You are on page 1of 237

‫آية ال العظمى الشيخ مكارم الشيرازي‬

‫نفحات الولية‬
‫في شرح نهج‬
‫البلغة‬
‫جزء ‪2‬‬

‫معروف‬

‫‪1432‬‬
‫المجلد الثاني‬

‫]‪[4‬‬

‫بمساعدة مجموعة من الفضلء‬

‫‪ 1‬ـ محمد جعفر المامي‬

‫‪ 2‬ـ محمد رضا الشتياني‬

‫‪ 3‬ـ محمد إحساني فر‬

‫‪ 4‬ـ محمد جواد أرسطا‬

‫‪ 5‬ـ إبراهيم البهادري‬

‫‪ 6‬ـ سعيد داودي‬

‫‪ 7‬ـ أحمد القدسي‬

‫]‪[5‬‬

‫الخطبة)‪21 (1‬‬
‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫»وهى كلمة جامعة للعظمة والحكمة«‬

‫خُرُكم«‪.‬‬
‫حُقوا‪َ ،‬فإّنما ُينَتظر ِبَأّولُكم آ ِ‬
‫خّففوا َتل َ‬
‫حُدوُكم‪َ .‬ت َ‬
‫ساعَة َت ْ‬
‫ن َوراَءُكم ال ّ‬
‫ن الغاَيَة أماَمُكم‪ ،‬وإ ّ‬
‫»فإ ّ‬

‫—–‬

‫ن هذا الكلم لو وزن بعد كلم ال سبحانه وبعد كلم رسول ال)صلى ال عليه‬ ‫قال السيد الشريف الرضي‪ :‬أقول‪ :‬إ ّ‬
‫ل منه‬
‫وآله( بكل كلم لمال به راجحًا‪ ،‬وبّرز عليه سابقًا فأّما قوله)عليه السلم(‪» :‬تخففوا تلحقوا« فما سمع كلم أق ّ‬
‫ل وما أبعد غورها من كلمة! وأنقع نطفتها من حكمة! وقد نبهنا في كتاب‬ ‫مسموعًا ول أكثر منه محصو ً‬
‫»الخصائص« على عظم قدرها وشرف جوهرها‪.‬‬

‫شرح الخطبة‬

‫تخففوا تلحقوا !‬

‫ورد هذا الكلم ضمن سياق الخطبة ‪ ،167‬حيث تضمنت تلك الخطبة مثل هذه العبارات مع بعض الفوارق‬
‫الطفيفة‪.‬‬

‫‪ .1‬نقل كتاب مصادر نهج البلغة هذه الخطبة التي أوردها السيد الرضي)رضي ال عنه( في الخصائص ‪ 87 /‬وأضاف في ذيل‬
‫ل‪) :‬رواها »الطبري« في تأريخه ضمن حوادث سنة ‪ 35‬هـ )مصادر نهج البلغة‬
‫الخطبة ‪ 167‬ـ التي تعد هذه الخطبة جزءًا منها ـ قائ ً‬
‫‪ 371 / 1‬و ‪.(403 / 2‬‬

‫ن الّمة بايعت عليًا)عليه السلم( يوم الجمعة لخمس بقين من شهر ذي الحجة وأّنها أول‬
‫ويتبين من الرجوع إلى تأريخ الطبري أ ّ‬
‫خطبة أوردها علي)عليه السلم( ضمن خطبته ‪ .167‬تأريخ الطبري ‪.457 / 3‬‬

‫]‪[6‬‬

‫ن المام)عليه السلم( قد ألقى هذه الخطبة أوائل ما آلت إليه‬


‫والذي يفهم من كلم المرحوم السيد الشريف الرضي أ ّ‬
‫ن هذه الخطبة هى إمتداد للخطبة السابقة وتعّرض لذات‬ ‫الخلفة‪ ،‬بينما يفهم من كتاب »مطالب السؤل«)‪ (1‬أ ّ‬
‫المطالب‪.‬‬

‫ن الخطب الثلث قد صدرت معًا عن أمير المؤمنين)عليه السلم( في موضع واحد‪ ،‬ثم‬
‫وهناك احتمال آخر في أ ّ‬
‫ت ثلثة أقسام‪.‬‬
‫صّنف ْ‬
‫ن هذا القسم من الخطبة ـ والذي ل يتجاوز بضعة عبارات ـ وعلى حد تعبير السيد الرضي لو‬ ‫على كل حال فإ ّ‬
‫وزن بعد كلم ال وبعد كلم رسول ال)صلى ال عليه وآله( لمال به راجحًا! والحق ان المر كذلك حقاً ماهذه‬
‫الفصاحة والبلغة في كلمات قصار تتعّرض لمثل هذه الحقائق السامية!‬

‫لّمة بادئ المر إلى مفهوم المعاد ومحكمة العدل اللهي ليلفت إنتباههم من خلل ذلك إلى عظم‬ ‫فالمام ينّبه أبناء ا ُ‬
‫المسؤوليات والوظائف التي ينبغي لهم أن ينهضوا بها في خلفته‪ ،‬ويحذرهم من كافة ألوان النفاق والتشتت‬
‫والفرقة والنكوص عن إداء الواجبات‪ .‬وأخيرًا يذكرهم بالعاقبة التي تنتظرهم بعد العرض على ال يوم القيامة‪،‬‬
‫فأّما الجّنة وأّما النار »فإن الغاية أمامكم‪ ،‬وإن وراءكم الساعة تحدوكم«‪.‬‬

‫ن الحياة في الدنيا إّنما هى مقدمة للحياة البدية‬


‫والتعبير بـ »الغاية« )عاقبة المر( بشأن القيامة والجّنة والنار ل ّ‬
‫في العالم الخر‪.‬‬

‫لمور هناك وليس لحد‬


‫فقوله)عليه السلم(‪» :‬فان الغاية أمامكم« يعني عدم وجود الشك والريب في أن مآل ا ُ‬
‫الفرار عن ذلك المآب‪.‬‬

‫وأّما التعبير بـ »الساعة« فقد صّرح بعض شارحي نهج البلغة بأّنه إشارة إلى القيامة الصغرى; أى الموت‪.‬‬
‫ن عوامل الموت إّنما تكمن وراء النسان‪ ،‬فهى تسوق النسان من الطفولة‬‫فقوله)عليه السلم(‪» :‬وراءكم« يفيد أ ّ‬
‫إلى الشباب ومن الشباب إلى الكهولة والشيخوخة وأخيرًا من الشيخوخة إلى انقطاع الحياة‪ .‬في حين صّرح‬
‫ن المراد بـ »الساعة« هو ساعات‬
‫البعض الخر بأ ّ‬

‫‪ .1‬منهاج البراعة ‪.301 / 3‬‬

‫]‪[7‬‬

‫الليل والنهار وكأّنها المر الصارم الذي كمن خلف النسان ويسوقه إلى حتفه‪ .‬وليس هناك من فوارق تذكر بين‬
‫هذين التفسيرين حيث مؤداهما واحد‪ .‬وبالستناد إلى أن كلمة »تحدوكم« المشتقة من مادة »حدو« بمعنى »السوق‬
‫والدفع نحو الشيء«‪.‬‬

‫ن الذي يتبادر إلى الذهن هو أن تقلب الليل والنهار والشهر والسنة رغم تقريبها النسان من وصول أجله‬
‫فإ ّ‬
‫ن هذه العبارة‬
‫وانقطاع حياته‪ ،‬غير أّنها تشكل عوامل غفلته بفعل اختلطها بزخارف الدنيا وزبرجها‪ .‬فالواقع هو أ ّ‬
‫التي تصدرت الكلم رغم قصرها قد أشارت إلى القيامة الكبرى إلى جانب إشارتها إلى القيامة الصغرى; المر‬
‫الذي يعّد المستمع للصغاء إلى المرحلة اللحقة‪.‬‬

‫فأورد)عليه السلم( هذه الجملة المقتضبة العميقة المعنى‪» :‬تخففوا تلحقوا« عادة إذا ما انطلقت قافلة من الناس إلى‬
‫ن أولئك الفراد المثقلين بالحمال‬‫مكان وواجهت هذه القافلة بعض المنعطفات التي ليمكن اجتيازها بسهولة فإ ّ‬
‫غالبًا ما يتخلفون عن القافلة التي ل يسعها الوقوف من أجل فرد أو بضعة أفراد فل يكون أمامها سوى تجاوز ذلك‬
‫الفرد ومواصلة السير والحركة‪ .‬أّما ذلك الفرد الذي تخلف عن القافلة فإّنه سيكون لقمة سائغة لقطاع الطرق‬
‫ق المخفون طريقهم بسرعة تجعلهم يصلون إلى هدفهم أسرع من الجميع‪.‬‬ ‫واللصوص وذئاب الصحراء‪ ،‬بينما يش ّ‬
‫وهذا هو حال بني آدم في هذه الدنيا‪ ،‬فهم مسافرون وقد شّدوا الرحال إلى الحياة البدية التي تعّقب الموت‪ .‬فمن‬
‫ثقل حمله من متاع الدنيا وحطامها كان لقمة سائغة للشيطان‪ ،‬أّما أهل الورع والزهد والتقوى فإّنهم سيحثون‬
‫الخطى سريعًا لينالوا سعادة الخرة والفوز بالخلود‪.‬‬

‫وقد أّكد المام)عليه السلم( هذا المعنى ـ في الخطبة ‪ 204‬ـ حين نادى أصحابه‪» :‬تجّهزوا ـ رحمكم ال ـ فقد‬
‫ن أمامكم عقبة كؤودا ومنازل مخوفة مهولة«‪.‬‬
‫نودى فيكم بالرحيل وأقّلوا الُعرجة على الدنيا‪ ...‬فإ ّ‬

‫وقد شبه بعض شّراح النهج النسان بالمسافر الذي يجوب البحر وهو يواجه أمواجه العاتية حيث سيكون الغرق‬
‫مصيره الحتمي إذا لم يخف مؤونة سفينته‪.‬‬
‫ب الدنيا والنغماس‬
‫وقد شبهوا قلب النسان بهذه السفينة‪ ،‬التي ستواجه الغرق ل محالة إذا ما أثقل ذلك القلب بح ّ‬
‫في الشهوات‪(1).‬‬

‫‪ .1‬معارج نهج البلغه‪ ،‬بيهقى ‪.109 /‬‬

‫]‪[8‬‬

‫وأخيرًا يختتم المام علي)عليه السلم( خطبته بقوله‪» :‬فانما ينتظر بأولكم آخركم«‪ .‬وتدل هذه العبارة بوضوح‬
‫ن عالم البشرية بحكم القافلة الواحدة التي تشتمل على المقدمة ـ التي سبقت بالحركة ـ والوسط والمؤخرة;‬
‫على أ ّ‬
‫خرتها بمقدمتها‪ ،‬وبعبارة ُاخرى فإنّ قانون الموت ل يعرف الحصر والستثناء‬ ‫وهى تواصل مسيرتها لتلتحق مؤ ّ‬
‫ن عاقبة الولين نذير مبين للخرين‪.‬‬
‫وهو المحطة التي سيتوقف عندها الجميع‪ .‬وبناًء على ما تقّدم فإ ّ‬

‫عاقبة المثقلين!‬

‫ن أهم عامل يقف وراء خسران طائفة من الناس والذي تضمنته كلمات المام)عليه السلم( في خطبته إّنما يكمن‬ ‫إّ‬
‫في إثقال كاهلها بالتكالب على متاع الدنيا الزائد عن حاجتها في حياتها الدنيوية المتواضعة‪.‬‬

‫ن فردًا ينطلق للسفر ليوم واحد وقد حمل مقدارًا من الخبز والماء والفاكهة لما يكفيه لذلك اليوم‪،‬‬‫ولك أن تفرض أ ّ‬
‫بينما حمل الخر عدة حقائب وقد ملها بمختلف الطعمة والشربة والفاكهة وانطلق إلى سفره‪ .‬فمن البداهة أن‬
‫ينطلق الول بكل هدوء وخفة وخطى واثقة وحثيثة دون أن يشعر بالكلل والتعب‪ ،‬في حين سينقطع نفس الثاني‬
‫ول يسعه مواصلة السير والحركة‪ .‬وهذا هو المصير الذي ينتظر أولئك الفراد الذين جعلوا همهم في الدنيا‬
‫ومتاعها الزائل وجعلوا يفّكرون ليل نهار في كيفية حفظ هذه الموال‪ ،‬حتى أنستهم ذكر ال‪ ،‬ولم يكتفوا بذلك‬
‫ففقدوا حتى السكينة والطمأنينة في حياتهم الدنيا‪.‬‬

‫هذا وقد تطرق بعض شّراح نهج البلغة إلى قصة الصحابي الجليل سلمان الفارسي)رضي ال عنه(كشاهد حي‬
‫ونموذج لقول المام علي)عليه السلم( »تخففوا تلحقوا« وذلك حين نصب واليًا على منطقة المدائن فركب دابته‬
‫وانطلق بمفرده إليها‪.‬‬

‫فاتصل بالمدائن خبر قدومه‪ ،‬فاستقبله أصناف الناس على طبقاتهم‪ ،‬فلما رأوه قالوا‪ :‬أيها الشيخ أين خّلفت أميرنا؟‬
‫قال‪ :‬ومن أميركم؟ قالوا‪ :‬المير سلمان الفارسي صاحب رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪.‬‬

‫قال‪ :‬ل أعرف المير‪ ،‬وأنا سلمان‪.‬‬

‫]‪[9‬‬

‫ن حماري هذا خير لي وأوفق‪ .‬فلما دخل البلد أرادوا أن ينزلوه‬ ‫فترجلوا له وقادوا اليه المراكب والجنائب‪ .‬فقال‪ :‬إ ّ‬
‫ي صاحب الحانوت فاستأجر منه‪ .‬وكان‬ ‫دارالمارة قال‪ :‬ولست بأمير‪ .‬فنزل على حانوت في السوق وقال إدعوا إل ّ‬
‫ن سيل وقع في البلد‬‫معه وطاء يجلس عليه ومطهرة يتطّهر بها للصلة وعكازة يعتمد عليها في المشي‪ .‬فأتفق أ ّ‬
‫فارتفع صياح الّناس بالويل والعويل يقولون‪ :‬وا أهله وا ولداه و وا ماله‪ ،‬فقام سلمان ووضع وطائه في عاتقه‬
‫وأخذ مطهرته وعكازته بيده وإرتفع على صعيد وقال‪ :‬هكذا ينجو المخّففون يوم القيامة‪(1).‬‬

‫ن هذا الكلم لو وزن بعد كلم ال سبحانه وبعد‬ ‫والطريف في المر ما ذكره السيد الرضي)رضي ال عنه( من أ ّ‬
‫كلم رسول ال)صلى ال عليه وآله(بكل كلم لمال به راجحًا‪ .‬ولسيما قوله)عليه السلم(‪ :‬تخففوا تلحقوا‪.‬‬

‫فما أبعد غورها وأعظمها من حكمة وموعظة رغم قصرها; المر الذي دفع بالسيد الرضي)رضي ال عنه( إلى‬
‫السهاب في الخوض في تفاصيلها في كتابة »الخصائص«‪.‬‬
‫—–‬

‫‪ .1‬منهاج البراعة ‪ 4 /3‬ـ ‪.3‬‬

‫] ‪[ 10‬‬

‫] ‪[ 11‬‬

‫الخطبة ‪22‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم()‪(1‬‬

‫خَبُر الناكثين بيعَِته‪.‬‬


‫ن َبَلغُه َ‬
‫حي َ‬

‫ن ويتهّددهم بالحرب‪.‬‬
‫وفيها يذّم عمَلهم ويلزمهم دَم عثما َ‬

‫القسم الول‬

‫ل! ما‬
‫طُل إلى ِنصاِبِه‪َ ،‬وا ِ‬
‫جوُر إلى أوطاِنِه وَيرجَع البا ِ‬
‫جلَبُه ِلَيُعوَد ال َ‬
‫ب َ‬
‫حزَبُه َواستجَل َ‬ ‫شيطان َقْد َذّمر ِ‬ ‫ن ال ّ‬
‫»أل وإ ّ‬
‫صفًا«‪.‬‬ ‫ي ُمنَكرًا‪ ،‬ول جَعُلوا َبيِني َوَبيَنهم َن ِ‬‫عل ّ‬
‫أنكُروا َ‬

‫—–‬

‫‪ .1‬لقد أورد هذه الخطبة وشرحها كل من المرحوم »الشيخ المفيد« في »الرشاد« في الفصل ‪ 22‬من كلمات المام علي)عليه‬
‫لمة المجلسي في بحار النوار‬‫السلم(‪ ،‬والكليني في »الكافي« ‪ 53 / 5‬كتاب الجهاد إلى جانب بعض الخطب الخرى‪ ،‬والمرحوم الع ّ‬
‫ل‪:‬‬
‫‪ .193 / 32‬كما ذكرها ابن أثير في عدة مواضع من كتابه النهاية بتناسب مفردات الخطبة‪ .‬ويضيف مؤلف مصادر نهج البلغة قائ ً‬
‫ن هذه الخطبة ذات إرتباط‬
‫لقد أقتبست هذه الخطبة من سائر خطبه)عليه السلم(‪ ،‬فهو يعتقد بأّنها مرتبطة بالخطبة ‪ ،26‬كما يرى بأ ّ‬
‫بالخطبة ‪ 172‬ـ مصادر نهج البلغة ‪.373 / 1‬‬

‫] ‪[ 12‬‬

‫أضواء على الخطبة‬

‫وردت هذه الخطبة ـ كما يفهم من عنوانها ـ بشأن طلحة والزبير بعد نقضهما البيعة وما تلها من أحداث مريرة‬
‫تمثلت إحداها بمعركة الجمل‪ ،‬كما تشير إلى قضية المطالبة بدم عثمان التي تمسك بها أصحاب الجمل والتي‬
‫استغلت فيما بعد من قبل أهل الشام‪.‬‬

‫وأخيرًا تتضمن مذمتهم وتقريعهم من جانب المام)عليه السلم( والرد الحاسم على تهديداتهم وتخرصاتهم‪ .‬وتبدو‬
‫مضامين هذه الخطبة أكثر شبهًا بخطبه ‪ 26 ،10‬و ‪ ;172‬المر الذي جعل من المحتمل أن تكون كل خطبة من‬
‫هذه الخطب جزءًا من خطبة واحدة وقد قام السيد الرضي)رضي ال عنه( بتجزأتها على ضوء ما يناسب المقام‪.‬‬

‫ن عمرو بن العاص قال يومًا لعائشة‪» :‬لوددت أّنك قتلت يوم‬


‫ن بعض الروايات صّرحت بأ ّ‬ ‫الطريف في المر أ ّ‬
‫الجمل!«‪ .‬فردت عائشة متعجبة‪» :‬ولم؟ ل أبًا لك!«‪ .‬فأجابها بن العاص‪» :‬كنت تموتين بأجلك وتدخلين الجّنة‬
‫ي«)‪.(1‬‬‫ونجعلك أكبر التشنيع على عل ّ‬

‫لأّ‬
‫ن‬ ‫ن هذه من الخطب المتعلقة بمعركة صّفين‪ ،‬وقد عنت عباراتها معاوية)‪ ،(2‬إ ّ‬
‫يرى بعض شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫الذي يستفاد من عنوان الخطبة الذي اعتمده السيد الرضي)رضي ال عنه(وكلم ابن أبي الحديد)‪ (3‬وسائر‬
‫ن هذه الخطبة إّنما تتناول ناكثي البيعة من أصحاب الجمل‪ ،‬وإن كانت مضامينها تتناسب وحال‬
‫الشّراح أ ّ‬
‫الطائفتين; الجمل وصفين‪.‬‬

‫الشرح والتفسير‬

‫وقعة الجمل‬

‫ن الخطبة وردت بخصوص أولئك الذين أججوا نيران فتنة الجمل; أي طلحة والزبير ورهطهما‪.‬‬ ‫أشرنا سابقًا إلى أ ّ‬
‫فقد كان كل من طلحة والزبير يطمع في الحكومة ولما صرفها المام)عليه السلم( عنهما ولم يكن مستعّدا‬
‫لتقليدهما أّية مسؤولية في حكومته‪ ،‬ثارت ثائرتهما وقادهما‬

‫ل عن الحتجاج للطبرسي‪.‬‬
‫‪ .1‬بحار النوار ‪ 267 / 32‬ح ‪ 206‬نق ً‬

‫‪ .2‬شرح القطب الراوندي ‪.188 / 1‬‬

‫‪ .3‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.305 / 1‬‬

‫] ‪[ 13‬‬

‫هوى أنفسهما لنقض البيعة‪ ،‬وأخذا يجيشان الجيوش بما فيها عائشة ـ زوج النبي)صلى ال عليه وآله( ـ ويهيا لقتال‬
‫علي)عليه السلم( بذريعة الطلب بدم عثمان)‪ ،(1‬وقد إختارا البصرة ـ التي كانت ممهدة آنذاك لمثل هذه الفتنة ـ‬
‫مركزًا لمؤامراتهم الدنيئة على المام)عليه السلم(‪.‬‬

‫ن الشيطان قد ذمر)‪(2‬حزبه‬
‫فالمام)عليه السلم( يتطرق في بداية الخطبة إلى هذه المؤامرة فقال‪» :‬أل وإ ّ‬
‫واستجلب جلبه)‪ (3‬ليعود الجور إلى أوطانه ويرجع الباطل إلى نصابه«‪.‬‬
‫لّمة لعلي)عليه‬
‫فهو يشير)عليه السلم( إلى النحرافات والضطرابات التي أعقبت قتل عثمان ومبايعة ا ُ‬
‫السلم(بالخلفة‪ .‬والمراد بحزب الشيطان ـ في الخطبة ـ أولئك الذين تسّلطوا على بيت مال المسلمين أبان حكومة‬
‫عثمان وتولوا بعض المناصب الخطيرة‪ ،‬كما كانوا يتطلعون للسيطرة على الخلفة‪ ،‬فالمام)عليه السلم( يحذر‬
‫لّمة من هؤلء الشياطين الذين يتربصون بها الدوائر وإّنهم يحيكون المؤامرات من أجل الستحواذ ثانية على‬
‫اُ‬
‫بيت المال وممارسة الظلم والجور بحق المسلمين والحيلولة دون قيام المام)عليه السلم( بوظيفته في إصلح‬
‫المجتمع السلمي وإجتثاث جذور الفساد والنحراف التي برزت واستفحلت في خلفة عثمان‪.‬‬

‫وأخيرًا يصرح المام)عليه السلم( بعدم وجود أى دليل أو منطق يسوغ لهؤلء الوقوف بوجه المام وقتاله »وال‬
‫ى منكرًا ول جعلوا بيني وبينهم نصفًا«‪.‬‬
‫ما أنكروا عل ّ‬

‫فهو يشير)عليه السلم( إلى طلحة والزبير والطائفة التي نكثت البيعة‪ ،‬كما يتطرق)عليه السلم( إلى حجتهم‬
‫الواهية المتمثلة بقتل عثمان‪ .‬ثم يورد)عليه السلم( أقسى العبارات بحّقهما‪.‬‬

‫‪ .1‬لم تكن قضية المطالبة بدم عثمان شعار أهل الشام وذريعتهم لشعال فتيل صفين‪ ،‬بل استغلت كذلك من قبل طلحة والزبير وعائشة‬
‫ن عائشة حين قدمت إلى المدينة من مّكة سمعت‬ ‫لتنتهي بنشوب معركة الجمل‪ .‬وقد ذكر ابن أثير ـ الموّرخ المعروف ـ في »الكامل« أ ّ‬
‫أثناء الطريق بقتل عثمان واجتماع الّمة على علي)عليه السلم(‪ ،‬فاغتمت وقالت‪ :‬ليت السماء أطبقت على الرض ولم يقع هذا‪ ،‬ثم‬
‫ن عثمان ُقتل وال مظلومًا« فقام إليها من قال لها‪ :‬إّنك أول من تحدثت ضد عثمان واسميته نعث ً‬
‫ل‬ ‫أمرت باعادتها إلى مّكة‪ .‬فقالت »إ ّ‬
‫ل فقد كفر‬‫ل تعني العجوز الحمق( وأنت قلت‪ :‬إقتلوا نعث ً‬
‫ل رجل يهودي كث اللحية‪ ،‬وقال صاحب »لسان العرب« أن نعث ً‬ ‫)قيل أن نعث ً‬
‫)الكامل ‪.(206 / 3‬‬

‫‪ .2‬ذّمر من مادة »ذمر« بمعنى »التشجيع والحث« وقيل بمعنى التحريك المقرون بالذم والعتاب‪ ،‬ومن هنا كان الذمر على وزن‬
‫»الذهن« يعني الرجل الشجاع والمتحرك‪.‬‬

‫‪ .3‬جلب تعني في الصل السوق والنتقال ويقال الجلب بالنسبة للفراد الذين يجمعون بسهولة‪ .‬استجلب هنا بمعنى الجتماع‪.‬‬

‫] ‪[ 14‬‬

‫نعم لقد تنكرت كافة المصادر السلمية والكتب التأريخية لنسب قتل عثمان إلى المام علي)عليه السلم(‪ ،‬بينما‬
‫ن المام سعى أكثر من غيره لخماد نار الفتنة‪ ،‬فهو القائل)عليه السلم(»وال لقد دفعت عنه حتى‬ ‫تصّرح بأ ّ‬
‫خشيت أن أكون آثمًا« فلم يّتبع الناكثون في هذه الحكام المتسّرعة‪ ،‬العدل والنصاف بقدر ما تشّبثوا بالكذب‬
‫والتهمة والظنة‪ .‬ول يبدو من الغرابة اللجوء إلى مثل هذه الساليب بالنسبة لولئك الذين يسعون إلى ضمان‬
‫مصالحهم وتحقيق أهدافهم‪ .‬وما أكثر ما نشاهده في عصرنا الراهن من الساسة الظلمة الذين ل يتحفظون عن‬
‫أبشع الساليب الدنيئة من أجل ضمان مصالحهم اللمشروعة‪.‬‬

‫حزب ال وحزب الشيطان‬

‫لقد تضّمنت خطبة المام)عليه السلم( إشارة لطيفة إلى ما أورده القرآن الكريم في آخر سورة المجادلة‪ ،‬حيث‬
‫صنفت الية القرآنية المباركة الناس إلى حزبين هما‪» :‬حزب ال« و»حزب الشيطان«‪ ،‬كما أشارت إلى الميزة‬
‫ل َواْلَيْوِم‬
‫ن ِبا ّ‬
‫جُد َقْومًا ُيـْؤِمُنو َ‬‫الرئيسية التي يّتصف بها حزب ال وهى صفة الحب في ال والبغض في ال )ل َت ِ‬
‫ب ِفي ُقُلوِبِهُم‬‫شـيَرَتُهْم ُأولـِئك َ َكَت َ‬ ‫عِ‬‫خواَنُهْم َأْو َ‬‫سوَلُه َوَلْو كاُنوا آباَءُهْم َأْو َأْبناَءُهْم َأْو ِإ ْ‬ ‫ل َوَر ُ‬ ‫ن حاّد ا ّ‬ ‫ن َم ْ‬
‫خِر ُيواّدو َ‬ ‫ال ِ‬
‫عْنُه‬
‫ضوا َ‬ ‫عْنُهْم َوَر ُ‬‫ل َ‬ ‫يا ّ‬ ‫ضـ َ‬ ‫ن ِفـيها َر ِ‬ ‫لْنهاُر خاِلِدي َ‬ ‫حِتها ا َ‬ ‫ن َت ْ‬‫جِري ِم ْ‬ ‫جّنات َت ْ‬ ‫خُلُهْم َ‬
‫ن َوَأّيَدُهْم ِبُروح ِمْنُه َوُيْد ِ‬
‫ليما َ‬
‫اِ‬
‫ن()‪.(1‬‬ ‫حو َ‬‫ل ُهُم الُمْفِل ُ‬
‫با ّ‬ ‫حْز َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ل َأل ِإ ّ‬
‫با ّ‬‫حْز ُ‬ ‫ُأولـِئك َ ِ‬

‫وفي مقابل ذلك هناك حزب يهم بحفظ مصالحه ويعتمد أسلوب النفاق والخداع ول يتورع عن موالة أعداء ال‬
‫عَلْيِهُم‬
‫حَوَذ َ‬
‫سَت ْ‬
‫وإظهار المودة لهم إلى جانب بث بذور الظلم والفساد بين صفوف العباد‪ ،‬فيصفهم القرآن قائل‪ِ) :‬إ ْ‬
‫ن()‪.(2‬‬
‫سُرو َ‬‫ن ُهُم الخا ِ‬
‫شْيطا ِ‬
‫ب ال ّ‬
‫حْز َ‬
‫ن ِ‬
‫ن أل ِإ ّ‬
‫شْيطا ِ‬
‫ب ال ّ‬
‫حْز ُ‬
‫ل ُأولـِئك َ ِ‬
‫ن َفَأْنساُهْم ِذْكَر ا ّ‬
‫شْيطا ُ‬
‫ال ّ‬
‫والحزبان المذكوران ل يختصان بزمان نزول القرآن وعصر صدر السلم‪ ،‬بل تتعدد صورهما وأشكالهما في‬
‫كافة العصور والدهور‪ .‬ولو ألقينا نظرة عابرة على عالمنا المعاصر‬

‫‪ .1‬سورة المجادلة ‪.22 /‬‬

‫‪ .2‬سورة المجادلة ‪.19 /‬‬

‫] ‪[ 15‬‬

‫لشاهدنا بوضوح هذين التيارين وقد كمن أحدهما مقابل الخر‪ ،‬فعادة ما يستند حزب الشيطان إلى منطق القوة‬
‫الغاشم والغطرسة والموال والثروة والتآمر وممارسة الظلم والجور وبث بذور النفاق والفرقة وإشاعة الفساد‬
‫والنحراف‪ ،‬بينمما يستند حزب ال إلى القيم والمثل والمبادئ الحقة ول يتوانى في التصّدي لزعماء الحزب‬
‫المذكور‪ .‬يتربص حزب الشيطان عادة لستغلل الفرص المناسبة ومنها الثورات والنقلبات التي تطيح بحكومة‬
‫وتأتي بُاخرى‪ .‬وأفضل شاهد على ذلك ما شهدته حكومة المام علي)عليه السلم( أوائل تشكيلها‪ .‬فقد اّتفقت كلمة‬
‫ما تبقى من فلول الجاهلية الذين برزوا للوجود في خلفة عثمان على مواجهة ربيب السلم وتلميذ النبي)صلى‬
‫ال عليه وآله( المام علي)عليه السلم(‪ ،‬فأشعلوا نيران الفتن التي كان من المقدر للمام إخمادها والتغلب عليها‪،‬‬
‫فعاثوا في الرض فسادًا بما لم يدع للمام من سبيل سوى الوقوف بوجههم ومقاتلتهم‪.‬‬

‫فالمام)عليه السلم( يحذر الّمة ومنذ اليوم الول لحكومته من مكايد حزب الشيطان وعدم النخداع بأساليبه‬
‫والعيبه القذرة‪.‬‬

‫ن للظلم والجور وطن وأّنه يستند إلى ُاسس ودعائم! نعم وطن الجور‬‫وأخيرًا يفهم من عباراته)عليه السلم( أ ّ‬
‫ن المبادئ التي ينتهجها حزب الشيطان لهى السس‬‫والظلم هو الموضع الذي يتجحفل فيه عسكر الشيطان‪ ،‬كما أ ّ‬
‫والدعائم التي يرتكز عليها الظلم والجور‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 16‬‬

‫] ‪[ 17‬‬

‫القسم الثاني‬

‫ن َكاُنوا َوُلوُه‬ ‫صيَبُهْم ِمْنُه َوَلِئ ْ‬


‫ن َلُهْم َلَن ِ‬‫شِريَكُهْم ِفيِه َفِإ ّ‬
‫ت َ‬ ‫ن ُكْن ُ‬‫سَفُكوُه! َفَلِئ ْ‬ ‫حّقا ُهْم َتَرُكوُه َوَدمًا ُهْم َ‬‫ن َ‬‫طُلُبو َ‬ ‫»َوِإّنُهْم َلَي ْ‬
‫ت‪.‬‬‫عًة َقْد ُأِميَت ْ‬ ‫ن ِبْد َ‬‫حُيو َ‬
‫ت َوُي ْ‬
‫طَم ْ‬ ‫ن ُأّما َقْد َف َ‬‫ضُعو َ‬‫سِهْم َيْرَت ِ‬‫جِتِهْم َلَعَلى َأْنُف ِ‬
‫حّ‬‫ظَم ُ‬‫عَ‬‫ن َأ ْ‬
‫عْنَدُهْم َوِإ ّ‬
‫ُدوِني َفَما الّتِبَعُة ِإّل ِ‬

‫عْلِمِه ِفيِهْم«‪.‬‬
‫عَلْيِهْم َو ِ‬
‫ل َ‬
‫جِة ا ّ‬
‫حّ‬‫ب! َوِإّني َلراض ِب ُ‬
‫جي َ‬
‫ن َدعا! َوِإلَم ُأ ِ‬
‫خْيَبَة الّداعي! َم ْ‬
‫يا َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬
‫المعّذرون المفتضحون!‬

‫يشرح المام)عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة ما أورده في بدايتها‪ ،‬ثم يعرض الدلة القاطعة التي تدين‬
‫ناكثي البيعة ومؤججي نار الحرب ويفضحهم أمام المسلمين‪ .‬فقد أشار)عليه السلم(إلى الذريعة الصلية التي‬
‫تمسك بها طلحة والزبير وأعوانهما; أي المطالبة بدم عثمان‪ ،‬فقال)عليه السلم(‪» :‬وإّنهم ليطلبون حقًا هم تركوه‬
‫ن عليًا)عليه السلم(‬
‫ودمًا هم سفكوه« ـ روى المؤرخ المعروف الطبري في تاريخه عن أحد أصحاب عثمان أ ّ‬
‫كان في ماله بخيبر لما حصر عثمان‪ ،‬فقدم المدينة والناس مجتمعون على طلحة‪ ،‬وكان لطلحة في حصار عثمان‬
‫ن لي حق السلم وحق الخا والقرابة والصهر‪،‬‬ ‫أثر‪ ،‬فلما قدم علي)عليه السلم(أتاه عثمان‪ ،‬وقال له‪ :‬أّما بعد; فا ّ‬
‫ولو لم يكن من ذلك شيء وكّنا في جاهلية‪ ،‬لكان عارًا على بني عبد مناف أن يبتز بنو تيم أمرهم ـ يعني طلحة ـ‬
‫فقال له علي)عليه السلم(‪ :‬أنا ُاكفيك‪ ،‬فاذهب أنت‪ .‬ثم خرج إلى المسجد فرأى ُاسامة بن زيد‪ ،‬فتوكأ على يده حتى‬
‫دخل دار طلحة وهى مملوءة من الناس‪ ،‬فقال له‪ :‬يا طلحة‪ ،‬ما هذا المر الذي صنعت‬

‫] ‪[ 18‬‬

‫ن مس الخرام الطبين! فانصرف علي)عليه السلم(حتى أتى بيت المال‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫بعثمان؟ فقال‪ :‬يا أبا الحسن‪ ،‬أبعد أ ّ‬
‫افتحوه‪ ،‬فلم يجدوا المفاتيح‪ ،‬فكسر الباب‪ ،‬وفرق مافيه على الناس; فانصرف الناس من عند طلحة حتى بقي وحده‪،‬‬
‫وسّر عثمان بذلك; وجاء طلحة فدخل على عثمان‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين; إّني أردت أمرًا فحال ال بيني وبينه‪،‬‬
‫وقد جئتك تائبًا ـ فقال‪ :‬وال ما جئت تائبًا ولكن جئت مغلوبًا; ال حسيبك يا طلحة‪ (1).‬ثم ذكر الطبري في موضع‬
‫ن عثمان حين قتل‪ ،‬خرج من عنده »سودان بن حمران« وهو يقول »أين طلحة؟ فقد قتلنا‬ ‫آخر من تأريخه أ ّ‬
‫عثمان«)‪.(2‬‬

‫فالذي يستفاد من هذه الشواهد وسائر القرائن التأريخية أن طلحة كان من المخططين الرئيسيين لقتل عثمان‪ .‬أّما‬
‫ل«‬‫ل! قتل ال نعث ً‬
‫جملة عائشة بشأن عثمان فهى معروفة مشهورة للجميع فقد كانت تنادي صراحة »اقتلوا نعث ً‬
‫وكانت تقصد بنعثل عثمان‪.‬‬

‫ابن أبي الحديد يصرح في شرحه لحدى خطب نهج البلغة بشأن موقعة الجمل فيقول‪ :‬يعترف جميع المؤرخين‬
‫ن عائشة كانت من أعدى أعداء عثمان وهى التي أخرجت قميص رسول ال)صلى ال عليه‬ ‫المسلمين بأ ّ‬
‫ل عائشة‪ ،‬وكانت‬‫ن أول من دعا عثمان نعث ً‬‫وآله(وكانت تقول »هذا قميصه لم يبل وقد أبلى عثمان سنته«‪ ،‬وقيل أ ّ‬
‫ن هذه‬
‫ل«)‪ .(3‬فالعجيب ورغم ذلك قد خرج هؤلء للمطالبة بدم عثمان! ويبدو أ ّ‬ ‫ل قتل ال نعث ً‬
‫تقول‪ُ» :‬اقتلوا نعث ً‬
‫المسائل ليست عجيبة في عالم السياسة )السياسة التي تفتقر إلى اليمان والتقوى والورع( في أن يتآمر بعض‬
‫الفراد ثم يهبون للوقوف بوجه هذه المؤامرات من باب الدفاع! ثم قال المام)عليه السلم(‪» :‬فلئن كنت شريكهم‬
‫فيه فان لهم لنصيبهم منه ولئن كانوا ولوه دوني فما التبعة إل عندهم«‪.‬‬

‫ن هؤلء شركاء في قتل عثمان‪ ،‬ولو افترض باّني شريك أيضًا في هذا الدم )والحال اّني‬ ‫ن الجميع يعلم بأ ّ‬
‫فالمراد أ ّ‬
‫ن التهمة ثابتة بحقهم‪ ،‬فان كانوا هم‬
‫لست غير شريك فحسب‪ ،‬بل بذلت قصارى جهدي لطفاء نيران هذه الفتنة( فا ّ‬
‫النواة الصلية في هذا العمل فان عليهم أن يتحملوا مسؤولية عملهم! وإذا كان المر كذلك فما أوقحهم في قيامهم‬
‫ومطالبتهم إّياي بدم عثمان‪.‬‬

‫‪ .1‬تأريخ الطبري ‪.453 / 3‬‬

‫‪ .2‬تأريخ الطبري ‪.411 / 3‬‬

‫‪ .3‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.215 / 6‬‬

‫] ‪[ 19‬‬

‫ل‪» :‬وإن أعظم حجتهم لعلي أنفسهم«‪ .‬حيث يميط اللثام عن الدافع الرئيسي‬
‫ويواصل المام)عليه السلم( كلمه قائ ً‬
‫ن هؤلء كانوا يرغبون باستمرار الوضاع التي كانت سائدة على عهد عثمان‪ ،‬فتجعل لهم بعض‬ ‫وهو أ ّ‬
‫ن ذلك العهد ولى واندرس وليس هنالك من سبيل إلى عودته إلى مسرح الحداث‬‫المتيازات في بيت المال‪ ،‬غير أ ّ‬
‫ثانية‪» :‬يرتضعون ُاّما قد فطمت ويحيون بدعة قد ُاميتت«‪.‬‬

‫كما وردت عدة تفاسير لقوله)عليه السلم(‪ُ» :‬اما قد فطمت« منها أن يكون المراد تلك السنن الجاهلية والبدع‬
‫والعصبية التي كانت سائدة قبل السلم‪ ،‬حيث يتشبثون بكل الوسائل الخلقية من أجل الحكومة‪ ،‬فأمير المؤمنين‬
‫لم التي فطمت فلم تعد هنالك من وسيلة لتحقيق المطامع«)‪.(1‬‬ ‫يصف ذلك العهد با ُ‬

‫ن جمع العبارتين‬ ‫ن هذا التفسير يناسب العبارة الثانية »ويحيون بدعة قد ُاميتت« ل العبارة الولى‪ ،‬كما أ ّ‬ ‫ويبدو أ ّ‬
‫ن المراد أّنهم بمطالبتهم بدم عثمان إّنما يريدون احياء‬ ‫بمعنى واحد يخالف ظاهر اللفظ‪ .‬في حين ذهب البعض إلى أ ّ‬
‫أيام حكومته‪ ،‬رغم أن هؤلء المطالبون بدمه هم من بين الفراد الذين ثاروا عليه وسببوا قتله ومن هنا أرادوا أن‬
‫يرتضعوا أما قد فطمت‪ .‬وبالطبع فانه يمكن الجمع بين كل هذه المعاني‪ ،‬وإن بدأ المعنى الول أنسب‪ .‬فالنتيجة‬
‫التي ستتمخض عنها حركة هؤلء الفراء سوف لن تكون سوى الفشل الذريع; المر الذي عبر عنه المام)عليه‬
‫السلم(بالقول »يا خيبة الداعي! وإلم ُأجيب«)‪ .(2‬والواقع انهذه العبارة تكهن بالنتيجة التي ستؤول اليها معركة‬
‫ن عاقبتهم ستكون الفشل والهزيمة; عاقبة الغدرة الذين خططوا لقتل عثمان ثم‬ ‫الجمل‪ .‬فالمام)عليه السلم(يعلن أ ّ‬
‫انبروا للمطالبة بدمه ففرقوا صفوف المسلمين فضلوا طائفة من الناس وخسروا الدنيا والخرة‪ .‬ثم قال المام)عليه‬
‫السلم(‪» :‬وإّني لراض بحجة ال عليهم وعلمه فيهم« ولعل مراده بحجة ال‪ ،‬ما ورد في الية القرآنية بشأن البغاة‬
‫خرى َفقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي‬
‫لْ‬‫على ا ُ‬
‫حداُهما َ‬
‫ن َبَغت ِإ ْ‬
‫حوا َبْيَنُهما َفِإ ْ‬
‫صِل ُ‬
‫ن اْقَتَتُلوا َفَأ ْ‬
‫ن الُمـْؤِمِنـي َ‬
‫ن ِم َ‬
‫ن طاِئَفتا ِ‬ ‫)َو ِإ ْ‬

‫‪ .1‬منهاج البراعة ‪.310 / 3‬‬

‫‪» .2‬الخيبة« بمعنى اليأس‪ ،‬والمراد بالداعي هنا طلحة والزبير الذين دعوا الناس للخروج على عثمان‪ .‬وقوله إلم ُاجيب‪ ،‬تحقيرًا‬
‫لولئك الذين اتبعوهما دون دليل‪.‬‬

‫] ‪[ 20‬‬

‫ل()‪ .(1‬أّما قوله)عليه السلم(‪» :‬علمه فيهم« فقد تكون إشارة للحديث المشهور عن‬ ‫حّتى َتِفيَء ِإلى َأْمِر ا ّ‬
‫َ‬
‫النبي)صلى ال عليه وآله(بشأن علي)عليه السلم( »قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين«‪ .‬فلما سألت أم سلمة‬
‫رسول ال)صلى ال عليه وآله( عن هذه الفرق الثلث قال‪ :‬الناكثين أهل الجمل‪ ،‬والقاسطين أهل الشام والمارقين‬
‫أصحاب النهروان«)‪.(2‬‬

‫ولما كان المام)عليه السلم( راضى برضا ال وعالم بما ستؤول إليه الحداث من يأس العدو وهزيمته فان‬
‫روحه مفعمة بالرضى والهدوء والسكينة‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة الحجرات ‪.9 /‬‬

‫ل عن ينابيع المودة‪.‬‬
‫‪ .2‬إحقاق الحق ‪ 99 / 4‬نق ً‬

‫] ‪[ 21‬‬

‫القسم الثالث‬
‫ن َأْبُرزَ‬
‫ي َأ ْ‬
‫ب َبْعُثُهْم ِإَل ّ‬
‫ج ِ‬
‫ن اْلَع َ‬
‫ق! َوِم َ‬
‫حّ‬ ‫صرًا ِلْل َ‬ ‫طِل َوَنا ِ‬ ‫ن اْلَبا ِ‬
‫شاِفيًا ِم َ‬ ‫ف َوَكَفى ِبِه َ‬ ‫سْي ِ‬ ‫حّد ال ّ‬
‫طْيُتُهْم َ‬‫عَ‬ ‫ن َأَبْوا َأ ْ‬
‫»َفِإ ْ‬
‫ب! َوِإّني َلَعَلى َيِقين ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ضْر ِ‬ ‫ب ِبال ّ‬‫ب َول ُأْرَه ُ‬‫حْر ِ‬ ‫ت َوما ُأَهّدُد ِباْل َ‬ ‫جلِد َهِبَلْتُهُم اْلَهُبوُل! َلَقْد ُكْن ُ‬‫صِبَر ِلْل ِ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ن! َوَأ ْ‬ ‫طعا ِ‬ ‫ِلل ّ‬
‫ن ِديِني«‪.‬‬ ‫شْبَهة ِم ْ‬‫غْيِر ُ‬ ‫َرّبي َو َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫تهديد علي)عليه السلم(‬

‫لقد تقدم المام)عليه السلم( بتحذير تلك العناصر من مغبة مواصلة الغواية وضرورة الوقوف على جسامة‬
‫الخطاء وهجر سبيل الشيطان والوفاء ببيعتهم للمام)عليه السلم(والكف عن إثارة الفتن وتأجيج نار الحرب‪.‬‬
‫ن عدم الرعواء ومنح الذان الصاغية للنصح سوف يضطره‬ ‫وهنا ـ في القسم الخير من الخطبة ـ يحذرهم من أ ّ‬
‫للتكلم معهم بلغة السيف‪ ،‬السيف الذي كفى به شافيًا في الرد على عبدة الهواء والشهوات من أصحاب المنطق‬
‫الغاشم‪.‬‬

‫فقد قال)عليه السلم(‪» :‬فان أبوا أعطيتهم حد السيف« العلج الفضل للباطل »وكفى به شافيًا من الباطل وناصراً‬
‫للحق«‪ .‬فما يقال أن رسول ال)صلى ال عليه وآله( حمل القرآن الكريم بيد والسيف بأخرى إّنما يكشف عن حقيقة‬
‫واقعية مسلمة في الحكومات اللهية‪ .‬فالجهود التي بذلها النبياء من أجل إصلح المجتمعات واجتثاث جذور‬
‫الفساد والنحراف إّنما تكرست بالساليب المنطقية والعقلية واسداء النصائح والمواعظ بغية إلفات إنتباه الخاطئين‬
‫ن هناك طائفة قد جعلت عقلها وضميرها آلة طيعة بيد أهوائها وشهواتها‪ ،‬فهى‬ ‫إلى أخطائهم‪ ،‬ولكن من المسلم به أ ّ‬
‫لّمة‬
‫ل تعرف سوى لغة السيف والقوة; المر الذي يضطر زعماء ا ُ‬

‫] ‪[ 22‬‬

‫ن ناكثي البيعة هم الذين بادروا إلى نشوب المعركة‪ ،‬حيث هدوا المام)عليه السلم( بكل‬
‫فالعبارة تكشف بجلء أ ّ‬
‫وقاحة بإعداد نفسه لمواجهة سيوفهم وحرابهم‪ ،‬وهذا ما نّوه إليه ابن أبي الحديد عن المؤرخ المعروف أبو مخنف‬
‫قوله‪ :‬رجع رسل علي)عليه السلم(من عند طلحة والزبير وعائشة يؤذنونه بالحرب‪(4).‬‬

‫ن هذا التهديد يكشف عن مدى تعامي مؤججي فتنة الجمل عن رؤية الحقائق والوقائع‪ ،‬وقد أعمى‬ ‫على كل حال فا ّ‬
‫ب المناصب والمقامات بصيرتهم وبصائرهم حتى لم يعودوا يروا الحقيقة المطلقة التي تهتف بانديتهم ليل نهار‪،‬‬ ‫ح ّ‬
‫أل وهى شجاعة وبسالة علي)عليه السلم( التي رأوها مرارًا وكراراً في الغزوات السلمية على عهد‬
‫النبي)صلى ال عليه وآله(‪ .‬ثم عاود المام)عليه السلم( مواصلة حديثه في الستغراب من ذلك التهديد الفارغ‬
‫ليقدم الدليل القاطع على رفضه لما أوردوه فقال)عليه السلم(‪» :‬هبلتهم الهبول! لقد كنت وما ُأهدد بالحرب ول‬
‫ُأرهب بالضرب! وإني لعلى يقين من رّبي وغبر شبهة من ديني«‪ ،‬قوله)عليه السلم( »هبلتهم الهبول«)‪ (5‬ـ‬
‫بالستناد إلى مفهوم الهبل بمعنى الثكل‬

‫‪ .1‬العبارة مثل عربي معروف وقد أشير إليه في بعض الروايات السلمية ومنها الخطبة ‪ 168‬من خطب نهج البلغة‪.‬‬

‫‪» .2‬طعان« بمعنى الضرب بآلة وتستعمل عادة للرمح ويقال لذرب اللسان طعن أيضًا‪.‬‬

‫‪» .3‬جلد« من مادة »جلد« بمعنى الضرب بالعصا أو السيف أو السوط وهو هنا كناية عن الحرب‪.‬‬

‫‪ .4‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.306 / 1‬‬

‫‪» .5‬هبلتهم« بمعنى ثكلتهم‪ ،‬والهبول بفتح الهاء المرأة التي ل يبقى لها ولد‪ ،‬وهو دعاء عليهم بالموت‪.‬‬
‫] ‪[ 23‬‬

‫بالولد ـ يريد به أّنكم ل تستحقون الحياة والبقاء وليس لكم سوى الموت‪ ،‬ثكلتكم أمهاتكم على هذه الخطاء الشنيعة‬
‫والنحراف الفكري الذي أوصلكم إلى هذه الحالة‪ .‬وقد ورد شبيه هذه العبارة الذي يعطي ذات المعنى وهو قولهم‬
‫»ثكلتهم الثواكل« والتي استعملها المام)عليه السلم(لهذا الغرض في سائر خطبه من نهج البلغة‪.‬‬

‫ن المام)عليه السلم( قد أشار في هذه العبارات إلى سابقته العريقة وتأريخه المشرق ليشير كناية‪،‬‬ ‫على العموم فا ّ‬
‫إّنما يعرفني حتى مشركي العرب ولم يجرأ أحد على تهديدي بالحرب والمبارزة طيلة حياتي‪ ،‬وقد عشتم معي‬
‫ن من يخشى الحرب يخشى‬ ‫لخرى التي أشار اليها المام)عليه السلم( هى أ ّ‬ ‫وزعمتم أّنكم من المسلمين‪ .‬المسألة ا ُ‬
‫القتل والشهادة‪ ،‬ومن يخشى القتل والشهادة فليس له من إيمان ويقين بال سبحانه وأن طريقه مليء بالشكوك‬
‫ن قتال أعداء الحق وخصوم الدعوة ل‬ ‫ن من آمن وأيقن بسلمة طريقه ووثق بما عند ال فاّنه يعلم أ ّ‬ ‫والشبهات; ل ّ‬
‫يكتنفه أي فشل أو هزيمة ولن ينطوي سوى على احدى نتيجتين إّما النصر وإّما الشهادة; المر الذي صرحت به‬
‫ن(وأّما قوله)عليه السلم(‪» :‬فاني‬
‫سَنـَيْي ِ‬
‫حْ‬‫حدى ال ُ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫ن ِبنا ِإ ّ‬
‫صو َ‬
‫ل َتَرّبـ ُ‬
‫ل َه ْ‬
‫الية الشريفة ‪ 52‬من سورة التوبة‪ُ) :‬ق ْ‬
‫لعلى يقين من ربي‪ ،‬وغير شبهة من ديني« فقد اعتبره بعض شّراح نهج البلغة أنه يعطي مفهومًا واحدًا ويؤكد‬
‫ن العبارتين من قبيل بيان العام بعد الخاص‪ ،‬وهى تشتمل على مفهومين‪.‬‬ ‫ن الصحيح هو أ ّ‬ ‫لأّ‬‫بعضه البعض‪ ،‬إ ّ‬
‫ل‪:‬‬
‫فالعبارة الولى تشير إلى مقام اليقين لدى المام)عليه السلم( والذي ورد التعبير به عن المام)عليه السلم( قائ ً‬
‫»لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا«)‪.(1‬‬

‫والعبارة الثانية تشير إلى الوظائف الدينية التي كشفت له عن كافة معالم الطريق دون الشعور بأدنى شك أو ريب‪،‬‬
‫ول سيما أّنه سمع رسول ال)صلى ال عليه وآله( وقد قال له‪» :‬يا علي ستقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين«‬
‫)أصحاب الجمل وصفين والنهروان(‪.‬‬

‫الرجال الشداء‬

‫هنالك عدد من الفراد أو الفئات التي تطالعنا في سوح الوغى طيلة الصراع المرير بين‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن ميثم لمئة كلمة مختارة من الجاحظ‪ ،‬الكلمة الولى‪.‬‬

‫] ‪[ 24‬‬

‫الحق والباطل وهم يتمتعون بالتفوق الكبير على خصومهم‪ .‬على سبيل المثال فقد انتصر جند السلم على‬
‫الجيوش الساسانية الجرارة ـ التي كانت تفوقهم بعشرة أضعاف من حيث العدد والعدة ومن حيث التجهيزات‬
‫والوسائل الحربية التي ل يمكن مقارنتها بنظيرها لدى المسلمين ـ بل تميزت العسكرية السلمية من حيث التعبئة‬
‫ل من نور السلم واليمان والمفاهيم القرآنية‬ ‫والقتال على قيام مجموعات المستضعفين الحافة العزل من السلح إ ّ‬
‫والتعاليم السلمية باقتحام الميدان وتحطيم اسطورة توازن القوى‪ ،‬لتحقق النتصارات تلو النتصارات على أكبر‬
‫ن(فقد كانوا يرون أنفسهم‬‫سَنـَيْي ِ‬
‫حْ‬
‫حدى ال ُ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫ن ِبنا ِإ ّ‬
‫صو َ‬
‫ل َتَرّبـ ُ‬
‫ل َه ْ‬
‫الجيوش وأقواها‪ .‬ول غرو فانما ينبع ذلك من )ُق ْ‬
‫منتصرين مهما كانت نتيجة الحرب‪ ،‬سواء انتهت المعركة بهزيمة العداء أو نيل الشهادة‪ ،‬فكل النتيجتان سعادة‬
‫كبرى‪.‬‬

‫وقد لمسنا هذا المعنى بوضوح في الحرب المفروضة التي شنها النظام الصدامي ضد الجمهورية السلمية الفتية‪،‬‬
‫ن شبابنا المؤمن‬‫حيث وقفت كافة قوى العالم من الشرق والغرب خلفه لتقدم له كافة ألوان الدعم والسناد‪ ،‬غير أ ّ‬
‫من قوات التعبئة والحرس الثوري والجيش الذين تربوا في أحضان القرآن ومدرسة أهل البيت)عليهم السلم( قد‬
‫أركعوا هذا العدو الشرس وجرعوه مرارة الهزيمة‪ .‬نعم هذا ما أشار إليه المام)عليه السلم(في هذه الخطبة ليعلن‬
‫للعداء من عبدة الهواء‪ ،‬لست أنا الذي يهدد بالحرب! لست أخشى الضرب في سبيل ال‪ ،‬فقلبي قد غمر بنور‬
‫اليمان واليقين‪ ،‬بل أنا ربيب السلم والمدرسة النبوية التي ترى النصر حليفها بغض النظر عن النتيجة‪ ،‬وما‬
‫عساها تكون سوى هزيمة العدو أو الفوز بالشهادة‪ .‬وهذه هى الروحية التي ينبغي أن يستشعرها المسلمون تجاه‬
‫ل أّنه لن يحسم المعركة لصالح‬ ‫أعدائهم ول يولون أدنى أهمية لهذا التفوق المادي الكاذب الذي قد يكون مؤثرًا إ ّ‬
‫الباطل أبدًا‪.‬‬
‫—–‬

‫] ‪[ 25‬‬

‫الخطبة)‪23 (1‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الغنياء بالشفقة‬

‫القسم الول‬

‫ن ِزياَدة َأْو‬‫سَم َلها‪ِ ،‬م ْ‬ ‫طِر ِإَلى ُكّل َنْفس ِبما ُق ِ‬ ‫ت اْلَم َ‬ ‫طَرا ِ‬‫سَماِء ِإَلى اَْلْرضِ َكَق َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن اَْلْمَر َيْنِزُل ِم َ‬ ‫»َأّما َبْعُد‪َ :‬فِإ ّ‬
‫سِلَم َما َلْم َيْغشَ‬‫ن اْلَمْرَء اْلُم ْ‬‫ن َلُه ِفْتَنًة! َفِإ ّ‬
‫غِفيَرًة ِفي َأْهل َأْو مال َأْو َنْفس َفل َتُكوَن ّ‬ ‫خيِه َ‬ ‫حُدُكْم َِل ِ‬
‫ُنْقصان‪َ ،‬فِإَذا َرَأى َأ َ‬
‫حِه‬‫ظُر َأّوَل َفْوَزة ِمنْ ِقدا ِ‬ ‫سِر اّلِذي َيْنَت ِ‬ ‫ج اْليا ِ‬‫ن كاْلفاِل ِ‬ ‫ت َوُيْغَرى ِبها ِلئاُم الّناس كا َ‬ ‫شُع َلها ِإذا ُذِكَر ْ‬ ‫خ َ‬ ‫ظَهُر َفَي ْ‬‫َدناَءًة َت ْ‬
‫حَدى‬ ‫ل ِإ ْ‬
‫نا ّ‬ ‫ظُر ِم َ‬ ‫خياَنِة َيْنَت ِ‬
‫ن اْل ِ‬‫سِلُم اْلَبِريُء ِم َ‬ ‫ك اْلَمْرُء اْلُم ْ‬
‫عْنُه اْلَمْغَرُم‪َ .‬وَكَذِل َ‬
‫ب َلُه اْلَمْغَنَم‪َ ،‬وُيْرَفُع ِبها َ‬ ‫ج ُ‬‫ُتو ِ‬
‫سُبُه‪َ ،‬وِإ ّ‬
‫ن‬ ‫ح َ‬‫ل َفِإَذا ُهَو ُذو َأْهل َومال‪َ ،‬وَمَعُه ِديُنُه َو َ‬ ‫قا ّ‬ ‫خْيٌر َلُه‪َ ،‬وِإّما ِرْز َ‬‫ل َ‬ ‫عْنَد ا ّ‬ ‫ل َفما ِ‬ ‫يا ّ‬ ‫عَ‬ ‫ن‪ِ :‬إّما دا ِ‬ ‫سَنَيْي ِ‬
‫ح ْ‬
‫اْل ُ‬
‫ل َتعاَلى َِلْقوام«‪.‬‬ ‫جَمُعُهما ا ّ‬ ‫خَرِة‪َ ،‬وَقْد َي ْ‬‫ث اْل ِ‬‫حْر ُ‬ ‫ح َ‬ ‫صال َ‬‫ث الّدْنيا‪َ ،‬واْلَعَمَل ال ّ‬ ‫حْر ُ‬ ‫ن َ‬ ‫اْلماَل َواْلَبِني َ‬

‫—–‬

‫‪ .1‬أورد المرحوم الكليني عن المام الحسن)عليه السلم( قسمًا من هذه الخطبة في كتاب الكافي ‪ ،56 / 5‬كما أورد قسمها الخر ـ‬
‫حسب صاحب مصادر نهج البلغة ـ نصر بن مزاحم في صفين وابن عبد ربه في العقد الفريد والزمخشري في ربيع البرار‪.‬‬

‫] ‪[ 26‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫استهل المام)عليه السلم( خطبته بتقسيم رزق النسان وما قسم له على ضوء التقدير والتدبير اللهي‪ ،‬ثم‬
‫أوصى)عليه السلم( بأن من رأى لخيه نعمة فل ينبغي أن يكن له البغض أو الحسد )كما ل ينبغي أن يغتر إن‬
‫جنى ثروة فيضحي بدينه وإيمانه من أجلها( آنذاك دعا)عليه السلم( الناس إلى الخلص والورع والتقوى‬
‫وصفاء النية وصلح العمل بعيدًا عن الرياء والعجب والفخر‪ .‬أّما في القسم الخير من الخطبة فقد أشار)عليه‬
‫السلم( إلى بعض المسائل الجتماعية الحساسة من قبيل تقوية أواصر القرابة وضرورة التعاضد والتعاون بين‬
‫لّمة السلمية الواحدة بغية التغلب على المصاعب والمشاكل‪ ،‬مؤكدًا على عدم فقدان النتماء إلى‬ ‫أفراد القبيلة وا ُ‬
‫ن ضرر هذا الفقدان عليه سيكون أعظم وأشد مّما هو عليه بالنسبة‬‫العشيرة من خلل اعتماد البخل والمساك; فإ ّ‬
‫للعشيرة‪ ،‬فانه إّنما يمسك يده بينما بالمقابل تمسك عنه أيدي كثيرة‪.‬‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الرضا والتسليم أمام إرادة ال‬

‫أشار المام)عليه السلم( ـ في هذه الخطبة ـ إلى مسألة مهّمة ذات أثر عظيم في تهذيب النفوس والحد من جموح‬
‫ن الحياة الجتماعية البشرية تعد الساس لبركات وثمرات عظيمة‪ ،‬بحيث‬ ‫الفرد والمجتمع‪ .‬وهى مّما لشك فيه أ ّ‬
‫ن القسم العظم من النجاحات والمكتسبات الباهرة في كافة المجالت والميادين العلمية والصناعية‬ ‫يمكن أن نقول إ ّ‬
‫والجتماعية إّنما حققتها البشرية في ظل هذه الحياة الجتماعية‪ .‬وإلى جانب تلك الثمار والمعطيات والبركات‬
‫كانت هنالك المشاكل الخطيرة التي تهدد بالفناء جميع الثار اليجابية لهذه الحركة مالم تجد الحلول الشافية‪.‬‬

‫ومن ذلك‪ ،‬وجود الفوارق بين بني البشر من حيث الستعداد والقابليات الجسمية والروحية على المستوى الفردي‬
‫والجتماعي; المر الذي أّدى إلى التفاوت الفاحش في المكانات المادية والمالية‪ .‬ومن هنا بدت ردود الفعل‬
‫السلبية للفراد الذين تخلفوا عن هذه المسيرة‪ ،‬أو سعوا بتخبط للخلط بين الحلل والحرام ليزجوا بأنفسهم في هذا‬
‫السباق غير المتكافئ والمجهول النهاية في مصاف من تقّدم عليهم من حيث الجوانب الماّدية ولم يكن أمامهم‬

‫] ‪[ 27‬‬

‫سوى سبيلين‪ ،‬إّما الشعور بالحباط واليأس والنسحاب من ميدان العمل والنشاط والتقوقع على الذات‪ ،‬أو اشتعال‬
‫ن البعض الذي يتمتع‬
‫نيران الحسد والبغض في قلوبهم تجاه ُاولئك والهم بالنتقام منهم‪ .‬من جانب آخر فإ ّ‬
‫بالمكانات قد يصاب بالغرور والكبر والعجب والفخر فيندفع نحو الطغيان والفساد والنحراف‪.‬‬

‫اليات القرآنية والروايات السلمية بدورها ودرءًا لهذه المفاسد والحيلولة دون ظهورها قد لفتت أنظار الجميع‬
‫ن هذه الفوارق والزيادة والنقصان ليست مسألة عبثية بقدر ماهى واقع يستند إلى الحكمة اللهية‬ ‫إلى حقيقة مفادها أ ّ‬
‫التي تنظم شؤون العباد على أساس ما يصلحهم ويقوم حياتهم‪ .‬ولعل السرار التي يختزنها هذا التصنيف خافية‬
‫لمور‬
‫ن ال حكيم ورحمن ورحيم هو الذي ينظم ا ُ‬ ‫ن مجرد علمنا بأ ّ‬
‫لأّ‬
‫لمور‪ ،‬إ ّ‬ ‫علينا نحن العباد في أغلب ا ُ‬
‫ن القضية ستتغير وتخرج من شكلها الظاهري‪ ،‬آنذاك‬ ‫وتتشعر قلوبنا الرضى والتسليم لهذا التنظيم والتخطيط; فإ ّ‬
‫ستسود السكينة والطمأنينة قلوبنا وأرواحنا وستزول كافة تلك العواقب السلبية التي بدت لنا لول وهلة‪ .‬ومن هنا‬
‫تواتر التأكيد على الرضى والتسليم ولسّيما بالنسبة للرزق في اليات والروايات‪.‬‬

‫نعود الن بعد هذه المقدمة المختصرة إلى تفسير الخطبة‪ ،‬فقد تطرق المام)عليه السلم(في بداية خطبته عن‬
‫تهذيب النفوس ووضع حّد للمفاسد الجتماعية‪ ،‬فقد قال)عليه السلم(‪» :‬أّما بعد‪ :‬فان المر ينزل من السماء إلى‬
‫ل نفس بما قسم لها‪ ،‬من زيادة أو نقصان« فالتشبيه بقطرات المطر تشبيه غاية في‬ ‫الرض كقطرات المطر إلى ك ّ‬
‫ن قطرات المطر تنّزل بصورة مختلفة على الرض وفقًا للرادة اللهية والحكمة الربانية‪ ،‬والرزاق‬ ‫الروعة; ل ّ‬
‫اللهية تسقط على هذه الشاكلة من السماء إلى البشرية على الرض بفضل ال ورحمته‪ .‬فقد ينّزل المطر بغزارة‬
‫على بعض المناطق حتى تسيل أنهارًا عظيمة بينما قد تشهد مناطق ُاخرى زخات خفيفة من المطر طيلة السنة‪ .‬ثم‬
‫يخّلص المام)عليه السلم( إلى هذه النتيجة التي ينبغي أن يستحضرها الناس‪» :‬فاذا رأى أحدكم لخيه غفيرة)‪(1‬‬
‫في أهل أو مال أو نفس‪ ،‬فل تكونن له فتنة«‪.‬‬

‫‪» .1‬غفيرة« من مادة »غفر« بمعنى الستر ومن هنا اطلقت المغفرة على ستر الذنوب كما تطلق على المال الكثير لتغطيته جزءًا‬
‫واسعًا من الحياة‪ ،‬حّتى أّنه يستر العيوب أحيانًا‪ ،‬ولذلك يقال للكثرة والزيادة غفيرة‪.‬‬

‫] ‪[ 28‬‬
‫ن وردت‬
‫ن الموال والثروات لمن دوافع الغفلة وستر عيوب النسان حّتى عن نفسه‪ ،‬وإ ْ‬‫لعل غفيرة تشير إلى أ ّ‬
‫غفيرة هنا بمعنى المال الكثير‪.‬‬

‫ن الفتنة هنا ل تعنى المتحان‪ ،‬وإن وردت عادة بهذا المعنى في العم الغلب‪ ،‬بل المراد بها ما‬ ‫مايجدر ذكره أ ّ‬
‫يدعو إلى الفساد والخداع وردود الفعال السلبية من قبيل الحسد والعداوة والبغضاء التي يمارسها الفقراء‬
‫المعدومون حيال أصحاب الموال والثراء‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬فان المرء المسلم مالم يغش دناءة تظهر فيخشع‬
‫لها إذا ذكرت ويغرى بها لئام الناس‪ ،‬كان كالفالج)‪ (1‬الياسر)‪ (2‬الذي ينتظر أول فورة من قداحه)‪ (3‬توجب له‬
‫ن المسلمين البعيدين عن الخيانة إّنما ينتظرون من الحق سبحانه أمرين‪ :‬أّما‬‫المغنم‪ ،‬ويرفع بها عنه المغرم«‪ .‬كما أ ّ‬
‫سع ال‬‫ن يو ّ‬
‫حلول الجل اللهي )وقد أفنى عمره بطيب السمعة وحسن العاقبة( فما عند ال خير له وأبقى‪ .‬وأّما أ ْ‬
‫عليه رزقه في هذه الدنيا ويّمن عليه بالصاحبة والهل والولد في سلمة من دينه وصون لعزته وكرامته »وكذلك‬
‫المرء المسلم البريء من الخيانة ينتظر من ال إحدى الحسنيين‪ :‬إّما داعي ال فما عند ال خير له‪ ،‬وإّما رزق ال‬
‫فاذا هو ذو أهل ومال‪ ،‬ومعه دينه وحسبه«‪ .‬ولكن لبّد من الذعان إلى الفارق الكبير بينهما فأحدهما من قبيل‬
‫ن المال والبنين حرث الدنيا‪ ،‬والعمل‬ ‫زرع الدنيا كالمال والولد‪ ،‬والخر من زرع الخرة وهو العمل الصالح »وإ ّ‬
‫الصالح حرث الخرة«‪ .‬وقد يجمع ال سبحانه نعم الدنيا والخرة لبعض الفراد »وقد يجمعهما ال تعالى لقوام«‪.‬‬

‫ن المام)عليه السلم( قد كشف بهذه العبارات عن حقيقة مهّمة ومصيرية في حياة النسان تكمن في‬
‫والواقع هو أ ّ‬
‫ضرورة عدم تلوثه بالذنوب والمعاصي والرجاس التي ل تجر عليهم سوى الخزي والعار والسقوط من أعين‬
‫الناس والحد من شخصيته لديهم‪.‬‬

‫سره‬
‫‪» .1‬الفالج« من مادة »فلج«‪ ،‬قال صاحب مقاييس اللغة لها معنيان; الول النصر والغلبة‪ ،‬والخر المسافة بين شيئين‪ .‬وف ّ‬
‫صحاح اللغة بالظفر والفوز‪ ،‬وقد ورد هنا بهذا المعنى‪.‬‬

‫‪» .2‬الياسر« من مادة »يسر« بمعنى السهولة‪ ،‬وميسر ويسار حسب قول الراغب في المفردات بمعنى الغنى والثروة‪ .‬وأطلق على‬
‫المقامر الذي يلعب بقداح الميسر وقد وردت في العبارة بمعنى اللعب بالقداح المحفوظ منها‪.‬‬

‫‪» .3‬قداح« جمع »قدح« على وزن ِفعل بمعنى السهم‪ .‬وهى في الصل بمعنى كسر الشيء وعيبه‪.‬‬

‫] ‪[ 29‬‬

‫ن يقضى‬ ‫ن هناك أحد مصيرين رفيعين بانتظار الفرد الذي يعيش النقاء والعّفة في حياته‪ ،‬أ ْ‬ ‫وبناًء على ما تقّدم فإ ّ‬
‫حياته معززًا مكرمًا ليحث السير نحو رحمة ال ومغفرته وأجره وثوابه‪ .‬أو أن يفيض ال عليه من نعم الدنيا في‬
‫هذه الحياة الدنيا ويجمع له خير الدارين‪.‬‬

‫ن المام علي)عليه السلم(شّبه المؤمن الذي يتمتع‬


‫القضية المهّمة التي حظيت باهتمام شّراح نهج البلغة هى أ ّ‬
‫بالغلبة والسعادة والفوز بلطف ال ورحمته المقامر الماهر الذي يفوز بالتضارب بالقداح‪ ،‬وهنا يطرح هذا السؤال‬
‫نفسه‪ :‬كيف يشبه المام)عليه السلم(المؤمنين الذين يعيشون الرضى والتسليم تجاه رزق ال وقسمه بهذا الفرد‬
‫المقامر الثيم المقارف لهذه الكبيرة من الكبائر؟‬

‫ن الياسر ليس‬‫يّتضح من التأّمل في عبارات المام)عليه السلم( من قبيل »فوزة« و»قداح« و»مغنم« و»مغرم« أ ّ‬
‫المراد به القمار‪ ،‬بل أراد به نوعًا خاصًا من القتراع كانت تمارسه العرب‪ ،‬حيث كانوا يأتون بعشرة سهام لكل‬
‫سموه عشرة أقسام‪ ،‬ثم يجعلون السهام مع بعضها ليقوم من يثقون به‬ ‫ل فيذبحوه ويق ّ‬
‫واحد منها اسم‪ ،‬ويشترون جم ً‬
‫باستخراجها واحدًا واحدًا‪ ،‬ثم يكون الفائز على أساس ترتيب السهام حسب أسمائها الول والثاني إلى السابع‬
‫والسهم الول فيها يسمى »ُمَعّلى« ـ والسهام الخرى إذا خرجت باسم أحدهم فهو الذي يدفع قيمة الجمل‪ ،‬أّما‬
‫الفائزون فيعطون سهامهم للفقراء دون أن يأكلوا منها شيئًا‪ ،‬وكانوا يفتخرون بذلك العمل‪(1).‬‬

‫ل أّنه ل يشتمل على معايب وفواجع القمار‪ .‬فالمام)عليه السلم(أراد أن‬ ‫طبعًا ليجوز هذا العمل شرعيًا‪ ،‬إ ّ‬
‫المؤمنين من أهل الرضى والتسليم يشبهون الفراد الذين يفوزون بسهم الُمعّلى في ذلك القتراع‪ ،‬ووجه الشبه أّنه‬
‫يفوز بأكبر نصيب دون أدنى عناء‪ .‬والتعبير بالقداح وأول فوزة والغنيمة والنجاة من الخسارة كّلها تناسب هذا‬
‫المعنى; وهذا ليس متعارفًا في القمار حيث ل يترك المقامر المقامرة لمجرد غلبه في الوهلة الولى‪ ،‬بل يواصل‬
‫ن المفردة مفهوم واسع يشمل القتراع‬ ‫قماره حّتى ل تعرف النتيجة التي سيؤول إليها‪ .‬وبالطبع فإّننا ل ننكر أ ّ‬
‫ن القمار بمعناه الحقيقي يختلف تمامًا عن ذلك النوع من القتراع‪ ،‬ول‬ ‫وألعاب الحظ‪ ،‬ولكن لبّد من اللتفات إلى أ ّ‬
‫ب‬
‫لْنصا ُ‬‫سُر َوا َ‬
‫خْمُر َوالَمْي ِ‬
‫ن ورد الذم عليهما معًا )ِإّنما ال َ‬
‫ن القرآن قد عبر بـ »اللزلم« ل الميسر وإ ْ‬ ‫سيما أ ّ‬
‫ن‪(2).(...‬‬
‫شْيطا ِ‬
‫ل ال ّ‬
‫عَم ِ‬
‫ن َ‬
‫س ِم ْ‬
‫ج ٌ‬
‫لْزلُم ِر ْ‬ ‫َوا َ‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة‪ ،‬المحقق الخوئي‪) 319 /3 ،‬بتلخيص(‪ .‬وقد وردت إشارة مختصرة إلى هذا المطلب في كتاب معارج نهج‬
‫البلغة وهو من أقدم شروح هذا الكتاب‪ ،‬معارج نهج البلغة‪ ،‬ص ‪.110‬‬

‫‪ .2‬سورة المائدة ‪.90 /‬‬

‫] ‪[ 30‬‬

‫الرضى والتسليم إلى جانب السعي والعمل‬

‫ن روح الرضى والتسليم لمر ال في الرزق وفي المنافع المادية بصورة عاّمة إّنما تهدأ‬ ‫لعل هنالك من يقول بأ ّ‬
‫النفس البشرية وتحّد من جماحها وتحّول دون النسان والرتماء في ميادين الحرص والطمع وجباية الموال‬
‫ن مثل هذا‬ ‫لأّ‬ ‫واللهث وراء الثروة والنغماس في المحرمات كما تصّده عن استشعار معني الحسد والبغض‪ ،‬إ ّ‬
‫ن الرزاق‬ ‫ل فرد بذريعة من الذرائع من قبيل أ ّ‬‫الشعور قد يقتل عند النسان روح السعي والمثابرة بحيث يتشّبث ك ّ‬
‫ل قد سّمى ال له رزقه ونصيبه فيخلد إلى السكون والدعة والكف عن العمل‪ ،‬فما جدوى ذلك والرزاق‬ ‫سمة وك ّ‬‫مق ّ‬
‫قد قسمت; المر الذي يؤدي بالتالي إلى تخّلف الّمة في المجال القتصادي والتطور المادي واجتثاث جذور الفقر‬
‫والحرمان‪.‬‬

‫ن هذه التعاليم السلمية والوصايا الخلقية إّنما‬ ‫ن هذا الشكال قد يزول إذا ما ألتفت إلى أمرين‪ :‬الول هو أ ّ‬
‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫ن النسان يمتلك الدوافع‬ ‫خت الحد من تهافت النسان على الماديات وتناسيه لكل ما سواها‪ ،‬بعبارة ُاخرى فإ ّ‬ ‫تو ّ‬
‫التي تسوقه نحو الماديات والنهوض بحياته القتصادية‪ ،‬ولو لم تكن هنالك من كوابح لهذه الدوافع فإّنه سينطلق‬
‫بسرعة هوجاء نحو الحرص والتسابق في جني الموال والثروة بحيث يحطم كافة الحدود والقيود الخلقية والقيم‬
‫المعنوية‪ .‬وبعد هذا هو المعنى الذي أشار له المام علي بن الحسين)عليهما السلم(حين قال‪» :‬معاشر أصحابي!‬
‫سكون«)‪ .(1‬والمر‬ ‫أوصيكم بالخرة ولست أوصيكم بالدنيا! فإّنكم بها مستوصون وعليها حريصون وبها متم ّ‬
‫صل إلى النتيجة النهائية‬‫الثاني يكمن ضرورة جمع كافة اليات والروايات الواردة بهذا الشأن من أجل التو ّ‬
‫ن القضايا السلمية المحورية لتبدو واضحة المعالم من خلل آية واحدة أو‬ ‫بخصوص التعاليم السلمية; ل ّ‬
‫حديث واحد‪ .‬ففي مجال تحصيل الرزق والقناعة به وضرورة السعي والحركة هنالك اليات والروايات التي‬
‫أشارت من جهة إلى مسألة الرضى والتسليم تجاه التقديرات اللهية‪ ،‬وهنالك من جهة ُاخرى اليات والروايات‬
‫التي وردت في الحث على السعي والعمل‪ ،‬بحيث يفهم من مجموع الطائفتين‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪.147 / 75‬‬

‫] ‪[ 31‬‬

‫ن الضعف والوهن في هذا المجال ليس صحيحًا كما أن الحركة الحريصة والممزوجة‬ ‫من اليات والروايات أ ّ‬
‫بالذنب والمعصية التي تفرزها طبيعة تجاهل التقدير اللهي والتوّكل على ال هى الخرى ليست صحيحة أيضًا‪.‬‬
‫ن ذلك مشروط بشرط السعي والجهد المقرون‬
‫ن الرزق قد قسم من جانب ال‪ ،‬غير أ ّ‬
‫وبعبارة ُاخرى‪ ،‬صحيح أ ّ‬
‫بالخلق والتقوى والورع‪.‬‬

‫ن طائفة من المسلمين تطير‬ ‫ونختتم البحث بما ورد في الحديث النبوي الشريف بشأن مقام الرضى والتسليم في أ ّ‬
‫من قبورها يوم القيامة إلى الجّنة لتتنّعم بنعيمها دون أن تشهد الحساب فتسألهم الملئكة عن الحساب والجواز على‬
‫الصراط‪ ،‬فتجيب أّنها لم تر الحساب والصراط‪ .‬وتسألهم عن جهّنم‪ ،‬فجيبوا بعدم رؤيتها‪ .‬فيسألون من أّية ُامتم‬
‫أنتم؟ فتقول من ُأّمة محمد)صلى ال عليه وآله( فتقسم عليهم الملئكة عن أعمالهم التي أّدت بهم إلى هذه الكرامة‪،‬‬
‫ق لكم هذا«)‪.(1‬‬ ‫سم لنا« فتقول لهم الملئكة‪» :‬ح ّ‬‫فيقولون‪» :‬كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مّما ق ّ‬
‫—–‬

‫ل عن بحار النوار ‪.25 / 100‬‬


‫‪ .1‬مسكن الفؤاد نق ً‬

‫] ‪[ 32‬‬

‫] ‪[ 33‬‬

‫القسم الثاني‬

‫سْمَعة َفِإّنُه َم ْ‬
‫ن‬ ‫غْيِر ِرياء َول ُ‬ ‫عَمُلوا ِفي َ‬‫ت ِبَتْعِذير! َوا ْ‬
‫س ْ‬‫شَيًة َلْي َ‬
‫خ ْ‬
‫شْوُه َ‬‫خ َ‬
‫سِه َوا ْ‬‫ن َنْف ِ‬‫حّذَرُكْم ِم ْ‬‫ل ما َ‬ ‫نا ّ‬ ‫حَذُروا ِم َ‬ ‫»فا ْ‬
‫سَعداِء َوُمراَفَقَة اَْلْنِبياِء«‪.‬‬
‫شَة ال ّ‬‫شَهداِء َوُمعاَي َ‬
‫ل َمناِزَل ال ّ‬ ‫سَأُل ا َّ‬
‫عِمَل َلُه‪َ .‬ن ْ‬‫ن َ‬ ‫ل ِلَم ْ‬‫ل َيِكْلُه ا ّ‬
‫َيْعَمْل ِلَغْيِر ا ّ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫سبيل بلوغ مقامات الصالحين‬

‫يواصل المام)عليه السلم( خطبته بعدد من الوصايا الخلقية فيقول)عليه السلم(‪» :‬فاحذروا من ال ما حّذركم‬
‫صـيَبُهْم‬
‫صـيَبُهْم ِفْتَنٌة َأْو ُي ِ‬
‫ن ُت ِ‬
‫ن َأْمِرِه َأ ْ‬
‫عْ‬
‫ن َ‬
‫ن ُيـخاِلُفو َ‬
‫حَذِر اّلِذي َ‬
‫ل العبارة إشارة إلى الية الشريفة‪َ):‬فْلَي ْ‬ ‫من نفسه« ولع ّ‬
‫ث)عليه السلم( على خشيته‬ ‫صـيُر()‪ .(2‬ثم ح ّ‬ ‫ل الَم ِ‬ ‫سُه َو ِإلى ا ّ‬ ‫ل َنْف َ‬
‫حّذُرُكُم ا ّ‬
‫ب َأِلـيٌم()‪ (1‬أو إلى الية‪َ) :‬وُي َ‬
‫عذا ٌ‬
‫َ‬
‫وتقواه بحيث ل تكون هناك من حاجة للتماس العذار الواهية »واخشوه خشية ليست بتعذير«)‪ ،(3‬لّنه العالم‬
‫ن العبارة السابقة تحدثت عن الحذر من‬ ‫بباطن كل فرد وأسراره وأعذاره الصحيحة من السقيمة‪ .‬جدير بالذكر أ ّ‬
‫ن الخشية تتضمن الخوف المقرون بدرك العظمة‪ ،‬ومن‬ ‫ال‪ ،‬ثم ُأردفت بالحديث عن الخشية‪ ،‬وقد صّرح اللغوين أ ّ‬
‫عـباِدِه الُعَلماُء()‪ ،(4‬أّما الحذر فيقال حين يحتاط النسان من خطر‬ ‫ن ِ‬ ‫ل ِم ْ‬
‫خشى ا ّ‬ ‫هنا صّرح القرآن الكريم )ِإّنما َي ْ‬
‫قطعي أو محتمل‪ .‬ثم أشار)عليه السلم(في وصيته الثالثة إلى الخلص في النّية وتنقية العمال من الرياء‬
‫ن من عمل ل‬ ‫والسمعة ل ّ‬

‫‪ .1‬سورة النور ‪.63 /‬‬

‫‪ .2‬سورة آل عمران ‪.28 /‬‬

‫‪» .3‬تعذير« من مادة »عذر« وهنا بمعنى عدم العذر الصحيح‪.‬‬

‫‪ .4‬سورة فاطر ‪.28 /‬‬

‫] ‪[ 34‬‬
‫وشرك معه آخر وكله ال إلى ذلك الخر وقال له خذ أجرك منه فاّنك لم تعمل لي »واعملوا في غير رياء ول‬
‫سمعة‪ ،‬فإّنه من يعمل لغير ال يكله ال لمن عمل له«‪.‬‬

‫نعم خشية ال وخشية مقارفة الذنوب والمعاصي ل تكفي لوحدها‪ ،‬بل لبّد من التيان بالعمال الصالحة البعيدة‬
‫عن كافة أشكال الرياء والسمعة‪ ،‬والرياء يعني مراءاة الخرين ولفت أنظارهم لما يقوم به النسان من أعمال‪،‬‬
‫ل يفعل ذلك يسر‬‫ل أّنه يسعى لسماعه الخرين‪ ،‬بحيث يجلب انتباههم إليه‪ ،‬و إ ّ‬
‫والسمعة أن يقوم بالعمل ل‪ ،‬إ ّ‬
‫لسماع الخرين فيثنون عليه ويطرونه‪.‬‬

‫ل أّنها مذمومة خلقًا ومدعاة لنحطاط النسان الروحي‬‫ن السمعة ل تبطل العمل‪ ،‬إ ّ‬‫والمعروف بين العلماء أ ّ‬
‫والمعنوي‪ ،‬ولعّلها تؤّدي إلى زوال الجر والثواب‪ .‬وقد استدل المام)عليه السلم(في تحذيره من السمعة والرياء‬
‫ن شرك العبد معه أحد آخر وكله ال إليه ليأخذ منه أجره‪،‬‬
‫ل العمل الخالص لوجهه فإ ّ‬ ‫ن ال سبحانه ل يقبل إ ّ‬
‫بأ ّ‬
‫وبالطبع فإّنه ل يملك القدرة على إعطاءه الجر والثواب‪ .‬والعبارة هى مضمون حديث قدسي معروف نقل عن‬
‫ن الحق سبحانه قال‪» :‬أنا خير شريك ومن أشرك معي شريكًا في عمله‪ ،‬فهو‬ ‫رسول ال)صلى ال عليه وآله(أ ّ‬
‫ل ما خلص لي«)‪.(1‬‬ ‫لشريكي دوني‪ ،‬لني ل أقبل إ ّ‬

‫ل‪» :‬نسأل ال منازل الشهداء ومعايشة السعداء ومرافقة النبياء«‪ .‬حيث‬ ‫ثم اختتم المام)عليه السلم( كلمه قائ ً‬
‫لمور‬ ‫لّمة بالقيم اللهية الحّقة من قبيل الشهادة ومرافقة النبياء وهى ا ُ‬ ‫يهدف المام)عليه السلم( إلى تعريف ا ُ‬
‫ن َأْنَعَم ا ّ‬
‫ل‬ ‫ك َمَع اّلِذي َ‬‫ل َفُاولـِئ َ‬
‫سو َ‬
‫ل َوالّر ُ‬
‫طِع ا ّ‬
‫التي ل تنال بسهولة كما ل تمنح للنسان بالمجان )ومن يطع ال َوَمنْ ُي ِ‬
‫ل َوَكفى ِبا ّ‬
‫ل‬ ‫نا ّ‬‫ل ِم َ‬‫ضُ‬ ‫ك الَف ْ‬
‫ك َرِفـيقًا * ذ ِل َ‬
‫ن ُأولـِئ َ‬
‫سَ‬
‫حُ‬‫ن َو َ‬
‫حـي َ‬
‫صال ِ‬
‫شـَهداِء َوال ّ‬
‫ن َوال ّ‬
‫صـّديِقـي َ‬
‫ن َوال ّ‬
‫ن الّنِبـّيي َ‬
‫عَلْيِهْم ِم َ‬
‫َ‬
‫عِلـيمًا()‪.(2‬‬ ‫َ‬

‫فالمراحل الثلث ـ الشهادة والسعادة ورفقة النبياء ـ التي وردت في كلم المام)عليه السلم(يمكن أن تكون من‬
‫قبيل العّلة والمعلول‪ ،‬فالشهادة سبب السعادة‪ ،‬والسعادة سبب مرافقة النبياء‪ .‬كما يمكن أن يكون الكلم إشارة‬
‫لطيفة إلى حوادث المستقبل وشهادة المام)عليه السلم(‪.‬‬

‫‪ .1‬منهاج البراعة ‪ 324 / 3‬كما ورد هذا المضمون عن المام الصادق)عليه السلم( في بحار النوار ‪.243 / 67‬‬

‫‪ .2‬سورة النساء ‪ 69 /‬ـ ‪.70‬‬

‫] ‪[ 35‬‬

‫ن الخلص أساس العمل‬


‫فصل في أ ّ‬

‫للشرك والوثنية شعب‪ ،‬من أهمها الرياء والسمعة‪ .‬والرياء من مادة الرؤية بمعنى التظاهر وإلفات نظر الخرين‬
‫إليه من خلل التظاهر بالعبادة والعمال الحسنة‪ .‬وهذا الفرد في الواقع مشرك‪ ،‬لّنه يرى عّزته وكرامته بيد‬
‫الخرين ل بيد ال‪ ،‬ولذلك يقوم بأعماله بدافع من لفت انتباه الخرين إليه‪.‬‬

‫ن السمعة هو أن يقوم الفرد بالعمل قربة إلى ال‪ ،‬فتخالطه الفكار‬ ‫أّما بشأن السمعة فهناك تفسيران‪ :‬أحدهما أ ّ‬
‫طلع الخرين وإسماعهم بعمله ليحظى بمديحهم وثنائهم‪ .‬وهو المر الذي ل يوجب بطلن العمل حسبما صّرح‬ ‫با ّ‬
‫ل أّنها تقلل من ثواب العمل أو تقضي عليه‪ ،‬والخر أن تكون‬ ‫بذلك الفقهاء‪ ،‬لّنه قد حصل بعد التيان بالعمل‪ ،‬إ ّ‬
‫خالطته فكرة إسماع الخرين منذ بداية العمل ليثنوا عليه ويكيلوا له المدح والثناء‪ .‬وليس هنالك من فارق بين‬
‫ن المرائي يقوم بالعمل ليراه الخرون بينما يقوم الخر بالعمل ليسمعه‬ ‫السمعة بهذا المعنى والرياء‪ ،‬سوى أ ّ‬
‫الخرون‪ ،‬وعليه فالعملن ليسا بخالصين‪.‬‬

‫ن الرياء والسمعة من أكبر آفات العمال العبادية‪ .‬ولما كان نفوذ الرياء والسمعة إلى العمال‬ ‫ل حال فإ ّ‬
‫على ك ّ‬
‫النسانية غاية في التعقيد والدّقة فقد تواتر التحذير منه كرارًا في اليات القرآنية والروايات السلمية‪ .‬وأعظم‬
‫مفسدة لهذا العمل هو أّنه يقضي على روح التوحيد ويقذف بصاحبه في وادي الشرك والزدواجية في العبادة‪ ،‬ل ّ‬
‫ن‬
‫ن الجر والثواب والعّزة والكرامة والرزق و‪...‬‬ ‫ل شيء بيد ال وأ ّ‬‫نكّ‬ ‫توحيد الفعال يعّلمنا اليمان والذعان بأ ّ‬
‫لمور من الخرين‪ ،‬وهذا شرك علني‪ .‬وقد‬ ‫ن المرائين إّنما يلتمسون هذه ا ُ‬
‫لأّ‬‫تابعة لرادة ال مأتمرة بأوامره‪ ،‬إ ّ‬
‫ورد في الروايات يقال يوم القيامة للمرائي‪» :‬يا كافر! يا فاجر! يا غادر!يا خاسر! حبط عملك وبطل أجرك‪ ،‬فل‬
‫ن الرياء والسمعة مصدر كافة الختللت الجتماعية‪،‬‬
‫خلص لك اليوم«)‪ .(1‬هذا من جانب‪ ،‬ومن جانب آخر فإ ّ‬
‫فالمرائي إّنما يهتم بظاهر العمل دون الكتراث إلى باطنه‪ ،‬فالظاهر جميل والباطن فاسد‪.‬‬

‫‪ .1‬وسائل الشيعة ‪.50 / 1‬‬

‫] ‪[ 36‬‬

‫سسات والدوائر تتمتع بظاهر أنيق بينما تستبطن الخواء والفساد من الداخل‪ ،‬الفكار سطحية ساذجة خالية من‬ ‫المؤ ّ‬
‫ن مثل هذه المجتمعات‬ ‫ى عمق وجذور فالهدف في المجتمعات المرائية إّنما يولى للكمّية ل للكيفّية‪ .‬ومن البديهي أ ّ‬‫أ ّ‬
‫إّنما تحث الخطى نحو النحطاط والضمحلل والنهيار‪ .‬وبالطبع على العكس من ذلك فهنالك اليوم البلدان التي‬
‫أولت أهمية قصوى للقطاعات الصناعية والزراعية والقتصادية وحثت الخطى من أجل خدمة المجتمع ورفاهه‬
‫فقد سارت نحو الرقي والتطور والزدهار‪.‬‬

‫نكتفي بهذا المقدار بشأن الرياء والسمعة ونترك الخوض في التفاصيل أكثر إلى البحاث القادمة بما يتناسب‬
‫والموضوع‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 37‬‬

‫القسم الثالث‬

‫ظمُ‬‫عَ‬‫سَنِتِهْم َوُهْم َأ ْ‬
‫عْنُه ِبَأْيِديِهْم َوَأْل ِ‬
‫عِهْم َ‬
‫عْتَرِتِه‪َ ،‬وِدفا ِ‬‫ن ِ‬ ‫عْ‬ ‫ن ذا مال ـ َ‬ ‫ن كا َ‬ ‫جُل ـ َوِإ ْ‬
‫سَتْغِني الّر ُ‬ ‫»َأّيها الّناس ِإّنُه ل َي ْ‬
‫جَعُلُه الّ ِلْلَمْرِء‬
‫ق َي ْ‬
‫صْد ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ت ِبِه َوِلسا ُ‬ ‫عْنَد ناِزَلة ِإذا َنَزَل ْ‬
‫عَلْيِه ِ‬
‫طُفُهْم َ‬
‫عَ‬‫شَعِثِه َوَأ ْ‬
‫ن َوراِئِه َوَأَلّمُهْم ِل َ‬‫طًة ِم ْ‬‫حْي َ‬
‫الّناس َ‬
‫غْيُرُه«‪.‬‬ ‫ن اْلماِل َيِرُثُه َ‬ ‫خْيٌر َلُه ِم َ‬
‫ِفي الّناس َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫السند الشعبي‬

‫ل يصدهم عن ذلك النحراف‬ ‫لّما فرغ المام)عليه السلم( من وصاياه للفقراء والمعدمين بطاعة ال وخشيته وإ ّ‬
‫الخلقي بسبب سوء الوضاع وصعوبة العيش التي يعانون منها‪ ،‬وأصل خطبته ليخاطب هنا الغنياء والمرفهي‬
‫بما يحفظ التوازن في المجتمع‪ .‬فقد حثم بادئ ذي بدء إلى مّد يد العون والمساعدة إلى بطانتهم وأقربائهم‬
‫وعشيرتهم‪ ،‬ويلفت نظرهم إلى غض الطرف عن الموال والثروة التي ليس من شأنها أن تجعل النسان غنيًا عن‬
‫قرابته »أيها الناس إنه ل يستغني الرجل ـ وإن كان ذا مال ـ عن عترته)‪ ،(1‬ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم«‪.‬‬
‫فالواقع أّنهم أعظم سند يوفر له الحماية والدعم ويزيل عنه المشاكل والمخاطر‪ ،‬وإذا ما تعرض لبعض الظروف‬
‫الصعبة والحوادث الخطيرة‪ ،‬كانت عترته أشفق من الخرين به وأحرصهم‬
‫عتر )على وزن ِفطر( نبات معطر كثير‬
‫ن هذه المفردة أقتبست من ِ‬‫‪» .1‬عترة« قال أرباب اللغة تعني أصل الشيء وأساسه‪ ،‬كما قيل أ ّ‬
‫الغصون والوراق وتشير إلى فروع القرابة‪ .‬وقيل تطلق العترة على الولد فقط‪ .‬وعليه فعترة النبي)صلى ال عليه وآله( هم ولد‬
‫فاطمة)عليها السلم( وإلى ذلك أشار الحديث المعروف »إني تارك فيكم الثقلين كتاب ال وعترتي أهل بيتي )لسان العرب‪ ،‬الصحاح‪،‬‬
‫مقاييس اللغة(‪.‬‬

‫] ‪[ 38‬‬

‫إذا أتت ُاعطيت الغنى ثم لم تجد *** بفضل الغنى ألفيت مالك حامد‬

‫‪» .1‬حيطة« اسم مصدر من مادة »حوط« بمعنى الحاطة‪ ،‬وهى هنا بمعنى الرعاية والكلءة‪ .‬وقال البعض الحيطة بفتح الحاء بمعنى‬
‫المراقبة وبكسرها بمعنى الحفظ‪.‬‬

‫‪» .2‬الم« من مادة »لمم« بمعنى الجمع والصلح‪.‬‬

‫‪ .3‬شعث بالتحريك بمعنى التفرق والنتشار‪.‬‬

‫‪ .4‬نهج البلغة‪ ،‬آخر الرسالة رقم ‪.3‬‬

‫] ‪[ 39‬‬

‫وقل غناء عنك مال جمعته *** إذا كان ميراثًا وواراك لحد‬

‫ل أّنه يحمل العمل الصالح والذكر الحسن لدى الناس‪ ،‬فل يكد‬
‫نعم ليحمل النسان شيئًا من الموال معه في قبره‪ ،‬إ ّ‬
‫يذكر إسمه حّتى يترحم عليه الناس ويسألون ال له المغفرة والعفو والرحمة‪.‬‬

‫هذا هو رأس المال المعنوي والمادي الخالد الذي يمكن نيله من خلل النفاق في سبيل ال وبذل الحسان إلى‬
‫ن الغنياء قد دعوا إلى مّد يد العون إلى فقراء المجتمع ومساعدتهم من خلل‬ ‫عباد الرحمن‪ .‬وزبدة الكلم فا ّ‬
‫دافعين; الول بغية الحصول على العوان والنصار وتوظيفهم لصالحهم حين بروز النوائب والشدائد التي‬
‫تواجههم في حياتهم‪ ،‬والثاني بهدف الحصول على السمعة الحسنة والذكر الطيب بعد الموت بما يجعل الخرين‬
‫حمون عليهم ويسألون ال لهم العفو والمغفرة‪ .‬وما أعظم هذه التجارة بهذا المتاع الدنيوي الزائل من أجل‬‫يتر ّ‬
‫الحصول على السندين المذكورين‪.‬‬

‫فصل في حسن الثناء )لسان الصدق(‬

‫ن لسان الصدق يجعله ال للمرء في الناس خير له من المال يورثه‬ ‫لقد ذكر المام)عليه السلم( في هذه الخطبة أ ّ‬
‫صْدق ِفي‬
‫ن ِ‬‫ل ِلي ِلـسا َ‬
‫جَع ْ‬
‫غيره‪ .‬ولسان الصدق هو أن يذكر النسان بالخير‪ ،‬ويثنى عليه به‪ ،‬قال سبحانه‪َ) :‬وا ْ‬
‫ن()‪ (1‬وهو دعاء إبراهيم الخليل)عليه السلم(‪ .‬كما أشار البارئ سبحانه في إطار ثنائه على طائفة من‬ ‫خـِري َ‬
‫ال ِ‬
‫ن هذه‬
‫عِلـّيا()‪ .(2‬واللسان في الية بمعنى ذكر النسان بالخير‪ .‬ومّما ل شك فيه أ ّ‬ ‫صْدق َ‬
‫ن ِ‬‫جَعْلنا َلُهْم ِلسا َ‬
‫النبياء )َو َ‬
‫القضية ليست من قبيل القضايا الروتينية الجوفاء‪ ،‬بل تنطوي على عّدة معطيات على مستوى الفرد والمجتمع‪،‬‬
‫فهى‪:‬‬

‫ن الموال والثروات المادية إّنما توّزع في لحظة وقد‬


‫ل‪ :‬أّنها لمن دواعي الفخر والعتزاز الخالد‪ ،‬بينما نرى أ ّ‬
‫أو ً‬
‫ل يبقى لها من أثر‪.‬‬

‫ن حسن الثناء والذكر الحسن إّنما يسوق الخرين للدعاء لهؤلء الفراد وطلب‬
‫ثانيًا‪ :‬إ ّ‬
‫‪ .1‬سورة الشعراء ‪. 84 /‬‬

‫‪ .2‬سورة مريم ‪.50 /‬‬

‫] ‪[ 40‬‬

‫الرحمة والمغفرة لهم من ال; المر الذي ل تخفي آثاره المعنوية‪.‬‬

‫ن هذا المر له تأثيره البالغ في نفوس أبناء المجتمع في القتداء باولئك الفراد وإحياء القيم العليا في‬
‫ثالثًا‪ :‬إ ّ‬
‫ن سّنة حسنة كان له مثل أجر من عمل‬ ‫المجتمع والقضاء على ما يخالفها‪ ،‬فقد جاء في الرواية المعروفة »من س ّ‬
‫بها«)‪.(1‬‬

‫ن ذلك من مدعاة العزة والرفعة والكرامة لدى نسل ُاولئك الفراد المحسنين‪ ،‬فما أكثر من نعرف من‬‫وأخيرًا أ ّ‬
‫الفراد الذين نكن لهم الحب والحترام لنحدارهم من ُاولئك الفراد‪ .‬هذه طائفة من الثار المعنوية الفردية‬
‫والجتماعية للسان الصدق وطيب الحدوثة‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬لقد ورد هذا المضمون في عدة روايات ومنها كتاب وسائل الشيعة ‪ / 11‬الباب ‪ 16‬من أبواب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬

‫] ‪[ 41‬‬

‫القسم الرابع‬

‫صُه ِإ ْ‬
‫ن‬ ‫سَكُه َول َيْنُق ُ‬ ‫ن َأْم َ‬‫سّدها ِباّلِذي ل َيِزيُدهُ ِإ ْ‬ ‫ن َي ُ‬
‫صَة َأ ْ‬
‫خصا َ‬ ‫ن اْلَقراَبِة َيَرى ِبها اْل َ‬ ‫عِ‬‫حُدُكْم َ‬
‫ن َأ َ‬
‫ومنها‪َ» :‬أل ل َيْعِدَل ّ‬
‫شَيُتُه‬
‫ن حا ِ‬ ‫ن َتِل ْ‬
‫عْنُه َأْيد َكِثيَرةٌ َوَم ْ‬
‫ض ِمْنُهْم َ‬
‫حَدٌة َوُتْقَب ُ‬
‫عْنُهْم َيٌد َوا ِ‬
‫ض ِمْنُه َ‬
‫شيَرِتِه‪َ ،‬فِإّنَما ُتْقَب ُ‬
‫عِ‬‫ن َ‬‫عْ‬ ‫ض َيَدُه َ‬
‫ن َيْقِب ْ‬ ‫َأْهَلَكُه; َوَم ْ‬
‫ن َقْوِمِه اْلَمَوّدَة«‪.‬‬
‫سَتِدْم ِم ْ‬
‫َي ْ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫العتضاد بالعشيرة‬

‫بعد أن قرظ المام)عليه السلم( الثناء والذكر الجميل وفضله على المال‪ ،‬أمر بمواساة الهل وصلة الرحم وإن ق ّ‬
‫ل‬
‫ما يواسى به‪ ،‬حيث أكد هذا المر بثلث عبارات فقال)عليه السلم(‪» :‬أل ل يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها‬
‫الخصاصة)‪ (1‬أن يسدها بالذي ل يزيده إن أمسكه ول ينقصه إن أهلكه«‪ .‬يمكن أن تكون هذه العبارة إشارة لحد‬
‫ن حرمان القرابة مّما يتمتع به النسان من إمكانات وثروات من‬ ‫معنيين; الول إلى البعد المعنوي لهذا العمل في أ ّ‬
‫ن معونة القرابة‬
‫شأنه أن يسلب بركة مال النسان وحياته ويحول دون نمائه وزيادته‪ ،‬وعلى العكس من ذلك فا ّ‬
‫ضلت ال وألطافه; أو أن يكون‬ ‫ومساعدتها تنطوي على عدة بركات من شأنها أن تدرك هذا النقص الظاهري بتف ّ‬
‫ن مشاكل القرابة إّنما تنتقل بشكل أو بآخر إلى النسان وتؤرق فكره وتشغل‬
‫إشارة إلى بعده الظاهري والمادي‪ ،‬ل ّ‬
‫روحه وتعرض سمعته وشخصيته للخطر وبالتالي تضاعف من مشاكله ومعاناته‪ ،‬وعليه فما أحراه أن يهب‬
‫لمساعدتهم ومعونتهم ليظفر بثواب‬

‫‪» .1‬الخصاصة« هى الفقر والحاجة الشديدة وهى مصدر خص الرجل بمعنى احتاج وافتقر‪ ،‬وقال صاحب مقاييس اللغة تعنى الثلمة‬
‫ومن هنا أطلقت على الفقر والحاجة لّنها ثلمة في حياة النسان‪.‬‬

‫] ‪[ 42‬‬

‫الخرة وبركات الدنيا وينال الذكر الطيب والحدوثة الحسنة‪ .‬فقد جاء في الحديث أن المام علي)عليه السلم(‬
‫قال‪» :‬البركة في مال من آتى الزكاة وآسى المؤمنين ووصل القربين«)‪ (1‬ثم يتطرق المام)عليه السلم( إلى‬
‫الضرار الفادحة التي يتكبدها النسان إذا أمسك يده عن قرابته ولم يقدم العون والمساعدة‪ ،‬ومن ذلك إّنه إّنما‬
‫يقطع عنهم يده بينما يقطعون عنه أيديهم التي ل غنى له عنها »ومن يقبض يده عن عشيرته‪ ،‬فإّنما تقبض منه‬
‫عنهم يد واحدة وتقبض منهم عنه أيد كثيرة«‪ .‬فالحق ليس هنالك من عاقل مستعد للتضحية بكل هذه المنافع من‬
‫أجل التنازل عن بعض منافعه الشخصية الضئيلة‪ ،‬ثم يختتم المام)عليه السلم(كلمه بالقول »ومن تلن حاشيته‬
‫يستدم من قومه الموّدة«‪ .‬يمكن أن تنطوي مفردة »حاشيته« على معنيين; الول صفات النسان وروحياته‪،‬‬
‫ن مفهوم الجملة هو تمحور قوم النسان حوله إذا حسن‬ ‫والخر أن تكون إشارة إلى البطانة وبناًء على هذا‪ ،‬فإ ّ‬
‫سلوك بطانته تجاه الناس‪ .‬فقد رأينا الكثير من الفراد الصالحين الذين انفرجوا عنهم الناس رغم صلحهم بسبب‬
‫سوء تصرف بطانتهم ومن حولهم‪.‬‬

‫فصل في بركات التعاضد بالقرابة‬

‫ن مسألة صلة الرحم وتوطيد أواصر المحّبة بالقرابة وإن كانت وظيفة إلهية ورد التأكيد عليها في اليات القرآنية‬ ‫إّ‬
‫ن القيام بهذه الوظيفة الدينية والنسانية إّنما ينطوي على بركات جمة‬ ‫ن مّما لشك فيه أ ّ‬‫لأّ‬‫والروايات السلمية‪ ،‬إ ّ‬
‫تعرض لها المام)عليه السلم( أواخر هذه الخطبة والمهم أن يعزز النسان هذه الصرة ول يمارس كلّ مأمن‬
‫شأنه الساءة إليها أو قطعها‪ .‬ولبّد من الحسان إلى القربى حين شعور النسان بوفور النعمة‪ ،‬لتهب للوقوف إلى‬
‫ن التفّوق على المشاكل ل يتأتى من‬ ‫ل الواقع بما ل يقبل الشك أ ّ‬
‫جانبه إذا ما واجهته بعض المحن والخطوب‪.‬وقد د ّ‬
‫خلل الجهود الفردية‪ ،‬بل يتطلب مؤازرة الخرين وتكافئ جهودهم‪ ،‬وما أحرى أن تكون الولوية في هذه‬
‫ل منهما الخر‬‫ل منهما الخر إلى جانب الرتباط العاطفي الذي يشّد ك ّ‬ ‫الرابطة للقرابة والعشيرة حيث يعرف ك ّ‬
‫ل منهما للخر‪،‬‬ ‫إلى جانب الرتباط العاطفي الذي يشّد ك ّ‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪.413 / 74‬‬

‫] ‪[ 43‬‬

‫لمور عرض الجدار بمجّرد نيلهم بعض الثراء والنعمة‬ ‫ن أغلب الفراد إّنما يضربون هذه ا ُ‬ ‫ن المؤسف له أ ّ‬ ‫غير أ ّ‬
‫ل هذه الطاقات التي يمكنها معالجة مصاعبه ومشاكله‪ ،‬وهذا هو المعنى الذي‬ ‫فيبتعد عن قرابته ويحرم نفسه من ك ّ‬
‫صَلُة‬
‫تناولته أغلب الروايات الواردة بهذا الشأن‪ .‬فقد جاء في الحديث عن المام الصادق)عليه السلم( أّنه قال‪ِ » :‬‬
‫صَلُة الرحاِم‬ ‫جوار‪ُ ،‬يَعّمران الديار َوَيزيدان ِفي العمار«)‪ .(1‬وقال المام الباقر)عليه السلم(‪ِ » :‬‬ ‫ن ال ِ‬
‫سُ‬
‫حْ‬‫الّرحِم َو ُ‬
‫صَلُة الرحاِم ُتَزّكي‬
‫ل«)‪ .(2‬كما ورد عن المام الباقر)عليه السلم( أّنه قال‪ِ » :‬‬ ‫جواِر‪ ،‬زياَدًة في الموا ِ‬ ‫ن ال ِ‬‫حس ُ‬‫َو ُ‬
‫ن قطع الرحم ينطوي‬ ‫ب وُتنسى في الجل«)‪ .(3‬وبالمقابل فإ ّ‬ ‫حسا ُ‬ ‫سُر ال ِ‬
‫العمال َوُتْنجى الموال وَتْرَفُع الَبلوى وُتَي ّ‬
‫ن رسول ال)صلى‬ ‫على آثار خطيرة على حياة النسان في الدنيا وسوء العذاب في الخرة‪ .‬فقد جاء في الحديث أ ّ‬
‫حم ول‬ ‫طُع َر ِ‬
‫ق ول قا ِ‬ ‫جُدها عا ّ‬
‫ف عام ما َي ِ‬
‫جُد ِمن َمسيرِة أل ِ‬
‫ح الجّنة ُتو َ‬‫ن ِري َ‬‫لإّ‬‫ال عليه وآله(قال‪» :‬أخَبرني جبرئي ُ‬
‫خ زان«‪(4).‬‬ ‫شي ُ‬
‫َ‬
‫ولعل هنالك من يسأل‪ :‬ما المراد بصلة الرحم؟ المراد هو تعميق أواصر المحّبة والنجدة في حل المشاكل وعدم‬
‫الغفلة وتفقد الحوال في كافة الظروف‪ ،‬وقد تحفظ هذه الصلة حّتى بالسلم والرتباط عن طريق الهاتف‪ .‬فقد قال‬
‫صُلوا أرحاَمُكم ولو ِبالتسليِم«)‪ (5‬وسنتكلم في البحاث القادمة عن صلة الرحم‬
‫أميرالمؤمنين علي)عليه السلم(‪ِ » :‬‬
‫ومعطياتها المادية والمعنوية بما يتناسب والمواضيع الواردة في الخطب‪ .‬هذا وقد قال السيد الرضي)ره( في آخر‬
‫هذه الخطبة‪:‬‬

‫»الغفيرة هاهنا الزيادة والكثرة; من قولهم للجمع الكثير‪ :‬الجم الغفير‪ ،‬والجماء الغفير‪ .‬ويروى عفوة من أهل أو‬
‫مال«‪.‬‬

‫والعفوة‪ :‬الخيار من الشيء‪ .‬يقال‪» :‬أكلت عفوة الطعام« أي خياره‪ .‬وما أحسن المعنى الذي أراده)عليه السلم(‬
‫ن الممسك خيره عن عشيرته إّنما يمسك نفع يد‬‫بقوله‪» :‬ومن يقبض يده عن عشيرته‪ «...‬إلى تمام الكلم; فا ّ‬
‫واحدة‪ ،‬فاذا احتاج إلى نصرتهم‪ ،‬واضطر إلى‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪.120 / 71‬‬

‫‪ .2‬بحار النوار ‪.97 / 71‬‬

‫‪ .3‬بحار النوار ‪. 71/211‬‬

‫ل عن بحار النوار ‪ 95 / 71‬ح ‪.26‬‬


‫‪ .4‬معاني الخبار نق ً‬

‫ل عن بحار النوار ‪.126 / 71‬‬


‫‪ .5‬اصول الكافي نق ً‬

‫] ‪[ 44‬‬

‫مرافدتهم‪ ،‬قعدوا عن نصره‪ ،‬وتثاقلوا عن صوته‪ ،‬فمنع ترافد اليدي الكثيرة‪ ،‬وتناهض القدام الجمة‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 45‬‬

‫الخطبة ‪24‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫وهى كلمة جامعة له‪ ،‬فيها تسويغ قتال المخالف والدعوة إلى طاعة ال‪ ،‬والترقي فيها لضمان الفوز‬
‫ل‪َ ،‬وِفّروا ِإَلى‬ ‫عباَد ا ّ‬ ‫ل ِ‬‫ن ِإْدهان َول ِإيهان‪ .‬فاّتُقوا ا َّ‬ ‫ى‪ِ ،‬م ْ‬ ‫ط اْلَغ ّ‬
‫ق َوخاَب َ‬
‫حّ‬‫ف اْل َ‬
‫ن خاَل َ‬ ‫ن ِقتاِل َم ْ‬
‫ى ِم ْ‬
‫عَل ّ‬
‫»َوَلَعْمِري! ما َ‬
‫حوُه‬‫ن َلْم ُتْمَن ُ‬
‫ل‪ِ ،‬إ ْ‬
‫جً‬ ‫جُكْم آ ِ‬
‫ن ِلَفْل ِ‬
‫ي ضاِم ٌ‬
‫صَبُه ِبُكْم‪َ ،‬فَعِل ّ‬
‫ع َ‬ ‫جُه َلُكْم‪َ ،‬وُقوُموا ِبما َ‬
‫ضوا ِفي اّلِذي َنَه َ‬ ‫ل‪َ ،‬واْم ُ‬
‫نا ّ‬
‫ل ِم َ‬ ‫ا ّ‬
‫ل«‪.‬‬
‫جً‬ ‫عا ِ‬

‫—–‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫يهدد المام)عليه السلم( في هذه الخطبة مخالفيه بشدة ويعرب عن عزمه الراسخ في التصدي لهم وقتالهم بعد أن‬
‫يقنطهم من أدنى موادعة أو مصالحة على حساب العدل والحق‪ ،‬ثم يوصي صحبه بمواكبته في هذا الطريق‬
‫ن الخطبة في الواقع رّد على ُاولئك الذين يشكلون على المام)عليه‬
‫والتأهب لمواجهة أعداء الدين‪ .‬ويرى البعض أ ّ‬
‫السلم( في مساومة العداء واضطرارهم للستسلم من خلل استمالتهم بالرشوة و‪ ...‬فالمام)عليه السلم(‬
‫يكشف أّنه ليس من أهل المساومة والخداع‪(1).‬‬

‫‪ .1‬مفتاح السعادة في شرح نهج البلغة ‪.112 / 1‬‬

‫] ‪[ 46‬‬

‫الشرح والتفسير‬

‫المساومة والمصناعة‬

‫ى من قتال من خالف الحق وخابط)‪(2‬الغى‪ ،‬من‬


‫ل المام)عليه السلم( خطبته بالقول‪» :‬ولعمري)‪ (1‬ما عل ّ‬
‫استه ّ‬
‫إدهان)‪ (3‬ول إيهان)‪.«(4‬‬

‫ن العبارة الولى إلى الفرد الذي يشق‬


‫ن هنالك فارق بين العبارتين »خالف الحق« و»خابط الغي« ـ هو أ ّ‬ ‫يبدو أ ّ‬
‫عن علم سبيل مخالفة الحق‪ ،‬بينما تشير الثانية إلى من يختار ذلك الطريق ويسبح في بحر من الضلل جه ً‬
‫ل‬
‫وخطأ ودون أدنى تأّمل ومطالعة‪ .‬أّما تعبيره)عليه السلم( بالدهان )المجاملة والمداهنة( واليهان )الضعف( فهو‬
‫ن الكف عن القتال والمواجهة إّنما يستند إلى أحد سببين; إّما المجاملة والمداهنة لعداء الحق‪ ،‬أو‬ ‫تحديد إلى أ ّ‬
‫ن مواجهته لمخالفي‬‫الضعف والعجز‪ ،‬وحيث لم يكن لى من هذا السببين من سبيل إلى كيان علي)عليه السلم( فإ ّ‬
‫الحق عنيفة ل هوادة فيها‪.‬‬

‫وقد ورد تقريبًا شبه هذا المعنى في سائر كلمات المام)عليه السلم( في إطار حديثه عن الطار العام الذي‬
‫ن ل ُيصاِنُع‬
‫ل َم ْ‬
‫سبحاَنه إ ّ‬‫ل ُ‬
‫يتحّرك ضمن دائرته زعماء المسلمين وأئمتهم فقد قال)عليه السلم(‪» :‬ل ُيقيُم أمُر ا ِ‬
‫ت ِمن‬‫ع ول َيّتِبُع الَمطاِمَع«)‪ .(5‬كما وصف نفسه)عليه السلم( في موضع آخر فقال‪» :‬وَأيُم ال لقد كن ُ‬ ‫ول ُيضاِر ُ‬
‫ت«)‪.(6‬‬ ‫ت ول َوَهْن ُ‬‫خْن ُ‬
‫ت ول ُ‬ ‫جُبْن ُ‬
‫ت ول َ‬
‫ضُعْف ُ‬
‫ت في ِقيادها‪ ،‬ما َ‬
‫سَق ْ‬
‫حذافيِرها واسَتو َ‬
‫ت ِب َ‬
‫ساَقتها حّتى َتَوّل ْ‬

‫عُمر« بمعنى مدة الحياة ويقال حين القسم لعمري بفتح العين‪ .‬وهى هنا مبتدأ لخبر محذوف‬
‫عَمر« و» ُ‬
‫عْمر« و» ُ‬
‫‪» .1‬لعمري« و» َ‬
‫تقديره »لعمري قسمي« وقد ورد سؤال في مجمع البحرين كيف بهذا القسم وهو ل يجوز بغير الذات اللهية المقدسة؟ وأجيب بأ ّ‬
‫ن‬
‫هذا القسم ليس حقيقة بل بصورة قسم‪ ،‬وتقديره »بواهب عمري وعمرك«‪.‬‬

‫‪» .2‬خابط« من مادة »خبط« وخابط الغي بمعنى صارع الفساد‪ ،‬وأصل الخبط اليسر في الظلم‪ ،‬وتستعمل للناقة حين تخبط في مشيها‪.‬‬
‫‪» .3‬الدهان« من مادة »دهن« بمعنى المنافقة والمصناعة ول تخلو من مخالفة الباطن للظاهر‪ ،‬كما تستعمل كناية عن المجاملة‬
‫والمداهنة‪.‬‬

‫‪» .4‬اليهان« من مادة »وهن« بمعنى الضعف سواء في الخلقة أو الخلق‪ ،‬واليهان والتوهين بمعنى الضعاف‪.‬‬

‫‪ .5‬نهج البلغة‪ ،‬الكلمات قصار‪.110 ،‬‬

‫‪ .6‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.104‬‬

‫] ‪[ 47‬‬

‫ثم أبدى)عليه السلم( نصائحه ووصاياه وفي مقدمتها مراعاة الورع والتقوى فقال)عليه السلم(‪» :‬فاتقوا ال عباد‬
‫ال«‪ .‬فالتقوى ـ التي تعني خشية ال في الباطن وعدم مقارفة الذنوب والمعاصي والعمل على طاعة ال ـ هى‬
‫أساس العمال الصالحة والباقيات الصالحات‪ ،‬ومن هنا ورد التأكيد عليها بصفتها مقدمة لسائر الوصايا الخلقية‬
‫والدينية‪ .‬ثم أوصى)عليه السلم( بالفرار من معصية ال إلى طاعته وغضبه وسخطه إلى رضاه وعذابه إلى‬
‫ن أية مشكلة‬ ‫رحمته ونقمته إلى نعمته »وفّروا إلى ال من ال« فالعبارة إشارة لطيفة إلى مسألة توحيد الفعال‪ ،‬ل ّ‬
‫تواجه النسان في هذا العالم إّنما تفرزها طبيعة أعماله والثار التي أودعها ال هذه العمال‪ .‬وعليه فمشاكله من‬
‫ذاته وعقابه مّما تفرزه أعماله‪ ،‬وعليه فليس أمامه من سبيل لحل مشاكله سوى الفرار إلى ال واللجوء إليه إذ »ل‬
‫ل ال« وكل خير وبركة ونجاة تفاض على النسان من ال سبحانه ـ القرآن من جانبه تحدث‬ ‫مؤثر في الوجود إ ّ‬
‫عن طائفة من العصاة الذين استحقوا سخط ال وغضبه ولم يعد أمامهم من سبيل سوى اللجوء إلى ال سبحانه‬
‫لأّ‬
‫ن‬ ‫ن النسان إذا شعر بخوف من أحد لذ بآخر‪ ،‬إ ّ‬ ‫ل اليه()‪(1‬الطريف في المر أ ّ‬‫لإ ّ‬
‫نا ّ‬‫جَأ ِم َ‬
‫ن ل َمْل َ‬
‫ظّنوا َأ ْ‬
‫)َو َ‬
‫ذلك ليس كذلك بالنسبة ل سبحانه‪ ،‬فاذا ما خافه النسان وخشى عذابه‪ ،‬لجأ إليه‪ ،‬وهل هناك من هو أرحم بالنسان‬
‫ل خير وحركة وبركة‪.‬‬ ‫ن ال هو مصدر ك ّ‬ ‫منه؟! هذا هو الدرس الذي ينبغي أن تتعلمه من التوحيد الفعالي في أ ّ‬
‫ل الظروف‪.‬‬ ‫ل حال وفي ك ّ‬ ‫فلله السماء والصفات التي تدعونا للجوء إلى ال على ك ّ‬

‫ن هذه‬ ‫فان خشينا سخطه وغضبه لذنا بعفوه ورحمته‪ ،‬وإن خفنا عدله لجأنا إلى فضله وكرمه‪ .‬وأخيرًا يبدو أ ّ‬
‫ل ِإّني َلُكْم ِمْنُه َنِذيٌر‬
‫العبارة مقتبسة من قوله سبحانه على لسان رسوله الكريم)صلى ال عليه وآله(‪َ) :‬فِفّروا ِإلى ا ّ‬
‫ن()‪ .(2‬ثم قال )عليه السلم( في الوصية الثالثة »وامضوا في الذي نهجه لكم« ثم أوصى)عليه السلم(قائل‪:‬‬ ‫ُمِبي ٌ‬
‫ن بهذه العبارات قانونًا جامعًا يشتمل على أربعة‬ ‫ن المام)عليه السلم( قد س ّ‬
‫»وقوموا عصبة)‪ (3‬بكم«‪ .‬والواقع أ ّ‬
‫بنود من شأنها ضمان السعادة النجاة‪:‬‬

‫‪ .1‬سورة التوبة ‪.118 /‬‬

‫‪ .2‬سورة الذاريات ‪.151 /‬‬

‫ب الذي يربط العظام والعضلت‪ ،‬أي كلفكم به وألزمكم أدائه‪.‬‬


‫ضَر َ‬
‫‪» .3‬عصب« من مادة »عصب« على وزن َ‬

‫] ‪[ 48‬‬

‫الول‪ :‬مراعاة التقوى وخشية ال‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬الحركة نحو ال من خلل الفرار منه إليه سبحانه‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬الثبات على النهج اليماني وسلوك السبيل الصحيح نحو ال‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬العمل بالتكاليف والوظائف الدينية التي أمر بها الشارع المقدس‪.‬‬

‫ن الوصايا الربعة استهلت بفاء التفريع فما علقتها بصدر الخطبة الذي تحدث عن العزم الراسخ في‬ ‫قد يقال أ ّ‬
‫ن قتال هذه الطائفة المنحرفة الجائرة إّنما‬
‫مجابهة مخالفي الحق وقتالهم؟ والجواب على هذا السؤال واضح‪ ،‬ل ّ‬
‫ن المام)عليه السلم( أراد أن يعّد أصحابه للوقوف‬ ‫يتطلب جنودًا أشداء مؤمنين من ذوي العزم والرادة‪ ،‬وكأ ّ‬
‫ن المام)عليه السلم(عّبر عن التكاليف بقوله »ما عصيه بكم« )التكاليف‬ ‫بوجه أصحاب الباطل‪ .‬جدير بالذكر أ ّ‬
‫لمور التي يستطيع النسان‬
‫ن الوظائف اللهية ليست من ا ُ‬ ‫التي كّلفتم بها وأمركم بأدائها(‪ ،‬ومفهوم العبارة هو أ ّ‬
‫إهمالها وعدم الكتراث لها‪ ،‬بل هى طوق في رقبته ودين في ذمته لبّد له من أدائه‪.‬‬

‫ن النسان إّنما يتحرر من القيود إذا‬ ‫ن هذه التعبيرات قد وردت في أغلب اليات والروايات التي تشير إلى أ ّ‬ ‫يذكر أ ّ‬
‫ما أّدى هذه التكاليف والوظائف‪ .‬وأخيرًا يختتم المام)عليه السلم(خطبته بضمانة النصر والغلبة والعاقبة الحسنة‬
‫لصحابه في خوضهم القتال ضد تلك الطائفة الضالة عن الحق‪ ،‬النصر الذي سيفوزون به في الدار الخرة ل‬
‫ل«‪ .‬وهذا هو المنطق القوي والرصين‬ ‫ل إن لم تمنحوه عاج ً‬ ‫ى ضامن لفلجكم آج ً‬ ‫محالة إذا تعذر في دار الدنيا »فعل ّ‬
‫الذي اعتمده القرآن في مخاطبته لتباعه في تصديهم لعداء الحق بأّنهم منتصرون غالبون مهما كانت نتيجة‬
‫عْنِدهِ َأْو ِبَأْيِدينا‬
‫ن ِ‬
‫ل ِبَعذاب ِم ْ‬
‫صـيَبُكُم ا ّ‬
‫ن ُيـ ِ‬
‫ص ِبُكْم َأ ْ‬
‫ن َنَتَرّبـ ُ‬
‫حُ‬‫ن َوَن ْ‬
‫سَنـَيْي ِ‬
‫حْ‬
‫حدى ال ُ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫ن ِبنا ِإ ّ‬
‫صو َ‬
‫ل َتَرّبـ ُ‬ ‫ل َه ْ‬ ‫القتال‪ُ) :‬ق ْ‬
‫ن الجنود الذين يرون أنفسهم منتصرين في جميع الحوال وأ ّ‬
‫ن‬ ‫ن()‪ (1‬ومعلوم أ ّ‬ ‫صو َ‬ ‫صوا ِإّنا َمَعُكْم ُمُتَرّبـ ُ‬ ‫َفَتَرّبـ ُ‬
‫عدوهم مهزوم‪ ،‬إّنما يقاتلون بمعنويات عالية دون أن يشعروا بأدنى خوف أو خطر مّما ستفرزه أحداث القتال‪.‬‬
‫ن اليمان بهذا المبدأ ـ النصر أو الشهادة ـ هو العامل الرئيسي الذي يقف وراء‬ ‫فيرى أغلب العلماء والمفّكرين أ ّ‬

‫‪ .1‬سورة التوبة ‪.52 /‬‬

‫] ‪[ 49‬‬

‫النتصار الذي يشعر به المسلمون في جبهات القتال رغم عدم الموازنة في القوى والتكافئ في العدة والعدد مع‬
‫جيوش العداء‪ .‬وهذا هو المبدأ الذي ينبغي أن يجعله العالم السلمي اليوم نصب عينيه في مجابهته لعالم الكفر‬
‫فل ينبهر بإمكاناته وتجهيزاته الزائفة‪.‬‬

‫ل في ظل اليمان والورع والتقوى وخوف ال‪.‬‬


‫ن هذا المبدأ ل يحصل إ ّ‬
‫والحق أ ّ‬

‫فصل في الضعف والمساومة‬

‫ن ساسة الدنيا ل يتوّرعون عن أّية‬‫ن من الفوارق الساسية بين الساسة الربانيين والساسة العاديين إّنما يكمن في أ ّ‬ ‫إّ‬
‫وسيلة من أجل تحقيق أطماعهم وأغراضهم الشخصية‪ ،‬وغالبًا ما يساومون العدو على المبادئ النسانية ومصالح‬
‫مجتمعاتهم ويتجاهلون الحق والعدالة‪ ،‬بغية حفظ مواقعهم السياسية والجتماعية‪ ،‬في حين ليست هنالك من‬
‫مساومة في قاموس الساسة الربانيين‪ ،‬بل غالبًا ما يضحي هؤلء بمواقعهم الحساسة حرصًا على حفظ المبادئ‬
‫ورعاية للحق والعدل والقسط; المر الذي نلمسه بوضوح في سيرة الرسول الكرم)صلى ال عليه وآله( وتلميذه‬
‫أميرالمؤمنين علي)عليه السلم(‪ .‬فما أكثر الفراد الذين اعترضوا على سياسة علي)عليه السلم( من قبيل استمالة‬
‫الخرين عن طريق التمييز في العطاء من بيت مال المسلمين‪ :‬أو البقاء على معاوية في حكومة الشام‪ ،‬دون أن‬
‫يحدثوا أنفسهم بالساليب التي يتبعها معاوية في حكومته للناس أو المبادئ التي سيعبر عليها في هذه الحكومة! أو‬
‫لمور شريطة العمل بسياسة‬ ‫القتراح الذي طرحه عليه عبد الرحمن بن عوف في الشورى بتسليمه مقاليد ا ُ‬
‫الشيخين‪ ،‬أو تفويض طلحة والزبير ولية البصرة والكوفة‪ .‬وقد اقترح من قبل‪ ،‬على رسول ال)صلى ال عليه‬
‫وآله( بعض القتراحات من قبيل اقتضاء المصلحة لطرده الضعفاء والمستضعفين‪ .‬فُاولئك وإن كانوا يفيضون‬
‫ن المصلحة تقتضي استقطاب الغنياء وتعبئتهم ضّد العدو رغم خلو قلوبهم من اليمان!‬ ‫لأّ‬ ‫إيمانًا بال ورسوله‪ ،‬إ ّ‬
‫ن اختلف الرؤية )على ضوء السياسة اللهية والسياسة الشيطانية( واختلف المصلحة من الواقع هى‬ ‫ويبدو أ ّ‬
‫التي دفعت بُاولئك الفراد والفئات الدنيوية للعتراض على السياسة النبوية والعلوية‪.‬‬

‫والمام)عليه السلم( يوضح في هذه الخطبة السياسة التي سيتبعها وأّنه ليس من أولئك الساسة‬

‫] ‪[ 50‬‬
‫الذين يرون للمجاملة والمداهنة من مكان في سياسته وتعامله مع المارقين عن الحق والعدالة‪ ،‬وليس لديه من‬
‫وسائل سوى التقوى وامتثال التكاليف الشرعية دون الكتراث لهذا أو ذاك من المساومين والمعترضين‪ ،‬ونوكل‬
‫المزيد من الكلم في هذا الموضوع إلى محّله‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 51‬‬

‫الخطبة)‪25 (1‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫وقد تواترت عليه الخبار باستيلء أصحاب معاوية على البلد‪ ،‬وقدم عليه عامله على اليمن ـ وهما عبيد ال بن‬
‫عباس وسعيد بن نمران ـ لّما غلب عليهما بسر بن أبى أرطاة فقام)عليه السلم(على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه‬
‫عن الجهاد‪ ،‬ومخالفتهم له في الرأي‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫القسم الول‬

‫ل وتمثل بقول الشاعر‪:‬‬


‫كا ّ‬
‫حِ‬‫ك‪َ ،‬فَقّب َ‬
‫صيُر ِ‬
‫ب َأعا ِ‬
‫ت َتُه ّ‬
‫ن َلْم َتُكوِني ِإّل َأْن ِ‬
‫طها‪ِ ،‬إ ْ‬
‫سُ‬‫ضها َوَأْب ُ‬
‫ي ِإّل اْلُكوَفُة َأْقِب ُ‬
‫»ما ِه َ‬

‫ن ذا اِْلناِء َقِليل«‬
‫ضر ِم ْ‬
‫عَلى َو َ‬
‫عْمُرو ِإّنِني *** َ‬
‫خْيِر يا َ‬
‫ك اْل َ‬
‫َلَعْمُر َأِبي َ‬

‫—–‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ن الخطبة بعد صفين والتحكيم والخوارج‪ ،‬حيث ألقاها)عليه‬


‫يعتقد بعض شّراح نهج البلغة كابن أبي الحديد أ ّ‬
‫ن المام)عليه السلم( أورد هذه الخطبة‬
‫السلم( أواخر عمره الشريف)‪ .(2‬ويفهم من مقدمة الشريف الرضي أ ّ‬
‫حين تواترت عليه الخبار بشأن استيلء أصحاب معاوية على‬
‫ن المسعودي أورد هذه الخطبة مع اختلف طفيف في مروج الذهب قبل المرحوم السيد الرضي‪ ،‬ثم‬
‫‪ .1‬جاء في مصادر نهج البلغة أ ّ‬
‫قال‪ :‬وقد أشار إليها العقد الفريد وابن عساكر في تاريخ دمشق‪.‬‬

‫‪ .2‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد‪ ،‬آخر الخطبة‪.‬‬

‫] ‪[ 52‬‬

‫البلد السلمية‪ ،‬حيث بلغه عامله على اليمين فأطلعاه على غلبة بسر بن ُارطاة لهما على تلك المنطقة‪ .‬فقد كان‬
‫بعض أتباع عثمان في صنعاء وكانوا قد بايعوا عليًا)عليه السلم( مكرًا وخديعة‪ .‬وكان عبيد ال بن عباس آنذاك‬
‫عامل علي)عليه السلم( على اليمن وقائد الجيش كان سعيد بن نمران‪ .‬وقد شنت الغارات تلو الغارات من قبل‬
‫أهل الشام على المناطق السلمية بعد قتل محمد بن أبي بكر الذي نصبه المام)عليه السلم( واليًا على مصر‪ .‬قام‬
‫أتباع عثمان ـ في اليمن ـ بدعوة الناس للمطالبة بدم عثمان‪ ،‬فتصدى لهم عبيد ال بن عباس وأمر بسجنهم‪ .‬فكتبوا‬
‫من السجن إلى بعض أصحابهم في الجيش لعزل سعيد بن نمران والخروج عليه‪ .‬ففعلوا والتحق بهم طائفة من‬
‫اليمن ثم امتنعوا عن دفع الزكاة‪ .‬فكتب عبيد ال وسعيد كتابًا للمام)عليه السلم(‪ .‬فكتب المام)عليه السلم( كتابًا‬
‫لهل اليمن ودعاهم للعمل بوظائفهم وحذرهم من العصيان والتمرد‪ .‬فرّدوا عليه بالتزامهم بطاعة المام)عليه‬
‫السلم( بشرط عزل هذين الشخصين‪ .‬ثم كتبوا لمعاوية‪ .‬فبعث معاوية بسرًا إلى اليمن في جيش كثيف وأمره أن‬
‫ل من كان في طاعة علي)عليه السلم(‪ ،‬فقتل خلقًا كثيرًا‪ ،‬وقتل في من قتل في مّكة داود وسليمان‪ ،‬إبني‬‫يقتل ك ّ‬
‫عبيد ال بن عباس كما قتل في الطائف صهر عبيد ال‪ .‬ثم بلغ اليمن بعد أن خرج منها عبيد ال وسعيد‪ ،‬واستخلف‬
‫عليًا عبدال بن عمرو الثقفي‪ ،‬فحمل بسر عليه فقتله ثم استولى على صنعاء مركز اليمن‪ .‬فلّما دخل عبيد ال‬
‫وسعيد على المام)عليه السلم( في الكوفة ذمهما)عليه السلم( لتركهما مكانهما‪ ،‬ثم صعد المنبر وألقى هذه‬
‫الخطبة‪.‬‬

‫ن الخطبة قد أوردت حين اشتدت حملت أهل الشام على مختلف مناطق البلد السلمية وضعف‬ ‫على كل حال فإ ّ‬
‫المقاومة التي أبداها أصحاب المام)عليه السلم(حيث كان المام)عليه السلم(في غاية التذمر والستياء‪ ،‬فقد‬
‫استهل المام)عليه السلم( خطبته بالشكوى من قّلة الفراد المطيعين‪ ،‬ثم تعّرض)عليه السلم( إلى الواقعة الليمة‬
‫لحملت بسر بن أرطاة وغلبته على اليمن‪ ،‬ثم يختتم المام)عليه السلم(خطبته بالشكوى ل من هؤلء القوم الذين‬
‫مرّدوا على النفاق والمعصية فيدعوا عليهم ويسأل ال أبدالهم بشر منه وإبداله من هو خير منهم‪.‬‬

‫الشرح والتفسير‬

‫النفاق والعصيان ودور المام‬

‫تبدو عبارات المام)عليه السلم( واضحة باللتفات إلى سبب ورود الخطبة والجواء التي كانت‬

‫] ‪[ 53‬‬

‫حاكمة آنذاك‪ ،‬فقد أشار المام)عليه السلم( إلى أّنه لم تبق لديه سوى الكوفة بعد ذلك التمّرد والعصيان »ما هى)‬
‫ل الكوفة‪ ،‬أقبضها وأبسطها«‪ .‬والسؤال المطروح هنا‪ :‬ماهى العلل والعوامل التي جعلت جيش المام)عليه‬ ‫‪ (1‬إ ّ‬
‫السلم( يعيش هذه الحالة الخطيرة في العراق وسائر المناطق السلمية؟ نترك الجابة على هذا السؤال إلى‬
‫البحث الذي سنخوض فيه في موضوع تأملت‪.‬‬

‫ل علي)عليه السلم( وبتلك الشجاعة والبطولة والحنكة في التدبير إّنما‬ ‫ن رجل ربانيًا مث َ‬
‫أّما المسألة المهّمة فهى أ ّ‬
‫عاش تلك الحالة تجاه أعداء السلم أثر عدم وجود الُقوى المخلصة والشجاعة الموالية للحق والمواكبة لحركة‬
‫المام)عليه السلم(‪ .‬فقد أشار المام)عليه السلم( بقوله »أقبضها وأبسطها« بشأن الكوفة إلى خروج سائر‬
‫ل أنت ته ّ‬
‫ب‬ ‫المناطق عن حكومته وإن كانت خاضعة لها ظاهريًا‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬ان لم تكوني إ ّ‬
‫ل أّنها لم تكن‬
‫ن الكوفة وإن كانت مركز حكومة المام)عليه السلم( إ ّ‬ ‫أعاصيرك)‪ (2‬فقبحك ال« في إشارة إلى أ ّ‬
‫خالية من التمرد والنفاق‪ ،‬بحيث لم يكن المام)عليه السلم(يحسب لهلها ذلك الحساب‪ .‬وما أعظم معاناته)عليه‬
‫ل أّنه يفتقر إلى المخلصين من التباع‪.‬‬
‫السلم( وهو بذلك العلم والحلم والحكمة والشجاعة إ ّ‬
‫ثم تمثل)عليه السلم( بقول الشاعر‪:‬‬

‫لعمر أبيك الخير يا عمرو إنني *** على وضر من ذا الناء قليل‬

‫»وضر« سواء كان بمعنى بقية الدسم في الناء‪ ،‬أو بقية قطرات الماء في الناء‪ ،‬أو الرائحة الباقية في إناء‬
‫ن الكوفة لم تكن سوى ذرة زهيدة آنذاك بالنسبة للعالم السلمي الواسع‪ ،‬ول يسع أ ّ‬
‫ى‬ ‫الطعام‪ ،‬فهى إشارة إلى أ ّ‬
‫زعيم بالعتماد على أهل هذه المنطقة مهما كان من حفظ بيضة السلم والدفاع عن البلد السلمية والوقوف‬
‫بوجه هذه الذئاب الكاسرة المتعطشة للدماء‪.‬‬

‫الشرح والتفسير‬

‫‪ 1‬ـ الكوفة على وجهين‬

‫تعتبر الكوفة من المناطق السلمية المشهورة في التأريخ والتي كانت مسّرحا لعّدة‬

‫‪ .1‬الضمير »هي« يعود إلى الحكومة أو البلد فمفهوم العبارة »ما الحكومة والمملكة التي تحت سيطرتي إّل الكوفة«‪.‬‬

‫‪» .2‬أعاصير« جمع »إعصار« وهى ريح تهب وتمتد من الرض نحو السماء كالعمود كما تطلق كناية على اُلمور الجتماعية وهى‬
‫تعني الفوضى التي كانت سائدة في الكوفة طول التأريخ‪.‬‬

‫] ‪[ 54‬‬

‫ن إسمها مشتق من شكلها الذي يشبه الدائرة ‪،‬‬ ‫حوادث حتى إقترن تأريخ السلم بتلك المنطقة ويعتقد البعض أ ّ‬
‫حيث كانت تصطلح العرب على المنطقة الرملية المدورة بإسم »كوفان« ‪ ،‬وقال البعض سّميت بذلك السم‬
‫ن أحد معاني هذه المفردة هو الجتماع والتجّمع كما ذكروا عّدة وجوه ُاخرى للتسمية‬ ‫لجتماع الناس هناك; ل ّ‬
‫ليسع المقام الخوض في تفاصيلها‪ .‬وقيل بنيت عام ‪ 17‬هـ على عهد الخليفة الثاني على يد سعد بن أبي وّقاص ‪،‬‬
‫وكانت أكبر مدن العراق التي تشد إليها الرحال‪ .‬وسّميت »قبة السلم«‪ .‬وقيل أن سعد بن أبي وقاص قد نزل‬
‫شر الخليفة الثاني بالفتوحات ‪ ،‬فلما رأى الخليفة رسل‬
‫المدائن بعد فتح العراق وغلبة الساسانيين فبعث رسله ليب ّ‬
‫سعد وقد شحبت وجوههم سألهم السبب ‪ ،‬فذكروا له سوء مناخ مدن العراق ‪ ،‬فأمر ببناء مدينة تتناسب ومزاج‬
‫العسكر فاختار سعد الكوفة‪ .‬ولم تمض مدة حّتى إشتعلت فيها النار فاحترقت ـ ثم بنيت من اللبنات‪ .‬وقد خّير سعد‬
‫المسلمين بنزول المدائن أو الكوفة‪ .‬فاختار فريق منهم الكوفة واستعادوا صحتهم‪(1).‬‬

‫ن الروايات قد‬‫وهناك عّدة روايات صّرحت بعضها بذم الكوفة في حين صّرح البعض الخر بمدحها ‪ ،‬ويبدو أ ّ‬
‫طورِ‬
‫وردت بشأن مختلف عصور الكوفة والقوام التي سكنت فيها‪ .‬فقد فسّرت بعض الروايات قوله سبحانه )َو ُ‬
‫ن()‪ (2‬الواردة في الية بالكوفة‪.‬‬
‫سـيِنـي َ‬
‫ِ‬

‫‪ .1‬معجم البلدان ‪ ،‬مادة »كوفة«‪ ،‬التأريخ الكامل ‪ ،527 / 2‬قاموس )مادة كوفة(‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة التين ‪.2 /‬‬

‫‪ .3‬سفينة البحار ‪ ،‬مادة »كوفة«‪.‬‬

‫] ‪[ 55‬‬
‫‪ 2‬ـ أهل الكوفة والمام )عليه السلم(‬

‫ن إحدى مشاكل حكومة المام علي )عليه السلم( تكمن في أهل العراق ولسيما أهل الكوفة الذين‬ ‫كّلنا نعلم بأ ّ‬
‫يّتصفون بالتمرد وعدم الطاعة; المر الذي جعل المام )عليه السلم( يتعّرض له في عّدة خطب ليعرب عن‬
‫إستيائه منهم وشكواه ‪ ،‬في حين كانت روحية أهل الشام وطاعتهم تمّثل أحد عوامل تفّوق معاوية في أعماله‪.‬‬

‫ن العّلة في عصيان أهل العراق على‬‫وقد نظر بعض المؤّرخين إلى هذا الموضوع نظرة إيجابية فذهبوا إلى أ ّ‬
‫ن أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة ‪ ،‬ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب‬ ‫المراء وطاعة أهل الشام ‪ ،‬أ ّ‬
‫والبحث ‪ ،‬ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال ‪ ،‬والتمييز بين الرؤساء ‪ ،‬وإظهار‬
‫عيوب المراء ‪ ،‬وأهل الشام ذوو بلدة وتقليد وجمود على رأي واحد ‪ ،‬ل يرون النظر ‪ ،‬ول يسألون عن مغيب‬
‫الحوال ومازال العراق موصوفًا أهله بقّلة الطاعة ‪ ،‬وبالشقاق على ُاولى الرئاسة‪(1).‬‬

‫ن هذا الكلم أجوف ل أساس له‪ .‬فأي عيب كان يسع أهل العراق أن يرّدوه على‬ ‫ن المرحوم مغنية يرى أ ّ‬
‫لأّ‬‫إّ‬
‫حكومة العدل العلوية حّتى مارسوا ذلك الشقاق والنفاق )أّية فطنة ثاقبة تدفع بالفراد إلى العصيان والتمّرد والذي‬
‫أّدى إلى تلك الذّلة والخنوع أمام العدو؟!( والحق كما ذكره المؤّرخون ومنهم طه حسين في كتابه )علي وبنوه( أ ّ‬
‫ن‬
‫سياسة معاوية كانت قائمة على المكر والخداع وشراء دين الناس بينما اعتمد المام علي )عليه السلم( على الحق‬
‫والعدل ‪ ،‬ولعل الشاهد على ذلك مارد به المام )عليه السلم(حين قال‪» :‬أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن‬
‫وّليت عليه؟! وال ل أطور به ما سمر سمير وما أّم نجم في السماء نجمًا«)‪ .(2‬ثم رّد )عليه السلم( على ُاولئك‬
‫ل‪» :‬وال ما معاوية بأدهى مّني لكّنه يغدر ويفجر ولول كراهية الغدر‬ ‫الذين قارنوا بين سياسته وسياسة معاوية قائ ً‬
‫لكنت من أدهى الناس«)‪ .(3‬وهو المر الذي نلمسه اليوم بوضوح في عصرنا الراهن حيث يرى بعض الفراد‬
‫وضمن تحليلتهم الجتماعية أن الساسة‬

‫‪ .1‬نقل هذا الكلم ابن أبي الحديد عن الجاحظ )شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.(343 / 1‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة ‪ ،‬الخطبة ‪.126‬‬

‫‪ .3‬نهج البلغة ‪ ،‬الخطبة ‪.200‬‬

‫] ‪[ 56‬‬

‫س الوسائل من أجل‬ ‫الفذاذ هم ُاولئك الذين يعتمدون أساليب التضليل والخداع والذين ل يتورعون عن التشبث بأخ ّ‬
‫لولئك الفراد من أهل اليمان والورع والتقوى‬ ‫تحقيق أهدافهم وأطماعهم ‪ ،‬في حين ل يرون من كفاءة وجدارة ُ‬
‫الذين ل يساومون على القيم والمبادئ ‪ ،‬نعم للسف مازال هذا الخطأ الفاحش هو الذي يسود بعض العقول‬
‫والفكار ‪ ،‬وقد أدى إلى سلسلة من المفاسد السياسية والجتماعية ‪ ،‬بل ما أعظم الدماء البريئة التي سفكت على‬
‫ن الواقع هو غير ماذكر ‪ ،‬فالعراق ولسيما منطقة الكوفة‬ ‫ل حال فإ ّ‬
‫مدى التأريخ بسبب هذه النظرة الخاطئة على ك ّ‬
‫إّنما سكنت من عّدة فئات وبمختلف الثقافات وقد تأثروا إلى حد بعيد بسياسة عثمان بما دفعهم للتكالب على الدنيا‬
‫والغترار بها وقد أصبحت السنن الخاطئة آنذاك من مفردات حياتهم اليومية )بما في ذلك التمييز في العطاء من‬
‫بيت المال( حّتى كان أغلب زعماء القبائل يتوقعون المناصب والموال الطائلة; المر الذي جعل معاوية ينجح في‬
‫إستمالتهم فكانوا يتقاطرون على معاوية‪ ،‬الواحد تلو الخر‪.‬‬

‫ن أهل الشام كانوا يعرفون‬


‫أضف إلى ذلك فقد كانت هنالك بعض الفوارق بين روحية أهل العراق والشام ‪ ،‬منها أ ّ‬
‫بالعمل ‪ ،‬بينما كان العراقيون أهل كلم كما كان الشاميون يتحّلون بالنضباط الجتماعي ولم يكن مثل هذا‬
‫النضباط سائدًا لدى أهل العراق‪ .‬وأخيرًا كان أهل الشام أوفياء ‪ ،‬بينما يمتاز أهل العراق بالغدر ونكث العهود‪.‬‬

‫ى عصر وزمان غير زمان المام علي )عليه السلم(‬‫ن هذا الكلم ل ينسحب على أهل العراق في أ ّ‬‫وبالطبع فإ ّ‬
‫كعصر المام الحسن أو الحسين)عليهما السلم(‪ .‬ومن هنا وردت روايات الئمة المعصومين)عليهم السلم(التي‬
‫تشيد بأهل العراق والكوفة‪ .‬ول غرابة أن تّتصف ُاّمة ببعض الصفات السلبية في عصر من العصور ‪ ،‬ثم تنسلخ‬
‫عنها فتتحلى بصفات إيجابية‪.‬‬
‫—–‬

‫] ‪[ 57‬‬

‫القسم الثاني‬

‫ثم قال )عليه السلم(‪:‬‬

‫طِلِهْم‪،‬‬
‫عَلى با ِ‬
‫عِهْم َ‬‫جِتما ِ‬‫ن ِمْنُكْم ِبا ْ‬ ‫سُيداُلو َ‬
‫ن َهُؤلِء اْلَقْوَم َ‬ ‫ن َأ ّ‬
‫ظّ‬ ‫ل ـ َل ُ‬ ‫ن َوِإّني ـ َوا ّ‬ ‫طَلَع اْلَيَم َ‬
‫سرًا َقِد ا ّ‬‫ت ُب ْ‬
‫»ُأْنِبْئ ُ‬
‫حِبِهْم‬
‫طِل َوِبَأداِئِهُم اَْلماَنَة ِإَلى صا ِ‬‫عِتِهْم ِإماَمُهْم ِفي اْلبا ِ‬ ‫ق‪َ ،‬وطا َ‬ ‫حّ‬ ‫صَيِتُكْم ِإماَمُكْم ِفي اْل َ‬
‫حّقُكْم َوِبَمْع ِ‬‫ن َ‬ ‫عْ‬‫َوَتَفّرِقُكْم َ‬
‫ب ِبِعلَقِتِه«‪.‬‬
‫ن َيْذَه َ‬
‫ت َأ ْ‬
‫شي ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫عَلى َقْعب‪َ ،‬ل َ‬‫حَدُكْم َ‬ ‫ت َأ َ‬
‫حِهْم ِفي ِبلِدِهْم َوَفساِدُكْم‪َ ،‬فَلِو اْئَتَمْن ُ‬ ‫صل ِ‬ ‫خياَنِتُكْم َوِب َ‬‫َو ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫سّر النهيار‬

‫أشار المام )عليه السلم( ـ في هذا المقطع من الخطبة ـ إلى قصة بسر بن ارطاة ذلك الجبار الشامي الفض‬
‫وغلبته على اليمن ‪ ،‬ثم تطرق )عليه السلم( إلى مصير أهل العراق والمستقبل المظلم الذي ينتظرهم مع ذكر‬
‫جه بسرًا إلى‬
‫ن معاوية و ّ‬
‫السباب والعلل التي ستفضي إلى ذلك المستقبل‪ .‬فقد ذكر بعض شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫المدينة وأمره بقتل شيعة علي )عليه السلم( وإرعاب أهل المدينة التي هبت لنصرة رسول ال )صلى ال عليه‬
‫وآله(وقاتلت أبي سفيان ‪ ،‬فدخل المدينة وشتم أهلها وهّددهم وتوعدهم ‪ ،‬ثم دعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه ‪،‬‬
‫وأحرق دورًا كثيرة‪ .‬ثم قصد اليمن فاستباح أهلها وقد قتل ولدي حاكم اليمن آنذاك عبد ال بن عباس‪ (1).‬وقد ذكر‬
‫ن هذين الطفلين لذا بأعرابي من بني كنانة ‪ ،‬فلما أراد بسر أن يقتلهما ‪ ،‬قال له الكناني‪ :‬دعهما فل ذنب‬
‫ابن أثير أ ّ‬
‫لهما ‪ ،‬فإن كنت قاتلهما‬

‫‪ .1‬في ظلل نهج البلغة ‪.177 / 1‬‬

‫] ‪[ 58‬‬

‫ل أن‬
‫فاقتلني معهما ‪ ،‬حيث كان يعتبر ذلك العرابي أن قتلهما يعني تقصيره في أداء المانة‪ .‬فما كان من بسر إ ّ‬
‫قتلهما وقتل هذا العرابي‪(1).‬‬

‫على كل حال إطلع أمير المؤمنين علي )عليه السلم( على هذه الخبار الليمة فساءه ذلك فقال‪ُ» :‬أنبئت بسرًا قد‬
‫ن هؤلء القوم سيدالون)‪ (3‬منكم« ‪ ،‬ثم تطرق )عليه السلم(إلى علل هذه الدولة‬ ‫طلع)‪ (2‬اليمن وإني وال لظن أ ّ‬‫اّ‬
‫ليسلط الضوء على أربعة عناصر مهّمة تقف وراء النصر ‪ ،‬فقال )عليه السلم(‪» :‬باجتماعهم على باطلهم ‪،‬‬
‫وتفّرقكم عن حّقكم«‪ .‬فالتحاد دعامة النصر ولسّيما إذا سادت الوحدة أتباع الحق‪ .‬ولكن يالها من مصيبة أن‬
‫ن الباطل مصدر الخلف والتشتت‬ ‫يتفرق دعاة الحق عن حقهم ويجتمع دعاة الباطل ويتحدون على باطلهم! رغم أ ّ‬
‫ن الشقاق‬ ‫ن الوفاق والتحاد لمن دوعي النصر والنجاح في كل عمل وإ ّ‬ ‫ن الحق مركز الخاء والوحدة‪ .‬نعم فإ ّ‬
‫وأ ّ‬
‫والفرقة لمن دواعي الهزيمة والفشل‪.‬‬
‫أّما العنصر الثاني فيخّلص في الطاعة وإمتثال الوامر التي كانت سائدة لصحاب الباطل وعدم طاعة أهل الحق‬
‫ق‪ ،‬وطاعتهم إمامهم في الباطل«‪ .‬أجل فالنضباط والطاعة حيثما كانت إّنما‬
‫لمامهم‪» :‬وبمعصيتكم إمامكم في الح ّ‬
‫لّمة أن تبلغ ما تريد دون رعايتها للنضباط وطاعتها لمرها‬
‫تقود إلى النصر والغلبة‪ .‬وليس لجيش ول ُ‬
‫وزعيمها ‪ ،‬ومن هنا ورد التأكيد في كاّفة الدوائر والمؤسسات اليوم على مسألة النضباط واللتزام بالمقررات‪.‬‬

‫العنصر الثالث يتمّثل بالمانة والوفاء بالعهد والتي تقابلها الخيانة ونقض العهود ولسّيما حيال الرؤساء والزعماء‬
‫»وبادائهم المانة إلى صاحبهم وخيانتكم« فأمانتهم إّنما دفعت بهم لتعبئة كاّفة المكانات والطاقات ضد أعدائهم ‪،‬‬
‫في حين بددت خيانتكم هذه الطاقات وذهبت بها أدراج الرياح ‪ ،‬وهل من مصير ينتظر من ضيع طاقاته وبدد‬
‫إمكاناته سوى الهزيمة‬

‫‪ .1‬الكامل لبن أثير ‪ ;3/383‬تأريخ الطبري ‪.108 ، 106 / 4‬‬

‫‪ .2‬اطلع‪ ،‬تعني في الصل النظر من العلى ‪ ،‬واستعملت كناية عن النصر والغلبة المفاجاة‪ ،‬مادة »طلوع« بمعنى الظهور‪.‬‬

‫‪» .3‬يدالون« )فعل مضارع مجهول من باب الفعال( من مدة دولة بمعنى النتقال من مكان إلى آخر‪ .‬ومن هنا اطلقت الدولة على‬
‫المال والثروة التي تتداول بين الناس ‪ ،‬والمراد بها في هذه العبارة سيغلبونكم وتكون لهم الدولة بدلكم‪.‬‬

‫] ‪[ 59‬‬

‫ن التفسير الذي أوردناه سابقًا واستنادًا إلى‬


‫والفشل‪ .‬لقد فسّر بعض شّراح نهج البلغة المانة هنا بالبيعة ‪ ،‬غير أ ّ‬
‫سائر عبارات الخطبة يبدو أنسب من هذا التفسير ‪ ،‬أضف إلى ذلك فإن كانت البيعة بمعنى الطاعة فقد ذكرت‬
‫سابقًا ول داعي للتكرار‪.‬‬

‫وأخيرًا »وبصلحهم في بلدهم وفسادكم« وعليه فقد أوجز المام )عليه السلم( عوامل نصرهم وفشل إتباعه في‬
‫اّتحادهم وانضباطهم وأمانتهم وصلحهم في بلدهم ‪ ،‬في حين عاش أتباعه الفرقة والختلف والغدر والخيانة‬
‫والفساد‪ .‬فأساليب الدارة والحنكة في الحكومة وإدارة شؤون البلد مهما كانت قوّية فإّنها لن تؤّدي إلى نتائج‬
‫ل هؤلء الفراد الذين يمّثلون أذرع الحاكم وعناصره في الدولة‪.‬‬
‫مرضية في ظ ّ‬

‫ل اّتحاد أتباعه‪.‬‬
‫أجل فالحق ضعيف مهضوم إذا مافسد أتباعه ‪ ،‬والباطل قوي في ظ ّ‬

‫ل‪» :‬فلو ائتمنت أحدكم على قعب)‪ (1‬لخشيت أن يذهب بعلقته)‪.«(2‬‬


‫ثم يختتم المام )عليه السلم( كلمه قائ ً‬

‫ل عن القيام بإدارة شؤون‬


‫فهل من مجال للوثوق بمثل هؤلء الفراد الذين ل يؤتمنون على أتفه الشياء ‪ ،‬فض ً‬
‫الحكومة السلمية ومسائل الصلح والقتال وبيت المال وامثال ذلك‪.‬‬

‫تأّملت‬

‫‪ 1‬ـ بسر بن أرطاة القائد السفاح لمعاوية‬

‫ى; من بنى عامربن لؤى بن غالب‪ ،‬وَبعث معاوية له لُيغيَر على أعمال‬ ‫سِربن أرطاة العامر ّ‬ ‫فأّما خبُر ُب ْ‬
‫ن الذي هاج معاوية‬‫سير أ ّ‬
‫سْفك الدماء وأخذ الموال‪ ،‬فقد ذكر أرباب ال ّ‬‫عِمله من َ‬‫أميرالمؤمنين عليه السلم‪ ،‬وما َ‬
‫ن قوما بصنعاء كانوا من شيعة عثمان‪،‬‬ ‫سر ابن أرطاة ـ ويقال ابن أبي أْرطاة ـ إلى الحجاز واليمن‪ ،‬أ ّ‬
‫على تسريح ُب ْ‬
‫ي عليه السلم‬
‫ل عل ّ‬
‫ي عليه السلم على ما في أنفسهم; وعام ُ‬ ‫ظمون قتَله‪ ،‬لم يكن لهم نظام ول رأس‪ ،‬فبايعوا لعل ّ‬ ‫ُيْع ِ‬
‫على صنعاء يومئذ‬

‫‪» .1‬قعب«‪ ،‬قال بعض أرباب اللغة بمعنى قدح خشبي وقال البعض الخر قدح كبير ضخم‪.‬‬
‫‪» .2‬علقة« إذا استعملت مفتوحة العين عنت الرابطة المعنوية وإن كسرت كانت بهذا المعنى أو بمعنى الروابط المادية ‪ ،‬وقد وردت‬
‫هنا بمعنى ما يعلق بالظرف من ليف أو نحوه‪.‬‬

‫] ‪[ 60‬‬

‫جَند سعيدبن ِنْمران‪.‬‬


‫ل بن عباس; وعامله على ال َ‬
‫عبيدا ّ‬
‫ُ‬

‫خْير‪ ،‬فقال لهم‪ :‬إّني تركت أميَرالمؤمنين‬


‫جه الكتاب مع رجل من َهْمدان‪ ،‬فقِدم عليهم بالكتاب فلم يجيبوه إلى َ‬ ‫وو ّ‬
‫ي‪ ،‬في جيش كثيف‪ ،‬فلم يمنْعه إل انتظاُر جوابكم‪ .‬فقالوا‪ :‬نحن سامعون‬ ‫جه إليكم يزيَدبن قيس الْرحب ّ‬
‫يريد أن يو ّ‬
‫ل وسعيدا‪.‬‬‫عبيَدا ّ‬‫عَزل عّنا هذين الرجلين‪ُ :‬‬
‫مطيعون‪ ،‬إن َ‬

‫ي عليه السلم فأخبره خبر القوم‪.‬‬


‫ى من عندهم إلى عل ّ‬
‫فرجع الهْمدان ّ‬

‫ظا سّفاكًا للدماء‪ ،‬ل رأفَة عنده ول رحمة‪ ،‬فأمَره أن‬‫ي القلب َف ّ‬
‫سَربن أبي أرطاة‪ ،‬وكان قاس َ‬ ‫فلما قِدم كتابهم‪ ،‬دعا ُب ْ‬
‫يإ ّ‬
‫ل‬ ‫ل على بلد أهله على طاعِة عل ّ‬ ‫ى إلى اليمن‪ ،‬وقال له‪ :‬ل تنِز ْ‬‫ق الحجاز والمدينة ومكة حتى ينته َ‬ ‫يأخَذ طري َ‬
‫عهم إلى البْيعة لي‪ ،‬فم ْ‬
‫ن‬ ‫ف عنهم‪ ،‬واد ُ‬
‫ت عليهم لساَنك; حتى َيَرْوا أّنهم ل نجاَء َلهم‪ ،‬وأّنك محيط بهم‪ .‬ثم اكُف ْ‬ ‫بسط َ‬
‫ي حيث كانوا‪.‬‬ ‫شيعَة عل ّ‬ ‫ل ِ‬
‫أبي فاقتْله‪ ،‬واقت ْ‬

‫—–‬

‫ي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ي في كتاب "الغارات" عن يزيدبن جابر الزد ّ‬
‫وروى إبراهيم بن هلل الثقف ّ‬

‫ت سنُة أربعين‪ ،‬تحّدث الناس‬


‫ي يحّدث في خلفة عبدالملك‪ ،‬قال‪ :‬لما دخل ْ‬ ‫سمعت عبدالرحمن بن َمسعدة الفزار ّ‬
‫ت أهواؤهم‪ ،‬ووقعت‬‫ن علّيا عليه السلم يستنِفُر الّناس بالعراق فل يِنفرون معه‪ ،‬وتذاكروا أن قد اختلف ْ‬ ‫بالشام أ ّ‬
‫ن الناس ل يشّكون في اختلف الناس‬ ‫عْقبة‪ ،‬فقلنا له‪ :‬إ ّ‬
‫الُفرقة بيهم‪ ،‬قال‪ :‬فقمت في َنَفر من أهل الشام إلى الوليدبن ُ‬
‫سْر بنا إليهم قبل أن يجتمعوا بعد تفرقهم‪ ،‬أو يصُل َ‬
‫ح‬ ‫ل إلى صاحبك فمْره فلي ِ‬ ‫ي عليه السلم بالعراق‪ ،‬فادخ ْ‬ ‫على عل ّ‬
‫حبهم ما قد فسد عليه من أمره‪ .‬فقال‪ :‬بَلى‪ ،‬لقد قاولته في ذلك وراجعته وعاتبته‪ ،‬حتى لقد بِرم بي‪ ،‬واستثقل‬ ‫لصا ِ‬
‫ي فيه‪.‬‬
‫ن أبّلغه ما مشْيتم إل ّ‬
‫ل على ذلك ما أدع أ ْ‬
‫طْلعتي‪ ،‬وايُم ا ّ‬‫َ‬

‫فدخل عليه فخّبره بمجيئنا إليه‪ ،‬ومقالتنا له‪ ،‬فأذن لنا‪ ،‬فدخْلنا عليه‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذا الخبُر الذي جاءني به عنكم الوليد؟‬
‫فقلنا‪ :‬هذا خبٌر في الناس سائر‪ ،‬فشّمْر للحرب‪ ،‬وناِهض العداء‪ ،‬واهتبل الفرصة‪ ،‬واغتنم الِّغرة‪ ،‬فإّنك ل تدري‬
‫متى تقدُر على عدّوك على مثل حاِلهم التي هم عليها‪ ،‬وأن تسيَر إلى عدّوك أعّز لك من أن يسيُروا إليك‪ .‬واعلم‬
‫ج إلى‬
‫حَت ْ‬
‫ل َأّنه تفّرق الناس عن صاحبك لقد نهض إليك‪ .‬فقال لنا‪ :‬ما أستِغني عن رأيكم ومشورتكم‪ ،‬ومتى أ ْ‬ ‫وا ّ‬

‫] ‪[ 61‬‬

‫ف أهوائهم‪ ،‬لم يبلغ ذلك عندي بهم أن‬ ‫ن هؤلء الذين تذُكرون تفّرقهم على صاحبه‪ ،‬واختل َ‬ ‫عكم‪ .‬إ ّ‬
‫ذلك منكم أْد ُ‬
‫ن الدائرة أم لي! فإّياكم‬
‫ي تكو ُ‬
‫ن أسيَر إليهم خاطرا بجْندي‪ ،‬ل أدري عل ّ‬‫ن أطمُع في استئصاِلهم واجتياحهم‪ ،‬وأ ْ‬ ‫أكو َ‬
‫ق بكم‪.‬‬
‫واستبطائي‪ ،‬فإّني آخُذ بهم في وجه هو أرف ُ‬

‫وبعث معاوية عند خروجنا من عنده إلى ُبسربن أبي أرطاة‪ ،‬فبعثه في ثلثة آلف‪ ،‬وقال‪ :‬سْر حتى تمّر بالمدينة‪،‬‬
‫ل; مّمن لم يكن دخل في طاعتنا‪ ،‬فإذا دخلتَ‬ ‫ن أصبت له ما ً‬ ‫ل َم ْ‬
‫ب أموال ك ّ‬
‫ن مررت به‪ ،‬انه ْ‬ ‫ف َم ْ‬
‫خ ْ‬
‫فاطرد الناس‪ ،‬وأ ِ‬
‫المدينة‪ ،‬فأِرهم أّنك تريد أنَفسهم‪ ،‬وأخبْرهم أّنه ل براءَة لهم عندك ول عذَر; حتى إذا ظّنوا أّنك موقٌع بهم فاكف ْ‬
‫ف‬
‫س عنك فيما بين المدينة ومكة‪ ،‬واجعلها‬ ‫ض فيها لحد‪ ،‬وأْرهب النا َ‬ ‫سْر حتى تدخل مكة‪ ،‬ول تعِر ْ‬ ‫عنهم‪ ،‬ثم ِ‬
‫ن لنا بهما شيعة‪ ،‬وقد جاءني كتابهم‪.‬‬‫جند‪ ،‬فإ ّ‬
‫شردات; تأتى صنعاء وال َ‬

‫—–‬
‫ل ذلك الماء‬
‫ل أه ِ‬
‫ن أسقط من جيشه‪ ،‬سار بمن تخّلف معه‪ ،‬وكانوا إذا وَردوا ماء أخذوا إب َ‬
‫سَقط َم ْ‬
‫أن ُبسرًا لما أ ْ‬
‫فركبوها‪ ،‬وقادوا خيوَلهم حتى يِرُدوا الماء الخر‪ ،‬فيرّدون تلك البل‪ ،‬ويركبون إبل هؤلء‪ ،‬فلم يزل يصنع ذلك‬
‫حتى قرب إلى المدينة‪.‬‬

‫جُزر‪ ،‬حتى دخلوا المدينة‪ .‬قال‪ :‬فدخلوها‪ ،‬وعامل عليّ‬‫حُرون لهم ال ُ‬


‫ن ُقضاعة استقبلتهم ين َ‬
‫قال‪ :‬وقد روى أ ّ‬
‫ل عليه وآله‪ ،‬فخرج عنها هاربًا‪ ،‬ودعا‬
‫ل صلى ا ّ‬ ‫ي‪ ،‬صاحب منزل رسول ا ّ‬ ‫عليه السلم عليها أبو أّيوب النصار ّ‬
‫ق دوار كثيرة‪.‬‬‫الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه‪ .‬ونزل فأحر َ‬

‫—–‬

‫ل‪ ،‬وأخذ‬ ‫سرًا لّما خرج من المدينة إلى مّكة قتل في طريقه رجا ً‬ ‫ي أن ُب ْ‬‫عوانة عن الكلب ّ‬ ‫قال إبراهيم‪ :‬وقد روى َ‬
‫ضى الّناس بشبية بن عثمان أميرًا لما خرج ُقَثم بن‬ ‫حى عنها عاّمة أهلها‪ ،‬وترا َ‬ ‫ل مكة خبُره‪ ،‬فتن ّ‬
‫ل‪ ،‬وبلغ أه َ‬
‫أموا ً‬
‫ل لو ُتركت ورأيي فيكم لتركُتكم وما‬‫العباس عنها‪ ،‬وخرج إلى ُبسر قوم من قريش‪ ،‬فتلّقْوه‪ ،‬فشتمهم‪ ،‬ثم قال‪ :‬أَما وا ّ‬
‫عْترتك!‬‫ل في أهلك و ِ‬ ‫شدك ا ّ‬ ‫فيكم روح تمشى على الرض‪ ،‬فقالوا‪َ :‬نْن ُ‬

‫—–‬

‫] ‪[ 62‬‬

‫سر‪ ،‬خافوا وهربوا‪ ،‬فخرج‬ ‫ل مكة لما بلغهم ما صنع ُب ْ‬ ‫ي بن مجاهد‪ ،‬عن ابن إسحاق‪ ،‬أن أه َ‬ ‫قال إبراهيم‪ :‬وروى عل ّ‬
‫جَوْيِرَية ابنة خالد بن َقَرظ الكنانية‪ ،‬وُتكَنى أّم حكيم‪ ،‬وهم‬
‫ل بن العباس‪ ،‬وهما سليمان وداود‪ ،‬وأمهما ُ‬
‫بنا عبيدا ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫ضرم ّ‬ ‫حلفاء بنى ُزهرة‪ ،‬وهما غلمان مع أهل مكة‪ ،‬فأضلوهما عند بئر ميمون بن الح ْ‬

‫ل نجران‪ ،‬يا معشَر النصارى وإخوان‬ ‫جران‪ ،‬ثم جمعهم وقام فيهم‪ ،‬وقال يا أه َ‬ ‫وخرج ُبسر من الطائف‪ ،‬فأتى َن ْ‬
‫ك الحرث‪ ،‬وتخّرب الديار!‬
‫سل‪ ،‬وُتِهل ُ‬‫ن عليكم بالتي تقطع الّن ْ‬
‫ن بلغني عنكم ما أكَره لعوَد ّ‬‫لإ ْ‬‫القرود‪ :‬أما وا ّ‬

‫ن كان بالبادية من هَْمدان‪،‬‬


‫حب‪َ ،‬فَقتل أبا كرب ـ وكان يتشّيع ـ ويقال إّنه سّيد َم ْ‬
‫ل‪ ،‬ثم سار حتى َأْر َ‬
‫وتهدّدهم طوي ً‬
‫فقدمه فقتله‪.‬‬

‫عْمروا بن َأراكة‬‫ل عليها َ‬


‫ل بن العباس‪ ،‬وسعيد بن ِنْمران‪ ،‬وقد استخلف عبيدا ّ‬ ‫وأتى صنعاء وقد خرج عنها عبيدا ّ‬
‫سر‪ ،‬ودخل صنعاء‪ ،‬فقتل منها قومًا‪ ،‬أتاه وفد مأِرب فقتلهم‪ ،‬فلم ين ُ‬
‫ج‬ ‫سرًا من دخولها وقاتله‪ ،‬فقتله ُب ْ‬
‫ي‪ ،‬فمنع ُب ْ‬
‫الثقف ّ‬
‫شّبانا«‪.‬‬
‫لنا‪ ،‬شُيوخًا و ُ‬
‫ل رجل واحد‪ ،‬ورجع إلى قومه‪ ،‬فقال لهم‪» :‬أنعى قت َ‬ ‫منهم إ ّ‬

‫ي عليه السلم أصحاَبه لبعث سّرية في ِإثر ُبر‪ ،‬فتثاقلوا‪ ،‬وأجابوا جارية بن ُقدامة السعدي‪ ،‬فبعثه في‬ ‫فندب عل ّ‬
‫خص إلى البصرة‪ ،‬ثم أخذ طريق الحجاز حتى ِقدم اليمن‪ ،‬وسأل عن ُبسر فقيل‪ :‬أخذ في بلد بني تميم‪،‬‬ ‫ألفين‪ ،‬فش َ‬
‫فقال‪ :‬أخذ في ديار قوم يمنعون أنفسهم‪ .‬وبلغ ُبسرًا مسيُر جارية‪ ،‬فانحدر إلى اليمامة‪ ،‬أخذ جارية بن قدامة السير‪،‬‬
‫ض أصحابه من الزاد فيأمر‬ ‫ل بع ُ‬‫ل أن ُيْرِم َ‬
‫ما يلِتفت إلى مدينة مّر بها ول أهل حصن‪ ،‬ول يعّرج على شيء إ ّ‬
‫ض اليمن‪،‬‬
‫حَفى دابته‪ ،‬فيأمر أصحابه بأن ُيْعِقبوه‪ ،‬حتى انتهْوا إلى أر ْ‬
‫أصحابه بمواساته أو يسقط بعير رجل‪ ،‬أو َت ْ‬
‫ل جانب‪ ،‬أصابوا‬ ‫ي عليه السلم‪ ،‬وتداعت عليهم من ك ّ‬ ‫فهربت شيعة عثمان حتى لحقوا بالجبال‪ ،‬واّتبعهم شيعة عل ّ‬
‫ي عليه السلم‬‫صَمد نحو ُبسر‪ ،‬وبسر بين يديه يفّر من جهة إلى جهة ُاخرى‪ ،‬حتى أخرجه من أعمال عل ّ‬ ‫منهم‪ ،‬و َ‬
‫كّلها‪.‬‬

‫ل يا أميرالمؤمنين أني سرت في هذا لجيش أقتل عدوك ذاهبًا جائيًا لم ُيْنَكب رجل منهم نكبة‪،‬‬
‫حمد ا ّ‬‫سر‪ :‬أ َ‬
‫وقال ُب ْ‬
‫ل قد فعل ذلك ل أنت‪.‬‬ ‫فقال معاوية ا ّ‬

‫—–‬

‫] ‪[ 63‬‬
‫ن ُبسرا باع دينَه بالدنيا‪ ،‬وانتهك محارمك‪ ،‬وكانت طاعةُ‬ ‫سر‪ ،‬فقال‪ :‬الّلهم إ ّ‬‫ي عليه السلم على ُب ْ‬ ‫قال‪ :‬ودعا عل ّ‬
‫سُلبه عقَله‪ ،‬ول توجب له رحمتك ول ساعة من نهار‪ .‬اللهّم‬ ‫مخلوق فاجر آثَر عنده ِمّما عندك‪ .‬الّلهّم فل ُتِمْته حتى َت ْ‬
‫جُزك الذي ل ترّده عن‬‫سك وِر ْ‬
‫ل عليهم غضُبك‪ ،‬ولتنزل بهم ِنْقَمُتك وليصبهم بأ ُ‬ ‫ألعن ُبسرًا وعمرًا ومعاوية‪ ،‬وليح ّ‬
‫القوم المجرمين‪.‬‬

‫ل به‪ ،‬ل‬
‫طوني سيفًا أقت ْ‬
‫ل يسيرًا حتى وسوس وذهب عقُله‪ ،‬فكان يهِذي بالسيف‪ ،‬ويقول‪ :‬اع ُ‬
‫سٌر بعد ذلك إ ّ‬
‫فلم يلبث ُب ْ‬
‫خذ له سيف من خشب‪ ،‬وكانوا يدنون منه المرفقة‪ ،‬فل يزال يضربها حتى ُيغشى عليه‪،‬‬ ‫يزال يردد ذلك حتى اّت ِ‬
‫فلبث كذلك إلى أن مات‪.‬‬

‫قال المسعودي في مروج الذهب بعد نقل هذه القصة أن بسرًا كان يقول للناس‪ :‬انظروا كيف يطعمني هذان‬
‫الغلمان إبنا عبيدال ـ الذان قتل مظلومان بيدي ـ وكان ربما شدت يداه إلى الوراء منعا من لعبه بحزئه والناس‬
‫تمنعه من ذلك‪(1).‬‬

‫‪ 2‬ـ مقّومات النصر وهزيمة المم‬

‫لقد شرح المام )عليه السلم( في هذه الخطبة بعباراتها القصيرة ذات المعاني العميقة المقّومات التي تمنى بها‬
‫لمم والشعوب ‪ ،‬ول يقتصر هذا المر على أهل العراق والحجاز واليمن وقضية والي من الولة كمعاوية وقائد‬ ‫اُ‬
‫عسكره بسر بن ارطاة ‪ ،‬بل يشمل كافة العصور والدهور‪ .‬فقد تحّدث المام )عليه السلم( في بادئ المر عن‬
‫وحدة الكلمة التي تعّد السبب الرئيسي في تضامن القوى وتعبئة طاقاتها في مواجهة العداء‪ .‬ومّما لشك فيه أ ّ‬
‫ن‬
‫أهم العوامل التي أّدت إلى انتصار جنود السلم على عهد رسول ال )صلى ال عليه وآله( على أعدائهم الذين‬
‫كانوا يفوقونهم عّدة وعددًا إّنما يكمن في وحدة الكلمة‪ .‬فكم من فئة قليلة هزمت عدّوها بفضل التحاد والخاء‪.‬‬
‫صِره‬
‫ك ِبَن ْ‬
‫القرآن من جانبه اعتبر وحدة كلمة المسلمين من معاجز النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( )ُهَو اّلذى َاّيَد َ‬
‫ف َبْيَنُهْم()‪، (2‬‬‫ل َأ ّل َ‬
‫نا ّ‬
‫ن ُقُلوِبِهْم َولـِك ّ‬
‫ت َبْي َ‬
‫جِمـيعًا ما َأ ّلْف َ‬
‫ض َ‬
‫لر ِ‬
‫ت ما ِفي ا َ‬
‫ن ُقُلوِبِهْم َلْو َأْنَفْق َ‬
‫ف َبْي َ‬
‫ن * َوَأ ّل َ‬
‫َو ِباْلُمْؤِمني َ‬
‫كما اعتبر الوحدة السلمية التي سادت المسلمين أبان عصر‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 3 / 2‬ـ ‪ ;18‬مروج الذهب ‪) 163 / 3‬بحث ذكر أيام الوليد بن عبدالملك(‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة النفال ‪ 62 /‬ـ ‪.63‬‬

‫] ‪[ 64‬‬

‫ن ُقُلوِبُكْم‬
‫ف َبْي َ‬
‫عداًء َفَأّل َ‬‫عَلْيُكْم ِإذ ُكْنُتْم َأ ْ‬
‫ل َ‬
‫لّمة السلمية )َواذُكُروا ِنْعَمةَ ا ّ‬ ‫الرسالة من النعم اللهية الكبرى على ا ُ‬
‫على َأنْ‬ ‫ل ُهَو القاِدُر َ‬ ‫خوانًا()‪ ، (1‬في حين قرن الفرقة والشقاق بالعذاب الدنيوي والخروي )ُق ْ‬ ‫حُتْم ِبِنْعَمِتِه ِإ ْ‬
‫صَب ْ‬
‫َفَأ ْ‬
‫شـَيعًا()‪ .(2‬كما أشار المام )عليه السلم(إلى مسألة‬ ‫سُكْم ِ‬
‫جِلُكْم َأْو َيْلِب َ‬
‫ت َأْر ُ‬
‫ح ِ‬‫ن َت ْ‬
‫ن َفْوِقُكْم َأْو ِم ْ‬
‫عذابًا ِم ْ‬ ‫عَلْيُكْم َ‬‫ث َ‬ ‫َيْبَع َ‬
‫النضباط وحنكة القيادة على أّنها العامل الخر المكّمل لعنصر التحاد والخاء والتضامن‪ .‬والحق رأينا عّدة‬
‫ل العامل الرئيسي في ذلك‬ ‫ثورات فى عصرنا الراهن قد كتب لها النجاح بينما لم توّفق غيرها لهذه النتيجة ‪ ،‬ولع ّ‬
‫النجاح إّنما يستند إلى وحدة القيادة ‪ ،‬بينما تعاني غيرها من التشتت وتعدد مراكز القرار‪.‬‬

‫ن أّية أمة من المم‬


‫ك فيه أ ّ‬
‫ثم تطرق )عليه السلم( إلى المانة بفضلها العامل الثالث من عوامل النصر‪ .‬فمما لش ّ‬
‫ل إذا كانت‬
‫سر هذا المر إ ّ‬ ‫لن تذيق طعم النصر والسعادة مالم تستثمر طاقاتها وثرواتها بالشكل الصحيح‪ .‬ول يتي ّ‬
‫لمة وتدفعها لصون إمكاناتها الجتماعية‪.‬‬ ‫المانة هى التي تحكم أفراد ا ُ‬

‫لمة لن‬‫ن أفراد ا ُ‬


‫أّما العامل الخير الدخيل في النصر فإّنما يكمن في صلح أفراد المجتمع ‪ ،‬وبعبارة ُاخرى فإ ّ‬
‫يتخّلوا على مشاكلهم ويتخّلصوا من مخالب العداء مالم يأخذوا بنظر العتبار مصالح المجتمع ويضحوا بمنافعهم‬
‫الشخصّية ويجدوا ويجتهدوا في إصلح مجتمعهم ‪ ،‬وليعلم ُاولئك الذين يهّمون بمنافعهم الشخصّية ولو أّدت إلى‬
‫فساد المجتمع إّنهم إّنما يقضون على المجتمع وبالتالي يقضون على أنفسهم‪.‬‬
‫—–‬

‫‪ .1‬سورة آل عمران ‪.103 /‬‬

‫‪ .2‬سورة النعام ‪.65 /‬‬

‫] ‪[ 65‬‬

‫القسم الثالث‬

‫شّرا ِمّني! الّلهمّ‬


‫خْيرًا ِمْنُهْم‪َ ،‬وَأْبِدْلُهْم ِبي َ‬ ‫سِئُموِني)‪َ (1‬فَأْبِدْلِني ِبِهْم َ‬‫سِئْمُتُهْم َو َ‬
‫»الّلهّم ِإّني َقْد َمِلْلُتُهْم َوَمّلوِني َو َ‬
‫غْنم‪.‬‬
‫ن َ‬ ‫س ْب ِ‬
‫ن َبِني ِفرا ِ‬
‫ف فاِرس ِم ْ‬ ‫ن ِلي ِبُكْم َأْل َ‬‫ت َأ ّ‬
‫ل ـ َلَوِدْد ُ‬‫ح ِفي اْلماِء‪َ ،‬أما ـ َوا ّ‬ ‫ث اْلِمْل ُ‬
‫ث)‪ُ (2‬قُلوَبُهْم َكما ُيما ُ‬ ‫ِم ْ‬

‫حِميِم«‪.‬‬
‫س ِمْثُل َأْرِمَيِة اْل َ‬
‫ك ِمْنُهْم *** َفواِر ُ‬
‫ت َأتا َ‬
‫عْو َ‬
‫ك َلْو َد َ‬
‫ُهناِل َ‬

‫—–‬

‫ثم نزل )عليه السلم( من المنبر‪.‬‬

‫الشرح والتفسير‬

‫السئم والملل‬

‫يتضرع المام )عليه السلم( في آخر الخطبة إلى ال بقلب مفعم بالهم والحزن فيدعو على ُاولئك التباع ‪ ،‬غير أن‬
‫دعائه عليهم يحمل تحذيرًا جديًا لمن كان له أدنى صحوة من ضمير ‪ ،‬حيث يسعى المام )عليه السلم( عن هذا‬
‫الطريق إلى تنبيه أهل الضللة وإعادتهم إلى الصراط المستقيم ‪ ،‬فقال )عليه السلم(‪» :‬الّلهم إّني قد مللتهم وملوني‬
‫وسئمتهم وسئموني« ومن الطبيعي أل يكون هناك من وقع لنصائح المام العادل والقائد الشجاع في قلوب عبدة‬
‫الدنيا والهواء من أهل الجهل والعجز والذل إذا ما تباينت أهداف القائد ومبادئه وخلقه مع أهداف الرعية‬

‫‪» .1‬سئمتهم« من مادة »سأم« بمعنى الملل والتعب من الشيء‪.‬‬

‫‪» .2‬مث« من مادة »ميث« بمعنى حل الشيء في الماء ‪ ،‬ويطلق على المطر الذي يذيب تراب الرض ‪ ،‬كما يطلق على الحوادث‬
‫المريرة التي تذيب عقل النسان وتصدع قلبه‪.‬‬

‫] ‪[ 66‬‬
‫وأخلقها ‪ ،‬المر الذي يؤدي بالتالي إلى تعب الطرفين وسئم كل منهما الخر‪ .‬وإذا كان النبي )صلى ال عليه‬
‫وآله( قد استطاع النهوض بزعامة القوام الجاهلية ‪ ،‬فاّنما ذلك لّنهم أقروا بأهدافه ومبادئه في التربية وقد كيفوا‬
‫ن أقوامهم هى‬ ‫ن النبياء الذين لم يوفقوا في هذا المر ملوا أتباعهم ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫أنفسهم مع سننه وخلقه‪ .‬ومن هنا فا ّ‬
‫جوُهْم ِم ْ‬
‫ن‬ ‫خِر ُ‬
‫ن قاُلوا َأ ْ‬
‫لخرى لم تكن تطيق تحملهم‪ .‬ول يفوتنا هنا ضيق ذرع قوم لوط بنبيهم لطهارته وعفته )َأ ْ‬ ‫اُ‬
‫ن(‪(1).‬‬‫طـّهُرو َ‬
‫س َيَت َ‬
‫َقْرَيِتُكْم ِإّنُهْم ُأنا ٌ‬

‫ل‪» :‬فابدلني بهم خيرًا منهم ‪ ،‬وأبدلهم بي شرًا مني«‪.‬‬


‫ثم دعا عليهم قائ ً‬

‫فهم ليسوا أتباعًا جديرين بهذا المام ‪ ،‬ولم يعد إمامًا مناسبًا لهم ‪ ،‬فالحكمة اللهية تقتضي أن يخرجوا مسودي‬
‫الوجوه من هذا المتحان بعد أن تسلب منهم هذه النعمة اللهية فيعشوا أنواع الهوان والذل‪ .‬وما أسرع ما استجيب‬
‫دعاء المام )عليه السلم( ‪ ،‬فقد تسلط عليهم بنو امية ليرتكبوا بحقهم ما قل نظيره أو انعدم في التأريخ والعجيب‬
‫ن أهل العراق والكوفة قد دفعوا‬
‫ن الحجاج قد ولد)‪ (2‬آنذاك ‪ ،‬وبالطبع فا ّ‬
‫ماورد في بعض التواريخ السلمية من أ ّ‬
‫ل أّنها بلغت ذروتها على عهد الحجاج‪.‬‬ ‫ثمن جرائمهم وتخاذلهم قبل ذلك ‪ ،‬إ ّ‬

‫طبعًا ليس المراد بالعبارة »أبدلم بي شرًا مني« أّني سيء ولكن سلط عليهم من هو أسوأ مّني‪ .‬بل هى مقارنة‬
‫ن أشار إلى شدة عذاب جهنم‬ ‫تطلق على الخير المطلق والشر المطلق ‪ ،‬فقد جاء في القرآن سورة الفرقان بعد أ ّ‬
‫ن(‪ .‬وبعبارة ُاخرى لم يكن أهل العراق والكوفة آنذاك أخيار‬ ‫عَد الُمـّتُقو َ‬
‫خْلِد اّلِتي ُو ِ‬
‫جّنُة ال ُ‬
‫خْيٌر َأْم َ‬
‫ك َ‬
‫ل َأذ ِل َ‬
‫ل‪ُ) :‬ق ْ‬
‫قائ ً‬
‫ليسأل المام )عليه السلم(ال أخير منهم ‪ ،‬ول المام )عليه السلم( ـ والعياذ بال ـ كان سيئًا ليسلط ال عليهم من‬
‫هو أسوأ منه ‪ ،‬ففي مثل هذه الموارد تفقد صيغة أفعل التفضيل مفهومها العادي وترد للمقارنة بين شيئين‬
‫متضادين‪ .‬ويبدو أن هذا الدعاء شبيه الدعاء الذي ابتهل به نبي ال نوح )عليه السلم( على قومه بعد أن يئس من‬
‫ن َدّيارا()‪ .(3‬ثم قال )عليه السلم(‪» :‬الّلهم مث قلوبهم كما يماث‬
‫ن الكاِفِري َ‬ ‫ض ِم َ‬
‫لْر ِ‬ ‫على ا َ‬ ‫ب ل َتـَذْر َ‬‫صلحهم )َر ّ‬
‫الملح‬

‫‪ .1‬سورة العراف ‪. 82 /‬‬

‫ن الحجاج ولد عام ‪ 41‬هـ وتوفي عام ‪ 95‬وله من العمر‬


‫‪ .2‬منهاج البراعة ‪ .358 / 3‬صرح المسعودي ـ من المؤرخين المشهورين ـ أ ّ‬
‫‪ 54‬سنة‪.‬‬

‫‪ .3‬سورة نوح ‪.26 /‬‬

‫] ‪[ 67‬‬

‫في الماء«‪ .‬لعل المراد بموث قلوبهم )بمعنى ذوبانها( هو هجوم الهموم والغموم عليها بحيث تجرح عواطفهم‬
‫النسانية إلى درجة يقال ذاب القلب ‪ ،‬فقد ورد شبيه هذا المعنى في خطبة الجهاد رقم ‪ 27‬إذ قال )عليه السلم(‪:‬‬
‫»وال ‪ ،‬يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم«‪ .‬ومن الواضح أ ّ‬
‫ن‬
‫المراد بذوبان القلب ضياع العقل والفطنة والدراية والحكمة‪ .‬فمفهوم العبارة‪ :‬خذ عقولهم وحكمتهم لهذا النفاق‬
‫والعصيان فيعيشوا الحيرة والضطراب في حياتهم‪ .‬وقد ورد التعبير عن القلب بمعنى العقل والحكمة أو وعاء‬
‫على ُقُلوِبِهْم‬
‫جَعْلنا َ‬
‫العقل والحكمة في عدة آيات وروايات ‪ ،‬ومن ذلك ماورد في الية ‪ 25‬من سورة النعام‪َ) :‬و َ‬
‫ن َيْفَقُهوُه(‪ .‬والواقع أن من أعظم العقوبات اللهية ـ التي أوردها القرآن الكريم والروايات بالنسبة للفراد من‬
‫َأِكّنًة َأ ْ‬
‫أهل النفاق والمعصية ـ هى ال يرى النسان الحقائق ول يدركها كما هى ‪ ،‬فيعيش القلق والحيرة والضلل‪ .‬ثم‬
‫يختتم المام )عليه السلم( خطبته بالقول‪» :‬أما ـ وال ـ لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم‪ .‬ثم‬
‫تمثل بقول الشاعر‪:‬‬

‫هنالك لو دعوت أتاك منهم *** فوارس مثل أرمية الحميم‬

‫ثم نزل المام )عليه السلم( من المنبر‪:‬‬

‫قال السيد الشريف‪ :‬أقول‪» :‬الرمية« جمع »رمى« وهو السحاب والحميم ‪ ،‬هاهنا وقت الصيف‪ .‬وإّنما خص‬
‫ل ول أسرع خفوفًا; لّنه ل ماء فيه‪ .‬وإّنما يكون السحاب ثقيل السير‬
‫الشاعر سحاب الصيف بالذكر لنه أشد جفو ً‬
‫ل زمان الشتاء ‪ ،‬وإّنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا ‪ ،‬ول‬
‫لمتلئه بالماء ‪ ،‬وذلك ليكون في الكثر إ ّ‬
‫إغاثة إذا استغيثوا ‪ ،‬والدليل على ذلك قوله‪ :‬هنالك لو دعوت أتاك منهم‪.‬‬

‫بنو فراس بن غنم‬

‫هم بنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة ‪ ،‬حي مشهور بالشجاعة ‪ ،‬منهم علقمة بن فراس وهو جذل‬
‫الطعان‪ .‬ومنهم ربيعة بن مكدم بن حرثان بن جذيمة بن علقمة بن فراس الشجاع المشهور ‪ ،‬حامي الظعن حيًا‬
‫وميتًا ‪ ،‬ولم يحم الحريم وهو ميت أحد غيره; عرض له فرسان من بني سليم ‪ ،‬ومعه ظعائن من أهله يحميهم‬
‫وحده ‪ ،‬فطاعتهم ‪ ،‬فرماه نبيشة بن حبيب‬

‫] ‪[ 68‬‬

‫بسهم أصاب قلبه ‪ ،‬فنصب رمحه في الرض ‪ ،‬واعتمد عليه وهو ثابت في سرجه لم يزل ولم يمل‪ .‬وأشار إلى‬
‫الظعائن بالرواح ‪ ،‬فسرن حتى بلغن بيوت الحي ‪ ،‬وابن سليم قيام إزاءه ل يقدمون عليه ‪ ،‬ويظنونه حيًا; حتى قال‬
‫ل ميتًا ‪ ،‬ولو كان حيًا لتحرك; إّنه وال لماثل راتب على هئية واحدة ‪ ،‬ل يرفع يده ‪ ،‬ول‬
‫قائل منهم‪ :‬إّني ل أراه إ ّ‬
‫يحرك رأسه‪ .‬فلم يقدم أحد منهم على الدنو منه ‪ ،‬حتى رموا فرسه بسهم ‪ ،‬فشب من تحته ‪ ،‬فوقع وهو ميت ‪،‬‬
‫وفاتتهم الظعائن‪(1).‬‬

‫وجاء في كتاب بلوغ الدب أن شجاع كل فرد من أبناء هذه القبيلة بعشرة من شجعان سائر القبائل ‪ ،‬وهم أشجع‬
‫قبائل العرب‪(2).‬‬

‫والطريف في المر أن جيش المام )عليه السلم( في الكوفة قد بلغ عشرات اللف ‪ ،‬بل بلغ طبق رواية مئة ألف‬
‫ن المام )عليه السلم( يتمنى استبدال كل هذا الجيش بألف من فرسان بني فراس; المر الذي‬ ‫لأّ‬ ‫جندي)‪ ، (3‬إ ّ‬
‫يدل على مدى ضعف جيش الكوفة وعجزه ‪ ،‬ومدى شجاعة أبناء قبيلة بني فراس ‪ ،‬فقد تضاعفت شجاعتهم الذاتية‬
‫ل(‪(4).‬‬
‫نا ّ‬
‫ت ِفَئًة َكِثـيَرًة ِبِإذ ِ‬
‫غَلَب ْ‬
‫ن ِفَئة َقِلـيَلة َ‬
‫في ظل السلم واليمان‪ .‬كما جاء في القرآن الكريم‪َ) :‬كْم ِم ْ‬

‫—–‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.341 / 1‬‬

‫‪ .2‬بلوغ الدب ‪.125 / 2‬‬

‫‪ .3‬المصدر السابق‪.‬‬

‫‪ .4‬سورة البقرة ‪.249 /‬‬

‫] ‪[ 69‬‬

‫الخطبة ‪26‬‬
‫ومن خطبة له )عليه السلم(‬

‫وفيها يصف العرب قبل البعثة ثم يصف حاله قبل البيعة له نظرة إلى الخطبة‪.‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫والقسم الثاني في الحوادث التي ُاعقبت رحيل رسول ال )صلى ال عليه وآله( وكيفية غصب حق المام )عليه‬
‫السلم(في الخلفة ‪ ،‬وسكوته حفظًا للسلم والقرآن بينما كان يعيش حالة من التذمر والستياء‪.‬‬

‫‪ .1‬مصادر نهج البلغة ‪.390 / 1‬‬

‫] ‪[ 70‬‬

‫والقسم الثالث إشارة إلى البيعة المشروطة لعمرو بن العاص على معاوية والتي أدت إلى تلك الويلت والمصائب‬
‫والضرار الفادحة في الرواح والموال ‪ ،‬ثم يختتم الخطبة بحث أتباعه بالتأهب للقتال‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 71‬‬

‫القسم الول‬

‫شرّ‬‫ب ـ عََلى َ‬ ‫شَر اْلَعَر ِ‬


‫عَلى الّتْنِزيِل‪َ ،‬وَأْنُتْم ـ َمْع َ‬ ‫ن َوَأِمينًا َ‬
‫حّمدًا)صلى ال عليه وآله( َنِذيرًا ِلْلعاَلِمي َ‬ ‫ث ُم َ‬
‫ل َبَع َ‬
‫ن ا َّ‬
‫»ِإ ّ‬
‫ن ِدَماَءُكْم‬
‫سِفُكو َ‬
‫ب‪َ ،‬وَت ْ‬‫ش َ‬ ‫ج ِ‬
‫ن اْل َ‬‫ن اْلَكِدَر َوَتْأُكُلو َ‬
‫شَرُبو َ‬
‫صّم َت ْ‬
‫حّيات ُ‬ ‫شن َو َ‬ ‫خ ْ‬
‫حجاَرة ُ‬ ‫ن ِ‬‫ن َبْي َ‬
‫خو َ‬
‫شّر دار ُمِني ُ‬ ‫ِدين َوِفي َ‬
‫صوَبٌة«‪.‬‬‫صوَبٌة َواْلثاُم ِبُكْم َمْع ُ‬‫صناُم ِفيُكْم َمْن ُ‬
‫ن َأْرحاَمُكْم‪ ،‬اَْل ْ‬‫طُعو َ‬‫َوَتْق َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫العرب في الجاهلية‬
‫يتطرق المام )عليه السلم( في هذا القسم من الخطبة إلى أوضاع العرب في الجاهلية فيرسم صورة واضحة‬
‫الملمح عن حياتهم من خلل البعاد الفكرية والعاطفية والقتصادية والجتماعية ‪ ،‬بحيث ل نتوصل لهذه‬
‫الصورة التي رسمها المام )عليه السلم(ولو طالعنا كافة المؤلفات التي صنفت بشأن العرب في العصر الجاهلي‪.‬‬
‫ن المام )عليه السلم( استهل الخطبة بهذا الكلم ليذكرهم بالعصر الجاهلي الذي سبق السلم فيقارنونه‬ ‫ويبدو أ ّ‬
‫بما بعد البعثة النبوية الشريفة فيقفوا على قيمة السلم ول يضحوا بهذه القيمة والنعمة من خلل هذه الفرقة‬
‫ل إذا فقدت فقد‬
‫والختلف وأتباع الهواء والشهوات ‪ ،‬ول غرو فقيمة النعم تبقى مجهولة ول يعرف قدرها إ ّ‬
‫قال )عليه السلم(‪» :‬إن ال بعث محمدًا )صلى ال عليه وآله( نذيرًا للعالمين وأمينًا على التنزيل«‪.‬‬

‫ن المام )عليه السلم( أكد على جانب النذار في رسالة النبي )صلى ال عليه وآله( ‪ ،‬بينما نعلم‬ ‫الجدير بالذكر أ ّ‬
‫ك شاِهدًا‬
‫سْلنا َ‬
‫ي ِإّنا َأْر َ‬
‫ن النذار قد قرن بالبشارة ‪ ،‬كما ورد ذلك في عدة آيات قرآنية ‪ ،‬كالية الشريفة )يا َأّيها الّنِب ّ‬ ‫أّ‬
‫ن النذار بالعقاب‬
‫شرًا َوَنِذيرًا()‪ (1‬وسائر اليات القرآنية‪ (2).‬غير أ ّ‬
‫َوُمَبـ ّ‬

‫‪ .1‬سورة الحزاب ‪.45 /‬‬

‫‪ .2‬سورة سبأ ‪ ;28 /‬سورة فاطر ‪ ;24 /‬سورة الفتح ‪ 8 /‬وسورة البقرة ‪.119 /‬‬

‫] ‪[ 72‬‬

‫لّمة نحو القيام بوظائفها والتحفظ عن تركها كان التأكيد أكثر على‬
‫والتهديد بالعذاب غالبًا ما يكون الدافع لحركة ا ُ‬
‫مسألة النذار ‪ ،‬ومن هنا ورد التأكيد في أغلب اليات القرآنية على النذار بشأن رسالة النبي )صلى ال عليه‬
‫وآله(وسائر النبياء ‪ ،‬ولم تطالعنا أي من اليات التي اقتصرت على البشارة‪ .‬وهذا هو السلوب الذي اعتمدته‬
‫القوانين المعاصرة ‪ ،‬حيث ركزت على جانب العقوبة بصفتها الضمانة الجرائية الناجحة ‪ ،‬ونادرًا ما يعتمد الحث‬
‫ن الهدف النهائي للنذار هو إثارة الشعور بالمسؤولية‬
‫والتشجيع من أجل تحقيق الغرض المذكور‪ .‬بصورة عامة فا ّ‬
‫تجاه الوظائف والتكاليف الملقاة على عاتق النسان‪ .‬وهنا ل ينبغي أن ننسى بأن انذار النبي )صلى ال عليه‬
‫ن للعالمين مفهوم واسع يشمل‬ ‫وآله(يشمل كافة الكائنات; المر الذي يدل على عالمية الدين السلمي وخلوده ‪ ،‬ل ّ‬
‫كافة أفراد البشرية في كل عصر ومصر‪ .‬قوله )عليه السلم(‪» :‬أمينًا على التنزيل« تلويح ضمني بعصمة رسول‬
‫ال )صلى ال عليه وآله( ‪ ،‬فهو صائن لكتاب ال ومبلغه للعالم دون أدنى تغيير‪ .‬ثم تطرق )عليه السلم(لوضاع‬
‫العرب زمان الجاهلية في عشرة عبارات مقتضبة عظيمة المعاني تشير إلى أربعة محاور ‪ ،‬فقال‪» :‬وأنتم معشر‬
‫العرب على شر دين« وأي دين أسوأ من الوثنية؟ أن ينحت عاقل قطعة من الحجر أو الخشب بيده ثم يسجد لها‬
‫ويعبدها ويرى مقدراته بيدها ويلوذ بها في حل المشاكل التي تواجهه في حياته ‪ ،‬أو أن يصنع صنمًا من التمر‬
‫يتخذه إلهًا فاذا جاع أكله‪ .‬أضف إلى ذلك النحراف الخطير فان طقوس هؤلء القوم مملوءة بالخرافات والعقائد‬
‫السخيفة البعيدة عن المنطق والتي سطرتها كتب تأريخ العرب في العصر الجاهلي ‪ ،‬وسنعرض لجانب منها‬
‫لحقًا‪.‬‬

‫هذا على مستوى العقائد والفكار‪ .‬ثم تطرق )عليه السلم( إلى أوضاعهم القتصادية المزرية فقال )عليه السلم(‪:‬‬
‫»وفي شر دار منيخون«)‪ (1‬بين حجارة خشن وحيات صم ‪ ،‬تشربون الكدر وتأكلون الجشب«‪(2).‬‬

‫تعبيره )عليه السلم( »شر دار« بالنسبة لمحل إقامة عرب الجاهلية ‪ ،‬رغم أن أغلبهم )ولسيما من‬

‫‪» .1‬منيخون« من مادة »نوخ« بمعنى تنويم الجمل ‪ ،‬ومن البديهي أن يكون موضع استراحة الفراد هو ذلك الموضع الذي ينومون‬
‫فيه الجمال بين حجارة خشن‪.‬‬

‫‪» .2‬الجشب« على وزن »خشن« بمعنى الطعام الغليظ أو ما يكون منه بغير أدم‪.‬‬

‫] ‪[ 73‬‬

‫خاطبهم المام )عليه السلم( بهذه الكلمات( كانوا يقطنون في مكة أو المدينة يفيد أن هاتين المنطقتين قد فقدتا‬
‫قدسيتهما ومكانتهما المعنوية إثر تبدلهما إلى مركز للصنام والوثان والفساد والنحراف‪ .‬وقد أحاطت بهم‬
‫عواصف الرمل والرياح المحرقة في تلك الصحاري الجرداء ‪ ،‬بحيث إذا تمكن أحدهم من العثور على بقية ماء‬
‫في بعض البرك والبار فانه كان على درجة من التلوث والتعفن بسبب هبوب الرياح أو تلويثه من قبل بعض‬
‫الفراد حتى ليشعر شاربه بالغثيان ‪ ،‬غير أن هؤلء كانوا مضطرين لشربه ‪ ،‬ولم يكن طعامهم بأفضل مّما عليه‬
‫الشراب‪.‬‬

‫ب ودرج‬
‫ن إعرابيًا سئل‪» :‬أي الحيوانات تأكلون في البادية؟« قال‪» :‬نأكل كل ما د ّ‬
‫نقل أحد شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫ال أم جبين«‪(1).‬‬

‫أّما التعبير بالحيات الصم ‪ ،‬هو أن الحية الصماء أخطر من غيرها لّنها صماء ل تنزجر بالصوت ‪ ،‬أو لعل سمها‬
‫أخطر‪.‬‬

‫أما المحور الثالث فقد أشار فيه المام )عليه السلم( إلى أوضاعهم الجتماعية المزرية وإنعدام المن والستقرار‬
‫فقال )عليه السلم(‪» :‬وتسفكون دمائكم« والتعبير بالمضارع »تسفكون دمائكم« كسائر الفعال في عبارات‬
‫الخطبة يفيد استمرار هذه الوضاع المتفاقمة‪ .‬والواقع ل تحتاج قضية سفك الدماء المتعارفة بينهم إلى دليل ‪،‬‬
‫فسيوفهم تشهر لتفه السباب ليخوضوا أعنف المعارك وأشرسها لشهور بل لسنوات ـ ولعل نظرة عابرة إلى‬
‫ن أولئك الجهال كانوا يخوضون أشرس القتال من‬ ‫معاركهم المعروفة بحرب الفجار والتي ستشير إليها لحقًا تفيد أ ّ‬
‫أجل أهون الشياء‪ .‬وأخيرًا أشار )عليه السلم( إلى المحور الرابع المتمثل بأوضاعهم العاطفية المتردية‬
‫»وتقطعون أرحامكم« ولعل العبارة إشارة إلى قضية وأد البنات ودفنهن أحياًء ‪ ،‬حيث كانوا يرون البنت تجر‬
‫ل إذا ولدت له بنت ‪ ،‬وهذا ما أشارت إليه الية ‪ 58‬و‬ ‫عليهم الخزي والعار ‪ ،‬فكان أحدهم يتوارى عن النظار خج ً‬
‫سوِء ما‬‫ن ُ‬‫ن الَقْوِم ِم ْ‬
‫ظـيٌم * َيَتوارى ِم َ‬
‫سَوّدا َوُهَو َك ِ‬
‫جُهُه ُم ْ‬
‫ل َو ْ‬
‫ظـ ّ‬
‫لْنثى َ‬
‫حُدُهْم ِبا ُ‬
‫شـَر َأ َ‬ ‫‪ 59‬من سورة النحل )َو ِإذا ُب ّ‬
‫سـُه ِفي‬ ‫على ُهون َأْم َيُد ّ‬ ‫سُكُه َ‬
‫شـَر ِبِه َأُيْم ِ‬
‫ُب ّ‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة ‪ ،‬ابن ميثم ‪ 24 / 2‬أما كيف ضبطت مفردة )أم جبين( فقيل بيائين وقيل باء وياء وقيل بالجيم كما قيل بالماء )أم‬
‫جبين( و)أم حبين( ‪ ،‬كما كثر الكلم بشأن هذا الحيوان فقيل هو نوع من العضايا وتنفر منه عرب البادية لّنه سام عند الكل‪.‬‬

‫] ‪[ 74‬‬

‫ن(وقد ل يكتفي البعض بالقتصار على هذا القتل على البنات فيعمد إلى قتل ولده خشية‬ ‫حُكُمو َ‬‫ب َأل ساَء ما َي ْ‬ ‫الّترا ِ‬
‫شَيةَ‬
‫خْ‬‫الفقر; المر الذي نهى القرآن عنه بشّدة ‪ ،‬فقد نهت عن ذلك الية ‪ 31‬من سورة السراء )َول َتْقُتُلوا َأْولَدُكْم َ‬
‫ن َنْرُزُقُهْم َو ِإّياكْم( بل كان الوالد يقتل ولده والولد والده والخ أخيه عبثًا ‪ ،‬فقد عاشت الرحم فاجعة لم‬
‫حُ‬
‫ِإْملق َن ْ‬
‫يشهد لها التأريخ مثيل‪.‬‬

‫ويختتم المام )عليه السلم( كلمه بخلصة مفاسدهم المعنوية والمادية بالقول »الصنام فيكم منصوبة والثام بكم‬
‫ل عن‬‫معصوبة«‪ .‬وكأن تعبيره )منصوبة( إلى أّنهم كانوا يفتخرون بهذه الصنام فينصبونها في كل مكان فض ً‬
‫عبادتها والسجود لها‪ .‬ومعصوبة من مادة عصب )مايربط العضلت بالعظام( إشارة إلى أنواع المعاصي من قبيل‬
‫سفك الدماء وقتل النفس وقطع الرحم والتعرض للنواميس ونهب الموال وشرب الخمر والقمار و‪ ...‬التي‬
‫اجتاحت عرب الجاهلية وعليه فقد أشار المام )عليه السلم( بهذه العبارات إلى انحرافاتهم العقائدية والخلقية‬
‫وأزماتهم القتصادية والعاطفية ومدى النحطاط والسقوط الذي بلغوه على هذه المستويات‪.‬‬

‫—–‬

‫تأّملت‬

‫‪1‬ـ آفاق العصر الجاهلي‬

‫ضروري هو البحث حول العصر الجاهلي والمسائل المختلفة المرتبطة به من أجل التعرف على السلم وعظمة‬
‫النبي)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬فقد سعى المؤرخون لحصاء المسائل المتعلقة بذلك العصر‪ ،‬وقد أشرنا إلى هذه‬
‫المسألة في شرح الخطبة الثانية‪ ،‬وحيث أشار المام)عليه السلم( في القسم الول من هذه الخطبة إلى ذلك‬
‫الموضوع فإننا نرى ضرورة الشارة إلى بعض المور‪:‬‬

‫أـ الحديث طويل في عقائدهم الخرافية فالوثتية كانت هى الحاكمة والمنصوبة في جوف الكعبة فهناك أوثان القبيلة‬
‫والسرة‪ ،‬ولبعضها أشكال وأخرى دون شكل‪ .‬من عقائدهم أن الملئكة بنات ال‪ ،‬في حين ينفرون أنفسهم بشدة‬
‫من البنات‪ .‬وينكرون القيامة ويشاورون أصنامهم في المور المهمة‪ ،‬وطريقة ذلك أنهم يكتبون على السهام‬
‫»افعل« و»لتفعل«‬

‫] ‪[ 75‬‬

‫فيجعلونها مع بعضها ويخرجون واحد منها على أنه المر الذي أصدره الوشن‪ .‬ومن خرافاتهم العقائدية اليمان‬
‫بالغيلن وطيور الشؤم والبركة وما إلى ذلك‪.‬‬

‫ب ـ على الصعيد القتصادي فقد كان يدفعهم الفقر وعلوة على وأد البنات إلى قتل الولد‪ .‬وأغلب دخلهم كان‬
‫عن طريق السلب والنهبت‪ ،‬وكان الغلب وبسوء الوضع القتصادي يعيش حافيا شبه عريان‪ ،‬وإن كان لحدهم‬
‫لياس متواضع دعا‪ ،‬ذلك للفخر فينشد‪:‬‬

‫ت!‬
‫من يك ذابت فهذا بّتى *** مقّيظ مصّيف مش ّ‬

‫ج ـ على المستوى العاطفى فكفاهم أنهم لم يرحموا أي شيء وذلك بسبب طبيعتهم الوحشية كما يقول ابن خلدون‬
‫حيث يميلون إلى السلب والتهب ولذتهم بذلك وفخرهم بالقتل ـ روي أن أحدهم سمع قول النبي)صلى ال عليه‬
‫وآله( في وصف الجنة ونعمها‪ ،‬فسأل هل فيها قتال ـ قيل‪ :‬ل‪ .‬قال إذن ل خير فيها‪ .‬قيل في بعض التواريخ أن‬
‫الحروب التي نشيت بين عرب الجاهلية بلغت ‪ 1700‬حرب دام لبعضها مئة عام وتعاقبت عليها الجيال‪ ،‬وما‬
‫أكثر الحروب التي كانت تنشب لتفه السباب‪.‬‬

‫ى ـ أما على الصعيد الجتماعي فقد كانت أوضاعهم مزرية بفضل إنتشار الفساد والخمر حتى كان الشراب هو‬
‫المتبادر إلى الذهان من التجارة والشجاعة تعني القتل والغيرة والعفة تعني وأد البنات ـ كانوا يعشقون ثلث‪:‬‬
‫المرأة والخمر والقتال حتى قال شاعرهم‪:‬‬

‫إذا مت فادفني إلى جنب كرمة *** تروى عظامى بعد موتي عروقها‬

‫ل أذوقها‬
‫تأ ّ‬
‫ول تدفنني في الفلت فاّنني *** أخاف اذا ما م ّ‬

‫كانوا يعتقدون بوجوب نصرة الصديق على الحق كان أم الباطل‪ .‬كما كان القمار بارزا عندهم حتى أنهم كانوا‬
‫يخسرون فيها نسائهم‪ .‬كان الزنا منتشرا بينهم حتى إشتهر عندهم الزانيات من أصحاب الرايات‪ ،‬وهكذا سائر‬
‫المفاسد التي ل مجال لحصائها‪(1).‬‬

‫نعم هكذا كان العرب وقد أتقدهم ال بالسلم‪ ،‬فلم ينجو من الخرافات والوثنية‬

‫‪ .1‬للوقوف على المزيد راجع بلوغ الدب والسلم والجاهلية والتأريخ الكامل )ج ‪ (1‬وسيد المرسلين وشرح العلمة الخوئي لنهج‬
‫البلغة‪.‬‬

‫] ‪[ 76‬‬

‫طة‪ ،‬بل تغيرت حتى أوضاعهم الجتماعية والقتصادية والعاطفية وقد صنع من إنسانهم المتوحش‬ ‫والعقائد المنح ّ‬
‫مثال الفرد المتحضر السوة كمن على شاكلة أبي ذر والمقداد وعمار وبلل‪ .‬وتتضح عظمة السلم ورسالة‬
‫النبي)صلى ال عليه وآله( من هذه المقارنة‪ ،‬أما ظهور آثار الجاهلية في عصرنا باشكالها الوسع والقسى ـ‬
‫بسبب البتعاد عن تعاليم النبياء سيما تعاليم نبي السلم)صلى ال عليه وآله( لهي شهادة أخرى على عظمة هذه‬
‫الرسالة‪.‬‬
‫‪2‬ـ شر دار أم خيرها‬

‫النقطة الجديدة بالذكر في الخطبة المذكورة وصفه لموضع سكن عرب الجاهلية بشر دار‪ ،‬بينما وصف ذلك‬
‫العصر في الخطبة الثانية بالقول »خير دار وشر جيران« ولما كان المراد في العبارتين أرض مكة فيبدو هناك‬
‫ن أدنى تأمل يفيد عدم وجود أي تناقض ـ فأرض مكة ذاتًا مركزًا لفضل دار يعني الشعبة‪ ،‬ولكن‬‫تناقضا‪ ،‬إل أ ّ‬
‫بالعرض فإن جميع هذه الرض المقدسة حتى بيت ال فقد لوثت بالشرك والوثنية والمفاسد الخلقية‪ .‬وعليه فهى‬
‫شر دار باعتبار وخير دار باعتبار آخر‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 77‬‬

‫القسم الثاني‬

‫شجا‪،‬‬
‫عَلى ال ّ‬
‫ت َ‬
‫شِرْب ُ‬
‫عَلى اْلَقَذى‪َ ،‬و َ‬
‫ت َ‬
‫ضْي ُ‬
‫غ َ‬
‫ت‪َ ،‬وَأ ْ‬
‫ن اْلَمْو ِ‬
‫عِ‬‫ت ِبِهْم َ‬
‫ضِنْن ُ‬‫ن ِإّل َأْهُل َبْيِتي‪َ ،‬ف َ‬
‫س ِلي ُمِعي ٌ‬ ‫ت َفِإَذا َلْي َ‬
‫ظْر ُ‬
‫»َفَن َ‬
‫طْعِم اْلَعْلَقِم«‪.‬‬
‫ن َ‬
‫عَلى َأَمّر ِم ْ‬‫ظِم‪َ ،‬و َ‬‫خِذ اْلَك َ‬
‫عَلى َأ ْ‬
‫ت َ‬ ‫صَبْر ُ‬
‫َو َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الصبر المرير‬

‫أشار المام )عليه السلم( ـ في هذا المقطع من الخطبة ـ إلى الحوادث التي أعقبت رحيل‬
‫رسول ال )صلى ال عليه وآله(ولسيما حادثة الخلفة ‪ ،‬ويتطرق إلى السبب الذي دعاه إلى السكوت وعدم‬
‫المطالبة بحقه المسّلم في الخلفة ‪ ،‬أي خلفة رسول ال)صلى ال عليه وآله( ـ والتي كانت في الواقع حق‬
‫ن القيام بالمر‬
‫المسلمين ـ فقال )عليه السلم(‪» :‬فنظرت فاذا ليس معين إل أهل بيتي«‪ .‬من الواضح أ ّ‬
‫تجاه تلك الطائفة المتحزبة ـ التي تشهد التواريخ بأّنها خططت لللتفاف على الخلفة قبل وفاة‬
‫ن مثل هذا القيام ليس فقط ل يتمخض عن نتيجة ‪،‬‬ ‫رسول ال )صلى ال عليه وآله( ـ ل ينسجم وأي منطق; ل ّ‬
‫بل سيؤدي ذلك القيام إلى قتل طائفة من صفوة أهل بيت النبي )صلى ال عليه وآله( ‪ ،‬أضف إلى ذلك فان هذه‬
‫المواجهة قد تقود إلى شق صفوف المسلمين بما يعود بالنفع للمنافقين الذين كانوا يتربصون‬
‫بالمسلمين مثل هذه الحوادث بعد وفاة رسول ال )صلى ال عليه وآله(; المر الذي جعل المام )عليه‬
‫السلم(يفضل‬
‫الصمت والسكوت ومن هنا واصل المام )عليه السلم(خطبته بهذا الشأن فقال‪» :‬وأغضيت)‪ (1‬على‬

‫‪» .1‬أغضيت« من مادة »غضى« تعني السكوت على مضض ‪ ،‬كما تعني اغماض العين ـ ومن هنا تطلق الليالي الغاضية على الليالي‬
‫الظلماء‪.‬‬

‫] ‪[ 78‬‬
‫القذى)‪ (1‬وشربت على الشجا)‪ ، (2‬وصبرت على أخذ الكظم)‪ (3‬وعلى أمر من طعم العلقم)‪.«(4‬‬

‫تأّملت‬

‫‪ 1‬ـ الحداث المريرة بعد رسول ال )صلى ال عليه وآله(‬

‫تشبه هذه العبارات تلك التي وردت في الخطبة الثالثة المعروفة بالخطبة الشقشقية‪ ،‬بل هى أشد وقعًا منها‪ ،‬وتفيد‬
‫ن المام )عليه السلم( قد قضى ساعات ولحظات غاية في المرارة إبان تلك السنين ـ ما يقارب خمس وعشرين‬ ‫أّ‬
‫سنة ـ التي قضاها بعد رسول ال )صلى ال عليه وآله(جليس الدار حين دفع عن حّقه في الخلفة‪.‬‬

‫ولم يكن تذمر المام )عليه السلم( كونه لم يتزعم الحكومة‪ ،‬فقد أعلن صراحة عن عدم إكتراثه لهذا المر وأشار‬
‫ل‪ ،‬فهى مسؤولية إلهية وليست‬ ‫ل أن يقيم حّقا أو يدحض باط ً‬
‫كرارًا إلى أن هذه الخلفة ل تساوي عنده شيء إ ّ‬
‫وسيلة للفخر والمباهاة‪ ،‬وإّنما كان تذمره لّنه كان يشهد تنصل الّمة شيئًا فشيئًا عن السلم وابتعادها عن القيم‬
‫واحيائها لسنن الجاهلية حتى حدث ماكان يخشى منه‪ ،‬فقد تسلم معاوية زمام ُامور الدولة السلمية وأصبحت‬
‫خلفة رسول ال )صلى ال عليه وآله(ملكية وراثية ليرثها من بعده ولده يزيد الذي ارتكب أفظع الجرائم‬
‫والجنايات بحق المسلمين وتكشف عبارات المام )عليه السلم( عن مدى الدعايات الشديدة التي مارسها القائمين‬
‫لّمة وارعابها من جهة ُاخرى في إقصاءه عن حقه المسلم في الخلفة‬ ‫على شؤون الحكومة من جهة وتهديد ا ُ‬
‫بحيث لم يكن معه من ينهض بالمر سوى أهل بيته‪ ،‬فقد نقل المؤرخون عن المام )عليه السلم(أّنه قال‪» :‬لو‬
‫وجدت أربعين ذوي عزم لقاتلت«)‪ (5‬والذي يستوحى من عباراته )عليه السلم( أ ّ‬
‫ن‬

‫‪» .1‬قذى« على وزن قضا الصفاء والخلص ‪ ،‬ومن هنا يطلق القذى على الشيء الذي يقع في الماء فيلوثه ‪ ،‬كما يطلق على ما يقع‬
‫في العين‪.‬‬

‫‪» .2‬شجا« من مادة »شجو« ما يعترض في الحلق من عظم أو نحوه ‪ ،‬كما يطلق على الشدة والهم والغم‪.‬‬

‫‪» .3‬كظم« على وزن غضب من مادة »كظم«‪ .‬قال الراغب في المفردات الكظم بمعنى مخرج النفس ‪ ،‬والكظوم بمعنى الختناق وحبس‬
‫النفس ‪ ،‬كما تستعمل بمعنى ربط القربة بعد ملئها بالماء ‪ ،‬ومعنى العبارة صبرت على الخناق رغم الضغط الذي مارسه العدو‪.‬‬

‫‪» .4‬العلقم«‪ ،‬قال صاحب مجمع البحرين هى شجرة شديدة المرارة‪ ،‬وتسمى الحنظل أيضًا‪ ،‬كما جاءت علقمة بمعنى المرة‪.‬‬

‫‪ .5‬رواها نصر بن مزاحم عن المام )عليه السلم(; شرح نهج البلغة‪ ،‬ابن ميثم ‪ ،26 / 2‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪/ 2‬‬
‫‪.22‬‬

‫] ‪[ 79‬‬

‫المتحمسين لغصب الخلفة لم يكونوا يتورعون حتى عن سفك دماء أهل البيت)عليهم السلم(‪ ،‬وهذا ما أشار إليه‬
‫المام )عليه السلم(بقوله‪» :‬فضننت بهم عن الموت«; المر الذي يبدو عجيبًا ورهيبًا للغاية‪ ،‬وان كانت مثل هذه‬
‫لمور الخلقية ليست عجيبة في عالم السياسة والحكومة! كما يحتمل أن يكون أولئك المتعصبين للخلفة‬ ‫اُ‬
‫ل‪ ،‬فهم يهمون بقتلهم‬‫يتربصون الدوائر بذرية المام )عليه السلم( التي كانوا يرون أّنها ستتصدى للخلفة مستقب ً‬
‫لكي ل تبقى لهل البيت من باقية تنهض بمسؤولية الخلفة‪.‬‬

‫أّما السؤال عن مدى لوعة المام )عليه السلم( وشدة تلك اليام التي كانت تمر عليه وهو جليس الدار‪ ،‬يتطلع‬
‫بذهول لتلك الفعال التي ارتكبت باسم الحكومة السلمية من قبيل تحريف العقائد والنحراف في فهم النصوص‬
‫والحكام السلمية وتضييع العدالة وبالتالي استبدال الحكومة السلمية بالملكية الوراثية كحكومة فرعون‬
‫وقيصر وكسرى‪ ،‬فالجابة عليه قد وردت في الخطبة الثانية والستين من نهج البلغة التي قال فيها المام )عليه‬
‫السلم(‪» :‬أما بعد‪ ،‬فان ال سبحانه بعث محمدًا )صلى ال عليه وآله( نذيرًا للعالمين‪ ،‬ومهيمنًا على المرسلين‪ ،‬فلما‬
‫مضى تنازع المسلمون المر من بعده‪ ،‬فو ال ما كن يلقى في روعي ول يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا المر‬
‫ل انثيال الناس على فلن‬ ‫من بعده )صلى ال عليه وآله( عن أهل بيته‪ ،‬ول أّنهم منحوه عني من بعده! فما راعني إ ّ‬
‫يبايعونه‪ ،‬فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن السلم‪ ،‬يدعون إلى محق دين محمد )صلى ال‬
‫ي أعظم من فوت‬ ‫عليه وآله(‪ ،‬فخشيت إن لم أنصر السلم‪ ،‬وأهله أن أرى فيه ثلمًا أو هدمًا‪ ،‬تكون المصيبة به عل ّ‬
‫ول يتكم التي إّنما هى متاع أيام قلئل‪ ،‬يزول منها ماكان‪ ،‬كما يزول السراب‪ ،‬أو كما يتقشع السحاب; فنهضت في‬
‫تلك الحداث حتى زاح الباطل وزهق‪ ،‬واطمأن الدين وتنهنه« فالمام )عليه السلم( كان يشهد آنذاك مشكلتين‬
‫خطيرتين; الولى ذهاب حقه المسلم في الخلفة; الحق الذي أدى زواله إلى انحرافات عظيمة برزت على الساحة‬
‫السلمية‪ ،‬والثانية تكمن في الخطر الذي كان محدقًا بالسلم‪ ،‬والفرصة التي كان ينتظرها تيار النفاق من أجل‬
‫ن يعمل بالقاعدة المنطقية العقلئية والشرعية في تقديم الهم على‬ ‫لأّ‬‫الجهاز عليه‪ ،‬فما كان منه )عليه السلم( إ ّ‬
‫المهم عند التزاحم‪ ،‬فسكت على مضض عن حقه في الخلفة حفاظًا على بيضة السلم‪.‬‬

‫] ‪[ 80‬‬

‫‪ 2‬ـ هل بايع المام )عليه السلم( الخليفة الول؟‬

‫كثر الكلم بين المؤرخين والمحدثين بشأن موقف المام علي )عليه السلم( من خلفة الول والبيعة التي تمت له‬
‫في سقيفة بني ساعدة‪ .‬وليس هنالك من اتفاق بين علماء الشيعة والسنة بهذا المجال‪ ،‬فقد صرح الشارح البحراني‬
‫ن المام علي )عليه السلم( امتنع عن مبايعة الخليفة الول‪ ،‬وقد انضم إليه عدد‬ ‫ن أغلب علماء الشيعة يعتقدون أ ّ‬
‫أّ‬
‫ن أمير المؤمنين علي )عليه‬‫ل أّنهم اضطروا آخر المر لبيعته بعد أن ُاجبروا عليها‪ .‬وقيل أ ّ‬
‫من بني هاشم‪ ،‬إ ّ‬
‫السلم( لزم البيت ولم يخرج‪ ،‬فلما رأوا أّنه وحيد تركوه ولم يحملوه على البيعة‪ .‬أما محدثوا العامة فقد ذهبوا إلى‬
‫ن المام )عليه السلم( قد امتنع عن البيعة ستة أشهر حتى توفت الزهراء)عليها السلم( فبايع طوعا‪ .‬وللمرحوم‬ ‫أّ‬
‫ن المام )عليه السلم(أراد أن‬‫لمة السيد شرف الدين صاحب المراجعات تحليل رائع بهذا الشأن‪ ،‬خلصته أ ّ‬ ‫الع ّ‬
‫يؤكد حقه المسلم في الخلفة ونص النبي )صلى ال عليه وآله( بالوصية عليه من جانب‪ ،‬ومن جانب آخر أراد أن‬
‫يفوت الفرصة على المنافقين ـ الذين كانوا يتربصون الدوائر بالسلم ويرون السبيل قد تمهد أمام أطماعهم‬
‫بالقضاء على الدين من خلل الختلفات بين النصار والمهاجرين ـ فامتنع عن البيعة مدة )ليعلن عن حقه في‬
‫الخلفة(‪ ،‬ثم بايع حفظًا للسلم ودرءًا لخطر المنافقين والمتربصين بالدين‪(1).‬وقد وردت بعض العبارات التي‬
‫تشير إلى هذا المعنى في الخطبة ‪ 62‬من نهج البلغة »‪ ..‬فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن‬
‫السلم‪ ،‬يدعون إلى محق دين محمد )صلى ال عليه وآله( فخشيت إن لم أنصر السلم وأهله أن أرى فيه ثلمًا أو‬
‫هدمًا‪ ،‬تكون المصيبة به علي أعظم من فوت وليتكم‪.«...‬‬

‫—–‬

‫وسنتحدث إن شاء ال بما يناسب المقام حين شرحنا للخطب والرسائل المرتبطة بهذا البحث‪.‬‬

‫‪ .1‬المراجعات ‪ ،‬الرسالة ‪. 84‬‬

‫] ‪[ 81‬‬

‫القسم الثالث‬

‫خُذوا‬
‫ع‪َ ،‬ف ُ‬
‫ت َأماَنُة اْلُمْبتا ِ‬‫خِزَي ْ‬ ‫ت َيُد اْلباِئِع‪َ ،‬و َ‬
‫ظِفَر ْ‬‫عَلى اْلَبْيَعِة َثَمنًا‪َ ،‬فل َ‬
‫ن ُيْؤِتَيُه َ‬
‫ط َأ ْ‬
‫شَر َ‬
‫حّتى َ‬‫ومنها‪َ» :‬و َلْم ُيباِيْع َ‬
‫صِر«‪.‬‬‫عى ِإَلى الّن ْ‬ ‫صْبَر َفِإّنُه َأْد َ‬
‫شِعُروا ال ّ‬ ‫سَت ْ‬
‫سناها‪َ ،‬وا ْ‬
‫عل َ‬ ‫ب َلظاها‪َ ،‬و َ‬ ‫ش ّ‬
‫عّدَتها َفَقْد َ‬ ‫عّدوا َلها ُ‬
‫ب ُأْهَبَتها‪َ ،‬وَأ ِ‬
‫حْر ِ‬
‫ِلْل َ‬

‫—–‬
‫الشرح والتفسير‬

‫المساومة السياسية المفضوحة‬

‫أشار المام )عليه السلم( إلى المساومة الفاضحة التي اشترطها عمرو بن العاص على معاوية كثمن للبيعة‪،‬‬
‫فقال‪» :‬ولم يبايع حتى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمنًا«‪ .‬فقد ذكر المؤرخون‪ :‬لما نزل علي )عليه السلم( الكوفة‬
‫بعد فراغه من أمر البصرة‪ ،‬كتب إلى معاوية كتابًا يدعوه إلى البيعة‪ ،‬أرسل فيه جرير بن عبدال البجلي‪ .‬فقدم‬
‫عليه به الشام‪ ،‬فقرأه واغتم بما فيه‪ ،‬وذهبت به أفكاره كل مذهب‪ ،‬وطاول جرير بالجواب عن الكتاب‪ ،‬حتى كلم‬
‫قومًا من أهل الشام في الطلب بدم عثمان‪ ،‬فأجابوه ووثقوا له‪ ،‬وأحب الزيادة في الستظهار‪ ،‬فاستشار بأخيه عتبة‬
‫بن أبي سفيان‪ ،‬فقال له‪ :‬استعن بعمرو بن العاص فاّنه من قد علمت في دهائه ورأيه‪ ،‬وقد اعتزل عثمان في حياته‪،‬‬
‫ن يثمن له دينه فسيبيعك‪ ،‬فاّنه صاحب دنيا‪ .‬فكتب إليه معاوية »أما بعد‪ ،‬فانه كان‬
‫لأّ‬
‫ل; إ ّ‬
‫وهو لمرك أشد اعتزا ً‬
‫من أمر علي وطلحة والزبير ماقد بلغك‪ ،‬وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في نفر من أهل البصرة‪ ،‬وقدم علينا‬
‫جرير بن عبدال في بيعة علي‪ ،‬وقد حبست نفسي عليك‪ ،‬فأقبل أذاكرك ُامورًا ل تعدم صلح مغبتها‪ ،‬إن شاء ال«‬
‫ـ فلما قدم الكتاب على عمرو استشار ابنيه‪ :‬عبد ال بن عمرو ومحمد بن عمرو‪ ،‬فقال لهما‪ :‬ما تريان؟ فقال‬
‫ل خليفة‪ ،‬ول تزيد على أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة‪ .‬أما ولده‬‫عبدال‪ :‬قر في منزلك فلست مجعو ً‬

‫] ‪[ 82‬‬

‫ل‪» :‬يا أبا عبدال أدعوك‬ ‫الخر فقال‪ :‬الحق بجماعة أهل الشام فلما دخل عمرو بن العاص الشم‪ ،‬خاطبه معاية قائ ً‬
‫إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ال وشق عصى المسلمين وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرق الجماعة وقطع‬
‫الرحم«)‪ .(1‬فقال له عمرو‪ :‬من هو؟ قال‪ :‬علي‪ .‬فقال عمرو بن العاص‪» :‬وال ما أنت وعلي بجملي بعير ليس لك‬
‫ن له مع ذلك لحظًا في الحرب ليس لحد‬ ‫هجرته ول سابقته ول صحبته ول جهاده ول فقهه ول علمه«‪ .‬ووال إ ّ‬
‫ل; فما تجعل لي إن شايعتك على حربه‪ ،‬وأنت تعلم مافيه‬ ‫غيره‪ ،‬ولكني قد تعودت من ال تعالى إحسانًا وبلًء جمي ً‬
‫من الغرر والخطر؟ قال معاوية‪ :‬حكمك‪ ،‬فقال عمرو‪ :‬مصر‪ .‬فتلكأ عليه معاوية وقال‪ :‬يا أبا عبدال إني أكره لك‬
‫أن تتحدث العرب عنك أّنك إّنما دخلت في هذا المر لغرض الدنيا‪ ،‬قال عمرو‪ :‬دعني عنك‪ .‬فأشار عليه عتبة بأن‬
‫ن مصر كانت في نفس عمرو بن العاص لّنه هو الذي‬ ‫يجيب عمرو‪ ،‬فأجابه وأعطاه مصر‪ (2).‬جدير بالذكر إ ّ‬
‫فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلفة عمر‪ ،‬فكان لعظمها في نفسه وجللتها في صدره‪ ،‬وما قد عرفه‬
‫من أموالها وسعة الدنيا‪ ،‬ل يستعظم أن يجعلها ثمنًا من دينه‪ .‬أضف إلى ذلك فقد ولها أربع سنوات على عهد‬
‫الخليفة الثاني‪ ،‬وأربع ُاخرى على عهد عثمان حتى عزله‪ .‬ثم قال المام )عليه السلم(‪» :‬فل ظفرت يد المبايع‪،‬‬
‫وخزيت أمانة المبتاع«)‪ .(3‬فالواقع كلمه )عليه السلم( يتضمن الدعوة ضد المشتري والبائع‪ .‬نعم صحيح أ ّ‬
‫ن‬
‫ل أّنه لم يحكمها مدة طويلة بعد أن وافاه الجل‪ ،‬إلى جانب ما نقل عنه‬ ‫معاوية قد وفى له بوعده وأعطاه مصر‪ ،‬إ ّ‬
‫ن معاوية وإن‬ ‫أواخر عمره عن مدى خشيته من عاقبته ومصيره‪ ،‬فلم يذق طعم النصر الذي كان يحلم به‪ .‬كما أ ّ‬
‫ل أّنها آلت إلى النهيار المخزي بعد أن انفرج عنه كافة الصحابة من المهاجرين‬ ‫وطد دعائم حكومته بهذا العمل إ ّ‬
‫والنصار والفراد المشهورين بحسن السمعة من أهل الورع والتقوى ولم يتمحور حوله سوى تلك الثلة التي‬
‫ورثت العداء للسلم وسليلي زعماء الجاهلية‪ ،‬فكانوا أعوانه الذين يبطش بواسطتهم الناس ويجرعونهم أبشع‬
‫غصص القتل والرعاب والتهديد والوعيد‪ .‬كما يحتمل أل تكون العبارة من‬

‫‪ .1‬يقصد قرابة عثمان من بني هاشم‪.‬‬

‫‪» .2‬المبتاع« بمعنى المشتري والمراد به هنا معاوية والبائع عمرو بن العاص‪.‬‬

‫‪ .3‬انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة )عمرو بن العاص(‪.‬‬

‫] ‪[ 83‬‬

‫ن بيع الدين بالدنيا ل يقود إلى النصر أبدًا‪ ،‬بل ستكون الخسارة من نصيب‬ ‫قبيل الدعاء‪ ،‬بل هى جملة خبرية; أي أ ّ‬
‫ح ْ‬
‫ت‬ ‫ضلَلَة ِبالُهدى َفما َرِب َ‬
‫شَتَرُوا ال َ‬
‫نا ْ‬
‫ك اّلِذي َ‬
‫البائع والمشتري; المر الذي أشارت إليه بعض اليات القرآنية )ُأولـِئ َ‬
‫ن()‪.(2‬‬‫صُرو َ‬ ‫ب َول ُهْم ُيْن َ‬
‫عْنُهُم الَعذا ُ‬
‫ف َ‬ ‫خَرِة َفل ُيخَّف ُ‬ ‫حياَة الّدْنيا ِبال ِ‬
‫شَتَرُوا ال َ‬
‫نا ْ‬‫ك اّلِذي َ‬
‫ِتجاَرُتُهْم()‪ (1‬والية )ُأولـِئ َ‬
‫ن حكومة‬ ‫وتعبير المام )عليه السلم(بالمانة عن حكومة مصر وحقوق أهلها من المسلمين إشارة صريحة إلى أ ّ‬
‫لّمة وإدارة شؤونها إّنما هى أمانة إلهية لبّد أن ينهض بعبئها الخيار الصالحين بغية ضمان مصالح الُّمة‪ ،‬وأّما‬ ‫اُ‬
‫ُاولئك الذين يتخذون هذه الحكومة وسيلة لتحقيق مآربهم وأغراضهم الشخصية إّنما يخونون هذه المانة اللهية‬
‫ن المصداق‬ ‫وهذا ما سيؤدي في آخر المر إلى فضيحتهم وزوال حكمهم‪ .‬ومن هنا صرح أغلب المفسرين بأ ّ‬
‫ت ِإلى َأْهِلها()‪ (3‬إّنما‬‫ن ُتَؤّدوا المانا ِ‬‫ل َيْأُمُرُكْم َأ ْ‬
‫نا ّ‬‫الوحيد أو المصداق البارز للمانة الواردة في الية الشريفة )ِإ ّ‬
‫لّمة على الستعداد والتأهب لمنازلة العدو‬ ‫هى الحكومة والولية‪ .‬ثم واصل المام )عليه السلم(كلمه بحث ا ُ‬
‫ب)‪ (5‬لظاها)‪ (6‬وعل سناها)‪ .«(7‬فالعبارة تفيد أ ّ‬
‫ن‬ ‫»فخذوا للحرب ُاهبتها«)‪ ،(4‬وأعدوا لها عدتها فقد ش ّ‬
‫المام )عليه السلم(قد اعتمد كافة الطرق السلمية من أجل وضع حد لذلك النفاق والعداء ولسيما غدر أهل الشام‬
‫ل أن‬ ‫ن كل ذلك لم يجد نفعًا‪ ،‬فكان حجم التآمر والدسائس يزداد كل يوم‪ ،‬فما كان منه )عليه السلم(إ ّ‬ ‫لأّ‬‫وحكامهم إ ّ‬
‫أمر بالتأهب للقاء العدو; فقد شبت لظى نيران العداء وتصاعدت ألسنتها‪ ،‬ولبّد من مواجهتها والعمل على‬
‫ن أعداء المام )عليه السلم(كانوا يسارعون للستعداد للقتال وقد بعثوا‬ ‫اطفائها‪ .‬كما يشير التأريخ السلمي إلى أ ّ‬
‫بكتبهم ورسائلهم إلى طلحة والزبير‪ .‬وأخيرًا يختتم المام )عليه السلم(بالشارة إلى الصبر بفضله أحد أهم‬
‫مقومات النصر فقال »واستشعروا‬

‫‪ .1‬سورة البقرة ‪.16 /‬‬

‫‪ .2‬سورة البقرة ‪. 86 /‬‬

‫‪ .3‬سورة النساء ‪.58 /‬‬

‫‪ُ» .4‬اهبة« على وزن لقمة بمعنى العدة والتأهب والستعداد للقيام بعمل وإهاب على وزن كتاب بمعنى الجلد الذي لم يدبغ وقد ُاعد‬
‫للدباغة‪.‬‬

‫‪» .5‬شب« من مادة »شبب الشباب«‪ ،‬ويستعمل في شب النار‪.‬‬

‫‪» .6‬لظا« بمعنى شعلة النار كما تطلق على نفس النار )الراغب في المفردات(‪.‬‬

‫‪» .7‬سنا«‪ ،‬قال صاحب المقاييس تتضمن العلو والرتفاع وقد وردت في العبارة بمعنى تصاعد ألسنة النيران‪.‬‬

‫] ‪[ 84‬‬

‫الصبر فإنه أدعى إلى النصر«‪ .‬واستنادًا إلى مفردة الستشعار من مادة )ش ع ر( التي تعني الثياب الداخلية )في‬
‫ن الصبر والستقامة لبّد أن تسود باطن النسان وتمد النسان‬‫مقابل الدثار بمعنى الثياب الخارجية( يتضح أ ّ‬
‫بمعاني الصمود إزاء الحوادث المريرة‪.‬‬

‫تأّملت‬

‫‪ 1‬ـ السياسات الدنيوية ل تعترف بالصول الخلقية‬

‫‪ 2‬ـ باعة الدين بالدنيا!‬

‫تعرضنا إلى حد ما في البحث السابق إلى مسألة بيه الدين والقيم والمثل المعنوية بالمنافع المادية الرخيصة‪،‬‬
‫ولمسنا نموذج ذلك في شخصية عمرو بن العاص الذي أشارت إليه الخطبة المذكورة‪ ،‬حيث صرحت بأّنه ومن‬
‫أجل حكومة مصر ولو لّمدة قصيرة قد باع دينه وقيمه‪،‬‬
‫‪ .1‬بحار النوار ‪.165 / 74‬‬

‫] ‪[ 85‬‬

‫وقد أعرب آخر عمره كما أورد ذلك المؤرخون عن مدى ندمه‪ ،‬ولكن حيث لم ينفع الندم وقد ُاغلقت كافة سبل‬
‫العودة‪.‬‬

‫القرآن الكريم من جانبه أشار إلى هذا المر بصفته أحد العوامل الرئيسية المؤدية إلى النحراف ولسيما بالنسبة‬
‫للعلماء من عبدة الدنيا‪ .‬ومن ذلك ما أورده القرآن بشأن فريقًا من علماء بني اسرائيل ـ الذين كانوا يبشرون‬
‫بظهور النبي قبيل انبثاق دعوته على ضوء العلم الذي كان لديهم والخبار الواردة في كتبهم )التوراة والنجيل(‬
‫ل أّنهم حرفوا الكلم حين تعرضت بعض مصالحهم المادية للخطر ـ فقد صرحت الية ‪ 187‬من سورة آل عمران‬ ‫إّ‬
‫شَتَرْوا ِبِه َثَمنًا‬
‫ظُهوِرِهْم َوا ْ‬
‫ب َلُتَبّيـُنّنُه ِللّناس َول َتْكُتُموَنُه َفَنَبُذوُه َوراَء ُ‬
‫ن ُأوُتوا الِكتا َ‬
‫ق اّلِذي َ‬
‫ل ِمـيثا َ‬
‫خَذ ا ّ‬
‫قائلة‪َ) :‬وِإذ َأ َ‬
‫ن(‪.‬‬
‫شَتُرو َ‬
‫س ما َي ْ‬‫ل َفِبْئ َ‬
‫َقِلـي ً‬

‫ن المتاع المادي ـ وأن‬ ‫ن القرآن الكريم يذمهم من أجل أّنهم حرصوا على متاع قليل‪ ،‬بل المراد أ ّ‬ ‫فمن الواضح أ ّ‬
‫خَرِة ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫حياِة الّدْنيا ِفي ال ِ‬
‫ع ال َ‬
‫ل مقارنة بالمتاع المعنوي )َفما َمتا ُ‬
‫تضمن أرفع المقامات وأكثر الثروات ـ يبقى قلي ً‬
‫ل ()‪.(1‬‬
‫َقِلـي ٌ‬

‫ن كافة الفراد الذين يقدمون طاعة المخلوق على طاعة الخالق ويؤثرون أطماعهم ومنافعهم على‬ ‫على العموم فا ّ‬
‫الخرة ويضربون الحكام الشرعية عرض الحائط ول يكترثون للحلل والحرام من أجل تحقيق أهوائهم‬
‫الشخصية إّنما هم في زمرة باعة الدين بالدنيا‪ .‬ويقابلهم اولئك الفراد الذين ل يرون في أعمالهم سوى رضى ال‬
‫والتسليم لرادته‪ ،‬وهؤلء هم الذين وصفهم القرآن بحزب ال الذين ل يرون حتى في الهل والقرابة من عائق‬
‫سوَلُه َوَلْو كاُنوا آباَءُهْم َأْو َأْبناَءُهْم‬
‫ل َوَر ُ‬
‫ن حاّد ا ّ‬
‫ن َم ْ‬
‫خِر ُيواّدو َ‬
‫ل َواْلَيْوِم ال ِ‬
‫ن ِبا ّ‬
‫جُد َقْومًا ُيـْؤِمُنو َ‬
‫أمام رضى ال )ل َت ِ‬
‫شـيَرَتُهْم‪.(2)(...‬‬ ‫عِ‬
‫خواَنُهْم َأْو َ‬
‫َأْو ِإ ْ‬

‫‪ 3‬ـ علقة النصر بالثبات‬

‫ن أحد أهم هذه العوامل هو الصبر‪ ،‬وتبدو الرابطة‬


‫إن كان النصر يقوم على عدة عوامل‪ ،‬فا ّ‬

‫‪ .1‬سورة التوبة ‪.38 /‬‬

‫‪ .2‬سورة المجادلة ‪.22 /‬‬

‫] ‪[ 86‬‬

‫بين النصر والصبر على درجة من الوضوح بحيث إن الدباء ومنذ قديم الزمان قد قرنوا الظفر بالصبر »من‬
‫ن النصر حليف جند السلم مهما كان‬ ‫صبر ظفر«‪ .‬وقد أشار القرآن الكريم صراحة إلى هذه الحقيقة حتى اعتبر أ ّ‬
‫ن ِمْنُكْم ِمَئٌة‬
‫ن َيُك ْ‬
‫ن َو ِإ ْ‬
‫ن َيْغِلُبوا ِمَئَتْي ِ‬
‫ن صاِبُرو َ‬‫شُرو َ‬
‫عْ‬‫ن ِمْنُكْم ِ‬
‫ن َيُك ْ‬
‫عدد وعدة العدو إذا ما تحلو بالصبر والستقامة )ِإ ْ‬
‫َيْغِلُبوا َأْلفًا()‪ .(1‬وهذا هو السبب الذي يكمن وراء انتصار المسلمين في كافة الغزوات رغم عدم الموازنة‬
‫والتفاوت الفاحش بين ما عليه العداء من عدة وعدد ومعدات وما عليه المسلمين‪ ،‬حيث كانوا يتحلون بالصبر‬
‫النابع من إيمانهم بال واليوم الخر‪.‬‬

‫وهذا ما أكده المام )عليه السلم( في خطبته اذ قال‪» :‬واستشعروا الصبر فانه أدعى إلى النصر«‪ .‬ول يسعنا هنا‬
‫ل أن نكتفي بهذا المقدار ونوكل المزيد من الكلم إلى البحاث القادمة‪ .‬أما المسألة الجديرة بالذكر فهى أن‬
‫إّ‬
‫استشعار الصبر ـ بمعنى نفوذه إلى عمق النفس البشرية ـ أو دثاره ـ بمعنى التحلي به علي مستوى الظاهر; المر‬
‫الذي يدخل الرعب إلى قلوب العداء ـ إّنما يقود إلى النصر وهزيمة العدو‪.‬‬
‫—–‬

‫‪ .1‬سورة النفال ‪.65 /‬‬

‫] ‪[ 87‬‬

‫الخطبة ‪27‬‬

‫ومن خطبة له )عليه السلم(‬

‫وقد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو النبار بجيش معاوية فلم ينهضوا‪ .‬وفيها يذكر فضل الجهاد‬
‫ويستنهض الناس ويذكر علمه بالحرب ويلقي عليهم التبعة لعدم طاعته‪.‬‬

‫سند الخطبة وزمانها ومكانها‬

‫قال ابن أبي الحديد هذه الخطبة من مشاهير خطبه )عليه السلم(; قد ذكرها كثير من المحققين والمحدثين )غير‬
‫المرحوم الشريف الرضي( ورواها أبو العباس المبرد في أول )الكامل( وأسقط من هذه الرواية ألفاظًا وزاد فيها‬
‫ل وردت النبار)‪ (1‬لمعاوية‪ ،‬فقتلوا عاملً له يقال‬‫ن خي ً‬
‫ألفاظًا‪ ،‬وقال في أولها‪ :‬إنه انتهى إلى علي )عليه السلم( أ ّ‬
‫له‪ :‬حسان بن حسان‪ ،‬فخرج مغضبًا يجر رداءه‪ ،‬حتى أتى النخيلة‪ ،‬وأتبعه الناس‪ ،‬فرقى رباوة في الرض‪ ،‬فحمد‬
‫ال وأثنى عليه وصلى على نبّيه )صلى ال عليه وآله(ثم قال‪ :‬أما بعد فان الجهاد باب من أبواب الجّنة‪ ،‬فمن تركه‬
‫رغبة عنه‪ ،‬ألبسه ال الذل وسيم الخسف«)‪.(2‬‬

‫كما أوردها المرحوم الكليني في كتابه الكافي في بحث الجهاد‪(3).‬‬

‫‪ .1‬النبار محافظة من محافظات العراق التي تقع غرب بغداد‪.‬‬

‫‪ .2‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.75 / 2‬‬

‫‪ .3‬الكافي ‪.4 / 5‬‬

‫] ‪[ 88‬‬
‫ونقلها صاحب مصادر نهج البلغة عن عشرة مصادر معروفة قبل المرحوم السيد الرضي ومنها‪» :‬البيان‬
‫والتبيين للجاحظ وعيون الخبار لبن قتيبة والخبار الطوال للدينوري والغارات للثقفي والعقد الفريد لبن عبد‬
‫رّبه والغاني لبي الفرج الصفهاني‪(1)«...‬‬

‫ن المام )عليه السلم( قد أورد هذه الخطبة في النخيلة حين ُاخبر )عليه السلم( بهجوم سفيان بن عوف‬ ‫وعليه فا ّ‬
‫الغامدي ـ والذي عّبر عنه المام )عليه السلم( بـ )أخو غامد( ـ على النبار وقتل عامله عليها حسان بن حسان‬
‫وطائفة من المسلمين وقد نهبوا أموالهم وخربوا بيوتهم دون أن يواجهوا أدنى مقاومة ثم عادوا إلى الشام سالمين‪.‬‬
‫فأّما أخو غامد الذي وردت خيله النبار فهو سفيان بن عوف بن المغفل الغامدي; وغامد قبيلة من اليمن‪ ،‬وهى من‬
‫الزد‪ ،‬أزد شنوءة ـ واسم غامد عمر بن عبد ال بن كعب بن الحارث بن كعب بن كعب بن عبد ال بن مالك بن‬
‫نصر بن الزد ـ وسمى غامدًا لّنه كان بين قومه شر فأصلحه وتغمدهم بذلك‪ .‬قال سفيان بن عوف الغامدي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫دعاني معاوية‪ ،‬فقال‪ :‬إّني باعثك في جيش كثيف‪ ،‬ذي أداة وجلدة‪ ،‬فألزم جانب الفرات‪ ،‬حتى تمر بهيت فتقطعها‪،‬‬
‫ل فامض حتى تغير على النبار‪ ،‬فان لم تجد بها جندًا فامض حتى توغل في‬ ‫فان وجدت بها جندًا فأغر عليهم وإ ّ‬
‫ى واتق أن تقرب الكوفة‪ .‬واعلم انك إن أغرت على أهل النبار وأهل المدائن فكأّنك أغرت على‬ ‫المدائن; ثم أقبل إل ّ‬
‫الكوفة; إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم وتفرح كل من له فينا هوى منهم‪ ،‬وتدعو الينا‬
‫كل من خاف الدوائر‪ ،‬فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك‪ ،‬وأخرب كل ما مررت به من القرى‪ ،‬واحرب‬
‫الموال‪ ،‬فإن حرب الموال شبيه بالقتل‪ ،‬وهو أوجع للقلب‪ .‬قال‪ :‬فخرجت من عنده فعسكرت‪ ،‬وقام معاوية في‬
‫الناس فخطبهم‪ ،‬فقال‪ :‬أّيها الناس‪ ،‬انتدبوا مع سفيان بن عوف‪ ،‬فاّنه وجه عظيم فيه أجر‪ ،‬سريعة فيه أوبتكم إن شاء‬
‫ال ـ ثم نزل‪ .‬قال‪ :‬فو الذي ل إله غيره ما مرت ثالثة حتى خرجت في ستة آلف‪ ،‬ثم لزمت شاطئ الفرات‪،‬‬
‫فأغذذت السير حتى أمر بهيت‪ ،‬فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات‪ ،‬فمررت بها وما بها عريب‪ ،‬كأّنها لم تحلل‬
‫قط‪ ،‬فوطئتها حتى أمر بصند وداء‪ ،‬ففروا فلم ألق بها أحدًا‪ ،‬فأمضي حتى أفتتح النبار‪،‬‬

‫‪ .1‬مصادر نهج البلغة ‪.397 / 1‬‬

‫] ‪[ 89‬‬

‫وقد نذروا بي‪ ،‬فخرج صاحب المسلحة إلي‪ ،‬فوقف لي فلم أقدم عليه حتى أخذت غلمانًا من أهل القرية‪ .‬فقلت لهم‪:‬‬
‫أخبروني كم بالنبار من أصحاب علي )عليه السلم(؟ قالوا‪ :‬عدة رجال المسلحة خمسمائة‪ ،‬ولكنهم قد تبددوا‬
‫ورجعوا إلى الكوفة; ول ندري الذي يكون فيها‪ ،‬قد يكون مائتي رجل‪ ،‬فنزلت فكتبت أصحابي كتائب‪ ،‬ثم أخذت‬
‫أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة‪ ،‬فيقاتلهم وال ويصبر لهم‪ ،‬ويطاردهم ويطاردونه في الزقة‪ ،‬فلما رأيت ذلك أنزلت‬
‫ل‪ ،‬وحملنا ما كان في النبار‬ ‫إليهم نحوًا من مائتين‪ ،‬وأتبعتهم الخيل‪ ،‬فمل حملت عليهم الخيل وأمامها ثلثين رج ً‬
‫من الموال; ثم انصرفت‪ ،‬فو ال ما غزوت غزاة كانت أسلم ول أقر للعيون‪ ،‬ول أسر للنفوس منها‪ .‬وبلغني وال‬
‫أّنها أرعبت الناس‪ ،‬فلما عدت إلى معاوية‪ ،‬حدثته الحديث على وجهه‪ ،‬فقال‪ :‬كنت عند ظني بك‪ ،‬ل تنزل في بلد‬
‫ل قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره‪ ،‬وإن أحببت توليته وليتك‪ ،‬وليس لحد من خلق ال عليك أمر‬ ‫من بلداني إ ّ‬
‫ل يسيرًا‪ ،‬حتى رأيت رجال أهل العراق يأتوننا على البل هّرابا من عسكر علي )عليه‬ ‫دوني‪ ،‬قال فو ال ما لبثنا إ ّ‬
‫السلم(‪ .‬وكان اسم عامل علي )عليه السلم(على مسلحة النبار أشرس بن حسان البكري‪ .‬قال ابراهيم بن عبدال‬
‫بن قيس كنت مع أشرس بن حسان البكري بالنبار على مسلحتها‪ ،‬إذ صبحنا سفيان بن عوف في كتائب تلمع‬
‫البصار منها‪ ،‬فهالونا وال‪ ،‬وعلمنا إذ رأيناهم أنه ليس لنا طاقة بهم ول يد‪ ،‬فخرج إليهم صاحبنا وقد تفرقنا فلم‬
‫يلقهم نصفنا‪ ،‬وايم ال لقد قاتلناهم فأحسنا قتالهم; حتى كرهونا‪ ،‬ثم نزل صاحبنا‪ ،‬وهو يتلو قوله تعالى‪َ) :‬فِمْنُهْم َم ْ‬
‫ن‬
‫ل(‪ .‬ثم قال لنا‪ :‬من كان ل يريد لقاء ال‪ ،‬ول يطيب نفسًا بالموت‪،‬‬ ‫ظُر َوما َبـّدُلوا َتْبِدي ً‬
‫ن َيْنَت ِ‬
‫حَبُه َوِمْنُهْم َم ْ‬
‫َقضى َن ْ‬
‫فليخرج عن القرية مادمنا نقاتلهم‪ ،‬فان قتالنا إياهم شاغل لهم عن طلب هارب‪ ،‬ومن أراد ما عند ال فما عند ال‬
‫ل‪ ،‬فهممت بالنزول معه‪ ،‬ثم أبت نفسي‪ ،‬واستقدم هو وأصحابه‪ ،‬فقاتلوا حتى‬ ‫خير للبرار‪ ،‬ثم نزل في ثلثين رج ً‬
‫قتلوا رحمهم ال‪ ،‬وانصرفنا نحن منهزمين‪(1).‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 85 / 2‬ـ ‪. 87‬‬


‫] ‪[ 90‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫كما ذكرنا سابقًا فان هذه الخطبة ـ المعروفة بخطبة الجهاد ـ من أشهر خطب أميرالمؤمنين )عليه السلم( التي‬
‫لّمة‬ ‫تدور حول محور الجهاد‪ .‬فقد استهل الخطبة بشرح أهمية الجهاد ومعطياته والعواقب الوخيمة التي تنتظر ا ُ‬
‫في حالة تركه‪ .‬ثم عرض باللوم لهل الكوفة بعد أن تعرض لحملة »سفيان الغامدي« على مدينة النبار وشهادة‬
‫»حسان بن حسان« ـ العامل الوفي والمين لمير المؤمنين )عليه السلم( على النبار ـ والجرائم التي ارتكبها‬
‫أهل الشام في سلب الموال وهدم البيوت ـ وفي القسم الثالث من الخطبة إلى ذم أهل العراق آنذاك ثانية والتعلل‬
‫لمور بهدف التقاعس عن الجهاد ـ وأخيرًا يختتم المام )عليه السلم( خطبته ببيان استعداده التام لجهاد‬ ‫ببعض ا ُ‬
‫العدو وسوابقه المشرقة بهذا الخصوص وفي الختام فهى خطبة ذات تأثير بليغ في نفوس السامعين‪ ،‬حتى قال‬
‫ن التحريض على الجهاد والحض عليه قد قال فيه الناس‬ ‫الشارح المعروف ابن أبي الحديد بهذا المجال‪ :‬واعلم أ ّ‬
‫فأكثروا‪ ،‬وكلهم أخذوا من كلم أمير المؤمنين )عليه السلم(; فمن جيد ذلك ما قاله ابن بناتة الخطيب بشأن الجهاد‬
‫ن الجهاد أثبت قواعد اليمان‪ ،‬وأوسع أبواب الرضوان‪ ،‬وأرفع درجات الجنان‪ «..‬ثم أضاف‪ :‬فانظر إليها‬ ‫»‪ ..‬فا ّ‬
‫وإلى خطبته )عليه السلم(بعين النصاف‪ ،‬تجدها بالنسبة إليها كمخنث بالنسبة إلى فحل‪ ،‬أو كسيف من رصاص‬
‫بالضافة إلى سيف من حديد‪(1).‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪. 81 / 2‬‬

‫] ‪[ 91‬‬

‫القسم الول‬

‫صيَنُة‪،‬‬
‫ح ِ‬‫ل اْل َ‬
‫عا ّ‬‫س الّتْقَوى َوِدْر ُ‬
‫صِة َأْوِلَياِئِه‪َ ،‬وُهَو ِلبا ُ‬
‫خا ّ‬‫ل ِل َ‬‫حُه ا ّ‬‫جّنِة‪َ ،‬فَت َ‬
‫ب اْل َ‬ ‫ن َأْبَوا ِ‬
‫ب ِم ْ‬
‫جَهاَد َبا ٌ‬ ‫ن اْل ِ‬
‫»َأّما َبْعُد َفِإ ّ‬
‫ضِر َ‬
‫ب‬ ‫صغاِر َواْلَقماَءِة‪َ ،‬و ُ‬
‫ث ِبال ّ‬
‫شِمَلُه اْلَبلُء‪َ ،‬وُدّي َ‬
‫ب الّذّل‪َ ،‬و َ‬ ‫ل َثْو َ‬
‫سُه ا ّ‬ ‫عْنُه َأْلَب َ‬
‫غَبًة َ‬‫ن َتَرَكُه َر ْ‬
‫جّنُتُه اْلَوِثيَقُة‪َ ،‬فَم ْ‬‫َو ُ‬
‫ف«‪.‬‬
‫ص َ‬ ‫ف‪َ ،‬وُمِنَع الّن َ‬
‫س َ‬ ‫خ ْ‬‫سيَم اْل َ‬
‫جهاِد‪َ ،‬و ِ‬ ‫ضِييِع اْل ِ‬‫ق ِمْنُه ِبَت ْ‬ ‫حّ‬‫ب‪َ ،‬وُأِديَل اْل َ‬‫سها ِ‬ ‫عَلى َقْلِبِه ِباِْل ْ‬ ‫َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الجهاد باب من أبواب الجّنة‬

‫لقد تعرضت الخطبة إلى فلسفة الجهاد وبركاته في عبارات قصيرة ذات عدة معان‪ ،‬إلى جانب الثار السيئة لترك‬
‫الجهاد‪ ،‬فقد قال بعد أن حمد ال وأثنى عليه »أّما بعد فان الجهاد باب من أبواب الجّنة« وبالطبع هناك عدة أسباب‬
‫وردت في الحاديث بصفتها »أبواب الجّنة« التي تؤدي إلى نيل الرحمة والفوز بالرضوان والجّنة يكمن أهمها‬
‫ن رسول ال )صلى ال عليه وآله( قال‪:‬‬‫في الجهاد‪ ،‬فقد ورد في الحديث عن المام الصادق )عليه السلم( أ ّ‬
‫»للجّنة باب يقال له »باب الجهاد« يمضون إليه فاذا هو مفتوح وهم متقلدون بسيوفهم‪ ،‬والجمع في الموقف‪،‬‬
‫ن الجهاد في السلم على نوعين‪ :‬جهاد العدو وجهاد النفس‪ .‬وقد اصطلح على‬ ‫والملئكة ترحب بهم«)‪ .(1‬ونعلم أ ّ‬
‫الول بالجهاد الصغر وعلى الثاني بالجهاد الكبر‪ ،‬وكل منهما باب من أبواب الجّنة‪.‬‬

‫‪ .1‬الكافي ‪ ،2 / 5‬كتاب الجهاد‪ ،‬باب فضل الجهاد‪ ،‬ح ‪.2‬‬

‫] ‪[ 92‬‬

‫ول يتيسر لقاء ال دون الجهاد الكبر كما تتعذر العزة والرفعة في الدنيا والخرة دون الجهاد الصغر‪ .‬ثم‬
‫ل أنّ‬
‫ن جهاد العدو والنفس يعد وظيفة جميع المسلمين‪ ،‬إ ّ‬
‫قال )عليه السلم( »فتحه ال لخاصة أوليائه«‪ .‬صحيح أ ّ‬
‫أولياء ال فقط الذين يسعهم خوض غمارهما حتى النهاية على أساس الخلص والنية الحسنة‪ ،‬بينما قد تكون نيات‬
‫الخرين مشوبة بالطمع ونيل الغنام أو الحصول على الحياة والمنصب والشهرة وبالتالي فهم ل يواصلون المسيرة‬
‫إلى آخرها‪ .‬فأولياء ال فقط الذين يقتحمون الميدان ويصبرون على الذى في حركتهم الجهادية فيركعون كافة‬
‫قوى الشر والظلم‪.‬‬

‫ونخلص مّما سبق إلى عدم ورود الشكال على المام )عليه السلم( في أّنه خص باب الجهاد بخاصة أولياء ال‬
‫بينما كتب على جميع المسلمين‪ .‬كما نفهم من قوله )عليه السلم( أن من طوى مسيرة الجهاد الصغر والكبر فهو‬
‫من خاصة أولياء ال سبحانه‪ .‬ثم يصف )عليه السلم( الجهاد فيقول »وهو لباس التقوى ودرع ال الحصينة‪،‬‬
‫ن اللباس زينة للنسان وجمال له من جانب‪ ،‬ومن جانب آخر فانه حافظ لبدنه من شدة‬ ‫وجنته الوثيقة« ونعلم أ ّ‬
‫الحرارة والبرودة التي تؤذيه فيما لو كان عريانًا‪ ،‬كا يشكل أساس عزة القوام والشعوب ودرعها من أنواع‬
‫المخاطر والفات; المر الذي أكده المام )عليه السلم( في عباراته اللحقة‪.‬‬

‫لّمة التي تولي ظهرها للجهاد‬ ‫وأخيرًا فالجسد العاري عرضة لنواع الذى موصوفًا بالقبح والشناعة‪ ،‬وعليه فا ُ‬
‫هى ُأّمة ذليلة مهددة بكافة عناصر الزوال والنهيار‪ .‬أّما علة إضافة اللباس للتقوى في العبارة فلعل ذلك يفيد تعذر‬
‫حفظ أصول التقوى دون توفر المن‪ ،‬كما يتعذر المن دون الجهاد‪ .‬كما يحتمل تفسيرها على أّنها اشارة إلى الية‬
‫خْيٌر(‪.‬‬
‫ك َ‬
‫س الّتْقوى ذ ِل َ‬
‫‪ 26‬من سورة العراف التي عدت التقوى نعمة الهية بعد ذكر اللباس الظاهر )َوِلبا ُ‬

‫وبناًء على هذا فالمراد هو أن لباس التقوى الذي ورد في القرآن إّنما مصداقه الكامل هو الجهاد الذي يجعل‬
‫المجتمع يعيش المن والمان على كافة المستويات)‪ (1‬وهو مصدر الحسن والجمال‪.‬‬

‫ن الضافة )لباس التقوى( في التفسير الول من قبيل الضافة اللمية وفي التفسير الثاني إضافة بيانية‪.‬‬
‫‪ .1‬لبّد من اللتفات إلى أ ّ‬

‫] ‪[ 93‬‬

‫ثم شبه المام )عليه السلم( الجهاد بالدرع الحصينة والجّنة الوثيقة‪ ،‬والوسيلتان من المعدات الدفاعية في القتال‪،‬‬
‫لّمة التي تترك الجهاد‬‫حيث لم يكن من أمان لولئك الذين يخوضون المعارك سابقًا ولم يتدرعوا‪ ،‬وهذا هو حال ا ُ‬
‫ن الجهاد ل يراد به الهجوم على‬ ‫فهى ضعيفة خاوية تجاه ضربات العدو‪ .‬ولعل هذه العبارة تشير إلى حقيقة وهى أ ّ‬
‫ن السلم‬ ‫الخرين ومن أجل التوسع والسيطرة ونهب الموال والثروات وفرض الفكار والعقائد‪ ،‬لننا نؤمن بأ ّ‬
‫والقرآن إّنما يستند إلى منطق قوي يغنيه عن شهر السيف بوجه المقابل‪ .‬وعليه فاّنما شرع الجهاد من أجل حفظ‬
‫المجتمع السلمي وإزالة الموانع التي تعترض أساليب التبليغ والقضاء على الموانع التي تحول دون حرية‬
‫البيان‪.‬‬

‫ل أّنها تعتمد اليوم الوسائل التي تفوقها في الدفاع من قبيل‬


‫أّما الحروب المعاصرة فهى وإن نحت الدروع القديمة إ ّ‬
‫المدرعات والمصفحات والمواضع المحصنة‪ ،‬كما تلجأ إلى بعض الملبس الخاصة بغية مواجهة الهجمات‬
‫الكيميائية بحيث ل تتأثر من قريب أو بعيد بخطر هذه السلحة‪.‬‬

‫جدير بالذكر أن ما ذكر بشأن تفسير عبارة الجهاد الصغر )العدو الخارجي( يصدق تمامًا على الجهاد الكبر‬
‫)جهاد النفس(; حيث ل طاقة للنسان بهجمات الشيطان دون جهاده لنفسه‪ .‬ثم تطرق المام )عليه السلم( إلى‬
‫الثار السلبية التي يتمخض عنها ترك الجهاد ليوجزها في سبع نقاط‪ ،‬فقال‪» :‬فمن تركه رغبة عنه ألبسه ال ثوب‬
‫الذل« وقوله )عليه السلم()رغبة عنه( إشارة إلى استثناء الفراد من هذا الحكم ممن يمتلكون العذار الموجهة‬
‫التي ل تجعلهم قادرين على خوض الجهاد من قبيل العجز والمرض ونحو ذلك; المر الذي أكدته بعض اليات‬
‫القرآنية‪(1).‬الثر السلبي الثاني لترك الجهاد »وشمله البلء« فمثل هذا الفرد أو الّمة إّنما يعتكف في موضع‬
‫أعزل يجعله عرضة لحملت الحيوانات المفترسة بحيث تدخل عليه دون أدنى مقاومة‪ ،‬والجهاد وحده هو الذي‬
‫يشكل السد الحديدي إزاء مثل هذا البلء فينأى بالنسان بعيدًا عن هذه الحيوانات‪ .‬أّما الثر السلبي الثالث فقد أشار‬
‫إليه المام )عليه السلم( بقوله »وديث)‪ (2‬بالصغار)‪(3‬‬

‫‪ .1‬سورة التوبة ‪.92 - 91 /‬‬

‫‪» .2‬دّيث« من مادة »ديث« بمعنى الذلة والهوان‪ ،‬ومن هنا يصطلح بالديوث على من ل يكترث لعفة أهله‪ ،‬كأنه قد ذلل حتى صار‬
‫كذلك‪.‬‬

‫‪» .3‬صغار« بمعنى الذلة‪.‬‬

‫] ‪[ 94‬‬

‫ن‬
‫والقماءة)‪ «(1‬وكيف ل يعيش الذل والهوان والضعة من ضيع هذا السند العظيم; أي الجهاد‪ .‬وصحيح أ ّ‬
‫ن هناك فارقًا طفيفًا‪ ،‬حيث كان الكلم هناك عن الذلة وهنا عن‬
‫لأّ‬
‫العبارتين قريبتان من بعضهما بالمعنى‪ ،‬إ ّ‬
‫ل أّنها من قبيل اللزم والملزوم‪ .‬وأّما المصيبة الخرى التي تطيل تارك‬‫الحقارة والضعة‪ .‬فالمفهومان مختلفان إ ّ‬
‫الجهاد فهى »وضرب على قلبه بالسهاب«)‪(2‬فالفراد الضعفاء والعجزة والمهزومون إّنما يعانون من الوهام‬
‫على الدوام فل يسعهم تقييم الحقائق كما هى‪ .‬فخشية العدو تجعلهم يعيشون في هالة من الخيالت المرعبة‪ ،‬أو أّنهم‬
‫يلجأون إلى بعض الخرافات من أجل تحقيق النصر كأن يتخلوا عن السيف والمقاومة ويلوذوا بالسحرة والكهنة‪.‬‬

‫وقد حفل التأريخ بنماذج حّية لمثل هؤلء الفراد‪ ،‬الذين ل يكشفون بذلك سوى عن ضعفهم وعجزهم‪ ،‬بينما يتنزه‬
‫المجاهدون الشجعان عن مثل هذه السفاسف‪.‬‬

‫ن الحق ـ كما‬ ‫ثم ذكر الثر السلبي الخامس بقوله )عليه السلم( »وُأديل)‪ (3‬الحق منه بتضييع الجهاد«‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫ورد في المثل المعروف ـ يؤخذ ول يعطى‪ .‬فالطواغيت وأصحاب المنطق الغاشم والمستبدون ل يفوضون الحق‬
‫لصحابه أبدًا‪ ،‬ولبّد من التحلي بالقوة من أجل انتزاع الحق من براثن اولئك الطغاة; المر الذي نوه له‬
‫المام )عليه السلم( في الخطبة التاسعة والعشرين بقوله »ل يدرك الحق ال بالجد« وأّما الثر السلبي السادس‬
‫»وسيم الخسف« وباللتفات إلى اطلق الخسف والخسوف على زوال نور القمر والختفاء في الرض‪ ،‬وان‬
‫ن تاركي الجهاد في الواقع إّنما‬
‫»سيم« من مادة »سوم« بمعنى الحركة إثر شيء فان مفهوم الجملة سيكون‪ :‬أ ّ‬
‫يسيرون باتجاه الزوال والنقراض; المر الذي لحظناه بوضوح في المم والبلدان التي آلت إلى السقوط‬
‫والنهيار إثر تقاعسها عن الجهاد‪(4).‬‬

‫‪» .1‬القماءة« بمعنى الصغار والذل‪.‬‬

‫‪ .2‬السهاب ذهاب العقل أو كثرة الكلم ‪ ،‬أي حيل بينه وبين الخير بكثرة الكلم بل فائدة ‪ ،‬وقد وردت بهذا المعنى في الخطبة‪.‬‬

‫‪» .3‬أديل« من مادة »دولة«‪ ،‬قال صاحب المقاييس لها معنيين; الول التحول والنتقال‪ ،‬والخر الضعف‪ ،‬واريد بها هنا المعنى الول‪.‬‬

‫‪ .4‬فسرها جمع من شّراح نهج البلغة بالذلة والهوان على أّنها من قبيل تكرار وتأكيد العبارات السابقة‪ ،‬أّما ما أوردته في المتن فانه‬
‫ورغم انسجامه مع المتون اللغوية ال أنه ينطوي على معنى جديد يأبى التكرار‪ ،‬وعليه يبدو هو التفسير النسب‪.‬‬

‫] ‪[ 95‬‬

‫ن أتباع‬
‫ثم قال )عليه السلم( في إطار ذكره للثر السلبي السابع »ومنع النصف«)‪ (1‬ودليل ذلك واضح; ل ّ‬
‫العدالة عادة ما يشكلون القلية‪ ،‬ولو لم يكونوا كذلك كمية فهم أقلية من حيث الكيفية والقدرة‪.‬‬
‫ومن هنا فان أصحاب السطوة يندفعون بكل ما ُاوتوا من قوة لهضم حقوق الشعوب المظلومة ويسعون لمضاعفة‬
‫ثرائهم وأموالهم‪ .‬وليس لهذه الشعوب من وسيلة لستعادة حقوقها وخلصها من براثن الظلم والضطهاد وتحقيق‬
‫العدالة الجتماعية سوى في خوض غمار الجهاد‪ .‬وهنا تكمن أهمية العبارات التي أوردها المام )عليه السلم(‬
‫لمم‪.‬‬
‫في هذه الخطبة بشأن الجهاد وفلسفته ومعطياته اليجابية والسلبية فيما لو تخلت عنه الشعوب وا ُ‬

‫ن الجهاد لم يندب بفعل الثواب المعنوي المترتب عليه‪ ،‬بل بسبب الثار والمعطيات الكبيرة‬‫كما يتضح مّما أوردنا أ ّ‬
‫التي يفضي إليها في هذه الحياة الدنيوية‪ .‬فهل هناك من يطلب الذل والهوان ويرضى بغصب الحقوق وتضييعها‬
‫وبالتالي يحث الخطى نحو الزوال والفناء؟! فان كان الجواب بالسلب‪ ،‬كان علينا أن نشدد حيازيمنا ونهب لخوض‬
‫الجهاد والتحلي بالصبر والستقامة من أجل درك معطياته العظيمة في الدنيا والخرة وتحمل كافة اللم‬
‫والمصاعب كاحتمال المريض لمرارة الدواء من أجل التماثل للعافية والشفاء‪.‬‬

‫تأّملن‬

‫‪ 1‬ـ الجهاد سر رفعة الشعوب وعزتها‬

‫كثر الكلم بشأن الجهاد‪ ،‬ولدينا المزيد من الكلم بهذا الخصوص طالما توالت خطبه )عليه السلم(في نهج‬
‫البلغة في الحديث عن هذه المسألة‪.‬‬

‫ن الجهاد قانون الحياة الذي يمنحها الدوام والبقاء‬


‫أّما الشيء المهم الذي نود التطرق إليه بصفته مبدأ حيويًا هو أ ّ‬
‫ل على الجهاد وبخلفه‬ ‫ن النسان وكل كائن ينبض بالحياة مازال مقب ً‬‫وأ ّ‬

‫‪ .1‬النصف والنصاف من مادة واحدة بمعنى العدل‪.‬‬

‫] ‪[ 96‬‬

‫يبدأ عده العكسي في الموت والفناء‪ .‬فالنبات يواجه عدة آفات يسعى للتغلب عليها من أجل البقاء حيًا‪ ،‬وجذور‬
‫لخرى تغوص في أعماق الرض من أجل امتصاص الماء والملح فاذا ما اعترضت بعض‬ ‫الشجار هى ا ُ‬
‫الموانع كالصخور سعت لختراقها ومواصلة تغلغلها في أعماق التربة وإن عجزت عن ذلك فتشت عن طريق‬
‫آخر واستمرت في مسيرتها‪ .‬وهكذا الحال بالنسبة للحشرات والحيوانات التي تواجه الخطار التي تهدد كيانها‬
‫باستمرار فتبدي مقاومتها من أجل مواصلة حياتها‪ .‬فهناك بعض الطيور التي تهاجر إلى مسافات شاسعة قد تنطلق‬
‫من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي مقاومة كافة الظروف المحيطة بغية مواصلة حياتها‪ .‬أّما النسان فيعيش‬
‫حركة جهادية مريرة على مستوى أعضائه الداخلية ودورته الدموية‪ ،‬فالجنود التي تدافع عن البدن ـ والتي‬
‫يصطلح عليها بكريات الدم البيض ـ طيلة عمر النسان إّنما تتصدى ببسالة لكافة العداء المتمثلين بالمكروبات‬
‫والفايروسات التي تحاول اختراق بدن النسان عن طريق الماء والغذاء والهواء والشقوق التي تحدث في الجلد‪.‬‬

‫وقد الهمت هذه الكريات سبل الصمود بوجه كافة السلحة الكيميائية والفيزيائية بحيث تبيدها وتبقي على البدن‬
‫سالمًا صحيحًا‪ .‬فاذا ضعفت هذه الجنود لي سبب من السباب وتقاعست في وظيفتها هجمت جميع المراض‬
‫ل نتيجة طبيعية لختلل عمل هذه الكريات‬ ‫على النسان‪ ،‬وما المرض الخطير الذي يطلق عليه »اليدز« إ ّ‬
‫ن المصابين بهذا المرض الخطير إّنما يكونون عرضة للصابة بأخطر المراض‪.‬‬ ‫وتوقفها عن العمل‪ ،‬ومن هنا فا ّ‬
‫وزبدة الكلم فان الجهاد رمز الحياة وسر السعادة والسبب الرئيسي للنصر والغلبة وعامل الرفعة والعزة‪ ،‬لكن‬
‫ل فليس ذلك سوى الجريمة والظلم والعدوان‪.‬‬ ‫ليس ذلك سوى الجهاد من أجل تحقيق الحق والعدل وإ ّ‬

‫ومن هنا تظافرت اليات القرآنية والروايات السلمية بما فيها الخطبة المذكورة التي أكدت على قضية الجهاد‬
‫بما لم تول مثل هذه الهمية لغيره من المفاهيم‪ ،‬ولسيما الجهاد بالمعنى الشمل الذي يتضمن الوقوف بوجه العدو‬
‫الخارجي والداخلي‪ .‬فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول ال )صلى ال عليه وآله( أّنه قال‪» :‬من ترك الجهاد‬
‫ل في نفسه وفقرًا في معيشته‬
‫ألبسه ال ذ ً‬
‫] ‪[ 97‬‬

‫ل عن‬
‫ومحقًا في دينه«)‪ (1‬ويستفاد من هذا الحديث أن ترك الجهاد إّنما يهدد بالخطر الحياة المعنوية للنسان فض ً‬
‫ن رسول ال )صلى ال عليه وآله(قال‪» :‬إغزوا‬ ‫حياته المادية‪ .‬وفي حديث عن المام الصادق )عليه السلم( أ ّ‬
‫تورثوا أبنائكم مجدًا«)‪ (2‬كما ورد عن أمير المؤمنين علي )عليه السلم( في قصار حكمه في نهج البلغة ضمن‬
‫إطار بيانه لفلسفة الحكام الشرعية فقال‪» :‬والجهاد عزًا للسلم«)‪ .(3‬وأخيرًا فهناك عدة خطب شحن بها نهج‬
‫البلغة بشأن الجهاد سنعرض لها في البحاث القادمة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ هل الجهاد السلمي دفاعي فقط؟!‬

‫ن كافة غزوات‬ ‫منذ سنوات وقد شغل هذا السؤال أذهان الوساط السلمية بما فيها العلماء‪ ،‬فقد ذهبت طائفة إلى أ ّ‬
‫رسول ال )صلى ال عليه وآله( كانت دفاعية حذرًا من اتهام السلم من أّنه قد انتشر بالسيف ورهبة السلح! أو‬
‫بعبارة ُاخرى خشية اتهام السلم بالروح السلطوية والفتوحات العسكرية‪ .‬وبالمقابل هناك طائفة ُاخرى ترى أ ّ‬
‫ن‬
‫ن هذين القسمين حق ثابت للمسلمين‬ ‫الغزوات السلمية على قسمين ; بعضها هجومية وبعضها دفاعية‪ ،‬وترى أ ّ‬
‫ن السلم موظف بتحرير المسلمين الذين يرزحون تحت نير السلطات الظالمة ; المر الذي يدخل‬ ‫اليوم‪ ،‬وتعتقد أ ّ‬
‫ن السلم مكّلف بتمهيد السبيل أمام ممارسة العلم المنطقي وإزالة كافة‬ ‫ضمن الجهاد الهجومي‪ ،‬كماترى أ ّ‬
‫العوائق التي تعترض هذا السبيل ولو اضطر للجوء للقوة وهذا نوع آخر من الجهاد الهجومي‪ .‬كما هنالك رأي‬
‫ن المسائل الدفعاعية قد تجعل الهجوم ضرورة‪.‬‬ ‫لأّ‬‫ن طبيعة القتال في السلم هى طبيعة دفاعية‪ ،‬إ ّ‬‫ثالث يقول أ ّ‬
‫ل أّنه في الواقع دفاع‬
‫ل الدفاع عن المظلومين‪ ،‬أو بعبارة ُاخرى التدخل النساني وإن كان يبدو ظاهريًا هجومًا إ ّ‬ ‫مث ً‬
‫عن قوم يرزحون تحت الظلم والضطهاد‪ ،‬وعليه فالدفاع عنهم ضروري بالنسبة لكافة الفراد من أهل اليمان‪.‬‬
‫والهجوم بالمعنى الثاني ـ يعني تمهيد السبيل أمام حرية العلم المنطقي وممارسة التبليغات ـ هو الخر دفاع تجاه‬
‫ن السلم يأذن بقتال العدو إذا ما خلق بعض الموانع والعراقيل‪.‬‬
‫بعض الموانع‪ ،‬فا ّ‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪.9 / 98‬‬

‫‪ .2‬اصول الكافي ‪. 8 / 5‬‬

‫‪ .3‬نهج البلغة‪ ،‬الكلمات القصار‪.252 ،‬‬

‫] ‪[ 98‬‬

‫أّما العبارات التي وردت في بداية هذه الخطبة إّنما هى دليل واضح على دفاعية طبيعة الجهاد ; فقد شبه في‬
‫لمور من قبيل الوسائل الدفاعية‪ .‬وأّما‬‫ن جميع هذه ا ُ‬
‫موضع باللباس وفي آخر بالدرع وفي ثالث بالجنة‪ ،‬ونعلم بأ ّ‬
‫العبارات القادمة فقد تضمنت إشارات إلى الهجوم الذي يختزن بعدًا دفاعيًا‪ ،‬ومن ذلك قوله )عليه السلم(‪» :‬قلت‬
‫لكم‪ :‬اغزوهم قبل أن يغزوكم«‪ .‬ويمكن أن يكون هناك استثناء واحد لهذا القانون الكلي وهو الجهاد والقتال من‬
‫ن السلم يرى في الوثنية أكبر خطر يهدد المجتمع البشري من الناحية‬ ‫أجل إزالة الصنمية والوثنية ; وذلك ل ّ‬
‫المعنوية والمادية‪ ،‬فيصرح بالجهاد من أجل القضاء على الوثنية في حالة عدم جدوى التبليغ‪.‬‬

‫ن بعض الطغاة والجبابرة سيستغلون مسألة الدفاع عن المظلومين أو مواجهة النحطاط الفكري والثقافي‬ ‫لشك أ ّ‬
‫ن ذلك ليحد من قيمة هذه المفاهيم أبدًا‪ .‬فاستغلل هذه‬
‫لأّ‬
‫كوسيلة للتغطية على أهدافهم العدوانية والتوسعية‪ ،‬إ ّ‬
‫المفاهيم المقدسة ليس بالشيء الجديد‪ .‬وللوقوف على أهداف الجهاد في السلم يمكن مراجعة المجلد الثاني من‬
‫تفسير المثل‪ ،‬الية ‪ 193‬من سورة البقرة‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 99‬‬
‫القسم الثاني‬

‫ن َيْغُزوُكْم‪َ ،‬فوا ّ‬
‫ل‬ ‫غُزوُهْم َقْبَل َأ ْ‬
‫ت َلُكُم ا ْ‬
‫علنًا َوُقْل ُ‬‫سّرا َوِإ ْ‬
‫ل َوَنهارًا‪َ ،‬و ِ‬ ‫عْوُتُكْم ِإَلى ِقتاِل َهُؤلِء اْلَقْوِم َلْي ً‬
‫»َأل َوِإّني َقْد َد َ‬
‫ن‪.‬‬
‫عَلْيُكُم اَْلْوطا ُ‬
‫ت َ‬ ‫ت َوُمِلَك ْ‬
‫عَلْيُكُم اْلغارا ُ‬‫ت َ‬‫شنّ ْ‬
‫حّتى ُ‬ ‫عْقِر داِرِهْم ِإّل َذّلوا‪َ .‬فَتواَكْلُتْم َوَتخاَذْلُتْم َ‬
‫ط ِفي ُ‬ ‫ي َقْوٌم َق ّ‬
‫غِز َ‬ ‫ما ُ‬

‫حها‪َ ،‬وَلَقْد‬ ‫ن َمساِل ِ‬‫عْ‬ ‫خْيَلُكْم َ‬


‫ي َوَأزاَل َ‬ ‫سان اْلَبْكِر ّ‬‫حّ‬‫ن َ‬ ‫سان ْب َ‬ ‫حّ‬ ‫خْيُلُه اَْلْنباَر َوَقْد َقَتَل َ‬
‫ت َ‬ ‫خو غاِمد َوَقْد َوَرَد ْ‬ ‫َو َهذا َأ ُ‬
‫جَلها َوُقُلَبها َوَقلِئَدها‬ ‫حْ‬‫ع ِ‬
‫خَرى اْلُمعاِهَدِة َفَيْنَتِز ُ‬ ‫سِلَمِة‪َ ،‬واُْل ْ‬‫عَلى اْلَمْرَأِة اْلُم ْ‬‫خُل َ‬ ‫ن َيْد ُ‬
‫جَل ِمْنُهْم كا َ‬ ‫ن الّر ُ‬‫َبَلَغِني َأ ّ‬
‫ق َلُهْم َدٌم‪،‬‬ ‫ل ِمْنُهْم َكْلٌم‪َ ،‬ول ُأِري َ‬
‫جً‬‫ن ما ناَل َر ُ‬ ‫صَرُفوا واِفِري َ‬ ‫سِتْرحاِم ُثّم اْن َ‬‫ع َواِل ْ‬ ‫سِتْرجا ِ‬‫عَثها‪ ،‬ما َتْمَتِنُع ِمْنُه ِإّل ِباِل ْ‬ ‫َوُر ُ‬
‫جِديرًا«‪.‬‬
‫عْنِدي َ‬ ‫ن بِِه ِ‬‫ن ِبِه َمُلومًا‪َ ،‬بْل كا َ‬ ‫سفًا َما َكا َ‬ ‫ن َبْعِد َهَذا َأ َ‬
‫ت ِم ْ‬
‫سِلمًا َما َ‬ ‫ن اْمَرًأ ُم ْ‬‫َفَلْو َأ ّ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الموت كمدًا‬

‫بعد أن فرغ المام )عليه السلم( من تلك المقدمة المقتضبة‪ ،‬تطرق إلى نموذج بارز من الفرازات المشؤومة‬
‫ل ونهارًا‪ ،‬وسرًا وإعلنًا وقلت‬
‫لترك الجهاد فقال )عليه السلم(‪» :‬أل وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلء القوم لي ً‬
‫لكم‪ :‬اغزوهم قبل أن يغزوكم« يذكر المام )عليه السلم(بأّنه أشار إلى طبيعة هؤلء الظلمة المردة الذين ينطوون‬
‫على الروح العدائية التي تبرز على السطح إذا ما سنحت الفرصة فل يتورعون عن قتل البرياء وسبي النساء‬
‫ونهب الموال والثروات‪ ،‬وعليه فان العقل والشرع يجيز الوقوف بوجه هؤلء الطغاة وقبر مؤامراتهم في مهدها‬
‫وكسر شوكتهم‬

‫] ‪[ 100‬‬

‫وإخماد فتنهم قبل أن يتأهبوا للقتال والعدوان‪.‬‬

‫ظهر بمعنى أساس الشيء وأصله ومنه عقر الناقة‪ ،‬وذلك لزوال أساس الناقة بحيث تفقد‬
‫‪» .1‬عقر« على وزن ُ‬
‫توازنها وتقع على الرض‪.‬‬

‫‪» .2‬تواكلتم« من مادة »وكل«‪ ،‬وكل كل منكم المر إلى صاحبه‪ ،‬أي لم يتوله أحد منكم‪ ،‬بل أحاله كل على‬
‫الخر‪.‬‬

‫‪» .3‬شنت« من مادة »شن«‪ ،‬وشنت الغارات مزقت عليكم من كل جانب كما يشن الماء متفرقًا دفعة بعد دفعة‪.‬‬
‫والعبارة إشارة إلى الغارات المتوالية التي كان يشنها عليهم الشام‪.‬‬

‫] ‪[ 101‬‬

‫ن النبار‬
‫أخو غامد وقد وردت خيله النبار وقد قتل حسان بن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها«‪ .‬ويبدو أ ّ‬
‫ن السلحة‬ ‫ن مسالح جمع مسلحة تعني الحدود والثغور ـ وذلك ل ّ‬
‫كانت منطقة حدودية عراقية متاخمة للشام‪ ،‬ل ّ‬
‫تجمع هناك لتستخدم في الدفاع عن الحدود ـ وقوله )عليه السلم(‪» :‬أزال خيلكم عن مسالحها« تفيد اجتياز العدود‬
‫لهذه الحدود دون مقاومة وقد مّر علينا شرح ذلك‪ .‬ثم أشار المام )عليه السلم( إلى الجنايات التي ارتكبها‬
‫الغامدي بحق أهل النبار من المسلمين والمجاهدين من أهل الكتاب الذين ينبغي الدفاع عنهم من قبل الدولة‬
‫ن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة‪ ،‬والخرى المعاهدة‬ ‫السلمية‪ ،‬فقال )عليه السلم(‪» :‬ولقد بلغني أ ّ‬
‫ل بالسترجاع والسترحام«‪ ،‬فالمام )عليه‬ ‫فينتزع حجلها)‪ (1‬وقلبها)‪ (2‬وقلئدها)‪ (3‬ورعثها)‪ (4‬ما تمتنع منه إ ّ‬
‫ن أحدًا من المسلمين لم يهب للدفاع عن هذه النسوة المسلمات أو تلك المعاهدات‪ .‬أّما‬ ‫السلم( أشار بوضوح إلى أ ّ‬
‫السترجاع فقد فسّره بعض شّراح نهج البلغة بالبكاء المصحوب بالعويل في حين فسره البعض الخر بكلمة »إنا‬
‫ل وإنا إليه راجعون« التي تقال عادة عند النوائب والشدائد التي يتعرض لها النسان‪ .‬ثم قال )عليه السلم( »ثم‬
‫ل منهم كلم ول أريق لهم دم« آنذاك يخلص )عليه السلم(إلى هذه النتيجة »فلو أن‬ ‫انصرفوا وافرين مانال رج ً‬
‫أمرًا مسلمًا مات من بعد هذا أسفًا ما كان به ملومًا‪ ،‬بل كان به عندي جديرًا« فقد كشف المام )عليه السلم( عن‬
‫عمق اللوعة التي كانت تعتلج في صدره مستغربًا ما حدث‪ ،‬كيف يضعف المسلمون إلى هذه الدرجة ول تهتز لهم‬
‫قصبة تجاه هذه الحملت المروعة التي أهلكت الحرث والنسل وقد طالت الموال والنفس والعراض‪ ،‬وقد رجع‬
‫المهاجمون غانمين سالمين دون أن يتكبدوا أية خسارة! أجل ل يسع المسلم الغيور تحمل مثل هذه الحادثة‬
‫ن المام )عليه السلم( لم‬‫المأساوية قط‪ ،‬بل لو مات كمدًا من جرائها لما كانت عليه من لئمة‪ .‬والجدير بالذكر أ ّ‬
‫يفرق بين المرأة المسلمة والمعاهدة لما تعرضت له من انتهاك الحرمة والتطاول على حليها ووسائلها‪ ،‬كما يكشف‬
‫عن مدى ضرورة التزام الدولة السلمية بالدفاع عن حقوق القليات الدينية التي‬

‫‪» .1‬حجل« على وزن فعل و»حجل« على وزن َفصل بمعنى الخلخال التي تزين به النساء العربيات أرجلهن‪.‬‬

‫‪» .2‬قلب« بضمتين جمع قلب بالضم فسكون بمعنى السوار المصمت وتعني في الصل التغيير‪.‬‬

‫‪» .3‬قلئد« جمع »قلدة« على وزن اجارة‪ ،‬تطلق على كل شيء يحيط بآخر‪.‬‬

‫‪» .4‬رعث« بضم الراء والعين جمع »رعث« على وزن رأس ما تعلقه المرأة من الزينة في أذنها‪.‬‬

‫] ‪[ 102‬‬

‫تعيش ضمن المجتمع السلمي‪ ،‬مع ذلك فان غرض المام )عليه السلم( كان يكمن في تصوير عمق الفاجعة‬
‫المأساوية‪ .‬وبالطبع فان هذا الكلم ل يختص بزمان دون آخر‪ ،‬كما ل يقتصر على هجوم جيش معاوية على‬
‫النبار‪ ،‬بل يتضمن قاعدة كلية يجب أن تسود الحياة السلمية على الدوام‪ .‬وكأّني بالمام )عليه السلم( قد خاطب‬
‫بهذه العبارات كافة المسلمين الذين يتعرضون اليوم لبشع هجمات الشرق والغرب التي تنوي السيطرة على‬
‫أموالهم وثرواتهم ومسخ قيمهم وضرورة التصدي لهم والدفاع عن حياض بلدانهم‪ ،‬بحيث لو مات أحدهم غصة‬
‫وكمدًا لما يرتكبه العدو الطامع من جرائم وجنايات لما كان ملومًا بل كان جديرًا‪.‬‬

‫تأّملت‬

‫‪ 1‬ـ معادلت الهزيمة والنتصار‬

‫لقد أشار المام )عليه السلم( من خلل بصيرته الثاقبة وروحه السامية وخبرته الوافية في ميادين الحرب والقتال‬
‫إلى العناصر المهّمة التي تقف وراء الهزيمة والنتصار والتي ينبغي أن يجعلها المسلمون نصب أعينهم من أجل‬
‫دحر العداء والحفاظ على بيضة السلم‪ .‬فقد تطرق المام )عليه السلم( إلى أخلء الساحة أمام العدو ومنحه‬
‫الفرصة بشن هجماته بفضلها تشكل أحد عوامل الفشل والنهزام ; المر الذي ل يختلف عليه إثنان وقد خضنا في‬
‫تفاصيله سابقًا‪.‬‬

‫العامل الخر التواكل )بمعنى وكل كل المر إلى صاحبه‪ ،‬أي لم يتوله أحد بل أحاله كل على الخر(‪ .‬فلو قام كل‬
‫فرد في المجتمع بوظيفته ولم يحمل الخرين مسؤولية أعماله لما كان هناك من مجال للفشل والهزيمة‪ ،‬بينما ليس‬
‫هنالك من سبيل للهروب من الفشل والهزيمة المنكرة أمام العدو اذا ما تخلى كل فرد عن مسؤولياته ووظائفه‬
‫وأوكلها إلى الخرين من أفراد المجتمع‪.‬‬

‫العامل الثالث التخاذل بمعنى ترك الخرين ومشاكلهم دون معونتهم ومساعدتهم‪ ،‬فاذا تعرضت منطقة إلى غارة‬
‫أو غزوة لم تنجدها سائر المناطق‪ .‬وهذا ما أشار إليه المام )عليه السلم( في الخطبة ‪» 166‬أيا الناس! لو لم‬
‫تتخاذلوا عن نصرة الحق ولم تهنوا عن توهين الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ولم يقو من قوي عليكم«‪.‬‬

‫] ‪[ 103‬‬

‫‪ 2‬ـ حماية القليات الدينية‬

‫لعل البعض يتصور أن قضية احترام القليات الدينية التي تعيش في كنف السلم وتكفل بحفظ أموالها وأرواحها‬
‫ن أدنى نظرة إلى الفقه السلمي في كيفية تعامله مع أهل الذمة‬
‫لأّ‬
‫إّنما هى شعار ل يرقى إلى العمل والتطبيق‪ ،‬إ ّ‬
‫ن السلم‬ ‫وكلمات المعصومين )عليهم السلم( بما فيها كلم المام )عليه السلم( في هذه الخطبة‪ ،‬تكشف بجلء أ ّ‬
‫يرى نفسه السند والدعم الحقيقي لهم ما دامهم لم ينقضوا العهود ويشهروا السلح ضد السلم والمسلمين‪ ،‬وعليه‬
‫فأموالهم وأرواحهم محترمة ومحفوظة‪ .‬فقد أعرب المام )عليه السلم( في هذه الخطبة عن بالغ حزنه وأسفه لما‬
‫تعرضت له المرأة اليهودية أو النصرانية التي تعيش كمواطنة في المجتمع السلمي ولم يفرق بينها وبين المرأة‬
‫المسلمة قط‪ ،‬ثم ذم أهل العراق ووبخهم على ما أبدوه من ضعف وعجز حيال العدو وعدم الدفاع عن هذه النساء‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ الغيرة الدينية‬

‫المراد بالغيرة الدينية الحساسية تجاه أي خروج عن مسار الحق والعدل وتجاهل الحكام الشرعية والتعامل بشدة‬
‫وصرامة مع هذه الحالة بما يتناسب وحجمها والبتعاد عن اللمبالة‪ ،‬ويفتقر لهذه الغيرة كل من تعامل ببرود مع‬
‫لمور ولم يبد أية حساسية تجاهها‪ .‬وقد صرح القرآن الكريم بخصوص بعض المقاتلين المؤمنين الذين ل‬ ‫هذه ا ُ‬
‫جُد‬
‫ت ل َأ ِ‬
‫حِمَلُهْم ُقْل َ‬
‫ك ِلَت ْ‬
‫ن ِإذا ما َأَتْو َ‬
‫على اّلِذي َ‬‫ل )َول َ‬ ‫يمتلكون المعدات التي تؤهلهم للشتراك في المعارك قائ ً‬
‫ن()‪.(1‬‬ ‫جُدوا ما ُيـْنِفُقو َ‬
‫ل َي ِ‬
‫حَزنًا َأ ّ‬
‫ن الّدْمِع َ‬
‫ض ِم َ‬
‫عُيُنـُهْم َتِفـي ُ‬
‫عَلْيِه َتَوّلْوا َوَأ ْ‬
‫حِمُلـُكْم َ‬
‫ما َأ ْ‬

‫فالية تشير إلى مسألة تجعل الفراد الذين ل يمتلكون الوسائل المطلوبة في القتال وتحول دون التحاقهم بصفوف‬
‫المقاتلين يتحولون إلى دموع غزيرة ; القضية ل يمكن تفسيرها سوى بالغيرة الدينية‪ .‬وقد أشارت الخطبة إلى أحد‬
‫مظاهر هذه الغيرة‪ ،‬حين قال )عليه السلم(‪» :‬فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفًا ما كان به ملومًا‪ ،‬بل كان‬
‫به عندي جديرًا«‪ .‬فالغيرة تشكل‬

‫‪ .1‬سورة التوبة ‪.92 /‬‬

‫] ‪[ 104‬‬

‫أحد العوامل المهّمة من أجل الدفاع عن حريم القوانين السلمية وإحياء المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬فقد‬
‫ن ال بعث ملكين إلى أهل المدينة ليقلباها على‬
‫ورد عن المام الصادق )عليه السلم( عن بعض أصحابه قال‪ :‬إ ّ‬
‫ل يدعو ال ويتضرع إليه‪ ،‬فقال أحدهما للخر‪ :‬أماترى هذا الداعي فقال‪ :‬قد‬‫أهلها فلما انتهيا إلى المدينة وجدا رج ً‬
‫رأيته ولكن أمضي لما أمرني به ربي فقال‪ :‬ولكني ل أحدث شيئًا حتى أرجع إلى رّبي‪ ،‬فعاد إلى ال تبارك وتعالى‬
‫ب إني إنتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلنًا يدعوك ويتضرع إليك فقال‪ :‬إمض لما أمرتك فان ذلك‬ ‫فقال‪ :‬يا ر ّ‬
‫رجل لم يتغّير وجهه غضبًا لي قط‪(1).‬‬

‫—–‬
‫‪ .1‬بحار النوار ‪ 64 / 97‬ح ‪.60‬‬

‫] ‪[ 105‬‬

‫القسم الثالث‬

‫حّقُكْم!‬‫ن َ‬ ‫عْ‬ ‫طِلِهْم‪َ ،‬وَتَفّرِقُكْم َ‬ ‫عَلى با ِ‬ ‫ع َهُؤلِء اْلَقْوِم َ‬ ‫جِتما ِ‬‫نا ْ‬ ‫ب اْلَهّم ِم َ‬
‫جِل ُ‬‫ب َوَي ْ‬‫ت اْلَقْل َ‬
‫ل ـ ُيِمي ُ‬
‫جبًا ـ َوا ّ‬ ‫عَ‬‫جبًا! َ‬ ‫عَ‬ ‫»َفيا َ‬
‫ضْونَ‬‫ل َوَتْر َ‬ ‫صى ا ّ‬ ‫ن َوُيْع َ‬ ‫ن‪َ ،‬ول َتْغُزو َ‬ ‫ن َوُتْغَزْو َ‬
‫عَلْيُكْم َول ُتِغيُرو َ‬ ‫غَرضًا ُيْرَمى‪ُ :‬يغاُر َ‬ ‫صْرُتْم َ‬‫ن ِ‬ ‫حي َ‬ ‫َفُقْبحًا َلُكْم َوَتَرحًا‪ِ ،‬‬
‫سْيِر ِإَلْيِهْم‬
‫حّر‪َ .‬وِإذا َأَمْرُتُكْم ِبال ّ‬ ‫عّنا اْل َ‬
‫خ َ‬‫سّب ْ‬
‫ظ; َأْمِهْلنا ُي َ‬‫حماّرُة اْلَقْي ِ‬‫حّر ُقْلُتْم َهِذِه َ‬‫سْيِر ِإَلْيِهْم ِفي َأّيام اْل َ‬
‫َفِإَذا َأَمْرُتُكْم ِبال ّ‬
‫حّر‬‫ن اْل َ‬‫حّر َواْلُقّر َفِإَذا ُكْنُتْم ِم َ‬‫ن اْل َ‬
‫عّنا اْلَبْرُد! ُكّل َهذا ِفرارًا ِم َ‬ ‫خ َ‬‫سِل ْ‬
‫صباّرُة اْلُقّر َأْمِهْلنا َيْن َ‬
‫شتاِء‪ُ ،‬قْلُتْم‪َ» :‬هِذِه َ‬ ‫ِفي ال ّ‬
‫ف َأَفّر!«‪.‬‬ ‫سْي ِ‬‫ن ال ّ‬ ‫ل ـ ِم َ‬‫ن; َفَأْنُتْم ـ َوا ّ‬‫َواْلُقّر َتِفّرو َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الجتماع على الباطل والفرقة عن الحق‬

‫لخرى لتقهقر أهل الكوفة وتراجعهم إلى جانب ذمهم ولومهم‪ ،‬بما‬ ‫يتناول المام )عليه السلم( بالتحليل العوامل ا ُ‬
‫يوقظ ضمائرهم ويدفع بهم باتجاه الصمود بوجه العدو والحؤول دون تسلله إلى البلد‪ ،‬فقد قال )عليه السلم( »فيا‬
‫عجبًا)‪ (1‬عجبًا ـ وال ـ يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع‬
‫لمور التي تخرج عن‬ ‫هؤلء القوم على باطلهم‪ ،‬وتفرقكم عن حقكم«‪ .‬إّنما يكون التعجب والندهاش حيث ا ُ‬
‫المسار الطبيعي أو تكتنفها العوامل المجهولة أو غير المألوفة ; المر الذي يطالب أنصار الحق ويوازع من‬
‫إيمانهم القوي بالدفاع والصمود والمقاومة‪ ،‬بينما يقف أتباع الباطل‬

‫‪ .1‬يا عجبًا عجبًا‪ ،‬قال بعض شّراح نهج البلغة أن العبارة »فيا عجبًا عجبًا« أصلها »عجبت عجبًا‪ ; «...‬أي منصوبة على أنها‬
‫مفعول مطلق‪ .‬كما احتمل أن تكون عجبًا الولى من قبيل المفعول المطلق والثانية للتكرار والتأكيد )شرح نهج البلغة لبن ميثم ‪/ 2‬‬
‫‪ (36‬وقال البعض تقديرها »يا عجبي احضر« )شرح نهج البلغة للعلمة الخوئي ‪ (392 / 3‬ويبدو هنا التفسير أنسب لن تكون‬
‫»عجبًا« منادى‪.‬‬

‫] ‪[ 106‬‬

‫مكتوفي اليدي وعدم الدفاع عن الحق لفتقارهم للدوافع التي تؤدي إلى ذلك الدفاع‪ ،‬ومن هنا فاذا شوهد أصحاب‬
‫الحق يعيشون الفرقة والختلف وضعف الرادة‪ ،‬بينما تحكم الوحدة والخاء أتباع الباطل‪ ،‬فان ذلك مدعاة‬
‫للذهول والعجب‪ .‬فإمام أهل العراق هو علي بن أبي طالب )عليه السلم( الذي نص رسول ال )صلى ال عليه‬
‫وآله( على وليته إلى جانب مبايعته من قبل أهل المدينة ومكة من المهاجرين والنصار وسائر المسلمين من‬
‫المناطق السلمية‪ ،‬كما كانت دلئل أحقيته من زهد وعلم وفضيلة وعدالة واضحة للجميع‪ ،‬بينما كان إمام الشام‬
‫معاوية المعروف بطغواه وحبه للجاه والمنصب وسوابقه المشينة في السلم والجاهلية والتي لم تكن خافية على‬
‫أحد‪ ،‬أفليس من العجب أن يهب أهل الشام لنصرة باطلهم ويقفون بوجه الحق‪ ،‬وينفرج أهل الحق عن المام )عليه‬
‫السلم( فينقضون ميثاقهم وينكثون بيعتهم؟! ومن هنا اشتد استياء المام )عليه السلم( عليهم فجعل يذمهم‬
‫ويلومهم‪ ،‬بعد أن جعلوا أنفسهم في هذه الحالة المزرية »فقبحًا لكم وترحًا)‪ (1‬حين صرتم غرضًا يرمى‪ ،‬يغار‬
‫عليكم ول تغيرون‪ ،‬وُتغزون ول َتغزون‪ ،‬ويعصى ال وترضون«‪ .‬فالواقع يوجز المام )عليه السلم( ما يدعوه‬
‫لذمهم في أمر واحد يكمن في الضعف والتواكل والخذلن إلى الحد الذي يمنح العداء الجرأة في شن الحملت تلو‬
‫الحملت والغارات تلو الغارات فيسفكون دماء البرياء‪ ،‬وليس لهؤلء من ردود فعل سوى الصمت والسكوت‬
‫تجاه هذه المجازر المروعة!‬

‫ثم يتطرق المام )عليه السلم( إلى دليل آخر دعاه لذم هؤلء والذي أدى بهم إلى ذلك الضعف والذي يكمن في‬
‫التعلل بحر الجو وبرودته التي ل تلعب دورًا في القتال‪ ،‬فقال )عليه السلم(‪» :‬فاذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام‬
‫الحر قلتم هذه حمارة)‪ (2‬القيظ)‪ ; (3‬أمهلنا يسبخ)‪ (4‬عنا الحر‪ .‬وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء‪ ،‬قلتم‪ :‬هذه‬
‫صبارة)‪ (5‬القر‪ ،‬أمهلنا ينسلخ)‪ (6‬عنا البرد ; كل‬

‫‪» .1‬ترحًا« تعني الحزن والغم فقد دعا عليهم المام )عليه السلم( بهذه العبارة بالحزن والهم‪.‬‬

‫‪» .2‬حمارة« من مادة »حمر« بمعنى اللون الحمر‪ ،‬ويطلق على شدة حرارة الصيف المحرقة‪ ،‬وكأن شدة الحرارة كحمرة النار‪.‬‬

‫‪» .3‬قيظ« على وزن فيض بمعنى الحرارة الشديدة للصيف‪ ،‬وعليه فاضافة حمارة إلى قيظ تأكيد للحرارة‪.‬‬

‫‪» .4‬يسبخ« من مادة »سبخ« بمعنى التخفيف والتسكين‪.‬‬

‫‪» .5‬صبارة« من مادة »صبر« بمعنى حبس الشيء وحفظه‪ ،‬وتطلق الصبارة على شدة البرودة‪.‬‬

‫‪» .6‬ينسلخ« من مادة »سلخ« بمعنى إزالة القشر ومن هنا يطلق السلخ على من يزيل جلد الحيوان‪ ،‬ثم اطلقت على كل فصل وإزالة‪.‬‬

‫] ‪[ 107‬‬

‫هذا فرارًا من الحر والقر)‪ ،(1‬فاذا كنتم من الحر تفرون‪ ،‬فأنتم ـ وال ـ من السيف أفر!«‪.‬‬

‫ل في أّيام الربيع وفي ظل الرض المخضرة والحشائش النظرة والطيور المغردة‬ ‫ن الميدان ل يصلح للقتال إ ّ‬‫وكأ ّ‬
‫والمياه المتدفقة‪ ،‬فيدحر الجند أعدائهم بعصا سحرية دون الحاجة إلى العدة والعدد‪.‬‬

‫وكأن هؤلء الجهال قد تناسوا تأريخ السلم رغم عدم مرور فترة عليه بحيث زحف النبي )صلى ال عليه وآله(‬
‫بصحبه من المدينة إلى تبوك بعد أن قطعوا تلك المسافة الشاسعة خلل الصحراء الجرداء وفي ظل حرارة‬
‫الشمس المحرقة على تلك الرمضاء ولم يكن لديهم ما يكفي من الماء والغذاء‪ ،‬وهكذا تحملوا سائر الصعاب‬
‫والمعضلت في الحروب والغزوات ليقفوا كالليوث أمام العداء من خصوم الدعوة‪ ،‬ولو كانوا يأتون ما أتى‬
‫جيش الكوفة ويتعللون بما تعللوا به لما نمت شجرة السلم ول اخضر لها عودًا‪ ،‬بل لم يكتب النصر لي جيش‬
‫في العالم حين يعيش الجنود حالة من الضعف والوهن والجبن‪ ،‬ولم يكن نصيبهم سوى الفشل والهزيمة والذلة‬
‫ن كلم هؤلء ليشبه ما قاله الكفار والمنافقون من قبل في صدر السلم »ل تنفروا في الحر«‬ ‫والهوان‪ .‬والواقع أ ّ‬
‫ن()‪ .(2‬فأهل الكوفة كانوا يريدون بهذه العذار‬
‫حّرا َلْو كاُنوا َيْفَقُهو َ‬
‫شّد َ‬
‫جَهّنَم َأ َ‬
‫ل ناُر َ‬
‫فرد عليهم القرآن بالقول )ُق ْ‬
‫الواهية التهرب من مواجهة العدو وقتاله‪ ،‬حيث تسرب إليهم النفاق بفعل ضعف ايمانهم بمبادئ السلم وإمامهم‬
‫علي بن أبي طالب )عليه السلم(‪.‬‬

‫ن المجاهدين الحقيقيين الذين يقتحمون الميدان ويخوضون غمار الجهاد ويسطرون النتصارات‬ ‫على كل حال فا ّ‬
‫إّنما هم ُاولئك الذين ل يبالون بمصاعب الطقس والمناخ ول يكترثون إلى مشاكل الطريق وتحمل العناء في هذا‬
‫ن خصمه يتحفظ عن القتال بسبب بعض المشاكل الطبيعية من قبيل‬ ‫المجال‪ ،‬ومّما لشك فيه ان العدو اذا شعر بأ ّ‬
‫ل بتحقيق النتصار‪.‬‬ ‫حرارة الجو وبرودته فاّنه سيستغل هذا المر كنقطة ضعف ويوظفها لصالحه بشن الحرب أم ً‬

‫ن البرد الشديد يصد النسان‬


‫‪ .1‬قر له معنيان ; الول البرد والثاني الستقرار في مكان‪ ،‬ول يبعد أن يعود المعنى الول إلى الثاني‪ ،‬ل ّ‬
‫عن العمل‪.‬‬
‫‪ .2‬سورة التوبة ‪. 81 /‬‬

‫] ‪[ 108‬‬

‫تأّمل‪ :‬علة هذا الذم‬

‫ن أدنى نظرة إلى كلم أمير المؤمنين علي )عليه السلم( في هذه الخطبة تثير السؤال التالي‪ :‬لم كل هذا الذم من‬ ‫إّ‬
‫المام )عليه السلم(لهل الكوفة حتى خاطبهم لحقًا »لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة وال جرت ندمًا‬
‫وأعقبت سدمًا‪ ،‬قاتلكم ال لقد ملتم قلبي قيحًا وشحنتم صدري غيظًا وجر عتموني نغب التهام أنفاسًا‪ ،‬وأفسدتم‬
‫علي رأيي‪ .«...‬ولعل أدنى نظرة إلى تأريخ الكوفة وأهلها ونقض المواثيق ونكث البيعة والنفاق والضعف والوهن‬
‫ن المام )عليه السلم( سلك السبيل الخير الذي من شأنه‬ ‫الذي سادها تفسر لنا فلسفة هذا الذم القاسي والشديد‪ .‬وكأ ّ‬
‫علج مرضهم العضال حيث لم تعد لهم حساسية تجاه أي شيء‪ ،‬فقد لجأ المام )عليه السلم(إلى هذا السلوب‬
‫لسلوب عملي جدًا تجاه‬ ‫ن هذا ا ُ‬ ‫لعله يثير ما تبقى لديهم من مشاعر وأحاسيس تجاه عدوهم‪ ،‬وقد أثبتت الدراسات أ ّ‬
‫بعض الفراد من الناحية النفسية‪ .‬فهذه الكلمات في الواقع تشير إلى مدى اليأس من تلك العناصر الضعيفة الهزيلة‬
‫ن كل هذه الكلمات اللذعة لم تتمكن من إثارة‬ ‫التي لم تجد معها النصائح والمواعظ أية فائدة‪ .‬بل العجب من ذلك أ ّ‬
‫ل النفر القليل حين تجهز للقاء العداء‪ ،‬مّما اضطره إلى دعوة ُاولئك الفراد‬ ‫يقظة وجدانهم‪ ،‬بحيث لم يلتحق به إ ّ‬
‫الذين كانوا يقطنون القرى والمناطق المتاخمة لطراف الفرات ويعبئها للقاء العدو‪ .‬ولعل حالة أهل الكوفة تشبه‬
‫إلى حد بعيد تلك الحالة التي سادت بني اسرائيل حين حرضهم نبّيهم موسى )عليه السلم(على قتال عدوهم‬
‫جوا‬‫خُر ُ‬‫حّتى َي ْ‬
‫خَلها َ‬
‫ن َنْد ُ‬
‫ن َو ِإّنا َل ْ‬‫جّباري َ‬
‫ن ِفـيها َقْومًا َ‬
‫وتحرير بيت المقدس‪ ،‬فقد ردوا عليه بالقول‪) :‬قاُلوا يا ُموسى ِإ ّ‬
‫ن()‪(1‬‬ ‫عُدو َ‬
‫ك َفقاِتل ِإّنا هـُهنا قا ِ‬
‫ت َوَرّب َ‬
‫ب َأْن َ‬
‫ن‪َ ...‬فاذَه ْ‬
‫خُلو َ‬
‫جوا ِمْنها َفِإّنا دا ِ‬
‫خُر ُ‬
‫ن َي ْ‬
‫ِمْنها َفِإ ْ‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة المائدة ‪ 22 /‬ـ ‪.24‬‬

‫] ‪[ 109‬‬

‫القسم الرابع‬

‫عِرْفُكْم َمْعِرَفًة ـ َوا ّ‬


‫ل‬ ‫ت َأّني َلْم َأَرُكْم َوَلْم َأ ْ‬
‫حجاِل! َلَوِدْد ُ‬ ‫عُقوُل َرّبات اْل ِ‬ ‫طفاِل‪َ ،‬و ُ‬ ‫حُلوُم اَْل ْ‬‫شباَه الّرجاِل َول ِرجاَل! ُ‬ ‫»يا َأ ْ‬
‫ب الّتْهماِم‬‫عُتُموِني ُنَغ َ‬ ‫جّر ْ‬‫غْيظًا َو َ‬ ‫صْدِري َ‬ ‫حْنُتْم َ‬‫شَ‬ ‫لُتْم َقْلِبي َقْيحًا َو َ‬
‫ل َلَقْد َم َْ‬
‫سَدمًا‪ ،‬قاَتَلُكُم ا ّ‬ ‫ت َ‬ ‫عَقَب ْ‬
‫ت َنَدمًا‪َ ،‬وَأ ْ‬‫جّر ْ‬ ‫ـ َ‬
‫نل‬ ‫ع َوَلِك ْ‬
‫شجا ٌ‬ ‫جٌل ُ‬ ‫ن َأِبي طاِلب َر ُ‬ ‫ن اْب َ‬‫ش‪ِ :‬إ ّ‬
‫ت ُقَرْي ٌ‬ ‫حّتى َلَقْد قاَل ْ‬‫ن َ‬ ‫خْذل ِ‬ ‫ن َواْل ِ‬‫صَيا ِ‬‫ي َرْأِيي ِباْلِع ْ‬ ‫عَل ّ‬‫سْدُتْم َ‬
‫َأْنفاسًا‪َ ،‬وَأْف َ‬
‫ت ِفيها َوما َبَلْغ ُ‬
‫ت‬ ‫ض ُ‬ ‫شّد َلها ِمراسًا‪َ ،‬وَأْقَدُم ِفيها َمقامًا ِمّني؟ َلَقْد َنَه ْ‬ ‫حٌد ِمْنُهْم َأ َ‬‫ل َأُبوُهْم! َوَهْل َأ َ‬ ‫ب‪ِّ .‬‬ ‫حْر ِ‬‫عْلَم َلُه ِباْل َ‬
‫ِ‬
‫ع!«‪.‬‬ ‫طا ُ‬‫ن ل ُي َ‬ ‫ي ِلَم ْ‬
‫ن ل َرْأ َ‬ ‫ن َوَلِك ْ‬‫سّتي َ‬‫عَلى ال ّ‬ ‫ت َ‬ ‫ن‪َ ،‬وها َأنا ذا َقْد َذّرْف ُ‬ ‫شِري َ‬‫اْلِع ْ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫إدماء القلب‬
‫يختتم المام )عليه السلم( خطبته بصب جام غضبه على أولئك الفراد الضعاف الذين تواكلوا وتقاعسوا عن إداء‬
‫وظائفهم عله يثير حفيظتهم فيلتفتوا إلى عظم المخاطر التي كانت تتربص بهم‪ ،‬ولسيما أهل الشام الذين كانوا‬
‫يشنون عليهم الغارات تلو الغارات دون أن يتورعوا عن سفك دمائهم وانتهاك حرماتهم وسلب أموالهم‪ ،‬حيث‬
‫ل‪» :‬يا أشباه الرجال ول رجال« يامن يعيشون آمال الطفال‬ ‫بالغ )عليه السلم( هذه المرة في ذمهم فخاطبهم قائ ً‬
‫فيسرع فيهم الخداع »حلوم)‪ (1‬الطفال« ويامن يحملون عقول ربات الحجال من العرائس اللئي ل يفكرن سوى‬
‫برغد العيش ووسائل الزينة »وعقول ربات)‪ (2‬الحجال)‪ «(3‬فقد وبخهم المام )عليه السلم( في العبارة‬

‫‪» .1‬حلوم« من مادة »حلم« بمعنى ضبط النفس وقد وردت هنا بمعنى المال الفارغة الشبيهة بأحلم الطفال‪.‬‬

‫‪» .2‬ربات« جمع »ربة« صاحب الشيء ومالكه‪ ،‬واستنادًا إلى تاء التأنيث فاّنها تستعمل في المؤنث‪.‬‬

‫‪» .3‬حجال« جمع »حجلة« وصحيحه حجلة على وزن عجلة وهى القبة‪ ،‬موضع يزين بالستور‪ ،‬والمراد بربات الحجال النساء‪.‬‬

‫] ‪[ 110‬‬

‫الولى بعدم امتلكهم الشجاعة والحمية والغيرة والمروءة والرجولة التي كانوا يتمتعون بها ظاهريًا ولم يكن لهم‬
‫من معانيها شيئًا على مستوى العمل‪ .‬ثم اندفع في ذمهم أكثر ليخاطبهم بقوله‪» :‬لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم‬
‫ن ثمرة علقة أهل الكوفة والعراق بالمام )عليه‬ ‫معرفة ـ وال ـ جرت ندمًا وأعقبت سدمًا«‪ .‬فالتأريخ يشهد بأ ّ‬
‫السلم(طيلة فترة خلفته لم تكن سوى الهم والغم الذي تمخض عن ضعفهم ونقضهم العهود وتفرقهم عن الحق‬
‫وتلبسهم بالنفاق والرياء‪ ،‬فكان من الطبيعي أن يتمنى المام )عليه السلم( عدم رؤيتهم والتعرف عليهم‪ ،‬حتى دعا‬
‫عليهم »قاتلكم ال)‪ (1‬فقد ملتم قلبي قيحًا وشحنتم صدري غيظًا وقد جرعتموني الهموم غصة بعد غصة‪،‬‬
‫فجعلتموني غرضًا لسهام العداء‪ ،‬حتى ذهبت بهم المذاهب أني رجل شجاع‪ ،‬بينما ليست لي من دراية بالحرب‬
‫»قاتلكم ال لقد ملتم قلبي قيحًا وشحنتم صدري غيظًا وجرعتموني نغب)‪ (2‬التهمام)‪ (3‬أنفاسًا‪ ،‬وأفسدتم علي‬
‫رأيي بالعصيان والخذلن حتى لقد قالت قريش‪ :‬إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن ل علم له بالحرب«‪ .‬عادة ما‬
‫لمم والشعوب ضعفها وتخلفها وفشلها إلى قّلة تدبير زعمائها‪ ،‬بينما قد تكون القضية بالعكس ; أي أ ّ‬
‫ن‬ ‫تعزى ا ُ‬
‫الزعيم شخصية كفوءة بينما تعيش الّمة حالة من التخلف الفكري والثقافي والجتماعي ; المر الذي يعتبر مأساة‬
‫ن مسؤولية‬ ‫حقيقية بالنسبة للزعيم والقائد الناجح الذي يبتلى بمثل هذه الجماعة المسلوبة الرادة‪ ،‬ومّما يؤسف له أ ّ‬
‫النتائج المريرة التي تفرزها طبيعة هذه المسيرة قد يلقيها الناس على عاتق ذلك الزعيم‪.‬‬

‫ثم يختتم المام )عليه السلم( خطبته بالرد على قريش التي تخرصت بعدم علم المام )عليه السلم(بفنون القتال‬
‫والحرب رغم شجاعته وبسالته‪:‬‬

‫»ل)‪ (4‬أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراسًا)‪ (5‬وأقدم فيها مقامًا مني«‪ .‬فقد اقتحمت‬

‫ن التعبير بقاتلكم إلى أّنهم كانوا في مقام محاربة ال وأحكامه‪ ،‬وأّنهم ل محالة ملعونين مطرودين من‬ ‫‪ .1‬لبّد من اللتفات هنا إلى أ ّ‬
‫ل(تعني الطرد من رحمة ال )انظر‬ ‫ن الية ‪ 30‬من سورة التوبة )قاَتَلُهُم ا ّ‬
‫رحمة ال ـ ومن هنا فان أغلب المفسرين ذهبوا إلى أ ّ‬
‫لمة الشعراني(‪.‬‬ ‫المفردات للراغب ونشر طوبى للمرحوم الع ّ‬

‫‪» .2‬نغب« جمع »نغبة« على وزن لقمة بمعنى شربة الماء‪ ،‬كجرعة وجرع وقد شّبه هنا الحزن بالماء المّر الذي شربه المام جرعة‬
‫جرعة‪.‬‬

‫‪» .3‬التهمام« من مادة »همم« بمعنى الهم‪ ،‬ويستعمل هذا الوزن عادة بمعنى المصدر مثل تكرار وتذكار‪.‬‬

‫‪» .4‬ل أبوهم« تقال هذه العبارة للمدح‪ ،‬كما تطلق في بعض الحيان للتعجب‪ ،‬ومفهومها رحم ال والديهم‪.‬‬

‫‪» .5‬مراسًا« و»ممارسة« بمعنى واحد‪ ،‬أي عالجه وزاوله وعاناه‪.‬‬

‫] ‪[ 111‬‬
‫ميادين الحرب وأنا ابن العشرين وها أنا ذا أخوض غمارها وقد ناهزت الستين من عمري )وعليه فقد مارست‬
‫تجربة ضخمة في الحروب كقائد لمّدة أربعين سنة( ولكن ماذا عساني أن أفعل وليس هنالك من يطيع »لقد نهضت‬
‫فيها وما بلغت العشرين‪ ،‬وها أنا ذا قد ذرفت)‪(1‬على الستين! ولكن ل رأي لمن ل يطاع«‪.‬‬

‫تأّملت‬

‫‪ 1‬ـ التباع الطلحاء والقادة الكفاء‬

‫ن اولئك الذين ينسبون النصر أو الهزيمة إلى بعض‬ ‫ن معادلت الهزيمة والنتصار ليست عبثية‪ ،‬وأ ّ‬ ‫لشك أ ّ‬
‫السباب المجهولة والعوامل الغامضة من قبيل المصادفة والحظ إّنما يسعون للقرار من الحقائق المريرة والبتعاد‬
‫ن العامل الصلي الذي يكمن وراء النصر‬ ‫عن تحليلها والوقوف على كنهها‪ .‬وعادة ما تذهب التحليلت إلى أ ّ‬
‫والهزيمة إّنما يتمثل بقدرة القيادة وحكمتها في إدارة شؤون الُمة‪ ،‬بينما تكون القضية معكوسة في بعض الحالت‪،‬‬
‫فقد تتحلى القيادة بالقوة والقتدار وارتفاع المعنوية والحاطة بفنون الدارة والتعامل مع الحداث ; المر الذي‬
‫ن العنصر الذي يقف وراء الهزيمة إّنما يتمثل بالتباع الضعفاء الذين ل يتحلون بالرادة‬ ‫يفيد بما ل يقبل الشك أ ّ‬
‫ل عن‬ ‫إلى جانب سذاجتهم وقّلة تجربتهم بما يجعل من المتعذر عليهم مواكبة قيادتهم في ادراك الهداف فض ً‬
‫تطبيقها في الواقع‪ ،‬وهنا تتلشى قدرة الزعيم الكفوء في ظل فساد وانحراف مثل هؤلء التباع ; المر الذي‬
‫يؤرق فكر القائد ويقض مضجعه‪ .‬وهذا هو السر في تلك الكلمات الشديدة التي أطلقها المام )عليه السلم(بحق‬
‫ل عن أعدائه ـ‬
‫أهل الكوفة‪ ،‬فقد بلغت الفرقة والشقاق والنفاق حدًا جعل حتى أصحاب المام )عليه السلم( ـ فض ً‬
‫من ُاولئك الذين شهدوا بطولت المام )عليه السلم( وصولته في الغزوات السلمية يتهمونه بعدم العلم بفنون‬
‫ل أن ذكرهم بتأريخه المشرق ومواقفه المشهورة التي تنكفي فيها البطال ; لقد‬ ‫القتال! فما كان منه )عليه السلم(إ ّ‬
‫نهضت بأمر القتال ولم أبلغ العشرين وقد ذرفت الن على الستين‪ ،‬فكيف ُاتهم‬

‫‪» .1‬ذرفت« من مادة »ذرف« بمعنى سيل الدمع ‪ ،‬وقد وردت هنا بمعنى زدت على الستين‪.‬‬

‫] ‪[ 112‬‬

‫بعدم العلم بالحرب؟ نعم قد بليت باتباع بعيدين عن النضباط من أهل الهوى والطيش الذين يتصرفون على ضوء‬
‫ما تمليه عليهم أهوائهم‪ ،‬وعليه فليست هنالك من نتيجة سوى الهزيمة والفشل‪ .‬وأفضل شاهد على ذلك النتيجة‬
‫المريرة لمعركة صفين والخدعة التي عمد إليها معاوية وعمرو بن العاص في حمل المصاحف على أسنة‬
‫الرماح‪ ،‬والنكى من كل ذلك قضية التحكيم وترشيح أبي موسى الشعري وفرضه على المام )عليه السلم(‪.‬‬
‫ن النصر أصبح قاب قوسين أو أدنى في صفين لول حالة‬ ‫فيكاد يجمع الجميع اليوم بما فيهم المحققون وغيرهم أ ّ‬
‫النفاق والفرقة والعصيان التي دبت في جيش المام )عليه السلم( ولما وقعت تلك الحداث التي سود بها‬
‫المويون وجه التأريخ ومن هنا تعتبر موقعة صفين من أقسى الحداث التي شهدها التأريخ السلمي وبالذات‬
‫سيرة المام علي )عليه السلم(‪ .‬وليت ذلك المر اقتصر على زمان علي )عليه السلم(‪ ،‬بل مازال هنالك اليوم‬
‫الكثير من الجهال الذين يشككون في السياسة الحربية لمير المؤمنين )عليه السلم( وكيفية إدارة شؤون البلد‪،‬‬
‫ل دليل صارخ على عمق مظلومية المام )عليه السلم(‪ ،‬المام )عليه السلم(الذي جعل التأريخ يدين‬ ‫وما هذا إ ّ‬
‫بالفضل لذلك العهد العظيم الذي عهده لعامله على مصر مالك الشتر في كيفية إدارة شؤون البلد‪ ،‬فما زالت‬
‫جَرة‬
‫شَ‬‫مبادئه وأسسه قائمة فاعلة رغم مرور أربعة عشر قرنًا عليه‪ ،‬ليكون ذلك العهد مصداقًا لقوله سبحانه )َك َ‬
‫ن َرّبها()‪ .(1‬فقد أذعن العدو والصديق لعمق‬ ‫حـين ِبـِإذ ِ‬
‫ل ِ‬
‫سماِء * ُتـْؤِتي ُأُكَلها ُك ّ‬‫عها ِفي ال ّ‬
‫ت َوَفْر ُ‬
‫صُلها ثاِب ٌ‬
‫طـّيَبة َأ ْ‬
‫َ‬
‫الصول والتعاليم التي أوردها المام )عليه السلم(في نهج البلغة والتي تمثل عمق سياسة المام )عليه السلم(‪،‬‬
‫مع ذلك ينبري هذا وذاك من الحين إلى الخر لتهام المام )عليه السلم(‪ .‬وقد أشار المام )عليه السلم( في عدة‬
‫مواضع إلى هذه الحقيقة المريرة المتمثلة بالغدر والخيانة ونقض العهود والمواثيق‪ .‬فقد خطبهم )عليه السلم(بعد‬
‫ل‪» :‬وال ما تكفونني أنفسكم فكيف تكفونني غيركم إن كانت الرعايا قبلي‬ ‫حادثة النبار وغارت أهل الشام قائ ً‬
‫لتشكوا حيف رعاتها وانني اليوم لشكو حيف رعيتي كأنني المقود وهم القادة أو الموزوع وهم الوزعة«)‪ .(2‬كما‬
‫قال )عليه السلم(في موضع آخر‪ُ» :‬اريد أن أداوي بكم وأنتم دائي«‪ ،‬ثم شكاهم )عليه السلم(بالقول‪» :‬الّلهم قد‬
‫ملت أطباء هذا الداء الدوي وكلت النزعة بأشطان‬
‫‪ .1‬سورة ابراهيم ‪ 24 /‬ـ ‪.25‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الكلمات القصار ‪.261 /‬‬

‫] ‪[ 113‬‬

‫الركي! أين القوم الذين دعوا إلى السلم فقبلوه وقرأوا القرآن فأحكموه وهيجوا إلى القتال فولهوا وله اللقاح إلى‬
‫أولدها«)‪.(1‬‬

‫‪ 2‬ـ الجابة على سؤال‬

‫ل وهو‪ :‬هل كانت تلك السياسة التي انتهجها المام )عليه السلم( ازاء الّمة‬ ‫لقد أثار بعض شّراح نهج البلغة سؤا ً‬
‫)بتلك الشدة والحدة من الذم واللوم( صائبة؟ ألم تكن تدعو تلك الكلمات الفراد إلى النفرة والشعور بالغربة‬
‫والعزلة؟ ويبدو هذا الشكال أعمق وأرسخ إذا أخذنا بنظر العتبار مدى صبر المام )عليه السلم( وحلمه وعفوه‬
‫وصفحه‪ ،‬فكيف ارتضى المام )عليه السلم(مخاطبتهم بتلك الكلمات؟ ويتضح الجواب على هذا السؤال من خلل‬
‫ما ذكرناه سابقًا من أن ذلك السلوب كان يمثل الوسيلة الخيرة التي من شأنها إثارة عواطف الّمة وتفعيل‬
‫لسلوب يشبه ما‬ ‫حركتها ونشاطها واخراجها من حالة الضعف والوهن التي كانت تسيطر عليها‪ ،‬ولعل ذلك ا ُ‬
‫تعارف لدى عوام الناس حين تعجز عن اصلح أحدهم فتقول لبّد من العمل بما يثير غيرته ويوقظ ضميره‪.‬‬
‫وعليه فان تلك الكلمات تكشف بدورها عن بلغة المام )عليه السلم( في ايراده الكلم الذي ينطبق ومقتضى‬
‫ن المام )عليه السلم( عمد إلى ذلك السلوب بعد أن مارس كافة الطرق من‬ ‫الحال‪ .‬وهنا ل ينبغي أن ننسى بأ ّ‬
‫قبيل حثهم على الجهاد وتذكيرهم بالقيم والمبادئ‪ ،‬واطرائهم والثناء عليهم ـ وعليه يبدو من المستبعد رأي بعض‬
‫شّراح نهج البلغة)‪ ،(2‬من أن المام )عليه السلم(أورد ذلك الكلم على ضوء »ل يزيدني كثرة الناس حولي‬
‫ن الكثرة المقتدرة في الحروب والمعارك مطلوبة ول يسع أحد بمفرده أن يهب‬ ‫عزة ول تفرقهم عني وحشة« ; ل ّ‬
‫القتال جيش جرار طمعًا بتحقيق النصر‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ سؤال آخر‬

‫لقد قال المام )عليه السلم( في الخطبة المذكورة »لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين‪ ،‬وها أنا ذا‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.121‬‬

‫‪ .2‬في ظلل نهج البلغة ‪.192 / 1‬‬

‫] ‪[ 114‬‬

‫ن العهد المكي كان يعيش حالة الحرب رغم عدم نشوبها بصورة‬ ‫فالواقع تشير مثل هذه الحداث وما شابهها أ ّ‬
‫فعلية حيث كان المسلمون يشهدون أذى الكفار باستمرار‪ ،‬المر الذي كان يتطلب بعض التدبير والتفكير من أجل‬
‫كسب المعركة‪.‬‬

‫ولعل قوله )عليه السلم(‪» :‬نهضت فيها وما بلغت العشرين« ـ الذي ورد في الخطبة ـ إشارة إلى التأهب للحرب‬
‫ل لنشوب الحرب‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الخاتمة المريرة للواقعة‬

‫ذكر بعض شراح نهج البلغة أن عليًا)عليه السلم( حين ُاخبر عن غارة أهل الشام وقتلهم لعامله فخطب الناس‪.‬‬

‫صَتهم نزل‪ ،‬وخرج‬ ‫جاء أن يجيبوه أو يتكلم منهم متكلم‪ ،‬فلم ينِبس أحٌد منهم بكلمة‪ ،‬فلما رأى َْ‬ ‫ثم سكت عنهم َر َ‬
‫خْلَفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬ارجع يا أميَرالمؤمنين‬‫خْيلة‪ ،‬والناس يمشون َ‬ ‫ل حتى أتى الّن َ‬ ‫يمشى راج ً‬
‫ونحن نكفيك‪ ،‬فقال‪ :‬ما َتْكفونني ول َْتُفون‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪.62 / 41‬‬

‫] ‪[ 115‬‬

‫ى‪ ،‬فبعثه من‬


‫أنفسكم‪ .‬فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله‪ ،‬فرجع وهو اجم كئيب‪ ،‬ودعا سعيدبن قيس الهْمدان ّ‬
‫ن القوم جاءوا في جمع كثيف‪.‬‬
‫خيلة في ثمانية آلف‪ ،‬وذلك أّنه أخبر أ ّ‬
‫الُن َ‬

‫فخرج سعيدبن قيس على شاطئ الُفرات في طلب سفيان بن عوف; حتى إذا بلغ‪ .‬عانات‪ ،‬سّرح أمامه هانئ بن‬
‫ى أرض ِقّنسرين وقد فاتوه‪ ،‬فانصرف‪.‬‬
‫ي‪ ،‬فاتبع آثارهم حتى دخل أداِن َ‬
‫الخطاب الْهمدان ّ‬

‫ل يا أميرالمؤمنين‪ُ ،‬مْرَنا‬
‫ي‪ ،‬فقال‪ :‬ل يسوءك ا ّ‬ ‫ي وسعيدبن قيس الَهْمَدان ّ‬
‫ي الكند ّ‬
‫جربن عد ّ‬
‫حْ‬
‫وأتاه قوم يعتذرون‪ ،‬فقام ُ‬
‫ت في طاعتك‪ .‬فقال‪ :‬تجّهزوا‬ ‫جَزعًا على أموالنا إن نفدت‪ ،‬ول على عشائرنا إن ُقِتل ْ‬ ‫ل ما َنعظم َ‬
‫بأمرك نتبعه‪ ،‬فوا ّ‬
‫للمسير إلى عدّونا‪.‬‬

‫صِليب ناصح‪ ،‬يحشر الناس من السواد‪.‬‬‫ي برجل َ‬‫فلما دخل منزله ودخل عليه وجوه أصحابه‪ ،‬قال لهم‪ :‬أشيروا عل ّ‬
‫فقال له‪ :‬سعيدبن قيس‪ :‬يا أميرالمؤمنين‪ ،‬أشير عليك بالناصح الريب الشجاع الصليب‪ ،‬معِقل بن قيس التميمي‪،‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪.‬‬

‫ثم دعاه فوجهه‪ ،‬فسار فلم يقدم حتى أصيب أميرالمؤمنين عليه السلم)‪.(1‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 88 / 2‬ـ ‪. 90‬‬

‫] ‪[ 116‬‬

‫] ‪[ 117‬‬

‫الخطبة)‪28 (1‬‬
‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫وهو فصل من الخطبة التى »الحمد ل غير مقنوط من رحمة«‬

‫وفيه احد عشر تنبيها‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫هذه من الخطب المعروفة لمير المؤمنين علي )عليه السلم(‪ ،‬وهى كما ذهب الشيخ المفيد في الرشاد من خطبه‬
‫الخالدة التي حفظها أرباب الفهم والعقل‪ ،‬أو كما قال السيد الرضي‪ :‬إّنه لو كان كلم يأخذ بالعناق إلى الزهد في‬
‫الدنيا ويضطر إلى عمل الخرة‪ ،‬لكان هذا الكلم وكفى به قاطعًا لعلئق المال وقادحًا زناد التعاظ والزدجار‪.‬‬
‫فقد أشار المام )عليه السلم( في هذه الخطبة القصيرة ـ والتي يراها بعض المحققين جزءًا من الخطبة الخامسة‬
‫والعشرين ـ إلى عشرة جوانب مهّمة بشأن الخرة والزهد في الدنيا وعدم الغترار بنعم الدنيا وزبرجها‬
‫ن الخطبة من الخطب‬‫والستعداد والتأهب للدار الخرة‪ ،‬والتحذير من الخطار التي تهدد سعادة النسان ـ فالحق أ ّ‬
‫العظيمة التي تسوق النسان إلى الزهد في الدنيا وعدم الكتراث لزخرفها والنتباه إلى الخرة‪ ،‬وقد انطوت على‬
‫عبارات واضحة صريحة توقظ النسان من غفلته ورقدته‪.‬‬

‫‪ .1‬تعتبر هذه الخطبة من الخطب المهمة لمير المؤمنين علي )عليه السلم( التي رواها كبار علماء الفريقين في كتبهم ومؤلفاتهم‪،‬‬
‫ومنهم ‪ 1‬ـ الجاحظ في كتاب البيان والتبيين ‪ 2 ; 171 / 1‬ـ الباقلني في كتاب إعجاز القرآن ‪ 3 ; 222 /‬ـ الحسن بن علي بن شعبة‬
‫في تحف العقول ; ‪ 4‬ـ ابن عبد ربة في العقد الفريد ‪ 5 ; 365 / 2‬ـ ابن قتيبة في عيون الخبار ‪ 2‬ـ ‪ 6 ; 235‬ـ المسعودي في مروج‬
‫لمة المجلسي في البحار عن كتاب مطالب السئول لمحمد بن طلحة الشافعي وكتاب الرشاد‬ ‫الذهب ‪ ; 365 / 3‬كما رواها المرحوم الع ّ‬
‫للمفيد مع بعض الختلف‪.‬‬

‫] ‪[ 118‬‬

‫] ‪[ 119‬‬

‫القسم الول‬

‫غدًا‬
‫ضماَر َو َ‬ ‫ن اْلَيْوَم اْلِم ْ‬
‫طلع‪َ ،‬أل َوِإ ّ‬ ‫ت ِبا ّ‬
‫شَرَف ْ‬
‫ت‪َ ،‬وَأ ْ‬ ‫خَرَة َقْد َأْقَبَل ْ‬
‫ن اْل ِ‬‫ت ِبَوَداع َوِإ ّ‬ ‫ت‪َ ،‬وآَذَن ْ‬‫ن الّدْنَيا َأْدَبَر ْ‬‫»َأّما َبْعُد َفِإ ّ‬
‫سِه! َأل َوِإّنُكْم‬
‫سِه َقْبَل َيْوِم ُبْؤ ِ‬
‫طيَئِتِه َقْبَل َمِنّيتِِه َأل عاِمٌل ِلَنْف ِ‬ ‫خِ‬ ‫ن َ‬ ‫ب ِم ْ‬‫جّنُة َواْلغاَيُة الّنار; َأ َفل تاِئ ٌ‬ ‫سَبَقُة اْل َ‬
‫ق َوال ّ‬ ‫سبا َ‬ ‫ال ّ‬
‫جُلُه‪َ .‬وَم ْ‬
‫ن‬ ‫ضُرْرُه َأ َ‬
‫عَمُلُه َوَلْم َي ْ‬
‫جِلِه‪َ .‬فَقْد َنَفَعُه َ‬
‫ضوِر َأ َ‬‫ح ُ‬ ‫عِمَل ِفي َأّيام َأَمِلِه َقْبَل ُ‬ ‫ن َ‬ ‫جٌل‪َ ،‬فَم ْ‬‫ن َوراِئِه َأ َ‬ ‫ِفي َأّيام َأَمل ِم ْ‬
‫جُلُه«‪.‬‬‫ضّرُه َأ َ‬ ‫عَمُلُه َو َ‬ ‫سَر َ‬ ‫خ ِ‬‫جِلِه َفَقْد َ‬
‫ضوِر َأ َ‬‫ح ُ‬ ‫صَر ِفي َأّيام َأَمِلِه َقْبَل ُ‬ ‫َق ّ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬
‫الدنيا والخرة عند المام علي)عليه السلم(‬

‫ن المام )عليه السلم( تطرق إلى عشرة ُامور مهّمة في هذه الخطبة الغّراء لدفع الناس باتجاه‬ ‫أشرنا سابقًا إلى أ ّ‬
‫ب الدنيا‬
‫نح ّ‬‫الزهد وعدم الغترار بزخارف الدنيا ; فقد ورد في الخبار ـ كما أثبتت ذلك التجربة طيلة التأريخ ـ أ ّ‬
‫ن عدم الكتراث لهذه الدنيا والزهد فيها يمثل الخطوة الولى المهمة لصلح النفوس‬ ‫رأس كل خطيئة‪ ،‬وعليه فا ّ‬
‫ومواجهة الفساد الفردي والجتماعي‪.‬‬

‫فقد استهل المام )عليه السلم( كلمه بتصدر الدنيا ووداعها لهلها »أما بعد فان الدنيا قد أدبرت‪ ،‬وآذنت)‪(1‬‬
‫بوداع«‪ .‬وهنا يطرح هذا السؤال‪ :‬كيف آذنت الدنيا بالدبار والوداع؟ هناك الشواهد والدلة الحّية على هذا المر‬
‫ومن ذلك قبور الماضين التي تضم بقايا رفات وعظام الملوك والسلطين والحكام والمراء والكهول والفتيان‬
‫والصبيان‪ ،‬والظهر المحدودبة للكهول‬

‫‪» .1‬آذنت« من مادة »اذن« بمعنى العلن‪ ،‬ومنه الذان الذي يعلن وقت دخول الصلة‪.‬‬

‫] ‪[ 120‬‬

‫واشتعال الرأس شيبًا والمراض الفتاكة التي تودي بحياة الفراد‪ ،‬حقًا لقد أصيبت الدنيا بالصمت والسكوت‪ ،‬إلّ‬
‫أّنه مازالت تتحدث بلسان العبرة! وهذا ما أشار إليه المام )عليه السلم( في احدى خطبه »فكفى واعظاً بموتى‬
‫عاينتموهم‪ ،‬حملوا إلى قبورهم غير راكبين وانزلوا فيها غير نازلين‪ ،‬فكأنهم لم يكونوا للدنيا عمارًا وكأن الخرة‬
‫لم تزل لهم دارًا«‪(1).‬‬

‫ثم أشار )عليه السلم( في النقطة الثانية إلى موضوع إقبال الخرة »وإن الخرة قد أقبلت‪ ،‬وأشرفت باطلع«)‬
‫ن الموت يعد المنزل الول من منازل الخرة والذي يبتلع أبناء الدنيا‪ ،‬وهذا بدوره من علمات إقبال الخرة‪.‬‬ ‫‪ .(2‬إ ّ‬
‫ومن هنا فقد أوصى المام )عليه السلم(الجميع بالستعداد إلى الخرة ومغادرة الدنيا والتزود لتلك الدار المحفوفة‬
‫بالخطر قبل فوات الوان‪ .‬وذكر )عليه السلم( في النقطة الثالثة بالرابطة القائمة بين داري الدنيا والخرة فقال‬
‫»أل وإن اليوم المضمار)‪ (3‬وغدا السباق)‪ (4‬والسبقة الجّنة والغاية النار« فقد شبه )عليه السلم( بهذه العبارة‬
‫ن مثل هذا النسان وعلى غرار الخيال يحتاج إلى‬ ‫الرائعة النسان بالخيال الذي يخوض السباق‪ ،‬فمن الواضح أ ّ‬
‫التمارين والتدريبات المسبقة‪ ،‬حيث تصطلح العرب بالمضمار على الموضع أو الزمان الذي يضمر فيه الحيوان‪،‬‬
‫بل يطلق على الحيوان الذي ينحف إثر التمارين ل على كل حيوان كما صرح الراغب في المفردات‪ .‬آنذاك يبدأ‬
‫السباق الذي يتضمن الفوز والخسارة وتسلم الجوائز من قبل الفائزين‪ .‬فالمام )عليه السلم( يرى الدنيا ميدان‬
‫التأهب والستعداد والخرة ميدان السباق والجوائز‪ ،‬وسوف تكون جائزة الفائزين الجّنة ونصيب الخاسرين النار‪.‬‬
‫ن أحدًا ل يسعه التمرين في ميدان السباق‪ ،‬بل عليه أن يتمرن ويعد نفسه قبل السباق ; وهكذا الحال‬ ‫ومن البديهي أ ّ‬
‫في المحشر‪،‬‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.188‬‬

‫‪» .2‬اطلع« من مادة »طلع« بمعنى الظهور‪ ،‬وطلوع الشمس بمعنى ظهورها‪ ،‬ويرى البعض أّنها تطلق على العلم المفاجئ‪ ،‬وأشرفت‬
‫باطلع‪ ،‬أقبلت بغتة‪.‬‬

‫‪» .3‬المضمار«‪ :‬الموضع والزمن الذي تضمر فيه الخيل‪ ،‬وتضمير الخيل أن تربط ويكثر علقها وماؤها حتى تسمن‪ ،‬ثم يقلل علفها‬
‫وماؤها وتجري في الميدان حتى تهزل‪ ،‬ثم ترد إلى القوت‪ ،‬والمدة أربعون يومًا‪ ،‬وقد يطلق التضمير على العمل الول أو الثاني‪،‬‬
‫واطلقه على الول لّنه مقدمة للثاني وإّل فحقيقة التضمير احداث الضمور وهو الهزل وخفة اللحم‪ ،‬وإّنما يفعل ذلك بالخيل لتخف في‬
‫الجري يوم السباق‪.‬‬

‫‪» .4‬السباق« من مادة »سبق« ومسابقة من باب مفاعلة ولسباق نفس المعنى‪ .‬وسبقة بمعنى الهدف المطلوب الذي يتسابق من أجله‬
‫أو بمعنى الجائزة‪.‬‬

‫] ‪[ 121‬‬
‫لمور في‬ ‫فليس هنالك من مجال للحسنات والتوبة من السيئات وتهذيب النفوس وتطهيرها‪ ،‬ولبّد من إعداد هذه ا ُ‬
‫الحياة الدنيا‪ .‬وعليه فل ينبغي أن ينسى الفراد هذه الحقيقة وهى إن عدم التزود في الدار الدنيا والتأهب الروحي‬
‫ن النتيجة النهائية للسباق في الخرة لن تكون سوى الفشل والخيبة والخسران التي تعني هناك نار‬ ‫والمعنوي فا ّ‬
‫ن الفائزين هناك يتفاوتون في الدرجات‪ ،‬فهناك الفائز الول والثاني والثالث وهكذا ;‬ ‫جهنم‪ .‬والجدير بالذكر هنا أ ّ‬
‫ن السباق بمعنى المسابقة والسبقة بمعنى‬ ‫المر الذي يتجسد بوضوح في عالم الخرة ودرجاتها‪ .‬فيتضح مّما تقدم أ ّ‬
‫الهدف والغاية التي ينبغي للمتسابق أن يصل إليها‪ ،‬والسبقة على وزن لقمة بمعنى الجائزة وقد علق المرحوم السيد‬
‫الرضي)ره( ـ في ذيل هذه الخطبة كما سيأتي ـ على تعبير المام )عليه السلم(‪» :‬والسبقة الجّنة والغاية النار«‬
‫ن الستباق إّنما يكون إلى أمر محبوب‪ ،‬وغرض‬ ‫فقال‪ :‬لم يقل )عليه السلم(السبقة النار كما قال السبقة الجّنة ; ل ّ‬
‫مطلوب‪ ،‬وهذه صفة الجّنة وليس هذا العنى موجودًا في النار‪ ،‬فخالف المام )عليه السلم(بين اللفظين لختلف‬
‫جّنة‬
‫ن َرّبُكْم َو َ‬
‫المعنيين‪ .‬ول يبدو هنالك من تعارض بين كلمه )عليه السلم( والية الشريفة )ساِبُقوا ِإلى َمْغِفَرة ِم ْ‬
‫ن »سابقوا« ل تعني السباق في هذا العالم‪ ،‬بل تعني التأهب من أجل‬ ‫ض()‪ ; (1‬ل ّ‬‫لْر ِ‬‫سماِء َوا َ‬
‫ض ال ّ‬
‫ضها َكَعْر ِ‬
‫عْر ُ‬
‫َ‬
‫سباق الخرة‪ ،‬والدليل على ذلك أّنها جعلت الجّنة هى الهدف النهائي لهذه المسابقة‪ ،‬بعبارة ُاخرى فان السباق هنا‬
‫نحو الخيرات والصالحات‪ ،‬أّما السباق هناك نحو الجّنة التي تمثل حصيلة العمال‪ .‬ثم أشار )عليه السلم( في‬
‫النقطة الرابعة إلى واحدة من أهم أمتعة السفر الخروي الخطير وهى التوبة فقال‪» :‬أفل تائب من خطيئته قبل‬
‫منّيته)‪ ،(2‬أل عامل لنفسه قبل يوم بؤسه« فهذه التعبيرات ـ التي تهدف إلى إثارة العارفين والعمل على تشجيعهم‬
‫إلى جانب تنبيه الغافلين وإيقاظهم ـ هى في الواقع تمثل النتيجة المنطقية للعبارات السابقة‪ ،‬وذلك إذا كانت الدنيا قد‬
‫ن اليوم المضمار وغدًا السباق والسبقة الجّنة‬ ‫ن الخرة قد أقبلت وأشرفت باطلع‪ ،‬وإ ّ‬ ‫أدبرت وآذنت بوداع وإ ّ‬
‫والغاية النار فلم ل يتوب أهل الحجى والعقل وينيبوا إلى‬

‫‪ .1‬سورة الحديد ‪.21 /‬‬

‫ن الموت‬
‫‪» .2‬منية« من مادة »منى« على وزن نقى‪ ،‬قال صاحب مقاييس اللغة بمعنى تقدير الشيء‪ ،‬ثم ُاطلقت على الموت والجل‪ ،‬ل ّ‬
‫أمر مقدر‪ ،‬وتطلق المنى على الماني التي تدور في خلد النسان‪.‬‬

‫] ‪[ 122‬‬

‫ال ويغتنموا الفرصة بالعمال الصالحة ويستعدوا لسفر الخرة؟ ولعل هذا هو الذي أشار له المام )عليه‬
‫السلم(في خطبة ُاخرى »فاعملوا وأنتم في نفس البقاء‪ ،‬والصحف منشورة والتوبة مبسوطة«)‪.(1‬‬

‫أما تعبيره )عليه السلم( عن يوم القيامة بيوم البؤس فلما يكتنفه من أحداث مهولة وعذاب شديد وهلع وخوف‬
‫عظيم‪ .‬وقد أشارت أغب اليات القرآنية لذلك العذاب لتحذر النسان وتحثه على اغتنام الفرصة والتزود لذلك‬
‫اليوم العصيب المليء بالمخاطر التي ل ينجي منها سوى العمل الصالح‪ .‬أّما في النقطة الخامسة فقد أشار )عليه‬
‫السلم( إلى الفرص التي تمر مّر السحاب والتي يقود عدم اغتنامها إلى الندم »أل وإنكم في أيام أمل من ورائه‬
‫أجل‪ ،‬فمن عمل في أّيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله ولم يضرره أجله« ويخسر بالمقابل من يقصر في‬
‫ن أجله يصبح عليه وبال »ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضّره أجله«‪.‬‬ ‫العمل‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ن دقائق عمر‬‫وتعبيره عن الحياة الدنيا بأّيام المل لهو تعبير لطيف يشير إلى قصر وإيجابية عالم الدنيا ; ل ّ‬
‫لخروي الخالد‪.‬‬ ‫النسان تمثل أعظم فرصة من أجل بلوغ السعادة والفوز بالفلح ا ُ‬

‫فلعل التوبة في لحظة من اللحظات تطفئ بحارًا من نيران جهنم كانت تتربص بهذا النسان‪ ،‬ولعل العمل الصالح‬
‫الخالص في ساعة من عمره ينتهي به إلى جنان الخلود والرضوان‪.‬‬

‫تأّملت‬

‫‪ 1‬ـ الدنيا والخرة في الحاديث‬

‫ن الدنيا دار طارئة متبدلة جعلت ليتزود منها النسان‬ ‫يرى الدين السلمي الحنيف وجميع الديان السماوية أ ّ‬
‫ن ال يبتلي العباد فيها بأنواع‬
‫ويكسب فيها السمو والكمال والمعرفة التي تحلق بها إلى عالم الخلود‪ ،‬ومن هنا فإ ّ‬
‫البلء والمتحان من خلل العبادات والطاعات وترك الشهوات وتحمل المصائب والمشكلت التي من شأنها‬
‫تربية النسان وصقل شخصيته‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.237‬‬

‫] ‪[ 123‬‬

‫وتهيئته لعالم الخرة المفعم بالخير والبركة‪ .‬وقد تظافرت الروايات التي تعرضت لبيان حقيقة الدنيا بعدة تعبيرات‬
‫مختلفة رائعة‪ ،‬ومن ذلك الخطبة التي نحن بصددها والتي شّبه فيها المام )عليه السلم( الدنيا بالدورة التدريبية‬
‫التي يستعد فيها النسان لسباق الخرة‪ ،‬الذي يحصل فيه الغالب على الجّنة والخاسر النار‪ .‬وقد جاء في الحديث‬
‫ن المزرعة ليست مكانًا للحياة والستقرار بل هى مكان للتزود من‬ ‫أن »الدنيا مزرعة الخرة«)‪ (1‬ومن الواضح أ ّ‬
‫أجل مكان آخر‪ ،‬وقد عّبر عنها بالمتجر ودار الموعظة والمصلى‪ ،‬كما أورد ذلك المام علي )عليه السلم( في‬
‫ن الدنيا دار صدق لمن صدقها‪ ...‬ودار موعظة لمن اتعظ بها‪ ،‬مسجد أحباء ال ومصلى‬ ‫نهج البلغة فقال »إ ّ‬
‫ن المسيح )عليه‬‫ملئكة ال ومهبط وحي ال ومتجر أولياء ال«)‪ .(2‬وروي عن المام السجاد )عليه السلم(أ ّ‬
‫السلم( قال للحواريين‪» :‬إّنما الدنيا قنطرة فاعبروها ول تعمروها«)‪ .(3‬كما عبر عنها المام علي )عليه‬
‫السلم(بأّنها »دار ممر«)‪ (4‬و»دار مجاز«)‪ .(5‬وأخيرًا فقد وصفها المام الهادي )عليه السلم(بالسوق الذي‬
‫ن كل هذه العبارة ترشد‬ ‫يتضمن الربح والخسارة »الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون«)‪ .(6‬والخلصة فا ّ‬
‫إلى عدم النظر إلى الدنيا على أّنها هى الهدف النهائي‪ ،‬بل هى وسيلة لدخار العمل الصالح وكسب المعارف من‬
‫ن أهم مسألة مصيرية‬ ‫ن الواقع هو أ ّ‬
‫لأّ‬
‫ن هذا الموضوع ساذج‪ ،‬إ ّ‬ ‫أجل الظفر بالدار الخرة‪ .‬ولعل البعض يرى أ ّ‬
‫في حياة النسان في أّنه كيف يتعامل مع المكانات المادية التي زود بها في هذه الحياة وكيف ينظر إلى هذه الدار‪،‬‬
‫هل يراها وسيلة وأداة من أجل الوصول إلى هدف معّين‪ ،‬أم يراها هى الهدف النهائي وليس وراءها شيء‪.‬‬
‫ن تأكيد المام)عليه السلم( في بداية الخطبة على أن الدنيا ميدان الستعداد لسباق الخرة إنما يشكل‬ ‫والواقع أ ّ‬
‫الدعامة الساسية الراسخة لسائر المواعظ المهمة التي وردت في هذه الخطبة‪.‬‬

‫‪ .1‬ورد هذا الحديث النبوي في غوالي اللئالي ‪.267 / 1‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الكلمات القصار ‪.131 /‬‬

‫‪ .3‬بحار النوار ‪ 319 / 14‬ح ‪.21‬‬

‫‪ .4‬نهج البلغة‪ ،‬الكلمات القصار ‪.133 /‬‬

‫‪ .5‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.203‬‬

‫‪ .6‬بحار النوار ‪ ،366 / 75‬مواعظ المام الهادي )عليه السلم(‬

‫] ‪[ 124‬‬

‫‪ 2‬ـ الخسارة العظمى‬

‫النقطة التي تعرضت لها الخطبة والتي ينبغي اللتفات إليها‪ ،‬إّنما تكمن في عدم إمكانية تدارك الخسران الذي‬
‫ن السباق‬‫يطيل النسان في هذه الحياة وفقدانه للفرص التي كان من شأنها أن تجعله يفوز بالدار الخرة‪ ،‬والواقع إ ّ‬
‫الذي ينتظر النسان إّنما يقام لمرة واحدة فقط‪ ،‬فهناك ميدان للتمرين وآخر للسياق ليس للتكرار إليه من سبيل‪،‬‬
‫ومن خسر فليس أمامه من فرصة لتدارك خسارته‪ ،‬ومن هنا قال المام )عليه السلم(‪» :‬ومن قصر في أيام أمله‬
‫قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضره أجله«‪ .‬أّما الندم فل يداوي جرحًا ول يصلح فاسدًا هناك فليصرخ‬
‫ل(‪.‬‬
‫ت()‪(1‬فيأتي الجواب )َكـ ّ‬‫ل صاِلحًا ِفـيما َتَرْك ُ‬
‫عَم ُ‬
‫ن َلَعّلي َأ ْ‬
‫جُعو ِ‬
‫ب اْر ِ‬
‫الصارخون‪َ) :‬ر ّ‬

‫—–‬
‫‪ .1‬سورة المؤمنون ‪.100 /‬‬

‫] ‪[ 125‬‬

‫القسم الثاني‬

‫ن ِفي الّرْهَبِة! َأل َوِإّني َلْم َأَر كاْلجَّنِة ناَم طاِلُبها‪َ ،‬ول كالّنار ناَم هاِرُبها‪َ ،‬أل‬ ‫غَبِة َكما َتْعَمُلو َ‬ ‫عَمُلوا ِفي الّر ْ‬ ‫»َأل فا ْ‬
‫ضلُل ِإَلى الّرَدى‪َ .‬أل َوِإّنُكْم َقْد ُأِمْرُتْم‬‫جّر ِبِه ال ّ‬
‫سَتِقيُم ِبِه اْلُهَدى‪َ ،‬ي ُ‬‫ن ل َي ْ‬
‫طُل‪َ ،‬وَم ْ‬
‫ضّرُه اْلبا ِ‬‫ق َي ُ‬ ‫حّ‬ ‫ن ل َيْنَفُعُه اْل َ‬ ‫َوِإّنُه َم ْ‬
‫طوُل اَْلَمِل‪َ ،‬فَتَزّوُدوا ِفي الّدْنيا ِم َ‬
‫ن‬ ‫ع اْلَهَوى‪َ ،‬و ُ‬‫ن‪ :‬اّتبا ُ‬
‫عَلْيُكُم اْثَنتا ِ‬
‫ف َ‬ ‫ف ما َأخا ُ‬‫خَو َ‬
‫ن َأ ْ‬‫عَلى الّزاد َوِإ ّ‬ ‫ن َوُدِلْلُتْم َ‬‫ظْع ِ‬
‫ِبال ّ‬
‫غدًا«‪.‬‬‫سُكْم َ‬ ‫ن ِبِه َأْنُف َ‬
‫حُرُزو َ‬ ‫الّدْنيا ما َت ْ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الرحيل الوشيك‬

‫أشار المام )عليه السلم( إلى مسألة مهّمة رّبما غفل عنها أغلب الناس‪» :‬أل فاعملوا في الرغبة كما تعملون في‬
‫الرهبة« فعبادة ال وطاعته ل تعني الفزع إليه في الشدة والبلء والتولي عنه في اليسر والرخاء ; ولو كان المر‬
‫عـُوا ا ّ‬
‫ل‬ ‫ك َد َ‬
‫كذلك لكان مشركوا الجاهلية من خلص العباد‪ ،‬فقد وصفهم القرآن الكريم بالقول‪َ):‬فِإذا َرِكُبوا ِفي الُفْل ِ‬
‫ضـّر ِفي‬‫سـُكُم ال ّ‬ ‫ن()‪ (1‬ثم خاطبهم في آية ُاخرى )َو ِإذا َم ّ‬ ‫شِرُكو َ‬ ‫جاهْم ِإلى الَبّر ِإذا ُهْم ُي ْ‬ ‫ن َفَلّما َن ّ‬
‫ن َلُه الّدي َ‬
‫صـي َ‬
‫خِل ِ‬
‫ُمـ ْ‬
‫ن العبرة ليست‬ ‫ن َكُفورًا()‪ .(2‬والواقع أ ّ‬ ‫لْنسا ُ‬
‫نا ِ‬
‫ضُتْم َوكا َ‬
‫عَر ْ‬
‫جاكْم ِإلى الَبـّر َأ ْ‬ ‫ل ِإّياه َفَلّما َن ّ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫عو َ‬ ‫ن َتْد ُ‬
‫ل َم ْ‬‫ضّ‬‫حِر َ‬ ‫الَب ْ‬
‫في القبال على ال عند الفزع‪ ،‬بل العبرة أن يقبل العبد عليه حين الرخاء والرفاه والشعور بالقوة والقتدار‪ ،‬فما‬
‫كان مع ال في هذه الظروف كان ال معه في الظروف العصيبة‪ .‬فعلمة اليمان الخالص أن يتوجه العبد إلى ال‬
‫ويذكره على كل حال في العافية والسقم والفتوة‬

‫‪ .1‬سورة العنكبوت ‪.65 /‬‬

‫‪ .2‬سورة السراء ‪.67 /‬‬

‫] ‪[ 126‬‬

‫والكهولة والفقر والغنى والهزيمة والنتصار والحرية والسجن وما إلى ذلك‪ .‬ومن هنا نرى النبياء والوصياء‬
‫والولياء ل ينفكون في حال من الحوال عن التضرع إلى ال والتوجه إليه‪ .‬فالمتتبع لسيرة المام علي )عليه‬
‫السلم( ل يرى في عبادته من تفاوت بين جلوسه في البيت حين زحزحت عنه الخلفة ونهوضه بالمر وإدارته‬
‫لشؤون البلد السلمية‪ ،‬فالزهد والتهجد وإعانة الضعفاء والفقراء وطلق الدنيا إلى غير رجعة كان من المعاني‬
‫الواضحة في عبادة المام )عليه السلم(‪ :‬ثم قال )عليه السلم(‪» :‬أل وإّني لم أر كالجنة نام طالبها‪ ،‬ول كالنار نام‬
‫هاربها«‪ .‬لقد رأينا عّدة أفراد من الذين يعيشون الرق ليالي حين يهمون ببعض السفار القريبة التي تدر عليهم‬
‫بعض الرباح والفوائد‪ ،‬فكيف ينام طالب الجّنة الباقية ـ النعمة التي ل تفوقها نعمة أو الخائف من نار جهنم التي ل‬
‫لمور؟! ولعل ذلك يعزى إلى ضعف ايمان الفرد‬ ‫يتصور عذابها وأن رؤيته غير سماعه ـ ول يكترث لهذه ا ُ‬
‫ن الغفلة عن الخرة لمن‬ ‫بالعالم الخر‪ ،‬أو إلى سكر النعم والمنافع التي يتمتع بها في حياته‪ ،‬ومهما كان السبب فا ّ‬
‫ن من وظائف أئمة الدين‬ ‫الظواهر المأساوية الليمة التي ينبغي للنسان التوقف عندها ومعالجتها‪ .‬ولشك أ ّ‬
‫وزعماء المسلمين ايقاظ الناس من غفلتهم وترسيخ دعائم ايمانهم ولفت أنظارهم إلى الدار الخرة وتحذيرهم من‬
‫الغترار بالدنيا والذوبان فيها‪ .‬وفي النقطة الثامنة يشير المام )عليه السلم(إلى مسألة ذات صلة بهذا الموضوع‬
‫فيقول‪» :‬أل وإّنه من ل ينفعه الحق يضره الباطل‪ ،‬ومن ل يستقيم به الهدى‪ ،‬يجر به الضلل إلى الردى«‪ .‬طبعًا ل‬
‫يتضح عمق هذا الكلم مالم نقف على التعريف الصحيح للحق والباطل‪ .‬فالحق عبارة عن الواقعيات‪ ،‬سواء كان‬
‫هذا الحق تكوينيًا أم تشريعيًا‪ .‬ويراد بالحق التكويني واقعيات عالم الوجود‪ ،‬ويقابل ذلك الباطل المتمثل بالخيال‬
‫والسراب الذي ل واقع له ول وجود سوى في عالم التصور والوهم‪ .‬أما الحق التشريعي فيتمثل بالقوانين والتعاليم‬
‫اللهية التي شرعت من أجل الفرد أو مجموعة الفراد على ضوء المصالح والكفاءات الذاتية أو الكتسابية‪،‬‬
‫ويقابله الباطل الذي يتجسد بعرقلة القوانين والتمرد عليها باسم القانون وتضييع العدالة وسلب الحريات وذبحها‬
‫ن من يولي ظهره للحق سواء على مستوى التشريع أو التكوين فاّنه يقع‬ ‫بمرأى ومسمع من الناس‪ .‬ومن البديهي أ ّ‬
‫في حبائل الباطل من قبل الوهم والخيال والسراب الذي يحسبه الظمآن ماء ; المر الذي ل يرتقي بالنسان إلى‬
‫الشيء‪،‬‬

‫] ‪[ 127‬‬

‫والواقعيات هى التي تبلغ بالنسان الهدف ل الوهم والخيال الذي ل يجر على النسان سوى الخذلن والخسران‪.‬‬
‫ن مصيره المحتوم إّنما يؤول إلى‬‫لأّ‬ ‫ولعل النسان يستطيع عن طريق الباطل اغفال الخرين مّدة من الزمان‪ ،‬إ ّ‬
‫البؤس والشقاء ل محالة في خاتمة المطاف وعليه فان قوله )عليه السلم(‪» :‬أل وإّنه من ل ينفعه الحق‪ ،‬يضره‬
‫الباطل‪ ،‬ومن ل يستقيم به الهدى‪ ،‬يجر به الضلل إلى الردى« إّنما يمثل حقيقة واقعية واضحة‪ .‬طبعًا صحيح أن‬
‫ن هذه المرارة تبدو كمرارة الدواء التي‬‫لأّ‬‫القرار بالحق واقتفاء آثاره إّنما يقترن غالبًا بتحمل الشدائد المريرة‪ ،‬إ ّ‬
‫تجعل السقيم يتماثل للشفاء‪ ،‬ول يجني من تلك المرارة سوى السلمة والصحة والعافية من المرض الذي رّبما‬
‫لمور‬ ‫ن الحق والباطل ليسا من قبيل الوجودات الصطناعية وا ُ‬ ‫يؤدي بصاحبه إلى الموت‪ .‬ويتضح مّما تقدم أ ّ‬
‫العتبارية ; فالحق في عالم التكوين هو ذلك الوجود العيني وفي عالم التشريع هو عبارة عن الواجبات‬
‫والمحظورات التي تستند إلى المصالح والمفاسد والتي تمثل بدورها واقعيات عينية‪ ،‬وسنتناول هذا الموضوع‬
‫بالشرح في البحاث القادمة‪.‬‬

‫ن المام )عليه السلم( هدف بهذه العبارة إلى إفهام الخرين ـ علوة على تنبيههم إلى أصل كلي‬ ‫على كل حال فا ّ‬
‫له بالغ الثر في مصير الناس ـ بأّنهم اذا لم يلتزموا بوصاياه المنسجمة والحق والعدل فاّنهم سيقعون في مخالب‬
‫الظلم والجور والضطهاد وإن أضرار الباطل ستجتاح حياتهم ; المر الذي شهدوه في حياتهم ومسيرتهم‪ .‬ثم‬
‫تعرض المام )عليه السلم(ـ في النقطة التاسعة ـ إلى موضوع مهم يحكم حياة البشرية شاءت أم أبت »أل وإنكم‬
‫قد أمرتم بالظعن)‪ (1‬ودللتم على الزاد«‪ .‬والمر بالظعن هو قانون الموت الذي يحكم حياة الناس‪ ،‬فالطفال‬
‫يسيرون نحو الشباب‪ ،‬والشباب يتجهون نحو الكهولة وهذه الخيرة إّنما تنتهي بالموت‪ .‬فهو قانون شامل جاري ل‬
‫يعرف الستثناء والشواذ‪ ،‬كما أّنه قانون ل يقوى أحد على تجاوزه مهما كانت قوته وقدرته وعلمه ومعرفته فهو‬
‫القانون الذي شرعته يد القدرة اللهية لسمو النسانية وتكاملها وقد تعرضت أغلب آيات كتاب التشريع‪.‬‬

‫‪» .1‬ظعن« على وزن »طعن« بمعنى الرحيل من مكان إلى آخر ومن هنا اطلقت الظعينة على الهودج لّنه من وسائل السفر‪،‬‬
‫وتستخدم أحيانًا كنايًة عن النساء‪ ،‬لّنهم غالبًا مايركبن الهودج‪.‬‬

‫] ‪[ 128‬‬

‫ت َوَلْو ُكْنُتْم ِفي ُبُروج‬


‫ت()‪ (1‬والية‪َ) :‬أْيَنما َتُكوُنوا ُيْدِركّكُم الَمْو ُ‬ ‫ل َنْفس ذاِئَقُة الَمْو ِ‬
‫لهذا المر التكويني كالية‪ُ):‬ك ّ‬
‫شّيَدة()‪ .(2‬وقد خوطب بهذا المر رسول ال )صلى ال عليه وآله(الذي يمثل أشرف كائنات عالم الخلقة )ِإنّـ َ‬
‫ك‬ ‫ُم َ‬
‫جَهُه()‪.(4‬‬‫ل َو ْ‬
‫ك ِإ ّ‬
‫شيء هاِل ٌ‬ ‫ل َ‬ ‫ن()‪ (3‬والية‪ُ) :‬ك ّ‬ ‫ت َو ِإّنـُهْم َمّيـُتو َ‬
‫َمـّي ٌ‬

‫كما يحتمل أن يكون المراد بقوله )عليه السلم( »أمرتم بالظعن« المر بالستعداد للرحيل من الدنيا‪ ،‬كما ورد‬
‫ذلك في الخطبة ‪» 204‬تجهزوا رحمكم ال فقد نودي فيكم بالرحيل«)‪ .(5‬وأّما المر بالتجهز والتزود فاّنه يمثل‬
‫رسالة جميع النبياء إلى البشرية وتنبيهها إلى الطريق الخطير الذي ينتظرها ; وهو طريق طويل يشمل الفاصلة‬
‫بين الدنيا والخرة ول يمكن السير عليه دون حمل الزاد‪ ،‬ول معنى للزاد هنا سوى اليمان والتقوى والورع‬
‫خْيَر الّزاد الّتْقوى()‪ (6‬ول ينفع في الخرة سوى القلب السليم المفعم باليمان وح ّ‬
‫ب‬ ‫ن َ‬
‫والعمل الصالح )َوَتَزّوُدوا َفِإ ّ‬
‫سِليم()‪.(7‬‬
‫ل ِبَقْلب َ‬
‫ن َأتى ا ّ‬
‫ل َم ْ‬
‫ن * ِإ ّ‬
‫ل َول َبـُنو َ‬ ‫ال )َيْوَم ل َيـْنَفُع ما ٌ‬

‫وعليه فل ينبغي أن يلتفت سالكوا هذا الطريق إلى الدنيا وما فيها وينخدعوا بزخارفها‪ ،‬بل عليهم الهم بالعمل‬
‫عْنَد‬
‫خْيٌر ِ‬
‫ت َ‬
‫صالحا ُ‬
‫ت ال ّ‬
‫حياةِ الّدْنيا َوالباِقـيا ُ‬
‫ن ِزيَنُة ال َ‬
‫ل َوالَبـُنو َ‬
‫الصالح الذي ل يبلغ بهم الهدف المنشود سواه )الما ُ‬
‫ل()‪.(8‬‬‫خْيٌر َأَم ً‬
‫ك َثوابًا َو َ‬
‫َرّب َ‬

‫وأخيرًا بعد أن لفت انتباه المة إلى الخرة وزهدها في الدنيا وأوصاها بالتزود لتلك الدار وحذرها من ذلك‬
‫الطريق الخطير الذي ينتهي سالكه إلى السعادة والقرب اللهي إذا سار عليه بعمله الصالح وورعه وتقواه‪،‬‬
‫عاد )عليه السلم( ليحذر من عقبتين خطيرتين تصدان النسان عن‬

‫‪ .1‬سورة آل عمران ‪.185 /‬‬

‫‪ .2‬سورة النساء ‪.78 /‬‬

‫‪ .3‬سورة الزمر ‪.30 /‬‬

‫‪ .4‬سورة القصص ‪. 88 /‬‬

‫ن المر في قوله »أمرتم بالظعن« هو أمر تكويني وأجل الهي ولكن ليس في الجملة من تقدير‪ ،‬وهو‬ ‫‪ .5‬على ضوء المعنى الول فا ّ‬
‫أمر تشريعي على ضوء المعنى الثاني وفي العبارة تقدير هو التجهز والستعداد‪ ،‬أو الظعن بالمعنى المجازي‪.‬‬

‫‪ .6‬سورة البقرة ‪.197 /‬‬

‫‪ .7‬سورة الشعراء ‪ 88 /‬ـ ‪. 89‬‬

‫‪ .8‬سورة الكهف ‪.46 /‬‬

‫] ‪[ 129‬‬

‫السعادة والفلح »وإن أخوف ما أخاف عليكم إثنتان‪ :‬إتباع الهوى‪ ،‬وطول المل« وهو المعنى الذي ورد في‬
‫الخطبة ‪ 42‬بعد أن تناوله المام )عليه السلم(بشيء من التوضيح فقال‪» :‬أّيها الناس وإن أخوف ما أخاف عليكم‬
‫إثنان‪ :‬إتباع الهوى وطول المل‪ ،‬فأما إتباع الهوى فيصد عن الحق‪ ،‬وأما طول المل فينسى الخرة«‪ .‬وتفيد‬
‫ن هذه التعاليم قد احتذاها أمير المؤمنين )عليه السلم( من معلمه الول‬
‫الحاديث النبوية والخبار والروايات أ ّ‬
‫ل عن النبي)صلى ال عليه وآله()‪.(1‬‬‫الكرم)صلى ال عليه وآله( ; فقد وردت هذه المعاني في بحار النوار نق ً‬

‫ن اتباع الهوى ل يعرف معنى‬ ‫ن هذين المرضين يعدان من أعظم عوامل الذنوب والمعاصي‪ ،‬ل ّ‬ ‫والواقع هو أ ّ‬
‫للحدود والقيود‪ ،‬فاذا سيطر على النسان أعمى بصره وبصيرته وأصم سمعه بحيث ل يطيق سماع الحق من‬
‫النبي )صلى ال عليه وآله( والمام المعصوم )عليه السلم( ول تعد لديه القدرة على رؤية الحقائق التي تحيط به‪،‬‬
‫وعليه فهو يعيش حياته الدنيا كالصم البكم العمي الذين ل يفقهون ; المر الذي يجعله عرضة للسقوط في الهاوية‪.‬‬
‫أّما طول المل فاّنه يزين الدنيا بما ينسي الخرة ويقتصر بهمة النسان على الدنيا التي يرى فيها مقامه الخير‬
‫وهدفه النهائي‪ .‬ثم يختتم المام )عليه السلم( خطتبه بقوله »تزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون)‪ (2‬به أنفسكم‬
‫غدًا« نعم فهناك سفر طويل على البواب‪ ،‬سفر يتطلب المتاع والزاد الكثير‪ ،‬وعليه فينبغي للعاقل أن يلتفت إلى‬
‫نفسه ويجهزها بما يجعلها تجتاز ذلك السفر الطويل قبل فوات الوان‪ ،‬ويبتعد عن الخطار والمطبات التي يمكنها‬
‫عرقلة هذه السفر‪ ،‬فيطويه بكل إيمان وثبات ليصل إلى هدفه المنشود‪.‬‬

‫تأّملن‬
‫‪ 1‬ـ خير الزاد‬

‫ل نرانا نبالغ إذا شبهنا الناس بالمسافرين الذين يغادرون منطقة صغيرة ملوثة نحو عالم‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪ .91 / 70‬فقد روى هذه الحديث جابر بن عبدال النصاري عن رسول ال)صلى ال عليه وآله(في باب حب الدنيا‪.‬‬

‫‪» .2‬تحرزون« من مادة »حرز« بمعنى الحفظ‪ ،‬و»الحرز« على وزن الحرص بمعنى الموضع المن لحفظ الشياء‪.‬‬

‫] ‪[ 130‬‬

‫ل َأْتقاُكْم(جعلت التقوى هى المعيار الرئيسي لكرامة النسان‬ ‫عْنَد ا ّ‬


‫ن َأْكَرَمُكْم ِ‬
‫ن الية الشريفة )ِإ ّ‬
‫جدير بالذكر أ ّ‬
‫ن السبيل الوحيد للنجاة غدًا إّنما يكمن في التقوى والتي عّبر عنه‬ ‫وقيمته ; المر الذي يؤكد المعنى المذكور في أ ّ‬
‫أحيانًا بالزاد وأحيانًا ُاخرى بصفتها تمثل ملك الكرامة النسانية‪ .‬وهذا ما وضحته بعض العبارات الواردة في‬
‫ن أمامكم عقبة كؤودا ومنازل مخوفة‬ ‫الخطبة ‪ 204‬من نهج البلغة »وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد فا ّ‬
‫مهولة لبّد من الورود عليها والوقوف عندها«‪ .‬نسأل ال سبحانه أن يوفقنا لتوفير هذا الزاد القيم قبل فوات‬
‫الوان‪ ،‬فل نرد ذلك السفر بأيدي خالية‪ ،‬والحق أّنها خالية مقارنة بما عليه تلك الدار‪.‬‬

‫] ‪[ 131‬‬

‫‪ 2‬ـ اتباع الهوى وطول المل من أعدى أعداء النسان‬

‫لبّد من التعامل بصورة جادة مع التحذير الذي ُاختتمت به الخطبة بشأن الخطار الكبرى التي يفرزها إتباع‬
‫الهوى وطول المل ; فهما مكمن الخطر والمأساة التي تصيب النسان‪ .‬فاتباع الهوى يعد أعظم عقبة تعترض‬
‫سبيل سعادة النسان‪ .‬فالستسلم المطلق للشهوات والهواء النفسية يعد العدو اللدود لسعادة البشرية‪ .‬القرآن‬
‫الكريم من جانبه حذر حتى النبياء من هذا العدو الفتاك‪ ،‬ومنهم نبي ال داود )عليه السلم(الذي قال بشأنه )َول‬
‫ل()‪ (1‬كما صور هوى النفس في موضع آخر بالصنم الذي يعبد من دون ال‬ ‫لا ّ‬ ‫سِبي ِ‬
‫ن َ‬
‫عْ‬‫ك َ‬ ‫ضّل َ‬‫َتـّتِبـِع الَهوى َفُي ِ‬
‫ن َيْهِديِه ِم ْ‬
‫ن‬ ‫غشاَوةً َفَم ْ‬
‫صِرهِ ِ‬‫على َب َ‬‫ل َ‬ ‫جَع َ‬
‫سْمِعِه َوَقْلِبِه َو َ‬
‫على َ‬ ‫خَتَم َ‬
‫عْلم َو َ‬
‫على ِ‬
‫ل َ‬
‫ضّلُه ا ّ‬
‫خَذ ِإلـَهُه َهواُه َوَأ َ‬
‫ن اّتـ َ‬
‫ت َم ِ‬
‫)َأَفَرَأْي َ‬
‫ن()‪ .(2‬والحق أن إتباع الهوى ليعمي البصيرة ويصم السمع ويختم على العقل والفكر ويحول‬ ‫ل َأَفل َتَذّكُرو َ‬ ‫َبْعِد ا ّ‬
‫دون النسان وتمييز بديهيات الحياة‪ ،‬فهل هنالك من خطر أعظم وأفدح منه ؟! ومن هنا اقتصر القرآن بوعده‬
‫ن الَهوى * َفِإ ّ‬
‫ن‬ ‫عِ‬‫س َ‬
‫ف َمقاَم َرّبِه َوَنهى الّنْف َ‬‫ن خا َ‬ ‫لولئك الذين يخشون ال ويسيطرون على أهوائهم )َوَأّما َم ْ‬ ‫الجّنة ُ‬
‫ي الَمـْأوى()‪.(3‬‬ ‫جّنَة ِه َ‬
‫ال َ‬

‫طول المل هو الخر من أسوأ وأخطر العقبات التي تعترض سبيل السعادة النسانية ; فقد دلت التجارب على‬
‫ن مثل هذه‬‫ل تعطشًا‪ .‬ومن الطبيعي أ ّ‬
‫ن آمال النسان الخيالية ل تقف عند حدود‪ ،‬فل يزداد نحوها إ ّ‬ ‫مدى التأريخ أ ّ‬
‫المال تشل حركة النسان وتسلبه جميع طاقاته الفكرية والبدنية ول تبقى له شيئًا يشده نحو الخرة‪ .‬فاننا نعرف‬
‫بعض الفراد الذين عاشوا هذه المال الكاذبة حتى اللحظات الخيرة من حياتهم دون أن يلتفتوا حتى لتربية فلذات‬
‫ن النسان كلما تقدم أكثر كانت هذه المال أكذب بحيث تضاعف غرور‬ ‫أكبادهم‪ .‬ومن عجائب هذه المال‪ ،‬أ ّ‬
‫النسان وتصده عن الواقع‪ .‬وهذا هو الوضع السائد لدى الكّفار والذي أشار إليه القرآن في خطابه لرسول‬
‫سْو َ‬
‫ف‬ ‫ل َف َ‬
‫لَم ُ‬
‫ال)صلى ال عليه وآله( ) َذْرُهْم َيْأُكُلوا َوَيـَتَمـّتُعوا َوُيْلِهـِهُم ا َ‬

‫‪ .1‬سورة ص ‪.26 /‬‬

‫‪ .2‬سورة الجاثية ‪.23 /‬‬

‫‪ .3‬سورة النازعات ‪ 40 /‬ـ ‪.41‬‬


‫] ‪[ 132‬‬

‫ن()‪ ،(1‬المعنى الذي أشار إليه المام )عليه السلم( في قصار كلماته في نهج البلغة »من أطال المل أساء‬
‫َيْعَلُمو َ‬
‫العمل«)‪.(2‬‬

‫ل من خلل خلط الحلل بالحرام‬ ‫ويبدو أن تلك المال متعذرة النيل من خلل السباب المشروعة‪ ،‬وهى ل تتيسر إ ّ‬
‫وهضم حقوق الخرين ونسيان ال والخرة‪ .‬ومن هنا حذر المام )عليه السلم( في الخطبة ‪ 86‬من نهج البلغة‬
‫ن المل يسهي العقل وينسي الذكر فأكذبوا المل فانه غرور‬ ‫أولئك الذين ينشدون السعادة بالقول »واعلموا أ ّ‬
‫وصاحبه مغرور« ويبدو قصر المل على درجة من الهمية بحيث اعتبره المام )عليه السلم( الركن الصلي‬
‫للزهد‪ ،‬وهذا ما أورده في الخطبة ‪ 81‬من نهج البلغة »أيها الناس‪ ،‬الزهادة قصر المل والشكر عند المنعم‬
‫والتورع عند المحارم«‪ .‬وآمال النسان كانت ومازالت أبعد وأطول من عمر النسان وإمكاناته وقدراته ; المر‬
‫الذي ل يجعل أهل الهوى وطلب الدنيا يحققون تلك المال ويظفروا بها أبدًا‪ ،‬وغالبًا ما يودعون الدنيا بمنتهى‬
‫النزجار والستياء في لحظات نزع أرواحهم‪ .‬وبالطبع ل ينبغي الغفلة عن المل بشكل الدافع الساس لسعي‬
‫النسان وجهده وانطلقته في هذه الحياة‪ ،‬وعليه فالمل حسن وليس بقبيح ول يمكن مواصلة الحياة من دونه‪ ،‬إ ّ‬
‫ل‬
‫ن المذموم إساءته وطوله وبعده عن الواقع واستناده إلى الوهم والخيال‪ .‬ومن هنا ورد في الحديث »المل رحمة‬ ‫أّ‬
‫لمتي ولول المل ما رضعت والدة ولدها ول غرس غارس شجرًا«)‪.(3‬‬

‫وبناًء على ما تقدم فان وظيفة أساتذة الخلق خطيرة ثقيلة ; وذلك لّنهم لبّد أن يضيئوا نور المل في قلوب‬
‫الناس من جهة ومن جهة ُاخرى ينبغي أن يبقوا عليه متوازنًا بعيدًا عن الفراط‪ .‬والمال المنطقية هى تلك التي‬
‫ن السلم ل يعارض‬ ‫تنسجم ومتطلبات النسان وقدراته الواقعية بحيث ل تبعده عن هدفه المنشود‪ .‬وبالطبع فا ّ‬
‫التخطيط والبرمجة من أجل المستقبل والتطلع إلى الغد ول سيما بالنسبة للنشطة الجتماعية التي تعود بالنفع على‬
‫ن مثل هذه النشطة ليست مذمومة فحسب‪،‬‬ ‫المجتمع السلمي وتضع حدًا للتبعية لعداء السلم‪ ،‬فا ّ‬

‫‪ .1‬سورة الحجر ‪.3 /‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الكلمات القصار ‪.36 /‬‬

‫‪ .3‬بحار النوار ‪.173 / 74‬‬

‫] ‪[ 133‬‬

‫ن النسان يغرق في هالة من المال الفارغة التي تنسي الخرة‪ ،‬وبالتالي ل‬‫بل تعتبر عبادة والمذموم في السلم أ ّ‬
‫يظفر النسان بها مهما جند طاقته وإمكاناته‪.‬‬

‫وفي الحياة الفردية مطلوب هو التفكير في العاقبة والذي إصطلحت عليه الروايات بالحزم‪ .‬والمذموم في السلم‬
‫أن يغرق النسان في المل حتى ينسى الخرة‪ ،‬ويفنى كل طاقته وقواه في ذلك المل الذي لن يبلغه قط‪.‬‬

‫تكملة‬

‫قال السيد الشرف)رض( وأقول‪ :‬إنه لو كان كلم يأخذ بالعناق إلى الزهد في الدنيا ويضطر إلى عمل الخرة‪،‬‬
‫لكان هذا الكلم وكفى به قاطعًا لعلئق المال وقادحًا زناد التعاظ والزدجار ومن أعجبه قوله)عليه السلم(‪:‬‬
‫سبقة الجّنة والغاية الّنار«‪ ،‬فإن فيه ـ مع فخامِة اللفظ وعظم قدر المعنى‬ ‫سباق‪ ،‬وال ّ‬
‫ن اْليوم المضمار وغدًا ال ّ‬
‫»أل وإ ّ‬
‫سبقة الجّنة‪ ،‬والغاية‬
‫وصادق التمثيل‪ ،‬وواقع التشبيه ـ سّرا عجيبًا ومعنى لطيفًا‪ ،‬وهو قوله)عليه السلم(‪» :‬وال ّ‬
‫سبقة الجّنة«; لن الستباق‬ ‫سبقة الّنار«‪ .‬كما قال‪» ،‬ال ّ‬
‫الّنار« فخالف بين اللفظين لختلف المعنيين ولم يقل‪» :‬ال ّ‬
‫انما يكون إلى امر محبوب وغرض مطلوب وهذه صفة الجّنة وليس هذا المعنى موجودًا في النار‪ ،‬نعوذ با ّ‬
‫ل‬
‫منها‪!...‬‬
‫—–‬

‫] ‪[ 134‬‬

‫] ‪[ 135‬‬

‫الخطبة)‪29 (1‬‬

‫ومن خطبة له )عليه السلم(‬

‫بعد غارة الضحاك بين قيس ـ صاحب معاوية ـ على الحاج بعد قصة الحكمين‪ ،‬وفيها يستنهض أصحابه لما‬
‫حدث في الطراف‪.‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫كما ورد في أسناد الخطبة فان بعض المحققين يرون أن هذه الخطبة جزء من الخطبة السابعة والعشرين ; ويبدو‬
‫ن مضامينها واحدة تفيد مدى ضعف أهل الكوفة والعراق تجاه حملت معاوية وأهل الشام‪ ،‬وكأّنهم‬ ‫أّنها كذلك‪ ،‬ل ّ‬
‫لم يشعروا بما كان يدور حولهم والجرائم البشعة التي كان يرتكبها الشاميون‪ .‬فقد جعل المام )عليه السلم(‬
‫يمطرهم بوابل الذم والتشنيع لعلهم يفيقون إلى أنفسهم وينتبهوا إلى الخطار التي كانت محدقة بهم‪ .‬فقد قال ابن‬
‫أبي الحديد‪:‬‬

‫‪ .1‬قال صاحب مصادر نهج البلغة هذه من الخطب المعروفة التي رواها أغلب العلماء والمحدثين الذين عاشوا قبل السيد‬
‫الرضي)ره( ومنهم‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الجاحظ في البيان والتبيين ‪.170 / 1‬‬

‫‪ 2‬ـ ابن قتيبة الدينوري في المامة والسياسة ‪.150 / 1‬‬

‫‪ 3‬ـ ابن عبد ربة في العقد الفريد ‪.71 / 4‬‬

‫‪ 4‬ـ البلذري في كتاب أنساب الشراف )في شرح سيرة علي )عليه السلم(( ‪.380 /‬‬
‫‪ 5‬ـ القاضي نعمان المصري في دعائم السلم ‪) 391 / 1‬مع اختلف وما ورد في النهج وقال الشارح الخوئي يستفاد من بحار النوار‬
‫ن هذه الخطبة جزء من الخطبة ‪) 27‬شرح نهج البلغة‪ ،‬الخوئي ‪.(21 / 4‬‬
‫والحتجاج والرشاد أ ّ‬

‫] ‪[ 136‬‬

‫ن علّيا عليه السلم بعد‬


‫ن معاويَة َلّما بلغه أ ّ‬
‫ضحاك بن قيس بعد الحَكَمْين‪ ،‬قبل قتال الّنْهَرَوان‪ ،‬وذلك أ ّ‬ ‫كانت غارة ال ّ‬
‫ن علّيا‬
‫شق معسكرًا‪ ،‬وبعث إلى ُكور الشام‪ ،‬فصاح بها‪ :‬إ ّ‬ ‫ل‪ ،‬هاله ذلك‪ ،‬فخَرج من ِدَم ْ‬ ‫واقعة الحكمين تحّمل إليه ُمقب ً‬
‫ت على الناس‪:‬‬ ‫قد سار إليكم‪ .‬وكتب إليهم نسخة وا حدة‪ ،‬فقِرَئ ْ‬

‫—–‬

‫ي‪ ،‬وقال له‪ :‬سْر حتى تمّر بناحية الكوفة وترتفَع عنها ما استطعت‪،‬‬ ‫حاك بن قيس الِفْهر ّ‬‫فعند ذلك دعا معاوية الض ّ‬
‫غْر عليها‪ ،‬وإذا‬
‫ل فأ ِ‬
‫حًة أو خي ً‬
‫سَل َ‬
‫ت له َم ْ‬
‫غْر عليه‪ ،‬وإن وجد َ‬ ‫ي عليه السلم َفأ ِ‬ ‫ن وجْدَته من العراب في طاعة عل ّ‬‫فَم ْ‬
‫سّرحت إليك لتْلقاها فتقاتلها‪ .‬فسّرحه فيما بين‬ ‫ن لخيل بلغك أّنها فقد ُ‬ ‫ت في بلدة فأْمس في ُاخرى‪ ،‬ول ُتقيم ّ‬
‫أصبح َ‬
‫ثلثة آلف إلى أربعة آلف‪.‬‬

‫ج‪ ،‬فأخذ أمتعتهم‪ ،‬ثم‬


‫ي من العراب‪ ،‬حتى مر بالّثْعَلبّية فأغار على الحا ّ‬ ‫ن ِلق َ‬‫ضحاك‪ ،‬فنهب الموال وقتل َم ْ‬ ‫ل ال ّ‬‫فأقب َ‬
‫ل عليه‬
‫ل صلى ا ّ‬ ‫ل بن مسعود‪ ،‬صاحب رسول ا ّ‬ ‫ي‪ ،‬وهو ابن أخ عبدا ّ‬‫عَميس بن مسعود الّذْهل ّ‬ ‫ي عمرو بن ُ‬
‫أقبل فلق َ‬
‫ل معه ناسًا من أصحابه‪.‬‬ ‫طانة‪ .‬وقت َ‬ ‫طُق َ‬‫ج عند الُق ْ‬
‫وآله‪ ،‬فقتله في طريق الحا ّ‬

‫ي على أطراف أعماله‪ ،‬فتقاعُدوا‬


‫ب غارة الضحك بن قيس الفهر ّ‬
‫عقي َ‬
‫س ُ‬
‫استصرخ أميرالمؤمنين عليه السلم النا َ‬
‫عنه‪ ،‬فخطبهم‪(1).‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.117 / 13‬‬

‫] ‪[ 137‬‬

‫القسم الول‬

‫عداَء!‬
‫طِمُع ِفيُكُم اْلَ ْ‬
‫ب‪َ ،‬وِفْعُلُكْم ُي ْ‬ ‫صل َ‬‫خَتِلَفُة َأْهواُؤُهْم! َكلُمُكْم ُيوِهي الصّّم ال ّ‬ ‫جَتِمَعُة َأْبداُنُهْم‪ ،‬اْلُم ْ‬
‫»َأّيها الّناس اْلُم ْ‬
‫سَتراحَ‬
‫ن َدعاُكْم‪َ ،‬ول ا ْ‬ ‫عَوُة َم ْ‬ ‫ت َد ْ‬
‫عّز ْ‬
‫حَياِد! َما َ‬ ‫حيِدي َ‬‫جاَء اْلِقَتاُل ُقْلُتْم‪ِ :‬‬
‫ت‪َ ،‬فِإَذا َ‬‫ت َوَكْي َ‬‫س‪َ :‬كْي َ‬ ‫ن ِفي اْلَمجاِل ِ‬ ‫َتُقوُلو َ‬
‫طوِل«‪.‬‬ ‫ن اْلَم ُ‬
‫ع ِذي الّديْ ِ‬
‫طِويَل‪ِ ،‬دَفا َ‬‫سَأْلُتُموِني الّت ْ‬
‫ن قاساُكْم‪َ ،‬أعاِليُل ِبَأضاِليَل َو َ‬ ‫ب َم ْ‬
‫َقْل ُ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫ن الخطبة ُالقيت في ظروف عصيبة جّدا‪ ،‬حيث شنت الغارات تلو الغارات على أهل العراق‪ ،‬جعلت‬ ‫ذكرنا سابقًا أ ّ‬
‫ن الضعف والوهن كان قد بلغ مبلغه منهم بحيث لم تعد لهم‬
‫لأّ‬
‫المام )عليه السلم( يسعى جاهدًا ل عداد الناس‪ ،‬إ ّ‬
‫من قوة تذكر‪ ،‬فلم يكن أمام المام )عليه السلم(من سبيل سوى اللجوء إلى آخر حربة من أجل تعبئتهم واستنفار‬
‫طاقاتهم وهى توبيخهم وذمهم علهم يلتفتون إلى أنفسهم ويبصروا الخطار التي كانت تتربص بهم‪.‬‬

‫فقد استهل المام )عليه السلم( خطبته بالتعرض إلى العامل الرئيسي الذي يقف وراء ذلك الضعف والذلة‬
‫والهوان والذي يعزى إلى عدم النسجام بين القوال والفعال الذي يستند إلى ضعف العتقاد الباطني بالهداف‬
‫المقدسة النبيلة فقال )عليه السلم(‪» :‬أّيها الناس المجتمعة أبدانهم‪ ،‬المختلفة أهواؤهم«‪ ،‬أّما كلمهم فقد كان شديد‬
‫يخترق الصخور‪ ،‬أّما أعمالهم فقد كانت هزيلة ل تنسجم وذلك الكلم »كلمكم يوهي)‪ (1‬الصم)‪ (2‬الصلب‪،‬‬
‫وفعلكم يطمع فيكم العداء«‪.‬‬

‫‪» .1‬يوهي« من مادة »وهى«‪ ،‬عناها صاحب المقاييس بالضعف ومن هنا يصطلح على الكلم الضعيف بالواهي‪ .‬فالعبارة تعني أن‬
‫كلمكم يضعف ويفتت‪.‬‬

‫‪» .2‬الصم« جمع »أصم« وهو من الحجارة الصلب المصمت‪ ،‬و»الصلب« جمع صليب‪ ،‬والصليب الشديد‪.‬‬

‫] ‪[ 138‬‬

‫ن ذلكم وهوانكم إّنما أفرزه شقاقكم وفرقتكم‪ .‬إّنكم متحدون ظاهرًا‪ ،‬مختلفون باطنًا‪ ،‬وهذا ما أدى بكم إلى‬‫أجل إ ّ‬
‫ل من الفعال والعمال ; المر الذي يؤدي إلى تآكل المجتمعات وانهيارها إذا‬ ‫الكتفاء بالقوال الطنانة الرنانة بد ً‬
‫ما عاشت هذه الحالة »تقولون في المجالس‪ :‬كيت وكيت)‪ ،(1‬فاذا جاء القتال قلتم‪ :‬حيدي حياد)‪.«(2‬‬

‫فالواقع هذه بعض الصفات البارزة للمنافقين والفراد الضعاف النفس المسلوبي الرادة الذين يكثرون الحديث في‬
‫المجالس الخاصة والعامة ويستعرضون معاني الشجاعة والبسالة والعزم والرادة الراسخة‪ ،‬وكأن قدرة هؤلء ل‬
‫تتجاوز هذه الحاديث‪ ،‬فاذا وردوا ميدان القتال استحوذ عليهم الخوف والهلع وكأّنهم يصرخون‪ ،‬إليك عّنا أّيها‬
‫القتال فارقنا وابتعد‪ ،‬بل هم مرعبون من ميدان الحرب والقتال ويختلقون مختلف العذار للفرار من الميدان‪.‬‬
‫والعبارة »حيدي حياد« من مادة حيد بمعنى الميل والنحراف عن الشيء وتقابلها العبارة »فيحي فياح« بمعنى‬
‫الرغبة في الشيء‪ .‬ولعل المخاطب بالعبارة »حيدي حياد« الجنود والمقاتلون الذين تدعوهم عناصر النفاق‬
‫والنهزام إلى اعتزال الميدان‪ ،‬وعلى العكس من ذلك دعوة عناصر القوة والقتدار إلى القتال بقولها »فيحي‬
‫فياح«‪ .‬كما يحتمل أن يكون المراد قولهم للمعركة ابتعدي عنا ; المر الذي يكشف عمق خوفهم من قتال العدو‪،‬‬
‫كما يمكن أن يكون المراد أّنهم كانوا يخاطبون أنفسهم بهذه العبارة بغية السراع في البتعاد والعتزال‪ .‬وما أشبه‬
‫ن ِمْنُكْم َوالقاِئِلـي َ‬
‫ن‬ ‫ل الُمَعـّوِقـي َ‬ ‫هذه الطائفة المنافقة بمنافقي عصر الرسالة الذين صورتهم سورة الحزاب‪َ) :‬قْد َيْعَلُم ا ّ‬
‫عُيُنُهْم‬‫ك َتُدوُر َأ ْ‬‫ن ِإَلْي َ‬
‫ظُرو َ‬ ‫ف َرَأْيَتُهْم َيْن ُ‬
‫خْو ُ‬
‫عَلْيُكْم َفِإذا جاَء ال َ‬
‫حًة َ‬ ‫شّ‬ ‫ل * َأ ِ‬‫ل َقِلـي ً‬
‫س ِإ ّ‬
‫ن الَبْأ َ‬‫خواِنـِهْم َهُلّم ِإَلْينا َول َيْأُتو َ‬
‫لْ‬‫ِ‬
‫طا ّ‬
‫ل‬ ‫حَب َ‬‫ك َلْم ُيـْؤِمُنوا َفَأ ْ‬‫خْيِر ُأولـِئ َ‬‫على ال َ‬ ‫حًة َ‬
‫شّ‬‫حداد َأ ِ‬
‫سَنة ِ‬ ‫سَلُقوُكْم ِبَأْل ِ‬
‫ف َ‬ ‫خْو ُ‬
‫ب ال َ‬ ‫ت َفِإذا َذَه َ‬‫ن الَمْو ِ‬ ‫عَلْيِه ِم َ‬
‫َكاّلِذي ُيْغشى َ‬

‫ن العبارة كيت وكيت تستعمل حيث يريد الفرد‬


‫‪» .1‬كيت وكيت« من مادة »تكييت« بمعنى اعداد جهاز الناقة أو مل ظرف الماء‪ ،‬إلّ أ ّ‬
‫عمل كل شيء عن طريق الكلم‪ ،‬وهما كلمتان ل تستعملن إّل مكررتين ككناية عن الحديث‪.‬‬

‫‪» .2‬حيدي حياد«‪ :‬صيغة فعل أمر من مادة »حيود« كنزال بمعنى أنزل‪ ،‬وهى كلمة يقولها الهارب عند الفرار والكتمان تأكيد لحداهما‬
‫الخرى حيث تعني الميل والنحراف عن الشيء‪.‬‬

‫] ‪[ 139‬‬

‫سـيرًا()‪ .(1‬لقد كانت هناك عّدة معدودة على هذه الشاكلة على عهد النبي )صلى ال‬ ‫ل َي ِ‬
‫على ا ّ‬
‫ك َ‬
‫ن ذ ِل َ‬
‫عماَلُهْم َوكا َ‬
‫َأ ْ‬
‫ن الكثرية الساحقة لهل الكوفة ـ التي كانت تمثل جيش المام )عليه السلم( ـ‬ ‫عليه وآله(‪ ،‬غير أّنه من المؤسف أ ّ‬
‫ن هذه‬
‫كانت كذلك‪ .‬ثم قال )عليه السلم(‪» :‬ما عزت دعوة من دعاكم‪ ،‬ول استراح قلب من قاساكم« يبدون أ ّ‬
‫ن المام )عليه السلم(لم يكتف بالموعظة‬ ‫العبارة تشكل ردًا على أولئك الذين يشكلون على مثل هذه الخطب في أ ّ‬
‫ول يمارس الضغوط من أجل حشدهم للجهاد ; المر المتعارف لدى الحكام في كافة أرجاء المعمورة؟‬
‫فالمام )عليه السلم( يقول‪ :‬لو تركتكم وحالكم أحرارًا ودعوتكم للجهاد لم تلبوا دعوتي‪ ،‬ولو شددت عليكم في هذه‬
‫ل إلبًا لعدائكم على أوليائكم‪.‬‬
‫الدعوة فأنتم كذلك‪ ،‬وما ذلك منكم بعجيب فأنتم أفراد ضعاف النفس والرادة ولستم إ ّ‬
‫وقد أثبت التأريخ أن هؤلء الفراد أصبحوا جنودًا مجندة لبني أمية ومن كان على شاكلة ابن زياد والحجاج إثر‬
‫خشيتهم من التهديدات التي تطيل أموالهم وأعراضهم‪ ،‬ولكن ليس لحكام العدل ول سيما علي )عليه السلم( من‬
‫اتباع هذا السلوب في تعبئة الفراد‪ .‬ثم قال )عليه السلم(»أعاليل بأضاليل)‪ «(2‬كل ذلك قعودًا عن الجهاد ودفعًا‬
‫بي إلى تأخيره‪ ،‬كالمدين الذي يناشد الدائن تمديد الجل »وسألتموني التطويل دفاع ذي الدين المطول« نعم هذا هو‬
‫حال الفراد الضعاف من أهل المزاعم والدعاءات دون الفعال‪ ،‬ليس لهم من هم سوى خلق العذار والتشبث‬
‫بالذرائع من أجل التهرب من المسؤولية‪ ،‬القرآن من جانبه صور حالة المنافقين على عهد النبي )صلى ال عليه‬
‫وآله(الذين كانوا يحاولون بشتى الطرق التملص من خوض القتال فعزى ذلك إلى حبهم للدنيا وإيثارها على‬
‫حياِة الّدْنيا ِم َ‬
‫ن‬ ‫ضـيُتْم ِبال َ‬
‫ض َأَر ِ‬
‫لر ِ‬
‫ل اّثـاقْلُتْم ِإلى ا َ‬
‫لا ّ‬
‫سِبـي ِ‬
‫ل َلُكُم اْنِفُروا ِفي َ‬
‫ن آَمُنوا ما َلُكْم ِإذا ِقـي َ‬
‫الخرة )يا َأ ّيها اّلِذي َ‬
‫ل(‪(3).‬‬ ‫ل َقِلـي ٌ‬
‫خَرِة ِإ ّ‬
‫حياِة الّدْنيا ِفي ال ِ‬ ‫ع ال َ‬‫خَرِة َفما َمتا ُ‬
‫ال ِ‬

‫‪ .1‬سورة الحزاب ‪. 28 /‬‬

‫‪» .2‬أعاليل« جمع اعلولة‪ ،‬ما يتعلل به و»أضاليل« جمع اضلولة بمعنى أسباب الضللة‪ ،‬أي انكم تتشبثون بأسباب واهية من أجل‬
‫إضلل أنفسكم والخرين‪.‬‬

‫‪ .3‬سورة التوبة ‪.38 /‬‬

‫] ‪[ 140‬‬

‫عوامل ضعف أهل الكوفة‬

‫هنالك سؤال يطرح نفسه وهو‪ :‬لم كل هذا الضعف الذي ساد أهل الكوفة مع وجود ذلك المام العادل والحكيم‬
‫المعروف والمجرب في ساحات الوغى‪ ،‬في حين كان أهل الشام أكثر قوة وفاعلية منهم والحال كان حاكمهم‬
‫ن الجواب على هذا السؤال كما أشرنا سابقًا يكمن في اللية الجتماعية التي كانت عليها الناس‬ ‫معاوية؟ ويبدو أ ّ‬
‫آنذاك‪ .‬فالكوفة لم تكن تتمتع بسابقة تأريخية تذكر‪ ،‬بل كانت منطقة حديثة ضمت أقوامًا مختلفة ذات ثقافات‬
‫متنوعة‪ ،‬عاشت حالة من التنافس الظاهري والباطني‪ ،‬خلفًا لهل الشام الذين كانوا يتمتعون بالوحدة واللحمة‪.‬‬
‫ن أغلب خصوم الدعوة من منافقي المدينة وسائر المناطق كانوا قد اتجهوا صوب الكوفة وأخذوا‬ ‫أضف إلى ذلك فا ّ‬
‫يمارسون دعاياتهم المغرضة التي تهدف إلى شق الصفوف وزرع بذور الفرقة والختلف في صفوف أهل‬
‫الكوفة‪ ،‬إلى جانب العمل على إضعافهم في مجابهة العدو‪ .‬من جانب آخر فان الفّتوحات السلمية آنذاك قد جرت‬
‫ثروات طائلة‪ ،‬ول يخفى أن طبيعة الثروة إّنما تختزن الدعة والرفاه والعافية ; الطبيعة التي ل تنسجم وروح القتال‬
‫والجهاد‪.‬‬

‫ومن هنا كان أهل الكوفة يقتنصون العذار التي تمكنهم من أداء وظيفتهم الجهادية حتى في أحلك الظروف التي‬
‫ن الّمة كانت‬
‫شنت عليهم الغارات وجرعوا فيها غصص الذل والهوان من قبل بني أمية وجيوش الشام‪ .‬نعم إ ّ‬
‫تلهث وراء الحكام الذين عبثوا ببيت المال وأغدقوا مافيه على الرعية‪ ،‬ولم يكن أمير المؤمنين )عليه السلم(‬
‫لخرى التي ساقها‬ ‫مستعدًا للتفريط بصاع من بيت مال المسلمين لقرب المقربين كائنًا من كان‪ .‬وهذه هى العلة ا ُ‬
‫أمير المؤمنين في كشفه النقاب عن روحية الّمة »وإّني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم ولكني ل أرى صلحكم‬
‫بافساد نفسي«)‪.(1‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.69‬‬

‫] ‪[ 141‬‬
‫القسم الثاني‬

‫ن؟‬‫ي ِإمام َبْعِدي ُتقاِتُلو َ‬


‫ن‪َ ،‬وَمَع َأ ّ‬‫ي دار َبْعَد داِرُكْم َتْمَنُعو َ‬
‫جّد! َأ ّ‬
‫ق ِإّل ِباْل ِ‬
‫حّ‬‫ك اْل َ‬
‫ضْيَم الّذِليُل َول ُيْدَر ُ‬
‫»ل َيْمَنُع ال ّ‬
‫ن َرَمى ِبُكْم َفَقْد َرَمى ِبَأْفَو َ‬
‫ق‬ ‫ب‪َ ،‬وَم ْ‬‫خَي ِ‬
‫سْهِم اَْل ْ‬‫ل ـ ِبال ّ‬
‫ن فاَز ِبُكْم‪َ ،‬فَقْد فاَز ـ َوا ّ‬
‫غَرْرُتُموُه‪َ ،‬وَم ْ‬‫ن َ‬‫ل ـ َم ْ‬ ‫اْلَمْغُروُر ـ َوا ّ‬
‫صل«‪.‬‬ ‫نا ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫أشار المام )عليه السلم( إلى ركن مهم في الحياة النسانية فقال »ل يمنع الضيم)‪ (1‬الذليل‪ ،‬ول يدرك الحق إلّ‬
‫بالجد« ما أجدر أن تكتب هذه العبارة بماء الذهب وتتلى صباح مساء في أفنية مستضعفي العالم حتى تصبح جزءًا‬
‫من ثقافتهم وتترسخ في أعماقهم‪ .‬نعم إن الطغاة جرعوا الذلء والعجزة صنوف العذاب والظلم والضطهاد ولم‬
‫ينصفوهم ويمنحوهم حقوقهم‪ ،‬فالحق يؤخذ بالقوة إستنادًا لمعاني العمل والسعي الدؤوب والثرة وحمل السلح‬
‫وخوض غمار القتال‪ ،‬فالطغاة الجبابرة ل يفهمون سوى لغة الحديد والنار ولبّد من مجابهتهم بالقوة‪ .‬ويبدو أ ّ‬
‫ن‬
‫طبيعة العالم كذلك في أن سبيل بلوغ الهداف العليا المادية والمعنوية إّنما عبد بالمطبات والعقبات الكؤود‪ ،‬ول‬
‫يظفر بهذه الهداف من لم يقاوم هذه العقبات‪ .‬ثم يقطع المام )عليه السلم( كافة العذار على هؤلء فيخاطبهم‬
‫ماذا تنتظرون‪ ،‬وعن أي دار تدافعون‪ ،‬ومع من تقاتلون وأنا بين أظهركم »أي دار بعد داركم تمنعون ومع أي إمام‬
‫بعدي تقاتلون؟«‪ .‬نعم لن يسعكم الدفاع عن أي دار طالما تخاذلتم في الدفاع عن داركم بصفتها دار السلم‪ ،‬وإذا‬
‫لم تلتحقوا بي في القتال‬

‫‪» .1‬الضيم« يعني الظلم والضطهاد‪.‬‬

‫] ‪[ 142‬‬

‫فلن يسعكم القتال مع أي أحد بعدي‪ .‬وعليه فليس أمامكم سوى السر والعبودية للعدو فيسلبوكم الرادة والختيار ـ‬
‫ن المام )عليه السلم( أراد حثهم على القتال من خلل بعض المعاني التي تثير في نفوسهم الحمية‬‫فالواقع هو أ ّ‬
‫والغيرة‪ ،‬فالوطن ل يسلم دون الدفاع عنه‪ ،‬وإن كانت لهم أدنى رابطة بإمامهم فهم مطالبون بالقتال فما عسى أن‬
‫يكون المام من بعده والذي يسعهم القتال معه‪ .‬ثم يخلص المام )عليه السلم( إلى عدم إمكانية خوض القتال بمثل‬
‫هذه العناصر الضعيفة الهزيلة التي فقدت مقومات المقاومة والثبات »المغرور ـ وال ـ من غررتموه«)‪.(1‬‬

‫فالمحتال الخادع قد يتلعب ببعض ممتلكات الناس ويمّد يده إلى بعض حاجاتهم‪ ،‬أما أنتم فقد سلبتموني كل شيء‬
‫وقد وليتم ظهوركم للعدل والطهر والتقوى والعزة والرفعة فضيعتم حقوق المسلمين ولسيما المستضعفين‬
‫ن مساعدتكم‬
‫والمحرومين‪ .‬ثم قال )عليه السلم(‪» :‬ومن فاز بكم‪ ،‬فقد فاز ـ وال ـ بالسهم الخيب«)‪ .(2‬إشارة إلى أ ّ‬
‫ونصرتكم ليست بشيء‪ ،‬ومن يعتمد عليكم كمن يشترك في اقتراح ل تنطوي نتيجته سوى على الخسران‪.‬‬

‫ن الفوز بهم كالفوز‬


‫فالمام )عليه السلم( يرى في نصرة أهل الكوفة الهزيمة الفشل وقد شبهها تشبيه رائع في أ ّ‬
‫بالسهم الخيب الخاسر‪ .‬ثم أورد شبهًا آخر فقال )عليه السلم(‪» :‬ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل« في إشارة‬
‫ن أهل الكوفة فاقدون لكافة مقومات الهجوم على العدو من قبيل قوة اليمان التقوى والشجاعة‪ ،‬وقد فقدوا‬ ‫إلى أ ّ‬
‫كافة القيم إثر تعلقهم بالحياة الدنيا والغترار بزخارفها وزبرجها‪.‬‬
‫تأّملن‬

‫‪ 1‬ـ الحق يؤخذ ول ُيعطى‬

‫ن الحق يؤخذ ول يعطى ; أي ل يمكن التطلع إلى‬


‫ل بالجد« أ ّ‬‫ما نفهمه من قوله )عليه السلم( »ل يدرك الحق إ ّ‬
‫الحصول على الحق في ظل الحكومات الغاشمة التي تعتمد اسلوب القوة وتمارس الظلم والضطهاد بحق الطبقات‬
‫المحرومة والمستضعفة ; ول غرو فأساس قوتهم وقدرتهم إّنما‬

‫‪ .1‬ان تقديم المغمور ـ الخبر للمبتدأ ـ يفيد الحصر‪ ،‬أي المغرور الواقعي هو هذا الفرد‪.‬‬

‫‪» .2‬أخيب« من مادة »خيب« بمعنى فقدان الشيء‪.‬‬

‫] ‪[ 143‬‬

‫تكمن في غصبهم لحقوق الخرين‪ ،‬وعليه فل تعنى إعادة هذه الحقوق المغتصبة سوى تجريدهم من هذه القوة ;‬
‫المر الذي لن يحدث قط‪ .‬وهنا يحث المام )عليه السلم(كافة المحرومين والمستضعفين على الوحدة ورص‬
‫الصفوف لستعادة حقوقهم السليبة من الظلمة والطواغيت وأّنهم غالبون ل محالة‪ ،‬فالطغاة ليسوا مستعدين‬
‫للتضحية‪ ،‬بينما يضحي المستضعفون بالغالي والنفيس من أجل إحقاق حقوقهم‪ .‬طبعًا ملئت الدنيا اليوم بالشعارات‬
‫ن التجربة أثبتت بالدلة القاطعة أن هذه‬ ‫التي تتبنى حقوق النسان وتطالب بإعادة حقوق المحرومين‪ ،‬غير أ ّ‬
‫الشعارات لتعد كونها مصائد تهدف اغفال الطبقات المسحوقة والمعدمة والستسلم إلى ارادة القوياء ; المر‬
‫ن الحق يؤخذ ول يعطى‪ .‬فالمؤمنون ل يسعهم الوقوف مكتوفي اليدي حيال الظالمين الذين يتلعبون‬ ‫الذي يثبت أ ّ‬
‫بمقدراتهم‪ .‬وعليهم أن يتعلموا الدروس والعبر التي لّقنها المام الحسين )عليه السلم( البشرية جمعاء في الصبر‬
‫ن الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلة والذلة!‬ ‫والتضحية والفداء‪ ،‬فما زالت صرخاته تدوي في السماع »أل وإ ّ‬
‫وهيهات له ذلك! هيهات مني الذلة! أبي ال لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحدود طهرت وحجور طابت‪ ،‬أن نؤثر‬
‫طاعة اللئام على مصارع الكرام«)‪ .(1‬كما أكد القرآن الكريم على جانب الصبر والصمود والمقاومة لدى‬
‫ن َقْبِلُكْم‬
‫خَلْوا ِم ْ‬
‫ن َ‬‫ل اّلِذي َ‬
‫جّنَة َوَلّما َيْأِتُكْم َمَث ُ‬
‫خُلوا ال َ‬
‫ن َتْد ُ‬
‫سْبُتْم َأ ْ‬
‫حِ‬‫المؤمنين‪ ،‬ومن ذلك الية ‪ 214‬من سورة البقرة )َأْم َ‬
‫ب(‪.‬‬ ‫ل َقِري ٌ‬ ‫صَر ا ّ‬‫ن َن ْ‬ ‫ل َأل ِإ ّ‬‫صُر ا ّ‬ ‫ن آَمُنوا َمعَُه َمتى َن ْ‬ ‫ل َواّلِذي َ‬‫سو ُ‬‫ل الّر ُ‬
‫حّتى َيُقو َ‬
‫ضـّراء َوُزْلِزُلوا َ‬
‫سْتُهُم الَبْأساُء َوال ّ‬
‫َم ّ‬
‫وهى الحقيقة التي نلمسها بوضوح في كافة الغزوات السلمية من قبيل بدر وأحد والحزاب وتبوك وحنين‪ ،‬التي‬
‫ن المداد الغيبي والعناية‬ ‫لأّ‬ ‫ن النصر من عند ال‪ ،‬إ ّ‬ ‫كان ينتصر فيها المسلمون بسلح اليمان والصبر‪ ،‬صحيح أ ّ‬
‫اللهية كانت مكملة للسباب الظاهرية والعدة والعدد التي كان عليها المسلمون‪ .‬فهذا أحد القوانين التأريخية‬
‫الثابتة‪ ،‬فل يقتصر على صحب النبي)صلى ال عليه وآله( والمام الحسين)عليه السلم(‪ ،‬كما ليرتبط بالمس‬
‫واليوم‪ ،‬بل يشمل المستقبل كالماضي على حد سواء‪.‬‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪. 83 / 45‬‬

‫] ‪[ 144‬‬

‫‪ 2‬ـ الدفاع عن الوطن‬

‫لقد لجأ المام علي )عليه السلم( إلى مختلف الساليب من أجل إثارة مشاعر أهل الكوفة وتعبئتهم لقتال العدو‪،‬‬
‫ومن ذلك تأكيده على مسألة الدفاع عن الوطن »أي دار بعد داركم تمنعون« ؟ في إشارة واضحة إلى علقة كل‬
‫فرد بوطنه وأّنه يهب للدفاع عن هذا الوطن إذا تعرض للخطر مهما كانت المدرسة والفكرة التي يؤمن بها وينتمي‬
‫ن هذه الروح هى الخرى قد ماتت فيهم‪ .‬وهنا يبرز هذا السؤال‪ :‬هل حرمة الوطن في‬ ‫ن المؤسف له أ ّ‬‫لأّ‬‫إليها‪ ،‬إ ّ‬
‫السلم بصفته يمثل دار السلم أم هناك شيء آخر ؟ أي البلد السلمي يكتسب حرمته كونه بلدًا إسلميًا‪ ،‬أم‬
‫هناك حرمة ذاتية لكل بلد بحيث تتضاعف هذه الحرمة لو أصبح جزءًا من دار السلم ؟ يمكن العثور على أجوبة‬
‫هذه السئلة في اليات القرآنية والروايات السلمية ; المر الذي يؤكده العقل أيضًا‪ .‬فقد توالت اليات التي ذهبت‬
‫ن الخراج من الوطن إّنما يضاد القيم النسانية ; المر الذي يعني حرمة الوطن الذاتية‪ ،‬وهذا ما نلمسه‬ ‫إلى أ ّ‬
‫ن َوَلْم‬
‫ن َلْم ُيقاِتُلوُكْم ِفي الّدي ِ‬‫ن اّلِذي َ‬
‫عِ‬‫ل َ‬‫بوضوح في اليات القرآنية الثامنة والتاسعة من سورة الممتحنة )ل َيْنهاُكُم ا ّ‬
‫ن قاَتُلوُكْم ِفي‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫عِ‬ ‫ل َ‬‫ن * ِإّنما َيْنهاُكُم ا ّ‬ ‫طـي َ‬‫سِ‬ ‫ب الُمْق ِ‬
‫ح ّ‬ ‫ل ُي ِ‬
‫نا ّ‬ ‫طوا ِإَلْيِهْم ِإ ّ‬
‫سُ‬‫ن َتَبّروُهْم َوُتْق ِ‬
‫ن ِدياِرُكْم َأ ْ‬
‫جوُكْم ِم ْ‬ ‫خِر ُ‬
‫ُي ْ‬
‫ن( فقد اعتبرت‬ ‫ظالُمو َ‬ ‫ن َتَوّلْوُهْم َوَمنْ َيَتَوّلُهْم َفُأولـِئك َ ُهُم ال ّ‬
‫جُكْم َأ ْ‬
‫خرا ِ‬ ‫على ِإ ْ‬ ‫ن ِدياِرُكْم َوظاَهُروا َ‬ ‫جوُكْم ِم ْ‬‫خَر ُ‬‫ن َوَأ ْ‬‫الّدي ِ‬
‫اليتين الكريمتين الخراج من الوطن بمثابة المقاتلة في الدين‪ ،‬المر الذي يؤكد قيمة الوطن كما صرحت بذلك‬
‫ن ِدياِرنا‬‫جنا ِم ْ‬‫خِر ْ‬‫ل َوَقْد ُأ ْ‬
‫لا ّ‬ ‫سِبـي ِ‬
‫ل ِفي َ‬ ‫ل ُنقاِت َ‬
‫الية ‪ 246‬من سورة البقرة على لسان بني اسرائيل )قاُلوا َوما َلنا َأ ّ‬
‫ن دافعهم الجهادي إلى جانب حفظ الدين ينطوي على انقاذ الوطن‪ ،‬وقد أقر نبّيهم هذا‬ ‫َوَأْبناِئنا( فهى تدل على أ ّ‬
‫لخرى الواردة بهذا المجال إلى محلها‪.‬‬ ‫الدافع دون أن يعترض عليه‪ ،‬ونوكل الحديث في اليات ا ُ‬

‫ن مكة كانت تمثل قيمة دينية‬


‫رسول ال )صلى ال عليه وآله( كان شديد التأثر اثر هجرته من مكة‪ ،‬طبعًا صحيح أ ّ‬
‫ل أّنها كانت تعني إلى جانب ذلك بالنسبة للنبي )صلى ال عليه وآله( وطنه ومسقط رأسه‪ ،‬ومن هنا خفف‬ ‫كبيرة‪ ،‬إ ّ‬
‫ك ِإلى َمعاد()‪.(1‬‬
‫ن َلراّد َ‬
‫ك الُقْرآ َ‬
‫عَلْي َ‬
‫ض َ‬
‫ن اّلِذي َفـَر َ‬
‫عنه القرآن بقوله )ِإ ّ‬

‫‪ .1‬سورة القصص ‪. 85 /‬‬

‫] ‪[ 145‬‬

‫وورد في الحديث عن علي )عليه السلم(‪» :‬عمرت البلدان بحب الوطان«)‪ (1‬وقال أيضًا »من كرم المرء بكائه‬
‫على ما مضى من زمانه وحنينه إلى أوطانه«)‪.(2‬‬

‫ب الوطن من اليمان«)‪.(3‬‬
‫وجاء في الحديث المعروف »ح ّ‬

‫ب الوطن والتعلق به يستند إلى جذور قرآنية ونبوية إلى جانب تأييد العقل والمنطق‪ .‬ال ان‬‫نح ّ‬ ‫فالذي نخلص إليه أ ّ‬
‫هذا ل يعني تعلق الفرد بوطنه بصورة مطلقة بحيث ل يتركه طلب العلم والتكامل ونيل المنافع المعنوية والقيم‬
‫اللهية ومن هنا ورد الحديث عن علي )عليه السلم(‪» :‬ليس بلد بأحق بك من بلد‪ ،‬خير البلد ما حملك«)‪.(4‬‬
‫وأخيرًا فان الوطن يكتسب قيمة مضاعفة إذا ما انضمت إليه الجوانب المعنوية علوة على الجوانب المادية‪،‬‬
‫فيصبح دار السلم‪ ،‬فيهب الفرد بكل ما أوتي من قوة للدفاع عنه والذود عن كيانه‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪.45 / 75‬‬

‫‪ .2‬بحار النوار ‪.264 / 7‬‬

‫‪ .3‬سفينة البحار‪ ،‬مادة وطن‪.‬‬

‫‪ .4‬نهج البلغة‪ ،‬الكلمات القصار‪.442 ،‬‬

‫] ‪[ 146‬‬

‫] ‪[ 147‬‬
‫القسم الثالث‬

‫طّبُكْم؟ اْلَقْوُم‬
‫عُد اْلَعُدّو ِبُكْم‪ .‬ما باُلُكْم؟ ما َدواُؤُكْم؟ ما ِ‬
‫صِرُكْم‪َ ،‬ول ُأو ِ‬
‫طَمُع ِفي َن ْ‬
‫ق َقْوَلُكْم‪َ ،‬ول َأ ْ‬
‫صّد ُ‬
‫ل ل ُأ َ‬ ‫ت َوا ّ‬ ‫ح ُ‬ ‫صَب ْ‬
‫»َأ ْ‬
‫ق؟«‬ ‫حّ‬ ‫غْيِر َ‬‫طَمعًا ِفي َ‬ ‫غْيِر َوَرع؟! َو َ‬‫ن َ‬‫غْفلًة ِم ْ‬
‫عْلم؟ َو َ‬‫ِرجاٌل َأْمثاُلُكْم َأَقْوًل ِبَغْيِر ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫اليأس من القوم‬

‫يختتم المام)عليه السلم( هذه الخطبة ـ التي تعّد من الخطب الليمة للمام )عليه السلم( بمعاودة ذم ُاولئك القوم‬
‫لّمة‬
‫ل فيعبئوا أنفسهم ويستغلوا إمكاناتهم ويهبوا للقاء عّدوهم فيريحوا ا ُ‬
‫الذين ماتت أرواحهم علهم يفيقون قلي ً‬
‫السلمية من شر أهل الشام الذين يمثلون حثالت زمان الجاهلية‪ ،‬فقد قال )عليه السلم(‪َ» :‬اصبحت وال ل‬
‫أصدق قولكم‪ ،‬ول أطمع في نصركم‪ ،‬ول أوعد العدو بكم«‪.‬‬

‫ل أّنها تشير إلى مدى عمق المشاكل التي إستنزفت‬ ‫ـ فالعبارة وإن كانت تصور الوضاع المزرية لهل الكوفة‪ ،‬إ ّ‬
‫أميرالمؤمنين علي )عليه السلم( في ذلك الزمان‪ ،‬فقد كان محقًا في اعلنه عدم الوثوق بهم‪ ،‬فقد خالفوا كرارًا‬
‫وعودهم ونقضوا محارم عهودهم ونكثوا بيعتهم‪.‬‬

‫لم يكونوا يحسنون سوى الكلم في المجالس وإطلق الشعارات الرنانة والكلمات‬

‫] ‪[ 148‬‬

‫الحساسة‪ ،‬فاذا دقت ساعة القتال ولوا زحفًا إلى مخادعهم وهربروا هرب الشاة من الذئب‪.‬‬

‫ثم قال)عليه السلم(‪» :‬ما بالكم؟ مادواؤكم؟ ماطبكم؟ القوم رجال أمثالكم«‪.‬‬

‫ن أهل الشام خلقوا من غير طينتكم‪ ،‬أم لهم بقية جسمية وروحية تختلف عنكم؟ كل‪.‬‬
‫أو تعتقدون أ ّ‬

‫الّلهم الفارق واحد بينكما هو الخلق والمعنويات‪.‬‬

‫ل أنكم لستم كذلك رعتم النعمة العظيمة التي من ال بها عليكم بان جعل‬
‫فهم يعملون ماذا يلزمهم من أجل القتال‪ ،‬إ ّ‬
‫ل مقتدرًا‪ ...‬لقد أرعبتكم إمكاناتهم حتى انتهى بكم ذلك إلى الذل والهوان‪.‬‬
‫لكم إمامًا عاد ً‬

‫يا للسف أن يبتلى زعيم مثلي برعية مثلكم‪.‬‬

‫نعم دواؤهم كان فيهم كما ورد ذلك في الشعر الذي يتسب إلى المام)عليه السلم(‪:‬‬

‫دواؤك فيك وما تبصر *** وداؤك منك وما تشعر‬


‫ل بغير علم؟ وغفلة من غير ورع؟ وطمعا في غير حق؟«‪.‬‬
‫ثم يختتم )عليه السلم( خطبته بالقول »أقو ً‬

‫أجل هذه هى العناصر التي تقف وراء بؤسكم وتعاستكم‪ ،‬فأنتم ترسلون الكلم على عواهته دون أن تستندوا إلى‬
‫علم أو معرفته‪ ،‬ثم وليتم ظهوركم للورع والتقوى وانهمكتم في الدنيا وغفلتم عن الخرة‪ ،‬وأخيرا فاّنكم تحلمون‬
‫بالنصر دون أن تعدوا له عّدته‪.‬‬

‫هذه هى العوامل الثلث )القول دون العمل والجهل المشوب بعدم التقوى والمل بالنصر دون إعداد مقدماته( التي‬
‫تهدد بالفشل والهزيمة كل أّمة وقوم‪.‬‬

‫أسباب الهزيمة والفشل‬

‫لشك أن جيش المام )عليه السلم( وبفضل زعيمه الرباني المعروف بالجهاد والشجاعة في ميدان الحرب كان‬
‫ل أّنه وللسف قد شهد حالة من الضعف سلبته زمام‬ ‫يمتلك كافة أسباب النتصار على العدو من جميع النواحي‪ ،‬إ ّ‬
‫ب في أّمة فاّنها لن تنتظر مصيرًا‬
‫المبادرة وزعزعت عوامل النصر‪ ،‬والمفروغ منه ان ذلك الضعف والوهن إذا د ّ‬
‫أحسن من ذلك المصير الذي ساد جيش الكوفة‪.‬‬

‫] ‪[ 149‬‬

‫وقد أشار المام )عليه السلم( في هذه الخطبة التي نحن بصدرها إلى عناصر هذا الضعف والتي كان في مقدمتها‬
‫تركهم للعمل وتمسكهم بالقول‪.‬‬

‫فقد كانت مجالسهم عامرة بالكلم ول سيما عن القتال والحرب دون أن يعدوا العدة اللزمة و يأخذوا للحرب‬
‫اهبتها‪ ،‬يكثرون من الكلم خلف الجبهات دون أن يجرأ أحدهم على القتراب من الخطوط المامية‪.‬‬

‫ن قدرة الفراد الضعاف العجزة تتركز عادة في القوال والمزاعم‪ ،‬ولعل المام )عليه السلم(أشار إلى هذا‬ ‫وكأ ّ‬
‫ل بغير علم؟« سواء كان هذا العلم يعني المعرفة أو العتقاد أو العمل‪ ،‬فالنتيجة واحدة لكل من‬
‫المعنى بقوله‪» :‬أقوا ً‬
‫ن المعرفة بالشىء والعتقاد به تدعو إلى العمل‪ ،‬أما ضعف العمل فانما يستند إلى عدم‬ ‫هذه التفاسير الثلثة‪ ،‬ل ّ‬
‫المعرفة والعتقاد‪ ،‬المر الذي صرح به المام )عليه السلم( بقوله »العلم مقرون بالعمل‪ ،‬فمن علم عمل«)‪(1‬‬

‫ن عدم اللتفات إلى الحقائق والواقعيات ـ الذي تفرزه‬


‫العامل الخر هو الغفلة وفقدان الورع‪ ،‬وبعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫حالة عدم التقوى‪.‬‬

‫لّمة بالفطنة‬
‫إّنما يؤدي إلى إختراق الصفوف من قبل العدو‪ ،‬في حين ل تصيب سهام هذا العدو اذا ما تحلت ا ُ‬
‫ل من الغفلة والتحلل من الورع والتقوى‪.‬‬
‫والذكاء المشوب بالتقوى بد ً‬

‫والعامل الخير هو الطمع في ما ل يستحقون‪ ،‬أو بعبارة ُاخرى الطمع في الشىء دون توفير أسبابه‪.‬‬

‫ن هنالك السباب التي ينبغي توفرها لتحقيق بعض الهداف‪.‬‬


‫فاننا نعلم بأ ّ‬

‫فقانون العلة والمعلول إلى جانب الرادة اللهية هى التي تحكم الوجود برمته‪ ،‬وإن ظن بعض الجهال بيعض‬
‫الوهام والخيالت والمعادلت الساذجة كمقدمة لتحقيق الهداف‪.‬‬

‫وقوله)عليه السلم( »طمعًا في غير حق« يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى‪ ،‬فاّنهم كانوا يطمعون في شئ‬
‫ن المراد بهذه العبارة أّنهم كانوا يطمعون بالمزيد من‬
‫ن بعض شّراح نهج البلغة ذهبوا إلى أ ّ‬
‫لأّ‬
‫ليستحقونه‪ ،‬إ ّ‬
‫عطائهم في بيت المال‪ ،‬ويتمنون على المام )عليه السلم( أن يعطيهم من بيت‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الكلمات القصار‪366 ،‬‬


‫] ‪[ 150‬‬

‫المال أكثر من إستحقاقهم‪ ،‬فلما لم يلب المام )عليه السلم(طلبهم غير المشروع صابهم الضعف والوهن في‬
‫القتال‪.‬‬

‫ومن الطبيعي أن يكون هذا التفكير المادي أينما كان عامل من عوامل الفشل والهزيمة‪ ،‬كما فشل الجيش‬
‫السلمي في معركة ُاحد إثر انهماك الجنود في جمع الغنائم واهتمامهم بالجوانب المادية في ذلك الميدان الجهادي‬
‫العظيم‪.‬‬

‫ن هذه العوامل التي تؤدي إلى الهزيمة والفشل لتقتصر على جيش الكوفة فحسب‪ ،‬بل تهدد‬
‫على كل حال فا ّ‬
‫بالفشل كافة الجيوش على مدى الدهور والعصور وأخيرًا فالخطبة تصور مدى لوعة المام)عليه السلم(‪.‬‬

‫وذروة إستيائه‪ ،‬وهى كافية في توضيح عمق الظروف العصيبة التي عاشها المام)عليه السلم(‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 151‬‬

‫الخطبة)‪30 (1‬‬

‫ومن كلم له)عليه السلم(‬

‫في معنى قتل عثمان وهو حكم له على عثمان وعليه وعلى الناس بما فعلوا وبراءة له من دمه‪.‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ن الراء قد اختلفت في قتل عثمان‪ ،‬فهناك من ذهب إلى تقصير عثمان وأّنه كان مستحقًا للقتل; فقد سلط‬ ‫نعلم بأ ّ‬
‫بطانته على بيت المال وأغدق عليهم المناصب الحساسة في الحكومة‪ ،‬حتى قام الناس ضده دون أن يهب أحد من‬
‫المسلمين لنجدته فكان الجميع راضيًا بقتله‪.‬‬

‫بينما هناك من يعتقد بعدم صوابية قتله وكان ينبغي أن يمنح فرصة التوبة ليتدارك بعدها ما فرط منه‪ ،‬وإن كان‬
‫ن قتله أصبح ذريعة‬
‫ولبّد يخلعونه من الخلفة‪ ،‬أّما قتله بتلك الصورة العلنية إّنما هو بدعة‪ ،‬أضف إلى ذلك فا ّ‬
‫للمنافقين من أجل بث الفرقة والشقاق في صفوف المسلمين‪.‬‬

‫و أخيرًا هناك طائفة ضيقة النظر ممن ل تكلف نفسها عناء التحقيق والتفكير في سيرة‬
‫‪ .1‬جاء في مصادر نهج البلغه أن هذه الخطبة جزء من رسالة كتبها المام)عليه السلم(حين خلفته‪ ،‬ثم ضمنها الحوادث التي‬
‫أعقبت وفاة رسول ال )صلى ال عليه وآله( ثم أمر )عليه السلم(بقراءتها على الناس من أجل وحدة الرأي العام بهذا الشأن‪ ،‬كما‬
‫احتمل أن تكون الخطب ‪ 26،54،78‬هى اُلخرى جزء من هذه الرسالة‪.‬‬

‫ن هذه الخطبة وردت مع بعض التغييرات في كتاب أنساب الشراف )مصادر نهج البلغه‪.(408 / 1 ،‬‬
‫ثم صرح با ّ‬

‫] ‪[ 152‬‬

‫الخليفة الثالث تراه الخليفة المظلموم الذي قتل شهيدًا‪ ،‬كما تنزه ساحته من كل نقص وعيب‪.‬‬

‫المام )عليه السلم( من جانبه وفي خضم هذه الراء المتضاربة يكشف النقاب عن الحقيقة ويعرض بالتحليل‬
‫للمسائل المرتبطة بقتل عثمان‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 153‬‬

‫ن َأنا‬‫خَذَلُه مَ ْ‬
‫ن َيُقوَل‪َ » :‬‬ ‫طيُع َأ ْ‬ ‫سَت ِ‬
‫صَرُه‪ ،‬ل َي ْ‬
‫ن َن َ‬
‫ن َم ْ‬‫غْيَر َأ ّ‬
‫صرًا‪َ ،‬‬ ‫ت نا ِ‬‫عْنُه‪َ ،‬لُكْن ُ‬
‫ت َ‬ ‫ل َأْو َنَهْي ُ‬
‫ت قاِت ً‬ ‫ت ِبِه َلُكْن ُ‬‫»َلْو َأَمْر ُ‬
‫ساَء‬‫سَتْأَثَر َفَأ َ‬
‫خْيٌر ِمّني« َوَأنا جاِمٌع َلُكْم َأْمَرُه‪ ،‬ا ْ‬‫ن ُهَو َ‬ ‫صَرُه َم ْ‬‫ن َيُقوَل‪َ» :‬ن َ‬ ‫طيُع َأ ْ‬
‫سَت ِ‬‫خَذَلُه‪ ،‬ل َي ْ‬ ‫ن َ‬ ‫خْيٌر ِمْنُه« َوَم ْ‬ ‫َ‬
‫ع«‪.‬‬
‫جاِز ِ‬
‫سَتْأِثِر َواْل َ‬
‫حْكٌم َواِقٌع ِفي اْلُم ْ‬
‫ل ُ‬ ‫ع َو ِّ‬‫جَز َ‬‫سْأُتُم اْل َ‬
‫عُتْم َفَأ َ‬
‫جِز ْ‬‫اَْلَثَرَة‪َ ،‬و َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫عوامل قتل عثمان‬

‫كما ذكر في بداية الخطبة فاّنها تعالج قضية قتل عثمان والتعرض إلى العوامل التي دفعت إلى هذا القتل‪ .‬فكلنا‬
‫ن سوء تدبير عثمان‬ ‫نعلم بان لقتل عثمان جذور معلومة نابعة من طبيعة أعماله وأفعاله‪ ،‬فقد أجمع المحققون على أ ّ‬
‫في ادارة دفة الحكم وتبديل الحكومة بموروث قبلي والتطاول على بيت المال والظلم والضطهاد الذي مارسه‬
‫أقربائه وبطانته بحق الناس قد أدى إلى غضب عام حتى انبرت طائفة مؤلفة من بضعة مئات لتحاصره في داره‬
‫وتهجم عليه وتقتله‪ ،‬وقد وقف ذلك الجيش الجرار الذي فتح مصر وبلد الروم متفرجًا دون أن يحرك ساكنا; فقد‬
‫ن الناس إنقسموا طائفتين بعد قتله‪:‬‬
‫كان ذلك الجيش ساخطًا عليه ويرى ضرورة قتله‪ ،‬غير أ ّ‬

‫طائفة ـ لعلها كانت تشكل الكثرية ـ كانت راضية بهذا القتل أو على القل غير مكترثة له بينما ترى الطائفة‬
‫الثانية أّنه قتل مظلومًا‪.‬‬

‫وفي ظل هذه الظروف إنتهز المنافقون الفرصة لبث بذور الفرقة في صفوف المسلمين وحرف مسير الخلفة عن‬
‫لّمة ـ واستغلوا قضية‬
‫محورها الصيل أمير المؤمنين علي)عليه السلم( ـ والذي كان يخطى بتاييد كافة أفراد ا ُ‬
‫قتل عثمان كذريعة لتحقيق أطماعهم ومآربهم‪ ،‬وبعبارة ُاخرى فاّنهم أحالوا قميص عثمان إلى مناورة سياسية‬
‫لّمة وصدها عن الحق‪.‬‬‫هدفها إغفال ا ُ‬
‫] ‪[ 154‬‬

‫ن أفراد من كل الطائفتين كانوا من ضمن صحب المام )عليه السلم( واتباعه‪ ،‬وإن كانت الطائفة‬ ‫وبالطبع فا ّ‬
‫الثانية وعلى ضوء تصريحات بعضى المؤرخين تشكل القلية‪ ،‬وعليه فمن الطبيعي أن تكثر هذه الطائفة من‬
‫سوالها لعلي )عليه السلم( عن قتل عثمان‪ ،‬فلم يكن أمام المام )عليه السلم(من بد سوى الجابة التي تتضمن‬
‫عكس الحقائق التأريخية من جانبه وعدم منح هذا وذاك الفرصة بغية إستغللها ضد الدين‪.‬‬

‫فالخطية رد على مثل هذه السئلة الذي يتطرق فيه المام)عليه السلم( إلى بيان الحقائق التأريخية دون منح‬
‫ل‪ ،‬أو نهيت عنه‪ ،‬لكنت ناصرًا«‪.‬‬
‫العناصر الفاسدة الحجج والذرائع فقد قال )عليه السلم(‪»:‬لو أمرت به‪ ،‬لكنت قات ً‬

‫فمفهوم هذه العبارة هى أني كنت محايدًا فلم ألطخ يدي بدمه ولم أدافع عن زلته‪ ،‬فالمران ينطويان على محاذير‪.‬‬

‫و هنا يبرز هذا السؤال‪ :‬كيف يمكن التوفيق بين مضمون هذه العبارة والوقائع التأريخية؟‬

‫ن المام )عليه السلم( نهى الناس عن قتل عثمان و قد بعث‬‫لنّنا نعلم جميعا )و قد ذكر ذلك أغلب المؤرخين( أ ّ‬
‫بالحسن والحسين )عليه السلم( إلى دار عثمان ليحول دون زحف المعترضين‪ ،‬بل دخل عليه المام )عليه‬
‫السلم( بالماء حين منعوه منه‪ .‬وقد أورد الشّراح جوابين على السؤال المذكور‪:‬‬

‫فقال البعض المراد من عدم النهي هو النهي العملي; أي أنني لم أشهر السيف عمليًا ولم أقتحم الميدان دفاعًا عنه‪،‬‬
‫وهذا ليتنافى ونهيه اللفظى )عليه السلم( وبعثه بالحسنين )عليه السلم( هناك‪.‬‬

‫ن هذا الكلم يفيد أن المام )عليه السلم( لم يأمر قط بقتل عثمان‪ ،‬وإن كان يراه مستحقًا‬‫بينما يرى البعض لخر أ ّ‬
‫للعقاب على أعماله‪ ،‬وعليه وبغية عدم تردي الوضاع لسوأ مّما كانت عليه فقد دعا الناس إلى ضبط النفس‬
‫ل أّنه لم يفعل ما من شأنه توفير الدعم الصريح لعثمان وأعماله وما يدر منه; وذلك لّنه كما‬‫والتخلي عن العنف‪ ،‬إ ّ‬
‫ن توفير الدعم له والدفاع عن أعماله هو الخر يسبب‬ ‫أن سفك دمه يخلق بعض المشاكل في المجتمع السلمي‪ ،‬فا ّ‬
‫ن المام )عليه السلم( لم ير في أي من المرين )المر بالقتل والنهي عنه(‬ ‫مشاكل لتقل عن سابقتها‪ ،‬وعليه فا ّ‬
‫مّما تمليه عليه وظيفته السلمية‪.‬‬

‫و قد أراد المام )عليه السلم( أن يعلن موقفه الصريح ويحول دون تفاقم الخلفات بشأن قتل عثمان من قبل‬
‫الطائفتين التي تذهب إحداهما لضرورة قتله وتلك التي لتراه مستحقًا للقتل‪.‬‬

‫] ‪[ 155‬‬

‫ثم قال )عليه السلم(‪»:‬غير أن من نصره‪ ،‬ليستطيع أن يقول خذله من أنا خير منه‪ ،‬ومن خذله ليستطيع أن يقول‬
‫نصره من هو خير مّني«‪،‬‬

‫لّمة‪ ،‬بينما كان‬


‫فالعبارتان تبينان موضوعًا واحدًا وهو إتفاق الجميع على أن حماة عثمان آنذاك كانوا من طلحاء ا ُ‬
‫الفراد الذين لم يمدوا له يد العون من كبار الصحابة من المهاجرين والنصار‪.‬‬

‫فالشواهد التأريخية تفيد تواجد كبار صحابة رسول ال )صلى ال عليه وآله( من المهاجرين والنصار حين هجم‬
‫الناس على بيت عثمان‪ ،‬ولو كانوا يرتضون عثمان وأعماله لحالوا دون وصول الناس إليه‪ ،‬المر الذي يدل على‬
‫تخليهم عنه وعدم تقديم أي دعم أو إسناد له‪.‬‬

‫أّما الفراد الذين هبوا للدفاع عن عثمان آنذاك فقد كانوا يمثلون أراذل المجتمع السلمي‪ ،‬و ما ذلك الدفاع إ ّ‬
‫ل‬
‫لمنافعهم اللمشروعة التي كانوا يحظون بها آنذاك‪.‬‬

‫ن حماة عثمان من أمثال مروان لم يجرأوا على الزعم أّنهم خير من‬
‫وعليه فقد كانت هذه المسألة واضحة في أ ّ‬
‫المهاجرين والنصار الذين لم يدعموا عثمان‪.‬‬
‫ومن المسلم به أن أولئك الذين تخلوا عن دعم عثمان لم يكونوا يرووا أن حاشية عثمان وبطانته أفضل منهم‪ ،‬ومن‬
‫لّمة‪.‬‬
‫هنا فقد إتفقت الراء على أن حماة عثمان لم يكونوا من أخيار ا ُ‬

‫فالعبارة غاية في الروعة وقد أماطت اللثام عن أعمال عثمان بالشكل الذي أثار حفيظة كافة المسلمين‪.‬‬

‫ومن ذلك توزيعه أموال بيت المال على قرابته وبطانته وتسليطهم على رقاب الناس إلى جانب الظلم والجور‬
‫والضطهاد وتضييع العدل والقسط‪.‬‬

‫ن الفتنة‬
‫وقد صرح بعض شّراح نهج البلغة)‪ (1‬بان الكلم هو رّد المام )عليه السلم( على من قال بحضرته أ ّ‬
‫لّمة على سفك دمه‪ ،‬ولو رأى كبار‬‫من ُاولئك الذين لم ينصروا عثمان‪ ،‬فلو نصره كبار الصحابة لما إجترأ جهال ا ُ‬
‫لّمة‪.‬‬
‫الصحابة وجوب قتله لكان عليهم إعلن ذلك وإزالة الشبهات عن أذهان ا ُ‬

‫فعلم المام )عليه السلم( أنه المقصور بذلك الكلم‪ ،‬فاورد هذه الكلمات‪.‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن ميثم ‪.2/57‬‬

‫] ‪[ 156‬‬

‫ن المام )عليه السلم( إذا لم ينصر عثمان فانه لم يكن وحيدًا في هذا المر‪ ،‬بل‬
‫ن الخطبة تبين أ ّ‬
‫على كل حال فا ّ‬
‫كان هذا موقف كبار الصحابة‪ ،‬فلم الشكال على المام)عليه السلم(؟ ثم إختتم المام )عليه السلم(خطبته بتحليل‬
‫دقيق عن قتل عثمان‪ ،‬فقال )عليه السلم(‪» :‬و أنا جامع لكم أمره‪ ،‬استأثر)‪ (1‬فأساء الثرة‪ ،‬و جزعتم فأسأتم‬
‫الجزع‪ ،‬ول حكم واقع في المستأثر والجازع«‪.‬‬

‫ن عبارات المام)عليه السلم( إتصفت بقلة اللفاظ وسعة المعاني‪،‬‬ ‫لقد صرح أحد الدباء العرب المشهورين بأ ّ‬
‫ن عثمان إرتكب خطًا جسيمًا وأنتم‬
‫فالعبارة على قّلة لفظها جامعة شاملة حيث أوضح المام)عليه السلم( فيها أ ّ‬
‫كذلك‪.‬‬

‫فقد انتهج اسلوب الستبداد والحكم الفردي وسلط بني ُامية على رقاب الناس وأغدق عليهم بيت المال فلما تعالت‬
‫أصوات المعارضة وقام المسلمون لم يعرهم آذانا صاغية‪ ،‬فحاصروه وهجموا عليه فتركه كبار الصحابة من‬
‫ل من خلعه من الخلفة وطرد أزلمه‬ ‫ن الناس لم يكتفوا بهدا الحد‪ ،‬وبد ً‬
‫النصار والمهاجرون‪ ،‬من جانب آخر فا ّ‬
‫من مواقع الحكومة عمدوا إلى اراقة دمه فخلقوا فتنة إمتدت لسنوات في التأريخ السلمي‪ ،‬إلى جانب استغللها‬
‫من جانب المنافقين الذين تذرعوا بالمطالبة بدم عثمان ليسفكوا كثيرا من الدماء‪.‬‬

‫ن ال جازى كل منها بأعماله‪.‬‬


‫ن الفريقين قد سلكوا الفراط‪ ،‬وعليه فا ّ‬
‫وبناءًا على ما تقدم فا ّ‬

‫ل أنه أوجز كبد‬


‫ن كلم المام )عليه السلم( ورغم قصر عباراته إ ّ‬ ‫لأّ‬‫لقد كثر الكلم بشأن خلفة عثمان وآثارها‪ :‬إ ّ‬
‫الحقيقة إلى جانب اصداره الحكم العادل بشأنه وشأن الجماهير التي قتلته‪.‬‬

‫كما يستفاد من العبارة أن الستبداد ـ رغم إّنه سيئ مهما كان ـ على أنواع بعضها أسوأ من البعضى الخر‪،‬‬
‫واستبداد عثمان كان من النوع الخير‪.‬‬

‫ن التعبير بالجزع عن الناس يشير إلى مدى الغضب والستياء الذي سيطر على الناس إثر العمال الشائنة‬
‫كما أ ّ‬
‫لعثمان وبطانته‪.‬‬

‫—–‬

‫‪» .1‬إستأثر« من مادة »اثر«‪ ،‬بمعنى الستبداد كما صرح بذلك القاموس ومنه الحكومة الستبدادية لّنها حكومة فردية‪ ،‬يستعبد فيها‬
‫الفرد سائر الناس‪.‬‬
‫] ‪[ 157‬‬

‫الخطبة)‪31 (1‬‬

‫ومن كلم له)عليه السلم(‬

‫لما أنفذ عبد ال بن عباس إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل‪.‬‬

‫ق الّزَبْيَر‬
‫ن اْل َ‬
‫ب َوَيُقوُل »ُهَو الّذُلوُل« َوَلِك ِ‬‫ب الصّْع َ‬ ‫عاِقصًا َقْرَنُه‪َ ،‬يْرَك ُ‬
‫جْدُه َكالّثْوِر َ‬
‫ن َتْلَقُه َت ِ‬
‫ك ِإ ْ‬
‫حَة‪َ ،‬فِإّن َ‬
‫طْل َ‬
‫ن َ‬‫»ل َتْلَقَي ّ‬
‫عدا ِمّما َبدا««‪.‬‬ ‫ق َفما َ‬ ‫حجاِز َوَأْنَكْرَتِني ِباْلِعرا ِ‬ ‫عَرْفَتِني ِباْل ِ‬
‫ك‪َ :‬‬
‫ن خاِل َ‬‫ك اْب ُ‬
‫عِريَكًة َفُقْل َلُه‪َ» :‬يُقوُل َل َ‬ ‫ن َ‬‫َفِإّنُه َأْلَي ُ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫السعي لنقاذ الخاطئين‬

‫ن المعركة الولى التي فرضت على أمير المؤمنين )عليه السلم( كانت معركة الجمل‪ ،‬حيث إتحد أنصار‬ ‫نعلم أ ّ‬
‫عثمان ومعارضيه بعد أن إصطحبوا معهم زوج رسول ال)صلى ال عليه وآله( عائشة فنقضوا البيعة واشعلوا‬
‫فتيل واقعة الجمل طمعًا في الخلفة‪.‬‬

‫ثم انتهت المعركة بهزيمتهم وقتل مؤججي تلك النار طلحة والزبير‪.‬‬

‫ن المام )عليه السلم( كان حريصًا على عدم وقوع القتال ليس في‬
‫وتفيد كافة الشواهد التاريخيه أ ّ‬

‫‪ .1‬قال صاحب مصادر نهج البلغة نقل هذا الكلم طائفة من العلماء ممن سبقوا المرحوم السيد الرضي‪،‬منهم الزبير بن بكار )طبق‬
‫نقل ابن أبي الحديد والجاحظ‪ (...‬وابن قتيبة في عيون الخبار وابن عبد رّبه في العقد الفريد‪.‬‬

‫والطريف‪ ،‬نقله حتى إبن خلكان في وفيات العيان وشهد بصحته وهو من رفع راية مخالفة نهج البلغة‪ .‬مصادر نهج البلغة ‪/ 1‬‬
‫‪.418‬‬

‫] ‪[ 158‬‬

‫الجمل فحسب‪ ،‬بل في صفين والنهروان‪ ،‬وكان يسعى جاهدا لطفاء نار الحرب‪.‬‬
‫والخطبة التي نحن بصددها تعد أحد تلك الشواهد‪ ،‬فقد بعث المام )عليه السلم( قبل نشوب القتال برسوله عبد ال‬
‫بن عباس إلى الزبير بهذه الكلمات‪ ،‬فأثرت عليه وانسحب من المعركة‪ ،‬حتى أدركه إبن جرموز في صحراء‬
‫البصرة فقتله‪.‬‬

‫فقد خاطب المام )عليه السلم( ابن عباس قائل‪»:‬لتلقين طلحة فانك إن تلقه تجده كالثور عاقصًا)‪ (1‬قرنه‪ ،‬يركب‬
‫الصعب ويقول‪:‬هو الذلول«‪.‬‬

‫تشبيهه لطلحة بالثور الذي يعقص قرنه إما أن يكون أراد به طغيانه وسوء خلقه‪ ،‬أو عدم سماعه للحق بفعل‬
‫طاعته لهوى نفسه‪.‬‬

‫ل فانسعاب من‬‫ن العبارة تفيد تحليله لنفسية طلحة ويأسه من تأثير الكلم فيه بشأن الكف عن القتال وإ ّ‬
‫فالواقع أ ّ‬
‫ن المام )عليه السلم( كان محقا في أمله(‬
‫ل أّنه لم يقطع أمله من الزبير )و قد دلت الحوادث اللحقة أ ّ‬
‫المعركة‪ ،‬إ ّ‬
‫فأضاف )عليه السلم( قائل‪»:‬ولكن الق الزبير فاّنه ألين عريكة«‪(2).‬‬

‫فالعبارة‪»:‬ألين عريكة« واستنادا إلى »عريكة« التي تعني الطبيعة‪ ،‬تفيد تسليم الزبير للحق إذا سمعه‪ ،‬ول سيما إذا‬
‫كان قد صدر من رسول ال )صلى ال عليه وآله(‪ ،‬على العكس من طلحة الذي كان يتصف بالنانية واللجاجة‬
‫ب الجاه والمقام الذي أعمى بصره وبصيرته وأصم سمعه عن سماع الحق‪.‬‬ ‫والطغوى وح ّ‬

‫ن عمار في جيش المام )عليه‬


‫ن الزبير أخذته رعدة شديدة حين دخل البصرة وعلم أ ّ‬
‫ومن هنا ذكر المؤرخون أ ّ‬
‫السلم( حيث تذكر حديث رسول ال )صلى ال عليه وآله( لعمار‪:‬‬

‫»و يحك يابن سمية تقتلك الفئة الباغية«‪.‬‬

‫فخشى أن يقتل عمار في المعركة‪ ،‬فيكون هو جزءًا من الفئة الباغية‪.‬‬

‫على كل حال قال المام )عليه السلم( لبن عباس‪» :‬فقل له يقول لك ابن خالك‪ :‬عرفتني بالحجاز وأنكرتني‬
‫بالعراق؟ فما عدا مّما بدأ؟«‪.‬‬

‫‪» .1‬عاقصا« من مادة »عقص« بمعنى التوى قرناه على أذنيه‬

‫‪» .2‬عريكة« من مادة »عرك« بمعنى الطبيعة‪ ،‬ولين العريكة بمعنى السلس‪ ،‬كما تأتى بمعنى إشتباك الشئ ومن هنا إطلقت المعركة‬
‫على إشتباك الفراد‪.‬‬

‫] ‪[ 159‬‬

‫فالعبارة إشارة إلى التأريخ الجهادي العظيم للمام علي )عليه السلم( على عهد النبي)صلى ال عليه وآله( والذي‬
‫لم يكن خافيًا على أحد بما فيهم الزبير الذي كان يقاتل إلى جانب رسول ال )صلى ال عليه وآله(‪.‬‬

‫ى الزبير‪ ،‬فبرز إليه مدججًا‪،‬‬


‫ن عليًا )عليه السلم( برز بين الصفين حاسرًا‪ ،‬وقال‪ :‬ليبرز ال ّ‬
‫فقد ورد في الخبار أ ّ‬
‫فقيل لعائشة‪ :‬قد برز الزبير إلى علي )عليه السلم(‪ ،‬فصاحت‪ :‬وزبيراه!‬

‫فقيل لها‪ :‬ل بأس عليه منه‪ ،‬إّنه حاسر والزبير دارع‪.‬‬

‫فقال له)عليه السلم(‪ :‬ما حملك يا أبا عبدال على ما صنعت؟ قال‪ :‬أطلب بدم عثمان‪ ،‬قال‪ :‬أنت وطلحة وليتماه‪،‬‬
‫وإّنما نوبتك من ذلك أن تقيد به نفسك وتسلمها إلى ورثته‪ ،‬ثم قال له‪ :‬نشدتك ال أتذكر يوم مررت بي ورسول ال‬
‫ى وضحك في وجهي‪،‬‬ ‫)صلى ال عليه وآله( متكي على يدك‪ ،‬وهو جاء من بني عمرو بن عوف‪ ،‬فسلم عل ّ‬
‫فضحكت إليه‪ ،‬لم أزده على ذلك‪ ،‬فقلت‪ :‬ل يترك ابن أبي طالب يا رسول ال زهوه!‬

‫فقال لك »مه إنه ليس بذي زهو‪ ،‬أما إّنك ستقاتله وأنت له ظالم«‬
‫فقال الزبير‪ :‬إنا ل وإنا إليه راجعون‪ ،‬لقد كان كذلك‪ ،‬ولكن الدهر أنسانيه‪ ،‬ولنصرفن عنك‪ .‬فانصرف من‬
‫المعركة)‪.(1‬‬

‫فالعبارة السابقة قد تكون إشارة إلى هذا المر‪ .‬جدير بالذكر أن الزبير كان من محبي علي)عليه السلم( وقد هب‬
‫للدفاع عنه حتى في حادثة السقيفة وشهر سيفه‪ ،‬فقام له القوم وكسروا سيفه‪ ،‬إلى جانب ذلك فقد منح رأيه لعلي‬
‫)عليه السلم( في الشورى التي شكلها عمر لنتخاب الخليفة من بعده‪.‬‬

‫على كل حال فان هذه العبارة أثرت في الزبير وكان شكه يتزايد يومًا بعد آخر‪.‬‬

‫بمشروعية الطريق الذي سلكه حتى إتخذ قراره باعتزال القتال فاتجة الصحراء ليكمن له أحد الظلمة ـ ابن‬
‫ل ولم يسعه تدارك ما فرط منه‪.‬‬
‫جرموز ـ فارداه قتي ً‬

‫أّما قوله )عليه السلم(‪» :‬ابن خالك« فهو تعبير لطيف جدا‪ ،‬وهو من باب الستمالة والذكار بالنسب والرحم‪ ،‬فقد‬
‫كان الزبير ابن صفية أخت أبي طالب‪ ،‬وعليه فالزبير ابن عمة علي )عليه السلم( وعلي)عليه السلم(ابن خاله‪.‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.167 / 2‬‬

‫] ‪[ 160‬‬

‫لمور التي سمعها الزبير من رسول ال )صلى ال عليه وآله(بشأن علي )عليه‬ ‫والعبارة تهدف إلى بيان كافة ا ُ‬
‫ن حب الجاه ـ الذي كان الدافع الرئيسي لحرب الجمل ـ كالحجاب‬
‫لأّ‬‫السلم(ومن هنا فقد كان شديد الحب لعلي‪ ،‬إ ّ‬
‫الذي حال دون رويته لتلك الحقائق‪ ،‬فكان لهذه العبارة فعلها في نفسه حيث أزالت عنه ذلك الحجاب وجعلته يعود‬
‫إلى الحق‪.‬‬

‫قال المرحوم السيد الرضي في ذيل هذه الخطبة‪»:‬وهو عليه السلم أول من سمعت منه هذه الثلمة; أعني فما عدا‬
‫مّما بدا«‪.‬‬

‫وهى عبارة بعيدة المعنى‪ ،‬تشير إلى مسألة وهى‪ :‬ما الذي صرفك عن الحق بعد أن اتضح لديك إلى الباطل)‪.(1‬‬
‫ل في الدب العربي‪.‬‬
‫والعبارة من الروعة واللطافة بحيث أصبحت مث ً‬

‫تأّملت‬

‫‪1‬ـ رد فعل الزبير تجاه رسالة المام)عليه السلم(‬

‫ن ابن عباس قال‪ :‬حين أبلغت الزبير رسالة المام )عليه السلم(أجابني‪ :‬قل لعلي )عليه‬
‫ورد في بعض الروايات أ ّ‬
‫السلم( إني ُاريد ما تريد‪(2).‬‬

‫ن عليًا)عليه السلم(‬
‫ب الجاه درجة جعلته يعتقد بأ ّ‬
‫أي إّنك تبتغي الحكومة‪ ،‬فلم ل أطلبها أنا‪ .‬فقد بلغ به الطمع وح ّ‬
‫ن الزبير لم يستطع الوقوف بوجه الحق‪ ،‬فما كان منه‬ ‫إّنما نهض بالمر طلبًا للحكومة ـ ولكن وكما أوردنا سابقًا فا ّ‬
‫ن إعتزل القتال وانصرف وإن كانت خطوته متأخرة‪.‬‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬

‫‪2‬ـ قطوف من سيرة طلحة والزبير‬


‫طلحة من قريش وأبوه عبدال بن عثمان من السابقين في السلم وقد شهد غزوات رسول ال )صلى ال عليه‬
‫وآله(‪ ،‬ولم يشهد يدرا حيث وجهه رسول ال )صلى ال عليه وآله( حينها إلى الشام فلما عاد طالب بسهمه من‬
‫الغنائم‪.‬‬

‫‪» .1‬عدا« به معنى الصرف والعادة‪ ،‬وفاعله ضمير مستتر يعود إلى ما‪ ،‬ويحتمل أن تكون من في مّما بمعنى عن‪ ،‬و بدا من مادة‬
‫بدو بمعنى الظهور‪.‬‬

‫‪ .2‬مصادر نهج البلغة ‪.411 / 1‬‬

‫] ‪[ 161‬‬

‫فقال له رسول ال )صلى ال عليه وآله(‪ :‬لك سهمك وأجرك‪ .‬وقيل آخى رسول ال )صلى ال عليه وآله(في مكة‬
‫ن النبي )صلى ال عليه‬‫بين طلحة و الزبير‪ ،‬وآخى بين طلحه وأبي أيوب في المدينة‪ .‬وروي عن طلحة أ ّ‬
‫وآله(أسماه يوم أحد طلحة الخير‪ .‬أّما قتاله مع رسول ال )صلى ال عليه وآله( في حرو به فمما ل شك فيه مع‬
‫ذلك فقد كان محبًا للجاه و المقام حتى تغيير نهجه بعد وفاة رسول ال )صلى ال عليه وآله(‪ ،‬كما كانت تسمع منه‬
‫ن رسول ال )صلى ال عليه وآله( يأمر بنات أعمامنا بالحتجاب منا‪ ،‬ويتزوج‬ ‫بعض الكلمات ومن ذلك قوله أ ّ‬
‫بنسائنا بعد إنفصالهن عنا‪ :‬فما الذي يغنيه حجابهن اليوم وسيموت غدا فننكحهن‪ ،‬وهنا نزلت آية التحريم بالزواج‬
‫من نساء النبي )صلى ال عليه وآله()‪ (1‬فقد ذكر الفخر الرازي في سبب نزول الية أن طلحة قال‪»:‬سأتزوج من‬
‫عائشة إذا مات رسول ال )صلى ال عليه وآله(«‪ .‬فنزلت آية تحريم الزواج من نساء النبي )صلى ال عليه وآله(‬
‫بعد وفاته‪(2).‬‬

‫وورد في قصة الشورى التي شكلها عمر أنه أقبل على طلحة وقال‪ :‬أقول أم أسكت؟ فقال طلحة‪ :‬قل‪ ،‬فاّنك ل تقول‬
‫من الخير شيئًا‪ .‬فقال عمر‪ :‬لقد مات رسول ال )صلى ال عليه وآله( ساخطًا عليك بالكلمة التي قلتها يوم ُانزلت‬
‫آية الحجاب‪(3).‬‬

‫على كل حال كان من أشد الناقمين على عثمان‪ ،‬ومن هنا كان يراه مروان من قتلة عثمان‪ ،‬وقد رماه بسهم في‬
‫ب الجاه لشعال فتيل الجمل وسفك دماء‬ ‫الجمل فقتله‪ ،‬وقال‪ :‬الن أدركت دم عثمان من طلحة‪ .‬وقد دفعه ح ّ‬
‫ن المام)عليه السلم( حدثه ببعض‬ ‫المسلمين ولم يظفر بالخلفة حتى قتل في معركة الجمل‪ .‬وذكر البعض أ ّ‬
‫ن الخطبة تفند هذا الكلم‪،‬‬
‫لأّ‬
‫الكلمات عى غرار الزبير فندم وانصرف من المعركة فرماه مروان بسهم فقتله‪ .‬إ ّ‬
‫ن أمير المؤمنين )عليه السلم( مر‬‫فهى تفيد يأس المام )عليه السلم(من هدايته وعودته إلى الحق‪ .‬وفي رواية أ ّ‬
‫يقتلى الجمل فقال بشأن طلحة هذا من نكث بيعتي و أشعل نار الفتنة وألب الناس على قتلي وأهل بيتي« ثم خاطبه‬
‫)عليه السلم(‪ :‬يا طلحة إّني وجدت ما وعدني رّبي حقًا فهل وجدت ما وعد ربك حقًا‪ ،‬ثم انصرف‪ .‬فقال له بعض‬
‫أصحابه‪ :‬أتكلمه بعد الموت يا أميرالمؤمنين‪ .‬فقال)عليه السلم( وال لقد سمعني كما سمع الكّفار كلم رسول ال‬
‫)صلى ال عليه وآله( وهم قتلى في قليب يدر)‪.(4‬‬

‫‪ .1‬سورة الحزاب ‪ ;53 /‬الدر المنثور ‪.214 / 5‬‬

‫‪ .2‬تفسير الفخر الرازي ‪.225 / 25‬‬

‫‪ .3‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.184 / 1‬‬

‫‪ .4‬الحتجاج للطبرسي‪ ،‬نقل عن سفينة البحار‪ ،‬مادة )طلح(‪.‬‬

‫] ‪[ 162‬‬

‫ن النبي )صلى ال عليه وآله( كان يثني أحيانا على طلحة‪ ،‬حتى ذهب البعض إلى أّنه‬ ‫وهنا يبرز هذا السؤال وهو أ ّ‬
‫ن هذا الكلم صحيح‪ ،‬فا ّ‬
‫ن‬ ‫من العشرة المبشرة بالجّنة‪ ،‬فكيف يصح هذا الثناء؟ ونقول في الجواب على فرض أ ّ‬
‫النسان يعيش بعض المراحل المتألقة في سني حياته بحيث يكون يومًا إلى جانب الحق ويستحق الجّنة‪ ،‬ويومًا‬
‫يخرج من هذا الحق ويلتحق في صفوف الباطل فيستحق غضب ال وسخطه‪ .‬فالتأريخ السلمي حافل بالفراد‬
‫ل فمن يسعه القول بأحقية من أجج نار الحرب ضد إمام‬ ‫الذين كانوا على الحق وهجروه إلى الباطل أو بالعكس‪ ،‬وإ ّ‬
‫زمانه وسفك كل هذه الدماء؟ فهل من انسجام بين هذا الكلم والمنطق؟ والشاهد على ما قلنا ما صرح به القرآن‬
‫ن الَّوُلو َ‬
‫ن‬ ‫سابُقو َ‬
‫الكريم بشأن السابقين في السلم من المهاجرين والنصار والتابعين‪ ،‬الذين وعدهم بالجّنة )َوال ّ‬
‫حَتها‬
‫جِري َت ْ‬‫جـّنات َت ْ‬
‫عّد َلُهْم َ‬
‫عْنُه َوَأ َ‬
‫ضوا َ‬
‫عْنُهْم َوَر ُ‬
‫ل َ‬
‫يا ّ‬‫ضـ َ‬
‫حسان َر ِ‬
‫ن اّتـَبُعوُهْم ِبِإ ْ‬
‫لْنصاِر َواّلِذي َ‬ ‫ن َوا َ‬
‫جِري َ‬ ‫ن الُمها ِ‬
‫ِم َ‬
‫ظـيُم(‪(1).‬‬ ‫ك الَفْوُز الَع ِ‬
‫ن ِفـيها َأَبدًا ذ ِل َ‬
‫لْنهاُر خاِلِدي َ‬‫اَ‬

‫فالية تشمل جميع المهاجرين والنصار‪ ،‬بينما نعلم هنالك من انحرف منهم عن الحق كعبد ال بن أبي سرح)‪(2‬‬
‫وثعلبة ابن حاطب النصاري)‪ (3‬فاستحقوا غضب ال وسخطه‪ ،‬وقد كانوا من المهاجرين والنصار الذين وقفوا‬
‫إلى جانب رسول ال )صلى ال عليه وآله(؟ كما نعلم أن بعض المنافقين الذين ذّمهم القرآن بشّدة كانوا من صحابة‬
‫رسول ال )صلى ال عليه وآله(‪ .‬وعلى هذا الضوء فلبّد من تقييم أصحاب رسول ال)صلى ال عليه وآله( على‬
‫ل شهدنا حالة من التناقض ل يمكن الخروج منها بتبرير وأما الزبير فهو‬ ‫ضوء أعمالهم حتى آخر أعمارهم‪ ،‬وإ ّ‬
‫الزبير بن العوام وُاّمه صفية عمة رسول ال )صلى ال عليه وآله(‬
‫اسلم في الخامسة عشرة من عمره وهو رابع أو خامس من أسلم‪ ،‬هاجر إلى الحبشة ثم قدم المدينة‪ ،‬وقد أخى‬
‫رسول ال )صلى ال عليه وآله( بينه وبين عبدال بن مسعود‪ .‬شهد غزوات رسول ال )صلى ال عليه وآله(‬

‫‪ .1‬سورة التوبة ‪.100 /‬‬

‫‪ .2‬ورد ذمه في تفسير الية ‪ 93‬من سورة النعام في الدر المنثور )الدر المنثور ‪ (30 / 3‬وذكر صاحب أسد الغابة أنه كان من كتاب‬
‫الوحي ثم ارتد فأمر رسول ال )صلى ال عليه وآله( بقتله )اسد الغابة‪ ،‬شرح أخبار عبدال بن سعد بن أبي سرح(‪.‬‬

‫‪ .3‬جاء في أسد الغاية في معرفة الصحابة في أخبار هذا الرجل أن النبي )صلى ال عليه وآله(طرده‪ ،‬كما طردهالخلقاء الثلثة )ابوبكر‬
‫وعمر وعثمان( ولم يقبلوا زكاته‪ ،‬رغم قوله أنه من أصحاب رسول ال )صلى ال عليه وآله( حتى توفي في خلفة عثمان‪.‬‬

‫] ‪[ 163‬‬

‫ن المام )عليه‬‫فاستاء المام)عليه السلم( وقال‪» :‬هذا السيف طالما فرج الكرب عن وجه رسول ال« وقيل إ ّ‬
‫ن ابن‬
‫السلم( لم يأذن لبن جرموز بالدخول عليه وقال‪» :‬بشر قاتل ابن صفية بالنار« وقال البعض أ ّ‬
‫جرموزغضب غضبًا شديدًا فقتل نفسه‪ .‬وقد صرحت بعض المصادرالتأريخية أن معاوية هو الذي شجع طلحة‬
‫والزبير على نقض البيعة والقيام ضد علي )عليه السلم()‪.(1‬‬

‫ن النسان يعيش مع‬ ‫ن قضية طلحة والزبير بينبغي أن تكون لنا درسًا وعبرة فل ننغر بأعمالنا‪ ،‬وكيف أ ّ‬ ‫ل شك إ ّ‬
‫الحق ويجاهد في سبيله ثم يستلل حب الدنيا والحياه إلى قلبه فيقوده إلى الباطل الّلهم إجعل عاقبة أمرنا خيرًا‪.‬‬

‫‪3‬ـ شروط المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬

‫لقد تضمنت رسالة المام )عليه السلم( الشارة إلى أحد الشروط المهّمة للمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬أل‬
‫وهو إحتمال التأثير‪.‬‬

‫فقد قال )عليه السلم(‪»:‬ل تلقين طلحة فانك إن تلقه تجده كالثور عاقصًا قرنه‪ ،‬ولكن إلق الزبير فانه ألين عريكة«‬
‫ن طاقة النسان وقدرته محدودة ولبّد له من استهلكها في محلها الذي يتوقع فيه التأثير‪.‬‬‫فمن الطبيعي أ ّ‬

‫فاذا أحتمل عدم التأثير فل ينبغي له أن يصرف جهده عبثًا‪ ،‬وبالطبع فقد قلنا احتمال التأثير وليس اليقين فيتعلل‬
‫بعدم المر لعدم وجود اليقين في التأثير! كل إلى جانب ذلك‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.231 / 1‬‬


‫] ‪[ 164‬‬

‫ينبغي معرفة المعروف والمنكر وعدم وجود الخطر آنذاك تبرز وظيفة المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬

‫ن لبعض الناس طباع كطباع الحيوانات فالبعض كالثعلب أو الذئب‬ ‫ويفهم من رسالة المام )عليه السلم( أ ّ‬
‫وبعضهم شجاع كالسد وآخر من أهل الشهوات كالخنزير وبعضهم جاهل كالبقر و‪ ...‬و قد شبه المام )عليه‬
‫السلم( طلحة بالبقر العاقص القرن حيث يستكبر في التسليم إلى الحق ويخطى في إدراك الواقع وتمييزه‪ ،‬وإذا‬
‫اتجه صوب العمال العصية ظنها سهلة حتى تؤدى به إلى الفشل‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 165‬‬

‫الخطبة)‪32 (1‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫وفيها يصف زمانه بالجور‪ ،‬ويقسم الناس فيه خمسة أصناف‪ ،‬ثم يزهد في الدنيا‪.‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫تتألف الخطبة من أربعة أقسام‪:‬‬

‫القسم الول يتحدث عن الوضع المأساوي للمجتمع على عهد المام )عليه السلم( والمشاكل التي كانت تعترض‬
‫سبيل الصلحاء والتقياء‪ .‬ويصنف المام )عليه السلم( الناس في القسم الثاني آنذاك )ولعله في كل عصر‬
‫ومصر( إلى أربعة أصناف‪:‬‬

‫أ ـ الصنف الول من يقعد به عن طلب المرة قّلة ماله‪ ،‬وحقارته في نفسه‪ .‬فهو مغتم في الواقع لعدم إمتلكه‬
‫المكانات‪.‬‬

‫ب ـ الصنف الثاني من يشمر ويطلب المارة ويفسد في الرض ويكاشف‬

‫ج ـ الصنف الثالث من يتظاهر بالدين ويطلب به الدنيا ل الخرة‬


‫ل‪ ،‬ول يكاشف‪ ،‬ويطلب الملك ول يطلب الدنيا بالرياء والناموس‪ ،‬بل تنقطع‬ ‫د ـ الصنف الرابع من لمال له أص ً‬
‫أسبابه كلها فيخلد إلى القناعة‪ ،‬ويتحلى بحلية الزهادة في اللذات الدنيوية‪ ،‬لطلبًا للدنيا‪ ،‬بل عجزًا عن الحركة فيها‪،‬‬
‫وليس بزاهد على الحقيقة‪.‬‬

‫ن المام )عليه السلم(خطبها في مسجد الكوفة‪،‬‬ ‫‪ .1‬نقل هذه الخطبة محمد بن طلحة الشافعي في كتاب مطالب السئول وأضاف أ ّ‬
‫ن نهج البلغة لم يشر إلى موضع الخطبة‪ .‬كما رواها الجاحظ في البيان والتبيين‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن‬ ‫ن له سند غير نهج البلغة‪ ،‬ل ّ‬
‫ويتضح من هذا أ ّ‬
‫أخطأ في البداية حيث نسبها إلى معاوية إّل أّنه يعترف أخيرًا بأنها لتشبه كلم معاوية وهى من كلمات علي بن أبي طالب‪ .‬مصادر‬
‫نهج البلغة ‪.417 / 1‬‬

‫] ‪[ 166‬‬

‫ثم يتطرق المام )عليه السلم( إلى بيان خصائص كل صنف من هذه الصناف الربعة ـ التي تعيش في كل‬
‫مجتمع‪ ،‬ويتحدث القسم الثالث عن صنف آخر ذكره المام)عليه السلم(بصورة مستقلة وهم البرار التقياء الذين‬
‫أراق دموعهم خوف الخرة‪.‬‬

‫ثم يقسمهم المام )عليه السلم( إلى عّدة أقسام ويذكر صفات كل قسم منهم‪ ،‬أّما القسم الرابع والخير من الخطبة‬
‫فيدعو فيه المام )عليه السلم(الناس إلى الزهد وعدم الغترار بالدنيا الذي يقود إلى الذنوب والمعاصي‪ .‬وقد بين‬
‫حق الكلم بعبارات قصيرة‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 167‬‬

‫القسم الول‬

‫عُتّوا‪ .‬ل َنْنَتِفُع‬


‫ظالُم ِفيِه ُ‬
‫سيئًا َوَيْزداُد ال ّ‬
‫ن ُم ِ‬
‫سُ‬‫ح ِ‬
‫عُنود‪َ ،‬وَزَمن َكُنود‪ُ ،‬يَعّد ِفيِه اْلُم ْ‬
‫حنا ِفي َدْهر َ‬ ‫صَب ْ‬
‫»َأّيها الّناس ِإّنا َقْد َأ ْ‬
‫حّل ِبنا«‪.‬‬ ‫حّتى َت ُ‬
‫عًة َ‬ ‫ف قاِر َ‬
‫خّو ُ‬
‫جِهْلنا َول َنَت َ‬
‫عّما َ‬‫سَأُل َ‬
‫عِلْمنا‪َ ،‬ول َن ْ‬‫ِبما َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الدهر وضياع القيم‬

‫إستهل المام)عليه السلم( الكلم بخطاب عامة الناس ثم أشار المام )عليه السلم( في الخطبة إلى الزمن الذي‬
‫كان عليه الناس فقال‪:‬‬

‫»أّيها الناس أنا قد أصبحنا في دهر عنود‪ ،‬وزمن كنود«‪.‬‬


‫طبعا ليس المراد بالزمن اليام واليالي والشهور والسنين بحيث توصف بالقبح والحسن والبغض والتنكر‪ ،‬بل أهل‬
‫ل فليس هنالك‬
‫العصر والزمان الذين يتصفون بهذه الصفات‪ ،‬فاذا ما ذكر الزمان بالحسن والقبح فالمراد الناس‪ ،‬وإ ّ‬
‫من تغيير في شروق الشمس أو القمر ول في حركة القمر حول نفسه أو حول الشمس‪.‬‬

‫ن الناس هم الذين يوصفون بسوء‬


‫لأّ‬
‫فالشمس تشرق والمطر ينزل والرض تخرج بركاتها للبشر ول من تغيير‪ ،‬إ ّ‬
‫العمال وحسنها‪.‬‬

‫فقد عاش المام )عليه السلم( في عصر لم يسع أغلب أفراده ـ سوى النزر اليسير ـ إدراك عظمة روحه وسعة‬
‫فكره والحاطة بفضائله ومناقبه‪ ،‬وقد أدت بهم الثروات العظيمة التي أفرزنها الفتوحات السلمية واتساع رقعة‬
‫البلد إلى التكالب على الدنيا والتهافت على زينتها والحرص على جمع الموال وحب الجاه والمقام وتناسي القيم‬
‫والمبادئ‪.‬‬

‫] ‪[ 168‬‬

‫ثم تناول المام )عليه السلم( بعض خصائص الزمان آنذاك والذي يتصف بعناد الناس وجحودهم ليصفه في‬
‫خمس عبارات فقال‪» :‬يعد فيه المحسن مسيئًا ويزداد الظالم فيه عتوا« أو يمكن أن يتهم المحسن بالثم ويثنى على‬
‫الظالم؟ بلى إذا تغّيرت قيم المجتمع عد المحسن مسيئًا والمسيىء محسنًا‪.‬‬

‫فإذا كان المال والثراء والقوة هى القيم ومعايير الشخصية‪ ،‬فستكون الصدارة في ذلك المجتمع للظلمة والطغاة‬
‫والجبابرة‪ ،‬بينما تميع فى هذا المجتمع شخصية المحسنين الذين يمدون يد العون إلى الفقراء والضعفاء وينفقون‬
‫عليهم الموال وينعتونهم بالحماقة والبلهة‪.‬‬

‫وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض نماذج الفساد الذي طال المجتمعات البشرية بفعل فساد التعامل مع القيم والتنكر‬
‫لها ومن ذلك ما أورده بشأن قوم لوط الذين عزموا على إخراج نبّيهم ومن معه من المؤمنين الصالحين ول ذنب‬
‫ن()‪.(1‬‬‫طـّهُرو َ‬
‫س َيَت َ‬
‫ن َقْرَيِتُكْم ِإّنُهْم ُأنا ٌ‬
‫جوهُْم ِم ْ‬
‫خِر ُ‬
‫ن قاُلوا َأ ْ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ب َقْوِمِه ِإ ّ‬
‫جوا َ‬
‫ن َ‬
‫لهم سوى الطهر والعفاف )َوما كا َ‬

‫ل والنبي بأّنها من أراذل القوم والسذج الذين ليس لهم‬ ‫كما اعتبر الظلمة من قوم نوح تلك الثلة الخيرة التي آمنت با ّ‬
‫ى َوما َنرى َلُكْم‬
‫ى الّرْأ ِ‬
‫ن ُهْم َأراِذُلنا باِد َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫ك ِإ ّ‬
‫شرًا ِمْثَلنا َوما َنراك اّتَبَع َ‬
‫ل َب َ‬
‫ك ِإ ّ‬
‫من مزية على من سواهم )»ما َنرا َ‬
‫ن(‪(2).‬‬ ‫ظّنُكْم كاِذِبـي َ‬
‫ل َن ُ‬
‫ضل َب ْ‬
‫ن َف ْ‬
‫عَلْينا ِم ْ‬
‫َ‬

‫نعم إذا فسد الناس وازداد حجم الظلم والضطهاد تغير وجه المجتمع وغيبت فيه القيم‪ ،‬وازداد الظالم طغيانًا‬
‫وتجبرا وعّد المحسن مجرما فيقصى من ذلك المجتمع‪.‬‬

‫وليس هنالك من نتيجة سوى ما أشار إليها المام )عليه السلم(‪»:‬لننتفع بما علمنا‪ ،‬ول نسأل عّما جهلنا«‪.‬‬

‫ن هذه أسوأ حالة يعيشها الفرد أو المجتمع‪ ،‬أي أّنه ليستثمر علومه ومعارفه في حل مشاكله وليهم‬
‫والواقع أ ّ‬
‫بالقضاء على الجهل و القبال على العلم‪ ،‬وليس هنالك من نتيجة لهذين المرين سوى العوم في بحر الجهل‬
‫والجريمة‪ ،‬وهذا هو حال كافة الفراد الذين يغضون الطرف عن مفاسد المجتمع وليرون لنفسهم من مسؤولية‬
‫في ردعها سواء من خلل اليأس من‬

‫‪ .1‬سورة النمل ‪.56 /‬‬

‫‪ .2‬سورة هود ‪.27 /‬‬

‫] ‪[ 169‬‬

‫الصلح أو التعود على هذا الفساد والتكيف معه‪.‬‬


‫ن المام )عليه السلم( أورد العبارات الخيرة بصيغة‬
‫ثم قال‪»:‬ول نتخوف قارعة حتى تحل بنا‪ «.‬الجدير بالذكر أ ّ‬
‫التكلم مع الغير وينسبها إلى نفسه ومن حوله; مع القطع بأّنه مبرأ من ذلك بفضل عصمته وورعه وتقواه‪ ،‬ولعل‬
‫لمور‪.‬‬
‫العبارة تهدف عدم جرح مشاعرهم وإثارة حفيظتهم فيجعل نفسه كأحدهم في مثل هذه ا ُ‬

‫تأّملن‬

‫‪1‬ـ ما مفهوم فساد الزمان؟‬

‫ن الزمان ليراد به هنا الّمدة الزمنية لحركة الشمس والقمر )أو دوران الرض حول نفسها والشمس(‬ ‫ذكرنا آنفا أ ّ‬
‫فالزمنة متشابهة ذاتًا‪ ،‬والشخاص هم الذين يتغيرون والحوادث والواقائع التي تجعل العصر والحياة حلوة أو‬
‫مرة‪.‬‬

‫و عليه فاذا قيل بفساد الزمان فالمراد فساد الناس‪.‬‬

‫ن المنطقة الفلنية أو البلد الفلني فاسد فالمقصود فساد أهل تلك‬


‫ويصدق هذا المر على المكان أيضًا‪ ،‬فاذا قيل أ ّ‬
‫المنطقة أو ذلك البلد‪.‬‬

‫وبالطبع فان هنالك من يحاول استغلل هذه العبارات ليجعل من فساد الزمان أو المكان ذريعة لفساده وانحطاطه‪.‬‬

‫فاذا سئل عن سبب فساده وانحرافه‪ ،‬إنبرى للجواب‪ :‬وماذا أفعل فقد فسد العصر أو البيئة التي أعيش فيها‪ ،‬والحال‬
‫هو ومن حوله مصدر الفساد‪ .‬ولعلنا نلمس هذا المعنى في الشعار التي تنسب إلى عبدالمطلب جد النبي )صلى ال‬
‫عليه وآله( حيث أنشد قائل‪:‬‬

‫و يعيب الناس كلهم زمانا *** وما لزماننا عيب سوانا‬

‫نعيب زماننا والعيب فينا *** ولو نطق الزمان بنا هجانا‬

‫وان الذئب يترك لحم ذئب *** ويأكل بعضنا بعضا عيانا)‪(1‬‬

‫‪ .1‬عيون أخبار الرضا )نقل عن بحار النوار ‪.(111 / 49‬‬

‫] ‪[ 170‬‬

‫ل ل ُيَغـّيُر ما ِبَقْوم‬
‫نا ّ‬
‫ن زوال فساد الزمان مرهون بتغيير الناس فيشملوا بلطف ال وعنايته )ِإ ّ‬ ‫و من البديهي أ ّ‬
‫سـِهْم()‪ .(1‬وبذلك فالنسان هو المقصر الصلي على كل حال‪.‬‬ ‫حّتى ُيَغّيـُروا ما ِبَأْنُف ِ‬
‫َ‬

‫‪2‬ـ التنكر للقيم‬

‫المسألة التي تلعب دورًا مهما في مصير المجتمعات البشرية والتي قد يغفل عنها العم الغلب من الناس إّنما‬
‫تتمثل بنظام القيم والمبادى التي تسود المجتمع‪.‬‬

‫فالمجتمع إّنما ينطلق في مسيرته نحو المثل والقيم التي يلهمها لفراده والمقرة من قبلهم‪ ،‬وعليه فالمجتمع يتجه‬
‫نحو التأكل والزوال إذا ما شهد تغيبب القيم والمبادئ‪.‬‬
‫ونقصد بالمجتمع حركة جميع أفراده وليقتصر ذلك على بعض الفراد الذين يتحلون باليمان والتقوى فيقفون‬
‫دائما ضد حالت الفساد والنحراف‪.‬‬

‫ن كافة الفراد سيتجهون نحو‬


‫ن القيم المقرة في المجتمع إذا كانت تتجسد في المال والثروة فا ّ‬
‫وبناءًا على ما تقدم فا ّ‬
‫الثراء كهدف دون الكتراث لمسائل الحلل والحرام‪.‬‬

‫والنسان يتجه بوحي من طبعه إلى صنع الشخصية وليأل جهدا في السعي لتحقيق هذا المر‪ ،‬فاذا كانت القيم‬
‫السائدة تتمثل بالشخصية الكاذبة فان الفراد سيتحركون لمحالة لمثل هذه الشخصية‪.‬‬

‫والشباب عادة يلهثون خلف السمعة والشهرة ويعشقون البطال‪ ،‬و عليه فل يبدو غريبًا تقليد الشباب لهؤلء‬
‫البطال حتى في الثياب واسلوب المشي‪ ،‬ولو كان هؤلء البطال هم العلماء والمفكرين فمن الطبيعي أن ينطلق‬
‫الشباب نحو العلم والمعرفة‪.‬‬

‫لمة الكبير الشيخ البهائي‪ ،‬حيث قرر الشاه عباس الصفوي مكافئة‬
‫بالمناسبة هنالك قصة طريفة مشهورة بشأن الع ّ‬
‫جهوده العلمية وخدماته العمرانية بتقديم هدية تليق بشأنه‪ ،‬فطلب الشيخ أن يستقل مركبه الخاص ويمشي الشاه‬
‫خلفه لمسافة معينة في الشوارع والزمة ـ‬

‫‪ .1‬سورة الرعد ‪.11 /‬‬

‫] ‪[ 171‬‬

‫ن القيم والمثل التي تسود المجتمع ينبغي أن تتمحور حول العلم‬


‫فالواقع أراد الشيخ بهذا العمل أن يثبت بأ ّ‬
‫والمعرفة‪.‬‬

‫ن القيم والمثل التي‬


‫ل منقطع النظير قد حدث للعلم بما لم يشهده أبدًا في السابق‪ .‬جدير بالذكر أ ّ‬
‫ن إقبا ً‬
‫و قد قيل أ ّ‬
‫كانت تحكم المجتمع الجاهلي قبل السلم مصداقًا لقوله )عليه السلم(‪»:‬بأرض عالمها ملجم وجاهلها مكرم«‪(1).‬‬

‫عْنَد الّ‬
‫ن َأْكَرَمُكْم ِ‬
‫حيث أبطالها هم أبوسفيان وأبوجهل وأمثالهما‪ ،‬حتى انبثق السلم ليرفع شعار التقوى »ِإ ّ‬
‫َأْتقاُكْم« فيقضي على اولئك البطال الكاذبين ويستبدلها بالبطال من قبل أبي ذر وأمثاله‪ .‬ومّما يؤسف له أن هناك‬
‫بعض العمال الخاطئة التي وقعت في عصر الخلفة الراشدة فادت إلى تغييب تلك القيم السلمية المثلى لتعود‬
‫ل من مالك الشتر وأبي ذر‬ ‫النعرة الجاهلية من جديد فتصدر المجتمع عمرو بن العاص وأبو موسى الشعري بد ً‬
‫وعمار بن ياسر; المر الذي كان يدمي قلب المام )عليه السلم(‪ ،‬وأدنى ذلك ما أورده )عليه السلم( بقوله »يعد‬
‫فيه المحسن‪ ،‬مسيئا ويزداد الظالم فيه عتوًا«‪.‬‬

‫ومن هنا كان هدف المام )عليه السلم( في أغلب خطبه في نهج البلغة يكمن في إحياء القيم والمثل التي كانت‬
‫سائدة في صدر السلم‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الكلمات القصار‪. 126 ،‬‬

‫] ‪[ 172‬‬

‫] ‪[ 173‬‬
‫القسم الثانى‬

‫ضيضُ‬ ‫حّدِه‪َ ،‬وَن ِ‬‫سِه‪َ ،‬وَكلَلُة َ‬ ‫ن ل َيْمَنُعُه اْلَفساَد ِفي اَْلْرضِ إِّل َمهاَنُة َنْف ِ‬ ‫صناف‪ِ :‬مْنُهْم َم ْ‬ ‫عَلى َأْرَبَعِة َأ ْ‬
‫»َفالّناس َ‬
‫حطام‬
‫ق ِديَنُه ِل ُ‬
‫سُه‪َ ،‬وَأْوَب َ‬
‫ط َنْف َ‬
‫شَر َ‬ ‫جِلِه‪َ ،‬قْد َأ ْ‬‫خْيِلِه َوَر ِ‬
‫ب ِب َ‬
‫جِل ُ‬
‫شّرِه‪َ ،‬واْلُم ْ‬ ‫ن ِب َ‬‫سْيِفِه‪َ ،‬واْلُمْعِل ُ‬
‫ت ِل َ‬
‫صِل ُ‬
‫َوْفِرِه‪َ .‬وِمْنُهْم اْلُم ْ‬
‫ل عَِوضًا!‬‫عْنَد ا ّ‬‫ك ِ‬‫ك َثَمنًا‪َ ،‬وِمّما َل َ‬ ‫سَ‬‫ن َتَرى الّدْنيا ِلَنْف ِ‬ ‫جُر َأ ْ‬
‫س اْلَمْت َ‬
‫عُه‪َ .‬وَلِبْئ َ‬ ‫َيْنَتِهُزُه‪َ ،‬أْو ِمْقَنب َيُقوُدُه‪َ ،‬أْو ِمْنَبر َيْفَر ُ‬

‫طِوِه‬
‫خْ‬
‫ن َ‬
‫ب ِم ْ‬
‫صِه‪َ ،‬وقاَر َ‬
‫خ ِ‬
‫شْ‬
‫ن َ‬ ‫ن ِم ْ‬
‫خَرَة ِبَعَمِل الّدْنيا َقْد طاَم َ‬
‫ب اْل ِ‬ ‫طُل ُ‬
‫خَرِة‪َ ،‬ول َي ْ‬ ‫ب الّدْنيا ِبَعَمِل اْل ِ‬
‫طُل ُ‬
‫ن َي ْ‬
‫َوِمْنُهْم َم ْ‬
‫صَيِة‪.‬‬
‫ل َذِريَعًة ِإَلى اْلَمْع ِ‬
‫سْتَر ا ّ‬
‫خَذ ِ‬ ‫لماَنِة‪َ ،‬واّت َ‬‫سِه ِل َْ‬
‫ن َنْف ِ‬
‫ف ِم ْ‬
‫خَر َ‬ ‫ن َثْوِبِه‪َ ،‬وَز ْ‬
‫شّمَر ِم ْ‬‫َو َ‬

‫عِة‪،‬‬
‫سِم اْلَقنا َ‬
‫حّلى ِبا ْ‬
‫عَلى حاِلِه‪َ ،‬فَت َ‬
‫صَرْتُه اْلحاُل َ‬
‫سَبِبِه َفَق َ‬
‫ع َ‬
‫سِه‪َ ،‬واْنِقطا ُ‬
‫ضُئوَلُة َنْف ِ‬‫ك ُ‬‫ب اْلُمْل ِ‬
‫طَل ِ‬
‫ن َ‬
‫عْ‬‫ن َأْبَعَدُه َ‬
‫َوِمْنُهْم َم ْ‬
‫ك ِفي َمراح َول َمْغًدى«‪.‬‬ ‫ن َذِل َ‬‫س ِم ْ‬
‫س َأْهِل الّزهاَدِة‪َ ،‬وَلْي َ‬
‫ن ِبِلبا ِ‬‫َوَتَزّي َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الناس أربعة أصناف‬

‫يعرض المام )عليه السلم( ـ في هذا القسم من الخطبة ـ بالتحليل لطلب الدنيا الذين يصنفهم في أربعة أصناف‬
‫ن هذه الصناف ل تختص بمجتمع دون آخر ول زمان دون آخر بل هى عامة شاملة فقال )عليه‬ ‫وبالطبع فا ّ‬
‫السلم(‪:‬‬

‫ل مهانة نفسه‪،‬‬
‫»فالناس على أربعة أصناف‪ ،‬منهم من ل يمنعه الفساد في الرض إ ّ‬

‫] ‪[ 174‬‬

‫وكللة)‪ (1‬حده ونضيض)‪ (2‬وفره«‪.‬‬

‫فالمشكلة في عدم وجود الماء وال فهم سباحون ماهرون‪ ،‬فباطنهم مفعم بالشر والفساد ال أنهم يفتقرون لللة التي‬
‫يمارسون بها الظلم والفساد‪ ،‬ومن الطبيعي أن مثل هولء الفراد إّنما يتربصون بظاهرهم الوديع الذي ليشوبه‬
‫أذى‪.‬‬

‫كما يتوجب على قادة المجتمع إذا ما تعرفوا على هولء الفراد الحذار من تزويدهم بال مكانات فيعيثوا في‬
‫على ما ِفي َقْلِبِه‬
‫ل َ‬ ‫شِهُد ا ّ‬
‫حياةِ الّدْنيا َوُي ْ‬
‫ك َقْوُلُه ِفي ال َ‬
‫جُب َ‬ ‫ن ُيْع ِ‬
‫ن الّناس َم ْ‬ ‫الرض فسادا‪ ،‬وقد أشار القرآن إلى ذلك )َوِم َ‬
‫ب الَفساَد(‪(3).‬‬
‫ح ّ‬‫ل ل ُي ِ‬ ‫ل َوا ّ‬‫سَ‬‫ث َوالّن ْ‬
‫حْر َ‬‫ك ال َ‬ ‫سَد ِفـيها َوُيْهِل َ‬‫ض ِلـُيْف ِ‬
‫لر ِ‬ ‫سعى ِفي ا َ‬
‫خصاِم * َو ِإذا َتَوّلى َ‬
‫َوُهَو َأَلّد ال ِ‬

‫ثم تطرق)عليه السلم( إلى الصنف الثانى »و منهم المصلت)‪ (4‬لسيفه والمعلن بشره والمجلب بخيله ورجله« فقد‬
‫أعد هذا الصنف من الناس باطنه للظلم والفساد ومحق دينه »قد أشرط)‪(5‬نفسه وأوبق )‪ (6‬دينه«‪.‬‬

‫ولكن ما هدف هولء؟ ل شك أن هدفهم ما أشار إليه المام )عليه السلم(وليس ذاك سوى الحصول على شي من‬
‫متاع الدنيا أو المرة على بعض الفراد او إرتقاء المنبر ليظهر نفسه للناس بمظهر الخطيب الواعظ »لحطام)‪(7‬‬
‫ينتهزه)‪ ،(8‬أو مقتب)‪ (9‬يقوده‪ ،‬أو منبر يفرعه)‪.«(10‬‬

‫‪» .1‬كللة« على وزن ضللة بمعنى ضعف السلح عن القطع فيقال كل السيف إذا لم يقطع‪.‬‬
‫‪» .2‬نضيض« بمعنى قليل‪ ،‬والنضيض وفره‪ ،‬بمعنى القليل ماله‪.‬‬

‫] ‪[ 175‬‬

‫فالعبارة رغم قصرها فقد أشارت إلى أعمالهم الظاهرية إلى جاِنب فسادهم الباطنى واهدافهم الرخيصة‪ ،‬فهؤلء‬
‫الفراد يستفرغون ما في وسعهم ليصبحوا على غرار فرعون أو قارون أو السامرى‪ .‬وما ُاولئك الذين أججوا‬
‫ل مصاديق بارزة لذلك الصنف من الفراد‪ ،‬فالبفض اندفع من أجل المال وآخر من أجل‬ ‫نيران الجمل وصفين إ ّ‬
‫المقام والمنصب والخر من أجل الخلفة‪ .‬ثم تطرق )عليه السلم( إلى نتيجة أعمال هؤلء فقال »و لبئس المتجر‬
‫أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا‪ ،‬وممالك عند ال عوضا«‪ ،‬ومن الطبيعي أنّ هذا الصنف من الناس الفاسد والشرير ـ‬
‫الذي يخبط خبطا عشواء من أجل الظفر بالمال والمقام ـ ل يقيم لحكام ال وزنا ول يصغي لصوت الضمير‬
‫ك اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫والوجدان ول ينقاد لدليل العقل‪ ،‬فقد باع هذا الخزين الثمين بذلك الثمن البخس‪ ،‬باع الدين بالدنيا )ُأولـِئ َ‬
‫ن()‪.(1‬‬‫ت ِتجاَرُتُهْم َوما كاُنوا ُمْهَتِدي َ‬
‫ح ْ‬
‫ضلَلَة ِبالُهدى َفما َرِب َ‬
‫شَتَرُوا ال َ‬
‫اْ‬

‫ل بثمنها وثمتها الجّنة‪ .‬كما‬


‫بينما تظافرت الروايات التى تؤكد على قيمة النسان وأّنه ل ينبغي له بيع نفسه إ ّ‬
‫ن الّناس َم ْ‬
‫ن‬ ‫صرحت اليه القرآنية بأن بيع النفس بغير الجّنة ورضى ال ل يستبطن سوى الخسران المبين )َوِم َ‬
‫ف ِبالِعباِد()‪.(2‬‬
‫ل َرؤو ٌ‬
‫ل َوا ّ‬
‫سُه اْبِتغاَء َمْرضاِة ا ّ‬
‫شِري َنْف َ‬
‫َي ْ‬

‫ن بعض الناس )كعلي )عليه السلم( الذي نام على فراش رسول ال )صلى ال عليه وآله( ليلة‬ ‫فالية تفيد أ ّ‬
‫الهجرة( يبيعون أنفسهم من أجل رضى ال سبحانه‪ .‬وقد ورد عن المام علي )عليه السلم(أّنه قال‪» :‬إّنه ليس‬
‫ل بها«)‪.(3‬‬
‫ل الجّنة فل تبيعوها إ ّ‬
‫لنفسكم ثمن إ ّ‬

‫ثم تعرض )عليه السلم( للصنف الثالث الذي يتصف بالتزوير ـ وأوضح صفاته »و منهم من يطلب الدنيا بعمل‬
‫الخرة‪ ،‬ول يطلب الخرة بعمل الدنيا«‪.‬‬

‫ن ُاولئك يجنون حطام‬


‫فهدف هذا الصنف هو ذات الهدف الذي ينشده الصنف الثانى المذكور مع فارق بسيط هو أ ّ‬
‫الدنيا من خلل المنطق الغاشم والظالم والجور‪ ،‬بينما يعتمد هؤلء على التزوير والخداع والغرور‪.‬‬

‫‪ .1‬سورة البقرة ‪.16 /‬‬

‫‪ .2‬سورة البقرة ‪.207 /‬‬

‫‪ .3‬نهج البلغة‪ ،‬الكلمات القصار ‪.456‬‬

‫] ‪[ 176‬‬

‫ن حال هذا الصنف أسوأ من الصنف الذي سبقة; وذلك لّنه‬


‫لأّ‬‫فالصنفان وإن كانا ضالين ظالمين وخاطئين‪ ،‬إ ّ‬
‫جعل دين ال جسرًا لدنياه‪ ،‬وعليه فقد أهلكوا دنيا الخرين إلى جانب إهلك دينهم‪.‬‬

‫آنذاك خاض المام )عليه السلم( في صفات هذا الصنف »قد طامن)‪ (1‬من شخصه‪ ،‬وقارب من خطوه‪ ،‬وشمر)‬
‫‪ (2‬من ثوبه‪ ،‬وزخرف من نفسه للمانة‪ ،‬واتخذ ستر ال ذريعة إلى المعصية‪«.‬‬

‫فالعبارة تشير إلى ظاهر متواضع وسكين ووقار وعدم إلتفات إلى الدنيا وحطامها والتزين بشعار الصالحين‬
‫واستغلل ستر ال سبحانه للعيوب في حين هنالك حركة نحو الذنب والمعصية‪.‬‬

‫ل أنّ هذا اليمان يقتصر على الظاهر ولم يخترق‬


‫وقد يؤمن هذا الصنف بال واليوم الخر على مستوى الظاهر‪ ،‬إ ّ‬
‫ل فكيف إرتضوا لنفسهم هذه المعاملة المجحفة بحيث باعوا آخرتهم بدنياهم ومن هنا وردت‬
‫قلوبهم أبدًا‪ ،‬وإ ّ‬
‫ن هؤلء الخاسرين يوم القيامة ـ حين تطرح الحجب وتتضح حقيقة كل فرد كما هى ـ‬ ‫الروايات التي تصرح بأ ّ‬
‫ينادون يا كافر!‬
‫يا فاجر! يا غادر! يا خاسر! وينادون »حبط عملك وبطل أجرك فل خلص لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت‬
‫تعمل له«)‪.(3‬‬

‫ومّما لشك فيه أن هذا الصنف ـ كسائر الصناف الربعة ـ ليقتصر في وجوده على عصر المام )عليه السلم(‪،‬‬
‫بل هو موجود في كل عصر و مصر وأّنه لعظم خطرًا من سائر الصناف على دين المجتمع ودنياه‪.‬‬

‫ن أغلب هولء الفراد‬ ‫وعليه فلبّد لتباع الحق من مراقبة هؤلء والحذار من الوقوع في فخهم ولحسن الحظ فا ّ‬
‫يفتضحون عمليًا فاذا بلغوا مفترق طرق بين الدين والدنيا ولوا ظهورهم للدين وتهافتوا على الدنيا وآثروا سخط‬
‫ال على رضى خلقه طمعًا في الدنيا‬

‫‪» .1‬طامن« و»اطمينان« من مادة واحدة بمعنى السكينة والهدوء‪ ،‬وهى تشير في العبارة إلى الوقار والتواضع الصوري والظاهري‪.‬‬

‫‪» .2‬شمر« من مادة »شمر« بمعنى الترتيب والعداد‪.‬‬

‫‪ .3‬وسائل الشيعة ‪.51 / 1‬‬

‫] ‪[ 177‬‬

‫وحطامها‪ ،‬فأفكارهم منحطة وهمتهم وضيعة وروحهم ملوثة وباطنهم قبيح والزدواج هو الغالب على شخصيتهم‪.‬‬

‫وأخيرا يتعرض المام )عليه السلم( للصنف الرابع ـ أهل التقى الكاذب والزهد الفارغ ـ فيقول »ومنهم من أقعده‬
‫عن طلب الملك ضؤولة)‪ (1‬نفسه‪ ،‬وإنقطاع سببه فقصرته الحال على حاله‪ ،‬فتحلى باسم القناعة‪ ،‬وتزين بلباس‬
‫أهل الزهادة وليس من ذلك في مراح)‪ (2‬ول مغدي«‪(3).‬‬

‫فهم أفراد ضعفاء عجزة ل كفاءة لهم يحاولون التستر بالزهد للتغطية على عجزهم وانعدام جدارتهم والتظاهر‬
‫بالقوة لخفاء ضعفهم‪ ،‬والحال ليس لديهم شمة من الزهد والقناعة باطنهم وهم على قسمين‪ :‬فمنهم من يتستر‬
‫ل إقناع نفسه بأّنه من أهل الزهد والتقوى ل الضعف والعجز يدفعه للتظاهر‬‫لخداع النفس ومنهم يخدع نفسه محاو ً‬
‫بذلك‪ .‬أّما المراح والمغدي فقد ذهب أغلب أرباب اللغة وشّراح نهج البلغة إلى أّنها اسم مكان لستقرار الماشية‬
‫في الصباح والمساء بينما ذهب البعض الخر إلى أّنها اسم زمان بمعنى الذهاب والياب ليل نهار‪.‬‬

‫كيفما كان فان المفردتين تعبران عن حماقة هؤلء الفراد وبلهتهم التى تجعلهم بهيئة الزهد والقناعة‪ .‬هناك كلم‬
‫كثير بين بين المفسرين بشأن فارق الصنف الرابع والول من جهة والصنف الرابع والثالث من جهة ُاخرى‪.‬‬

‫ن الصنف الول الذي ينشد الدنيا قد قبع فى زاوية إثر ضعفه وعجزه ولم ينطلق نحو المال والحياه‬ ‫ويبدو أ ّ‬
‫والمقام‪ ،‬وهو ل يصر على ابراز ضعفه وعجزه على أّنه قوة وإقتدار‪ ،‬فى حين يحاول الصنف الرابع أستغلل‬
‫ن ذلك الضعف زهد وقناعة‪ .‬أّما فارق الصنف الرابع مع‬‫ضعفه وعجزه بغية الظفر بمكانته فى المجتمع على أ ّ‬
‫ن الصنف الثالث يعتمد النفاق والتزوير لتحقيق أطماعه ومآربه‪ ،‬بعبارة ُاخرى ما يجنيه‬
‫الصنف الثالث هو أ ّ‬
‫الظلمة من حطام الدنيا بواسطة الظلم والجور يحصل عليه هؤلء من خلل الرياء وخداع الناس‪.‬‬

‫‪» .1‬ضوولة« بمعنى الضعف و العجز‪.‬‬

‫‪» .2‬مراح« من مادة »روح« مصدر ميمي من راح إذا ذهب في العشي‬

‫‪» .3‬مغدى« من مادة »غدو« مصدر ميمي من غدا إذا ذهب في الصباح‪ ،‬وقيل مكان الحيوانات في النهار في مقابل المراح في الليل‪.‬‬

‫] ‪[ 178‬‬

‫فهم يبيعون دينهم بدنياهم ويحصلون على الدنيا ومتاعها من خلل الدين‪ ،‬أّما الصنف الرابع فهو ل يحصل على‬
‫جاه ومقام‪ ،‬ويكتفي بأن المجتمع ينظر إليه كزاهد قانع‪.‬‬
‫وأخيرًا يشترك الصنف الول والرابع في أّنه ليس أقل تكالبًا من الصنفين الخرين إذا ما توفرت الرضية‬
‫الخصبة أمامهما للظلم والفساد‪.‬‬

‫الصناف الربعة في كل مجتمع‪.‬‬

‫لقد أماط اللثام عن حقيقة هذه الصناف الربعة ولفت إنتباه المجتمع إلى الخطار التي تفرزها حركتها في‬
‫المجتمع بفعل فسادها وظلمها وريائها وزهدها الكاذب‪ ،‬ثم خاض )عليه السلم(في صفات كل صنف ليتعرف‬
‫عليه أفراد المجتمع فل يقعوا في شباكهم‪.‬‬

‫ل أّنها تختلف في إعداد السباب‬


‫وتشترك هذه الصناف جميعًا في الفساد العقائدي والتعلق بالدنيا والجاه والمقام‪ ،‬إ ّ‬
‫ن الصناف الربعة يمكن تقسيمها إلى‬ ‫والمقدمات التي تمكنها من الوصول إلى أهدافها‪ ،‬وبعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫طائقتين‪:‬‬

‫ل أّنها تخفي هذا الفشل في‬


‫طائفة تحقق أهدافها الرخيصة عن طريق الرياء والتزوير‪ :‬وطائفة ل تحقق أهدافها إ ّ‬
‫الزهد والقناعة‪ ،‬ولو تأملنا التأريخ لرأينا هذه الصناف في كل عصر ومصر‪.‬‬

‫لخرى تشهد تغلغل هذه الصناف; المر الذي جر عليها‬ ‫ن المجتمعات السلمية هى ا ُ‬
‫ومّما يؤسف له اليوم أ ّ‬
‫الويلت والمصائب‪ .‬والحق ليس هنالك من وسيلة للحد من أخطار هذه النماذج سوى في اتباع كلم المام )عليه‬
‫لّمة من الوقوع في شباكهم أو الغترار‬
‫السلم( وتشخيص هولء الفراد وفضح مخططاتهم وموامرتهم وتحذير ا ُ‬
‫بزهدهم الكاذب‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 179‬‬

‫القسم الثالث‬

‫شِريد ناّد‪َ ،‬وخاِئف َمْقُموع‬ ‫ن َ‬‫شِر‪َ ،‬فُهْم َبْي َ‬‫ح َ‬‫ف اْلَم ْ‬‫خْو ُ‬‫عُهْم َ‬ ‫ق ُدُمو َ‬ ‫جِع َوَأرا َ‬‫غضّ َأْبصاَرُهْم ِذْكُر اْلَمْر ِ‬ ‫ي ِرجاٌل َ‬ ‫»َوَبِق َ‬
‫حر ُأجاج َأْفواُههُْم‬
‫شِمَلْتُهُم الّذّلُة َفُهْم ِفي َب ْ‬
‫خَمَلْتُهُم الّتِقّيُة َو َ‬
‫جع َقْد َأ ْ‬
‫ن ُمو َ‬‫خِلص َوَثْكل َ‬ ‫َوساِكت َمْكُعوم َوداع ُم ْ‬
‫حّتى َقّلوا«‪.‬‬ ‫حّتى َذّلوا‪َ ،‬وُقِتُلوا َ‬ ‫حّتى َمّلوا َوُقِهُروا َ‬ ‫ظوا َ‬ ‫عُ‬‫حٌة‪َ ،‬قْد َو َ‬ ‫ضاِمَزٌة‪َ ،‬وُقُلوُبُهْم َقِر َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الصنف الخامس‪ :‬أولياء ال‬


‫بعد أن فرغ المام )عليه السلم( من ذكر الصناف الربعة‪ ،‬تطرق إلى الصنف الخامس‪ ،‬وهم أولياء ال وجنود‬
‫لمور من قبل الصناف‬ ‫لّمة الذين اقصوا عن المجتمع وعادوا غرباء فيه بفعل تسلم زمام ا ُ‬
‫الحق وأخيار ا ُ‬
‫الربعة المذكورة‪.‬‬

‫وقد لفت النتباه إلى عظمتهم بالتعبير عنهم بالرجال‪ ،‬بينما عبر عن الصناف الربعة بالناس‪.‬‬

‫ن المام )عليه السلم( يرى الصنف الخامس هو محور المجتمع ويحث أتباعه لن يكونوا ضمن هذا‬
‫والحق أ ّ‬
‫الصنف‪ .‬فقد قال)عليه السلم(‪»:‬وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع وأراق دموعهم خوف المحشر«‪.‬‬

‫وقوله‪» :‬غض أبصارهم« ليراد به إغماض العين‪ ،‬بل النظرة الشمولية والشعور بمسؤوليتهم تجاه ال سبحانه‬
‫ويوم القيامة‪ ،‬الشعور الذي إرعش قلوبهم وأراق دموعهم‪.‬‬

‫فليس هنالك أكثر خشية من ذلك اليوم لمن آمن بال واليوم الخر ومحكمة العدل اللهي‪،‬‬

‫] ‪[ 180‬‬

‫كيف ل وهو اليوم الذي تطرح فيه الحجب وتبلى فيه السرائر وتتمثل العمال التي صدرت من النسان طيلة‬
‫عمره فتنتظر الحساب والجزاء‪.‬‬

‫ن المرجع في العبارة المذكورة بمعنى القبر والمحشر القيامة‪ ،‬ولكن‬


‫ويرى بعض شّراح نهج البلغة)‪ (1‬أ ّ‬
‫بالستناد إلى التعبيرات القرآنية فان المفردتين وردتا بمعنى واحد‪ ،‬وعليه فيبدو الفارق في عدم تكرار اللفظ ل‬
‫المعنى‪.‬‬

‫ن ِذْكِر ا ّ‬
‫ل‬ ‫عْ‬
‫ن هذه التعبيرات قد ُاقتبست من الية القرآنية الشريفة )ِرجالٌ ل ُتْلِهـيِهْم ِتـجاَرٌة َول َبـْيٌع َ‬ ‫والواقع أ ّ‬
‫لْبصار(‪(2).‬‬ ‫ب َوا َ‬
‫ب ِفـيِه الُقُلو ُ‬
‫ن َيـْومًا َتَتَقـّل ُ‬
‫صلِة َو ِإيتاِء الّزكاِة َيخاُفو َ‬
‫َو ِإقاِم ال ّ‬

‫ثم تطرق )عليه السلم( إلى مصير هذا الصنف في المجتمعات التي تسودها الصناف الربعة‪ ،‬بحيث لينجو كل‬
‫فرد فيه من خمس‪ :‬النزوح من البلد والتشريد والتغريب‪ ،‬الخوف واللواذ في زاوية‪ ،‬السكوت والصمت‪ ،‬الشتباك‬
‫بفعل عدم إعارتهم الذان الصاغية وسماع كلماتهم الحق أو الدعوة إلى ال باخلص بعيون باكية وقلوب حرى‬
‫أمل في التأثير »فهم بين شريد)‪ (3‬ناد)‪(4‬وخائف مقموع)‪ (5‬وساكت مكعوم)‪ (6‬وداع مخلص وثكلن )‪(7‬‬
‫موجع«‪.‬‬

‫ن العبارات‬
‫وباللتفات إلى »شريد« وناد من مادة فد بمعنى المنفرد الهارب من الجماعة إلى الوحدة)‪(8‬فا ّ‬
‫ن هولء الفراد ليسوا مع بعضهم حتى في المنفى‪ ،‬وكل واحد منهم قد قذف في بقعة;‬ ‫المذكورة إشارة إلى أ ّ‬
‫ن الطغاة ليكتفون بتهديد هؤلء‬
‫فالطغاة يخشون حتى اجتماعهم في المهجر والعبارة »خائف مقموع« إشارة إلى أ ّ‬
‫الفراد وإرعابهم‪ ،‬بل ليتورعون عن التضييق‬

‫‪ .1‬في ظلل نهج البلغة‪ ،‬الخطبة المذكورة‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة النور ‪.37 /‬‬

‫‪» .3‬شريد« من مادة »شرد« بمعنى هروب الناقة‪ ،‬ثم اطلقت على كل من يهرب من قومه‪.‬‬

‫‪» .4‬ناد« من مادة »ند« بمعنى المنفرد الهارب من الجماعة إلى الوحدة‪.‬‬

‫‪» .5‬مقموع« من مادة »قمع« بمعنى المقهور والمغلوب‪ ،‬وتعني القتلع أيضًا‪.‬‬

‫‪» .6‬مكعوم« من مادة »كعم«‪ ،‬كعم البعير بمعنى شد فاه‪ ،‬ثم اتسعت لتطلق على كل فم يشد‪.‬‬

‫‪» .7‬ثكلن« من مادة »ثكل« بمعنى فقد الحبة‪ ،‬كما وردت بالنسبة للنسان الذي يعيش العزاء بمعنى الشخص الباكى الحزين‪.‬‬
‫‪ .8‬شرح نهج البلغة محمد عبده والعلمة الخوئي وابن أبي الحديد‪.‬‬

‫] ‪[ 181‬‬

‫عليهم واستئصال شأفتهم واجتثاث جذورهم‪.‬‬

‫ن الظلمة ليقتنعون بصمت هؤلء الفراد وسكوتهم‪ ،‬بل يسعون دائما لكم أفواههم‬
‫والعبارة »ساكت مكعوم« أ ّ‬
‫دون أن ينبسوا ببنت شفة‪.‬‬

‫والعبارة »داع مخلص« ل تفيد دعوة الناس من أجل نيل المقام والثروة أو ليست هى دعوة دنيوية‪ ،‬بل الدافع من‬
‫هذه الدعوة هو رضى ال وقيل بل المراد بالعبارة والداعي المخلص من يدعو الناس إلى ال والرتقاء بالمجتمع‪.‬‬

‫ن الحزن والسى‪ ،‬يخترق ظاهرهم ليعيشوه في قلوبهم وأرواحهم‪ .‬ثم‬ ‫وأخيرًا تشير العبارة »ثكلن موجع« إلى أ ّ‬
‫عرض )عليه السلم( إلى سائر صفاتهم بعبارات قصيرة بعيدة المعاني يتخللها السى والسف فقال )عليه‬
‫السلم(‪» :‬قد أخملتهم)‪ (1‬التقية«‪.‬‬

‫لّمة لم تقف إلى جانبهم وتدعم نهضتهم »أفواههم ضامزة)‬


‫كيف ليعومون في بحر مالح ليسعهم شرب ماء وا ُ‬
‫‪ ،(3‬وقلوبهم قرحة«‪.‬‬

‫ليس هنالك من قلق لدى الفراد الذين يعيشون اللُابالية في مثل هذه المجتمعات‪ ،‬وليقلقهم سوى منافعهم‬
‫الشخصية‪ ،‬أّما المجاهدون الذين تكف أفواههم بالقوة‪ ،‬إّنما يتحرقون المًا وقلوبهم تشعر عمق الفاجعة ذهب بعض‬
‫ن قروح قلوبهم‬‫ن المراد بقلوبهم قرحة أّنها تخاف ال‪ ،‬بينما تشير قرينة الكلم إلى أ ّ‬
‫شّراح نهج البلغة)‪ (4‬إلى أ ّ‬
‫إّنما تعزى الى الفساد الذي‬

‫‪» .1‬أخمل« من مادة »خمل« بمعنى أسقط ذكره حتى لم يعد له بين الناس نباهة‪.‬‬

‫‪» .2‬اجاج« من مادة »أجج« بمعنى الملوحة والمرارة‪.‬‬

‫‪» .3‬ضامزة« من مادة »ضمز« بمعنى السكوت والتحفظ عن الكلم‬

‫لمة الخوئي وفي ظلل نهج البلغة لمحمد عبده‪.‬‬


‫‪ .4‬شرح نهج البلغة لبن ميثم‪ ،‬والع ّ‬

‫] ‪[ 182‬‬

‫ليستطيعون القضاء عليه ولعل هناك من ينسب هذه المفردات من قبيل الضعف والعجز والسكوت والتقية إليهم‬
‫كنتيجة لعمالهم وعدم قيامهم في الوقت المطلوب‪ ،‬ومن هنا نبه المام)عليه السلم( إلى إزالة هذا الظن‬
‫فقال)عليه السلم(‪» :‬قد وعظوا حتى ملوا‪ ،‬وقهروا حتى ذلوا‪ ،‬وقتلوا حتى قّلوا«‪.‬‬

‫فقد خاضوا الجهاد على كافة المستويات وبشتى الطرق والساليب‪ ،‬من خلل الوعظ باللسان إلى جانب النهضة‬
‫المسلحة وتقديم الضحايا حتى كثر القتل في صفوفهم فقل عددهم‪ ،‬وذلك لّنه لم يكن لهم نصير و لم يكن هنالك من‬
‫توازن في القوى مع أعدائهم الذين يفوقونهم عددا وعدة‪ .‬فقد قاتلوا على أمل تحقيق النصر وإجتثاث جذور الفساد‬
‫ل قّلة لم يكن أمامها سوى التقية حفظا لنفسها ودينها‪.‬‬
‫ولم تبق منهم إ ّ‬

‫ل القليل‪ ،‬بل تعني أستشهد فريق منهم وبقي فريق‬


‫والعبارة »قتلوا حتى قلوا« ل تعني أّنهم وتروا ولم يبق منهم إ ّ‬
‫آخر‪ ،‬والعبارة من قبيل إسناد أوصاف الجزء إلى الكل‪.‬‬

‫وهنا يطرح هذا السؤال‪ :‬الستضعاف المذكور يتعلق بأي زمان‪ ،‬والمام )عليه السلم(كان هو الذي يحكم‬
‫المجتمع؟ وتأمل تأريخ عصر المام )عليه السلم(يوضح الجابة على هذا السؤال‪ ،‬كما ورد ذلك في بعض كلماته‬
‫ن الفساد الجتماعي كلمة في عصره بلغ درجة بحيث خفت شعاع شمس حكومة المام )عليه السلم( في‬ ‫من أ ّ‬
‫الكوفة وأطرافها‪ ،‬وقد اجتمعت لكمة سائر المناطق من قبيل الشام ومصر التي عاشت ذروة الشر والفساد‬
‫والنحراف على إقصاء الصالحين عن مرح الحداث‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 183‬‬

‫القسم الرابع‬

‫ظ ِبُكْم َم ْ‬
‫ن‬ ‫ن َيّتِع َ‬
‫ن َقْبَلُكْم‪َ ،‬قْبَل َأ ْ‬
‫ن كا َ‬
‫ظوا ِبَم ْ‬‫جَلِم َواّتِع ُ‬
‫ضِة اْل َ‬
‫ظ َوُقرا َ‬ ‫حثاَلِة اْلَقَر ِ‬
‫ن ُ‬
‫صَغَر ِم ْ‬ ‫عُيِنُكْم َأ ْ‬
‫ن الّدْنيا ِفي َأ ْ‬
‫»َفْلَتُك ِ‬
‫ف ِبَها ِمْنُكْم«‪.‬‬ ‫شَغ َ‬‫ن َأ ْ‬
‫ن َكا َ‬
‫ت َم ْ‬ ‫ض ْ‬‫ضوها َذِميَمًة‪َ ،‬فِإّنَها َقْد َرَف َ‬ ‫َبْعَدُكْم‪َ ،‬واْرُف ُ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫التعاظ بالماضين‬

‫يدعو المام )عليه السلم( الناس في ختام هذه الخطبة بعبارات مقتضبة بعيده المعاني إلى الزهد في الدنيا بصفته‬
‫مفتاح سعادة النسان بعد أن ذكر صفات الصناف الربعة الثيمة والصنف الخامس الذي يمثل التقياء من أولياء‬
‫ال‪ ،‬مؤكدا على أن البؤس والشقاء الذي طال الصناف الربعة إّنما يستند إلى حب الدنيا والتعلق بزخارفها‪.‬‬

‫فقال )عليه السلم(‪»:‬فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة)‪ (1‬القرظ وقراضة)‪ (2‬الجلم)‪.«(3‬‬

‫والتشبيهات رائعة غاية في الدقة‪ ،‬فالقرظ )على وزن مرض( بمعنى ورق الشجار الذي يستفاد منه لدبع الجلود‬
‫حتى يشدها ويجعلها أكثر فائدة‪ ،‬وبالطبع فإن الحثالة التي تطرح بعد الستفادة تكون قذرة ومتعفنة ومدعاة للنفرة‪،‬‬
‫وكذلك حين تقص أصواف الحيوانات تطرح بعض القطعات الصغيرة منه على الرض دون أن يكون لها أدنى‬
‫فائدة‪ .‬فالتشبيه الول‬

‫‪» .1‬حثالة« بالضم‪ :‬القشاوة وما لخير فيه‪ ،‬وَاصله ما يسقط من كل ذي قشر‪ ،‬ومن هنا تطلق الحثالة على حشاشة الدهن المتساقطة‪.‬‬

‫‪» .2‬قراضة« من مادة »قرض« بمعنى قطف الشي وتطلق على القطع الصغيرة المتناثرة من المقراض ومن هنا يطلق المقراض على‬
‫المقص‪.‬‬

‫‪» .3‬جلم« على وزن قلم بمعنى المقراض‪.‬‬

‫] ‪[ 184‬‬
‫استبطن النفرة والثاني التفاهة وعدم القيمة والعتبار‪ ،‬والمام )عليه السلم( يوصي بأن تكون الدنيا أهون من هذا‬
‫في العين‪ ،‬الدنيا التي أدى عشق أموالها إلى ظهور القوارين‪ ،‬وعشق مناصبها إلى ظهور الفراعنة والطواغيت‬
‫ن حّبها رأس كل خطيئة‪.‬‬ ‫الظلمة‪ ،‬وأ ّ‬

‫من جانب آخر فقد أشار )عليه السلم( إلى قصر مدة الدنيا وضرورة التعاظ بها »واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن‬
‫يتعظ بكم من بعدكم«‪.‬‬

‫لقد جمعوا لها وجهدوا من أجلها وانصرفوا‪ ،‬ولم تعد قصورهم الخاوية وتيجانهم البالية وقدرتهم الجوفاء التي‬
‫ل ستكونون أنتم عبرة يعتبر بكم من‬ ‫خلفوها هنا وهناك سوى عبرة لمن اعتبر‪ ،‬فان اعتبربها فهو المطلوب‪ ،‬وإ ّ‬
‫يأتي بعدكم‪.‬‬

‫القرآن الكريم من جانبه لم ينفك عن دعوة الناس للعتبار بالماضين‪ ،‬فقد أورد عبارات توقظ الضمير وتهز‬
‫عُيون* َوُزُروع َوَمقام َكِريم * َوَنْعَمة كاُنوا‬ ‫جّنات َو ُ‬‫ن َ‬ ‫العماق بشأن الفراعنة وضرورة التعاظ بهم )َكْم َتَرُكوا ِم ْ‬
‫ن(‪(1).‬‬ ‫ظِري َ‬
‫ض َوما كاُنوا ُمْن َ‬
‫لْر ُ‬
‫سماُء َوا َ‬
‫عَلْيِهُم ال ّ‬
‫ت َ‬
‫ن * َفما َبَك ْ‬‫خِري َ‬
‫ك َوَأْوَرْثناها َقْومًا آ َ‬
‫ن * َكذ ِل َ‬
‫ِفـيها فاِكِهـي َ‬

‫غير أّنه من المؤسف أن بني إسرائيل لم يعتبروا بهذه الدروس حتى أصبح مصيرهم عبرة لغيرهم‪.‬‬

‫ثم قال )عليه السلم(‪ :‬وارفضوها ذميمة‪ ،‬فاّنها قد رفضت من كان أشغف)‪ (2‬بها منكم«‪.‬‬

‫ومن الطبيعي أن يكون مراد المام )عليه السلم( بهذه الدنيا المذمومة هى الدنيا التي تقود صاحبها إلى الظلم‬
‫والطغيان والهوى والفساد ل الدنيا التي تشكل الجسر لعبور أولياء ال إلى الخرة‪.‬‬

‫كلم السيد الرضي‬

‫قال الشريف الرضي‪ :‬وهذه الخطبة ربما نسبها من لعلم له إلى معاوية‪ ،‬وهى كلم أميرالمؤمنين )عليه السلم(‬
‫الذي ليشك فيه‪ ،‬وأين الذهب من الرغام‪ ،‬وأين العذب من الجاج! وقد دل على ذلك الدليل الخريت ونقده الناقد‬
‫الباصر عمرو بن بحر الجاحظ‪ ،‬فاّنه ذكر هذه الخطبة‬

‫‪ .1‬سورة الدخان ‪ 25 /‬ـ ‪.29‬‬

‫‪» .2‬أشغف« من مادة »شغف« بمعنى َاكثر تعلق بالدنيا و حبالها‪ .‬وقد أخذت في الصل من شغاف وهو الغلف الذي يضم القلب‪ ،‬كما‬
‫تستعمل في العشق الشديد الذي يجتاح القلب وينفذ إلى أعماقه‪.‬‬

‫] ‪[ 185‬‬

‫في كتاب البيان والتبيين وذكر من نسبها إلى معاوية‪ ،‬ثم تكلم من بعدها بكلم في معناها‪ ،‬جملته أّنه قال‪ :‬وهذا‬
‫الكلم بكلم علي عليه السلم أشيه‪ ،‬وبمذهبه في تصنيف الناس‪ ،‬وفي الخبار عما هم عليه من القهر والذلل‪،‬‬
‫ومن التقية والخوف‪ ،‬أليق‪ .‬قال‪ :‬ومتى وجدنا معاوية في حال من الحوال يسلك في كلمه مسلك الزهاد ومذهب‬
‫العباد‪.‬‬

‫الدنيا في عين أولياء ال‪.‬‬

‫ماورد في الخطبة بشأن الصناف الخمسة في عصر المام )عليه السلم( )من يقعد به عن طلب المرة قّلة ماله‪،‬‬
‫ل ويطلب‬ ‫ومن يطلب المارة ويفسد في الرض‪ ،‬ومن يظهر ناموس الدين ويطلب به الدنيا‪ ،‬ومن لمال له أص ً‬
‫الملك وليطلب الدنيا‪ ،‬وأولياء ال التقياء البرار( ل يقتصر على عصر المام )عليه السلم( وزمانه‪ ،‬وهم‬
‫ن كافة المشاكل التي تعاني منها المجتمعات إّنما‬
‫متواجدون في كافة المجتمعات الماضية والمعاصرة والتية‪ ،‬وإ ّ‬
‫تنشا من الصناف الربعة المذكورة‪ ،‬التي سفكت الدماء وأحرقت الخضر واليابس وجرعت اتباع الحق‬
‫صنفوف الذى والعذاب‪.‬‬
‫مع ذلك فان الدنيا لم تف لهم وقد أتت عليهم حتى آخرهم ليكونوا عبرة لمن بعدهم‪.‬‬

‫أما العبارات التي أوردها المام )عليه السلم( بشأن كل صنف وعلماته وصفاته جعلت من اليسير التعرف‬
‫عليهم‪.‬‬

‫ن المام )عليه‬
‫ب الدنيا والتعلق بحطامها هو مصدر الشر والفساد الذي سلكته هذه الصناف‪ ،‬فا ّ‬
‫ولما كان ح ّ‬
‫السلم( إختتم خطبته بتصوير حقيقته الدنيا بما يجعل العاقل ل يعيرها أدنى أهمية‪ ،‬فقد وصفها بادى ذي بدء بانها‬
‫اتفه من حثالة القرظ )و هو ما يسقط من ورق السلم أو ثمر السط يدبغ به مّما لخير فيه ول قيمته له(‪ ،‬ثم أشار‬
‫إلى تقلب حال الدنيا وعدم دوامها وكيف قضت على الماضين وجعلتهم عبرة للخرين‪.‬‬

‫فقد ورد في حديث أن رسول ال )صلى ال عليه وآله( مر بجثة حيوان متعفنة ملقاة على الطريق فأومأ إليها‬
‫قائل‪ :‬أترون هذه هنية على أهلها؟ فو ال الدنيا أهون على ال من هذه على أهلها« ثم واصل)صلى ال عليه وآله(‬
‫حديثه عن الدنيا قائل‪ :‬الدنيا دار من لدار له ومال من لمال له ولها يجمع من لعقل له وشهواتها يطلب من‬
‫لفهم له وعليها يعادي من ل علم له وعليها يحسد من ل فقه له ولها يسعى من ليقين له«)‪.(1‬‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪.122 / 70‬‬

‫] ‪[ 186‬‬

‫وجاء في حديث أن الدنيا مثلت للمسيح )عليه السلم( كعجوز شمطاء فسألها‪ :‬كم تزوجت‪.‬‬

‫قالت‪ :‬كثير‪ .‬كلهم طلقت‪ .‬قالت‪ :‬بل كلهم قتلت‪ .‬قال)عليه السلم(‪ :‬يا ويح أزواجك الباقين‪ ،‬أل يتعظون بازواجك‬
‫الماضين)‪.«(1‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬منهاج البراعة ‪ ;58 / 4‬بحار النوار ‪.328 / 14‬‬

‫] ‪[ 187‬‬

‫الخطبة)‪33 (1‬‬

‫ومن خطبة له )عليه السلم(‬

‫عند خروجه لقتال أهل البصرة‪ ،‬وفيها حكمة مبعث الرسل‪ ،‬ثم يذكر فضله ويذم الخارجين‪.‬‬
‫قال عبد ال بن عباس‪ :‬دخلت على أميرالمؤمنين )عليه السلم( بذي قار وهو يخصف)‪ (2‬نعله فقال لي‪» :‬ما قيمة‬
‫هذا النعل؟«‪.‬‬

‫ل«‪ .‬ثم‬
‫ل أنت أقيم حقا أو أدفع باط ً‬
‫ي من أمرتكم)‪ (3‬إ ّ‬
‫فقلت‪» :‬ل قيمة لها!« فقال )عليه السلم(‪»:‬و ال لهي أحب إل ّ‬
‫خرج فخطب الناس‪.‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‪.‬‬

‫أورد المام )عليه السلم( هذه الخطبة في ظل ظروف دعا فيها أصحابه للتعبئة وإطفاء نار الفتنة التي‬

‫‪ .1‬روى السيد الرضي )ره( هذه الخطبة في موضعين من نهج البلغة‪ :‬مرة هنا و أخرى في الخطبة ‪ 104‬حيث قال هناك‪ :‬وقد مر‬
‫جانب من هذه الخطبة )إشارة إلى هذه الخطبة ‪ (33‬وقد ذكرتها ثانية بسبب إختلف بعض العبارات‪ .‬قال صاحب مصادر نهج البلغة‪:‬‬
‫ومن هنا يتضح مدى إحتياط السيد الرضي في نقل كلمات أمير المؤمنين)عليه السلم(‪ .‬ثم قال‪ :‬يفهم من رواية الشيخ المفيد في‬
‫ن المام)عليه السلم( خطبها في الربذة حيث توقف هناك جمع من حجاج بيت ال وقد تجمعوا حين سمعوا بالمام)عليه‬ ‫الرشاد أ ّ‬
‫السلم( ليصغوا إلى كلمه ولم يكن المام)عليه السلم( قد خرج من خيمته‪ .‬قال إبن عباس دخلت الخيمة فرأيت المام)عليه السلم(‬
‫ي من‬‫يخصف نعله‪ .‬فقال‪ :‬يابن عباس‪ :‬ما قيمة هذا النعل؟ فقلت‪ :‬ل قيمة لها‪ .‬قال‪ :‬قل‪ .‬قلت‪ :‬أقّل من درهم‪ .‬قال‪ :‬وال‪ ،‬لهي أحب إل ّ‬
‫إمرتكم‪ ،‬إل أن أقيم حقا أو أدفع باطل‪ .‬فقلت‪ :‬لقد إجتمع حجاج بيت ال ليسمعوا ما تقول‪ .‬هل أذنت لي أن أخطبهم؟ قال )عليه‬
‫السلم(‪ :‬ل أنا أحّدثهم‪ .‬فخرج من الخيمة فخطب بهذه الخطبة )مصادر نهج البلغة‪ 421 /1 ،‬ـ ‪.(422‬‬

‫قال صاحب المستدرك ومدارك نهج البلغة رواها الشيخ المفيد في كتاب الرشاد‪ ،‬المستدرك‪ ،‬ص ‪.242‬‬

‫‪» .2‬يخصف« من مادة »خصف« بمعنى وصل الشياء ورقعها‪.‬‬

‫‪ِ» .3‬امرة« على وزن فطرة بمعنى الحكومة‪.‬‬

‫] ‪[ 188‬‬

‫أشعلها طلحة والزبير في البصرة‪.‬‬

‫وقد أطلق المام )عليه السلم( ـ قبل إيراد الخطبة ـ تلك العبارات التاريخية الخالده لبن عباس; العبارات التي‬
‫تتحدث عن سمو روح المام )عليه السلم( ومقامه الشامخ ومدى معرفته بال سبحانه‪ ،‬فقد قال )عليه‬
‫ل«‪.‬‬
‫السلم(»وال لهي ـ النعل ـ أحب إلي من إمرتكم ال أن ُاقيم حقا أو أدفع باط ً‬

‫هذه هى أهداف المام )عليه السلم( من المرة والخلفة‪ .‬ثم ينتقل المام )عليه السلم(إلى بيان خصائص العصر‬
‫الجاهلي وانبثاق الدعوة السلمية‪ ،‬في اشارة إلى بروز مبادى العصر الجاهلي ثانية وانه لبّد أن يقتفي آثار‬
‫رسول ال)صلى ال عليه وآله( ويقتدي بهديه فيقبر الفتن ويبقر الباطل ليخرج منه الحق‪.‬‬

‫ثم إختتم )عليه السلم( الخطبة بذم طائفة من قريش ممن أشعلوا نار الجمل ولم تكن دوافعهم من تلك المعركة‬
‫سوى الحسد والبغض وحب الدنيا‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 189‬‬
‫القسم الول‬

‫حّتى‬‫ق الّناس َ‬ ‫عي ُنُبّوًة َفسا َ‬ ‫ب َيْقَرُأ ِكَتابًا َول َيّد ِ‬


‫ن اْلَعَر ِ‬ ‫حٌد ِم َ‬
‫س َأ َ‬
‫حّمدًا)صلى ال عليه وآله( َوَلْي َ‬ ‫ث ُم َ‬‫ل َبَع َ‬ ‫ن ا َّ‬
‫»ِإ ّ‬
‫حّتى َتَوّلتْ‬
‫ت َلِفي ساَقِتها َ‬ ‫ن ُكْن ُ‬‫ل ِإ ْ‬‫صَفاُتُهْم ـ َأما َوا ّ‬ ‫ت َ‬ ‫طَمَأّن ْ‬
‫ت َقناُتُهْم َوا ْ‬
‫سَتقاَم ْ‬
‫حّلَتُهْم َوَبّلَغُهْم َمْنجاَتُهْم فا ْ‬
‫َبّوَأُهْم َم َ‬
‫جْنِبِه«‪.‬‬
‫ن َ‬‫ق ِم ْ‬
‫حّ‬ ‫ج اْل َ‬
‫خُر َ‬ ‫حّتى َي ْ‬‫طَل َ‬ ‫ن اْلَبا ِ‬
‫لْنُقَب ّ‬
‫سيِري َهذا ِلِمْثِلها‪َ :‬ف َ‬ ‫ن َم ِ‬
‫ت َوِإ ّ‬
‫جُبْن ُ‬
‫ت َول َ‬ ‫جْز ُ‬ ‫عَ‬ ‫حذاِفيِرها ما َ‬ ‫ِب َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫دحر الباطل‬

‫أشار المام )عليه السلم( ـ كما ذكرنا ـ إلى بعثة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( وظهور الدعوة السلمية في‬
‫الجزيرة العربية وكيف كانت حياة الناس في العصر الجاهلي وكيف أصبحت إبان انطلقه الدعوة‪ ،‬ومدى السعادة‬
‫ن ال بعثت محمدًا )صلى ال عليه وآله( وليس أحد من العرب يقرأ كتابًا‬
‫التي ظفروا بها‪ ،‬فقال )عليه السلم(‪»:‬إ ّ‬
‫ول يدعي نبوة«‪.‬‬

‫أثار بعض شّراح نهج البلغة هذا السؤال‪ :‬كيف يقال لم يكن لحد من العرب كتابًا سماويًا ولم يكونوا يتبعون نبيًا‬
‫من النبياء‪ ،‬والحال كانت طائفة من اليهود والنصارى تعيش هناك ولديها التوراة و النجيل؟ ثم أجابوا على‬
‫السؤال من خلل الشارة إلى تحريف التوراة والنجيل‪ ،‬وعليه فلم يكن لديهم كتابًا بالحق‪ ،‬كما أن اليهود‬
‫ب اّلِذي جاَء ِبِه ُموسى ُنورًا‬
‫ل الِكتا َ‬
‫ن َأْنَز َ‬
‫ل َم ْ‬
‫والنصارى كانوا أتباعًا كاذبين‪ ،‬ثم إستدلوا على ذلك بالية الكريمة )ُق ْ‬
‫ن َكِثـيرًا(‪(1).‬‬
‫خُفو َ‬
‫س ُتْبُدوَنها َوُت ْ‬
‫طـي َ‬
‫جَعُلوَنُه َقرا ِ‬
‫ى ِللّناس َت ْ‬
‫َوُهد ً‬

‫‪ .1‬سورة النعام ‪.91 /‬‬

‫] ‪[ 190‬‬

‫كما إحتمل البعض أن يكون المراد بذلك العرب الذين كانوا يشكلون الكثرية وكانوا على الشرك والوثنية‪.‬‬

‫ن اليهود لم يكونوا من سكنة الجزيرة العربية بمعنى‬


‫لخرى التي يمكن الرد بها على ذلك السؤال أ ّ‬ ‫الجابة ا ُ‬
‫ن ظهوره بات وشيكا‬ ‫المواطنة‪ ،‬بل تفيد السير التأريخية أّنهم حين قرأوا في كتابهم البشارة بظهور نبي السلم وأ ّ‬
‫قدموا هناك لدركه‪ ،‬وإن شعروا في ما بعد بالخطر على مصالحهم فسلكوا سبيل النفاق وعادوا النبي )صلى ال‬
‫عليه وآله(‪ ،‬النصارى أيضًا كانوا من المهاجرين ويشكلون القلية هناك‪.‬‬

‫ن المام )عليه السلم( أشار إلى إبتعاد القوام الجاهلية عن أجواء الوحي والنبوة‪ ،‬المر الذي‬
‫على كل حال فا ّ‬
‫يصور مدى غرقهم في وحل الشرك والفساد‪.‬‬

‫ثم تطرق )عليه السلم( إلى الوضاع التي بلغوها في ظل إنبثاق الدعوة والستضاءة بنور الوحي وبزوغ شمس‬
‫السلم »فساق الناس حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم«)‪ (1‬فهو لم يخلصهم من الشرك والكفر و النحراف‬
‫العقائدي وينقذهم من الفساد الخلقي والظلم والجور وسوء العدل فحسب‪ ،‬بل أخذ بيدهم إلى حيث القوة والعزة‬
‫والحكومة والحضارة والمدنية‪ ،‬ومن هنا قال )عليه السلم(»فاستقامت قناتهم)‪ (2‬واطمأنت صفاتهم)‪.«(3‬‬
‫ل ببركة النبي)صلى ال عليه وآله(‬
‫وعليه فقد ظفروا بالنصر المعنوي إلى جانب شمولهم بالنعم المادية و ما ذلك إ ّ‬
‫ونزول القرآن الكريم والتعبير بمحلتهم إشارة إلى المنزلة الراقية التي ينبغي أن يبلغها النسان الفاضل‪ ،‬ومنجاتهم‬
‫إشارة إلى نقطة النجاة التي ليس معها خوف وخشية ول قستبطن سوى الفلح والصلح‪.‬‬

‫والعبارة »إستقات قناتهم« وعلى اضواء الستقامة التي تعني الستواء والثبات والقناة بمعنى الرمح تعني القوة‬
‫والقدرة والنتصار على العدو‪.‬‬

‫‪» .1‬بوأ« من مادة »بوء« بمعنى تعبيد المكان ضد النبوة بمعنى المرتفع وغير المعبد‪ ،‬وقد وردت هنا بمعنى تنظيم وترتيب موقع‬
‫الستقرار‪.‬‬

‫‪» .2‬قنات« من مادة »قنو« بمعنى جذع الشجرة‪ ،‬كما تغني العود والرمح‪ ،‬والمراد بها هنا القوة والغلبة والدولة‪ ،‬وقوله إستقامت‬
‫قناتهم تمثيل لستقامة أحوالهم‪.‬‬

‫‪» .3‬صفات«‪ ،‬حجر مستوي وكبير ومحكم وواسع‪.‬‬

‫] ‪[ 191‬‬

‫لمور ونظم‬ ‫ن الستقامة هنا تشير إلى الرمح كناية عن أنتظام ا ُ‬


‫أّما بعض شّراح نهج البلغة فقد ذهب إلى أ ّ‬
‫الحكومة والدولة والمجتمع والقوة والمنعة‪ ،‬ولكن لما كان الرمح عادة مستقيم وإذا إعوج كسر ول يمكن تسويته‬
‫ن العبارة يمكن أن تكون إشارة إلى اطمينان البال واستقرار الذهن;‬ ‫)لّنه يصنع عادة من الخشب ل الفزات(‪ ،‬فا ّ‬
‫ن الجنود يغرسون حرابهم في الرض وتبقى مستوية مستقيمة حين الهدوء والستقرار; المر الذي يفيد أّنهم‬ ‫لّ‬
‫كانوا آمنين من حملت العدو‪.‬‬

‫أّما العبارة »إطمأنت صفاتهم« فهى تشير إلى إستحكام منزلتهم في ظل ظهور السلم ونهضة رسول ال)صلى‬
‫ال عليه وآله( بحيث إستقرت حياتهم الفردية والجتماعية‪.‬‬

‫فالصحارى التي كانت تردد عليها العرب‪ ،‬كانت مليئة بالرمال والحصى المتحركة بحيث يصعب إجتيازها‪ ،‬بينما‬
‫تسهل حركته وذهابه وايابه وجلوسه إذا إستقر على حجر كبير واسع ومحكم ومستقيم‪.‬‬

‫ثم قال )عليه السلم(‪»:‬أّما وال إن كنت لفي ساقتها)‪ (1‬حتى تولت بحذا فيرها)‪.«(2‬‬

‫ففي الوضاع التي يكون فيها الجيش مستجد أو العدو قوي بحيث يحتمل التقهقر والنسحاب‪ ،‬فان آمر الجيش‬
‫يجعل بعض مساعديه الشجعان في المؤخرة ليسوقوا الجيش إلى المام ويحثونهم على التقدم كما يحولوا دون‬
‫تراجعهم‪.‬‬

‫ن المام )عليه السلم( أشار إلى هذه المسألة في أن النبي )صلى ال عليه وآله( قلدني مسئوؤلية في سوق‬‫وكأ ّ‬
‫الجيش إلى المام وتجاوز المخاطر والمشاكل التي تواجهه‪ ،‬أو المراد أّنى والنبي )صلى ال عليه وآله( في‬
‫ن كل هذه إشارات إلى‬‫موخرة هذا الجيش ونسوقه إلى المام وقرينة ذلك قوله فساق الناس« على كل حال فا ّ‬
‫عصر نهضة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( والدور الهام الذي لعبه المام علي)عليه السلم( في إنتصار‬
‫الجيش السلمي على معسكر الكفر والشرك‪.‬‬

‫‪» .1‬ساقه« من مادة »سوق« جمع سائق‪ ،‬واصلها سوقه واصحب ساق بيت العلل‪.‬‬

‫‪» .2‬حذا فير« جمع حذ فور بمعنى الشريف والجمع الكثير‪ ،‬وقد جاءت هنا بمعنى جميع جوانب الموضوع‪ .‬وهنا ينبغي اللتفات إلى‬
‫أن‪ .‬ضمير الهاء في ساقتها يعود إلى الناس في عصر الجاهلية الذين إعتنقوا السلم‪ ،‬ويمكن أن يكون الضمير في تولت وحذا فيرها‬
‫عائدا إلى أعداء السلم الذين تقهقروا ابان نصر السلم‪ ،‬كما يمكن أن يعود إلى أهل الجاهلية الذين أقبلوا على السلم‪.‬‬

‫] ‪[ 192‬‬
‫وفي إشارة إلى قيامه بوظيفته على أحسن وجه وبلئه الحسن قال »ما عجزت ولجبنت« فمن البديهي أنّ‬
‫النسحاب إّنما يستند إلى الضعف والعجز أو الخوف والرعب‪ ،‬فقوله )عليه السلم( »ما عجزت ول جبنت«‬
‫يتضمن نفيه لعوامل الضعف والتقهقر‪.‬‬

‫لّمة‬‫نا ُ‬
‫ثم يربط )عليه السلم( هذه المقدمة بذي المقدمة فالمام )عليه السلم( أشار إلى نقطة مهّمة وهى أ ّ‬
‫السلمية آنذاك بدأت تعود إلى الفكار والسنن الجاهلية وهى تبتعد كل يوم أكثر من ذي قبل عن مسيرة النبي‬
‫)صلى ال عليه وآله( والقرآن والسلم‪ ،‬ونموذج ذلك الحركة الظالمة لمشعلي نار الجمل من أجل الحصول على‬
‫المناصب من خلل نكث البيعة وسفك دماء المسلمين‪.‬‬

‫فقد أراد المام )عليه السلم( الوقوف بوجه هذه العودة إلى الجاهلية وتجديد رسالته ووظيفته التاريخية في الحفاظ‬
‫على المسيرة السلمية‪.‬‬

‫ومن هنا قال »فل نقبن)‪ (1‬الباطل حتى يخرج الحق من جنبه‪ «.‬وباللتفات إلى أن »أنقبن« من مادة »نقب«‬
‫ن الحق ليظهر ما لم تتبدد حجب الباطل‪ ،‬بعبارة ُاخرى‬ ‫ن العبارة تشير إلى حقيقة هى أ ّ‬
‫بمعنى ثقب الشئ وشقه‪ ،‬فا ّ‬
‫ن الباطل يسعى على الدوام ليغطي على الحق وبكتمه‪ ،‬فاذا شقت حجب الباطل‪ ،‬تنفس نور الحق واتضح عيانًا‬ ‫فا ّ‬
‫ن الحق كامن في باطن كل موجود‪،‬‬ ‫للجميع‪ .‬ويمكن أن تكون العبارة إشارة الى قيام أساس العالم على الحق‪ ،‬وإ ّ‬
‫ولسيما في الفطرة البشرية‪ ،‬بينما الباطل أمر عارض طارىء على النسان‪.‬‬

‫فاذا زال هذا العارض ظهر الحق من باطن الشياء‪ .‬وقد ورد مثل هذا المعنى في الخطبة ‪» 104‬وآيم ال لبقرن‬
‫الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته«‪.‬‬

‫تأّملت‬

‫‪ 1‬ـ من أخبار يوم ذى قار‬

‫كما ورد في شرح الخطبة فان »ذي قار« موضع بين البصرة والكوفة شهد معركة قبل‬

‫‪» .1‬أنقبن« من مادة »نقب« بمعنى الثقب والشق ويطلق النقب على البار تحت الرض وذلك لنها تنقب الرض ـ ومنه البحث‬
‫والتنقيب حين تأمل المطالب وإظهار الحقائق والنقيب العالم بحال القوم‪.‬‬

‫] ‪[ 193‬‬

‫السلم بين العرب والجيش الساساني الذي هزم في المعركة وانتصر فيها العرب‪ (1).‬وقيل في تسميته أنه كان‬
‫فيها بئرًا ماؤه أسود كالقير‪.‬‬

‫ن يأتيك من أهل الكوفة‬


‫ل َم ْ‬
‫ت‪ :‬يا أميرالمؤمنين‪ ،‬ما أق ّ‬
‫ي عليه السلم ذا قار‪ ،‬قل ُ‬
‫عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬لما نزلنا مع عل ّ‬
‫ل; ل يزيدون ول ينقصون‪.‬‬ ‫ل َليأتيّنى منهم ستة آلف وخمسمائة وستون رج ً‬ ‫ن! فقال‪ :‬وا ّ‬
‫فيما أظ ّ‬

‫عّدّنهم‪.‬‬
‫ل إن قِدُموا ل َ‬
‫ك شديد في قوله‪ ،‬وقلت في نفسي‪ :‬وا ّ‬
‫ل من ذلك ش ّ‬
‫قال ابن عباس‪ :‬فدخَلني وا ّ‬

‫ل‪ .‬أقام عل ّ‬
‫ى‬ ‫ي عليه السلم إلى ِذى قار من الكوفة في البحر والبّر ستُة آلف وخمسمائة وستون رج ً‬ ‫ثم نَفر إلى عل ّ‬
‫بذى قار خمسة عشر يومًا‪ ،‬حتى سمع صهيل الخيل وشحيج البغال حوله‪ .‬قال‪ :‬فلما سار بهم منقلة‪ ،‬قال‬
‫ن الّناس قد كانوا سمعوا قوله‪ .‬قال‪:‬‬
‫ل أتممُتهم من غيرهم; فإ ّ‬
‫عّدّنهم‪ ،‬فإن كانوا كما قال‪ ،‬وإ ّ‬
‫للُ‬‫ن عباس‪ :‬وا ّ‬ ‫اب ُ‬
‫ل ورسوله! ثم سرنا‪.‬‬ ‫ل أكبر! صدق ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬فقلت‪ :‬ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ول ينقصون رج ً‬ ‫ل ما وجدُتهم يزيدون رج ً‬ ‫فعرضُتهم فو ا ّ‬

‫لعل كلم إبن عباس إشارة إلى أن المام)عليه السلم( سمع هذه المور من رسول ال)صلى ال عليه وآله( ثم‬
‫أخبر بها‪.‬‬
‫ل يا‬
‫ي عليه السلم‪ ،‬سّلما عليه‪ ،‬وقالوا‪ :‬الحمُد ّ‬
‫ل الكوفة على عل ّ‬
‫قال ابن أبي الحديد بعد ذلك‪ :‬فلما قدم أه ُ‬
‫صَنا بموازرتك‪ ،‬وأكَرمنا ُبنصرتك; قد أجبناك طائعين غيَر مكرهين‪ ،‬فمْرنا بأمرك‪.‬‬ ‫أميرالمؤمنين‪ ،‬اّلذى اخت ّ‬

‫ل وأثنى عليه وصلى على رسوله وقال‪:‬‬


‫قال‪ :‬فقام فحمدا ّ‬

‫ل صلى ا ّ‬
‫ل‬ ‫جوهها‪ ،‬وأهل الفضل وفرسانها‪ ،‬وأشّد العرب موّدة لرسول ا ّ‬
‫ت العرب وو ُ‬
‫مرحبًا بأهل الكوفة‪ ،‬بيوتا ِ‬
‫عليه ولهل بيته‪(2).‬‬

‫‪2‬ـ جاهلية العرب‬

‫مهما قيل ويقال بشأن عظمة السلم وانبثاقه وسط ُاّمة متخلفة ومتعصبة فهو قليل‪ .‬فقد‬

‫‪ .1‬الكامل لبن أثير ‪.1/482‬‬

‫‪ .2‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 187 /2‬ـ ‪) 188‬بتصرف(‪.‬‬

‫] ‪[ 194‬‬

‫لّمة في العصر الجاهلي على سلسلة من النحرافات والصفات الرذيلة‪ ،‬ونكتفي هنا بالشارة فقط إلى‬ ‫إنطوت ا ُ‬
‫التعصب الذي كان سائدا آنذاك والذي لم يكن يسمح لفكار الخرين باختراقه‪.‬‬

‫ويعتقد أحد المحققين المسيحيين بالرتباط الوثيق بين التعصب الجاهلي ومناخ الحجاز‪ ،‬فيقول‪»:‬تتصف تلك‬
‫المنطقة بالجفاف‪ ،‬فكانت طبيعة الناس هى الخرى الصلبة والشدة‪ ،‬وكان من العجاز تسلل الفكار السلمية‬
‫إليه«‪.‬‬

‫وإذا أضفنا إلى ذلك الجهل والبتعاد عن العلم وهبوط المستوى الفكري والضحالة الثقافية والتلوث بأنواع‬
‫الخرافات التي تدعو إلى التعصب والعناد لدركنا حجم العجاز في هدايتهم وانتشالهم من تلك الدوامة‪.‬‬

‫ل ِبَعذاب واِقـع()‪ (1‬وقوله )َو ِإذ‬


‫ل ساِئ ٌ‬
‫سـَأ َ‬
‫وقد تعرض القرآن الكريم إلى جانب من تلك العصبية‪ ،‬ومن ذلك قوله ) َ‬
‫حجاَرًة‪(2).(...‬‬
‫عَلْينا ِ‬
‫طْر َ‬
‫ك َفَأْم ِ‬
‫عْنِد َ‬
‫ن ِ‬
‫ق ِم ْ‬
‫حّ‬
‫ن هـذا ُهـَو ال َ‬
‫ن كا َ‬
‫قاُلوا الّلهّم ِإ ْ‬

‫وتشير أسباب نزول مثل هذه اليات إلى عمق التعصب الذي كان يحكمهم بحيث كانوا مستعدين للتضحية بانفسهم‬
‫تعصبا حقا إن هداية مثل هذه القوام تبدو من المعاجز الكبرى; المر الذي أشيرله في الخطبة المذكورة‪ ،‬وإن‬
‫لّمة للسف بعد رحيل النبي الكرم)صلى ال عليه وآله( بمّدة قصيرة إلى جاهليتها الولى وتسلمت‬ ‫عادت تلك ا ُ‬
‫بعض المناصب الحساسة في الحكومة السلمية لتذهب جهود النبي)صلى ال عليه وآله( أدارج الرياح‪ ،‬ومن هنا‬
‫لّمة إلى عصر الرسالة‪.‬‬
‫فقد سعى المام)عليه السلم(جاهدًا لعادة ا ُ‬

‫‪3‬ـ حديث خاصف النعل‬

‫لقد ورد في بداية الخطبة عبارة »يخصف نعله« التي تذكرنا بحديث النبي)صلى ال عليه وآله(بشأن فضائل علي‬
‫ن رسول ال)صلى ال عليه وآله(كان يكلم‬‫)عليه السلم( خاصف النعل‪ .‬حيث جاء في سنن الترمذي أ ّ‬

‫‪ .1‬سورة المعارج ‪.1 /‬‬


‫‪ .2‬سورة النفال ‪.3 /‬‬

‫] ‪[ 195‬‬

‫مشركي قريش فخاطبهم قائل‪» :‬لتنتهن أو ليبعثن ال عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين قد إمتحن ال‬
‫قلبه لليمان« فسأله من حضر‪ :‬ومن ذاك؟ وسأله أبوبكر‪ :‬من هو؟ وسأله عمر‪ :‬ومن هو؟ فقال )صلى ال عليه‬
‫وآله(‪ :‬هو خاصف النعل‪ :‬حيث كان علي)عليه السلم( يخصف نعلي رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪ ...‬ثم نقل‬
‫الترمذي عن أبي عيسى أّنه حديث صحيح‪(1).‬‬

‫ن ذلك العمل الذي صدر من المام )عليه السلم( على عهده وعهد النبي)صلى ال عليه وآله(إّنما‬‫ومن الطبيعي أ ّ‬
‫يفيد تواضع المام)عليه السلم( للناس وانصرافه عن الدنيا‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬صحيح الترمذي ‪) 5/634‬طبعة دار إحياءالتراث العربي( كما ورد هذا الحديث في كتاب ينابيع المودة‪ .59/‬وورد في كتب أعلم‬
‫الشيعة ومنها بحارالنوار‪ 32/300 ،‬وإحقاق الحق‪.6/425 ،‬‬

‫] ‪[ 196‬‬

‫] ‪[ 197‬‬

‫القسم الثاني‬

‫حُبُهُم اْلَيْوَم!‬
‫س َكما َأنا صا ِ‬‫حُبُهْم ِباَْلْم ِ‬
‫ن َوِإّني َلصا ِ‬ ‫ن َوَُلَقاِتَلّنُهْم َمْفُتوِني َ‬
‫ل َلَقْد قاَتْلُتُهْم كاِفِري َ‬
‫»ما ِلي َوِلُقَرْيش؟ َوا ّ‬
‫حّيِزَنا َفَكاُنوا َكَما َقاَل اَْلّوُل‪:‬‬
‫خْلَناُهْم ِفي َ‬
‫عَلْيِهْم‪َ ،‬فَأْد َ‬‫ختاَرنا َ‬‫لا ْ‬ ‫ن ا َّ‬ ‫ش ِإّل َأ ّ‬
‫ل ما َتْنِقُم ِمّنا ُقَرْي ٌ‬
‫َوا ّ‬

‫جرا‬
‫شَرَة اْلُب ْ‬
‫ك ِبالّزْبِد اْلُمَق ّ‬
‫ض صاِبحًا *** َوَأْكَل َ‬
‫ح َ‬
‫ك اْلَم ْ‬
‫شْرَب َ‬
‫ت َلَعْمِري ُ‬
‫َأَدْم َ‬

‫سْمرا«‪.‬‬
‫جْرَد َوال ّ‬
‫ك اْل ُ‬
‫حْوَل َ‬
‫طنا َ‬
‫حْ‬‫عِلّيا َو ُ‬
‫ن *** َ‬
‫ك اْلَعلَء َوَلْم َتُك ْ‬
‫ن َوَهْبنا َ‬
‫حُ‬‫َوَن ْ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫مالي ولقريش؟‬

‫يشير المام)عليه السلم( هنا إلى طبيعة علقته في السابق والحاضر بقريش‪ ،‬لّنه أورد هذه الخطبة على هامش‬
‫ن مؤججي نار الجمل هم طلحة والزبير وسائر الفراد من قريش الذين خططوا لهذه‬ ‫موقعة الجمل‪ :‬حيث نعلم بأ ّ‬
‫المعركة بدافع من أحقادهم تجاه المام)عليه السلم(‪ .‬فقد كانوا يديرون هذه المعركة علنية أو خفية ومن هنا فا ّ‬
‫ن‬
‫لّمة من عدم الوقوع في شباكهم إلى جانب تنبيهها إلى الدوافع‬
‫كلمات المام)عليه السلم( تضمنت تحذير ا ُ‬
‫الصلية لهذه المعركة‪ ،‬فاستهل)عليه السلم(كلمه قائل‪» :‬مالي ولقريش؟ وال لقد قاتلتهم كافرين ول قاتلتنهم‬
‫مفتونين)‪ «(1‬نعم فهؤلء كانوا على الشرك‪ ،‬وقد التحقوا بالمسلمين بسيف علي )عليه السلم(ودعوة النبي )صلى‬
‫ل أّنهم وبعد وفاة‬
‫ال عليه وآله(‪ ،‬إ ّ‬
‫النبي)صلى ال عليه وآله( وبدافع من حب الجاه قد إبتعدوا عن الحق حتى هبوا لقتال وصي رسول ال)صلى ال‬
‫عليه وآله( بعد أن بايعوه طواعية‪.‬‬

‫‪» .1‬مفتونين« من مادة »فتنة« بمعنى المتحان والبتلء ‪ /‬كما جاءت بمعنى العذاب والخداع والضلل‪ ،‬وقد وردت هنا بمعنى‬
‫الضلل‪.‬‬

‫] ‪[ 198‬‬

‫ن عليًا)عليه السلم( أعاد الموال إلى أهلها لما غلبنا في البصرة‪ ،‬فكان يعيد أموال كل من أقام البينة أو‬
‫قال‪ :‬إ ّ‬
‫يأتي بالشهود‪ ،‬ويحلف من ليس له بينة‪ .‬ولما سئل عن توزيع الغنائم سكت ثم قال‪ :‬أّيكم يأخذ ُأّمه في سهمه)‪.(2‬‬

‫وتفيد بعض الروايات أّنه عفى عن أهل البصرة كما فعل رسول ال )صلى ال عليه وآله( حين فتح مكة‪ .‬كما‬
‫يستفاد أّنه لم يرد أن تكون هذه المسئلة سنة‪ ،‬لنه كان يعلم بان شيعته ستخضع لضغوط الظلمة ولعلها تعاملهم‬
‫بهذه المعاملة)‪.(3‬‬

‫‪ .1‬رواها إبن المغازلي الشافعي في كتاب مناقب أمير المؤمنين وابن أبي الحديد في شرح نهج البلغة والمحقق الكركي في نفحات‬
‫اللهوت لحقاق الحق )‪ .(440 / 6‬وقد قال ابن أبي الحديد في شرحه للرسالة ‪ 65‬من نهج البلغة لو فرضنا أن النبي )صلى ال‬
‫ن رسول ال )صلى ال‬ ‫عليه وآله( لم يوص بعلي )عليه السلم( ـ كما تقول المامية ـ ولكن أل يعلم معاوية وغيره من الصحابة أ ّ‬
‫عليه وآله( قال ألف مرة في علي )عليه السلم(‪» :‬أنا حرب لمن حاربت وسلم لمن سالمت« وقال »الّلهم عاد من عاداه ووال من‬
‫واله« وقال »أنت مع الحق والحق معك« )شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.(24 / 18‬‬

‫‪ .2‬وسائل الشيعة ‪ / 11‬الباب ‪ 25‬من أبواب جهاد العدو‪ ،‬ح ‪ ،7‬وللوقوف بصورة أعمق راجع كتاب أنوار الفقاهة‪ ،‬كتاب الخمس‬
‫والنفال ‪.70 /‬‬

‫‪ .3‬للوقوف أكثر على هذه الروايات راجع أنوار الفقاهة )كتاب الخمس والنفال( ‪.75 /‬‬

‫] ‪[ 199‬‬

‫على كل حال فان مراد المام )عليه السلم( من هذه العبارة أّنه ل يكن أي بغض أوعداء لقريش‪ ،‬أما بذور‬
‫حسدهم للمام )عليه السلم( فسببها وقوف المام)عليه السلم( بوجههم في ميادين صراع الحق ضد الباطل إبان‬
‫إنبثاق الدعوة السلمية‪ ،‬ولم يكن ذلك سوى إمتثال لوامر ال‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪:‬‬

‫»وإني لصاحبهم بالمس كما أنا صاحبهم اليوم« فما زال السيف الذي جندلت به البطال في بدر وأحد والحزاب‬
‫بيدي‪ ،‬فالوا قع هذا تهديد صريح لمؤججي نار الجمل‪ .‬وتساءل البعض أن مثل هذا الكلم يصدق على معاوية و‬
‫ل أّنه ل يصدق على‬‫عمرو بن العاص ومروان وأمثالهم الذين هبوا لقتال رسول ال )صلى ال عليه وآله(‪ ،‬إ ّ‬
‫طلحة والزبير‪ ،‬فقد وقفا إلى جانب رسول ال )صلى ال عليه وآله( في معاركه‪ .‬وقد أجييب على هذا السؤال بأن‬
‫ن الهدف بيان حقيقة أّنه كان يقاتل في سبيل الحق ضد الباطل على‬
‫لأّ‬‫المام)عليه السلم( لم يرد شخصًا معينًا‪ ،‬إ ّ‬
‫عهد رسول ال )صلى ال عليه وآله(ومازال بعد النبي )صلى ال عليه وآله(يقاتل في هذا السبيل )ونعلم أن قريشًا‬
‫ن طلحة والزبير كانا مع رسول ال )صلى ال عليه‬ ‫كانت تقاتل آنذاك ضد المسلمين(‪ .‬أضف إلى ذلك صحيح أ ّ‬
‫ن أغلب أصحابه الجمل ومنهم مروان كانوا من قريش‪ .‬ثم أشار )عليه السلم( إلى أحد دوافع أصحاب‬ ‫لأّ‬
‫وآله(‪ ،‬إ ّ‬
‫ن ال إختارنا عليهم‪ ،‬فأدخلناهم في حيزنا« ثم وصفهم بأّنهم أصبحوا كما‬‫لأّ‬ ‫الجمل فقال »وال ما تنقم منا قريش إ ّ‬
‫قال الشاعر)‪.(1‬‬
‫صابحا *** وأكلك بالزبد)‪ (3‬المقشرة)‪ (4‬البجرا)‪(5‬‬
‫أدمت لعمري شربك المحض)‪َ (2‬‬

‫ونحن وهبناك العلء ولم تكن *** عليا وحطنا حولك الجرد)‪ (6‬والسمرا)‪(7‬‬

‫ن إرادة ال هى التي إختارتنا للنبوة والمامة‪،‬‬


‫لأّ‬
‫نعم فهؤلء يحسدوننا ويبغون علينا‪ ،‬إ ّ‬

‫‪ .1‬لم يرد في شروح نهج البلغة شئ بشأن الول هل يقابل الثاني‪ ،‬أم أّنها إشارة إلى أحد الشعراء الوائل‪ ،‬أم المراد به اسم شاعر‬
‫غير معروف‪ .‬ويبدو الحتمال الول أنسب‪.‬‬

‫‪» .2‬المحض« بمعنى اللين الخالص بل رغوة الذي لم يخالطه ماء‪ ،‬ثم إطلق على كل شئ خالص‪.‬‬

‫‪» .3‬زبد« من مادة »زبد« بمعنى استخراج شئ من آخر‪ ،‬ومن هنا يطلق الزيد على ما يستخرج من الحليب‪.‬‬

‫‪» .4‬مقشرة« من مادة »قشر« وتطلق على التمرة بعد نزع نواتها‪.‬‬

‫‪» .5‬بجر« على وزن برج من مادة »بجر« بمعنى ظهور السرة‪ ،‬كما وردت بمعنى التهم في الكل‪ ،‬ويطلق البجر على صاحب البطن‬
‫والحريص‪.‬‬

‫‪» .6‬جرد« من مادة »جرد« بمعنى الخيول الصغيرة قليلة الشعر‬

‫‪» .7‬سمراء« من مادة »سمر« بمعنى السهرة والسامر تقال لمن يقضى الليل صاحيا لسهرة أو حراسة أو هدف آخر‪.‬‬

‫] ‪[ 200‬‬

‫ل أّنهم لم يتنكروا لهذه النعمة فحسب‪،‬‬


‫مع ذلك لم نعاملهم بالمثل فقد عفونا عن أخطائهم وحفظنا هم من العداء‪ ،‬إ ّ‬
‫بل شهروا سيوفهم علينا وهبوا لقتالنا‪ ،‬فقد قطعوا الرحم وقابلوا الحسان بالجحود وأشعلوا نار حرب الجمل‬
‫فسفكوا الدماء وزرعوا الفرقة في صفوف المسلمين‪.‬‬

‫ل ِرساَلَتُه()‬
‫جَع ُ‬
‫ث َي ْ‬
‫حْي ُ‬
‫عَلُم َ‬
‫ل َأ ْ‬
‫فقريش تشبه بعملها هذا ذلك الحسود الذي يعترض على حكمة ال‪ ،‬فقد قال سبحانه )ا ّ‬
‫‪.(1‬‬

‫ظـيمًا()‬
‫عِ‬‫حْكَمَة َوآَتْيناُهْم ُمْلكًا َ‬
‫ب َوال ِ‬
‫ل ِإْبراِهـيَم الِكتا َ‬
‫ضِلِه َفَقْد آَتْينا آ َ‬
‫ن َف ْ‬
‫ل ِم ْ‬
‫على ما آتاُهُم ا ّ‬
‫ن الّناس َ‬
‫سُدو َ‬
‫حُ‬
‫وقال )َأْم َي ْ‬
‫‪.(2‬‬

‫ن َتشاُء ِبـَيِد َ‬
‫ك‬ ‫ل َم ْ‬
‫ن َتشاُء َوُتِذ ّ‬
‫ن َتشاُء َوُتِعّز َم ْ‬
‫ك ِمّم ْ‬
‫ع الُمْل َ‬
‫ن َتشاُء َوَتْنِز ُ‬
‫ك َم ْ‬
‫ك ُتـْؤِتي الُمْل َ‬
‫ك الُمْل ِ‬
‫ل الّلهّم ماِل َ‬
‫وقال )ُق ِ‬
‫شيء َقِديٌر()‪.(3‬‬ ‫ل َ‬‫على ُك ّ‬ ‫ك َ‬ ‫خْيُر ِإّن َ‬
‫ال َ‬

‫ن النسان المؤمن بالمفاهيم القرآنية والصول السلمية ل يشعر بالحسد تجاه من يشمله ال على‬
‫ومن الطبيعي أ ّ‬
‫ضوء حكمته بالنبوة والمامة‪ ،‬فل يرى نفسه سوى مسلهم لهذه الحكمة‪.‬‬

‫الحسد مصدر الضطراب الجتماعي‬

‫قلما نجد صفة رذيلة كالحسد كانت السبب وراء هذه الحداث الليمة والفجائع المأساوية التي شهدتها المجتمعات‬
‫البشربة طيلة التأريخ‪ .‬فأغلب الناس إثر قّلة العلم وهبوط المستوى الثقا في وضعف اليمان وعدم الثقة بالنفس ما‬
‫إن يرى بعض النجاحات التي يحققها أقرانه أو أمثاله حتى تشتعل في قلبه فتائل الحسد فل يهم سوى في كيفية‬
‫تحطيم نفسية المقابل عن طريق التهام والتحقير والذم ومحاولة النتقاص أو إيجاد بعض الموانع والمعوقات في‬
‫ل من الشعور بالفرح والسرور والحتذاء به من أجل تحقيق النجاح والتغلب على الصعاب‬ ‫طريقه‪ ،‬بد ً‬
‫‪ .1‬سورة النعام ‪.124 /‬‬

‫‪ .2‬سورة النساء ‪.54 /‬‬

‫‪ .3‬سورة آل عمران ‪.26 /‬‬

‫] ‪[ 201‬‬

‫والنفتاح على تجاربه وارشاداته‪ .‬وقد يشتد هذا الحسد حتى يبلغ درجة تدعو إلى إراقة دم المحسود من قبل‬
‫ن أول دم إريق كان سببه الحسد‪ ،‬الذي دفع بقابيل لقتل أخيه هابيل حيث قبل قربان الثاني‬
‫الحاسد‪ .‬ول ننسى هنا أ ّ‬
‫ولم يقبل قربان الول‪ ،‬المر الذي تكرر كثيرا في التأريخ حتى قتل الخ أخاه والبن أباه وبالعكس‪.‬‬

‫وهكذا تعود أغلب الحوادث الليمة التي وقعت في صدر السلم ول سيما في عصر خلفة أمير المؤمنين‬
‫علي)عليه السلم( إلى الحسد; المر الذي أشار إليه المام)عليه السلم(في هذه الخطبة‪ .‬وقد تعرضت أغلب‬
‫الروايات إلى ذم هذه الرذيلة التي ل تجر سوى الفساد على المجتمع‪ ،‬فقد قال علي)عليه السلم(‪» :‬إذا أمطر‬
‫التحاسد نبت التفاسد«)‪ .(1‬أما النقطة المهمة التي أرشدت إليها الخطبة فتكمن في ضرورة عدم مقابلة المحسود‬
‫للحاسد بالمثل‪ ،‬بل يسعى جاهدا لطفاء نار الحسد من قلبه من خلل شكر النعمة ومداراة الحاسد وإطفاء حسده‬
‫بمعامتله بالحب والحسان‪ ،‬وما أحسن ما قال الشاعر‪:‬‬

‫إصبر على حسد الحسود فان صبرك قاتله *** النار تاكل نفسها إن لم تجد ما تأكله)‪.(2‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬غر الحكم‪ ،‬الرقم ‪5242‬‬

‫‪ .2‬بحار النوار ‪.258 / 70‬‬

‫] ‪[ 202‬‬

‫] ‪[ 203‬‬

‫الخطبة)‪34 (1‬‬

‫ومن خطبة له )عليه السلم(‬


‫في إستنفار الناس الى أهل الشام بعد فراغه من أمر الخوارج‪ .‬وفيها يتأفف بالناس‪ ،‬وينصح لهم بطريق السداد‪.‬‬

‫مناسبة الخطبة‬

‫خطب المام)عليه السلم( هذه الخطبة كما ورد آنفا بعد فراغه من معركة النهروان‪ .‬ويستفاد من ظاهر كلم ابن‬
‫أبي الحديد أن المام)عليه السلم( خطبها في النهروان‪ ،‬بينما نقل عن نصر بن مزاحم أّنها أول خطبة خطبها بعد‬
‫قدومه من النهروان لما كره القوم المسير إلى الشام عقيب واقعة النهروان‪ ،‬وأقبلوا يتسللون ويدخلون الكوفة‪ ،‬فلما‬
‫رأى ذلك دخل الكوفة فخطبهم)‪.(2‬‬

‫وصرح البعض من شّراح نهج البلغة أن المام)عليه السلم( كان حريص في النهروان على الحركة إلى الشام‬
‫ل أّنهم‬
‫ن العودة إلى الكوفة تعني إسترخاء الجيش وصعوبة تجهزه ثانية‪ ،‬إ ّ‬
‫دون ضياع الفرصة‪ ،‬لّنه كان يرى أ ّ‬
‫كانوا يتعللون ببرودة الجو ووجود الجرحى وعدم كفاية السلحة فلم يطيعوا أوامر المام)عليه السلم(‪ .‬فاضطر‬
‫المام)عليه السلم( إلى دخول الكوفة ليجهزهم للقاء‬

‫‪ .1‬رواها الطبري في تأريخه ‪ 51 / 6‬وابن قتيبة في المامة والسياسة ‪ 150 / 1‬والبلذري في أنسباب الشراف ‪ ،380 /‬وكذلك‬
‫المرحوم الشيخ المفيد في المالي )المجلس ‪ (18‬بصورة أكثر إختصارا مّما وردت في نهج البلغة )مصادر نهج البلغة ‪(425 / 1‬‬
‫لمة المجلسي في بحار النوار عن مطالب السئول محمد بن طلحة الشافعي )بحار النوار ‪.(333 / 74‬‬
‫ورواها المرحوم الع ّ‬

‫‪ .2‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.192 / 2‬‬

‫] ‪[ 204‬‬

‫العدو‪ ،‬ولكن )وكما تكهن سابقًا( تشبثوا بالحجج‪ ،‬فتأثر المام)عليه السلم( وخطب الناس بهذه الخطبة)‪.(1‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫تعالج هذه الخطبة ثلثة مواضيع وهى‪:‬‬

‫‪1‬ـ التأكيد على جهاد العدو والعواقب الوخيمة لترك الجهاد‪ .‬والذي يمثل أطول جانب من الخطبة فالمام )عليه‬
‫السلم(يعرض باللوم لهل الكوفة ـ في هذا القسم من الخطبة الذي يشكل معظمها ـ ويذمهم بمختلف العبارات‬
‫ن ذلك جاء بعد عدم جدوى كافة الساليب عن طريق الستدلل والبرهان والمنطق‬ ‫الشديدة القسوة‪ .‬وبالطبع فا ّ‬
‫والمحبة لتعيئتهم للجهاد ومواجهة العدو‪ ،‬فلم يكن أمامه سوى هذا السلوب‪ ،‬فقد كان يشبههم أحيانًا بالمجانين الذين‬
‫فقدوا شعورهم وأحاسيسهم فلم يعودوا يدركوا ما يضرهم وينفعهم‪ ،‬وأحيانًا ُاخرى يشبههم بالبل التي ضل‬
‫رعاتها‪ ،‬ثم يسعى لتعبئتهم من خلل تنبيههم إلى قسوة عدوهم‪.‬‬

‫‪2‬ـ عزمه الراسخ في مجابهة العدو سواء كان هناك من يهب لنصرته أم لم يكن‪.‬‬

‫لّمة على المام‪ ،‬فيلخصها في أربع‬ ‫لّمة‪ ،‬فيعرض بادىء ذي بدء إلى حقوق ا ُ‬
‫‪3‬ـ الحقوق المتبادلة بين المام وا ُ‬
‫لّمة‪ .‬وكأن المام)عليه السلم( أراد أن يختتم الخطبة‬
‫عبارات‪ ،‬ثم يبين باربع عبارات ُاخرى حقوق المام على ا ُ‬
‫بما يحيل مرارة ذمه حلوة عل ذلك يجدي نفعًا في علج ضعفهم وتقاعسهم‪.‬‬

‫—–‬

‫لمة الخوئي ‪.72 / 4‬‬


‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن ميثم البحراني ‪ 77 / 2‬والع ّ‬
‫] ‪[ 205‬‬

‫القسم الول‬

‫عْوُتُكْم ِإَلى‬
‫خَلفًا؟ ِإذا َد َ‬
‫ن اْلِعّز َ‬
‫عَوضًا َوِبالّذّل ِم َ‬
‫خَرِة ِ‬
‫ن اْل ِ‬
‫حياِة الّدْنيا ِم َ‬ ‫ضيُتْم ِباْل َ‬
‫عتاَبُكْم! َأَر ِ‬ ‫ت ِ‬ ‫سِئْم ُ‬
‫ف َلُكْم َلَقْد َ‬ ‫»ُأ ّ‬
‫ن‪،‬‬
‫حَواِري َفَتْعمَُهو َ‬ ‫عَلْيُكْم َ‬
‫ج َ‬‫سْكَرة ُيْرَت ُ‬
‫ن الّذُهولِ ِفي َ‬ ‫غْمَرة َوِم َ‬
‫ت ِفي َ‬ ‫ن اْلَمْو ِ‬ ‫عُيُنُكْم‪َ ،‬كَأّنُكْم ِم َ‬
‫ت َأ ْ‬
‫عُدّوُكْم داَر ْ‬ ‫جهاِد َ‬ ‫ِ‬
‫عّز‬
‫س الّلياِلي‪َ ،‬وما َأْنُتْم ِبُرْكن ُيماُل ِبُكْم‪َ ،‬ول َزواِفُر ِ‬ ‫جي َ‬ ‫سِ‬ ‫ن! َما َأْنُتْم ِلي ِبِثَقة َ‬ ‫سٌة َفَأْنُتْم ل َتْعِقُلو َ‬ ‫ن ُقُلوَبُكْم َمْأُلو َ‬‫َوَكَأ ّ‬
‫ُيْفَتَقُر ِإَلْيُكْم«‪.‬‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫لم الخشية من الشهادة؟‬

‫يستهل المام)عليه السلم( خطبته بامطار أهل الكوفه بوابل عتابه ولومه وذمه لتجاهلهم المخاطر التي كانت تهدد‬
‫البلد السلمي وعدم إكتراثهم لها‪ ،‬لعل قصبتهم تهتز فيحولوا دون تفاقم تلك المخاطر‪ .‬فقد كان أهل الشام يشنون‬
‫الغارة تلو الغارة على مختلف المناطق السلمية ويسفكون دماء المسلمين وينهبون أموالهم وثرواتهم‪ .‬فقد قال‬
‫المام )عليه السلم( »أف لكم)‪ (1‬لقد سئمت)‪ (2‬عتابكم« ودليل ذلك واضح‪ ،‬فالعتاب ولسيما من شخص كعلي‬
‫)عليه السلم( لبّد أن يكون له تأثيرًا واضحًا في نفس المعاتبين ودفعهم لعادة النظر في أعمالهم الطالحة‪ ،‬إّما إذا‬
‫لم يحصل هذا‬

‫ل يقال »أففت بكذا«‬‫‪ .1‬قال الراغب في المفردت »أف« في الصل تعني كل شئ قذر وهى كلمة تضجر تطلق للمهانة والستحقار‪ .‬فمث ً‬
‫أي تضجرت منه واستقذرته‪ .‬وقال البعض »أف« تعني مايجتمع من الوساخ تحت الظافر وقال البعض أن التراب والغبار إذا علق‬
‫ببدن النسان فان نفخه يشيه القول»اوف« أو »اف« ثم استخدمت هذه المفردة بمعنى اظهار التضجر والنفرة ول سيما من الشياء‬
‫الصغيرة‪ .‬ونخلص مّما ذكر ومن بعض القرائن إلى أن هذه المفردة كانت في الصل إسم صوت‪.‬‬

‫‪» .2‬سئمت« من مادة »سئم« بمعنى الملل‪ ،‬التي تتعدى أحيانا بحرف من وأحيانا ُاخرى بدونها‪ ،‬وسئمته وسئمت منه‪ .‬بمعنى واحد‪،‬‬
‫وعليه سئمت عتابكم بمعنى سئمت من عتابكم‪.‬‬

‫] ‪[ 206‬‬

‫التأثير بسبب غفلة المقابل فان تكراره ل ينطوي سوى على الملل والتعب‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬أرضيتم بالحياة‬
‫ن هذا سكوتكم المميت وفراركم من الجهاد يدل على أنكم أوبقتم‬ ‫الدنيا من الخرة عوضا؟ وبالذل من العز خلفا؟« إ ّ‬
‫آخر تكم واستبدلتموها ببضعة أيام من الدنيا من جانب‪ ،‬ومن جانب آخر فقد أفريتم دنياكم‪ ،‬وذلك لنكم استبدلتم‬
‫العزة والرفعة بالذلة والضعة؟ والحال إن موتًا بعزة أشرف بكثيرمن حياة بذلة; الرسالة التي لقنها أولياء ال‬
‫والزعماء الربانيين أتباعهم على مدى العصور والدهور‪ .‬فقد قال علي )عليه السلم( في نهج البلغة »فالموت‬
‫ن الدعي بن الدعي قد ركزني بين‬ ‫في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين«)‪ (1‬وقال سيد الشهداء »أل وإ ّ‬
‫إثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة« ثم خاطب جيش الكوفة »إن لم يكن لكم دين وكنتم ل تخشون المعاد‬
‫ن عبارات المام)عليه السلم(كانت تمثل دليل سئمه عتابهم وكأّنهم عقدوا‬ ‫فكونوا أحرارًا في دنياكم« فالواقع أ ّ‬
‫العزم على إيثار الذلة والحقارة وغضب ال على العزة والشرف ورضى ال‪ ،‬ومن هنا لم يعد للعتاب من أثر‬
‫عليهم‪ ،‬حتى سئم المام)عليه السلم(عتابهم‪ .‬أّما في العبارة اللحقة فيشير المام)عليه السلم( إلى ضعفهم ليلتفتوا‬
‫إلى أنفسهم فيزيلوا ذلك الضعف فقال )عليه السلم(‪» :‬إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم‪ ،‬فأّنكم من‬
‫الموت في غمرة)‪ (2‬ومن الذهول في سكرة‪ .‬يرتج عليكم حواري)‪ (3‬فتعمهون)‪ .«(4‬قوله)عليه السلم(»يرتج‬
‫عليكم حواري« ـ بالنظر إلى الحوار الذي يعني الكلم المكرر ويرتج من مادة )رت ج( بمعنى يغلق ـ له معنيان‪:‬‬
‫ن باب الفهم أغلق بوجوهكم‪ .‬والثاني‬ ‫ن كلمي المكرر ل يؤثر فيكم فأنكم ل تدركوه‪ ،‬ل ّ‬‫الول ما ذكر سابقًا‪ ،‬أي أ ّ‬
‫ن نتيجة المعنيين‬‫ن لسانكم عقد عن جوابي‪ ،‬وذلك لّنكم ل تمتلكون الرد المنطقي على كلمي ـ على كل حال فا ّ‬ ‫أّ‬
‫واحدة تضمنتها العبارة اللحقة وهى حيرتهم وضللهم »وكأن قلوبكم مألوسة)‪ (5‬فانتم ل تعقلون«‪.‬‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.51‬‬

‫‪» .2‬غمرة« الواحدة من غمر وهو الستر‪ ،‬وغمرة الموت الشدة التي ينتهي إليها المحتضر‪ ،‬وهى الحالة التي كان يعيشها جيش‬
‫الكوفة‪.‬‬

‫‪» .3‬حوار« من مادة »حور« بمعنى الرجوع وتطلق على المحادثة بين الفراد والتي يصطلح عليها بالمحاورة‪ ،‬وقد وردت بهذا‬
‫المعنى في العبارة‪.‬‬

‫‪» .4‬تعمهون« من مادة »عمه« بمعنى تتحيرون وتتردون‪.‬‬

‫ب عقل المقابل‪ ،‬وهى تعني المخلوطة‬


‫‪» .5‬المألوسة« من مادة »ألس« تعني فقدان العقل‪ ،‬ومن هنا تستعمل حيث الخدعة التي تسل ِ‬
‫بمس الجنون‪.‬‬

‫] ‪[ 207‬‬

‫ثم يخلص المام )عليه السلم( إلى هذه النتيجة »ما أنتم لي بثقة سجيس)‪ (1‬الليالي«‪ .‬وبالنظر إلى أن سجيس‬
‫الليالي«‬

‫ن معنى العبارة مادامت الليالي بظلمها فليس لي من ثقة بكم‪ ،‬وهى كناية عن البدية والخلود‪،‬‬ ‫تعني ظلمة الليل فا ّ‬
‫لن الظلمة ل تفارق الليل أبدًا‪ .‬أما اختيار ظلمة الليل فينطوي على منتهى البلغة إستنادا إلى أفكار أهل الكوفة‬
‫وأعمالهم السوداء المظلمة‪ .‬ثم أكد ذلك بقوله »وما أنتم بركن يمال بكم ول زوافر)‪ (2‬عز يفتقر إليكم« وهكذا‬
‫أعلن المام)عليه السلم(بهذه العبارات عدم ثقته واعتماده على هذه العناصر الضعيفة بعد أن تطرق لنقاط‬
‫ضعفهم‪ ،‬أمل في إثارتهم وتعبئتهم لتوحيد الصف ومجابهة العدو‪ .‬ودخولهم الميدان بكل قوة وشجاعة‪.‬‬

‫جدوى الذم واللوم‬

‫نرى أنفسنا مضطرين مرة ُاخرى لملحقة هذا السؤال‪ :‬لم كل هذا العتاب واللوم من قبل المام)عليه السلم( ـ‬
‫وهو ما هو عليه من العلم والحكمة في إدارة شؤون الناس ـ لهل الكوفة وامطارهم بوابل من الكلمات القاسية‬
‫العنيفة؟ أفل يؤدي هذا الكلم الذي ينطوي على العتاب والذم وانعدام الثقة إلى نفرتهم وشدة تعصّيهم وابتعادهم‬
‫ن المام)عليه السلم( قد خبر نفسية وروحية أهل الكوفة‪ ،‬وقد أثبت‬ ‫عن الحق؟ ولبّد من القول في الجواب أ ّ‬
‫ل إذا داهمهم الخطر وعرضهم للزوال بالمرة‪ ،‬بعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫ن‬ ‫التأريخ أن اهل الكوفة لم يكونوا يتحركون إ ّ‬
‫العتاب ليجدي معهم نفعا ما لم يجرح مشاعرهم ويثير أحاسيسهم‪.‬‬

‫ن المجتمعات البشرية إّنما تشتمل دائما على طائفة ـ وإن كانت ضئيلة ـ ل تفيق إلى نفسها ما لم تتلق‬
‫ويبدو أ ّ‬
‫ضربات موجعة متتالية‪.‬‬

‫ول يفهم من كلم المام )عليه السلم( إننا ينبغي أن نعتمد هذا السلوب تجاه من عاش الغفلة وتخلى عن وظيفته‬
‫ن الفراد على أنواع‪ :‬بعضهم يعود إلى نفسه بأدنى إشارة فيستقيم‬‫ومسؤوليته; ل ّ‬
‫ن َاصل‬
‫‪» .1‬سجيس« من مادة »سجس« بمعنى تغيير لون الماء وتكدره‪ ،‬ومن هنا ِاطلقت »سجيس الليالي« على ظلمة الليل وكأ ّ‬
‫الستعمال ما دامت الليالي بظلمها‪ ،‬وهكذا وردت في العبارة‪.‬‬

‫‪» .2‬زوافر« جمع زافرة من مادة »زفر« بمعنى التنهد وهو التنفس بصوت‪ .‬كما يطلق الزفير على صوت النار‪ ،‬والزافزة بمعنى‬
‫النصار والقوام والعشيرة‪.‬‬

‫] ‪[ 208‬‬

‫على الطريق‪ ،‬وبعضهم ليتحرك ما لم توخزه بابرة‪.‬‬

‫وبناءًا على هذا فان ذلك السلوب إّنما يختص بتلك الجماعة بفضله العلج الخير لدائهم‪.‬‬

‫وقد أثبت التاريخ أن ذلك السلوب كان قد أثر في أغلب أهل الكوفة فاندفعوا إلى النخيلة وتأهبوا لقتال أهل الشام‪،‬‬
‫ن شهادة أميرالمؤمنين)عليه السلم( على يد عبدالرحمن بن ملجم أشقى الخرين حالت دون ذلك‪.‬‬ ‫غير أ ّ‬

‫ل أّنهم‬
‫ن المام )عليه السلم( كان كثيرًا ما يثني على أهل الكوفة أوائل حكومته)‪ ،(1‬إ ّ‬
‫والشاهد الخر على ذلك أ ّ‬
‫حين ضعفوا واستقوى عليهم أهل الشام فكانوا يهجمون كل يوم على منطقة من مناطق البلد السلمية‪ ،‬لم ير‬
‫)عليه السلم( بدًا من مخاطبتهم بهذا السلوب‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬على سبيل المثال راجع نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪107‬و ‪118‬‬

‫] ‪[ 209‬‬

‫القسم الثاني‬

‫ب َأْنُتْم!‬
‫حْر ِ‬
‫سْعُر ناِر اْل َ‬
‫ل ُ‬
‫س َلَعْمُر ا ّ‬
‫ن آخََر َلِبْئ َ‬
‫ت ِم ْ‬
‫شَر ْ‬
‫جاِنب اْنَت َ‬
‫ن َ‬
‫ت ِم ْ‬ ‫جِمَع ْ‬
‫عاُتَها َفُكّلَما ُ‬
‫ضّل ُر َ‬‫»ما َأْنُتْم ِإّل َكِإِبل َ‬
‫ن!‬
‫ضو َ‬‫طراُفُكْم َفل َتْمَتِع ُ‬‫ن َوُتْنَتَقصُ َأ ْ‬‫ن َول َتِكيُدو َ‬‫ُتكاُدو َ‬

‫غى‪،‬‬
‫س اْلَو َ‬
‫حِم َ‬
‫ن َلْو َ‬
‫ن ِبُكْم َأ ْ‬
‫ظّ‬‫ن! َواْيُم الّ ِإّني َل ُ‬
‫ل اْلُمَتخاِذُلو َ‬
‫ب َوا ّ‬
‫غِل َ‬
‫ن‪ُ ،‬‬
‫غْفَلة ساُهو َ‬ ‫عْنُكْم َوَأْنُتْم ِفي َ‬
‫ل ُيناُم َ‬
‫س«‪.‬‬ ‫ج الّرْأ ِ‬
‫ن َأِبي طاِلب اْنِفرا َ‬
‫ن اْب ِ‬
‫عِ‬‫جُتْم َ‬
‫ت‪َ ،‬قِد اْنَفَر ْ‬
‫حّر اْلَمْو ُ‬
‫سَت َ‬
‫َوا ْ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫يقظة العدو وسيات النصير‬


‫ل كابل ضل رعاتها فكلما جمعت من جانب‬ ‫يواصل المام )عليه السلم( عتابه وذمه لعسكر الكوفة »ما أنتم إ ّ‬
‫ن إرادتكم ضعيفة وأفكاركم مشتتة ول تميزون مصالحكم‪ ،‬فقد شبههم )عليه السلم(‬ ‫إنتشرت من آخر« فالمراد أ ّ‬
‫بالبل لضيق أفقهم وضحالة أفكارهم‪ ،‬وقوله »ضل رعاتها« اشارة إلى عدم طاعتهم لئمتهم وأوليائهم‪.‬‬

‫ومن البديهي أن هؤلء الفراد ليسعهم أن يكونوا قوة أمام العدو ولذلك قال)عليه السلم(‪»:‬لبئس لعمر)‪ (1‬ال‬
‫سعر)‪ (2‬نار الحرب أنتم«‪.‬‬

‫فالحرب ظاهرة ممجوجة غير محببة وآثارها خراب البلدان وقتل النسان والفقر والجهل‬

‫ن المعنى هنا »قسمًا بال« وقد‬


‫‪ .1‬لعمر ال‪ ،‬مفهوم هذه العلمة القسم بالعمر ومدة الحياة‪ ،‬ولما لم يكن للعمر من معنى بالنسبة ل فا ّ‬
‫تقدم شرح هذه العبارة في الخطبة الرابعة والعشرين‪.‬‬

‫‪» .2‬سعر« جمع ساعر من مادة »سعر« بمعنى أوقد النار وسعر بمعنى شعلة النار‪ ،‬والمراد ليئس موقدو الحرب أنتم‪.‬‬

‫] ‪[ 210‬‬

‫ن نفس ظاهرة اللوم هذه قد تكون دواءًا حيويًا للمجتمع وذلك حين ينهض العدو‬
‫لأّ‬
‫والبؤس والشقاء والتخلف‪ ،‬إ ّ‬
‫لّمة وينشر في ربوعها الذعر والفساد والنحراف‪.‬‬‫ليهضم حقوق ا ُ‬

‫ل من خلل الحرب‪ .‬ومن هنا صرح القرآن الكريم قائل‪ُ):‬اذن‬ ‫فل يمكن إعادة المن والسلم والعدل إلى المجتمع إ ّ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫لا ّ‬
‫سِبي ِ‬
‫للذين يقاتلون بانهم ظلموا وان ال على نصرهم لقدير()‪ (1‬وقال في موضع آخر )َوقاِتُلوا ِفي َ‬
‫ن()‪.(2‬‬
‫ب الُمْعَتِدي َ‬
‫ح ّ‬
‫ل لُي ِ‬
‫نا ّ‬
‫ُيقاِتُلوَنُكْم َولَتْعَتُدوا ِإ ّ‬

‫ن المام )عليه السلم( إذا أشار إلى الحرب‪ ،‬فاّنما ذلك لتكرر إعتداءات وحملت أهل الشام وسفكهم‬
‫وعليه فا ّ‬
‫للدماء ونهبهم للموال بل هبوا في الواقع لمحاربة وصي رسول ال )صلى ال عليه وآله(من بايعته الّمة برمتها‪.‬‬

‫ومن هنا خاطبهم »تكادون ولتكيدون‪ ،‬وتنتقض أطرافكم فل تمتعضون‪ (3)،‬ل ينام عنكم وأنتم في غفلة‬
‫ساهون«‪.‬‬

‫ن قراه ومدنه الحدودية إّنما تكون على‬


‫ن من ليستعد لمواجهة العدو ويتأهب لخططه التدميرية فا ّ‬‫ومن الواضح أ ّ‬
‫الدوام مسرحًا لعمليات العدو ليمارس بحق أهلها القتل والدمار ونهب خيراتهم وثرواتهم‪ ،‬وليس هنالك من مصير‬
‫بافضل من هذا المصير ينتظر ُاولئك الذين يعيشون الغفلة عن عدوهم‪.‬‬

‫وما أعظم قساوة إصدار الحكام بشأن المام على)عليه السلم( واتهامه بالضعف وقّلة التدبير في الحروب إذا لم‬
‫يحط بحقيقة أهل الكوفة والضعف والوهن الذي كان سائدا لديهم إلى جانب عدم الطاعة والتمرد الذي طبعت عليه‬
‫سجيتهم‪.‬‬

‫بعد ذلك يخلص المام )عليه السلم( إلى نتيجة أعمالهم فيقول »غلب وال المتخاذلون«نعم فالفشل والهزيمة ل‬
‫تقتصر على هولء الذين تصدعت وحدتهم وتخلوا عن مجابهة العدو‪ ،‬بل الهزيمة من القوانين الثابتة التي يمنى‬
‫بها كل من يعيش هذه المفردات من قبيل الفرقة والنفاق والضعف والوهن وعدم الطاعة‪.‬‬

‫‪ .1‬سورة الحج ‪.39 /‬‬

‫‪ .2‬سورة البقرة ‪.190 /‬‬

‫‪» .3‬تمتعضون« من مادة معنى »معض« البتئاس والغضب‪.‬‬

‫] ‪[ 211‬‬
‫ثم قال )عليه السلم(‪»:‬وآيم ال)‪ (1‬اني لظن بكم أن لو حمس)‪ (2‬الوغى)‪ (3‬واستحر)‪ (4‬الموت‪ ،‬قد انفرجتم عن‬
‫إبن أبي طالب إتفراج الرأس«‪.‬‬

‫ن مكانته وإن كانت بمثابة الرأس من الجسد‪،‬‬


‫فقد أشار المام )عليه السلم( إلى عّدة ُامور بهذا التشبيه‪ :‬الول إ ّ‬
‫ولكن هل للرأس ـ الذي يعتبر مركز الفكر ويضم العين والذن واللسان ـ أن يفعل شيئا دون سائر العضاء؟‬
‫والثانى‪ :‬هل من حياة ووجود لهذا الجسد إن فصل عنه الرأس‪ ،‬وإن كان فيه فهل له فعل شئ دون معونة العقل‬
‫والفكر والسمع والبصر‪.‬‬

‫وأخيرا يتعذر التئام الرأس بالجسد إذا ما فصل عنه‪ ،‬بينما ليست هنالك مثل هذه الصعوبة في إلتئام سائر أعضاء‬
‫البدن‪.‬‬

‫وعليه فان مراد المام )عليه السلم( هو أنكم تنفرجون عني وليس لكم العودة إلي اذا حمي الوطيس وأخذكم‬
‫ن المراد بقوله‪»:‬أنفراج الرأس« هو فلق الرأس بضربة السيف‬
‫الخوف فهربتم مني كما احتمل بعض الشّراح أ ّ‬
‫التي تأبى اللتئام‪(5).‬‬

‫عوامل ُاخرى للضعف والهزيمة‬

‫يتطرق المام )عليه السلم( بفضله زعيمًا إنسانيًا وسياسيًا وعسكريًا ـ في هذا القسم من الخطبة ـ إلى العوامل‬
‫التي تقف وراء الضعف والفشل والهزيمة‪ ،‬فيجملها بعبارات قصيرة بعيدة المعاني وفي مقدمتها التشتت والفرقة‬
‫وعدم إمتلك الزعيم الوحد‪ ،‬المر الذي يشاهد بوضوح اليوم في‬

‫‪ .1‬أوردنا شرحًا وافيًا في المجلد الول ذيل الخطبة رقم ‪ 10‬لعبارة »وآيم ال« التي تفيد مفهوم القسم‪.‬‬

‫‪» .2‬حمس« من مادة )ح م س( بمعنى إشتد وصلب‪ ،‬والحماسة والتحمس بمعنى التشديد والتشدد ولسيما في الحرب ويقال الحمس‬
‫للرجل الشجاع الذي يقف بصلبة بوجه العدو‪.‬‬

‫‪» .3‬الوغى« بمعنى الضجيج والصوت والجلبة في ميدان القتال‪ ،‬كما يقال لنفس الحرب الوغى‪ ،‬وهكذا وردت في العبارة‪.‬‬

‫‪» .4‬إستحر« من مادة »حرر« بمعنى اشتداد الحر‪ ،‬وهو إشارة ليثار الفرار على الثبات في المعركة إذا إشتد القتال وبلغ حدته‪.‬‬

‫‪ .5‬يبدو هذا الحتمال مستبعدا لوجود التقدير في الجملة‪ ،‬لن العبارة »قد إنفرجتم عن ابن أبي طالب« تتطلب أن يكون تقدير العبارة‬
‫»إنفراج الرأس« هو »إنفراج الرأس عن الجسد« أو »إنفراج الجسد عن الرأس« كما ورد مثل هذا التعبير في الخطبة ‪» 97‬انفرجتم‬
‫عن علي بن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها«‪.‬‬

‫والعجيب ما اورده شّراح نهج البلغة من تفاسير غريبة لهذه العبارة‪ ،‬حتى ذكروا ثمانية وجوه أو أكثر لنرى ضرورة للخوض فيها‪.‬‬

‫] ‪[ 212‬‬

‫لّمة‪.‬‬
‫البلدان السلمية‪ ،‬حيث تؤدي الفرقة والنفسام إلى هذه الفوضى والنفلت في صفوف ا ُ‬

‫والطريف في المر أن الجميع يتحدث عن الوحدة‪ ،‬بينما يسهم كل حسب قدرته بتأجيج نيران الفرقة والختلف‪.‬‬

‫والثاني عدم وجود الخطط والمشاريع الصحيحة التي يمكنها مواجهة مخططات العدو الخبيثة والتي أشير إليها‬
‫بالعبارة »تكادون ول تكيدون«‪ .‬الثالثالستهانة ببعض الحوادث الصغيرة ـ وهى كبيرة في الواقع ـ والتي تعرض‬
‫لها المام)عليه السلم(بقوله»وتنتقص أطرافكم فل تمتعضون« فاغلب الحوادث الصغيرة تكشف عن عمق بعض‬
‫المسائل المهمة الخفية‪ ،‬فتغيير بسيط في البدن قد يعكس حالة مستعصية في باطنه‪ ،‬وهذا ما عليه الحال بالنسبة‬
‫للقضايا الجتماعية والسياسية والعسكرية‪.‬‬
‫فاذا رأينا العدو قد هجم على منطقة حدودية صغيرة‪ ،‬أو إغتال شخصية من البلد‪ ،‬لبّد أن نعلم بأّنه إّنما يعّد نفسه‬
‫ل لما تجاسر وارتكب ذلك العمل‪.‬‬
‫لمعركة أكبر وأعنف‪ ،‬وإ ّ‬

‫وعليه لبّد من اللتفات إلى العمال في بدياتها وعدم الغغلة عن القضايا العضال التي تستبطنها وتختزنها‪ .‬الرابع‬
‫يقظة العدو وغفلتنا‪ ،‬فالعدو منهمك على الدوام في إعداد الِعدة والُعدة‪ ،‬بينما ننظر بكل سذاجة إلى الوضاع القائمة‬
‫على أنها تمثل السلم العادل والمشرف‪ ،‬فاذا قدر لنا أن نفيق من غفلتنا‪ ،‬رأينا زمام المبادرة قد سلبت من أيدينا‪.‬‬
‫الخامس خوف الموت والفرار من الشهادة في سبيل ال والتي أشار إليها المام)عليه السلم( بقوله »وآيم ال! انى‬
‫لظن‪ .«...‬والواقع إن النسان ليغفل عن حقيقة مفادها أن خشية الموت سبب الموت‪ :‬والستعداد للتضحية والفداء‬
‫يعد من أسباب حفظ النفس‪.‬‬

‫كانت هذه بعض النقاط المهمة المرتبطة بالضعف والهزيمة التي أوردها المام)عليه السلم(في هذه الخطبة‬
‫وسنتابع تفاصيل هذه المسألة في البحاث القادمة ذات الصلة‪ .‬فقد تطرق المام)عليه السلم(في الخطبة الخامسة‬
‫والعشرين إلى سائر عوامل الضعف والفشل والهزيمة‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 213‬‬

‫القسم الثالث‬

‫ضّم ْ‬
‫ت‬ ‫ف ما ُ‬
‫ضِعي ٌ‬
‫جُزُه‪َ ،‬‬
‫عْ‬‫ظيٌم َ‬
‫جْلَدُه َلَع ِ‬
‫ظَمُه َوَيْفِري ِ‬
‫عْ‬
‫شُم َ‬
‫حَمُه َوَيْه ِ‬
‫ق َل ْ‬
‫سِه َيْعُر ُ‬
‫ن َنْف ِ‬
‫عُدّوُه ِم ْ‬
‫ن َ‬
‫ن اْمَرًأ ُيَمّك ُ‬‫ل ِإ ّ‬
‫»َوا ّ‬
‫صْدِرِه‪.‬‬
‫ح َ‬ ‫جواِن ُ‬‫عَلْيِه َ‬
‫َ‬

‫طي ُ‬
‫ح‬ ‫ش اْلهاِم‪َ ،‬وَت ِ‬
‫طيُر ِمْنُه َفرا ُ‬
‫شَرِفّيِة َت ِ‬
‫ب ِباْلَم ْ‬
‫ضْر ٌ‬
‫ك َ‬
‫ي َذِل َ‬
‫طَ‬
‫عِ‬‫ن ُأ ْ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ل ُدو َ‬
‫ت َفَأّما َأَنا‪َ ،‬فَوا ّ‬
‫شْئ َ‬‫ن ِ‬ ‫ك ِإ ْ‬‫ن ذا َ‬‫ت َفُك ْ‬
‫َأْن َ‬
‫ك ما َيشاُء«‪.‬‬ ‫ل َبْعَد َذِل َ‬
‫عُد َواَْلْقداُم‪َ ،‬وَيْفَعُل ا ّ‬
‫سوا ِ‬ ‫ال ّ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫النفراد في مجابهة العدو‬

‫يتحدث المام)عليه السلم( عن العناصر الضعيفة والهزيلة التي تمكن عدوها من نفسها فيقول »وال إن إمرء‬
‫يمكن عدوه من نفسه يعرق)‪ (1‬لحمه ويهشّم)‪ (2‬عظمه و يفري)‪ (3‬جلده لعظيم عجزه‪ ،‬ضعيف ما ضمت عليه‬
‫جوانح)‪ (4‬صدره«‬

‫ن الضعف والوهن بلغ ذروته في جيش الكوفة بحيث اندفع العدو يكل ما ُاوتي من قوة‬
‫فالعبارة تبين بصراحة أ ّ‬
‫ليسدد له الضربات التي تحز اللحم وتطحن العظام‪ ،‬وهى أروع عبارة تجسد تسلط العدو وتحكمه في مصير‬
‫الضعفاء العجزة‪ ،‬كما تضمنت قمة الفصاحة‬

‫‪» .1‬يعرق« من مادة »عرق« بمعنى فصل اللحم عن العظم‪ ،‬كما ورد بمعنى فصل اللحم عن العظم بالسنان وأكله‪.‬‬
‫‪» .2‬يهشم« من مادة »هشم« بمعنى كسر الشي اليابس كما ورد بمعنى كسر مطلق العظام‪ ،‬أو عظام الرأى و الوجه‪.‬‬

‫‪» .3‬يفري« من مادة »فرى« بمعنيشق الشئ و تمزيقه‪.‬‬

‫‪» .4‬جوانح« جمع »جانحة«‪ ،‬و هى الضلوع تحت الترائب‪ ،‬اصلها من مادة »جنح« بمعنى الميل و النحراف‪ ،‬و قد اطلقت على‬
‫الضلع لّنها ليست بشكل مستقيم‪.‬‬

‫] ‪[ 214‬‬

‫والبلغة بحيث تكفي ل ثارة من بقي لديه ثمة إحساس وشعور‪.‬‬

‫لمور بشأن عدة أفراد كأن‬ ‫ل تكون العبارات الثلث المذكورة بشأن فرد واحد‪ ،‬بل يفعل العدو هذه ا ُ‬ ‫كما يحتمل إ ّ‬
‫يعرق لحم البعض ويهشم عظم الخر ويفري جلد الثالث وعلى ضوى هذا التفسير يمكن حل السؤال الوارد بشأن‬
‫ن جواب المام)عليه السلم(‬ ‫ن المام )عليه السلم(لم جعل فري اللحم في آخر العبارة‪ .‬فكأ ّ‬ ‫ترتيب العبارات في أ ّ‬
‫ن جنايات العدو تجاهكم في مرحلة هى فصل اللحم عن العظم‪ ،‬ثم يتقدم في مرحلة ُاخرى ليهشم العظم وأخيرًا ل‬ ‫أّ‬
‫ن هذه العبارات إشارات إلى بعض الحوادث التي‬ ‫يبقى أمامه سوى فري جلد البدن‪ .‬وذهب بعض المفسرين إلى أ ّ‬
‫وقعت بعد شهادته )عليه السلم( وسيطرة معاوية وأهل الشام على العراق ولم يرحموا صغيرًا ول كبيرًا ول‬
‫ل ول نساءًا)‪ .(3‬ولكن يبدو أّنها ليست مختصة بذلك الزمان‪ ،‬وإن‬ ‫صحيحًا ول مريضًا ول فقيرًا ول غنيًا ول رجا ً‬
‫كانت أشد وأقسى آنذاك‪.‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة ابن ميثم البحراني ‪. 81 / 2‬‬

‫‪ .2‬في ظلل نهج البلغة ‪.228 /‬‬

‫‪ .3‬مفتاح السعادة ‪. 82 / 6‬‬

‫] ‪[ 215‬‬

‫أّما العبارة»ما ضمت عليه جوانح صدره« ـ باللتفات إلى أن الجوانح جمع جانحة بمعنى الضلع ـ فالمراد بها‬
‫القلب‪ ،‬وهدف المام من قوله»ما ضمت عليه جوانح صدره« بيان روحية جيش الكوفة ومدى عجزه‪ .‬ثم يتطرق‬
‫المام)عليه السلم(إلى نقطة مهّمة وأساسية يكشف فيها عن إتخاذه القرار الحاسم بشأن المستقبل وما يحمله من‬
‫أحداث »أنت فكن ذاك إن شئت فأّما أنا فوال دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه قراش)‪ (1‬الهام‪،‬‬
‫وتطيح)‪(2‬السواعد والقدام‪ ،‬ويفعل ال بعد ذلك ما يشاء«‪.‬‬

‫وأّما من المخاطب بقوله)عليه السلم( أنت فكن ذاك؟ هنالك احتمالن‪ :‬الول أن إّنما خاطب من يمكن عدود من‬
‫نفسه كائنا من كان‪ ،‬غير معين ول مخصص‪ ،‬والحتمال الخر أّنه خاطب بذلك الشعث بن قيس‪ ،‬فاّنه روى‬
‫أّنه)عليه السلم( قال وهو يخطب ويلوم الناس على تثبيطهم وتقاعدهم‪:‬‬

‫ل فعلت فعل ابن عفان! فقال له‪»:‬إن امرًا مكن عدوه من نفسه‪ ،‬يعرق لحمه ويهشم عظمه ويفري جلده‪ .‬أنت‬ ‫هً‬
‫ن المام )عليه السلم( فصل نفسه عنهم بعد أن يأس منهم‪ ،‬فافهمهم أنكم إن آثرتم‬ ‫فكن ذاك‪ «...‬فالواقع هو أ ّ‬
‫ل السيف وسأقاتله بمفردي‪ ،‬فلكل وظيفة وليس أنا من‬ ‫الستسلم للعدو فسبيلي غير سبيلكم وليس للعدو عندي إ ّ‬
‫يتقاعس عن إداء وظيفته‪ ،‬فان تخليتم عن وظيفتكم ورضيتم لنفسكم الذل والهوان والستسلم للعدو وعرضتم‬
‫البلد السلمي للدمار والبتزاز وخليتم وأهل الشام لينهبوا الموال ويعتدوا على العراض‪ ،‬فليس لي إلّ أن‬
‫ن المام)عليه السلم( أراد‬‫أقاتلهم وحدي وأنا مستعد للشهادة التي ل أوثر عليها شيئًا ولن أشعر بالضعف أبدًا‪ .‬وكأ ّ‬
‫أن بهذه الكلمات أن يشد أزر ذلك النزر اليسير من الفراد الشجعان الذين ل يخلو منهم جيش الكوفة‪ ،‬كما يزيل‬
‫الشك عن قلوب بعض المترددين ليلتحقوا به‪ ،‬ويرشد التأريخ إلى مدى الثر الذي لعبه كلم المام)عليه‬
‫السلم(فيهم‪ .‬فقد شعروا بقوتهم من جديد وتأهبوا لمنازلة العدو‪.‬‬
‫‪» .1‬قراش« جمع »قراشه« بعنى العظام الرقيقة التي تلي القحف أو عظام الجبهة والرأس‪ ،‬وهام جمع هامة بمعنى الرأس كما تطلق‬
‫على زعيم القبيلة‪.‬‬

‫‪» .2‬تطيح« من مادة »طوح« بمعنى الهلك أو الشراف على الهلك‪ .‬ولما كان فصل اليد والرجل يشكل القضاء عليهم فقد ُاطلقت‬
‫بهذا المعنى في العبارة المذكورة‪.‬‬

‫] ‪[ 216‬‬

‫العزم النهائى للزعيم الشجاع‬

‫قد تشهد الحياة الجتماعية والسياسية بعض اللحظات الحساسة التي تجعل الزعماء في موضع ل يحسدون عليه‪،‬‬
‫وتتفعل هذه اللحظات حين يشتد الضعف والخلف والترديد في إتخاذ القرار; المر الذي يمنح العدو بعض‬
‫عناصر القوة في المباغتة‪.‬‬

‫وهنا لبّد أن ينبري الزعيم الشجاع ليعلن قراره الحاسم بهذا الشأن ليفهم الجميع بأّنه مستعد للقتال وخوض غمار‬
‫الحرب بمفرده سواءًا كان هناك من يقف إلى جانبه أم ل‪ ،‬فليس هنالك سوى الشهادة التي تأبى المقارنة بالخضوع‬
‫والستسلم‪ .‬وهذا ما أشار إليه المام )عليه السلم(في الخطبة‪ ،‬وقد وقفنا على مثيله من أبي الضيم والحرار‬
‫المام الحسين)عليه السلم(‪ .‬فقد إتفقت كلمة الصحاب ليلة عاشوراء في مواكبة إمامهم )عليه السلم( ول سيما‬
‫حين رفع المام)عليه السلم(بيعته عن الجميع وأذن لهم بالنصراف‪ ،‬حيث انصرف أغلب الضعفاء والعجزة‬
‫ل قّلة قليلة‪ ،‬لينهض كل واحد منها‬‫وانفرجوا عن المام)عليه السلم( وهربوا من خوض الجهاد‪ ،‬ولم يبق معه إ ّ‬
‫ويعبر عن موقفه ومساندته للمام )عليه السلم( وان قتل سبعين قتله‪ ،‬وآخر قال لو ُاقتل وُاحرق ثم ُاقتل ويفعل بي‬
‫ذلك سبعين مرة لما تركتك‪ ،‬وما شابه ذلك من المواقف التي عبر عنها صحبه الوفياء)‪.(1‬‬

‫وقد أشار أمير المؤمنين علي )عليه السلم( ـ في الرسالة ‪ 36‬من رسائله في نهج البلغة ـ إلى هذا المعنى‪ ،‬حيث‬
‫قال لخيه عقيل»وأما ما سألت عنه من رأيي في القتال‪ :‬فان رأيي قتال المحلين حتى ألقى ال ل يزيدنى كثرة‬
‫الناس حولي عزة ول تفرقهم عني وحشة ول تحسبن ابن أبيك ـ ولو أسلمه الناس ـ متضرعًا متخشعًا ول مقرًا‬
‫للضيم واهنًا«‪ .‬كما نصطدم في قصة موسى)عليه السلم(بقومه الذين أعربوا عن خوفهم من مجابهة العمالقة لما‬
‫بلغوا بوابة بيت المقدس فضعفت إرادتهم وترددوا في إتخاذ القرار‪ ،‬حتى تمردوا على نبّيهم موسى)عليه‬
‫السلم(وأخيه هارون)عليه السلم( واعلنوا موقفهم‪.‬‬

‫ن()‬
‫عُدو َ‬
‫ك َفقاِتل ِإّنا هـُهنا قا ِ‬
‫ت َوَرّب َ‬
‫ب َأْن َ‬
‫خَلها َأَبدًا ما داُموا ِفـيها َفاذَه ْ‬
‫ن َنْد ُ‬
‫ى ِإّنا َل ْ‬
‫المخزي بكل صراحة )قاُلوا يا ُموس ْ‬
‫‪.(2‬‬

‫‪ .1‬للوقوف على خطبة المام)عليه السلم( ليلة عاشوراء وما قاله صحبه الوفياء راجع بحار النوار ‪.392 / 44‬‬

‫‪ .2‬سورة المائدة ‪.24 /‬‬

‫] ‪[ 217‬‬

‫خي‬
‫سي َوَأ ِ‬
‫ل َنْف ِ‬
‫ب ِإّني ل َأْمِلك ُ ِإ ّ‬
‫ل َر ّ‬
‫ل أن أعلن موقفه منهم وانفصاله عنهم )قا َ‬
‫فما كان من موسى)عليه السلم( إ ّ‬
‫ن()‪.(1‬‬ ‫سِقـي َ‬
‫ن الَقْوِم الفا ِ‬
‫ق َبْيَننا َوَبْي َ‬
‫َفاْفُر ْ‬

‫عَلْيُكْم َمقاِمي‬
‫ن َكُبَر َ‬
‫ل ِلَقْوِمِه يا َقْوِم ِإن كا َ‬
‫عَلْيِهْم َنَبَأ ُنوح ِإذ قا َ‬
‫ل َ‬
‫وهذا هو موقف نبي ال نوح)عليه السلم( )َوا ْت ُ‬
‫ي َول‬
‫ضوا ِإَل ّ‬
‫غّمًة ُثّم اْق ُ‬
‫عَلْيُكْم ُ‬
‫ن َأْمُرُكْم َ‬
‫شَركاَءُكْم ُثّم ل َيُك ْ‬‫جِمُعوا َأْمَرُكْم َو ُ‬
‫ت َفَأ ْ‬
‫ل َتَوّكْل ُ‬
‫ل َفَعلى ا ّ‬
‫تا ّ‬
‫َوَتذِكـيِري ِبآيا ِ‬
‫ن()‪.(2‬‬ ‫ظُرو َ‬‫ُتْن ِ‬

‫ن لهذا الموقف الصادم الذي يتخذه الزعيم أثره الكبير في نفوس أتباعه‪ ،‬حيث يشعر الفراد بارتفاع‬
‫ول شك إ ّ‬
‫معنوياتهم وقوة شوكتهم إلى جانب عودة الضعفاء إلى الحق والشعور بالقوة والقتدار ويضطرها لتخاذ ذات‬
‫الموقف‪.‬‬
‫وأدنى معطيات ذلك الموقف أنه يشكل وثيقة تأريخية حية في سيرة هؤلء الزعماء البطال والذي يلهم الجيال‬
‫العزم والرادة والقوة‪ ،‬وهذا ما نلمسه بوضوح في الملحمة الحسينية في كربلء والتي مازالت تلهم المم‬
‫والشعوب كل عناصر القوة والقتدار في مواجهة الظلم والضطهاد والطغيان‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة المائدة ‪.25 /‬‬

‫‪ .2‬سورة يونس ‪.71 /‬‬

‫] ‪[ 218‬‬

‫] ‪[ 219‬‬

‫القسم الرابع‬

‫عَلْيُكْم َوَتْعِليُمُكْم‬
‫حُة َلُكْم‪َ ،‬وَتْوِفيُر َفْيِئُكْم َ‬
‫صي َ‬‫ي‪ :‬فالّن ِ‬ ‫عَل ّ‬
‫حّقُكْم َ‬
‫ق‪َ ،‬فَأّما َ‬‫حّ‬
‫ي َ‬‫عَل ّ‬
‫حّقا َوَلُكْم َ‬‫عَلْيُكْم َ‬
‫ن ِلي َ‬ ‫»َأّيها الّناس ِإ ّ‬
‫ب‪َ ،‬واِْلجاَبُة‬ ‫شَهِد َواْلَمِغي ِ‬ ‫حُة ِفي اْلَم ْ‬ ‫صي َ‬ ‫عَلْيُكْم‪ :‬فاْلَوفاُء ِباْلَبْيَعِة َوالّن ِ‬
‫حّقي َ‬
‫جَهُلوا‪َ ،‬وَتْأِديُبُكْم َكْيما َتْعَلُموا َوَأّما َ‬
‫َكْيل َت ْ‬
‫ن آُمُرُكْم«‪.‬‬‫حي َ‬‫طاعُة ِ‬ ‫عوُكْم َوال ّ‬ ‫ن َأْد ُ‬
‫حي َ‬
‫ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫حقي عليكم وحقكم علي‬

‫يختتم المام )عليه السلم( خطبته بالتعرض لهم القضايا المرتبطة بالحكومة والتي تكمن في حق المام على‬
‫لّمة على المام‪ ،‬فيوجزها بعبارات مقتضية عظيمة المعاني‪ ،‬حيث يشير إلى أربعة متبادلة لكل‬ ‫لّمة وحق ا ُ‬
‫اُ‬
‫لّمة على المام على العكس‪ ،‬أّنه مدعاة‬
‫لّمة‪ ،‬ومن شأن تقديم حقوق ا ُ‬‫منهما‪ .‬فقد تحدث بادى زي بدء عن حقوق ا ُ‬
‫للتأثير في نفوس السامعين‪ ،‬إلى جانب كشفه عن البعد الشعبي والجماهيري للحكومة السلمية‪ ،‬كما يفيد عمق‬
‫لّمة‬‫فارق هذه الحكومة مع الحكومات المستبدة الغاشمة والحكام الطغاة الذين يرون أنفسهم ما لكي رقاب ا ُ‬
‫فيعاملونها معاملة المالك والمملوك أو القطاع والمزارع‪.‬‬

‫ن لي عليكم حقًا‪ ،‬ولكم علي حق«‪.‬‬


‫فقد قال )عليه السلم(‪»:‬أيها الناس إ ّ‬

‫ل أّنه يفيد معنى جنس الحق الذي ينطوي على مفهوم عام‪ ،‬أما تنكيره فيشير إلى‬ ‫والحق وإن ذكر بصورة مفردة إ ّ‬
‫ن التيان بالنكرة قد يفيد التعظيم أحيانًا‪.‬‬
‫عظمة هذه الحقوق‪ ،‬ل ّ‬

‫لّمة فيقول »فأّما حقكم على‪ :‬فالنصحية لكم«‪.‬‬


‫فيتطرق المام )عليه السلم( إلى الحق الول ل ُ‬

‫النصيحية تعني الخلوص ومن هنا يصطلح على العسل الخالص بالناصح‪.‬‬
‫] ‪[ 220‬‬

‫كما وردت بمعنى الخياطة‪ ،‬ولذلك يطلق الناصح على الخياط‪ ،‬ثم اطلقت على كل عمل خير خالص خال من الغل‬
‫والغش‪.‬‬

‫لّمة والمام والّمة‪ ،‬حيث تتمتع بالشارة إلى أحد‬


‫وتستعمل هذه المفردة بشأن ال والنبي والقرآن وأفراد ا ُ‬
‫مصاديقها الواسعة حسب مقتضى الحال ومورد الستعمال‪.‬‬

‫ل النصيحة ل تعني العتقاد‬‫ن النصيحة تشتمل على معان متفرقة‪ ،‬فمث ً‬


‫وقد ورد في بعض المصادر اللغوية أ ّ‬
‫بوحدانيته واخلص النّية له في العبادة ونصرة الحق‪ ،‬والنصحية للقرآن تعني التصديق به والعمل بأحكامه‬
‫والدفاع عن آياته‪ ،‬تجاه تأويل الجهلء وتحريف الغلة‪ ،‬والنصحية للنبي هى التصديق بنبوته ورسالته وطاعة‬
‫أوامره‪.‬‬

‫لّمة من خلل‬ ‫ن المراد بالنصيحة في العبارة العمل من أجل الرتقاء بالجوانب المادية والمعنوية ل ُ‬
‫ومن هنا يبدو أ ّ‬
‫لّمة‪ ،‬وعليه فلبّد أن‬ ‫البرامج والمشاريع الصحيحية‪ ،‬حيث تشكل هذه المشاريع الخطوة الولى لتحقيق خير ا ُ‬
‫لّمة‬
‫يكون للمام والولي والزعيم مشروعًا صحيحًا وجامعًا يتضمن تأمين المصالح المادية والمعنوية لفراد ا ُ‬
‫ويأخذ بايديهم إلى الكمال المنشود‪.‬‬

‫والحق إن هذه المسألة لمن المسائد الحيوية المهّمة في عالمنا المعاصر والتي تحظى بأهمية فائقة‪ ،‬حيث يعتقد‬
‫أغلب العلماء والمنكرين أن العراقيل التي تنطوي عليها المسيرة الجتماعية إّنما أفرزتها بالدرجة الساس مشكلة‬
‫عدم وجود المشاريع والخطط الصحيحة‪.‬‬

‫ثم يشير )عليه السلم( إلى الحق الثاني ـ ذات الصلة بالجانب القتصادي ـ فيقول »وتوفير فيئكم عليكم‪«.‬‬

‫فالعدالة الجتماعية في المجال القتصادي تعد من أهم مشاكل المجتمعات البشرية‪ ،‬فأغلب الحروب والنزاعات‬
‫الدموية ومعظم المفاسد الجتماعية إّنما تعزى إلى تغييب العدالة الجتماعية‪.‬‬

‫ن إعادة المن والسلم والنظام والستقرار والوقوف بوجه المفاسد الخلقية ومختلف النحرافات إّنما‬ ‫ومن هنا فا ّ‬
‫تتطلب بادىء ذي بدء إحياء العدالة الجتماعية وتفعيلها في المجتمع‪.‬‬

‫ن المفردة »فيء« حسب أرباب اللغة أّنها العودة والرجوع إلى حالة الخير‬
‫وإستناد إلى أ ّ‬

‫] ‪[ 221‬‬

‫والحسان‪ ،‬فاّنها تطلق إيضًا على الظل حين يرجع من طرف الغرب إلى الشرق‪.‬‬

‫وتطلق هذه المفردة في اليات القرآنية والحاديث النبوية على الموال التي تصل المسلمين من الكفار‪ ،‬فقد تطلق‬
‫على الموال التي تصل دون القتال‪ ،‬وحتى على مثل هذه الموال والنفال التي تعني الثروات الطبيعية للحكومة‬
‫السلمية التي ليست لها ملكية شخصية‪.‬‬

‫ن وظيفة‬‫والفيئ في العبارات المذكورة تعني جميع أموال بيت المال‪ ،‬فقوله )عليه السلم( توفير فيئكم تعني أ ّ‬
‫لمور‬‫الحاكم السلمي تعني إداء الموال العامة إلى المحتاجين والمعوزين وأصحاب الحق‪ ،‬أي تنظيم ا ُ‬
‫لّمة أما الحق الثالث الذي أشار إليه المام )عليه السلم(فيرتبط بالتعليم والشؤون الثقافية‬
‫القتصادية والمعاشية ل ُ‬
‫»وتعليمكم كيل تجهلوا«‪.‬‬

‫لمية ويرفع المستوى الثقافي لدى‬


‫نعم فالمام لبّد أن يعتمد السلوب التعليمي الصحيح ويهب لمكافحة الجهل وا ُ‬
‫لّمة إلى التخلف والنحطاط‪ .‬وأّما الحق الرابع والخير فهو »وتأديبكم‬
‫الناس ويستأصل جذور الجهل التي تقود ا ُ‬
‫كيما تعلموا«‪.‬‬

‫لمة في أربع هى‪:‬‬


‫ن المام )عليه السلم( أوجز الحقوق المهّمة ل ُ‬
‫فالواقع أ ّ‬
‫‪1‬ـ المشاريع والخطط الصحيحة‬

‫‪2‬ـ العدالة الجتماعية في المجال القتصادي‬

‫‪3‬ـ التعليم‬

‫‪4‬ـ التربية والتهذيب والقضاء على الفساد الخلقي‬

‫ن المام عبر عن الحق الثالث بقوله »وتعليمكم كيل تجهلوا« والحق الرابع »وتأديبكم كيما‬
‫جدير بالذكر أ ّ‬
‫تعلموا«‪.‬‬

‫ن نتيجة التعليم هى العلم والمعرفة‪ ،‬بينما يقود التأديب إلى تربية الخصال الخلقية ل العلم والمعرفة‪ ،‬إ ّ‬
‫ل‬ ‫والحال أ ّ‬
‫ن مراد المام )عليه السلم(‪:‬‬ ‫أّ‬

‫لبّد أن تقفوا على آثار الفضائل وأضرار الرذائل‪ ،‬لتتحلوا بالولى وتواجهوا الثانية ـ فالحق الثالث يشير في‬
‫الواقع إلى العقل النظري بينما يشير الحق الرابع إلى العقل العملي ثم تطرق المام )عليه السلم( إلى حقوق المام‬
‫لخرى في أربع‬ ‫لّمة السلمية وأوجزها هى ا ُ‬‫على ا ُ‬

‫] ‪[ 222‬‬

‫فقال)عليه السلم(‪»:‬وأما حقي عليكم‪ :‬فالوفاء بالبيعة«‪.‬‬

‫ن المام والحاكم‬ ‫لّمة والمام; العهد الموثق الذي يجب العمل به‪ ،‬وعلى ضوء هذا العهد فا ّ‬ ‫والبيعة هى العهد بين ا ُ‬
‫لّمة‬
‫لّمة ويرسى دعائم المن والستقرار ويقاتل العدو ويمهد السبيل أمام ا ُ‬ ‫لبّد أن يأخذ بنظر العتبار مصالحة ا ُ‬
‫لّمة أن تشد أزره وتقف إلى جانبه وتتجنب كل ما من شأنه تشد أزره وتقف إلى‬ ‫للسمو والتكامل‪ ،‬كما يجب على ا ُ‬
‫جانبه وتتجنب كل ما من شأته المساس بهذا العهد والميثاق الحق الثاني الذي ذكره المام )عليه‬
‫السلم(‪»:‬والنصيحة في المشهد والمغيب« فل يكونوا منافقين يظهرون المحّبة والخلص في حضوره‪ ،‬فان‬
‫غاب عاثوا الفساد وسلكوا الخيانة‪.‬‬

‫ن ال حاضرا ل يخفى عليه شئ ول ينبغي أن يعيش المومن‬ ‫لأّ‬ ‫فقد ليكون المام حاضرًا بينهم على الدوام‪ ،‬إ ّ‬
‫الغفلة عن هذا المر أّما الحق الثالث الذي ذكره المام )عليه السلم(‪»:‬والجابة حين أدعوكم« فل ينبغي أن‬
‫تتعللوا ببعض الذرائع فرارًا من مواكبتي‪ ،‬لبّد أن تطيعوا أوامري وتقتفوا أثري‪ ،‬والحق الرابع والخير‬
‫ل أّنه ليطيع مايصدره من أوامر‪ ،‬وعليه فاجابة الدعوة‬
‫»والطاعة حين آمركم« فلعل البعض يلبي دعوة المام‪ ،‬إ ّ‬
‫لبّد أن تكلل بطاعة الوامر‪.‬‬

‫لّمة‪ ،‬وعليه فل ينبغي لهم أن يمنوا على‬


‫لّمة إّنما تعود بالنفع مباشرة على ا ُ‬
‫ن حقوق المام على ا ُ‬‫وبالطبع فا ّ‬
‫لّمة واعمار بلدها‪ .‬وقد‬
‫لّمة بانه يعتمد هذه الحقوق لعادة المن والستقرار إلى ا ُ‬ ‫المام‪ ،‬بل المام يمن على ا ُ‬
‫ن هذه الحقوق المتبادلة إّنما تختص بالمام العادل المنصوب من جانب ال‬ ‫صرح بعض شّراح نهج البلغة بأ ّ‬
‫ن لي عليكم حقًا«)‪.(1‬‬‫سبحانه‪ ،‬ل لكل إمام صالح كان أم طالح‪ ،‬ومن هنا قال المام)عليه السلم(‪» :‬إ ّ‬

‫ن عبارة المام شاملة عامة وهذا ما يفهم من قوله )عليه السلم(»لبّد الناس من أمير بر أو فاجر«)‪(2‬‬ ‫لكن يبدو أ ّ‬
‫لّمة‬
‫لّمة لبّد أن يحترم الحقوق الربع التي ينبغي أن تتمتع بها ا ُ‬
‫فكل من تزعم أمور المجتمع وأراد أن ينهض با ُ‬
‫والتي أشار إليها المام )عليه السلم( ويبدو أن العقل والمنطق يرشد إلى ما أورده المام )عليه السلم( في‬
‫الخطبة‪.‬‬

‫‪ .1‬مفتاح السعادة ‪ 84 / 6‬ـ ‪. 85‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.40‬‬


‫] ‪[ 223‬‬

‫تأّملن‬

‫‪1‬ـ الحقوق المتبادلة للمام واُلّمة‬

‫لّمة على غرار رابطة الرأس بالجسد‪ ،‬حيث يتعذر القيام بالوظائف دون تظافر‬ ‫ن الحكومة رابطة بين المام وا ُ‬‫إّ‬
‫ن أولياء ال في الوقت الذي يكوتون فيه خلفاء ال في الخلق‪ ،‬فهم خلفاء الُّمة من‬ ‫جميع الجهود‪ ،‬بعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫لّمة من أثقل الحقوق وأعظمها‪.‬‬‫أجل ضمان مصالحها‪ ،‬ومن هنا كانت الحقوق المتبادلة بين المام وا ُ‬

‫وقد وردت البحاث المسهبة في الروايات بشأن هذه الحقوق‪ ،‬والتي تفيد مدى إهتمام السلم بهذا الموضوع‬
‫الحيوي‪.‬‬

‫فقد افرد المرحوم الكليني بابًا في المجلد الول من كتابه أصول الكافي بهذا الخصوص وقد نقل أول حديث فيه‬
‫عن أبي حمزة انه سأل المام الباقر )عليه السلم(‪» :‬ما حق المام على الناس«؟‬

‫قال )عليه السلم(‪»:‬حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوه« قال فقلت له‪» :‬وما حقهم عليه«‪.‬‬

‫قال‪» :‬يقسم بينهم بالسوية ويعدل في الرعية«‪.‬‬

‫ول يستبعد أن تكون الجملة الولى إشارة إلى المسائل القتصادية والثانية إلى القضايا الجتماعية والسياسية‪ .‬ثم‬
‫قال )عليه السلم(آخر الحديث‪»:‬فاذا كان ذاك في الناس فل يبالي من أخذ هاهنا وهاهنا«)‪ (1‬في إشارة إلى أ ّ‬
‫ن‬
‫الناس على كل حال إّنما يحصلون على حقهم‪ .‬سواء كان مصداقه هنا أم هناك‪.‬‬

‫حقًا أن سيرة أمير المؤمنين )عليه السلم( انموذج مهم لبّد من اعتماده كقدوة في الحكومة السلمية‪ .‬فقد كان‬
‫)عليه السلم( شديدًا في أمر العدالة حتى وقف نفسه وضحى بها من أجلها‪ .‬قال ابن أبي الحديد ‪:‬‬

‫جعد‪ ،‬قال‪ :‬آكُد السباب في تقاعد العرب عن‬


‫روى على بن محمد بن أبي يوسف المداّئني عن فضيل بن ال ْ‬
‫ى‪ ،‬ول ُيصانع‬
‫جم ّ‬
‫عَ‬
‫ل شريفًا على مشروف‪ ،‬ول عربّيا على َ‬ ‫ضُ‬‫ن ُيَف ّ‬
‫أميرالمؤمنين عليه السلم أْمر المال‪ ،‬فإّنه لم يُك ْ‬
‫ل أحدًا إلى نفسه‪ .‬وكان معاوية بخلف ذلك‪ ،‬فترك الناس‬ ‫الرؤساء وأمراء القبائل‪ ،‬كما يصنع الملوك‪ ،‬ول يستمي ُ‬
‫عليًا والتحقوا بمعاوية; فشكى على‬

‫‪ .1‬اصول الكافى ‪.405 / 1‬‬

‫] ‪[ 224‬‬

‫ل أصحابه‪ ،‬وفرار بعضهم إلى معاوية‪ ،‬فقال الشتر‪ :‬يا أميرالمؤمنين; إنا قاتلنا أهل‬ ‫عليه السلم إلى الشتر تخاُذ َ‬
‫ل العدد‪ ،‬وأنت‬ ‫ل البصرة وأهل الكوفة‪ ،‬ورأي الناس واحد‪ ،‬وقد اختلفوا بعد‪ ،‬و وضعفت النّية‪ ،‬وق ً‬ ‫صرة بأه ِ‬‫الَب ْ‬
‫ل منزلة على‬ ‫ضُ‬‫صف الوضيع من الشريف; فليس للشريف عندك َف ْ‬ ‫خُذهم بالعدل‪ ،‬وتعمل فيهم بالحق‪ ،‬وُتْن ِ‬ ‫تأ ُ‬
‫عّموا به‪ ،‬واغتّموامن العدل إذ صاروا فيه‪ ،‬ورأوا صنائَع معاوية‬ ‫ق إذ ُ‬
‫جت طائفة مّمن معك من الح ّ‬ ‫الوضيع‪ ،‬فض ّ‬
‫جتوي الح ّ‬
‫ق‬ ‫ن ليس للدنيا بصاحب‪ ،‬وأكثرهم َي ْ‬ ‫ل َم ْ‬
‫ت أنُفس الّناس إلى الدنيا‪ ،‬وَق ّ‬ ‫عند أهل الَغناء والشرف‪ ،‬فتاَق ْ‬
‫صف نصيحُتهم لك‪،‬‬ ‫ق الرجال‪ ،‬وَت ْ‬
‫ل إليك أعنا ُ‬
‫ل المال يا أميَرالمؤمنين َتِم ْ‬ ‫ويشتري الباطل‪ ،‬ويؤثر الدنيا‪ ،‬فإن َتْبُذ ِ‬
‫شّتت أموَرهم‪ ،‬إّنه‬ ‫ض جمعهم‪ ،‬أوهن كيَدهم‪ ،‬و َ‬ ‫ت أعداءك‪ ،‬وف ّ‬ ‫ل لك يا أميرالمؤمنين! وَكب َ‬ ‫ص ُوّدهم; صنع ا ّ‬
‫خِل ْ‬‫سَت ْ‬
‫وَت ْ‬
‫بما يعملون خبير‪.‬‬

‫سِه‬
‫ل صاِلحاً َفِلَنْف ِ‬
‫عِم َ‬
‫ن َ‬
‫ل يقول‪َ) :‬م ْ‬
‫ل عّزوج ّ‬
‫نا ّ‬‫سيرتنا بالَعْدل; فإ ّ‬
‫عَملنا و ِ‬
‫ي عليه السلم‪ :‬أّما ما ذكرت من َ‬ ‫فقال عل ّ‬
‫ف‪.‬‬
‫خَو ُ‬
‫تأ ْ‬
‫صرًا فيما ذكر َ‬
‫لم ِلْلَعِبيِد(; وأنا من أن أكون ُمَق ّ‬
‫ظـ ّ‬
‫ك ِب َ‬
‫ن َأساَء َفَعَلْيها َوما َرّب َ‬
‫َوَم ْ‬
‫جاوا إذ فارقونا‬
‫جْور‪ ،‬ول ل ُ‬
‫ل أّنهم لم ُيفارقونا من َ‬ ‫ن الحق َثُقل عليهم ففارقونا لذلك‪ ،‬فقد علم ا ّ‬ ‫وأما ما ذكرت من أ ً‬
‫ل عملوا؟‬ ‫ن يوم القيامة‪ :‬أللدنيا أرادوا أم ّ‬
‫سَأُل ّ‬
‫ل دنيا زائلة عنهم كان قد فارقوها; َوَلُي ْ‬
‫عْدل‪ ،‬ولم يلتمسوا إ ّ‬
‫إلى َ‬

‫ي أمرًا من الفىء أكثَر من حّقه‪ ،‬وقد قال‬ ‫سُعنا أن نؤت َ‬ ‫ت من َبْذل الموال واصطناع الرجال; فإّنه ل َي َ‬ ‫وأّما َما ذكْر َ‬
‫ن(‪ ،‬وقد بعث ا ّ‬
‫ل‬ ‫صابِري َ‬
‫ل َمَع ال ّ‬‫ل َوا ّ‬
‫نا ّ‬ ‫ت ِفَئًة َكِثـيَرًة ِبِإذ ِ‬
‫غَلَب ْ‬
‫ن ِفَئة َقِلـيَلة َ‬
‫ل سبحانه وتعالى وقوله الحق‪َ) :‬كْم ِم ْ‬ ‫ا ّ‬
‫صْعَبه‪،‬‬
‫ن يوِلَينا هذا المَر يذّلل لنا َ‬
‫لأ ْ‬‫ن ُيِرِد ا ّ‬
‫عّز فئته بعد الّذّلة; وِإ ْ‬ ‫حَده; فكّثره بعد القلة‪ ،‬وأ َ‬ ‫ل عليه و ْ‬‫محّمدا صلى ا ّ‬
‫حهم لي‪ ،‬أْوَثِقهم‬
‫ل رضًا; وأنت من آمن الناس عندي‪ ،‬وأنص ِ‬ ‫ل عّزوج ّ‬ ‫حْزنه‪ ،‬وأنا قابل من رأيك ما كان ّ‬ ‫سّهل لنا َ‬
‫وُي ِ‬
‫ل‪.‬‬
‫ن شاء ا ّ‬ ‫في نفسي إ ْ‬

‫‪2‬ـ تعارض الحق والمصلحة!‬

‫عادة ما يحدث تعارض بين الحق والمصلحة ليكون أحدهما مقابل الخر‪ .‬وغالبًا ما يميل‬

‫] ‪[ 225‬‬

‫ساسة الدنيا في هذه الحالة إلى المصلحة ويقدمونها على الحق‪ .‬والتأريخ مليىء بنماذج هذا التعارض وما أكثره‬
‫في عصرنا الراهن حيث نشاهده كل يوم ـ أما أولياء ال والقادة الربانيين فهم ل يترددون في إيثار الحق‪ .‬وفي‬
‫مقدمتهم أميرالمؤمنين علي)عليه السلم( الذي سلك الحق مع أعدائه فضل عن أصحابه فقد قيل بأن العدل في‬
‫تقسيم بيت المال حقًا لكنه ل يتفق مع المصلحة ولبد من تقديم الشراف والثرياء على غيرهم في مقابل الحد من‬
‫ق على صحبه وإنفرجوا عنه‬ ‫سهم الضعفاء‪ ،‬بينما كان المام)عليه السلم( ل يتهاون في إجراء العدل وإن ش ّ‬
‫وإلتحقوا بعدوه‪ ،‬ولعلنا نلمس ذلك في هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلغة‪ .‬ولعل أغلب هذه المشاكل لم تكن‬
‫لتظهر على السطح لو تسلم المام)عليه السلم( ذمام المور بعد رحيل رسول ال)صلى ال عليه وآله( كما أمر‬
‫ال ورسوله بذلك‪ ،‬إل أن قضية التمييز في العطاء قد ظهرت على عهد الخلفاء وبلغت ذروتها على عهد عثمان‬
‫الذي كان ينفق المال على بطانته وقرابته دون حساب‪ ،‬حتى طبعوا على هذه المتيازات فصعب إعادتهم إلى‬
‫الحق وجادة الصواب‪ .‬أضف إلى ذلك فإن إزدياد حجم الغنائم وكثرة أموال بيت المال هى الخرى كانت سببًا لن‬
‫يضحي البعض كطلحة والزبير ـ وهما من السابقين إلى السلم وصحابة رسول ال)صلى ال عليه وآله( ـ بالحق‬
‫من أجل مصالحهم الشخصية‪ ،‬ومن هنا تعقدت المشاكل التي إعترضت حكومة المام)عليه السلم( ـ إل أن‬
‫أميرالمؤمنين)عليه السلم( ورغم علمه بظهور ما ل يحصى من المشاكل إن هو آشر الحق على المصلحة‪ ،‬لكنه‬
‫لم يتخل عن سياسته المعهودة لعلمه بأن الهزيمة والخذلن تكمنان في إيثار المصلحة على الحق‪ ،‬ناهيك عن كون‬
‫نفس هذا اليثار يعني تعطيل أحد القيم السلمية‪ ،‬في حين إحياؤها ونقلها للجيال المستقبلية يفوق أهمية تحقيق‬
‫بعض النتصارات الوقتية ولعل هذا المر يشكل ردا على أكثر السئلة التي تطرح بشأن حكومة علي)عليه‬
‫السلم( ـ وهذا ما سنتحدث عنه في حينه في البحاث القادمة إن شاء ال‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 226‬‬

‫] ‪[ 227‬‬

‫الخطبة)‪35 (1‬‬
‫ومن خطبة له )عليه السلم(‬

‫بعد التحكيم وما بلغه من أمر الحكمين وفيها حمد ال على بلئه‪ ،‬ثم بيان سبب البلوى‪.‬‬

‫جِليِل‪.‬‬
‫ث اْل َ‬
‫حَد ِ‬
‫ح َواْل َ‬
‫ب اْلفاِد ِ‬
‫ط ِ‬
‫خْ‬‫ن َأَتى الّدْهُر ِباْل َ‬
‫ل َوِإ ْ‬
‫حْمُد ِّ‬
‫»اْل َ‬

‫صَيَة‬
‫ن َمْع ِ‬
‫سوُلُه‪َ .‬أّما َبْعُد‪َ ،‬فِإ ّ‬
‫عْبُدُه َوَر ُ‬
‫حّمدًا َ‬ ‫ن ُم َ‬
‫غْيُرُه َوَأ ّ‬
‫س َمَعُه ِإَلٌه َ‬‫ك َلُه‪َ ،‬لْي َ‬‫شِري َ‬‫لل َ‬ ‫ن ل ِإَلَه ِإّل ا ّ‬‫شَهُد َأ ْ‬
‫َوَأ ْ‬
‫خْل ُ‬
‫ت‬ ‫حُكوَمِة َأْمِري‪َ ،‬وَن َ‬ ‫ت َأَمْرُتُكْم ِفي َهِذِه اْل ُ‬
‫ب الّنداَمَة‪َ .‬وَقْد ُكْن ُ‬ ‫سَرَة‪َ ،‬وُتْعِق ُ‬ ‫ح ْ‬
‫ث اْل َ‬
‫ب ُتوِر ُ‬ ‫جّر ِ‬ ‫ق اْلَعاِلِم اْلُم َ‬
‫شِفي ِ‬
‫ح ال ّ‬‫الّناص ِ‬
‫صير َأْمٌر!‬ ‫ع ِلَق ِ‬‫طا ُ‬
‫ن ُي َ‬‫ن َرْأِيي‪َ ،‬لْو َكا َ‬ ‫خُزو َ‬ ‫َلُكْم َم ْ‬

‫ت َأنا‬
‫حِه‪َ ،‬فُكْن ُ‬
‫ن الّزْنُد ِبَقْد ِ‬
‫ضّ‬‫حِه‪َ ،‬و َ‬
‫صِ‬‫ح ِبُن ْ‬
‫ب الّناص ُ‬
‫حّتى اْرَتا َ‬
‫صاِة َ‬
‫ن اْلُع َ‬
‫جَفاِة‪َ ،‬واْلُمَناِبِذي َ‬
‫ن اْل ُ‬
‫خاِلِفي َ‬
‫ي ِإَباَء اْلُم َ‬
‫عَل ّ‬
‫َفَأَبْيُتْم َ‬
‫ن‪:‬‬
‫خو َهواِز َ‬ ‫َوِإّياكْم َكما قاَل َأ ُ‬

‫حى اْلَغِد«‬
‫ضَ‬
‫ل ُ‬
‫ح ِإ ّ‬
‫صَ‬
‫سَتِبيُنوا الّن ْ‬
‫ج الّلَوى *** َفَلْم َت ْ‬
‫َأَمْرُتُكْم َأْمِري ِبُمْنَعَر ِ‬

‫—–‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫كما ذكرنا سابقا فقد أورد المام)عليه السلم( هذه الخطبة بعد إنتهاء قضية التحكيم‪ .‬فقد كانت نتيجة‬

‫‪ .1‬وردت هذه الخطبة مع اختلف طفيف في مروج الذهب للمسعودي والكامل لبن أثير وأنساب الشراف للبلذري وتاريخ الطبري‬
‫والمامة والسياسة لبن قتيبة الدينوري وصفين لنصر بن مزاحم‪ ،‬كما رواها البسط بن الجوزي في تذكرة الخواص وأبوالفرج‬
‫الصفهاني في الغاني )مصادر نهج البلغة‪.(459 / 1 ،‬‬

‫] ‪[ 228‬‬

‫التحكيم شاقة على العالم السلمي‪ .‬وقد دلت على أن المام)عليه السلم( نهى عن التحكيم وحث على مواصلة‬
‫القتال خشية تلك النتيجة ـ ومن هنا شّدد المام)عليه السلم( في ذمه لهل الكوفة وحملهم مسؤولية تلك النتيجة‬
‫بسبب تمردهم وعدم طاعتهم‪.‬‬

‫الشرح والتفسير‬

‫نتيجة العصيان‬
‫خطب المام )عليه السلم( هذه الخطبة في ظل ظروف عصيبة ومأساة عظيمة‪ ،‬فقد أثمرت مؤامرة معاوية‬
‫وعمرو بن العاص إثر استغلل جهل أبو موسى الشعري ومن وقف إلى جانبه‪ ،‬فقد تمكن ابن العاص من حسم‬
‫التحكيم لصالحه‪ ،‬ظانًا أّنه عزل المام علي )عليه السلم( عن الخلفة ونصب معاوية مكانه!‬

‫طبعًا المام )عليه السلم( كان قد شعر ببالغ السى والحزن لّنه تكهن بهذه النتيجة وقد أطلع أهل الكوفة عليها‪،‬‬
‫ن الجهل والعصبية والنانية والتخاذل حال دون التعاظ بإرشادات المام )عليه السلم( ومواعظه الحكيمة‪.‬‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬

‫على كل حال إستهل المام )عليه السلم( الخطبة ـ كما درج عليه في سائر الخطب ـ بحمد ال والثناء عليه‪ ،‬الحمد‬
‫والثناء الذي يستبطن نكهة خاصة‪ ،‬فقد أورده المام )عليه السلم(حتى في ظل هذه الحادثة الليمة والبلء العظيم‬
‫»الحمد ل وإن أتى الدهر بالخطب )‪ (1‬الفادح )‪ (2‬والحدث الجليل«‪.‬‬

‫ل والثناء عليه ل يقتصر على‬ ‫ن حمد ا ّ‬


‫ل يحمد ال على هذه الحادثة ليعلم أ ّ‬
‫ن المام )عليه السلم( أو ً‬
‫فالطريف أ ّ‬
‫الحوادث المسرة والتوفيقات والنجاحات والفيوضات المعنوية والمادية‪ ،‬بل يجب حمده على كل حال في السراء‬
‫والضراء والعافية والبلء والغلبة والفشل‪ ،‬حتى الحوادث المريرة تشتمل على فلسفة لو سبر غورها لتبّين أّنها‬
‫جزء من النعم اللهية‪.‬‬

‫‪» .1‬خطب« على وزن ختم العمل المهم بين النسان والخرين ومن هنا يصطلح بالمخاطبة على الحوار الذي يدور بين فرد وآخر‪.‬‬

‫‪» .2‬فادح« بمعنى ثقيل ومن هنا يقال أفدحه الدين لمن أثقل كاهله‪.‬‬

‫] ‪[ 229‬‬

‫ل فبزوغ الشمس والقمر‬


‫ثانيًا‪ :‬أّنه ينسب هذه الحادثة المريرة إلى الدهر‪ ،‬ونعلم أن الدهر ليعني سوى أهله‪ ،‬وإ ّ‬
‫وهطول المطر وهبوب الرياح وسائر الظواهر الطبيعية ليست على شئ حتى تخلق مثل هذه الحوادث فالناس‬
‫وبفعل أعمالهم الشائنة هم الذين يكونون السبب لمثل هذه الحوادث!‬

‫ن هذه الحادثة لم تكن لتقع لوطاع أهل العراق المام )عليه السلم(والتفتوا إلى تحذيراته واتعظوا‬
‫ول شك إ ّ‬
‫بنصائحه‪ .‬والمراد بالخطبب الفادح قضية التحكيم التي جرت الويلت على العالم السلمي‪.‬‬

‫ن قضية التحكيم ـ كما سيمر علينا في البحث القادم ـ لم تغير من حقيقة المر شيئًا‪ ،‬ال أّنها كانت ذريعة‬
‫صحيح أ ّ‬
‫كبرى لمعاوية ورهطه من أجل إغواء الجهال وتحريف الفكار‪ ،‬كما أدت إلى ظهور البدع في العالم السلمي‪.‬‬

‫وقوله)عليه السلم( »حدث جليل« هو تأكيد آخر لثار السوء لتلك البدعة المشؤومة‪.‬‬

‫ثم يردف )عليه السلم( الحمد والثناء بالشهادة ل بالوحدانية ولمحمد )صلى ال عليه وآله(بالعبودية والنبوة‬
‫ن محّمدا عبده ورسوله« فالتيان بالشهادتين في‬
‫ل ال ل شريك له‪ ،‬ليس معه إله غيره‪ ،‬وأ ّ‬ ‫»وأشهد أن ل اله إ ّ‬
‫مطلع الخطبة وأن تضمن التأكيد من جديد على لزوم تقوية دعائم التكامل النساني وإحياء الصول العقائدية‬
‫لّمة قد جاوزت أصل التوحيد واتجهت صوب أفعال‬ ‫ل أن يشير إلى قضية الحكمين‪ ،‬وذلك أن ا ُ‬ ‫السلمية‪ ،‬إ ّ‬
‫الشرك وتجاهلت التأسي برسول ال)صلى ال عليه وآله( فاستسلمت لهوائها‪.‬‬

‫ثم تطرق )عليه السلم( إلى الهدف الصلي من الخطبة »أما بعد‪ ،‬فان معصية الناصح الشفيق العالم المجرب)‪(1‬‬
‫ن المستشار إذا تحلى بأربع صفات‬
‫تورث الحسرة وتعقب الندامة«‪ .‬فالعبارة بمنزلة الكبرى وبيان قاعدة كلية في أ ّ‬
‫ن مخالفته توجب الندامة والحسرة ل محالة‪ .‬الولى صفة النصح وارادة الخير ومقتضى ذلك السعي لحقاق‬ ‫فا ّ‬
‫الحق‪.‬‬

‫الثانية القلب المفعم بالعطوفة والرأفة والحب وإرادة السعادة والخير النابعة من أعماق‬

‫ن العرب تلفظه مجرب بالفتح على وزن مقرب‪.‬‬


‫‪» .1‬مجرب« على وزن محقق ممن يتمتع بمعرفة عظيمة بفعل كثرة التجارب إّل أ ّ‬
‫] ‪[ 230‬‬

‫القلب لمن يطلب الستشارة‪ .‬الثالثة العلم والوقوف على كافة جوانب المر وتحليل جميع الملبسات ودراسة‬
‫الحوادث والنتائج المتمخضة عنها الرابعة التجربة الكافية في القضايا الفردية والجتماعية المهمة; أي التحلي‬
‫بالعقل العملي إلى جانب العقل النظري فاذا كان هنالك مثل هذا الفرد يتمتع بمثل هذه الصفات فاّنه يبلغ بالنسان‬
‫ن مخالفته لتقود سوى إلى الحيرة والضلل والندم والخسران الذي يفرزه الجهل‬ ‫واقع المر ل محالة‪ ،‬كما أ ّ‬
‫والغرور‪.‬‬

‫ن يفرغ المام )عليه السلم( من بيان الكبرى )القاعدة الكلية( حتى يتطرق إلى الصغرى والمصداق‬
‫وما إ ّ‬
‫المطلوب فيقول »وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري‪ ،‬ونخلت )‪ (1‬لكم مخزون رأيى‪ ،‬لو كان يطاع لقصير‬
‫أمرا!« فقد كشف المام )عليه السلم( عن مخالفته لصل التحكيم فضل عن كيفيته والطريقة التي تم فيها‪.‬‬

‫ن تعصبهم ولجاجتهم حالت دون سماعهم لرأى المام )عليه‬‫لأّ‬‫ولقد أخيرهم عن آثار هذه القضية المشؤومة‪ ،‬إ ّ‬
‫السلم( فاصروا على باطلهم والن يجنون ثمار جهلهم والعبارة »لو كان يطاع لقصير أمر« مثل مشهور عند‬
‫العرب‪ ،‬فهو قصير صاحب جذيمة‪ ،‬وحديثه مع جذيمة ومع الزياء مشهور فضرب المثل لكل ناصح يعصى‬
‫بقصير‪ ،‬ويطلق على الفراد الذين ليصغون إلى الناصح المجرب الشفيق والذي ل يعقب سوى الندم‪.‬‬

‫فالمام )عليه السلم( يشبه نفسه بقصير وأهل الكوفة بجزيمة الجاهل ومستشاريه البلهاء‪ ،‬حتى وقعوا في شباك‬
‫عمرو بن العاص ومعاوية‪ .‬ثم قال )عليه السلم(‪» :‬فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة والمنابذين)‪ (2‬العصاة‪ ،‬حتى‬
‫إرتاب الناصح بنصحه‪ ،‬وضن)‪ (3‬الزند)‪ (4‬بقدحه)‪.«(5‬‬

‫ن رفع المصاحف على الحراب مكر وخديعة‪ ،‬فقد بلغ القتال مرحلة‬
‫لقد حذرتكم من أ ّ‬

‫‪» .1‬نخلت« من مادة »نخل« بمعنى تنقية الشئى‪ ،‬واستعمال هذه المفردة في الخطبة تشير إلى الرأي الصائب الذي طرحه المام‬
‫)عليه السلم( على أصحابه بشأن التحكيم‪.‬‬

‫‪» .3‬ضن« من مادة »ضنن« بمعنى البخل والمساك‪.‬‬

‫‪» .4‬زند« بمعنى الخشب الذي يشعلون به النار )حيث كانوا يولدون النار سابقا بضرب خشبتين ببعضهما‪ ،‬ثم‬
‫اطلق على كل وسيلة لشعال النار ومنه الزناد‪.(.‬‬

‫‪» .5‬قدح« ومنه القداحة ما يخرج منه النار‪.‬‬

‫] ‪[ 231‬‬

‫ل أّنكم لم تسمعوا كلمي وتركتم القتال وإذ عنتم للتحكيم‪.‬‬


‫خطيرة وأو شك على نهايته وقد لحت بوادر النصر‪ ،‬إ ّ‬
‫وقد قلت لكم إن كان ولبّد فابعثوا ابن عباس حكما‪ ،‬فلم تقبلوا‪ ،‬ثم أشرت عليكم بما لك الشتر فلم تستجيبوا وأبيتم‬
‫ل أبي موسى الشعري الحمق الجاهل الذي ليقوى على ابن العاص فلم تكن النتيجة سوى خيبتكم وخسرانكم‬ ‫إّ‬
‫وندمكم)‪.(1‬‬

‫والعبارة »المخالفين الجهاة« ان مخالفتكم لي لم تقتصر على سوء تشخيصكم‪ ،‬بل كان ذلك بدافع من جفائكم‬
‫وعصيانكم وطغيانكم‪ .‬وقد أكد هذا المعنى بقوله »المنابذين العصاة«‪.‬‬

‫وأّما قوله »ضمن الزند بقدحه« فهو مثل أيضًا يقال لمن يكف عن الفصاح بالحقايق لعدم وجود من يسمع‪ ،‬فقد‬
‫ن النصح الذي نصحتكم به غير نصح‪ ،‬ل طباقكم واجماعكم على‬ ‫إراد )عليه السلم( خالفتموني حتى ظننت أ ّ‬
‫خلفي‪ ،‬وتعني العبارة الخيرة أّنه لم يقدح لي بعد ذلك رأي صالح لشدة ما لقيت منكم من الباء والخلف‬
‫والعصيان‪ .‬ثم قال )عليه السلم( فكنت وإياكم كما قال أخو هوازن‪:‬‬

‫ل ضحى الغد‬
‫أمرتكم أمري بمنعرج اللوى *** فلم تستبينوا النصح إ ّ‬
‫وأخو هوازن صاحب الشعر هو دريد بن الصمة‪ ،‬وأبياته مذكورة في الحماسة‪ .‬وكان من خير هذا الشعر أنّ‬
‫عبدال وهو اسم أخر لعارض وهو أخو دريد ـ كان أسود إخوته‪ ،‬فغزا ببني جشم وبني نصر إبني معاوية بن بكر‬
‫ن غطفان ليست بغافلة عنا‪ ،‬فحلف‬ ‫ل عظيمًا بمنعرج اللوى ; فمنعه دريد عن اللبث‪ ،‬وقال‪ :‬إ ّ‬
‫بن هوازن; وغنم ما ً‬
‫أّنه ليريم حتى يقسم‪ ،‬وأوقعوا بعبدال وقتلوه فهرب دريد بعد أن نجى منهم‪ ،‬فانشد هذا البيت الذي إستشهد به‬
‫المام )عليه السلم(في الخطبة)‪.(2‬‬

‫‪ .1‬راجع مروج الذهب ‪ 290/ 2‬وسترد بعض اليضاحات لهذه الخطبة لحقًا‪.‬‬

‫لمة الخوئي ‪ ، 88/ 4‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.205 / 2‬‬
‫‪ .2‬الغاني لبى الفرج الصفهانى ‪ ،3/ 10‬شرح نهج البلغة للع ّ‬

‫] ‪[ 232‬‬

‫تأّملن‬

‫‪1‬ـ قصة التحكيم‬

‫إن الذي دعا إليه طلب أهل الشام له وإعتصامهم به من سيوف أهل العراق‪ ،‬فقد كانت أمارات القهر والغلبة‬
‫لحت‪ ،‬ودلئل النصر والظفر وضحت‪ .‬وفي هذه الثناء رفع أهل الشام المصاحف على الرماح‪ .‬فسأل مالك‬
‫المام)عليه السلم( مواصلة القتال‪ .‬فقام الشعث بن قيس مغضبًا فقال‪ :‬يا أميرالمؤمنين أجب القوم إلى كتاب ال‬
‫فإنك أحق به منهم‪ ،‬وقد أحب الناس البقاء وكرهوا القتال ـ فقال)عليه السلم(‪ :‬هذا أمر ينظر فيه‪.‬‬

‫فنادى الناس من كل جانب‪ :‬الموادعة‪ .‬فقال)عليه السلم(‪ :‬أيها الناس إني أحق من أجاب إلى كتاب ال‪ ،‬ولكن‬
‫معاوية وعمرو بن العاص وصحبهم ليسوا بأصحاب دين ول قرآن‪ ،‬إني أعرف بهم منكم‪ ،‬صحبتهم صغارًا‬
‫ورجال‪ ،‬فكانوا شر صغار وشر رجال‪ ،‬ويحكم إنها كلمة حق يراد بها باطل‪ ،‬إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها‬
‫ويعملون بها‪ ،‬ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة‪ ،‬أعيروني سواعدكم وجماجكم ساعة واحدة‪ ،‬فقد بلغ الحق مقطعه‪،‬‬
‫ولم يبق إل أن يقطع داير الذين ظلموا‪ .‬فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد‪ ،‬شاكي سيوفهم‬
‫على عواتقهم وقد اسودت جباههم من السجود فنادوه باسمه ل بأمير المؤمنين‪ :‬يا علي أجب القوم إلى كتاب ال إذا‬
‫دعيت إليه‪ ،‬وإل قتلناك كما قتلنا ابن عفان‪ ،‬فوال لنفعلنها إن لم تجبهم‪ .‬فقال لهم‪ :‬ويحكم أنا أول من دعا إلى كتاب‬
‫ال‪ ،‬وأول من أجاب إليه‪ .‬إني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن‪ ،‬فإنهم قد عصوا ال فيما أمرهم‪ ،‬ونقضوا عهده‪،‬‬
‫ونبذوا كتابه‪ ،‬ولكني أعلمتكم أنهم قد كادوكم‪ ،‬وإنهم ليس العمل بالقرآن يريدون‪ .‬قالوا‪ :‬فإبعث إلى الشتر ليأتينك ـ‬
‫فقال الشتهر‪ :‬قل لعلي)عليه السلم(ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي‪ .‬فارتفع وهج القوم‬
‫وعلت الصوات وقالوا لعلي)عليه السلم(‪ :‬وال ما نراك أمرته إل بالقتال‪ ،‬فابعث إليه يأتيك وإل فوال إعتزلناك‪.‬‬
‫فبعث له المام)عليه السلم( ثانية‪ .‬فقال الشتر‪ :‬أبرفع هذه المصاحف؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬ألترى إلى الفتح‪ .‬ثم أقبل‬
‫الشتر حتى إنتهى إليهم فصاح فيهم أمهلوني فواقا فإني قد أحسست بالفتح‪ .‬فلم يجيبوه‪ .‬فلما إنتهى المر إلى‬
‫الحكمين قال)عليه السلم( هذا إبن عباس أولّيه ذلك فهو لبن العاص‪ .‬فلم يوافق الشعث ورهطه‪ .‬فقال)عليه‬
‫السلم(‪ :‬فإني أجعل الشتر‪ .‬فقال الشعث‪:‬‬

‫] ‪[ 233‬‬

‫وهل سعّر الرض علينا إل الشتر‪ .‬ثم إضطر المام)عليه السلم( لقبول أبوموسى‪ .‬فاتفق معه عمرو بن العاص‬
‫على أن يخلع كل صاحبه ويدعون الناس للشورى‪ .‬فتقدم أبوموسى ثم قال‪ :‬أيها الناس أجمع رأيي ورأي صاحبي‬
‫ي ومعاوية ويكون المر شورى بين المسلمين‪ .‬فقام عمرو بن العاص وقال‪ :‬إن هذا قد قال ما سمعتم‬
‫على خلع عل ّ‬
‫وخلع صاحبه‪ ،‬وأنا أخلعه كما خلعه‪ ،‬وأثبت صاحبي معاوية في الخلفة‪ ،‬فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق‬
‫الناس بمقامه‪(1).‬‬
‫‪2‬ـ الستفادة من آراء الخرين‬

‫ن الشورى تشكل أحد ُاسس التعاليم السلمية التي حظت بأهمية فائقة في اليات القرآنية والروايات‬ ‫لشك أ ّ‬
‫ن المشورة من علمات اليمان‪ ،‬ويجعلها في مصاف الصلة والزكاة ـ التي تعد من‬ ‫والخبار‪ .‬فالقرآن يرى أ ّ‬
‫ن(‪(2).‬‬
‫شورى َبْيَنُهْم َوِمّما َرَزْقناُهْم ُيْنِفُقو َ‬
‫صلَة َوُأْمُرُهْم ُ‬
‫سَتجاُبوا ِلَرّبِهْم َوَأقاُموا ال ّ‬
‫نا ْ‬‫أركان السلم ـ )واّلِذي َ‬

‫لمور المهمة‪ ،‬رغم إّتصال رسول ال)صلى ال عليه وآله(‬ ‫كما أمر ال سبحانه صراحة باستشارة المؤمنين في ا ُ‬
‫لْمِر()‪ (3‬والمهم في قضية المشورة إنتخاب المستشار الذي يتحلى‬‫بالوحي وكونه العقل الكامل )َوشاِوْرُهْم ِفي ا َ‬
‫ببعض خصائص الصفات التي وردت في الخطبة التي نحن بصددها‪» :‬الناصح الشفيق العالم المجرب« ‪ ،‬والحق‬
‫ن مخالفة الفرد الذي يتصف بهذه الصفات ل تفضي سوى إلى الحسرة والندامة‪.‬‬ ‫أّ‬

‫ن المام )عليه السلم( أبدى رأيه الذي‬


‫لأّ‬
‫ن المتعصبين في صفين لم يستشيروا المام )عليه السلم( إ ّ‬ ‫صحيح أ ّ‬
‫لسف الشديد لم يستجيبوا لرأى المام)عليه السلم( وهبوا‬‫ل أّنهم ول ِ‬
‫يمثل رأي الناصح الشقيق والعالم المجرب‪ ،‬إ ّ‬
‫لمجابهته وهددوه بالقتل‪ ،‬فلم تتمخض النتيجة سوى عن ندمهم التاريخي الذي جر الويلت على العالم السلمي‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬إقتباس وتلخيص لما ورد في شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 2/206‬ـ ‪.256‬‬

‫‪ .2‬سورة الشورى ‪38 /‬‬

‫‪ .3‬سورة آل عمران ‪.159 /‬‬

‫] ‪[ 234‬‬

‫] ‪[ 235‬‬

‫الخطبة)‪36 (1‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫في تخويف أهل النهروان‬


‫سْلطان‬ ‫ن َرّبُكْم‪َ ،‬ول ُ‬ ‫غْيِر َبّيَنة ِم ْ‬‫عَلى َ‬ ‫ط‪َ ،‬‬ ‫ضاِم َهَذا اْلغاِئ ِ‬
‫عى ِبَأْثَناِء َهَذا الّنَهِر‪َ ،‬وِبَأْه َ‬ ‫صْر َ‬ ‫حوا َ‬ ‫صِب ُ‬
‫ن ُت ْ‬
‫»َفَأَنا َنِذيٌر َلُكْم َأ ْ‬
‫ن‪،‬‬‫ي ِإباَء اْلُمناِبِذي َ‬
‫عَل ّ‬
‫حُكوَمِة َفَأَبْيُتْم َ‬
‫ن َهِذِه اْل ُ‬‫عْ‬‫ت َنَهْيُتُكْم َ‬
‫حَتَبَلُكُم اْلِمْقداُر‪َ .‬وَقْد ُكْن ُ‬
‫ت ِبُكُم الّدار َوا ْ‬ ‫ح ْ‬
‫طّو َ‬
‫ُمِبين َمَعُكْم‪َ :‬قْد َ‬
‫ت َلُكْم‬
‫جرًا َول َأَرْد ُ‬‫ت ـ ل َأبا َلُكْم ـ ُب ْ‬ ‫حلِم; َوَلْم آ ِ‬ ‫سَفهاُء اَْل ْ‬
‫خّفاء اْلَهاِم‪ُ ،‬‬ ‫شُر َأ ِ‬‫ت َرْأِيي ِإَلى َهَواُكْم َوَأْنُتْم َمَعا ِ‬ ‫صَرْف ُ‬‫حّتى َ‬ ‫َ‬
‫ضّرا«‪.‬‬ ‫ُ‬

‫—–‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ن المام )عليه السلم( خطب هذه الخطبة في النهروان جنب النهر في يوم القتال عام ‪ 37‬هـ‪ .‬وقد أشار‬‫واضح أ ّ‬
‫)عليه السلم( ألى ثلثة ُامور‪:‬‬

‫ل فأّنهم يقضون على أنفسهم‪.‬‬


‫‪1‬ـ عدم خوض القتال دون قيام الدليل الشرعي والبينة من ال‪ ،‬وإ ّ‬

‫‪ .1‬وردت هذه الخطبة أو بعضها مسندة أو مرسلة من قبل المؤرخين والمحدثين‪.‬‬

‫م ـ قال ابن أبي الحديد )‪ (2/283‬نقلها ابن حبيب البغدادي )المتوفي عام ‪.(254‬‬

‫ب ـ ابن قتيبة الدينوري في المامة والسياسة‪.1/127 ،‬‬

‫ج ـ البلذري في أنساب الشراف‪.2/371 ،‬‬

‫ء ـ الطبري في تأريخ الرسل والملوك‪.6/3377 ،‬‬

‫] ‪[ 236‬‬

‫ن المام )عليه السلم( كان يرفضها منذ البداية‪.‬‬


‫ن القوم تذرعوا بقضية التحكيم‪ ،‬والحال أ ّ‬
‫‪2‬ـ أ ّ‬

‫ن كان هنالك من خلف فقد‬‫‪3‬ـ أّنهم يقاتلون المام)عليه السلم( دون أن يصدر عنه ما يدعو لذلك من معصية‪ ،‬فا ّ‬
‫صدر منهم ومن بعض الفراد‪ ،‬ومن الجهل تحميل المام)عليه السلم( مسؤولية ذلك الخلف‪ ،‬وهكذا أتم عليهم‬
‫المام)عليه السلم( الحجة‪.‬‬

‫الشرح والتفسير‬

‫إتمام الحجة على الخوارج‬

‫كما أشرنا سابقًا فان المام)عليه السلم( خطبها قبل بدأ معركة النهروان التي أفرزتها قضية التحكيم‪ .‬فقد خرجت‬
‫تلك الطائفة الجاهلة على المام بعد التحكيم لتعتبره هو المسؤول عنه‪ ،‬في حين كان المام)عليه السلم( يعارض‬
‫ن الخطبة إتمام الحجة عليهم‪ .‬فقد إستهل خطبته‬‫أصل التحكيم من الساس إلى جانب رفضه الحكم‪ .‬فالواقع أ ّ‬
‫بالقول »نحن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملئكة وعنصر الرحمة ومعدن العلم والحكمة ـ نحن‬
‫ل‪» :‬فانا نذير لكم أن تصبحوا صرعى)‬ ‫أفق الحجاز‪ ،‬بنا يلحق البطيء وإلينا يرجع التائب«)‪ (1‬ثم خاطبهم قائ ً‬
‫‪(2‬باثناء هذا النهر‪ ،‬وبأهضام)‪ (3‬هذا الغائط )‪ (4‬على غير بينة من رّبكم‪ ،‬ول سلطان مبين معكم«‪ .‬فعبارة‬
‫المام)عليه السلم(نبوءة صريحة بشأن عاقبة معركة النهروان حيث أخبرهم بأّنهم سيصرعون دون النهر‪،‬‬
‫والفضع من ذلك موقفهم العسير يوم القيامة واسوداد وجوههم‪ ،‬حيث ليس لهم من دافع للقتال سوى العصيبة‬
‫والجهل دون وجود أية بينة‪.‬‬
‫ل النار‪ .‬ثم قال)عليه‬
‫شرعية يمكنهم الستناد إليها وعليه فهم يهلكون أنفسهم في الحياة الدنيا وليس لهم في الخرة إ ّ‬
‫السلم( »قد طوحت)‪ (5‬بكم‪ .‬الدار وأحتبلكم )‪ (6‬المقدار« والمفردة )دار( إشارة‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.283 / 2‬‬

‫‪» .2‬صرعى« جمع »صريع« من مادة »صرع« بمعنى طريح‪ ،‬و تعني الجنازة أو المقتول الملقى على الرض; كما يطلق على من‬
‫يسقط على الرض في المصارعة‪ ،‬و من هنا يطلق مرض الصرع على من يغمى عليه و يقع على الرض‪.‬‬

‫‪» .3‬أهضام« جمع هضم وهو المطمئن من الوادي وتعني الكسر والضغط‪.‬‬

‫‪ .4‬الغائط ما سفل من الرض والمراد هنا المنخفضات‪.‬‬

‫‪» .5‬طوحت« من مادة »طوح« بمعنى السقوط والهلكة‪ ،‬وإذا ورد من باب التفعيل كما ورد في الخطبة فاّنه بمعنى القذف في المتاهة‬
‫والمضلة‪.‬‬

‫‪» .6‬احتبل« من مادة »حبل«‪ ،‬أوقعكم في حباله‪ ،‬والمقدار القدر اللهي‪.‬‬

‫] ‪[ 237‬‬

‫إلى دار الدنيا أو بعبارة ُاخرى الغترار بالدنيا والعبودية لها و»احتيل« من مادة حيل بمعنى الفخ‪ ،‬والمراد‬
‫بالمقدار حسب بعض شّراح نهج البلغة الفكر الخاطىء والتحليل العبثي لمختلف الحوادث‪ ،‬وقال البعض الخر‬
‫تعني القدر اللهي‪ .‬وإذا تأملنا تأريخ الحادثة سيتضح لدينا الثر البالغ الذي لعبه كلم المام )عليه السلم( في هذه‬
‫الطائفة‪ ،‬فقد كانت طائفة متعصبة لجوجة جاهلة هزيلة‪ .‬ثم أشار )عليه السلم( إلى قضية التحكيم فقال »وقد كنت‬
‫نهيتكم عن هذه الحكومة فابيتم علي إباء المخالفين المنابذين‪ ،‬حتى صرفت رأبي إلى هواكم«إنكم لتحملوني‬
‫مسؤولية عمل أنتم إرتكبتموه‪ ،‬بل أبعد من ذلك جعلتم تهددوني بالقتل على قبوله‪ ،‬والن بعد أن تبّين لكم فداحة‬
‫ى »وأنتم معاشر أخفاء الهام)‪ (1‬سفهاء الحلم«‪ .‬يمكن أن تكون هذه العبارة‬ ‫خطأ العمل تحاولون إلقاء تبعته عل ّ‬
‫تأكيد لسفاهة وبلهة أصحاب النهروان‪.‬‬

‫كما يمكن أن تكون العبارد السابقة ـ كما ذكر ذلك بعض شّراح نهج البلغة ـ إشارة إلى خفة أهل النهروان الذين‬
‫تتغير أفكارهم وحركتهم لدنى شي‪ ،‬فهم يتعصبون يومًا للتحكيم‪ ،‬وآخر يعادونه أشد العداء‪ ،‬أّما العبارة الخيرة‬
‫فهى تشير إلى ضحالة فكرهم‪ ،‬وذلك لن مؤامرات العدو كانت تتكشف يومًا بعد آخر ولم تكن خافية على أهل‬
‫ل أّنهم لم يكونوا يرونها أو يدركونها; المر الذي جعلهم يخدعون أكثر من مرة بحيل معاوية وبطانته‪،‬‬ ‫البصائر إ ّ‬
‫فيرتكبون ما يؤدي إلى بؤسهم وشقائهم وجر الويلت والمصائب على المسلمين‪ .‬ثم يختتم المام)عليه‬
‫ن كل ما يصيبكم من بلء مّما إرتكبته أيديكم ولست طرفا فيه أبدًا‪ ،‬بل‬ ‫السلم(خطبته بالتأكيد على هذه الحقيقة بأ ّ‬
‫خالفتموني وشهرتم سيوفكم لتهددوني بالقتل »ولم آت ـ ل أبا لكم! ـ بجرا ول أردت لكم ضرًا«‪ .‬العبارة ل أبا لكم‬
‫يمكن أن تكون سبًا ولعنًا‪ ،‬تشير إلى أّنكم لم تحظوا بتربية أسرية إسلمية صحيحة‪ ،‬ومن هنا فاّنكم تفعلون الفعال‬
‫الشائنة وتنسبوها إلى الخرين‪ ،‬ويمكن أن تكون دعاءا عليهم; أي أمات ال آبائكم وهى في الواقع كناية عن ذلتهم‬
‫ن فقدان الب في ريعان الشباب تدعو إلى الذلة والهوان‪.‬‬ ‫وهوانهم; ل ّ‬

‫‪» .1‬الهام« جمع هامة رأس النسان أو سائر الكائنات الحية‪ ،‬واخفاء الهام تغني ضعاف الفعل‪.‬‬

‫] ‪[ 238‬‬

‫قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج‬

‫ن الخوارج فئة متعصبة وجاهلة قد ظهرت من بطن صفين‬


‫ذكرنا حين شرحنا للخطبة الشقشقية في المجلد الول أ ّ‬
‫وقضية التحكيم‪ .‬فقد أقرت مسألة التحكيم )عمرو بن العاص وأبو موسى الشعري( وفرضوها على المام)عليه‬
‫السلم(‪ .‬ولم يصفوا إلى قول المام)عليه السلم( أنها خدعة ولم يبق إل القليل على ختم فتنة أهل الشام وزعيمهم‬
‫معاوية‪ .‬لكنهم تدموا بعد نتيجة التحكيم وتابوا لكنهم أفرطوا هذه المرة حيث حكموا يكفر قبول التحكيم وشعارهم‬
‫الحكم ل فلبد أن يتوب علي)عليه السلم( من هذه المعصيته‪ .‬قال المام)عليه السلم( أن التحكيم ليس كفرا‪ ،‬فقد‬
‫أشار القرآن إلى هذه المسألة في حل الخلفات العائلية »فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها« وفي كفارة‬
‫الحرام »يحكم به ذوا عدل منكم« لكن التحكيم الذي أقررتموه كان خاطئا ـ على كل حال إقتنع هؤلء ـ وكان من‬
‫بينهم بعض المتظاهرين بالعبادة والتيان بالمستحبات ـ بقشور السلم وتركوا جوهره فاجتمعوا ضد‬
‫أميرالمؤمنين)عليه السلم( في منطقة قرب الكوفة تدعى الحروراء قرب النهروان‪ .‬فبالغ المام)عليه السلم( في‬
‫وعظهم ونصحهم حتى عاد أكثرهم إلى رشده بينما بقي أربعة آلف منهم فلما تثبت المعركة صرعوا جنب النهر‬
‫ولم ينج منهم إل القليل كما أخبر المام)عليه السلم(‪.‬‬

‫وقد شهدت حياة الخوارج وسيرتهم العديد من التناقضات العجيبة ومن ذلك‪:‬‬

‫‪1‬ـ لقيهم عبدال بن الخباب في عنقه مصحف‪ ،‬على حمار‪ ،‬ومعه إمرأته وهى حامل‪ ،‬فقالوا له‪ :‬إن هذا الذي في‬
‫عنقك ليأمرنا بقتلك‪ ،‬فقال لهم‪ :‬ما أحياه القرآن فأحيوه‪،‬‬

‫وما أماته فأميتوه‪ ،‬فوثب رحيل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فيه‪ ،‬فصاحوا به‪ ،‬فلفظها تورعا‪.‬‬
‫وعرض لرجل منهم خنزير فضربه فقتله‪ ،‬فقالوا‪ :‬هذا فساد في الرض‪ ،‬ثم قالوا لبن الخباب‪ :‬حدثنا عن أبيك‪.‬‬
‫فقال‪ :‬إني سمعت أبي يقول‪ :‬سمعت رسول ال)صلى ال عليه وآله( يقول‪ :‬ستكون بعدي فتنة يموت فيها قلب‬
‫الرجل كما يموت بدنه‪ ،‬يمسي مؤمنا ويصبح كافرا‪ ،‬فكن عبدال المقتول ول تكن القاتل ـ قالوا‪ :‬فما تقول في علي‬
‫بعد التحكيم والحكومة؟ قال‪ :‬إن عليا أعلم بال وأشد توقيا على دينه وأنفذ بصيرة ـ فقالوا‪ :‬إنك لست تتبع الهدى‪ ،‬ثم‬
‫قربوه إلى شاطىء النهر فأضجعوه فذبحوه‪(1).‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 2/281‬و تأريخ الطبري ‪ 2/60‬ـ ‪ ،61‬حوادث عام ‪.37‬‬

‫] ‪[ 239‬‬

‫‪2‬ـ قال قيس بن سعد بن عبادة‪ :‬إستنطقهم المام)عليه السلم( بقتل عبدال بن الخباب فأقروا به‪ ،‬فقال‪ :‬إنفردوا‬
‫كتائب لسمع قولكم كتيبة كتيبة‪ .‬فأقرا جميعا بقتله‪ .‬فقال علي)عليه السلم(‪» :‬وال لو أقر أهل الدنيا كلهم بقتله‬
‫هكذا وأنا أقدر على قتلهم به لقتلتهم«‪(1).‬‬

‫‪3‬ـ حين هجم الخوارج على جيش المام)عليه السلم( إلتفت إلى أصحابه فقال‪ :‬وال ل ينجو منهم عشرة ول يهلك‬
‫منكم عشرة‪.‬‬

‫والعجيب أنه لم يقتل من أصحاب المام)عليه السلم( سوى تسعة ولم ينج من الخوارج إل ثمانية‪.‬‬

‫‪4‬ـ كانت قضية الخوارج قد فعلت فعلها في المام)عليه السلم( وقد إنعكست سلبا على الوسط السلمي‪،‬‬
‫فكان)عليه السلم( ل ينفك عن التحدث عنها ليبين للناس كيفية إنحرافهم فيعتبروا بهم‪ ،‬ول غرو فمثل هذا التفكير‬
‫السطحي المشوب بالجهل والعناد ل يخلو منه عصر ومصر‪ .‬والخطب التي تحدث فيها المام)عليه السلم( عن‬
‫الخوارج هى الخطبة‪ ،184 ،127 ،122 ،121 ،61 ،60 ،59 ،40 :‬والرسالة ‪ 78 ،77‬والتي سنعرض لشرحها‬
‫جميعا إن شاء ال‪.‬‬

‫الجدير بالذكر أن خط الخوارج ـ كما ذكرنا ـ تيار يتواجد على مدى التأريخ ول يقتصر على عهد علي)عليه‬
‫السلم( ـ فهم فئة ل تعرف من الدين سوى ظاهره ول تعتد إل بأفعالها وأعمالها وترى إنحراف كل من سواها وقد‬
‫ملئت سيرتها بالتناقضات‪ ،‬فهى بلء وآفة تصيب المجتمع‪ .‬والغريب في المر أن المام)عليه السلم( أشار إلى‬
‫هذه الفئة كظاهرة فوصفهم في الخطبة ‪ 60‬قائل‪» :‬كل وال‪ ،‬إنهم نطف في أصلب الرجال وقرارات النساء كلما‬
‫نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلبين‪.‬‬

‫—–‬
‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 2/271‬ـ ‪.282‬‬

‫] ‪[ 240‬‬

‫] ‪[ 241‬‬

‫الخطبة)‪37 (1‬‬

‫ومن كلم له )عليه السلم(‬

‫يجري َمجرى الخطبة وفيه يذكر فضائله)عليه السلم( قاله بعد وقعة الّنهروان‪.‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ن هذه الخطبة تشتمل على أربعة فصول ل يمتزج بعضها ببعض‪:‬‬


‫بناًء على ما ذكره ابن أبي الحديد فا ّ‬

‫الفصل الول‪ :‬يشير فيه المام)عليه السلم( إلى خدماته الجليلة التي أسداها للسلم إبان انبثاق الدعوة السلمية‬
‫فقد أوجز ذلك بقوله‪» :‬فقد قمت بالمر حين فشلوا وتطلعت حين تقبعوا ونطقت حين تعتعوا ومضيت بنور ال‬
‫حين وقفوا‪ ،‬كالجبل ل تحركه القواصف ول تزيله العواصف‪ .‬لم يكن لحد في مهمز ول لقائل في مغمز«‪.‬‬

‫‪ .1‬قال صاحب مصادر نهج البلغة هذه من الخطب المعروفة التي رواها أغلب العلماء والمحدثين الذين عاشوا قبل السيد‬
‫الرضي)ره( ومنهم‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الجاحظ في البيان والتبيين ‪.170 / 1‬‬

‫‪ 2‬ـ ابن قتيبة الدينوري في المامة والسياسة ‪.150 / 1‬‬

‫‪ 3‬ـ ابن عبد ربة في العقد الفريد ‪.71 / 4‬‬

‫‪ 4‬ـ البلذري في كتاب أنساب الشراف )في شرح سيرة علي )عليه السلم(( ‪.380 /‬‬

‫‪ 5‬ـ القاضي نعمان المصري في دعائم السلم ‪) 391 / 1‬مع اختلف وما ورد في النهج وقال الشارح الخوئي يستفاد من بحار النوار‬
‫ن هذه الخطبة جزء من الخطبة ‪) 27‬شرح نهج البلغة‪ ،‬الخوئي ‪.(21 / 4‬‬
‫والحتجاج والرشاد أ ّ‬

‫] ‪[ 242‬‬
‫الفصل الثاني يشير إلى وقوفه الصلب على الدوام بوجه الظلمة من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل‪.‬‬

‫الفصل الثالث يشير إلى إستحالة الكذب عليم لنه أول من صدق بالنبي )صلى ال عليه وآله( وعليه فل ينبعي أن‬
‫يستسرب الشك إلى إخباره عن المغيبات التي أخبره بها رسول ال )صلى ال عليه وآله(‪.‬‬

‫الفصل الرابع يختتم الخطبة بعذره في البيعة لمن سبقه من الخلفاء‪ ،‬وأّنه فعل ذلك طاعة لرسول ال )صلى ال‬
‫عليه وآله( وخشية الفرقة والتشتت في صفوف المسلمين واستغلل ذلك من قبل خصوم الدعوة السلمية‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 243‬‬

‫القسم الول‬

‫ن َوَقُفوا ـ َوُكْن ُ‬
‫ت‬ ‫حي َ‬
‫ل ِ‬
‫ت ِبُنوِر ا ّ‬ ‫ضْي ُ‬
‫ن َتْعَتُعوا َوَم َ‬
‫حي َ‬
‫ت ِ‬‫طْق ُ‬
‫ن َتَقّبُعوا َوَن َ‬
‫حي َ‬‫ت ِ‬‫طّلْع ُ‬
‫شُلوا َوَت َ‬‫ن َف ِ‬ ‫حي َ‬ ‫ت ِباَْلْمِر ِ‬
‫»َفُقْم ُ‬
‫ف َول ُتِزيُلُه‬‫ص ُ‬
‫حّرُكُه اْلَقوا ِ‬
‫جَبِل ل ُت َ‬
‫ت ِبِرهاِنها‪ ،‬كاْل َ‬
‫سَتْبَدْد ُ‬
‫ت ِبِعناِنها َوا ْ‬
‫طْر ُ‬
‫علُهْم َفْوتًا َف ِ‬ ‫صْوتًا َوَأ ْ‬‫ضُهْم َ‬‫خَف َ‬ ‫َأ ْ‬
‫ي َمْغَمٌز«‪.‬‬‫ي َمْهَمٌز َول ِلقاِئل ِف ّ‬ ‫حد ِف ّ‬‫ن َِل َ‬ ‫ف‪َ .‬لْم َيُك ْ‬
‫ص ُ‬‫اْلَعوا ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الصمود أمام العواصف‬

‫ن الفصل الول من الخطبة يتضمن ذكر المام )عليه السلم(لمقاماته في‬‫ذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أ ّ‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر أيام أحداث عثمان‪ ،‬وكون المهاجرين والنصار كلهم لم ينكروا ولم يواجهوا‬
‫ن سياق الكلم يشير إلى الحوادث التي وقعت على عهد النبي )صلى ال‬‫لأّ‬‫عثمان بما كان يواجهه به وينهاه عنه إ ّ‬
‫عليه وآله(ول سيما في بداية انطلق الدعوة السلمية‪ .‬فقال )عليه السلم(»فقمت بالمر حين فشلوا وتطلعت)‪(1‬‬
‫حين تقبعوا)‪ (2‬ونطقت حين تعتعوا)‪ (3‬ومضيت بنور ال حين وقفوا‪ .‬وكنت أخفضهم صوتًا وأعلهم فوتًا)‪«(4‬‬
‫ثم أضاف )عليه السلم( أّنه تألق تلك المدة وحاز السبق على الخرين »فطرت بعنانها واستبددت برهانها)‪،(5‬‬
‫كالجبل ل تحركه‬

‫‪» .1‬تطلعت« من مادة »طلع« بمعنى مد العنق بحثا عن شي‪ ،‬وأصلها طلوع بمعنى الظهور والبروز‪.‬‬

‫‪» .2‬تقبعوا« من مادة »قبع« بمعنى الختباء‪ ،‬وأصله تقبع القنفذ إذا أدخل رأسه في جلده‪.‬‬

‫‪» .3‬تعتعوا« من مادة »عتع« بمعنى تلعثم اللسان‪ ،‬والمراد ترددوا في كلمهم‪.‬‬

‫‪ .4‬فوت تعني فقدان الشي‪ ،‬وتطلق على التفاوت بين شيئين وابتعاد هما عن بعضهما بحيث ل يدرك أحد هما الخر‪ ،‬ومن هنا تطلق‬
‫هذه المفردة على من يسبق الخرين‪ ،‬وهذا هو الذي اريد بها في العبارة‪.‬‬
‫‪» .5‬الرهان« من مادة »رهن« بمعنى جعل الشي عند الخر‪ ،‬ومن هنا يطلق الرهن على وثيقة الدين‪ ،‬كما يطلق الرهان على جوائز‬
‫المسابقات‪ ،‬والمراد بقوله »استبددت برهانها« إنفردت بجائزة هذه المسابقة اللهية‪.‬‬

‫] ‪[ 244‬‬

‫ى مهمز)‪ (1‬ول لقائل في مغمز)‪.«(2‬‬


‫القواصف ول تزيله العواصف‪ ،‬لم يكن لحد ف ّ‬

‫فقد أشار المام)عليه السلم( إلى أربعة ُامور هى‪ :‬ـ‬

‫ن الخرين كانوا آنذاك يعانون من الضعف والعجز‪ ،‬وأنا الذي نهضت بالمر وقمت بوظيفتي‪.‬‬
‫الول‪ :‬أ ّ‬

‫ن الخوف دفع الخرين آنذاك لن يقبعوا في جحورهم وأنا الذي إنبريت للمر وكنت أتطلع إلى العدو‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أ ّ‬

‫الثالث‪ :‬أنا الذي نطق لساني بالحق وبيان الحقائق الدينية والتعاليم السلمية حين عجز الخرون عن الكلم‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬لم يعتريني الشك آنذاك كما إعترى الخرين فواصلت سبيلي على هدي من ربي ونور إيماني ويقيني‬
‫بالوحي‪.‬‬

‫ورغم كل ما تقدم لم أكن لتفاخر على أحد »كنت أخفضهم صوتًا« ثم يخلص)عليه السلم(من كل ذلك إلى نتيجة‬
‫مؤداها »فطرت بعنانها واستددت برهانها«‪ .‬ثم يعود)عليه السلم(للتأكيد على ما مضى من حوادث وكيف‬
‫واجهها فقال »كالجبل ل تحركه القواصف ول تزيله العواصف« مع ذلك فقد خضت ما خضت و»لم يكن لحد‬
‫ى مغمز«‪.‬‬‫ى مهمز ول لقائل ف ّ‬
‫فّ‬

‫ن عليًا‬
‫ن المراد بهذه العبارات ما حدث في بداية إنبثاق الدعوة السلمية; لننا نعلم جميعًا با ّ‬
‫كما أوردنا آنفا فا ّ‬
‫)عليه السلم( كان أول من أسلم حين كان السلم غريبًا ولم يكن هناك من يهب للدفاع عن السلم والقرآن‬
‫والنبي)صلى ال عليه وآله( ; المعنى الذي يلمس بوضوح في يوم الدار حين انطلقت الدعوة السلمية للعلن بعد‬
‫ثلث سنوات من الدعوة السرية‪.‬‬

‫ولم يجب النبي )صلى ال عليه وآله( ويعلن دعمه له ووقوفه إلى جانبه سوى علي )عليه السلم( وفي ليلة المبيت‬
‫نام على فراش رسول ال )صلى ال عليه وآله( لينجو من مؤامرة قريش التي استهدفت قتله‪ ،‬ناهيك عن فتح خيبر‬
‫حين عجز الخرون‪ ،‬وبروزه لعمرو بن عبدود العامري في الحزاب حين لم يكن غيره من انبرى لقتاله‪.‬‬

‫‪ .1‬لم يكن في مهمز من الهمز يعني لم يكن في عيب أعاب به‪.‬‬

‫‪» .2‬الغمز« بمعنى الطعن والغماز من يبحث عن العيوب ويطعن بالناس‪ ،‬وهذا هو المراد بالعبارة‪.‬‬

‫] ‪[ 245‬‬

‫ن أغلب‬
‫كما يحتمل أن يكون المراد بالقيام بالمر والجمل اللحقة الدفاع عن السلم على عهد الخلفاء‪ ،‬ل ّ‬
‫المورخين المسلمين يقرون بان عليًا )عليه السلم( كان المفزع في حل المشاكل والمعضلت التي تواجه‬
‫المسلمين‪.‬‬

‫فقد وردت العبارة المعروفة عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب »الّلهم ل تبقني لمعضلة ليس لها أبو الحسن«)‬
‫‪.(1‬‬

‫ن العبارة »مشكلة ليس لها أبو‬


‫أو ما تناقلته كتب الفريقين والتي تؤكد هذا المعنى‪ ،‬حتى صرح بعض أرباب اللغة أ ّ‬
‫ل لدى العرب‪ .‬وهنالك إحتمال ثالث في أن يكون المراد قيامه )عليه السلم(بأمر الخلفة بعد‬
‫الحسن« أصبحت مث ً‬
‫انهيار حكومة عثمان وإثر تلك العواصف التي عصفت بالمسلمين بعد مقتل الخليفة الثالث‪ ،‬فقد تصدعت آنذاك‬
‫عرى المجتمع السلمي‪ ،‬وقد تأهبت عناصر النفاق ومن تبقي من أسلف الجاهلية ومشركي العرب‪ ،‬فلم يكن‬
‫لّمة من أمل سوى علي )عليه السلم(‪ ،‬أجل لقد نهض المام )عليه السلم( بالمر في ظل تلك الظروف وحفظ‬
‫لُ‬
‫وحدة المسلمين‪.‬‬

‫أما قوله »كنت أخفضهم صوتًا« فلعله إشارة إلى تواضع المام )عليه السلم( إلى جانب كل تلك النتصارات‬
‫والنجاحات‪ ،‬أو إشارة إلى أن المام )عليه السلم( لم يكن من أهل التظاهر وإثارة الصخب والضوضاء فهذه‬
‫معاني الفراد الضعفاء العجزة‪.‬‬

‫ومن هنا أردفها بقوله »وأعلهم فوتا« التي تعني السبق على الخرين‪ ،‬السبق في اليمان والهجرة‪ ،‬والسبق‬
‫بالجهاد والقتال‪ ،‬وأخيرا السبق في كافة الفضائل الخلقية‪.‬‬

‫وقوله )عليه السلم(»فطرت بعنانها واستبددت برهانها« هو الخر تأكيد لهذا المر‪ ،‬ول سيما أن فاء التفريع‬
‫وردت في البداية كنتيجة للبرامج السابقة‪ ،‬أي أّني ركبت مركب النصر وسبقت الخرين‪ ،‬وذلك لّني لم أشعر‬
‫بالضعف طرفة عين ولم أهب الحوادث المرعية وأفقد الفرص المواتية‪ ،‬ومع ذلك لم أثير أية ضجة أو صخب‬
‫وضوضاء‪.‬‬

‫ثم يشبه نفسه )عليه السلم( بالجبل العظيم الذي ل تحركه القواصف ول تزيله العواصف‪ .‬والطريف في المر أن‬
‫المام )عليه السلم( ذكر القواصف ثم أردفها بالعواصف‪ ،‬وذلك لن القواصف تعني الرياح‬

‫‪ .1‬ورد هذا الحديث بعدة تعبيرات في أغلب مصادر العامة‪ ،‬ومن أراد الوقوف على المزيد فليراجع الغدير ‪.97/ 3‬‬

‫] ‪[ 246‬‬

‫ن الحادثة كانت من الشدة بحيث تقضي على‬


‫العاتية الكاسرة‪ ،‬والعواصف الرياح السريعة الجارفة‪ ،‬في اشارة إلى أ ّ‬
‫النسان في موضعه‪ ،‬وأحيانا تكون أكثر شدة فتجرفه كما تجرف أوراق الشجر وتقذف به في مكان سحيق‪.‬‬

‫ن من يعمل يخطي ومن يرد‬ ‫ثم قال )عليه السلم(‪» :‬ولم يكن لحد في مهمز ول لقائل في مغمز«‪ .‬فالمعروف أ ّ‬
‫الميدان الجتماعى ويمارس النشطة والفعاليات فاّنه يتعرض إلى بعض النتقادات من هنا وهناك‪ ،‬فما ظنك‬
‫ن العيوب والمطاعن في غيره لم تحص رغم‬ ‫بالمام)عليه السلم( الذي كان سباقًا في كل الميادين‪ .‬وبالطبع فا ّ‬
‫ندرة إقتحامه للميدان الجتماعى‪(1).‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬لقد أوردنا توضيحات مسهبة بهذا الشأن في شرح الخطبة الشقشقية‪.‬‬

‫] ‪[ 247‬‬

‫القسم الثاني‬

‫ل َقضاَءُه‬
‫نا ّ‬
‫عِ‬‫ضينا َ‬
‫ق ِمْنُه‪َ ،‬ر ِ‬
‫حّ‬
‫خَذ اْل َ‬
‫حّتى آ ُ‬
‫ف َ‬
‫ضِعي ٌ‬
‫عْنِدي َ‬
‫ي ِ‬
‫ق َلُه َواْلَقِو ّ‬
‫حّ‬
‫خَذ اْل َ‬
‫حّتى آ ُ‬
‫عِزيٌز َ‬
‫عْنِدي َ‬ ‫»الّذِليُل ِ‬
‫ل َأْمَرُه«‪.‬‬
‫سّلْمنا ِّ‬ ‫َو َ‬

‫—–‬
‫الشرح والتفسير‬

‫القوي عندي ضعيف‬

‫لما كانت عدالة المام )عليه السلم( هى السبب الذي يقف وراء أغلب الحوادث الليمة والحروب الدامية‪،‬‬
‫واعتياد الناس لسنوات على الظلم والجور والضطهاد على عهد الخلفاء الثلث ولسيما عصر عثمان‪ ،‬فاّنهم لم‬
‫يكونوا مستعدين بهذه السهولة لقبول منطق المساواة أمام القانون وفي العطاء من بيت المال‪.‬‬

‫فالمام )عليه السلم( يؤكد في هذه الخطبة أّني سأواصل سيرتي في العدل وإحقاق الحق وانتزاعه من القوي‪ ،‬بل‬
‫هذا هو هدفي من الحكومة‪ ،‬وبناًء عليه فالقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه والضعيف قوي حتى آخذ الحق‬
‫له »الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه« ومن هنا كان لينفك )عليه‬
‫السلم( عن تأكيده على الحديث المعروف عن رسول ال )صلى ال عليه وآله( والذي ضمنه عهده إلى مالك بعد‬
‫أن أوصاه قائل‪ :‬واجعل لذوي الحاجات منك قسمًا تفرغ لهم فيه شخصك‪ ،‬وتجلس لهم مجلسًا عامًا فتتواضع فيه‬
‫ل الذي خلقك‪ ...‬فقد سمعت رسول ال)صلى ال عليه وآله( يقول لن تقدس أّمة ل يؤخذ للضعيف فيها حّقه من‬‫ّ‬
‫القوي غير متتعتع«‪(1).‬‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الرسالة ‪.53‬‬

‫] ‪[ 248‬‬

‫ن ال‬‫ثم قال)عليه السلم(‪» :‬رضينا عن ال قضاءه وسلمنا له أمره« تنطوي هذه العبارة على معنيين‪ :‬الول أ ّ‬
‫أمرنا بنصرة المظلوم ومقاتلة الظالم‪ ،‬وإّني مسلم لهذا المر ولبّد من التسليم والرضى قبل الخرون شاءوا أم‬
‫أبوا‪.‬‬

‫جابهة الظالم‬
‫نصرة المظلوم وم ِ‬

‫لقد شحن نهج البلغة بوصاياه)عليه السلم( التي تؤكد على الحكومة السلمية في أن تكون للمظلوم عونًا‬
‫ن الحكومة وسيلة للنتصاف للمظلوم »وما‬ ‫وللظالم خصمًا‪ .‬ومن ذلك ماورد في خطبته المعروفة بالشقشقية من أ ّ‬
‫أخذ ال على العلماء أن ل يقاروا على كظة ظالم ول سغب مظلوم«‪ ،‬أما أخر وصية لولده الحسن )عليه السلم(‬
‫والحسين)عليه السلم(»كونا للظالم خصمًا وللمظلوم عونًا«‪(2).‬‬

‫وقال في موضع آخر من نهج البلغة »وآيم ال لنصفن المظلوم من ظالمه ولقودن الظالم بخزامته حتى ُاورده‬
‫منهل الحق وإن كان كارهًا«)‪.(3‬‬

‫ول غرابة فالقرآن الكريم قد أكد هذا المر ليحث المؤمنين على نصرة المظلومين ولو تطلب ذلك القتال )َوما َلُكْم‬
‫ن هـِذِه الَقْرَيِة‬
‫جنا ِم ْ‬
‫خِر ْ‬
‫ن َرّبنا َأ ْ‬
‫ن َيُقوُلو َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ل َوالّنساِء َوالِوْلدا ِ‬ ‫ن الّرجا ِ‬ ‫ن ِم َ‬
‫ضَعِفـي َ‬
‫سَت ْ‬ ‫ل َو الُم ْ‬ ‫لا ّ‬ ‫سِبـي ِ‬‫ن ِفي َ‬‫ل ُتقاِتُلو َ‬
‫صـيرًا()‪.(4‬‬ ‫ك َن ِ‬
‫ن َلُدْن َ‬
‫ل َلنا ِم ْ‬
‫جَع ْ‬
‫ك َوِلـّيـا َوا ْ‬
‫ن َلُدْن َ‬
‫ل َلنا ِم ْ‬
‫جَع ْ‬‫الظاِلِم َأْهُلها َوا ْ‬

‫‪ .1‬روضة الكافى ‪ 69 /‬ح ‪.26‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الرسالة ‪.47‬‬

‫‪ .3‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.136‬‬


‫‪ .4‬سورة النساء ‪.75 /‬‬

‫] ‪[ 249‬‬

‫ن الفلسفة الصلية لتشكيل الحكومة وتشريع القوانين)سواء القوانين اللهية أو الوضعية التي تسنها‬
‫جدير بالذكر أ ّ‬
‫ن الطغاة والجبابرة يعتمدون منطق القوة‬‫النظمة البشرية(هو حفظ حقوق الضعفاء وتوفير الدعم والسناد لهم‪ ،‬ل ّ‬
‫الغاشم من أجل هضم حقوق الخرين‪ ،‬وعليه فلو تخلت الحكومة والقانون عن دعم المظلومين والمستضعفين‬
‫فاّنها ستفقد فلسفة وجودها لتتحول إلى وسيلة بيد الظلمة لتبرير ظلمهم وجورهم‪ .‬ومن هنا كان قبول المام)عليه‬
‫السلم(للحكومة كما ذكر ذلك في خطبته الشقشقية يكمن في الوقوف إلى جانب المظلوم ومجابهة الظالم‪.‬‬

‫ومن هنا أيضا فإن القانون يعطي نتيجة معكوسة في المجتمعات التي تغير مسار القانون بالرشوة‪ ،‬لن الراشي هو‬
‫الظالم ل المظلوم ـ وفي هذه المجتمعات يتحول القانون إلى مصدر دخل غير مشروع للظلمة وأداة لتوجيه ظلم‬
‫الخرين‪ .‬لكن ينبغي العلم بأن تحمل العدل ومجابهة الظلم ودعم المظلوم إنما يشق على العم الغلب‪ .‬فمن‬
‫الصعب قبول العدل من قبل من يرى مراعاته تشكل خطرا على مصالحه الل مشروعة‪ ،‬أو السوأ من ذلك من‬
‫يرى لنفسه إمتيازا في المجتمع ول يمكنهم أن يتساوى مع الخرين ويرى أن من السادة إليه أن يتساوى معهم‪،‬‬
‫فيعمد إلى عرقلة مسيرة الحكومة العادلة ول يتورع عن ممارسة أبشع العمال‪ .‬وهؤلء هم الفراد الذين وقفوا‬
‫بوجه المام)عليه السلم( وأثاروا الفتن والضطرابات وحرفوا الوسط السلمي‪.‬‬

‫ن سبب إنفراج العرب عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب )عليه السلم(إّنما يكمن في الموال‬ ‫وأخيرا فقد ورد أ ّ‬
‫وكيفية توزيعها‪ ،‬فلم يكن)عليه السلم( يرى من فضل لشريف على غير شريف أو عربي على أعجمي‪ ،‬كما لم‬
‫يكن يستن بسنة السلطين في معاملة زعماء القبائل‪ ،‬ولم يستميل أحدا عن طريق المال أبدًا‪ ،‬بينما كان معاوية‬
‫يمارس العكس تمامًا‪(1).‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬بحار النوار ‪.133 / 42‬‬

‫] ‪[ 250‬‬

‫] ‪[ 251‬‬

‫القسم الثالث‬

‫عَلْيِه‪.‬‬
‫ب َ‬
‫ن َكَذ َ‬
‫ن َأّوَل َم ْ‬
‫صّدَقُه! َفل َأُكو ُ‬
‫ن َ‬
‫ل َلَنا َأّولُ َم ْ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(؟ َوا ّ‬ ‫سوِل ا ّ‬‫عَلى َر ُ‬ ‫ب َ‬
‫»َأ َتراِني َأْكِذ ُ‬
‫عُنِقي ِلَغْيِري«‪.‬‬
‫ق ِفي ُ‬ ‫ت َبْيَعِتي َوِإَذا اْلِميثا ُ‬
‫سَبَق ْ‬
‫عِتي َقْد َ‬
‫طا َ‬
‫ت ِفي َأْمِري‪َ .‬فِإَذا َ‬
‫ظْر ُ‬ ‫َفَن َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬
‫أول من أسلم‬

‫ن ما ورد في هذه الخطبة فصول مختلفة من خطبة طويلة فصلها السيد الرضي )ره( عن‬ ‫كما أشرنا سابقًا يبدو أ ّ‬
‫ن هذا الفصل من‬ ‫بعضها البعض‪ ،‬ولذلك قد ل يكون هناك من ترابط وثيق بين هذه الفصول‪ .‬على كل حال فا ّ‬
‫ن ذلك مّما علمه إياه‬‫الخطبة يتناول أمرين‪ :‬الول إخباره)عليه السلم( عن الحوادث التية مصرحًا بأ ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬ومن ذلك إخباره عن وقائع الجمل وصفين والنهروان‪ ،‬أّما بعض ضعاف اليمان‬ ‫رسول ا ّ‬
‫ل)صلى ال عليه‬ ‫كانوا يشككون في أخبار المام)عليه السلم(‪ ،‬فرد عليهم بالقول »أتراني أكذب على رسول ا ّ‬
‫ل لنا أول من صدقه! فل أكون أول من كذب عليه«‪ .‬لقد صدقته حين كذبه الناس‪ ،‬وكنت أول من‬ ‫وآله(؟ وا ّ‬
‫صدق به فشمرت في الدفاع عنه‪ ،‬كنت أقيه بنفسي في الحروب والمواقف التي تنكص فيها البطال‪ ،‬أفيمكن أن‬
‫ن المام)عليه السلم( أراد‬ ‫أنحرف عن طريقتي وأكذب عليه محال ذلك‪ .‬الحتمال الخر في تفسير هذه العبارة أ ّ‬
‫أن يقول‪ :‬بايعت من سبقني من الخلفاء ل لّنهم أجدر بها مني‪ ،‬بل دفعًا للخلف والفرقة في صفوف المسلمين‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( بهذا الكلم‪،‬‬ ‫ل)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬أفترون أني أكذب على رسول ا ّ‬‫طاعة لمر رسول ا ّ‬
‫أم تعتقدون أّني أنقض وصية النبي)صلى ال عليه وآله(؟ وعليه فقد بايعت من بايعت وتنازلت عن‬

‫] ‪[ 252‬‬

‫ن هذا التفسير هو النسب لّنه ينسجم والعبارت اللحقة‪ .‬ثم‬ ‫ل)صلى ال عليه وآله(‪ .‬ويبدو أ ّ‬ ‫حقي طاعة لرسول ا ّ‬
‫قال)عليه السلم(‪» :‬فنظرت في أمري‪ ،‬فاذا طاعتي قد سبقت بيعتي وإذا الميثاق في عنقي لغيري« والتفاسير وإن‬
‫ن التفسير الذي أوردناه آنفا هو النسب‬ ‫لأّ‬ ‫إختلفت بشأن هذه البعارة ـ التي تعد من عبارت نهج البلغة المعقدة ـ إ ّ‬
‫ن المام)عليه السلم( لم يبايع الخلفاء‬‫ن العبارة تجيب على سؤال قد يقتدح إلى الذهان في أ ّ‬ ‫من جميع التفاسير وكأ ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( على إمامته؟ وجواب‬ ‫الثلث وهو يرى أنه أجدر بالخلفة منهم وقد نص رسول ا ّ‬
‫ي السكوت حفظًا للسلم إن خالفني القوم‪ ،‬ولبّد لي‬ ‫ل)صلى ال عليه وآله(عهد إل ّ‬ ‫المام)عليه السلم(أن رسول ا ّ‬
‫ل)صلى ال عليه‬ ‫ي مراعاتها‪ .‬وعليه فقد جعلت طاعتي لرسول ا ّ‬ ‫من البيعة من أجل حفظ المصالح التي يجب عل ّ‬
‫وآله(أولى من بيعتي‪ ،‬كانت عهدًا من النبي)صلى ال عليه وآله( في عنقي وليس أمامي سوى الوفاء بالعهد‪ ،‬كما‬
‫ن طاعة النبي)صلى ال عليه وآله(مقدمة لدي‬ ‫ن المراد أ ّ‬
‫ذهب بعض شّراح نهج البلغة‪ ،‬كما أوردنا سابقًا إلى أ ّ‬
‫ى النبي)صلى ال عليه وآله( بالسكوت في ظل مثل هذه الظروف‪ ،‬وذكر بعض‬ ‫على بيعة الخلفاء‪ ،‬لقد عهد إل ّ‬
‫ن هذه الكلمات مقطوعة من كلم يذكر فيه حاله بعد وفاة‬ ‫ن المراد بقوله »فنظرت في أمري‪ «..‬أ ّ‬ ‫الشّراح إ ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( وأّنه كان معهودا إليه أل ينازع في المر‪ ،‬ول يثير فتنة‪ ،‬بل يطلبه بالرفق‪ ،‬فان‬ ‫رسول ا ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(; أي وجوب طاعتي‪ ،‬قد‬ ‫ل أمسك‪ ،‬فالمراد‪ :‬فنظرت فاذا طاعتي لرسول ا ّ‬ ‫حصل له وإ ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(وامتثال أمره سابق على بيعتي للقوم‪ ،‬فل‬ ‫سبقت بيعتي للقوم‪ ،‬أي وجوب طاعة رسول ا ّ‬
‫سبيل إلى المتتاع من البيعة لّنه)صلى ال عليه وآله(أمرني بها‪» ،‬وإذا الميثاق في عنقي لغيري« أي‬
‫ي الميثاق بترك الشقاق والمنازعة‪ ،‬فلم يحل لي أن أتعدى أمره‪ ،‬أو أخالف‬ ‫ل)صلى ال عليه وآله( أخذ عل ّ‬ ‫رسول ا ّ‬
‫ن العبارة تنسجم وما قال المام)عليه السلم( في الخطبة الشقشقية »أما والذي فلق الحبة‬ ‫نهيه‪ (1).‬وقال البعض أ ّ‬
‫ن هذا التفسير هو الخر مستبعدًا‪ ،‬ل ّ‬
‫ن‬ ‫وبرأ النسمة لول حضور الحاضر‪ ...‬للقيت حبلها على غاربها«‪ .‬ويبدو أ ّ‬
‫ل أن نفسر‬ ‫القوم تمردوا على طاعة المام)عليه السلم( قبل البيعة‪ ،‬واعلنوا بيعتهم فلم يكن هناك من ميثاق‪ ،‬إ ّ‬
‫الميثاق مجازيًا‪.‬‬

‫لمة الخوئي إختاروا هذا المعنى أيضًا‪.‬‬


‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ ;296 / 2‬محمد عبده الشارح المعروف والع ّ‬

‫] ‪[ 253‬‬

‫ل)صلى ال عليه وآله( لعلي)عليه السلم(‬


‫عهد رسول ا ّ‬

‫ل)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬ويفهم من‬ ‫أشار المام)عليه السلم( في هذه الخطبة إلى العهد الذي عهده إليه رسول ا ّ‬
‫ن النبي)صلى ال عليه وآله(عهد لعلي)عليه السلم( بمماشاة الخلفاء‪ ،‬وإن لم تستند حكومتهم إلى‬‫العبارة أ ّ‬
‫الموازين الشرعية‪ .‬وقد صرحت بعض الروايات بمضمون ذلك العهد‪ ،‬ومنها ما أورده المرحوم السيد ابن‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(عهد إلي‬ ‫طاووس في كشف المحجة في رواية عن علي)عليه السلم(‪» :‬وقد كان رسول ا ّ‬
‫عهدًا‪ ،‬فقال‪» :‬يابن أبي طالب! لك ولء ُاّمتي‪ .‬فان ولوك في عافية واجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم وإن إختلفوا‬
‫ن النسان قد يقف أحيانًا على مفترق طرق كلهما‬ ‫ل سيجعل لك مخرجًا«‪ .‬فالواقع أ ّ‬‫نا ّ‬‫عليك فدعهم وما هم فيه فا ّ‬
‫ل أن أحدهما أّمر من الخر‪ ،‬فالعقل في مثل هذه الحالة يحكم باجتناب الّمر وتقبل المرير; القاعدة التي‬ ‫مرير‪ ،‬إ ّ‬
‫يصطلح عليها في الفقه بقاعدة الهم والمهم‪ ،‬كما يعبر عنها أحيانًا بدفع الفسد بالفاسد‪ ،‬وهذا ما سلكه‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(‪ .‬فقد كان أمامه)عليه السلم( سبيلن لثالث‬ ‫أميَرالمؤمنين)عليه السلم(بعيد وفاة رسول ا ّ‬
‫لهما‪ ،‬إّما إن يترك حقه المسلم في الخلفة حفظا للسلم والمصالح السلمية‪ ،‬أو أن ينهض بالمر فيطالب بحقه‪،‬‬
‫دون الكتراث لوحدة المسلمين وتربص الحزاب الجاهلية بالسلم والفرصة التي كان ينتظرها المنافقون بفارغ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(فعهد‬ ‫الصبر أمل في إقتتال المسلمين وتسللهم إلى الحكومة‪ ،‬المر الذي تكهن به رسول ا ّ‬
‫لعلي)عليه السلم( ذلك العهد‪ ،‬ولم يكن من علي الذي أوقف نفسه للسلم سوى اللتزام بذلك العهد‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 254‬‬

‫] ‪[ 255‬‬

‫الخطبة ‪38‬‬

‫ومن كلم له )عليه السلم(‬

‫ن حال الّناس فيها‪(1).‬‬


‫شبهة شبهٌة ُثّم بيا ُ‬
‫وفيها عّلة تسمية ال ّ‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ن هذا الكلم فصل من كلم طويل إختاره السيد الرضي )ره(‪ ،‬ومن هنا نرى الكلم‬ ‫ن أدنى تأمل للخطبة سيفيد أ ّ‬
‫إّ‬
‫عبارة عن فصلين‪ ،‬أحدهما غير منسجم مع الخر‪ ،‬بل مبتور عنه‪ .‬أّما الفصل الول فهو الكلم في الشبهة ولماذا‬
‫سميت شبهة‪ ،‬وسبيل الخلص من الشبهات‪ .‬والفصل الثاني بيان حال الناس إزاء الموت‪ ،‬حيث ل ينجو منه من‬
‫خافه‪ ،‬ول يمنح البقاء من طلبه فكلهما ميت‪ .‬وتدل القرائن على أن الرضي )ره( كان يلتقط الكلم إلتقاطًا‪،‬‬
‫ومراده أن يأتي بفصيح كلمه)عليه السلم( وما يجري مجرى الخطابة والكتابة‪ ،‬ويؤيد هذا العبارة »من كلم له«‬
‫ن من هنا تبعيضية‪ ،‬فلم يقل ومن خطبته أو ومن كلماته‪ ،‬فقد أراد أن ما ورد هنا جزء‬ ‫و»من خطبة له« ونعرف أ ّ‬
‫ن الخطبة ورغم قصرها تتناول موضوعين أحدهما; الشبهة والخر‬ ‫من خطبته)عليه السلم(‪ .‬على كل حال فا ّ‬
‫الموت‪.‬‬

‫—–‬
‫ن المدي قد روى هذه الخطبة‬
‫‪ .1‬نقل هذه الخطبة المدي في غررالحكم مع إختلف طفيف وما ورد في نهج البلغة‪ ،‬ويفهم من هذا أ ّ‬
‫من مصدر آخر غير نهج البلغة )مصادر نهج البلغة ‪.(435 / 1‬‬

‫] ‪[ 256‬‬

‫] ‪[ 257‬‬

‫ت اْلُهَدى َوَأّما‬‫سْم ُ‬‫ن َوَدِليُلُهْم َ‬


‫ضياُؤُهْم ِفيها اْلَيِقي ُ‬
‫ل َف ِ‬‫ق‪َ :‬فَأّما َأْوِلَياُء ا ّ‬
‫حّ‬
‫شِبُه اْل َ‬
‫شْبَهًة َِلّنها ُت ْ‬
‫شْبَهُة ُ‬
‫ت ال ّ‬
‫سّمَي ِ‬
‫»َوِإّنما ُ‬
‫حّبُه«‪.‬‬
‫ن َأ َ‬
‫طى اْلَبقاَء َم ْ‬‫ن خاَفُه‪َ ،‬ول ُيْع َ‬ ‫ن اْلَمْوتِ َم ْ‬
‫جو ِم َ‬
‫ضلُل َوَدِليُلُهُم اْلَعَمى‪َ ،‬فما َيْن ُ‬ ‫ل َفُدعاُؤُهْم ِفيها ال ّ‬‫عداُء ا ّ‬‫َأ ْ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫النجاة من الشبهة‬

‫ن هذا الفصل من الخطبة يتعلق بقصة طلحة والزبير ومعركة الجمل; لّنهما خلقا‬ ‫يستفاد من بعض المصادر أ ّ‬
‫شبهة لدى الناس ودعوهم لنكث البيعة والقيام ضد الحق‪ .‬ومن عناصر تلك الشبهة زج زوج النبي)صلى ال عليه‬
‫وآله( في تلك المعركة والمطالبة بدم عثمان وما شا كل ذلك‪ .‬قد تحدث المام)عليه السلم( عن الشبهة قائل‪:‬‬
‫»وإّنما سميت الشبهة شبهة لّنها تشبه الحق« ومن هنا كانت سببا لخداع السذج وذريعة بيد الشياطين للفرار من‬
‫لمور التي تواجه النسان في حياته الفردية والجتماعية ل تخرج عن ثلث; فقد يكون الحق‬ ‫نا ُ‬‫الحق‪ .‬فالواقع أ ّ‬
‫ظاهرًا جليًا كأن نقول من يعمل الخير يحصد الخير ومن يعمل الشر يحصد الشر; أو يكون الباطل واضحًا‪ ،‬كأن‬
‫نقول الفوضى وغياب القانون أفضل من النظام وسيادة القانون‪ ،‬فمن البداهة القول ببطلن هذا المر‪ .‬غير أن‬
‫هنالك بعض الحالت التي ليست من قبيل القسم الول ول الثاني‪ ،‬حيث يتلبس الباطل أحيانًا بثوب الحق‪ ،‬أمر‬
‫لمور الجوفاء التي تمسك بها أصحاب الجمل وصفين من أجل إشعال نيران تلك‬ ‫ظاهره حق وباطنه باطل‪ ،‬كتلك ا ُ‬
‫ن هذه هى مشكلة المجتمعات البشرية‪ ،‬وقد إتسعت في مجتمعاتنا المعاصرة‪ ،‬حيث نرى أغلب‬ ‫المعارك‪ .‬ويبدو أ ّ‬
‫الهداف الباطلة والسلطة الخبيثة التي تلبست ثياب حقوق النسان والدفاع عن الحرية والديمقراطية وحفظ القانون‬
‫وإعادة السلم والستقرار إلى المنطقة‪ .‬ثم أشار)عليه السلم( إلى طرق النجاة من‬

‫] ‪[ 258‬‬

‫ل فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت)‪(1‬الهدى«‪ .‬فالعبارة قد تكون‬ ‫ل »فأما أولياء ا ّ‬‫الشبهات التي يعتمدها أولياء ا ّ‬
‫ل والغيب إّنما يلوذون بالقرآن وكلمات أئمة العصمة‬ ‫ل الذين يؤمنون با ّ‬ ‫ن أولياء ا ّ‬
‫إشارة لحد أمرين‪ :‬الول أ ّ‬
‫ل ورسوله‬ ‫لمواجهة ظلم الشبهات والخلص منها بدافع من يقينهم بالوحي‪ ،‬وعليه فاليقين في العبارة هو اليمان با ّ‬
‫ب ِفـيِه ُهًدى ِللُمّتِقـين()‪ .(2‬وقيل‬
‫ل َرْي َ‬
‫ب َ‬
‫ك اْلِكتا ُ‬
‫»وسمت الهدى« إشارة إلى هدي الوحي‪ ،‬كما قال القرآن )ذ ِل َ‬
‫لمور اليقينية التي من شأنها إنارة الطريق والقضاء على الشبهة‪،‬‬ ‫المراد باليقين الستفادة من المقدمات القطعية وا ُ‬
‫ل الذين ليكترثون للهواء ويحكمون العقل إّنما يسعهم في ظل هذا لعقل أن يجتازوا‬ ‫ن أولياء ا ّ‬
‫وبعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫الشبهات ويهتدوا إلى السبيل‪ ،‬ولو كان للهواء من سبيل إلى العقل لما وسع هذا الفرد تمييز الحق من الباطل إذا‬
‫ن بعض‬ ‫إلتبس عليه المر‪ .‬والتفسيران ليتعارضان‪ ،‬ويمكن الجمع بينهما في مفهوم العبارة المذكورة‪ .‬قد يقال أ ّ‬
‫اليات والروايات قد اشتملت على المشتبه الذي يتضمن مختلف التفاسير‪ ،‬فما العمل في هذا الحالة؟ لقد أجاب‬
‫القرآن الكريم صراحة عن هذا السؤال وذلك بالرجوع إلى اليات المحكمة والروايات الصريحة التي تفسر تلك‬
‫المتشابهة حتى يتمكن الفرد من إجتياز هذا المتحان اللهي باليات والروايات المتشابهة‪ .‬والحياة النسانية على‬
‫ل حركة مريبة من أحد الصدقاء تحتمل‬ ‫غرار اليات القرآنية قد تنطوي على محكمات ومتشابهات‪ ،‬فقد ترى مث ً‬
‫ن حسن‬ ‫الوجهين في التفسير‪ ،‬وقد أرشدت مختلف الحوادث إلى نزاهته وعفته خلل كل هذه المسيرة‪ ،‬فل شك أ ّ‬
‫السيرة هذا من المحكمات وتلك الحركة المريبة من المتشابهات التي يمكن تفسيرها من خلل المحكمات‪ .‬ثم‬
‫ل فدعاؤهم فيها الضلل‬ ‫ل في كيفية التعامل مع الشبهات فقال‪» :‬وأما أعداءا ّ‬‫تطرق المام)عليه السلم(لعداء ا ّ‬
‫ل وأعدائه‪ ،‬فليس‬
‫ل من أجل الحركة‪ ،‬وهنا يفترق الفراد إلى أولياء ا ّ‬ ‫ودليلهم العمى« فكل سبيل يتطلب دافعًا ودلي ً‬
‫ل واليوم الخر ودليل سوى الوحي والنبوة‪ ،‬بينما دافع أعداء ودليلهم الضلل‬ ‫ل من دافع سوى اليقين با ّ‬
‫لولياء ا ّ‬
‫وهوى‬

‫‪ .1‬سمت بمعنى الطريق أو الجادة‪ ،‬كما تطلق مشكل المحسنين‪ ،‬والتسميت هو الدعاء لمن يعطس حيث يسأل ال له السلمة‪،‬‬
‫فالعطسة من علمات السلمة‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة البقرة ‪.2 /‬‬

‫] ‪[ 259‬‬

‫ن الفلح والسعادة في الدنيا والخرة‬ ‫النفس ووساوس شياطين النس والجن وعمى البصر والبصيرة‪ .‬ومن هنا فا ّ‬
‫حياةِ الّدْنيا َوِفي‬
‫شرى ِفي ال َ‬ ‫ن‪َ ...‬لُهُم الُب ْ‬
‫حَزُنو َ‬‫عَلْيـِهْم َول ُهمْ َي ْ‬
‫ف َ‬ ‫خْو ٌ‬ ‫لل َ‬ ‫ن َأْوِلـياَء ا ّ‬
‫لولى )َأ ل ِإ ّ‬ ‫هى مصير الطائفة ا ُ‬
‫ن َفْوِقِه‬
‫ج ِم ْ‬
‫ن َفْوِقِه َمْو ٌ‬
‫ج ِم ْ‬
‫ي َيْغشاُه َمْو ٌ‬ ‫جـ ّ‬
‫حر ُلـ ّ‬ ‫ظـُلمات ِفي َب ْ‬ ‫ل سوى الظلمات )َأْو َك ُ‬ ‫خَرِة()‪ (1‬بينما ليس لعداء ا ّ‬ ‫ال ِ‬
‫ن ُنور( )‪ .(2‬أّما‬ ‫ل َلـُه ُنورًا َفما َلُه ِم ْ‬‫لا ّ‬‫جَع ِ‬‫ن َلمْ َي ْ‬
‫ج َيَدُه َلْم َيَكْد َيراها َوَم ْ‬
‫خَر َ‬
‫ق َبْعض ِإذا َأ ْ‬ ‫ضها َفْو َ‬
‫ت َبْعـ ُ‬
‫ظُلما ٌ‬
‫ب ُ‬
‫سحا ٌ‬
‫َ‬
‫ن أبعاده‬‫ما ورد في خطبة المام)عليه السلم(فهو صادق على الحياة الفردية وكذلك الحياة الجتماعية‪ ،‬بل إ ّ‬
‫ل( من قبيل‬ ‫لعظم وأخطر في الجانب الجتماعي وقد تجسد النموذج الكامل لذلك في الطائفة الثانية )أعداء ا ّ‬
‫الفرق الثلث التي خاضت معركة الجمل وصفين والنهروان من خلل الشبهات الواهية والدلة الجوفاء الضعف‬
‫جه ضرباتها الماحقة لكيان السلم والمسلمين‪ .‬جدير‬ ‫من بيت العنكبوت لتهب لقتال المام)عليه السلم( وتو ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( ـ أّنه قال سمعت‬ ‫بالذكر ما أورده صحيح البخاري عن أبي بكرة ـ أحد صحابة رسول ا ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( نفعني أيام الجمل‪ ،‬فقد كدت أن ألتحق بمعسكر أصحاب الجمل‪ ،‬حيث‬ ‫حديثًا عن رسول ا ّ‬
‫ن طائفة من اليرانيين قد ولوا عليهم بنت كسرى فقال)صلى ال عليه وآله(‬ ‫ل)صلى ال عليه وآله( أ ّ‬ ‫بلغ رسول ا ّ‬
‫»لن يفلح قوم ولو أمرهم إمرأة«‪(3).‬‬

‫تأثير الشبهة في تحريف الحقائق‬

‫لو ظهر الباطل كما هو لما خفى على أحد‪ ،‬ولما قبله الوجدان والطبع السليم‪ ،‬ول يستجيب له سوى مرضى‬
‫ن المشكلة تتعقد حين يتزين الباطل بلباس الحق‪ ،‬فيقبل عليه بعض طلب الحق بعد‬‫لأّ‬
‫القلوب ومنحرفي الفكار إ ّ‬
‫لخرى أن يمزج مقدار من الحق بمقدار‬
‫أن يغترون بحسن ظاهره‪ ،‬وهذه في الواقع إحدى شعب الشبهة‪ .‬الشعبة ا ُ‬
‫من الباطل فتختفي صورة الباطل القبيحة في ظل الحق‪ .‬وأخيرًا فقد يزيف الباطل ويجمل حتى يبدو بصورة حق‬
‫دون أن‬

‫‪ .1‬سورة يونس ‪ 62 /‬ـ ‪.64‬‬

‫‪ .2‬سورة النور ‪.40 /‬‬

‫‪ .3‬صحيح البخاري ‪ 10 / 6‬باب كتاب النبي)صلى ال عليه وآله( إلى كسرى وقيصر‪.‬‬

‫] ‪[ 260‬‬

‫يمتزج به‪ .‬وقد حفل تأريخ البشرية بما ل يحصى من الفتن والويلت التي طالته من خلل الشبهات والوساوس‬
‫الشيطانية‪ ،‬حتى مارس الطغاة والمخادعون سلطتهم على الناس بواسطة تلك الشبهات‪ .‬وأفضل نموذج على ذلك‬
‫المعارك الثلث المعروفة ـ الجمل وصفين والنهروان ـ التي أودت بحياة تلك الجماعة العظيمة من المسلمين وما‬
‫ل من خلل الشبهات التي إعتمدها أصحاب الباطل من أجل تحقيق أطماعهم ومآربهم; فالبكاء ليل نهار على‬ ‫ذلك إ ّ‬
‫قتل الخليفة المظلوم )عثمان( والطواف بقميصه الملطخ بالدم من أجل تعبئة الناس‪ ،‬حتى من قبل أولئك الذين‬
‫ساهموا في قتله وتلطخت أيديهم بدمه‪ ،‬ومن ثم التيان بُام المؤمنين وركوبها الجمل و‪ ...‬كلها نماذج حية من‬
‫الشبهة‪ .‬رفع المصاحف على أسنة الرماح وشعار التسليم الحكم القرآن والحيلولة دون إراقة دماء المسلمين هى‬
‫الخرى من شبهات معركة صفين‪ .‬بل أبشع صورة للشبهة في محاولة تحميل المام علي)عليه السلم(مسؤولية‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(‪» :‬يا‬ ‫قتل عمار بن ياسر في معركة صفين حيث إحتج المام)عليه السلم(بقول رسول ا ّ‬
‫ن الفئة الباغبة من أتت بعمار إلى المعركة‪ .‬أما أصحاب النهروان ممن‬ ‫عمار تقتلك الفئة الباغية«‪ ،‬فاحتج عليه بأ ّ‬
‫كانوا يتظاهرون بصلة الليل وقراءة القرآن التي لتتجازو تراقيهم‪ ،‬فقد رفعوا شعارهم المعروف »ل حكم إ ّ‬
‫ل‬
‫ل« وقد انطوت هذه الشبهة على فئة عظيمة من الناس والتي أدت في الختام إلى قتلهم وخلودهم في جهنم وبئس‬ ‫ا ّ‬
‫المصير‪ .‬ويشهد عالمنا المعاصر اليوم أسوأ أنواع الشبهات‪ ،‬فما أكثر الشعارات البراقة الساحرة‪ ،‬من قبيل شعار‬
‫الحرية والديمقراطية والمساواة وتفعيل حقوق النسان والحضارة والمدنية وتطوير البشرية والتي ترتكب باسمها‬
‫أعتى الجنايات وأقبح الجرائهم‪ .‬وسنسلط مزيدًا من الضوء على هذا الموضوع حين نصل إلى الخطبة الربعين‬
‫والخمسين الواردة بهذا الشأن‪ ،‬كما أشار المام)عليه السلم( إلى هذا المر في الحكمة ‪ 198‬من قصار كلماته في‬
‫نهج البلغة‪.‬‬

‫عبثية الخوف من الموت‬

‫يرى أغلب شّراح نهج البلغة عدم وجود آية رابطة لقولة)عليه السلم(‪» :‬فما ينجو من الموت من خافه‪ ،‬ول‬
‫ن السيد الرضي )ره( إّنما يلتقط‬
‫يعطى البقاء من أحبه« وما ورد في أول الخطبة‪ ،‬وأ ّ‬

‫] ‪[ 261‬‬

‫كلم المام)عليه السلم( من أكثر من خطبة‪ .‬ولعلنا نستطيع تصور رابطة بين الفصلين من الخطبة وذلك أنّ‬
‫ن خوف الموت ل ينجي من الموت أبدًا‪.‬‬ ‫الفراد قد يستسلمون للشبهات خوفًا من الموت‪ ،‬فإشار)عليه السلم(إلى أ ّ‬
‫على كل حال فان هذا الفصل من الخطبة يشتمل على عبارتين تعالج كل منها قضية الموت‪ .‬فقد قال)عليه السلم(‬
‫ن هذا الخوف قد يكون من العناصر المقربة للموت‪ .‬فالموت هو القلدة‬ ‫»فما ينجو من الموت من خافه«‪ ،‬بل إ ّ‬
‫التي خطت على جيد ابن آدم وسائر الكائنات الحية والقانون الذي ليعرف الشواذ والستثناء‪ ،‬فليس هنا لك من‬
‫ل سبحانه‪ .‬فجميع الكائنات محدودة وأّنها ستنتهي لمحالة وتؤول إلى الفناء‪ .‬وليس من بقاء سوى‬ ‫خلود سوى ّ‬
‫للذات اللهية المقدسة‪ ،‬وعليه فخوف الموت لن يغير من حقيقته شيئًا‪ ،‬كما أن السعي من أجل البقاء والحياة الخالدة‬
‫لن يكلل بالنجاح أبدًا‪ .‬ومن هنا قال المام)عليه السلم( في العبارة الثانية »ول يعطى البقاء من أحبه«‪ .‬قد تطول‬
‫ل أّنها سائرة للزوال في خاتمة المطاف ومن الوهم الساذج والباطل التفكير بالبقاء والخلود‪.‬‬ ‫مدة الحياة أو تقصر إ ّ‬
‫جَهُه(‪ .‬والعبرة هنا في أن يستعد‬
‫ل َو ْ‬‫ك ِإ ّ‬
‫شيء هاِل ٌ‬
‫ل َ‬
‫ت(وقال )ُك ّ‬
‫ل َنْفس ذاِئَقُة الَمْو ِ‬
‫فقد صرح القرآن الكريم )ُك ّ‬
‫النسان للموت ويتزود له‪ ،‬فالموت ل يعني الفناء المطلق بقدر ما يعني النتقال من دار صغيرة محدودة إلى‬
‫أخرى كبيرة واسعة تشتمل على مختلف النعم واللذائذ‪ ،‬وإذا أصلحنا عملنا فليس هنالك ما يدعو إلى الخوف من‬
‫الموت‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 262‬‬

‫] ‪[ 263‬‬
‫الخطبة)‪39 (1‬‬

‫ومن خطبة له )عليه السلم(‬

‫خطبها عند علمه بغزوة النعمان بن بشير‪ ،‬صاحب معاوية لعين التمر‪ ،‬وفيها يبدي عذره ويستنهض الناس‬
‫لنصرته‪.‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ي ومالك بن كعب الرحب ّ‬


‫ي‬ ‫أمر النعمان بن بشير مع عل ّ‬

‫وردت هذه الخطبة كما ذكرنا سابقا حين غزا النعمان بن بشير عين التمر الموضع المعروف في العراق‪.‬‬

‫ث به بجريدة خيل; حتى ُيِغيَر على شاطىء‬ ‫وقد كان معاوية قال قبل ذلك بشهرين أو ثلثة‪ :‬أَما من رجل أبع ُ‬
‫ل العراق! فقال له النعمان‪ :‬فاْبعثِني; فإنّ لي في قتالهم نّية وهًوى ـ وكان النعمان‬ ‫ب بها أه َ‬
‫ع ُ‬
‫ل ُير ِ‬‫نا ّ‬
‫الفرات! فإ ّ‬
‫ى َرجل‪ ،‬وأوصاه أن يتجّنب المدن والجماعات‪ ،‬وأ ّ‬
‫ل‬ ‫ب وَنَدب معه ألف ْ‬
‫ل‪ ،‬فانتَد َ‬
‫عثمانيًا‪ :‬قال‪ :‬فانتدب على اسِم ا ّ‬
‫جل الرجوع‪.‬‬ ‫سَلحة‪ ،‬وأن يع ّ‬‫ل على َم ْ‬‫ُيغير إ ّ‬

‫جرى‪ ،‬ومع‬
‫ي الذي جرى له معه ما َ‬
‫ن بن بشير; حتى دنا من عين اّلتْمر‪ ،‬وبها مالك بن كعب الرحب ّ‬ ‫ل النعما ُ‬
‫فأقب َ‬
‫ل مائة أو‬
‫ف رجل; وقد أِذن لهم‪ ،‬فرجعوا إلى الكوفة‪ ،‬فلم يبق معه إ ّ‬‫مالك أل ُ‬

‫‪ .1‬وردت هذه الخطبة في ثلثة مصادر على القل قبل السيد الرضي وهى‪ :‬الغارات لبراهيم بن هلل الثقفي )‪ (283‬وأنساب الشراف‬
‫للبلذري الذي أورد بعضها وتأريخ الطبري الذي روى بعض أقسامها‪ ،‬وكذلك مصادر نهج البلغة ‪.438 / 1‬‬

‫] ‪[ 264‬‬

‫ن النعمان بن بشير‪ ،‬قد َنَزل بي في جمع َكِثيف‪َ ،‬فَر رأَيك‪،‬‬


‫ي عليه السلم‪ :‬أما بعد; فإ ّ‬
‫نحوها‪ ،‬فكتب مالك إلى عل ّ‬
‫ل وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫ي عليه السلم; فصعد المنبر فحمدا ّ‬
‫ب إلى عل ّ‬ ‫ل تعالى وثبتك‪ .‬والسلم‪ .‬فوصل الكتا ُ‬ ‫سّددك ا ّ‬

‫ن النعمان بن بشير قد َنَزل به في جمع من أهل الشام; ليس‬


‫ل إلى مالك بن كعب أخيكم‪ ،‬فإ ّ‬ ‫جوا هداكم ا ّ‬
‫اخر ُ‬
‫طَرفًا‪ .‬ثم نزل‪.‬‬
‫ل يقطُع بكم من الكافرين َ‬‫لا ّ‬
‫بالكثير‪ ،‬فانهضوا إلى إخوانكم‪ ،‬لع ّ‬

‫س على المسير‪ ،‬فلم يصنعوا شيئًا‪،‬‬


‫ضوا ويحّثوا النا َ‬
‫جوهم وُكَبرائهم‪ ،‬فأمَرهم أن ينه ُ‬
‫فلم يخرجوا‪ ،‬فأرسل إلى ُو ُ‬
‫واجتمع منهم نفر يسير نحو ثلثمائة فارس أْو دونها‪ ،‬فقام)عليه السلم(‪ ،‬فخطب الخطبة‪(1).‬‬

‫—–‬
‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.1/437‬‬

‫] ‪[ 265‬‬

‫القسم الول‬

‫جمَُعُكْم َول‬
‫ن َي ْ‬
‫صِرُكْم َرّبُكْم؟ َأما ِدي ٌ‬
‫ن ِبَن ْ‬
‫ظُرو َ‬
‫ت‪ ،‬ل َأباَلُكْم! ما َتْنَت ِ‬
‫عْو ُ‬‫ب ِإذا َد َ‬‫جي ُ‬ ‫ت َول ُي ِ‬‫طيُع ِإذا َأَمْر ُ‬‫ن ل ُي ِ‬ ‫ت ِبَم ْ‬‫»ُمِني ُ‬
‫شفَ‬‫حّتى َتَك ّ‬‫ن ِلي َأْمرًا‪َ ،‬‬‫طيُعو َ‬ ‫ن ِلي َقْوًل‪َ ،‬ول ُت ِ‬‫سَمُعو َ‬‫صِرخًا َوُأناِديُكْم ُمَتَغّوثًا‪َ ،‬فل َت ْ‬ ‫سَت ْ‬‫شُكْم؟ َأُقوُم ِفيُكْم ُم ْ‬
‫حِم ُ‬ ‫حِمّيَة ُت ْ‬
‫َ‬
‫ك ِبُكْم ثاٌر‪َ ،‬ول ُيْبَلُغ ِبُكْم َمراٌم«‪.‬‬ ‫ب اْلَمساَءِة‪َ ،‬فما ُيْدَر ُ‬ ‫عواِق ِ‬ ‫ن َ‬ ‫عْ‬ ‫اُْلُموُر َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫سكوت المام)عليه السلم(‬

‫أشرنا سابقًا إلى أن المام)عليه السلم( خطب هذه الخطبة حين بعث معاوية النعمان بن بشير ليرعب إحدى‬
‫مناطق العراق ويضعف معنويات أهلها‪ ،‬فدعا المام)عليه السلم(الناس لقتالهم‪ ،‬غير أن عجز أهل العراق‬
‫وضعفهم جعلهم يردون بالسلب على دعوة المام)عليه السلم(‪ ،‬فخطب المام)عليه السلم(هذه الخطبة لغرضين‪:‬‬
‫الول‪ :‬تحميل أهل العراق المسؤولية التامة للمصائب والويلت التي تتعرض لها البلد بفعل هذا الضعف والذلة‬
‫تجاه العدو‪ ،‬الثاني‪ :‬لعل هذه الكلمات تؤثر في تلك الرواح الهامدة فتلتفت إلى عظم الخطار التي كانت تتربص‬
‫بها فتهم بموا جهتها‪ .‬فقد قال)عليه السلم(‪» :‬منيت بمن ل يطيع إذا أمرت ول يجيب إذا دعوت« فمن الطبيعي أ ّ‬
‫ن‬
‫لمراء وأشجعهم ليسعهم فعل شيء إذا ما ابتلوا بمثل هؤلء الفراد‪ ،‬وما من فشل أو هزيمة‬ ‫أعظم القادة وا ُ‬
‫ن جميع‬ ‫ل ويتحملون مسؤوليتها كاملة‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬ل أبا لكم‪ :‬ما تنظرون بنصركم ربكم«؟ إ ّ‬ ‫تصيبهم إ ّ‬
‫الظروف متوفرة لديكم من أجل القتال‪ ،‬فعندكم العّدة والعدد‪ ،‬كما تعلمون مؤامرات عدوكم وقد أحدق الخطر بكم‪،‬‬
‫فماذا تنتظرون؟ أتتطلعون لقتلكم بهذه الذلة والهوان؟ وقد‬

‫] ‪[ 266‬‬

‫لسرية السلمية الصحيحة‬ ‫شرنا سابقًا إلى أن قوله)عليه السلم(‪» :‬ل أبا لكم« إما يفيد عدم تربيتهم التربية ا ُ‬
‫أْ‬
‫ل آبائهم‪ ،‬وهو الخر كناية عن الذلة‬ ‫بحيث يبدون كل هذا الضعف والعجز‪ ،‬أو أّنه دعاء عليهم بان يميت ا ّ‬
‫والهوان الذي يستشعره النسان لفقد والده‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬أما دين يجمعكم ول حمية تحمشكم«)‪(1‬؟‬
‫فالواقع من شأن أي من هذين المرين دواء دائهم‪ ،‬فالدين حلقة إتصال يمكنها إستقطاب الفئات والطوائف المختلفة‬
‫ب الهل والوطن إّنما تسوقهم‬ ‫ن الغيرة الجتماعية وح ّ‬ ‫حول هدف مركزي واحد‪ ،‬فاذا غاب الدين الذي يجمعهم‪ ،‬فا ّ‬
‫ن أهل العراق آنذاك قد فقدوا هذين الدافعين‪ ،‬فلم يكن دينهم‬ ‫ن المؤسف له هو أ ّ‬ ‫للتحاد أمام العدو ومواجهته‪ ،‬غير أ ّ‬
‫محكمًا راسخًا‪ ،‬كما لم تكن لهم حمية تجعلهم يغضبون ويواجهون العدو‪ .‬ول شك أن مثل هؤلء القوم يعتبرون‬
‫عقبة كؤودًا في طريق الحاكم‪ .‬ومن هنا خاطبهم المام)عليه السلم(مصورًا حجم ضعفهم والذل الذي سيطر‬
‫عليهم »أريد أن ُاداوي بكم وانتم دائي كناقش الشوكة بالشوكة«‪(2) .‬‬

‫ل‪ ،‬ول تطيعون لي‬


‫ومن هنا قال)عليه السلم(‪» :‬أقوم فيكم مستصرخًا)‪ (3‬وأناديكم متغوّثا‪ (4)،‬فل تسمعون لي قو ً‬
‫لمور عن عواقب المساءة«)‪ (5‬فهل هناك أعظم من هذه المأساة‪ ،‬في أن يبتلى مثل هذا‬‫أمرًا‪ ،‬حتى تكشف ا ُ‬
‫المام)عليه السلم(الشجاع العالم العادل المجرب بمثل هؤلء القوم الذين ليكترثون لصراخه ول يطيعون‬
‫لّمة نفس هذا‬
‫ن هذا المر لم يقتصر على أميرالمؤمنين )عليه السلم( وقد مارست ا ُ‬ ‫أوامره‪ .‬ويفيد التأريخ أ ّ‬
‫الموقف مع المام الحسن والحسين)عليهما السلم(فقد وقعت حادثة كربلء ليقتل المام وصحبه بتلك الشاعة‪،‬‬
‫آنذاك ندم أهل الكوفة وهبوا للمطالبة بدم الحسين)عليه السلم(ولكن بعد أن وقع ما لم يكن ينبغي أن يقع‪ ،‬فقد تخلوا‬
‫آنذاك عن دعم‬

‫‪» .1‬تحمش« من مادة »حمش«‪ ،‬قال صاحب المقاييس لها معنيين الغضب والنحافة‪ ،‬وقد وردت هنا بمعنى الغضب; أي أليس لكم‬
‫حمية تغضبكم على عدوكم‪.‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.121‬‬

‫‪» .3‬مستصرخ« من مادة »صرخ«‪ ،‬الصراخ حين الخوف أو المصاب وطلب النصرة‪.‬‬

‫‪» .4‬متغوث« من مادة »غوث« بمعنى النصرة حين الشدة‪ ،‬وعليه يطلق المتغوث على من يطلب نصرة الخرين عند الشدائد‪.‬‬

‫‪» .5‬المساءة« مصدر مادة »سوء«‪ ،‬بمعنى فقد ان النعم الماديه أو المعنوية الدنيوية أو الخروية‪ ،‬البدنية أو غير البدنية‪.‬‬

‫] ‪[ 267‬‬

‫سفير الحسين)عليه السلم(مسلم بن عقيل ونكثوا بيعته ولزموا بيوتهم‪ ،‬فبقى مسلم وحده يقاتل العداء حتى‬
‫استشهد‪ .‬وأخيرًا خلص المام)عليه السلم( إلى هذه النتيجة »فما يدرك بكم ثار‪ ،‬ول يبلغ بكم مرام«‪.‬‬

‫] ‪[ 268‬‬

‫] ‪[ 269‬‬

‫القسم الثاني‬

‫خَر َ‬
‫ج‬ ‫ضِو)‪ (3‬اَْلْدَبِر)‪ُ (4‬ثّم َ‬
‫سّر)‪َ (2‬وَتثاَقْلُتْم َتثاُقَل الّن ْ‬‫جَمِل اَْل َ‬‫جَرَة)‪ (1‬اْل َ‬
‫جْر َ‬‫جْرُتْم َ‬
‫جْر َ‬
‫خواِنُكْم َف َ‬
‫صِر ِإ ْ‬
‫عْوُتُكْم ِإَلى َن ْ‬
‫»َد َ‬
‫ن«‪.‬‬ ‫ظُرو َ‬ ‫ت َوُهْم َيْن ُ‬
‫ن ِإَلى اْلَمْو ِ‬
‫ف »َكَأّنما ُيساُقو َ‬‫ضِعي ٌ‬ ‫ب)‪َ (6‬‬ ‫جَنْيٌد)‪ُ (5‬مَتذاِئ ٌ‬
‫ي ِمْنُكْم ُ‬‫ِإَل ّ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الضعف أمام العدو‬

‫واصل المام)عليه السلم( ذمه لهل الكوفة على ما أبدوه من ضعف وعجز تجاه الهجمات المبرمجة للعدو‬
‫فقال)عليه السلم(‪» :‬دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل السر‪ ،‬وتثاقلتم تثاقل النضو الدبر« أي‬
‫أّنكم أعريتم عن عجزكم في الكلم كما فعلتم ما يفشلكم في الدنيا والخرة ويمكن العدو من تكبيدكم الخسائر في‬
‫أموالكم وأرواحكم‪ ،‬فقد دعوتكم لنصر أخوانكم )مالك بن كعب وصحبه ممن تعرضوا لغارات اهل الشام في‬
‫منطقة عين التمر( فكانت حركتكم كحركة الجمل وتثاقل النضو الدبر »دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم‬

‫‪» .1‬جرجرة« صوت يردده البعير في حنجرته عند عسفه‪ ،‬وقيل من مادة »الجرر« بمعنى الجر‪ ،‬واطلق الجرر لتكراره‪.‬‬

‫‪» .2‬أسر« من مادة »سرر« المصاب بداء السرر‪ ،‬وهو مرض في كركرة البعير أي زوره ينشأ من الدبرة والقرحة‪.‬‬

‫‪» .3‬النضو« المهزول من البل‪ ،‬والدبر المدبور‪ ،‬أي المجروح المصاب بالدبرة‪ ،‬وهى العقر والجرح من القتب ونحوه‪.‬‬

‫‪» .4‬أدبر« من مادة »دبر« بمعنى الجرح الذي يتعرض له الحيوان إثر ضغط السراج‪.‬‬

‫‪ .5‬جنيد مصغر جند‪.‬‬

‫‪» .6‬متذائب« بمعنى مضطرب‪ ،‬من قولهم تذاءبت الريح أي إضطرب هبوها ومنه سمي الذئب ذئبًا لضطراب مشيته‪.‬‬

‫] ‪[ 270‬‬

‫جرجرة الجمل السر‪ ،‬وتثاقلتم تثاقل النضو الدبر« ولعل تشبيههم بالحيوانات المريضة إشارة إلى ضعفهم‬
‫ن النسان العاقل ليدع العدو يهجم عليه بهذه الطريقة بحيث يضرب أينما‬ ‫الفكري وعجزهم في إتخاذ القرار‪ ،‬ل ّ‬
‫شاء دون وازع أو رادع‪ .‬ثم أشار)عليه السلم(إلى تلك الفئة القليلة التي لبت دعوته‪ ،‬بينما كان الخوف والهلع‬
‫يسيطر عليهم »ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف كأّنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون«‪ .‬وقد أورد السيد‬
‫ل‪ :‬قوله)عليه السلم( متذائب; أي مضطرب‪ ،‬من قولهم‪ :‬تذائبت الريح‪ ،‬أي‬ ‫الرضي )ره( في آخر الخطبة قائ ً‬
‫ن هذه الفئة القليلة لم تكن مصداقًا لقوله‬
‫اضطراب هبوبها‪ .‬ومنه سمى الذئب ذئبًا‪ ،‬لضطراب مشيته‪ .‬ومن هنا فا ّ‬
‫سبحانه »كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة« بل كانت فئة ضعيفة قلقلة مضطربة كأّنهم يساقون إلى المذبح وهم‬
‫ينظرون إلى موتهم‪ ،‬فهى فئة عدمها خير من وجودها والوثوق بها مخجل‪ ،‬فما أعظم محنته المام)عليه السلم(‬
‫وابتلئه بهؤلء القوم طبعًا قوله)عليه السلم(كأّنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون‪ .‬إّنما اقتبسه)عليه السلم( من‬
‫الية السادسة من سورة النفال التي وردت بشأن بعض المؤمنين الضعفاء على عهد النبي)صلى ال عليه وآله(‬
‫الذين كانوا يتشبثون بمختلف الذرائع والحجج للفرار من الجهاد إلى جانب جدالهم للنبي)صلى ال عليه وآله( حول‬
‫ن حوادث بدر أثبتت ل حقًا مدى خطأهم وتزايد خوفهم عبثًا حتى إنتهت الموقعة بالنصر‬ ‫موقعة بدر‪ ،‬غير أ ّ‬
‫ن هؤلء كانوا من المعترضين على كيفية توزيع الغنائم بعد انتهاء المعركة‪ .‬ولعل‬ ‫المؤزر للمسلمين‪ ،‬والعجيب أ ّ‬
‫المراد بالعبارة أن هذه الفئة القليلة لو كانت تمتلك العزم الراسخ والقوة والصلبة من شأنها النتصار على العدو‪،‬‬
‫غير أن المؤسف‪...‬‬

‫عاقبة الضعف أمام العدو‬

‫لمم والشعوب ـ باستثناء تلك الحالت التي‬


‫رغم أن التعاليم السلمية تستند إلى ارساء قواعد السلم مع كافة ا ُ‬
‫ل أنها توصي بالشدة والصلبة في بعض الحالت الطارئة‪ ،‬ونموذج‬ ‫يشهر فيها السلح ضد السلم والمسلمين ـ إ ّ‬
‫ذلك ما ورد في هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلغة بشأن العتاة المردة من أهل الشام من جيش معاوية‪ .‬فقد‬
‫كان معاوية يستغل الفرص من أجل إضعاف أهل العراق وزعزعة روحياتهم‪ ،‬فقد كان يجهز بعض الجماعات‬

‫] ‪[ 271‬‬

‫ويعبئها لشن غاراتها على بعض المناطق السلمية فتنشر فيها الذعر والخراب والدمار وتذبح من فيها دون‬
‫الكتراث للشيوخ والنساء والصبيان إلى جانب نهب الموال والثروات وقد تكررت مثل هذه الحادثة لكثر من‬
‫مّرة على عهد المام)عليه السلم(‪ ،‬فكان المام)عليه السلم(يستصرخ أهل الكوفة لمواجهة هذه الخطار فكانوا‬
‫يردون عليه بكل ضعف وفتور وكأّنهم لم يعلموا بما يجري حولهم وقد غطوا في نوم عميق‪ :‬المر الذي جعل‬
‫إعتداءات أهل شام تتصاعد يومًا بعد آخر‪ ،‬حتى أصبح العراق بعيد شهادة المام)عليه السلم( لقمة سائغة لمعاوية‬
‫ورهطَه بحيث لم يتمكن المام الحسن)عليه السلم(من الوقوف بوجه ذلك الظالم‪ ،‬ول عجب في المر فلم تكن‬
‫لديه القوة الكافية من الفراد التي يستطيع بواسطتها قتال معاوية‪ .‬ونلمس اليوم هذه الحقيقة بوضوح في عالمنا‬
‫المعاصر‪ ،‬وإذا لم نلتفت إلى تحرشات العدو وتقبرها في المهد فاّنها ستتسع شيئًا فشيئًا‪ ،‬آنذاك لم يمكن المواجهة‬
‫والصمود‪ .‬وعليه فلبد من النتباه إلى أدنى حركة عسكرية أو إعلمية أو إقتصادية والتعامل معها فورًا بمنتهى‬
‫ل من الهجوم‪ .‬فعادة ما تحاول العناصر الضعيفة التي تميل إلى الدعة والراحه‬ ‫الصلبة ليضطر العدو للدفاع بد ً‬
‫لحمل مثل هذه الحركات على البراءة بعيد عن حملها محمل الجد وإساءة الظن بها‪ ،‬والحال أّنها إّنما تبدر من‬
‫العدو الذي لينبغي الغفلة عن إتهامه ريثما تتكشف الحقائق‪ .‬ونختتم البحث بالعبارات الواردة في خطبة الجهاد‬
‫ل ونهارًا وسرًا وأعلنًا وقلت لكم‪ :‬إغزوهم‬ ‫حيث قال)عليه السلم(‪» :‬أل وإّني قد دعوتكم إلى قتال هؤلء القوم لي ً‬
‫ل ذلوا«‪(1) .‬‬
‫ل ما غزي قوم قط في عقر دارهم إ ّ‬ ‫قبل أن يغزوكم‪ :‬فوا ّ‬

‫سؤال‬

‫لعل هنالك من يتساءل لم كل هذه الشّدة من المام)عليه السلم( مع أصحابه ومخاطبتهم بهذه اللكمات وتحقيرهم‬
‫إلى هذا الحد‪ ،‬أفليس من الفضل أن يرفق بهم ويتلطف معهم؟‬

‫ن ذلك يمثل آخر الدواء‪ ،‬وكأّنه عملية لستئصال‬


‫الجواب‪ :‬بينا الجابة على ذلك كرارًا في الخطب السابقة‪ ،‬وقلنا أ ّ‬
‫مرض عضال‪.‬‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.27‬‬

‫] ‪[ 272‬‬

‫] ‪[ 273‬‬

‫الخطبة ‪40‬‬

‫ومن كلم له)عليه السلم(‬

‫ل«‬
‫في الخوارج لما سمع قولهم‪» :‬ل حكم ال ا ّ‬

‫نظرة إلى الخطبة‬


‫خطبها)عليه السلم( بعد موقعة صفين حين إعترض عليه الخوارج بقبول التحكيم وانتخاب ممثلين أحدهما من‬
‫أصحاب المام والخر من أصحاب معاوية لهذا المر ليحكما بشأن عاقبة موقعة صفين وخلفة المسلمين‪ ،‬بينما‬
‫ل« ليحتجوا بها على المام)عليه‬
‫ل ّ‬
‫ل« )‪ (1‬فاقتبسوا من الية قولهم »لحكم إ ّ‬‫ل ِّ‬
‫حْكُم ِإ ّ‬
‫ن ال ُ‬
‫يصرح القران »ِإ ِ‬
‫السلم(‪ ،‬وبالطبع فان هنالك مغالطة كبرى وقعوا فيها ولم يدركوا حقيقة المر‪ .‬فلما سمع المام)عليه السلم(هذا‬
‫الشعار‪ ،‬رد بهذه الخطبة وأشار فيها إلى أربعة أمور‪:‬‬

‫ل‪.‬‬
‫ل«كلمة حق يريدون بها باط ً‬
‫ل ّ‬
‫ن القول »ل حكم إ ّ‬
‫الول‪ :‬كشف النقاب عن مغالطتهم في هذا الشعار‪ ،‬وأ ّ‬

‫لّمة إلى الحاكم‪ ،‬وبعبارة ُاخرى ضرورة الحكومة‪.‬‬


‫الثاني‪ :‬حاجة ا ُ‬

‫الثالث‪ :‬شرح وظائف الحاكم العادل وايجازها في سبع‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬نتيجة وجود الحكومة العادلة‪.‬‬

‫وقد نقل المرحوم السيد الرضي )ره( آخر هذه الخطبة نفس هذا المضمون طبق رواية أخرى بعبارات أقصر‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة النعام ‪ ;57 /‬سورة يوسف ‪ 40 /‬و ‪.67‬‬

‫] ‪[ 274‬‬

‫] ‪[ 275‬‬

‫ل‪َ ،‬وِإّنُه ل‬‫ن‪ :‬ل ِإْمَرَة ِإّل ِّ‬ ‫ن َهُؤلِء َيُقوُلو َ‬ ‫ل َوَلِك ّ‬‫حْكَم ِإّل ِّ‬
‫طٌل! َنَعْم ِإّنُه ل ُ‬ ‫ق ُيراُد ِبها با ِ‬
‫حّ‬ ‫»قاَل)عليه السلم(‪َ :‬كِلَمُة َ‬
‫جَمُع ِبِه‬‫جَل َوُي ْ‬
‫ل ِفيها اَْل َ‬ ‫سَتْمِتُع ِفيها اْلكاِفُر‪َ ،‬وُيَبّلُغ ا ّ‬
‫ن‪َ ،‬وَي ْ‬
‫جر َيْعَمُل ِفي ِإْمَرِتِه اْلُمْؤِم ُ‬ ‫ن َأِمير َبّر َأْو فا ِ‬ ‫ُبّد ِللّناس ِم ْ‬
‫جر‪.‬‬‫ن فا ِ‬ ‫ح ِم ْ‬ ‫سَترا َ‬‫ح َبّر َوُي ْ‬‫سَتِري َ‬
‫حّتى َي ْ‬ ‫ي; َ‬ ‫ن اْلَقِو ّ‬‫ف ِم َ‬
‫ضِعي ِ‬ ‫خُذ ِبِه ِلل ّ‬
‫سُبُل َوُيْؤ َ‬
‫ن ِبِه ال ّ‬
‫يُء‪َ ،‬وُيقاَتُل ِبِه اْلَعُدّو‪َ ،‬وَتْأَم ُ‬
‫اْلَف ْ‬

‫ظُر ِفيُكْم‪َ .‬وقاَل‪َ :‬أّما اِْلْمَرُة اْلَبّرُة َفَيْعَمُل‬ ‫ل َأْنَت ِ‬


‫حْكَم ا ّ‬ ‫حِكيَمُهْم قاَل‪ُ :‬‬‫سِمَع َت ْ‬
‫خَرى َأّنُه)عليه السلم( َلّما َ‬ ‫ِفي ِرواَية ُأ ْ‬
‫طَع ُمّدُتُه َوُتْدِرَكُه َمِنّيُتُه«‪.‬‬‫ن َتْنَق ِ‬
‫ي‪ِ ،‬إَلى َأ ْ‬
‫شِق ّ‬
‫جَرُة َفَيَتَمّتُع ِفيها ال ّ‬
‫ي‪َ ،‬وَأّما اِْلْمَرُة اْلفا ِ‬ ‫ِفيها الّتِق ّ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫ل« بقوله »كلمة حق يراد بها باطل« ثم‬ ‫ل ّ‬


‫أشار المام)عليه السلم( إلى الشعار الذي رفعه الخوارج »لحكم إ ّ‬
‫ل ولكن هؤلء‬ ‫ل ّ‬‫بين)عليه السلم(بطلن ما أراده الخوارج من تحريفهم لهذا الكلم الحق بقوله »نعم إّنه لحكم إ ّ‬
‫ل« خطأ الخوارج في هذا الشعار الحق الذي إقتبسوه من القرآن أّنهم أرادوا به أن الحكومة‬ ‫ل ّ‬‫يقولون‪ :‬ل إمرة إ ّ‬
‫ل‪ ،‬ومن هنا فقد إعترضوا على مسألة التحكيم ورأوها نوعًا من الشرك‪ ،‬وذلك لّنها منحت الحكومة‬ ‫بين الناس ّ‬
‫ل‪ ،‬وعليه لبّد‬
‫ل إذا كان الحكم مقتصرًا على ا ّ‬ ‫ل من الفراد! فمن البديهي أن يكون الحاكم بين الناس هو ا ّ‬‫لغير ا ّ‬
‫من إزالة أصل الحكومة‪َ ،‬لما وعليه من إزالة القضاء والمحاكم بالتبع فهى من قبيل الحكومة التي يمارسها‬
‫ل على مستوى الحاكمية والتخلص من الشرك في هذا‬
‫الفراد‪ .‬لقد خيل لتلك الفئة أّنها تريد أن تعيش توحيد ا ّ‬
‫ل أّنهم إثر جهلهم وتعصبهم سقطوا في مستنقع الفوضى والهرج والمرج ورفض الحكومة في أوساط‬ ‫المجال‪ ،‬إ ّ‬
‫المجتمعات البشرية‪ ،‬واصيبوا بالهلوسة التي‬

‫] ‪[ 276‬‬

‫ن رعاية التوحيد تتطلب نفي كافة ألوان الحكومة والمرة‪ ،‬غير أّنهم سرعان ما وقفوا على‬ ‫جعلتهم يعتقدون بأ ّ‬
‫بطلن مذهبهم في الحكومة لما شعروا بحاجتهم إلى من يتزعمهم ويحكم بينهم‪ ،‬رغم عنادهم الذي أفرزه جهلهم‬
‫والذي لم يدعهم يفيقون إلى أنفسهم‪ .‬مع ذلك فقد قضت كلمات المام)عليه السلم(مضاجعهم واستطاعت أن تفعل‬
‫فعلها في ميدان القتال فجعلت الكثير منهم يعودون إلى رشدهم فيعلنوا توبتهم بعد أن وقفوا على عمق إنحرافهم‪،‬‬
‫ل سبحانه; حتى‬ ‫ن الحاكم وا لمشرع الصلي هو ا ّ‬ ‫ن المام)عليه السلم(يؤكد في هذه الخطبة أ ّ‬ ‫على كل حال فا ّ‬
‫ل ينبغي أن يحضر بنفسه في المحاكم‬ ‫ن هذا ليعني أن ا ّ‬ ‫لأّ‬ ‫الحكم بين الناس لبّد أن يستند إلى تخويل منه‪ ،‬إ ّ‬
‫ل على منطقة‪،‬‬ ‫لمور فيمارس وظيفته كرئيس للبلد أو واليًا وعام ً‬ ‫ليقضي ويحكم بين الناس‪ ،‬أو أن يأخذ بزمام ا ُ‬
‫أو أن يوكل هذه المهمة إلى الملئكة فيبعثهم إلى الرض‪ .‬فهذا كلم عبثي ولغو فارغ ل يرتضيه من كان له أدنى‬
‫ن المؤسف هو أن هذه الفكرة كانت متأصلة في أفكار الخوارج‪ ،‬ومن هنا خالفوا‬ ‫لأّ‬ ‫فهم وإدراك‪ ،‬إ ّ‬
‫ن الخوارج‬ ‫أميرالمؤمنين)عليه السلم(واعترضوا عليه‪ :‬لم قبلت التحكيم؟! وصرح بعض شّراح نهج البلغة بأ ّ‬
‫يزعمون أن الحكم يتطلب الذن اللهي ولبّد أن يصرح القرآن بهذا المر‪ ،‬بينما لم يأذن القرآن لحد‪ .‬ولعل هذا‬
‫هو الذي دفع بعض العلم)‪ (1‬لن يستدلون على نفي عقيدة الخوارج بالية القرآنية الشريفة الواردة بشأن الحكم‬
‫قا ّ‬
‫ل‬ ‫صلحًا ُيَوّف ِ‬ ‫ن ُيِريدا ِإ ْ‬
‫ن َأْهِلها ِإ ْ‬
‫حَكمًا ِم ْ‬
‫ن َأْهِلِه َو َ‬
‫حَكمًا ِم ْ‬
‫ق َبْيِنِهما َفاْبَعُثوا َ‬
‫شقا َ‬
‫خْفُتْم ِ‬
‫ن ِ‬
‫في الختلفات العائلية )َوِإ ْ‬
‫خِبـيرًا()‪ .(2‬فاذا كانت هذه المسألة الصغيرة تحتاج إلى الحكم فما ظنك بالمسائل المهمة‬ ‫عِلـيمًا َ‬
‫ن َ‬‫ل كا َ‬‫نا ّ‬
‫َبْيَنُهما ِإ ّ‬
‫التي يدعو الختلف فيها إلى تفشي الهرج والمرج في صفوف المجتمع‪ ،‬أفل ينبغي فصل هذه الختلفات وحلها‬
‫ن المام)عليه السلم(لم يكن مخالفًا لمسألة التحكيم في بعض الحالت‪،‬‬ ‫عن طريق الحكم؟! ومن هنا يرى البعض أ ّ‬
‫ل أّنه لم يكن يوافق شخص الحكمين وكان يعترض عليهما بشدة‪.‬‬ ‫إّ‬

‫ن لخوارج‪ .‬كما أشرنا سابقا ـ لم‬


‫ثم واصل المام)عليه السلم( كلمه في ضرورة تشكيل الحكومة‪ ،‬ل ّ‬

‫لمة الخوئي ‪ 183 / 4‬من شرح نهج البلغة قد أشار إلى هذا المعنى‪ ،‬ويستفاد من التأريخ الكامل لبن أثير أن ابن عباس احتج‬ ‫‪ .1‬الع ّ‬
‫على الخوارج بهذه الية )الكامل ‪.(327 / 3‬‬

‫‪ .2‬سورة النساء ‪.35 /‬‬

‫] ‪[ 277‬‬

‫ل أّنهم‬
‫يخالفوا مسألة التحكيم في صفين فحسب‪ ،‬بل شككوا في أصل الحكومة وزعموا عدم الحاجة إلى الحاكم‪ ،‬إ ّ‬
‫ل بن وهب الراسبي)‪ .(1‬ثم علل المام)عليه السلم( ضرورة تشكيل‬ ‫رجعوا عن ذلك لما أمروا عليهم عبدا ّ‬
‫الحكومة والحاكم »وإّنه لبّد للناس من أمير بر أو فاجر« ليذكر سبعة فوائد تترتب على قيام الحكومة بعضها‬
‫ل‪» :‬يعمل في إمرته)‪ (2‬المؤمن«‪(3).‬‬‫يتصل بالجانب المعنوي والبعض الخر بالجانب المادي وهى‪ :‬أو ً‬

‫ل فيها الجل«‪ ،‬رابعًا‪» :‬ويجمع به الفيئ«‪ ،‬خامسًا‪» :‬ويقاتل به‬


‫ثانيًا‪» :‬ويستمتع فيها الكافر«‪ ،‬ثالثًا‪» :‬ويبلغ ا ّ‬
‫العدو« سادسًا‪» :‬وتأمن به السبل« سابعًا‪» :‬ويؤخذ به للضعيف من القوي«‪ .‬ثم تفضي هذه الوظائف السبع إلى‬
‫ن فئة‬
‫هذه النتيجة النهائية المترتبة على الحكومة »حتى يستريح بر ويستراح من فاجر«‪ .‬ويدل التأريخ السياسي أ ّ‬
‫قليلة جدًا في الماضي وحتى في الوقت الراهن هى التي لترى ضرورة تشكيل الحكومة ـ مستدلة ببعض الدلة‬
‫الجوفاء التي سنشير لها في البحث القادم ـ والخوارج مصداق لهذه الفئة‪ .‬وقد رد التأريخ بصراحة على هذه الفكرة‬
‫حة فقد رأينا بأم أعيننا وسمعنا بملئ آذاننا مدى الخطار الجسام التي يواجهها المجتمع إبان إنهيار الحكومة‬ ‫الساذ ِ‬
‫ولو لساعات من قبيل قتل النفس وإراقة الدماء وعمليات السرقة والسلب والنهب التي تتعرض لها المؤسسات بل‬
‫حتى بيوت الناس وانتهاك العراض والنواميس وانعدام المن والستقرار وسيادة الفوضى والهرج والمرج‬
‫الضطراب وشل حركة كافة النشاطات الجتماعية; كما تصبح البلد لقمة سائغة للعداء الذين يعيثون في‬
‫الرض فسادًا فل يسلم المؤمن من شرهم ول الكافر فتهضم جميع الحقوق ويعيش الناس الخوف والذعر فمما‬
‫لشك فيه أن الف باء الحياة إّنما يكمن في إستتباب المن والنظام‪ ،‬ثم وجود العناصر المقتدرة التي تقف كالطود‬
‫ل في ظل الحكومة‪ .‬وهنا يبرز هذا‬ ‫الشامخ بوجه العدو الخارجي وعملئه في الداخل‪ ،‬ول يتيسر مثل هذا المر إ ّ‬
‫السؤال‪ :‬هل يسع الحاكم الفاجر أن يقوم بالوظائف السبع المارة الذكر التي يقوم بها الحاكم البر والعادل؟ فقد‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.308 / 2‬‬

‫‪» .2‬إمرة« على وزن عبرة مصدر أو إسم مصدر من مادة »أمر«‪ ،‬و»المرة« هنا بمعنى الحكومة‪.‬‬

‫‪ .3‬واضح ان الضمير في إمرته يعود إلى مطلق المير سواء البر أو الفاجر وكذلك ضمير فيها‪ ،‬وليس صحيح ما اورده بعض شّراح‬
‫ن الول يعود إلى البر والثاني إلى الفاجر‪ ،‬أو كلهما للفاجر‪.‬‬
‫نهج البلغة من أ ّ‬

‫] ‪[ 278‬‬

‫ذكرها المام)عليه السلم(لكليهما‪ ،‬بحيث يقوم كل منهما بهذه الوظائف‪ .‬وللجابة على هذا السؤال لبّد من‬
‫ل أّنها ليست كذلك بالنسبة‬‫ن الحاكم البر إّنما يقوم قطعا بمثل هذه الوظائف‪ ،‬إ ّ‬‫اللتفات إلى هذه النقطة وهى أ ّ‬
‫للفاجر بصورة مطلقة نعم يمارسها بصورة نسبية‪ ،‬فهو مضطر لستمرار حكومته أن يراعي النظام‪ ،‬ويقف بوجه‬
‫ل فان الناس ستخرج عليه وتتزلزل‬ ‫العدو الخارجي ويحول نسبيا دون ظلم الظلمة‪ ،‬وان كان في حد ذاته ظالمًا; وا ّ‬
‫ن أغلب الحكومات مهما كان تتسعى فهى جاهدة للقيام بتلك الوظائف‬ ‫دعائم حكومته فيطيح به العداء‪ ،‬ومن هنا فا ّ‬
‫ن أية حكومة تتساهل في الوظائف المذكورة إّنما تكون قد مهدت السبيل إلى تصدع‬ ‫المذكورة‪ .‬ونخلص مّما سبق أ ّ‬
‫ن المام)عليه السلم( قد فرق بين المؤمن والكافر‪ .‬فقال)عليه السلم( بشأن‬ ‫كيانها وإنهيارها‪ .‬السؤال الخر هو أ ّ‬
‫ن المؤمن ليهدف في حياته إلى الستفادة من‬ ‫المؤمن »يعمل« والكافر )يستمتع( فما علة ذلك؟ والجواب هو أ ّ‬
‫ل بالتبع‬
‫ل‪ ،‬وما إستفادته من متع الدنيا إ ّ‬‫المكانات المتاحة من أجل التمتع العابر‪ ،‬بل هدفه الصلي الفوز برضى ا ّ‬
‫ل‪ ،‬بل يقصر همه على‬ ‫وكونها مطلوبًا ثانويًا‪ ،‬وليس الحال كذلك بالنسبة للكافر‪ ،‬فهو ليس فقط ل ينشد رضى ا ّ‬
‫هذه الحياة الدنيا ليتمتع فيها وإن كان ذلك من خلل الحرام والطرق اللمشروعة‪ ،‬ومن هنا صرح المام)عليه‬
‫ن الحكومة ضرورة للطرفين المؤمن والكافر‪ ،‬يعمل فيها هذا ويتمتع فيها ذاك‪ ،‬ولول الحكومة لما وسع‬ ‫السلم(بأ ّ‬
‫المؤمن العمل ول الكافر الستقرار والتمتع‪.‬‬

‫—–‬

‫ن المام)عليه السلم(لما سمع تحكيمهم قال‪:‬‬ ‫قال السيد الرضي )ره( في ذيل هذه الخطبة‪ ،‬وفى رواية أخرى أ ّ‬
‫ل‪ ،‬وأنا أنتظر‬
‫ل أنتظر فيكم« فالعبارة يمكن أن تكون إقتباسًا من كلمهم للرد عليهم فأنتم تقولون الحكم ّ‬‫»حكم ا ّ‬
‫هذا الحكم فيكم‪ ،‬فاّنه سيحكم فيكم بالعقاب الشديد لهذه اللجاجة والجهل وتفريق صفوف المؤمنين‪ .‬أو أني انتظر‬
‫ل‪ .‬ثم أضاف السيد الرضي )ره( ـ على ضوء‬ ‫اتمام الحجة عليكم فمن بقي على جهله وتعصبه أجريت عليه حكم ا ّ‬
‫هذه الرواية ـ وقال)عليه السلم(»أما المرة البرة فيعمل فيها التقي‪ ،‬وأما المرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي‪ ،‬إلى‬
‫أن تنقطع مدته وتدركه منيته«‪ .‬ولكن بالستناد إلى مفهوم هذه العبارة في أن الفجار يحرمون من التمتع المباح في‬
‫حكومة البر‪ ،‬ول يستشعر المؤمنون الستقرار والسكنية في‬

‫] ‪[ 279‬‬

‫ن الرواية‬
‫ن الحكومة ضرورة برة كانت أم فاجرة( يبدو أ ّ‬
‫ظل حكومة الفاجر )وهذا يتناقض وهدف الخطبة في أ ّ‬
‫الولى أصح وأنسب وأدق‪.‬‬

‫ل أنتظر فيكم«‪ :‬لما رجع‬‫هذا وقد ورد في شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ما يوضح العبارة المذكورة »حكم ا ّ‬
‫علي)عليه السلم( من صفين إلى الكوفة‪ ،‬أقام الخوارج حتى جموا )جموا بمعنى إستراحوا وكثروا( ثم خرجوا‬
‫ن عليًا ومعاوية أشركا في‬ ‫ل ولو كره المشركون‪ :‬أل أ ّ‬
‫ل ّ‬‫إلى صحراء بالكوفة تسمى حروراء‪ ،‬فنادوا‪ :‬ل حكم إ ّ‬
‫ل ولو كره‬‫ل ّ‬
‫ل‪ .‬فدخل واحد منهم على علي)عليه السلم(بالمسجد‪ ،‬والناس حوله‪ ،‬فصاح‪ :‬لحكم إ ّ‬ ‫حكم ا ّ‬
‫ل ولو كره المتلفتون‪ ،‬فرفع علي)عليه السلم( رأسه إليه‪ .‬فقال‪ :‬ل‬ ‫ل ّ‬‫المشركون‪ ،‬فتلفت الناس فنادى‪ :‬ل حكم إ ّ‬
‫ل‪ ،‬ثم قال‪ :‬حكم ا ّ‬
‫ل‬ ‫ن أبالحسن ليكره أن يكون الحكم ّ‬ ‫ل ولو كره أبوحسن‪ .‬فقال علي)عليه السلم(‪ :‬إ ّ‬ ‫ل ّ‬‫حكم إ ّ‬
‫أنتظر فيكم‪ .‬فقال له الناس‪ :‬هل ملت يا أميرالمؤمنين على هؤلء فأفنيتهم! فقال‪ :‬إّنهم ليفنون‪ ،‬إّنهم لفي أصلب‬
‫الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة‪(1) .‬‬
‫تأّملن‬

‫‪ 1‬ـ بلء التحريف‬

‫لم يقتصر تأويل الحقائق وتحريف اليات القرآنية على الخوارج بغية الوصول إلى مآربهم وأهدافهم المشبوهة‪،‬‬
‫بل إذا تصفحنا تأريخ البشرية لوجدنا قضية تحريف الحقائق من الحراب والوسائل الفعاله التي إعتمدها الظلمة‬
‫ل وكلم النبياء والولياء وفسروها حسب‬ ‫والطواغيت على مر العصور‪ .‬فقد مارس هؤلء أبشع تحريف لكلم ا ّ‬
‫أهوائهم وهم ينشدون هدفين‪ :‬الهدف الول خداع الناس والخر خداع أنفسهم‪ .‬وما قضية النمرود مع نبي ا ّ‬
‫ل‬
‫إبراهيم)عليه السلم(وفرعون مع موسى)عليه السلم(والتي تطرقت لها أغلب اليات القرآنية في سورة البقرة‬
‫وطه وسائر السور منك ببعيد فقد كانوا يقولون كلمات حق ول يريدون بها سوى الباطل من أجل خداع من حولهم‬
‫والتغرير بهم‪ .‬ونشاهد اليوم أبشع صور هذا التحريف وكلمات الحق التي يراد بها‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.310 / 2‬‬

‫] ‪[ 280‬‬

‫الباطل من قبيل كلماتهم في الحرية والديمقراطية والكرامة النسانية وحقوق النسان والثقافة والحضارة والمدنية‬
‫ومكافحة الرهاب وما إلى ذلك من الشعارات التي تلقلق بها ألسنة الطواغيت والجبابرة‪ ،‬ول يريدون بها سوى‬
‫الباطل‪ ،‬بل هنالك منافسة كبرى بين هؤلء الطغاة في إنتخاب الشعارات البراقة الكثر تأثيرًا وخداعًا من أجل نيل‬
‫لّمة إلى عظم الخطار المحدقة‬ ‫أهدافهم المشؤومة‪ .‬ومن هنا تشتد وظيفة العلماء العلم في ضرورة تنبيه ا ُ‬
‫لّمة الثقافي‬
‫وضرورة التحلي باليقظة والوعي وعدم النزلق وراء هذه الشعارات الزائفة ليرفعوا من مستوى ا ُ‬
‫فل تنطلي عليها خدع الستكبار وألعيبه‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ضرورة تشكيل الحكومة‬

‫ن مسألة تشكيل الحكومة تعد من المسائل التي كثر الحديث فيها الوساط العملية على المستوى النظري دون أن‬ ‫إّ‬
‫يتسرب الشك إليها على المستوى العملي قط‪ .‬فقد شهدت البشرية طيلة التأريخ قيام الحكومة سواء كانت قبيلة‬
‫يتزعمها رئيس القبيلة أو هذه الحكومات الطبيعة التي يترأسها الملك والسلطان والحاكم‪ ،‬حتى تجلت اليوم بهذا‬
‫الشكل الجماهيري فأصبح يقودها رئيس الجمهورية‪ ،‬ول يحتاج قيامها إلى دليل فالمجتمع مهما كان حجمه إّنما‬
‫يحتاج إلى المن والستقرار ورعاية الحقوق والحيلولة دون نشوب النزاعات والخلفات‪ ،‬ول تتيسر مثل هذه‬
‫ل في ظل الحكومة ووجود الحاكم‪ .‬وقد أتضحت هذه المسألة اليوم أكثر في المجتمعات المعاصرة‪،‬‬ ‫لمور إ ّ‬
‫اُ‬
‫فهنالك الفعاليات والنشطة الثقافية والقتصادية والسياسية التي ل يكتب لها النجاح لول الشراف المباشر من قبل‬
‫ل أن هنالك بعض‬ ‫الحكومة‪ ،‬بل الحكومة هى تبلور هذه النشطة أن تركت ممارستها وتنفيذها لبناء المجتمع‪ ،‬إ ّ‬
‫ن الشعب قادر‬ ‫الفراد والنزعات في الماضي والحاضر التي تتبنى شعار غياب الحكومة وعدم الحاجة إليها وأ ّ‬
‫ن فلسفة قيام الدولة إّنما تنبع‬
‫على إدارة شؤونه دون قيام الدولة‪ ،‬بل ذهب الماركسيون أبعد من ذلك ليصرحوا با ّ‬
‫من فكرة حفظ المصالح الطبقية! والرأسماليون هم الذين ينهضون بهذه المهمة‪ ،‬فاذا ما أزيلت الفوارق الطبقة فا ّ‬
‫ن‬
‫ن الماركسية وسائر النزعات عجزت حتى الن‬ ‫لأّ‬‫فلسفة تشكيل الحكومة ستنتفي ول تعد هناك ضرورة لقيامها‪ ،‬إ ّ‬
‫عن طرح‬

‫] ‪[ 281‬‬

‫نموذجها العملي في الميدان; المر الذي يؤكد خواء هذه النزعات وإقتصارها على الجوانب النظرية‪ ،‬لقد تناسى‬
‫ن وظيفة الدولة والحكومة ـ ولو سلنا لما ذكروه ـ لتقتصر على حفظ المصالح الطبقية‪،‬‬ ‫أصحاب هذه النظريات أ ّ‬
‫بل هنا لك سلسلة من البرامج الجتماعية والمشاريع والمخططات المرتبطة بكافة الفراد في جميع المجالت‬
‫والتي تنهض بعبئها الدولة‪ .‬فالتربية والتعليم ضرورية لجميع الطبقات‪ ،‬فهل يمكن القيام بهذه الوظيفة دون برمجة‬
‫لمور القتصادية في المجتمع في القطاع الزراعي والصناعي‬ ‫وإختيار من ينهض بمسؤولية هذا العمل؟ ا ُ‬
‫والتجاري والتي يتطلب كل حقل منها تخطيط شامل وكامل وتحتاج إلى إدارة صحيحة ووزير‪ ،‬قطاع الصحة‬
‫المرتبط بكافة أبناء الشعب والذي يحتاج بدوره إلى مشاريع وبرامج تخصصية وإشراف تام‪ ،‬فهل يمكن قيام مثل‬
‫لمور في حالة غياب الدولة ناهيك عن النزاعات والخصومات والحاجه إلى البت في الدعاوى من قبيل‬ ‫هذه ا ُ‬
‫ل في ظل تشكيل الحكومة‪ ،‬والتي تتقوم‬ ‫لمور هى الخرى ل تحقق إ ّ‬ ‫الجهاز القضائي والمحاكم‪ ،‬وكل هذه ا ُ‬
‫لمم والشعوب رغم اختلف أفكارها‬ ‫برئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية وما شابه ذلك‪ .‬ومن هنا كانت ا ُ‬
‫ل أّنها تتبنى نوعًا من أنواع الحكومة‪ .‬وهذا هو المر الذي أشار إليه المام)عليه السلم( في الخطبة‬ ‫وعقائدها‪ ،‬إ ّ‬
‫كما تطرق إلى ذكر الوظائف الملقاة على عاتق الحاكم‪ ،‬كما قال في موضع آخر بهذا الشأن »سلطان ظلوم خير‬
‫ن الحكومات مهما كانت ظالمة متجبرة ال أّنها تسعى لن تراعي جانب‬ ‫من فتنة تدوم«)‪ (1‬حيث أشرنا سابقًا إلى أ ّ‬
‫ل أّنها على القل ل تدع الخرين يمارسون الظلم‪ ،‬فالحكومة‬ ‫المن والعدل وما إلى ذلك‪ ،‬مع العلم أّنها قد تظلم إ ّ‬
‫عادلة كانت أم ظالمة لن تدوم في ظل الفوضى والضطراب‪ ،‬وأّنها تؤول ل محالة إلى السقوط النهيار‪ ،‬ومن هنا‬
‫ن كافة الحكومات تسعى للحيولة دون الهرج والمرج وتقدم مشاريعها من أجل البناء والعمران‪ ،‬ولعل هذا‬ ‫فا ّ‬
‫المعنى يتجسد في ما أشار إليه الحديث المعروف »الملك يبقى مع الكفر ول يبقى مع الظلم«‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬ميزان الحكمة ‪.98 / 1‬‬

‫] ‪[ 282‬‬

‫خطأ إبن أبي الحديد‬

‫ن المامة واجبة وقد إختلف‬


‫قال ابن أبي الحديد في تعليقه على هذه الخطبة‪ :‬هذا نص صريح منه)عليه السلم( با ّ‬
‫صّم من قدماء أصحابنا‬
‫ل ما يحَكى عن أبي بكر ال َ‬‫الناس في هذه المسألة فقال المتكّلمون‪ :‬كلمة المامة واجبة; إ ّ‬
‫أّنها غيُر واجبة; إذا تناصفت الّمة; ولم تتظالم‪.‬‬

‫ن هذا القول منه غيُر مخالف لما عليه الّمة; لنه إذا كان ل يجوز في العادة أن‬ ‫خرون من أصحابنا‪ :‬إ ّ‬‫وقال المتأ ّ‬
‫ل أن يقول‪ :‬إّنه يجوز‬
‫ل حال; الّلهم إ ّ‬
‫تستقيم أموُر الناس من دون رئيس يحكم بينهم; فقد قال بوجود الرئاسة على ك ّ‬
‫خنا‬
‫أن َتسَتقيم أموُر الناس من دون رئيس; وهذا بعيد أن يقوله‪ :‬فأما طريق وجوب المامة ما هى؟ فإن مشاي َ‬
‫ل على وجوبها‪.‬‬ ‫ل يقولون طريق وجوبها الشرع‪ ،‬وليس في العقل ما يد ّ‬ ‫البصريّين رحمهم ا ّ‬

‫ل على‬‫ل يد ّ‬‫ن العق َ‬


‫ل تعالى‪ :‬إ ّ‬
‫وقال البغداديون وأبو عثمان الجاحظ من البصريين‪ ،‬وشيخنا أبو الحسين رحمه ا ّ‬
‫ن الوجه الذي منه يوجب أصحابنا الرئاسة غير الوجه الذي توجب‬ ‫لأّ‬ ‫وجوب الرياسة; وهو قول المامية‪ ،‬إ ّ‬
‫عَلى المكّلفين‪ ،‬من حيث كان في الرياسة مصالح‬ ‫ن أصحابنا يوجبون الرئاسة َ‬ ‫المامية منه الرئاسة‪ ،‬وذاك أ ّ‬
‫طف وبعٌد‬ ‫ل تعالى‪ ،‬من حيث كان في الرئاسة ُل ْ‬ ‫عَلى ا ّ‬
‫دنيوية‪ ،‬ودفع مضاّر دنيوية‪ .‬والمامية ُيوجبون الرئاسة َ‬
‫للمكّلفين عن مواقعة القبائح العقلية‪.‬‬

‫ل تراه كيف عّلل قوله‪» :‬ل بّد للناس من‬


‫والظاهر من كلم أميرالمؤمنين عليه السلم يطاِبق ما يقوله أصحابنا‪ ،‬أ َ‬
‫ى! وهذه كّلها‬
‫سبل‪ ،‬ويؤخذ للضعيف من القو ّ‬ ‫جمع به الفىء‪ ،‬ويقاَتل به العدّو وتؤَمن به ال ّ‬
‫أمير«‪ ،‬فقال في تعليله‪ُ :‬ي َ‬
‫من مصالح الدنيا‪.‬‬

‫ف بقول أميرالمؤمنين عليه السلم عن الخوارج إّنهم‬


‫ن الناس كاّفة قالوا بوجوب المام‪ ،‬فكي َ‬
‫ن قيل‪ :‬ذكرتم أ ّ‬
‫فإ ْ‬
‫يقولون‪» :‬ل إمرة«‪.‬‬

‫قيل‪ :‬إّنهم كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك‪ ،‬ويذهبون إلى أّنه ل حاجَة إلى المام‪ ،‬ثم رجعوا عن ذلك القول لما‬
‫ي‪.‬‬
‫ل بن وهب الّراسب ّ‬
‫أّمروا عليهم عبَدا ّ‬

‫ويبدو أن خطأ إبن ابي لحديد نابع من حصره الوظائف السبع التي ذكرها أميرالمؤمنين)عليه السلم(كهدف‬
‫ن العبارة »يعمل في إمرته الؤمن«‬
‫للحكومة بالمصالح المادية‪ ،‬والحال أ ّ‬
‫] ‪[ 283‬‬

‫لمور‬ ‫ن لكافة هذه ا ُ‬


‫ن عمل المؤمن يهدف الخرة ـ على كل حال وعلى فرض أ ّ‬ ‫إّنما تعالج المسائل المعنوية‪ ،‬ل ّ‬
‫ن كلم المام)عليه السلم( يدور حول محور إمارة الناس وحكومتهم التي تشكل أحد البعاد‬ ‫صبغة مادية‪ ،‬فا ّ‬
‫ن عقيدة علماء المامية ومتكلميهم في المام إّنه الحاكم في ُامور الدين والدنيا‬‫الوجودية للمام المعصوم‪ ،‬ل ّ‬
‫سر القرآن ومبين أحكامه وأعماله حجة على الناس‪ ،‬ومن هنا لبّد أن يكون معصومًا‪ ،‬ومعلوم‬ ‫ل ومف ّ‬
‫والهادي إلى ا ّ‬
‫ل وقد أجاب بعض شّراح‬ ‫ل‪ ،‬ولذلك يعتقدون أن المام ينصب من جانب ا ّ‬ ‫أن المعصوم ل يعرف سوى ا ّ‬
‫ن الخطبة تعالج قضية نصب المير وليست لها صلة بنصب المام من‬ ‫نهج البلغة على كلم إبن أبي الحديد بأ ّ‬
‫ل ولذلك قال)عليه السلم( »لبّد للناس من أمير بر أو فاجر« ونعلم أن المير الفاجر ليمكن أن يكون إمامًا‪ .‬ال‬ ‫ا ّ‬
‫ان ما أوردناه هو الجواب في أن المارة جزء من مسؤوليات المام )لبّد من الدقة في المر‪ (،‬والشاهد على ذلك‬
‫أن متكلمينا ذكروا في كتبهم العقائدية المصالح الدنيوية وما ورد في هذه الخطبة حين ذكرهم لدلة وجوب نصب‬
‫المام‪ .‬بعبارة ُاخرى فان الشيعة لترى المرة منفصلة عن المامة‪ ،‬أما الذعان لمرة الفاجر فليست على أساس‬
‫أّنها هدف نهائي‪ ،‬بل يدفع إليها الضطرار حين تتعذر حكومة المام المعصوم‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 284‬‬

‫] ‪[ 285‬‬

‫الخطبة)‪41 (1‬‬

‫ومن خطبة له )عليه السلم(‬

‫وفيها ينهى عن الغدر ويحذر منه‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫أشار المام)عليه السلم( في هذه الخطبة إلى ثلثة أمور مهّمة‪ :‬الول‪ :‬أهمية الوفاء وصدق الحديث‪ ،‬وذم ناقضي‬
‫ن الخداع والغدر والخيانة ليست من العقل والذكاء كما يظن ذلك الغدرة الفجرة‪ .‬والعقل والفطنة‬‫العهد‪ ،‬الثاني‪ :‬أ ّ‬
‫في الصدق والوفاء بالعهد‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬ضرورة إغتنام الفرص من أجل المبادرة إلى الخرة والوفاء بالعهود واللتزام بالمواثيق‪.‬‬

‫—–‬
‫ن رواية أبن طلحة تفيد‬ ‫ن ابن طلحة الشافعي عاش بعد السيد الرضي إّل أ ّ‬
‫‪ .1‬رواها ابن طلحة الشافعي في مطالب السئوال‪ ،‬صحيح أ ّ‬
‫أّنه عثر عليها في مصدر غير نهج البلغة‪ .‬ورواها الجاحظ في رسالة المعاش والمعاد وقال في مطلع الخطبة »الصدق والوفاء‬
‫تؤامان« وهذا يدل على أّنه رأها في المصادر التي صنفت قبل الرضي )لن الجاحظ عاش أوائل القرن الثالث بينما يعتبر السيد‬
‫الرضي من كبار علماء أواخر القرن الرابع( مصادر نهج البلغة ‪.440 / 1‬‬

‫] ‪[ 286‬‬

‫] ‪[ 287‬‬

‫حنا ِفي‬‫صَب ْ‬
‫جُع‪َ .‬وَلَقْد َأ ْ‬
‫ف اْلَمْر ِ‬‫عِلَم َكْي َ‬
‫ن َ‬ ‫جّنًة َأْوَقى ِمْنُه َوما َيْغِدُر َم ْ‬ ‫عَلُم ُ‬‫ق َول َأ ْ‬ ‫صْد ِ‬
‫ن اْلَوفاَء َتْوَأُم ال ّ‬ ‫»َأّيها الّناس‪ِ ،‬إ ّ‬
‫حّولُ‬
‫ل! َقْد َيَرى اْل ُ‬ ‫حيَلِة‪ .‬ما َلُهْم قاَتَلُهُم ا ّ‬‫ن اْل ِ‬‫سِ‬‫ح ْ‬ ‫جْهِل ِفيِه ِإَلى ُ‬ ‫سَبُهْم َأْهُل اْل َ‬
‫خَذ َأْكَثُر َأْهِلِه اْلَغْدَر َكْيسًا َوَن َ‬
‫َزمان َقِد اّت َ‬
‫نل‬ ‫صَتَها َم ْ‬
‫عَلْيَها‪َ ،‬وَيْنَتِهُز ُفْر َ‬‫عْين َبْعَد اْلُقْدَرِة َ‬‫ي َ‬‫عها َرْأ َ‬ ‫ل َوَنْهِيِه‪َ ،‬فَيَد ُ‬ ‫ن َأْمِر ا ّ‬‫حيَلِة َوُدوَنها ماِنٌع ِم ْ‬ ‫جَه اْل ِ‬‫ب َو ْ‬‫اْلُقّل ُ‬
‫ن«‪.‬‬ ‫جَة َلُه ِفي الّدي ِ‬ ‫حِري َ‬‫َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫ن الرابطة المعنوية بين هذه الخطبة‬


‫لأّ‬‫لم يذكر شّراح نهج البلغة ـ حسب علمنا ـ سبب إيراد هذه الخطبة‪ ،‬إ ّ‬
‫ن مسألة‬‫ن هذه الخطبة ناظرة لمعركة صفين وقضية التحكيم‪ ،‬ل ّ‬ ‫والخطبة رقم ‪ 35‬وسائر القرائن تشير إلى ا ّ‬
‫التحكيم المأساوية إتخذت أبعادًا واسعة في البحث والنقاش بين صفوف المسلمين ـ ولعل بعض الجهال نسب مكر‬
‫عمرو بن العاص وخيانته وغدره إلى الكياسة والفطنة; المر الذي قد يشجع الخرين لممارسة مثل هذه العمال‬
‫الشائنة البعيدة عن السلم وتعاليمه الحقة‪ ،‬ومن هنا خطب المام)عليه السلم( هذه الخطبة ليقبر هذه الفكار‬
‫المنحرفة ويحد من شياعها بين الناس‪ ،‬ثم عرض بالذم إلى المكرو والخديعة ونقض الميثاق وأشار إلى العواقب‬
‫الوخيمة التي تفضي إليها هذه العمال ثم أثنى على الوفاء والصدق فقد إستهل الخطبة بخطاب الجميع »أيها‬
‫الناس إن الوفاء توأم)‪ (1‬الصدق«‪ .‬التوأم بمعنى الذي يولد مع الخر في حمل واحد‪ ،‬ويستعمل بشأن كل شيئين‬
‫يرتبطان معا برابطة وثيقة‪ ،‬ومن هنا فقد شبه المام)عليه السلم(فضيلتي الوفاء والصدق بالتوأم ولعل التمعن في‬
‫مفهوم هاتين الصفتين ومصدرهما الفكري‬

‫ن الصدق نوع‬ ‫ن المر كذلك‪ ،‬فالوفاء يعني اللتزام بالعهد‪ ،‬وهو في الواقع نوع من الصدق‪ ،‬كما أ ّ‬ ‫الروحي يفيد أ ّ‬
‫من الوفاء‪ .‬والصدق ذو معنى واسع وشامل ليقتصر على الحديث‪ ،‬بل يشمل العمل أيضا‪ ،‬ومن هنا صرح القرآن‬
‫ن المراد بصدق العهد في الية هو‬ ‫عَلْيِه()‪ (1‬فمن الواضح أ ّ‬ ‫ل َ‬‫صَدُقوا ما عاَهـُدوا ا ّ‬
‫ل َ‬‫ن ِرجا ٌ‬
‫ن الُمـْؤِمِنـي َ‬
‫قائل‪ِ) :‬م َ‬
‫ظُر(‪ .‬ومن هنا تتضح عمق الرابطة‬ ‫ن َيْنَت ِ‬
‫حَبُه َوِمْنُهْم َم ْ‬
‫ن َقضى َن ْ‬
‫الصدق في العمل‪ ،‬ولذلك أردفت بالقول )َفِمْنُهْم َم ْ‬
‫بين الوفاء والصدق‪ ،‬فلو أبرم شخص عهدًا ونقض عهده فقد كذب‪ ،‬ومن هنا يمكن اعتبار ناقض العهد كاذبًا‪ ،‬ولما‬
‫ن المام)عليه السلم( قرن بهما الوفاء بالعهد ونقضه ليتضح‬ ‫كان حسن الصدق وقبح الكذب ظاهر لكافة الناس‪ ،‬فا ّ‬
‫حسنهما وقبحهما‪ .‬ثم تطرق المام إلى الثار اليجابية للوفاء بالعهد فقال‪» :‬ول أعلم جنة)‪ (2‬أوقى منه«‪ ،‬فهذه في‬
‫ن أساس الحياة الجتماعة يتمثل بالتعاون‬ ‫الواقع من أهم آثار الوفاء بالعهد وبركاته الدنيوية في أّنه جّنة وثيقة; ل ّ‬
‫ن الثقة المتبادلة تذلل‬
‫والتكافل والثقة المتبادلة واللتزام بالعهود والمواثيق الفردية والجتماعية‪ ،‬بعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫كثيرًا من المصاعب‪ ،‬بينما يتعذر حل هذه المصاعب إذا ما انعدمت الثقة وسلب العتماد بين الناس‪ ،‬ولذلك كانت‬
‫الدعامة الصلية للدين تتجسد في الوفاء بالعهود والمواثيق‪ ،‬حتى ورد في الحديث النبوي المعروف »لدين لمن‬
‫ل عليهم عدوهم« )‪ (4‬جدير بالذكر أن الجّنة بمعنى الدرع‬‫لعهد له« )‪(3‬كما ورد أيضًا »إذا نقضوا العهد سلط ا ّ‬
‫الذي يقي أخطار العدو في ميدان القتال‪ .‬تشبيه الوفاء بهذا الدرع يفيد كونه يشكل الوسيلة الدفاعية تجاه الخطار‬
‫الجتماعية التي تفرزها حالة الفوضى وعرقلة القوانين والمقررات‪ .‬ثم أشار)عليه السلم(إلى أبعاده المعنوية‬
‫لخروية فقال »وما يغدر من علم كيف المرجع«; المر الذي أشار إليه المام)عليه السلم(في نهج البلغة‬ ‫وا ُ‬
‫بقوله »لول كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس‪ ،‬ولكن كل غدرة فجرة‪ ،‬وكل فجرة كفرة ولكل‬

‫‪ .1‬سورة الحزاب ‪.23 /‬‬

‫‪» .2‬جنة« على وزن »غصة« بمعنى الدرع واشتقت في الصل من مادة جن على وزن فن بمعنى الستر ومنه المجنون‪ ،‬كما تطلق‬
‫الجنة على البستان كأنه تغطى بالشجار‪ ،‬ومنه الجنين المغطى برحم الم وإطلق الجن على تلك الجماعة لخفائها‪.‬‬

‫‪ .3‬نوادر الرواندي ‪.5 /‬‬

‫‪ .4‬بحارالنوار ‪.46 / 97‬‬

‫] ‪[ 289‬‬

‫غادر لواء يعرف به يوم القيامة«)‪ .(1‬ولما كان انحراف المجتمع عن المبادئ الخلقية يقود إلى تنكر القيم‬
‫وتبدلها‪ ،‬حتى يعد العهد والمكر والخداع كياسة واللتزام بالعهود سذاجة وبلهة فقد قال المام)عليه السلم(»ولقد‬
‫ن قيم المجتمع‬‫أصبحنا في زمان قد إتخذ أكثر أهله الغدر كيسًا ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحلية«! نعم فا ّ‬
‫ن ظهور مثل هذا الخلط ليبدو مستغربًا‪ ،‬فمن الطبيعي أن‬ ‫إذا تنكرت بفضلها المعيار والمحك للحسن من القبيح فا ّ‬
‫ن هذه الظاهرة‬ ‫يصبح المعروف منكرًا‪ ،‬والمنكر معروفًا‪ ،‬والملك شيطانًا والشيطان ملكًا وقديسًا‪ .‬ومّما يؤسف له أ ّ‬
‫قد تفشت وبشكل واسع في عالمنا المعاصر فقد ينظر إلى الثعالب المكرة في السياسة العالمية على أنهم الساسة‬
‫المهرة‪ ،‬بينها يرمون بالسذاجة وانعدام التجربة من يلتزم بالعهود والمواثيق ويراعون القيم النسانية واللهية في‬
‫ن نقض العهود واعتماد الكذب والخداع قد يجر على‬ ‫سياستهم‪ ،‬وما أصعب العيش في مثل هذا العالم‪ ،‬وبالطبع فا ّ‬
‫ن المفروغ منه أن عرى المجتمع‬ ‫لأّ‬‫صاحبه بعض المنافع على المدى القريب ويحظى بمديح هذا وثناء ذاك‪ ،‬إ ّ‬
‫إّنما تؤول إلى التصدع والنهيار على المدى البعيد‪ .‬ومن هنا فان الفراد من أهل اليمان والوفاء إّنما يسعون‬
‫لخرى مدعوة لرعاية‬ ‫لتحصين أموالهم وحفظ ثرواتهم من خلل المانة وإحترام العهد في المعاملة‪ ،‬والدولة هى ا ُ‬
‫هذا المر من أجل كسب ثقة سائر البلدان واستقطابها لضمان مصالح البلد القتصادية‪ .‬ومن هنا صرحت‬
‫ن هناك رابطة حميمة بين المانة والوفاء‪ ،‬رغم‬ ‫الرواية »المانة تجلب الغنى والخيانة تجلب الفقر«‪ (2).‬ول شك أ ّ‬
‫كونهما مفهومين منفصلين‪ ،‬ولذلك قال أميرالمؤمنين علي)عليه السلم(‪»:‬المانة والوفاء صدق الفعال« )‪ .(3‬قال‬
‫أحد أصحاب المام الصادق)عليه السلم(ويدعى عبدالرحمن بن سبابه‪ :‬ساءت حالي بعد وفاة أبي فلما حججت‬
‫البيت رأيت المام الصادق)عليه السلم(فقال لي‪ :‬أعظك؟ قلت بلى جعلت فداك‪ ،‬قال‪» :‬عليك بصدق الحديث‬
‫وأداء المانة تشرك الناس في أموالهم هكذا ـ وجمع بين أصابعه ـ قال فحفظت ذلك عنه‪ ،‬فزكيت ثلثمأة ألف‬
‫درهم«‪(4).‬‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.200‬‬

‫‪ .2‬بحارالنوار ‪.114 / 72‬‬

‫‪ .3‬غرر الحكم ح ‪ 83‬ـ ‪.2‬‬

‫‪ .4‬فروع الكافي ‪.124 / 5‬‬

‫] ‪[ 290‬‬

‫ل قد يرى الحول)‪(1‬القلب وجه‬


‫ثم رد)عليه السلم( على من إتهمه بعدم العلم بالسياسة فقال‪» :‬ما لهم قاتلهم ا ّ‬
‫ل ونهيه‪ ،‬فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها« أّما ذلك الذي ليتورع عن الذنب‬‫الحيلة ودونها مانع من أمر ا ّ‬
‫والمعصية وعدم الكتراث للدين فاّنه ينتهز الفرصة ليفعل ما يشاء فيراه البلهاء سياسيا ناجحا »وينتهز)‪(2‬‬
‫فرصتها من لحريجة)‪ (3‬له في الدين« فالمام)عليه السلم(يقول إنّ عدم استغللي للفرص الغدرة من أجل‬
‫ل‪ ،‬وإّني ل عتمد الورع والتقوى والعدل‬ ‫لمور‪ ،‬بل ذلك يعني أني أخاف ا ّ‬‫التفوق على العدو ليعني عدم علمي با ُ‬
‫ن أعدائي‬
‫لأّ‬ ‫حتى مع أعدى أعدائي‪ ،‬ول أرى الغاية تبرر الوسيلة‪ ،‬بل ل أومن بالنصر كيفما كانت قيمته وثمنه‪ ،‬إ ّ‬
‫ل يراعون أي من هذه المبادئ‪ ،‬فهم يقارفون كل جناية ول يتورعون عن أية جريمة‪ ،‬فل يقيمون وزنًا لدماء‬
‫البرياء‪ ،‬ول يتحرجون من الظلم والعدوان‪ ،‬ول يلتزمون بالعهود والمواثيق‪ ،‬نعم ليس لهم من هم سوى تحقيق‬
‫أهدافهم اللمشروعة بأية وسيلة‪ .‬فاذا رأى الناس تصرفاتهم وتحرجي عدوهم ساسة أكفاء‪ ،‬والحال ما هم ساسة‬
‫وأّنهم لحفنة من الظلمة الذين يفتقرون إلى الورع والتقوى‪.‬‬

‫السياسة اللهية والشيطانية‬

‫إن الختلف في الساليب السياسية إّنما تفرزه الرؤى بشأن الحكومة‪ ،‬فالسياسة التي ينتهجها ُاولئك الذين ينشدون‬
‫الحكومة من أجل ضمان مصالحهم الشخصية أو الفئوية‪ ،‬تختلف عن السياسة التي يتبعها ُاولئك الذين ليرون في‬
‫الحكومة سوى وسيلة لحفظ القيم والمثل‪ .‬فالحكومات السابقة كانت تتصف بالدكتاتورية المقيتة التي تتكرس في‬
‫فرد واحد مستبد غاشم يسعى جاهدًا لتحقيق مآربه وإشباع رغباته وضمان مصالح بطانته معتمدًا منطق القوة‬
‫والعنف من أجل ترسيخ دعائم حكومته فل يرى من حرمة لقيم ومثل سوى تلك التي تخدم مصالحه أّما اليوم‬
‫ن جوهرها وماهيتها لم تختلف كثيرًا عن‬ ‫لأّ‬ ‫ل‪ ،‬إ ّ‬
‫فالحكومات وإن تغّيرت شك ً‬

‫‪ .1‬ـ الحول القلب بضم الول وتشديد الثاني هو البصير بتحويل اُلمور وتقليبها ‪.‬‬

‫‪» .2‬ينتهز« من مادة »إنتهاز« بمعنى القدام على عمل‪ ،‬كما يعني الستفادة التامة من الفرصة‪.‬‬

‫‪» .3‬حريجة« من مادة »حرج« بمعنى التحرج والتحرز من الثام‪ ،‬ويأتى الحرج أحيانًا بمعنى الذنب‪.‬‬

‫] ‪[ 291‬‬

‫تلك التي كانت سائدة في الماضي‪ ،‬وان كان المعروف عن هذه الحكومات إقتحامها الميدان كفئات وأحزاب‪ .‬على‬
‫لمور في البلدان الصناعية المعاصرة‪ ،‬بحيث يسعى كل حزب‬ ‫ن الحزاب هى التي تمسك بزمام ا ُ‬ ‫سبيل المثال فا ّ‬
‫ح فئة معينة‪ ،‬ثم يعتمد كافة الوسائل من أجل الحصول على أكثر عدد من الراء بغية الوصول إلى‬ ‫لضمان مصال ِ‬
‫ن مثل هذه‬‫الحكومة‪ ،‬فاذا تسلموا الحكومة‪ ،‬أتوا بالفراد الذين يعملون على ترسيخ دعائم حكومته وبالطبع فا ّ‬
‫الحكومات قد تتبنى بعض الشعارات من قبيل حقوق النسان وحرية المرأة وأحيانًا يطرحون بعض المسائل‬
‫ل أّنهم يعلمون كما يعلم الخرون أّنهم ليسوا جادين في ما يقولون‪ ،‬فاصواتهم عادة ما تتعالى بحجة أن‬‫الخلقية‪ ،‬إ ّ‬
‫البلد الفلني ـ إذا كان من أعدائهم ـ قد إنتهك حقوق النسان‪ ،‬وان كان من أصدقائهم فقد يحظى بتأييدهم ودعمهم‬
‫وإن انتهك تلك الحقوق الف مرة كل يوم ـ وفى مقابل هذه الحكومات‪ ،‬هنالك حكومة النبياء والولياء التي ل‬
‫تعرف المصالح الفردية ول الفئوية‪ ،‬وهى قائمة على أساس القيم والمثل‪ .‬فالحكومات السابقة تصرح علنا بتعذر‬
‫الجمع بين السياسة والخلق‪ ،‬وعليه فالحاكم الذي يراعي المبادئ الخلقية إّنما يفتقر في الواقع حسب ظنهم إلى‬
‫العقل السياسي; وسوف لن يكتب لحكومته الدوام والستمرار‪ ،‬فالغاية تبرر الوسيلة‪ ،‬وكل ما يقرب من الهدف‬
‫لتمم مكارم الخلق«)‪(1‬‬ ‫فهو حسن ومطلوب‪ .‬بينما ترى الحكومة الخيرة ان شعارها يتكرس في »إّنما بعثت ُ‬
‫ل على العلماء أن ليقاروا على كظة ظالم ول سغب مظلوم‪ (2)«...‬أو »وإّنما خرجت لطلب‬ ‫أو »لو ل‪ ...‬ما أخذ ا ّ‬
‫الصلح في ُاّمة جدي)صلى ال عليه وآله(«)‪ (3‬ومن الطبيعي أن يكون هناك بونًا شاسعًا بين سياسة الحكومات‬
‫بالمعنى الول والحكومات اللهية‪ ،‬بل هناك تعارض وتضارب بينهما فالطائفة الولى تضحي بكل القيم وتذبحها‬
‫من أجل الوصول إلى دفة الحكم‪ ،‬بينما تخلت الطائفة الثانية بشهادة التأريخ عن الحكومة من أجل الحفاظ على‬
‫ل ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولول‬ ‫القيم والمثل‪ .‬وهذا ما وضحه المام)عليه السلم(في الخطبة »وا ّ‬
‫كراهية الغدر لكنت من‬

‫‪ .1‬كنز العمال ‪ 16 / 3‬ح ‪.5217‬‬


‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.3‬‬

‫‪ .3‬بحارالنوار ‪.329 / 44‬‬

‫] ‪[ 292‬‬

‫لل‬‫أدهى الناس«)‪ (1‬وقال)عليه السلم(‪» :‬أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه; وا ّ‬
‫أطور به‪ ،‬ما سمر سمير‪ ،‬وما أم نجم في السماء نجمًا« )‪ (2‬والختلف بين هاتين الرؤيتين في السياسة اللهية‬
‫والسياسة الشيطانية هو الذي يجعل بعض الفراد يشكلون أحيانًا على الساسة الربانيين ويحملون أعمالهم على‬
‫ن هؤلء الفراد إّنما يحثون السير‬ ‫السذاجة وعدم المعرفة بفنون السياسة‪ ،‬بينما يغفلون عن حقيقة كبرى وهى أ ّ‬
‫ل لما غلب معاوية أهل العراق على‬ ‫إلى عالم آخر ل تجيز مبادئه وضوابطه التشبث بأي أسلوب وطريقة‪ .‬فمث ً‬
‫الماء منعهم منه‪ ،‬فلما حمل أهل العراق إنكشف أهل الشام عن الماء‪ ،‬وملك أهل العراق المشرعة ـ فقال أصحاب‬
‫علي)عليه السلم(‪ :‬أمنعهم الماء يا أميرالمؤمنين كما منعوك ـ فقال‪» :‬ل‪ ،‬خلوا بينهم وبينه‪ ،‬ل أفعل ما فعله‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( إلى أصحابه الذين أشاروا عليه‬ ‫ل عجب من ذلك عدم إلتفات رسول ا ّ‬ ‫الجاهلون‪ (3) .‬وا ّ‬
‫بمنع اليهود الماء حين محاصرة قلع خيبر فلم يجبهم)صلى ال عليه وآله(«)‪ (4‬ويتعجب أولئك الغافلون حين‬
‫ل‪» :‬اليمان قيد الفتك« )‪.(5‬‬ ‫يسمعون مسلم بن عقيل وقد إمتنع عن قتل إبن زياد غيلة في دار هانئ بن عروة قائ ً‬
‫ن عليًا)عليه السلم( إمتنع عن قتل عمرو بن العاص في صفين حين كشف عن عورته‪ .‬فكل هذه‬ ‫أضف إلى ذلك فا ّ‬
‫لمور ليرونها تنسجم والسياسة‪ ،‬بل السياسي الفذ في نظرهم من يدافع عن العهدو والمواثيق ويلتزم بالمبادئ إذا‬ ‫اُ‬
‫ل فلبّد أن يضربها جميعا عرض الحائط‪ .‬فالسياسي الورع والمتقي يرى النصر على‬ ‫كانت تجري لصالحه ‪،‬وإ ّ‬
‫العداء إّنما يحتل الدرجة الثانية‪ ،‬والدرجة الولى تتمثل بحفظ المبادئ ورعاية القيم والمثل‪ .‬والجدير بالذكر ما‬
‫أورده ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلغة حين تحدث عن مروءة ووفاء أحد أحفاد المام الحسن المجتبى)عليه‬
‫ل فقال‪» :‬وكان لغير إبراهيم عليه السلم من آل أبي طالب من هذا النوع أخبار كثيرة‪،‬‬ ‫السلم(هو إبراهيم بن عبدا ّ‬
‫وكان القوم أصحاب دين ليسوا من الدنيا بسبيل‪ ،‬وإّنما يطلبونها ليقيموا عمود الدين بالمرة فيها‪ ،‬فلم يستقم لهم‪،‬‬
‫والدنيا إلى أهلها أميل«‪.‬‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪ ،200‬وروي عنه)عليه السلم( أّنه قال‪» :‬لول التقى ـ أو لول الدين والتقى لكنت أدهى العرب«‪ .‬شرح‬
‫نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.28 / 1‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة ‪ ،‬الخطبة ‪.126‬‬

‫‪ .3‬تأريخ الطبري ‪.569 / 3‬‬

‫ل عن السيرة الحلبية ‪.40 / 3‬‬


‫‪ .4‬سيد المرسلين ‪ 408 / 2‬تق ً‬

‫‪ .5‬بحارالنوار ‪.344 / 44‬‬

‫] ‪[ 293‬‬

‫الخطبة)‪42 (1‬‬
‫ومن كلم له )عليه السلم(‬

‫وفيه يحذر من اتباع الهوى وطول المل في الدنيا‪.‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫أورد المام)عليه السلم( هذه الخطبة على ضوء نقل نصربن مزاحم في كتاب صفين بعد موقعة الجمل حين‬
‫ورد)عليه السلم(الكوفة‪ ،‬وهى تعالج غرور الفراد وطمعهم بعد تحقيق النصر ول سيما إن كانت هناك غنائم;‬
‫المر الذي يثير حفيظة البعض للتكالب على الدنيا وبالتبع يتطلع إلى المزيد من كان له دور أكبر في المعركة‬
‫والحصول على الغنائم‪ .‬فهدف المام)عليه السلم(تحذير الناس وتذكيرهم بالهداف المعنوية التي قاتلوا من‬
‫أجلها‪ ،‬كما يحذرهم من رذيلتي إتباع الهوى وطول المل الذان يصدان عن الحق وينسيان الخرة‪ .‬ثم يؤكد‬
‫المام)عليه السلم( على قصر عمر الدينا وضرورة إغتنام الفرص فيها من أجل العمل الصالح والتزود للخرة‪،‬‬
‫حيث يوجز هذا المر الحيوي بعبارات قصيرة بليغة المعنى‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬وردت هذه الخطبة بعدة أسناد‪ .‬رواها قبل السيد الرضي)ره( نصر بن مزاحم في كتاب صفين والشيخ المفيد في‬
‫المجالس والمسعودي في مروج الذهب‪ .‬وقال نصر بن مزاحم دخل المام)عليه السلم( الكوفة بعد معركة الجمل فأسرع قّراء الكوفة‬
‫وأشرافها لستقباله‪ .‬فدخل المسجد وصلى ركعتين ثم صعد المنبر فحمد ال وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم خطب الخطبة‪.‬‬

‫] ‪[ 294‬‬

‫] ‪[ 295‬‬

‫القسم الول‬

‫ق‪،‬‬
‫حّ‬
‫ن اْل َ‬
‫عِ‬‫صّد َ‬
‫ع اْلَهَوى َفَي ُ‬
‫طوُل اَْلَمِل‪َ ،‬فَأّما اّتَبا ُ‬
‫ع اْلَهَوى َو ُ‬
‫ن‪ :‬اّتبا ُ‬
‫عَلْيُكُم اْثنا ِ‬
‫ف َ‬‫ف ما َأخا ُ‬‫خَو َ‬
‫ن َأ ْ‬ ‫»َأّيها الّناس ِإ ّ‬
‫خَرَة«‪.‬‬
‫سي اْل ِ‬
‫طوُل اَْلَمِل َفُيْن ِ‬
‫َوَأّما ُ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫ن المام)عليه السلم( خطبها بعد الجمل حين ورد الكوفة‪ ،‬بهدف الحد من الغرور الذي تفرزه‬ ‫أوردنا سابقًا أ ّ‬
‫طبيعة النصر والتنافس على غنائم المعركة‪ ،‬فقال)عليه السلم(‪» :‬أّيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم إثنان‪:‬‬
‫إتباع الهوى وطول المل‪ ،‬فأّما إتباع الهوى فيصد عن الحق‪ ،‬وأّما طول المل فينسي الخرة«‪ .‬والعبارة الخيرة‬
‫لّمة‪ ،‬بحيث ورد التأكيد عليها في أحاديث النبي)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬كما أشار‬
‫مهّمة ذات أثر بالغ في مصير ا ُ‬
‫ضح من معنى مفردة الهوى التي تشير إلى‬ ‫إليه المام)عليه السلم( سابقًا في الخطبة الثامنة والعشرين«‪ (1).‬ويت ِ‬
‫أهواء ورغبات النفس المارة باللذات الدنيوية دون الحدود والقيود مدى صدها النسان عن الحق ومنعه من‬
‫ن الهوى حجاب على العقل يحول دون إدراك الحقائق ومشاهدتها‪ ،‬بينهما يزين له هذا الهوى الباطل‬ ‫بلوغه‪ ،‬ل ّ‬
‫ليبديه له أنصع من الحق‪ ،‬في حين يشوه له الحق ويظهره له كابشع صورة للباطل‪ ،‬وقد لمست هذه الحقيقة كثيرًا‬
‫خلل تجربتي ومطالعتي لسيرة الماضين في كيفية تبرير أتباع الهوى لبعض صور الحق والباطل وتغيير‬
‫هويتهما‪ .‬وأما طول المل فيستقطب جميع طاقات النسان وقواه حتى ينسيه الخرة‪ ،‬ولما كانت قوى النسان‬
‫محدودة فاّنه يستهلكها في المال الكاذبة اللمتناهية بحيث ل يبقى لنفسه من قوة يدخرها للخرة‪ ،‬ول سيما أ ّ‬
‫ن‬
‫المال ل تعرف للنهاية‬

‫‪ .1‬بحارالنوار ‪) 188 / 74‬مع اختلف طفيف( وبحارالنوار ‪ 90 / 70‬ـ ‪ 91‬مع فارق ضئيل جدًا‪.‬‬

‫] ‪[ 296‬‬

‫لخرى فور ظفره بالولى حتى يجند نفسه على الدوام بغية‬ ‫من معنى‪ ،‬وتقتضي طبيعتها أن يتجه النسان إلى ا ُ‬
‫ن المال عادة مترابطة مع بعضها البعض‪ ،‬وعلى هذا‬ ‫الظفر بها جميعا‪ ،‬بل إن تحقيقه لمل ربما يدفعه لخر‪ ،‬ل ّ‬
‫الضوء فسوف لن يبقى لديه من وقت كما ل تبقى له من قوة‪ ،‬وبالتالي سوف لن يمتلك الدفاع نحو الخرة‪.‬‬
‫وبالطبع فاّنه لن يفيق من غفلته حتى يصفعه الموت‪ ،‬وقد ولى العمر وتصرمت أيامه وفرصه فلم يظفر بأماله ولم‬
‫يدرك آخرته‪ .‬وما أروع ما قال أبو العتاهية حين دعي ل نشاد الشعر بحضرة هارون حين أراد أن يفتتح له قصرًا‬
‫جديدًا في مصر‪:‬‬

‫عش ما بدا لك سالمًا في ظل شاهقة القصور يهدي إليك بما اشتهيت لدى الرواح وفى الكبور حتى إذا تزعزعت‬
‫ل في غرور‪(1).‬‬ ‫النفوس ودحرجت فهناك تعلم موقنًا ما كنت إ ّ‬

‫ن هارون مدحه وأثنى عليه‪.‬‬


‫لأّ‬
‫فشعر من حول هارون بالمتعاظ من هذه البيات على أنها ل تنسجم والمناسبة‪ ،‬إ ّ‬

‫ن هذا الفرد يغتر بمظاهر الدنيا‬


‫ن طول المل ينسي الخرة وذلك ل ّ‬ ‫وقد علق بعض شّراح نهج البلغة على أ ّ‬
‫ن للمل دور إيجابي‬‫ويرى في الموت الوسيلة التي تقطعه عن هذه الدنيا‪ ،‬فينسى المعاد ويوم القيامة جدير بالذكر أ ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫في حياة النسان والذي عبر عنه القرآن بالرجاء‪ ،‬ولسيما إذا كان مقرونا بالتوكل على ا ّ‬

‫—–‬

‫‪ .1‬النوار النعمانية ‪.114 / 3‬‬

‫] ‪[ 297‬‬

‫القسم الثاني‬

‫خَرَة َقْد َأْقَبَلتْ‬


‫ن اْل ِ‬
‫طّبها صاّبها‪َ .‬أل َوِإ ّ‬ ‫صَ‬‫صباَبِة اِْلناِء ا ْ‬ ‫صباَبٌة َك ُ‬
‫ق ِمْنها ِإّل ُ‬ ‫حّذاء; َفَلْم َيْب َ‬ ‫ت َ‬‫ن الّدْنيا َقْد َوّل ْ‬
‫»َأل َوِإ ّ‬
‫ق ِبَأِبيِه َيْوَم اْلِقياَمِة‪،‬‬‫حُ‬
‫سُيْل َ‬
‫ن ُكّل َوَلد َ‬
‫ن َأْبناِء الّدْنيا‪َ .‬فِإ ّ‬‫خَرِة َول َتُكوُنوا ِم ْ‬‫ن َأْبناِء اْل ِ‬ ‫ن‪َ .‬فُكوُنوا ِم ْ‬‫َوِلُكّل ِمْنُهما َبُنو َ‬
‫عَمَل«‪.‬‬ ‫ب َول َ‬ ‫حسا ٌ‬ ‫غدًا ِ‬ ‫ب‪َ ،‬و َ‬ ‫حسا َ‬‫عَمٌل َول ِ‬ ‫ن اْلَيْوَم َ‬
‫َوِإ ّ‬

‫—–‬
‫الشرح والتفسير‬

‫واصل)عليه السلم( خطبته التي ابتدأها بذم إتباع الهوى وطول المل الذان يصدان عن الحق وينسيان الخرة‪،‬‬
‫ن الدنيا قد‬
‫ل رائعًا عن أوضاع الدنيا والخرة فقال »أل وإ ّ‬
‫وبالتالي يحولن دون سعادة النسان وفلحه‪ ،‬ليقدم تحلي ً‬
‫ل صبابة كصبابة)‪ (2‬الناء إصطبها صابها«‪.‬‬ ‫ولت حذاء)‪ ،(1‬فلم يبق منها إ ّ‬

‫فقد شبهت الدنيا هنا بالكائن الذي يعود بسرعة إلى مسيرته‪ ،‬المر الذي يفيد حقيقة الحركة السريعة لعمر النسان‪،‬‬
‫الحركة الخارجة عن إرادة النسان وتشمل كافة الكائنات الحية سوى الذات اللهية المطلقة‪ ،‬ول يستثنى من تلك‬
‫الحركة الكواكب والمجرات والسموات والرضين لتنتهي إلى الفناء والزوال الدنيوي ليكون نافذة على عالم‬
‫الخلود والبقاء‪ .‬فالطفولة تتحرك نحو الفتوة والشباب‪ ،‬والفتوة تنطلق نحو الكهولة التي تنتهي بالموت‪ ،‬هذا إذا‬
‫لمور وفق القانون الطبيعي والقد يتساقط بعض الطفال والشباب من هذه القافلة لتنتهي‬ ‫جرت ا ُ‬

‫‪» .1‬حذاء« كما ورد في تفسير السيد الرضي )ره( وشّراح نهج البلغة بمعنى السريع‪ ،‬من مادة حذ على وزن حظ بمعنى القطع‪ ،‬أو‬
‫القطع السريع‪ ،‬ثم اطلقت على كل حركة سريعة‪ ،‬وحذا مؤنث إحذًا‪.‬‬

‫ن الناء مذكر والضمير‬


‫‪» .2‬صبابة« بالضم البقية من الماء واللبن في الناء‪ ،‬والضمير في اصطبها وصابها يعود ِالى الصبابة‪ ،‬ل ّ‬
‫المؤنث ل يعود ِاليه‪.‬‬

‫] ‪[ 298‬‬

‫ن عمر النسان قصير قليل كبقية الماء واللبن في الناء‬ ‫أعمارهم دون بلوغ الكهولة‪ .‬فالمام)عليه السلم( يقول أ ّ‬
‫ن النسان حين يقلب إناءًا مملوءًا بسائل ثم يعيد الناء إلى وضعه‬ ‫التي تعلق به عند قلبه‪ ،‬أو بعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫الصلي إّنما يتبقى فيه مقدار من الماء يطلق عليه الصبابة وهذه في الحقيقة هى عمر النسان ثم قال)عليه‬
‫ن الخرة قد أقبلت« فكلما قصر عمر الدنيا اقتربت الخرة‪ ،‬فالواقع إننا نركب قطار الزمان الذي‬ ‫السلم(»أل وإ ّ‬
‫يسير بسرعة نحو الخرة‪ ،‬والدقائق والساعات والّيام والسابيع والشهر والسنوات إّنما تكشف عن سرعة‬
‫مسيرة قطار النسانية بأجمعها‪ ،‬ثم أوضح)عليه السلم(وظيفة الناس »ولكل منهما بنون فكونوا من أبناء الخرة‪،‬‬
‫ن كل ولد سيلحق بأبيه يوم القيامة« نعم هناك خطان‪ :‬خط عبدة الدنيا وخط عشاق‬ ‫ول تكونوا من أبناء الدنيا‪ ،‬فا ّ‬
‫الخرة‪ ،‬وإن كانت هنالك بعض الجماعات المتذبذبة بين الخطين‪ .‬ول يعرف أبناء الدنيا سوى النوم والكل‬
‫والشرب والشهوة والطرب والعيش والملذات‪ ،‬فهم متعلقون بظاهر الدنيا دون أن يكفوا أنفسهم عناء التفكير في‬
‫خَرِة ُهـْم غاِفُلون( )‪ .(1‬فكأّنهم مخلدون‬ ‫ن ال ِ‬ ‫عِ‬ ‫حياِة الّدْنيا َوُهْم َ‬‫ن ال َ‬‫ن ظاِهرًا ِم َ‬
‫الخرة‪ ،‬بل هم عنها عمون )َيْعَلُمو َ‬
‫خَلَدُه(‪.‬‬
‫ن ماَلُه َأ ْ‬
‫ب َأ ّ‬
‫س ُ‬
‫حَ‬ ‫في الدنيا وليس هنا لك من آخرة‪ ،‬فوثقوا بأموالهم وثرواتهم على أّنها تخلدهم في دنياهم )َي ْ‬
‫أما أبناء الخرة فقد نظروا بعين العقل والبصيرة إلى الدنيا وأدركوا أنهم مفارقوها ومرتحلون عنها فلم يطمأنوا‬
‫إليها‪ .‬لقد طلقوها كما طلقها المام)عليه السلم(ثلثة لرجعة فيها‪ .‬فقد إتعظوا بالقرآن الذي أوقفهم على طبيعة‬
‫ق َوَتواصَْوا‬ ‫حّ‬ ‫صْوا ِبال َ‬‫ت َوَتوا َ‬
‫صالحا ِ‬ ‫عِمُلوا ال ّ‬ ‫ن آَمُنوا َو َ‬‫ل اّلِذي َ‬
‫سر * ِإ ّ‬ ‫خْ‬‫ن َلِفي ُ‬
‫لْنسا َ‬‫نا ِ‬
‫صِر * ِإ ّ‬
‫خسرانها )َوالَع ْ‬
‫صْبِر(‪ .‬أّما التعبير عن عبدة الدنيا بأبناء الدنيا وعن المؤمنين الصالحين بأبناء الخرة‪ ،‬وذلك لن البناء إّنما‬ ‫ِبال ّ‬
‫يشبهون إلى حد كبير آبائهم وُامهاتهم بفعل الصفات الوراثية التي تنتقل إليهم عن طريق الجينات‪ ،‬وهو الشبه الذي‬
‫يدعو إلى المحبة والرتباط‪ .‬نعم عبدة الدنيا أبنائها‪ ،‬ومن هنا أحاط حبّ الدنيا بقلوبهم بحيث أصبحوا ليرون‬
‫حيا()‪ (2‬وإن كانوا ظاهرا يحملون‬ ‫ت َوَن ْ‬
‫حياُتنا الّدْنيا َنُمو ُ‬
‫ل َ‬‫ى ِإ ّ‬
‫ن ِه َ‬ ‫سوى الدنيا وليجنون سواها‪ ،‬وشعارهم فيها )ِإ ْ‬
‫ل على‬ ‫السلم‪ .‬أما أبناء الخرة فقد سيطر حب ا ّ‬

‫‪ .1‬سورة الروم ‪.7 /‬‬

‫‪ .2‬سورة الجاثية ‪.24 /‬‬

‫] ‪[ 299‬‬

‫قلوبهم‪ ،‬فهم يتزودون من الدنيا إلى الخرة دون أن يغرقوا فيها‪.‬‬


‫ن المراد بالعبارة هو أن المؤمنين سيكونون في الخرة بمثابة البناء الذين‬ ‫وقال بعض شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫ن هذا التفسير لينسجم والعبارة »إن كل ولد‬ ‫لأّ‬‫يرتمون بأحضان آبائهم‪ ،‬بينما سيكون أبناء الدنيا كاليتامى‪ .‬إ ّ‬
‫سيلحق بأبيه يوم القيامة«‪ ،‬بل يفيد هذا التعبير أن الحياة الدنيا المادية ليست سوى الجحيم الذي يرتمي فيه أبناء‬
‫الدنيا إذا افتقرت إلى اليمان والتقوى‪ ،‬وهذا ما أشار إليه القرآن بقوله )َفُأّمُه هاِوَيٌه(‪(1).‬‬

‫أّما إن كانت هذه الحياة مقرونة باليمان والتقوى والصبغة الخروية فتتجسم يوم القيامة على هيئة جّنة سيرتمي‬
‫ن اليوم عمل ول حساب وغدًا حساب ول‬ ‫في أحضانها المؤمنون‪ .‬ثم إختتم المام)عليه السلم(خطبته قائل‪» :‬وإ ّ‬
‫عمل« فالعبارة تفيد من جهة وجود الفرصة من أجل إستزادة العمل الصالح‪ ،‬وإذا ما شوهد المحسنون والمسيئون‪،‬‬
‫ل وحزب الشيطان إلى جانب بعضهم البعض الخر‬ ‫ل‪ ،‬وحزب ا ّ‬ ‫ل وأعداء ا ّ‬‫والصالحون والطالحون‪ ،‬واولياء ا ّ‬
‫ن نهاية‬
‫ن الدنيا دار عمل لحساب فيها ولجزاء وعقاب‪ .‬ومن جهة ُاخرى تحذير بأ ّ‬ ‫في هذه الحياة الدنيا فذلك ل ّ‬
‫العمر في الدنيا تعني إغلق صحيفة العمال وليس هنالك من سبيل للعودة والعمل وتدارك ما فرط‪ ،‬كما ليس‬
‫ل ول في حسن يستطيعون إزديادًا«‬ ‫للندم من أثر أو فائدة‪ ،‬فقد قال علي)عليه السلم( »ل عن قبيح يستطيعون إنتقا ً‬
‫عَملُ صاِلحًا( )‪ (3‬كما ل تفيدهم المال والماني‬ ‫ن * َلَعّلي َأ ْ‬
‫جُعو ِ‬
‫ب اْر ِ‬
‫)‪(2‬كما ليس هناك من جدوى لصراخهم )َر ّ‬
‫ن(‪(4).‬‬
‫ن الُمـْؤِمِنـي َ‬
‫ن ِم َ‬
‫ن َلـنا َكـّرًة َفَنـُكو َ‬
‫)َفـَلْو َأ ّ‬

‫الموت يعني إغلق صحيفة العمال‬

‫ن أبواب التوبة تغلق‬


‫ما ورد في الخطبة بهذا الخصوص مّما أكدته اليات القرآنية‪ ،‬حتى صرحت بعض اليات أ ّ‬
‫حين نزول عذاب الستئصال )من قبيل العذاب الذي إستهدف‬

‫‪ .1‬سورة القارعة ‪.9 /‬‬

‫‪ .2‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.188‬‬

‫‪ .3‬سورة المؤمنون ‪ 99 /‬ـ ‪.100‬‬

‫‪ .4‬سورة الشعراء ‪.102 /‬‬

‫] ‪[ 300‬‬

‫ن النسان‬ ‫إجتثاث جذور القوام السابقة حين طغت في الرض( بحيث لم يعد هناك من مجال لتدراك العمال‪ ،‬ل ّ‬
‫سنا‬
‫في ظل هذه الظروف إّنما يودع الدنيا وينتقل إلى الخرة مرورًا بالبرزخ‪ ،‬ومن ذلك قوله سبحانه‪َ) :‬فَلّما َرَأْوا َبْأ َ‬
‫ت ِفي‬‫خَل ْ‬ ‫ل اّلِتي َقْد َ‬
‫سّنَة ا ّ‬
‫سنا ُ‬ ‫ك َيْنَفُعُهْم ِإيماُنُهْم َلّما َرَأْوا َبْأ َ‬
‫ن * َفَلْم َي ُ‬‫شِرِكـي َ‬‫حَدُه َوَكَفْرنا ِبما ُكّنا ِبِه ُم ْ‬
‫ل َو ْ‬‫قاُلوا آَمّنا ِبا ّ‬
‫ن فرعون لما أدركه الغرق وشعر بالموت أظهر اليمان ولكن‬ ‫ن(‪ .(1).‬كما نعلم بأ ّ‬ ‫ك الكاِفُرو َ‬ ‫سَر ُهناِل َ‬‫خِ‬ ‫عـباِدِه َو َ‬
‫ِ‬
‫ن()‪ .(2‬ونستتج من هذه‬ ‫سِدي َ‬
‫ن الُمْف ِ‬‫ت ِم َ‬‫ل َوُكْن َ‬ ‫ت َقْب ُ‬
‫صْي َ‬
‫ع َ‬ ‫ن َوَقْد َ‬ ‫أغلقت بوجهه كافة أبواب التوبه فاتاه النداء )آ ل َ‬
‫ن هناك سنة إلهية تفيد إغلق صحيفة النسان وانقطاع أعماله حين‬ ‫اليات وسائر اليات الواردة بهذا الشأن أ ّ‬
‫ن أغلب‬ ‫يكون على أبواب الموت المحتم‪ ،‬فليس هنالك من سبيل للعودة والصلح‪ .‬وهنا يبرز هذا السؤال وهو أ ّ‬
‫ن آثار العمال الحسنة والسيئة تصل النسان بعد موته بحيث تثقل صحيفة أعماله خيرا أم‬ ‫الروايات صرحت بأ ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( أّنه قال‪» :‬سبعة أسبابًا يكتب للعبد ثوابها بعد وفاته‪،‬‬ ‫شرا‪ ،‬فقد ورد في الحديث عن رسول ا ّ‬
‫ل أو حفر بئرا أو أجرى نهرًا أو بني مسجدًا أو كتب مصحفًا أو ورث علمًا أو خلف ولدًا صالحًا‬ ‫رجل غرس نخ ً‬
‫ن ما جاء في هذا الحديث نموذج باراز لعمال الخير‪ ،‬أفل يتنافى هذا‬ ‫يستغفر له بعد وفاته« )‪ (3‬ومن الواضح أ ّ‬
‫المر وما ذكر سابقًا؟ والجواب على هذا السؤال واضح فليس هنالك من عمل جديد يقوم به النسان بعد الموت‪،‬‬
‫ن آثار العمال السابقة ل تصل إليه‪ .‬نعم صحيفة العمال الجديدة مغلقة ول يضاف إليها شيئا‪ ،‬أما صحيفة‬ ‫لإّ‬
‫أعماله السابقة قبل الموت فهى مفتوحة دائما وإن النسان يقطف ثمار عمله الصالح في البرزخ ويوم القيامة‪،‬‬
‫وتصله حتى العمال الصالحة فيما إذا خلف ولدًا صالحًا يدعو له ويستغفر له‪.‬‬

‫—–‬
‫‪ .1‬سورة المؤمنون ‪ 84 /‬ـ ‪. 85‬‬

‫‪ .2‬سورة يونس ‪.91 /‬‬

‫‪» .3‬تنبيه الخواطر«‪) ،‬طبق نقل ميزان الحكمة‪ 23 / 3 ،‬ـ ‪ 24‬مادة عمل(‪.‬‬

‫] ‪[ 301‬‬

‫الخطبة)‪43 (1‬‬

‫من كلم له )عليه السلم(‬

‫ل البجلي إلى معاوية ولم ينزل‬


‫وقد أشار عليه أصحابه بالستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله جريربن عبدا ّ‬
‫معاوية على بيعته‪.‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ل في موضعه‪ ،‬ال أنّ‬ ‫ن كل منهما قد ورد مستق ً‬ ‫تشتمل الخطبة على قسمين يختلف كل منهما عن الخر‪ ،‬ويبدو أ ّ‬
‫ل لعثمان‬
‫ل البجلي الذي كان عام ً‬ ‫السيد الرضي )ره( جمعهما لمناسبة ـ فالقسم الول يتعلق يقضية جريربن عبدا ّ‬
‫ل البجلي وبعث أميرالمؤمنين)عليه السلم( إّياه إلى معاوية‪ ،‬فقد ورد‬‫على ثغر همدان‪ .‬فأّما خبر جرير بن عبدا ّ‬
‫ل البجلي‪.‬‬
‫في الخبار‪ :‬لما قدم)عليه السلم(الكوفة بعد إنقضاء أمر الجمل‪ ،‬كاتب العمال‪ ،‬فكتب إلى جرير بن عبدا ّ‬
‫فلما قرأ جرير الكتاب‪ ،‬قام فقال‪ :‬أّيها الناس‪ ،‬هذا كتاب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب)عليه السلم(‪ ،‬وقد بايعه‬
‫الناس الولون من المهاجرين والنصار والتابعين باحسان‪ ،‬ولو جعل هذا المر شورى بين المسلمين كان أحقه‬
‫بها‪ .‬فقال الناس سمعًا وطاعة‪ .‬فكتب جرير إلى علي)عليه السلم(جواب كتابه بالطاعة وكتب علي)عليه‬
‫ل البجلي‬
‫السلم(إلى الشعث وكان عامل عثمان على أذربيجان يدعوه إلى البيعة والطاعة‪ .‬وكتب جرير بن عبدا ّ‬
‫إلى الشعث يحضه على طاعة أميرالمؤمنين علي)عليه السلم(وقبول كتابه‪ .‬فقبل‬

‫‪ .1‬وردت هذه الخطبة في كتابين قبل نهج البلغة‪ ،‬الول كتاب صفين لنصربن مزاحم والخر كتاب المامة والسياسة مع فارق‬
‫طفيف‪ .‬أما القسم الثاني فقد رواه ابن عبد ربه في العقد الفريد‪ .‬مصادر نهج البلغة‪.446 / 1 ،‬‬

‫] ‪[ 302‬‬
‫الشعث البيعة وسمع وأطاع‪ ،‬وأقبل جرير سائرًا من ثغر همدان حتى ورد علي)عليه السلم( الكوفة فبايعه‪ .‬ولما‬
‫ل‪ ،‬قال له جرير‪ :‬إبعثني يا أميرالمؤمنين إليه; وأدعوا أهل الشام‬
‫أراد علي)عليه السلم( أن يبعث إلى معاوية رسو ً‬
‫إلى طاعتك ووليتك فجلهم قومي وأهل بلدي وقد رجوت أل يعصوني‪ .‬فبعثه علي)عليه السلم(‪ .‬فانطلق جرير‬
‫حتى أتى الشام ونزل بمعاوية ودفع إليه كتاب علي)عليه السلم(‪ .‬فقال معاوية أنظر وتنظر; واستطلع رأي أهل‬
‫الشام‪ .‬فكتب له المام)عليه السلم(‪ :‬إّنما أراد معاوية أل يكون لي في عنقه بيعة‪ ،‬وأراد أن يريثك ويبطئك‪ ،‬فان‬
‫ل فاقبل‪ .‬قيل ولما أبطأ جرير عند معاوية إتهمه الناس‪ ،‬فلما سمع جرير ذلك فارق عليًا)عليه‬‫بايعك الرجل‪ ،‬وا ّ‬
‫السلم( فلحق بقرقيسياء )بلد بالخابور عند مصبه« ولحق به ناس من قسر من قومه‪ ،‬واقام فيها حتى توفى‪(1) .‬‬
‫على كل حال مكث جرير عّدة شهور في الشام‪ ،‬حتى اقترح أصحاب المام)عليه السلم( عليه قتال أهل الشام‪ ،‬إ ّ‬
‫ل‬
‫ن المام)عليه السلم( لم يجبهم إلى ذلك وجرير هناك‪ ،‬وأّنه قد وقت وقتًا لجرير‪ ،‬فلبّد من إنتهاء‪ ،‬ذلك الوقت‬ ‫أّ‬
‫ومعرفة النتيجة‪.‬‬

‫وأخيرا فالقسمان يوضحان بجلء أن المام)عليه السلم( رجل الصلح والسلم في ظروف المن والستقرار‪،‬‬
‫فاذا نشبت الحرب كان بطلها المجرب وليثها الغاضب‪.‬‬

‫ونتجه بعد هذه المقدمة إلى شرح الخطبة‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 70 / 3‬ـ ‪ 118‬بتلخيص‪.‬‬

‫] ‪[ 303‬‬

‫القسم الول‬

‫ن َقْد َوّق ّ‬
‫ت‬ ‫ن َأراُدوُه‪َ .‬وَلِك ْ‬ ‫خْير ِإ ْ‬
‫ن َ‬‫عْ‬‫ف َِلْهِلِه َ‬ ‫صْر ٌ‬ ‫شام َو َ‬
‫ق ِلل ّ‬
‫غل ٌ‬ ‫عْنَدُهْم‪ِ ،‬إ ْ‬
‫جِريٌر ِ‬
‫شام َو َ‬
‫ب َأْهِل ال ّ‬ ‫حْر ِ‬ ‫سِتْعداِدي ِل َ‬ ‫نا ْ‬
‫»ِإ ّ‬
‫عداَد«‪.‬‬ ‫عْنِدي َمَع اَْلناِة َفَأْرِوُدوا َول َأْكَرُه َلُكُم اِْل ْ‬
‫ي ِ‬‫صيًا‪َ .‬والّرْأ ُ‬‫خُدوعًا َأْو عا ِ‬‫جِرير َوْقتًا ل ُيِقيُم َبْعَدُه ِإّل َم ْ‬
‫ِل َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫رجل الحرب والسلم‬

‫ل لعثمان على همدان‪ ،‬ثم قدم الكوفة‬


‫ل حين كان عام ً‬ ‫ن الخطبة بشأن قضية جريربن عبدا ّ‬ ‫كما أوردنا سالفًا فا ّ‬
‫ن فجاج مهّمة جرير كان يبدو ضيعفًا‪ ،‬ومن هنا‬ ‫لأّ‬‫فوجهه المام)عليه السلم( إلى الشام لخذ البيعة من معاوية‪ ،‬إ ّ‬
‫ل »إن استعدادي لحرب أهل الشام وجرير‬ ‫رأى أصحاب المام)عليه السلم(قتالهم‪ .‬فأجابهم المام)عليه السلم(قائ ً‬
‫ن المام)عليه السلم( بصفته زعيم‬‫عندهم‪ ،‬إغلق)‪ (1‬للشام وصرف لهله عن خير إن أرادوه« فالعبارة تفيد أ ّ‬
‫الدولة السلمية ليرى في الحرب والقتال من وسيلة صحيحة لحل الختلفات‪ ،‬ولبّد من إبقاء باب السلم‬
‫ن المام)عليه‬‫مفتوحًا لتمام الحجة‪ ،‬فان لم تجد نفعًا‪ ،‬آنذاك تكون الحرب هى العلج‪ .‬والطريف في المر أ ّ‬
‫السلم(ليأبه بمعاوية وإّنما يفكر بأهل الشام‪ ،‬فقال »إغلق للشام«‪ ،‬ثم أضاف قائل »وصرف لهله عن خير إن‬
‫أرادوه« في إشارة إلى عبثية جر أهل الشام للقتال وصدهم عن الصلح والسلم وإن كانت لكبيرة على بعض‬
‫ل من خلل‬ ‫ن الزعيم العالم لينبغي أن تستميله العواطف والحاسيس‪ ،‬فل يتصرف إ ّ‬ ‫لأّ‬
‫الفراد المتحمسين‪ ،‬إ ّ‬
‫ضبط النفس والعقل والمنطق بما يرتضيه الحق‬

‫‪ .1‬إغلق مصدر من باب إفعال يستعمل عادة في البواب‪.‬‬

‫] ‪[ 304‬‬

‫سبحانه وتعالى‪ .‬ثم أزال المام)عليه السلم( البهام الذي قد يتسرب إلى عقول هؤلء الفراد باستمرار هذه الحالة‬
‫ن المام)عليه السلم( عين‬ ‫ل مخدوعًا أو عاصيًا« فالواقع هو أ ّ‬
‫القلقة فقال »ولكن قد وقت لجرير وقتًا ليقيم بعده إ ّ‬
‫ن معاوية قد يماطل في‬ ‫مدة بغية الحفاظ على مصالح المسلمين وعدم فوات الوان ومرور الفرصة‪ ،‬فقد كان يعلم أ ّ‬
‫الوقت ويشغل جرير‪ ،‬وأقصى ذلك هو الهبة والستعداد للقتال‪ ،‬ثم يرد بالسلب على دعوة المام)عليه‬
‫السلم(بالبيعة في الوقت الذي تسلب الفرصة والمبادرة من المام)عليه السلم( وصحبه‪ .‬إما لماذا حصر‬
‫المام)عليه السلم( بقاء جرير عند معاوية باحتمالين; الخداع أو العصيان‪ ،‬بينما يمكن أن تكون عرضت له بعض‬
‫ن سائر الحتمالت تبدو ضعيفة ل يكترث بها إزاء هذين‬ ‫الوقائع من قبيل المرض وما شاكل ذلك‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫لمور السلمة‪ ،‬فل ينبغي ترتيب الثر‬ ‫ن الصل في مثل هذه ا ُ‬ ‫الحتمالين‪ ،‬أو على حد تعبير علماء الصول أ ّ‬
‫على سائر الحتمالت‪ .‬ثم حاول تهدأة خواطر صحبه والتسكين من روعهم فقال »والرأي عندي مع الناة)‪(1‬‬
‫ن المام)عليه السلم(بغية عدم غفلة أصحابه في ظل تلك الظروف الحساسة‬ ‫فأرودوا)‪ .«(2‬من جانب آخر فا ّ‬
‫المصيرية‪ ،‬وضرورة البقاء على عزمهم الشديد والراسخ في مجابهة العدو وعدم إطفاء جذوة الحماس للقتال‬
‫فقال)عليه السلم(‪» :‬ول أكره لكم العداد«; أي أني ل أعلن حالة التأهب فهذا المر يتعارض والصلح والسلم‪.‬‬
‫ن هذا لعظم وأنجع اسلوب منطقي‬ ‫وفى نفس الوقت ل أحول دون وظيفتكم في التعبئة الطواعية‪ ،‬والحق أ ّ‬
‫وعقلئي في مثل تلك الظروف العصيبة؟ أي ل تغلق أبواب السلم‪ ،‬ول يعيش الجميع حالة النفعال والغضب‪،‬‬
‫ول ينبغي أن تقع بعض العمال التي تفرزها طبيعة النفاق‪ ،‬وأخيرًا ل ينبغي فوات الفرص دون جدوى!‬

‫الهدف من الدعوة إلى الصلح والبيعة‬

‫ل حين أتم الحجة عليه من كافة الجهات‪،‬‬


‫إن المام)عليه السلم( وخلفًا لما يعتقده البعض لم يقاتل معاوية‪ ،‬إ ّ‬
‫ل حين يكون السبيل الخير الذي ُاغلقت جميع السبل‬ ‫بحيث لم يكن يلجأ إلى القتال إ ّ‬

‫‪» .1‬اناة« بمعين التثبت والتأني والصبر‪.‬‬

‫‪» .2‬أرودوا« من مادة »رود« على وزن فوت بمعنى طلب الشيئ بالرفق والمداراة‪ ،‬ومنه الرادة‪.‬‬

‫] ‪[ 305‬‬

‫ن عليًا)عليه السلم( لم يستجب للضغوط التي مارسها أصحابه من أجل شروع القتال‪،‬‬ ‫دونه‪ .‬تفيد هذه الخطبة أ ّ‬
‫وأّنه بذل قصارى جهده بهدف إرساء الصلح والسلم‪ .‬والرسالة التي بعثها المام)عليه السلم(إلى معاوية بواسطة‬
‫جرير لتؤكد هذا المعنى‪ .‬فقد جاء فيها‪» :‬إّنه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه‪،‬‬
‫فلم يكن للشاهد أن يختار ول للغائب أن يرد وإّنما الشورى للمهاجرين والنصار‪ ،‬فان إجتمعوا على رجل وسموه‬
‫ل رضى‪ ،‬فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه‪ ،‬فان أبي قاتلوه على‬ ‫إمامًا كان ذلك ّ‬
‫ل ما تولى‪ .‬ولعمري يا معاوية‪ ،‬لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبر‬ ‫إتباعه غير سبيل المؤمنين‪ ،‬ووله ا ّ‬
‫ل أن تتجنى‪ ،‬فتجن ما بدا لك«‪ (1) .‬والواقع كان معاوية‬‫الناس من دم عثمان‪ ،‬ولتعلمن أني كنت في عزلة عنه إ ّ‬
‫يعتمد ذريعتين لترك البيعة‪ ،‬الولى أّنه كان غائبًا حين تمت البيعة لعلي)عليه السلم(‪ ،‬والثانية أن المام)عليه‬
‫ن المام)عليه السلم( فند هاتين الذريعتين بالدليل والبرهان في‬‫لأّ‬‫السلم(مطالب بدم عثمان‪ ،‬فل يمكن مبايعته‪ ،‬إ ّ‬
‫ن جرير‬ ‫الرسالة المذكورة‪ ،‬فلم يستجب معاوية بغية تحقيق أهدافه وأطماعه‪ .‬على كل حال وكما ذكرنا أنفًا فا ّ‬
‫عامل عثمان على همدان أعلن بيعته للمام)عليه السلم(ومعه الناس إثر وصول كتاب المام)عليه السلم(‪ .‬ثم‬
‫ن جل أهل الشام كانوا من‬ ‫ورد الكوفة وطلب من المام)عليه السلم(أن يوجهه إلى الشام لخذ بيعة معاوية‪ ،‬ل ّ‬
‫ل يعصون أمره‪ .‬فاعترض الشتر وقال للمام)عليه السلم(‪ :‬ل تبعثه ول تصدقه‪ ،‬فوا ّ‬
‫ل‬ ‫قومه وأهل بلده ويطمع إ ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( فيه‪:‬‬ ‫ن المام)عليه السلم(إختاره لقول رسول ا ّ‬‫لأّ‬ ‫إّني لظن هواه هواهم‪ ،‬ونّيته نّيتهم‪ .‬إ ّ‬
‫»إنك من خير ذى يمن« كما لم يبدر منه خلفًا حتى ذلك الحين‪ ،‬ولعله لم يكن هناك من هو أفضل منه‪ .‬فدفع إليه‬
‫ل فانبذ إليه‬
‫المام)عليه السلم(كتابه‪ ،‬وقال له‪» :‬إئت معاوية بكتابي‪ ،‬فان دخل في ما دخل فيه المسلمون‪ ،‬وإ ّ‬
‫ن العامة ل ترضى به خليفة«‪ .‬فانطلق جرير حتى أتى الشام‪ ،‬ونزل بمعاوية‬ ‫واعلمه أّني ل أرضى به أمرًا‪ ،‬وأ ّ‬
‫وأخبره باجتماع مسلمي أهل الحرمين وأهل المصرين والحجاز واليمن ومصر وأهل العروض على بيعة‬
‫ل هذه الحصون التي أنت فيها فبايع لعلي)عليه السلم(‪ .‬ثم سلمه كتاب‬ ‫المام)عليه السلم( ثم قال‪ :‬فلم يبق إ ّ‬
‫المام)عليه السلم(‪ .‬فلم يستجب معاوية الذي كان شغفًا بالحكومة‬

‫‪ .1‬نهج البلغة‪ ،‬الرسالة ‪.6‬‬

‫] ‪[ 306‬‬

‫فقام فخطب الناس مطالبًا بدم عثمان وأخذ البيعة من أهل الشام للقيام والمطالبة بدم عثمان‪ .‬فاستحثه جرير بالبيعة‪.‬‬
‫فقال‪ :‬يا جرير‪ ،‬إّنها ليست بخلسة‪ ،‬وإنه أمر له ما بعده فابلعني ريقي‪ .‬فأشار عليه أخوه بعمرو ابن العاص‪ .‬وقد‬
‫وعده النصيحة بعد أن اشترط عليه ولية مصر‪ .‬ثم دخل شرحبيل ـ رئيس اليمينية وشيخها والمقدم عليها ـ فتحدث‬
‫ن معاوية كتب له كتابًا ودس إليه الرجال يغرونه‬‫لأّ‬‫ى)عليه السلم(‪ .‬إ ّ‬
‫إلى جرير‪ ،‬فأقنعه جرير باتباع عل ّ‬
‫بعلي)عليه السلم(ويشهدون عنده أّنه قتل عثمان‪ ،‬حتى ملئوا صدره وقلبه حقدًا وترة وإحنة على علي)عليه‬
‫السلم(وأصحابه‪ ،‬ثم دعاه في الكتاب لمطالبة بدم عثمان‪ .‬فتاهب شرحبيل للطلب بدم عثمان‪ ،‬ثم وجهه معاوية إلى‬
‫ل قبلوا ما أتاهم به وهنا شعر جرير باليأس من‬
‫الشام لدعوة الناس للمطالبة بدم عثمان وجعل ليأتي على قوم إ ّ‬
‫معاوية‪ ،‬ثم إلتفت معاوية إلى جرير فقال له‪ :‬إّني قد رأيت رأيًا‪ ،‬قال‪ :‬هاته‪ ،‬قال‪ُ :‬اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام‬
‫ومصر جباية‪ ،‬فاذا حضرته الوفاة لم يجعل لحد بعده في عنقي بيعة‪ ،‬وأسلم له هذا المر‪ ،‬وُاكتب إليه بالخلفة‪.‬‬
‫فقال جرير‪ :‬اكتب ما أردت ُاكتب معك‪ .‬فكتب المام)عليه السلم(إلى جرير‪ :‬إذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية‬
‫ل ليراني اتخذ المضلين‬‫على الفصل‪ ،‬ثم خيره وخذه بالجواب بين حرب مخزية أو سلم محظية »ولم يكن ا ّ‬
‫عضدًا« فتأخر جرير مّدة ولعله كان يطمع في عودة معاوية إلى رشده‪ ،‬فكثر فيه الكلم‪(1) .‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 70 / 3‬ـ ‪ 91‬بتصرف وتلخيص‪.‬‬

‫] ‪[ 307‬‬

‫القسم الثاني‬

‫حّمٌد)صلى‬
‫طَنُه‪َ ،‬فَلْم َأَر ِلي ِفيِه ِإّل اْلِقتاَل َأِو اْلُكْفَر ِبما جاَء ُم َ‬
‫ظْهَرُه َوَب ْ‬‫ت َ‬‫عْيَنُه‪َ ،‬وَقّلْب ُ‬
‫ف َهذا اَْلْمِر َو َ‬‫ت َأْن َ‬
‫ضَرْب ُ‬
‫»َوَلَقْد َ‬
‫جَد الّناس َمقاًل‪َ ،‬فقاُلوا ُثّم َنَقُموا َفَغّيُروا«‪.‬‬ ‫حداثًا‪َ ،‬وَأْو َ‬ ‫ث َأ ْ‬
‫حَد َ‬
‫عَلى اُْلّمِة وال َأ ْ‬ ‫ن َ‬‫ال عليه وآله(‪ِ .‬إّنُه َقْد كا َ‬

‫—–‬
‫الشرح والتفسير‬

‫يقابل هذا القسم من الخطبة القسم المذكور تماما‪ ،‬أو بعبارة ُاخرى يمثل المرحلة الثانية من مراحل المجابهة‪ .‬فقد‬
‫كان المام)عليه السلم( يؤكد في القسم المذكور على ضرورة ضبط النفس واجتناب القتال‪ ،‬واللجوء إلى منطق‬
‫السلم والصبر والتحمل‪ .‬بينما يتحدث هذا القسم بصورة قاطعة حادة عن القتال واللجوء إلى القوة; ول غرو فقد‬
‫ن معاوية ل يستسيغ أي منطق واستدلل‪ ،‬ول يفهم سوى‬ ‫أغلقت جميع السبل والساليب‪ ،‬وثبت بالضرس القاطع أ ّ‬
‫تحقيق مطامعه في الحكومة التي يضحي من أجلها بالغالي والنفيس‪ .‬ومن الطبيعي أل يكون هنالك من سبيل‬
‫لمواجهة هذا الشخص سوى الستسلم وتفويض المقّدرات السلمية إليه‪ ،‬أو شهر السلح بوجهه وقتاله‪ .‬ومن‬
‫ل القتال أو‬
‫هنا قال المام)عليه السلم(‪» :‬ولقد ضربت أنف هذا المر وعينه‪ ،‬وقلبت ظهره وبطنه‪ ،‬فلم أر لي إ ّ‬
‫الكفر بما جاء محمد)صلى ال عليه وآله(«‪ .‬العبارة »ضربت أنف هذا المر وعينه« مثل تقوله العرب في‬
‫لخرى كناية عن دراسة كافة جوانب‬ ‫الستقصاء في البحث والتأمل والفكر‪ .‬والعبارة »وقلبت ظهره وبطنه« هى ا ُ‬
‫ن النسان إذا أراد أن يشترى بضاعة قلب ظهرها وبطنها ليتعرف على كافة مميزاتها‪ .‬أما‬ ‫الموضوع‪ :‬ل ّ‬
‫ن المام)عليه‬ ‫ل القتال أو الكفر بماء جاء محمد)صلى ال عليه وآله(« فذلك ل ّ‬‫قوله)عليه السلم( »فلم أر لي إ ّ‬
‫لّمة لحالها لقاد ذلك إلى انحراف الناس عن السلم واستتباب الحكومة الجاهلية الموية‬ ‫السلم(إذا سكت وترك ا ُ‬
‫والسفيانية وإحياء‬

‫] ‪[ 308‬‬

‫ل)صلى ال عليه وآله(مدة ثلث‬ ‫مبادئ الشرك والوثنية‪ ،‬وهذا يعني تجاهل كافة القيم والمثل التي جهد رسول ا ّ‬
‫وعشرين سنة في إرسائها وتحمل صنوف العذاب من أجل ترسيخها‪ ،‬وأصبح علي)عليه السلم(خمسة وعشرين‬
‫عامًا جليس البيت من أجل الحفاظ عليها‪ ،‬وعليه فلم يبق من سبيل أمام المام)عليه السلم(سوى القتال بصفته‬
‫المين على السلم وقيمه‪ ،‬وهذا هو الرد الصريح على كافة من يشكك في قتاله)عليه السلم(لمعاوية‪ .‬ثم‬
‫أشار)عليه السلم( إلى مسئلة قتل عثمان واستغللها من قبل معاوية وزبانيته بغية الوصول إلى أغراضه ومآربه‪،‬‬
‫فقال »إّنه قد كان على الّمة وال أحدث أحداثًا‪ ،‬وأوجد الناس مقال‪ ،‬فقالوا ثم نقموا فغيروا« فمراد المام)عليه‬
‫السلم(أن العامل الرئيسي لقتل عثمان هو نفس عثمان‪ ،‬الذي أتى بالعمال المخالفة للعدل والسنة النبوبة‪ ،‬والتي‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( للدفاع‬ ‫أججت غضب الناس فحاصروه ثم قتلوه‪ ،‬ولذلك لم يتحرك أي من صحابة رسول ا ّ‬
‫لّمة‬
‫عنه‪ ،‬حتى قتل وبقي ثلثًا على الرض لم يدفنه أحد من المسلمين)‪ (1‬وهذا بدوره يكشف عن مدى غضب ا ُ‬
‫ونقمتها عليه‪ .‬وعليه فقتل عثمان لم يكن ذريعة تدعو للخروج على أميرالمؤمنين)عليه السلم(‪ .‬وبالطبع فان‬
‫ل أّنهم لم يروا أفضل من هذه الذريعة لتعبئة أهل‬‫أصحاب تلك الذريعة كانوا يعلمون هذا المر أكثر من غيرهم‪ ،‬إ ّ‬
‫الشام ضد أميرالمؤمنين)عليه السلم(‪.‬‬

‫أعمال عثمان وأسباب قتله‪.‬‬

‫ذهب أغلب شراح نهج البلغة إلى أن عثمان أحدث أحداثا مشهورة نقمها الناس عليه وأهم هذه الحداث‪:‬‬

‫‪1‬ـ تأمير بني أمية ول سيما الفساق منهم وأرباب السفه وقلة الدين ومنهم الوليد الفاسق وشارب الخمر الذي وله‬
‫الكوفة‪ (2).‬وقرب الحكم بن أبي العاص عمه الذي طرده رسول ال)صلى ال عليه وآله( فألبسه جبة من الخز‬
‫وأعطاه زكاة قبيلة قضاعة التي بلغت ثلثمئة درهم ـ وذكر إبن قتيبة وابن عبد ربه والذهبي ـ من مشاهير علماء‬
‫العامة ـ أن من الحداث التي نقمها الناس‬

‫‪ .1‬الكامل لبن أثير ‪.180 / 3‬‬

‫‪ .2‬يتفق الفريقان على نزول الية »وإن جائكم فاسق بنبأ فتبينوا« »الية ‪ 6‬من سورة الحجرات« كان في الوليد‪.‬بل نقل العلمة‬
‫المجلسي في الغدير ‪ 8/276‬الجماع على ذلك‪.‬‬
‫] ‪[ 309‬‬

‫على عثمان تقريبه للحكم بن أبي العاص الذي لم يقربه أبوبكر ول عمر في خلفتهما‪ (1).‬كما عين ابن عمه‬
‫مروان بن الحكم مستشارا له وأعطاه غنائم أفريقيا التي بلغت خمسمئة ألف درهم‪.‬‬

‫‪2‬ـ أذاه لكبار صحابة النبي)صلى ال عليه وآله( كأبي ذر الذي نفاه للربذة حين كان يأمر بالمعروف وينهى عن‬
‫المنكر ويعترض على أعماله‪ (2).‬وضربه الشديد للصحابي الجليل عمار بن ياسر ولم يكن ذنبه سوى مواجهة‬
‫عثمان باعتراضات الناس‪ (3).‬وما فعله بالصحابي عبدال بن مسعود بسبب إعتراضه على التطاول على بيت‬
‫المال فجعل يضربه حتى كسر رباعيته‪(4).‬‬

‫سئل الصحابي زيد بن أرقم كيف حكمت بكفر عثمان؟ قال‪ :‬لثلث‪ :‬تقسيمه لموال بيت المال بين الغنياء‬
‫ومحاربته لصحابة النبي)صلى ال عليه وآله( وعمله بغير كتاب ال‪(5).‬‬

‫‪3‬ـ توزيعه لموال بيت المال على بطانته وقرابته دون حساب وحرمان المؤمنين منها‪ .‬وللمؤرخين والمحدثين‬
‫شروحا وافية بالنسبة لهذه المور ليسعها المقام‪ .‬كل ذلك أرى إلى نقمة النصار والمهاجرين ول سيما صحابة‬
‫النبي)صلى ال عليه وآله( على عثمان فلم يروه خليفة لرسول ال)صلى ال عليه وآله(كما قدم الناقمون من مصر‬
‫والكوفة والبصرة‪ ،‬وحيث لم يكترث لهم‪ ،‬بينما لم ينصره أهل المدينة وهذا يدل على نقمتهم عليه أيضا‪ .‬أما معاوية‬
‫الذي كان واقفا على كل هذه المور فقد إستغلها ليحرض أهل الشام ضد أمير المؤمنين علي)عليه السلم( بحجة‬
‫المطالبة بدم عثمان‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬الغدير ‪.8/241‬‬

‫‪ .2‬الغدير ‪.8/241‬‬

‫‪ .3‬نقل هذه القصة أغلب المؤرخين ومنهم البلذري في أنساب الشراف ‪.5/29‬‬

‫‪ .4‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 3/43‬وتأريخ اليعقوبي ‪.2/170‬‬

‫‪ .5‬شرح نهج البلغة طبق نهج الحق ‪.297/‬‬

‫] ‪[ 310‬‬

‫] ‪[ 311‬‬

‫الخطبة)‪44 (1‬‬
‫ومن كلم له )عليه السلم(‬

‫لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية‪ ،‬وكان قد إبتاع سبي بني ناجية من عامل أميرالمؤمنين)عليه‬
‫السلم(وأعتقهم‪ ،‬فلما طالبه بالمال خاس به وهرب إلى الشام‪.‬‬

‫سبب الخطبة‬

‫ي)عليه السلم(‬
‫ى وخروجه على عل ّ‬
‫قصة الخريت بن راشد الناج ّ‬

‫جَية‪ ،‬قد شهد مع‬


‫ي‪ ،‬أحد بني نا ِ‬ ‫خّريت بن راشد الّناج ّ‬ ‫كما ورد سابقا فالكلم يرتبط بقصة قبيلة بني ناجية‪ :‬كان ال ِ‬
‫حَكمين في ثلثين في‬ ‫صّفين‪ ،‬وبعد تحِكيم ال َ‬‫ي عليه السلم بعد انقضاء ِ‬ ‫صّفين‪ ،‬فجاء إلى عل ّ‬
‫علي عليه السلم ِ‬
‫خْلَفك‪ ،‬وإني غدًا لمفارق لك;‬‫طيُع أمَرك‪ ،‬ول أصّلي َ‬ ‫للأ ِ‬ ‫أصحابه‪ ،‬يمشى بينهم حتى قام بين يديه‪ ،‬فقال‪ :‬ل وا ّ‬
‫ل ذلك! قال‪ :‬لّنك‬ ‫سك‪ ،‬أخبْرِني لم تفع ُ‬ ‫ل نف َ‬
‫صي َرّبك‪ ،‬ول تضّر إ ّ‬ ‫فقال له‪َ :‬ثِكَلْتك أّمك! إذًا تنقض عهَدك‪ ،‬وَتْع ِ‬
‫سهم‪ ،‬فأنا عليك راّد‪ ،‬وعليهم‬‫جّد الجّد‪ ،‬وركنت إلى القوم اّلذين ظلموا أنف َ‬ ‫حّكمت في الكتاب‪ ،‬وضُعْفت عن الحق إذ َ‬
‫ناقم‪ ،‬ولكم جميعا مباين‪.‬‬

‫حك أمورًا من‬


‫سنن‪ ،‬وأفات ْ‬
‫سك وأناظْرك في ال ّ‬
‫ى أداِر ْ‬
‫حك! هّلم إل ّ‬
‫ي عليه السلم‪َ :‬وْي َ‬
‫فقال له عل ّ‬

‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬أوردها عدد من المؤرخين ممن عاشوا قبل السيد الرضي في كتبهم ورووا قصة بني ناجية‪ ،‬ومنهم الطبري في‬
‫تأريخه المعروف في وقائع عام ‪ 38‬هـ وابراهيم بن هلل الثقفي في كتاب الغارات والبلذري في أنساب الشراف والمسعودي في‬
‫كتاب مروج الذهب‪ .‬مصادر نهج البلغة‪.451 / 1 ،‬‬

‫] ‪[ 312‬‬

‫عم وبه جاهل‪ ،‬فقال الخريت‪:‬‬‫الحق أنا أعلم بها منك; فلعلك تعرف ما أنت الن له منكر‪ ،‬وُتْبصر ما أنت الن عنه َ‬
‫ي السوء‪ ،‬ول‬‫ن بك رأ ُ‬‫غُد ول يستهويّنك الشيطان‪ ،‬ول يتقحَم ّ‬
‫ي عليه السلم‪ :‬ا ْ‬
‫فإّني غاد عليك غدًا‪ .‬فقال عل ّ‬
‫ل إن استرشدَتني واستنصحتني وقبلت ِمّني لهدّينك سبيل الرشاد‪.‬‬ ‫يستخّفّنك الجهلء الذين ل يعلمون; فوا ّ‬

‫فخرج الخّريت من عنده ُمْنصرفًا إلى أهله‪.‬‬

‫ن عمه في ذلك‪،‬‬‫عّمه صديق‪ ،‬فأردت أن َأْلَقى اب َ‬ ‫سِرعًا‪ ،‬وكان لي من بني َ‬ ‫ل بن ُقَعين‪ :‬فعجلت في أثره ُم ْ‬
‫قال عبدا ّ‬
‫ن يأمَره بطاعة أميرالمؤمنين‬ ‫ن عمه أن يشتّد بلسانه عليه‪ ،‬وأ ْ‬
‫فأعلمه بما كان من قوله لميرالمؤمنين‪ ،‬وآمر اب َ‬
‫ن ذك خير له في عاجل الدنيا وآجل الخرة‪ .‬ثم بعث)عليه السلم( بمعقل بن قيس فقاتل‬ ‫وُمناصحته‪ ،‬ويخبره أ ّ‬
‫الخريت حتى قتل وأسر أصحابه‪ ،‬فأطلق من كان منهم مسلما وبقى غير المسلمين‪ ،‬وحين ورد السرى الكوفة‬
‫إشترى مصقلة السرى بخمسمئة درهم من معقل وأعتقهم‪ .‬فدفع مئتي درهم وعجز عن دفع الباقي فخاف وهرب‪.‬‬
‫فخطب المام)عليه السلم( بهذه الخطبة‪(1).‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 3/128‬بتصرف‪.‬‬

‫] ‪[ 313‬‬
‫حّتى َبّكَتُه‪،‬‬
‫صَفُه َ‬
‫ق وا ِ‬
‫صّد َ‬
‫سَكَتُه‪َ ،‬ول َ‬
‫حّتى َأ ْ‬
‫ق ماِدحَُه َ‬
‫ط َ‬
‫سادِة‪َ ،‬وَفّر ِفراَر اْلَعِبيِد! َفما َأْن َ‬
‫صَقَلَة! َفَعَل ِفْعَل ال ّ‬
‫ل َم ْ‬‫حا ّ‬ ‫»َقّب َ‬
‫ظْرنا ِبماِلِه ُوُفوَرُه«‪.‬‬ ‫سوَرُه َواْنَت َ‬
‫خْذَنا َمْي ُ‬
‫َوَلْو َأقاَم َل َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫فرار العبيد‬

‫قال المام)عليه السلم( بعد أن سمع خبر فرار مصقلة ـ عامل المام على منطقة أردشير حّرة من مناطق فارس ـ‬
‫ل مصقلة فعل فعل السادة‪ ،‬وفر فرار العبيد«‪ .‬لقد قام مصقلة بعمل إنساني كبير وذلك حين إشترى أسرى‬ ‫»قبح ا ّ‬
‫ل من سؤال المهلة للتسديد هرب بالمال‬‫بني ناجية وأعتقهم فلما طولب بالمال وإعادته إلى بيت مال المسلمين وبد ً‬
‫إلى الشام حيث معاوية الذي عرف بخداعه للناس واستعبادهم وظاهر القضية أن مصقلة وخشية دينه لبيت المال‬
‫هرب إلى الشام‪ ،‬بينما يبدو أّنه كان مستعد مسبقًا لهذه الخيانة العظمى‪ ،‬فلعله كان يخشى الفضيحة من بعض‬
‫لخرى التي قارفها‪ ،‬ولعل شدة علي)عليه السلم(في العدل والصرار على إسترداد حقوق بيت المال قد‬ ‫العمال ا ُ‬
‫ن مصقلة قال لم أكن لغتم‬ ‫شقت عليه كما شقت على الخرين‪ .‬ويؤيد ذلك ما قاله صاحب مصقلة ذهل بن حارث أ ّ‬
‫لو كنت مدينًا لعثمان أو معاوية‪ ،‬فهما يتسامحان في بيت المال‪ ،‬وقد فعل ذلك بحق اللف المؤلفة‪ ،‬ال أن‬
‫عليا)عليه السلم( شديد التعامل مع بيت المال‪ .‬مع ذلك فليس هنالك من مبرر لفعل مصقلة‪ ،‬ول سيما إثر ذلك‬
‫التناقض الواضح‪ ،‬فقد تكرم من جانب ليقوم بذلك العمل النساني‪ ،‬ومن جانب آخر قام بتلك الخيانة وهرب! لذلك‬
‫قال)عليه السلم(‪:‬‬

‫] ‪[ 314‬‬

‫»فما أنطلق مادحه حتى أسكته‪ ،‬ول صدق واصفه حتى بكته«)‪ (1‬فقد فعل ما يدعو إلى مدحه من قبل كل من‬
‫ن خبر عتقه لسبايا بني ناجية لم يكد ينتشر بين الناس حتى إنتشر قبله نبأ فراراه إلى الشام‪ ،‬فاصاب‬ ‫لأّ‬ ‫يسمعه‪ ،‬إ ّ‬
‫الجميع بالدهشة والذهول‪ ،‬فكيف يلجأ إلى معاوية من يقوم بهذا العمل النجيب‪ ،‬فيؤثر مجاورة معاوية والوقوف‬
‫إلى جانبه على علي)عليه السلم(؟ نعم ليسع الجميع تحمل العدل! ثم إختتم كلمه بالقول »ولو أقام لخذنا‬
‫سَرة()‪ .(2‬ليس‬
‫ظَرةٌ ِإلى َمْي َ‬
‫سَرة َفَن ِ‬
‫عْ‬
‫ن ُذو ُ‬
‫ميسوره‪ ،‬وانتظرنا بماله وفوره« أجل هذا منطق القرآن الكريم )َوِإنْ كا َ‬
‫ن عليًا)عليه السلم(سيعامله على خلف القرآن وأحكامه‪ ،‬وعليه فل يقبل عذره في خشيته من‬ ‫هنالك من يعتقد بأ ّ‬
‫المام)عليه السلم(في تسديد ما بذمته لبيت المال‪ .‬وهنا يبرز هذا السؤال لم لم يهبه المام)عليه السلم( ذلك المال‬
‫تقديرًا لعمله النساني‪ ،‬فمصقلة لم يكن ليتحمل بذلك الدين لمصالحه الشخصية بل كان نتيجة طبيعة لذلك العمل‬
‫ن المام)عليه السلم( لو فعل ذلك لصبحت سنة في‬ ‫الجبار الذي قام به؟ ونقول في الجواب على هذا السؤال أ ّ‬
‫لسرى; المر الذي يفرز بعض المخاطر التي تهدد كيان‬ ‫المستقبل‪ ،‬بحيث يقوم كل عامل وآمر بالطلق سراح ا ُ‬
‫ن مثل هذا البذل يزعزع أسس‬ ‫المجتمع السلمي بينما يحظي المر بمدح الناس وثنائهم‪ .‬أضف إلى ذلك فا ّ‬
‫ودعائم بيت المال ويعيد إلى الذهان سياسة البذخ والسراف التي إتبعها عثمان تجاهه‪ ،‬بينما كان المام)عليه‬
‫لّمة بأّنه سيتسرجع كل ما أخذ من بيت المال بغير حق وإن تزوج به النساء‪.‬‬ ‫السلم( قد وعد ا ُ‬

‫تأّملن‬

‫‪ 1‬ـ من بين السئلة التي تطرح بشأن هذه الخطبة‬


‫ن الجواب قد ورد في قصة سبيهم‪ ،‬حيث خرج‬
‫أو ليس بني ناجية مسلمين‪ ،‬فكيف يسبون ويفادون؟ ويبدو أ ّ‬
‫الخريت بن راشد الناجي ضد أميرالمؤمنين)عليه السلم(واجتمع مع عدد من‬

‫‪» .1‬بكته« من مادة »بكت« على وزن بخت بمعنى الضرب بالعصا‪ ،‬كما تعني التوبيخ والغلبة على الخرين عن طريق الستدلل‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة البقرة ‪.280 /‬‬

‫] ‪[ 315‬‬

‫الفراد‪ ،‬فلما بلغ الخبر المام)عليه السلم(‪ .‬فوجه المام)عليه السلم( أحد أصحابه »معقل بن قيس« لقتال‬
‫الخريت بن راشد فقتله وقتل جمعًا من أصحابه وأسر آخرين من مسلمين وغير مسلمين من النصارى ومانعي‬
‫الصدقة‪ ،‬فجعل مسلميهم يمنة والنصارى ومانعي الصدقة يسرة‪ ،‬ثم خلى سبيل من كان مسلمًا وأخذ بيعته‪ ،‬ومن‬
‫لسرى إلى المام)عليه السلم( في منطقة‬ ‫كان إردتد عرض عليه الرجوع إلى السلم أو القتل‪ .‬فلما أتي با ُ‬
‫أردشير حّرة التي كان مصقلة عاملها‪ ،‬فبكى إليه النساء والصبيان وتصايح الرجال‪ .‬فقال مصقلة‪ :‬أقسم با ّ‬
‫ل‬
‫لتصدقن عليهم‪ ،‬فاشتراهم بخمسمائة ألف درهم فاعتقهم‪ .‬فبعث مصقلة بمقدار من المال وبقي آخر‪ .‬وانتظر‬
‫علي)عليه السلم(مصقلة أن يبعث المال فابطأ به فبعث إليه المام‪ ،‬فقدم الكوفة‪ ،‬فسأله المام)عليه السلم(المال‪،‬‬
‫فأدى إليه مائتي ألف درهم وعجز عن الباقي‪ ،‬على أن يهبه المام)عليه السلم( ذلك‪ ،‬فلم يقبل المام)عليه‬
‫السلم(‪ ،‬ولو وافقه المام)عليه السلم( لكان ذلك المر بدعة بحيث يشتري الخرون السرى ثم يعتقونهم ول‬
‫يؤدون المال إلى بيت مال المسلمين‪ ،‬إلى جانب كون تلك الموافقة تثيير تداعيات سياسة عثمان إزاء بيت المال‬
‫ن أحد أصحابه قال له‪ :‬لو‬ ‫بحيث يساء الظن بحزم المام)عليه السلم( بالنسبة لبيت مال المسلمين‪ .‬والعجيب أ ّ‬
‫شئت لم يمض عليك جمعة حتى تجمع هذا المال‪ ،‬فقال‪ :‬ما كنت لحملها قومي‪ ،‬ول أطلب فيها إلى أحد‪ .‬ثم قال‪:‬‬
‫لمور تشير إلى أّنه قد يكون منذ البداية قد عزم‬‫ن ابن هند مطالبي بها‪ ،‬أو ابن عفان‪ ،‬لتركها لي‪ .‬فهذه ا ُ‬
‫ل لو أ ّ‬
‫وا ّ‬
‫على عدم أدائها‪ ،‬كما تفيد الرسالة الثالثة والربعون من نهج البلغة أّنه كان عثمانيًا‪ ،‬ولذلك كان قد بذل بعض‬
‫أموال بيت المال لبطانته وقومه‪ ،‬وخلصة القول فان بنيته الفكرية والعملية كانت قائمة على نهج معاوية ل‬
‫ن حب الدنيا والغترار بالجاه‬ ‫لأّ‬ ‫ل صالحًا قبل وصوله إلى الحكومة إ ّ‬ ‫أميرالمؤمنين)عليه السلم(‪ .‬ولعله كان رج ً‬
‫قد غلب عليه‪ .‬ومن هنا شقت عليه عدالة المام)عليه السلم(حتى إلتحق في خاتمة المطاف بمعاوية‪ .‬فخطب‬
‫المام)عليه السلم( هذه الخطبة واختتمها بقوله »ولو أقام لخذنا ميسوره‪ ،‬وانتظرنا بماله وفوره«‪(1).‬‬

‫ن السرى المذكورين لم يكونوا من المسلمين‪.‬‬


‫ويتضح مّما ذكرنا أ ّ‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 128 / 3‬ـ ‪ 150‬بتصرف‪.‬‬

‫] ‪[ 316‬‬

‫‪ 2‬ـ فلسفة الحزم‬

‫السؤال الخر الذي يمكن طرحه هنا‪ :‬ما علة كل هذا الحزم من المام)عليه السلم(في هذه الحالت؟‬

‫ل‪،‬‬
‫ن المام)عليه السلم( لم يتشدد في هذا المر‪ ،‬بل كان قد أمهله لتسديد الدين عند المقدرة أو ً‬
‫ونقول في الجواب أ ّ‬
‫وثانيًا لم يكن ذلك حقًا للمام)عليه السلم( بحيث يهبه أموال بيت المال‪ ،‬بل هو حق المسلمين الذي ليفرط فيه‬
‫ل أّنه أبقى باب الرفق مفتوحًا‪ ،‬ومن ذلك إقترح‬
‫أميرالمؤمنين)عليه السلم( قط‪ .‬ورغم حزمه في هذا المر إ ّ‬
‫البعض على المام)عليه السلم( بعد فرار مصقلة إعادة السبايا والسرى‪ ،‬فلم يوافق المام)عليه السلم( على أ ّ‬
‫ن‬
‫مصقلة قد إبتاعهم واعتقهم‪ ،‬فالمدين مصقلة ل هؤلء‪(1).‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 3/128‬ـ ‪ 150‬بتصرف‪.‬‬


‫] ‪[ 317‬‬

‫الخطبة)‪45 (1‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫ل ويذم الدنيا‬
‫وهو بعض خطبة طويلة خطبها يوم الفطر‪ ،‬وفيها يحمدا ّ‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ل والثناء عليه‪ ،‬والخر ذم‬


‫تشتمل الخطبة على فصلين من كلم أميرالمؤمنين علي)عليه السلم(‪ :‬أحدهما حمدا ّ‬
‫ن الرضي )ره( لم يذكر الخطبة كلها فهى طويلة جدًا‪ ،‬ومن هنا ل‬
‫الدنيا وحث الناس على التزود للخرة‪ .‬ويبدو أ ّ‬
‫ل أّنها رغم قصرهما يشيران إلى معان ضخمة مهّمة‪.‬‬ ‫يرى هناك من إرتباط بين هذين الفصلين‪ ،‬إ ّ‬

‫—–‬

‫ن هذه الخطبة والخطبة رقم ‪ 28‬كلهما فصل من خطبة طويلة روى السيد الرضي‬ ‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬قال أغلب شّراح نهج البلغة أ ّ‬
‫ن السيد الرضي )ره( لم يرد نقل كافة‬
‫قسما منها هنا وآخر في الخطبة المذكورة )كما ترك القسم الثالث( ويفيد هذا المر مرة ُاخرى أ ّ‬
‫ن غرضه ذكر فصاحته)عليه السلم( ل غير‪.‬‬ ‫خطب المام)عليه السلم(في نهج البلغة‪ ،‬بل كان يلتقط كلمه)عليه السلم(إلتقاط ل ّ‬
‫على كل حال نقل هذه الخطبة قبل السيد الرضي )ره( المرحوم الصدوق في كتاب من ليحضره الفقيه‪ ،‬والمرحوم الشيخ الطوسي‬
‫)بعد الرضي( في مصباح المتهجد‪) .‬مصادر نهج البلغة‪ 2/10 ،‬ـ ‪.(11‬‬

‫] ‪[ 318‬‬

‫] ‪[ 319‬‬

‫القسم الول‬
‫عباَدِتِه‪ ،‬اّلِذي‬
‫ن ِ‬
‫عْ‬‫سَتْنَكف َ‬
‫ن َمْغِفَرِتِه َول ُم ْ‬
‫ن ِنْعَمِتِه َول َمْأُيوس ِم ْ‬
‫خُلّو ِم ْ‬
‫حَمِتِه‪َ ،‬ول َم ْ‬
‫ن َر ْ‬ ‫غْيَر َمْقُنوط ِم ْ‬‫ل َ‬ ‫حْمُد ِّ‬‫»اْل َ‬
‫حَمٌة َول ُتْفَقُد َلُه ِنْعَمٌة«‪.‬‬
‫ح ِمْنُه َر ْ‬
‫ل َتْبَر ُ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الرحمة اللمتناهية‬

‫ل والثناء عليه‪ ،‬ثم أشار إلى ست من النعم اللهية التي تستحق الحمد والشكر‪ ،‬فقال)عليه‬ ‫تناول هذا الفصل حمدا ّ‬
‫حَمِتي‬
‫ل الواسعة وهو القائل سبحانه )َوَر ْ‬ ‫ل غير مقنوط)‪ (1‬من رحمته«‪ .‬كيف اليأس من رحمة ا ّ‬ ‫السلم( »الحمد ّ‬
‫ن()‪(3‬‬ ‫ل الَقْوُم الكاِفُرو َ‬‫ل ِإ ّ‬‫حا ّ‬
‫ن َرْو ِ‬
‫س ِم ْ‬‫شيء()‪ (2‬كما قال على لسان نبيه يعقوب)عليه السلم()ل َيْيَأ ُ‬ ‫ل َ‬‫ت ُك ّ‬
‫سَع ْ‬
‫َو ِ‬
‫ن()‪ (4‬وعليه فلبد للنسان من‬ ‫ضاّلو َ‬‫ل ال ّ‬ ‫حَمِة َرّبِه ِإ ّ‬
‫ن َر ْ‬ ‫ط ِم ْ‬‫ن َيْقَن ُ‬
‫وعلى لسان خليله إبراهيم)عليه السلم()َوَم ْ‬
‫ن هذا اليأس كفر وضللة وهو‬ ‫ل‪ ،‬بل إ ّ‬ ‫ل مهما كانت ذنوبه ومعاصيه‪ ،‬ول ينبغي له اليأس من رحمة ا ّ‬ ‫النابة إلى ا ّ‬
‫خَر‬‫سـ ّ‬
‫ل َ‬‫نا ّ‬‫من أعظم الذنوب ثم قال)عليه السلم(»ول مخلو من نعمته«‪ .‬كما ورد في القرآن الكريم )َأَلْم َتَرْوا َأ ّ‬
‫عَلْيُكْم ِنَعَمـُه ظاِهَرًة َوباطَِنًة()‪ (5‬وأضاف)عليه السلم(»ول مأيوس‬ ‫سَبـَغ َ‬‫ض َوَأ ْ‬
‫لْر ِ‬ ‫ت َوما ِفي ا َ‬
‫سمـوا ِ‬
‫َلُكْم ما ِفي ال ّ‬
‫علـى‬ ‫سـَرُفوا َ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫ى اّلـِذي َ‬
‫عـباِد َ‬ ‫ل يا ِ‬ ‫من مغفرته« كيف ل وهو القائل )ُقـ ْ‬

‫‪» .1‬مقنوط« من مادة »قنوط« على وزن قنوت بمعنى اليأس من الخير والرحمة‪ ،‬والقنوط على وزن بلوط صيغة مبالغة‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة العراف ‪.156 /‬‬

‫‪ .3‬سورة يوسف ‪. 87 /‬‬

‫‪ .4‬سورة الحجر ‪.56 /‬‬

‫‪ .5‬سورة لقمان ‪.20 /‬‬

‫] ‪[ 320‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة الزمر ‪.53 /‬‬

‫‪ .2‬في ظلل نهج البلغة ‪.226 / 1‬‬

‫ل الرحمن الرحيم من سورة الفاتحة‪.‬‬


‫‪ .3‬مجمع البيان ذيل تفسر بسم ا ّ‬

‫‪» .4‬إستنكاف« من مادة »نكف« على وزن نظم بمعنى البعاد‪ ،‬والنتكاف بمعنى الخروج من أرض إلى ُاخرى‪ ،‬والستنكاف بمعنى‬
‫الباء والعراض عن الشيء‪.‬‬

‫‪ .5‬سورة النساء ‪.173 /‬‬

‫‪ .6‬سورة النحل ‪.18 /‬‬


‫] ‪[ 321‬‬

‫القسم الثاني‬

‫ب الّناظِر‪،‬‬
‫ت ِبَقْل ِ‬
‫س ْ‬‫ب َواْلَتَب َ‬‫طال ِ‬
‫ت ِلل ّ‬‫جَل ْ‬
‫عِ‬‫ضراُء‪َ ،‬وَقْد َ‬‫خ ْ‬ ‫حْلَوٌة َ‬
‫ي ُ‬‫جلُء َوِه َ‬‫ي َلها اْلَفناُء َوَِلْهِلها ِمْنها اْل َ‬
‫»َوالّدْنيا داٌر ُمِن َ‬
‫غ«‪.‬‬
‫ن اْلَبل ِ‬‫طُلُبوا ِمْنها َأْكَثَر ِم َ‬
‫ف‪َ ،‬ول َت ْ‬ ‫ق اْلَكفا ِ‬
‫سَأُلوا ِفيها َفْو َ‬
‫ن الّزاد‪َ ،‬ول َت ْ‬‫ضَرِتُكْم ِم َ‬
‫ح ْ‬ ‫ن ما ِب َ‬‫سِ‬‫ح َ‬‫حُلوا ِمْنها ِبَأ ْ‬
‫فاْرَت ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫الدنيا دار المنى‬

‫ن حّبها والتعلق بها يعد من آعظم آفات سبيل سعادة النسانية‪.‬‬ ‫لقد عرض المام)عليه السلم( هنا بذم الدنيا على أ ّ‬
‫ن الغترار بزخارفها وزينتها أساس الذنوب والمعاصي‪ ،‬فقال)عليه السلم(»والدنيا دار مني لها الفناء«)‪.(1‬‬ ‫كما أ ّ‬
‫نعم فدعائم الكون تحكي آثار الزوال والفناء‪ ،‬فالشجار التي تتفتح في الربيع وتحمل الثمار إّنما تذبل في فصل‬
‫ن حياة هذه الشجار لم تشهد‬ ‫الخريف لتجف ثم تتساقط أوراقها على الرض فتعبث بها الرياح هنا وهناك‪ ،‬وكأ ّ‬
‫الربيع ولم تحمل الثمار‪ .‬وهكذا حال النسان فالفتى القوي بالمس‪ ،‬هو العجوز الهرم اليوم‪ ،‬والكهل العجوز اليوم‬
‫سيكون عظاما نخرة غدًا! ثم قال)عليه السلم( »ولهلها منها الجلء«)‪ (2‬فكافة الفراد دون إستثناء سيودعون‬
‫عاجل أم آجل هذه الدنيا الفانية ليتجهوا نحو تلك الحياة الخالدة في عالم الخرة‪ .‬فهذا قانون إلهي مطلق ل يسع‬
‫أحد إنكاره والخروج عليه‪ .‬ومن هنا عبرت بعض اليات القرآنية عن‬

‫‪ .1‬مني لها الفناء‪ ،‬أي قدر لها لها الفناء‪ .‬وتطلق على المال التي يخطط لها النسان فالمراد أن الفناء مقدر في طبيعة الدنيا‪.‬‬

‫ن النسان كان مستخفيًا وقد ظهر بعد أن خرج من‬


‫‪» .2‬الجلء« بمعنى الظهور ‪ ،‬ومنه الجلء عن الوطن بمعنى الخروج منه ‪ ،‬وكأ ّ‬
‫وطنه‪.‬‬

‫] ‪[ 322‬‬

‫الموت باليقين‪ ،‬وذلك لّنه يوقن به حتى من أنكر المعاد والحساب‪ .‬ثم قال)عليه السلم( »وهى حلوة خضرة«‬
‫وتختص الحلوة بالذائقة بينما ترتبط الخضرة بالباصرة‪ ،‬فخضرة الدنيا وجمالها تخطف بصر الفرد الغافل وتشده‬
‫ن خداع الدنيا ل يقتصر على هذين‬ ‫إليها‪ ،‬بينما تسوق حلوتها ذلك النسان إلى المعصية والخطيئة‪ ،‬ومن المعلوم أ ّ‬
‫المرين‪ ،‬بل لكل حاسة من حواس النسان ما يجذبها ويربطها بالدنيا‪ .‬وأضاف)عليه السلم(»وقد عجلت للطالب‬
‫والتبست)‪(1‬بقلب الناظر« فطبيعة الدنيا خيرها العاجل ومنافعها المبكرة‪ ،‬وإذا أتت النسان فإّنها تنفذ إلى قلبه‬
‫حتى تكون جزءًا منه لّنها جميلة للناظر‪ ،‬كما أّنها حلوة للمذاق‪ ،‬ولذلك كان التحرر منها صعبًا‪ .‬وما ان فرغ‬
‫المام)عليه السلم( من بيان صفات الدنيا لتتطلع القلوب إلى أوامر السماء حتى قال »فارتحلوا منها بأحسن ما‬
‫بحضرتكم من الزاد ول تسألوا فيها فوق الكفاف‪ ،‬ول تطلبوا منها أكثر من البلغ«)‪ .(2‬ل ينبغي أن ينسى‬
‫النسان أّنه مسافر قد أقام هنا بصورة مؤقتة‪ ،‬والمسافر الفطن إّنما ينهمك باعداد الزاد والمتاع في مثل هذا‬
‫خْيَر الّزاد الّتْقوى‬
‫ن َ‬
‫المنزل‪ ،‬فهو يتزود بأحسن المتعة والشياء ول يثقل كاهله بالردي منها أبدا )َوَتَزّوُدوا َفِإ ّ‬
‫ب()‪ .(3‬فالتقوى أفضل زاد الدنيا إلى جانب الحذر من نوم الغفلة‪.‬‬ ‫لْلبا ِ‬
‫ن يا ُأوِلي ا َ‬
‫َواّتُقو ِ‬
‫الكفاف والعفاف‬

‫لقد تضمنت الخطبة إشارات إلى مختلف أبعاد الحياة الدنيا رغم قلة عباراتها وألفاظها‪ .‬فقد أشارات إلى طبيعة‬
‫الحياة الدنيا والتي تكمن في الفناء والزوال ورحيل أهلها عنها شاءوا أم أبوا‪ .‬كما تطرقت إلى ظاهرها النيق الذي‬
‫يشد النظار إليه‪ ،‬ومن هنا يتجه نحوها من يخدع بالمظاهر‪ ،‬بينما يحذرها من يتمعن في العواقب‪ .‬وتناولت حب‬
‫الدنيا الذي يقود بالتدريج إلى تربعها في قلب النسان حتى تصبح جزءًا من كيانه; المر الذي يجعل من المتعذر‬
‫عليه نزع‬

‫‪ .1‬ـ مادة »اللتباس« إن تعدت بحرف الباء عنت الختلط والمتزاج‪ ،‬وإن تعدت بحرف على عنت الشتباه‪ ،‬ومن هنا يتضح أ ّ‬
‫ن‬
‫المراد بالعبارة هنا الشتباه‪.‬‬

‫‪» .2‬البلغ« بمعنى الوصول إلى الشي‪ ،‬ومنه البلوغ الذي يصل فيه النسان مرحلة خاصة‪ .‬والمراد بها هنا ما يتبلغ به‪ ،‬أي يقتات به‬
‫مدة الحياة‪.‬‬

‫‪ .3‬سورة البقرة ‪.197 /‬‬

‫] ‪[ 323‬‬

‫حّبها من قلبه ثم أرشدت إلى النجاة من أخطارها وآفاتها بالقناعة بالكفاف والعفاف‪ ،‬والمراد بالكفاف)‪ (1‬والعفاف‬
‫)أو العفاف والكفاف« أن يقنع النسان في الدنيا بقدر حاجته إليها ويدع الرغبة بالمزيد جانبًا ويغض طرفه عن‬
‫لخروية‪،‬‬ ‫جمع الموال; المر الذي يجعله يعيش الستقرار والسكينة في حياته الدنيا ويحد من حمله في حياته ا ُ‬
‫ن طامة النسان في الحرص والطمع وعدم القناعة‪ .‬طبعًا إذا كان تطلعه للمزيد من أجل إغاثة الضعفاء‬ ‫وذلك ل ّ‬
‫ن ذلك ليس فقط ل يتنافى والعفاف والكفاف فحسب‪ ،‬بل من شأنه أن يقود الخرين إلى الكفاف‪ .‬فقد‬ ‫والمحرومين فا ّ‬
‫ن()‬
‫ب الُمْعَتِدي َ‬
‫ح ّ‬‫ل ل ُي ِ‬
‫نا ّ‬‫ل َلُكْم َول َتْعَتُدوا ِإ ّ‬
‫حلّ ا ّ‬
‫ت ما َأ َ‬
‫طّيبا ِ‬
‫حّرُموا َ‬
‫ن آَمُنوا ل ُت َ‬
‫ورد في القرآن الكريم‪) :‬يا َأّيها اّلِذي َ‬
‫ن النبي)صلى ال‬ ‫‪ ،(2‬كما ورد هذا المعنى في الروايات السلمية‪ ،‬فقد ورد عن المام الصادق)عليه السلم(أ ّ‬
‫ب محمدًا وآل محمد العفاف والكفاف«)‬ ‫عليه وآله(كان يدعو بهذا الدعاء‪» :‬الّلهم ُارزق محمدًا وآل محمد ومن أح ّ‬
‫‪ .(3‬وعن أميرالمؤمنين علي)عليه السلم( أّنه قال‪» :‬قليل يكفى خير من كثير يردي« )‪ (4‬فالفرد إذا قنع باللزم‬
‫من حياته كان ذلك زينة له من الذنب وتحلى بالكفاف والعفاف‪» :‬من اقتنع بالكفاف أداه إلى العفاف«)‪ (5‬أضف‬
‫إلى ذلك وبغض النظر عن الجوانب المعنوية والخلقية للقناعة بالضروري في الحياة فاّنما مدعاة للسكينة‬
‫والستقرار الروحي والنفسي في الحياة الدنيا‪ ،‬فقد ورد عن المام علي)عليه السلم( أّنه قال‪» :‬ومن إقتصر على‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(على شخص فدعا‬ ‫بلغة الكفاف فقد إنتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة«)‪ .(6‬وقد أثنى رسول ا ّ‬
‫ل وكفى خير مّما أكثر وألهى; الّلهم ُارزق محّمدا‬ ‫ن ما ق ّ‬‫ل‪» :‬إ ّ‬
‫ل‪» :‬الّلهم ُارزقه الكفاف« كما قال رسول ا ّ‬ ‫له قائ ً‬
‫وآل محمد الكفاف«‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬الكفاف من مادة كف بمعنى كف اليد‪ ،‬ولما كان النسان يبعد الشىء عنه بكفه فقد وردت هذه المفردة بمعنى المنع والسلب‪ ،‬ومنه‬
‫المكفوف لمن سلب بصره‪ ،‬ويقال للجماعة كافة لنها تمنع العدو‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة المائدة ‪. 87 /‬‬

‫‪ .3‬اصول الكافي ‪.140 / 2‬‬

‫‪ .4‬غرر الحكم‪ ،‬ح ‪.234‬‬

‫‪ .5‬غرر الحكم‪ ،‬ح ‪.286‬‬


‫‪ .6‬نهج البلغة ‪.371 /‬‬

‫] ‪[ 324‬‬

‫] ‪[ 325‬‬

‫الخطبة)‪46 (1‬‬

‫ومن كلم له )عليه السلم(‬

‫عند عزمه على المسير إلى الشام وهو دعاء دعا به رّبه عند وضع رجله في الركاب‪.‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫تتضمن هذه الخطبة أو هذا الدعاء عّدة أمور عميقة ومهّمة‪ ،‬فقد بين المام)عليه السلم(جميع المشاكل المتوقعة‬
‫ل‪ .‬ثم وصف الحق سبحانه بأّنه الصاحب في السفر والخليفة في الهل‬ ‫في السفر في ثلث‪ ،‬ثم إستعاذ منها با ّ‬
‫توكيدًا لحضوره الذاتي المطلق لدى جميع الكائنات‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سند الخطبة رواه بعض المحدثين الذين عاشوا قبل السيد الرضي )ره( ومنهم نصربن مزاحم في كتاب صفين‪ ،‬وذكر بعض‬
‫ن المام)عليه السلم( دعا بهذا الدعاء عند ما وضع رجله في الركاب وعزم على المسير إلى الشام لقتال معاوية‪ .‬وقال‬
‫المؤرخين أ ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( وقد قفاه أميرالمؤمنين علي)عليه السلم(‪ .‬ورواه أعثم‬‫السيد الرضي وابتداء هذا الكلم مروي عن رسول ا ّ‬
‫ن المام)عليه‬
‫الكوفي في كتاب الفتوح‪ ،‬ما اورده مع بعض الضافات القاضي نعمان المصري في كتاب دعائم السلم‪ ،‬وقال‪ :‬إ ّ‬
‫السلم(كان يدعوا بهذا الدعاء عند كل سفر‪ ،‬مصادر نهج البلغة‪.12 / 2 ،‬‬

‫] ‪[ 326‬‬

‫] ‪[ 327‬‬
‫ت‬
‫ظِر ِفي اَْلْهِل َواْلماِل َواْلَوَلِد‪ ،‬الّلهّم َأْن َ‬ ‫سوِء اْلَمْن َ‬
‫ب َو ُ‬‫سَفِر َوَكآَبِة اْلُمْنَقَل ِ‬
‫عثاِء ال ّ‬‫ن َو ْ‬‫ك ِم ْ‬‫عوُذ ِب َ‬‫»الّلهّم ِإّني َأ ُ‬
‫حبًا‪،‬‬‫صَ‬‫سَت ْ‬‫ن ُم ْ‬ ‫ف ل َيُكو ُ‬ ‫خَل َ‬‫سَت ْ‬
‫ن اْلُم ْ‬
‫ك‪َِ ،‬ل ّ‬ ‫غْيُر َ‬
‫جَمُعُهما َ‬
‫خِليَفُة ِفي اَْلْهِل َول َي ْ‬ ‫ت اْل َ‬
‫سَفِر‪َ ،‬وَأْن َ‬‫ب ِفي ال ّ‬‫صاح ُ‬ ‫ال ّ‬
‫خَلفًا«‪.‬‬
‫سَت ْ‬
‫ن ُم ْ‬ ‫ب ل َيُكو ُ‬ ‫ح ُ‬‫صَ‬‫سَت ْ‬ ‫َواْلُم ْ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫ل من وعثاء السفر‬
‫الستعاذة با ّ‬

‫ل أّنهم يكونون أكثر تضرعًا حين إشتداد المحن‬ ‫ل في جميع الحوال إ ّ‬


‫ل يعيشون التضرع إلى ا ّ‬ ‫ن ُاولياء ا ّ‬
‫ل شك أ ّ‬
‫ل والتوسل إليه ليفرج عنهم ويلهمهم القوة والصلبة والثقة بالنفس‪.‬‬ ‫والخطوب‪ ،‬فيستأنفون أعمالهم بدعاء ا ّ‬
‫المام)عليه السلم( من جانبه لما عزم على المسير لصفين تضرع بهذا الدعاء »الّلهم إّني أعوذ بك من وعثاء)‪(1‬‬
‫ن ما يشغل ذهن المسافر من جراء‬ ‫السفر وكآبة)‪ (2‬المنقلب)‪ (3‬وسوء المنظر في الهل والمال والولد« فالواقع أ ّ‬
‫السفر أوجزه المام)عليه السلم(في ثلث; الول )وعثاء السفر( والثاني كيفية العودة )وكآبة المنقلب« والثالث‬
‫لمور المقلقة ويسأله‬‫ل من هذه ا ُ‬
‫القلق على الهل )سوء المنظر في الهل والولد(‪ .‬ويستعيذ المام)عليه السلم(با ّ‬
‫تذليلها‪ ،‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬الّلهم أنت الصاحب في السفر وأنت الخليفة في الهل‪ ،‬ول يجمعها غيرك« نعم‬
‫الذات اللهية فقط المنزهة عن الزمان والمكان‪ ،‬فهى محيطة بجميع المكنة‬
‫ل معنا في السفر ومع‬ ‫والزمنة‪ ،‬فليس هنالك من مكان أقرب إليها من آخر‪ ،‬ومن هنا فان ا ّ‬

‫‪» .1‬وعثاء« من مادة »وعث« على وزن درس تعني المشقة‪ ،‬وأصله المكان المتعب لكثرة رمله وغوص الرجل فيه ومن هنا يطلق‬
‫الوعثة على المرأة المترهلة لّنها ل تستطيع الحركة بسهولة‪.‬‬

‫‪» .2‬كآبة« بمعنى النزعاج وسوء الحال وتصدع البال ومن هنا يقال الكئيب للفرد غير مرتاح البال‪.‬‬

‫‪» .3‬منقلب« من مادة »قلب« مصدر بمعنى الرجوع‪ ،‬كما يمكن أن تكون إسم مصدر‪ ،‬واسم مكان وزمان‪ ،‬وهى هنا إسم مصدر أنسب‬
‫منها مصدر‪.‬‬

‫] ‪[ 328‬‬

‫أهلنا وولدنا في الحضر‪ ،‬وما أروع أن نودع زمام أمور حياتنا إلى من يحيط بكل شي ول يحيط به شي‪ .‬ثم يقدم‬
‫ن المستخلف ليكون مستصحبًا‪ ،‬والمستصحب ل يكون مستخلفًا« فالمكان يسود ويحكم‬ ‫الدليل على ما قال‪» :‬ل ّ‬
‫ل لوجودها المحدود‪،‬‬‫جميع الكائنات المادية‪ ،‬ومن هنا فان وجودها في مكان يعني خلو الخر منها‪ ،‬وما ذلك إ ّ‬
‫ل سبحانه الذي ل يعرف المكان ول الزمان ول البعد ول القرب‪ ،‬وهو‬ ‫وليس هنالك من وجود ل محدود سوى ا ّ‬
‫ل()‪.(2‬‬
‫جُه ا ّ‬
‫كما قال‪َ) :‬وُهَو َمَعُكْم َأْيَنما ُكْنُتْم()‪ (1‬وقال‪َ) :‬فَأْيَنما ُتَوّلوا َفَثّم َو ْ‬

‫ل)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬وقد قفاه‬


‫قال السيد الرضي )ره( آخر الكلم‪ :‬وابتداء هذا الكلم مروي عن رسول ا ّ‬
‫أميرالمؤمنين علي)عليه السلم( بأبلغ كلم وتممه بأحسن تمام من قوله »ل يجمعهما غيرك« إلى آخر الفصل‪.‬‬

‫فلسفة الدعاء‬

‫ن للدعاء مكانة خاصة في التعاليم السلمية‪ ،‬حتى عد الدعاء مخ العبادة‪.‬‬


‫من يتصفح المصادر السلمية يدرك أ ّ‬
‫ل في حوائجكم‪ ،‬والجاؤوا إليه في ملماتكم‪ ،‬وتضرعًا‬ ‫ل عّزوج ّ‬
‫فقد جاء في الحديث النبوي الشريف »أفزعوا إلى ا ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(‪:‬‬ ‫ن الدعاء مخ العبادة«)‪ .(3‬بينما وصفه حديث آخر بسلح المؤمن‪ ،‬فقال رسول ا ّ‬ ‫إليه‪ ،‬فا ّ‬
‫»الدعاء سلح المؤمن‪ ،‬وعمود الدين‪ ،‬ونور السموات والرض«)‪ ،(4‬وقال أميرالمؤمنين علي)عليه السلم(‪:‬‬
‫ل ما‬
‫»الدعاء مفاتيح النجاح‪ ،‬ومقاليد الفلح«)‪ (5‬والدعاء على درجة من الهمية بحيث قال القرآن الكريم‪ُ) :‬ق ْ‬
‫َيْعَبُؤْا ِبُكْم َرّبي َلْول ُدعاُؤُكْم()‪ .(6‬مع ذلك هنا لك من إستشكل على الدعاء ول سيما ُاولئك الذين غفلوا عن فلسفته‪:‬‬

‫ل‪ ،‬فالذي يجب‬


‫‪ 1‬ـ فهم يقولون أحيانًا‪ :‬ل ينسجم الدعاء وروح الرضا والتسليم لرادة ا ّ‬

‫‪ .1‬سورة الحديد ‪.4 /‬‬

‫‪ .2‬سورة البقرة ‪.115 /‬‬

‫‪ .3‬بحارالنوار ‪.302 / 90‬‬

‫‪ .4‬اصول الكافي ‪ 468 / 2‬ح ‪.1‬‬

‫‪ .5‬بحارالنوار ‪ ;341 / 90‬أصول الكافي ‪.486 / 2‬‬

‫‪ .6‬سورة الفرقان ‪.77 /‬‬

‫] ‪[ 329‬‬

‫ل والرضى بما يرتضي!‬


‫علينا هو التسليم لرادة ا ّ‬

‫‪ 2‬ـ إن الدعاء يعّد إحد العوامل المخدرة للنسان فيصده عن السعي والعمل والنشاط‪ ،‬حيث ينصرف النسان عن‬
‫لمور ويلوذ بالدعاء لتأمين حاجياته‪.‬‬
‫هذه ا ُ‬

‫ن ذلك المر‬‫ل أمرًا‪ ،‬فا ّ‬


‫‪ 3‬ـ ناهيك عن كل ما تقدم‪ ،‬كيف يسعنا تغيير المقدرات اللهية بواسطة الدعاء‪ ،‬فلو قدر ا ّ‬
‫ل ل يفعل‬
‫ل‪ ،‬فا ّ‬
‫ن الدعاء نوع من أنواع الفضول والتطفل على أفعال ا ّ‬ ‫سوف لن يغيره دعاؤنا‪ ،‬وبعبارة ُاخرى فا ّ‬
‫ل ما فيه المصلحة ول داعي للدعاء‪.‬‬‫إّ‬

‫ولكن ل ترى هذا الكلم سليم إذا ما وقفنا على فلسفة الدعاء ومفهومه الواقعي‪ .‬فالمفهوم الواقعي للدعاء هو أننا‬
‫ل ولطفه‪ ،‬ونتضرع إليه بالدعاء لحل المشاكل‪ ،‬وعلى‬ ‫نعمل ما في وسعنا ونجهد أنفسنا وما فاق ذلك نوكله إلى ا ّ‬
‫سـوَء()‪ (1‬نطرق بابه ونسأله بعد أن سعينا سعينًا ولم يبق إ ّ‬
‫ل‬ ‫ف ال ّ‬
‫ش ُ‬‫طّر ِإذا َدعاُه َوَيـْك ِ‬‫ضـ َ‬
‫ب الَم ْ‬
‫جـي ُ‬
‫ن ُي ِ‬
‫ضوء )َأّمـ ْ‬
‫توفيقه‪ .‬ومن هنا صرحت بعض الروايات السلمية بعدم إستجابة دعاء من قصر في العلم وخلد إلى الكسل‬
‫ل ل يستجيب دعاء من سأله الرزق وهو جالس في بيته دون أن يسعى ويعمل‪ ،‬كما ل يستجاب دعاء‬ ‫والراحة‪ .‬فا ّ‬
‫ن الكسل والتقاعس ل ينسجم‬ ‫ل ولم يكتبه ثم أنكر عليه المدين ولم يعطه ماله! والخلصة فا ّ‬ ‫من أقرض ما ً‬
‫ل محركًا‪ .‬أّما ما يقال‬‫ل مخدرًا‪ ،‬بقد رما بعد عام ً‬‫ن الدعاء ل يعتبر عام ً‬ ‫واستجابة الدعاء‪ .‬وعلى ضوء ما تقدم فا ّ‬
‫ن الدعاء سبب زيادة استحقاق النسان لّنه يتجه إلى ا ّ‬
‫ل‬ ‫من أن الدعاء ل يغير التقدير‪ ،‬فجواب ذلك واضح‪ ،‬وهو أ ّ‬
‫ن التوبة من شروط قبول الدعاء‪ ،‬وبذلك يتأهب أكثر لتلقي الفيض‬ ‫ل يتوب إليه من ذنوبه; ل ّ‬ ‫وينور قلبه بمعرفة ا ّ‬
‫ل قدر المزيد من لطفه وفضله لمن كان أكثر إستعدادًا وجدارة‪ ،‬بعبارة أخرى فا ّ‬
‫ن‬ ‫نا ّ‬ ‫اللهي والعناية الربانية‪ ،‬ل ّ‬
‫ل نعم وخيرات وبركات للعباد مشروطة ببعض الشرائط‪ ،‬في مقدمتها التوجه إليه ودعاؤه والتقرب إليه‪ .‬وبناءًا‬ ‫ّ‬
‫ل ولطفه متوقفة على الدعاء‪ .‬ومن هنا يتضح الجواب على الشكال الذي يفيد عدم انسجام‬ ‫ن رحمة ا ّ‬ ‫على هذا فا ّ‬
‫ن الدعاء تأكيد للتسليم والرضا‪ ،‬فالحق سبحانه أراد لعباده أن يعيشوا القرب منه‬ ‫الدعاء وروح الرضا والتسليم; ل ّ‬
‫ل برحمته وفضله‪ ،‬المر الذي أكد الدعاء في أغلب اليات والروايات‪ .‬وزبدة‬ ‫بالدعاء‪ ،‬فاذا عاشوا القرب شملهم ا ّ‬
‫ن للدعاء أثاره التربوبة الجمة على حياة النسان‪ ،‬أدناها أّنه يطهر قلبه‬ ‫الكلم فا ّ‬

‫‪ .1‬سورة النمل ‪.62 /‬‬

‫] ‪[ 330‬‬
‫وروحه من الدران ويزيل عنه صدأ الماديات ويوصله بمصدر الخير والحسان والعطاء‪ ،‬كما يشكل السبيل‬
‫ل ل يستغنون في قضاء حوائجهم عن الدعاء‪ ،‬وبالدعاء يشعر‬ ‫ن أولياءا ّ‬ ‫ل ولطفه‪ .‬ومن هنا فا ّ‬ ‫للستزادة من فضل ا ّ‬
‫ل فيهب لمواجهة المشاكل وقلبه مفعم بالمل في التغلب عليها‪،‬‬ ‫العبد بالقوة‪ ،‬كما يشعر بالسكينة إثر التوكل على ا ّ‬
‫ل تابعة لمشيئة وقدرته‪ .‬كما تتأتى الحاجة إلى للدعاء في السفار المخيفة‬ ‫ول غرو فهو يعلم بأّنها مذللة لرادة ا ّ‬
‫المحفوفة بالمخاطر‪ ،‬أّما دعاء المام)عليه السلم( حين عزمه على السير إلى صفين فقد إقتدى به بالنبي)صلى ال‬
‫ل حين ركب السفينة في ذلك‬ ‫عليه وآله(ومن سبقه من النبياء العظام‪ .‬فقد كلف نوح)عليه السلم(بالتضرع إلى ا ّ‬
‫جانا ِم َ‬
‫ن‬ ‫ل اّلِذي َن ّ‬ ‫حْمُد ِّ‬‫ل اْل َ‬‫ك َفُق ِ‬
‫على الُفْل ِ‬ ‫ك َ‬‫ن مََع َ‬ ‫ت َوَم ْ‬ ‫ت َأْن َ‬‫سَتَوْي َ‬
‫ل من تلك المخاطر )َفِإذا ا ْ‬ ‫الطوفان الهائل لينجيه ا ّ‬
‫ن( )‪ (1‬كما دعا موسى)عليه السلم(لما فّر‬ ‫خْيُر الُمْنِزِلـي َ‬‫ت َ‬ ‫ل ُمباَركًا َوَأْن َ‬‫ب َأْنِزْلِني ُمـْنَز ً‬
‫ل َر ّ‬‫ن * َوُق ْ‬
‫ظالِمـي َ‬
‫الَقْوِم ال ّ‬
‫سواَء‬ ‫ن َيْهِدَيـِني َ‬ ‫عسى َرّبي َأ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن قا َ‬ ‫جهَ ِتلْقاَء َمْدَي َ‬
‫من أزلم فرعون حين خرج من مصر متوجهًا إلى مدين )َوَلّما َتَو ّ‬
‫خْير َفِقـيٌر()‪ .(3‬النبي الكرم)صلى ال‬ ‫ي ِمنْ َ‬ ‫ت ِإَل ّ‬
‫ب ِإّني ِلما َأْنَزْل َ‬‫ل()‪ .(2‬وقال حين لقي لبنات شعيب )َر ّ‬ ‫سِبـي ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ل‪ ،‬وكان‬ ‫عليه وآله(حين هاجر من مكة إلى المدينة في ظل تلك الخطار‪ ،‬كان يشعر بالتذمر لمفارقة مكة وبيت ا ّ‬
‫ن النبي)صلى ال عليه‬ ‫ك ِإلى َمعاد()‪ (4‬وكأ ّ‬ ‫ن َلراّد َ‬ ‫ك الُقْرآ َ‬ ‫عَلْي َ‬
‫ض َ‬ ‫ن اّلِذي َفـَر َ‬ ‫يتمنى الرجوع ِاليها فاتته البشارة )ِإ ّ‬
‫ل أو كان يعيش حالة الدعاء فاستجيب له‪ .‬ومن هنا حثت الروايات على الدعاء في السفر‪ (5).‬وتختتم‬ ‫وآله(دعا ا ّ‬
‫البحث بما ورد عن علي)عليه السلم(حين إنطلق من الكوفة إلى الشام‪ ،‬حيث وضع رجله على الركاب فقال‪ :‬بسم‬
‫ن * َو ِإّنا ِإلى َرّبنا‬ ‫خَر َلنا هـذا َوما ُكّنا َلُه ُمْقِرِنـي َ‬ ‫سّ‬ ‫ن اّلِذي َ‬ ‫سْبحا َ‬ ‫ل الرحمن الرحيم‪ ،‬فلما استوى على دابته قال‪ُ ) :‬‬ ‫ا ّ‬
‫ن()‪ (6‬ثم دعا بهذا الدعاء الذي فرغنا من شرحه‪.‬‬ ‫َلُمْنَقِلـُبو َ‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة المؤمنون ‪ 28 /‬ـ ‪.29‬‬

‫‪ .2‬سورة القصص ‪.22 /‬‬

‫‪ .3‬سورة القصص ‪.24 /‬‬

‫‪ .4‬سورة القصص ‪. 85 /‬‬

‫‪ .5‬الوسائل الشيعة ‪ 275 / 8‬ـ ‪.281‬‬

‫‪ .6‬سورة الزخرف ‪ 13 /‬ـ ‪.14‬‬

‫] ‪[ 331‬‬

‫الخطبة)‪47 (1‬‬

‫من كلم له )عليه السلم(‬


‫في ذكر الكوفة‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫كلم المام)عليه السلم( يمثل نبوئتين بشأن الكوفة‪ ،‬أو الكوفة والبصرة‪ :‬الولى الحوادث المريرة التي تعصف‬
‫لولئك الظلمة وعقابهم بما إقترفته أيديهم‪.‬‬
‫بالكوفة وأهلها من قبل الطواغيت الظلمة‪ ،‬والثانية العاقبة السيئة ُ‬

‫—–‬

‫ن أميرالمؤمنين)عليه‬
‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬من جملة من رواها قبل السيد الرضي )ره( إبن الفقيه في كتاب البلدان‪ ،‬إّل أّنه صرح أ ّ‬
‫السلم(خاطب بهذا الكلم أهل البصرة والكوفة ول يغير ذلك شيئًا‪ .‬ونقلها بعد السيد الرضي )ره( الزمخشري في ربيع البرار في باب‬
‫البلد والديار‪ .‬مصادر نهج البلغة‪.15 / 2 ،‬‬

‫] ‪[ 332‬‬

‫] ‪[ 333‬‬

‫جّبار‬
‫ك َ‬
‫عَلُم َأّنُه َما َأَراَد ِب ِ‬
‫ن ِبالّزلِزِل َوِإّني َل ْ‬
‫ن ِبالّنَواِزِل َوُتْرَكِبي َ‬
‫ي ُتْعَرِكي َ‬
‫ظّ‬
‫ن َمّد اَْلِديِم اْلُعَكا ِ‬
‫ك َيا ُكوَفُة ُتَمّدي َ‬ ‫»َكَأّني ِب ِ‬
‫غل َوَرماُه ِبقاِتل«‪.‬‬ ‫ل ِبشا ِ‬ ‫لُه ا ّ‬ ‫سوءًا ِإّل اْبَت َ‬ ‫ُ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫نبوءة عن مستقبل الكوفة‬

‫ن المام)عليه السلم( خاطب بهذا الكلم الكوفة )وقيل البصرة والكوفة« فقال »كأني بك يا كوفة تمدين مد‬‫ذكرنا أ ّ‬
‫الديم)‪ (1‬العكاظي« »عكاظ«)‪ (2‬اسم سوق قرب مكة )وقال البعض بين مكة والطائف( تجتمع فيه العرب كل‬
‫عام من مختلف المناطق لمّدة عشرين يومًا كما صرح بذلك البعض‪ ،‬فكانوا يعرضون متاعهم‪ ،‬كما كانوا ينشدون‬
‫لخرى‪ ،‬وبالطبع كان هناك كثيرًا من المفاسد; المر الذي جعل السلم يردم ذلك‬ ‫الشعر وتتفاخر كل قبيلة على ا ُ‬
‫السوق‪.‬‬

‫أما هل المراد بهذه العبارة الحوادث الليمة التي ستقع في الكوفة‪ ،‬أم كبر الكوفة وإتساعها‪ .‬فقد صرح أغلب‬
‫ن التفسير الثاني هو النسب‪ ،‬ل ّ‬
‫ن‬ ‫شّراح نهج البلغة بالتفسير الول‪ ،‬بينما قال القليل منهم بالتفسير الثاني‪ ،‬ويبدو أ ّ‬
‫دبغ الجلد العكاظي ل يبدو منسجمًا وكون العبارة كناية عن الحوادث الليمة والمأساوية‪ ،‬بينما يمكنه أن يكون‬
‫ن الجلد العكاظي واسع وجميل ومن أرغب الجلود‬ ‫كناية عن إزدياد رقعة الكوفة وإتساع مساحتها‪ .‬جدير بالذكر أ ّ‬
‫لدى العرب‪ ،‬ولعل في هذا إشارة إلى جمال الكوفة وعمرانها في الزمنة القادمة مقارنة بما عليها في‬
‫‪» .1‬أديم« بمعنى ظاهر الشيئ وغالبًا ما يطلق على الجلد‪ ،‬كما يسمى وجه الرض بـ )أدمة الرض(‪ ،‬وقيل هذا هو السبب في تسمية‬
‫آدم لنه خلق من أديم الرض‪.‬‬

‫‪» .2‬عكاظ« كما ذكرنا سابقا سوق كانت تقيمها العرب في العصر الجاهلي قرب مكة في صحراء بيت نخلة والطائف يجتمعون إليه‬
‫ليتعاكظوا; أي يتفاخروا‪ ،‬وكان تفاخرهم قبلي عادة ما يقود إلى الحروب الدامية‪.‬‬

‫] ‪[ 334‬‬

‫ن العبارة إشارة إلى مستقبل الكوفة وتقسيمها إلى أجزاء متعددة‪ ،‬على‬ ‫زمان المام)عليه السلم(‪ .‬وذكر البعض أ ّ‬
‫غرار تقسيم الجلد العكاظي ودبغه وتوسيعه‪ .‬ثم قال)عليه السلم( »تعركين)‪ (1‬بالنوازل)‪(2‬وتركبين بالزلزل«‬
‫وقد ورد مثل هذا المعنى في الخطبة ‪ 108‬بقوله‪» :‬تعرككم عرك الديم« أي يسلط عليكم بني أمية فيسومونكم‬
‫ل إبتله ا ّ‬
‫ل‬ ‫سوء العذاب‪ .‬ونبوءته الثانية التي تمثلت بقوله)عليه السلم(‪ » :‬إّني لعلم أّنه ما أراد بك جبار سوءًا إ ّ‬
‫ل بشاغل« إشارة إلى المراض العضال واللم التي‬ ‫بشاغل ورماه بقاتل«‪ .‬ويمكن أن تكون العبارة »ابتله ا ّ‬
‫ن »ورماه بقاتل« الحوادث التى تهجم على النسان من الخارج فتقتله‬ ‫تشغل الظلمة وتصرفهم عن الناس‪ ،‬كما أ ّ‬
‫وتقضي عليه‪.‬‬

‫ن ما تكهن به المام)عليه السلم( بشأن الكوفة قد حدث‪ ،‬حيث إتسعت إتساعًا كبيرًا بعد المام)عليه‬ ‫والحق أ ّ‬
‫نا ّ‬
‫ل‬ ‫لأّ‬ ‫السلم( وكانت على الدوام مركزا للفتن والحوادث المريرة‪ ،‬وقد هب أغلب الجبابرة للسيطرة عليها‪ ،‬إ ّ‬
‫كان يبتليهم بأنواع البلء ويدفع شرهم عنها‪ ،‬ولعل ذلك يعزى لكون الكوفة تشكل مركز استقطاب خلص المؤمنين‬
‫من الشيعة الوفياء لعلي بن أبي طالب)عليه السلم( وإن كان بينهم بعض المنافقين‪ .‬ومن هنا صرحت بعض‬
‫الروايات بفضل الكوفة‪ .‬أّما من بين الفراد الذين هموا بالكوفة بعد أميَرالمؤمنين)عليه السلم( زياد بن أبيه‪ .‬فقد‬
‫ن زيادا لما حصبه أهل الكوفة‪ ،‬وهو يخطب على المنبر‪ ،‬فقطع أيدي ثمانين منهم‪ ،‬وهم‬ ‫ورد في بعض الروايات أ ّ‬
‫أن يخرب دورهم‪ ،‬ويجمر نخلهم‪ ،‬فجمعهم حتى مل بهم المسجد والرحبة‪ ،‬يعرضهم على البراءة من علي)عليه‬
‫السلم(; وعلم أّنهم سيمتنعون فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم‪ .‬فخرج خارج من القصر فقال‪:‬‬
‫ن المير يقول لكم‪ :‬إّني عنكم اليوم مشغول; وإذا بالطاعون قد ضربه‪ ،‬فكان يقول‪ :‬إّني لجد في‬ ‫إنصرفوا‪ ،‬فا ّ‬
‫النصف من جسدي حر النار حتى مات‪(3).‬‬

‫رأيان في الكوفة‬

‫وردت عدة عبارات في نهج البلغة بشأن الكوفة وأهلها‪ ،‬ومن ذلك الخطبة المذكورة التي‬

‫‪» .1‬تعركين« من مادة »عرك« على وزن درك ‪ ،‬من عركت القوم الحرب إذا مارستهم حتى أتعبتهم‪.‬‬

‫‪» .2‬نوازل« جمع نازلة بمعنى الحوادث الشديدة‪.‬‬

‫‪ .3‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.198 / 3‬‬

‫] ‪[ 335‬‬

‫ل حافظها من كل جبار عنيد‪ .‬بينما‬ ‫نا ّ‬


‫أشارت إلى المكانة المقدسة للكوفة وأّنها ستشهد حوادثًا مريرة وأليمة‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن لم‬
‫ل »إ ّ‬‫وردت بعض الخطب التي تذم الكوفة‪ ،‬ومن ذلك الخطبة ‪ 25‬حيث خاطب المام)عليه السلم( الكوفة قائ ً‬
‫لخرى صرحت بمدح الكوفة‪ ،‬فقد جاء في الحديث‬ ‫ل«‪ .‬الروايات هى ا ُ‬ ‫ل أنت تهب أعاصيرك فقبحك ا ّ‬ ‫تكوني إ ّ‬
‫عن أميرالمؤمنين)عليه السلم(أّنه قال بشان الكوفة »هذه مدينتنا ومحلتنا ومقر شيعتنا«)‪ ،(1‬كما جاء في رواية‬
‫ل‪» :‬الّلهم ارم من رماها وعاد من عاداها« وللجمع بين الروايات‬ ‫ن المام الصادق)عليه السلم(دعا للكوفة قائ ً‬ ‫أّ‬
‫لأّ‬
‫ن‬ ‫ن الكوفة ذاتا مقدسة وأهلها من خلص شيعة أهل البيت)عليهم السلم(ممن يتحلون بالورع والتقوى‪ ،‬إ ّ‬ ‫نقول إ ّ‬
‫أجواء الكوفة تلوثت بفعل سيطرة بني أمية ودس العيون والجواسيس فيها وأعان الظلمة وتسليط الفساق عليها‬
‫وايداع بيت المال إلى عبدة الهواء‪ .‬فاذا مدحت الكوفة فالمراد ُاولئك النجباء من الشيعة‪ ،‬وان ذمت فلذلك الفساد‬
‫الذي طالها من قبل بني أمية‪ .‬ونكتفي بهذا القدر على أن نخوض في جوانب هذا الموضوع في البحاث القادمة‬
‫ذات الصلة‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.198 / 3‬‬

‫] ‪[ 336‬‬

‫] ‪[ 337‬‬

‫الخطبة)‪48 (1‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫عند المسير إلى الشام‪ ،‬قيل‪ :‬إّنه خطب بها وهو بالنخيلة خارجًا من الكوفة إلى صفين‪.‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫تشتمل هذه الخطبة على قسمين‪ :‬الول وجريا على عادته في خطبه)عليه السلم( في الحمد والثناء والشكر للنعم‬
‫اللهية على العباد‪ ،‬والثاني يطلع الجيش على خطته فيمن بعثهم من المقدمة ويصف لهم المسير ليلتحقوا بهم‪،‬‬
‫ن المام)عليه السلم( أراد‬ ‫وتعئبة عددًا من القبائل التي كانت تسكن أطراف دجله وتسييرهم لمقاتلة العدو‪ ،‬ويبدو أ ّ‬
‫أن يذكر اتباعه في النخيلة الذين لم يكونوا كثيرًا بانهم ليسوا وحدهم في صفين وأّنه سيعبئ من كان في مسيرهم‬
‫للقتال ليزدادوا عددًا وعّدة‪.‬‬

‫—–‬

‫ن المام خطبها بالنخيلة حين تجهز لصفين خارجًا من الكوفة‪ .‬وقد جاء في كتاب مصادر‬
‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬كما ذكر سابقًا فا ّ‬
‫نهج البلغة أّنه خطبها في الخامس والعشرين من شوال سنة ‪ 37‬هـ وهو بالنخيلة خارجًا من الكوفة‪ ،‬وأضاف طبقًا لنقل ابن أبي‬
‫الحديد أّنه ذكرها جماعة من أصحاب السير وزاد وفيها‪ ،‬ومنهم نصر بن مزاحم في كتاب صفين )مصادر نهج البلغة ‪.(16 / 2‬‬

‫] ‪[ 338‬‬
‫] ‪[ 339‬‬

‫القسم الول‬

‫غْيَر َمْفُقوِد اِْلْنعاِم‪َ ،‬ول ُمكاَفِإ‬


‫ل َ‬
‫حْمُد ِّ‬
‫ق‪َ ،‬واْل َ‬
‫خَف َ‬
‫جٌم َو َ‬
‫ح َن ْ‬
‫ل ُكّلما ل َ‬
‫حْمُد ِّ‬
‫ق‪َ ،‬واْل َ‬
‫س َ‬
‫غ َ‬
‫ب َلْيٌل َو َ‬
‫ل ُكّلما َوَق َ‬
‫حْمُد ِّ‬
‫»اْل َ‬
‫ضاِل«‪.‬‬‫اِْلْف َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫ل للحمد والثناء‬
‫استحقاق ا ّ‬

‫ل بالحمد والثناء في القسم الول هذه الخطبة بعبارات جديدة عظيمة المعاني وقد‬ ‫يعرض المام)عليه السلم( ّ‬
‫ل كلما لح)‪ (3‬نجم وخفق«)‪(4‬‬ ‫ل كلما وقب)‪ (1‬ليل وغسق)‪ ،(2‬والحمد ّ‬ ‫أشار إلى قضايا جديدة فقال »الحمد ّ‬
‫ن حمدنا وثنائنا دائمي باقي مادام الليل والنهار متعاقبين دائمين‪ ،‬وهكذا هو‬ ‫فالعبارة تشير إلى نقطتين‪ :‬الولى أ ّ‬
‫ن ظلمة الليل وطلوع الكواكب وغروبها من النعم‬ ‫لخرى هى أ ّ‬ ‫مستمر إستمرار طلوع الكواكب وغروبها‪ ،‬النقطة ا ُ‬
‫اللهية الكبرى‪ ،‬فظلمة الليل تهب النسان الهدوء والسكينة بعد تعب النهار وعناء العمل فيه‪ ،‬فطبيعة الليل‬
‫والظلمة تختزن الراحة والخلود إلى النوم ومن هنا كانت الليالي الظلماء الخالية من المصابيح تعد أفضل الوقات‬
‫لا ّ‬
‫ل‬ ‫جَع َ‬
‫ن َ‬
‫ل َأَرَأْيُتْم ِإ ْ‬
‫للنوم; المر الذي أشارت إليه الية ‪ 72‬من سورة القصص )ُق ْ‬

‫‪» .1‬وقب« من مادة »وقب« الحفرة في الرض أو الجبل‪ ،‬ويقال للشي وقب إذا دخل الحفرة أو الظلم‪ ،‬ومن هنا كان المعنى دخل‬
‫الليل‪.‬‬

‫ن الغسق كناية عن منتصف الليل أيضًا ومن‬


‫‪» .2‬غسق« يعني شدة الظلمة‪ ،‬ولما كانت الليل يشتد ظلمة كلما اقترب من منتصفه فا ّ‬
‫هنا قال المفسرون‪» :‬أقم الصلوة لدلوك الشمس إلى غسق الليل« إشارة إلى الصلوات الربع الظهر والعصر والمغرب والعشاء‬
‫وقرآن الفجر صلة الصبح )سورة السراء ‪.(78 /‬‬

‫‪» .3‬لح« من مادة »لوح« بمعنى الظهور والبزوغ‪ .‬وتستخدم في كل وجود مضيىء ويطلق اللوح على الصفيحة البيضاء التي تصنع‬
‫من الخشب أو الفلز‪.‬‬

‫‪» .4‬خفق« من مادة »خفق« و»خفوق« بمعنى الغياب والتزلزل والحركة‪ ،‬ومن هنا تستعمل حين يغرب القمر أو الشمس أو كوكب‪.‬‬

‫] ‪[ 340‬‬

‫‪ .1‬سورة القصص ‪.73 /‬‬

‫‪ .2‬سورة النعام ‪.97 /‬‬

‫‪ .3‬سورة النحل ‪.16 /‬‬


‫‪» .4‬افضال« من مادة »فضل« بمعنى الحسان‪.‬‬

‫‪ .5‬المناجاة الخمسة عشر‪ ،‬مناجاة الشاكرين‪ ،‬بحارالنوار ‪.146 / 91‬‬

‫‪ .6‬بحارالنوار ‪ 351 / 13‬ح ‪.41‬‬

‫] ‪[ 341‬‬

‫القسم الثاني‬

‫طَفَة ِإَلى‬
‫طَع َهِذِه الّن ْ‬
‫ن َأْق َ‬‫ت َأ ْ‬
‫حّتى َيْأِتَيُهْم َأْمِري َوَقْد َرَأْي ُ‬ ‫ط َ‬
‫ت ُمَقّدَمِتي َوَأَمْرُتُهْم ِبُلُزوِم َهذا اْلِمْلطا ِ‬‫»َأّما َبْعُد َفَقْد َبَعْث ُ‬
‫ن َأْمداِد اْلُقّوِة َلُكْم«‪.‬‬ ‫جَعَلُهْم ِم ْ‬
‫عُدّوُكْم َوَأ ْ‬
‫ضُهْم َمَعُكْم ِإَلى َ‬
‫جَلَة‪َ ،‬فُأْنِه َ‬
‫ف ِد ْ‬‫ن َأْكنا َ‬
‫طِني َ‬
‫شْرِذَمة ِمْنُكْم ُمَو ّ‬ ‫ِ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫تعبئة القوى لمواجهة العدو‬

‫أشار المام)عليه السلم( إلى برنامج وخطة حربية فقال »أما بعد فقد بعثت مقدمتي)‪ (1‬وأمرتهم بلزوم هذا‬
‫الملطاط)‪ (2‬حتى يأتيهم أمري« فنهر الفرات يقع غرب دجلة‪ ،‬فيكون دجلة شرقه‪ ،‬وعليه فان مقدمة جيش الكوفة‬
‫تتحرك من جانب الفرات إلى الشمال باتجاه الجانب الغربي للفرات‪ ،‬وقد أمر المام)عليه السلم( بمواصلة هذا‬
‫السير من قبل الجيش‪ ،‬بينما إتجه)عليه السلم( من الفرات إلى الشرق نحو المدائن لتعبئة أكبر عدد ممكن من‬
‫الناس‪ ،‬ثم قال)عليه السلم( »وقد رأيت أن أقطع هذه النطفة)‪ (3‬إلى شرذمة)‪ (4‬منكم موطنين أكناف)‪ (5‬دجلة‪،‬‬
‫فأنهضهم معكم إلى عدوكم وأجعلهم‬

‫‪» .1‬مقدمة« بكسر الدال بمعنى المتقدم وبفتح الدال المبعوث مسبقا وتطلق المفردتان على طليعة الجيش يعني الطائفة التي تتحرك‬
‫أمام العسكر لتطلعه على ما يواجهه من أحداث‪.‬‬

‫‪ .2‬كما ذكرنا سابقا فإن ملطاط« اقتبست من مادة »لط« »لطط« وميمها زائدة‪ ،‬وتعني هذه المادة القتراب والمرافقة‪ ،‬ومن هنا يقال‬
‫»لط« للقلدة لنها ترافق العنق دائما‪ ،‬كما يقال الملطاط لشاطىء النهر والبحر‪ ،‬بينما إعتبرها البعض الخر من أرباب اللغة من مادة‬
‫»ملط« على وزن »شرط« وليس هناك من فارق مع سابقتها من حيث المعنى وإن تفاوت اللفظ‪.‬‬

‫‪» .3‬نطفة« الماء الصافي القليل أم الكثير‪ ،‬ويطلق أحيانا بمعنى كل ماء جار ومائع سيال‪.‬‬

‫‪» .4‬شر ذمة« تعني في الصل الجماعة القليلة وما يتبقى من الشىء‪ ،‬ويقال الشر ذمة لما يفصل عن الثمرة‪.‬‬

‫‪» .5‬أكناف« جمع »كنف« على وزن »هدف« بمعنى أطراف الشىء‪ ،‬وحيث تكون أطراف الشياء سببا لستر القسام الباطنية فانه‬
‫يقال »الكنيف« للجدر ان الربعة التي يستتر فيها النسان‪ ،‬وكذلك يطلق على الواقي والدرع الذي يحفظ النسان من ضربات العداء‪.‬‬

‫] ‪[ 342‬‬
‫من أمداد القوة لكم«‪ .‬وهكذا ورد المام)عليه السلم( شرق العراق والمدائن‪ ،‬وبينما كانت مقدمة جيش‬
‫المام)عليه السلم(تواصل زحفها في غرب الفرات‪ ،‬ولما بلغهم قدوم معاوية نحوهم بجيش عظيم‪ ،‬عبروا الفرات‬
‫واتجهوا إلى الشرق صوب المام)عليه السلم( حذرًا من محاصرتهم من قبل العدو ولم يستعدوا بعد لخوض‬
‫القتال‪ ،‬فاستحسن ذلك منهم المام)عليه السلم(فلما اكتمل الجيش سار به المام)عليه السلم(لمواجهة العدو‪ .‬جدير‬
‫ن مفردة »ملطاط« من مادة ملط أو لط هنا بمعنى شاطئ الفرات ـ نعم فقد دلهم المام)عليه السلم(‬ ‫بالذكر أ ّ‬
‫ن الشام كانت في جهة الشمال‪ ،‬والفرات ينحدر من الشمال إلى‬
‫المسير ليتقدموا من جانب شاطئ الفرات ل ّ‬
‫الجنوب‪ ،‬وهكذا ل يكون الجيش في مشقة من حيث الماء والهواء وظلل الشجار‪ ،‬ول يضلون الطريق‪ ،‬إلى‬
‫جانب سهولة اللتحاق بهم‪ ،‬وعليه فهذا المسير ينطوي على عّدة فوائد والتعبير بالنطفة عن ماء الفرات حسب ما‬
‫قال السيد الرضي )ره( هو من غريب العبارات وعجيبها‪ ،‬فالمفردة على ضوء ما صرح به جمع من أرباب اللغة‬
‫تعني الماء الخالص‪ ،‬وقيل الماء الجاري‪ ،‬وكيفما كان فهى إشارة إلى عذوبة ماء الفرات وخلوه من الملح‪ ،‬وإن‬
‫كان ظاهره قليل الكدورة‪.‬‬

‫قال السيد الرضي )ره(‪ :‬يعني)عليه السلم( بالملطاط هاهنا السمت الذي أمرهم بلزومه‪ ،‬وهو شاطئ الفرات‪،‬‬
‫ويقال ذلك أيضا لشاطئ البحر‪ ،‬وأصله ما استوى من الرض‪ ،‬ويعني بالنطفة ماء الفرات‪ ،‬وهو من غريب‬
‫العبارات وعجيبها‪.‬‬

‫أخبار علي)عليه السلم( في جيشه وهو في طريقه إلى صفين‬

‫ذكر بعض شراح نهج البلغة في ذيل هذه الخطبة بعض القضايا التأريخية التي نشير إليها هنا‪:‬‬

‫‪1‬ـ فى قصر كسرى‬

‫سار عليه السلم حتى اْنتهى إلى المدائن وقصر كسرى وإذ رجل من أصحابه أنشد‪:‬‬

‫جرت الرياح على محل ديارهم *** فكأنما كانوا على ميعاد!‬

‫] ‪[ 343‬‬

‫فقال له عليه السلم‪ :‬أل قلت‪:‬‬

‫خِري َ‬
‫ن‬ ‫ك َوَأْوَرْثناها َقْوماً آ َ‬
‫ن * َكذ ِل َ‬
‫عُيون* َوُزُروع َوَمقام َكِريم * َوَنْعَمة كاُنوا ِفـيها فاِكِهـي َ‬ ‫جّنات َو ُ‬ ‫ن َ‬ ‫)َكْم َتَرُكوا ِم ْ‬
‫ن()‪(1‬‬ ‫ظِري َ‬
‫ض َوما كاُنوا ُمْن َ‬
‫لْر ُ‬
‫سماُء َوا َ‬ ‫عَلْيِهُم ال ّ‬
‫ت َ‬‫* َفما َبَك ْ‬

‫‪2‬ـ في النبار‬

‫مّر )عليه السلم( بالنبار )أحد المدن الغربية في العراق( فتقدم دهاقنتها إليه فلما استقبلوه‪ ،‬نزلوا عن خيولهم‪ ،‬ثم‬
‫ب التى معكم؟ وما أردتم‬‫جاءوا يشتّدون معه‪ ،‬وبين يديه ومعهم براِذين قد أوقفوها في طريقه‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذه الّدوا ّ‬
‫ظم به المراء; وأّما هذه البراذين فهّدية لك‪ ،‬وقد‬
‫خُلق ِمّنا نع ّ‬
‫بهذا الذي صنعتم؟ قالوا‪ :‬أّما هذا الذي صنعنا فهو ُ‬
‫علفًا كثيرًا‪.‬‬
‫صنعنا للمسلمين طعامًا‪ ،‬وهّيأنا لدواّبكم َ‬

‫ل ما ينفع ذلك المراء; وإّنكم‬


‫ظمون به المراء فو ا ّ‬ ‫خُلق تع ّ‬‫فقال عليه السلم‪ :‬أّما هذا الذي زعمتم أّنه فيكم ُ‬
‫ن أحببتم أن آخَذها منكم‪ ،‬وأحسبها لكم من‬‫لتشّقون به على أنفسكم وأبدانكم‪ ،‬فل تعودوا له‪ .‬وأّما دواّبكم هذه; فإ ْ‬
‫ل بثمن‪.‬‬
‫ل من أموالكم إ ّ‬‫جكم أخذناها منكم‪ .‬وأّما طعامكم الذي صنعتم لنا; فإنا نكرُه أن نأك َ‬ ‫خرا ِ‬
‫َ‬

‫‪3‬ـ قرب الدير‬

‫سواد‪ ،‬عطش الناس احتاجوا إلى‬ ‫ي عليه السلم في مسيره ِإلى الشام; حتى إذا ُكنا بظهر الكوفة من جانب هذا ال ّ‬‫عل ّ‬
‫ضُة عنز; فأمرنا‬
‫ضْرس في الرض; كأّنها ُرْب َ‬ ‫ي عليه السلم حتى أتى [بنا] إلى صخرة ِ‬ ‫الماء‪ ،‬فانطلق بنا عل ّ‬
‫فاقتلعناها‪ ،‬فخرج لنا من تحتها ماء‪ ،‬فشِرب الناس منه‪ ،‬وارتَوْوا‪ .‬ثم أمرنا فأكفأناها عليه‪ .‬وسار الناس حتى إذا‬
‫ل‪ ،‬قال عليه السلم‪ :‬أِمْنكم أحٌد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه؟ قالوا‪ :‬نعم يا أميرالمؤمنين‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫مضى قلي ً‬
‫ل ركبانًا ومشاة‪ ،‬فاقتصصنا الطريق إليه; حتى انتهينا إلى المكان الذي نرى أّنه فيه‪،‬‬ ‫طلقوا إليه‪ ،‬فانطلق ِمّنا رجا ٌ‬ ‫فان ِ‬
‫ل علينا انطلقنا إلى دْير قريب ِمّنا‪ ،‬فسألناهم‪ :‬أين هذا الماء الذي عندكم؟‬‫عي َ‬
‫فطلبناه‪ ،‬فلم نقدر على شيء‪ ،‬حتى إذا ِ‬
‫شِربتم‬
‫قالوا‪ :‬ليس ُقْرَبنا ماء‪ ،‬فقلنا‪ :‬بلى إّنا شربنا منه‪ ،‬قالوا‪ :‬أنتم َ‬

‫‪ .1‬سورة الدخان ‪ 25 /‬ـ ‪.29‬‬

‫] ‪[ 344‬‬

‫ى‪.‬‬
‫ى َنب ّ‬
‫ي أو وص ّ‬
‫ل نب ّ‬
‫ل بذلك الماء‪ ،‬وما استخرجه إ ّ‬
‫ل ما ُبِني هذا الدير إ ّ‬
‫منه! قلنا‪ :‬نعم‪ ،‬فقال صاحب الّدْير‪ :‬وا ّ‬

‫قال العلمة المجلسي فما كان من الراهب إل أن أتى المام)عليه السلم( وأعلن إسلمه ولزم المام)عليه‬
‫السلم( حتى إستشهد ليلة الهرير فصلى المام)عليه السلم( عليه وأنزله القبر وقال‪ :‬وال إني لرى موضعه في‬
‫الجنة‪.‬‬

‫‪4‬ـ في الرقة‬

‫ل أهلها عثمانية‪َ ،‬فّروا من الكوفة إلى معاوية ـ فأغلقوا أبواَبها دونه‪ ،‬وتحصّنوا‪ ،‬وكان‬ ‫ثم سار حتى أتى الّرّقة ـ وج ّ‬
‫ى في طاعة معاوية‪ ،‬وقد كان فارق عليًا عليه السلم في نحو من مائة رجل من‬ ‫أميرهم سماك بن مخرقة السد ّ‬
‫حق به سبعمائة رجل‪.‬‬ ‫بني أسد‪ ،‬ثم كاتب معاوية‪ ،‬وأقام بالّرّقة حتى َل ِ‬

‫حّبة أن علّيا عليه السلم لما نزل على الّرقة‪ ،‬نزل بموضع يقال له الَبِليخ على جانب الفرات‪،‬‬ ‫قال نصر‪ :‬فروى َ‬
‫ب عيسى‬
‫ن عندنا ِكتابًا توارثناه عن آبائنا‪ ،‬كتبه أصحا ُ‬
‫ى عليه السلم‪ :‬إ ّ‬
‫صْومعته‪ ،‬فقال لعل ّ‬
‫فنزل راهب هناك من َ‬
‫عرضه عليك؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فقرأ الراهب الكتاب‪:‬‬‫بن مريم‪ ،‬أ ِ‬

‫ل منهم; يعّلمهم‬ ‫ث في المّيين رسو ً‬ ‫طر فيما كتب‪ :‬أنه باع ٌ‬‫سّ‬‫ل الرحمن الرحيم‪ .‬الذين قضى فيما قضى‪ ،‬و َ‬ ‫بسم ا ّ‬
‫خاب في السواق‪ ،‬ول يجزي بالسيئة السيئة‪ ،‬بل‬ ‫صّ‬‫ظ ول غليظ; ول َ‬ ‫ل‪ ،‬ل ف ّ‬‫ب والحكمة‪ ،‬ويدّلهم على سبيل ا ّ‬‫الكتا َ‬
‫ل ألسنتهم بالتكبير‬ ‫صعود وَهبوط‪ ،‬تِذ ّ‬‫ل على كل َنشر‪ ،‬وفى كل َ‬ ‫حمدون ا ّ‬‫يعُفوا ويصفح‪ ،‬أّمته الحّمادون الذين ي َ‬
‫ل‪،‬‬
‫ل‪ ،‬اختلف ُأمتُه من بعده; ثم اجتمعت‪ ،‬فلبث ما شاءا ّ‬ ‫ل على من ناوأه; فإذا توّفاه ا ّ‬ ‫والتهليل‪ ،‬والتسبيح; وينصرُه ا ّ‬
‫ق ول‬ ‫ضى بالح ّ‬ ‫ثم اختلفت‪ ،‬فيمّر رجل من أمته بشاطىء هذا الُفرات‪ ،‬يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر‪ ،‬ويق ِ‬
‫شرب الماء على‬ ‫يرُكس الحكم‪ ،‬الدنيا أهون عليه من الّرماد في يوم عصفت به الريح‪ ،‬والموت أهون عليه من ُ‬
‫ن أهل‬‫ى ِم ْ‬
‫ل لومَة لئم; فمن أدرك ذلك النب ّ‬ ‫ل في السّر‪ ،‬وينصح له في العلنية‪ ،‬ل يخاف في ا ّ‬ ‫الضمآن‪ .‬يخاف ا ّ‬
‫ن القتل معه شهادة‪.‬‬ ‫ن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصْره‪ ،‬فإ ّ‬ ‫هذه البلد فآمن به كان ثوابه رضواني والجّنة‪ ،‬وَم ْ‬

‫] ‪[ 345‬‬

‫ل الذي لم أُك ْ‬
‫ن‬ ‫ثم قال له‪ :‬أنا مصاحُبك‪ ،‬فل أفارُقك حتى يصيَبني ما أصابك‪ .‬فبكى عليه السلم‪ ،‬ثم قال‪ :‬الحمد ّ‬
‫ل الذي ذكرني عنده في ُكُتب البرار‪.‬‬
‫عنده منسّيا‪ ،‬الحمد ّ‬

‫شى‪ ،‬حتى أصيب يوم صفين; فلما خرج‬ ‫فمضى الراهب معه‪ ،‬فكان فيما ذكروا يتغّدى مع أميرالمؤمنين ويتع ّ‬
‫ل البيت‪ ،‬واستغفر له‬
‫الناس يدفنون قتلهم قال عليه السلم‪ :‬اطلبوه‪ ،‬فلما وجده صّلى عليه ودفنه‪ .‬وقال‪ :‬هذا ِمّنا أه َ‬
‫مرارًا‪(1).‬‬

‫—–‬

‫ي بكربلء‬
‫نزول عل ّ‬
‫ن منك قومٌ‬
‫شَر ّ‬
‫فلما نزل بَكْرَبلء صّلى بنا‪ ،‬فلما سّلم رفع إليه من ُتربتها فشّمها‪ ،‬ثم قال‪ :‬واها لك يا ُتْربة! ُليح َ‬
‫جنة بغير حساب‪ .‬ثم قال »هيهنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم ثم أومأ بيده إلى مكان آخر وقال‪ :‬هيهنا‬ ‫يدخلون ال ّ‬
‫مراق دمائهم«‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬وردت هذه القضايا التأريخية في شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.3/288‬‬

‫] ‪[ 346‬‬

‫] ‪[ 347‬‬

‫الخطبة)‪49 (1‬‬

‫ومن كلم له )عليه السلم(‬

‫وفيه جملة من صفات الربوبية والعلم اللهي‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫تدور الخطبة حول صفات الربوبية والعلم اللهي ـ كما ورد سابقًا ـ وتتضمن إشارات عميقة المعاني إلى جوانب‬
‫ل بالمخلوقات‬
‫من صفات الجلل والجمال وتنزيه الذات اللهية المقدسة من مزاعم الملحدين والمشبهة التي تشبه ا ّ‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬رواها جمع ممن عاش بعد السيد الرضي )ره( ومنهم العلمة المجلسي في روضة البحار وعلي بن محمد بن شاكر‬
‫الواسطي في كتاب عيون الحكم والمواعظ )مصادر نهج البلغة‪.(2/18 ،‬‬

‫] ‪[ 348‬‬
‫] ‪[ 349‬‬

‫ن َمنْ َلْم َيَرهُ‬‫عْي ُ‬


‫صيِر َفل َ‬ ‫ن اْلَب ِ‬
‫عْي ِ‬
‫عَلى َ‬ ‫ظُهوِر‪َ ،‬واْمَتَنَع َ‬ ‫علُم ال ّ‬ ‫عَلْيِه َأ ْ‬
‫ت َ‬‫خِفّيات اَْلُمُوِر‪َ ،‬وَدّل ْ‬ ‫ن َ‬ ‫طَ‬ ‫ل اّلِذي َب َ‬‫حْمُد ِّ‬
‫»اْل َ‬
‫ب ِمْنُه َفل‪.‬‬ ‫يَء َأْقَر ُ‬‫ش ْ‬‫ب ِفي الّدُنّو َفل َ‬ ‫عَلى ِمْنُه َوَقُر َ‬‫يَء َأ ْ‬
‫ش ْ‬‫ق ِفي اْلُعُلّو َفل َ‬ ‫سَب َ‬
‫صُرُه‪َ ،‬‬ ‫ن َأْثَبَتُه ُيْب ِ‬
‫ب َم ْ‬‫ُتْنِكُرُه‪َ ،‬ول َقْل ُ‬
‫صَفِتِه‪َ ،‬وَلْم‬
‫حِديِد ِ‬ ‫عَلى َت ْ‬
‫طِلِع اْلُعُقوَل َ‬
‫ن ِبِه‪َ .‬لْم ُي ْ‬
‫خْلِقِه‪َ ،‬ول ُقْرُبُه ساواُهْم ِفي اْلَمكا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫يء ِم ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫عْ‬ ‫عَدُه َ‬
‫سِتْعلُؤُه با َ‬ ‫ا ْ‬
‫عّما َيُقوُلُه‬ ‫ل َ‬ ‫حوِد‪َ ،‬تعاَلى ا ّ‬ ‫جُ‬‫ب ِذي اْل ُ‬‫عَلى ِإْقراِر َقْل ِ‬ ‫جوِد َ‬ ‫علُم اْلُو ُ‬‫شَهُد َلُه َأ ْ‬
‫ب َمْعِرَفِتِه‪َ ،‬فُهَو اّلِذي َت ْ‬ ‫ج ِ‬‫ن وا ِ‬ ‫عْ‬ ‫جْبها َ‬
‫حُ‬ ‫َي ْ‬
‫عُلّوا َكِبيرًا!«‬‫ن َلُه ُ‬‫حُدو َ‬ ‫ن ِبِه َواْلجا ِ‬ ‫شّبُهو َ‬
‫اْلُم َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫المنزه عن الظن والخيال‬

‫ل الحسنى بعبارات‬ ‫ذكرنا سابقًا أن الخطبة واردة في صفات الجلل والجمال‪ ،‬حيث أشارت إلى عدد من أسماء ا ّ‬
‫لخرى فقال‬ ‫قصيرة بعيدة المعنى‪ ،‬فقد استهل الخطبة بذكر خمس صفات من صفاته التي توضح كل واحدة منها ا ُ‬
‫لمور ودلت عليه أعلم الظهور« وليس للعين من سبيل إلى رؤيته »وامتتع على‬ ‫ل الذي بطن)‪ (1‬خفيات ا ُ‬ ‫»الحمد ّ‬
‫عين البصير« ومن هنا »فل عين من لم يره تنكره ول قلب من أثبته يبصره«‪ .‬وقد أورد شّراح نهج البلغة عّدة‬
‫لمور« فقال البعض‪ :‬بطن هنا بمعنى علم‪ ،‬وقيل بطن هنا‬ ‫تفسيرات لقوله)عليه السلم( »الذي بطن خفيات ا ُ‬
‫ن التفسير الذي ذكرناه أنسب وهو أن‬
‫لأّ‬‫ل الذي خفيت به السرار‪ ،‬إ ّ‬
‫بمعنى الخفاء; أي ا ّ‬

‫‪» .1‬بطن« من مادة »بطن« على وزن متن تستعمل للشياء الخفية‪ ،‬ويقال بطنت المر بمعنى علمت ببواطنة وأسراره‪ .‬ولما كان‬
‫داخل البطن خفي فقد استعملت هذه المفردة بشأن كل شيء خفي‪ ،‬وباطن الشياء بمعنى داخلها‪ ،‬وله معنى الفعل اللزم والمتعدي‪.‬‬

‫] ‪[ 350‬‬

‫ن ذاته أعظم خفاءًا من الخفاء‪،‬‬


‫ل مخفى في السرار‪ ،‬وبعبارة أخرى فا ّ‬‫نا ّ‬
‫بطن بمعنى الخفاء ومفهوم العبارة أ ّ‬
‫وزبدة الكلم فان مفهوم العبارة ما أنشده الفيلسوف في شعره‪:‬‬

‫وجوده من أظهر الشياء *** وكنهه في غاية الخفاء‬

‫ن آياته ظاهرة جلية في كل مكان‪ ،‬في السموات والنجوم‬ ‫أّما العبارة »دلت عليه أعلم الظهور« فتعني أ ّ‬
‫والمجرات والمنظومات وفي الرض في الصحارى والبحارى والجبال والنهار وعلى جبين كافة الكائنات الحية‬
‫في أوراق الشجار والبراعم والثمار وفي باطن الذرات والجزئيات‪ .‬وبالطبع كلما تقدم العلم وكشفت السرار‬
‫لدلة واليات على قدرة الذات اللهية وعلمها المطلق‪ .‬والعبارة الثالثة »وامتنع على عين البصير« تفيد‬ ‫ازدادت ا َ‬
‫ن المشاهدة الحسية إّنما تختص بالجسم والجسمانيات ذات‬ ‫تعذر رؤية جماله سبحانه على أحّد العيون‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫الجهة والمكان‪ ،‬بينما ذاته المطلقة ليست بجسم ول جسمانية وليس لها من جهة أو مكان‪ ،‬بل هى مطلقة منزهة‬
‫خِبـيُر()‪ .(1‬ولما سأل‬‫ف اْل َ‬
‫طـي ُ‬
‫لْبصاَر َوُهَو الّل ِ‬
‫كا َ‬
‫لْبصاُر َوُهَو ُيْدِر ُ‬‫عن كل هذه العوارض والنقائص )ل ُتْدِرُكُه ا َ‬
‫ن َتراِني()‪(2‬‬
‫ظْر ِإَلْيك َ( الشهود الحسي‪ ،‬خوطب )َل ْ‬ ‫ب َأِرِني َأْن ُ‬
‫موسى)عليه السلم( من جانب بني إسرائيل رّبه )َر ّ‬
‫ل التي دكت الجبل فصعق موسى ومن معه فلما أفاق قال‬ ‫ثم شاهد موسى)عليه السلم(قبسات من تجليات ا ّ‬
‫ن العاقل ل‬‫ن(والعبارة »فل عين من لم يره‪ «...‬نتيجة طبيعة تشير إلى أ ّ‬ ‫ل اْلُمْؤِمِنـي َ‬
‫ت ِإَلْيك َ َوَأَنا َأ ّو ُ‬
‫سْبحاَنك َ ُتْب ُ‬
‫)ُ‬
‫سة بفعل وجود هذه الدلة واليات‪ ،‬رغم تعذر المشاهدة الحسية‪ ،‬أما المؤمنون با ّ‬
‫ل‬ ‫يسعه إنكار الذات اللهية المقد ّ‬
‫فل ينبغي لهم أن يعتقدوا بمشاهدته حتى قلبيًا‪ ،‬وبالطبع يمكن رؤيته قلبًا كما ورد عنه)عليه السلم( »ل تدركه‬
‫ن هذه المشاهدة تتعلق بالسماء والصفات‬ ‫العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق اليمان«)‪ ،(3‬غير أ ّ‬
‫ل عن عامة المخلوقات »ما عرفناك حق معرفتك« ثم‬ ‫ل فض ً‬‫ل مشاهدة كنه الذات‪ ،‬وهنا يصدح حتى أولياءا ّ‬
‫قال)عليه السلم(‪» :‬سبق في العلو فل شيء أعلى منه وقرب في الدنو فل شيء أقرب منه« ثم يخلص على)عليه‬
‫السلم(‬

‫‪ .1‬سورة النعام ‪.103 /‬‬

‫‪ .2‬سورة العراف ‪.143 /‬‬

‫‪ .3‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.179‬‬

‫] ‪[ 351‬‬

‫إلى هذه النتيجة »فل استعلؤه)‪ (1‬باعده عن شيىء من خلقه ول قربه ساواهم في المكان به« لعله يتصور بأ ّ‬
‫ن‬
‫هذه الصفات تناقض مع بعضها فكيف يكون الشي بعيدًا عاليًا وفى نفس الوقت قريبًا ملزمًا؟ كيف يكون بعيدًا في‬
‫ن اللتفات إلى‬ ‫القرب وقريبًا في البعد؟ نعم إذا كان المقياس هو المخلوقات التي من حولنا فهناك تناقض‪ ،‬غير أ ّ‬
‫ن وجوده سبحانه لمنتاهي وغني ومطلق‬ ‫ل‪ ،‬وهى أ ّ‬
‫هذه النقطة يزيل مثل هذا التناقض ويرشد إلى معرفة صفات ا ّ‬
‫من جميع الجهات‪ ،‬وهو الوجود الذي ليشوبه أية محدودية من حيث الزمان والمكان والعلم والقدرة‪ ،‬بل هو فوق‬
‫الزمان والمكان فهو في كل مكان وكل زمان وفى نفس الوقت ليس له مكان ول زمان‪ .‬ومثل هذا الوجود قريب‬
‫ن كل شي متقوم بوجوده‪ ،‬وهو‬ ‫من جميع الشياء وهو بعيد عنها جميعًا لّنه ل يشبهها‪ ،‬هو أظهر من كل شي‪ ،‬ل ّ‬
‫ابطن من كل شي لّنه ل يشبه المخلوقات والكائنات التي نعرفها ونألفها‪ .‬وبناءا على هذا فالمراد بالعلو في العبارة‬
‫المذكورة فوقيته للوجود وعلوه عليه ل علوه في المكان‪ ،‬والمراد بالقرب قربه في الحاطة الوجودية ل القرب في‬
‫ل علينا بفعل تعاملنا مع صفات الممكنات;‬ ‫المكان‪ .‬وهنا لبّد من الذعان إلى أن فهم وإدراك هذه الصفات ليس سه ً‬
‫ل أّنه يمكن تقريبها إلى الذهان من خلل التأمل والستعانة ببعض المثلة وإن كانت ناقصة قاصرة‪ .‬على سبيل‬ ‫إّ‬
‫المثال للرد على السؤال الذي يقول كيف يكون له وجود في كل مكان وزمان ول يحويه مكان وزمان‪ ،‬يمكننا أن‬
‫ن )‪ (4 = 2 + 2‬فهى‬ ‫نستعين ببعض المثلة الناقصة من قبيل بعض المعادلت والقوانين الرياضية‪ ،‬فكلنا نعلم بأ ّ‬
‫صادقة في كل زمان ومكان في السماء والرض‪ ،‬وفى نفس الوقت ليس لها من زمان أو مكان‪ .‬فقوله)عليه‬
‫السلم(‪» :‬فل استعلؤه باعده عن شي من خلقه ول قربه ساواهم في المكان به« نتيجة واضحة لتلك الحقيقة‬
‫ن أمواج الضوء‬ ‫ل أّنه مناسب‪ ،‬في أ ّ‬ ‫المذكورة‪ ،‬فقد قال بعض شّراح نهج البلغة بعد أن إستعانوا بمثال ناقص إ ّ‬
‫تنعكس على الزجاج وتنفذ إلى داخله فتضيئها‪ ،‬وهى في نفس الوقت أقرب إليها من كل شي‪ ،‬وهى ليست مثلها‪،‬‬
‫ض‪ (2)(...‬ثم‬
‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َ‬
‫سمـوا ِ‬
‫ل ُنوُر ال ّ‬
‫بل هى وجود لطيف وأعلى وأرفع‪ ،‬ولعل هذا المعنى هو المراد بالية )ا ّ‬

‫‪ .1‬الستعلء قد يكون بمعنى الفضلية واريد بها هنا هذا المعنى‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة النور ‪.35 /‬‬

‫] ‪[ 352‬‬

‫أشار)عليه السلم( إلى صفة ُاخرى‪» :‬لم يطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته« فكنه‬
‫ن ذاته وصفاته ل متناهية‪ ،‬فأنى لعقل النسان المتناهي والمحدود أن‬ ‫ذاته ليس واضح لحد ول حقيقة صفاته‪ ،‬ل ّ‬
‫ن أثاره الوجودية التي تجلت في كافة الوجودات جعلت النسان يلم على‬ ‫يحيط باللمتناهي واللمحدود مع ذلك فا ّ‬
‫لأّ‬
‫ن‬ ‫ن الزمان حقيقة واقعة‪ ،‬إ ّ‬ ‫سبيل الجمال بذاته وصفاته وإليك هذا المثال الناقص‪ :‬كلنا نعلم بوجود الروح‪ ،‬وا ّ‬
‫إدارك حقيقة الروح وا لزمان ليس بالمر إلهين‪ .‬وكلنا نعرف الفارق بين الكائن الحي والميت‪ ،‬ولكن ما كنه حقيقة‬
‫لمور لتفصيلي)‪ (1‬ثم قال)عليه السلم(»فهو‬ ‫الحياة؟ يبدو فهم ذلك صعبًا‪ ،‬بعبارة أخرى لنا علم إجمالي بهذه ا ُ‬
‫ل إّنما يجحدوه لسانًا بينما‬ ‫الذي تشهد له أعلم الوجود على إقرار قلب ذي الجحود)‪ «(2‬الواقع أن جاحدي ا ّ‬
‫ن *‪...‬‬‫ل َفَأ ّنى ُيـْؤَفُكو َ‬‫نا ّ‬‫س َوالَقَمَر َلَيُقوُلـ ّ‬
‫شـْم َ‬ ‫خَر ال ّ‬‫سـ ّ‬‫ض َو َ‬‫لْر َ‬‫ت َوا َ‬‫سمـوا ِ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫خَل َ‬
‫ن َ‬
‫سَأْلَتُهْم َم ْ‬
‫ن َ‬‫يقرون به قلبًا )َوَلِئ ْ‬
‫ل َأْكَثـُرُهْم ل‬
‫ل َب ْ‬‫حِمُد ِّ‬
‫ل ال َ‬‫ل ُق ِ‬ ‫نا ّ‬ ‫ن َبْعِد َمْوِتـها َلـَيُقوُل ّ‬
‫ض ِم ْ‬
‫لْر َ‬ ‫حيا ِبِه ا َ‬
‫سماِء ماًء َفَأ ْ‬‫ن ال ّ‬‫ل ِم َ‬ ‫ن َنـّز َ‬ ‫سَأْلَتُهْم َم ْ‬
‫ن َ‬
‫َوَلِئ ْ‬
‫ل وكل شي يهتف باسمه ويتقوم بوجوده‪ .‬ثم إختتم)عليه السلم(كلمه‬ ‫ن()‪ .(3‬كيف يمكن إنكار وجود ا ّ‬‫َيْعِقُلو َ‬
‫ل بعباده‬
‫ل عما يقول المشبهون به والجاحدون له علوًا كبيرًا« والمشبهة على نوعين‪ :‬من يشبه ا ّ‬ ‫بالقول »تعالى ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫ل من ا ّ‬‫فيرى له جسمًا ويدًا ورجل‪ ،‬والخر من يشبه الخرين به فيرى له شريكًا وشبيهًا فيعبده ويسجد له بد ً‬
‫وقد ذهب بعض الشّراح إلى المعنى الول هو المراد من العبارة‪ ،‬في حين ذهب البعض الخر إلى المعنى الثاني‪،‬‬
‫ويبدو المعنى الثاني أصح إستنادًا لقوله »المشبهون به« وان كانت الطائفتان على خطأ‪ ،‬لّنه ليشتمل على صفات‬
‫المخلوقين بحيث تتخلل الحوادث ذاته المقدسة‪ ،‬ول يمكن لمخلوق أن يشمل مكانه لّنه ل يتحلى بأي من صفاته‪.‬‬

‫وجوده ظاهر وكنه ذاته خفي‬

‫ل وصفاته‪ :‬الولى‬
‫لقد تضمنت الخطبة بعض الشارات إلى عّدة جوانب في مجال أسماء ا ّ‬

‫‪ .1‬للوقوف على المزيد بهذا لشأن راجع المجلد الول من الشرح‪ ،‬الخطبة الولى‪.‬‬

‫‪» .2‬جحود« و »جحد« بمعنى النكار الممزوج بالعلم ـ وقال الراغب في المفردات تعني نفي ما ثبت في القلب‪ ،‬أو إثبات ما نفاه القلب‬
‫ـ وعليه ففي مفهوم الجحود نوع من التعصب والعداء الخفي ضد الحق‪.‬‬

‫‪ .3‬سورة العنكوبت ‪ 61 /‬ـ ‪.63‬‬

‫] ‪[ 353‬‬

‫ل في نفس ظهور وجوده في جميع عالم الوجود بحيث ل يستطيع أحد أن ينكر وجوده‪ ،‬بينما ل‬ ‫خفاء وكنه ذات ا ّ‬
‫يستطيع أيضًا الحاطة بكنه ذاته المطهرة‪ .‬وهذا في الواقع أحد الثار اللمتناهية لوجوده المطلق‪ ،‬حيث كلما‬
‫خطونا خطوة نحو معرفة ذاته تقهقرنا خطوات عن درك كنه هذه الذات‪ ،‬وكلما حلقنا في سماء معرفة صفاته‬
‫إحترقت أجنحتنا وسقطنا في عالم الجهل وعلى قول ابن أبي الحديد في شعره‪:‬‬

‫فيك يا اعجوبة الكون *** غدا الفكر كليل‬

‫أنت حيرت ذوي اللب *** وبلبلت العقول‬

‫كلما قدم فكري فيك *** شبرًا فر ميل‬

‫ناكصًا يخبط في *** عمياء ل يهدى سبيل)‪(1‬‬

‫ل إلّ أ ّ‬
‫ن‬ ‫ن آثاره قد تجلت في كافة دقائق عالم الوجود‪ ،‬بحيث ل يسع من يلمس هذه الثار أينما ح ّ‬
‫وبالمقابل فا ّ‬
‫يزمزم مع نفسه بدعاء المام الحسين)عليه السلم( في عرفة »متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى‬
‫بعدت حتى تكون الثار هى التي توصل إليك‪ ،‬أو يكون لغيرك من الوجود ما ليس لك‪ ،‬عميت عين ل تراك عليها‬
‫رقيبًا وخسرت صفقة عبد لم تجعل لها من حبك نصيبًا«‪.‬‬

‫ل وبعده إلى جانب قربه وبعده منا‪ ،‬وأّنه أبعد ما يكون عنا في غاية قربه‪ ،‬وأقرب ما‬‫والثانية الحديث عن قرب ا ّ‬
‫يكون في غاية بعده‪ ،‬وهذا المر هو الخر من آثار ذاته المطلقه اللمتناهية‪ ،‬وذلك لن مثل هذه الذات في كل‬
‫ل كانت محدودة‪ .‬والثالثة نفي صفات المخلوقات والشبه عن ذاته المقدسة‪ ،‬وهذا‬ ‫مكان ول يخلو منها مكان‪ ،‬وإ ّ‬
‫ن جميع المخلوقات محدودة ناقصة‪ ،‬وجودها متناهي وصفاتها مشوبة بالنقص‬ ‫أيضًا من آثار الذات اللمتناهية‪ ،‬ل ّ‬
‫والعدم‪ ،‬فاذا شبهناه بأحد مخلوقاته وقلنا بالشريك والشبيه وتصورنا له صفات المخلوقين نكون قد أخرجناه من‬
‫لمور في الخطب‬‫حالة اللتناهي وكونه واجب الوجود وجعلناه في عداد الممكنات المحدودة وسنتعرض إلى هذه ا ُ‬
‫ل‪.‬‬
‫القادمة إن شاء ا ّ‬
‫‪ .1‬وردت هذه الشعار في حواشي »شرح الباب الحادي عشر« في الصفحة الولى من قول إبن أبي الحديد‪.‬‬

‫] ‪[ 354‬‬

‫] ‪[ 355‬‬

‫الخطبة)‪50 (1‬‬

‫ومن كلم له )عليه السلم(‬

‫وفيه بيان لما يخرب العالم به من الفتن وبيان هذه الفتن‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫أشار المام)عليه السلم( في هذه الخطبة إلى أهم عوامل فساد المجتمعات البشرية ولسيما النحراف الذي‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬ثم بين)عليه السلم(كيف تخلط الشياطين الحق‬ ‫عصف بالمجتمع السلمي بعد رسول ا ّ‬
‫بالباطل وتزينه للنسان‪ .‬فلو طرح الحق كما هو لغلقت طرق نفوذ الشياطين‪ ،‬كما لو عرض الباطل على هيئته‬
‫سون السم المهلك‬
‫لما قبله أحد‪ ،‬ومن هنا فان الشياطين تخلط الحق بالباطل لغواء الناس وإضللهم‪ .‬نعم فهؤلء يد ّ‬
‫في كل طعام لذيذ ليحثوا المغّنلين على تناوله‪ .‬فهم يخفون الباطل في الحق دائما ليضلوا الناس عن طريق ذلك‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬نقل هذه الخطبة عدد ممن عاش قبل السيد الرضي )ره(‪ ،‬كالمرحوم الكليني في الكافي في باب البدع والرأي‬
‫والمقاييس )‪ (54 / 1‬وأحمدبن محمدبن خالد البرقي في كتاب المحاسن )‪ (208 / 1‬واليعقوبي في تأريخه )‪ (136 / 2‬وابوجبان‬
‫التوحيدي في البصائر والذخائر ‪ ،32 /‬وأخرون ممن عاشوا بعد الرضي ول حاجة لذكرهم‪ .‬مصادر نهج البلغة ‪.19 / 2‬‬

‫] ‪[ 356‬‬

‫] ‪[ 357‬‬
‫غْيرِ‬
‫عَلى َ‬ ‫عَلْيها ِرجاٌل ِرجاًل َ‬ ‫ل‪َ ،‬وَيَتَوّلى َ‬ ‫با ّ‬ ‫ف ِفيها ِكتا ُ‬ ‫ع‪ُ ،‬يخاَل ُ‬ ‫حكاٌم ُتْبَتَد ُ‬ ‫ن َأْهواٌء ُتّتَبُع َوَأ ْ‬‫ع اْلِفَت ِ‬
‫»ِإّنما َبْدُء ُوُقو ِ‬
‫طِل‬
‫س اْلبا ِ‬
‫ن َلْب ِ‬
‫ص ِم ْ‬‫خَل َ‬ ‫ق َ‬‫حّ‬ ‫ن اْل َ‬
‫ن‪َ ،‬وَلْو َأ ّ‬‫عَلى اْلُمْرتاِدي َ‬‫ف َ‬‫خ َ‬ ‫ق َلْم َي ْ‬
‫حّ‬ ‫ج اْل َ‬‫ن ِمزا ِ‬ ‫خَلصَ ِم ْ‬ ‫طَل َ‬ ‫ن اْلبا ِ‬ ‫ل‪َ ،‬فَلْو َأ ّ‬
‫نا ّ‬ ‫ِدي ِ‬
‫شْيطا ُ‬
‫ن‬ ‫سَتْوِلي ال ّ‬‫ك َي ْ‬
‫ن َفُهناِل َ‬‫ث َفُيْمَزجا ِ‬ ‫ن َهذا ضِْغ ٌ‬ ‫ث َوِم ْ‬‫ضْغ ٌ‬
‫ن َهذا ِ‬ ‫خُذ ِم ْ‬ ‫ن ُيْؤ َ‬ ‫ن‪َ ،‬وَلِك ْ‬‫ن اْلُمعاِنِدي َ‬‫سُ‬‫عْنُه َأْل ُ‬‫ت َ‬‫طَع ْ‬‫اْنَق َ‬
‫سنى«‪.‬‬ ‫ح ْ‬‫ل اْل ُ‬‫نا ّ‬ ‫ت َلُهْم ِم َ‬ ‫سَبَق ْ‬‫ن َ‬ ‫جو »اّلِذي َ‬ ‫عَلى َأْوِلياِئِه‪َ ،‬وَيْن ُ‬‫َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫هناك كلم بين المفسرين والشّراح بشأن زمان الخطبة والظروف التي رافقتها‪ ،‬فيرى البعض أّنه خطبها بعد ستة‬
‫ن الخطبة تنسجم والحتمالين; أي أن‬ ‫أّيام من خلفته‪ ،‬بينما يرى البعض الخر أّنه خطبها بعد التحكيم‪ ،‬وبالطبع فا ّ‬
‫تكون الخطبة في بداية الخلفة أو بعد التحكيم‪ .‬فقد إستهل المام)عليه السلم( الخطبة بالشارة إلى سبب ظهور‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( وبعض الحوادث كالجمل‬ ‫الفتن في المجتمعات السلمية التي تشمل ما بعد وفاة رسول ا ّ‬
‫ل«‪ .‬نعم أساس‬ ‫وصفين والنهروان فقال‪» :‬إّنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع)‪ (1‬يخالف فيها كتاب ا ّ‬
‫ن الفتن ستقبر‬
‫ل والسنة‪ ،‬فمما ل شك فيه أ ّ‬‫الفتن أمرين‪ :‬اتباع أهواء النفس والحكام الموضوعة المخالفة لكتاب ا ّ‬
‫لو كانت التعاليم السلمية والحكام القرآنية هى السائدة وحفظت هذه القوانين والحكام ومنعت البدع وابتعد عن‬
‫ن هذه القوانين تهدف بسط العدل والقسط وتضمن حقوق الناس‬ ‫الهواء في إجراء الحكام الشرعية; وذلك ل ّ‬
‫وتعين وظائفهم‪ .‬فالفتنة تفرزها‬

‫ل والسنة النبوية‪.‬‬
‫‪» .1‬تبتدع« من مادة »بدعة« بمعنى حديثة الظهور‪ ،‬وتستعمل بشأن الحكام المخالفة لكتاب ا ّ‬

‫] ‪[ 358‬‬

‫الهواء وتحريف القوانين لصالح الطماح الشخصية وغياب العدل وتضييع الوظائف والقبال على البدع‪.‬‬
‫فاصحاب الفتن يلجأون تارة إلى التحريف والتفسير الخاطئ لشباع أهوائهم ورغباتهم‪ ،‬وإذا تطلب المر وضع‬
‫ن الهواء والرغبات‬ ‫لأّ‬‫ن تلك البدع تفرزها الهواء‪ ،‬إ ّ‬
‫بعض الحكام الجديدة‪ ،‬أقبلوا على البدع‪ ،‬صحيح أ ّ‬
‫ل عن‬ ‫الشيطانية قد تتبلور أحيانًا كتفسير وإجراء للحكام الشريعة وُاخرى كبدع واحكام موضوعة‪ ،‬ومن هنا فص ً‬
‫بعضها في كلم المام)عليه السلم(‪ .‬على سبيل المثال يمكن الشارة هنا إلى فتنة بني أمية التي تعد من أكبر‬
‫الفتن التي شهدها السلم فقد إستولى معاوية بواسطة المكر والخداع على الحكومة ثم ابتدع توريثها في ولده‪،‬‬
‫ن زياد ابن أبي سفيان وأخذ البيعة ليزيد في حياته‪ ،‬وسن سب أميَرالمؤمنين علي)عليه السلم( من على‬ ‫وادعى أ ّ‬
‫ل على غير دين‬ ‫المنابر ثم اتهمه بقتل عثمان وطالب بدمه‪ (1).‬ثم قال)عليه السلم( »ويتولى)‪ (2‬عليها رجال رجا ً‬
‫ل« ثم أشار في العبارة اللحقة إلى وسائل هذا العمل‪ ،‬التي استغلت من قبل الجناة والطواغيت طيلة التأريخ حتى‬ ‫ا ّ‬
‫ن الباطل خلص من‬ ‫أصبحت سنة‪ ،‬وهى أّنهم يمزجون الحق بالباطل من أجل تحقيق أطماعهم وأغراضهم »فلو أ ّ‬
‫ن الحق خلص من لبس الباطل إنقطعت عنه السن المعاندين« فما‬ ‫مزاج الحق لم يحف على المرتادين)‪ ،(3‬ولو أ ّ‬
‫أروع هذه العبارة‪ ،‬لو خلص الباطل من مزاج الحق لما كان هناك من يتبعه‪ ،‬ولو خلص الحق من لبس الباطل‬
‫ن منافعهم كامنة‬ ‫لخرست ألسن المتخرصين‪ ،‬ولذلك فمن البديهي أل يحل الحق الخالص مشاكل عبدة الهواء‪ ،‬ل ّ‬
‫ن الناس ل يقفوف إلى جانبهم‪ ،‬وهنا يتجهون صوب خلط‬ ‫في الباطل‪ ،‬ول الباطل الخالص يحقق لهم أغراضهم‪ ،‬ل ّ‬
‫الحق بالباطل; المر الذي يجسد كافة السياسات المخربة في العالم‪ .‬ثم قال المام)عليه السلم(بهذا الشأن »ولكن‬
‫سَبَق ْ‬
‫ت‬ ‫ن َ‬
‫يؤخذ من هذا ضغث)‪(4‬ومن هذا ضغث فيمز جان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه‪ ،‬وينجو )اّلِذي َ‬

‫‪ .1‬راجع كتاب الغدير ‪.10 /‬‬

‫‪» .2‬يتولى« من مادة »تولى« بمعنى التباع‪ .‬وتأتي أحيانا بمعنى القتراب والسيطرة على المقام والمنصب إل أن المراد هنا المعنى‬
‫الول‪.‬‬
‫‪» .3‬مرتادين« من مادة »ارتياد«‪ ،‬الطالبين للحقيقة‪.‬‬

‫‪» .4‬ضغث« على وزن حرص قبضة من حشيش مختلط فيها الرطب باليابس‪ ،‬كما يطلق الضغث على الحلم المزعجة‪ ،‬وقد وردت‬
‫في العبارة بمعنى بعض من الشيء‪.‬‬

‫] ‪[ 359‬‬

‫ن خلط الحق والباطل ل يمنع من معرفة الباطل وان تطلب ذلك قدرا من البحث‬ ‫سنى(‪ .‬فالعبارة تفيد أ ّ‬
‫حْ‬‫َلُهْم ِمّنا ال ُ‬
‫ل‪،‬‬
‫ن خلط الحق بالباطل ليؤثر في أولياءا ّ‬‫والتحري والرجوع إلى الخرين‪ ،‬ومن هنا قال المام)عليه السلم( بأ ّ‬
‫ن مزج الحق بالباطل بمثابة الضوء‬‫بينما يؤثر على أولياء الشيطان فيقودهم إلى الغواية والظلل‪ .‬فالواقع هو أ ّ‬
‫الخضر لعبدة الهواء وذريعة لتباع الشيطان لخداع أنفسهم فيستدلوا على الخرين بأنا سلكنا هذا لطريق لنا‬
‫إعتمدنا الدليل الفلني )الذي يمثل الحق الممزوج بالباطل(‪ .‬نعم يمكن أن يقع بعض المستضعفين الفكريين والسذج‬
‫ل في حبائل الشيطان‪ ،‬والحال لو كان لهم زعيم ومرشد لما شهدوا مثل هذا المصير وعليه فالمة إزاء مزج‬ ‫جه ً‬
‫الحق بالبطل على ثلثة طوائف‪:‬‬

‫تأّملت‬

‫‪ 1‬ـ أساس الفتن‬

‫ن التأريخ السلمي ول سيما إبان القرن الول والثاني ملي بالفتن الغريبة والليمة التي كادت تقضي على جهود‬
‫إّ‬
‫النبي)صلى ال عليه وآله( وصحبه الميامين‪ ،‬ولو ل تلك الفتن التي عصفت بالسلم لما‬

‫ن« التي وردت بعد الحديث‬‫عْنها ُمْبَعُدو َ‬


‫ك َ‬
‫سنى ُأولـِئ َ‬
‫ح ْ‬
‫ت َلُهْم ِمّنا ال ُ‬
‫سَبَق ْ‬
‫ن َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫‪ .1‬العبارة إقتباس من الية ‪ 101‬من سورة النبياء »ِإ ّ‬
‫ن هذه الطائفة ناجية من النار‪ ،‬ولما كانت فتن الدنيا هى جهنمها‪ ،‬فقد استثنى)عليه السلم(هذه الطائفة من‬ ‫عن جهنم‪ ،‬في اشارة إلى أ ّ‬
‫هذه الفتن‪.‬‬

‫] ‪[ 360‬‬

‫كنا نعيش مثل هذا العالم‪ ،‬والنكى من ذلك الفتن التي وقعت بعد خمس وعشرين سنة من رحيل النبي)صلى ال‬
‫عليه وآله( حين وصلت الخلفة عام ‪ 35‬هـ فاستهدفت تلك الفتن إعادة السلم إلى الجاهلية; أّما السنوات الخيرة‬
‫لخلفة عثمان فقد شهدت غياب جميع القيم والمثل السلمية‪ ،‬في حين تجددت سنن الجاهلية وأعرافها المقيتة‬
‫وانبرت طلئع الشرك والنفاق للتسلم مواقعًا حساسة في الحكومة; المر الذي كان يعقد وظيفة المام)عليه‬
‫ن المام)عليه السلم(تمكن بجهاده المرير أن يحيى القيم والمثل السلمية‪ ،‬ولكن المؤسف أ ّ‬
‫ن‬ ‫السلم(‪ .‬صحيح أ ّ‬
‫الفتن لم تسكن حتى أدت في خاتمة المطاف إلى قتل المام)عليه السلم( في محرابه من قبل تلك الطغمة الضالة‪.‬‬
‫ثم إتسع حجم هذه الفتن على عهد معاوية ويزيد وسائر الشجرة الموية الخبيثة‪ ،‬فقد سفكت الدماء‪ ،‬واستفلحت‬
‫البدع‪ ،‬وسادت الهواء‪ ،‬لتبلغ ذروتها على عهد بني العباس حتى مثل السلم وجفت عروقه‪ .‬فلو نظرنا إلى هذه‬
‫الفتن لوقفنا على عمق خطبة المام)عليه السلم(التي حصرت أساس الفتن في أمرين إتباع الهوى والبدع في دين‬
‫ل; المران الذان يشاهدان في كل مكان‪ ،‬فقد تمسكت طائفة من أصحاب الفتن بالمر الول بينما لذت طائفة‬ ‫ا ّ‬
‫ُاخرى بالمر الثاني‪ .‬ول نرى البحث يسع الخوض في هذه التفاصيل ونوكلها إلى مكان آخر‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ السياسات الشيطانية‬

‫ن مبادئ السياسة الستبدادية تقريبًا متكافئة طيلة التأريخ‪ .‬فقد إعتمد فرعون قبل ألف سنة ـ‬ ‫من عجائب الدهر أ ّ‬
‫شـَيعًا()‪ (1‬وما زال هذا‬
‫ل َأْهَلها ِ‬
‫جـَع َ‬
‫ض َو َ‬
‫لْر ِ‬
‫عل ِفي ا َ‬
‫ن َ‬
‫عْو َ‬
‫ن ِفْر َ‬
‫على ضوء المنطق القرآني ـ سياسة فرق تسد )ِإ ّ‬
‫المبدأ باق على قوته في كافة نقاط العالم الستكباري‪ ،‬فالحكومات تلجأ إلى أقذر الوسائل من أجل تفرقة الصفوف‪.‬‬
‫ولما كانت السياسة الشيطانية آخذة في التعقيد في عصرنا الراهن أكثر من سائر العصور‪ ،‬فقد تعقد تبعًا لذلك مزج‬
‫الحق بالباطل‪ ،‬حيث يمزج بعض الساسة الحق بالباطل بالشكل الذي يصعب تمييزه على الناس‪ ،‬وأدنى ذلك خداع‬
‫الرأي العام ببعض العناوين كحقوق النسان والرفق‬

‫‪ .1‬سورة القصص ‪.3 /‬‬

‫] ‪[ 361‬‬

‫بالحيوان ويوم العامل وأطباء بل حدود ومنظمة العفو الدولية وتأسيس المراكز الخيرية وإعانة المحرومين ومنح‬
‫حق اللجوء السياسي لعدد من النازحين‪ ،‬فهم يتحدثون عنها بالشكل الذي قد يسيل له لعاب حتى بعض اليقظين‬
‫والواعين‪ .‬وناهيك عن كل ما سبق فالحكومات الستكبارية تتشدق بالديمقراطية وضرورة الرجوع إلى آراء‬
‫لمور خلفًا لمصالحها اللمشروعة عمدت إلى النقلب أو أثارة الفتن; المر الذي‬ ‫الشعب فاذا تّم ذلك وجرت ا ُ‬
‫لمسناه بوضوح في التجربة الجزائرية‪ ،‬فابقوا على تلك الحكومة التي فشلت في تلك التجربة لّنها تضمن‬
‫مصالحها‪ .‬بينما تغض النظر عن الحكومات التي تعيش عقلية القرون الوسطى وتمد لها يد العون والمساعدة لنها‬
‫تحفظ مصالحها‪.‬‬

‫ن أصحاب‬
‫نعم هذه هى حقيقة عالم السياسة والتي يتضح منها عمق كلم المام)عليه السلم( في هذه الخطبة في أ ّ‬
‫الفتن إّنما يمزجون الحق بالباطل لخداع عوام الناس‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 362‬‬

‫] ‪[ 363‬‬

‫الخطبة)‪51 (1‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫لما غلب أصحاب معاوية أصحابه)عليه السلم( على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم الماء‪.‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬


‫ن نصر بن مزاحم قال‪ :‬كان أبو العور السلمي على مقدمة‬ ‫روى إبن أبي الحديد في إطار شرحه لهذه الخطبة أ ّ‬
‫جيش معاوية‪ ،‬وكان قد ناوش مقدمة جيش علي)عليه السلم(وعليها الشتر النخعي مناوشة ليست بالعظيمة‪،‬‬
‫فانصرف أبو العور عن الحرب راجعًا‪ ،‬فسبق إلى الماء فغلب عليه في الموضع المعروف بقناصرين ـ موضع‬
‫في الشام ـ إلى جانب صفين‪ ،‬فحال جيشه بين ماء الفرات وأهل العراق‪ .‬فلما بلغ أمير المؤمنين علي)عليه السلم(‬
‫الخبر دعا صعصعة بن صوحان فقال‪ :‬إئت معاوية وقل له‪ :‬إنا سرنا إليك مسيرنا هذا وأنا كره لقتالكم قبل العذار‬
‫إليكم‪ ،‬وإّنك قدمت خيلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك وبدأتنا بالحرب ونحن ممن رأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك;‬
‫فحل بين الماء والناس حتى ننظر فيما بيننا وبينكم; وفيما قدمنا له وقدمتم له; وإن كان أحب إليك أن ندع ما جئنا‬
‫له‪ ،‬وندع الناس يقتتلون حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا‪ .‬فمضى صعصعة بالرسالة إلى معاوية‪ ،‬فقال معاوية‬
‫ل‪ :‬خل بين‬‫لصحابه‪ :‬ما ترون؟ فأشار عليه بعض أصحابه بمنعهم الماء‪ ،‬غير أنّ عمروبن العاص أشار عليه قائ ً‬
‫القوم وبين‬

‫‪ .1‬لقد نقل هذه الخطبة »نصر بن مزاحم« في كتاب صفين عن جابر عن أمير المؤمنين علي)عليه السلم( )مع بعض الفوارق‬
‫الطفيفة( )مصادر نهج البلغة ‪.(20 / 2‬‬

‫] ‪[ 364‬‬

‫الماء فإّنهم لن يعطشوا وأنت ريان‪ .‬بينما كان معاوية يرجح الرأي القائل بمنع جيش المام علي)عليه السلم( من‬
‫الماء‪ .‬فمكث أصحاب المام)عليه السلم( بغير ماء فاغتم)عليه السلم( فألقى هذه الخطبة التي تفيض عذوبة‬
‫وفصاحة وبلغة‪ ،‬شاحذًا همم أصحابه فكشفوا أصحاب معاوية عن الماء‪.‬‬

‫ن النسان إذا لم يقدم بكل شجاعة لخذ‬


‫ن القسم الول من هذه الخطبة يشير إلى هذه الحقيقة وهى أ ّ‬
‫جدير بالذكر أ ّ‬
‫حقه لم يكن أمامه سوى الذل والستسلم للظلم والجور‪ .‬أّما القسم الثاني من الخطبة فيصور خداع معاوية ومكره‬
‫في تأليب الجهال وزجهم في المعركة بما يجعلهم يستميتون من أجل الباطل!!‬

‫—–‬

‫] ‪[ 365‬‬

‫ت ِفي‬
‫ن اْلماِء فاْلَمْو ُ‬‫ن الّدماِء َتْرَوْوا ِم َ‬‫ف ِم َ‬‫سُيو َ‬ ‫حّلة َأْو َرّووا ال ّ‬‫خيِر َم َ‬‫عَلى َمَذّلة َوَتْأ ِ‬
‫طَعُموُكُم اْلِقتاَل َفَأِقّروا َ‬‫سَت ْ‬
‫»َقِد ا ْ‬
‫حّتى‬
‫خَبَر‪َ ،‬‬‫عَلْيِهُم اْل َ‬
‫س َ‬
‫عّم َ‬ ‫ن اْلُغواِة َو َ‬
‫ن ُمعاِوَيَة قاَد ُلَمًة ِم َ‬
‫ن‪َ .‬أل َوِإ ّ‬‫حياُة ِفي َمْوِتُكْم قاِهِري َ‬‫ن َواْل َ‬‫حياِتُكْم َمْقُهوِري َ‬‫َ‬
‫ض اْلَمِنّيِة«‪.‬‬
‫غرا َ‬ ‫حوَرُهْم َأ ْ‬‫جَعُلوا ُن ُ‬
‫َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫أقبروا هذه الفتنة الخبيثة‬


‫ن المام علي)عليه السلم( ألقى هذه الخطبة في ظل تلك الظروف العصيبة التي ألمت بصحبه‪.‬‬‫أشرنا سابقًا إلى أ ّ‬
‫وقد إختار المام ـ الذي يمثل مصدر البلغة والفصاحة ـ هذه العبارات الحماسية من أجل تحقيق الهدف المنشود‬
‫والذي جعل أصحابه يهبون مسرعين لطرد عتاة الشام ومردتها عن شريعة الفرات‪.‬‬

‫نعم ما زالت هذه العبارات ـ ورغم تقادم الزمان عليها ـ تقرع أسماع الجميع وتلهمهم الصمود والتصدي للعداد‬
‫إذا ما شكلوا خطرًا على عزتهم وشرفهم‪ .‬فقد استهل المام)عليه السلم(خطبته بالقول‪» :‬قد استطعموكم القتال«‪.‬‬
‫ن الحرب‬‫وهى كلمة مجازية تعني‪ :‬طلبوا القتال منكم‪ ،‬وهى تستعمل حيث يطلب أحدهم الطعام من آخر‪ ،‬وكأ ّ‬
‫والقتال طعام يطلبونه من أصحاب المام)عليه السلم(‪ .‬وما أشبه هذا الكلم بما تتناقله ألسنة عوام الناس في‬
‫حياتهم اليومية من قبيل تعبيرهم »هذا الفرد يحكه جلده« في إشارة واضحة إلى أّنه يأتي بالفعال التي ستؤدي إلى‬
‫ن هذا أبلغ تعبير أورده المام)عليه السلم( بشأن منع أهل الشام للماء عن أصحابه)عليه السلم(‪.‬‬‫ضربه‪ .‬والحق أ ّ‬
‫ثم يواصل المام)عليه السلم( خطبته بأن ليس أمامكم سوى سبيلين ل ثالث لهما تجاه‬

‫] ‪[ 366‬‬

‫خسة هذا العمل الذي ارتكبه أهل الشام; فإّما السلة وإّما الذلة »فأقروا على مذلة وتأخير محلة)‪ (1‬أو رووا)‪(2‬‬
‫السيوف من الدماء ترووا من الماء«‪.‬‬

‫أجل لم يكن لهم من سبيل ثالث‪ ،‬فلو وهنوا أمام العدو وغلب عليهم العطش بحيث أمات رهطًا من جندهم لكان‬
‫ل أّنهم حين نهضوا بالمر وحملوا‬
‫ذلك وصمة عار في جبينهم ولفقدوا مكانتهم ومنزلتهم لدى العدو والصديق‪ ،‬إ ّ‬
‫على العدو قد حظوا بمكانتهم ومنزلتهم لدى العدو والصديق‪ ،‬كما كشفوا عن مروءتهم وعظمة خلقهم حين لبوا‬
‫طلب مولهم بالبقاء على شريعة الماء مفتوحة بوجه جيش الشام; المر الذي جعل جيش معاوية يشعر بخسة‬
‫عمله‪ ،‬وهذا ما أدى بدوره إلى ارتفاع معنويات أصحاب المام علي)عليه السلم(وضعف روحية جيش الشام في‬
‫معركة صفين ول سيما في أوائل تلك المعركة حين شهدت هذه الواقعة‪.‬‬

‫ثم يشير المام)عليه السلم( إلى مفهوم كلي ودائمي على أّنه السر في انتصار وعزة ورفعة كل ُاّمة‪ ،‬فيخاطب‬
‫ل‪» :‬فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين«‪.‬‬ ‫جنده قائ ً‬

‫نعم ليس هناك من قيمة لهذه الحياة المادية في قاموس الفراد الصالحين‪،‬كما ل يعتبر الموت مناهضًا لهذه القيمة‪،‬‬
‫بل القيمة في نظر الحرار إّنما تكمن في الحياة التي تسودها العزة والكرامة‪ ،‬ولذلك تراهم يؤثرون الموت مع‬
‫العزة على الحياة مع الذلة‪ ،‬وهذا هو السر في انتصار الفئة السلمية القليلة في عصر النبي)صلى ال عليه وآله(‬
‫ـ وما تله من عصور ـ على الفئة الضالة الكثيرة العدد والعدة‪ .‬أجل فالعزة في المجتمع السلمي مقدمة على كل‬
‫ما سواها; ول يتوانى مثل هذا المجتمع في التضحية بالغالي والنفيس من أجل تحققها‪ .‬وهذا المعنى قد تجلى‬
‫بأروع صورة في كلمات شبل علي)عليه السلم( المام الحسين)عليه السلم( في حادثة كربلء الدموية‪ ،‬فقد‬
‫كان)عليه السلم( ل ينفك ينادي‪» :‬ل وال ل ُأعطيكم بيدي إعطاء الذليل ول ُأقر لكم إقرار العبيد«)‪ .(3‬ثم رد‬
‫على الحر بن يزيد الرياحي ـ بعد أن جعجع بالحسين)عليه السلم( في طريقه إلى كربلء وسقاهم الحسين)عليه‬
‫السلم( بعظمته المعروفة الماء‬

‫‪» .1‬محلة« تستعمل بمعنى المكانة والمنزلة الجتماعية‪.‬‬

‫‪» .2‬رووا« من مادة »التروية« بمعنى الرتواء من الماء‪ ،‬ولهذا يصطلح على اليوم الثامن من شهر ذي الحجة بـ »يوم التروية«‬
‫حيث كان الحجيج في السابق يتزودون بالماء حين الذهاب إلى عرفة ومنى والمشعر الحرام‪ ،‬كما قد تستعمل هذه المفردة ويراد بها‬
‫المعنى الكنائي كإرواء السيوف الذي ورد في هذه الخطبة‪.‬‬

‫‪ .3‬بحار النوار ‪.7 / 45‬‬

‫] ‪[ 367‬‬

‫ل‪ :‬أفبالموت تخوفني‪ .‬ثم تمثل)عليه السلم( بالشعر‬


‫ورشف خيولهم ـ حين نصحه بعدم مقاتلة يزيد حفظًا لنفسه قائ ً‬
‫الذي أنشده شاعر الوس حين حذره ابن عمه من نصرة النبي)صلى ال عليه وآله(فقال‪:‬‬
‫سأمضي فما بالموت عار على الفتى *** اذا مانوى حقًا وجاهد مسلمًا‬

‫وواسى الرجال الصالحين بنفسه *** وفارق مثبورًا وباعد مجرمًا‬

‫ل أن تعيش وترغما)‪(1‬‬
‫فان عشت لم أندم وان مت لم ُألم *** كفى بك ذ ً‬

‫ص ِبُكْم‬
‫ن َنَتَرّبـ ُ‬
‫حُ‬‫ن َوَن ْ‬
‫سَنـَيْي ِ‬
‫حْ‬‫حدى ال ُ‬
‫ل ِإ ْ‬
‫ن ِبنا ِإ ّ‬
‫صو َ‬‫ل َتَرّبـ ُ‬ ‫ل َه ْ‬ ‫ول غرو فهذا هو المعنى الذي أكده القرآن الكريم )ُق ْ‬
‫ن()‪.(2‬‬ ‫صو َ‬ ‫صوا ِإّنا َمَعُكْم ُمُتَرّبـ ُ‬‫عْنِدِه َأْو ِبَأْيِدينا َفَتَرّبـ ُ‬
‫ن ِ‬
‫ل ِبَعذاب ِم ْ‬
‫صـيَبُكُم ا ّ‬
‫ن ُيـ ِ‬
‫َأ ْ‬

‫ثم يشير أمير المؤمنين)عليه السلم( في خطبته إلى مكر معاوية وسذاجة أهل الشام‪ .‬الذين انطلقت عليه ألعيب‬
‫معاوية وحيله فقال)عليه السلم(‪» :‬أل وإن معاوية قاد لمة من الغواة وعمس عليهم الخبر‪ ،‬حتى جعلوا نحورهم‬
‫أغراض المنية«)‪.(3‬‬

‫فالمام)عليه السلم( يصور في هذه العبارات حكومة معاوية التي تستند إلى الحيلة والمكر والخداع واستغفال‬
‫السذج من الناس‪ ،‬إلى جانب تصويره إلى أهل الشام الذين بلغوا حدًا من الضلل والغواية ما جعلهم يضحون‬
‫ل من أجل تحقيق مآرب معاوية وأهدافه المشؤومة‪.‬‬
‫بأنفسهم باط ً‬

‫ولعل العبارة الوارة في الخطبة تمثل إجابة على السؤال الذي قد يتبادر إلى أذهان أصحاب المام)عليه السلم(‬
‫عن علة دفاع أهل الشام عن مطامع معاوية إلى حد الستماتة‪ .‬فالمام)عليه السلم(يكشف النقاب عن هذه الحقيقة‬
‫وهى أن مكر معاوية في تزوير الواقع من جانب وجهل أهل الشام وغفلتهم من جانب آخر قد جعلتهم يظنون بأّنهم‬
‫يقاتلون في سبيل ال ونيل الشهادة‪ .‬نعم لقد كان للدعاية الواسعة والساليب النفسية التي إعتمدها معاوية وعمرو‬
‫ن عثمان قد قتل مظلومًا وإن قاتله‬
‫ن البعض منهم أيقن بأ ّ‬
‫بن العاص بالغ الثر في صفوف أهل الشام إلى درجة أ ّ‬
‫هو المام علي)عليه السلم(‪.‬‬

‫‪ .1‬ارشاد المفيد ‪ . 81 / 2‬طبعة آل البيت‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة التوبة ‪.52 /‬‬

‫‪» .3‬لمه« من مادة »لمى يلمو لموا« بمعنى أخذ الشيء بأكمله و)لمه( بضم اللم وفتح الميم بدون التشديد« بمعنى الجماعة القليلة‪،‬‬
‫)غواة( جمع غاوي بمعنى الضال‪ ،‬والعمس بمعنى محو الثر وعدم العلم بالشيء‪ ،‬ومن هنا أطلق العميس على الظلم الدامس‪ ،‬فيقال‬
‫ليل عماس; أي مظلم‪.‬‬

‫] ‪[ 368‬‬

‫وقد نهض معاوية للطلب بدمه إلى جانب الدفاع عن القرآن والسلم وخلفة رسول ال)صلى ال عليه وآله(‪،‬‬
‫وعليه فليس القتل في هذا السبيل سوى الجّنة والشهادة التي يتعطش إليها كل مسلم غيور!‬

‫طبعًا حبل الكذب والخداع مهما طال قصير ول يمكن للشمس أن تحجبها الغربان وسرعان ما تتضح الحقائق‪،‬‬
‫ل بعد انجلء الغبرة وإزهاق الرواح ولت حين مناص‪.‬‬‫ن ذلك ل يكون إ ّ‬
‫غير أ ّ‬

‫تأّملت‬

‫‪ 1‬ـ ضرورة العيش في ظل العزة والكرامة‬

‫تتميز المدرسة السلمية عن سائر المدارس والمذاهب بمبادئها وركائزها الحيوية الصيلة‪ ،‬ومنها المبدأ الذي‬
‫ورد في الخطبة المذكورة والذي يكمن في ترجيح الموت الشريف على الحياة الوضيعة‪ ،‬وبعبارة ُاخرى ففي‬
‫الوقت الذي تحذر فيه المدرسة السلمية عن ممارسة الظلم والجور فانها تؤكد على عدم الركون إلى الظلمة‬
‫والستسلم للطواغيت‪ ،‬وقد تجسد هذا المعنى في رجالت السلم الذين استحقوا بحق لقب »ُأباة الضيم«)‪.(1‬‬
‫ن()‪.(2‬‬
‫سوِلِه َوِلْلُمـْؤِمِنـي َ‬
‫ل الِعّزُة َوِلَر ُ‬
‫والواقع أن القرآن هو الذي أكد هذا المبدأ )َو ِّ‬

‫ن ال‬ ‫وكذلك تظافرت روايات أهل البيت)عليهم السلم( بهذا المر‪ ،‬فقد قال المام الصادق)عليه السلم(‪» :‬إ ّ‬
‫تبارك وتعالى فوض إلى المؤمن كل شيء إل إذلل نفسه«)‪ .(3‬وقال المام الحسين)عليه السلم(‪» :‬موت في عزّ‬
‫ل«)‪ ،(4‬كما قال)عليه السلم(‪» :‬أل وإن الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلة والذلة وهيهات‬ ‫خير من حياة في ذ ّ‬
‫له ذلك‪ ،‬هيهات مّني الذلة أبي ال ذلك ورسوله والمؤمنون وجدود طهرت وحجور طابت أن تؤثر طاعة اللئام‬
‫على مصارع الكرام«)‪.(5‬‬

‫‪» .1‬أباة« جمع أبي بمعنى الرفض والمتناع والضيم بمعنى الظلم‪ ،‬وهو ما يطلق على أولئك الذين ل يستسلمون للظلم والجور‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة المنافقون ‪. 8 /‬‬

‫‪ .3‬الكافي ‪.63 / 5‬‬

‫‪ .4‬بحار النوار ‪.192 / 44‬‬

‫‪ .5‬بحار النوار ‪. 83 / 45‬‬

‫] ‪[ 369‬‬

‫وأورد ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلغة‪» :‬سيد أهل الباء الذي عّلم الناس الحمية والموت تحت ظلل‬
‫السيوف اختيارًا له على الدنية أبو عبدال الحسين بن علي بن أبي طالب)عليه السلم( عرض عليه المان‬
‫وأصحابه فأنف من الُذل«‪.‬‬

‫ثم تطرق إلى كلماته الحماسية في يوم عاشوراء »أل وان الدعي ابن الدعي‪ «...‬وأّنها على غرار ما أورده أمير‬
‫ن امرء يمكن عدوه من نفسه‪ ،‬يعرق لحمه‪ ،‬ويفري‬ ‫المؤمنين علي)عليه السلم( في خطبته المعروفة ـ ‪ 34‬ـ »إ ّ‬
‫جلده‪ ،‬ويهشتم عظمه‪ ،‬لعظيم عجزه‪ ،‬ضعيف ما ضمت عليه صدره‪ ،‬فأما أنا فدون أن أعطى ذلك ضرب‬
‫بالمشرفية‪ «...‬قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد‪ :‬ويحك! أقتلتم ذرية رسول ال)صلى ال عليه وآله(؟!‬
‫فقال‪ :‬عضضت بالجندل; إّنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا‪ ،‬ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها‬
‫ل‪ ،‬وتلقي أنفسها على الموت; ل تقبل المان‪ ،‬ول ترغب في المال‪،‬‬ ‫كالسود الضارية تحطم الفرسان يمينًا وشما ً‬
‫ول يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنية‪ ،‬أو الستيلء على الملك; فلو كففنا عنها رويدًا لتت على‬
‫نفوس العسكر بحذافيرها; فما كّنا فاعلين ل أم لك)‪!(1‬‬

‫‪ 2‬ـ غسل أدمغة المغفلين‬

‫ن أئمة الباطل قد ينمقون كلمهم بالمكر‬


‫لخرى التي تضمنتها خطبة أمير المؤمنين)عليه السلم(‪ ،‬أ ّ‬ ‫النقطة المهّمة ا ُ‬
‫والخداع بما يجعلهم ينفذون إلى أعماق أفكار السذج من الناس‪ ،‬وكأّنهم يسوقونهم إلى الشهادة‪ ،‬حيث يقبلون على‬
‫القتال بكل شدة وصرامة‪ ،‬في حين ل يزيدهم ذلك القتال سوى الطر من الرحمة والتغلغل في الدرك السفل من‬
‫النار‪ ،‬وهذه طامة كبرى‪ .‬ولم يكن معاوية يدعا من ُاولئك الطواغيت الذين ساروا على هذا النهج في غسل أدمغة‬
‫أتباعهم وسوقهم للدفاع عن أهدافهم ومآربهم المشؤومة‪ ،‬فقد سبقه وتله الكثير من الظلمة الذين اعتمدوا هذا‬
‫السلوب‪ .‬فعمر بن سعد قائد عسكر يزيد في كربلء حين دفع بأهل الكوفة للهجوم على المام الحسين)عليه‬
‫السلم( نادى بأعلى صوته‪» :‬يا خيل ال اركبي‪ ،‬وبالجّنة ابشري!«)‪.(2‬‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.263 / 3‬‬

‫‪ .2‬بحار النوار ‪.391 / 44‬‬


‫] ‪[ 370‬‬

‫كما كانت أجهزة الدعاية الفرعونية تصور موسى وهارون)عليهما السلم( ممن يسعى للسيطرة على مصر‬
‫وإشاعة الفساد فيها‪ ،‬في حين تصف فرعون بالمدافع عن هذه الرض وعزة واستقلل أهلها‪ ،‬فيخاطب الُّمة‬
‫حِرِهما()‪ .(1‬ومازال هذا هو المنطق الغاشم الذي‬
‫سْ‬‫ضُكْم ِب ِ‬
‫ن َأْر ِ‬
‫خِرجاُكْم ِم ْ‬
‫ن ُي ْ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ن ُيِريدا ِ‬
‫حرا ِ‬
‫ن َلسا ِ‬
‫ن هـذا ِ‬
‫ل‪ِ) :‬إ ْ‬
‫قائ ً‬
‫يمارسه الظلمة على مر العصور والدهور‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ المروءة والشهامة‬

‫ن عمرو بن العاص قال لمعاوية لما ملك أهل العراق‪ :‬ما ظنك يا معاوية بالقوم إن‬
‫قال نصر ـ في كتاب صفين ـ إ ّ‬
‫منعوك اليوم الماء كما منعتهم أمس؟ أتراك تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه؟ ما أغنى عنك أن تكشف لهم‬
‫السوءة‪ .‬ويبدو أن عمرو كان بصدد تقريع معاوية ولومه على عدم قبول إقتراح ابن العاص بعدم منع أهل العراق‬
‫من الماء‪ .‬فقال معاوية‪ :‬دع عنك ما مضى‪ ،‬فما ظنك بعلي؟ قال‪ :‬ظني أنه ل يستحل منك ما استحللت منه‪ ،‬وأن‬
‫الذي جاء له غير الماء‪ .‬فهو يعلم بخلق علي)عليه السلم( وليس لغلق شريعة الفرات من انسجام وذلك الخلق‪).‬‬
‫‪(2‬‬

‫وهذا هو الخلق الذي ورثه ابنه الحسين)عليه السلم( الذي سقى الحر بن يزيد الرياحي وجنده الماء في تلك‬
‫الصحراء القافرة بينما كان خلق أعدائه أن ذبحوه عطشانًا إلى جانب شط الفرات‪ ،‬وليتهم اكتفوا بذلك فقد منعوا‬
‫الماء حتى عن رضيعه‪.‬‬

‫ملكنا فكان العفو مناسجية *** فلما ملكتم سال بالدم أبطح‬

‫وحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكل إناء بالذي فيه ينضح‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة طه ‪.63 /‬‬

‫‪ .2‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.330 / 3‬‬

‫] ‪[ 371‬‬

‫الخطبة)‪52 (1‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬


‫ل على الخلق‬
‫ل للزاهد‪ ،‬ونعم ا ّ‬
‫وهى في التزهيد في الدنيا وثواب ا ّ‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ن نعم الدنيا إلى زوال‪،‬‬


‫تشتمل الخطبة في الواقع على ثلثة أقسام‪ :‬القسم الول في الزهد وعدم التعلق بالدينا وأ ّ‬
‫ن يستعدوا لسفر الخرة من خلل العمل الصالح‪ ،‬القسم الثاني ثواب الزهاد والعمال الصالحة‪،‬‬ ‫وعلى المؤمنين أ ّ‬
‫والقسم الثالث القرار بعجز العباد عن إداء حق شكر المنعم‪ ،‬ول سيما أعظم هذه النعم اليمان‪.‬‬

‫—–‬

‫ل الحمد‬
‫ل أكبر و ّ‬
‫ل وا ّ‬
‫ل أكبر ل اله إلّ ا ّ‬
‫ل أكبر ا ّ‬
‫ن المام)عليه السلم( خطبها في عيد الضحى وبدايتها )ا ّ‬
‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬روي أ ّ‬
‫ل على ما هدانا‪(...‬ورواها المرحوم الصدوق )ره( في كتابه من ل يحضره الفقية ‪ 229 / 1‬والشيخ الطوسي )ره( في كتاب‬ ‫الحمد ّ‬
‫ن علياً)عليه السلم( خطب الناس في الضحى وقد أورد‬ ‫المصباح ‪ 261 /‬وقال‪ :‬نقل أبومخنف عن عبدالرحمن بن جندب عن أبيه أ ّ‬
‫السيد الرضي )ره( بعضها في نهج البلغة‪ ،‬كما روى الشيخ المفيد قسما منها في المجلس العشرين من المالي‪ .‬مصادر نهج البلغة‬
‫‪ 22 / 2‬وقد مضى شبيه هذا المضمون في الخطبة ‪.28‬‬

‫] ‪[ 372‬‬

‫] ‪[ 373‬‬

‫القسم الول‬

‫حُدو‬‫سّكانها َوَت ْ‬ ‫حِفُز ِباْلَفناِء ُ‬


‫ي َت ْ‬
‫حّذاء‪َ ،‬فِه َ‬ ‫ت َ‬ ‫ت ِباْنِقضاء‪َ ،‬وَتَنّكَر َمْعُروُفها َوَأْدَبَر ْ‬ ‫ت‪َ ،‬وآَذَن ْ‬
‫صّرَم ْ‬
‫ن الّدْنيا َقْد َت َ‬ ‫»َأل َوِإ ّ‬
‫سَمَلِة اِْلداَوِة َأْو‬
‫سَمَلٌة َك َ‬
‫ق ِمْنها ِإّل َ‬ ‫صْفوًا‪َ ،‬فَلْم َيْب َ‬
‫ن َ‬ ‫حْلوًا‪َ ،‬وَكِدَر ِمْنها ما كا َ‬ ‫ن ُ‬‫جيراَنها َوَقْد َأَمّر ِفيها ما كا َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ِباْلَمْو ِ‬
‫ن َهِذِه الّدار اْلَمْقُدوِر عََلى َأْهِلها‬ ‫عْ‬‫حيَل َ‬ ‫عباَد الّ الّر ِ‬ ‫ن َلْم َيْنَقْع‪َ ،‬فَأْزِمُعوا ِ‬
‫صْديا ُ‬
‫عِة اْلَمْقَلِة‪َ ،‬لْو َتَمّزَزها ال ّ‬‫جْر َ‬
‫عٌة َك ُ‬‫جْر َ‬
‫ُ‬
‫عَلْيُكْم ِفيها اَْلَمُد«‪.‬‬
‫ن َ‬ ‫طوَل ّ‬
‫الّزواُل‪َ ،‬ولَيْغِلَبّنُكْم ِفيها اَْلَمُل‪َ ،‬ول َي ُ‬

‫الشرح والتفسير‬

‫لقد تواترت خطبه)عليه السلم( في نهج البلغة التي توصي بالزهد في الدنيا وعدم الغترار بها والتزود منها‬
‫إلى الدار الخرة‪ ،‬إلى جانب التحذير من مخاطرها وأّنها متقلبة سريعة الزوال‪،‬‬

‫رغم أن النسان يطمح بالحياة مادامه في الدنيا ولبد أن يعيش بعزة ورفعة ويصّرف شؤون حياته المادية دون‬
‫ن النسان لبّد أن يتأهب فيها إلى السفر الشاق الذي ينتظره‪ ،‬ومن هنا ورد التأكيد في هذا‬
‫التبعية للخرين وأ ّ‬
‫الخطبة على الزهد في عشر عبارات رائعة في الدقة والمعنى‪ ،‬فقال في العبارة الولى‪» :‬أل وإن الدنيا قد‬
‫تصرمت‪ (1)،‬وآذنت)‪ (2‬بانقضاء« فالعبارة قد تكون إشارة إلى عمر الدنيا اليل للنقطاع والنتهاء‪ ،‬ومن هنا‬
‫يسمى زماننا آخرالزمان‪ ،‬أو إشارة إلى الحياة الدنيا لكل فرد من الفراد في كل عصر وزمان في أّنه قصير سريع‬
‫ن عمر النسان من القصر في هذه الحياة الدنيا وكأّنه يخاطب‬ ‫الزوال‪ ،‬والمعنى الخير أنسب‪ .‬فمفهوم العبارة هو أ ّ‬
‫بالستعداد للرحيل منذ ولدته‪ .‬فقوله)عليه السلم(‪»:‬أل وإن الدنيا قد تصرمت« يتناول باطن الدنيا‪ ،‬بينما تناول‬
‫ن الدنيا فانية ذاتا‪،‬‬
‫قوله)عليه السلم(‪» :‬وآذنت بانقضاء« ظاهرها‪ ،‬وبعبارة أخرى فا ّ‬

‫‪» .1‬تصرمت« من مادة »صرم« بمعنى انقطعت وفنيت‪ ،‬ومن هنا يطلق الصارم على السيف القاطع‪ ،‬وتصرم الدنيا يعني انقطاع‬
‫أجلها‪.‬‬

‫‪» .2‬آذنت« من مادة إيذان أعلمت وأخبرت‪.‬‬

‫] ‪[ 374‬‬

‫لخرى قد أخبرت عن هذا الفناء‪ ،‬وبالتالي فل ينبغي للنسان أن‬


‫ن مختلف ملمحها في الحياة النسانية هى ا ُ‬‫كما أ ّ‬
‫يغتر بها ويعيش الخسران‪.‬‬

‫وهى كما صورها الشاعر‪:‬‬

‫هى الدنيا تقول بمل فيها *** حذار حذار من بطشي وفتكي‬

‫فل يغرنكم حسن إبتسامي *** فقولي مضحك والفعل مبك‬

‫ثم قال)عليه السلم(‪» :‬وتنكر معروفها وأدبرت حذاء«)‪ (1‬كيف ل وغضاضة الشباب وطراوة الفتوة ونظارة‬
‫الوجه آيلة إلى الكهولة والعجز والشحوب‪ ،‬ثم وصف الدنيا)عليه السلم( بقوله‪» :‬فهى تحفز)‪(2‬بالفناء سكانها‬
‫وتحدوا بالموت جيرانها« فالعبارة تفيد حركة النسان نحو أجله ومصيره المحتوم شاء ذلك أم أبي‪ .‬والحدي‬
‫الصوت الذي يردد لتعجيل حركة الناقة‪ ،‬فما أروع هذا التعبير الذي يفيد توفر جميع العوامل التي تدعو النسان‬
‫ن محل سكن‬ ‫لحث الخطى والسرعة في الحركة إلى الزوال والفناء‪ .‬أّما التعبير بالجيران بعد السكان فكأّنه يفيد أ ّ‬
‫النسان ليس في هذا العالم‪ ،‬فهو جاره وليس بصاحبه‪ ،‬أي أّنه مفارقه لمحالة! ثم قال)عليه السلم(‪» :‬وقد أمر)‪(3‬‬
‫منها ما كان حلوا وكدر منها ما كان صفوا«‪ .‬فما أسرع نهاية مرحلة الطفولة والشباب الحلوة العذبة لتستبدل‬
‫بمرارة الشيخوخة والكهولة فيعد الستقرار إضطرابًا والحصة سقمًا والراحة تعبًا‪ ،‬وقيل في تفسير هذه العبارة‬
‫إّنها إشارة إلى اختلف ظاهر الدنيا وباطنها‪ ،‬فظاهرها حلو وباطنها مّر‪ ،‬ظاهرها عذب وباطنها علقم‪ ،‬غير أن‬
‫ن التفسير الول أنسب‪ .‬ثم يختتم)عليه السلم(حديثه عن الدنيا بالقول »فلم يبق‬ ‫التمعن في العبارات السابقة يفيد أ ّ‬
‫منها السملة كسملة)‪ (4‬الداوة)‪(5‬أو جرعة كجرعة المقلة لو تمززها)‪ (6‬الصديان لم ينقع« فالعبارة إشارة إلى‬
‫حياة كل فرد من‬

‫‪» .1‬حذاء« من مادة »حذ« على وزن حظ بمعنى السريعة الذهاب ‪،‬ومن هنا يطلق الحذاء على الدابة السريعة‪ ،‬والمراد هنا سرعة‬
‫أجل الدنيا‪.‬‬

‫‪» .2‬تحفز« من مادة »حفز« على وزن حبس بمعنى تعجلهم وتسوقهم‪ ،‬وقد ورد في الحديث الشريف أن حفز الموت من علمات‬
‫القيامة‪ .‬قيل وما حفز الموت‪ .‬قال)صلى ال عليه وآله(‪ :‬موت الفجأة )لسان العرب(‪.‬‬

‫‪» .3‬مر« على وزن »شر« بمعنى المضي والعبور ومر على وزن حر ضد الحلو‪ ،‬وأمر« من مادة »ُمر« بمعنى مضي الزمان يجعل‬
‫حلوة الدنيا مرارة‪.‬‬

‫‪» .4‬سملة« من مادة »سمل« على وزن حمل بمعنى البقية من الماء تبقى في الناء‪ ،‬ومن هنا كان السمال بمعنى الصلح لّنه يزيل‬
‫ما بقى من الحقاد والضغان‪.‬‬

‫‪» .5‬إدواة« على وزن إدارة القربة الصغيرة من الجلد‪.‬‬

‫‪» .6‬تمزز« من مادة »مز« على وزن حز بمعنى التذوق والمتصاص والكل وقال صاحب مقاييس اللغة امتصاص الماء تدريجيًا‬
‫وببطئ‪.‬‬
‫] ‪[ 375‬‬

‫الفراد وانها تقترب بمرور الزمان من نهايتها‪ ،‬وقد كان تعبيره بمنتهى الروعة لتصوير قصر عمر الدنيا وسرعة‬
‫زوالها‪ ،‬فالسملة تعنى الشي الزهيد الذي لقيمة له‪ ،‬وتطلق على ما يتبقى من الماء في الناء‪ ،‬و»جرعة المقلة«‬
‫تطلق على المسافر الذي يشكو من قّلة الماء فيسعى للحصول على الماء لدخاره‪ ،‬أجل فعمر الدنيا قصير إلى‬
‫درجة أّنه ل يروي ظمأ من تعلق به‪ ،‬فما أحرى العاقل أن يفيق إلى نفسه وينأى بها بعيدًا عن الغترار به‪،‬‬
‫فينهمك بالخرة ويسرع في السير إليها‪ .‬ثم يخلص المام)عليه السلم( إلى النتيجة الواضحة »فازمعوا)‪(1‬‬
‫ل الرحيل عن هذه لدار المقدور على أهلها الزوال ول يغلبنكم فيها المل ول يطولن عليكم فيها المد«)‪.(2‬‬ ‫عبادا ّ‬
‫ن النسان راحل عن هذه الدنيا شاء أم أبي‪ ،‬ومراد المام)عليه السلم(إرحلوا بعلم وعبرة واغتنموا الفرصة‬ ‫إّ‬
‫ل لتنالوا سعادة الخرة والخلود في نعيمها‪ .‬فقد‬ ‫وسيروا على النهج بالعمل الصالح والخلق الرفيع والمعرفة با ّ‬
‫نبه)عليه السلم( إلى الخطرين الكامنين في الطريق فقال‪» :‬ول يغلبنكم فيها المل ول يطولن عليكم فيها المد«;‬
‫ق َول‬‫حّ‬‫ن ال َ‬
‫ل ِم َ‬
‫ل َوما َنَز َ‬
‫شَع ُقُلوُبُهْم ِلِذْكِر ا ّ‬
‫ن َتخْ َ‬
‫ن آَمُنوا َأ ْ‬
‫ن ِلّلِذي َ‬‫المر الذي أرشد القرآن الكريم إليه بقوله‪َ) :‬أَلْم َيْأ ِ‬
‫ن()‪(3‬ونؤكد مرة ُاخرى أ ّ‬
‫ن‬ ‫سُقو َ‬
‫ت ُقُلوُبُهْم َوَكِثـيٌر ِمْنُهْم فا ِ‬
‫س ْ‬‫لَمُد َفَق َ‬‫عَلْيِهُم ا َ‬ ‫ل َ‬‫ل َفطا َ‬
‫ن َقْب ُ‬
‫ب ِم ْ‬
‫ن ُأوُتوا الِكتا َ‬
‫َيُكوُنوا َكاّلِذي َ‬
‫العبارات لتفيد ترك الدنيا والرهبانية فيها وعدم الكتراث إلى الحياة‪ ،‬بل تفيد عدم التعلق بزخا رف الدنيا‬
‫والغترار بها‪ ،‬وبعبارة ُاخرى فالمراد التعامل مع الدنيا كما هى‪ ،‬ل على أساس الوهم والخيال وما تمليه علينا‬
‫أهوائنا وشهواتنا‪.‬‬

‫الدنيا الغرور‬

‫ن النسان سيودعها يومًا ليودع خده التراب في‬


‫ل أحد يعتقد بالخلود في هذه الدنيا‪ ،‬فهى آيلة إلى الزوال والفناء وأ ّ‬
‫ن زينة الدنيا وزبرجها قد تلقى بحجابها على هذا الواقع بحيث قد ينسى النسان الموت بالمرة‪ ،‬أو‬ ‫لأّ‬‫تلك الحفرة‪ ،‬إ ّ‬
‫يتناسى تلك الحقيقة المرة‪ ،‬فينطلق في نشاطاته‬

‫‪» .1‬أزمعوا« من مادة »زمع« بمعنى العزم على الشيىء‪ ،‬ولذلك قيل ان هذه المفردة قلبت من عزم أي نقلت فيها حرفي الزاء والميم‬
‫من مكان إلى آخر‪ ،‬وقيل كانت في الصل جمع ثم بدلت إلى زاء‪ ،‬والمفردات الثلث )عزم وزمع وجمع( بمعنى واحد وهو التصميم‬
‫والعزم على الشي‪.‬‬

‫ن صبر النسان ينفد حين الغضب‪.‬‬


‫‪» .2‬أمد« على وزن صمد أجل الشيوتأتي بمعنى الغضب‪ ،‬ل ّ‬

‫‪ .3‬سورة الحديد ‪.16 /‬‬

‫] ‪[ 376‬‬

‫وفعالياته وكأّنه مخلد في الحياة الدنيا‪ .‬وقد يطرح هذا الحجاب مؤقتا إذا ما مات أحدهم واشتركنا في مراسم‬
‫تشييعه ودفنه لتتضح أمامنا الدنيا على حقيقتها‪ ،‬فاذا عدنا إلى حياتنا نسينا كل شي وعاد ذلك الحجاب‪ ،‬وكأنّ‬
‫ل‪ ،‬فهم أرفع من أن تبعدهم هذه الحجب عن‬ ‫ن هذا الكلم ل يصدق على أولياء ا ّ‬ ‫الموت لم يكتب علينا‪ ،‬وبالطبع فا ّ‬
‫ن تحذير المام)عليه السلم( في هذه‬
‫حقيقة الحياة والموت‪ ،‬فهم ل يرون الدنيا سوى قنطرة إلى الخرة‪ .‬والحق أ ّ‬
‫الخطبة من الدنيا ل يعني أبدًا أّنه يحث الناس على مقاطعة الدنيا وتركها‪ ،‬كيف وهو يراها مقدمة للخرة »الدنيا‬
‫ل قد صوروا هذه الحقيقة في أشعارهم‪ ،‬ول بأس هنا‬ ‫ن بعض الشعراء من أولياء ا ّ‬ ‫مزرعة الخرة«‪ .‬والطريف أ ّ‬
‫بالتعرض لهذه القضية‪.‬‬

‫باتوا على قلل الجبال تحرسهم *** غلب الرجال فلم تنفعهم القلل‬

‫واستنزلوا بعد عزمن معاقلهم *** واسكنوا حفرا يابئس ما نزلوا‬

‫ناداهم صارخ من بعد دفنهم *** أين الساور والتيجان والحلل‬


‫أين الوجوه التي كانت منعمة *** من دونها تضرب الستار والكلل‬

‫فافصح القبر عنهم حين ساءلهم *** تلك الوجوه عليها الدود يقتتل‬

‫قد طالما أكلوا دهرًا وقد شربوا *** وأصبحوا اليوم بعد الكل قد ُاكلوا)‪(1‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬بحارالنوار‪.211 / 50 ،‬‬

‫] ‪[ 377‬‬

‫القسم الثاني‬

‫ل ِم َ‬
‫ن‬ ‫جُتْم ِإَلى ا ّ‬
‫خَر ْ‬‫ن َو َ‬
‫جَؤاَر ُمَتَبّتِلي الّرْهَبا ِ‬
‫جَأْرُتْم ُ‬
‫حماِم َو َ‬ ‫عْوُتْم ِبَهِديِل اْل َ‬
‫ن اْلُوّلِه اْلِعجاِل َوَد َ‬‫حِني َ‬
‫حَنْنُتْم َ‬
‫ل َلْو َ‬
‫»َفوا ّ‬
‫سُلُه َلكانَ‬
‫ظْتها ُر ُ‬‫حِف َ‬
‫صْتها ُكُتُبُه َو َ‬
‫ح َ‬
‫سّيَئة َأ ْ‬‫ن َ‬ ‫غْفرا ِ‬‫عْنَدُه َأْو ُ‬
‫جة ِ‬ ‫ع َدَر َ‬‫س اْلُقْرَبِة ِإَلْيِه ِفي اْرِتفا ِ‬
‫اَْلْمَواِل َواَْلْولِد اْلِتما َ‬
‫عقاِبِه«‪.‬‬ ‫ن ِ‬‫عَلْيُكْم ِم ْ‬
‫ف َ‬ ‫ن َثواِبِه َوَأخا ُ‬ ‫جو َلُكْم ِم ْ‬‫ل ِفيما َأْر ُ‬
‫َقِلي ً‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫السعي القليل وإن كثر‬

‫ما أن فرغ المام)عليه السلم( من تصوير حقيقة الدنيا وسرعة زوالها حتى تطرق إلى الثواب والعقاب في‬
‫الخرة ومصير النسان هناك على أّنها تمثل الهدف لهذه الدنيا‪ .‬وبعبارة ُاخرى كان القسم الول من كلمه مقدمة‬
‫ل ونيل ثوابه واجتناب عقابه فقال)عليه السلم(‪» :‬فو‬
‫لهذا القسم الذي يشير فيه إلى الهدف الغائي وهو القرب من ا ّ‬
‫ل لو حننتم)‪ (1‬حنين الوله)‪ (2‬العجال)‪ (3‬ودعوتم‬ ‫ا ّ‬

‫‪» .1‬حنين« بمعنى الشفقة والرأفة والرحمة وتقال عادة مقترنة بالنين واللم‪ ،‬و »ُاستن حنانة« تطلق على العمود الخشبي الذي ورد‬
‫في الرواية أن رسول ال )صلى ال عليه وآله( كان يستند إليه ويخطب الناس‪ ،‬ثم استبدل بالمنبر فكان ذلك العمود يتأوه لفراق‬
‫النبي)صلى ال عليه وآله(‪.‬‬

‫‪» .2‬وله« جمع »واله« و»والهة« من مادة »وله« على وزن ولع بمعنى شدة الهم الذي يذهب بالعقل ويفقد التمييز‪.‬‬

‫‪» .3‬عجال« جمع »عجول« من مادة »عجلة« بمعنى السرعة في العمل ‪ ،‬كما تطلق على المرأة التي تثكل بولدها‪.‬‬

‫] ‪[ 378‬‬
‫ل من الموال والولد إلتماس القربة‬ ‫بهديل)‪ (1‬الحمام وجأرتم جؤار)‪ (2‬متبتلي)‪ (3‬الرهبان)‪ (4‬وخرجتم إلى ا ّ‬
‫إليه في إرتفاع درجة عنده أو غفران سيئة أحصتها كتبه وحفظتها رسله لكان قليل فيما أرجو لكم من ثوابه‬
‫ل واستفراغ الجهد في‬‫وأخاف عليكم من عقابه« فقد إستعار المام)عليه السلم( ثلثة تشبيهات للتضرع إلى ا ّ‬
‫النقطاع إليه‪ ،‬التشبيه الول‪ :‬الصوت الذي تخرجه النوق الوالهة الفاقدة لولدها‪ ،‬وهو الصوت الحزين الذي‬
‫يرق له القلب حين سماعه‪ ،‬التشبيه الثاني‪ :‬هديل الحمام حين إجتماعها‪ ،‬والهديل يطلق على فرخ الحمام كما يطلق‬
‫ن الهديل حمامة على عهد نوح)عليه السلم( بقيت وحدها وماتت عطشًا‪ ،‬ومنذ ذلك‬ ‫على صوتها‪ ،‬وتعتقد العرب أ ّ‬
‫اليوم والحمام ينوح عليها‪ ،‬التشبيه الثالث‪ :‬بكاء الرهبان المنقطعين عن الدينا القابعين في صومعاتهم‪ ،‬والذين‬
‫ينوحون عند الطقوس الدينية وقد إشتد نياحهم بفعل إنقطاعهم عن الدنيا‪ .‬ولم يكتف المام)عليه السلم( بهذا‬
‫ل من الموال والولد« أي ولو تركتم أموالكم وأولدكم من أجل‬ ‫التضرع والنوح والبكاء فقال‪» :‬وخرجتم إلى ا ّ‬
‫ل‪ .‬والدليل واضح على ذلك فالدنيا وما فيها لتعدل جناح بعوضة من الخرة‪ ،‬وهى ليست‬ ‫ل كان قلي ً‬
‫القرب إلى ا ّ‬
‫ن النسان ليخرج من ماله وولده ما لم يقف على هذا المعنى‪ .‬وقد وردت‬ ‫سوى قطرة إلى بحر‪ ،‬ومن الطبيعي أ ّ‬
‫هذه المقارنة بين الدنيا والخرة في خطبة المتقين بقوله)عليه السلم(‪»:‬صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة‬
‫طويلة«)‪.(5‬‬

‫—–‬

‫‪» .1‬هديل« يطلق على الحمام كما يطلق أحيانًا على نوحه وهو من الهدل على وزن العدل بمعنى الصوت العذب‪.‬‬

‫‪ .2‬جؤار له معنى مصدري وهو الصوت المرتفع المشوب بالتضرع والنجدة‪.‬‬

‫‪ .3‬متبتل من مادة تبتل بمعنى النفصال والعتزال وتطلق على الرهبان الذين يعتزلون المجتمع وينهمكون بالعبادة‪ .‬ومن ألقاب‬
‫الزهراء)عليها السلم( البتول لنقطاعها إلى ال وأفضليتها على سائر النساء في الفضل والعلم والمعرفة‪ .‬وورد في بعض الروايات‬
‫أن التبتل هو رفع اليد بالدعا‪.‬‬

‫‪» .4‬رهبان« جمع »راهب« من مادة »رهب« على وزن رحم بمعنى الخوف‪ ،‬الخوف مع ضبط النفس والرهبانية تعني شدة العبودية‬
‫وترك الدنيا‪ ،‬وهى بدعة ابتدعها طائفة من النصارى‪ ،‬حيث يقاطع الفتى َاوالفتاة الزواج ويقبع في زاوية من الدير وينهمك بالعبادة‪،‬‬
‫وقد ورد النهي عنها في السلم‪ ،‬فقد قال)صلى ال عليه وآله(‪» :‬ل رهبانية في السلم«‪.‬‬

‫‪ .5‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪.193‬‬

‫] ‪[ 379‬‬

‫القسم الثالث‬

‫عّمْرُتْم ِفي الّدْنيا ما الّدْنيا‬ ‫غَبة ِإَلْيِه َأْو َرْهَبة ِمْنُه َدمًا‪ُ ،‬ثّم ُ‬‫ن َر ْ‬
‫عُيوُنُكْم ِم ْ‬
‫ت ُ‬
‫ت ُقُلوُبُكُم اْنِمياثًا‪َ ،‬وساَل ْ‬ ‫ل َلِو اْنماَث ْ‬
‫»َوتا ّ‬
‫ن«‪.‬‬‫ليما ِ‬ ‫عَلْيُكُم اْلِعظاَم‪َ ،‬وُهداُه ِإّياكْم ِل ِْ‬
‫جْهِدُكْم ـ َأْنُعَمُه َ‬‫ن ُ‬‫شْيئًا ِم ْ‬
‫عْنُكْم ـ َوَلْو َلْم ُتْبُقوا َ‬
‫عماُلُكْم َ‬
‫ت َأ ْ‬
‫جَز ْ‬
‫باِقَيٌة‪ ،‬ما َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫عظمة وسعة النعم اللهية‬


‫ل على البشرية لثارة حس‬ ‫يختتم المام)عليه السلم( خطبته بالحديث عن عظمة النعم اللهية التي أفاضها ا ّ‬
‫ل لو‬
‫ل‪ .‬فقال)عليه السلم(‪ » :‬وتا ّ‬ ‫الشكر لديه والتوجه إلى رّبه بما يقوده إلى السمو والرفعة والكمال والقرب من ا ّ‬
‫إّنماثت قلوبكم انمياثًا)‪ ،(1‬وسالت عيونكم من رغبة إليه ورهبة منه دمًا‪ ،‬ثم عمرتم في الدنيا‪ ،‬ما الدنيا باقية‪ ،‬ما‬
‫جزت أعمالكم عنكم ـ ولو لم تبقوا شيئًا من جهدكم ـ أنعمه عليكم العظام‪ ،‬وهداه إياكم لليمان« فقد شرح‬
‫ل‪ ،‬فمن ناحية الكيفية أّنه لو‬ ‫المام)عليه السلم(بهذه العبارات البليغة أقصى جهود النسان كما وكيفا في طاعة ا ّ‬
‫ل واصطرخت كافة ذرات جسمه وحلقت روحه في سماء العبودية‪ ،‬ومن الناحية الكمية لو دام‬ ‫ذاب في طاعة ا ّ‬
‫هذا العمل طيلة حياة ابن آدم‪ ،‬فمع ذلك ليسعه أن يؤدي حق شكر النعم اللهية‪ ،‬بل شكر نعمة واحدة‪ ،‬حيث‬
‫صرحت بعض الروايات بان ذات الشكر نعمة ينبغي للنسان الشكر عليها‪ .‬وما أروع ما قال الشاعر‪:‬‬

‫‪» .1‬انمياث« من مادة »موث« على وزن موت بمعنى الذوبان‪ ،‬وانمياث من باب النفعال‪ ،‬ويعني في العبارة بذل قصارى الجهد في‬
‫ل‪.‬‬
‫سبيل ا ّ‬

‫] ‪[ 380‬‬

‫شكر الله نعمته موجبة لشكره *** وكيف شكري بره وشكره من بره)‪(1‬‬

‫ن المام)عليه السلم( أشار بتلك العبارة إلى عدم محدودية النعم اللهية‪ .‬وهو كالتعبير القرآني في الية‬ ‫فالواقع أ ّ‬
‫حر ما‬ ‫سْبَعُة َأْب ُ‬
‫ن َبْعِدِه َ‬
‫حُر َيُمـّدهُ ِم ْ‬
‫جَرة َأْقلٌم َوالَب ْ‬
‫شَ‬
‫ن َ‬
‫ض ِم ْ‬
‫لْر ِ‬‫ن ما ِفي ا َ‬
‫ل‪َ) :‬وَلْو َأ ّ‬
‫‪ 27‬من سورة لقمان بشأن علم ا ّ‬
‫ن‬
‫ل( ‪ .‬نعم ليس للعبد سوى العراب عن ضعفه وعجزه أمام النعم اللهية‪ .‬الجدير بالذكر أ ّ‬ ‫تا ّ‬ ‫ت َكِلما ُ‬‫َنِفَد ْ‬
‫المام)عليه السلم(يؤكد على نعمة اليمان »وهداه إّياكم لليمان« من قبيل ذكر الخاص بعد العام‪ .‬فقد أشار في‬
‫ل َيُم ّ‬
‫ن‬ ‫لا ّ‬‫العبارة السابقة إلى النعم اللهية ثم خص هنا منها نعمة اليمان على غرار ما جاء في القرآن الكريم‪َ) :‬ب ِ‬
‫ن()‪ .(2‬ول تتأتى أهمية اليمان من كونها مفتاح سعادة البشر وجواز سفره إلى الجّنة‬ ‫ليما ِ‬
‫ن َهداُكْم ِل ِْ‬
‫عَلْيُكْم َأ ْ‬
‫َ‬
‫فحسب‪ ،‬بل لّنها الدافع لكافة الفضائل والعمال الصحالة والرادع من الرذائل والعمال السيئة‪ ،‬فالواقع هى‬
‫ل‪ ،‬وان حصل عليها النسان باختياره‬ ‫أساس الدين والملفت للنظر في العبارة أّنه)عليه السلم(نسب الهداية ّ‬
‫وإرادته; وذلك لتعذرها على النسان بمفرده ما لم تشمله العناية اللهية ويرشده النبياء والولياء والكتب اللهية‬
‫ل في صلواتنا اليومية ليل نهار الهداية‪.‬‬ ‫إليها‪ ،‬ومن هنا نسأل ا ّ‬

‫ويبدو من الهمية في نهاية الخطبة اللتفات إلى هذه النقطة وهى أن القسم الول لها بعد المقدمة حيث يعد القلوب‬
‫من خلل تنبيهها إلى تقلب أحوال الدنيا وزوالها‪ ،‬بينما يوجهها في القسم الثاني والثالث إلى طاعة ال وكسب‬
‫الفضائل ودفع الرذائل‪ .‬مع هذا الفارق في تأكيد القسم الثاني على أهمية القرب من ال ومطلوبية كل سعي وجهد‬
‫للوصول إلى هذا الهدف‪ ،‬أما القسم الثالث فيرد ساحة القدس الربوبي صاحب الفضل عن طريق مسألة شكر‬
‫المنعم‪ ،‬فالوجدان هو الذي يشهد بضرورة هذا الشكر‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬بيت الشعر إقتباس من حديث عن المام السجاد والصادق)عليهما السلم(‪ ،‬بحارالنوار‪ 351 / 13 ،‬المناجاة الخمسة عشر مناجاة‬
‫الشاكرين‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة الحجرات ‪.17 /‬‬

‫] ‪[ 381‬‬

‫الخطبة)‪53 (1‬‬
‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫لضحية«‬
‫»فى ذكرى يوم النحر وصفة ا ُ‬

‫ت‪َ ،‬وَلْو‬
‫حّيُة َوَتّم ْ‬
‫ضِ‬
‫ت اُْل ْ‬
‫سِلَم ِ‬
‫ن َ‬
‫ن َواْلَعْي ُ‬
‫ت اُْلُذ ُ‬
‫سِلَم ِ‬
‫عْيِنها‪َ ،‬فِإَذا َ‬
‫سلَمُة َ‬
‫ف ُأُذِنها‪َ ،‬و َ‬ ‫شرا ُ‬ ‫سِت ْ‬
‫حّيِة ا ْ‬
‫ضِ‬‫ن َتماِم اُْل ْ‬
‫»َوِم ْ‬
‫ك«‪.‬‬
‫سِ‬‫جَلها ِإَلى اْلَمْن َ‬
‫جّر ِر ْ‬
‫ن َت ُ‬
‫ضباَء اْلَقْر ِ‬
‫ع ْ‬‫ت َ‬‫كاَن ْ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫تمام اُلضحية‬

‫لضحية‪ ،‬وقال‪» :‬ومن تمام‬


‫أشار المام)عليه السلم( في هذا الفصل من الخطبة إلى تفاصيل وجزئيات ا ُ‬
‫لضحية)‪ (2‬استشراف)‪ (3‬أذنها وسلمة عينها‪ ،‬فاذا سلمت الذان والعين سلمت‬ ‫اُ‬

‫ن هذه ليست خطبة مستقلة )بل هى جزء من الخطبة السابقة التي خطبها في‬ ‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬ورد في كتاب مصادر نهج البلغة أ ّ‬
‫الضحى( ومن هنا عدتها نسخة إبن أبي الحديد التي تعتبر أصح النسخ جزءًا من الخطبة السابقة‪ ،‬اما أّنها وردت مستقلة في سائر‬
‫النسخ فهذا من خطأ الرواة‪ ،‬والشاهد على ذلك أّنها وردت جزءا من الخطبة في كتاب من ل يحضره الفقيه )‪ (461 / 1‬ومصباح‬
‫المتهجد ‪ .429 /‬جدير ذكره أن العبارة التي وردت في كتاب من ليحضره الفقيه بعد »تجر رجلها إلى المنسك« »فل تجزي« الذي‬
‫يغير العبارة تمامًا‪ .‬وليبدو ذلك مستبعدًا‪ ،‬وان درجنا على السير في نهج البلغة حسب تصنيف صبحي الصالح‪ .‬مصادر نهج البلغة‪،‬‬
‫‪.23 / 2‬‬

‫‪» .2‬اُلضحية«‪ :‬الشاة التي طلب الشارع ذبحها بعد شروق الشمس من عيد الضحى‪.‬‬

‫‪» .3‬إستشراف« من مادة »شرف« بمعنى علو المقام‪ ،‬والمراد باستشراف الذان تفقدها حتى لتكون مجدوعة أو مشقوقة غير‬
‫سالمة‪.‬‬

‫] ‪[ 382‬‬

‫لضحية وتمت« ثم أضاف)عليه السلم(‪» :‬ولو كانت عضباء)‪ (1‬القرن تجر رجلها إلى المنسك« ول يتتافى هذا‬ ‫اُ‬
‫لضحية يجب أن‬ ‫نا ُ‬
‫الكلم مع ما تعارف بين الفقهاء وما ورد في سائر روايات المعصومين)عليهم السلم(من أ ّ‬
‫ن عضب قرنها الداخلي يضر بسلمتها ل قرنها الخارجي‪ ،‬كما ل يضر العرج البسيط‬ ‫تكون سالمة الرأس‪ ،‬ل ّ‬
‫الذي ل يعيقها عن الحركة‪ .‬وجاء في بعض النسخ قوله‪» :‬فل تجزي« بعد العبارة »تجر رجلها إلى المنسك«‬
‫لضحية إن كسر قرنها وكانت تجر رجلها على الرض)‪ .(2‬قال السيد‬ ‫وعليه يصبح مفهوم العبارة عدم إجزاء ا ُ‬
‫الرضي )ره( في ذيل الخطبة‪» :‬والمنسك هاهنا المذبح«‪.‬‬
‫علّية سلمة اُلضحية من النقص والعيب‬
‫ِ‬

‫جَب ْ‬
‫ت‬ ‫ن الهدف من الضحبية هو إستفادة بعض المحتاجين منها كما صرح بذلك القرآن الكريم‪َ) :‬فِإذا َو َ‬ ‫رغم أ ّ‬
‫ن()‪ (3‬ومن المسلم به عدم وجود‬ ‫شُكُرو َ‬
‫خْرناها َلُكْم َلَعـّلُكْم َت ْ‬
‫سـ ّ‬
‫ك َ‬
‫طِعُموا القاِنـَع َواْلـُمْعَتّر َكذ ِلـ َ‬
‫جـُنوُبها َفُكُلوا ِمْنها َوَأ ْ‬
‫ُ‬
‫لضحية شعيرة إسلمية وعبادة‪ ،‬ول يليق بالساحة‬ ‫أي تأثير على هذا المعنى سواء كان قرنها سالمًا أم ل‪ ،‬ولكن ا ُ‬
‫ن ذلك نوع من الدب‬ ‫ب سبحانه إختيار الشاة المعيبة والمريضة‪ ،‬ولبّد من تقديم الخالصة فا ّ‬ ‫القدسية للر ّ‬
‫والحترام; المر الذي نلمسه بوضوح في صلة المرأة بكامل الحجاب‪ ،‬وارتداء الثياب النظيفة حين الصلة‪،‬‬
‫لمور‪.‬‬ ‫والتعطر عند العبادة وغسل الميت وتكفينه وتحنيطه وما إلى ذلك من ا ُ‬

‫—–‬

‫‪» .1‬عضباء« من مادة »عضب« على وزن عزم بمعنى القطع أو الكسر‪ ،‬وعضباء القرن بمعنى مكسورة القرن‪ ،‬كما يطلق على‬
‫الناقة إذا شقوا اذنها ناقة عضباء‪.‬‬

‫‪ .2‬وردت العبارة »فل تجزي« في كتاب من ل يحضره الفقيه ‪ 168 / 1‬باب صلة العيدين‪ ،‬ح ‪.1487‬‬

‫‪ .3‬سورة الحج ‪.36 /‬‬

‫] ‪[ 383‬‬

‫الخطبة)‪54 (1‬‬

‫ومن خطبة له)عليه السلم(‬

‫وفيها يصف أصحابه بصفين حين طال منعهم له من قتال أهل الشام‪.‬‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ن جماعة سألوا المام)عليه‬


‫هناك خلف بين الشّراح بشأن زمان الخطبة‪ ،‬فقد ذكر صاحب مصارد نهج البلغة أ ّ‬
‫السلم(عن رأيه بمن سبقوه بالخلفة لما غلب عمرو بن العاص على مصر وقتل عامل المام)عليه السلم(عليها‬
‫محمد بن أبي بكر‪ .‬فأجابهم)عليه السلم( وهل خمدت فتنة ابن العاص لتسألوا هذا السؤال وقد غلبكم على مصر‬
‫وقتلوا صحبي‪ ،‬ثم قال‪ :‬سأكتب كتابًا وُاجيب على أسئلتكم‪ .‬بينما ذهب البعض إلى أن بداية الخطبة مرتبط بزمان‬
‫ن كل هذه الحتمالت بعيدة‪،‬‬ ‫لأّ‬‫البيعة وذيلها بواقعة صفين‪ .‬كما احتمل أن تكون في البيعة وموقعة الجمل إ ّ‬
‫ن الخطبة واردة بشأن صفين حين هم صحبه بالقتال‪ ،‬ويؤيد ذلك ما أورده المرحوم البحراني والشارح‬ ‫والظاهر أ ّ‬
‫الخوئي من أّنها ناظرة إلى حال أصحاب المام)عليه السلم( في صفين حين منعهم من قتال أهل الشام‪ (2).‬وزبدة‬
‫ن المام)عليه السلم(قال لما استبطأ اصحابه القتال‪» :‬وقد قلبت هذا المر بطنه وظهره حتى‬
‫الكلم فا ّ‬

‫ن هذا الكلم جزء من الخطبة ‪ 26‬و ‪ 30‬و ‪ 54‬و ‪ ،78‬خطبها)عليه السلم(في بيته‬ ‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬يرى صاحب مصادر نهج البلغة أ ّ‬
‫بحضور الناس ليدونوها وينقلوها إلى الخرين‪ .‬وقال في ذيل الخطبة ‪ 26‬رواها قبل السيد الرضي )ره( الثقفي في الغارات والطبري‬
‫ل عن كشف المحجة للسيد ابن طاووس وابن قتيبة في المامة والسياسة )مصادر‬ ‫في المسترشد والمرحوم الكليني في الرسائل نق ً‬
‫نهج البلغة ‪.(390 / 1‬‬

‫‪ .2‬منهاج البراعة ‪ ;326 / 4‬شرح نهج البلغة لبن ميثم البحراني ‪.144 / 2‬‬

‫] ‪[ 384‬‬

‫ل قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬فكانت معالجة‬


‫منعني النوم‪ ،‬فما وجدتني يسعني إ ّ‬
‫ي من معالجة العقاب‪ ،‬وموتات الدنيا أهون علي من موتات الخرة«‪.‬‬ ‫القتال أهون عل ّ‬

‫] ‪[ 385‬‬

‫ي َأوْ‬
‫ت َأّنُهْم قاِتِل ّ‬
‫ظَنْن ُ‬
‫حّتى َ‬ ‫ت َمثاِنيها; َ‬ ‫خِلَع ْ‬
‫عيها‪َ ،‬و ُ‬ ‫سَلها را ِ‬ ‫ك اِْلِبِل اْلِهيِم َيْوَم ِوْرِدها َوَقْد َأْر َ‬
‫ي َتدا ّ‬‫عَل ّ‬
‫»َفَتداّكوا َ‬
‫سُعِني ِإّل ِقتاُلُهْم َأِو‬ ‫جْدُتِني َي َ‬
‫حّتى َمَنَعِني الّنْوَم‪َ ،‬فما َو َ‬ ‫ظْهَرُه َ‬ ‫طَنُه َو َ‬
‫ت َهذا اَْلْمَر َب ْ‬
‫ي‪َ ،‬وَقْد َقّلْب ُ‬
‫ضُهْم قاِتُل َبْعض َلَد ّ‬ ‫َبْع ُ‬
‫ب َوَمْوتا ُ‬
‫ت‬ ‫جِة اْلِعقا ِ‬‫ن ُمعاَل َ‬‫ي ِم ْ‬
‫عَل ّ‬
‫ن َ‬‫جُة اْلِقتاِل َأْهَو َ‬‫ت ُمعاَل َ‬‫حّمٌد)صلى ال عليه وآله(َفكاَن ْ‬ ‫حوُد ِبما جاَء ِبِه ُم َ‬ ‫جُ‬ ‫اْل ُ‬
‫خَرِة«‪.‬‬‫ت اْل ِ‬ ‫ن َمْوتا ِ‬ ‫ي ِم ْ‬‫عَل ّ‬
‫ن َ‬ ‫الّدْنيا َأْهَو َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫ليس هنالك سوى القتال‬

‫بغض النظر عن كون الخطبة بشأن بيعة الناس للمام)عليه السلم( أو المسائل المرتبطة بصفين‪ ،‬فاّنه‬
‫ي تداك البل إلهيم)‬‫ى‪» :‬فتداكوا)‪ (1‬عل ّ‬
‫استهلها)عليه السلم(بعدم انطلقه نحو الناس بل الناس هم الذين إندفعوا إل ّ‬
‫‪ (2‬يوم وردها)‪ (3‬وقد أرسلها راعيها‪ ،‬وخلعت مثانيها«)‪.(4‬‬

‫ي أو بعضهم قاتل بعض لدي« تتضمن هذه العبارة عّدة ُامور‪:‬‬


‫ثم أضاف)عليه السلم(‪» :‬حتى ظننت أنهم قاتل ّ‬

‫‪» .1‬تداكوا« من مادة »دك« على وزن فك‪ ،‬قال الراغب في المفردات أّنها تعني الرض المستوية الرخوة‪ ،‬بينما صرحت سائر كتب‬
‫اللغة بعكس ذلك وان الدك يعني الضرب‪ .‬ومعنى العبارة في الخطبة أّنهم تزاحموا عليه ليبايعوه رغبة فيه‪.‬‬

‫‪» .2‬هيم« جمع »أهيم« و»هيماء« صفة مشبهة بمعنى شدة العطش التي تجعل الحيوان أو النسان يروح ويجيئ‪ ،‬ويقال الهيمان‬
‫للعاشق‪ .‬والهيم العطاش من البل‪.‬‬

‫‪» .3‬ورد« اسم مصدر بمعنى الورود‪ ،‬وقيل مصد كتأكيد لمعنى الفاعلية‪ ،‬وتعني الجمع أيضًا‪ .‬يوم وردها يوم سشربها للماء‪.‬‬
‫‪» .4‬مثاني« جمع مثناة بالفتح ومثناة بالكسر وهو حبل من صوف أو شعر يعقل به البعير‪ .‬وهى في الصل من مادة ثنى بمعنى‬
‫التكرار واعادة جزء من الشي إلى الخر‪.‬‬

‫] ‪[ 386‬‬

‫‪ 1‬ـ كيفية هجوم الناس عليه من أجل البيعة أو حين الصرار على شروع موقعة صفين إّنما تفيد تغير الناس‬
‫آنذاك‪ ،‬وهنا لبّد من اللتفات إلى أن معنى المفردة تداكوا هو الضرب وقد أشارت في العبارة إلى شدة عطش‬
‫البل التي تضرب بعضها بعضا لتبلغ أسرع من غيرها الماء‪ ،‬والهيم شدة العطش التي تجعل النسان أو الحيوان‬
‫مضطربًا‪ .‬فلو تركت هذه البل العطاش لحالها دون الراعي فما عساها تفعل‪ .‬أجل هكذا كانت حال الناس في تلك‬
‫اللحظات الحساسة حتى كان يخشى عليهم أن يقتل بعضهم بعضًا‪ .‬نعم هذا هو حال الناس حين يعشقون شيئًا‬
‫ن هؤلء الناس سرعان ما يتخلون عن موقفهم إذا واجهتهم بعض‬ ‫ل أّنه من المؤسف أ ّ‬
‫ويعبرون عنه بعواطقهم‪ ،‬إ ّ‬
‫المصاعب‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ يمكن أن تكون حالة إندفاعهم نابعة من عدم عمق مشاعرهم وقّلة علمهم ومعرفتهم‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ تشتمل هذه العبارات على بعض الكنايات التي تفيد صعوبة السيطرة عليهم حين تأخذهم الحرارة والحماس‪،‬‬
‫كما يصعب إثارتهم حين تلفهم البرودة والنتكاس‪.‬‬

‫ل قتالهم أو‬
‫ثم قال)عليه السلم(‪» :‬وقد قلبت هذا المر بطنه وظهره حتى منعني النوم فما وجدتني يسعني إ ّ‬
‫الجحود بما جاء به محّمد)صلى ال عليه وآله( فكانت معالجة القتال أهون علي من معالجة العقاب وموتات الدنيا‬
‫أهون علي من موتات الخرة«‪.‬‬

‫فتفيد هذه العبارات‪:‬‬

‫ن المام)عليه السلم( ل يرضخ لضغوط الناس‪ ،‬فل يتحذ القرار حتى يدرس جميع جوانب الموضوع‪،‬‬ ‫ل‪ :‬أ ّ‬
‫أو ً‬
‫لّمة‬
‫وهذا ما ينبغي أن تكون عليه سياسة الزعماء الربانيين بعيدة عن العواطف والحاسيس مستندة إلى مصالح ُ‬
‫الواقعية‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬عادة ما يصل النسان في حياته الفردية أو القادة في حياتهم الجتماعية إلى مفترق طرق‪ ،‬فلبّد هنا من‬
‫الشجاعة والقدام على إنتخاب الصلح‪ ،‬فان كان القتال هو الصلح ل ينبغي للدعة والراحة أن تحول دون‬
‫خوضه بحجة حفظ دماء المسلمين دون الكتراث إلى المصالح العليا‪.‬‬

‫ل سواءًا تضمن رضى‬


‫ل وإداء التكليف ومن هنا آثر رضى ا ّ‬
‫ثالثًا‪ :‬المهم بالنسبة للمام)عليه السلم( رضى ا ّ‬
‫الناس أم ل‪.‬‬

‫] ‪[ 387‬‬

‫ن قتال المام)عليه السلم( كان قتال اليمان للكفر والسلم للجاهلية‪ .‬بناءًا على ما تقدم فقد‬
‫رابعًا‪ :‬واضح أ ّ‬
‫ل قبل الستجابة لرغبات الناس‪ ،‬وبالطبع قد يمكن الجمع بين الثنين إذا كانت‬ ‫كان)عليه السلم(يرى رضى ا ّ‬
‫لّمة وتطلعاتها مشروعة تهدف نشر القيم والمبادئ السماوية‪.‬‬
‫رغبات ا ُ‬

‫تأّملن‬

‫‪ 1‬ـ البيعة الفريدة للمام)عليه السلم(‬

‫ن البيعة كانت من الحواداث العجيبة التي شهدتها خلفة المام)عليه‬


‫تفيد خطب نهج البلغة الواردة بهذا الشأن‪ ،‬أ ّ‬
‫السلم( بحيث خرجت عن المتعارف في البيعات العادية‪ ،‬وقد بلغ الزحام درجة كان يخشى معها وقوع البعض‬
‫وانحساره بين تلك الجماعات العظيمة‪ .‬وهنا يطرح هذا السؤال‪ :‬ما سبب ذلك الهجوم العظيم على المام)عليه‬
‫ن غضب الناس بلغ ذروته إبان من سبق المام)عليه السلم(من الخلفاء ول سيما‬ ‫السلم( من أجل البيعة؟ يبدو أ ّ‬
‫على عهد الخليفة الثالث الذي شهد غياب العدل وضياع القيم والمثل والتطاول على بيت المال والساءة إلى‬
‫الشخصيات السلمية وتسليط عصابة من البطانة على رقاب الناس‪ ،‬بحيث لم يكن أمام الناس سوى اللجوء إلى‬
‫ذلك الفرد العادل الذي من شأنه اعادة السلم إلى مسيرته الصلية‪ .‬نعم كانوا متعطشين للعدالة‪ ،‬للسلم الصيل‬
‫لمور التي جمعت في أميَرالمؤمنين علي)عليه‬ ‫والمعارف القرآنية الحقة الخالية من الخرافات والساطير; ا ُ‬
‫السلم(‪ ،‬فما حيلة العطشان إذا رأى الماء الزلل سوى الهجوم عليه والتزود منه‪ ،‬فالهجوم المذكور يفيد عظمة‬
‫مقام المام)عليه السلم( من جانب ومدى إستياء الناس من الوضاع السابقة من جانب آخر‪ ،‬والمران يحتاجان‬
‫إلى ابحاث تأريخية مسهبة‪(1).‬‬

‫‪ 2‬ـ الحرب والسلم‪ ،‬والكفر واليمان‬

‫ن المام)عليه السلم( وقف أمام سبيلين ل ثالث لهما; إما الحرب أو الكفر بما جاء به النبي‬ ‫رأينا في آخر الخطبة أ ّ‬
‫ن الحرب ورغم ما يكتنفها من خراب ودمار وويلت‪،‬‬ ‫لأّ‬‫الكرم)صلى ال عليه وآله(‪ .‬وما ذاك إ ّ‬

‫‪ .1‬من أراد المزيد يمكنه مراجعة الخطبة الشقشقية‪.‬‬

‫] ‪[ 388‬‬

‫غير أّنها قد تكون السبيل الوحيد لمجابهة الظلم والضطهاد وعدم العدل كما تشكل الوسيلة الناجعة لستئصال‬
‫جذور الفساد والنحراف ومن هنا كانت إحدى غايات القتال‪ ،‬كما صرح بذلك القرآن القضاء على الفتنة واخماد‬
‫حّتى َتِفيَء‬
‫حّتى ل َتُكونَ ِفْتَنٌة()‪ (1‬وقال )َفقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي َ‬
‫لمور إلى مجاريها الطبيعية )َوقاِتُلوُهْم َ‬ ‫نيرانها واعادة ا ُ‬
‫ل أبواب الراحة والدعة ويهبوا لخوض القتال وتحمل عنائه وشدائده‪ ،‬ول‬ ‫ل()‪ (2‬وهنا يغلق أولياء ا ّ‬ ‫ِإلى َأْمِر ا ّ‬
‫عجب فالتضحية بحطام الدنيا ل يؤثر على سعادة الخرى‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سورة النفال ‪.39 /‬‬

‫‪ .2‬سورة الحجرات ‪.9 /‬‬

‫] ‪[ 389‬‬

‫الخطبة)‪55 (1‬‬

‫ومن كلم له)عليه السلم(‬


‫وقد استبطأ اصحابه إذنه لهم في القتال بصفين‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫يبدو من تناسب مضمون هذه الخطبة مع الخطبة السابقة أّنها خطبة واحدة‪ ،‬أو خطبتان وردتا في زمان متقارب‬
‫ل الشام‬ ‫سَمح له ِ‬ ‫ي عليه السلم الماء بصفين ثم َ‬ ‫قال ابن أبي الحديد في ذيل هذه الخطبة‪ :‬لما ملك أميرالمؤمنين عل ّ‬
‫بالمشاركة فيه والمساهمة‪ ،‬رجاء أن يطفوا إليه‪ ،‬واستمالًة لقلوبهم وإظهارا للعدالة وحسن السيرة فيهم‪ ،‬مكث أيامًا‬
‫ن عند معاويَة أحٌد‪ ،‬واستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال‪ ،‬وقالوا‪ :‬يا‬ ‫سل إلى معاوية‪ ،‬ول يأتيه ِم ْ‬
‫ل ُير ِ‬
‫خّلْفنا ذرارّينا ونساءنا بالكوفة‪ ،‬وجئنا إلى أطراف الشام لنّتخذها وطنًا‪ ،‬ائذن لنا في القتال‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن‬ ‫أميَرالمؤمنين‪َ ،‬‬
‫ن الناس يظنون أّنك تكرهُ الحرب كراهيًة للموت‪،‬‬ ‫الناس قد قالوا‪ .‬قال لهم عليه السلم‪ :‬ما قالوا؟ فقال منهم قائل‪ :‬إ ّ‬
‫ن من‬ ‫ط! إ ّ‬
‫ت كارها للحرب ق ّ‬ ‫ل الشام‪ .‬فقال عليه السلم‪ :‬وَمَتى كن ُ‬‫ن قتال أه ِ‬
‫ك ِم ْ‬
‫ن من الناس من يظن أّنك في ش ّ‬ ‫وإ ّ‬
‫حّبى لها غلمًا وَيَفعًا‪ ،‬وكراهيتي لها شيخًا بعد نفاِد العمر وقرب الوقت! وأّما شّكي في القوم فلو شككت‬ ‫العجب ُ‬
‫ت في أهل‬
‫فيهم لشكك ُ‬

‫ن لبن أبي الحديد فصل ذيل هذه الخطبة تحت‬‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬لم يشر صاحب مصادر نهج البلغة إلى سند خاص لهذه الخطبة‪ ،‬إلّ أ ّ‬
‫ن ما أورده هنا السيد الرضي )ره( بمعنى آخر ينسجم وما جاء في التواريخ‪.‬‬
‫عنوان من أخبار يوم صفين يفيد أ ّ‬

‫شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.13 / 4‬‬

‫] ‪[ 390‬‬

‫ل ورسوله‪ ،‬ولكني‬
‫ىا ّ‬
‫ل القتال أو أن أعص َ‬‫ت هذا المر ظهرًا وبطنًا‪ ،‬فما وجدت يسُعني إ ّ‬‫ل لقد ضرب ُ‬
‫البصرة‪ ،‬وا ّ‬
‫ل عليه وآله قال لي يوم خيبر‪» :‬لنّ‬
‫ل صلى ا ّ‬ ‫ن رسول ا ّ‬
‫أستأني بالقوم‪ ،‬عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة‪ ،‬فإ ّ‬
‫ل واحدًا خير لك ِمّما طلعت عليه الشمس«‪.‬‬‫ل بك رج ً‬‫ىا ّ‬
‫يهد َ‬

‫—–‬

‫] ‪[ 391‬‬

‫شّكا ِفي‬ ‫ي‪َ .‬وَأّما َقْوُلُكْم َ‬


‫ت ِإَل ّ‬
‫ج اْلَمْو ُ‬
‫خَر َ‬‫ت َأْو َ‬ ‫ت ِإَلى اْلَموْ ِ‬
‫خْل ُ‬ ‫ل ما ُأباِلي‪َ ،‬د َ‬ ‫ت؟ َفوا ّ‬ ‫ك َكراِهَيَة اْلَمْو ِ‬ ‫»َأّما َقْوُلُكْم‪َ :‬أُكّل َذِل َ‬
‫ضْوِئي‪َ ،‬وَذِل َ‬
‫ك‬ ‫شَو ِإَلى َ‬ ‫ي ِبي‪َ ،‬وَتْع ُ‬ ‫ق ِبي طاِئَفٌة َفَتْهَتِد َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن َتْل َ‬
‫طَمُع َأ ْ‬
‫ب َيْومًا ِإّل َوَأنا َأ ْ‬
‫حْر َ‬‫ت اْل َ‬‫ل ما َدَفْع ُ‬ ‫شام! َفوا ّ‬ ‫َأْهِل ال ّ‬
‫ت َتُبوُء ِبآثاِمها«‪.‬‬ ‫ن كاَن ْ‬ ‫ضلِلها َوِإ ْ‬‫عَلى َ‬ ‫ن َأْقُتَلها َ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫ي ِم ْ‬‫ب ِإَل ّ‬
‫ح ّ‬‫َأ َ‬

‫—–‬
‫الشرح والتفسير‬

‫تماسك المام)عليه السلم( حيال القتال‬

‫ن الخطبة جوابًا لصحابه)عليه السلم( الذين استبطأوا إذنه لهم بالقتال في صفين‪ ،‬فقد قال)عليه‬ ‫كما ذكرنا فا ّ‬
‫ى«‪ .‬نعم إذا‬
‫ل ما أبالي‪ ،‬دخلت إلى الموت أو خرج الموت إل ّ‬ ‫السلم( »أّما قولكم‪ :‬أكل)‪ (1‬ذلك كراهية الموت؟ فو ا ّ‬
‫ن الفرد المؤمن لبّد أن يسارع إلى الشهادة ول ينتظرها‪ ،‬فما أسمى أن يهب‬ ‫ل فا ّ‬
‫كان هنالك هدفا مقدسًا كرضى ا ّ‬
‫النسان نفسه ويضحى بها من أجل معشوقه ومعبوده‪ .‬أضف إلى ذلك فسابقة المام)عليه السلم( في الغزوات‬
‫السلمية لشهر من نار على علم وليست بخافية على أحد ول سيما صولته في بدر وأحد والحزاب وخيبر‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(واستماتته من أجل نيل الشهادة‪ ،‬فكيف وهذا الحال يمكن توجيه‬ ‫وحنين وذوده عن رسول ا ّ‬
‫هذه التهمة الباطلة لهذا النسان بتأخير القتال خوف الشهادة‪ .‬وقد تحدث المام)عليه السلم(عن مثل هذا المعنى‬
‫ل لبن أبي طالب آنس‬ ‫في الخطبة الخامسة والخطبة مئة وثلث وعشرين حيث قال‪» :‬وا ّ‬

‫‪ .1‬هنالك احتمال بشأن إعراب هذه الجملة‪ :‬أحدهما أن كل منصوبه على أّنها مفعول لفعل تقديره »أتفعل كل ذلك«‪ ،‬والخر انها‬
‫ن الجملة »كراهية المت« مفعول لجله‪.‬‬‫مرفوعة كمبتدأ وتقدير الجملة »أكل ذلك ناشئ من كراهية الموت«‪ .‬على كل حال فا ّ‬

‫] ‪[ 392‬‬

‫بالموت من الطفل بثدي أمه« وقال‪» :‬والذي نفس ابن أبي طالب بيده للف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة‬
‫ل«‪.‬‬
‫على الفراش في غير طاعة ا ّ‬

‫وتشهد سيرة المام)عليه السلم( أّنه مارس هذا المعنى عمليًا في حياته وما أجهل تلك الجماعة من جيش أهل‬
‫ن ُاولئك لم‬
‫ل‪ .‬قد يقال أ ّ‬
‫العراق التي وجهت مثل تلك التهمة للمام)عليه السلم( وخشيته من الشهادة في سبيل ا ّ‬
‫يكونوا أدركوا اولى الغزوات السلمية‪ .‬فنقول فهل يسعهم نسيان موقعة الجمل؟ الموقعة التي كان ينقض فيها‬
‫المام)عليه السلم(كالليث الضاري على جنود العداء فيمزق جموعهم وينزل حمم غضبه على رؤوسهم‪ .‬بل‬
‫كيف يمكن إتهامه وهو الذي يمثل اليمان كله في مقابل الشرك كله‪ ،‬أوليس هو القائل‪» :‬لقد كنت وما اهدد‬
‫ل ما‬‫بالحرب ول أرهب بالضرب وإني لعلى يقين من رّبي وغير شبهة من ديني«‪ .‬وقوله)عليه السلم(‪» :‬فو ا ّ‬
‫ن الفراد العاديين ممن ل هدف لهم‪ ،‬هم الذين يخشون التجاه نحو الموت‪،‬‬ ‫ُابالي« إشارة إلى هذه الحقيقة وهى أ ّ‬
‫بل ينتظرون قدوم الموت إليهم آخر عمرهم; بينما ليس هنالك من فارق بين الخروج إلى الموت أو قدوم الموت‬
‫حسب الجل المقدر بالنسبة لهل اليمان والورع والتقوى ولعل الموت يمكن تشبيهه هنا بالسد المفترس‪ ،‬فالفرد‬
‫العادي ل يتجه إليه أبدًا‪ ،‬أما الشجاع فيقدم على مواجتهه دون أن يشعر بخوف أو هلع‪ ،‬فالمؤمن الشجاع حين يرى‬
‫ل ونيل رضوانه يستقبله بكل رحابة صدر‪ ،‬فلو قدر لهذا الموت أن يسلبهم ما تبقى‬ ‫في الموت الشهادة في سبيل ا ّ‬
‫من عمرهم‪ ،‬فاّنهم سيستبدلون بذلك الخلود والبقاء‪ .‬ثم تناول المام)عليه السلم( الحتمال الثاني الذي أوردته تلك‬
‫ل وأنا أطمع أن‬ ‫ل ما دفعت الحرب يوما إ ّ‬ ‫الجماعة بشأن تأخير القتال فقال‪» :‬وأّما قولكم شكًا في أهل الشام فو ا ّ‬
‫تلحق بي طائفة فتهتدي بي‪ ،‬وتعشوا)‪ (1‬إلى ضوئي« ثم برر ذلك بقوله)عليه السلم( »وذلك أحب إلي من أن‬
‫أقتلها على ضللها وإن كانت تبوءء)‪ (2‬بآثامها«‪ .‬فالمام)عليه السلم(يؤكد هنا على أن القتال ل يمثل هدفًا ول‬
‫ل‪ ،‬بل هو العلج الخير إذا ما عجزت كل السبل‬ ‫السبيل الول لحل الخصومات من وجهة نظر أولياء ا ّ‬
‫والساليب‪ ،‬فهم يسعون جاهدين للتريث‬

‫‪» .1‬تعشو« في الصل من مادة »عشو« على وزن ضرب بمعنى الظلمة وعدم وضوح الشيء ومنه صلة العشاء لنها أول الظلمة‬
‫وعشى بمعنى آخر اليوم الذي يظلم فيه الجو تدريجيا ويقال العشى لضعيف البصر‪.‬‬

‫‪» .2‬تبوء« من مادة »بوء« على وزن نوع بمعنى الرجوع والعودة وقيل أصلها يعني الصافي والمسطح واريد بها هنا الرجوع‪.‬‬

‫] ‪[ 393‬‬

‫] ‪[ 394‬‬
‫] ‪[ 395‬‬

‫الخطبة)‪56 (1‬‬

‫ومن كلم له)عليه السلم(‬

‫ل)صلى ال عليه وآله( وذلك يوم صفين حين أمر الناس بالصلح‬
‫يصف أصحاب رسول ا ّ‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫هناك رأيان بشأن زمان الخطبة‪ :‬فالبعض يعتقد أّنه ورد بشأن فتنة ابن الحضرمي بعد أن استشهد محمد بن‬
‫أبي بكر على يد عمرو بن العاص فقد البصرة من قبل معاوية ليخرجها من حكومة المام علي)عليه السلم( حيث‬
‫استولى عليها بمعونة جماعة من المنافقين‪ .‬فلما بلغ المام)عليه السلم(ذلك من قبل ابن عباس يعزيه بمحمد بن‬
‫أبي بكر خطب الخطبة‪ ،‬ثم بعث بجارية ابن قلمة السعدي المعروف بشجاعته فحاصر ابن الحضرمي مع سبعين‬
‫ن المام)عليه السلم(خطبها في صفين‪ ،‬حين اقترح على‬ ‫من صحبه وقضى عليهم جمعيًا‪ .‬والرأي الخر أ ّ‬
‫المام)عليه السلم(الصلح وقد ضغطوا على المام)عليه السلم(لقبوله‪ .‬على كل حال فان المام)عليه السلم(‬
‫ن سبب النصر يكمن في‬ ‫خطب الناس ل متثال أوامره‪ ،‬ثم تطرق ل خلص المسلمين في صدر السلم وأ ّ‬
‫النضباط والتسليم لوامر النبي)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬في إشارة إلى النصر سيكون حليفهم لو إستّنوا بهذه السنة‬
‫ل ليس إمامهم سوى الفشل والهزيمة إذا عاشوا الفرقة والتشتت وعدم طاعة الوامر‪.‬‬ ‫وطاعوا الوامر‪ ،‬وا ّ‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬نقل ابن أبي الحديد هذا الكلم عن الواقدي ابن هلل قبل المرحوم السيد الرضي )ره( ورواها الزمخشري في ربيع‬
‫البرار في الجزء الرابع من باب القتل والشهادة‪ .‬وأضاف صاحب مصادر نهج البلغة بعد ما اورد هذا الكلم انه من كلمه المعروف‬
‫في مصادر العلماء السابقين وبعد السيد الرضي )مصادر نهج البلغة ‪.(29 / 2‬‬

‫] ‪[ 396‬‬

‫] ‪[ 397‬‬
‫ك ِإّل ِإيمانًا‬ ‫عماَمنا‪ ،‬ما َيِزيُدنا َذِل َ‬ ‫خواَننا َوَأ ْ‬ ‫ل)صلى ال عليه وآله( َنْقُتُل آباَءنا َوَأْبناَءنا َوِإ ْ‬ ‫سوِل ا ّ‬‫»َوَلَقْد ُكّنا َمَع َر ُ‬
‫خُر ِم ْ‬
‫ن‬ ‫جُل ِمّنا َواْل َ‬ ‫ن الّر ُ‬‫جهادِ اْلَعُدّو; َوَلَقْد كا َ‬ ‫جّدا ِفي ِ‬ ‫ض اَْلَلِم َو ِ‬
‫ض ِ‬ ‫عَلى َم َ‬ ‫صْبرًا َ‬ ‫عَلى الّلَقِم َو َ‬ ‫ضّيا َ‬‫سِليمًا َوُم ِ‬ ‫َوَت ْ‬
‫عُدّوَنا‬‫ن َ‬ ‫ن‪َ ،‬فَمّرًة َلَنا ِم ْ‬ ‫س اْلَمُنو ِ‬ ‫حَبُه َكْأ َ‬
‫سِقي صا ِ‬ ‫سُهما َأّيُهما َي ْ‬ ‫ن َأْنُف َ‬
‫ن‪َ ،‬يَتخاَلسا ِ‬ ‫حَلْي ِ‬
‫ن َتصاُوَل اْلَف ْ‬‫عُدّونا َيَتصاَول ِ‬ ‫َ‬
‫جراَنُه‬ ‫سلُم ُمْلِقيًا ِ‬ ‫سَتَقّر اِْل ْ‬
‫حّتى ا ْ‬ ‫صَر‪َ ،‬‬ ‫عَلْيَنا الّن ْ‬
‫ت َوَأْنَزَل َ‬
‫صْدَقَنا َأْنَزَل ِبَعُدّوَنا اْلَكْب َ‬
‫ل ِ‬ ‫َوَمّرًة ِلَعُدّوَنا ِمّنا‪َ ،‬فَلّما َرَأى ا ّ‬
‫حَتِلُبّنها‬
‫ل َلَت ْ‬
‫عوٌد‪َ .‬واْيُم ا ّ‬ ‫ن ُ‬‫ليما ِ‬ ‫ضّر ِل ِْ‬
‫خ َ‬‫عُموٌد َول ا ْ‬ ‫ن َ‬ ‫َوُمَتَبّوئًا َأْوطاَنُه‪َ .‬وَلَعْمِري َلْو ُكّنا َنْأِتي َما َأَتْيُتْم‪َ ،‬ما قاَم ِللّدي ِ‬
‫َدمًا‪َ ،‬وَلُتْتِبُعّنها َنَدمًا!«‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫ل)صلى ال عليه وآله(‬


‫الوقوف المشرف إلى جانب رسول ا ّ‬

‫أشار إبن ميثم البحراني في شرحه إلى بعض الخطبة الذي لم يرد في كلم السيد الرضي )ره( والذي له تأثير‬
‫ن المام)عليه السلم(خطب هذه الخطبة حين أراد الناس‬ ‫على فهم مضمون هذه الخطبة‪ ،‬فقال‪ :‬روى البعض أ ّ‬
‫الصلح مع جيش معاوية )بينما كان المام)عليه السلم(مخالف ذلك ولو ل اصرار البعضى منهم لما وافق( فقد‬
‫ل‪» :‬إن هؤلء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحق ول ليجيبوا إلى كلمة سواء‬
‫إستهل المام)عليه السلم(كلمه قائ ً‬
‫حتى يرموا بالمناشر تتبعها العساكر‪ ،‬وحتى يرجموا بالكتاب تقفوها الجلئب‪ ،‬وحتى يجر ببلده الخميس يتلوه‬
‫الخميس‪ ،‬وحتى تدعق الخيول في نواحي أراضيهم‪ ،‬وبأعناء مشاربهم ومسارحهم‪ ،‬حتى تشن عليهم الغارات من‬
‫كل فج عميق‪ ،‬وحتى يلقاهم قوم صدق صبر‪ ،‬ول يزيدهم هلك من هلك من‬

‫] ‪[ 398‬‬

‫ل)صلى ال عليه‬ ‫ل‪ .‬ولقد كنا مع رسول ا ّ‬ ‫ل وحرصًا على لقاء ا ّ‬ ‫ل إل جدا في طاعة ا ّ‬ ‫قتلهم وموتاهم في سبيل ا ّ‬
‫ن مصالحة هؤلء القوم الجفاة ل تنطوي سوى على الحباط والفشل‪ ،‬وذلك لّنهم‬ ‫وآله( الفصل«)‪ (1‬وعليه فا ّ‬
‫ليفهون منطق الصلح ول يمكنهم التعايش مع الخرين بسلم ول يدركون سوى منطق القوة‪ ،‬وهذا ما كشفت عنه‬
‫أحداث صفين‪ .‬على كل حال واصل المام)عليه السلم(خطبته ليتحدث عن مقومات النصر وعوامل الفشل‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(نقتل آباءنا وابناءنا واخوننا واعمامنا«‬ ‫والهزيمة فقال)عليه السلم(‪»:‬ولقد كّنا مع رسول ا ّ‬
‫في إشارة إلى ضرورة عدم اللتفات إلى قرابة كائن من كان إذا وقف كعقبة أمام المسيرة‪ ،‬المر الذي أشار إليه‬
‫شْو َ‬
‫ن‬ ‫خَ‬‫ل اْقَتَرْفُتُموها َوِتجاَرٌة َت ْ‬
‫شيَرُتُكْم َوَأْموا ٌ‬‫جُكْم َوعَ ِ‬
‫خواُنُكْم َوَأْزوا ُ‬‫ن آباُؤ ُكْم َوَأْبناُؤ ُكْم َوِإ ْ‬‫ن كا َ‬ ‫ل ِإ ْ‬
‫القرآن الكريم‪ُ) :‬ق ْ‬
‫ل ِبَأْمِرِه()‪ (2‬ثم‬‫ىا ّ‬‫حّتى َيْأِت َ‬‫صوا َ‬ ‫سِبيِلِه َفَتَرّب ُ‬
‫جهاد ِفي َ‬ ‫سوِلِه َو ِ‬ ‫ل َوَر ُ‬ ‫نا ّ‬ ‫ب ِإَلْيُكْم ِم َ‬
‫ح ّ‬
‫ضْوَنها َأ َ‬
‫ن َتْر َ‬ ‫َكساَدها َوَمساِك ُ‬
‫قال)عليه السلم(‪» :‬ما يزيدنا ذلك إل إيمانا وتسليما ومضيا على اللقم«)‪ (3‬وصبرا على مضض)‪ (4‬اللم وجدا‬
‫على جهاد العدو« فما أشار إليه المام)عليه السلم(بهذه العبارة إّنما يمثل واقعة تأريخية‪ ،‬فقد مثل أمام المسلمين‬
‫ل أن قاتلوهم بكل بسالة دون‬ ‫في أغلب المعارك ول سيما معركة بدر قرابتهم وعشيرتهم‪ ،‬فما كان من المسلمين إ ّ‬
‫أن يكترثوا لتلك القرابة رغم احترام العرب المنقطع النظير للروابط القبلية‪ .‬ثم قال)عليه السلم(‪» :‬ولقد كان‬
‫الرجل منا والخر من عدونا يتصاولن)‪ (5‬تصاول الفحلين يتخالسان)‪ (6‬أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس‬
‫المنون‪ ،‬فمرة لنا من عدونا ومرة لعدونا منا« في إشارة إلى أّنه ليس من الضرروي أن ينتصر الحق على الباطل‬
‫ن الحق وعلى ضوء الوعد اللهي‬ ‫لأّ‬ ‫في كافة المعارك وطيلة المجابهة‪ ،‬فقد يتغلب الباطل على الحق أحيانًا إ ّ‬
‫ن هذه المشاكل‬ ‫منتصر في خاتمة المطاف ـ وعليه فل تتوقعوا عدم بروز المشاكل خلل مجابهة أهل الشام‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ل ينبغي أن تقود إلى‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن ميثم ‪.146 / 2‬‬


‫‪ .2‬سورة التوبة ‪.24 /‬‬

‫‪» .3‬لقم«‪ :‬قال بعض أرباب اللغة وشّراح نهج البلغة تعني معظم الطريق أو جادته‪ ،‬واصلها من اللقم على وزن العفو بمعنى‬
‫السرعة في الكل‪.‬‬

‫‪» .4‬مضض« على وزن »مرض« بمعنى تجذر الهم في القلب مع الحرقة‪.‬‬

‫‪ .5‬التصاول من صول على وزن قول أن يحمل كل واحد من الندين على الخر‪.‬‬

‫‪» .6‬تخالس« من مادة »خلس« على وزن درس كل واحد منها يطلب اختلس روح الخر‪.‬‬

‫] ‪[ 399‬‬

‫ل دليل واضح على هذا‬ ‫التمرد على أوامر المام)عليه السلم(‪ ،‬ما سيرة النبي)صلى ال عليه وآله(وصحبه إ ّ‬
‫ل صدقنا أنزل بعدونا الكبت)‪ (1‬وأنزل علينا النصر‪ ،‬حتى إستقر‬ ‫المر‪ ،‬ومن هنا قال)عليه السلم(‪»:‬فلما رأى ا ّ‬
‫السلم ملقيا جرانه)‪ (2‬ومتوئًا أوطانه« فالمام)عليه السلم( أشار هنا إلى العامل الرئيسي لنتصار المسلمين‬
‫الوائل ويلوح إلى عناصر فشل أهل الكوفة‪ ،‬فقد نسب العامل الرئيسي للنتصار إلى صدق النية التي تمثل الدافع‬
‫الصلي للصمود والمقاومة أمام العدو والطاعة التامة للزعامة الربانية‪ .‬ولو تلوثت هذ النية وسيطرت النانية‬
‫على النسان‪ ،‬آنذاك ستكون إرادته وقراره مستندًا لهوائه وطيشه وغروره; المر الذي يقود إلى الهزيمة‬
‫ل وألطافه ونصره مثل هؤلء الفراد‪ ،‬ثم خلص المام)عليه السلم(لهذه‬ ‫والفشل‪ .‬ومن الطبيعي أل تشمل عنايات ا ّ‬
‫النتيجة‪» :‬ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم ‪ ،‬ما قام للدين عمود ول إخضر لليمان عود« فهل تعلمون من قوم في أي‬
‫ن النصر الخاطف الذي حققه‬ ‫عصر ومصر إنتصروا يفرقتهم واختلفاتهم‪ ،‬فاذا رجعتم قليل إلى الوراء لرأيتم أ ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( خلل تلك المدة القصيرة حتى ترسخت دعائم الدين واتسع نطاق السلم ليشع‬ ‫رسول ا ّ‬
‫ن ذلك كان بفضل اليمان والطاعة والجهاد‪ ،‬بينما تمارسون الن عكس ذلك‬ ‫بنوره على ظلمات الشرق والغرب فا ّ‬
‫ل لتحتلبنها دمًا‪ ،‬ولتتبعنها ندمًا«‪.‬‬
‫وتحلمون بالنصر‪ .‬وأخيرًا يحذرهم)عليه السلم(بالقول‪» :‬وأيم ا ّ‬

‫فقد تضمنت العبارات الخيرة للمام)عليه السلم( ثلثة تشبيهات‪ :‬الول‪ :‬تشبيه السلم بالخيمة واعمدته الجهاد‪.‬‬
‫ن الخيمة موضع المن والراحة من الحرارة المحرقة والبرودة القارسة‪ ،‬السلم هو الخر موضع‬ ‫حيث نعلم بأ ّ‬
‫أمن البشرية ووسيلة نجاتها من العواصف القاتلة‪ .‬الثاني‪ :‬تشبيه اليمان بالشجرة التي إخضرت غصونها بدماء‬
‫ل من اللبن بسبب تعفن ضرعها أو‬ ‫المؤمنين في صدر السلم‪ .‬والثالث‪ :‬تشبيه الحكومة بالناقة التي تحتلب الدم بد ً‬
‫العبث والفراط في إحتلبها‪ ،‬أي أّنها‪ ،‬أعطت نتيجة معكوسة‪ ،‬فاللبن من أفضل طعام النسان ومواده الغذائية‪ ،‬أّما‬
‫الدم فهو ليس بغذاء‪ ،‬بل مادة سامة مفسدة‪ .‬وأخيرًا فقد تحققت نبوءات المام)عليه السلم( بشأن تلك الطائفة‬
‫الطاغية‪ ،‬حيث تسلط عليهم الظلمة الذين ساموهم سوء العذاب‪.‬‬

‫‪» .1‬كبت« على وزن ثبت بمعنى الذلل‪.‬‬

‫‪ .2‬جران البعير مقدم عنقه من مذبحه إلى منحره‪ ،‬القاء الجران كناية عن التمكن‪ ،‬فالعبارة كناية عن إتساع رقعة السلم ونصر‬
‫المسلمين واستقرار السلم في مختلف بقاع العالم‪.‬‬

‫] ‪[ 400‬‬

‫تأّملن‬

‫‪ 1‬ـ ثاني فتن البصرة‬

‫كانت البصرة أحد المراكز السلمية المهمة والبوابة إلى العالم الخارجي ومن هنا كانت السيطرة عليها قضية‬
‫مهمة‪ .‬ولذلك كان يسعى معاوية للسيطرة عليها كما ورد في ورود الخطبة‪ .‬ويرى البعض أن المام )عليه السلم(‬
‫خطبها لخماد فتنة أخرى في البصرة‪ .‬فقد طمع معاوية بالبصرة بعد قتل عامل علي)عليه السلم( فيها محمد بن‬
‫أبي بكر‪ ،‬فكتب كتابا إلى أنصاره في البصرة وذكرهم الوقعة التي أهلكتهم وقد إنتخب »ابن الحضرمي« واليا‬
‫على البصرة فحث الناس للقيام على خليفة عامل المام)عليه السلم( عليها »زياد بن عبيد« فاستجاب له البعض‬
‫ومنهم الخوارج فسيطروا على أجزاء من البصرة وقتلوا سفير المام)عليه السلم( »أعين بن صبيعه« فلما بلغ‬
‫ذلك المام)عليه السلم( بعث بجارية بن قدامه إلى البصرة ليقرأ عليهم كتاب المام)عليه السلم(‪.‬‬

‫ل بالعقوبة َقْبل البّينة‪ ،‬ول يأخذ المذنب عند أول َوْهلة‪ ،‬ولكنه يقبل‬ ‫جُ‬ ‫حليم ذو أَناة‪ ،‬ل َيْع َ‬‫ل َ‬‫نا ّ‬
‫سلم عليكم‪ :‬أّما بعد فإ ّ‬
‫جّلكم أّيها‬
‫جة‪ ،‬وأبلغ في المعذرة‪ ،‬وقد كان من شقاق ُ‬ ‫التوبة‪ ،‬ويستديم الناة‪ ،‬ويرضى بالنابة; ليكون أعظَم للح ّ‬
‫سْيف عن ُمْدبركم‪ ،‬وقبلت من ُمْقبلكم‪ ،‬وأخذت‬ ‫الناس ما استحققتم أنْ تعاَقبوا عليه‪ ،‬فعفوت عن مجرمكم‪ ،‬ورفعت ال ّ‬
‫صد الحق‪ ،‬وُأِقْم‬ ‫ل فيكم بالكتاب والسنة وَق ْ‬ ‫بيعَتكم‪ ،‬فإن َتُفوا بْبيعتي‪ ،‬وتقبُلوا نصيحتي‪ ،‬وتستقيموا على طاعتي‪ ،‬أعم ْ‬
‫ل عليه وآله أعلُم بذلك مّني‪ ،‬ول أعمل بقولي‪ .‬أقول‬ ‫ن واليًا بعد محمد صلى ا ّ‬ ‫ل ما أعلم أ ّ‬‫فيكم سبيل الهدى‪ ،‬فوا ّ‬
‫سَفُه الرأي‬
‫ت بكم الهواء الُمْرِدية‪ ،‬و َ‬ ‫ط ْ‬
‫خَب َ‬
‫قولي هذا صادقًا‪ ،‬غيَر ذاّم لمن َمضى‪ ،‬ول منتقصًا لعمالهم‪ ،‬وإن َ‬
‫ل لئن ألجأتموني إلى المسير‬ ‫حْلت ركابي‪ ،‬وايُم ا ّ‬ ‫ت جيادي‪َ ،‬وَر َ‬ ‫خلفي! فها أنا ذا َقّرْب ُ‬ ‫الجائر إلى منابذتي‪ ،‬تريدون ِ‬
‫ل ـ على أنفسكم‬ ‫ل تجعلوا ـ إن شاء ا ّ‬ ‫نأ ّ‬
‫ل كَلْعَقة لعق‪ ،‬وإنى لظا ّ‬ ‫ن بكم َوْقَعًة‪ ،‬ل يكون الجمل عندها إ ّ‬ ‫لِوَقع ّ‬
‫إليكم ُ‬
‫ب إليكم من بعده كتابًا‪ ،‬إن أنتم استغششتم نصيحتي‪،‬‬ ‫ن أكت َ‬‫ل‪ .‬وقد قدّمت هذا الكتاب إليكم حجة عليكم‪ ،‬ول ْ‬ ‫سبي ً‬
‫ل تعالى‪ .‬والسلم‪.‬‬ ‫شاخص نحوكم‪ ،‬إن شاء ا ّ‬ ‫ن أنا ال ّ‬
‫ونابْذُتم رسولي‪ ،‬حتى أكو َ‬

‫فلما قرأها عليهم تأثروا تأثرا شديدا‪ ،‬بينما واصل البعض منهم عناده‪ ،‬فواجهوا ابن‬

‫] ‪[ 401‬‬

‫الحضرمي وهزموه‪ ،‬فلذ مع سبعين من صحبه بدار ولم يكن أمام جارية من سبيل سوى إحراق الدار فقتلوا فيها‬
‫جميعا‪(1).‬‬

‫—–‬

‫عَلى أصحابك‪ ،‬قال‪ :‬فمضينا‬‫ن علّيا عليه السلم كتب مع جارية كتابًا‪ ،‬وقال‪ :‬اقرأه َ‬ ‫قال‪ :‬وروى كعب بن قعين أ ّ‬
‫حب به وأجَلسه إلى جانبه‪ ،‬وناجاه ساعة وساءَلُه‪ ،‬ثم خرج فكان أفضل ما‬ ‫خلنا البصرة‪ ،‬بدأ بزياد‪ ،‬فر ّ‬
‫معه‪ ،‬فلما د ْ‬
‫ق أن َتْلَقى ما ِلَقي صاحُبك القادُم َقْبلك‪.‬‬
‫ن قال‪ :‬احَذْر على نفسك‪ ،‬واّت ِ‬‫أوصاه به أ ْ‬

‫ن بلءكم‪،‬‬‫غناءكم‪ ،‬وأحس َ‬ ‫ظم َ‬


‫ى خيرًا! ما أع َ‬
‫حّ‬‫ل من َ‬ ‫وخرج جارية من عنده‪ ،‬فقام في الزد‪ ،‬فقال‪ :‬جزاكم ا ّ‬
‫ن لم يعرفه‪ .‬ثم قرأ عليهم‬
‫عْوتم إلى الهدى إذ تركه َم ْ‬
‫ن أنكره‪ ،‬وَد َ‬
‫ضّيعه َم ْ‬
‫ق إذ َ‬
‫أطَوعكم لميركم! لقد عرفتم الح ّ‬
‫ي عليه السلم‪ ،‬فإذا فيه‪:‬‬ ‫ب عل ّ‬
‫ي عليه السلم وغيرهم ـ كتا َ‬ ‫ن كان معه من شيعة عل ّ‬‫على َم ْ‬

‫ن قرئ عليه كتابي هذا من ساِكني البصرة من المؤمنين والمسلمين‪:‬‬


‫ي أميرالمؤمنين إلى َم ْ‬
‫ل عل ّ‬
‫من عبدا ّ‬

‫ن حارب أميرالمؤمنين‬
‫شْيمان‪ ،‬فقال‪ :‬سمعنا وأطعنا ونحن لم ْ‬
‫صْبرة بن َ‬
‫قال‪ :‬فلما قرئ الكتاب على الناس قام َ‬
‫ن ننصرك نصرناك‪.‬‬ ‫ت يا جارية قوَمك بقومك فذاك‪ ،‬وإن أحببت أ ْ‬
‫سْلم; إن َكَفْي َ‬
‫حْرب‪ ،‬ولمن سالم ِ‬
‫َ‬

‫وقام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك ونحوه‪ ،‬فلم يأذن لحد منهم أن يسير معه‪ ،‬ومضى نحو بني تميم‪.‬‬

‫فقام زياد في الزد‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫ل ما‬
‫حْربًا فأصبحتم سلمًا‪ ،‬وإني وا ّ‬
‫سلمًا‪ ،‬فأصبحوا اليوم حربًا‪ ،‬إنكم كنتم َ‬
‫ن هؤلء كانوا أمس ِ‬ ‫يا معشر الْزد‪ ،‬إ ّ‬
‫ل على المل‪ ،‬فما رضيتم أن أجرتموني‪ ،‬حتى نصبتم لي منبرًا‬ ‫ل على التجربة‪ ،‬ول أقمت فيكم إ ّ‬ ‫اخترتكم إ ّ‬
‫شَرطًا وأعوانًا‪ ،‬مناديًا وجمعة‪،‬‬
‫وسريرًا‪ ،‬وجعلتم لى ُ‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 4/34‬باختصار شديد‪.‬‬

‫] ‪[ 402‬‬
‫ل‪ .‬واعلموا أنّ‬
‫جِبه غدا إن شاءا ّ‬
‫جبه اليوم أ ْ‬
‫جبيه اليوم‪ ،‬فإن لم أ ْ‬
‫ل هذا الدرهم‪ ،‬ل أ ْ‬
‫فما فقدت بحضرتكم شيئًا إ ّ‬
‫حربكم اليوَم معاوية أيسر عليكم في الدنيا والدين من حربكم أمس علّيا‪ ،‬وقد قدم عليكم جارية بن قدامة‪ ،‬وإّنما‬
‫ل ما هو بالمير المطاع‪ ،‬ولو أدرك أمله في قومه لرجع إلى أميرالمؤمنين أو‬ ‫ي ليصَدع أمَر قومه‪ ،‬وا ّ‬‫أرسله عل ّ‬
‫لكان لي تبعًا‪ ،‬وأنتم الهامُة العظمى‪ ،‬والجزمرة الحامية‪ ،‬فقّدموه إلى قومه‪ ،‬فإ اضطر إلى نصركم فسيروا إليه‪ ،‬إن‬
‫رأيتم ذلك‪.‬‬

‫ل يقاتلوا عليًا‪ ،‬وقد مضى‬‫تأ ّ‬


‫ت قومي يوَم الجمل‪ ،‬رجو ُ‬ ‫ل لو شهد ُ‬‫شْيمان فقال‪ :‬يا زياد‪ ،‬إني وا ّ‬
‫فقام أبو صبرة َ‬
‫ع منه إلى الجزاء بالسّييء‪ ،‬والتوبة مع‬
‫ل إلى الجزاء بالحسان أسر ُ‬ ‫المُر با فيه‪ .‬وهو يوم بيوم‪ ،‬أْمر بأمر‪ ،‬وا ّ‬
‫لمور‪ ،‬ولكنها جماعة‬ ‫ق‪ ،‬والعْفو مع الندم‪ ،‬ولو كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء‪ ،‬واستئناف ا ُ‬‫الح ّ‬
‫ت‪.‬‬
‫ب ما أحبب َ‬
‫دماؤها حرام‪ ،‬وجُروحها قصاص‪ ،‬ونحن معك نح ّ‬

‫ن في الناس مثل هذا‪.‬‬


‫فعجب زياد من كلمه‪ ،‬وقال‪ :‬ما أظ ّ‬

‫صْبنا أمس يوم الجمل‪ ،‬وانا لنرجوا اليوم‬ ‫صْبنا بمصيبة في دين ول دنيا كما أ ِ‬ ‫ل ما أ ِ‬
‫ثم قام صبرة ابنه‪ ،‬فقال‪ :‬إنا وا ّ‬
‫ل ما أدركت َأَملك فينا‪ ،‬ول أدرْكَنا َأملنا‬
‫ت يا زياد‪ ،‬فوا ّ‬
‫ل وطاعة أميرالمؤمنين‪ ،‬وأّما أْن َ‬ ‫حص ذلك بطاعة ا ّ‬ ‫أن ُنَم ّ‬
‫ل تعالى‪ ،‬فإذا فعلنا فليكن أحٌد َأْوَلى بك ِمّنا‪ ،‬فإنك إل‬
‫فيك ُدون َرّدك إلى دارك‪ ،‬ونحن راّدوك إليها غدًا إن شاءا ّ‬
‫ي في الخرة‪ ،‬مال نخاف من حرب معاوية في الدنيا‪ ،‬فقّدم‬ ‫ل نخاف من حرب عل ّ‬ ‫تفعل لم تأت ما يشبهك‪ ،‬وِإنا وا ّ‬
‫خر هوانا‪ ،‬فنحن معك وطوعك‪.‬‬ ‫هواك وأ ّ‬

‫سْربنا‬
‫ي‪ ،‬فقال‪ :‬أّيها المير‪ ،‬إّنك لو رضيت ِمّنا بما ترضى به من غيرنا‪ ،‬لم نرض ذلك لنفسنا‪ِ ،‬‬ ‫ثم قام خنُقر الحمان ّ‬
‫ل ما كان أمس‪.‬‬‫جْهدنا; إ ّ‬
‫ط ِإل اكتفينا بعفونا دون َ‬
‫ل مالقينا قومًا ق ّ‬
‫ِإلى القوم إن شئت‪ ،‬وايُم ا ّ‬

‫ن شتمه أسمعوه‪ ،‬فأرسل‬ ‫ش فناوشوه بعد أ ْ‬


‫قال إبراهيم‪ :‬فأّما جارية‪ ،‬فإّنه كلم قومه فلم يجيبوه‪ ،‬وخرج إليه منهم أوبا ٌ‬
‫ى‪ ،‬على‬
‫ن الحضرم ّ‬ ‫إلى زياد والْزد‪ ،‬يستصِرخهم ويأمرهم أن يسيروا إليه‪ ،‬فسارت الْزد بزياد‪ ،‬وخرج إليهم اب ُ‬
‫ي عليه السلم‪،‬‬
‫ى ـ وكان من شيعة عل ّ‬ ‫ي‪ ،‬فاقتتلوا ساعة‪ ،‬أقبل شريك بن العور الحارث ّ‬ ‫سلم ّ‬ ‫ل بن خازم ال ّ‬‫خيله عبدا ّ‬
‫وصديقا لجارية بن‬

‫] ‪[ 403‬‬

‫ن هزموهم واضطروهم إلى دار سنبيل‬ ‫قدامة ـ فقال‪ :‬أل أقاتل معك عدّوك؟ فقال‪ :‬بلى; فما لبثت بنو تميم أ ْ‬
‫ي‪ ،‬فجاءت أمى‬ ‫ل بن خازم السلم ّ‬ ‫ى وحّدوه‪ ،‬فأتى رجل من بنى تميم‪ ،‬ومعه عبدا ّ‬ ‫ن الحضرم ّ‬ ‫السعدي; فحصروا اب َ‬
‫ي‪ ،‬فأبى فكشفت رأسها وأبدت‬ ‫وهى سوداء جشية اسمها عجلي‪ ،‬فنادته‪ ،‬فأشرف عليها‪ ،‬فقالت‪ :‬يا ُبّني‪ ،‬انزل إل ّ‬
‫ن‪ ،‬وأهوت بيدها إلى ثيابها‪ ،‬فلما رأى ذلك َنَزل‪ ،‬فذهبت‬ ‫ن أو لتعّري ّ‬ ‫ل لتنزل ّ‬
‫ِقناعها‪ ،‬وسألته النزول فأبى‪ ،‬فقالت‪ :‬وا ّ‬
‫ي بالنار‪ ،‬فقالت الزد‪ :‬لسنا من الحريق بالنار في شيء; وهم‬ ‫به‪ ،‬وأحاط جارية وزياد بالّدار‪ ،‬وقال جارية‪ :‬عل ّ‬
‫ل; أحدهم عبدالرحمن بن‬ ‫ى في سبعين رج ً‬ ‫ن الحضرم ّ‬ ‫قوُمك وأنت أعلم‪ ،‬فحّرق جارية الّدار عليهم‪ ،‬فهلك اب ُ‬
‫ى جارية منذ ذلك اليم محّرقًا; وسارت الْزد بزياد حتى أوطنوه قصر‬ ‫سّم َ‬
‫ي; و ُ‬
‫عميربن عثمان القرشي الّتيم ّ‬
‫ن جوارك شيء؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قالوا‪ :‬فبّرئنا منه؟ فقال‪ :‬نعم;‬ ‫المارة; ومعه بيت المال‪ ،‬وقالت له‪ :‬هل بقى علينا ِم ْ‬
‫فانصرفوا عنه‪ .‬وكتب زياد إلى أميرالمؤمنين عليه السلم‪:‬‬

‫ى بمن نصره وأعانه من‬ ‫جْمع ابن الحضرم ّ‬ ‫ض َ‬‫أما بعد‪ ،‬فإن جارية بن قدامة العبد الصالح َقِدم من عندك‪ ،‬فناَه َ‬
‫ل تعالى‬‫ن دور البصرة في عدد كثير من أصحابه‪ ،‬فلم يخرج حتى حكم ا ّ‬ ‫ضه واضطره إلى دار ِم ْ‬ ‫الزد‪ ،‬فف ّ‬
‫ن الحضرمى وأصحابه‪ ،‬منهم من أحرق بالنار; ومنهم من ُأْلقى عليه جدار; ومنهم من ُهِدم عليه‬ ‫بينهما‪ ،‬فقِتل اب ُ‬
‫البيت من أعله; ومنهم من ُقِتل بالسيف‪ ،‬وسلم منهم نفر أنابوا وتابوا‪ ،‬فصفح عنهم‪ ،‬وبعدًا لمن عصى وغوى!‬
‫ل وبركاته‪.‬‬‫والسلم على أميرالمؤمنين ورحمة ا ّ‬

‫‪ 2‬ـ خصائص المسلمين الوائل‬


‫أشار المام)عليه السلم( في هذه الخطبة إلى خصائص مسلمي صدر السلم في أّنهم كانوا مطيعين لرسول‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(ولم يأبهوا بابائهم واخوانهم وابناءهم في ميادين القتال‪ ،‬فكانوا يصاولونهم ليجرعوهم‬ ‫ا ّ‬
‫القتل من أجل تحقيق الهداف السلمية المقدسة‪ .‬كانوا يتحلون بالخلص وصدق النية; المر الذي جعل ا ّ‬
‫ل‬
‫يؤيدهم بنصره ويفيض عليهم من لطفه وفضله حتى إنتشر الدين واضاء نور الحق واليقين في أنحاء العالم‪.‬‬
‫ن المسلمين الوائل كانوا على‬ ‫والحق لو أ ّ‬

‫] ‪[ 404‬‬

‫غرار أهل الكوفة لما تنفس السلم وتنهنه حتى في مكة والمدينة‪ ،‬ولو كانت إرادتهم الفردية هى الحاكمة وتمردوا‬
‫ن كثيرًا من‬
‫على أوامر قيادتهم الربانية لما اخضر عود شجرة السلم ولنهارت أعمدة خيمة اليمان‪ .‬وبالطبع فا ّ‬
‫ن إرادتهم ضعفت ووهنت إثر تلك‬ ‫لأّ‬
‫ُاولئك كانوا ممن أدرك عصر النبي)صلى ال عليه وآله(أو رأى أصحابه‪ ،‬إ ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬ول سيما على عهد الخليفة الثالث واقبال الناس على‬ ‫الحداث التي أعقبت رحيل رسول ا ّ‬
‫الدنيا والغترار بزخارفها والخلود إلى الراحة والدعة بعد تنامي الموال والثروات بفعل الفتوحات السلمية‪،‬‬
‫إلى جانب الدعاية الواسعة التي كان يمارسها المنافقون وأعداء الدين‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 405‬‬

‫الخطبة)‪57 (1‬‬

‫ومن كلم له)عليه السلم(‬

‫في صفة رجل مذموم‪ ،‬ثم في فضله هو)عليه السلم(‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ن المراد به‬
‫ل أن المشهور أ ّ‬
‫هناك أبحاث بين شّراح نهج البلغة بشأن المقصود بكلم المام)عليه السلم( إ ّ‬
‫معاوية‪ .‬فقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه‪ :‬وكثير من الناس يذهب إلى أّنه)عليه السلم(عنى زيادًا‪ ،‬وكثيرًا منهم‬
‫يقول إّنه عنى الحجاج أو المغيرة‪ ،‬والشبه عندي أنه عنى معاوية‪ ،‬لّنه كان موصوفا بالنهم وكثرة الكل‪ ،‬وكان‬
‫بطينًا‪ ،‬يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه‪(2) .‬‬

‫ل)صلى ال عليه وآله(قال‪:‬‬‫ن أباذر قال لمعاوية‪ :‬سمعت رسول ا ّ‬‫وروى أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانية أ ّ‬
‫لّمة حذرها منه«‪ ،‬كما أورد عدة روايات من‬
‫لّمة العين الواسع البلعوم الذي يأكل ول يشبع فلتأخذ ا ُ‬
‫»إذا ولي ا ُ‬
‫ل بن‬‫المصادر المعروفة من قبيل تأريخ الطبري وتأريخ الخطيب وكتاب صفين عن أبي سعيد الخدري وعبدا ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( قال‪» :‬إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه‪ ،‬أو فاضربوا عنقه«)‪(3‬‬ ‫ن رسول ا ّ‬ ‫مسعود أ ّ‬
‫فالعبارات الواردة في الرواية والتي تشبه‬

‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬قال صاحب مصادر نهج البلغة لقد روي هذا الكلم عن أميَرالمؤمنين)عليه السلم(كرارًا من المحدثين قبل السيد‬
‫ن المام)عليه السلم(صعد منبر الكوفة فقال‪:‬‬ ‫الرضي )ره(‪ .‬وروى إبراهيم الثقفى في كتاب الغارات عن المام الباقر)عليه السلم( أ ّ‬
‫»سيعرض عليكم سّبي‪ «...‬كما روى هذا الكلم الكليني في الكافي والبلذري في أنساب الشراف والحاكم في المستدرك وشيخ‬
‫الطائفة الطوسي في المالي )مصادر نهج البلغة ‪.(33 / 2‬‬

‫‪ .2‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.54 / 4‬‬

‫‪ .3‬مصادر نهج البلغة‪ ،‬ذيل الخطبة‪.‬‬

‫] ‪[ 406‬‬

‫عبارات الخطبة تفيد أّنها بشأن معاوية‪ .‬والشاهد الخر موضوع السب الذي ورد أخر الخطبة‪ ،‬حيث نعلم جميعاً‬
‫بان معاوية كان يحرض الناس على سب أميرالمؤمنين)عليه السلم( من على المنابر‪ ،‬فهل من داع للتحري عن‬
‫ن المام)عليه السلم( تحدث في هذه‬
‫فرد آخر وردت بشأنه الخطبة سوى التعصب والعناد؟! على كل حال فا ّ‬
‫الخطبة عن حاكم نهم أكول مندحق البطن يأمر الناس بسبه والبراءة منه‪ .‬ثم أشار المام)عليه السلم( إلى وظيفة‬
‫لّمة حيال ذلك‪ .‬وقد أثبت التأريخ صحة نبوءة المام)عليه السلم(التي تحققت في عهد معاوية‪.‬‬
‫اُ‬

‫وأخيرا أشار المام)عليه السلم( إلى بعض فضائله في آخر الخطبة‪.‬‬

‫—–‬

‫] ‪[ 407‬‬

‫جُد‪َ ،‬فاْقُتُلوُه‪َ ،‬وَلنْ‬‫ب َما ل َي ِ‬ ‫طُل ُ‬‫جُد َوَي ْ‬


‫ن‪َ ،‬يْأُكُل َما َي ِ‬‫طِ‬ ‫ق اْلَب ْ‬
‫حُ‬‫ب اْلُبْلُعوِم‪ُ ،‬مْنَد ِ‬
‫ح ُ‬
‫جٌل َر ْ‬‫عَلْيُكْم َبْعِدي َر ُ‬
‫ظَهُر َ‬‫سَي ْ‬ ‫»َأّما ِإّنُه َ‬
‫جاٌة َوَأّما اْلَبراَءُة َفل‬‫سّبوِني‪َ ،‬فِإّنُه ِلي َزَكاٌة‪َ ،‬وَلُكْم َن َ‬ ‫ب َف ُ‬
‫س ّ‬‫سّبي َواْلَبراَءِة ِمّني‪َ ،‬فَأّما ال ّ‬ ‫سَيْأُمُرُكْم ِب َ‬
‫َتْقُتُلوُه َأل َوِإّنُه َ‬
‫جَرِة«‪.‬‬ ‫ن َواْلِه ْ‬‫ت ِإَلى اِْليَما ِ‬
‫سَبْق ُ‬
‫طَرِة‪َ ،‬و َ‬‫عَلى اْلِف ْ‬
‫ت َ‬ ‫َتَتَبّرُءوا ِمّني‪َ ،‬فِإّني ُوِلْد ُ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫إحذروا العدو‬

‫كما أوردنا سابقا على ضوء الحاديث والروايات أن المام)عليه السلم(تنبىء بحكومة معاوية وما تفضي إليه‬
‫هذه الحكومة من مفاسد فقال‪» :‬أما إّنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب‪ ،‬البلعوم)‪ ،(1‬مندحق)‪ (2‬البطن‪ ،‬ياكل ما‬
‫يجد ويطلب ما ليجد«‪ .‬يمكن أن تكون العبارة إشارة إلى وضعه الظاهري‪ ،‬حيث تفيد بعض الروايات أّنه كان‬
‫بهذه الصفات‪ ،‬ومن هنا كان أكول‪ ،‬ويمكن أن تكون كناية عن حالته الروحية والنفسية في ظل الحكومة‪ ،‬في أّنه‬
‫حريص وتوسعي ول يشعبه شيئا من الحكومة‪ ،‬ول يبعد أن يكون المراد كل المعنيين الروحي والجسمي أو‬
‫الحقيقي والكنائي‪ ،‬وذلك لنه جمع النوعين من هذه الصفات‪.‬‬

‫ن مخاطب المام)عليه السلم( بهذه العبارة هم أهل العراق‪،‬‬ ‫ثم قال)عليه السلم(‪» :‬فاقتلوه ولن تقتلوه« قطعًا أ ّ‬
‫وكان يعلم المام)عليه السلم( بعدم قدرتهم على ذلك بسبب ضعفهم ووهن ارادتهم في إتخذا القرار‪ ،‬أو أّنهم قد‬
‫ل أّنهم ليمتلكون الشجاعة والرادة التي ترفعهم إلى ذلك‪ .‬أّما لماذا‬ ‫يستطيعون قتله إ ّ‬

‫‪» .1‬بلعوم« على وزن »حلقوم« موضع مرور الطعام‪ ،‬ورحب البلعوم واسعه‪ ،‬أو كناية لكثرة أكله‪.‬‬

‫‪» .2‬مندحق« من مادة »دحق« على وزن قطع بمعنى الدفع والبعاد وطرح الشي بعيدًا‪ ،‬ولما كان كبر البطن يؤدي ِالى بروزها وكأّنها‬
‫تطرح بعضها خارجا ِاطلق على الشخص البطين مندحق البطن‪.‬‬

‫] ‪[ 408‬‬

‫حكم المام)عليه السلم( بقتله‪ ،‬فأوضح بسبب هو ذلك الفساد الذي أشاعه بين المسلمين ليكون مصداقا بارزاً‬
‫للمفسد في الرض إلى جانب سلبه لمن البلد السلمية وأخيرًا إثارته المعارك التي سفكت فيها دماء المسلمين‪.‬‬
‫وناهيك عما سبق فقد ابتدع تلك البدع العظيمة التي غيرت معالم الدين إضافة إلى أمره بسبب أميرالمؤمنين‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(»من سب عليا فقد سبني«)‪ .(1‬ثم تنبئ‬ ‫علي)عليه السلم(الذي قال بحقه رسول ا ّ‬
‫ل وإّنه سيأمركم بسبي والبراءة مني« وهذا بدوره يكشف عن مدى الحقد‬ ‫المام)عليه السلم(بهذه المسألة فقال‪» :‬إ ّ‬
‫ل)صلى ال عليه‬ ‫والضغينة التي كان يكنها معاوية لعلي)عليه السلم(رغم علمه بفضائله التي صرح بها رسول ا ّ‬
‫وآله(وسمعها القاصي والداني والتي تثبت بطلن حكومته‪ ،‬ومن هنا سعى جاهدًا ليحول دون اطلع أهل الشام‬
‫على هذه الحاديث تمهيدا إلى منعها بالمرة وتحريفها‪ .‬ثم أصدر أوامره بسب علي)عليه السلم( من على المنابر‬
‫وفى خطب صلة الجمعة‪ ،‬حتى كان ينبرى أحدهم ليقول خير ما نختتم به خطبتنا سب أبي تراب‪ ،‬وبالطبع فا ّ‬
‫ن‬
‫إشاعة السب تعني عدم إمكانية التحدث بالفضائل‪ ،‬وهذه أسوأ بدعة ابتدعها معاوية يتعذر تبريرها على أي‬
‫متعصب حقود‪ ،‬وما أروع ما قال الشاعر بهذا الشأن‪:‬‬

‫أعلى المنابر تعلنون بسبه *** وبسيفه نصبت لكم أعوادها)‪(2‬‬

‫ن السب بدعة ظالمة لترسيخ دعائم حكومة معاوية‪ ،‬ومنهم‬ ‫ن بعض بطانة معاوية أذعن إلى أ ّ‬ ‫الجدير بالذكر أ ّ‬
‫ل أّنه لما سئل عن علة السب‪ ،‬أجاب‪» :‬إّنه ل يستقيم لنا المر أل بذلك«)‪ .(3‬ثم أوصى‬ ‫مروان بن الحكم‪ ،‬إ ّ‬
‫المام)عليه السلم( بكيفية التعامل مع هذه البدعة فقال »فاّما السب فسبوني‪ ،‬فانه لي زكاة ولكم نجاة وأما البراءة‬
‫ن السب أمر‬ ‫فل تتبرأ وامني‪ ،‬فاني ولدت على الفطرة وسبقت إلى اليمان والهجرة«‪ .‬ويبدو من هذه العبارة أ ّ‬
‫ل ان‬‫واجب الزامي ل إباحي لّنه يتضمن حفظ دماء الشيعة وايصال مبادئ مدرسة أهل البيت)عليهم السلم(‪ .‬إ ّ‬
‫هذا المر قد يكتسب صفة الباحة كما عبر عن ذلك علماء الصول حيث أمر الوجوب يقتصر على احتمال المنع‬
‫لتوهم الخطر‪ ،‬ومن هنا فان بعض تلمذه المام)عليه السلم(كرشيد الهجري وميثم‬

‫‪ .1‬رواه الحاكم في كتاب مستدرك الصحيحن ‪ 121 / 1‬طبعة حيدر آباد‪.‬‬

‫‪ .2‬بحارالنوار ‪.137 / 45‬‬

‫‪ .3‬الغدير ‪.264 / 10‬‬

‫] ‪[ 409‬‬

‫التمار وقنبر وسعيد بن الجبير الذين صمدوا وأبوا سبوا علي حتى قتلوا فأّنهم لم يرتكبو أي خلف‪ ،‬بل أتوا بعمل‬
‫ن المؤمن إذا عرض للساءة من قبل العدو أو دفع الناس لنتهاك حرمته‬ ‫عظيم أهلهم للشهادة‪ .‬ويتضح مّما سبق بأ ّ‬
‫ن ذلك ليس فقط ل يحط من قدره فحسب‪ ،‬بل يزيده عزة وكرامة‪ .‬وهنا يبرز هذا السؤال‪ :‬ما الفرق بين السب‬ ‫فا ّ‬
‫ل‪ :‬أّنه ولد على فطرة السلم‬ ‫والبراءة بحيث أذن المام)عليه السلم(بالسبب ولم يأذن بالبراءة لثلث‪ :‬أو ً‬
‫واليمان‪ ،‬ثانيا‪ :‬أّنه كان من السابقين للسلم والتصديق بالنبي)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬والثالث‪ :‬سبقه إلى الهجرة‬
‫من مكة إلى المدينة؟ فقد كثر الكلم بين المفسرين بشأن الفارق بين السب والبراءة‪ ،‬ل يخلو بعضه من التكلف‬
‫ن سب النسان قد يكون إشارة إلى سوءه‬ ‫ن القرب في الفارق بينهما أحد أمرين‪ :‬الول أ ّ‬ ‫وعدم القناع‪ ،‬ويبدو أ ّ‬
‫ول يعطي مفهوم الكفر والشرك‪ ،‬أّما البراءة فتعني التبري من دينه ومعتقداته كما ورد ذلك في الية الولى من‬
‫ن(وعليه فمفهوم البراءة من المام)عليه‬ ‫شِرِكـي َ‬
‫ن الُم ْ‬
‫ن عاَهـْدُتْم ِم َ‬
‫سوِلِه إلى اّلِذي َ‬
‫ل َوَر ُ‬
‫نا ّ‬
‫سورة التوبة‪َ) :‬برآَءٌة ِم َ‬
‫السلم( هو البراءة من الدين والسلم‪ ،‬ومن هنا منع المام)عليه السلم( حتى من البراءة منه باللسان‪ ،‬فالواقع أ ّ‬
‫ن‬
‫ن أغلب الناس‬ ‫المام)عليه السلم( أذن بالساءة إلى شخصه لكنه لم يأذن بالساءة إلى دينه ولو لفظيًا ـ والخر أ ّ‬
‫يتصورون أّنهم إذا إجبروا على كلم ل يمكنهم القتناع باللفاظ ولبدّ من أن ترافقه النّية‪ ،‬ومن هنا فمن ُاجبر‬
‫ل إلّ أّنه‬
‫على إجراء صيغة الطلق فانه لبّد أن يقصد اللفظ والمعنى حين الصيغة‪ ،‬ان كان طلق المكره باط ً‬
‫يتضمن قصد النشاء ولذلك ليستدل الفقهاء على بطلن هذا الطلق بعدم قصد المعنى‪ ،‬بل يستندون في بطلنه‬
‫ن الول يهدف نفي‬ ‫ن قصد البراءة أسوأ‪ ،‬ل ّ‬ ‫على الكراه‪ ،‬ويصدق هذا المر على السب‪ ،‬فقصد السب سيئ‪ ،‬ال أ ّ‬
‫حرمة النسان‪ ،‬أّما الثاني فيهدف البراءة من دينه ومعتقده; أي إسلمه وليس هنالك من مسلم مستعد لهذا العمل‪.‬‬
‫لمور الثلث التي ذكرها المام)عليه السلم( في نهيه عن البراءة‪:‬‬ ‫والدليل على ذلك ا ُ‬

‫عّلل نهَيه لهم على البراءة منه عليه السلم‪ ،‬بقوله‪» :‬فإّني‬
‫المر الول‪» :‬فاّني ولدت على الفطرة«‪ .‬أما كيف َ‬
‫ل أحد يوَلد على الفطرة; فقد قال النبي صلى‬
‫ولْدت على الفطرة«; فإن هذا التعليل ليختص به عليه السلم‪ ،‬لن ك ّ‬
‫ل مولد يولد على الفطرة; وإّنما أبواه يهوّدانه وينصرانه«‪.‬‬
‫ل عليه وآله‪» :‬ك ّ‬
‫ا ّ‬

‫] ‪[ 410‬‬

‫عّلل نهيه لهم عن البراءة منه بمجموع ُامور وعلل; وهى كونه ولد على الفطرة‪ ،‬وكونه‬ ‫والجواب‪ ،‬أّنه عليه السلم َ‬
‫سبق إلى اليمان والهجرة; ولم يعلل بآحاد هذا المجموع‪ ،‬ومراده ها هنا بالولدة على الفطرة أّنه لم يوَلْد في‬
‫سل لربعين سنة‬ ‫ل عليه وآله أر ِ‬ ‫الجاهلية; لّنه ولد عليه السلم لثلثين عامًا مضت من عام الفيل; والنبي صلى ا ّ‬
‫ل عليه وآله مَكث قبل الرسالة سنين عشرًا يسمع‬ ‫مضت من عام الفيل; وقد جاء في الخبار الصحيحة أّنه صلى ا ّ‬
‫شر حكم‬ ‫حْكم تلك السنين الَع ْ‬ ‫الصوت ويرى الضوء‪ ،‬ول يخاطبه أحد; وكان ذلك إرهاصًا لرسالته عليه السلم ف ُ‬
‫ل عليه وآله; فالمولود فيها إذا كان في حجره وهو المتوّلى لتربيته مولود في أيام كأيام النبّوة‪،‬‬ ‫أّيام رسالته صلى ا ّ‬
‫ن يدعى له من الصحابة مّماثلته في الفضل‪ .‬وقد روى أ ّ‬
‫ن‬ ‫وليس بمولود في جاهلية محضة‪ ،‬ففارقت حاُله حال َم ْ‬
‫ل عليه وآله‪ ،‬فُأسِمع‬ ‫ل صلى ا ّ‬ ‫ى عليه السلم هى السنة التي بدئ فيها برسالة رسول ا ّ‬ ‫سَنة التى ولد فيها عل ّ‬
‫ال ّ‬
‫سَنة‬
‫طب فيها بشيء‪ .‬وهذه ال ّ‬ ‫الُهتاف من الحجار والشجار‪ ،‬وكشف عن بصره‪ ،‬فشاهد أنوارًا وأشخاصًا; ولم يخا َ‬
‫شف بالرسالة‪ ،‬وأنزل عليه‬ ‫هى السنة التي ابتدأ فيها بالتبّتل والنقطاع والعزلة في جبل حراء‪ ،‬فلم يزل به حتى ُكو ِ‬
‫خير‬ ‫سميها سَنة ال َ‬ ‫ي عليه السلم فيها‪ ،‬وي ّ‬ ‫عل ّ‬
‫ل عليه وآله يتّيمن بتلك السنة وبولدة َ‬ ‫ل صلى ا ّ‬ ‫الوحي‪ ،‬وكان رسول ا ّ‬
‫ن قِبلها شاهد‬ ‫وسنة البركة; وقال لهله ليلة ولدته‪ ،‬وفيها شاهد ما شاهد من الكرامات والقدرة اللهية‪ ،‬ولم يكن ِم ْ‬
‫ل علينا به أبوابًا كثيرة من النعمة والرحمة«‪ ،‬وكان كما قال صلوات‬ ‫حا ّ‬ ‫من ذلك شيئًا‪» :‬لقد ُولد لنا الليلة مولود َيْفَت ُ‬
‫ن السلم‪،‬‬ ‫ت دي ُ‬
‫ى عنه وكاشف الّغماء عن وجهه; وبسيفه ثب َ‬ ‫ل عليه‪ ،‬فإّنه عليه السلم كان ناصره والمحام َ‬ ‫ا ّ‬
‫ورست دعائمه‪ ،‬وتمّهدت قواعده عليه السلم‪.‬‬

‫ن جماعة من‬
‫المر الثالث‪» :‬والهجرة« كيف قال‪» :‬إّنه سبق إّنى الهجرة« ومعلوم أ ّ‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.115 / 4‬‬

‫] ‪[ 411‬‬

‫المسلمين هاجرو اقبله‪ ،‬منهم عثمان بن مظعون وغيره; وقد هاجر أبوبكر قبله‪ ،‬لّنه هارج في صحبة النبي صلى‬
‫ل عليه وآله; ومكث أّياما يرّد‬
‫ل صلى ا ّ‬
‫ي عليه السلم عنهما‪ ،‬فبات على فراش رسول ا ّ‬
‫ل عليه وآله; وتخلف عل ّ‬
‫ا ّ‬
‫الودئع التى كانت عنده‪ ،‬ثم هاجر بعد ذلك؟‬

‫ل ذلك على‬‫ل الناس إلى الهجرة«; وإّنما قال‪» :‬وسبقت« فقط; ول يد ّ‬ ‫والجواب‪ ،‬أّنه عليه السلم لم يقل‪» :‬وسبقت ك ّ‬
‫ل نفر يسير جدًا‪.‬‬
‫سْبقه للناس كافة; ول شبهة أّنه سبق معظم المهاجرين إلى الهجرة‪ ،‬ولم يهاجر قبَله أحد إ ّ‬
‫َ‬
‫طرة‪ ،‬ومنها‬‫وأيضا فقد قلنا إّنه عّلل أفضلّيته وتحريم البراءة منه مع الكراه بمجموع أمور‪ :‬منها ولدته على الِف ْ‬
‫لمور الّثلثة لم تجتمع لحد غيره; فكان بمجموعها متمّيزا عن‬‫سْبقة إلى الهجرة; وهذه ا ُ‬
‫سبقه إلى اليمان‪ ،‬ومنها َ‬
‫ل أحد من الناس‪.‬‬ ‫كّ‬

‫تأّملت‬

‫‪ 1‬ـ علة عدم ذكر المام)عليه السلم( للشخص المقصود بالخطبة‬

‫ن المراد بالشخص الذي بين المام)عليه السلم(صفاته هو معاوية‪ ،‬وذلك‬ ‫ن كافة القرائن تدل على أ ّ‬
‫أوردنا سابقًا أ ّ‬
‫ب المام)عليه السلم(ولم يبتدع هذاالمر أحد غيره‪،‬‬
‫لنطباق كافة الوصاف عليه إلى جانب كونه هو الذي سن س ّ‬
‫لّمة لتقف بصورة أعمق على‬ ‫ولعل عدم التصريح به يستند إلى رعاية متانة البيان‪ ،‬أو إثارة حس الطلع لدى ا ُ‬
‫هذا المطلب ول سيما بالستناد إلى هذه الصفات‪ ،‬أضف إلى ذلك فانّ الخطبة حيث تضمنت بعض النبوءات‬
‫ن المام)عليه السلم(لم يشئ الفصاح أكثر عن هذه الموضوع‪.‬‬ ‫الصريحة فا ّ‬

‫‪ 2‬ـ لماذا حكم المام)عليه السلم( بهدر دم معاوية؟‬

‫لقد صّرح المام)عليه السلم( في هذه الخطبة بقتل من إشتمل على هذه الصفات‪ ،‬كما قال ولن تقتلوه‪ .‬والسؤال‬
‫ن من يخرج‬ ‫الذي يطرح نفسه هنا‪ :‬لم هدر المام)عليه السلم( دمه؟ والجواب واضح لدى العلماء والفقهاء‪ ،‬ل ّ‬
‫على المام المعصوم فهو ناصبي خارج من ربقة السلم‪ ،‬وقد خرج على إمام ثبتت إمامته بنص‬
‫لّمة‪ .‬أضف إلى ذلك فقد رسخ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(وعن طريق بيعة ا ُ‬ ‫رسول ا ّ‬

‫] ‪[ 412‬‬

‫معاوية أساس الفساد في الرض وبابشع وأوسع صوره‪ ،‬وقد جيش الجيوش ضد المام)عليه السلم(حتى سالت‬
‫أنهارًا من الدماء في تلك المعارك‪ .‬إلى جانب بعثه ببعض أشقيائه لشن الغارات تلو الغارات على مناطق العراق‬
‫المعروفة وأخيرًا قتله لمحمد بن أبي بكر ومالك الشتر وسائر كبار صحابة المام)عليه السلم( لتجعله في‬
‫مصاف المفسدين في الرض والذي حكم القرآن بهدر دمهم‪ .‬فاذا كان هناك بعض الفراد المتعصبين الذين‬
‫ن النبي)صلى‬ ‫ليكترثون لكل هذه العمال ويبررونها باسم الجتهاد فلنا كلم آخر‪ .‬فقد ورد في الحديث الشريف أ ّ‬
‫ل)صلى ال عليه‬ ‫ن حرب رسول ا ّ‬ ‫ال عليه وآله( قال‪» :‬يا علي حربك حربي وسلمك سلمي«)‪ (1‬وكلنا نعلم بأ ّ‬
‫ن ابن‬
‫وآله(تجب الكفر حيث يصطلح على من يحاربه بالكافر الحربي الذي يباح دمه‪ .‬وورد في حديث آخر أ ّ‬
‫عباس كان قد كف بصره فمر بجماعة يتحدثون فسأل دليله ماذا يقولون‪ :‬أجاب‪ :‬يسبون عليًا)عليه السلم(‪ .‬قال‬
‫ل)صلى‬‫ب رسول ا ّ‬ ‫ل فقد كفر‪ ،‬قال‪ :‬فمن منكم س ّ‬ ‫با ّ‬‫ل من س ّ‬‫ل؟ قالوا سبحان ا ّ‬
‫فاحملني إليهم ثم سألهم‪ :‬لم تسبون ا ّ‬
‫ب عليًا)عليه‬ ‫ل)صلى ال عليه وآله(فهو كافر‪ .‬قال فمن س ّ‬ ‫ل من سب رسول ا ّ‬ ‫ال عليه وآله(؟ قالوا سبحان ا ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( قال‬ ‫ل أني سمعت رسول ا ّ‬ ‫السلم(؟ قالوا‪ :‬نعم نحن سببناه‪ .‬قال ابن عباس فاّني أشهد ا ّ‬
‫ل على منخريه في النار‪ .‬ثم التفت‬ ‫ل أكبه ا ّ‬
‫ل عزوجل ومن سب ا ّ‬ ‫»من سب عليًا فقد سبني ومن سبني فقد سب ا ّ‬
‫ابن عباس إلى دليله وقال له‪ :‬كيف رأيتهم‪ .‬فانشد يقول‪:‬‬

‫نظروا إليك باعين محمرة *** نظر التيوس إلى شفار الجارز‬

‫قال ابن عباس‪ :‬فداك أبوك زدني‪ .‬فقال‪:‬‬

‫خزر العيون نواكس أبصارهم *** نظر الذليل إلى العزيز القاهر‬

‫أحيائهم عار على أمواتهم *** والميتون فضيحة للغابر)‪(2‬‬


‫ن الحكم المذكور إذا كان السب يستند إلى الرادة والختيار ويستثنى منه الكراه والتهديد‬
‫ومن الطبيعي أ ّ‬
‫والجبار‪.‬‬

‫ن النبي)صلى ال عليه وآله( لم ينص على خلفة علي)عليه‬


‫ن ابن أبي الحديد قال‪ ،‬لو إفترضا أ ّ‬
‫جدير بالذكر أ ّ‬
‫السلم(‬

‫‪ .1‬إحقاق الحق ‪ 440 / 6‬ـ ‪.441‬‬

‫لمة الميني في كتاب الغدير عن علماء السنة مثل محب الدين الطبري في الرياض والشافعي في‬‫‪ .2‬روى هذا لحديث المرحوم الع ّ‬
‫الكفاية والحموي في الفرائد وابن صباغ المالكي في الفصول المهمة )الغدير ‪ (300 / 2‬وللوقوف أكثر راجع مصادر هذا الحديث في‬
‫المجلد السابع من احقاق الحق ‪.423 / 16 ;2 / 7‬‬

‫] ‪[ 413‬‬

‫أفلم يسمع معاوية قوله)صلى ال عليه وآله( لعلي)عليه السلم(‪» :‬أنا حرب لمن حاربت وسلم لمن سالمت«‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( يهدر‬
‫ن من يحارب رسول ا ّ‬
‫وقوله‪» :‬حربك حربي وسلمك سلمي« )‪ (1‬ومن الطبيعي أ ّ‬
‫دمه‪ ،‬وعليه فالذي يحارب المام)عليه السلم( يهدر دمه‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ تأريخ سب المام علي)عليه السلم(‬

‫ن معاوية أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بس ّ‬


‫ب‬ ‫قوله عليه السلم‪» :‬يأمركم بسّبي والبراءة مني«‪ ،‬فنقول‪ :‬إ ّ‬
‫ي عليه السلم والبراءة منه‪.‬‬
‫عل ّ‬

‫ن قام عمر بن عبدالعزيز رضى الّ‬ ‫وخطب بذلك على منابر السلم‪ ،‬وصار ذلك سنة في أّيام بني أمية إلى أ ْ‬
‫ن أباتراب‬‫ن معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة‪ :‬الّلهم ِإ ّ‬ ‫خنا أبوعثمان الجاحظ أ ّ‬ ‫تعالى عنه فأزاله‪ .‬وذكر شي ُ‬
‫ل‪ ،‬وعذبه عذابًا أليمًا‪ .‬وكتب بذلك إلى الفاق‪ ،‬فكانت هذه الكلمات‬ ‫حد في دينك‪ ،‬وصّد عن سبيلك فالعنه لعنًا وبي ً‬ ‫أْل َ‬
‫ُيشار بها على المنابر; إلى خلفة عمربن عبدالعزيز‪.‬‬

‫ج خطب بالموسم‪ ،‬فقام إليه إنسان‪ ،‬فقال‪ :‬يا أميرالمؤمنين‪ ،‬إن‬‫ن هشام بن عبدالملك لما ح ّ‬‫وذكر أبو عثمان أيضًا أ ّ‬
‫ن أبي تراب‪ ،‬فقال‪ :‬اكفف‪ ،‬فما لهذا جئنا‪.‬‬
‫ب فيه لع َ‬
‫هذا يوٌم كانت الخلفاء تستح ّ‬

‫ل القسري َلّما كان أمير العراق في خلفة هشام‪ ،‬كان يلعن علّيا‬‫ن خالد بن عبدا ّ‬ ‫وذكر المبّرد في "الكامل" أ ّ‬
‫ل صلى‬ ‫ي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم‪ ،‬صهر رسول ا ّ‬ ‫عليه السلم على الِمْنبر‪ ،‬فيقول‪ :‬اللهّم اْلعن عل ّ‬
‫ل عليه وآله على ابنته‪ ،‬وأبالحسن والحسين! ثم يقبل على الناس‪ ،‬فيقول هل َكّنيت!‬ ‫ا ّ‬

‫ت ما أّملت‪ ،‬فلو كففت عن‬


‫ن قومًا من بنى أمّية قالوا لمعاوية‪ :‬يا أميرالمؤمنين‪ ،‬إّنك قد بلغ َ‬
‫وروى أبو عثمان أيضًا أ ّ‬
‫ل!‬
‫ل حتى يربَو عليه الصغير‪ ،‬ويهرم عليه الكبير‪ ،‬ول يذكر له ذاكٌر فض ً‬ ‫َلْعن هذا الرجل! فقال‪ :‬ل وا ّ‬

‫‪ .1‬نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.24 / 18‬‬

‫] ‪[ 414‬‬

‫ل‪ ،‬وصاعقًة من أمره أرسله على الكافرين‬ ‫ل على أعداءا ّ‬‫قال محمد بن الحنفية في علي)عليه السلم(‪ :‬كان يَد ا ّ‬
‫ل عليه وسّلم‬
‫شنف والحسد‪ ،‬وابن عمه صلى ا ّ‬ ‫والجاحدين لحّقه‪ ،‬فقتلهم بكفرهم فشنئوه وأبغضوه‪ ،‬وأضمروا له ال ّ‬
‫ت أضغانها‪ ،‬فمنهم‬‫ب له ما عنده‪ ،‬أظهرتْ له رجال أحقادها‪ ،‬وشَف ْ‬ ‫ل إلى جواره‪ ،‬وأح ّ‬ ‫ى بعُد لم يمت; فلما نقله ا ّ‬
‫حّ‬
‫ن شتمه وقذفه بالباطيل; فإن يكن لذّريته وناصري دعوته دولة‬ ‫َمن ابتّز حقه‪ ،‬ومنهم من ائتمر به ليقتله‪ ،‬ومنهم َم ْ‬
‫ل رَقابهم‪ ،‬فيكون‬ ‫ن منهم يومئذ بالية‪ ،‬بعد أن تقتل الحياء منهم‪ ،‬وتذ ّ‬ ‫تنشر عظامهم‪ ،‬وتحِفر على أجسادهم; والبدا ُ‬
‫سّر‬
‫ل كافر ُي ِ‬
‫ل ما يشتم عليًا إ ّ‬
‫شَفا صدوَرنا منهم; إّنه وا ّ‬
‫سمه قد عّذَبُهم بأيدينا وأخزاهم; ونصرنا عليهم‪ ،‬و َ‬
‫ل عّز ا ُ‬
‫ا ّ‬
‫طت المنيُة‬ ‫ي عليه السلم عنه‪ .‬ما إّنه قد تخ ّ‬ ‫ح به‪ ،‬فيكنى بشتم عل ّ‬
‫ل عليه وآله ويخاف أن يبو َ‬‫ل صلى ا ّ‬ ‫شتم رسول ا ّ‬
‫ل منافق‪،‬‬‫ل عليه وآله فيه‪» :‬ل يحّبك إل مؤمن ول ُيبغضك ِإ ّ‬ ‫ل صلى ا ّ‬ ‫ل رسول ا ّ‬‫منكم َمن امتّد عمره‪ ،‬وسمع قو َ‬
‫وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون«‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ 4‬ـ التقية وسيلة دفاعية‬

‫تطرق بعض شّراح نهج البلغة هنا إلى موضوع التقية وشرعيتها‪ ،‬ول بأس أن نتعرض إليها هنا بصورة‬
‫مختصرة ونوكل الخوض في التفاصيل إلى محلها‪ .‬فالتقية بالمعني اللغوي إجتناب الشيء بينما ذكروا لها عدة‬
‫تعاريف إصطلحية‪ ،‬أهمها إخفاء العقيدة أو الدين خوف الضرر أو لمصلحة من المصالح ومنها حفظ الوحدة‬
‫ل)صلى ال‬ ‫جتناب الختلف أمام العداء‪ .‬ويستند هذا المعنى إلى القرآن الذي تحدث عن أصحاب رسول ا ّ‬ ‫وا ِ‬
‫ل ِفي‬‫نا ّ‬
‫س ِم َ‬
‫ك َفَلْي َ‬
‫ل ذ ِل َ‬
‫ن َيْفَع ْ‬
‫ن َوَم ْ‬
‫ن ُدونِ الُمْؤِمِنـي َ‬
‫ن َأْوِلياَء ِم ْ‬
‫ن الكاِفِري َ‬
‫خِذ الُمْؤِمُنو َ‬
‫عليه وآله(حين كانوا قلة‪) :‬ل َيّت ِ‬
‫ن َتـّتـُقوا ِمْنُهْم ُتقاًة( )‪ ،(1‬فقد تحدثت الية صراحة عن التقية بما ليبقي من مجال للشك فيها‪.‬‬ ‫ل َأ ْ‬
‫شيء( ثم قال‪ِ) :‬إ ّ‬ ‫َ‬
‫أما قصة تقية عمار ونطقه ببعض الكلمات ضد السلم والنبي)صلى ال عليه وآله( أمام المشركين‬

‫‪ .1‬سورة العمران ‪.28 /‬‬

‫] ‪[ 415‬‬

‫ل)صلى ال عليه وآله( باكيًا خشية فساد دينه‬ ‫فهى مشهورة معروفة‪ ،‬فقد إضطر لتلك الكلمات‪ ،‬ثم أتى رسول ا ّ‬
‫نا ّ‬
‫ل‬ ‫ن الكراه هو الذي دفعه إلى ذلك فل ضرر على دينه وأ ّ‬ ‫ل)صلى ال عليه وآله( في أ ّ‬ ‫وإيمانه‪ ،‬فهدأه رسول ا ّ‬
‫ح ِبالُكْفِر‬
‫شَر َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن َم ْ‬
‫ن()‪َ)(1‬ولـِك ْ‬ ‫ليما ِ‬
‫ن ِبا ِ‬‫طَمِئ ّ‬
‫ن ُأْكِرَه َوَقْلُبُه ُم ْ‬‫ل َم ْ‬‫ن َبْعِد ِإيماِنِه ِإ ّ‬
‫ل ِم ْ‬‫ن َكَفَر ِبا ّ‬
‫أنزل بحقه قرآنًا‪َ) :‬م ْ‬
‫ظـيٌم()‪ (2‬النموزج الخر للتقية ما ورد في سورة غافر بشأن مؤمن آل‬ ‫عِ‬ ‫ب َ‬‫عذا ٌ‬ ‫ل َوَلُهْم َ‬
‫نا ّ‬ ‫ب ِم َ‬
‫ض ٌ‬ ‫غ َ‬ ‫صْدرًا َفَعَلْيِهْم َ‬
‫َ‬
‫ت ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ل َوَقْد جاَءُكْم ِبالَبّينا ِ‬
‫يا ّ‬
‫ل َرّب َ‬
‫ن َيُقو َ‬
‫ل َأ ْ‬‫جً‬‫ن َر ُ‬‫ن َيْكُتُم ِإيماَنُه َأَتْقُتُلو َ‬‫عْو َ‬
‫ل ِفْر َ‬‫نآِ‬ ‫ن ِم ْ‬
‫ل ُمـْؤِم ٌ‬‫جٌ‬ ‫ل َر ُ‬‫فرعون‪َ) :‬وقا َ‬
‫ل بتقيته‪ .‬كما تظافرت الروايات‬ ‫َرّبُكْم()‪(3‬فالقرآن يثني على هذا المؤمن ويستحسن كلمه ويصرح برضى ا ّ‬
‫السلمية التي أكدت على أهمية التقية لتصفها باّنها تقي المؤمن مخاطر العداء وتحفظ دمه وأن التقى من الدين‪،‬‬
‫ومن ل تقية له ل دين له‪ ،‬واليمان بل تقية كالجسد بل رأس‪ ،‬وأّنها من أفضل العمال‪ ،‬ول نرى البحث يتسع‬
‫للخوض في التفاصيل‪ ،‬ومن أراد المزيد فليرجع إلى القاعدة السابعة من المجلد الول لكتاب القواعد الفقهية‪.‬‬
‫ن اظهار العقيدة الباطنية أحيانًا قد يسبب بعض الخطار على‬ ‫ن فلسفة التقية واضحة‪ ،‬وهى أ ّ‬ ‫أضف إلى ذلك فا ّ‬
‫النفس والعرض والمال دون أن تترتب عليه أية فائدة‪ ،‬فالعقل يحكم بضرورة عدم إهدار القوى والطاقات عبثًا‪،‬‬
‫ولبّد من حفظها بواسطة التقية واستثمارها في المواقع المطلوبة‪ .‬ولعل هذا هو المعنى المراد بوصفها بترس‬
‫ن التقية ل تعني الفرار من المسؤولية‪ ،‬بل هى أشبه بالتكتيك الحربي عن‬ ‫المؤمن أو جنة المؤمن‪ .‬فالواقع هو أ ّ‬
‫طريق الستتار وإعادة تنظيم القوة واللجوء إليها في الوقت المناسب‪.‬‬

‫—–‬

‫ن هذه الية نزلت في عمار‪ ،‬وصحيح أن عمار اجبر على الكفر إلّ أّنه تظاهر بأّنه تكلم من خلل‬
‫‪ .1‬ـ أجمع مفسرون الفريقين أ ّ‬
‫العتقاد بذلك وأّنه رجع عن دين محمد ليتركوه ويحفظ دمه‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة النحل ‪.106 /‬‬

‫‪ .3‬سورة غافر ‪.28 /‬‬


‫] ‪[ 416‬‬

‫] ‪[ 417‬‬

‫الخطبة)‪58 (1‬‬

‫ومن كلم له)عليه السلم(‬

‫كلم به الخوارج حين اعتزلوا الحكومة وتنادوا‪:‬‬

‫لا ّ‬
‫ل‬ ‫ل حكم إ ّ‬

‫نظرة إلى الخطبة‬

‫ل بعد أن فرضوا التحكيم على المام)عليه‬ ‫ن الحكم ّ‬


‫ن الخوارج ذهبوا إلى أ ّ‬
‫تفيد عبارات هذه الخطبة أ ّ‬
‫السلم(ورجعوا عنه‪ ،‬وأن من ينكر ذلك الشعار قد خرج من الدين‪ ،‬ثم إندفعوا أبعد من ذلك ليتهموا علي)عليه‬
‫ن التحكيم فرض على المام)عليه السلم(‪،‬‬ ‫السلم(بالخروج من السلم لقبوله التحكيم وعليه أن يتوب‪ .‬والحال أ ّ‬
‫ولو فرضنا ان المام)عليه السلم(إقترح ذلك فاصل التحكيم ليخالف السلم‪ ،‬وانحرف في صفين واستغل من‬
‫قبل معاوية‪ .‬على كل حال فان المام)عليه السلم( يدعو عليهم ويذكرهم بسوء مقالتهم‪ ،‬ثم يخبر عن المستقبل‬
‫المظلم للخوارج والذل الهوان الذي ينتظرهم‪.‬‬

‫—–‬

‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬اورد بعض هذه الخطبة قبل السيد الرضي )ره( إبن قتيبة في كتاب المامة والسياسة وابن الجوزي في تذكرة‬
‫الخواص والطبري في المسترشد‪ ،‬كما نقل ابن أثير في كتاب النهاية عدة إحتمالت وردت بشأن بعض مفردات الخطبة وهذا يشير أّنه‬
‫حصل عليها من عدة نسخ )مصادر نهج البلغة‪.(36 / 2 ،‬‬

‫] ‪[ 418‬‬

‫] ‪[ 419‬‬
‫عَلى‬
‫شَهُد َ‬ ‫ل)صلى ال عليه وآله(َأ ْ‬ ‫سوِل ا ّ‬ ‫جهاِدي َمَع َر ُ‬ ‫ل َو ِ‬‫ي ِمْنُكْم آِثٌر‪َ ،‬أَبْعَد ِإيماِني ِبا ّ‬
‫ب‪َ ،‬ول َبِق َ‬‫ص ٌ‬ ‫»َأصاَبُكْم حا ِ‬
‫ب‪َ ،‬أَما ِإّنُكْم‬
‫عَقا ِ‬
‫عَلى َأَثِر اَْل ْ‬
‫جُعوا َ‬
‫شّر َمآب َواْر ِ‬ ‫ن« َفُأوُبوا َ‬ ‫ن اْلُمْهَتِدي َ‬
‫ت ِإذًا َوما َأنا ِم َ‬ ‫ضَلْل ُ‬
‫سي ِباْلُكْفِر! َلَقْد » َ‬‫َنْف ِ‬
‫سّنًة«‪.‬‬‫ن ِفيُكْم ُ‬
‫ظالُمو َ‬‫خُذها ال ّ‬
‫طعًا َوَأَثَرًة َيّت ِ‬
‫سْيفًا قا ِ‬
‫ل َو َ‬‫ن َبْعِدي ُذّل شاِم ً‬ ‫سَتْلَقْو َ‬
‫َ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫فضاعة مظلومية المام)عليه السلم(‬

‫ن المام)عليه السلم( خطب هذه الخطبة حين رأى الخوارج التحكيم في صفين ثم رجعوا عنه ورفعوا‬ ‫كما ذكرنا أ ّ‬
‫ل« وطالبوا المام)عليه السلم( بالتوبة لقبوله التحكيم ليلتحقوا به فيقاتلوا أهل الشام‪،‬‬
‫ل ّ‬
‫شعار »ل حكم إ ّ‬
‫ل)صلى ال عليه‬ ‫ل وجهادي مع رسول ا ّ‬ ‫فقال)عليه السلم(‪»:‬أصابكم حاصب‪ ،‬ولبقي منكم آثر‪ ،‬أبعد إيماني با ّ‬
‫وآله( أشهد على نفسي بالكفر‪ ،‬لقد »ظللت إذا وما أنا من المهتدين«‪.‬‬

‫ل ورسوله)صلى ال عليه‬ ‫يالها من مصيبة أن يبتلى بهؤلء الحمقى فرد مثل علي)عليه السلم( أول من آمن با ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( ـ‬ ‫وآله(ووقف إلى جانبه في جميع الغزوات ـ أل في البعض التي استخلفه فيها رسول ا ّ‬
‫وثبت في المواقع التي تنكص فيها البطال ليسقي شجرة السلم والتوحيد بلسانه وسيفه‪ ،‬فيطالبه ُاولئك الحمقى‬
‫ن مظلومية‬ ‫بالعتراف بالكفر والتوبة‪ .‬ولعل تأريخ السلم لم يشهد مثل هذه الحادثة المروعة‪ ،‬ومن هنا نقول بأ ّ‬
‫المام)عليه السلم( كانت وما زالت تفوق من سواه‪ .‬وكما صرح)عليه السلم(في الخطبة السابقة‪» :‬فاّني ولدت‬
‫ل طرفة عين أبدًا أّنه‬ ‫على الفطرة وسبقت إلى اليمان والهجرة«; المر الذي أكده علماء الفريقين وأنه لم يشرك با ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله( في كافة الغزوات سوى تبوك حين كلفه النبي)صلى ال‬ ‫خاض غمار الجهاد مع رسول ا ّ‬
‫ن المراد بالحاصب الريح الشديدة التي تثير‬ ‫عليه وآله(بحفظ المدينة‪ ،‬العبارة »أصابكم حاصب« وباللتفات إلى أ ّ‬
‫ل عليهم العذاب السماوي‪ ،‬كما يمكن‬ ‫الحصباء بحيث قد تدفن أحيانًا قافلة‪ ،‬تفيد الدعاء عليهم في أن يرسل ا ّ‬

‫] ‪[ 420‬‬

‫أن تكون كناية عن المشاكل الجتماعية التي تعصف بحياتهم والعبارة »ول بقى منكم آثر« واستناد إلى أ ّ‬
‫ن‬
‫المقصود بالثر الشخص الذي يأثر الحديث‪ ،‬أي يرويه‪ ،‬فكأّنه قال)عليه السلم( لبقي منكم مخبر وهلكتم بأجمعكم‬
‫)طبعًا نقلت هذه المفردة بعدة صور ذات معان مختلفة سنعرض لها في شرح كلم السيد الرضي آخر الخطبة«‪.‬‬
‫ثم تساءل المام)عليه السلم(باستغراب عن ذلك الطلب المشين وهو من رّوي شجرة السلم بجهاده العظيم‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬فهو أول من آمن وأسلم وهاجر‪ ،‬فهل لمثل هذا‬ ‫ومواقفه المشهودة وشده أزر رسول ا ّ‬
‫الفرد أن يضل وينحرف عن السبيل‪ .‬ثم أشار)عليه السلم( إلى موضوعين‪ ،‬الول دعاؤه عليهم »فأبوا)‪(1‬‬
‫ل لهم الذلة والهوان في الدنيا‬‫لا ّ‬
‫شرمآب وارجعوا على أثر العقاب«)‪ (2‬فقد دعا عليهم في العبارة الولى سائ ً‬
‫ل أن يبتلهيم بما ابتلى به مشركي الجاهلية الذي كانوا على غرار الخوارج‬ ‫والخرة‪ ،‬وفي العبارة الثانية سأل ا ّ‬
‫ل ثم يجحدونها‪ .‬وذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أنّ قوله‪» :‬ارجعوا‪ «...‬أراد به توبوا‪ ،‬بينما تفيد‬ ‫يرون آيات ا ّ‬
‫قرينة هذا القول انه استمرار للدعاء السابق‪ .‬والثاني نبوءته بمستقبلهم »أما ارنكم ستلقون بعدي ذل شامل وسيفًا‬
‫ن نبوء المام)عليه السلم(بحق الخوارج قد تحققت حيث‬ ‫قاطعًا وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة« جدير بالذكر أ ّ‬
‫ابيدوا في مختلف الحروب وتجرعوا الذل والهوان‪ .‬وقد أفرد ابن أبي الحيدد فصل أسماه أخبار الخوارج وذكر‬
‫رجالهم وحروبهم ليخوض في تفاصيل أحداث زعمائهم وسنتطرق إلى ذلك في البحاث القادمة‪.‬‬

‫قال السيد الرضي )ره( شارحًا بعض مفردات الخطبة‪ :‬قوله)عليه السلم(»ول بقى منكم آبر« يروى على ثلثة‬
‫أوجه‪ :‬أحدها أن يكون كما ذكرناه‪ :‬آبر بالراء‪ ،‬من قولهم للذي يأبر النخل ـ أي يصلحه ـ ويروى »آثر« وهو الذي‬
‫يأثر الحديث ويرويه أي يحكيه‪ ،‬وهو أصح الوجوه عندي‪ ،‬كأّنه قال‪ :‬ل بقي منكم مخبرًا‪ ،‬ويروى آبز ـ بالزاي‬
‫المعجمة ـ وهو الواثب‪ .‬والهالك أيضًا يقال له »آبز«‪.‬‬
‫—–‬

‫اثرة اسم مصدر من مادة استئثار بمعنى الستبداد‪.‬‬

‫‪» .1‬أوبوا« من مادة »أوب« على وزن قوم بمعنى الرجوع‪ ،‬كما تطلق هذه المفردة على السحاب والرياح بسبب الرجوع فيها‪.‬‬

‫‪ .2‬أعقاب جمع عقب بمعنى كعب الرجل‪ ،‬كما تطلق على الثر الذي يتركه على الرض‪ ،‬وهى هنا كناية عن الجيال السابقة‪.‬‬

‫] ‪[ 421‬‬

‫الخطبة)‪59 (1‬‬

‫وقال )عليه السلم(‬

‫ن القوم عبروا جسر النهروان‪.‬‬


‫لما عزم على حرب الخوارج‪ ،‬وقيل له‪ :‬إ ّ‬

‫شَرٌة«‪.‬‬
‫ع َ‬
‫ك ِمْنُكْم َ‬
‫شَرٌة َول َيْهِل ُ‬
‫ع َ‬
‫ت ِمْنُهْم َ‬
‫ل ل ُيْفِل ُ‬
‫طَفِة َوا ّ‬
‫ن الّن ْ‬
‫عُهْم ُدو َ‬
‫»َمصاِر ُ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫هل من سبيل لعلم الغيب‬

‫لمور‬‫ن الرسول الكريم)صلى ال عليه وآله( وائمة العصمه)عليه السلم( قد أخبروا كرارًا عن ا ُ‬ ‫لشك ول ريب أ ّ‬
‫ن العلم بالغيب كان يمثل‬
‫الغيبية‪ ،‬وبعبارة ُاخرى لهم علم بالغيب‪ ،‬القرآن تحدث عن المسيح)عليه السلم( في أ ّ‬
‫ن ِفي ُبُيوِتُكْم()‪ (2‬كما يختتم هذه الية بان ذلك من آيات ا ّ‬
‫ل‬ ‫خُرو َ‬
‫ن َوما َتّد ِ‬
‫إحدى معجزاته فقال )َوُأَنّبُئـُكْم ِبما َتْأُكُلو َ‬
‫وصدق دعوى نبوته‪.‬‬

‫وقد حفل نهج البلغة ومنه هذا الكلم بالخبار عن المغيبات‪ .‬أّما أنى للمام)عليه السلم(بعلم الغيب؟ ما حدود‬
‫ل؟ وكيف تفسر الروايات الواردة بشأن‬‫علم المعصوم بالغيب؟ وما تفسير اليات التي حصرت على الغيب با ّ‬
‫إثبات هذا العلم للمعصومين؟ وما إلى ذلك من أسئلة واستفسارات فقد أوكلنا الجابة عليها في شرح الخطبة ‪.128‬‬
‫—–‬

‫‪ .1‬سيأتى سند هذا الكلم ذيل الخطبة رقم ‪ 60‬فهى تشير إلى نفس الموضوع‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة آل عمران ‪.49 /‬‬

‫] ‪[ 422‬‬

‫] ‪[ 423‬‬

‫الخطبة)‪60 (1‬‬

‫و قال )عليه السلم(‬

‫لما قتل الخوارج فقيل له‪ :‬يا أميرالمؤمنين هلك القوم بأجمعهم‬

‫خُرُهْم‬
‫نآِ‬
‫حّتى َيُكو َ‬
‫طَع َ‬
‫ن ُق ِ‬
‫ت الّنساِء‪ُ ،‬كّلما َنجََم ِمْنُهْم َقْر ٌ‬
‫ب الّرجاِل‪َ ،‬وَقرارا ِ‬
‫صل ِ‬
‫ف ِفي َأ ْ‬
‫ط ٌ‬
‫ل‪ِ ،‬إّنُهْم ُن َ‬
‫ل َوا ّ‬
‫»َك ّ‬
‫ن‪«.‬‬ ‫لِبي َ‬‫سّ‬ ‫صوصًا َ‬ ‫ُل ُ‬

‫—–‬

‫الشرح والتفسير‬

‫مصير الخوارج‬

‫هذا الكلم إستمرار لما ورد في البحاث السابقة بشأن الخوراج‪ .‬وهنا أشار المام)عليه السلم(إلى بعض‬
‫النبوءات بشأن الخوارج; المر الذي يمكن اعتباره من معاجزه)عليه السلم( فقد إستهل كلمه بالرد على بعض‬
‫ل‪ ،‬إنهم نطف في أصلب الرجال‬ ‫أصحابه ممن قال له‪ :‬يا أميرالمؤمنين هلك القوم بأجمعهم فقال‪» :‬كل وا ّ‬
‫وقرارت)‪ (2‬النساء« فحتى لو قتل هؤلء‪ ،‬فهناك النطف التي‬
‫‪ .1‬سند الخطبة‪ :‬قال صاحب كتاب مصادر نهج البلغة بعد أن جمع الخطبة ‪ 59‬و ‪ 60‬بشأن هذا الكلم رواه المبرد في الكامل‬
‫)والمبرد من علماء القرن الثالث الهجري( ونقل بعضه البيهقي في المحاسن والمساوئ والمسعودي في مروج الذهب ثم مدح ابن‬
‫أبي الحديد في انه قال‪ :‬هذا من الخبار المشهورة القربية من التواتر ومن معجزاته الغيبة)عليه السلم(‪ .‬مصادر نهج البلغة‪/ 2 ،‬‬
‫‪.37‬‬

‫طَفًة‬
‫‪» .2‬قرارات« من مادة »قرار«‪ ،‬وقرارت النساء أرحامهن حيث تنعقد النطفة لمدة في الرحم فتقر هناك‪ ،‬وقال القرآن )ُثّم جََعْلناُه ُن ْ‬
‫ِفي َقرار َمـِكـين(‪ ،‬سورة المؤمنون ‪.13 /‬‬

‫] ‪[ 424‬‬

‫ستلد في المستقبل وتقتفي آثار الخوارج‪ ،‬وهذا ما حصل بالفعل حيث ظهر مثل هؤلء الفراد بعد سنوات‪ ،‬بل‬
‫قرون لينتهجوا ذات السبيل الذي سلكه أوائلهم‪ .‬أضف إلى ذلك وكما أشير سابقا فقد نجى تسعة أفراد من أصحاب‬
‫النهروان وفروا إلى مختلف المناطق ليرمموا هذه المدرسة الفاسدة ويعيدوا بنائها ممن جانب آخر فاننا نعلم بأ ّ‬
‫ن‬
‫من حضر النهروان لم يكونوا جميع الخوارج‪ ،‬بل الخوارج‪ .‬ثم اماط اللثام عن تبوءة ُاخرى فقال)عليه‬
‫السلم(‪»:‬كلما نجم)‪ (1‬منهم قرن قطع« فالعبارة إشارة إلى وحشية الخوارج من جهة وأّنهم كالحيوان الذي له‬
‫قرن لذى الخرين‪ ،‬ومن جهة ُاخرى يشير إلى النتكاسات المتتالية والهزائم المتتابعة التي يمنى بها الخوارج‬
‫طيلة حياتهم المقيتة; المر الذي تحقق تأريخيًا وسنتعرض له في البحث القادم‪ .‬ثم يختتم المام)عليه السلم(كلمه‬
‫ل‪» :‬حتى يكون آخرهم لصوصا سلبين« وهذا هو المر الخر الذي ثبت تحققه تأريخيًا‪ ،‬حيث تعرض أرباب‬ ‫قائ ً‬
‫التأريخ إلى عدد من مشهوري الخوارج ممن تحولوا إلى لصوص خطرين‪ ،‬وسنعرض لهذا المر بالتفصيل‬
‫لحقًا‪.‬‬

‫تأّملت‬

‫‪ 1‬ـ الخوارج ظاهرة لفرقة‬

‫ن الخوارج لم يكونوا فرقة معينة‪ ،‬يقدر ما كان يراهم المام)عليه‬ ‫يستفاد من كلم المام)عليه السلم( أ ّ‬
‫ن القرائن تفيد أن هذه الظاهرة كانت على عهد‬‫السلم(ظاهرة حية طيلة التأريخ السلمي‪ ،‬حتى أ ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(‪ ،‬فقد أورد المفسر الجليل المرحوم الطبرسي عن أبي سعيد الخدري في ذيل الية‬ ‫رسول ا ّ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(حين قسم غنائم قبيلة هوازن على‬ ‫ن رسول ا ّ‬ ‫ت‪ (2)(...‬أ ّ‬‫صَدقا ِ‬
‫ك ِفي ال ّ‬
‫ن َيْلِمُز َ‬
‫)َوِمْنُهْم َم ْ‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(‪ :‬فمن‬ ‫المسلمين يوم حنين قام إليه حرقوص بن زهير وقال‪ :‬اعدل يا محمد! فقال رسول ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فقال)صلى ال عليه وآله(‪» :‬دعه فان له‬ ‫ذا يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر‪ :‬دعني أضرب عنقه يا رسول ا ّ‬
‫أصحابا يحقر أحدكم صلته مع صلتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية«‬
‫ن النبي)صلى ال عليه وآله(قال‪:‬‬‫وأضاف المرحوم الطبرسي وجاء في حديث آخر أ ّ‬

‫‪» .1‬نجم« من مادة »نجم« على وزن حجم بمعنى الطلوع‪ ،‬كما يطلق على كل ظهور وطلوع مفاجىء‪.‬‬

‫‪ .2‬سورة التوبة ‪.58 /‬‬

‫] ‪[ 425‬‬

‫طوا‬
‫عُ‬‫ن ُأ ْ‬
‫ت َفِإ ْ‬
‫صَدقا ِ‬
‫ك ِفي ال ّ‬
‫ن َيْلِمُز َ‬
‫»فاذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم« فترلت الية المذكورة‪َ) :‬وِمْنُهْم َم ْ‬
‫ن هذه الكلمات تفيد إمتداد الجذور الفكرية للخوارج‬ ‫ن(‪ .‬فالواقع أ ّ‬
‫طو َ‬
‫خـ ُ‬
‫سَ‬‫طْوا ِمْنها ِإذا ُهْم َيـ ْ‬
‫ن َلْم ُيـْع َ‬
‫ضوا َو ِإ ْ‬‫ِمْنها َر ُ‬
‫إلى عصر النبي)صلى ال عليه وآله(وأّنهم لم يكونوا يتورعون حتى عن مجابهة النبي)صلى ال عليه وآله(إذا‬
‫ن عائشة سألت مسروق‪ :‬هل عندك‬ ‫تعرضت مصالحهم للخطر‪ .‬ونقل ابن أبي الحديد عن مسند أحمد بن حنبل أ ّ‬
‫علم من المخدج )أحد زعماء الخوارج(؟ فقلت‪ :‬نعم‪ ،‬قتله علي بن أبي طالب على نهر قالت عائشة‪ :‬إبغني على‬
‫ل شهدوا عندها بذلك‪ .‬قال فقلت لها‪ :‬سألتك بصاحب القبر‪ ،‬ما الذي سمعت من‬ ‫ذلك بينة‪ .‬فأقمت رجا ً‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(فيهم؟ فقالت‪ :‬نعم سمعته يقول‪» :‬إّنهم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق‬ ‫رسول ا ّ‬
‫ل وسيلة«)‪ .(1‬هذا ويمكن ايجاز مميزات الخوارج فيمايلي‪ :‬إّنهم طائفة تعني كثيرًا بظواهر‬ ‫والخليقة وأقربهم عندا ّ‬
‫العبادات وحتى المستحبات والمكروهات البسيطة وهذا ما جعلهم يعيشون الغرور ويشعرون بالعجب‪ ،‬وبالمقابل‬
‫كانوا أفراد جاهلين متعصبين خارجين عن حدود الدب والخلق‪ ،‬ول يتورعون عن أقذر الساليب من أجل تحقيق‬
‫مآربهم‪ ،‬وأفضل نموذج على ذلك سوء خلق »ذو الخويصرة« )حرقوص( وفضاضته تجاه النبي)صلى ال عليه‬
‫ن هذا ليعني عدم وجود إمتداداتهم الفكرية لما قبل‬
‫لأّ‬
‫ن الخوارج ظهروا في صفين بعد التحكيم إ ّ‬ ‫وآله(‪ .‬صحيح أ ّ‬
‫عصر المام)عليه السلم(ومازلنا إلى اليوم نلمس ثقافتهم وأفكارهم المنحطة لدى بعض طبقات وفئات مختلف‬
‫المجتمعات البشرية‪ ،‬ولعل أغلب الوهابيين ينتمون إلى هذه الزمرة‪ ،‬لّنهم يتصفون بصفاتهم‪ .‬كما نرى في‬
‫أوساطنا بعض الفراد الشديدي اللتزام بقشور الدين بينما يرون إنحراف كبار علماء الدين عن الصراط المستقيم‬
‫ويسعون جاهدين لثارة البلبل والفتن‪ .‬وليبدو القتال علجًا لمرض هذه الفئة الضللة‪ ،‬بل علجها يكمن في رفع‬
‫لّمة وانفتاحها على المسائل الدينية والعقائدية; المر الذي صرح به المام)عليه السلم( في‬
‫المستوى الثقامي ل ُ‬
‫الخطبة القادمة‪ .‬وقد أشار المام)عليه السلم( في الخطبة السادسة والثلثين إلى مدى جهل هؤلء الفراد فقال‬
‫»وأنتم معاشر أخفاء الهام‪ ،‬سفهاء الحلم ولم آت ـ ل أبالكم ـ بجرا ول أردت‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪.267 / 2‬‬

‫] ‪[ 426‬‬

‫ل بن‬‫لكم ضرًا«‪ .‬وكفى هذه الفرقة ضللة وانحرافًا وفضاضة ما فعلته بصحابي النبي)صلى ال عليه وآله(عبدا ّ‬
‫الخباب المعروف بورعه وتقواه وزوجته الحاملة حيث قتلتها بتلك الطريقة البشعة وبقرت بطن زوجته لّنهما لم‬
‫يتنكرًا لعلي)عليه السلم(بينما كانت تستشكل قتل اليهودي‪ ،‬بل كانت لترى جواز قتل الخنزير‪ .‬بل كانوا يشكلون‬
‫على أحدهم إذا تناول تمرة مهملة تحت شجرة دون إذن صاحبها‪ ،‬بينما ليتورعون عن سفك دماء كبار صحابة‬
‫ل)صلى ال عليه وآله(وأميرالمؤمنين)عليه السلم(‪ .‬كان هنالك تناقضًا واضحًا بين ظاهرهم وباطنهم‬ ‫رسول ا ّ‬
‫وأقوالهم وأفعالهم‪ ،‬حتى إمتد ذلك التناقض إلى عقائدهم الفقيهة والكلمية‪ ،‬فكانوا يرون وجوب قتل مرتكب‬
‫الكبيرة‪ ،‬بينما يعتقدون بعدم الحاجة إلى الحاكم رغم الفوضى والهرج والمرج الذي يسود المجتمع‪ .‬وتفيد القرائن‬
‫أّنهم كانوا مفرطين في المسائل الجنسية وغارقين في الشهوات‪ ،‬ولعل هذا ما جعلهم يجوزون العقد على تسع‬
‫نساء‪ ،‬ول يرون الرجم عقوبة لمن زنا وهو محصن‪ .‬ومن الطبيعي أن تتفرع هذه الفرقة عدة فروع بفعل ذلك‬
‫الجهل والتعصب والحمق‪ ،‬ومن هنا لم تمض عليها مدة حتى انقسمت فرقًا لكل منها زعيم من قبيل الزارقة‬
‫والنجدات والصفرية والعجاردة والثعالبة وما تشابه ذلك‪ .‬لعلنا نلمس هذه الفرقة اليوم في الوهابية التي تعيش‬
‫التمسك بظاهر العبادات وتتحرج في المكروهات والمباحات وتؤدي المستحبات‪ ،‬بينما تكفر أغلب المسلمين من‬
‫ل أّنهم يرون أنفسهم أفضل من غيرهم‪ ،‬فهم‬ ‫السنة والشيعة وتبيح دمائهم‪ ،‬ورغم ضحالتهم الفكرية وجمودهم إ ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫كالخوارج يرون أنفسهم الحق المطلق وما سواهم باط ً‬

‫‪ 2‬ـ الخوارج لصوصا سلبين‬

‫ن آخرهم لصوصًا سلبين‪ .‬فمن بين‬ ‫يشهد التأريخ بتحقق ما أخبر به المام)عليه السلم( عن الخوارج من أ ّ‬
‫الفراد الذين ذكرهم ابن أبي الحديد الذي آل أمرهم إلى السرقة والسلب‪ :‬الوليد بن طريق الشيباني على عهد‬
‫هارون الرشيد‪ .‬فبعث له هارون بيزيد بن مزيد هو من بني شيبان فقتله وأتاه برأسه وابن عمرو الخثعمي على‬
‫ل أّنه هرب بينما‬
‫عهد المتوكل العباسي الذي عرف بقطعه للطرق‪ ،‬فبعث له بأبي سعيد محمد بن يوسف الطائي‪ ،‬إ ّ‬
‫قتل جمع كثير من صحبه وأسر آخرون‪ .‬ثم ظهرت جماعة منهم في منطقة كرمان وعمان فكانوا مفسدين في‬
‫الرض ومحاربين‪،‬‬

‫] ‪[ 427‬‬

‫أما أسماؤهم فقد أحصاها أبو اسحاق الصابي في كتاب التاجي‪(1).‬‬

‫تم المجلد الثاني لشرح نهج البلغة‬


‫ل بفائق الشكر لما‬
‫ل أن ابتهل إلى ا ّ‬‫لقد إنتهى المجلد الثاني من الشرح باختتام الخطبة الستين‪ ،‬ول يسعني هنا إ ّ‬
‫ل إياه الخذ بيدي إلى إتمام هذا العلم‪ ،‬كما أسأله أن يوفقنا لن نعيش‬ ‫وفقني من القيام بهذا العمل المتواضع سائ ً‬
‫ل عليه توكلت وإليه‬‫ل با ّ‬
‫هذه الكلمات على مستوى القلب والعمل فتقودنا إلى سعادة الدنيا والخرة‪ .‬وما توفيقي إ ّ‬
‫ل رب العالمين‪.‬‬
‫أنيب‪ ،‬وآخر دعوانا أن الحمد ّ‬

‫السابع من صفر عام ‪1419‬‬

‫الولدة الميمونة للمام الكاظم)عليه السلم(‬

‫‪ .1‬شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ‪ 73 / 5‬ـ ‪.76‬‬

You might also like