنهم قد
ن تعصبهم العمى وجهلهم وحبهم لذاتهم قد أمرقهم من ذلك الحق .و»القاسطين« هم أهل لأّ
كانوا على الحق إ ّ
الشام جيش معاوية ،حيث وردت مفردة
» .1مرق« من مادة »مروق« على وزن غروب بمعنى الخروج من الشيء حيث تستعمل في خروج السهم ـ ويقول صاحب صحاح
اللغة ولسان العرب ـ المراد به المرور من الهدف واصابة طرفه ومن هنا سمي الخوارج بـ »المارقين« لنهم كانوا جماعة مفرطة
متعصبة رأت نفسها أكثر إسلمية من أمير المؤمنين علي)عليه السلم(.
» .2قسط «،وردت أحيانا بمعنى الظلم والعدول عن الحق ولذلك يقال قسط على وزن فقط للفراد الذين إعوجت أرجلهم ،كما وردت
بمعنى العدل .قال الراغب في المفردات القسط بمعنى السهم والنصيب فاذا أخذ سهم شخصى قيل له قسط وهذا مصداق الظلم ،واقساط
تعني دفع سهم الخر وهذا عين العدالة .وعليه فالمعنيان يعودان الى مادة واحدة فقد صّرح صاحب لسان العرب أنّه جاء في حديث
علي)عليه السلم( قالُ» :امرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين« واضاف صاحب لسان العرب »و القاسطون أهل صفين«.
] [ 252
القسط بمعنى العدل إلى جانب ورودها بمعنى الظلم والطغيان والفسق.
ن هذه التسميات لهذه الفئات الثلث ـ وعلى ضوء المصادر السلمية ـ مّما صّرحت بهاو الجدير بالذكر هنا أ ّ
الحاديث النبوية الشريفة.
فقد روى الحاكم النيسابوري في مستدرك الصحيحين عن أبي أيوب النصاري أّنه قال»:أمر رسول ال )صلى
ال عليه وآله(علي بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين«).(1
كما ورد هذا المعنى في تلخيص المستدرك للذهبي) .(2ووردت هذه الرواية في كتاب ُاسد الغابة في شرح سيرة
المام علي)عليه السلم().(3
بينما وردت هذه الرواية مفصلة في تاريخ بغداد ،حيث جاء عن أبي أيوب النصارى أّنه قال :أمرنا رسول ال
)صلى ال عليه وآله( بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين في ركاب علي)عليه السلم( .أّما الناكثين فقد قاتلناهم
وهم ـ أصحاب الجمل ـ طلحة والزبير ،وأّما القاسطين فهم من عدنا الن من عندهم; أي معاوية وعمرو بن
ل أنني أعلمالعاص )لقد قال ذلك حين عاد من صفين( وأّما المارقين فهم أصحاب النهروان ،وال ل أعلم أين هم إ ّ
بأناسنقاتلهم«)(4
لولئك الجهال الذين لم تحسم لديهم الحروب التي وقعت إبان خلفة علي)عليه
ن هذا جواب قاطع ُ
و الحق ا ّ
السلم(.
نعم فُاولئك الذين تهافتوا في بادى المر على علي)عليه السلم( من أجل البيعة لم يطيقوا تحمل عدالته وشدته في
الحق; ول سيما ممارسته للعدالة التي أوشكت أن تموت بعد تلك المّدة الطويلة التي شهدت إنعدامها وقد تمثل
ابسط مظاهرها في التطاول على بيت المال وسلبه ونهبه الذي أقدم عليه الكثيرون فانى لهم بتحملها ،ولذلك لم
ل ثلة معدودة التزمت بعهودها بينما إنفرج عنه العم الغلب ممن بايعوه; المر الذي أشار إليه تصمد معه إ ّ
نلجَعُلها ِلّلِذي َ
خَرُة َن ْ
ك الّدار ال ِ
المام)عليه السلم(في خطبته فقال» :كأّنهم لم يسمعوا كلم ال سبحانه يقولِ) :تْل َ
عُلّوا
ن ُ
ُيِريُدو َ
.2لقد طبع هذا الكتاب في ذيل المستدرك )المجلد السابق والصفحة السابقة(.
.3اسد الغابة .33 / 4
] [ 253
ن((1).
ض َول َفسادًا َوالعاِقـَبُة ِلْلُمـّتِقـي َ
لْر ِ
ِفي ا َ
ثم أضاف)عليه السلم(» :وال لقد سمعوها ووعوها) (2ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم ،وراقهم)(3زبرجها))«(4
.(5
فالمام)عليه السلم( يشبههم في البداية بالجهال الذين دفعهم جهلهم لمخالفته ،ثم ينتقل في المرحلة اللحقة ليصفهم
ن حب الدنيا والتكالب على حطامها لأّ
بأّنهم سمعوا هذه الخبار والحقائق ووعوها وهى ليست خافية عليهم ،إ ّ
والغترار بزبرجها ـ ول سيما بعد الفتوحات السلمية الكبرى التي جرت عليهم ما ل يحصى من الغنائم النفيسة
والتعود على الحياة الوادعة المرفهة خاصة تلك التي ظهرت أبان خلفة عثمان ـ جعلتهم يؤثرون الدنيا على الدين
ويبيعون الحقيقة بالخرافة ويضحون بالدار الخرة ويزهدون فيها.
فالعبارات التي أوردها المام)عليه السلم( هى في الواقع عصارة التحليلت بشأن نشوب المعارك الثلث في
عهد المام)عليه السلم( ; المر الذي يعتبر درسا لجميع المسلمين على مدى التاريخ في أّنهم يعيشون الفرقة
والتشتت وتمزق عرى الوحدة كلما أقبلوا على الدنيا واغتروا بزخارفها وزبرجها ،فليس لهم من سبيل سوى
ن الختلفات السائدة في أوساط الورع والتقوى والزهد بغية الثبات على الطريق .ونشاهد اليوم بكل وضوح أ ّ
المسلمين إّنما تعزى لما بينه المام)عليه السلم( وأو جزته الية القرآنية الشريفة»:تلك الدار الخرة نجعلها للذين
ل يريدون علوا في الرض ول فسادا والعاقبة للمتقين«.
» .2وعوها« من مادة »وعى« على وزن نفى ،قال صاحب المقاييس تغني صنم الشيء إلى آخر ،وقال صاحب المفردات تعني حفظ
الحديث وما شابه ذلك )وكلهما بمعنى واحد(.
» .3راق« من مادة »روق« -حسب المقاييس -بمعنى تقدم شيء على آخر و تأتي أحيانا بمعنى الحسن والجمال ومن هنا يصطلح
بالرواق على مقدمة البيت أو الضرحة المقدسة و قد جاءت هنا بمعنى الحسن والجمال.
» .4زبرج« بمعنى الزينة والذهب كما تأتي بمعنى نقوش القماش.
ن الضمائر في هذه العبارة والعبارات السابقة إّنما يعود إلى الفرق الثلث الناكثين والمارقين والقاسطين التي ُاشير
.5يتضح بجلء أ ّ
ن هذا
ن هذه الضمائر إّنما تعود إلى الخلفاء الثلث ،غير أ ّ
لمة المجلسي في البحار أ ّإليها في العبارة السابقة ،بينما يرجح المرحوم الع ّ
الحتمال يبدو مستبعدًا .ولعل هذا هو الذي دفع المرحوم المجلسي لن يختتم كلمه باحتمال رجوع الضمائر إلى كافة من أشارت إليهم
الخطبة.
] [ 254
فالعلو في الرض والفساد والتكالب على الدنيا وحطامها هما أساس الفرقة والختلف و التشتت في المجتمعات
السلمية.
تأّملت
1ـ البيعة الشعبية لمير المؤمنين)عليه السلم(
إّنها البيعة التي ل يمكن مقارنتها بتلك التي حدثت مع الخلفاء الثلث.
لّمة المستضعفة التي ذاقت كانت بيعة عفوية شعبية عامة بعيدة عن البرمجة والتخطيط ،بل نابعة من أعماق ا ُ
لّمة نفسها أمام
الظلم والضطهاد ،فهى ليست كبيعة السقيفة التي مثل إتخاذ القرار فيها بعض الفراد لترى ا ُ
نتيجة حسمت سابقًا ،وهى ليست كبيعة عمر التي ُاسندت بطولتها لفرد واحد هو الخليفة الول ،وأخيرًا ليست
كبيعة عثمان التي استندت للشورى السداسية وعلى ضوء التركيبة التي شكلها عمر.
بل هى بيعة واقعية وحقيقيقة جردت ماسواها من إنتحال هذا السم بعد أن برمجت وخططت بهذه الكيفية.
ن الثوار الذين أودوا بحياة عثمان إتجهوا صوب المام علي)عليه فقد ذكر بعض شّراح نهج البلغة أ ّ
السلم(ليبايعوه على الخلفة ،فلم يجبهم فلما أصروا عليه ،خاطبهم قائل» :أنا لكم وزيرًا خير مني اميرًا«.
ن قتلة عثمان فقط هم الذين بسطوا له أيديهم بالبيعة ،وناهيك عّما تقدم
أضف إلى ذلك فلو بايعوه ،لزعم البعض أ ّ
ن المام)عليهلأّ
ن المام)عليه السلم(كان يتوسم فيهم عدم القدرة على إحتمال الحق; نعم فالحق ثقيل وبيىء ،إ ّ فا ّ
السلم(فوجىء بتقاطر المهاجرين والنصار الذين اصروا عليه بقبول الخلفة.
] [ 255
ن النبي )صلى ال عليه وآله( قد إستخلف عليًا)عليه إننا نعتقد وعلى ضوء المصادر السلمية المعتبرة أ ّ
السلم(بأمر ال ،ولم يقتصر ذلك على »غدير خم« بل أكده النبي )صلى ال عليه وآله( في عّدة مواضع
ومناسبات ،ورغم مخالفة البعض ـ لسباب ليسعنا المجال إلى الخوض في تفاصيلها ـ بعد رحيل النبي )صلى ال
لّمة بشكل عجيب على المام)عليه السلم( وهى تعلن عن عليه وآله(مع ذلك فما أن قتل عثمان حتى تدفقت ا ُ
تظامنها ودعمها واسنادها للمام)عليه السلم(; الدعم الذي لم تشهده النظم الديمقراطية طيلة تجاربها ،بل قل
نظيرها سوى بعض النماذج التي حصلت على عهد رسول ال )صلى ال عليه وآله(كبيعة الشجرة.
لّمة بمنزلة علي)عليه السلم(وسعة علومه ومعارفه ن تلك البيعة إّنما كانت تنبع من معرفة ا ُ
و مّما ل شك فيه أ ّ
ومدى ورعه وتقواه وزهده وادارته الناجعة التي لم يكن فيها من مكان للتيارات والتحزبات ،فقد كانت من العفوية
والنسيابية بحيث سلبت زمام المبادرة من الخصوم لتجعلهم يعيشون حالة الدهشة ُامام عمل تم ول سبيل إلى
لّمة وحالها وتخلوا عن مؤامراتهم وغدرهم لنهض ذلك المجتمع نهضات ولعاش الرجعة منه ،ولو تركوا ا ُ
الطروحة التي حملها له القرآن والمتمثلة بقيام مجتمع الحرية والعدالة.
ن هذه العناصر المشبوهة العثمانية التي تطاولت على بيت أموال المسلمين وردت الميدان
و سنرى لحقا أ ّ
السياسي لتعبث الناس وتتل عب بمشاعرها الدينية وتقودها في خاتمة المطاف إلى إشعال نيران الجمل وصفين
والنهروان وتسدد تلك الضربات الموجعة للسلم والمسيرة السلمية.
ن العامل الصلي الذي يقف وراء النحراف عن الحق في عصره يعتبر المام)عليه السلم( ـ في هذه الخطبة ـ أ ّ
)و في كل العصور( إّنما يكمن في حب الدنيا والغترار بزخرفها وزبرجها الذي أجج نار حروب الجمل وصفين
والنهروان ،ثم يؤكد)عليه السلم(على الية الشريفة التي تصرح بأن الخرة
.1في ظلل نهج البلغة .96 / 1
] [ 256
من نصيب ُاولئك الذين ل يريدون علوا في الرض ول فسادا .فهذه العبارات القصيرة إّنما تكشف عن حقائق
مهّمة تلمس آثارها على مدى التاريخ.
فالطماع هى أساس الحروب والنزاعات الدموية ،والهواء والفساد في الرض هو العنصر الرئيسي الذي يقف
وراء الفوضى والهرج والمرج ومن هنا فاذا لم تجابه هذه العادات الشيطانية باليمان والعتقاد الراسخ فل مناص
من نشوب هذه الحروب الفتاكة وانعدام العدالة وسيادة الفوضى والقلق والضطراب ،بل ستبرز هناك العناصر
لصول من قبيل الحرية وحقوق النسان لتسخرها من التي تتلعب بالقيم النسانية والمفاهيم الخلقية وسائر ا ُ
أجل تحقيق أهدافها وأطماعها.
ن المام)عليه السلم( يتحدث عن أولئك الذين تتضارب عقائدهم مع أعمالهم ،ويبدو أّنهم والذي يجدر ذكره أ ّ
مسلمون حيث سمعوااليات القرآنية ومنها »تلك الدار الخرة.«...
ن دعائم إيمانهم قد تزعزعت وتفككت بفعل دوافعهم التي شدتهم إلى الدنيا والتكالب علىو آمنوا بها ،غير أ ّ
زخارفها والغترار بزبرجها ،وهذه هى النتيجة الطبيعية لكل ُاولئك الذين يؤثرون دنياهم على دينهم.
لقد تضمنت خطبته)عليه السلم( إشارة إلى المعارك الثلث :الجمل ،وصفين والنهروان التي ُاشعلت من قبل
الناكثين والقاسطين والمارقين .وسنشير هنا إلى هذه المعارك بصورة مختصرة:
أ ـ معركة الجمل
لم تمر على بيعة امير المؤمنين)عليه السلم( أكثر من ثلثة أشهر حتى ضاقت طوائف من المستكبرين ذرعا
بعدالة المام)عليه السلم( ولم تطق تحمله فهبت لمخالفته .معاوية من جانبه أعلن في الشام عن عدم استعداده
لمبايعة علي)عليه السلم( ثم تأهب للقتال .فكتب المام)عليه السلم(رسائل إلى ولته على الكوفة البصرة ومصر
ليجهزوا الجيش من أجل مقاتله معاوية ...في هذه الثناء هم طلحة الزبير بالسفر إلى مكة بذريعة أداء العمرة.
فالتقيا في مكة عائشة التي كانت متذمرة من مبايعة علي)عليه السلم( فانضمت إليهما واتجهوا إلى
] [ 257
ن هدف هؤلء من نقض بيعتهم لعلي)عليه السلم( هو عدم حصولهم على المناصب التي كانوا يحلمون و واضح أ ّ
بها .وأخيرًا تمكن طلحة والزبير مع عائشة في شهر ربيع الثاني عام 36هـ بالمكر و الخداع من الستيلء على
لّمة السلمية.
البصرة ثم أخذوا لنفسهم البيعة من الناس حيث سددوا أولى ضرباتهم لوحدة ا ُ
المام)عليه السلم( بدوره لما كان عالمًا بهذا المر أنفذ جيشه الذي جهزه لقتال معاوية نحو البصرة ثم كتب
ن أبا موسى لم يرد بال يجاب
رسالة لعامله على الكوفة »أبو موسى الشعري« يطلب منه تعزيز الجيش ـ ورغم أ ّ
ل أّنه انفذ جيشًا قوامه تسعة آلف مقاتل إلى الكوفة ـ وفي جمادي الخرة التحم الجيشان،
على رسالة المام إ ّ
ن المعركة استغرقت أربع ساعات هزم فيها جيش طلحة والزبير ،فانبرت عائشة وطبق نقل »تاريخ اليعقوبي« فا ّ
لتعبئة أهل البصرة فركبت الجمل ومن هنا سميت هذه المعركة بمعركة الجمل; وقد أبدى الجيش الذي تمحور
حول الجمل مقاومة عنيفة.
فنادى المام)عليه السلم(»:إعقروا الجمل« فلما عقر الجمل إنتهت المعركة حيث قتل طلحة والزبير )فقد قتل
طلحة في الميدان على يد مروان ،بينما فر الزبير ليقتل خارج ميدان المعركة( فسرح المام)عليه السلم( عائشة
بكل إحترام على أّنها زوج النبي)صلى ال عليه وآله( إلى المدينة.
ن عدد القتلي في الجمل قد بلغ عشرة آلف وقيل سبعة عشر ألفًا ،وهكذا حسمت المعركة لصالح
و قيل أ ّ
المام)عليه السلم( واخمدت تلك الفتنة(1).
ب ـ معركة صفين
عاد المام)عليه السلم( إلى الكوفة بعد الجمل ،فكتب لمعاوية كتابا طالبه بالبيعة .فلم يجبه معاوية
.1ما ورد أعلهُ ،اقتبس من »الكامل في التأريخ« لبن الثير ج 3مع تلخيص«.
] [ 258
و بعد مضي مّدة كتب رسالة لعلي)عليه السلم( يعلن فيه الحرب بعد أن جيش جيوش الشام.
ل القليل منهم.
فجهز المام)عليه السلم( أهل الكوفة لينفذ جيشه إلى صفين وقد أجابه أغلب الناس إ ّ
فجعل المام)عليه السلم( جيشه طوائف وجعل لكل طائفة أمير .وصل المام)عليه السلم(صفين لثمان بقين من
محرم عام 37هـ ليلتقي جيش معاوية هناك .حاول بعض أصحاب المام)عليه السلم( البدو بالقتال ،فكتب
معاوية رسالة للمام)عليه السلم(يناشده عدم التعجيل بالقتال.
المام)عليه السلم( من جانبه كان يسعى جاهدا للحيلولة دون نشوب القتال فكان يرسل الرسائل و الفراد يناشده
جيش معاوية اللتحاق بصفوف المسلمين حتى مرت عّدة شهور ولم يأذن المام)عليه السلم( بالقتال رغم
لمور لم تكن تجدي نفعًا ،حتى نشبت المعركة في شهر ذي الحجة عام 37 ن كل هذه ا ُ
لأّ
اصرار أصحابه عليه .إ ّ
هـ ووقع بين الطرفين قتال شديد ،ثم توقف القتال بحلول شهر محرم الحرام ،ثم أخذ المام)عليه السلم( يرسل
رسائله ويبعث بأصحابه ،وما ان انتهى شهر محرم حتى نشب القتال ثانية حتى زحف جيش المام ومني جيش
الشام بالفشل.
و أخيرًا شعر معاوية بهزيمة جيشه فعمد إلى الجيش بحمل المصاحف ،فحدث انشقاق في جيش المام)عليه
السلم(بعد أن تعالت أصوات المنافقين بالكف عن القتال ثم انتهى المر إلى التحكيم الذي فرض على المام.
فاختاروا أبا موسى الشعري المعروف بسذاجته ممثل عن المام)عليه السلم( وعمرو بن العاص عن معاوية
بعد أن أتفقا على أن يخلع كل صاحبه.
فقام أبو موسى الشعري وخاطب الناس أّني خلعت عليًا)عليه السلم( كما أخلع خاتمي ،بينما خدعه عمرو بن
العاص ولم يخلع معاوية .وهكذا ضاعت أعظم فرصة كادت أن تقضي على بني ُامية و تغير وجه التاريخ فندم
جيش المام)عليه السلم(حيث ل ينفع الندم.
ج ـ معركة النهروان
حيث أصروا على المام)عليه السلم( بقبول التحكيم فلما قاد إلى تلك النتيجة ندموا ندمًا شديدًا ليعتبروا التحكيم
ل هبوا
مخالفة صريحة للقرآن وأّنه الكفر بعينه ،وقد بلغت بهم الوقاحة أن طالبوا المام)عليه السلم( بالتوبة وإ ّ
لقتاله .فلما رأى المام)عليه السلم(الختلف قد دب بين جيشه )ولحظ عناصر النفاق التي كانت تحاول إثارة
الفتنة( أصدر أمره بالعودة إلى الكوفة.
فلما عاد الجيش إلى الكوفة ،انشق منه اثنا عشر ألف من الفراد المتعصبين ليلجأوا إلى الحروراء ـ قرية تبعد
ميلين عن الكوفة ـ ومن هنا اطلق عليهم إسم الخوارج الحرورية ،وأخيرًا استعدوا للقتال بعد أن تجمعوا في
النهروان قرب الحروراء.
سعى المام)عليه السلم( بادىء ذي بدء إلى نصحهم والعذار إليهم فبعث لهم الواحد تلو الخر ،فكان من ذلك
ن ثمانية آلف منهم قد رجعوا
أن استجاب عدد منهم وهم ينادون »التوبة التوبة يا أمير المؤمنين« حيث قيل إ ّ
ن المام )عليه السلم( قد جعل راية في الميدان وأمر التوابين بالنضواء تحتها( ،مع ذلكوتابوا )تفيد الروايات أ ّ
لم ياذن المام)عليه السلم(بمقاتلتهم أمل بعودة من تبقى منهم.
وقعت هذه الحرب في اليوم التاسع من شهر صفر عام 38أو 39هجري ،ولم تدم اكثر من ساعة(2).
» .2الكامل في التاريخ« لبن الثير ،شرح نهج البلغة للخوئى ،تاريخ الطبرى ،ج ،4نور الولية ،مروج الذهب ،ج » 2مع
التلخيص والختصار«.
] [ 260
] [ 261
القسم الخامس
—–
الشرح والتفسير
يبّين المام)عليه السلم( السباب التي دعته إلى قبول البيعة والهداف التي يتوخاها من الخلفة ،كما يشير إلى
ن هذه الخلفة والمرة ل تعدل عنده شيء لول تلك الهداف الكبرى. أّ
فقال)عليه السلم( »أّما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة (1)،لول حضور الحاضر) ،(2وقيام الحجة بوجود
الناصر ،وما أخذ ال على العماء أن ل يقاروا) (3على كظة) (4ظالم ،ول سغب)(5مظلموم ،ل لقيت حبلها على
غاربها) ،(6ولسقيت آخرها بكأس أولها«.
سَمة« في الصل بمعنى هبوب الرياح بشكل هادىء ،وتستعمل أحيانا للشارة إلى التنفس ،وُيطلق أحيانًا على النسان ،فيقال َ» .1ن َ
سَمة ،أما المقصود بها في بحثنا هذا فهو »النسان« أو »الروح«.
»َن َ
» .2حاضر« بمعنى حضور الشخص أو الشئى ،وقال أرباب اللغة آنهاتأتي بمعنى القبيلة والطائفة الكبيرة ،ولعلها وردت هنا بهذين
المعنيين.
» .3ليقاروا« من مادة »قرار« بمعنى السكون ،وعليه فالمراد بالعبارة أن ل يسكتوا ول يسكنوا.
.4كظة ما يعتري الكل من الثقل والكرب عند امتلء البطن بالطعام ،والمراد استئثار الظالم بالحقوق.
» .5سغب« تعني الجوع ،و لذلك يقال »ذو مسغبة على القحط« و ورد في القرآن »أو اطعام في يوم ذي مستغبة« و جاءت في كلم
المام)عليه السلم( كناية عن هضم حقوق المظلومين.
] [ 262
و قوله)عليه السلم( »لول حضور الحاضر« في إشارة إلى حضور الحاضرين بالبيعة له ،وإن ذهب البعض إلى
ن المراد بالحاضر ذات البيعة والذي ل يختلف كثيرا والمعنى الول.
أّ
ن المراد حضور ال أو حضور الزمان الذي تنبئ به الرسول الكريم )صلى ال عليه وآله(لعلي)عليه أّما القول بأ ّ
السلم(فهو مستبعد جدًا ،وإن أورده بعض الفضلء كتفسير لتلك العبارة .على كل حال فان هذه العبارة تتحد في
المعنى مع قوله)عليه السلم(» :و قيام الحجة بوجود الناصر« لتشير كلهما لتمام الحجة عليه)عليه السلم( في
أن ينهض بالمر بعد توفر العّدة من الصحاب والبيعة اّما قوله)عليه السلم(»للقيت حلها على غاربها« فهو
كناية عن النصراف عن الشيء ،حيث جرت العادة أن يطرح زمام الناقة على ظهرها إذا لم يكن هناك من حاجة
إليها في عمل.
و قوله)عليه السلم(» :لسقيت آخرها بكأس أولها« كناية عن الصير على المر وتركه كما صبر عليه ازاء
ن المام )عليه السلم( يرى نفسه ملزما بالنهوض بالمر والتصدي للخلفة لسيين: لأّ الخلفاء الثلثة) .(3إ ّ
أحدهما وجود الناصر الذي يتّم الحجة عليه بالقيام من جانب ،والثاني العهد الذي أخذه ال على العلماء بالقيام
بالمر إذا ما غيبت العدالة واستفحل الظلم وضيعت الحقوق »لول حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر
وما أخذ ال على العلماء أن ل يقاروا على كظة ظالم ول سغب مظلموم«.
.3والشاهد على ذلك الشعر الذي تمثل به)عليه السلم( في قضية مخالفة طلحة والزبير والتمهيد لنشوب معركة الجمل .حيث قال:
فتن تحل بهم وهن شوارع *** تسقى آواخرها بكأس الول
] [ 263
ن كلم المام)عليه السلم( تحذير لكافة علماء في ممارسة مسؤوليتهم في تشكيل الحكومة وبسط العدل فالواقع أ ّ
والقسط في ربوع المجتمع وعدم السكوت والتخاذل في حالة توفر هذه السباب .ويخطىء كل أولئك الذين يرون
وظيفتهم إّنما تقتصر على إقامة الشعائر العبادية كالصوم والصلة والحج والزكاة إلى جانب التيان بالمستحبات.
فبسط العدل والقسط والدفاع عن المظلوم والقيام بوجه الظالم تعّد من جوهر الوظائف السلمية لهؤلء العلماء.
ثم يقول)عليه السلم(» :و ل لفيتم) (1ديناكم هذه أزهد عندي من عفطة) (2عنز«.
وباللتفات إلى ما ورد في صحاح اللغة من أن العفطة تعني الماء الذي يترشح من أنف الشاة )أو العنز حين
العطسة( تتضح مدى تفاهة الدنيا ـ التي تحظى بفائق الهمية لدى أهلها ـ عند علي)عليه السلم( ،فما قيمة العنز
لولئك الذين ل يعرفون شخصية فضل عن ماء أنفها والحق ان مثل هذه التعبيرات قد تبدو غريبة بالنسبة ُ
ن هذه الغرابة رّبما تزول بأدنى نظرة إلى سيرته)عليه السلم( وحياته التي عاشها. لأّعلي)عليه السلم(; إ ّ
فقال» :هيهات يا بن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قّرت« قال ابن عباس فو ال ما َاسفت على كلم قط كأسفي على
هذا الكلم أل يكون أمير المؤمنين)عليه السلم( بلغ منه حيث يريد«.
ن اللون
أّما التعبير بأهل السواد فهو إشارة إلى المناطق الغنية بالزرع والشجار التي تبدو من بعيد سوداء ،ل ّ
الخضر يتركز من بعيد ليميل إلى السواد ،ولما كان هل الحجاز ألفوا الرض اليابسة الخالية التي يصصطلح
عليها بالبياض فاّنهم إذا ما انطلقوا نحو العراق المخضر بفضل
.2عفطة العنز :ما تنثره من أنفها ،واكثر ما يستعمل ذلك في النعمة وإن كان الشهر في الستعمال بالنون »النقطة«.
] [ 264
نهريه دجلة والفرات وتلوح أشجاره وزرعه من بعيد يبدو أسودًا فيصطلحون عليه بأرض السواد كما يطلقوا على
أهله اسم أهل السواد.
أّما مضمون الكتاب والمسائل التي فيه فقد تطرق إليها بعض شّراح .نهج البلغة وسنعرض لها في البحث القادم.
وقد روى ابن أبي الحديد بهذا الشأن عن استاذه مصدق بن شبيب أّنه قال :قرأت على الشيخ أبي محمد عبد ال بن
أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة ،فلما إنتهيت إلى هذا الموضع ،قال لي :لو سمعت ابن عباس يقول هذا
لقلت له :وهل بقي في نفس ابن عّمك أمر لم يبلغه فوال مارجع عن الولين ول عن الخرين ،ول بقى في نفسه
ل رسول ال)صلى ال عليه وآله(. أحد لم يذكره إ ّ
قال مصدق :وكان ابن الخشات صاحب دعاية وهزل ،قال :فقلت له :أتقول إنها منحولة .فقال :ل وال وإني لعلم
أّنها كلمه ،كما أعلم أّنك مصدق(1).
قال الشريف الرضي)رحمه ال( :قوله)عليه السلم( »كراكب الصعبة إن اشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم«
يريد أّنه إذا شدد عليها في جذب الزمام وهى تنازعه رأسها خرم أنفها وإن َارخى لها شيئًا مع صعوبتها تقحمت به
فلم يملكها يقال »أشنق الناقة« إذا جذب رأسها بالزمام فرفعها و»شنقها« أيضا ،ذكر ذلك »ابن السكيت« في
اصلح المنطق« وإّنما قال »اشنق لها« ولم يقل »اشنقها« لّنه جعله في مقابلة قوله »أسلس لها« فكانه)عليه
السلم( قال :إن رفع رأسها بمعنى أمسكه عليها بالزمام(.
تأّملت
1ـ الرد على سؤال
ل تعالى بواسطة
ن المام ينصب من قبل ا ّ قد يقال :تعتقد المامية واتباع مدرسة أهل البيت)عليهم السلم( أ ّ
لّمة ،بينما صّرح المام)عليه السلم(في هذه
النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( ،لعلى أساس إنتخابه من قبل ا ُ
] [ 265
الخطبة قائل»:لول حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر و ...للقيت حبلها على غاربها« فكيف التوفيق
بينهما؟
ن للمامة والخلفة واقع ومقام ظهور وبروز فواقعها أّنها تعين من قيل ال و نقول في الرّد على هذا السؤال أ ّ
بواسطة نبّيه)صلى ال عليه وآله( ،أّما ظهورها وبروزها والتصرف في شؤون المسلمين والمجتمع السلمي
لّمة.
ل من خلل بيعة ا ُلّمة ونهوض أبنائها في توفير الدعم والسناد; المر الذي ل يتأتى إ ّإّنما يتوقف على ا ُ
و من هنا أصبح المام)عليه السلم( جليس الدار إبان خلفة الخلفاء الثلثة ـ طيلة خمس وعشرين سنة ـ ولم
يتدخل في شؤون الخلفة ،والحال لم تكن هنالك من ثلمة في إمامته المنصوص عليها من جانب ال بواسطة النبي
)صلى ال عليه وآله( ويصدق هذا الكلم على بعض أئمة العصمة والطهارة ،فقد إقترح أبومسلم الخلفة على
المام الصادق)عليه السلم( ،ولعلمه)عليه السلم(بالمؤامرة لم يجيبه.
بل كان البعض يطالب الئمة بالقيام وتولي الخلفة .فيجيبون باننا ل نملك ما يكفي من النصار).(1
.1اصول الكافي 242 / 2كتاب اليمان والكفر ،باب قلة عدد المؤمنين ،ح .4
] [ 266
5ـ رجل مدين الف درهم وله الف درهم وضمنه آخر وكان له الف درهم ،وقد مضى عليه عام ،فالزكاة على أي
من المالين؟
قال)عليه السلم( :إذا فعل الضامن ذلك باذن المدين فل زكاة عليه ،وإن فعله بدون إذنه وجبت عليه الزكاة.
6ـ حج جماعة فنزلوا بيتًا في مكة وأغلق أحدهم باب البيت فكان فيه طيور فماتت عطشا ،فعلى من تجب الكفارة؟
قال)عليه السلم( :على من أغلق الباب ولم يخرج الطيور ولم يسقيها.
7ـ شهد أربعة على رجل بالزنا ،فأمرهم المام برجمه )لّنه كان محصنًا( فرجمه أحدهم وساعده جماعة وامتنع
الثلث .ثم رجع عن شهادته )وأقر بكذبه( ولم يمت المتهم .ثم مات وبعد موته رجع الثلث عن شهادتهم .على من
تجب دينه؟
قال)عليه السلم( :ل تقبل شهادتهما; لّنهم يحرفون كلم ال ويجوزون الشهادة بالباطل.
10ـ قطع شخص يد آخر ،فشهد أربعة عند المام قطعت يده وقد زنا بمحصنة ،فاراد المام أن يرجمه فتوفى قبل
الرجم ،فما حكمه؟
.1هذا إذا أخطا الشهود فان كان عن عمد فحكمهم القصاص كما ورد في كتاب القصاص .والنقطة الجديرة بالذكر للشهود الذين
حصل الرجم لشهادتهم أن يرجعوا وما دفع يؤخذ من الربعة بالتساوي وللوقوف أكثر راجع كتاب الجواهر ،225 / 41 ،ولبّد من
اللتفات هنا إلى وجود بعض التفاوت بين ما ورد في هذا الحديث وما جاء في الكتب الفقيهة.
] [ 267
قال)عليه السلم( :تجب الدية على من قطع يده ،لكن ان شهدوا أّنه سرق بحد النصاب فل تجب الدية على القاطع)
.(1طبعا ما ذكر هو مضمون رواية مرسلة رويت عن الكيدري ولم تثبت صحة سند الحديث ،ولذلك هناك
أبحاث كثيرة من وجهة النظر الفقيهة بشأن بعض الفروع المذكورة في هذا الحديث.
ن الخطبة الشقشقية هى من الخطب التي قل نظيرها إن لم نقل ل ن نظرة عامة إلى خطب نهج البلغة تفيد أ ّإّ
ن المام)عليه السلم(قد أوردها في ظروف خاصة للحيلولة دون نظير لها في نهج البلغة; المر الذي يثبت أ ّ
نسيان الحقائق المتعلقة بالخلفة بعد رسول ال )صلى ال عليه وآله( لتخلد في التاريخ ومن هنا أطلق عباراته
بصراحة تامة .فقد أوضح المام)عليه السلم( في هذه الخطبة عّدة ُامور منها:
1ـ أحقيته وجدارته بالخلفة التي بينها بوضوح وهذه هى الحقيقة التي إتفق عليها تقريبًا كافة المحققين المسلمين
وغير المسلمين ،حتى إعترف معاوية أعدى أعداء المام)عليه السلم( با فضليته).(2
3ـ يفيد كلم المام)عليه السلم( عدم وجود مرجع واضح لنتخاب أي من الخلفاء الثلثة ،اضافة إلى المعايير
المتعددة التي حكمت ذلك النتخاب ،فقد كانت خلفة أحدهم تستند إلى رأي واحد ،وآخر لنصف من شورى
سداسية وثالث لعدد من الراء.
لّمة في عصر الخلفاء عن تعاليم النبي الكرام )صلى ال عليه وآله( وتفاقم الزمات على مرور
4ـ ابتعاد ا ُ
الزمان ،بحيث كانت من أبلغ الصعوبات التي واجهت المام)عليه السلم( حين تولى الخلفة تكمن في
.1شرح نهج البلغة لبن ميثم البحراني ،269 / 1المتسدرك .55 / 7
.2ورد هذا المعنى في الرسالة التي كتبها معاوية وبعث بها لمحمد بن أبي بكر والتي نقلتها أغلب المصادر السلمية ومنها مروج
ن أبيك وفاروقه )عمر( هما أول من خالفه بعد وفاة النبي )صلى ال
الذهب ،فقد قال فيها أني وأبيك نقر بفضل علي وحّقه علينا ...إّل أ ّ
عليه وآله( .وقال اليعقوبي في تاريخه :وكان المهاجرون والنصار ل يشكون في علي)عليه السلم() .تاريخ اليعقوبي .(2/124
] [ 268
لّمة إلى القيم السلمية التي كانت سائدة على عهد رسول ال )صلى ال عليه وآله(.
إعادة ا ُ
ن التهافت على الدنيا والغترار بزخرفها هو العامل الذي يقف وراء الفوضى والضطراب والحروب التي
5ـ أ ّ
نشبت على عهد المام علي)عليه السلم(.
7ـ لم يكن للمام)عليه السلم( أية رغبة بالخلفة ولم يراها هدفا قط ،بل هى وسيلة لحقاق الحق ابطال الباطل
وبسط العدل والقسط.
8ـ كانت النتفاضات التي حدثت في زمان عثمان والتي أدت بالتالي إلى قتله طبيعية جدًا ونتيجة لسلوكه وبطانته
ل وولة على بعض المناطق فعبثوا ببيت المال من بني ُامية الذين سلطهم على رقاب المسلمين فجعلهم عما ً
لّمة بعد أن انطلقت شرارة الرفض من المناطق البعيدة عن مركز الخلفة واسرفوا في تبذيره حتى ثارت ا ُ
كمصر والبصرة والكوفة.
9ـ كانت المعارك الثلث ـ الجمل وصفين والنهروان ـ قد فرضت على المام)عليه السلم( من قبل الفراد الذين
لم يطيقوا عدله)عليه السلم( إلى جانب أولئك الذين يبحثون عن الجاه والمنصب.
10ـ عدم انسجام عقيدة تنزيه الصحابة وعدالتهم لمجّرد صحبتهم مع أي من المعايير والوقائع التاريخية; وهو
العتقاد الذي يقود إلى التناقض ،فاصحاب فتنة الجمل هما إثنان من الصحابة وصاحب صفين من الصحابة أيضا
بينما كانت طائفة من الصحابة من مشعلي نار النهروان وقد خرج جميع هولء على إمام زمانهم فاختاروا سبيل
لّمة السلمية وبث الفرقة والختلف في صفوفها .فكيف والحال هذه نقول علي)عليه البغي وشق عصا ا ُ
السلم(.
] [ 269
الخطبة 4
يمكن أن تكون هذه الخطبة كما يفهم من عنوانها قد وردت بعد أحداث معركة الجمل وقتل طلحة والزبير فهى
تتحدت عن وقائع المعركة والدروس والعبر التي ينبغي أن يتعلمها المسلمون .حيث يمكن خلصة الخطبة في
محاور رئيسية ثلث:
] [ 270
] [ 271
القسم الول
عَيَة ،وََكْي َ
ف سْمٌع َلْم َيْفَقِه اْلوا ِ
سراِر ُوِقَر َ
ن ال ّ
عِجْرُتْم َسّنْمُتْم ُذْرَوَة اْلَعْلياِءَ ،وِبنا َأْف َ
ظْلماِءَ ،وَت َ
»ِبنا اْهَتَدْيُتْم ِفي ال ّ
ن«.خَفقا ُن َلْم ُيفاِرْقُه اْل َ
جنا ٌط َ حُة؟ ُرِب َ صْي َ
صّمْتُه ال ّ
ن َأ َ
عي الّنْبَأَة َم ُْيرا ِ
الشرح والتفسير
أشار المام)عليه السلم( في بداية الخطبة إلى النعم الجمة التي تمتع بها المسلمون ـ ول سيما في صدر السلم ـ
في ظل السلم ،حيث وضح هذا المر بثلث عبارات قصيرة ذات تشبيهات رائعة فقال)عليه السلم(» :بنا
إهتديتم) (1في الظلماء)(2وتسنمتم) (3ذروة) (4العلياء ،وبنا افجرتم) (5عن السرار) .«(6فالمام)عليه السلم(
يشير في العبارة الول إلى ظروف الجاهلية التي خيم فيها الظلم والجهل والفساد والجريمة على كافة الماكن
حتى تبددت هذه الظلمات بظهور النبي)صلى ال عليه وآله(
» .1اهتديتم« من »الهتداء« تستعمل ـ حسب قول بعض شّراح نهج البلغة وارباب اللغة ـ حيث يميل النسان بإرادته للهداية وهكذا
جاءت في العبارة.
» .2ظلماء« على وزن صحراء بمعنى ظلمة أول الليل أو بعبارة ُاخرى النور بعد الظلمة; خلفا للظلمة بمفهومها العام ولعل
المام)عليه السلم( أراد بها عصر الجاهلية الذي يعتبر في الواقع ظلمة بعد النور; أي دعوة النبياء أولي العزم.
» .3تسنمتم« من مادة سنم على وزن قلم بمعنى العلو ومن هنا يطلق على ذروة الجمل إسم سنام.
» .4ذروة« من مادة »ذرو« ،لها معنيان :أحدهما إشراف شيء على آخر ومن هنا تطلق الذروة على قمة الجبل ،والخر تفتت
الشيء وتفرقه.
» .5أفجرتم« من مادة »فجر« بمعنى الفجوة الواسعة قي الشيء ومن هنا اطلق الفجر على الصباح الذي يشق عتمة الليل ،وأفجرتم
بمعنى دخول الفجر.
» .6سرار« من مادة »سر« بمعنى الخفاء وما يقابل العلن ،وتطلق مفردة السرار عادة على الليالي الخيرة للشهر حيث يكون الجو
ظلما دامسًا.
] [ 272
وانبثاق الدعوة السلمية ليهتدي الناس إلى الصراط المستقيم ويتجهون نحو الهدف المنشود.
ويشبه في العبارة الثانية حركة الرقي والتكامل والزدهار بالجمل ذي السنام )حيث اقتبست المفردة تسنتم من
مادة سنام أعلى قمة في الجمل( فقال)عليه السلم( لقد بلغتم هذه الذروة وقطعتم مسيرة الرقي والتكامل في ظل
السلم; الحقيقة التي إذعن لها جميع مؤرخي الشرق والغرب في كتبهم التي تعرضوا فيها للمدنية السلمية
وحضارتها .ثم شبه في العبارة الثالثة أوضاع المجتمع الجاهلي بليالي الشهر الظلماء والمحاق )حيث تعني
ن هذهالسرار الليالي التي ليبزغ فيها القمر أبدًا( فقال)عليه السلم(» :و بنا أفجرتم عن السرار« .والواقع هو أ ّ
جُهْم ِم َ
ن خِر ُن آَمُنوا ُي ْ
ي اّلِذي َ
ل َوِل ّ
التعبيرات إّنما تنبع من القرآن الذي شبه السلم واليمان والوحي بالنور ،فقال) :ا ّ
ن اّتَبَع
ل َم ِ
ن * َيْهِدي ِبِه ا ّ ب ُمِبـي ٌ ل ُنوٌر َوِكتا ٌ
نا ّ
ت ِإلى الّنوِر() (1وقال في موضع آخرَ):قْد جاَءُكْم ِم َ ظُلما ِ
ال ّ
ك() (3ـ ثم يذم)عليه ت ِإلى الّنوِر ِبِإذِنِه() (2وقالَ) :و ِإّنُه َلِذْكٌر َل َ
ظُلما ِ
ن ال ّ
جُهْم ِم َ
خِر ُ
سلِم َوُي ْ
ل ال ّ
سُب َ
ضواَنُه ُ
ِر ْ
السلم(الفراد الذين صخت آذانهم عن سماع الحق بينما يثني على غيرهم من ذوي السماع فقال)عليه السلم(:
»وقر سمع لم يفقه الواعية« .تستعمل مفردة »الوقر« بشأن الصمم كما تستعمل في ثقل السمع ،والمراد بالواعية
الصوات المرتفعة ،وهى إشارة ليات القرآن التي تقرع السماع بشأن المسائل المهّمة العقائدية والعملية
ل من »لم يسمع« تفيد عدم جدوى السمع مالم والخلقية وكذلك السنة النبوية الشريفة .أّما التعبير »لم يفقه« بد ً
يصحبه الدراك والفهم .ثم واصل المام)عليه السلم( كلمه فقال» :وكيف يراعى النباة) (4من أصمته
الصيحة«) .(5والمراد كيف يصغي لي ويستمع قولي من ليراعي أو امر ال ونبّيه)صلى ال عليه وآله(فقد شبه
» .4النبأة« من مادة »نبأ« بمعنى القدوم من مكان إلى آخر ومن هنا اطلق النبأ على الخبر الذي ينتقل من مكان إلى آخر والنبأة
بمعنى الصوت الخفي لن الصوت ينتقل من مكان إلى آخر )مقاييس اللغة(.
.5قال بعضى شّراح نهج البلغة أن قوله »أصمته الصيحة« ليس معناه أن الصيحة كانت علة لصممه ،بل معناه أّنهم كانوا صمما
عن سماع صوت الوحي ،كقوله سبحانه »أفأنت تسمع الصم ولو كانوا ليعقلون« )سورة يونس .(42 /
] [ 273
ذلك بمن أصمته الصيحة القوية فانه محال أن يراعي بعد ذلك الصوت الضعيف .ولما كانت
لخرى المتعصبة للحق فقد قال)عليه السلم(» :ربط جنان) (1لم يفارق الخفقان).(2
هنالك الفئة ا ُ
ملحظة
الهداية في ظل أهل البيت)عليهم السلم(
ما مر معنا في هذا القسم من الخطبة هو إشارة إلى واقعة تأريخية مهّمة تتضح من خلل مقارنة عصر العرب
الجاهلية بعصر التطور والزدهار الذي أعقب بزوغ شمس السلم ،كيف كان عرب الجاهلية من حيث العقائد
الدينية والقضايا المتعلقة بالمبدأ والمعاد والنظام الجتماعي ونظام السرة والخلق والتقوى والوضاع
لمور أبان انبثاق الدعوة السلمية ونزول القرآن الكريم .والحق أن التفاوت القتصادية وكيف أصبحت هذه ا ُ
ل تعذر تصور ذلك التفاوت .فما بينهما إلى درجة من المدى والعمق بحيث ليمكن سوى نعته بالمعجزة الكبرى وإ ّ
صوره المام)عليه السلم(في هذه الخطبة لم يكن سوى الظلم المطلق الذي القى بظلله على جميع المجتمع ،ولم
يكد ينبثق السلم حتى تبددت هذه الظلمة بفجر السلم ليأخذ بيد المجتمع إلى العلم والمعرفة والثقافة والحضارة
ل بالرجوع إلى الكتب التي ألفت بشأن
والمدنية .ولم تكن سوى إشارة قصيرة ول يمكن اللمام بتفاصيلها إ ّ
الحضارة السلمية .كما وردت بعض التفاصيل في سائر خطبه)عليه السلم( في نهج البلغة.
—–
» .1جنان« بمعنى القلب لنه في صدر النسان وقد اشتقت هذه المفردة من جن )على وزن فن( بمعنى الستتار ومن هنا يطلق جّنة
على الحديقة الغناء والرض المغطاة بالشجار ،ويطلق الجنين على الطفل المستتر في بطن ُاّمه كما تطلق مفردة الجن لّنهم استجنوا
فل يروا والمجنون تطلق على من ستر عقله.
» .2خفقان« بمعنى الضطراب ،ويستعمل للخوف والخشية لنها تدعو للضطراب والمراد بها في العبارة خوف ال.
] [ 274
] [ 275
القسم الثانى
صْد ُ
ق صَرِنيُكْم ِ
نَ ،وَب ّ
ب الّدي ِ
جْلبا ُ
عْنُكْم ِ
سَتَرِني َ حّتى َ نَ ،حْلَيِة اْلُمْغَتّري َ
سُمُكْم ِب ِ
ب اْلَغْدِر َوَأَتَو ّ
عواِق َ ظُر ِبُكْم َ
ت َأْنَت ِ
»ما ِزْل ُ
ن«.ن َول ُتِميُهو َ
حَتِفُرو َن َول َدِليَلَ ،وَت ْ
ث َتْلَتُقو َ
حْي ُ
ضّلِةَ ، جواّد اْلَم َ ق ِفي َ حّ ن اْل َ
سَن ِ
عَلى َ ت َلُكْم َ الّنّيِة َأَقْم ُ
—–
الشرح والتفسير
لقد خاطب المام علي)عليه السلم( ـ في هذا المقطع من الخطبة ـ سليلي أصحاب الجمل من تبقى منهم قائل:
ي )عليه
»مازلت انتظر بكم عواقب الغدر ،واتوسمكم) (1بحلية المغترين) .«(2فقد روى أّنه لما بويع عل ّ
ن الناس قتلوا عثمان عن غير مشورة مّني وبايعوني عن مشورة منهم السلم(كتب إلى معاوية :أّما بعد فإ ّ
ى أشراف أهل الشام قبلك.
واجتماع ،فإذا أتاك كتابي فبايع لى ،وأوفد إل ّ
سلم عليك ،أّما بعد ،فإّني قد بايعت لك أهل الشام ،فأجابوا واستوسقوا ،كما يستوسق الجلب ،فدونك الكوفة
والبصرة ،ل يسبقك إليها ابن أبي طالب ،فإّنه ل شيء بعد هذين
عوا الناس إلى ذلك ،وليكن منكماالمصرين ،وقد بايعت لطلحة بن عبيدال من بعدك ،فأظهر الطلب بدم ثمان ،واْد ُ
سّر به ،وأعلم به طلحة وأقرأه
الجّد والتشمير ،أظفركما ال ،وخذل مناوئكما! فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير ُ
إياه ،فلم يشكًا في النصح لهما من قبل معاوية ،وأجمعا عند ذلك على خلف علي)عليه السلم(.
جاء الزبير وطلحة إلى علي )عليه السلم( بعد البيعة بأيام ،فقال له :يا أميرالمؤمنين ،قد رأيت ما كّنا فيه من
ل الخلفة من بعده ،فوّلنا بعض لك ا ّ
الجفوة في ولية عثمان كّلها ،وعلمت رأى عثمان كان في بني أمية ،وقد و ّ
ل من أرضى بدينه سم ال لكما ،حتى أرى رأيي ،واعلما أّني ل أشرك في أمانتي إ ّ أعمالك ،فقال لهما :ارضيا بق ْ
وأمانته من أصحابي ،ومن قد عرفت دخيلته ،فانصرفا عنه وقد دخلهما اليأس ،فاستأذناه في العمرة.
طلب طلحة والزبير من علي )عليه السلم( أن يوّليهما المصرين :البصرة والكوفة ،فقال حتى أنظر .ثم استشار
المغيرة بن شعبة ،فقال له :أرى أن توّلَيهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس .فخل بابن عباس ،وقال :ماترى؟ قال :يا
عْين الخلفة ،وبهما كنوز الرجال ،ومكان طلحة والزبير من السلم ما قد ن الكوفة والبصرة َ أميرالمؤمنين ،إ ّ
حِدثا أمرًا .فأخذ علي )عليه السلم(برأى ابن عباس.
ت آمنهما إن وّليتُهما أن ُي ْ
علمت ،ولس ُ
ل وقال له :ليس لعلي في أعناقنا بيعة ،وإّنما بايعناهلما خرج الزبير وطلحة من المدينة إلى مّكة لم يلقيا أحدا إ ّ
ت أّنهما سيقُتلن ل لقد علم ُل وأغرب دارهما ،اّما وا ّمكَرهين .فبلغ عليًا )عليه السلم( قولهما ،فقال :أبعدهما ا ّ
ل ما الُعمرَة يريدان ،ولقد أتياني بوجهي فاجرْين، أنفسهما أخبث مقتل ،ويأتيان من وردا عليه بأشأم يوم ،وا ّ
ل في كتيبة خشناء ،يقتلن فيها أنفسهما ،فُبْعدًا لهمال ل يلقياننى بعد اليوم إ ّورجعا بوجهي غادرين ناكثين ،وا ّ
وسحقًا(1).
ن لباس الدين وجلبابه هو الذي يجعلني أغض الطرف عنكم )ول أهتك سريرتكم(: ثم أضاف)عليه السلم( أ ّ
ن عبارة المام)عليه السلم( إجابة
»حتى سترني عنكم جلباب) (2الدين ،وبصرنيكم صدق النّية« .والواقع هو أ ّ
عن سؤالين هما :أول :لو كان المام)عليه السلم( يتوقع نقضهم للعهد ويتوسم
] [ 277
ذلك فيهم فلم لم يعلن ذلك على المل؟ وثانيًا :من أين له هذا العلم بباطن هؤلء؟ فقد رد المام)عليه السلم( على
السؤال بقوله» :سترني عنكم جلباب الدين« ورد على السؤال الثاني بقوله »وبصرنيكم صدق النية« .بينما ذهب
ل لسوء فهمكم للدين ،أو أن تدينيبعض شّراح نهج البلغة إلى تفسير العبارة الولى باّنكم لم تعرفوني ،وما ذلك إ ّ
ن هذا المعنى يبدو مستبعدًا لما ينطوي عليه من تكلف إلى جانب عدم إنسجامه والعبارات لأّمنعكم من معرفتي; إ ّ
السابقة ،فالمعنى الول هو النسب .ثم إختتم كلمه)عليه السلم(بالقول» :أقمت لكم على سنن الحق في جواد)
(1المضلة) (2حيث تلتقون ولدليل ،وتحتقرون ولتميهون«) (3يشبه المام علي)عليه السلم(الناس في عصر
عثمان ول سيما أواخر عمره بالرحالة الذين ضلوا الطريق وساروا على غير هدى فهم يتضوون عطشًا وهم
يحفرون الرض موضعًا موضعًا من أجل الوصول إلى الماء فل يحصلون عليه; فيهب المام)عليه
السلم(لنجدتهم فيهديهم إلى الصراط المستقيم فينتهلون من منهله العذب .ثم يلفت إنتباههم إلى عظم الفتن الدينية
والدنيوية التي كانت ستلتهمهم في ذلك العصر المظلم لول وجوده)عليه السلم(.
تأّملن
1ـ البصيرة
ن صفاء النفس وصدق النية من العناصر التي تكمن وراء لقد أشار المام)عليه السلم( إلى قضية مهّمة وهى أ ّ
البصيرة والفراسة .فالمؤمنون الصفياء الباطن يرون ما ليرى غيرهم ،وهى الحقيقة التي صّرح بها القرآن
الكريم وأكدتها الروايات السلمية .فقد جاء في القرآن) :ان تتقوا ال يجعل لكم فرقانًا() .(4وورد في الحديث
المعروف عن النبي)صلى ال عليه وآله( أّنه قال» :إتقوا فراسة المؤمن فاّنه ينظر بنور ال«) (5وقال المام
ل وله فراسة ينظر الرضا)عليه السلم(» :ما من مؤمن إ ّ
» .2مضلة« من مادة »ضلل« الموضع الذي يضل سالكه وعليه فمعنى جواد المضلة طرق الضلل.
» .3تميهون« من مادة »موه« على وزن نوع بمعنى تجدون ماءًا ،ومنه أخذت مفردة الماء وأماه بمعنى بلغ الماء.عليه فمعنى
لتميهون ل تبلغون الماء )و إن أجهدتم أنفسكم في حفر البار(.
] [ 278
غالبا ما يتصف الفراد بالعيوب الخفية التي قد يطلع عليها النسان من خلل الطرق العادية أو إستنادًا إلى
لّمة وقادة المجتمع ـ أن ن الواجب يحتم عليه ـ ولسيما إذا إطلع ذلك ولة ا ُ
الفراسة واليمان; فاذا إطلع عليها فا ّ
يسعى جاهدًا لسترها وعدم هتك حجابها مادامت لتشكل خطرا يتهدد المجتمع; وذلك لن هتك سريرة الخرين
وكشف عيوبهم يجردهم من حرمتهم من جانب ويفسح المجال أمامهم لرتكاب المعاصي والجرأة على مقارفتها
ن هتك وافتضح أمره فل يراع شيئًا ،وناهيك عن كل من جانب آخر; فالفرد يبقى محتاطًا مادام عيبه مستور ،فا ّ
ذلك فان هتك العيوب مدعاة لشاعة الفاحشة في المجتمع وتلوث الخرين بارتكاب الذنب .ومن هنا ورد التأكيد
في الروايات والحاديث على كتم السر على أّنه حق من حقوق المؤمنين على بعضهم البعض الخر .فقد جاء في
الحديث» :واكتم سره وعيبه واظهر منه الحسن«) .(3وعن المام الصادق)عليه السلم( اّنه قال» :من ستر على
مؤمن عورة يخافها ستر ال
] [ 279
عليه سبعين عورة من عورات الدنيا والخرة«) (1فقد أشار المام علي)عليه السلم(إلى هذه الوصية السلمية
وأعلن طاعته وامتثاله لها ،وبالطبع فقد قلنا إّنما يكون ذلك مالم تقود تلك العيوب التي يراد سترها إلى بعض
ل فالوظيفة تقتضي إعلن الحقائق .ولكن لينبغي التذرع بهذا
المشاكل الجتماعية التي تهدد كيان المجتمع ،وإ ّ
الستثناء من أجل هتك عيوب الناس وأسرارهم.
—–
.1اصول الكافي ،200 / 2ح .5
] [ 280
] [ 281
القسم الثالث
—–
الشرح والتفسير
ن هنالك عّدة جمل تخللت هذه لقد تضمن هذا القسم من الخطبة عّدة عبارات أشارت لعدة ُامور مهّمة ،ويبدو أ ّ
العبارات قد أسقطها السيد الرضي)رحمه ال( حين التلخيص ،فقد كانت عادة السيد في إختيار مقتطفات من
ن المر الذي أشار إليه المام)عليه السلم( هنا هو قوله» :اليوم الخطب وحذف بعض العبارات ،على كل حال فا ّ
ل أّنها تطلق أحيانا على الحوادث والقضاياأنطق لكم العجماء ذات البيان« .والعجماء البهيمة التي لنطق لها ،إ ّ
ن المراد بالعجماء الحوادث
الصماء التي ليست لها قابلية على النطق .ومن هنا يرى أغلب شّراح نهج البلغة أ ّ
التي تنطوي على العبر والدروس التي حدثث على عهد المام)عليه السلم( أو العهود الماضية وكل حادثة مع
غموضها وخفائها فكأّنها تنطق لولي اللباب .فالمام)عليه السلم( يتعرض لبيان عبرها ودروسها التي ينبغي أن
ن المرادبها صفاته الكمالية)عليه السلم( أو الوامر اللهية فكأّنها هى يتعظ بها المسلمون .كما ذهب البعض إلى أ ّ
لخرى صامتة والمام)عليه السلم(يكشف عن منطقها .ثم قال)عليه السلم( في العبارة الثانية» :عزب رأي اُ
إمرئ تخلف عني ،ما شككت في الحق مذ ُاريته« في الواقع يبدو صدر وذيل هذه العبارة من قبيل العلة والمعلول
أو الدليل والمدعى ،وإذا أخذ بنظر العتبار تربية المام)عليه السلم( في
] [ 282
حضن النبي)صلى ال عليه وآله( على الحق والستقامة وبفضله كاتب الوحي وشاهد المعاجز والعظم من ذلك
كونه باب مدينة علم رسول ال)صلى ال عليه وآله( إلى جانب علمه بالشهود إضافة لعلمه بالظاهر فا ّ
ن
ن جملة »عزب رأي إمرئ«... كلمه)عليه السلم(ليعرف معنى للغراق والمبالغة قط .واحتمل بعض الشّراح أ ّ
من قبيل الدعاء; أي بعدا وترحا لمن تخلف عن أوامري .ويبدو المعنى الول أنسب ،أّما العبارة الثالثة فقد أورد
فيها المام)عليه السلم(ردًا على سؤال قد يقتدح في ذهن البعض بعد موقعة الجمل وهو :لم كان المام)عليه
ن هذا القلق ليس على نفسه قط ،بل خشية من السلم( قلقًا من أحداث تلك الموقعة؟ فالمام)عليه السلم(يجيب با ّ
تسرب الشك والريب إلى قلوب عوام الناس بفعل إقتحام الميدان من قبل زوج النبي)صلى ال عليه وآله(وبعض
الصحابة من قبيل طلحة والزبير وارتفاع الصوات المطالبة بدم عثمان; كالقلق الذي عاشه موسى)عليه
السلم(حين واجهه السحرة بسحرهم خشية غلبتهم واضلل الناس »لم يوجس موسى)عليه السلم( خيفة على
نفسه بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلل« .وهى إشارة إلى اليات التي وردت في سورة طه بشأن
حـباُلُهْم
ل َأْلُقوا َفِإذا ِ
ل َب ْ
ن َأْلقى * قا َ
ل َم ْ
ن َأّو َ
ن َنُكو َ
ى َو ِإّما َأ ْن ُتْلِق َ
موسى)عليه السلم(والسحرة )قاُلوا يا ُموسى ِإّما َأ ْ
خـيَفًة ُموسى() .(1أّما في العبارة الرابعة فيحذر سِه ِ س ِفي َنْف ِ جـ َ سعى* َفَأْو َ حِرِهْم َأ ّنها َت ْ
سْ
ن ِل ِإَلْيِه ِم ْ
خـّي ُ
صـّيـُهْم ُي ُ
ع ِ
َو ِ
من تبقى من مثيري فتنة الجمل في أننا وإّياكم قد وقفنا على مفترق طرق نتجه فيه إلى الحق بينما تتجهون نحو
ن المام)عليه السلم(يقول لهم ،افتحوا أعينكم وانظروا الباطل »اليوم توافقنا) (2على سبيل الحق والباطل« .كأ ّ
إلى ما أنتم عليه فانكم إّنما خرجتم على إمام زمانكم! لقد نكثتم البيعة ولم تقيموا حرمة للمواثيق! لقد شققتم عصا
المسلمين وفرقتم صفوفهم! وسفكتم دماءًا غزيرة! وقلدتم أنفسكم مسؤولية كبرى ستطيل وقوفكم أمام ال يوم
القيامة! ارجعوا إلى رشدكم واعيدوا النظرا في أوضاعكم! .وأخيرًا يختتم المام)عليه السلم(خطبته بقوله» :من
ن من كان له واعظ وقائد موثوق ليتسلل إليه الشك والترديد والوساوس وثق بماء لم يظلمأ« مراده)عليه السلم( أ ّ
الشيطانية والقلق والضطراب وإنعدام الثقة; وذلك لنه يرى نفسه على جرف ماء المعرفة الفرات العذب ويلوذ
بامامه عند الفزع فيأتمر بأوامره
] [ 283
والستضاءة بنور علمه .وأنتم كذلك لو عرفتم زعيمكم ووثقتم به فاعلموا أّنكم سائرون على الحق وآمنون من
كافة أشكال الشكوك و الهواء النفسية والوساوس الشيطانية.
لقد شبه المام)عليه السلم( الحق والباطل بطريقين سلك فريق أحدهما والخر الثاني ،وإذا أردنا تفسير هاتين
ن الحق هو الواقع والباطل هو الخيال والسراب الذي يحسبه الظمآن ماء. المفردتين باختصار ،فلبّد أن نقول با ّ
ومن هنا فان الذات اللهية المقدسة التي تعّد أعظم من كل واقع اكتسبت أول اسم وهو الحق ،وغيره على الحق
بقدر إرتباطه به وكلما ابتعد عنه فهو على الباطل .فعالم المكان لنتمائه ل فهو حق ،وهو باطل لمتزاجه ببعض
جوانب العدم .فالعالم ميدان لصراع الحق والباطل وقد صور القرآن الكريم أبعاد هذا الصراع وعاقبته نتائجه
ل َزَبدًا راِبيًا َو ِمّما
سْي ُ
ل ال ّ
حَتَم َ
ت َأْوِدَيٌة ِبَقَدِرها َفا ْ
سماِء ماءًا َفساَل ْ ن ال ّل ِم َ بمثال رائع في سورة الرعد حيث قالَ) :أْنَز َ
جفاءًا َوَأّماب ُ
ل َفَأّما الّزَبُد َفَيذَه ُ
طَق َوالبا ِ حّ ل ال َ با ّضِر ُ ك َي ْحْلَية َأْو َمتاع َزَبٌد ِمْثُلُه َكذ ِل َ
عَلْيِه ِفي الّنار اْبِتغاَء ِ
ن َ
ُيوِقُدو َ
ل().(1 لْمثا َ
لا َ با ّ ضِر ُ ك َي ْ ض َكذ ِل َ
لر ِ ث ِفي ا َ ما َيْنَفُع الّناس َفَيْمُك ُ
—–
.1سورة الرعد .17 /للوقوف على تفاصيل هذا المثل القرآني راجع تفسير المثل 10 /ذيل هذه الية.
] [ 284
] [ 285
الخطبة 5
لما قبض رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم وخاطبه العباس وابوسفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلفة )و
خلقه وعلمه().(1
ذلك بعد أن تمت البيعة لبي بكر في السقيفة وفيها ينهى عن الفتنة ويبين عن ُ
—–
هذه واحدة من الخطب التي نقلت عن المام)عليه السلم( في أّنها خطبها قبل خلفته .والذي يستفاد من هذه
الخطبة والمقدمة التي أوردها الشريف الرضي )ره( عليها أن أباسفيان والعباس إنطلقا إلى علي)عليه السلم( بعد
وفاة رسول ال)صلى ال عليه وآله( )و لعل أباسفيان دفع العباس إلى ذلك( واقترحا على المام)عليه السلم(
ن المام)عليه السلم( الذي كان لأّ
النهوض بالمر والبيعة له على أنه خليفة رسول ال)صلى ال عليه وآله( .إ ّ
يحرص على بيضة السلم واستنادًا إلى علمه التام بالظروف التي كانت تهدد الدين آنذاك وضرورة قبر المؤ
امرات والفتن في مهدها ليس فقط لم يجبهم لتلك البيعة نحسب ،بل حذرهما بكل صرامة من مغبة هذا العمل
ونصحهما بالبتعاد عنه .ولما كان)عليه السلم(
.1لقد نقلت هذه الخطية من سائر المصادر اُلخرى غير نهج البلغة .ومن بين مصادر نهج البلغة ماروي عن كتاب المحاسن
والمساوئ للبيهقي ،139 / 2 ،تذكرة الخواص للسبط الجوزي والحتجاج للطبرسي 1/127كما يستفاد من كلمات ابن أبي الحديد أّنه
نقل هذه الخطية من طرق ُاخرى.
] [ 286
عالما ببعض المغرضين أو الجهال الذين قد يشكلون على سكوته فقد رد)عليه السلم( على هذا الشكال ،ثم إختتم
كلمه ببيان مدى عشقه للموت وانطوائه على العلم الذي ليسع الخرين سماعه فضل عن احتماله .ولم يأذن له
في الكشف عن أسراره.
] [ 287
القسم الول
ح َم ْ
ن خَرِةَ .أْفَل َ
ن اْلُمفا َ
ضُعوا ِتيجا َ ق اْلُمناَفَرِةَ ،و َطِري ِن َعْ
جوا َ عّر ُ ن الّنجاِةَ ،و َسُف ِ
ن ِب ُج اْلِفَت ِ
شّقوا َأْموا َ»َأّيها الّناس ُ
عها ت ِإينا ِجَتِني الّثَمَرِة ِلَغْيِر َوْق ِ
نَ ،وُلْقَمٌة َيَغصّ ِبَها آِكُلَهاَ .وُم ْجٌحَ .هَذا َماٌء آ ِسَلَم َفَأَرا َ
سَت ْ
جناحَ ،أِو ا ْ َنَهضَ ِب َ
ضِه«.ع ِبَغْيِر َأْر ِكالّزار ِ
—–
الشرح والتفسير
ن سبب هذه الخطبة هو :لما قبض رسول ال)صلى ال عليه وآله( واشتغل علي)عليه السلم( بغسله ودفنه وبويع إّ
أبوبكر في سقيفة بني ساعّدة ،خل الزبير وأبوسفيان بالعباس عم النبي)صلى ال عليه وآله(قال :اّما وال إني
ل الدم ،يا لعبد مناف ،فيم أبوبكر من أمركم ،مابال هذا في أقل حي من قريش .ثم قال لرى عجاجة ليطفئها إ ّ
ل،
ل ورج ً لعلي)عليه السلم( أبسط يدك أبايعك ،فو ال إن شئت لملنها على أبي فضيل ـ يعني أبابكر ـ خي ً
فامتنع علي)عليه السلم( حيث كان يعلم المام)عليه السلم(بأّنه لينشد سوى الفساد والفتنة ومن هنا خطب هذه
ن عليًا)عليه السلم( رّد على أبي سفيان باّنك
الخطبة (1).واورد المؤرخ المعروف ابن أثير في كتابه الكامل أ ّ
تريد الفتنة ولتضمر للسلم سوى الشر فل حاجة لنا بنصحك (2).ومن هنا تتضح أجواء الخطبة وسهولة تفسير
ماورد فيها من عبارات .فقد أشار)عليه السلم(في القسم الول من هذه الخطبة إلى أربعة مواضيع مهّمة.
فقال)عليه السلم(» :أّيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة وعرجوا) (3عن طريق المنافرة) ،(4وضعوا
تيجان المفاخرة«.
» .3عرجوا« من مادة »تعريج« بمعنى الرغبة أو الترغيب وهى هنا بمعنى العتزال.
» .4المنافرة« حسب قول صاحب مقاييس اللغة تعنى التحاكم لدى القاضي ومن لوازمها النزاع والمخاصمة.
] [ 288
ل عن ذانك الفردين .ويؤيد هذا المعنى بعض قوله)عليه السلم(أّيها الناس يفيد حضور عدد كبير من الناس فض ً
ن المام)عليه السلم(شبه الفتن بالمواج العاتية الكاسحة الروايات الواردة بهذا الشأن .والنقطة الجديرة بالذكر أ ّ
والتي يوصي بمجابهتها من خلل العتصام بسفن النجاة .والمراد بسفن النجاة تلك السفن العملقة التي تشق
عباب البحر ولتصمد أمامها الرياح العواتي فتبلغ بركابها شاطئ المان ،ويراد بهم هنا الزعماء الربانيين
ولسيما أهل بيت النبي)صلى ال عليه وآله() ،(1أي إسمعوا وأطيعوا لما نقول ل لما تريدون ،وللتأكيد على هذا
المعنى فقد شبه)عليه السلم(التفاخر القبلي والفئوي بالطريق الخطير المرعب الذي ينبغي إجتنابه )لبّد من
ن المعنى الصلي للمنافرة هو أن يذكر كل واحد من الرجلين مفاخره وفضائله ،ثم يتحاكما إلى اللتفات هنا إلى أ ّ
ن المام)عليه السلم( أراد بهذا الكلم القيم أن يركز على العامل الصلي للم البشرية ثالث( ـ فالواقع هو أ ّ
ومعاناتها ،التي تفرزها على الدوام الحروب الدموية والختلفات والنزاعات والقتتالت التي تستند إلى التفاخر;
فاذا ما حطم هذا الصنم أمكن حل كافة مشاكل المجتمعات البشرية وعاد إلى الدنيا المن والصلح والسلم .طبعا
ن طلب القدرة والمنصب إّنما يتقنعون بالدفاع عن حقوق المجتمع وحفظ القيم والمثل ،ولكن ليس هنا لك صحيح أ ّ
من يشك في أّنهم إّنما يتظاهرون بهذه الشعارات من أجل تحقيق أغراضهم ومآربهم بغية التفاخر على الخرين .
ثم قال)عليه السلم(» :أفلح من نهض بجناح ،أو استسلم فاراح«) .(2فالمام)عليه السلم(أشار إلى نقطة أساسية
ن القيام بالحق تتطلب بعض الشرائط; فلو توفرت هذه الشرائط لما ترددت في القيام بالمر ،أّما إذا لم تتوفر هى أ ّ
ن القيام ليس بمجد فحسب ،بل من شأنه أن يثير الفرقه والختلف والذى فالعقل والمنطق والدين ليحكم بأ ّ
لصول الثابتة التي ينبغي والمعاناة للخرين كما يؤدي إلى القضاء على القوى الناهضة بالحق ،وهذا أصل من ا ُ
لخرى التي تطرق
رعايتها في كافة النشطة الجتماعية ولسيما في النهضات والثورات السياسية .أّما النقطة ا ُ
إليها المام)عليه السلم( فاّنما تكمن في
.1جاء في الرواية المشهورة عن النبي)صلى ال عليه وآله(» :مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق«.
اّما قول ابن أبي الحديد أن هذا الحديث صحيح ال ان أهل البيت)عليه السلم(لم يرادوا بهذه اللفظة فهو خاطئ .فقد أراد المام)عليه
السلم(بهذه العبارة أن اسمعوا لما آمركم به وَاطيعوا ولتتبعوا ما تمليه عليه إرادتكم.
.2لبّد من اللتفات هنا ألى الفعل )أراح( قد يأتي لزما أحيانا ومتعديا أحيانا ُاخرى ،ومفهومه على ضوء المعنى الول أراح نفسه
بينما معناه أراح الخرين متعديا.
] [ 289
لّمة التي جعلها البعضى شماعة ليجيزوا حتى الوسائل غير المشروعة من مسألة الخلفة والخذ بزمام ُامور ا ُ
أجل الوصول إليها فقال)عليه السلم(» :هذا ماء آجن) ،(1ولقمة يغص) (2بها آكلها« .فحياة النسان متقومة
بالماء والغذاء ،ولكن أي ماء وغذاء؟ طبعا الماء النقي والغذاء الزكي ،فالمام)عليه السلم(شبه هنا طبيعة
الحكومة بالماء المتعفن والغذاء الغصة .والحق كما صوره المام)عليه السلم( ،فالنسان كلما إقترب من حياة
الحكام والساسة إكتشف مدى عظم مشاكلهم وشدة إستيائهم ووخامة أوضاعهم ،فليس لهم من هدوء ولسكينة كما
ليس لهم من أمن أو إستقرار .وليس لهم سوى المظاهر الكاذبة الفارغة التي لتنطلي سوى على بعض السذج.
وبالطبع فان أولياء ال يسارعون لحتواء هذه المشاكل ويتحملون كافة الصعاب والمعضلت كما يضحون
ن اسم الشارة )هذا( يشير إلى نوع الحكومة بهدوءهم واستقرارهم خدمة لدين ال وعباده .كما ذهب البعض إلى أ ّ
ل أّنها كانت ومازالتالتي إقترحها أبوسفيان .على كل حال صحيح أن الحكومة كالماء الذي يعّد قوام حياة المم ،إ ّ
مطمع أهل الدنيا الذين هبوا بكل قوة لمنازعة أولياء ال على تلك الحكومة فلوثوا هذا الماء كما جعلوا طعام الحياة
غصصًا; المر الذي جعل الولياء يترفعون عنها ويعلنوها صراحة »لول حضور الحاضر وقيام الحجة ...للقيت
حبلها على غاربها وللفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز« .اّما في النقطة الرابعة فيشير إلى أحد أبعاد
هذه المسألة وهو أن من أراد القيام بالمر لتشكيل الحكومة السلمية فلبّد أن تكون المقدمات والظروف معدة
ل فليست هنالك من قيمة أو أثر لهذا القيام وليتمخض سوى عن لذلك أو أن يتولى هو تهيئة هذه الظروف وإ ّ
الهزيمة والفشل ـ فقد قال المام)عليه السلم( بهذا الشأن» :و مجتني الثمرة لغير وقت إيناعها) (3كالزارع بغير
ن الضمير في )بغير أرضه( يعود إلى الزارع ومفهوم العبارة: ارضه« .وقد ذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أ ّ
لأّ
ن كمن زرع في غير أرضه ولينتفع بذلك الزرع بل يعود ثمره على الخرين ; إ ّ
» .1آجن« من مادة »أجن« على وزن ضرب واجون المتعفن المتغير اللون والطعم وقد وردت هنا كإشارة للخلفة.
» .2يغص« من مادة »غصص« على وزن هوس بمعنى صعبة البتلع.
» .3ايناع« من مادة »ينع« على وزن منع بمعنى النضج والبلوغ ،وعادة ما تستعمل هذه المفردة بشان نضج الثمار ،كما تأتي بهذا
المعنى أيضًا إذا جاءت من باب الفعال.
] [ 290
ضعف هذا التفسير يبدو واضحًا من خلل كلم المام)عليه السلم(الذي قرن ذلك بجني الثمار غير الناضجة.
لصول الساسية والدروس القيمة المعتمدة في تشكيل الحكومات ن هذه العبارات قد تناولت ا ُ وهنا لبّد من القول با ّ
اللهية ; المر الذي يدعو دعاة الحق وعشاق العدالة لعدم النفعال بالعواطف والحاسيس العابرة والقتصار
على الدراسات المحدودة من أجل ممارسة أنشطتهم وعليهم أن يتربصوا بكل ُاناة وتحسب للوقوف على توقر
الشروط وتأهب القوى وإن إحتاج هذا المر لمّدة من الزمان ،على غرار المزارعين الذين ليقصدون قطف
الثمار غير الناضجة رغم حاجته القصوى لهذه الثمار من أجل توفير قوته أو تسويقها وبيعها بغية تغطية حاجاته
ن المزارع الماهر ليغرس بذوره في أرض ليست خصبة أبدا ،بل يتأنى قبل ذلك الساسية ،أضف إلى ذلك فا ّ
بحرث الرض وسقيها بالماء ثم ينثر بذره.
سكوت المام)عليه السلم( بعد النبي)صلى ال عليه وآله(
ل من السكوت رغم كونه الجدر والحق يتساءل الكثيرون لماذا لم ينهض المام علي)عليه السلم( بالمر بد ً
بخلفة رسول ال)صلى ال عليه وآله( إلى جانب تأكيدات النبي)صلى ال عليه وآله(على إستخلفه بما يثبت أ ّ
ن
لّمة السلمية؟
الخلفة من حقوقه المسلمة بل من حقوق ا ُ
ن الجابة على هذا السؤال قد وردت في العبارات القصيرة البعيدة المعنى في هذه الخطبة ،حيث ذكر و يبدو أ ّ
بعض السباب التي دعته لعدم القيام والنهوض بالمر .أولها عدم إنطواء الفراد ـ كابي سفيان ـ على حسن النية
في اقتراح النهوض بالمر والتصدي للخلفة ،أو أّنهم ـ كالعباس ـ كانوا ممن دفعوا من أصحاب الغراض
السيئة; المر الذي جعل المام)عليه السلم(يتعامل مع هذه القتراحات كفتن وبل بل تستهدف القضاء على
ل أهل بيتي،
المسيرة ولم يكن معه ال القليل ،وهذا ما صّرح به المام)عليه السلم(» :فنظرت فاذا ليس لي معين إ ّ
فضننت بهم عن الموت ،وأغضيت على القذى .وشربت على الشجا ،وصبرت على أخذ الكظم ،وعلى أمر أمّر
ن الخلفة والحكومة لم تكن هدفا بالنسبة
من طعم العلقم«) (1وناهيك عن كل ذلك فا ّ
] [ 291
للمام)عليه السلم(حيث كان يراها المام)عليه السلم( كالماء السن المتعفن والطعام المنغص; بل يراها وسيلة
لحقاق الحق وإبطال الباطل »قال عبدال بن عباس :دخلت على أميرالمؤمنين)عليه السلم( بذي قار وهو
يخصف نعله .فقال لي :ما قيمة هذا النعل؟ فقلت :ل قيمة لها! فقال)عليه السلم( :وال لهي أحب إلى من إمرتكم،
ن المام)عليه السلم(حين يرى هذا القيام ليؤدي إلى تحقيق الهدف ،بل لأّ
ل«) .(1إ ّ
ل أن ُاقيم حقا ،أو أدفع باط ً
إّ
بالعكس إّنما يثير الخلف والشقاق والفرقة في صفوف المسلمين ولعله يتيح الفرصة للمنافقين الذين يتربصون
بالسلم الدوائر فل يرى هناك من سبيل سوى الصمت والسكوت .وقد أورد ابن أبي الحديد أن فاطمة)عليها
ن محمدًا رسول ال« إلتفت السلم(حدثت المام)عليه السلم(بالنهوض بالمر ،فلما ارتفع صوت المؤذن »أشهد أ ّ
إليها قائل :أيسرك زوال هذا النداء من الرض؟ قالت :ل .قال :فلبدّ من الصبر والسكوت) .(2وبغض النظر عّما
تقدم فان كل عمل ـ ولسيما النهضات الجتماعية السلمية ـ يتطلب بعض المقدمات ولبّد من توفر كافة
لّمة وتبديد قواها،
ل فليست هنالك من نتيجة سوى الهزيمة والفشل والخذلن وهدر طاقات ا ُ الشروط اللزمة ،وإ ّ
وهذا المر أشبه بقطف الثمار غير الناضجة أو نثر البذور في الرض المالحة .ومن هنا كان المام)عليه السلم(
قيامه يكمن في السكوت والصمت.
—–
] [ 292
] [ 293
القسم الثاني
ل لْب ُ
ن ت َبْعَد الّلَتّيا َواّلِتي! َوا ّ
ت! َهْيها َ ن اْلَمْو ِ
ع ِم َ
جِز َ
ت َيُقوُلوا َسُك ْن َأ ْ
كَ ،وِإ ْعَلى اْلُمْل ِ
حَرصَ َ ن َأُقْل َيُقوُلواَ :
»َفِإ ْ
طرا َ
ب ضِ طَرْبُتْم ا ْ
ضَت ِبِه ل ْ ح ُ
عْلم َلْو ُب ْ
ن ِ
عَلى َمْكُنو ِت َج ُ
ي ُأّمِهَ ،بِل اْنَدَم ْ
طْفِل ِبَثْد ِ
ن ال ّ
ت ِم َ
س ِباْلَمْو ِ
َأِبي طاِلب آَن ُ
ي اْلَبِعيَدِة«.
طِو ّ
شَيِة ِفي ال ّاَْلْر ِ
—–
الشرح والتفسير
يتعرض المام)عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة إلى الحجج والذرائع الواهية المتضاربة التي يردها
ن هذه القلوب العمي والبصائر الخافتة لالجهال والحساد على المام)عليه السلم( .فيقول المام)عليه السلم( إ ّ
تنفك تعترض علي في كل موقف اتخذه ،فان اتحدث عن أحقيتي بالخلفة وعدم صلحية الخرين لها ،فالبي
ن آثرت الصمت والسكوت صوروه خوفا من الموت: لّمة يتخرصون بأّني حريص على الحكومة ،وأ ّ دعوة ا ُ
»فان أقل يقولوا :حرص على الملك وإن أسكت يقولوا :جزع من الموت« .نعم فهذا هو السلوب الرخيص الذي
ينتهجه الجهال والمتخرصين ليعترضوا على أولياء ال في كل حركة وسكنة وموقف يمارسونه ،وهم ليتحفظون
حتى عن التناقض والتضارب في هذا المجال ،فان قاموا أشكلوا عليهم وإن قعدوا أشكلوا كذلك .ومن هنا فان
ن هذا هو المر الذي أشار إليه المام الصادق)عليه المؤمنين ليعيرون هذه التناقضات أية آذان صاغية .ويبدو أ ّ
ن رضى الناس ل يملك السلم( في الحديث المروي عنه أّنه قال» :إ ّ
] [ 294
وألسنتهم ل تضبط«) .(1كما ورد شبيه هذا المعنى في الخطبة 172من نهج البلغة» :و قد قال قائل :إّنك على
هذا المر يابن أبي طالب حريص ،فقلت :بل أنتم وال لحرص وأبعد،أنا أخص وأقرب ،وإّنما حليت حقًا لي
وأنتم تحولون بيني وبينه ،وتضربون وجهي دونه ،فلما قرعته بالحجة في أعل الحاضرين هب كأّنه بهت ليدري
سر سكوته بالخوف من الموت متعجبًا من ما يجيبني به« ثم يواصل كلمه)عليه السلم(في إطار رّده على من ف ّ
ذلك وهو الذي ثبت حين نكصت البطال في بدر وأحد وحنين والحزاب وخيبر التي أثبتت مدى ولهه وشغفه
بالشهادة وله الرضيع بثدي ُامه» :هيهات بعد اللتيا والتي! وال لبن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي
لمور لتطيقون سماعه »بل إندمجت) (2على مكنون علم لو بحت) ُامه« .غير أن سكوتي يستند إلى علم بخفايا ا ُ
(3به لضطربتم إضطراب الرشية) (4في الطوى)(5البعيدة«.
تأّملت
1ـ سوابق المام)عليه السلم(
يشير المام)عليه السلم( باختصار إلى الشجاعة والبسالة التي أبداها في الغزوات والمعارك السلمية وفي
بعض المواضع الخطيرة كمبيته على فراش رسول ال)صلى ال عليه وآله( وما إلى ذلك ليذكر أولئك المرضى
الذين يشكلون عليه بأّنه ليخشى أية حادثة مروعة وقدخرج مرفوع الرأس من كل تلك الختيارات والتمحيصات،
ل على ضعفي قط; وليس وراء هذا السكوت سوى مصالح السلم والمسلمين ،ثم وعليه فسكوتي ليقوى دلي ً
يستشهد على ذلك بالمثل العربي المعروف فيقول »بعد اللتيا والتي«.
» .3بحت« من مادة »بوح« على وزن لوح بمعنى العلن وترك الكتمان ومن هنا يطلق »الباحة« على المحيط الواسع و»المباح«
على العمال الجائزة.
» .4أرشية« جمع »رشاء« على وزن رضاء بمعنى الحبل الطويل ،ومن هنا سميت الرشوة لّنها كالحبال التي تتصل بالدلو ليسحب
الماء من البئر.
] [ 295
ل تزوج من إمرأة كانت قصيرة القامة وصغيرة وسيئة الخلق فذاق منها المرين حتى ن رج ًو قصة هذا المثل أ ّ
طلقها .ثم تزوج من إمرأة طويلة القامة فآذته كسابقتها حتى اضطر لطلقها ،فلما عرضى عليه الزواج قال» :بعد
ل يضرب من أجل الحوادث الكبيرة والصغيرة ،فالمام)عليه السلم(
اللتيا والتي ل أتزوج أبدًا« فصار ذلك مث ً
يشير إلى أّنه إجتاز كل تلك الحوادث والخطوب فهل من سبيل إلى الخوف والخشية.
لخرى التي أشار إليها المام)عليه السلم( قوله» :لبن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي ُامه«. القضية ا ُ
لم أساس حياة الطفل ،ومن هنا فان هذا الطفل يعيش حالة من الجزع والنين والصراخ إذا ما جرد فالثدي ولبن ا ُ
من هذا الثدي وكأّنه سلب الدنيا برمتها ،فاذا عاد إليه سكن وقر وشعر بالفرح والسرور وكأّنه نال الدنيا بما فيها;
ن هذه العلقة مهما كانت فهى تستند إلى الغريزة; أّما علقة المام)عليه السلم( والعرفاء بالموت ولقاء ال لأّ
إّ
)و ل سيما الشهادة في سبيل ال( فهى علقة قائمة على أساس العقل والمنطق والعشق .فهم ليرون الموت سوى
إنطلقة الحياة الجديدة في ذلك العالم الوسع والشمل .يرون الموت نافذة على عالم البقاء والخلود والخلص من
هذا السجن وتحطيم قيوده وأغلله والتحليق نحو العالم العلوي ومجاورة الرحمن .فهل من عاقل يتردد في التحرر
من قضيان السجن والخلص من هذه القيود والنحلل) .(1نعم إّنما يخشى الموت من يراه فاتحة لكل شيء
وبداية للعذاب الذي ينتظره بفعل ما قارفه من رذائل وفواحش .فأنى للمام)عليه السلم(بالخوف من الموت وهو
ما عليه من المعارف والعلوم والسمو والرفعة؟ ومن هنا يقسم)عليه السلم( باّنه آنس بالموت من الطفل بثدي ُامه.
كما قال في موضع آخر» :فوال ما ُابالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إلى«) .(2بل هذا ماجسده عمليا حين
ب الكعبة«).(3
ضربه ابن ملجم بالسيف على رأسه فصرخ قائل» :فزت ور ّ
.1لقد تناول أحد الشعراء المعروفين هذه الحالة ليشبهها بنوعين من الفراد ،طائفة قليلة المعرفة فهى كالثمار الخام التي تلتصق
بشدة في الشجرة ،وُاخرى عارفة وهى كالثمار الناضجة التي تتساقط بيسر وسهولة من الشجرة.
] [ 296
3ـ لم السكوت؟
—–
] [ 297
الخطبة 6
—–
ن المام)عليه السلم( حين نكث طلحة والزبير البيعة وقصدا عائشة في البصرة واستوليا عليها ،إعتقد البعض بأ ّ
لن يصطدم بهما وسيتركهما ريثمًا يوطد دعائم خلفته فل تمّر مّدة حتى يعلنا إستسلمها .فالمام)عليه السلم(
ن هذا الكلم خطأ محض وأني لن أقف مكتوف اليدي لتشتد قوة العدو فيباغتني .ثم يبّين)عليه يستهل خطبته بأ ّ
ن هذا هو السلوب الذي سيتبعه السلم(عزمه الراسخ على مقاتلة هؤلء والزحف إليهم بجنده المطيع ،ثم يعلن أ ّ
ن هذه المخالفة والعتراض ليست بالشيء إلى آخر حياته .وأخيرًا يختتم الخطبة بالشارة إلى هذه الحقيقة في أ ّ
ن جذورها تمتد إلى زمان رحيل رسول ال)صلى ال عليه وآله( ومازالت مستمرة ليومنا هذا. الجديد وأ ّ
ن َكالضبع تنام على طول اللدم ،حتى يصل إليها طالبها ،ويختلها راصدها ،ولكني أضرب بالمقبل
»َوال ل أُكو ُ
إلى الحق المدبر عنه ،وبالسامع المطيع العاصي
.1كثر الكلم بين الشّراح والمفسرين بشأن من أشار بهذا على المام)عليه السلم( .فقد نسبه المرحوم الشيخ المفيد في كتاب الجمل
إلى إسامة بن زيد ،بينما نسبه بعض المؤرخين والشّراح من غير المامية للمام الحسن)عليه السلم( ،ولكن ليبدو هذا التفسير
ن هذه
صحيحًا بالستناد إلى الرابطة التي كانت قائمة بين المام الحسن)عليه السلم(وأبيه)عليه السلم( .الحتمال الخير فهو أ ّ
الشارة لم تكن من قبل فرد بل من قبل طائفة ضالة خلدت إلى الراحة والدعة.
] [ 298
الشرح والتفسير
الحيطة والحذر تجاه العداء
لقد رد المام)عليه السلم( على ُاولئك الذين يقترحون عدم مطاردة طلحة والزبير الذين نقضا بيعتهما ،فقال)عليه
السلم(» :وال لأكون كالضبع) (2تنام على طول اللدم) (3حتى يصل إليها طالبها ،ويختلها) (4راصدها)(5
ن المثل يضرب بالضبع على أّنه حيوان أبله يمكن صيده بكل سهولة; حيث يقوم الصياد بدق قطعة من ويبدو أ ّ
الحجر أو العصا أمام عش الضبع فاذا نام تقدم إليه الصياد ليصيده بسهولة .وقد سطرت الخرافات والساطير بهذا
الشأن ومن ذلك أن يخاطب الصياد الضبع فيقول له :يا ضبع نم في عشك ،ثم يكرر ذلك عّدة مرات ،فيتجه الضبع
إلى أقصى غاره وينام .فينادي الصياد :الضبع ليس في العش ،الضبع نائم ،ثم يدخل عليه العش فيربطه بحبل
ويخرجه من عشه ومن هنا شبه الفراد الذين يعيشون الغفلة تجاه العدو بالضبع .أّما الوقائع التأريخية آنداك فهى
تشير إلى سذاجة القتراح القاضي بعدم مطاردة طلحة والزبير; وذلك لن خطتهما كانت تستهدف السيطرة على
البصرة والكوفة ثم يبايعهما معاوية ويأخذ لهما البيعة من أهل الشام فتخضع أغلب المناطق السلمية لسيطرتهما
فليبقى لعلي)عليه السلم(سوى المدينة .أضف إلى ذلك فان هؤلء إستطاعوا أن يؤلبوا أكثر عدد ممكن من الناس
من خلل
.1أشار مؤلف كتاب »مصادر نهج البلغة« إلى المصادر اُلخرى التي نقلت هذه الخطبة ومنها »تأريخ الطبري ،أمالي الشيخ
الطوسي ،صحاح اللغة وغريب الحديث لبي عبيد القاسم بن سلم«.
» .2ضبع« على وزن سبع ،يطلق أحيانا على القحط والجفاف لّنه يأكل كل شيىء ويقضي عليه.
» .3اللدم« حسب ما صّرح به بعضى أرباب اللغة هو صوت الحجر أو العصا أو غيرهما ،تضرب به الرض ضربًا غير شديد ،ومن
ن مثل هذا الصوت إذا تكرر يمكنه أن يؤدي إلى النوم.
الطبيعي أ ّ
» .4يختلها« من مادة »ختل« على وزن ختم بمعنى الخداع والمخاتلة بمعنى المشي بهدوء نحو الصيد بحيث ليهرب.
» .5الراصد« من مادة »الرصد« بمعنى المترقب ومن هنا يطلق على مراقبة المنجمين اسم الرصد كما يطلق على موضع الرصد اسم
المرصد.
] [ 299
ن قاتل عثمان هو علي)عليه السلم( .ومن الواضح الشعار الذي يطالب بدم عثمان حتى رسخ في أذهان الناس أ ّ
ن تلك الخطة كادت أن ترد الميدان عمليا لول مبادرة المام)عليه السلم( وتسريعه بمواجهة الفتنة حتى استطاع أّ
أن يقبر تلك المؤامرة في مهدها فتمكن من إنقاذ البصرة والكوفة بل والعراق بأجمعه ،ولول المعارضة التي أبداها
الجهال تجاه المام)عليه السلم(في إطار تعامله مع ظلمة الشام لراح المسلمين وإلى البد من شرهم ولعاد العالم
ن المؤسف له ـ وكما أشير إلى ذلك في ذيل الخطبة الشقشقية ـ تعالت أصوات السلمي برمته وحدة واحدة; غير أ ّ
الجهال المغرضين الذين انطلت عليهم الدعايات ليوقفوا تلك المعركة التي كان النصر فيها للمام)عليه
السلم(قاب قوسين أو أدنى .ثم يواصل المام)عليه السلم( كلمه ليقول» :ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق
المدبر عنه ،وبالسامع المطيع العاصي المريب أبدًا ،حتى يأتي علي يومي«.
ن المجتمع ليتبنى الحق بجميع أفراده; فهناك ضعاف اليمان وعبدة الهواء وأصحاب الجاه والمناصب طبيعي أ ّ
الذين ليروق لهم إمام عادل حيث يهدد منافعهم اللمشروعة فيلجأون إلى أساليب الدعاية والخداع والكذب
والزيف وإثارة الشائعات; المر الذي يدعو الساسة والحكام إلى الجهاض على هذه العناصر الفاسدة وإجتثاثها
من المجتمع بصفتها غدة سرطانية يمكنها أن تلوث المجتمع ،أو السعي للحد من نشاطهم وفعاليتهم ألم تكن
مخاطرهم شديدة ،كما ينبغي على دعاة الحق أن يكونوا على أهبة الستعداد على الدوام للنقضاض على هذه
العناصر والقضاء عليها .وأخيرًا يصف المام)عليه السلم( هذه المعوقات بأّنها ليست جديدة وإّنما لها جذورها
ي ،منذالتي تمتد إلى زمان رحيل رسول ال)صلى ال عليه وآله(» :فو ال مازلت مدفوعًا عن حقي ،مستأثرًا عل ّ
قبض ال نبّيه صلى ال عليه وآله وسلم حتى يوم الناس هذا« في إشارة إلى قضية طلحة والزبير في إّنها تأتي في
إطار حلقة مستمرة منذ وفاة رسول ال)صلى ال عليه وآله(مازالت قائمة حتى اليوم .اّما تعبيره بمدفوعًا ومستأثرًا
فهى إشارة إلى المقاومة التي أبداها العداء حيال المام)عليه السلم(لزحز حته عن حّقه وتقديم الخرين عليه،
لنهم ليطيقون عدله وشدته .أّما قوله)عليه السلم(» :حتى يوم الناس هذا« ـ باللتفات إلى إضافة اليوم إلى الناس
ـ يمكن أن يكون إشارة إلى ذلك اليوم الذي كنت فيه وحيدا وقد غصبوا حقي ،واليوم قدهب البعض لمخافتي رغم
لّمة التي بايعتني .والجدير بالذكر أن المرحوم الشيخ المفيد أورد في إرشاده
وجود هذه ا ُ
] [ 300
عن المام علي )عليه السلم( أّنه قال »:هذا طلحة والزبير ليسا من أهل النبوة ول من ذرية رسول ال)صلى ال
ل حتى وثبا على
ل واحدًا ول شهرًا كام ً
ن ال قد رد علينا حقنا بعد أعصر فلم يصبرا حو ً
عليه وآله( حين رأيا أ ّ
دأب الماضين قبلهما ليذهبا بحقي ويفرقا جماعة المسلمين عّني«).(1
تأّمل
رسالة إلى جميع المسؤولين
لقد لّقن المام)عليه السلم( بهذه العبارات التأريخية كافة الزعماء من أهل اليقظة واليمان وساسة البلدان
السلمية درسًا بليغًا في التأهب لمواجهة العداء ،ولينبغي التخلي عن الفرصة بكل سهولة وعدم الستسلم
للحلول والقتراحات التي يتقدم بها من يؤثر السكون ويخلد إلى الراحة والدعة .فقد شبه المام)عليه السلم( من
ينخدع بهذه القتراحات ويفقد زمام المبادرة في تلك اللحظات الحساسة بالضبع ،ويكمن وجه الشبه في عّدة ُامور
منها:
ل أّنه ينام لسماع بعضى الصوات التي يرددها; النوم الذي يؤدي به في خاتمة
ن الضبع يشعر بوجود العدو إ ّ
1ـأّ
المطاف إلى السر والموت.
3ـ ليبدي الضبع أدنى مقاومة للذب عن نفسه وإّنما يقع في مخالبه بكل سهولة.
فالفراد الذين ليتعاملون بحزم تجاه العدو ويبدون حالة من الضعف والوهن إزائه فهم كالضباع التي تنام في
مخادعها وتستسلم للقتل دون مقاومة.
و أخيرًا فليعني هذا أن يقدم النسان على عمل دون التأني والتامل والستشارة والوقوف على كافة جوانبه; بل
لبّد من إستشارة ذوي الحجى والشجاعة واتخاذ القرار قبل فوات الوان والقدام في الوقت المناسب.
] [ 301
الخطبة 7
ومن خطبة له )عليه السلم(
جوِرِهْم
حُ ج ِفي ُ
ب َوَدَر َ
صُدوِرِهْمَ ،وَد ّ
خ ِفي ُ ض َوَفّر َشراكًاَ ،فبا َ خَذُهْم َلُه َأ ْ
ن َِلْمِرِهْم ِملكًاَ ،واّت َ شْيطا َ خُذوا ال ّ »اّت َ
ط َ
ق سْلطاِنِه َوَن َن ِفي ُ
شْيطا ُشِرَكُه ال ّ
ن َقْد َ
طَل ِفْعَل َم ْ
خَ ن َلُهُم اْل َ
ب ِبِهُم الّزَلَلَ ،وَزّي َسَنِتِهْم َفَرِك َ
ق ِبَأْل ِ
ط َ
عُيِنِهْم َوَن َ
ظَر ِبَأ َْفَن َ
عَلى ِلساِنِه«(1) . طِل َ ِباْلبا ِ
—–
الشرح والتفسير
أتباع الشيطان
ن الخطبة رغم قصرها تصور بدقة أتباع الشيطان وكيفية نفوذهم إليهم ،ومن ثم تبين الثار الوخيمة والعواقب
إّ
المشئوومة والطرق التي يسلكها الشيطان في التغلغل إلى النسان واللقاء به في شباكه وحبائله ،فيتلعب به
كيفما يشاء .والحق أّنها تخدير جدي لتباع الحق في ضرورة توفي الحيطة والحذر من تسلل الشيطان والوقوف
بوجهه حال الشعور بأدنى آثاره .والخطبة وإن تحدثت عن بعض الفراد من قبيل طلحة والزبير أو معاوية وأهل
الشام
.1جاء في »مصادر نهج البلغة« أن هذه الخطبة وردت في ربيع البرار للزمخشري 109 / 1 ،والنهاية لبن أثير في غريب
الحديث .50 / 2
] [ 302
فقد تكّفلت الخطبة بتبيين المراحل التي يعقبها تسلل الشيطان في أتباعه ،حيث شرحها المام)عليه السلم( بما
عرف عنه من فصاحة وبلغة وتشبيه رائع بحيث ليمكن تقديم صورة فنية أروع من تلك التي رسمها
ن هذا التسلل والنفوذ إلى النسان إختيارى وليمت بصلة المام)عليه السلم( .فقد أشار في المرحلة الولى إلى أ ّ
إلى الجبار .فالنسان هو الذي يعطيه الضوء الخضر ويدعه يلجه ويتصرف بوجوده حتى يجعله ملكًا ومعيارًا
لنشاطاته وفعالياته »إتخذوا الشيطان لمرهم ملكًا« .فملك من مادة ملك بمعنى أساس الشيء ودعامته ،كأن
يقال القلب ملك البدن ،أي أن أساس وقوام البدن هو القلب وهذا هو المر الذي أشار إليه القرآن الكريم بوضوح
ن َيَتَوّلْوَنُه
على اّلِذي َ
سْلطاُنُه َ
ن * ِإّنما ُ
على َرّبِهْم َيَتَوكُّلو َ
ن آَمُنوا َو َ
على اّلِذي َ
ن َسْلطا ٌ
س َلُه ُ
على لسان آياته )ِإّنُه َلْي َ
ن() .(1بناءًا على هذا فالعبارة المذكورة كاليات القرآنية بمثابة رد على أولئك الذين شِرُكو َ ن ُهْم ِبِه ُم ْ
َواّلِذي َ
يتساءلون عن سلطة الشيطان على بني آدم فيقولون :كيف سلط ال سبحانه هذا المخلوق الخطير على النسان ثم
ن الشيطان ليخترق الجدران غيلة ،بل يأتي من الباب ويطرقها فان فتح له ولج طالبه بعدم إتباعه .فالعبارة تقول أ ّ
ل عاد من حيث أتى .صحيح أّنه يصر على طرق الباب دون الشعور بالكلل والملل ،لكن بالمقابل هنالك وإ ّ
الملئكة الذين يهبون لنجدة النسان ويحذروه من مغبة فتح الباب .ثم أشار في المرحلة الثانية إلى النتخاب الذي
يتوله الشيطان بعد ذلك النتخاب حيث يصطفى هؤلء كاعوان وشركاء »واتخذهم له اشراكًا«) (2ثم
وضح)عليه السلم(ذلك بقوله» :فباض وفرخ في صدورهم«) .(3فالمام)عليه السلم(يشبه صدور تبعة الشيطان
بعش إبليس الذي يبيض فيه ويفرخ .ثم قال)عليه السلم(» :و دب ودرج في حجورهم« .صّرح بعض شّراح نهج
البلغة بان دب من مادة الدبيب بمعنى الحركة البطيئة الضعيفة ،والدرج الحركة القوى منها كحركات الطفل في
حضن
شَرك« بمعنى افتح ويحتمل المعنيان في العبارة المذكورة ،وقد اختار كل شارح من شّراح نهج
» .2اشراك« جمع »شريك« و» َ
البلغة أحد هذين المعنيين.
] [ 303
ن الفكار والعادات الشيطانية ليست طارئة ومفاجئة علىُامه .ولعل التعبير بدرج إشارة إلى حقيقة وهى أ ّ
النسان; بل تتجذر فيه بصورة تدريجية; كما عبر عنه في حذر المؤمنين منها حيث يتسنى له اقتياد النسان
خطوة خطوة نحو الفساد والضلل والكفر(1).
ن هذه البيوض والفراخ الشيطانية ستنمو وتترعرع حتى تتبدل إلى فقال» :فنظر باعينهم ،ونطق بالسنتهم« .أي أ ّ
شياطين تتحد معهم بحيث تنفذ في جميع أعضائهم وجوارحهم حتى يعيشون الزدواج في شخصياتهم ،فهم من
جانب إنسان ،ومن آخر شيطان ،ظاهرهم إنساني أّما باطنهم شيطاني .عيونهم وآذانهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم
ن آذانهم تطرب لسماع أدوات تأتمر بأوامر الشيطان ،فمن الطبيعي أن يروا جميع الشياء بصيغة شيطانية كما أ ّ
النغام الشيطانية .أّما في المرحلة الرابعة فيتناول)عليه السلم(النتيجة النهائية لهذه المسيرة التدريجية المنحرفة
فيقول» :فركب بهم الزلل ،وزين لهم الخطل«) (2ويشبه هذا الكلم ما أورده المام)عليه السلم( في موضع آخر
ن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها«) .(3ثم قال)عليه السلم( في المرحلة الخيرة ل وأ ّ
من نهج البلغة »إ ّ
ن أعمال هؤلء تدل »فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه ،ونطق بالباطل على لسانه«) .(4إشارة إلى أ ّ
ن الشيطان استحوذ عليهم فتصرف فيهم كيف يشاء .فحديثهم حديث الشيطان ونظرهم نظر بوضوح على أ ّ
ن المام)عليه السلم( أراد في هذه المرحلة الشيطان وبالنتيجة فان بصمات الشيطان متجسمة فيهم ،والواقع هو أ ّ
ن مراده)عليه السلم(بعض الفراد كطلحة والزبير أن يعرف هؤلء الفراد من خلل أعمالهم الشيطانية .ويبدو أ ّ
ن الكتب المعروفة لشرح نهج البلغة وانصارهما وأصحاب معاوية والخوارج ومن كان على شالكتهم ،رغم أ ّ
وأسانيدها لم تتعرض إلى الفراد أو الطوائف المرادة بكلم المام)عليه السلم( .مع
.1سورة البقرة 168 /و ;208سورة النعام ;142 /سورة النور .21 /
ن الشيطانن مفهوم الجملة سيصبح أ ّن حرف الباء في بهم للتعدية ،اّما إذا فسرت بالستعانة فا ّ
.2هذا التفسير على أساس أ ّ
بالستعانة بهؤلء سيركب الخطأ والزلل؟ ولكن باللتفات إلى العبارة »وزين لهم الخطل« وفاء التفريع في فركب يبدو التفسير الول
أنسب.
.4كلمة »فعل« يمكن أن تكون مفعوًل مطلقًا لفعل محذوف تقديره »فعلوا ذلك فعل «...كما يمكن أن تكون مفعوًل مطلقًا لما سبق
)نظر ،نطق ،ركب وزين( وسيصبح مفهوم الجملة أن أفعال هؤلء أفعال من شرك الشيطان في عمله.
] [ 304
ذلك فالكلم دقيق وعميق وليختص بطائفة معينة ،بل يشمل كل من وضع رجله على مسار الشيطان وخضع
لسيطرته وامتثل أوامره.
تأّمل
خطط الشياطين
شائك وشامل هو البحث بشأن الشيطان وفلسفة خلقه وكيفية نفوذه إلى النسان وطول عمره وقصته مع آدم
لمور التي ليسع المجال شرحها والغوص في أعماقها. وجنوده وأعواّنه من الجن والنس وما إلى ذلك من ا ُ
وسنكتفي ببعض الشارات التي يمكنها أن تغني البحث بما ينسجم وما ورد في الخطبة المذكورة.
ن الشيطان لم يخلق كموجود شرير منذ بداية الخليقة ،بل خلق طاهرا حتى اصطف فالذي تفيده اليات القرآنية أ ّ
ن حب الذات والكبر دفعه للتمرد على أمر ال والمتناع عن السجود مع الملئكة )و إن لم يكن ملكًا( .غير أ ّ
لدم)عليه السلم( ،فلم يرتكب المعصية فحسب ،بل إّتهم علم البارئ سبحانه وحكمته ليهوي في وادي الشرك
والضلل .لقد سأل ال النظرة إلى يوم القيامة فأجابه ال بالنظرة إلى يوم الوقت المعلوم ليتم تمحيص العباد ،أو
ن وجود الشهوات المركبة في النسان البشرية ومقاومة العقل واليمان تجاه القوى المخالفة بعبارة ُاخرى فكما أ ّ
ن الوساوس الشيطانية الخارجية ومجابهتها من قبل النسان إّنما تضاعف قدرة النسان في مسار الطاعة ل; فا ّ
إّنما تقوده إلى السمو والتكامل; وذلك لن وجود العدو إّنما يشكل العامل الذي يقف وراء حركة النسان وقوته
ن للشيطان نفوذ إجباري في النسان ،بل النسان هو الذي يمهد لهذا النفوذ، ن هذا ليعني أ ّ لأّ وتطوره وتكامله .إ ّ
ن() ،(1وقال في موضع آخر )ِإّنُه َلْي َ
س سْلطا ٌ
عَلْيـِهمْ ُ
ك َ
س َل َعباِدي َلْي َ ن ِ فقد صّرح القرآن الكريم بهذا الشأن قائلِ) :إ ّ
ن() (2كما صّرحت إحدى اليات القرآنية على لسان الشيطان أّنه على َرّبِهْم َيَتَوّكُلو َ
ن آَمُنوا َو َ على اّلِذي َ
ن َسْلطا ٌ
َلُه ُ
سُكْم((3).
جْبُتْم ِلي َفل َتُلوُموِني َوُلوُموا َأْنُف َ
سَت َ
عْوُتُكْم َفا ْ
ن َد َل َأ ْسْلطان ِإ ّن ُ عَلْيُكْم ِم ْ
ن ِلي َ قالَ) :وما كا َ
] [ 305
ن ال سبحانه قد خلق جنودا للقضاء على وساوس الشيطان ومخططاته ،ومنها العقل والفطرة الجدير بالذكر أ ّ
والنبياء والملئكة التي تتولى حفظ المؤمنين وطرد الوساوس الشيطانية عنهم .فكل من سار على درب هذه
الجنود حظى بدعمها وإسنادها وأبعد عنه وساوس الشيطان ،ومن سار على درب الشياطين وأقام على العناد
لخرى الجديرة بالهتمام هى أنّ الشيطان يسعى للنفوذ في أعماق النفس واللجاجة رفعوا أيديهم عنه .القضية ا ُ
البشرية ليؤثر من هناك على أعماله ،كما ُاشير لهذا في الخطبة المذكورة وكأنه باض وفرخ في الصدور فتكاملت
الفروخ شياطين إتحدت معه حتى عاد نظره وسمعه وقوله ويده ورجله شيطانيًا .وقد ورد عن أميرالمؤمنين)عليه
السلم( في غرر الحكم أّنه قال» :احذروا عدوا نفذ في الصدور خفيًا ونفث في الذان نجيًا« كما ورد شبيه هذا
المعنى ـ مع فارق طفيف ـ في الخطبة 83من نهج البلغة .كما قال)عليه السلم(في الخطبة 121من نهج
ن الشيطان يسني لكم طرقه ويريد أن يحل لكم دينكم عقدة عقدة« .على كل حال فان الغرض من البلغة» :إ ّ
الخطبة هو تحذير النسان من عدوره اللدود الشيطان الذي تعود جذور عدائه منذ خلق آدم)عليه السلم(.
وضرورة التوكل على ال والتكاء على العقل والفطرة والوجدان والستضاءة بارشادات النبياء وتعاليمهم
والستمداد من الملئكة بغية حفظ النسان لنفسه من وساوس الشيطان.
ن الشياطين ليست وأخيرًا فالنقطة التي أرى ضرورة التعرض لها وعلى ضوء صريح بعض اليات القرآنية أ ّ
منحصرة بابليس وجنوده السريين ،بل هناك مجموعة من النس التي تشملها الشياطين ،فأعمالهم هى أعمال
ف الَقْو ِ
ل خُر َ
ضُهْم ِإلى َبْعض ُز ْ
حي َبْع ُ
ن ُيو ِ
جّ
س َوال ِ
لْن ِ
نا ِ
طـي َ
شيا ِ
عُدّوا َ
ى َ
ل َنِب ّ
جَعْلنا ِلُك ّ
ك َ
الشياطين بعينها )َوَكذ ِل َ
غُرورًا().(1
ُ
—–
.1سورة النعام .112 /
] [ 306
] [ 307
الخطبة 8
دخل الزبير وطلحة على علي)عليه السلم( ،فاستأذناه في العمرة ،فقال :ما العمرة تريدان ،فحلفا له بال أّنهما ما
يريدان غير العمرة ،فقال لهما :ما العمرة تريدان ،وإّنما تريدان الغدرة ونكث البيعة ،فحلفا بال ما الخلف عليه
ول نكث بيعة يريدان ،وما رأيهما غير العمرة .قال لهما :فأعيدا البيعة لي ثانية ،فأعاداها بأشد مايكون من اليمان
ل في فتنة يقتتلن فيها .قالوا:
والمواثيق ،فأذن لهما ،فلما خرجا من عنده ،قال لمن كان حاضرًا :وال لترونهما إ ّ
ل (1).أّما الزبير فقد حاول أن يتذرع بمايا أميرالمؤمنين ،فمر بردهما عليك ،قال :ليقضى ال أمرًا كان مفعو ً
يبرر له نكث البيعة ،ويقول ليس لعلي في عنقي بيعة حيث بايعته مكرها .فالقى المام)عليه السلم( هذه الخطبة
ن البعض قد نسب هذا الكلم للمام الحسن)عليه السلم( وقد القاها بأمر من أبيه في يوم الجمل )جدير بالذكر أ ّ
بعد خطبة عبدال بن الزبير ،لكن ليستبعد أن يكون المام)عليه السلم( قد أورده مسبقا ردًا على إدعاءات الزبير
ثم استشهد بها المام الحسن)عليه السلم( في الجمل(2).
ل فليدخل
»يزعم أّنه قد بايع بيده ،ولم يبايع بقلبه ،فقد أقر بالبيعة ،وادعى الوليجة ،فليأت عليها بأمر يعرف ،وإ ّ
فيما خرج منه«.
] [ 308
الشرح والتفسير
ن المام)عليه السلم( ألقى هذه الخطبة كرد على الزبير الذي حاول تبرير نكثه للبيعة بأّنه بايع كما أوردنا آنفا فا ّ
مكرها بيده دون قلبه; لن معاوية بعث له بكتاب قال فيه :أّما بعد ،فاّني قد بايعت لك أهل الشام ،فأجابوا
واستوسقوا ،كما يستوسق الجلب فدونك الكوفة والبصرة ،ليسبقك إليها ابن أبي طالب فانه لشيء بعد هذين
المصرين(1).
ن نكثا بيعتهما للمام علي)عليه السلم( .أّما لأّ فما كان من طلحة والزبير الذين كانا يطمعان بالمناصب إ ّ
المام)عليه السلم( فقد رد على زعم الزبير رّدا حقوقيًا يحظى بكافة التبعات المتعارفة اليوم في القوانين
القضائية ،فقد قال)عليه السلم(» :يزعم أّنه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه ،فقد أقر بالبيعة ،وادعى الوليجة«)(2
ن كلمه مركب من إقرار وإدعاء ،فاقراره مسموع ومقبول ،أّما إدعائه فيحتاج إلى إقامة دليل .ولذلك فالواقع أ ّ
ل وجب عليه اللتزام طالبه المام)عليه السلم( باقامة الدليل )ليثبت أن بيعته قد حصلت من خلل الكراه( وإ ّ
ل فليدخل فيما خرج منه« لقد رأى أغلب الناس الزبير وطلحة قد بلوازم البيعة» :فليأت عليها بأمر يعرف ،وإ ّ
دخل على المام)عليه السلم( وبايعاه طائعين; فقد كانا من أوائل من بايعه في المسجد ،فالبيعة ملزمة ،ومن
إدعى خلف ذلك عليه أن يأتي بالدليل ،أضف إلى ذلك فالكل يعلم بعدم وجود الكراه والجبار في بيعة
علي)عليه السلم( ،فقد كان هنالك من لم يبايع ،ولم يضطرهم المام)عليه السلم(إلى البيعة ،وعليه فليس هنالك
لصول الساسية في كافة المحافل الحقوقية والقضائية ،في ن هذا من ا ُمن مبرر لنكث البيعة .وكما ذكرنا سابقًا فا ّ
ن من أبرم عقدًا راغبًا بالظاهر فقد وجب عليه اللتزام به وليقبل منه إدعاء الكراه الجبار وعدم تأييد القلب لما أّ
ل لمكن لكل واحد أن يقوض ما أبرمه بهذه الذريعة .فالمشتري والبائع والزوج والواقف و ...إذا فعله باليد ،وإ ّ
أبرم عقدا ولم يرى فيه من مصلحة لحقا أمكنه أن يدعي بأّنه أبرمه لسانًا ولم يكن قلبًا موافقًا عليه .وإذا كان
المر
» .2وليجة« من مادة »ولوج« بمعنى الدخول ،كما تعني الدخول الخفي ويقال وليجة لما يضمر في القلب ويكتم ،وقد جاءت هنا
بمعنى المر الخفي.
] [ 309
كذلك فقد عرضت كافة النظم والعقود والمواثيق الفردية والدولية للتصدع والنهيار وهذا مال يقره عقل أو
ل أّنه استهدف تضليل الرأي العام الذي قد يسأله لم نكثت
ن الزبير كان يعلم جيدا بهذا المر إ ّ
منطق; والحق أ ّ
البيعة؟
ن كل هذا نابع من كون العرب آنذاك كانت تولي البيعة أهمية فائقة ولم تكن تتساهل في نقضها
جدير بالذكر أ ّ
وعدم اللتزام بها ،وترى ذلك خطيئة كبيرة.
—–
] [ 310
] [ 311
الخطبة 9
جَم ْ
ل خصومه ويقال إّنها في أصحاب اْل َ
صَفة ُ
صَفته َو ِ
في ِ
طَر«(1).
حّتى ُنْم ِ
سيُل َ
حّتى ُنوِقَع َول ُن ِ
عُد َ
سنا ُنْر ِ
شُل َوَل ْ
ن اْلَف َ
ن اَْلْمَرْي ِ
عُدوا َوَأْبَرُقوا َوَمَع َهَذْي ِ
»َوَقْد َأْر َ
—–
الشرح والتفسير
ضجة فارغة
يستفاد من كلمه)عليه السلم( أّنه أورده بعد انتهاء معركة الجمل كاشارة للضجة الفارغة التي إفتعلها طلحة
والزبير ورهطهما في بداية موقعة الجمل ،غير أّنه لم يجدهم نفعا حيث هزم »طلحة والزبير« شر هزيمة حتى
قتل .فقد قال)عليه السلم(» :و قد ارعدوا وابرقوا ،ومع هذين المرين الفشل« .فهو تشبيه رائع بالسحب التي
ل أّنها سرعان ما تتبدد
تتخللها ظاهرة الرعد والبرق كبشارة للناس بالمطار التي تجلب عليهم الخير والبركة ،إ ّ
دون أن تحمل قطرة من المطر .ثم قال)عليه السلم(» :ولسنا نرعد حتى نوقع ،ولنسيل حتى نمطر« يريد)عليه
السلم( أننا لن نرعد
.1قال صاحب »مصادر نهج البلغة« علوة على نقل الشريف الرضي لهذا الكلم في نهج البلغة ،فقد رواه الواقدي ضمن إحدى
خطبه)عليه السلم( يوم الجمل .كما نقله المرحوم الشيخ المفيد في كتاب الجمل )ص (177عن كتاب الجمل للواقدي .وأخيرًا ذكره
ابن عثم الكوفي في كتاب الفتوحات.
] [ 312
ونزبد مالم نسدد ضربات موجعة إلى العدو ،ولسنا من أهل الضجيج حتى نقتحم الميدان ونقهر الخصم .فالواقع
ن العبارتين رغم قصرهما تشيران إلى مدرستين لكل منهما أسسهما في النشطة الجتماعية والعسكرية هو أ ّ
ل أّنها لتستبطن سوى الضعف والعجز والفشل والسياسية; مدرسة تتبنى الكلم والضجيج حين ترد الميدان; إ ّ
لخرى فهى المعروفة بالسلوك والعمل ،قليل كلمها كثير عملها .هى مدرسة صامتة حين العمل .أّما المدرسة ا ُ
ن النبياء والولياء وأتباع الحق ينتمون للمدرسة الثانية ،بينمال أّنها بطلة باسلة في الميدان وبالطبع فا ّ
هادئة إ ّ
ينتمي أتباع الباطل وجنود الشيطان إلى المدرسة الولى.
تأّملن
1ـ رجل العمل
ما تضمنه كلمه)عليه السلم( ـ كما أشرنا سابقًا ـ بعض الصفات البارزة لساليب الدارة لولياء ال ،فهم ليسوا
من أهل الكلم والضجيج ،بل بالعكس كلمهم العمل والتنفيذ .وقد تجسد
] [ 313
نموذج ذلك في معركة بدر حين ذهل أبوسفيان للنفر القليل الذي كان مع رسول ال)صلى ال عليه وآله(فبعث
عمير ليرى هل هناك من جند خلف الميدان ،فعاد إلى أبي سفيان وقال له» :مالهم من كمين ولمدد ولكن نواضح
ل سيوفهم ،ما
يثرب قد حملت الموت النافع اّما ترونهم خرسًا ليتكلمون ،يتلمظون تلمظ الفاعي ،مالهم ملجأ إ ّ
أراهم يولون حتى يقتلوا وليقتلون حتى يقتلوا بعددهم فار تأوا رأيكم .فقال له أبوجهل :كذبت وجبنت(1)«.
ن الحق ماذهب إليه عمير ل ما قاله أبوجهل .وبالطبع فليس هناك من منافاة بين هذا
بالتالي أتبتت موقعة بدر أ ّ
الكلم والستفادة من الساليب النفسية في ميدان الحرب والرجز وممارسة الحماس وامطار العدو بوابل التبليغات
وزرع الرعب في صفوفه .فالمشكلة إّنما تكمن في خلصة كل شيء في الكلم والتهديد والوعيد .فالعمل هو
الساس والمحور والكلم ترجمة لذلك العمل .فنموذج الفريق الول طلحة والزبير ورهطهما ،ونموذج الفريق
الثاني علي)عليه السلم(واتباعه .فقد وردت عبارات واضحة للمام)عليه السلم( ـ في الخطبة 124من
نهج البلغة ـ بهذا الشأن ،ففي الوقت الذي يحث اتباعه وجنده على الثبات في الميدان والشدة في الضرب
يوصيهم قائلَ» :اميتوا الصوات فانه أطرد للفشل«.
الواقع هنالك فارق واضح بين هذين المرين .فالنهي إّنما جاء بشأن الكلم الفارغ الذي
] [ 314
ينطوي على الرعد والبرق الكاذب والذي تصطلح عليه بالبلف حيث تفيد القرائن والشواهد بعدم وجود أي عمل
ن مثل هذا البلف والكلم الفارغ أّنما هو ديدن الشيطان واتباعه من الفراد عديمي
خلف ذلك الكلم .ول شك أ ّ
المنطق .أّما الترغيب والترهيب الذي يتبع ذلك والعمل والنشاط الذي يخرج الكلم من دائرته ليزج به في ميدان
العمل الذي ينتهجه الفريق الثاني فاّنه ليس فقط غير مذموم فحسب ،بل إّنما يأتي في نطاق الحرب النفسية التي
ن النهماك بالرجز والخطابة أثناء
تفعل فعلها في الواقع .وبالطبع فان التذكير بهذه النقطة ضروري وهى أ ّ
المعركة إّنما يشغل قسما من طاقات النسان ويحد من الثر المطلوب لصولته وحملته ،ومن هنا ورد النهي عن
ذلك.
—–
] [ 315
الخطبة 10
تشير هذه الخطبة إلى موقعة الجمل والحوادث الليمة التي تخللتها; حيث يصف المام)عليه السلم(اعوان طلحة
والزبير بانهم جنود الشيطان ،ثم يشير إلى خصائصه في الميدان ،كما يتطرق إلى تبيين خطته المستقبلية بهذا
الشأن في عبارات قصيرة وقارعة مشوبة بتوعد العدو مع تكهن بما ستؤول إليه هذه المعركة.
—–
الشرح والتفسير
ن خطبة المام)عليه السلم( تعالج القضايا المرتبطة بموقعة الجمل ،واستنادا إلى
كما ذكرنا سابقًا فا ّ
ن المرحوم المفيد نقل هذه الخطبة في الرشاد .188 /
.1جاء في مصادر نهج البلغة أ ّ
] [ 316
العلقة الوثيقة بين هذه الخطبة والخطبة الثانية والعشرين وأبعد من ذلك إرتباطها بالخطبة ،173والواقع هو أنّ
هذه الخطبة قد استوعبت في تلك الخطبة وأصبحت جزءًا منها ،فل يبقى هنالك من مجال للشك والترديد في أ ّ
ن
سروها بالشارة إلى موقعة صفين وأهل الهدف من هذه الخطبة هو الشارة لموقعة الجمل ،وكأّني بُاولئك الذين ف ّ
الشام قد أهملوا تلك العلقة .فالمحور الول لهذه الخطبة هو تشبيه أعوان طلحة والزبير بجنود الشيطان
فقال)عليه السلم(» :أل وان الشيطان قد جمع حزبه ،واستجلب خيله ورجله«.
و كيف ليكونوا جنود الشيطان وقد نقضوا عهدهم مع المام)عليه السلم( وقد دفعهم الحرص على المناصب لبث
لّمة السلمية واشعال فتيل الحرب الذي أودى بحياة الكثيرين حتى احترقوا بذور الفرقة والنفاق بين صفوف ا ُ
بتلك النيران .اّما التعبير بالحزب فهو إشارة إلى النسجام بين أهداف هؤلء وأهداف الشيطان ،وأّما التعبير
عو
بالخيل والرجل فهو إشارة لتنوع الجنود .القرآن الكريم من جانبه أشار إلى حزب الشيطان بقولهِ) :إّنما َيْد ُ
سِعـير() ،(1ويشير في موضع آخر إلى حزبه من الراجلة والخيالة الذين يختبر بهم ب ال ّصحا ِ ن َأ ْ حْزَبُه ِلـَيُكوُنوا ِم ْ
ِ
ك() .(2ولشك أن تتابع هذه التنبيهات إّنما تستهدف تحلي المؤمنين باليقظة جِل َ
ك َوَر ِخْيِل َ
عَلْيِهْم ِب َ
ب َ جِل ْ
بني آدم )َوَأ ْ
ن هذا المصير والوعي والحذار من الوقوع في حبائل الشيطان والنضمام إلى حزبه واللتحاق بجنوده ،غير أ ّ
المشؤوم قد طال طلحة والزبير وأعوانها ومن سار على نهجهما قد دفعهم حب الجاه والمنصب لن يكون لقمة
سائغة للشيطان.
ثم تناول)عليه السلم( المحور الثاني الذي بين فيه سماته وعمق بصيرته بما ليجعل للشبهة والشك من سبيل إليه
ن معي لبصيرتي ما لبست على نفسي ،ول لبس علي« .الحق أنّ مصدر ضلل أي فرد إّنما يمكن في أحد »و إ ّ
ثلث :الول أل يمتلك البصيرة والمعرفة اللزمة بالعمل الذي يقدم عليه ،فيرد الميدان جهل فيتصرف بما
ن حجب هوى النفس وحب الذات إّنما تحول دون رؤيته للحق لأّ
ليرضى ال .والثاني قد يتمتع بالمعرفة إ ّ
ل أّنهم يصطنعون لنفسهم العذار الناشئة وتسوقه للخطأ والزلل ،وما أكثر الفراد الذين يعلمون ببشاعة الذنب إ ّ
من
] [ 317
وساوس النفس والدوافع الشيطانية التي تسول لنفسهم عد تلك الذنوب من الفرائض ،وكما صورهم القرآن الكريم
صْنعًا() .(1والثالث أن يمنع شياطين الجن والنس الذن بالنفوذ إلى قلبه ويشوهوا
ن ُ
سُنو َ
حِن َأ ّنـُهْم ُي ْ
سُبو َ
حَ
)َوُهْم َي ْ
عليه الحقيقة .ولم يكن لي من هذه المحاور الثلث من سبيل إلى المام)عليه السلم(; وذلك لّنه أوصد كافة
البواب الباطنية والظاهرية للخطأ والنحراف بوجه الوساوس والهواء وتحلى بتقوى وورع وبصيرة جعلته
يرى الحقيقة كما هى.
ن البصيرة التي كانت ن معي لبصيرتي« ،أ ّ ن المراد يقول)عليه السلم(» :إ ّ ذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أ ّ
معى في زمن رسول ال)صلى ال عليه وآله(في كافة الحداث المهّمة التي وقعت على عهده مازالت معي ولم
ن اّتَبَعِني() .(2بينما
صـيَرة َأَنا َوَم ِ
على َب ِ
ل َ
عوا ِإلى ا ّ
سِبـيِلي َأْد ُ
ل هـِذِه َ
تتغير .والعبارة إشارة إلى الية الشريفة )ُق ْ
ن معي يرى البعض الخر أن قوله )عليه السلم(» :ما لبست على نفسي ،ول لبس علي« هو تفسير لقوله »و إ ّ
ن ما ذكر سابقًا أنسب.
لأّلبصيرتي« إ ّ
ن المام)عليه السلم( قال :ما لبست على نفسي ،ثم قال :ول لبس علي; المر الذي يكشف عن الجدير بالذكر أ ّ
ترتيب طبيعي ينبغي فيه أل يخدع النسان من قبل نفسه أول ثم يأمن مكر الخرين وخداعهم .ثم خاض فى
لفرطن ) (4لهم المحور الثالث ليكشف عّما ستؤول إليه نتيجة موقعة الجمل محذرا خصومه بشدة »و آيم) (3ال ُ
ن المام)عليه السلم( شبه ميدان القتال
حوضا أنا ماتحه) !(5ليصدرون عنه ول يعودون إليه« .والواقع هو أ ّ
بالحوض الذي يريد مله بالماء بحيث ليبقى معه من مجال; أراد)عليه السلم( لملن لهم حياض الحرب التي
هى دربتي وأنا مجرب لها ،ثم يشير)عليه السلم( إلى النتيجة التي سيؤول إليها أهل الجمل وهى لن تكون سوى
القتل وإزهاق
.3يرى بعض أرباب اللغة أن »آيم« جمع »يمين« بمعنى القسم وقد سقطت النون وهى مبتدأ لخبر محذوف تقديره )و ايمن ال
قسمي(.
ُ» .4افرطن« من مادة »إفراط« بمعنى تجاوز الحد )ما يقابل التقريط( ،كما تأتي بمعنى مل الشيء حتى يفيض ،وقد جاءت بهذا
المعنى في العبارة.
] [ 318
ن قوله)عليه السلم(» :لفرطن« ل تعني أّني سأفرط في هذا السبيل ،بل المراد أّني و هنا لبّد من اللتفات إلى أ ّ
سأبذل قصارى جهدي لسد جميع الطرق على العدو )لبّد من الدقة هنا( .وهذا بعينه ما جعل عائشة تعتبر من تلك
المعركة ولم تشترك في المعارك اللحقة.
تأّمل
جند الشيطان
ن الشيطان ليمارس وظيفته في الغواء والضلل لوحده; بل له جنوده ما نستفيده من الخطبة المذكورة أ ّ
وأعوانه والذين عبر عنهم فى الخطبة بالخيالة والرجالة )خيل ورجل( كماله اتباعه وانصاره الذين عبر عنهم
بالحزب ،وكما ذكرنا فان القرآن هو الذي أورد هذين التعبيرين )لبّد من اللتفات إلى الخيل تعني أحيانا الفارس
وهذا هو المراد في العبارة لنفس الفرس( .وبالطبع ليراد بحزب الشيطان ورجالته ما يتعارف اليوم في
ن له مساعدوه من بني جنسه ومن جنس بني آدم الذين ل أننا نعلم بأ ّ
المجتمعات المعاصرة وتشكيلت الجيوش; إ ّ
ينشطون في إغواء الناس وإضللهم ،بل حتى الحزاب القائمة اليوم والجنود الذين أصجوا آلة بيد السلطان
الظالمة والمستبدة إّنما هى جنود الشيطان وأحزابه .فما كان من الجنود أشد وأقوى فهو من خيله وما كان أضعف
وأصغر فهو من رجله .بل هناك من يرى نفسه في صفوف حزب ال وهو في زمرة حزب الشيطان .اّما أتباع
جُهْم ِم َ
ن خِر ُ
ن آَمُنوا ُي ْ
ي اّلِذي َ
ل َوِل ّ
الحق فان عليهم أن يتكلوا على ال وينضووا تحت وليته ليكونوا مصداقا لقوله) :ا ّ
ت ِإلى الّنوِر(ليحظوا بعناية ال ولطفه ويفوزوا بمضمون »إلهي لتكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا« .أّما ظُلما ِ
ال ّ
شرط الوصول إلى هذا المقام فهو ما ذكره المام)عليه السلم(في الخطبة المذكورة ،أي لبّد من التحلي بالبصيرة
والمعرفة والحذر من خداع النفس ،إلى جانب الحذر من الوقوع فريسة لحبائل خداع الخرين ومكرهم.
—–
] [ 319
الخطبة 11
صى اْلَقْوِم،
صِرك َأْق َ
ك .اْرِم ِبَب َ
ض َقَدَم َ
كِ .تْد ِفي اَْلْر ِ
جَمَت َ
جْم ُ
ل ُ عِر ا َّ
كَ .أ ِ
جِذ َ
عَلى نا ِعضّ َ جباُل َول َتُزْل! َ »َتُزوُل اْل ِ
سْبحاَنُه«.ل ُ عْنِد ا ّ
ن ِصَر ِم ْ
ن الّن ْ
عَلْم َأ ّ
كَ ،وا ْ
صَر َ
ض َب َ غ ّ َو ُ
—–
ن أميرالمؤمنين علي)عليه السلم( كان شديد الحرص على عدم نشوب معركة الجمل بغية ما تفيده الروايات هو أ ّ
الحيلولة دون سفك دماء المسلمين ،كما ورد أّنه سلم الراية يوم الجمل ابنه محمد بن الحنفية ،فاستغل الفرصة من
الصباح حتى الظهر ليدعوهم إلى الصلح والصلح واللتزام بالبيعة ،ثم خاطب عائشة قائل :اتق ال وعود إلى
ن( .ثم التفت إلى طلحة والزبير وقال لهم :صنتم نسائكم وابرزتم ن ِفي ُبُيوِتُك ّ
بيتك فقد أمركن ال سبحانه )َوَقْر َ
زوج رسول ال)صلى ال عليه وآله( ،ثم خرجتم تطالبون بدم عثمان بعد أن آلت الخلفة إلى الشورى )و قد
انتخب الناس أميرالمؤمنين وقد مددتما إليه يد البيعة( .ثم قال للزبير أتذكر كّنا نتحدث يوما في المدينة فسألك
رسول ال)صلى ال عليه وآله( :أتحب علي؟ فقلت :كيف لأحبه وهو قرابتي وإّني لحبه في ال .فقال لك رسول
ال)صلى ال عليه وآله(فاعلم إّنك ستقاتله وأنت له ظالم! فقلت أعوذ بال من ذلك اليوم .ثم واصل
] [ 320
المام علي)عليه السلم(نصحهم ووعظهم حتى قال الّلهم إشهد أّني نصحت لهم وأمهلتهم ،ثم تناول القرآن وقال
حوا َبْيَنُهما() (1وهو مقطوع
صِل ُ
ن اْقَتَتُلوا َفَأ ْ
ن الُمـْؤِمِنـي َ
ن ِم َ
ن طاِئَفتا ِ
من يحاججهم بالقرآن فيقرأ عليهم الية )َو ِإ ْ
يمينه وشماله ومقتول؟ فتناوله مسلم المجاشعي فاقترب من العدو وحمل القرآن بيمينه وتلى عليهم الية ،فحملوا
عليه وقطعوا يمينه ،فتناول القرآن بشماله فقطعوها أيضًا ،فاخذ القرآن بأسنانه فقتلوه .فقال علي)عليه السلم(:
ُاحل لي الن قتالهم عن آخرهم .ثم إلتفت إلى محمد بن الحنفية وخاطبه بتلك الكلمات (2).على كل حال فان
المام)عليه السلم( يسلط الضوء على الفنون القتالية المهّمة والمسائل ذات الثر من الناحية النفسية والجسدية في
الجندي المسلم والتي تعده للتأهب والستبسال في ساحة المعركة .والكلم يشتمل على سبع جمل :تضمنت الجملة
لخرى إلى الولى الوامر الكلية بشأن المقاومة والصمود في ميدان الحرب ،بينما أشارت الجمل الخمس ا ُ
لمور التي تلعب دورًا في الصمود وتحقيق النصر .أّما الجملة السابعة والخيرة فهى تؤكد على الجزئيات وا ُ
ن النصر من عنده سبحانه ليمكن من خلل ذلك وبقوة اليمان تحمل المشاق والصعاب التكال على ال وأ ّ
والتحلي بالروحية العالية من أجل الصمود أمام العدو ومقاتلته.
الشرح والتفسير
كن كالجبل
ن الخطبة تعالج مجريات موقعة الجمل حيث أعطى المام)عليه السلم( الراية ولده الشجاع كما ُاشرنا سابقًا فا ّ
محمد بن الحنفية ،وقد أوصاه عّدة وصايا مهّمة بشأن القتال وتحقيق النصر منها:
.3قال بعض شّراح نهج البلغة أن هذه العبارة جملة شرطية من حيث المعنى ،تقد يرها لوزالت الجبال لتزل )شرح ابن ميثم / 1
.(287
] [ 321
العواصف« كما ورد عن النبي الكرم)صلى ال عليه وآله( اّنه قال» :المؤمن أشد في دينه من الجبال الراسية
ن الجبل قد ينحت منه والمؤمن ليقدر أحد على أن ينحت من دينه شيئا«) ،(1ثم تناول)عليه السلم( ما من وذلك ا ّ
سر بسن شأنه أن يؤثر في مسيرة المعركة فقال» :عض على ناجذك« .فالناجذ قد يعنى أقصى الضرس ،كما ف ّ
ن العض على النواجذ يتضمن فائدتين :الولى أّنه يزيل الخوف والقلق العقل ،وقيل بل جميع النسان .وقيل أ ّ
والضطراب ومن هنا يعض النسان على أسنانه في مواطن الخوف ليهدأ وتسكن فورته ،والثانية أّنهم ذكروا أ ّ
ن
ن عظام الرأس تشتد وتصلب; وقد جاء في كلمه)عليه السلم(هذا العاض على نواجذه ينبو السيف عن دماغه ،ل ّ
مشروحًا في موضع آخر وهو قوله)عليه السلم(» :وعضوا على النواجذ ،فإّنه أنبى للصوارم عن الهام«) .(2أّما
في الجملة الثالثة فقد قال)عليه السلم(» :أعر ال جمجمتك« تعنى إستعد للتضحية والفداء والشهادة في سبيل ال
ن في العبارة إشعار له فان هذا الستعداد أساس الشجاعة والستبسال .هذا وقد ذهب بعض شّراح نهج البلغة أ ّ
ن العارية مردودة ،ولو قال له :بع ال جمجمتك ،لكان ذلك إشعار له بالشهادة .ثم أّنه ليقتل في تلك الحرب ،ل ّ
قال)عليه السلم( في الجملة الرابعة» :تد في الرض قدمك« .في إشارة واضحة إلى الثبات في المعركة ورباطة
الجأش في مقابل العدو وعدم التفكير قط بالنسحاب أو الفرار من الميدان; المر الذي أوصى به القرآن الكريم
ن آَمُنوا ِإذا َلِقـيُتْم ِفَئًة َفاْثُبُتوا() .(3ولعل الفارق بين هذه العبارة والعبارة الولى ،هو
المؤمنين من قبل) :يا َأّيها اّلِذي َ
ن الجملة الولى تحدثت عن عدم التزلزل في الفكر والمعنويات بينما أشارت العبارة الخيرة إلى عدم التزلزل أّ
الظاهري والبدني وعدم النسحاب والتراجع وفي الجملة الخامسة قال)عليه السلم(» :ارم ببصرك أقصى القوم«
فمثل هذه النظرة تجعله يحيط بالميدان والعدو والسيطرة على حركة الجنود بحيث يتعرف على نقاط الضعف
والقوة فيصيب في الدفاع والهجوم والكر والفر .ثم قال)عليه السلم(» :و غض بصرك« .ليس هنالك من تناقض
بين قوله »ارم ببصرك«قوله »غض بصرك« وذلك لنه في الولى أمره أن يفتح عينه ويرفع طرفه ،ويحدق إلى
أقاصي القوم
] [ 322
ببصره ،فعل الشجاع المقدام غير المكترث ولالمبالي ،لن الجبان تضعف نفسه ويخفق قلبه فيقصر بصره ول
يرتفع طرفه ول يمتد عنقه ،ويكون ناكس الرأس ،غضيض الطرف .وفي الثانية أمره أن يغض بصره عن بريق
سيوفهم ولمعان دروعهم ،لئل يبرق بصره ويدهش ويستشعر خوفا .والشاهد على ذلك ما أورده)عليه السلم(في
موضع آخر من نهج البلغة بهذا الشأن إذ قال» :و غضوا البصار فانه أربط للجأش وَاسكن للقلوب«) .(1أّما
في الجملة السابعة والخيرة فقد أشار)عليه السلم(إلى نقطة مهّمة وأساسية تنطوي على أبعاد روحية معنوية
تطمئن النفوس وتحدوها بالتطلع إلى ال »و اعلم أن النصر من عند ال سبحانه« فالنصر ليستند إلى السباب
والمقدمات الظاهرية ،بل المهم إرادة ال سبحانه ونصره ،فتوكل على ال وثق به واسأله الغلبة فهو القادر على
حِكـيٌم().(2
عِزيٌز َ
ل َ
نا ّ
ل ِإ ّ
عْنِد ا ّ
ن ِ
ل ِم ْ
صُر ِإ ّكل شيء وهو الرحمن الرحيم بعباده المؤمنين المجاهدين )َوما الّن ْ
ل أّنه حث المؤمنين بالتضرع إلى ال بنزول والطريف في المر أن القرآن الكريم تحدث عن نصرة الملئكة إ ّ
النصر ل الملئكة »بلى ان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلف من الملئكة
ل من عند ال العزيز الحكيم«. مسومين وماجعله ال إل بشرى لكم وتطمئن قلوبكم به وما النصر إ ّ
تأّملن
1ـ محمد بن الحنفية ونسبه وبعض أخباره
هو أحد أبناء أميرالمؤمنين علي)عليه السلم( و»حنفية« لقب أمه واسمها خولة بنت أحد أشراف قبيلة »بني
حنيفة« وقد اسرت في أحد المعارك السلمية وأرادوا بيعها ،فأعتقها)عليه السلم(وتزوجها .ورث محمد
الشجاعة من علي)عليه السلم( وقيل كان يشق الدرع بيده لقوته .ومن هنا سلمه)عليه السلم( الراية يوم الجمل،
كما أسند إليه مع محمد بن أبي بكر وهاشم المرقال ميسرة جيشه في صفين .وكان شديد التواضع للحسن
والحسين)عليهما السلم(.
] [ 323
دفع أميرالمؤمنين )عليه السلم( يوم الجمل رايته إلى محمد ابنه )عليه السلم( ،وقد استوت الصفوف ،وقال له:
ب المطر! فدفع في صدره، سهام كأّنها شابي ُ
ل ،فقال له :احمل ،فقال يا أميرالمؤمنين ،أماترى ال ّ
احمل ،فتوّقف قلي ً
عْرق من أّمك ،ثم حمل وحمل الناس خلفه ،فطحن عسكر البصره .قيل لمحمد ِلَم ُيغّرُر بك أبوك في فقال :أدركك ِ
الحرب ول يغّرر بالحسن والحسين عليهما السلم؟ فقال :إّنهما عيناه وأنا يمينه ،فهو يدفع عن عينْيه بيمينه.
إتهم البعض محمد بن الحنفية بأنه إدعى المامة بعد المام الحسين)عليه السلم( ،بل قيل إدعى المهدوية ،إل أن
الشيخ المفيد أبطل ذلك وقال لم يدع المامة )بل نسب الخرون ذلك إليه وهم من إدعى المامة والمهدوية من
الكيسانية .توفى بن الحنفية عام 81هـ ـ و اختلف في محل دفنه ،فقيل توفي في الطائف ودفن فيها .وقيل في
البقيع ،كما قيل في الجبل الرضوي قرب المدينة.
] [ 324
و هو المعنى الذي ورد التأكيد عليه كرارا في الخطبة التي نحن بصددها ،فقد قال)عليه السلم(كإشارة لمواطن
الصبر »تزول الجبال ول تزل« وقال» :تد في الرض قدمك« ،وهكذا سائر عباراته من قبيل العض على
لمور أن تلهم
ن النصرة والغلبة من ال سبحانه ،حيث من شأن كل هذه ا ُالنواجذ واعارة ال الجمجمة واليمان با ّ
النسان الصمود والثبات والمقاومة التي تستبطن النصر ،وهذا بعينه ما جعل المسلمين ينتصرون على خصومهم
حتى في المعارك التي لم تكن متكافئة ،وهذا ما ينبغي أن يؤمن به ويستشعره جيلنا السلمي الجديد ليحقق
النتصارات الباهرة على العداء.
—–
] [ 325
الخطبة 12
ل ِبهِ
صَرك ا ّ ن شاِهَدنا ِلَيَرى ما َن َ خي ُفلنًا كا َ ن أَ ِ
ت َأ ّ
صحاِبِهَ :وِدْد ُ
ض َأ ْ
ل َلُه َبْع ُ
لما أظفره ال بأصحاب الجمل َوَقْد قا َ
سَكِرنا َهذا
ع ْ
شِهَدنا ِفي َ شِهَدناَ ،وَلَقْد َ
خيك َمَعنا؟ َفقاَلَ :نَعْم .قاَل َفَقْد َ عداِئك »َفقاَل)عليه السلم(َ :لُه َأَهَوى َأ ِعَلى َأ ْ
َ
ن«(1). ن َوَيْقَوى ِبِهُم اِْليما ُف ِبِهُم الّزما ُ
ع ُسَيْر َ
ب الّرجاِل َوَأْرحاِم الّنساِءَ ،
صل ِ
َأْقواٌم ِفي َأ ْ
—–
نظرة إلى الخطبة
يتضح مّما قاله السيد الرضي بشأن الخطبة أّنها متعلقة باحداث الجمل والنصر المبين الذي حققه المام)عليه
السلم(حيث إلتفت إليه أحد أصحابه وكان شديد الحب لخيه فقال له :ليت أخي كان معنا ليشهد ما نحن فيه من
النصر والغلبة على هؤلء البغاة .فاورد المام)عليه السلم( هذه الكلمات الرائعة ليطمئنه بالحضور المعنوي
لخيه وكل من سار على نهجه)عليه السلم( من حماة العقيدة ،فالسلم يرى الرابطة الدينية تفوق كافة الروابط
ب عملن من أح ّالعرقية والسياسية والقتصادية وما إلى ذلك .فقد تظافرت الروايات السلمية التي صّرحت بأ ّ
قوم حشر فيه معهم
.1سند هذه الخطبة هو ماورد في كلم الشريف الرضي ،وقد ورد شبيه هذا الكلم في كتاب مصابيح الظلم من كتب المحاسن البرقي.
ن أظفر ال المام)عليه السلم( بالخوارج في النهروان ،طوبى لنا قاتلنا بين يديك فقتلنا
ن أحد أصحاب المام)عليه السلم( قال بعد أ ّ
أّ
الخوارج ،فرد المام)عليه السلم(بعبارات شبيهة بما ورد في هذه الخطبة )مصادر نهج البلغة .(339 / 1
] [ 326
و الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم .وبعبارة ُاخرى فان المام)عليه السلم( أشار في هذه الخطبة إلى أّنه قد
شهده في عسكره وشركه في نصره كافة الفراد الذين يقيمون اليوم في كافة أصقاع العالم والذين لم يشهدوا ـ
ل أّنهم وبسبب تعاطفهم العقائدي وكذلك الفراد الذين مازالوا نطف في أصلب الرجال لسباب ـ ميادين القتال إ ّ
وقرارات الفساد.
الشرح والتفسير
اللحمة العقائدية
ن المام)عليه السلم( اورد هذا الكلم في إطار رّده على أحد أصحابه الذي أعرب عن تمنيه يتضح مّما مر معنا أ ّ
في أن يكون أخيه قد حضر معه في تلك المعركة ويشهد النصر المؤزر الذي من ال به على جيش المام)عليه
السلم(فالتفت إليه المام)عليه السلم(» :فقال له :أهوى أخيك معنا؟«» ،فقال :نعم« ،فرد عليه المام)عليه
السلم(» :فقد شهدنا ،ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في اصلب الرجال وارحام النساء ،سيرعف بهم الزمان،
ويقوى بهم اليمان«(1).
أجل من كان على عقيدتنا أينما كان فهو معنا وإن لم يكتب لهم ال الحضور الفعلي في الميدان .أّما قوله)عليه
ل أّنه يظهر في أيةن الدم وان جرى مستترًا في عروق النسان إ ّ السلم(سيرعف بهم الزمان فهى إشارة إلى أ ّ
ل أّنهم سيظهرون تدريجيا طبق التصنيف لحظة وينتشر بكل سهولة ،فهؤلء مستترون في باطن هذا العالم إ ّ
الزماني اللهي ومن خصائصهم »و يقوى بهم اليمان« فهم يتحركون باتجاه الحق; المر الذي يسهم في تقوية
أواصر الدين واليمان .هذا وقد كثر الكلم بين شّراح نهج البلغة بشأن طريقة هذا الشهود والحضور للغائبين
فهل هو حضور روحي؟ أي هل أرواحهم حاضرة في ذلك المكان قبل أن تخلق البدان ،أم هو حضور بالقوة؟
ن مراد المام)عليه السلم( بهذا الحضور هو شركتهم في أي هم حاضرون وان غابوا عن الميدان ظاهريا؟ يبدو أ ّ
ن هؤلء الذين قلوبهم معنا وهم على خطتا وحركتنا )حزب ال( فهم شركاءنا في الثواب والحسنات والنتائج; أي أ ّ
الجر والثواب ،وعليه فلهم حضورهم الروحي الفعلي في كافة ميادين صراع الحق ضد الباطل .فالواقع هو أ ّ
ن
المسار واحد والحركة واحدة والجميع كتلة
] [ 327
واحدة إن تعا نقت عقائدهم وأهدافهم وليس للزمان أن يفصل بعضهم عن البعض الخر .وهذا يصدق أيضًا على
خط الباطل ،فالكل سائر على طريق الشيطان ويحمل نفس العقائد الفاسدة ويعيش حالة الظلم والعدوان ومقارفة
الذنوب والمعاصي فالمتأخر شريك للمتقدم في الجزاء والعقاب.
تأّمل
الرابطة الحق
ما ورد في الخطبة يكشف عن حقيقة معنوية ليس للمعادلت الدنيوية المادية من سبيل إلى الوقوف على كنهها
ن أهم رابطة تحكم المؤمنين هى رابطة الدين والعقيدة التي لتضاهيها والحاطة بها .فالمام)عليه السلم( يرى أ ّ
رابطة )من قبيل رابطة الدم والجنس واللون والعرق واللغة والحزب والطائفة والقبيلة وما إلى ذلك( فهى أروع
وأقوى وأعظم ،ومن شأن هذه الرابطة أن تشمل كافة الزمنة والمكنة وجميع أفراد البشر في الماضي والحاضر
والمستقبل ليصهرها في بوتقة الهية واحدة .فقد قال)عليه السلم( »لقد شهدنا ،ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام
في أصلب الرجال وارحام النساء ،سيرعف بهم الزمان ،ويقوى بهم اليمان« فالمعركة ليست صراع شخصي
من أجل السيطرة ،بل هى معركة بين الحق والباطل ،وهما صفان متقابلن خالدان حتى ينفخ في الصور ،وأ ّ
ن
المؤمنين سيهبون لمجابهة الباطل والذود عن الحق مازالت هنالك آثار للباطل ،وكل من كان على الحق فهو
شريك في كل ما يترتب على هذه المجابهة من أجر وثواب .والدليل واضح على ذلك حيث الحقيقة واحدة لينشد
أتباع الحق سواها فهم يتحركون بهذا التجاه ويشهرون سيوفهم من أجل تحقيق هذا الهدف .وعلى أساس هذا
الصل الساسي تكون قد حلت أكثر المسائل الواردة في القرآن والحاديث والتي قد تبدو مستغربة للبعض .فقد
سّوئها() .(1بينما صّرحت
علَْيِهْم َرّبُهْم ِبَذْنِبِهْم َف َ
صّرح القرآن الكريم بشأن قوم ثمود قائلَ) :فَكّذُبوُه َفَعَقُروها َفَدْمَدَم َ
ن الذي عقر الناقة كان واحدًا منهم ،في حين نسب ال العقر للجميع بفعل تضامنهم العقائدي معه فشملوا التواريخ أ ّ
جميعًا بالعذاب .وهذا هو
] [ 328
المفهوم الذي أوضحه المام)عليه السلم(بقوله» :أّيها الناس اّنما يجمع الناس الرضى والسخط وإّنما عقر ناقة
ثمود رجل واحد منهم فعمهم ال بالعذاب لما عموه بالرضا«) (1وقوله)عليه السلم(» :الراضي بفعل قوم
كالداخل فيه معهم وعلى كل راض بالثم ذنبان; ذنب الرضى به وذنب العمل به« .وورد في زيارة الربعين
لجابر بن عبدال النصاري أّنه انكب على قبر الحسين)عليه السلم(وجعل يزوره بهذه العبارت» :أشهد أّنك
أقمت الصلة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف نهيت عن المنكر وجاهدت في ال حق جهاده حتى أتاك اليقين،
والذي بعث محمدًا بالحق لقد شاركناكم فيما دختلم فيه« فلما سمعه صاحبه عطية تعجب من قوله قائل :كيف ذاك
ولم نهيط واديًا وقد قاتل القوم دون الحسين)عليه السلم(فطاحت رؤوسهم وترملت نسائهم ويتمت أولدهم فقال
ب عمل قوم ُاشرك ب قومًا حشر معهم ومن أح ً جابر :سمعت حبيبي رسول ال)صلى ال عليه وآله(قال :من أح ّ
في عملهم ،أّما والذي بعث محمدا)صلى ال عليه وآله(بالنبوة لنيتنا نية الحسين)عليه السلم(وأصحابه«)(2القرآن
من جانبه خاطب كرارًا يهود المدينة على عهد رسول ال)صلى ال عليه وآله(وبخهم على العمال التي أتى به
أصحابهم على عهد نبي ال موسى)عليه السلم(; بينما كانت هنالك عّدة قرون بين القومين ،فجعلهم القرآن
ت َوِباّلِذي ُقْلُتْم
ن َقْبِلي ِبالَبّينا ِ
ل ِم ْ
سٌل َقدْ جاَءُكْم ُر ُ
كُاولئك لنتهاجهم مسيرتهم ورضاهم باعمالهم ،ومن ذلك قوله )ُق ْ
ن() .(3وهذا ما أشار إليه المام الصادق)عليه السلم(في ذيل هذه الية أن ال إعتبر ن ُكْنُتْم صاِدِقـي َ
َفِلَم َقَتْلُتُموُهْم ِإ ْ
هؤلء ـ ممن عاصر النبي)صلى ال عليه وآله( من اليهود ـ قتلة النبياء السابقين رغم عدم ارتكابهم لجريمة القتل
ولكن حيث كانوا على عقيدة أولئك القتلة وراضين بفعلهم فقد عدهم قتلة«) .(4وقد روى المحدث الكبير عّدة
روايات في المجلد الحادي عشر من وسائل الشيعة بهذا المضمون في كتاب المر بالمعروف والنهي عن المنكر.
)(5
ومن شأن هذا اللون من التفكير أن يفتح أمامنا آفاقا واسعه ويجعلنا نقف على مضمون اليات والروايات
ويساعدنا في سلوك طريق الحق.
الخطبة 13
—–
الخطبة كبعض الخطب السابقة واللحقة واردة بشأن موقعة الجمل ،وقد ذم المام علي)عليه السلم(أهل البصرة
الذين أسلسلوا قيادهم لطلحة والزبير وفرقوا صفوف المسلمين ،ثم توعدهم بعذاب ال سبحانه ،ليعتبر من إعتبر
فل يقارف أعمالهم.
ن المام)عليه السلم( خطب هذه الخطبة بعد انتهاء معركة الجمل ،ورواها ـ مع بعض الختلف ـ .1قال المرحوم المحقق الخوئي أ ّ
المرحوم الطبرسي في الحتجاج وعلي بن إبراهيم القمي والمحدث البحراني ،كما نقلها ـ حسب كتاب مصادر نهج البلغة ـ عدد من
العلماء من عاشوا قبل الشريف الرضي كالدينوري في الخبار الطوال والمسعودى في مروج الذهب وابن قتيبة في عيون الخبار
وابن عبد ربه في العقد الفريد )مصادر نهج البلغة .(344 / 1
] [ 330
الشرح والتفسير
لقد أشار)عليه السلم( في هذه الخطبة إلى الصفات الذميمة التي إتصف بها مؤججي البصرة ليجمعها في سبع
صفات .فقد قال)عليه السلم(في البداية »كنتم جند المرأة« .صحيح أن مؤججي نار الجمل هما طلحة والزبير،
ن حضور كما تشير الشواهد التأريخية إلى الدور المشبوه الذي لعبه معاوية في هذا الشأن ،ولكن الذي لشك فيه أ ّ
عائشة وكونها زوج النبي)صلى ال عليه وآله( كان الدافع العظم الذي ساق الناس لقتال المام)عليه السلم(
والنخراط في صفوف أصحاب الجمل ،ول سيما أن كنيتها بأم المؤمنين كان له أبلغ الثر في نخوة الناس للدفاع
عن ُامهم ،ومن هنا خاطب المام)عليه السلم( أهل البصرة .بجند المرأة .الصفة الثانية لهم» :و اتباع البهيمة«،
ثم يوضح)عليه السلم( سبب استحقاقهم لهذه الصفة إثر تحزبهم واجابتهم حين كانت ترغي وهروبهم وتشتتهم
ن جمل عائشة ـ في معركة الجمل حين عقرت »رغا) (1فاجبتم ،وعقر) (2فهربتم« .فقد صّرح بعض المؤرخين أ ّ
ـ كان بمثابة راية عسكر البصرة ،حيث كان الجنود يلتفون حوله ويضربون دونه حتى قتلوا كما تقتل الرجال
تحت راياتها .وجاء في بعض الروايات أن سبعين ألفاقد أخذوا بزمام الجمل وكانوا يقتلون الواحد تلو الخر،
وكان أكثر من إلتف حول الجمل والدفاع عنه من قبيلتي بني ضبة والزد،لقد كانت الرؤوس تندر عن الكواهل،
واليدي تطيح من المعاصم وأفتاب البطن تند لق من الجواف وهم حول الجمل كالجراد الثابتة لتتحلحل ول
تتزلزل ،حتى لقد صرخ علي)عليه السلم(بأعلى صوته» :ويلكم أعقروا الجمل ،فانه شيطان« ثم قال :إعقروه
وال فنيت العرب .ليزال السيف قائما وراكعا حتى يهوي هذا البصير إلى الرض ،فعمدوا له حتى عقروه فسقط
ن أميرالمؤمنين أمر بحرق الجمل وذر و له رغاء شديد ،فلما برك كانت الهزيمة .كما ورد في بعض الروايات أ ّ
عَلْيِه
ت َ
ظْل َ
ك اّلِذي َ
ظْر ِإلى ِإلـِه َرماده في الرياح وقال :لعنه ال من دابة ما أشبهه بعجل السامري ،ثم تلى )َواْن ُ
سفًا() (3والطريف فيسَفـّنُه ِفي الَيّم َن ْ
حـّرَقـّنُه ُثّم َلـَنْن ِ
عاِكفًا َلـُن َ
» .1رغا« من مادة »رغاء« على وزن دعاء صوت الجمل كما يطلق على صوت الضبع أيضًا.
» .2عقر« من مادة »عقر« على وزن فقر بمعنى الصل والجذر ،وتعني الجرح والقطع ِاذا استعملت للناقة كما تأتي بمعنى الهلك.
] [ 331
موقعة الجمل أن عائشة أخذت كفا من حصى ،فحصبت به أصحاب المام)عليه السلم( وصاحت بأعلى صوتها:
شاهت الوجوه كما صنع رسول ال)صلى ال عليه وآله( يوم بدر .فقال لها قائل :ومارميت إذ رميت ولكن
الشيطان رمى (1).فقد كان حصب رسول ال)صلى ال عليه وآله(للمشركين أحد العوامل العجازية التي أدت
إلى إنهيار عسكر الكفر ،بينما انتهت معركة الجمل بهزيمة منكرة مني بها أعداء المام)عليه السلم( .أّما الصفة
الثالثة والرابعة والخامسة فهى تعالج أوضاعهم الخلقية حيث قال)عليه السلم(» :أخلقكم دقاق ،وعهدكم شقاق،
ودينكم نفاق« دقاق من مادة دقت بمعنى الدنيئة هنا ،يصف بها أهل البصرة من عبدة الهواء الذين نكثوا البيعة
والتحقوا بصفوف العداء ،أّما نفاقهم فهو ناشئ من كون ظاهرهم هو السلم والدفاع عن زوج النبي)صلى ال
عليه وآله( وباطنهم القيام ضد الحكومة السلمية ووصي رسول ال)صلى ال عليه وآله(و التخندق في صفوف
أهل الشام .ثم أشار)عليه السلم(إلى صفتهم السادسة »و ماؤكم زعاق« .ومن المعلوم إن مثل هذا الماء وإضافة
إلى ملوحته ومرارته فانه ينطوي على كل عناصر التلوث بسبب مجاورته لشاطئ البحر; فهو مضر بالنسبة
لسلمة البدن ،وهو يا لتالي مضر بروح النسان وفكره بفعل الرابطة القائمة بين الروح والبدن .وعليه فان ذم
ماؤهم هو في الواقع نوع ذم لخلقهم .ثم تطرق إلى صفتهم السابعة فقال» :و المقيم بين أظهركم) (2مرتهن
بذنبه والشاخص) (3عنكم متدارك برحمة من رّبه« .والعبارة إشارة إلى ما ورد في عّدة روايات ،ومنها الحديث
المعروف الذي نقله المرحوم الكليني في الكافي عن أبي الحسن المام الهادي)عليه السلم(حين قال لحد أصحابه
ويدعى جعفر :مالي أراك تغشى عبدالرحمن بن يعقوب )و كان منحرفًا في عقائده( ،أل تعلم أّنه ينسب ال إلى
صفات المخلوقين ثم نصحه)عليه السلم(بتركهم ومجالسة أعدائهم أو العكس ،فرد جعفر على المام)عليه
السلم(فليقل ما يقل في إشارة إلى أّنه ل يتفق معه في العقيدة فل يضره .فقال)عليه السلم(» :أما تخاف أن تنزل
.1شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد 252 / 1ـ 266إّل أّنه كتب حنين خطأ بدًل من بدر.
» .2بين أظهركم« بمعنى بينكم ،وأظهر جمع ظهر بمعنى الخلف وهو خلف الباطن ،ويستعمل هذا اللفظ للشخص الذي يعيش بين
مجموعة تسانده و تحميه ،و أحيانا يستعمل هذا اللفظ للعيش في مجموعة يؤيدونه ويحمونه أو ل يحمونه» .لسان العرب ،منقول
عن الكامل في التاريخ أول يحمونه» .لسان العرب ،منقول عن الكامل في التاريخ لبن الثير«.
» .3شاخص« من مادة »شخص« بمعنى المرتفع واطلقت على قامة النسان حين تلوح من بعيد ،ومن هنا اطلق على الشخص
المسافر اسم الشاخص ،وقد وردت بهذا المعنى في العبارة المذكورة.
] [ 332
به نقمة فتصيبكم جميعا«) (1ومن هنا وجبت الهجرة على المسلمين في صدر السلم حين عم الفساد كل شيء ـ
ول سيما الفساد العقائدي ـ ولم يسعهم القضاء عليه ،بل كان يخشى تأثرهم به .وقوله)عليه السلم(» :مرتهن
ن الذنب يأسر النسان وكأنه يجعله رهينة فل يطلقه ،وهو مستوحى من قول القرآن الكريم بذنبه« إشارة إلى أ ّ
)كل نفس بما كسبت رهينة() (2والذي نخلص إليه من هذه العبارة هو التأثير الذي يلعبه المحيط والوسط على
أخلق الناس ،فاما يغير هذا النسان المحيط الفاسد والملوت أو يهجره .ثم تطرق المام)عليه السلم( إلى العذاب
الدنيوي الذي ينتظر أهل البصرة فقال» :كاني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث ال عليها العذاب من فوقها ومن
ن البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها» ،فقد رأيت تحتها ،وغرق من في ضمنها« .وأّما إخباره)عليه السلم( أ ّ
ن البصرة تهلك بالماء السود ينفجر من أرضها ،فتغرق ويبقى مسجدها. من يذكر أن كتب الملحم تدل على أ ّ
ن المخبر به قد وقع ،فان البصرة غرقت مرتين ،مرة في أّيام القادر بال) (3ومرة في أيام القائم بأمر والصحيح أ ّ
ل مسجدها الجامع بارزًا بعضه كجؤجؤ الطائر ،حسب ما أخير به ال) (4غرقت بأجمعها ولم يبق منها إ ّ
أميرالمؤمنين)عليه السلم( ،جاءها الماء من بحر فارس) (5من جهة الموضع المعروف الن بجزيرة الفرس،
ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام ،وخربت دورها وغرق كل ما في ضمنها ،وهلك كثير من أهلها«)(6
أخبارهاتين الحادتثين معروفة عند أهل البصرة يتناقله خلفهم عن سلفهم.
—–
ثم نقل السيد الرضي آخر هذه الخطبة ثلث روايات بشأن العبارات الواردة في آخرها:
الرواية الولى» :و آيم ال لتغرقن بلدتكم حتى كأني انظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة«.
.1اصول الكافي ،375 / 2باب مجالسة أهل المعاصي ،وقد وردت في هذا الباب عّدة روايات بهذا المضمون.
» .4القائم بأمر ال« ،من خلفاء الدولة العباسية ،اصبح خليفة عام 422هجري »الكامل في التاريخ .«9/417
.5من النقاط التي تسترعي النتباه إن إبن أبي الحديد كان من الذين عاشوا في القرن السابع الهجري وكان ُيطلق على الخليج
الفارسي اسم »بحر الفرس«.
] [ 333
الرواية الثالثة» :بلدكم أنتن بلد ال تربة :أقربها من الماء ،وأبعدها من السماء ،وبها تسعة أعشار الشر،
المحتبس فيها بذنبه ،والخارج بعفو ال .كأّني أنظر إلى قريتكم هذه قد طبقها الماء ،حتى ما يرى منها الشرف
المسجد ،كانه جؤجؤ طير في لجة بحر«.
—–
لبّد من اللتفات إلى عدم وجود تفاوت يذكر بين ماورد فى الخطبة المذكورة والرواية الولى .فكلهما قد
استهلت بالقسم وتحدثتا علنية عن غرق هذه المدينة ،ثم اضافت تشبيه آخر لماورد سابقًا بشأن المسجد بالقول »و
ايم ال لتغرقن بلد تكم حتى كاّني انظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة«).(1
أّما في الرواية الثانية فهناك تفاوت طفيف جدًا حيث استبدل تشبيه جؤجؤ السفينه بقولها »كجؤجؤ طير في لجة)
(2بحر«.
بينما هنالك تفاوت كبير بين الخطبة الثالثة والخطبة الصلية .فقد أشير في هذه الرواية إلى ثلث ُامور في ذم أهل
البصرة »بلدكم أنتن بلد ال تربة … اقربها من الماء ،وأبعدها من السماء« والصفة الثانية »و بها تسعة أعشار
الشر« ولعل هذا المر ينبع من الخصائص الخلفية لناس تلك المنطقة أو بسبب كونها ميناءًا يكون مركزًا لتردد
مختلف الفراد وهجوم الثقافات الجنبية والتلوث الخلقي الذي يفرض عليها من الخارج .ولذلك كانت هذه المنطقة
مسرحًا للحداث الليمة للقرون السلمية الولى .أّما الصفة الثالثة فهى »المحتبس فيها بذنبه،الخارج بعفو ال«.
) (3ثم يتطرق المام)عليه السلم( إلى شبيه ماورد في الروايات المذكورة بقوله:
» .1جاثمة« من مادة »جثوم« بمعنى الجمع والجثم بالصدر على الرض ،وتطلق هذه المفردة على الفراد الذين يخلدون إلى الرض
وليس لهم من حركة سوى الكسل والنعاس.
» .2لجة« بمعنى الموجة والماء الواسع العميق ،وتعني في الصل ذهاب واياب الشيء ومن هنا يطلق لجة على البحر المائج ،كما
يطلق اللجوح على الفراد الذين يصرون على شيء ،كما تطلق على موج البحر.
.3هذا التفسير يصدق في حال كون الباء في »بذنبه« والباء في »بعفوال« باء السببية ،ولكن اذا كانت الباء لللصاق فيكون مفهوم
الجملة :الشخص الذي تلوث وابتلى بالذنوب ،وبقي بعيدًا عن الناجين ،ولكن العفو اللهي يشمل هذا الشخص فيصبح من الناجين.
لكن المعنى الول هو الرجح طبق المقاييس الدبية.
] [ 334
»كاّني انظر إلى قريتكم هذه قد طبقها الماء ،حتى ما يرى منها الشرف) (1المسجد ،كانه جؤجؤ طير في لجة
بحر« .ويبدو أن اختلف العبارات يستند إلى رواة الحديث الذين قد نقلوا بعضها من حيث المعنى ،أو أّنهم أخطأوا
ن المام)عليه السلم(قد كرر هذا الكلم في أكثر من موضع وقال فيه ما في تدوين الحديث ،ويبعد الحتمال على أ ّ
يناسبه.
تأّملت
1ـ نبوءة النبي)صلى ال عليه وآله( بشأن موقعة الجمل
الجدير بالذكر أن عدة روايات صرحت بإخبار النبي)صلى ال عليه وآله( عن يوم الجمل وخروج عائشة
وتحذيره لها .ومن ذلك لما عزمت عائشة على الخروج إلى البصرة طلبوا لها بعيرًا أّيدا يحمل َهْوَدجها ،فجاءهم
سكرًا ،وكان عظيم الخلق شديدًا ،فلما رأْته أعجبها ،وأنشأ الجّمال يحّدثها بقوته
عْيعَلى بن أمية ببعيره المسمى َ
ت ،وقالت :رّدوه ل حاجة لى فيه، وشدته ،ويقول في أثناء كلمه» :عسكر« ،فلما سمعت هذه اللفظة ،واسترجع ْ
ل عليه وآله ذكر لها هذا السم ،ونهاها عن ركوبه ،وأمَرت أن يطلب ل صلى ا ّوذكرت حيث سئلت أن رسول ا ّ
لها غيرُه فلم يوجد لها ما يشبهه ،فغّير لها بجلل غير جلله ،وقيل لها :قد أصْبنا لك أعظم منه خلقا ،وأشّد قوة،
ت به فرضيت. وأتي ْ
] [ 335
ل حتى يصيبك منه بنقمة ينتصر بها منك للخليفة الئمة ،وسعى في قتل الخليفة ،وقد علمت أّنك لن تعجز ا ّ
ل لك في ضللك وغّيك ،إن شاء ل من أصبح مماث ًل; وك ّالمظلوم ،وقد جاءني كتاُبك ،وفهمت ما فيه; وسيكفينيك ا ّ
ل.
ا ّ
وقال أبومحنف :لما انتهت عائشة في مسيرها إلى الحوأب ،وهو ماء لبني عامر بن صعصعة ،نبحتها الكلب;
صعاب إبلها ،فقال قائل من أصحابها :أل ترون ،ما أكثر كلب الحوأب ،وما أشد ُنباحها! فأمسكت حتى نفرت ِ
ل عليه يقول...ل صلى ا ّ
زمام بعيرها ،وقالت :وإّنها لكلب الحوأب! رّدونى رّدونى; فإني سمعت رسول ا ّ
جْزنا ماء الحوأب; فقالت :فهل من شاهد؟ فلّفقوا لها خمسين
ل! فقد ُ
ل يرحمك ا ّ
وذكرت الخبر ،فقال لها قائل :مه ً
جْعل ،فحلفوا لها :إن هذا ليس بماء الحوأب ،فسارت لوجهها(1). أعرابيًا ،جعلوا لهم ُ
والعجيب أن مثل هذه الروايات كانت سببا لتردد عائشة ،بينما لم تكن كل تلك الروايات الصحاح عن رسول ال
)صلى ال عليه وآله( وقد روت أكثرها سببا لترددها وإنصرافها .وهذا لعمري من العجائب .كما يفهم من هذه
الحكايات أنها سرعان ما كانت تخدع وتغير رأيها.
ما ورد من ذم للبصرة في الخطبة المذكورة يتعلق بعضه بتأثير المناخ وموقع المدينة وأوضاعها الجتماعية
)حيث كانت ميناءا وموضعا لستقطاب أنواع الثقافات والفكار والخلق الملوثة والتي كانت هناك ومازالت في
ن البعض الخر يرتبط بروحية وصفات سكنتها ،والذي ل يلزم أن يكون كذلك في كل عصر مثيلتها( إل أ ّ
ومصر ،بل هو إشارة لولئك الناس في ذلك العصر والزمان والذين كانوا يستسلمون لمحظطات طلحة والزبير
القبيحة فينقضوا البيعة ويريقوا تلك الدماء .وعليه فل منع من أن يسود تلك المنطقة الخيار في سائر العصور.
ولذلك وردت بعض الخيار التي تقيد مدح هذه المنطقة ،ومن ذلك ما روي عن أمير المؤمنين)عليه السلم( حين
إخباره منه ...فقّراؤهم أفضل القّراء وزّهادهم أفضل الّزهاد وعّيادهم
] [ 336
فل منافاة أبدا أن يجد قوم ويجتهدوا في طريق تهذيب النفس وتزكيتها فيتطهروا من الرذائل الخلقية وينطلقوا
صوب السمو والكمال ،سيما إن كانت رذائلهم الخلقية من قبيل معركة الجمل وما ترتب عليها من نتائج هّزتهم
وأعادتهم إلى رشدهم.
3ـ المحيط والخلق
الولى الثر الذي بلعبه المحيط الطبيعي والجغرافي في خلق ومزاج النسان ،حيث قال)عليه السلم(» :ماؤكم
لخرى تأثير المحيط الجتماعي فيزعاق ...بلدكم انتن بلدال تربة أقربها من الماء وَابعدها من السماء« .وا ُ
أخلق الناس» :و المقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه«.
ن هذا التأثير يقتصر على تمهيد السبيل وتوفير الرضية ول يرقى لن يكون علة تامة قط; ولكن من المسلم به أ ّ
ولذلك هناك الفراد الخيار الذين يعيشون في هذه الوساط .بل على العكس فهنا لك الفراد المعروفون بالفساد
والنحراف والسيرة الخبيثة والشريرة وهم يعيشون في المناطق التي تتمتع بالمناخ المناسب من أجل تعالي
الخلق وبلورة المزاج.
—–
] [ 337
الخطبة 14
—–
هذه خطبة ُاخرى أوردها المام)عليه السلم( بعد الجمل ولعلها تشكل مع سابقتها خطبة واحدة ثم فصلها الشريف
ن المام)عليه السلم( يعرض بالذم ثانية لهل البصرة ويتحدث عن خوائهم الرضي)رحمه ال( .على كل حال فا ّ
الفكري الذي جعلهم يتحولون إلى إلعوبة بيد المنافقين من َاصحاب المطامع ،وأخيرًا يحذرهم)عليه السلم( من
مغبة مواصلة هذا الطريق الضال.
الشرح والتفسير
كما أشرنا سابقًا فان هذا الكلم هو قسم آخر من تلك الخطبة التي أوردها المام)عليه السلم( في ذم
ن عليًا)عليه السلم(حين انتصر .1جاء في مصادر نهج البلغة أن المرحوم الشيخ المفيد تقل في كتاب الجمل 217 /عن الواقدي أ ّ
في المعركة ووزع الغنائم على الجنود ألقى هذه الخطبة :كما وردت مع إختلف طفيف في كتاب الخبار الطوال لبي حنيفة الدينوري
وكتاب عيون الخبار لبن قتيبة )مصادر نهج البلغة.(348 / 1 ،
] [ 338
أهل البصرة بعد موقعة الجمل حيث ضمته)عليه السلم( سبع صفات قبيحة إتصفوا بها .فقد وصفهم في العبارة
الولى والثانية »أرضكم قريبة من الماء ،بعيدة من السماء« .يمكن أن تكون العبارتان إشارة إلى الجوانب المادية
ن هذه المنطقة قريبة من ماء البحر والشط وهى بعيدة عن السماء ،أو إشارة إلى الجوانب المعنوية كأن يكون في أ ّ
ل أّنها بعيدة عن سماء رحمة ال
المراد أن أرض قلوبكم ورغم قربها من ماء الحياة بفعل وجود المام ،إ ّ
لخرى في المسائل المعنوية هناك نقاش ومغفرته .أو أن تكون هذه العبارة واردة في المسائل المادية والعبارة ا ُ
ن ظاهر العبارة ـ باللتفات إلى المعنى الحقيقي للرض والسماء ـ فا ّ
ن وبحث بين الشّراح في هذا الشأن ،غير أ ّ
ن أرضهم قريبة من الماء ولها المشاكل التي تنطوي عليها المراد المعنى الول ،فليس هنالك من خلف في أ ّ
الحياة عند ساحل البحر ،ول سيما البصرة التي يمر بها ذلك الشط الكبير ويصب في البحر مّما يجعلها عرضة
ن أرباب علم الهيئة
لظاهرة المد والجزر; أّما كيفية إبتعادها عن السماء ،فقد ذكر بعض شّراح نهج البلغة أ ّ
وصناعة التنجيم يذكرون أن أبعد موضع في الرض عن السماء »البلة« وذلك موافق لقوله)عليه السلم( ـ
ومعنى البعد عن السماء ها هنا هو بعد تلك الرض المخصوصة عن دائرة معدل النهار والبقاع ،والبلد تختلف
ن أبعد موضع في المعمورة عن دائرة معدل النهار هو البلة في ذلك .وقد دلت الرصاد واللت النجومية على أ ّ
والبلة هى قصبة البصرة .وهذا الموضع من خصائص أميرالمؤمنين)عليه السلم(لّنه أخبر عن أمر لتعرفه
العرب،لتهتدي إليه ،وهو مخصوص بالمدققين من الحكماء ،وهذا من أسراره وغرائبه البديعة.
ولكن ليبدو هذا الكلم مقبول لدى العلماء المعاصرين ،لن البصرة كسائر الموانئ العالمية المساوية لسطح ماء
ن مياه بحيرات العالم متصلة مع بعضها وتقع في مستوى واحد; والحال هنالك عّدة مناطق على البحر ،ونعلم أ ّ
سطح الكرة الرضية وهى أوطئ من سطح البحار .لكن يحتمل أل تكون المقارنة بالنسبة لجميع المناطق على
سطح الكرة الرضية ،بل مع بعض البلدان والمناطق السلمية المتعارفة آنذاك.
ثم قال)عليه السلم( في العبارة الثالثة والرابعة »خفت عقولكم ،وسفهت حلومكم« والدليل الواضح على هذا ما
أورده المام)عليه السلم( في الخطب السابقة من انقيادهم السهل واستسلمهم لهواء
] [ 339
طلحة والزبير وتقديمهم التضحيات الجسام ذودا عن جمل عائشة وبالتالي هزيمتهم وفضيحتهم المنكرة التي جرت
حلم( من آثار العقل بعبارة ُاخرى فا ّ
ن حُلم وال ِ
عليهم الندم والحسرة .عقول جمع عقل وحلوم جمع حلم ،ويبدو أن )ال ُ
العقل هو القوة المدركة لدى النسان والفكر واعلم واجالة الرأي في العمال من نتائجه ،ولما كانت عقول أهل
ن أفكارهم كانت ضعيفة تثار بسرعة إثر الدعايات السيئة التي يمارسها ذوي الهواء والمطامع. البصرة خفيفة فا ّ
ومن هنا قال المام)عليه السلم(في العبارة الخامسة والسادسة والسابعة» :فأنتم غرض) (1لنا بل) ،(2وُاكلة
لكل ،وفريسة) (3لصائل).«(4
و من البد يهي أن يقع الفراد السذج من ذوي الفكار السطحية الهشة لقمة سائغة في شباك صيادي الدين
ن العنصر الذي يمكنه ضمان المجتمعات واليمان والمتعطشين إلى الشراء والمال والجاه والمنصب; ومن هنا فا ّ
لّمة على
النسانية إزاء هؤلء المكرة المخادعين ،إّنما يكمن في رفع المستوى الثقافي لدى الرأي العام وايقاف ا ُ
مختلف القضايا الجتماعية والسياسية; المر الذي أكده السلم ،وهذا هو أحد الهداف التي تستبطنها خطب
صلة الجمعة .فلو إستدرك أهل البصرة وعادوا إلى أنفسهم وأفكارهم وألموا بشرائط الزمان والمكان لما أصبحوا
العوبة بيد طلحة والزبير الذين نقضنا بيعة المام)عليه السلم( وتظاهرا عليه وألبوا الناس على قتاله فسالت تلك
الدماء وحتى إنتهى المر إلى قتلهما .والسؤال المطروح هنا :هل هناك معنى واحد للعبارات الثلث »فأنتم
غرض لنابل« »و اكلة لكل« »و فريسة لصائل« أم لها معاني متعددة؟ ليبعد أن تكون كل عبارة إشارة إلى
ن الساسة يسعون لرميكم بسهامكم جانب من جوانب المسألة .فالعبارة الولى تبّين الستهداف من بعيد في أ ّ
وايقاعكم في شباكهم ولو من بعيد .والعبارة الثالثة تبّين هذا الستهداف من قريب بينما تبين العبارة الثانية النتيجة
» .1غرض« بمعنى الهدف وهو ما ينصب ليرمى بالسهام ،ثم اطلق على كل هدف ،كما ذكر له معان ُاخرى من قبيل الملل والشوق.
» .3فريسة« من مادة »فرس« على وزن فرض بمعنى الضرب ،ولما كان الحيوان الوحشي يضرب فريسة بالرض ِاطلق عليه
المفترس ،كما اطلق اسم الفرس على الحصان لضربه الرض برجله.
] [ 340
—–
] [ 341
الخطبة 15
عَلْيِه اْلَعْدُل
ق َ
ن ضا َ
سَعًةَ .وَم ْ
ن ِفي اْلَعْدِل َ
ج ِبِه الّنساُء َوُمِلك ِبِه اِْلماُءَ ،لَرَدْدُتُهَ ،فِإ ّ
جْدُتُه َقْد ُتُزّو َ
ل َلْو َو َ
»َوا ّ
ق«(2). ضَي ُعَلْيِه َأ ْ
جْوُر َفاْل َ
—–
نظرة إلى الخطبة
هذه من الخطب التي أوردها المام)عليه السلم( بعد أن بايعه الناس في المدينة حيث توعد فيها كافة الفراد الذين
تطاولوا على بيت المال إبان عهد عثمان إلى جانب بطانته وقرابته ممن حذا حذوهم ،ويطالبهم باعادتها إلى بيت
ل سيقف بوجههم بكل قوة .وهكذا يضع المام)عليه السلم( حدًا لطماع الطامعين ،ثم يختتمها بعبارات المال وإ ّ
قصيرة بعيدة المعنى بشأن العدالة وقيمتها في المجتمع.
» .1القطائع« ما يقطعه المام بعض الرعية من أرض بيت المال ذات الخراج ،ويسقط عنه خراجه ،ويجعل عليه ضريبة يسيرة
عوضا عن الخراج ،وقد كان عثمان أقطع كثيرًا من بني ُامية وغير هم من أوليائه وأصحابه قطائع من أرض الخراج على هذه
الصورة ،وقد كان عمر أقطع قطائع ،ولكن لرباب الغناء في الحرب والثار المشهورة في الجهاد; عثمان أقطع القطائع صلة لرحمه
وميل إلى أصحابه من غير عناء في الحرب ول أثر .
.2جاء في مصادر نهج البلغة أن هذه الخطبة قد ذكرت في كتاب الوائل لبي هلل العسكري وكذلك كتاب دعائم السلم للقاضي
النعمان المصري وإثبات الوصية للمسعودي مع بعض الختلف )مصادر نهج البلغة .(350 / 1
] [ 342
الشرح والتفسير
كما يفهم من مضمون الخطبة فاّنها وردت في بداية الخلفة الظاهرية لميرالمؤمنين علي)عليه السلم( .وقال ابن
ن عليًا)عليه
ن هذه الخطبة ذكرها الكلبي مروية مرفوعة إلى أبي صالح عن ابن عباس)رحمه ال( أ ّ أبي الحديد إ ّ
ن هذه الكلمات كانت كالماء البارد الذي سكب على السلم( خطبها في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة .والحق أ ّ
لّمة ; فقد سادت السكينة والهدوء قلوب أولئك الذين كانوا يأنون من إنعدام ألسنة اللهب والنار المتقدة في صدور ا ُ
العدالة على زمن عثمان إلى جانب ُاولئك الذين شعروا بها جس القلق على النظام السلمي وقوانينه الحقة،
فاستبشروا بعودة السلم الصيل والحكومة السلمية التي كانت تتطلع لها الفطرة السلمية ،ولول هذه السياسة
لّمة على دار عثمان التي أعلنها المام)عليه السلم( بهذه العبارات لما هدأت المدينة ولتكررت هجمات أبناء ا ُ
ولسفكت الدماء واهدرت الموال .فقد إستهل المام)عليه السلم( كلمه بالقسم بارجاع كافة الموال التي نهبت
من بيت المال مهما فعل بها »و ال لو وجدته قد تزوج به النساء،ملك به الماء ،لرددته« .ثم أضاف)عليه السلم(
ن ذلك خطأ فادح ،لن العدل أساس راحة المجتمع ومن لأّن إجراء العدالة قد يثير غضب البعض إ ّ مذكرا بأ ّ
ضاق صدره من العدل فاّنه سيكون أضيق إذا ماساد الجور والظلم »فان في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل،
فالجور عليه أضيق« .فقد بّين المام)عليه السلم( في البداية عزمه الراسخ على إعادة الموال التي ُاخذت ظلمًا
وعدوانًا من بيت المال وإن تزوج بتلك الموال أو تملك بها الماء ،فلبّد أن تعاد إلى بيت مال المسلمين ،لتعلم
ن القانون الذي سادها سابقًا لم يكن قانون السلم فهو ليس النموذج السلمي الذي يحتذى به في المسيرة لّمة بأ ّ
اُ
لولئك الذين مد ن في العدل سعة« .و أخيرًا يعرض بالنصح ُ السياسية .ثم عزز هذا العزم بالمنطق والدليل »فا ّ
ن المر بالعكس سيكون ن عزم المام)عليه السلم(هذا سيتضمن ضررهم ،في أ ّ أيديهم إلى بيت المال وظنوا بأ ّ
بنفعهم; لن من ضاق عليه العدل فالظلم عليه أضيق ،فالعدالة تمنحه الموال الحلل ول تسلبه سوى الموال
المحرمة اللمشروعة ،ولكن إذا لم يستجب للعدل وعاش الظلم والجور ،فاّنه سيخاطر بجميع أمواله المحللة
ل أّنه
ن الظلم ممكن أن يجر نفعًا على الظالم خلل مّدة قصيرة ،إ ّ منهاالمحرمة .صحيح أ ّ
] [ 343
ليس كذلك على المدى البعيد ،وقد أثبت التأريخ كيفية تحطم الظلمة بنفس هذه القوانين الظالمة التي شرعوها
وفرضوها على الناس بقوة الحديد والنار; حتى خانهم أقرب مقربيهم وطعنوهم من خلفهم .قال الكلبي :ثم
أمر)عليه السلم( بكل سلح وجد لعثمان في داره;تقوى به على المسلمين فقبض ،و أمر بقبض نجائب كانت في
داره من إبل الصدقة ،فقبضت ،وأمر بقبض سيفه ودرعه ،وأمر أل يعرض لسلح وجد له لم يقاتل به المسلمين،
وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وفي غير داره ،وأمر أن ترتجع الموال التي أجاز بها عثمان
حيث ُاصيبت أو أصيب أصحابها .فبلغ ذلك عمرو بن العاص ،وكان بأيلة من أرض الشام ،أتاها حيث وثب الناس
على عثمان ،فنزلها فكتب إلى معاوية :ما كنت صانع فاصنع ،إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما
تقشر عن العصا لحاها .هذا وقد إختلفت أقوال المفسرين وشّراح نهج البلغة بشأن مراده بقوله »من ضاق عليه
العدل فالجور عليه أضيق« وأحد التفاسير هو ما ذكرناه سابقًا .التفسير الخر هو أن بسط العدالة فيه رضى ال
وخلقه والنسجام مع نظام الوجود ،بينما يوجب الظلم غضب ال وخلقه ويؤدي إلى ضيق الدنيا والخرة .وتفسير
ن سلبه ظلمًا سيكون عليه أشق وأصعب .وأخيرًا أ ّ
ن لأّن سلب النسان شيء بالعدل قد يشق عليه ،إ ّ
آخر هو أ ّ
الوالي إذا ضاقت عليه تدبيرات ُاموره في مظنة أن يمنع ويصد عن جوره .وإذا لم يطق النسان العدل والنصاف
فأّنى له بتحمل الظلم والجور .ولنرى من ضير في جمع كل هذه التفاسير كمراد لمفهوم تلك العبارة.
تأّملت
1ـ معطيات العدالة في المجتمعات البشرية
] [ 344
سّيره ثم لم يرده
ل صلى ال عليه وآله ،قد َ
ورد في التواريخ أّنه أعاد الحكم بن أبي العاص ،بعد أن كان رسول ا ّ
أبوبكر ول عمر ،وأعطاه مائة ألف درهم.
وأقطع مروان فدك ،وقد كانت فاطمة عليها السلم طلبْتها بعد وفاة أبيها صلوات ا ّ
ل
] [ 345
وأعطى عبدال بن أبى سْرح جميع ما جميع ما أفاء ال عليه من فتح إفريقّية بالمغرب; وهى من طرابلس الغرب
شَركه فيه أحد من المسلمين.
ن َي ْ
إلى طنجة من غير أ ْ
وأعطى أباسفيان بن حرب مائتى ألف من بيت المال ،في المال ،في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة
ألف من بيت المال ،وقد كان زّوجه ابنته أم أبان ،فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح ،فوضعها بين
سمها كّلها
يدي عثمان وبكى فقال عثمان :أتبكى أن وصلت رحمى! وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة ،فق ّ
صْره زيد بن أرقمفي بني أمّية .وأنكح الحارث ابن الحكم ابنته عائشة ،فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضا بعد َ
عن خزنه.
ومن هنا يتضح أمران :الول :علة قيام الناس ضد عثمان ،والثاني السبب الذي دفع ببعض الفراد من قبيل طلحة
والزبير ومعاوية وسائر كبار مكة والمدينة .أو ليمكن خلصة ذلك فيما ورد في خطبته)عليه السلم( من قوله:
»وال لو وجدته قد تزوج به النساء ،وملك به الماء ،لرددته ،فان في العدل سعة ـ ومن ضاق عليه العدل ،فالجور
عليه أضيق«.
يتساءل البعض ألم يكن من الفضل أن يتجاوز المام)عليه السلم( الماضي ـ عفا ال عّما سلف ـ ويستأنف في
زمان خلفته مسيرة العدالة ليجتث جذور الحقد والبغضاء من صدور العناصر النتهازية والنفعية؟ ويمكن العثور
على جواب هذا السؤال في كلمات أمير المؤمنين)عليه السلم( ،فقد
] [ 346
ورد في بعض الروايات والقسم الخر من هذه الخطبة أّنه قال)عليه السلم(» :ال أن كل قطيعة أقطعها عثمان
وكل مال اعطاه من مال ال فهو مردود في بيت المال فان الحق القديم ل يبطله شيء ولو وجدته.(1)«...
ن الناس لو رأوا ناهبي بيت المال يتقلبون في البلد بكل حرية ويسخرون عمليًا من جرحهم ومن البديهي أ ّ
ن العدالة ليست بصدد الماضي فاّنهم لن يطيقوا مثل هذه العدالة ول يرونها تنسجم وأي منطق لمشاعر الخرين وأ ّ
وعقل حيث ينعم لصوص المس بالحرية والراحة بينما ل تطال العدالة سوى لصوص اليوم; فهذا الزدواج من
شأنه أن يدخل اليأس في قلوب الناس من بسط العدالة .الفقه السلمي هو الخر نص على وجوب عودة الموال
المغصوبة إلى أصحابها وليس هنالك من فارق بين المس واليوم ،أّما مسألة تقادم الزمان المطروحة هذا اليوم
فبغض النظر عن اهمالها في الفقه السلمي ،فاّنها إّنما ترتبط بالدعاوي ل بالموال المغصوبة.
—–
] [ 347
الخطبة 16
لما بويع في المدينة وفيها يخبر الناس بعلمه بما تؤول إليه أحوالهم وفيها يقسمهم إلى اقسام
القسم الول
عْ
ن جَزْتُه الّتْقَوى َ حَ تَ ، ن اْلَمُثل ِ ن َيَدْيِه ِم َ
عّما َبْي َت َلُه اْلِعَبُر َ
ح ْصّر َن َ ن َم ْ عيٌم ِإ ّ»ِذّمِتي ِبما َأُقوُل َرِهيَنٌةَ .وَأنا ِبِه َز ِ
حّ
ق ل َنِبّيُه)صلى ال عليه وآله(َ .واّلِذي َبَعَثُه ِباْل َ ثا ّ ت َكَهْيَئِتها َيْوَم َبَع َن َبِلّيَتُكْم َقْد عاَد ْ
ت َأل َوِإ ّ شُبها ِ حِم ال ّ َتَق ّ
سِبقَ ّ
ن سَفَلُكْم َوَلَي ْ
علُكْمَ ،أ ْ علُكْم َوَأ ْ سَفُلُكْم َأ ْ
حّتى َيُعوَد َأ ْط اْلِقْدِرَ ،
سْو َ ن َ طّ غْرَبَلًة َوَلُتسا ُن َن َبْلَبَلًة َوَلُتَغْرَبُل ّ
َلُتَبْلَبُل ّ
ت ِبَهذا
ت ِكْذَبًة َوَلَقْد ُنّبْئ ُ
شَمًةَ ،ول َكَذْب ُ ت َو ْ ل ما َكَتْم ُ سَبُقواَ .وا ّ ن كاُنوا َ سّباقو َ ن َ صَر ّ
صُرواَ ،وَلُيَق ّ ن كاُنوا َق ّ ساِبُقو َ
اْلَمقاِم َوَهذا اْلَيْوِم«(1).
—–
الخطبة من ُاولى خطبه)عليه السلم( بعد مقتل عثمان وتوليه)عليه السلم( الخلفة في المدينة ،ويبدو تفسيرها
1ـ الشيخ الطوسي ،تلخيص الشافي 2 ،53 / 3ـ الجاحظ ،البيان والتبيين 3 ،44 / 3ـ العقد الفريد 4 ،132 / 4ـ إرشاد المفيد5 ،ـ
كتاب الجمل6 ،ـ عيون الخبار7 ،ـ المسعودي ،اثبات الوصية8 ،ـ كنز العمال9 ،ـ الكليني ،روضة الكافي 10 ،67 /ـ تاريخ اليعقوبي،
ج 11ـ المجلسي ،بحار النوار.
] [ 348
ل باللتفات إلى موقعها وزمان صدورها ،وهى تدور حول أربعة محاور:
سه ً
لّمة إلى المتحان الذي ستمر به وتشبيه ذلك الزمان بزمان رسول ال)صلى ال عليه المحور الول :الفات انتباه ا ُ
لّمة من عصر الجاهلية والظلمة إلى عصر وآله( واننهضته كنهضة النبي)صلى ال عليه وآله( التي طفرت با ُ
الهداية والنور ،وإن كان إحتمال هذه النهضة صعب ثقيل على البعض وكون المتحان شاق .فالنحرافات التي
لّمة
أعقبت رحيل النبي)صلى ال عليه وآله(والتي أدت إلى التمييز في عطاء بيت المال وسلب ونهب ثروات ا ُ
واغداق المناصب الحساسة على من تبقى من رجالت الجاهلية إّنما تتطلب ثورة إصلحية قام بها المام
علي)عليه السلم( .ثم يذكر المام)عليه السلم( الناس بضرورة العودة إلى السلم الصيل والعتبار بعاقبة
ومصير القوام الماضية.
المحور الثاني :يقارن)عليه السلم( بين المعصية والذنب والورع والتقوى ثم يبّين كل منهما وكيف تصعب
لّمة من المخاطر التي تتربص بمصيرها. السيطرة على المعاصي بينما يتيسر نهج التقوى ويحذر ا ُ
لّمة من عدم الستيحاش من الحق المحور الثالث :إشارة مقتضبة عميقة المعنى لمسألة الحق والباطل محذرًا ا ُ
رغم قلة سالكيه والستئناس بالباطل لكثرة سالكيه ،والعمل بالحق الذي ل يقود سوى للغلبة والنصرة اللهية.
المحور الرابع :الذي يشمل سلسلة من النصائح والمواعظ التي تعّد كل واحدة منها ركن مهم من الركان التي
ينبغي اللتفات إليها في الحياة من قبيل الوعظ بالبتعاد عن الفراط والتفريط والتمسك بالقرآن والسّنة وضرورة
ن البركة والخير
معرفة الذات والدعوة إلى الخاء والتحاد وإصلح ذات البين والتوبة من المعاصي والوثوق بأ ّ
منه سبحانه.
—–
الشرح والتفسير
تعتبر هذه الخطبة ـ كما أشرنا سابقًا وعلى ضوء ما صّرح به بعض شّراح نهج البلغة مثل ابن أبي الحديد ـ من
لّمة مّما ينتظرها وأبان لها المخاطر
الخطب المهّمة التي أوردها)عليه السلم( لما تمت له البيعة بالخلفة ،فحذر ا ُ
والنحرافات التي تتربص بها.
] [ 349
فقد قال بادئ ذي بدء» :ذمتي بما أقول رهينة وأنابه زعيم«) (1في إشارة إلى صدق القول وحقانيته ووجود
الضمانات القائمة عليه ،ولذلك ينبغي عليكم تلقيه دون نقاش إلى جانب اللتزام به والعمل بمقتضاه .اّما المغزى
الذي ينطوي عليه هذا التعبير فإّنما يكمن في إلفات نظر السامع إلى أهمية وخطورة المضمون الذي يختزنه الكلم
والتعامل مع أهدافه.
ثم خاض المام)عليه السلم( في تفاصيل هذا المضمون في أن من استشعر الورع والتقوى وخشى العواقب نأى
بنفسه بعيدًا عن الشبهات ومامن شأنه تعريضه لتلك العواقب »ان من صّرحت له العبر عّما بين يديه من
المثلت) (2حجزته) (3التقوى عن تقحم الشبهات« .ارجعوا إلى التأريخ وتأملوا ما أصاب القوام الماضية من
عقوبات بفعل النحراف عن الحق والتلوث بالمعاصي والذنوب واستفحال الهوى والشهوات وحب الذات!
ارجعوا إلى زمان انبثاق الدعوة وقيام النبي)صلى ال عليه وآله(وتدارسوا المؤامرات التي حاكتها القوام
الجاهلية ضده ثم انظروا كيف كانت عواقبهم ومصائرهم لتتضح لكم معالم الطريق فتجوبوا الظلمة بنور التقوى
والهداية; الكهف الحصين الذي يأمنكم من الضربات الموجعة التي يمكن أن تسددها لكم النفس المارة وتزينها
الشياطين .ثم يكشف المام)عليه السلم( النقاب عن الواقع الخطير الذي يعيشونه ويطلعهم على صعوبة المتحان
ن أمامكم امتحان ل ينحج فيه »أل وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث ال نبيه)صلى ال عليه وآله(« .اعلموا أ ّ
لّمة فينا ُسوى من استشعر نفسه كمال التقوى والخلص .فالمام)عليه السلم(يميط اللثام عن هذه الحقيقة في أ ّ
عصر الخليفة الثالث ول سيما أواخر عمره قد عاشت البذخ في بيت المال والمناصب التي فوضت لغير أهلها من
الفراد الصالحين والمفاسد التي اجتاحت المجتمع السلمي والختلفات التي عصفت بوحدتها وكأّنها عادت
القهقري إلى عهد الجاهلية وكأن بيعته كبيعة رسول ال)صلى ال عليه وآله( التي تطالبه بنهضة تجديدة كتلك التي
لّمة في السلم الصيل. أسسها النبي)صلى ال عليه وآله(; تلك النهضة المعطاء التي صهرت ا ُ
» .1زعيم« من مادة »زعم« بمعنى بيان الكلم الذي يحتمل فيه الخلف ،ثم أطلق الزعيم على من يكفل شخصًا ويضمنه لّنه يكون
عرضة للتهمة ،وقد جاءت هذه المفردة في العبارة بمعنى الضامن والكفيل ،كما يطلق الزعيم على القائد الذي يتولى زمام اُلمور لّنه
يتكفل بالعمال المهّمة.
» .2مثلت« جمع »مثلة« على وزن عضلة بمعنى مقارنة شيء بآخر ،ثم ُاطلقت على العذاب اللهي والعقوبة التي تحذر النسان من
ارتكاب ما يوجبها.
» .3حجز« من »حجز« على وزن عجز بمعنى الحائل بين شيئين وقد وردت بهذا المعنى في العبارة ،فالتقوى تحول دون الوقوع في
الشبهات.
] [ 350
ومن الطبيعي أن تهب بعض الفئات التي تعرض مصالحهم اللمشروعة للخطر لبداء ردود الفعل واظهار
لّمة وينبهها إلى
المقاومة; المر الذي يعقد المتحان بما يجعل الحاكم الخبير كالمام علي)عليه السلم( يوقظ ا ُ
سر البلية بالبلء والمشاكل ،في حين نراها تعنين البعض ف ّالخطار المتربصة بها وهنا لبّد من اللتفات إلى أ ّ
المتحان والختبار ويؤيد ذلك سائر عباراته الواردة في الخطبة .ثم خاض)عليه السلم(في تفاصيل هذا المتحان
ل »والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة) (1ولتغربلن غربلة«) (2وهذه هى اللهي الكبير ليوضحه بمثالين ،فقد ذكر أو ً
الطبيعة التي تسود كل نهضة ربانية في غربلة المجتمع حين تتويج مسيرتها بالنصر .فهناك إقصاء لصحاب
السطوة الخونة واستبدالهم بالمجموعة الصالحة المستضعفة ،وهذا بعينه ما مارسه رسول ال)صلى ال عليه
وآله( بعيد انتصار ثورته المباركة .فقد نحي أبو سفيان ومن لف لفه من طغمة الفساد ليفسح المجال لصهيب
والخباب وبلل .أضف إلى ذلك فقد نحيت الشخصيات المستبدة التي استندت إلى منطق القوة على عهد عثمان بعد
بيعة أمير المؤمنين علي)عليه السلم(لتخلفها القوى الشعبية المخلصة.
وثانيًا »ولتساطن سوط) (3القدر حتى يعود أسفلكم أعلكم ،وأعلكم أسفلكم« .نعم فطبيعة كل ثورة أن تضع في
النهضات الربانية التي تنبثق في المجتمعات الفاسدة فاّنها تطيح بالمفسدين وترفع المستضعفين ليمارسوا دورهم
في السلطة.
ثم يواصل المام)عليه السلم( كلمه بالقول» :وليسبقن سابقون كانوا قصروا ،وليقصرن سباقون كانوا سبقوا«
والعبارة الثانية إشارة إلى بعض الفراد كطلحة والزبير الذين كانا يومًا في الصفوف الولى بينما دفعتهم بعض
العوامل للتراجع عن تلك الصفوف ،بينما تشير العبارة الولى إلى بعض الفراد كصحب المام)عليه السلم(
وأتباعه الذين أصبحوا يومًا جلساء الدار ،بينما سنحت لهم الفرصة على عهد المام ليتقدموا ويسبقوا كما احتمل
لمور ويتأخر البعض أن يكون المراد المستقبل الذي سيشهد تردي الوضاع فيتقدم بنو أمية ويتصدرون ا ُ
السابقون
» .1بلبلة «،ذكر أرباب اللغة عّدة معان لهذه المفردة منها الختلط وهذا هو المعنى المناسب لها في هذه العبارة.
» .2غربلة «،لها معنيان أحدهما فصل الخبيث من الطيب بالغربال )بكسر الغين وضمها( والخر القطع والفصل.
» .3سوط« أي كما تختلط البزار ونحوها في القدر عند غليانه فينقلب أعلها أسفلها وأسفلها أعلها ،وكل ذلك حكاية عّما يؤولون
إليه من الختلف وتقطع الرحام وفساد النظام.
] [ 351
في السلم فتعود الجاهلية بأقطابها ليتسلموا زمام المور ،ولكن لما كانت هذه الخطبة قد أوردت إثر مبايعة
المام)عليه السلم( مباشرة فان المعنى الول يبدو هو النسب .ثم يؤكد المام)عليه السلم(هذا المر بقسم آخر
»وال ما كتمت وشمة) (1ول كذبت كذبة ،ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم«.
ل ليفيق الناس ول يستسلمون للمؤامرات كمؤامرة الجمل وصفين والنهروان ويعلموا أّنهم لمور إ ّ
وما كل هذه ا ُ
ن المؤسف له هو أّنهم لم يعيروا نصح المام)عليه السلم( أية آذان
لأّ
أمام امتحان صعب فيلتفتوا إلى أنفسهم ،إ ّ
صاغية ولم يتدبروا المر فكان من ذلك أن فشلوا في المتحان أيما فشل.
ن مراد المام)عليه السلم( من هذه العبارة هو المغيبات التي أطلعه عليها رسول ال)صلى ال عليه وآله(، يبدو أ ّ
ن الئمة المعصومين هم قادة
وكما ذكرنا في حينه ـ في مبحث علم غيب النبي)صلى ال عليه وآله( والمام ـ أ ّ
ل تنطوي على علم الغيب والحاطة بأسرار الماضي لّمة على مدى العصور والدهور ول يمكن لهذه القيادة إ ّ اُ
ن هناك رابطة وثيقة بين حوادث اليوم والمس والغد ،ومن هنا كانوا يطلعون أصحابهم على والمستقبل; وذلك ل ّ
جانب مّما ينتظرهم في المستقبل أو يعلنوا ذلك للناس ليكونوا أكثر حزمًا ووعيًا في التعامل مع الحداث وينأوا
بأنفسهم بعيدًا عن حبال الشيطان وشراكه .وهذا ما نلمسه بوضوح كرارًا ومرارًا في سيرة المام علي)عليه
لّمة ولفت انتباهها إلى الخطار التي تتربص بها .ومن الطبيعي أن يتعظ البعض ويتمرد السلم(وكيف أّنه حذر ا ُ
البعض الخر.
—–
تأّملن
1ـ التأريخ يعيد نفسه
من المعروف أن الحداث التأريخية سلسلة من الوقائع المتكررة التي تتخذ أشكال مختلفة ،ومن هنا فان الفراد
الذين يتأملون بعمق الماضي التأريخي يتمكنون من التعامل بمعرفة أفضل مع الحوادث الراهنة والتية ،ومن هنا
رأينا القرآن الكريم مشحونًا بقصص
» .1الوشمة« في الصل بمعنى الخال الذي يوخز بالبرة ثم يطلي بمادة ملونة تحت الجلد ،كما أطلقت على الشياء الصغيرة كقطرة
ماء المطر أو الحديث القصير ،وقد وردت هنا بالمعنى الخير.
] [ 352
النبياء والقوام السالفة التي تعكس بجلء أحداث اليوم والمستقبل .المام)عليه السلم(ـ في هذا المقطع من
الخطبة ـ أشار إلى هذه النقطة المهّمة» :ان من صّرحت له العبر عّما بين يديه من المثلت ،حجزته التقوى عن
تقحم الشبهات« ثم قال)عليه السلم(» :ال وان بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث ال نبيه)صلى ال عليه وآله(«.
ذات الفئات المناهضة للحق ،والنحرافات والضلل والمؤامرات والفتن .فافيقوا وانطلقوا خلف إمامكم مخافة ان
تضلوا ـ ولو أمعنا النظر وقارنا حوادث عصر المام)عليه السلم( بعصر النبي)صلى ال عليه وآله(لوجدنا شبهًا
ن المنافقين ومن تبقى من عصر الجاهلية سعوا وبشتى الطرق للقضاء تدريجيًا على تعاليم لأّكبيرًا ،وليس هذا إ ّ
النبي)صلى ال عليه وآله(; ول سيما أّنهم سعوا لختراق مراكز القوة لممارسة دور أكبر فى تشويه الثقافة
السلمية واستبدالها بثقافة جاهلية; المر الذي لمسنا آثاره بوضوح في العصر الموي.
ن المصلحة تكمن في كتمان الحقائق عن الناس ،حذرًا من ابداء ردود الفعل الطائشة، كثير هم الذين يعتقدون بأ ّ
لّمة ـ باستثناء بعض الحالت الخاصة ـ سوى اطلع الناس على والحال ليست مصلحة الزعماء ومصالح عموم ا ُ
لّمة عن الحداث يمثل الحقائق وفسح المجال أمامهم لقتحام الميدان عن علم ومعرفة .فالتعتيم الخبري وتغييب ا ُ
السلوب الذي يعتمده الطغاة والجبابرة الذين ل يفكرون سوى في تحقيق أطماعهم ومآربهم ،على العكس من
لّمة من مشاكلها المادية والمعنوية ،فهم يسعون
الزعماء الربانيين وأئمة المسلمين الذين يكرسون جهودهم لنجاة ا ُ
لّمة ويرومون دعمها واسنادها .والطريف في المر أ ّ
ن باخلص لكشف الحقائق والواقعيات لّنهم يستنصرون ا ُ
لّمة ـ كما ورد في هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلغة ـ فحسب ،بل المام)عليه السلم( ل يكتم الوقائع عن ا ُ
يطلعها حتى على الحوادث المستقبلية التي سمعها من النبي الكرم)صلى ال عليه وآله( فيقول لهم ل أبخل عليكم
حتى بالخبار عن الكلمة الواحدة التي من شأنها أن تنبهكم إلى الخطار المحدقة بكم حرصًا على عدم الغترار
بوساوس الشيطان والوقوع في شباكه.
] [ 353
القسم الثاني
—–
ن حظ ن في هذا الكلم الدنى من مواقع الحسان ما ل تبلغه مواقع الستحسان ،وإ ّ قال السيد الشريف :وأقول :إ ّ
العجب منه أكثر من حظ العجب به .وفيه ـ مع الحال التي وصفنا ـ زوائد من الفصاحة ل يقوم بها لسان ،ول
ل من ضرب في هذه الصناعة بحق ،وجرى فيها على عرق »وما يعقلها يطلع فجها إنسان ،ول يعرف ما أقول إ ّ
ل العالمون«.إّ
الشرح والتفسير
يواصل المام)عليه السلم( البحث السابق بشأن الوضاع المتأزمة بعد بيعة المام)عليه السلم(والتي تمثل ثورة
تصحيحية في العالم السلمي ،حيث يتطرق إلى نقطة غاية في الهمية من خلل تشبيه رائع ،وهى ضرورة
السيطرة على الذنب منذ بدايته حيث إذا ترك له العنان وتمادي في مقارفة شبيهه ،جذبه إليه وسيطر على كيانه
وسلبه زمام المبادرة وأوقعه في واد سحيق فقد وصف)عليه السلم(الذنوب والمعاصي بالخيول الجامحة التي
يصعب السيطرة عليها »أل وإن الخطايا خيل شمس)(1
» .1شمس« من مادة »شموس« و»شماس« على وزن فتوح وكتاب بمعنى التغيير وعدم الستقرار ومن هنا اطلق اسم الشمس،
حيث تتحرك على الدوام ،وشمس التي وردت في العبارة جمع شموس بمعنى الفرس الجموح الذي يمنع ظهره من الركوب.
] [ 354
حمل عليها أهلها ،وخلعت نجمها ،فتقحمت بهم في النار« ياله من تشبيه رائع ،فركوب الفرس الجامح خطير،
وتشتد الخطورة إذا فقد لجامها الذي يلجم عنانها ،ثم تتضاعف هذه الخطورة أكثر من ذي قبل إذا كان هذا الجموح
في أرض تشتمل على بعض المطيات .وهذا هو التصوير الواقعي للذنب ،فارتكاب الذنب يقود النسان إلى ذنب
آخر وهكذا ،على سبيل المثال قد يرتكب النسان خيانة فيكتمها ،وإذا استجوب حال مال يحصى من الكاذيب
للتغطية على خيانته كما يقسم كاذبًا أو يلجأ إلى اتهام الخرين ،فاذا لم يجد ذلك نفعًا ربما ل يتورع عن سفك دم
من يعلم بخيانته ،بغية عدم افتضاح أمره وهكذا يصبح أرضية خصبة لمقارفة ما شاء من الذنوب; ول غرو فقد
أصبح كالخيل الشموس التي خلع لجامها فهى تقذف بصاحبها إلى الهاوية.
ثم ذهب)عليه السلم( إلى الصورة المعاكسة التي شبه فيها التقوى بالخيل الذلول فأوصلت راكبهاالموضع الذي
يريد »أل وإن التقوى مطايا ذلل) (1حمل عليها أهلها ،وأعطوا أزمتها ،فأوردتهم الجّنة« نعم فالعمال الصالحة
سلسلة متعاقبة الحلقات ،فالعمل الصالح يكون سببًا لخر وهكذا التيان بسائر العمال الصالحة .على سبيل المثال
إذا رّبى أحدهم ولده تربية صالحة فسيعده للتيان بالخيرات والبركات ،وسيكون له تأثيره البالغ في وسطه بما
يحث رفاقه وأصحابه على القيام بمثل هذه العمال ،وهكذا يسير المجتمع نحو السعادة والصلح والفلح .جدير
ن المام)عليه السلم( عبر عن الذنوب بالخيل الشمس وعن التقوى بالمطايا الذل ،فالخيل من مادة خيال، بالذكر أ ّ
فيطلق »المختال« على الفرد المغرور والمتكبر الذي يعيش الخيالت ،ومن هنا اصطلح على الفرس بالخيل لّنه
عادة ما يدعو راكبه إلى الغرور والفخر .على العكس من المطايا جمع مطية من مادة المطو على وزن العطف
بمعنى الجد والنجاة في السير; وبناًء عى هذا فان المطية دابة هنيئة سريعة تسير قدمًا نحو المام)عليه السلم(
بكل هدوء دون أن تجمح بصاحبها وتقحمه في المتاهات ـ ومن هنا تتضح ذروة فصاحته وبلغته في كلماته)عليه
السلم(
] [ 355
حتى تلك الكلمات القصيرة والعبارات الصغيرة .ثم يحذر المام)عليه السلم(من صعوبة المتحان اللهي في ظل
ل البحث السابق بشأن الذنب والتقوى فقال)عليه السلم(» :حق وباطل ،ولكل أهل«.
حكومته وطيلة حياتهم مواص ً
أجل فالحياة البشرية ومنذ بدء الخليقة كانت وما زالت مسرحًا للصراع بين هذين التجاهين ويختصر المام)عليه
ن الباطل إذا قدر له أن يحكم فل عجب في ذلك فهذا ما حصل السلم(كلمه بالشارة إلى مسألة حساسة وهى أ ّ
منذ قديم الزمان» :فلئن أمر الباطل لقديمًا فعل« .وإن قل الحق وأتباعه فل داعي للقلق ولعله يزداد فيهزم الكفر
ن قصة الصراع بين الحق والباطل وما تخلله من وسائل وأدوات في عقر داره »ولئن قل الحق فلربما ولعل« أ ّ
وما تمخض عنه من نتائج طيلة التأريخ النساني قصة ذات شجون وسنتطرق إلى هذه التفاصيل في البحاث
القادمة بما يتناسب وسائر الخطب الواردة بهذا المجال.
أّما القضية الجديرة بالذكر والتي حظت باهتمام المام)عليه السلم( هى ضرورة عدم الستيحاش من الحق لقلة
ن التأريخ يشهد على الدوام بكثرة أتباع الباطل وقلة أتباع الحق، سالكيه والستئناس بالباطل لكثرة سالكيه; ل ّ
وكثيرًا ما كانت تحسم المعارك والصراعات لصالح الحق; وهذا ما صّرح به القرآن الكريم على لسان طالوت:
ل() .(1وهو المعنى الذي أشارت إليه الية القرآنية الكريمة بالقولُ) :ق ْ
ل نا ّ ت ِفَئًة َكِثـيَرًة ِبِإذ ِ
غَلَب ْ
ن ِفَئة َقِلـيَلة َ
)َكْم ِم ْ
ث() .(2كما ورد هذا المعنى في الخطبة 1ـ 2من نهج خِبـي ِ
ك َكْثَرُة ال َ
جَب َ
عَ ب َوَلْو َأ ْ
طـّي ُ ث َوال ّ
خِبـي ُسَتِوي ال َ ل َي ْ
ن هذه
البلغة »أّيها الناس ل تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله« .اّما المسألة التي ينبغي اللتفات إليها هى أ ّ
ن الملكل على الحقية ول النصر ،بل يرى المنطق القرآني والروائي بل ومنطق الربانيين أ ّ الكثرة ليست دلي ً
إّنما يكمن في الكيفية ل الكمية ،ومن هنا فان زوال حكومات الباطل يستتبع زوال كافة آثارها فل يبقى لها سوى
الخزي والعار ،بينما تبقى آثار حكومات الحق باقية خالدة.
على كل حال فان الصراع بين الحق والباطل وكثرة جند الباطل إّنما هى في الواقع امتحان إلهي يهدف إلى
تمحيص طلب الحق.
] [ 356
والنقطة الثانية التي يؤكد عليها المام)عليه السلم( قوله» :ولقلما أدبر شيء فاقبل« .طبعًا يؤمن جميع المسلمين ـ
ن الحق سينتصر يومًا حين ظهور المهدي الموعود)عج( وسيدحر الباطل وإلى من سّنة وشيعة وسائرالفرق ـ أ ّ
البد وستسود العالم برمته حكومة العدل اللهي.
وعلى ضوء بعض الروايات فقد نقلت ذيل هذه الخطبة عبارة عن المام الصادق)عليه السلم( عن المام
علي)عليه السلم( اّنه قال» :وبنا فتح ل بكم ومنا نختم ل بكم« .وقد صّرح ابن أبي الحديد بعد ذكره لهذه العبارة
ل :إشارة إلى المهدي الذي يظهر في آخر الزمان ،وأكثر المحدثين على أّنه من ولد فاطمة)عليها السلم( قائ ً
وأصحابنا المعتزلة ل ينكرونه«).(1
نعم العبارة ترشد إلى عدم فقدان الفرصة والن وقد تمهدت جميع السبل من أجل بسط العدالة وإقامة حكومة الحق
في ربوع المجتمع السلمي فالحذار من وساوس شياطين النس والجن ومؤامرات ُاولئك الذين تبددت مصالحهم
اللمشروعة وخابت ظنونهم وآمالهم ،فاذا ضاعت هذه الفرصة فان عودتها ل تبدو سهلة ،وهذا مادلت عليه حياة
لّمة بوصاياه ومواعظه ففقدت زمام المبادرة وأضاعت الفرصة; فقد أوشك المام)عليه السلم( حيث لم تتعظ ا ُ
جيش الشام على النهيار المطلق وأصبح القضاء على طاغية بني أمية يكون قاب قوسين أو أدنى فعمد ابن
لّمة ،فأبقت على تلك الحكومة الجائرة لتخلف من بعدها بني مروان وبني
العاص لتلك الخدعة التي انطلقت على ا ُ
العباس والحجاج و...
—–
ن في هذا الكلم الدنى من مواقع الحسان ما ل الطريف في المر ما أورده السيد الرضي بشأن الخطبة إذ قال :إ ّ
ن حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به .وفيه ـ مع الحال التي وصفنا ـ زوائد من تبلغه مواقع الستحسان ،وإ ّ
ل من ضرب في هذه الصناعة بحق، الفصاحة ل يقوم بها لسان ،ول يطلع فجها إنسان ،ول يعرف ما أقول إ ّ
ل العالمون«.
وجرى فيها على عرق »وما يعقلها إ ّ
] [ 357
القسم الثالث
شماُلن َوال ّصٌر ِفي الّنار َهَوى .اْلَيِمي ُ طيٌء َرجاَ ،وُمَق ّ ب َب ِ
سِريٌع َنجاَ ،وطاِل ٌ جّنُة َوالّنار َأماَمُه! ساع َ ن اْل َشِغَل َم ِ»ُ
صيُر اْلعاِقَبةِ
سّنِةَ ،وِإَلْيها َم ِب َوآثاُر الّنُبّوِةَ ،وِمْنها َمْنَفُذ ال ّ عَلْيها باِقي اْلِكتا ِ ي اْلجاّدُةَ ، طى ِه َ سَق اْلُو ْ
طِري ُضّلٌةَ ،وال َّم َ
عَلى ف َقْدَرُه .ل َيْهِلك َ ل َأّل َيْعِر َجْه ً
كَ.كَفى ِباْلَمْرِء َ ق َهَل َحّ حَتُه ِلْل َ
صْف َ
ن َأْبَدى َ ن اْفَترىَ .م ْ ب َم ِعىَ ،وخا َ ن اّد َكَ .م َِهَل َ
ن َوراِئُكْمَ ،و ت َبْيِنُكْمَ ،والّتْوَبُة ِم ْ
حوا ذا َصِل ُسَتِتُروا ِفي ُبُيوِتُكْمَ ،وَأ ْ ع َقْومَ .فا ْعَلْيَها َزْر ُ
ظَمُأ َ صلَ ،ول َي ْ خ َأ ْسْن ُالّتْقَوى ِ
سُه«. حَمْد حاِمٌد ِإّل َرّبُهَ ،ول َيُلْم لِئٌم ِإّل َنْف َ ل َي ْ
—–
الشرح والتفسير
سبيل النجاة
لّمة من وبال الذنوب والمعاصي لما فرغ المام)عليه السلم( من التحدث عن صعوبة المتحان بعد بيعته وحذر ا ُ
مشيرًا إلى الحق والباطل ،عرج هنا بالشارة إلى سبيل النجاة من مخالب الهوى والهوس وبلوغ السعادة ونيل
الفلح ،ليكشف عن الحقائق الواردة بهذا المجال .فقد صنف الناس في مسيرتهم إلى السعادة والنجاة إلى ثلث
طوائف ،فمن شغل بالجّنة والنار »وآمن بهما اعتزل كل ما يصده عن ذلك« وانهمك بالتفكير بالعاقبة )على
ثلث( ،منهم من حث السير وبلغ الهدف سريعًا فهو ناجي .ومنهم من تباطأ في السير فهو مؤمل للنجاة أيضًا .أّما
الخير من قصر في السير فهوى في النار »شغل من الجّنة والنار أمامه! ساع سريع نجا ،وطالب بطيء رجا،
ومقصر في النار هوى«.
ن هذه الطوائف هى تلك التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة فاطر بقوله:
يرى البعض أ ّ
] [ 358
ل()
نا ّت ِبـِإذ ِ
خْيرا ِ
ق ِبال َ
صٌد َوِمْنُهْم ساِب ٌسِه َوِمْنُهْم ُمـْقَت ِ
عـباِدنا َفِمْنُهْم ظاِلٌم ِلَنْف ِ
ن ِطَفْينا ِم ْ
صَنا ْ ب اّلِذي َ
)ُثّم َأْوَرْثنا الِكتا َ
صحا ُ
ب .(1وقيل بل هم من أشارت لهم الية القرآنية الشريفة في سورة الواقعةَ) :وُكْنُتـْم َأْزواجـًا َثـلَثـًة * َفـَأ ْ
ن * ُأولـِئ َ
ك سـابُقو َن ال ّ
سـابُقو َشـَأَمِة * َوال ّ ب الَم ْ صـحا ُ شَأَمِة ما َأ ْ ب الَم ْ صـحا ُب الَمـْيَمَنِة َوَأ ْ
صـحا ُ الَمـْيَمَنِة * ما َأ ْ
ن() .(2على كل حال فان هذه الطوائف الثلث مطروحة على الدوام في المجتمع النساني وإذا ما اشتد الُمَقـّرُبو َ
المتحان )كالذي عليه الحال إبان خلفة المام علي)عليه السلم(( تمايزت هذه الطوائف عن بعضها البعض;
فهناك طائفة )وإن كانت غالبًا قليلة( تتبع الحق دون أدنى ترديد أو تراجع وهى تحث الخطى سريعة نحو الهدف.
ل وتؤخر ُاخرى فأحيانًا تحث الخطى وتسير بوثوق نحو وطائفة ُاخرى أضعف ايمانًا من سابقتها فهى تقدم رج ً
ل أّنها تؤمل بأن الهدف فتعمل الصالحات بينما تتأخر أحيانًا فتقارف الطالحات فتخلط العمل الصالح بالسيء إ ّ
يشملها لطف ال وفضله فيبلغ بها الهدف المطلوب.
وأخيرًا الطائفة الثالثة التي فارقت اليمان والتقوى وغلبت عليها الشقوة وهوى النفس فضاعوا وضّيعوا أنفسهم
ن اليمان بالمعاد فقط من شأنه أن يصون النسان من حتى وقعوا في الهاوية .فالعبارة المذكورة تبّين بوضوح أ ّ
الفساد والنحراف والذنب .وتتناسب هذه الصيانة والحصانة من الذنب طرديًا ودرجة اليمان .وقد ذهب البعض
ن من يرى الجّنة والنار أمامه
ن العبارة» :شغل من الجّنة والنار أمامه« جملة خيرية تفيد معنى النشاء; أي أ ّ إلى أ ّ
عليه أن يغض الطرف عن زخارف الدنيا وزبرجها! ولكن ليس هنالك من ضير في تفسير هذه الجملة بصورة
الخبار ـ على نحو الجملة الخيرية ـ أي أن مثل هؤلء المؤمنون سيغضون طرفهم عن زخارف الدنيا .ولما فرغ
لّمة إلى انتهاج السبيل القويم والبتعاد عن
المام)عليه السلم( من بيان خصائص الطوائف الثلث ،أخذ يدعو ا ُ
سبل النحراف مبينًا علمات كل منهما فقال» :اليمين والشمال مضلة) (3والطرق الوسطى هى الجادة«.
» .3مضلة« على وزن »مفعلة «،قال أرباب اللغة اّنها تعني كثرة وجود الشيء في المكان وعليه فمفهوم العبارة
ن النحراف إلى اليمين واليسار يدعو إلى ضلل عظيم. أّ
] [ 359
ن السبل المنحرفة التي تقود النسان إلى الضلل .ولعل المراد باليمين فالعبارة إشارة للمسألة المعروفة لدينا بأ ّ
والشمال هو الفراط والتفريط الذين ل يوصلن إلى الهدف الذي ل سبيل إليه سوى الصراط المستقيم الذي يمثل
سطًا() .(1وقد
جَعْلناُكْم ُأّمًة َو َ
ك َ
العتدال بين الفراط والتفريط ،ومن هنا صّرح القرآن الكريم بقولهَ) :وَكذ ِل َ
صّرح كبار علماء الخلق بأن كافة الصفات الفضلى إّنما هى العتدال بين الصفات الرذيلة التي تقع على طرفي
الفراط والتفريط.
ن المراد بالطريق الوسطى مسألة المامة وولية الئمة المعصومين التي سري نهج البلغة إلى أ ّ وذهب بعض مف ّ
يقود الفراط والتفريط فيها إلى الضلل .ول نرى من ضير في ان تختزن هذه العبارة كافة المعاني فتشمل قضية
الولية كما تشمل سائر المسائل العقائدية والعملية والخلقية.
أّما بشأن معرفة ال فقد وقعت طائفة في مصيدة التشبيه فتشبهت الخالق بمخلوقاته ،بينما ذهبت ُاخرى إلى تعطيل
معرفته على أن ذات الخالق وصفاته متعذرة على البشر حتى المعرفة الجمالية ،وهناك الحد الوسط بين التشبيه
والتعطيل والذي يعني معرفة ال عن طريق أفعاله دون كنه الذات .وبالنسبة لفعال العباد فليس الجبر صحيحًا ول
التفويض ،والطريق الوسط هو المر بين المرين ،وهكذا القول بشأن الولية ل الغلو صحيح ول التقصير ،وهذا
ل في النفاق الصحيح هو الحد الوسط بين البخل والسراف. ما يصدق على الخلقيات والعمال ،فمث ً
ن الفرق التي وقفت بوجه المام)عليه السلم( لم تخرج من تلك الحالتين ،ففرقة الخوارج سلكت والطريف أ ّ
الفراط ،بينما انتهج أهل الشام التفريط ،وقد ضلت الفئتان في معرفة المام)عليه السلم( .ثم خاض)عليه السلم(
في خصائص الجادة الوسطى المعتدلة »عليها باقي الكتاب وآثار النبوة ،ومنها منفذ السّنة ،وإليها مصير العاقبة«.
هناك تفسيران لقوله)عليه السلم(» :عليها باقي الكتاب« :أحدهما المراد القرآن الكريم; الكتاب الخالد والذي انفرد
بالمعارف والقوانين والحكام التي
] [ 360
يتعذر العثور عليها في ما سواه .والخر المراد بالكتاب الخالد المام المعصوم الحافظ لكتاب ال ،وهو عدل
القرآن كما صّرح بذلك حديث الثقلين المعروف ،ولكن يبدو المعنى الول أنسب ،ول سيما أن آثار النبوة التي
أعقبت العبارة يمكن تفسيرها بالثار الباقية لدى الئمة.
ن الكتاب على هذه الجادة ،ثم قال)عليه السلم( وعليها آثار النبوة ،ثم أضاف ومنها
فقد أشار)عليه السلم( إلى أ ّ
منفذ السنة ،وأخيرًا قال وإليها مصير العاقبة من خلل هذه الجادة ل غير; كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم
ن().(1
)َوالعاِقَبُة ِلْلُمـّتِقـي َ
ثم تطرق المام)عليه السلم( إلى مصير من يزعم المامة وولية الناس بالباطل ،حيث يصفهم في أربع عبارات:
ن من يطلب هذا المقام كذبًا
الولى هلك من يدعي المامة بغير حق فهو ضال مضل »هلك من ادعى« والثانية أ ّ
وافتراًء على رسول ال)صلى ال عليه وآله(لم يظفر بما طلب »وخاب) (2من افترى«.
والثالثة هلك من يقف بوجه الحق» :من أبدى صفحته) (3للحق هلك«.
ل ال يعرف قدره«. والخيرة يكفي النسان جهل أّنه ل يعرف قدره فيتمدد أكثر من حجمه »وكفى بالمرء جه ً
طبعًا هناك إحتمال قائم في أل تكون هذه العبارات الربع تعالج مسألة المامة التي تعرضت لها هذه الخطبة; بل
تشمل معنا أوسع وهو كل ادعاء باطل سواء في مجال المامة أو سائر المجالت.
فالواقع هى تحذير لهل الباطل من مغبة التمادي في غيهم بما ل يجلب عليهم سوى البؤس والشقاء والهلك.
» .2خاب« من مادة »خيبة« بمعنى الفشل والحرمان وعدم الظفر بالشيء.
» .3صفحة« بمعنى عرض الشيء وقد يراد بها الوجه ومنها المصافحة.
] [ 361
ن من أبدى صفحته
أّما قوله)عليه السلم(» :من أبدى صفحته للحق هلك« فقد فسره بعض شّراح نهج البلغة أ ّ
لنصرة الحق غلبه أهل الجهل ،لّنهم العامة ،وفيهم الكثرة ،فهلك.
ل أّنه ل يمكن أن يكون تفسيرًا للعبارة المذكورة وذلك لّنه ل ينسجم والعبارات فهذا الكلم وان كان واقعيًا إ ّ
السابقة بشأن أدعياء الباطل ،كما ل يتفق والعبارة اللحقة بشأن الفراد الجهال الذين ل يعرفون قدر أنفسهم.
وأخيرًا يختتم المام )عليه السلم( هذه العبارات يعرض بالنصح والموعظة التي من شأنها تخليصهم من مخالب
المنافقين وأدعياء الباطل ،فقد دعاهم في البداية إلى التحلي بالورع والتقوى التي تعّد الركن الركين لكل حركة
وعمل صالح ،فقال)عليه السلم(» :ل يهلك على التقوى سنخ) (1اصل ،ول يظمأ عليها زرع قوم« فالواقع هو أ ّ
ن
المام)عليه السلم( قد شبه ـ بهذه العبارة العميقة المعنى ـ التقوى بالرض الخصبة ذات المناخ المناسب التي ل
تجف فيها جذور الشجار ول يموت فيها الزرع من قلة الماء; أرض خصبة صالحة للزراعة ذات أنهار وآبار
ن كافة العمال كالبذور والحبوب التي ينبغي أن تنثر في أرض خصبة تمد الزرع بما يحتاج ،ففي الحقيقة أ ّ
وتسقى بالمياه; وليست هذه الرض والمياه سوى التقوى ،ثم قال في الموعظة الثانية» :فاستتروا في بيوتكم«
ن حكومته ستضيق الخناق على ُاولئك الذين عملوا إبان عهد عثمان فالمام)عليه السلم(وبنظرته الثاقبة يعلم بأ ّ
على سلب ونهب بيت مال المسلمين ونشروا الظلم في ربوع المجتمع السلمي ،وعليه فهم سوف لن يسكتوا
وسيسعون إلى تأليب الناس واستقطاب الجهال ،وهذا هو الوقت الذي يتطلب من النسان أن يلزم بيته ل حين
العمل والجهاد.
وعلى حد قول بعض شّراح نهج البلغة فان أفضل حركة في المجتمع الذي يضره العدل والحق هى السكون
والصمت والسكوت.
والموعظة الثالثة بشأن الخاء والوحدة بين صفوف أتباع الحق ونبذ كافة مظاهر الفرقة والشقاق بهدف ملحقة
الباطل والقضاء عليه ،فقد قال)عليه السلم(» :وأصلحوا ذات بينكم« .وأخيرًا
» .1سنخ« بمعنى الصل والجذر ،وكذلك محل غرس الشجر ،وهو المكان الذي َتثبت فيه جذور وأصل الشجرة .ويستعمل هذا اللفظ
أحيانا بمعنى الرسوخ في شيء ،وكل هذه المعاني مقاربة لبعضها ،وفي العبارة أعله تشير إلى جذور العلوم والمعارف والعمال
الصالحة والتي رسخت في أرضية التقوي والتي ليمكن أن ُتجّتث جذورها.
] [ 362
يعرض بالنصح لمن اتسخ قلبه بالذنوب على عهد الحكومة السابقة أن يغسلها بماء التوبة »والتوبة من وراءكم)
.«(1
تأّملن
1ـ الجاهل من جهل قدر نفسه
ن أغلب المشاكل الجتماعية إّنما تنبع من الطموحات الطائشة ،أو تجاوز النسان لحدوده الطبيعية والطمع
إّ
ن كل هذا إّنما تفرزه قضية مهّمة
بالمنصب الذي ل يستحقه أو ل يمتلك الجدارة اللزمة للنهوض به; ول شك أ ّ
ل لحب الذات والمبالغة في نقاط القوةتكمن في جهل النسان بقدره وعدم تقييمه له بصورة صحيحة ،وما ذلك إ ّ
ن اضرار هذا المر ل تقتصر على النسان لوحده فحسب ،بل وعدم اللتفات إلى نقاط الضعف .ول شك أ ّ
تنسحب على المجتمع بأسره ،ولربما استطاع الفرد أن يشغل منصبًا فيقوم بوظيفته على أحسن وجه بما يضمن له
السعادة وإلى المجتمع الرفاه والمن ،غير أّنه وإثر جهله بنفسه وطمعه بما ل يستحقه يبدد طاقاته عبثًا ويكبد نفسه
والمجتمع مال يحصى من الخسائر والضرار .وياليت الجميع كبيرهم وصغيرهم وعالمهم وجاهلهم أعادوا النظر
في هذا المر الحيوي واقصوا عن أنفسهم الحجب التي تحول دون معرفتهم لذواتهم ليجدوا من أجل تحقيق
أهدافهم وسعادة مجتمعاتهم .ومن هنا ورد التأكيد كرارًا في نهج البلغة على هذه المسألة ،ومن ذلك ما ورد في
ل ال يعرف قدره« .كما ورد في الرسالة 31من نهج الخطبة » 103العالم من عرف قدره وكفى بالمرء جه ً
حجب عن النظار
» .1وراء« من مادة »ورى« على وزن »وزن« وفي الصل بمعنى الستتار ،وأحيانا يطلق على الشيء الذي ُ
بواسطة حاجز فاصبح غير منظور باعتباره خلف الشيء أو وراءه.
] [ 363
البلغة التي يعظ فيها ولده الحسن)عليه السلم( أّنه قال» :ومن اقتصر على قدره كان ابقى له« وجاء في الكلمة
ن شخصًا قال للمام الكاظم)عليه 149من قصار الحكم »هلك امرء لم يعرف قدره« .كما ورد في الرواية أ ّ
السلم( مررت بالسوق فاذا هو يقول أنا من شيعة محمد وآل محمد)صلى ال عليه وآله( وهو يبيع الثياب بأكثر
من ثمنها .فقال المام)عليه السلم(» :ما جهل ول ضاع امرء عرف قدر نفسه«(1).
هناك إحتمال آخر بالمراد من معرفد قدر النفس في العبارة المذكورة وهو أل ينسى النسان طبيعة خلقته فيقتصر
لمور المادية التي بها على الجانب المادي المتعلق بالجسم دون الهتمام بالمسائل المعنوية فيبيع نفسه ببعض ا ُ
تفتقر إلى القيمة الحقيقية .فالنسان يتمتع بالروح التي تنتمي إلى عالم السمو والرفعة ،أّنه خليفة ال في الرض.
أّنه كائن ملكوتي ل موجود ترأبي وإن تقولب مّدة معينة في هذا القفص المادي من أجل نيل الكمال .وعليه فالعالم
من عرف نفسه ووقف على قدرها ومنزلتها ،ويلتفت إلى تكريم ال سبحانه له على من سواه ،والجاهل من جهل
قدر نفسه فقذف بها في مستنقع الهواء والشهوات .بالكن باللتفات إلى قوله »من اقتصر على قدره كان ابقى له«
وكذلك العبارة المعروفة لدى العلماء استنباطًا من الحاديث المشهورة »العالم من عرف قدره ولم يتجاوز حده«
ن النسب هو المعنى الول ،ويؤيده مضمون الخطبة الذي يتناول قصة طلحة والزبير وآمالهم الزائفة. يبدو أ ّ
ن بقاء العالم إّنما يستند إلى مسألة العتدال والتوازن في القوى .فالمنظوماتن أدنى نظرة إلى عالم الخلقة تفيد أ ّ
إّ
لخرى أو ابتعدت السماوية العظيمة إّنما حفظت بتوازن القوة الجاذبة مع القوة الدافعة ،فلو تقدمت أحداهما على ا ُ
لما بقي أثر لتلك المنظومات ،ولو اقتربتا وتصادمتا لّديا إلى انفجار هائل يقود إلى إنعدامها .والقانون المذكور
الذي يحكم ذلك العالم الكبير كما يصدق على العالم الصغير أي عالم النسان ،حيث تكون سلمة حياته ورمز
بقائها مرهونة بحالة التزان التي تسود مختلف قواه الروحية والجسدية ،من قبيل العناصر الداخلة في
] [ 364
تركيب الدم وتوازن حركات العصاب السمبثاوية والباراسمبثاوية وضربات القلب ووزن الجسم وضغط الدم
ن كافة أجهزته تمارس وظائفها بكل اعتدال
وتوازن أجهزة الجسم كالجهاز التنفسي والجهاز الهضمي وبالتالي فا ّ
واتزان بما يحفظ سلمة النسان ويكفل بقائه ،ولو انحرفت هذه الجهزة ذرة عن خط التزان وجنحت نحو
الفراط او التفريط لنعكس ذلك سلبًا على سلمة جسم النسان وروحه.
لمم .وهذه هى لّمة الوسط ،ومن هنا جعلها حجة على سائر ا ُ لّمة السلمية بصفتها ا ُالقرآن من جانبه أثنى على ا ُ
ن الجادة الوسطى هى الطريق وعليها باقي الكتاب وآثار النبوة ومنها المسألة التي أكدها المام)عليه السلم( في أ ّ
ن الفراط والتفريط قد أدى إلى ظهور النزعة منفذ السّنة .وإليها مصير العاقبة .أّما في المجال القتصادي فا ّ
الرأسمالية المقيتة التي بالغت في الملكية الشخصية بينما بالغت النزعة الشتراكية في الملكية العامة ليعيش
لخرى المعدمة الفقيرة.
المجتمع ذلك التمايز الطبقي الفاحش بوجود الطبقات المرفهة الثرية وا ُ
—–
] [ 365
الخطبة 17
القسم الول
سِبيِل،صِد ال ّ ن َق ْ
عْ سِه َفُهَو جاِئٌر َل إَِلى َنْف ِ
جٌل َوَكَلُه ا ّنَ :ر ُ جل ِ ل َر ُ ق ِإَلى ا ّ
خلِئ ِ
ن َأْبَغضَ اْل َ
»الصنف الول :إ ّ
ن اْقَتَدى ِبِه
ضّل ِلَم ِن َقْبَلُه ُم ِ
ن كا َ
ي َم ْ
ن َهْد ِعْ
ن ِبِه ،ضاّل َ ن اْفَتَت َ
ضلَلةَ ،فُهَو ِفْتَنٌة ِلَم ِعةَ ،وُدعاِء َ ف ِبَكلِم ِبْد َ
شُغو ٌَم ْ
طيَئِتِه«(1). خِ ن ِب َ
غْيِرِهَ ،رْه ٌ خطايا َحّمال َ حياِتِه َوَبْعَد َوفاِتِهَ ،
ِفي َ
—–
وردت الخطبة ـ كما يتضح من عنوانها ـ في صفات من يتصدى للقضاء وهو ليس له بأهل
.1نقل صاحب كتاب »مصادر نهج البلغة« هذه الخطبة عن طائفة من العلماء ممن عاشوا قبل السيد الرضي ومنهم:
1ـ الكليني في الكافي بطريقين 2ـ ابن قتيبة في كتاب غريب الحديث 3ـ أبو طالب المكي في قوت القلوب 4ـ الهروي في الجمع بين
الغريبين 5ـ القاضي النعمان في كتاب اصول المذهب.
كما نقلها عن طائفة ُاخرى من العلماء بعد السيد الرضي كالطوسي في المالي والطبرسي في الحتجاج والمفيد في الرشاد.
] [ 366
الصنف الول :من يشق طريق الضلل عن علم ويحكم هوى النفس ويبتدع في الدين فهو ضال لنفسه مضل
لغيره.
الصنف الثاني :الجاهل المتشبه بالعالم ويجهل بجهله فهو يعيش الجهل المركب; وليس له ذرة مما يؤهله للتصدي
للقضاء ،فهو فريسة للخطأ والزلل والشبهات ،يخرج الحق بالباطل ويريق دماء البرياء بغير حلها ويهدر الموال
لغير أصحابها .ويحتمل أن يكون المراد بالصنف الول حكام الظلم والجور والبدعة والضللة ،والصنف الثاني
القضاة الجهال .وعليه فكلمة الحكم الواردة في الخطبة ذات معنى عام واسع تشمل القضاء والحكومة.
ويختتم المام)عليه السلم( خطبته بالشكوى إلى ال من هؤلء الفراد الذين ولوا ظهورهم للقرآن وحسبوا
المعروف منكرًا والمنكر معروفًا .وبناًء على ما تقدم فالخطبة على ثلثة أقسام ،يختص الول والثاني منها
بوصف هذين الصنفين والثالث بالشكوى إلى ال منهم ومن كان على شاكلتهم.
—–
الشرح والتفسير
أبغض الخلئق
ن أبغض الخلئق إلى ال رجلن« ومن استهل المام)عليه السلم( كلمه بتصنيف أبغض الخلئق إلى صنفين »إ ّ
ن الحب والبغض من قبيل ن للحب والبغض بالنسبة ل مفهوم يختلف عّما هو عليه بالنسبة للنسان; ل ّ
البديهي أ ّ
الحالت والتغيرات التي تطرأ على روح النسان إثر رغبته واشمئزازه تجاه بعض الشياء; بينما يكتسب الحب
بالنسبة ل معنى الشمول بالرحمة والبغض معنى الطرد منها .ثم يخوض المام)عليه السلم(في صفات الصنف
الول; أي أصحاب الهواء من الحكام ،فيشير قبل أي شيء إلى أصل بؤسهم وشقائهم ،فقال)عليه السلم(:
»رجل وكله ال إلى نفسه« .فروح النسان حية بالتوكل على ال والوثوق بما عنده; أي أّنه يسعى سعيه ويبذل
] [ 367
ن الذات اللهية هى مصدر كل خير قصارى جهده من أجل النهوض بعمله وتطوير حياته ،مع ذلك لبّد أن يعلم بأ ّ
ل عن هذه الحقيقة فيرى نفسه ن الغرور والكبر وحب الذات قد يجعل النسان غاف ً لأّوبركة ونعمة وعطاء .إ ّ
ل في مقابل ال فتتشوه بنظره جميع الشياء .هذا النقطاع عن ال هو ايكال النسان إلى نفسه; وهو أساس مستق ً
بؤس النسان وشقائه .ومن هنا ترى رسول ال)صلى ال عليه وآله( ل ينفك عن التضرع إلى رّبه مناديًا:
»الّلهم ...لتكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا«) (1وهو ذات المعنى الذي صّرح به أميرالمؤمنين علي)عليه
السلم(» :إلهي كفى بي عزا أن أكون لك عبدًا ،وكفى بي فخرًا أن تكون لي رّبا«) (2كما ورد ذلك عن
المعصوم)عليه السلم(قوله» :إّنك ان وّكلتني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير«).(3
وما أن يفرغ المام)عليه السلم( من بيان السبب الرئيسي لشقوة هؤلء حتى يتطرق إلى افرازات ذلك الشقاء
ليوجزها في ثمانية ارتبطت مع بعضها برباط العلة والمعلول فقال)عليه السلم(» :فهو حائر عن قصد السبيل«
والمراد بقصد السبيل هو الحد الوسط الفاصل بين الفراط والتفريط والذي يوصل النسان إلى ال; المر الذي
ن النسان إّنما يستطيع تمييز السبيل ـ
ل() (4ومن البديهي أ ّ
سِبـي ِ
صُد ال ّ
ل َق ْ
أشار له القرآن الكريم بالقول )َوعلى ا ّ
الذي صورته الروايات بأّنه أرفع من الشعرة وأحد من السيف ـ من بين آلف السبل النحرافية إذا شملته اللطاف
والعنايات اللهية; اّما إذا انفصل عن ال ووكل إلى نفسه فانه سيعيش الحيرة والقلق التي تنتهي به إلى الضلل
والسقوط في الهاوية.
الفراز الثاني »مشغوف بكلم بدعة« ومن هنا ينطلق نحو الفراز الثالث »ودعاء ضللة« .شغف من مادة
شغاف على وزن كلف بمعنى المولع بالشيء حتى بلغ حبه شغاف قلبه ،وهو غلفه; وهو التعبير الذي أورده
القرآن الكريم بشأن حب زليخا لنبي ال يوسف)عليه السلم(على لسان طائفة من نساء مصر »قد شغفها حبًا«،
ن مثل هؤلء الفراد فالعبارة إشارة إلى أ ّ
] [ 368
ب الذات يتعلقون بشدة بأحاديثهم المبتدعة; التعلق الذي يؤدي إلى دعوة الخرين إلى الضلل
من ذوي ح ّ
والنحراف.
وفي الصفة الخامسة والسادسة »ضال عن هدى من كان قبله ،مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته« .المراد
بمن كان قبله النبياء وأوصيائهم بالحق; في إشارة إلى اتضاح سبيل الهداية مسبقًا بما ل يدع من مجال لسلوك
طريق الضلل; مع ذلك فقد ولى ظهره لسبيل الهداية والقى بنفسه في ظلمات الضلل .والنكى من ذلك أ ّ
ن
اضلل هؤلء الفراد للخرين ل يقتصر على حياتهم فهم مدعاة للضللة حتى بعد وفاتهم ،فهم شركاء في هذه
ن سّنة حسنة عمل بها من بعده كان له أجره ومثلالضللة ،حيث ورد في الحديث النبوي المشهور» :من س ّ
ن سّنة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزره ومثل أوزارهمُاجورهم من غير أن ينقص من ُاجورهم شيئًا ،ومن س ّ
من غير ان ينقص من اوزراهم شيئًا«).(2
ن شقائهم وبؤسهم لولئك الذين يحثون الخطى نحو البدع ويشيدون صروح الضللة ،في أ ّ فالعبارة تحذير حاد ُ
سوف لن يقتصر على حياتهم بل قد يتجاوز حتى مماتهم بآلف السنين وعليهم أن يدفعوا كفارة تلك البدع
ويستعدوا لتحمل تبعاتها .كما ورد عن المام علي)عليه السلم(تحذير شديد آخر في الخطبة 164حيث قال:
ن شر الناس عند ال إمام جائر ضل وضل به فأمات سنة مأخوذة واحيى بدعة متروكة« وأّما الوصفان »وإ ّ
الخيران المترتبان على الصفات السابقة فهما »حمال خطايا غيره ،رهن بخطيئته« فالعبارة ليست كلمًا تعبديًا;
ن أية معونة ومساعّدة في ارتكاب الذنب تعّد شركة فيه; ولما كان أتباع هؤلء بل هى منطقية تمامًا .وذلك ل ّ
المضلين يقارفون الذنوب بمحض إرادتهم فل ينقص من ذنبهم شيئًا ،وهذا ما أشار له القرآن الكريم صراحة في
حِمُلوا َأْوزاَرُهْم كاِمَلًة
الية 25من سورة النحل إذ قال )ِلَي ْ
.1سورة رعد .14 /
.2ميزان الحكمة ،566 / 4كما ورد مضمون هذا الحديث في عّدة روايات نقلتها أغلب الكتب.
] [ 369
ن( (1).والتعبير الخر الذي اعتمده القرآن عْلم َأل ساَء ما َيِزُرو َ
ضّلوَنُهْم ِبَغْيِر ِ
ن ُي ِ
ن َأْوزاِر اّلِذي َ
َيْوَم الِقـياَمِة َوِم ْ
ت َرِهـيَنٌة().(2
سَب ْ
ل َنْفس ِبما َك َ
بشأن ارتهان النسان بذنبه هو تعبير غاية في الروعة والدقة )ُك ّ
—–
تأّملن
1ـ ما البدعة ومن المبتدع؟
لقد ورد الذم في هذه الخطبة للبدعة والمبتدع الذي يسوق الناس إلى الضلل; كما تضافرت الروايات السلمية ـ
إلى جانب سائر خطب نهج البلغة ـ التي تذم البدعة وأصحابها ،ومن ذلك ما روي عن رسول ال)صلى ال عليه
وآله( اّنه قال» :كل بدعة ضللة وكل ضللة في النار«) .(3كما ورد عنه)صلى ال عليه وآله( أّنه قال» :أبى ال
لصاحب البدعة بالتوبة قيل يا رسول ال وكيف ذاك؟ قال :إّنه قد ُاشرب قلبه حينها«).(4
والبدعة في اللغة بمعنى التيان بشيء ل سابقة له ،اّما فقهاء السلم فقد عرفوها باضافة شيء إلى الدين أو
نقصانه دون قيام دليل معتبر على ذلك; ولما كانت المعارف والحكام اللهية واجبة الثبوت عن طريق الوحي
والدلة المعتبرة ،فان البدعة من الكبائر ،وهى أساس الفساد والنحراف ،ولو لم تمنع البدع لضاف الفراد
بعقولهم القاصرة إلى الدين ما شاءوا وانقصوا منه ما أرادوا ،فل يبقى من الدين شيئًا وتمحى آثاره; ول شك أ ّ
ن
قانون تحريم البدع
] [ 370
هو الذي صان القرآن والسلم وحفظه من تلعب الجهال وأصحاب الهواء .والذي ينبغي أن نخلص إليه مّما
ن البدعة ل تشمل الختراعات والبداعات العلمية والفنون الطبيعية سبق وعلى ضوء التعاريف الفهقية هو أ ّ
والطبية والصناعية ،كما ل تشمل التجديد في الثقافة والدب والسنن والعادات والتقاليد .فالبدعة ما أحلت حرامًا أو
ل وأضافت دين ال أو انقصت منه مّما ليس فيه دون قيام دليل معتبر على تلك الضافة أو النقصان، حرمت حل ً
أو التيان بدين جديد ودعوة الناس إليه دون الستناد إلى الوحي أو الدليل ،هذه هى البدعة ،وهى من الكبائر التي
توعد ال عليها بالعذاب .ومن هنا نقف على خواء الوهابية التي اعترضت حتى على ركوب الدراجة على أّنها
مركب الشيطان أو ما قام به بعض التباع ممن عمد إلى خطوط الهواتف فقطعها على أّنها بدعة فمما لشك فيه
ن مثل هذه العمال تعّد ممارسات حمقاء ليس لها أدنى صلة بمفهوم البدعة كما صورها الفقهاء ،ومما يؤسف له أّ
ن تأريخ هذه الحركة مليء بمثل هذه الممارسات الشائتة .ويماثلهم ُاولئك الذين سلكوا سبيل الفراط تجاه هذه أّ
الحركة ليقولوا بعدم وجود أية ثوابت في الدين; المر الذي يهدد كافة قيم الدين ومثله ويعرضها للزوال ،حيث
يمهدون السبيل أمام هذا وذلك للدس في الدين ما شاءوا .ونختتم بحثنا هذا بما قاله أمير المؤمنين)عليه السلم( ـ
في كلماته القصار ،الكلمة » :123طوبى لمن ذل في نفسه ...وعزل عن الناس شره ووسعته السنة ولم ينسب إلى
البدعة« .فقد ورد السنة في المام مقابل البدعة ،فمن أطاع ال واستن بسنة رسوله)صلى ال عليه وآله(فارق
البدعة ،أّما من عصى ال وفارق سنة نبّيه)صلى ال عليه وآله( فهو على البدعة ،وهو ضال لنفسه مضل لغيره.
تقتصر أغلب الذنوب على المسؤولية الفردية وإن كانت من قبيل الكبائر كالفعال المنافية للعفة وشرب الخمر
ن أخطر الذنوب هى تلك التي تدعو الخرين لمقارفتها بحيث يبوء صاحبها بوزر تلك وسائر المحرمات ،غير أ ّ
الذنوب من دون أن ينقص من أوزار ُاولئك شيئًا ،وهذا ما يصدق على أئمة الظلم والفساد من أهل البدع المرون
بالمنكر والناهون عن المعروف .وأحيانًا تطالهم تبعة الذنب بل وتطال نسلهم لقرون بعد مماتهم ،وعلى الثم أن
يدفع
] [ 371
عّما
ن َيْوَم الِقـياَمِة َ
سَأُل ّ
ل َمَع َأْثقاِلـِهْم َوَلُي ْ
ن َأْثقاَلُهْم َوَأْثقا ً
حِمُل ّ
وقد صور القرآن الكريم وضع هؤلء الثمة بقوله )َوَلَيـ ْ
ن من شروط ن() .(1وأعظم خطر تختزنه هذه الذنوب في الغالب عدم صدق التوبة عليها; وذلك ل ّ كاُنوا َيْفَتُرو َ
التوبة إزالة آثار الذنب; فأنى للنسان بإزالة آثار مثل هذه الذنوب التي قد تتخذ أبعادًا واسعة لتشمل منطقة
بأكملها ،أو موت الكثير من الفراد على هذه الذنوب التي ساقهم لرتكابها ،أو ظهور الجيل الجديد الذي يعمل
بهذه الذنوب بعد وفاته؟
بالتالي لبّد لهذا النسان من التأني في حركته ،حذرًامن مقارفة مثل هذه الذنوب التي ل سبيل للتخلص من تبعاتها
»حمال خطايا غيره ،رهن بخطيئته«.
—–
] [ 372
] [ 373
القسم الثاني
عْقِد اْلهُْدَنِة; َقْدعم ِبما ِفي َ ش اْلِفْتَنِة َ
غبا ِ جّهال اُْلّمِة ،عاد ِفي َأ ْ ضٌع ِفي ُ لُ ،مو ِ جْه ً ش َ جٌل َقَم َ »الصنف الثانيَ :وَر ُ
حّتى ِإذا اْرَتَوى ِمنْ ماء خْيٌر ِمّما َكُثَرَ ، جْمع; ما َقّل ِمنُْه َ ن َ سَتْكَثَر ِم ْ
س ِبِهَ ،بّكَر فا ْ شباُه الّناس عاِلمًا َوَلْي َ سّماه َأ ْ
َ
حَدى ت ِبِه ِإ ْن َنَزَل ْغْيِرِهَ ،فِإ ْعَلى َ س َ ص ما اْلَتَب َ خِلي ِ ضيًا ضاِمنًا ِلَت ْ ن الّناس قا ِ س َبْي َ
جَل َ غْيِر طاِئلَ ، ن َ جنَ ،واْكَتَثَر ِم ْ آِ
ت :ل َيْدِري ج اْلَعْنَكُبو ِسِ ت ِفي ِمْثِل َن ْ شُبها ِ س ال ّ
ن َلْب ِ طَع ِبِهَ ،فُهَو ِم ْ ن َرْأِيِهُ ،ثّم َق َ شوًا َرّثا ِم ْ ح ْ
ت َهّيَأ َلَها َ اْلُمْبَهَما ِ
جهالت، خّباط َ جاِهٌل َ بـ َ صا َن َقْد َأ َ
ن َيُكو َ جا َأ ْ
طَأ َر َخَ ن َأ ْ
طَأ َوِإ ْخَن َقْد َأ ْن َيُكو َ ف َأ ْب خا َ ن َأصا َ طَأَ :فِإ ْخَ ب َأْم َأ ْ
َأصا َ
صداِر ل ِبِإ ْي َوا ّ شيَم .ل َمِل ّ ح اْلَه ِت َذْرَو الّري ِ طعَ ،يْذُرو الّروايا ِ ضْرس قا ِ عَلى اْلِعْلِم ِب ِ شواتَ ،لْم َيَعضّ َ عَ عاش َرّكاب َ
ن َوراِء ما َبَلَغ َمْذَهبًا ن ِم ْيء ِمّما َأْنَكَرُهَ ،ول َيَرى َأ ّ ش ْب اْلِعْلَم ِفي َ س ُ ح َظ ِبِه ،ل َي ْ عَلْيِه َول َأْهٌل ِلما ُقّر َ ما َوَرَد َ
ج ِمْنهُجْوِر َقضاِئِه الّدماُءَ ،وَتَع ّ ن َ خ ِم ْ صُر ُ
سِهَ ،ت ْ جْهِل َنْف ِ ن َعَلْيِه َأْمٌر اْكَتَتَم ِبِه ِلما َيْعَلُم ِم ْظَلَم َ ن َأ ْ
ِلَغْيِرِهَ ،وِإ ْ
ث«. اْلَمواِري ُ
—–
الشرح والتفسير
بعد أن فرغ المام)عليه السلم( من بيان الصنف الول بشكل جامع ،تطرق إلى صفات الصنف الثاني ليتحدث
عن ذلك الشخص الذي يغط في هالة من الجهل والتخبط في حين يرى نفسه عالمًا دون الستناد إلى ركن وثيق
ل« فاستنادًا إلى
من علم أو عالم .فيبين بادئ ذي بدء خمس صفات لمثل هؤلء الفراد .الولى »ورجل قمش جه ً
ما أورده أرباب اللغة بشأن مفردة
] [ 374
القمش التي تعني جمع الشياء المتناثرة دون تناسب وكذلك بمعنى الشياء التي ل قيمة لها ،فان الذي يفهم من
ن هؤلء الجهال المتشبهون بالعلماء إّنما يتجهون صوب خواء من العلم الذي يفتقر إلى كلم المام)عليه السلم(أ ّ
لمة الخوئي في شرحه لهذا الكلم على أّنهم يحصلون القيمة كما يفتقر إلى النسبة المنطقية .وقد علق المرحوم الع ّ
على المعلومات من فم هذا وذاك ومن الروايات الضعيفة غير المعتبرة وعن طريق القياس والستحسان
والمصادر من هذا القبيل )ذات الحجم الكبير والقيمة القليلة أو المعدومة(.
لّمة ليجمع له بعض النصار» :موضع) (1في الصفة الثانية أّنه يهرع بسرعة في أوساط الجهال من عوام ا ُ
جهال المة« ومن الطبيعي أل يهب لنصرة هؤلء ويتمحور حولهم سوى تلك الطائفة من الجهال ،وليس لهؤلء
من مكان بين العقال .فهدفهم هو لفت انتباه الجهال إليهم والنفوذ في أوساطهم لّنهم يعيشون اليأس من اقتحام دنيا
العقلء.
ن بعض أرباب اللغة) (3قد عنى غبش من مادة أغباش الصفة الثالثة »عاد) (2في أغباش الفتنة« باللتفات إلى أ ّ
ن مثل هؤلء الفراد بشّدة الظلمة أو ظلمة آخر الليل التي تعتبر أفضل فترة للسارقين واللصوص ،يتضح أ ّ
يفكرون دائمًا في الصطياد من ماء الفتن .فهم يهربون دائمًا من النور والضياء ويلوذون بالظلمة وعتمة الليل
كفرصة مناسبة من أجل خداع الجهال; ول غرو فلو تبددت ظلمة الفتنة وبزغت شمس العلم والمعرفة لنكشف
النقاب عن صورتهم الحقيقية ولفتضحوا أمام القاصي والداني.
وأشار)عليه السلم( إلى الصفة الرابعة من صفات تعاسة هؤلء الفراد »عم بما في عقد الهدنة«) .(4ومن
ن الكلم وبشهادة العبارات اللحقة
الواضح أّنه ليس المراد بالهدنة هنا الصلح بين المسلمين وغير المسلمين ،ل ّ
وارد بشأن القاضي بين الناس .وبناًء على هذا فالمراد بالهدنة الصلح بين الناس وحل المنازعات بالطرق السلمية;
ن الهدنة هنا تقابل
وبعبارة ُاخرى فا ّ
» .1موضع« من مادة »ايضاع« بمعنى السرعة في الحركة )وهو يعطي معنى اللزم ل المتعدي رغم أّنه من باب الفعال( وهو هنا
إشارة لحركة الجهال المتشبهين بالعلماء السريعة بين الجهال.
» .2عاد« من مادة »العدو« بمعنى الركض.
] [ 375
ن قوة الجاذبية التي تربط وقال)عليه السلم( في صفتهم الخامسة »قد سماه اشباه الناس عالمًا وليس به« يبدو أ ّ
ن هذه القوة تحكم هذه الفئات ذرات هذا العالم في الرض والسماء بحيث يميل كل موجود وينجذب إلى شبهه ،فا ّ
والفراد أيضًا .وما أروع تعبيره)عليه السلم( عن أتباع من تشبه بالعلماء بأشباه الناس ،في إشارة واضحة إلى
ن شباهة هؤلء بالناس كشباهة أئمتهم الجهال بالعلماء إّنما ن أشباه الناس هم خدمة أشباه العلماء .ومن البديهي أ ّ
أّ
هى شباهة صورية ليس أكثر ،وغالبًا ما يستعمل هذا التعبير بشأن الموارد ذات الشبه الصوري كقوله)عليه
السلم(في الخطبة 27من نهج البلغة »يا أشباه الرجال ول رجال«.
وما أن فرغ المام)عليه السلم( من بيان صفاتهم حتى تطرق إلى جانب من أفعالهم القبيحة النابعة بصورة
مباشرة من تلك الصفات ونقاط الضعف التي تحكم كيانهم ،فقال)عليه السلم(» :بكر) (1فاستكثر من جمع; ما قل
منه خير مّما كثر«) .(2يمكن ان تكون هذه العبارة إشارة إلى المكانات المادية والدنيوية التي تؤدي كثرتها إلى
الغفلة والتكبر والنهماك الدائم بالماديات والبتعاد عن المعنويات; وغلبًا مايكون قليلها أفضل من كثيرها وأ ّ
ن
الكفاف والعفاف أقرب إلى السعادة والفلح من التكاثر والتفاخر .أو إشارة إلى فضول الكلم والمسائل العلمية
ن المراد بها الراء الباطلة والعقائد
لصول والمبادئ وذهب البعض إلى أ ّ التي ل طائل من وراءها على حساب ا ُ
ن القليل من هذه الراء والعقائد فيه الضرر
الفاسدة ،ولكن يبدو هذا الحتمال مستبعدًا; ل ّ
ن الجهال
» .1بكر« من مادة»« بكرة على وزن لقمة بمعنى أول النهار ثم أطلقت على كل بداية وانطلقة ،وهى هنا إشارة إلى أ ّ
المتشبهين بالعلماء إّنما يلهثون خلف العمال العابثة من أول النهار حتى الليل.
.2يمكن أن تكون الجملة )ما قل منه خير مّما كثر( صفة لجمع مفهومه :يجمع شيئًا قليله خير من كثيره ،كما قيل يمكن أن تكون
مضافة ،وفي هذه الحالة تتطلب تقديرًا; أي من جمع شيء ما قل منه خير مّما كثر ،ولكن ليس هنالك من فارق في المعنى.
] [ 376
أيضًا ،وإن كان هذا التفسير ل ينسجم وبعض العبارات القادمة .ثم قال)عليه السلم(» :حتى إذا ارتوى من ماء
آجن) (1واكتثر من غير طائل) ،(2جلس بين الناس قاضيًا ضامنًا لتخليص ما التبس على غيره«.
ن هذا الفرد الجاهل والضال المتشبه بالعالم الذي يتمتع برصيد علمي مشوه مفعم بالخطاء وله روح ونفس أجل أ ّ
ولعة بعالم المادة شغفة بزخارف الدنيا وزبرجها ،إّنما وضع نفسه في موضع ل يتصدره سوى نبي أو وصي ،كما
ل» :يا شريح قد
ورد ذلك في الحديث المعروف عن المام علي)عليه السلم(حين خاطب شريح القاضي قائ ً
ن هنالك حقائق ،ول غرو ل نبي أو وصي نبي أو شقي«) ،(3والدهى من ذلك يزعم أ ّ جلست مجلسًا ل يجلسه إ ّ
فهذه هى المزاعم والدعاءات الفارغة التي يتشدق بها كافة الجهال المتشبهين بالعلماء.
والن بعد أن تصدى هذا الجاهل للقضاء فما عساه أن يفعل ،قال المام)عليه السلم(بهذا الشأن» :فان نزلت به
احدى المبهمات هيا لها حشوا رثامن رأيه ،ثم قطع به«.
الحشو بمعنى الكلم الزائد الذي ل فائدة فيه ،والرث بمعنى الخلق القديم ضد الجديد ،فقوله)عليه السلم(» :حشوا
رثامن رأيه« كأّنها إشارة إلى أّنه ليس من أهل الخلقية والمبادرة ،كما ليس له ذهنية متفتحة ،وأخيرًا ليمكنه أن
يجمع الدلة المقيدة التي تعينه على اصدار الحكم .فليس له رصيد سوى حفنة من الفكار الزائدة التي ل طائل من
وراءها وهى رثة قديمة أكل الدهر عليها وشرب ،وهذا هو اسلوبه وديدنه ويقينه في الحكم.
ومن الطبيعي أن ل تؤدي هذه المقدمات الباطلة والفاسدة إلى أي يقين ،فهو يخدع الناس متظاهرًا لهم باليقين،
وعلى فرض كونه وصل إلى اليقين فانه ليس معذورًا عند ال لّنه سلك الخطأ والتقصير في المقدمات .فالمشاكل
القضائية كسائر المشاكل العلمية والجتماعية والسياسية إّنما تعالج دائمًا عن طريق دراسة المقدمات الصحيحة
والمنطقية; فذلك الذي ليست لديه أدنى معرفة بهذه المقدمات الصحيحة وقد تعلقت أفكاره بالمسائل الباطلة فاّنه
ليس
» .2طائل« من مادة »طول« على وزن قول بمعنى الفائدة والمتداد ،ومن غير طائل تعني دون فائدة.
.3الوسائل الشيعه ) 37 / 17واضح أن وصي النبي هنا تنطوي على مفهوم واسع يشمل العلماء العدول من أتباع النبي(.
] [ 377
فقط ل يتوصل إلى النتيجة الصائبة فحسب ،بل سيغط في هالة من الحيرة والتخبط والضلل كما سيسوق الخرين
إلى الضلل; والنكى من ذلك أّنه كلما تقدم أكثر في هذا المجال ابتعد اكثر عن الوقائع والحقائق.
ثم يواصل المام)عليه السلم( كلمه »فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت) .«(1وقد اختلفت أقوال
الشّراح بشأن التشبيه الذي استعمله المام)عليه السلم(في هذه العبارة ،فاوردوا بعض التفاسير التي ل تخلو من
ن المام)عليه السلم( شبه هؤلء الفراد التكلف والتقدير والتغيير في العبارة ـ أّما التفسير الذي يبدو مناسبًا هو أ ّ
الجهال المغرورين ضعيفي الفكر بالعنكبوت حيث ينسج لنفسه خيوطًا تكون حرزًا لبيته كما تكون فخًا لصيده ،اّما
ن فخه ل يطيل سوى الحشرات الضعيفة العاجزة. بيته فهو أوهن البيوت ول يمكن الوثوق به أبدًا ،كما أ ّ
نعم هذا الجاهل أيضًا ليس لفخه من دور سوى صيد أمثاله من الجهال الحمقى .وعليه فهو كالعنكبوت وأفكاره
كخيوطه وهمية ضعيفة وحيدة يقتصر على المغفلين عديمي العلم والمعرفة» .ل يدري أصاب أم أخطأ ،فان
أصاب خاف أن يكون قد أخطأ ،وان أخطأ رجا أن يكون قد أصاب« .هذا هو حال الفراد الجهال الذين يتصدون
ن اتجهة صوب إلى المناصب الهاّمة التي ل يمتلكون الجدارة لممارستها .فهم على شك وترديد دائمًا ،حتى أ ّ
الصواب فحيث ل يؤمن بذلك فهو متزلزل يطلق سهمه في الظلم دائمًا عله يصيب الهدف .ويتصور بعض
ن تلك العبارة تحدثت عن القطع واليقين ن الجملة الخيرة تتناقض والعبارة »ثم قطع به« ل ّشّراح نهج البلغة أ ّ
ن العبارة »ثم قطع به« تعني الحكم القاطع ل قطع القاضي بينما تتحدث هذه العبارة عن الشك والترديد .والحال أ ّ
ويقينه ،فالواقع أّنه يحكم فقط ويتخذ لنفسه صيغة القطع ،بينما يفيض باطنه بعاصفة من الشك والترديد .نعم
مصيبته الكبرى في دينه ،فان أصاب الواقع مصادفة شعر بالتزلزل لّنه ل يملك اليمان واليقين ،وان هذا
التزلزل يؤرقه ول يجعله قادرًا على اتخاذ القرار; وان أخطأ فان سبيل الرجوع مغلق بوجهه لّنه ليس واقفًا على
خطأه .ثم انتقل المام)عليه السلم( إلى صفة ُاخرى ليصور حال هؤلء الفراد بتعبيرات قارعة
» .1العنكبوت« هى الحشرة المعروفة ،وهناك اختلف في أصلها من مادة عكب أن عنكب ،وقيل اقتبست من مادة »عكوب« بمعنى
ن خيوطه تشبه الغبار.
الغبار ل ّ
] [ 378
وتشبيهات غاية في البلغة والجمال فقال)عليه السلم(» :جاهل خباط) (1جهالت« ،فهو كالعمى في الظلمات
المليئة بالمخاطر »عاش ركاب عشوات«) (2فالمام)عليه السلم( ل يكتفي بوصفه بالجاهل ،بل يؤكد ذلك ليصفه
بأّنه يغط دائمًا في هالة من الجهل ،كما ل يكتفي المام)عليه السلم(بعشوته وعماه بل يصوره بانه يمتطي الظلمة
والعتمة ويحث السير دون أن يعلم أين يسير وإلى أين سينتهي به هذا المسير .المفردة عاش من مادة عشا ،فسرت
ن المراد هو أن
بالعمى المطلق ،كما فسرت يضعف الرؤية وقيل أيضا يراد به عشوة الليل ،ومهما كانت فا ّ
صاحبها ل يستطيع رؤية ما حوله من الشياء ،فاذا ما تحرك سقط في الهاوية ،بل قادته حركته إلى الجحيم ،وهذا
هو حال من يتصدى للقضاء بين الناس دون الستناد إلى العلم والمعرفة ويزج بنفسه في هذا الطريق الشائك
المليء بالمخاطر ،فكلما مر عليه يوم من حياته كثر بؤسه وشقائه لنفسه وللناس حتى ينتهي به المطاف إلى
ن مثل هذا الفرد يرى نفسه عالمًا ضالعًا بموازين القضاء
السقوط في وادي الكفر والضلل ،والنكى من كل ذلك أ ّ
والحق والعدل فل يسع أحد احصاء خطاياه وذنوبه!
ثم ينتقل المام)عليه السلم( لبيان صفة ُاخرى من صفات هذا الجاهل المتخبط »لم يعض على العلم بضرس
قاطع« ،فقد شبهه المام)عليه السلم( بمن يتناول الطعام دون المضغ بحيث ل يسع الجسم هضمه .ذهب بعض
شّراح نهج البلغة إلى أن المراد بالضرس هنا سن العقل الذي يظهر في مرحلة تكامل العقل ،وكأن هؤلء
الجهال ليس لهم سن عقل ،فهم ل يقيمون القضايا بشكل سليم ،وبالمقابل هنالك الفراد العلماء الحلماء الذين
ن حديثهم يستند إلى أسس العقل والمنطق السليم.يتحدثون بالضرس القاطع; أي أ ّ
وقال)عليه السلم( في صفتهم الثالثة أّنهم كالريح العاصف التي تهلك الحرث والزرع فهى تهب هوجاء دون
هدف وهذا حال تعامل الجاهل مع الروايات السلمية »يذرو) (3الروايات ذرو الريح الهشيم) .«(4إشارة إلى
أّنه يطالع ظاهريًا الموضوعات التي تصدت لبيانها الروايات
» .1خباط« من مادة »خبط« ،صيغة مبالغة من خبط الليل إذ سار فيه على غير هدى ،ومن هنا يطلق خابط أو ضابط على الفرد
المجنون او الذي ل يستطيع توازنه.
» .3يذرو« من مادة »ذرو« على وزن ضرب بمعنى ينثر )وقد وردت هذه المفرة بهيئة ناقص واوي وناقص يائي(.
] [ 379
والسّنة النبوية ،ولكن ما جدوى ذلك وهو يفتقر إلى تقييمها الصحيح ،فهو ل يمتلك العلم بمضمونها ول بقوة سندها
من ضعفه ،كما ل يعرف الجمع بين الروايات المتعارضة ول يميز المحكمة من المتشابهة .فهو بالضبط كالريح
الهشيم التي تذرو النباتات هنا وهناك .فالنباتات الجافة )الهشيم( قد ل تكون لها أية فائدة ،بينما قد تفيد إذا جمعت،
أّما الريح الهوجاء تزيل حتى هذه الفائدة الضئيلة من خلل ذروها وتفريقها ،وهذا ما عليه الحال بالنسبة للفراد
الجهال الذين يتعاملون مع الروايات دوتن أن تكون لهم معرفة صحيحة بغشها من سمينها وصحيحها من سقيمها.
ن الفصل في الخصومات القضائية والذي يصطلح عليه الفقهاء برد الفروع إلى الصول إّنما مّما ل شك فيه أ ّ
يتطلب رصيدًا علميًا ثرًا ل يتحلى به هؤلء الجهال المغرورون ،وهذه الضحالة العلمية تفحمهم وتجعلهم يضلون
سبل التعامل مع القضايا فل يميزوا كيفية الدخول فيها أو الخروج منها )المراد بالدخول والخروج هنا ما تعارف
بشأن الموضوعات المطروحة على العلماء فيقال أن فلنًا يعلم كيف يرد هذه المسائل وكيف يخرج منها ،والفرد
الجاهل يفتقر بالمرة لهذه المسألة(.
أّما إحدى مشاكل هؤلء الفراد هى إطاحتهم بثلة من المتملقين الذين يهدفون إلى تحقيق مطامعهم الدنيوية
فيطرونهم بمختلف ألوان المدح والثناء ويضفون عليهم ما ل يستحقونه من الصفات ،فيطرب هؤلء الجهال لمثل
ل أّنهم وبمرور الزمان يظنون أّنهم كذلك وهذه قمة
هذه الكاذيب والنعوت الفارغة رغم علمهم بكذبها وزيفها إ ّ
البؤس والشقاء التي يبلغونها بحيث تغلق أمامهم كافة سبل النجاة(3).
] [ 380
ن من وراء ما بلغ مذهبًا وقال)عليه السلم( في صفتهم الخامسة »ل يحسب العلم في شيء مّما أنكره ،ول يرى أ ّ
ن هذا من لوازم الضحالة الفكرية وضيق العلم والمعرفة حيث يرى النسان نفسه هو العلم لغيره« .والواقع أ ّ
الكامل فينكر كل ما ورائه فل يرى من حرمة لفكار الخرين وعلومهم ،بينما ل يرى العالم الحق في العلم
عـباِد* اّلِذي َ
ن شْر ِ
والمعرفة سوى العتراف بالجهل ،فيسوقه ذلك إلى التواضع للخرين والستماع إلى أقوالهم )َفَب ّ
سَنُه() (1فهم يستمعون إلى الخرين ويصطفون أحسن مايرد في كلمهم ،في حين حَ
ن َأ ْ
ل َفَيّتِبُعو َ
ن الَقْو َ
سَتِمُعو َ
َي ْ
يطالعك الجاهل المغرور الذي يتحدث على سبيل القطع وهو ليس على شيء.
وصفته السادسة التي ذكرها المام)عليه السلم(» :وان أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه« هذا هو
الفارق والحد الفاصل بين العالم والجاهل ،فالعالم إذا عرض له أمر مبهم كرس له اهتمامه فان صعب عليه حله
وإزالة ابهامه استشار من حوله واستفاد من أفكارهم وانفتح على تجاربهم ،بينما يهمله الجاهل ويمر عليه مرورًا
ن يعلم بأن التعامل معه والتفكير فيه ل تزيده سوى فضيحة .وزبدة الكلم فهو يعمل على الخلف مّما عابرًا ،ل ّ
ورد في الروايات السلمية بعدم الحياء من قول ل أدري إذا عرض عليه ما ل يعلمه ول ينبغي أن يستنكف عن
تعلمه »وليستحين أحد منكم إذا سئل عّما ل يعلم أن يقول :ل أعلم ،ول يستحين أحد إذا لم يعلم الشيء أن
ن عدم اللتزام بمضمون هذه الرواية إّنما يقود إلى اضرار فادحة تطيل الشخص يتعلمه«) .(2والواقع هو أ ّ
والمجتمع الذي يعيش كواحد من أفراده.
ثم أشار المام)عليه السلم( إلى حصيلة عمل هؤلء القضاة الجهال عديمي الورع والتقوى بقوله» :تصرخ من
جور قضائه الدما ،وتعج) (3منه المواريث« .أجل فما أكثر الدماء التي تسفك والموال التي تهدر وهى تضج
بصراخها من الحكام المجحفة التي يصدرها هؤلء القضاة الجهال ،فيطرق هذا الصراخ ضمير السامع فيهز
أعماقه ،بينما يعيش هذا الجاهل نشوة الغرور
» .3تعج« من مادة »عج« و»عجيج« بمعنى ارتفاع الصوت وهنا بمعنى الصراخ.
] [ 381
فل يسمع ول يرى ما حوله .اّما تعبيره)عليه السلم( بـ »تصرخ« و»تعج« فهو تعبير في منتهى الروعة
والجمال ،حيث عبر عن الدماء التي تراق من غير حلها بالصراخ وكأن لهذه الدماء علم وشعور وإدراك ،في
ن ما ذكره بعض حين ليس لهذا الجاهل المغرور مثل هذه المعاني فهو يعيش في جهل مطلق .ومن هنا نعتقد بأ ّ
ن في الجملة تقدير ينسبون من خلله هذه الصراخ إلى أولياء الدم وأصحاب الموال إّنما يقضي علىالشّراح من أ ّ
هذه اللطافة والروعة في التعبير .على كل حال فان رسالة القضاء والقضاة التي تهدف إلى حفظ دماء الناس
وأموالهم إّنما تضيع في ظل تصدي هؤلء الجهال لمسند القضاء; المر الذي يقود بالتالي إلى تغييب أمن المجتمع
وسيادة الفوضى.
والكلم شبيه ما ورد عن المام الصادق)عليه السلم( في رواية »أبو ولد« حين سمع)عليه السلم(اصدار بعض
الحكام القضائية الظالمة فقال» :في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتمنع الرض بركاتها«).(1
تأّملت
1ـ آفات علماء السوء
لقد أشار المام)عليه السلم( في الخطبة إلى الفات الخطيرة للجهال المتشبهين بالعلماء وعلماء السوء الذين
يشقون أنفسهم وقومهم .وقد تتسبب بعض هذه الخطار والفات في سفك دماء البرياء وهضم حقوق المظلومين
المستضعفين ،فتصرخ تلك الدماء من الحكام الظالمة كما فأن الموال المهدروة من القضاء الجائر .فقد جاء عن
رسول ال)صلى ال عليه وآله(» :من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مّما يصلح«) (2كما قال)صلى ال
عليه وآله(» :من أفتى الناس بغير علم وهو ل يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك«)
.(3
والعجيب أن هؤلء الفراد كلما عملوا أكثر كان ضررهم أعظم ،وهذا ما أشار إليه المام
] [ 382
ل بعدًا«).(1
الصادق)عليه السلم(» :العالم على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق ل يزيده سرعة السير إ ّ
لقد شبه)عليه السلم( علم هؤلء الجهال المتلبسين بزي العلماء بخيوط العنكبوت; وهو التشبيه الذي اقتبس في
خـُذوا ِمنْ
ن اتّـ َ
ل اّلِذي َ
الواقع من القرآن الكريم ـ سورة العنكبوت ـ الذي شبه أولياء المشركين ببيت العنكبوت )َمَث ُ
ن( .والعنكبوت ت َلْو كاُنوا َيْعَلُمو َ
ت الَعْنَكُبو ِ
ت َلَبْي ُ
ن الُبُيو ِ
ن َأْوَه َ
ت َبْيتًا َو ِإ ّ
خـَذ ْ
ت اّت َ
ل الَعْنَكُبو ِ
ل َأْوِلـياَء َكَمَث ِ
نا ّ
ُدو ِ
ينطوي على بعض خصائص العجائب في الخلقة .فالعنكبوت تنسج خيوطها من قطرة لزجة غاية في الصغر في
بطنها تلصقها في الخارج بمساعّدة مخلبها; حيث لهذا المائع تركيب خاص يتصلب وينجمد بمجرد ملمسته
للهواء ،ويعتقد بعض العلماء أن للعنكبوت القدرة على نسج ما يعادل خمسمئة متر من هذه الخيوط بالستفادة من
ن أوهن ن القرآن أشار إلى أ ّ لأّ تلك المادة اللزجة الصغيرة .وهذه الخيوط هى التي تشكل بيت العنكبوت وفخه ،إ ّ
ن قطرة الماء تخترقه ،وأدنى شعلة البيوت هو بيت العنكبوت ،فأية ريح مهما كانت خفيفة تحطم هذا البيت ،كما أ ّ
لخرى تقضي عليه ،وهذه هى الصورة الحقيقية نار تخربه ،بل ليس له قابيلة استقطاب التراب والغبار فهى ا ُ
لولياء الشرك وعلم الجهال .فالعلماء الذين يستندون في علمهم إلى القياس والستحسان وما إلى ذلك إّنما علمهم
كبيت العنكبوت أجوف هزيل ل يصمد أمام شيء وليس من شأنه فعل شيء.
ن فرائسهم كفرائس العنكبوت حيث ينحصر فيكما يفهم من هذا التشبيه بشأن هؤلء الجهال المتشبهين بالعلماء أ ّ
الفراد الضحلين الذين ل قيمة لهم كفرائس العنكبوت من الحشرات التافهة.
لقد تطرق المام)عليه السلم( في الخطبة إلى عدم استحقاق هؤلء إلى المدح والثناء الذي يكيله لهم
المتملقون من أشباه الرجال; وهو المر الذي يستبطن البلء الذي يعود على هؤلء الجهال إلى العتقاد بالتدريج
ن لديهم العلم والمعرفة والجدارة والهلية ،فيرون في أنفسهم الكفاءة في التصدي لهذا المنصب الخطير الذي
أّ
يؤدي بالتالي إلى هلكهم واهلكهم .فضرر هؤلء المتملقين الذين يحيطون بهؤلء الجهال ويسوقونهم للتصدي
للقضاء ل يقل عن خطر هؤلء الجهال في التصدي إن لم يكن أعظم وأفدح؟ المر الذي ذمه القرآن الكريم إلى
ن رسول ال)صلى ال عليه وآله( قال» :إذا مدح الفاجر اهتز العرش جانب الروايات السلمية .ومن ذلك أ ّ
وغضب الرب«) (1وقال)صلى ال عليه وآله(» :من مدح سلطانًا جائرًا وتخفف وتضعضع له طمعًا فيه كان
قرينه إلى النار«) .(2ومن هنا ورد التحذير من مطلق المدح والطراء لتنبه إلى ذلك حتى الفراد من أهل الورع
والتقوى إلى الخطار التي ينطوي عليها هذا المديح ،فقد ورد عن رسول ال )صلى ال عليه وآله(أّنه قال:
»احثوا في وجوه المداحين التراب«) (3وهذا ما حذر منه أمير المؤمنين)عليه السلم( مالك الشتر في عهده الذي
عهده إليه حين وله مصر بعد أن دعاه إلى مجالسة أهل الورع والتقوى والصدق» :ثم رضهم على أل يطروك
ول يبجحوك بباطل لم تفعله فان كثرة الطراء تحدث الزهو وتدني من العزة«).(4
—–
] [ 384
] [ 385
القسم الثالث
حّ
ق ي َ ب ِإذا ُتِل َ
ن اْلِكتا ِ سْلَعٌة َأْبَوُر ِم َ
س ِفيِهْم ِ
لًلَ ،لْي َ
ضّن ُ جّهالَ ،وَيُموُتو َ ن ُشِر َيعيشو َ ن َمْع َشُكو ِم ْ لأ ْ»إَلى ا ّ
فَ ،ول
ن اْلَمْعُرو ِعْنَدُهْم َأْنَكُر ِم َ
ضِعِه َول ِ ن َموا ِعْ ف َ
حّر َ ب ِإذا ُ
ن اْلِكتا ِ
غَلى َثَمنًا ِم َ
ق َبْيعًا َول َأ ْ
سْلَعٌة َأْنَف ُ
ِتلَوِتِهَ ،ول ِ
ن اْلُمْنَكِر!«.
ف ِم َ
عَر ُ
َأ ْ
—–
الشرح والتفسير
يختتم المام)عليه السلم( خطبته بالشكوى إلى ال بقلب كسير وأنين متواصل من مثل هؤلء الجهال المتشبهين
بالعلماء والقضاة من عبدة الهواء والشهوات الذين مردوا على الغرور وحب الذات ،فقال)عليه السلم(» :إلى ال
ن المام)عليه السلم( ينعتهم بصفات ُاخرى
ل« .والواقع هو أ ّ
ل ،ويموتون ضل ً
أشكو من معشر يعيشون جها ً
استمرارًا لما وصفهم به في السابق ،فحياتهم بأكملها جهل في جهل فلم يكن موتهم سوى ضلل في ضلل )ففي
الحقيقة ان العبارة الثانية نتيجة حتمية للعبارة الولى( فكيف ل يموت على الضلل من يفني عمره في الجهل.
لخرى لهم والتي تعّد علمة فارقة للتعرف عليهم هى» :ليس فيهم سلعة)(1أبور) (2من الكتاب إذا أّما الصفة ا ُ
تلى حق تلوته ،ول سلعة أنفق) (3بيعًا ول أغلى ثمنًا من الكتاب إذا
غْور بمعنى الهلك والفساد ،ومن هنا يطلق هذا اللفظ على الركود في السوق لنه يتسبب في
» .2أبور« من مادة »َبْور« على وزن َ
أضرار لرؤوس المال.
» .3أنفق« من مادة »نفاق ونفوق« ،وفي الصل بمعنى الزوال والنعدام ،ومن هنا يقال للعطاء والصرف »انفاق« ،والظاهر بان
ذلك يطلق على الموال التي تصرف أو تنفق ،أي التي تخرج من اليد ،واذا استفيد من اللفظ في موضوع النفاق والعطاء فيكون
معناها ،البذل والمساعدة ،حيث يقصد بها الموال التي يتم انفاقها.
] [ 386
صرف عن مواضعه« .إّنهم يريدون قرآنًا ينسجم مع أهوائهم وأغراضهم الفاسدة ونياتهم السيئة ،ولما كان القرآن
بتفسيره الحق ل ينسجم مع تطلعاتهم ،فهم ينبذوه ويعمدون إلى تحريفه وتفسيره برأيهم وما تمليه عليهم خيالتهم.
والنقطة الجديرة بالذكر هنا هى أّنهم يعيشون في وسط يكن للقرآن منتهى القدسية والجلل والكبار على أّنه
وحي ال الذي أوحاه إلى نبّيه)صلى ال عليه وآله(; المر الذي يدفع بهم ولتحقيق أغراضهم ومآربهم إلى التظاهر
بالنضواء تحت رايته فيسعون جاهدين لضفاء الصيغة القرآنية على تحريفاتهم وتفسيراتهم الخاطئة ،فيعود هذا
الكتاب السماوي الذي يفيض نورًا وهداية إلى وسيلة لضلل الناس.
أّما الصفة الخيرة التي ينعتها بهم المام)عليه السلم( فهى »ول عندهم أنكر من المعروف ،ول أعرف من
المنكر«.
ملحظة
التفسير بالرأي وقلب الحقائق
ن أعظم فارق بين المؤمنين المتقين وعديمي التقوى إّنما يكمن في كون الفريق الول يتعامل مع القرآن الكريم إّ
والحكام الشرعية كأصل ثابت ويسعى لتكييف إرادته وشؤونه على ضوئه ،فان شعروا بأّنهم أخطأوا أو خرجوا
ف ِم َ
ن سُهْم طاِئ ٌ
ن اّتـَقْوا ِإذا َم ّ
ن اّلِذي َ
من دائرة تلك الحكام ندموا وتضرعوا إلى ال وطلبوا منه العفو والمغفرة )ِإ ّ
ن(.
صُرو َ
ن َتَذّكُروا َفِإذا ُهْم ُمْب ِ
شـْيطا ِ
ال ّ
أّما الفريق الثاني الناني المغرور فهو يمنح هذه الصالة لرادته وأهوائه الطائشة التي ل تعرف القيود والحدود،
فهو يسعى لتكييف اليات القرآنية مع أهوائه ورغباته; ول عجب
] [ 387
فهو يرى نفسه الصل والقرآن الفرع ،فالحكام اللهية محترمة لديه ما كانت منسجمة مع هواه وهوسه ،فان لم
ن ِبَبْعض
تكن كذلك ضربها عرض الجدار .ومن هنا وصفه القرآن بالزدواج في التعامل مع اليات القرآنية )ُنْؤِم ُ
خـَذ ِإلـَهُه َهواُه( .اّما السلوب الخر الذي درج ن اتّـ َ
ت َم َِوَنْكُفُر ِبَبْعض( فهو مصداق بارز لقوله سبحانه )َأَرَأْيـ َ
عليه هذا الفريق فاّنما يكمن في التحريف المعنوى للقرآن وتفسيره برأيه ،ول ينشد من ذلك سوى خداع الناس
أحيانًا أو خداع نفسه أحيانًا ُاخرى ،وهذا ما ذمته بشدة اليات القرآنية والروايات السلمية .فقد أشار القرآن
ن َكلَم
سَمُعو َق ِمْنُهْم َي ْ
ن َفِري ٌ
ن ُيْؤِمُنوا َلـُكْم َوَقْد كا َ
ن َأ ْ
طَمُعو َالكريم إلى اليهود التي مارست هذا السلوب بالقولَ) :أَفَت ْ
ن مثل هؤلء الفراد ل يسلمون لية حقيقة ن() (1ومن المسلم به أ ّ عَقُلوُه َوُهْم َيْعَلُمو َ
ن َبْعِد ما َ
حّرُفوَنُه ِم ْ
ل ُثّم ُي َ
ا ّ
تطرح عليهم ،أّنهم كخفافيش الليل التي تعادي الشمس الحقة ،وفوق ذلك أّنهم لم يؤمنوا بال طرفة عين; ولذلك
ورد في الحديث النبوي الشريف عن رسول ال)صلى ال عليه وآله( اّنه قال» :قال ال جل جلله :ما آمن بي من
فسر برأيه كلمي«).(2
كما قال)صلى ال عليه وآله(» :أشد ما يتخوف على ُامتي ثلث :زلة عالم ،أو جدال منافق بالقرآن ،أو دنيا تقطع
رقابكم«).(3
أّما الحديث عن التفسير بالرأي ومفهومه والخطار المترتبة عليه فهذا ما سنعرض له في محله في البحاث
القادمة إن شاء ال.
—–
] [ 388
] [ 389
الخطبة 18
في ذم اختلف العلماء في الفتيا وفيه يذم أهل الرأي ويكل أمر الحكم في ُامور الدين للقرآن(1).
القسم الول
حُكمُ
غْيِرِه َفَي ْ
عَلى َ
ضّيُة ِبَعْيِنها َ
حُكُم ِفيها ِبَرْأِيِهُ ،ثّم َتِرُد ِتْلك اْلَق ِ
حكاِم َفَي ْ
ن اَْل ْ
حْكم ِم َ
ضّيُة ِفي ُ حِدِهُم اْلَق ِ عَلى َأ َ
»َتِرُد َ
حٌد!
جِميعًاَ ،وِإَلُهُهْم وا ِ
ب آراَءُهْم َ صّو ُ
سَتْقضاهُْم َفُي َ عْنَد اِْلماِم اّلِذي ا ْ جَتِمُع اْلُقضاُة ِبَذِلك ِ
ف َقْوِلِهُ ،ثّم َي ْ
خل ِ ِفيها ِب ِ
حٌد!«.حٌد! َوِكتاُبُهْم وا ِ َوَنِبّيُهْم وا ِ
—–
.1طبق ماورد في مصادر نهج البلغة بشأن سند الخطبة ،رواها محمد بن طلحة الشافعي في كتاب مطالب السؤال 141 / 1وصرح
ن رواية هذه الخطبة مع بعض الختلف الطفيف دليل على وجود مصدر آخر بأن محمد بن طلحة وان عاش بعد الشريف الرضي إّل أ ّ
لديه غير نهج البلغة ،ثم أضاف :يستفاد من رواية القاضي نعمان المصري فى »دعائم السلم« الذي عاش قبل الشريف الرضي أ ّ
ن
ن هذا الكلم هو جزء من الخطبة السابقة ،والواقع
هذه الخطبة كانت معروفة عند الشيعة .والذي يستفاد من كلم محمد بن طلحة أ ّ
أّنهما خطبة واحدة مع سابقتها فهى مرتبطة بها تمامًا ،ولذلك يبرز هنا هذا السؤال :لم فصلهما الشريف الرضي عن بعضهما؟ ذهب
صاحب مصادر نهج البلغة إلى احتمالين:
ن هذا الكلم جزء من الخطبةالول أن يكون الشريف الرضي نقلهما من مصدرين ،والخر أّنه كتب حقًا :ومن هذا الكلم; أي أ ّ
ل«) .مصادرن نساخ نهج البلغة التبس عليهم المر فكتبوا »ومن كلم له)عليه السلم( الذي يفيد كونه كلمًا مستق ً
السابقة ،إّل أ ّ
نهج البلغة 362 / 1مع شيء من التوضيح(.
] [ 390
ن هذه الخطبة هى جزء من الخطبة السابقة وقد فككها الشريف يعتقد بعض المحققين ـ كما ذكرنا سابقًا ـ أ ّ
الرضي)ره(; المر الذي يؤيده مضمون الخطبة ومحتواها; فالخطبة السابقة تحدثت عن القضاة والجهال
لّمة وصيانة عرضها وأموالهاالمنحرفين الذين يصدرون الحكام الجائرة في قضائهم بما يهدد بالصميم أمن ا ُ
وأنفسها وبالتالي استشراء الفوضى والفساد في صفوف المجتمع.
لخرى عن القضاة الذين يستندون في أحكامهم إلى الدلة الواهية الضعيفة من قبيل كما تحدثت هذه الخطبة هى ا ُ
القياس والرأي والستحسان فتوصلهم إلى نتائج خاطئة ،والنكى من ذلك يصوب رئيسهم كل هذه الحكام
المتناقضة ويرى فيها أحكام ال المطابقة للواقع .ثم يتطرق المام)عليه السلم( إلى ابطال نظرية التصويب
)النظرية التي ترى أن آراء القضاة وفتيا الفقهاء تمثل الحكام اللهية الواقعية رغم تضادها وتضاربها مع
بعضها( ،على أساس الدلة المنطقية التي تفند مثل هذه العقيدة ،ثم يكشف النقاب عن السبيل الذي يقود إلى الحق
في هذه القضايا السلمية التي ضل فيها الكثيرون.
القسم الول :في الحديث عن السلوب الذي اعتمده القضاة في تعاملهم مع القضايا والتي تستبطن الحكام
المتناقضة التي تخالف أحكام ال.
وأخيرًا القسم الثالث الذي يتحدث في المام)عليه السلم( عن عظمة القرآن وكونه المرجع الفصل في حل جميع
الختلفات.
—–
الشرح والتفسير
يستهل المام)عليه السلم( كلمه بالقول» :ترد على أحدهم القضية في حكم من الحكام فيحكم
] [ 391
فيها برأيه ،ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلف قوله« ثم أردفه)عليه السلم(بالقول »ثم يجتمع
القضاة بذلك عند المام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعًا ،وإلههم واحد أو نييهم واحد! وكتابهم واحد«.
ن المام)عليه السلم( يوجه ضربة قاصمة إلى دعائم هذه العقيدة المنحرفة بقوله »والههم واحد ونبيهم واحد
لأّإّ
وكتابهم واحد«.
فمما لشك فيه ل يصدر من ال الواحد في مسألة واحدة سوى حكم واحد ،فهو العالم بكافة الحقائق المحيط بجميع
الشياء فيحكم فيها بحكم واحد على ضوء المصالح والمفاسد.
فل يخطئ في هذا الحكم ول من سبيل للنسيان إلى ذاته المقدسة ليختلف الحكم ول يندم ول ينكشف له بمرور
ل ـ إذن فل يمكن تصور الختلف من جانب ال أبدًا. الزمان ما كان مجهو ً
ن نبّيهم واحد ،وهو معصوم في اصدار الحكام ،فيبّين الحكم اللهي دون زيادة أو نقيصة، أضف إلى ذلك فا ّ
وعليه فليس هنالك اختلفًا من جانبه أيضًا .وأخيرًا كتابهم واحد; الكتاب الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من
خلفه ،وليس للتحريف من سبيل إليه ،فهو يستند إلى الوحي اللهي الذي يأبى الختلف والتضاد; فهو كتاب ال
خِتلفًا َكِثـيرًا().(1
جُدوا ِفـيِه ا ْ
ل َلَو َ
غْيِر ا ّ
عْنِد َ
ن ِ
ن ِم ْ
)َوَلْو كا َ
إذن فليس هنالك اختلفًا من جانب الكتاب .فهذه العبارات في الواقع مقدمة لما سيأتي
] [ 392
ن هذه العبارات
ن هذا الختلف اّنما ينبع من أفكارهم القاصرة وعجزهم العلمي ،وبعبارة ُاخرى فا ّ
من كلم في أ ّ
اجابة ورد على مسألة التصويب التي تعرض لها المام)عليه السلم( بصورة مفصلة لحقًا.
ن العتقاد بالتصويب وصحة الراء المتناقضة إّنما هو انحراف عن أصل التوحيد ونزوع نحو نوع والواقع هو أ ّ
ن ال واحد ،وتوحيد النبوة يرى أنّ نبوة ُاولي العزم واحدة في كل عصر،
من الشرك .فالتوحيد اللهي يعني أ ّ
وتوحيد الشريعة في أن الكتاب السماوي واحد.
وعليه فالميل نحو تعدد الحكام الواقعية ليس سوى الشرك الذي يتقاطع صراحة وأصل التوحيد.
تأّملت
1ـ مسألة التصويب ونشأتها
تعتبر هذه المسألة من أهم المسائل السلمية ذات الصلة الحميمة بمسألة »الجتهاد« و»الرأي« و»القياس«
و»الستحسان« وما إلى ذلك ،كما ترتبط بالحداث السياسية والتأريخية التي أعقبت وفاة النبي)صلى ال عليه
وآله( .وإليك شرحها باختصار بعيدًا عن الطالة والخروج عن ُاسلوب البحث:
ن عصر الرسالة كان مفعمًا بالحداث المعقدة الجتماعية والسياسية والعسكرية بحيث لم تدع للمسلمين من
1ـأّ
مجال للوقوف على كافة الحكام ،وإن بينت اصولها الساسية في القرآن.
2ـ لقد اتسعت رقعة الدولة السلمية بعد النبي)صلى ال عليه وآله( بحيث كانت تظهر مسائل جديدة كل يوم في
الحكام الفقهية السلمية حتى رأى المسلمون أنفسهم أمام كم هائل من المسائل المستحدثة ولم يروا أجوبتها في
الحاديث النبوية الشريفة.
أضف إلى ذلك منع بعض الخلفاء )عمر( الصحابة من تدوين السّنة) (1مخافة أن تختلط
لمة الميني ذكر في المجلد السادس من الغدير الدلة على هذه المسألة من أهم مصادر العامة من قبيل سنن ابن
.1المرحوم الع ّ
ماجة وسنن الدارمي ومستدرك الحاكم في تذكرة الحفاظ وكنز العمال وغيرها تحت عنوان »نهي الخليفة عن الحديث« وبّين كيف ان
عمر نهى عن تدوين أحاديث رسول ال)صلى ال عليه وآله( وهدد بالحبس والنفي كل من رواها.
] [ 393
بالقرآن ،حتى اندثرت أغلب أحاديث رسول ال)صلى ال عليه وآله( ،فأصبح هناك نقصًا حادًا في المصادر
السلمية ،حتى رأى الفقهاء ول سيما الخلفاء الذين كانوا يشهدون كل يوم هجوم المسائل الفقهية الجديدة أّنهم
ن السلم ل يمتلك الردود تجاه مختلف القضايا الحقوقية والجزائية يعيشون حرجًا شديدًا ،بحيث إذا زعموا أ ّ
ت َلُكُم
ضـي ُ
عَلْيُكْم ِنْعَمِتي َوَر ِ
ت َ
ت َلُكْم ِديَنُكْم َوَأْتَمْم ُ
والفردية والجتماعية ،فند زعمهم بالية القرآنية )الَيْوَم َأْكَمْل ُ
سلَم ِدينًا().(1
لْاِ
فالدين الخاتم الذي ل يعرف معنى للمكان والزمان بل يتصف بالعالمية والخلود لبّد أن يلبي كافة الحاجات على
مدى الدهور والعصور إلى نهاية الدنيا ،ولكن كيف بذلك مع هذه الحاديث القليلة التي نقلت عن رسول ال)صلى
ن هذا المأزق الحرج إّنما نشأ من تجاهل وصية رسول ال)صلى ال ال عليه وآله( .وهنا ل ينبغي أن ننسى بأ ّ
لّمة
نا ُ
عليه وآله(وحديثه المعروف بحديث الثقلين الذي قرن فيه العترة الطاهرة من أهل بيته بالقرآن الكريم وأ ّ
ان تمسكت بهما معًا فاّنها لن تضل بعده أبدًا) .(2فلو عمل المسلمون بهذه الوصية وتلقوا أحاديث الئمة
ن مشكلة لم تكن لتحدث قط المعصومين التي تمثل المتداد الطبيعي لحاديث رسول ال)صلى ال عليه وآله( فا ّ
ولم يشهد المسلمون هذه المعضلة التي عصفت بالفرق السلمية ،وهذا بعينه ما جعل أتباع مدرسة أهل
البيت)عليهم السلم(ل يشعرون بنقص تجاه أية مسألة من المسائل الفقهية ،وقد نقلت اللف المؤلفة من أحاديث
هذه العترة لتمكن فقهاء المامية من التعامل مع كافة القضايا الفقهية على ضوء النظرة السلمية.
3ـ أخيرًا وبهدف خروج فقهاء العامة من هذا المأزق والطريق المسدود لم يكن لهم من سبيل سواء اللجوء إلى
القياس والستحسان والجتهاد بالمعنى الخص وتشريع القوانين والحكام من الفقهاء ـ فانبروا ليقسموا المسائل
إلى قمسين :مسائل منصوصة ومسائل ل نص فيها )أي المسائل التي ورد بشأنها حكم في الكتاب والسّنة
والمسائل التي لم يرد فيها نص في
.2لقد تحدثنا بالتفصيل في كتاب نفحات القرآن ج 9بحث »الولية والمامة العامة في السّنة« عن حديث الثقلين وتواتره في
المصادر الروائية للفريقين ومصادره المعروفة في صحيح مسلم والترمذي والدارمي ومسند أحمد وخصائص النسائي ومستدرك
الصحيحين وسنن البيهقي وغيرها من المصادر.
] [ 394
الكتاب ول السّنة( .فافتوا في المسائل المنصوصة طبق ماورد في النص .وأّما المسائل التي لم يرد فيها نص
ل إذا ورد في باب
فقالوا :حل المشكلة يكمن في أّنه إن كان له شبيه ونظير في الحكام السلمية قاسوا عليه ،مث ً
الصلة حكم قاسوا الصوم بذلك الحكم ،ان ورد حكم في الحج قاسوا عليه أحكام العمرة ،وإذا لم يكن هناك من
شبيه في الحكام السلمية يجتمع الفقهاء ويتدارسوا مصالح ومفاسد ذلك المر ثم يتخذوا بشأنه حكمًا وهذا ما
أسموه بالجتهاد )بالمعنى الخص(.
وبعبارة ُاخرى فان هناك من قال صراحة :مالم يرد فيه النص ليس له في السلم قانون خاص ،وهذه وظيفة
الفقهاء في أن يضعوا له حكمًا من خلل الظن وتخفيف ثقل المصالح والمفاسد وما يرونه أقرب إلى المصلحة.
ل بينهم(1).
وهكذا أصبح الجتهاد بمعنى حق الفقيه في التشريع متداو ً
ن للجتهاد معنيان مختلفان إذا لم يميز بينهما فان ذلك يؤدي إلى عّدة نتائج سيئة:
وهنا لبّد من اللتفات إلى أ ّ
المعنى الول للجتهاد هو الجتهاد العام والذي يعني استنباط الحكام من الكتاب والسنة وسائر الدلة الشرعية.
ل،
ل واعتقدوا به عم ً
وهذا هو الجتهاد الذي يعتقد به كافة علماء الشيعة ،وهو الجتهاد الذي أنكره الخباريون قو ً
ن كبار الخباريين يستدلون بالكتاب والسنة لثبات الحكام الشرعية كما يراعون أحكام العام والخاص والمطلق لّ
والمقيد وأمثال ذلك.
المعنى الثاني للجتهاد هو الجتهاد الخاص وهو الجتهاد في المسائل التي لم يرد فيها نص في الكتاب أو السنة،
فيلجأ على ضوئه إلى التشريع وسن الحكام مع الخذ بنظر العتبار المصالح والمفاسد والتشابه والتناظر .وهذا
النوع من الجتهاد يختص بجمع كثير من علماء العامة وهو ما يصطلحون عليه بالجتهاد بالمعنى الخص .وأّما
ما ذكرنا آنفًا بعدم وجود مثل هذا الجتهاد لدى علماء الشيعة إّنما يعزى إلى الثر الهائل الذي لديهم من أحاديث
الئمة
] [ 395
ن الموارد التي ل نص فيها قليلة جدًا ول تتطلب الجتهاد بالمعنى الثاني،المعصومين)عليهم السلم(كما يرون أ ّ
وذلك لّنهم يلجأون في مثل هذه الحالت إلى القواعد الكلية أو ما اصطلحوا عليه بـ »الصول اللفظية«
ن الموارد التي لنص فيها اّنه ل
و»العملية« التي تبّين حكم المسألة والعجيب أن طائفة من علماء العامة تعتقد بأ ّ
حكم لها »مال نص فيه ل حكم فيه« وهذه وظيفة العلماء في وضع الحكام لمثل هذه الحوادث )واللتفات إلى هذه
المسألة يعّد ضرورة لفهم الكلمات القادمة في الخطبة(; المر الذي يتنافى تمامًا وإكمال الشريعة.
4ـ إذا ما اعطي حق التشريع ووضع الحكام في »ما ل نص فيه« للفقيه وباللتفات إلى كثرة عدد الفقهاء ولكل
ن ذلك سيؤدي إلى منهم الحق في التشريع ،وليس هنالك من الزام في جمعهم في شورى لتصوب حكمًا واحدًا فا ّ
اختلف الراء وربما تناقضها في المسألة الواحدة وهنا يبرز مأزقًا آخر وهو :هل يمكن قبول جميع هذه الراء
المختلفة على أّنها حكم ال ،أم هناك حكم واحد حق والبقية باطل؟ ولما لم يكن هناك من تفاوت بين هذه الراء
لّنها صادرة من الفقهاء; وليس هنالك من حكم واقعي ل ليكون معيارًا في تمييز الصحيح من السقيم فسوف لن
يبقى هنالك من سبيل سوى التمسك بعقيدة التصويب ،أو بعبارة أفضل فقد سقطوا في وادي التصويب وقالوا كل
هذه الراء تمثل الحكم الواقعي! ويعزز ذلك أّنهم يقولون بعدالة الصحابة وأحيانًا عدم خطأهم في الرأي ،ومن هنا
كانت هناك آراء متعددة بعدد المجتهدين في الموضوع الواحد ،وكلها تعتبر الحكم الواقعي للمسألة.
ن المرجع في تعيين الخلفة رغم خطورتها إّنما وكل إلى أهل الحل والعقد )العلماء( فما المانعفهم حين اعتقدوا بأ ّ
في أن يوكل للعلماء الحق في سن القوانين والحكام في المسائل الفرعية التي لم يرد نص بحقها ـ ومن هنا
ظهرت عقيدة التصويب بكل نتائجها وأخطارها بين طائفة من المسلمين إثر عدم العمل بوصية الرسول)صلى ال
عليه وآله( واللتزام بحديث الثقلين.
5ـ غلق باب الجتهاد :فقد أدت هذه المسألة إلى تنامي الراء والعقائد المختلفة والمتضاربة في المجتمع
لّمة في مسائلها الدينية واتاحة
السلمي وبين فقهاء المسلمين ،لتتخذ صبغة خطيرة ،كما كانت السبب في ترديد ا ُ
الفرصة لعداء السلم بالتفوه ضد السلم والمسلمين والحكام السلمية وهنا انبرت طائفة من المسلمين
لتوضع حدًا لهذا الوضع
] [ 396
ل قبيحًا تجسد في غلق باب الجتهاد .فقد صرحوا بأن هذا الحد يكفي ول يحق لحد بعد هذا المؤسف فارتكبت عم ً
لّمة طوائف في الحكام الشرعية وذهبت كل طائفة لتباع عالم .فاختاروا ممارسة الجتهاد! وحيث اختلفت ا ُ
أربعة من هؤلء الفقهاء ممن لهم أتباع كثيرون )وهم أبو حنيفة ومالك ومحمد بن ادريس الشافعي وأحمد بن
حنبل( ثم الزموا الناس بتقليد أحد هؤلء الربعة وأبطلوا سائر الراء والعقائد للحيلولة دون الختلف والتمزق;
بينما ل نرى هنالك من دليل في الكتاب أو السّنة على إمامة هؤلء الفقهاء الربعة ،وليس لهم أدنى امتياز على
من سواهم سوى كثرة أتباعهم ،كما لم يقم الدليل على غلق باب الجتهاد وحصره بهؤلء الربعة لكل عصر
ومصر! وكما أشار المام)عليه السلم( في الخطبة رقم » 16أل وأنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها،
ن هذه الهفوات العظيمة إّنما افرزتها الزلت الولى حتى تبلورتوخلعت لجمها ،فتقحمت بهم في النار« .فا ّ
كسلسلة ارتبطت حلقاتها لتؤدي بالتالي بأصحابها إلى النار .لقد خلق غلق باب الجتهاد اليوم مشاكل عويصة
لفقهاء العامة وعلمائهم; وذلك لّنهم يرون أنفسهم اليوم أمام سيل جارف من المسائل المستحدثة التي ليس لها من
حكم في المذاهب الربعة; ومن هنا انبرت جماعة منهم علنية وُاخرى خفية تطالب بفتح باب الجتهاد بوجه
الفقهاء والخروج من حالة التقوقع والنطواء على المذاهب الربعة ،كما خاضوا في ضرورة الفتاء في المسائل
المستحدثة وإعادة النظر في المسائل السابقة وهم يتساءلون عن علية حصر الجتهاد في المذاهب المذكورة ،مع
العلم قد ظهر العلماء الذين فاقوهم ،وحتى على فرض عدم تفوقهم على أسلفهم ،فمثل هذا السؤال يبقى مطروحًا،
إذا ُاغلق باب الجتهاد فمن يتصدى للجابة على المسائل المطروحة اليوم؟
أّما أتباع أهل البيت)عليهم السلم( فقد بقوا في أمان من هذه العاصفة الهوجاء ،فهم لم يعتقدوا بغلق باب الجتهاد
)طبعًا الجتهاد بالمعنى الول ل الثاني( طرفة عين أبدًا ،وقد منحوا فقهائهم وعلمائهم حق استنباط الحكام
الشرعية من أدلتها المعروفة ،في ذات الوقت الذي حظروا فيه الجتهاد بالمعنى الثاني على كائن من كان.
سؤال:
هنا سؤال يطرح نفسه :الجتهاد بالمعنى الول هو الخر يقود إلى الختلف وعليه
] [ 397
جواب:
ن الجتهاد بالمعنى الول يعني استنباطن اللتفات إلى نقطة قد يوضح الجواب على السؤال المذكور ،وهى أ ّ
إّ
الحكام من الكتاب والسّنة ،وعليه فالمحور الصلي للجتهاد هو نصوص الكتاب والسّنة التي يجمع عليها
ن هذه
لاّ الفقهاء ،فهناك الوحدة التي تجمع هؤلء الفقهاء ،وإن كان هنالك بعض الختلف في الستنتاجات; إ ّ
الختلفات طفيفة عادة ،ومن هنا نرى وحدة آراء الفقهاء في غالبية المسائل المشهورة ،ول يوجد سوى اختلف
بسيط في بعض تفاصيل المسائل.
أّما الجتهاد بالمعنى الثاني فهو ل ينطوي على محور معين يجتمع حوله الفقهاء ،بل المعيار لدى كل فقيه فكره
ورأيه ،ومن هنا كانت الخلفات لتعد ول تحصى ،فقد تطالعنا عّدة آراء في المسألة الواحدة; المر الذي يشوه
ن أنصار الجتهاد بالمعنى الول الذي يعني سمعة الشريعة السلمية ويسيء إلى كيانها .أضف إلى ذلك فا ّ
ن دين ال لم ولن يكون ناقصًا ،وليس هنالك من واقعة ـ بالمس واليوم استنباط الحكم من القرآن والسّنة يقولون :إ ّ
والغد ـ أل ول فيها حكم قد ورد في العمومات والطلقات أو الدلة الخاصة للكتاب والسّنة وهى واضحة لدى
أئمة العصمة)عليهم السلم( .فمن بلغ باجتهاده ذلك الحكم فقد أصاب ،ومن لم يبلغه فقد أخطأ ،فان لم يقصر في
مقدمات الجتهاد واستفرغ مافي وسعه كان معذورًا عند ال ومأجورًا .وهذا هو العتقاد بالتخطئة في مقابل
العتقاد بالتصويب ولذلك يقول أصحاب هذا العتقاد »للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد« بينما زعم أنصار
ن كافة الحكام المتناقضة للمجتهدين والتي تمثل آرائهم هى
الجتهاد بالمعنى الثاني أن »كل مجتهد مصيب« أي أ ّ
أحكام إلهية واقعية حقة )لبّد من اللتفات والتأمل في هذا المر(.
—–
نشير بصورة مختصرة إلى المفاسد التي ترتبت على القول بالتصويب وغلق باب الجتهاد:
] [ 398
1ـ العتراف بنقصان الدين )والعياذ بال( من حيث الحكام والعتماد على آراء الفقهاء وأفكار الفراد غير
المعصومين من الخطأ في إكمال أحكام الشريعة وسد النقص.
ن فتح هذا
2ـ غلق باب الجتهاد يعني العتقاد بعدم أحقية أي فرد في الجتهاد بعد الفقهاء الربعة من العامة! ل ّ
ن غلق باب الباب قد يؤدي أحيانًا إلى ظهور عشرات الراء والفتاوى المختلفة في المسألة الواحدة; كما نعلم أ ّ
الجتهاد ،يغلق الطريق على فقهاء السلم في التصدي للرد على المسائل المستحدثة فيزج بمسلمي العالم بمأزق
خانق ل يمكنه النجاة منه بالنسبة للحكام الشرعية.
وهكذا فقد اغلق باب الجتهاد بعد مرور سبعة قرون على ظهور السلم وبلوغ الجتهاد ذروته ،ليصبح كافة
ل نتيجة طبيعية لذلك النحراف الذي وقع
الفقهاء مقلدين لهؤلء الئمة الربع ففقدوا استقلليتهم الفقهية .وما هذا إ ّ
في القرن الول .فقد ُاقصيت العترة الطاهرة عدل القرآن الكريم وأحد الثقلين وفتح باب القياس والستحسان
والجتهاد بالرأي وظهرت هذه الراء المتناقضة التي جرت الفوضى ،فكان كل رأي حكم ال ،والمؤسف له هو
] [ 399
ن مدرسة أهل البيت)عليهم السلم( لم تتخذ مكانها حتى في مصاف المذاهب الربعة(1).
أّ
ن ذلك النحراف الول هو سبب ظهور هذه البدعة ،البدعة التي لم يكن هنالك من سبيل سواها.
فالحق أ ّ
3ـ الهرج والمرج الفقهي والقضائي الذي أفرزته الراء المتعددة والمتناقضة التي قد يصل عددها أحيانًا إلى عدد
ن المشاكل آنذاك تفوق مشاكل المجالس التشريعية في عصرنا الحاضر بكثير ،وذلك المجتهدين; ومما لشك فيه أ ّ
ن مجالس العصر تشهد على القل حضور الوكلء لبلد أو منطقة من العالم في مكان واحد فيتخذ القرارات على لّ
أساس أكثرية الراء التي تتمتع بالوحدة كحد أدنى بالنسبة لمنطقة معينة; أّما الجتهاد بالرأي والتصويب فهو
يسمح لكل مجتهد من المجتهدين أن يشرع بمفرده ،والعجب من ذلك كل ما يتوصل إليه من حكم فهو حكم ال
ن أحكام المجتهدين آنذاك تمثل
الواقعي ،وخلفًا لمجالسنا المعاصرة التي تكون أحكامها أحكامًا وضعية بشرية ،فا ّ
الحكام اللهية التي يلزم الناس بأتباعها.
وأخيرًا ل نروم الخروج من بحثنا في الشرح والتفسير ولذلك نوكل من أراد المزيد بهذا الشأن إلى المصادر
المعروفة(2).
—–
.1للوقوف على التفاصيل انظر كتاب »توضيح الرشاد في تأريخ عصر الجتهاد« للمحدث المحقق المرحوم الحاج الشيخ آقا بزرك
الطهراني.
.2أنوار اُلصول 519 / 2ـ 543و 632 / 3ـ ،658المستصفى للغزالي ،234 / 2اُلصول العامة للفقه المقارن 305 /و .617
] [ 400
] [ 401
القسم الثانى
ن ِبِهْم
سَتعا َسْبحاَنُه ِدينًا ناِقصًا فا ْ ل ُ صْوُه! َأْم َأْنَزَل ا ّ
عْنُه َفَع َعوُه! َأْم َنَهاُهْم َ طا ُ
ف َفَأ َخِتل ِ سْبحاَنُه ِباِلا ْل ُ »َأَفَاَمَرُهُم ا ّ
صَر
سْبحاَنُه ِدينًا تاّما َفَق ّ
ل ُ ضى؟ َأْم َأْنَزَل ا ّ ن َيْر َ
عَلْيِه َأ ْ
ن َيُقوُلواَ ،و َ
شَركاَء َلُهَ ،فَلُهْم َأ ْ عَلى ِإْتماِمِه! َأْم كاُنوا ُ َ
يء« ش ْن َب ِم ْ طنا ِفي اْلِكتا ِسْبحاَنُه َيُقوُل» :ما َفّر ْ ل ُن َتْبِليِغِه َوَأداِئِهَ ،وا ّعْسّلَم َ عَلْيِه َوآِلِه َو َ
ل َصّلى ا ّ سوُل َ الّر ُ
ن ِم ْ
ن سْبحاَنُهَ» :وَلْو كا َ ف ِفيِه َفقاَل ُ
خِتل َ ضُه َبْعضًاَ ،وَأّنُه ل ا ْ ق َبْع ُ
صّد ُ
ب ُي َن اْلِكتا َيءَ ،وَذَكَر َأ ّ ش ْ
ن ِلُكّل ََوِفيِه ِتْبيا ٌ
خِتلفًا َكِثيرًا«. جُدوا ِفيِه ا ْ ل َلَو َ
غْيِر ا ّعْنِد َ ِ
—–
الشرح والتفسير
يفند المام)عليه السلم( في هذا الكلم بالدلة المحكمة مسألة الجتهاد بالرأي وتصويب آراء المجتهدين وبالتالى
حق الفقهاء في اصدار الحكام ،ثم يصنف المام)عليه السلم( ذلك إلى خمسة ُاسس ويغلق كافة الطرق على
هولء ،ثم يبين بجلء تام خطأ هذا اللون من التفكير.
فقد قال)عليه السلم( بعد أن تساءل على نحو الستنكار عن السب الذي يقف وراء هذا الختلف في المسائل
الفقهية »أفامرهم ال سبحانه بالختلف فاطاعوه«.
حقا ل يمكن قبول هذا المر ،فال واحد أحد يدعو إلى الوحدة ويحذر من الختلف والفرق فهو القائل:
جِمـيعًا َول َتَفّرُقوا() (1وبناءا على هذا فان
ل َ
لا ّ
حْب ِ
صُموا ِب َ
عَت ِ
)َوا ْ
ن هذا المر
الختلف تابع من موضع آخر ،رام المام)عليه السلم(الشارة إليه »أم نهاهم عنه فعصوه« فالحق أ ّ
يشكل أحد مصادر الختلف; غير أن القضاة الذين يوردون عّدة آراء بشأن مسألة واحدة ليسعهم القرار بمثل
هذا الحتمال!
و عليه فان رّدهم على هذا السؤال سيكون بالسلب .ثم تطرق المام)عليه السلم( إلى الحتمال الثالث فقال)عليه
السلم(َ» :ام انزل ال سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه« .من المسلم به أّنه ليس هنالك مسلم يقول
بنقصان دين ال وإن ال استعان بالعباد ل كماله ،بل بالعكس قد صرحت اليات القرآنية باكمال هذا الدين من
سلَم ِدينًا().(1
لْضـيتُ َلُكُم ا ِ
عَلْيُكْم ِنْعَمِتي َوَر ِ
ت َ
ت َلُكْم ِديَنُكْم َوَأْتَمْم ُ
جميع الجهات )الَيْوَم َأْكَمْل ُ
ثم يورد المام)عليه السلم( الحتمال الخر الذي يبدو بطلنه واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار ل أم
ن من قال يتعدد اللهة فاّنه عليه أن يؤمن با ّ
ن كانوا شركاء له ،قلهم أن يقولوا ،وعليه أن يرضى« فمن البداهة أ ّ
لكل منهم سهم في التشريع واصدار الحكام; فهل للمسلم الذي ينطلق في عقيدته من التوحيد أن يعتقد بوجود
الشركاء ويرى في الفقهاء والقضاة شركاء ل؟ وبعبارة ُاخرى فان أحد فروع التوحيد )بعد توحيد الذات
والصفات( هو توحيد الفعال،أحد تفرعات توحيد الفعال هو توحيد الحاكمية والتشريع; وعلى ضوء ذلك فا ّ
ن
ل أمره!ل حكمه ول أمر إ ّ
الحكومة ل وحده وتنتهي إليه ،فل حكم إ ّ
و لو لم يكن المر كذلك لختفى الحق سبحانه بقسم من التشريع ثم يفوض القسم الخر منه للعقول البشرية
العاخرة.
و هل لغيره من إحاطة قامة بمصالح الحكام ومفاسدها! أو يجوز على ال أن يفوض زمام ُامور عباه لمشرعين
يصدر كل منهم حكمًا وقانونًا على ضوء ظنه ورأيه القاصر بحيث يعيش العباد في هالة من الفوضى والقلق
والحيرة في ظل الراء المتناقضة المتضاربة!
ثم يتطرق المام)عليه السلم( إلى آخر احتمال فيقول» :أم أنزل ال سبحانه دينًا تامًا فقصر الرسول صلى ال
عليه وآله وسلم عن تبليغه وأدائه« .ل شك ول شبهة أّنه ليس هنالك من ينسب
] [ 403
ن حتى ُاولئك الذين ليقرون بمسألة العصمة بصورة مثل هذا القول إلى النبي)صلى ال عليه وآله(; وذلك ل ّ
ن الحد الدنى أّنهم
مطلقة ويظنون بعدم وجود الدليل على عصمة النبي)صلى ال عليه وآله( في كافة الميادين ،فا ّ
يسلمون بعصمته في التبليغ وأداء الوحي ،حيث ل يبقى من مفهوم للنبوة والرسالة دون العتقاد بالمعنى المذكور.
ن السلم قد شرع كل ما آنذاك يعود المام)عليه السلم( إلى أصل المسألة فيكشف النقاب عن هذه الحقيقة وهى أ ّ
من شأنه تلبية حاجات البشرية ومتطلياتها ،وعليه فالمام)عليه السلم(يصادر ما أوردوه من قولهم »ما ل نص
فيه لحكم فيه« بالستناد إلى قوله »و ال سبحانه يقول) :ما فرطنا في الكتاب من شيء وفيه تبيان لكل شيء()(1
فاليتان دليلن واضحان على أن ال لم ينزل دينًا ناقصًا عولهم يستعن باحد ل كماله; بل جاء في القرآن كل ما
يحتاج إليه ،بعضها في العمومات وبعضها الخر في الحكام الخاصة التي سيأتي الحديث عنها إن شاء ال في
مبحث التأملت ولم ينس المام)عليه السلم( أن يسلب حربة التناقض من القضاة الذين يستشهد كل منهم بآية
يتباين مفهومًا وسائر اليات فقال)عليه السلم(» :و ذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأّنه ل إختلف فيه« ثم
يعزز المام)عليه السلم(دعوى عدم الختيارات في اليات القرآنية متشهدا بالقرآن »فقال سبحانه! ولو كان من
عند غير ال لوجدوا فيه إختلفًا كثيرًا«).(2
ن تقادم الزمان أو تغيير المكان وكشف الظواهر الجديدة إّنما يدعوه إلى تغيير
ن علم النسان محدود ،وأ ّ
فالواقع أ ّ
أفكاره باستمرار ،ومن هنا فقد يورد كاتب بعض الموضوعات المتناقضة خلل حياته ،وليس ذلك بعجيب ،هذا
من جانب ،ومن جانب آخر فان رصيد النسان النسيان ،فلعه يتحدث اليوم عن شيء فينساه بعد شهر أو سنة
لمور ل تصدق على البارىء سبحانه العالم بكل شيء »و ما كان وما يكون« ن هذه ا ُ
لأّ
ليتحدث عن خلفه .إ ّ
والعالم بالمحال لو كان كيف يكون ،فليس لمرور الزمان من أثر على ذاته المقدسه; فهو فوق الزمان والمكان،
وناهيك عن هذا فليس هنالك من مفهوم للنسيان بالنسبة ل سبحانه،
.1لبّد من اللتفات إلى أن قوله »ما فرطنا في الكتاب من شئى« هو نص الية 38من سورة النعام ،أّما قوله »فيه تبيان لكل
شيء« فهو مضمون الية 89من سورة النحل ل عينها »ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء«.
] [ 404
ن المام)عليه السلم( قد قند ببيان واضح بليغ عقيدة التصويب والتمسك بالقياس والستمسان وزيدة الكلم أ ّ
ن رسول ال)صلى ال ل وقرآنا جامعا يلبي كافة حاجات البشرية ،وإ ّوالجتهاد بالرأي ،فال سبحانه أنل دينًا كام ً
لّمة السلمية أي اختلف ودعا االمة مرارا إلى ن ال لم يقبل ل ُ
عليه وآله( لم يتوانى في تبليغ الرسالة ،كما أ ّ
الخاء والوحدة .وبناءًا على ما تقدم فما تفسير العتقاد بصحة الراء المتناقضة وتصويب الفتاوى المختلفة على
أّنها جميع حكم ال المطابق للواقع ،سوى النحراف والضلل.
شمولية القرآن
لقد تضمن القرآن الكريم اليات الصريحة التي تبّين كافة ُامور المسلمين ومتطلباتهم وحاجاتهم إلى يوم القيامة.
كما صّرحت الروايات السلمية بهذا المر ،ومن ذلك ما ورد عن المام الصادق)عليه السلم( أّنه قال» :ان ال
تبارك وتعالى انزل في القرآن تبيان كل شيء حتى وال ما ترك شيئًا تحتاج إليه العباد ،حتى ليستطيع عبد يقول
ل وقد أنزل ال فيه«) (1ولكن هنا يبرز هذا السؤال :إننا نرى أحكامًا مختلفة لم تردلو كان هذا أنزل في القرآن ،إ ّ
في القرآن الكريم وهذا المر لينسجم وشمولية القرآن الكريم; مثل لم يرد في القرآن شيء بشأن عدد ركعات
الصلة والسلع التي تجب عليها الزكاة وتصاب الزكاة وبعض مناسك الحج وعدد اشواط السعي بين الصفا
والمروة والطواف ومسائل ُاخرى في القصاص والحدود والديات وآداب القضاء وشرائط المعاملت وأنواع
المعاملت المستحدثة وما شاكل ذلك من الموضوعات الشرعية .وللجابة على هذا السؤال لبّد من اللتفات إلى
ثلثة ُامور:
ن القرآن يشتمل على الحكام الكلية والقواعد العامة والعمومات والطلقات التي يتّم حل أغلب الول :أ ّ
ل الية )َأْوُفوا ِبالُعُقوِد() (2في المعاملت والية
المشكلت على ضوئها .فمث ً
] [ 405
حَرج() (1في أبواب العبادات و)ل ُتضاّر واِلَدةٌ ِبَوَلِدها َول َمْوُلوٌد َلُه ِبَوَلِدِه() (2في ن َ ن ِم ْ عَلْيـُكْم ِفي الّدي ِ ل َ جَع َ
)َوما َ
حقوق الو الذين وسائراليات من هذا القبيل التي من شأنها الجابة على أغلب السئلة والمسائل المستحدثة أضف
ن السنة النبوية تمثل إحدى المصادر الرئيسية للحكام الشرعية والمعارف إلى ذلك فان القرآن الكريم صّرح بأ ّ
عْنُه َفاْنَتُهوا() (3كما وصفة في آية ُاخرى باّنه مبين القرآن خُذوُه َوما َنهيُكْم َ
ل َف ُ سو ُ السلمية )َوما آتاُكُم الّر ُ
ل ِإَلْيِهْم().(4
ن ِللّناس ما ُنـّز َ
ك الّذْكَر ِلُتَبـّي َ
ومفسره )َوَأْنَزْلنا ِإَلْي َ
النبي)صلى ال عليه وآله( من جانبه وعلى ضوء حديث الثقلين فقد جعل أهل بيته وعترته)عليه السلم(من
مصادر الحكام الشرعية والمعارف السلمية ،ولو التزم المسلمون بوصية القرآن والنبي الكرام)صلى ال عليه
وآله(بما بقي هناك سوال في مجال الحكام دون إجابة.
و بناءًا على هذا لو إصطف الثقلن )القرآن وأهل البيت( ولم يفصلهما المسلمون عن بعضهما ،ل ستفادوا من هذا
العدل القرآني الذي يحل أغلب معضلتهم.
فقد قال المام الصادق)عليه السلم(» :أنا اعلم كتاب ال وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة وفيه خير
السماء وخير الرض وخير الجّنة وخبر النار وخبر ما كان وما هو كائن ،اعلم ذلك كما أنظر إلى كفي ان ال
يقول فيه تبيان كل شيء«) (5وجاء في نهج البلغة
.5اصول الكافي) 61 / 1 ،كما نقل المرحوم الكليني في هذا الباب عّدة روايات(.
] [ 406
»و في القرآن نبأ ما قبلكم وخير ما بعدكم وحكم ما بينكم«) (1وقال)عليه السلم(في موضع آخر بشأن القرآن
ن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم«) (2ولم يقتصر نقل هذه الحاديث لأّ »إ ّ
على أهل البيت)عليهم السلم( ،بل نقلت من طرق العامة أيضا ،فقد روى السيوطي في الدر المنشور عن
ن فيه علم الولين والخرين« .وروى عن الوزاعي في تفسير الية »و نزلنا الصحابي المعروف ابن مسعود »أ ّ
عليك الكتاب تبيانا لكل شيء .قال :بالسنة«) .(3وقد روى السيوطي في كتاب التقان هذا المعنى عن النبي)صلى
ال عليه وآله( أّنه قال» :في كتاب ال نبأ ما قبلكم وخبر ما يعدكم وحكم ما بينكم«) (4ثم قال :وقد أورده الترمذي
وغيره.
—–
] [ 407
القسم الثالث
ت ِإّل ِبِه«.
ظُلما ُ
ف ال ّ
ش ُ
غراِئُبُهَ ،ول ُتْك َ
ضي َ
عجاِئُبُهَ ،ول َتْنَق ِ
ق ،ل َتْفَنى َ
عِمي ٌ
طُنُه َ
ق َوبا ِ
ن ظاِهُرُه َأِني ٌ
ن اْلُقْرآ َ
»َوِإ ّ
—–
الشرح والتفسير
يختتم المام)عليه السلم( خطيته ـ في القسم الثالث ـ يوصف القرآن الكريم بخمس صفات تنطوي على حقائق
عظيمة بشأن أهمية القرآن ،مشيرا إلى ضرورة عدم غفلة القضاة والفقهاء عن هذا القرآن والستضاءة بنور
لخرى سوى السنة التي تستند ن القرآن يغنيسهم عّما سواه من المصادر ا ُ
حقائقه ومعارفه ،إلى جانب الشعور با ّ
لخرى سوى السنة التي تستند إلى القرآن وتفسير مضامينه .فقد قال فيالقرآن يغنيسهم عّما سواه من المصادر ا ُ
ن القرآن ظاهره أنيق«).(1
صفته الولى »و إ ّ
وأّما صفته الثانية »و باطنه عميق« .غالبًا ما يبتعد النسان عن رصانة المعنى إذا ما خاض في جمال الظاهر،
والعكس صحيح أيضًا فعادة ما يتعذر على النسان حسن إختيار اللفاظ إذا
» .1أنيق« من مادة »انق« على وزن رمق بمعنى الشيء الجميل.
.2للوقوف على المزيد راجع كتاب نفحات القرآن 114 / 8 ،بحث »اعجاز القرآن من حيث الفصاحة والبلغة«.
] [ 408
رام الدقة في أداء المعنى ،والخلصة تبدو عملية الجمع بين المعنى واللفظ ليست بالهينة; الحقيقة التي يمكن
مشاهدتها بوضوح في القرآن الكريم الذي جمع العمق في المعنى إلى جانب الرصانة والسبك في اللفظ.
أّما عمق القرآن فقد تلشت على سطحه كافة الفكار وتصاغرت أمامه جهايذة العقول ،و كيف ل يكون كذلك
وهو كلم ال الثابع من ذاته المقدسة المطلقة ،ولعل المتتبع يشعر بحقيقة هذه الكلمات ارا ما طالع أي من السور
القرآنية لتتجسد أمامه بوضوح الصفتين التين أوردها المام)عليه السلم( بشأن القرآن.
وأّما الصفة والرابعة للقرآن فهى »ل تفنى عجائبه ،ول تنقضي غرائبه« .ولعل الفارق بين هاتين العبارتين هو أ ّ
ن
العبارة الولى تتحدث عن خلود العجائب والحقائق القرآنية السامية ،و ذلك لننا الكثير من الكتب والمؤلفات
ن تقادم الزمان قد سلبها تلك الميزة وجردها من ُاعجوبتها،لأّوالمصنفات التي كانت ُاعجوبة في زمانها ،إ ّ
ن قراءته قد تشكف له كل يومل لذة وحلوة وطلوة ،بل إ ّ والقرآن ليس كذلك ،فل يزداد قارىء القرآن ومعبده إ ّ
ما كان غائبًا عنه بالمس; فتظل للفاظه ومعانيه مواقع السحر في النفس.
وأّما العبارة الثانية فهى تتحدث عن أسرار القرآن التي تتكشف يوما بعد آخر.
ل به« ليس فقط ظلمة الجهل وظلمة الكفر وإنعدام اليمان أّما الصفة الخيرة للقرآن فهى »و ل تكشف الظلمات إ ّ
والتقوى ،بل ليس لظلمات الحياة الجتماعية والسياسية والقتصادية دون التعاليم القرآنية .فاليوم وإن ازدهر
العالم من حيث الصناعة وقطع أشواطًا في الرقي التطور ،مع ذلك فهناك الظلمات الهائلة التي ألقت بظللها
ن من المعارك والقتال وسفك الدماء واستضحال أنواع الظلم والجور المشؤومة على المجتمعات البشرية التي فأ ّ
والضطهاد والفقر والحرمان ،والنكى من كل ذلك إنعدام ال من والستقرار وسيادة الفوض والقلق
ل نتيجة مباشرة لغياب معاني اليمان والتقوى والفقر الخلقي والمعنوي ،وليس هنالك والضطراب ،وما ذلك إ ّ
من سبيل للخروج من هذه المآزق سوى بالتمسك بالقرآن بل الدهى من ذلك هجر القرآن واللجوء إلى الراء
الظنية والفكار البشرية القاصرة على مستوى الحكام من قبل قطاعات واسعة من المسلمين.
] [ 409
تأّملن
1ـ القرآن والمسائل المستحدثة
ن المجتمع البشري في حالة حركة وتطور مستمر بحيث تستجد يوميا عّدة
هنالك سوال يقتدح في الذهان وهو :أ ّ
مسائل على الساحة ،فكيف للقرآن أن يواكب هذه الحركة في حين تتصف أحكامه بالثبات وعدم التغيير؟ وكيف
يسعه الرّد على المسائل المستحدثة؟
و للجابة على هذا السؤال نقول :هنالك نوعان من الحكام في القرآن الكريم هما :الحكام الجزئية والحكام
الكّلية .فالحكام الجزئية من قبيل الحكام التي ذكرت للصلة ككيفية الوضوء والغسل والتيمم وسائر المسائل
كالقبلة وعدد الصلوات وما شابه ذلك.
وأّما الحكام الكّلية فيراد بها القواعد العامة الواردة في القرآن والتي تتصف بالسعة والشمولية ،كقاعّدة وجوب
الوفاء بالعقود والمعاهدات )َأْوُفوا ِبالُعُقوِد() (1وقاعّدة »ل حرج« )و ما جعل عليكم في الدين من حرج()(2
وقاعّدة »ل ضرر ول ضرار« التي استفيدت من بعض اليات القرآنية ،وهى القواعد التي تلبي المتطلبات
لصول والقواعد الكلية التي صّرح بها الئمة)عليهم السلم( في كلماتهم .بعبارة النسانية في اضفنا إلى القرآن ا ُ
لصول الكلية فهى ثابتة ل يعتربها التغيير ،وتغيير
ُاخرى :الموضوعات في حالة تغيير مستمر ،أّما ا ُ
الموضوعات ل يعني سوى تبدل أحكامها حيث تخرج من حكم وتنضوي تحت حكم آخر ،وعليه فاننا نستطيع
اليوم وبالستناد إلى القواعد الكلية أن نستنبط كافة الجابات على المسائل المستحدثة التي لم يرد ذكرها على وجه
الخصوص في الكتاب والسنة ،فجعلها في كتاب نطلق عليه اسم المسائل المستحدثة ،ويقال أن أفضل دليل على
إمكان الشيء وقوعه )في إشارة إلى وجود مثل هذه الكتب وبكثرة لغلب فقهاء الشيعة والتي تصدت للجابة على
كافة المسائل المسجدة اليوم على الساحة(.
] [ 410
ل سأل المام
ن رج ًو نختتم البحث بحديث المام الصادق)عليه السلم( عن المام الرضا)عليه السلم( أ ّ
ن ال
ل غضاضة« فقال المام)عليه السلم(ل ّ الصادق)عليه السلم( »ما بال القرآن ليزداد على الدرس والنشر إ ّ
تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ول لناس دون ناس فهو في كل زمان جديدعند كل يوم غض إلى يوم
القيامة«(1).
] [ 411
الخطبة 19
قال للشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة يخطب فمضى في بعض كلمه شيء اعترضه الشعث فيه فقال يا
أمير المؤمنين ،هذه عليك ل لك ،فخفض)عليه السلم( إليه بصره ثم قال:
سَرك ل َلَقْد َأ َ
ن كاِفر! َوا ّ ق اْب ُ
ن حاِئك! ُمناِف ٌ ن! حاِئك اْب ُ
عِني َ
لِل َوَلْعَنُة ال ّ
عَلْيك َلْعَنُة ا ّ
ي ِمّما ِليَ ،عَل ّ
»ما ُيْدِريك ما َ
سا َ
ق فَ ،و َ سْي َ عَلى َقْوِمِه ال ّ
ن اْمَرًأ َدّل َ
ك! َوِإ ّ
سُب َ
ح َ
حَدة ِمْنُهما ماُلك َول َ ن وا ِخَرى! َفما َفداك ِم ْ سلُم ُأ ْ اْلُكْفُر َمّرًة َواِْل ْ
ف!
حْت َِإَلْيِهُم اْل َ
—–
قال السيد الشريف :يريد)عليه السلم( اّنه اسري الكفر مرة وفي السلم مرة واما قوله :دل على قومه السيف
فأراد به حديثًا كان للشعث مع خالد بن الوليد باليمامة ،غر فيه قومه ومكر بهم حتى أوقع بهم خالد وكان قومه
بعد ذلك يسمونه »عرف النار« وهو اسم للغادر عندهم.
.1جاء في كتاب مصادر نهج البلغة عدم وجود الختلف بين العلماء في نقل هذه الخطبة،قد نقلها من عاش قبل السيد الرضي،
كأبي الفرج الصفهاني في كتاب الغاني ،وقد توفي الصفهاني قبل نشر نهج البلغة 44سنة )مصادر نهج البلغة .(369 / 1،
] [ 412
الشرح والتفسير
ج في
شّج; لّنه ُ
ج سمى الش ّ
ن أسمه الشعث معدى كرب ،وأبوه قيس الش ّ 1ـ جاء في التأريخ بشأن الشعث أ ّ
شرحبيل بن يزيد بن امرىء القيس بنبعض حروبهم بن معدى كرب بن معاوية .وأم الشعث كبشة بنت يزيد بن ُ
عمرو المقصور الملك.
كان الشعث أبدًا أشعث الرأس ،فسّمي الشعث ،وغلب عليه حتى ُنسي اسمه.
2ـ اّما بشأن المناسبة التي دعت المام)عليه السلم( لمخاطبة الشعث بهذه الكلمات فهناك إختلف بين العلماء
ن أمير المؤمنين)عليه السلم( استوى جالسًا على منبر الكوفة فاخرج كتابًا فيه كلم رسول
فقد ورد في رواية أ ّ
ال)صلى ال عليه وآله( أّنه قال» :المسلمون تتكافؤ دماؤهم وهم يد على من سواهم من أحدث حدثا أو آوى محدثا
فعليه لعنة ال والناس أجمعين«).(1
فانبرى الشعث بن قيس المنافق قائل»:هذا وال عليك ل لك« فخفض المام)عليه السلم( إليه بصره فخاطبه
بهذه الكلمات أمام المل .ولعل مراد الشعث بن قيس إذا كانت دماء المسلمين متكافئة وهم يد على من سواهم ،فما
معنى قتالك لطائفة من المسلمين؟ )و الحال أن المنافقين الذين أوقدوا نار الجمل وصفين والنهروان كانوا يرون
المام)عليه السلم( خليفة رسول ال)صلى ال عليه وآله(فبالضافة إلى نص النبي)صلى ال عليه وآله(على
خلفته فقد بايعه الناس(.
نعود الن إلى شرح الخطبة ،فقد رد المام)عليه السلم( على الشعث بن قيس حين اعترضه بقوله »يا
أميرالمؤمنين هذا عليك ل لك« فقال» :ما يدريك ما علي مّما لي«.
حيث أراد المام)عليه السلم( أّنك لم تفهم كلمي وما أريد أن أقول .فمرادي هو دعوة المسلمين إلى الوحدة
ل أّنك فهمت الكلم بالعكس .ثم
وانبههم إلى خطاهم في مسألة التحكيم ليرعووا عن تكرار مثل هذه الخطاء ،إ ّ
اغلظ عليه)عليه السلم(فقال» :عليك لعنة ال ولعنة اللعنيين«.
ن كل
و يشهد تاريخ الشعث وسيرته الخبيثة أّنه كان مستحقًا لمثل هذه اللعنة وعلى حد قول ابن أبي الحديد فا ّ
فساد في خلفة علي)عليه السلم( وكل اضطراب حدث فاصله الشعث) (2ثم
.1ورد في عّدة روايات ان المراد بقوله »من أحدث حدثا« القتل وسفك الدماء وهو المعنى النسب لهذه العبارة ،راجع وسائل
الشعية11 / 19 ،ـ 19ابواب القصاص ،الباب 4و . 8
ن الحياكة كانت إختلفت أقول الشّراح بشأن المراد من »حائك« فقد حملها البعض على المعنى الظاهري على أ ّ
ل للشعث وأبيه وقد كانت مهنة تمارس من الطبفة الوضيعة في المجتمع آنذاك البعيدة عن معاني المعارف شغ ً
ن هذا المعنى لينسجم وما ورد في ترجمة الشعث وأبيه; لّنهما لمالدينية والداب الجتماعية والمدنية ،غير أ ّ
يكونا يعملن بهذه المهنة.
ن احد معاني »حائك« بمعنى الشخص الذي ن المراد بها النسان المتكبر والناني ل ّ و ذهب البعض الخر إلى أ ّ
ن المراد بها المعنى الكنائي وهو حياكة الباطيل والكاذيب وهذا ما
يتبختر في مشيه ويتكبر) (1وأخيرًا قيل بأ ّ
كانت عليه سيرة الشعث وأبيه; ول تقتصر هذه الكناية على اللغة العربية فحسب بل وردت في سائر اللغات
أيضًا.
ن هناك رواية أشارت بوضوح إلى هذا المعنى ،فقد ورد الكلم عن الحائك عند المام والجدير بالذكر فا ّ
الصادق)عليه السلم( فقال)عليه السلم(» :اّنه ملعون ،الحائك ملعون« ثم قال)عليه السلم( في تفسير ذلك »إّنما
ذلك الذي يحوك الكذب على ال وعلى رسوله«).(2
ن أفعاله في زمان حكومة المام)عليه السلم(إّنما ن المام)عليه السلم( عده منافقًا فذلك مّما ل نقاش فيه ل ّ
إّما أ ّ
تشير إلى أّنه كان من رؤوس النفاق ،فقد كان يشكل أحد العوامل التي أدت إلى شهادة أميرالمؤمنين على)عليه
السلم( وفشل المسلمين في معركة صفين ونشوب معركة النهروان وبروز مسألة التحكيم ،وقد كان في أصحاب
أمير المؤمنين)عليه السلم( كما كان عبد ال بن أبي بن سلول في أصحاب رسول ال)صلى ال عليه وآله( كل
ن نفاقه أشهر من نار على علم ،واّما التعبير بالكفار عن
واحد منهما رأس النفاق في زمانه (3).وزيدة الكلم فا ّ
أبيه فذلك من مسلمات التاريخ حيث كان من المشركين وقد قتل في الجاهلية إثر خلفات قبلية.
ثم قال)عليه السلم(» :وال لقد أسرك الكفر مرة والسلم ُاخرى! فما فداك من واحدة منهما مالك ولحسبك« .فقد
أورد ابن أبي الحديد :فأّما السر الذي أشار إليه أميرالمؤمنين)عليه السلم( إليه في الجاهلية فقد ذكره ابن الكلبي
ج ،خرجن ُمرادا لما قتلت قيسًا الش ّ
في »جهرة النسب« فقال :إ ّ
» .1حائك« :وتأتي أحيانا من مادة »حوك« بمعنى الحياكة والنسيج ،وتأتي أحيانا من »حيك« بمعنى التكبر والخيلء أثناء المشي.
.2وسائل الشيعة ،101 / 12 ،الباب ،23من أبواب ما يكتسب به ،الحديث .2
] [ 414
حبيل بن
شَر ْ
الشعث طالبًا بثأره ،فخرجت ِكندة ُمتساندين على ثلثة ألوية :على أحد اللوية َكْبس ابن هانى بن ُ
طلعت بني فلن، ى بن ربيعة بن معاوية الكرمين ويعرف هاني بالمطلع ،لّنه كان يغزو فيقول :ا ّ الحارث بن عد ّ
فسّمى الُمطِلع ،وعلى أحدها القشعم أبو جبر بن يزيد الرقم .وعلى أحدها الشعث أبو جبر ،وأسر الشعث ،فُفدى
ل)صلى ال عليه ن رسول ا ّبثلثة آلف بعير ،لم يفَد بها عربي بعده ول قبله ،وأّما السر الثاني في السلم ،فإ ّ
ل عليه وآله نفسه عليهم ،كما كان يعرض نفسه ل صلى ا ّ جاجا قبل الهجرة ،عرض رسول ا ّ وآله(لما قدمت كنده ح ّ
على أحياء العرب ،فدفعه بنو َوليَعَة ،من بني عمرو بن معاوية ولم يقبلوه ،فلما هاجر)صلى ال عليه
وآله(وتمهدت دعوته ،وجاءته وفود العرب ،جاءه وفد ِكندة ،فيهم الشعث وبنو َوليعَة فأسلموا فأطعم رسول
ضَر موت زياد بن ح ْ ضَر َموت ،وكان قد استعمل على َح ْطعمة من صدقات َ ل)صلى ال عليه وآله( بني َوليعة ُ ا ّ
ي النصاري ،فدفعها زياد إليهم ،فأبوا أخذها ،وقالوا :ل ظهر لنا ،فابعث بها إلى بلدنا على ظهر من لبيد البياض ّ
ل)صلى ال عليه حَدث بينهم وبين زياد شّر ،كاد يكون حربًا ،فرجع منهم قوم إلى رسول ا ّ عندك ،فأبي زيادَ ،و َ
وآله( ،وكتب زياد إليه)عليه السلم( يشكوهم.
ن يا بني َوليعة،
ل)صلى ال عليه وآله( قال لبني َوليعَةَ» :لتَنَتُه ّ
وفي هذه الَوقعة كان الخبر المشهور عن رسول ا ّ
ل عديل نفسى ،يقتل ُمقاتلتكم ،وبشيء ذراريكم« .قال عمر بن الخطاب :فما تمنيت المارة ن عليكم رج ً ل بعَث ّ
أو ً
ل يومئذ ،وجعلت أنصب له صدرى رجاء أن يقول :هو هذا ،فأخذ بيد على عليه السلم ،وقال» :هو هذا«. إّ
ل)صلى ال عليهل)صلى ال عليه وآله( إلى زياد ،فوصول إليه الكتاب ،وقد توّفى رسول ا ّ ثم كتب لهم رسول ا ّ
ن.
ن له أيديُه ّ
ضْب َ
خ َ
ت َبغاياهم ،و َ
وآله(وطار الخبر بموته إلى قبائل العرب ،فارتّدت بنو َوليعة ،وغّن ْ
ل)صلى ال عليه وآله( يعلم ذلك منهم .ولما وقال محمد بن حبيب :كان إسلم بني َوليعه ضعيفا ،وكان رسول ا ّ
شعب دخل أسامة بن زيد ليبول ،فانتظره رسول جة الوداع ،وانتهى إلى فم ال ّ
ل)صلى ال عليه وآله(ح ّج رسول ا ّ
حّ
حَبسنا! فكانت الّردة في أنفسهم.
ل عليه وآله ،وكان أسامة أسوة أْفطس ،فقال بنو َوليعَة :هذا الحبشى َ
ل صلى ا ّ
ا ّ
قال أبو جعفر محمد بن جرير :فأّمر أبوبكر زيادًا على حضر موت ،وأمره بأخذ البيعة على أهلها واستيفاء
صدقات من بني عمرو بن معاوية ،أخذ ناقًة لغلم منهم ل بني وليعة ،فلما خرج ليقبض ال ّ
صدقاتهم ،فبايعوه إ ّ
حجر ،وكانت صفّية نفيسة ،اسمها شذرة ،فمنعهيعرف بشيطان بن ُ
] [ 415
عها
جر ،فقال لزيادَ :د ْ
حْ
ج ،فاستغاث شيطان بأخيه العّداء بن ُ الغلم عنها ،وقال :خذ غيرها ،فأبى زياد ذلك ول ّ
ن شذرة عليكما كالَبسوس، ج زياد وقال لهما :ل تكوَن ّ ج الغلمان في أخذها ول ّ وخذ غيرها ،فأبى زياد ذلكَ ،وَل ّ
ل في داره .وهتفا بمسروق بن معدى كرب ،فقال ن أِك َ
ن الذليل َم ْ
فهتف الغلمان :يالعمرو! ُأنضام وُنضطهد! إ ّ
مسروق لزياد أطلقها.
ثم قام فأطلقها ،فاجتمع إلى زياد بن َلبيد أصحابه ،واجتمع بنو َوليعة ،وأظهروا أمرهم ،فبّيتهم زياد وهم غارون،
فقتل منهم جمعا كثير ،ونهب وسبى ،ولحق فّلهم بالشعث بن قيس ،فاستنصروه فقال :ل أنصركم حتى تمّلكونى
عليكم .فمّلكوه فخرج إلى زياد في جمع كثيف ،وكتب أبو بكر إلى المهاجر ابن أبي أمية وهو على صنعاء ،أن
يسير بمن معه إلى زياد ،فاستخلف على صنعاء ،وسار إلى زياد ،فلقواالشعث فهزموه وُقِتل مسروق،
جْير .فحاصرهم المسلمون حصارًا شديدًا حتى ضعفوا، ولجأالشعث والباقون إلى الحصن المعروف بالّن َ
ونزل ليل إلى المهاجر وزياد ،فسألهما المان على نفسه ،حتى قدما به على أبى بكر فيرى فيه رأيه; على أن يفتح
سلم إليهم من فيه .فحملواالشعث إلى أبي بكر مؤثقًا في الحديد ،فعفى عنه وزّوجه ،أخته أّم فروة
لهم الحصن وُي ْ
بنت أبى ُقحافة وكانت عمياء فولدت للشعث محمدًا وإسمعيل وإسحاق.
تأّملن
1ـ علة هذا الصطدام العنيف
لعل هنالك من يصاب بالذهول ممن ل يعرف مدى نفاق الشعث بن قيس لهذا الصطدام العنيف الذي اتبعه المام
إزائه حتى خاطبه بلعنة ال والناس أجمعين ،ثم وصفه بتلك الصفات الشائنة كقوله» :حائك بن حائك ،منافق بن
ل علىكافر ،وال لقد أسرك الكفر مرة والسلم ُاخرى! فما فداك من واحدة منهما مالك ول حسبك! وإن إمرًا د ّ
ن أدنى نظرة إلى التاريخ السودقومه السيف وساق إليهم الحتف! لحري أن يمقته القرب ،ول يأمنه إلبعد« أل أ ّ
الذي حفلت به حياة هذا المنافق لتكشف عن مدى فساده وافساده للوسط السلمي ،بل كان منقوتا حتى في
الجاهلية ،إلى جانب كونه اليد الخبيثه في تأجيج نار الحروب حتى اشتهر بلقب »عرف النار«.
] [ 416
نعم ،ليس هنالك ما يثير الدهشة والعجب في مخاطبته بهذه الكلمات من قبل المام)عليه السلم(.
والواقع لم يرد في كلم المام)عليه السلم( سوى بعض صفاته الشنيعة التي تحتم على القائد الحكيم في ظل
لّمة وانظارها لكي ل تنطلي عليها حيله والعيبه، بعض الظروف أن يعري بعض الفراد المتآمرين أمام أعين ا ُ
ول سيما طائفة الشباب من المجتمع التي قد ل تمتلك الطلع الكافي عن حياة وماضي ُاولئك الفراد ،اذن فقد
لّمة ،لّنها إنطلقت بدافع الساءة والسب والشتم.كانت كلماته من قبل التعريف به ل ُ
إذا كانت للشعث بن قيس مثل هذه السابقة في الغدر والنفاق واثارة القلقل والمفاسد ،لم صبر عليه المام )عليه
السلم( ولم يأمر بقتله؟ والجواب على هذا السؤال هو أن تعامل أئمة المسلمين مع عناصر النفاق ينطوي على
شيء من التعقبيد; فقد كانت عناصر النفاق تعيش الزدواج في تظاهرها بالسلم وأدائها لشعائره من قبيل الصوم
والصلة وقراءة القرآن ،واضمارها للكفر والتآمر والخيانة والفساد وعليه فالصطدام بهم قد يؤدي إلى إثارة
بعض التوترات وتعالي أصوات الرأي العام في قتل المسلمين من أهل القبلة دون التورع في سفك دمائهم ،ول
سيما بالنسبة للشعث الذي كان ينتمي إلى قوم وقبيلة; المر الذي يصعد من حدة التوتر ل محالة.
و قد شهد الرسول)صلى ال عليه وآله( مثل هذه المشكلة ،بل كانت أعظم حدة مّما هى عليه في عهد
ن يقال ان محمدًا)صلى
أميرالمؤمنين)عليه السلم(حتى ورد عنه)صلى ال عليه وآله( أّنه قال» :لول أّني أكره أ ّ
ال عليه وآله( استعان بقوم حتى إذا ظفر بعدوه فتلهم لضربت أعناق قوم كثير«(1).
أجل فقد كانت هنالك طوائف من المنافقين التي إندست بين صفوف المسلمين ،بل كانت تشهد حتى الغزوات إلى
جانبهم ،ولعل الصطدام بهم كان يعني أن السلم ليقيم وزنا لدماء المسلمين ،ومن هنا لم نسمع بان رسول
ن ذلك لم يكن ليمنع الرسول)صلى ال عليهلأّال)صلى ال عليه وآله( أمر بقتل أحدهم طيلة حياته المباركة ،إ ّ
لّمة.
وآله( بل القرآن في التصدي لهم وتعريتهم أمام ا ُ
—–
] [ 417
الخطبة 20
—–
الشرح والتفسير
لّمة من الغفلة ودعاها للتحلي باليقظة وتدارك ما فاتها من خلل العبودية والطاعة
لقد حذر المام)عليه السلم( ا ُ
خشية من الحداث التي تتنظرها في المستقبل القريب .فقد استهل
.1أورد المرحوم الكليني في كتاب الكافي في باب »ما يجب من حق المام على الرعية« بعض هذه الخطبة في ذيل رواية )راجع
كتاب الكافي 405 / 1 ،ح ،3باب ما يجب من حق المام على الرعية(.
] [ 418
كلمه)عليه السلم(بالقول »فاّنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم) (1وسمعتم واطعتم«.
ن المام)عليه السلم( قد القى هذه الخطبة في الجمعة الولى بعد البيعة ،و قد حذر و الذي يستفاد من الروايات أ ّ
لّمة ـ طبق رواية الكافي ـ من خيانة ائمتها ودعاها إلى الوحدة ورص الصفوف واجتناب الختلف والفرقة ،ثم اُ
أورد هذه الكلمات لتأكيد المعنى المذكور .اّما ما هى المواضيع التي سيشهدها النسان في عالم ما بعد الموت بعد
أن تطرح عنه الحجب فيسوده القلق والضطراب والجزع ،فهذا مّما اختلفت فيه أقوال العلماء ،لكن المسلم به أن
هناك موضوعين مهمين :أحدهما اّنه سيرى نتائج أعماله وما ينتظره من جزاء وعقاب عليها ،والثاني مدى
الحسرة والسف الذي سيشعر به تجاه تقصيراته التي صدرت منه في حياته الدنيا،المكانات التي كان من شأن
إستثمارها أن تبلغ به السعادة والفلح والفوز بالقرب اللهي ومجاورة الرحمن ،غير أنه ضيع كل تلك الفرص،
والدهى من ذلك لسبيل إلى الرجوع إلى الحياة ثانية.
ن هذه الحجب هى ثم قال)عليه السلم(» :ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا ،وقريب ما يطرح الحجاب« نعم أ ّ
ن هذه الحجب آيلة إلى الزوالالتي جعلتكم تغطون في هذه الغفلة وتتعلقون بالدنيا وتغترون بها ،ولكن اعلموا إ ّ
وسترون الشياء والحقائق كما هى حيث لينفع حينها القلق والجزع والفزع ،كما ليس هنا لك من مجال للتوبة.
وهنا يبرز هذا السؤال :لم ل يطرح البارىء سبحانه هذه الحجب عن النسان في الحياة الدنيا لينتبه إلى نفسه ول
ن اليات القرآنية قد تكّفلت بالجابة على هذا السؤال :فلو طرحت هذه الحجب ورأى يعيش السكر والغفلة؟ يبدو أ ّ
ن أدنى تمرد سيؤدي إلى مواجتهم للعذاب الشديد حيث لم يعّد هنالك من عذر الناس الحقائق على صورتها فا ّ
للتقصير.
فقد صّرحت الية الثامنة من سورة النعام و)ولو أنزلنا ملكًا لقضي المر ثم ل ينظرون(.
ن اليمان من جراء مشاهدة الحقائق المترتبة على ما بعد الموت سوف لن يكون
و بغض النظر عن هذا المر فا ّ
مدعاة للعبودية والطاعة وسيكون نوعًا من الجبار والضطرار ،كما
» .1وهلتم« من مادة »وهل« على وزن »وهب« بمعنى فقد صبره في مقابل الحوادث الصعبة ،وتأتي بمعنى الخوف واحيانا بمعنى
التأوه والنين.
] [ 419
نشاهد ذلك في الفراد ـ حتى الصبية منهم ـ حين يبدون ردود فعلهم المباشرة إذا ما إقتربت أيديهم من النار،
فاجتناب المعصية على هذا الضوء سوف لن يكون بدافع من الورع والتقوى و العبودية أبدًا.
أّما قوله)عليه السلم( »قريب ما يطرح الحجاب« فعمر النسان مهما كان ليس سوى لحظات عابرة مقارنة بعمر
الدنيا وزمان الخرة .ثم أشار المام)عليه السلم( إلى مسألة مهّمة بهذا الشأن وهى أّنكم وإن لم تروا عالم ما بعد
ن الدلة عليه قائمة لديكم ومعالمه واضحة أمامكم »ولقد بصرتم ان ابصرتم ،واسمعتم ان سمعتم، لأّالموت ،إ ّ
وهديتم إن اهتديتم«.
وعليه فليس هنالك من عذر لمن ضل السبيل وأخطأ المسيرة ،فالحقائق المرتبطة بعالم الخرة وان حجبت عنكم،
ل أّنكم على علم بها من خلل ثلثة طرق :الول من العتبار بما تشاهدونه في هذا العالم ،فاثار الفراعنة وقبور إّ
ن ال
السلف لدلة واضحة على العاقبة المريرة التي تنتهي إليها مسيرة القوام الظالمة والتي تشير إلى أ ّ
ن الدلة العقلية ليست بالقليلة وهى
بالمرصاد ،كما لديكم الكتب السماوية و الرسالت النبوية ،أضف إلى ذلك فا ّ
تقودكم بكل بساطة إلى المعاد واليوم الخر.
و عليه فعبارته)عليه السلم( إّنما تشير إلى الدلة الحسية والنقلية والعقلية.
ن البصيرة تطلق على الدراك العقلي كما يحتمل أن تكون الجملة الولى إشارة إلى الدلة الحسية والعقلية )ل ّ
أيضا( والجملة الثانية تلمح إلى الدلة النقلية ،بينما تشير الجملة الثالثة الهداية الناجعة من هذه الدلة .ثم قال)عليه
السلم(» :وبحق أقول لكم :لقد جاهرتكم العبر«
فالعالم مليىء بحوادث العبرة والعتبار التي ل تخفى على أحد ،فتلك آثار الفراعنة والقاصرة والكاسرة التي
عَلْيِهْم
ن َ
لمم السالفة .وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقولهَ) :و ِإّنـُكْم َلـَتُمّرو َتخبر عن أحوال من كان من ا ُ
ن()(1ل َأَفـل َتـْعِقُلو َ
ن* َوِبالّلـْي ِ
حـي َ
صِب ِ
ُم ْ
ك َوَأْوَرْثناها
ن* َكذ ِل َ
عُيون * َوُزُروع َوَمقام َكِريم * َوَنْعَمة كاُنوا ِفـيها فاِكِهـي َ جّنات َو ُ
ن َ
و قال ايضاَ) :كْم َتَرُكوا ِم ْ
ن().(2 ظِري َ
ض َوما كاُنوا ُمْن َلْر ُسماُء َوا َعَلْيِهُم ال ّ
ت َ
ن( .وقال في موضع آخر )َفما َبَك ْ خِري َ
َقْومًا آ َ
] [ 420
لدباء والشعراء تعرضوا فقد شحن القرآن بهذه اليات إلى جانب الروايات السلمية التي أكدت هذا المعنى .ا ُ
لهذه الحوادث في نتاجانهم مّما يثبت حقيقة قوله)عليه السلم(» :لقد جاهرتكم العبر« .ثم قال)عليه السلم(» :و
زجرتم بما فيه مزدجر«) .(1ولعل هذا الزجر يستند إلى لسان التكوين الذي ينطلق من أعماق التاريخ واخبار
جٌر().(2
لْنباِء ما ِفـيِه ُمْزَد َ
نا َ
الماضين كما صور ذلك القرآن الكريم )َوَلَقْد جاَءُهْم ِم َ
أو عن طريق لسان التشريع والوحي الذي ورد في الكتب السماوية .وعليه فقد تمت الحجة تكوينًا وتشريعًا ولم
ل البشر« .فما هذا النتظار؟ يعّد هنالك من عذر .ثم قال)عليه السلم(» :و ما يبلغ عن ال بعد رسل السماء إ ّ
أتتوقعون أن تهيط عليكم الملئكة ويتلون عليكم اليات؟ فقد تشدق بذلك الكفار على عهد النبي)صلى ال عليه
ل الَملِئَكَة ِإ ّ
ل ن() .(3فرد عليهم القرآن بالقول):ما ُنَنـّز ُ
صادِقـي َ
ن ال ّ
ت ِم َ
ن ُكْن َ
وآله(قائلينَ) :لْو ما َتْأِتـينا ِبالَملِئَكِة ِإ ْ
لمم
ن() (4وخلصة القول فان ال قد أتم حجته عن طريق المشاهدات الحسية لثار ا ُ ظِري َق َوما كاُنوا ِإذًا ُمْن َ
حـ ّ
ِبال َ
السابقة ومن خلل العقل وأخيرًا الوحي ،وليس لحد أن يخرج عن سبيل الطاعة بحجة »لول أنزل علينا
الملئكة«.
ملحظة
عالم ما بعد الموت
ن الحجب الظلمانية ل تدعنا نرى حوادث ن هنالك الغشية الغليظة التي تحول بيننا وبين ذلك العالم وأ ّ
صحيح أ ّ
عالم البرزخ )و ينبغي أن يكون المر كذلك ; فلو طرحت الحجب لفقد المتحان حرارته ول نطلق الجميع في
ن اليات القرآنية
حالة شبه إضطرارية نحو الحق فلم يعّد هنالك من معيار لتمييز المطيع من العاصي( ،غير أ ّ
والروايات السلمية الواردة عن أئمة
» .1زجرتم« و»مزدجر« من مادة »زجر« بمعنى الصدعن عمل بصوت عال ،ثم اطلق على كل منع صدر كما يستعمل في التهي عن
الذنوب.
] [ 421
العصمة)عليه السلم( قد أشارت إلى طبيعة هذا العالم المرعب ،كما بينت مدى الهلع الذي يعتري النسان حين
ب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما مشاهدته لملك الموت وحين يرى ما عمل حاضرا أمامه ،فينطلق صوته »ر ّ
تركت«) (1فيأتيه الجواب بالسلب ،فليس هنالك من سبيل إلى الرجعة كاستحالة عودة الجنين إلى رحم ُاّمه.
و قد أشار المام علي)عليه السلم( في بعض خطبه في نهج البلغة إلى هذا المر ،من ذلك أّنه قال» :يفكر فيم
ل جمعها اغمض في مطالبها ...واشرف على فراقها تبقى لمن ورائه«) أفنى عمره وفيم أذهب دهره ويتذكر أموا ً
ن كل هذا الجزع والفزع من جراء مشاهدة ذلك العالم الخطير ورؤية ملك الموت .وقد أسمعنا أولياء ال (2أجل أ ّ
من ائمة الدين ما ينبغي سماعه عن تلك المنازل المرعبة ،إن كانت لنا آذانا صاغية.
»الّلهم ارزقنا عينًا بصيرة واذنًا سميعة وقلبًا حافظًا ،لنتزود لتلك الدار قبل وفاتنا وفوات الوان ،فنحلق إلى
ذلك العالم بقلب مطمئن ونفس واثقة ونفوز بقرب اوليائك من الشهداء والصديقين »و حسن ُاولئك رفيقا«.
الّلهم تقبل مّنا هذا الجهد المتواضع ومن علينا باكماله بفضلك ورحمتك.
الختام