Professional Documents
Culture Documents
نفحات الولية
في شرح نهج
البلغة
جزء 2
معروف
1432
المجلد الثاني
][4
][5
الخطبة)21 (1
ومن خطبة له)عليه السلم(
خُرُكم«.
حُقواَ ،فإّنما ُينَتظر ِبَأّولُكم آ ِ
خّففوا َتل َ
حُدوُكمَ .ت َ
ساعَة َت ْ
ن َوراَءُكم ال ّ
ن الغاَيَة أماَمُكم ،وإ ّ
»فإ ّ
—–
ن هذا الكلم لو وزن بعد كلم ال سبحانه وبعد كلم رسول ال)صلى ال عليه قال السيد الشريف الرضي :أقول :إ ّ
ل منه
وآله( بكل كلم لمال به راجحًا ،وبّرز عليه سابقًا فأّما قوله)عليه السلم(» :تخففوا تلحقوا« فما سمع كلم أق ّ
ل وما أبعد غورها من كلمة! وأنقع نطفتها من حكمة! وقد نبهنا في كتاب مسموعًا ول أكثر منه محصو ً
»الخصائص« على عظم قدرها وشرف جوهرها.
شرح الخطبة
تخففوا تلحقوا !
ورد هذا الكلم ضمن سياق الخطبة ،167حيث تضمنت تلك الخطبة مثل هذه العبارات مع بعض الفوارق
الطفيفة.
.1نقل كتاب مصادر نهج البلغة هذه الخطبة التي أوردها السيد الرضي)رضي ال عنه( في الخصائص 87 /وأضاف في ذيل
ل) :رواها »الطبري« في تأريخه ضمن حوادث سنة 35هـ )مصادر نهج البلغة
الخطبة 167ـ التي تعد هذه الخطبة جزءًا منها ـ قائ ً
371 / 1و .(403 / 2
ن الّمة بايعت عليًا)عليه السلم( يوم الجمعة لخمس بقين من شهر ذي الحجة وأّنها أول
ويتبين من الرجوع إلى تأريخ الطبري أ ّ
خطبة أوردها علي)عليه السلم( ضمن خطبته .167تأريخ الطبري .457 / 3
][6
ن الخطب الثلث قد صدرت معًا عن أمير المؤمنين)عليه السلم( في موضع واحد ،ثم
وهناك احتمال آخر في أ ّ
ت ثلثة أقسام.
صّنف ْ
ن هذا القسم من الخطبة ـ والذي ل يتجاوز بضعة عبارات ـ وعلى حد تعبير السيد الرضي لو على كل حال فإ ّ
وزن بعد كلم ال وبعد كلم رسول ال)صلى ال عليه وآله( لمال به راجحًا! والحق ان المر كذلك حقاً ماهذه
الفصاحة والبلغة في كلمات قصار تتعّرض لمثل هذه الحقائق السامية!
لّمة بادئ المر إلى مفهوم المعاد ومحكمة العدل اللهي ليلفت إنتباههم من خلل ذلك إلى عظم فالمام ينّبه أبناء ا ُ
المسؤوليات والوظائف التي ينبغي لهم أن ينهضوا بها في خلفته ،ويحذرهم من كافة ألوان النفاق والتشتت
والفرقة والنكوص عن إداء الواجبات .وأخيرًا يذكرهم بالعاقبة التي تنتظرهم بعد العرض على ال يوم القيامة،
فأّما الجّنة وأّما النار »فإن الغاية أمامكم ،وإن وراءكم الساعة تحدوكم«.
وأّما التعبير بـ »الساعة« فقد صّرح بعض شارحي نهج البلغة بأّنه إشارة إلى القيامة الصغرى; أى الموت.
ن عوامل الموت إّنما تكمن وراء النسان ،فهى تسوق النسان من الطفولةفقوله)عليه السلم(» :وراءكم« يفيد أ ّ
إلى الشباب ومن الشباب إلى الكهولة والشيخوخة وأخيرًا من الشيخوخة إلى انقطاع الحياة .في حين صّرح
ن المراد بـ »الساعة« هو ساعات
البعض الخر بأ ّ
][7
الليل والنهار وكأّنها المر الصارم الذي كمن خلف النسان ويسوقه إلى حتفه .وليس هناك من فوارق تذكر بين
هذين التفسيرين حيث مؤداهما واحد .وبالستناد إلى أن كلمة »تحدوكم« المشتقة من مادة »حدو« بمعنى »السوق
والدفع نحو الشيء«.
ن الذي يتبادر إلى الذهن هو أن تقلب الليل والنهار والشهر والسنة رغم تقريبها النسان من وصول أجله
فإ ّ
ن هذه العبارة
وانقطاع حياته ،غير أّنها تشكل عوامل غفلته بفعل اختلطها بزخارف الدنيا وزبرجها .فالواقع هو أ ّ
التي تصدرت الكلم رغم قصرها قد أشارت إلى القيامة الكبرى إلى جانب إشارتها إلى القيامة الصغرى; المر
الذي يعّد المستمع للصغاء إلى المرحلة اللحقة.
فأورد)عليه السلم( هذه الجملة المقتضبة العميقة المعنى» :تخففوا تلحقوا« عادة إذا ما انطلقت قافلة من الناس إلى
ن أولئك الفراد المثقلين بالحمالمكان وواجهت هذه القافلة بعض المنعطفات التي ليمكن اجتيازها بسهولة فإ ّ
غالبًا ما يتخلفون عن القافلة التي ل يسعها الوقوف من أجل فرد أو بضعة أفراد فل يكون أمامها سوى تجاوز ذلك
الفرد ومواصلة السير والحركة .أّما ذلك الفرد الذي تخلف عن القافلة فإّنه سيكون لقمة سائغة لقطاع الطرق
ق المخفون طريقهم بسرعة تجعلهم يصلون إلى هدفهم أسرع من الجميع. واللصوص وذئاب الصحراء ،بينما يش ّ
وهذا هو حال بني آدم في هذه الدنيا ،فهم مسافرون وقد شّدوا الرحال إلى الحياة البدية التي تعّقب الموت .فمن
ثقل حمله من متاع الدنيا وحطامها كان لقمة سائغة للشيطان ،أّما أهل الورع والزهد والتقوى فإّنهم سيحثون
الخطى سريعًا لينالوا سعادة الخرة والفوز بالخلود.
وقد أّكد المام)عليه السلم( هذا المعنى ـ في الخطبة 204ـ حين نادى أصحابه» :تجّهزوا ـ رحمكم ال ـ فقد
ن أمامكم عقبة كؤودا ومنازل مخوفة مهولة«.
نودى فيكم بالرحيل وأقّلوا الُعرجة على الدنيا ...فإ ّ
وقد شبه بعض شّراح النهج النسان بالمسافر الذي يجوب البحر وهو يواجه أمواجه العاتية حيث سيكون الغرق
مصيره الحتمي إذا لم يخف مؤونة سفينته.
ب الدنيا والنغماس
وقد شبهوا قلب النسان بهذه السفينة ،التي ستواجه الغرق ل محالة إذا ما أثقل ذلك القلب بح ّ
في الشهوات(1).
][8
وأخيرًا يختتم المام علي)عليه السلم( خطبته بقوله» :فانما ينتظر بأولكم آخركم« .وتدل هذه العبارة بوضوح
ن عالم البشرية بحكم القافلة الواحدة التي تشتمل على المقدمة ـ التي سبقت بالحركة ـ والوسط والمؤخرة;
على أ ّ
خرتها بمقدمتها ،وبعبارة ُاخرى فإنّ قانون الموت ل يعرف الحصر والستثناء وهى تواصل مسيرتها لتلتحق مؤ ّ
ن عاقبة الولين نذير مبين للخرين.
وهو المحطة التي سيتوقف عندها الجميع .وبناًء على ما تقّدم فإ ّ
عاقبة المثقلين!
ن أهم عامل يقف وراء خسران طائفة من الناس والذي تضمنته كلمات المام)عليه السلم( في خطبته إّنما يكمن إّ
في إثقال كاهلها بالتكالب على متاع الدنيا الزائد عن حاجتها في حياتها الدنيوية المتواضعة.
ن فردًا ينطلق للسفر ليوم واحد وقد حمل مقدارًا من الخبز والماء والفاكهة لما يكفيه لذلك اليوم،ولك أن تفرض أ ّ
بينما حمل الخر عدة حقائب وقد ملها بمختلف الطعمة والشربة والفاكهة وانطلق إلى سفره .فمن البداهة أن
ينطلق الول بكل هدوء وخفة وخطى واثقة وحثيثة دون أن يشعر بالكلل والتعب ،في حين سينقطع نفس الثاني
ول يسعه مواصلة السير والحركة .وهذا هو المصير الذي ينتظر أولئك الفراد الذين جعلوا همهم في الدنيا
ومتاعها الزائل وجعلوا يفّكرون ليل نهار في كيفية حفظ هذه الموال ،حتى أنستهم ذكر ال ،ولم يكتفوا بذلك
ففقدوا حتى السكينة والطمأنينة في حياتهم الدنيا.
هذا وقد تطرق بعض شّراح نهج البلغة إلى قصة الصحابي الجليل سلمان الفارسي)رضي ال عنه(كشاهد حي
ونموذج لقول المام علي)عليه السلم( »تخففوا تلحقوا« وذلك حين نصب واليًا على منطقة المدائن فركب دابته
وانطلق بمفرده إليها.
فاتصل بالمدائن خبر قدومه ،فاستقبله أصناف الناس على طبقاتهم ،فلما رأوه قالوا :أيها الشيخ أين خّلفت أميرنا؟
قال :ومن أميركم؟ قالوا :المير سلمان الفارسي صاحب رسول ال)صلى ال عليه وآله(.
][9
ن حماري هذا خير لي وأوفق .فلما دخل البلد أرادوا أن ينزلوه فترجلوا له وقادوا اليه المراكب والجنائب .فقال :إ ّ
ي صاحب الحانوت فاستأجر منه .وكان دارالمارة قال :ولست بأمير .فنزل على حانوت في السوق وقال إدعوا إل ّ
ن سيل وقع في البلدمعه وطاء يجلس عليه ومطهرة يتطّهر بها للصلة وعكازة يعتمد عليها في المشي .فأتفق أ ّ
فارتفع صياح الّناس بالويل والعويل يقولون :وا أهله وا ولداه و وا ماله ،فقام سلمان ووضع وطائه في عاتقه
وأخذ مطهرته وعكازته بيده وإرتفع على صعيد وقال :هكذا ينجو المخّففون يوم القيامة(1).
ن هذا الكلم لو وزن بعد كلم ال سبحانه وبعد والطريف في المر ما ذكره السيد الرضي)رضي ال عنه( من أ ّ
كلم رسول ال)صلى ال عليه وآله(بكل كلم لمال به راجحًا .ولسيما قوله)عليه السلم( :تخففوا تلحقوا.
فما أبعد غورها وأعظمها من حكمة وموعظة رغم قصرها; المر الذي دفع بالسيد الرضي)رضي ال عنه( إلى
السهاب في الخوض في تفاصيلها في كتابة »الخصائص«.
—–
] [ 10
] [ 11
الخطبة 22
ن ويتهّددهم بالحرب.
وفيها يذّم عمَلهم ويلزمهم دَم عثما َ
القسم الول
ل! ما
طُل إلى ِنصاِبِهَ ،وا ِ
جوُر إلى أوطاِنِه وَيرجَع البا ِ
جلَبُه ِلَيُعوَد ال َ
ب َ
حزَبُه َواستجَل َ شيطان َقْد َذّمر ِ ن ال ّ
»أل وإ ّ
صفًا«. ي ُمنَكرًا ،ول جَعُلوا َبيِني َوَبيَنهم َن ِعل ّ
أنكُروا َ
—–
.1لقد أورد هذه الخطبة وشرحها كل من المرحوم »الشيخ المفيد« في »الرشاد« في الفصل 22من كلمات المام علي)عليه
لمة المجلسي في بحار النوارالسلم( ،والكليني في »الكافي« 53 / 5كتاب الجهاد إلى جانب بعض الخطب الخرى ،والمرحوم الع ّ
ل:
.193 / 32كما ذكرها ابن أثير في عدة مواضع من كتابه النهاية بتناسب مفردات الخطبة .ويضيف مؤلف مصادر نهج البلغة قائ ً
ن هذه الخطبة ذات إرتباط
لقد أقتبست هذه الخطبة من سائر خطبه)عليه السلم( ،فهو يعتقد بأّنها مرتبطة بالخطبة ،26كما يرى بأ ّ
بالخطبة 172ـ مصادر نهج البلغة .373 / 1
] [ 12
وردت هذه الخطبة ـ كما يفهم من عنوانها ـ بشأن طلحة والزبير بعد نقضهما البيعة وما تلها من أحداث مريرة
تمثلت إحداها بمعركة الجمل ،كما تشير إلى قضية المطالبة بدم عثمان التي تمسك بها أصحاب الجمل والتي
استغلت فيما بعد من قبل أهل الشام.
وأخيرًا تتضمن مذمتهم وتقريعهم من جانب المام)عليه السلم( والرد الحاسم على تهديداتهم وتخرصاتهم .وتبدو
مضامين هذه الخطبة أكثر شبهًا بخطبه 26 ،10و ;172المر الذي جعل من المحتمل أن تكون كل خطبة من
هذه الخطب جزءًا من خطبة واحدة وقد قام السيد الرضي)رضي ال عنه( بتجزأتها على ضوء ما يناسب المقام.
لأّ
ن ن هذه من الخطب المتعلقة بمعركة صّفين ،وقد عنت عباراتها معاوية) ،(2إ ّ
يرى بعض شّراح نهج البلغة أ ّ
الذي يستفاد من عنوان الخطبة الذي اعتمده السيد الرضي)رضي ال عنه(وكلم ابن أبي الحديد) (3وسائر
ن هذه الخطبة إّنما تتناول ناكثي البيعة من أصحاب الجمل ،وإن كانت مضامينها تتناسب وحال
الشّراح أ ّ
الطائفتين; الجمل وصفين.
الشرح والتفسير
وقعة الجمل
ن الخطبة وردت بخصوص أولئك الذين أججوا نيران فتنة الجمل; أي طلحة والزبير ورهطهما. أشرنا سابقًا إلى أ ّ
فقد كان كل من طلحة والزبير يطمع في الحكومة ولما صرفها المام)عليه السلم( عنهما ولم يكن مستعّدا
لتقليدهما أّية مسؤولية في حكومته ،ثارت ثائرتهما وقادهما
ل عن الحتجاج للطبرسي.
.1بحار النوار 267 / 32ح 206نق ً
] [ 13
هوى أنفسهما لنقض البيعة ،وأخذا يجيشان الجيوش بما فيها عائشة ـ زوج النبي)صلى ال عليه وآله( ـ ويهيا لقتال
علي)عليه السلم( بذريعة الطلب بدم عثمان) ،(1وقد إختارا البصرة ـ التي كانت ممهدة آنذاك لمثل هذه الفتنة ـ
مركزًا لمؤامراتهم الدنيئة على المام)عليه السلم(.
ن الشيطان قد ذمر)(2حزبه
فالمام)عليه السلم( يتطرق في بداية الخطبة إلى هذه المؤامرة فقال» :أل وإ ّ
واستجلب جلبه) (3ليعود الجور إلى أوطانه ويرجع الباطل إلى نصابه«.
لّمة لعلي)عليه
فهو يشير)عليه السلم( إلى النحرافات والضطرابات التي أعقبت قتل عثمان ومبايعة ا ُ
السلم(بالخلفة .والمراد بحزب الشيطان ـ في الخطبة ـ أولئك الذين تسّلطوا على بيت مال المسلمين أبان حكومة
عثمان وتولوا بعض المناصب الخطيرة ،كما كانوا يتطلعون للسيطرة على الخلفة ،فالمام)عليه السلم( يحذر
لّمة من هؤلء الشياطين الذين يتربصون بها الدوائر وإّنهم يحيكون المؤامرات من أجل الستحواذ ثانية على
اُ
بيت المال وممارسة الظلم والجور بحق المسلمين والحيلولة دون قيام المام)عليه السلم( بوظيفته في إصلح
المجتمع السلمي وإجتثاث جذور الفساد والنحراف التي برزت واستفحلت في خلفة عثمان.
وأخيرًا يصرح المام)عليه السلم( بعدم وجود أى دليل أو منطق يسوغ لهؤلء الوقوف بوجه المام وقتاله »وال
ى منكرًا ول جعلوا بيني وبينهم نصفًا«.
ما أنكروا عل ّ
فهو يشير)عليه السلم( إلى طلحة والزبير والطائفة التي نكثت البيعة ،كما يتطرق)عليه السلم( إلى حجتهم
الواهية المتمثلة بقتل عثمان .ثم يورد)عليه السلم( أقسى العبارات بحّقهما.
.1لم تكن قضية المطالبة بدم عثمان شعار أهل الشام وذريعتهم لشعال فتيل صفين ،بل استغلت كذلك من قبل طلحة والزبير وعائشة
ن عائشة حين قدمت إلى المدينة من مّكة سمعت لتنتهي بنشوب معركة الجمل .وقد ذكر ابن أثير ـ الموّرخ المعروف ـ في »الكامل« أ ّ
أثناء الطريق بقتل عثمان واجتماع الّمة على علي)عليه السلم( ،فاغتمت وقالت :ليت السماء أطبقت على الرض ولم يقع هذا ،ثم
ن عثمان ُقتل وال مظلومًا« فقام إليها من قال لها :إّنك أول من تحدثت ضد عثمان واسميته نعث ً
ل أمرت باعادتها إلى مّكة .فقالت »إ ّ
ل فقد كفرل تعني العجوز الحمق( وأنت قلت :إقتلوا نعث ً
ل رجل يهودي كث اللحية ،وقال صاحب »لسان العرب« أن نعث ً )قيل أن نعث ً
)الكامل .(206 / 3
.2ذّمر من مادة »ذمر« بمعنى »التشجيع والحث« وقيل بمعنى التحريك المقرون بالذم والعتاب ،ومن هنا كان الذمر على وزن
»الذهن« يعني الرجل الشجاع والمتحرك.
.3جلب تعني في الصل السوق والنتقال ويقال الجلب بالنسبة للفراد الذين يجمعون بسهولة .استجلب هنا بمعنى الجتماع.
] [ 14
نعم لقد تنكرت كافة المصادر السلمية والكتب التأريخية لنسب قتل عثمان إلى المام علي)عليه السلم( ،بينما
ن المام سعى أكثر من غيره لخماد نار الفتنة ،فهو القائل)عليه السلم(»وال لقد دفعت عنه حتى تصّرح بأ ّ
خشيت أن أكون آثمًا« فلم يّتبع الناكثون في هذه الحكام المتسّرعة ،العدل والنصاف بقدر ما تشّبثوا بالكذب
والتهمة والظنة .ول يبدو من الغرابة اللجوء إلى مثل هذه الساليب بالنسبة لولئك الذين يسعون إلى ضمان
مصالحهم وتحقيق أهدافهم .وما أكثر ما نشاهده في عصرنا الراهن من الساسة الظلمة الذين ل يتحفظون عن
أبشع الساليب الدنيئة من أجل ضمان مصالحهم اللمشروعة.
لقد تضّمنت خطبة المام)عليه السلم( إشارة لطيفة إلى ما أورده القرآن الكريم في آخر سورة المجادلة ،حيث
صنفت الية القرآنية المباركة الناس إلى حزبين هما» :حزب ال« و»حزب الشيطان« ،كما أشارت إلى الميزة
ل َواْلَيْوِم
ن ِبا ّ
جُد َقْومًا ُيـْؤِمُنو َالرئيسية التي يّتصف بها حزب ال وهى صفة الحب في ال والبغض في ال )ل َت ِ
ب ِفي ُقُلوِبِهُمشـيَرَتُهْم ُأولـِئك َ َكَت َ عِخواَنُهْم َأْو َسوَلُه َوَلْو كاُنوا آباَءُهْم َأْو َأْبناَءُهْم َأْو ِإ ْ ل َوَر ُ ن حاّد ا ّ ن َم ْ
خِر ُيواّدو َ ال ِ
عْنُه
ضوا َ عْنُهْم َوَر ُل َ يا ّ ضـ َ ن ِفـيها َر ِ لْنهاُر خاِلِدي َ حِتها ا َ ن َت ْجِري ِم ْ جّنات َت ْ خُلُهْم َ
ن َوَأّيَدُهْم ِبُروح ِمْنُه َوُيْد ِ
ليما َ
اِ
ن().(1 حو َل ُهُم الُمْفِل ُ
با ّ حْز َ ن ِ ل َأل ِإ ّ
با ّحْز ُ ُأولـِئك َ ِ
وفي مقابل ذلك هناك حزب يهم بحفظ مصالحه ويعتمد أسلوب النفاق والخداع ول يتورع عن موالة أعداء ال
عَلْيِهُم
حَوَذ َ
سَت ْ
وإظهار المودة لهم إلى جانب بث بذور الظلم والفساد بين صفوف العباد ،فيصفهم القرآن قائلِ) :إ ْ
ن().(2
سُرو َن ُهُم الخا ِ
شْيطا ِ
ب ال ّ
حْز َ
ن ِ
ن أل ِإ ّ
شْيطا ِ
ب ال ّ
حْز ُ
ل ُأولـِئك َ ِ
ن َفَأْنساُهْم ِذْكَر ا ّ
شْيطا ُ
ال ّ
والحزبان المذكوران ل يختصان بزمان نزول القرآن وعصر صدر السلم ،بل تتعدد صورهما وأشكالهما في
كافة العصور والدهور .ولو ألقينا نظرة عابرة على عالمنا المعاصر
] [ 15
لشاهدنا بوضوح هذين التيارين وقد كمن أحدهما مقابل الخر ،فعادة ما يستند حزب الشيطان إلى منطق القوة
الغاشم والغطرسة والموال والثروة والتآمر وممارسة الظلم والجور وبث بذور النفاق والفرقة وإشاعة الفساد
والنحراف ،بينمما يستند حزب ال إلى القيم والمثل والمبادئ الحقة ول يتوانى في التصّدي لزعماء الحزب
المذكور .يتربص حزب الشيطان عادة لستغلل الفرص المناسبة ومنها الثورات والنقلبات التي تطيح بحكومة
وتأتي بُاخرى .وأفضل شاهد على ذلك ما شهدته حكومة المام علي)عليه السلم( أوائل تشكيلها .فقد اّتفقت كلمة
ما تبقى من فلول الجاهلية الذين برزوا للوجود في خلفة عثمان على مواجهة ربيب السلم وتلميذ النبي)صلى
ال عليه وآله( المام علي)عليه السلم( ،فأشعلوا نيران الفتن التي كان من المقدر للمام إخمادها والتغلب عليها،
فعاثوا في الرض فسادًا بما لم يدع للمام من سبيل سوى الوقوف بوجههم ومقاتلتهم.
فالمام)عليه السلم( يحذر الّمة ومنذ اليوم الول لحكومته من مكايد حزب الشيطان وعدم النخداع بأساليبه
والعيبه القذرة.
ن للظلم والجور وطن وأّنه يستند إلى ُاسس ودعائم! نعم وطن الجوروأخيرًا يفهم من عباراته)عليه السلم( أ ّ
ن المبادئ التي ينتهجها حزب الشيطان لهى السسوالظلم هو الموضع الذي يتجحفل فيه عسكر الشيطان ،كما أ ّ
والدعائم التي يرتكز عليها الظلم والجور.
—–
] [ 16
] [ 17
القسم الثاني
عْلِمِه ِفيِهْم«.
عَلْيِهْم َو ِ
ل َ
جِة ا ّ
حّب! َوِإّني َلراض ِب ُ
جي َ
ن َدعا! َوِإلَم ُأ ِ
خْيَبَة الّداعي! َم ْ
يا َ
—–
الشرح والتفسير
المعّذرون المفتضحون!
يشرح المام)عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة ما أورده في بدايتها ،ثم يعرض الدلة القاطعة التي تدين
ناكثي البيعة ومؤججي نار الحرب ويفضحهم أمام المسلمين .فقد أشار)عليه السلم(إلى الذريعة الصلية التي
تمسك بها طلحة والزبير وأعوانهما; أي المطالبة بدم عثمان ،فقال)عليه السلم(» :وإّنهم ليطلبون حقًا هم تركوه
ن عليًا)عليه السلم(
ودمًا هم سفكوه« ـ روى المؤرخ المعروف الطبري في تاريخه عن أحد أصحاب عثمان أ ّ
كان في ماله بخيبر لما حصر عثمان ،فقدم المدينة والناس مجتمعون على طلحة ،وكان لطلحة في حصار عثمان
ن لي حق السلم وحق الخا والقرابة والصهر، أثر ،فلما قدم علي)عليه السلم(أتاه عثمان ،وقال له :أّما بعد; فا ّ
ولو لم يكن من ذلك شيء وكّنا في جاهلية ،لكان عارًا على بني عبد مناف أن يبتز بنو تيم أمرهم ـ يعني طلحة ـ
فقال له علي)عليه السلم( :أنا ُاكفيك ،فاذهب أنت .ثم خرج إلى المسجد فرأى ُاسامة بن زيد ،فتوكأ على يده حتى
دخل دار طلحة وهى مملوءة من الناس ،فقال له :يا طلحة ،ما هذا المر الذي صنعت
] [ 18
ن مس الخرام الطبين! فانصرف علي)عليه السلم(حتى أتى بيت المال ،فقال: بعثمان؟ فقال :يا أبا الحسن ،أبعد أ ّ
افتحوه ،فلم يجدوا المفاتيح ،فكسر الباب ،وفرق مافيه على الناس; فانصرف الناس من عند طلحة حتى بقي وحده،
وسّر عثمان بذلك; وجاء طلحة فدخل على عثمان ،فقال :يا أمير المؤمنين; إّني أردت أمرًا فحال ال بيني وبينه،
وقد جئتك تائبًا ـ فقال :وال ما جئت تائبًا ولكن جئت مغلوبًا; ال حسيبك يا طلحة (1).ثم ذكر الطبري في موضع
ن عثمان حين قتل ،خرج من عنده »سودان بن حمران« وهو يقول »أين طلحة؟ فقد قتلنا آخر من تأريخه أ ّ
عثمان«).(2
فالذي يستفاد من هذه الشواهد وسائر القرائن التأريخية أن طلحة كان من المخططين الرئيسيين لقتل عثمان .أّما
ل«ل! قتل ال نعث ً
جملة عائشة بشأن عثمان فهى معروفة مشهورة للجميع فقد كانت تنادي صراحة »اقتلوا نعث ً
وكانت تقصد بنعثل عثمان.
ابن أبي الحديد يصرح في شرحه لحدى خطب نهج البلغة بشأن موقعة الجمل فيقول :يعترف جميع المؤرخين
ن عائشة كانت من أعدى أعداء عثمان وهى التي أخرجت قميص رسول ال)صلى ال عليه المسلمين بأ ّ
ل عائشة ،وكانتن أول من دعا عثمان نعث ًوآله(وكانت تقول »هذا قميصه لم يبل وقد أبلى عثمان سنته« ،وقيل أ ّ
ن هذه
ل«) .(3فالعجيب ورغم ذلك قد خرج هؤلء للمطالبة بدم عثمان! ويبدو أ ّ ل قتل ال نعث ً
تقولُ» :اقتلوا نعث ً
المسائل ليست عجيبة في عالم السياسة )السياسة التي تفتقر إلى اليمان والتقوى والورع( في أن يتآمر بعض
الفراد ثم يهبون للوقوف بوجه هذه المؤامرات من باب الدفاع! ثم قال المام)عليه السلم(» :فلئن كنت شريكهم
فيه فان لهم لنصيبهم منه ولئن كانوا ولوه دوني فما التبعة إل عندهم«.
ن هؤلء شركاء في قتل عثمان ،ولو افترض باّني شريك أيضًا في هذا الدم )والحال اّني ن الجميع يعلم بأ ّ
فالمراد أ ّ
ن التهمة ثابتة بحقهم ،فان كانوا هم
لست غير شريك فحسب ،بل بذلت قصارى جهدي لطفاء نيران هذه الفتنة( فا ّ
النواة الصلية في هذا العمل فان عليهم أن يتحملوا مسؤولية عملهم! وإذا كان المر كذلك فما أوقحهم في قيامهم
ومطالبتهم إّياي بدم عثمان.
] [ 19
ل» :وإن أعظم حجتهم لعلي أنفسهم« .حيث يميط اللثام عن الدافع الرئيسي
ويواصل المام)عليه السلم( كلمه قائ ً
ن هؤلء كانوا يرغبون باستمرار الوضاع التي كانت سائدة على عهد عثمان ،فتجعل لهم بعض وهو أ ّ
ن ذلك العهد ولى واندرس وليس هنالك من سبيل إلى عودته إلى مسرح الحداثالمتيازات في بيت المال ،غير أ ّ
ثانية» :يرتضعون ُاّما قد فطمت ويحيون بدعة قد ُاميتت«.
كما وردت عدة تفاسير لقوله)عليه السلم(ُ» :اما قد فطمت« منها أن يكون المراد تلك السنن الجاهلية والبدع
والعصبية التي كانت سائدة قبل السلم ،حيث يتشبثون بكل الوسائل الخلقية من أجل الحكومة ،فأمير المؤمنين
لم التي فطمت فلم تعد هنالك من وسيلة لتحقيق المطامع«).(1 يصف ذلك العهد با ُ
ن جمع العبارتين ن هذا التفسير يناسب العبارة الثانية »ويحيون بدعة قد ُاميتت« ل العبارة الولى ،كما أ ّ ويبدو أ ّ
ن المراد أّنهم بمطالبتهم بدم عثمان إّنما يريدون احياء بمعنى واحد يخالف ظاهر اللفظ .في حين ذهب البعض إلى أ ّ
أيام حكومته ،رغم أن هؤلء المطالبون بدمه هم من بين الفراد الذين ثاروا عليه وسببوا قتله ومن هنا أرادوا أن
يرتضعوا أما قد فطمت .وبالطبع فانه يمكن الجمع بين كل هذه المعاني ،وإن بدأ المعنى الول أنسب .فالنتيجة
التي ستتمخض عنها حركة هؤلء الفراء سوف لن تكون سوى الفشل الذريع; المر الذي عبر عنه المام)عليه
السلم(بالقول »يا خيبة الداعي! وإلم ُأجيب«) .(2والواقع انهذه العبارة تكهن بالنتيجة التي ستؤول اليها معركة
ن عاقبتهم ستكون الفشل والهزيمة; عاقبة الغدرة الذين خططوا لقتل عثمان ثم الجمل .فالمام)عليه السلم(يعلن أ ّ
انبروا للمطالبة بدمه ففرقوا صفوف المسلمين فضلوا طائفة من الناس وخسروا الدنيا والخرة .ثم قال المام)عليه
السلم(» :وإّني لراض بحجة ال عليهم وعلمه فيهم« ولعل مراده بحجة ال ،ما ورد في الية القرآنية بشأن البغاة
خرى َفقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي
لْعلى ا ُ
حداُهما َ
ن َبَغت ِإ ْ
حوا َبْيَنُهما َفِإ ْ
صِل ُ
ن اْقَتَتُلوا َفَأ ْ
ن الُمـْؤِمِنـي َ
ن ِم َ
ن طاِئَفتا ِ )َو ِإ ْ
» .2الخيبة« بمعنى اليأس ،والمراد بالداعي هنا طلحة والزبير الذين دعوا الناس للخروج على عثمان .وقوله إلم ُاجيب ،تحقيرًا
لولئك الذين اتبعوهما دون دليل.
] [ 20
ل() .(1أّما قوله)عليه السلم(» :علمه فيهم« فقد تكون إشارة للحديث المشهور عن حّتى َتِفيَء ِإلى َأْمِر ا ّ
َ
النبي)صلى ال عليه وآله(بشأن علي)عليه السلم( »قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين« .فلما سألت أم سلمة
رسول ال)صلى ال عليه وآله( عن هذه الفرق الثلث قال :الناكثين أهل الجمل ،والقاسطين أهل الشام والمارقين
أصحاب النهروان«).(2
ولما كان المام)عليه السلم( راضى برضا ال وعالم بما ستؤول إليه الحداث من يأس العدو وهزيمته فان
روحه مفعمة بالرضى والهدوء والسكينة.
—–
ل عن ينابيع المودة.
.2إحقاق الحق 99 / 4نق ً
] [ 21
القسم الثالث
ن َأْبُرزَ
ي َأ ْ
ب َبْعُثُهْم ِإَل ّ
ج ِ
ن اْلَع َ
ق! َوِم َ
حّ صرًا ِلْل َ طِل َوَنا ِ ن اْلَبا ِ
شاِفيًا ِم َ ف َوَكَفى ِبِه َ سْي ِ حّد ال ّ
طْيُتُهْم َعَ ن َأَبْوا َأ ْ
»َفِإ ْ
ب! َوِإّني َلَعَلى َيِقين ِم ْ
ن ضْر ِ ب ِبال ّب َول ُأْرَه ُحْر ِ ت َوما ُأَهّدُد ِباْل َ جلِد َهِبَلْتُهُم اْلَهُبوُل! َلَقْد ُكْن ُصِبَر ِلْل ِ
ن َأ ْ
ن! َوَأ ْ طعا ِ ِلل ّ
ن ِديِني«. شْبَهة ِم ْغْيِر ُ َرّبي َو َ
—–
الشرح والتفسير
لقد تقدم المام)عليه السلم( بتحذير تلك العناصر من مغبة مواصلة الغواية وضرورة الوقوف على جسامة
الخطاء وهجر سبيل الشيطان والوفاء ببيعتهم للمام)عليه السلم(والكف عن إثارة الفتن وتأجيج نار الحرب.
ن عدم الرعواء ومنح الذان الصاغية للنصح سوف يضطره وهنا ـ في القسم الخير من الخطبة ـ يحذرهم من أ ّ
للتكلم معهم بلغة السيف ،السيف الذي كفى به شافيًا في الرد على عبدة الهواء والشهوات من أصحاب المنطق
الغاشم.
فقد قال)عليه السلم(» :فان أبوا أعطيتهم حد السيف« العلج الفضل للباطل »وكفى به شافيًا من الباطل وناصراً
للحق« .فما يقال أن رسول ال)صلى ال عليه وآله( حمل القرآن الكريم بيد والسيف بأخرى إّنما يكشف عن حقيقة
واقعية مسلمة في الحكومات اللهية .فالجهود التي بذلها النبياء من أجل إصلح المجتمعات واجتثاث جذور
الفساد والنحراف إّنما تكرست بالساليب المنطقية والعقلية واسداء النصائح والمواعظ بغية إلفات إنتباه الخاطئين
ن هناك طائفة قد جعلت عقلها وضميرها آلة طيعة بيد أهوائها وشهواتها ،فهى إلى أخطائهم ،ولكن من المسلم به أ ّ
لّمة
ل تعرف سوى لغة السيف والقوة; المر الذي يضطر زعماء ا ُ
] [ 22
ن ناكثي البيعة هم الذين بادروا إلى نشوب المعركة ،حيث هدوا المام)عليه السلم( بكل
فالعبارة تكشف بجلء أ ّ
وقاحة بإعداد نفسه لمواجهة سيوفهم وحرابهم ،وهذا ما نّوه إليه ابن أبي الحديد عن المؤرخ المعروف أبو مخنف
قوله :رجع رسل علي)عليه السلم(من عند طلحة والزبير وعائشة يؤذنونه بالحرب(4).
ن هذا التهديد يكشف عن مدى تعامي مؤججي فتنة الجمل عن رؤية الحقائق والوقائع ،وقد أعمى على كل حال فا ّ
ب المناصب والمقامات بصيرتهم وبصائرهم حتى لم يعودوا يروا الحقيقة المطلقة التي تهتف بانديتهم ليل نهار، ح ّ
أل وهى شجاعة وبسالة علي)عليه السلم( التي رأوها مرارًا وكراراً في الغزوات السلمية على عهد
النبي)صلى ال عليه وآله( .ثم عاود المام)عليه السلم( مواصلة حديثه في الستغراب من ذلك التهديد الفارغ
ليقدم الدليل القاطع على رفضه لما أوردوه فقال)عليه السلم(» :هبلتهم الهبول! لقد كنت وما ُأهدد بالحرب ول
ُأرهب بالضرب! وإني لعلى يقين من رّبي وغبر شبهة من ديني« ،قوله)عليه السلم( »هبلتهم الهبول«) (5ـ
بالستناد إلى مفهوم الهبل بمعنى الثكل
.1العبارة مثل عربي معروف وقد أشير إليه في بعض الروايات السلمية ومنها الخطبة 168من خطب نهج البلغة.
» .2طعان« بمعنى الضرب بآلة وتستعمل عادة للرمح ويقال لذرب اللسان طعن أيضًا.
» .3جلد« من مادة »جلد« بمعنى الضرب بالعصا أو السيف أو السوط وهو هنا كناية عن الحرب.
» .5هبلتهم« بمعنى ثكلتهم ،والهبول بفتح الهاء المرأة التي ل يبقى لها ولد ،وهو دعاء عليهم بالموت.
] [ 23
بالولد ـ يريد به أّنكم ل تستحقون الحياة والبقاء وليس لكم سوى الموت ،ثكلتكم أمهاتكم على هذه الخطاء الشنيعة
والنحراف الفكري الذي أوصلكم إلى هذه الحالة .وقد ورد شبيه هذه العبارة الذي يعطي ذات المعنى وهو قولهم
»ثكلتهم الثواكل« والتي استعملها المام)عليه السلم(لهذا الغرض في سائر خطبه من نهج البلغة.
ن المام)عليه السلم( قد أشار في هذه العبارات إلى سابقته العريقة وتأريخه المشرق ليشير كناية، على العموم فا ّ
إّنما يعرفني حتى مشركي العرب ولم يجرأ أحد على تهديدي بالحرب والمبارزة طيلة حياتي ،وقد عشتم معي
ن من يخشى الحرب يخشى لخرى التي أشار اليها المام)عليه السلم( هى أ ّ وزعمتم أّنكم من المسلمين .المسألة ا ُ
القتل والشهادة ،ومن يخشى القتل والشهادة فليس له من إيمان ويقين بال سبحانه وأن طريقه مليء بالشكوك
ن قتال أعداء الحق وخصوم الدعوة ل ن من آمن وأيقن بسلمة طريقه ووثق بما عند ال فاّنه يعلم أ ّ والشبهات; ل ّ
يكتنفه أي فشل أو هزيمة ولن ينطوي سوى على احدى نتيجتين إّما النصر وإّما الشهادة; المر الذي صرحت به
ن(وأّما قوله)عليه السلم(» :فاني
سَنـَيْي ِ
حْحدى ال ُ
ل ِإ ْ
ن ِبنا ِإ ّ
صو َ
ل َتَرّبـ ُ
ل َه ْ
الية الشريفة 52من سورة التوبةُ) :ق ْ
لعلى يقين من ربي ،وغير شبهة من ديني« فقد اعتبره بعض شّراح نهج البلغة أنه يعطي مفهومًا واحدًا ويؤكد
ن العبارتين من قبيل بيان العام بعد الخاص ،وهى تشتمل على مفهومين. ن الصحيح هو أ ّ لأّبعضه البعض ،إ ّ
ل:
فالعبارة الولى تشير إلى مقام اليقين لدى المام)عليه السلم( والذي ورد التعبير به عن المام)عليه السلم( قائ ً
»لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا«).(1
والعبارة الثانية تشير إلى الوظائف الدينية التي كشفت له عن كافة معالم الطريق دون الشعور بأدنى شك أو ريب،
ول سيما أّنه سمع رسول ال)صلى ال عليه وآله( وقد قال له» :يا علي ستقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين«
)أصحاب الجمل وصفين والنهروان(.
الرجال الشداء
هنالك عدد من الفراد أو الفئات التي تطالعنا في سوح الوغى طيلة الصراع المرير بين
.1شرح نهج البلغة لبن ميثم لمئة كلمة مختارة من الجاحظ ،الكلمة الولى.
] [ 24
الحق والباطل وهم يتمتعون بالتفوق الكبير على خصومهم .على سبيل المثال فقد انتصر جند السلم على
الجيوش الساسانية الجرارة ـ التي كانت تفوقهم بعشرة أضعاف من حيث العدد والعدة ومن حيث التجهيزات
والوسائل الحربية التي ل يمكن مقارنتها بنظيرها لدى المسلمين ـ بل تميزت العسكرية السلمية من حيث التعبئة
ل من نور السلم واليمان والمفاهيم القرآنية والقتال على قيام مجموعات المستضعفين الحافة العزل من السلح إ ّ
والتعاليم السلمية باقتحام الميدان وتحطيم اسطورة توازن القوى ،لتحقق النتصارات تلو النتصارات على أكبر
ن(فقد كانوا يرون أنفسهمسَنـَيْي ِ
حْ
حدى ال ُ
ل ِإ ْ
ن ِبنا ِإ ّ
صو َ
ل َتَرّبـ ُ
ل َه ْ
الجيوش وأقواها .ول غرو فانما ينبع ذلك من )ُق ْ
منتصرين مهما كانت نتيجة الحرب ،سواء انتهت المعركة بهزيمة العداء أو نيل الشهادة ،فكل النتيجتان سعادة
كبرى.
وقد لمسنا هذا المعنى بوضوح في الحرب المفروضة التي شنها النظام الصدامي ضد الجمهورية السلمية الفتية،
ن شبابنا المؤمنحيث وقفت كافة قوى العالم من الشرق والغرب خلفه لتقدم له كافة ألوان الدعم والسناد ،غير أ ّ
من قوات التعبئة والحرس الثوري والجيش الذين تربوا في أحضان القرآن ومدرسة أهل البيت)عليهم السلم( قد
أركعوا هذا العدو الشرس وجرعوه مرارة الهزيمة .نعم هذا ما أشار إليه المام)عليه السلم(في هذه الخطبة ليعلن
للعداء من عبدة الهواء ،لست أنا الذي يهدد بالحرب! لست أخشى الضرب في سبيل ال ،فقلبي قد غمر بنور
اليمان واليقين ،بل أنا ربيب السلم والمدرسة النبوية التي ترى النصر حليفها بغض النظر عن النتيجة ،وما
عساها تكون سوى هزيمة العدو أو الفوز بالشهادة .وهذه هى الروحية التي ينبغي أن يستشعرها المسلمون تجاه
ل أّنه لن يحسم المعركة لصالح أعدائهم ول يولون أدنى أهمية لهذا التفوق المادي الكاذب الذي قد يكون مؤثرًا إ ّ
الباطل أبدًا.
—–
] [ 25
الخطبة)23 (1
القسم الول
ن ِزياَدة َأْوسَم َلهاِ ،م ْ طِر ِإَلى ُكّل َنْفس ِبما ُق ِ ت اْلَم َ طَرا ِسَماِء ِإَلى اَْلْرضِ َكَق َ ن ال ّ ن اَْلْمَر َيْنِزُل ِم َ »َأّما َبْعُدَ :فِإ ّ
سِلَم َما َلْم َيْغشَن اْلَمْرَء اْلُم ْن َلُه ِفْتَنًة! َفِإ ّ
غِفيَرًة ِفي َأْهل َأْو مال َأْو َنْفس َفل َتُكوَن ّ خيِه َ حُدُكْم َِل ِ
ُنْقصانَ ،فِإَذا َرَأى َأ َ
حِهظُر َأّوَل َفْوَزة ِمنْ ِقدا ِ سِر اّلِذي َيْنَت ِ ج اْليا ِن كاْلفاِل ِ ت َوُيْغَرى ِبها ِلئاُم الّناس كا َ شُع َلها ِإذا ُذِكَر ْ خ َ ظَهُر َفَي َْدناَءًة َت ْ
حَدى ل ِإ ْ
نا ّ ظُر ِم َ خياَنِة َيْنَت ِ
ن اْل ِسِلُم اْلَبِريُء ِم َ ك اْلَمْرُء اْلُم ْ
عْنُه اْلَمْغَرُمَ .وَكَذِل َ
ب َلُه اْلَمْغَنَمَ ،وُيْرَفُع ِبها َ ج ُُتو ِ
سُبُهَ ،وِإ ّ
ن ح َل َفِإَذا ُهَو ُذو َأْهل َومالَ ،وَمَعُه ِديُنُه َو َ قا ّ خْيٌر َلُهَ ،وِإّما ِرْز َل َ عْنَد ا ّ ل َفما ِ يا ّ عَ نِ :إّما دا ِ سَنَيْي ِ
ح ْ
اْل ُ
ل َتعاَلى َِلْقوام«. جَمُعُهما ا ّ خَرِةَ ،وَقْد َي ْث اْل ِحْر ُ ح َ صال َث الّدْنياَ ،واْلَعَمَل ال ّ حْر ُ ن َ اْلماَل َواْلَبِني َ
—–
.1أورد المرحوم الكليني عن المام الحسن)عليه السلم( قسمًا من هذه الخطبة في كتاب الكافي ،56 / 5كما أورد قسمها الخر ـ
حسب صاحب مصادر نهج البلغة ـ نصر بن مزاحم في صفين وابن عبد ربه في العقد الفريد والزمخشري في ربيع البرار.
] [ 26
استهل المام)عليه السلم( خطبته بتقسيم رزق النسان وما قسم له على ضوء التقدير والتدبير اللهي ،ثم
أوصى)عليه السلم( بأن من رأى لخيه نعمة فل ينبغي أن يكن له البغض أو الحسد )كما ل ينبغي أن يغتر إن
جنى ثروة فيضحي بدينه وإيمانه من أجلها( آنذاك دعا)عليه السلم( الناس إلى الخلص والورع والتقوى
وصفاء النية وصلح العمل بعيدًا عن الرياء والعجب والفخر .أّما في القسم الخير من الخطبة فقد أشار)عليه
السلم( إلى بعض المسائل الجتماعية الحساسة من قبيل تقوية أواصر القرابة وضرورة التعاضد والتعاون بين
لّمة السلمية الواحدة بغية التغلب على المصاعب والمشاكل ،مؤكدًا على عدم فقدان النتماء إلى أفراد القبيلة وا ُ
ن ضرر هذا الفقدان عليه سيكون أعظم وأشد مّما هو عليه بالنسبةالعشيرة من خلل اعتماد البخل والمساك; فإ ّ
للعشيرة ،فانه إّنما يمسك يده بينما بالمقابل تمسك عنه أيدي كثيرة.
الشرح والتفسير
أشار المام)عليه السلم( ـ في هذه الخطبة ـ إلى مسألة مهّمة ذات أثر عظيم في تهذيب النفوس والحد من جموح
ن الحياة الجتماعية البشرية تعد الساس لبركات وثمرات عظيمة ،بحيث الفرد والمجتمع .وهى مّما لشك فيه أ ّ
ن القسم العظم من النجاحات والمكتسبات الباهرة في كافة المجالت والميادين العلمية والصناعية يمكن أن نقول إ ّ
والجتماعية إّنما حققتها البشرية في ظل هذه الحياة الجتماعية .وإلى جانب تلك الثمار والمعطيات والبركات
كانت هنالك المشاكل الخطيرة التي تهدد بالفناء جميع الثار اليجابية لهذه الحركة مالم تجد الحلول الشافية.
ومن ذلك ،وجود الفوارق بين بني البشر من حيث الستعداد والقابليات الجسمية والروحية على المستوى الفردي
والجتماعي; المر الذي أّدى إلى التفاوت الفاحش في المكانات المادية والمالية .ومن هنا بدت ردود الفعل
السلبية للفراد الذين تخلفوا عن هذه المسيرة ،أو سعوا بتخبط للخلط بين الحلل والحرام ليزجوا بأنفسهم في هذا
السباق غير المتكافئ والمجهول النهاية في مصاف من تقّدم عليهم من حيث الجوانب الماّدية ولم يكن أمامهم
] [ 27
سوى سبيلين ،إّما الشعور بالحباط واليأس والنسحاب من ميدان العمل والنشاط والتقوقع على الذات ،أو اشتعال
ن البعض الذي يتمتع
نيران الحسد والبغض في قلوبهم تجاه ُاولئك والهم بالنتقام منهم .من جانب آخر فإ ّ
بالمكانات قد يصاب بالغرور والكبر والعجب والفخر فيندفع نحو الطغيان والفساد والنحراف.
اليات القرآنية والروايات السلمية بدورها ودرءًا لهذه المفاسد والحيلولة دون ظهورها قد لفتت أنظار الجميع
ن هذه الفوارق والزيادة والنقصان ليست مسألة عبثية بقدر ماهى واقع يستند إلى الحكمة اللهية إلى حقيقة مفادها أ ّ
التي تنظم شؤون العباد على أساس ما يصلحهم ويقوم حياتهم .ولعل السرار التي يختزنها هذا التصنيف خافية
لمور
ن ال حكيم ورحمن ورحيم هو الذي ينظم ا ُ ن مجرد علمنا بأ ّ
لأّ
لمور ،إ ّ علينا نحن العباد في أغلب ا ُ
ن القضية ستتغير وتخرج من شكلها الظاهري ،آنذاك وتتشعر قلوبنا الرضى والتسليم لهذا التنظيم والتخطيط; فإ ّ
ستسود السكينة والطمأنينة قلوبنا وأرواحنا وستزول كافة تلك العواقب السلبية التي بدت لنا لول وهلة .ومن هنا
تواتر التأكيد على الرضى والتسليم ولسّيما بالنسبة للرزق في اليات والروايات.
نعود الن بعد هذه المقدمة المختصرة إلى تفسير الخطبة ،فقد تطرق المام)عليه السلم(في بداية خطبته عن
تهذيب النفوس ووضع حّد للمفاسد الجتماعية ،فقد قال)عليه السلم(» :أّما بعد :فان المر ينزل من السماء إلى
ل نفس بما قسم لها ،من زيادة أو نقصان« فالتشبيه بقطرات المطر تشبيه غاية في الرض كقطرات المطر إلى ك ّ
ن قطرات المطر تنّزل بصورة مختلفة على الرض وفقًا للرادة اللهية والحكمة الربانية ،والرزاق الروعة; ل ّ
اللهية تسقط على هذه الشاكلة من السماء إلى البشرية على الرض بفضل ال ورحمته .فقد ينّزل المطر بغزارة
على بعض المناطق حتى تسيل أنهارًا عظيمة بينما قد تشهد مناطق ُاخرى زخات خفيفة من المطر طيلة السنة .ثم
يخّلص المام)عليه السلم( إلى هذه النتيجة التي ينبغي أن يستحضرها الناس» :فاذا رأى أحدكم لخيه غفيرة)(1
في أهل أو مال أو نفس ،فل تكونن له فتنة«.
» .1غفيرة« من مادة »غفر« بمعنى الستر ومن هنا اطلقت المغفرة على ستر الذنوب كما تطلق على المال الكثير لتغطيته جزءًا
واسعًا من الحياة ،حّتى أّنه يستر العيوب أحيانًا ،ولذلك يقال للكثرة والزيادة غفيرة.
] [ 28
ن وردت
ن الموال والثروات لمن دوافع الغفلة وستر عيوب النسان حّتى عن نفسه ،وإ ْلعل غفيرة تشير إلى أ ّ
غفيرة هنا بمعنى المال الكثير.
ن الفتنة هنا ل تعنى المتحان ،وإن وردت عادة بهذا المعنى في العم الغلب ،بل المراد بها ما مايجدر ذكره أ ّ
يدعو إلى الفساد والخداع وردود الفعال السلبية من قبيل الحسد والعداوة والبغضاء التي يمارسها الفقراء
المعدومون حيال أصحاب الموال والثراء .ثم قال)عليه السلم(» :فان المرء المسلم مالم يغش دناءة تظهر فيخشع
لها إذا ذكرت ويغرى بها لئام الناس ،كان كالفالج) (1الياسر) (2الذي ينتظر أول فورة من قداحه) (3توجب له
ن المسلمين البعيدين عن الخيانة إّنما ينتظرون من الحق سبحانه أمرين :أّماالمغنم ،ويرفع بها عنه المغرم« .كما أ ّ
سع الن يو ّ
حلول الجل اللهي )وقد أفنى عمره بطيب السمعة وحسن العاقبة( فما عند ال خير له وأبقى .وأّما أ ْ
عليه رزقه في هذه الدنيا ويّمن عليه بالصاحبة والهل والولد في سلمة من دينه وصون لعزته وكرامته »وكذلك
المرء المسلم البريء من الخيانة ينتظر من ال إحدى الحسنيين :إّما داعي ال فما عند ال خير له ،وإّما رزق ال
فاذا هو ذو أهل ومال ،ومعه دينه وحسبه« .ولكن لبّد من الذعان إلى الفارق الكبير بينهما فأحدهما من قبيل
ن المال والبنين حرث الدنيا ،والعمل زرع الدنيا كالمال والولد ،والخر من زرع الخرة وهو العمل الصالح »وإ ّ
الصالح حرث الخرة« .وقد يجمع ال سبحانه نعم الدنيا والخرة لبعض الفراد »وقد يجمعهما ال تعالى لقوام«.
ن المام)عليه السلم( قد كشف بهذه العبارات عن حقيقة مهّمة ومصيرية في حياة النسان تكمن في
والواقع هو أ ّ
ضرورة عدم تلوثه بالذنوب والمعاصي والرجاس التي ل تجر عليهم سوى الخزي والعار والسقوط من أعين
الناس والحد من شخصيته لديهم.
سره
» .1الفالج« من مادة »فلج« ،قال صاحب مقاييس اللغة لها معنيان; الول النصر والغلبة ،والخر المسافة بين شيئين .وف ّ
صحاح اللغة بالظفر والفوز ،وقد ورد هنا بهذا المعنى.
» .2الياسر« من مادة »يسر« بمعنى السهولة ،وميسر ويسار حسب قول الراغب في المفردات بمعنى الغنى والثروة .وأطلق على
المقامر الذي يلعب بقداح الميسر وقد وردت في العبارة بمعنى اللعب بالقداح المحفوظ منها.
» .3قداح« جمع »قدح« على وزن ِفعل بمعنى السهم .وهى في الصل بمعنى كسر الشيء وعيبه.
] [ 29
ن يقضى ن هناك أحد مصيرين رفيعين بانتظار الفرد الذي يعيش النقاء والعّفة في حياته ،أ ْ وبناًء على ما تقّدم فإ ّ
حياته معززًا مكرمًا ليحث السير نحو رحمة ال ومغفرته وأجره وثوابه .أو أن يفيض ال عليه من نعم الدنيا في
هذه الحياة الدنيا ويجمع له خير الدارين.
ن الياسر ليسيّتضح من التأّمل في عبارات المام)عليه السلم( من قبيل »فوزة« و»قداح« و»مغنم« و»مغرم« أ ّ
المراد به القمار ،بل أراد به نوعًا خاصًا من القتراع كانت تمارسه العرب ،حيث كانوا يأتون بعشرة سهام لكل
سموه عشرة أقسام ،ثم يجعلون السهام مع بعضها ليقوم من يثقون به ل فيذبحوه ويق ّ
واحد منها اسم ،ويشترون جم ً
باستخراجها واحدًا واحدًا ،ثم يكون الفائز على أساس ترتيب السهام حسب أسمائها الول والثاني إلى السابع
والسهم الول فيها يسمى »ُمَعّلى« ـ والسهام الخرى إذا خرجت باسم أحدهم فهو الذي يدفع قيمة الجمل ،أّما
الفائزون فيعطون سهامهم للفقراء دون أن يأكلوا منها شيئًا ،وكانوا يفتخرون بذلك العمل(1).
ل أّنه ل يشتمل على معايب وفواجع القمار .فالمام)عليه السلم(أراد أن طبعًا ليجوز هذا العمل شرعيًا ،إ ّ
المؤمنين من أهل الرضى والتسليم يشبهون الفراد الذين يفوزون بسهم الُمعّلى في ذلك القتراع ،ووجه الشبه أّنه
يفوز بأكبر نصيب دون أدنى عناء .والتعبير بالقداح وأول فوزة والغنيمة والنجاة من الخسارة كّلها تناسب هذا
المعنى; وهذا ليس متعارفًا في القمار حيث ل يترك المقامر المقامرة لمجرد غلبه في الوهلة الولى ،بل يواصل
ن المفردة مفهوم واسع يشمل القتراع قماره حّتى ل تعرف النتيجة التي سيؤول إليها .وبالطبع فإّننا ل ننكر أ ّ
ن القمار بمعناه الحقيقي يختلف تمامًا عن ذلك النوع من القتراع ،ول وألعاب الحظ ،ولكن لبّد من اللتفات إلى أ ّ
ب
لْنصا ُسُر َوا َ
خْمُر َوالَمْي ِ
ن ورد الذم عليهما معًا )ِإّنما ال َ
ن القرآن قد عبر بـ »اللزلم« ل الميسر وإ ْ سيما أ ّ
ن(2).(...
شْيطا ِ
ل ال ّ
عَم ِ
ن َ
س ِم ْ
ج ٌ
لْزلُم ِر ْ َوا َ
.1شرح نهج البلغة ،المحقق الخوئي) 319 /3 ،بتلخيص( .وقد وردت إشارة مختصرة إلى هذا المطلب في كتاب معارج نهج
البلغة وهو من أقدم شروح هذا الكتاب ،معارج نهج البلغة ،ص .110
] [ 30
ن روح الرضى والتسليم لمر ال في الرزق وفي المنافع المادية بصورة عاّمة إّنما تهدأ لعل هنالك من يقول بأ ّ
النفس البشرية وتحّد من جماحها وتحّول دون النسان والرتماء في ميادين الحرص والطمع وجباية الموال
ن مثل هذا لأّ واللهث وراء الثروة والنغماس في المحرمات كما تصّده عن استشعار معني الحسد والبغض ،إ ّ
ن الرزاق ل فرد بذريعة من الذرائع من قبيل أ ّالشعور قد يقتل عند النسان روح السعي والمثابرة بحيث يتشّبث ك ّ
ل قد سّمى ال له رزقه ونصيبه فيخلد إلى السكون والدعة والكف عن العمل ،فما جدوى ذلك والرزاق سمة وك ّمق ّ
قد قسمت; المر الذي يؤدي بالتالي إلى تخّلف الّمة في المجال القتصادي والتطور المادي واجتثاث جذور الفقر
والحرمان.
ن هذه التعاليم السلمية والوصايا الخلقية إّنما ن هذا الشكال قد يزول إذا ما ألتفت إلى أمرين :الول هو أ ّ
لأّ إّ
ن النسان يمتلك الدوافع خت الحد من تهافت النسان على الماديات وتناسيه لكل ما سواها ،بعبارة ُاخرى فإ ّ تو ّ
التي تسوقه نحو الماديات والنهوض بحياته القتصادية ،ولو لم تكن هنالك من كوابح لهذه الدوافع فإّنه سينطلق
بسرعة هوجاء نحو الحرص والتسابق في جني الموال والثروة بحيث يحطم كافة الحدود والقيود الخلقية والقيم
المعنوية .وبعد هذا هو المعنى الذي أشار له المام علي بن الحسين)عليهما السلم(حين قال» :معاشر أصحابي!
سكون«) .(1والمر أوصيكم بالخرة ولست أوصيكم بالدنيا! فإّنكم بها مستوصون وعليها حريصون وبها متم ّ
صل إلى النتيجة النهائيةالثاني يكمن ضرورة جمع كافة اليات والروايات الواردة بهذا الشأن من أجل التو ّ
ن القضايا السلمية المحورية لتبدو واضحة المعالم من خلل آية واحدة أو بخصوص التعاليم السلمية; ل ّ
حديث واحد .ففي مجال تحصيل الرزق والقناعة به وضرورة السعي والحركة هنالك اليات والروايات التي
أشارت من جهة إلى مسألة الرضى والتسليم تجاه التقديرات اللهية ،وهنالك من جهة ُاخرى اليات والروايات
التي وردت في الحث على السعي والعمل ،بحيث يفهم من مجموع الطائفتين
] [ 31
ن الضعف والوهن في هذا المجال ليس صحيحًا كما أن الحركة الحريصة والممزوجة من اليات والروايات أ ّ
بالذنب والمعصية التي تفرزها طبيعة تجاهل التقدير اللهي والتوّكل على ال هى الخرى ليست صحيحة أيضًا.
ن ذلك مشروط بشرط السعي والجهد المقرون
ن الرزق قد قسم من جانب ال ،غير أ ّ
وبعبارة ُاخرى ،صحيح أ ّ
بالخلق والتقوى والورع.
ن طائفة من المسلمين تطير ونختتم البحث بما ورد في الحديث النبوي الشريف بشأن مقام الرضى والتسليم في أ ّ
من قبورها يوم القيامة إلى الجّنة لتتنّعم بنعيمها دون أن تشهد الحساب فتسألهم الملئكة عن الحساب والجواز على
الصراط ،فتجيب أّنها لم تر الحساب والصراط .وتسألهم عن جهّنم ،فجيبوا بعدم رؤيتها .فيسألون من أّية ُامتم
أنتم؟ فتقول من ُأّمة محمد)صلى ال عليه وآله( فتقسم عليهم الملئكة عن أعمالهم التي أّدت بهم إلى هذه الكرامة،
ق لكم هذا«).(1 سم لنا« فتقول لهم الملئكة» :ح ّفيقولون» :كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مّما ق ّ
—–
] [ 32
] [ 33
القسم الثاني
سْمَعة َفِإّنُه َم ْ
ن غْيِر ِرياء َول ُ عَمُلوا ِفي َت ِبَتْعِذير! َوا ْ
س ْشَيًة َلْي َ
خ ْ
شْوُه َخ َ
سِه َوا ْن َنْف ِحّذَرُكْم ِم ْل ما َ نا ّ حَذُروا ِم َ »فا ْ
سَعداِء َوُمراَفَقَة اَْلْنِبياِء«.
شَة ال ّشَهداِء َوُمعاَي َ
ل َمناِزَل ال ّ سَأُل ا َّ
عِمَل َلُهَ .ن ْن َ ل ِلَم ْل َيِكْلُه ا ّ
َيْعَمْل ِلَغْيِر ا ّ
—–
الشرح والتفسير
يواصل المام)عليه السلم( خطبته بعدد من الوصايا الخلقية فيقول)عليه السلم(» :فاحذروا من ال ما حّذركم
صـيَبُهْم
صـيَبُهْم ِفْتَنٌة َأْو ُي ِ
ن ُت ِ
ن َأْمِرِه َأ ْ
عْ
ن َ
ن ُيـخاِلُفو َ
حَذِر اّلِذي َ
ل العبارة إشارة إلى الية الشريفةَ):فْلَي ْ من نفسه« ولع ّ
ث)عليه السلم( على خشيته صـيُر() .(2ثم ح ّ ل الَم ِ سُه َو ِإلى ا ّ ل َنْف َ
حّذُرُكُم ا ّ
ب َأِلـيٌم() (1أو إلى اليةَ) :وُي َ
عذا ٌ
َ
وتقواه بحيث ل تكون هناك من حاجة للتماس العذار الواهية »واخشوه خشية ليست بتعذير«) ،(3لّنه العالم
ن العبارة السابقة تحدثت عن الحذر من بباطن كل فرد وأسراره وأعذاره الصحيحة من السقيمة .جدير بالذكر أ ّ
ن الخشية تتضمن الخوف المقرون بدرك العظمة ،ومن ال ،ثم ُأردفت بالحديث عن الخشية ،وقد صّرح اللغوين أ ّ
عـباِدِه الُعَلماُء() ،(4أّما الحذر فيقال حين يحتاط النسان من خطر ن ِ ل ِم ْ
خشى ا ّ هنا صّرح القرآن الكريم )ِإّنما َي ْ
قطعي أو محتمل .ثم أشار)عليه السلم(في وصيته الثالثة إلى الخلص في النّية وتنقية العمال من الرياء
ن من عمل ل والسمعة ل ّ
] [ 34
وشرك معه آخر وكله ال إلى ذلك الخر وقال له خذ أجرك منه فاّنك لم تعمل لي »واعملوا في غير رياء ول
سمعة ،فإّنه من يعمل لغير ال يكله ال لمن عمل له«.
نعم خشية ال وخشية مقارفة الذنوب والمعاصي ل تكفي لوحدها ،بل لبّد من التيان بالعمال الصالحة البعيدة
عن كافة أشكال الرياء والسمعة ،والرياء يعني مراءاة الخرين ولفت أنظارهم لما يقوم به النسان من أعمال،
ل يفعل ذلك يسرل أّنه يسعى لسماعه الخرين ،بحيث يجلب انتباههم إليه ،و إ ّ
والسمعة أن يقوم بالعمل ل ،إ ّ
لسماع الخرين فيثنون عليه ويطرونه.
ل أّنها مذمومة خلقًا ومدعاة لنحطاط النسان الروحين السمعة ل تبطل العمل ،إ ّوالمعروف بين العلماء أ ّ
والمعنوي ،ولعّلها تؤّدي إلى زوال الجر والثواب .وقد استدل المام)عليه السلم(في تحذيره من السمعة والرياء
ن شرك العبد معه أحد آخر وكله ال إليه ليأخذ منه أجره،
ل العمل الخالص لوجهه فإ ّ ن ال سبحانه ل يقبل إ ّ
بأ ّ
وبالطبع فإّنه ل يملك القدرة على إعطاءه الجر والثواب .والعبارة هى مضمون حديث قدسي معروف نقل عن
ن الحق سبحانه قال» :أنا خير شريك ومن أشرك معي شريكًا في عمله ،فهو رسول ال)صلى ال عليه وآله(أ ّ
ل ما خلص لي«).(1 لشريكي دوني ،لني ل أقبل إ ّ
ل» :نسأل ال منازل الشهداء ومعايشة السعداء ومرافقة النبياء« .حيث ثم اختتم المام)عليه السلم( كلمه قائ ً
لمور لّمة بالقيم اللهية الحّقة من قبيل الشهادة ومرافقة النبياء وهى ا ُ يهدف المام)عليه السلم( إلى تعريف ا ُ
ن َأْنَعَم ا ّ
ل ك َمَع اّلِذي َل َفُاولـِئ َ
سو َ
ل َوالّر ُ
طِع ا ّ
التي ل تنال بسهولة كما ل تمنح للنسان بالمجان )ومن يطع ال َوَمنْ ُي ِ
ل َوَكفى ِبا ّ
ل نا ّل ِم َضُ ك الَف ْ
ك َرِفـيقًا * ذ ِل َ
ن ُأولـِئ َ
سَ
حُن َو َ
حـي َ
صال ِ
شـَهداِء َوال ّ
ن َوال ّ
صـّديِقـي َ
ن َوال ّ
ن الّنِبـّيي َ
عَلْيِهْم ِم َ
َ
عِلـيمًا().(2 َ
فالمراحل الثلث ـ الشهادة والسعادة ورفقة النبياء ـ التي وردت في كلم المام)عليه السلم(يمكن أن تكون من
قبيل العّلة والمعلول ،فالشهادة سبب السعادة ،والسعادة سبب مرافقة النبياء .كما يمكن أن يكون الكلم إشارة
لطيفة إلى حوادث المستقبل وشهادة المام)عليه السلم(.
.1منهاج البراعة 324 / 3كما ورد هذا المضمون عن المام الصادق)عليه السلم( في بحار النوار .243 / 67
] [ 35
للشرك والوثنية شعب ،من أهمها الرياء والسمعة .والرياء من مادة الرؤية بمعنى التظاهر وإلفات نظر الخرين
إليه من خلل التظاهر بالعبادة والعمال الحسنة .وهذا الفرد في الواقع مشرك ،لّنه يرى عّزته وكرامته بيد
الخرين ل بيد ال ،ولذلك يقوم بأعماله بدافع من لفت انتباه الخرين إليه.
ن السمعة هو أن يقوم الفرد بالعمل قربة إلى ال ،فتخالطه الفكار أّما بشأن السمعة فهناك تفسيران :أحدهما أ ّ
طلع الخرين وإسماعهم بعمله ليحظى بمديحهم وثنائهم .وهو المر الذي ل يوجب بطلن العمل حسبما صّرح با ّ
ل أّنها تقلل من ثواب العمل أو تقضي عليه ،والخر أن تكون بذلك الفقهاء ،لّنه قد حصل بعد التيان بالعمل ،إ ّ
خالطته فكرة إسماع الخرين منذ بداية العمل ليثنوا عليه ويكيلوا له المدح والثناء .وليس هنالك من فارق بين
ن المرائي يقوم بالعمل ليراه الخرون بينما يقوم الخر بالعمل ليسمعه السمعة بهذا المعنى والرياء ،سوى أ ّ
الخرون ،وعليه فالعملن ليسا بخالصين.
ن الرياء والسمعة من أكبر آفات العمال العبادية .ولما كان نفوذ الرياء والسمعة إلى العمال ل حال فإ ّ
على ك ّ
النسانية غاية في التعقيد والدّقة فقد تواتر التحذير منه كرارًا في اليات القرآنية والروايات السلمية .وأعظم
مفسدة لهذا العمل هو أّنه يقضي على روح التوحيد ويقذف بصاحبه في وادي الشرك والزدواجية في العبادة ،ل ّ
ن
ن الجر والثواب والعّزة والكرامة والرزق و... ل شيء بيد ال وأ ّنكّ توحيد الفعال يعّلمنا اليمان والذعان بأ ّ
لمور من الخرين ،وهذا شرك علني .وقد ن المرائين إّنما يلتمسون هذه ا ُ
لأّتابعة لرادة ال مأتمرة بأوامره ،إ ّ
ورد في الروايات يقال يوم القيامة للمرائي» :يا كافر! يا فاجر! يا غادر!يا خاسر! حبط عملك وبطل أجرك ،فل
ن الرياء والسمعة مصدر كافة الختللت الجتماعية،
خلص لك اليوم«) .(1هذا من جانب ،ومن جانب آخر فإ ّ
فالمرائي إّنما يهتم بظاهر العمل دون الكتراث إلى باطنه ،فالظاهر جميل والباطن فاسد.
] [ 36
سسات والدوائر تتمتع بظاهر أنيق بينما تستبطن الخواء والفساد من الداخل ،الفكار سطحية ساذجة خالية من المؤ ّ
ن مثل هذه المجتمعات ى عمق وجذور فالهدف في المجتمعات المرائية إّنما يولى للكمّية ل للكيفّية .ومن البديهي أ ّأ ّ
إّنما تحث الخطى نحو النحطاط والضمحلل والنهيار .وبالطبع على العكس من ذلك فهنالك اليوم البلدان التي
أولت أهمية قصوى للقطاعات الصناعية والزراعية والقتصادية وحثت الخطى من أجل خدمة المجتمع ورفاهه
فقد سارت نحو الرقي والتطور والزدهار.
نكتفي بهذا المقدار بشأن الرياء والسمعة ونترك الخوض في التفاصيل أكثر إلى البحاث القادمة بما يتناسب
والموضوع.
—–
] [ 37
القسم الثالث
ظمُعَسَنِتِهْم َوُهْم َأ ْ
عْنُه ِبَأْيِديِهْم َوَأْل ِ
عِهْم َ
عْتَرِتِهَ ،وِدفا ِن ِ عْ ن ذا مال ـ َ ن كا َ جُل ـ َوِإ ْ
سَتْغِني الّر ُ »َأّيها الّناس ِإّنُه ل َي ْ
جَعُلُه الّ ِلْلَمْرِء
ق َي ْ
صْد ِ ن ال ّ ت ِبِه َوِلسا ُ عْنَد ناِزَلة ِإذا َنَزَل ْ
عَلْيِه ِ
طُفُهْم َ
عَشَعِثِه َوَأ ْ
ن َوراِئِه َوَأَلّمُهْم ِل َطًة ِم ْحْي َ
الّناس َ
غْيُرُه«. ن اْلماِل َيِرُثُه َ خْيٌر َلُه ِم َ
ِفي الّناس َ
—–
الشرح والتفسير
السند الشعبي
ل يصدهم عن ذلك النحراف لّما فرغ المام)عليه السلم( من وصاياه للفقراء والمعدمين بطاعة ال وخشيته وإ ّ
الخلقي بسبب سوء الوضاع وصعوبة العيش التي يعانون منها ،وأصل خطبته ليخاطب هنا الغنياء والمرفهي
بما يحفظ التوازن في المجتمع .فقد حثم بادئ ذي بدء إلى مّد يد العون والمساعدة إلى بطانتهم وأقربائهم
وعشيرتهم ،ويلفت نظرهم إلى غض الطرف عن الموال والثروة التي ليس من شأنها أن تجعل النسان غنيًا عن
قرابته »أيها الناس إنه ل يستغني الرجل ـ وإن كان ذا مال ـ عن عترته) ،(1ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم«.
فالواقع أّنهم أعظم سند يوفر له الحماية والدعم ويزيل عنه المشاكل والمخاطر ،وإذا ما تعرض لبعض الظروف
الصعبة والحوادث الخطيرة ،كانت عترته أشفق من الخرين به وأحرصهم
عتر )على وزن ِفطر( نبات معطر كثير
ن هذه المفردة أقتبست من ِ» .1عترة« قال أرباب اللغة تعني أصل الشيء وأساسه ،كما قيل أ ّ
الغصون والوراق وتشير إلى فروع القرابة .وقيل تطلق العترة على الولد فقط .وعليه فعترة النبي)صلى ال عليه وآله( هم ولد
فاطمة)عليها السلم( وإلى ذلك أشار الحديث المعروف »إني تارك فيكم الثقلين كتاب ال وعترتي أهل بيتي )لسان العرب ،الصحاح،
مقاييس اللغة(.
] [ 38
إذا أتت ُاعطيت الغنى ثم لم تجد *** بفضل الغنى ألفيت مالك حامد
» .1حيطة« اسم مصدر من مادة »حوط« بمعنى الحاطة ،وهى هنا بمعنى الرعاية والكلءة .وقال البعض الحيطة بفتح الحاء بمعنى
المراقبة وبكسرها بمعنى الحفظ.
] [ 39
وقل غناء عنك مال جمعته *** إذا كان ميراثًا وواراك لحد
ل أّنه يحمل العمل الصالح والذكر الحسن لدى الناس ،فل يكد
نعم ليحمل النسان شيئًا من الموال معه في قبره ،إ ّ
يذكر إسمه حّتى يترحم عليه الناس ويسألون ال له المغفرة والعفو والرحمة.
هذا هو رأس المال المعنوي والمادي الخالد الذي يمكن نيله من خلل النفاق في سبيل ال وبذل الحسان إلى
ن الغنياء قد دعوا إلى مّد يد العون إلى فقراء المجتمع ومساعدتهم من خلل عباد الرحمن .وزبدة الكلم فا ّ
دافعين; الول بغية الحصول على العوان والنصار وتوظيفهم لصالحهم حين بروز النوائب والشدائد التي
تواجههم في حياتهم ،والثاني بهدف الحصول على السمعة الحسنة والذكر الطيب بعد الموت بما يجعل الخرين
حمون عليهم ويسألون ال لهم العفو والمغفرة .وما أعظم هذه التجارة بهذا المتاع الدنيوي الزائل من أجليتر ّ
الحصول على السندين المذكورين.
ن لسان الصدق يجعله ال للمرء في الناس خير له من المال يورثه لقد ذكر المام)عليه السلم( في هذه الخطبة أ ّ
صْدق ِفي
ن ِل ِلي ِلـسا َ
جَع ْ
غيره .ولسان الصدق هو أن يذكر النسان بالخير ،ويثنى عليه به ،قال سبحانهَ) :وا ْ
ن() (1وهو دعاء إبراهيم الخليل)عليه السلم( .كما أشار البارئ سبحانه في إطار ثنائه على طائفة من خـِري َ
ال ِ
ن هذه
عِلـّيا() .(2واللسان في الية بمعنى ذكر النسان بالخير .ومّما ل شك فيه أ ّ صْدق َ
ن ِجَعْلنا َلُهْم ِلسا َ
النبياء )َو َ
القضية ليست من قبيل القضايا الروتينية الجوفاء ،بل تنطوي على عّدة معطيات على مستوى الفرد والمجتمع،
فهى:
ن حسن الثناء والذكر الحسن إّنما يسوق الخرين للدعاء لهؤلء الفراد وطلب
ثانيًا :إ ّ
.1سورة الشعراء . 84 /
] [ 40
ن هذا المر له تأثيره البالغ في نفوس أبناء المجتمع في القتداء باولئك الفراد وإحياء القيم العليا في
ثالثًا :إ ّ
ن سّنة حسنة كان له مثل أجر من عمل المجتمع والقضاء على ما يخالفها ،فقد جاء في الرواية المعروفة »من س ّ
بها«).(1
ن ذلك من مدعاة العزة والرفعة والكرامة لدى نسل ُاولئك الفراد المحسنين ،فما أكثر من نعرف منوأخيرًا أ ّ
الفراد الذين نكن لهم الحب والحترام لنحدارهم من ُاولئك الفراد .هذه طائفة من الثار المعنوية الفردية
والجتماعية للسان الصدق وطيب الحدوثة.
—–
.1لقد ورد هذا المضمون في عدة روايات ومنها كتاب وسائل الشيعة / 11الباب 16من أبواب المر بالمعروف والنهي عن المنكر.
] [ 41
القسم الرابع
صُه ِإ ْ
ن سَكُه َول َيْنُق ُ ن َأْم َسّدها ِباّلِذي ل َيِزيُدهُ ِإ ْ ن َي ُ
صَة َأ ْ
خصا َ ن اْلَقراَبِة َيَرى ِبها اْل َ عِحُدُكْم َ
ن َأ َ
ومنهاَ» :أل ل َيْعِدَل ّ
شَيُتُه
ن حا ِ ن َتِل ْ
عْنُه َأْيد َكِثيَرةٌ َوَم ْ
ض ِمْنُهْم َ
حَدٌة َوُتْقَب ُ
عْنُهْم َيٌد َوا ِ
ض ِمْنُه َ
شيَرِتِهَ ،فِإّنَما ُتْقَب ُ
عِن َعْ ض َيَدُه َ
ن َيْقِب ْ َأْهَلَكُه; َوَم ْ
ن َقْوِمِه اْلَمَوّدَة«.
سَتِدْم ِم ْ
َي ْ
—–
الشرح والتفسير
العتضاد بالعشيرة
بعد أن قرظ المام)عليه السلم( الثناء والذكر الجميل وفضله على المال ،أمر بمواساة الهل وصلة الرحم وإن ق ّ
ل
ما يواسى به ،حيث أكد هذا المر بثلث عبارات فقال)عليه السلم(» :أل ل يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها
الخصاصة) (1أن يسدها بالذي ل يزيده إن أمسكه ول ينقصه إن أهلكه« .يمكن أن تكون هذه العبارة إشارة لحد
ن حرمان القرابة مّما يتمتع به النسان من إمكانات وثروات من معنيين; الول إلى البعد المعنوي لهذا العمل في أ ّ
ن معونة القرابة
شأنه أن يسلب بركة مال النسان وحياته ويحول دون نمائه وزيادته ،وعلى العكس من ذلك فا ّ
ضلت ال وألطافه; أو أن يكون ومساعدتها تنطوي على عدة بركات من شأنها أن تدرك هذا النقص الظاهري بتف ّ
ن مشاكل القرابة إّنما تنتقل بشكل أو بآخر إلى النسان وتؤرق فكره وتشغل
إشارة إلى بعده الظاهري والمادي ،ل ّ
روحه وتعرض سمعته وشخصيته للخطر وبالتالي تضاعف من مشاكله ومعاناته ،وعليه فما أحراه أن يهب
لمساعدتهم ومعونتهم ليظفر بثواب
» .1الخصاصة« هى الفقر والحاجة الشديدة وهى مصدر خص الرجل بمعنى احتاج وافتقر ،وقال صاحب مقاييس اللغة تعنى الثلمة
ومن هنا أطلقت على الفقر والحاجة لّنها ثلمة في حياة النسان.
] [ 42
الخرة وبركات الدنيا وينال الذكر الطيب والحدوثة الحسنة .فقد جاء في الحديث أن المام علي)عليه السلم(
قال» :البركة في مال من آتى الزكاة وآسى المؤمنين ووصل القربين«) (1ثم يتطرق المام)عليه السلم( إلى
الضرار الفادحة التي يتكبدها النسان إذا أمسك يده عن قرابته ولم يقدم العون والمساعدة ،ومن ذلك إّنه إّنما
يقطع عنهم يده بينما يقطعون عنه أيديهم التي ل غنى له عنها »ومن يقبض يده عن عشيرته ،فإّنما تقبض منه
عنهم يد واحدة وتقبض منهم عنه أيد كثيرة« .فالحق ليس هنالك من عاقل مستعد للتضحية بكل هذه المنافع من
أجل التنازل عن بعض منافعه الشخصية الضئيلة ،ثم يختتم المام)عليه السلم(كلمه بالقول »ومن تلن حاشيته
يستدم من قومه الموّدة« .يمكن أن تنطوي مفردة »حاشيته« على معنيين; الول صفات النسان وروحياته،
ن مفهوم الجملة هو تمحور قوم النسان حوله إذا حسن والخر أن تكون إشارة إلى البطانة وبناًء على هذا ،فإ ّ
سلوك بطانته تجاه الناس .فقد رأينا الكثير من الفراد الصالحين الذين انفرجوا عنهم الناس رغم صلحهم بسبب
سوء تصرف بطانتهم ومن حولهم.
ن مسألة صلة الرحم وتوطيد أواصر المحّبة بالقرابة وإن كانت وظيفة إلهية ورد التأكيد عليها في اليات القرآنية إّ
ن القيام بهذه الوظيفة الدينية والنسانية إّنما ينطوي على بركات جمة ن مّما لشك فيه أ ّلأّوالروايات السلمية ،إ ّ
تعرض لها المام)عليه السلم( أواخر هذه الخطبة والمهم أن يعزز النسان هذه الصرة ول يمارس كلّ مأمن
شأنه الساءة إليها أو قطعها .ولبّد من الحسان إلى القربى حين شعور النسان بوفور النعمة ،لتهب للوقوف إلى
ن التفّوق على المشاكل ل يتأتى من ل الواقع بما ل يقبل الشك أ ّ
جانبه إذا ما واجهته بعض المحن والخطوب.وقد د ّ
خلل الجهود الفردية ،بل يتطلب مؤازرة الخرين وتكافئ جهودهم ،وما أحرى أن تكون الولوية في هذه
ل منهما الخرل منهما الخر إلى جانب الرتباط العاطفي الذي يشّد ك ّ الرابطة للقرابة والعشيرة حيث يعرف ك ّ
ل منهما للخر، إلى جانب الرتباط العاطفي الذي يشّد ك ّ
] [ 43
لمور عرض الجدار بمجّرد نيلهم بعض الثراء والنعمة ن أغلب الفراد إّنما يضربون هذه ا ُ ن المؤسف له أ ّ غير أ ّ
ل هذه الطاقات التي يمكنها معالجة مصاعبه ومشاكله ،وهذا هو المعنى الذي فيبتعد عن قرابته ويحرم نفسه من ك ّ
صَلُة
تناولته أغلب الروايات الواردة بهذا الشأن .فقد جاء في الحديث عن المام الصادق)عليه السلم( أّنه قالِ » :
صَلُة الرحاِم جوارُ ،يَعّمران الديار َوَيزيدان ِفي العمار«) .(1وقال المام الباقر)عليه السلم(ِ » : ن ال ِ
سُ
حْالّرحِم َو ُ
صَلُة الرحاِم ُتَزّكي
ل«) .(2كما ورد عن المام الباقر)عليه السلم( أّنه قالِ » : جواِر ،زياَدًة في الموا ِ ن ال ِحس َُو ُ
ن قطع الرحم ينطوي ب وُتنسى في الجل«) .(3وبالمقابل فإ ّ حسا ُ سُر ال ِ
العمال َوُتْنجى الموال وَتْرَفُع الَبلوى وُتَي ّ
ن رسول ال)صلى على آثار خطيرة على حياة النسان في الدنيا وسوء العذاب في الخرة .فقد جاء في الحديث أ ّ
حم ول طُع َر ِ
ق ول قا ِ جُدها عا ّ
ف عام ما َي ِ
جُد ِمن َمسيرِة أل ِ
ح الجّنة ُتو َن ِري َلإّال عليه وآله(قال» :أخَبرني جبرئي ُ
خ زان«(4). شي ُ
َ
ولعل هنالك من يسأل :ما المراد بصلة الرحم؟ المراد هو تعميق أواصر المحّبة والنجدة في حل المشاكل وعدم
الغفلة وتفقد الحوال في كافة الظروف ،وقد تحفظ هذه الصلة حّتى بالسلم والرتباط عن طريق الهاتف .فقد قال
صُلوا أرحاَمُكم ولو ِبالتسليِم«) (5وسنتكلم في البحاث القادمة عن صلة الرحم
أميرالمؤمنين علي)عليه السلم(ِ » :
ومعطياتها المادية والمعنوية بما يتناسب والمواضيع الواردة في الخطب .هذا وقد قال السيد الرضي)ره( في آخر
هذه الخطبة:
»الغفيرة هاهنا الزيادة والكثرة; من قولهم للجمع الكثير :الجم الغفير ،والجماء الغفير .ويروى عفوة من أهل أو
مال«.
والعفوة :الخيار من الشيء .يقال» :أكلت عفوة الطعام« أي خياره .وما أحسن المعنى الذي أراده)عليه السلم(
ن الممسك خيره عن عشيرته إّنما يمسك نفع يدبقوله» :ومن يقبض يده عن عشيرته «...إلى تمام الكلم; فا ّ
واحدة ،فاذا احتاج إلى نصرتهم ،واضطر إلى
] [ 44
مرافدتهم ،قعدوا عن نصره ،وتثاقلوا عن صوته ،فمنع ترافد اليدي الكثيرة ،وتناهض القدام الجمة.
—–
] [ 45
الخطبة 24
وهى كلمة جامعة له ،فيها تسويغ قتال المخالف والدعوة إلى طاعة ال ،والترقي فيها لضمان الفوز
لَ ،وِفّروا ِإَلى عباَد ا ّ ل ِن ِإْدهان َول ِإيهان .فاّتُقوا ا َّ ىِ ،م ْ ط اْلَغ ّ
ق َوخاَب َ
حّف اْل َ
ن خاَل َ ن ِقتاِل َم ْ
ى ِم ْ
عَل ّ
»َوَلَعْمِري! ما َ
حوُهن َلْم ُتْمَن ُ
لِ ،إ ْ
جً جُكْم آ ِ
ن ِلَفْل ِ
ي ضاِم ٌ
صَبُه ِبُكْمَ ،فَعِل ّ
ع َ جُه َلُكْمَ ،وُقوُموا ِبما َ
ضوا ِفي اّلِذي َنَه َ لَ ،واْم ُ
نا ّ
ل ِم َ ا ّ
ل«.
جً عا ِ
—–
يهدد المام)عليه السلم( في هذه الخطبة مخالفيه بشدة ويعرب عن عزمه الراسخ في التصدي لهم وقتالهم بعد أن
يقنطهم من أدنى موادعة أو مصالحة على حساب العدل والحق ،ثم يوصي صحبه بمواكبته في هذا الطريق
ن الخطبة في الواقع رّد على ُاولئك الذين يشكلون على المام)عليه
والتأهب لمواجهة أعداء الدين .ويرى البعض أ ّ
السلم( في مساومة العداء واضطرارهم للستسلم من خلل استمالتهم بالرشوة و ...فالمام)عليه السلم(
يكشف أّنه ليس من أهل المساومة والخداع(1).
] [ 46
الشرح والتفسير
المساومة والمصناعة
وقد ورد تقريبًا شبه هذا المعنى في سائر كلمات المام)عليه السلم( في إطار حديثه عن الطار العام الذي
ن ل ُيصاِنُع
ل َم ْ
سبحاَنه إ ّل ُ
يتحّرك ضمن دائرته زعماء المسلمين وأئمتهم فقد قال)عليه السلم(» :ل ُيقيُم أمُر ا ِ
ت ِمنع ول َيّتِبُع الَمطاِمَع«) .(5كما وصف نفسه)عليه السلم( في موضع آخر فقال» :وَأيُم ال لقد كن ُ ول ُيضاِر ُ
ت«).(6 ت ول َوَهْن ُخْن ُ
ت ول ُ جُبْن ُ
ت ول َ
ضُعْف ُ
ت في ِقيادها ،ما َ
سَق ْ
حذافيِرها واسَتو َ
ت ِب َ
ساَقتها حّتى َتَوّل ْ
عُمر« بمعنى مدة الحياة ويقال حين القسم لعمري بفتح العين .وهى هنا مبتدأ لخبر محذوف
عَمر« و» ُ
عْمر« و» ُ
» .1لعمري« و» َ
تقديره »لعمري قسمي« وقد ورد سؤال في مجمع البحرين كيف بهذا القسم وهو ل يجوز بغير الذات اللهية المقدسة؟ وأجيب بأ ّ
ن
هذا القسم ليس حقيقة بل بصورة قسم ،وتقديره »بواهب عمري وعمرك«.
» .2خابط« من مادة »خبط« وخابط الغي بمعنى صارع الفساد ،وأصل الخبط اليسر في الظلم ،وتستعمل للناقة حين تخبط في مشيها.
» .3الدهان« من مادة »دهن« بمعنى المنافقة والمصناعة ول تخلو من مخالفة الباطن للظاهر ،كما تستعمل كناية عن المجاملة
والمداهنة.
» .4اليهان« من مادة »وهن« بمعنى الضعف سواء في الخلقة أو الخلق ،واليهان والتوهين بمعنى الضعاف.
] [ 47
ثم أبدى)عليه السلم( نصائحه ووصاياه وفي مقدمتها مراعاة الورع والتقوى فقال)عليه السلم(» :فاتقوا ال عباد
ال« .فالتقوى ـ التي تعني خشية ال في الباطن وعدم مقارفة الذنوب والمعاصي والعمل على طاعة ال ـ هى
أساس العمال الصالحة والباقيات الصالحات ،ومن هنا ورد التأكيد عليها بصفتها مقدمة لسائر الوصايا الخلقية
والدينية .ثم أوصى)عليه السلم( بالفرار من معصية ال إلى طاعته وغضبه وسخطه إلى رضاه وعذابه إلى
ن أية مشكلة رحمته ونقمته إلى نعمته »وفّروا إلى ال من ال« فالعبارة إشارة لطيفة إلى مسألة توحيد الفعال ،ل ّ
تواجه النسان في هذا العالم إّنما تفرزها طبيعة أعماله والثار التي أودعها ال هذه العمال .وعليه فمشاكله من
ذاته وعقابه مّما تفرزه أعماله ،وعليه فليس أمامه من سبيل لحل مشاكله سوى الفرار إلى ال واللجوء إليه إذ »ل
ل ال« وكل خير وبركة ونجاة تفاض على النسان من ال سبحانه ـ القرآن من جانبه تحدث مؤثر في الوجود إ ّ
عن طائفة من العصاة الذين استحقوا سخط ال وغضبه ولم يعد أمامهم من سبيل سوى اللجوء إلى ال سبحانه
لأّ
ن ن النسان إذا شعر بخوف من أحد لذ بآخر ،إ ّ ل اليه()(1الطريف في المر أ ّلإ ّ
نا ّجَأ ِم َ
ن ل َمْل َ
ظّنوا َأ ْ
)َو َ
ذلك ليس كذلك بالنسبة ل سبحانه ،فاذا ما خافه النسان وخشى عذابه ،لجأ إليه ،وهل هناك من هو أرحم بالنسان
ل خير وحركة وبركة. ن ال هو مصدر ك ّ منه؟! هذا هو الدرس الذي ينبغي أن تتعلمه من التوحيد الفعالي في أ ّ
ل الظروف. ل حال وفي ك ّ فلله السماء والصفات التي تدعونا للجوء إلى ال على ك ّ
ن هذه فان خشينا سخطه وغضبه لذنا بعفوه ورحمته ،وإن خفنا عدله لجأنا إلى فضله وكرمه .وأخيرًا يبدو أ ّ
ل ِإّني َلُكْم ِمْنُه َنِذيٌر
العبارة مقتبسة من قوله سبحانه على لسان رسوله الكريم)صلى ال عليه وآله(َ) :فِفّروا ِإلى ا ّ
ن() .(2ثم قال )عليه السلم( في الوصية الثالثة »وامضوا في الذي نهجه لكم« ثم أوصى)عليه السلم(قائل: ُمِبي ٌ
ن بهذه العبارات قانونًا جامعًا يشتمل على أربعة ن المام)عليه السلم( قد س ّ
»وقوموا عصبة) (3بكم« .والواقع أ ّ
بنود من شأنها ضمان السعادة النجاة:
] [ 48
الثالث :الثبات على النهج اليماني وسلوك السبيل الصحيح نحو ال.
الرابع :العمل بالتكاليف والوظائف الدينية التي أمر بها الشارع المقدس.
ن الوصايا الربعة استهلت بفاء التفريع فما علقتها بصدر الخطبة الذي تحدث عن العزم الراسخ في قد يقال أ ّ
ن قتال هذه الطائفة المنحرفة الجائرة إّنما
مجابهة مخالفي الحق وقتالهم؟ والجواب على هذا السؤال واضح ،ل ّ
ن المام)عليه السلم( أراد أن يعّد أصحابه للوقوف يتطلب جنودًا أشداء مؤمنين من ذوي العزم والرادة ،وكأ ّ
ن المام)عليه السلم(عّبر عن التكاليف بقوله »ما عصيه بكم« )التكاليف بوجه أصحاب الباطل .جدير بالذكر أ ّ
لمور التي يستطيع النسان
ن الوظائف اللهية ليست من ا ُ التي كّلفتم بها وأمركم بأدائها( ،ومفهوم العبارة هو أ ّ
إهمالها وعدم الكتراث لها ،بل هى طوق في رقبته ودين في ذمته لبّد له من أدائه.
ن النسان إّنما يتحرر من القيود إذا ن هذه التعبيرات قد وردت في أغلب اليات والروايات التي تشير إلى أ ّ يذكر أ ّ
ما أّدى هذه التكاليف والوظائف .وأخيرًا يختتم المام)عليه السلم(خطبته بضمانة النصر والغلبة والعاقبة الحسنة
لصحابه في خوضهم القتال ضد تلك الطائفة الضالة عن الحق ،النصر الذي سيفوزون به في الدار الخرة ل
ل« .وهذا هو المنطق القوي والرصين ل إن لم تمنحوه عاج ً ى ضامن لفلجكم آج ً محالة إذا تعذر في دار الدنيا »فعل ّ
الذي اعتمده القرآن في مخاطبته لتباعه في تصديهم لعداء الحق بأّنهم منتصرون غالبون مهما كانت نتيجة
عْنِدهِ َأْو ِبَأْيِدينا
ن ِ
ل ِبَعذاب ِم ْ
صـيَبُكُم ا ّ
ن ُيـ ِ
ص ِبُكْم َأ ْ
ن َنَتَرّبـ ُ
حُن َوَن ْ
سَنـَيْي ِ
حْ
حدى ال ُ
ل ِإ ْ
ن ِبنا ِإ ّ
صو َ
ل َتَرّبـ ُ ل َه ْ القتالُ) :ق ْ
ن الجنود الذين يرون أنفسهم منتصرين في جميع الحوال وأ ّ
ن ن() (1ومعلوم أ ّ صو َ صوا ِإّنا َمَعُكْم ُمُتَرّبـ ُ َفَتَرّبـ ُ
عدوهم مهزوم ،إّنما يقاتلون بمعنويات عالية دون أن يشعروا بأدنى خوف أو خطر مّما ستفرزه أحداث القتال.
ن اليمان بهذا المبدأ ـ النصر أو الشهادة ـ هو العامل الرئيسي الذي يقف وراء فيرى أغلب العلماء والمفّكرين أ ّ
] [ 49
النتصار الذي يشعر به المسلمون في جبهات القتال رغم عدم الموازنة في القوى والتكافئ في العدة والعدد مع
جيوش العداء .وهذا هو المبدأ الذي ينبغي أن يجعله العالم السلمي اليوم نصب عينيه في مجابهته لعالم الكفر
فل ينبهر بإمكاناته وتجهيزاته الزائفة.
ن ساسة الدنيا ل يتوّرعون عن أّيةن من الفوارق الساسية بين الساسة الربانيين والساسة العاديين إّنما يكمن في أ ّ إّ
وسيلة من أجل تحقيق أطماعهم وأغراضهم الشخصية ،وغالبًا ما يساومون العدو على المبادئ النسانية ومصالح
مجتمعاتهم ويتجاهلون الحق والعدالة ،بغية حفظ مواقعهم السياسية والجتماعية ،في حين ليست هنالك من
مساومة في قاموس الساسة الربانيين ،بل غالبًا ما يضحي هؤلء بمواقعهم الحساسة حرصًا على حفظ المبادئ
ورعاية للحق والعدل والقسط; المر الذي نلمسه بوضوح في سيرة الرسول الكرم)صلى ال عليه وآله( وتلميذه
أميرالمؤمنين علي)عليه السلم( .فما أكثر الفراد الذين اعترضوا على سياسة علي)عليه السلم( من قبيل استمالة
الخرين عن طريق التمييز في العطاء من بيت مال المسلمين :أو البقاء على معاوية في حكومة الشام ،دون أن
يحدثوا أنفسهم بالساليب التي يتبعها معاوية في حكومته للناس أو المبادئ التي سيعبر عليها في هذه الحكومة! أو
لمور شريطة العمل بسياسة القتراح الذي طرحه عليه عبد الرحمن بن عوف في الشورى بتسليمه مقاليد ا ُ
الشيخين ،أو تفويض طلحة والزبير ولية البصرة والكوفة .وقد اقترح من قبل ،على رسول ال)صلى ال عليه
وآله( بعض القتراحات من قبيل اقتضاء المصلحة لطرده الضعفاء والمستضعفين .فُاولئك وإن كانوا يفيضون
ن المصلحة تقتضي استقطاب الغنياء وتعبئتهم ضّد العدو رغم خلو قلوبهم من اليمان! لأّ إيمانًا بال ورسوله ،إ ّ
ن اختلف الرؤية )على ضوء السياسة اللهية والسياسة الشيطانية( واختلف المصلحة من الواقع هى ويبدو أ ّ
التي دفعت بُاولئك الفراد والفئات الدنيوية للعتراض على السياسة النبوية والعلوية.
والمام)عليه السلم( يوضح في هذه الخطبة السياسة التي سيتبعها وأّنه ليس من أولئك الساسة
] [ 50
الذين يرون للمجاملة والمداهنة من مكان في سياسته وتعامله مع المارقين عن الحق والعدالة ،وليس لديه من
وسائل سوى التقوى وامتثال التكاليف الشرعية دون الكتراث لهذا أو ذاك من المساومين والمعترضين ،ونوكل
المزيد من الكلم في هذا الموضوع إلى محّله.
—–
] [ 51
الخطبة)25 (1
وقد تواترت عليه الخبار باستيلء أصحاب معاوية على البلد ،وقدم عليه عامله على اليمن ـ وهما عبيد ال بن
عباس وسعيد بن نمران ـ لّما غلب عليهما بسر بن أبى أرطاة فقام)عليه السلم(على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه
عن الجهاد ،ومخالفتهم له في الرأي ،فقال:
القسم الول
ن ذا اِْلناِء َقِليل«
ضر ِم ْ
عَلى َو َ
عْمُرو ِإّنِني *** َ
خْيِر يا َ
ك اْل َ
َلَعْمُر َأِبي َ
—–
] [ 52
البلد السلمية ،حيث بلغه عامله على اليمين فأطلعاه على غلبة بسر بن ُارطاة لهما على تلك المنطقة .فقد كان
بعض أتباع عثمان في صنعاء وكانوا قد بايعوا عليًا)عليه السلم( مكرًا وخديعة .وكان عبيد ال بن عباس آنذاك
عامل علي)عليه السلم( على اليمن وقائد الجيش كان سعيد بن نمران .وقد شنت الغارات تلو الغارات من قبل
أهل الشام على المناطق السلمية بعد قتل محمد بن أبي بكر الذي نصبه المام)عليه السلم( واليًا على مصر .قام
أتباع عثمان ـ في اليمن ـ بدعوة الناس للمطالبة بدم عثمان ،فتصدى لهم عبيد ال بن عباس وأمر بسجنهم .فكتبوا
من السجن إلى بعض أصحابهم في الجيش لعزل سعيد بن نمران والخروج عليه .ففعلوا والتحق بهم طائفة من
اليمن ثم امتنعوا عن دفع الزكاة .فكتب عبيد ال وسعيد كتابًا للمام)عليه السلم( .فكتب المام)عليه السلم( كتابًا
لهل اليمن ودعاهم للعمل بوظائفهم وحذرهم من العصيان والتمرد .فرّدوا عليه بالتزامهم بطاعة المام)عليه
السلم( بشرط عزل هذين الشخصين .ثم كتبوا لمعاوية .فبعث معاوية بسرًا إلى اليمن في جيش كثيف وأمره أن
ل من كان في طاعة علي)عليه السلم( ،فقتل خلقًا كثيرًا ،وقتل في من قتل في مّكة داود وسليمان ،إبنييقتل ك ّ
عبيد ال بن عباس كما قتل في الطائف صهر عبيد ال .ثم بلغ اليمن بعد أن خرج منها عبيد ال وسعيد ،واستخلف
عليًا عبدال بن عمرو الثقفي ،فحمل بسر عليه فقتله ثم استولى على صنعاء مركز اليمن .فلّما دخل عبيد ال
وسعيد على المام)عليه السلم( في الكوفة ذمهما)عليه السلم( لتركهما مكانهما ،ثم صعد المنبر وألقى هذه
الخطبة.
ن الخطبة قد أوردت حين اشتدت حملت أهل الشام على مختلف مناطق البلد السلمية وضعف على كل حال فإ ّ
المقاومة التي أبداها أصحاب المام)عليه السلم(حيث كان المام)عليه السلم(في غاية التذمر والستياء ،فقد
استهل المام)عليه السلم( خطبته بالشكوى من قّلة الفراد المطيعين ،ثم تعّرض)عليه السلم( إلى الواقعة الليمة
لحملت بسر بن أرطاة وغلبته على اليمن ،ثم يختتم المام)عليه السلم(خطبته بالشكوى ل من هؤلء القوم الذين
مرّدوا على النفاق والمعصية فيدعوا عليهم ويسأل ال أبدالهم بشر منه وإبداله من هو خير منهم.
الشرح والتفسير
تبدو عبارات المام)عليه السلم( واضحة باللتفات إلى سبب ورود الخطبة والجواء التي كانت
] [ 53
حاكمة آنذاك ،فقد أشار المام)عليه السلم( إلى أّنه لم تبق لديه سوى الكوفة بعد ذلك التمّرد والعصيان »ما هى)
ل الكوفة ،أقبضها وأبسطها« .والسؤال المطروح هنا :ماهى العلل والعوامل التي جعلت جيش المام)عليه (1إ ّ
السلم( يعيش هذه الحالة الخطيرة في العراق وسائر المناطق السلمية؟ نترك الجابة على هذا السؤال إلى
البحث الذي سنخوض فيه في موضوع تأملت.
ل علي)عليه السلم( وبتلك الشجاعة والبطولة والحنكة في التدبير إّنما ن رجل ربانيًا مث َ
أّما المسألة المهّمة فهى أ ّ
عاش تلك الحالة تجاه أعداء السلم أثر عدم وجود الُقوى المخلصة والشجاعة الموالية للحق والمواكبة لحركة
المام)عليه السلم( .فقد أشار المام)عليه السلم( بقوله »أقبضها وأبسطها« بشأن الكوفة إلى خروج سائر
ل أنت ته ّ
ب المناطق عن حكومته وإن كانت خاضعة لها ظاهريًا .ثم قال)عليه السلم(» :ان لم تكوني إ ّ
ل أّنها لم تكن
ن الكوفة وإن كانت مركز حكومة المام)عليه السلم( إ ّ أعاصيرك) (2فقبحك ال« في إشارة إلى أ ّ
خالية من التمرد والنفاق ،بحيث لم يكن المام)عليه السلم(يحسب لهلها ذلك الحساب .وما أعظم معاناته)عليه
ل أّنه يفتقر إلى المخلصين من التباع.
السلم( وهو بذلك العلم والحلم والحكمة والشجاعة إ ّ
ثم تمثل)عليه السلم( بقول الشاعر:
لعمر أبيك الخير يا عمرو إنني *** على وضر من ذا الناء قليل
»وضر« سواء كان بمعنى بقية الدسم في الناء ،أو بقية قطرات الماء في الناء ،أو الرائحة الباقية في إناء
ن الكوفة لم تكن سوى ذرة زهيدة آنذاك بالنسبة للعالم السلمي الواسع ،ول يسع أ ّ
ى الطعام ،فهى إشارة إلى أ ّ
زعيم بالعتماد على أهل هذه المنطقة مهما كان من حفظ بيضة السلم والدفاع عن البلد السلمية والوقوف
بوجه هذه الذئاب الكاسرة المتعطشة للدماء.
الشرح والتفسير
تعتبر الكوفة من المناطق السلمية المشهورة في التأريخ والتي كانت مسّرحا لعّدة
.1الضمير »هي« يعود إلى الحكومة أو البلد فمفهوم العبارة »ما الحكومة والمملكة التي تحت سيطرتي إّل الكوفة«.
» .2أعاصير« جمع »إعصار« وهى ريح تهب وتمتد من الرض نحو السماء كالعمود كما تطلق كناية على اُلمور الجتماعية وهى
تعني الفوضى التي كانت سائدة في الكوفة طول التأريخ.
] [ 54
ن إسمها مشتق من شكلها الذي يشبه الدائرة ، حوادث حتى إقترن تأريخ السلم بتلك المنطقة ويعتقد البعض أ ّ
حيث كانت تصطلح العرب على المنطقة الرملية المدورة بإسم »كوفان« ،وقال البعض سّميت بذلك السم
ن أحد معاني هذه المفردة هو الجتماع والتجّمع كما ذكروا عّدة وجوه ُاخرى للتسمية لجتماع الناس هناك; ل ّ
ليسع المقام الخوض في تفاصيلها .وقيل بنيت عام 17هـ على عهد الخليفة الثاني على يد سعد بن أبي وّقاص ،
وكانت أكبر مدن العراق التي تشد إليها الرحال .وسّميت »قبة السلم« .وقيل أن سعد بن أبي وقاص قد نزل
شر الخليفة الثاني بالفتوحات ،فلما رأى الخليفة رسل
المدائن بعد فتح العراق وغلبة الساسانيين فبعث رسله ليب ّ
سعد وقد شحبت وجوههم سألهم السبب ،فذكروا له سوء مناخ مدن العراق ،فأمر ببناء مدينة تتناسب ومزاج
العسكر فاختار سعد الكوفة .ولم تمض مدة حّتى إشتعلت فيها النار فاحترقت ـ ثم بنيت من اللبنات .وقد خّير سعد
المسلمين بنزول المدائن أو الكوفة .فاختار فريق منهم الكوفة واستعادوا صحتهم(1).
ن الروايات قدوهناك عّدة روايات صّرحت بعضها بذم الكوفة في حين صّرح البعض الخر بمدحها ،ويبدو أ ّ
طورِ
وردت بشأن مختلف عصور الكوفة والقوام التي سكنت فيها .فقد فسّرت بعض الروايات قوله سبحانه )َو ُ
ن() (2الواردة في الية بالكوفة.
سـيِنـي َ
ِ
.1معجم البلدان ،مادة »كوفة« ،التأريخ الكامل ،527 / 2قاموس )مادة كوفة(.
] [ 55
2ـ أهل الكوفة والمام )عليه السلم(
ن إحدى مشاكل حكومة المام علي )عليه السلم( تكمن في أهل العراق ولسيما أهل الكوفة الذين كّلنا نعلم بأ ّ
يّتصفون بالتمرد وعدم الطاعة; المر الذي جعل المام )عليه السلم( يتعّرض له في عّدة خطب ليعرب عن
إستيائه منهم وشكواه ،في حين كانت روحية أهل الشام وطاعتهم تمّثل أحد عوامل تفّوق معاوية في أعماله.
ن العّلة في عصيان أهل العراق علىوقد نظر بعض المؤّرخين إلى هذا الموضوع نظرة إيجابية فذهبوا إلى أ ّ
ن أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة ،ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب المراء وطاعة أهل الشام ،أ ّ
والبحث ،ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال ،والتمييز بين الرؤساء ،وإظهار
عيوب المراء ،وأهل الشام ذوو بلدة وتقليد وجمود على رأي واحد ،ل يرون النظر ،ول يسألون عن مغيب
الحوال ومازال العراق موصوفًا أهله بقّلة الطاعة ،وبالشقاق على ُاولى الرئاسة(1).
ن هذا الكلم أجوف ل أساس له .فأي عيب كان يسع أهل العراق أن يرّدوه على ن المرحوم مغنية يرى أ ّ
لأّإّ
حكومة العدل العلوية حّتى مارسوا ذلك الشقاق والنفاق )أّية فطنة ثاقبة تدفع بالفراد إلى العصيان والتمّرد والذي
أّدى إلى تلك الذّلة والخنوع أمام العدو؟!( والحق كما ذكره المؤّرخون ومنهم طه حسين في كتابه )علي وبنوه( أ ّ
ن
سياسة معاوية كانت قائمة على المكر والخداع وشراء دين الناس بينما اعتمد المام علي )عليه السلم( على الحق
والعدل ،ولعل الشاهد على ذلك مارد به المام )عليه السلم(حين قال» :أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن
وّليت عليه؟! وال ل أطور به ما سمر سمير وما أّم نجم في السماء نجمًا«) .(2ثم رّد )عليه السلم( على ُاولئك
ل» :وال ما معاوية بأدهى مّني لكّنه يغدر ويفجر ولول كراهية الغدر الذين قارنوا بين سياسته وسياسة معاوية قائ ً
لكنت من أدهى الناس«) .(3وهو المر الذي نلمسه اليوم بوضوح في عصرنا الراهن حيث يرى بعض الفراد
وضمن تحليلتهم الجتماعية أن الساسة
.1نقل هذا الكلم ابن أبي الحديد عن الجاحظ )شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد .(343 / 1
] [ 56
س الوسائل من أجل الفذاذ هم ُاولئك الذين يعتمدون أساليب التضليل والخداع والذين ل يتورعون عن التشبث بأخ ّ
لولئك الفراد من أهل اليمان والورع والتقوى تحقيق أهدافهم وأطماعهم ،في حين ل يرون من كفاءة وجدارة ُ
الذين ل يساومون على القيم والمبادئ ،نعم للسف مازال هذا الخطأ الفاحش هو الذي يسود بعض العقول
والفكار ،وقد أدى إلى سلسلة من المفاسد السياسية والجتماعية ،بل ما أعظم الدماء البريئة التي سفكت على
ن الواقع هو غير ماذكر ،فالعراق ولسيما منطقة الكوفة ل حال فإ ّ
مدى التأريخ بسبب هذه النظرة الخاطئة على ك ّ
إّنما سكنت من عّدة فئات وبمختلف الثقافات وقد تأثروا إلى حد بعيد بسياسة عثمان بما دفعهم للتكالب على الدنيا
والغترار بها وقد أصبحت السنن الخاطئة آنذاك من مفردات حياتهم اليومية )بما في ذلك التمييز في العطاء من
بيت المال( حّتى كان أغلب زعماء القبائل يتوقعون المناصب والموال الطائلة; المر الذي جعل معاوية ينجح في
إستمالتهم فكانوا يتقاطرون على معاوية ،الواحد تلو الخر.
ى عصر وزمان غير زمان المام علي )عليه السلم(ن هذا الكلم ل ينسحب على أهل العراق في أ ّوبالطبع فإ ّ
كعصر المام الحسن أو الحسين)عليهما السلم( .ومن هنا وردت روايات الئمة المعصومين)عليهم السلم(التي
تشيد بأهل العراق والكوفة .ول غرابة أن تّتصف ُاّمة ببعض الصفات السلبية في عصر من العصور ،ثم تنسلخ
عنها فتتحلى بصفات إيجابية.
—–
] [ 57
القسم الثاني
طِلِهْم،
عَلى با ِ
عِهْم َجِتما ِن ِمْنُكْم ِبا ْ سُيداُلو َ
ن َهُؤلِء اْلَقْوَم َ ن َأ ّ
ظّ ل ـ َل ُ ن َوِإّني ـ َوا ّ طَلَع اْلَيَم َ
سرًا َقِد ا ّت ُب ْ
»ُأْنِبْئ ُ
حِبِهْم
طِل َوِبَأداِئِهُم اَْلماَنَة ِإَلى صا ِعِتِهْم ِإماَمُهْم ِفي اْلبا ِ قَ ،وطا َ حّ صَيِتُكْم ِإماَمُكْم ِفي اْل َ
حّقُكْم َوِبَمْع ِن َ عَْوَتَفّرِقُكْم َ
ب ِبِعلَقِتِه«.
ن َيْذَه َ
ت َأ ْ
شي ُ خ ِ عَلى َقْعبَ ،ل َحَدُكْم َ ت َأ َ
حِهْم ِفي ِبلِدِهْم َوَفساِدُكْمَ ،فَلِو اْئَتَمْن ُ صل ِ خياَنِتُكْم َوِب ََو ِ
—–
الشرح والتفسير
سّر النهيار
أشار المام )عليه السلم( ـ في هذا المقطع من الخطبة ـ إلى قصة بسر بن ارطاة ذلك الجبار الشامي الفض
وغلبته على اليمن ،ثم تطرق )عليه السلم( إلى مصير أهل العراق والمستقبل المظلم الذي ينتظرهم مع ذكر
جه بسرًا إلى
ن معاوية و ّ
السباب والعلل التي ستفضي إلى ذلك المستقبل .فقد ذكر بعض شّراح نهج البلغة أ ّ
المدينة وأمره بقتل شيعة علي )عليه السلم( وإرعاب أهل المدينة التي هبت لنصرة رسول ال )صلى ال عليه
وآله(وقاتلت أبي سفيان ،فدخل المدينة وشتم أهلها وهّددهم وتوعدهم ،ثم دعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه ،
وأحرق دورًا كثيرة .ثم قصد اليمن فاستباح أهلها وقد قتل ولدي حاكم اليمن آنذاك عبد ال بن عباس (1).وقد ذكر
ن هذين الطفلين لذا بأعرابي من بني كنانة ،فلما أراد بسر أن يقتلهما ،قال له الكناني :دعهما فل ذنب
ابن أثير أ ّ
لهما ،فإن كنت قاتلهما
] [ 58
ل أن
فاقتلني معهما ،حيث كان يعتبر ذلك العرابي أن قتلهما يعني تقصيره في أداء المانة .فما كان من بسر إ ّ
قتلهما وقتل هذا العرابي(1).
على كل حال إطلع أمير المؤمنين علي )عليه السلم( على هذه الخبار الليمة فساءه ذلك فقالُ» :أنبئت بسرًا قد
ن هؤلء القوم سيدالون) (3منكم« ،ثم تطرق )عليه السلم(إلى علل هذه الدولة طلع) (2اليمن وإني وال لظن أ ّاّ
ليسلط الضوء على أربعة عناصر مهّمة تقف وراء النصر ،فقال )عليه السلم(» :باجتماعهم على باطلهم ،
وتفّرقكم عن حّقكم« .فالتحاد دعامة النصر ولسّيما إذا سادت الوحدة أتباع الحق .ولكن يالها من مصيبة أن
ن الباطل مصدر الخلف والتشتت يتفرق دعاة الحق عن حقهم ويجتمع دعاة الباطل ويتحدون على باطلهم! رغم أ ّ
ن الشقاق ن الوفاق والتحاد لمن دوعي النصر والنجاح في كل عمل وإ ّ ن الحق مركز الخاء والوحدة .نعم فإ ّ
وأ ّ
والفرقة لمن دواعي الهزيمة والفشل.
أّما العنصر الثاني فيخّلص في الطاعة وإمتثال الوامر التي كانت سائدة لصحاب الباطل وعدم طاعة أهل الحق
ق ،وطاعتهم إمامهم في الباطل« .أجل فالنضباط والطاعة حيثما كانت إّنما
لمامهم» :وبمعصيتكم إمامكم في الح ّ
لّمة أن تبلغ ما تريد دون رعايتها للنضباط وطاعتها لمرها
تقود إلى النصر والغلبة .وليس لجيش ول ُ
وزعيمها ،ومن هنا ورد التأكيد في كاّفة الدوائر والمؤسسات اليوم على مسألة النضباط واللتزام بالمقررات.
العنصر الثالث يتمّثل بالمانة والوفاء بالعهد والتي تقابلها الخيانة ونقض العهود ولسّيما حيال الرؤساء والزعماء
»وبادائهم المانة إلى صاحبهم وخيانتكم« فأمانتهم إّنما دفعت بهم لتعبئة كاّفة المكانات والطاقات ضد أعدائهم ،
في حين بددت خيانتكم هذه الطاقات وذهبت بها أدراج الرياح ،وهل من مصير ينتظر من ضيع طاقاته وبدد
إمكاناته سوى الهزيمة
.2اطلع ،تعني في الصل النظر من العلى ،واستعملت كناية عن النصر والغلبة المفاجاة ،مادة »طلوع« بمعنى الظهور.
» .3يدالون« )فعل مضارع مجهول من باب الفعال( من مدة دولة بمعنى النتقال من مكان إلى آخر .ومن هنا اطلقت الدولة على
المال والثروة التي تتداول بين الناس ،والمراد بها في هذه العبارة سيغلبونكم وتكون لهم الدولة بدلكم.
] [ 59
وأخيرًا »وبصلحهم في بلدهم وفسادكم« وعليه فقد أوجز المام )عليه السلم( عوامل نصرهم وفشل إتباعه في
اّتحادهم وانضباطهم وأمانتهم وصلحهم في بلدهم ،في حين عاش أتباعه الفرقة والختلف والغدر والخيانة
والفساد .فأساليب الدارة والحنكة في الحكومة وإدارة شؤون البلد مهما كانت قوّية فإّنها لن تؤّدي إلى نتائج
ل هؤلء الفراد الذين يمّثلون أذرع الحاكم وعناصره في الدولة.
مرضية في ظ ّ
ل اّتحاد أتباعه.
أجل فالحق ضعيف مهضوم إذا مافسد أتباعه ،والباطل قوي في ظ ّ
تأّملت
ى; من بنى عامربن لؤى بن غالب ،وَبعث معاوية له لُيغيَر على أعمال سِربن أرطاة العامر ّ فأّما خبُر ُب ْ
ن الذي هاج معاويةسير أ ّ
سْفك الدماء وأخذ الموال ،فقد ذكر أرباب ال ّعِمله من َأميرالمؤمنين عليه السلم ،وما َ
ن قوما بصنعاء كانوا من شيعة عثمان، سر ابن أرطاة ـ ويقال ابن أبي أْرطاة ـ إلى الحجاز واليمن ،أ ّ
على تسريح ُب ْ
ي عليه السلم
ل عل ّ
ي عليه السلم على ما في أنفسهم; وعام ُ ظمون قتَله ،لم يكن لهم نظام ول رأس ،فبايعوا لعل ّ ُيْع ِ
على صنعاء يومئذ
» .1قعب« ،قال بعض أرباب اللغة بمعنى قدح خشبي وقال البعض الخر قدح كبير ضخم.
» .2علقة« إذا استعملت مفتوحة العين عنت الرابطة المعنوية وإن كسرت كانت بهذا المعنى أو بمعنى الروابط المادية ،وقد وردت
هنا بمعنى ما يعلق بالظرف من ليف أو نحوه.
] [ 60
ظا سّفاكًا للدماء ،ل رأفَة عنده ول رحمة ،فأمَره أني القلب َف ّ
سَربن أبي أرطاة ،وكان قاس َ فلما قِدم كتابهم ،دعا ُب ْ
يإ ّ
ل ل على بلد أهله على طاعِة عل ّ ى إلى اليمن ،وقال له :ل تنِز ْق الحجاز والمدينة ومكة حتى ينته َ يأخَذ طري َ
عهم إلى البْيعة لي ،فم ْ
ن ف عنهم ،واد ُ
ت عليهم لساَنك; حتى َيَرْوا أّنهم ل نجاَء َلهم ،وأّنك محيط بهم .ثم اكُف ْ بسط َ
ي حيث كانوا. شيعَة عل ّ ل ِ
أبي فاقتْله ،واقت ْ
—–
ي ،قال:
ي في كتاب "الغارات" عن يزيدبن جابر الزد ّ
وروى إبراهيم بن هلل الثقف ّ
فدخل عليه فخّبره بمجيئنا إليه ،ومقالتنا له ،فأذن لنا ،فدخْلنا عليه ،فقال :ما هذا الخبُر الذي جاءني به عنكم الوليد؟
فقلنا :هذا خبٌر في الناس سائر ،فشّمْر للحرب ،وناِهض العداء ،واهتبل الفرصة ،واغتنم الِّغرة ،فإّنك ل تدري
متى تقدُر على عدّوك على مثل حاِلهم التي هم عليها ،وأن تسيَر إلى عدّوك أعّز لك من أن يسيُروا إليك .واعلم
ج إلى
حَت ْ
ل َأّنه تفّرق الناس عن صاحبك لقد نهض إليك .فقال لنا :ما أستِغني عن رأيكم ومشورتكم ،ومتى أ ْ وا ّ
] [ 61
ف أهوائهم ،لم يبلغ ذلك عندي بهم أن ن هؤلء الذين تذُكرون تفّرقهم على صاحبه ،واختل َ عكم .إ ّ
ذلك منكم أْد ُ
ن الدائرة أم لي! فإّياكم
ي تكو ُ
ن أسيَر إليهم خاطرا بجْندي ،ل أدري عل ّن أطمُع في استئصاِلهم واجتياحهم ،وأ ْ أكو َ
ق بكم.
واستبطائي ،فإّني آخُذ بهم في وجه هو أرف ُ
وبعث معاوية عند خروجنا من عنده إلى ُبسربن أبي أرطاة ،فبعثه في ثلثة آلف ،وقال :سْر حتى تمّر بالمدينة،
ل; مّمن لم يكن دخل في طاعتنا ،فإذا دخلتَ ن أصبت له ما ً ل َم ْ
ب أموال ك ّ
ن مررت به ،انه ْ ف َم ْ
خ ْ
فاطرد الناس ،وأ ِ
المدينة ،فأِرهم أّنك تريد أنَفسهم ،وأخبْرهم أّنه ل براءَة لهم عندك ول عذَر; حتى إذا ظّنوا أّنك موقٌع بهم فاكف ْ
ف
س عنك فيما بين المدينة ومكة ،واجعلها ض فيها لحد ،وأْرهب النا َ سْر حتى تدخل مكة ،ول تعِر ْ عنهم ،ثم ِ
ن لنا بهما شيعة ،وقد جاءني كتابهم.جند ،فإ ّ
شردات; تأتى صنعاء وال َ
—–
ل ذلك الماء
ل أه ِ
ن أسقط من جيشه ،سار بمن تخّلف معه ،وكانوا إذا وَردوا ماء أخذوا إب َ
سَقط َم ْ
أن ُبسرًا لما أ ْ
فركبوها ،وقادوا خيوَلهم حتى يِرُدوا الماء الخر ،فيرّدون تلك البل ،ويركبون إبل هؤلء ،فلم يزل يصنع ذلك
حتى قرب إلى المدينة.
—–
ل ،وأخذ سرًا لّما خرج من المدينة إلى مّكة قتل في طريقه رجا ً ي أن ُب ْعوانة عن الكلب ّ قال إبراهيم :وقد روى َ
ضى الّناس بشبية بن عثمان أميرًا لما خرج ُقَثم بن حى عنها عاّمة أهلها ،وترا َ ل مكة خبُره ،فتن ّ
ل ،وبلغ أه َ
أموا ً
ل لو ُتركت ورأيي فيكم لتركُتكم وماالعباس عنها ،وخرج إلى ُبسر قوم من قريش ،فتلّقْوه ،فشتمهم ،ثم قال :أَما وا ّ
عْترتك!ل في أهلك و ِ شدك ا ّ فيكم روح تمشى على الرض ،فقالواَ :نْن ُ
—–
] [ 62
سر ،خافوا وهربوا ،فخرج ل مكة لما بلغهم ما صنع ُب ْ ي بن مجاهد ،عن ابن إسحاق ،أن أه َ قال إبراهيم :وروى عل ّ
جَوْيِرَية ابنة خالد بن َقَرظ الكنانية ،وُتكَنى أّم حكيم ،وهم
ل بن العباس ،وهما سليمان وداود ،وأمهما ُ
بنا عبيدا ّ
ي.
ضرم ّ حلفاء بنى ُزهرة ،وهما غلمان مع أهل مكة ،فأضلوهما عند بئر ميمون بن الح ْ
ل نجران ،يا معشَر النصارى وإخوان جران ،ثم جمعهم وقام فيهم ،وقال يا أه َ وخرج ُبسر من الطائف ،فأتى َن ْ
ك الحرث ،وتخّرب الديار!
سل ،وُتِهل ُن عليكم بالتي تقطع الّن ْ
ن بلغني عنكم ما أكَره لعوَد ّلإ ْالقرود :أما وا ّ
ي عليه السلم أصحاَبه لبعث سّرية في ِإثر ُبر ،فتثاقلوا ،وأجابوا جارية بن ُقدامة السعدي ،فبعثه في فندب عل ّ
خص إلى البصرة ،ثم أخذ طريق الحجاز حتى ِقدم اليمن ،وسأل عن ُبسر فقيل :أخذ في بلد بني تميم، ألفين ،فش َ
فقال :أخذ في ديار قوم يمنعون أنفسهم .وبلغ ُبسرًا مسيُر جارية ،فانحدر إلى اليمامة ،أخذ جارية بن قدامة السير،
ض أصحابه من الزاد فيأمر ل بع ُل أن ُيْرِم َ
ما يلِتفت إلى مدينة مّر بها ول أهل حصن ،ول يعّرج على شيء إ ّ
ض اليمن،
حَفى دابته ،فيأمر أصحابه بأن ُيْعِقبوه ،حتى انتهْوا إلى أر ْ
أصحابه بمواساته أو يسقط بعير رجل ،أو َت ْ
ل جانب ،أصابوا ي عليه السلم ،وتداعت عليهم من ك ّ فهربت شيعة عثمان حتى لحقوا بالجبال ،واّتبعهم شيعة عل ّ
ي عليه السلمصَمد نحو ُبسر ،وبسر بين يديه يفّر من جهة إلى جهة ُاخرى ،حتى أخرجه من أعمال عل ّ منهم ،و َ
كّلها.
ل يا أميرالمؤمنين أني سرت في هذا لجيش أقتل عدوك ذاهبًا جائيًا لم ُيْنَكب رجل منهم نكبة،
حمد ا ّسر :أ َ
وقال ُب ْ
ل قد فعل ذلك ل أنت. فقال معاوية ا ّ
—–
] [ 63
ن ُبسرا باع دينَه بالدنيا ،وانتهك محارمك ،وكانت طاعةُ سر ،فقال :الّلهم إ ّي عليه السلم على ُب ْ قال :ودعا عل ّ
سُلبه عقَله ،ول توجب له رحمتك ول ساعة من نهار .اللهّم مخلوق فاجر آثَر عنده ِمّما عندك .الّلهّم فل ُتِمْته حتى َت ْ
جُزك الذي ل ترّده عنسك وِر ْ
ل عليهم غضُبك ،ولتنزل بهم ِنْقَمُتك وليصبهم بأ ُ ألعن ُبسرًا وعمرًا ومعاوية ،وليح ّ
القوم المجرمين.
ل به ،ل
طوني سيفًا أقت ْ
ل يسيرًا حتى وسوس وذهب عقُله ،فكان يهِذي بالسيف ،ويقول :اع ُ
سٌر بعد ذلك إ ّ
فلم يلبث ُب ْ
خذ له سيف من خشب ،وكانوا يدنون منه المرفقة ،فل يزال يضربها حتى ُيغشى عليه، يزال يردد ذلك حتى اّت ِ
فلبث كذلك إلى أن مات.
قال المسعودي في مروج الذهب بعد نقل هذه القصة أن بسرًا كان يقول للناس :انظروا كيف يطعمني هذان
الغلمان إبنا عبيدال ـ الذان قتل مظلومان بيدي ـ وكان ربما شدت يداه إلى الوراء منعا من لعبه بحزئه والناس
تمنعه من ذلك(1).
لقد شرح المام )عليه السلم( في هذه الخطبة بعباراتها القصيرة ذات المعاني العميقة المقّومات التي تمنى بها
لمم والشعوب ،ول يقتصر هذا المر على أهل العراق والحجاز واليمن وقضية والي من الولة كمعاوية وقائد اُ
عسكره بسر بن ارطاة ،بل يشمل كافة العصور والدهور .فقد تحّدث المام )عليه السلم( في بادئ المر عن
وحدة الكلمة التي تعّد السبب الرئيسي في تضامن القوى وتعبئة طاقاتها في مواجهة العداء .ومّما لشك فيه أ ّ
ن
أهم العوامل التي أّدت إلى انتصار جنود السلم على عهد رسول ال )صلى ال عليه وآله( على أعدائهم الذين
كانوا يفوقونهم عّدة وعددًا إّنما يكمن في وحدة الكلمة .فكم من فئة قليلة هزمت عدّوها بفضل التحاد والخاء.
صِره
ك ِبَن ْ
القرآن من جانبه اعتبر وحدة كلمة المسلمين من معاجز النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( )ُهَو اّلذى َاّيَد َ
ف َبْيَنُهْم()، (2ل َأ ّل َ
نا ّ
ن ُقُلوِبِهْم َولـِك ّ
ت َبْي َ
جِمـيعًا ما َأ ّلْف َ
ض َ
لر ِ
ت ما ِفي ا َ
ن ُقُلوِبِهْم َلْو َأْنَفْق َ
ف َبْي َ
ن * َوَأ ّل َ
َو ِباْلُمْؤِمني َ
كما اعتبر الوحدة السلمية التي سادت المسلمين أبان عصر
.1شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد 3 / 2ـ ;18مروج الذهب ) 163 / 3بحث ذكر أيام الوليد بن عبدالملك(.
] [ 64
ن ُقُلوِبُكْم
ف َبْي َ
عداًء َفَأّل َعَلْيُكْم ِإذ ُكْنُتْم َأ ْ
ل َ
لّمة السلمية )َواذُكُروا ِنْعَمةَ ا ّ الرسالة من النعم اللهية الكبرى على ا ُ
على َأنْ ل ُهَو القاِدُر َ خوانًا() ، (1في حين قرن الفرقة والشقاق بالعذاب الدنيوي والخروي )ُق ْ حُتْم ِبِنْعَمِتِه ِإ ْ
صَب ْ
َفَأ ْ
شـَيعًا() .(2كما أشار المام )عليه السلم(إلى مسألة سُكْم ِ
جِلُكْم َأْو َيْلِب َ
ت َأْر ُ
ح ِن َت ْ
ن َفْوِقُكْم َأْو ِم ْ
عذابًا ِم ْ عَلْيُكْم َث َ َيْبَع َ
النضباط وحنكة القيادة على أّنها العامل الخر المكّمل لعنصر التحاد والخاء والتضامن .والحق رأينا عّدة
ل العامل الرئيسي في ذلك ثورات فى عصرنا الراهن قد كتب لها النجاح بينما لم توّفق غيرها لهذه النتيجة ،ولع ّ
النجاح إّنما يستند إلى وحدة القيادة ،بينما تعاني غيرها من التشتت وتعدد مراكز القرار.
] [ 65
القسم الثالث
حِميِم«.
س ِمْثُل َأْرِمَيِة اْل َ
ك ِمْنُهْم *** َفواِر ُ
ت َأتا َ
عْو َ
ك َلْو َد َ
ُهناِل َ
—–
الشرح والتفسير
السئم والملل
يتضرع المام )عليه السلم( في آخر الخطبة إلى ال بقلب مفعم بالهم والحزن فيدعو على ُاولئك التباع ،غير أن
دعائه عليهم يحمل تحذيرًا جديًا لمن كان له أدنى صحوة من ضمير ،حيث يسعى المام )عليه السلم( عن هذا
الطريق إلى تنبيه أهل الضللة وإعادتهم إلى الصراط المستقيم ،فقال )عليه السلم(» :الّلهم إّني قد مللتهم وملوني
وسئمتهم وسئموني« ومن الطبيعي أل يكون هناك من وقع لنصائح المام العادل والقائد الشجاع في قلوب عبدة
الدنيا والهواء من أهل الجهل والعجز والذل إذا ما تباينت أهداف القائد ومبادئه وخلقه مع أهداف الرعية
» .2مث« من مادة »ميث« بمعنى حل الشيء في الماء ،ويطلق على المطر الذي يذيب تراب الرض ،كما يطلق على الحوادث
المريرة التي تذيب عقل النسان وتصدع قلبه.
] [ 66
وأخلقها ،المر الذي يؤدي بالتالي إلى تعب الطرفين وسئم كل منهما الخر .وإذا كان النبي )صلى ال عليه
وآله( قد استطاع النهوض بزعامة القوام الجاهلية ،فاّنما ذلك لّنهم أقروا بأهدافه ومبادئه في التربية وقد كيفوا
ن أقوامهم هى ن النبياء الذين لم يوفقوا في هذا المر ملوا أتباعهم ،كما أ ّ
أنفسهم مع سننه وخلقه .ومن هنا فا ّ
جوُهْم ِم ْ
ن خِر ُ
ن قاُلوا َأ ْ
لخرى لم تكن تطيق تحملهم .ول يفوتنا هنا ضيق ذرع قوم لوط بنبيهم لطهارته وعفته )َأ ْ اُ
ن((1).طـّهُرو َ
س َيَت َ
َقْرَيِتُكْم ِإّنُهْم ُأنا ٌ
فهم ليسوا أتباعًا جديرين بهذا المام ،ولم يعد إمامًا مناسبًا لهم ،فالحكمة اللهية تقتضي أن يخرجوا مسودي
الوجوه من هذا المتحان بعد أن تسلب منهم هذه النعمة اللهية فيعشوا أنواع الهوان والذل .وما أسرع ما استجيب
دعاء المام )عليه السلم( ،فقد تسلط عليهم بنو امية ليرتكبوا بحقهم ما قل نظيره أو انعدم في التأريخ والعجيب
ن أهل العراق والكوفة قد دفعوا
ن الحجاج قد ولد) (2آنذاك ،وبالطبع فا ّ
ماورد في بعض التواريخ السلمية من أ ّ
ل أّنها بلغت ذروتها على عهد الحجاج. ثمن جرائمهم وتخاذلهم قبل ذلك ،إ ّ
طبعًا ليس المراد بالعبارة »أبدلم بي شرًا مني« أّني سيء ولكن سلط عليهم من هو أسوأ مّني .بل هى مقارنة
ن أشار إلى شدة عذاب جهنم تطلق على الخير المطلق والشر المطلق ،فقد جاء في القرآن سورة الفرقان بعد أ ّ
ن( .وبعبارة ُاخرى لم يكن أهل العراق والكوفة آنذاك أخيار عَد الُمـّتُقو َ
خْلِد اّلِتي ُو ِ
جّنُة ال ُ
خْيٌر َأْم َ
ك َ
ل َأذ ِل َ
لُ) :ق ْ
قائ ً
ليسأل المام )عليه السلم(ال أخير منهم ،ول المام )عليه السلم( ـ والعياذ بال ـ كان سيئًا ليسلط ال عليهم من
هو أسوأ منه ،ففي مثل هذه الموارد تفقد صيغة أفعل التفضيل مفهومها العادي وترد للمقارنة بين شيئين
متضادين .ويبدو أن هذا الدعاء شبيه الدعاء الذي ابتهل به نبي ال نوح )عليه السلم( على قومه بعد أن يئس من
ن َدّيارا() .(3ثم قال )عليه السلم(» :الّلهم مث قلوبهم كما يماث
ن الكاِفِري َ ض ِم َ
لْر ِ على ا َ ب ل َتـَذْر َصلحهم )َر ّ
الملح
] [ 67
في الماء« .لعل المراد بموث قلوبهم )بمعنى ذوبانها( هو هجوم الهموم والغموم عليها بحيث تجرح عواطفهم
النسانية إلى درجة يقال ذاب القلب ،فقد ورد شبيه هذا المعنى في خطبة الجهاد رقم 27إذ قال )عليه السلم(:
»وال ،يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم« .ومن الواضح أ ّ
ن
المراد بذوبان القلب ضياع العقل والفطنة والدراية والحكمة .فمفهوم العبارة :خذ عقولهم وحكمتهم لهذا النفاق
والعصيان فيعيشوا الحيرة والضطراب في حياتهم .وقد ورد التعبير عن القلب بمعنى العقل والحكمة أو وعاء
على ُقُلوِبِهْم
جَعْلنا َ
العقل والحكمة في عدة آيات وروايات ،ومن ذلك ماورد في الية 25من سورة النعامَ) :و َ
ن َيْفَقُهوُه( .والواقع أن من أعظم العقوبات اللهية ـ التي أوردها القرآن الكريم والروايات بالنسبة للفراد من
َأِكّنًة َأ ْ
أهل النفاق والمعصية ـ هى ال يرى النسان الحقائق ول يدركها كما هى ،فيعيش القلق والحيرة والضلل .ثم
يختتم المام )عليه السلم( خطبته بالقول» :أما ـ وال ـ لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم .ثم
تمثل بقول الشاعر:
قال السيد الشريف :أقول» :الرمية« جمع »رمى« وهو السحاب والحميم ،هاهنا وقت الصيف .وإّنما خص
ل ول أسرع خفوفًا; لّنه ل ماء فيه .وإّنما يكون السحاب ثقيل السير
الشاعر سحاب الصيف بالذكر لنه أشد جفو ً
ل زمان الشتاء ،وإّنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا ،ول
لمتلئه بالماء ،وذلك ليكون في الكثر إ ّ
إغاثة إذا استغيثوا ،والدليل على ذلك قوله :هنالك لو دعوت أتاك منهم.
هم بنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة ،حي مشهور بالشجاعة ،منهم علقمة بن فراس وهو جذل
الطعان .ومنهم ربيعة بن مكدم بن حرثان بن جذيمة بن علقمة بن فراس الشجاع المشهور ،حامي الظعن حيًا
وميتًا ،ولم يحم الحريم وهو ميت أحد غيره; عرض له فرسان من بني سليم ،ومعه ظعائن من أهله يحميهم
وحده ،فطاعتهم ،فرماه نبيشة بن حبيب
] [ 68
بسهم أصاب قلبه ،فنصب رمحه في الرض ،واعتمد عليه وهو ثابت في سرجه لم يزل ولم يمل .وأشار إلى
الظعائن بالرواح ،فسرن حتى بلغن بيوت الحي ،وابن سليم قيام إزاءه ل يقدمون عليه ،ويظنونه حيًا; حتى قال
ل ميتًا ،ولو كان حيًا لتحرك; إّنه وال لماثل راتب على هئية واحدة ،ل يرفع يده ،ول
قائل منهم :إّني ل أراه إ ّ
يحرك رأسه .فلم يقدم أحد منهم على الدنو منه ،حتى رموا فرسه بسهم ،فشب من تحته ،فوقع وهو ميت ،
وفاتتهم الظعائن(1).
وجاء في كتاب بلوغ الدب أن شجاع كل فرد من أبناء هذه القبيلة بعشرة من شجعان سائر القبائل ،وهم أشجع
قبائل العرب(2).
والطريف في المر أن جيش المام )عليه السلم( في الكوفة قد بلغ عشرات اللف ،بل بلغ طبق رواية مئة ألف
ن المام )عليه السلم( يتمنى استبدال كل هذا الجيش بألف من فرسان بني فراس; المر الذي لأّ جندي) ، (3إ ّ
يدل على مدى ضعف جيش الكوفة وعجزه ،ومدى شجاعة أبناء قبيلة بني فراس ،فقد تضاعفت شجاعتهم الذاتية
ل((4).
نا ّ
ت ِفَئًة َكِثـيَرًة ِبِإذ ِ
غَلَب ْ
ن ِفَئة َقِلـيَلة َ
في ظل السلم واليمان .كما جاء في القرآن الكريمَ) :كْم ِم ْ
—–
.3المصدر السابق.
] [ 69
الخطبة 26
ومن خطبة له )عليه السلم(
وفيها يصف العرب قبل البعثة ثم يصف حاله قبل البيعة له نظرة إلى الخطبة.
والقسم الثاني في الحوادث التي ُاعقبت رحيل رسول ال )صلى ال عليه وآله( وكيفية غصب حق المام )عليه
السلم(في الخلفة ،وسكوته حفظًا للسلم والقرآن بينما كان يعيش حالة من التذمر والستياء.
] [ 70
والقسم الثالث إشارة إلى البيعة المشروطة لعمرو بن العاص على معاوية والتي أدت إلى تلك الويلت والمصائب
والضرار الفادحة في الرواح والموال ،ثم يختتم الخطبة بحث أتباعه بالتأهب للقتال.
—–
] [ 71
القسم الول
—–
الشرح والتفسير
العرب في الجاهلية
يتطرق المام )عليه السلم( في هذا القسم من الخطبة إلى أوضاع العرب في الجاهلية فيرسم صورة واضحة
الملمح عن حياتهم من خلل البعاد الفكرية والعاطفية والقتصادية والجتماعية ،بحيث ل نتوصل لهذه
الصورة التي رسمها المام )عليه السلم(ولو طالعنا كافة المؤلفات التي صنفت بشأن العرب في العصر الجاهلي.
ن المام )عليه السلم( استهل الخطبة بهذا الكلم ليذكرهم بالعصر الجاهلي الذي سبق السلم فيقارنونه ويبدو أ ّ
بما بعد البعثة النبوية الشريفة فيقفوا على قيمة السلم ول يضحوا بهذه القيمة والنعمة من خلل هذه الفرقة
ل إذا فقدت فقد
والختلف وأتباع الهواء والشهوات ،ول غرو فقيمة النعم تبقى مجهولة ول يعرف قدرها إ ّ
قال )عليه السلم(» :إن ال بعث محمدًا )صلى ال عليه وآله( نذيرًا للعالمين وأمينًا على التنزيل«.
ن المام )عليه السلم( أكد على جانب النذار في رسالة النبي )صلى ال عليه وآله( ،بينما نعلم الجدير بالذكر أ ّ
ك شاِهدًا
سْلنا َ
ي ِإّنا َأْر َ
ن النذار قد قرن بالبشارة ،كما ورد ذلك في عدة آيات قرآنية ،كالية الشريفة )يا َأّيها الّنِب ّ أّ
ن النذار بالعقاب
شرًا َوَنِذيرًا() (1وسائر اليات القرآنية (2).غير أ ّ
َوُمَبـ ّ
.2سورة سبأ ;28 /سورة فاطر ;24 /سورة الفتح 8 /وسورة البقرة .119 /
] [ 72
لّمة نحو القيام بوظائفها والتحفظ عن تركها كان التأكيد أكثر على
والتهديد بالعذاب غالبًا ما يكون الدافع لحركة ا ُ
مسألة النذار ،ومن هنا ورد التأكيد في أغلب اليات القرآنية على النذار بشأن رسالة النبي )صلى ال عليه
وآله(وسائر النبياء ،ولم تطالعنا أي من اليات التي اقتصرت على البشارة .وهذا هو السلوب الذي اعتمدته
القوانين المعاصرة ،حيث ركزت على جانب العقوبة بصفتها الضمانة الجرائية الناجحة ،ونادرًا ما يعتمد الحث
ن الهدف النهائي للنذار هو إثارة الشعور بالمسؤولية
والتشجيع من أجل تحقيق الغرض المذكور .بصورة عامة فا ّ
تجاه الوظائف والتكاليف الملقاة على عاتق النسان .وهنا ل ينبغي أن ننسى بأن انذار النبي )صلى ال عليه
ن للعالمين مفهوم واسع يشمل وآله(يشمل كافة الكائنات; المر الذي يدل على عالمية الدين السلمي وخلوده ،ل ّ
كافة أفراد البشرية في كل عصر ومصر .قوله )عليه السلم(» :أمينًا على التنزيل« تلويح ضمني بعصمة رسول
ال )صلى ال عليه وآله( ،فهو صائن لكتاب ال ومبلغه للعالم دون أدنى تغيير .ثم تطرق )عليه السلم(لوضاع
العرب زمان الجاهلية في عشرة عبارات مقتضبة عظيمة المعاني تشير إلى أربعة محاور ،فقال» :وأنتم معشر
العرب على شر دين« وأي دين أسوأ من الوثنية؟ أن ينحت عاقل قطعة من الحجر أو الخشب بيده ثم يسجد لها
ويعبدها ويرى مقدراته بيدها ويلوذ بها في حل المشاكل التي تواجهه في حياته ،أو أن يصنع صنمًا من التمر
يتخذه إلهًا فاذا جاع أكله .أضف إلى ذلك النحراف الخطير فان طقوس هؤلء القوم مملوءة بالخرافات والعقائد
السخيفة البعيدة عن المنطق والتي سطرتها كتب تأريخ العرب في العصر الجاهلي ،وسنعرض لجانب منها
لحقًا.
هذا على مستوى العقائد والفكار .ثم تطرق )عليه السلم( إلى أوضاعهم القتصادية المزرية فقال )عليه السلم(:
»وفي شر دار منيخون«) (1بين حجارة خشن وحيات صم ،تشربون الكدر وتأكلون الجشب«(2).
تعبيره )عليه السلم( »شر دار« بالنسبة لمحل إقامة عرب الجاهلية ،رغم أن أغلبهم )ولسيما من
» .1منيخون« من مادة »نوخ« بمعنى تنويم الجمل ،ومن البديهي أن يكون موضع استراحة الفراد هو ذلك الموضع الذي ينومون
فيه الجمال بين حجارة خشن.
» .2الجشب« على وزن »خشن« بمعنى الطعام الغليظ أو ما يكون منه بغير أدم.
] [ 73
خاطبهم المام )عليه السلم( بهذه الكلمات( كانوا يقطنون في مكة أو المدينة يفيد أن هاتين المنطقتين قد فقدتا
قدسيتهما ومكانتهما المعنوية إثر تبدلهما إلى مركز للصنام والوثان والفساد والنحراف .وقد أحاطت بهم
عواصف الرمل والرياح المحرقة في تلك الصحاري الجرداء ،بحيث إذا تمكن أحدهم من العثور على بقية ماء
في بعض البرك والبار فانه كان على درجة من التلوث والتعفن بسبب هبوب الرياح أو تلويثه من قبل بعض
الفراد حتى ليشعر شاربه بالغثيان ،غير أن هؤلء كانوا مضطرين لشربه ،ولم يكن طعامهم بأفضل مّما عليه
الشراب.
ب ودرج
ن إعرابيًا سئل» :أي الحيوانات تأكلون في البادية؟« قال» :نأكل كل ما د ّ
نقل أحد شّراح نهج البلغة أ ّ
ال أم جبين«(1).
أّما التعبير بالحيات الصم ،هو أن الحية الصماء أخطر من غيرها لّنها صماء ل تنزجر بالصوت ،أو لعل سمها
أخطر.
أما المحور الثالث فقد أشار فيه المام )عليه السلم( إلى أوضاعهم الجتماعية المزرية وإنعدام المن والستقرار
فقال )عليه السلم(» :وتسفكون دمائكم« والتعبير بالمضارع »تسفكون دمائكم« كسائر الفعال في عبارات
الخطبة يفيد استمرار هذه الوضاع المتفاقمة .والواقع ل تحتاج قضية سفك الدماء المتعارفة بينهم إلى دليل ،
فسيوفهم تشهر لتفه السباب ليخوضوا أعنف المعارك وأشرسها لشهور بل لسنوات ـ ولعل نظرة عابرة إلى
ن أولئك الجهال كانوا يخوضون أشرس القتال من معاركهم المعروفة بحرب الفجار والتي ستشير إليها لحقًا تفيد أ ّ
أجل أهون الشياء .وأخيرًا أشار )عليه السلم( إلى المحور الرابع المتمثل بأوضاعهم العاطفية المتردية
»وتقطعون أرحامكم« ولعل العبارة إشارة إلى قضية وأد البنات ودفنهن أحياًء ،حيث كانوا يرون البنت تجر
ل إذا ولدت له بنت ،وهذا ما أشارت إليه الية 58و عليهم الخزي والعار ،فكان أحدهم يتوارى عن النظار خج ً
سوِء مان ُن الَقْوِم ِم ْ
ظـيٌم * َيَتوارى ِم َ
سَوّدا َوُهَو َك ِ
جُهُه ُم ْ
ل َو ْ
ظـ ّ
لْنثى َ
حُدُهْم ِبا ُ
شـَر َأ َ 59من سورة النحل )َو ِإذا ُب ّ
سـُه ِفي على ُهون َأْم َيُد ّ سُكُه َ
شـَر ِبِه َأُيْم ِ
ُب ّ
.1شرح نهج البلغة ،ابن ميثم 24 / 2أما كيف ضبطت مفردة )أم جبين( فقيل بيائين وقيل باء وياء وقيل بالجيم كما قيل بالماء )أم
جبين( و)أم حبين( ،كما كثر الكلم بشأن هذا الحيوان فقيل هو نوع من العضايا وتنفر منه عرب البادية لّنه سام عند الكل.
] [ 74
ن(وقد ل يكتفي البعض بالقتصار على هذا القتل على البنات فيعمد إلى قتل ولده خشية حُكُمو َب َأل ساَء ما َي ْ الّترا ِ
شَيةَ
خْالفقر; المر الذي نهى القرآن عنه بشّدة ،فقد نهت عن ذلك الية 31من سورة السراء )َول َتْقُتُلوا َأْولَدُكْم َ
ن َنْرُزُقُهْم َو ِإّياكْم( بل كان الوالد يقتل ولده والولد والده والخ أخيه عبثًا ،فقد عاشت الرحم فاجعة لم
حُ
ِإْملق َن ْ
يشهد لها التأريخ مثيل.
ويختتم المام )عليه السلم( كلمه بخلصة مفاسدهم المعنوية والمادية بالقول »الصنام فيكم منصوبة والثام بكم
ل عنمعصوبة« .وكأن تعبيره )منصوبة( إلى أّنهم كانوا يفتخرون بهذه الصنام فينصبونها في كل مكان فض ً
عبادتها والسجود لها .ومعصوبة من مادة عصب )مايربط العضلت بالعظام( إشارة إلى أنواع المعاصي من قبيل
سفك الدماء وقتل النفس وقطع الرحم والتعرض للنواميس ونهب الموال وشرب الخمر والقمار و ...التي
اجتاحت عرب الجاهلية وعليه فقد أشار المام )عليه السلم( بهذه العبارات إلى انحرافاتهم العقائدية والخلقية
وأزماتهم القتصادية والعاطفية ومدى النحطاط والسقوط الذي بلغوه على هذه المستويات.
—–
تأّملت
ضروري هو البحث حول العصر الجاهلي والمسائل المختلفة المرتبطة به من أجل التعرف على السلم وعظمة
النبي)صلى ال عليه وآله( ،فقد سعى المؤرخون لحصاء المسائل المتعلقة بذلك العصر ،وقد أشرنا إلى هذه
المسألة في شرح الخطبة الثانية ،وحيث أشار المام)عليه السلم( في القسم الول من هذه الخطبة إلى ذلك
الموضوع فإننا نرى ضرورة الشارة إلى بعض المور:
أـ الحديث طويل في عقائدهم الخرافية فالوثتية كانت هى الحاكمة والمنصوبة في جوف الكعبة فهناك أوثان القبيلة
والسرة ،ولبعضها أشكال وأخرى دون شكل .من عقائدهم أن الملئكة بنات ال ،في حين ينفرون أنفسهم بشدة
من البنات .وينكرون القيامة ويشاورون أصنامهم في المور المهمة ،وطريقة ذلك أنهم يكتبون على السهام
»افعل« و»لتفعل«
] [ 75
فيجعلونها مع بعضها ويخرجون واحد منها على أنه المر الذي أصدره الوشن .ومن خرافاتهم العقائدية اليمان
بالغيلن وطيور الشؤم والبركة وما إلى ذلك.
ب ـ على الصعيد القتصادي فقد كان يدفعهم الفقر وعلوة على وأد البنات إلى قتل الولد .وأغلب دخلهم كان
عن طريق السلب والنهبت ،وكان الغلب وبسوء الوضع القتصادي يعيش حافيا شبه عريان ،وإن كان لحدهم
لياس متواضع دعا ،ذلك للفخر فينشد:
ت!
من يك ذابت فهذا بّتى *** مقّيظ مصّيف مش ّ
ج ـ على المستوى العاطفى فكفاهم أنهم لم يرحموا أي شيء وذلك بسبب طبيعتهم الوحشية كما يقول ابن خلدون
حيث يميلون إلى السلب والتهب ولذتهم بذلك وفخرهم بالقتل ـ روي أن أحدهم سمع قول النبي)صلى ال عليه
وآله( في وصف الجنة ونعمها ،فسأل هل فيها قتال ـ قيل :ل .قال إذن ل خير فيها .قيل في بعض التواريخ أن
الحروب التي نشيت بين عرب الجاهلية بلغت 1700حرب دام لبعضها مئة عام وتعاقبت عليها الجيال ،وما
أكثر الحروب التي كانت تنشب لتفه السباب.
ى ـ أما على الصعيد الجتماعي فقد كانت أوضاعهم مزرية بفضل إنتشار الفساد والخمر حتى كان الشراب هو
المتبادر إلى الذهان من التجارة والشجاعة تعني القتل والغيرة والعفة تعني وأد البنات ـ كانوا يعشقون ثلث:
المرأة والخمر والقتال حتى قال شاعرهم:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة *** تروى عظامى بعد موتي عروقها
ل أذوقها
تأ ّ
ول تدفنني في الفلت فاّنني *** أخاف اذا ما م ّ
كانوا يعتقدون بوجوب نصرة الصديق على الحق كان أم الباطل .كما كان القمار بارزا عندهم حتى أنهم كانوا
يخسرون فيها نسائهم .كان الزنا منتشرا بينهم حتى إشتهر عندهم الزانيات من أصحاب الرايات ،وهكذا سائر
المفاسد التي ل مجال لحصائها(1).
نعم هكذا كان العرب وقد أتقدهم ال بالسلم ،فلم ينجو من الخرافات والوثنية
.1للوقوف على المزيد راجع بلوغ الدب والسلم والجاهلية والتأريخ الكامل )ج (1وسيد المرسلين وشرح العلمة الخوئي لنهج
البلغة.
] [ 76
طة ،بل تغيرت حتى أوضاعهم الجتماعية والقتصادية والعاطفية وقد صنع من إنسانهم المتوحش والعقائد المنح ّ
مثال الفرد المتحضر السوة كمن على شاكلة أبي ذر والمقداد وعمار وبلل .وتتضح عظمة السلم ورسالة
النبي)صلى ال عليه وآله( من هذه المقارنة ،أما ظهور آثار الجاهلية في عصرنا باشكالها الوسع والقسى ـ
بسبب البتعاد عن تعاليم النبياء سيما تعاليم نبي السلم)صلى ال عليه وآله( لهي شهادة أخرى على عظمة هذه
الرسالة.
2ـ شر دار أم خيرها
النقطة الجديدة بالذكر في الخطبة المذكورة وصفه لموضع سكن عرب الجاهلية بشر دار ،بينما وصف ذلك
العصر في الخطبة الثانية بالقول »خير دار وشر جيران« ولما كان المراد في العبارتين أرض مكة فيبدو هناك
ن أدنى تأمل يفيد عدم وجود أي تناقض ـ فأرض مكة ذاتًا مركزًا لفضل دار يعني الشعبة ،ولكنتناقضا ،إل أ ّ
بالعرض فإن جميع هذه الرض المقدسة حتى بيت ال فقد لوثت بالشرك والوثنية والمفاسد الخلقية .وعليه فهى
شر دار باعتبار وخير دار باعتبار آخر.
—–
] [ 77
القسم الثاني
شجا،
عَلى ال ّ
ت َ
شِرْب ُ
عَلى اْلَقَذىَ ،و َ
ت َ
ضْي ُ
غ َ
تَ ،وَأ ْ
ن اْلَمْو ِ
عِت ِبِهْم َ
ضِنْن ُن ِإّل َأْهُل َبْيِتيَ ،ف َ
س ِلي ُمِعي ٌ ت َفِإَذا َلْي َ
ظْر ُ
»َفَن َ
طْعِم اْلَعْلَقِم«.
ن َ
عَلى َأَمّر ِم ْظِمَ ،و َخِذ اْلَك َ
عَلى َأ ْ
ت َ صَبْر ُ
َو َ
—–
الشرح والتفسير
الصبر المرير
أشار المام )عليه السلم( ـ في هذا المقطع من الخطبة ـ إلى الحوادث التي أعقبت رحيل
رسول ال )صلى ال عليه وآله(ولسيما حادثة الخلفة ،ويتطرق إلى السبب الذي دعاه إلى السكوت وعدم
المطالبة بحقه المسّلم في الخلفة ،أي خلفة رسول ال)صلى ال عليه وآله( ـ والتي كانت في الواقع حق
ن القيام بالمر
المسلمين ـ فقال )عليه السلم(» :فنظرت فاذا ليس معين إل أهل بيتي« .من الواضح أ ّ
تجاه تلك الطائفة المتحزبة ـ التي تشهد التواريخ بأّنها خططت لللتفاف على الخلفة قبل وفاة
ن مثل هذا القيام ليس فقط ل يتمخض عن نتيجة ، رسول ال )صلى ال عليه وآله( ـ ل ينسجم وأي منطق; ل ّ
بل سيؤدي ذلك القيام إلى قتل طائفة من صفوة أهل بيت النبي )صلى ال عليه وآله( ،أضف إلى ذلك فان هذه
المواجهة قد تقود إلى شق صفوف المسلمين بما يعود بالنفع للمنافقين الذين كانوا يتربصون
بالمسلمين مثل هذه الحوادث بعد وفاة رسول ال )صلى ال عليه وآله(; المر الذي جعل المام )عليه
السلم(يفضل
الصمت والسكوت ومن هنا واصل المام )عليه السلم(خطبته بهذا الشأن فقال» :وأغضيت) (1على
» .1أغضيت« من مادة »غضى« تعني السكوت على مضض ،كما تعني اغماض العين ـ ومن هنا تطلق الليالي الغاضية على الليالي
الظلماء.
] [ 78
القذى) (1وشربت على الشجا) ، (2وصبرت على أخذ الكظم) (3وعلى أمر من طعم العلقم).«(4
تأّملت
تشبه هذه العبارات تلك التي وردت في الخطبة الثالثة المعروفة بالخطبة الشقشقية ،بل هى أشد وقعًا منها ،وتفيد
ن المام )عليه السلم( قد قضى ساعات ولحظات غاية في المرارة إبان تلك السنين ـ ما يقارب خمس وعشرين أّ
سنة ـ التي قضاها بعد رسول ال )صلى ال عليه وآله(جليس الدار حين دفع عن حّقه في الخلفة.
ولم يكن تذمر المام )عليه السلم( كونه لم يتزعم الحكومة ،فقد أعلن صراحة عن عدم إكتراثه لهذا المر وأشار
ل ،فهى مسؤولية إلهية وليست ل أن يقيم حّقا أو يدحض باط ً
كرارًا إلى أن هذه الخلفة ل تساوي عنده شيء إ ّ
وسيلة للفخر والمباهاة ،وإّنما كان تذمره لّنه كان يشهد تنصل الّمة شيئًا فشيئًا عن السلم وابتعادها عن القيم
واحيائها لسنن الجاهلية حتى حدث ماكان يخشى منه ،فقد تسلم معاوية زمام ُامور الدولة السلمية وأصبحت
خلفة رسول ال )صلى ال عليه وآله(ملكية وراثية ليرثها من بعده ولده يزيد الذي ارتكب أفظع الجرائم
والجنايات بحق المسلمين وتكشف عبارات المام )عليه السلم( عن مدى الدعايات الشديدة التي مارسها القائمين
لّمة وارعابها من جهة ُاخرى في إقصاءه عن حقه المسلم في الخلفة على شؤون الحكومة من جهة وتهديد ا ُ
بحيث لم يكن معه من ينهض بالمر سوى أهل بيته ،فقد نقل المؤرخون عن المام )عليه السلم(أّنه قال» :لو
وجدت أربعين ذوي عزم لقاتلت«) (5والذي يستوحى من عباراته )عليه السلم( أ ّ
ن
» .1قذى« على وزن قضا الصفاء والخلص ،ومن هنا يطلق القذى على الشيء الذي يقع في الماء فيلوثه ،كما يطلق على ما يقع
في العين.
» .2شجا« من مادة »شجو« ما يعترض في الحلق من عظم أو نحوه ،كما يطلق على الشدة والهم والغم.
» .3كظم« على وزن غضب من مادة »كظم« .قال الراغب في المفردات الكظم بمعنى مخرج النفس ،والكظوم بمعنى الختناق وحبس
النفس ،كما تستعمل بمعنى ربط القربة بعد ملئها بالماء ،ومعنى العبارة صبرت على الخناق رغم الضغط الذي مارسه العدو.
» .4العلقم« ،قال صاحب مجمع البحرين هى شجرة شديدة المرارة ،وتسمى الحنظل أيضًا ،كما جاءت علقمة بمعنى المرة.
.5رواها نصر بن مزاحم عن المام )عليه السلم(; شرح نهج البلغة ،ابن ميثم ،26 / 2شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد / 2
.22
] [ 79
المتحمسين لغصب الخلفة لم يكونوا يتورعون حتى عن سفك دماء أهل البيت)عليهم السلم( ،وهذا ما أشار إليه
المام )عليه السلم(بقوله» :فضننت بهم عن الموت«; المر الذي يبدو عجيبًا ورهيبًا للغاية ،وان كانت مثل هذه
لمور الخلقية ليست عجيبة في عالم السياسة والحكومة! كما يحتمل أن يكون أولئك المتعصبين للخلفة اُ
ل ،فهم يهمون بقتلهميتربصون الدوائر بذرية المام )عليه السلم( التي كانوا يرون أّنها ستتصدى للخلفة مستقب ً
لكي ل تبقى لهل البيت من باقية تنهض بمسؤولية الخلفة.
أّما السؤال عن مدى لوعة المام )عليه السلم( وشدة تلك اليام التي كانت تمر عليه وهو جليس الدار ،يتطلع
بذهول لتلك الفعال التي ارتكبت باسم الحكومة السلمية من قبيل تحريف العقائد والنحراف في فهم النصوص
والحكام السلمية وتضييع العدالة وبالتالي استبدال الحكومة السلمية بالملكية الوراثية كحكومة فرعون
وقيصر وكسرى ،فالجابة عليه قد وردت في الخطبة الثانية والستين من نهج البلغة التي قال فيها المام )عليه
السلم(» :أما بعد ،فان ال سبحانه بعث محمدًا )صلى ال عليه وآله( نذيرًا للعالمين ،ومهيمنًا على المرسلين ،فلما
مضى تنازع المسلمون المر من بعده ،فو ال ما كن يلقى في روعي ول يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا المر
ل انثيال الناس على فلن من بعده )صلى ال عليه وآله( عن أهل بيته ،ول أّنهم منحوه عني من بعده! فما راعني إ ّ
يبايعونه ،فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن السلم ،يدعون إلى محق دين محمد )صلى ال
ي أعظم من فوت عليه وآله( ،فخشيت إن لم أنصر السلم ،وأهله أن أرى فيه ثلمًا أو هدمًا ،تكون المصيبة به عل ّ
ول يتكم التي إّنما هى متاع أيام قلئل ،يزول منها ماكان ،كما يزول السراب ،أو كما يتقشع السحاب; فنهضت في
تلك الحداث حتى زاح الباطل وزهق ،واطمأن الدين وتنهنه« فالمام )عليه السلم( كان يشهد آنذاك مشكلتين
خطيرتين; الولى ذهاب حقه المسلم في الخلفة; الحق الذي أدى زواله إلى انحرافات عظيمة برزت على الساحة
السلمية ،والثانية تكمن في الخطر الذي كان محدقًا بالسلم ،والفرصة التي كان ينتظرها تيار النفاق من أجل
ن يعمل بالقاعدة المنطقية العقلئية والشرعية في تقديم الهم على لأّالجهاز عليه ،فما كان منه )عليه السلم( إ ّ
المهم عند التزاحم ،فسكت على مضض عن حقه في الخلفة حفاظًا على بيضة السلم.
] [ 80
كثر الكلم بين المؤرخين والمحدثين بشأن موقف المام علي )عليه السلم( من خلفة الول والبيعة التي تمت له
في سقيفة بني ساعدة .وليس هنالك من اتفاق بين علماء الشيعة والسنة بهذا المجال ،فقد صرح الشارح البحراني
ن المام علي )عليه السلم( امتنع عن مبايعة الخليفة الول ،وقد انضم إليه عدد ن أغلب علماء الشيعة يعتقدون أ ّ
أّ
ن أمير المؤمنين علي )عليهل أّنهم اضطروا آخر المر لبيعته بعد أن ُاجبروا عليها .وقيل أ ّ
من بني هاشم ،إ ّ
السلم( لزم البيت ولم يخرج ،فلما رأوا أّنه وحيد تركوه ولم يحملوه على البيعة .أما محدثوا العامة فقد ذهبوا إلى
ن المام )عليه السلم( قد امتنع عن البيعة ستة أشهر حتى توفت الزهراء)عليها السلم( فبايع طوعا .وللمرحوم أّ
ن المام )عليه السلم(أراد أنلمة السيد شرف الدين صاحب المراجعات تحليل رائع بهذا الشأن ،خلصته أ ّ الع ّ
يؤكد حقه المسلم في الخلفة ونص النبي )صلى ال عليه وآله( بالوصية عليه من جانب ،ومن جانب آخر أراد أن
يفوت الفرصة على المنافقين ـ الذين كانوا يتربصون الدوائر بالسلم ويرون السبيل قد تمهد أمام أطماعهم
بالقضاء على الدين من خلل الختلفات بين النصار والمهاجرين ـ فامتنع عن البيعة مدة )ليعلن عن حقه في
الخلفة( ،ثم بايع حفظًا للسلم ودرءًا لخطر المنافقين والمتربصين بالدين(1).وقد وردت بعض العبارات التي
تشير إلى هذا المعنى في الخطبة 62من نهج البلغة » ..فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن
السلم ،يدعون إلى محق دين محمد )صلى ال عليه وآله( فخشيت إن لم أنصر السلم وأهله أن أرى فيه ثلمًا أو
هدمًا ،تكون المصيبة به علي أعظم من فوت وليتكم.«...
—–
وسنتحدث إن شاء ال بما يناسب المقام حين شرحنا للخطب والرسائل المرتبطة بهذا البحث.
] [ 81
القسم الثالث
خُذوا
عَ ،ف ُ
ت َأماَنُة اْلُمْبتا ِخِزَي ْ ت َيُد اْلباِئِعَ ،و َ
ظِفَر ْعَلى اْلَبْيَعِة َثَمنًاَ ،فل َ
ن ُيْؤِتَيُه َ
ط َأ ْ
شَر َ
حّتى َومنهاَ» :و َلْم ُيباِيْع َ
صِر«.عى ِإَلى الّن ْ صْبَر َفِإّنُه َأْد َ
شِعُروا ال ّ سَت ْ
سناهاَ ،وا ْ
عل َ ب َلظاهاَ ،و َ ش ّ
عّدَتها َفَقْد َ عّدوا َلها ُ
ب ُأْهَبَتهاَ ،وَأ ِ
حْر ِ
ِلْل َ
—–
الشرح والتفسير
أشار المام )عليه السلم( إلى المساومة الفاضحة التي اشترطها عمرو بن العاص على معاوية كثمن للبيعة،
فقال» :ولم يبايع حتى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمنًا« .فقد ذكر المؤرخون :لما نزل علي )عليه السلم( الكوفة
بعد فراغه من أمر البصرة ،كتب إلى معاوية كتابًا يدعوه إلى البيعة ،أرسل فيه جرير بن عبدال البجلي .فقدم
عليه به الشام ،فقرأه واغتم بما فيه ،وذهبت به أفكاره كل مذهب ،وطاول جرير بالجواب عن الكتاب ،حتى كلم
قومًا من أهل الشام في الطلب بدم عثمان ،فأجابوه ووثقوا له ،وأحب الزيادة في الستظهار ،فاستشار بأخيه عتبة
بن أبي سفيان ،فقال له :استعن بعمرو بن العاص فاّنه من قد علمت في دهائه ورأيه ،وقد اعتزل عثمان في حياته،
ن يثمن له دينه فسيبيعك ،فاّنه صاحب دنيا .فكتب إليه معاوية »أما بعد ،فانه كان
لأّ
ل; إ ّ
وهو لمرك أشد اعتزا ً
من أمر علي وطلحة والزبير ماقد بلغك ،وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في نفر من أهل البصرة ،وقدم علينا
جرير بن عبدال في بيعة علي ،وقد حبست نفسي عليك ،فأقبل أذاكرك ُامورًا ل تعدم صلح مغبتها ،إن شاء ال«
ـ فلما قدم الكتاب على عمرو استشار ابنيه :عبد ال بن عمرو ومحمد بن عمرو ،فقال لهما :ما تريان؟ فقال
ل خليفة ،ول تزيد على أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة .أما ولدهعبدال :قر في منزلك فلست مجعو ً
] [ 82
ل» :يا أبا عبدال أدعوك الخر فقال :الحق بجماعة أهل الشام فلما دخل عمرو بن العاص الشم ،خاطبه معاية قائ ً
إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ال وشق عصى المسلمين وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرق الجماعة وقطع
الرحم«) .(1فقال له عمرو :من هو؟ قال :علي .فقال عمرو بن العاص» :وال ما أنت وعلي بجملي بعير ليس لك
ن له مع ذلك لحظًا في الحرب ليس لحد هجرته ول سابقته ول صحبته ول جهاده ول فقهه ول علمه« .ووال إ ّ
ل; فما تجعل لي إن شايعتك على حربه ،وأنت تعلم مافيه غيره ،ولكني قد تعودت من ال تعالى إحسانًا وبلًء جمي ً
من الغرر والخطر؟ قال معاوية :حكمك ،فقال عمرو :مصر .فتلكأ عليه معاوية وقال :يا أبا عبدال إني أكره لك
أن تتحدث العرب عنك أّنك إّنما دخلت في هذا المر لغرض الدنيا ،قال عمرو :دعني عنك .فأشار عليه عتبة بأن
ن مصر كانت في نفس عمرو بن العاص لّنه هو الذي يجيب عمرو ،فأجابه وأعطاه مصر (2).جدير بالذكر إ ّ
فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلفة عمر ،فكان لعظمها في نفسه وجللتها في صدره ،وما قد عرفه
من أموالها وسعة الدنيا ،ل يستعظم أن يجعلها ثمنًا من دينه .أضف إلى ذلك فقد ولها أربع سنوات على عهد
الخليفة الثاني ،وأربع ُاخرى على عهد عثمان حتى عزله .ثم قال المام )عليه السلم(» :فل ظفرت يد المبايع،
وخزيت أمانة المبتاع«) .(3فالواقع كلمه )عليه السلم( يتضمن الدعوة ضد المشتري والبائع .نعم صحيح أ ّ
ن
ل أّنه لم يحكمها مدة طويلة بعد أن وافاه الجل ،إلى جانب ما نقل عنه معاوية قد وفى له بوعده وأعطاه مصر ،إ ّ
ن معاوية وإن أواخر عمره عن مدى خشيته من عاقبته ومصيره ،فلم يذق طعم النصر الذي كان يحلم به .كما أ ّ
ل أّنها آلت إلى النهيار المخزي بعد أن انفرج عنه كافة الصحابة من المهاجرين وطد دعائم حكومته بهذا العمل إ ّ
والنصار والفراد المشهورين بحسن السمعة من أهل الورع والتقوى ولم يتمحور حوله سوى تلك الثلة التي
ورثت العداء للسلم وسليلي زعماء الجاهلية ،فكانوا أعوانه الذين يبطش بواسطتهم الناس ويجرعونهم أبشع
غصص القتل والرعاب والتهديد والوعيد .كما يحتمل أل تكون العبارة من
» .2المبتاع« بمعنى المشتري والمراد به هنا معاوية والبائع عمرو بن العاص.
] [ 83
ن بيع الدين بالدنيا ل يقود إلى النصر أبدًا ،بل ستكون الخسارة من نصيب قبيل الدعاء ،بل هى جملة خبرية; أي أ ّ
ح ْ
ت ضلَلَة ِبالُهدى َفما َرِب َ
شَتَرُوا ال َ
نا ْ
ك اّلِذي َ
البائع والمشتري; المر الذي أشارت إليه بعض اليات القرآنية )ُأولـِئ َ
ن().(2صُرو َ ب َول ُهْم ُيْن َ
عْنُهُم الَعذا ُ
ف َ خَرِة َفل ُيخَّف ُ حياَة الّدْنيا ِبال ِ
شَتَرُوا ال َ
نا ْك اّلِذي َ
ِتجاَرُتُهْم() (1والية )ُأولـِئ َ
ن حكومة وتعبير المام )عليه السلم(بالمانة عن حكومة مصر وحقوق أهلها من المسلمين إشارة صريحة إلى أ ّ
لّمة وإدارة شؤونها إّنما هى أمانة إلهية لبّد أن ينهض بعبئها الخيار الصالحين بغية ضمان مصالح الُّمة ،وأّما اُ
ُاولئك الذين يتخذون هذه الحكومة وسيلة لتحقيق مآربهم وأغراضهم الشخصية إّنما يخونون هذه المانة اللهية
ن المصداق وهذا ما سيؤدي في آخر المر إلى فضيحتهم وزوال حكمهم .ومن هنا صرح أغلب المفسرين بأ ّ
ت ِإلى َأْهِلها() (3إّنمان ُتَؤّدوا المانا ِل َيْأُمُرُكْم َأ ْ
نا ّالوحيد أو المصداق البارز للمانة الواردة في الية الشريفة )ِإ ّ
لّمة على الستعداد والتأهب لمنازلة العدو هى الحكومة والولية .ثم واصل المام )عليه السلم(كلمه بحث ا ُ
ب) (5لظاها) (6وعل سناها) .«(7فالعبارة تفيد أ ّ
ن »فخذوا للحرب ُاهبتها«) ،(4وأعدوا لها عدتها فقد ش ّ
المام )عليه السلم(قد اعتمد كافة الطرق السلمية من أجل وضع حد لذلك النفاق والعداء ولسيما غدر أهل الشام
ل أن ن كل ذلك لم يجد نفعًا ،فكان حجم التآمر والدسائس يزداد كل يوم ،فما كان منه )عليه السلم(إ ّ لأّوحكامهم إ ّ
أمر بالتأهب للقاء العدو; فقد شبت لظى نيران العداء وتصاعدت ألسنتها ،ولبّد من مواجهتها والعمل على
ن أعداء المام )عليه السلم(كانوا يسارعون للستعداد للقتال وقد بعثوا اطفائها .كما يشير التأريخ السلمي إلى أ ّ
بكتبهم ورسائلهم إلى طلحة والزبير .وأخيرًا يختتم المام )عليه السلم(بالشارة إلى الصبر بفضله أحد أهم
مقومات النصر فقال »واستشعروا
ُ» .4اهبة« على وزن لقمة بمعنى العدة والتأهب والستعداد للقيام بعمل وإهاب على وزن كتاب بمعنى الجلد الذي لم يدبغ وقد ُاعد
للدباغة.
» .6لظا« بمعنى شعلة النار كما تطلق على نفس النار )الراغب في المفردات(.
» .7سنا« ،قال صاحب المقاييس تتضمن العلو والرتفاع وقد وردت في العبارة بمعنى تصاعد ألسنة النيران.
] [ 84
الصبر فإنه أدعى إلى النصر« .واستنادًا إلى مفردة الستشعار من مادة )ش ع ر( التي تعني الثياب الداخلية )في
ن الصبر والستقامة لبّد أن تسود باطن النسان وتمد النسانمقابل الدثار بمعنى الثياب الخارجية( يتضح أ ّ
بمعاني الصمود إزاء الحوادث المريرة.
تأّملت
تعرضنا إلى حد ما في البحث السابق إلى مسألة بيه الدين والقيم والمثل المعنوية بالمنافع المادية الرخيصة،
ولمسنا نموذج ذلك في شخصية عمرو بن العاص الذي أشارت إليه الخطبة المذكورة ،حيث صرحت بأّنه ومن
أجل حكومة مصر ولو لّمدة قصيرة قد باع دينه وقيمه،
.1بحار النوار .165 / 74
] [ 85
وقد أعرب آخر عمره كما أورد ذلك المؤرخون عن مدى ندمه ،ولكن حيث لم ينفع الندم وقد ُاغلقت كافة سبل
العودة.
القرآن الكريم من جانبه أشار إلى هذا المر بصفته أحد العوامل الرئيسية المؤدية إلى النحراف ولسيما بالنسبة
للعلماء من عبدة الدنيا .ومن ذلك ما أورده القرآن بشأن فريقًا من علماء بني اسرائيل ـ الذين كانوا يبشرون
بظهور النبي قبيل انبثاق دعوته على ضوء العلم الذي كان لديهم والخبار الواردة في كتبهم )التوراة والنجيل(
ل أّنهم حرفوا الكلم حين تعرضت بعض مصالحهم المادية للخطر ـ فقد صرحت الية 187من سورة آل عمران إّ
شَتَرْوا ِبِه َثَمنًا
ظُهوِرِهْم َوا ْ
ب َلُتَبّيـُنّنُه ِللّناس َول َتْكُتُموَنُه َفَنَبُذوُه َوراَء ُ
ن ُأوُتوا الِكتا َ
ق اّلِذي َ
ل ِمـيثا َ
خَذ ا ّ
قائلةَ) :وِإذ َأ َ
ن(.
شَتُرو َ
س ما َي ْل َفِبْئ َ
َقِلـي ً
ن المتاع المادي ـ وأن ن القرآن الكريم يذمهم من أجل أّنهم حرصوا على متاع قليل ،بل المراد أ ّ فمن الواضح أ ّ
خَرِة ِإ ّ
ل حياِة الّدْنيا ِفي ال ِ
ع ال َ
ل مقارنة بالمتاع المعنوي )َفما َمتا ُ
تضمن أرفع المقامات وأكثر الثروات ـ يبقى قلي ً
ل ().(1
َقِلـي ٌ
ن كافة الفراد الذين يقدمون طاعة المخلوق على طاعة الخالق ويؤثرون أطماعهم ومنافعهم على على العموم فا ّ
الخرة ويضربون الحكام الشرعية عرض الحائط ول يكترثون للحلل والحرام من أجل تحقيق أهوائهم
الشخصية إّنما هم في زمرة باعة الدين بالدنيا .ويقابلهم اولئك الفراد الذين ل يرون في أعمالهم سوى رضى ال
والتسليم لرادته ،وهؤلء هم الذين وصفهم القرآن بحزب ال الذين ل يرون حتى في الهل والقرابة من عائق
سوَلُه َوَلْو كاُنوا آباَءُهْم َأْو َأْبناَءُهْم
ل َوَر ُ
ن حاّد ا ّ
ن َم ْ
خِر ُيواّدو َ
ل َواْلَيْوِم ال ِ
ن ِبا ّ
جُد َقْومًا ُيـْؤِمُنو َ
أمام رضى ال )ل َت ِ
شـيَرَتُهْم.(2)(... عِ
خواَنُهْم َأْو َ
َأْو ِإ ْ
] [ 86
بين النصر والصبر على درجة من الوضوح بحيث إن الدباء ومنذ قديم الزمان قد قرنوا الظفر بالصبر »من
ن النصر حليف جند السلم مهما كان صبر ظفر« .وقد أشار القرآن الكريم صراحة إلى هذه الحقيقة حتى اعتبر أ ّ
ن ِمْنُكْم ِمَئٌة
ن َيُك ْ
ن َو ِإ ْ
ن َيْغِلُبوا ِمَئَتْي ِ
ن صاِبُرو َشُرو َ
عْن ِمْنُكْم ِ
ن َيُك ْ
عدد وعدة العدو إذا ما تحلو بالصبر والستقامة )ِإ ْ
َيْغِلُبوا َأْلفًا() .(1وهذا هو السبب الذي يكمن وراء انتصار المسلمين في كافة الغزوات رغم عدم الموازنة
والتفاوت الفاحش بين ما عليه العداء من عدة وعدد ومعدات وما عليه المسلمين ،حيث كانوا يتحلون بالصبر
النابع من إيمانهم بال واليوم الخر.
وهذا ما أكده المام )عليه السلم( في خطبته اذ قال» :واستشعروا الصبر فانه أدعى إلى النصر« .ول يسعنا هنا
ل أن نكتفي بهذا المقدار ونوكل المزيد من الكلم إلى البحاث القادمة .أما المسألة الجديرة بالذكر فهى أن
إّ
استشعار الصبر ـ بمعنى نفوذه إلى عمق النفس البشرية ـ أو دثاره ـ بمعنى التحلي به علي مستوى الظاهر; المر
الذي يدخل الرعب إلى قلوب العداء ـ إّنما يقود إلى النصر وهزيمة العدو.
—–
] [ 87
الخطبة 27
وقد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو النبار بجيش معاوية فلم ينهضوا .وفيها يذكر فضل الجهاد
ويستنهض الناس ويذكر علمه بالحرب ويلقي عليهم التبعة لعدم طاعته.
قال ابن أبي الحديد هذه الخطبة من مشاهير خطبه )عليه السلم(; قد ذكرها كثير من المحققين والمحدثين )غير
المرحوم الشريف الرضي( ورواها أبو العباس المبرد في أول )الكامل( وأسقط من هذه الرواية ألفاظًا وزاد فيها
ل وردت النبار) (1لمعاوية ،فقتلوا عاملً له يقالن خي ً
ألفاظًا ،وقال في أولها :إنه انتهى إلى علي )عليه السلم( أ ّ
له :حسان بن حسان ،فخرج مغضبًا يجر رداءه ،حتى أتى النخيلة ،وأتبعه الناس ،فرقى رباوة في الرض ،فحمد
ال وأثنى عليه وصلى على نبّيه )صلى ال عليه وآله(ثم قال :أما بعد فان الجهاد باب من أبواب الجّنة ،فمن تركه
رغبة عنه ،ألبسه ال الذل وسيم الخسف«).(2
] [ 88
ونقلها صاحب مصادر نهج البلغة عن عشرة مصادر معروفة قبل المرحوم السيد الرضي ومنها» :البيان
والتبيين للجاحظ وعيون الخبار لبن قتيبة والخبار الطوال للدينوري والغارات للثقفي والعقد الفريد لبن عبد
رّبه والغاني لبي الفرج الصفهاني(1)«...
ن المام )عليه السلم( قد أورد هذه الخطبة في النخيلة حين ُاخبر )عليه السلم( بهجوم سفيان بن عوف وعليه فا ّ
الغامدي ـ والذي عّبر عنه المام )عليه السلم( بـ )أخو غامد( ـ على النبار وقتل عامله عليها حسان بن حسان
وطائفة من المسلمين وقد نهبوا أموالهم وخربوا بيوتهم دون أن يواجهوا أدنى مقاومة ثم عادوا إلى الشام سالمين.
فأّما أخو غامد الذي وردت خيله النبار فهو سفيان بن عوف بن المغفل الغامدي; وغامد قبيلة من اليمن ،وهى من
الزد ،أزد شنوءة ـ واسم غامد عمر بن عبد ال بن كعب بن الحارث بن كعب بن كعب بن عبد ال بن مالك بن
نصر بن الزد ـ وسمى غامدًا لّنه كان بين قومه شر فأصلحه وتغمدهم بذلك .قال سفيان بن عوف الغامدي ،قال:
دعاني معاوية ،فقال :إّني باعثك في جيش كثيف ،ذي أداة وجلدة ،فألزم جانب الفرات ،حتى تمر بهيت فتقطعها،
ل فامض حتى تغير على النبار ،فان لم تجد بها جندًا فامض حتى توغل في فان وجدت بها جندًا فأغر عليهم وإ ّ
ى واتق أن تقرب الكوفة .واعلم انك إن أغرت على أهل النبار وأهل المدائن فكأّنك أغرت على المدائن; ثم أقبل إل ّ
الكوفة; إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم وتفرح كل من له فينا هوى منهم ،وتدعو الينا
كل من خاف الدوائر ،فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك ،وأخرب كل ما مررت به من القرى ،واحرب
الموال ،فإن حرب الموال شبيه بالقتل ،وهو أوجع للقلب .قال :فخرجت من عنده فعسكرت ،وقام معاوية في
الناس فخطبهم ،فقال :أّيها الناس ،انتدبوا مع سفيان بن عوف ،فاّنه وجه عظيم فيه أجر ،سريعة فيه أوبتكم إن شاء
ال ـ ثم نزل .قال :فو الذي ل إله غيره ما مرت ثالثة حتى خرجت في ستة آلف ،ثم لزمت شاطئ الفرات،
فأغذذت السير حتى أمر بهيت ،فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات ،فمررت بها وما بها عريب ،كأّنها لم تحلل
قط ،فوطئتها حتى أمر بصند وداء ،ففروا فلم ألق بها أحدًا ،فأمضي حتى أفتتح النبار،
] [ 89
وقد نذروا بي ،فخرج صاحب المسلحة إلي ،فوقف لي فلم أقدم عليه حتى أخذت غلمانًا من أهل القرية .فقلت لهم:
أخبروني كم بالنبار من أصحاب علي )عليه السلم(؟ قالوا :عدة رجال المسلحة خمسمائة ،ولكنهم قد تبددوا
ورجعوا إلى الكوفة; ول ندري الذي يكون فيها ،قد يكون مائتي رجل ،فنزلت فكتبت أصحابي كتائب ،ثم أخذت
أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة ،فيقاتلهم وال ويصبر لهم ،ويطاردهم ويطاردونه في الزقة ،فلما رأيت ذلك أنزلت
ل ،وحملنا ما كان في النبار إليهم نحوًا من مائتين ،وأتبعتهم الخيل ،فمل حملت عليهم الخيل وأمامها ثلثين رج ً
من الموال; ثم انصرفت ،فو ال ما غزوت غزاة كانت أسلم ول أقر للعيون ،ول أسر للنفوس منها .وبلغني وال
أّنها أرعبت الناس ،فلما عدت إلى معاوية ،حدثته الحديث على وجهه ،فقال :كنت عند ظني بك ،ل تنزل في بلد
ل قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره ،وإن أحببت توليته وليتك ،وليس لحد من خلق ال عليك أمر من بلداني إ ّ
ل يسيرًا ،حتى رأيت رجال أهل العراق يأتوننا على البل هّرابا من عسكر علي )عليه دوني ،قال فو ال ما لبثنا إ ّ
السلم( .وكان اسم عامل علي )عليه السلم(على مسلحة النبار أشرس بن حسان البكري .قال ابراهيم بن عبدال
بن قيس كنت مع أشرس بن حسان البكري بالنبار على مسلحتها ،إذ صبحنا سفيان بن عوف في كتائب تلمع
البصار منها ،فهالونا وال ،وعلمنا إذ رأيناهم أنه ليس لنا طاقة بهم ول يد ،فخرج إليهم صاحبنا وقد تفرقنا فلم
يلقهم نصفنا ،وايم ال لقد قاتلناهم فأحسنا قتالهم; حتى كرهونا ،ثم نزل صاحبنا ،وهو يتلو قوله تعالىَ) :فِمْنُهْم َم ْ
ن
ل( .ثم قال لنا :من كان ل يريد لقاء ال ،ول يطيب نفسًا بالموت، ظُر َوما َبـّدُلوا َتْبِدي ً
ن َيْنَت ِ
حَبُه َوِمْنُهْم َم ْ
َقضى َن ْ
فليخرج عن القرية مادمنا نقاتلهم ،فان قتالنا إياهم شاغل لهم عن طلب هارب ،ومن أراد ما عند ال فما عند ال
ل ،فهممت بالنزول معه ،ثم أبت نفسي ،واستقدم هو وأصحابه ،فقاتلوا حتى خير للبرار ،ثم نزل في ثلثين رج ً
قتلوا رحمهم ال ،وانصرفنا نحن منهزمين(1).
كما ذكرنا سابقًا فان هذه الخطبة ـ المعروفة بخطبة الجهاد ـ من أشهر خطب أميرالمؤمنين )عليه السلم( التي
لّمة تدور حول محور الجهاد .فقد استهل الخطبة بشرح أهمية الجهاد ومعطياته والعواقب الوخيمة التي تنتظر ا ُ
في حالة تركه .ثم عرض باللوم لهل الكوفة بعد أن تعرض لحملة »سفيان الغامدي« على مدينة النبار وشهادة
»حسان بن حسان« ـ العامل الوفي والمين لمير المؤمنين )عليه السلم( على النبار ـ والجرائم التي ارتكبها
أهل الشام في سلب الموال وهدم البيوت ـ وفي القسم الثالث من الخطبة إلى ذم أهل العراق آنذاك ثانية والتعلل
لمور بهدف التقاعس عن الجهاد ـ وأخيرًا يختتم المام )عليه السلم( خطبته ببيان استعداده التام لجهاد ببعض ا ُ
العدو وسوابقه المشرقة بهذا الخصوص وفي الختام فهى خطبة ذات تأثير بليغ في نفوس السامعين ،حتى قال
ن التحريض على الجهاد والحض عليه قد قال فيه الناس الشارح المعروف ابن أبي الحديد بهذا المجال :واعلم أ ّ
فأكثروا ،وكلهم أخذوا من كلم أمير المؤمنين )عليه السلم(; فمن جيد ذلك ما قاله ابن بناتة الخطيب بشأن الجهاد
ن الجهاد أثبت قواعد اليمان ،وأوسع أبواب الرضوان ،وأرفع درجات الجنان «..ثم أضاف :فانظر إليها » ..فا ّ
وإلى خطبته )عليه السلم(بعين النصاف ،تجدها بالنسبة إليها كمخنث بالنسبة إلى فحل ،أو كسيف من رصاص
بالضافة إلى سيف من حديد(1).
—–
] [ 91
القسم الول
صيَنُة،
ح ِل اْل َ
عا ّس الّتْقَوى َوِدْر ُ
صِة َأْوِلَياِئِهَ ،وُهَو ِلبا ُ
خا ّل ِل َحُه ا ّجّنِةَ ،فَت َ
ب اْل َ ن َأْبَوا ِ
ب ِم ْ
جَهاَد َبا ٌ ن اْل ِ
»َأّما َبْعُد َفِإ ّ
ضِر َ
ب صغاِر َواْلَقماَءِةَ ،و ُ
ث ِبال ّ
شِمَلُه اْلَبلُءَ ،وُدّي َ
ب الّذّلَ ،و َ ل َثْو َ
سُه ا ّ عْنُه َأْلَب َ
غَبًة َن َتَرَكُه َر ْ
جّنُتُه اْلَوِثيَقُةَ ،فَم َْو ُ
ف«.
ص َ فَ ،وُمِنَع الّن َ
س َ خ ْسيَم اْل َ
جهاِدَ ،و ِ ضِييِع اْل ِق ِمْنُه ِبَت ْ حّبَ ،وُأِديَل اْل َسها ِ عَلى َقْلِبِه ِباِْل ْ َ
—–
الشرح والتفسير
لقد تعرضت الخطبة إلى فلسفة الجهاد وبركاته في عبارات قصيرة ذات عدة معان ،إلى جانب الثار السيئة لترك
الجهاد ،فقد قال بعد أن حمد ال وأثنى عليه »أّما بعد فان الجهاد باب من أبواب الجّنة« وبالطبع هناك عدة أسباب
وردت في الحاديث بصفتها »أبواب الجّنة« التي تؤدي إلى نيل الرحمة والفوز بالرضوان والجّنة يكمن أهمها
ن رسول ال )صلى ال عليه وآله( قال:في الجهاد ،فقد ورد في الحديث عن المام الصادق )عليه السلم( أ ّ
»للجّنة باب يقال له »باب الجهاد« يمضون إليه فاذا هو مفتوح وهم متقلدون بسيوفهم ،والجمع في الموقف،
ن الجهاد في السلم على نوعين :جهاد العدو وجهاد النفس .وقد اصطلح على والملئكة ترحب بهم«) .(1ونعلم أ ّ
الول بالجهاد الصغر وعلى الثاني بالجهاد الكبر ،وكل منهما باب من أبواب الجّنة.
] [ 92
ول يتيسر لقاء ال دون الجهاد الكبر كما تتعذر العزة والرفعة في الدنيا والخرة دون الجهاد الصغر .ثم
ل أنّ
ن جهاد العدو والنفس يعد وظيفة جميع المسلمين ،إ ّ
قال )عليه السلم( »فتحه ال لخاصة أوليائه« .صحيح أ ّ
أولياء ال فقط الذين يسعهم خوض غمارهما حتى النهاية على أساس الخلص والنية الحسنة ،بينما قد تكون نيات
الخرين مشوبة بالطمع ونيل الغنام أو الحصول على الحياة والمنصب والشهرة وبالتالي فهم ل يواصلون المسيرة
إلى آخرها .فأولياء ال فقط الذين يقتحمون الميدان ويصبرون على الذى في حركتهم الجهادية فيركعون كافة
قوى الشر والظلم.
ونخلص مّما سبق إلى عدم ورود الشكال على المام )عليه السلم( في أّنه خص باب الجهاد بخاصة أولياء ال
بينما كتب على جميع المسلمين .كما نفهم من قوله )عليه السلم( أن من طوى مسيرة الجهاد الصغر والكبر فهو
من خاصة أولياء ال سبحانه .ثم يصف )عليه السلم( الجهاد فيقول »وهو لباس التقوى ودرع ال الحصينة،
ن اللباس زينة للنسان وجمال له من جانب ،ومن جانب آخر فانه حافظ لبدنه من شدة وجنته الوثيقة« ونعلم أ ّ
الحرارة والبرودة التي تؤذيه فيما لو كان عريانًا ،كا يشكل أساس عزة القوام والشعوب ودرعها من أنواع
المخاطر والفات; المر الذي أكده المام )عليه السلم( في عباراته اللحقة.
لّمة التي تولي ظهرها للجهاد وأخيرًا فالجسد العاري عرضة لنواع الذى موصوفًا بالقبح والشناعة ،وعليه فا ُ
هى ُأّمة ذليلة مهددة بكافة عناصر الزوال والنهيار .أّما علة إضافة اللباس للتقوى في العبارة فلعل ذلك يفيد تعذر
حفظ أصول التقوى دون توفر المن ،كما يتعذر المن دون الجهاد .كما يحتمل تفسيرها على أّنها اشارة إلى الية
خْيٌر(.
ك َ
س الّتْقوى ذ ِل َ
26من سورة العراف التي عدت التقوى نعمة الهية بعد ذكر اللباس الظاهر )َوِلبا ُ
وبناًء على هذا فالمراد هو أن لباس التقوى الذي ورد في القرآن إّنما مصداقه الكامل هو الجهاد الذي يجعل
المجتمع يعيش المن والمان على كافة المستويات) (1وهو مصدر الحسن والجمال.
ن الضافة )لباس التقوى( في التفسير الول من قبيل الضافة اللمية وفي التفسير الثاني إضافة بيانية.
.1لبّد من اللتفات إلى أ ّ
] [ 93
ثم شبه المام )عليه السلم( الجهاد بالدرع الحصينة والجّنة الوثيقة ،والوسيلتان من المعدات الدفاعية في القتال،
لّمة التي تترك الجهادحيث لم يكن من أمان لولئك الذين يخوضون المعارك سابقًا ولم يتدرعوا ،وهذا هو حال ا ُ
ن الجهاد ل يراد به الهجوم على فهى ضعيفة خاوية تجاه ضربات العدو .ولعل هذه العبارة تشير إلى حقيقة وهى أ ّ
ن السلم الخرين ومن أجل التوسع والسيطرة ونهب الموال والثروات وفرض الفكار والعقائد ،لننا نؤمن بأ ّ
والقرآن إّنما يستند إلى منطق قوي يغنيه عن شهر السيف بوجه المقابل .وعليه فاّنما شرع الجهاد من أجل حفظ
المجتمع السلمي وإزالة الموانع التي تعترض أساليب التبليغ والقضاء على الموانع التي تحول دون حرية
البيان.
جدير بالذكر أن ما ذكر بشأن تفسير عبارة الجهاد الصغر )العدو الخارجي( يصدق تمامًا على الجهاد الكبر
)جهاد النفس(; حيث ل طاقة للنسان بهجمات الشيطان دون جهاده لنفسه .ثم تطرق المام )عليه السلم( إلى
الثار السلبية التي يتمخض عنها ترك الجهاد ليوجزها في سبع نقاط ،فقال» :فمن تركه رغبة عنه ألبسه ال ثوب
الذل« وقوله )عليه السلم()رغبة عنه( إشارة إلى استثناء الفراد من هذا الحكم ممن يمتلكون العذار الموجهة
التي ل تجعلهم قادرين على خوض الجهاد من قبيل العجز والمرض ونحو ذلك; المر الذي أكدته بعض اليات
القرآنية(1).الثر السلبي الثاني لترك الجهاد »وشمله البلء« فمثل هذا الفرد أو الّمة إّنما يعتكف في موضع
أعزل يجعله عرضة لحملت الحيوانات المفترسة بحيث تدخل عليه دون أدنى مقاومة ،والجهاد وحده هو الذي
يشكل السد الحديدي إزاء مثل هذا البلء فينأى بالنسان بعيدًا عن هذه الحيوانات .أّما الثر السلبي الثالث فقد أشار
إليه المام )عليه السلم( بقوله »وديث) (2بالصغار)(3
» .2دّيث« من مادة »ديث« بمعنى الذلة والهوان ،ومن هنا يصطلح بالديوث على من ل يكترث لعفة أهله ،كأنه قد ذلل حتى صار
كذلك.
] [ 94
ن
والقماءة) «(1وكيف ل يعيش الذل والهوان والضعة من ضيع هذا السند العظيم; أي الجهاد .وصحيح أ ّ
ن هناك فارقًا طفيفًا ،حيث كان الكلم هناك عن الذلة وهنا عن
لأّ
العبارتين قريبتان من بعضهما بالمعنى ،إ ّ
ل أّنها من قبيل اللزم والملزوم .وأّما المصيبة الخرى التي تطيل تاركالحقارة والضعة .فالمفهومان مختلفان إ ّ
الجهاد فهى »وضرب على قلبه بالسهاب«)(2فالفراد الضعفاء والعجزة والمهزومون إّنما يعانون من الوهام
على الدوام فل يسعهم تقييم الحقائق كما هى .فخشية العدو تجعلهم يعيشون في هالة من الخيالت المرعبة ،أو أّنهم
يلجأون إلى بعض الخرافات من أجل تحقيق النصر كأن يتخلوا عن السيف والمقاومة ويلوذوا بالسحرة والكهنة.
وقد حفل التأريخ بنماذج حّية لمثل هؤلء الفراد ،الذين ل يكشفون بذلك سوى عن ضعفهم وعجزهم ،بينما يتنزه
المجاهدون الشجعان عن مثل هذه السفاسف.
ن الحق ـ كما ثم ذكر الثر السلبي الخامس بقوله )عليه السلم( »وُأديل) (3الحق منه بتضييع الجهاد« ،وذلك ل ّ
ورد في المثل المعروف ـ يؤخذ ول يعطى .فالطواغيت وأصحاب المنطق الغاشم والمستبدون ل يفوضون الحق
لصحابه أبدًا ،ولبّد من التحلي بالقوة من أجل انتزاع الحق من براثن اولئك الطغاة; المر الذي نوه له
المام )عليه السلم( في الخطبة التاسعة والعشرين بقوله »ل يدرك الحق ال بالجد« وأّما الثر السلبي السادس
»وسيم الخسف« وباللتفات إلى اطلق الخسف والخسوف على زوال نور القمر والختفاء في الرض ،وان
ن تاركي الجهاد في الواقع إّنما
»سيم« من مادة »سوم« بمعنى الحركة إثر شيء فان مفهوم الجملة سيكون :أ ّ
يسيرون باتجاه الزوال والنقراض; المر الذي لحظناه بوضوح في المم والبلدان التي آلت إلى السقوط
والنهيار إثر تقاعسها عن الجهاد(4).
.2السهاب ذهاب العقل أو كثرة الكلم ،أي حيل بينه وبين الخير بكثرة الكلم بل فائدة ،وقد وردت بهذا المعنى في الخطبة.
» .3أديل« من مادة »دولة« ،قال صاحب المقاييس لها معنيين; الول التحول والنتقال ،والخر الضعف ،واريد بها هنا المعنى الول.
.4فسرها جمع من شّراح نهج البلغة بالذلة والهوان على أّنها من قبيل تكرار وتأكيد العبارات السابقة ،أّما ما أوردته في المتن فانه
ورغم انسجامه مع المتون اللغوية ال أنه ينطوي على معنى جديد يأبى التكرار ،وعليه يبدو هو التفسير النسب.
] [ 95
ن أتباع
ثم قال )عليه السلم( في إطار ذكره للثر السلبي السابع »ومنع النصف«) (1ودليل ذلك واضح; ل ّ
العدالة عادة ما يشكلون القلية ،ولو لم يكونوا كذلك كمية فهم أقلية من حيث الكيفية والقدرة.
ومن هنا فان أصحاب السطوة يندفعون بكل ما ُاوتوا من قوة لهضم حقوق الشعوب المظلومة ويسعون لمضاعفة
ثرائهم وأموالهم .وليس لهذه الشعوب من وسيلة لستعادة حقوقها وخلصها من براثن الظلم والضطهاد وتحقيق
العدالة الجتماعية سوى في خوض غمار الجهاد .وهنا تكمن أهمية العبارات التي أوردها المام )عليه السلم(
لمم.
في هذه الخطبة بشأن الجهاد وفلسفته ومعطياته اليجابية والسلبية فيما لو تخلت عنه الشعوب وا ُ
ن الجهاد لم يندب بفعل الثواب المعنوي المترتب عليه ،بل بسبب الثار والمعطيات الكبيرةكما يتضح مّما أوردنا أ ّ
التي يفضي إليها في هذه الحياة الدنيوية .فهل هناك من يطلب الذل والهوان ويرضى بغصب الحقوق وتضييعها
وبالتالي يحث الخطى نحو الزوال والفناء؟! فان كان الجواب بالسلب ،كان علينا أن نشدد حيازيمنا ونهب لخوض
الجهاد والتحلي بالصبر والستقامة من أجل درك معطياته العظيمة في الدنيا والخرة وتحمل كافة اللم
والمصاعب كاحتمال المريض لمرارة الدواء من أجل التماثل للعافية والشفاء.
تأّملن
كثر الكلم بشأن الجهاد ،ولدينا المزيد من الكلم بهذا الخصوص طالما توالت خطبه )عليه السلم(في نهج
البلغة في الحديث عن هذه المسألة.
] [ 96
يبدأ عده العكسي في الموت والفناء .فالنبات يواجه عدة آفات يسعى للتغلب عليها من أجل البقاء حيًا ،وجذور
لخرى تغوص في أعماق الرض من أجل امتصاص الماء والملح فاذا ما اعترضت بعض الشجار هى ا ُ
الموانع كالصخور سعت لختراقها ومواصلة تغلغلها في أعماق التربة وإن عجزت عن ذلك فتشت عن طريق
آخر واستمرت في مسيرتها .وهكذا الحال بالنسبة للحشرات والحيوانات التي تواجه الخطار التي تهدد كيانها
باستمرار فتبدي مقاومتها من أجل مواصلة حياتها .فهناك بعض الطيور التي تهاجر إلى مسافات شاسعة قد تنطلق
من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي مقاومة كافة الظروف المحيطة بغية مواصلة حياتها .أّما النسان فيعيش
حركة جهادية مريرة على مستوى أعضائه الداخلية ودورته الدموية ،فالجنود التي تدافع عن البدن ـ والتي
يصطلح عليها بكريات الدم البيض ـ طيلة عمر النسان إّنما تتصدى ببسالة لكافة العداء المتمثلين بالمكروبات
والفايروسات التي تحاول اختراق بدن النسان عن طريق الماء والغذاء والهواء والشقوق التي تحدث في الجلد.
وقد الهمت هذه الكريات سبل الصمود بوجه كافة السلحة الكيميائية والفيزيائية بحيث تبيدها وتبقي على البدن
سالمًا صحيحًا .فاذا ضعفت هذه الجنود لي سبب من السباب وتقاعست في وظيفتها هجمت جميع المراض
ل نتيجة طبيعية لختلل عمل هذه الكريات على النسان ،وما المرض الخطير الذي يطلق عليه »اليدز« إ ّ
ن المصابين بهذا المرض الخطير إّنما يكونون عرضة للصابة بأخطر المراض. وتوقفها عن العمل ،ومن هنا فا ّ
وزبدة الكلم فان الجهاد رمز الحياة وسر السعادة والسبب الرئيسي للنصر والغلبة وعامل الرفعة والعزة ،لكن
ل فليس ذلك سوى الجريمة والظلم والعدوان. ليس ذلك سوى الجهاد من أجل تحقيق الحق والعدل وإ ّ
ومن هنا تظافرت اليات القرآنية والروايات السلمية بما فيها الخطبة المذكورة التي أكدت على قضية الجهاد
بما لم تول مثل هذه الهمية لغيره من المفاهيم ،ولسيما الجهاد بالمعنى الشمل الذي يتضمن الوقوف بوجه العدو
الخارجي والداخلي .فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول ال )صلى ال عليه وآله( أّنه قال» :من ترك الجهاد
ل في نفسه وفقرًا في معيشته
ألبسه ال ذ ً
] [ 97
ل عن
ومحقًا في دينه«) (1ويستفاد من هذا الحديث أن ترك الجهاد إّنما يهدد بالخطر الحياة المعنوية للنسان فض ً
ن رسول ال )صلى ال عليه وآله(قال» :إغزوا حياته المادية .وفي حديث عن المام الصادق )عليه السلم( أ ّ
تورثوا أبنائكم مجدًا«) (2كما ورد عن أمير المؤمنين علي )عليه السلم( في قصار حكمه في نهج البلغة ضمن
إطار بيانه لفلسفة الحكام الشرعية فقال» :والجهاد عزًا للسلم«) .(3وأخيرًا فهناك عدة خطب شحن بها نهج
البلغة بشأن الجهاد سنعرض لها في البحاث القادمة.
ن كافة غزوات منذ سنوات وقد شغل هذا السؤال أذهان الوساط السلمية بما فيها العلماء ،فقد ذهبت طائفة إلى أ ّ
رسول ال )صلى ال عليه وآله( كانت دفاعية حذرًا من اتهام السلم من أّنه قد انتشر بالسيف ورهبة السلح! أو
بعبارة ُاخرى خشية اتهام السلم بالروح السلطوية والفتوحات العسكرية .وبالمقابل هناك طائفة ُاخرى ترى أ ّ
ن
ن هذين القسمين حق ثابت للمسلمين الغزوات السلمية على قسمين ; بعضها هجومية وبعضها دفاعية ،وترى أ ّ
ن السلم موظف بتحرير المسلمين الذين يرزحون تحت نير السلطات الظالمة ; المر الذي يدخل اليوم ،وتعتقد أ ّ
ن السلم مكّلف بتمهيد السبيل أمام ممارسة العلم المنطقي وإزالة كافة ضمن الجهاد الهجومي ،كماترى أ ّ
العوائق التي تعترض هذا السبيل ولو اضطر للجوء للقوة وهذا نوع آخر من الجهاد الهجومي .كما هنالك رأي
ن المسائل الدفعاعية قد تجعل الهجوم ضرورة. لأّن طبيعة القتال في السلم هى طبيعة دفاعية ،إ ّثالث يقول أ ّ
ل أّنه في الواقع دفاع
ل الدفاع عن المظلومين ،أو بعبارة ُاخرى التدخل النساني وإن كان يبدو ظاهريًا هجومًا إ ّ مث ً
عن قوم يرزحون تحت الظلم والضطهاد ،وعليه فالدفاع عنهم ضروري بالنسبة لكافة الفراد من أهل اليمان.
والهجوم بالمعنى الثاني ـ يعني تمهيد السبيل أمام حرية العلم المنطقي وممارسة التبليغات ـ هو الخر دفاع تجاه
ن السلم يأذن بقتال العدو إذا ما خلق بعض الموانع والعراقيل.
بعض الموانع ،فا ّ
] [ 98
أّما العبارات التي وردت في بداية هذه الخطبة إّنما هى دليل واضح على دفاعية طبيعة الجهاد ; فقد شبه في
لمور من قبيل الوسائل الدفاعية .وأّمان جميع هذه ا ُ
موضع باللباس وفي آخر بالدرع وفي ثالث بالجنة ،ونعلم بأ ّ
العبارات القادمة فقد تضمنت إشارات إلى الهجوم الذي يختزن بعدًا دفاعيًا ،ومن ذلك قوله )عليه السلم(» :قلت
لكم :اغزوهم قبل أن يغزوكم« .ويمكن أن يكون هناك استثناء واحد لهذا القانون الكلي وهو الجهاد والقتال من
ن السلم يرى في الوثنية أكبر خطر يهدد المجتمع البشري من الناحية أجل إزالة الصنمية والوثنية ; وذلك ل ّ
المعنوية والمادية ،فيصرح بالجهاد من أجل القضاء على الوثنية في حالة عدم جدوى التبليغ.
ن بعض الطغاة والجبابرة سيستغلون مسألة الدفاع عن المظلومين أو مواجهة النحطاط الفكري والثقافي لشك أ ّ
ن ذلك ليحد من قيمة هذه المفاهيم أبدًا .فاستغلل هذه
لأّ
كوسيلة للتغطية على أهدافهم العدوانية والتوسعية ،إ ّ
المفاهيم المقدسة ليس بالشيء الجديد .وللوقوف على أهداف الجهاد في السلم يمكن مراجعة المجلد الثاني من
تفسير المثل ،الية 193من سورة البقرة.
—–
] [ 99
القسم الثاني
ن َيْغُزوُكْمَ ،فوا ّ
ل غُزوُهْم َقْبَل َأ ْ
ت َلُكُم ا ْ
علنًا َوُقْل ُسّرا َوِإ ْ
ل َوَنهارًاَ ،و ِ عْوُتُكْم ِإَلى ِقتاِل َهُؤلِء اْلَقْوِم َلْي ً
»َأل َوِإّني َقْد َد َ
ن.
عَلْيُكُم اَْلْوطا ُ
ت َ ت َوُمِلَك ْ
عَلْيُكُم اْلغارا ُت َشنّ ْ
حّتى ُ عْقِر داِرِهْم ِإّل َذّلواَ .فَتواَكْلُتْم َوَتخاَذْلُتْم َ
ط ِفي ُ ي َقْوٌم َق ّ
غِز َ ما ُ
—–
الشرح والتفسير
الموت كمدًا
بعد أن فرغ المام )عليه السلم( من تلك المقدمة المقتضبة ،تطرق إلى نموذج بارز من الفرازات المشؤومة
ل ونهارًا ،وسرًا وإعلنًا وقلت
لترك الجهاد فقال )عليه السلم(» :أل وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلء القوم لي ً
لكم :اغزوهم قبل أن يغزوكم« يذكر المام )عليه السلم(بأّنه أشار إلى طبيعة هؤلء الظلمة المردة الذين ينطوون
على الروح العدائية التي تبرز على السطح إذا ما سنحت الفرصة فل يتورعون عن قتل البرياء وسبي النساء
ونهب الموال والثروات ،وعليه فان العقل والشرع يجيز الوقوف بوجه هؤلء الطغاة وقبر مؤامراتهم في مهدها
وكسر شوكتهم
] [ 100
ظهر بمعنى أساس الشيء وأصله ومنه عقر الناقة ،وذلك لزوال أساس الناقة بحيث تفقد
» .1عقر« على وزن ُ
توازنها وتقع على الرض.
» .2تواكلتم« من مادة »وكل« ،وكل كل منكم المر إلى صاحبه ،أي لم يتوله أحد منكم ،بل أحاله كل على
الخر.
» .3شنت« من مادة »شن« ،وشنت الغارات مزقت عليكم من كل جانب كما يشن الماء متفرقًا دفعة بعد دفعة.
والعبارة إشارة إلى الغارات المتوالية التي كان يشنها عليهم الشام.
] [ 101
ن النبار
أخو غامد وقد وردت خيله النبار وقد قتل حسان بن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها« .ويبدو أ ّ
ن السلحة ن مسالح جمع مسلحة تعني الحدود والثغور ـ وذلك ل ّ
كانت منطقة حدودية عراقية متاخمة للشام ،ل ّ
تجمع هناك لتستخدم في الدفاع عن الحدود ـ وقوله )عليه السلم(» :أزال خيلكم عن مسالحها« تفيد اجتياز العدود
لهذه الحدود دون مقاومة وقد مّر علينا شرح ذلك .ثم أشار المام )عليه السلم( إلى الجنايات التي ارتكبها
الغامدي بحق أهل النبار من المسلمين والمجاهدين من أهل الكتاب الذين ينبغي الدفاع عنهم من قبل الدولة
ن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ،والخرى المعاهدة السلمية ،فقال )عليه السلم(» :ولقد بلغني أ ّ
ل بالسترجاع والسترحام« ،فالمام )عليه فينتزع حجلها) (1وقلبها) (2وقلئدها) (3ورعثها) (4ما تمتنع منه إ ّ
ن أحدًا من المسلمين لم يهب للدفاع عن هذه النسوة المسلمات أو تلك المعاهدات .أّما السلم( أشار بوضوح إلى أ ّ
السترجاع فقد فسّره بعض شّراح نهج البلغة بالبكاء المصحوب بالعويل في حين فسره البعض الخر بكلمة »إنا
ل وإنا إليه راجعون« التي تقال عادة عند النوائب والشدائد التي يتعرض لها النسان .ثم قال )عليه السلم( »ثم
ل منهم كلم ول أريق لهم دم« آنذاك يخلص )عليه السلم(إلى هذه النتيجة »فلو أن انصرفوا وافرين مانال رج ً
أمرًا مسلمًا مات من بعد هذا أسفًا ما كان به ملومًا ،بل كان به عندي جديرًا« فقد كشف المام )عليه السلم( عن
عمق اللوعة التي كانت تعتلج في صدره مستغربًا ما حدث ،كيف يضعف المسلمون إلى هذه الدرجة ول تهتز لهم
قصبة تجاه هذه الحملت المروعة التي أهلكت الحرث والنسل وقد طالت الموال والنفس والعراض ،وقد رجع
المهاجمون غانمين سالمين دون أن يتكبدوا أية خسارة! أجل ل يسع المسلم الغيور تحمل مثل هذه الحادثة
ن المام )عليه السلم( لمالمأساوية قط ،بل لو مات كمدًا من جرائها لما كانت عليه من لئمة .والجدير بالذكر أ ّ
يفرق بين المرأة المسلمة والمعاهدة لما تعرضت له من انتهاك الحرمة والتطاول على حليها ووسائلها ،كما يكشف
عن مدى ضرورة التزام الدولة السلمية بالدفاع عن حقوق القليات الدينية التي
» .1حجل« على وزن فعل و»حجل« على وزن َفصل بمعنى الخلخال التي تزين به النساء العربيات أرجلهن.
» .2قلب« بضمتين جمع قلب بالضم فسكون بمعنى السوار المصمت وتعني في الصل التغيير.
» .3قلئد« جمع »قلدة« على وزن اجارة ،تطلق على كل شيء يحيط بآخر.
» .4رعث« بضم الراء والعين جمع »رعث« على وزن رأس ما تعلقه المرأة من الزينة في أذنها.
] [ 102
تعيش ضمن المجتمع السلمي ،مع ذلك فان غرض المام )عليه السلم( كان يكمن في تصوير عمق الفاجعة
المأساوية .وبالطبع فان هذا الكلم ل يختص بزمان دون آخر ،كما ل يقتصر على هجوم جيش معاوية على
النبار ،بل يتضمن قاعدة كلية يجب أن تسود الحياة السلمية على الدوام .وكأّني بالمام )عليه السلم( قد خاطب
بهذه العبارات كافة المسلمين الذين يتعرضون اليوم لبشع هجمات الشرق والغرب التي تنوي السيطرة على
أموالهم وثرواتهم ومسخ قيمهم وضرورة التصدي لهم والدفاع عن حياض بلدانهم ،بحيث لو مات أحدهم غصة
وكمدًا لما يرتكبه العدو الطامع من جرائم وجنايات لما كان ملومًا بل كان جديرًا.
تأّملت
لقد أشار المام )عليه السلم( من خلل بصيرته الثاقبة وروحه السامية وخبرته الوافية في ميادين الحرب والقتال
إلى العناصر المهّمة التي تقف وراء الهزيمة والنتصار والتي ينبغي أن يجعلها المسلمون نصب أعينهم من أجل
دحر العداء والحفاظ على بيضة السلم .فقد تطرق المام )عليه السلم( إلى أخلء الساحة أمام العدو ومنحه
الفرصة بشن هجماته بفضلها تشكل أحد عوامل الفشل والنهزام ; المر الذي ل يختلف عليه إثنان وقد خضنا في
تفاصيله سابقًا.
العامل الخر التواكل )بمعنى وكل كل المر إلى صاحبه ،أي لم يتوله أحد بل أحاله كل على الخر( .فلو قام كل
فرد في المجتمع بوظيفته ولم يحمل الخرين مسؤولية أعماله لما كان هناك من مجال للفشل والهزيمة ،بينما ليس
هنالك من سبيل للهروب من الفشل والهزيمة المنكرة أمام العدو اذا ما تخلى كل فرد عن مسؤولياته ووظائفه
وأوكلها إلى الخرين من أفراد المجتمع.
العامل الثالث التخاذل بمعنى ترك الخرين ومشاكلهم دون معونتهم ومساعدتهم ،فاذا تعرضت منطقة إلى غارة
أو غزوة لم تنجدها سائر المناطق .وهذا ما أشار إليه المام )عليه السلم( في الخطبة » 166أيا الناس! لو لم
تتخاذلوا عن نصرة الحق ولم تهنوا عن توهين الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ولم يقو من قوي عليكم«.
] [ 103
لعل البعض يتصور أن قضية احترام القليات الدينية التي تعيش في كنف السلم وتكفل بحفظ أموالها وأرواحها
ن أدنى نظرة إلى الفقه السلمي في كيفية تعامله مع أهل الذمة
لأّ
إّنما هى شعار ل يرقى إلى العمل والتطبيق ،إ ّ
ن السلم وكلمات المعصومين )عليهم السلم( بما فيها كلم المام )عليه السلم( في هذه الخطبة ،تكشف بجلء أ ّ
يرى نفسه السند والدعم الحقيقي لهم ما دامهم لم ينقضوا العهود ويشهروا السلح ضد السلم والمسلمين ،وعليه
فأموالهم وأرواحهم محترمة ومحفوظة .فقد أعرب المام )عليه السلم( في هذه الخطبة عن بالغ حزنه وأسفه لما
تعرضت له المرأة اليهودية أو النصرانية التي تعيش كمواطنة في المجتمع السلمي ولم يفرق بينها وبين المرأة
المسلمة قط ،ثم ذم أهل العراق ووبخهم على ما أبدوه من ضعف وعجز حيال العدو وعدم الدفاع عن هذه النساء.
المراد بالغيرة الدينية الحساسية تجاه أي خروج عن مسار الحق والعدل وتجاهل الحكام الشرعية والتعامل بشدة
وصرامة مع هذه الحالة بما يتناسب وحجمها والبتعاد عن اللمبالة ،ويفتقر لهذه الغيرة كل من تعامل ببرود مع
لمور ولم يبد أية حساسية تجاهها .وقد صرح القرآن الكريم بخصوص بعض المقاتلين المؤمنين الذين ل هذه ا ُ
جُد
ت ل َأ ِ
حِمَلُهْم ُقْل َ
ك ِلَت ْ
ن ِإذا ما َأَتْو َ
على اّلِذي َل )َول َ يمتلكون المعدات التي تؤهلهم للشتراك في المعارك قائ ً
ن().(1 جُدوا ما ُيـْنِفُقو َ
ل َي ِ
حَزنًا َأ ّ
ن الّدْمِع َ
ض ِم َ
عُيُنـُهْم َتِفـي ُ
عَلْيِه َتَوّلْوا َوَأ ْ
حِمُلـُكْم َ
ما َأ ْ
فالية تشير إلى مسألة تجعل الفراد الذين ل يمتلكون الوسائل المطلوبة في القتال وتحول دون التحاقهم بصفوف
المقاتلين يتحولون إلى دموع غزيرة ; القضية ل يمكن تفسيرها سوى بالغيرة الدينية .وقد أشارت الخطبة إلى أحد
مظاهر هذه الغيرة ،حين قال )عليه السلم(» :فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفًا ما كان به ملومًا ،بل كان
به عندي جديرًا« .فالغيرة تشكل
] [ 104
أحد العوامل المهّمة من أجل الدفاع عن حريم القوانين السلمية وإحياء المر بالمعروف والنهي عن المنكر .فقد
ن ال بعث ملكين إلى أهل المدينة ليقلباها على
ورد عن المام الصادق )عليه السلم( عن بعض أصحابه قال :إ ّ
ل يدعو ال ويتضرع إليه ،فقال أحدهما للخر :أماترى هذا الداعي فقال :قدأهلها فلما انتهيا إلى المدينة وجدا رج ً
رأيته ولكن أمضي لما أمرني به ربي فقال :ولكني ل أحدث شيئًا حتى أرجع إلى رّبي ،فعاد إلى ال تبارك وتعالى
ب إني إنتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلنًا يدعوك ويتضرع إليك فقال :إمض لما أمرتك فان ذلك فقال :يا ر ّ
رجل لم يتغّير وجهه غضبًا لي قط(1).
—–
.1بحار النوار 64 / 97ح .60
] [ 105
القسم الثالث
حّقُكْم!ن َ عْ طِلِهْمَ ،وَتَفّرِقُكْم َ عَلى با ِ ع َهُؤلِء اْلَقْوِم َ جِتما ِنا ْ ب اْلَهّم ِم َ
جِل ُب َوَي ْت اْلَقْل َ
ل ـ ُيِمي ُ
جبًا ـ َوا ّ عَجبًا! َ عَ »َفيا َ
ضْونَل َوَتْر َ صى ا ّ ن َوُيْع َ نَ ،ول َتْغُزو َ ن َوُتْغَزْو َ
عَلْيُكْم َول ُتِغيُرو َ غَرضًا ُيْرَمىُ :يغاُر َ صْرُتْم َن ِ حي َ َفُقْبحًا َلُكْم َوَتَرحًاِ ،
سْيِر ِإَلْيِهْم
حّرَ .وِإذا َأَمْرُتُكْم ِبال ّ عّنا اْل َ
خ َسّب ْ
ظ; َأْمِهْلنا ُي َحماّرُة اْلَقْي ِحّر ُقْلُتْم َهِذِه َسْيِر ِإَلْيِهْم ِفي َأّيام اْل َ
َفِإَذا َأَمْرُتُكْم ِبال ّ
حّرن اْل َحّر َواْلُقّر َفِإَذا ُكْنُتْم ِم َن اْل َ
عّنا اْلَبْرُد! ُكّل َهذا ِفرارًا ِم َ خ َسِل ْ
صباّرُة اْلُقّر َأْمِهْلنا َيْن َ
شتاِءُ ،قْلُتْمَ» :هِذِه َ ِفي ال ّ
ف َأَفّر!«. سْي ِن ال ّ ل ـ ِم َن; َفَأْنُتْم ـ َوا َّواْلُقّر َتِفّرو َ
—–
الشرح والتفسير
لخرى لتقهقر أهل الكوفة وتراجعهم إلى جانب ذمهم ولومهم ،بما يتناول المام )عليه السلم( بالتحليل العوامل ا ُ
يوقظ ضمائرهم ويدفع بهم باتجاه الصمود بوجه العدو والحؤول دون تسلله إلى البلد ،فقد قال )عليه السلم( »فيا
عجبًا) (1عجبًا ـ وال ـ يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع
لمور التي تخرج عن هؤلء القوم على باطلهم ،وتفرقكم عن حقكم« .إّنما يكون التعجب والندهاش حيث ا ُ
المسار الطبيعي أو تكتنفها العوامل المجهولة أو غير المألوفة ; المر الذي يطالب أنصار الحق ويوازع من
إيمانهم القوي بالدفاع والصمود والمقاومة ،بينما يقف أتباع الباطل
.1يا عجبًا عجبًا ،قال بعض شّراح نهج البلغة أن العبارة »فيا عجبًا عجبًا« أصلها »عجبت عجبًا ; «...أي منصوبة على أنها
مفعول مطلق .كما احتمل أن تكون عجبًا الولى من قبيل المفعول المطلق والثانية للتكرار والتأكيد )شرح نهج البلغة لبن ميثم / 2
(36وقال البعض تقديرها »يا عجبي احضر« )شرح نهج البلغة للعلمة الخوئي (392 / 3ويبدو هنا التفسير أنسب لن تكون
»عجبًا« منادى.
] [ 106
مكتوفي اليدي وعدم الدفاع عن الحق لفتقارهم للدوافع التي تؤدي إلى ذلك الدفاع ،ومن هنا فاذا شوهد أصحاب
الحق يعيشون الفرقة والختلف وضعف الرادة ،بينما تحكم الوحدة والخاء أتباع الباطل ،فان ذلك مدعاة
للذهول والعجب .فإمام أهل العراق هو علي بن أبي طالب )عليه السلم( الذي نص رسول ال )صلى ال عليه
وآله( على وليته إلى جانب مبايعته من قبل أهل المدينة ومكة من المهاجرين والنصار وسائر المسلمين من
المناطق السلمية ،كما كانت دلئل أحقيته من زهد وعلم وفضيلة وعدالة واضحة للجميع ،بينما كان إمام الشام
معاوية المعروف بطغواه وحبه للجاه والمنصب وسوابقه المشينة في السلم والجاهلية والتي لم تكن خافية على
أحد ،أفليس من العجب أن يهب أهل الشام لنصرة باطلهم ويقفون بوجه الحق ،وينفرج أهل الحق عن المام )عليه
السلم( فينقضون ميثاقهم وينكثون بيعتهم؟! ومن هنا اشتد استياء المام )عليه السلم( عليهم فجعل يذمهم
ويلومهم ،بعد أن جعلوا أنفسهم في هذه الحالة المزرية »فقبحًا لكم وترحًا) (1حين صرتم غرضًا يرمى ،يغار
عليكم ول تغيرون ،وُتغزون ول َتغزون ،ويعصى ال وترضون« .فالواقع يوجز المام )عليه السلم( ما يدعوه
لذمهم في أمر واحد يكمن في الضعف والتواكل والخذلن إلى الحد الذي يمنح العداء الجرأة في شن الحملت تلو
الحملت والغارات تلو الغارات فيسفكون دماء البرياء ،وليس لهؤلء من ردود فعل سوى الصمت والسكوت
تجاه هذه المجازر المروعة!
ثم يتطرق المام )عليه السلم( إلى دليل آخر دعاه لذم هؤلء والذي أدى بهم إلى ذلك الضعف والذي يكمن في
التعلل بحر الجو وبرودته التي ل تلعب دورًا في القتال ،فقال )عليه السلم(» :فاذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام
الحر قلتم هذه حمارة) (2القيظ) ; (3أمهلنا يسبخ) (4عنا الحر .وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء ،قلتم :هذه
صبارة) (5القر ،أمهلنا ينسلخ) (6عنا البرد ; كل
» .1ترحًا« تعني الحزن والغم فقد دعا عليهم المام )عليه السلم( بهذه العبارة بالحزن والهم.
» .2حمارة« من مادة »حمر« بمعنى اللون الحمر ،ويطلق على شدة حرارة الصيف المحرقة ،وكأن شدة الحرارة كحمرة النار.
» .3قيظ« على وزن فيض بمعنى الحرارة الشديدة للصيف ،وعليه فاضافة حمارة إلى قيظ تأكيد للحرارة.
» .5صبارة« من مادة »صبر« بمعنى حبس الشيء وحفظه ،وتطلق الصبارة على شدة البرودة.
» .6ينسلخ« من مادة »سلخ« بمعنى إزالة القشر ومن هنا يطلق السلخ على من يزيل جلد الحيوان ،ثم اطلقت على كل فصل وإزالة.
] [ 107
هذا فرارًا من الحر والقر) ،(1فاذا كنتم من الحر تفرون ،فأنتم ـ وال ـ من السيف أفر!«.
ل في أّيام الربيع وفي ظل الرض المخضرة والحشائش النظرة والطيور المغردة ن الميدان ل يصلح للقتال إ ّوكأ ّ
والمياه المتدفقة ،فيدحر الجند أعدائهم بعصا سحرية دون الحاجة إلى العدة والعدد.
وكأن هؤلء الجهال قد تناسوا تأريخ السلم رغم عدم مرور فترة عليه بحيث زحف النبي )صلى ال عليه وآله(
بصحبه من المدينة إلى تبوك بعد أن قطعوا تلك المسافة الشاسعة خلل الصحراء الجرداء وفي ظل حرارة
الشمس المحرقة على تلك الرمضاء ولم يكن لديهم ما يكفي من الماء والغذاء ،وهكذا تحملوا سائر الصعاب
والمعضلت في الحروب والغزوات ليقفوا كالليوث أمام العداء من خصوم الدعوة ،ولو كانوا يأتون ما أتى
جيش الكوفة ويتعللون بما تعللوا به لما نمت شجرة السلم ول اخضر لها عودًا ،بل لم يكتب النصر لي جيش
في العالم حين يعيش الجنود حالة من الضعف والوهن والجبن ،ولم يكن نصيبهم سوى الفشل والهزيمة والذلة
ن كلم هؤلء ليشبه ما قاله الكفار والمنافقون من قبل في صدر السلم »ل تنفروا في الحر« والهوان .والواقع أ ّ
ن() .(2فأهل الكوفة كانوا يريدون بهذه العذار
حّرا َلْو كاُنوا َيْفَقُهو َ
شّد َ
جَهّنَم َأ َ
ل ناُر َ
فرد عليهم القرآن بالقول )ُق ْ
الواهية التهرب من مواجهة العدو وقتاله ،حيث تسرب إليهم النفاق بفعل ضعف ايمانهم بمبادئ السلم وإمامهم
علي بن أبي طالب )عليه السلم(.
ن المجاهدين الحقيقيين الذين يقتحمون الميدان ويخوضون غمار الجهاد ويسطرون النتصارات على كل حال فا ّ
إّنما هم ُاولئك الذين ل يبالون بمصاعب الطقس والمناخ ول يكترثون إلى مشاكل الطريق وتحمل العناء في هذا
ن خصمه يتحفظ عن القتال بسبب بعض المشاكل الطبيعية من قبيل المجال ،ومّما لشك فيه ان العدو اذا شعر بأ ّ
ل بتحقيق النتصار. حرارة الجو وبرودته فاّنه سيستغل هذا المر كنقطة ضعف ويوظفها لصالحه بشن الحرب أم ً
] [ 108
ن أدنى نظرة إلى كلم أمير المؤمنين علي )عليه السلم( في هذه الخطبة تثير السؤال التالي :لم كل هذا الذم من إّ
المام )عليه السلم(لهل الكوفة حتى خاطبهم لحقًا »لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة وال جرت ندمًا
وأعقبت سدمًا ،قاتلكم ال لقد ملتم قلبي قيحًا وشحنتم صدري غيظًا وجر عتموني نغب التهام أنفاسًا ،وأفسدتم
علي رأيي .«...ولعل أدنى نظرة إلى تأريخ الكوفة وأهلها ونقض المواثيق ونكث البيعة والنفاق والضعف والوهن
ن المام )عليه السلم( سلك السبيل الخير الذي من شأنه الذي سادها تفسر لنا فلسفة هذا الذم القاسي والشديد .وكأ ّ
علج مرضهم العضال حيث لم تعد لهم حساسية تجاه أي شيء ،فقد لجأ المام )عليه السلم(إلى هذا السلوب
لسلوب عملي جدًا تجاه ن هذا ا ُ لعله يثير ما تبقى لديهم من مشاعر وأحاسيس تجاه عدوهم ،وقد أثبتت الدراسات أ ّ
بعض الفراد من الناحية النفسية .فهذه الكلمات في الواقع تشير إلى مدى اليأس من تلك العناصر الضعيفة الهزيلة
ن كل هذه الكلمات اللذعة لم تتمكن من إثارة التي لم تجد معها النصائح والمواعظ أية فائدة .بل العجب من ذلك أ ّ
ل النفر القليل حين تجهز للقاء العداء ،مّما اضطره إلى دعوة ُاولئك الفراد يقظة وجدانهم ،بحيث لم يلتحق به إ ّ
الذين كانوا يقطنون القرى والمناطق المتاخمة لطراف الفرات ويعبئها للقاء العدو .ولعل حالة أهل الكوفة تشبه
إلى حد بعيد تلك الحالة التي سادت بني اسرائيل حين حرضهم نبّيهم موسى )عليه السلم(على قتال عدوهم
جواخُر ُحّتى َي ْ
خَلها َ
ن َنْد ُ
ن َو ِإّنا َل ْجّباري َ
ن ِفـيها َقْومًا َ
وتحرير بيت المقدس ،فقد ردوا عليه بالقول) :قاُلوا يا ُموسى ِإ ّ
ن()(1 عُدو َ
ك َفقاِتل ِإّنا هـُهنا قا ِ
ت َوَرّب َ
ب َأْن َ
نَ ...فاذَه ْ
خُلو َ
جوا ِمْنها َفِإّنا دا ِ
خُر ُ
ن َي ْ
ِمْنها َفِإ ْ
—–
] [ 109
القسم الرابع
—–
الشرح والتفسير
إدماء القلب
يختتم المام )عليه السلم( خطبته بصب جام غضبه على أولئك الفراد الضعاف الذين تواكلوا وتقاعسوا عن إداء
وظائفهم عله يثير حفيظتهم فيلتفتوا إلى عظم المخاطر التي كانت تتربص بهم ،ولسيما أهل الشام الذين كانوا
يشنون عليهم الغارات تلو الغارات دون أن يتورعوا عن سفك دمائهم وانتهاك حرماتهم وسلب أموالهم ،حيث
ل» :يا أشباه الرجال ول رجال« يامن يعيشون آمال الطفال بالغ )عليه السلم( هذه المرة في ذمهم فخاطبهم قائ ً
فيسرع فيهم الخداع »حلوم) (1الطفال« ويامن يحملون عقول ربات الحجال من العرائس اللئي ل يفكرن سوى
برغد العيش ووسائل الزينة »وعقول ربات) (2الحجال) «(3فقد وبخهم المام )عليه السلم( في العبارة
» .1حلوم« من مادة »حلم« بمعنى ضبط النفس وقد وردت هنا بمعنى المال الفارغة الشبيهة بأحلم الطفال.
» .2ربات« جمع »ربة« صاحب الشيء ومالكه ،واستنادًا إلى تاء التأنيث فاّنها تستعمل في المؤنث.
» .3حجال« جمع »حجلة« وصحيحه حجلة على وزن عجلة وهى القبة ،موضع يزين بالستور ،والمراد بربات الحجال النساء.
] [ 110
الولى بعدم امتلكهم الشجاعة والحمية والغيرة والمروءة والرجولة التي كانوا يتمتعون بها ظاهريًا ولم يكن لهم
من معانيها شيئًا على مستوى العمل .ثم اندفع في ذمهم أكثر ليخاطبهم بقوله» :لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم
ن ثمرة علقة أهل الكوفة والعراق بالمام )عليه معرفة ـ وال ـ جرت ندمًا وأعقبت سدمًا« .فالتأريخ يشهد بأ ّ
السلم(طيلة فترة خلفته لم تكن سوى الهم والغم الذي تمخض عن ضعفهم ونقضهم العهود وتفرقهم عن الحق
وتلبسهم بالنفاق والرياء ،فكان من الطبيعي أن يتمنى المام )عليه السلم( عدم رؤيتهم والتعرف عليهم ،حتى دعا
عليهم »قاتلكم ال) (1فقد ملتم قلبي قيحًا وشحنتم صدري غيظًا وقد جرعتموني الهموم غصة بعد غصة،
فجعلتموني غرضًا لسهام العداء ،حتى ذهبت بهم المذاهب أني رجل شجاع ،بينما ليست لي من دراية بالحرب
»قاتلكم ال لقد ملتم قلبي قيحًا وشحنتم صدري غيظًا وجرعتموني نغب) (2التهمام) (3أنفاسًا ،وأفسدتم علي
رأيي بالعصيان والخذلن حتى لقد قالت قريش :إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن ل علم له بالحرب« .عادة ما
لمم والشعوب ضعفها وتخلفها وفشلها إلى قّلة تدبير زعمائها ،بينما قد تكون القضية بالعكس ; أي أ ّ
ن تعزى ا ُ
الزعيم شخصية كفوءة بينما تعيش الّمة حالة من التخلف الفكري والثقافي والجتماعي ; المر الذي يعتبر مأساة
ن مسؤولية حقيقية بالنسبة للزعيم والقائد الناجح الذي يبتلى بمثل هذه الجماعة المسلوبة الرادة ،ومّما يؤسف له أ ّ
النتائج المريرة التي تفرزها طبيعة هذه المسيرة قد يلقيها الناس على عاتق ذلك الزعيم.
ثم يختتم المام )عليه السلم( خطبته بالرد على قريش التي تخرصت بعدم علم المام )عليه السلم(بفنون القتال
والحرب رغم شجاعته وبسالته:
»ل) (4أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراسًا) (5وأقدم فيها مقامًا مني« .فقد اقتحمت
ن التعبير بقاتلكم إلى أّنهم كانوا في مقام محاربة ال وأحكامه ،وأّنهم ل محالة ملعونين مطرودين من .1لبّد من اللتفات هنا إلى أ ّ
ل(تعني الطرد من رحمة ال )انظر ن الية 30من سورة التوبة )قاَتَلُهُم ا ّ
رحمة ال ـ ومن هنا فان أغلب المفسرين ذهبوا إلى أ ّ
لمة الشعراني(. المفردات للراغب ونشر طوبى للمرحوم الع ّ
» .2نغب« جمع »نغبة« على وزن لقمة بمعنى شربة الماء ،كجرعة وجرع وقد شّبه هنا الحزن بالماء المّر الذي شربه المام جرعة
جرعة.
» .3التهمام« من مادة »همم« بمعنى الهم ،ويستعمل هذا الوزن عادة بمعنى المصدر مثل تكرار وتذكار.
» .4ل أبوهم« تقال هذه العبارة للمدح ،كما تطلق في بعض الحيان للتعجب ،ومفهومها رحم ال والديهم.
] [ 111
ميادين الحرب وأنا ابن العشرين وها أنا ذا أخوض غمارها وقد ناهزت الستين من عمري )وعليه فقد مارست
تجربة ضخمة في الحروب كقائد لمّدة أربعين سنة( ولكن ماذا عساني أن أفعل وليس هنالك من يطيع »لقد نهضت
فيها وما بلغت العشرين ،وها أنا ذا قد ذرفت)(1على الستين! ولكن ل رأي لمن ل يطاع«.
تأّملت
ن اولئك الذين ينسبون النصر أو الهزيمة إلى بعض ن معادلت الهزيمة والنتصار ليست عبثية ،وأ ّ لشك أ ّ
السباب المجهولة والعوامل الغامضة من قبيل المصادفة والحظ إّنما يسعون للقرار من الحقائق المريرة والبتعاد
ن العامل الصلي الذي يكمن وراء النصر عن تحليلها والوقوف على كنهها .وعادة ما تذهب التحليلت إلى أ ّ
والهزيمة إّنما يتمثل بقدرة القيادة وحكمتها في إدارة شؤون الُمة ،بينما تكون القضية معكوسة في بعض الحالت،
فقد تتحلى القيادة بالقوة والقتدار وارتفاع المعنوية والحاطة بفنون الدارة والتعامل مع الحداث ; المر الذي
ن العنصر الذي يقف وراء الهزيمة إّنما يتمثل بالتباع الضعفاء الذين ل يتحلون بالرادة يفيد بما ل يقبل الشك أ ّ
ل عن إلى جانب سذاجتهم وقّلة تجربتهم بما يجعل من المتعذر عليهم مواكبة قيادتهم في ادراك الهداف فض ً
تطبيقها في الواقع ،وهنا تتلشى قدرة الزعيم الكفوء في ظل فساد وانحراف مثل هؤلء التباع ; المر الذي
يؤرق فكر القائد ويقض مضجعه .وهذا هو السر في تلك الكلمات الشديدة التي أطلقها المام )عليه السلم(بحق
ل عن أعدائه ـ
أهل الكوفة ،فقد بلغت الفرقة والشقاق والنفاق حدًا جعل حتى أصحاب المام )عليه السلم( ـ فض ً
من ُاولئك الذين شهدوا بطولت المام )عليه السلم( وصولته في الغزوات السلمية يتهمونه بعدم العلم بفنون
ل أن ذكرهم بتأريخه المشرق ومواقفه المشهورة التي تنكفي فيها البطال ; لقد القتال! فما كان منه )عليه السلم(إ ّ
نهضت بأمر القتال ولم أبلغ العشرين وقد ذرفت الن على الستين ،فكيف ُاتهم
» .1ذرفت« من مادة »ذرف« بمعنى سيل الدمع ،وقد وردت هنا بمعنى زدت على الستين.
] [ 112
بعدم العلم بالحرب؟ نعم قد بليت باتباع بعيدين عن النضباط من أهل الهوى والطيش الذين يتصرفون على ضوء
ما تمليه عليهم أهوائهم ،وعليه فليست هنالك من نتيجة سوى الهزيمة والفشل .وأفضل شاهد على ذلك النتيجة
المريرة لمعركة صفين والخدعة التي عمد إليها معاوية وعمرو بن العاص في حمل المصاحف على أسنة
الرماح ،والنكى من كل ذلك قضية التحكيم وترشيح أبي موسى الشعري وفرضه على المام )عليه السلم(.
ن النصر أصبح قاب قوسين أو أدنى في صفين لول حالة فيكاد يجمع الجميع اليوم بما فيهم المحققون وغيرهم أ ّ
النفاق والفرقة والعصيان التي دبت في جيش المام )عليه السلم( ولما وقعت تلك الحداث التي سود بها
المويون وجه التأريخ ومن هنا تعتبر موقعة صفين من أقسى الحداث التي شهدها التأريخ السلمي وبالذات
سيرة المام علي )عليه السلم( .وليت ذلك المر اقتصر على زمان علي )عليه السلم( ،بل مازال هنالك اليوم
الكثير من الجهال الذين يشككون في السياسة الحربية لمير المؤمنين )عليه السلم( وكيفية إدارة شؤون البلد،
ل دليل صارخ على عمق مظلومية المام )عليه السلم( ،المام )عليه السلم(الذي جعل التأريخ يدين وما هذا إ ّ
بالفضل لذلك العهد العظيم الذي عهده لعامله على مصر مالك الشتر في كيفية إدارة شؤون البلد ،فما زالت
جَرة
شَمبادئه وأسسه قائمة فاعلة رغم مرور أربعة عشر قرنًا عليه ،ليكون ذلك العهد مصداقًا لقوله سبحانه )َك َ
ن َرّبها() .(1فقد أذعن العدو والصديق لعمق حـين ِبـِإذ ِ
ل ِ
سماِء * ُتـْؤِتي ُأُكَلها ُك ّعها ِفي ال ّ
ت َوَفْر ُ
صُلها ثاِب ٌ
طـّيَبة َأ ْ
َ
الصول والتعاليم التي أوردها المام )عليه السلم(في نهج البلغة والتي تمثل عمق سياسة المام )عليه السلم(،
مع ذلك ينبري هذا وذاك من الحين إلى الخر لتهام المام )عليه السلم( .وقد أشار المام )عليه السلم( في عدة
مواضع إلى هذه الحقيقة المريرة المتمثلة بالغدر والخيانة ونقض العهود والمواثيق .فقد خطبهم )عليه السلم(بعد
ل» :وال ما تكفونني أنفسكم فكيف تكفونني غيركم إن كانت الرعايا قبلي حادثة النبار وغارت أهل الشام قائ ً
لتشكوا حيف رعاتها وانني اليوم لشكو حيف رعيتي كأنني المقود وهم القادة أو الموزوع وهم الوزعة«) .(2كما
قال )عليه السلم(في موضع آخرُ» :اريد أن أداوي بكم وأنتم دائي« ،ثم شكاهم )عليه السلم(بالقول» :الّلهم قد
ملت أطباء هذا الداء الدوي وكلت النزعة بأشطان
.1سورة ابراهيم 24 /ـ .25
] [ 113
الركي! أين القوم الذين دعوا إلى السلم فقبلوه وقرأوا القرآن فأحكموه وهيجوا إلى القتال فولهوا وله اللقاح إلى
أولدها«).(1
ل وهو :هل كانت تلك السياسة التي انتهجها المام )عليه السلم( ازاء الّمة لقد أثار بعض شّراح نهج البلغة سؤا ً
)بتلك الشدة والحدة من الذم واللوم( صائبة؟ ألم تكن تدعو تلك الكلمات الفراد إلى النفرة والشعور بالغربة
والعزلة؟ ويبدو هذا الشكال أعمق وأرسخ إذا أخذنا بنظر العتبار مدى صبر المام )عليه السلم( وحلمه وعفوه
وصفحه ،فكيف ارتضى المام )عليه السلم(مخاطبتهم بتلك الكلمات؟ ويتضح الجواب على هذا السؤال من خلل
ما ذكرناه سابقًا من أن ذلك السلوب كان يمثل الوسيلة الخيرة التي من شأنها إثارة عواطف الّمة وتفعيل
لسلوب يشبه ما حركتها ونشاطها واخراجها من حالة الضعف والوهن التي كانت تسيطر عليها ،ولعل ذلك ا ُ
تعارف لدى عوام الناس حين تعجز عن اصلح أحدهم فتقول لبّد من العمل بما يثير غيرته ويوقظ ضميره.
وعليه فان تلك الكلمات تكشف بدورها عن بلغة المام )عليه السلم( في ايراده الكلم الذي ينطبق ومقتضى
ن المام )عليه السلم( عمد إلى ذلك السلوب بعد أن مارس كافة الطرق من الحال .وهنا ل ينبغي أن ننسى بأ ّ
قبيل حثهم على الجهاد وتذكيرهم بالقيم والمبادئ ،واطرائهم والثناء عليهم ـ وعليه يبدو من المستبعد رأي بعض
شّراح نهج البلغة) ،(2من أن المام )عليه السلم(أورد ذلك الكلم على ضوء »ل يزيدني كثرة الناس حولي
ن الكثرة المقتدرة في الحروب والمعارك مطلوبة ول يسع أحد بمفرده أن يهب عزة ول تفرقهم عني وحشة« ; ل ّ
القتال جيش جرار طمعًا بتحقيق النصر.
لقد قال المام )عليه السلم( في الخطبة المذكورة »لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ،وها أنا ذا
] [ 114
ن العهد المكي كان يعيش حالة الحرب رغم عدم نشوبها بصورة فالواقع تشير مثل هذه الحداث وما شابهها أ ّ
فعلية حيث كان المسلمون يشهدون أذى الكفار باستمرار ،المر الذي كان يتطلب بعض التدبير والتفكير من أجل
كسب المعركة.
ولعل قوله )عليه السلم(» :نهضت فيها وما بلغت العشرين« ـ الذي ورد في الخطبة ـ إشارة إلى التأهب للحرب
ل لنشوب الحرب.
4ـ الخاتمة المريرة للواقعة
ذكر بعض شراح نهج البلغة أن عليًا)عليه السلم( حين ُاخبر عن غارة أهل الشام وقتلهم لعامله فخطب الناس.
صَتهم نزل ،وخرج جاء أن يجيبوه أو يتكلم منهم متكلم ،فلم ينِبس أحٌد منهم بكلمة ،فلما رأى َْ ثم سكت عنهم َر َ
خْلَفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم ،فقالوا :ارجع يا أميَرالمؤمنينخْيلة ،والناس يمشون َ ل حتى أتى الّن َ يمشى راج ً
ونحن نكفيك ،فقال :ما َتْكفونني ول َْتُفون
] [ 115
فخرج سعيدبن قيس على شاطئ الُفرات في طلب سفيان بن عوف; حتى إذا بلغ .عانات ،سّرح أمامه هانئ بن
ى أرض ِقّنسرين وقد فاتوه ،فانصرف.
ي ،فاتبع آثارهم حتى دخل أداِن َ
الخطاب الْهمدان ّ
ل يا أميرالمؤمنينُ ،مْرَنا
ي ،فقال :ل يسوءك ا ّ ي وسعيدبن قيس الَهْمَدان ّ
ي الكند ّ
جربن عد ّ
حْ
وأتاه قوم يعتذرون ،فقام ُ
ت في طاعتك .فقال :تجّهزوا جَزعًا على أموالنا إن نفدت ،ول على عشائرنا إن ُقِتل ْ ل ما َنعظم َ
بأمرك نتبعه ،فوا ّ
للمسير إلى عدّونا.
صِليب ناصح ،يحشر الناس من السواد.ي برجل َفلما دخل منزله ودخل عليه وجوه أصحابه ،قال لهم :أشيروا عل ّ
فقال له :سعيدبن قيس :يا أميرالمؤمنين ،أشير عليك بالناصح الريب الشجاع الصليب ،معِقل بن قيس التميمي،
قال :نعم.
ثم دعاه فوجهه ،فسار فلم يقدم حتى أصيب أميرالمؤمنين عليه السلم).(1
—–
] [ 116
] [ 117
الخطبة)28 (1
ومن خطبة له)عليه السلم(
هذه من الخطب المعروفة لمير المؤمنين علي )عليه السلم( ،وهى كما ذهب الشيخ المفيد في الرشاد من خطبه
الخالدة التي حفظها أرباب الفهم والعقل ،أو كما قال السيد الرضي :إّنه لو كان كلم يأخذ بالعناق إلى الزهد في
الدنيا ويضطر إلى عمل الخرة ،لكان هذا الكلم وكفى به قاطعًا لعلئق المال وقادحًا زناد التعاظ والزدجار.
فقد أشار المام )عليه السلم( في هذه الخطبة القصيرة ـ والتي يراها بعض المحققين جزءًا من الخطبة الخامسة
والعشرين ـ إلى عشرة جوانب مهّمة بشأن الخرة والزهد في الدنيا وعدم الغترار بنعم الدنيا وزبرجها
ن الخطبة من الخطبوالستعداد والتأهب للدار الخرة ،والتحذير من الخطار التي تهدد سعادة النسان ـ فالحق أ ّ
العظيمة التي تسوق النسان إلى الزهد في الدنيا وعدم الكتراث لزخرفها والنتباه إلى الخرة ،وقد انطوت على
عبارات واضحة صريحة توقظ النسان من غفلته ورقدته.
.1تعتبر هذه الخطبة من الخطب المهمة لمير المؤمنين علي )عليه السلم( التي رواها كبار علماء الفريقين في كتبهم ومؤلفاتهم،
ومنهم 1ـ الجاحظ في كتاب البيان والتبيين 2 ; 171 / 1ـ الباقلني في كتاب إعجاز القرآن 3 ; 222 /ـ الحسن بن علي بن شعبة
في تحف العقول ; 4ـ ابن عبد ربة في العقد الفريد 5 ; 365 / 2ـ ابن قتيبة في عيون الخبار 2ـ 6 ; 235ـ المسعودي في مروج
لمة المجلسي في البحار عن كتاب مطالب السئول لمحمد بن طلحة الشافعي وكتاب الرشاد الذهب ; 365 / 3كما رواها المرحوم الع ّ
للمفيد مع بعض الختلف.
] [ 118
] [ 119
القسم الول
غدًا
ضماَر َو َ ن اْلَيْوَم اْلِم ْ
طلعَ ،أل َوِإ ّ ت ِبا ّ
شَرَف ْ
تَ ،وَأ ْ خَرَة َقْد َأْقَبَل ْ
ن اْل ِت ِبَوَداع َوِإ ّ تَ ،وآَذَن ْن الّدْنَيا َأْدَبَر ْ»َأّما َبْعُد َفِإ ّ
سِه! َأل َوِإّنُكْم
سِه َقْبَل َيْوِم ُبْؤ ِ
طيَئِتِه َقْبَل َمِنّيتِِه َأل عاِمٌل ِلَنْف ِ خِ ن َ ب ِم ْجّنُة َواْلغاَيُة الّنار; َأ َفل تاِئ ٌ سَبَقُة اْل َ
ق َوال ّ سبا َ ال ّ
جُلُهَ .وَم ْ
ن ضُرْرُه َأ َ
عَمُلُه َوَلْم َي ْ
جِلِهَ .فَقْد َنَفَعُه َ
ضوِر َأ َح ُ عِمَل ِفي َأّيام َأَمِلِه َقْبَل ُ ن َ جٌلَ ،فَم ْن َوراِئِه َأ َ ِفي َأّيام َأَمل ِم ْ
جُلُه«.ضّرُه َأ َ عَمُلُه َو َ سَر َ خ ِجِلِه َفَقْد َ
ضوِر َأ َح ُ صَر ِفي َأّيام َأَمِلِه َقْبَل ُ َق ّ
—–
الشرح والتفسير
الدنيا والخرة عند المام علي)عليه السلم(
ن المام )عليه السلم( تطرق إلى عشرة ُامور مهّمة في هذه الخطبة الغّراء لدفع الناس باتجاه أشرنا سابقًا إلى أ ّ
ب الدنيا
نح ّالزهد وعدم الغترار بزخارف الدنيا ; فقد ورد في الخبار ـ كما أثبتت ذلك التجربة طيلة التأريخ ـ أ ّ
ن عدم الكتراث لهذه الدنيا والزهد فيها يمثل الخطوة الولى المهمة لصلح النفوس رأس كل خطيئة ،وعليه فا ّ
ومواجهة الفساد الفردي والجتماعي.
فقد استهل المام )عليه السلم( كلمه بتصدر الدنيا ووداعها لهلها »أما بعد فان الدنيا قد أدبرت ،وآذنت)(1
بوداع« .وهنا يطرح هذا السؤال :كيف آذنت الدنيا بالدبار والوداع؟ هناك الشواهد والدلة الحّية على هذا المر
ومن ذلك قبور الماضين التي تضم بقايا رفات وعظام الملوك والسلطين والحكام والمراء والكهول والفتيان
والصبيان ،والظهر المحدودبة للكهول
» .1آذنت« من مادة »اذن« بمعنى العلن ،ومنه الذان الذي يعلن وقت دخول الصلة.
] [ 120
واشتعال الرأس شيبًا والمراض الفتاكة التي تودي بحياة الفراد ،حقًا لقد أصيبت الدنيا بالصمت والسكوت ،إلّ
أّنه مازالت تتحدث بلسان العبرة! وهذا ما أشار إليه المام )عليه السلم( في احدى خطبه »فكفى واعظاً بموتى
عاينتموهم ،حملوا إلى قبورهم غير راكبين وانزلوا فيها غير نازلين ،فكأنهم لم يكونوا للدنيا عمارًا وكأن الخرة
لم تزل لهم دارًا«(1).
ثم أشار )عليه السلم( في النقطة الثانية إلى موضوع إقبال الخرة »وإن الخرة قد أقبلت ،وأشرفت باطلع«)
ن الموت يعد المنزل الول من منازل الخرة والذي يبتلع أبناء الدنيا ،وهذا بدوره من علمات إقبال الخرة. .(2إ ّ
ومن هنا فقد أوصى المام )عليه السلم(الجميع بالستعداد إلى الخرة ومغادرة الدنيا والتزود لتلك الدار المحفوفة
بالخطر قبل فوات الوان .وذكر )عليه السلم( في النقطة الثالثة بالرابطة القائمة بين داري الدنيا والخرة فقال
»أل وإن اليوم المضمار) (3وغدا السباق) (4والسبقة الجّنة والغاية النار« فقد شبه )عليه السلم( بهذه العبارة
ن مثل هذا النسان وعلى غرار الخيال يحتاج إلى الرائعة النسان بالخيال الذي يخوض السباق ،فمن الواضح أ ّ
التمارين والتدريبات المسبقة ،حيث تصطلح العرب بالمضمار على الموضع أو الزمان الذي يضمر فيه الحيوان،
بل يطلق على الحيوان الذي ينحف إثر التمارين ل على كل حيوان كما صرح الراغب في المفردات .آنذاك يبدأ
السباق الذي يتضمن الفوز والخسارة وتسلم الجوائز من قبل الفائزين .فالمام )عليه السلم( يرى الدنيا ميدان
التأهب والستعداد والخرة ميدان السباق والجوائز ،وسوف تكون جائزة الفائزين الجّنة ونصيب الخاسرين النار.
ن أحدًا ل يسعه التمرين في ميدان السباق ،بل عليه أن يتمرن ويعد نفسه قبل السباق ; وهكذا الحال ومن البديهي أ ّ
في المحشر،
» .2اطلع« من مادة »طلع« بمعنى الظهور ،وطلوع الشمس بمعنى ظهورها ،ويرى البعض أّنها تطلق على العلم المفاجئ ،وأشرفت
باطلع ،أقبلت بغتة.
» .3المضمار« :الموضع والزمن الذي تضمر فيه الخيل ،وتضمير الخيل أن تربط ويكثر علقها وماؤها حتى تسمن ،ثم يقلل علفها
وماؤها وتجري في الميدان حتى تهزل ،ثم ترد إلى القوت ،والمدة أربعون يومًا ،وقد يطلق التضمير على العمل الول أو الثاني،
واطلقه على الول لّنه مقدمة للثاني وإّل فحقيقة التضمير احداث الضمور وهو الهزل وخفة اللحم ،وإّنما يفعل ذلك بالخيل لتخف في
الجري يوم السباق.
» .4السباق« من مادة »سبق« ومسابقة من باب مفاعلة ولسباق نفس المعنى .وسبقة بمعنى الهدف المطلوب الذي يتسابق من أجله
أو بمعنى الجائزة.
] [ 121
لمور في فليس هنالك من مجال للحسنات والتوبة من السيئات وتهذيب النفوس وتطهيرها ،ولبّد من إعداد هذه ا ُ
الحياة الدنيا .وعليه فل ينبغي أن ينسى الفراد هذه الحقيقة وهى إن عدم التزود في الدار الدنيا والتأهب الروحي
ن النتيجة النهائية للسباق في الخرة لن تكون سوى الفشل والخيبة والخسران التي تعني هناك نار والمعنوي فا ّ
ن الفائزين هناك يتفاوتون في الدرجات ،فهناك الفائز الول والثاني والثالث وهكذا ; جهنم .والجدير بالذكر هنا أ ّ
ن السباق بمعنى المسابقة والسبقة بمعنى المر الذي يتجسد بوضوح في عالم الخرة ودرجاتها .فيتضح مّما تقدم أ ّ
الهدف والغاية التي ينبغي للمتسابق أن يصل إليها ،والسبقة على وزن لقمة بمعنى الجائزة وقد علق المرحوم السيد
الرضي)ره( ـ في ذيل هذه الخطبة كما سيأتي ـ على تعبير المام )عليه السلم(» :والسبقة الجّنة والغاية النار«
ن الستباق إّنما يكون إلى أمر محبوب ،وغرض فقال :لم يقل )عليه السلم(السبقة النار كما قال السبقة الجّنة ; ل ّ
مطلوب ،وهذه صفة الجّنة وليس هذا العنى موجودًا في النار ،فخالف المام )عليه السلم(بين اللفظين لختلف
جّنة
ن َرّبُكْم َو َ
المعنيين .ول يبدو هنالك من تعارض بين كلمه )عليه السلم( والية الشريفة )ساِبُقوا ِإلى َمْغِفَرة ِم ْ
ن »سابقوا« ل تعني السباق في هذا العالم ،بل تعني التأهب من أجل ض() ; (1ل ّلْر ِسماِء َوا َ
ض ال ّ
ضها َكَعْر ِ
عْر ُ
َ
سباق الخرة ،والدليل على ذلك أّنها جعلت الجّنة هى الهدف النهائي لهذه المسابقة ،بعبارة ُاخرى فان السباق هنا
نحو الخيرات والصالحات ،أّما السباق هناك نحو الجّنة التي تمثل حصيلة العمال .ثم أشار )عليه السلم( في
النقطة الرابعة إلى واحدة من أهم أمتعة السفر الخروي الخطير وهى التوبة فقال» :أفل تائب من خطيئته قبل
منّيته) ،(2أل عامل لنفسه قبل يوم بؤسه« فهذه التعبيرات ـ التي تهدف إلى إثارة العارفين والعمل على تشجيعهم
إلى جانب تنبيه الغافلين وإيقاظهم ـ هى في الواقع تمثل النتيجة المنطقية للعبارات السابقة ،وذلك إذا كانت الدنيا قد
ن اليوم المضمار وغدًا السباق والسبقة الجّنة ن الخرة قد أقبلت وأشرفت باطلع ،وإ ّ أدبرت وآذنت بوداع وإ ّ
والغاية النار فلم ل يتوب أهل الحجى والعقل وينيبوا إلى
ن الموت
» .2منية« من مادة »منى« على وزن نقى ،قال صاحب مقاييس اللغة بمعنى تقدير الشيء ،ثم ُاطلقت على الموت والجل ،ل ّ
أمر مقدر ،وتطلق المنى على الماني التي تدور في خلد النسان.
] [ 122
ال ويغتنموا الفرصة بالعمال الصالحة ويستعدوا لسفر الخرة؟ ولعل هذا هو الذي أشار له المام )عليه
السلم(في خطبة ُاخرى »فاعملوا وأنتم في نفس البقاء ،والصحف منشورة والتوبة مبسوطة«).(1
أما تعبيره )عليه السلم( عن يوم القيامة بيوم البؤس فلما يكتنفه من أحداث مهولة وعذاب شديد وهلع وخوف
عظيم .وقد أشارت أغب اليات القرآنية لذلك العذاب لتحذر النسان وتحثه على اغتنام الفرصة والتزود لذلك
اليوم العصيب المليء بالمخاطر التي ل ينجي منها سوى العمل الصالح .أّما في النقطة الخامسة فقد أشار )عليه
السلم( إلى الفرص التي تمر مّر السحاب والتي يقود عدم اغتنامها إلى الندم »أل وإنكم في أيام أمل من ورائه
أجل ،فمن عمل في أّيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله ولم يضرره أجله« ويخسر بالمقابل من يقصر في
ن أجله يصبح عليه وبال »ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضّره أجله«. العمل ،كما أ ّ
ن دقائق عمروتعبيره عن الحياة الدنيا بأّيام المل لهو تعبير لطيف يشير إلى قصر وإيجابية عالم الدنيا ; ل ّ
لخروي الخالد. النسان تمثل أعظم فرصة من أجل بلوغ السعادة والفوز بالفلح ا ُ
فلعل التوبة في لحظة من اللحظات تطفئ بحارًا من نيران جهنم كانت تتربص بهذا النسان ،ولعل العمل الصالح
الخالص في ساعة من عمره ينتهي به إلى جنان الخلود والرضوان.
تأّملت
ن الدنيا دار طارئة متبدلة جعلت ليتزود منها النسان يرى الدين السلمي الحنيف وجميع الديان السماوية أ ّ
ن ال يبتلي العباد فيها بأنواع
ويكسب فيها السمو والكمال والمعرفة التي تحلق بها إلى عالم الخلود ،ومن هنا فإ ّ
البلء والمتحان من خلل العبادات والطاعات وترك الشهوات وتحمل المصائب والمشكلت التي من شأنها
تربية النسان وصقل شخصيته
] [ 123
وتهيئته لعالم الخرة المفعم بالخير والبركة .وقد تظافرت الروايات التي تعرضت لبيان حقيقة الدنيا بعدة تعبيرات
مختلفة رائعة ،ومن ذلك الخطبة التي نحن بصددها والتي شّبه فيها المام )عليه السلم( الدنيا بالدورة التدريبية
التي يستعد فيها النسان لسباق الخرة ،الذي يحصل فيه الغالب على الجّنة والخاسر النار .وقد جاء في الحديث
ن المزرعة ليست مكانًا للحياة والستقرار بل هى مكان للتزود من أن »الدنيا مزرعة الخرة«) (1ومن الواضح أ ّ
أجل مكان آخر ،وقد عّبر عنها بالمتجر ودار الموعظة والمصلى ،كما أورد ذلك المام علي )عليه السلم( في
ن الدنيا دار صدق لمن صدقها ...ودار موعظة لمن اتعظ بها ،مسجد أحباء ال ومصلى نهج البلغة فقال »إ ّ
ن المسيح )عليهملئكة ال ومهبط وحي ال ومتجر أولياء ال«) .(2وروي عن المام السجاد )عليه السلم(أ ّ
السلم( قال للحواريين» :إّنما الدنيا قنطرة فاعبروها ول تعمروها«) .(3كما عبر عنها المام علي )عليه
السلم(بأّنها »دار ممر«) (4و»دار مجاز«) .(5وأخيرًا فقد وصفها المام الهادي )عليه السلم(بالسوق الذي
ن كل هذه العبارة ترشد يتضمن الربح والخسارة »الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون«) .(6والخلصة فا ّ
إلى عدم النظر إلى الدنيا على أّنها هى الهدف النهائي ،بل هى وسيلة لدخار العمل الصالح وكسب المعارف من
ن أهم مسألة مصيرية ن الواقع هو أ ّ
لأّ
ن هذا الموضوع ساذج ،إ ّ أجل الظفر بالدار الخرة .ولعل البعض يرى أ ّ
في حياة النسان في أّنه كيف يتعامل مع المكانات المادية التي زود بها في هذه الحياة وكيف ينظر إلى هذه الدار،
هل يراها وسيلة وأداة من أجل الوصول إلى هدف معّين ،أم يراها هى الهدف النهائي وليس وراءها شيء.
ن تأكيد المام)عليه السلم( في بداية الخطبة على أن الدنيا ميدان الستعداد لسباق الخرة إنما يشكل والواقع أ ّ
الدعامة الساسية الراسخة لسائر المواعظ المهمة التي وردت في هذه الخطبة.
] [ 124
النقطة التي تعرضت لها الخطبة والتي ينبغي اللتفات إليها ،إّنما تكمن في عدم إمكانية تدارك الخسران الذي
ن السباقيطيل النسان في هذه الحياة وفقدانه للفرص التي كان من شأنها أن تجعله يفوز بالدار الخرة ،والواقع إ ّ
الذي ينتظر النسان إّنما يقام لمرة واحدة فقط ،فهناك ميدان للتمرين وآخر للسياق ليس للتكرار إليه من سبيل،
ومن خسر فليس أمامه من فرصة لتدارك خسارته ،ومن هنا قال المام )عليه السلم(» :ومن قصر في أيام أمله
قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضره أجله« .أّما الندم فل يداوي جرحًا ول يصلح فاسدًا هناك فليصرخ
ل(.
ت()(1فيأتي الجواب )َكـ ّل صاِلحًا ِفـيما َتَرْك ُ
عَم ُ
ن َلَعّلي َأ ْ
جُعو ِ
ب اْر ِ
الصارخونَ) :ر ّ
—–
.1سورة المؤمنون .100 /
] [ 125
القسم الثاني
ن ِفي الّرْهَبِة! َأل َوِإّني َلْم َأَر كاْلجَّنِة ناَم طاِلُبهاَ ،ول كالّنار ناَم هاِرُبهاَ ،أل غَبِة َكما َتْعَمُلو َ عَمُلوا ِفي الّر ْ »َأل فا ْ
ضلُل ِإَلى الّرَدىَ .أل َوِإّنُكْم َقْد ُأِمْرُتْمجّر ِبِه ال ّ
سَتِقيُم ِبِه اْلُهَدىَ ،ي ُن ل َي ْ
طُلَ ،وَم ْ
ضّرُه اْلبا ِق َي ُ حّ ن ل َيْنَفُعُه اْل َ َوِإّنُه َم ْ
طوُل اَْلَمِلَ ،فَتَزّوُدوا ِفي الّدْنيا ِم َ
ن ع اْلَهَوىَ ،و ُن :اّتبا ُ
عَلْيُكُم اْثَنتا ِ
ف َ ف ما َأخا ُخَو َ
ن َأ ْعَلى الّزاد َوِإ ّ ن َوُدِلْلُتْم َظْع ِ
ِبال ّ
غدًا«.سُكْم َ ن ِبِه َأْنُف َ
حُرُزو َ الّدْنيا ما َت ْ
—–
الشرح والتفسير
الرحيل الوشيك
أشار المام )عليه السلم( إلى مسألة مهّمة رّبما غفل عنها أغلب الناس» :أل فاعملوا في الرغبة كما تعملون في
الرهبة« فعبادة ال وطاعته ل تعني الفزع إليه في الشدة والبلء والتولي عنه في اليسر والرخاء ; ولو كان المر
عـُوا ا ّ
ل ك َد َ
كذلك لكان مشركوا الجاهلية من خلص العباد ،فقد وصفهم القرآن الكريم بالقولَ):فِإذا َرِكُبوا ِفي الُفْل ِ
ضـّر ِفيسـُكُم ال ّ ن() (1ثم خاطبهم في آية ُاخرى )َو ِإذا َم ّ شِرُكو َ جاهْم ِإلى الَبّر ِإذا ُهْم ُي ْ ن َفَلّما َن ّ
ن َلُه الّدي َ
صـي َ
خِل ِ
ُمـ ْ
ن العبرة ليست ن َكُفورًا() .(2والواقع أ ّ لْنسا ُ
نا ِ
ضُتْم َوكا َ
عَر ْ
جاكْم ِإلى الَبـّر َأ ْ ل ِإّياه َفَلّما َن ّ
ن ِإ ّ
عو َ ن َتْد ُ
ل َم ْضّحِر َ الَب ْ
في القبال على ال عند الفزع ،بل العبرة أن يقبل العبد عليه حين الرخاء والرفاه والشعور بالقوة والقتدار ،فما
كان مع ال في هذه الظروف كان ال معه في الظروف العصيبة .فعلمة اليمان الخالص أن يتوجه العبد إلى ال
ويذكره على كل حال في العافية والسقم والفتوة
] [ 126
والكهولة والفقر والغنى والهزيمة والنتصار والحرية والسجن وما إلى ذلك .ومن هنا نرى النبياء والوصياء
والولياء ل ينفكون في حال من الحوال عن التضرع إلى ال والتوجه إليه .فالمتتبع لسيرة المام علي )عليه
السلم( ل يرى في عبادته من تفاوت بين جلوسه في البيت حين زحزحت عنه الخلفة ونهوضه بالمر وإدارته
لشؤون البلد السلمية ،فالزهد والتهجد وإعانة الضعفاء والفقراء وطلق الدنيا إلى غير رجعة كان من المعاني
الواضحة في عبادة المام )عليه السلم( :ثم قال )عليه السلم(» :أل وإّني لم أر كالجنة نام طالبها ،ول كالنار نام
هاربها« .لقد رأينا عّدة أفراد من الذين يعيشون الرق ليالي حين يهمون ببعض السفار القريبة التي تدر عليهم
بعض الرباح والفوائد ،فكيف ينام طالب الجّنة الباقية ـ النعمة التي ل تفوقها نعمة أو الخائف من نار جهنم التي ل
لمور؟! ولعل ذلك يعزى إلى ضعف ايمان الفرد يتصور عذابها وأن رؤيته غير سماعه ـ ول يكترث لهذه ا ُ
ن الغفلة عن الخرة لمن بالعالم الخر ،أو إلى سكر النعم والمنافع التي يتمتع بها في حياته ،ومهما كان السبب فا ّ
ن من وظائف أئمة الدين الظواهر المأساوية الليمة التي ينبغي للنسان التوقف عندها ومعالجتها .ولشك أ ّ
وزعماء المسلمين ايقاظ الناس من غفلتهم وترسيخ دعائم ايمانهم ولفت أنظارهم إلى الدار الخرة وتحذيرهم من
الغترار بالدنيا والذوبان فيها .وفي النقطة الثامنة يشير المام )عليه السلم(إلى مسألة ذات صلة بهذا الموضوع
فيقول» :أل وإّنه من ل ينفعه الحق يضره الباطل ،ومن ل يستقيم به الهدى ،يجر به الضلل إلى الردى« .طبعًا ل
يتضح عمق هذا الكلم مالم نقف على التعريف الصحيح للحق والباطل .فالحق عبارة عن الواقعيات ،سواء كان
هذا الحق تكوينيًا أم تشريعيًا .ويراد بالحق التكويني واقعيات عالم الوجود ،ويقابل ذلك الباطل المتمثل بالخيال
والسراب الذي ل واقع له ول وجود سوى في عالم التصور والوهم .أما الحق التشريعي فيتمثل بالقوانين والتعاليم
اللهية التي شرعت من أجل الفرد أو مجموعة الفراد على ضوء المصالح والكفاءات الذاتية أو الكتسابية،
ويقابله الباطل الذي يتجسد بعرقلة القوانين والتمرد عليها باسم القانون وتضييع العدالة وسلب الحريات وذبحها
ن من يولي ظهره للحق سواء على مستوى التشريع أو التكوين فاّنه يقع بمرأى ومسمع من الناس .ومن البديهي أ ّ
في حبائل الباطل من قبل الوهم والخيال والسراب الذي يحسبه الظمآن ماء ; المر الذي ل يرتقي بالنسان إلى
الشيء،
] [ 127
والواقعيات هى التي تبلغ بالنسان الهدف ل الوهم والخيال الذي ل يجر على النسان سوى الخذلن والخسران.
ن مصيره المحتوم إّنما يؤول إلىلأّ ولعل النسان يستطيع عن طريق الباطل اغفال الخرين مّدة من الزمان ،إ ّ
البؤس والشقاء ل محالة في خاتمة المطاف وعليه فان قوله )عليه السلم(» :أل وإّنه من ل ينفعه الحق ،يضره
الباطل ،ومن ل يستقيم به الهدى ،يجر به الضلل إلى الردى« إّنما يمثل حقيقة واقعية واضحة .طبعًا صحيح أن
ن هذه المرارة تبدو كمرارة الدواء التيلأّالقرار بالحق واقتفاء آثاره إّنما يقترن غالبًا بتحمل الشدائد المريرة ،إ ّ
تجعل السقيم يتماثل للشفاء ،ول يجني من تلك المرارة سوى السلمة والصحة والعافية من المرض الذي رّبما
لمور ن الحق والباطل ليسا من قبيل الوجودات الصطناعية وا ُ يؤدي بصاحبه إلى الموت .ويتضح مّما تقدم أ ّ
العتبارية ; فالحق في عالم التكوين هو ذلك الوجود العيني وفي عالم التشريع هو عبارة عن الواجبات
والمحظورات التي تستند إلى المصالح والمفاسد والتي تمثل بدورها واقعيات عينية ،وسنتناول هذا الموضوع
بالشرح في البحاث القادمة.
ن المام )عليه السلم( هدف بهذه العبارة إلى إفهام الخرين ـ علوة على تنبيههم إلى أصل كلي على كل حال فا ّ
له بالغ الثر في مصير الناس ـ بأّنهم اذا لم يلتزموا بوصاياه المنسجمة والحق والعدل فاّنهم سيقعون في مخالب
الظلم والجور والضطهاد وإن أضرار الباطل ستجتاح حياتهم ; المر الذي شهدوه في حياتهم ومسيرتهم .ثم
تعرض المام )عليه السلم(ـ في النقطة التاسعة ـ إلى موضوع مهم يحكم حياة البشرية شاءت أم أبت »أل وإنكم
قد أمرتم بالظعن) (1ودللتم على الزاد« .والمر بالظعن هو قانون الموت الذي يحكم حياة الناس ،فالطفال
يسيرون نحو الشباب ،والشباب يتجهون نحو الكهولة وهذه الخيرة إّنما تنتهي بالموت .فهو قانون شامل جاري ل
يعرف الستثناء والشواذ ،كما أّنه قانون ل يقوى أحد على تجاوزه مهما كانت قوته وقدرته وعلمه ومعرفته فهو
القانون الذي شرعته يد القدرة اللهية لسمو النسانية وتكاملها وقد تعرضت أغلب آيات كتاب التشريع.
» .1ظعن« على وزن »طعن« بمعنى الرحيل من مكان إلى آخر ومن هنا اطلقت الظعينة على الهودج لّنه من وسائل السفر،
وتستخدم أحيانًا كنايًة عن النساء ،لّنهم غالبًا مايركبن الهودج.
] [ 128
كما يحتمل أن يكون المراد بقوله )عليه السلم( »أمرتم بالظعن« المر بالستعداد للرحيل من الدنيا ،كما ورد
ذلك في الخطبة » 204تجهزوا رحمكم ال فقد نودي فيكم بالرحيل«) .(5وأّما المر بالتجهز والتزود فاّنه يمثل
رسالة جميع النبياء إلى البشرية وتنبيهها إلى الطريق الخطير الذي ينتظرها ; وهو طريق طويل يشمل الفاصلة
بين الدنيا والخرة ول يمكن السير عليه دون حمل الزاد ،ول معنى للزاد هنا سوى اليمان والتقوى والورع
خْيَر الّزاد الّتْقوى() (6ول ينفع في الخرة سوى القلب السليم المفعم باليمان وح ّ
ب ن َ
والعمل الصالح )َوَتَزّوُدوا َفِإ ّ
سِليم().(7
ل ِبَقْلب َ
ن َأتى ا ّ
ل َم ْ
ن * ِإ ّ
ل َول َبـُنو َ ال )َيْوَم ل َيـْنَفُع ما ٌ
وعليه فل ينبغي أن يلتفت سالكوا هذا الطريق إلى الدنيا وما فيها وينخدعوا بزخارفها ،بل عليهم الهم بالعمل
عْنَد
خْيٌر ِ
ت َ
صالحا ُ
ت ال ّ
حياةِ الّدْنيا َوالباِقـيا ُ
ن ِزيَنُة ال َ
ل َوالَبـُنو َ
الصالح الذي ل يبلغ بهم الهدف المنشود سواه )الما ُ
ل().(8خْيٌر َأَم ً
ك َثوابًا َو َ
َرّب َ
وأخيرًا بعد أن لفت انتباه المة إلى الخرة وزهدها في الدنيا وأوصاها بالتزود لتلك الدار وحذرها من ذلك
الطريق الخطير الذي ينتهي سالكه إلى السعادة والقرب اللهي إذا سار عليه بعمله الصالح وورعه وتقواه،
عاد )عليه السلم( ليحذر من عقبتين خطيرتين تصدان النسان عن
ن المر في قوله »أمرتم بالظعن« هو أمر تكويني وأجل الهي ولكن ليس في الجملة من تقدير ،وهو .5على ضوء المعنى الول فا ّ
أمر تشريعي على ضوء المعنى الثاني وفي العبارة تقدير هو التجهز والستعداد ،أو الظعن بالمعنى المجازي.
] [ 129
السعادة والفلح »وإن أخوف ما أخاف عليكم إثنتان :إتباع الهوى ،وطول المل« وهو المعنى الذي ورد في
الخطبة 42بعد أن تناوله المام )عليه السلم(بشيء من التوضيح فقال» :أّيها الناس وإن أخوف ما أخاف عليكم
إثنان :إتباع الهوى وطول المل ،فأما إتباع الهوى فيصد عن الحق ،وأما طول المل فينسى الخرة« .وتفيد
ن هذه التعاليم قد احتذاها أمير المؤمنين )عليه السلم( من معلمه الول
الحاديث النبوية والخبار والروايات أ ّ
ل عن النبي)صلى ال عليه وآله().(1الكرم)صلى ال عليه وآله( ; فقد وردت هذه المعاني في بحار النوار نق ً
ن اتباع الهوى ل يعرف معنى ن هذين المرضين يعدان من أعظم عوامل الذنوب والمعاصي ،ل ّ والواقع هو أ ّ
للحدود والقيود ،فاذا سيطر على النسان أعمى بصره وبصيرته وأصم سمعه بحيث ل يطيق سماع الحق من
النبي )صلى ال عليه وآله( والمام المعصوم )عليه السلم( ول تعد لديه القدرة على رؤية الحقائق التي تحيط به،
وعليه فهو يعيش حياته الدنيا كالصم البكم العمي الذين ل يفقهون ; المر الذي يجعله عرضة للسقوط في الهاوية.
أّما طول المل فاّنه يزين الدنيا بما ينسي الخرة ويقتصر بهمة النسان على الدنيا التي يرى فيها مقامه الخير
وهدفه النهائي .ثم يختتم المام )عليه السلم( خطتبه بقوله »تزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون) (2به أنفسكم
غدًا« نعم فهناك سفر طويل على البواب ،سفر يتطلب المتاع والزاد الكثير ،وعليه فينبغي للعاقل أن يلتفت إلى
نفسه ويجهزها بما يجعلها تجتاز ذلك السفر الطويل قبل فوات الوان ،ويبتعد عن الخطار والمطبات التي يمكنها
عرقلة هذه السفر ،فيطويه بكل إيمان وثبات ليصل إلى هدفه المنشود.
تأّملن
1ـ خير الزاد
ل نرانا نبالغ إذا شبهنا الناس بالمسافرين الذين يغادرون منطقة صغيرة ملوثة نحو عالم
.1بحار النوار .91 / 70فقد روى هذه الحديث جابر بن عبدال النصاري عن رسول ال)صلى ال عليه وآله(في باب حب الدنيا.
» .2تحرزون« من مادة »حرز« بمعنى الحفظ ،و»الحرز« على وزن الحرص بمعنى الموضع المن لحفظ الشياء.
] [ 130
] [ 131
لبّد من التعامل بصورة جادة مع التحذير الذي ُاختتمت به الخطبة بشأن الخطار الكبرى التي يفرزها إتباع
الهوى وطول المل ; فهما مكمن الخطر والمأساة التي تصيب النسان .فاتباع الهوى يعد أعظم عقبة تعترض
سبيل سعادة النسان .فالستسلم المطلق للشهوات والهواء النفسية يعد العدو اللدود لسعادة البشرية .القرآن
الكريم من جانبه حذر حتى النبياء من هذا العدو الفتاك ،ومنهم نبي ال داود )عليه السلم(الذي قال بشأنه )َول
ل() (1كما صور هوى النفس في موضع آخر بالصنم الذي يعبد من دون ال لا ّ سِبي ِ
ن َ
عْك َ ضّل ََتـّتِبـِع الَهوى َفُي ِ
ن َيْهِديِه ِم ْ
ن غشاَوةً َفَم ْ
صِرهِ ِعلى َب َل َ جَع َ
سْمِعِه َوَقْلِبِه َو َ
على َ خَتَم َ
عْلم َو َ
على ِ
ل َ
ضّلُه ا ّ
خَذ ِإلـَهُه َهواُه َوَأ َ
ن اّتـ َ
ت َم ِ
)َأَفَرَأْي َ
ن() .(2والحق أن إتباع الهوى ليعمي البصيرة ويصم السمع ويختم على العقل والفكر ويحول ل َأَفل َتَذّكُرو َ َبْعِد ا ّ
دون النسان وتمييز بديهيات الحياة ،فهل هنالك من خطر أعظم وأفدح منه ؟! ومن هنا اقتصر القرآن بوعده
ن الَهوى * َفِإ ّ
ن عِس َ
ف َمقاَم َرّبِه َوَنهى الّنْف َن خا َ لولئك الذين يخشون ال ويسيطرون على أهوائهم )َوَأّما َم ْ الجّنة ُ
ي الَمـْأوى().(3 جّنَة ِه َ
ال َ
طول المل هو الخر من أسوأ وأخطر العقبات التي تعترض سبيل السعادة النسانية ; فقد دلت التجارب على
ن مثل هذهل تعطشًا .ومن الطبيعي أ ّ
ن آمال النسان الخيالية ل تقف عند حدود ،فل يزداد نحوها إ ّ مدى التأريخ أ ّ
المال تشل حركة النسان وتسلبه جميع طاقاته الفكرية والبدنية ول تبقى له شيئًا يشده نحو الخرة .فاننا نعرف
بعض الفراد الذين عاشوا هذه المال الكاذبة حتى اللحظات الخيرة من حياتهم دون أن يلتفتوا حتى لتربية فلذات
ن النسان كلما تقدم أكثر كانت هذه المال أكذب بحيث تضاعف غرور أكبادهم .ومن عجائب هذه المال ،أ ّ
النسان وتصده عن الواقع .وهذا هو الوضع السائد لدى الكّفار والذي أشار إليه القرآن في خطابه لرسول
سْو َ
ف ل َف َ
لَم ُ
ال)صلى ال عليه وآله( ) َذْرُهْم َيْأُكُلوا َوَيـَتَمـّتُعوا َوُيْلِهـِهُم ا َ
ن() ،(1المعنى الذي أشار إليه المام )عليه السلم( في قصار كلماته في نهج البلغة »من أطال المل أساء
َيْعَلُمو َ
العمل«).(2
ل من خلل خلط الحلل بالحرام ويبدو أن تلك المال متعذرة النيل من خلل السباب المشروعة ،وهى ل تتيسر إ ّ
وهضم حقوق الخرين ونسيان ال والخرة .ومن هنا حذر المام )عليه السلم( في الخطبة 86من نهج البلغة
ن المل يسهي العقل وينسي الذكر فأكذبوا المل فانه غرور أولئك الذين ينشدون السعادة بالقول »واعلموا أ ّ
وصاحبه مغرور« ويبدو قصر المل على درجة من الهمية بحيث اعتبره المام )عليه السلم( الركن الصلي
للزهد ،وهذا ما أورده في الخطبة 81من نهج البلغة »أيها الناس ،الزهادة قصر المل والشكر عند المنعم
والتورع عند المحارم« .وآمال النسان كانت ومازالت أبعد وأطول من عمر النسان وإمكاناته وقدراته ; المر
الذي ل يجعل أهل الهوى وطلب الدنيا يحققون تلك المال ويظفروا بها أبدًا ،وغالبًا ما يودعون الدنيا بمنتهى
النزجار والستياء في لحظات نزع أرواحهم .وبالطبع ل ينبغي الغفلة عن المل بشكل الدافع الساس لسعي
النسان وجهده وانطلقته في هذه الحياة ،وعليه فالمل حسن وليس بقبيح ول يمكن مواصلة الحياة من دونه ،إ ّ
ل
ن المذموم إساءته وطوله وبعده عن الواقع واستناده إلى الوهم والخيال .ومن هنا ورد في الحديث »المل رحمة أّ
لمتي ولول المل ما رضعت والدة ولدها ول غرس غارس شجرًا«).(3
وبناًء على ما تقدم فان وظيفة أساتذة الخلق خطيرة ثقيلة ; وذلك لّنهم لبّد أن يضيئوا نور المل في قلوب
الناس من جهة ومن جهة ُاخرى ينبغي أن يبقوا عليه متوازنًا بعيدًا عن الفراط .والمال المنطقية هى تلك التي
ن السلم ل يعارض تنسجم ومتطلبات النسان وقدراته الواقعية بحيث ل تبعده عن هدفه المنشود .وبالطبع فا ّ
التخطيط والبرمجة من أجل المستقبل والتطلع إلى الغد ول سيما بالنسبة للنشطة الجتماعية التي تعود بالنفع على
ن مثل هذه النشطة ليست مذمومة فحسب، المجتمع السلمي وتضع حدًا للتبعية لعداء السلم ،فا ّ
] [ 133
ن النسان يغرق في هالة من المال الفارغة التي تنسي الخرة ،وبالتالي لبل تعتبر عبادة والمذموم في السلم أ ّ
يظفر النسان بها مهما جند طاقته وإمكاناته.
وفي الحياة الفردية مطلوب هو التفكير في العاقبة والذي إصطلحت عليه الروايات بالحزم .والمذموم في السلم
أن يغرق النسان في المل حتى ينسى الخرة ،ويفنى كل طاقته وقواه في ذلك المل الذي لن يبلغه قط.
تكملة
قال السيد الشرف)رض( وأقول :إنه لو كان كلم يأخذ بالعناق إلى الزهد في الدنيا ويضطر إلى عمل الخرة،
لكان هذا الكلم وكفى به قاطعًا لعلئق المال وقادحًا زناد التعاظ والزدجار ومن أعجبه قوله)عليه السلم(:
سبقة الجّنة والغاية الّنار« ،فإن فيه ـ مع فخامِة اللفظ وعظم قدر المعنى سباق ،وال ّ
ن اْليوم المضمار وغدًا ال ّ
»أل وإ ّ
سبقة الجّنة ،والغاية
وصادق التمثيل ،وواقع التشبيه ـ سّرا عجيبًا ومعنى لطيفًا ،وهو قوله)عليه السلم(» :وال ّ
سبقة الجّنة«; لن الستباق سبقة الّنار« .كما قال» ،ال ّ
الّنار« فخالف بين اللفظين لختلف المعنيين ولم يقل» :ال ّ
انما يكون إلى امر محبوب وغرض مطلوب وهذه صفة الجّنة وليس هذا المعنى موجودًا في النار ،نعوذ با ّ
ل
منها!...
—–
] [ 134
] [ 135
الخطبة)29 (1
بعد غارة الضحاك بين قيس ـ صاحب معاوية ـ على الحاج بعد قصة الحكمين ،وفيها يستنهض أصحابه لما
حدث في الطراف.
كما ورد في أسناد الخطبة فان بعض المحققين يرون أن هذه الخطبة جزء من الخطبة السابعة والعشرين ; ويبدو
ن مضامينها واحدة تفيد مدى ضعف أهل الكوفة والعراق تجاه حملت معاوية وأهل الشام ،وكأّنهم أّنها كذلك ،ل ّ
لم يشعروا بما كان يدور حولهم والجرائم البشعة التي كان يرتكبها الشاميون .فقد جعل المام )عليه السلم(
يمطرهم بوابل الذم والتشنيع لعلهم يفيقون إلى أنفسهم وينتبهوا إلى الخطار التي كانت محدقة بهم .فقد قال ابن
أبي الحديد:
.1قال صاحب مصادر نهج البلغة هذه من الخطب المعروفة التي رواها أغلب العلماء والمحدثين الذين عاشوا قبل السيد
الرضي)ره( ومنهم:
4ـ البلذري في كتاب أنساب الشراف )في شرح سيرة علي )عليه السلم(( .380 /
5ـ القاضي نعمان المصري في دعائم السلم ) 391 / 1مع اختلف وما ورد في النهج وقال الشارح الخوئي يستفاد من بحار النوار
ن هذه الخطبة جزء من الخطبة ) 27شرح نهج البلغة ،الخوئي .(21 / 4
والحتجاج والرشاد أ ّ
] [ 136
—–
ي ،وقال له :سْر حتى تمّر بناحية الكوفة وترتفَع عنها ما استطعت، حاك بن قيس الِفْهر ّفعند ذلك دعا معاوية الض ّ
غْر عليها ،وإذا
ل فأ ِ
حًة أو خي ً
سَل َ
ت له َم ْ
غْر عليه ،وإن وجد َ ي عليه السلم َفأ ِ ن وجْدَته من العراب في طاعة عل ّفَم ْ
سّرحت إليك لتْلقاها فتقاتلها .فسّرحه فيما بين ن لخيل بلغك أّنها فقد ُ ت في بلدة فأْمس في ُاخرى ،ول ُتقيم ّ
أصبح َ
ثلثة آلف إلى أربعة آلف.
—–
] [ 137
القسم الول
عداَء!
طِمُع ِفيُكُم اْلَ ْ
بَ ،وِفْعُلُكْم ُي ْ صل َخَتِلَفُة َأْهواُؤُهْم! َكلُمُكْم ُيوِهي الصّّم ال ّ جَتِمَعُة َأْبداُنُهْم ،اْلُم ْ
»َأّيها الّناس اْلُم ْ
سَتراحَ
ن َدعاُكْمَ ،ول ا ْ عَوُة َم ْ ت َد ْ
عّز ْ
حَياِد! َما َ حيِدي َجاَء اْلِقَتاُل ُقْلُتْمِ :
تَ ،فِإَذا َت َوَكْي َسَ :كْي َ ن ِفي اْلَمجاِل ِ َتُقوُلو َ
طوِل«. ن اْلَم ُ
ع ِذي الّديْ ِ
طِويَلِ ،دَفا َسَأْلُتُموِني الّت ْ
ن قاساُكْمَ ،أعاِليُل ِبَأضاِليَل َو َ ب َم ْ
َقْل ُ
—–
الشرح والتفسير
ن الخطبة ُالقيت في ظروف عصيبة جّدا ،حيث شنت الغارات تلو الغارات على أهل العراق ،جعلت ذكرنا سابقًا أ ّ
ن الضعف والوهن كان قد بلغ مبلغه منهم بحيث لم تعد لهم
لأّ
المام )عليه السلم( يسعى جاهدًا ل عداد الناس ،إ ّ
من قوة تذكر ،فلم يكن أمام المام )عليه السلم(من سبيل سوى اللجوء إلى آخر حربة من أجل تعبئتهم واستنفار
طاقاتهم وهى توبيخهم وذمهم علهم يلتفتون إلى أنفسهم ويبصروا الخطار التي كانت تتربص بهم.
فقد استهل المام )عليه السلم( خطبته بالتعرض إلى العامل الرئيسي الذي يقف وراء ذلك الضعف والذلة
والهوان والذي يعزى إلى عدم النسجام بين القوال والفعال الذي يستند إلى ضعف العتقاد الباطني بالهداف
المقدسة النبيلة فقال )عليه السلم(» :أّيها الناس المجتمعة أبدانهم ،المختلفة أهواؤهم« ،أّما كلمهم فقد كان شديد
يخترق الصخور ،أّما أعمالهم فقد كانت هزيلة ل تنسجم وذلك الكلم »كلمكم يوهي) (1الصم) (2الصلب،
وفعلكم يطمع فيكم العداء«.
» .1يوهي« من مادة »وهى« ،عناها صاحب المقاييس بالضعف ومن هنا يصطلح على الكلم الضعيف بالواهي .فالعبارة تعني أن
كلمكم يضعف ويفتت.
» .2الصم« جمع »أصم« وهو من الحجارة الصلب المصمت ،و»الصلب« جمع صليب ،والصليب الشديد.
] [ 138
ن ذلكم وهوانكم إّنما أفرزه شقاقكم وفرقتكم .إّنكم متحدون ظاهرًا ،مختلفون باطنًا ،وهذا ما أدى بكم إلىأجل إ ّ
ل من الفعال والعمال ; المر الذي يؤدي إلى تآكل المجتمعات وانهيارها إذا الكتفاء بالقوال الطنانة الرنانة بد ً
ما عاشت هذه الحالة »تقولون في المجالس :كيت وكيت) ،(1فاذا جاء القتال قلتم :حيدي حياد).«(2
فالواقع هذه بعض الصفات البارزة للمنافقين والفراد الضعاف النفس المسلوبي الرادة الذين يكثرون الحديث في
المجالس الخاصة والعامة ويستعرضون معاني الشجاعة والبسالة والعزم والرادة الراسخة ،وكأن قدرة هؤلء ل
تتجاوز هذه الحاديث ،فاذا وردوا ميدان القتال استحوذ عليهم الخوف والهلع وكأّنهم يصرخون ،إليك عّنا أّيها
القتال فارقنا وابتعد ،بل هم مرعبون من ميدان الحرب والقتال ويختلقون مختلف العذار للفرار من الميدان.
والعبارة »حيدي حياد« من مادة حيد بمعنى الميل والنحراف عن الشيء وتقابلها العبارة »فيحي فياح« بمعنى
الرغبة في الشيء .ولعل المخاطب بالعبارة »حيدي حياد« الجنود والمقاتلون الذين تدعوهم عناصر النفاق
والنهزام إلى اعتزال الميدان ،وعلى العكس من ذلك دعوة عناصر القوة والقتدار إلى القتال بقولها »فيحي
فياح« .كما يحتمل أن يكون المراد قولهم للمعركة ابتعدي عنا ; المر الذي يكشف عمق خوفهم من قتال العدو،
كما يمكن أن يكون المراد أّنهم كانوا يخاطبون أنفسهم بهذه العبارة بغية السراع في البتعاد والعتزال .وما أشبه
ن ِمْنُكْم َوالقاِئِلـي َ
ن ل الُمَعـّوِقـي َ هذه الطائفة المنافقة بمنافقي عصر الرسالة الذين صورتهم سورة الحزابَ) :قْد َيْعَلُم ا ّ
عُيُنُهْمك َتُدوُر َأ ْن ِإَلْي َ
ظُرو َ ف َرَأْيَتُهْم َيْن ُ
خْو ُ
عَلْيُكْم َفِإذا جاَء ال َ
حًة َ شّ ل * َأ ِل َقِلـي ً
س ِإ ّ
ن الَبْأ َخواِنـِهْم َهُلّم ِإَلْينا َول َيْأُتو َ
لِْ
طا ّ
ل حَب َك َلْم ُيـْؤِمُنوا َفَأ ْخْيِر ُأولـِئ َعلى ال َ حًة َ
شّحداد َأ ِ
سَنة ِ سَلُقوُكْم ِبَأْل ِ
ف َ خْو ُ
ب ال َ ت َفِإذا َذَه َن الَمْو ِ عَلْيِه ِم َ
َكاّلِذي ُيْغشى َ
» .2حيدي حياد« :صيغة فعل أمر من مادة »حيود« كنزال بمعنى أنزل ،وهى كلمة يقولها الهارب عند الفرار والكتمان تأكيد لحداهما
الخرى حيث تعني الميل والنحراف عن الشيء.
] [ 139
سـيرًا() .(1لقد كانت هناك عّدة معدودة على هذه الشاكلة على عهد النبي )صلى ال ل َي ِ
على ا ّ
ك َ
ن ذ ِل َ
عماَلُهْم َوكا َ
َأ ْ
ن الكثرية الساحقة لهل الكوفة ـ التي كانت تمثل جيش المام )عليه السلم( ـ عليه وآله( ،غير أّنه من المؤسف أ ّ
ن هذه
كانت كذلك .ثم قال )عليه السلم(» :ما عزت دعوة من دعاكم ،ول استراح قلب من قاساكم« يبدون أ ّ
ن المام )عليه السلم(لم يكتف بالموعظة العبارة تشكل ردًا على أولئك الذين يشكلون على مثل هذه الخطب في أ ّ
ول يمارس الضغوط من أجل حشدهم للجهاد ; المر المتعارف لدى الحكام في كافة أرجاء المعمورة؟
فالمام )عليه السلم( يقول :لو تركتكم وحالكم أحرارًا ودعوتكم للجهاد لم تلبوا دعوتي ،ولو شددت عليكم في هذه
ل إلبًا لعدائكم على أوليائكم.
الدعوة فأنتم كذلك ،وما ذلك منكم بعجيب فأنتم أفراد ضعاف النفس والرادة ولستم إ ّ
وقد أثبت التأريخ أن هؤلء الفراد أصبحوا جنودًا مجندة لبني أمية ومن كان على شاكلة ابن زياد والحجاج إثر
خشيتهم من التهديدات التي تطيل أموالهم وأعراضهم ،ولكن ليس لحكام العدل ول سيما علي )عليه السلم( من
اتباع هذا السلوب في تعبئة الفراد .ثم قال )عليه السلم(»أعاليل بأضاليل) «(2كل ذلك قعودًا عن الجهاد ودفعًا
بي إلى تأخيره ،كالمدين الذي يناشد الدائن تمديد الجل »وسألتموني التطويل دفاع ذي الدين المطول« نعم هذا هو
حال الفراد الضعاف من أهل المزاعم والدعاءات دون الفعال ،ليس لهم من هم سوى خلق العذار والتشبث
بالذرائع من أجل التهرب من المسؤولية ،القرآن من جانبه صور حالة المنافقين على عهد النبي )صلى ال عليه
وآله(الذين كانوا يحاولون بشتى الطرق التملص من خوض القتال فعزى ذلك إلى حبهم للدنيا وإيثارها على
حياِة الّدْنيا ِم َ
ن ضـيُتْم ِبال َ
ض َأَر ِ
لر ِ
ل اّثـاقْلُتْم ِإلى ا َ
لا ّ
سِبـي ِ
ل َلُكُم اْنِفُروا ِفي َ
ن آَمُنوا ما َلُكْم ِإذا ِقـي َ
الخرة )يا َأ ّيها اّلِذي َ
ل((3). ل َقِلـي ٌ
خَرِة ِإ ّ
حياِة الّدْنيا ِفي ال ِ ع ال َخَرِة َفما َمتا ُ
ال ِ
» .2أعاليل« جمع اعلولة ،ما يتعلل به و»أضاليل« جمع اضلولة بمعنى أسباب الضللة ،أي انكم تتشبثون بأسباب واهية من أجل
إضلل أنفسكم والخرين.
] [ 140
هنالك سؤال يطرح نفسه وهو :لم كل هذا الضعف الذي ساد أهل الكوفة مع وجود ذلك المام العادل والحكيم
المعروف والمجرب في ساحات الوغى ،في حين كان أهل الشام أكثر قوة وفاعلية منهم والحال كان حاكمهم
ن الجواب على هذا السؤال كما أشرنا سابقًا يكمن في اللية الجتماعية التي كانت عليها الناس معاوية؟ ويبدو أ ّ
آنذاك .فالكوفة لم تكن تتمتع بسابقة تأريخية تذكر ،بل كانت منطقة حديثة ضمت أقوامًا مختلفة ذات ثقافات
متنوعة ،عاشت حالة من التنافس الظاهري والباطني ،خلفًا لهل الشام الذين كانوا يتمتعون بالوحدة واللحمة.
ن أغلب خصوم الدعوة من منافقي المدينة وسائر المناطق كانوا قد اتجهوا صوب الكوفة وأخذوا أضف إلى ذلك فا ّ
يمارسون دعاياتهم المغرضة التي تهدف إلى شق الصفوف وزرع بذور الفرقة والختلف في صفوف أهل
الكوفة ،إلى جانب العمل على إضعافهم في مجابهة العدو .من جانب آخر فان الفّتوحات السلمية آنذاك قد جرت
ثروات طائلة ،ول يخفى أن طبيعة الثروة إّنما تختزن الدعة والرفاه والعافية ; الطبيعة التي ل تنسجم وروح القتال
والجهاد.
ومن هنا كان أهل الكوفة يقتنصون العذار التي تمكنهم من أداء وظيفتهم الجهادية حتى في أحلك الظروف التي
ن الّمة كانت
شنت عليهم الغارات وجرعوا فيها غصص الذل والهوان من قبل بني أمية وجيوش الشام .نعم إ ّ
تلهث وراء الحكام الذين عبثوا ببيت المال وأغدقوا مافيه على الرعية ،ولم يكن أمير المؤمنين )عليه السلم(
لخرى التي ساقها مستعدًا للتفريط بصاع من بيت مال المسلمين لقرب المقربين كائنًا من كان .وهذه هى العلة ا ُ
أمير المؤمنين في كشفه النقاب عن روحية الّمة »وإّني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم ولكني ل أرى صلحكم
بافساد نفسي«).(1
—–
] [ 141
القسم الثاني
—–
الشرح والتفسير
أشار المام )عليه السلم( إلى ركن مهم في الحياة النسانية فقال »ل يمنع الضيم) (1الذليل ،ول يدرك الحق إلّ
بالجد« ما أجدر أن تكتب هذه العبارة بماء الذهب وتتلى صباح مساء في أفنية مستضعفي العالم حتى تصبح جزءًا
من ثقافتهم وتترسخ في أعماقهم .نعم إن الطغاة جرعوا الذلء والعجزة صنوف العذاب والظلم والضطهاد ولم
ينصفوهم ويمنحوهم حقوقهم ،فالحق يؤخذ بالقوة إستنادًا لمعاني العمل والسعي الدؤوب والثرة وحمل السلح
وخوض غمار القتال ،فالطغاة الجبابرة ل يفهمون سوى لغة الحديد والنار ولبّد من مجابهتهم بالقوة .ويبدو أ ّ
ن
طبيعة العالم كذلك في أن سبيل بلوغ الهداف العليا المادية والمعنوية إّنما عبد بالمطبات والعقبات الكؤود ،ول
يظفر بهذه الهداف من لم يقاوم هذه العقبات .ثم يقطع المام )عليه السلم( كافة العذار على هؤلء فيخاطبهم
ماذا تنتظرون ،وعن أي دار تدافعون ،ومع من تقاتلون وأنا بين أظهركم »أي دار بعد داركم تمنعون ومع أي إمام
بعدي تقاتلون؟« .نعم لن يسعكم الدفاع عن أي دار طالما تخاذلتم في الدفاع عن داركم بصفتها دار السلم ،وإذا
لم تلتحقوا بي في القتال
] [ 142
فلن يسعكم القتال مع أي أحد بعدي .وعليه فليس أمامكم سوى السر والعبودية للعدو فيسلبوكم الرادة والختيار ـ
ن المام )عليه السلم( أراد حثهم على القتال من خلل بعض المعاني التي تثير في نفوسهم الحميةفالواقع هو أ ّ
والغيرة ،فالوطن ل يسلم دون الدفاع عنه ،وإن كانت لهم أدنى رابطة بإمامهم فهم مطالبون بالقتال فما عسى أن
يكون المام من بعده والذي يسعهم القتال معه .ثم يخلص المام )عليه السلم( إلى عدم إمكانية خوض القتال بمثل
هذه العناصر الضعيفة الهزيلة التي فقدت مقومات المقاومة والثبات »المغرور ـ وال ـ من غررتموه«).(1
فالمحتال الخادع قد يتلعب ببعض ممتلكات الناس ويمّد يده إلى بعض حاجاتهم ،أما أنتم فقد سلبتموني كل شيء
وقد وليتم ظهوركم للعدل والطهر والتقوى والعزة والرفعة فضيعتم حقوق المسلمين ولسيما المستضعفين
ن مساعدتكم
والمحرومين .ثم قال )عليه السلم(» :ومن فاز بكم ،فقد فاز ـ وال ـ بالسهم الخيب«) .(2إشارة إلى أ ّ
ونصرتكم ليست بشيء ،ومن يعتمد عليكم كمن يشترك في اقتراح ل تنطوي نتيجته سوى على الخسران.
.1ان تقديم المغمور ـ الخبر للمبتدأ ـ يفيد الحصر ،أي المغرور الواقعي هو هذا الفرد.
] [ 143
تكمن في غصبهم لحقوق الخرين ،وعليه فل تعنى إعادة هذه الحقوق المغتصبة سوى تجريدهم من هذه القوة ;
المر الذي لن يحدث قط .وهنا يحث المام )عليه السلم(كافة المحرومين والمستضعفين على الوحدة ورص
الصفوف لستعادة حقوقهم السليبة من الظلمة والطواغيت وأّنهم غالبون ل محالة ،فالطغاة ليسوا مستعدين
للتضحية ،بينما يضحي المستضعفون بالغالي والنفيس من أجل إحقاق حقوقهم .طبعًا ملئت الدنيا اليوم بالشعارات
ن التجربة أثبتت بالدلة القاطعة أن هذه التي تتبنى حقوق النسان وتطالب بإعادة حقوق المحرومين ،غير أ ّ
الشعارات لتعد كونها مصائد تهدف اغفال الطبقات المسحوقة والمعدمة والستسلم إلى ارادة القوياء ; المر
ن الحق يؤخذ ول يعطى .فالمؤمنون ل يسعهم الوقوف مكتوفي اليدي حيال الظالمين الذين يتلعبون الذي يثبت أ ّ
بمقدراتهم .وعليهم أن يتعلموا الدروس والعبر التي لّقنها المام الحسين )عليه السلم( البشرية جمعاء في الصبر
ن الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلة والذلة! والتضحية والفداء ،فما زالت صرخاته تدوي في السماع »أل وإ ّ
وهيهات له ذلك! هيهات مني الذلة! أبي ال لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحدود طهرت وحجور طابت ،أن نؤثر
طاعة اللئام على مصارع الكرام«) .(1كما أكد القرآن الكريم على جانب الصبر والصمود والمقاومة لدى
ن َقْبِلُكْم
خَلْوا ِم ْ
ن َل اّلِذي َ
جّنَة َوَلّما َيْأِتُكْم َمَث ُ
خُلوا ال َ
ن َتْد ُ
سْبُتْم َأ ْ
حِالمؤمنين ،ومن ذلك الية 214من سورة البقرة )َأْم َ
ب(. ل َقِري ٌ صَر ا ّن َن ْ ل َأل ِإ ّصُر ا ّ ن آَمُنوا َمعَُه َمتى َن ْ ل َواّلِذي َسو ُل الّر ُ
حّتى َيُقو َ
ضـّراء َوُزْلِزُلوا َ
سْتُهُم الَبْأساُء َوال ّ
َم ّ
وهى الحقيقة التي نلمسها بوضوح في كافة الغزوات السلمية من قبيل بدر وأحد والحزاب وتبوك وحنين ،التي
ن المداد الغيبي والعناية لأّ ن النصر من عند ال ،إ ّ كان ينتصر فيها المسلمون بسلح اليمان والصبر ،صحيح أ ّ
اللهية كانت مكملة للسباب الظاهرية والعدة والعدد التي كان عليها المسلمون .فهذا أحد القوانين التأريخية
الثابتة ،فل يقتصر على صحب النبي)صلى ال عليه وآله( والمام الحسين)عليه السلم( ،كما ليرتبط بالمس
واليوم ،بل يشمل المستقبل كالماضي على حد سواء.
] [ 144
لقد لجأ المام علي )عليه السلم( إلى مختلف الساليب من أجل إثارة مشاعر أهل الكوفة وتعبئتهم لقتال العدو،
ومن ذلك تأكيده على مسألة الدفاع عن الوطن »أي دار بعد داركم تمنعون« ؟ في إشارة واضحة إلى علقة كل
فرد بوطنه وأّنه يهب للدفاع عن هذا الوطن إذا تعرض للخطر مهما كانت المدرسة والفكرة التي يؤمن بها وينتمي
ن هذه الروح هى الخرى قد ماتت فيهم .وهنا يبرز هذا السؤال :هل حرمة الوطن في ن المؤسف له أ ّلأّإليها ،إ ّ
السلم بصفته يمثل دار السلم أم هناك شيء آخر ؟ أي البلد السلمي يكتسب حرمته كونه بلدًا إسلميًا ،أم
هناك حرمة ذاتية لكل بلد بحيث تتضاعف هذه الحرمة لو أصبح جزءًا من دار السلم ؟ يمكن العثور على أجوبة
هذه السئلة في اليات القرآنية والروايات السلمية ; المر الذي يؤكده العقل أيضًا .فقد توالت اليات التي ذهبت
ن الخراج من الوطن إّنما يضاد القيم النسانية ; المر الذي يعني حرمة الوطن الذاتية ،وهذا ما نلمسه إلى أ ّ
ن َوَلْم
ن َلْم ُيقاِتُلوُكْم ِفي الّدي ِن اّلِذي َ
عِل َبوضوح في اليات القرآنية الثامنة والتاسعة من سورة الممتحنة )ل َيْنهاُكُم ا ّ
ن قاَتُلوُكْم ِفي
ن اّلِذي َ
عِ ل َن * ِإّنما َيْنهاُكُم ا ّ طـي َسِ ب الُمْق ِ
ح ّ ل ُي ِ
نا ّ طوا ِإَلْيِهْم ِإ ّ
سُن َتَبّروُهْم َوُتْق ِ
ن ِدياِرُكْم َأ ْ
جوُكْم ِم ْ خِر ُ
ُي ْ
ن( فقد اعتبرت ظالُمو َ ن َتَوّلْوُهْم َوَمنْ َيَتَوّلُهْم َفُأولـِئك َ ُهُم ال ّ
جُكْم َأ ْ
خرا ِ على ِإ ْ ن ِدياِرُكْم َوظاَهُروا َ جوُكْم ِم ْخَر ُن َوَأ ْالّدي ِ
اليتين الكريمتين الخراج من الوطن بمثابة المقاتلة في الدين ،المر الذي يؤكد قيمة الوطن كما صرحت بذلك
ن ِدياِرناجنا ِم ْخِر ْل َوَقْد ُأ ْ
لا ّ سِبـي ِ
ل ِفي َ ل ُنقاِت َ
الية 246من سورة البقرة على لسان بني اسرائيل )قاُلوا َوما َلنا َأ ّ
ن دافعهم الجهادي إلى جانب حفظ الدين ينطوي على انقاذ الوطن ،وقد أقر نبّيهم هذا َوَأْبناِئنا( فهى تدل على أ ّ
لخرى الواردة بهذا المجال إلى محلها. الدافع دون أن يعترض عليه ،ونوكل الحديث في اليات ا ُ
] [ 145
وورد في الحديث عن علي )عليه السلم(» :عمرت البلدان بحب الوطان«) (1وقال أيضًا »من كرم المرء بكائه
على ما مضى من زمانه وحنينه إلى أوطانه«).(2
ب الوطن من اليمان«).(3
وجاء في الحديث المعروف »ح ّ
ب الوطن والتعلق به يستند إلى جذور قرآنية ونبوية إلى جانب تأييد العقل والمنطق .ال اننح ّ فالذي نخلص إليه أ ّ
هذا ل يعني تعلق الفرد بوطنه بصورة مطلقة بحيث ل يتركه طلب العلم والتكامل ونيل المنافع المعنوية والقيم
اللهية ومن هنا ورد الحديث عن علي )عليه السلم(» :ليس بلد بأحق بك من بلد ،خير البلد ما حملك«).(4
وأخيرًا فان الوطن يكتسب قيمة مضاعفة إذا ما انضمت إليه الجوانب المعنوية علوة على الجوانب المادية،
فيصبح دار السلم ،فيهب الفرد بكل ما أوتي من قوة للدفاع عنه والذود عن كيانه.
—–
] [ 146
] [ 147
القسم الثالث
طّبُكْم؟ اْلَقْوُم
عُد اْلَعُدّو ِبُكْم .ما باُلُكْم؟ ما َدواُؤُكْم؟ ما ِ
صِرُكْمَ ،ول ُأو ِ
طَمُع ِفي َن ْ
ق َقْوَلُكْمَ ،ول َأ ْ
صّد ُ
ل ل ُأ َ ت َوا ّ ح ُ صَب ْ
»َأ ْ
ق؟« حّ غْيِر َطَمعًا ِفي َ غْيِر َوَرع؟! َو َن َغْفلًة ِم ْ
عْلم؟ َو َِرجاٌل َأْمثاُلُكْم َأَقْوًل ِبَغْيِر ِ
—–
الشرح والتفسير
اليأس من القوم
يختتم المام)عليه السلم( هذه الخطبة ـ التي تعّد من الخطب الليمة للمام )عليه السلم( بمعاودة ذم ُاولئك القوم
لّمة
ل فيعبئوا أنفسهم ويستغلوا إمكاناتهم ويهبوا للقاء عّدوهم فيريحوا ا ُ
الذين ماتت أرواحهم علهم يفيقون قلي ً
السلمية من شر أهل الشام الذين يمثلون حثالت زمان الجاهلية ،فقد قال )عليه السلم(َ» :اصبحت وال ل
أصدق قولكم ،ول أطمع في نصركم ،ول أوعد العدو بكم«.
ل أّنها تشير إلى مدى عمق المشاكل التي إستنزفت ـ فالعبارة وإن كانت تصور الوضاع المزرية لهل الكوفة ،إ ّ
أميرالمؤمنين علي )عليه السلم( في ذلك الزمان ،فقد كان محقًا في اعلنه عدم الوثوق بهم ،فقد خالفوا كرارًا
وعودهم ونقضوا محارم عهودهم ونكثوا بيعتهم.
لم يكونوا يحسنون سوى الكلم في المجالس وإطلق الشعارات الرنانة والكلمات
] [ 148
الحساسة ،فاذا دقت ساعة القتال ولوا زحفًا إلى مخادعهم وهربروا هرب الشاة من الذئب.
ثم قال)عليه السلم(» :ما بالكم؟ مادواؤكم؟ ماطبكم؟ القوم رجال أمثالكم«.
ن أهل الشام خلقوا من غير طينتكم ،أم لهم بقية جسمية وروحية تختلف عنكم؟ كل.
أو تعتقدون أ ّ
ل أنكم لستم كذلك رعتم النعمة العظيمة التي من ال بها عليكم بان جعل
فهم يعملون ماذا يلزمهم من أجل القتال ،إ ّ
ل مقتدرًا ...لقد أرعبتكم إمكاناتهم حتى انتهى بكم ذلك إلى الذل والهوان.
لكم إمامًا عاد ً
نعم دواؤهم كان فيهم كما ورد ذلك في الشعر الذي يتسب إلى المام)عليه السلم(:
أجل هذه هى العناصر التي تقف وراء بؤسكم وتعاستكم ،فأنتم ترسلون الكلم على عواهته دون أن تستندوا إلى
علم أو معرفته ،ثم وليتم ظهوركم للورع والتقوى وانهمكتم في الدنيا وغفلتم عن الخرة ،وأخيرا فاّنكم تحلمون
بالنصر دون أن تعدوا له عّدته.
هذه هى العوامل الثلث )القول دون العمل والجهل المشوب بعدم التقوى والمل بالنصر دون إعداد مقدماته( التي
تهدد بالفشل والهزيمة كل أّمة وقوم.
لشك أن جيش المام )عليه السلم( وبفضل زعيمه الرباني المعروف بالجهاد والشجاعة في ميدان الحرب كان
ل أّنه وللسف قد شهد حالة من الضعف سلبته زمام يمتلك كافة أسباب النتصار على العدو من جميع النواحي ،إ ّ
ب في أّمة فاّنها لن تنتظر مصيرًا
المبادرة وزعزعت عوامل النصر ،والمفروغ منه ان ذلك الضعف والوهن إذا د ّ
أحسن من ذلك المصير الذي ساد جيش الكوفة.
] [ 149
وقد أشار المام )عليه السلم( في هذه الخطبة التي نحن بصدرها إلى عناصر هذا الضعف والتي كان في مقدمتها
تركهم للعمل وتمسكهم بالقول.
فقد كانت مجالسهم عامرة بالكلم ول سيما عن القتال والحرب دون أن يعدوا العدة اللزمة و يأخذوا للحرب
اهبتها ،يكثرون من الكلم خلف الجبهات دون أن يجرأ أحدهم على القتراب من الخطوط المامية.
ن قدرة الفراد الضعاف العجزة تتركز عادة في القوال والمزاعم ،ولعل المام )عليه السلم(أشار إلى هذا وكأ ّ
ل بغير علم؟« سواء كان هذا العلم يعني المعرفة أو العتقاد أو العمل ،فالنتيجة واحدة لكل من
المعنى بقوله» :أقوا ً
ن المعرفة بالشىء والعتقاد به تدعو إلى العمل ،أما ضعف العمل فانما يستند إلى عدم هذه التفاسير الثلثة ،ل ّ
المعرفة والعتقاد ،المر الذي صرح به المام )عليه السلم( بقوله »العلم مقرون بالعمل ،فمن علم عمل«)(1
لّمة بالفطنة
إّنما يؤدي إلى إختراق الصفوف من قبل العدو ،في حين ل تصيب سهام هذا العدو اذا ما تحلت ا ُ
ل من الغفلة والتحلل من الورع والتقوى.
والذكاء المشوب بالتقوى بد ً
والعامل الخير هو الطمع في ما ل يستحقون ،أو بعبارة ُاخرى الطمع في الشىء دون توفير أسبابه.
فقانون العلة والمعلول إلى جانب الرادة اللهية هى التي تحكم الوجود برمته ،وإن ظن بعض الجهال بيعض
الوهام والخيالت والمعادلت الساذجة كمقدمة لتحقيق الهداف.
وقوله)عليه السلم( »طمعًا في غير حق« يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى ،فاّنهم كانوا يطمعون في شئ
ن المراد بهذه العبارة أّنهم كانوا يطمعون بالمزيد من
ن بعض شّراح نهج البلغة ذهبوا إلى أ ّ
لأّ
ليستحقونه ،إ ّ
عطائهم في بيت المال ،ويتمنون على المام )عليه السلم( أن يعطيهم من بيت
المال أكثر من إستحقاقهم ،فلما لم يلب المام )عليه السلم(طلبهم غير المشروع صابهم الضعف والوهن في
القتال.
ومن الطبيعي أن يكون هذا التفكير المادي أينما كان عامل من عوامل الفشل والهزيمة ،كما فشل الجيش
السلمي في معركة ُاحد إثر انهماك الجنود في جمع الغنائم واهتمامهم بالجوانب المادية في ذلك الميدان الجهادي
العظيم.
ن هذه العوامل التي تؤدي إلى الهزيمة والفشل لتقتصر على جيش الكوفة فحسب ،بل تهدد
على كل حال فا ّ
بالفشل كافة الجيوش على مدى الدهور والعصور وأخيرًا فالخطبة تصور مدى لوعة المام)عليه السلم(.
وذروة إستيائه ،وهى كافية في توضيح عمق الظروف العصيبة التي عاشها المام)عليه السلم(.
—–
] [ 151
الخطبة)30 (1
في معنى قتل عثمان وهو حكم له على عثمان وعليه وعلى الناس بما فعلوا وبراءة له من دمه.
ن الراء قد اختلفت في قتل عثمان ،فهناك من ذهب إلى تقصير عثمان وأّنه كان مستحقًا للقتل; فقد سلط نعلم بأ ّ
بطانته على بيت المال وأغدق عليهم المناصب الحساسة في الحكومة ،حتى قام الناس ضده دون أن يهب أحد من
المسلمين لنجدته فكان الجميع راضيًا بقتله.
بينما هناك من يعتقد بعدم صوابية قتله وكان ينبغي أن يمنح فرصة التوبة ليتدارك بعدها ما فرط منه ،وإن كان
ن قتله أصبح ذريعة
ولبّد يخلعونه من الخلفة ،أّما قتله بتلك الصورة العلنية إّنما هو بدعة ،أضف إلى ذلك فا ّ
للمنافقين من أجل بث الفرقة والشقاق في صفوف المسلمين.
و أخيرًا هناك طائفة ضيقة النظر ممن ل تكلف نفسها عناء التحقيق والتفكير في سيرة
.1جاء في مصادر نهج البلغه أن هذه الخطبة جزء من رسالة كتبها المام)عليه السلم(حين خلفته ،ثم ضمنها الحوادث التي
أعقبت وفاة رسول ال )صلى ال عليه وآله( ثم أمر )عليه السلم(بقراءتها على الناس من أجل وحدة الرأي العام بهذا الشأن ،كما
احتمل أن تكون الخطب 26،54،78هى اُلخرى جزء من هذه الرسالة.
ن هذه الخطبة وردت مع بعض التغييرات في كتاب أنساب الشراف )مصادر نهج البلغه.(408 / 1 ،
ثم صرح با ّ
] [ 152
الخليفة الثالث تراه الخليفة المظلموم الذي قتل شهيدًا ،كما تنزه ساحته من كل نقص وعيب.
المام )عليه السلم( من جانبه وفي خضم هذه الراء المتضاربة يكشف النقاب عن الحقيقة ويعرض بالتحليل
للمسائل المرتبطة بقتل عثمان.
—–
] [ 153
ن َأناخَذَلُه مَ ْ
ن َيُقوَلَ » : طيُع َأ ْ سَت ِ
صَرُه ،ل َي ْ
ن َن َ
ن َم ْغْيَر َأ ّ
صرًاَ ، ت نا ِعْنُهَ ،لُكْن ُ
ت َ ل َأْو َنَهْي ُ
ت قاِت ً ت ِبِه َلُكْن ُ»َلْو َأَمْر ُ
ساَءسَتْأَثَر َفَأ َ
خْيٌر ِمّني« َوَأنا جاِمٌع َلُكْم َأْمَرُه ،ا ْن ُهَو َ صَرُه َم ْن َيُقوَلَ» :ن َ طيُع َأ ْ
سَت ِخَذَلُه ،ل َي ْ ن َ خْيٌر ِمْنُه« َوَم ْ َ
ع«.
جاِز ِ
سَتْأِثِر َواْل َ
حْكٌم َواِقٌع ِفي اْلُم ْ
ل ُ ع َو ِّجَز َسْأُتُم اْل َ
عُتْم َفَأ َ
جِز ْاَْلَثَرَةَ ،و َ
—–
الشرح والتفسير
كما ذكر في بداية الخطبة فاّنها تعالج قضية قتل عثمان والتعرض إلى العوامل التي دفعت إلى هذا القتل .فكلنا
ن سوء تدبير عثمان نعلم بان لقتل عثمان جذور معلومة نابعة من طبيعة أعماله وأفعاله ،فقد أجمع المحققون على أ ّ
في ادارة دفة الحكم وتبديل الحكومة بموروث قبلي والتطاول على بيت المال والظلم والضطهاد الذي مارسه
أقربائه وبطانته بحق الناس قد أدى إلى غضب عام حتى انبرت طائفة مؤلفة من بضعة مئات لتحاصره في داره
وتهجم عليه وتقتله ،وقد وقف ذلك الجيش الجرار الذي فتح مصر وبلد الروم متفرجًا دون أن يحرك ساكنا; فقد
ن الناس إنقسموا طائفتين بعد قتله:
كان ذلك الجيش ساخطًا عليه ويرى ضرورة قتله ،غير أ ّ
طائفة ـ لعلها كانت تشكل الكثرية ـ كانت راضية بهذا القتل أو على القل غير مكترثة له بينما ترى الطائفة
الثانية أّنه قتل مظلومًا.
وفي ظل هذه الظروف إنتهز المنافقون الفرصة لبث بذور الفرقة في صفوف المسلمين وحرف مسير الخلفة عن
لّمة ـ واستغلوا قضية
محورها الصيل أمير المؤمنين علي)عليه السلم( ـ والذي كان يخطى بتاييد كافة أفراد ا ُ
قتل عثمان كذريعة لتحقيق أطماعهم ومآربهم ،وبعبارة ُاخرى فاّنهم أحالوا قميص عثمان إلى مناورة سياسية
لّمة وصدها عن الحق.هدفها إغفال ا ُ
] [ 154
ن أفراد من كل الطائفتين كانوا من ضمن صحب المام )عليه السلم( واتباعه ،وإن كانت الطائفة وبالطبع فا ّ
الثانية وعلى ضوء تصريحات بعضى المؤرخين تشكل القلية ،وعليه فمن الطبيعي أن تكثر هذه الطائفة من
سوالها لعلي )عليه السلم( عن قتل عثمان ،فلم يكن أمام المام )عليه السلم(من بد سوى الجابة التي تتضمن
عكس الحقائق التأريخية من جانبه وعدم منح هذا وذاك الفرصة بغية إستغللها ضد الدين.
فالخطية رد على مثل هذه السئلة الذي يتطرق فيه المام)عليه السلم( إلى بيان الحقائق التأريخية دون منح
ل ،أو نهيت عنه ،لكنت ناصرًا«.
العناصر الفاسدة الحجج والذرائع فقد قال )عليه السلم(»:لو أمرت به ،لكنت قات ً
فمفهوم هذه العبارة هى أني كنت محايدًا فلم ألطخ يدي بدمه ولم أدافع عن زلته ،فالمران ينطويان على محاذير.
و هنا يبرز هذا السؤال :كيف يمكن التوفيق بين مضمون هذه العبارة والوقائع التأريخية؟
ن المام )عليه السلم( نهى الناس عن قتل عثمان و قد بعثلنّنا نعلم جميعا )و قد ذكر ذلك أغلب المؤرخين( أ ّ
بالحسن والحسين )عليه السلم( إلى دار عثمان ليحول دون زحف المعترضين ،بل دخل عليه المام )عليه
السلم( بالماء حين منعوه منه .وقد أورد الشّراح جوابين على السؤال المذكور:
فقال البعض المراد من عدم النهي هو النهي العملي; أي أنني لم أشهر السيف عمليًا ولم أقتحم الميدان دفاعًا عنه،
وهذا ليتنافى ونهيه اللفظى )عليه السلم( وبعثه بالحسنين )عليه السلم( هناك.
ن هذا الكلم يفيد أن المام )عليه السلم( لم يأمر قط بقتل عثمان ،وإن كان يراه مستحقًابينما يرى البعض لخر أ ّ
للعقاب على أعماله ،وعليه وبغية عدم تردي الوضاع لسوأ مّما كانت عليه فقد دعا الناس إلى ضبط النفس
ل أّنه لم يفعل ما من شأنه توفير الدعم الصريح لعثمان وأعماله وما يدر منه; وذلك لّنه كماوالتخلي عن العنف ،إ ّ
ن توفير الدعم له والدفاع عن أعماله هو الخر يسبب أن سفك دمه يخلق بعض المشاكل في المجتمع السلمي ،فا ّ
ن المام )عليه السلم( لم ير في أي من المرين )المر بالقتل والنهي عنه( مشاكل لتقل عن سابقتها ،وعليه فا ّ
مّما تمليه عليه وظيفته السلمية.
و قد أراد المام )عليه السلم( أن يعلن موقفه الصريح ويحول دون تفاقم الخلفات بشأن قتل عثمان من قبل
الطائفتين التي تذهب إحداهما لضرورة قتله وتلك التي لتراه مستحقًا للقتل.
] [ 155
ثم قال )عليه السلم(»:غير أن من نصره ،ليستطيع أن يقول خذله من أنا خير منه ،ومن خذله ليستطيع أن يقول
نصره من هو خير مّني«،
فالشواهد التأريخية تفيد تواجد كبار صحابة رسول ال )صلى ال عليه وآله( من المهاجرين والنصار حين هجم
الناس على بيت عثمان ،ولو كانوا يرتضون عثمان وأعماله لحالوا دون وصول الناس إليه ،المر الذي يدل على
تخليهم عنه وعدم تقديم أي دعم أو إسناد له.
أّما الفراد الذين هبوا للدفاع عن عثمان آنذاك فقد كانوا يمثلون أراذل المجتمع السلمي ،و ما ذلك الدفاع إ ّ
ل
لمنافعهم اللمشروعة التي كانوا يحظون بها آنذاك.
ن حماة عثمان من أمثال مروان لم يجرأوا على الزعم أّنهم خير من
وعليه فقد كانت هذه المسألة واضحة في أ ّ
المهاجرين والنصار الذين لم يدعموا عثمان.
ومن المسلم به أن أولئك الذين تخلوا عن دعم عثمان لم يكونوا يرووا أن حاشية عثمان وبطانته أفضل منهم ،ومن
لّمة.
هنا فقد إتفقت الراء على أن حماة عثمان لم يكونوا من أخيار ا ُ
فالعبارة غاية في الروعة وقد أماطت اللثام عن أعمال عثمان بالشكل الذي أثار حفيظة كافة المسلمين.
ومن ذلك توزيعه أموال بيت المال على قرابته وبطانته وتسليطهم على رقاب الناس إلى جانب الظلم والجور
والضطهاد وتضييع العدل والقسط.
ن الفتنة
وقد صرح بعض شّراح نهج البلغة) (1بان الكلم هو رّد المام )عليه السلم( على من قال بحضرته أ ّ
لّمة على سفك دمه ،ولو رأى كبارمن ُاولئك الذين لم ينصروا عثمان ،فلو نصره كبار الصحابة لما إجترأ جهال ا ُ
لّمة.
الصحابة وجوب قتله لكان عليهم إعلن ذلك وإزالة الشبهات عن أذهان ا ُ
فعلم المام )عليه السلم( أنه المقصور بذلك الكلم ،فاورد هذه الكلمات.
] [ 156
ن المام )عليه السلم( إذا لم ينصر عثمان فانه لم يكن وحيدًا في هذا المر ،بل
ن الخطبة تبين أ ّ
على كل حال فا ّ
كان هذا موقف كبار الصحابة ،فلم الشكال على المام)عليه السلم(؟ ثم إختتم المام )عليه السلم(خطبته بتحليل
دقيق عن قتل عثمان ،فقال )عليه السلم(» :و أنا جامع لكم أمره ،استأثر) (1فأساء الثرة ،و جزعتم فأسأتم
الجزع ،ول حكم واقع في المستأثر والجازع«.
ن عبارات المام)عليه السلم( إتصفت بقلة اللفاظ وسعة المعاني، لقد صرح أحد الدباء العرب المشهورين بأ ّ
ن عثمان إرتكب خطًا جسيمًا وأنتم
فالعبارة على قّلة لفظها جامعة شاملة حيث أوضح المام)عليه السلم( فيها أ ّ
كذلك.
فقد انتهج اسلوب الستبداد والحكم الفردي وسلط بني ُامية على رقاب الناس وأغدق عليهم بيت المال فلما تعالت
أصوات المعارضة وقام المسلمون لم يعرهم آذانا صاغية ،فحاصروه وهجموا عليه فتركه كبار الصحابة من
ل من خلعه من الخلفة وطرد أزلمه ن الناس لم يكتفوا بهدا الحد ،وبد ً
النصار والمهاجرون ،من جانب آخر فا ّ
من مواقع الحكومة عمدوا إلى اراقة دمه فخلقوا فتنة إمتدت لسنوات في التأريخ السلمي ،إلى جانب استغللها
من جانب المنافقين الذين تذرعوا بالمطالبة بدم عثمان ليسفكوا كثيرا من الدماء.
كما يستفاد من العبارة أن الستبداد ـ رغم إّنه سيئ مهما كان ـ على أنواع بعضها أسوأ من البعضى الخر،
واستبداد عثمان كان من النوع الخير.
ن التعبير بالجزع عن الناس يشير إلى مدى الغضب والستياء الذي سيطر على الناس إثر العمال الشائنة
كما أ ّ
لعثمان وبطانته.
—–
» .1إستأثر« من مادة »اثر« ،بمعنى الستبداد كما صرح بذلك القاموس ومنه الحكومة الستبدادية لّنها حكومة فردية ،يستعبد فيها
الفرد سائر الناس.
] [ 157
الخطبة)31 (1
لما أنفذ عبد ال بن عباس إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل.
ق الّزَبْيَر
ن اْل َ
ب َوَيُقوُل »ُهَو الّذُلوُل« َوَلِك ِب الصّْع َ عاِقصًا َقْرَنُهَ ،يْرَك ُ
جْدُه َكالّثْوِر َ
ن َتْلَقُه َت ِ
ك ِإ ْ
حَةَ ،فِإّن َ
طْل َ
ن َ»ل َتْلَقَي ّ
عدا ِمّما َبدا««. ق َفما َ حجاِز َوَأْنَكْرَتِني ِباْلِعرا ِ عَرْفَتِني ِباْل ِ
كَ :
ن خاِل َك اْب ُ
عِريَكًة َفُقْل َلُهَ» :يُقوُل َل َ ن ََفِإّنُه َأْلَي ُ
—–
الشرح والتفسير
ن المعركة الولى التي فرضت على أمير المؤمنين )عليه السلم( كانت معركة الجمل ،حيث إتحد أنصار نعلم أ ّ
عثمان ومعارضيه بعد أن إصطحبوا معهم زوج رسول ال)صلى ال عليه وآله( عائشة فنقضوا البيعة واشعلوا
فتيل واقعة الجمل طمعًا في الخلفة.
ثم انتهت المعركة بهزيمتهم وقتل مؤججي تلك النار طلحة والزبير.
ن المام )عليه السلم( كان حريصًا على عدم وقوع القتال ليس في
وتفيد كافة الشواهد التاريخيه أ ّ
.1قال صاحب مصادر نهج البلغة نقل هذا الكلم طائفة من العلماء ممن سبقوا المرحوم السيد الرضي،منهم الزبير بن بكار )طبق
نقل ابن أبي الحديد والجاحظ (...وابن قتيبة في عيون الخبار وابن عبد رّبه في العقد الفريد.
والطريف ،نقله حتى إبن خلكان في وفيات العيان وشهد بصحته وهو من رفع راية مخالفة نهج البلغة .مصادر نهج البلغة / 1
.418
] [ 158
الجمل فحسب ،بل في صفين والنهروان ،وكان يسعى جاهدا لطفاء نار الحرب.
والخطبة التي نحن بصددها تعد أحد تلك الشواهد ،فقد بعث المام )عليه السلم( قبل نشوب القتال برسوله عبد ال
بن عباس إلى الزبير بهذه الكلمات ،فأثرت عليه وانسحب من المعركة ،حتى أدركه إبن جرموز في صحراء
البصرة فقتله.
فقد خاطب المام )عليه السلم( ابن عباس قائل»:لتلقين طلحة فانك إن تلقه تجده كالثور عاقصًا) (1قرنه ،يركب
الصعب ويقول:هو الذلول«.
تشبيهه لطلحة بالثور الذي يعقص قرنه إما أن يكون أراد به طغيانه وسوء خلقه ،أو عدم سماعه للحق بفعل
طاعته لهوى نفسه.
ل فانسعاب منن العبارة تفيد تحليله لنفسية طلحة ويأسه من تأثير الكلم فيه بشأن الكف عن القتال وإ ّ
فالواقع أ ّ
ن المام )عليه السلم( كان محقا في أمله(
ل أّنه لم يقطع أمله من الزبير )و قد دلت الحوادث اللحقة أ ّ
المعركة ،إ ّ
فأضاف )عليه السلم( قائل»:ولكن الق الزبير فاّنه ألين عريكة«(2).
فالعبارة»:ألين عريكة« واستنادا إلى »عريكة« التي تعني الطبيعة ،تفيد تسليم الزبير للحق إذا سمعه ،ول سيما إذا
كان قد صدر من رسول ال )صلى ال عليه وآله( ،على العكس من طلحة الذي كان يتصف بالنانية واللجاجة
ب الجاه والمقام الذي أعمى بصره وبصيرته وأصم سمعه عن سماع الحق. والطغوى وح ّ
على كل حال قال المام )عليه السلم( لبن عباس» :فقل له يقول لك ابن خالك :عرفتني بالحجاز وأنكرتني
بالعراق؟ فما عدا مّما بدأ؟«.
» .2عريكة« من مادة »عرك« بمعنى الطبيعة ،ولين العريكة بمعنى السلس ،كما تأتى بمعنى إشتباك الشئ ومن هنا إطلقت المعركة
على إشتباك الفراد.
] [ 159
فالعبارة إشارة إلى التأريخ الجهادي العظيم للمام علي )عليه السلم( على عهد النبي)صلى ال عليه وآله( والذي
لم يكن خافيًا على أحد بما فيهم الزبير الذي كان يقاتل إلى جانب رسول ال )صلى ال عليه وآله(.
فقيل لها :ل بأس عليه منه ،إّنه حاسر والزبير دارع.
فقال له)عليه السلم( :ما حملك يا أبا عبدال على ما صنعت؟ قال :أطلب بدم عثمان ،قال :أنت وطلحة وليتماه،
وإّنما نوبتك من ذلك أن تقيد به نفسك وتسلمها إلى ورثته ،ثم قال له :نشدتك ال أتذكر يوم مررت بي ورسول ال
ى وضحك في وجهي، )صلى ال عليه وآله( متكي على يدك ،وهو جاء من بني عمرو بن عوف ،فسلم عل ّ
فضحكت إليه ،لم أزده على ذلك ،فقلت :ل يترك ابن أبي طالب يا رسول ال زهوه!
فقال لك »مه إنه ليس بذي زهو ،أما إّنك ستقاتله وأنت له ظالم«
فقال الزبير :إنا ل وإنا إليه راجعون ،لقد كان كذلك ،ولكن الدهر أنسانيه ،ولنصرفن عنك .فانصرف من
المعركة).(1
فالعبارة السابقة قد تكون إشارة إلى هذا المر .جدير بالذكر أن الزبير كان من محبي علي)عليه السلم( وقد هب
للدفاع عنه حتى في حادثة السقيفة وشهر سيفه ،فقام له القوم وكسروا سيفه ،إلى جانب ذلك فقد منح رأيه لعلي
)عليه السلم( في الشورى التي شكلها عمر لنتخاب الخليفة من بعده.
على كل حال فان هذه العبارة أثرت في الزبير وكان شكه يتزايد يومًا بعد آخر.
بمشروعية الطريق الذي سلكه حتى إتخذ قراره باعتزال القتال فاتجة الصحراء ليكمن له أحد الظلمة ـ ابن
ل ولم يسعه تدارك ما فرط منه.
جرموز ـ فارداه قتي ً
أّما قوله )عليه السلم(» :ابن خالك« فهو تعبير لطيف جدا ،وهو من باب الستمالة والذكار بالنسب والرحم ،فقد
كان الزبير ابن صفية أخت أبي طالب ،وعليه فالزبير ابن عمة علي )عليه السلم( وعلي)عليه السلم(ابن خاله.
] [ 160
لمور التي سمعها الزبير من رسول ال )صلى ال عليه وآله(بشأن علي )عليه والعبارة تهدف إلى بيان كافة ا ُ
ن حب الجاه ـ الذي كان الدافع الرئيسي لحرب الجمل ـ كالحجاب
لأّالسلم(ومن هنا فقد كان شديد الحب لعلي ،إ ّ
الذي حال دون رويته لتلك الحقائق ،فكان لهذه العبارة فعلها في نفسه حيث أزالت عنه ذلك الحجاب وجعلته يعود
إلى الحق.
قال المرحوم السيد الرضي في ذيل هذه الخطبة»:وهو عليه السلم أول من سمعت منه هذه الثلمة; أعني فما عدا
مّما بدا«.
وهى عبارة بعيدة المعنى ،تشير إلى مسألة وهى :ما الذي صرفك عن الحق بعد أن اتضح لديك إلى الباطل).(1
ل في الدب العربي.
والعبارة من الروعة واللطافة بحيث أصبحت مث ً
تأّملت
ن ابن عباس قال :حين أبلغت الزبير رسالة المام )عليه السلم(أجابني :قل لعلي )عليه
ورد في بعض الروايات أ ّ
السلم( إني ُاريد ما تريد(2).
ن عليًا)عليه السلم(
ب الجاه درجة جعلته يعتقد بأ ّ
أي إّنك تبتغي الحكومة ،فلم ل أطلبها أنا .فقد بلغ به الطمع وح ّ
ن الزبير لم يستطع الوقوف بوجه الحق ،فما كان منه إّنما نهض بالمر طلبًا للحكومة ـ ولكن وكما أوردنا سابقًا فا ّ
ن إعتزل القتال وانصرف وإن كانت خطوته متأخرة. لأّ إّ
» .1عدا« به معنى الصرف والعادة ،وفاعله ضمير مستتر يعود إلى ما ،ويحتمل أن تكون من في مّما بمعنى عن ،و بدا من مادة
بدو بمعنى الظهور.
] [ 161
فقال له رسول ال )صلى ال عليه وآله( :لك سهمك وأجرك .وقيل آخى رسول ال )صلى ال عليه وآله(في مكة
ن النبي )صلى ال عليهبين طلحة و الزبير ،وآخى بين طلحه وأبي أيوب في المدينة .وروي عن طلحة أ ّ
وآله(أسماه يوم أحد طلحة الخير .أّما قتاله مع رسول ال )صلى ال عليه وآله( في حرو به فمما ل شك فيه مع
ذلك فقد كان محبًا للجاه و المقام حتى تغيير نهجه بعد وفاة رسول ال )صلى ال عليه وآله( ،كما كانت تسمع منه
ن رسول ال )صلى ال عليه وآله( يأمر بنات أعمامنا بالحتجاب منا ،ويتزوج بعض الكلمات ومن ذلك قوله أ ّ
بنسائنا بعد إنفصالهن عنا :فما الذي يغنيه حجابهن اليوم وسيموت غدا فننكحهن ،وهنا نزلت آية التحريم بالزواج
من نساء النبي )صلى ال عليه وآله() (1فقد ذكر الفخر الرازي في سبب نزول الية أن طلحة قال»:سأتزوج من
عائشة إذا مات رسول ال )صلى ال عليه وآله(« .فنزلت آية تحريم الزواج من نساء النبي )صلى ال عليه وآله(
بعد وفاته(2).
وورد في قصة الشورى التي شكلها عمر أنه أقبل على طلحة وقال :أقول أم أسكت؟ فقال طلحة :قل ،فاّنك ل تقول
من الخير شيئًا .فقال عمر :لقد مات رسول ال )صلى ال عليه وآله( ساخطًا عليك بالكلمة التي قلتها يوم ُانزلت
آية الحجاب(3).
على كل حال كان من أشد الناقمين على عثمان ،ومن هنا كان يراه مروان من قتلة عثمان ،وقد رماه بسهم في
ب الجاه لشعال فتيل الجمل وسفك دماء الجمل فقتله ،وقال :الن أدركت دم عثمان من طلحة .وقد دفعه ح ّ
ن المام)عليه السلم( حدثه ببعض المسلمين ولم يظفر بالخلفة حتى قتل في معركة الجمل .وذكر البعض أ ّ
ن الخطبة تفند هذا الكلم،
لأّ
الكلمات عى غرار الزبير فندم وانصرف من المعركة فرماه مروان بسهم فقتله .إ ّ
ن أمير المؤمنين )عليه السلم( مرفهى تفيد يأس المام )عليه السلم(من هدايته وعودته إلى الحق .وفي رواية أ ّ
يقتلى الجمل فقال بشأن طلحة هذا من نكث بيعتي و أشعل نار الفتنة وألب الناس على قتلي وأهل بيتي« ثم خاطبه
)عليه السلم( :يا طلحة إّني وجدت ما وعدني رّبي حقًا فهل وجدت ما وعد ربك حقًا ،ثم انصرف .فقال له بعض
أصحابه :أتكلمه بعد الموت يا أميرالمؤمنين .فقال)عليه السلم( وال لقد سمعني كما سمع الكّفار كلم رسول ال
)صلى ال عليه وآله( وهم قتلى في قليب يدر).(4
] [ 162
ن النبي )صلى ال عليه وآله( كان يثني أحيانا على طلحة ،حتى ذهب البعض إلى أّنه وهنا يبرز هذا السؤال وهو أ ّ
ن هذا الكلم صحيح ،فا ّ
ن من العشرة المبشرة بالجّنة ،فكيف يصح هذا الثناء؟ ونقول في الجواب على فرض أ ّ
النسان يعيش بعض المراحل المتألقة في سني حياته بحيث يكون يومًا إلى جانب الحق ويستحق الجّنة ،ويومًا
يخرج من هذا الحق ويلتحق في صفوف الباطل فيستحق غضب ال وسخطه .فالتأريخ السلمي حافل بالفراد
ل فمن يسعه القول بأحقية من أجج نار الحرب ضد إمام الذين كانوا على الحق وهجروه إلى الباطل أو بالعكس ،وإ ّ
زمانه وسفك كل هذه الدماء؟ فهل من انسجام بين هذا الكلم والمنطق؟ والشاهد على ما قلنا ما صرح به القرآن
ن الَّوُلو َ
ن سابُقو َ
الكريم بشأن السابقين في السلم من المهاجرين والنصار والتابعين ،الذين وعدهم بالجّنة )َوال ّ
حَتها
جِري َت ْجـّنات َت ْ
عّد َلُهْم َ
عْنُه َوَأ َ
ضوا َ
عْنُهْم َوَر ُ
ل َ
يا ّضـ َ
حسان َر ِ
ن اّتـَبُعوُهْم ِبِإ ْ
لْنصاِر َواّلِذي َ ن َوا َ
جِري َ ن الُمها ِ
ِم َ
ظـيُم((1). ك الَفْوُز الَع ِ
ن ِفـيها َأَبدًا ذ ِل َ
لْنهاُر خاِلِدي َاَ
فالية تشمل جميع المهاجرين والنصار ،بينما نعلم هنالك من انحرف منهم عن الحق كعبد ال بن أبي سرح)(2
وثعلبة ابن حاطب النصاري) (3فاستحقوا غضب ال وسخطه ،وقد كانوا من المهاجرين والنصار الذين وقفوا
إلى جانب رسول ال )صلى ال عليه وآله(؟ كما نعلم أن بعض المنافقين الذين ذّمهم القرآن بشّدة كانوا من صحابة
رسول ال )صلى ال عليه وآله( .وعلى هذا الضوء فلبّد من تقييم أصحاب رسول ال)صلى ال عليه وآله( على
ل شهدنا حالة من التناقض ل يمكن الخروج منها بتبرير وأما الزبير فهو ضوء أعمالهم حتى آخر أعمارهم ،وإ ّ
الزبير بن العوام وُاّمه صفية عمة رسول ال )صلى ال عليه وآله(
اسلم في الخامسة عشرة من عمره وهو رابع أو خامس من أسلم ،هاجر إلى الحبشة ثم قدم المدينة ،وقد أخى
رسول ال )صلى ال عليه وآله( بينه وبين عبدال بن مسعود .شهد غزوات رسول ال )صلى ال عليه وآله(
.2ورد ذمه في تفسير الية 93من سورة النعام في الدر المنثور )الدر المنثور (30 / 3وذكر صاحب أسد الغابة أنه كان من كتاب
الوحي ثم ارتد فأمر رسول ال )صلى ال عليه وآله( بقتله )اسد الغابة ،شرح أخبار عبدال بن سعد بن أبي سرح(.
.3جاء في أسد الغاية في معرفة الصحابة في أخبار هذا الرجل أن النبي )صلى ال عليه وآله(طرده ،كما طردهالخلقاء الثلثة )ابوبكر
وعمر وعثمان( ولم يقبلوا زكاته ،رغم قوله أنه من أصحاب رسول ال )صلى ال عليه وآله( حتى توفي في خلفة عثمان.
] [ 163
ن المام )عليهفاستاء المام)عليه السلم( وقال» :هذا السيف طالما فرج الكرب عن وجه رسول ال« وقيل إ ّ
ن ابن
السلم( لم يأذن لبن جرموز بالدخول عليه وقال» :بشر قاتل ابن صفية بالنار« وقال البعض أ ّ
جرموزغضب غضبًا شديدًا فقتل نفسه .وقد صرحت بعض المصادرالتأريخية أن معاوية هو الذي شجع طلحة
والزبير على نقض البيعة والقيام ضد علي )عليه السلم().(1
ن النسان يعيش مع ن قضية طلحة والزبير بينبغي أن تكون لنا درسًا وعبرة فل ننغر بأعمالنا ،وكيف أ ّ ل شك إ ّ
الحق ويجاهد في سبيله ثم يستلل حب الدنيا والحياه إلى قلبه فيقوده إلى الباطل الّلهم إجعل عاقبة أمرنا خيرًا.
لقد تضمنت رسالة المام )عليه السلم( الشارة إلى أحد الشروط المهّمة للمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،أل
وهو إحتمال التأثير.
فقد قال )عليه السلم(»:ل تلقين طلحة فانك إن تلقه تجده كالثور عاقصًا قرنه ،ولكن إلق الزبير فانه ألين عريكة«
ن طاقة النسان وقدرته محدودة ولبّد له من استهلكها في محلها الذي يتوقع فيه التأثير.فمن الطبيعي أ ّ
فاذا أحتمل عدم التأثير فل ينبغي له أن يصرف جهده عبثًا ،وبالطبع فقد قلنا احتمال التأثير وليس اليقين فيتعلل
بعدم المر لعدم وجود اليقين في التأثير! كل إلى جانب ذلك
ينبغي معرفة المعروف والمنكر وعدم وجود الخطر آنذاك تبرز وظيفة المر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ن لبعض الناس طباع كطباع الحيوانات فالبعض كالثعلب أو الذئب ويفهم من رسالة المام )عليه السلم( أ ّ
وبعضهم شجاع كالسد وآخر من أهل الشهوات كالخنزير وبعضهم جاهل كالبقر و ...و قد شبه المام )عليه
السلم( طلحة بالبقر العاقص القرن حيث يستكبر في التسليم إلى الحق ويخطى في إدراك الواقع وتمييزه ،وإذا
اتجه صوب العمال العصية ظنها سهلة حتى تؤدى به إلى الفشل.
—–
] [ 165
الخطبة)32 (1
وفيها يصف زمانه بالجور ،ويقسم الناس فيه خمسة أصناف ،ثم يزهد في الدنيا.
القسم الول يتحدث عن الوضع المأساوي للمجتمع على عهد المام )عليه السلم( والمشاكل التي كانت تعترض
سبيل الصلحاء والتقياء .ويصنف المام )عليه السلم( الناس في القسم الثاني آنذاك )ولعله في كل عصر
ومصر( إلى أربعة أصناف:
أ ـ الصنف الول من يقعد به عن طلب المرة قّلة ماله ،وحقارته في نفسه .فهو مغتم في الواقع لعدم إمتلكه
المكانات.
ن المام )عليه السلم(خطبها في مسجد الكوفة، .1نقل هذه الخطبة محمد بن طلحة الشافعي في كتاب مطالب السئول وأضاف أ ّ
ن نهج البلغة لم يشر إلى موضع الخطبة .كما رواها الجاحظ في البيان والتبيين ،وأ ّ
ن ن له سند غير نهج البلغة ،ل ّ
ويتضح من هذا أ ّ
أخطأ في البداية حيث نسبها إلى معاوية إّل أّنه يعترف أخيرًا بأنها لتشبه كلم معاوية وهى من كلمات علي بن أبي طالب .مصادر
نهج البلغة .417 / 1
] [ 166
ثم يتطرق المام )عليه السلم( إلى بيان خصائص كل صنف من هذه الصناف الربعة ـ التي تعيش في كل
مجتمع ،ويتحدث القسم الثالث عن صنف آخر ذكره المام)عليه السلم(بصورة مستقلة وهم البرار التقياء الذين
أراق دموعهم خوف الخرة.
ثم يقسمهم المام )عليه السلم( إلى عّدة أقسام ويذكر صفات كل قسم منهم ،أّما القسم الرابع والخير من الخطبة
فيدعو فيه المام )عليه السلم(الناس إلى الزهد وعدم الغترار بالدنيا الذي يقود إلى الذنوب والمعاصي .وقد بين
حق الكلم بعبارات قصيرة.
—–
] [ 167
القسم الول
—–
الشرح والتفسير
إستهل المام)عليه السلم( الكلم بخطاب عامة الناس ثم أشار المام )عليه السلم( في الخطبة إلى الزمن الذي
كان عليه الناس فقال:
فقد عاش المام )عليه السلم( في عصر لم يسع أغلب أفراده ـ سوى النزر اليسير ـ إدراك عظمة روحه وسعة
فكره والحاطة بفضائله ومناقبه ،وقد أدت بهم الثروات العظيمة التي أفرزنها الفتوحات السلمية واتساع رقعة
البلد إلى التكالب على الدنيا والتهافت على زينتها والحرص على جمع الموال وحب الجاه والمقام وتناسي القيم
والمبادئ.
] [ 168
ثم تناول المام )عليه السلم( بعض خصائص الزمان آنذاك والذي يتصف بعناد الناس وجحودهم ليصفه في
خمس عبارات فقال» :يعد فيه المحسن مسيئًا ويزداد الظالم فيه عتوا« أو يمكن أن يتهم المحسن بالثم ويثنى على
الظالم؟ بلى إذا تغّيرت قيم المجتمع عد المحسن مسيئًا والمسيىء محسنًا.
فإذا كان المال والثراء والقوة هى القيم ومعايير الشخصية ،فستكون الصدارة في ذلك المجتمع للظلمة والطغاة
والجبابرة ،بينما تميع فى هذا المجتمع شخصية المحسنين الذين يمدون يد العون إلى الفقراء والضعفاء وينفقون
عليهم الموال وينعتونهم بالحماقة والبلهة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض نماذج الفساد الذي طال المجتمعات البشرية بفعل فساد التعامل مع القيم والتنكر
لها ومن ذلك ما أورده بشأن قوم لوط الذين عزموا على إخراج نبّيهم ومن معه من المؤمنين الصالحين ول ذنب
ن().(1طـّهُرو َ
س َيَت َ
ن َقْرَيِتُكْم ِإّنُهْم ُأنا ٌ
جوهُْم ِم ْ
خِر ُ
ن قاُلوا َأ ْ
ل َأ ْ
ب َقْوِمِه ِإ ّ
جوا َ
ن َ
لهم سوى الطهر والعفاف )َوما كا َ
ل والنبي بأّنها من أراذل القوم والسذج الذين ليس لهم كما اعتبر الظلمة من قوم نوح تلك الثلة الخيرة التي آمنت با ّ
ى َوما َنرى َلُكْم
ى الّرْأ ِ
ن ُهْم َأراِذُلنا باِد َ
ل اّلِذي َ
ك ِإ ّ
شرًا ِمْثَلنا َوما َنراك اّتَبَع َ
ل َب َ
ك ِإ ّ
من مزية على من سواهم )»ما َنرا َ
ن((2). ظّنُكْم كاِذِبـي َ
ل َن ُ
ضل َب ْ
ن َف ْ
عَلْينا ِم ْ
َ
نعم إذا فسد الناس وازداد حجم الظلم والضطهاد تغير وجه المجتمع وغيبت فيه القيم ،وازداد الظالم طغيانًا
وتجبرا وعّد المحسن مجرما فيقصى من ذلك المجتمع.
وليس هنالك من نتيجة سوى ما أشار إليها المام )عليه السلم(»:لننتفع بما علمنا ،ول نسأل عّما جهلنا«.
ن هذه أسوأ حالة يعيشها الفرد أو المجتمع ،أي أّنه ليستثمر علومه ومعارفه في حل مشاكله وليهم
والواقع أ ّ
بالقضاء على الجهل و القبال على العلم ،وليس هنالك من نتيجة لهذين المرين سوى العوم في بحر الجهل
والجريمة ،وهذا هو حال كافة الفراد الذين يغضون الطرف عن مفاسد المجتمع وليرون لنفسهم من مسؤولية
في ردعها سواء من خلل اليأس من
] [ 169
تأّملن
ن الزمان ليراد به هنا الّمدة الزمنية لحركة الشمس والقمر )أو دوران الرض حول نفسها والشمس( ذكرنا آنفا أ ّ
فالزمنة متشابهة ذاتًا ،والشخاص هم الذين يتغيرون والحوادث والواقائع التي تجعل العصر والحياة حلوة أو
مرة.
وبالطبع فان هنالك من يحاول استغلل هذه العبارات ليجعل من فساد الزمان أو المكان ذريعة لفساده وانحطاطه.
فاذا سئل عن سبب فساده وانحرافه ،إنبرى للجواب :وماذا أفعل فقد فسد العصر أو البيئة التي أعيش فيها ،والحال
هو ومن حوله مصدر الفساد .ولعلنا نلمس هذا المعنى في الشعار التي تنسب إلى عبدالمطلب جد النبي )صلى ال
عليه وآله( حيث أنشد قائل:
نعيب زماننا والعيب فينا *** ولو نطق الزمان بنا هجانا
وان الذئب يترك لحم ذئب *** ويأكل بعضنا بعضا عيانا)(1
] [ 170
ل ل ُيَغـّيُر ما ِبَقْوم
نا ّ
ن زوال فساد الزمان مرهون بتغيير الناس فيشملوا بلطف ال وعنايته )ِإ ّ و من البديهي أ ّ
سـِهْم() .(1وبذلك فالنسان هو المقصر الصلي على كل حال. حّتى ُيَغّيـُروا ما ِبَأْنُف ِ
َ
المسألة التي تلعب دورًا مهما في مصير المجتمعات البشرية والتي قد يغفل عنها العم الغلب من الناس إّنما
تتمثل بنظام القيم والمبادى التي تسود المجتمع.
فالمجتمع إّنما ينطلق في مسيرته نحو المثل والقيم التي يلهمها لفراده والمقرة من قبلهم ،وعليه فالمجتمع يتجه
نحو التأكل والزوال إذا ما شهد تغيبب القيم والمبادئ.
ونقصد بالمجتمع حركة جميع أفراده وليقتصر ذلك على بعض الفراد الذين يتحلون باليمان والتقوى فيقفون
دائما ضد حالت الفساد والنحراف.
والنسان يتجه بوحي من طبعه إلى صنع الشخصية وليأل جهدا في السعي لتحقيق هذا المر ،فاذا كانت القيم
السائدة تتمثل بالشخصية الكاذبة فان الفراد سيتحركون لمحالة لمثل هذه الشخصية.
والشباب عادة يلهثون خلف السمعة والشهرة ويعشقون البطال ،و عليه فل يبدو غريبًا تقليد الشباب لهؤلء
البطال حتى في الثياب واسلوب المشي ،ولو كان هؤلء البطال هم العلماء والمفكرين فمن الطبيعي أن ينطلق
الشباب نحو العلم والمعرفة.
لمة الكبير الشيخ البهائي ،حيث قرر الشاه عباس الصفوي مكافئة
بالمناسبة هنالك قصة طريفة مشهورة بشأن الع ّ
جهوده العلمية وخدماته العمرانية بتقديم هدية تليق بشأنه ،فطلب الشيخ أن يستقل مركبه الخاص ويمشي الشاه
خلفه لمسافة معينة في الشوارع والزمة ـ
] [ 171
عْنَد الّ
ن َأْكَرَمُكْم ِ
حيث أبطالها هم أبوسفيان وأبوجهل وأمثالهما ،حتى انبثق السلم ليرفع شعار التقوى »ِإ ّ
َأْتقاُكْم« فيقضي على اولئك البطال الكاذبين ويستبدلها بالبطال من قبل أبي ذر وأمثاله .ومّما يؤسف له أن هناك
بعض العمال الخاطئة التي وقعت في عصر الخلفة الراشدة فادت إلى تغييب تلك القيم السلمية المثلى لتعود
ل من مالك الشتر وأبي ذر النعرة الجاهلية من جديد فتصدر المجتمع عمرو بن العاص وأبو موسى الشعري بد ً
وعمار بن ياسر; المر الذي كان يدمي قلب المام )عليه السلم( ،وأدنى ذلك ما أورده )عليه السلم( بقوله »يعد
فيه المحسن ،مسيئا ويزداد الظالم فيه عتوًا«.
ومن هنا كان هدف المام )عليه السلم( في أغلب خطبه في نهج البلغة يكمن في إحياء القيم والمثل التي كانت
سائدة في صدر السلم.
—–
] [ 172
] [ 173
القسم الثانى
ضيضُ حّدِهَ ،وَن ِسِهَ ،وَكلَلُة َ ن ل َيْمَنُعُه اْلَفساَد ِفي اَْلْرضِ إِّل َمهاَنُة َنْف ِ صنافِ :مْنُهْم َم ْ عَلى َأْرَبَعِة َأ ْ
»َفالّناس َ
حطام
ق ِديَنُه ِل ُ
سُهَ ،وَأْوَب َ
ط َنْف َ
شَر َ جِلِهَ ،قْد َأ ْخْيِلِه َوَر ِ
ب ِب َ
جِل ُ
شّرِهَ ،واْلُم ْ ن ِب َسْيِفِهَ ،واْلُمْعِل ُ
ت ِل َ
صِل ُ
َوْفِرِهَ .وِمْنُهْم اْلُم ْ
ل عَِوضًا!عْنَد ا ّك ِك َثَمنًاَ ،وِمّما َل َ سَن َتَرى الّدْنيا ِلَنْف ِ جُر َأ ْ
س اْلَمْت َ
عُهَ .وَلِبْئ َ َيْنَتِهُزُهَ ،أْو ِمْقَنب َيُقوُدُهَ ،أْو ِمْنَبر َيْفَر ُ
طِوِه
خْ
ن َ
ب ِم ْ
صِهَ ،وقاَر َ
خ ِ
شْ
ن َ ن ِم ْ
خَرَة ِبَعَمِل الّدْنيا َقْد طاَم َ
ب اْل ِ طُل ُ
خَرِةَ ،ول َي ْ ب الّدْنيا ِبَعَمِل اْل ِ
طُل ُ
ن َي ْ
َوِمْنُهْم َم ْ
صَيِة.
ل َذِريَعًة ِإَلى اْلَمْع ِ
سْتَر ا ّ
خَذ ِ لماَنِةَ ،واّت َسِه ِل َْ
ن َنْف ِ
ف ِم ْ
خَر َ ن َثْوِبِهَ ،وَز ْ
شّمَر ِم َْو َ
عِة،
سِم اْلَقنا َ
حّلى ِبا ْ
عَلى حاِلِهَ ،فَت َ
صَرْتُه اْلحاُل َ
سَبِبِه َفَق َ
ع َ
سِهَ ،واْنِقطا ُ
ضُئوَلُة َنْف ِك ُب اْلُمْل ِ
طَل ِ
ن َ
عْن َأْبَعَدُه َ
َوِمْنُهْم َم ْ
ك ِفي َمراح َول َمْغًدى«. ن َذِل َس ِم ْ
س َأْهِل الّزهاَدِةَ ،وَلْي َ
ن ِبِلبا َِوَتَزّي َ
—–
الشرح والتفسير
يعرض المام )عليه السلم( ـ في هذا القسم من الخطبة ـ بالتحليل لطلب الدنيا الذين يصنفهم في أربعة أصناف
ن هذه الصناف ل تختص بمجتمع دون آخر ول زمان دون آخر بل هى عامة شاملة فقال )عليه وبالطبع فا ّ
السلم(:
ل مهانة نفسه،
»فالناس على أربعة أصناف ،منهم من ل يمنعه الفساد في الرض إ ّ
] [ 174
فالمشكلة في عدم وجود الماء وال فهم سباحون ماهرون ،فباطنهم مفعم بالشر والفساد ال أنهم يفتقرون لللة التي
يمارسون بها الظلم والفساد ،ومن الطبيعي أن مثل هولء الفراد إّنما يتربصون بظاهرهم الوديع الذي ليشوبه
أذى.
كما يتوجب على قادة المجتمع إذا ما تعرفوا على هولء الفراد الحذار من تزويدهم بال مكانات فيعيثوا في
على ما ِفي َقْلِبِه
ل َ شِهُد ا ّ
حياةِ الّدْنيا َوُي ْ
ك َقْوُلُه ِفي ال َ
جُب َ ن ُيْع ِ
ن الّناس َم ْ الرض فسادا ،وقد أشار القرآن إلى ذلك )َوِم َ
ب الَفساَد((3).
ح ّل ل ُي ِ ل َوا ّسَث َوالّن ْ
حْر َك ال َ سَد ِفـيها َوُيْهِل َض ِلـُيْف ِ
لر ِ سعى ِفي ا َ
خصاِم * َو ِإذا َتَوّلى َ
َوُهَو َأَلّد ال ِ
ثم تطرق)عليه السلم( إلى الصنف الثانى »و منهم المصلت) (4لسيفه والمعلن بشره والمجلب بخيله ورجله« فقد
أعد هذا الصنف من الناس باطنه للظلم والفساد ومحق دينه »قد أشرط)(5نفسه وأوبق ) (6دينه«.
ولكن ما هدف هولء؟ ل شك أن هدفهم ما أشار إليه المام )عليه السلم(وليس ذاك سوى الحصول على شي من
متاع الدنيا أو المرة على بعض الفراد او إرتقاء المنبر ليظهر نفسه للناس بمظهر الخطيب الواعظ »لحطام)(7
ينتهزه) ،(8أو مقتب) (9يقوده ،أو منبر يفرعه).«(10
» .1كللة« على وزن ضللة بمعنى ضعف السلح عن القطع فيقال كل السيف إذا لم يقطع.
» .2نضيض« بمعنى قليل ،والنضيض وفره ،بمعنى القليل ماله.
] [ 175
فالعبارة رغم قصرها فقد أشارت إلى أعمالهم الظاهرية إلى جاِنب فسادهم الباطنى واهدافهم الرخيصة ،فهؤلء
الفراد يستفرغون ما في وسعهم ليصبحوا على غرار فرعون أو قارون أو السامرى .وما ُاولئك الذين أججوا
ل مصاديق بارزة لذلك الصنف من الفراد ،فالبفض اندفع من أجل المال وآخر من أجل نيران الجمل وصفين إ ّ
المقام والمنصب والخر من أجل الخلفة .ثم تطرق )عليه السلم( إلى نتيجة أعمال هؤلء فقال »و لبئس المتجر
أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا ،وممالك عند ال عوضا« ،ومن الطبيعي أنّ هذا الصنف من الناس الفاسد والشرير ـ
الذي يخبط خبطا عشواء من أجل الظفر بالمال والمقام ـ ل يقيم لحكام ال وزنا ول يصغي لصوت الضمير
ك اّلِذي َ
ن والوجدان ول ينقاد لدليل العقل ،فقد باع هذا الخزين الثمين بذلك الثمن البخس ،باع الدين بالدنيا )ُأولـِئ َ
ن().(1ت ِتجاَرُتُهْم َوما كاُنوا ُمْهَتِدي َ
ح ْ
ضلَلَة ِبالُهدى َفما َرِب َ
شَتَرُوا ال َ
اْ
ن بعض الناس )كعلي )عليه السلم( الذي نام على فراش رسول ال )صلى ال عليه وآله( ليلة فالية تفيد أ ّ
الهجرة( يبيعون أنفسهم من أجل رضى ال سبحانه .وقد ورد عن المام علي )عليه السلم(أّنه قال» :إّنه ليس
ل بها«).(3
ل الجّنة فل تبيعوها إ ّ
لنفسكم ثمن إ ّ
ثم تعرض )عليه السلم( للصنف الثالث الذي يتصف بالتزوير ـ وأوضح صفاته »و منهم من يطلب الدنيا بعمل
الخرة ،ول يطلب الخرة بعمل الدنيا«.
] [ 176
آنذاك خاض المام )عليه السلم( في صفات هذا الصنف »قد طامن) (1من شخصه ،وقارب من خطوه ،وشمر)
(2من ثوبه ،وزخرف من نفسه للمانة ،واتخذ ستر ال ذريعة إلى المعصية«.
فالعبارة تشير إلى ظاهر متواضع وسكين ووقار وعدم إلتفات إلى الدنيا وحطامها والتزين بشعار الصالحين
واستغلل ستر ال سبحانه للعيوب في حين هنالك حركة نحو الذنب والمعصية.
ومّما لشك فيه أن هذا الصنف ـ كسائر الصناف الربعة ـ ليقتصر في وجوده على عصر المام )عليه السلم(،
بل هو موجود في كل عصر و مصر وأّنه لعظم خطرًا من سائر الصناف على دين المجتمع ودنياه.
ن أغلب هولء الفراد وعليه فلبّد لتباع الحق من مراقبة هؤلء والحذار من الوقوع في فخهم ولحسن الحظ فا ّ
يفتضحون عمليًا فاذا بلغوا مفترق طرق بين الدين والدنيا ولوا ظهورهم للدين وتهافتوا على الدنيا وآثروا سخط
ال على رضى خلقه طمعًا في الدنيا
» .1طامن« و»اطمينان« من مادة واحدة بمعنى السكينة والهدوء ،وهى تشير في العبارة إلى الوقار والتواضع الصوري والظاهري.
] [ 177
وحطامها ،فأفكارهم منحطة وهمتهم وضيعة وروحهم ملوثة وباطنهم قبيح والزدواج هو الغالب على شخصيتهم.
وأخيرا يتعرض المام )عليه السلم( للصنف الرابع ـ أهل التقى الكاذب والزهد الفارغ ـ فيقول »ومنهم من أقعده
عن طلب الملك ضؤولة) (1نفسه ،وإنقطاع سببه فقصرته الحال على حاله ،فتحلى باسم القناعة ،وتزين بلباس
أهل الزهادة وليس من ذلك في مراح) (2ول مغدي«(3).
فهم أفراد ضعفاء عجزة ل كفاءة لهم يحاولون التستر بالزهد للتغطية على عجزهم وانعدام جدارتهم والتظاهر
بالقوة لخفاء ضعفهم ،والحال ليس لديهم شمة من الزهد والقناعة باطنهم وهم على قسمين :فمنهم من يتستر
ل إقناع نفسه بأّنه من أهل الزهد والتقوى ل الضعف والعجز يدفعه للتظاهرلخداع النفس ومنهم يخدع نفسه محاو ً
بذلك .أّما المراح والمغدي فقد ذهب أغلب أرباب اللغة وشّراح نهج البلغة إلى أّنها اسم مكان لستقرار الماشية
في الصباح والمساء بينما ذهب البعض الخر إلى أّنها اسم زمان بمعنى الذهاب والياب ليل نهار.
كيفما كان فان المفردتين تعبران عن حماقة هؤلء الفراد وبلهتهم التى تجعلهم بهيئة الزهد والقناعة .هناك كلم
كثير بين بين المفسرين بشأن فارق الصنف الرابع والول من جهة والصنف الرابع والثالث من جهة ُاخرى.
ن الصنف الول الذي ينشد الدنيا قد قبع فى زاوية إثر ضعفه وعجزه ولم ينطلق نحو المال والحياه ويبدو أ ّ
والمقام ،وهو ل يصر على ابراز ضعفه وعجزه على أّنه قوة وإقتدار ،فى حين يحاول الصنف الرابع أستغلل
ن ذلك الضعف زهد وقناعة .أّما فارق الصنف الرابع معضعفه وعجزه بغية الظفر بمكانته فى المجتمع على أ ّ
ن الصنف الثالث يعتمد النفاق والتزوير لتحقيق أطماعه ومآربه ،بعبارة ُاخرى ما يجنيه
الصنف الثالث هو أ ّ
الظلمة من حطام الدنيا بواسطة الظلم والجور يحصل عليه هؤلء من خلل الرياء وخداع الناس.
» .2مراح« من مادة »روح« مصدر ميمي من راح إذا ذهب في العشي
» .3مغدى« من مادة »غدو« مصدر ميمي من غدا إذا ذهب في الصباح ،وقيل مكان الحيوانات في النهار في مقابل المراح في الليل.
] [ 178
فهم يبيعون دينهم بدنياهم ويحصلون على الدنيا ومتاعها من خلل الدين ،أّما الصنف الرابع فهو ل يحصل على
جاه ومقام ،ويكتفي بأن المجتمع ينظر إليه كزاهد قانع.
وأخيرًا يشترك الصنف الول والرابع في أّنه ليس أقل تكالبًا من الصنفين الخرين إذا ما توفرت الرضية
الخصبة أمامهما للظلم والفساد.
لقد أماط اللثام عن حقيقة هذه الصناف الربعة ولفت إنتباه المجتمع إلى الخطار التي تفرزها حركتها في
المجتمع بفعل فسادها وظلمها وريائها وزهدها الكاذب ،ثم خاض )عليه السلم(في صفات كل صنف ليتعرف
عليه أفراد المجتمع فل يقعوا في شباكهم.
لخرى تشهد تغلغل هذه الصناف; المر الذي جر عليها ن المجتمعات السلمية هى ا ُ
ومّما يؤسف له اليوم أ ّ
الويلت والمصائب .والحق ليس هنالك من وسيلة للحد من أخطار هذه النماذج سوى في اتباع كلم المام )عليه
لّمة من الوقوع في شباكهم أو الغترار
السلم( وتشخيص هولء الفراد وفضح مخططاتهم وموامرتهم وتحذير ا ُ
بزهدهم الكاذب.
—–
] [ 179
القسم الثالث
شِريد ناّدَ ،وخاِئف َمْقُموع ن َشِرَ ،فُهْم َبْي َح َف اْلَم ْخْو ُعُهْم َ ق ُدُمو َ جِع َوَأرا َغضّ َأْبصاَرُهْم ِذْكُر اْلَمْر ِ ي ِرجاٌل َ »َوَبِق َ
حر ُأجاج َأْفواُههُْم
شِمَلْتُهُم الّذّلُة َفُهْم ِفي َب ْ
خَمَلْتُهُم الّتِقّيُة َو َ
جع َقْد َأ ْ
ن ُمو َخِلص َوَثْكل َ َوساِكت َمْكُعوم َوداع ُم ْ
حّتى َقّلوا«. حّتى َذّلواَ ،وُقِتُلوا َ حّتى َمّلوا َوُقِهُروا َ ظوا َ عُحٌةَ ،قْد َو َ ضاِمَزٌةَ ،وُقُلوُبُهْم َقِر َ
—–
الشرح والتفسير
وقد لفت النتباه إلى عظمتهم بالتعبير عنهم بالرجال ،بينما عبر عن الصناف الربعة بالناس.
ن المام )عليه السلم( يرى الصنف الخامس هو محور المجتمع ويحث أتباعه لن يكونوا ضمن هذا
والحق أ ّ
الصنف .فقد قال)عليه السلم(»:وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع وأراق دموعهم خوف المحشر«.
وقوله» :غض أبصارهم« ليراد به إغماض العين ،بل النظرة الشمولية والشعور بمسؤوليتهم تجاه ال سبحانه
ويوم القيامة ،الشعور الذي إرعش قلوبهم وأراق دموعهم.
فليس هنالك أكثر خشية من ذلك اليوم لمن آمن بال واليوم الخر ومحكمة العدل اللهي،
] [ 180
كيف ل وهو اليوم الذي تطرح فيه الحجب وتبلى فيه السرائر وتتمثل العمال التي صدرت من النسان طيلة
عمره فتنتظر الحساب والجزاء.
ن ِذْكِر ا ّ
ل عْ
ن هذه التعبيرات قد ُاقتبست من الية القرآنية الشريفة )ِرجالٌ ل ُتْلِهـيِهْم ِتـجاَرٌة َول َبـْيٌع َ والواقع أ ّ
لْبصار((2). ب َوا َ
ب ِفـيِه الُقُلو ُ
ن َيـْومًا َتَتَقـّل ُ
صلِة َو ِإيتاِء الّزكاِة َيخاُفو َ
َو ِإقاِم ال ّ
ثم تطرق )عليه السلم( إلى مصير هذا الصنف في المجتمعات التي تسودها الصناف الربعة ،بحيث لينجو كل
فرد فيه من خمس :النزوح من البلد والتشريد والتغريب ،الخوف واللواذ في زاوية ،السكوت والصمت ،الشتباك
بفعل عدم إعارتهم الذان الصاغية وسماع كلماتهم الحق أو الدعوة إلى ال باخلص بعيون باكية وقلوب حرى
أمل في التأثير »فهم بين شريد) (3ناد)(4وخائف مقموع) (5وساكت مكعوم) (6وداع مخلص وثكلن )(7
موجع«.
ن العبارات
وباللتفات إلى »شريد« وناد من مادة فد بمعنى المنفرد الهارب من الجماعة إلى الوحدة)(8فا ّ
ن هولء الفراد ليسوا مع بعضهم حتى في المنفى ،وكل واحد منهم قد قذف في بقعة; المذكورة إشارة إلى أ ّ
ن الطغاة ليكتفون بتهديد هؤلء
فالطغاة يخشون حتى اجتماعهم في المهجر والعبارة »خائف مقموع« إشارة إلى أ ّ
الفراد وإرعابهم ،بل ليتورعون عن التضييق
» .3شريد« من مادة »شرد« بمعنى هروب الناقة ،ثم اطلقت على كل من يهرب من قومه.
» .4ناد« من مادة »ند« بمعنى المنفرد الهارب من الجماعة إلى الوحدة.
» .5مقموع« من مادة »قمع« بمعنى المقهور والمغلوب ،وتعني القتلع أيضًا.
» .6مكعوم« من مادة »كعم« ،كعم البعير بمعنى شد فاه ،ثم اتسعت لتطلق على كل فم يشد.
» .7ثكلن« من مادة »ثكل« بمعنى فقد الحبة ،كما وردت بالنسبة للنسان الذي يعيش العزاء بمعنى الشخص الباكى الحزين.
.8شرح نهج البلغة محمد عبده والعلمة الخوئي وابن أبي الحديد.
] [ 181
ن الظلمة ليقتنعون بصمت هؤلء الفراد وسكوتهم ،بل يسعون دائما لكم أفواههم
والعبارة »ساكت مكعوم« أ ّ
دون أن ينبسوا ببنت شفة.
والعبارة »داع مخلص« ل تفيد دعوة الناس من أجل نيل المقام والثروة أو ليست هى دعوة دنيوية ،بل الدافع من
هذه الدعوة هو رضى ال وقيل بل المراد بالعبارة والداعي المخلص من يدعو الناس إلى ال والرتقاء بالمجتمع.
ن الحزن والسى ،يخترق ظاهرهم ليعيشوه في قلوبهم وأرواحهم .ثم وأخيرًا تشير العبارة »ثكلن موجع« إلى أ ّ
عرض )عليه السلم( إلى سائر صفاتهم بعبارات قصيرة بعيدة المعاني يتخللها السى والسف فقال )عليه
السلم(» :قد أخملتهم) (1التقية«.
ليس هنالك من قلق لدى الفراد الذين يعيشون اللُابالية في مثل هذه المجتمعات ،وليقلقهم سوى منافعهم
الشخصية ،أّما المجاهدون الذين تكف أفواههم بالقوة ،إّنما يتحرقون المًا وقلوبهم تشعر عمق الفاجعة ذهب بعض
ن قروح قلوبهمن المراد بقلوبهم قرحة أّنها تخاف ال ،بينما تشير قرينة الكلم إلى أ ّ
شّراح نهج البلغة) (4إلى أ ّ
إّنما تعزى الى الفساد الذي
» .1أخمل« من مادة »خمل« بمعنى أسقط ذكره حتى لم يعد له بين الناس نباهة.
] [ 182
ليستطيعون القضاء عليه ولعل هناك من ينسب هذه المفردات من قبيل الضعف والعجز والسكوت والتقية إليهم
كنتيجة لعمالهم وعدم قيامهم في الوقت المطلوب ،ومن هنا نبه المام)عليه السلم( إلى إزالة هذا الظن
فقال)عليه السلم(» :قد وعظوا حتى ملوا ،وقهروا حتى ذلوا ،وقتلوا حتى قّلوا«.
فقد خاضوا الجهاد على كافة المستويات وبشتى الطرق والساليب ،من خلل الوعظ باللسان إلى جانب النهضة
المسلحة وتقديم الضحايا حتى كثر القتل في صفوفهم فقل عددهم ،وذلك لّنه لم يكن لهم نصير و لم يكن هنالك من
توازن في القوى مع أعدائهم الذين يفوقونهم عددا وعدة .فقد قاتلوا على أمل تحقيق النصر وإجتثاث جذور الفساد
ل قّلة لم يكن أمامها سوى التقية حفظا لنفسها ودينها.
ولم تبق منهم إ ّ
وهنا يطرح هذا السؤال :الستضعاف المذكور يتعلق بأي زمان ،والمام )عليه السلم(كان هو الذي يحكم
المجتمع؟ وتأمل تأريخ عصر المام )عليه السلم(يوضح الجابة على هذا السؤال ،كما ورد ذلك في بعض كلماته
ن الفساد الجتماعي كلمة في عصره بلغ درجة بحيث خفت شعاع شمس حكومة المام )عليه السلم( في من أ ّ
الكوفة وأطرافها ،وقد اجتمعت لكمة سائر المناطق من قبيل الشام ومصر التي عاشت ذروة الشر والفساد
والنحراف على إقصاء الصالحين عن مرح الحداث.
—–
] [ 183
القسم الرابع
ظ ِبُكْم َم ْ
ن ن َيّتِع َ
ن َقْبَلُكْمَ ،قْبَل َأ ْ
ن كا َ
ظوا ِبَم ْجَلِم َواّتِع ُ
ضِة اْل َ
ظ َوُقرا َ حثاَلِة اْلَقَر ِ
ن ُ
صَغَر ِم ْ عُيِنُكْم َأ ْ
ن الّدْنيا ِفي َأ ْ
»َفْلَتُك ِ
ف ِبَها ِمْنُكْم«. شَغ َن َأ ْ
ن َكا َ
ت َم ْ ض ْضوها َذِميَمًةَ ،فِإّنَها َقْد َرَف َ َبْعَدُكْمَ ،واْرُف ُ
—–
الشرح والتفسير
التعاظ بالماضين
يدعو المام )عليه السلم( الناس في ختام هذه الخطبة بعبارات مقتضبة بعيده المعاني إلى الزهد في الدنيا بصفته
مفتاح سعادة النسان بعد أن ذكر صفات الصناف الربعة الثيمة والصنف الخامس الذي يمثل التقياء من أولياء
ال ،مؤكدا على أن البؤس والشقاء الذي طال الصناف الربعة إّنما يستند إلى حب الدنيا والتعلق بزخارفها.
فقال )عليه السلم(»:فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة) (1القرظ وقراضة) (2الجلم).«(3
والتشبيهات رائعة غاية في الدقة ،فالقرظ )على وزن مرض( بمعنى ورق الشجار الذي يستفاد منه لدبع الجلود
حتى يشدها ويجعلها أكثر فائدة ،وبالطبع فإن الحثالة التي تطرح بعد الستفادة تكون قذرة ومتعفنة ومدعاة للنفرة،
وكذلك حين تقص أصواف الحيوانات تطرح بعض القطعات الصغيرة منه على الرض دون أن يكون لها أدنى
فائدة .فالتشبيه الول
» .1حثالة« بالضم :القشاوة وما لخير فيه ،وَاصله ما يسقط من كل ذي قشر ،ومن هنا تطلق الحثالة على حشاشة الدهن المتساقطة.
» .2قراضة« من مادة »قرض« بمعنى قطف الشي وتطلق على القطع الصغيرة المتناثرة من المقراض ومن هنا يطلق المقراض على
المقص.
] [ 184
استبطن النفرة والثاني التفاهة وعدم القيمة والعتبار ،والمام )عليه السلم( يوصي بأن تكون الدنيا أهون من هذا
في العين ،الدنيا التي أدى عشق أموالها إلى ظهور القوارين ،وعشق مناصبها إلى ظهور الفراعنة والطواغيت
ن حّبها رأس كل خطيئة. الظلمة ،وأ ّ
من جانب آخر فقد أشار )عليه السلم( إلى قصر مدة الدنيا وضرورة التعاظ بها »واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن
يتعظ بكم من بعدكم«.
لقد جمعوا لها وجهدوا من أجلها وانصرفوا ،ولم تعد قصورهم الخاوية وتيجانهم البالية وقدرتهم الجوفاء التي
ل ستكونون أنتم عبرة يعتبر بكم من خلفوها هنا وهناك سوى عبرة لمن اعتبر ،فان اعتبربها فهو المطلوب ،وإ ّ
يأتي بعدكم.
القرآن الكريم من جانبه لم ينفك عن دعوة الناس للعتبار بالماضين ،فقد أورد عبارات توقظ الضمير وتهز
عُيون* َوُزُروع َوَمقام َكِريم * َوَنْعَمة كاُنوا جّنات َو ُن َ العماق بشأن الفراعنة وضرورة التعاظ بهم )َكْم َتَرُكوا ِم ْ
ن((1). ظِري َ
ض َوما كاُنوا ُمْن َ
لْر ُ
سماُء َوا َ
عَلْيِهُم ال ّ
ت َ
ن * َفما َبَك ْخِري َ
ك َوَأْوَرْثناها َقْومًا آ َ
ن * َكذ ِل َ
ِفـيها فاِكِهـي َ
غير أّنه من المؤسف أن بني إسرائيل لم يعتبروا بهذه الدروس حتى أصبح مصيرهم عبرة لغيرهم.
ثم قال )عليه السلم( :وارفضوها ذميمة ،فاّنها قد رفضت من كان أشغف) (2بها منكم«.
ومن الطبيعي أن يكون مراد المام )عليه السلم( بهذه الدنيا المذمومة هى الدنيا التي تقود صاحبها إلى الظلم
والطغيان والهوى والفساد ل الدنيا التي تشكل الجسر لعبور أولياء ال إلى الخرة.
قال الشريف الرضي :وهذه الخطبة ربما نسبها من لعلم له إلى معاوية ،وهى كلم أميرالمؤمنين )عليه السلم(
الذي ليشك فيه ،وأين الذهب من الرغام ،وأين العذب من الجاج! وقد دل على ذلك الدليل الخريت ونقده الناقد
الباصر عمرو بن بحر الجاحظ ،فاّنه ذكر هذه الخطبة
» .2أشغف« من مادة »شغف« بمعنى َاكثر تعلق بالدنيا و حبالها .وقد أخذت في الصل من شغاف وهو الغلف الذي يضم القلب ،كما
تستعمل في العشق الشديد الذي يجتاح القلب وينفذ إلى أعماقه.
] [ 185
في كتاب البيان والتبيين وذكر من نسبها إلى معاوية ،ثم تكلم من بعدها بكلم في معناها ،جملته أّنه قال :وهذا
الكلم بكلم علي عليه السلم أشيه ،وبمذهبه في تصنيف الناس ،وفي الخبار عما هم عليه من القهر والذلل،
ومن التقية والخوف ،أليق .قال :ومتى وجدنا معاوية في حال من الحوال يسلك في كلمه مسلك الزهاد ومذهب
العباد.
ماورد في الخطبة بشأن الصناف الخمسة في عصر المام )عليه السلم( )من يقعد به عن طلب المرة قّلة ماله،
ل ويطلب ومن يطلب المارة ويفسد في الرض ،ومن يظهر ناموس الدين ويطلب به الدنيا ،ومن لمال له أص ً
الملك وليطلب الدنيا ،وأولياء ال التقياء البرار( ل يقتصر على عصر المام )عليه السلم( وزمانه ،وهم
ن كافة المشاكل التي تعاني منها المجتمعات إّنما
متواجدون في كافة المجتمعات الماضية والمعاصرة والتية ،وإ ّ
تنشا من الصناف الربعة المذكورة ،التي سفكت الدماء وأحرقت الخضر واليابس وجرعت اتباع الحق
صنفوف الذى والعذاب.
مع ذلك فان الدنيا لم تف لهم وقد أتت عليهم حتى آخرهم ليكونوا عبرة لمن بعدهم.
أما العبارات التي أوردها المام )عليه السلم( بشأن كل صنف وعلماته وصفاته جعلت من اليسير التعرف
عليهم.
ن المام )عليه
ب الدنيا والتعلق بحطامها هو مصدر الشر والفساد الذي سلكته هذه الصناف ،فا ّ
ولما كان ح ّ
السلم( إختتم خطبته بتصوير حقيقته الدنيا بما يجعل العاقل ل يعيرها أدنى أهمية ،فقد وصفها بادى ذي بدء بانها
اتفه من حثالة القرظ )و هو ما يسقط من ورق السلم أو ثمر السط يدبغ به مّما لخير فيه ول قيمته له( ،ثم أشار
إلى تقلب حال الدنيا وعدم دوامها وكيف قضت على الماضين وجعلتهم عبرة للخرين.
فقد ورد في حديث أن رسول ال )صلى ال عليه وآله( مر بجثة حيوان متعفنة ملقاة على الطريق فأومأ إليها
قائل :أترون هذه هنية على أهلها؟ فو ال الدنيا أهون على ال من هذه على أهلها« ثم واصل)صلى ال عليه وآله(
حديثه عن الدنيا قائل :الدنيا دار من لدار له ومال من لمال له ولها يجمع من لعقل له وشهواتها يطلب من
لفهم له وعليها يعادي من ل علم له وعليها يحسد من ل فقه له ولها يسعى من ليقين له«).(1
] [ 186
وجاء في حديث أن الدنيا مثلت للمسيح )عليه السلم( كعجوز شمطاء فسألها :كم تزوجت.
قالت :كثير .كلهم طلقت .قالت :بل كلهم قتلت .قال)عليه السلم( :يا ويح أزواجك الباقين ،أل يتعظون بازواجك
الماضين).«(1
—–
] [ 187
الخطبة)33 (1
عند خروجه لقتال أهل البصرة ،وفيها حكمة مبعث الرسل ،ثم يذكر فضله ويذم الخارجين.
قال عبد ال بن عباس :دخلت على أميرالمؤمنين )عليه السلم( بذي قار وهو يخصف) (2نعله فقال لي» :ما قيمة
هذا النعل؟«.
ل« .ثم
ل أنت أقيم حقا أو أدفع باط ً
ي من أمرتكم) (3إ ّ
فقلت» :ل قيمة لها!« فقال )عليه السلم(»:و ال لهي أحب إل ّ
خرج فخطب الناس.
أورد المام )عليه السلم( هذه الخطبة في ظل ظروف دعا فيها أصحابه للتعبئة وإطفاء نار الفتنة التي
.1روى السيد الرضي )ره( هذه الخطبة في موضعين من نهج البلغة :مرة هنا و أخرى في الخطبة 104حيث قال هناك :وقد مر
جانب من هذه الخطبة )إشارة إلى هذه الخطبة (33وقد ذكرتها ثانية بسبب إختلف بعض العبارات .قال صاحب مصادر نهج البلغة:
ومن هنا يتضح مدى إحتياط السيد الرضي في نقل كلمات أمير المؤمنين)عليه السلم( .ثم قال :يفهم من رواية الشيخ المفيد في
ن المام)عليه السلم( خطبها في الربذة حيث توقف هناك جمع من حجاج بيت ال وقد تجمعوا حين سمعوا بالمام)عليه الرشاد أ ّ
السلم( ليصغوا إلى كلمه ولم يكن المام)عليه السلم( قد خرج من خيمته .قال إبن عباس دخلت الخيمة فرأيت المام)عليه السلم(
ي منيخصف نعله .فقال :يابن عباس :ما قيمة هذا النعل؟ فقلت :ل قيمة لها .قال :قل .قلت :أقّل من درهم .قال :وال ،لهي أحب إل ّ
إمرتكم ،إل أن أقيم حقا أو أدفع باطل .فقلت :لقد إجتمع حجاج بيت ال ليسمعوا ما تقول .هل أذنت لي أن أخطبهم؟ قال )عليه
السلم( :ل أنا أحّدثهم .فخرج من الخيمة فخطب بهذه الخطبة )مصادر نهج البلغة 421 /1 ،ـ .(422
قال صاحب المستدرك ومدارك نهج البلغة رواها الشيخ المفيد في كتاب الرشاد ،المستدرك ،ص .242
] [ 188
وقد أطلق المام )عليه السلم( ـ قبل إيراد الخطبة ـ تلك العبارات التاريخية الخالده لبن عباس; العبارات التي
تتحدث عن سمو روح المام )عليه السلم( ومقامه الشامخ ومدى معرفته بال سبحانه ،فقد قال )عليه
ل«.
السلم(»وال لهي ـ النعل ـ أحب إلي من إمرتكم ال أن ُاقيم حقا أو أدفع باط ً
هذه هى أهداف المام )عليه السلم( من المرة والخلفة .ثم ينتقل المام )عليه السلم(إلى بيان خصائص العصر
الجاهلي وانبثاق الدعوة السلمية ،في اشارة إلى بروز مبادى العصر الجاهلي ثانية وانه لبّد أن يقتفي آثار
رسول ال)صلى ال عليه وآله( ويقتدي بهديه فيقبر الفتن ويبقر الباطل ليخرج منه الحق.
ثم إختتم )عليه السلم( الخطبة بذم طائفة من قريش ممن أشعلوا نار الجمل ولم تكن دوافعهم من تلك المعركة
سوى الحسد والبغض وحب الدنيا.
—–
] [ 189
القسم الول
—–
الشرح والتفسير
دحر الباطل
أشار المام )عليه السلم( ـ كما ذكرنا ـ إلى بعثة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( وظهور الدعوة السلمية في
الجزيرة العربية وكيف كانت حياة الناس في العصر الجاهلي وكيف أصبحت إبان انطلقه الدعوة ،ومدى السعادة
ن ال بعثت محمدًا )صلى ال عليه وآله( وليس أحد من العرب يقرأ كتابًا
التي ظفروا بها ،فقال )عليه السلم(»:إ ّ
ول يدعي نبوة«.
أثار بعض شّراح نهج البلغة هذا السؤال :كيف يقال لم يكن لحد من العرب كتابًا سماويًا ولم يكونوا يتبعون نبيًا
من النبياء ،والحال كانت طائفة من اليهود والنصارى تعيش هناك ولديها التوراة و النجيل؟ ثم أجابوا على
السؤال من خلل الشارة إلى تحريف التوراة والنجيل ،وعليه فلم يكن لديهم كتابًا بالحق ،كما أن اليهود
ب اّلِذي جاَء ِبِه ُموسى ُنورًا
ل الِكتا َ
ن َأْنَز َ
ل َم ْ
والنصارى كانوا أتباعًا كاذبين ،ثم إستدلوا على ذلك بالية الكريمة )ُق ْ
ن َكِثـيرًا((1).
خُفو َ
س ُتْبُدوَنها َوُت ْ
طـي َ
جَعُلوَنُه َقرا ِ
ى ِللّناس َت ْ
َوُهد ً
] [ 190
كما إحتمل البعض أن يكون المراد بذلك العرب الذين كانوا يشكلون الكثرية وكانوا على الشرك والوثنية.
ن المام )عليه السلم( أشار إلى إبتعاد القوام الجاهلية عن أجواء الوحي والنبوة ،المر الذي
على كل حال فا ّ
يصور مدى غرقهم في وحل الشرك والفساد.
ثم تطرق )عليه السلم( إلى الوضاع التي بلغوها في ظل إنبثاق الدعوة والستضاءة بنور الوحي وبزوغ شمس
السلم »فساق الناس حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم«) (1فهو لم يخلصهم من الشرك والكفر و النحراف
العقائدي وينقذهم من الفساد الخلقي والظلم والجور وسوء العدل فحسب ،بل أخذ بيدهم إلى حيث القوة والعزة
والحكومة والحضارة والمدنية ،ومن هنا قال )عليه السلم(»فاستقامت قناتهم) (2واطمأنت صفاتهم).«(3
ل ببركة النبي)صلى ال عليه وآله(
وعليه فقد ظفروا بالنصر المعنوي إلى جانب شمولهم بالنعم المادية و ما ذلك إ ّ
ونزول القرآن الكريم والتعبير بمحلتهم إشارة إلى المنزلة الراقية التي ينبغي أن يبلغها النسان الفاضل ،ومنجاتهم
إشارة إلى نقطة النجاة التي ليس معها خوف وخشية ول قستبطن سوى الفلح والصلح.
والعبارة »إستقات قناتهم« وعلى اضواء الستقامة التي تعني الستواء والثبات والقناة بمعنى الرمح تعني القوة
والقدرة والنتصار على العدو.
» .1بوأ« من مادة »بوء« بمعنى تعبيد المكان ضد النبوة بمعنى المرتفع وغير المعبد ،وقد وردت هنا بمعنى تنظيم وترتيب موقع
الستقرار.
» .2قنات« من مادة »قنو« بمعنى جذع الشجرة ،كما تغني العود والرمح ،والمراد بها هنا القوة والغلبة والدولة ،وقوله إستقامت
قناتهم تمثيل لستقامة أحوالهم.
] [ 191
أّما العبارة »إطمأنت صفاتهم« فهى تشير إلى إستحكام منزلتهم في ظل ظهور السلم ونهضة رسول ال)صلى
ال عليه وآله( بحيث إستقرت حياتهم الفردية والجتماعية.
فالصحارى التي كانت تردد عليها العرب ،كانت مليئة بالرمال والحصى المتحركة بحيث يصعب إجتيازها ،بينما
تسهل حركته وذهابه وايابه وجلوسه إذا إستقر على حجر كبير واسع ومحكم ومستقيم.
ثم قال )عليه السلم(»:أّما وال إن كنت لفي ساقتها) (1حتى تولت بحذا فيرها).«(2
ففي الوضاع التي يكون فيها الجيش مستجد أو العدو قوي بحيث يحتمل التقهقر والنسحاب ،فان آمر الجيش
يجعل بعض مساعديه الشجعان في المؤخرة ليسوقوا الجيش إلى المام ويحثونهم على التقدم كما يحولوا دون
تراجعهم.
ن المام )عليه السلم( أشار إلى هذه المسألة في أن النبي )صلى ال عليه وآله( قلدني مسئوؤلية في سوقوكأ ّ
الجيش إلى المام وتجاوز المخاطر والمشاكل التي تواجهه ،أو المراد أّنى والنبي )صلى ال عليه وآله( في
ن كل هذه إشارات إلىموخرة هذا الجيش ونسوقه إلى المام وقرينة ذلك قوله فساق الناس« على كل حال فا ّ
عصر نهضة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( والدور الهام الذي لعبه المام علي)عليه السلم( في إنتصار
الجيش السلمي على معسكر الكفر والشرك.
» .1ساقه« من مادة »سوق« جمع سائق ،واصلها سوقه واصحب ساق بيت العلل.
» .2حذا فير« جمع حذ فور بمعنى الشريف والجمع الكثير ،وقد جاءت هنا بمعنى جميع جوانب الموضوع .وهنا ينبغي اللتفات إلى
أن .ضمير الهاء في ساقتها يعود إلى الناس في عصر الجاهلية الذين إعتنقوا السلم ،ويمكن أن يكون الضمير في تولت وحذا فيرها
عائدا إلى أعداء السلم الذين تقهقروا ابان نصر السلم ،كما يمكن أن يعود إلى أهل الجاهلية الذين أقبلوا على السلم.
] [ 192
وفي إشارة إلى قيامه بوظيفته على أحسن وجه وبلئه الحسن قال »ما عجزت ولجبنت« فمن البديهي أنّ
النسحاب إّنما يستند إلى الضعف والعجز أو الخوف والرعب ،فقوله )عليه السلم( »ما عجزت ول جبنت«
يتضمن نفيه لعوامل الضعف والتقهقر.
لّمةنا ُ
ثم يربط )عليه السلم( هذه المقدمة بذي المقدمة فالمام )عليه السلم( أشار إلى نقطة مهّمة وهى أ ّ
السلمية آنذاك بدأت تعود إلى الفكار والسنن الجاهلية وهى تبتعد كل يوم أكثر من ذي قبل عن مسيرة النبي
)صلى ال عليه وآله( والقرآن والسلم ،ونموذج ذلك الحركة الظالمة لمشعلي نار الجمل من أجل الحصول على
المناصب من خلل نكث البيعة وسفك دماء المسلمين.
فقد أراد المام )عليه السلم( الوقوف بوجه هذه العودة إلى الجاهلية وتجديد رسالته ووظيفته التاريخية في الحفاظ
على المسيرة السلمية.
ومن هنا قال »فل نقبن) (1الباطل حتى يخرج الحق من جنبه «.وباللتفات إلى أن »أنقبن« من مادة »نقب«
ن الحق ليظهر ما لم تتبدد حجب الباطل ،بعبارة ُاخرى ن العبارة تشير إلى حقيقة هى أ ّ
بمعنى ثقب الشئ وشقه ،فا ّ
ن الباطل يسعى على الدوام ليغطي على الحق وبكتمه ،فاذا شقت حجب الباطل ،تنفس نور الحق واتضح عيانًا فا ّ
ن الحق كامن في باطن كل موجود، للجميع .ويمكن أن تكون العبارة إشارة الى قيام أساس العالم على الحق ،وإ ّ
ولسيما في الفطرة البشرية ،بينما الباطل أمر عارض طارىء على النسان.
فاذا زال هذا العارض ظهر الحق من باطن الشياء .وقد ورد مثل هذا المعنى في الخطبة » 104وآيم ال لبقرن
الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته«.
تأّملت
كما ورد في شرح الخطبة فان »ذي قار« موضع بين البصرة والكوفة شهد معركة قبل
» .1أنقبن« من مادة »نقب« بمعنى الثقب والشق ويطلق النقب على البار تحت الرض وذلك لنها تنقب الرض ـ ومنه البحث
والتنقيب حين تأمل المطالب وإظهار الحقائق والنقيب العالم بحال القوم.
] [ 193
السلم بين العرب والجيش الساساني الذي هزم في المعركة وانتصر فيها العرب (1).وقيل في تسميته أنه كان
فيها بئرًا ماؤه أسود كالقير.
عّدّنهم.
ل إن قِدُموا ل َ
ك شديد في قوله ،وقلت في نفسي :وا ّ
ل من ذلك ش ّ
قال ابن عباس :فدخَلني وا ّ
ل .أقام عل ّ
ى ي عليه السلم إلى ِذى قار من الكوفة في البحر والبّر ستُة آلف وخمسمائة وستون رج ً ثم نَفر إلى عل ّ
بذى قار خمسة عشر يومًا ،حتى سمع صهيل الخيل وشحيج البغال حوله .قال :فلما سار بهم منقلة ،قال
ن الّناس قد كانوا سمعوا قوله .قال:
ل أتممُتهم من غيرهم; فإ ّ
عّدّنهم ،فإن كانوا كما قال ،وإ ّ
للُن عباس :وا ّ اب ُ
ل ورسوله! ثم سرنا. ل أكبر! صدق ا ّ ل ،فقلت :ا ّ
ل ،ول ينقصون رج ً ل ما وجدُتهم يزيدون رج ً فعرضُتهم فو ا ّ
لعل كلم إبن عباس إشارة إلى أن المام)عليه السلم( سمع هذه المور من رسول ال)صلى ال عليه وآله( ثم
أخبر بها.
ل يا
ي عليه السلم ،سّلما عليه ،وقالوا :الحمُد ّ
ل الكوفة على عل ّ
قال ابن أبي الحديد بعد ذلك :فلما قدم أه ُ
صَنا بموازرتك ،وأكَرمنا ُبنصرتك; قد أجبناك طائعين غيَر مكرهين ،فمْرنا بأمرك. أميرالمؤمنين ،اّلذى اخت ّ
ل صلى ا ّ
ل جوهها ،وأهل الفضل وفرسانها ،وأشّد العرب موّدة لرسول ا ّ
ت العرب وو ُ
مرحبًا بأهل الكوفة ،بيوتا ِ
عليه ولهل بيته(2).
مهما قيل ويقال بشأن عظمة السلم وانبثاقه وسط ُاّمة متخلفة ومتعصبة فهو قليل .فقد
] [ 194
لّمة في العصر الجاهلي على سلسلة من النحرافات والصفات الرذيلة ،ونكتفي هنا بالشارة فقط إلى إنطوت ا ُ
التعصب الذي كان سائدا آنذاك والذي لم يكن يسمح لفكار الخرين باختراقه.
ويعتقد أحد المحققين المسيحيين بالرتباط الوثيق بين التعصب الجاهلي ومناخ الحجاز ،فيقول»:تتصف تلك
المنطقة بالجفاف ،فكانت طبيعة الناس هى الخرى الصلبة والشدة ،وكان من العجاز تسلل الفكار السلمية
إليه«.
وإذا أضفنا إلى ذلك الجهل والبتعاد عن العلم وهبوط المستوى الفكري والضحالة الثقافية والتلوث بأنواع
الخرافات التي تدعو إلى التعصب والعناد لدركنا حجم العجاز في هدايتهم وانتشالهم من تلك الدوامة.
وتشير أسباب نزول مثل هذه اليات إلى عمق التعصب الذي كان يحكمهم بحيث كانوا مستعدين للتضحية بانفسهم
تعصبا حقا إن هداية مثل هذه القوام تبدو من المعاجز الكبرى; المر الذي أشيرله في الخطبة المذكورة ،وإن
لّمة للسف بعد رحيل النبي الكرم)صلى ال عليه وآله( بمّدة قصيرة إلى جاهليتها الولى وتسلمت عادت تلك ا ُ
بعض المناصب الحساسة في الحكومة السلمية لتذهب جهود النبي)صلى ال عليه وآله( أدارج الرياح ،ومن هنا
لّمة إلى عصر الرسالة.
فقد سعى المام)عليه السلم(جاهدًا لعادة ا ُ
لقد ورد في بداية الخطبة عبارة »يخصف نعله« التي تذكرنا بحديث النبي)صلى ال عليه وآله(بشأن فضائل علي
ن رسول ال)صلى ال عليه وآله(كان يكلم)عليه السلم( خاصف النعل .حيث جاء في سنن الترمذي أ ّ
] [ 195
مشركي قريش فخاطبهم قائل» :لتنتهن أو ليبعثن ال عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين قد إمتحن ال
قلبه لليمان« فسأله من حضر :ومن ذاك؟ وسأله أبوبكر :من هو؟ وسأله عمر :ومن هو؟ فقال )صلى ال عليه
وآله( :هو خاصف النعل :حيث كان علي)عليه السلم( يخصف نعلي رسول ال)صلى ال عليه وآله( ...ثم نقل
الترمذي عن أبي عيسى أّنه حديث صحيح(1).
ن ذلك العمل الذي صدر من المام )عليه السلم( على عهده وعهد النبي)صلى ال عليه وآله(إّنماومن الطبيعي أ ّ
يفيد تواضع المام)عليه السلم( للناس وانصرافه عن الدنيا.
—–
.1صحيح الترمذي ) 5/634طبعة دار إحياءالتراث العربي( كما ورد هذا الحديث في كتاب ينابيع المودة .59/وورد في كتب أعلم
الشيعة ومنها بحارالنوار 32/300 ،وإحقاق الحق.6/425 ،
] [ 196
] [ 197
القسم الثاني
حُبُهُم اْلَيْوَم!
س َكما َأنا صا ِحُبُهْم ِباَْلْم ِ
ن َوِإّني َلصا ِ ن َوَُلَقاِتَلّنُهْم َمْفُتوِني َ
ل َلَقْد قاَتْلُتُهْم كاِفِري َ
»ما ِلي َوِلُقَرْيش؟ َوا ّ
حّيِزَنا َفَكاُنوا َكَما َقاَل اَْلّوُل:
خْلَناُهْم ِفي َ
عَلْيِهْمَ ،فَأْد َختاَرنا َلا ْ ن ا َّ ش ِإّل َأ ّ
ل ما َتْنِقُم ِمّنا ُقَرْي ٌ
َوا ّ
جرا
شَرَة اْلُب ْ
ك ِبالّزْبِد اْلُمَق ّ
ض صاِبحًا *** َوَأْكَل َ
ح َ
ك اْلَم ْ
شْرَب َ
ت َلَعْمِري ُ
َأَدْم َ
سْمرا«.
جْرَد َوال ّ
ك اْل ُ
حْوَل َ
طنا َ
حْعِلّيا َو ُ
ن *** َ
ك اْلَعلَء َوَلْم َتُك ْ
ن َوَهْبنا َ
حَُوَن ْ
—–
الشرح والتفسير
مالي ولقريش؟
يشير المام)عليه السلم( هنا إلى طبيعة علقته في السابق والحاضر بقريش ،لّنه أورد هذه الخطبة على هامش
ن مؤججي نار الجمل هم طلحة والزبير وسائر الفراد من قريش الذين خططوا لهذه موقعة الجمل :حيث نعلم بأ ّ
المعركة بدافع من أحقادهم تجاه المام)عليه السلم( .فقد كانوا يديرون هذه المعركة علنية أو خفية ومن هنا فا ّ
ن
لّمة من عدم الوقوع في شباكهم إلى جانب تنبيهها إلى الدوافع
كلمات المام)عليه السلم( تضمنت تحذير ا ُ
الصلية لهذه المعركة ،فاستهل)عليه السلم(كلمه قائل» :مالي ولقريش؟ وال لقد قاتلتهم كافرين ول قاتلتنهم
مفتونين) «(1نعم فهؤلء كانوا على الشرك ،وقد التحقوا بالمسلمين بسيف علي )عليه السلم(ودعوة النبي )صلى
ل أّنهم وبعد وفاة
ال عليه وآله( ،إ ّ
النبي)صلى ال عليه وآله( وبدافع من حب الجاه قد إبتعدوا عن الحق حتى هبوا لقتال وصي رسول ال)صلى ال
عليه وآله( بعد أن بايعوه طواعية.
» .1مفتونين« من مادة »فتنة« بمعنى المتحان والبتلء /كما جاءت بمعنى العذاب والخداع والضلل ،وقد وردت هنا بمعنى
الضلل.
] [ 198
ن عليًا)عليه السلم( أعاد الموال إلى أهلها لما غلبنا في البصرة ،فكان يعيد أموال كل من أقام البينة أو
قال :إ ّ
يأتي بالشهود ،ويحلف من ليس له بينة .ولما سئل عن توزيع الغنائم سكت ثم قال :أّيكم يأخذ ُأّمه في سهمه).(2
وتفيد بعض الروايات أّنه عفى عن أهل البصرة كما فعل رسول ال )صلى ال عليه وآله( حين فتح مكة .كما
يستفاد أّنه لم يرد أن تكون هذه المسئلة سنة ،لنه كان يعلم بان شيعته ستخضع لضغوط الظلمة ولعلها تعاملهم
بهذه المعاملة).(3
.1رواها إبن المغازلي الشافعي في كتاب مناقب أمير المؤمنين وابن أبي الحديد في شرح نهج البلغة والمحقق الكركي في نفحات
اللهوت لحقاق الحق ) .(440 / 6وقد قال ابن أبي الحديد في شرحه للرسالة 65من نهج البلغة لو فرضنا أن النبي )صلى ال
ن رسول ال )صلى ال عليه وآله( لم يوص بعلي )عليه السلم( ـ كما تقول المامية ـ ولكن أل يعلم معاوية وغيره من الصحابة أ ّ
عليه وآله( قال ألف مرة في علي )عليه السلم(» :أنا حرب لمن حاربت وسلم لمن سالمت« وقال »الّلهم عاد من عاداه ووال من
واله« وقال »أنت مع الحق والحق معك« )شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد .(24 / 18
.2وسائل الشيعة / 11الباب 25من أبواب جهاد العدو ،ح ،7وللوقوف بصورة أعمق راجع كتاب أنوار الفقاهة ،كتاب الخمس
والنفال .70 /
.3للوقوف أكثر على هذه الروايات راجع أنوار الفقاهة )كتاب الخمس والنفال( .75 /
] [ 199
على كل حال فان مراد المام )عليه السلم( من هذه العبارة أّنه ل يكن أي بغض أوعداء لقريش ،أما بذور
حسدهم للمام )عليه السلم( فسببها وقوف المام)عليه السلم( بوجههم في ميادين صراع الحق ضد الباطل إبان
إنبثاق الدعوة السلمية ،ولم يكن ذلك سوى إمتثال لوامر ال .ثم قال)عليه السلم(:
»وإني لصاحبهم بالمس كما أنا صاحبهم اليوم« فما زال السيف الذي جندلت به البطال في بدر وأحد والحزاب
بيدي ،فالوا قع هذا تهديد صريح لمؤججي نار الجمل .وتساءل البعض أن مثل هذا الكلم يصدق على معاوية و
ل أّنه ل يصدق علىعمرو بن العاص ومروان وأمثالهم الذين هبوا لقتال رسول ال )صلى ال عليه وآله( ،إ ّ
طلحة والزبير ،فقد وقفا إلى جانب رسول ال )صلى ال عليه وآله( في معاركه .وقد أجييب على هذا السؤال بأن
ن الهدف بيان حقيقة أّنه كان يقاتل في سبيل الحق ضد الباطل على
لأّالمام)عليه السلم( لم يرد شخصًا معينًا ،إ ّ
عهد رسول ال )صلى ال عليه وآله(ومازال بعد النبي )صلى ال عليه وآله(يقاتل في هذا السبيل )ونعلم أن قريشًا
ن طلحة والزبير كانا مع رسول ال )صلى ال عليه كانت تقاتل آنذاك ضد المسلمين( .أضف إلى ذلك صحيح أ ّ
ن أغلب أصحابه الجمل ومنهم مروان كانوا من قريش .ثم أشار )عليه السلم( إلى أحد دوافع أصحاب لأّ
وآله( ،إ ّ
ن ال إختارنا عليهم ،فأدخلناهم في حيزنا« ثم وصفهم بأّنهم أصبحوا كمالأّ الجمل فقال »وال ما تنقم منا قريش إ ّ
قال الشاعر).(1
صابحا *** وأكلك بالزبد) (3المقشرة) (4البجرا)(5
أدمت لعمري شربك المحض)َ (2
ونحن وهبناك العلء ولم تكن *** عليا وحطنا حولك الجرد) (6والسمرا)(7
.1لم يرد في شروح نهج البلغة شئ بشأن الول هل يقابل الثاني ،أم أّنها إشارة إلى أحد الشعراء الوائل ،أم المراد به اسم شاعر
غير معروف .ويبدو الحتمال الول أنسب.
» .2المحض« بمعنى اللين الخالص بل رغوة الذي لم يخالطه ماء ،ثم إطلق على كل شئ خالص.
» .3زبد« من مادة »زبد« بمعنى استخراج شئ من آخر ،ومن هنا يطلق الزيد على ما يستخرج من الحليب.
» .4مقشرة« من مادة »قشر« وتطلق على التمرة بعد نزع نواتها.
» .5بجر« على وزن برج من مادة »بجر« بمعنى ظهور السرة ،كما وردت بمعنى التهم في الكل ،ويطلق البجر على صاحب البطن
والحريص.
» .7سمراء« من مادة »سمر« بمعنى السهرة والسامر تقال لمن يقضى الليل صاحيا لسهرة أو حراسة أو هدف آخر.
] [ 200
ل ِرساَلَتُه()
جَع ُ
ث َي ْ
حْي ُ
عَلُم َ
ل َأ ْ
فقريش تشبه بعملها هذا ذلك الحسود الذي يعترض على حكمة ال ،فقد قال سبحانه )ا ّ
.(1
ظـيمًا()
عِحْكَمَة َوآَتْيناُهْم ُمْلكًا َ
ب َوال ِ
ل ِإْبراِهـيَم الِكتا َ
ضِلِه َفَقْد آَتْينا آ َ
ن َف ْ
ل ِم ْ
على ما آتاُهُم ا ّ
ن الّناس َ
سُدو َ
حُ
وقال )َأْم َي ْ
.(2
ن َتشاُء ِبـَيِد َ
ك ل َم ْ
ن َتشاُء َوُتِذ ّ
ن َتشاُء َوُتِعّز َم ْ
ك ِمّم ْ
ع الُمْل َ
ن َتشاُء َوَتْنِز ُ
ك َم ْ
ك ُتـْؤِتي الُمْل َ
ك الُمْل ِ
ل الّلهّم ماِل َ
وقال )ُق ِ
شيء َقِديٌر().(3 ل َعلى ُك ّ ك َ خْيُر ِإّن َ
ال َ
ن النسان المؤمن بالمفاهيم القرآنية والصول السلمية ل يشعر بالحسد تجاه من يشمله ال على
ومن الطبيعي أ ّ
ضوء حكمته بالنبوة والمامة ،فل يرى نفسه سوى مسلهم لهذه الحكمة.
قلما نجد صفة رذيلة كالحسد كانت السبب وراء هذه الحداث الليمة والفجائع المأساوية التي شهدتها المجتمعات
البشربة طيلة التأريخ .فأغلب الناس إثر قّلة العلم وهبوط المستوى الثقا في وضعف اليمان وعدم الثقة بالنفس ما
إن يرى بعض النجاحات التي يحققها أقرانه أو أمثاله حتى تشتعل في قلبه فتائل الحسد فل يهم سوى في كيفية
تحطيم نفسية المقابل عن طريق التهام والتحقير والذم ومحاولة النتقاص أو إيجاد بعض الموانع والمعوقات في
ل من الشعور بالفرح والسرور والحتذاء به من أجل تحقيق النجاح والتغلب على الصعاب طريقه ،بد ً
.1سورة النعام .124 /
] [ 201
والنفتاح على تجاربه وارشاداته .وقد يشتد هذا الحسد حتى يبلغ درجة تدعو إلى إراقة دم المحسود من قبل
ن أول دم إريق كان سببه الحسد ،الذي دفع بقابيل لقتل أخيه هابيل حيث قبل قربان الثاني
الحاسد .ول ننسى هنا أ ّ
ولم يقبل قربان الول ،المر الذي تكرر كثيرا في التأريخ حتى قتل الخ أخاه والبن أباه وبالعكس.
وهكذا تعود أغلب الحوادث الليمة التي وقعت في صدر السلم ول سيما في عصر خلفة أمير المؤمنين
علي)عليه السلم( إلى الحسد; المر الذي أشار إليه المام)عليه السلم(في هذه الخطبة .وقد تعرضت أغلب
الروايات إلى ذم هذه الرذيلة التي ل تجر سوى الفساد على المجتمع ،فقد قال علي)عليه السلم(» :إذا أمطر
التحاسد نبت التفاسد«) .(1أما النقطة المهمة التي أرشدت إليها الخطبة فتكمن في ضرورة عدم مقابلة المحسود
للحاسد بالمثل ،بل يسعى جاهدا لطفاء نار الحسد من قلبه من خلل شكر النعمة ومداراة الحاسد وإطفاء حسده
بمعامتله بالحب والحسان ،وما أحسن ما قال الشاعر:
إصبر على حسد الحسود فان صبرك قاتله *** النار تاكل نفسها إن لم تجد ما تأكله).(2
—–
] [ 202
] [ 203
الخطبة)34 (1
مناسبة الخطبة
خطب المام)عليه السلم( هذه الخطبة كما ورد آنفا بعد فراغه من معركة النهروان .ويستفاد من ظاهر كلم ابن
أبي الحديد أن المام)عليه السلم( خطبها في النهروان ،بينما نقل عن نصر بن مزاحم أّنها أول خطبة خطبها بعد
قدومه من النهروان لما كره القوم المسير إلى الشام عقيب واقعة النهروان ،وأقبلوا يتسللون ويدخلون الكوفة ،فلما
رأى ذلك دخل الكوفة فخطبهم).(2
وصرح البعض من شّراح نهج البلغة أن المام)عليه السلم( كان حريص في النهروان على الحركة إلى الشام
ل أّنهم
ن العودة إلى الكوفة تعني إسترخاء الجيش وصعوبة تجهزه ثانية ،إ ّ
دون ضياع الفرصة ،لّنه كان يرى أ ّ
كانوا يتعللون ببرودة الجو ووجود الجرحى وعدم كفاية السلحة فلم يطيعوا أوامر المام)عليه السلم( .فاضطر
المام)عليه السلم( إلى دخول الكوفة ليجهزهم للقاء
.1رواها الطبري في تأريخه 51 / 6وابن قتيبة في المامة والسياسة 150 / 1والبلذري في أنسباب الشراف ،380 /وكذلك
المرحوم الشيخ المفيد في المالي )المجلس (18بصورة أكثر إختصارا مّما وردت في نهج البلغة )مصادر نهج البلغة (425 / 1
لمة المجلسي في بحار النوار عن مطالب السئول محمد بن طلحة الشافعي )بحار النوار .(333 / 74
ورواها المرحوم الع ّ
] [ 204
العدو ،ولكن )وكما تكهن سابقًا( تشبثوا بالحجج ،فتأثر المام)عليه السلم( وخطب الناس بهذه الخطبة).(1
1ـ التأكيد على جهاد العدو والعواقب الوخيمة لترك الجهاد .والذي يمثل أطول جانب من الخطبة فالمام )عليه
السلم(يعرض باللوم لهل الكوفة ـ في هذا القسم من الخطبة الذي يشكل معظمها ـ ويذمهم بمختلف العبارات
ن ذلك جاء بعد عدم جدوى كافة الساليب عن طريق الستدلل والبرهان والمنطق الشديدة القسوة .وبالطبع فا ّ
والمحبة لتعيئتهم للجهاد ومواجهة العدو ،فلم يكن أمامه سوى هذا السلوب ،فقد كان يشبههم أحيانًا بالمجانين الذين
فقدوا شعورهم وأحاسيسهم فلم يعودوا يدركوا ما يضرهم وينفعهم ،وأحيانًا ُاخرى يشبههم بالبل التي ضل
رعاتها ،ثم يسعى لتعبئتهم من خلل تنبيههم إلى قسوة عدوهم.
2ـ عزمه الراسخ في مجابهة العدو سواء كان هناك من يهب لنصرته أم لم يكن.
لّمة على المام ،فيلخصها في أربع لّمة ،فيعرض بادىء ذي بدء إلى حقوق ا ُ
3ـ الحقوق المتبادلة بين المام وا ُ
لّمة .وكأن المام)عليه السلم( أراد أن يختتم الخطبة
عبارات ،ثم يبين باربع عبارات ُاخرى حقوق المام على ا ُ
بما يحيل مرارة ذمه حلوة عل ذلك يجدي نفعًا في علج ضعفهم وتقاعسهم.
—–
القسم الول
عْوُتُكْم ِإَلى
خَلفًا؟ ِإذا َد َ
ن اْلِعّز َ
عَوضًا َوِبالّذّل ِم َ
خَرِة ِ
ن اْل ِ
حياِة الّدْنيا ِم َ ضيُتْم ِباْل َ
عتاَبُكْم! َأَر ِ ت ِ سِئْم ُ
ف َلُكْم َلَقْد َ »ُأ ّ
ن،
حَواِري َفَتْعمَُهو َ عَلْيُكْم َ
ج َسْكَرة ُيْرَت ُ
ن الّذُهولِ ِفي َ غْمَرة َوِم َ
ت ِفي َ ن اْلَمْو ِ عُيُنُكْمَ ،كَأّنُكْم ِم َ
ت َأ ْ
عُدّوُكْم داَر ْ جهاِد َ ِ
عّز
س الّلياِليَ ،وما َأْنُتْم ِبُرْكن ُيماُل ِبُكْمَ ،ول َزواِفُر ِ جي َ سِ ن! َما َأْنُتْم ِلي ِبِثَقة َ سٌة َفَأْنُتْم ل َتْعِقُلو َ ن ُقُلوَبُكْم َمْأُلو ََوَكَأ ّ
ُيْفَتَقُر ِإَلْيُكْم«.
—–
الشرح والتفسير
يستهل المام)عليه السلم( خطبته بامطار أهل الكوفه بوابل عتابه ولومه وذمه لتجاهلهم المخاطر التي كانت تهدد
البلد السلمي وعدم إكتراثهم لها ،لعل قصبتهم تهتز فيحولوا دون تفاقم تلك المخاطر .فقد كان أهل الشام يشنون
الغارة تلو الغارة على مختلف المناطق السلمية ويسفكون دماء المسلمين وينهبون أموالهم وثرواتهم .فقد قال
المام )عليه السلم( »أف لكم) (1لقد سئمت) (2عتابكم« ودليل ذلك واضح ،فالعتاب ولسيما من شخص كعلي
)عليه السلم( لبّد أن يكون له تأثيرًا واضحًا في نفس المعاتبين ودفعهم لعادة النظر في أعمالهم الطالحة ،إّما إذا
لم يحصل هذا
ل يقال »أففت بكذا« .1قال الراغب في المفردت »أف« في الصل تعني كل شئ قذر وهى كلمة تضجر تطلق للمهانة والستحقار .فمث ً
أي تضجرت منه واستقذرته .وقال البعض »أف« تعني مايجتمع من الوساخ تحت الظافر وقال البعض أن التراب والغبار إذا علق
ببدن النسان فان نفخه يشيه القول»اوف« أو »اف« ثم استخدمت هذه المفردة بمعنى اظهار التضجر والنفرة ول سيما من الشياء
الصغيرة .ونخلص مّما ذكر ومن بعض القرائن إلى أن هذه المفردة كانت في الصل إسم صوت.
» .2سئمت« من مادة »سئم« بمعنى الملل ،التي تتعدى أحيانا بحرف من وأحيانا ُاخرى بدونها ،وسئمته وسئمت منه .بمعنى واحد،
وعليه سئمت عتابكم بمعنى سئمت من عتابكم.
] [ 206
التأثير بسبب غفلة المقابل فان تكراره ل ينطوي سوى على الملل والتعب .ثم قال)عليه السلم(» :أرضيتم بالحياة
ن هذا سكوتكم المميت وفراركم من الجهاد يدل على أنكم أوبقتم الدنيا من الخرة عوضا؟ وبالذل من العز خلفا؟« إ ّ
آخر تكم واستبدلتموها ببضعة أيام من الدنيا من جانب ،ومن جانب آخر فقد أفريتم دنياكم ،وذلك لنكم استبدلتم
العزة والرفعة بالذلة والضعة؟ والحال إن موتًا بعزة أشرف بكثيرمن حياة بذلة; الرسالة التي لقنها أولياء ال
والزعماء الربانيين أتباعهم على مدى العصور والدهور .فقد قال علي )عليه السلم( في نهج البلغة »فالموت
ن الدعي بن الدعي قد ركزني بين في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين«) (1وقال سيد الشهداء »أل وإ ّ
إثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة« ثم خاطب جيش الكوفة »إن لم يكن لكم دين وكنتم ل تخشون المعاد
ن عبارات المام)عليه السلم(كانت تمثل دليل سئمه عتابهم وكأّنهم عقدوا فكونوا أحرارًا في دنياكم« فالواقع أ ّ
العزم على إيثار الذلة والحقارة وغضب ال على العزة والشرف ورضى ال ،ومن هنا لم يعد للعتاب من أثر
عليهم ،حتى سئم المام)عليه السلم(عتابهم .أّما في العبارة اللحقة فيشير المام)عليه السلم( إلى ضعفهم ليلتفتوا
إلى أنفسهم فيزيلوا ذلك الضعف فقال )عليه السلم(» :إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم ،فأّنكم من
الموت في غمرة) (2ومن الذهول في سكرة .يرتج عليكم حواري) (3فتعمهون) .«(4قوله)عليه السلم(»يرتج
عليكم حواري« ـ بالنظر إلى الحوار الذي يعني الكلم المكرر ويرتج من مادة )رت ج( بمعنى يغلق ـ له معنيان:
ن باب الفهم أغلق بوجوهكم .والثاني ن كلمي المكرر ل يؤثر فيكم فأنكم ل تدركوه ،ل ّالول ما ذكر سابقًا ،أي أ ّ
ن نتيجة المعنيينن لسانكم عقد عن جوابي ،وذلك لّنكم ل تمتلكون الرد المنطقي على كلمي ـ على كل حال فا ّ أّ
واحدة تضمنتها العبارة اللحقة وهى حيرتهم وضللهم »وكأن قلوبكم مألوسة) (5فانتم ل تعقلون«.
» .2غمرة« الواحدة من غمر وهو الستر ،وغمرة الموت الشدة التي ينتهي إليها المحتضر ،وهى الحالة التي كان يعيشها جيش
الكوفة.
» .3حوار« من مادة »حور« بمعنى الرجوع وتطلق على المحادثة بين الفراد والتي يصطلح عليها بالمحاورة ،وقد وردت بهذا
المعنى في العبارة.
] [ 207
ثم يخلص المام )عليه السلم( إلى هذه النتيجة »ما أنتم لي بثقة سجيس) (1الليالي« .وبالنظر إلى أن سجيس
الليالي«
ن معنى العبارة مادامت الليالي بظلمها فليس لي من ثقة بكم ،وهى كناية عن البدية والخلود، تعني ظلمة الليل فا ّ
لن الظلمة ل تفارق الليل أبدًا .أما اختيار ظلمة الليل فينطوي على منتهى البلغة إستنادا إلى أفكار أهل الكوفة
وأعمالهم السوداء المظلمة .ثم أكد ذلك بقوله »وما أنتم بركن يمال بكم ول زوافر) (2عز يفتقر إليكم« وهكذا
أعلن المام)عليه السلم(بهذه العبارات عدم ثقته واعتماده على هذه العناصر الضعيفة بعد أن تطرق لنقاط
ضعفهم ،أمل في إثارتهم وتعبئتهم لتوحيد الصف ومجابهة العدو .ودخولهم الميدان بكل قوة وشجاعة.
نرى أنفسنا مضطرين مرة ُاخرى لملحقة هذا السؤال :لم كل هذا العتاب واللوم من قبل المام)عليه السلم( ـ
وهو ما هو عليه من العلم والحكمة في إدارة شؤون الناس ـ لهل الكوفة وامطارهم بوابل من الكلمات القاسية
العنيفة؟ أفل يؤدي هذا الكلم الذي ينطوي على العتاب والذم وانعدام الثقة إلى نفرتهم وشدة تعصّيهم وابتعادهم
ن المام)عليه السلم( قد خبر نفسية وروحية أهل الكوفة ،وقد أثبت عن الحق؟ ولبّد من القول في الجواب أ ّ
ل إذا داهمهم الخطر وعرضهم للزوال بالمرة ،بعبارة ُاخرى فا ّ
ن التأريخ أن اهل الكوفة لم يكونوا يتحركون إ ّ
العتاب ليجدي معهم نفعا ما لم يجرح مشاعرهم ويثير أحاسيسهم.
ن المجتمعات البشرية إّنما تشتمل دائما على طائفة ـ وإن كانت ضئيلة ـ ل تفيق إلى نفسها ما لم تتلق
ويبدو أ ّ
ضربات موجعة متتالية.
ول يفهم من كلم المام )عليه السلم( إننا ينبغي أن نعتمد هذا السلوب تجاه من عاش الغفلة وتخلى عن وظيفته
ن الفراد على أنواع :بعضهم يعود إلى نفسه بأدنى إشارة فيستقيمومسؤوليته; ل ّ
ن َاصل
» .1سجيس« من مادة »سجس« بمعنى تغيير لون الماء وتكدره ،ومن هنا ِاطلقت »سجيس الليالي« على ظلمة الليل وكأ ّ
الستعمال ما دامت الليالي بظلمها ،وهكذا وردت في العبارة.
» .2زوافر« جمع زافرة من مادة »زفر« بمعنى التنهد وهو التنفس بصوت .كما يطلق الزفير على صوت النار ،والزافزة بمعنى
النصار والقوام والعشيرة.
] [ 208
وبناءًا على هذا فان ذلك السلوب إّنما يختص بتلك الجماعة بفضله العلج الخير لدائهم.
وقد أثبت التاريخ أن ذلك السلوب كان قد أثر في أغلب أهل الكوفة فاندفعوا إلى النخيلة وتأهبوا لقتال أهل الشام،
ن شهادة أميرالمؤمنين)عليه السلم( على يد عبدالرحمن بن ملجم أشقى الخرين حالت دون ذلك. غير أ ّ
ل أّنهم
ن المام )عليه السلم( كان كثيرًا ما يثني على أهل الكوفة أوائل حكومته) ،(1إ ّ
والشاهد الخر على ذلك أ ّ
حين ضعفوا واستقوى عليهم أهل الشام فكانوا يهجمون كل يوم على منطقة من مناطق البلد السلمية ،لم ير
)عليه السلم( بدًا من مخاطبتهم بهذا السلوب.
—–
] [ 209
القسم الثاني
ب َأْنُتْم!
حْر ِ
سْعُر ناِر اْل َ
ل ُ
س َلَعْمُر ا ّ
ن آخََر َلِبْئ َ
ت ِم ْ
شَر ْ
جاِنب اْنَت َ
ن َ
ت ِم ْ جِمَع ْ
عاُتَها َفُكّلَما ُ
ضّل ُر َ»ما َأْنُتْم ِإّل َكِإِبل َ
ن!
ضو َطراُفُكْم َفل َتْمَتِع ُن َوُتْنَتَقصُ َأ ْن َول َتِكيُدو َُتكاُدو َ
غى،
س اْلَو َ
حِم َ
ن َلْو َ
ن ِبُكْم َأ ْ
ظّن! َواْيُم الّ ِإّني َل ُ
ل اْلُمَتخاِذُلو َ
ب َوا ّ
غِل َ
نُ ،
غْفَلة ساُهو َ عْنُكْم َوَأْنُتْم ِفي َ
ل ُيناُم َ
س«. ج الّرْأ ِ
ن َأِبي طاِلب اْنِفرا َ
ن اْب ِ
عِجُتْم َ
تَ ،قِد اْنَفَر ْ
حّر اْلَمْو ُ
سَت َ
َوا ْ
—–
الشرح والتفسير
ومن البديهي أن هؤلء الفراد ليسعهم أن يكونوا قوة أمام العدو ولذلك قال)عليه السلم(»:لبئس لعمر) (1ال
سعر) (2نار الحرب أنتم«.
فالحرب ظاهرة ممجوجة غير محببة وآثارها خراب البلدان وقتل النسان والفقر والجهل
» .2سعر« جمع ساعر من مادة »سعر« بمعنى أوقد النار وسعر بمعنى شعلة النار ،والمراد ليئس موقدو الحرب أنتم.
] [ 210
ن نفس ظاهرة اللوم هذه قد تكون دواءًا حيويًا للمجتمع وذلك حين ينهض العدو
لأّ
والبؤس والشقاء والتخلف ،إ ّ
لّمة وينشر في ربوعها الذعر والفساد والنحراف.ليهضم حقوق ا ُ
ل من خلل الحرب .ومن هنا صرح القرآن الكريم قائلُ):اذن فل يمكن إعادة المن والسلم والعدل إلى المجتمع إ ّ
ل اّلِذي َ
ن لا ّ
سِبي ِ
للذين يقاتلون بانهم ظلموا وان ال على نصرهم لقدير() (1وقال في موضع آخر )َوقاِتُلوا ِفي َ
ن().(2
ب الُمْعَتِدي َ
ح ّ
ل لُي ِ
نا ّ
ُيقاِتُلوَنُكْم َولَتْعَتُدوا ِإ ّ
ن المام )عليه السلم( إذا أشار إلى الحرب ،فاّنما ذلك لتكرر إعتداءات وحملت أهل الشام وسفكهم
وعليه فا ّ
للدماء ونهبهم للموال بل هبوا في الواقع لمحاربة وصي رسول ال )صلى ال عليه وآله(من بايعته الّمة برمتها.
ومن هنا خاطبهم »تكادون ولتكيدون ،وتنتقض أطرافكم فل تمتعضون (3)،ل ينام عنكم وأنتم في غفلة
ساهون«.
وما أعظم قساوة إصدار الحكام بشأن المام على)عليه السلم( واتهامه بالضعف وقّلة التدبير في الحروب إذا لم
يحط بحقيقة أهل الكوفة والضعف والوهن الذي كان سائدا لديهم إلى جانب عدم الطاعة والتمرد الذي طبعت عليه
سجيتهم.
بعد ذلك يخلص المام )عليه السلم( إلى نتيجة أعمالهم فيقول »غلب وال المتخاذلون«نعم فالفشل والهزيمة ل
تقتصر على هولء الذين تصدعت وحدتهم وتخلوا عن مجابهة العدو ،بل الهزيمة من القوانين الثابتة التي يمنى
بها كل من يعيش هذه المفردات من قبيل الفرقة والنفاق والضعف والوهن وعدم الطاعة.
] [ 211
ثم قال )عليه السلم(»:وآيم ال) (1اني لظن بكم أن لو حمس) (2الوغى) (3واستحر) (4الموت ،قد انفرجتم عن
إبن أبي طالب إتفراج الرأس«.
وأخيرا يتعذر التئام الرأس بالجسد إذا ما فصل عنه ،بينما ليست هنالك مثل هذه الصعوبة في إلتئام سائر أعضاء
البدن.
وعليه فان مراد المام )عليه السلم( هو أنكم تنفرجون عني وليس لكم العودة إلي اذا حمي الوطيس وأخذكم
ن المراد بقوله»:أنفراج الرأس« هو فلق الرأس بضربة السيف
الخوف فهربتم مني كما احتمل بعض الشّراح أ ّ
التي تأبى اللتئام(5).
يتطرق المام )عليه السلم( بفضله زعيمًا إنسانيًا وسياسيًا وعسكريًا ـ في هذا القسم من الخطبة ـ إلى العوامل
التي تقف وراء الضعف والفشل والهزيمة ،فيجملها بعبارات قصيرة بعيدة المعاني وفي مقدمتها التشتت والفرقة
وعدم إمتلك الزعيم الوحد ،المر الذي يشاهد بوضوح اليوم في
.1أوردنا شرحًا وافيًا في المجلد الول ذيل الخطبة رقم 10لعبارة »وآيم ال« التي تفيد مفهوم القسم.
» .2حمس« من مادة )ح م س( بمعنى إشتد وصلب ،والحماسة والتحمس بمعنى التشديد والتشدد ولسيما في الحرب ويقال الحمس
للرجل الشجاع الذي يقف بصلبة بوجه العدو.
» .3الوغى« بمعنى الضجيج والصوت والجلبة في ميدان القتال ،كما يقال لنفس الحرب الوغى ،وهكذا وردت في العبارة.
» .4إستحر« من مادة »حرر« بمعنى اشتداد الحر ،وهو إشارة ليثار الفرار على الثبات في المعركة إذا إشتد القتال وبلغ حدته.
.5يبدو هذا الحتمال مستبعدا لوجود التقدير في الجملة ،لن العبارة »قد إنفرجتم عن ابن أبي طالب« تتطلب أن يكون تقدير العبارة
»إنفراج الرأس« هو »إنفراج الرأس عن الجسد« أو »إنفراج الجسد عن الرأس« كما ورد مثل هذا التعبير في الخطبة » 97انفرجتم
عن علي بن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها«.
والعجيب ما اورده شّراح نهج البلغة من تفاسير غريبة لهذه العبارة ،حتى ذكروا ثمانية وجوه أو أكثر لنرى ضرورة للخوض فيها.
] [ 212
لّمة.
البلدان السلمية ،حيث تؤدي الفرقة والنفسام إلى هذه الفوضى والنفلت في صفوف ا ُ
والطريف في المر أن الجميع يتحدث عن الوحدة ،بينما يسهم كل حسب قدرته بتأجيج نيران الفرقة والختلف.
والثاني عدم وجود الخطط والمشاريع الصحيحة التي يمكنها مواجهة مخططات العدو الخبيثة والتي أشير إليها
بالعبارة »تكادون ول تكيدون« .الثالثالستهانة ببعض الحوادث الصغيرة ـ وهى كبيرة في الواقع ـ والتي تعرض
لها المام)عليه السلم(بقوله»وتنتقص أطرافكم فل تمتعضون« فاغلب الحوادث الصغيرة تكشف عن عمق بعض
المسائل المهمة الخفية ،فتغيير بسيط في البدن قد يعكس حالة مستعصية في باطنه ،وهذا ما عليه الحال بالنسبة
للقضايا الجتماعية والسياسية والعسكرية.
فاذا رأينا العدو قد هجم على منطقة حدودية صغيرة ،أو إغتال شخصية من البلد ،لبّد أن نعلم بأّنه إّنما يعّد نفسه
ل لما تجاسر وارتكب ذلك العمل.
لمعركة أكبر وأعنف ،وإ ّ
وعليه لبّد من اللتفات إلى العمال في بدياتها وعدم الغغلة عن القضايا العضال التي تستبطنها وتختزنها .الرابع
يقظة العدو وغفلتنا ،فالعدو منهمك على الدوام في إعداد الِعدة والُعدة ،بينما ننظر بكل سذاجة إلى الوضاع القائمة
على أنها تمثل السلم العادل والمشرف ،فاذا قدر لنا أن نفيق من غفلتنا ،رأينا زمام المبادرة قد سلبت من أيدينا.
الخامس خوف الموت والفرار من الشهادة في سبيل ال والتي أشار إليها المام)عليه السلم( بقوله »وآيم ال! انى
لظن .«...والواقع إن النسان ليغفل عن حقيقة مفادها أن خشية الموت سبب الموت :والستعداد للتضحية والفداء
يعد من أسباب حفظ النفس.
كانت هذه بعض النقاط المهمة المرتبطة بالضعف والهزيمة التي أوردها المام)عليه السلم(في هذه الخطبة
وسنتابع تفاصيل هذه المسألة في البحاث القادمة ذات الصلة .فقد تطرق المام)عليه السلم(في الخطبة الخامسة
والعشرين إلى سائر عوامل الضعف والفشل والهزيمة.
—–
] [ 213
القسم الثالث
ضّم ْ
ت ف ما ُ
ضِعي ٌ
جُزُهَ ،
عْظيٌم َ
جْلَدُه َلَع ِ
ظَمُه َوَيْفِري ِ
عْ
شُم َ
حَمُه َوَيْه ِ
ق َل ْ
سِه َيْعُر ُ
ن َنْف ِ
عُدّوُه ِم ْ
ن َ
ن اْمَرًأ ُيَمّك ُل ِإ ّ
»َوا ّ
صْدِرِه.
ح َ جواِن ُعَلْيِه َ
َ
طي ُ
ح ش اْلهاِمَ ،وَت ِ
طيُر ِمْنُه َفرا ُ
شَرِفّيِة َت ِ
ب ِباْلَم ْ
ضْر ٌ
ك َ
ي َذِل َ
طَ
عِن ُأ ْ
ن َأ ْ
ل ُدو َ
ت َفَأّما َأَناَ ،فَوا ّ
شْئ َن ِ ك ِإ ْن ذا َت َفُك ْ
َأْن َ
ك ما َيشاُء«. ل َبْعَد َذِل َ
عُد َواَْلْقداُمَ ،وَيْفَعُل ا ّ
سوا ِ ال ّ
—–
الشرح والتفسير
يتحدث المام)عليه السلم( عن العناصر الضعيفة والهزيلة التي تمكن عدوها من نفسها فيقول »وال إن إمرء
يمكن عدوه من نفسه يعرق) (1لحمه ويهشّم) (2عظمه و يفري) (3جلده لعظيم عجزه ،ضعيف ما ضمت عليه
جوانح) (4صدره«
ن الضعف والوهن بلغ ذروته في جيش الكوفة بحيث اندفع العدو يكل ما ُاوتي من قوة
فالعبارة تبين بصراحة أ ّ
ليسدد له الضربات التي تحز اللحم وتطحن العظام ،وهى أروع عبارة تجسد تسلط العدو وتحكمه في مصير
الضعفاء العجزة ،كما تضمنت قمة الفصاحة
» .1يعرق« من مادة »عرق« بمعنى فصل اللحم عن العظم ،كما ورد بمعنى فصل اللحم عن العظم بالسنان وأكله.
» .2يهشم« من مادة »هشم« بمعنى كسر الشي اليابس كما ورد بمعنى كسر مطلق العظام ،أو عظام الرأى و الوجه.
» .4جوانح« جمع »جانحة« ،و هى الضلوع تحت الترائب ،اصلها من مادة »جنح« بمعنى الميل و النحراف ،و قد اطلقت على
الضلع لّنها ليست بشكل مستقيم.
] [ 214
لمور بشأن عدة أفراد كأن ل تكون العبارات الثلث المذكورة بشأن فرد واحد ،بل يفعل العدو هذه ا ُ كما يحتمل إ ّ
يعرق لحم البعض ويهشم عظم الخر ويفري جلد الثالث وعلى ضوى هذا التفسير يمكن حل السؤال الوارد بشأن
ن جواب المام)عليه السلم( ن المام )عليه السلم(لم جعل فري اللحم في آخر العبارة .فكأ ّ ترتيب العبارات في أ ّ
ن جنايات العدو تجاهكم في مرحلة هى فصل اللحم عن العظم ،ثم يتقدم في مرحلة ُاخرى ليهشم العظم وأخيرًا ل أّ
ن هذه العبارات إشارات إلى بعض الحوادث التي يبقى أمامه سوى فري جلد البدن .وذهب بعض المفسرين إلى أ ّ
وقعت بعد شهادته )عليه السلم( وسيطرة معاوية وأهل الشام على العراق ولم يرحموا صغيرًا ول كبيرًا ول
ل ول نساءًا) .(3ولكن يبدو أّنها ليست مختصة بذلك الزمان ،وإن صحيحًا ول مريضًا ول فقيرًا ول غنيًا ول رجا ً
كانت أشد وأقسى آنذاك.
] [ 215
أّما العبارة»ما ضمت عليه جوانح صدره« ـ باللتفات إلى أن الجوانح جمع جانحة بمعنى الضلع ـ فالمراد بها
القلب ،وهدف المام من قوله»ما ضمت عليه جوانح صدره« بيان روحية جيش الكوفة ومدى عجزه .ثم يتطرق
المام)عليه السلم(إلى نقطة مهّمة وأساسية يكشف فيها عن إتخاذه القرار الحاسم بشأن المستقبل وما يحمله من
أحداث »أنت فكن ذاك إن شئت فأّما أنا فوال دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه قراش) (1الهام،
وتطيح)(2السواعد والقدام ،ويفعل ال بعد ذلك ما يشاء«.
وأّما من المخاطب بقوله)عليه السلم( أنت فكن ذاك؟ هنالك احتمالن :الول أن إّنما خاطب من يمكن عدود من
نفسه كائنا من كان ،غير معين ول مخصص ،والحتمال الخر أّنه خاطب بذلك الشعث بن قيس ،فاّنه روى
أّنه)عليه السلم( قال وهو يخطب ويلوم الناس على تثبيطهم وتقاعدهم:
ل فعلت فعل ابن عفان! فقال له»:إن امرًا مكن عدوه من نفسه ،يعرق لحمه ويهشم عظمه ويفري جلده .أنت هً
ن المام )عليه السلم( فصل نفسه عنهم بعد أن يأس منهم ،فافهمهم أنكم إن آثرتم فكن ذاك «...فالواقع هو أ ّ
ل السيف وسأقاتله بمفردي ،فلكل وظيفة وليس أنا من الستسلم للعدو فسبيلي غير سبيلكم وليس للعدو عندي إ ّ
يتقاعس عن إداء وظيفته ،فان تخليتم عن وظيفتكم ورضيتم لنفسكم الذل والهوان والستسلم للعدو وعرضتم
البلد السلمي للدمار والبتزاز وخليتم وأهل الشام لينهبوا الموال ويعتدوا على العراض ،فليس لي إلّ أن
ن المام)عليه السلم( أرادأقاتلهم وحدي وأنا مستعد للشهادة التي ل أوثر عليها شيئًا ولن أشعر بالضعف أبدًا .وكأ ّ
أن بهذه الكلمات أن يشد أزر ذلك النزر اليسير من الفراد الشجعان الذين ل يخلو منهم جيش الكوفة ،كما يزيل
الشك عن قلوب بعض المترددين ليلتحقوا به ،ويرشد التأريخ إلى مدى الثر الذي لعبه كلم المام)عليه
السلم(فيهم .فقد شعروا بقوتهم من جديد وتأهبوا لمنازلة العدو.
» .1قراش« جمع »قراشه« بعنى العظام الرقيقة التي تلي القحف أو عظام الجبهة والرأس ،وهام جمع هامة بمعنى الرأس كما تطلق
على زعيم القبيلة.
» .2تطيح« من مادة »طوح« بمعنى الهلك أو الشراف على الهلك .ولما كان فصل اليد والرجل يشكل القضاء عليهم فقد ُاطلقت
بهذا المعنى في العبارة المذكورة.
] [ 216
قد تشهد الحياة الجتماعية والسياسية بعض اللحظات الحساسة التي تجعل الزعماء في موضع ل يحسدون عليه،
وتتفعل هذه اللحظات حين يشتد الضعف والخلف والترديد في إتخاذ القرار; المر الذي يمنح العدو بعض
عناصر القوة في المباغتة.
وهنا لبّد أن ينبري الزعيم الشجاع ليعلن قراره الحاسم بهذا الشأن ليفهم الجميع بأّنه مستعد للقتال وخوض غمار
الحرب بمفرده سواءًا كان هناك من يقف إلى جانبه أم ل ،فليس هنالك سوى الشهادة التي تأبى المقارنة بالخضوع
والستسلم .وهذا ما أشار إليه المام )عليه السلم(في الخطبة ،وقد وقفنا على مثيله من أبي الضيم والحرار
المام الحسين)عليه السلم( .فقد إتفقت كلمة الصحاب ليلة عاشوراء في مواكبة إمامهم )عليه السلم( ول سيما
حين رفع المام)عليه السلم(بيعته عن الجميع وأذن لهم بالنصراف ،حيث انصرف أغلب الضعفاء والعجزة
ل قّلة قليلة ،لينهض كل واحد منهاوانفرجوا عن المام)عليه السلم( وهربوا من خوض الجهاد ،ولم يبق معه إ ّ
ويعبر عن موقفه ومساندته للمام )عليه السلم( وان قتل سبعين قتله ،وآخر قال لو ُاقتل وُاحرق ثم ُاقتل ويفعل بي
ذلك سبعين مرة لما تركتك ،وما شابه ذلك من المواقف التي عبر عنها صحبه الوفياء).(1
وقد أشار أمير المؤمنين علي )عليه السلم( ـ في الرسالة 36من رسائله في نهج البلغة ـ إلى هذا المعنى ،حيث
قال لخيه عقيل»وأما ما سألت عنه من رأيي في القتال :فان رأيي قتال المحلين حتى ألقى ال ل يزيدنى كثرة
الناس حولي عزة ول تفرقهم عني وحشة ول تحسبن ابن أبيك ـ ولو أسلمه الناس ـ متضرعًا متخشعًا ول مقرًا
للضيم واهنًا« .كما نصطدم في قصة موسى)عليه السلم(بقومه الذين أعربوا عن خوفهم من مجابهة العمالقة لما
بلغوا بوابة بيت المقدس فضعفت إرادتهم وترددوا في إتخاذ القرار ،حتى تمردوا على نبّيهم موسى)عليه
السلم(وأخيه هارون)عليه السلم( واعلنوا موقفهم.
ن()
عُدو َ
ك َفقاِتل ِإّنا هـُهنا قا ِ
ت َوَرّب َ
ب َأْن َ
خَلها َأَبدًا ما داُموا ِفـيها َفاذَه ْ
ن َنْد ُ
ى ِإّنا َل ْ
المخزي بكل صراحة )قاُلوا يا ُموس ْ
.(2
.1للوقوف على خطبة المام)عليه السلم( ليلة عاشوراء وما قاله صحبه الوفياء راجع بحار النوار .392 / 44
] [ 217
خي
سي َوَأ ِ
ل َنْف ِ
ب ِإّني ل َأْمِلك ُ ِإ ّ
ل َر ّ
ل أن أعلن موقفه منهم وانفصاله عنهم )قا َ
فما كان من موسى)عليه السلم( إ ّ
ن().(1 سِقـي َ
ن الَقْوِم الفا ِ
ق َبْيَننا َوَبْي َ
َفاْفُر ْ
عَلْيُكْم َمقاِمي
ن َكُبَر َ
ل ِلَقْوِمِه يا َقْوِم ِإن كا َ
عَلْيِهْم َنَبَأ ُنوح ِإذ قا َ
ل َ
وهذا هو موقف نبي ال نوح)عليه السلم( )َوا ْت ُ
ي َول
ضوا ِإَل ّ
غّمًة ُثّم اْق ُ
عَلْيُكْم ُ
ن َأْمُرُكْم َ
شَركاَءُكْم ُثّم ل َيُك ْجِمُعوا َأْمَرُكْم َو ُ
ت َفَأ ْ
ل َتَوّكْل ُ
ل َفَعلى ا ّ
تا ّ
َوَتذِكـيِري ِبآيا ِ
ن().(2 ظُرو َُتْن ِ
ن لهذا الموقف الصادم الذي يتخذه الزعيم أثره الكبير في نفوس أتباعه ،حيث يشعر الفراد بارتفاع
ول شك إ ّ
معنوياتهم وقوة شوكتهم إلى جانب عودة الضعفاء إلى الحق والشعور بالقوة والقتدار ويضطرها لتخاذ ذات
الموقف.
وأدنى معطيات ذلك الموقف أنه يشكل وثيقة تأريخية حية في سيرة هؤلء الزعماء البطال والذي يلهم الجيال
العزم والرادة والقوة ،وهذا ما نلمسه بوضوح في الملحمة الحسينية في كربلء والتي مازالت تلهم المم
والشعوب كل عناصر القوة والقتدار في مواجهة الظلم والضطهاد والطغيان.
—–
] [ 218
] [ 219
القسم الرابع
عَلْيُكْم َوَتْعِليُمُكْم
حُة َلُكْمَ ،وَتْوِفيُر َفْيِئُكْم َ
صي َي :فالّن ِ عَل ّ
حّقُكْم َ
قَ ،فَأّما َحّ
ي َعَل ّ
حّقا َوَلُكْم َعَلْيُكْم َ
ن ِلي َ »َأّيها الّناس ِإ ّ
بَ ،واِْلجاَبُة شَهِد َواْلَمِغي ِ حُة ِفي اْلَم ْ صي َ عَلْيُكْم :فاْلَوفاُء ِباْلَبْيَعِة َوالّن ِ
حّقي َ
جَهُلواَ ،وَتْأِديُبُكْم َكْيما َتْعَلُموا َوَأّما َ
َكْيل َت ْ
ن آُمُرُكْم«.حي َطاعُة ِ عوُكْم َوال ّ ن َأْد ُ
حي َ
ِ
—–
الشرح والتفسير
يختتم المام )عليه السلم( خطبته بالتعرض لهم القضايا المرتبطة بالحكومة والتي تكمن في حق المام على
لّمة على المام ،فيوجزها بعبارات مقتضية عظيمة المعاني ،حيث يشير إلى أربعة متبادلة لكل لّمة وحق ا ُ
اُ
لّمة على المام على العكس ،أّنه مدعاة
لّمة ،ومن شأن تقديم حقوق ا ُمنهما .فقد تحدث بادى زي بدء عن حقوق ا ُ
للتأثير في نفوس السامعين ،إلى جانب كشفه عن البعد الشعبي والجماهيري للحكومة السلمية ،كما يفيد عمق
لّمةفارق هذه الحكومة مع الحكومات المستبدة الغاشمة والحكام الطغاة الذين يرون أنفسهم ما لكي رقاب ا ُ
فيعاملونها معاملة المالك والمملوك أو القطاع والمزارع.
ل أّنه يفيد معنى جنس الحق الذي ينطوي على مفهوم عام ،أما تنكيره فيشير إلى والحق وإن ذكر بصورة مفردة إ ّ
ن التيان بالنكرة قد يفيد التعظيم أحيانًا.
عظمة هذه الحقوق ،ل ّ
النصيحية تعني الخلوص ومن هنا يصطلح على العسل الخالص بالناصح.
] [ 220
كما وردت بمعنى الخياطة ،ولذلك يطلق الناصح على الخياط ،ثم اطلقت على كل عمل خير خالص خال من الغل
والغش.
لّمة من خلل ن المراد بالنصيحة في العبارة العمل من أجل الرتقاء بالجوانب المادية والمعنوية ل ُ
ومن هنا يبدو أ ّ
لّمة ،وعليه فلبّد أن البرامج والمشاريع الصحيحية ،حيث تشكل هذه المشاريع الخطوة الولى لتحقيق خير ا ُ
لّمة
يكون للمام والولي والزعيم مشروعًا صحيحًا وجامعًا يتضمن تأمين المصالح المادية والمعنوية لفراد ا ُ
ويأخذ بايديهم إلى الكمال المنشود.
والحق إن هذه المسألة لمن المسائد الحيوية المهّمة في عالمنا المعاصر والتي تحظى بأهمية فائقة ،حيث يعتقد
أغلب العلماء والمنكرين أن العراقيل التي تنطوي عليها المسيرة الجتماعية إّنما أفرزتها بالدرجة الساس مشكلة
عدم وجود المشاريع والخطط الصحيحة.
ثم يشير )عليه السلم( إلى الحق الثاني ـ ذات الصلة بالجانب القتصادي ـ فيقول »وتوفير فيئكم عليكم«.
فالعدالة الجتماعية في المجال القتصادي تعد من أهم مشاكل المجتمعات البشرية ،فأغلب الحروب والنزاعات
الدموية ومعظم المفاسد الجتماعية إّنما تعزى إلى تغييب العدالة الجتماعية.
ن إعادة المن والسلم والنظام والستقرار والوقوف بوجه المفاسد الخلقية ومختلف النحرافات إّنما ومن هنا فا ّ
تتطلب بادىء ذي بدء إحياء العدالة الجتماعية وتفعيلها في المجتمع.
ن المفردة »فيء« حسب أرباب اللغة أّنها العودة والرجوع إلى حالة الخير
وإستناد إلى أ ّ
] [ 221
والحسان ،فاّنها تطلق إيضًا على الظل حين يرجع من طرف الغرب إلى الشرق.
وتطلق هذه المفردة في اليات القرآنية والحاديث النبوية على الموال التي تصل المسلمين من الكفار ،فقد تطلق
على الموال التي تصل دون القتال ،وحتى على مثل هذه الموال والنفال التي تعني الثروات الطبيعية للحكومة
السلمية التي ليست لها ملكية شخصية.
ن وظيفةوالفيئ في العبارات المذكورة تعني جميع أموال بيت المال ،فقوله )عليه السلم( توفير فيئكم تعني أ ّ
لمورالحاكم السلمي تعني إداء الموال العامة إلى المحتاجين والمعوزين وأصحاب الحق ،أي تنظيم ا ُ
لّمة أما الحق الثالث الذي أشار إليه المام )عليه السلم(فيرتبط بالتعليم والشؤون الثقافية
القتصادية والمعاشية ل ُ
»وتعليمكم كيل تجهلوا«.
3ـ التعليم
ن المام عبر عن الحق الثالث بقوله »وتعليمكم كيل تجهلوا« والحق الرابع »وتأديبكم كيما
جدير بالذكر أ ّ
تعلموا«.
ن نتيجة التعليم هى العلم والمعرفة ،بينما يقود التأديب إلى تربية الخصال الخلقية ل العلم والمعرفة ،إ ّ
ل والحال أ ّ
ن مراد المام )عليه السلم(: أّ
لبّد أن تقفوا على آثار الفضائل وأضرار الرذائل ،لتتحلوا بالولى وتواجهوا الثانية ـ فالحق الثالث يشير في
الواقع إلى العقل النظري بينما يشير الحق الرابع إلى العقل العملي ثم تطرق المام )عليه السلم( إلى حقوق المام
لخرى في أربع لّمة السلمية وأوجزها هى ا ُعلى ا ُ
] [ 222
ن المام والحاكم لّمة والمام; العهد الموثق الذي يجب العمل به ،وعلى ضوء هذا العهد فا ّ والبيعة هى العهد بين ا ُ
لّمة
لّمة ويرسى دعائم المن والستقرار ويقاتل العدو ويمهد السبيل أمام ا ُ لبّد أن يأخذ بنظر العتبار مصالحة ا ُ
لّمة أن تشد أزره وتقف إلى جانبه وتتجنب كل ما من شأنه تشد أزره وتقف إلى للسمو والتكامل ،كما يجب على ا ُ
جانبه وتتجنب كل ما من شأته المساس بهذا العهد والميثاق الحق الثاني الذي ذكره المام )عليه
السلم(»:والنصيحة في المشهد والمغيب« فل يكونوا منافقين يظهرون المحّبة والخلص في حضوره ،فان
غاب عاثوا الفساد وسلكوا الخيانة.
ن ال حاضرا ل يخفى عليه شئ ول ينبغي أن يعيش المومن لأّ فقد ليكون المام حاضرًا بينهم على الدوام ،إ ّ
الغفلة عن هذا المر أّما الحق الثالث الذي ذكره المام )عليه السلم(»:والجابة حين أدعوكم« فل ينبغي أن
تتعللوا ببعض الذرائع فرارًا من مواكبتي ،لبّد أن تطيعوا أوامري وتقتفوا أثري ،والحق الرابع والخير
ل أّنه ليطيع مايصدره من أوامر ،وعليه فاجابة الدعوة
»والطاعة حين آمركم« فلعل البعض يلبي دعوة المام ،إ ّ
لبّد أن تكلل بطاعة الوامر.
ن عبارة المام شاملة عامة وهذا ما يفهم من قوله )عليه السلم(»لبّد الناس من أمير بر أو فاجر«)(2 لكن يبدو أ ّ
لّمة
لّمة لبّد أن يحترم الحقوق الربع التي ينبغي أن تتمتع بها ا ُ
فكل من تزعم أمور المجتمع وأراد أن ينهض با ُ
والتي أشار إليها المام )عليه السلم( ويبدو أن العقل والمنطق يرشد إلى ما أورده المام )عليه السلم( في
الخطبة.
تأّملن
لّمة على غرار رابطة الرأس بالجسد ،حيث يتعذر القيام بالوظائف دون تظافر ن الحكومة رابطة بين المام وا ُإّ
ن أولياء ال في الوقت الذي يكوتون فيه خلفاء ال في الخلق ،فهم خلفاء الُّمة من جميع الجهود ،بعبارة ُاخرى فا ّ
لّمة من أثقل الحقوق وأعظمها.أجل ضمان مصالحها ،ومن هنا كانت الحقوق المتبادلة بين المام وا ُ
وقد وردت البحاث المسهبة في الروايات بشأن هذه الحقوق ،والتي تفيد مدى إهتمام السلم بهذا الموضوع
الحيوي.
فقد افرد المرحوم الكليني بابًا في المجلد الول من كتابه أصول الكافي بهذا الخصوص وقد نقل أول حديث فيه
عن أبي حمزة انه سأل المام الباقر )عليه السلم(» :ما حق المام على الناس«؟
قال )عليه السلم(»:حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوه« قال فقلت له» :وما حقهم عليه«.
ول يستبعد أن تكون الجملة الولى إشارة إلى المسائل القتصادية والثانية إلى القضايا الجتماعية والسياسية .ثم
قال )عليه السلم(آخر الحديث»:فاذا كان ذاك في الناس فل يبالي من أخذ هاهنا وهاهنا«) (1في إشارة إلى أ ّ
ن
الناس على كل حال إّنما يحصلون على حقهم .سواء كان مصداقه هنا أم هناك.
حقًا أن سيرة أمير المؤمنين )عليه السلم( انموذج مهم لبّد من اعتماده كقدوة في الحكومة السلمية .فقد كان
)عليه السلم( شديدًا في أمر العدالة حتى وقف نفسه وضحى بها من أجلها .قال ابن أبي الحديد :
] [ 224
ل أصحابه ،وفرار بعضهم إلى معاوية ،فقال الشتر :يا أميرالمؤمنين; إنا قاتلنا أهل عليه السلم إلى الشتر تخاُذ َ
ل العدد ،وأنت ل البصرة وأهل الكوفة ،ورأي الناس واحد ،وقد اختلفوا بعد ،و وضعفت النّية ،وق ً صرة بأه ِالَب ْ
ل منزلة على ضُصف الوضيع من الشريف; فليس للشريف عندك َف ْ خُذهم بالعدل ،وتعمل فيهم بالحق ،وُتْن ِ تأ ُ
عّموا به ،واغتّموامن العدل إذ صاروا فيه ،ورأوا صنائَع معاوية ق إذ ُ
جت طائفة مّمن معك من الح ّ الوضيع ،فض ّ
جتوي الح ّ
ق ن ليس للدنيا بصاحب ،وأكثرهم َي ْ ل َم ْ
ت أنُفس الّناس إلى الدنيا ،وَق ّ عند أهل الَغناء والشرف ،فتاَق ْ
صف نصيحُتهم لك، ق الرجال ،وَت ْ
ل إليك أعنا ُ
ل المال يا أميَرالمؤمنين َتِم ْ ويشتري الباطل ،ويؤثر الدنيا ،فإن َتْبُذ ِ
شّتت أموَرهم ،إّنه ض جمعهم ،أوهن كيَدهم ،و َ ت أعداءك ،وف ّ ل لك يا أميرالمؤمنين! وَكب َ ص ُوّدهم; صنع ا ّ
خِل ْسَت ْ
وَت ْ
بما يعملون خبير.
سِه
ل صاِلحاً َفِلَنْف ِ
عِم َ
ن َ
ل يقولَ) :م ْ
ل عّزوج ّ
نا ّسيرتنا بالَعْدل; فإ ّ
عَملنا و ِ
ي عليه السلم :أّما ما ذكرت من َ فقال عل ّ
ف.
خَو ُ
تأ ْ
صرًا فيما ذكر َ
لم ِلْلَعِبيِد(; وأنا من أن أكون ُمَق ّ
ظـ ّ
ك ِب َ
ن َأساَء َفَعَلْيها َوما َرّب َ
َوَم ْ
جاوا إذ فارقونا
جْور ،ول ل ُ
ل أّنهم لم ُيفارقونا من َ ن الحق َثُقل عليهم ففارقونا لذلك ،فقد علم ا ّ وأما ما ذكرت من أ ً
ل عملوا؟ ن يوم القيامة :أللدنيا أرادوا أم ّ
سَأُل ّ
ل دنيا زائلة عنهم كان قد فارقوها; َوَلُي ْ
عْدل ،ولم يلتمسوا إ ّ
إلى َ
ي أمرًا من الفىء أكثَر من حّقه ،وقد قال سُعنا أن نؤت َ ت من َبْذل الموال واصطناع الرجال; فإّنه ل َي َ وأّما َما ذكْر َ
ن( ،وقد بعث ا ّ
ل صابِري َ
ل َمَع ال ّل َوا ّ
نا ّ ت ِفَئًة َكِثـيَرًة ِبِإذ ِ
غَلَب ْ
ن ِفَئة َقِلـيَلة َ
ل سبحانه وتعالى وقوله الحقَ) :كْم ِم ْ ا ّ
صْعَبه،
ن يوِلَينا هذا المَر يذّلل لنا َ
لأ ْن ُيِرِد ا ّ
عّز فئته بعد الّذّلة; وِإ ْ حَده; فكّثره بعد القلة ،وأ َ ل عليه و ْمحّمدا صلى ا ّ
حهم لي ،أْوَثِقهم
ل رضًا; وأنت من آمن الناس عندي ،وأنص ِ ل عّزوج ّ حْزنه ،وأنا قابل من رأيك ما كان ّ سّهل لنا َ
وُي ِ
ل.
ن شاء ا ّ في نفسي إ ْ
عادة ما يحدث تعارض بين الحق والمصلحة ليكون أحدهما مقابل الخر .وغالبًا ما يميل
] [ 225
ساسة الدنيا في هذه الحالة إلى المصلحة ويقدمونها على الحق .والتأريخ مليىء بنماذج هذا التعارض وما أكثره
في عصرنا الراهن حيث نشاهده كل يوم ـ أما أولياء ال والقادة الربانيين فهم ل يترددون في إيثار الحق .وفي
مقدمتهم أميرالمؤمنين علي)عليه السلم( الذي سلك الحق مع أعدائه فضل عن أصحابه فقد قيل بأن العدل في
تقسيم بيت المال حقًا لكنه ل يتفق مع المصلحة ولبد من تقديم الشراف والثرياء على غيرهم في مقابل الحد من
ق على صحبه وإنفرجوا عنه سهم الضعفاء ،بينما كان المام)عليه السلم( ل يتهاون في إجراء العدل وإن ش ّ
وإلتحقوا بعدوه ،ولعلنا نلمس ذلك في هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلغة .ولعل أغلب هذه المشاكل لم تكن
لتظهر على السطح لو تسلم المام)عليه السلم( ذمام المور بعد رحيل رسول ال)صلى ال عليه وآله( كما أمر
ال ورسوله بذلك ،إل أن قضية التمييز في العطاء قد ظهرت على عهد الخلفاء وبلغت ذروتها على عهد عثمان
الذي كان ينفق المال على بطانته وقرابته دون حساب ،حتى طبعوا على هذه المتيازات فصعب إعادتهم إلى
الحق وجادة الصواب .أضف إلى ذلك فإن إزدياد حجم الغنائم وكثرة أموال بيت المال هى الخرى كانت سببًا لن
يضحي البعض كطلحة والزبير ـ وهما من السابقين إلى السلم وصحابة رسول ال)صلى ال عليه وآله( ـ بالحق
من أجل مصالحهم الشخصية ،ومن هنا تعقدت المشاكل التي إعترضت حكومة المام)عليه السلم( ـ إل أن
أميرالمؤمنين)عليه السلم( ورغم علمه بظهور ما ل يحصى من المشاكل إن هو آشر الحق على المصلحة ،لكنه
لم يتخل عن سياسته المعهودة لعلمه بأن الهزيمة والخذلن تكمنان في إيثار المصلحة على الحق ،ناهيك عن كون
نفس هذا اليثار يعني تعطيل أحد القيم السلمية ،في حين إحياؤها ونقلها للجيال المستقبلية يفوق أهمية تحقيق
بعض النتصارات الوقتية ولعل هذا المر يشكل ردا على أكثر السئلة التي تطرح بشأن حكومة علي)عليه
السلم( ـ وهذا ما سنتحدث عنه في حينه في البحاث القادمة إن شاء ال.
—–
] [ 226
] [ 227
الخطبة)35 (1
ومن خطبة له )عليه السلم(
بعد التحكيم وما بلغه من أمر الحكمين وفيها حمد ال على بلئه ،ثم بيان سبب البلوى.
جِليِل.
ث اْل َ
حَد ِ
ح َواْل َ
ب اْلفاِد ِ
ط ِ
خْن َأَتى الّدْهُر ِباْل َ
ل َوِإ ْ
حْمُد ِّ
»اْل َ
صَيَة
ن َمْع ِ
سوُلُهَ .أّما َبْعُدَ ،فِإ ّ
عْبُدُه َوَر ُ
حّمدًا َ ن ُم َ
غْيُرُه َوَأ ّ
س َمَعُه ِإَلٌه َك َلُهَ ،لْي َشِري َلل َ ن ل ِإَلَه ِإّل ا ّشَهُد َأ ْ
َوَأ ْ
خْل ُ
ت حُكوَمِة َأْمِريَ ،وَن َ ت َأَمْرُتُكْم ِفي َهِذِه اْل ُ
ب الّنداَمَةَ .وَقْد ُكْن ُ سَرَةَ ،وُتْعِق ُ ح ْ
ث اْل َ
ب ُتوِر ُ جّر ِ ق اْلَعاِلِم اْلُم َ
شِفي ِ
ح ال ّالّناص ِ
صير َأْمٌر! ع ِلَق ِطا ُ
ن ُي َن َرْأِييَ ،لْو َكا َ خُزو َ َلُكْم َم ْ
ت َأنا
حِهَ ،فُكْن ُ
ن الّزْنُد ِبَقْد ِ
ضّحِهَ ،و َ
صِح ِبُن ْ
ب الّناص ُ
حّتى اْرَتا َ
صاِة َ
ن اْلُع َ
جَفاِةَ ،واْلُمَناِبِذي َ
ن اْل ُ
خاِلِفي َ
ي ِإَباَء اْلُم َ
عَل ّ
َفَأَبْيُتْم َ
ن:
خو َهواِز َ َوِإّياكْم َكما قاَل َأ ُ
حى اْلَغِد«
ضَ
ل ُ
ح ِإ ّ
صَ
سَتِبيُنوا الّن ْ
ج الّلَوى *** َفَلْم َت ْ
َأَمْرُتُكْم َأْمِري ِبُمْنَعَر ِ
—–
كما ذكرنا سابقا فقد أورد المام)عليه السلم( هذه الخطبة بعد إنتهاء قضية التحكيم .فقد كانت نتيجة
.1وردت هذه الخطبة مع اختلف طفيف في مروج الذهب للمسعودي والكامل لبن أثير وأنساب الشراف للبلذري وتاريخ الطبري
والمامة والسياسة لبن قتيبة الدينوري وصفين لنصر بن مزاحم ،كما رواها البسط بن الجوزي في تذكرة الخواص وأبوالفرج
الصفهاني في الغاني )مصادر نهج البلغة.(459 / 1 ،
] [ 228
التحكيم شاقة على العالم السلمي .وقد دلت على أن المام)عليه السلم( نهى عن التحكيم وحث على مواصلة
القتال خشية تلك النتيجة ـ ومن هنا شّدد المام)عليه السلم( في ذمه لهل الكوفة وحملهم مسؤولية تلك النتيجة
بسبب تمردهم وعدم طاعتهم.
الشرح والتفسير
نتيجة العصيان
خطب المام )عليه السلم( هذه الخطبة في ظل ظروف عصيبة ومأساة عظيمة ،فقد أثمرت مؤامرة معاوية
وعمرو بن العاص إثر استغلل جهل أبو موسى الشعري ومن وقف إلى جانبه ،فقد تمكن ابن العاص من حسم
التحكيم لصالحه ،ظانًا أّنه عزل المام علي )عليه السلم( عن الخلفة ونصب معاوية مكانه!
طبعًا المام )عليه السلم( كان قد شعر ببالغ السى والحزن لّنه تكهن بهذه النتيجة وقد أطلع أهل الكوفة عليها،
ن الجهل والعصبية والنانية والتخاذل حال دون التعاظ بإرشادات المام )عليه السلم( ومواعظه الحكيمة. لأّ إّ
على كل حال إستهل المام )عليه السلم( الخطبة ـ كما درج عليه في سائر الخطب ـ بحمد ال والثناء عليه ،الحمد
والثناء الذي يستبطن نكهة خاصة ،فقد أورده المام )عليه السلم(حتى في ظل هذه الحادثة الليمة والبلء العظيم
»الحمد ل وإن أتى الدهر بالخطب ) (1الفادح ) (2والحدث الجليل«.
» .1خطب« على وزن ختم العمل المهم بين النسان والخرين ومن هنا يصطلح بالمخاطبة على الحوار الذي يدور بين فرد وآخر.
» .2فادح« بمعنى ثقيل ومن هنا يقال أفدحه الدين لمن أثقل كاهله.
] [ 229
ن هذه الحادثة لم تكن لتقع لوطاع أهل العراق المام )عليه السلم(والتفتوا إلى تحذيراته واتعظوا
ول شك إ ّ
بنصائحه .والمراد بالخطبب الفادح قضية التحكيم التي جرت الويلت على العالم السلمي.
ن قضية التحكيم ـ كما سيمر علينا في البحث القادم ـ لم تغير من حقيقة المر شيئًا ،ال أّنها كانت ذريعة
صحيح أ ّ
كبرى لمعاوية ورهطه من أجل إغواء الجهال وتحريف الفكار ،كما أدت إلى ظهور البدع في العالم السلمي.
وقوله)عليه السلم( »حدث جليل« هو تأكيد آخر لثار السوء لتلك البدعة المشؤومة.
ثم يردف )عليه السلم( الحمد والثناء بالشهادة ل بالوحدانية ولمحمد )صلى ال عليه وآله(بالعبودية والنبوة
ن محّمدا عبده ورسوله« فالتيان بالشهادتين في
ل ال ل شريك له ،ليس معه إله غيره ،وأ ّ »وأشهد أن ل اله إ ّ
مطلع الخطبة وأن تضمن التأكيد من جديد على لزوم تقوية دعائم التكامل النساني وإحياء الصول العقائدية
لّمة قد جاوزت أصل التوحيد واتجهت صوب أفعال ل أن يشير إلى قضية الحكمين ،وذلك أن ا ُ السلمية ،إ ّ
الشرك وتجاهلت التأسي برسول ال)صلى ال عليه وآله( فاستسلمت لهوائها.
ثم تطرق )عليه السلم( إلى الهدف الصلي من الخطبة »أما بعد ،فان معصية الناصح الشفيق العالم المجرب)(1
ن المستشار إذا تحلى بأربع صفات
تورث الحسرة وتعقب الندامة« .فالعبارة بمنزلة الكبرى وبيان قاعدة كلية في أ ّ
ن مخالفته توجب الندامة والحسرة ل محالة .الولى صفة النصح وارادة الخير ومقتضى ذلك السعي لحقاق فا ّ
الحق.
الثانية القلب المفعم بالعطوفة والرأفة والحب وإرادة السعادة والخير النابعة من أعماق
القلب لمن يطلب الستشارة .الثالثة العلم والوقوف على كافة جوانب المر وتحليل جميع الملبسات ودراسة
الحوادث والنتائج المتمخضة عنها الرابعة التجربة الكافية في القضايا الفردية والجتماعية المهمة; أي التحلي
بالعقل العملي إلى جانب العقل النظري فاذا كان هنالك مثل هذا الفرد يتمتع بمثل هذه الصفات فاّنه يبلغ بالنسان
ن مخالفته لتقود سوى إلى الحيرة والضلل والندم والخسران الذي يفرزه الجهل واقع المر ل محالة ،كما أ ّ
والغرور.
ن يفرغ المام )عليه السلم( من بيان الكبرى )القاعدة الكلية( حتى يتطرق إلى الصغرى والمصداق
وما إ ّ
المطلوب فيقول »وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري ،ونخلت ) (1لكم مخزون رأيى ،لو كان يطاع لقصير
أمرا!« فقد كشف المام )عليه السلم( عن مخالفته لصل التحكيم فضل عن كيفيته والطريقة التي تم فيها.
ن تعصبهم ولجاجتهم حالت دون سماعهم لرأى المام )عليهلأّولقد أخيرهم عن آثار هذه القضية المشؤومة ،إ ّ
السلم( فاصروا على باطلهم والن يجنون ثمار جهلهم والعبارة »لو كان يطاع لقصير أمر« مثل مشهور عند
العرب ،فهو قصير صاحب جذيمة ،وحديثه مع جذيمة ومع الزياء مشهور فضرب المثل لكل ناصح يعصى
بقصير ،ويطلق على الفراد الذين ليصغون إلى الناصح المجرب الشفيق والذي ل يعقب سوى الندم.
فالمام )عليه السلم( يشبه نفسه بقصير وأهل الكوفة بجزيمة الجاهل ومستشاريه البلهاء ،حتى وقعوا في شباك
عمرو بن العاص ومعاوية .ثم قال )عليه السلم(» :فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة والمنابذين) (2العصاة ،حتى
إرتاب الناصح بنصحه ،وضن) (3الزند) (4بقدحه).«(5
ن رفع المصاحف على الحراب مكر وخديعة ،فقد بلغ القتال مرحلة
لقد حذرتكم من أ ّ
» .1نخلت« من مادة »نخل« بمعنى تنقية الشئى ،واستعمال هذه المفردة في الخطبة تشير إلى الرأي الصائب الذي طرحه المام
)عليه السلم( على أصحابه بشأن التحكيم.
» .4زند« بمعنى الخشب الذي يشعلون به النار )حيث كانوا يولدون النار سابقا بضرب خشبتين ببعضهما ،ثم
اطلق على كل وسيلة لشعال النار ومنه الزناد.(.
] [ 231
والعبارة »المخالفين الجهاة« ان مخالفتكم لي لم تقتصر على سوء تشخيصكم ،بل كان ذلك بدافع من جفائكم
وعصيانكم وطغيانكم .وقد أكد هذا المعنى بقوله »المنابذين العصاة«.
وأّما قوله »ضمن الزند بقدحه« فهو مثل أيضًا يقال لمن يكف عن الفصاح بالحقايق لعدم وجود من يسمع ،فقد
ن النصح الذي نصحتكم به غير نصح ،ل طباقكم واجماعكم على إراد )عليه السلم( خالفتموني حتى ظننت أ ّ
خلفي ،وتعني العبارة الخيرة أّنه لم يقدح لي بعد ذلك رأي صالح لشدة ما لقيت منكم من الباء والخلف
والعصيان .ثم قال )عليه السلم( فكنت وإياكم كما قال أخو هوازن:
ل ضحى الغد
أمرتكم أمري بمنعرج اللوى *** فلم تستبينوا النصح إ ّ
وأخو هوازن صاحب الشعر هو دريد بن الصمة ،وأبياته مذكورة في الحماسة .وكان من خير هذا الشعر أنّ
عبدال وهو اسم أخر لعارض وهو أخو دريد ـ كان أسود إخوته ،فغزا ببني جشم وبني نصر إبني معاوية بن بكر
ن غطفان ليست بغافلة عنا ،فحلف ل عظيمًا بمنعرج اللوى ; فمنعه دريد عن اللبث ،وقال :إ ّ
بن هوازن; وغنم ما ً
أّنه ليريم حتى يقسم ،وأوقعوا بعبدال وقتلوه فهرب دريد بعد أن نجى منهم ،فانشد هذا البيت الذي إستشهد به
المام )عليه السلم(في الخطبة).(2
.1راجع مروج الذهب 290/ 2وسترد بعض اليضاحات لهذه الخطبة لحقًا.
لمة الخوئي ، 88/ 4شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد .205 / 2
.2الغاني لبى الفرج الصفهانى ،3/ 10شرح نهج البلغة للع ّ
] [ 232
تأّملن
إن الذي دعا إليه طلب أهل الشام له وإعتصامهم به من سيوف أهل العراق ،فقد كانت أمارات القهر والغلبة
لحت ،ودلئل النصر والظفر وضحت .وفي هذه الثناء رفع أهل الشام المصاحف على الرماح .فسأل مالك
المام)عليه السلم( مواصلة القتال .فقام الشعث بن قيس مغضبًا فقال :يا أميرالمؤمنين أجب القوم إلى كتاب ال
فإنك أحق به منهم ،وقد أحب الناس البقاء وكرهوا القتال ـ فقال)عليه السلم( :هذا أمر ينظر فيه.
فنادى الناس من كل جانب :الموادعة .فقال)عليه السلم( :أيها الناس إني أحق من أجاب إلى كتاب ال ،ولكن
معاوية وعمرو بن العاص وصحبهم ليسوا بأصحاب دين ول قرآن ،إني أعرف بهم منكم ،صحبتهم صغارًا
ورجال ،فكانوا شر صغار وشر رجال ،ويحكم إنها كلمة حق يراد بها باطل ،إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها
ويعملون بها ،ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة ،أعيروني سواعدكم وجماجكم ساعة واحدة ،فقد بلغ الحق مقطعه،
ولم يبق إل أن يقطع داير الذين ظلموا .فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد ،شاكي سيوفهم
على عواتقهم وقد اسودت جباههم من السجود فنادوه باسمه ل بأمير المؤمنين :يا علي أجب القوم إلى كتاب ال إذا
دعيت إليه ،وإل قتلناك كما قتلنا ابن عفان ،فوال لنفعلنها إن لم تجبهم .فقال لهم :ويحكم أنا أول من دعا إلى كتاب
ال ،وأول من أجاب إليه .إني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن ،فإنهم قد عصوا ال فيما أمرهم ،ونقضوا عهده،
ونبذوا كتابه ،ولكني أعلمتكم أنهم قد كادوكم ،وإنهم ليس العمل بالقرآن يريدون .قالوا :فإبعث إلى الشتر ليأتينك ـ
فقال الشتهر :قل لعلي)عليه السلم(ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي .فارتفع وهج القوم
وعلت الصوات وقالوا لعلي)عليه السلم( :وال ما نراك أمرته إل بالقتال ،فابعث إليه يأتيك وإل فوال إعتزلناك.
فبعث له المام)عليه السلم( ثانية .فقال الشتر :أبرفع هذه المصاحف؟ قال :نعم .قال :ألترى إلى الفتح .ثم أقبل
الشتر حتى إنتهى إليهم فصاح فيهم أمهلوني فواقا فإني قد أحسست بالفتح .فلم يجيبوه .فلما إنتهى المر إلى
الحكمين قال)عليه السلم( هذا إبن عباس أولّيه ذلك فهو لبن العاص .فلم يوافق الشعث ورهطه .فقال)عليه
السلم( :فإني أجعل الشتر .فقال الشعث:
] [ 233
وهل سعّر الرض علينا إل الشتر .ثم إضطر المام)عليه السلم( لقبول أبوموسى .فاتفق معه عمرو بن العاص
على أن يخلع كل صاحبه ويدعون الناس للشورى .فتقدم أبوموسى ثم قال :أيها الناس أجمع رأيي ورأي صاحبي
ي ومعاوية ويكون المر شورى بين المسلمين .فقام عمرو بن العاص وقال :إن هذا قد قال ما سمعتم
على خلع عل ّ
وخلع صاحبه ،وأنا أخلعه كما خلعه ،وأثبت صاحبي معاوية في الخلفة ،فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق
الناس بمقامه(1).
2ـ الستفادة من آراء الخرين
ن الشورى تشكل أحد ُاسس التعاليم السلمية التي حظت بأهمية فائقة في اليات القرآنية والروايات لشك أ ّ
ن المشورة من علمات اليمان ،ويجعلها في مصاف الصلة والزكاة ـ التي تعد من والخبار .فالقرآن يرى أ ّ
ن((2).
شورى َبْيَنُهْم َوِمّما َرَزْقناُهْم ُيْنِفُقو َ
صلَة َوُأْمُرُهْم ُ
سَتجاُبوا ِلَرّبِهْم َوَأقاُموا ال ّ
نا ْأركان السلم ـ )واّلِذي َ
لمور المهمة ،رغم إّتصال رسول ال)صلى ال عليه وآله( كما أمر ال سبحانه صراحة باستشارة المؤمنين في ا ُ
لْمِر() (3والمهم في قضية المشورة إنتخاب المستشار الذي يتحلىبالوحي وكونه العقل الكامل )َوشاِوْرُهْم ِفي ا َ
ببعض خصائص الصفات التي وردت في الخطبة التي نحن بصددها» :الناصح الشفيق العالم المجرب« ،والحق
ن مخالفة الفرد الذي يتصف بهذه الصفات ل تفضي سوى إلى الحسرة والندامة. أّ
—–
.1إقتباس وتلخيص لما ورد في شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد 2/206ـ .256
] [ 234
] [ 235
الخطبة)36 (1
—–
ن المام )عليه السلم( خطب هذه الخطبة في النهروان جنب النهر في يوم القتال عام 37هـ .وقد أشارواضح أ ّ
)عليه السلم( ألى ثلثة ُامور:
م ـ قال ابن أبي الحديد ) (2/283نقلها ابن حبيب البغدادي )المتوفي عام .(254
] [ 236
ن كان هنالك من خلف فقد3ـ أّنهم يقاتلون المام)عليه السلم( دون أن يصدر عنه ما يدعو لذلك من معصية ،فا ّ
صدر منهم ومن بعض الفراد ،ومن الجهل تحميل المام)عليه السلم( مسؤولية ذلك الخلف ،وهكذا أتم عليهم
المام)عليه السلم( الحجة.
الشرح والتفسير
كما أشرنا سابقًا فان المام)عليه السلم( خطبها قبل بدأ معركة النهروان التي أفرزتها قضية التحكيم .فقد خرجت
تلك الطائفة الجاهلة على المام بعد التحكيم لتعتبره هو المسؤول عنه ،في حين كان المام)عليه السلم( يعارض
ن الخطبة إتمام الحجة عليهم .فقد إستهل خطبتهأصل التحكيم من الساس إلى جانب رفضه الحكم .فالواقع أ ّ
بالقول »نحن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملئكة وعنصر الرحمة ومعدن العلم والحكمة ـ نحن
ل» :فانا نذير لكم أن تصبحوا صرعى) أفق الحجاز ،بنا يلحق البطيء وإلينا يرجع التائب«) (1ثم خاطبهم قائ ً
(2باثناء هذا النهر ،وبأهضام) (3هذا الغائط ) (4على غير بينة من رّبكم ،ول سلطان مبين معكم« .فعبارة
المام)عليه السلم(نبوءة صريحة بشأن عاقبة معركة النهروان حيث أخبرهم بأّنهم سيصرعون دون النهر،
والفضع من ذلك موقفهم العسير يوم القيامة واسوداد وجوههم ،حيث ليس لهم من دافع للقتال سوى العصيبة
والجهل دون وجود أية بينة.
ل النار .ثم قال)عليه
شرعية يمكنهم الستناد إليها وعليه فهم يهلكون أنفسهم في الحياة الدنيا وليس لهم في الخرة إ ّ
السلم( »قد طوحت) (5بكم .الدار وأحتبلكم ) (6المقدار« والمفردة )دار( إشارة
» .2صرعى« جمع »صريع« من مادة »صرع« بمعنى طريح ،و تعني الجنازة أو المقتول الملقى على الرض; كما يطلق على من
يسقط على الرض في المصارعة ،و من هنا يطلق مرض الصرع على من يغمى عليه و يقع على الرض.
» .3أهضام« جمع هضم وهو المطمئن من الوادي وتعني الكسر والضغط.
» .5طوحت« من مادة »طوح« بمعنى السقوط والهلكة ،وإذا ورد من باب التفعيل كما ورد في الخطبة فاّنه بمعنى القذف في المتاهة
والمضلة.
] [ 237
إلى دار الدنيا أو بعبارة ُاخرى الغترار بالدنيا والعبودية لها و»احتيل« من مادة حيل بمعنى الفخ ،والمراد
بالمقدار حسب بعض شّراح نهج البلغة الفكر الخاطىء والتحليل العبثي لمختلف الحوادث ،وقال البعض الخر
تعني القدر اللهي .وإذا تأملنا تأريخ الحادثة سيتضح لدينا الثر البالغ الذي لعبه كلم المام )عليه السلم( في هذه
الطائفة ،فقد كانت طائفة متعصبة لجوجة جاهلة هزيلة .ثم أشار )عليه السلم( إلى قضية التحكيم فقال »وقد كنت
نهيتكم عن هذه الحكومة فابيتم علي إباء المخالفين المنابذين ،حتى صرفت رأبي إلى هواكم«إنكم لتحملوني
مسؤولية عمل أنتم إرتكبتموه ،بل أبعد من ذلك جعلتم تهددوني بالقتل على قبوله ،والن بعد أن تبّين لكم فداحة
ى »وأنتم معاشر أخفاء الهام) (1سفهاء الحلم« .يمكن أن تكون هذه العبارة خطأ العمل تحاولون إلقاء تبعته عل ّ
تأكيد لسفاهة وبلهة أصحاب النهروان.
كما يمكن أن تكون العبارد السابقة ـ كما ذكر ذلك بعض شّراح نهج البلغة ـ إشارة إلى خفة أهل النهروان الذين
تتغير أفكارهم وحركتهم لدنى شي ،فهم يتعصبون يومًا للتحكيم ،وآخر يعادونه أشد العداء ،أّما العبارة الخيرة
فهى تشير إلى ضحالة فكرهم ،وذلك لن مؤامرات العدو كانت تتكشف يومًا بعد آخر ولم تكن خافية على أهل
ل أّنهم لم يكونوا يرونها أو يدركونها; المر الذي جعلهم يخدعون أكثر من مرة بحيل معاوية وبطانته، البصائر إ ّ
فيرتكبون ما يؤدي إلى بؤسهم وشقائهم وجر الويلت والمصائب على المسلمين .ثم يختتم المام)عليه
ن كل ما يصيبكم من بلء مّما إرتكبته أيديكم ولست طرفا فيه أبدًا ،بل السلم(خطبته بالتأكيد على هذه الحقيقة بأ ّ
خالفتموني وشهرتم سيوفكم لتهددوني بالقتل »ولم آت ـ ل أبا لكم! ـ بجرا ول أردت لكم ضرًا« .العبارة ل أبا لكم
يمكن أن تكون سبًا ولعنًا ،تشير إلى أّنكم لم تحظوا بتربية أسرية إسلمية صحيحة ،ومن هنا فاّنكم تفعلون الفعال
الشائنة وتنسبوها إلى الخرين ،ويمكن أن تكون دعاءا عليهم; أي أمات ال آبائكم وهى في الواقع كناية عن ذلتهم
ن فقدان الب في ريعان الشباب تدعو إلى الذلة والهوان. وهوانهم; ل ّ
» .1الهام« جمع هامة رأس النسان أو سائر الكائنات الحية ،واخفاء الهام تغني ضعاف الفعل.
] [ 238
وقد شهدت حياة الخوارج وسيرتهم العديد من التناقضات العجيبة ومن ذلك:
1ـ لقيهم عبدال بن الخباب في عنقه مصحف ،على حمار ،ومعه إمرأته وهى حامل ،فقالوا له :إن هذا الذي في
عنقك ليأمرنا بقتلك ،فقال لهم :ما أحياه القرآن فأحيوه،
وما أماته فأميتوه ،فوثب رحيل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فيه ،فصاحوا به ،فلفظها تورعا.
وعرض لرجل منهم خنزير فضربه فقتله ،فقالوا :هذا فساد في الرض ،ثم قالوا لبن الخباب :حدثنا عن أبيك.
فقال :إني سمعت أبي يقول :سمعت رسول ال)صلى ال عليه وآله( يقول :ستكون بعدي فتنة يموت فيها قلب
الرجل كما يموت بدنه ،يمسي مؤمنا ويصبح كافرا ،فكن عبدال المقتول ول تكن القاتل ـ قالوا :فما تقول في علي
بعد التحكيم والحكومة؟ قال :إن عليا أعلم بال وأشد توقيا على دينه وأنفذ بصيرة ـ فقالوا :إنك لست تتبع الهدى ،ثم
قربوه إلى شاطىء النهر فأضجعوه فذبحوه(1).
.1شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد 2/281و تأريخ الطبري 2/60ـ ،61حوادث عام .37
] [ 239
2ـ قال قيس بن سعد بن عبادة :إستنطقهم المام)عليه السلم( بقتل عبدال بن الخباب فأقروا به ،فقال :إنفردوا
كتائب لسمع قولكم كتيبة كتيبة .فأقرا جميعا بقتله .فقال علي)عليه السلم(» :وال لو أقر أهل الدنيا كلهم بقتله
هكذا وأنا أقدر على قتلهم به لقتلتهم«(1).
3ـ حين هجم الخوارج على جيش المام)عليه السلم( إلتفت إلى أصحابه فقال :وال ل ينجو منهم عشرة ول يهلك
منكم عشرة.
والعجيب أنه لم يقتل من أصحاب المام)عليه السلم( سوى تسعة ولم ينج من الخوارج إل ثمانية.
4ـ كانت قضية الخوارج قد فعلت فعلها في المام)عليه السلم( وقد إنعكست سلبا على الوسط السلمي،
فكان)عليه السلم( ل ينفك عن التحدث عنها ليبين للناس كيفية إنحرافهم فيعتبروا بهم ،ول غرو فمثل هذا التفكير
السطحي المشوب بالجهل والعناد ل يخلو منه عصر ومصر .والخطب التي تحدث فيها المام)عليه السلم( عن
الخوارج هى الخطبة ،184 ،127 ،122 ،121 ،61 ،60 ،59 ،40 :والرسالة 78 ،77والتي سنعرض لشرحها
جميعا إن شاء ال.
الجدير بالذكر أن خط الخوارج ـ كما ذكرنا ـ تيار يتواجد على مدى التأريخ ول يقتصر على عهد علي)عليه
السلم( ـ فهم فئة ل تعرف من الدين سوى ظاهره ول تعتد إل بأفعالها وأعمالها وترى إنحراف كل من سواها وقد
ملئت سيرتها بالتناقضات ،فهى بلء وآفة تصيب المجتمع .والغريب في المر أن المام)عليه السلم( أشار إلى
هذه الفئة كظاهرة فوصفهم في الخطبة 60قائل» :كل وال ،إنهم نطف في أصلب الرجال وقرارات النساء كلما
نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلبين.
—–
.1شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد 2/271ـ .282
] [ 240
] [ 241
الخطبة)37 (1
يجري َمجرى الخطبة وفيه يذكر فضائله)عليه السلم( قاله بعد وقعة الّنهروان.
الفصل الول :يشير فيه المام)عليه السلم( إلى خدماته الجليلة التي أسداها للسلم إبان انبثاق الدعوة السلمية
فقد أوجز ذلك بقوله» :فقد قمت بالمر حين فشلوا وتطلعت حين تقبعوا ونطقت حين تعتعوا ومضيت بنور ال
حين وقفوا ،كالجبل ل تحركه القواصف ول تزيله العواصف .لم يكن لحد في مهمز ول لقائل في مغمز«.
.1قال صاحب مصادر نهج البلغة هذه من الخطب المعروفة التي رواها أغلب العلماء والمحدثين الذين عاشوا قبل السيد
الرضي)ره( ومنهم:
4ـ البلذري في كتاب أنساب الشراف )في شرح سيرة علي )عليه السلم(( .380 /
5ـ القاضي نعمان المصري في دعائم السلم ) 391 / 1مع اختلف وما ورد في النهج وقال الشارح الخوئي يستفاد من بحار النوار
ن هذه الخطبة جزء من الخطبة ) 27شرح نهج البلغة ،الخوئي .(21 / 4
والحتجاج والرشاد أ ّ
] [ 242
الفصل الثاني يشير إلى وقوفه الصلب على الدوام بوجه الظلمة من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل.
الفصل الثالث يشير إلى إستحالة الكذب عليم لنه أول من صدق بالنبي )صلى ال عليه وآله( وعليه فل ينبعي أن
يستسرب الشك إلى إخباره عن المغيبات التي أخبره بها رسول ال )صلى ال عليه وآله(.
الفصل الرابع يختتم الخطبة بعذره في البيعة لمن سبقه من الخلفاء ،وأّنه فعل ذلك طاعة لرسول ال )صلى ال
عليه وآله( وخشية الفرقة والتشتت في صفوف المسلمين واستغلل ذلك من قبل خصوم الدعوة السلمية.
—–
] [ 243
القسم الول
ن َوَقُفوا ـ َوُكْن ُ
ت حي َ
ل ِ
ت ِبُنوِر ا ّ ضْي ُ
ن َتْعَتُعوا َوَم َ
حي َ
ت ِطْق ُ
ن َتَقّبُعوا َوَن َ
حي َت ِطّلْع ُ
شُلوا َوَت َن َف ِ حي َ ت ِباَْلْمِر ِ
»َفُقْم ُ
ف َول ُتِزيُلُهص ُ
حّرُكُه اْلَقوا ِ
جَبِل ل ُت َ
ت ِبِرهاِنها ،كاْل َ
سَتْبَدْد ُ
ت ِبِعناِنها َوا ْ
طْر ُ
علُهْم َفْوتًا َف ِ صْوتًا َوَأ ْضُهْم َخَف َ َأ ْ
ي َمْغَمٌز«.ي َمْهَمٌز َول ِلقاِئل ِف ّ حد ِف ّن َِل َ فَ .لْم َيُك ْ
ص ُاْلَعوا ِ
—–
الشرح والتفسير
ن الفصل الول من الخطبة يتضمن ذكر المام )عليه السلم(لمقاماته فيذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أ ّ
المر بالمعروف والنهي عن المنكر أيام أحداث عثمان ،وكون المهاجرين والنصار كلهم لم ينكروا ولم يواجهوا
ن سياق الكلم يشير إلى الحوادث التي وقعت على عهد النبي )صلى اللأّعثمان بما كان يواجهه به وينهاه عنه إ ّ
عليه وآله(ول سيما في بداية انطلق الدعوة السلمية .فقال )عليه السلم(»فقمت بالمر حين فشلوا وتطلعت)(1
حين تقبعوا) (2ونطقت حين تعتعوا) (3ومضيت بنور ال حين وقفوا .وكنت أخفضهم صوتًا وأعلهم فوتًا)«(4
ثم أضاف )عليه السلم( أّنه تألق تلك المدة وحاز السبق على الخرين »فطرت بعنانها واستبددت برهانها)،(5
كالجبل ل تحركه
» .1تطلعت« من مادة »طلع« بمعنى مد العنق بحثا عن شي ،وأصلها طلوع بمعنى الظهور والبروز.
» .2تقبعوا« من مادة »قبع« بمعنى الختباء ،وأصله تقبع القنفذ إذا أدخل رأسه في جلده.
» .3تعتعوا« من مادة »عتع« بمعنى تلعثم اللسان ،والمراد ترددوا في كلمهم.
.4فوت تعني فقدان الشي ،وتطلق على التفاوت بين شيئين وابتعاد هما عن بعضهما بحيث ل يدرك أحد هما الخر ،ومن هنا تطلق
هذه المفردة على من يسبق الخرين ،وهذا هو الذي اريد بها في العبارة.
» .5الرهان« من مادة »رهن« بمعنى جعل الشي عند الخر ،ومن هنا يطلق الرهن على وثيقة الدين ،كما يطلق الرهان على جوائز
المسابقات ،والمراد بقوله »استبددت برهانها« إنفردت بجائزة هذه المسابقة اللهية.
] [ 244
ن الخرين كانوا آنذاك يعانون من الضعف والعجز ،وأنا الذي نهضت بالمر وقمت بوظيفتي.
الول :أ ّ
ن الخوف دفع الخرين آنذاك لن يقبعوا في جحورهم وأنا الذي إنبريت للمر وكنت أتطلع إلى العدو.
الثاني :أ ّ
الثالث :أنا الذي نطق لساني بالحق وبيان الحقائق الدينية والتعاليم السلمية حين عجز الخرون عن الكلم.
الرابع :لم يعتريني الشك آنذاك كما إعترى الخرين فواصلت سبيلي على هدي من ربي ونور إيماني ويقيني
بالوحي.
ورغم كل ما تقدم لم أكن لتفاخر على أحد »كنت أخفضهم صوتًا« ثم يخلص)عليه السلم(من كل ذلك إلى نتيجة
مؤداها »فطرت بعنانها واستددت برهانها« .ثم يعود)عليه السلم(للتأكيد على ما مضى من حوادث وكيف
واجهها فقال »كالجبل ل تحركه القواصف ول تزيله العواصف« مع ذلك فقد خضت ما خضت و»لم يكن لحد
ى مغمز«.ى مهمز ول لقائل ف ّ
فّ
ن عليًا
ن المراد بهذه العبارات ما حدث في بداية إنبثاق الدعوة السلمية; لننا نعلم جميعًا با ّ
كما أوردنا آنفا فا ّ
)عليه السلم( كان أول من أسلم حين كان السلم غريبًا ولم يكن هناك من يهب للدفاع عن السلم والقرآن
والنبي)صلى ال عليه وآله( ; المعنى الذي يلمس بوضوح في يوم الدار حين انطلقت الدعوة السلمية للعلن بعد
ثلث سنوات من الدعوة السرية.
ولم يجب النبي )صلى ال عليه وآله( ويعلن دعمه له ووقوفه إلى جانبه سوى علي )عليه السلم( وفي ليلة المبيت
نام على فراش رسول ال )صلى ال عليه وآله( لينجو من مؤامرة قريش التي استهدفت قتله ،ناهيك عن فتح خيبر
حين عجز الخرون ،وبروزه لعمرو بن عبدود العامري في الحزاب حين لم يكن غيره من انبرى لقتاله.
» .2الغمز« بمعنى الطعن والغماز من يبحث عن العيوب ويطعن بالناس ،وهذا هو المراد بالعبارة.
] [ 245
ن أغلب
كما يحتمل أن يكون المراد بالقيام بالمر والجمل اللحقة الدفاع عن السلم على عهد الخلفاء ،ل ّ
المورخين المسلمين يقرون بان عليًا )عليه السلم( كان المفزع في حل المشاكل والمعضلت التي تواجه
المسلمين.
فقد وردت العبارة المعروفة عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب »الّلهم ل تبقني لمعضلة ليس لها أبو الحسن«)
.(1
أما قوله »كنت أخفضهم صوتًا« فلعله إشارة إلى تواضع المام )عليه السلم( إلى جانب كل تلك النتصارات
والنجاحات ،أو إشارة إلى أن المام )عليه السلم( لم يكن من أهل التظاهر وإثارة الصخب والضوضاء فهذه
معاني الفراد الضعفاء العجزة.
ومن هنا أردفها بقوله »وأعلهم فوتا« التي تعني السبق على الخرين ،السبق في اليمان والهجرة ،والسبق
بالجهاد والقتال ،وأخيرا السبق في كافة الفضائل الخلقية.
وقوله )عليه السلم(»فطرت بعنانها واستبددت برهانها« هو الخر تأكيد لهذا المر ،ول سيما أن فاء التفريع
وردت في البداية كنتيجة للبرامج السابقة ،أي أّني ركبت مركب النصر وسبقت الخرين ،وذلك لّني لم أشعر
بالضعف طرفة عين ولم أهب الحوادث المرعية وأفقد الفرص المواتية ،ومع ذلك لم أثير أية ضجة أو صخب
وضوضاء.
ثم يشبه نفسه )عليه السلم( بالجبل العظيم الذي ل تحركه القواصف ول تزيله العواصف .والطريف في المر أن
المام )عليه السلم( ذكر القواصف ثم أردفها بالعواصف ،وذلك لن القواصف تعني الرياح
.1ورد هذا الحديث بعدة تعبيرات في أغلب مصادر العامة ،ومن أراد الوقوف على المزيد فليراجع الغدير .97/ 3
] [ 246
ن من يعمل يخطي ومن يرد ثم قال )عليه السلم(» :ولم يكن لحد في مهمز ول لقائل في مغمز« .فالمعروف أ ّ
الميدان الجتماعى ويمارس النشطة والفعاليات فاّنه يتعرض إلى بعض النتقادات من هنا وهناك ،فما ظنك
ن العيوب والمطاعن في غيره لم تحص رغم بالمام)عليه السلم( الذي كان سباقًا في كل الميادين .وبالطبع فا ّ
ندرة إقتحامه للميدان الجتماعى(1).
—–
] [ 247
القسم الثاني
ل َقضاَءُه
نا ّ
عِضينا َ
ق ِمْنُهَ ،ر ِ
حّ
خَذ اْل َ
حّتى آ ُ
ف َ
ضِعي ٌ
عْنِدي َ
ي ِ
ق َلُه َواْلَقِو ّ
حّ
خَذ اْل َ
حّتى آ ُ
عِزيٌز َ
عْنِدي َ »الّذِليُل ِ
ل َأْمَرُه«.
سّلْمنا ِّ َو َ
—–
الشرح والتفسير
لما كانت عدالة المام )عليه السلم( هى السبب الذي يقف وراء أغلب الحوادث الليمة والحروب الدامية،
واعتياد الناس لسنوات على الظلم والجور والضطهاد على عهد الخلفاء الثلث ولسيما عصر عثمان ،فاّنهم لم
يكونوا مستعدين بهذه السهولة لقبول منطق المساواة أمام القانون وفي العطاء من بيت المال.
فالمام )عليه السلم( يؤكد في هذه الخطبة أّني سأواصل سيرتي في العدل وإحقاق الحق وانتزاعه من القوي ،بل
هذا هو هدفي من الحكومة ،وبناًء عليه فالقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه والضعيف قوي حتى آخذ الحق
له »الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه« ومن هنا كان لينفك )عليه
السلم( عن تأكيده على الحديث المعروف عن رسول ال )صلى ال عليه وآله( والذي ضمنه عهده إلى مالك بعد
أن أوصاه قائل :واجعل لذوي الحاجات منك قسمًا تفرغ لهم فيه شخصك ،وتجلس لهم مجلسًا عامًا فتتواضع فيه
ل الذي خلقك ...فقد سمعت رسول ال)صلى ال عليه وآله( يقول لن تقدس أّمة ل يؤخذ للضعيف فيها حّقه منّ
القوي غير متتعتع«(1).
] [ 248
ن الثم قال)عليه السلم(» :رضينا عن ال قضاءه وسلمنا له أمره« تنطوي هذه العبارة على معنيين :الول أ ّ
أمرنا بنصرة المظلوم ومقاتلة الظالم ،وإّني مسلم لهذا المر ولبّد من التسليم والرضى قبل الخرون شاءوا أم
أبوا.
جابهة الظالم
نصرة المظلوم وم ِ
لقد شحن نهج البلغة بوصاياه)عليه السلم( التي تؤكد على الحكومة السلمية في أن تكون للمظلوم عونًا
ن الحكومة وسيلة للنتصاف للمظلوم »وما وللظالم خصمًا .ومن ذلك ماورد في خطبته المعروفة بالشقشقية من أ ّ
أخذ ال على العلماء أن ل يقاروا على كظة ظالم ول سغب مظلوم« ،أما أخر وصية لولده الحسن )عليه السلم(
والحسين)عليه السلم(»كونا للظالم خصمًا وللمظلوم عونًا«(2).
وقال في موضع آخر من نهج البلغة »وآيم ال لنصفن المظلوم من ظالمه ولقودن الظالم بخزامته حتى ُاورده
منهل الحق وإن كان كارهًا«).(3
ول غرابة فالقرآن الكريم قد أكد هذا المر ليحث المؤمنين على نصرة المظلومين ولو تطلب ذلك القتال )َوما َلُكْم
ن هـِذِه الَقْرَيِة
جنا ِم ْ
خِر ْ
ن َرّبنا َأ ْ
ن َيُقوُلو َ
ن اّلِذي َ
ل َوالّنساِء َوالِوْلدا ِ ن الّرجا ِ ن ِم َ
ضَعِفـي َ
سَت ْ ل َو الُم ْ لا ّ سِبـي ِن ِفي َل ُتقاِتُلو َ
صـيرًا().(4 ك َن ِ
ن َلُدْن َ
ل َلنا ِم ْ
جَع ْ
ك َوِلـّيـا َوا ْ
ن َلُدْن َ
ل َلنا ِم ْ
جَع ْالظاِلِم َأْهُلها َوا ْ
] [ 249
ن الفلسفة الصلية لتشكيل الحكومة وتشريع القوانين)سواء القوانين اللهية أو الوضعية التي تسنها
جدير بالذكر أ ّ
ن الطغاة والجبابرة يعتمدون منطق القوةالنظمة البشرية(هو حفظ حقوق الضعفاء وتوفير الدعم والسناد لهم ،ل ّ
الغاشم من أجل هضم حقوق الخرين ،وعليه فلو تخلت الحكومة والقانون عن دعم المظلومين والمستضعفين
فاّنها ستفقد فلسفة وجودها لتتحول إلى وسيلة بيد الظلمة لتبرير ظلمهم وجورهم .ومن هنا كان قبول المام)عليه
السلم(للحكومة كما ذكر ذلك في خطبته الشقشقية يكمن في الوقوف إلى جانب المظلوم ومجابهة الظالم.
ومن هنا أيضا فإن القانون يعطي نتيجة معكوسة في المجتمعات التي تغير مسار القانون بالرشوة ،لن الراشي هو
الظالم ل المظلوم ـ وفي هذه المجتمعات يتحول القانون إلى مصدر دخل غير مشروع للظلمة وأداة لتوجيه ظلم
الخرين .لكن ينبغي العلم بأن تحمل العدل ومجابهة الظلم ودعم المظلوم إنما يشق على العم الغلب .فمن
الصعب قبول العدل من قبل من يرى مراعاته تشكل خطرا على مصالحه الل مشروعة ،أو السوأ من ذلك من
يرى لنفسه إمتيازا في المجتمع ول يمكنهم أن يتساوى مع الخرين ويرى أن من السادة إليه أن يتساوى معهم،
فيعمد إلى عرقلة مسيرة الحكومة العادلة ول يتورع عن ممارسة أبشع العمال .وهؤلء هم الفراد الذين وقفوا
بوجه المام)عليه السلم( وأثاروا الفتن والضطرابات وحرفوا الوسط السلمي.
ن سبب إنفراج العرب عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب )عليه السلم(إّنما يكمن في الموال وأخيرا فقد ورد أ ّ
وكيفية توزيعها ،فلم يكن)عليه السلم( يرى من فضل لشريف على غير شريف أو عربي على أعجمي ،كما لم
يكن يستن بسنة السلطين في معاملة زعماء القبائل ،ولم يستميل أحدا عن طريق المال أبدًا ،بينما كان معاوية
يمارس العكس تمامًا(1).
—–
] [ 250
] [ 251
القسم الثالث
عَلْيِه.
ب َ
ن َكَذ َ
ن َأّوَل َم ْ
صّدَقُه! َفل َأُكو ُ
ن َ
ل َلَنا َأّولُ َم ْ
ل)صلى ال عليه وآله(؟ َوا ّ سوِل ا ّعَلى َر ُ ب َ
»َأ َتراِني َأْكِذ ُ
عُنِقي ِلَغْيِري«.
ق ِفي ُ ت َبْيَعِتي َوِإَذا اْلِميثا ُ
سَبَق ْ
عِتي َقْد َ
طا َ
ت ِفي َأْمِريَ .فِإَذا َ
ظْر ُ َفَن َ
—–
الشرح والتفسير
أول من أسلم
ن ما ورد في هذه الخطبة فصول مختلفة من خطبة طويلة فصلها السيد الرضي )ره( عن كما أشرنا سابقًا يبدو أ ّ
ن هذا الفصل من بعضها البعض ،ولذلك قد ل يكون هناك من ترابط وثيق بين هذه الفصول .على كل حال فا ّ
ن ذلك مّما علمه إياهالخطبة يتناول أمرين :الول إخباره)عليه السلم( عن الحوادث التية مصرحًا بأ ّ
ل)صلى ال عليه وآله( ،ومن ذلك إخباره عن وقائع الجمل وصفين والنهروان ،أّما بعض ضعاف اليمان رسول ا ّ
ل)صلى ال عليه كانوا يشككون في أخبار المام)عليه السلم( ،فرد عليهم بالقول »أتراني أكذب على رسول ا ّ
ل لنا أول من صدقه! فل أكون أول من كذب عليه« .لقد صدقته حين كذبه الناس ،وكنت أول من وآله(؟ وا ّ
صدق به فشمرت في الدفاع عنه ،كنت أقيه بنفسي في الحروب والمواقف التي تنكص فيها البطال ،أفيمكن أن
ن المام)عليه السلم( أراد أنحرف عن طريقتي وأكذب عليه محال ذلك .الحتمال الخر في تفسير هذه العبارة أ ّ
أن يقول :بايعت من سبقني من الخلفاء ل لّنهم أجدر بها مني ،بل دفعًا للخلف والفرقة في صفوف المسلمين
ل)صلى ال عليه وآله( بهذا الكلم، ل)صلى ال عليه وآله( ،أفترون أني أكذب على رسول ا ّطاعة لمر رسول ا ّ
أم تعتقدون أّني أنقض وصية النبي)صلى ال عليه وآله(؟ وعليه فقد بايعت من بايعت وتنازلت عن
] [ 252
ن هذا التفسير هو النسب لّنه ينسجم والعبارت اللحقة .ثم ل)صلى ال عليه وآله( .ويبدو أ ّ حقي طاعة لرسول ا ّ
قال)عليه السلم(» :فنظرت في أمري ،فاذا طاعتي قد سبقت بيعتي وإذا الميثاق في عنقي لغيري« والتفاسير وإن
ن التفسير الذي أوردناه آنفا هو النسب لأّ إختلفت بشأن هذه البعارة ـ التي تعد من عبارت نهج البلغة المعقدة ـ إ ّ
ن المام)عليه السلم( لم يبايع الخلفاءن العبارة تجيب على سؤال قد يقتدح إلى الذهان في أ ّ من جميع التفاسير وكأ ّ
ل)صلى ال عليه وآله( على إمامته؟ وجواب الثلث وهو يرى أنه أجدر بالخلفة منهم وقد نص رسول ا ّ
ي السكوت حفظًا للسلم إن خالفني القوم ،ولبّد لي ل)صلى ال عليه وآله(عهد إل ّ المام)عليه السلم(أن رسول ا ّ
ل)صلى ال عليه ي مراعاتها .وعليه فقد جعلت طاعتي لرسول ا ّ من البيعة من أجل حفظ المصالح التي يجب عل ّ
وآله(أولى من بيعتي ،كانت عهدًا من النبي)صلى ال عليه وآله( في عنقي وليس أمامي سوى الوفاء بالعهد ،كما
ن طاعة النبي)صلى ال عليه وآله(مقدمة لدي ن المراد أ ّ
ذهب بعض شّراح نهج البلغة ،كما أوردنا سابقًا إلى أ ّ
ى النبي)صلى ال عليه وآله( بالسكوت في ظل مثل هذه الظروف ،وذكر بعض على بيعة الخلفاء ،لقد عهد إل ّ
ن هذه الكلمات مقطوعة من كلم يذكر فيه حاله بعد وفاة ن المراد بقوله »فنظرت في أمري «..أ ّ الشّراح إ ّ
ل)صلى ال عليه وآله( وأّنه كان معهودا إليه أل ينازع في المر ،ول يثير فتنة ،بل يطلبه بالرفق ،فان رسول ا ّ
ل)صلى ال عليه وآله(; أي وجوب طاعتي ،قد ل أمسك ،فالمراد :فنظرت فاذا طاعتي لرسول ا ّ حصل له وإ ّ
ل)صلى ال عليه وآله(وامتثال أمره سابق على بيعتي للقوم ،فل سبقت بيعتي للقوم ،أي وجوب طاعة رسول ا ّ
سبيل إلى المتتاع من البيعة لّنه)صلى ال عليه وآله(أمرني بها» ،وإذا الميثاق في عنقي لغيري« أي
ي الميثاق بترك الشقاق والمنازعة ،فلم يحل لي أن أتعدى أمره ،أو أخالف ل)صلى ال عليه وآله( أخذ عل ّ رسول ا ّ
ن العبارة تنسجم وما قال المام)عليه السلم( في الخطبة الشقشقية »أما والذي فلق الحبة نهيه (1).وقال البعض أ ّ
ن هذا التفسير هو الخر مستبعدًا ،ل ّ
ن وبرأ النسمة لول حضور الحاضر ...للقيت حبلها على غاربها« .ويبدو أ ّ
ل أن نفسر القوم تمردوا على طاعة المام)عليه السلم( قبل البيعة ،واعلنوا بيعتهم فلم يكن هناك من ميثاق ،إ ّ
الميثاق مجازيًا.
] [ 253
ل)صلى ال عليه وآله( ،ويفهم من أشار المام)عليه السلم( في هذه الخطبة إلى العهد الذي عهده إليه رسول ا ّ
ن النبي)صلى ال عليه وآله(عهد لعلي)عليه السلم( بمماشاة الخلفاء ،وإن لم تستند حكومتهم إلىالعبارة أ ّ
الموازين الشرعية .وقد صرحت بعض الروايات بمضمون ذلك العهد ،ومنها ما أورده المرحوم السيد ابن
ل)صلى ال عليه وآله(عهد إلي طاووس في كشف المحجة في رواية عن علي)عليه السلم(» :وقد كان رسول ا ّ
عهدًا ،فقال» :يابن أبي طالب! لك ولء ُاّمتي .فان ولوك في عافية واجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم وإن إختلفوا
ن النسان قد يقف أحيانًا على مفترق طرق كلهما ل سيجعل لك مخرجًا« .فالواقع أ ّنا ّعليك فدعهم وما هم فيه فا ّ
ل أن أحدهما أّمر من الخر ،فالعقل في مثل هذه الحالة يحكم باجتناب الّمر وتقبل المرير; القاعدة التي مرير ،إ ّ
يصطلح عليها في الفقه بقاعدة الهم والمهم ،كما يعبر عنها أحيانًا بدفع الفسد بالفاسد ،وهذا ما سلكه
ل)صلى ال عليه وآله( .فقد كان أمامه)عليه السلم( سبيلن لثالث أميَرالمؤمنين)عليه السلم(بعيد وفاة رسول ا ّ
لهما ،إّما إن يترك حقه المسلم في الخلفة حفظا للسلم والمصالح السلمية ،أو أن ينهض بالمر فيطالب بحقه،
دون الكتراث لوحدة المسلمين وتربص الحزاب الجاهلية بالسلم والفرصة التي كان ينتظرها المنافقون بفارغ
ل)صلى ال عليه وآله(فعهد الصبر أمل في إقتتال المسلمين وتسللهم إلى الحكومة ،المر الذي تكهن به رسول ا ّ
لعلي)عليه السلم( ذلك العهد ،ولم يكن من علي الذي أوقف نفسه للسلم سوى اللتزام بذلك العهد.
—–
] [ 254
] [ 255
الخطبة 38
ن هذا الكلم فصل من كلم طويل إختاره السيد الرضي )ره( ،ومن هنا نرى الكلم ن أدنى تأمل للخطبة سيفيد أ ّ
إّ
عبارة عن فصلين ،أحدهما غير منسجم مع الخر ،بل مبتور عنه .أّما الفصل الول فهو الكلم في الشبهة ولماذا
سميت شبهة ،وسبيل الخلص من الشبهات .والفصل الثاني بيان حال الناس إزاء الموت ،حيث ل ينجو منه من
خافه ،ول يمنح البقاء من طلبه فكلهما ميت .وتدل القرائن على أن الرضي )ره( كان يلتقط الكلم إلتقاطًا،
ومراده أن يأتي بفصيح كلمه)عليه السلم( وما يجري مجرى الخطابة والكتابة ،ويؤيد هذا العبارة »من كلم له«
ن من هنا تبعيضية ،فلم يقل ومن خطبته أو ومن كلماته ،فقد أراد أن ما ورد هنا جزء و»من خطبة له« ونعرف أ ّ
ن الخطبة ورغم قصرها تتناول موضوعين أحدهما; الشبهة والخر من خطبته)عليه السلم( .على كل حال فا ّ
الموت.
—–
ن المدي قد روى هذه الخطبة
.1نقل هذه الخطبة المدي في غررالحكم مع إختلف طفيف وما ورد في نهج البلغة ،ويفهم من هذا أ ّ
من مصدر آخر غير نهج البلغة )مصادر نهج البلغة .(435 / 1
] [ 256
] [ 257
—–
الشرح والتفسير
النجاة من الشبهة
ن هذا الفصل من الخطبة يتعلق بقصة طلحة والزبير ومعركة الجمل; لّنهما خلقا يستفاد من بعض المصادر أ ّ
شبهة لدى الناس ودعوهم لنكث البيعة والقيام ضد الحق .ومن عناصر تلك الشبهة زج زوج النبي)صلى ال عليه
وآله( في تلك المعركة والمطالبة بدم عثمان وما شا كل ذلك .قد تحدث المام)عليه السلم( عن الشبهة قائل:
»وإّنما سميت الشبهة شبهة لّنها تشبه الحق« ومن هنا كانت سببا لخداع السذج وذريعة بيد الشياطين للفرار من
لمور التي تواجه النسان في حياته الفردية والجتماعية ل تخرج عن ثلث; فقد يكون الحق نا ُالحق .فالواقع أ ّ
ظاهرًا جليًا كأن نقول من يعمل الخير يحصد الخير ومن يعمل الشر يحصد الشر; أو يكون الباطل واضحًا ،كأن
نقول الفوضى وغياب القانون أفضل من النظام وسيادة القانون ،فمن البداهة القول ببطلن هذا المر .غير أن
هنالك بعض الحالت التي ليست من قبيل القسم الول ول الثاني ،حيث يتلبس الباطل أحيانًا بثوب الحق ،أمر
لمور الجوفاء التي تمسك بها أصحاب الجمل وصفين من أجل إشعال نيران تلك ظاهره حق وباطنه باطل ،كتلك ا ُ
ن هذه هى مشكلة المجتمعات البشرية ،وقد إتسعت في مجتمعاتنا المعاصرة ،حيث نرى أغلب المعارك .ويبدو أ ّ
الهداف الباطلة والسلطة الخبيثة التي تلبست ثياب حقوق النسان والدفاع عن الحرية والديمقراطية وحفظ القانون
وإعادة السلم والستقرار إلى المنطقة .ثم أشار)عليه السلم( إلى طرق النجاة من
] [ 258
ل فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت)(1الهدى« .فالعبارة قد تكون ل »فأما أولياء ا ّالشبهات التي يعتمدها أولياء ا ّ
ل والغيب إّنما يلوذون بالقرآن وكلمات أئمة العصمة ل الذين يؤمنون با ّ ن أولياء ا ّ
إشارة لحد أمرين :الول أ ّ
ل ورسوله لمواجهة ظلم الشبهات والخلص منها بدافع من يقينهم بالوحي ،وعليه فاليقين في العبارة هو اليمان با ّ
ب ِفـيِه ُهًدى ِللُمّتِقـين() .(2وقيل
ل َرْي َ
ب َ
ك اْلِكتا ُ
»وسمت الهدى« إشارة إلى هدي الوحي ،كما قال القرآن )ذ ِل َ
لمور اليقينية التي من شأنها إنارة الطريق والقضاء على الشبهة، المراد باليقين الستفادة من المقدمات القطعية وا ُ
ل الذين ليكترثون للهواء ويحكمون العقل إّنما يسعهم في ظل هذا لعقل أن يجتازوا ن أولياء ا ّ
وبعبارة ُاخرى فا ّ
الشبهات ويهتدوا إلى السبيل ،ولو كان للهواء من سبيل إلى العقل لما وسع هذا الفرد تمييز الحق من الباطل إذا
ن بعض إلتبس عليه المر .والتفسيران ليتعارضان ،ويمكن الجمع بينهما في مفهوم العبارة المذكورة .قد يقال أ ّ
اليات والروايات قد اشتملت على المشتبه الذي يتضمن مختلف التفاسير ،فما العمل في هذا الحالة؟ لقد أجاب
القرآن الكريم صراحة عن هذا السؤال وذلك بالرجوع إلى اليات المحكمة والروايات الصريحة التي تفسر تلك
المتشابهة حتى يتمكن الفرد من إجتياز هذا المتحان اللهي باليات والروايات المتشابهة .والحياة النسانية على
ل حركة مريبة من أحد الصدقاء تحتمل غرار اليات القرآنية قد تنطوي على محكمات ومتشابهات ،فقد ترى مث ً
ن حسن الوجهين في التفسير ،وقد أرشدت مختلف الحوادث إلى نزاهته وعفته خلل كل هذه المسيرة ،فل شك أ ّ
السيرة هذا من المحكمات وتلك الحركة المريبة من المتشابهات التي يمكن تفسيرها من خلل المحكمات .ثم
ل فدعاؤهم فيها الضلل ل في كيفية التعامل مع الشبهات فقال» :وأما أعداءا ّتطرق المام)عليه السلم(لعداء ا ّ
ل وأعدائه ،فليس
ل من أجل الحركة ،وهنا يفترق الفراد إلى أولياء ا ّ ودليلهم العمى« فكل سبيل يتطلب دافعًا ودلي ً
ل واليوم الخر ودليل سوى الوحي والنبوة ،بينما دافع أعداء ودليلهم الضلل ل من دافع سوى اليقين با ّ
لولياء ا ّ
وهوى
.1سمت بمعنى الطريق أو الجادة ،كما تطلق مشكل المحسنين ،والتسميت هو الدعاء لمن يعطس حيث يسأل ال له السلمة،
فالعطسة من علمات السلمة.
] [ 259
ن الفلح والسعادة في الدنيا والخرة النفس ووساوس شياطين النس والجن وعمى البصر والبصيرة .ومن هنا فا ّ
حياةِ الّدْنيا َوِفي
شرى ِفي ال َ نَ ...لُهُم الُب ْ
حَزُنو َعَلْيـِهْم َول ُهمْ َي ْ
ف َ خْو ٌ لل َ ن َأْوِلـياَء ا ّ
لولى )َأ ل ِإ ّ هى مصير الطائفة ا ُ
ن َفْوِقِه
ج ِم ْ
ن َفْوِقِه َمْو ٌ
ج ِم ْ
ي َيْغشاُه َمْو ٌ جـ ّ
حر ُلـ ّ ظـُلمات ِفي َب ْ ل سوى الظلمات )َأْو َك ُ خَرِة() (1بينما ليس لعداء ا ّ ال ِ
ن ُنور( ) .(2أّما ل َلـُه ُنورًا َفما َلُه ِم ْلا ّجَع ِن َلمْ َي ْ
ج َيَدُه َلْم َيَكْد َيراها َوَم ْ
خَر َ
ق َبْعض ِإذا َأ ْ ضها َفْو َ
ت َبْعـ ُ
ظُلما ٌ
ب ُ
سحا ٌ
َ
ن أبعادهما ورد في خطبة المام)عليه السلم(فهو صادق على الحياة الفردية وكذلك الحياة الجتماعية ،بل إ ّ
ل( من قبيل لعظم وأخطر في الجانب الجتماعي وقد تجسد النموذج الكامل لذلك في الطائفة الثانية )أعداء ا ّ
الفرق الثلث التي خاضت معركة الجمل وصفين والنهروان من خلل الشبهات الواهية والدلة الجوفاء الضعف
جه ضرباتها الماحقة لكيان السلم والمسلمين .جدير من بيت العنكبوت لتهب لقتال المام)عليه السلم( وتو ّ
ل)صلى ال عليه وآله( ـ أّنه قال سمعت بالذكر ما أورده صحيح البخاري عن أبي بكرة ـ أحد صحابة رسول ا ّ
ل)صلى ال عليه وآله( نفعني أيام الجمل ،فقد كدت أن ألتحق بمعسكر أصحاب الجمل ،حيث حديثًا عن رسول ا ّ
ن طائفة من اليرانيين قد ولوا عليهم بنت كسرى فقال)صلى ال عليه وآله( ل)صلى ال عليه وآله( أ ّ بلغ رسول ا ّ
»لن يفلح قوم ولو أمرهم إمرأة«(3).
لو ظهر الباطل كما هو لما خفى على أحد ،ولما قبله الوجدان والطبع السليم ،ول يستجيب له سوى مرضى
ن المشكلة تتعقد حين يتزين الباطل بلباس الحق ،فيقبل عليه بعض طلب الحق بعدلأّ
القلوب ومنحرفي الفكار إ ّ
لخرى أن يمزج مقدار من الحق بمقدار
أن يغترون بحسن ظاهره ،وهذه في الواقع إحدى شعب الشبهة .الشعبة ا ُ
من الباطل فتختفي صورة الباطل القبيحة في ظل الحق .وأخيرًا فقد يزيف الباطل ويجمل حتى يبدو بصورة حق
دون أن
.3صحيح البخاري 10 / 6باب كتاب النبي)صلى ال عليه وآله( إلى كسرى وقيصر.
] [ 260
يمتزج به .وقد حفل تأريخ البشرية بما ل يحصى من الفتن والويلت التي طالته من خلل الشبهات والوساوس
الشيطانية ،حتى مارس الطغاة والمخادعون سلطتهم على الناس بواسطة تلك الشبهات .وأفضل نموذج على ذلك
المعارك الثلث المعروفة ـ الجمل وصفين والنهروان ـ التي أودت بحياة تلك الجماعة العظيمة من المسلمين وما
ل من خلل الشبهات التي إعتمدها أصحاب الباطل من أجل تحقيق أطماعهم ومآربهم; فالبكاء ليل نهار على ذلك إ ّ
قتل الخليفة المظلوم )عثمان( والطواف بقميصه الملطخ بالدم من أجل تعبئة الناس ،حتى من قبل أولئك الذين
ساهموا في قتله وتلطخت أيديهم بدمه ،ومن ثم التيان بُام المؤمنين وركوبها الجمل و ...كلها نماذج حية من
الشبهة .رفع المصاحف على أسنة الرماح وشعار التسليم الحكم القرآن والحيلولة دون إراقة دماء المسلمين هى
الخرى من شبهات معركة صفين .بل أبشع صورة للشبهة في محاولة تحميل المام علي)عليه السلم(مسؤولية
ل)صلى ال عليه وآله(» :يا قتل عمار بن ياسر في معركة صفين حيث إحتج المام)عليه السلم(بقول رسول ا ّ
ن الفئة الباغبة من أتت بعمار إلى المعركة .أما أصحاب النهروان ممن عمار تقتلك الفئة الباغية« ،فاحتج عليه بأ ّ
كانوا يتظاهرون بصلة الليل وقراءة القرآن التي لتتجازو تراقيهم ،فقد رفعوا شعارهم المعروف »ل حكم إ ّ
ل
ل« وقد انطوت هذه الشبهة على فئة عظيمة من الناس والتي أدت في الختام إلى قتلهم وخلودهم في جهنم وبئس ا ّ
المصير .ويشهد عالمنا المعاصر اليوم أسوأ أنواع الشبهات ،فما أكثر الشعارات البراقة الساحرة ،من قبيل شعار
الحرية والديمقراطية والمساواة وتفعيل حقوق النسان والحضارة والمدنية وتطوير البشرية والتي ترتكب باسمها
أعتى الجنايات وأقبح الجرائهم .وسنسلط مزيدًا من الضوء على هذا الموضوع حين نصل إلى الخطبة الربعين
والخمسين الواردة بهذا الشأن ،كما أشار المام)عليه السلم( إلى هذا المر في الحكمة 198من قصار كلماته في
نهج البلغة.
يرى أغلب شّراح نهج البلغة عدم وجود آية رابطة لقولة)عليه السلم(» :فما ينجو من الموت من خافه ،ول
ن السيد الرضي )ره( إّنما يلتقط
يعطى البقاء من أحبه« وما ورد في أول الخطبة ،وأ ّ
] [ 261
كلم المام)عليه السلم( من أكثر من خطبة .ولعلنا نستطيع تصور رابطة بين الفصلين من الخطبة وذلك أنّ
ن خوف الموت ل ينجي من الموت أبدًا. الفراد قد يستسلمون للشبهات خوفًا من الموت ،فإشار)عليه السلم(إلى أ ّ
على كل حال فان هذا الفصل من الخطبة يشتمل على عبارتين تعالج كل منها قضية الموت .فقد قال)عليه السلم(
ن هذا الخوف قد يكون من العناصر المقربة للموت .فالموت هو القلدة »فما ينجو من الموت من خافه« ،بل إ ّ
التي خطت على جيد ابن آدم وسائر الكائنات الحية والقانون الذي ليعرف الشواذ والستثناء ،فليس هنا لك من
ل سبحانه .فجميع الكائنات محدودة وأّنها ستنتهي لمحالة وتؤول إلى الفناء .وليس من بقاء سوى خلود سوى ّ
للذات اللهية المقدسة ،وعليه فخوف الموت لن يغير من حقيقته شيئًا ،كما أن السعي من أجل البقاء والحياة الخالدة
لن يكلل بالنجاح أبدًا .ومن هنا قال المام)عليه السلم( في العبارة الثانية »ول يعطى البقاء من أحبه« .قد تطول
ل أّنها سائرة للزوال في خاتمة المطاف ومن الوهم الساذج والباطل التفكير بالبقاء والخلود. مدة الحياة أو تقصر إ ّ
جَهُه( .والعبرة هنا في أن يستعد
ل َو ْك ِإ ّ
شيء هاِل ٌ
ل َ
ت(وقال )ُك ّ
ل َنْفس ذاِئَقُة الَمْو ِ
فقد صرح القرآن الكريم )ُك ّ
النسان للموت ويتزود له ،فالموت ل يعني الفناء المطلق بقدر ما يعني النتقال من دار صغيرة محدودة إلى
أخرى كبيرة واسعة تشتمل على مختلف النعم واللذائذ ،وإذا أصلحنا عملنا فليس هنالك ما يدعو إلى الخوف من
الموت.
—–
] [ 262
] [ 263
الخطبة)39 (1
خطبها عند علمه بغزوة النعمان بن بشير ،صاحب معاوية لعين التمر ،وفيها يبدي عذره ويستنهض الناس
لنصرته.
وردت هذه الخطبة كما ذكرنا سابقا حين غزا النعمان بن بشير عين التمر الموضع المعروف في العراق.
ث به بجريدة خيل; حتى ُيِغيَر على شاطىء وقد كان معاوية قال قبل ذلك بشهرين أو ثلثة :أَما من رجل أبع ُ
ل العراق! فقال له النعمان :فاْبعثِني; فإنّ لي في قتالهم نّية وهًوى ـ وكان النعمان ب بها أه َ
ع ُ
ل ُير ِنا ّ
الفرات! فإ ّ
ى َرجل ،وأوصاه أن يتجّنب المدن والجماعات ،وأ ّ
ل ب وَنَدب معه ألف ْ
ل ،فانتَد َ
عثمانيًا :قال :فانتدب على اسِم ا ّ
جل الرجوع. سَلحة ،وأن يع ّل على َم ُْيغير إ ّ
جرى ،ومع
ي الذي جرى له معه ما َ
ن بن بشير; حتى دنا من عين اّلتْمر ،وبها مالك بن كعب الرحب ّ ل النعما ُ
فأقب َ
ل مائة أو
ف رجل; وقد أِذن لهم ،فرجعوا إلى الكوفة ،فلم يبق معه إ ّمالك أل ُ
.1وردت هذه الخطبة في ثلثة مصادر على القل قبل السيد الرضي وهى :الغارات لبراهيم بن هلل الثقفي ) (283وأنساب الشراف
للبلذري الذي أورد بعضها وتأريخ الطبري الذي روى بعض أقسامها ،وكذلك مصادر نهج البلغة .438 / 1
] [ 264
—–
.1شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد .1/437
] [ 265
القسم الول
جمَُعُكْم َول
ن َي ْ
صِرُكْم َرّبُكْم؟ َأما ِدي ٌ
ن ِبَن ْ
ظُرو َ
ت ،ل َأباَلُكْم! ما َتْنَت ِ
عْو ُب ِإذا َد َجي ُ ت َول ُي ِطيُع ِإذا َأَمْر ُن ل ُي ِ ت ِبَم ْ»ُمِني ُ
شفَحّتى َتَك ّن ِلي َأْمرًاَ ،طيُعو َ ن ِلي َقْوًلَ ،ول ُت ِسَمُعو َصِرخًا َوُأناِديُكْم ُمَتَغّوثًاَ ،فل َت ْ سَت ْشُكْم؟ َأُقوُم ِفيُكْم ُم ْ
حِم ُ حِمّيَة ُت ْ
َ
ك ِبُكْم ثاٌرَ ،ول ُيْبَلُغ ِبُكْم َمراٌم«. ب اْلَمساَءِةَ ،فما ُيْدَر ُ عواِق ِ ن َ عْ اُْلُموُر َ
—–
الشرح والتفسير
أشرنا سابقًا إلى أن المام)عليه السلم( خطب هذه الخطبة حين بعث معاوية النعمان بن بشير ليرعب إحدى
مناطق العراق ويضعف معنويات أهلها ،فدعا المام)عليه السلم(الناس لقتالهم ،غير أن عجز أهل العراق
وضعفهم جعلهم يردون بالسلب على دعوة المام)عليه السلم( ،فخطب المام)عليه السلم(هذه الخطبة لغرضين:
الول :تحميل أهل العراق المسؤولية التامة للمصائب والويلت التي تتعرض لها البلد بفعل هذا الضعف والذلة
تجاه العدو ،الثاني :لعل هذه الكلمات تؤثر في تلك الرواح الهامدة فتلتفت إلى عظم الخطار التي كانت تتربص
بها فتهم بموا جهتها .فقد قال)عليه السلم(» :منيت بمن ل يطيع إذا أمرت ول يجيب إذا دعوت« فمن الطبيعي أ ّ
ن
لمراء وأشجعهم ليسعهم فعل شيء إذا ما ابتلوا بمثل هؤلء الفراد ،وما من فشل أو هزيمة أعظم القادة وا ُ
ن جميع ل ويتحملون مسؤوليتها كاملة .ثم قال)عليه السلم(» :ل أبا لكم :ما تنظرون بنصركم ربكم«؟ إ ّ تصيبهم إ ّ
الظروف متوفرة لديكم من أجل القتال ،فعندكم العّدة والعدد ،كما تعلمون مؤامرات عدوكم وقد أحدق الخطر بكم،
فماذا تنتظرون؟ أتتطلعون لقتلكم بهذه الذلة والهوان؟ وقد
] [ 266
لسرية السلمية الصحيحة شرنا سابقًا إلى أن قوله)عليه السلم(» :ل أبا لكم« إما يفيد عدم تربيتهم التربية ا ُ
أْ
ل آبائهم ،وهو الخر كناية عن الذلة بحيث يبدون كل هذا الضعف والعجز ،أو أّنه دعاء عليهم بان يميت ا ّ
والهوان الذي يستشعره النسان لفقد والده .ثم قال)عليه السلم(» :أما دين يجمعكم ول حمية تحمشكم«)(1؟
فالواقع من شأن أي من هذين المرين دواء دائهم ،فالدين حلقة إتصال يمكنها إستقطاب الفئات والطوائف المختلفة
ب الهل والوطن إّنما تسوقهم ن الغيرة الجتماعية وح ّ حول هدف مركزي واحد ،فاذا غاب الدين الذي يجمعهم ،فا ّ
ن أهل العراق آنذاك قد فقدوا هذين الدافعين ،فلم يكن دينهم ن المؤسف له هو أ ّ للتحاد أمام العدو ومواجهته ،غير أ ّ
محكمًا راسخًا ،كما لم تكن لهم حمية تجعلهم يغضبون ويواجهون العدو .ول شك أن مثل هؤلء القوم يعتبرون
عقبة كؤودًا في طريق الحاكم .ومن هنا خاطبهم المام)عليه السلم(مصورًا حجم ضعفهم والذل الذي سيطر
عليهم »أريد أن ُاداوي بكم وانتم دائي كناقش الشوكة بالشوكة«(2) .
» .1تحمش« من مادة »حمش« ،قال صاحب المقاييس لها معنيين الغضب والنحافة ،وقد وردت هنا بمعنى الغضب; أي أليس لكم
حمية تغضبكم على عدوكم.
» .3مستصرخ« من مادة »صرخ« ،الصراخ حين الخوف أو المصاب وطلب النصرة.
» .4متغوث« من مادة »غوث« بمعنى النصرة حين الشدة ،وعليه يطلق المتغوث على من يطلب نصرة الخرين عند الشدائد.
» .5المساءة« مصدر مادة »سوء« ،بمعنى فقد ان النعم الماديه أو المعنوية الدنيوية أو الخروية ،البدنية أو غير البدنية.
] [ 267
سفير الحسين)عليه السلم(مسلم بن عقيل ونكثوا بيعته ولزموا بيوتهم ،فبقى مسلم وحده يقاتل العداء حتى
استشهد .وأخيرًا خلص المام)عليه السلم( إلى هذه النتيجة »فما يدرك بكم ثار ،ول يبلغ بكم مرام«.
] [ 268
] [ 269
القسم الثاني
خَر َ
ج ضِو) (3اَْلْدَبِر)ُ (4ثّم َ
سّر)َ (2وَتثاَقْلُتْم َتثاُقَل الّن ْجَمِل اَْل َجَرَة) (1اْل َ
جْر َجْرُتْم َ
جْر َ
خواِنُكْم َف َ
صِر ِإ ْ
عْوُتُكْم ِإَلى َن ْ
»َد َ
ن«. ظُرو َ ت َوُهْم َيْن ُ
ن ِإَلى اْلَمْو ِ
ف »َكَأّنما ُيساُقو َضِعي ٌ ب)َ (6 جَنْيٌد)ُ (5مَتذاِئ ٌ
ي ِمْنُكْم ُِإَل ّ
—–
الشرح والتفسير
واصل المام)عليه السلم( ذمه لهل الكوفة على ما أبدوه من ضعف وعجز تجاه الهجمات المبرمجة للعدو
فقال)عليه السلم(» :دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل السر ،وتثاقلتم تثاقل النضو الدبر« أي
أّنكم أعريتم عن عجزكم في الكلم كما فعلتم ما يفشلكم في الدنيا والخرة ويمكن العدو من تكبيدكم الخسائر في
أموالكم وأرواحكم ،فقد دعوتكم لنصر أخوانكم )مالك بن كعب وصحبه ممن تعرضوا لغارات اهل الشام في
منطقة عين التمر( فكانت حركتكم كحركة الجمل وتثاقل النضو الدبر »دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم
» .1جرجرة« صوت يردده البعير في حنجرته عند عسفه ،وقيل من مادة »الجرر« بمعنى الجر ،واطلق الجرر لتكراره.
» .2أسر« من مادة »سرر« المصاب بداء السرر ،وهو مرض في كركرة البعير أي زوره ينشأ من الدبرة والقرحة.
» .3النضو« المهزول من البل ،والدبر المدبور ،أي المجروح المصاب بالدبرة ،وهى العقر والجرح من القتب ونحوه.
» .4أدبر« من مادة »دبر« بمعنى الجرح الذي يتعرض له الحيوان إثر ضغط السراج.
» .6متذائب« بمعنى مضطرب ،من قولهم تذاءبت الريح أي إضطرب هبوها ومنه سمي الذئب ذئبًا لضطراب مشيته.
] [ 270
جرجرة الجمل السر ،وتثاقلتم تثاقل النضو الدبر« ولعل تشبيههم بالحيوانات المريضة إشارة إلى ضعفهم
ن النسان العاقل ليدع العدو يهجم عليه بهذه الطريقة بحيث يضرب أينما الفكري وعجزهم في إتخاذ القرار ،ل ّ
شاء دون وازع أو رادع .ثم أشار)عليه السلم(إلى تلك الفئة القليلة التي لبت دعوته ،بينما كان الخوف والهلع
يسيطر عليهم »ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف كأّنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون« .وقد أورد السيد
ل :قوله)عليه السلم( متذائب; أي مضطرب ،من قولهم :تذائبت الريح ،أي الرضي )ره( في آخر الخطبة قائ ً
ن هذه الفئة القليلة لم تكن مصداقًا لقوله
اضطراب هبوبها .ومنه سمى الذئب ذئبًا ،لضطراب مشيته .ومن هنا فا ّ
سبحانه »كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة« بل كانت فئة ضعيفة قلقلة مضطربة كأّنهم يساقون إلى المذبح وهم
ينظرون إلى موتهم ،فهى فئة عدمها خير من وجودها والوثوق بها مخجل ،فما أعظم محنته المام)عليه السلم(
وابتلئه بهؤلء القوم طبعًا قوله)عليه السلم(كأّنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون .إّنما اقتبسه)عليه السلم( من
الية السادسة من سورة النفال التي وردت بشأن بعض المؤمنين الضعفاء على عهد النبي)صلى ال عليه وآله(
الذين كانوا يتشبثون بمختلف الذرائع والحجج للفرار من الجهاد إلى جانب جدالهم للنبي)صلى ال عليه وآله( حول
ن حوادث بدر أثبتت ل حقًا مدى خطأهم وتزايد خوفهم عبثًا حتى إنتهت الموقعة بالنصر موقعة بدر ،غير أ ّ
ن هؤلء كانوا من المعترضين على كيفية توزيع الغنائم بعد انتهاء المعركة .ولعل المؤزر للمسلمين ،والعجيب أ ّ
المراد بالعبارة أن هذه الفئة القليلة لو كانت تمتلك العزم الراسخ والقوة والصلبة من شأنها النتصار على العدو،
غير أن المؤسف...
] [ 271
ويعبئها لشن غاراتها على بعض المناطق السلمية فتنشر فيها الذعر والخراب والدمار وتذبح من فيها دون
الكتراث للشيوخ والنساء والصبيان إلى جانب نهب الموال والثروات وقد تكررت مثل هذه الحادثة لكثر من
مّرة على عهد المام)عليه السلم( ،فكان المام)عليه السلم(يستصرخ أهل الكوفة لمواجهة هذه الخطار فكانوا
يردون عليه بكل ضعف وفتور وكأّنهم لم يعلموا بما يجري حولهم وقد غطوا في نوم عميق :المر الذي جعل
إعتداءات أهل شام تتصاعد يومًا بعد آخر ،حتى أصبح العراق بعيد شهادة المام)عليه السلم( لقمة سائغة لمعاوية
ورهطَه بحيث لم يتمكن المام الحسن)عليه السلم(من الوقوف بوجه ذلك الظالم ،ول عجب في المر فلم تكن
لديه القوة الكافية من الفراد التي يستطيع بواسطتها قتال معاوية .ونلمس اليوم هذه الحقيقة بوضوح في عالمنا
المعاصر ،وإذا لم نلتفت إلى تحرشات العدو وتقبرها في المهد فاّنها ستتسع شيئًا فشيئًا ،آنذاك لم يمكن المواجهة
والصمود .وعليه فلبد من النتباه إلى أدنى حركة عسكرية أو إعلمية أو إقتصادية والتعامل معها فورًا بمنتهى
ل من الهجوم .فعادة ما تحاول العناصر الضعيفة التي تميل إلى الدعة والراحه الصلبة ليضطر العدو للدفاع بد ً
لحمل مثل هذه الحركات على البراءة بعيد عن حملها محمل الجد وإساءة الظن بها ،والحال أّنها إّنما تبدر من
العدو الذي لينبغي الغفلة عن إتهامه ريثما تتكشف الحقائق .ونختتم البحث بالعبارات الواردة في خطبة الجهاد
ل ونهارًا وسرًا وأعلنًا وقلت لكم :إغزوهم حيث قال)عليه السلم(» :أل وإّني قد دعوتكم إلى قتال هؤلء القوم لي ً
ل ذلوا«(1) .
ل ما غزي قوم قط في عقر دارهم إ ّ قبل أن يغزوكم :فوا ّ
سؤال
لعل هنالك من يتساءل لم كل هذه الشّدة من المام)عليه السلم( مع أصحابه ومخاطبتهم بهذه اللكمات وتحقيرهم
إلى هذا الحد ،أفليس من الفضل أن يرفق بهم ويتلطف معهم؟
] [ 272
] [ 273
الخطبة 40
ل«
في الخوارج لما سمع قولهم» :ل حكم ال ا ّ
ل.
ل«كلمة حق يريدون بها باط ً
ل ّ
ن القول »ل حكم إ ّ
الول :كشف النقاب عن مغالطتهم في هذا الشعار ،وأ ّ
وقد نقل المرحوم السيد الرضي )ره( آخر هذه الخطبة نفس هذا المضمون طبق رواية أخرى بعبارات أقصر.
—–
] [ 274
] [ 275
لَ ،وِإّنُه لن :ل ِإْمَرَة ِإّل ِّ ن َهُؤلِء َيُقوُلو َ ل َوَلِك ّحْكَم ِإّل ِّ
طٌل! َنَعْم ِإّنُه ل ُ ق ُيراُد ِبها با ِ
حّ »قاَل)عليه السلم(َ :كِلَمُة َ
جَمُع ِبِهجَل َوُي ْ
ل ِفيها اَْل َ سَتْمِتُع ِفيها اْلكاِفُرَ ،وُيَبّلُغ ا ّ
نَ ،وَي ْ
جر َيْعَمُل ِفي ِإْمَرِتِه اْلُمْؤِم ُ ن َأِمير َبّر َأْو فا ِ ُبّد ِللّناس ِم ْ
جر.ن فا ِ ح ِم ْ سَترا َح َبّر َوُي ْسَتِري َ
حّتى َي ْ ي; َ ن اْلَقِو ّف ِم َ
ضِعي ِ خُذ ِبِه ِلل ّ
سُبُل َوُيْؤ َ
ن ِبِه ال ّ
يُءَ ،وُيقاَتُل ِبِه اْلَعُدّوَ ،وَتْأَم ُ
اْلَف ْ
—–
الشرح والتفسير
] [ 276
ن رعاية التوحيد تتطلب نفي كافة ألوان الحكومة والمرة ،غير أّنهم سرعان ما وقفوا على جعلتهم يعتقدون بأ ّ
بطلن مذهبهم في الحكومة لما شعروا بحاجتهم إلى من يتزعمهم ويحكم بينهم ،رغم عنادهم الذي أفرزه جهلهم
والذي لم يدعهم يفيقون إلى أنفسهم .مع ذلك فقد قضت كلمات المام)عليه السلم(مضاجعهم واستطاعت أن تفعل
فعلها في ميدان القتال فجعلت الكثير منهم يعودون إلى رشدهم فيعلنوا توبتهم بعد أن وقفوا على عمق إنحرافهم،
ل سبحانه; حتى ن الحاكم وا لمشرع الصلي هو ا ّ ن المام)عليه السلم(يؤكد في هذه الخطبة أ ّ على كل حال فا ّ
ل ينبغي أن يحضر بنفسه في المحاكم ن هذا ليعني أن ا ّ لأّ الحكم بين الناس لبّد أن يستند إلى تخويل منه ،إ ّ
ل على منطقة، لمور فيمارس وظيفته كرئيس للبلد أو واليًا وعام ً ليقضي ويحكم بين الناس ،أو أن يأخذ بزمام ا ُ
أو أن يوكل هذه المهمة إلى الملئكة فيبعثهم إلى الرض .فهذا كلم عبثي ولغو فارغ ل يرتضيه من كان له أدنى
ن المؤسف هو أن هذه الفكرة كانت متأصلة في أفكار الخوارج ،ومن هنا خالفوا لأّ فهم وإدراك ،إ ّ
ن الخوارج أميرالمؤمنين)عليه السلم(واعترضوا عليه :لم قبلت التحكيم؟! وصرح بعض شّراح نهج البلغة بأ ّ
يزعمون أن الحكم يتطلب الذن اللهي ولبّد أن يصرح القرآن بهذا المر ،بينما لم يأذن القرآن لحد .ولعل هذا
هو الذي دفع بعض العلم) (1لن يستدلون على نفي عقيدة الخوارج بالية القرآنية الشريفة الواردة بشأن الحكم
قا ّ
ل صلحًا ُيَوّف ِ ن ُيِريدا ِإ ْ
ن َأْهِلها ِإ ْ
حَكمًا ِم ْ
ن َأْهِلِه َو َ
حَكمًا ِم ْ
ق َبْيِنِهما َفاْبَعُثوا َ
شقا َ
خْفُتْم ِ
ن ِ
في الختلفات العائلية )َوِإ ْ
خِبـيرًا() .(2فاذا كانت هذه المسألة الصغيرة تحتاج إلى الحكم فما ظنك بالمسائل المهمة عِلـيمًا َ
ن َل كا َنا ّ
َبْيَنُهما ِإ ّ
التي يدعو الختلف فيها إلى تفشي الهرج والمرج في صفوف المجتمع ،أفل ينبغي فصل هذه الختلفات وحلها
ن المام)عليه السلم(لم يكن مخالفًا لمسألة التحكيم في بعض الحالت، عن طريق الحكم؟! ومن هنا يرى البعض أ ّ
ل أّنه لم يكن يوافق شخص الحكمين وكان يعترض عليهما بشدة. إّ
لمة الخوئي 183 / 4من شرح نهج البلغة قد أشار إلى هذا المعنى ،ويستفاد من التأريخ الكامل لبن أثير أن ابن عباس احتج .1الع ّ
على الخوارج بهذه الية )الكامل .(327 / 3
] [ 277
ل أّنهم
يخالفوا مسألة التحكيم في صفين فحسب ،بل شككوا في أصل الحكومة وزعموا عدم الحاجة إلى الحاكم ،إ ّ
ل بن وهب الراسبي) .(1ثم علل المام)عليه السلم( ضرورة تشكيل رجعوا عن ذلك لما أمروا عليهم عبدا ّ
الحكومة والحاكم »وإّنه لبّد للناس من أمير بر أو فاجر« ليذكر سبعة فوائد تترتب على قيام الحكومة بعضها
ل» :يعمل في إمرته) (2المؤمن«(3).يتصل بالجانب المعنوي والبعض الخر بالجانب المادي وهى :أو ً
» .2إمرة« على وزن عبرة مصدر أو إسم مصدر من مادة »أمر« ،و»المرة« هنا بمعنى الحكومة.
.3واضح ان الضمير في إمرته يعود إلى مطلق المير سواء البر أو الفاجر وكذلك ضمير فيها ،وليس صحيح ما اورده بعض شّراح
ن الول يعود إلى البر والثاني إلى الفاجر ،أو كلهما للفاجر.
نهج البلغة من أ ّ
] [ 278
ذكرها المام)عليه السلم(لكليهما ،بحيث يقوم كل منهما بهذه الوظائف .وللجابة على هذا السؤال لبّد من
ل أّنها ليست كذلك بالنسبةن الحاكم البر إّنما يقوم قطعا بمثل هذه الوظائف ،إ ّاللتفات إلى هذه النقطة وهى أ ّ
للفاجر بصورة مطلقة نعم يمارسها بصورة نسبية ،فهو مضطر لستمرار حكومته أن يراعي النظام ،ويقف بوجه
ل فان الناس ستخرج عليه وتتزلزل العدو الخارجي ويحول نسبيا دون ظلم الظلمة ،وان كان في حد ذاته ظالمًا; وا ّ
ن أغلب الحكومات مهما كان تتسعى فهى جاهدة للقيام بتلك الوظائف دعائم حكومته فيطيح به العداء ،ومن هنا فا ّ
ن أية حكومة تتساهل في الوظائف المذكورة إّنما تكون قد مهدت السبيل إلى تصدع المذكورة .ونخلص مّما سبق أ ّ
ن المام)عليه السلم( قد فرق بين المؤمن والكافر .فقال)عليه السلم( بشأن كيانها وإنهيارها .السؤال الخر هو أ ّ
ن المؤمن ليهدف في حياته إلى الستفادة من المؤمن »يعمل« والكافر )يستمتع( فما علة ذلك؟ والجواب هو أ ّ
ل بالتبع
ل ،وما إستفادته من متع الدنيا إ ّالمكانات المتاحة من أجل التمتع العابر ،بل هدفه الصلي الفوز برضى ا ّ
ل ،بل يقصر همه على وكونها مطلوبًا ثانويًا ،وليس الحال كذلك بالنسبة للكافر ،فهو ليس فقط ل ينشد رضى ا ّ
هذه الحياة الدنيا ليتمتع فيها وإن كان ذلك من خلل الحرام والطرق اللمشروعة ،ومن هنا صرح المام)عليه
ن الحكومة ضرورة للطرفين المؤمن والكافر ،يعمل فيها هذا ويتمتع فيها ذاك ،ولول الحكومة لما وسع السلم(بأ ّ
المؤمن العمل ول الكافر الستقرار والتمتع.
—–
ن المام)عليه السلم(لما سمع تحكيمهم قال: قال السيد الرضي )ره( في ذيل هذه الخطبة ،وفى رواية أخرى أ ّ
ل ،وأنا أنتظر
ل أنتظر فيكم« فالعبارة يمكن أن تكون إقتباسًا من كلمهم للرد عليهم فأنتم تقولون الحكم ّ»حكم ا ّ
هذا الحكم فيكم ،فاّنه سيحكم فيكم بالعقاب الشديد لهذه اللجاجة والجهل وتفريق صفوف المؤمنين .أو أني انتظر
ل .ثم أضاف السيد الرضي )ره( ـ على ضوء اتمام الحجة عليكم فمن بقي على جهله وتعصبه أجريت عليه حكم ا ّ
هذه الرواية ـ وقال)عليه السلم(»أما المرة البرة فيعمل فيها التقي ،وأما المرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي ،إلى
أن تنقطع مدته وتدركه منيته« .ولكن بالستناد إلى مفهوم هذه العبارة في أن الفجار يحرمون من التمتع المباح في
حكومة البر ،ول يستشعر المؤمنون الستقرار والسكنية في
] [ 279
ن الرواية
ن الحكومة ضرورة برة كانت أم فاجرة( يبدو أ ّ
ظل حكومة الفاجر )وهذا يتناقض وهدف الخطبة في أ ّ
الولى أصح وأنسب وأدق.
ل أنتظر فيكم« :لما رجعهذا وقد ورد في شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ما يوضح العبارة المذكورة »حكم ا ّ
علي)عليه السلم( من صفين إلى الكوفة ،أقام الخوارج حتى جموا )جموا بمعنى إستراحوا وكثروا( ثم خرجوا
ن عليًا ومعاوية أشركا في ل ولو كره المشركون :أل أ ّ
ل ّإلى صحراء بالكوفة تسمى حروراء ،فنادوا :ل حكم إ ّ
ل ولو كرهل ّ
ل .فدخل واحد منهم على علي)عليه السلم(بالمسجد ،والناس حوله ،فصاح :لحكم إ ّ حكم ا ّ
ل ولو كره المتلفتون ،فرفع علي)عليه السلم( رأسه إليه .فقال :ل ل ّالمشركون ،فتلفت الناس فنادى :ل حكم إ ّ
ل ،ثم قال :حكم ا ّ
ل ن أبالحسن ليكره أن يكون الحكم ّ ل ولو كره أبوحسن .فقال علي)عليه السلم( :إ ّ ل ّحكم إ ّ
أنتظر فيكم .فقال له الناس :هل ملت يا أميرالمؤمنين على هؤلء فأفنيتهم! فقال :إّنهم ليفنون ،إّنهم لفي أصلب
الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة(1) .
تأّملن
لم يقتصر تأويل الحقائق وتحريف اليات القرآنية على الخوارج بغية الوصول إلى مآربهم وأهدافهم المشبوهة،
بل إذا تصفحنا تأريخ البشرية لوجدنا قضية تحريف الحقائق من الحراب والوسائل الفعاله التي إعتمدها الظلمة
ل وكلم النبياء والولياء وفسروها حسب والطواغيت على مر العصور .فقد مارس هؤلء أبشع تحريف لكلم ا ّ
أهوائهم وهم ينشدون هدفين :الهدف الول خداع الناس والخر خداع أنفسهم .وما قضية النمرود مع نبي ا ّ
ل
إبراهيم)عليه السلم(وفرعون مع موسى)عليه السلم(والتي تطرقت لها أغلب اليات القرآنية في سورة البقرة
وطه وسائر السور منك ببعيد فقد كانوا يقولون كلمات حق ول يريدون بها سوى الباطل من أجل خداع من حولهم
والتغرير بهم .ونشاهد اليوم أبشع صور هذا التحريف وكلمات الحق التي يراد بها
] [ 280
الباطل من قبيل كلماتهم في الحرية والديمقراطية والكرامة النسانية وحقوق النسان والثقافة والحضارة والمدنية
ومكافحة الرهاب وما إلى ذلك من الشعارات التي تلقلق بها ألسنة الطواغيت والجبابرة ،ول يريدون بها سوى
الباطل ،بل هنالك منافسة كبرى بين هؤلء الطغاة في إنتخاب الشعارات البراقة الكثر تأثيرًا وخداعًا من أجل نيل
لّمة إلى عظم الخطار المحدقة أهدافهم المشؤومة .ومن هنا تشتد وظيفة العلماء العلم في ضرورة تنبيه ا ُ
لّمة الثقافي
وضرورة التحلي باليقظة والوعي وعدم النزلق وراء هذه الشعارات الزائفة ليرفعوا من مستوى ا ُ
فل تنطلي عليها خدع الستكبار وألعيبه.
ن مسألة تشكيل الحكومة تعد من المسائل التي كثر الحديث فيها الوساط العملية على المستوى النظري دون أن إّ
يتسرب الشك إليها على المستوى العملي قط .فقد شهدت البشرية طيلة التأريخ قيام الحكومة سواء كانت قبيلة
يتزعمها رئيس القبيلة أو هذه الحكومات الطبيعة التي يترأسها الملك والسلطان والحاكم ،حتى تجلت اليوم بهذا
الشكل الجماهيري فأصبح يقودها رئيس الجمهورية ،ول يحتاج قيامها إلى دليل فالمجتمع مهما كان حجمه إّنما
يحتاج إلى المن والستقرار ورعاية الحقوق والحيلولة دون نشوب النزاعات والخلفات ،ول تتيسر مثل هذه
ل في ظل الحكومة ووجود الحاكم .وقد أتضحت هذه المسألة اليوم أكثر في المجتمعات المعاصرة، لمور إ ّ
اُ
فهنالك الفعاليات والنشطة الثقافية والقتصادية والسياسية التي ل يكتب لها النجاح لول الشراف المباشر من قبل
ل أن هنالك بعض الحكومة ،بل الحكومة هى تبلور هذه النشطة أن تركت ممارستها وتنفيذها لبناء المجتمع ،إ ّ
ن الشعب قادر الفراد والنزعات في الماضي والحاضر التي تتبنى شعار غياب الحكومة وعدم الحاجة إليها وأ ّ
ن فلسفة قيام الدولة إّنما تنبع
على إدارة شؤونه دون قيام الدولة ،بل ذهب الماركسيون أبعد من ذلك ليصرحوا با ّ
من فكرة حفظ المصالح الطبقية! والرأسماليون هم الذين ينهضون بهذه المهمة ،فاذا ما أزيلت الفوارق الطبقة فا ّ
ن
ن الماركسية وسائر النزعات عجزت حتى الن لأّفلسفة تشكيل الحكومة ستنتفي ول تعد هناك ضرورة لقيامها ،إ ّ
عن طرح
] [ 281
نموذجها العملي في الميدان; المر الذي يؤكد خواء هذه النزعات وإقتصارها على الجوانب النظرية ،لقد تناسى
ن وظيفة الدولة والحكومة ـ ولو سلنا لما ذكروه ـ لتقتصر على حفظ المصالح الطبقية، أصحاب هذه النظريات أ ّ
بل هنا لك سلسلة من البرامج الجتماعية والمشاريع والمخططات المرتبطة بكافة الفراد في جميع المجالت
والتي تنهض بعبئها الدولة .فالتربية والتعليم ضرورية لجميع الطبقات ،فهل يمكن القيام بهذه الوظيفة دون برمجة
لمور القتصادية في المجتمع في القطاع الزراعي والصناعي وإختيار من ينهض بمسؤولية هذا العمل؟ ا ُ
والتجاري والتي يتطلب كل حقل منها تخطيط شامل وكامل وتحتاج إلى إدارة صحيحة ووزير ،قطاع الصحة
المرتبط بكافة أبناء الشعب والذي يحتاج بدوره إلى مشاريع وبرامج تخصصية وإشراف تام ،فهل يمكن قيام مثل
لمور في حالة غياب الدولة ناهيك عن النزاعات والخصومات والحاجه إلى البت في الدعاوى من قبيل هذه ا ُ
ل في ظل تشكيل الحكومة ،والتي تتقوم لمور هى الخرى ل تحقق إ ّ الجهاز القضائي والمحاكم ،وكل هذه ا ُ
لمم والشعوب رغم اختلف أفكارها برئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية وما شابه ذلك .ومن هنا كانت ا ُ
ل أّنها تتبنى نوعًا من أنواع الحكومة .وهذا هو المر الذي أشار إليه المام)عليه السلم( في الخطبة وعقائدها ،إ ّ
كما تطرق إلى ذكر الوظائف الملقاة على عاتق الحاكم ،كما قال في موضع آخر بهذا الشأن »سلطان ظلوم خير
ن الحكومات مهما كانت ظالمة متجبرة ال أّنها تسعى لن تراعي جانب من فتنة تدوم«) (1حيث أشرنا سابقًا إلى أ ّ
ل أّنها على القل ل تدع الخرين يمارسون الظلم ،فالحكومة المن والعدل وما إلى ذلك ،مع العلم أّنها قد تظلم إ ّ
عادلة كانت أم ظالمة لن تدوم في ظل الفوضى والضطراب ،وأّنها تؤول ل محالة إلى السقوط النهيار ،ومن هنا
ن كافة الحكومات تسعى للحيولة دون الهرج والمرج وتقدم مشاريعها من أجل البناء والعمران ،ولعل هذا فا ّ
المعنى يتجسد في ما أشار إليه الحديث المعروف »الملك يبقى مع الكفر ول يبقى مع الظلم«.
—–
] [ 282
ن هذا القول منه غيُر مخالف لما عليه الّمة; لنه إذا كان ل يجوز في العادة أن خرون من أصحابنا :إ ّوقال المتأ ّ
ل أن يقول :إّنه يجوز
ل حال; الّلهم إ ّ
تستقيم أموُر الناس من دون رئيس يحكم بينهم; فقد قال بوجود الرئاسة على ك ّ
خنا
أن َتسَتقيم أموُر الناس من دون رئيس; وهذا بعيد أن يقوله :فأما طريق وجوب المامة ما هى؟ فإن مشاي َ
ل على وجوبها. ل يقولون طريق وجوبها الشرع ،وليس في العقل ما يد ّ البصريّين رحمهم ا ّ
قيل :إّنهم كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك ،ويذهبون إلى أّنه ل حاجَة إلى المام ،ثم رجعوا عن ذلك القول لما
ي.
ل بن وهب الّراسب ّ
أّمروا عليهم عبَدا ّ
ويبدو أن خطأ إبن ابي لحديد نابع من حصره الوظائف السبع التي ذكرها أميرالمؤمنين)عليه السلم(كهدف
ن العبارة »يعمل في إمرته الؤمن«
للحكومة بالمصالح المادية ،والحال أ ّ
] [ 283
—–
] [ 284
] [ 285
الخطبة)41 (1
أشار المام)عليه السلم( في هذه الخطبة إلى ثلثة أمور مهّمة :الول :أهمية الوفاء وصدق الحديث ،وذم ناقضي
ن الخداع والغدر والخيانة ليست من العقل والذكاء كما يظن ذلك الغدرة الفجرة .والعقل والفطنةالعهد ،الثاني :أ ّ
في الصدق والوفاء بالعهد.
الثالث :ضرورة إغتنام الفرص من أجل المبادرة إلى الخرة والوفاء بالعهود واللتزام بالمواثيق.
—–
ن رواية أبن طلحة تفيد ن ابن طلحة الشافعي عاش بعد السيد الرضي إّل أ ّ
.1رواها ابن طلحة الشافعي في مطالب السئوال ،صحيح أ ّ
أّنه عثر عليها في مصدر غير نهج البلغة .ورواها الجاحظ في رسالة المعاش والمعاد وقال في مطلع الخطبة »الصدق والوفاء
تؤامان« وهذا يدل على أّنه رأها في المصادر التي صنفت قبل الرضي )لن الجاحظ عاش أوائل القرن الثالث بينما يعتبر السيد
الرضي من كبار علماء أواخر القرن الرابع( مصادر نهج البلغة .440 / 1
] [ 286
] [ 287
حنا ِفيصَب ْ
جُعَ .وَلَقْد َأ ْ
ف اْلَمْر ِعِلَم َكْي َ
ن َ جّنًة َأْوَقى ِمْنُه َوما َيْغِدُر َم ْ عَلُم ُق َول َأ ْ صْد ِ
ن اْلَوفاَء َتْوَأُم ال ّ »َأّيها الّناسِ ،إ ّ
حّولُ
ل! َقْد َيَرى اْل ُ حيَلِة .ما َلُهْم قاَتَلُهُم ا ّن اْل ِسِح ْ جْهِل ِفيِه ِإَلى ُ سَبُهْم َأْهُل اْل َ
خَذ َأْكَثُر َأْهِلِه اْلَغْدَر َكْيسًا َوَن َ
َزمان َقِد اّت َ
نل صَتَها َم ْ
عَلْيَهاَ ،وَيْنَتِهُز ُفْر َعْين َبْعَد اْلُقْدَرِة َي َعها َرْأ َ ل َوَنْهِيِهَ ،فَيَد ُ ن َأْمِر ا ّحيَلِة َوُدوَنها ماِنٌع ِم ْ جَه اْل ِب َو ْاْلُقّل ُ
ن«. جَة َلُه ِفي الّدي ِ حِري ََ
—–
الشرح والتفسير
ن الصدق نوع ن المر كذلك ،فالوفاء يعني اللتزام بالعهد ،وهو في الواقع نوع من الصدق ،كما أ ّ الروحي يفيد أ ّ
من الوفاء .والصدق ذو معنى واسع وشامل ليقتصر على الحديث ،بل يشمل العمل أيضا ،ومن هنا صرح القرآن
ن المراد بصدق العهد في الية هو عَلْيِه() (1فمن الواضح أ ّ ل َصَدُقوا ما عاَهـُدوا ا ّ
ل َن ِرجا ٌ
ن الُمـْؤِمِنـي َ
قائلِ) :م َ
ظُر( .ومن هنا تتضح عمق الرابطة ن َيْنَت ِ
حَبُه َوِمْنُهْم َم ْ
ن َقضى َن ْ
الصدق في العمل ،ولذلك أردفت بالقول )َفِمْنُهْم َم ْ
بين الوفاء والصدق ،فلو أبرم شخص عهدًا ونقض عهده فقد كذب ،ومن هنا يمكن اعتبار ناقض العهد كاذبًا ،ولما
ن المام)عليه السلم( قرن بهما الوفاء بالعهد ونقضه ليتضح كان حسن الصدق وقبح الكذب ظاهر لكافة الناس ،فا ّ
حسنهما وقبحهما .ثم تطرق المام إلى الثار اليجابية للوفاء بالعهد فقال» :ول أعلم جنة) (2أوقى منه« ،فهذه في
ن أساس الحياة الجتماعة يتمثل بالتعاون الواقع من أهم آثار الوفاء بالعهد وبركاته الدنيوية في أّنه جّنة وثيقة; ل ّ
ن الثقة المتبادلة تذلل
والتكافل والثقة المتبادلة واللتزام بالعهود والمواثيق الفردية والجتماعية ،بعبارة ُاخرى فا ّ
كثيرًا من المصاعب ،بينما يتعذر حل هذه المصاعب إذا ما انعدمت الثقة وسلب العتماد بين الناس ،ولذلك كانت
الدعامة الصلية للدين تتجسد في الوفاء بالعهود والمواثيق ،حتى ورد في الحديث النبوي المعروف »لدين لمن
ل عليهم عدوهم« ) (4جدير بالذكر أن الجّنة بمعنى الدرعلعهد له« )(3كما ورد أيضًا »إذا نقضوا العهد سلط ا ّ
الذي يقي أخطار العدو في ميدان القتال .تشبيه الوفاء بهذا الدرع يفيد كونه يشكل الوسيلة الدفاعية تجاه الخطار
الجتماعية التي تفرزها حالة الفوضى وعرقلة القوانين والمقررات .ثم أشار)عليه السلم(إلى أبعاده المعنوية
لخروية فقال »وما يغدر من علم كيف المرجع«; المر الذي أشار إليه المام)عليه السلم(في نهج البلغة وا ُ
بقوله »لول كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ،ولكن كل غدرة فجرة ،وكل فجرة كفرة ولكل
» .2جنة« على وزن »غصة« بمعنى الدرع واشتقت في الصل من مادة جن على وزن فن بمعنى الستر ومنه المجنون ،كما تطلق
الجنة على البستان كأنه تغطى بالشجار ،ومنه الجنين المغطى برحم الم وإطلق الجن على تلك الجماعة لخفائها.
] [ 289
غادر لواء يعرف به يوم القيامة«) .(1ولما كان انحراف المجتمع عن المبادئ الخلقية يقود إلى تنكر القيم
وتبدلها ،حتى يعد العهد والمكر والخداع كياسة واللتزام بالعهود سذاجة وبلهة فقد قال المام)عليه السلم(»ولقد
ن قيم المجتمعأصبحنا في زمان قد إتخذ أكثر أهله الغدر كيسًا ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحلية«! نعم فا ّ
ن ظهور مثل هذا الخلط ليبدو مستغربًا ،فمن الطبيعي أن إذا تنكرت بفضلها المعيار والمحك للحسن من القبيح فا ّ
ن هذه الظاهرة يصبح المعروف منكرًا ،والمنكر معروفًا ،والملك شيطانًا والشيطان ملكًا وقديسًا .ومّما يؤسف له أ ّ
قد تفشت وبشكل واسع في عالمنا المعاصر فقد ينظر إلى الثعالب المكرة في السياسة العالمية على أنهم الساسة
المهرة ،بينها يرمون بالسذاجة وانعدام التجربة من يلتزم بالعهود والمواثيق ويراعون القيم النسانية واللهية في
ن نقض العهود واعتماد الكذب والخداع قد يجر على سياستهم ،وما أصعب العيش في مثل هذا العالم ،وبالطبع فا ّ
ن المفروغ منه أن عرى المجتمع لأّصاحبه بعض المنافع على المدى القريب ويحظى بمديح هذا وثناء ذاك ،إ ّ
إّنما تؤول إلى التصدع والنهيار على المدى البعيد .ومن هنا فان الفراد من أهل اليمان والوفاء إّنما يسعون
لخرى مدعوة لرعاية لتحصين أموالهم وحفظ ثرواتهم من خلل المانة وإحترام العهد في المعاملة ،والدولة هى ا ُ
هذا المر من أجل كسب ثقة سائر البلدان واستقطابها لضمان مصالح البلد القتصادية .ومن هنا صرحت
ن هناك رابطة حميمة بين المانة والوفاء ،رغم الرواية »المانة تجلب الغنى والخيانة تجلب الفقر« (2).ول شك أ ّ
كونهما مفهومين منفصلين ،ولذلك قال أميرالمؤمنين علي)عليه السلم(»:المانة والوفاء صدق الفعال« ) .(3قال
أحد أصحاب المام الصادق)عليه السلم(ويدعى عبدالرحمن بن سبابه :ساءت حالي بعد وفاة أبي فلما حججت
البيت رأيت المام الصادق)عليه السلم(فقال لي :أعظك؟ قلت بلى جعلت فداك ،قال» :عليك بصدق الحديث
وأداء المانة تشرك الناس في أموالهم هكذا ـ وجمع بين أصابعه ـ قال فحفظت ذلك عنه ،فزكيت ثلثمأة ألف
درهم«(4).
] [ 290
إن الختلف في الساليب السياسية إّنما تفرزه الرؤى بشأن الحكومة ،فالسياسة التي ينتهجها ُاولئك الذين ينشدون
الحكومة من أجل ضمان مصالحهم الشخصية أو الفئوية ،تختلف عن السياسة التي يتبعها ُاولئك الذين ليرون في
الحكومة سوى وسيلة لحفظ القيم والمثل .فالحكومات السابقة كانت تتصف بالدكتاتورية المقيتة التي تتكرس في
فرد واحد مستبد غاشم يسعى جاهدًا لتحقيق مآربه وإشباع رغباته وضمان مصالح بطانته معتمدًا منطق القوة
والعنف من أجل ترسيخ دعائم حكومته فل يرى من حرمة لقيم ومثل سوى تلك التي تخدم مصالحه أّما اليوم
ن جوهرها وماهيتها لم تختلف كثيرًا عن لأّ ل ،إ ّ
فالحكومات وإن تغّيرت شك ً
.1ـ الحول القلب بضم الول وتشديد الثاني هو البصير بتحويل اُلمور وتقليبها .
» .2ينتهز« من مادة »إنتهاز« بمعنى القدام على عمل ،كما يعني الستفادة التامة من الفرصة.
» .3حريجة« من مادة »حرج« بمعنى التحرج والتحرز من الثام ،ويأتى الحرج أحيانًا بمعنى الذنب.
] [ 291
تلك التي كانت سائدة في الماضي ،وان كان المعروف عن هذه الحكومات إقتحامها الميدان كفئات وأحزاب .على
لمور في البلدان الصناعية المعاصرة ،بحيث يسعى كل حزب ن الحزاب هى التي تمسك بزمام ا ُ سبيل المثال فا ّ
ح فئة معينة ،ثم يعتمد كافة الوسائل من أجل الحصول على أكثر عدد من الراء بغية الوصول إلى لضمان مصال ِ
ن مثل هذهالحكومة ،فاذا تسلموا الحكومة ،أتوا بالفراد الذين يعملون على ترسيخ دعائم حكومته وبالطبع فا ّ
الحكومات قد تتبنى بعض الشعارات من قبيل حقوق النسان وحرية المرأة وأحيانًا يطرحون بعض المسائل
ل أّنهم يعلمون كما يعلم الخرون أّنهم ليسوا جادين في ما يقولون ،فاصواتهم عادة ما تتعالى بحجة أنالخلقية ،إ ّ
البلد الفلني ـ إذا كان من أعدائهم ـ قد إنتهك حقوق النسان ،وان كان من أصدقائهم فقد يحظى بتأييدهم ودعمهم
وإن انتهك تلك الحقوق الف مرة كل يوم ـ وفى مقابل هذه الحكومات ،هنالك حكومة النبياء والولياء التي ل
تعرف المصالح الفردية ول الفئوية ،وهى قائمة على أساس القيم والمثل .فالحكومات السابقة تصرح علنا بتعذر
الجمع بين السياسة والخلق ،وعليه فالحاكم الذي يراعي المبادئ الخلقية إّنما يفتقر في الواقع حسب ظنهم إلى
العقل السياسي; وسوف لن يكتب لحكومته الدوام والستمرار ،فالغاية تبرر الوسيلة ،وكل ما يقرب من الهدف
لتمم مكارم الخلق«)(1 فهو حسن ومطلوب .بينما ترى الحكومة الخيرة ان شعارها يتكرس في »إّنما بعثت ُ
ل على العلماء أن ليقاروا على كظة ظالم ول سغب مظلوم (2)«...أو »وإّنما خرجت لطلب أو »لو ل ...ما أخذ ا ّ
الصلح في ُاّمة جدي)صلى ال عليه وآله(«) (3ومن الطبيعي أن يكون هناك بونًا شاسعًا بين سياسة الحكومات
بالمعنى الول والحكومات اللهية ،بل هناك تعارض وتضارب بينهما فالطائفة الولى تضحي بكل القيم وتذبحها
من أجل الوصول إلى دفة الحكم ،بينما تخلت الطائفة الثانية بشهادة التأريخ عن الحكومة من أجل الحفاظ على
ل ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولول القيم والمثل .وهذا ما وضحه المام)عليه السلم(في الخطبة »وا ّ
كراهية الغدر لكنت من
] [ 292
للأدهى الناس«) (1وقال)عليه السلم(» :أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه; وا ّ
أطور به ،ما سمر سمير ،وما أم نجم في السماء نجمًا« ) (2والختلف بين هاتين الرؤيتين في السياسة اللهية
والسياسة الشيطانية هو الذي يجعل بعض الفراد يشكلون أحيانًا على الساسة الربانيين ويحملون أعمالهم على
ن هؤلء الفراد إّنما يحثون السير السذاجة وعدم المعرفة بفنون السياسة ،بينما يغفلون عن حقيقة كبرى وهى أ ّ
ل لما غلب معاوية أهل العراق على إلى عالم آخر ل تجيز مبادئه وضوابطه التشبث بأي أسلوب وطريقة .فمث ً
الماء منعهم منه ،فلما حمل أهل العراق إنكشف أهل الشام عن الماء ،وملك أهل العراق المشرعة ـ فقال أصحاب
علي)عليه السلم( :أمنعهم الماء يا أميرالمؤمنين كما منعوك ـ فقال» :ل ،خلوا بينهم وبينه ،ل أفعل ما فعله
ل)صلى ال عليه وآله( إلى أصحابه الذين أشاروا عليه ل عجب من ذلك عدم إلتفات رسول ا ّ الجاهلون (3) .وا ّ
بمنع اليهود الماء حين محاصرة قلع خيبر فلم يجبهم)صلى ال عليه وآله(«) (4ويتعجب أولئك الغافلون حين
ل» :اليمان قيد الفتك« ).(5 يسمعون مسلم بن عقيل وقد إمتنع عن قتل إبن زياد غيلة في دار هانئ بن عروة قائ ً
ن عليًا)عليه السلم( إمتنع عن قتل عمرو بن العاص في صفين حين كشف عن عورته .فكل هذه أضف إلى ذلك فا ّ
لمور ليرونها تنسجم والسياسة ،بل السياسي الفذ في نظرهم من يدافع عن العهدو والمواثيق ويلتزم بالمبادئ إذا اُ
ل فلبّد أن يضربها جميعا عرض الحائط .فالسياسي الورع والمتقي يرى النصر على كانت تجري لصالحه ،وإ ّ
العداء إّنما يحتل الدرجة الثانية ،والدرجة الولى تتمثل بحفظ المبادئ ورعاية القيم والمثل .والجدير بالذكر ما
أورده ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلغة حين تحدث عن مروءة ووفاء أحد أحفاد المام الحسن المجتبى)عليه
ل فقال» :وكان لغير إبراهيم عليه السلم من آل أبي طالب من هذا النوع أخبار كثيرة، السلم(هو إبراهيم بن عبدا ّ
وكان القوم أصحاب دين ليسوا من الدنيا بسبيل ،وإّنما يطلبونها ليقيموا عمود الدين بالمرة فيها ،فلم يستقم لهم،
والدنيا إلى أهلها أميل«.
.1نهج البلغة ،الخطبة ،200وروي عنه)عليه السلم( أّنه قال» :لول التقى ـ أو لول الدين والتقى لكنت أدهى العرب« .شرح
نهج البلغة لبن أبي الحديد .28 / 1
] [ 293
الخطبة)42 (1
ومن كلم له )عليه السلم(
أورد المام)عليه السلم( هذه الخطبة على ضوء نقل نصربن مزاحم في كتاب صفين بعد موقعة الجمل حين
ورد)عليه السلم(الكوفة ،وهى تعالج غرور الفراد وطمعهم بعد تحقيق النصر ول سيما إن كانت هناك غنائم;
المر الذي يثير حفيظة البعض للتكالب على الدنيا وبالتبع يتطلع إلى المزيد من كان له دور أكبر في المعركة
والحصول على الغنائم .فهدف المام)عليه السلم(تحذير الناس وتذكيرهم بالهداف المعنوية التي قاتلوا من
أجلها ،كما يحذرهم من رذيلتي إتباع الهوى وطول المل الذان يصدان عن الحق وينسيان الخرة .ثم يؤكد
المام)عليه السلم( على قصر عمر الدينا وضرورة إغتنام الفرص فيها من أجل العمل الصالح والتزود للخرة،
حيث يوجز هذا المر الحيوي بعبارات قصيرة بليغة المعنى.
—–
.1سند الخطبة :وردت هذه الخطبة بعدة أسناد .رواها قبل السيد الرضي)ره( نصر بن مزاحم في كتاب صفين والشيخ المفيد في
المجالس والمسعودي في مروج الذهب .وقال نصر بن مزاحم دخل المام)عليه السلم( الكوفة بعد معركة الجمل فأسرع قّراء الكوفة
وأشرافها لستقباله .فدخل المسجد وصلى ركعتين ثم صعد المنبر فحمد ال وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم خطب الخطبة.
] [ 294
] [ 295
القسم الول
ق،
حّ
ن اْل َ
عِصّد َ
ع اْلَهَوى َفَي ُ
طوُل اَْلَمِلَ ،فَأّما اّتَبا ُ
ع اْلَهَوى َو ُ
ن :اّتبا ُ
عَلْيُكُم اْثنا ِ
ف َف ما َأخا ُخَو َ
ن َأ ْ »َأّيها الّناس ِإ ّ
خَرَة«.
سي اْل ِ
طوُل اَْلَمِل َفُيْن ِ
َوَأّما ُ
—–
الشرح والتفسير
ن المام)عليه السلم( خطبها بعد الجمل حين ورد الكوفة ،بهدف الحد من الغرور الذي تفرزه أوردنا سابقًا أ ّ
طبيعة النصر والتنافس على غنائم المعركة ،فقال)عليه السلم(» :أّيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم إثنان:
إتباع الهوى وطول المل ،فأّما إتباع الهوى فيصد عن الحق ،وأّما طول المل فينسي الخرة« .والعبارة الخيرة
لّمة ،بحيث ورد التأكيد عليها في أحاديث النبي)صلى ال عليه وآله( ،كما أشار
مهّمة ذات أثر بالغ في مصير ا ُ
ضح من معنى مفردة الهوى التي تشير إلى إليه المام)عليه السلم( سابقًا في الخطبة الثامنة والعشرين« (1).ويت ِ
أهواء ورغبات النفس المارة باللذات الدنيوية دون الحدود والقيود مدى صدها النسان عن الحق ومنعه من
ن الهوى حجاب على العقل يحول دون إدراك الحقائق ومشاهدتها ،بينهما يزين له هذا الهوى الباطل بلوغه ،ل ّ
ليبديه له أنصع من الحق ،في حين يشوه له الحق ويظهره له كابشع صورة للباطل ،وقد لمست هذه الحقيقة كثيرًا
خلل تجربتي ومطالعتي لسيرة الماضين في كيفية تبرير أتباع الهوى لبعض صور الحق والباطل وتغيير
هويتهما .وأما طول المل فيستقطب جميع طاقات النسان وقواه حتى ينسيه الخرة ،ولما كانت قوى النسان
محدودة فاّنه يستهلكها في المال الكاذبة اللمتناهية بحيث ل يبقى لنفسه من قوة يدخرها للخرة ،ول سيما أ ّ
ن
المال ل تعرف للنهاية
.1بحارالنوار ) 188 / 74مع اختلف طفيف( وبحارالنوار 90 / 70ـ 91مع فارق ضئيل جدًا.
] [ 296
لخرى فور ظفره بالولى حتى يجند نفسه على الدوام بغية من معنى ،وتقتضي طبيعتها أن يتجه النسان إلى ا ُ
ن المال عادة مترابطة مع بعضها البعض ،وعلى هذا الظفر بها جميعا ،بل إن تحقيقه لمل ربما يدفعه لخر ،ل ّ
الضوء فسوف لن يبقى لديه من وقت كما ل تبقى له من قوة ،وبالتالي سوف لن يمتلك الدفاع نحو الخرة.
وبالطبع فاّنه لن يفيق من غفلته حتى يصفعه الموت ،وقد ولى العمر وتصرمت أيامه وفرصه فلم يظفر بأماله ولم
يدرك آخرته .وما أروع ما قال أبو العتاهية حين دعي ل نشاد الشعر بحضرة هارون حين أراد أن يفتتح له قصرًا
جديدًا في مصر:
عش ما بدا لك سالمًا في ظل شاهقة القصور يهدي إليك بما اشتهيت لدى الرواح وفى الكبور حتى إذا تزعزعت
ل في غرور(1). النفوس ودحرجت فهناك تعلم موقنًا ما كنت إ ّ
—–
] [ 297
القسم الثاني
—–
الشرح والتفسير
واصل)عليه السلم( خطبته التي ابتدأها بذم إتباع الهوى وطول المل الذان يصدان عن الحق وينسيان الخرة،
ن الدنيا قد
ل رائعًا عن أوضاع الدنيا والخرة فقال »أل وإ ّ
وبالتالي يحولن دون سعادة النسان وفلحه ،ليقدم تحلي ً
ل صبابة كصبابة) (2الناء إصطبها صابها«. ولت حذاء) ،(1فلم يبق منها إ ّ
فقد شبهت الدنيا هنا بالكائن الذي يعود بسرعة إلى مسيرته ،المر الذي يفيد حقيقة الحركة السريعة لعمر النسان،
الحركة الخارجة عن إرادة النسان وتشمل كافة الكائنات الحية سوى الذات اللهية المطلقة ،ول يستثنى من تلك
الحركة الكواكب والمجرات والسموات والرضين لتنتهي إلى الفناء والزوال الدنيوي ليكون نافذة على عالم
الخلود والبقاء .فالطفولة تتحرك نحو الفتوة والشباب ،والفتوة تنطلق نحو الكهولة التي تنتهي بالموت ،هذا إذا
لمور وفق القانون الطبيعي والقد يتساقط بعض الطفال والشباب من هذه القافلة لتنتهي جرت ا ُ
» .1حذاء« كما ورد في تفسير السيد الرضي )ره( وشّراح نهج البلغة بمعنى السريع ،من مادة حذ على وزن حظ بمعنى القطع ،أو
القطع السريع ،ثم اطلقت على كل حركة سريعة ،وحذا مؤنث إحذًا.
] [ 298
ن عمر النسان قصير قليل كبقية الماء واللبن في الناء أعمارهم دون بلوغ الكهولة .فالمام)عليه السلم( يقول أ ّ
ن النسان حين يقلب إناءًا مملوءًا بسائل ثم يعيد الناء إلى وضعه التي تعلق به عند قلبه ،أو بعبارة ُاخرى فا ّ
الصلي إّنما يتبقى فيه مقدار من الماء يطلق عليه الصبابة وهذه في الحقيقة هى عمر النسان ثم قال)عليه
ن الخرة قد أقبلت« فكلما قصر عمر الدنيا اقتربت الخرة ،فالواقع إننا نركب قطار الزمان الذي السلم(»أل وإ ّ
يسير بسرعة نحو الخرة ،والدقائق والساعات والّيام والسابيع والشهر والسنوات إّنما تكشف عن سرعة
مسيرة قطار النسانية بأجمعها ،ثم أوضح)عليه السلم(وظيفة الناس »ولكل منهما بنون فكونوا من أبناء الخرة،
ن كل ولد سيلحق بأبيه يوم القيامة« نعم هناك خطان :خط عبدة الدنيا وخط عشاق ول تكونوا من أبناء الدنيا ،فا ّ
الخرة ،وإن كانت هنالك بعض الجماعات المتذبذبة بين الخطين .ول يعرف أبناء الدنيا سوى النوم والكل
والشرب والشهوة والطرب والعيش والملذات ،فهم متعلقون بظاهر الدنيا دون أن يكفوا أنفسهم عناء التفكير في
خَرِة ُهـْم غاِفُلون( ) .(1فكأّنهم مخلدون ن ال ِ عِ حياِة الّدْنيا َوُهْم َن ال َن ظاِهرًا ِم َ
الخرة ،بل هم عنها عمون )َيْعَلُمو َ
خَلَدُه(.
ن ماَلُه َأ ْ
ب َأ ّ
س ُ
حَ في الدنيا وليس هنا لك من آخرة ،فوثقوا بأموالهم وثرواتهم على أّنها تخلدهم في دنياهم )َي ْ
أما أبناء الخرة فقد نظروا بعين العقل والبصيرة إلى الدنيا وأدركوا أنهم مفارقوها ومرتحلون عنها فلم يطمأنوا
إليها .لقد طلقوها كما طلقها المام)عليه السلم(ثلثة لرجعة فيها .فقد إتعظوا بالقرآن الذي أوقفهم على طبيعة
ق َوَتواصَْوا حّ صْوا ِبال َت َوَتوا َ
صالحا ِ عِمُلوا ال ّ ن آَمُنوا َو َل اّلِذي َ
سر * ِإ ّ خْن َلِفي ُ
لْنسا َنا ِ
صِر * ِإ ّ
خسرانها )َوالَع ْ
صْبِر( .أّما التعبير عن عبدة الدنيا بأبناء الدنيا وعن المؤمنين الصالحين بأبناء الخرة ،وذلك لن البناء إّنما ِبال ّ
يشبهون إلى حد كبير آبائهم وُامهاتهم بفعل الصفات الوراثية التي تنتقل إليهم عن طريق الجينات ،وهو الشبه الذي
يدعو إلى المحبة والرتباط .نعم عبدة الدنيا أبنائها ،ومن هنا أحاط حبّ الدنيا بقلوبهم بحيث أصبحوا ليرون
حيا() (2وإن كانوا ظاهرا يحملون ت َوَن ْ
حياُتنا الّدْنيا َنُمو ُ
ل َى ِإ ّ
ن ِه َ سوى الدنيا وليجنون سواها ،وشعارهم فيها )ِإ ْ
ل على السلم .أما أبناء الخرة فقد سيطر حب ا ّ
] [ 299
أّما إن كانت هذه الحياة مقرونة باليمان والتقوى والصبغة الخروية فتتجسم يوم القيامة على هيئة جّنة سيرتمي
ن اليوم عمل ول حساب وغدًا حساب ول في أحضانها المؤمنون .ثم إختتم المام)عليه السلم(خطبته قائل» :وإ ّ
عمل« فالعبارة تفيد من جهة وجود الفرصة من أجل إستزادة العمل الصالح ،وإذا ما شوهد المحسنون والمسيئون،
ل وحزب الشيطان إلى جانب بعضهم البعض الخر ل ،وحزب ا ّ ل وأعداء ا ّوالصالحون والطالحون ،واولياء ا ّ
ن نهاية
ن الدنيا دار عمل لحساب فيها ولجزاء وعقاب .ومن جهة ُاخرى تحذير بأ ّ في هذه الحياة الدنيا فذلك ل ّ
العمر في الدنيا تعني إغلق صحيفة العمال وليس هنالك من سبيل للعودة والعمل وتدارك ما فرط ،كما ليس
ل ول في حسن يستطيعون إزديادًا« للندم من أثر أو فائدة ،فقد قال علي)عليه السلم( »ل عن قبيح يستطيعون إنتقا ً
عَملُ صاِلحًا( ) (3كما ل تفيدهم المال والماني ن * َلَعّلي َأ ْ
جُعو ِ
ب اْر ِ
)(2كما ليس هناك من جدوى لصراخهم )َر ّ
ن((4).
ن الُمـْؤِمِنـي َ
ن ِم َ
ن َلـنا َكـّرًة َفَنـُكو َ
)َفـَلْو َأ ّ
] [ 300
ن النسان إجتثاث جذور القوام السابقة حين طغت في الرض( بحيث لم يعد هناك من مجال لتدراك العمال ،ل ّ
سنا
في ظل هذه الظروف إّنما يودع الدنيا وينتقل إلى الخرة مرورًا بالبرزخ ،ومن ذلك قوله سبحانهَ) :فَلّما َرَأْوا َبْأ َ
ت ِفيخَل ْ ل اّلِتي َقْد َ
سّنَة ا ّ
سنا ُ ك َيْنَفُعُهْم ِإيماُنُهْم َلّما َرَأْوا َبْأ َ
ن * َفَلْم َي ُشِرِكـي َحَدُه َوَكَفْرنا ِبما ُكّنا ِبِه ُم ْ
ل َو ْقاُلوا آَمّنا ِبا ّ
ن فرعون لما أدركه الغرق وشعر بالموت أظهر اليمان ولكن ن( .(1).كما نعلم بأ ّ ك الكاِفُرو َ سَر ُهناِل َخِ عـباِدِه َو َ
ِ
ن() .(2ونستتج من هذه سِدي َ
ن الُمْف ِت ِم َل َوُكْن َ ت َقْب ُ
صْي َ
ع َ ن َوَقْد َ أغلقت بوجهه كافة أبواب التوبه فاتاه النداء )آ ل َ
ن هناك سنة إلهية تفيد إغلق صحيفة النسان وانقطاع أعماله حين اليات وسائر اليات الواردة بهذا الشأن أ ّ
ن أغلب يكون على أبواب الموت المحتم ،فليس هنالك من سبيل للعودة والصلح .وهنا يبرز هذا السؤال وهو أ ّ
ن آثار العمال الحسنة والسيئة تصل النسان بعد موته بحيث تثقل صحيفة أعماله خيرا أم الروايات صرحت بأ ّ
ل)صلى ال عليه وآله( أّنه قال» :سبعة أسبابًا يكتب للعبد ثوابها بعد وفاته، شرا ،فقد ورد في الحديث عن رسول ا ّ
ل أو حفر بئرا أو أجرى نهرًا أو بني مسجدًا أو كتب مصحفًا أو ورث علمًا أو خلف ولدًا صالحًا رجل غرس نخ ً
ن ما جاء في هذا الحديث نموذج باراز لعمال الخير ،أفل يتنافى هذا يستغفر له بعد وفاته« ) (3ومن الواضح أ ّ
المر وما ذكر سابقًا؟ والجواب على هذا السؤال واضح فليس هنالك من عمل جديد يقوم به النسان بعد الموت،
ن آثار العمال السابقة ل تصل إليه .نعم صحيفة العمال الجديدة مغلقة ول يضاف إليها شيئا ،أما صحيفة لإّ
أعماله السابقة قبل الموت فهى مفتوحة دائما وإن النسان يقطف ثمار عمله الصالح في البرزخ ويوم القيامة،
وتصله حتى العمال الصالحة فيما إذا خلف ولدًا صالحًا يدعو له ويستغفر له.
—–
.1سورة المؤمنون 84 /ـ . 85
» .3تنبيه الخواطر«) ،طبق نقل ميزان الحكمة 23 / 3 ،ـ 24مادة عمل(.
] [ 301
الخطبة)43 (1
ل في موضعه ،ال أنّ ن كل منهما قد ورد مستق ً تشتمل الخطبة على قسمين يختلف كل منهما عن الخر ،ويبدو أ ّ
ل لعثمان
ل البجلي الذي كان عام ً السيد الرضي )ره( جمعهما لمناسبة ـ فالقسم الول يتعلق يقضية جريربن عبدا ّ
ل البجلي وبعث أميرالمؤمنين)عليه السلم( إّياه إلى معاوية ،فقد وردعلى ثغر همدان .فأّما خبر جرير بن عبدا ّ
ل البجلي.
في الخبار :لما قدم)عليه السلم(الكوفة بعد إنقضاء أمر الجمل ،كاتب العمال ،فكتب إلى جرير بن عبدا ّ
فلما قرأ جرير الكتاب ،قام فقال :أّيها الناس ،هذا كتاب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب)عليه السلم( ،وقد بايعه
الناس الولون من المهاجرين والنصار والتابعين باحسان ،ولو جعل هذا المر شورى بين المسلمين كان أحقه
بها .فقال الناس سمعًا وطاعة .فكتب جرير إلى علي)عليه السلم(جواب كتابه بالطاعة وكتب علي)عليه
ل البجلي
السلم(إلى الشعث وكان عامل عثمان على أذربيجان يدعوه إلى البيعة والطاعة .وكتب جرير بن عبدا ّ
إلى الشعث يحضه على طاعة أميرالمؤمنين علي)عليه السلم(وقبول كتابه .فقبل
.1وردت هذه الخطبة في كتابين قبل نهج البلغة ،الول كتاب صفين لنصربن مزاحم والخر كتاب المامة والسياسة مع فارق
طفيف .أما القسم الثاني فقد رواه ابن عبد ربه في العقد الفريد .مصادر نهج البلغة.446 / 1 ،
] [ 302
الشعث البيعة وسمع وأطاع ،وأقبل جرير سائرًا من ثغر همدان حتى ورد علي)عليه السلم( الكوفة فبايعه .ولما
ل ،قال له جرير :إبعثني يا أميرالمؤمنين إليه; وأدعوا أهل الشام
أراد علي)عليه السلم( أن يبعث إلى معاوية رسو ً
إلى طاعتك ووليتك فجلهم قومي وأهل بلدي وقد رجوت أل يعصوني .فبعثه علي)عليه السلم( .فانطلق جرير
حتى أتى الشام ونزل بمعاوية ودفع إليه كتاب علي)عليه السلم( .فقال معاوية أنظر وتنظر; واستطلع رأي أهل
الشام .فكتب له المام)عليه السلم( :إّنما أراد معاوية أل يكون لي في عنقه بيعة ،وأراد أن يريثك ويبطئك ،فان
ل فاقبل .قيل ولما أبطأ جرير عند معاوية إتهمه الناس ،فلما سمع جرير ذلك فارق عليًا)عليهبايعك الرجل ،وا ّ
السلم( فلحق بقرقيسياء )بلد بالخابور عند مصبه« ولحق به ناس من قسر من قومه ،واقام فيها حتى توفى(1) .
على كل حال مكث جرير عّدة شهور في الشام ،حتى اقترح أصحاب المام)عليه السلم( عليه قتال أهل الشام ،إ ّ
ل
ن المام)عليه السلم( لم يجبهم إلى ذلك وجرير هناك ،وأّنه قد وقت وقتًا لجرير ،فلبّد من إنتهاء ،ذلك الوقت أّ
ومعرفة النتيجة.
وأخيرا فالقسمان يوضحان بجلء أن المام)عليه السلم( رجل الصلح والسلم في ظروف المن والستقرار،
فاذا نشبت الحرب كان بطلها المجرب وليثها الغاضب.
—–
] [ 303
القسم الول
ن َقْد َوّق ّ
ت ن َأراُدوُهَ .وَلِك ْ خْير ِإ ْ
ن َعْف َِلْهِلِه َ صْر ٌ شام َو َ
ق ِلل ّ
غل ٌ عْنَدُهْمِ ،إ ْ
جِريٌر ِ
شام َو َ
ب َأْهِل ال ّ حْر ِ سِتْعداِدي ِل َ نا ْ
»ِإ ّ
عداَد«. عْنِدي َمَع اَْلناِة َفَأْرِوُدوا َول َأْكَرُه َلُكُم اِْل ْ
ي ِصيًاَ .والّرْأ ُخُدوعًا َأْو عا ِجِرير َوْقتًا ل ُيِقيُم َبْعَدُه ِإّل َم ْ
ِل َ
—–
الشرح والتفسير
] [ 304
سبحانه وتعالى .ثم أزال المام)عليه السلم( البهام الذي قد يتسرب إلى عقول هؤلء الفراد باستمرار هذه الحالة
ن المام)عليه السلم( عين ل مخدوعًا أو عاصيًا« فالواقع هو أ ّ
القلقة فقال »ولكن قد وقت لجرير وقتًا ليقيم بعده إ ّ
ن معاوية قد يماطل في مدة بغية الحفاظ على مصالح المسلمين وعدم فوات الوان ومرور الفرصة ،فقد كان يعلم أ ّ
الوقت ويشغل جرير ،وأقصى ذلك هو الهبة والستعداد للقتال ،ثم يرد بالسلب على دعوة المام)عليه
السلم(بالبيعة في الوقت الذي تسلب الفرصة والمبادرة من المام)عليه السلم( وصحبه .إما لماذا حصر
المام)عليه السلم( بقاء جرير عند معاوية باحتمالين; الخداع أو العصيان ،بينما يمكن أن تكون عرضت له بعض
ن سائر الحتمالت تبدو ضعيفة ل يكترث بها إزاء هذين الوقائع من قبيل المرض وما شاكل ذلك ،وذلك ل ّ
لمور السلمة ،فل ينبغي ترتيب الثر ن الصل في مثل هذه ا ُ الحتمالين ،أو على حد تعبير علماء الصول أ ّ
على سائر الحتمالت .ثم حاول تهدأة خواطر صحبه والتسكين من روعهم فقال »والرأي عندي مع الناة)(1
ن المام)عليه السلم(بغية عدم غفلة أصحابه في ظل تلك الظروف الحساسة فأرودوا) .«(2من جانب آخر فا ّ
المصيرية ،وضرورة البقاء على عزمهم الشديد والراسخ في مجابهة العدو وعدم إطفاء جذوة الحماس للقتال
فقال)عليه السلم(» :ول أكره لكم العداد«; أي أني ل أعلن حالة التأهب فهذا المر يتعارض والصلح والسلم.
ن هذا لعظم وأنجع اسلوب منطقي وفى نفس الوقت ل أحول دون وظيفتكم في التعبئة الطواعية ،والحق أ ّ
وعقلئي في مثل تلك الظروف العصيبة؟ أي ل تغلق أبواب السلم ،ول يعيش الجميع حالة النفعال والغضب،
ول ينبغي أن تقع بعض العمال التي تفرزها طبيعة النفاق ،وأخيرًا ل ينبغي فوات الفرص دون جدوى!
» .2أرودوا« من مادة »رود« على وزن فوت بمعنى طلب الشيئ بالرفق والمداراة ،ومنه الرادة.
] [ 305
ن عليًا)عليه السلم( لم يستجب للضغوط التي مارسها أصحابه من أجل شروع القتال، دونه .تفيد هذه الخطبة أ ّ
وأّنه بذل قصارى جهده بهدف إرساء الصلح والسلم .والرسالة التي بعثها المام)عليه السلم(إلى معاوية بواسطة
جرير لتؤكد هذا المعنى .فقد جاء فيها» :إّنه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه،
فلم يكن للشاهد أن يختار ول للغائب أن يرد وإّنما الشورى للمهاجرين والنصار ،فان إجتمعوا على رجل وسموه
ل رضى ،فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه ،فان أبي قاتلوه على إمامًا كان ذلك ّ
ل ما تولى .ولعمري يا معاوية ،لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبر إتباعه غير سبيل المؤمنين ،ووله ا ّ
ل أن تتجنى ،فتجن ما بدا لك« (1) .والواقع كان معاويةالناس من دم عثمان ،ولتعلمن أني كنت في عزلة عنه إ ّ
يعتمد ذريعتين لترك البيعة ،الولى أّنه كان غائبًا حين تمت البيعة لعلي)عليه السلم( ،والثانية أن المام)عليه
ن المام)عليه السلم( فند هاتين الذريعتين بالدليل والبرهان فيلأّالسلم(مطالب بدم عثمان ،فل يمكن مبايعته ،إ ّ
ن جرير الرسالة المذكورة ،فلم يستجب معاوية بغية تحقيق أهدافه وأطماعه .على كل حال وكما ذكرنا أنفًا فا ّ
عامل عثمان على همدان أعلن بيعته للمام)عليه السلم(ومعه الناس إثر وصول كتاب المام)عليه السلم( .ثم
ن جل أهل الشام كانوا من ورد الكوفة وطلب من المام)عليه السلم(أن يوجهه إلى الشام لخذ بيعة معاوية ،ل ّ
ل يعصون أمره .فاعترض الشتر وقال للمام)عليه السلم( :ل تبعثه ول تصدقه ،فوا ّ
ل قومه وأهل بلده ويطمع إ ّ
ل)صلى ال عليه وآله( فيه: ن المام)عليه السلم(إختاره لقول رسول ا ّلأّ إّني لظن هواه هواهم ،ونّيته نّيتهم .إ ّ
»إنك من خير ذى يمن« كما لم يبدر منه خلفًا حتى ذلك الحين ،ولعله لم يكن هناك من هو أفضل منه .فدفع إليه
ل فانبذ إليه
المام)عليه السلم(كتابه ،وقال له» :إئت معاوية بكتابي ،فان دخل في ما دخل فيه المسلمون ،وإ ّ
ن العامة ل ترضى به خليفة« .فانطلق جرير حتى أتى الشام ،ونزل بمعاوية واعلمه أّني ل أرضى به أمرًا ،وأ ّ
وأخبره باجتماع مسلمي أهل الحرمين وأهل المصرين والحجاز واليمن ومصر وأهل العروض على بيعة
ل هذه الحصون التي أنت فيها فبايع لعلي)عليه السلم( .ثم سلمه كتاب المام)عليه السلم( ثم قال :فلم يبق إ ّ
المام)عليه السلم( .فلم يستجب معاوية الذي كان شغفًا بالحكومة
] [ 306
فقام فخطب الناس مطالبًا بدم عثمان وأخذ البيعة من أهل الشام للقيام والمطالبة بدم عثمان .فاستحثه جرير بالبيعة.
فقال :يا جرير ،إّنها ليست بخلسة ،وإنه أمر له ما بعده فابلعني ريقي .فأشار عليه أخوه بعمرو ابن العاص .وقد
وعده النصيحة بعد أن اشترط عليه ولية مصر .ثم دخل شرحبيل ـ رئيس اليمينية وشيخها والمقدم عليها ـ فتحدث
ن معاوية كتب له كتابًا ودس إليه الرجال يغرونهلأّى)عليه السلم( .إ ّ
إلى جرير ،فأقنعه جرير باتباع عل ّ
بعلي)عليه السلم(ويشهدون عنده أّنه قتل عثمان ،حتى ملئوا صدره وقلبه حقدًا وترة وإحنة على علي)عليه
السلم(وأصحابه ،ثم دعاه في الكتاب لمطالبة بدم عثمان .فتاهب شرحبيل للطلب بدم عثمان ،ثم وجهه معاوية إلى
ل قبلوا ما أتاهم به وهنا شعر جرير باليأس من
الشام لدعوة الناس للمطالبة بدم عثمان وجعل ليأتي على قوم إ ّ
معاوية ،ثم إلتفت معاوية إلى جرير فقال له :إّني قد رأيت رأيًا ،قال :هاته ،قالُ :اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام
ومصر جباية ،فاذا حضرته الوفاة لم يجعل لحد بعده في عنقي بيعة ،وأسلم له هذا المر ،وُاكتب إليه بالخلفة.
فقال جرير :اكتب ما أردت ُاكتب معك .فكتب المام)عليه السلم(إلى جرير :إذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية
ل ليراني اتخذ المضلينعلى الفصل ،ثم خيره وخذه بالجواب بين حرب مخزية أو سلم محظية »ولم يكن ا ّ
عضدًا« فتأخر جرير مّدة ولعله كان يطمع في عودة معاوية إلى رشده ،فكثر فيه الكلم(1) .
—–
] [ 307
القسم الثاني
حّمٌد)صلى
طَنُهَ ،فَلْم َأَر ِلي ِفيِه ِإّل اْلِقتاَل َأِو اْلُكْفَر ِبما جاَء ُم َ
ظْهَرُه َوَب ْت َعْيَنُهَ ،وَقّلْب ُ
ف َهذا اَْلْمِر َو َت َأْن َ
ضَرْب ُ
»َوَلَقْد َ
جَد الّناس َمقاًلَ ،فقاُلوا ُثّم َنَقُموا َفَغّيُروا«. حداثًاَ ،وَأْو َ ث َأ ْ
حَد َ
عَلى اُْلّمِة وال َأ ْ ن َال عليه وآله(ِ .إّنُه َقْد كا َ
—–
الشرح والتفسير
يقابل هذا القسم من الخطبة القسم المذكور تماما ،أو بعبارة ُاخرى يمثل المرحلة الثانية من مراحل المجابهة .فقد
كان المام)عليه السلم( يؤكد في القسم المذكور على ضرورة ضبط النفس واجتناب القتال ،واللجوء إلى منطق
السلم والصبر والتحمل .بينما يتحدث هذا القسم بصورة قاطعة حادة عن القتال واللجوء إلى القوة; ول غرو فقد
ن معاوية ل يستسيغ أي منطق واستدلل ،ول يفهم سوى أغلقت جميع السبل والساليب ،وثبت بالضرس القاطع أ ّ
تحقيق مطامعه في الحكومة التي يضحي من أجلها بالغالي والنفيس .ومن الطبيعي أل يكون هنالك من سبيل
لمواجهة هذا الشخص سوى الستسلم وتفويض المقّدرات السلمية إليه ،أو شهر السلح بوجهه وقتاله .ومن
ل القتال أو
هنا قال المام)عليه السلم(» :ولقد ضربت أنف هذا المر وعينه ،وقلبت ظهره وبطنه ،فلم أر لي إ ّ
الكفر بما جاء محمد)صلى ال عليه وآله(« .العبارة »ضربت أنف هذا المر وعينه« مثل تقوله العرب في
لخرى كناية عن دراسة كافة جوانب الستقصاء في البحث والتأمل والفكر .والعبارة »وقلبت ظهره وبطنه« هى ا ُ
ن النسان إذا أراد أن يشترى بضاعة قلب ظهرها وبطنها ليتعرف على كافة مميزاتها .أما الموضوع :ل ّ
ن المام)عليه ل القتال أو الكفر بماء جاء محمد)صلى ال عليه وآله(« فذلك ل ّقوله)عليه السلم( »فلم أر لي إ ّ
لّمة لحالها لقاد ذلك إلى انحراف الناس عن السلم واستتباب الحكومة الجاهلية الموية السلم(إذا سكت وترك ا ُ
والسفيانية وإحياء
] [ 308
ل)صلى ال عليه وآله(مدة ثلث مبادئ الشرك والوثنية ،وهذا يعني تجاهل كافة القيم والمثل التي جهد رسول ا ّ
وعشرين سنة في إرسائها وتحمل صنوف العذاب من أجل ترسيخها ،وأصبح علي)عليه السلم(خمسة وعشرين
عامًا جليس البيت من أجل الحفاظ عليها ،وعليه فلم يبق من سبيل أمام المام)عليه السلم(سوى القتال بصفته
المين على السلم وقيمه ،وهذا هو الرد الصريح على كافة من يشكك في قتاله)عليه السلم(لمعاوية .ثم
أشار)عليه السلم( إلى مسئلة قتل عثمان واستغللها من قبل معاوية وزبانيته بغية الوصول إلى أغراضه ومآربه،
فقال »إّنه قد كان على الّمة وال أحدث أحداثًا ،وأوجد الناس مقال ،فقالوا ثم نقموا فغيروا« فمراد المام)عليه
السلم(أن العامل الرئيسي لقتل عثمان هو نفس عثمان ،الذي أتى بالعمال المخالفة للعدل والسنة النبوبة ،والتي
ل)صلى ال عليه وآله( للدفاع أججت غضب الناس فحاصروه ثم قتلوه ،ولذلك لم يتحرك أي من صحابة رسول ا ّ
لّمة
عنه ،حتى قتل وبقي ثلثًا على الرض لم يدفنه أحد من المسلمين) (1وهذا بدوره يكشف عن مدى غضب ا ُ
ونقمتها عليه .وعليه فقتل عثمان لم يكن ذريعة تدعو للخروج على أميرالمؤمنين)عليه السلم( .وبالطبع فان
ل أّنهم لم يروا أفضل من هذه الذريعة لتعبئة أهلأصحاب تلك الذريعة كانوا يعلمون هذا المر أكثر من غيرهم ،إ ّ
الشام ضد أميرالمؤمنين)عليه السلم(.
ذهب أغلب شراح نهج البلغة إلى أن عثمان أحدث أحداثا مشهورة نقمها الناس عليه وأهم هذه الحداث:
1ـ تأمير بني أمية ول سيما الفساق منهم وأرباب السفه وقلة الدين ومنهم الوليد الفاسق وشارب الخمر الذي وله
الكوفة (2).وقرب الحكم بن أبي العاص عمه الذي طرده رسول ال)صلى ال عليه وآله( فألبسه جبة من الخز
وأعطاه زكاة قبيلة قضاعة التي بلغت ثلثمئة درهم ـ وذكر إبن قتيبة وابن عبد ربه والذهبي ـ من مشاهير علماء
العامة ـ أن من الحداث التي نقمها الناس
.2يتفق الفريقان على نزول الية »وإن جائكم فاسق بنبأ فتبينوا« »الية 6من سورة الحجرات« كان في الوليد.بل نقل العلمة
المجلسي في الغدير 8/276الجماع على ذلك.
] [ 309
على عثمان تقريبه للحكم بن أبي العاص الذي لم يقربه أبوبكر ول عمر في خلفتهما (1).كما عين ابن عمه
مروان بن الحكم مستشارا له وأعطاه غنائم أفريقيا التي بلغت خمسمئة ألف درهم.
2ـ أذاه لكبار صحابة النبي)صلى ال عليه وآله( كأبي ذر الذي نفاه للربذة حين كان يأمر بالمعروف وينهى عن
المنكر ويعترض على أعماله (2).وضربه الشديد للصحابي الجليل عمار بن ياسر ولم يكن ذنبه سوى مواجهة
عثمان باعتراضات الناس (3).وما فعله بالصحابي عبدال بن مسعود بسبب إعتراضه على التطاول على بيت
المال فجعل يضربه حتى كسر رباعيته(4).
سئل الصحابي زيد بن أرقم كيف حكمت بكفر عثمان؟ قال :لثلث :تقسيمه لموال بيت المال بين الغنياء
ومحاربته لصحابة النبي)صلى ال عليه وآله( وعمله بغير كتاب ال(5).
3ـ توزيعه لموال بيت المال على بطانته وقرابته دون حساب وحرمان المؤمنين منها .وللمؤرخين والمحدثين
شروحا وافية بالنسبة لهذه المور ليسعها المقام .كل ذلك أرى إلى نقمة النصار والمهاجرين ول سيما صحابة
النبي)صلى ال عليه وآله( على عثمان فلم يروه خليفة لرسول ال)صلى ال عليه وآله(كما قدم الناقمون من مصر
والكوفة والبصرة ،وحيث لم يكترث لهم ،بينما لم ينصره أهل المدينة وهذا يدل على نقمتهم عليه أيضا .أما معاوية
الذي كان واقفا على كل هذه المور فقد إستغلها ليحرض أهل الشام ضد أمير المؤمنين علي)عليه السلم( بحجة
المطالبة بدم عثمان.
—–
.1الغدير .8/241
.2الغدير .8/241
.3نقل هذه القصة أغلب المؤرخين ومنهم البلذري في أنساب الشراف .5/29
] [ 310
] [ 311
الخطبة)44 (1
ومن كلم له )عليه السلم(
لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية ،وكان قد إبتاع سبي بني ناجية من عامل أميرالمؤمنين)عليه
السلم(وأعتقهم ،فلما طالبه بالمال خاس به وهرب إلى الشام.
سبب الخطبة
ي)عليه السلم(
ى وخروجه على عل ّ
قصة الخريت بن راشد الناج ّ
.1سند الخطبة :أوردها عدد من المؤرخين ممن عاشوا قبل السيد الرضي في كتبهم ورووا قصة بني ناجية ،ومنهم الطبري في
تأريخه المعروف في وقائع عام 38هـ وابراهيم بن هلل الثقفي في كتاب الغارات والبلذري في أنساب الشراف والمسعودي في
كتاب مروج الذهب .مصادر نهج البلغة.451 / 1 ،
] [ 312
عم وبه جاهل ،فقال الخريت:الحق أنا أعلم بها منك; فلعلك تعرف ما أنت الن له منكر ،وُتْبصر ما أنت الن عنه َ
ي السوء ،ولن بك رأ ُغُد ول يستهويّنك الشيطان ،ول يتقحَم ّ
ي عليه السلم :ا ْ
فإّني غاد عليك غدًا .فقال عل ّ
ل إن استرشدَتني واستنصحتني وقبلت ِمّني لهدّينك سبيل الرشاد. يستخّفّنك الجهلء الذين ل يعلمون; فوا ّ
ن عمه في ذلك،عّمه صديق ،فأردت أن َأْلَقى اب َ سِرعًا ،وكان لي من بني َ ل بن ُقَعين :فعجلت في أثره ُم ْ
قال عبدا ّ
ن يأمَره بطاعة أميرالمؤمنين ن عمه أن يشتّد بلسانه عليه ،وأ ْ
فأعلمه بما كان من قوله لميرالمؤمنين ،وآمر اب َ
ن ذك خير له في عاجل الدنيا وآجل الخرة .ثم بعث)عليه السلم( بمعقل بن قيس فقاتل وُمناصحته ،ويخبره أ ّ
الخريت حتى قتل وأسر أصحابه ،فأطلق من كان منهم مسلما وبقى غير المسلمين ،وحين ورد السرى الكوفة
إشترى مصقلة السرى بخمسمئة درهم من معقل وأعتقهم .فدفع مئتي درهم وعجز عن دفع الباقي فخاف وهرب.
فخطب المام)عليه السلم( بهذه الخطبة(1).
—–
] [ 313
حّتى َبّكَتُه،
صَفُه َ
ق وا ِ
صّد َ
سَكَتُهَ ،ول َ
حّتى َأ ْ
ق ماِدحَُه َ
ط َ
سادِةَ ،وَفّر ِفراَر اْلَعِبيِد! َفما َأْن َ
صَقَلَة! َفَعَل ِفْعَل ال ّ
ل َم ْحا ّ »َقّب َ
ظْرنا ِبماِلِه ُوُفوَرُه«. سوَرُه َواْنَت َ
خْذَنا َمْي ُ
َوَلْو َأقاَم َل َ
—–
الشرح والتفسير
فرار العبيد
قال المام)عليه السلم( بعد أن سمع خبر فرار مصقلة ـ عامل المام على منطقة أردشير حّرة من مناطق فارس ـ
ل مصقلة فعل فعل السادة ،وفر فرار العبيد« .لقد قام مصقلة بعمل إنساني كبير وذلك حين إشترى أسرى »قبح ا ّ
ل من سؤال المهلة للتسديد هرب بالمالبني ناجية وأعتقهم فلما طولب بالمال وإعادته إلى بيت مال المسلمين وبد ً
إلى الشام حيث معاوية الذي عرف بخداعه للناس واستعبادهم وظاهر القضية أن مصقلة وخشية دينه لبيت المال
هرب إلى الشام ،بينما يبدو أّنه كان مستعد مسبقًا لهذه الخيانة العظمى ،فلعله كان يخشى الفضيحة من بعض
لخرى التي قارفها ،ولعل شدة علي)عليه السلم(في العدل والصرار على إسترداد حقوق بيت المال قد العمال ا ُ
ن مصقلة قال لم أكن لغتم شقت عليه كما شقت على الخرين .ويؤيد ذلك ما قاله صاحب مصقلة ذهل بن حارث أ ّ
لو كنت مدينًا لعثمان أو معاوية ،فهما يتسامحان في بيت المال ،وقد فعل ذلك بحق اللف المؤلفة ،ال أن
عليا)عليه السلم( شديد التعامل مع بيت المال .مع ذلك فليس هنالك من مبرر لفعل مصقلة ،ول سيما إثر ذلك
التناقض الواضح ،فقد تكرم من جانب ليقوم بذلك العمل النساني ،ومن جانب آخر قام بتلك الخيانة وهرب! لذلك
قال)عليه السلم(:
] [ 314
»فما أنطلق مادحه حتى أسكته ،ول صدق واصفه حتى بكته«) (1فقد فعل ما يدعو إلى مدحه من قبل كل من
ن خبر عتقه لسبايا بني ناجية لم يكد ينتشر بين الناس حتى إنتشر قبله نبأ فراراه إلى الشام ،فاصاب لأّ يسمعه ،إ ّ
الجميع بالدهشة والذهول ،فكيف يلجأ إلى معاوية من يقوم بهذا العمل النجيب ،فيؤثر مجاورة معاوية والوقوف
إلى جانبه على علي)عليه السلم(؟ نعم ليسع الجميع تحمل العدل! ثم إختتم كلمه بالقول »ولو أقام لخذنا
سَرة() .(2ليس
ظَرةٌ ِإلى َمْي َ
سَرة َفَن ِ
عْ
ن ُذو ُ
ميسوره ،وانتظرنا بماله وفوره« أجل هذا منطق القرآن الكريم )َوِإنْ كا َ
ن عليًا)عليه السلم(سيعامله على خلف القرآن وأحكامه ،وعليه فل يقبل عذره في خشيته من هنالك من يعتقد بأ ّ
المام)عليه السلم(في تسديد ما بذمته لبيت المال .وهنا يبرز هذا السؤال لم لم يهبه المام)عليه السلم( ذلك المال
تقديرًا لعمله النساني ،فمصقلة لم يكن ليتحمل بذلك الدين لمصالحه الشخصية بل كان نتيجة طبيعة لذلك العمل
ن المام)عليه السلم( لو فعل ذلك لصبحت سنة في الجبار الذي قام به؟ ونقول في الجواب على هذا السؤال أ ّ
لسرى; المر الذي يفرز بعض المخاطر التي تهدد كيان المستقبل ،بحيث يقوم كل عامل وآمر بالطلق سراح ا ُ
ن مثل هذا البذل يزعزع أسس المجتمع السلمي بينما يحظي المر بمدح الناس وثنائهم .أضف إلى ذلك فا ّ
ودعائم بيت المال ويعيد إلى الذهان سياسة البذخ والسراف التي إتبعها عثمان تجاهه ،بينما كان المام)عليه
لّمة بأّنه سيتسرجع كل ما أخذ من بيت المال بغير حق وإن تزوج به النساء. السلم( قد وعد ا ُ
تأّملن
» .1بكته« من مادة »بكت« على وزن بخت بمعنى الضرب بالعصا ،كما تعني التوبيخ والغلبة على الخرين عن طريق الستدلل.
] [ 315
الفراد ،فلما بلغ الخبر المام)عليه السلم( .فوجه المام)عليه السلم( أحد أصحابه »معقل بن قيس« لقتال
الخريت بن راشد فقتله وقتل جمعًا من أصحابه وأسر آخرين من مسلمين وغير مسلمين من النصارى ومانعي
الصدقة ،فجعل مسلميهم يمنة والنصارى ومانعي الصدقة يسرة ،ثم خلى سبيل من كان مسلمًا وأخذ بيعته ،ومن
لسرى إلى المام)عليه السلم( في منطقة كان إردتد عرض عليه الرجوع إلى السلم أو القتل .فلما أتي با ُ
أردشير حّرة التي كان مصقلة عاملها ،فبكى إليه النساء والصبيان وتصايح الرجال .فقال مصقلة :أقسم با ّ
ل
لتصدقن عليهم ،فاشتراهم بخمسمائة ألف درهم فاعتقهم .فبعث مصقلة بمقدار من المال وبقي آخر .وانتظر
علي)عليه السلم(مصقلة أن يبعث المال فابطأ به فبعث إليه المام ،فقدم الكوفة ،فسأله المام)عليه السلم(المال،
فأدى إليه مائتي ألف درهم وعجز عن الباقي ،على أن يهبه المام)عليه السلم( ذلك ،فلم يقبل المام)عليه
السلم( ،ولو وافقه المام)عليه السلم( لكان ذلك المر بدعة بحيث يشتري الخرون السرى ثم يعتقونهم ول
يؤدون المال إلى بيت مال المسلمين ،إلى جانب كون تلك الموافقة تثيير تداعيات سياسة عثمان إزاء بيت المال
ن أحد أصحابه قال له :لو بحيث يساء الظن بحزم المام)عليه السلم( بالنسبة لبيت مال المسلمين .والعجيب أ ّ
شئت لم يمض عليك جمعة حتى تجمع هذا المال ،فقال :ما كنت لحملها قومي ،ول أطلب فيها إلى أحد .ثم قال:
لمور تشير إلى أّنه قد يكون منذ البداية قد عزمن ابن هند مطالبي بها ،أو ابن عفان ،لتركها لي .فهذه ا ُ
ل لو أ ّ
وا ّ
على عدم أدائها ،كما تفيد الرسالة الثالثة والربعون من نهج البلغة أّنه كان عثمانيًا ،ولذلك كان قد بذل بعض
أموال بيت المال لبطانته وقومه ،وخلصة القول فان بنيته الفكرية والعملية كانت قائمة على نهج معاوية ل
ن حب الدنيا والغترار بالجاه لأّ ل صالحًا قبل وصوله إلى الحكومة إ ّ أميرالمؤمنين)عليه السلم( .ولعله كان رج ً
قد غلب عليه .ومن هنا شقت عليه عدالة المام)عليه السلم(حتى إلتحق في خاتمة المطاف بمعاوية .فخطب
المام)عليه السلم( هذه الخطبة واختتمها بقوله »ولو أقام لخذنا ميسوره ،وانتظرنا بماله وفوره«(1).
] [ 316
السؤال الخر الذي يمكن طرحه هنا :ما علة كل هذا الحزم من المام)عليه السلم(في هذه الحالت؟
ل،
ن المام)عليه السلم( لم يتشدد في هذا المر ،بل كان قد أمهله لتسديد الدين عند المقدرة أو ً
ونقول في الجواب أ ّ
وثانيًا لم يكن ذلك حقًا للمام)عليه السلم( بحيث يهبه أموال بيت المال ،بل هو حق المسلمين الذي ليفرط فيه
ل أّنه أبقى باب الرفق مفتوحًا ،ومن ذلك إقترح
أميرالمؤمنين)عليه السلم( قط .ورغم حزمه في هذا المر إ ّ
البعض على المام)عليه السلم( بعد فرار مصقلة إعادة السبايا والسرى ،فلم يوافق المام)عليه السلم( على أ ّ
ن
مصقلة قد إبتاعهم واعتقهم ،فالمدين مصقلة ل هؤلء(1).
—–
الخطبة)45 (1
ل ويذم الدنيا
وهو بعض خطبة طويلة خطبها يوم الفطر ،وفيها يحمدا ّ
—–
ن هذه الخطبة والخطبة رقم 28كلهما فصل من خطبة طويلة روى السيد الرضي .1سند الخطبة :قال أغلب شّراح نهج البلغة أ ّ
ن السيد الرضي )ره( لم يرد نقل كافة
قسما منها هنا وآخر في الخطبة المذكورة )كما ترك القسم الثالث( ويفيد هذا المر مرة ُاخرى أ ّ
ن غرضه ذكر فصاحته)عليه السلم( ل غير. خطب المام)عليه السلم(في نهج البلغة ،بل كان يلتقط كلمه)عليه السلم(إلتقاط ل ّ
على كل حال نقل هذه الخطبة قبل السيد الرضي )ره( المرحوم الصدوق في كتاب من ليحضره الفقيه ،والمرحوم الشيخ الطوسي
)بعد الرضي( في مصباح المتهجد) .مصادر نهج البلغة 2/10 ،ـ .(11
] [ 318
] [ 319
القسم الول
عباَدِتِه ،اّلِذي
ن ِ
عْسَتْنَكف َ
ن َمْغِفَرِتِه َول ُم ْ
ن ِنْعَمِتِه َول َمْأُيوس ِم ْ
خُلّو ِم ْ
حَمِتِهَ ،ول َم ْ
ن َر ْ غْيَر َمْقُنوط ِم ْل َ حْمُد ِّ»اْل َ
حَمٌة َول ُتْفَقُد َلُه ِنْعَمٌة«.
ح ِمْنُه َر ْ
ل َتْبَر ُ
—–
الشرح والتفسير
الرحمة اللمتناهية
ل والثناء عليه ،ثم أشار إلى ست من النعم اللهية التي تستحق الحمد والشكر ،فقال)عليه تناول هذا الفصل حمدا ّ
حَمِتي
ل الواسعة وهو القائل سبحانه )َوَر ْ ل غير مقنوط) (1من رحمته« .كيف اليأس من رحمة ا ّ السلم( »الحمد ّ
ن()(3 ل الَقْوُم الكاِفُرو َل ِإ ّحا ّ
ن َرْو ِ
س ِم ْشيء() (2كما قال على لسان نبيه يعقوب)عليه السلم()ل َيْيَأ ُ ل َت ُك ّ
سَع ْ
َو ِ
ن() (4وعليه فلبد للنسان من ضاّلو َل ال ّ حَمِة َرّبِه ِإ ّ
ن َر ْ ط ِم ْن َيْقَن ُ
وعلى لسان خليله إبراهيم)عليه السلم()َوَم ْ
ن هذا اليأس كفر وضللة وهو ل ،بل إ ّ ل مهما كانت ذنوبه ومعاصيه ،ول ينبغي له اليأس من رحمة ا ّ النابة إلى ا ّ
خَرسـ ّ
ل َنا ّمن أعظم الذنوب ثم قال)عليه السلم(»ول مخلو من نعمته« .كما ورد في القرآن الكريم )َأَلْم َتَرْوا َأ ّ
عَلْيُكْم ِنَعَمـُه ظاِهَرًة َوباطَِنًة() (5وأضاف)عليه السلم(»ول مأيوس سَبـَغ َض َوَأ ْ
لْر ِ ت َوما ِفي ا َ
سمـوا ِ
َلُكْم ما ِفي ال ّ
علـى سـَرُفوا َ ن َأ ْ
ى اّلـِذي َ
عـباِد َ ل يا ِ من مغفرته« كيف ل وهو القائل )ُقـ ْ
» .1مقنوط« من مادة »قنوط« على وزن قنوت بمعنى اليأس من الخير والرحمة ،والقنوط على وزن بلوط صيغة مبالغة.
] [ 320
—–
» .4إستنكاف« من مادة »نكف« على وزن نظم بمعنى البعاد ،والنتكاف بمعنى الخروج من أرض إلى ُاخرى ،والستنكاف بمعنى
الباء والعراض عن الشيء.
القسم الثاني
ب الّناظِر،
ت ِبَقْل ِ
س ْب َواْلَتَب َطال ِ
ت ِلل ّجَل ْ
عِضراُءَ ،وَقْد َخ ْ حْلَوٌة َ
ي ُجلُء َوِه َي َلها اْلَفناُء َوَِلْهِلها ِمْنها اْل َ
»َوالّدْنيا داٌر ُمِن َ
غ«.
ن اْلَبل ِطُلُبوا ِمْنها َأْكَثَر ِم َ
فَ ،ول َت ْ ق اْلَكفا ِ
سَأُلوا ِفيها َفْو َ
ن الّزادَ ،ول َت ْضَرِتُكْم ِم َ
ح ْ ن ما ِب َسِح َحُلوا ِمْنها ِبَأ ْ
فاْرَت ِ
—–
الشرح والتفسير
ن حّبها والتعلق بها يعد من آعظم آفات سبيل سعادة النسانية. لقد عرض المام)عليه السلم( هنا بذم الدنيا على أ ّ
ن الغترار بزخارفها وزينتها أساس الذنوب والمعاصي ،فقال)عليه السلم(»والدنيا دار مني لها الفناء«).(1 كما أ ّ
نعم فدعائم الكون تحكي آثار الزوال والفناء ،فالشجار التي تتفتح في الربيع وتحمل الثمار إّنما تذبل في فصل
ن حياة هذه الشجار لم تشهد الخريف لتجف ثم تتساقط أوراقها على الرض فتعبث بها الرياح هنا وهناك ،وكأ ّ
الربيع ولم تحمل الثمار .وهكذا حال النسان فالفتى القوي بالمس ،هو العجوز الهرم اليوم ،والكهل العجوز اليوم
سيكون عظاما نخرة غدًا! ثم قال)عليه السلم( »ولهلها منها الجلء«) (2فكافة الفراد دون إستثناء سيودعون
عاجل أم آجل هذه الدنيا الفانية ليتجهوا نحو تلك الحياة الخالدة في عالم الخرة .فهذا قانون إلهي مطلق ل يسع
أحد إنكاره والخروج عليه .ومن هنا عبرت بعض اليات القرآنية عن
.1مني لها الفناء ،أي قدر لها لها الفناء .وتطلق على المال التي يخطط لها النسان فالمراد أن الفناء مقدر في طبيعة الدنيا.
] [ 322
الموت باليقين ،وذلك لّنه يوقن به حتى من أنكر المعاد والحساب .ثم قال)عليه السلم( »وهى حلوة خضرة«
وتختص الحلوة بالذائقة بينما ترتبط الخضرة بالباصرة ،فخضرة الدنيا وجمالها تخطف بصر الفرد الغافل وتشده
ن خداع الدنيا ل يقتصر على هذين إليها ،بينما تسوق حلوتها ذلك النسان إلى المعصية والخطيئة ،ومن المعلوم أ ّ
المرين ،بل لكل حاسة من حواس النسان ما يجذبها ويربطها بالدنيا .وأضاف)عليه السلم(»وقد عجلت للطالب
والتبست)(1بقلب الناظر« فطبيعة الدنيا خيرها العاجل ومنافعها المبكرة ،وإذا أتت النسان فإّنها تنفذ إلى قلبه
حتى تكون جزءًا منه لّنها جميلة للناظر ،كما أّنها حلوة للمذاق ،ولذلك كان التحرر منها صعبًا .وما ان فرغ
المام)عليه السلم( من بيان صفات الدنيا لتتطلع القلوب إلى أوامر السماء حتى قال »فارتحلوا منها بأحسن ما
بحضرتكم من الزاد ول تسألوا فيها فوق الكفاف ،ول تطلبوا منها أكثر من البلغ«) .(2ل ينبغي أن ينسى
النسان أّنه مسافر قد أقام هنا بصورة مؤقتة ،والمسافر الفطن إّنما ينهمك باعداد الزاد والمتاع في مثل هذا
خْيَر الّزاد الّتْقوى
ن َ
المنزل ،فهو يتزود بأحسن المتعة والشياء ول يثقل كاهله بالردي منها أبدا )َوَتَزّوُدوا َفِإ ّ
ب() .(3فالتقوى أفضل زاد الدنيا إلى جانب الحذر من نوم الغفلة. لْلبا ِ
ن يا ُأوِلي ا َ
َواّتُقو ِ
الكفاف والعفاف
لقد تضمنت الخطبة إشارات إلى مختلف أبعاد الحياة الدنيا رغم قلة عباراتها وألفاظها .فقد أشارات إلى طبيعة
الحياة الدنيا والتي تكمن في الفناء والزوال ورحيل أهلها عنها شاءوا أم أبوا .كما تطرقت إلى ظاهرها النيق الذي
يشد النظار إليه ،ومن هنا يتجه نحوها من يخدع بالمظاهر ،بينما يحذرها من يتمعن في العواقب .وتناولت حب
الدنيا الذي يقود بالتدريج إلى تربعها في قلب النسان حتى تصبح جزءًا من كيانه; المر الذي يجعل من المتعذر
عليه نزع
.1ـ مادة »اللتباس« إن تعدت بحرف الباء عنت الختلط والمتزاج ،وإن تعدت بحرف على عنت الشتباه ،ومن هنا يتضح أ ّ
ن
المراد بالعبارة هنا الشتباه.
» .2البلغ« بمعنى الوصول إلى الشي ،ومنه البلوغ الذي يصل فيه النسان مرحلة خاصة .والمراد بها هنا ما يتبلغ به ،أي يقتات به
مدة الحياة.
] [ 323
حّبها من قلبه ثم أرشدت إلى النجاة من أخطارها وآفاتها بالقناعة بالكفاف والعفاف ،والمراد بالكفاف) (1والعفاف
)أو العفاف والكفاف« أن يقنع النسان في الدنيا بقدر حاجته إليها ويدع الرغبة بالمزيد جانبًا ويغض طرفه عن
لخروية، جمع الموال; المر الذي يجعله يعيش الستقرار والسكينة في حياته الدنيا ويحد من حمله في حياته ا ُ
ن طامة النسان في الحرص والطمع وعدم القناعة .طبعًا إذا كان تطلعه للمزيد من أجل إغاثة الضعفاء وذلك ل ّ
ن ذلك ليس فقط ل يتنافى والعفاف والكفاف فحسب ،بل من شأنه أن يقود الخرين إلى الكفاف .فقد والمحرومين فا ّ
ن()
ب الُمْعَتِدي َ
ح ّل ل ُي ِ
نا ّل َلُكْم َول َتْعَتُدوا ِإ ّ
حلّ ا ّ
ت ما َأ َ
طّيبا ِ
حّرُموا َ
ن آَمُنوا ل ُت َ
ورد في القرآن الكريم) :يا َأّيها اّلِذي َ
ن النبي)صلى ال ،(2كما ورد هذا المعنى في الروايات السلمية ،فقد ورد عن المام الصادق)عليه السلم(أ ّ
ب محمدًا وآل محمد العفاف والكفاف«) عليه وآله(كان يدعو بهذا الدعاء» :الّلهم ُارزق محمدًا وآل محمد ومن أح ّ
.(3وعن أميرالمؤمنين علي)عليه السلم( أّنه قال» :قليل يكفى خير من كثير يردي« ) (4فالفرد إذا قنع باللزم
من حياته كان ذلك زينة له من الذنب وتحلى بالكفاف والعفاف» :من اقتنع بالكفاف أداه إلى العفاف«) (5أضف
إلى ذلك وبغض النظر عن الجوانب المعنوية والخلقية للقناعة بالضروري في الحياة فاّنما مدعاة للسكينة
والستقرار الروحي والنفسي في الحياة الدنيا ،فقد ورد عن المام علي)عليه السلم( أّنه قال» :ومن إقتصر على
ل)صلى ال عليه وآله(على شخص فدعا بلغة الكفاف فقد إنتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة«) .(6وقد أثنى رسول ا ّ
ل وكفى خير مّما أكثر وألهى; الّلهم ُارزق محّمدا ن ما ق ّل» :إ ّ
ل» :الّلهم ُارزقه الكفاف« كما قال رسول ا ّ له قائ ً
وآل محمد الكفاف«.
—–
.1الكفاف من مادة كف بمعنى كف اليد ،ولما كان النسان يبعد الشىء عنه بكفه فقد وردت هذه المفردة بمعنى المنع والسلب ،ومنه
المكفوف لمن سلب بصره ،ويقال للجماعة كافة لنها تمنع العدو.
] [ 324
] [ 325
الخطبة)46 (1
عند عزمه على المسير إلى الشام وهو دعاء دعا به رّبه عند وضع رجله في الركاب.
تتضمن هذه الخطبة أو هذا الدعاء عّدة أمور عميقة ومهّمة ،فقد بين المام)عليه السلم(جميع المشاكل المتوقعة
ل .ثم وصف الحق سبحانه بأّنه الصاحب في السفر والخليفة في الهل في السفر في ثلث ،ثم إستعاذ منها با ّ
توكيدًا لحضوره الذاتي المطلق لدى جميع الكائنات.
—–
.1سند الخطبة رواه بعض المحدثين الذين عاشوا قبل السيد الرضي )ره( ومنهم نصربن مزاحم في كتاب صفين ،وذكر بعض
ن المام)عليه السلم( دعا بهذا الدعاء عند ما وضع رجله في الركاب وعزم على المسير إلى الشام لقتال معاوية .وقال
المؤرخين أ ّ
ل)صلى ال عليه وآله( وقد قفاه أميرالمؤمنين علي)عليه السلم( .ورواه أعثمالسيد الرضي وابتداء هذا الكلم مروي عن رسول ا ّ
ن المام)عليه
الكوفي في كتاب الفتوح ،ما اورده مع بعض الضافات القاضي نعمان المصري في كتاب دعائم السلم ،وقال :إ ّ
السلم(كان يدعوا بهذا الدعاء عند كل سفر ،مصادر نهج البلغة.12 / 2 ،
] [ 326
] [ 327
ت
ظِر ِفي اَْلْهِل َواْلماِل َواْلَوَلِد ،الّلهّم َأْن َ سوِء اْلَمْن َ
ب َو ُسَفِر َوَكآَبِة اْلُمْنَقَل ِ
عثاِء ال ّن َو ْك ِم ْعوُذ ِب َ»الّلهّم ِإّني َأ ُ
حبًا،صَسَت ْن ُم ْ ف ل َيُكو ُ خَل َسَت ْ
ن اْلُم ْ
كَِ ،ل ّ غْيُر َ
جَمُعُهما َ
خِليَفُة ِفي اَْلْهِل َول َي ْ ت اْل َ
سَفِرَ ،وَأْن َب ِفي ال ّصاح ُ ال ّ
خَلفًا«.
سَت ْ
ن ُم ْ ب ل َيُكو ُ ح ُصَسَت ْ َواْلُم ْ
—–
الشرح والتفسير
ل من وعثاء السفر
الستعاذة با ّ
» .1وعثاء« من مادة »وعث« على وزن درس تعني المشقة ،وأصله المكان المتعب لكثرة رمله وغوص الرجل فيه ومن هنا يطلق
الوعثة على المرأة المترهلة لّنها ل تستطيع الحركة بسهولة.
» .2كآبة« بمعنى النزعاج وسوء الحال وتصدع البال ومن هنا يقال الكئيب للفرد غير مرتاح البال.
» .3منقلب« من مادة »قلب« مصدر بمعنى الرجوع ،كما يمكن أن تكون إسم مصدر ،واسم مكان وزمان ،وهى هنا إسم مصدر أنسب
منها مصدر.
] [ 328
أهلنا وولدنا في الحضر ،وما أروع أن نودع زمام أمور حياتنا إلى من يحيط بكل شي ول يحيط به شي .ثم يقدم
ن المستخلف ليكون مستصحبًا ،والمستصحب ل يكون مستخلفًا« فالمكان يسود ويحكم الدليل على ما قال» :ل ّ
ل لوجودها المحدود،جميع الكائنات المادية ،ومن هنا فان وجودها في مكان يعني خلو الخر منها ،وما ذلك إ ّ
ل سبحانه الذي ل يعرف المكان ول الزمان ول البعد ول القرب ،وهو وليس هنالك من وجود ل محدود سوى ا ّ
ل().(2
جُه ا ّ
كما قالَ) :وُهَو َمَعُكْم َأْيَنما ُكْنُتْم() (1وقالَ) :فَأْيَنما ُتَوّلوا َفَثّم َو ْ
فلسفة الدعاء
] [ 329
2ـ إن الدعاء يعّد إحد العوامل المخدرة للنسان فيصده عن السعي والعمل والنشاط ،حيث ينصرف النسان عن
لمور ويلوذ بالدعاء لتأمين حاجياته.
هذه ا ُ
ولكن ل ترى هذا الكلم سليم إذا ما وقفنا على فلسفة الدعاء ومفهومه الواقعي .فالمفهوم الواقعي للدعاء هو أننا
ل ولطفه ،ونتضرع إليه بالدعاء لحل المشاكل ،وعلى نعمل ما في وسعنا ونجهد أنفسنا وما فاق ذلك نوكله إلى ا ّ
سـوَء() (1نطرق بابه ونسأله بعد أن سعينا سعينًا ولم يبق إ ّ
ل ف ال ّ
ش ُطّر ِإذا َدعاُه َوَيـْك ِضـ َ
ب الَم ْ
جـي ُ
ن ُي ِ
ضوء )َأّمـ ْ
توفيقه .ومن هنا صرحت بعض الروايات السلمية بعدم إستجابة دعاء من قصر في العلم وخلد إلى الكسل
ل ل يستجيب دعاء من سأله الرزق وهو جالس في بيته دون أن يسعى ويعمل ،كما ل يستجاب دعاء والراحة .فا ّ
ن الكسل والتقاعس ل ينسجم ل ولم يكتبه ثم أنكر عليه المدين ولم يعطه ماله! والخلصة فا ّ من أقرض ما ً
ل محركًا .أّما ما يقالل مخدرًا ،بقد رما بعد عام ًن الدعاء ل يعتبر عام ً واستجابة الدعاء .وعلى ضوء ما تقدم فا ّ
ن الدعاء سبب زيادة استحقاق النسان لّنه يتجه إلى ا ّ
ل من أن الدعاء ل يغير التقدير ،فجواب ذلك واضح ،وهو أ ّ
ن التوبة من شروط قبول الدعاء ،وبذلك يتأهب أكثر لتلقي الفيض ل يتوب إليه من ذنوبه; ل ّ وينور قلبه بمعرفة ا ّ
ل قدر المزيد من لطفه وفضله لمن كان أكثر إستعدادًا وجدارة ،بعبارة أخرى فا ّ
ن نا ّ اللهي والعناية الربانية ،ل ّ
ل نعم وخيرات وبركات للعباد مشروطة ببعض الشرائط ،في مقدمتها التوجه إليه ودعاؤه والتقرب إليه .وبناءًا ّ
ل ولطفه متوقفة على الدعاء .ومن هنا يتضح الجواب على الشكال الذي يفيد عدم انسجام ن رحمة ا ّ على هذا فا ّ
ن الدعاء تأكيد للتسليم والرضا ،فالحق سبحانه أراد لعباده أن يعيشوا القرب منه الدعاء وروح الرضا والتسليم; ل ّ
ل برحمته وفضله ،المر الذي أكد الدعاء في أغلب اليات والروايات .وزبدة بالدعاء ،فاذا عاشوا القرب شملهم ا ّ
ن للدعاء أثاره التربوبة الجمة على حياة النسان ،أدناها أّنه يطهر قلبه الكلم فا ّ
] [ 330
وروحه من الدران ويزيل عنه صدأ الماديات ويوصله بمصدر الخير والحسان والعطاء ،كما يشكل السبيل
ل ل يستغنون في قضاء حوائجهم عن الدعاء ،وبالدعاء يشعر ن أولياءا ّ ل ولطفه .ومن هنا فا ّ للستزادة من فضل ا ّ
ل فيهب لمواجهة المشاكل وقلبه مفعم بالمل في التغلب عليها، العبد بالقوة ،كما يشعر بالسكينة إثر التوكل على ا ّ
ل تابعة لمشيئة وقدرته .كما تتأتى الحاجة إلى للدعاء في السفار المخيفة ول غرو فهو يعلم بأّنها مذللة لرادة ا ّ
المحفوفة بالمخاطر ،أّما دعاء المام)عليه السلم( حين عزمه على السير إلى صفين فقد إقتدى به بالنبي)صلى ال
ل حين ركب السفينة في ذلك عليه وآله(ومن سبقه من النبياء العظام .فقد كلف نوح)عليه السلم(بالتضرع إلى ا ّ
جانا ِم َ
ن ل اّلِذي َن ّ حْمُد ِّل اْل َك َفُق ِ
على الُفْل ِ ك َن مََع َ ت َوَم ْ ت َأْن َسَتَوْي َ
ل من تلك المخاطر )َفِإذا ا ْ الطوفان الهائل لينجيه ا ّ
ن( ) (1كما دعا موسى)عليه السلم(لما فّر خْيُر الُمْنِزِلـي َت َ ل ُمباَركًا َوَأْن َب َأْنِزْلِني ُمـْنَز ً
ل َر ّن * َوُق ْ
ظالِمـي َ
الَقْوِم ال ّ
سواَء ن َيْهِدَيـِني َ عسى َرّبي َأ ْ ل َ ن قا َ جهَ ِتلْقاَء َمْدَي َ
من أزلم فرعون حين خرج من مصر متوجهًا إلى مدين )َوَلّما َتَو ّ
خْير َفِقـيٌر() .(3النبي الكرم)صلى ال ي ِمنْ َ ت ِإَل ّ
ب ِإّني ِلما َأْنَزْل َل() .(2وقال حين لقي لبنات شعيب )َر ّ سِبـي ِ ال ّ
ل ،وكان عليه وآله(حين هاجر من مكة إلى المدينة في ظل تلك الخطار ،كان يشعر بالتذمر لمفارقة مكة وبيت ا ّ
ن النبي)صلى ال عليه ك ِإلى َمعاد() (4وكأ ّ ن َلراّد َ ك الُقْرآ َ عَلْي َ
ض َ ن اّلِذي َفـَر َ يتمنى الرجوع ِاليها فاتته البشارة )ِإ ّ
ل أو كان يعيش حالة الدعاء فاستجيب له .ومن هنا حثت الروايات على الدعاء في السفر (5).وتختتم وآله(دعا ا ّ
البحث بما ورد عن علي)عليه السلم(حين إنطلق من الكوفة إلى الشام ،حيث وضع رجله على الركاب فقال :بسم
ن * َو ِإّنا ِإلى َرّبنا خَر َلنا هـذا َوما ُكّنا َلُه ُمْقِرِنـي َ سّ ن اّلِذي َ سْبحا َ ل الرحمن الرحيم ،فلما استوى على دابته قالُ ) : ا ّ
ن() (6ثم دعا بهذا الدعاء الذي فرغنا من شرحه. َلُمْنَقِلـُبو َ
—–
] [ 331
الخطبة)47 (1
كلم المام)عليه السلم( يمثل نبوئتين بشأن الكوفة ،أو الكوفة والبصرة :الولى الحوادث المريرة التي تعصف
لولئك الظلمة وعقابهم بما إقترفته أيديهم.
بالكوفة وأهلها من قبل الطواغيت الظلمة ،والثانية العاقبة السيئة ُ
—–
ن أميرالمؤمنين)عليه
.1سند الخطبة :من جملة من رواها قبل السيد الرضي )ره( إبن الفقيه في كتاب البلدان ،إّل أّنه صرح أ ّ
السلم(خاطب بهذا الكلم أهل البصرة والكوفة ول يغير ذلك شيئًا .ونقلها بعد السيد الرضي )ره( الزمخشري في ربيع البرار في باب
البلد والديار .مصادر نهج البلغة.15 / 2 ،
] [ 332
] [ 333
جّبار
ك َ
عَلُم َأّنُه َما َأَراَد ِب ِ
ن ِبالّزلِزِل َوِإّني َل ْ
ن ِبالّنَواِزِل َوُتْرَكِبي َ
ي ُتْعَرِكي َ
ظّ
ن َمّد اَْلِديِم اْلُعَكا ِ
ك َيا ُكوَفُة ُتَمّدي َ »َكَأّني ِب ِ
غل َوَرماُه ِبقاِتل«. ل ِبشا ِ لُه ا ّ سوءًا ِإّل اْبَت َ ُ
—–
الشرح والتفسير
ن المام)عليه السلم( خاطب بهذا الكلم الكوفة )وقيل البصرة والكوفة« فقال »كأني بك يا كوفة تمدين مدذكرنا أ ّ
الديم) (1العكاظي« »عكاظ«) (2اسم سوق قرب مكة )وقال البعض بين مكة والطائف( تجتمع فيه العرب كل
عام من مختلف المناطق لمّدة عشرين يومًا كما صرح بذلك البعض ،فكانوا يعرضون متاعهم ،كما كانوا ينشدون
لخرى ،وبالطبع كان هناك كثيرًا من المفاسد; المر الذي جعل السلم يردم ذلك الشعر وتتفاخر كل قبيلة على ا ُ
السوق.
أما هل المراد بهذه العبارة الحوادث الليمة التي ستقع في الكوفة ،أم كبر الكوفة وإتساعها .فقد صرح أغلب
ن التفسير الثاني هو النسب ،ل ّ
ن شّراح نهج البلغة بالتفسير الول ،بينما قال القليل منهم بالتفسير الثاني ،ويبدو أ ّ
دبغ الجلد العكاظي ل يبدو منسجمًا وكون العبارة كناية عن الحوادث الليمة والمأساوية ،بينما يمكنه أن يكون
ن الجلد العكاظي واسع وجميل ومن أرغب الجلود كناية عن إزدياد رقعة الكوفة وإتساع مساحتها .جدير بالذكر أ ّ
لدى العرب ،ولعل في هذا إشارة إلى جمال الكوفة وعمرانها في الزمنة القادمة مقارنة بما عليها في
» .1أديم« بمعنى ظاهر الشيئ وغالبًا ما يطلق على الجلد ،كما يسمى وجه الرض بـ )أدمة الرض( ،وقيل هذا هو السبب في تسمية
آدم لنه خلق من أديم الرض.
» .2عكاظ« كما ذكرنا سابقا سوق كانت تقيمها العرب في العصر الجاهلي قرب مكة في صحراء بيت نخلة والطائف يجتمعون إليه
ليتعاكظوا; أي يتفاخروا ،وكان تفاخرهم قبلي عادة ما يقود إلى الحروب الدامية.
] [ 334
ن العبارة إشارة إلى مستقبل الكوفة وتقسيمها إلى أجزاء متعددة ،على زمان المام)عليه السلم( .وذكر البعض أ ّ
غرار تقسيم الجلد العكاظي ودبغه وتوسيعه .ثم قال)عليه السلم( »تعركين) (1بالنوازل)(2وتركبين بالزلزل«
وقد ورد مثل هذا المعنى في الخطبة 108بقوله» :تعرككم عرك الديم« أي يسلط عليكم بني أمية فيسومونكم
ل إبتله ا ّ
ل سوء العذاب .ونبوءته الثانية التي تمثلت بقوله)عليه السلم( » :إّني لعلم أّنه ما أراد بك جبار سوءًا إ ّ
ل بشاغل« إشارة إلى المراض العضال واللم التي بشاغل ورماه بقاتل« .ويمكن أن تكون العبارة »ابتله ا ّ
ن »ورماه بقاتل« الحوادث التى تهجم على النسان من الخارج فتقتله تشغل الظلمة وتصرفهم عن الناس ،كما أ ّ
وتقضي عليه.
ن ما تكهن به المام)عليه السلم( بشأن الكوفة قد حدث ،حيث إتسعت إتساعًا كبيرًا بعد المام)عليه والحق أ ّ
نا ّ
ل لأّ السلم( وكانت على الدوام مركزا للفتن والحوادث المريرة ،وقد هب أغلب الجبابرة للسيطرة عليها ،إ ّ
كان يبتليهم بأنواع البلء ويدفع شرهم عنها ،ولعل ذلك يعزى لكون الكوفة تشكل مركز استقطاب خلص المؤمنين
من الشيعة الوفياء لعلي بن أبي طالب)عليه السلم( وإن كان بينهم بعض المنافقين .ومن هنا صرحت بعض
الروايات بفضل الكوفة .أّما من بين الفراد الذين هموا بالكوفة بعد أميَرالمؤمنين)عليه السلم( زياد بن أبيه .فقد
ن زيادا لما حصبه أهل الكوفة ،وهو يخطب على المنبر ،فقطع أيدي ثمانين منهم ،وهم ورد في بعض الروايات أ ّ
أن يخرب دورهم ،ويجمر نخلهم ،فجمعهم حتى مل بهم المسجد والرحبة ،يعرضهم على البراءة من علي)عليه
السلم(; وعلم أّنهم سيمتنعون فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم .فخرج خارج من القصر فقال:
ن المير يقول لكم :إّني عنكم اليوم مشغول; وإذا بالطاعون قد ضربه ،فكان يقول :إّني لجد في إنصرفوا ،فا ّ
النصف من جسدي حر النار حتى مات(3).
رأيان في الكوفة
وردت عدة عبارات في نهج البلغة بشأن الكوفة وأهلها ،ومن ذلك الخطبة المذكورة التي
» .1تعركين« من مادة »عرك« على وزن درك ،من عركت القوم الحرب إذا مارستهم حتى أتعبتهم.
] [ 335
—–
] [ 336
] [ 337
الخطبة)48 (1
عند المسير إلى الشام ،قيل :إّنه خطب بها وهو بالنخيلة خارجًا من الكوفة إلى صفين.
تشتمل هذه الخطبة على قسمين :الول وجريا على عادته في خطبه)عليه السلم( في الحمد والثناء والشكر للنعم
اللهية على العباد ،والثاني يطلع الجيش على خطته فيمن بعثهم من المقدمة ويصف لهم المسير ليلتحقوا بهم،
ن المام)عليه السلم( أراد وتعئبة عددًا من القبائل التي كانت تسكن أطراف دجله وتسييرهم لمقاتلة العدو ،ويبدو أ ّ
أن يذكر اتباعه في النخيلة الذين لم يكونوا كثيرًا بانهم ليسوا وحدهم في صفين وأّنه سيعبئ من كان في مسيرهم
للقتال ليزدادوا عددًا وعّدة.
—–
ن المام خطبها بالنخيلة حين تجهز لصفين خارجًا من الكوفة .وقد جاء في كتاب مصادر
.1سند الخطبة :كما ذكر سابقًا فا ّ
نهج البلغة أّنه خطبها في الخامس والعشرين من شوال سنة 37هـ وهو بالنخيلة خارجًا من الكوفة ،وأضاف طبقًا لنقل ابن أبي
الحديد أّنه ذكرها جماعة من أصحاب السير وزاد وفيها ،ومنهم نصر بن مزاحم في كتاب صفين )مصادر نهج البلغة .(16 / 2
] [ 338
] [ 339
القسم الول
—–
الشرح والتفسير
ل للحمد والثناء
استحقاق ا ّ
ل بالحمد والثناء في القسم الول هذه الخطبة بعبارات جديدة عظيمة المعاني وقد يعرض المام)عليه السلم( ّ
ل كلما لح) (3نجم وخفق«)(4 ل كلما وقب) (1ليل وغسق) ،(2والحمد ّ أشار إلى قضايا جديدة فقال »الحمد ّ
ن حمدنا وثنائنا دائمي باقي مادام الليل والنهار متعاقبين دائمين ،وهكذا هو فالعبارة تشير إلى نقطتين :الولى أ ّ
ن ظلمة الليل وطلوع الكواكب وغروبها من النعم لخرى هى أ ّ مستمر إستمرار طلوع الكواكب وغروبها ،النقطة ا ُ
اللهية الكبرى ،فظلمة الليل تهب النسان الهدوء والسكينة بعد تعب النهار وعناء العمل فيه ،فطبيعة الليل
والظلمة تختزن الراحة والخلود إلى النوم ومن هنا كانت الليالي الظلماء الخالية من المصابيح تعد أفضل الوقات
لا ّ
ل جَع َ
ن َ
ل َأَرَأْيُتْم ِإ ْ
للنوم; المر الذي أشارت إليه الية 72من سورة القصص )ُق ْ
» .1وقب« من مادة »وقب« الحفرة في الرض أو الجبل ،ويقال للشي وقب إذا دخل الحفرة أو الظلم ،ومن هنا كان المعنى دخل
الليل.
» .3لح« من مادة »لوح« بمعنى الظهور والبزوغ .وتستخدم في كل وجود مضيىء ويطلق اللوح على الصفيحة البيضاء التي تصنع
من الخشب أو الفلز.
» .4خفق« من مادة »خفق« و»خفوق« بمعنى الغياب والتزلزل والحركة ،ومن هنا تستعمل حين يغرب القمر أو الشمس أو كوكب.
] [ 340
] [ 341
القسم الثاني
طَفَة ِإَلى
طَع َهِذِه الّن ْ
ن َأْق َت َأ ْ
حّتى َيْأِتَيُهْم َأْمِري َوَقْد َرَأْي ُ ط َ
ت ُمَقّدَمِتي َوَأَمْرُتُهْم ِبُلُزوِم َهذا اْلِمْلطا ِ»َأّما َبْعُد َفَقْد َبَعْث ُ
ن َأْمداِد اْلُقّوِة َلُكْم«. جَعَلُهْم ِم ْ
عُدّوُكْم َوَأ ْ
ضُهْم َمَعُكْم ِإَلى َ
جَلَةَ ،فُأْنِه َ
ف ِد ْن َأْكنا َ
طِني َ
شْرِذَمة ِمْنُكْم ُمَو ّ ِ
—–
الشرح والتفسير
أشار المام)عليه السلم( إلى برنامج وخطة حربية فقال »أما بعد فقد بعثت مقدمتي) (1وأمرتهم بلزوم هذا
الملطاط) (2حتى يأتيهم أمري« فنهر الفرات يقع غرب دجلة ،فيكون دجلة شرقه ،وعليه فان مقدمة جيش الكوفة
تتحرك من جانب الفرات إلى الشمال باتجاه الجانب الغربي للفرات ،وقد أمر المام)عليه السلم( بمواصلة هذا
السير من قبل الجيش ،بينما إتجه)عليه السلم( من الفرات إلى الشرق نحو المدائن لتعبئة أكبر عدد ممكن من
الناس ،ثم قال)عليه السلم( »وقد رأيت أن أقطع هذه النطفة) (3إلى شرذمة) (4منكم موطنين أكناف) (5دجلة،
فأنهضهم معكم إلى عدوكم وأجعلهم
» .1مقدمة« بكسر الدال بمعنى المتقدم وبفتح الدال المبعوث مسبقا وتطلق المفردتان على طليعة الجيش يعني الطائفة التي تتحرك
أمام العسكر لتطلعه على ما يواجهه من أحداث.
.2كما ذكرنا سابقا فإن ملطاط« اقتبست من مادة »لط« »لطط« وميمها زائدة ،وتعني هذه المادة القتراب والمرافقة ،ومن هنا يقال
»لط« للقلدة لنها ترافق العنق دائما ،كما يقال الملطاط لشاطىء النهر والبحر ،بينما إعتبرها البعض الخر من أرباب اللغة من مادة
»ملط« على وزن »شرط« وليس هناك من فارق مع سابقتها من حيث المعنى وإن تفاوت اللفظ.
» .3نطفة« الماء الصافي القليل أم الكثير ،ويطلق أحيانا بمعنى كل ماء جار ومائع سيال.
» .4شر ذمة« تعني في الصل الجماعة القليلة وما يتبقى من الشىء ،ويقال الشر ذمة لما يفصل عن الثمرة.
» .5أكناف« جمع »كنف« على وزن »هدف« بمعنى أطراف الشىء ،وحيث تكون أطراف الشياء سببا لستر القسام الباطنية فانه
يقال »الكنيف« للجدر ان الربعة التي يستتر فيها النسان ،وكذلك يطلق على الواقي والدرع الذي يحفظ النسان من ضربات العداء.
] [ 342
من أمداد القوة لكم« .وهكذا ورد المام)عليه السلم( شرق العراق والمدائن ،وبينما كانت مقدمة جيش
المام)عليه السلم(تواصل زحفها في غرب الفرات ،ولما بلغهم قدوم معاوية نحوهم بجيش عظيم ،عبروا الفرات
واتجهوا إلى الشرق صوب المام)عليه السلم( حذرًا من محاصرتهم من قبل العدو ولم يستعدوا بعد لخوض
القتال ،فاستحسن ذلك منهم المام)عليه السلم(فلما اكتمل الجيش سار به المام)عليه السلم(لمواجهة العدو .جدير
ن مفردة »ملطاط« من مادة ملط أو لط هنا بمعنى شاطئ الفرات ـ نعم فقد دلهم المام)عليه السلم( بالذكر أ ّ
ن الشام كانت في جهة الشمال ،والفرات ينحدر من الشمال إلى
المسير ليتقدموا من جانب شاطئ الفرات ل ّ
الجنوب ،وهكذا ل يكون الجيش في مشقة من حيث الماء والهواء وظلل الشجار ،ول يضلون الطريق ،إلى
جانب سهولة اللتحاق بهم ،وعليه فهذا المسير ينطوي على عّدة فوائد والتعبير بالنطفة عن ماء الفرات حسب ما
قال السيد الرضي )ره( هو من غريب العبارات وعجيبها ،فالمفردة على ضوء ما صرح به جمع من أرباب اللغة
تعني الماء الخالص ،وقيل الماء الجاري ،وكيفما كان فهى إشارة إلى عذوبة ماء الفرات وخلوه من الملح ،وإن
كان ظاهره قليل الكدورة.
قال السيد الرضي )ره( :يعني)عليه السلم( بالملطاط هاهنا السمت الذي أمرهم بلزومه ،وهو شاطئ الفرات،
ويقال ذلك أيضا لشاطئ البحر ،وأصله ما استوى من الرض ،ويعني بالنطفة ماء الفرات ،وهو من غريب
العبارات وعجيبها.
ذكر بعض شراح نهج البلغة في ذيل هذه الخطبة بعض القضايا التأريخية التي نشير إليها هنا:
سار عليه السلم حتى اْنتهى إلى المدائن وقصر كسرى وإذ رجل من أصحابه أنشد:
جرت الرياح على محل ديارهم *** فكأنما كانوا على ميعاد!
] [ 343
خِري َ
ن ك َوَأْوَرْثناها َقْوماً آ َ
ن * َكذ ِل َ
عُيون* َوُزُروع َوَمقام َكِريم * َوَنْعَمة كاُنوا ِفـيها فاِكِهـي َ جّنات َو ُ ن َ )َكْم َتَرُكوا ِم ْ
ن()(1 ظِري َ
ض َوما كاُنوا ُمْن َ
لْر ُ
سماُء َوا َ عَلْيِهُم ال ّ
ت َ* َفما َبَك ْ
2ـ في النبار
مّر )عليه السلم( بالنبار )أحد المدن الغربية في العراق( فتقدم دهاقنتها إليه فلما استقبلوه ،نزلوا عن خيولهم ،ثم
ب التى معكم؟ وما أردتمجاءوا يشتّدون معه ،وبين يديه ومعهم براِذين قد أوقفوها في طريقه ،فقال :ما هذه الّدوا ّ
ظم به المراء; وأّما هذه البراذين فهّدية لك ،وقد
خُلق ِمّنا نع ّ
بهذا الذي صنعتم؟ قالوا :أّما هذا الذي صنعنا فهو ُ
علفًا كثيرًا.
صنعنا للمسلمين طعامًا ،وهّيأنا لدواّبكم َ
سواد ،عطش الناس احتاجوا إلى ي عليه السلم في مسيره ِإلى الشام; حتى إذا ُكنا بظهر الكوفة من جانب هذا ال ّعل ّ
ضُة عنز; فأمرنا
ضْرس في الرض; كأّنها ُرْب َ ي عليه السلم حتى أتى [بنا] إلى صخرة ِ الماء ،فانطلق بنا عل ّ
فاقتلعناها ،فخرج لنا من تحتها ماء ،فشِرب الناس منه ،وارتَوْوا .ثم أمرنا فأكفأناها عليه .وسار الناس حتى إذا
ل ،قال عليه السلم :أِمْنكم أحٌد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه؟ قالوا :نعم يا أميرالمؤمنين ،قال: مضى قلي ً
ل ركبانًا ومشاة ،فاقتصصنا الطريق إليه; حتى انتهينا إلى المكان الذي نرى أّنه فيه، طلقوا إليه ،فانطلق ِمّنا رجا ٌ فان ِ
ل علينا انطلقنا إلى دْير قريب ِمّنا ،فسألناهم :أين هذا الماء الذي عندكم؟عي َ
فطلبناه ،فلم نقدر على شيء ،حتى إذا ِ
شِربتم
قالوا :ليس ُقْرَبنا ماء ،فقلنا :بلى إّنا شربنا منه ،قالوا :أنتم َ
] [ 344
ى.
ى َنب ّ
ي أو وص ّ
ل نب ّ
ل بذلك الماء ،وما استخرجه إ ّ
ل ما ُبِني هذا الدير إ ّ
منه! قلنا :نعم ،فقال صاحب الّدْير :وا ّ
قال العلمة المجلسي فما كان من الراهب إل أن أتى المام)عليه السلم( وأعلن إسلمه ولزم المام)عليه
السلم( حتى إستشهد ليلة الهرير فصلى المام)عليه السلم( عليه وأنزله القبر وقال :وال إني لرى موضعه في
الجنة.
4ـ في الرقة
ل أهلها عثمانيةَ ،فّروا من الكوفة إلى معاوية ـ فأغلقوا أبواَبها دونه ،وتحصّنوا ،وكان ثم سار حتى أتى الّرّقة ـ وج ّ
ى في طاعة معاوية ،وقد كان فارق عليًا عليه السلم في نحو من مائة رجل من أميرهم سماك بن مخرقة السد ّ
حق به سبعمائة رجل. بني أسد ،ثم كاتب معاوية ،وأقام بالّرّقة حتى َل ِ
حّبة أن علّيا عليه السلم لما نزل على الّرقة ،نزل بموضع يقال له الَبِليخ على جانب الفرات، قال نصر :فروى َ
ب عيسى
ن عندنا ِكتابًا توارثناه عن آبائنا ،كتبه أصحا ُ
ى عليه السلم :إ ّ
صْومعته ،فقال لعل ّ
فنزل راهب هناك من َ
عرضه عليك؟ قال :نعم ،فقرأ الراهب الكتاب:بن مريم ،أ ِ
ل منهم; يعّلمهم ث في المّيين رسو ً طر فيما كتب :أنه باع ٌسّل الرحمن الرحيم .الذين قضى فيما قضى ،و َ بسم ا ّ
خاب في السواق ،ول يجزي بالسيئة السيئة ،بل صّظ ول غليظ; ول َ ل ،ل ف ّب والحكمة ،ويدّلهم على سبيل ا ّالكتا َ
ل ألسنتهم بالتكبير صعود وَهبوط ،تِذ ّل على كل َنشر ،وفى كل َ حمدون ا ّيعُفوا ويصفح ،أّمته الحّمادون الذين ي َ
ل،
ل ،اختلف ُأمتُه من بعده; ثم اجتمعت ،فلبث ما شاءا ّ ل على من ناوأه; فإذا توّفاه ا ّ والتهليل ،والتسبيح; وينصرُه ا ّ
ق ول ضى بالح ّ ثم اختلفت ،فيمّر رجل من أمته بشاطىء هذا الُفرات ،يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ،ويق ِ
شرب الماء على يرُكس الحكم ،الدنيا أهون عليه من الّرماد في يوم عصفت به الريح ،والموت أهون عليه من ُ
ن أهلى ِم ْ
ل لومَة لئم; فمن أدرك ذلك النب ّ ل في السّر ،وينصح له في العلنية ،ل يخاف في ا ّ الضمآن .يخاف ا ّ
ن القتل معه شهادة. ن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصْره ،فإ ّ هذه البلد فآمن به كان ثوابه رضواني والجّنة ،وَم ْ
] [ 345
ل الذي لم أُك ْ
ن ثم قال له :أنا مصاحُبك ،فل أفارُقك حتى يصيَبني ما أصابك .فبكى عليه السلم ،ثم قال :الحمد ّ
ل الذي ذكرني عنده في ُكُتب البرار.
عنده منسّيا ،الحمد ّ
شى ،حتى أصيب يوم صفين; فلما خرج فمضى الراهب معه ،فكان فيما ذكروا يتغّدى مع أميرالمؤمنين ويتع ّ
ل البيت ،واستغفر له
الناس يدفنون قتلهم قال عليه السلم :اطلبوه ،فلما وجده صّلى عليه ودفنه .وقال :هذا ِمّنا أه َ
مرارًا(1).
—–
ي بكربلء
نزول عل ّ
ن منك قومٌ
شَر ّ
فلما نزل بَكْرَبلء صّلى بنا ،فلما سّلم رفع إليه من ُتربتها فشّمها ،ثم قال :واها لك يا ُتْربة! ُليح َ
جنة بغير حساب .ثم قال »هيهنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم ثم أومأ بيده إلى مكان آخر وقال :هيهنا يدخلون ال ّ
مراق دمائهم«.
—–
.1وردت هذه القضايا التأريخية في شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد .3/288
] [ 346
] [ 347
الخطبة)49 (1
تدور الخطبة حول صفات الربوبية والعلم اللهي ـ كما ورد سابقًا ـ وتتضمن إشارات عميقة المعاني إلى جوانب
ل بالمخلوقات
من صفات الجلل والجمال وتنزيه الذات اللهية المقدسة من مزاعم الملحدين والمشبهة التي تشبه ا ّ
—–
.1سند الخطبة :رواها جمع ممن عاش بعد السيد الرضي )ره( ومنهم العلمة المجلسي في روضة البحار وعلي بن محمد بن شاكر
الواسطي في كتاب عيون الحكم والمواعظ )مصادر نهج البلغة.(2/18 ،
] [ 348
] [ 349
—–
الشرح والتفسير
ل الحسنى بعبارات ذكرنا سابقًا أن الخطبة واردة في صفات الجلل والجمال ،حيث أشارت إلى عدد من أسماء ا ّ
لخرى فقال قصيرة بعيدة المعنى ،فقد استهل الخطبة بذكر خمس صفات من صفاته التي توضح كل واحدة منها ا ُ
لمور ودلت عليه أعلم الظهور« وليس للعين من سبيل إلى رؤيته »وامتتع على ل الذي بطن) (1خفيات ا ُ »الحمد ّ
عين البصير« ومن هنا »فل عين من لم يره تنكره ول قلب من أثبته يبصره« .وقد أورد شّراح نهج البلغة عّدة
لمور« فقال البعض :بطن هنا بمعنى علم ،وقيل بطن هنا تفسيرات لقوله)عليه السلم( »الذي بطن خفيات ا ُ
ن التفسير الذي ذكرناه أنسب وهو أن
لأّل الذي خفيت به السرار ،إ ّ
بمعنى الخفاء; أي ا ّ
» .1بطن« من مادة »بطن« على وزن متن تستعمل للشياء الخفية ،ويقال بطنت المر بمعنى علمت ببواطنة وأسراره .ولما كان
داخل البطن خفي فقد استعملت هذه المفردة بشأن كل شيء خفي ،وباطن الشياء بمعنى داخلها ،وله معنى الفعل اللزم والمتعدي.
] [ 350
ن آياته ظاهرة جلية في كل مكان ،في السموات والنجوم أّما العبارة »دلت عليه أعلم الظهور« فتعني أ ّ
والمجرات والمنظومات وفي الرض في الصحارى والبحارى والجبال والنهار وعلى جبين كافة الكائنات الحية
في أوراق الشجار والبراعم والثمار وفي باطن الذرات والجزئيات .وبالطبع كلما تقدم العلم وكشفت السرار
لدلة واليات على قدرة الذات اللهية وعلمها المطلق .والعبارة الثالثة »وامتنع على عين البصير« تفيد ازدادت ا َ
ن المشاهدة الحسية إّنما تختص بالجسم والجسمانيات ذات تعذر رؤية جماله سبحانه على أحّد العيون ،وذلك ل ّ
الجهة والمكان ،بينما ذاته المطلقة ليست بجسم ول جسمانية وليس لها من جهة أو مكان ،بل هى مطلقة منزهة
خِبـيُر() .(1ولما سألف اْل َ
طـي ُ
لْبصاَر َوُهَو الّل ِ
كا َ
لْبصاُر َوُهَو ُيْدِر ُعن كل هذه العوارض والنقائص )ل ُتْدِرُكُه ا َ
ن َتراِني()(2
ظْر ِإَلْيك َ( الشهود الحسي ،خوطب )َل ْ ب َأِرِني َأْن ُ
موسى)عليه السلم( من جانب بني إسرائيل رّبه )َر ّ
ل التي دكت الجبل فصعق موسى ومن معه فلما أفاق قال ثم شاهد موسى)عليه السلم(قبسات من تجليات ا ّ
ن العاقل لن(والعبارة »فل عين من لم يره «...نتيجة طبيعة تشير إلى أ ّ ل اْلُمْؤِمِنـي َ
ت ِإَلْيك َ َوَأَنا َأ ّو ُ
سْبحاَنك َ ُتْب ُ
)ُ
سة بفعل وجود هذه الدلة واليات ،رغم تعذر المشاهدة الحسية ،أما المؤمنون با ّ
ل يسعه إنكار الذات اللهية المقد ّ
فل ينبغي لهم أن يعتقدوا بمشاهدته حتى قلبيًا ،وبالطبع يمكن رؤيته قلبًا كما ورد عنه)عليه السلم( »ل تدركه
ن هذه المشاهدة تتعلق بالسماء والصفات العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق اليمان«) ،(3غير أ ّ
ل عن عامة المخلوقات »ما عرفناك حق معرفتك« ثم ل فض ًل مشاهدة كنه الذات ،وهنا يصدح حتى أولياءا ّ
قال)عليه السلم(» :سبق في العلو فل شيء أعلى منه وقرب في الدنو فل شيء أقرب منه« ثم يخلص على)عليه
السلم(
] [ 351
إلى هذه النتيجة »فل استعلؤه) (1باعده عن شيىء من خلقه ول قربه ساواهم في المكان به« لعله يتصور بأ ّ
ن
هذه الصفات تناقض مع بعضها فكيف يكون الشي بعيدًا عاليًا وفى نفس الوقت قريبًا ملزمًا؟ كيف يكون بعيدًا في
ن اللتفات إلى القرب وقريبًا في البعد؟ نعم إذا كان المقياس هو المخلوقات التي من حولنا فهناك تناقض ،غير أ ّ
ن وجوده سبحانه لمنتاهي وغني ومطلق ل ،وهى أ ّ
هذه النقطة يزيل مثل هذا التناقض ويرشد إلى معرفة صفات ا ّ
من جميع الجهات ،وهو الوجود الذي ليشوبه أية محدودية من حيث الزمان والمكان والعلم والقدرة ،بل هو فوق
الزمان والمكان فهو في كل مكان وكل زمان وفى نفس الوقت ليس له مكان ول زمان .ومثل هذا الوجود قريب
ن كل شي متقوم بوجوده ،وهو من جميع الشياء وهو بعيد عنها جميعًا لّنه ل يشبهها ،هو أظهر من كل شي ،ل ّ
ابطن من كل شي لّنه ل يشبه المخلوقات والكائنات التي نعرفها ونألفها .وبناءا على هذا فالمراد بالعلو في العبارة
المذكورة فوقيته للوجود وعلوه عليه ل علوه في المكان ،والمراد بالقرب قربه في الحاطة الوجودية ل القرب في
ل علينا بفعل تعاملنا مع صفات الممكنات; المكان .وهنا لبّد من الذعان إلى أن فهم وإدراك هذه الصفات ليس سه ً
ل أّنه يمكن تقريبها إلى الذهان من خلل التأمل والستعانة ببعض المثلة وإن كانت ناقصة قاصرة .على سبيل إّ
المثال للرد على السؤال الذي يقول كيف يكون له وجود في كل مكان وزمان ول يحويه مكان وزمان ،يمكننا أن
ن ) (4 = 2 + 2فهى نستعين ببعض المثلة الناقصة من قبيل بعض المعادلت والقوانين الرياضية ،فكلنا نعلم بأ ّ
صادقة في كل زمان ومكان في السماء والرض ،وفى نفس الوقت ليس لها من زمان أو مكان .فقوله)عليه
السلم(» :فل استعلؤه باعده عن شي من خلقه ول قربه ساواهم في المكان به« نتيجة واضحة لتلك الحقيقة
ن أمواج الضوء ل أّنه مناسب ،في أ ّ المذكورة ،فقد قال بعض شّراح نهج البلغة بعد أن إستعانوا بمثال ناقص إ ّ
تنعكس على الزجاج وتنفذ إلى داخله فتضيئها ،وهى في نفس الوقت أقرب إليها من كل شي ،وهى ليست مثلها،
ض (2)(...ثم
لْر ِ ت َوا َ
سمـوا ِ
ل ُنوُر ال ّ
بل هى وجود لطيف وأعلى وأرفع ،ولعل هذا المعنى هو المراد بالية )ا ّ
] [ 352
أشار)عليه السلم( إلى صفة ُاخرى» :لم يطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته« فكنه
ن ذاته وصفاته ل متناهية ،فأنى لعقل النسان المتناهي والمحدود أن ذاته ليس واضح لحد ول حقيقة صفاته ،ل ّ
ن أثاره الوجودية التي تجلت في كافة الوجودات جعلت النسان يلم على يحيط باللمتناهي واللمحدود مع ذلك فا ّ
لأّ
ن ن الزمان حقيقة واقعة ،إ ّ سبيل الجمال بذاته وصفاته وإليك هذا المثال الناقص :كلنا نعلم بوجود الروح ،وا ّ
إدارك حقيقة الروح وا لزمان ليس بالمر إلهين .وكلنا نعرف الفارق بين الكائن الحي والميت ،ولكن ما كنه حقيقة
لمور لتفصيلي) (1ثم قال)عليه السلم(»فهو الحياة؟ يبدو فهم ذلك صعبًا ،بعبارة أخرى لنا علم إجمالي بهذه ا ُ
ل إّنما يجحدوه لسانًا بينما الذي تشهد له أعلم الوجود على إقرار قلب ذي الجحود) «(2الواقع أن جاحدي ا ّ
ن *...ل َفَأ ّنى ُيـْؤَفُكو َنا ّس َوالَقَمَر َلَيُقوُلـ ّ
شـْم َ خَر ال ّسـ ّض َو َلْر َت َوا َسمـوا ِ ق ال ّ خَل َ
ن َ
سَأْلَتُهْم َم ْ
ن َيقرون به قلبًا )َوَلِئ ْ
ل َأْكَثـُرُهْم ل
ل َب ْحِمُد ِّ
ل ال َل ُق ِ نا ّ ن َبْعِد َمْوِتـها َلـَيُقوُل ّ
ض ِم ْ
لْر َ حيا ِبِه ا َ
سماِء ماًء َفَأ ْن ال ّل ِم َ ن َنـّز َ سَأْلَتُهْم َم ْ
ن َ
َوَلِئ ْ
ل وكل شي يهتف باسمه ويتقوم بوجوده .ثم إختتم)عليه السلم(كلمه ن() .(3كيف يمكن إنكار وجود ا َّيْعِقُلو َ
ل بعباده
ل عما يقول المشبهون به والجاحدون له علوًا كبيرًا« والمشبهة على نوعين :من يشبه ا ّ بالقول »تعالى ا ّ
ل.
ل من ا ّفيرى له جسمًا ويدًا ورجل ،والخر من يشبه الخرين به فيرى له شريكًا وشبيهًا فيعبده ويسجد له بد ً
وقد ذهب بعض الشّراح إلى المعنى الول هو المراد من العبارة ،في حين ذهب البعض الخر إلى المعنى الثاني،
ويبدو المعنى الثاني أصح إستنادًا لقوله »المشبهون به« وان كانت الطائفتان على خطأ ،لّنه ليشتمل على صفات
المخلوقين بحيث تتخلل الحوادث ذاته المقدسة ،ول يمكن لمخلوق أن يشمل مكانه لّنه ل يتحلى بأي من صفاته.
ل وصفاته :الولى
لقد تضمنت الخطبة بعض الشارات إلى عّدة جوانب في مجال أسماء ا ّ
.1للوقوف على المزيد بهذا لشأن راجع المجلد الول من الشرح ،الخطبة الولى.
» .2جحود« و »جحد« بمعنى النكار الممزوج بالعلم ـ وقال الراغب في المفردات تعني نفي ما ثبت في القلب ،أو إثبات ما نفاه القلب
ـ وعليه ففي مفهوم الجحود نوع من التعصب والعداء الخفي ضد الحق.
] [ 353
ل في نفس ظهور وجوده في جميع عالم الوجود بحيث ل يستطيع أحد أن ينكر وجوده ،بينما ل خفاء وكنه ذات ا ّ
يستطيع أيضًا الحاطة بكنه ذاته المطهرة .وهذا في الواقع أحد الثار اللمتناهية لوجوده المطلق ،حيث كلما
خطونا خطوة نحو معرفة ذاته تقهقرنا خطوات عن درك كنه هذه الذات ،وكلما حلقنا في سماء معرفة صفاته
إحترقت أجنحتنا وسقطنا في عالم الجهل وعلى قول ابن أبي الحديد في شعره:
ل إلّ أ ّ
ن ن آثاره قد تجلت في كافة دقائق عالم الوجود ،بحيث ل يسع من يلمس هذه الثار أينما ح ّ
وبالمقابل فا ّ
يزمزم مع نفسه بدعاء المام الحسين)عليه السلم( في عرفة »متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى
بعدت حتى تكون الثار هى التي توصل إليك ،أو يكون لغيرك من الوجود ما ليس لك ،عميت عين ل تراك عليها
رقيبًا وخسرت صفقة عبد لم تجعل لها من حبك نصيبًا«.
ل وبعده إلى جانب قربه وبعده منا ،وأّنه أبعد ما يكون عنا في غاية قربه ،وأقرب ماوالثانية الحديث عن قرب ا ّ
يكون في غاية بعده ،وهذا المر هو الخر من آثار ذاته المطلقه اللمتناهية ،وذلك لن مثل هذه الذات في كل
ل كانت محدودة .والثالثة نفي صفات المخلوقات والشبه عن ذاته المقدسة ،وهذا مكان ول يخلو منها مكان ،وإ ّ
ن جميع المخلوقات محدودة ناقصة ،وجودها متناهي وصفاتها مشوبة بالنقص أيضًا من آثار الذات اللمتناهية ،ل ّ
والعدم ،فاذا شبهناه بأحد مخلوقاته وقلنا بالشريك والشبيه وتصورنا له صفات المخلوقين نكون قد أخرجناه من
لمور في الخطبحالة اللتناهي وكونه واجب الوجود وجعلناه في عداد الممكنات المحدودة وسنتعرض إلى هذه ا ُ
ل.
القادمة إن شاء ا ّ
.1وردت هذه الشعار في حواشي »شرح الباب الحادي عشر« في الصفحة الولى من قول إبن أبي الحديد.
] [ 354
] [ 355
الخطبة)50 (1
أشار المام)عليه السلم( في هذه الخطبة إلى أهم عوامل فساد المجتمعات البشرية ولسيما النحراف الذي
ل)صلى ال عليه وآله( ،ثم بين)عليه السلم(كيف تخلط الشياطين الحق عصف بالمجتمع السلمي بعد رسول ا ّ
بالباطل وتزينه للنسان .فلو طرح الحق كما هو لغلقت طرق نفوذ الشياطين ،كما لو عرض الباطل على هيئته
سون السم المهلك
لما قبله أحد ،ومن هنا فان الشياطين تخلط الحق بالباطل لغواء الناس وإضللهم .نعم فهؤلء يد ّ
في كل طعام لذيذ ليحثوا المغّنلين على تناوله .فهم يخفون الباطل في الحق دائما ليضلوا الناس عن طريق ذلك.
—–
.1سند الخطبة :نقل هذه الخطبة عدد ممن عاش قبل السيد الرضي )ره( ،كالمرحوم الكليني في الكافي في باب البدع والرأي
والمقاييس ) (54 / 1وأحمدبن محمدبن خالد البرقي في كتاب المحاسن ) (208 / 1واليعقوبي في تأريخه ) (136 / 2وابوجبان
التوحيدي في البصائر والذخائر ،32 /وأخرون ممن عاشوا بعد الرضي ول حاجة لذكرهم .مصادر نهج البلغة .19 / 2
] [ 356
] [ 357
غْيرِ
عَلى َ عَلْيها ِرجاٌل ِرجاًل َ لَ ،وَيَتَوّلى َ با ّ ف ِفيها ِكتا ُ عُ ،يخاَل ُ حكاٌم ُتْبَتَد ُ ن َأْهواٌء ُتّتَبُع َوَأ ْع اْلِفَت ِ
»ِإّنما َبْدُء ُوُقو ِ
طِل
س اْلبا ِ
ن َلْب ِ
ص ِم ْخَل َ ق َحّ ن اْل َ
نَ ،وَلْو َأ ّعَلى اْلُمْرتاِدي َف َخ َ ق َلْم َي ْ
حّ ج اْل َن ِمزا ِ خَلصَ ِم ْ طَل َ ن اْلبا ِ لَ ،فَلْو َأ ّ
نا ّ ِدي ِ
شْيطا ُ
ن سَتْوِلي ال ّك َي ْ
ن َفُهناِل َث َفُيْمَزجا ِ ن َهذا ضِْغ ٌ ث َوِم ْضْغ ٌ
ن َهذا ِ خُذ ِم ْ ن ُيْؤ َ نَ ،وَلِك ْن اْلُمعاِنِدي َسُعْنُه َأْل ُت َطَع ْاْنَق َ
سنى«. ح ْل اْل ُنا ّ ت َلُهْم ِم َ سَبَق ْن َ جو »اّلِذي َ عَلى َأْوِلياِئِهَ ،وَيْن َُ
—–
الشرح والتفسير
هناك كلم بين المفسرين والشّراح بشأن زمان الخطبة والظروف التي رافقتها ،فيرى البعض أّنه خطبها بعد ستة
ن الخطبة تنسجم والحتمالين; أي أن أّيام من خلفته ،بينما يرى البعض الخر أّنه خطبها بعد التحكيم ،وبالطبع فا ّ
تكون الخطبة في بداية الخلفة أو بعد التحكيم .فقد إستهل المام)عليه السلم( الخطبة بالشارة إلى سبب ظهور
ل)صلى ال عليه وآله( وبعض الحوادث كالجمل الفتن في المجتمعات السلمية التي تشمل ما بعد وفاة رسول ا ّ
ل« .نعم أساس وصفين والنهروان فقال» :إّنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع) (1يخالف فيها كتاب ا ّ
ن الفتن ستقبر
ل والسنة ،فمما ل شك فيه أ ّالفتن أمرين :اتباع أهواء النفس والحكام الموضوعة المخالفة لكتاب ا ّ
لو كانت التعاليم السلمية والحكام القرآنية هى السائدة وحفظت هذه القوانين والحكام ومنعت البدع وابتعد عن
ن هذه القوانين تهدف بسط العدل والقسط وتضمن حقوق الناس الهواء في إجراء الحكام الشرعية; وذلك ل ّ
وتعين وظائفهم .فالفتنة تفرزها
ل والسنة النبوية.
» .1تبتدع« من مادة »بدعة« بمعنى حديثة الظهور ،وتستعمل بشأن الحكام المخالفة لكتاب ا ّ
] [ 358
الهواء وتحريف القوانين لصالح الطماح الشخصية وغياب العدل وتضييع الوظائف والقبال على البدع.
فاصحاب الفتن يلجأون تارة إلى التحريف والتفسير الخاطئ لشباع أهوائهم ورغباتهم ،وإذا تطلب المر وضع
ن الهواء والرغبات لأّن تلك البدع تفرزها الهواء ،إ ّ
بعض الحكام الجديدة ،أقبلوا على البدع ،صحيح أ ّ
ل عن الشيطانية قد تتبلور أحيانًا كتفسير وإجراء للحكام الشريعة وُاخرى كبدع واحكام موضوعة ،ومن هنا فص ً
بعضها في كلم المام)عليه السلم( .على سبيل المثال يمكن الشارة هنا إلى فتنة بني أمية التي تعد من أكبر
الفتن التي شهدها السلم فقد إستولى معاوية بواسطة المكر والخداع على الحكومة ثم ابتدع توريثها في ولده،
ن زياد ابن أبي سفيان وأخذ البيعة ليزيد في حياته ،وسن سب أميَرالمؤمنين علي)عليه السلم( من على وادعى أ ّ
ل على غير دين المنابر ثم اتهمه بقتل عثمان وطالب بدمه (1).ثم قال)عليه السلم( »ويتولى) (2عليها رجال رجا ً
ل« ثم أشار في العبارة اللحقة إلى وسائل هذا العمل ،التي استغلت من قبل الجناة والطواغيت طيلة التأريخ حتى ا ّ
ن الباطل خلص من أصبحت سنة ،وهى أّنهم يمزجون الحق بالباطل من أجل تحقيق أطماعهم وأغراضهم »فلو أ ّ
ن الحق خلص من لبس الباطل إنقطعت عنه السن المعاندين« فما مزاج الحق لم يحف على المرتادين) ،(3ولو أ ّ
أروع هذه العبارة ،لو خلص الباطل من مزاج الحق لما كان هناك من يتبعه ،ولو خلص الحق من لبس الباطل
ن منافعهم كامنة لخرست ألسن المتخرصين ،ولذلك فمن البديهي أل يحل الحق الخالص مشاكل عبدة الهواء ،ل ّ
ن الناس ل يقفوف إلى جانبهم ،وهنا يتجهون صوب خلط في الباطل ،ول الباطل الخالص يحقق لهم أغراضهم ،ل ّ
الحق بالباطل; المر الذي يجسد كافة السياسات المخربة في العالم .ثم قال المام)عليه السلم(بهذا الشأن »ولكن
سَبَق ْ
ت ن َ
يؤخذ من هذا ضغث)(4ومن هذا ضغث فيمز جان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ،وينجو )اّلِذي َ
» .2يتولى« من مادة »تولى« بمعنى التباع .وتأتي أحيانا بمعنى القتراب والسيطرة على المقام والمنصب إل أن المراد هنا المعنى
الول.
» .3مرتادين« من مادة »ارتياد« ،الطالبين للحقيقة.
» .4ضغث« على وزن حرص قبضة من حشيش مختلط فيها الرطب باليابس ،كما يطلق الضغث على الحلم المزعجة ،وقد وردت
في العبارة بمعنى بعض من الشيء.
] [ 359
ن خلط الحق والباطل ل يمنع من معرفة الباطل وان تطلب ذلك قدرا من البحث سنى( .فالعبارة تفيد أ ّ
حَْلُهْم ِمّنا ال ُ
ل،
ن خلط الحق بالباطل ليؤثر في أولياءا ّوالتحري والرجوع إلى الخرين ،ومن هنا قال المام)عليه السلم( بأ ّ
ن مزج الحق بالباطل بمثابة الضوءبينما يؤثر على أولياء الشيطان فيقودهم إلى الغواية والظلل .فالواقع هو أ ّ
الخضر لعبدة الهواء وذريعة لتباع الشيطان لخداع أنفسهم فيستدلوا على الخرين بأنا سلكنا هذا لطريق لنا
إعتمدنا الدليل الفلني )الذي يمثل الحق الممزوج بالباطل( .نعم يمكن أن يقع بعض المستضعفين الفكريين والسذج
ل في حبائل الشيطان ،والحال لو كان لهم زعيم ومرشد لما شهدوا مثل هذا المصير وعليه فالمة إزاء مزج جه ً
الحق بالبطل على ثلثة طوائف:
تأّملت
ن التأريخ السلمي ول سيما إبان القرن الول والثاني ملي بالفتن الغريبة والليمة التي كادت تقضي على جهود
إّ
النبي)صلى ال عليه وآله( وصحبه الميامين ،ولو ل تلك الفتن التي عصفت بالسلم لما
] [ 360
كنا نعيش مثل هذا العالم ،والنكى من ذلك الفتن التي وقعت بعد خمس وعشرين سنة من رحيل النبي)صلى ال
عليه وآله( حين وصلت الخلفة عام 35هـ فاستهدفت تلك الفتن إعادة السلم إلى الجاهلية; أّما السنوات الخيرة
لخلفة عثمان فقد شهدت غياب جميع القيم والمثل السلمية ،في حين تجددت سنن الجاهلية وأعرافها المقيتة
وانبرت طلئع الشرك والنفاق للتسلم مواقعًا حساسة في الحكومة; المر الذي كان يعقد وظيفة المام)عليه
ن المام)عليه السلم(تمكن بجهاده المرير أن يحيى القيم والمثل السلمية ،ولكن المؤسف أ ّ
ن السلم( .صحيح أ ّ
الفتن لم تسكن حتى أدت في خاتمة المطاف إلى قتل المام)عليه السلم( في محرابه من قبل تلك الطغمة الضالة.
ثم إتسع حجم هذه الفتن على عهد معاوية ويزيد وسائر الشجرة الموية الخبيثة ،فقد سفكت الدماء ،واستفلحت
البدع ،وسادت الهواء ،لتبلغ ذروتها على عهد بني العباس حتى مثل السلم وجفت عروقه .فلو نظرنا إلى هذه
الفتن لوقفنا على عمق خطبة المام)عليه السلم(التي حصرت أساس الفتن في أمرين إتباع الهوى والبدع في دين
ل; المران الذان يشاهدان في كل مكان ،فقد تمسكت طائفة من أصحاب الفتن بالمر الول بينما لذت طائفة ا ّ
ُاخرى بالمر الثاني .ول نرى البحث يسع الخوض في هذه التفاصيل ونوكلها إلى مكان آخر.
ن مبادئ السياسة الستبدادية تقريبًا متكافئة طيلة التأريخ .فقد إعتمد فرعون قبل ألف سنة ـ من عجائب الدهر أ ّ
شـَيعًا() (1وما زال هذا
ل َأْهَلها ِ
جـَع َ
ض َو َ
لْر ِ
عل ِفي ا َ
ن َ
عْو َ
ن ِفْر َ
على ضوء المنطق القرآني ـ سياسة فرق تسد )ِإ ّ
المبدأ باق على قوته في كافة نقاط العالم الستكباري ،فالحكومات تلجأ إلى أقذر الوسائل من أجل تفرقة الصفوف.
ولما كانت السياسة الشيطانية آخذة في التعقيد في عصرنا الراهن أكثر من سائر العصور ،فقد تعقد تبعًا لذلك مزج
الحق بالباطل ،حيث يمزج بعض الساسة الحق بالباطل بالشكل الذي يصعب تمييزه على الناس ،وأدنى ذلك خداع
الرأي العام ببعض العناوين كحقوق النسان والرفق
] [ 361
بالحيوان ويوم العامل وأطباء بل حدود ومنظمة العفو الدولية وتأسيس المراكز الخيرية وإعانة المحرومين ومنح
حق اللجوء السياسي لعدد من النازحين ،فهم يتحدثون عنها بالشكل الذي قد يسيل له لعاب حتى بعض اليقظين
والواعين .وناهيك عن كل ما سبق فالحكومات الستكبارية تتشدق بالديمقراطية وضرورة الرجوع إلى آراء
لمور خلفًا لمصالحها اللمشروعة عمدت إلى النقلب أو أثارة الفتن; المر الذي الشعب فاذا تّم ذلك وجرت ا ُ
لمسناه بوضوح في التجربة الجزائرية ،فابقوا على تلك الحكومة التي فشلت في تلك التجربة لّنها تضمن
مصالحها .بينما تغض النظر عن الحكومات التي تعيش عقلية القرون الوسطى وتمد لها يد العون والمساعدة لنها
تحفظ مصالحها.
ن أصحاب
نعم هذه هى حقيقة عالم السياسة والتي يتضح منها عمق كلم المام)عليه السلم( في هذه الخطبة في أ ّ
الفتن إّنما يمزجون الحق بالباطل لخداع عوام الناس.
—–
] [ 362
] [ 363
الخطبة)51 (1
لما غلب أصحاب معاوية أصحابه)عليه السلم( على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم الماء.
.1لقد نقل هذه الخطبة »نصر بن مزاحم« في كتاب صفين عن جابر عن أمير المؤمنين علي)عليه السلم( )مع بعض الفوارق
الطفيفة( )مصادر نهج البلغة .(20 / 2
] [ 364
الماء فإّنهم لن يعطشوا وأنت ريان .بينما كان معاوية يرجح الرأي القائل بمنع جيش المام علي)عليه السلم( من
الماء .فمكث أصحاب المام)عليه السلم( بغير ماء فاغتم)عليه السلم( فألقى هذه الخطبة التي تفيض عذوبة
وفصاحة وبلغة ،شاحذًا همم أصحابه فكشفوا أصحاب معاوية عن الماء.
—–
] [ 365
ت ِفي
ن اْلماِء فاْلَمْو ُن الّدماِء َتْرَوْوا ِم َف ِم َسُيو َ حّلة َأْو َرّووا ال ّخيِر َم َعَلى َمَذّلة َوَتْأ ِ
طَعُموُكُم اْلِقتاَل َفَأِقّروا َسَت ْ
»َقِد ا ْ
حّتى
خَبَرَ ،عَلْيِهُم اْل َ
س َ
عّم َ ن اْلُغواِة َو َ
ن ُمعاِوَيَة قاَد ُلَمًة ِم َ
نَ .أل َوِإ ّحياُة ِفي َمْوِتُكْم قاِهِري َن َواْل َحياِتُكْم َمْقُهوِري ََ
ض اْلَمِنّيِة«.
غرا َ حوَرُهْم َأ ْجَعُلوا ُن ُ
َ
—–
الشرح والتفسير
نعم ما زالت هذه العبارات ـ ورغم تقادم الزمان عليها ـ تقرع أسماع الجميع وتلهمهم الصمود والتصدي للعداد
إذا ما شكلوا خطرًا على عزتهم وشرفهم .فقد استهل المام)عليه السلم(خطبته بالقول» :قد استطعموكم القتال«.
ن الحربوهى كلمة مجازية تعني :طلبوا القتال منكم ،وهى تستعمل حيث يطلب أحدهم الطعام من آخر ،وكأ ّ
والقتال طعام يطلبونه من أصحاب المام)عليه السلم( .وما أشبه هذا الكلم بما تتناقله ألسنة عوام الناس في
حياتهم اليومية من قبيل تعبيرهم »هذا الفرد يحكه جلده« في إشارة واضحة إلى أّنه يأتي بالفعال التي ستؤدي إلى
ن هذا أبلغ تعبير أورده المام)عليه السلم( بشأن منع أهل الشام للماء عن أصحابه)عليه السلم(.ضربه .والحق أ ّ
ثم يواصل المام)عليه السلم( خطبته بأن ليس أمامكم سوى سبيلين ل ثالث لهما تجاه
] [ 366
خسة هذا العمل الذي ارتكبه أهل الشام; فإّما السلة وإّما الذلة »فأقروا على مذلة وتأخير محلة) (1أو رووا)(2
السيوف من الدماء ترووا من الماء«.
أجل لم يكن لهم من سبيل ثالث ،فلو وهنوا أمام العدو وغلب عليهم العطش بحيث أمات رهطًا من جندهم لكان
ل أّنهم حين نهضوا بالمر وحملوا
ذلك وصمة عار في جبينهم ولفقدوا مكانتهم ومنزلتهم لدى العدو والصديق ،إ ّ
على العدو قد حظوا بمكانتهم ومنزلتهم لدى العدو والصديق ،كما كشفوا عن مروءتهم وعظمة خلقهم حين لبوا
طلب مولهم بالبقاء على شريعة الماء مفتوحة بوجه جيش الشام; المر الذي جعل جيش معاوية يشعر بخسة
عمله ،وهذا ما أدى بدوره إلى ارتفاع معنويات أصحاب المام علي)عليه السلم(وضعف روحية جيش الشام في
معركة صفين ول سيما في أوائل تلك المعركة حين شهدت هذه الواقعة.
ثم يشير المام)عليه السلم( إلى مفهوم كلي ودائمي على أّنه السر في انتصار وعزة ورفعة كل ُاّمة ،فيخاطب
ل» :فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين«. جنده قائ ً
نعم ليس هناك من قيمة لهذه الحياة المادية في قاموس الفراد الصالحين،كما ل يعتبر الموت مناهضًا لهذه القيمة،
بل القيمة في نظر الحرار إّنما تكمن في الحياة التي تسودها العزة والكرامة ،ولذلك تراهم يؤثرون الموت مع
العزة على الحياة مع الذلة ،وهذا هو السر في انتصار الفئة السلمية القليلة في عصر النبي)صلى ال عليه وآله(
ـ وما تله من عصور ـ على الفئة الضالة الكثيرة العدد والعدة .أجل فالعزة في المجتمع السلمي مقدمة على كل
ما سواها; ول يتوانى مثل هذا المجتمع في التضحية بالغالي والنفيس من أجل تحققها .وهذا المعنى قد تجلى
بأروع صورة في كلمات شبل علي)عليه السلم( المام الحسين)عليه السلم( في حادثة كربلء الدموية ،فقد
كان)عليه السلم( ل ينفك ينادي» :ل وال ل ُأعطيكم بيدي إعطاء الذليل ول ُأقر لكم إقرار العبيد«) .(3ثم رد
على الحر بن يزيد الرياحي ـ بعد أن جعجع بالحسين)عليه السلم( في طريقه إلى كربلء وسقاهم الحسين)عليه
السلم( بعظمته المعروفة الماء
» .2رووا« من مادة »التروية« بمعنى الرتواء من الماء ،ولهذا يصطلح على اليوم الثامن من شهر ذي الحجة بـ »يوم التروية«
حيث كان الحجيج في السابق يتزودون بالماء حين الذهاب إلى عرفة ومنى والمشعر الحرام ،كما قد تستعمل هذه المفردة ويراد بها
المعنى الكنائي كإرواء السيوف الذي ورد في هذه الخطبة.
] [ 367
ل أن تعيش وترغما)(1
فان عشت لم أندم وان مت لم ُألم *** كفى بك ذ ً
ص ِبُكْم
ن َنَتَرّبـ ُ
حُن َوَن ْ
سَنـَيْي ِ
حْحدى ال ُ
ل ِإ ْ
ن ِبنا ِإ ّ
صو َل َتَرّبـ ُ ل َه ْ ول غرو فهذا هو المعنى الذي أكده القرآن الكريم )ُق ْ
ن().(2 صو َ صوا ِإّنا َمَعُكْم ُمُتَرّبـ ُعْنِدِه َأْو ِبَأْيِدينا َفَتَرّبـ ُ
ن ِ
ل ِبَعذاب ِم ْ
صـيَبُكُم ا ّ
ن ُيـ ِ
َأ ْ
ثم يشير أمير المؤمنين)عليه السلم( في خطبته إلى مكر معاوية وسذاجة أهل الشام .الذين انطلقت عليه ألعيب
معاوية وحيله فقال)عليه السلم(» :أل وإن معاوية قاد لمة من الغواة وعمس عليهم الخبر ،حتى جعلوا نحورهم
أغراض المنية«).(3
فالمام)عليه السلم( يصور في هذه العبارات حكومة معاوية التي تستند إلى الحيلة والمكر والخداع واستغفال
السذج من الناس ،إلى جانب تصويره إلى أهل الشام الذين بلغوا حدًا من الضلل والغواية ما جعلهم يضحون
ل من أجل تحقيق مآرب معاوية وأهدافه المشؤومة.
بأنفسهم باط ً
ولعل العبارة الوارة في الخطبة تمثل إجابة على السؤال الذي قد يتبادر إلى أذهان أصحاب المام)عليه السلم(
عن علة دفاع أهل الشام عن مطامع معاوية إلى حد الستماتة .فالمام)عليه السلم(يكشف النقاب عن هذه الحقيقة
وهى أن مكر معاوية في تزوير الواقع من جانب وجهل أهل الشام وغفلتهم من جانب آخر قد جعلتهم يظنون بأّنهم
يقاتلون في سبيل ال ونيل الشهادة .نعم لقد كان للدعاية الواسعة والساليب النفسية التي إعتمدها معاوية وعمرو
ن عثمان قد قتل مظلومًا وإن قاتله
ن البعض منهم أيقن بأ ّ
بن العاص بالغ الثر في صفوف أهل الشام إلى درجة أ ّ
هو المام علي)عليه السلم(.
» .3لمه« من مادة »لمى يلمو لموا« بمعنى أخذ الشيء بأكمله و)لمه( بضم اللم وفتح الميم بدون التشديد« بمعنى الجماعة القليلة،
)غواة( جمع غاوي بمعنى الضال ،والعمس بمعنى محو الثر وعدم العلم بالشيء ،ومن هنا أطلق العميس على الظلم الدامس ،فيقال
ليل عماس; أي مظلم.
] [ 368
وقد نهض معاوية للطلب بدمه إلى جانب الدفاع عن القرآن والسلم وخلفة رسول ال)صلى ال عليه وآله(،
وعليه فليس القتل في هذا السبيل سوى الجّنة والشهادة التي يتعطش إليها كل مسلم غيور!
طبعًا حبل الكذب والخداع مهما طال قصير ول يمكن للشمس أن تحجبها الغربان وسرعان ما تتضح الحقائق،
ل بعد انجلء الغبرة وإزهاق الرواح ولت حين مناص.ن ذلك ل يكون إ ّ
غير أ ّ
تأّملت
تتميز المدرسة السلمية عن سائر المدارس والمذاهب بمبادئها وركائزها الحيوية الصيلة ،ومنها المبدأ الذي
ورد في الخطبة المذكورة والذي يكمن في ترجيح الموت الشريف على الحياة الوضيعة ،وبعبارة ُاخرى ففي
الوقت الذي تحذر فيه المدرسة السلمية عن ممارسة الظلم والجور فانها تؤكد على عدم الركون إلى الظلمة
والستسلم للطواغيت ،وقد تجسد هذا المعنى في رجالت السلم الذين استحقوا بحق لقب »ُأباة الضيم«).(1
ن().(2
سوِلِه َوِلْلُمـْؤِمِنـي َ
ل الِعّزُة َوِلَر ُ
والواقع أن القرآن هو الذي أكد هذا المبدأ )َو ِّ
ن ال وكذلك تظافرت روايات أهل البيت)عليهم السلم( بهذا المر ،فقد قال المام الصادق)عليه السلم(» :إ ّ
تبارك وتعالى فوض إلى المؤمن كل شيء إل إذلل نفسه«) .(3وقال المام الحسين)عليه السلم(» :موت في عزّ
ل«) ،(4كما قال)عليه السلم(» :أل وإن الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلة والذلة وهيهات خير من حياة في ذ ّ
له ذلك ،هيهات مّني الذلة أبي ال ذلك ورسوله والمؤمنون وجدود طهرت وحجور طابت أن تؤثر طاعة اللئام
على مصارع الكرام«).(5
» .1أباة« جمع أبي بمعنى الرفض والمتناع والضيم بمعنى الظلم ،وهو ما يطلق على أولئك الذين ل يستسلمون للظلم والجور.
] [ 369
وأورد ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلغة» :سيد أهل الباء الذي عّلم الناس الحمية والموت تحت ظلل
السيوف اختيارًا له على الدنية أبو عبدال الحسين بن علي بن أبي طالب)عليه السلم( عرض عليه المان
وأصحابه فأنف من الُذل«.
ثم تطرق إلى كلماته الحماسية في يوم عاشوراء »أل وان الدعي ابن الدعي «...وأّنها على غرار ما أورده أمير
ن امرء يمكن عدوه من نفسه ،يعرق لحمه ،ويفري المؤمنين علي)عليه السلم( في خطبته المعروفة ـ 34ـ »إ ّ
جلده ،ويهشتم عظمه ،لعظيم عجزه ،ضعيف ما ضمت عليه صدره ،فأما أنا فدون أن أعطى ذلك ضرب
بالمشرفية «...قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد :ويحك! أقتلتم ذرية رسول ال)صلى ال عليه وآله(؟!
فقال :عضضت بالجندل; إّنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ،ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها
ل ،وتلقي أنفسها على الموت; ل تقبل المان ،ول ترغب في المال، كالسود الضارية تحطم الفرسان يمينًا وشما ً
ول يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنية ،أو الستيلء على الملك; فلو كففنا عنها رويدًا لتت على
نفوس العسكر بحذافيرها; فما كّنا فاعلين ل أم لك)!(1
كما كانت أجهزة الدعاية الفرعونية تصور موسى وهارون)عليهما السلم( ممن يسعى للسيطرة على مصر
وإشاعة الفساد فيها ،في حين تصف فرعون بالمدافع عن هذه الرض وعزة واستقلل أهلها ،فيخاطب الُّمة
حِرِهما() .(1ومازال هذا هو المنطق الغاشم الذي
سْضُكْم ِب ِ
ن َأْر ِ
خِرجاُكْم ِم ْ
ن ُي ْ
ن َأ ْ
ن ُيِريدا ِ
حرا ِ
ن َلسا ِ
ن هـذا ِ
لِ) :إ ْ
قائ ً
يمارسه الظلمة على مر العصور والدهور.
ن عمرو بن العاص قال لمعاوية لما ملك أهل العراق :ما ظنك يا معاوية بالقوم إن
قال نصر ـ في كتاب صفين ـ إ ّ
منعوك اليوم الماء كما منعتهم أمس؟ أتراك تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه؟ ما أغنى عنك أن تكشف لهم
السوءة .ويبدو أن عمرو كان بصدد تقريع معاوية ولومه على عدم قبول إقتراح ابن العاص بعدم منع أهل العراق
من الماء .فقال معاوية :دع عنك ما مضى ،فما ظنك بعلي؟ قال :ظني أنه ل يستحل منك ما استحللت منه ،وأن
الذي جاء له غير الماء .فهو يعلم بخلق علي)عليه السلم( وليس لغلق شريعة الفرات من انسجام وذلك الخلق).
(2
وهذا هو الخلق الذي ورثه ابنه الحسين)عليه السلم( الذي سقى الحر بن يزيد الرياحي وجنده الماء في تلك
الصحراء القافرة بينما كان خلق أعدائه أن ذبحوه عطشانًا إلى جانب شط الفرات ،وليتهم اكتفوا بذلك فقد منعوا
الماء حتى عن رضيعه.
ملكنا فكان العفو مناسجية *** فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكل إناء بالذي فيه ينضح
—–
] [ 371
الخطبة)52 (1
—–
ل الحمد
ل أكبر و ّ
ل وا ّ
ل أكبر ل اله إلّ ا ّ
ل أكبر ا ّ
ن المام)عليه السلم( خطبها في عيد الضحى وبدايتها )ا ّ
.1سند الخطبة :روي أ ّ
ل على ما هدانا(...ورواها المرحوم الصدوق )ره( في كتابه من ل يحضره الفقية 229 / 1والشيخ الطوسي )ره( في كتاب الحمد ّ
ن علياً)عليه السلم( خطب الناس في الضحى وقد أورد المصباح 261 /وقال :نقل أبومخنف عن عبدالرحمن بن جندب عن أبيه أ ّ
السيد الرضي )ره( بعضها في نهج البلغة ،كما روى الشيخ المفيد قسما منها في المجلس العشرين من المالي .مصادر نهج البلغة
22 / 2وقد مضى شبيه هذا المضمون في الخطبة .28
] [ 372
] [ 373
القسم الول
الشرح والتفسير
لقد تواترت خطبه)عليه السلم( في نهج البلغة التي توصي بالزهد في الدنيا وعدم الغترار بها والتزود منها
إلى الدار الخرة ،إلى جانب التحذير من مخاطرها وأّنها متقلبة سريعة الزوال،
رغم أن النسان يطمح بالحياة مادامه في الدنيا ولبد أن يعيش بعزة ورفعة ويصّرف شؤون حياته المادية دون
ن النسان لبّد أن يتأهب فيها إلى السفر الشاق الذي ينتظره ،ومن هنا ورد التأكيد في هذا
التبعية للخرين وأ ّ
الخطبة على الزهد في عشر عبارات رائعة في الدقة والمعنى ،فقال في العبارة الولى» :أل وإن الدنيا قد
تصرمت (1)،وآذنت) (2بانقضاء« فالعبارة قد تكون إشارة إلى عمر الدنيا اليل للنقطاع والنتهاء ،ومن هنا
يسمى زماننا آخرالزمان ،أو إشارة إلى الحياة الدنيا لكل فرد من الفراد في كل عصر وزمان في أّنه قصير سريع
ن عمر النسان من القصر في هذه الحياة الدنيا وكأّنه يخاطب الزوال ،والمعنى الخير أنسب .فمفهوم العبارة هو أ ّ
بالستعداد للرحيل منذ ولدته .فقوله)عليه السلم(»:أل وإن الدنيا قد تصرمت« يتناول باطن الدنيا ،بينما تناول
ن الدنيا فانية ذاتا،
قوله)عليه السلم(» :وآذنت بانقضاء« ظاهرها ،وبعبارة أخرى فا ّ
» .1تصرمت« من مادة »صرم« بمعنى انقطعت وفنيت ،ومن هنا يطلق الصارم على السيف القاطع ،وتصرم الدنيا يعني انقطاع
أجلها.
] [ 374
هى الدنيا تقول بمل فيها *** حذار حذار من بطشي وفتكي
ثم قال)عليه السلم(» :وتنكر معروفها وأدبرت حذاء«) (1كيف ل وغضاضة الشباب وطراوة الفتوة ونظارة
الوجه آيلة إلى الكهولة والعجز والشحوب ،ثم وصف الدنيا)عليه السلم( بقوله» :فهى تحفز)(2بالفناء سكانها
وتحدوا بالموت جيرانها« فالعبارة تفيد حركة النسان نحو أجله ومصيره المحتوم شاء ذلك أم أبي .والحدي
الصوت الذي يردد لتعجيل حركة الناقة ،فما أروع هذا التعبير الذي يفيد توفر جميع العوامل التي تدعو النسان
ن محل سكن لحث الخطى والسرعة في الحركة إلى الزوال والفناء .أّما التعبير بالجيران بعد السكان فكأّنه يفيد أ ّ
النسان ليس في هذا العالم ،فهو جاره وليس بصاحبه ،أي أّنه مفارقه لمحالة! ثم قال)عليه السلم(» :وقد أمر)(3
منها ما كان حلوا وكدر منها ما كان صفوا« .فما أسرع نهاية مرحلة الطفولة والشباب الحلوة العذبة لتستبدل
بمرارة الشيخوخة والكهولة فيعد الستقرار إضطرابًا والحصة سقمًا والراحة تعبًا ،وقيل في تفسير هذه العبارة
إّنها إشارة إلى اختلف ظاهر الدنيا وباطنها ،فظاهرها حلو وباطنها مّر ،ظاهرها عذب وباطنها علقم ،غير أن
ن التفسير الول أنسب .ثم يختتم)عليه السلم(حديثه عن الدنيا بالقول »فلم يبق التمعن في العبارات السابقة يفيد أ ّ
منها السملة كسملة) (4الداوة)(5أو جرعة كجرعة المقلة لو تمززها) (6الصديان لم ينقع« فالعبارة إشارة إلى
حياة كل فرد من
» .1حذاء« من مادة »حذ« على وزن حظ بمعنى السريعة الذهاب ،ومن هنا يطلق الحذاء على الدابة السريعة ،والمراد هنا سرعة
أجل الدنيا.
» .2تحفز« من مادة »حفز« على وزن حبس بمعنى تعجلهم وتسوقهم ،وقد ورد في الحديث الشريف أن حفز الموت من علمات
القيامة .قيل وما حفز الموت .قال)صلى ال عليه وآله( :موت الفجأة )لسان العرب(.
» .3مر« على وزن »شر« بمعنى المضي والعبور ومر على وزن حر ضد الحلو ،وأمر« من مادة »ُمر« بمعنى مضي الزمان يجعل
حلوة الدنيا مرارة.
» .4سملة« من مادة »سمل« على وزن حمل بمعنى البقية من الماء تبقى في الناء ،ومن هنا كان السمال بمعنى الصلح لّنه يزيل
ما بقى من الحقاد والضغان.
» .6تمزز« من مادة »مز« على وزن حز بمعنى التذوق والمتصاص والكل وقال صاحب مقاييس اللغة امتصاص الماء تدريجيًا
وببطئ.
] [ 375
الفراد وانها تقترب بمرور الزمان من نهايتها ،وقد كان تعبيره بمنتهى الروعة لتصوير قصر عمر الدنيا وسرعة
زوالها ،فالسملة تعنى الشي الزهيد الذي لقيمة له ،وتطلق على ما يتبقى من الماء في الناء ،و»جرعة المقلة«
تطلق على المسافر الذي يشكو من قّلة الماء فيسعى للحصول على الماء لدخاره ،أجل فعمر الدنيا قصير إلى
درجة أّنه ل يروي ظمأ من تعلق به ،فما أحرى العاقل أن يفيق إلى نفسه وينأى بها بعيدًا عن الغترار به،
فينهمك بالخرة ويسرع في السير إليها .ثم يخلص المام)عليه السلم( إلى النتيجة الواضحة »فازمعوا)(1
ل الرحيل عن هذه لدار المقدور على أهلها الزوال ول يغلبنكم فيها المل ول يطولن عليكم فيها المد«).(2 عبادا ّ
ن النسان راحل عن هذه الدنيا شاء أم أبي ،ومراد المام)عليه السلم(إرحلوا بعلم وعبرة واغتنموا الفرصة إّ
ل لتنالوا سعادة الخرة والخلود في نعيمها .فقد وسيروا على النهج بالعمل الصالح والخلق الرفيع والمعرفة با ّ
نبه)عليه السلم( إلى الخطرين الكامنين في الطريق فقال» :ول يغلبنكم فيها المل ول يطولن عليكم فيها المد«;
ق َولحّن ال َ
ل ِم َ
ل َوما َنَز َ
شَع ُقُلوُبُهْم ِلِذْكِر ا ّ
ن َتخْ َ
ن آَمُنوا َأ ْ
ن ِلّلِذي َالمر الذي أرشد القرآن الكريم إليه بقولهَ) :أَلْم َيْأ ِ
ن()(3ونؤكد مرة ُاخرى أ ّ
ن سُقو َ
ت ُقُلوُبُهْم َوَكِثـيٌر ِمْنُهْم فا ِ
س ْلَمُد َفَق َعَلْيِهُم ا َ ل َل َفطا َ
ن َقْب ُ
ب ِم ْ
ن ُأوُتوا الِكتا َ
َيُكوُنوا َكاّلِذي َ
العبارات لتفيد ترك الدنيا والرهبانية فيها وعدم الكتراث إلى الحياة ،بل تفيد عدم التعلق بزخا رف الدنيا
والغترار بها ،وبعبارة ُاخرى فالمراد التعامل مع الدنيا كما هى ،ل على أساس الوهم والخيال وما تمليه علينا
أهوائنا وشهواتنا.
الدنيا الغرور
» .1أزمعوا« من مادة »زمع« بمعنى العزم على الشيىء ،ولذلك قيل ان هذه المفردة قلبت من عزم أي نقلت فيها حرفي الزاء والميم
من مكان إلى آخر ،وقيل كانت في الصل جمع ثم بدلت إلى زاء ،والمفردات الثلث )عزم وزمع وجمع( بمعنى واحد وهو التصميم
والعزم على الشي.
] [ 376
وفعالياته وكأّنه مخلد في الحياة الدنيا .وقد يطرح هذا الحجاب مؤقتا إذا ما مات أحدهم واشتركنا في مراسم
تشييعه ودفنه لتتضح أمامنا الدنيا على حقيقتها ،فاذا عدنا إلى حياتنا نسينا كل شي وعاد ذلك الحجاب ،وكأنّ
ل ،فهم أرفع من أن تبعدهم هذه الحجب عن ن هذا الكلم ل يصدق على أولياء ا ّ الموت لم يكتب علينا ،وبالطبع فا ّ
ن تحذير المام)عليه السلم( في هذه
حقيقة الحياة والموت ،فهم ل يرون الدنيا سوى قنطرة إلى الخرة .والحق أ ّ
الخطبة من الدنيا ل يعني أبدًا أّنه يحث الناس على مقاطعة الدنيا وتركها ،كيف وهو يراها مقدمة للخرة »الدنيا
ل قد صوروا هذه الحقيقة في أشعارهم ،ول بأس هنا ن بعض الشعراء من أولياء ا ّ مزرعة الخرة« .والطريف أ ّ
بالتعرض لهذه القضية.
باتوا على قلل الجبال تحرسهم *** غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
فافصح القبر عنهم حين ساءلهم *** تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا دهرًا وقد شربوا *** وأصبحوا اليوم بعد الكل قد ُاكلوا)(1
—–
.1بحارالنوار.211 / 50 ،
] [ 377
القسم الثاني
ل ِم َ
ن جُتْم ِإَلى ا ّ
خَر ْن َو َ
جَؤاَر ُمَتَبّتِلي الّرْهَبا ِ
جَأْرُتْم ُ
حماِم َو َ عْوُتْم ِبَهِديِل اْل َ
ن اْلُوّلِه اْلِعجاِل َوَد َحِني َ
حَنْنُتْم َ
ل َلْو َ
»َفوا ّ
سُلُه َلكانَ
ظْتها ُر ُحِف َ
صْتها ُكُتُبُه َو َ
ح َ
سّيَئة َأ ْن َ غْفرا ِعْنَدُه َأْو ُ
جة ِ ع َدَر َس اْلُقْرَبِة ِإَلْيِه ِفي اْرِتفا ِ
اَْلْمَواِل َواَْلْولِد اْلِتما َ
عقاِبِه«. ن ِعَلْيُكْم ِم ْ
ف َ ن َثواِبِه َوَأخا ُ جو َلُكْم ِم ْل ِفيما َأْر ُ
َقِلي ً
—–
الشرح والتفسير
ما أن فرغ المام)عليه السلم( من تصوير حقيقة الدنيا وسرعة زوالها حتى تطرق إلى الثواب والعقاب في
الخرة ومصير النسان هناك على أّنها تمثل الهدف لهذه الدنيا .وبعبارة ُاخرى كان القسم الول من كلمه مقدمة
ل ونيل ثوابه واجتناب عقابه فقال)عليه السلم(» :فو
لهذا القسم الذي يشير فيه إلى الهدف الغائي وهو القرب من ا ّ
ل لو حننتم) (1حنين الوله) (2العجال) (3ودعوتم ا ّ
» .1حنين« بمعنى الشفقة والرأفة والرحمة وتقال عادة مقترنة بالنين واللم ،و »ُاستن حنانة« تطلق على العمود الخشبي الذي ورد
في الرواية أن رسول ال )صلى ال عليه وآله( كان يستند إليه ويخطب الناس ،ثم استبدل بالمنبر فكان ذلك العمود يتأوه لفراق
النبي)صلى ال عليه وآله(.
» .2وله« جمع »واله« و»والهة« من مادة »وله« على وزن ولع بمعنى شدة الهم الذي يذهب بالعقل ويفقد التمييز.
» .3عجال« جمع »عجول« من مادة »عجلة« بمعنى السرعة في العمل ،كما تطلق على المرأة التي تثكل بولدها.
] [ 378
ل من الموال والولد إلتماس القربة بهديل) (1الحمام وجأرتم جؤار) (2متبتلي) (3الرهبان) (4وخرجتم إلى ا ّ
إليه في إرتفاع درجة عنده أو غفران سيئة أحصتها كتبه وحفظتها رسله لكان قليل فيما أرجو لكم من ثوابه
ل واستفراغ الجهد فيوأخاف عليكم من عقابه« فقد إستعار المام)عليه السلم( ثلثة تشبيهات للتضرع إلى ا ّ
النقطاع إليه ،التشبيه الول :الصوت الذي تخرجه النوق الوالهة الفاقدة لولدها ،وهو الصوت الحزين الذي
يرق له القلب حين سماعه ،التشبيه الثاني :هديل الحمام حين إجتماعها ،والهديل يطلق على فرخ الحمام كما يطلق
ن الهديل حمامة على عهد نوح)عليه السلم( بقيت وحدها وماتت عطشًا ،ومنذ ذلك على صوتها ،وتعتقد العرب أ ّ
اليوم والحمام ينوح عليها ،التشبيه الثالث :بكاء الرهبان المنقطعين عن الدينا القابعين في صومعاتهم ،والذين
ينوحون عند الطقوس الدينية وقد إشتد نياحهم بفعل إنقطاعهم عن الدنيا .ولم يكتف المام)عليه السلم( بهذا
ل من الموال والولد« أي ولو تركتم أموالكم وأولدكم من أجل التضرع والنوح والبكاء فقال» :وخرجتم إلى ا ّ
ل .والدليل واضح على ذلك فالدنيا وما فيها لتعدل جناح بعوضة من الخرة ،وهى ليست ل كان قلي ً
القرب إلى ا ّ
ن النسان ليخرج من ماله وولده ما لم يقف على هذا المعنى .وقد وردت سوى قطرة إلى بحر ،ومن الطبيعي أ ّ
هذه المقارنة بين الدنيا والخرة في خطبة المتقين بقوله)عليه السلم(»:صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة
طويلة«).(5
—–
» .1هديل« يطلق على الحمام كما يطلق أحيانًا على نوحه وهو من الهدل على وزن العدل بمعنى الصوت العذب.
.3متبتل من مادة تبتل بمعنى النفصال والعتزال وتطلق على الرهبان الذين يعتزلون المجتمع وينهمكون بالعبادة .ومن ألقاب
الزهراء)عليها السلم( البتول لنقطاعها إلى ال وأفضليتها على سائر النساء في الفضل والعلم والمعرفة .وورد في بعض الروايات
أن التبتل هو رفع اليد بالدعا.
» .4رهبان« جمع »راهب« من مادة »رهب« على وزن رحم بمعنى الخوف ،الخوف مع ضبط النفس والرهبانية تعني شدة العبودية
وترك الدنيا ،وهى بدعة ابتدعها طائفة من النصارى ،حيث يقاطع الفتى َاوالفتاة الزواج ويقبع في زاوية من الدير وينهمك بالعبادة،
وقد ورد النهي عنها في السلم ،فقد قال)صلى ال عليه وآله(» :ل رهبانية في السلم«.
] [ 379
القسم الثالث
عّمْرُتْم ِفي الّدْنيا ما الّدْنيا غَبة ِإَلْيِه َأْو َرْهَبة ِمْنُه َدمًاُ ،ثّم ُن َر ْ
عُيوُنُكْم ِم ْ
ت ُ
ت ُقُلوُبُكُم اْنِمياثًاَ ،وساَل ْ ل َلِو اْنماَث ْ
»َوتا ّ
ن«.ليما ِ عَلْيُكُم اْلِعظاَمَ ،وُهداُه ِإّياكْم ِل ِْ
جْهِدُكْم ـ َأْنُعَمُه َن ُشْيئًا ِم ْ
عْنُكْم ـ َوَلْو َلْم ُتْبُقوا َ
عماُلُكْم َ
ت َأ ْ
جَز ْ
باِقَيٌة ،ما َ
—–
الشرح والتفسير
» .1انمياث« من مادة »موث« على وزن موت بمعنى الذوبان ،وانمياث من باب النفعال ،ويعني في العبارة بذل قصارى الجهد في
ل.
سبيل ا ّ
] [ 380
شكر الله نعمته موجبة لشكره *** وكيف شكري بره وشكره من بره)(1
ن المام)عليه السلم( أشار بتلك العبارة إلى عدم محدودية النعم اللهية .وهو كالتعبير القرآني في الية فالواقع أ ّ
حر ما سْبَعُة َأْب ُ
ن َبْعِدِه َ
حُر َيُمـّدهُ ِم ْ
جَرة َأْقلٌم َوالَب ْ
شَ
ن َ
ض ِم ْ
لْر ِن ما ِفي ا َ
لَ) :وَلْو َأ ّ
27من سورة لقمان بشأن علم ا ّ
ن
ل( .نعم ليس للعبد سوى العراب عن ضعفه وعجزه أمام النعم اللهية .الجدير بالذكر أ ّ تا ّ ت َكِلما َُنِفَد ْ
المام)عليه السلم(يؤكد على نعمة اليمان »وهداه إّياكم لليمان« من قبيل ذكر الخاص بعد العام .فقد أشار في
ل َيُم ّ
ن لا ّالعبارة السابقة إلى النعم اللهية ثم خص هنا منها نعمة اليمان على غرار ما جاء في القرآن الكريمَ) :ب ِ
ن() .(2ول تتأتى أهمية اليمان من كونها مفتاح سعادة البشر وجواز سفره إلى الجّنة ليما ِ
ن َهداُكْم ِل ِْ
عَلْيُكْم َأ ْ
َ
فحسب ،بل لّنها الدافع لكافة الفضائل والعمال الصحالة والرادع من الرذائل والعمال السيئة ،فالواقع هى
ل ،وان حصل عليها النسان باختياره أساس الدين والملفت للنظر في العبارة أّنه)عليه السلم(نسب الهداية ّ
وإرادته; وذلك لتعذرها على النسان بمفرده ما لم تشمله العناية اللهية ويرشده النبياء والولياء والكتب اللهية
ل في صلواتنا اليومية ليل نهار الهداية. إليها ،ومن هنا نسأل ا ّ
ويبدو من الهمية في نهاية الخطبة اللتفات إلى هذه النقطة وهى أن القسم الول لها بعد المقدمة حيث يعد القلوب
من خلل تنبيهها إلى تقلب أحوال الدنيا وزوالها ،بينما يوجهها في القسم الثاني والثالث إلى طاعة ال وكسب
الفضائل ودفع الرذائل .مع هذا الفارق في تأكيد القسم الثاني على أهمية القرب من ال ومطلوبية كل سعي وجهد
للوصول إلى هذا الهدف ،أما القسم الثالث فيرد ساحة القدس الربوبي صاحب الفضل عن طريق مسألة شكر
المنعم ،فالوجدان هو الذي يشهد بضرورة هذا الشكر.
—–
.1بيت الشعر إقتباس من حديث عن المام السجاد والصادق)عليهما السلم( ،بحارالنوار 351 / 13 ،المناجاة الخمسة عشر مناجاة
الشاكرين.
] [ 381
الخطبة)53 (1
ومن خطبة له)عليه السلم(
لضحية«
»فى ذكرى يوم النحر وصفة ا ُ
تَ ،وَلْو
حّيُة َوَتّم ْ
ضِ
ت اُْل ْ
سِلَم ِ
ن َ
ن َواْلَعْي ُ
ت اُْلُذ ُ
سِلَم ِ
عْيِنهاَ ،فِإَذا َ
سلَمُة َ
ف ُأُذِنهاَ ،و َ شرا ُ سِت ْ
حّيِة ا ْ
ضِن َتماِم اُْل ْ
»َوِم ْ
ك«.
سِجَلها ِإَلى اْلَمْن َ
جّر ِر ْ
ن َت ُ
ضباَء اْلَقْر ِ
ع ْت َكاَن ْ
—–
الشرح والتفسير
تمام اُلضحية
ن هذه ليست خطبة مستقلة )بل هى جزء من الخطبة السابقة التي خطبها في .1سند الخطبة :ورد في كتاب مصادر نهج البلغة أ ّ
الضحى( ومن هنا عدتها نسخة إبن أبي الحديد التي تعتبر أصح النسخ جزءًا من الخطبة السابقة ،اما أّنها وردت مستقلة في سائر
النسخ فهذا من خطأ الرواة ،والشاهد على ذلك أّنها وردت جزءا من الخطبة في كتاب من ل يحضره الفقيه ) (461 / 1ومصباح
المتهجد .429 /جدير ذكره أن العبارة التي وردت في كتاب من ليحضره الفقيه بعد »تجر رجلها إلى المنسك« »فل تجزي« الذي
يغير العبارة تمامًا .وليبدو ذلك مستبعدًا ،وان درجنا على السير في نهج البلغة حسب تصنيف صبحي الصالح .مصادر نهج البلغة،
.23 / 2
» .2اُلضحية« :الشاة التي طلب الشارع ذبحها بعد شروق الشمس من عيد الضحى.
» .3إستشراف« من مادة »شرف« بمعنى علو المقام ،والمراد باستشراف الذان تفقدها حتى لتكون مجدوعة أو مشقوقة غير
سالمة.
] [ 382
لضحية وتمت« ثم أضاف)عليه السلم(» :ولو كانت عضباء) (1القرن تجر رجلها إلى المنسك« ول يتتافى هذا اُ
لضحية يجب أن نا ُ
الكلم مع ما تعارف بين الفقهاء وما ورد في سائر روايات المعصومين)عليهم السلم(من أ ّ
ن عضب قرنها الداخلي يضر بسلمتها ل قرنها الخارجي ،كما ل يضر العرج البسيط تكون سالمة الرأس ،ل ّ
الذي ل يعيقها عن الحركة .وجاء في بعض النسخ قوله» :فل تجزي« بعد العبارة »تجر رجلها إلى المنسك«
لضحية إن كسر قرنها وكانت تجر رجلها على الرض) .(2قال السيد وعليه يصبح مفهوم العبارة عدم إجزاء ا ُ
الرضي )ره( في ذيل الخطبة» :والمنسك هاهنا المذبح«.
علّية سلمة اُلضحية من النقص والعيب
ِ
جَب ْ
ت ن الهدف من الضحبية هو إستفادة بعض المحتاجين منها كما صرح بذلك القرآن الكريمَ) :فِإذا َو َ رغم أ ّ
ن() (3ومن المسلم به عدم وجود شُكُرو َ
خْرناها َلُكْم َلَعـّلُكْم َت ْ
سـ ّ
ك َ
طِعُموا القاِنـَع َواْلـُمْعَتّر َكذ ِلـ َ
جـُنوُبها َفُكُلوا ِمْنها َوَأ ْ
ُ
لضحية شعيرة إسلمية وعبادة ،ول يليق بالساحة أي تأثير على هذا المعنى سواء كان قرنها سالمًا أم ل ،ولكن ا ُ
ن ذلك نوع من الدب ب سبحانه إختيار الشاة المعيبة والمريضة ،ولبّد من تقديم الخالصة فا ّ القدسية للر ّ
والحترام; المر الذي نلمسه بوضوح في صلة المرأة بكامل الحجاب ،وارتداء الثياب النظيفة حين الصلة،
لمور. والتعطر عند العبادة وغسل الميت وتكفينه وتحنيطه وما إلى ذلك من ا ُ
—–
» .1عضباء« من مادة »عضب« على وزن عزم بمعنى القطع أو الكسر ،وعضباء القرن بمعنى مكسورة القرن ،كما يطلق على
الناقة إذا شقوا اذنها ناقة عضباء.
.2وردت العبارة »فل تجزي« في كتاب من ل يحضره الفقيه 168 / 1باب صلة العيدين ،ح .1487
] [ 383
الخطبة)54 (1
وفيها يصف أصحابه بصفين حين طال منعهم له من قتال أهل الشام.
ن هذا الكلم جزء من الخطبة 26و 30و 54و ،78خطبها)عليه السلم(في بيته .1سند الخطبة :يرى صاحب مصادر نهج البلغة أ ّ
بحضور الناس ليدونوها وينقلوها إلى الخرين .وقال في ذيل الخطبة 26رواها قبل السيد الرضي )ره( الثقفي في الغارات والطبري
ل عن كشف المحجة للسيد ابن طاووس وابن قتيبة في المامة والسياسة )مصادر في المسترشد والمرحوم الكليني في الرسائل نق ً
نهج البلغة .(390 / 1
.2منهاج البراعة ;326 / 4شرح نهج البلغة لبن ميثم البحراني .144 / 2
] [ 384
] [ 385
ي َأوْ
ت َأّنُهْم قاِتِل ّ
ظَنْن ُ
حّتى َ ت َمثاِنيها; َ خِلَع ْ
عيهاَ ،و ُ سَلها را ِ ك اِْلِبِل اْلِهيِم َيْوَم ِوْرِدها َوَقْد َأْر َ
ي َتدا ّعَل ّ
»َفَتداّكوا َ
سُعِني ِإّل ِقتاُلُهْم َأِو جْدُتِني َي َ
حّتى َمَنَعِني الّنْوَمَ ،فما َو َ ظْهَرُه َ طَنُه َو َ
ت َهذا اَْلْمَر َب ْ
يَ ،وَقْد َقّلْب ُ
ضُهْم قاِتُل َبْعض َلَد ّ َبْع ُ
ب َوَمْوتا ُ
ت جِة اْلِعقا ِن ُمعاَل َي ِم ْ
عَل ّ
ن َجُة اْلِقتاِل َأْهَو َت ُمعاَل َحّمٌد)صلى ال عليه وآله(َفكاَن ْ حوُد ِبما جاَء ِبِه ُم َ جُ اْل ُ
خَرِة«.ت اْل ِ ن َمْوتا ِ ي ِم ْعَل ّ
ن َ الّدْنيا َأْهَو َ
—–
الشرح والتفسير
بغض النظر عن كون الخطبة بشأن بيعة الناس للمام)عليه السلم( أو المسائل المرتبطة بصفين ،فاّنه
ي تداك البل إلهيم)ى» :فتداكوا) (1عل ّ
استهلها)عليه السلم(بعدم انطلقه نحو الناس بل الناس هم الذين إندفعوا إل ّ
(2يوم وردها) (3وقد أرسلها راعيها ،وخلعت مثانيها«).(4
» .1تداكوا« من مادة »دك« على وزن فك ،قال الراغب في المفردات أّنها تعني الرض المستوية الرخوة ،بينما صرحت سائر كتب
اللغة بعكس ذلك وان الدك يعني الضرب .ومعنى العبارة في الخطبة أّنهم تزاحموا عليه ليبايعوه رغبة فيه.
» .2هيم« جمع »أهيم« و»هيماء« صفة مشبهة بمعنى شدة العطش التي تجعل الحيوان أو النسان يروح ويجيئ ،ويقال الهيمان
للعاشق .والهيم العطاش من البل.
» .3ورد« اسم مصدر بمعنى الورود ،وقيل مصد كتأكيد لمعنى الفاعلية ،وتعني الجمع أيضًا .يوم وردها يوم سشربها للماء.
» .4مثاني« جمع مثناة بالفتح ومثناة بالكسر وهو حبل من صوف أو شعر يعقل به البعير .وهى في الصل من مادة ثنى بمعنى
التكرار واعادة جزء من الشي إلى الخر.
] [ 386
1ـ كيفية هجوم الناس عليه من أجل البيعة أو حين الصرار على شروع موقعة صفين إّنما تفيد تغير الناس
آنذاك ،وهنا لبّد من اللتفات إلى أن معنى المفردة تداكوا هو الضرب وقد أشارت في العبارة إلى شدة عطش
البل التي تضرب بعضها بعضا لتبلغ أسرع من غيرها الماء ،والهيم شدة العطش التي تجعل النسان أو الحيوان
مضطربًا .فلو تركت هذه البل العطاش لحالها دون الراعي فما عساها تفعل .أجل هكذا كانت حال الناس في تلك
اللحظات الحساسة حتى كان يخشى عليهم أن يقتل بعضهم بعضًا .نعم هذا هو حال الناس حين يعشقون شيئًا
ن هؤلء الناس سرعان ما يتخلون عن موقفهم إذا واجهتهم بعض ل أّنه من المؤسف أ ّ
ويعبرون عنه بعواطقهم ،إ ّ
المصاعب.
2ـ يمكن أن تكون حالة إندفاعهم نابعة من عدم عمق مشاعرهم وقّلة علمهم ومعرفتهم.
3ـ تشتمل هذه العبارات على بعض الكنايات التي تفيد صعوبة السيطرة عليهم حين تأخذهم الحرارة والحماس،
كما يصعب إثارتهم حين تلفهم البرودة والنتكاس.
ل قتالهم أو
ثم قال)عليه السلم(» :وقد قلبت هذا المر بطنه وظهره حتى منعني النوم فما وجدتني يسعني إ ّ
الجحود بما جاء به محّمد)صلى ال عليه وآله( فكانت معالجة القتال أهون علي من معالجة العقاب وموتات الدنيا
أهون علي من موتات الخرة«.
ن المام)عليه السلم( ل يرضخ لضغوط الناس ،فل يتحذ القرار حتى يدرس جميع جوانب الموضوع، ل :أ ّ
أو ً
لّمة
وهذا ما ينبغي أن تكون عليه سياسة الزعماء الربانيين بعيدة عن العواطف والحاسيس مستندة إلى مصالح ُ
الواقعية.
ثانيًا :عادة ما يصل النسان في حياته الفردية أو القادة في حياتهم الجتماعية إلى مفترق طرق ،فلبّد هنا من
الشجاعة والقدام على إنتخاب الصلح ،فان كان القتال هو الصلح ل ينبغي للدعة والراحة أن تحول دون
خوضه بحجة حفظ دماء المسلمين دون الكتراث إلى المصالح العليا.
] [ 387
ن قتال المام)عليه السلم( كان قتال اليمان للكفر والسلم للجاهلية .بناءًا على ما تقدم فقد
رابعًا :واضح أ ّ
ل قبل الستجابة لرغبات الناس ،وبالطبع قد يمكن الجمع بين الثنين إذا كانت كان)عليه السلم(يرى رضى ا ّ
لّمة وتطلعاتها مشروعة تهدف نشر القيم والمبادئ السماوية.
رغبات ا ُ
تأّملن
ن المام)عليه السلم( وقف أمام سبيلين ل ثالث لهما; إما الحرب أو الكفر بما جاء به النبي رأينا في آخر الخطبة أ ّ
ن الحرب ورغم ما يكتنفها من خراب ودمار وويلت، لأّالكرم)صلى ال عليه وآله( .وما ذاك إ ّ
] [ 388
غير أّنها قد تكون السبيل الوحيد لمجابهة الظلم والضطهاد وعدم العدل كما تشكل الوسيلة الناجعة لستئصال
جذور الفساد والنحراف ومن هنا كانت إحدى غايات القتال ،كما صرح بذلك القرآن القضاء على الفتنة واخماد
حّتى َتِفيَء
حّتى ل َتُكونَ ِفْتَنٌة() (1وقال )َفقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي َ
لمور إلى مجاريها الطبيعية )َوقاِتُلوُهْم َ نيرانها واعادة ا ُ
ل أبواب الراحة والدعة ويهبوا لخوض القتال وتحمل عنائه وشدائده ،ول ل() (2وهنا يغلق أولياء ا ّ ِإلى َأْمِر ا ّ
عجب فالتضحية بحطام الدنيا ل يؤثر على سعادة الخرى.
—–
] [ 389
الخطبة)55 (1
يبدو من تناسب مضمون هذه الخطبة مع الخطبة السابقة أّنها خطبة واحدة ،أو خطبتان وردتا في زمان متقارب
ل الشام سَمح له ِ ي عليه السلم الماء بصفين ثم َ قال ابن أبي الحديد في ذيل هذه الخطبة :لما ملك أميرالمؤمنين عل ّ
بالمشاركة فيه والمساهمة ،رجاء أن يطفوا إليه ،واستمالًة لقلوبهم وإظهارا للعدالة وحسن السيرة فيهم ،مكث أيامًا
ن عند معاويَة أحٌد ،واستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال ،وقالوا :يا سل إلى معاوية ،ول يأتيه ِم ْ
ل ُير ِ
خّلْفنا ذرارّينا ونساءنا بالكوفة ،وجئنا إلى أطراف الشام لنّتخذها وطنًا ،ائذن لنا في القتال ،فإ ّ
ن أميَرالمؤمنينَ ،
ن الناس يظنون أّنك تكرهُ الحرب كراهيًة للموت، الناس قد قالوا .قال لهم عليه السلم :ما قالوا؟ فقال منهم قائل :إ ّ
ن من ط! إ ّ
ت كارها للحرب ق ّ ل الشام .فقال عليه السلم :وَمَتى كن ُن قتال أه ِ
ك ِم ْ
ن من الناس من يظن أّنك في ش ّ وإ ّ
حّبى لها غلمًا وَيَفعًا ،وكراهيتي لها شيخًا بعد نفاِد العمر وقرب الوقت! وأّما شّكي في القوم فلو شككت العجب ُ
ت في أهل
فيهم لشكك ُ
ن لبن أبي الحديد فصل ذيل هذه الخطبة تحت .1سند الخطبة :لم يشر صاحب مصادر نهج البلغة إلى سند خاص لهذه الخطبة ،إلّ أ ّ
ن ما أورده هنا السيد الرضي )ره( بمعنى آخر ينسجم وما جاء في التواريخ.
عنوان من أخبار يوم صفين يفيد أ ّ
] [ 390
ل ورسوله ،ولكني
ىا ّ
ل القتال أو أن أعص َت هذا المر ظهرًا وبطنًا ،فما وجدت يسُعني إ ّل لقد ضرب ُ
البصرة ،وا ّ
ل عليه وآله قال لي يوم خيبر» :لنّ
ل صلى ا ّ ن رسول ا ّ
أستأني بالقوم ،عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة ،فإ ّ
ل واحدًا خير لك ِمّما طلعت عليه الشمس«.ل بك رج ًىا ّ
يهد َ
—–
] [ 391
—–
الشرح والتفسير
ن الخطبة جوابًا لصحابه)عليه السلم( الذين استبطأوا إذنه لهم بالقتال في صفين ،فقد قال)عليه كما ذكرنا فا ّ
ى« .نعم إذا
ل ما أبالي ،دخلت إلى الموت أو خرج الموت إل ّ السلم( »أّما قولكم :أكل) (1ذلك كراهية الموت؟ فو ا ّ
ن الفرد المؤمن لبّد أن يسارع إلى الشهادة ول ينتظرها ،فما أسمى أن يهب ل فا ّ
كان هنالك هدفا مقدسًا كرضى ا ّ
النسان نفسه ويضحى بها من أجل معشوقه ومعبوده .أضف إلى ذلك فسابقة المام)عليه السلم( في الغزوات
السلمية لشهر من نار على علم وليست بخافية على أحد ول سيما صولته في بدر وأحد والحزاب وخيبر
ل)صلى ال عليه وآله(واستماتته من أجل نيل الشهادة ،فكيف وهذا الحال يمكن توجيه وحنين وذوده عن رسول ا ّ
هذه التهمة الباطلة لهذا النسان بتأخير القتال خوف الشهادة .وقد تحدث المام)عليه السلم(عن مثل هذا المعنى
ل لبن أبي طالب آنس في الخطبة الخامسة والخطبة مئة وثلث وعشرين حيث قال» :وا ّ
.1هنالك احتمال بشأن إعراب هذه الجملة :أحدهما أن كل منصوبه على أّنها مفعول لفعل تقديره »أتفعل كل ذلك« ،والخر انها
ن الجملة »كراهية المت« مفعول لجله.مرفوعة كمبتدأ وتقدير الجملة »أكل ذلك ناشئ من كراهية الموت« .على كل حال فا ّ
] [ 392
بالموت من الطفل بثدي أمه« وقال» :والذي نفس ابن أبي طالب بيده للف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة
ل«.
على الفراش في غير طاعة ا ّ
وتشهد سيرة المام)عليه السلم( أّنه مارس هذا المعنى عمليًا في حياته وما أجهل تلك الجماعة من جيش أهل
ن ُاولئك لم
ل .قد يقال أ ّ
العراق التي وجهت مثل تلك التهمة للمام)عليه السلم( وخشيته من الشهادة في سبيل ا ّ
يكونوا أدركوا اولى الغزوات السلمية .فنقول فهل يسعهم نسيان موقعة الجمل؟ الموقعة التي كان ينقض فيها
المام)عليه السلم(كالليث الضاري على جنود العداء فيمزق جموعهم وينزل حمم غضبه على رؤوسهم .بل
كيف يمكن إتهامه وهو الذي يمثل اليمان كله في مقابل الشرك كله ،أوليس هو القائل» :لقد كنت وما اهدد
ل مابالحرب ول أرهب بالضرب وإني لعلى يقين من رّبي وغير شبهة من ديني« .وقوله)عليه السلم(» :فو ا ّ
ن الفراد العاديين ممن ل هدف لهم ،هم الذين يخشون التجاه نحو الموت، ُابالي« إشارة إلى هذه الحقيقة وهى أ ّ
بل ينتظرون قدوم الموت إليهم آخر عمرهم; بينما ليس هنالك من فارق بين الخروج إلى الموت أو قدوم الموت
حسب الجل المقدر بالنسبة لهل اليمان والورع والتقوى ولعل الموت يمكن تشبيهه هنا بالسد المفترس ،فالفرد
العادي ل يتجه إليه أبدًا ،أما الشجاع فيقدم على مواجتهه دون أن يشعر بخوف أو هلع ،فالمؤمن الشجاع حين يرى
ل ونيل رضوانه يستقبله بكل رحابة صدر ،فلو قدر لهذا الموت أن يسلبهم ما تبقى في الموت الشهادة في سبيل ا ّ
من عمرهم ،فاّنهم سيستبدلون بذلك الخلود والبقاء .ثم تناول المام)عليه السلم( الحتمال الثاني الذي أوردته تلك
ل وأنا أطمع أن ل ما دفعت الحرب يوما إ ّ الجماعة بشأن تأخير القتال فقال» :وأّما قولكم شكًا في أهل الشام فو ا ّ
تلحق بي طائفة فتهتدي بي ،وتعشوا) (1إلى ضوئي« ثم برر ذلك بقوله)عليه السلم( »وذلك أحب إلي من أن
أقتلها على ضللها وإن كانت تبوءء) (2بآثامها« .فالمام)عليه السلم(يؤكد هنا على أن القتال ل يمثل هدفًا ول
ل ،بل هو العلج الخير إذا ما عجزت كل السبل السبيل الول لحل الخصومات من وجهة نظر أولياء ا ّ
والساليب ،فهم يسعون جاهدين للتريث
» .1تعشو« في الصل من مادة »عشو« على وزن ضرب بمعنى الظلمة وعدم وضوح الشيء ومنه صلة العشاء لنها أول الظلمة
وعشى بمعنى آخر اليوم الذي يظلم فيه الجو تدريجيا ويقال العشى لضعيف البصر.
» .2تبوء« من مادة »بوء« على وزن نوع بمعنى الرجوع والعودة وقيل أصلها يعني الصافي والمسطح واريد بها هنا الرجوع.
] [ 393
] [ 394
] [ 395
الخطبة)56 (1
ل)صلى ال عليه وآله( وذلك يوم صفين حين أمر الناس بالصلح
يصف أصحاب رسول ا ّ
هناك رأيان بشأن زمان الخطبة :فالبعض يعتقد أّنه ورد بشأن فتنة ابن الحضرمي بعد أن استشهد محمد بن
أبي بكر على يد عمرو بن العاص فقد البصرة من قبل معاوية ليخرجها من حكومة المام علي)عليه السلم( حيث
استولى عليها بمعونة جماعة من المنافقين .فلما بلغ المام)عليه السلم(ذلك من قبل ابن عباس يعزيه بمحمد بن
أبي بكر خطب الخطبة ،ثم بعث بجارية ابن قلمة السعدي المعروف بشجاعته فحاصر ابن الحضرمي مع سبعين
ن المام)عليه السلم(خطبها في صفين ،حين اقترح على من صحبه وقضى عليهم جمعيًا .والرأي الخر أ ّ
المام)عليه السلم(الصلح وقد ضغطوا على المام)عليه السلم(لقبوله .على كل حال فان المام)عليه السلم(
ن سبب النصر يكمن في خطب الناس ل متثال أوامره ،ثم تطرق ل خلص المسلمين في صدر السلم وأ ّ
النضباط والتسليم لوامر النبي)صلى ال عليه وآله( ،في إشارة إلى النصر سيكون حليفهم لو إستّنوا بهذه السنة
ل ليس إمامهم سوى الفشل والهزيمة إذا عاشوا الفرقة والتشتت وعدم طاعة الوامر. وطاعوا الوامر ،وا ّ
—–
.1سند الخطبة :نقل ابن أبي الحديد هذا الكلم عن الواقدي ابن هلل قبل المرحوم السيد الرضي )ره( ورواها الزمخشري في ربيع
البرار في الجزء الرابع من باب القتل والشهادة .وأضاف صاحب مصادر نهج البلغة بعد ما اورد هذا الكلم انه من كلمه المعروف
في مصادر العلماء السابقين وبعد السيد الرضي )مصادر نهج البلغة .(29 / 2
] [ 396
] [ 397
ك ِإّل ِإيمانًا عماَمنا ،ما َيِزيُدنا َذِل َ خواَننا َوَأ ْ ل)صلى ال عليه وآله( َنْقُتُل آباَءنا َوَأْبناَءنا َوِإ ْ سوِل ا ّ»َوَلَقْد ُكّنا َمَع َر ُ
خُر ِم ْ
ن جُل ِمّنا َواْل َ ن الّر ُجهادِ اْلَعُدّو; َوَلَقْد كا َ جّدا ِفي ِ ض اَْلَلِم َو ِ
ض ِ عَلى َم َ صْبرًا َ عَلى الّلَقِم َو َ ضّيا َسِليمًا َوُم ِ َوَت ْ
عُدّوَنان َ نَ ،فَمّرًة َلَنا ِم ْ س اْلَمُنو ِ حَبُه َكْأ َ
سِقي صا ِ سُهما َأّيُهما َي ْ ن َأْنُف َ
نَ ،يَتخاَلسا ِ حَلْي ِ
ن َتصاُوَل اْلَف ْعُدّونا َيَتصاَول ِ َ
جراَنُه سلُم ُمْلِقيًا ِ سَتَقّر اِْل ْ
حّتى ا ْ صَرَ ، عَلْيَنا الّن ْ
ت َوَأْنَزَل َ
صْدَقَنا َأْنَزَل ِبَعُدّوَنا اْلَكْب َ
ل ِ َوَمّرًة ِلَعُدّوَنا ِمّناَ ،فَلّما َرَأى ا ّ
حَتِلُبّنها
ل َلَت ْ
عوٌدَ .واْيُم ا ّ ن ُليما ِ ضّر ِل ِْ
خ َعُموٌد َول ا ْ ن َ َوُمَتَبّوئًا َأْوطاَنُهَ .وَلَعْمِري َلْو ُكّنا َنْأِتي َما َأَتْيُتْمَ ،ما قاَم ِللّدي ِ
َدمًاَ ،وَلُتْتِبُعّنها َنَدمًا!«
—–
الشرح والتفسير
أشار إبن ميثم البحراني في شرحه إلى بعض الخطبة الذي لم يرد في كلم السيد الرضي )ره( والذي له تأثير
ن المام)عليه السلم(خطب هذه الخطبة حين أراد الناس على فهم مضمون هذه الخطبة ،فقال :روى البعض أ ّ
الصلح مع جيش معاوية )بينما كان المام)عليه السلم(مخالف ذلك ولو ل اصرار البعضى منهم لما وافق( فقد
ل» :إن هؤلء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحق ول ليجيبوا إلى كلمة سواء
إستهل المام)عليه السلم(كلمه قائ ً
حتى يرموا بالمناشر تتبعها العساكر ،وحتى يرجموا بالكتاب تقفوها الجلئب ،وحتى يجر ببلده الخميس يتلوه
الخميس ،وحتى تدعق الخيول في نواحي أراضيهم ،وبأعناء مشاربهم ومسارحهم ،حتى تشن عليهم الغارات من
كل فج عميق ،وحتى يلقاهم قوم صدق صبر ،ول يزيدهم هلك من هلك من
] [ 398
ل)صلى ال عليه ل .ولقد كنا مع رسول ا ّ ل وحرصًا على لقاء ا ّ ل إل جدا في طاعة ا ّ قتلهم وموتاهم في سبيل ا ّ
ن مصالحة هؤلء القوم الجفاة ل تنطوي سوى على الحباط والفشل ،وذلك لّنهم وآله( الفصل«) (1وعليه فا ّ
ليفهون منطق الصلح ول يمكنهم التعايش مع الخرين بسلم ول يدركون سوى منطق القوة ،وهذا ما كشفت عنه
أحداث صفين .على كل حال واصل المام)عليه السلم(خطبته ليتحدث عن مقومات النصر وعوامل الفشل
ل)صلى ال عليه وآله(نقتل آباءنا وابناءنا واخوننا واعمامنا« والهزيمة فقال)عليه السلم(»:ولقد كّنا مع رسول ا ّ
في إشارة إلى ضرورة عدم اللتفات إلى قرابة كائن من كان إذا وقف كعقبة أمام المسيرة ،المر الذي أشار إليه
شْو َ
ن خَل اْقَتَرْفُتُموها َوِتجاَرٌة َت ْ
شيَرُتُكْم َوَأْموا ٌجُكْم َوعَ ِ
خواُنُكْم َوَأْزوا ُن آباُؤ ُكْم َوَأْبناُؤ ُكْم َوِإ ْن كا َ ل ِإ ْ
القرآن الكريمُ) :ق ْ
ل ِبَأْمِرِه() (2ثمىا ّحّتى َيْأِت َصوا َ سِبيِلِه َفَتَرّب ُ
جهاد ِفي َ سوِلِه َو ِ ل َوَر ُ نا ّ ب ِإَلْيُكْم ِم َ
ح ّ
ضْوَنها َأ َ
ن َتْر َ َكساَدها َوَمساِك ُ
قال)عليه السلم(» :ما يزيدنا ذلك إل إيمانا وتسليما ومضيا على اللقم«) (3وصبرا على مضض) (4اللم وجدا
على جهاد العدو« فما أشار إليه المام)عليه السلم(بهذه العبارة إّنما يمثل واقعة تأريخية ،فقد مثل أمام المسلمين
ل أن قاتلوهم بكل بسالة دون في أغلب المعارك ول سيما معركة بدر قرابتهم وعشيرتهم ،فما كان من المسلمين إ ّ
أن يكترثوا لتلك القرابة رغم احترام العرب المنقطع النظير للروابط القبلية .ثم قال)عليه السلم(» :ولقد كان
الرجل منا والخر من عدونا يتصاولن) (5تصاول الفحلين يتخالسان) (6أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس
المنون ،فمرة لنا من عدونا ومرة لعدونا منا« في إشارة إلى أّنه ليس من الضرروي أن ينتصر الحق على الباطل
ن الحق وعلى ضوء الوعد اللهي لأّ في كافة المعارك وطيلة المجابهة ،فقد يتغلب الباطل على الحق أحيانًا إ ّ
ن هذه المشاكل منتصر في خاتمة المطاف ـ وعليه فل تتوقعوا عدم بروز المشاكل خلل مجابهة أهل الشام ،كما أ ّ
ل ينبغي أن تقود إلى
» .3لقم« :قال بعض أرباب اللغة وشّراح نهج البلغة تعني معظم الطريق أو جادته ،واصلها من اللقم على وزن العفو بمعنى
السرعة في الكل.
» .4مضض« على وزن »مرض« بمعنى تجذر الهم في القلب مع الحرقة.
.5التصاول من صول على وزن قول أن يحمل كل واحد من الندين على الخر.
» .6تخالس« من مادة »خلس« على وزن درس كل واحد منها يطلب اختلس روح الخر.
] [ 399
ل دليل واضح على هذا التمرد على أوامر المام)عليه السلم( ،ما سيرة النبي)صلى ال عليه وآله(وصحبه إ ّ
ل صدقنا أنزل بعدونا الكبت) (1وأنزل علينا النصر ،حتى إستقر المر ،ومن هنا قال)عليه السلم(»:فلما رأى ا ّ
السلم ملقيا جرانه) (2ومتوئًا أوطانه« فالمام)عليه السلم( أشار هنا إلى العامل الرئيسي لنتصار المسلمين
الوائل ويلوح إلى عناصر فشل أهل الكوفة ،فقد نسب العامل الرئيسي للنتصار إلى صدق النية التي تمثل الدافع
الصلي للصمود والمقاومة أمام العدو والطاعة التامة للزعامة الربانية .ولو تلوثت هذ النية وسيطرت النانية
على النسان ،آنذاك ستكون إرادته وقراره مستندًا لهوائه وطيشه وغروره; المر الذي يقود إلى الهزيمة
ل وألطافه ونصره مثل هؤلء الفراد ،ثم خلص المام)عليه السلم(لهذه والفشل .ومن الطبيعي أل تشمل عنايات ا ّ
النتيجة» :ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم ،ما قام للدين عمود ول إخضر لليمان عود« فهل تعلمون من قوم في أي
ن النصر الخاطف الذي حققه عصر ومصر إنتصروا يفرقتهم واختلفاتهم ،فاذا رجعتم قليل إلى الوراء لرأيتم أ ّ
ل)صلى ال عليه وآله( خلل تلك المدة القصيرة حتى ترسخت دعائم الدين واتسع نطاق السلم ليشع رسول ا ّ
ن ذلك كان بفضل اليمان والطاعة والجهاد ،بينما تمارسون الن عكس ذلك بنوره على ظلمات الشرق والغرب فا ّ
ل لتحتلبنها دمًا ،ولتتبعنها ندمًا«.
وتحلمون بالنصر .وأخيرًا يحذرهم)عليه السلم(بالقول» :وأيم ا ّ
فقد تضمنت العبارات الخيرة للمام)عليه السلم( ثلثة تشبيهات :الول :تشبيه السلم بالخيمة واعمدته الجهاد.
ن الخيمة موضع المن والراحة من الحرارة المحرقة والبرودة القارسة ،السلم هو الخر موضع حيث نعلم بأ ّ
أمن البشرية ووسيلة نجاتها من العواصف القاتلة .الثاني :تشبيه اليمان بالشجرة التي إخضرت غصونها بدماء
ل من اللبن بسبب تعفن ضرعها أو المؤمنين في صدر السلم .والثالث :تشبيه الحكومة بالناقة التي تحتلب الدم بد ً
العبث والفراط في إحتلبها ،أي أّنها ،أعطت نتيجة معكوسة ،فاللبن من أفضل طعام النسان ومواده الغذائية ،أّما
الدم فهو ليس بغذاء ،بل مادة سامة مفسدة .وأخيرًا فقد تحققت نبوءات المام)عليه السلم( بشأن تلك الطائفة
الطاغية ،حيث تسلط عليهم الظلمة الذين ساموهم سوء العذاب.
.2جران البعير مقدم عنقه من مذبحه إلى منحره ،القاء الجران كناية عن التمكن ،فالعبارة كناية عن إتساع رقعة السلم ونصر
المسلمين واستقرار السلم في مختلف بقاع العالم.
] [ 400
تأّملن
كانت البصرة أحد المراكز السلمية المهمة والبوابة إلى العالم الخارجي ومن هنا كانت السيطرة عليها قضية
مهمة .ولذلك كان يسعى معاوية للسيطرة عليها كما ورد في ورود الخطبة .ويرى البعض أن المام )عليه السلم(
خطبها لخماد فتنة أخرى في البصرة .فقد طمع معاوية بالبصرة بعد قتل عامل علي)عليه السلم( فيها محمد بن
أبي بكر ،فكتب كتابا إلى أنصاره في البصرة وذكرهم الوقعة التي أهلكتهم وقد إنتخب »ابن الحضرمي« واليا
على البصرة فحث الناس للقيام على خليفة عامل المام)عليه السلم( عليها »زياد بن عبيد« فاستجاب له البعض
ومنهم الخوارج فسيطروا على أجزاء من البصرة وقتلوا سفير المام)عليه السلم( »أعين بن صبيعه« فلما بلغ
ذلك المام)عليه السلم( بعث بجارية بن قدامه إلى البصرة ليقرأ عليهم كتاب المام)عليه السلم(.
ل بالعقوبة َقْبل البّينة ،ول يأخذ المذنب عند أول َوْهلة ،ولكنه يقبل جُ حليم ذو أَناة ،ل َيْع َل َنا ّ
سلم عليكم :أّما بعد فإ ّ
جّلكم أّيها
جة ،وأبلغ في المعذرة ،وقد كان من شقاق ُ التوبة ،ويستديم الناة ،ويرضى بالنابة; ليكون أعظَم للح ّ
سْيف عن ُمْدبركم ،وقبلت من ُمْقبلكم ،وأخذت الناس ما استحققتم أنْ تعاَقبوا عليه ،فعفوت عن مجرمكم ،ورفعت ال ّ
صد الحق ،وُأِقْم ل فيكم بالكتاب والسنة وَق ْ بيعَتكم ،فإن َتُفوا بْبيعتي ،وتقبُلوا نصيحتي ،وتستقيموا على طاعتي ،أعم ْ
ل عليه وآله أعلُم بذلك مّني ،ول أعمل بقولي .أقول ن واليًا بعد محمد صلى ا ّ ل ما أعلم أ ّفيكم سبيل الهدى ،فوا ّ
سَفُه الرأي
ت بكم الهواء الُمْرِدية ،و َ ط ْ
خَب َ
قولي هذا صادقًا ،غيَر ذاّم لمن َمضى ،ول منتقصًا لعمالهم ،وإن َ
ل لئن ألجأتموني إلى المسير حْلت ركابي ،وايُم ا ّ ت جياديَ ،وَر َ خلفي! فها أنا ذا َقّرْب ُ الجائر إلى منابذتي ،تريدون ِ
ل ـ على أنفسكم ل تجعلوا ـ إن شاء ا ّ نأ ّ
ل كَلْعَقة لعق ،وإنى لظا ّ ن بكم َوْقَعًة ،ل يكون الجمل عندها إ ّ لِوَقع ّ
إليكم ُ
ب إليكم من بعده كتابًا ،إن أنتم استغششتم نصيحتي، ن أكت َل .وقد قدّمت هذا الكتاب إليكم حجة عليكم ،ول ْ سبي ً
ل تعالى .والسلم. شاخص نحوكم ،إن شاء ا ّ ن أنا ال ّ
ونابْذُتم رسولي ،حتى أكو َ
فلما قرأها عليهم تأثروا تأثرا شديدا ،بينما واصل البعض منهم عناده ،فواجهوا ابن
] [ 401
الحضرمي وهزموه ،فلذ مع سبعين من صحبه بدار ولم يكن أمام جارية من سبيل سوى إحراق الدار فقتلوا فيها
جميعا(1).
—–
عَلى أصحابك ،قال :فمضينان علّيا عليه السلم كتب مع جارية كتابًا ،وقال :اقرأه َ قال :وروى كعب بن قعين أ ّ
حب به وأجَلسه إلى جانبه ،وناجاه ساعة وساءَلُه ،ثم خرج فكان أفضل ما خلنا البصرة ،بدأ بزياد ،فر ّ
معه ،فلما د ْ
ق أن َتْلَقى ما ِلَقي صاحُبك القادُم َقْبلك.
ن قال :احَذْر على نفسك ،واّت ِأوصاه به أ ْ
ن حارب أميرالمؤمنين
شْيمان ،فقال :سمعنا وأطعنا ونحن لم ْ
صْبرة بن َ
قال :فلما قرئ الكتاب على الناس قام َ
ن ننصرك نصرناك. ت يا جارية قوَمك بقومك فذاك ،وإن أحببت أ ْ
سْلم; إن َكَفْي َ
حْرب ،ولمن سالم ِ
َ
وقام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك ونحوه ،فلم يأذن لحد منهم أن يسير معه ،ومضى نحو بني تميم.
ل ما
حْربًا فأصبحتم سلمًا ،وإني وا ّ
سلمًا ،فأصبحوا اليوم حربًا ،إنكم كنتم َ
ن هؤلء كانوا أمس ِ يا معشر الْزد ،إ ّ
ل على المل ،فما رضيتم أن أجرتموني ،حتى نصبتم لي منبرًا ل على التجربة ،ول أقمت فيكم إ ّ اخترتكم إ ّ
شَرطًا وأعوانًا ،مناديًا وجمعة،
وسريرًا ،وجعلتم لى ُ
] [ 402
ل .واعلموا أنّ
جِبه غدا إن شاءا ّ
جبه اليوم أ ْ
جبيه اليوم ،فإن لم أ ْ
ل هذا الدرهم ،ل أ ْ
فما فقدت بحضرتكم شيئًا إ ّ
حربكم اليوَم معاوية أيسر عليكم في الدنيا والدين من حربكم أمس علّيا ،وقد قدم عليكم جارية بن قدامة ،وإّنما
ل ما هو بالمير المطاع ،ولو أدرك أمله في قومه لرجع إلى أميرالمؤمنين أو ي ليصَدع أمَر قومه ،وا ّأرسله عل ّ
لكان لي تبعًا ،وأنتم الهامُة العظمى ،والجزمرة الحامية ،فقّدموه إلى قومه ،فإ اضطر إلى نصركم فسيروا إليه ،إن
رأيتم ذلك.
صْبنا أمس يوم الجمل ،وانا لنرجوا اليوم صْبنا بمصيبة في دين ول دنيا كما أ ِ ل ما أ ِ
ثم قام صبرة ابنه ،فقال :إنا وا ّ
ل ما أدركت َأَملك فينا ،ول أدرْكَنا َأملنا
ت يا زياد ،فوا ّ
ل وطاعة أميرالمؤمنين ،وأّما أْن َ حص ذلك بطاعة ا ّ أن ُنَم ّ
ل تعالى ،فإذا فعلنا فليكن أحٌد َأْوَلى بك ِمّنا ،فإنك إل
فيك ُدون َرّدك إلى دارك ،ونحن راّدوك إليها غدًا إن شاءا ّ
ي في الخرة ،مال نخاف من حرب معاوية في الدنيا ،فقّدم ل نخاف من حرب عل ّ تفعل لم تأت ما يشبهك ،وِإنا وا ّ
خر هوانا ،فنحن معك وطوعك. هواك وأ ّ
سْربنا
ي ،فقال :أّيها المير ،إّنك لو رضيت ِمّنا بما ترضى به من غيرنا ،لم نرض ذلك لنفسناِ ، ثم قام خنُقر الحمان ّ
ل ما كان أمس.جْهدنا; إ ّ
ط ِإل اكتفينا بعفونا دون َ
ل مالقينا قومًا ق ّ
ِإلى القوم إن شئت ،وايُم ا ّ
] [ 403
ن هزموهم واضطروهم إلى دار سنبيل قدامة ـ فقال :أل أقاتل معك عدّوك؟ فقال :بلى; فما لبثت بنو تميم أ ْ
ي ،فجاءت أمى ل بن خازم السلم ّ ى وحّدوه ،فأتى رجل من بنى تميم ،ومعه عبدا ّ ن الحضرم ّ السعدي; فحصروا اب َ
ي ،فأبى فكشفت رأسها وأبدت وهى سوداء جشية اسمها عجلي ،فنادته ،فأشرف عليها ،فقالت :يا ُبّني ،انزل إل ّ
ن ،وأهوت بيدها إلى ثيابها ،فلما رأى ذلك َنَزل ،فذهبت ن أو لتعّري ّ ل لتنزل ّ
ِقناعها ،وسألته النزول فأبى ،فقالت :وا ّ
ي بالنار ،فقالت الزد :لسنا من الحريق بالنار في شيء; وهم به ،وأحاط جارية وزياد بالّدار ،وقال جارية :عل ّ
ل; أحدهم عبدالرحمن بن ى في سبعين رج ً ن الحضرم ّ قوُمك وأنت أعلم ،فحّرق جارية الّدار عليهم ،فهلك اب ُ
ى جارية منذ ذلك اليم محّرقًا; وسارت الْزد بزياد حتى أوطنوه قصر سّم َ
ي; و ُ
عميربن عثمان القرشي الّتيم ّ
ن جوارك شيء؟ قال :ل ،قالوا :فبّرئنا منه؟ فقال :نعم; المارة; ومعه بيت المال ،وقالت له :هل بقى علينا ِم ْ
فانصرفوا عنه .وكتب زياد إلى أميرالمؤمنين عليه السلم:
ى بمن نصره وأعانه من جْمع ابن الحضرم ّ ض َأما بعد ،فإن جارية بن قدامة العبد الصالح َقِدم من عندك ،فناَه َ
ل تعالىن دور البصرة في عدد كثير من أصحابه ،فلم يخرج حتى حكم ا ّ ضه واضطره إلى دار ِم ْ الزد ،فف ّ
ن الحضرمى وأصحابه ،منهم من أحرق بالنار; ومنهم من ُأْلقى عليه جدار; ومنهم من ُهِدم عليه بينهما ،فقِتل اب ُ
البيت من أعله; ومنهم من ُقِتل بالسيف ،وسلم منهم نفر أنابوا وتابوا ،فصفح عنهم ،وبعدًا لمن عصى وغوى!
ل وبركاته.والسلم على أميرالمؤمنين ورحمة ا ّ
] [ 404
غرار أهل الكوفة لما تنفس السلم وتنهنه حتى في مكة والمدينة ،ولو كانت إرادتهم الفردية هى الحاكمة وتمردوا
ن كثيرًا من
على أوامر قيادتهم الربانية لما اخضر عود شجرة السلم ولنهارت أعمدة خيمة اليمان .وبالطبع فا ّ
ن إرادتهم ضعفت ووهنت إثر تلك لأّ
ُاولئك كانوا ممن أدرك عصر النبي)صلى ال عليه وآله(أو رأى أصحابه ،إ ّ
ل)صلى ال عليه وآله( ،ول سيما على عهد الخليفة الثالث واقبال الناس على الحداث التي أعقبت رحيل رسول ا ّ
الدنيا والغترار بزخارفها والخلود إلى الراحة والدعة بعد تنامي الموال والثروات بفعل الفتوحات السلمية،
إلى جانب الدعاية الواسعة التي كان يمارسها المنافقون وأعداء الدين.
—–
] [ 405
الخطبة)57 (1
ن المراد به
ل أن المشهور أ ّ
هناك أبحاث بين شّراح نهج البلغة بشأن المقصود بكلم المام)عليه السلم( إ ّ
معاوية .فقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه :وكثير من الناس يذهب إلى أّنه)عليه السلم(عنى زيادًا ،وكثيرًا منهم
يقول إّنه عنى الحجاج أو المغيرة ،والشبه عندي أنه عنى معاوية ،لّنه كان موصوفا بالنهم وكثرة الكل ،وكان
بطينًا ،يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه(2) .
ل)صلى ال عليه وآله(قال:ن أباذر قال لمعاوية :سمعت رسول ا ّوروى أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانية أ ّ
لّمة حذرها منه« ،كما أورد عدة روايات من
لّمة العين الواسع البلعوم الذي يأكل ول يشبع فلتأخذ ا ُ
»إذا ولي ا ُ
ل بنالمصادر المعروفة من قبيل تأريخ الطبري وتأريخ الخطيب وكتاب صفين عن أبي سعيد الخدري وعبدا ّ
ل)صلى ال عليه وآله( قال» :إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه ،أو فاضربوا عنقه«)(3 ن رسول ا ّ مسعود أ ّ
فالعبارات الواردة في الرواية والتي تشبه
.1سند الخطبة :قال صاحب مصادر نهج البلغة لقد روي هذا الكلم عن أميَرالمؤمنين)عليه السلم(كرارًا من المحدثين قبل السيد
ن المام)عليه السلم(صعد منبر الكوفة فقال: الرضي )ره( .وروى إبراهيم الثقفى في كتاب الغارات عن المام الباقر)عليه السلم( أ ّ
»سيعرض عليكم سّبي «...كما روى هذا الكلم الكليني في الكافي والبلذري في أنساب الشراف والحاكم في المستدرك وشيخ
الطائفة الطوسي في المالي )مصادر نهج البلغة .(33 / 2
] [ 406
عبارات الخطبة تفيد أّنها بشأن معاوية .والشاهد الخر موضوع السب الذي ورد أخر الخطبة ،حيث نعلم جميعاً
بان معاوية كان يحرض الناس على سب أميرالمؤمنين)عليه السلم( من على المنابر ،فهل من داع للتحري عن
ن المام)عليه السلم( تحدث في هذه
فرد آخر وردت بشأنه الخطبة سوى التعصب والعناد؟! على كل حال فا ّ
الخطبة عن حاكم نهم أكول مندحق البطن يأمر الناس بسبه والبراءة منه .ثم أشار المام)عليه السلم( إلى وظيفة
لّمة حيال ذلك .وقد أثبت التأريخ صحة نبوءة المام)عليه السلم(التي تحققت في عهد معاوية.
اُ
—–
] [ 407
—–
الشرح والتفسير
إحذروا العدو
كما أوردنا سابقا على ضوء الحاديث والروايات أن المام)عليه السلم(تنبىء بحكومة معاوية وما تفضي إليه
هذه الحكومة من مفاسد فقال» :أما إّنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب ،البلعوم) ،(1مندحق) (2البطن ،ياكل ما
يجد ويطلب ما ليجد« .يمكن أن تكون العبارة إشارة إلى وضعه الظاهري ،حيث تفيد بعض الروايات أّنه كان
بهذه الصفات ،ومن هنا كان أكول ،ويمكن أن تكون كناية عن حالته الروحية والنفسية في ظل الحكومة ،في أّنه
حريص وتوسعي ول يشعبه شيئا من الحكومة ،ول يبعد أن يكون المراد كل المعنيين الروحي والجسمي أو
الحقيقي والكنائي ،وذلك لنه جمع النوعين من هذه الصفات.
ن مخاطب المام)عليه السلم( بهذه العبارة هم أهل العراق، ثم قال)عليه السلم(» :فاقتلوه ولن تقتلوه« قطعًا أ ّ
وكان يعلم المام)عليه السلم( بعدم قدرتهم على ذلك بسبب ضعفهم ووهن ارادتهم في إتخذا القرار ،أو أّنهم قد
ل أّنهم ليمتلكون الشجاعة والرادة التي ترفعهم إلى ذلك .أّما لماذا يستطيعون قتله إ ّ
» .1بلعوم« على وزن »حلقوم« موضع مرور الطعام ،ورحب البلعوم واسعه ،أو كناية لكثرة أكله.
» .2مندحق« من مادة »دحق« على وزن قطع بمعنى الدفع والبعاد وطرح الشي بعيدًا ،ولما كان كبر البطن يؤدي ِالى بروزها وكأّنها
تطرح بعضها خارجا ِاطلق على الشخص البطين مندحق البطن.
] [ 408
حكم المام)عليه السلم( بقتله ،فأوضح بسبب هو ذلك الفساد الذي أشاعه بين المسلمين ليكون مصداقا بارزاً
للمفسد في الرض إلى جانب سلبه لمن البلد السلمية وأخيرًا إثارته المعارك التي سفكت فيها دماء المسلمين.
وناهيك عما سبق فقد ابتدع تلك البدع العظيمة التي غيرت معالم الدين إضافة إلى أمره بسبب أميرالمؤمنين
ل)صلى ال عليه وآله(»من سب عليا فقد سبني«) .(1ثم تنبئ علي)عليه السلم(الذي قال بحقه رسول ا ّ
ل وإّنه سيأمركم بسبي والبراءة مني« وهذا بدوره يكشف عن مدى الحقد المام)عليه السلم(بهذه المسألة فقال» :إ ّ
ل)صلى ال عليه والضغينة التي كان يكنها معاوية لعلي)عليه السلم(رغم علمه بفضائله التي صرح بها رسول ا ّ
وآله(وسمعها القاصي والداني والتي تثبت بطلن حكومته ،ومن هنا سعى جاهدًا ليحول دون اطلع أهل الشام
على هذه الحاديث تمهيدا إلى منعها بالمرة وتحريفها .ثم أصدر أوامره بسب علي)عليه السلم( من على المنابر
وفى خطب صلة الجمعة ،حتى كان ينبرى أحدهم ليقول خير ما نختتم به خطبتنا سب أبي تراب ،وبالطبع فا ّ
ن
إشاعة السب تعني عدم إمكانية التحدث بالفضائل ،وهذه أسوأ بدعة ابتدعها معاوية يتعذر تبريرها على أي
متعصب حقود ،وما أروع ما قال الشاعر بهذا الشأن:
ن السب بدعة ظالمة لترسيخ دعائم حكومة معاوية ،ومنهم ن بعض بطانة معاوية أذعن إلى أ ّ الجدير بالذكر أ ّ
ل أّنه لما سئل عن علة السب ،أجاب» :إّنه ل يستقيم لنا المر أل بذلك«) .(3ثم أوصى مروان بن الحكم ،إ ّ
المام)عليه السلم( بكيفية التعامل مع هذه البدعة فقال »فاّما السب فسبوني ،فانه لي زكاة ولكم نجاة وأما البراءة
ن السب أمر فل تتبرأ وامني ،فاني ولدت على الفطرة وسبقت إلى اليمان والهجرة« .ويبدو من هذه العبارة أ ّ
ل انواجب الزامي ل إباحي لّنه يتضمن حفظ دماء الشيعة وايصال مبادئ مدرسة أهل البيت)عليهم السلم( .إ ّ
هذا المر قد يكتسب صفة الباحة كما عبر عن ذلك علماء الصول حيث أمر الوجوب يقتصر على احتمال المنع
لتوهم الخطر ،ومن هنا فان بعض تلمذه المام)عليه السلم(كرشيد الهجري وميثم
] [ 409
التمار وقنبر وسعيد بن الجبير الذين صمدوا وأبوا سبوا علي حتى قتلوا فأّنهم لم يرتكبو أي خلف ،بل أتوا بعمل
ن المؤمن إذا عرض للساءة من قبل العدو أو دفع الناس لنتهاك حرمته عظيم أهلهم للشهادة .ويتضح مّما سبق بأ ّ
ن ذلك ليس فقط ل يحط من قدره فحسب ،بل يزيده عزة وكرامة .وهنا يبرز هذا السؤال :ما الفرق بين السب فا ّ
ل :أّنه ولد على فطرة السلم والبراءة بحيث أذن المام)عليه السلم(بالسبب ولم يأذن بالبراءة لثلث :أو ً
واليمان ،ثانيا :أّنه كان من السابقين للسلم والتصديق بالنبي)صلى ال عليه وآله( ،والثالث :سبقه إلى الهجرة
من مكة إلى المدينة؟ فقد كثر الكلم بين المفسرين بشأن الفارق بين السب والبراءة ،ل يخلو بعضه من التكلف
ن سب النسان قد يكون إشارة إلى سوءه ن القرب في الفارق بينهما أحد أمرين :الول أ ّ وعدم القناع ،ويبدو أ ّ
ول يعطي مفهوم الكفر والشرك ،أّما البراءة فتعني التبري من دينه ومعتقداته كما ورد ذلك في الية الولى من
ن(وعليه فمفهوم البراءة من المام)عليه شِرِكـي َ
ن الُم ْ
ن عاَهـْدُتْم ِم َ
سوِلِه إلى اّلِذي َ
ل َوَر ُ
نا ّ
سورة التوبةَ) :برآَءٌة ِم َ
السلم( هو البراءة من الدين والسلم ،ومن هنا منع المام)عليه السلم( حتى من البراءة منه باللسان ،فالواقع أ ّ
ن
ن أغلب الناس المام)عليه السلم( أذن بالساءة إلى شخصه لكنه لم يأذن بالساءة إلى دينه ولو لفظيًا ـ والخر أ ّ
يتصورون أّنهم إذا إجبروا على كلم ل يمكنهم القتناع باللفاظ ولبدّ من أن ترافقه النّية ،ومن هنا فمن ُاجبر
ل إلّ أّنه
على إجراء صيغة الطلق فانه لبّد أن يقصد اللفظ والمعنى حين الصيغة ،ان كان طلق المكره باط ً
يتضمن قصد النشاء ولذلك ليستدل الفقهاء على بطلن هذا الطلق بعدم قصد المعنى ،بل يستندون في بطلنه
ن الول يهدف نفي ن قصد البراءة أسوأ ،ل ّ على الكراه ،ويصدق هذا المر على السب ،فقصد السب سيئ ،ال أ ّ
حرمة النسان ،أّما الثاني فيهدف البراءة من دينه ومعتقده; أي إسلمه وليس هنالك من مسلم مستعد لهذا العمل.
لمور الثلث التي ذكرها المام)عليه السلم( في نهيه عن البراءة: والدليل على ذلك ا ُ
عّلل نهَيه لهم على البراءة منه عليه السلم ،بقوله» :فإّني
المر الول» :فاّني ولدت على الفطرة« .أما كيف َ
ل أحد يوَلد على الفطرة; فقد قال النبي صلى
ولْدت على الفطرة«; فإن هذا التعليل ليختص به عليه السلم ،لن ك ّ
ل مولد يولد على الفطرة; وإّنما أبواه يهوّدانه وينصرانه«.
ل عليه وآله» :ك ّ
ا ّ
] [ 410
عّلل نهيه لهم عن البراءة منه بمجموع ُامور وعلل; وهى كونه ولد على الفطرة ،وكونه والجواب ،أّنه عليه السلم َ
سبق إلى اليمان والهجرة; ولم يعلل بآحاد هذا المجموع ،ومراده ها هنا بالولدة على الفطرة أّنه لم يوَلْد في
سل لربعين سنة ل عليه وآله أر ِ الجاهلية; لّنه ولد عليه السلم لثلثين عامًا مضت من عام الفيل; والنبي صلى ا ّ
ل عليه وآله مَكث قبل الرسالة سنين عشرًا يسمع مضت من عام الفيل; وقد جاء في الخبار الصحيحة أّنه صلى ا ّ
شر حكم حْكم تلك السنين الَع ْ الصوت ويرى الضوء ،ول يخاطبه أحد; وكان ذلك إرهاصًا لرسالته عليه السلم ف ُ
ل عليه وآله; فالمولود فيها إذا كان في حجره وهو المتوّلى لتربيته مولود في أيام كأيام النبّوة، أّيام رسالته صلى ا ّ
ن يدعى له من الصحابة مّماثلته في الفضل .وقد روى أ ّ
ن وليس بمولود في جاهلية محضة ،ففارقت حاُله حال َم ْ
ل عليه وآله ،فُأسِمع ل صلى ا ّ ى عليه السلم هى السنة التي بدئ فيها برسالة رسول ا ّ سَنة التى ولد فيها عل ّ
ال ّ
سَنة
طب فيها بشيء .وهذه ال ّ الُهتاف من الحجار والشجار ،وكشف عن بصره ،فشاهد أنوارًا وأشخاصًا; ولم يخا َ
شف بالرسالة ،وأنزل عليه هى السنة التي ابتدأ فيها بالتبّتل والنقطاع والعزلة في جبل حراء ،فلم يزل به حتى ُكو ِ
خير سميها سَنة ال َ ي عليه السلم فيها ،وي ّ عل ّ
ل عليه وآله يتّيمن بتلك السنة وبولدة َ ل صلى ا ّ الوحي ،وكان رسول ا ّ
ن قِبلها شاهد وسنة البركة; وقال لهله ليلة ولدته ،وفيها شاهد ما شاهد من الكرامات والقدرة اللهية ،ولم يكن ِم ْ
ل علينا به أبوابًا كثيرة من النعمة والرحمة« ،وكان كما قال صلوات حا ّ من ذلك شيئًا» :لقد ُولد لنا الليلة مولود َيْفَت ُ
ن السلم، ت دي ُ
ى عنه وكاشف الّغماء عن وجهه; وبسيفه ثب َ ل عليه ،فإّنه عليه السلم كان ناصره والمحام َ ا ّ
ورست دعائمه ،وتمّهدت قواعده عليه السلم.
ن جماعة من
المر الثالث» :والهجرة« كيف قال» :إّنه سبق إّنى الهجرة« ومعلوم أ ّ
] [ 411
المسلمين هاجرو اقبله ،منهم عثمان بن مظعون وغيره; وقد هاجر أبوبكر قبله ،لّنه هارج في صحبة النبي صلى
ل عليه وآله; ومكث أّياما يرّد
ل صلى ا ّ
ي عليه السلم عنهما ،فبات على فراش رسول ا ّ
ل عليه وآله; وتخلف عل ّ
ا ّ
الودئع التى كانت عنده ،ثم هاجر بعد ذلك؟
ل ذلك علىل الناس إلى الهجرة«; وإّنما قال» :وسبقت« فقط; ول يد ّ والجواب ،أّنه عليه السلم لم يقل» :وسبقت ك ّ
ل نفر يسير جدًا.
سْبقه للناس كافة; ول شبهة أّنه سبق معظم المهاجرين إلى الهجرة ،ولم يهاجر قبَله أحد إ ّ
َ
طرة ،ومنهاوأيضا فقد قلنا إّنه عّلل أفضلّيته وتحريم البراءة منه مع الكراه بمجموع أمور :منها ولدته على الِف ْ
لمور الّثلثة لم تجتمع لحد غيره; فكان بمجموعها متمّيزا عنسْبقة إلى الهجرة; وهذه ا ُ
سبقه إلى اليمان ،ومنها َ
ل أحد من الناس. كّ
تأّملت
ن المراد بالشخص الذي بين المام)عليه السلم(صفاته هو معاوية ،وذلك ن كافة القرائن تدل على أ ّ
أوردنا سابقًا أ ّ
ب المام)عليه السلم(ولم يبتدع هذاالمر أحد غيره،
لنطباق كافة الوصاف عليه إلى جانب كونه هو الذي سن س ّ
لّمة لتقف بصورة أعمق على ولعل عدم التصريح به يستند إلى رعاية متانة البيان ،أو إثارة حس الطلع لدى ا ُ
هذا المطلب ول سيما بالستناد إلى هذه الصفات ،أضف إلى ذلك فانّ الخطبة حيث تضمنت بعض النبوءات
ن المام)عليه السلم(لم يشئ الفصاح أكثر عن هذه الموضوع. الصريحة فا ّ
لقد صّرح المام)عليه السلم( في هذه الخطبة بقتل من إشتمل على هذه الصفات ،كما قال ولن تقتلوه .والسؤال
ن من يخرج الذي يطرح نفسه هنا :لم هدر المام)عليه السلم( دمه؟ والجواب واضح لدى العلماء والفقهاء ،ل ّ
على المام المعصوم فهو ناصبي خارج من ربقة السلم ،وقد خرج على إمام ثبتت إمامته بنص
لّمة .أضف إلى ذلك فقد رسخ
ل)صلى ال عليه وآله(وعن طريق بيعة ا ُ رسول ا ّ
] [ 412
معاوية أساس الفساد في الرض وبابشع وأوسع صوره ،وقد جيش الجيوش ضد المام)عليه السلم(حتى سالت
أنهارًا من الدماء في تلك المعارك .إلى جانب بعثه ببعض أشقيائه لشن الغارات تلو الغارات على مناطق العراق
المعروفة وأخيرًا قتله لمحمد بن أبي بكر ومالك الشتر وسائر كبار صحابة المام)عليه السلم( لتجعله في
مصاف المفسدين في الرض والذي حكم القرآن بهدر دمهم .فاذا كان هناك بعض الفراد المتعصبين الذين
ن النبي)صلى ليكترثون لكل هذه العمال ويبررونها باسم الجتهاد فلنا كلم آخر .فقد ورد في الحديث الشريف أ ّ
ل)صلى ال عليه ن حرب رسول ا ّ ال عليه وآله( قال» :يا علي حربك حربي وسلمك سلمي«) (1وكلنا نعلم بأ ّ
ن ابن
وآله(تجب الكفر حيث يصطلح على من يحاربه بالكافر الحربي الذي يباح دمه .وورد في حديث آخر أ ّ
عباس كان قد كف بصره فمر بجماعة يتحدثون فسأل دليله ماذا يقولون :أجاب :يسبون عليًا)عليه السلم( .قال
ل)صلىب رسول ا ّ ل فقد كفر ،قال :فمن منكم س ّ با ّل من س ّل؟ قالوا سبحان ا ّ
فاحملني إليهم ثم سألهم :لم تسبون ا ّ
ب عليًا)عليه ل)صلى ال عليه وآله(فهو كافر .قال فمن س ّ ل من سب رسول ا ّ ال عليه وآله(؟ قالوا سبحان ا ّ
ل)صلى ال عليه وآله( قال ل أني سمعت رسول ا ّ السلم(؟ قالوا :نعم نحن سببناه .قال ابن عباس فاّني أشهد ا ّ
ل على منخريه في النار .ثم التفت ل أكبه ا ّ
ل عزوجل ومن سب ا ّ »من سب عليًا فقد سبني ومن سبني فقد سب ا ّ
ابن عباس إلى دليله وقال له :كيف رأيتهم .فانشد يقول:
نظروا إليك باعين محمرة *** نظر التيوس إلى شفار الجارز
خزر العيون نواكس أبصارهم *** نظر الذليل إلى العزيز القاهر
لمة الميني في كتاب الغدير عن علماء السنة مثل محب الدين الطبري في الرياض والشافعي في .2روى هذا لحديث المرحوم الع ّ
الكفاية والحموي في الفرائد وابن صباغ المالكي في الفصول المهمة )الغدير (300 / 2وللوقوف أكثر راجع مصادر هذا الحديث في
المجلد السابع من احقاق الحق .423 / 16 ;2 / 7
] [ 413
أفلم يسمع معاوية قوله)صلى ال عليه وآله( لعلي)عليه السلم(» :أنا حرب لمن حاربت وسلم لمن سالمت«
ل)صلى ال عليه وآله( يهدر
ن من يحارب رسول ا ّ
وقوله» :حربك حربي وسلمك سلمي« ) (1ومن الطبيعي أ ّ
دمه ،وعليه فالذي يحارب المام)عليه السلم( يهدر دمه.
ن قام عمر بن عبدالعزيز رضى الّ وخطب بذلك على منابر السلم ،وصار ذلك سنة في أّيام بني أمية إلى أ ْ
ن أباترابن معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة :الّلهم ِإ ّ خنا أبوعثمان الجاحظ أ ّ تعالى عنه فأزاله .وذكر شي ُ
ل ،وعذبه عذابًا أليمًا .وكتب بذلك إلى الفاق ،فكانت هذه الكلمات حد في دينك ،وصّد عن سبيلك فالعنه لعنًا وبي ً أْل َ
ُيشار بها على المنابر; إلى خلفة عمربن عبدالعزيز.
ج خطب بالموسم ،فقام إليه إنسان ،فقال :يا أميرالمؤمنين ،إنن هشام بن عبدالملك لما ح ّوذكر أبو عثمان أيضًا أ ّ
ن أبي تراب ،فقال :اكفف ،فما لهذا جئنا.
ب فيه لع َ
هذا يوٌم كانت الخلفاء تستح ّ
ل القسري َلّما كان أمير العراق في خلفة هشام ،كان يلعن علّيان خالد بن عبدا ّ وذكر المبّرد في "الكامل" أ ّ
ل صلى ي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم ،صهر رسول ا ّ عليه السلم على الِمْنبر ،فيقول :اللهّم اْلعن عل ّ
ل عليه وآله على ابنته ،وأبالحسن والحسين! ثم يقبل على الناس ،فيقول هل َكّنيت! ا ّ
] [ 414
ل ،وصاعقًة من أمره أرسله على الكافرين ل على أعداءا ّقال محمد بن الحنفية في علي)عليه السلم( :كان يَد ا ّ
ل عليه وسّلم
شنف والحسد ،وابن عمه صلى ا ّ والجاحدين لحّقه ،فقتلهم بكفرهم فشنئوه وأبغضوه ،وأضمروا له ال ّ
ت أضغانها ،فمنهمب له ما عنده ،أظهرتْ له رجال أحقادها ،وشَف ْ ل إلى جواره ،وأح ّ ى بعُد لم يمت; فلما نقله ا ّ
حّ
ن شتمه وقذفه بالباطيل; فإن يكن لذّريته وناصري دعوته دولة َمن ابتّز حقه ،ومنهم من ائتمر به ليقتله ،ومنهم َم ْ
ل رَقابهم ،فيكون ن منهم يومئذ بالية ،بعد أن تقتل الحياء منهم ،وتذ ّ تنشر عظامهم ،وتحِفر على أجسادهم; والبدا ُ
سّر
ل كافر ُي ِ
ل ما يشتم عليًا إ ّ
شَفا صدوَرنا منهم; إّنه وا ّ
سمه قد عّذَبُهم بأيدينا وأخزاهم; ونصرنا عليهم ،و َ
ل عّز ا ُ
ا ّ
طت المنيُة ي عليه السلم عنه .ما إّنه قد تخ ّ ح به ،فيكنى بشتم عل ّ
ل عليه وآله ويخاف أن يبو َل صلى ا ّ شتم رسول ا ّ
ل منافق،ل عليه وآله فيه» :ل يحّبك إل مؤمن ول ُيبغضك ِإ ّ ل صلى ا ّ ل رسول ا ّمنكم َمن امتّد عمره ،وسمع قو َ
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون«.
—–
تطرق بعض شّراح نهج البلغة هنا إلى موضوع التقية وشرعيتها ،ول بأس أن نتعرض إليها هنا بصورة
مختصرة ونوكل الخوض في التفاصيل إلى محلها .فالتقية بالمعني اللغوي إجتناب الشيء بينما ذكروا لها عدة
تعاريف إصطلحية ،أهمها إخفاء العقيدة أو الدين خوف الضرر أو لمصلحة من المصالح ومنها حفظ الوحدة
ل)صلى ال جتناب الختلف أمام العداء .ويستند هذا المعنى إلى القرآن الذي تحدث عن أصحاب رسول ا ّ وا ِ
ل ِفينا ّ
س ِم َ
ك َفَلْي َ
ل ذ ِل َ
ن َيْفَع ْ
ن َوَم ْ
ن ُدونِ الُمْؤِمِنـي َ
ن َأْوِلياَء ِم ْ
ن الكاِفِري َ
خِذ الُمْؤِمُنو َ
عليه وآله(حين كانوا قلة) :ل َيّت ِ
ن َتـّتـُقوا ِمْنُهْم ُتقاًة( ) ،(1فقد تحدثت الية صراحة عن التقية بما ليبقي من مجال للشك فيها. ل َأ ْ
شيء( ثم قالِ) :إ ّ َ
أما قصة تقية عمار ونطقه ببعض الكلمات ضد السلم والنبي)صلى ال عليه وآله( أمام المشركين
] [ 415
ل)صلى ال عليه وآله( باكيًا خشية فساد دينه فهى مشهورة معروفة ،فقد إضطر لتلك الكلمات ،ثم أتى رسول ا ّ
نا ّ
ل ن الكراه هو الذي دفعه إلى ذلك فل ضرر على دينه وأ ّ ل)صلى ال عليه وآله( في أ ّ وإيمانه ،فهدأه رسول ا ّ
ح ِبالُكْفِر
شَر َ ن َ ن َم ْ
ن()َ)(1ولـِك ْ ليما ِ
ن ِبا ِطَمِئ ّ
ن ُأْكِرَه َوَقْلُبُه ُم ْل َم ْن َبْعِد ِإيماِنِه ِإ ّ
ل ِم ْن َكَفَر ِبا ّ
أنزل بحقه قرآنًاَ) :م ْ
ظـيٌم() (2النموزج الخر للتقية ما ورد في سورة غافر بشأن مؤمن آل عِ ب َعذا ٌ ل َوَلُهْم َ
نا ّ ب ِم َ
ض ٌ غ َ صْدرًا َفَعَلْيِهْم َ
َ
ت ِم ْ
ن ل َوَقْد جاَءُكْم ِبالَبّينا ِ
يا ّ
ل َرّب َ
ن َيُقو َ
ل َأ ْجًن َر ُن َيْكُتُم ِإيماَنُه َأَتْقُتُلو َعْو َ
ل ِفْر َنآِ ن ِم ْ
ل ُمـْؤِم ٌجٌ ل َر ُفرعونَ) :وقا َ
ل بتقيته .كما تظافرت الروايات َرّبُكْم()(3فالقرآن يثني على هذا المؤمن ويستحسن كلمه ويصرح برضى ا ّ
السلمية التي أكدت على أهمية التقية لتصفها باّنها تقي المؤمن مخاطر العداء وتحفظ دمه وأن التقى من الدين،
ومن ل تقية له ل دين له ،واليمان بل تقية كالجسد بل رأس ،وأّنها من أفضل العمال ،ول نرى البحث يتسع
للخوض في التفاصيل ،ومن أراد المزيد فليرجع إلى القاعدة السابعة من المجلد الول لكتاب القواعد الفقهية.
ن اظهار العقيدة الباطنية أحيانًا قد يسبب بعض الخطار على ن فلسفة التقية واضحة ،وهى أ ّ أضف إلى ذلك فا ّ
النفس والعرض والمال دون أن تترتب عليه أية فائدة ،فالعقل يحكم بضرورة عدم إهدار القوى والطاقات عبثًا،
ولبّد من حفظها بواسطة التقية واستثمارها في المواقع المطلوبة .ولعل هذا هو المعنى المراد بوصفها بترس
ن التقية ل تعني الفرار من المسؤولية ،بل هى أشبه بالتكتيك الحربي عن المؤمن أو جنة المؤمن .فالواقع هو أ ّ
طريق الستتار وإعادة تنظيم القوة واللجوء إليها في الوقت المناسب.
—–
ن هذه الية نزلت في عمار ،وصحيح أن عمار اجبر على الكفر إلّ أّنه تظاهر بأّنه تكلم من خلل
.1ـ أجمع مفسرون الفريقين أ ّ
العتقاد بذلك وأّنه رجع عن دين محمد ليتركوه ويحفظ دمه.
] [ 417
الخطبة)58 (1
لا ّ
ل ل حكم إ ّ
—–
.1سند الخطبة :اورد بعض هذه الخطبة قبل السيد الرضي )ره( إبن قتيبة في كتاب المامة والسياسة وابن الجوزي في تذكرة
الخواص والطبري في المسترشد ،كما نقل ابن أثير في كتاب النهاية عدة إحتمالت وردت بشأن بعض مفردات الخطبة وهذا يشير أّنه
حصل عليها من عدة نسخ )مصادر نهج البلغة.(36 / 2 ،
] [ 418
] [ 419
عَلى
شَهُد َ ل)صلى ال عليه وآله(َأ ْ سوِل ا ّ جهاِدي َمَع َر ُ ل َو ِي ِمْنُكْم آِثٌرَ ،أَبْعَد ِإيماِني ِبا ّ
بَ ،ول َبِق َص ٌ »َأصاَبُكْم حا ِ
بَ ،أَما ِإّنُكْم
عَقا ِ
عَلى َأَثِر اَْل ْ
جُعوا َ
شّر َمآب َواْر ِ ن« َفُأوُبوا َ ن اْلُمْهَتِدي َ
ت ِإذًا َوما َأنا ِم َ ضَلْل ُ
سي ِباْلُكْفِر! َلَقْد » ََنْف ِ
سّنًة«.ن ِفيُكْم ُ
ظالُمو َخُذها ال ّ
طعًا َوَأَثَرًة َيّت ِ
سْيفًا قا ِ
ل َو َن َبْعِدي ُذّل شاِم ً سَتْلَقْو َ
َ
—–
الشرح والتفسير
ن المام)عليه السلم( خطب هذه الخطبة حين رأى الخوارج التحكيم في صفين ثم رجعوا عنه ورفعوا كما ذكرنا أ ّ
ل« وطالبوا المام)عليه السلم( بالتوبة لقبوله التحكيم ليلتحقوا به فيقاتلوا أهل الشام،
ل ّ
شعار »ل حكم إ ّ
ل)صلى ال عليه ل وجهادي مع رسول ا ّ فقال)عليه السلم(»:أصابكم حاصب ،ولبقي منكم آثر ،أبعد إيماني با ّ
وآله( أشهد على نفسي بالكفر ،لقد »ظللت إذا وما أنا من المهتدين«.
ل ورسوله)صلى ال عليه يالها من مصيبة أن يبتلى بهؤلء الحمقى فرد مثل علي)عليه السلم( أول من آمن با ّ
ل)صلى ال عليه وآله( ـ وآله(ووقف إلى جانبه في جميع الغزوات ـ أل في البعض التي استخلفه فيها رسول ا ّ
وثبت في المواقع التي تنكص فيها البطال ليسقي شجرة السلم والتوحيد بلسانه وسيفه ،فيطالبه ُاولئك الحمقى
ن مظلومية بالعتراف بالكفر والتوبة .ولعل تأريخ السلم لم يشهد مثل هذه الحادثة المروعة ،ومن هنا نقول بأ ّ
المام)عليه السلم( كانت وما زالت تفوق من سواه .وكما صرح)عليه السلم(في الخطبة السابقة» :فاّني ولدت
ل طرفة عين أبدًا أّنه على الفطرة وسبقت إلى اليمان والهجرة«; المر الذي أكده علماء الفريقين وأنه لم يشرك با ّ
ل)صلى ال عليه وآله( في كافة الغزوات سوى تبوك حين كلفه النبي)صلى ال خاض غمار الجهاد مع رسول ا ّ
ن المراد بالحاصب الريح الشديدة التي تثير عليه وآله(بحفظ المدينة ،العبارة »أصابكم حاصب« وباللتفات إلى أ ّ
ل عليهم العذاب السماوي ،كما يمكن الحصباء بحيث قد تدفن أحيانًا قافلة ،تفيد الدعاء عليهم في أن يرسل ا ّ
] [ 420
أن تكون كناية عن المشاكل الجتماعية التي تعصف بحياتهم والعبارة »ول بقى منكم آثر« واستناد إلى أ ّ
ن
المقصود بالثر الشخص الذي يأثر الحديث ،أي يرويه ،فكأّنه قال)عليه السلم( لبقي منكم مخبر وهلكتم بأجمعكم
)طبعًا نقلت هذه المفردة بعدة صور ذات معان مختلفة سنعرض لها في شرح كلم السيد الرضي آخر الخطبة«.
ثم تساءل المام)عليه السلم(باستغراب عن ذلك الطلب المشين وهو من رّوي شجرة السلم بجهاده العظيم
ل)صلى ال عليه وآله( ،فهو أول من آمن وأسلم وهاجر ،فهل لمثل هذا ومواقفه المشهودة وشده أزر رسول ا ّ
الفرد أن يضل وينحرف عن السبيل .ثم أشار)عليه السلم( إلى موضوعين ،الول دعاؤه عليهم »فأبوا)(1
ل لهم الذلة والهوان في الدنيالا ّ
شرمآب وارجعوا على أثر العقاب«) (2فقد دعا عليهم في العبارة الولى سائ ً
ل أن يبتلهيم بما ابتلى به مشركي الجاهلية الذي كانوا على غرار الخوارج والخرة ،وفي العبارة الثانية سأل ا ّ
ل ثم يجحدونها .وذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أنّ قوله» :ارجعوا «...أراد به توبوا ،بينما تفيد يرون آيات ا ّ
قرينة هذا القول انه استمرار للدعاء السابق .والثاني نبوءته بمستقبلهم »أما ارنكم ستلقون بعدي ذل شامل وسيفًا
ن نبوء المام)عليه السلم(بحق الخوارج قد تحققت حيث قاطعًا وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة« جدير بالذكر أ ّ
ابيدوا في مختلف الحروب وتجرعوا الذل والهوان .وقد أفرد ابن أبي الحيدد فصل أسماه أخبار الخوارج وذكر
رجالهم وحروبهم ليخوض في تفاصيل أحداث زعمائهم وسنتطرق إلى ذلك في البحاث القادمة.
قال السيد الرضي )ره( شارحًا بعض مفردات الخطبة :قوله)عليه السلم(»ول بقى منكم آبر« يروى على ثلثة
أوجه :أحدها أن يكون كما ذكرناه :آبر بالراء ،من قولهم للذي يأبر النخل ـ أي يصلحه ـ ويروى »آثر« وهو الذي
يأثر الحديث ويرويه أي يحكيه ،وهو أصح الوجوه عندي ،كأّنه قال :ل بقي منكم مخبرًا ،ويروى آبز ـ بالزاي
المعجمة ـ وهو الواثب .والهالك أيضًا يقال له »آبز«.
—–
» .1أوبوا« من مادة »أوب« على وزن قوم بمعنى الرجوع ،كما تطلق هذه المفردة على السحاب والرياح بسبب الرجوع فيها.
.2أعقاب جمع عقب بمعنى كعب الرجل ،كما تطلق على الثر الذي يتركه على الرض ،وهى هنا كناية عن الجيال السابقة.
] [ 421
الخطبة)59 (1
شَرٌة«.
ع َ
ك ِمْنُكْم َ
شَرٌة َول َيْهِل ُ
ع َ
ت ِمْنُهْم َ
ل ل ُيْفِل ُ
طَفِة َوا ّ
ن الّن ْ
عُهْم ُدو َ
»َمصاِر ُ
—–
الشرح والتفسير
لمورن الرسول الكريم)صلى ال عليه وآله( وائمة العصمه)عليه السلم( قد أخبروا كرارًا عن ا ُ لشك ول ريب أ ّ
ن العلم بالغيب كان يمثل
الغيبية ،وبعبارة ُاخرى لهم علم بالغيب ،القرآن تحدث عن المسيح)عليه السلم( في أ ّ
ن ِفي ُبُيوِتُكْم() (2كما يختتم هذه الية بان ذلك من آيات ا ّ
ل خُرو َ
ن َوما َتّد ِ
إحدى معجزاته فقال )َوُأَنّبُئـُكْم ِبما َتْأُكُلو َ
وصدق دعوى نبوته.
وقد حفل نهج البلغة ومنه هذا الكلم بالخبار عن المغيبات .أّما أنى للمام)عليه السلم(بعلم الغيب؟ ما حدود
ل؟ وكيف تفسر الروايات الواردة بشأنعلم المعصوم بالغيب؟ وما تفسير اليات التي حصرت على الغيب با ّ
إثبات هذا العلم للمعصومين؟ وما إلى ذلك من أسئلة واستفسارات فقد أوكلنا الجابة عليها في شرح الخطبة .128
—–
.1سيأتى سند هذا الكلم ذيل الخطبة رقم 60فهى تشير إلى نفس الموضوع.
] [ 422
] [ 423
الخطبة)60 (1
لما قتل الخوارج فقيل له :يا أميرالمؤمنين هلك القوم بأجمعهم
خُرُهْم
نآِ
حّتى َيُكو َ
طَع َ
ن ُق ِ
ت الّنساِءُ ،كّلما َنجََم ِمْنُهْم َقْر ٌ
ب الّرجاِلَ ،وَقرارا ِ
صل ِ
ف ِفي َأ ْ
ط ٌ
لِ ،إّنُهْم ُن َ
ل َوا ّ
»َك ّ
ن«. لِبي َسّ صوصًا َ ُل ُ
—–
الشرح والتفسير
مصير الخوارج
هذا الكلم إستمرار لما ورد في البحاث السابقة بشأن الخوراج .وهنا أشار المام)عليه السلم(إلى بعض
النبوءات بشأن الخوارج; المر الذي يمكن اعتباره من معاجزه)عليه السلم( فقد إستهل كلمه بالرد على بعض
ل ،إنهم نطف في أصلب الرجال أصحابه ممن قال له :يا أميرالمؤمنين هلك القوم بأجمعهم فقال» :كل وا ّ
وقرارت) (2النساء« فحتى لو قتل هؤلء ،فهناك النطف التي
.1سند الخطبة :قال صاحب كتاب مصادر نهج البلغة بعد أن جمع الخطبة 59و 60بشأن هذا الكلم رواه المبرد في الكامل
)والمبرد من علماء القرن الثالث الهجري( ونقل بعضه البيهقي في المحاسن والمساوئ والمسعودي في مروج الذهب ثم مدح ابن
أبي الحديد في انه قال :هذا من الخبار المشهورة القربية من التواتر ومن معجزاته الغيبة)عليه السلم( .مصادر نهج البلغة/ 2 ،
.37
طَفًة
» .2قرارات« من مادة »قرار« ،وقرارت النساء أرحامهن حيث تنعقد النطفة لمدة في الرحم فتقر هناك ،وقال القرآن )ُثّم جََعْلناُه ُن ْ
ِفي َقرار َمـِكـين( ،سورة المؤمنون .13 /
] [ 424
ستلد في المستقبل وتقتفي آثار الخوارج ،وهذا ما حصل بالفعل حيث ظهر مثل هؤلء الفراد بعد سنوات ،بل
قرون لينتهجوا ذات السبيل الذي سلكه أوائلهم .أضف إلى ذلك وكما أشير سابقا فقد نجى تسعة أفراد من أصحاب
النهروان وفروا إلى مختلف المناطق ليرمموا هذه المدرسة الفاسدة ويعيدوا بنائها ممن جانب آخر فاننا نعلم بأ ّ
ن
من حضر النهروان لم يكونوا جميع الخوارج ،بل الخوارج .ثم اماط اللثام عن تبوءة ُاخرى فقال)عليه
السلم(»:كلما نجم) (1منهم قرن قطع« فالعبارة إشارة إلى وحشية الخوارج من جهة وأّنهم كالحيوان الذي له
قرن لذى الخرين ،ومن جهة ُاخرى يشير إلى النتكاسات المتتالية والهزائم المتتابعة التي يمنى بها الخوارج
طيلة حياتهم المقيتة; المر الذي تحقق تأريخيًا وسنتعرض له في البحث القادم .ثم يختتم المام)عليه السلم(كلمه
ل» :حتى يكون آخرهم لصوصا سلبين« وهذا هو المر الخر الذي ثبت تحققه تأريخيًا ،حيث تعرض أرباب قائ ً
التأريخ إلى عدد من مشهوري الخوارج ممن تحولوا إلى لصوص خطرين ،وسنعرض لهذا المر بالتفصيل
لحقًا.
تأّملت
ن الخوارج لم يكونوا فرقة معينة ،يقدر ما كان يراهم المام)عليه يستفاد من كلم المام)عليه السلم( أ ّ
ن القرائن تفيد أن هذه الظاهرة كانت على عهدالسلم(ظاهرة حية طيلة التأريخ السلمي ،حتى أ ّ
ل)صلى ال عليه وآله( ،فقد أورد المفسر الجليل المرحوم الطبرسي عن أبي سعيد الخدري في ذيل الية رسول ا ّ
ل)صلى ال عليه وآله(حين قسم غنائم قبيلة هوازن على ن رسول ا ّ ت (2)(...أ ّصَدقا ِ
ك ِفي ال ّ
ن َيْلِمُز َ
)َوِمْنُهْم َم ْ
ل)صلى ال عليه وآله( :فمن المسلمين يوم حنين قام إليه حرقوص بن زهير وقال :اعدل يا محمد! فقال رسول ا ّ
ل ،فقال)صلى ال عليه وآله(» :دعه فان له ذا يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر :دعني أضرب عنقه يا رسول ا ّ
أصحابا يحقر أحدكم صلته مع صلتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية«
ن النبي)صلى ال عليه وآله(قال:وأضاف المرحوم الطبرسي وجاء في حديث آخر أ ّ
» .1نجم« من مادة »نجم« على وزن حجم بمعنى الطلوع ،كما يطلق على كل ظهور وطلوع مفاجىء.
] [ 425
طوا
عُن ُأ ْ
ت َفِإ ْ
صَدقا ِ
ك ِفي ال ّ
ن َيْلِمُز َ
»فاذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم« فترلت الية المذكورةَ) :وِمْنُهْم َم ْ
ن هذه الكلمات تفيد إمتداد الجذور الفكرية للخوارج ن( .فالواقع أ ّ
طو َ
خـ ُ
سَطْوا ِمْنها ِإذا ُهْم َيـ ْ
ن َلْم ُيـْع َ
ضوا َو ِإ ِْمْنها َر ُ
إلى عصر النبي)صلى ال عليه وآله(وأّنهم لم يكونوا يتورعون حتى عن مجابهة النبي)صلى ال عليه وآله(إذا
ن عائشة سألت مسروق :هل عندك تعرضت مصالحهم للخطر .ونقل ابن أبي الحديد عن مسند أحمد بن حنبل أ ّ
علم من المخدج )أحد زعماء الخوارج(؟ فقلت :نعم ،قتله علي بن أبي طالب على نهر قالت عائشة :إبغني على
ل شهدوا عندها بذلك .قال فقلت لها :سألتك بصاحب القبر ،ما الذي سمعت من ذلك بينة .فأقمت رجا ً
ل)صلى ال عليه وآله(فيهم؟ فقالت :نعم سمعته يقول» :إّنهم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق رسول ا ّ
ل وسيلة«) .(1هذا ويمكن ايجاز مميزات الخوارج فيمايلي :إّنهم طائفة تعني كثيرًا بظواهر والخليقة وأقربهم عندا ّ
العبادات وحتى المستحبات والمكروهات البسيطة وهذا ما جعلهم يعيشون الغرور ويشعرون بالعجب ،وبالمقابل
كانوا أفراد جاهلين متعصبين خارجين عن حدود الدب والخلق ،ول يتورعون عن أقذر الساليب من أجل تحقيق
مآربهم ،وأفضل نموذج على ذلك سوء خلق »ذو الخويصرة« )حرقوص( وفضاضته تجاه النبي)صلى ال عليه
ن هذا ليعني عدم وجود إمتداداتهم الفكرية لما قبل
لأّ
ن الخوارج ظهروا في صفين بعد التحكيم إ ّ وآله( .صحيح أ ّ
عصر المام)عليه السلم(ومازلنا إلى اليوم نلمس ثقافتهم وأفكارهم المنحطة لدى بعض طبقات وفئات مختلف
المجتمعات البشرية ،ولعل أغلب الوهابيين ينتمون إلى هذه الزمرة ،لّنهم يتصفون بصفاتهم .كما نرى في
أوساطنا بعض الفراد الشديدي اللتزام بقشور الدين بينما يرون إنحراف كبار علماء الدين عن الصراط المستقيم
ويسعون جاهدين لثارة البلبل والفتن .وليبدو القتال علجًا لمرض هذه الفئة الضللة ،بل علجها يكمن في رفع
لّمة وانفتاحها على المسائل الدينية والعقائدية; المر الذي صرح به المام)عليه السلم( في
المستوى الثقامي ل ُ
الخطبة القادمة .وقد أشار المام)عليه السلم( في الخطبة السادسة والثلثين إلى مدى جهل هؤلء الفراد فقال
»وأنتم معاشر أخفاء الهام ،سفهاء الحلم ولم آت ـ ل أبالكم ـ بجرا ول أردت
] [ 426
ل بنلكم ضرًا« .وكفى هذه الفرقة ضللة وانحرافًا وفضاضة ما فعلته بصحابي النبي)صلى ال عليه وآله(عبدا ّ
الخباب المعروف بورعه وتقواه وزوجته الحاملة حيث قتلتها بتلك الطريقة البشعة وبقرت بطن زوجته لّنهما لم
يتنكرًا لعلي)عليه السلم(بينما كانت تستشكل قتل اليهودي ،بل كانت لترى جواز قتل الخنزير .بل كانوا يشكلون
على أحدهم إذا تناول تمرة مهملة تحت شجرة دون إذن صاحبها ،بينما ليتورعون عن سفك دماء كبار صحابة
ل)صلى ال عليه وآله(وأميرالمؤمنين)عليه السلم( .كان هنالك تناقضًا واضحًا بين ظاهرهم وباطنهم رسول ا ّ
وأقوالهم وأفعالهم ،حتى إمتد ذلك التناقض إلى عقائدهم الفقيهة والكلمية ،فكانوا يرون وجوب قتل مرتكب
الكبيرة ،بينما يعتقدون بعدم الحاجة إلى الحاكم رغم الفوضى والهرج والمرج الذي يسود المجتمع .وتفيد القرائن
أّنهم كانوا مفرطين في المسائل الجنسية وغارقين في الشهوات ،ولعل هذا ما جعلهم يجوزون العقد على تسع
نساء ،ول يرون الرجم عقوبة لمن زنا وهو محصن .ومن الطبيعي أن تتفرع هذه الفرقة عدة فروع بفعل ذلك
الجهل والتعصب والحمق ،ومن هنا لم تمض عليها مدة حتى انقسمت فرقًا لكل منها زعيم من قبيل الزارقة
والنجدات والصفرية والعجاردة والثعالبة وما تشابه ذلك .لعلنا نلمس هذه الفرقة اليوم في الوهابية التي تعيش
التمسك بظاهر العبادات وتتحرج في المكروهات والمباحات وتؤدي المستحبات ،بينما تكفر أغلب المسلمين من
ل أّنهم يرون أنفسهم أفضل من غيرهم ،فهم السنة والشيعة وتبيح دمائهم ،ورغم ضحالتهم الفكرية وجمودهم إ ّ
ل.
كالخوارج يرون أنفسهم الحق المطلق وما سواهم باط ً
ن آخرهم لصوصًا سلبين .فمن بين يشهد التأريخ بتحقق ما أخبر به المام)عليه السلم( عن الخوارج من أ ّ
الفراد الذين ذكرهم ابن أبي الحديد الذي آل أمرهم إلى السرقة والسلب :الوليد بن طريق الشيباني على عهد
هارون الرشيد .فبعث له هارون بيزيد بن مزيد هو من بني شيبان فقتله وأتاه برأسه وابن عمرو الخثعمي على
ل أّنه هرب بينما
عهد المتوكل العباسي الذي عرف بقطعه للطرق ،فبعث له بأبي سعيد محمد بن يوسف الطائي ،إ ّ
قتل جمع كثير من صحبه وأسر آخرون .ثم ظهرت جماعة منهم في منطقة كرمان وعمان فكانوا مفسدين في
الرض ومحاربين،
] [ 427