Professional Documents
Culture Documents
المقـــدمة
أما بعد:
- 2-
إن الشورى قيمة إنسانية مارستها الجماعات والقبائل
والشعوب والمم على مر تاريخها الطويل ،كل بطريقته
وثقافته وعقيدته وأعرافه وتقاليده ،سواء في سهول
سيبيريا ،أو أدغال أفريقيا ،أو صحراء الجزيرة العربية،
أو هضاب آسيا ،أو مروج أوربا ،أو غيرها من بلد الله
الواسعة ،إل إن السلم أضاف لها بعدا ً تعبديا ً وجعلها
من القيم النسانية الرفيعة ،ومن المقاصد الكبرى لهذا
الدين ،ورتب على العمل بها ثوابًا ،وعلى تركها عقابًا.
- 3-
مستجيبون لمر ربهم ،مقيمون لصلتهم ،وأمرهم
شورى بينهم ويزكون أموالهم وينفقون منها في سبيل
الله.
- 4-
وأما حكم الشورى فقد بينــت بأنهــا واجبــة بــالنظر إلــى
طبيعـــة الحكـــم فـــي الســـلم ،وأن قواعـــد السياســـة
الشــرعية تســتلزم عــدم النفــراد بــالرأي ،ل ســيما فــي
أمور المسلمين العامة.
- 5-
ن" )النمل ،آيــة 29 :ـ ـ سممُلو َمْر َ جعُ ال ْ ُ إ ِل َي ِْهم ب ِهَد ِي ّةٍ فََناظ َِرة ٌ ب ِ َ
م ي َْر ِ
.(35
وأما الحالة الثانية فقول إحدى المرأتين الخــتين لبيهــا
ْ َ
ن
جْره ُ إ ِ ّ
س مت َأ ِ
تا ْ
ما َيا أب َ ِ
داهُ َ
ح َ عن موسى عليه السلمَ " :قال َ ْ
ت إِ ْ
ْ
ن" )القصص ،آية .(26 مي ُ قوِيّ اْل َ ِ ت ال ْ َ جْر َ
ست َأ َ
نا ْ م ِ خي َْر َ َ
وقد نتــج عــن هــذه المشــورة المباركــة اســتقرار وأمــن
وراحة كبيرة لموسى عليه السلم.
ووضحت أن قيمة الشورى تتسع لسائر المـواطنين فـي
كل شأن يمس المصلحة العامة ،فل يتــدخل المواطنــون
المسلمون فيما يجريه المواطنون غيــر المســلمين مــن
شـــورى فـــي شـــئون عقيـــدتهم ول المواطنـــون غيـــر
المســلمين فيمــا يمارســه المســلمون مــن شــورى فــي
شؤون عقيدتهم إل ما كان أدخل في القواعد المشتركة
بينهما من قيم إنسانية ،وقواعد أخلقيــة وشــؤون فنيــة
وإدارية.
وتحدثت عن أهل الشورى وصفاتهم وطريقة اختيــارهم
وذكرت أهم صفاتهم كالعلم ،المانة ،والخبرة ،ولخصــت
أهم صلحيات مجلس الشــورى ووظــائفه وتكلمــت عــن
الصول والقواعد الشرعية التي تؤيد تطــوير المؤسســة
الشــورية ،كقاعــدة ســدّ الــذرائع ،والمصــالح المرســلة
والقتباس لما فيه مصلحة وخير .
وسألت هل يمكننا الستفادة من الديمقراطية؟ وما هي
آفاتهــا ومــا هــي الفــروق بينهــا وبيــن الشــورى وأوجــه
التفاق معها؟.
وركزت على العلقة بين الصــلح والشــورى ،فمشــاريع
الصلح التي تدندن حولها الحزاب والدول والمنظمــات
والمؤسســـات ودعـــاة الصـــلح فـــي عالمنـــا العربـــي
والسلمي الكبير مرتبطة جذريا ً بالشورى.
فالصــلح الــداخلي ،هــو النــابع مــن المــة ذاتهــا مــن
عقيــــدتها وثقافتهــــا ،ومــــن شخصــــيتها الحضــــارية
واستعداداتها النهضوية ،وهو الصلح الــتي تكــون المــة
مؤمنة به متفاعلة معه ،متشجعة له ،داخلة فيه ،أو علــى
القل ل ترفضه ،بل تتجاوب معه ولو نسبيًا.
وأشرت إلى أهمية الحرية للشــورى وكونهــا ل تنجــح ول
تســتمر إل فــي ظــل الحريــة ،وأجــواء الحريــة ،وحريــة
- 6-
الضمير ،وحرية التفكير ،وحرية التعبير ،فالشورى بــدون
حرية حقيقية ل يمكن أن تتــم ،وإذا تمــت فلــن تســتمر،
وإذا اســتمرت فليســت هــي هــي ،وإنمــا هــي أســماء
وأشكال ورسوم.1
تعرضــت لهميــة تفعيــل حقيقــة الشــوى فــي الشــعوب
الســلمية وأهــم الوســائل والــرؤى الــتي تســاعد علــى
عودة الشورى إلــى حيــاتهم ،كتفعيــل المجتمــع المــدني
والمؤسسات الشعبية ،ورفــض الهــالت والقداســة عــن
الرؤساء والحكام ،والصــرار علــى أن الحكــم الســلمي
مــدني ل عســكري ،ومواجهــات التحــديات الحضــارية،
والحـــرص علـــى حريـــة البحـــث العلمـــي وإســـتقلليته
والستجابة لمتطلبات الشــعوب والتغيــرات الــتي تحــدث
في المجتمعات وفق مقاصــد الشــريعة ،وإشــاعة ثقافــة
لســر والمــدارس ،والنــوادي والجامعــات، الشورى في ا ُ
والروابط والنقابات ،ومحاربــة الســتبداد والتصــدي لــه،
فالستبداد ل ينتمي إلى الســلم البتــة ،بــل أنــه نقيــض
الشورى حتما ً وفيه من الصــفات والوصــاف مــا يعكــس
خلف الشورى في كل صغيرة وكبيرة وعلى حد توصيف
الكواكبي له ،حيث يقول :إذا أراد الســتبداد أن يحتســب
وينتسب ،لقال :أنا الشر ،وأبــي الظلــم وأمــي الســاءة،
وأخي الغدر ،وأخــتي المســكنة ،وعمــي الضــرر ،وخــالي
الذل ،وابني الفقــر ،وبنــتي البطالــة ،ووطنــي الخــراب،
وعشيرتي الجهالة.2
قلت ولو احتسبت الشورى وانتسبت لقالت :أنــا الخيــر،
وأبــي العــدل ،وأمــي الحســان ،وأخــي الوفــاء ،وأخــتي
العــزة ،وعمــي النفــع ،وخــالي الرفعــة ،وابنــي الغنــى،
وبنتي العمل ،ووطني العمار ،وعشيرتي العلم.
إن تقــدم الشــعوب وقــدرتها علــى مواجهــة التحــديات
الحضــارية يعتمــد علــى نشــر العــدل وإعطــاء الحقــوق
السياســية لفرادهــا وجماعاتهــا ،بكافــة أنواعهــا ،ولقــد
عاشــت أمتنــا الســلمية فــي أوج حضــارتها وتقــدمها،
عندما كانت تحافظ على هذه الحقــوق وتعطــي كــل ذي
حق حقه وهوت وسقطت لما تجاوزت تلك الحقوق.
- 7-
إن فلســفة الحكــم فــي الدولــة المدنيــة الحديثــة الــتي
مرجعيتها السلم ترتكز على الشورى ،التي ذكرت فــي
القرآن الكريم ومارسها الرسول صلى الله عليه وســلم
والخلفاء الراشــدين ،فقــد عرفــت طريقهــا إلــى الحيــاة
السياسية وأصبحت مــن ركــائز الدولــة فــي عصــر صــدر
السلم.
وهنــاك أصــول شــرعية تلزم الشــورى كمبــدأ إســلمي
أصيل من أهمها:
ـ إن السلم اعتبر الشورى منهج حيــاة إنســاني ،فضــل ً
عن كونها ضرورية في نظام الحكم.
ـ إن طبيعة الحكــم الســلمي علــى مــدار العهــد النبــوي
ومرورا ً بخير القرون كان حكما ً شوريا ً علــى الرغــم مــن
شخصية الرسول صلى اللــه عليــه وســلم بيــن أصــحابه،
ومكانة الخلفاء الراشدين بين عموم الصحابة رضي اللــه
عنهم.
ـ إن تشــريع الشــورى بــذاته قــائم علــى المصــلحة ودرء
المفسدة ،وهــذا ل ينحصــر فــي الشــورى ،فالتشــريعات
السلمية كلها قائمة على ذلك مــن جلــب مصــلحة ودرء
مفسدة ،كما يقول العز بن عبد الســلم :الشــريعة كلهــا
نصائح ،إما بدرء مفاسد أو بجلب مصالح.1
ـ إن الشورى تتلحــم وتنصــبغ بفكــرة مقاصــد الشــريعة
الكلية ،ولها علقــة وثيقــة الصــلة بالضــروريات الخمــس
التي تناولها الصوليون بالتحليــل والدراســة والبيــان ،إذ
مـــن الطـــبيعي فـــي أي نظـــام شـــوري ،أن تتحقـــق
الضروريات الخمــس ،وأن تحفــظ بعمومهــا ،وهــذا ليــس
خاصا ً بالمسلمين على التحديد ،بل يشمل غيرهم وعلــى
توصيف ابن عبد السلم.
وكذلك اتفقــت الشــرائع علــى تحريــم الــدماء والبضــاع
والموال والعراض ،وعلى تحصـيل الفضـل ،فالفضـل
من القوال والعمال.2
ول شك أن أي نظام ديكتاتوري أو تسلطي أو إستبدادي
يقضي على هذه الضروريات ،وتضيع في ظل إجراءاته
المستبدة ،والتاريخ يصدق هذا.
- 8-
ومن المؤكد أن تحفظ الضروريات في ظل وجــود حالــة
مــن النزاهــة والعدالــة ،وفصــل الســلطات ،ومحاكمــة
الحــاكم وخضــوعه عنــد رأي الشــعب ،فتنــوع الحريــات
لتطال أفعال الحاكم وتصرفاته ،وتحصيل المساواة بيـن
الجميـع ،فل سـلطة إل للشـريعة وقانونهـا النافـذ علـى
الجميع ،ونشر العدل في انحاء الدولة.
في ظل الحكم الديكتاتوري تغيــب الشــورى ،ول يســمح
بالتعبير عن حريــة الــرأي ،ويكــون الحــاكم مســتبدا ً فــي
تصرفاته ويعاقب بالقتل والسجن لمــن أبــدى رأيــه فــي
أعمــاله أو أخطــاء ابنــائه أو حاشــيته ،وتضــيع الحريــة
والمساواة والعدالــة بيــن عامــة الشــعب ،ولقــد ســفكت
صــودرت أمــوال ،وقتــل علمــاء دمــاء وهتكــت اعــراض ،و ُ
وســجن مفكــرون ومثقفــون فــي ظــل هــذه الــدول
الظالمــة ،فل ديــن ،ول نفــس ول مــال ،ول عقــل ،ول
نســل ،يمكــن أن يســتقيم أو يحفــظ فــي ظــل النظمــة
الستبدادية والقمعية.
وقد إنتهيت من هذا الكتاب )الشورى في السلم( يــوم
الثلثاء الساعة الحاديــة عشــر إل ربــع صــباحا ً 24شــوال
1430هـ 2009 /10 /13م.
والفضل لله من قبل ومن بعد ،وأسأله سبحانه وتعالى
أن يتقبل هذا العمل ويشرح صدور العباد للنتفاع به
ح الل ّ ُ
ه فت َ ِ
ما ي َ ْ ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده ،قال تعالىَ ":
ه
من ب َعْد ِ ِ ه ِ ل لَ ُس َ ك فََل ُ
مْر ِ س ْ
م ِ ك ل ََها وَ َ
ما ي ُ ْ س َ
م ِ مةٍ فََل ُ
م ْ ح َمن ّر ْ س ِ ِللّنا ِ
م" )فاطر ،آية .(2 : كي ُ
ح ِزيُز ال ْ َ
وَهُوَ ال ْعَ ِ
ول يسعني في نهاية هذا الكتاب إل أن اقف بقلب
خاشع منيب أمام خالقي العظيم وإلهي الكريم معترفا ً
بفضله وكرمه وجوده متبرئا ً من حولي وقوتي ملتجئا ً
إليه في كل حركاتي وسكناتي وحياتي ومماتي ،فالله
خالقي هو المتفضل ،وربي الكريم هو المعين ،وإلهي
العظيم هو الموفق ،فلو تخلى ووكلني إلى عقلي
ونفسي ،لتبلد مني العقل ،ولغابت الذاكرة ،وليبست
الصابع ،ولجفت العواطف ،ولتحجرت المشاعر ،ولعجز
القلم عن البيان ،اللهم بصرني بما يرضيك واشرح له
صدري وجنبني اللهم ما ل يرضيك وأصرفه عن قلبي
وتفكيري ،وأسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العل أن
- 9-
تجعل عملي لوجهك خالصا ً ولعبادك نافعا ً وأن تثيبني
على كل حرف كتبته وتجعله في ميزان حسناتي ،وأن
تثيب إخواني الذين أعانوني على اتمام هذا الجهد الذي
لولك ما كان له وجود ول انتشار بين الناس ونرجو من
كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أل ينسى العبد الفقير،
إلى عفو ربه ،ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه،
َ ن أَ ْ َ َ
ت ع َل َ ّ
ي م َ ك ال ِّتي أن ْعَ ْ مت َ َ شك َُر ن ِعْ َ ب أوْزِع ِْني أ ْ قال تعالىَ":ر ّ
َ َ َ
ك ِفي مت ِ َ ح َ خل ِْني ب َِر ْ ضاه ُ وَأد ْ ِحا ت َْر َصال ِ ً ل َ م َ
ن أع ْ َ وَع ََلى َوال ِد َيّ وَأ ْ
ن" )النمل ،آية .(19 : حي َ صال ِ ِ
ك ال ّ عَباد ِ َِ
وان َِنا
خ َ َ
فْر لَنا وَِل ِ ْ وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالىَ ":رب َّنا اغ ْ ِ
مُنوا َرب َّنا إ ِن ّ َ
ك نآ َ ل ِفي قُُلوب َِنا ِغّل ل ّل ّ ِ
ذي َ جعَ ْ ن وََل ت َ ْما ِ لي َقوَنا ِبا ْ ِ سب َ ُ
ن َ ذي َال ّ ِ
م" )الحشر ،آية .(10 : حي ٌ ف ّر ِ
ؤو ٌ َر ُ
"ســـبحانك اللهـــم وبحمـــدك أشـــهد أن ل إلـــه إل أنـــت
استغفرك وأتوب إليك".
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه.
صّلب ّ
ي علي محمد محمد ال ّ
-10-
المبحث الول :الشورى في القرآن الكريم والتاريخ
السلمي:
إن الشورى قيمة إنسانية مارستها الشعوب والقبائل
والمم والجماعات البشرية على مر تاريخها الطويل كل
بطريقته الخاصة سواء في سهول سيبريا ،أو أدغال
إفريقيا ،أو صحراء الجزيرة العربية أو هضاب آسيا ،أو
مروج أوروبا أو غيرها إل أن السلم أضاف لها بعدا ً
تعبديا ً وجعلها من القيم النسانية السلمية الرفيعة
ورتب على العمل بها ثوابا ً وعلى تركها عقابًا.
-11-
سنها الله لخلقه ولعباده ليقتدوا بها ويهتدوا بهداها
كما يستفاد من هذا النازلة أن الشورى مسنونة حتى
في القضايا المحسوسة والمعروفة ،على أساس أن
هذا النوع من أنواع الشورى له مقاصده وفوائده
المذكورة أو المذكور بعضها ،كالتعليم والتكريم ثم
الحث على التأسي والتأدب ).(1
-2الشورى عند إبراهيم عليه السلم:
َ
ي إ ِّني أَرى ِفي ل َيا ب ُن َ ّ ي َقا َ سعْ َ ه ال ّ معَ ُ ما ب َل َغَ َ قال تعالى ":فَل َ ّ
َ َ
لذا ت ََرى َقا َ ما َ ك َفانظ ُْر َ ح َ مَنام ِ أّني أذ ْب َ ُ ال ْ َ
َ
ن") ري َ صاب ِ ِ ن ال ّ م َ ه ِ شاء الل ّ ُ جد ُِني ِإن َ ست َ ِ مُر َ ما ت ُؤ ْ َ ل َ ت افْعَ ْ َيا أب َ ِ
الصافات.(١٠٢ :
فالمسألة محسومة معزومة ومع ذلك يقول إبراهيم
َ َ
مَنام ِ أّني ي إ ِّني أَرى ِفي ال ْ َ ل َيا ب ُن َ ّ ي َقا َ سعْ َ ه ال ّ معَ ُ ما ب َل َغَ َ لولده ":فَل َ ّ
َ َ
شاء جد ُِني ِإن َ ست َ ِمُر َ ما ت ُؤ ْ َ ل َ ت افْعَ ْ ل َيا أب َ ِ ذا ت ََرى َقا َ ما َ ك َفانظ ُْر َ ح َ أذ ْب َ ُ
َ
مُرما ت ُؤ ْ َ ل َ ت افْعَ ْ ن " ،فيجيب الولد" َيا أب َ ِ ري َ صاب ِ ِ من ال ّ ه ِ الل ّ ُ
ن"{الصافات.(١٠٢ : ري َ صاب ِ ِ ن ال ّ م َ ه ِ شاء الل ّ ُ جد ُِني ِإن َ ست َ ِ َ
وهذه اليات تبين لنا بأنه ل يمنع العزم عن إنفاذ الرأي
وظهور جوابه عن الستشارة ،أل ترى أن إبراهيم عليه
السلم أمر بذبح ابنه عزمة ل مشورة فيها فحمله حسن
الدب وعلمه بموقعه في النفوس على الستشارة فيه
ك َفانظ ُْر َ َ َ
ح َ مَنام ِ أّني أذ ْب َ ُ ي إ ِّني أَرى ِفي ال ْ َ فقال لبنه قالَ ":يا ب ُن َ ّ
ذا ت ََرى .(2)"... ما َ َ
إن من يعتاد المشاورة حتى فيما هو واضح جلي ل
يمكن أن يتنكبها فيما هو غامض وخفي ،فكون الشورى
مسنونة ومحمودة ومفيدة في قضايا قطعية
ومحسوسة ،إنما هو إيذان بمدى ضرورتها ولزومها
وأولويتها فيما تتعدد فيه الوجوده والشكالت وتتضارب
فيه النظار والحتمالت).(3
-3الشورى العائلية:
َ َ
ن أن ضُلوهُ ّ ن فَل َ ت َعْ ُ جل َهُ ّ نأ َ ساء فَب َل َغْ َ م الن ّ َ قت ُ ُ ذا ط َل ّ ْ قال تعالى" :وَإ ِ َ
ك ُيوع َ ُ ينكح َ
من ظ ب ِهِ َ ف ذ َل ِ َ معُْرو ِ ضوْا ْ ب َي ْن َُهم ِبال ْ َ ذا ت ََرا َ ن إِ َ جه ُ ّ ن أْزَوا َ َ ِ ْ َ
َ َ
م وَأط ْهَُر َوالل ّ ُ
ه كى ل َك ُ ْ م أْز َ خرِ ذ َل ِك ُ ْ ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ م ُ م ي ُؤ ْ ِ منك ُ ْن ِ كا َ َ
-12-
كا ِ َن َ ن َ َ يعل َم وَأنتم ل َ تعل َمون * وال ْوال ِدات يرضع َ
نملي ْ ِ حوْلي ْ ِ ن أوْل َد َهُ ّ َ َ َ ُ ُْ ِ ْ َ َْ ُ َ َْ ُ َ ُ ْ
َ ُ ْ َ َ ل ِم َ
ن
سوَت ُهُ ّن وَك ِ ْ ه رِْزقُهُ ّ موْلود ِ ل ُ ة َوعلى ال َ ضاع َ َم الّر َ ن أَراد َ أن ي ُت ِ ّ َ ْ
ُ
موْلود ٌ َ
ها وَل َ َ
ضآّر َوال ِد َة ٌ ب ِوَلد ِ َ َ
سعََها ل ت ُ َ ّ
س إ ِل وُ ْ ف ٌ ف نَ ْ ّ َ
ف ل ت ُكل ُ َ معُْرو ِ ِبال ْ َ
َ
مامن ْهُ َض ّ عن ت ََرا ٍ صال ً َ دا فِ َ ن أَرا َ ل ذ َل ِ َ
ك فَإ ِ ْ مث ْ ُ
ث ِ وارِ ِ ه ب ِوَل َد ِهِ وَع ََلى ال ْ َ لّ ُ
ما")البقرة ،آية .(223-232 : ح ع َل َي ْهِ َ جَنا َ شاوُرٍ فَل َ ُ وَت َ َ
في الية الولى ،إذا وقع التفاهم والتراضي بين
الزوجين المطلقين من أجل التراجع والمراجعة،
واستئناف علقتهما الزوجية ،فل يجوز للولي أن يمنع
ذلك.
وفي الية الثانية ،أن الرضاع المحدد في حولين كاملين
يمكن تخفيض مدته ،لكن على أن يتم الفطام بتشاور
وتراضي ل أن يستبد به أحد البوين .وهذا يعني أن
تدبير أمر الولد هو حق وواجب مشترك بين الوالدين،
وأنه يجب أن يتم بالتراضي والتشاور ،لختيار أفضل ما
يصلح للولد وينفعه مما هو ممكن.
فكون المرأة هي التي تمارس الرضاع ،ل يخولها
التفرد بقرار توقيفه أو تمديده ،وكذلك الزوج ،باعتباره
صاحب القوامة والنفقة ،ل يحق له الستبداد بأمر
أولده ،فالم شريكة له في تدبير شؤونهم ،فلبد أن
يكون ذلك كله ناشئا ً "عن تراض منهما وتشاور )."(1
وعلى هذا ،فالقرارات المتعلقة بتعليم البناء الصغار،
من حيث مكانه ونوعه ومدته ،واستمراره وانقطاعه أو
المتعلقة بصحتهم وبإقامتهم وسفرهم ،وسائر
انشطتهم ،ما يقبل منها ومال يقبل ،وما يشجع منهما
ومال يشجع وكذلك المتعلقة بتوجيهم المهني أو
بتزويجهم إذا كانوا متوقفين على التوجيه والمساعدة
من آبائهم وأمهاتهم ،..كل هذا وغيره يحتاج إلى تدبير
شورى مشترك بين الوالدين ،أو بينهما وبين الولد
نفسه إذا أصبح له تميز ونظر وتستحسن مشاورة
الصغار أنفسهم لجل تعليمهم وتدريبهم وتأديبهم بأدب
المشاورة ).(2
وقد جاءت الحاديث النبوية حاثة على استئمار البنات
في شأن زواجهن والحاديث في ذلك كثيرة ،منها عن
-13-
عائشة رضي الله عنها قالت :سألت رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها ،أتستأمر أم ل
؟ قال :نعم تستأمر ).(1
-4حال التنازع والخصام:
َ
من َْهاة وَك ُل َ ِ ك ال ْ َ
جن ّ َ ج َ ت وََزوْ ُ ن أن َ سك ُ ْ ما ْ قال تعالى ":وَقُل َْنا َيا آد َ ُ
نمي َ ظال ِ ِن ال ْ ّ م َكوَنا ِ جَرة َ فَت َ ُ ش َ همذ ِهِ ال ّ قَرَبا َ ما وَل َ ت َ ْ شئ ْت ُ َ ث ِ غدا ً َ
حي ْ ُ َر َ
")النساء ،آية .(٣٥ :
فها هنا أمر ضمني بالشورى ،فما دام هناك حكمان فل
يمكن أن يكون تقدير الحالة واعتماد الحل الممكن إل
شورى وائتمارا ً بينهما ،ثم اتفاقا ً وتراضيا على الحل
والمخرج ).(2
-5رسول الله يحث زوجاته على مشاورة آبائهن
وأمهاتهن ،حين وقعت بينه وبينهن جفوة لكثرة ما كان
يحرجنه به من طلبات النفقة فأنزل الله في ذلك قوله
َ َ
حَياة َ الد ّن َْيا دن ال ْ َ كنت ُن ّت ُرِ ْ ك ِإن ُ ج َ ي ُقل ّلْزَوا ِ تعالىَ" :يا أي َّها الن ّب ِ ّ
ميًل *وَِإن ُ ُ وزينتها فَتعال َي ُ
ن
ن ت ُرِد ْ َ كنت ُ ّ ج ِحا َ سَرا ً ن َ حك ُ ّ سّر ْ ن وَأ َ مت ّعْك ُ ّنأ َ ََ ْ َ َ ِ َََ
َ َ
جًرانأ ْ منك ُ ّ ت ِ سَنا ِ
ح ِ م ْ ه أع َد ّ ل ِل ْ ُ ن الل ّ َ خَرة َ فَإ ِ ّ داَر اْل ِ ه َوال ّ سول َ ُ
ه وََر ُ الل ّ َ
ما" )الحزاب ,آية.(٢9 – ٢٨ : ظي ً
عَ ِ
فقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم المر على
نسائه ،وخيرهن بما نصت عليه اليتان وبدأ بعائشة
رضي الله عنهما وقال لها .فل عليك أن تستعجلي حتى
تستأمري ) (3وفي رواية أحب أن ل تعجلي حتى
تستشيري أبويك ...فقالت :أفيك يا رسول الله
4
استشير أبوي ،بل أختار الله ورسوله والدار الخرة ) (.
-14-
جواب ذلك وبيانه في آيتي الباب وعمدته ).(5
-1الية الولى "وأمرهم شورى بينهم":
ُ
يٍء
ش ْمن َ ما أوِتيُتم ّ وهي في سياق قوله تعالى" :فَ َ
مُنوا وَع ََلى َرب ّهِ ْ
م نآ َ ذي َقى ل ِل ّ ِ خي ٌْر وَأ َب ْ َعند َ الل ّهِ َ ما ِ حَياةِ الد ّن َْيا وَ َ عال ْ َ
مَتا ُفَ َ
مضُبوا هُ ْ ما غ َ ِذا َ ش وَإ ِ َ ح َ وا ِ ن ك ََبائ َِر اْل ِث ْم ِ َوال ْفَ َ جت َن ُِبو َن يَ ْذي َ ن * َوال ّ ِ َت َوَك ُّلو َ
َ َ
شوَرى مُره ُْ ُصَلة َ وَأ ْ موا ال ّ م وَأَقا ُ جاُبوا ل َِرب ّهِ ْست َ َنا ْ ذي َ ن * َوال ّ ِ فُرو َ ي َغْ ِ
ن " )الشورى ,آية.(٣٨ – ٣٦ : قو َم ُينفِ ُ ما َرَزقَْناهُ ْ م ّم وَ ِ ب َي ْن َهُ ْ
وهناك دللت لطيفه لقيمه الشورى في السلم ،في
ضوء تفسير هذه الية منها ما يلي:
-فالية وردت في سورة تحمل اسم الشورى وهي
سورة الشورى وتسمية إحدى سور القرآن الكريم باسم
الشورى هو في حد ذاته تشريف لمر الشورى وتنويه
بأهميتها ومنزلتها.
-جاءت الشورى في هذه الية وصفا ً تقريريًا ،ضمن
صفات أساسية لجماعة المؤمنين المسلمين ،فهم بعد
إيمانهم متوكلون على ربهم ،مجتنبون لكبائر الثام
والفواحش ،مستجيبون لمر ربهم ،مقيمون لصلتهم،
وأمرهم شورى بينهم ويزكون أموالهم وينفقون منها
في سبيل الله ).(2
-وهي آية مكية مما يدل على أن الشورى في السلم
ممارسة اجتماعية قبل أن تكون من الحكام السلطانية.
-وهي نصف حال المسلمين في كل زمان ومكان،
فهي ليست طارئة ول مرحلية ،ولقد جعل الله سبحانه
احترام الشورى من أثمن خصال المؤمنين وصفاتهم.
-وهي تجعل جميع أمر المسلمين ،فيما لم ينزل فيه
وحي ،شورى بينهم ،فهي حق لهم جميعًا ،إل ما كان
من شأن أهل العلم والتخصص فإن المؤمنين يحملهم
إيمانهم أن يردوا ما أشكل عليهم إلى من يعلم كيف
يستنبط الحكام من النصوص ).(3
-وقد انتبه عدد من العلماء إلى وقوع هذه الية الكريمة
د
"وأمرهم شورى بينهم" ،كصفة من ضمن صفات تع ّ
من المقومات والركان الساسية في الدين وهو ما
-15-
يعني أنها واحدة من تلك الفرائض والركان وقال
صلة وأمرهم تعالى "والذين استجابوا لربهم وأقاموا ال ّ
ما رزقناهم ينفقون" يدل على جللة شورى بينهم وم ّ
موقع المشورة لذكره ،لها مع اليمان وإقامة الصلة
ويدل على أنهم مأمورون بها ).(1
-2الية الثانية " :وشاورهم في المر":
وقد وقعت خطابا ً لرسول الله صلى الله عليه وسلم
م وَل َ ْ
و ت ل َهُ ْ ن الل ّهِ ِلن َ
م َ مة ٍ ّ ح َما َر ْ في سياق قوله تعالى" :فَب ِ َ
فْر ست َغْ ِم َوا ْ ك َفاع ْ ُ
ف ع َن ْهُ ْ حوْل ِ َن َ م ْضوا ْ ِ ف ّ ب َ
لن َ قل ْ ِ
ظ ال ْ َ
ظا غ َِلي َت فَ ّ كن َ ُ
َ
ب
ح ّ ه يُ ِ ن الل ّ َ ل ع ََلى الل ّهِ إ ِ ّ ت فَت َوَك ّ ْ م َ ذا ع ََز ْمرِ فَإ ِ َ
م ِفي ال ْ شاوِْرهُ ْم وَ َ ل َهُ ْ
ن " )آل عمران ،آية .(١٥٩ : ال ْ ُ
مت َوَك ِّلي َ
وهذه الية جاءت خطابا ً لرسول الله صلى الله عليه
وسلم بصفته داعيا ً وهاديًا ،ومرشدا ً مربيا ً وأميرا ً قائدًا،
وهذا ما يقتضيه أن يكون رفيقا ً بالناس متلطفا ً معهم
رحيما لهم عفوًا ،عنهم متسامحا ً معهم ،بل مستغفرا ً
لهم في أخطائهم وذنوبهم ومستشيرا ً لهم مراعيا ً
لرائهم .وهذا المر لرسول الله صلى الله عليه وسلم
الله بمشاورة أصحابه هو أمر لكل من يقوم مقامة من
الدعاة والقادة والمراء ،بل إن العلماء والمفسرين
يعتبرون أن هؤلء مأمورون من باب أولى وأحرى ،فهم
الحوج إلى هذا المر وبفارق كبير جدا ً عن رسول الله.
دت هذه الية قاعدة كبرى في الحكم ع ّومن هنا ُ
والمارة وعلقة الحاكم بالمحكومين ،فالشورى من
قواعد الشريعة وعزائم الحكام ومن ل يستثير أهل
العلم والدين – وأهل التخصص في فنون العلوم –
فعزله واجب وهذا ما ل خلف فيه ).(2
-16-
المور الجتماعية؛ كحادثة الفك التي شاور فيها عليا ً
وأسامة مشاورة خاصة ثم استثار المة بشكل عام ).(1
وقد أسس النبي صلى الله عليه وسلم للشورى نظاما ً
يحتذى ،وسنة عملية ُتتبع وعرف ذلك عنه أصحابه ومن
ذلك:
-قال أبو هريرة :ما رأيت أحدا ً أكثر مشورة لصحابه
من رسول الله صلى الله عليه وسلم ).(2
-وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر
وعمر :إن الناس ليزيدهم حرصا ً على السلم أن يروا
عليك زّيا حسنا ً من الدنيا فقال :وأيم الله لو أنكما
تتفقان على أمر واحد ،ما عصيتكما في مشورة أبدا ً ).(3
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير حتى
المرأة فتشير عليه بالشيء فيأخذ به ).(4
ه في وقد ثبتت مشاورته صلى الله عليه وسلم لصحاب ّ
عدة أمور متباينة ،منها:
-1الشورى في يوم بدر:
أ -مشاورته في الخروج للقتال:
لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم نجاة القافلة،
وإصرار زعماء مكة على قتال النّبي صلى الله عليه
وسلم ،استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم
أصحابه في المر ) ،(5وأبدى بعض الصحابة عدم
ارتياحهم لمسألة المواجهة الحربية مع قريش ،حيث
دوا لها ،وحاولوا إنهم لم يتوقعوا المواجهة ،ولم يستع ّ
إقناع الرسول صلى الله عليه وسلم بوجهة نظرهم،
صور القرآن الكريم موقفهم وأحوال الفئة وقد ّ
َ
من ب َي ْت ِ َ
ك ك ِ ك َرب ّ َج َ خَر َما أ ْ المؤمنة عمومًا ،في قوله تعالى" :ك َ َ
ق
ح ّ ك ِفي ال ْ َ جاد ُِلون َ َ ن * َ هو َ كارِ ُ ن لَ َ مِني َ مؤ ْ ِ ن ال ْ ُم َريقا ً ّ ن فَ َ ِ حقّ وَإ ِ ّ ِبال ْ َ
م الل ّ ُ
ه ن * وَإ ِذ ْ ي َعِد ُك ُ ُ م َينظ ُُرو َ موْت ِوَهُ ْ ن إ َِلى ال ْ َ ساُقو َ ما ي ُ َن ك َأن ّ َ ما ت َب َي ّ َ
ب َعْد َ َ
َ َ
م ن ل َك ُ ْ كو ُ شوْك َةِ ت َ ُ ت ال ّ ذا ِ ن غ َي َْر َ نأ ّ دو َ م وَت َوَ ّ ن أن َّها ل َك ُ ْفت ِي ْ ِ
طائ ِ َدى ال ّ ح َ إِ ْ
داب َِر ال ْ َ َ
ق
ح ّ ن * ل ِي ُ ِ ري َكافِ ِ قط َعَ َ مات ِهِ وَي َ ْ حقّ ب ِك َل ِ َ حقّ ال َ ه أن ي ُ ِ ريد ُ الل ّ ُ وَي ُ ِ
-17-
ن" )النفال ،آية – ٥ : مو َ جرِ ُ م ْل وَل َوْ ك َرِه َ ال ْ ُ ل ال َْباط ِ َ حقّ وَي ُب ْط ِ َال ْ َ
.(٨
وقد أجمع قادة المهاجرين على تأييد فكرة التقدم
لملقاة العدو ) ،(1فقام أبوبكر الصديق ،فقال وأحسن،
ثم قام عمر بن الخطاب ،فقال وأحسن ،ثم قام
المقداد بن عمرو فقال :يا رسول الله ،امضي لما أراك
الله فنحن معك ،والله ل نقول لك كما قالت بنو
إسرائيل لموسى "أذهب أنت وربك فقاتل" "المائدة،
آية ."24 :ولكن نقاتل عن يمينك ،وعن شمالك وبين
يديك وخلفك ،فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق
سره يعني :قوله ) (2وفي رواية :قال المقداد: وجهه و ّ
يا رسول الله ،إنا ل نقول لك كما قالت بنو إسرائيل
َ
بموا ْ ِفيَها َفاذ ْهَ ْدا ُ
ما َ خل ََها أب َ ً
دا ّ سى إ ِّنا َلن ن ّد ْ ُ مو َ لموسىَ" :قاُلوا ْ َيا ُ
ن ") المائدة ،آية (٢٤ : هاهَُنا َقا ِ ك فَ َ ت وََرب ّ َ َ
دو َ ع ُ قاِتل إ ِّنا َ أن َ
سّـري عن رسول الله ولكن :أمض ونحن معك ،فكأنه ُ
صلى الله عليه وسلم ).(3
وبعد ذلك عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
ي أيها الناس وكان إّنما يقصد النصار ،لنهم أشيروا عل ّ
غالبية جنده ،ولن بيعة العقبة الثانية ،لم تكن ظاهرها
ملزمة لهم بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم خارج
المدينة ،وقد أدرك الصحابي سعد بن معاذ – وهو حامل
ي صلى الله عليه وسلم من لواء النصار – مقصد النب ّ
ذلك ،فنهض قائل ً :والله لكاّنك تريدنا يا رسول الله ؟
قال صلى الله عليه وسلم " :أجل" فقال :لقد آمّنا بك،
دقناك ،وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك وص ّ
على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة،
فامض يا رسول الله؛ لما أردت فنحن معك ،فو الذي
بعثك بالحق؛ لو استعرضت بنا هذا البحر ،فخضته
لخضناه معك ،ما تخّلف منا رجل واحد ،وما نكره أن
صدُقٌ عند صب ُّر في الحربُ ، ونا غدًا ،إنا ل ُ تلقى بنا عد ّ
سر على ل الله يريك منا ما تقّر به عينك ف ِ اللقاء ،ولع ّ
بركة الله ).(4
()1موسوعة نضرة النعيم ).(1/288
()2البخاري رقم .3952
()3البخاري رقم .4609
()4مسلم رقم .1179
-18-
سّر النبي صلى الله عليه وسلم من مقالة سعد بن و ُ
شطه ذلك ،فقال صلى الله عليه وسلم :سيُروا معاذ ،ون ّ
وأبشروا ،فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين،
والله لكأني الن انظر إلى مصارع القوم ).(1
كانت كلمات سعد مشجعة لرسول الله صلى الله عليه
وسلم وملهبة لمشاعر الصحابة ،فقد رفعت معنوياتهم
ي صلى الله عليه وشجعتهم على القتال ،إن حرص النب ّ
وسلم على استشارة أصحابه في الغزوات ،يدل على
لنتأكيد أهمّية الشورى في الحروب بالذات ذلك ّ
ما تحت ما إلى العلياء ،وإ ّ قرر مصير المم ،فإ ّ الحروب ت ّ
الغبراء ).(2
حباب بن المنذر في بدر: ب -مشورة ال ُ
بعد أن جمع صلى الله عليه وسلم معلومات دقيقة عن
قوات قريش ،سار مسرعا ً ومعه أصحابه إلى بدر؛ ّ
ليسبقوا المشركين إلى ماء بدر ،وليحولوا بينهم وبين
ء من مياه بدر ،وهنا الستيلء عليه فنزل عند أدنى ما ٍ
حباب بن المنذر ،وقال :يا رسول الله أرأيت هذا قام ال ُ
دمه ،ول المنزل ،أمنزل أنز لكه الله ،ليس لنا أن نتق ّ
نتأخر عنه؟ أم هو الّرأي ،والحرب والمكيدة؟ قال :بل
هو الّرأي ،والحرب ،والمكيدة قال :يا رسول الله؛ فإن
هذا ليس بمنزل ،فانهض يا رسول الله بالناس حتى
ء من القوم – أي :جيش المشركين – تأتي أدنى ما ٍ
ور – نخّرب – ما وراءه من البار ،ثم نبني فنزله ،ونغ ّ
م نقاتل القوم ،فنشرب ول عليه حوضا ً فنملؤه ماء ،ث ّ
يشربون ،فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيه،
و ،فنزل عليه، ونهض بالجيش حتى أقرب ماء من العد ّ
)(3
وروا ما عداها من البار . حَياض ،وغ ّ م ضعوا ال ِ ث ّ
صور مثل ً من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا ي ّ
ي فرد من أفراد ذلك المجتمع مع أصحابه حيث كان أ ّ
دلي برأيه حتى في أخطر القضايا ،ول يكون في يُ ْ
شعوره احتمال غضب القائد العلى صلى الله عليه
ب على ذلك من غضب من وسلم ،ثم حصول ما يترت ّ
-19-
دني سمعة ذلك المشير بخلف رأي القائد ،وتأخره في ت ّ
الرتبة ،وتضرره في نفسه أو ماله إن هذه الحرية ،التي
رّبى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه
مكنت مجتمعهم من الستفادة من عقول جميع أهل
الرأي السديد ،والمنطق الرشيد ،فالقائد فيهم ينجح
ن ،لنه لم يكن يفكر س ّ نجاحا ً باهرًا ،وإن كان حديث ال ّ
ة مهيمنة عليه ،قد تنظر برأيه المجّرد ،أو آراء عصب ٍ
صة ،قبل أن تنظر لمصلحة المسلمين لمصالحها الخا ّ
ة ،وإنما يفكّر بآراء جميع أفراد جنده وفد يحصل له العام ّ
هم سمعة وأبعدهم منزلة من ذلك الرأي السديد من أقل ّ
القائد؛ لنه ليس هناك ما يحول بين أي فرٍد منهم
والوصول برأيه إلى قائد جيشه).(1
ونلحظ عظمة التربية النبوية التي سرت في شخص
حباب بن المنذر فجعلته يتأدب أمام رسول الله صلى ال ُ
الله عليه وسلم فتقدم دون أن ُيطلب رأيه ،ليعرض
ؤال العظيم ،الذي س ُ
الخطة التي لديه ،لكن هذا ّتم بعد ال ّ
دمه بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم :يا رسول ق ّ
الله أرأيت هذا المنزل ،أمنزل ً أنزلكه الله ،ليس لنا أن
نتقدمه ،ول نتأخر عنه؟ أم هو الّرأي ،والحرب،
والمكيدة؟
ي الف ّ
ذ، سؤال يوضح عظمة هذا الجوهر القياد ّ إن هذا ال ّ
م بين يدي قائده ،فإن الذي يعرف أين يتكلم ومتى يتكل ّ
كان الوحي هو الذي اختار هذا المنزل ،فلن يقدم،
ب إليه من أن يلفظ بكلمة واحدة وإن فتقطع عنقه أح ّ
ي فلديه خطة جديدة كاملة كان الرأي البشر ّ
بإستراتيجية جديدة.
إن هذه النفسية الّرفيعة ،عرفت أصول المشورة،
مع والطاعة، وأصول إبداء الّرأي ،وأدركت مفهوم الس ّ
ومفهوم المناقشة ،ومفهوم عرض الّرأي المعارض
لرأي سّيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
وتبدو عظمة القيادة النبوية من استماعها للخطة
الجديدة ،وتبني الخطة المطروحة من جندي من
قوادها ).(2جنودها ،أو قائد من ّ
-20-
ج -مشاورته صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر:
ما أسروا السارى، قال ابن عباس رضي الله عنه :فل ّ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبي بكر وعمر
رضي الله عنهما :ما ترون في هؤلء السارى؟ فقال
عم، ي الله؛ هم بنو ال ّ أبو بكر رضي الله عنه :يا نب ّ
قوة والعشيرة ،أرى أن تأخذ منهم فدية ،فتكون لنا ّ
على الكفار ،فعسى الله أن يهديهم إلى السلم ،فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم :ما ترى يا بن
الخطاب؟ قال :ل والله يا رسول الله ما أرى الذي يراه
مك ِّنا منهم ،فنضرب أعناقهم، ي أرى أن ت ُ َ أبو بكر ولكن ّ
ي من فلن ن علي ّا ً من عقيل ،فيضرب عنقه ،وتمكن َ فتمك ّ ٍ
مة الكفر، ن هؤلء أئ ّ "نسيبا ً لعمر" فأضرب عنقه ،فإ ّ
وصناديدها ،فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
ما كان من الغد جئت، و ما قلت فل ّ ه َ قال أبو بكر ،ولم ي َ ْ
فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأبو بكر قاعدان
ي شيء تبكي يبكيان ،قلت :يا رسول الله أخبرني من أ ّ
ء ،بكيت ،وإن لم أجد بكاء، أنت وصاحُبك ،فإن وجدت بكا ً
تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
ي أصحابك من أخذهم وسلم :أبكي للذي عرض عل ّ
ي عذابهم أدنى من هذه الشجرة. الفداء ،لقد عرض عل ّ
شجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم
كون ل َ َ َ
ن
خ َحّتى ي ُث ْ ِ سَرى َ هأ ْ ي أن ي َ ُ َ ُ ن ل ِن َب ِ ّ
كا َ ما َ وأنزل عز وج ّ
لَ " :
م
كي ٌح ِزيٌز َ خَرة َ َوالل ّ ُ
ه عَ ِ ريد ُ ال ِ ض الد ّن َْيا َوالل ّ ُ
ه يُ ِ ن ع ََر َ دو َري ُ
ض تُ ِ
ِ ِفي ال َْر
")النفال ،آية.(1)( ٦٨-٦٧ :
دولة حينما تكون مة في بناء ال ّ وهذه الية تضع قاعدة ها ّ
في مرحلة التكوين والعداد ،وكيف ينبغي أل تظهر
ل أعـدائها وفي سـبيل قت َ ِبمظهر الّلين ،حتى ت ُْرهب من ِ
هـذه الكليـة ُيطرح الهتمام بالجزئّيات – حتى ولو كانت
الحاجة ملحة إليها).(2
وقد أفادت الرواية أن القول الذي أخذ به رسول الله
صلى الله عليه وسلم – هو الفدية – وكان رأي أبي بكر
رضي الله عنه ،وأوضحت الرواية أن أكثر الصحابة كانوا
عليه ولذلك قال :أبكي للذي عرض علي أصحابك من
-21-
أخذهم الفداء ،لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه
الشجرة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ في هذه النازلة
برأي الغلبية من أصحابه ،ولذلك جاء اللوم عاما ً من
ب م عَ َ
ذا ٌ خذ ْت ُ ْما أ َ َم ِفي َ سك ُ ْ م ّ سب َقَ ل َ َ ن الل ّهِ َ م َ ب ّ الله تعالى" :ل ّوْل َ ك َِتا ٌ
فوٌره غَ ُ ن الل ّ َ قوا ْ الل ّ َ
ه إِ ّ حل َل ً ط َي ًّبا َوات ّ ُم َ ما غ َن ِ ْ
مت ُ ْ م * فَك ُُلوا ْ ِ
م ّ ظي ٌعَ ِ
م " ) النفال ،آية .(٦٩ -٦٧ : حي ٌّر ِ
في قوله " تريدون" للفريق الذين أشاروا بأخذ الفداء
وفيه إشارة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
غير معاتب ،لنه أخذ برأي الجمهور ) ،(1وروي أن ذلك
كان رغبة أكثرهم )(2واللوم الذي وجهه الله تعالى
للصحابة لم يكن بسبب الرأي الذي أشاروا به في حد
ذاته ولكن بسبب الدافع الذي وراءه وهو الكسب
الدنيوي الذاتي "تريدون عرض الدنيا" ولذلك ل يدخل
فيه منهم إل من تحكمت هذه الرغبة في الرأي الذي
أشار به ).(3
-2الشورى في غزوة أحد:
بعد أن جمع صلى الله عليه وسلم المعلومات الكاملة
فار قريش ،جمع أصحابه رضي الله عنهم، عن جيش ك ّ
صن فيها ،أو وشاورهم في البقاء في المدينة والتح ّ
الخروج لملقاة المشركين وكان رأي النبي صلى الله
جّنة عليه وسلم البقاء في المدينة ،وقال :إّنا في ُ
وهم حيث نزلوا دع ُ حصينة ،فإن رأيتهم أن تقيموا ،وت َ َ
مقام ،وإن دخلوا علينا، شر ُ فإن أقاموا ،أقاموا ب ّ
4
ي بن سلول قاتلناهم فيها ) ( .وكان رأي عبدالله بن أب ّ
مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .(5إل أ ّ
ن
من فاتتهم بدر قالوا :يا رسول رجال ً من المسلمين م ّ
الله؛ أخرج بنا إلى أعدائنا وأبى كثير من الناس إل
و ،ولم يتناهو إلى قول رسول الله الخروج إلى العد ّ
ضو بالذي أمرهم صلى الله عليه وسلم ،ورأيه ،ولو ر ُ
مة من أشار كان ذلك ،ولكن غلب القضاء والقدر ،وعا ّ
()1التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور ).(10/75
()2الشورى في معركة البناء ص .88
()3المصدر نفسه ص .900
()4تاريخ الطبري ).(2/60
()5غزوة ُأحد دراسة دعوية لمحمد عيظة ص .82
-22-
عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدرًا ،قد علموا الذي
سبق لهل بدر من الفضيلة ).(1
ولم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم
ب لقاء القوم ،حتى دخل رسول ح ّالذين كان من أمرهم ُ
2
ه ،فتلوم مت َ ُ
الله صلى الله عليه وسلم بيته ،فلبس ) ( ل َ
ي الله صلى الله عليه وسلم القوم فقالوا :عرض نب ّ
بأمر وعرضتهم بغيره ،فأذهب يا حمزة فقل لنبي صلى
ع ،فأتى حمزة ،فقال الله عليه وسلم :أمرنا لمرك ت َب َ ُ
له :يا نبي الله :إن القوم تلوموا فقالوا :أمرنا لمرك
ي
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إّنه ليس لنب ّ
إذا لبس لمته أن يصنعها ،حتى يقاتل ).(3
كان رأي من يرى الخروج إلى خارج المدينة مبني ّا ً على
أمور منها:
ن النصار قد تعاهدوا في بيعة العقبة الثانية ،على -أ ّ
نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ،فكان أغلبهم يرى
:أن المكوث داخل المدينة ،تقاعس عن الوفاء بهذا
العهد.
-أن القلية من المهاجرين ،كانت ترى :أنها أحق من
دها
دفاع عن المدينة ،ومهاجمة قريش ،وص ّ النصار بال ّ
عن زروع النصار.
حرقون شوقا ً من ن الذين فاتتهم غزوة بدر كانوا يت ّ -أ ّ
أجل ملقاة العداء؛ طمعا ً في الحصول على الشهادة
في سبيل الله.
ن في محاصرة قريش -أن الكثرين كانوا يرون :أ ّ
ن وقت للمدينة ،ظفرا ً يجب أل تحلم به ،كما توقعوا :أ ّ
هددين بقطع الحصار سيطول أمده ،فيصبح المسلمون م ّ
المؤن عنهم ).(4
أما رأي من يرى البقاء في المدينة فهو مبني على
ي التي:
التخطيط الحرب ّ
حدَ العناصر ،وبذلك يستحيل ن جيش مكة لم يكن مو ّ -إ ّ
ل ،إذ لّبد من ظهور على هذا الجيش البقاء زمنا ً طوي ً
ل. الخلف بينهم ،إن عاجل ً أو آج ً
()1البداية والنهاية ).(4/14
دتها.
()2لمة الحرب :ع ّ
()3مصنف عبدالرزاق ).(365-5/364
()4غزوة أحد ،لحمد عز الدين ص .52 - 51
-23-
دفاع عن حياضها، ممة على ال ّ -إن مهاجمة المدن المص ّ
وقلعها ،وبيضتها أمر يعيد المنال ،وخصوصا ً إذا تشابه
كل الجيشين ،وقد كان يوم أحد متشابهًا. سلح عند ِ ال ّ
-إن المدافعين إذا كانوا بين أهليهم ،فإّنهم يستبسلوا
في الدفاع عن أبنائهم وحماية نسائهم ،وبناتهم،
وأعراضهم.
-مشاركة النساء والبناء في القتال ،وبذلك يتضاعف
عدد المقاتلين استخدام المدافعين أسلحة لها أثر في
صفوف العداء ،مثل الحجار وغيرها ،وتكون إصابة
المهاجمين في متناولهم ) (1ومن الواضح :أن الرسول
ود أصحابه على التصريح صلى الله عليه وسلم ،ع ّ
ى ولو خالفت رأيه ،فهو بآرائهم عند مشاورته لهم؛ حت ّ
ص فيه ،تعويدا ً لهم على التفكير إّنما يشاورهم فيما ل ن ّ
مة ،فل فائدة مة ،ومعالجة مشكلت ال ّ في المور العا ّ
من المشورة إذا لم تقترن بحرية إبداء الّرأي ،ولم
يحدث أن لم الّرسول صلى الله عليه وسلم أحدًا ،لنه
فق في رأيه ،وكذلك فإن أخطأ في اجتهاده ،ولم يو ّ
الخذ بالشورى ملزم للمام ،فلّبد أن ُيطّبق الرسول
ن الل ّهِم َمة ٍ ّح َما َر ْ صلى الله عليه وسلم التوجيه القرآني "فَب ِ َ
فك َفاع ْ ُ حوْل ِ َ ن َ م ْضوا ْ ِ ف ّ ب َ
لن َ قل ْ ِظ ال ْ َ ظا غ َِلي َ ت فَ ّ كن َ م وَل َوْ ُ ت ل َهُ ْ ِلن َ
ل ع ََلى َ
ت فَت َوَك ّ ْ م َ ذا ع ََز ْمرِ فَإ ِ َ م ِفي ال ْ شاوِْرهُ ْ م وَ َ فْر ل َهُ ْست َغْ ِم َوا ْ ع َن ْهُ ْ
ن" )آل عمران ،آية (١٥٩ :لتعتاد ب ال ْ ُ
مت َوَك ِّلي َ ح ّ ه يُ ِن الل ّ َالل ّهِ إ ِ ّ
المة على ممارسة الشورى ،وهنا يظهر الوعي
السياسي عند الصحابة رضي الله عنهم فزعم أن لهم
إبداء الّرأي ،إل أن ليس لهم فرضه على القائد
فحسبهم أن يبينوا رأيهم ويتركوا للقائد حرية اختيار ما
ما رأوا أنهم ألحوا في الخروج جح لديه من الراء ،فل ّ يتر ّ
وأن الرسول صلى الله عليه وسلم عزم على الخروج
بسبب إلحاحهم ،عادوا فاعتذروا إليه ،لكن الرسول
مهم درسا ً آخر هو من الكريم صلى الله عليه وسلم عل ّ
صفات القيادة الناجحة ،وهو عدم الترد بعد العزيمة
والشروع في التنفيذ ،فإن ذلك يزعزع الثقة بها
ويغرس الفوضى بين التباع ).(2
-24-
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على الخروج،
مة ،وتجهّز الجميع للقتال، وقد أعلن حالة الطوارئ العا ّ
ل يصحب سلحه ،ول يفارقه وأمضوا ليلتهم في حذر ،ك ّ
حتى عند نومه ،وأمر صلى الله عليه وسلم بحراسة
شداء المسلمين المدينة ،واختار خمسين من أ ّ
ومحاربيهم بقيادة محمد بن مسلمة رضي الله عنه
واهتم الصحابة بحراسة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ،فبات سعد بن معاذ ،وأسيد بن حضير ،وسعد بن
عبادة ،في عدة من الصحابة رضي الله عنهم ليلة
سلح على باب المسجد يحرسون ججين بال ّمدَ ّ
الجمعةُ ،
)(1
رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونستطيع أن نقول – إن قرار الخروج قد أدى إلى نصر
مبين وسريع وهذا مفصل في كتب السيرة والحديث ثم
دارت الدائرة بعد ذلك بسبب الخطأ الجسيم الذي وقعت
فيه فرقة الرماة الذين كانوا على موقع كبير من
الهمية والخطورة ،فلما أخلوه انقلبت المور ،وكل ذلك
مفصل في كتابي عن غزوة أحد ) (2فل أطيل بسرده.
-3الشورى في غزوة الحزاب:
أ -في حفر الخندق:
تشاور الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في كيفية
المواجهة للحزاب وكان رأي سلمان الفارسي رضي الله عنه بأن
يحفر خندقا ً حول المدينة لمواجهة الحزاب ،فأخذ النبي صلى الله
عليه وسلم برأيه وأمر بحفره واختار مكانا ً مناسبا ً لذلك وهي
السهول الواقعة شمال المدينة ،إذ كانت هي الجهة الوحيدة
مة ،فقد المكشوفة أمام العداء ،واقترن حفر الخندق بصعوبات ج ّ
كان الجو باردا ً والريح شديدة ،والحالة المعيشية صعبة بالضافة
إلى الخوف من قدوم العدو الذي يتوقعونه في كل لحظة ويضاف
إلى ذلك العمل المضني حيث كان الصحابة يحفرون بأيديهم
وينقلون التراب على ظهورهم ،ولشك في هذا أن هذا الظرف –
ي
بطبيعة الحال – يحتاج إلى قدر كبير من الحزم والجد ولكن النب ّ
صلى الله عليه وسلم في هذا الظرف :يعلم أن هؤلء الجند إنما
س بحاجة إلى الّراحة من عناء العمل، هم بشر كغيرهم ،لهم نفو ٌ
سرور عليها حتى تنسى تلك اللم كما أنها بحاجة إلى من يدخل ال ّ
ص ّ
لبي ).(2/79 1السيرة النبوية لل ّ
)(
-25-
التي تعانيها فوق معاناة العمل الرئيسي ولهذا نجد :أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل
التراب:
اللهم لول أنت ما اهتدينا
صّلينا
ول تصدقنا و َ
-26-
ن أهل البيت
الخالد لسلمان يشعر بأن سلمان من المهاجرين؛ ل ّ
من المهاجرين ).(1
-27-
وقبل عقد الصلح مع غطفان شاور رسول الله صلى الله عليه
وسلم الصحابة في هذا المر ،فكان رأيهم عدم إعطاء غطفان
سعدان :سعد بن معاذ ،وسعد بن شيئا ً من ثمار المدينة ،وقال ال ّ
عبادة؛ يا رسول الله؛ أمرا ً تحبه ،فتضعه أم شيئا ً أمرك الله به لبد ّ
لنا من العمل به ،أم شيئا ً تصنعه لنا؟ فقال :بل شيٌء أصنعه لكم،
والله ما أصنع ذلك إل لّني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة،
ل جانب ،فأردت أن أكسر وكالبوكم – أي :اشتدوا عليكم – من ك ّ
عنكم من شوكتهم إلى أمر ما .فقال له سعد بن معاذ :يا رسول
الله ،قد كّنا وهؤلء على الشرك بالله ،وعبادة الوثان ،ل نعبد الله،
ول نعرفه ،وهم ل يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إل قرىً –
طعام الذي ُيضع للضيف – أو بيعًا ،أفحين أكرمنا الله أي :ال ّ
بالسلم ،وهدانا له ،وأعّزنا بك ،وبه ،نعطيهم أموالنا؟ مالنا بهذا
سيف ،حتى يحكم الله بيننا وبينهم، من حاجة ،والله ل نعطيهم إل ال ّ
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :أنت وذاك.
فتناول سعد بن معاذ الصحيفة ،فمحا ما فيها من الكتاب ،ثم قال :
جهدوا ) (1علينا كان رد زعيمي النصار :سعد بن معاذ وسعد بن لي َ ْ
عبادة في غاية الستسلم لله تعالى ،والدب مع النبي صلى الله
عليه وسلم وطاعته ،فقد جعلوا أمر المفاوضة مع غطفان ثلثة
أقسام.
الول :أن يكون هذا المر من عند الله تعالى ،فل مجال لبداء
الّرأي بل ،لبد ّ من التسليم ،والّرضا.
الثاني :أن يكون شيئا ً يحّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
م وله الطاعة في ذلك. باعتباره رأيه الخاص ،فرأيه مقد ّ ُ
الثالث :أن يكون شيئا ً عمله الّرسول صلى الله عليه وسلم
لمصلحة المسلمين من باب الرفاق بهم ،فهذا هو الذي يكون
مجال ً للّرأي.
ولما تبين للسعدين من جواب الرسول صلى الله عليه وسلم :أنه
أراد
ي ،كبت به زعيمي القسم الثالث :أجاب سعد بن معاذ بجواب قو ّ
غطفان ،حيث بّين أن النصار لم يذّلوا لولئك المعتدين في
ي
عجب النب ّ الجاهلية ،فكيف وقد أعّزهم الله تعالى بالسلم؟ وقد أ ُ
صلى الله عليه وسلم بجواب سعد ،وتّبين له منه ،إرتفاع معنوّية
-28-
النصار ،واحتفاظهم بالّروح المعنوّية العالية فألغى بذلك ما بدأ من
صلح مع غطفان ).(1 ال ّ
ن العرب قد وفي قوله صلى الله عليه وسلم :إني قد علمت :أ ّ
رمتكم عن قوس واحدة ).(2
دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستهدف من
عمله أل يجتمع العداء عليه صفا ً واحدًا ،وهذا يرشد المسلمين
دة أمور منها:
إلى ع ّ
-أن يحاول المسلمون التفتيش عن ثغرات القوى المعادية.
-أن يكون الهدف الستراتيجي للقيادة المسلمة تحييد من
تستطيع تحييده ،ول تنسى القيادة الفتوى ،والشورى والمصلحة
النية والمستقبلية للسلم ).(3
صحابة يتبين لنا وفي استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم لل ّ
ل أمرأسلوبه في القيادة ،وحرصه على فرض الشورى في ك ّ
ى
عسكري يتصل بالجماعة ،فالمر شورى ،ول ينفرد به فرد حت ّ
ولو كان هذا الفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دام المر
في دائرة الجتهاد ،ولم ينزل به وحي ) (4إن قبول الرسول صلى
الله عليه وسلم رأي الصحابة في رفض هذا الصلح يدل على أن
القائد الناجح هو الذي يربط بينه وبين جنده رباط الثقة ،حيث
يعرف قدرهم ويدركون قدره ،ويحترم رأيهم ويحترمون رأيه،
ومصالحة النبي صلى الله عليه وسلم مع قائدي غطفان تعد من
باب السياسة الشرعية التي تراعي فيها المصالح والمفاسد حسب
ما تراه القيادة الرشيدة ) (5للشعوب.
ففي هذه النازلة نجد النبي صلى الله عليه وسلم قد فكر ودبر،
وهيأ حل ً يخفف به محنة المسلمين ،وفاوض وانتهى إلى اتفاق
أولي مع زعماء غطفان لكنه ،قبل إمضائه وتنفيذه ،عرضه
للشورى ،وانتهى به المر إلى التخلي عن رأيه وتدبيره ،والخذ
برأي مستشاريه الذين يمثلون جمهور المسلمين من أهل المدينة
).(6
-4الشورى في صلح الحديبية:
-29-
استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج إلى
البيت معتمرين ،فإن صدتهم قريش قاتلوهم فأشاروا بالخروج
وفرحوا بمقدمهم على البيت ،ولكن الله تعالى أراد ما هو خير لهم
فجرت مفاوضات طويلة حتى كتب الصلح بين رسول الله صلى
الله عليه وسلم وبين قريش يمثلهم سهيل بن عمرو وكان ذلك
في صالح المسلمين وجعل الله لهم من دونه فتحا ً قريبًا ،ولعل
الصحابة رضوان الله عليهم تأثروا بصد قريش لهم ثم الصلح معهم
على أن يرجعوا هذا العام ويأتوا العام القادم في عمرة القضاء
صلحولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية كتابة ال ّ
م احلقوا ..حتى قال ذلك ثلث قال لصحابه :قوموا ،فانحروا ث ّ
م سلمة ،فذكر لها ما ما لم يقم منهم أحد؛ دخل على أ ّ مّرات ،فل ّ
ب ذلك؟ لقي من الناس ،فقالت أم سلمة :يا نبي الله ،أتح ّ
دنك ،وتدعو حالقك أخرج ،ثم ل تكّلم أحدا ً منهم كلمة ،حتى تنحر ب ُ
فيحلقك فخرج ،فلم يكّلم أحدا ً منهم حتى فعل ذلك :نحر ُبدنه،
ما رأوا ذلك؛ قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق ودعا حالقه ،فل ّ
بعضًا ،حتى كاد بعضهم يقتل بعضا ً غما وقد حلق رجال يوم
صر آخرون ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحديبية ،وق ّ
صرين يا رسول الله ؟ قال: يرحم الله المحلقين .قالوا :والمق ّ
صرين يا رسول الله؟ قال :يرحم يرحم الله المحلقين قالوا :والمق ّ
الله المحلقين .قالوا :والمقصرين يا رسول الله ؟ قال
والمقصرين ).(1
م سلمة سديدًا ،ومباركًا؛ حيث فهمت رضي الله فقد كان رأي أ ّ
عنها عن الصحابة :أنه وقع في أنفسهم أن يكون النبي صلى الله
مرعليه وسلم أمرهم بالّتحلل أخذا ً بالّرخصة في حقهم ،وأنه يست ّ
على الحرام أخذا ً بالعزيمة في حق نفسه ،فأشارت على النبي
ل لينتفي عنهم هذا الحتمال ،وعرف صلى الله عليه وسلم أن يتحل ّ
ي صلى الله عليه وسلم صواب ما أشارت به ،ففعله ،فلما رأى النب ّ
الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به ،فلم يبق بعد ذلك غاية
ُتنتظر ،فكان ذلك رأيا سديدًا ،ومشورة مبماركة وفي ذلك دليل
على استحسان مشاورة المرأة الفاضلة ما دامت ذات فكرة
صائبة ،ورأي سديد ) ،(2كما أنه ل فرق في السلم بين أن تأتي
المشورة من رجل ،أو امرأة ما دامت مشورة صائبة ،وهذا عين
قها التكرين للمرأة التي يزعم أعداء السلم :أنه غمطها ح ّ
-30-
وتجاهل وجودها ،وهل هناك اعتراف واحترام لرأي المرأة أكثر من
أن تشير على نبي مرسل ،ويعمل النبي صلى الله عليه وسلم
بمشورتها لحل مشكلة اصطدم بها ،وأغضبته )(1؟
-5الشورى في غزوة تبوك:
مارس رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة الشورى،
وقبل مشورة الصديق ،والفاروق في بعض الّنوازل التي حدثت
في هذه الغزوة ومن هذه النوازل .
دعاء: أ -قبول مشورة أبي بكر الصديق في ال ّ
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :خرجنا إلى تبوك في قيظ
ش ،حتى ظنّنا :أن رقابنا ل ،وأصابنا فيه عط ٌ شديد ،فنزلنا منز ً
ن الّرجل لينحر بعيره ،فيعتصر فْرثه فيشربه ،ثم ستنقطع؛ حتى إ ّ
يجعل ما بقي على كبده ،فقال أبو بكر الصديق :يا رسول الله ،إن
ب ذلك؟ قال: ودك في الدعاء خيرًا ،فادع الله ،قال :أتح ّ الله ع ّ
ت ثم دهما حتى حالت السماء ،فأظل ّ نعم ،فرفع يديه ،فلم ير ّ
سكبت فملؤ ما معهم ،ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر
).(2
ب -قبول مشورة عمر بن الخطاب في ترك نحر البل:
أصابت جيش العسرة مجاعة أثناء سيرهم إلى تبوك ،فاستأذنوا
وعتهم، ج ْدوا َالنبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم حتى يس ّ
ما أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ،جاءه عمر فل ّ
رضي الله عنه ،فأبدى مشورته في هذه المسألة وهي :أن الجند
إن فعلوا ذلك نفذت رواحلهم وهم أحوج ما يكونون إليها في هذا
طويل ثم ذكر رضي الله عنه حل ً لهذه المعضلة ،وهو: الطريق ال ّ
جمع أزواد القوم ،ثم الدعاء لهم بالبركة فيها ،فعمل صلى الله
عليه وسلم بهذه المشورة حتى صدر القوم عن بقّية من هذا
الطعام ،بعد أن ملؤوا أوعيتهم منه ،وأكلوا حتى شبعوا ).(3
ج -قبول مشورة عمر رضي الله عنه في ترك اجتياز
شامحدود ال ّ
والعودة إلى المدينة :
ن
عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منطقة تبوك ،وجد أ ّ
الروم فّروا خوفا ً من جيش المسلمين ،فاستشار أصحابه في
اجتياز حدود الشام ،فأشار عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ص ّ
لبي ).(2/382 1السيرة النبوية لل ّ
)(
-31-
ل رأيه بقوله :إن للروم جموعا ً بأن يرجع بالجيش إلى المدينة ،وعل ّ
كثيرة ،وليس بها أحد من أهل السلم ولقد كانت مشورة مباركة،
ب تكتيكا ًن القتال داخل بلد الرومان ُيعد أمرا ً صعبًا؛ إذ إّنه يتطل ّ فإ ّ
صا ،لن الحرب في الصحراء تختلف في طبيعتها عن الحرب ً خا ّ
في المدن ،بالضافة إلى أن عدد الّرومان في الشام يقرب من
ن تجمع هذا العدد الكبير في مئتين وخمسين ألفًا ،ولشك في أ ّ
صنه داخل المدن يعّرض جيش المسلمين للخطر ) (1إن تح ّ
ممارسة الشورى في حياة المة في جميع شؤونها السياسية
والعسكرية والجتماعية ،منهج تربوي كريم ،سار عليه الحبيب
المصطفى صلى الله عليه وسلم في حياته ).(2
وتتضح قواعد الشورى النبوية على صاحبها أفضل الصلة والسلم
في أمور جليلة أظهرها:
-إتباع الصواب من الرأي الفني ،كما حدث في بدر بغض النظر
عن الكثرية حيث نزل على رأي الحباب ابن المنذر؛ بل هو الرأي
والحرب والمكيدة" والحباب يمثل أهل الخبرة والختصاص وأهل
الذكر).(3
الخذ برأي الكثرية عند ترجيح المواقف:
كما في يوم أحد ،وان خالف رأيهم القيادة وعليه إذا كانت
الشورى في المور التشريعية فالحجة لقوة الدليل ،وإذا كانت
الشورى في المور الفنية فالحجة لهل الخبرة والختصاص ،أما
في طلب الرأي الذي يرشد إلى القيام بعمل من العمال الكبيرة،
ل ،أو إقرار مشروع فيرجح رأي الكثرية لن كانتخاب رئيس ،أو وا ٍ
الكثرة يحصل بها الترجيح وهكذا تقدم لنا السيرة النبوية معالم
أساسيه لفقه الشورى كأمر رباني ،وسنة نبوية،وقيمة أخلقيه،
وحكمه بالغة في سياسة المة وإدارة أمور الدولة وهى ملزمة
للحاكم ومفتوحة للمشاركة ولهل الخبرة الفنية وأهل الختصاص
مكانة خاصة في الشورى وتمتد قيمه الشورى إلى سائر ضروب
النشاط النساني وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزم
الشورى ابتداًء وانتهاًء ).(4
وما ذكرناه من السيرة النبوية غيض من فيض ،وقليل من كثير.
-32-
كانت الشورى مكثفة في هذه المرحلة ،وكانت تشمل عظائم
المور وصغارها ،من قضايا المة في السلم والحرب ،والخلفة
والتشريعات العامة ،إلى نوازل الفراد في زواجهم وطلقهم
وميراثهم ،ومنازعتهم حول البئر والنخلة ،والناقة ،وأهم شيء في
هذه المشاورات المكثفة هو أنها كانت تحقق جوهرها ومقصودها
ت كثيرا ً لما سوى ذلك ،ويمكن أن على أكمل الوجوه ،ثم ل ُيلْتف ُ
نلخص طبيعة مشاوراتهم بعبارة :الشورى بمقاصدها ل بشكلياتها،
فلم يكن عندهم كبير التفات إلى من استشير ومن لم ُيستشر،
وإلى من حضر ومن غاب ،إذا كان الذين استشيروا أهل ً لتلك
المشورة ،وكان من غاب عنها ل يضر غيابه ،ولم ُيقصد تغييبه ولم
يكن عندهم كبير التفات إلى عدد المستشارين في القضية ،وهل
هم آحاد ،أو عشرات أو مئات ،إذا كان من استشيروا يقومون
مقام غيرهم ويعبرون بصدق عن آرائهم ومصالحهم.
ولم يكن عندهم كبير التفات وتدقيق في عدد الذين أيدوا والذين
عارضوا ،إذا ظهر بوضوح التوجه العام الغالب في المسألة أو
حصل فيها نوع من التراضي والتطاوع والتسامح وإذا خالفهم أحد
منهم ثم رأوا في لهجته صدقا ً وفي حجته قوة ووثوقًا ،لم يلبسوا
أن يضعوا ثقتهم في صدقة وعلمه وما يعرفونه من خبرته وحسن
تقديره ،فينقلب رأي الواحد المنفرد إلى إجماع أو شبه إجماع.
وكانت المشاورات تتم في جو من الحرية والمن والجرأة؛ فل أحد
يحابي أحدا ً ول أحد يخادع أحدا ً ول أحد يخاف من أحد ،ول أحد
يطمع في أحد.
في هذه الجواء ،وبهذه السمات لم تكن شوراهم بحاجة إلى
قوانين معضلة وإلى ضوابط مدققة ،ول إلى ضمانات واحتياطات،
فالتعقيد التنظيمي حين ل يكون ضروريا ً يصبح عبثا ً وعائقًا ،أو على
القل ،قد تكون كلفته أكثر من فائدته لقد كانت الشورى في
التجربة السلمية الولى خفيفة في تنظيمها وطرق إجرائها،
ولكنها كانت ثقيلة بجديتها وأخلقيتها ) (1وإليك بعض ملمح
وسمات التجربة الشورية في عهد أبي بكر الصديق رضي الله
عنه:
-1بيعة الصديق:
صحابة – رضي الله عنهم – بوفاة رسول الله صلى الله لما علم ال ّ
عليه وسلم اجتمع النصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه،
وهو يوم الثنين الثاني عشر من شهر ربيع الول من السّنة
-33-
الحادية عشر للهجرة ،وتداولوا المر بينهم في اختيار من يلي
ف النصار حول زعيم الخزرج سعد بن الخلفة من بعده ) ،(1والت ّ
عباده – رضي الله عنه – ولما بلغ خبر اجتماع النصار في سقيفة
ديق – ص ّ
بني ساعدة إلى المهاجرين ،وهم مجتمعون مع أبي بكر ال ّ
رضي الله عنه – لترشيح من يتولى الخلفة ) ،(2قال المهاجرون
ن لهم في هذا لبعضهم :انطلقوا بنا إلى إخواننا من النصار ،فإ ّ
الحقّ نصيبًا ،قال عمر رضي الله عنه : -فانطلقنا نريدهم ،فل ّ
ما
دنونا منهم لقينا منهم رجلن صالحان ،فذكر ما تمال عليه القوم،
فقال :أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا :نريد إخواننا هؤلء
من النصار ،فقال :ل عليكم أل تقربوهم ،اقضوا أمركم .فقلت:
والله لنأتيّنهم ) ،(3فانطلقنا حّتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة،
ل بين ظهرانيهم فقلت :من هذا ؟ فقالوا :هذا سعد م ُفإذا رجل مز ّ
بن عبادة ،فقلت :ماله ؟ قالواُ :يوعك .فّلما جلسنا قليل ً تشّهد
ما بعد فنحن أنصار م قال :أ ّ خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ،ث ّ
الله ،وكتيبة السلم ،وأنتم – معشر المهاجرين – رهط ،وقد دّفت
دافة من قومكم ) ،(4فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن
كلم – وكنت قد زّورت يحضنونا )(5من المر فلما سكت أردت أن أت ّ
دمها بين يدي أبي بكر – وكنت أداري )(6مقالة أعجبتني أريد أن أق ّ
ده ،فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر :على رسلك منه بعض الح ّ
فكرهت أن أغضبه ،فتكّلم أبو بكر ،فكان هو أحلم مّني وأوقر،
والله ما ترك كلمةٍ أعجبتني في تزويري إل ّ قال في بديهته مثلها؛
أو أفضل منها حتى سكت ،فقال :ما ذكرتكم فيكم من خير فأنتم
ي من قريش ،هم أوسط له أهل ولن ُيعرف هذا المر إل لهذا الح ّ
العرب نسبًا ،ودارًا ،وقد رضيت لكم أحد هذين الّرجلين فبايعوا
أّيهما شئتم ،فأخذ بيدي ،ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس
دم فتضرب عنقي ل ما قال غيرها ،والله أن أق ّ بيننا ،فلم أكره م ّ
مر على قوم فيهم أبو ي من أن أتأ ّب إل ُّيقربني ذلك من إثم أح ّ
ول إلى نفسي عند الموت شيئا ً ل أجده الن. س ّ
بكر؛ اللّهم إل أن ت ُ َ
-34-
جب )،(1 قها المر ّ عذي ُ كك و ُ جذيلها المح ّ فقال قائل من النصار :أنا ُ
منا أمير ،ومنكم أمير يا معشر قريش ،فكثر الّلغط وارتفعت
الصوات ،حتى فرقت من الختلف فقلت :ابسط يدك يا أبو بكر،
م بايعته النصار).(2 فبسط يده ،فبايعته ،وبايعه المهاجرين ،ث ّ
وفي رواية ...فتكلم أبو بكر – رضي الله عنه – فلم يترك شيئا ً
أنزل في النصار ،ول ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من
شأنهم إل وذكره ،وقال :ولقد علمتم :أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال :لو سلك الناس واديًا ،وسلكت النصار واديا ً
ن رسول الله صلى سلكت وادي النصار ،ولقد علمت يا سعد ) (3أ ّ
الله عليه وسلم قال وأنت قاعد :قريش ولة هذا المر فَب َّر الناس
تبع ل ِب َّرهم وفاجرهم الناس تبعٌ لفاجرهم ،قال :فقال له سعد:
صدقت ،نحن الوزراء ،وأنتم المراء ).(4
ونلحظ مجموعة من الدروس والفوائد والعبر منها:
أ -الصديق وتعامله مع النفوس وقدرته على القناع:
استطاع أبوبكر الصديق أن يدخل إلى نفوس النصار ،فأثنى على
النصار ببيان ما جاء في فضلهم من الكتاب والسنة والثناء على
المخالف منهج إسلمي يقصد منه :إنصاف المخالف وامتصاص
ة في نفسه ،ليكون مهّيأ لقبول غضبه ،وانتزاع بواعث الثرة والناني ّ
ي صلى الله عليه وسلم الحق إذا تبّين له ،وقد كان في هدي النب ّ
صل أبوبكر من ذلك الكثير من المثلة التي تدل على ذلك ،ثم تو ّ
ن فضلهم وإنه كان كبيرا ً ل يعني أحقيتهم في الخلفة؛ لن إلى أ ّ
ن المهاجرين من قريش ص على أ ّ النبي صلى الله عليه وسلم قد ن ّ
دمون في هذا المر).(5 ق ّ هم الم َ
ن أمر الخلفة في قريش بوصية رسول الله واستدل أبوبكر على أ ّ
صلى الله عليه وسلم :بالنصار خيرًا ،وأن يقبلوا من محسنهم
ج أبوبكر على النصار بقوله :إن الله ويتجاوزوا عن مسيئهم ،واحت ّ
نري َ ج ِ مَها ِ قَراء ال ْ ُ ماكم "المفلحين" إشارة إلى قوله تعالى ":ل ِل ْ ُ
ف َ س ّ
َ ُ
واًناض َن الل ّهِ وَرِ ْ م َ ضًل ّ ن فَ ْ م ي َب ْت َُغو َوال ِهِ ْ
م َم وَأ ْ من ِديارِه ِ ْ جوا ِ خرِ ُ نأ ْ ذي َ ال ّ ِ
ؤوان ت َب َوّ ُ
ذي َ ن * َوال ّ ِ صاد ُِقو َ م ال ّ ك هُ ُ ه أ ُوْل َئ ِ َسول َ ُ ه وََر ُن الل ّ َ صُرو َ وََين ُ
ن ِفي دو َ ج ُم وََل ي َ ِ جَر إ ِل َي ْهِ ْ ها َن َ م ْن َ حّبو َ م يُ ِ من قَب ْل ِهِ ْ ن ِ ما َ داَر َوا ْ ِ
لي َ ال ّ
جذيل :عود ينصب للبل الجربي لتحت ّ
ك به. ()1ال ُ
()2المحكك :الذي يحتك به كثيرًا ،أراد أنه يستشفي برابة ،والعذيق :الن ّ
خلة ،أي:
الذي يعتمد عليه.
()3البخاري : ،ك الحدود رقم .6830
()4مسند أحمد ) (1/5الخلفة والخلفاء البهنساوي ص .50
()5التاريخ السلمي ).(9/24
-35-
م ن ب ِهِ ْ م وَل َوْ َ
كا َ سه ِ ْ ف ِ ن ع ََلى َأن ُ ُ
ما أوُتوا وَي ُؤ ْث ُِرو َ م ّ
ة ّ ج ً حا َ م َ دورِه ِ ْ ص ُ ُ
ْ َ َ ُ
ن " )الحشر, حو َ فل ِ ُم ْم ال ُ سهِ فَأوْلئ ِك هُ ُ ف ِح نَ ْش ّ من ُيوقَ ُ ة وَ َ ص ٌ
صا َ خ َ َ
َ
آية) ٩ - ٨ :وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا ،فقال َ ":يا أي َّها
ن " )التوبة ,آية.(١١٩ : صاد ِِقي َ معَ ال ّ كوُنوا ْ َ ه وَ ُ قوا ْ الل ّ َمُنوا ْ ات ّ ُنآ َ ذي َ ال ّ ِ
إلى غير ذلك من القوال المصيبة ،والدلة القوية ،فتذكرت النصار
هلت القوم ن مؤ ّ ذلك ،وانقادت إليه )(1وبين الصديق في خطابه أ ّ
سيادة، من يدين لهم العرب بال ّ حون للخلفة أن يكونوا م ّ الذين يرش ّ
وتستقّر بهم المور حتى ل تحدث الفتن فيما إذا توّلى غيرهم،
سيادة إل للمسلمين من قريش؛ وأبان :أن العرب ل يعترفون بال ّ
لكونه النبي صلى الله عليه وسلم منهم ،ولما استقر في أذهان
العرب في تعظيمهم واحترامهم وبهذه الكلمات النّيرة التي قالها
معينين وجنودا ً مخلصين، الصديق اقتنع النصار بأن يكونوا وزراء ُ
فحد ص ّ كما كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبذلك تو ّ
المسلمين ).(2
ب -حرص الجميع على وحدة المة:
إن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة يؤكد حرص النصار
على مستقبل الدعوة السلمية ،واستعدادهم المستمر للّتضحية
في سبيلها ،فما أطمأّنوا على ذلك حتى استجابوا سراعا ً لبيعة أبي
بكر ،الذي قبل البيعة لهذه السباب ،وإل فإن نظرة الصحابة
من خالفوا المنهج العلمي مخالفة لرؤية الكثير ممن جاء بعدهم م ّ
والدراسة الموضوعية ،بل كانت دراستهم متناقضة مع روح ذلك
العصر ،وآمال وتطلعات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
دى إلى انشقاق من النصار ،وغيرهم ،وإذا كان اجتماع السقيفة أ ّ
بين المهاجرين والنصار كما زعم البعض ) ،(3فكيف قبل النصار
بتلك النتيجة ،وهم أهل الديار وأهل العدد والعدة؟ وكيف انقادوا
لخلفة أبي بكر ،ونفروا في جيوش الخلفة شرقا ً وغربا ً مجاهدين
لتثبيت أركانها؟ لو لم يكونوا متحمسين لنصرتها ).(4
فالصواب اتضح من حرص النصار على تنفيذ سياسة الخلفة
دين ،وأّنه لم يتخّلف أحد من النصار عن والندفاع لمواجهة المرت ّ
خوة بيعة أبي بكر فضل ً عن غيرهم من المسلمين ،وأن أ ّ
-36-
طروا الخلف بينهم المهاجرين والنصار أكبر من تخّيلت الذين س ّ
في رواياتهم المغرضة ).(1
ولقد بايع سعد بن عبادة سيد النصار في حينه أبا بكر الصديق
بالخلفة في أعقاب النقاش الذي دار في سقيفة بني ساعدة
ونزل عن مقامه الّول في دعوى المارة ،وأذعن للصديق بالخلفة
وكان ابن عمه بشير بن سعد النصاري أّول من بايع الصديق في
اجتماع السقيفة ).(2
ولقد جرت المشاورة بشأن اختيار خليفة للمسلمين بين الفراد
والمجموعات الصغيرة ،وجرت فيما بين النصار وجرت فيما بين
المهاجرين ،ثم التأم الجميع في سقيفة بني ساعدة وجرت
المشاروة الكبرى والنقاش العام بين المهاجرين والنصار – في
مسجد الرسول الكريم بعد ذلك – وأسفر ذلك كله عن مبايعة أبي
بكر الصديق ).(3
وإن الباحث ليلمس عظمة تربية رسول الله لصحابه ونضجهم
مما لشك فيه أن وفاة النبي صلى الله عليه السياسي الكبير ف ّ
وسلم كان حدث جلل ،وترك فراغا ً عظيما ً في المة ومع هذا
استطاع أهل الحل والعقد أن يتجاوز تلك المحنة الكبرى بوعي
وفقه ،وتقدير للمور على أسس رشيدة انعدم نظيرها في تاريخ
البشرية.
صعب الذي نشأ لقد كان على المة السلمية أن تواجه الموقف ال ّ
عن انتقال الّرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق العلى ،وأن
تحسم أمورها بسرعة ،وحكمة وأل تدع مجال ً لنقسام قد يتسرب
ل إلى أركان منه الشك إلى نفوس أفرادها ،أو للضعف أن يتسل ّ
ده رسول الله صلى الله عليه وسلم. البناء الذي شي ّ
ج -منصب الخلفة والخليفة:
اختارت المة منصب الخلفة السلمية وأجمعت عليه طريقة
وأسلوبا ً للحكم ،تنظم من خلله أمورها وترعى مصالحها ،وقد
مة لها واقتناعها بها ،ومن ثم كان ارتبطت نشأة الخلفة بحاجة ال ّ
إسراع المسلمين في اختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ).(4
مدت أصولها ولما كانت الخلفة نظام حكم المسلمين ،فقد است ّ
من دستور المسلمين ،من القرآن الكريم ،ومن سنة النبي صلى
لبي ص .128ص ّ 1أبوبكر الصديق لل ّ
)(
-37-
الله عليه وسلم ) ،(1وقد تحدث الفقهاء عن أسس الخلفة
السلمية فقالوا بالشورى والبيعة وهما – أصل ً – قد أشير إليهما
في القرآن الكريم ) ،(2ومنصب الخلفة أحيانا ً يطلق عليه لفظ
المامة أو المارة وقد أجمع المسلمون على وجوب الخلفة وأن
مة ،ويقيم تعيين الخليفة فرض على المسلمين يرعى شؤون ال ّ
دعوة السلمية ،وعلى حماية الدين، الحدود ويعمل على نشر ال ّ
والمة بالجهاد ،وعلى تطبيق الشريعة وحماية حقوق الناس ،ورفع
المظالم ،وتوفير الحاجات الضرورية لكل فرد.
وقد أطلق المسلمون هذه اللقاب :الخليفة ،المام ،أمير المؤمنين
في تاريخهم السياسي وهذه ليست من المور التعبدية ،وإنما هي
مصطلحات وجدت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
واصطلح الناس عليها ،وقد أطلق المسلمون غير هذه اللقاب في
وقت لحق ،كلقب المير ،كما كان الحال في الندلس ،وكذلك
لقب السلطان ،كما تسمى بذلك الحكام في التاريخ السلمي،
لقبا ً من هذه اللقاب ،إذ المهم في هذا المجال أن يكون
المسلمون ورئيسهم خاضعين للتشريع السلمي عقيدة وشريعة،
بغض النظر عن اللقاب التي يمكن أن تطلق على هذا الرئيس
سواء كان لقبه الخليفة أم أمير المؤمنين أم رئيس الدولة أم
رئيس الجمهورية ،فيمكن إطلق أحد هذه اللقاب أو غيرها وهذا
يرجع إلى ما يتعارف عليه الناس ).(3
س -مجموعة من المبادئ السياسية من سقيفة بني
ساعدة:
أفرز ما دار في سقيفه بني ساعدة مجموعة من المبادئ :منها
مة ل تقام إل بالختيار ،وأن البيعة هي أصل من أصول أن قيادة ال ّ
الختيار وشرعية القيادة ،وأن الخلفة ل يتولها إل الصلب دينا،
والكفأ إدارة ،فاختيار الخليفة ّتم وفق مقومات إسلمية وشخصية،
وأخلقية ،وأن الخلفة ل تدخل ضمن مبدأ الوراثة النسبّية ،أو
القبلية وأن إثارة "قريش" في سقيفة بني ساعدة باعتباره واقعا ً
يجب أخذه في الحسبان ،ويجب اعتبار أي شيٍء مشابه مالم يكن
ن الحوار الذي دار في سقيفة بني متعارضا ً مع أصول السلم ،وأ ّ
ساعدة قام على قاعدة المن النفسي السائد بين المسلمين حيث
ل هرج ول مرج ،ول تكذيب ،ول مؤامرات ول نقض للتفاق ،ولكن
-38-
تسليم للّنصوص التي تحكمهم حيث المرجعية في الحوار إلى
النصوص الشرعية ) (1ومن المثلة التي صدرت بالشورى الجماعية
من حادثة السقيفة.
-أّول ما قرره اجتماع يوم السقيفة هو أن نظام الحكم ودستور
قرر بالشورى الحّرة ،تطبيقا ً لمبدأ الشورى الذي نص عليه الدولة ي ّ
ل إجماع وسند هذا الجماع القرآن ،ولذلك كان هذا المبدأ مح ّ
النصوص القرآنية التي فرضت الشورى أي أن هذا الجماع كشف
كد أّول أصل شرعي لنظام الحكم في السلم ،وهو الشورى وأ ّ
الملزمة ،وهذا أول مبدأ دستورئّ تقّرر بالجماع بعد وفاة رسولنا
م إن هذا الجماع لم يكن إل تأييدًا، الكريم صلى الله عليه وسلم ،ث ّ
سّنة التي أوجبت الشورى. وتطبيقا ً لنصوص الكتاب ،وال ّ
-تقرر يوم السقيفة أيضًا :أن اختيار رئيس الدولة ،أو الحكومة
حرة م بالشورى أي البيعة ال ّ السلمية وتحديد سلطاته يجب أن يت ّ
منهاالتي تمنحه تفويضا ً ليتولى الولية بالشروط والقيود التي يتض ّ
حرة – الدستور في النظم المعاصرة – عقد البيعة الختيارية ال ّ
وكان هذا ثاني المبادئ الدستورية التي أّقرها الجماع ،وكان قرارا ً
إجماعيا ً كالقرار السابق.
-تطبيقا ً للمبدأين السابقين ،قّرر اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر،
ليكون الخليفة الّول للدولمة السملمية ).(2
ح نهائيا ً إل بعد أن ّتمت له البيعة العامة، ثم إن هذا الترشيح لم يص ّ
أي :موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد الرسول
م قبوله لها بالشروط التي ذكرها في صلى الله عليه وسلم ،ث ّ
خطابه الذي ألقاه ).(3
ع -البيعة العامة:
صة في مت بيعة أبي بكر – رضي الله عنه – البيعة الخا ّ بعد أن ت ّ
سقيفة بني ساعدة ،كان لعمر رضي الله عنه – في اليوم التالي
موقف في تأييد أبي بكر ،وذلك في اليوم التالي حينما اجتمع
المسلمون للبيعة العامة ،ومما قاله عمر في حق أبي بكر ... :
وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدي الله ورسوله صلى الله
عليه وسلم ،فإن اعتصمتم به ،هداكم الله لما كان هداه له ،وإن
الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ،وثاني اثنين إذ هما في الغار ،فقوموا فبايعوه ،فبايع
-39-
الناس أبابكر بعد بيعة السقيفة ثم تكلم أبو بكر فحمد الله ،وأثنى
عليه بالذي هو أهله ،ثم قال :أما بعد أّيها الناس ،فإني قد وليت
عليكم ولست بخيركم ،فإن أحسنت؛ فأعينوني ،وإن أسأت
وموني ،الصدق أمانة والكذب خيانة ،والضعيف فيكم قويّ عندي فق ّ
حتى أُرجع عليه حقه إن شاء الله ،والقويّ فيكم ضعيف عندي
حتى آخذ الحقّ منه إن شاء الله ،ل يدع قوم الجهاد في سبيل الله
إل خذلهم الله بالذل ،ول تشيع الفاحشة في قوم إل عمّهم الله
بالبلء ،أطيعوني ما أطعت الله ،ورسوله ،فإذا عصيت الله
)(1
ورسوله ،فل طاعة لي عليكم قوموا إلى صلتكم يرحمكم الله .
وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب السلمية على
إيجازها ،وقد قّرر الصديق فيها قواعد ،العدل والرحمة في التعامل
كز على أن طاعة ولي المر مترتبة على بين الحاكم والمحكوم ،ور ّ
طاعة الله ورسوله ،ونص على الجهاد في سبيل الله لهميته في
مة ،وعلى اجتناب الفاحشة لهمية ذلك في حماية إعزاز ال ّ
)(2
المجتمع من النهيار والفساد .
-2الشورى في قتال مانعي الزكاة والمرتدين:
لما كانت الّردة؛ قام أبو بكر – رضي الله عنه في الناس خطيبا ً
فحمد الله ،وأثنى عليه ،ثم قال :الحمد الله الذي هدى فكفى،
وأعطى فأغنى ،إن الله بعث محمدا ً صلى الله عليه وسلم والعلم
خلق ثوبه وضل أهله ث حبله ،و ِ شريد والسلم غريب طريد ،قد ر ّ
منه ،ومقت الله أهل الكتاب ،فل يعطيهم خيرا ً لخير عندهم ،ول
شر عندهم ،وقد غيّروا كتابهم وألحقوا فيه ما يصرف عنهم شرا ً ل ّ
ليس منه ،والعرب المنون يحسبون :أنّهم في منعة من الله ،ل
يعبدونه ،ول يدعونه فأجهدهم عيشا ً وأظلهم دينًا ،في ظلف من
سحاب ،فختمهم الله بمحمد ،وجعلهم المة الرض مع ما فيه من ال ّ
الوسطى ونصرهم بمن اّتبعهم ونصرهم على غيرهم ،حتى قبض
الله نبّيه ،فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزل عليه وأخذ
من قَب ْل ِ ِ
ه ت ِ خل َ ْل قَد ْ َسو ٌ مد ٌ إ ِل ّ َر ُ
ح ّ م َما ُ بأيديهم ،وبغى هلكتهم" :وَ َ
ت أ َوْ قُت ِ َ
ل ما َ ل أفَِإن ّ
الرس ُ َ
ّ ُ
َ
شي ًْئا ه َ ضّر الل ّ َقب َي ْهِ فََلن ي َ ُ
ى عَ ِ َ
ب ع َل َ قل ِ ْمن َين َ م وَ َ م ع ََلى أع ْ َ
قاب ِك ُ ْ قل َب ْت ُ ْ
ان َ
ن" ) عمران ,آية.(١٤٤ : ري َ شاك ِ ِ ه ال ّ زي الل ّ ُ ج ِسي َ ْ وَ َ
ن من حولكم من العرب قد منعوا شاتهم ،وبعيرهم ،ولم يكونوا إ ّ
في دينهم – وإن رجعوا إليه – أزهد منهم يومهم هذا ،ولم تكونوا
-40-
في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما تقدم من بركة نبّيكم
كلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضال ً فهداه ،وعائل وقد و ّ
ة الل ّ ِ
ه م َفّرُقوا ْ َواذ ْك ُُروا ْ ن ِعْ َ ميًعا وَل َ ت َ َ ج ِل الل ّهِ َ ح َب ْ ِموا ْ ب ِ َ ص ُ فأغناه َ" :واع ْت َ ِ
َ ُ ّ كنت َ
واًنا خ َ
مت ِهِ إ ِ ْ حُتم ب ِن ِعْ َ م فَأ ْ
صب َ ْ ن قُلوب ِك ُ ْ َ ف ب َي ْ داء فَأل َ م أع ْ َ م إ ِذ ْ ُ ُ ْ ع َل َي ْك ُ ْ
ه ل َك ُ ْ
م ن الل ّ ُ ك ي ُب َي ّ ُ من َْها ك َذ َل ِ َ كم ّ قذ َ ُن الّنارِ فََأن َ م َ فَرةٍ ّ ح ْ فا ُ ش َ ى َ كنت ُ ْ َ
م ع َل َ وَ ُ
ن" ) آل عمران ,آية.(١٠٣ : دو َ م ت َهْت َ ُ آَيات ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ
والله ل أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ،ويوفي
لنا عهده وُيقتل من قتل منا شهيدا ً من أهل الجنة ،ويبقى من بقي
منا خليفته ،وذريته في أرضه ،قضاء الله الحق وقوله الذي ل خلف
له:
فن ُّهم ِفي خل ِ َ ست َ ْ ت ل َي َ ْ حا ِ صال ِ َ مُلوا ال ّ م وَع َ ِ منك ُ ْ مُنوا ِ نآ َ ذي َ ه ال ّ ِ " وَع َد َ الل ّ ُ
خل َ َ َْ
ف ست َ ْ ما ا ْ ض كَ َ الْر ِ
م وَل َي ُب َد ّل َن ُّهم ضى ل َهُ ْ ذي اْرت َ َ م ال ّ ِ م ِدين َهُ ُ ن ل َهُ ْ مك ّن َ ّ م وَل َي ُ َ من قَب ْل ِهِ ْ ن ِ ذي َ ال ّ ِ
من ك َ َ شرِ ُ دون َِني َل ي ُ ْ خوفه َ
فَر ب َعْد َ شي ًْئا وَ َ ن ِبي َ كو َ مًنا ي َعْب ُ ُ مأ ْ من ب َعْد ِ َ ْ ِ ِ ْ ّ
ن ") النور ,آية .(٥٥ :وقد أشار بعض )(1
م ال ْ َ ُ
ك فَأوْل َئ ِ َ ذ َل ِ َ
قو َ س ُفا ِ ك هُ ُ
الصحابة ،ومنهم عمر على الصديق بأن يترك مانعي الزكاة
كون، ويتألفهم حتى يتمكن اليمان من قلوبهم ،ثم هم بعد ذلك يز ّ
صدّيق عن ذلك وأباه ).(2 فامتنع ال ّ
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال :لما توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر – قد تولى الخلفة – وكفر من
كفر من العرب ،فقال عمر رضي الله عنه – كيف تقاتل الناس
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أمرت أن أقاتل
الناس حتى يقولوا إل إله إل الله ،فمن قالها ،فقد عصم مني ماله
ن من فّرق قه ،وحسابه على الله ،فقال :والله؛ لقاتل ّ ونفسه إل بح ّ
عناقا ً ) (3كانوا صلة والّزكاة حقّ المال ،والله لو منعني َ بين ال ّ
دونها إلى رسول الله؛ لقاتلتهم على منعها .وفي رواية :والله لو يؤ ّ
)(4
دونه إلى رسول الله صلى الله عليه عقال ،كانوا يؤ ّ منعوني ِ
وسلم ،لقاتلتهم على منعه ،قال عمر :فوالله ما هو إل أن قد شرح
)(5
م قال عمر بعد ذلك: الله صدر أبي بكر ،فعرفت :أنه الحق ،ث ّ
مة جميعا ً في قتال والله لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه ال ّ
-41-
دة ) ،(1وبذلك يكون أبوبكر قد كشف لعمر – وهو يناقشه – أهل الر ّ
عن ناحية فقهية مهمة أجلها له ،وكانت قد غابت عنه ،وهي أن
ملة جاءت في الحديث النبوي الشريف الذي احتج به عمر هي ج ّ
دليل على وجوب محاربة من منع الزكاة حتى وإن نطق ال ّ
بالشهادتين ،وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قالوها؛
قها ) .(2وفعل ً كان رأي أبي ي دماءهم ،وأموالهم إل بح ّ عصموا من ّ
ً ً
بكر في حرب المرتدين رايا مسددا ،وهو الرأي الذي تمليه طبيعة
الموقف لمصلحة السلم والمسلمين ،وأي موقف غيره سيكون
فيه الفشل ،والضّياع والهزيمة والرجوع إلى الجاهلية ،ولول الله،
حولت ثم هذا القرار الحاسم من أبي بكر لتغير وجه التاريخ ،وت ّ
مسيرته ،ورجعت عقارب الساعة إلى الوراء ،ولعادت الجاهلّية
تعيث في الرض فسادا ً ).(3
دة غيرته على هذا الدين، لقد تجلى فهمه الدقيق للسلم وش ّ
وبقاؤه على ما كان عليه في عهد نبّيه في الكلمة التي فاض بها
لسانه ونطق بها جنانه ،وهي الكلمة التي تساوي خطبة بليغة
ل ،وهي قوله عندما امتنع كثير من قبائل العرب طويلة ،وكتابا ً حاف ً
أن يدفعوا الزكاة إلى بيت المال أو منعوها مطلقًا ،وأنكروا
ي؟ ).(4م الدين أينقص وأنا ح ّ فرضيّتها :قد انقطع الوحي ،وت ّ
وفي رواية :قال عمر :فقلت :يا خليفة رسول الله تأّلف الناس
خوار في السلم قد فأرفق بهم .فقال لي :أجبار في الجاهلية ّ
)(5
ي ؟ لقد سمع أبو بكر دين أينقص وأنا ح ّ انقطع الوحي ،وّتم ال ّ
دين ،وما عزم على خوض صحابة في حرب المرت ّ وجهات نظر ال ّ
الحرب إل بعد أن سمع وجهات النظر بوضوح إل أّنه كان سريع
صواب له، دد لحظة بعد ظهور ال ّ القرار ،حاسم الرأي ،فلم يتر ّ
دد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر هذا الخليفة وعدم التر ّ
حة رأيه، العظيم – في حياته كّلها ،ولقد اقتنع المسلمون بص ّ
ورجعوا إلى قوله ،واستصوبوه لقد كان أبو بكر – رضي الله عنه –
أبعد الصحابة نظرًا ،وأحقهم فهمًا ،وأربطهم جنانا ً في هذه الطامة
العظيمة ) ،(6والمفاجأة المذهلة.
-3الشورى في جمع القرآن:
()1حروب الردة ،محمد أحمد باشميل ص .24
()2مسلم رقم .21
()3الشورى بين الصالة والمعاصرة للتميمي ص .86
()4المرتضى لبي الحسن الّندوي ص .70
لبي.ص ّ
5أبو بكر الصديق لل ّ
)(
-42-
كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من
حفظه القرآن ،وقد نتج عن ذلك أن قام أبوبكر – رضي الله عنه
بمشورة عمر بن الخطاب رضي الله – بجمع القرآن حيث جمع
سعف ،ومن صدور الّرجال ) ،(1وأسند من الّرقاع ،والعظام ،وال ّ
صحابي الجليل زيد بن ثابت الصديق هذا العمل العظيم إلى ال ّ
ي
النصاري – رضي الله عنه – يروي زيد بن ثابت فيقول :بعث إل ّ
أبو بكر – لمقتل أهل اليمامة ) ،(2فإذا عمر بن الخطاب عنده،
قال أبو بكر رضي الله عنه : -إن عمر أتاني فقال :إن القتل قد
حر القتل ي أخشى أن يست ّ حر يوم القيامة بقّراء القرآن وإن ّ )(3است ّ
4
ي أرى بالقّراء في المواطن ) ( ،كلّها فيذهب كثير من القرآن وإن ّ
أن تأمر بجمع القرآن ،فقال لعمر :كيف أفعل شيئا ً لم يفعله
رسول الله صلى الله عليه وسلم ) (5فقال عمر :هذا والله خير،
فلم يزل عمر يراجعني حّتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر
عمر ،ورأيت في ذلك الذي رأى عمر .قال زيد :قال أبوبكر :وإنك
رجل شاب عاقل ل نتّهمك ،وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله
صلى الله عليه وسلم فتتّبع القرآن ،فاجمعه .قال زيد فوالله لو
ما كلفني به من يم ّ كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عل ّ
سب ) (6والّلخاف ) ( وصدور
7
جمع القرآن؛ فتتبعت القرآن من العَ َ
الّرجال ،والّرقاع ،والكتاف ) (8قال حتى وجدت آخر سورة التوبة
مع أبي خزيمة النصاري لم أجده مع أحد غيره قال تعالى " :ل َ َ
قد ْ
كمص ع َل َي ْ ُ
ري ٌح ِ
م َ زيٌز ع َل َي ْهِ َ
ما ع َن ِت ّ ْ م عَ ِسك ُ ْ
ف ِ ن َأن ُم ْل ّسو ٌ م َر ُ جاءك ُ ْ َ
م "التوبة ،آية "128 :حتى خاتمة براءة حي ٌف ّر ِ ؤو ٌ ن َر ُ مؤ ْ ِ
مِني َ ْ
ِبال ُ
وكانت الصحف عند أبي بكر في حياته ،حتى توّفاه لله ،ثم عند
عمر في حياته ،حتى توّفاه الله ،ثم عند حفصة بنت عمر رضي
الله عنهم ).(9
وهكذا فجمع القرآن الكريم فيه دليل عملي على ممارسة
الشورى الجماعية ،فقد اتسع نطاق الشورى ،وتبادل الرأي،
-43-
والمراجعة العلمية وذلك مما كان سببا ً في القناع وإجتماع الرأي
)(1على إنجاز هذا المشروع الحضاري العظيم.
-4الشورى في القضاء:
كان أبو بكر – رضي الله عنه ،إذا ورد عليه حكم ،نظر في كتاب
الله تعالى ،فإن وجد فيه ما يقضي به؛ قضى فإن لم يجد في
كتاب الله ،نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فإن
وجد فيها ما يقضي به ،قضى به ،فإن أعياه ذلك ،سأل الناس :هل
علمتم :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء،
فرّبما قام إليه القوم فيقولون :قضى فيه بكذا أو بكذا ،فيأخذ
بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول عندئذ :الحمد لله
الذي جعل فينا من يحفظ عن نبّينا ،وإن أعياه ذلك ،دعا رؤوس
المسلمين ،وعلماءهم ،استشارهم فإذا اجتمع رأيهم على المر
قضى به).(2
ويظهر :أن الصديق يرى الشورى ملزمة إذا اجتمع رأي أهل
الشورى على أمر ،إذ ل يجوز للمام مخالفتهم ).(3
-5الشورى في الجهاد:
دعا عمر ،وعثمان ،وعليا وطلحة ،والزبير ،وعبدالرحمن بن عوف،
وسعد بن أبي وقاص ،وأبا عبيدة بن الجّراح ووجوه المهاجرين
ن الله تبارك والنصار من أهل بدر ،وغيرهم ،فدخلوا عليه فقال :إ ّ
وتعالى ل تحصى نعمه ول تبلغ العمال جزاءها ،فله الحمد كثيرا ً
على ما اصطنع عندكم من جمع كلمتكم ،وأصلح ذات بينكم،
وهداكم إلى السلم ونفى عنكم الشيطان ،فليس يطمع أن
خذ إلها ً غيرها ،فالعرب أمة واحدة ،بنو أب تشركوا بالله ،ول أن تت ّ
شام ،فمن هلك؛ هلك م وقد أردت أن ستفزكم إلى الّروم بال ّ وأ ّ
شهيد ،وما عند الله خير للبرار ،ومن عاش ،عاش مدافعا ً عن
الدين ،مستوجبا ً على الله عز وجل ثواب المجاهدين ،هذا رأيي
ل امرىِء بمبلغ رأيه )(4وقد أجمع يك ّالذي رأيت ،فليشر عل ّ
الصحابة على موافقة الصديق في غزو الروم وإنما تنوعت وجهات
نظر بعضهم في كيفية هذا الغزو ،فكان رأي عمر إرسال الجيوش
شام فتكون ّقوة كبيرة تستطيع أن تلو الجيوش حتى تتجمع في ال ّ
قوات تعمد للعداء وكان رأي عبدالرحمن بن عوف أن يبدأ الغزو ب ّ
صغيرة ،تغير على أطراف الشام ثم تعود إلى المدينة ،حتى إذا ّتم
()1الشوري د .أحمد المام ص .40
()2موسوعة فقه أبي بكر الصديق قلعجي ص .155
لبي ص .173 ص ّ
3أبوبكر الصديق لل ّ
)(
لبي.ص ّ
4أبو بكر الصديق ص 370لل ّ
)(
-44-
إرهاب العدوّ وإضعافه؛ تبعث الجيوش الكبيرة وقد أخذ أبوبكر
برأي عمر في هذا المر ،واستفاد من رأي عبدالرحمن بن عوف
صة أهل فيما يتعلقّ بطلب المدد بالجيوش من قبائل العرب وخا ّ
اليمن ).(1
وفي وصيته ليزيد بن أبي سفيان قائد أول جيش أرسل إلى بلد
الشام لفتح دمشق ،أشار الصديق إلى أمور مهمة في الجهاد،
وأسباب النصر على العداء
لما أراد أبوبكر – رضي الله عنه – أن يجّهز الجنود إلى الشام وقد
أوصاه بأهمية الشورى فقال له :وإذا استشرت فاصدق الحديث،
وتي من قبل ُتصدق المشورة ،ول تحزن عن المشير؛ خبرك ،فت ُ ْ
نفسك ).(2
م من فبين الصديق ليزيد بن أبي سفيان ،بأن إتقان المشورة أه ّ
النظر في نتائجها ،فإن المستشار وإن كان حصيف الرأي ،ثاقب
الفكر ،فإّنه ل يستطيع أن يفيد من استشاره حتى ينكشف له أمره
بغاية الوضوح ،فإذا أخفى المستشير بعض تفاصيل القضّية ،فإّنه
يكون قد جنى على نفسه ،حيث قد يتضرر بهذه المشورة ).(3
وقال الصديق لعمرو بن العاص في وصيته له لما أرسله على
رأس جيش لفتح فلسطين ببلد الشام .. :ول تدخر عنهم صالح
ب رأي محمود في الحرب ،مبارك في عواقب المور ة ،فر ّ
مشور ِ
).(4
-45-
أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له :ما تسألني عن أمر إل
وأنت أعلم به مني ،فقال أبوبكر :وإن فقال عبدالرحمن :هو والله
أفضل من رأيك فيه ،ثم ،على ذلك يا أبا عبدالله ،فقال عثمان:
اللهم علمي به أن سريرته خير من علنيته ،وأنه ليس فينا مثله.
فقال أبوبكر :يرحمك الله ،والله لو تركته ما ع َد َوُْتك ثم دعا أسيد
بن حضير فقال له مثل ذلك ،فقال أسيد :اللهم أعلمه الخيرة
بعدك يرضى للرضا ،ويسخط للسخط ،والذي يسر خير من الذي
يعلن ،ولن يلي هذا المر أحد أقوى عليه منه ،وكذلك استشار
سعيد بن زيد وعددا ً من النصار والمهاجرين ،وكلهم تقريبا ً كانوا
برأي واحد في عمر إل طلحة بن عبيد الله خاف من شدته ،فقال
لبي بكر :ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلفك عمر علينا
وقد ترى غلظته؟ فقال أبوبكر :أجلسوني أبالله تخوفونني؟ خاب
من تزود من أمركم بظلم ،أقول اللهم استخلف عليهم خير أهلك
) ،(1وبين لهم سبب غلظة عمر وشدته فقال :ذلك لنه يراني رقيقا ً
ولو أفضى المر إليه لترك كثيرا ً مما عليه ) ،(2ثم كتب عهدا ً مكتوبا ً
يقرأ على الناس في المدينة وفي المصار عن طريق أمراء
الجناد ،فكان نص العهد :بسم الله الرحمن الرحيم ،هذا ما عهد
أبوبكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا ً منها ،وعند أول
عهده بالخرة داخل ً فيها حيث يؤمن الكافر ،ويوقن الفاجر ،ويصدق
الكاذب ،إني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرًا ،فإن
عدل فذلك ظني به وعلمي فيه وإن بدل فلكل امرى .ما اكتسب
ن
ذي َوالخير أردت ول أعلم الغيب ":إ ِّل ال ّ ِ
ما
من ب َعْد ِ َ ه ك َِثيًرا َوانت َ َ
صُروا ِ ت وَذ َك َُروا الل ّ َ حا ِ
صال ِ َ مُلوا ال ّ مُنوا وَع َ ِ آ َ
َ
ن " )الشعراء ,آية: قل ُِبو َ
ب َين َقل َ ٍ من َ موا أيّ ُ ن ظ َل َ ُذي َ م ال ّ ِ
سي َعْل َ ُ
موا وَ َ ظ ُل ِ ُ
.(٢٢7
وأراد الصديق أن يبلغ الناس بلسانه واعيا ً مدركًا ،حتى ل يحصل
أي لبس ،فأشرف أبوبكر على الناس وقال لهم :أترضون بمن
استخلف عليكم ،فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ،ول وليت ذا
قرابة وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ،فاسمعوا له
وأطيعوا .فقالوا سمعنا وأطعنا ).(3
وتوجه الصديق رضي الله عنه بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن
نفسه ،وهو يقول :اللهم وليته بغير أمر نبيك ولم أرد بذلك إل
-46-
وليت عليهم صلحهم ،وخفت عليهم الفتنة ،واجتهدت لهم رأيي ،ف ّ
خيرهم ،وأحرصهم على ما أرشدهم ،وقد حضرني من أمرك ما
حضر فاخلفني فيهم فهم عبادك ).(1
وكلف أبوبكر عثمان رضي الله عنهما :بأن يتولى قراءة العهد على
الناس وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر ،بعد أن ختمه لمزيد
من التوثيق والحرص على إمضاء المر ،دون أي آثار سلبية وقال
عثمان للناس :أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ قالوا :نعم فأقروا
بذلك جميعا ً ورضوا به ) ،(2فبعد أن قرأ العهد على الناس ورضوا به
أقبلوا عليه وبايعوه ) ،(3واختلى الصديق بالفاروق وأوصاه
بمجموعة من التوصيات لخلء ذمته من أي شي؛ حتى يمضي إلى
ربه خاليا ً من أي تبعة بعد أن بذل قصارى جهده واجتهاده ).(4
وقد جاء في الوصية :اتق الله يا عمر ،وأعلم أن لله عمل ً بالنهار ل
يقبله بالليل ،وعمل ً بالليل ل يقبله بالنهار ،وأنه ل يقبل نافلة حتى
تؤدي فريضة وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة
باتباعهم الباطل غدا ً أن يكون خفيفًا ،وأن الله تعالى ،ذكر أهل
الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه ،فإذا ذكرتهم
قلت :إني أخاف أل ألحق بهم ،وإن الله – تعالى – ذكر أهل النار،
فذكرهم بأسوأ أعمالهم ،ورد ّ عليهم أحسنه ،فإذا ذكرتهم ،قلت :
إني لرجوا أل أكون مع هؤلء ليكون العبد راغبا ً راهبًا ،ل يتمنى
على الله ول يقنط من رحمة الله ،فإن أنت حفظت وصيتي فل يك
غائب أبغض إليك من الموت ولست ُتعجزه ).(5
وباشر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعماله بصفته خليفة
للمسلمين فور وفاة أبي بكر ) ،(6كما أن ترشيح أبي بكر الصديق
رضي الله عنه لعمر بن الخطاب ،لم يأخذ قوته الشرعية إل بعدما
وافق المسلمون على ذلك ،وهذا ما تحقق حين طلب أبوبكر من
الناس أن يبحثوا لنفسهم عن خليفة من بعده ،فوضعوا المر بين
قرر أبو بكر الترشيح إل يديه ،وقالوا له :رأينا إنما هو رأيك)،(7ولم ي ّ
بعد أن استشار أعيان الصحابة فسأل كل واحد على انفراد ،ولما
ترجح لديه اتفاقهم أعلن ترشيحه لعمر ،فكان ترشيح أبي بكر
-47-
صادرا ً عن استقراء لراء المة من خلل أعيانها ،على أن هذا
الترشيح ل يأخذ قوته الشرعية إل بقبول المة به؛ ذلك أن اختيار
الحاكم حق للمة ،والخليفة يتصرف بالوكالة عن المة ،ولبد من
رضا الصيل؛ ولهذا توجه أبوبكر إلى المة :أترضون بمن استخلف
عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهدي الرأي ول وليت ذا قرابة،
وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب ،فاسمعوا له وأطيعوا،
فقالوا :سمعنا وأطعنا ) ،(1وفي وقول أبي بكر :أترضون بمن
استخلف عليكم إشعار بأن المر للمة وأنها هي صاحبة العلقة
والختصاص ).(2
إن عمر رضي الله عنه ولي الخلفة باتفاق أهل الحل والعقد
وإرادتهم؛ فهم الذين وضعوا لبي بكر انتخاب الخليفة وجعلوه نائبا ً
عنهم في ذلك ،فشاور ثم عين الخليفة ثم عرض هذا التعيين على
الناس فأقروه ،وأمضوه ووافقوا عليه ،وأصحاب الحل والعقد في
المة هم النواب "الطبيعيون" عن هذه المة ،وإذن فلم يكن
استخلف عمر رضي الله عنه إل على أصح الساليب الشورية
وأعدلها ).(3
إن الخطوات التي سار عليها أبوبكر الصديق في اختيار خليفته من
بعده ل تتجاوز الشورى بأي حال من الحوال ،وإن كانت
الجراءات المتبعة فيها غير الجراءات المتبعة في تولية أبي بكر
نفسه ،وهكذا تم عقد الخلفة لعمر رضي الله عنه بالشورى
والتفاق ،ولم يورد التاريخ أي خلف وقع حول خلفته بعد ذلك ،ول
أن أحدا ً نهض طول عهده لينازعه المر ،بل كان هناك إجماع على
خلفته وعلى طاعته في أثناء حكمه ،فكان الجميع وحدة واحدة
).(4
-2الشورى في أراضي الخراج:
الخراج له معنيان :عام وهو كل إيراد وصل إلى بيت مال
المسلمين من غير الصدقات ،فهو يدخل في المعنى العام للفيء
ويدخل فيه إيراد الجزية وإيراد العشور وغير ذلك وله معنى خاص:
وهو إيراد الرض التي افتتحها المسلمون عنوة وأوقفها المام
لمصالح المسلمين على الدوام كما فعل عمر بأرض السواد من
()1المصدر نفسه.
()2المصدر نفسه.
ص ّ
لبي ص .79 3عمر بن الخطاب لل ّ
)(
-48-
العراق والشام والخراج ،ل يقاس بإجارة ول ثمن ،بل هو أصل
ثابت بنفسه ل يقاس بغيره).(1
عندما قويت شوكة السلم بالفتوحات العظيمة وبالذات بعد
القضاء على القوتين العظيمتين الفرس والروم ،تعددت موارد
المال في الدولة السلمية وكثرة مصارفه وللمحافظة على كيان
هذه الدولة المترامية الطراف وصون عزها وسلطانها وضمان
مصالح العامة ،والخاصة كان لبد من سياسة مالية حكيمة رشيدة،
فكر لها عمر رضي الله عنه ،أل وهي إيجاد مورد مالي ثابت ودائم
للقيام بهذه المهام ،وهذا المورد هو :الخراج فقد أراد الفاتحون أن
تقسم عليهم الغنائم من أموال وأراض وفقا ً لما جاء في القرآن
َ َ
ن ل ِل ّ ِ
ه يٍء فَأ ّ ش ْمن َ مُتم ّ ما غ َن ِ ْ موا ْ أن ّ َ صا بالغنائمَ " :واع ْل َ ُ الكريم خا ّ
ل
سِبي ِ ن ال ّ ن َواب ْ ِكي ِ
سا ِ م َ مى َوال ْ َ قْرَبى َوال ْي ََتا َ ذي ال ْ ُ ل وَل ِ ِ
سو ِ ه ِللّر ُ س ُم َ خ ُ ُ
ْ ْ َ ْ َ ّ ِإن ُ
قى م الت َ َ ن ي َوْ َفْرَقا ِ م ال ُ ما أنَزلَنا ع َلى ع َب ْد َِنا ي َوْ َ م ِباللهِ وَ َ منت ُ ْ
مآ َ كنت ُ ْ
ديٌر" ( النفال ,آية.(٤١ : يٍء قَ ِ ش ْ ل َ ه ع ََلى ك ُ ّ ن َوالل ّ ُمَعا ِ ج ْال ْ َ
وقد أراد عمر رضي الله عنه في بداية المر تقسيم الرض بين
الفاتحين ،ولكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رأى عدم
)(2
ذر عمر من ذلك .وقد ح ّالتقسيم ،وشاركه الرأي معاذ بن جبل و ُ
ل :قدم عمر الجابيه فأراد قسم الراضي بين روى أبو عبيدة قائ ً
المسلمين فقال معاذ :والله إذن ليكونن ما تكره ،إنك إن قسمتها
صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى
الرجل الواحد أو المرأة ،ثم يمأتي ممن بعدهم قوم ُيسدون من
السلم مسد ًّا ،وهم ل يجدون شيئا ً فانظر أمرا ً يسع أولهم وآخرهم
) (3لقد نبه معاذ بن جبل رضي الله عنه أمير المؤمنين عمر رضي
الله عنه إلى أمر عظيم ،جعل يتتبع آيات القرآن الكريم ،ويتأملها
مفكرا ً في معنى كل كلمة يقرؤها حتى توقف عند آيات تقسيم
الفيء في سورة الحشر ،فتبين له أنها تشير إلى الفيء
للمسلمين في الوقت الحاضر ،ولمن يأتي بعدهم ،فعزم على
تنفيذ رأي معاذ رضي الله عنه ،فانتشر خبر ذلك بين الناس ووقع
خلف بينه وبين بعض الصحابة ومنهم بلل بن رباح والزبير بن
العوام يرون تقسيمها ،كما تقسم غنيمة العسكر ،كما قسم النبي
صلى الله عليه وسلم خيبر ،فأبى عمر رضي الله عنه التقسيم وتل
ما
عليهم اليات الخمسة من سورة الحشر من قوله تعالى " :وَ َ
-49-
ل وََل رِ َ َ َ
بكا ٍ خي ْ ٍ ن َ م ْ م ع َل َي ْهِ ِ فت ُ ْ
ج ْ ما أوْ َ م فَ َ من ْهُ ْ سول ِهِ ِ ه ع ََلى َر ُ أَفاء الل ّ ُ
ديٌر" يٍء قَ ِ ش ْ ل َ ه ع ََلى ك ُ ّ شاء َوالل ّ ُ من ي َ َ ه ع ََلى َ سل َ ُ ط ُر ُ سل ّ ُ ه يُ َ ن الل ّ َ وَل َك ِ ّ
ما أ ََفاء )الحشر ,آية ( ٦:حتى فرغ من شأن بني النضير ثم قالّ " :
ذي ال ْ ُ الل ّه ع ََلى رسول ِه م َ
قْرَبى ل وَل ِ ِ سو ِ قَرى فَل ِل ّهِ وَِللّر ُ ل ال ْ ُ ن أهْ ِ َ ُ ِ ِ ْ ُ
َ ْ َ َ ْ
ن الغن َِياءْ ة ب َي ْ َ دول ً ن ُ ُ
ي ل ي َكو َ لك َْ سِبي ِ ن ال ّ ن َواب ْ ِ كي ِ سا ِ م َ مى َوال َ َوال ْي ََتا َ
قوا الل ّ َ
ه ه َفانت َُهوا َوات ّ ُ م ع َن ْ ُ ما ن ََهاك ُ ْ ذوه ُ وَ َ خ ُ ل فَ ُ سو ُ م الّر ُ ما آَتاك ُ ُ م وَ َ منك ُ ْ ِ
ب" )الحشر ,آية ) ٧ :فهذه عامة في القرى قا ِ ْ
ديد ُ العِ َ ش ِ ه َ ّ
ن الل َ إِ ّ
ُ
م
من ِديارِه ِ ْ جوا ِ خرِ ُ نأ ْ ذي َ ن ال ّ ِ ري َ ج ِ مَها ِ قَراء ال ْ ُ ف َ كلها ثم قال " :ل ِل ْ ُ
َ
سول َ ُ
ه ه وََر ُ ن الل ّ َ صُرو َ واًنا وََين ُ ض َ ن الل ّهِ وَرِ ْ م َ ضًل ّ ن فَ ْ م ي َب ْت َُغو َ وال ِهِ ْ م َ وَأ ْ
ن " )الحشر ,آية ) ٨ :ثم لم يرضى حتى خلط صاد ُِقو َ م ال ّ ك هُ ُ أ ُوْل َئ ِ َ
ن ِفي دو َ ج ُ م وََل ي َ ِ جَر إ ِل َي ْهِ ْ ها َ ن َ م ْ ن َ حّبو َ بهم غيرهم فقال " :ي ُ ِ
م وَل َوْ َ َ
ن ع ََلى أن ُ ُ
من ب ِهِ ْ كا َ سه ِ ْ ف ِ ما أوُتوا وَي ُؤ ْث ُِرو َ م ّ ة ّ ج ًحا َ م َ دورِه ِ ْ ص ُ ُ
ن " )الحشر, ْ َ
سهِ فَأوْلئ ِ َ ُ من ُيوقَ ُ
حو َ فل ِ ُ م ْ م ال ُ ك هُ ُ ف ِ ح نَ ْ ش ّ ة وَ َ ص ٌصا َ خ َ َ
آية .(٩ :فهذا في النصار خاصة ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم
وان َِنا خ َ فْر ل ََنا وَِل ِ ْ ن َرب َّنا اغ ْ ِ قوُلو َ م يَ ُ من ب َعْد ِه ِ ْ ؤوا ِ جا ُ ن َ ذي َ فقالَ ":وال ّ ِ
مُنوا َرب َّنا إ ِن ّ َ
ك نآ َ ذي َ ل ِفي قُُلوب َِنا ِغّل ل ّل ّ ِ جعَ ْ ن وََل ت َ ْ ما ِ لي َ قوَنا ِبا ْ ِ سب َ ُ ن َ ذي َ ال ّ ِ
م" )الحشر ,آية.(١٠ : حي ٌ ف ّر ِ ؤو ٌ َر ُ
فكانت هذه عامة لمن جاء بعدهم ،فما من أحد من المسلمين إل
له في هذا الفيء حتى قال عمر لئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء
نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه ).(1
وفي رواية أخرى جاء فيها قال عمر :فكيف بمن يأتي من
المسلمين فيجدون الرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الباء
وحيزت ما هذا برأي فقال عمر :ما هو إل كما تقول ولست أرى
ذلك والله ل يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل بل عسى أن
يكون ك َل ّ على المسلمين ،فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها،
وأرض الشام بعلوجها ،فما يسد به الثغور؟ وما يكون للذرية
والرامل لهذا البلد وبغيره من أراضي الشام والعراق؟ فأكثروا
على عمر وقالوا :تقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم
يحضروا ولم يشهدوا ،ولبناء القوم وأبناء أبنائهم ولم يحضروا،
فكان عمر رضي الله عنه ل يزيد على أن يقول :هذا رأيي ،قالوا:
فاستشر ،فأرسل إلى عشرة من النصار من كبراء الوس
والخزرج وأشرفهم فخطبهم وكان مما قال لهم :إني واحد
كأحدكم ،وأنتم اليوم تقرون بالحق خالفني من خالفني ،ووافقني
من وافقني ،ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي ،ثم قال :قد
ص ّ
لبي ص .249 1الخراج لبي يوسف ص 67عمر بن الخطاب لل ّ
)(
-50-
سمعتم كلم هؤلء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم،
ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى ،وقد غنمنا
الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين
أهله ،وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه ،وقد رأيت أن أحبس
الرضين بعلوجها واضعا ً عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية
يؤدونها فتكون فيئا ً للمسلمين المقاتلة والذرية ،ولمن يأتي من
بعدهم ،أرايتم هذه الثغور لبد لها من رجال يلزمونها أرايتم هذه
المدن العظام ل بدلها من أن تشحن بالجيوش ،وإدرار العطاء
عليهم فمن أين ُيعطي هؤلء إذا قسمت الرض والعلوج؟ فقالوا
جميعًا :الرأي رأيك فنعم ما رأيت ،إن لم تشحن هذه الثغور وهذه
وون به رجع أهل الكفر إلى المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتق ّ
مدنهم ) ،(1وقد قال عمر فيما قاله :لو قسمتها بينهم لصارت دولة
بين الغنياء منكم ،ولم يكن لما جاء بعدهم من المسلمين شيء،
وقد جعل الله لهم فيها الحق بقوله تعالى " :فاستوعبت الية
الناس إلى يوم القيامة ،وبعد ذلك استقر رأي عمر وكبار الصحابة
رضي الله عنهم على عدم قسمة الرض ) (2وفي حواره مع
الصحابة يظهر أسلوب الفاروق في الجدل وكيف جمع فيه قوة
الدليل وروعة الصسورة واستمالة الخصم في مقالته التي قال
للنصار ،عند المناقشة في أمر أرض السواد ،ولو أن رئيسا ً ناشئا ً
في السياسة ،متمرسا ً بأساليب الخطب البرلمانية أراد أن يخطب
النواب "لينال موافقتهم" على مشروع من المشروعات لم يجئ
بأرقّ من هذا المدخل أو أعجب من هذا السلوب ،وامتاز عمر
فوق ذلك بأنه كان صادقا ً فما يقول ،ولم يكن فيه سياسيا ً مخادعا ً
وأنه جاء به في نمط من البيان يسمو على الشباه والمثال ) (3لم
يكن الفاروق مخالفا ً للهدي النبوي في عدم تقسيمه للراضي
المفتوحة ،وقد كان سنده ،فيما فعل – أمورا ً منها:
-آية الفيء في سورة الحشر.
-عمل النبي صلى الله عليه وسلم حينما فتح مكة عنوة فتركها
لهلها ولم يضع عليها خراجًا.
-قرار مجلس الشورى الذي عقده عمر بهذه المسألة بعد الحوار
والمجادلة وقد أصبح سنة متبعة في أرض يظهر عليها المسلمون
ويقرون أهلها عليها ،وبهذا يظهر أن عمر حينما ميز بين الغنائم
-51-
المنقولة وبين الراضي كان متمسكا ً بدلئل النصوص ،وجمع بينها
وأنزل كل ً منها منزلته التي يرشد إليها النظر الجامع السديد،
يضاف إلى ذلك أن عمر كان يقصد أن تبقي لهل البلد ثرواتهم
وأن يعصم الجند السلمي من فتن النزاع على الرض والعقار،
ومن فتن الدعة والنشغال بالثراء والحطام ).(1
إن الفاروق رضي الله عنه كان يلجأ إلى القرآن الكريم يتلمس
منه الحلول ويطوف بين مختلف آياته ،ويتعمق في فهم منطوقها
ومفهومها ،ويجمع بينها ويخصص بعضها ببعض حتى يصل إلى نتائج
تحقق المصالح المرجوة منها ،مستلهما ً روح الشريعة غير واقف
مع ظواهر النصوص وقد أسعفه في قطع هذه المراحل إدراكه
الدقيق لمقاصد الشريعة بتلكم النصوص ،وهي عملية مركبة
ومعقدة ل يحسن الخوض فيها إل من تمرس على الجتهاد وأعطي
فيها فهما ً سديدا ً وجرأة على القدام حيث يحسن القدام ،حتى
خيل للبعض أن عمر كان يضرب بالنصوص ع ُْرض الحائط في
بعض الحيان ،وحاشا أن يفعل عمر رضي الله عنه ذلك لكنه كان
مجتهدا ً ممتازا ً اكتسب حاسة تشريعية ل تضاهي حتى كان يرى
الرأي فينزل القرآن على وفقه ،والنتيجة التي نخرج بها من هذه
القضية هي أن القرآن يفسر بعضه بعضا ،ومثله في السنة ).(2
ما هي القيم والمصالح في عدم تقسيم أراضي
الخراج؟
هناك جملة من المصالح التي استند إليها عمر بن الخطاب –
والذين وافقوه على رأيه – في اتخاذ هذا القرار يمكنني تصنيفها
إلى صنفين :أولهما :المصالح الداخلية وأهمها سد الطريق على
الخلف والقتال بين المسلمين ،وضمان توافر مصادر ثابته
لمعايش البلد والعباد ،وتوفير الحاجات المادية اللزمة للجيال
اللحقة من المسلمين.
وثانيهما :المصالح الخارجية والتي يتمثل أهمها في توفير ما يسد
سد حاجتها من الرجال والمؤن ،والقدرة على ثغور المسلمين وي ّ
تجهيز الجيوش ،بما يستلزمه ذلك من كفالة الرواتب وإدرار
العطاء وتمويل النفاق على العتاد والسلح وترك بعض الطراف
لتتولى مهام الدفاع عن حدود الدولة وأراضيها اعتمادا ً على ما
لديها من خراج ،والذي يجب ملحظته في هذه المصالح أن
الخليفة أراد أن يضع بقراره دعائم ثابتة لمن المجتمع السياسي
-52-
ليس في عصره فقط ،بل وفيما يليه من عصور بعده وعباراته من
مثل "فكيف بمن يأتي من المسلمين" "وكرهت أن يترك
المسلمون" التي توخي بنظرته المستقبلية لهذا المن الشامل
تشهد على ذلك ،وقد أثبت تطور الحداث السياسية في عصر
عمر بن الخطاب صواب وصدق ما قرره.
أ -إن تعدد أطوار اتخاذ القرار بعدم تقسيم الراضي قد أكد
أمرين :أولهما :أن بعض القرارات المهمة التي تمس المصالح
الجوهرية للمسلمين قد تأخذ من الجهد والوقت الكثير ،كما أنها
قد تتطلب قدرا ً من الناة في تبادل الحجج والبراهين دون أن يتيح
ذلك مجال ً للخلف وتعميق هوة النقسام أحيانا ً أو يفوت بابا من
أبواب تحقيق بعض المصالح الخاصة بأمن المة في حاضرها
ومستقبلها ،والمر الثاني :أن بعض القرارات المهمة التي قد
تخرج بعد عسر النقاش والحوار ،والبداية المتعثرة لها ،يفرض
على الحاكم الشرعي أن يكون أول المسلمين وآخرهم جهدا ً في
السعي إلى تضييق هوة الخلف ،والتقريب بين وجهات النظر
المتعارضة لكي يصل بالمسلمين إلى الحكم الشرعي فيما هو
متنازع بشأنه ).(1
ب -إن تبادل الرأي والجتهاد بين الخليفة والصحابة الذين لم
يوافقوه على رأيه واستناد الكل في ذلك إلى النصوص المنزلة في
الجتهاد يثبت أن الفيصل في إبداء الراء في القرارات السياسية
عامة والتي تمس مصالح المسلمين بصفة مباشرة خاصة ،هو أن
تجيء هذه الراء مستندة إلى النصوص المنزلة ،أو ما ينبغي أن
يتفرع عنها من مصادر أخرى ل تخرج عن أحكامها في محتواها
ومبرراتها.
ج -إن لجوء الخليفة إلى استشارة أهل السابقة من كبار الصحابة
العلماء في فقه الحكام ومصادر الشرع ،واستجابتهم بإخلص
النصح له ،يؤكد أن أهل الشورى لهم مواصفات خاصة تميزهم
فالذين يستشارون هم أهل الفقه والفهم والورع والدراية الواعون
لدورهم ،إنهم بعبارة أدق الذين ل إمعية في آرائهم ،ومن دأبهم
توطين أنفسهم على قول الحق وفعله غير خائفين في ذلك لومة
لئم من حاكم أو غيره.
س -ثم يبقى القول :إن ما حدث بصدور قرار عدم تقسيم
الراضي يظل نموذجا ً عاليا ً سار عليه الصحابة في كيفية التعامل
وفق آداب الحوار وأخلقيات مناقشة القضايا ،وتقليب أوجهها
-53-
المختلفة ابتداًء بمرحلة التفكير في اتخاذ القرار بعدم تقسيم
الراضي – بصفة مباشرة ،أو غيمر مباشرة – وعلى رأسهم الخليفة
الذي لم يخرج عن هذه الداب رغم اختلف اجتهاداتهم بشأنه ).(1
بل إن الفاروق بين أن الحاكم مجرد فرد في هيئة الشورى ،وأعلن
الثقة في مجلس شورى المة ،خالفته أو وافقته ،والرد إلى كتاب
الله ،فقد قال رضي الله عنه :إني واحد منكم ،كأحدكم ،وأنتم
اليوم تفرون بالحق ،خالفني من خالفني ،ووافقني من وافقني،
ومعكم من الله كتاب ينطق بالحق ).(2
-3الشورى في بدء التاريخ الهجري:
يعد التاريخ بالهجرة تطورا ً له خطره في النواحي الحضارية ،وكان
أول من وضع التاريخ بالهجرة عمر ،ويحكى في سبب ذلك عدة
دفع إلى عمر روايات ،فقد جاء عن ميمون بن مهران أنه قالُ :
ك محله في شعبان ،فقال عمر :شعبان هذا ص ّ
رضي الله عنه َ
ت أو الذي نحن فيه ،ثم جمع أصحاب الذي مضى أو الذي هو آ ٍ
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم :ضعوا للناس شيئا ً
يعرفونه فقال قائل :اكتبوا على تاريخ الروم ،فقيل :إنه يطول
وإنهم يكتبون من عند ذي القرنين ،فقال قائل :اكتبوا تاريخ
الفرس قالوا :كلما قام ملك طرح ما كان قبله ،فاجتمع رأيهم على
أن ينظروا كم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة
فوجدوه أقام عشر سنين ،فكتب أو كتبوا التاريخ على هجرة
رسول الله صلى الله عليه وسلم )(3وعن عثمان بن عبيدالله قال
سمعت سعيد بن المسيب يقول :جمع عمر بن الخطاب رضي
الله عنه المهاجرين والنصار رضي الله عنهم فقال :متى نكتب
التاريخ؟ فقال له علي بن أبي طالب :منذ خرج النبي صلى الله
عليه وسلم من أرض الشرك ،من يوم هاجر قال ،فكتب ذلك عمر
بن الخطاب ،وعن ابن المسيب قال :أول من كتب التاريخ عمر بن
الخطاب رضي الله عنه لسنتين ونصف من خلفته ،فكتب لست
عشرة من المحرم بمشورة على بن أبي طالب رضي الله عنه )،(4
وقال أبو الزناد ) :(5واستشار عمر في التاريخ ،فأجمعوا على
الهجرة ) ،(6وروى ابن حجر في سبب جعلهم بداية التاريخ في شهر
()1البعاد السياسية لمفهوم المن في السلم ص .318 ، 317
()2الدور السياسي للصفوة ص 185للسيد عمر.
()3محض الصواب لبن عبدالهادي ).(1/316
()4تاريخ السلم للذهبي ص .163
()5عبدالله بن ذكوان القرشي ،ثقة فقيه.
()6محض الصواب ).(1/317
-54-
محرم وليس في ربيع الول الشهر الذي تمت فيه هجرة النبي
صلى الله عليه وسلم أن الصحابة الذين أشاروا على عمر وجدوا
أن المور التي يمكن أن يؤرخ بها أربعة ،هي مولده ومبعثه
وهجرته ووفاته ،ووجدوا أن المولد والمبعث ل يخلون من النزاع
في تعيين سنة حدوثهما وأعرضوا عن التاريخ بوفاته لما يثيره من
الحزن والسى عند المسلمين ،فلم يبق إل الهجرة وإنما أخروه
في ربيع الول إلى المحرم ،لن ابتداء العزم على الهجرة كان من
المحرم؛ إذ وقعت بيعة العقبة الثانية في ذي الحجة ،وهي مقدمة
الهجرة فكان أول هلل استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هو
جعل مبتدأ ..ثم قال ابن حجر :وهذا هلل محرم ،فناسب أن ي ُ
)(1
أنسب ما وقعت عليه من مناسبة البتداء بالمحرم .
وبهذا الحدث الداري المتميز أسهم الفاروق في إحداث وحدة
شاملة بكل ما تحمله من معنى في شبه الجزيرة ،حيث ظهرت
وحدة العقيدة بوجود دين واحد ووحدة المة ،بإزالة الفوارق،
ووحدة التجاه باتخاذ تاريخ واحد ،فاستطاع أن يواجه عدوه وهو
واثق من النصر).(2
-4لقب أمير المؤمنين:
لما مات أبوبكر رضي الله عنه وكان يدعى خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال المسلمون :من جاء بعد عمر قيل له:
خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطول هذا ،ولكن
أجمعوا على اسم تدعون به الخليفةُ ،يدعى به من بعده من
الخلفاء فقال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
نحن المؤمنون وعمر أميرنا ،فدعي عمر أمير المؤمنين ،فهو أول
من سمي بذلك ).(3
-5المشورة في اختيار الولة:
)(4
كان اختيار الولة يتم بعد مشاورة الخليفة لكبار الصحابة ،فقد
قال رضي الله عنه لصحابه يومًا :دلوني على رجل إذا كان في
القوم أميرا ً فكأنه ليس بأمير ،وإذا لم يكن بأمير فكأنه أمير،
فأشاروا إلى الربيع بن زياد ) ،(5وقد استشار عمر رضي الله عنه
الصحابة في من يولي على أهل الكوفة فقال لهم :من يعذرني
من أهل الكوفة ومن تجنيهم على أمرائهم ،إن استعملت عليهم
()1فتح الباري ) (7/268الخلفة الراشدة يحي اليحي ص .286
()2جولة تاريخية في الخلفاء الراشدين محمد الوكيل ص .90
()3الطبقات الكبري لبن سعد ).(3/281
لبي ص .315 ص ّ
4عمر بن الخطاب لل ّ
)(
-55-
جروه ) ،(1ثم قال: عفيفا ً استضعفوه ،وإن استعملت عليه قويا ً ف ّ
أيها الناس ما تقولون في رجل ضعيف غير أنه مسلم تقي وآخر
قوي مشدد ّ أيهما الصلح للمارة ؟ فتكلم المغيرة بن شعبة فقال:
يا أمير المؤمنين إن الضعيف المسلم إسلمه لنفسه وضعفه عليك
شدد فشداده على نفسه وقوته لك وعلى المسلمين والقوي الم ّ
وللمسلمين فاعمل في ذلك رأيك .فقال عمر :صدقت يا مغيرة،
ثم وله الكوفة وقال له :انظر أن تكون ممن يأمنه البرار ويخافه
الفجار فقال المغيرة :أفعل ذلك يا أمير المؤمنين ).(2
وشدد عمر على الولة في استشارة أهل الرأي في بلدهم ،وكان
الولة يطبقون ذلك ويعقدون مجالس للناس لخذ آرائهم وكان
يأمر ولته باستمرار بمشاورة أهل الرأي ) ،(3وطلب من ولته
إنزال الناس منازلهم ،فقد كتب عمر إلى أبي موسى الشعري :
ما غفيرًا ،فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لهل بلغني أنك تأذن للناس ج ّ
الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين فإذا أخذوا مجالسهم فأذن
للعامة ،وكتب إليه أيضًا :لم يزال للناس وجوه يرفعون حوائج
الناس فأكرموا وجوه الناس ،فإنه بحسب المسلم الضعيف أن
ينتصف في الحكم والقسمة ).(4
-6تدوين الدواوين:
استشار عمر المسلمين في تدوين الدواوين ،فأشار بعضهم بما
يراه إل أن الوليد ،بن هشام بن المغيرة ،قال :جئت الشام فرأيت
ملوكها قد دّونوا ديوانا ً وجندوا جندًا ،فدّون ديوانًا ،وجند جندًا ،وفي
بعض الروايات أن الذي قال ذلك هو خالد بن الوليد ) ،(5وذكر بعض
المؤرخين أنه كان بالمدينة بعض مرازبة الفرس ،فلما رأى حيرة
عمر قال له :يا أمير المؤمين :إن للكاسرة شيئا ً يسمونه ديوانا ً
جميع دخلهم وخرجهم مضبوطة فيه ل يشذ منه شيء ،وأهل
العطاء مرتبون فيه مراتب ل يتطرق عليها خلل ،فتنبه عمر وقال:
صفه لي ،فوصفه المرزبان ،فدون الدواوين وفرض العطاء ) (6وقد
حبذ عثمان التدوين فأشار برأيه :أرى مال ً كثيرا ً يسع الناس وإن
لم يحصلوا حتى ُيعرف من أخذ ممن لم يأخذ ،خشية أن ينتشر
-56-
المر ) ،(1هذه بعض الروايات التي حدثت بناًء على استشارة عمر
رضي الله عنه في مرات متعددة لمن يحضرون عنده ).(2
-7الحجر الصحي :خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى
الشام ،حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الجناد :أبو عبيدة بن
الجراح وأصحابه ،فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام ،قال ابن
عباس :فقال عمر :أدع لي المهاجرين فدعاهم فاستشارهم،
وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام ،فاختلفوا فقال بعضهم :قد
خرجنا لمر ول نرى أن نرجع عنه ،وقال بعضهم :معك بقية الناس
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم ول نرى أن
تقدمهم على هذا الوباء فقال :ارتفعوا عني ،ثم قال :أدع لي
النصار ،فدعوتهم ،فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين،
واختلفوا كاختلفهم فقال :ارتفعوا عني ،ثم قال :أدع لي من كان
هنا من مشيخة قريش ،من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف
منهم عليه رجلن ،فقالوا :نرى أن ترجع بالناس ول تقدمهم على
هذا الوباء ،فنادى عمر في الناس :إني مصبح على ظهر فأصبحوا
عليه ،فقال أبو عبيدة :أفرارا ً من قدر الله ؟ فقال عمر رضي الله
عنه :لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ،نعم نفر من قدر الله إلى قدر
الله ،أرأيت لو كان لك :إبل هبطت واديا ً له عدوتان إحداهما خصبة
والخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ،وإن
رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال :فجاء عبدالرحمن بن عوف
وكان متغيبا ً في بعض حاجته فقال :إن عندي في هذا علمًا،
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :إذا سمعتم به
بأرض فل تقدموا عليه ،وإذا وقع بأرض وأنتم بها فل تخرجوا فرارا ً
منه .قال :فحمد الله عمر ثم انصرف ).(3
وفي مشورة عمر رضي الله عنه أصحابه في هذه الحادثة فوائد
منها:
-حرص ولي المر على مصالح المسلمين العامة وعدم إقدامه
على إتخاذ قرار لم يتبين له فيه وجه الصواب لما في ذلك من
المخاطرة بالمسلمين.
-مشاورة كل من أمكن حضوره من أهل الحل والعقد لما في
ذلك من تمحيص الراء والوصول إلى رأي مفيد عن طريق قدح
عقول كثيرة – وهذا موضع الشاهد من القصة.
()1سياسة المال في السلم ص .158
ص ّ
لبي ص .261 2عمر بن الخطاب لل ّ
)(
-57-
-جواز اجتماع ولي المر برعيته على فئات متجانسة كما فعل
عمر رضي الله عنه هنا حيث قسمهم إلى ثلث فئات :فئة
النصار ،وفئة المهاجرين ،وفئة مشيخة قريش ،من مهاجرة الفتح،
لنه كلما كان العدد المشاور أقل كان النقاش أوسع لسعة الوقت.
-الستئناس برأي كبار السن ذوي الرأي والتجربة.
-الستئناس بالرأي الموحد ،كما استأنس عمر برأي مشيخة الفتح
لعدم اختلفهم.
-فتح الباب لمن أراد أن يستفسر لزالة شبهة عنده ولو كان ولي
المر قد انتهى إلى الخذ بأحد الراء ،لن إزالة الشبه من نفوس
الرعية تأليفا ً لقلوبهم واطمئنانا ً يجعلهم يشاركون إخوانهم في
الرأي وتنفيذه ،كما أنه ينبغي أن يكون عند ولي المر القدرة على
إيراد الحجج المقنعة ولكن ذلك ل يبيح للرعية أو بعضهم أن يقفوا
موقف المعارضين ،لما تم التوصل إليه من الشورى وبعد عزم
ولي المر على انفاذه " فإذا عزمت فتوكل على الله".
-أن الله تعالى يوفق ولي المر ورعيته للصواب إذا أخلصوا في
مشاورتهم وقصدوا المصلحة العامة.
-أن أهل الشورى مهما كثروا قد يغيب عنهم الدليل على المسألة
من الكتاب أو السنة ،ولو كانوا علماء مجتهدين مع وجوده عند من
غاب من مجلسهم كما دلت على ذلك تلك المناقشة الطويلة ولو
كان عند أحدهم دليل لذكره ولما كان هناك حاجة للمناقشة ،حتى
جاء عبدالرحمن بن عوف فذكر الدليل فحمد الله عمر على
موافقته ).(1
ويؤخذ من هذا أنه يجب على ولي المر أن يحرص على الكثار من
العلماء في مجلس شوراه ،لما في ذلك من إمكان استحضار
بعضهم الدليل الذي يغني عن الشورى ويقطع الطريق من أول
الطريق ).(2
-8توسع نطاق الشورى في عهد عمر بن الخطاب:
توسع نطاق الشورى في خلفة عمر رضي الله عنه لكثرة
المستجدات والحداث ،وامتداد رقعة السلم إلى بلد ذات
حضارات وتقاليد ونظم متباينة ،فولدت مشكلت جديدة احتاجت
إلى الجتهاد الواسع مثل معاملة الرض المفتوحة ،وتنظيم العطاء
وفق قواعد جديدة لتنفق أموال الفتوح على الدولة ،فكان عمر
-58-
يجمع للشورى أكبر عدد من الصحابة الكبار ) ،(1وكان لشياخ بدر
مكانتهم الخاصة في الشورى ،لفضلهم وعلمهم وسابقتهم ،إل أن
عمر رضي الله عنه أخذ يشوبهم بشباب ،فإنهم على دربهم
ماضون والدولة لبد لها من تجديد رجالتها ،وكان عمر العبقري
الفذ قد فطن إلى هذه الحقيقة ،فأخذ يختار من شباب المة من
علم منهم علما ً وورعا ً وتقى ،فكان عبدالله بن عباس من أولهم،
وما زال عمر يجتهد متخيرا ً من شباب المة مستشارين له متخذا ً
القرآن فيصل ً من التخير حتى قال عبد الله بن عباس :وكان القراء
أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهول ً كانوا أو شبانا ً ) ،(2وقد قال
الزهري لغلمان أحداث :ل تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم ،فإن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نزل به المر المعضل دعا
الفتيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم ) .(3وقال محمد بن
سيرين :إن كان عمر رضي الله عنه يستشير في المر ،حتى إن
كان ليستشير المرأة فربما أبصر في قولها الشيء يستحسنه
فيأخذه ،وقد ثبت أنه استشار مرة أم المؤمنين حفصة رضي الله
عنها ) ،(4وقد كان لعمر رضي الله عنه خاصة من علية الصحابة
وذوي الرأي ،منهم العباس بن عبدالمطلب وابنه عبدالله وكان ل
يكاد يفارقه في سفر ول حضر ،وعثمان بن عفان وعبدالرحمن بن
عوف وعلي بن أبي طالب) ،(5ومعاذ بن جبل ،وأبي بن كعب وزيد
بن ثابت ،ونظراؤهم ،فكان يستشيرهم ويرجع ) (6إليهم.
وكان المستشارون يبدون آراءهم بحرية تامة وصراحة كاملة ،ولم
يتهم عمر رضي الله عنه أحدا ً منهم في عدالته وأمانته وكان عمر
رضي الله عنه يستشير في المور التي ل نص فيها من كتاب أو
صا
سنة ،وهو يهدف إلى معرفة إن كان بعض الصحابة يحفظ فيها ن ّ
من السنة ،فقد كان بعض الصحابة يحفظ منها مال ً يحفظه
الخرون ،وكذلك كان يستشير في فهم النصوص المحتملة لكثر
من معنى ،لمعرفة المعاني والوجه المختلفة ،وفي هذين المرين
قد يكتفي باستشارة الواحد أو العدد القليل ،وأما في النوازل
-59-
العامة فيجمع الصحابة ،ويوسع النطاق ما استطاع كما فعل عند
وقوع الطاعون بأرض الشام متوجها إليها ).(1
وكانت مجالت الشورى في عهد عمر متعددة ،منها في المجال
الداري والسياسي ،كاختيار العمال والمراء ،والمور العسكرية،
ومنها في المسائل الشرعية المحضة ،كالكشف في الحكم
الشرعي من حيث الحل والحرمة والمسائل القضائية والذي نحب
أن نؤكد عليه أن الخلفة الراشدة كانت قائمة على مبدأ الشورى
المستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم تكن في عهد عمر فلتة استنبطها ول بدعة أتى بها ،ولكنها
قاعدة من قواعد المنهج الرباني ).(2
ولقد اعتمد عمر رضي الله عنه مبدأ الشورى في دولته ،فكان
رضي الله عنه ل يستأثر بالمر دون المسلمين ول يستبد عليهم
في شأن من الشؤون العامة ،فإذا نزل به أمر ل يبرمه حتى يجمع
المسلمين ويناقش الرأي معه فيه ويستشيرهم ) (3ومن أقوال
عمر بن الخطاب في الشورى :ل خير في أمر أبرم من غير
شورى ) .(4وقوله :الرأي الفرد كالخيط السحيل ،والرأيان
كالخيطين والمبرمين والثلثة مرار ل يكاد ينتقض ) (5قوله :شاور
في أمرك من يخاف الله ).(6
وكان يحث قادة حربه على الشورى ،فعندما بعث أبا عبيد الثقفي
لمحاربة الفرس بالعراق قاله له :أسمع وأطع من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأشركهم في المر وخاصة من كان
منهم من أهل بدر ) (7وكان يكتب إلى قادته بالعراق بأمرهم أن
يشاوروا في أمورهم العسكرية عمرو بن معد يكرب وطلحة
ل :استشيروا واستعينوا في حربكم بطلحة السدي السدي قائ ً
وعمرو بن معد يكرب ول تولهما من المر شيئا ً فإن كل صانع
أعلم ببضاعته) ،(8وكتب إلى سعد بن أبي وقاص :وليكن عندك من
العرب أول من أهل الرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه ،فإن
الكذوب ل ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه ،والغاش عين عليك
لبي ص .92ص ّ
1عمر بن الخطاب لل ّ
)(
-60-
وليس عينا ً لك ) ،(1ومما قاله عمر رضي الله عنه لعتبة بن غزوان
حين وجهه إلى البصرة :قد كتبت إلى العلء بن الحضرمي أن
يمدك بعرفجة بن هرشمة ) ،(2ذو مجاهدة للعدو ومكايدة ،فإذا قدم
عليك فاستشره وقربه ) ،(3وكان مسلك الفاروق في الشورى
ل :فإنه كان يستشير العامة أول أمره فيسمع منهم ،ثم يجمع جمي ً
مشايخ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الرأي
منهم ،ثم يفضي إليهم بالمر ويسألهم أن يخلصوا فيه إلى رأي
محمود فما استقر عليه رأيه أمضاه ،وعمله هذا يشبه النظمة
الدستورية في كثير من الممالك النظامية ،إذ بعرض المر على
ل ،ثم بعد أن يقرر بالغلبية يعرض على مجلس مجلس النواب مث ً
آخر يسمى في بعضها مجلس الشيوخ وفي بعضها مجلس
اللوردات ،فإذا انتهى المجلس من تقريره أمضاه الملك ) ، 4وكثيرا ً
(
ما كان عمر بن الخطاب يجتهد في الشيء ويبدي رأيه فيه ثم يأتي
أضعف الناس فيبّين له وجه الصواب وقوة الدليل ،فيقبله ويرجع
عن خطأ ما رأى إلى الصواب ما استبان له ).(5
-61-
الله عليه وسلم ترك الناس وكلهم مقر بأفضلية أبي بكر وأسبقيته
عليهم ،فاحتمال الخلف كان نادرا ً وخصوصا ً أن النبي صلى الله
عليه وسلم وجه المة قول ً وفعل ً إلى أن أبابكر أولى بالمر من
بعده ،والصديق استخلف عمر وكان يعلم أن عند الصحابة قناعة
بأن عمر أقوى وأفضل من يحمل المسؤولية بعده ،فاستخلفه بعد
مشاورة كبار الصحابة ولم يخالف رأيه أحد منهم ،وحصل الجماع
على بيعة عمر ) ،(1وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد فتعتمد على
جعل الشورى في عدد محصور ،وقد حصر ستة من صحابة رسول
الله صلى الله عليه وسلم كلهم يصلحون لتولي المر ولو أنهم
يتفاوتون وحدد لهم طريقة النتخاب ومدته ،وعدد الصوات الكافية
لنتخاب الخليفة ،وحدد الحكم في المجلس ،والمرجح إن تعادلت
الصوات وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير النتخابات في
المجلس وعقاب من يخالف أمر الجماعة ومنع الفوضى بحيث ل
يسمحون لحد يدخل أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل
والعقد ) ،(2وهذا بيان ما أجمل في الفقرات السابقة.
أ -العدد الذي حدده للشورى وأسماؤهم:
أما العدد فهو ستة وهم :علي بن أبي طالب ،وعثمان بن عفان،
وعبدالرحمن بن عوف ،وسعد بن أبي وقاص ،والزبير بن العوام
وطلحة بن عبيدالله رضي الله عنه جميعًا ،وترك سعيد بن زيد وهو
من العشرة المبشرين بالجنة ولعله تركه لنه من قبيلته بن عدي
) ،(3وكان رضي الله عنه حريصا ً على إبعاد إمارة أقاربه ،مع أن
فيهم من هو أهل لها ،فهو يبعد قريبه سعيد بن زيد عن قائمة
المرشحين للخلفة ).(4
ب -طريقة اختيار الخليفة:
أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم ويتشاوروا وفيهم عبدالله بن
عمر يحضر معهم مشيرا ً فقط وليس له من المر شيء ،ويصلي
بالناس أثناء التشاور صهيب الرومي وقال له أنت أمير الصلة في
هذه اليام الثلثة حتى ل يولي إمامة الصلة أحدا ً من الستة فيصبح
هذا ترشيحا ً من عمر له بالخلفة ) ،(5وأمر المقداد بن السواد وأبا
طلحة النصاري أن يرقبا سير النتخابات ).(6
()1أوليات الفاروق د .غالب القرشي ص .122
()2أوليات الفاروق د.غالب القرشي ص .124
()3البداية والنهاية ).(4/142
()4الخلفاء الراشدون للخالدي ص .98
()5الخلفة والخلفاء الراشدون للبهنساوي ص .213
()6أشهر مشاهير السلم في الحرب والسياسة ص 648رفيق العظم.
-62-
ج -مدة النتخابات أو المشاورة:
حددها الفاروق رضي الله بثلثة أيام وهي فترة كافية وإن زادوا
عليها ،فمعنى ذلك شقة الخلف ستتسع ولذلك قال لهم :ل يأتي
اليوم الرابع إل وعليكم أمير ).(1
س -عدد الصوات الكافية لختيار الخليفة:
أخرج ابن سعد بإسناد رجاله ثقات أن عمر رضي الله عنه قال
ل بالناس ثلثا ً وليخل هؤلء الرهط في بيت فإذا لصهيب :ص ّ
)(2
اجتمعوا على رجل ،فمن خالفهم فاضربوا رأسه ،فعمر رضي
الله عنه أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلء الرهط وشق عصا
المسلمين ويفرق بينهم عمل ً بقوله صلى الله عليه وسلم :من
أتاكم وأمركم جمع على رجل منكم يريد أن يشق عصاكم أو يفرق
جماعتكم فاقتلوه ) ،(3وما جاء في كتب التاريخ أن عمر رضي الله
عنه أمرهم بالجتماع والتشاور وحدد لهم أنه إذا اجتمع خمسة
منهم على رجل وأبى أحدهم فليضرب رأسه بالسيف ،وإن اجتمع
أربعة وفرضوا رجل ً منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما )(4وهذه من
الروايات التي ل تصح سندا ً فهي من الغرائب التي ساقها أبو
مخنف – الشيعي – مخالفا ً فيها النصوص الصحيحة وما عرف من
سير الصحابة.
ش -الحكم في حال الختلف:
لقد أوصى بأن يحضر عبدالله بن عمر معهم في المجلس ،وأن
ليس له من المر شيء ،ولكن قال لهم :فإن رضي ثلثة رجل ً
موا عبدالله بن عمر فأي الفريقين منهم وثلثة رجل ً منهم ،فحك ّ
حكم له ،فليختاروا رجل ً منهم ،فإن لم يرضوا بحكم عبدالله بن
عمر فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف ،ووصف
عبدالرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد فقال عنه :ونعم ذوي الرأي
عبدالرحمن بن عوف مسدد رشيد له من الله حافظ فاسمعوا منه
).(5
ع -جماعة من جنود الله تراقب الختيار وتمنع الفوضى:
طلب عمر أبا طلحة النصاري وقال له :يا أبا طلحة إن الله عز
وجل أعز السلم بكم فاختر خمسين رجل ً من النصار فاستحث
-63-
هؤلء الرهط حتى يختاروا رجل ً منهم ) ،(1وقال للمقداد بن السود:
إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلء الرهط في بيت حتى
يختاروا رجل ً منهم ).(2
غ -جواز تولية المفضول مع وجود الفضل:
ومن فوائد قصة الشورى؛ جواز تولية المفضول مع وجود الفضل،
لن عمر جعل الشورى في ستة أنفس مع علمه أن بعضهم كان
أفضل من بعض ويؤخذ هذا من سيرة عمر في أمرائه الذين كان
يؤمرهم في البلد حيث كان ل يراعي الفصل في الدين فقط بل
م إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع يض ّ
منها ،فاستخلف معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص مع
وجود من هو أفضل من كل منهم في أمر الدين والعلم كأبي
الدرداء في الشام وابن مسعود في الكوفة ).(3
د -جمع عمر بين التعيين وعدمه:
جمع عمر بين التعيين ،كما فعل أبوبكر – أي تعيين المرشح – وبين
عدم التعيين ،كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ،فعّين ستة
وطلب منهم التشاور في المر ).(4
ل -الشورى ليست بين الستة فقط:
عرف عمر أن الشورى لن تكون بين الستة فقط ،وإنما ستكون
في أخذ رأي الناس في المدينة ،فيمن يتولى الخلفة حيث جعل
لهم أمد ثلثة أيام فيمكنهم من المشاورة والمناظرة لتقع ولية
من يتولى بعده عن اتفاق من معظم الموجودين حينئذ ببلده التي
هي دار الهجرة ،وبها معظم الصحابة وكل من كل ساكنا ً في بلد
غيرها كان تبعا ً لهم فيما يتفقون عليه ،فما زالت المدينة حتى سنة
23ه مجمع الصحابة فيها ،حيث استبقاهم عمر بجانبه ولم يأذن
لهم بالهجرة إلى القاليم المفتوحة ).(5
ه -أهل الشورى أعلى هيئة سياسية:
إن عمر رضي الله عنه أناط بأهل الشورى وحدهم اختيار الخليفة
من بينهم ،ومن المهم أن نشير أن أحدا ً من أهل الشورى لم
يعارض هذا القرار الذي اتخذه عمر ،كما أن أحدا ً من الصحابة
الخرين لم يشر أي اعتراض عليه ،ذلك ما تدل عليه النصوص
التي بين أيدينا ،فنحن ل نعلم أن اقتراحا ً آخر قد صدر عن أحد من
()1تاريخ الطبري ).(5/225
()2المصدر نفسه ).(5/225
()3المدينة النبوية فجر السلم ،محمد ّ
شراب ).(2/97
()4المصدر نفسه.
()5المصدر نفسه.
-64-
الناس في ذلك العصر ،أو أن معارضة شارت حول أمر عمر ،خلل
الساعات الخيرة من حياته ،أو بعد وفاته ،وإنما رضى الناس كافة
هذه التدابير ،ورأوا فيه مصلحة لجماعة المسلمين ،وفي وسعنا أن
نقول إن عمر قد أحدث هيئة سياسية عليا ،مهمتها انتخاب رئيس
الدولة ،أو الخليفة ،وهذا التنظيم الدستوري الجديد ،الذي أبدعته
عبقرية عمر ل يتعارض مع المبادىء الساسية التي أّقرها السلم،
ولسيما فيما يتعلق بالشورى ،لن العبرة من حيث النتيجة للبيعة
العامة التي تجري في المسجد الجامع وعلى هذا ل يتوجه السؤال
الذي قد يرد على بعض الذهان هو :من أعطى عمر هذا الحق؟ ما
هو مستند عمر في هذا التدبير؟ ويكفي أن نعلم أن جماعة من
المسلمين قد أّقرت هذا التدبير ورضيت به ،ولم يسمع صوت
اعتراض عليه ،حتى يتأكد أن الجماع – هو من مصادر التشريع –
قد انعقد على صحته ونفاذه ) ،(1ول ننسى أن عمر خليفة ،راشد،
كما ينبغي أن نؤكد على هذا المبدأ – أهل الشورى أعلى هيئة
سياسية – قد أقّره نظام الحكم في السلم في العهد الراشدي،
ماها عمر ،تمتعت بمزايا لم يتمتع بها غيرهاكما أن الهيئة التي س ّ
من جماعة المسلمين ،وهذه المزايا منحت لها من الله ،وبلّغها
الرسول؛ فل يمكن عند المؤمنين أن يبلغ أحد من المسلمين مبلغ
هؤلء العشرة من التقوى والمانة ) (2هكذا ختم عمر رضي الله
عنه حياته ولم يشغله ما نزل به من البلء ول سكرات الموت عن
تدبير أمر المسلمين ،وأرسى نظاما ً للشورى لم يسبقه إليه أحد،
ول يشك أن أصل الشورى مقرر في القرآن الكريم والسنة
القولية والفعلية ،وقد عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبوبكر ،ولم يكن عمر مبتدعا ً بالنسبة للصل ولكن الذي عمله
عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة ،وحصر عدد معين
جعلها فيهم وهذا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ول
الصديق رضي الله عنه بل أول من فعل ذلك عمر ،ونعم ما فعل،
فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت
)(3
-65-
لم يكد يفرغ الناس من دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى
أسرع رهط الشورى وأعضاء مجلس الدولة العلى إلى الجتماع
في بيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ،وقيل إنهم اجتمعوا
في بيت فاطمة بنت قيس الفهرية أخت الضحاك بن قيس،
ليقضموا في أعظمم قضية عرضت في حياة المسلمين – بعد وفاة
عمر – وقد تكلم القوم وبسطوا آراءهم واهتدوا بتوفيق الله إلى
كلمة سواء رضيها الخاصة والكافة من المسلمين ).(1
ب -عبدالرحمن يدعو إلى التنازل:
عندما اجتمع أهل الشورى قال لهم عبدالرحمن بن عوف :اجعلوا
ي )،(2
أمركم إلى ثلثة منكم .فقال الزبير :جعلت أمري إلى عل ّ
وقال طلحة :جعلت أمري إلى عثمان .وقال سعد :جعلت امري
ي بن أبي إلى عبدالرحمن بن عوف .وأصبح المرشحون الثلثة عل ّ
طالب ،وعثمان بن عفان ،وعبدالرحمن بن عوف ،فقال
عبدالرحمن :أيكما تبرأ من هذا المر فنجعله إليه والله عليه
والسلم لينظرن أفضلهم في نفسه ،فأسكت الشيخان ،فقال
ي أن ل آلو عن ي والله عل ّ
عبدالرحمن بن عوف أفتجعلونه إل ّ
أفضلكما قا ً
ل :نعم ).(3
ت -تفويض ابن عوف بإدارة عملية الشورى:
بدأ عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه اتصالته ومشاوراته فور
انتهاء اجتماع المرشحين الستة صباح يوم الحد واستمرت
مشاوراته واتصالته ثلثة أيام كاملة ،حتى فجر يوم الربعاء الرابع
من محرم ،وهو موعد انتهاء المهلة التي حددها لهم عمر ،وبدأ
عبدالرحمن بعلي بن أبي طالب فقال له :إن لم أبايعك فأشر
ي ،فمن ترشح للخلفة؟ قال علي :عثمان بن عفان ،وذهب عل ّ
عبدالرحمن إلى عثمان وقال له :إن لم أبايعك فمن ترشح
للخلفة؟ فقال عثمان :علي بن أبي طالب ...وذهب ابن عوف
بعد ذلك إلى الصحابة الخرين واستشارهم ،وكان يشاور كل من
يلقاه في المدينة من كبار الصحابة وأشرافهم ومن أمراء الجناد،
ومن يأتي للمدينة وشملت مشاورته النساء في خدورهن وقد
أبدين رأيهن ،كما شملت الصبيان والعبيد في المدينة وكانت نتيجة
مشاورات عبدالرحمن بن عوف ،أن معظم المسلمين كانوا
يشيرون بعثمان بن عفان ومنهم من كان يشير بعلي بن أبي
-66-
طالب رضي الله عنه وفي منتصف ليلة الربعاء ،ذهب عبدالرحمن
بن عوف إلى بيت ابن أخته :المسور بن مخرمة ،فطرق البيت،
فوجد المسور )(1نائمًا ،فضرب الباب حتى استيقظ فقال أراك
نائما ً فوالله ما أكتحلت هذه الليلة بكثير نوم ،انطلق فادع الزبير
وسعدا ً فدعوتهما له :فشاورهما ثم دعاني فقال :ادع لي عليا ً
)(2
ي من عنده ..ثم قال فدعوته فناجاه حتى إبهاّر الليل ثم قام عل ّ
:ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح
).(3
ج -التفاق على بيعة عثمان:
وبعد صلة صبح يوم البيعة اليوم الخير من شهر ذي الحجة
23/644م" وكان صهيب الرومي المام إذ أقبل عبدالرحمن بن
عوف ،وقد اعتم بالعمامة التي عمه بها رسول الله صلى الله عليه
وسلم ،وكان قد اجتمع رجال الشورى عند المنبر أرسل إلى من
كان حاضرا ً من المهاجرين والنصار وأمراء الجناد منهم :معاوية
أمير الشام ،وعمر بن سعد أمير حمص ،وعمرو بن العاص أمير
وه إلى المدينة ) (4وجاء في جة مع عمر وصاحب ّ مصر ،وافوا تلك الح ّ
رواية البخاري :فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الّرهط عند
المنبر ،فأرسل إلى من كل حاضر من المهاجرين والنصار وأرسل
ما اجتمعوا إلى أمراء الجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر ،فل ّ
ي إني قد نظرت في أمر ما بعد يا عل ّ
م قال :أ ّتشهد عبدالرحمن ث ّ
الناس فلم أراهم يعدلون بعثمان فل تجعلن على نفسك سبيل
فقال ) :(5أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده،
فبايعه عبدالرحمن وبايعه الناس المهاجرين والنصار وأمراء الجناد
والمسلمون ) ،(6وجاء في رواية صاحب التمهيد والبيان أن علي بن
أبي طالب أول من بايع بعبدالرحمن بن عوف ).(7
س -حكمة عبدالرحمن بن عوف في تنفيذ خطة
الشورى:
نفذ عبدالرحمن بن عوف خطة الشورى بما دل على شرف عقله،
ونبل نفسه وإيثاره مصلحة المسلمين العامة على مصلحته
-67-
الخاصة ونفعه الفردي ،وترك عن طواعية ورضا أعظم منصب
يطمع إليه النسان في الدنيا ،ليجمع كلمة المسلمين ،وحقق أول
مظهر من مظاهر الشورى المنظمة في اختيار من يجلس على
عرش الخلفة ،ويسوس أمور المسلمين؛ فهو قد اصطنع من الناة
والصبر والحزم وحسن التدبير ما كفل له النجاح في أداء مهمته
العظمى وقد كانت الخطوات التي اتخذها كالتي:
-بسط برنامجه في أول جلسة عقدها مجلس الشورى في دائرة
الزمن الذي حدده لهم عمر؛ وبذلك أمكنه أن يحمل جميع أعضاء
مجلس الشورى على أن ُيدلوا برأيهم ،فعرف مذهب كل واحد
منهم ومرماه ،فسار في طريقه على بينة من أمره.
-وخلع نفسه وتنازل عن حقه في الخلفة ليدفع الظنون
ويستمسك بعروة الثقة الوثقى.
-أخذ في تعرف نهاية ما يصبوا إليه كل واحد من أصحابه وشركائه
في الشورى ،فلم يزل يقلب وجوه الرأي معهم حتى انتهى إلى
شبه انتخاب جزئي ،فاز فيه عثمان برأي سعد بن أبي وقاص،
ورأى الزبير بن العوام ،فلحت له أغلبية آراء الحاضرين معه.
-عمد إلى معرفة كل واحد من المامين :عثمان ،وعلي في
صاحبه بالنسبة لوزنه في سائر الرهط رشحهم عمر ،فعرف من
كل واحد منهما أنه ل يعدل صاحبه أحدا ً إذا فاته المر.
-أخذ في تعرف رأي من وراء مجلس الشورى من خاصة المة
وذوي رأيها ،ثم من عامتها وضعفائها ،فرأى أن معظم الناس ل
يعدلون أحدا ً بعثمان ،فبايع له وبايعه عامة الناس ) (1لقد تمكن
عبدالرحمن بن عوف بكياسته وأمانته واستقامته ونسيانه نفسه
بالتخلي عن الطمع في الخلفة والزهد بأعلى منصب في الدولة،
أن يجتاز هذه المحنة وقاد ركب الشورى بمهارة وتجرد ،مما
يستحق أعظم التقدير ).(2
قال الذهبي :ومن أفضل أعمال عبدالرحمن عزله نفسه من المر
وقت الشورى ،واختياره للمة من أشار به أهل الحل والعقد
فنهض في ذلك أتم نهوض على جمع المة على عثمان ولو كان
لها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه محابيا ً فيها ،لخذها لنفسه ،أو لو ّ
سعد بن أبي وقاص ).(3
-68-
وبهذا تحققت صورة أخرى من صور الشورى في عهد الخلفاء
الراشدين :وهي الستخلف عن طريق مجلس الشورى ليعينوا
أحدهم بعد أخذ المشورة العامة ،ثم البيعة العامة ).(1
-2أول قضية واجهت عثمان قضية قتل:
أول قضية حكم فيها عثمان قضية عبيد الله بن عمر ،وذلك أنه غدا ً
على ابنة أبي لؤلؤة قاتل عمر فقتلها ،وضرب رجل ً نصرانيا ً يقال
له جفينة بالسيف فقتله وضرب الهرمزان الذي كان صاحب تستر
فقتله ،وكان قد قيل إنهما مال أبا لؤلؤة على قتل عمر فالله أعلم
) ،(2وكان عمر قد أمر بسجنه ليحكم فيه الخليفة من بعده ،فلما
ولي عثمان وجلس للناس كان أول ما تحوكم إليه في شأن عبيد
الله ،فقال علي :ما من العدل تركه وأمر بقتله وقال بعض
المهاجرين :أيقتل أبوه بالمس ويقتل هو اليوم؟ فقال عمرو بن
العاص :يا أمير المؤمنين قد برأك الله من ذلك ،قضية لم تكن
في أيامك فدعها عنك فودي )(3عثمان أولئك القتلى من ماله ،لن
أمرهم إليه ،إذ ل وارث لهم إل بيت المال ،والمام يرى الصلح في
ى سبيل عبيد الله ) ،(4وقد جاءت رواية في الطبري تفيد ذلك وخل ّ
.بأن الهاذبان بن الهرمزان قد عفا عن عبيد الله )(5
-69-
إن السبب الحامل لعثمان على جمع القرآن مع أنه كان مجموعا ً
مرتبا ً في صحف أبي بكر الصديق ،إنما هو اختلف قراء المسلمين
في القراءة اختلفا ً أوشك أن يؤدي بهم إلى أخطر فتنة في كتاب
الله تعالى ،وهو أصل الشريعة ،ودعامة الدين ،وأساس بناء المة
الجتماعي والسياسي والخلقي ،حتى إن بعضهم كان يقول لبعض:
إن قراءتي خير من قراءتك فأفزع ذلك خليفة المسلمين وإمامهم،
وطلب إليه أن يدرك المة قبل أن تختلف فيستشري بينهم
حرف الختلف ويتفاقم أمره ،ويعظم خطبه ،فيمس نص القرآن وت ّ
عن مواضعها كلماته وآياته ) ،(1فجمع عثمان المهاجرين والنصار
وشاورهم في المر ،وفيهم أعيان المة ،وأعلم الئمة ،وعلماء
الصحابة وفي طليعتهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعرض
عثمان هذه المعضلة على صفوة المة وقادتها الهادين المهديين
ودارسهم ودارسوه ،وناقشهم فيها وناقشوه ،حتى عرف رأيهم
وعرفوا رأيه ،فأجابوه إلى رأيه في صراحة ل تجعل للريب إلى
ل ،وظهر للناس في أرجاء الرض ما انعقد قلوب المؤمنين سبي ً
عليه إجماعهم ،فلم يعرف قط يومئذ لهم مخالف ،ول عرف عند
أحد نكير ،وليس شأن القرآن الذي يخفي على آحاد المة فضل ً
عن علمائها وأئمتها البارزين ).(2
لقد اتفق الصحابة على جمعه بما صح وثبت من القراءة
المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم واطراح ما سواها،
واستصوبوا رأيه ،وكان رأيا سديدا ً موفقا ً ).(3
وقال علي رضي الله عنه :لو وليت لعملت بالمصاحف التي عمل
بها عثمان ).(4
لقد ظلت الصحف في رعاية الخليفة الول أبي بكر الصديق ،ثم
انتقلت بعده إلى رعاية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ،ثم لما
عرف عمر حضور أجله ولم يول عهده أحدا ً معينا ً في خلفة
المسلمين وإنما جعل شورى في الستة أوصى بحفظ الصحف،
وعنها نقل مصحفه " الرسمي" وأنه أمر أربعة من أشهر قراء
الصحابة إتقانا لحفظ القرآن ووعيا ً لحروفه وأداء لقراءته وفهما ً
لعرابه ولغته وهم زيد بن ثابت النصاري ،وعبدالله بن الزبير
-70-
وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشمام وهمؤلء من
قريش ).(1
هط القرشيين الثلثة :إذا اختلفتم أنتم وزيد بن وقال عثمان للر ّ
ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ،فإنما نزل
بلسانهم ،ففعلوا ،حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ،رد ّ
ل أفق بمصحف مما عثمان الصحف إلى حفصة ،فأرسل إلى ك ُ ّ
نسخوا ،وأمر بما سواه ،وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة
حرق ) (2والفرق بين جمع أبي بكر وعثمان أن جمع أو مصحف أن ي ُ
أبي بكر كان لخشيته أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حملته،
لنه لم يكن مجموعا ً في موضع واحد ،فجمعه في صحائف مرتبا ً
ليات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم،
وجمع عثمان كان لما كثر الختلف في وجوه القراءة حتى قرأوه
بلغاتهم على اتساع اللغات ،فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض
فخشي من تفاقم المر في ذلك ،فنسخ تلك الصحف في مصحف
واحد مرتبا ً لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش
محتجا ً بأنه نزل بلغتهم ،وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم
دفعا ً للحرج والمشقة في ابتداء المر ،فرأى أن الحاجة قد انتهت
فاقتصر على لغة واحدة ).(3
-5الشورى في أحداث الفتنة:
سمع بعض الصحابة الشاعات التي بثها عبدالله بن سبأ في
المصار دخل محمد بن مسلمة وطلحة بن عبيد الله وغيرهما على
عثمان على عجل وقالوا يا أمير المؤمنين أياتيك عن الناس الذي
يأتينا ؟ قال :ل والله ما جاءني إل السلمة قالوا :فإنا أتانا ،وأخبروه
بما تناهي لسمعهم عن الفتنة التي تموج بها المصار السلمية،
وعن الهجوم الشرس على ولته في كل صقع ،وقال :أنتم
شركائي وشهود المؤمنين ،فأشميروا علي ؟ قالوا :نشير عليك أن
تبعث رجال ً ممن تثق بهم إلى المصار حتى يرجعوا إليك بخبرهم
) ،(4فقام عثمان بإجراء سديد عظيم ،وتخيّر نفرا ً من الصحابة ل
يختلف اثنان في صدقهم وتقواهم وورعهم ،ونصحهم ،اختار محمد
بن مسلمة الذي كان عمر يأتمنه على محاسبة ولته ،والتفتيش
عليهم في القاليم ،وأسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله
حّبه ،وأمير الجيش الذي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم وابن ِ
()1البخاري رقم .4987
()2المصدر نفسه ص .4987
ص ّ
لبي ص .231 3عثمان بن عفان لل ّ
)(
-71-
عليه وسلم بإنفاذه في آخر عهده بالدنيا فقال :أنفذوا بعث أسامة،
وعمار بن ياسر ،السّباق إلى السلم والمجاهد العظيم ،وعبدالله
بن عمر ،التقي الفقيه الورع ،فأرسل محمد بن مسلمة إلى
الكوفة وأسامة إلى البصرة ،وعمارا ً إلى مصر ،وابن عمر إلى
الشام ،وكانوا على رأس جماعة ،فأرسلهم إلى تلك المصار
الكبيرة فمضوا جميعا ً إلى عملهم الشاق المضني الخطير العظيم
ثم عادوا جميعا ً عدا عمار بن ياسر الذي استبطأ في مصر ثم عاد،
وقدموا بين يدي أمير المؤمنين ما شاهدوه وسمعوه وسألوا
الناس عنه ) ،(1وكان ما جاء به هؤلء واحدا ً في كل المصار،
وقالوا :أيها الناس ،ما أنكرنا شيئًا ،ول أنكر المسلمون ،إل أن
أمراءهم يقسطون بينهم ويقومون عليهم ) (2وأما ما روي عن
اتهام عمار بن ياسر رضي الله عنه بالتأليب على عثمان رضي الله
عنه ،أسانيد الروايات التي تتضمن هذه التهمة ضعيفة ل تخلوا من
علة ،كما أن في متونها نكارة ).(3
رجع مفتشو المصار واتضح بأنه ليس هناك ما يوجب على الخليفة
أن يعزل واحدا ً من ولته والناس في عافية وعدل وخير ورحمة
وأطمئنان ،وأمير المؤمنين يعدل في القضية ،ويقسم بالسوية،
ويرعى حق الله وحقوق الرعية ،وما يثار هو شكوك وأراجيف
وأكاذيب يبثها الحاقدون في الظلمات لكي ل يعرف مصدرها،
ولكن الخليفة البار الراشد العظيم لم يكتف بهذا ،بل كتب إلى
أهل المصار ).(4
أما بعد :فإني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم ،وقد سلطت
المة منذ وليت على المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فل ُيرفع
على شيء ول على أحد من عمالي إل أعطيته ،وليس لي ولعيالي
ي أهل المدينة أنحق ِقبل الرعية إل متروك لهم ،وقد رفع إل ّ
أقواما ً ُيشتمون ،وآخرون يضربون ،فيا من ضرب سرا ً وشتم سرا ً
من أدعى شيئا ً من ذلك فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان،
مني أو من عمالي ،أو تصدقوا فإن الله يجزى المتصدقين ،فلما
قرئ في المصار أبكى الناس ،ودعوا لعثمان وقالوا :إن المة
خص بشر ).(5 لتم ّ
لبي ص .361 ص ّ
1عثمان بن عفان لل ّ
)(
-72-
حزم وعزم أعلى وأشمخ من هذا الحزم فهل تريد الدنيا أن تسمع ب ِ
والعزم من رجل زاد سّنه عن اثنتين وثمانين سنة ،وهو في هذه
الفورة والقوة من المتابعة والتنقيب عن المظالم ؟ أم هل يريد
الناس أن يروا عدل ً أرفع وأسمى من هذا العدل ،والنصاف ،حتى
إن حق أمير المؤمنين الشخصي متروك لرعيته ،ما دام حق الله
قائما ً وحدوده مرعّية؟ نعم عند عثمان الذي لم يقف عند ذلك ،ولم
يكتف بأن أرسل أمناءه للتفتيش عن أحوال الناس ،وكتابته من ثم
إلى أهل المصار ،بأن يأتوا موسم الحج ليرفعوا شكاتهم – إن
كانت لهم – أمام جموع الحجيج ،ولم يكتف عثمان بذلك كله ،بل
بعث إلى عمال المصار أنفسهم ليواجهوا الناس عندما يرفعون
مظالمهم – إن وجدت – ثم ليسألهم أمير المؤمنين عما يتناقله
الناس ،ليشيروا عليه بالرأي الناصح السديد الرشيد ).(1
-6مشورة عثمان لولة المصار:
بعث عثمان رضي الله عنه إلى ولة المصار واستدعاهم على
عجل :عبدالله بن عامر ،ومعاوية بن أبي سفيان ،وعبدالله بن
سعد ،وأدخل معهم في المشورة سعيد بن العاص ،وعمرو بن
العاص وهم من الولة السابقين وكانت جلسة مغلقة وخطيرة
جرت فيها البحاث التالية التي تقرر خطة العمل الجديد على ضوء
الخبار المتناهية إلى المدينة عاصمة دولة السلم ) ،(2قال عثمان :
ويحكم ما هذه الشكاية؟ وما هذه الذاعة؟ إني والله لخائف أن
يكون مصدوقا ً عليكم وما يعصب ) (3هذا إل بي فقالوا له :ألم
تبعث؟ ألم يرجع إليك الخبر عن القوم؟ ألم يرجعوا ولم يشافههم
أحد بشيء ؟ ل والله ما صدقوا ول بروا ول نعلم لهذا المر أص ً
ل،
وما كنت لتأخذ به أحدا ً فيضمنك على شيء ،وما هي إل إذاعة ل
ي فقال سعيد بن يحل الخذ بها ،ول النتهاء إليها .قال :فأشيروا عل ّ
صنع في السر فُيلقي به غير ذي معرفة العاص :هذا أمر مصنوع ي ُ
فيخبر به فيتحدث به في مجالسهم ،قال :فما دواء ذلك؟ قال:
طلب هؤلء القوم ،ثم قتل هؤلء الذين يخرج هذا من عندهم.
وقال عبدالله بن سعد :خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم
الذي لهم ،فإنه خير من أن تدعهم .قال معاوية :قد وليتني فوليت
قوما ً ل يأتيك عنهم إل الخير ،والرجلن أعلم بناحيتها ،قال :فما
الرأي :قال :حسن الدب ،قال :فما ترى يا عمرو؟ قال :أرى أنك
-73-
قد لنت لهم ،وتراضيت عنهم وزدتهم عما كان يضع عمر ،فأرى أن
تلزم طريقة صاحبك فتشد في موضع الشدة وتلين في موضع
اللين :إن الشدة تنبغي لمن ل يألو الناس شرًا ،واللين لمن يخلف
الناس بالنصح وقد فرشتهما جميعا ً اللين ،وقام عثمان فحمد الله
ي قد سمعت ولكل أمر وأثنى عليه وقال :كل ما أشرتهم به عل ّ
خاف على هذه المة كائن ،وإن باب يؤتي منه ،إن هذا المر الذي ي ُ
بابه الذي ُيغلق عليه فُيكفكف به اللين والمؤاتاة والمتابعة ،إل في
حدود الله تعالى ذكره ،التي ل يستطيع أحد أن يبادي بعيب
ن وليست لحد أحدهما ،فإن سده شيء فرفق ،فذاك والله لُيفتح ّ
على حجة حق وقد علم الله آني لم آل الناس خيرًا ،ول نفسي
والله إن رحى الفتنة لدائرة ،فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها
كفكفوا الناس ،وهبوا لهم حقوقهم ،واغتفروا لهم ،وإذا تعوطيت
دهنوا فيها ).(1
حقوق الله فل ت ُ ِ
كان عثمان بن عفان رضي الله عنه واضحا ً صريحا ً فيما ل هوادة
فيه ،وهي حدود الله فل مداهنة فيها وما غير ذلك فالرفق أولى
والمغفرة أفضل ولبد من تأدية الحقوق كلها ) (2وقد جاءت روايات
بسند فيه ضعف ومجهولون تشوه العلقة بين عمرو بن العاص
وعثمان رضي الله عنهما ،وساهمت روايات ساقطة في مسخ
صورة عمرو بن العاص رضي الله عنه وتحويل علقته بعثمان إلى
علقة فاتك خطط لقتل أميره ،ثم عاد بانتهازية ليطالب بدمه )،(3
وهذه الرواية ضعيفة ومرفوضة عند أهل التاريخ وأهل الحديث ).(4
وقد جاء في رواية بسند فيه ضعفاء ومجهولون أيضا ً بأن عمرو بن
العاص قال :يا عثمان :إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت
وقالوا وزغت وزاغوا ،فاعتدل أو اعتزل ،فإن أبيت فاعتزم عزما ً
ى قدما )(5وجاء في نفس الرواية أن عبدالله بن عامر قال: وأمض ِ
)(6
أرى لك أن تجمرهم في هذه البعوث حتى يهم كل رجل منهم
قمل فروة رأسه ودبر دابته وتشغلهم عن الرجاف بك ) (7إن
عثمان رضي الله عنه منع الولة من التنكيل بمثيري الشغب،
-74-
حبسهم أو قتلهم ،وقّرر أن يعاملهم بالحسن واللين) ،(1وطلب من
عماله أن يعودوا إلى أعمالهم ،وفق ما أعلنه لهم من أسلوب
مواجهة الفتنة التي كان كل بصير يرى أنها قادمة ).(2
-7الحوار المباشر مع المعارضين في عهد عثمان:
وهنا تتجلى الشورى في أعظم معانيها في إعطاء المعارضين حق
الحديث والتكلم بما يريدون أمام الناس ،فقد دعا عثمان القوم
السبئيين إلى عرض ما عندهم من شبهات وإظهار ما يرونه من
أخطاء وتجاوزت ومخالفات ،وقع هو فيها وكانت جلسة مصارحة
ومكاشفة في المسجد على مرأى ومسمع من الصحابة
والمسلمين ،فتكلم السبئيون وعرضوا الخطاء التي ارتكبها عثمان
– على حذر عمهم – وقام عثمان رضي الله عنه بالبيان واليضاح
دم حججه وأدلته فيما فعل ،والمسلمون المنصفون يسمعون وق ّ
هذه المصارحة والمحاسبة والمكاشفة وأورد عثمان ما أخذوه
حسن فعله وأشهد معه عليه ،ثم بين حقيقة المر ودافع عن ُ
الصحابة الجالسين في المسجد ).(3
أ -قال :قالوا :إني أتممت الصلة في السفر ،وما أّتمها قبلي
رسول الله ول أبو بكر ول عمر ،لقد أتممت الصلة لما سافرت
من المدينة إلى مكة ،ومكة بلد فيه أهلي ،فأنا مقيم بين أهلي
ولست مسافرا ً أليس كذلك؟ فقال الصحابة :اللهم نعم.
ت على المسلمين ،وجعلت ب -وقالوا :إني حميت حمى ،وضّيق ُ
أرضا ً واسعة خاصة لرعي إبلي ،ولقد كان الحمى قبلي ،لبل
ل من رسول الله وأبوبكر الصدقة والجهاد ،حيث جعل الحمى ك ّ
وعمر ،وأنا زدت فيه لما كثرت إبل الصدقة والجهاد ،ثم لم نمنع ما
شية فقراء المسلمين من الرعي في ذلك الحمى ،وما حميت لما
شيتي؛ ولما وليت الخلفة كنت من أكثر المسلمين إبل ً وغنما ً وقد
انفقتها كلها ،ومالي الن ثاغية ول راغية ،ولم يبق لي إل بعيرات،
جي؛ أليس كذلك؟ فقال الصحابة :اللهم نعم. صصتهما لح ّ خ ّ
ج -وقالوا :إني أبقيت نسخة واحدة من المصاحف ،وحّرقت ما
سواها ،وجمعت الناس على مصحف واحد؟ أل إن القرآن كلم
الله من عند الله وهو واحد ولم أفعل سوى أن جمعت المسلمين
على القرآن ونهيتهم عن الختلف فيه ،وأنا في فعلي هذا تابع لما
-75-
فعله أبوبكر ،لما جمع القرآن! أليس كذلك ؟ فقال الصحابة :اللهم
نعم.
س -وقالوا :إني رددت الحكم بن أبي العاص إلى المدينة ،وقد
كي،ن الحكم بن العاص م ّ كان رسول الله نفاه إلى الطائف ،إ ّ
وليس مدنيًا ،وقد سيره رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة
إلى الطائف ،وأعاده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة
ضي عنه فالرسول صلى الله عليه وسلم سّيره إلى بعدما َر ِ
ده وأعاده أليس كذلك؟ فقال الصحابة :اللهم الطائف وهو الذي ر ّ
نعم وقالوا :إني استعملت الحداث ،ووليت الشباب صغار السن،
ل إل رجل ً فاضل ً محتمل ً مرضيًا ،وهؤلء الناس أهل عملهم، ولم أو ّ
سلوهم عنهم ،ولقد ولى الذين من قبلي من هم أحدث منهم ف َ
ى رسول الله صلى الله عليه وسلم ً
وأصغر منهم سنا ،ولقد ول ّ
أسامة بن زيد ،وهو أصغر ممن وليته ،وقالوا لرسول الله صلى
الله عليه وسلم أشد مما قالوا لي أليس كذلك ؟ قال الصحابة:
سرونه ولاللهم نعم؛ إن هؤلء الناس يعيبون للناس مال ً يف ّ
يوضحونه.
وقالوا :إني أعطيت عبدالله بن سعد بن أبي سرح ما أفاء الله به،
خمس الخمس ،وكان مئة ألف ،لما فتح إفريقية، وإنما أعطيته ُ
جزاء جهاده وقد قلت له :إن فتح الله عليك إفريقية فلك خمس
ل ،وقد فعلها قبلي أبوبكر وعمر رضي الله الخمس من الغنيمة نق ً
عنه ومع ذلك قال لي الجنود المجاهدون :إنا نكره أن تعطيه
خمس الخمس – ول يحق لهم العتراض والرفض – فأخذت خمس
الخمس من ابن سعد ورددته على الجنود وبذلك لم يأخذ ابن سعد
شيئًا ،أليس كذلك؛ قال الصحابة :اللهم نعم.
ي لهل بيتي ،فإنه ب أهل بيتي وأعطيهم ،فأما حب ّ ٍوقالوا :إني أح ّ
لم يحملني على أن أميل معهم إلى جور وظلم الخرين ،بل أحمل
عطيهم من الحقوق عليهم وآخذ الحق منهم وإما إعطاؤهم فإني أ ُ
ل أموال مالي الخاص ،وليس من أموال المسلمين ،لني ل استح ّ
المسلمين ،ول لحد من الناس ،ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة
صلب مالي ،أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم الرغيبة من ُ
وأبي بكر وعمر رضي الله عنه ،وأنا يومئذ شحيح حريص أفحين
أتيت على أسنان أهل بيتي ،وفنى عمري ،وجعلت مالي الذي لي
لهالي وأقاربي ،قال الملحدون ما قالوا ؟ وإني والله ما أخذت
ل ،ولقد رددت على من مصر من أمصار المسلمين مال ً ول فض ً
حضروا إلى المدينة إل الخماس من تلك المصار الموال ولم ي ُ
-76-
الغنائم ،ولقد تولى المسلمون تقسيم تلك الخماس ووضعها في
أهلها؛ ووالله ما أخذت من تلك الخماس وغيرها فلسا ً فما فوقه،
وإنني ل أكل إل من مالي ،ول أعطي أهلي إل من مالي.
وقالوا :إني أعطيت الرض المفتوحة لرجال معينين ،وإن هذه
الرضين المفتوحة ،قد اشترك في فتحها المهاجرون والنصار
سمت هذه الراضي على وغيرهم من المجاهدين ،ولما ق ّ
المجاهدين الفاتحين منهم من أقام بها واستقّر فيها ،ومنهم من
رجع إلى أهله في المدينة أو غيرها ،وبقيت تلك الرض ملكا ً له،
وقد باع بعضهم تلك الراضي ،وكان ثمنها في أيديهم وبذلك أورد
ى
العتراضات التي أثيرت عليه ،وتول ّ عثمان رضي الله عنه أهم
)(1
توضيحها وبيان وجه الحق فيها .
وترى من ذلك الدفاع المحكم الذي دافع به عثمان بن عفان رضي
الله وساجل الصحابة فيه وذاكرهم إياه صورة لما كان يجرى من
مر العنيف له رضي الله عنه ،وما كان يشيعه السبئيون من النقد ال ّ
قالة السوء ،وما يعملون على ترويجه من باطل مزيف ،فقد أجمل
ن
رضي الله ذكر العتراضات التي كانوا يعترضون بها عليه ،وبي ّ
وجه الحق يريدون رشادًا ،ول يبغون سدادًا ،فمجادلته لهم مجادلة
رجل مخلص مع آخر يتربص به الدوائر ،ويتسقط هفواته لينفذ
أغراضا ً ويلقي في نفوس الناس عنه إعراضًا ،ومن كان شأنه
كذلك ول تقنعه الحجة ،ول يهديه الدليل ،ومن يضلل الله فل هادي
له ).(2
وقد سمع كلمه وتوضيحه زعماء أهل الفتنة الذين بجانب المنبر،
كما سمعه الصحابة الكرام ،ومن معهم من المسلمين الصالحين،
دقوه فيما قال، وتأّثر المسلمون بكلم عثمان وبيانه وتوضيحه وص ّ
وازدادوا له حبًا ،وأما السبئيون دعاة الفتنة والفرقة ،فلم يتأثروا
بذلك ،ولم يتراجعوا ،لنهم لم يكونوا باحثين عن حق ،ول راغبين
في خير ،إنما كان هدفهم الفتنة ،والكيد للسلم والمسلمين ،وقد
أشار الصحابة والمسلمون على عثمان بقتل زعماء الفتنة بسبب
ما ظهر من كذبهم وتزويرهم ،وحقدهم ،بل أصروا عليه في قتلهم،
ص المسلمون من شرهم ،وتستقر بلد المسلمين ،وُيقضى ليتخل ّ
على الفتنة التي يثيرها هؤلء ،ولكن عثمان كان له رأي آخر،
وتحليل مغاير ،فآثر أن يتركهم ،ورأى عدم قتلهم ،محاولة منه
لتأخير وقوع الفتنة ولم يتخذ عثمان ضد السبئيين القادمين من
-77-
مصر والكوفة والبصرة أي إجراء مع علمه بما يخططون ويريدون،
وتركهم يغادرون المدينة ويعودون إلى بلدهم ).(1
-78-
م لك ،قال :فأتى للأ ّ محمد :فأخذت بوسطه تخوفا ً عليه فقال خ ّ
علي الدار ،وقد قتل الرجل رحمه الله ،فأتى داره فدخلها فأغلق
بابه ،فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا :إن هذا
قد قتل ،ولبد للناس من خليفة ول نعلم أحدًا ،أحق بها منك ،فقال
لهم علي :ل تريدوني فإني لكم وزير خير مني لكم أمير فقالوا :ل
والله ل نعلم أحمد أحمق بها منك قال :فإن أبيتم علي فإن بيعتي ل
تكون سرا ً ولكن أخرج إلى المسجد فبايعه الناس) ،(1وفي رواية
أخرى عن سالم بن أبي الجعد عن محمد بن الحنفية :فأتاه
أصحاب رسول الله فقالوا :إن هذا الرجل قد قتل ولبد للناس من
إمام ول نجد أحدا ً أحق بها منك أقدم مشاهد ،ول أقرب من رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال علي :ل تفعلوا فإني وزير خير
مني أمير ،فقالوا :ل والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك ،قال :ففي
المسجد ،فإنه ينبغي أل تكون خفيا ً ول تكون إل عن رضا
المسلمين قال :فقال سالم بن أبي الجعد :فقال عبدالله بن
عباس :فلقد كرهت أن يأتي المسجد كراهية أن يشمغب عليه،
وأبي هو إل المسجد ،فلما دخل المسجد جاء المهاجرين والنصار
فبايعوا وبايع الناس ).(2
ومن هذه الثار الصحيحة بعض الدروس والعبر والفوائد منها:
أ -نصرة على بن أبي طالب رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه
ودفاعه عنه ،وهذا متواتر عن علي رضي الله عنه بل كان أكثر
الناس دفاعا ً عن عثمان رضي الله عنه ،جاء بأسانيد كثيرة ،وشهد
بذلك مروان بن الحكم حيث قال :ما كان في القوم أدفع عن
صاحبنا من صاحبكم يعني عليا ً عن عثمان ).(3
ب -زهد علي رضي الله عنه في الخلفة وعدم طلبه لها أو طمعه
فيها ،واعتزاله في بيته حتى جاءه الصحابة يطلبون البيعة.
ج -إجماع الصحابة من المهاجرين والنصار والناس عامة في
المدينة على بيعته ،ويدخل في هؤلء أهل الحل والعقد ،وهم الذين
قصدوا علي ّا ً وطلبوا منه أن يوافق على البيعة وألحوا عليه حتى
قبلها ،وليس للغوغاء وقتلة عثمان كما في بعض الروايات الضعيفة
والموضوعة.
-79-
ح -إن عليا ً كان أحق الناس بالخلفة يؤمئذ ،ويدل على ذلك قصد
الصحابة له ،وإلحاحهم عليه ،ليقبل البيعة ،وتصريحهم بأنهم ل
يعلمون أحق بالخلفة منه يؤمئذ.
س -أهمية الخلفة ،ولذلك رأينا أن الصحابة أسرعوا في تولية
علي ،وكان يقول :لول الخشية على دين الله لم أجبهم ).(1
ش -إن الشبهة التي أدخلوها على بيعة علي ،كون الخوارج الذين
حاصروا عثمان وشارك بعضهم في قتله ،كانوا في المدينة وأنهم
أول من بدؤوا بالبيعة وأن طلحة والزبير بايعا مكرهين ،وهذه
أقاويل المؤرخين ،ل تقوم على أساس وليس لها سند صحيح،
والصحيح أنه لم يجد الناس بعد أبي بكر وعمر وعثمان ،كالرابع
قدرا ً وعلما ً وتقى ودينا ً وجهادًا ،فعزم عليه المهاجرين والنصار،
ورأى ذلك فرضا ً عليه ،فانقاد إليه ،ولول السراع بعقد البيعة لعلي،
لدى ذلك إلى فتن واختلفات في جميع القطار السلمية ،فكان
من مصلحة المسلمين أن يقبل علي البيعة مهما كانت الظروف
المحيطة بها ،ولم يتخلف عن علي أحد من الصحابة الذين كانوا
بالمدينة ،وقد خلط الناس بين تخلف الصحابة عن المسير معه
إلى البصرة وبين البيعة :أما البيعة فلم يختلفوا عنها ،وأما المسير
معه فتخلفوا عنه لنها كانت مسألة اجتهادية ) ،(2كما أن عليا ً لم
يلزمهم بالخروج معه وقبل عذر من اعتذر عن ذلك.
ع -لبد من الحذر من مبالغات الخباريين التي تزعم أن المدينة
بقيت خمسة أيام بعد مقتل عثمان وأميرها الغافقي بن حرب
يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالمر فل يجدونه ) ،(3وتزعم أن
الغوغاء من مصر عرضت المر على علي فرفضه ،وأن خوارج
الكوفة عرضوا الخلفة على الزبير ،فل يجدونه ،ومن جاء من
البصرة عرضوا على طلحة البيعة ،فهذا ل يثبت أمام الروايات
الصحيحة ول يصح إسناده) ،(4كما أن المعروف تمكن الصحابة من
المدينة وقدرتهم على القضاء على الغوغاء لول طلب عثمان رضي
الله عنه ،بالكف عن استخدام القوة ضدهم وقد فصلت ذلك في
كتابي :تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان ،والصحيح
أن بيعة على كانت عن طواعية واختيار من المسلمين وليس لهل
الفتنة دور في مبايعة علي ،وإنما كل من كان من الصحابة في
المدينة هم الذين اختاروا أمير المؤمنين عليا ّ رضي الله عنه.
()1فتح الباري ) (13/75اسناده صحيح.
سراب ).(2/311 2المدينة النبوية ،محمد ّ
)(
-80-
ك -بلغت الروايات الصحيحة والشواهد في بيعة علي رضي الله
عنه إحدى عشرة رواية ).(1
-2انعقاد الجماع على خلفة علي بن أبي طالب رضي
الله عنه:
كانت بيعة علي بالخلفة عقب قتل عثمان في أوائل ذي الحجة
سنة خمس وثلثين ،فبايعه المهاجرون والنصار وكل من حضر،
وكتب بيعته إلى الفاق فأذعنوا كلهم إل معاوية في أهل الشام
فكان بينهما بعد ما كان ).(2
إن خلفة علي رضي الله عنمه محل إجماع على أحقيتها وصحتها
في وقت زمانها ،وذلك بعد قتل عثمان – رضي الله عنه حيث لم
يبق على الرض أحق بها منه رضي الله عنه ،فقد جاءته رضي الله
عنه على قدر في وقتها ومحلها ).(3
اعترض بعض الناس على الجماع على خلفة علي فقالوا:
)(4
-أن أهل الشام – معاوية ومن معه – لم يبايعوه بل قاتلوه .
والجواب :أن معاوية – رضي الله عنه – لم يقاتل عليا ً على
الخلفة ولم ينكر إمامته ،وإنما كان يقاتل من أجل إقامة الحد
الشرعي على الذين اشتركوا في قتل عثمان مع ظنه أنه مصيب
في اجتهاده ولكنه كان مخطئا ً في اجتهاده ذلك ،فله أجر الجتهاد
فقط ) ،(5وقد ثبت بالروايات الصحيحة أن خلفه مع علي – رضي
الله عنه – كان في قتل قتلة عثمان ولم ينازعه في الخلفة ،بل
كان يقر له بذلك ،فعن أبي مسلم الخولني أنه جاء وأناس معه،
إلى معاوية وقالوا :أنت تنازع عليّا ،هل أنت مثله؟ فقال :ل والله،
وإني لعلم أنه أفضل مني ،وأحق بالمر منى ،ولكن ألستم
تعلمون أن عثمان قتل مظلومًا،وأنا ابن عمه والطالب بدمه؟
ي قتلة عثمان وأسلم له ،فأتوا عليا ّ فأتوه فقولوا له :فليدفع إل ّ
فكلموه فلم يدفعهم إليه).(6
ويروي ابن كثير من طرق بسنده إلى أبي الدرداء وأبي أمامة –
رضي الله عنهما – أنهما دخل على معاوية فقال له :يا معاوية علم
تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلمًا ،وأقرب
منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحق بهذا المر منك،
()1بيعة علي بن أبي طالب ص .122
()2فتح الباري ).(7/72
()3عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة ).(2/693
()4المصدر نفسه ).(2/695
ص ّ
لبي ص .286 5العواصم من القواصم ص 150علي بن أبي طالب لل ّ
)(
-81-
فقال :أقاتله على دم عثمان ،وإنه آوى قتلته ،فاذهبا إليه فقول
له ،:فليقدنا من قتلة عثمان ،ثم أنا أول من أبايعه من أهل
الشام).(1
والروايات معاوية لعلي – رضي الله عنهما – في الخلفة .ولهذا
نص المحققون من أهل العلم على هذه المسألة وقرروها )،(2
يقول إمام الحرمين الجويني :إن معاوية وإن قاتل عليا ً فإنه ل
ينكر إمامته ،ول يدعيها لنفسه وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظنا ً
منه أنه مصيب وكان مخطئا ً ).(3
وكان أمير المؤمنين علي موافقا ً من حيث المبدأ على وجوب
ى القتصاص القتصاص من قتلة عثمان ،وإنما كان رأيه أن يرج ْ
من هؤلء إلى حين استقرار الوضاع وهدوء المور واجتماع الكلمة
).(4
-3حقيقة الشورى في بيعة علي بن أبي طالب رضي
الله عنه:
إن البيعة للخليفة الرابع علي رضي الله عنه لم تختلف من حيث
مبدأ الشورى عن مثيلتها السابقة بالرغم من الزمة التي ألمت
بالمة ،والحوال ،المدلهمة والمشكلت المتتابعة ،فلم تتم البيعة
على أساس عشائري ،أو أسري ،أو قبلي ،أو على أساس عهد
ووصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولو وجد شيء من
هذا القبيل لما حصل هذا الحوار الطويل ،ولما رفض أمير
المؤمنين ،ولكان أول من يطالب بحقه .بينما كان الناس هم الذين
يدفعونه إلى البيعة دفعا ً ويلحون عليه في الطلب إلحاحًا ،وهو
يروغ منهم متخلصا ً لعله يحدث ما يمنعه من ذلك إلى أن قبل على
كره منه ،ولم يطالبوه بهذا على أساس وصية من رسول الله له –
ولو وجدوا شيئا ً من ذلك لما ترددوا في تنفيذه – ول على أساس
أنه من عبد مناف أو لنه من قريش فحسب ،بل لنه من
السابقين ومن العشرة المبشرين بالجنة ،ولنه الثاني بعد عثمان
في اختيار الناس لهما عند تطبيق عملية الشورى بعد مقتل عمر
بن الخطاب ،فكان عبدالرحمن بن عوف ل يشير عليه أحد بتنصيب
عثمان خليفة بعد عمر إل سأله :ولو لم يكن عثمان موجودا ً فمن
تختار ؟ فيقول :علي رضي الله عنه ).(5
()1البداية والنهاية ).(7/270
ص ّ
لبي ص .186 2علي بن أبي طالب لل ّ
)(
-82-
-4من أقوال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في
الشورى:
كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حريصا ً على
التزام منهج الشورى في تصرفاته وأعماله وقراراته ،فمن ذلك أنه
حينما وصل إليه كتاب من قائده معقل بن قيس الرياحي المكلف
بمحاربة الخريث بن راشد الخارجي جمع أصحابه وقرأ عليهم كتابه
واستشارهم وطلب منهم الرأي حيث اجتمع رأي عامتهم على
قول واحد وهو :نرى أن تكتب إلى معقل بن قيس فيتبع أثر
الفاسق فل يزال في طلبه حتى يقتله أو ينفيه ،فإنا ل نأمن أن
يفسد عليك الناس )(1ومما روي عن أمير المؤمنين علي رضي
الله عنه في الشورى قوله :الستشارة عين الهداية وقد خاطر من
استغنى برأيه ) (2وقوله نعم المؤازرة المشاورة وبئس الستعداد
الستبداد ) (3وقوله :رأي الشيخ خير من مشهد الغلم ) ،(4ومما
أوصى به أمير المؤمنين علي مالك بن الحارث الشتر حين بعثه
إلى مصر في الشورى قوله :ول تدخلن في مشورتك بخيل ً فيعدل
بك عن الفضل ويعدك الفقر ،ول جبانا فيضعفك عن المور ،ول
حريصا ً فيزين لك الشرة بالجور ،فإن البخل والجبن والحرص
غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله ) ،(5وكان علي رضي الله عنه
يعلم أن الحاكم إذا لم يكن له مستشارون فل يعلم محاسن دولته
ول عيوبها وسوف يغيب عنه الكثير في شؤون الدولة وقضايا
الحكم ،وكان يعلم أن الشورى تعرفه ما يجهله ،وتضع أصابعه على
مال يعرفه ،وتزيل شكوكه في كل المور التي يقدم عليها ،فها هو
يقول للشتر النخعي عندما وله مصر :انظر في أمور عمالك
الذين تستعملهم ،فليكن استعمالك إياهم اختيارا ً ول يكن محاباة
ول إيثارًا ،فإن الثرة بالعمال – أي الستبداد بل مشورة –
والمحاباة بها جماع من شعب الجور والخيانة لله ،وإدخال الضرر
على الناس ،وليست تصلح أمور الناس ،ول أمور الولة إل
بالصلح من يستعينون به على أمورهم ،ويختارونه لكفاية ما غاب
غيهم ،فاصطف لولية أعمالك أهل الورع والعفة والسياسة
والصق بدوي التجربة والعقول والحياء من أهل البيوتات الصالحة
وأهل الدين والورع ،فإنهم أكرم أخلقا ً وأشد لنفسهم صونا ً
()1تاريخ الطبري ).(6/39
()2أدب الدنيا والدين للماوردي ص ، 89علي بن أبي طالب ص .225
()3الدارة العسكرية ،آل كمال ).(1/279
()4علي بن أبي طالب ص .225
()5الدارة العسكرية في الدولة السلمية ).(1/279
-83-
وإصلحا ً وأقل في المطامع إسرافًا ،وأحسن في عواقب المور
نظرا ً من غيرهم فليكونوا عمالك وأعوانك ).(1
-84-
عند حديثنا عن بيعة الحسن رضي الله عنه تبرز أمامنا قضية يروج
لها الشيعة المامية بقوة أل وهي قضية النص على خلفممة الحسممن
رضي الله عنه 1وهذا المر يعد من المفتريات ،حيث لم يصح النقل
في ذلك شيئًا.
إن الشيعة يعتقدون أن المامة كالنبوة ل تكون إل بالنص مممن اللممه
عز وجل ,على لسان رسوله صمملى اللممه عليممه وسمملم وأنهمما مثلهمما
لطف من الله عز وجل ,ول يجب أن يخلو عصر مممن العصممور مممن
إمام مفروض الطاعة منصوب من الله تعالى ,وليممس للبشممر حممق
اختيار المام وتعيينه ,بل وليس للمام نفسه حق تعييممن مممن يممأتي
بعده ,وقد وضعوا على لسان أئمتهم عشرات الروايمات فمي ذلمك,
منها مانسبوه إلى المام محمد الباقر رحمه الله أنممه قممال :أتممرون
أن هذا المر إلينا نجعله حيث نشماء؟ ل واللمه مما همو إل عهمد ممن
2
رسول الله رجل فرجل مسمى حتى تنتهي إلى صاحبها
ويعتقد الشيعة المامية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نص
على الئمة من بعممده وعينهممم بأسمممائهم وهممم اثنمما عشممر إمامما ً ل
ينقصون ول يزيدون:
و أساس عقيدة الوصية هو ابن سبأ وكان ينتهي بأمر الوصممية عنممد
علي رضي الله عنه ولكن جاء فيمن بعده من عممها في مجموعة
من أولده وكانت الخليا الشمميعية الماميممة تعمممل بصمممت وسممرية
وكان أئمة أهل البيت ينفون ذلك نفيا ً قاطعًا ,كما فعل جدهم أميممر
المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ,ولممذلك أخممترع أولئك
القوام من الشيعة على أهل البيت الطهار ))عقيدة التقية(( حممتى
يسهل نشر أفكارهم وهم في مأمن من تأثر التبمماع بمواقممف أهممل
3
البيت الصادقة والمعلنة للناس
إن من أخطر المور التي أبتدعها الشيعة الوصية وهممي أن رسممول
الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلفة بعد وفاته مباشممرة إلممى
علي رضي الله عنه أن من سممبقه مغتصممبين لحقممه كممما جمماء فممي
كتابهم ))الكافي(( :من مات ولم يعرف إمامه مات ميتممة جاهليممة,
ولكن الستقراء التاريخي لتاريخ الخلفاء الراشدين ,ل نجد للوصممية
ذكرا ً في خلفة أبي بكر ول في عمر رضي الله عنهما ,وإنما ل نجد
بداية ظهورها في السنوات الخيرة من خلفممة عثمممان رضممي اللممه
عنه ,عند بزوغ قرن الفتنة ,وقد استنكر الصحابة هذا القول ,عندما
وصل إلى أسماعهم ,وبينوا كذبه ,ومن أشهر هممؤلء علممي بممن أبممي
فرق الشيعة النوبختي ص34 1
-85-
طالب ,وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما ,ثم نرى هممذا القممول
يتبلور في فكرة موجهة ,وعقيدة تممدعو إلممى اليمممان بهمما والممدعوة
إليها ,وذلك في خلفة علي رضممي اللممه عنممه ,وهممذه الوصممية الممتي
تدعيها الشيعة فقد أثبت علماؤهم أنها من وضع عبممدالله بممن سممبأ
كما ذكر ذلممك النوبخممتي و الكشممي ,وقممد فصمملت ذلممك فممي كتممابي
)أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بممن طممالب رضممي
الله عنه.1
-86-
-2انه جعلهم مفتشين علممى العمممل ,ورقبماء علممى تصمرفاتهم فممإذا
مااتصل بعلمهم أو بعلم أحدهم أن عامل ً ارتكب ظلمة ,فعليهم أن
يبلغوه وإل فقد استعدى الله على كاتم الحق
ونلحظ كذلك على هذا التدبير قد تضمن أمرين:
-1أن الميممر عمممر بممن عبممدالعزيز لممم يخصممص تعويض ما ً لمجلممس
العشرة لنهم كانوا مممن أصممحاب العطمماء ,وبممما أنهممم فقهمماء ,فممما
ندبهم إليه داخل في صلب اختصاصهم
-2ان عمر افترض -غياب أحدهم عن الحضور لعممذر مممن العممذار
ولهذا لم يشترط في تدبيره حضممورهم كلهمم ,وإنمما قمال :أوبمرأي
1
من حضر منكم
إن هذا المجلــس كــان يستشــار فــي جميــع المــور دون
2
استثناء
ونستنتج من هذه القصة أهمية العلماء الربانيين وعلو مكانتهم وأنه
يجب على صاحب القرار أن يدنيهم ويقربهممم منممه ويشمماورهم فممي
أمور الرعية ,كممما أنممه علممى العلممماء أن يلتفمموا حممول الصممالح مممن
أصحاب القرار من أجل تحقيق أكبر قدر ممكممن للمصممالح وتقليممل
ما يمكن من المفاسد ,كما أن عمر بن عبدالعزيز لممم يختصممر فممي
شواره على هؤلء فحسب ,بممل كممان يستشممير غيرهممم مممن علممماء
المدينة ,كسعيد بن المسيب ,والزهري وغيرهم وكان ليقضي فممي
قضاء حتى يسأل سعيد ,وفي المدينممة أظهممر عمممر بممن عبممدالعزيز
إجلله للعلماء وإكباره لهم.
وقممد حممدث أن أرسممل رحمممه اللممه تعممالى رسممول إلممى سممعيد بممن
المسّيب فأخذ سعيد نعليه وقام إليه في وقته ,فلما رآه عمممر قممال
له :عزمت عليك يا أبا محمد إل رجعت إلمى مجلسمك حمتى سمألك
رسولنا عممن حاجتنمما ,فإنمما لممم نرسممله ليممدعوك ,ولكنممه أخطممأ أنممما
3
أرسلناه ليسألك
وفي إمارته على المدينة المنورة وسع مسممجد رسممول اللممه صمملى
الله عليه بأمر الوليد بن عبدالملك ,حممتى جعلممه مممائتي ذراع ما ً فممي
مائتي ذراع ,ذخرفة بأمر الوليد بن عبد الملك مع أنه م رحمه الله م
كان يكره ذخرفة المساجد ويتضح من موقف عمر بممن العزيممز هنمما
أنه قد يضطر الوالي للتجاوب مع قرارات ممن هو أعلى منه حممتى
وإن كان غير مقتنع بها إذا قدر أن المصمملحة فممي ذلممك مممن وجمموه
أخرى ،وفي إمارته على المدينة في سنه 91هم حج الخليفة الوليممد
نظام الحكم في الشريعة والتاريخ السلمي ).(1/562 1
-87-
بن عبدالملك فاستقبله عمر بن عبدالعزيز أحسن استقبال ,وشاهد
الوليممد بممأم عينيممه الصمملحات العظيمممة الممتي حققهمما عمممر بممن
1
عبدالعزيز في المدينة المنورة
* في خلفته:
كان خطابه عندما تولي الخلفة كالتي :أيها الناس ,إني قد ابتليممت
بهذا المر ,من غير رأي كان مني فيه ول طلبة له ول مشممورة مممن
المسلمين ,واني قد خلعت مافي أعنمماقكم مممن بيعممتي ))فاختمماروا
لنفسممكم(( فصمماح النمماس صمميحة واحممدة ,قممد اخترنمماك يمما أميممر
2
المؤمنين ورضينا بك فول أمرنا باليمن والبركة
وبذلك خرج عمر من مبدا توريث الولية الذي تبنمماه معظممم خلفمماء
بني أمية إلى مبدأ الشورى والنتخمماب ,ولممم يكتممف عمممر باختيمماره
ومبايعة الحاضرين ,بل يهمه رأي المسلمين فممي المصممار الخممرى
ومشورتهم ,فقال في خطبته الولى-عقب تمموليه الخلفممة .. :-وإن
من حولكم من المصار والمدن إن أطمماعوا كممما أطعتممم ,وإن هممم
ل ,ثم نزل.3أبوا فلست لكم بوا ٍ
وقد كتب إلي المصار السلمية فبايعت كلها ,وممن كتب لهم يزيد
بن المهلب يطلب إليه البيعة بعد أن أوضح له إنه في الخلفة ليس
براغب ,فدعا يزيد الناس إلى البيعة فبايعوا 4,وبذلك يتضج أنممه لممم
يكتممف بمشممورة مممن حمموله بممل امتممد المممر إلممى جميممع أمصممار
المسلمين ونستنتج من موقف عمر هذا ما يلي :
أن عمر كشف النقاب عن عدم موافقممة الصممول الشممرعية -1
في تولي معظم الخلفاء المويين.
-2حرص عمر على تطبيق الشورى فممي أمممر يخصممه هممو ,أل وهممو
توليه الخلفة.
م أن من طبق مبدأ الشورى في أمر مثل تولي الخلفة حري 3
بتطبيقه فيما سواه.
وكان عمر يستشير العلماء ,ويطلب نصحهم في كممثير مممن المممور
أمثال سالم بن عبدالله ,ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيمموة
5
ي .كممما كممانوغيرهم ,فقال :إني قد ابتليت بهذا المر فأشيروا عل ّ
يستشير ذوي العقول الراجحة من الرجال 6وقد حرص عمممر علممى
إصلح بطانته لما تولى الخلفة ,فقرب إلى مجلسه العلممماء وأهممل
موسوعة عمر بن عبدالعزيز ص.20 1
-88-
الصلح ,وأقصى عنه أهل المصالح الدنيوية والمنافع الخاصممة ,ولممم
يكتف رحمه الله بانتفاء بطانته ,بل كان زيادة علممى ذلممك يوصمميهم
ويحثهم على تقويمه ,فقال لعمر بن مهمماجر :اذا رأيتنممي قممد ملممت
عن الحق فضع يمدك فمي تلبمابي ثمم هزنمي ثمم قمل :يما عممر مما
تصنع1؟ ,وقد كان لهذا المسلك أثر في تصحيح سياسممته التجديديممة
ونجاحهمما ,حيممث كممان لبطممانته أثممر فممي شممد أزره ,وسممداد رأيممه
وصواب قراره ,2فمن أسمباب نجماح عممر بمن عبمد العزيمز تقريبمه
لهل العلم والصلح وانشراح صدره لهم ومشاركتهم معممه لتحمممل
3
المسؤلية فنتج عن ذلك حصول الخير العميم للسلم والمسلمين
-89-
تحققت في دولة نور الدين محمممود آثممار تحكيممم شممرع اللممه ,مممن
التمكين والمن والستقرار والنصر والفتح المبين والعممز والشممرف
وبركة العيش ورغد الحيمماة فممي عهممده وانتشممار الفضممائل وانممزواء
الرذائل .
وكان نور الدين محمود قدوة في عدله ,أسر القلوب وبهر العقول
,فقد كانت سياسته تقوم على العدل الشممامل بيممن النمماس ,وقممد
نجح في ذلك على صعيد الواقع والتطبيق نجاح ما َ منقطممع النظيممر ,
حتى اقترن اسمه بالعدل وسمي بالملك العادل ,وكان من أسباب
نصر الله لهذا الملك العادل على الباطنية والصليبيين اقامته للعدل
فممي الرعيممة وايصممال الحقمموق الممى أهلهمما ,فالعممدل فممي الرعيممة
وانصمماف المظلمموم يبعممث فممي المممة العممزة والكرامممة ويولممد جيل َ
محاربا وأمة تحررت ارادتها بدفع الظلم عنها ,وقممد سممجل التاريممخ
بأن نور الدين محمود ساد العدل فممي دولتممه ,وتممم ايصممال حقمموق
الناس اليهم فنشطوا الممى الجهمماد والممدفاع عممن دينهممم وعقيممدتهم
وأوطانهم وأعراضهم ومن أبرز أعممماله التجديديممة اقممامته للعممدل ,
وقد أولى نور الدين المؤسسة القضائية اهتماما َ كبيرا َ وجعلها قمممة
أجهزته الداريممة وخممول القضمماة علممى اختلف درجمماتهم فممي سمملم
المناصب القضائية صلحيات واسعة ,ان لم نقل مطلقممة ومنحهممم
استقلل َ تاما َ ,لكونهم الداة التنفيذية لقرار مبادى الحق والعممدل ,
وتحويل قيم الشريعة ومبادائها الى واقع ملتزم ,وتمموجت جهمموده
بٍانشاء دار العدل التي كممانت بمثابممة محكمممة عليمما لمحاسممبة كبممار
الموظفين ,وٍارغامهم علممى سمملوك المحجممة البيضمماء ,أو طردهممم
واستبدالهم بغيرهم إن اقتضي المر ولم يترك نور الممدين فممي بلممد
مممن بلده ضممريبة ولمكس ما ً ولعشممرا ً إلورفعهمما جميعهمما مممن بلد
الشام والجزيرة وديار مصر وغيرها مما كممان تحممت حكمممه وكممانت
النتيجممة الطبيعيممة لممذلك أن نشممط النمماس للعمممل ,فممأخرج التجممار
أموالهم ومضوا يتاجرون ,وجاءت الجبايمات الشمرعية بأضمعاف مما
كان يجبى ممن وجموه الحمرام ,يقمول ابمن خلمدون :العمدوان علمى
الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه
حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم ,وإذا ذهبت آمالهم
في اكتسابها وتحصيلها ,وانقبضت أيممديهم عممن السممعي فممي ذلممك,
وعلى قدر العتداء ونسبته ,يكون انقباض أيممديهم عممن المكاسممب,
كسدت أسواق العمران وانتقصت الحوال ,ويقول :العممدوان علممى
-90-
الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم يفضي
إلى الخلل والفساد دفعة ,وتنتقض الدولة سريعا ً.1
اهتم الملك العادل نور الدين محمود زنكي بالشورى ,فقد رأى
أهميتها في حيوية المة وأمنها واستقرارها والهم من ذلك كله أن
الله أنزل فيها سورة في القرآن الكريم حملت اسمها ,وهو مبدأ
أرشد إليه القرآن الكريم ,وهو يمثل أرقى أشكال التعاون قال
َ َ
شوَرىم ُ مُره ُْ صَلة َ وأ ْموا ال ّ م وَأَقا ُ جاُبوا ل َِرب ّهِ ْست َ َنا ْ ذي َ تعالىَ " :وال ّ ِ
ن " )الشورى ,آية.(38 : قو َ م ُينفِ ُ ما َرَزقَْناهُ ْ م ّ م وَ ِب َي ْن َهُ ْ
كما أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشاورة
م ِفيشاوِْرهُ ْ أصحابه بشكل ل يقبل التأويل في قوله تعالى " وَ َ
َ
ن " ) ال مت َوَك ِّلي َ ب ال ْ ُ
ح ّ ن الل ّ َ
ه يُ ِ ل ع ََلى الل ّهِ إ ِ ّ ت فَت َوَك ّ ْ
م َ ذا ع ََز ْ مرِ فَإ ِ َ
ال ْ
عمران ,اية.(159 :
قال الشاعر:
وكان نور الدين زنكي يممرى أن الشممورى واجبممة علممى الحمماكم فممي
الشممريعة السمملمية ,وإلممى هممذا القممول ذهممب كممثير مممن العلممماء
والفقهاء ,فل يحل للحاكم أن يتركها ,وأن ينفرد برأيه دون مشممورة
المسمملمين مممن أهممل الشممورى ,كممما ل يحممل للمممة السمملمية أن
تسكت على ذلك ,وأن تتركه ينفممرد بممالرأي دونهمما ويسممتبد بممالمر
دون أن يشركها 3فيه فالمة لتنهض ٍال ٍاذا أخممذت بفقممه النهمموض ,
- 1الدولة الزنكية للصلبي ص .636 , 635
- 2فقة النصر والتمكين في القرآن الكريم الدولة.
-23الزنكية ص 254للصلبي..
-91-
والذي منه ممارسة الشورى في نطاقهمما الواسممع ,ولقممد اعتمممدها
نور الدين محمود ولم ينفرد باتخاذ القممرارات بممل تبممادل الراء فممي
كل أمور الدولة ,فكان له مجلس فقهاء يتألف مممن ممثلممي سممائر
المذاهب وأهل الختصاص في شؤون الحياة يبحث معهم في أمور
الدارة والنوازل والميزانية وثمة وثيقة قيمة يثبتها أبو شامة بنصممها
عن احممدى المحاضممر الممتي دونممت بصممدد عممدد مممن قضممايا الوقممف
والملك ,كانت قد أدخلت ضمن أوقاف الجممامع الممموي بدمشممق
وسعى نور الدين ,الى فصلها واعادتها الى قطمماع المنممافع العامممة
وبخاصممة مسممائل الممدفاع والمممن ,وقممد تمثلممت فممي تلممك الوثيقممة
بوضوح الرغبممة الجممادة لممدى نممور الممدين السمملوب الشمموري الحممر
باعتباره الطريق الذي ل طريق غيممره للوصممول الممى الحق ,1ففممي
تاسع عشر صفر سنة أربع وخمسين وخمسمائة أحضر نممور الممدين
أعيان دمشق من القضاة ومشايخ العلم والرؤساء ,2وسممألهم عممن
المضاف الى أوقاف الجامع بدمشق من المصالح ليفصلوها منهمما ,
وقال لهم :ليس العمل ال ماتتفقون عليه وتشهدون به ,وعلى هذا
كان الصحابة رضوان الله عليهم يجتمعون ويتشاورون في مصممالح
المسلمين ,وليجوز لحد منكم أن يعلم من ذلك شمميئا َ ال ويممذكره
ولينكر شيئا َ مما يقوله غيره ال وينكره ,والسمماكت منكممم مصممدق
للناطق ومصوب له ,فشكروه على ما قال ودعوا له ,وفصلوا لممه
المصالح من الوقف ,فقال نور الدين :ان أهم المصالح سممد ثغممور
المسلمين وبناء السور المحيط بدمشق والفضيل والخندق لصمميانة
المسلمين وحريمهم وأموالهم ثم سألهم عن فواضل الوقاف هممل
يجوز صرفها في عمارة السوار وعمل الخندق للمصلحة المتوجهة
للمسلمين ,3فأفتى شرف الدين الممالكي بجمواز ذلمك ومنهمم ممن
رّوى في مهلة النظر ,وقال الشيخ ابن عصرون الشافعي :ل يجوز
أن يصرف وقف مسجد الى غيره ,ول وقف معين الممى جهممة غيممر
تلك الجهة وإذا لم يكن بد من ذلممك فليممس طريقممه إل أن يقترضممه
من إليه الممر ممن بيمت ممال المسملمين فيصمرفه فمي المصمالح
ويكون القضاء واجبا َ من بيممت المممال ,فمموافقه الئمممة الحاضممرون
معه على ذلك ,ثم سأل ابن ابي عصممرون نممور الممدين :هممل أنفممق
شئ قبل اليوم على سور دمشق وعلممى بنمماء ))بعممض(( العمممارات
المتعلقة بالجامع المعمممور بغيممر إذن مولنما ؟ وهممل كممان إل مبلغما َ
-92-
للمر في عمل ذلك ؟ فقال نور الدين لم ينفق ذلك ولشئ منه إل
بإذني وأنا أمرت به.1
-2مجالس متخصصة:
وقد بين ابن الثير رواية أخممرى تحممدث فيهمما عممن قيممام نمور الممدين
باستحضار عدد من الفقهاء واستفتائهم في أخذ ما يح م ّ
ل لهممم مممن
الغنيمة ,ومن الموال المرصده لمصالح المسلمين ,فأخذ ما أفتوه
ده إلى غيره البتة 5فممما يصممدر عممن ممثلممي الشممريعة بحّله ولم يتع ّ
الغراء يتوجب أن يكون ملزما ً لكل إنسان سواء كان في القمممة أم
في القاعدة ,وقولهم هو قول الفصل ,لن نور الدين – ما كان يريد
أن يمارس الستشارات القانونية المزدوجة يبرز للناس أنه ليقممدم
علممى عمممل إل بعممد الطلع علممى رأي قممادة فكرهممم ومشممّرعي
قوانينهم ,ويسعى في الخفاء إلى تنفيذ ما كان قد اعتزمه مسممبقًا,
مهممما كممانت درجممة تناقضممه مممع طروحممات اللجممان الستشممارية
-المصدر نفسه ص .82 1
-93-
والتشريعية والبرلمانية التي ستكون بمثابة الممرداء الخممارجي الممذي
يحمي فمي داخلمه مضمامين وممارسمات ل تمتممد إلمى لمون المرداء
ونسيجه في شئ ,1وكان يكاتب العلماء للستشارة ,فقد ذكممر ابممن
الجوزي أن نور الدين كاتبه مرارًا ,وكان نور الممدين يسممأل العلممماء
والفقهمماء عممما ُيشممكل عليممه مممن المممور الغامضممة وكممان يقممول
لمستشاريه من العلماء والفقهاء :بالله انظروا أي شيء علمتممموه
ونا عليه ,وأشركونا في الثممواب ,فقممال لممه من أبواب البر والخير دل ّ
شرف الدين بن أبممي عصممرون :واللممه مما تممرك المممولى شمميئا ً مممن
أبواب البر إل وقد فعله ولممم يممترك لحممد بعممده فعممل خيممر إل وقممد
سبقه إليه 2لقممد مممارس الملممك العممادل نممور الممدين محمممود زنكممي
الشورى على أسس صحيحة في دولته وكانت له مجممالس شممورية
يلتقي فيها القممادة العسممكريون والداريممون مممع العلممماء والفقهمماء,
فكل حاكم يريد لحكمه أن يستمر ولنظام دولته أن يستقر عليه أن
يكون حريصا ً على اللمام بحقيقممة الوضمماع ببلده ,والشممورى خيممر
سبيل لتحقيق هذه الغاية.
ومممع تطممور أمممور الحيمماة لغنممى لمممه تريممد أن تنهممض عممن مبممدأ
الشممورى ,ول مممانع مممن ضممبط ممارسممة الشممورى وفممق نظممام أو
منشور أو قانون يعرف فيه ولي المر حممدود ممما ينبغممي أن يشمماور
فيه ومتى وكيممف؟ وتعممرف المممة حممدود ممما تستشممار فيممه ومممتى؟
وكيف؟ لن الشكل الذي تتم به الشورى ليس مصممبوبا ً فممي قممالب
حديدي 3,فأشممكال الشممورى وأسمماليب تطبيقهمما ووسممائل تحقيقهمما
وإجراءاتها ليست من قبيل العقائد وليست من القواعممد الشممرعية
المحكمممة الممتي يجممب التزامهمما بصممورة واحممدة فممي كممل العصممور
والزمنة ,وإنما هي متروكة للتحري والجتهاد والبحث والختيار ,أما
أصل الشورى فإنه من قبيل المحكم الثابت الممذي ل يجمموز تجمماهله
أو إهممماله لن الشممورى فممي جميممع الزمنممة مفيممدة ومجديممة,
والدكتاتوريممة أو حكممم الفممرد فممي جميممع المكنممة والزمنممة كريهممة
ومخربة.4
لبي ص .257 ص ّ
الدولة الزنكية لل ّ
4
-94-
المبحث الثاني :فوائد الشورى وأحكامها ومجالتها.
ل :فوائد الشورى: أو ً
إن التعريممف الصممطلحي للشممورى :رجمموع الحمماكم أو القاضممي أو
آحاد المكلفين في أمر لممم ُيسمَتبن حكمممه بنممص قرآنممي أو سممنة أو
ثبوت إجماع إلى من ُيرجى منهم معرفتممه بالممدلئل الجتهاديممة مممن
العلماء المجتهدين ومن قد ينضم إليهم في ذلك من أولممي الدرايممة
والختصاص.1
وهكذا فإن الشورى في الصطلح الذي يقضي بممه السمملم يمكممن
أن تتسممع لُتعب ّممر عممن :اسممتخلص الممرأي الجممامع مممن خلل الحمموار
الجامع ,وهذا هو مطلوب الشورى ,فإن لم يكممن رأي جممامع فممرأي
راجح لدى استصدار القرار ,ممما ينعقمد عليمه العممل الجمامع لمدى
التطبيق والتنفيذ.2
ومن فوائد الخذ بالشورى أمور كثيرة منها:
-1إصابة الحق في الغالب ,فإن الراء إذا عرضت بحريممة تامممة
ل بحجته ,وكانت النية صحيحة والهممدف هممو الوصممول إلممى وأدلى ك ّ
الحق ,وقدمت المصلحة العامة ,وتجممرد المتشمماورون عممن الهممواء
والدوافع السيئة مع التوكل علممى اللممه تعممالى فل أشممك أن النتممائج
تكون سليمة والعواقب حميدة والتسديد والتوفيق يتنمزل ممن اللمه
تعالى ,وهذا واضح فيما وقع في عهد الصحابة رضوان الله عليهم.3
-2أن العمل بالشورى قربة وطاعة لله عــز وجــل ,ففيممه
اجتماع الرأي في تحصمميل الخيممر ,وتهممذيب رأي صمماحب المممر مممع
المتثال لمر الله سبحانه وتعالى ,ومما ورد في شأن ذلك ما قاله:
بشار بن برد:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
4
بحزم نصيح أو نصيحة حازم
ـ من أعظم فوائد الشــورى تلقــح الفكــار ,وتكامممل 3
الثقة ,وتبادل الخبرة والطلع علممى ممما عنممد الخريممن ,والسممتفادة
من الخبرات المتنوعة وبعبارة أخممرى حصممول التكامممل بيممن أفممراد
المجتمع.5
-95-
-4الشورى تعطي قوة للمجتمع في أكثر من مجال إنساني
فعلى سبيل المجال النفسي ,فممأن الشممورى طريممق للتخلممص مممن
الظواهر المرضية غيمر الصممحية ,مثمل قلممة الخلص وضممعف الداء
الوظيفي ,وإهدار الطاقات المفيدة.
يقول الشعبي :الرجال ثلثممة ,فرجممل ونصممف رجممل ولشمميء فأممما
الرجل التممام ,فالممذي لممه رأي وهممو يستشممير ,وأممما نصممف الرجممل,
فالذي ليس له رأي ,وهو يستشير وأما الذي ل شيء ،فالذي ليس
له رأي ،ول يستشير. 1
-5الشــورى تشــعر المشــاركين بالمســؤولية وأنهممم مممع
المسؤول يسعون إلى تحقيق المصالح العامة ,ودرء المفاسممد فممي
عملية تكاملية.
-6الشــورى تولــد الثقــة بيــن الحــاكم والمحكــوم وتطيممب
القلوب ,وتجعل من رأي الخليفة أو الحمماكم رأى جميممع المسمملمين
بعد التشاور.
-7في الشورى وقاية من الستبداد وتزود الدولة بالكفاءات
والقدرات المتميزة وبها تنحصر عيوب التفرد بالقرار.2
-8تضيق هوة الخلف بيــن الراعــي ورعيتــه الخلف جممائز
الوقمموع ,ولكممل واحممد قنمماعته ,ولكممن مممع مناقشممة الراء وتممداولها
وظهور الحق يرجع بعض المخالفين عن رأيممه وينصمماع إلممى الحممق,
وتتقارب وجهات النظر ويعممذر بعضممهم بعضمًا ,ويتعمماونون علممى ممما
3
اتفقوا عليه ,ويتنممازل البعممض ويقضممي علممى وسمماوس الشمميطان,
وتتممآلف القلمموب ويتوحممد الممرأي العممام وتضممعف حممدة الخصمموم
والمنافسين.4
-9الشورى تفجــر الطاقــات الكامنــة فــي أفــراد المــة,
وتشجع ذوي الخبرات وتفسح المجال لكل من لديه خيممر للمممة أن
يدلي برأيه وهو آمممن فممإن قبممل فممذاك ,وإن رد فقممد أدى ممما عليممه
وأعذر ول تمس كرامته ول ينال منه.5
ول غنى لولي المر عن المشاورة ,فإن الله أمر بها نبيه صلى الله
عليه وسلم وليقتدي به من بعده وليستخرج منهم الممرأي فيممما لممم
ينزل فيه وحي من أمر الحرب والمور الجزئية وغيممر ذلممك ,فغيممره
صلى الله عليه وسلم أولى بالمشاورة.6
سنن البهمقي الكبرى ,ك آواب القاضي ).(10/188 1
-96-
وينبني على هذه الشورى ,طاعة المة للحاكم فيما يصدر عنه مممن
القرارات تهم الصالح العام.1
والشممورى مممن قواعممد الحكممم فممي السمملم وصممفة مممن صممفات
المؤمنين سمواء الحماكم أو المحكموم فقمد وصمف اللمه الممؤمنين
بقوله" :وأمرهم شورى بينهم" وبهمذا ينقممص اليممان عنمد الراعممي
لعدم امتثاله "وشاورهم في المر" وعنممد الرعيممة كممذلك ,كممما فممي
تركهمما مجافمماة للسممنة والطريقممة الممتي سممار عليهمما أفضممل الخلممق
والخلفاء الراشدين وأصممحابه الميممامين والقممادة الفمماتحين ,وكبممار
المصلحين والعلماء الراسخين والدعاة المخلصين.
10ـ مكافحه نزعات التطرف والعنف:
أن محصمملة الجتهمماد الجممماعي تقممود إلممى قممرارات معتدلممة فممي
الغالب ,فالتشدد ل يصدر إل من أفممراد ذوي دوافممع ومنممازع وعقممد
تحممدوهم وتنممزع بهممم إلممى اتخمماذ قممرارات متطرفممة أو متعسممفة أو
مفارقة لخطة الحكمة والحسنى ,ولكن تبممادل الراء الصممادرة مممن
أفممراد كممثر وأصممحاب دوافممع متباينممة يتجممه بممالقرار إلممى العتممدال
والواقعيممة فممي إطممار ))فممن الممكممن والمفيممد(( هممذا إذا لممم يصممل
بالناس إلى غاية المراد ,كما تفسح الشورى مجال خصبا لمناقشممة
آراء أهل التطرف والعنف الذيين يتصممورون دائمما ً أن آراءهممم هممي
الراء النهاية فممي الموضموع ,أي موضمموع ,ويعزفممون بطبعهممم عممن
التعرف على آراء الخرين 2,ولكن بجّر هؤلء إلى مجالت الشورى
ومشاركة الخرين لهممم فممي الممرأي تتضممح لهممم القيمممة المرجوحممة
لفكارهم التي يقدسونها ،ولممذلك فممإن الشممورى هممي أجممدى علج
لحماقات التطرف وشططه فيجب إعطاء ))الكل(( متنفسا ً لبممداء
الفكر والرأي ,حممتى يختفممي التشممنج والشممعور بالحرمممان والكبممت
والضطهاد ولذا يحسن البحث عن هذه الطائفممة مممن النمماس علممى
الدوام وإعطاؤها حق القول مهما كان معيبًا ,فممإخراج آرائهممم إلممى
الضوء هو المقدمة الولممى لدحضممها وهزيمتهمما ,فإنهمما ل تعيممش ول
تنتعش إل في سراديب الظلم.3
-11تسديد النظر إلى المشكلة من زوايا متباينة:
إن إخضاع أي مشكلة للتداول الشوري الحر يمك ّممن أهممل الشممورى
من رؤيتها من زوايمما واتجاهممات متباينممة متقاطعممة ,وبممذلك تنضمماف
م وتتكامممل قممدر المكممان, الرؤى الجزئية بعضها إلى بعممض ,وتتضمما ّ
ل مرئي للجميع ثم تتنسق وتتوحد محاولت التحليل وتتشكل في ك ُ ّ
الشورى د .سامي ص .53 1
-97-
والتشممخيص والسممهامات فممي اقممتراح الحلممول ول يتمماح ذلممك إل
للجماعممة المتوحممدة لن العقممل الواحممد مهممما كممان كممبيرا ً نافممذا ً ل
م بجميع المعلومممات المتعلقممة بكممل المشمماكل الممتي يستطيع أن ُيل ّ
يتعرض لها ,ويفهمها ,ويحللها ويشخصها ,ويقترح الحلممول المجديممة
في شأنها.
ولعمل همذا مما عمبر عنمه بلغمة مختلفمة الخليفمة الراشمد عممر بمن
الخطمماب ,رضممي اللممه عنممه ,إذا قممال :الممرأي كممالخيط السممحيل,
والرأيان كالخيطين المبرمين والثلثة مرار ول يكاد ينتقض.1
وأورد المام الماوردي في هذا المعنى قوله :لم يزل أهممل العقممول
يفزعممون إلممى الشمورى فممي كممل ممايقع بينهممم ,ويمممدحون فمماعله,
ويذمون المسممتبد برايممه ,والمرتكممب لهمموائه ,وقممد قممال فيممه أحممد
الشعراء:
خليلي ليس الرأي في صدر واحد ٍ
2
ي اليوم ما تريان أشيرا عل ّ
وقال ابن قتيبة :وقرأت في كتمماب للهنممد أن ملك ما ً استشممار وزراء
له ,فقال أحدهم :الملك الحازم يممزداد بممرأي المموزراء الحزمممة كممما
يزداد البحر بموارده من النهمار ,وينمال بمالحزم والممرأي ممال ينماله
بالقوة والجنود ,والمستشير وإن كان أفضل رأيا من المشير ,فممإنه
يزداد برأيه رأيا كما تزداد النار بالسليط ضوءا ً.3
-12تكامل المعرفة النظرية والعملية:
سمه بمالواقع المعماش، في أحيان كثيرة يأتي امتيماز المرأي ممن تما ّ
ويتفوق بتلممك الميممزة علممى الممرأي النظممري ،وإن كممان هممذا الخيممر
صحيحا ً في إطاره النظري ،وحين يكتمل هممذان الجانبممان الركينممان
للعلم :الجممانب النظممري والجممانب العملممي ،أو جممانب فقممه الوراق
وفقه الواقممع ،يممأتي القممرار أصمموب ممما يكممون ،وهنالممك مممن أخبممار
الشورى في تاريخ الحضارة السلمية الكثيرة مما يكشمف عممن أن
تكامل هذين الجانبين كان من أهممم عوامممل اتخمماذ القممرار الصممحيح
منها م على سبيل المثال م ما يرويممه القلقشممندي عممن واقعممة غممزو
المسلمين لصقلية فيقول :ان أحد أمرائها التجأ إلمى دولمة الغالبمة
بتونس ،وطلب منهم العون لرفع الحيف الذي لحق بممه مممن أمممراء
آخرين ببلده ،وجمع أمير بني الغلب المسمى زيممادة اللممه مجلممس
شوراه من فقهاء القيروان وقضاتها وأعيانهمما وبحثمموا المممر ملي ما ً،4
-98-
ومال بعض أهل الفقه بمن فيهم المام سحنون إلى عدم مهاجمممة
صقلية لبعدها ولن بينها وبين المسلمين هدنممة وعهممدًا ،بينممما مممال
آخرون من أهل القضاء وفيهم القاضي أسد بن الفرات لستقصمماء
الواقع ،كما هو شأن القضمماة دائم مًا ،فممأمر باسممتدعاء بعممض رسممل
الصممقليين واسممتنطقهم إن كمان لممدى حكومممة صممقلية أسممرى مممن
المسلمين فممأقروا بممذلك،فاتخممذت تلممك حجممة علممى الصممقليين لن
شممروط الهدنممة نصممت علممى أن تمكممن حكومممة صممقلية أسممرى
المسلمين من الرجمموع إلممى بلدهممم إن أرادوا ،فاتخممذ حينهمما قممرار
الغزو.1
فهذا يممدل علممى الشممورى هممي الممتي مهممدت إلممى القممرار الصمموب
بجمعها بيممن الفقهيممن النظممري والعملممي علممى صممعيد واحممد ،وهممذا
مجرد مثال من أمثلة كثيرة لتفعيل الشورى في فقه الممرأي وفقممه
الواقع معا ً في تاريخ حضارتنا السلمية التليدة.2
13ـ تجاوز الخطوب التي تشل التفكير الفردي:
وتتجلى فضائل الشورى في وقت الخطوب والكممروب الممتي تلحممق
بالمم ،وتكاد تعصف بهمما عصممفا ً فيقممف النمماس منهمما ثلث مواقممف
متباينة ،فمممن النمماس مممن يهزمهممم الخمموف ويشممل قممدراتهم علممى
التفكير والتحليل واتخاذ القرار ،إي قرار ،ومنهم مممن يممثير الخمموف
مشمماعرهم باتجمماه التحممدي وإثبممات الممذات والنممدفاع الهمموج فممي
المواجهة ،فيميلون إلى اتخاذ الحلممول القصموى فممي ذلممك التجمماه،
ومنهم من يدعوهم الخوف إلى التراجع والتهادن وربما الستسمملم
فيقبلون بالدنية من دينهم ودنياهم معًا.
فهذه أصناف ثلث من المواقف تجلب خلل الرأي وتقود إلى أسوأ
العواقب ،ولكن اجتماع الناس بمختلف توجهاتهم على صعيد واحممد
في أوقات المحن والدواهي يؤدي إلى تعممادل المواقممف والوصممول
إلى الرأي الصوب قدر المكان.3
هذه من أهم فوائد الشورى التي ذكرها العلماء.
ثانيًا :حكم الشورى:
هناك اختلف بين العلماء والباحثين حممول الممرأي الفقهممي المتعلممق
بحكم الشورى ،هل هي واجبة أم منممدوب إليهمما ،وأغلممب الظممن أن
الحكم يتأرجح ما بين الوجوب والندب.4
-99-
1ـ ـ مــن رأى بوجــوب الشــورى وفرضــيتها ،وهممم جمهممور
الفقهاء ،منهم الحنفيممة والمالكيممة ،والقممول الصممحيح مممن المممذهب
الشافعي ،وينسب هذا القول أيضا ً للّنوويّ وابن عطية وابممن خممويز
منداد والرازي ،وبعممض المعاصممرين كأمثممال محمممد عبممده ,محمممد
شلتوت و محمد أبو زهرة وعبد الوهاب خلف و عبد القادر عممودة,
نظرا ً للنصوص الشرعية الواردة في هذا الشأن ,وعلي ولي المممر
العمل بالشورى وما يصدر عنها من نتائج ورؤى ,ويممأثم إذا أعممرض
عنها ,وترك العمل بها ,بل يرى ابن عطية 541هم أن :الشورى من
قواعد السلم وعزائم الحكام ,من ل يستشير أهل العلممم والممدين
ر َ فعزله واجب 1و الدلة على ذلك قوله تعالى " :وَ َ
م ِم ِفي ال ْشاوِْرهُ ْ
" )ال عمران ,اية (159 :ولن الصوليين يقولممون أن صمميغة المممر
تشير إلممى الوجمموب مممالم تصممرفه قرينممة ,2ول قرينممة صمارفة عممن
الوجوب .و ظاهر المر يدل على الوجوب ,وإنما أمممر اللممه تعممالى
نبيه بالمشاورة ليقتدي به المسمملمون ,فل غنممى لممولي المممر علممى
المشاورة ,فإن الله تعالى أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم.3
ومن الحاديث ما يشير إلى وجوب الشورى في حيمماة المسمملمين,
ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه ,أنه قال :ما رأيت أحدا ً أكثر
مشاورة لصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.4
ى
وكان من عممادته 5صمملى اللمه عليمه وسملم أن يقمول :أشمميروا علم ّ
معشر المسلمين ,والشورى في السلم نص قماطع ل يمدع للممة
المسلمة شكا ً في أن الشورى مبدأ أساسي ,ل يقوم نظام السلم
على أساس سواه.6
إن الشورى من لمموازم اليمممان ,حيممث جعلهمما صممفة مممن الصممفات
اللصممقة بممالمؤمنين المميممزة لهممم عممن غيرهممم ,فل يكمممل إيمممان
المسلمين إل بوجود صفة الشورى فيهم ,ول يجوز لجماعة مسلمة
أن تقيم أو ترضى إقامة أمرها على غير الشورى ,و إل كانت آثمممة
مضيعة لمر الله.7
2ـ من رأى الندب في الشورى؟ وينسممب هممذا القممول لقتممادة
شافعي والّربيع وابن حزم وابن القيم ,ورجحه ابممن وابن إسحاق وال ّ
حجممر ,وقممد ورد هممذا ضمممن كلم بعممض السمملف وقياس ما ً علممى أن
الرسممول صمملى اللممه عليممه وسمملم لممم تجممب عليممه الشممورى أو
الجامع لحكام القرآن للقرطي )(4/249 1
-100-
المشاورة وبالتالي يقاس عليه وضممع الخليفممة المسمملم ,إذ ل تجممب
عليه المشاورة ,لن السلطات الدينية والسياسية من صلحياته لممه
أن يتولها بنفسه أو أن يفوض فيها البعض باختياره ,من دون إلزام
أو فرض عليه.
-3الراجح:
أن الشورى واجبممة بممالنظر إلممى طبيعممة الحكممم فممي السمملم ,وأن
قواعد السياسة الشرعية تستلزم عدم النفراد بالرأي ,لسيما في
ى
صممل ّ
أمور المسلمين العامة ,أما ربط مقام الخليفة بمقممام النممبي َ
الله عليه وسلم ,فالظاهر أنه ربط فممي غيممر موضممعه ,إذ أن مقممام
ى الله عليه وسمملم أوجممه وأحكممم مممن مقممام الخليفممة, الرسول صل ّ
فالرسول كان يجمع أكثر من وظيفة دينيممة ودنيويممة فممي آن واحممد,
وليس من العجيب أن يكون الرسول :صلى الله عليممه وسمملم فممي
بعض المواضمميع مسممتغنيا عممن آراء النمماس وأحكممامهم نظممرا ً لقمموة
المصدر الذي يعود إليه ,وهو الوحي ,وفي مسائل الدنيا ,كممان مممن
عادته صلى الله عليه وسلم التشاور مممع أصممحابه ,وهممذا واضممح بل
منازع
أما الخليفة – والحماكم – فهمو غالبما ً مما يشمكل رممزا ً لهمذه الممة,
وسلطاته تعود بالساس إلى المممة بعمومهمما ,وسمملطانها العممام - ,
والحاكم -يستمد سمملطانه مممن المممة ل مممن ذاتممه ولعممل المصمملحة
الشرعية التي تعود بالشورى والمشاورة أكثر من تلك الممتي تؤخممذ
من النفراد والتحكم بالرأي ,ولغنممى لممولي المممر عممن المشمماورة,
ى اللممه عليممه وسمّلم ,فقممال تعممالى .. فممإن اللممه أمممر بهمما نممبيه صممل ّ
"وشاورهم في المر" وقممد قيممل :إن أمممر بهمما نممبيه لتممأليف قلمموب
أصحابه ,وليقتدي به من بعده وليستخرج بها منهم الرأي فيما ينزل
فيه وحي من أمر الحروب ,والمور الجزئية ,وغير ذلك ,فغير صلى
1
الله عليه وسلم )) أولى بالمشورة ((
فإذا كانت الشورى في حممق رسممول )) ص مّلى اللممه عليممه وسمملم((
المعصوم الذي يوحى إليه ,فهو شأن سممائر أئمممة المسمملمين مممن
باب أولى.2
ثم إن الشورى واجبة بناء علممى قواعممد ودللت اللفمماظ فممي علممم
ممرِ " )آل َ أصول الفقه ,ففي قول اللممه تعممالى" :وَ َ
م فِممي ال ْ
شمماوِْرهُ ْ
عمران ,أية , (195 :لفظة )) وشمماورهم (( تشممير إلممى الوجمموب،
-101-
لن حقيقممة المممر عنممد الصمموليين تنصممرف إلممى الوجمموب ممما لممم
تصرفها قرينة.1
وليس في القرآن أو السنة ممما يشممير خلف ذلممك ,فمممن الممدللت
القرآنية إلى الحاديث النبوية ما يشممير إلممى الوجمموب والعمممل بهمما
ومنها ما يشير إلى الندب والمممدح للعمماملين بهمما ,وهممذه الخيممرة ل
تخالف الولى في الحكم ,بل تعززها وبالتالي الذي نذهب إليممه أن
الشورى كحكم شرعي واجبة لسيما وأنها كنظممام إنسمماني أو آليممة
حكم واجبة بوجوب موضوعها ابتداًء وإنتهاًء.2
ثالثًا :الشورى المعلمة والشورى الملزمة:
ل ريب أن هناك تسليما ً تاما ً بأهمية الشورى ومحوريتها في النظام
السياسمممي السممملمي ،لكمممن تختلمممف آراء الفقهممماء والمفكريمممن
السلميين حول ما يتبع الرأي الشوري من نتائج أي مممدى إعلميممة
تلك النتائج وإلزاميتها للحاكم أو بمعنى آخر :هممل يجمموز للحمماكم أن
يستمع إلى آراء أعضاء مجلس الشورى ثم يرفض ما أجمعوا عليممه
أو اتفقوا عليه بالغلبية البسيطة أو العظمى ,أم أنممه ملممزم بقبممول
ذلك الرأي ولو اختلف مع رأيه الخاص.3
والذي أميل إليه وينسجم مع فطرتي ,وممموازين عقلممي ,ومحاكمممة
قلبي ,وأعتقممد أن الدلممة الشممرعية تؤيمده هممو أن الشمورى ملزممة
للحاكم ,لئن ذلك يمنعه مممن السممتبداد وفممي قصممة الشممورى خلل
غزوة الخندق و عرضه صمملى اللممه عليممه وسمملم مصممالحة غطفممان
على ثلث المدينة ,واعتراض زعماء النصار عليممه وقبممول الرسممول
صلى الله عليه وسلم العتراض تممدلنا هممذه الحادثممة علممى إلزاميممة
الشورى للحاكم و تضع تقليدا ً دستوريا ً هاممًا ,وهممو أن الحمماكم ولممو
كان رسول ً معصوما ً يجممب عليممه أل يسممتبد بممأمر المسمملمين ول أن
يقطع برأي في شأن هام ,ول أن يعقممد معاهممدة تلممزم المسمملمين
بأي إلتزام دون مشورتهم وأخذ أرائهم ,فإن فعممل كممان للمممة حممق
إلغاء كل ما استبد به من دونهم ,و تمزيق كل معاهدة لم يكن لهم
فيهمما رأي .4فهممذا رأي واضممح قمماطع فممي تقريممر إلزاميممة الشممورى
وممن يقولون بإلزامية الشورى الفقيه المعاصر:
-الدكتور توفيق الشاوي ,فبعد حديث لممه عممن ظممروف نممزول
آية )) آل عمران ((159 :علق على قوله تعممالى ":وشمماورهم فممي
المر" قائل :ومعنى ذلك أن الشورى واجبة و ملزمة ,حتى لو كممان
-102-
هناك احتمال في أن يكون رأي الغلبية خاطئا ً أو ضارًا ,لن الضرر
الناتج عن خطأ الغلبية أخف من الضرر الناتج عممن تممرك الشممورى
واسمممتبداد الحكمممام بمممالرأي دون اللمممتزام بمممرأي عاممممة النممماس
وجمهورهم ,1وهو رأي مستمد عن عبر التاريخ الطويل ,حيث تممرك
المر للحكام ولم يبرهنوا على أنهم أرشد دائما ً وأهممدى مممن عامممة
الناس.2
-وقال الدكتور رحيــل محمــد غرابيــه الخممذ بمبممدأ إلزاميممة
الشورى بناء على الحيثيات التالية:
-1تعارفت المم والشعوب على مدار الزمان بالميل نحو الكثرية
واعتبار الغالبية في معظم الحوال دليل صممواب ..وتواطممأ النمماس
قديما ً وحديثًا ,مسمملمين وغيممر مسمملمين ,علممى إقممرار مبممدأ رضممى
القلية برأي الغلبية فيمكن الستئناس بهذه التجربة العالمية علممى
إقرار هذا المبدأ ,من منطلق توجه العقل النساني العممام بمجملممه
في هذا التجاه.
-2يقتضي العقل والمنطق أن يكون رأي المجموعة أقوم وأصوب
وأقرب إلى الحقيقة من رأي الواحد ،مهما عظمت وطالت خبرته.
3م المام أو الخليفة هو فرد من المة ،ل يتميز عن آحادها بشمميء
سوى أنه أثقل حمل ً وأعظم مسؤولية ،كما روي هممذا عممن الخليفممة
عمر بن الخطاب ،رضي الله عنه ،وهذا يقتضمي أن يكمون اجتهماده
مثل اجتهاد غيره من المجتهدين ،وإذا كان هذا يصممح إطلقممه علممى
عمر والخلفاء الراشدين فهو أكثر صحة وأقوم بالنسبة إلى غيرهم.
4م إن إلزام المير م الحاكم م بإتباع رأي الغلبية يعتبر ضمانة على
عدم الستبداد بالرأي ومنع التسلط الفردي الذي عانت منممه المممة
فترات طويلة.
5م إن اللتزام برأي الغلبية أكثر تحقيقا ً لمبدأ سلطة المة والذي
هو محل اتفاق ول نزاع فيه ،وإن تفرد الميممر برأيممه ،وعممدم نزولممه
على رأي أهل الشورى أنما هو نقض لسلطة المة ،واعتممداء علممى
حقها الممنوح لها شرعًا.
6م إن اللتزام برأي الغلبية أكثر انسجاما ً مع روح الشريعة وأكممثر
تحقيقا ً لمقاصد النصوص التي جاءت تأمر بالشورى وتحض عليها.
7م تقتضي ظروف العصر أن ل يبقى المر بالشورى عاممما ً غائمممًا،
بل ل بد ممن تحمويله إلممى مبمدأ دسمتوري وقاعمدة تشممريعية قابلمة
للتطبيق الجرائي الواضح المحدد الحاسم عند الختلف.3
قصه الشورى و الستشارة ,توفيق الشاوي ص52 1
-103-
ول منمماص مممن أن نقممرر أن اللممتزام بالشممورى العاصممم البشممري
الممكن من خيانة المانة وإتباع الهوى وغفوة وازع اليمان.1
* الدكتور أكرم ضياء العمري:
وبعد أن ذكر الدكتور أكرم ضياء العمري آيمتي سمورة الشمورى ))
((38وآل عمران )) ((159استدل على وجوب الشورى بقوله :إن
الخبر إذ أريد به النشاء الطلبي فهمو أقموى ممن الممر ،وأمما اليمة
الثانية فهي بصيغة المر ،وليس فممي القممرآن قرينممة تصممرف المممر
عن الوجوب إلى الندب فلم يبق إل أن نفتش في السنة ولممم أجممد
– حسب جهدي – في أحداث السيرة النبوية نصا ً صحيحا ً يدل على
صرف المر بالشممورى عممن الوجمموب إلممى النممدب .2وقممال الممدكتور
العمري مؤكدًا :لم أقف على مايدل على عدم إلزاميممة الشممورى.3
فهو قد أكد رأيه بأدلة من أصول الفقه عممزز بهمما رأيممه فممي وجمموب
الشورى وإلزاميتها في الوقت نفسه.4
إن موضوع الشورى تحديدا ً مثار بحث وقراءة في الفكر
السياسي السلمي منذ أن كان الخلف بين المسلمين على
موضع المامة والخلفة ولضبط العلقة مابين الحاكم والمحكوم
في تحصيل المصالح ودرء المفاسد عنهما ,وتنظيم طبيعة العلقة
بينهما ,كان لبد من وسيلة فعالة أو إجراءات مناسبة لذلك ,
وهذا ليتحقق إل بالشورى لن فيها ضمانة لمقاصد الشريعة في
الحكم والسياسة ,توفير المزيد من المقاصد الجتماعية كحرية
الرأي والمساواة بين المواطنين ,مما يعني ترسيخ مبدأ الحوار
وتعميق مضمون التنمية في البلد ولعل من مرجحات كون
الشورى إلزامية أنها حاجزة لحالت التسلط في الحكم والقمع
للرأي الخر ,وإذا خول الحاكم في العتداد برايه دائما ً ,كان ذلك
وبال ً عليه وعلى المة وعلى طريقة الحكم ,بل قد يصل به المر
إلى الدخول في العقائد والتشريعات برأيه وفكره ,كما قال
َ َ
شاد ِ " )غافر , ل الّر َسِبي َم إ ِّل َ
ديك ُ ْ
ما أهْ ِ
ما أَرى وَ َ
فرعون لقومه " َ
َ
ما
ه وَ َ ن قَوْ َ
م ُ ض ّ
ل فِْرع َوْ ُ آية (29:لذا كانت النتيجة قوله تعالى " :وَأ َ
دى " )طه ,آية.(79:هَ َ
بل في الظممن الغممالب علممى الممرأي ،أن لممولم تكممن مممن مرجحممات
القممول بلممزوم الشممورى للحمماكم أو الرئيممس سمموى منممع حممالت
الستبداد بالرأي وقمع الخصوم لكفى وأقنممع ،إذ ل قداسممة لممرأي,5
النظام السياسي للدولة السلمية محمد الغواص .211 1
-104-
سمميما فممي بعممض تجممارب الحكممم فممي تاريخنمما السمملمي القممديم
والمعاصر ،إذ أن هناك نماذج وتطبيقات يسممتحيل معهمما أن نوصممي
بعدم لزوم نتيجة الشورى للحاكم .
وتزداد أهمية ذلك في نوعية القرار الصادر عممن مجلممس الشممورى،
خصوصا ً إذا كان متعلقا بمصممالح المسمملمين العامممة ،فممأمر العامممة
ليربممط بممرأي الفممرد ،وإن كممان لممه مممن الصممفات القياديممة الشممئ
الكثير .
ولعتبار تقني أكثر منممه شممرعي ,فممإن علممم الشممورى علممم إداري
سياسي قائم في جميع مجلت الحياة ،بل ويعتبر الجانب السلوكي
في عمل الحاكم أو المسؤول عمليممة تعليميممة ،وتدريبيممة للخريممن،
بل هو على حد تعبير أحدهم بالمعلم الكبير.1
وهممذا يتممم مممن خلل تحفيممز المرؤوسممين والمحكممومين بمعرفممة
احتياجاتهم ورفع روحهم المعنوية ،أو جعممل القيممادة لهممم بالمبممادأة
والقممدوة الحسممنة ،واختيممار السمماليب الفعالممة ،أو بالتصممال بهممم،
وإعطاء التوجيهات والتعليمات لرائهم ،على أن شخصية الحاكم أو
الرئيس ،تلزمه أن يجمع مابين الكفمماءة والكاريزممما وهممي بل شممك
ضرورية في تفعيل العمل المؤسسي عند الرعية .2فالسلم ينشئ
المممة ويربيهمما ،ويعممدها للقيممادة الراشممدة ولوكممان وجممود القيممادة
الراشدة يمنع الشورى ,ويمنممع تممدريب المممة عليهمما تممدريبا ً عملي ما ً
واقعيا ً في أخطر الشؤون ،لكان وجود محمد صلى الله عليه وسلم
ومعممه المموحي مممن اللممه سممبحانه وتعممالى كافيمما لحرمممان الجماعممة
المسلمة يومها من حق الشورى ولكن ومممع وجممود محمممد رسممول
الله صلى الله عليه وسلم ومعه الوحي اللهي ،لم يلغ هذا الحق.3
هذا النهج الشمورى ,سيشمكل بل شمك مموظفين متخصصمين فمي
عملهم ,يساعدون الحاكم أو – الرئيس – في تقممديم الستشممارات
والممرؤى حممول المواضمميع المتعلقممة بتحقيممق مصمملحة المجتمممع أو
الدولة ،وهذا مايجعلنا نؤكد علمى أن الحماكم ل يحكمم النماس ,بمل
المهمة قيادة 4الناس .
من هذا النهج الشورى ,سيتحقق فمي أفمراد المجتممع مبمدأ إداري
مهم ,وهو مبدأ إرساء قاعدة التميز بين صفوف النخب السياسممية
والجتماعية وهنا يلزم البيان بممأن طبيعممة المؤسسممة الحاكمممة فممي
السمملم أن ترفممض الفرديممة أو المركزيممة فممي اتخمماذ القممرارات ,
-105-
لسيما السلطة المركزية النابعة من فردية الحاكم أو دعم بطممانته
لقراراته وكما هو متبممع فممي علممم الدارة فممإن هنمماك مزايمما للعمممل
المؤسسي أو الشوري ,من أهمها:
ً
-أن وضع سلطة اتخاذ القرارات سيكون قريب ما مممن القواعممد مممما
يعني سلمة القرارات المتخذة .
-تخفيض أعباء القيممادات نظممرا ً لتفممويض السمملطة وتخلممق روابممط
وثيقة ,ويزيد التعاون والتنسيق .
-تساعد علممى سممرعة اتخمماذ القممرارات ,وسممهولة تحديممد منمماطق
الضعف ,وسرعة علجها ،1كما ل يسممتطيع الشممخص الواحممد إدارة
عمل متميز ,أو على أبعممد تقممدير إحممداث تغييممرات علممى مسممتوى
المؤسسة بممدون فريممق عمممل متميممز ،لن خلممق منظمممة مبدعممة،2
بحاجة إلى عمل جماعي متناسق ,أي أن علم الدارة الحديث في
الحكم والقيممادة يمدعم بضممرورة دعممم الشمورى وآلياتهمما واعتبارهمما
مصممدر قمموة للحمماكم والمحكمموم ,لكممن مممع تأكيممدنا علممى ضممرورة
احترام قممرار الشممورى المؤسسممي مممن أهممل الحممل والعقممد ،نممرى
بضرورة احترام رأي الحاكم ،أو احترام حقممه فممي العممتراض علممى
رأي مجلس الشورى ،ل سيما إذا كان لممه وجاهممة وإصممابة ,بحيممث
يثبت رأيه ويقنع غيره به ,ويقرر بالمصلحة العامة.3
إن القول بإلزامية الشورى هممو ممما نممدين اللممه بممه ونممرى ضممرورته
وجمممدواه ,وبمممدونه ل يمكمممن تفعيمممل الشمممورى علمممى المسمممتوى
الدسمممتوري للممممة ,فالدولمممة السممملمية دولمممة مدنيمممة ،تمممؤمن
بالمؤسسات ،وترى فصل السلطات ،وأن تكون مرجعيتها السمملم
فهي ليست دولة أسرار ثيوقراطيممة مغلقممة يممديرها رجممال الممدين ,
وإنما دولة لشعب يسعى بذمته أدناه مممن مممواطنيه ،ولممذا ل بممد أن
يتمماح للكممل أن يسممهم فممي أمممر النصممح والشممورى وأن يلممتزم ولة
المور بحكم الغلبية كشورى ملزمة ،فهذا المر من الهمية بمكان
,ول بد من أن يستبين تماما قبممل الشممروع فممي أي محاولممة جديممة
لتطبيق الشورى في النظام السياسي السلمي.4
رابعًا :مجلت الشورى:
تتعدد مجلت تطبيق الشورى ,فيممما لممم ينممزل فيممه حكممم شممرعي
بالوحي ,وذلك بيمن الشمورى الجماعيمة والشمورى الخاصمة وذلمك
على النحو التالي:
-106-
1ـ المجال السياسي الدينوي :هذا هو المجال المعروف
للعمل بالشورى ,ويقترن ذكره بذكرها قال الحافظ ابن حجر
وقد اختلف في متعلق المشاورة :فقيل في كل شئ ليس فيه
نص وقيل في المر الدنيوي فقط وقال الداودي :إنما كان
يشاورهم في أمر الحرب مما ليس فيه حكم ,لن معرفة
1
الحكم إنما تلتمس منه
وقال القاضي ابن عطية :ومشاورته عليه السلم إنما هي في
أمور الحروب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل ،وأما في حلل
أو حرام أو حد فتلك قوانين شرع.2
وعلى العموم فإن من أبرز المجممالت الشممورية الممتي يكممثر ذكرهمما
وذكممر أمثلتهمما مجممالين اثنيممن هممما :المجممال السياسممي والمجممال
العسممكري أو الحربممي ,ويمكممن جمعهمما مع ما ً تحممت اسممم التممدبير
السياسي ,بشقيه المدني والعسممكري ويممدخل فممي ذلممك التشمماور
لختيممار الخليفممة أو الحكممام عموم ما ً ,ثممم تشمماور الحكممام والقممادة
السياسيين والعسكريين مع مستشمماريهم ومسمماعديهم فممي رسممم
الخطممط وتنفيممذها ,واتخمماذ القممرارات فممي مختلممف الشممكالت
والنوازل السياسية والحربية بما فممي ذلممك عقممد السمملم ,أو إعلن
الحرب ,أو إجراء الصلح.3
2ـ الشورى في القضــاء :القاضممي يظممل يحكممم فممى الممموال
والممدماء والفممروج وغيرهمما مممن المصممالح والتظلمممات والنزاعممات
ويحكم على الفراد والجماعات وربما على الدول والحكومات وإذا
كممان الفقيممه أو المفممتي يجتهممد لسممتنباط الحكممم مممن أدلتممه فممإن
القاضي يفعل هذا ,ثم يجتهد مممرة أخممرى فممي النازلممة المعروضممة
عليممه وفممي أدلممة كممل طممرف مممن أطرافهمما ,وحقيقممة خفاياهمما
وملبساتها ,فهو يجتهد مرتين ,ولهذا فحاجته إلمى المشماورة فمي
حكمه ,هي أشد وآكد مممن حاجممة الفقيممه فممي فتممواه وخاصممة فممي
القضايا المعقدة والنوازل الكبيرة ,فما يروى من الحاديث والثممار
في المشاورة للنمموازل الممتي ليممس فيهمما كتمماب ول سممنة ,منطبممق
بالضمرورة وبالدرجمة الولمى علمى النموازل المتي كمانت تمرد علمى
الخلفاء وغيرهم من الصحابة للفصل فيها بين المتنممازعين وهممو ممما
ينطبق على جميع المنتصبين للحكممم والقضمماء بيممن الناسم ,4وعممن
عمر بن عبممدالعزيز قممال :لينبغممي للقاضممي أن يكممون قاضمميا حممتى
-107-
يكممون فيممه خمممس خصممال عفيممف ،حممالم ،عممالم بممما كممان قبلممه ,
يستشير ذوي الرأي ,ل يبالي بملمة الناس ,1وفي كتاب عمممر بممن
عبد العزيز إلى عروة :كتبت إلي تسألني عممن القضمماء بيممن النمماس
وإن رأس القضاء اتباع مافي كتاب الله ثممم القضمماء بسممنة رسممول
الله صلى الله عليه وسلم ثممم بحكممم أئمممة الهممدى ,ثممم استشممارة
ذوي العلم والرأي ،2وإذا كان بعممض الفقهمماء قممد جعلمموا المشمماورة
للقاضي على الندب ل علممى الوجموب ,فهممذا يمكممن أن يقبممل فممي
القضممايا البسمميطة ,الواضممحة والمتكممررة ,أممما القضممايا المعقممدة
والملتبسة والجسيمة فل يصح فيها ال القممول بممالوجوب وهممو قممول
جمهور الفقهاء.
وهكممذا يظهممر جليمما أن اشممتراط صممفة المشمماورة فممي القضمماة
وإلزامهم بها ليس شيئا ً عارضا ً أو طارئا ,أو دخيل ً.3
-3الشورى في تنزيل الحكام القطعية:
علممى أن الحكممم الشممرعي القطعممي – رغممم ذلممك – يبقممى محل ً
للشورى من حيث التنزيل والتنفيذ وممما يتصممل بممذلك مممن شممروط
وكيفيات وآجال وعوائق أو موانع ,فيمكن التشاور بشأنه من هممذه
النواحي ل من حيث المبدأ وهذا مانبه عليه أبممو عبممدلله بممن الرزق
في النوع الثاني مما يستشار فيه بقوله :المستشار فيممه أي ممماتقع
فيه المشاورة نوعان:
:-ماهو من أمور الدنيا وخفي وجممه الصممواب فيممه فيطلممب العثممور
عليه بالمشورة.
:-ماهو من مقاصد الدين ,ولم يتعين فممي الحممال ,أو أشممكل فيممه
التلبس بالعمل به باعتبار أمر خارج عن ذاته.4
ويمكن أن نجد أنفسنا بحاجة إلممى الجتهمماد والتشمماور فممي مسممائل
تتعلق بالجهاد والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ,وبعض أحكممام
الحج والصيام ومصارف الزكاة وإقامة الحدود ...مممع أن هممذه كلهمما
أحكممام منصوصممه قطعيممة ولكنهمما – وغيرهمما – قممد تعممتري تطبيقهمما
ملبسات واشكالت وموانع ومستجدات ,تحتاج إلى نظر وتناظر ,
وموازنه وحسن تدبير.5
-4الشورى في الحكام الجتهادية والخلفية:
ومما يحتاج إلى نظر وتناظر وتشاور – وهو غير بعيممد عممما سممبق –
الحكام الشممرعية القائمممة أصمل ً علممى السممتنباط ,والترجيممح بيممن
فتح الباري ).(50\15 - 1
-108-
مقتضيات الدلة ودللتها ويدخل كذلك في مجالت الشورى م ومن
باب أولى م الجتهماد فمي أحكمام مما ليمس فيمه نمص ,ممما سمبيله
القياس والستحسان والستصلح فهذه كلها مجلت دينية شرعية ,
ومع ذلك فالشورى فيها بين أهل العلم والنظر والجتهاد هممي سممنة
الصحابة والخلفاء الراشدين ,بل هي سنة النممبي صمملى اللممه عليممه
وسلم القولية والفعلية .1إن الذين يقصرون الشورى م م أو يركممزون
فيهام علممى الشممؤون السياسممية والدنيويمة ويمتركون شمؤون المدين
وأحكامه لحاد الفقهماء والمفممتين والمولة والقضمماة ،إنممما هممم فمي
النهاية يعظمون الولى ويهونممون أمممر الثانيممة ،فممالمر الممذي يسممند
النظر فيه إلى جماعة يتباحثون ويتناظرون ويتشاورون قبممل البممث
فيه يكونممون مم بممدون شممك مم أكممثر حرمممة وأعلممى منزلممة وأحظممى
بالسداد والرشاد من الذي يوكل للفراد واجتهادهم الفردي.2
5ـ الشورى في تنظيم الشورى :من القضايا الممتي أصممبحت
جلية ومسلمة ،كون السلم أرسى مبدأ الشممورى وأمممر بممه وحممث
وه بفضله وأهميته ،ثم ترك تنزيله وتنظيمه مرسل ً مفوض ما ً عليه ،ون ّ
للجتهمماد والتممدبير والتكييممف ،بممما يناسممب كممل زمممان أو مكممان أو
مجال ،أو ظرف ،وبهذا نستطيع أن نقول إن التفاصمميل والكيفيممات
التطبيقية للشورى هي نفسها مجال من مجممالت الشممورى ومثلهمما
كافة الشؤون التنظيميممة والداريممة للدولمة والمجتمممع والجماعممات،
فهي داخلة في قوله تعالى" :وأمرهم شورى بينهم" ،فهي كلها من
دلها ونلئمهما شمورى ث فيهما وننظمهما ونعم ّ أمورنا التي يجب أن نبم ّ
بيننمما ،وإجمممال ً فممإن كممل ممما يتطممرق إليممه الحتمممال والستشممكال،
ويدخله الجتهاد البشرى وكل ما يثير عممادة الخلف والتنممازع ،وكممل
ما سكت عنه الوحي وكل ما هو مشترك بين النمماس مممن واجبممات
وحقوق ومصالح ،ففيه مجال للشورى ،وجوبا ً أو ندبا ً حسب أهميممة
كممل مسممألة وحجممم انعكاسمماتها علممى النمماس فممي دينهممم ودنيمماهم
وعلقاتهم.3
خامسًا :المرأة والشورى:
ومما يدل على جواز مشاركة المرأة في الشأن العام قوله تعالى:
ْ " وال ْمؤ ْمنون وال ْمؤ ْمنات بعضه َ
ف
معُْرو ِن ِبال ْ َمُرو َ ض ي َأ ُم أوْل َِياء ب َعْ ٍ َ ُ ِ ُ َ َ ُ ِ َ ُ َْ ُ ُ ْ
هّ
ن الل َطيُعو َ َ
ن الّزكاة َ وَي ُ ِ صل َة َ وَي ُؤ ُْتو َ ن ال ّ مو َقي ُ ن ال ْ ُ
منك َرِ وَي ُ ِ ن عَ ُ ِ وَي َن ْهَوْ َ
م " )التوبة ، كي ٌ ح ِ زيٌز َه عَ ِن الل ّ َ م الل ّ ُ
ه إِ ّ مه ُ ُ
ح ُسي َْر َك َ ه أوَْلمئ ِ َ سول َ ُوََر ُ
آية .(71 :
-المصدر نفسه ص .28 1
-109-
ويرى العلمة السممتاذ علل الفاسمي أن اليممة الكريممة :قممد أثبتمت
الولية المطلقة للمؤمنات كما أثبتتها للمؤمنين ،وتدخل فيهمما وليممة
النصرة ،كما يدخل فيها الحضور في المساجد والمشمماهد ومعممارك
الجهاد والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ثم أضاف رحمه اللممه:
وقد نص القممرآن علممى التشمماور بيممن الرجممل وزوجتممه فممي شممؤون
شمماوُرٍ فَل َ الزوجية فقال " :فَمإ َ
ممما وَت َ َ
من ْهُ َ صممال ً ع َممن ت َمَرا ٍ
ض ّ دا فِ َ ن أَرا َ
ِ ْ
ما " )البقرة ،آية .(233 : ح ع َل َي ْهِ َ
جَنا َ
ُ
وإذا كانت الشورى مطلوبة لهذا الحد في أمممر السممرة ،فممما بالممك
بأمر السر الكبرى وهي المة والدولة ،وكما أن الشارع لممم يحممرم
نصف السرة م الذي هو المرأة م من حق الشورى.1
م " )الشممورى ،آيممة (38 : م ُ مُره ُْ َ
شمموَرى ب َي ْن َهُ م ْ وفي قوله تعالى " وأ ْ
فقوله أمرهم ،شاملة الرجال والنساء معًا ،ول مجممال لحصممر ذلممك
على الرجال دون النساء.2
وقوله صلى الله عليه وسلم" :إنما النساء شقائق الرجال".3
فالرجل والمرأة في الحقوق تجاه المجتمع والدولة علممى السممواء،
فكما يحق للرجل الترشيح لعضوية مجلس الشممورى يحممق للمممرأة
كذلك الترشيح ودخول مجلممس الشمورى ،ول اعتبمار أن المشماركة
السياسية التي تقوم بها المرأة هي أفعال قانونية وشممرعية تهممدف
للتأثير على الخرين أو أفعممالهم .4والدلممة الممتي تشممير إلممى دخممول
المرأة واجهة العمل السياسي وإبداء رأيها في المور العامة كثيرة
منها ما رواه البخاري ،عن استفادة النممبي صمملى اللممه عليممه وسمملم
من رأي زوجته أم سلمة في مصمملحة عامممة ،ففممي صمملح الحديبيمة
حيث جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قممال لصممحابه:
"قوموا فانحروا ،ثم أحلقوا ،قال :فوالله ما قام منهممم رجممل حممتى
قال ذلك ثلث مرات ،فلما لم يقم منهم أحد دخل علممى أم سمملمة
فذكر لها من لقي من الناس ،فقالت أم سلمة :يا نبي اللممه أتحممب
ذلك ،أخرج ثم ل تكلم أحممدا ً منهممم كلمممة حممتى تنحممر ب ُممدنك وتممدعو
حالقك فيحلقك ،فخرج فلم يكلم أحدا ً منهم حتى فعممل ذلممك ،نحممر
بدنه ،ودعمما حممالقه فحلقممه ،فلممما رأوا ذلممك قمماموا فنحممروا ،وجعممل
بعضهم يحلق بعضا ً حتى كاد بعضهم يقتل بعضا ً غما.5
فتح الباري شرح صحيح البخاري ,ك الشروط ).(403\5 - 5
-110-
وفيه دليل على جواز أن يستشير المرأة الفاضلة العالمة الحكيمة،
وكان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قريبممة تسمممى الشممفا بنممت
عبد الله العدوية يستشيرها وقد كلفها بالشراف على السوق.1
وكانت المرأة تقف في وجه الخلفاء وتعترض على آرائهم ويقبل
الخلفاء لهذه المشاركة السياسية من ذلك ما ورد في تفسير
ْ ْ
ه خ ُ
ذون َ ُ شي ًْئا أ َت َأ ُه َ ذوا ْ ِ
من ْ ُ خ ُطاًرا فَل َ ت َأ ُ ن ِقن َ داهُ ّ ح َ م إِ ْقوله تعالىَ " :وآت َي ْت ُ ْ
مِبينا ًً" )النساء ،آية ،(20 :فقد خطب عمر بن ب ُهَْتانا ً وَإ ِْثما ً ّ
الخطاب رضي الله عنه فقال :أل ل تغالوا في صدقات النساء
فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولكم بها
رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ما أصدق قط امرأة من نسائه
ول بناته فوق إثنتي عشرة أوقية ،فقامت إليه امرأة فقالت :يا
عمر يعطينا الله وتحرمنا أليس الله سبحانه وتعالى يقول" :وآتيتم
إحداهن قنطارا ً فل تأخذوا منه شيئًا" فقال عمر :أصابت امرأة
وأخطأ عمر ،وفي رواية فأطرق عمر ثم قال :كل الناس أفقه
منك يا عمر ،وفي أخرى :امرأة أصابت ورجل أخطأ.2
م وقد ورد في حق عمر بن الخطاب رضي الله عنه :كان يستشممير
النساء في المر ،حتى أنه كان يستشممير المممرأة فربممما أبصممر فممي
قولها الشيء ،يستحسنه فيأخذ به.3
وكانت السيدة عائشممة رضممي اللممه عنهمما وعممن أبيهمما ،تفممتي بممأمور
النساء ،بل في أمممور الممدين والممدنيا ،وكممان لهما آراء فممي المصمالح
العامة ،حتى قال ابن حزم 456هم أنه يمكممن أن يجمممع مممن فتمموى
عائشة سفر ضخم ،وقال عطاء :كانت عائشة أفقه الناس ،وأعلممم
الناس ،وكانت ذا رأي قوي في الشؤون العامة.4
م وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل آراء الناس ،من رجممال
ونساء معًا ،فهذه المرأة التي جاءت إلى الرسول صلى اللممه عليممه
وسلم :تقول لممه :ممما أرى كممل شمميء إل للرجممال وممما أرى النسمماء
ت مسمِلما ِ ن َوال ُ مي َ س مل ِ ِ
م ْ ن ال ُ يممذكرن بشمميء ،فنممزل قمموله تعممالى" :إ ّ
ت صمماد َِقا ِ ن َوال ّ صمماد ِِقي َ ت َوال ّ قان َِتا ِن َوال َقان ِِتي َ
ت َوال َ مَنا ِ مؤ ْ ِن َوال ُ مِني َ مؤ ْ َِوال ُ
نصممد ِِقي َ مت َ َ
ت َوال ُ شممَعا ِ خا ِ ن َوال َ شممِعي َ خا ِت َوال َ صمماِبرا ِ ن َوال ّ ري َ صمماب ِ ِ َوال ّ
م جُهممم ْ ن فُُرو َ ظي َحمممافِ ِ ت َوال َ ما ِ صمممآئ ِ َ ن َوال ّ مي َ صمممآئ ِ ِ ت َوال ّ صمممد َّقا ِ مت َ َ َوال ُ
مغْفِممرةً ت أع َد ّ اللممه لهُممم ّ كرا ِ ذا ِ ن الله ك َِثيرا ً َوال ّ ري َذاك ِ ِ ت َوال ّ ظا ِ حافِ َ َوال َ
ظيما ً" )الحزاب ،آيممة .(35 :إل دليممل علممى مممدى الحريممة جرا ً ع َ ِ وأ ْ
-111-
التي امتازت بها المرأة في عهد النبوة في إبداء رأيها أمممام رئيممس
الدولة. 1
ويرى العلمة الدكتور يوسف القرضمماوي أن المصمملحة الجتماعيممة
تقتضي مشاركة المرأة فممي أعمممال هممذه المجممالس ،وأن القوامممة
قررت في الحياة الزوجية وحديث أبي بكرة قوله صلى اللممه عليممه
وسلم" :لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ،2فممي الوليممة العامممة ،أي
رئاسة الدولة ،أما بعض المر فل مانع لذلك كالقضاء والفتوى ،وقد
أجاز ذلك بعض الفقهاء مثل ابن حزم مع ظاهريته ،وهذا يدل علممى
عدم وجود دليل شرعي صريح يمنع من توليها القضمماء إل لتمسممك
به ابن حزم وجمد عليه ،وقاتل دونه كعادته. 3
م ومممما قصممه علينمما القممرآن الكريممم :حالممة المممرأة وهممي تستشممير
غيرها ،وحالة المرأة وهي تشير على غيرها وكممل ذلممك فممي سممياق
التنويه والقرار والرضى.4
ت َيا أ َي َّها فأما الحالة الولى :ففي قوله تعالى عن ملكة سبأ "َقال َ ْ
ن * َقاُلوا كنت َقاطع ً َ َ ال ُ َ
ِ دو
شه َ ُ حّتى ت َ ْ مًرا َ ةأ ْ ِ َ ما ُ ُ ري َ ِ مَل أفُْتوِني ِفي أ ْ
م َ
ْ ُ َ َ ْ ْ ُ ُ ُ ُ
ن
ري َ م ِ ذا ت َأ ُ
َ
ما َ ري َ
َ ك َفانظ ِ مُر إ ِلي ْ ِ ديد ٍ َوال ْ
َ
ش ِ س َ ن أوْلوا قُوّةٍ وَأولوا ب َأ ٍ ح ُ نَ ْ
عّزة َ أهْل َِها جعَُلوا أ ِ ها وَ َ دو َ س ُة أفْ َ خُلوا قَْري َ ً ذا د َ َ ك إِ َ مُلو َ ن ال ْ ُ ت إِ ّ * َقال َ ْ
ع
ج ُ م ي َْر ِ ة إ ِل َي ِْهم ب ِهَد ِي ّةٍ فََناظ َِرة ٌ ب ِ َ سل َ ٌ مْر ِ ن * وَإ ِّني ُ فعَُلو َ ك يَ ْ ة وَك َذ َل ِ َ أ َذ ِل ّ ً
ن" )النمل ،آية 29 :م .(35 سُلو َ مْر َ ال ْ ُ
وأما الحالة الثانية :فقول إحدى المرأتين الختين لبيهما عن
ْ َ
نم ِ خي َْر َ ن َ جْره ُ إ ِ ّ ست َأ ِ تا ْ ما َيا أب َ ِ داهُ َ ح َت إِ ْ موسى عليه السلمَ" :قال َ ْ
ْ
ن " )القصص ،آية ،(26 :وقد نجم عن مي ُ قوِيّ اْل َ ِ ت ال ْ َ جْر َ ست َأ َ ا ْ
5
هذه المشورة السديدة خير كثير ,.
إن الصل في استخلف النسان ،أنه يشمل الرجال والنساء معًا،
والعمل السياسي هو بذاته عمل صالح إذا كانت النية خالصة في
هذا ،وكان فيه فائدة المسلمين وللبشرية بصورة عامة لقوله
من ُ ُ تعالىَ " :فاستجاب ل َهم ربه َ
من كم ّ ل ّ م ٍ عا ِ ل َ م َضيعُ ع َ َ م أّني ل َ أ ِ ْ َ َ َ ُ ْ َ ُّ ْ
ض ُ َ ُ
ض " )آل عمران ،آية .(195 : ٍ من ب َعْ كم ّ ذ َك َرٍ أوْ أنَثى ب َعْ ُ
َ ُ
نم ٌ مؤ ْ ِمن ذ َك َرٍ أوْ أنَثى وَهُوَ ُ حا ّ صال ِ ً ل َ م َ ن عَ ِ م ْ م وقال تعالىَ " :
م
جزِي َن ّهُ ْ ة وَل َن َ ْ حَياة ً ط َي ّب َ ً ه َ حي ِي َن ّ ُفَل َن ُ ْ
َ َ
ن " )النحل ،آية .(97 : مُلو َ كاُنوا ْ ي َعْ َ ما َ ن َ س ِ ح َ هم ب ِأ ْ جَر ُ أ ْ
تحرير المرأة في عصر الرسالة ,عبد الحليم ابو شقه ).(449\2 - 3
-112-
بل إن النص القرآني واضح في أن المرأة مطلوب منها العمل
على جلب المعروف في نفسها ومجتمعها ،فقد قال تعالىَ" :يا
ن ِبالل ّ ِ
ه شرِك ْ َ ك ع ََلى َأن ّل ي ُ ْ ت ي َُباي ِعْن َ َ مَنا ُ مؤ ْ ِك ال ْ ُ جاء َ ذا َ ي إِ َ ّ أي َّها الن ّب ِ
َ
ْ قتل ْ َ
ن ن وََل ي َأِتي َ
ن ب ِب ُهَْتا ٍ ن أوَْلد َهُ ّ ن وََل ي َ ْ ُ َ ن وََل ي َْزِني َ سرِقْ َ شي ًْئا وََل ي َ ْ َ
َ َ
ف فََباي ِعْهُ ّ
ن معُْرو ٍ ك ِفي َ صين َ َن وََل ي َعْ ِ جل ِهِ ّ ن وَأْر ُ ديهِ ّ ن أي ْ ِ ه ب َي ْ َرين َ ُ
فت َ ِ
يَ ْ
م" )الممتحنة ،آية .(12 : حي ٌ فوٌر ّر ِ ه غَ ُ ن الل ّ َ ه إِ ّن الل ّ َ فْر ل َهُ ّ ست َغْ َِوا ْ
والشممورى مممن العمممل السياسممي ،بممل هممي مممن صممميمه والمممرأة
مطالبة به ،كما أن الرجممل مطممالب بممه ،فقمموله" :وأمرهممم شممورى
بينهم" والنص يشمل مدح الرجممال والنسمماء مع مًا ،وقممول الرسممول
صلى الله عليه وسلم وفعله يؤيد هذا الحق العام للنسمماء ،1فقمموله
أشيروا علي أيهمما النمماس ،والنسمماء كالرجممال تممدخل لفظممة النمماس
وفعله في استشارة زوجته أم المؤمنين أم سلمة لدليل قوي على
ذلك ،وفي رواية أخرى ما يشير إلممى ذلممك بقمموة ،فعممن أم سمملمة:
كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،فلما كان يوما ً من ذلك والجارية تمشممطني،
فسمعت رسول الله صمملى اللممه عليممه وسمملم يقممول :أيهمما النمماس،
فقلت للجارية إستأخري عني ،قممالت :إنممما دعمما الرجممال ولممم يممدع
النساء فقلت إني من الناس. 2
سادسًا :الشورى والقليات:
لقد كان شأن السلم إكرام القليات وحفظ حقوقها وإشراكها في
الشأن العام فيما يخصها ويخممص مصممائر المموطن السمملمي ،ففممي
أول قراءة لهذا الشأن ما ورد في الدستور السياسي المذي وضمعه
النبي صلى الله عليه وسلم ،إذا أعطى حممق المواطنممة لليهممود وأن
ليهود بني عوف أمة من المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهممم
والحاديث في حرمة التعرض لهم أو النتقاص من حقهم واقع فممي
أقوال النممبي صمملى اللممه عليممه وسمملم حيممث يقممول" :أل مممن ظلممم
معاهدا ً وإنتقصه وكلفه فوق طمماقته أو أخممذ منممه شمميئا ً بغيممر طيممب
نفممس منممه ،فأنمما حجيجممه يمموم القيامممة .3إن غيممر المسمملمين فممي
المجتمعممات السمملمية الحاضممرة وإن كممانوا فممي الحقيقممة مممن
القليات ،إل أنهم يمكن أن يعدوا مواطنين مثلهم مثل المسمملمين،
لهم ما لهم وعليهم ما عليهمم ،ولكمن ل يعنمي ذلمك بحمال أن لغيمر
المسلمين أي حق فممي أن يعطلمموا إرادة الغلبيممة المسمملمة ،أو أن
يعترضوا على مبممدأ إقامممة دولممة مدنيممة حديثممة مرجعيتهمما السمملم،
-الشورى ,د .سامي الصلحات ص .85 1
-113-
وإنفاذ التشريعات السلمية ،وإنما عليهم أن يقبلوا بخيممار الغلبيممة،
وليس في ذلك قهر أو إرغممام لهممم علممى قبممول السمملم كممدين ول
التنازل عن معتقداتهم السممابقة وفممي المموقت نفسممه فليممس علممى
المسلمين أن يتخلوا عن معتقداتهم وقمموانينهم فممي سممبيل إرضمماء
القليات غير السلمية.1
إن قيمة الشورى تتسع لسائر المواطنين ،في كل شأن عام يمس
المصلحة العامممة ،فل يتممدخل المواطنممون المسمملمون فيممما يجريممه
المواطنون غير المسمملمين مممن شممورى فممي شممؤون عقيممدتهم ول
يتدخل المواطنون غيممر المسمملمين فيممما يمارسممه المسمملمون مممن
شورى في شؤون عقيدتهم ،اللهم إل ما كممان أدخممل فممي القواعممد
المشتركة بينهما من قيم إنسانية ،وقواعممد أخلقيممة وشممؤون فنيممة
وإدارية.
والدولة التي مرجعيتها السلم حصن حصين للقليات التي تعيش
في كنفها وبين مواطنيها ،لسيما حين تكون هذه القليات أهل
كتاب أو أهل ذمة ،كما يسميهم السلم ،وأهل الذمة من غير
المسلمين هم من كانت حقوقهم مصانة في ذمة المسلمين،
والمسلمون مأمورون بحماية الحرية الدينية والدفاع عنها
لنفسهم ولغيرهم ،وهو أمر منصوص عليه فيما يقرءونه في كتاب
َ ُ
ن
موا وَإ ِ ّ م ظ ُل ِ ُ ن ب ِأن ّهُ ْ قات َُلو َ
ن يُ َ ذي َ ن ل ِل ّ ِ الله تعالى قال عز وجل " :أذ ِ َ
حقّ إ ِّل م ب ِغَي ْرِ َ من د َِيارِه ِ ْ جوا ِ خرِ ُ ن أُ ْ ذي َ ديٌر * ال ّ ِ م لَ َ
ق ِ صرِه ِ ْه ع ََلى ن َ ْ الل ّ َ
ت م ْ ض ل ّهُد ّ َ ضُهم ب ِب َعْ ٍ س ب َعْ َه وَل َوَْل د َفْعُ الل ّهِ الّنا َ قوُلوا َرب َّنا الل ّ ُ َأن ي َ ُ
ن
صَر ّ م الل ّهِ ك َِثيًرا وَل ََين ُ س ُ جد ُ ي ُذ ْك َُر ِفيَها ا ْ سا ِ م َ ت وَ َ وا ٌ صل َ َ
معُ وَب ِي َعٌ وَ َ وا ِ ص َ َ
2
زيٌز " )الحج ،آية 39 :م . (40 قوِيّ ع َ ِ َ
هل َ ّ
ن الل َ صُره ُ إ ِ ّ من َين ُ ه َ ّ
الل ُ
وهذا عهد عمر بن الخطاب لنصارى المدائن وفارس:
أما بعد ،فإني أعطيتكم عهد الله وميثاقه على أنفسكم وأموالكم
وعيالكم ورجالكم ،وأعطيتكم أماني من كل أذى ،وألزمت نفسي
أن أكون من ورائكم ذآبا ً عنكم كل عدو يريدني بسوء وإياكم ,
وأن أعزل عنكم كل أذى ,ول يغير أسقف من أساقفتكم ول
رئيس من رؤسائكم ول يهدم بيت من بيوت صلواتكم ول يدخل
شئ من بنائكم إلى بناء المساجد ول إلى منازل المسلمين ,ول
تكلفوا الخروج مع المسلمين إلى عدوهم لملقاة الحرب ,ول
يجبر أحد من النصارى على السلم عمل ً بما أنزل الله في كتابه
ي" ن ال ْغَ ّ م َ شد ُ ِ ن الّر ْ ن َقد ت ّب َي ّ َ دي ِ قال تعالى " ل َ إ ِك َْراه َ ِفي ال ّ
) البقرة ,آية.(256 :
-الشورى ومعاوده إخراج المة ص .188 1
-114-
ولي شرط عليهم :أل يكون أحد منهم عينا ً لهل الحرب علممى أحممد
من المسلمين فممي سممر ول علنيممة ,ول يممؤوا فممي منممازلهم عممدوا ً
للمسلمين ,ول يدلوا أحدا ً من العداء وليكاتبوه. 1
2ـ دورهم السياسي والستشاري في الدولة:
اختلف الفقهاء حول مدى مشروعية مشاركة غيممر المسمملمين فممي
أعمال السياسة المتعلقة بالمسلمين ,ل سيما في أعمال الشورى
ومجالسممها داخممل الدولممة والممذي أميممل إليممه جممواز استشممارتهم
ودخولهم مجالس الشورى وينسب القول بممالجواز للحنفيممة وبعممض
المالكية وللعديد من الباحثين المعاصرين وممما دام أنهممم قممد أقممروا
بشممرعية السمملطة السمملمية الحاكمممة ,وبالدسممتور السمملمي ,
والقيم السلمية العليا في المجتمع ,فإنه ل مممانع مممن مشمماركتهم
سياسممية ,فلهممم أن يمارسمموا حقمموقهم السياسممية فممي ظممل هممذه
السمملطة وأن يعممبروا عممن آرائهممم وطروحمماتهم ضمممن نسممق هممذه
السلطة التي جعلوها لهم مرجحا ً ,بل ولهممم المشمماركة فممي إبممداء
صوتهم في التصويت والنتخاب للحاكم ولهذا أجاز الفقهمماء النكممار
والحتساب على أهل الذمة أو غير المسلمين في الدولة السلمية
إذا وجد منهم مخالفات لطبيعممة ديممن الدولممة أو معتقممدها ,لعتبممار
أنهم إن أقاموا مع المسلمين في – بلد – واحد فإنه يحتسب عليهم
في كل مايحتسب فيه على المسلمين ,ولكن ل يتعرض لهم فيممما
ل يظهرونممه فممي كممل ممما اعتقممدوا حلممه فممي دينهممم مممما ل أذى
للمسلمين فيه مممن الكفممر وشممرب الخمممر واتخمماذه ,ونكمماح ذوات
المحارم فل تعرض لهم فيما التزمنا تركه ,وما أظهممروه مممن ذلممك
تعين إنكاره عليهم ,ويمنعون من إظهار مايحرم على المسلمين.2
وأما اليات الواردة في النهي عن موالة اليهود والنصارى ,كقوله
صاَرى أ َوْل َِياء ذوا ْ ال ْي َُهود َ َوالن ّ َ مُنوا ْ ل َ ت َت ّ ِ
خ ُ نآ َ
َ
تعالىَ ":يا أي َّها ال ّ ِ
ذي َ
بعضه َ
دي ه ل َ ي َهْ ِ ن الل ّ َ
م إِ ّمن ْهُ ْ
ه ِ منك ُ ْ
م فَإ ِن ّ ُ من ي َت َوَل ُّهم ّ ض وَ َم أوْل َِياء ب َعْ ٍ َْ ُ ُ ْ
ن" )المائدة ,آية.(51 : مي َ م ال ّ
ظال ِ ِ ال ْ َ
قو ْ َ
فهي واردة ضمن حالة الحرب والعممداوة الظمماهرة ,3وليممس ضمممن
حالة السلم والتعايش الهلي ما بين الناس جميعا ً ,وإل لكممان مممن
النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المدينة وإقامة دولته فيهما ,
أن يبدأ بقتال اليهود وطردهم من بيوتهم وهذا مالم يحممدث البتممة ,
وإنما قام النبي صلى الله عليه وسملم :بجعممل الدسممتور السياسمي
الذي يشمل جميع المواطنين هو الحكمم ,وممن ثمم لمما اتضمح لمه
-مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلفة الراشدة ,د .محمد حميد الله ص .488 1
-115-
خيانة اليهود وعذرهم المعتاد قام ,بممإجلء بعضممهم ,وقتممل البعممض
الخر.
ومما يؤيد جواز استشارتهم أن الرسول صلى الله عليه وسملم قمد
جعل الشورى بين جميع أصحابه ,حتى من علم منهم نفاقه وكيده
للسلم والمسلمين ,كإبن سلول واستشارهم في مواضممع عديممدة
منها الخروج يوم أحمد ,يقمول العلممة ابمن عاشمور التونسمي فمي
شأن مشاورة الرسول للمنافقين :ويحتمل أن يراد استشممارة عبممد
الله بن أبممي وأصممحابه ,فممالمراد الخممذ بظمماهر أحمموالهم وتممأليفهم
لعلهم أن يخلصوا السلم أو ل يزيدوا نفاقا ً وقطعا ً لعممذارهم فيممما
يستقبل .1فإذا كان هذا حال الرسول مع أعدائه المواطنين ,الذين
يسكنون معه ,ويقيمون بين ظهرانيه فكيف الحال مع أهل الذمة ,
الذين أسلموا أمرهم في احترام قيم الدولة السلمية.2
وإذا أجاز بعض الفقهاء ,منهم الحنفية والحنابلة في الصحيح من
3
المذهب والشافعية ما عدا ابن المنذر ,وابن حبيب من المالكية ,
إلى جواز الستعانة بأهل الكتاب في القتال عند الحاجة ,فمن
باب أولى أن يستعان بهم في الستشارة المدنية المتعلقة
بمصالح العامة من المواطنين أو الرعية وهنا يجدر التنبيه ,على
أن المجلس العلى للدولة ,وهو مايعرف اليوم بمجلس المن
القومي الذي يتبع كل دولة ,فالصل فيه أن ينحصر في
المسلمين خاصة ,إذ به أسرار الدولة المتعلقة بالسلم والحرب ,
ومخططات الدولة ,فهنا نميل إلى قصره على المواطنين
المسلمين لدواع المن والستقرار ويحظر على هؤلء المواطنين
تسلم مواقع قيادية أو سيادية داخل الدولة السلمية , 4وممن
قرروا في غير مواربة منح القليات حق الشورى الدكتور يوسف
القرضاوي حيث قال :وإن كان غير المسلمين من أهل دار
السلم وبالتعبير الحديث ))المواطنون(( في الدولة السلمية ,
فل يوجد مانع شرعي لتمكينهم من دخول هذه المجالس لُيمثلوا
فيها بنسبة معينة ,مادام المجلس في أكثريته الغالبة من
من لَ ْ ن ال ّ ِ
ذي َ م الل ّ ُ
ه عَ ِ المسلمين ..وإن القرآن الكريم قالَ ":ل ي َن َْهاك ُ ُ
كم من ديارك ُ َ
مم أن ت َب َّروهُ ْ َِ ِ ْ جو ُ ّ خرِ ُ
م يُ ْ ن وَل َ ْدي ِ
م ِفي ال ّ قات ُِلوك ُ ْ يُ َ
ن" )الممتحنة ,آية.(8 : طي َس ِ
ق ِ ب ال ْ ُ
م ْ ح ّ ن الل ّ َ
ه يُ ِ م إِ ّطوا إ ِل َي ْهِ ْ
س ُ ق ِ وَت ُ ْ
-116-
ومن برهم والقساط إليهممم :أن ُيمثلمموا فممي هممذه المجممالس حممتى
يُعبروا عن مطالب جماعتهم ,وأل يشعروا بالعزلة عن بني وطنهم
,ويستغل ذلك أعممداء السمملم والمسمملمين ليغرسمموا فممي قلمموبهم
العداوة والبغضاء للمسلمين ,وفي هذا ممما فيممه مممن ضممرر وخطممر
على مجموع المة مسلمين وغير مسلمين.1
ومن الفقهاء الذين لم يتحفظوا في إباحة الشممتراك فممي الشممورى
لهل الكتاب الدكتور عبممد الكريممم زيممدان حيممث قممال :أممما انتخمماب
ممثليهم في مجلس المة وترشيح أنفسممهم لعضممويته فنممرى جممواز
ذلك لهم أيضا ً ,لن العضوية في مجلس المة تعتبر من قبيل إبداء
الرأي وتقديم النصح للحكومة وعرض مشاكل الناخبين ونحممو ذلممك
وهذه أمور ل مانع من قيام الذميين بها ومساهمتهم فيها.2
-117-
ـ مسائل تشريعية عامة ،يؤخذ فيها برأي أهل الشورى المكون من
كبار القوم الممثلين لهم ،وهؤلء هم الذين يسمون أهل الشورى.
ل ،كاختيممار الحمماكم وإعلن الحممرب ـ مسائل أكممثر عموميممة وشمممو ً
وغير ذلك من القضايا العامة التي تحتمماج إلممى معرفممة رأي النمماس
جميعًا ،وهذه ل بد فيها من معرفة رأي الكافة عن طريممق اسممتفتاء
عام.1
إن المراد بأهممل الشممورى الن ،مممن تجممب استشممارتهم ،ويكونممون
مؤهلين بصفاتهم وشروطهم ،أو معينين بأشخاصهم وأسمائهم ،أي
الذين يجب أن يستشيرهم المسؤولون وولة الشؤون العامة وأبرز
ما يتبادر إلى الذهن في هذا المقام هو ))مجلس الشممورى(( الممذي
يكممون بجممانب رئيممس الدولممة وحكممومته ،أي ممما يعممرف فممي تراثنمما
السلمي بأهل الحل والعقد ،ويممدخل فممي هممذا البمماب كممل الهيئات
الشورية العليا،التي تحتاج إلى مستشارين كبار ،وبغض النظر عممن
اختلف السماء وتفاوت الصلحيات لهذه المجالس من بلممد لخممر،
ومن مجلس ،لخر ،فقد أصبحت هذه المجممالس مممن المؤسسممات
الرئيسية القائمة في معظم دول العالم ،وأيضا ً قي معظممم الممدول
السلمية.
وبجممانب هممذه المجممالس الرئيسممية العامممة ل تسممتغنى دولممة عممن
مجالس ومؤسسات شممورية تقريريممة أخممرى ،تكممون أضمميق مجممال ً
وأكثر اختصاصا ً وربما تكون أسرع انعقادا ً أو حسما ً في المور.2
فمن هم هؤلء المستشارون الكبار الذين يحق لهم أن يكونمموا فممي
مثل هذه المجالس؟ وما همي صمفاتهم وشمروطهم؟ وممما ل شمك
فيممه أن هممذه المسممألة متروكممة للنظممر والتقممدير وضممبط المعممايير
بحسممب الحممالت والظممروف ،وطبيعممة المجممالس والختصاصممات
المنوطة بها ،غير أن هذا ل ينفي وجود صفات وشروط عامة ل بممد
من توفرها ومراعاتها فيمممن يتولممون النظممر والتشمماور والبممث فممي
القضايا العامة للمة والمجتمع.3
ومن هذه الصفات المحبذة في مثل هذه المواضع ،الفطنة والذكاء
والمانة والصدق والبتعاد عن التحاسد والتنممافس ،وإزالممة العممداوة
والشحناء مع الناس ،وأل يكونوا من أهممل الهممواء وأن يكونمموا مممن
رجال الدولة المشهود لهم بالصلح والخيممر والحكمممة ،4وقممد فصممل
علماء السياسة الشرعية وفقهاء السلم في صفات وشروط أهممل
4
-118-
الشورى بطريقممة التممدقيق والستقصمماء والتشممعيب إل أن العلمممة
المقاصدي الكمبير المدكتور أحممد الريسموني أرجمع همذه الشمروط
وغيرها إلى أصول جامعة أهمها :العلم والمانة والخبرة.
أ ـ فالعلم يدخل فيه أول ً العلم بالدين ،باعتباره الطار المرجعممي
للمسلم في كل ما يصدر عنه من فكر ورأي ،ومممن تقممدير وتممدبير،
ومن ترجيممح واختيممار كممما يممدخل فيممه الرصمميد العلمممي والمعرفممي
العام ،فالمستشار أو المتشاور كلما ازداد رصيده العلمممي ،واتسممع
أفقه المعرفي ،كان ذلك أنفع وأرشد له ولغيره ممممن يستشمميرونه
أو يتشاورون معه.
ب م المانة :فيدخل فيها الدين ،وخلوص النصيحة والبراءة من
الهوى والغرض ،والسلمة من غائلة الحسد أو مراعاة مصلحة
القريب والحبيب وكتمان السر والنسان إذا فقد المانة يمكن أن
يضر بعلمه أكثر مما ينفع ،ويمكن أن يقدم التدليس والتضليل في
سسو َ َ ثوب النصح والنفع ،كما في نصيحة إبليس لدم وزوجه" فَوَ ْ
مال َ ما وََقا َ سوَْءات ِهِ َ من َ ما ِ ما ُوورِيَ ع َن ْهُ َ ما َ ن ل ِي ُب ْد ِيَ ل َهُ َ طا ُ شي ْ َ ما ال ّ ل َهُ َ
َ
ن أوْ ت َ ُ كوَنا َ َ َ
نم َ كوَنا ِ ملك َي ْ ِ جَرةِ إ ِل ّ أن ت َ ُ ش َ همذ ِهِ ال ّ ن َ ما ع َ ْ ما َرب ّك ُ َ ن ََهاك ُ َ
ما ب ِغُُروٍر ن * فَد َل ّهُ َ حي َ ص ِ ن الّنا ِ م َ ما ل َ ِ ما إ ِّني ل َك ُ َ مه ُ َ س َن * وََقا َ دي َ خال ِ ِ ال ْ َ
من ما ِ ن ع َل َي ْهِ َ فا ِ ص َخ ِ قا ي َ ْ ف َ ما وَط َ ِ سوَْءات ُهُ َ ما َ ت ل َهُ َ جَرة َ ب َد َ ْ ش َ ذاَقا ال ّ ما َ فَل َ ّ
َ َ َ
جَرةِ وَأُقل ش َ ما ال ّ عن ت ِل ْك ُ َ ما َ م أن ْهَك ُ َ ما أل َ ْ ما َرب ّهُ َ داهُ َ جن ّةِ وََنا َ ق ال ْ َ وََر ِ
ن " )العراف ،آية 20 :م .(22 مِبي ٌ ما ع َد ُوّ ّ ن ل َك ُ َ طآ َ شي ْ َ ن ال ّ ما إ ِ ّ ل ّك ُ َ
ج ـ الخبرة ،:فأعني بها المعرفة الميدانية ،معرفة الواقع ومعرفة
الوقممائع وحقائقهمما ،ومعرفممة النمماس وأحمموالهم ومعرفممة المشمماكل
وحلولهمما ،ومعرفممة الدواء وأدويتهمما وهممذا ممما يعممرف عنممد العلممماء
بالعقل الكامل بطول التجربة مع الفطنة والممذكاء ،فالشممورى إنممما
تكون في الواقع ونوازله ومشاكله ومتطلباته ،فهي ليسممت نقاشمما ً
فكريا ً أو بحثا ً عمليا ً ولذلك فالعلم النظممري وحممده ل يكفممي ممما لممم
يتنممزل علممى فهممم صممحيح ودقيممق للواقممع والوقممائع ،فالصممل فممي
المستشار أن يكممون جامعما ً بيممن العلممم النظممري والخممبرة العمليممة
وخاصة حينما يتعلق المر بالمستشار الفرد ولكن بممما أن الشممرط
الول ))العلم(( والشرط الثالث ))الخبرة(( يتداخلن ويتكاملن فل
بأس إن كان في المجلس من أصحاب العلم مممن لهممم نقممص فممي
بعض الخبرات ،ومممن أصممحاب الخممبرة مممن لهممم نقممص فممي بعممض
جمموانب العلممم ،فممإن الصممنفين يتكمماملن ،ويأخممذ هممؤلء مممن هممؤلء
وهؤلء من هؤلء،1ومن هذا الباب دعا المفكر خير الدين التونسممي
-119-
إلممى ضممرورة الختلط والتعمماون والتكامممل بيممن أهممل العلممم وأهممل
السياسممة ,إذ ل تسممتقيم المممور لحممد الطرفيممن دون الخممر قممال:
وأنممت إذا أحطممت بممما قررنمماه ,علمممت مخالطممة العلممماء لرجممال
السياسة بقصد التعاضد علممى المقصممد المممذكور ))تحقيممق مصممالح
المة(( ,من أهم الواجبممات شممرعا ً ..وبيممان ذلممك أن إدارة أحكممام
الشريعة كما تتوقف علممى العلممم بالنصمموص تتوقممف علممى معرفممة
الحوال التي تعتممبر فممي تنزيممل تلمك النصمموص ,فالعممالم إذا اختمار
العزلة والبعد عن أربمماب السياسممة ,فقممد سممد عممن نفسممه أبممواب
معرفة الحوال المشار إليها.1
فهذه الصممفات الثلثممة ))العلممم والمانممة والخممبرة(( هممي الشممروط
الساسممية اللزمممة لمممن يتولممون النظممر والمشمماورة فممي الشممؤون
العامة الدينية والدنيوية وقد جمعها المام البخمماري بقمموله :وكممانت
الئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون المناء من أهممل
العلم .2على اساس أن أهل العلم يممومئذ هممم أيضما ً أهممل ممارسممة
عملية وخبرة ميدانية وهي الوصاف المضمنة كذلك في قممول ابممن
جماعممة :وكممذلك ينبغممي للسمملطان مشمماورة العلممماء العمماملين ,
الناصحين لله ورسوله والمؤمنين.3
اختيار أهل الشورى: -2
ل مناص من قيام المة بانتخمماب مممن يمثلونهمما وينوبممون عنهمما فممي
مباشرة هذا النتخاب ,ومن تنتخبهم المة لهذه المهمممة يمكممن أن
يوصفوا بأنهم أهل الحل والعقد لمشايعة المة لهممم ومتابعتهمما لهممم
ورضاها بنيابتهم وعلى الدولممة أن تضممع النظممام اللزم لجممراء هممذا
النتخمماب وضمممان سمملمته وأن تعيممن فممي هممذا النظممام الشممروط
الواجب توفرها – في ضوء ماذكره الفقهاء – في من تنتخبهم المة
لتكوين جماعة أهل الحل والعقد ومثل هذا النتخاب ضرورى ولزم
ليجاد أهل الحل والعقد وإثبات وكالتهم عن المة بالتوكيل الصريح
,لن التوكيل الضمني يتعممذر حصمموله فممي المموقت الحاضممر لكممثرة
أفراد المة ولن إجازة مثل هذا التوكيل الضمني يفتممح باب ما ً خطممرا ً
على المة ويؤذن بفوضى وشر مستطير ,إذ يسممتطيع كممل عاطممل
عن شروط أهل الحل والعقد أن يجعل نفسه منهم وينصب نفسممه
ممثل ً عن المة بحجة أنها ترضى بنيابته عنها ضمنا ً وهذا مال تجوزه
الشريعة ول يستسيغه عقل.4
حقوق الفراد في دار السلم عبد الكريم زيدان ص.14 - 4
-120-
ولضمممان سمملمة انتخمماب مجلممس الشممورى ,انتخمماب الكفمماء
المخلصين لعضويته ل يكفي وضع نظام لهذا النتخاب ,بل لبد من
إشاعة المفاهيم السلمية ,ورفع المستوى الخلقممي فممي المممة ,
وتربية الفراد على مخافة اللمه وتقمواه حمتى ل ينتخبموا إل الصملح
وليقوم من تنتخبه المة بواجبه كما يأمر السلم.1
إن طريقة النتخاب المباشر هي الكثر اعتمادأ في السيرة النبويممة
وفي سيرة الخلفاء الراشدين ,ففي هممذه الحقبممة النموذجيممة كممان
الزعماء والوجهاء والمستشممارون والمقممدمون هممم الممذين ينبثقممون
ويقدمون في أقوامهم وعشائرهم ومدنهم وقراهم بشممكل طممبيعي
طوعي ,وهم الذين يحظون بالتقممدير التلقممائي والختيمماري لعممموم
الناس ,فيكون جمهور الناس هو الذي انتخبهممم ورضممي بهممم فقممد
كان النبي صلى اللممه عليممه وسمملم يتعامممل مممع الزعممماء والوجهمماء
والنقباء الذين اختارهم أقوامهم وتبوؤوا مكانتهم تلك برضاهم بهممم
وتقديمهم إياهم.2
ففي بيعة العقبة الثانية قال عليه الصلة والسلم للوس والخزرج:
اخرجوا لي اثني عشر نقيبا ً منكم يكونون على قممومهم ,فممأخرجوا
منهم اثني عشر نقيبا ً منهم تسعة من الخزرج وثلثة من الوس.3
-ونلحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعيممن النقبمماء ,إنممما
ترك طريق اختيممارهم إلممى الممذين بممايعوا فممإنهم سمميكونون عليهممم
مسممؤولين وكفلء ،والولممى أن يختممار النسممان مممن يكفلممه ويقمموم
بأمره ،وهذا أمر شوري ،وأراد الرسول صلى اللمه عليمه وسملم أن
يمارسوا الشورى عمليا من خلل اختيارهم نقبائهم.
-التمثيل النسبي فممي الختيممار ,فمممن المعلمموم أن الممذين حضممروا
البيعة من الخزرج ,أكممثر مممن الممذين حضممروا البيعممة مممن الوس ,
ثلثة أضعاف من الوس ,بل يزيدون ولذلك كان النقباء ثلثممة مممن
الوس ,وتسعة من الخزرج. 4
وفي غزوة حنين حينممما أراد عليممه الصمملة والسمملم أن يمممن علممى
قبيلة هوازن ,ويممرد عليهممم سممبيهم ،دعمما أصممحابه المقمماتلين معممه
ل :أما بعد فإن إخوانكم قد جاؤونمما تممائبين ,وعرض عليهم المر قائ ً
وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم ,فمن أحممب منكممم أن يطيممب
ذلك فليفعل ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إيماه
من أول ما يضئ الله علينا فليفعمل فقمال النماس :قمد طبنما بمذلك
-121-
يارسول الله ,فقمال رسمول اللمه صملى اللمه عليمه وسملم :إنما ل
ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن ,فممارجعوا حممتى يرفممع
إلينا عرفاؤكم أمركم .فرجع الناس فكلمهم عرفمماؤهم ثممم رجعمموا
إلى رسول الله صلى اللممه عليممه وسمملم فممأخبروه أنهممم قممد طيبمموا
وأذنوا.1
والذي يعنينا – في هذا المقام – هو أن هؤلء النقباء والعرفاء كانوا
نتيجة انتخاب اجتماعي تلقائي ,ناجم عممن مكممانتهم وأهليتهممم مممن
جهة وعن رضى الناس بهم من جهة أخرى فلم يكن أحممد يرسمملهم
إليهم أو يفرضهم عليهممم ,بممل كممانوا هممم الممذين يخرجممونهم منهممم
وجاءت سنة الخلفاء الراشدين وفقا ً للسنة النبوية ,فكان الخلفمماء
إذا أرادوا أن يستشيروا في أمر ديني أو دنيوي جمعوا وجوه الناس
ورؤوسهم.2
على أن تفضيل هذه الطريقة واعتمادها طريقممة أصمملية ,ل ينبغممي
أن يكون مانعا ً من اعتماد طريقة التعييممن علممى سممبيل السممتدراك
وسد النقص ,فهذه الطريقة أيض ما ً يمكممن العمممل بهمما وفممق حممدود
وضوابط تحقق فائدتها دون أن تتحول طريقا ً للسممتبداد والتحكممم ,
كما أن طريقة التعيين قد تكون في بعممض الحممالت هممي الطريقممة
السليمة والمثلي كممما فممي اختيممار خممواص المستشممارين ,وأعضمماء
بعض المجالس – أو اللجان – الستشارية المتخصصة فممي شممؤون
أمنيممة أو عسممكرية أو اقتصمماديه ..أو نحممو ذلممك مممن الختصاصممات
الصرفة.3
إن شؤون الحياة متعددة ,ولكل شأن منها أنمماس هممم المختصممون
فيه وهم أهل معرفته ,ومعرفة مايجب أن يكون عليه ,ففي المة
جانب القوة وفي المممة جممانب القضمماء وفممض المنازعممات وحسممم
الخصومات ,وفيها جانب المال والقتصاد ,وفيها جانب السياسممية
وتدبير الشؤون الداخلية والخارجية ,وفيها جممانب الفنممون الداريممة
وفيها جانب التعليم والتربية ,وفيها جانب الهندسممة ,وفيهمما جممانب
العلوم والمعارف النسممانية وفيهمما غيممر ذلممك مممن الجمموانب ولكممل
جانب أناس عرفوا فيه بنضح الراء وعظيم الثار وطممول الخممبرة ,
والمران هؤلء هم أهل الشورى في الشؤون المختلفة وهم الممذين
يجب على المة أن تعرفهم بآثارهم وتمنحهمما ثقتهمما ,وتنيبهممم عنهمما
في الرأي وهم الذين يرجع إليهم الحاكم لخذ رأيهم واستشارتهم ,
وهم الوسيلة الدائمة في نظر السلم لمعرفة ما تسوس به المممة
-الشورى في المعركة البناء ص .72 1
-122-
أمورها ,مما لم يرد في المصادر الشرعية ويحتاج إلممى اجتهمماد, 1
ولممذلك ينبغممي أن يعتمممد فممي الشممورى علممى أصممحاب الختصمماص
والخبرة في المسائل المعروضة التي تحتاج إلى نوع من المعرفممة
ففي شؤون الدين والحكممام يستشممار علممماء الممدين وفممي شممؤون
العمران والهندسة يستشممار المهندسممون ,وفممي شممؤون الصممناعة
يستشممار خممبراء الصممناعة ,وفممي شممؤون التجممارة يستشممار خممبراء
التجارة ,وفي شؤون الزراعة يستشار خبراء الزراعة وهكممذا وهنمما
لبد من توجيه النظار إلى أنه من الضروري أن يكون علماء الدين
قاسما ً مشتركا ً في هذه الشؤون ,حتى ل يخرج المستشارون من
تقرير السياسات المتنوعة عن حدود الشريعة.
-3نموذج للمشورة وللمستشير والمستشار:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :قدم عيينة بن حصن بن
حذيفة ,فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس ,وكان من النفر
الذين يدنيهم عمر وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته
كهول كانوا أو شبانا فقال عيينة لبن أخيه :ياابن أخي ,لك وجه
عند هذا المير ,فاستأذن لي عليه ,قال فأستأذن لك عليه :قال
ابن عباس :فاستأذن الحر لعيينة ,فأذن له عمر ,فلما دخل عليه
ي ياابن الخطاب ,فو الله ماتعطينا الجزل ول تحكم بيننا قال :ه ِ ْ
بالعدل ,فغضب عمر حتى هم به فقال له الحر :يا أمير
خذ ِ
المؤمنين ,إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم " ُ
َ ْ
ن" وإن هذا من الجاهلين ن ال ْ َ
جاه ِِلي َ ِ ض عَ مْر ِبال ْعُْر ِ
ف وَأع ْرِ ْ ال ْعَ ْ
فوَ وَأ ُ
والله ماجاوزها عمر حين تلها عليه وكان وقافا ً عند كتاب الله.2
من العبر والدروس والفوائد من هذا النص:
-1بعض صفات أهل الشورى ,كالعلم والحلم ,والنصح والتنبيه
لولي المر.
ب-أن المستشار – وغيممره مممن أهممل البطانممة – يكممون فممي خدمممة
عامة الناس ,ويكون همممزة وصممل – لهمممزة قطممع – بينهممم وبيممن
ولتهم.
ج -ومنهمما أن المستشممار يلتمممس العممذار والمخممارج للنمماس مممن
إساءتهم وسوء أدبهم ويدفع المير إلى التجاوز والعفو عنهم ,بممدل
دفعه إلى معاقبتهم والنتقام منهم.
س -ومنها أن هذا العفو وعممدم الزجممر ول العقوبممة ,يشممجع عامممة
النممماس علمممى الكلم ,وعلمممى تقمممديم شمممكاويهم وملحظممماتهم
وانتقماداتهم ونصمائحهم دون رعمب أو خموف ,ممع العلمم أن سموء
-الدولة الزنكية للصلبي ص .258 1
-123-
تس مَنا ِ ن ال ْ َ
ح َ الدب سمميزول إذ ُقوبممل بحسممن الدب قممال تعممالى":إ ِ ّ
ت" ) هود ,آية.(114 :سمي َّئا ِ ي ُذ ْه ِب ْ َ
ن ال ّ
وتشجيع الناس على الحرية والصراحة – ولو مع قلممة أدب أحيان ما ً –
أولى من تشجيعهم على التملق والنفاق .
ش -ومنها أن عمر رضي اللممه عنممه كممانت لممه مجممالس للشممورى ,
وكان أهلها وأعضاؤها من أهل العلم كهول وشبابًا.
ك -ومنهما أن عمممر كممان يختممار بطممانته مممن الناصممحين المخلصممين
وُيدنيهم ويحيط نفسه بهم.
ل -ومنها أن المير يقبل من مستشاره وناصحه ,بل تردد ول تمنممع
ول تكبر ,خاصة إذا كانت نصيحته له ونابعة من كتاب الله.1
-124-
حقوقهم ,فل شك أن غصبهم هممذا الحممق وإسممقاطه وتعطيلممه هممو
ظلم لهم وهذا الظلم يتفاقم ويتفاحش بعدد أصحاب الحق ،وبقممدر
استمرار هذا الغصب وسيئ آثاره 1المتراكمممة " فَمماع ْت َب ُِروا َيما ُأول ِممي
َ
اْلب ْ َ
صاِر" )الحشر ,آية .(2 :
يقول ابن خلدون :ول تحسبن الظلم إنما هو أخممذ المممال أو الملممك
من يد مالكه من غير عمموض ول سممبب ,كممما فممي المشممهور ,بممل
الظلم أعم من ذلك وكل من أخذ من ملك أحد أو غصبه في عمله
أو طالبه بغير حق أوفرض عليه حق لم يفرض الشرع فقممد ظلمممه
ووبال ذلممك كلممه عممائد علممى الدولممة بخممراب العمممران .2فالشممورى
المصدر الثاني لهداية الناس ورشدهم وصلح أمورهم ,بعد الوحي
,وعلى أنها حق من حقوق المسلمين وأن غصبه وتعطيله هو مممن
أعظم المظالم والمفاسمد المتي حماقت بالمسملمين ,وأن تصمحيح
هذا الوضع وإعادة الشورى إلى نصابها هو أحد الشروط الضرورية
وأحد المسالك الساسية لكل إصلح ونهوض ديني ودنيوي.
-1الفراغ التنظيمي والفقهي في إدارة الشورى:
إن الفراغ التنظيمي والفقهي فممي مسممألة إدارة الشممورى ,وإدارة
الختلفات السياسية قد شممكل علممى الممدوام سممببا ً لتحكممم منطممق
القوة والغلبممة بكممل مممايعنيه ذلممك مممن فتممن وصممراعات وتصممفيات
دموية وقد وردت أحاديث وآثار صحيحة كانت تقتضي المبادرة إلى
وضع قواعد مضبوطة ومتعممارف عليهمما لفممض النزاعممات وتجاوزهمما
وصد الفتن وتجنبها بدل السقوط فيها ومعالجتها بالسيوف.3
أ -عن عامر بن سعد عن أبيــه أن رســول اللــه صمملى اللممه
عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية ,حممتى إذا مممر بمسممجد بنممي
معاويممة دخممل فركممع ركعممتين وصمملينا معممه ودعمما ربممه طممويل ً ,ثممم
إنصرف إلينا ,فقال صمملى اللممه عليممه وسمملم ,سممألت ربممي ثلثما ً ,
فأعطاني اثنممتين ومنعنممي واحممدة ,سممألت ربممي أن ل يهلممك أمممتي
بالسنة فأعطانيها وسألته أل يهلك أمتي بالغرق فأعطانيهمما وسممألته
أن ل يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها.4
نلحظ أن الطلممبين الول والثمماني يتعلقممان بأسممباب قدريممة صممرفة
ليس للمة مسؤولية فيها وليس من كسبها ول من صنع يممدها ,ول
يمكن أن يدفعها من هلكها إل قدر الله تعالى.
-125-
وأما الطلب الثالث فمتعلمق بعممل النماس واجمتراحهم واجتنمابه أو
علجهم بأيديهم وقد أرشدهم إلى أسباب الخوة والوحدة وحذرهم
من أسباب العداوة والفرقة فلن يكممون بأسممهم بينهممم إل بمخالفممة
أحكام دينهم وتفريطهم فيما فرض عليهممم ,فليممس أمممامهم إل أن
يحلمموا مشمماكلهم الناجمممة عممن أفعممالهم بأنفسممهم ,وأن يحتمماطوا
ويسممدوا أبممواب الفتممن والصممراعات وإل فليتحملمموا نتممائج الخلل
والتفريط ونتائج التعدي لحدود الله.
ومممن التحصممينات السمملمية ضممد التصممارع والتفممرق والفتنممة ,أن
م". مُره ُْ
م ُ َ
شوَرى ب َي ْن َهُ ْ فرض على المسلمين أن يكون " وأ ْ
والشورى تفضمي إلمى تحكيمم الشمرع ,وتحكيمم العقمل ,وتحكيمم
المنطق ,وتحكيم المصلحة ,والشورى حوار وتفاهم وتوافق حيث
يأخذ كل ذي حق حقه ,والشورى استدلل واحتجمماج وإقنمماع وفممي
الجهة الخرى يوجد الستبداد والنانية والمغالبة بكل وسائلها ,من
مكر وسيف وبأس وتآمر 1وقوله صلى الله عليه وسلم :وسألته أن
ل يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ,ليممس معنمماه أن ))بأسممهم بينهممم((
مفروض عليهم ,ول محيد عنه ول مخرج منه ,بل معنمماه فقممط أن
هذا الطلب غير مجاب وغير مضمون لهم ,وأنه مممتروك لتصممرفهم
وتدبيرهم وسلوكهم ,وأن عليهممم أن يحتمماطوا لنفسممهم بأنفسممهم
ومن الحتياطات التي يلزم تحقيقها تجنبا ً للفتن والصراعات اعتماد
الشورى ،وتنظيممم إدارة الشممورى ،وتنظيممم الشممورى فممي مممواطن
النزاع ومظان الصممراع ,بصممفة خاصممة ,وفممي هممذا المعنممى يقممول
العلمة الفقيه محمد الحجوي الثعالبي :ولعممدم الشممورى المنظمممة
في السلم وقع ماوقع من الفتن والحروب بعد عمر ,ليقضي الله
أمره .ول أزال أقوال :إنه كان يجول في فكر عمر شئ من ذلك ,
بدليل تنظيمه لمجلس شورى الخلفة. 2
ب -الفتنة التي تموج كموج البحر:
سأل عمر بن الخطاب بعض الصحابة عن حديث الفتنة التي تممموج
كموج البحر ,فقال له حذيفة بن اليمان رضممي اللممه عنممه :يمما أميممر
المؤمنين ,ل بأس عليممك منهمما ,إن بينممك وبينهمما بابمما مغلق ما ً قممال:
أفيكسر الباب أم يفتح ؟ قال :قلت :ل بل يكسر قال ذلممك أحممرى
أن ل يغلق .
وللدكتور أحمد الريسوني تعليق جميل علممى هممذا الحممديث ,حيممث
يقول :فنحن أمام إخبار نبوي عن فتنة آتية ,تموج كممموج البحممر ,
وأن هذه الفتنه دونهمما بمماب مغلممق إلممى حيممن وأنهمما سممتدخل علممى
-الشورى في معركة البناء ص .137 1
-126-
المسمملمين عنممد زوال ذلممك البمماب ,وهنمما سممأل عمممر ,بحنكتممه
وبصيرته وبعد نظره ,أفيكسر الباب أم يفتح ؟ فيأتي جواب حذيفة
ل بل يكسر ,فيقول عمر ذلك أحرى أن ل يغلممق ,فالبمماب المغلممق
إذا تم فتحه بكيفية طبيعيممة ,يمكممن إعممادة غلقممه بكيفيممة طبيعيممة ,
ولكن إذا كسر وحطم ,بقي مشرعا ً ,علممى القممل إلممى حيممن ,أي
إلى أن يعاد الباب إلى وضعه السوي وإلى إغلقه المعتمماد وأممما أن
كان كسره وتحطيمممه نتيجممة خصممام وتنممازع فقممد ل يتمأتى إصمملحه
وإعادته إل بعد إنهاء الخصومة والنزاع ومعالجه أسبابهما.1
والمخرج هو إعادة بناء البواب ,وإغلقها في وجه الفتممن وأصممحاب
الفتممن ,فحيممن تكممون عنممدنا أبمموب وتكممون عنممدنا مممداخل ومخممارج
ويكون عندنا حراس وبوابون ,وعنممدنا مفاتيممح ,لكممل بمماب مفتمماحه,
ويكممون عنممدنا قواعممد ))أو قمموانين (( للممدخول والخممروج والفتممح
والغلق ,حينئذ ل خوف من الفتن ,حممتى لممو أطلممت أو تسممللت أو
تسربت.
إن هذا بعض ما أعنيه بتنظيم الشورى ومأسسة الشممورى وتنظيممم
إدارة الشورى ,أي لبد من مؤسسات للشورى ولبممد مممن قمموانين
تنظيمية للشورى ,2والسلم أعطانا مجال ً واسعا ً لتنظيممم مؤسسممة
الشورى وجعل ذلك اجتهادا ً منوطا ً بأهل الختصاص في هذه المممة
وهذا من مراعاته للمجالت المتحركة والمتغيرة ,فهو مثل ً قممد أمممر
بالعلم والتعليم والتعلم ,ولم يضع لذلك تنظيما ً محددا ً وهو قد أمممر
بالحكم والقضاء بين الناس وأن يكون ذلك بالعدل وبما أنممزل اللممه
ولكنه لم يضع لنا نظاما ً قضائيا ً وأمر بالجهاد ,ولم يضع لنمما تنظيم ما ً
لذلك وكلفنا بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يفرض نظاما ً
أو طريقة مفصلة لذلك وحث على الوقف والتحبيس ولم يرسم لنا
نظاما ً لتسيير الوقاف المتراكمة عبر العصور.3
فالجراءات والقوانين والوسممائل التنظيميممة ,هممي بمثابممة الملبممس
ضرورية ول غنى عنها ولكنها تفصل بحسب الجسام وتفاوتهمما فممي
الحجام والزمان وبحسب أحوال الطقس مممن بممرد وحممر واعتممدال
وبحسب حالة الجسم من صحة واعتلل ,وبحسب طبيعممة العمممال
والممارسات المختلفة ولتوضيح المسألة أكثر ,أصنع أمممام القممارى
الكريم نموذجا ً واحدا ً للوظممائف والتكمماليف الشممرعية الممتي أخممذت
مممايلزم مممن التنظيممم والتقنيممن والمأسسممة وهممو العلممم والتعليممم
للمقارنممة مممع الشممورى ومآلهمما ,ففممي العلممم والتعليممم – كممما فممي
-الشورى في معركة البناء ص .138 1
-127-
الشورى – وردت آيات وأحاديث تحث وترغممب وتممأمر وتشممجع ,ثممم
فممي المريممن مع ما ً نجممد ممارسممة تطبيقيممة ,تتسممم بكامممل الجديممة
والفاعلية أيضا ً تتسم – مممن حيممث تنظيمهمما – بالبسمماطة والعفويممة
والمرونة ,ولم يختلف المر كثيرا ً على عهد الخلفاء الراشمدين بعممد
ذلك دخلت المسألة العلميممة والتعليميممة فممي مسممار متواصممل مممن
التنظيم والضبط والمأسسة والتوسيع والتفريع ,حمتى انتهمى المممر
سريعا ً إلى المدارس والجامعممات النظاميممة ذات البنيممات الداريممة,
والبنايات العمرانية والموارد الماليممة ,فض مل ً عممن نظمهمما التعليميممة
بموادهمما وبرامجهمما ومسممتوياتها وأسمماليبها وأصممبحنا ً أمممام مممدارس
وجامعات ,أهلية لتعد ول تحصى ورسمية حكومية لتعمد ولتحصمى
وكل هذه النظممم والمؤسسممات والمناهممج والتخصصممات والشمواهد
والجازات والموارد والميزانيات ,لم يفعلها رسول الله صمملى اللممه
عليه وسلم ول أمر بها ،ومع ذلممك بممادر إليهمما المسمملمون وتنممافس
فيها العلماء والمراء والغنياء والفقراء ولو ل ذلك لبقيممت الحركممة
العلمية ضئيلة وبدائية ولما أمكنها الستجابة للمتطلبات والتحديات
الجديممدة للمجتمعممات السمملمية ,وللممدعوة السمملمية ,وللدولممة
السلمية ,ولبقيت هي نفسها عرضة للتلشي والندثار.1
وإذا كانت هذه التدابير التنظيميممة ليممس لهمما وضممع شممرعي محممدد,
وليست منصوصا ً عليها ول مأمورا ً بها على وجه التفصيل والتعيين,
فإن الشرع قد تضمن عددا ً من القواعد العامة الحاكمة والموجهممة
في كل مجال وفي كل وظيفة شممرعية ففممي الممارسممة الشممورية
هنالك عدد من المبممادئ والقواعممد المؤسسممة والهاديممة للممارسممة
الشورية وهي مستوحاة من القرآن والسنة ومن التجربممة العلميممة
للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين.2
إن الشورى تستوجب وضع القواعممد المنظمممة لممارسممتها وكممذلك
تبرز الحاجة إلى الطر المؤسسية والجرائية التي تواكب متغيرات
العصر وتحافظ على مقتضيات الصل ,وهي مما يممدخل فممي دائرة
الجتهممادات المشممروعة الممتي تتصممل بتطمموير الوسممائل نحممو بلمموغ
الغايات ولبد من عنايممة بهمما ,لن تنظيممم شممكل ممارسممة الشممورى
يضمن لها الفعالية ,وغياب هذا التنظيم قد يحولها إما إلممى شممورى
صورية لحقيقة لها ,وإما إلى فوضى في الرأي ل غنى لها.
والتنظيم المقصود للشورى يرتكز على أن القرار بحق الفرد فممي
الشورى يجب أن يقمابله اللممتزام بمواجب الفممرد فمي اللممتزام أول ً
بممارسممتها فممي محلهمما وأخيممرا ً بممما تسممفر عنممه مممن رأي إن كممان
-الشورى في معركة البناء ص .140 1
-128-
مخالفا ً لمما همو عليمه ممن رأي .والمدرس الشمورى المسمتفاد ممن
العمل برأي الكثريممة أن تتحممل نتمائج تبعممة العمممل واتخماذ القمرار
ولحسم التردد بعد اتخاذ القرار.1
ويجيء المر بالتزام الشورى كمنهممج مهممما كممانت النتممائج والمممراد
تربية المة على الشورى.
إن مكتبتنا في هذا الجانب فقيرة إلى كتاب أصلى لتنظيم إجراءات
الجتماع والتداول وإبداء الرأي ,كما أن قوانيننا التي تنظم مجالت
القول والتعممبير وإبممداء الممرأي فقيممرة أيض ما ً إلممى مرجعيممة تأصمميلية
تراعي مقتضيات الممارسة الحرة المسؤولة ولكننا هنا نشممير إلممى
جوامع من الفكار التي يمكن أن ت ُممترجم إلممى قمموانين حاكمممة فممي
المجالت المشار إليها آنفًا.
وهكذا لبد للشورى – في كل عصر ومصر أو بحسب الظروف
المكانية والزمانية – من مؤسسات وإجراءات تناسبها من حيث
هي مناهج لتحقيق المقاصد مع احتفاظ الشورى بجوهرها في
كونها ممارسة حرة لبداء الرأي وتبادله بغية الوصول لجماع أو ما
يقاربه وهذه الوسائل من الجتهادات المشروعة في إعمال أحكام
الشورى على متغيرات العصر ,ويمكن استخلص الجتهاد في
استحداث مجالس الشورى التشريعية والرقابية 2من الية الكريمة
َ َ
م صَلة َ وأ ْ
مُره ُْ م وَأَقا ُ
موا ال ّ جاُبوا ل َِرب ّهِ ْ ست َ َ
نا ْذي َقال تعالىَ" :وال ّ ِ
ن" )الشورى ,آية (38 :وذلك قو َ م ُينفِ ُما َرَزقَْناهُ ْم ّ م وَ ِ ُ
شوَرى ب َي ْن َهُ ْ
على النحو التالي:
-1يؤخذ من لفظ ))وأمرهم(( ,أي :المر الموكول إلى النمماس ,
وليس أمر الله الذي نزل به الوحي الثابت النممص والدللممة ,اللهممم
إل ما كان من الشورى حول وسائل تنفيذ هذا المر اللهي.
ب -كما يؤخذ من لفظ ))بينهم(( ,أي بين العامممة والخاصممة وذلممك
حول اختيار إمممام المسمملمين مممن خلل البيعممة الخاصممة ثممم البيعممة
العامة ,وربما كان كما أسمملفنا بمثلهمما فممي هممذا العصممر النتخابممات
الرئاسية علوة على الشورى في المور العامة بين ممثلممي المممة,
مما يقتضي اختيار مجالس الشورى بالنتخاب العام ,وهي مجالس
للتشريع والرقابة تحول دون استبداد الحكم الفردي .
ج -ويمكن أن ُيتوخى في النتخابات الرئاسية والتشريعية الجممماع,
وإل فممالرأي العممام الغممالب والراجممح وكممذلك المممر فممي مجممالس
-129-
الشورى التشريعية والتنفيذية لقوله صلى الله عليه وسلم :عليكممم
بالسواد العظم.1
-2صلحيات مجلس الشورى ووظائفه:
-الرقابممة علممى شممرعية النظممم والحكممام ودسممتورية القمموانين
وشرعيتها وهي مهمة العلماء وأهل الختصاص.
-المحاسبة وأداء واجب النصيحة وفقا ً للمشروعية وممارسممة حممق
الرقابة.
-إظهار عدم الرضا عن المعاونين والولة.
-حق حصر المرشحين للرئاسة وغيرها من المناصب.
وأما وظائف الشورى:
كما يستفاد من العرض السابق كله فإن للشورى وظائف أساسممية
نستطيع إجمالها فيما يلي:
-اختيار من يلي أمور البلد والعباد وليممة ))الرئاسممة(( ومممن يقمموم
مقامه في مستويات أدنى.
-اختيار مجلممس التشممريع والرقابممة العامممة علممى كممل المسممتويات
))المستوى الوطني ,والمستوى المحلي((.
-إقرار أو تعديل عقد الحكم العام ))الدستور((.
-التوصممل إلممى قممرار فممي القضممايا المصمميرية للبلد وهممذه المممور
الربعة تفرض للشورى العامة.
2
-الوصول إلى قرار داخل جميع الجهزة .
-3من قواعد الشورى المؤسسية:
أ -التزام القلية برأي الغلبية في التخطيط والتنفيممذ اتباع ما ً للسممنة
النبوية وسنة الخلفة الراشدة.
3
ب -ثم إن الحاكم مسؤول عن أخطائه يحاسب عليها .
-4من المؤسسات الشورية المعاصرة:
أما الطر المؤسسية التي تقتضي ممارسة الشورى:
أ -المجلممس التشممريعي الرقممابي المموطني مهممما كممان اسمممه ثممم
المجالس المحلية وهذه هي المحال الساسية للشورى في الشأن
العام.
-والمجالس التنفيذية من حيث التداول والنظر وتبادل الراء يجممب
أن تكون محكومة بأدب الشورى ومنهجها.
-مجلس الخبراء التي تجتمع – أو يجب أن يكون الشممأن جمعهمما –
للتداول حول أمر من أمممور السياسممات العامممة صممفته التخصممص ,
-مسند أحمد رقم 17722الشورى ص .125 1
-130-
ولكن آراء الخبراء وأهل الدراية فيه مختلفة ,وهذه شورى علماء ل
تلجأ إلى عد الصوات ولكنها تؤدي إلى التمهيد لتبني سياسة عامممة
في الدولة أو المجتمع.
-المؤتمرات التي ُتدعى لشؤون التخطيط والسياسة.
-الجمعيات ,سياسة كانت أو اجتماعية ,أحزابا أو مؤسسات للنفممع
العام ,أو تجمعممات مفتوحممة للراغممبين مممن أهممل فممن معيممن أو هممم
مشترك.
ومما يتضح أن هنالك أطرا ً للشورى على الدولة إنشاؤها وإعمارها
بالعضوية بشكل منتظم ,وإلزامها بالتشمماور وأن يلممتزم أولممو المممر
من بعد نشرها.1
-5النظم الجرائية لعملية الشورى:
هنالك نظم إجرائية تجعل عمليممة الشمورى ميسمورة وفعالمة ,منهما
مايلي:
-إتاحة الفرصة كاملة لرأي القلية ليجد حظه من النظر والنقاش.
-جعممل الجممراءات فممي خدمممة الممرأي ,تمهممد لممه العممرض السممليم
والنقاش المفيد ل س مّيدة عليممه تمنعممه إذا شمماءت أو تتحايممل علممى
حجبه متى شاءت.
-إبطال هيمنة القيد الزمني علممى حممق إبممداء الممرأي ,وذلممك بإتمماحه
الفرصة كاملة للعضاء للتعرف على المعروض عليهم مممن قضممايا,
يهيأ لها قبل وقت كاف من لحظة اتخاذ القرار.
-ترشيد المؤسسات الممهدة للشورى ,وأهمها الصحافة حتى تكون
عونا ً للداء الشورى السليم ,بأدائها للدور التمهيدي المنوط بها من
تعريف بالراء والقضايا ,بممدون تزييممف أو تضممليل ,أو إخفمماء وإبممداء
حسب المصلحة.
-البتعاد فيما يوضممح مممن لمموائح مممن أيممة بنممود أو مممواد لعلء كفممة
الرؤساء وأهل النفوذ المؤسسي علممى سممائر العضمماء إل الصمموت
المرجح وإل بالفرصة الرحب في العرض.
-إتاحة ما من شأنه أن يعين العضو على الجهر برأيه الخاص ويجنبه
التسليم برأي العصبية ,من شاكلة سرية التصويت ,أو علنيته وعدم
إفضاء أية محاسبة أو عقوبة تترتب على محض إبداء الرأي.
-إقامة دوائر الشورى الممهدة للتداول الشوري القويم.2
-6الصول والقواعــد الشــرعية تؤيــد تطــوير المؤسســة
الشورية:
-131-
إن الصول والقواعممد الشممرعية تؤيممد تطمموير المؤسسممة الشممورية
ومن هذه القواعد.
ث للناس أقضية بقدرما أحدثوا من فجور: أُ -تحدَ ُ
هذه القاعدة وإن كانت بهذه الصيغة منسوبة للخليفة عمر بن عبممد
العزيز رضي الله عنه ,فإنها قاعممدة معمممول بهمما قبلممه وبعممده عنممد
الفقهاء والولة والقضاة.1
وإذا انتقلنا بهذه القاعدة إلى موضوع الشمورى ,فممإن أفضممل مثمال
أبدأ به هو ماذهب إليه عمر رضي الله عنه حين بلغه أن هناك مممن
يتحين فرصة وفاته ليبادر إلى بيعة من يريد ويضع المسلمين أمممام
المر الواقممع وأمممام هممذا التطلممع الخطيممر لممم يكتممف عمممر بالبيممان
والتحذير ,ول بالحكم ببطلن هذه البيعة ,إذا تمت بغير مشورة من
المسلمين بل هدد بالقتل لمن يبادر إليها ولمن يقبلها لنفسه ,وهذا
حكم ل وجود له ول نظير له في الكتاب ول في السممنة ,ومممع ذلممك
لم ينكره أحد من الصممحابة علممى عمممر ولممم يعممترض عليممه – فيممما
أعلم – أحد من العلماء إلى الن فما سند هممذا الحكممم مممن عمممر؟
إنها هذه القاعدة الجليلة تحدث للناس أقضية بقدر ما أحممدثوا مممن
فجور ,وأي فجور أكبر من هذا التهور والستخفاف والتلعممب بحممق
المة ومصيرها؟ فهذا أمر ل بد فيه من حكم رادع ومكافئ والعبرة
التي نأخذها ليومنا وغمدنا همي أن كمل تطمور فمي النماس وحيماتهم
ومجتمعهم وخاصة التطور السلبي ,يحتاج إلممى الجتهمماد المناسممب
والحكام الملئمممة وفممق الدلممة الشممرعية ,ووفممق قواعممد التشممريع
ومقاصده لكي يتخذ من التدابير ومن النتظيمات ومن المؤسسات
كل مايحفظ على المسلمين دينهم ومصالحهم ,وممما يمنممع أو يممدفع
الفتن والنحرافات عنهم.2
ب -قاعدة سد الذرائع:
وفممي موضمموع الشممورى ,نجممد عمممر أيضما ً أول مممن اسممتعمل سممد
الذرائع وذلك حين رفممض اسممتخلف ولممده عبممد اللممه ,وحممتى حيممن
أدخله للحضور مع الستة أصحاب الشورى اشترط أل يكون له من
المر شميء وإنمما لمجمرد المرأي والترجيمح عنمد القتضماء وكمذلك
اسممتبعد مممن هممذا المممر ابممن عمممه سممعيد بممن زيممد رغممم أنممه مممن
المبشرين بالجنة مثل الستة أصحاب الشممورى ,فعمممر رضممي اللممه
عنه ,كان يخشى إن يتولى بعده أحد قرابته ,رغممم أهليتممه أن يتخممذ
ذلك ذريعة لتوريث الخلفة ,وجعلها دولة بين الباء والبناء والجداد
والحفاد ومع هذا فإن المحذور حصل ولو بعد حين ,ولو أن قاعدة
-الشورى في معركة البناء ص .141 1
-132-
سد الذرائع قد أعملمت فمي مجمال النظممام السياسمي ومؤسسماته
وتدبير شمؤونه ,لغلقممت البماب علمى كمثير ممما أصمماب الممارسممة
السياسية في تاريخنا من التلعممب والتعطيممل والتضممليل والفسمماد
والستبداد.1
ج -المصالح المرسلة :وهممذا أصممل كممبير مممن أصممول التشممريع
السلمي ,وهو يقوم على أساس أن الشريعة وأحكامها ,إنممما هممي
لمصلحة العباد في دينهم ودنياهم وأن مدار أحكامها على جلب ممما
فيه مصلحة حقيقية لهم ودرء ما فيه مفسدة حقيقيممة لهممم ,عاجلممة
أو آجلة ,2كما يقول ابن القيم :فإن الشريعة مبناها وأساسها علممى
الحكممم ومصممالح العبمماد فممي المعمماش والمعمماد ,وهممي عممدل كلهمما,
ورحمه كلها ,ومصالح كلها ,وحكمة كلها ,فكل مسألة خرجممت عممن
العدل إلى الجور ,وعن الرحمممة إلممى ضممدها ,وعممن المصمملحة إلممى
المفسدة وعمن الحكممة إلمى العبمث ,فليسمت ممن الشمريعة ,وإن
أدخلت فيها بالتأويل.3
ويمكننا اعتماد جميع التدابير والحكام التي تحقق وتخدم الشورى,
ومصلحة ممارسة الشورى ,ومصلحة إقامة حياة شممورية وعلقممات
شورية ,فكل ما يدخل في هذا البمماب فهممو واجممب أو منممدوب لنممه
مصلحة مرسلة ,فتحديممد المستشممارين ,وتحديممد شممروطهم بدقممة,
ومراجعة هممذا وذاك علممى فممترات زمنيممة محممددة ,وتحديممد مواعيممد
دورية للشورى ,وتأسيس هيئات شورية متعممددة ,علميممة وقضممائية
وسياسية وعسكرية ومالية والتحديد المسبق لمن يختارون المام.
وطريقة تشاورهم واختيارهم له وكذلك كيفية عزله وشروط ذلممك,
وجعل رواتب لهل الشورى ,إذا شممغلهم ذلممك عممن مكاسممبهم كممل
هذه وأشياء غيرها ,تدخل في باب المصممالح المرسمملة الممتي يتعيممن
الخذ بها كلما دعت الحاجة إلى ذلك.4
س :القتباس لما فيه مصلحة وخير:
كان المسلمون يقتبسون من غيرهم كل ما ينفعهم ويصلح لهم
مما ل يتعارض مع دينهم ,بل إن القرآن الكريم يعلمنا أن نقتبس
ونستفيد حتى من غير النسان ,فقد استفاد نبي الله سليمان عليه
السلم من الهدهد وكان في ذلك فتح مبين وخير عميم قال
ح ْ قا َ َ
ن"قي ٍ
سب َإ ٍ ب ِن َب َإ ٍ ي َ ِ
من َ جئ ْت ُ َ
ك ِ ط ب ِهِ وَ ِ ما ل َ ْ
م تُ ِ ت بِ َ
حط ُلأ َ تعالى " :فَ َ
) النمل ,آية (22 :وكانت عاقبة هذا النبأ اليقين ,هي إعلن
-133-
الملكة بلقيس إيمانها وإسلمها مع كل ما يستتبع ذلك من تحول
ت م ُب إ ِّني ظ َل َ ْ ت َر ّ تاريخي في ملكها ومملكتها قال تعالىَ " :قال َ ْ
َ
ن " ) النمل .آية: مي َ ب ال َْعال َ ِن ل ِل ّهِ َر ّ ما َ سل َي ْ َ معَ ُ ت َ م ُ سل َ ْ سي وَأ ْ ف ِ نَ ْ
. (44
-كما قص علينا القرآن الكريم استفادة ولد آدم من الغراب
ولومه لنفسه لنه لم يهتد إلى ما اهتدى إليه الغراب قال تعالى" :
َ
ثن * فَب َعَ َ ري َ س َِخا ِن ال ْ َم َ ح ِ ه فَأ ْ
صب َ َ قت َل َ ُخيهِ فَ َ ل أَ ِ ه قَت ْ َ س ُف ُ ه نَ ْ ت لَ ُ فَط َوّع َ ْ
ل َياخيهِ َقا َ وءة َ أ ِ س ْواِري َ َ ف يُه ك َي ْ َ ض ل ِي ُرِي َ ُِ ث ِفي ال َْر ح ُ ه غ َُراًبا ي َب ْ َ الل ّ ُ
ُ
خي وءة َ أ َ ِ س ْب فَأَوارِيَ َ ذا ال ْغَُرا ِ هم َ ل َ مث ْ َ ن ِ كو َ ن أَ ُ تأ ْ
َ
جْز ُ
َ
وَي ْل ََتا أع َ َ
َ
ن " ) المائدة ,آية .(31-30 :فإذا كان هذا مع مي َ ن الّناد ِ ِ م َ ح ِ فَأ ْ
صب َ َ
الهدهد والغراب ,فكيف بنا مع النسان بكل ما وهبه الله من
قدرات عقلية وفكرية ,ومن قدرة على تطوير التجارب والخبرات,
وبما هو مثبوت فيه وفي تاريخه من تراث النبياء وآثارهم ومن
حكمة الحكماء وآرائهم.1
-حفر الخندق:
وفي السيرة النبوية ,لما اجتمعت الحممزاب – فممي غممزوة الخنممدق
على غزو المسلمين واستئصالهم ,جاءت فكرة حفر الخندق حممول
المدينة ,لمنممع الجيمموش الغازيممة مممن دخولهمما وهممذا أسمملوب كممان
يستعمله الفممرس ,وكممان الممذي أشممار بممذلك سمملمان – فيممما ذكممر
أصحاب المغازي – فقد قال لرسول الله صلى عليه وسلم :إنا كنمما
بفارس إذا حوصممرنا خنممدقنا علينمما ,فممأمر النممبي صمملي اللممه عليممه
وسلم بحفر الخندق حول المدينة ,وعمل فيه بنفسه.2
ولم يقل رسول الله صلى اللممه عليممه وسمملم :دعونمما مممن فممارس ,
ودعونا من أساليب المجوس المشركين.3
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسمملم لممما أراد أن
يكتب إلى ملوك زمانه )) قيصر ,وكسرى والنجاشممي (( قيممل لممه:
إنهم ل يقبلون كتابا ً إل بخاتم ,فصاغ رسول اللممه صمملى اللممه عليممه
وسلم خاتما ً حلقته فضة ونقش فيه )) محمد رسول الله((.4
وفي صحيح مسمملم ,مممن نممماذج هممذا التمموجه والنفتمماح الحضمماري
والستفادة من الشعوب الخرى .
ما قاله المستورد القرشي عند عمرو بن العمماص :سمممعت رسممول
اللممه صمملى اللممه عليممه وسمملم يقممول :تقمموم السمماعة والممروم أكممثر
-134-
الناس ,فقال له عمرو :أبصر ما تقول :قال أقول ما سمممعت مممن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :لئن قلت ذلك ,فممإن فيهممم
لخصال ً أربعًا :إنهم لحلم الناس عند فتنممة ,وأسممرعهم إفاقممة عنممد
مصيبة ,وُأوشكهم كرة بعد فره ,وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف
,وخامسة حسنة جميلة :وأمنعهم من ظلم الملوك 1وكلها صممفات
مدح وثناء والدعوة إلى القتداء ,وأقربها إلى دراستنا همذه الصمفة
الخامسممة )) وأمنعهممم مممن ظلممم الملمموك (( فالنهممج السمملمي
الصحيح ,جواز التأسي بكل من أحسن في إحسانه ,وكل من أجاد
في إجادته وكل من أصاب في إصممابته ,والميمزان هممو :مما يوافممق
السلم ويخدمه وما ينفع المسلمين ويخدم مصالحهم.
وعلى هذا الساس صار الصحابة والخلفمماء الراشممدون ,فاقتبسمموا
واستفادوا ,بل تحرج ول تنطع والمثلة كثيرة في هذا المجال.2
لقد عرف العصر الحديث تطورات هائلة وتجارب غنية مممن النظممم
السياسية والدارية وخاصة في مجال تشكيل المؤسسات المكلفة
بتدبير الشؤون العامة وتسييرها ومجمل هذه التطورات والتجممارب
والنماط التنظيميممة يمكممن دراسممتها والسممتفادة منهمما وننظممر فممي
جدواها ونتائجها ,ثم نأخممذ منهمما كممثيرا ً أو قليل ً واسمموا سمممي ذلممك
ديمقراطية أو أساليب ديمقراطية ,أو اقتباسا ً ديمقراطيا ً ,أو نهجا ً
ديمقراطيممما ً ,فمممالعبرة بالمسمممميات ,ل بالسمممماء وبالمعممماني ل
باللفمماظ وبالمحتويممات ل بالمصممطلحات ,وبالمقاصممد والجممواهر ل
بالوسائل والمظاهر ,كما يقول ابن القيم :فإن العتبممار بالمقاصممد
والمعاني في القوال والفعال. 3
-هل نستفيد من الديمقراطية:
إن الوسائل والموازين والطرق إنما تكتسب مشممروعيتها وأهميتهمما
ومكانتها من خلل ما تحققه وتفضي إليه.
قال ابن القيم :فإن الله أرسممل رسممله وأنممزل كتبممه ليقمموم النمماس
بالقسممط ,وهممو العممدل الممذي قممامت بممه السممماوات والرض فممإذا
ظهرت أمممارات الحممق ,وقممامت أدلممة العقممل وأسممفر صممبحه بممأي
طريق كان ,فثم شرع الله ودينه ورضمماه وأمممره واللممه تعممالى لممم
يحصر طرق العدل وأدلته أماراته في نوع واحد وأبطممل غيممره مممن
الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهممر بممل بيممن بممما شممرعه مممن
الطرق أن مقصودة إقامة الحق والعممدل وقيممام النمماس بالقسممط ,
فممأي طريممق اسممتخرج بممه الحممق ومعرفممة العممدل ,وجممب الحكممم
-مسلم ,ك الفتن وأشراط الساعة. 1
-135-
بموجبها ومقتضاها والطرق أسممباب ووسممائل ل ت ُممرد لممذواتها وإنممما
المراد غاياتها.1
إن الخممذ مممن النظممم الديمقراطيممة ،أو الخممذ بالديمقراطيممة مممع
تهذيبها وترشيدها ،وإنما هو من باب طلب الحكمة أنى وجدت وهو
من باب السياسمة الشمرعية الرشميدة والسياسمة الشمرعية ,كمما
يقول ابن عقيل – هي ما كان من الفعال بحيث يكون الناس معممه
أقرب إلى الصمملح وأبعممد مممن الفسمماد ،وإن لممم يشممرعه الرسممول
صلى الله عليه وسلم ول نزل به وحي.2
وحينما نقرر الستفادة من التجارب والنظم الديمقراطيممة ,فليممس
لحممد أن يقممول لنمما خممذوا الديمقراطيممة جملممة أو دعوهمما أو اقبلمموا
الديمقراطية على ع ّ
لتهمما أو ))خممذوا هممذا النممموذج بحممذافيره(( .أو
))خذوا الديمقراطية الغربية بحلوها ومّرها 3لئن الديمقراطيممة عنممد
أهلها إنما هممي تجربممة إنسممانية قابلممة للنقممد والخممذ والعطمماء وهممم
معترفون بأن فيها عيوب ونقائص وآفات.4
* من آفات الديمقراطية:
فمن أكبر الفمات المتي تعماني منهما الديمقراطيممة اليموم ،سميطرة
أرباب المال على مقاليممدها ,بممدءا ً مممن السمميطرة علممى المؤسسمة
السياسية بما يتبعها من مؤسسممات متحكمممة وموجهممة ثممم التحكممم
في تأسيس الحزاب الكبرى وتمويلها ثم تمويل الحملت النتخابية
الباهظة التكاليف ،بطرق قانونية وغير قانونيممة ،ثممم امتلك وسممائل
العلم الكبرى والتحكم فيها وتوجيههما لصممالح مممن يريممدون ،وضممد
من يريدون ،وهكمذا نصمل فمي النهايمة إلمى أغلبيمة برلمانيمة تابعمة
للقلية ،أو نصل إلى حكومة القلية المسماة بحكومة الغلبية.5
7ـ من الفروق بين الشورى والديمقراطية:
إذا اعتبرنا الديمقراطية مذهبا ً اجتماعيا ً قائم ما ً بممذاته فليممس لنمما أن
نقول إنها من السلم ،أو أن السلم يقبلها ويستسيغها ويتضمممنها،
إذ هما مذهبان مختلفممان فممي أصممولهما وجممذورهما ،أو فلسممفتهما،
ونتممائج تطبيقهمما ولكننمما إذا نظرنمما إليهمما علممى أنهمما اتجمماه يحممارب
الفردية،والستبداد والستئثار ،والتمييز ،ويسعى في سبيل جمهممرة
الشعب ويشركه في الحكم ،وفي مراقبممة الحكممام ،وسممؤالهم عممن
أعممالهم ومحاسمبتهم عليهما ،فالسملم ذو نزعمة ديمقراطيمة بهمذا
أعلم الموقعين ) (373\4الطرق الحكمية ص .21 - 1
-136-
المعنى بل جدال ،أو أن للسلم ديمقراطيته الخاصة به أي نظممامه
يمنع استبداد الحكام واسممتئثارهم ،ويمك ّممن الشممعب مممن مراقبتهممم
ومحاسبتهم.1
يقول الدكتور محمد ضياء الريس :إن ثمة أوجها ً للتفاق كممثيرة ممما
بيممن السمملم والديمقراطيممة ،لكممن أوجممه الختلف أكممبر ،وعليممه
سنحصممر الخلف فممي أهممم النقمماط المركزيممة ,علم ما ً أن البعممض
أوصلها إلى أكثر من خمممس وعشممرين نقطممة وجعممل منهمما حمماجزا َ
للفصل مابين الشورى والديمقراطية ,لعتبار أنممه مهممما يكممن مممن
التقمماء فممي بعممض الجممراءات ,فممإن هممذا الفممارق الضممخم يصممعب
تجاهله.2
أ -أن الديمقراطية غالبا َ ما كانت تمارس في أنظمة سياسممية لدينيممة ,
لسيما في الغرب ,لن العتقاد كان سائدا َ أن الحكم الممديني ينتممج
طبقممة كهنوتيممة ويجعممل الحمماكم مقدس ما َ ,وبالتممالي حصممر العلقممة
ويصادر الرأي المخالف ,ويتم إصدار أحكممام الكفممر والزندقممة ضممد
المعارضين ,كما حدث في أزمة الكنيسة والعلم في أوروبا.3
-137-
ج -أن مفهوم المة ليتحدد في السلم بجنس أو عممرق أو أرض ,
بل بمفهوم المة الوسع وبالتالي روح العقيدة السمملمية ومفهمموم
الوحممدة بيممن المسمملمين هممي الصممل ,فممي ظممل وجممود مفارقممات
سياسية ,في حين أن النظام الممديمقراطي يحممدد ذلممك فممي قطممر
معين ,مع وجود المشاحنات والتنافر بين أبناء القطر الواحد .
في حين أن في نظام الشورى يكون التشريع فيه للممه ,عممز وجممل
وحده والحاكميممة لممه سممبحانه ،وحممتى فممي المسممائل الجتهاديممة أو
الخلفية ،الصل أن لتخرج عن مقممررات الشممريعة وهممذا مممايوازيه
في النظام الديمقراطي السيادة في الفكر الغربي ,بيد أن سلطة
الشعب في ظل النظام السلمي ليس مطلقممة ,بممل هممي مقيممدة
بمقرارات الشريعة وأحكامها أو بصورة أوضممح ,أن الديمقراطيممة
تتجاهل المبادئ العليا والشرائع السماوية ,بل قد تكون في بعممض
الحيان في حال رفض وازدراء لكل المعتقدات السماوية.1
-138-
كانت الغلبية مطلقة وعليه قد تقع الحيل والمخادعات وسياسممات
مكيا فيللي "،الغايممة تممبرر الوسمميلة" ،مممما يوقممع الفسمماد الخلقممي
والصلحي بإسم الديمقراطية .
سيما إذا كممان الدسممتور والقيممم تنحصممر فممي هممذه الغلبيممة ,فمممن
الممكن أن تنحصر القيم التي تحكم الجراءات الديمقراطية ,وأن
يقممرر النمماخبون القممانون والقيمممة ,بممدون أي مرجعيممة أخلقيممة أو
معرفية ,كما فعل هتلر بعد حصوله على الغلبية من خلل العملية
الديمقراطيممة فقممام بتصممفية القليممات العرقيممة والدينيممة بموافقممة
الغلبية اللمانية ,وهذا النوع من الديمقراطية هممو الممممارس فممي
الغرب ،إذ بهذا النظام القائم على تحصمميل المنفعممة واللممذة يمكممن
إجممازة الممزواج المثلممي ،أو السممحاق أو الجهمماض ،وغيممر ذلممك مممن
الفعال المخالفة للقيم النسانية بحجج تحصيل الغلبية من النواب
,إذ يكون بعضهم مرشحا َ من قبل هذه الجمعيممات الشمماذة أخلقيمما
وهذا مايجعلنا نؤكد على أن النظمة الغربيممة تقمموم علممى منظومممة
قيم تختلف جذريا عن تلك القائمة عند المسلمين وليس المشممكلة
فممي النظممام السياسممي فقممط ,بممل إجممراءات تحصمميل المصمملحة
للشعوب وهذا يعود بالساس إلى فلسفة القيم والخلق.1
-139-
م خ ُ
ذوهُ ْ ما ات ّ َ ما ُأنزِ َ
ل إ ِل َي ْهِ َ ي وَ َ
ن ِبالله والن ّب ِ ّمُنو َ ن * وَل َوْ َ
كاُنوا ي ُؤ ْ ِ دو َ
خال ِ َُ
َ
ن " )المائدة ,اية78:م .( 81ثم قو َ
س ُم َفا ِمن ْهُ ْ أوْل َِياء وََلمك ِ ّ
ن ك َِثيًرا ّ
قال :كل والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ,ولتأخذن
على يدي الظالم ,ولتأطرنه على الحق أطرا ,ولتقصرنه على
الحق قصرا ً .1بل أجمع الفقهاء على وجوب طاعة الئمة والولة
في غير معصية ,وعلى تحريمها من المعصية.2
-8أوجه التفاق بين الشورى والديمقراطية:
وينطبممق هممذا أيض ما ً علممى الحريممة القتصممادية كممما روى جممابر بممن
5
عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله :دعوا النماس يمرزق
الله بعضهم من بعض ,فإذا استنصمح أحممدكم أخماه فلينصمحه وقممد
أكد الدكتور وهبة الزحيلي :أن الديمقراطية الجتماعية في السلم
كممانت أبعممد مممدى بكممثير فممي حيمماة المسمملمين الوائل منهمما فممي
الممديمقراطيات الحديثممة ,كممما كممانت الديمقراطيممة السياسممية فممي
السلم أكثر عنايممة وتحقيقما ً لهممداف الديمقراطيممة منهمما بأسمماليب
6
وشكليات تلك الديمقراطية
-140-
فهممما يتفقممان علممى تمكممن الفممرد مممن المشمماركة فممي القممرارات
المصيرية التي تهمه ,وتهم المجتمع كله ,كما أن الفرد يحصل على
نصيب عادل من ثروة بلده.
-141-
ج -عدم جمواز مخالفمة مصمالح الممة المتي تعقمد فمي الشمورى أو
الديمقراطيممة ,لن هممذه المصممالح تصممدر عممن طريممق الموافقممة
الجماعية وليس عن طريق الهواء أو النفراد بالرأي.1
وكذلك ُيعمل به فممي مبممدأ الشممورى ,كممما يممرى ذلممك السممتاذ عبممد
القادر عودة 1383هم والواقع أن الشورى لن يكممون لهمما معنممى إذا
لم يؤخذ برأي الكثرية ,ووجوب الشورى على المة يقضي التزام
رأي الكثرية.6
-142-
والملحظة لقوال الفقهاء واختلفهم أن استعمالهم عبارة ما ذهب
إليه الجمهور وهم يعنون به :الكثرية من الفقهاء سواء تعلق المممر
بالفقه أو السياسة.
والمشكلة التي يلتفت إليها هنا ,هو اعتبممار الغلبيممة فمموق القممانون,
كممما كممان يحكممم الفلسممفة وأن غالبيممة الشممعب هممي الحاكمممة ل
القانون ,1فهنمما ل نسممتطيع أن نجعممل هممذا وجممه اتفمماق لكممن وجممه
اختلف أساسي مابين الديمقراطية والشورى ,بيد أن تعممويل ً علممى
أن الغلبية الواقعممة هنمما أغلبيممة اجتهاديممة فممي المصممالح العامممة ،ل
أغلبية في أحكام التشريع والقانون.
-143-
تحليلهم ما حرم الله ,ولو حممدث هممذا فلممن ينعقممد كممدليل أو إثبممات
شرعي وذلك لسببين ,هما:
أن الصل في التحريم والتحليل أنه حق خممالص للممه عممز وجممل -
ً
وبالتالي ل يملك أحد من المسلمين جماعة أو فردا أن يتممولى هممذا
الحق.
ولو حدث هذا فرضا ً في مجتمممع مسمملم ,فممالقول الشممرعي أن -
هذا الجتماع أو الحصول على أغلبيممة الصمموات فممي حكممم يخممالف
الشريعة ل ُيعتد به لمرين:
أن الحكممام الشممرعية ل تعقممد فممي مثممل هممذه المجممالس إذ أن -
الصممل فممي مناقشممات الحكممام الشممرعية أن تؤخممذ مممن أصممحابها
وليس من النواب أو البرلمانيين أو أعضاء المجالس النيابيممة ,فهممم
ُرشممحوا أو اخممتيروا مممن أجممل إصمملح أوضمماع النمماس السياسممية
والقتصادية ,ل العمل على تغير الحكام الشرعية.
ولممو حممدثت هممذه الغلبيممة فرضمما ُ فممي مجتمممع مسمملم باسممم -
الديمقراطية ,فهذا ل يتعدى أن يكممون إجماعما ً سياسمميا ً أو اسممتفتاء
الرأي العام الشعبي ,ل إجماعا ً شرعيا ً والفرق بينهما كبير.
-144-
المسلمين ,لم تكن مطلقه العنان بل كانت مقيدة بضوابط وأصول
دوه ُ إ َِلى الل ّهِ
يٍء فَُر ّ من أهمها قول الله تعالى ":فَِإن ت ََناَزع ْت ُ ْ
م ِفي َ
ش ْ
ل " )النساء ,آية.(59 : سو ِ
َوالّر ُ
فإذا كان هذا حال الشورى ,فمن باب أولى أن تكون الديمقراطيممة
التي يريد المسلمون تطبيقها مقيده بدستور وأصول تعامليمة وهمذا
لن يتحقق إل بشرطين:
ب -التواصل إلى صيغة دستور ديمقراطممي ُيراعممي اعتبممارات مختلممف
الجماعات وشروط انخراطهمما فممي الممارسممة الديمقراطيممة وبهممذا
الدستور يمكن التحكم برغبات وتحكمات الفممراد والحممزاب داخممل
الدولممة بنمماًء علممى هممذا الدسممتور المتفممق عليممه ,بممل سممتكون كممل
القرارات والقوانين الصادرة عن السلطات في الدولة خاضعة لممه,
وهو الذي يضمن حقوق وحريات كافة الممواطنين ,ممع وضمع قيمود
دسممتورية لكممل ممارسممات السمملطة ,لبممد أن يحمموي الدسممتور
الديمقراطي مبادئ منها:
-145-
ضمان الحقوق والحريات العامة. -
-146-
ى
ق َك ِبال ْعُْروَةِ ال ْوُث ْ َ
س َ
م َ
ست َ ْ من ِبالل ّهِ فَ َ
قد ِ ا ْ ت وَي ُؤ ْ ِ غو ِ فْر ِبال ّ
طا ُ ن ي َك ْ ُم ْفَ َ
م " ) البقرة ,آية.(256 : ميعٌ ع َِلي ٌ س ِه َم ل ََها َوالل ّ ُ
صا َ ف َ ل َ ان ِ
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سياسمميا ً محنك ما ً فممي إعطمماء
الحرية للمسلمين وغيممر المسمملمين مممن خلل دسممتور جممامع لكممل
المواطنين عنمدما أراد اسممتيعاب اليهمود كسممكان للمدينممة المنممورة
تحت رايته وحكمه ,ولم ينشأ صلى الله عليه وسلم اتخمماذ سياسممة
الستئصال أو التطهير الديني ضد غيممر المسمملمين ,بممل كممان نهجممه
إعطمماء هممامش أوسممع للحريممات الدينيممة 1دلممت الصممحيفة بوضمموح,
وجلء على عبقرية الّرسممول صمملى اللممه عليممة وسمملم فممي صممياغة
دهمما
دها وتحديد علقات الطراف بعضها ببعض ,فقد كممانت موا ّ موا ّ
مترابطة ,وشاملة وتصلح لعلج الوضاع في المدينة آنذاك ،وفيهمما
من القواعد والمبادئ ما يحقق العدالة المطلقة ،والمساواة التامة
بين البشر ,وأن يتمتع بنو النسان علممى اختلف ألمموانهم ،ولغمماتهم،
حريات بأنواعها.2 وأديانهم ،بالحقوق وال ّ
ول تزال المبادئ التي تضمّنها الدستور -في جملتهمما – معمممول بهمما
والغلب أّنها ستظل كذلك في مختلف ُنظم الحكم المعروفممة إلممى
اليوم ...وصل إليها الناس بعد قرون من تقريرها ,فممي أول وثيقممة
سياسممّية دّونهمما الّرسممول صمملى اللممه عليممه وسمملم 3فقممد أعلنممت
صحيفة :أن الحريات مصممونة ,كحريممة العقيممدة والعبممادة ,وحممق ال ّ
المن ...الممخ ,فحريممة الممدين مكفولممة :للمسمملمين دينهممم ،ولليهممود
صحيفة بإنزال الوعيد ،وإهلك من يخممالف هممذا دينهم وقد أنذرت ال ّ
صممت الوثيقممة علممى تحقيممقالمبدأ ،أو يكسر هذه القاعممدة ,وقممد ن ّ
4
العدالة بين الناس وعلى تحقيق مبدأ المساواة .
لبي).(575\1ص ّ
السيرة النبوية لل ّ - 4
-147-
مه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء ،أو أعداء، ويحكم بالحقّ ول يه ّ
َ
ن
ذي َ أغنياء ،أو فقراء ،عمال ً أو أصحاب عمل قال تعالىَ ":يا أي َّها ال ّ ِ
ن قَوْم ٍ شَنآ ُ م َ من ّك ُ ْ جرِ َ ط وَل َ ي َ ْ س ِ ق ْ داء ِبال ْ ِ شه َ َ ن ل ِل ّهِ ُ مي َ وا ِ كوُنوا ْ قَ ّ مُنوا ْ ُ آ َ
ّ ّ ْ َ ْ ُ ْ ُ َ َ
خِبيٌر ه َ ن الل َ ه إِ ّ قوا الل َ وى َوات ّ ُ ق َ ب ِللت ّ ْ ع َلى أل ّ ت َعْد ِلوا اع ْد ِلوا هُوَ أقَْر ُ
ن" )المائدة ,آية (8:والمعنى :ل يحملنكم ُبغض قوم مُلو َ ما ت َعْ َ بِ َ
ب قوم على على ظلمهم ,ومقتضى هذا أنه ل يحملنكم ح ّ
محاباتهم والميل إليهم.1
َ ك َفادع ُ واستقم ك َ ُ
م
واءهُ ْ ت وََل ت َت ّب ِعْ أهْ َ مْر َ ما أ ِ ْ َ ْ َِ ْ َ وقال تعالى ":فَل ِذ َل ِ َ
ت ِل َع ْد ِ َ ُ ما َأنَز َ
ه َرب َّنا م الل ّ ُ ل ب َي ْن َك ُ ُ مْر ُ ب وَأ ِ من ك َِتا ٍ ه ِ ل الل ّ ُ ت بِ َ من ُ لآ َ وَقُ ْ
َ َ
ع
م ُ ج َ ه يَ ْ م الل ّ ُ ة ب َي ْن ََنا وَب َي ْن َك ُ ُ ج َ ح ّم َل ُ مال ُك ُ ْ م أع ْ َ مال َُنا وَل َك ُ ْ م ل ََنا أع ْ َ وََرب ّك ُ ْ
صيُر " )الشورى ,آية : (15:يعني أنني مأمور م ِ ب َي ْن ََنا وَإ ِل َي ْهِ ال ْ َ
ضد صب لحد أو ّ بالنصاف دون عداوة ,فليس من شأني أن أتع ّ
أحد ,وعلقتي بالناس كّلهم سواء ,وهي علقة العدل ،والنصاف
فأنا نصير من كان الحق في جانبه وخصيم من كان الحق ضده
وليس في ديني أيّ امتيازات ليّ فرد كائنا ً من كان وليس لقاربي
ميزات ل حقوق ,وللغرباء حقوق أخرى ,ول للكابر عندي م ّ
ق
يحصل عليها الصاغر ,والشرفاء والوضعاء عندي سواء ،فالح ّ
حق للجميع والذنب والجرم ذنب للجميع ,والحرام حرام على
ل ,حتى أنا ل والفرض فرض على الك ّ ل حلل للك ّ ل ,والحل ٍ الك ّ
َ
لست مستثنى من سلطة القانون اللهي .وقال تعالىَ ":يا أي َّها 2
فسك ُم أوَ َ
داء ل ِل ّهِ وَ َل َوْ ع ََلى أن ُ ِ ْ ِ شه َ َ ط ُ س ِ
َ
ق ْن ِبال ْ ِ مي َ وا ِ كوُنوا ْ قَ ّ مُنوا ْ ُ نآ َ ذي َ ال ّ ِ
ما فَل َ ت َت ّب ُِعوا ْ َ
ه أوَْلى ب ِهِ َ قيًرا َفالل ّ ُ ن غ َن ِّيا أوْ فَ َ ن ِإن ي َك ُ ْ ن َوالقَْرِبي َ ِ وال ِد َي ْ ال ْ َ
َ َ
نمُلو َ ما ت َعْ َ ن بِ َ كا َ ه َ ن الل ّ َ ضوا ْ فَإ ِ ّ ووا ْ أوْ ت ُعْرِ ُ وى أن ت َعْد ُِلوا ْ وَِإن ت َل ْ ُ ال ْهَ َ
خِبيًرا " ) النساء ,أية.(135 : َ
إن في فقه أهل الذمة عند علماء الشريعة والسياسة الشرعية ممما
يشير إلى أن علماءنا كانوا ,منصممفين وعممادلين لهممل الذمممة وكممان
لهم حقوق على أساس المواطنة والحرية الكاملة لهم وليس على
أساس الدين والقومية لهم ولم يشممهد عصممر إسمملمي علممى مممدار
الحضارة السلمية أي عملية تطهير عرقي أو استئصممال دينممي لي
جماعة دينية أو عرقية ,بل كممانت الممديار السمملمية دائممما الحاضممنة
الولى لى جماعة تريممد أن ،تحتفممظ لكينونتهمما الدينيممة والثقافيممة ,
كما كان الحال مع اليهود وهروبهم من النممدلس ))أسممبانيا(( جممراء
لبي ).(576\1ص ّ
-السيرة النبوية لل ّ
1
-148-
القمممع الصممليبي والتطهيممر الممديني إلممى دار السمملم ،ولممم تكممن
العنصرية يوما ً من اليام دائرة في دعوة السلم.1
فحرية الفرد في الدولة السمملمية فممي إبممداء رأيممه والتعممبير عنممه ,
وحريتممه فممي النتمماء الفكممري لي جماعممة تحممت مظلممة السمملم ,
مادامت هذه الجماعة تتخذ من السلم منهجا ً فكريا ،ومممن أصمموله
العقائدية قواعد في التفكير ,ل حرج على الفرد في هممذا النتممماء ,
إذ أن الطبائع تختلف في الوسمميلة وتتفممق فممي المممآل والمصممير ,ل
سيما إذا كان الطريق واحدًا ،وهو طريق السلم.
-المساواة:
يعد ّ مبدأ المساواة أحد المبادئ العامة التي أقّرها السلم وهو من
المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم ولقد أقّر هذا المبدأ
ما ورد في ,وسبق به تشريعات ,وقوانين العصر الحديث وم ّ
َ
القرآن الكريم تأكيدا ً لمبدأ المساواة قوله تعالىَ ":يا أي َّها الّنا ُ
س
ُ
نل ل ِت ََعاَرُفوا إ ِ ّشُعوًبا وَقََبائ ِ َم ُ جعَل َْناك ُ ْ من ذ َك َرٍ وَأنَثى وَ َ كم ّ قَنا ُخل َ ْإ ِّنا َ
َ َ
خِبيٌر " ) الحجرات ,آية: م َه ع َِلي ٌ ن الل ّ َم إِ ّ عند َ الل ّهِ أت ْ َ
قاك ُ ْ م ِ مك ُ ْ أك َْر َ
.(13
وفي حجة الوداع قال رسول اللممه صمملى اللممه عليممه وسمملم :ياأيهمما
الناس ,أل إن ربكم واحممد ,وإن أبمماكم واحممد ,أل ل فضممل لعربممي
على أعجمي ,ول لعجمى على عربممي ,ول لحمممر علممى أسممود ول
أسود على أحمر إل بالتقوى ,أبلغت؟ قالوا :بلغ رسول اللممه صمملى
اللممه عليممه وسمملم ,ثممم قممال :فممإن اللممه قممد حممرم بينكممم دممماءكم
وأموالكم ..أبلغت؟ قالوا :بلغ رسول الله صمملى اللممه عليممه وسمملم,
وقال :ليبلغ الشاهد الغائب.3
-149-
وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله :المؤمنون تكافؤ
دماؤهم ,وهم يد على من سممواهم ,ويسممعى بممذمتهم أدنمماهم 1إن
هذا المبدأ كان من أهم المبادئ التي جممذبت الكممثير مممن الشممعوب
قديما ً نحو السلم ،فكممان هممذا المبممدأ مصممدرا ً مممن مصممادر الق م ّ
وة
للمسلمين الّولين.2
إن مبدأ المساواة أمر تعبممديّ ,تممؤجر عليممه مممن خممالق الخلممق -
سبحانه وتعالى.
-150-
ضرورة مراعمماة مبممدأ تكمافؤ الفممرص للجميممع ,ول ُيراعممى أحممد -
لجاهه أو سلطانه ,أو حسممبه ونسممبه ,وإّنممما الفممرص للجميممع وك م ّ
ل
على حسب قدرته ,وكفاءاته ,ومواهبه ,وطاقته ,وإنتاجه.
وى إن تطبيق مبدأ المساواة بيممن رعايما الدولممة السمملمية تقم ّ -
حد كلمتها وينتممج عنممه مجتمممع متماسممك مممتراحم يعيممش فها ,ويو ّص ّ
1
لعقيدة ,ومنهج ,ومبدأ كانت الوثيقة بالمدينة في عهد رسممول اللممه
وماتهممام ممما قممد تحتمماجه الدولممة ,مممن مق ّقممد اشممتملت علممى أتمم ّ
الدستورية ,والدارية ,وعلقة الفراد بالدولة وظل القممرآن يتنممزل
في المدينة عشر سنين ,يرسم للمسمملمين خللهمما مناهممج الحيمماة ,
ويرسممي مبممادئ الحكممم ,وأصممول السياسممة ,وشممؤون المجتمممع،
وأحكام الحرام والحلل ،وأسس الّتقاضي ،وقواعد العدل ،وقوانين
سممنة الشممريفة تممدعم داخل ,والخممارج وال ّدولة المسمملمة فممي الم ّ ال ّ
صله في تنوير وتبصره ,فالوثيقة خطت خطوطا ً هذا ,وتشيده وتف ّ
عريضة في الترتيبات الدستورية ,وُتعد ّ فممي قمممة المعاهممدات الممتي
دد صلة المسلمين م بغير المسلمين -المقيمين معهم في شمميء تح ّ
2
كثير من التسامح ,والعدل ,والمساواة .
صلبي ).(581\1
-السيرة النبوية لل ّ
2
-151-
مقابل القاضي ,والخير يممدير الجلسممة وأمممامه الحمماكم والمحكمموم
سواء .1وكان حرص النبي صلى الله عليه وسلم فممي تطممبيق مبممدأ
المساواة واضحا ً ,فعن عائشة رضي الله عنها أن قريشمما ً أهمتهممم
المرأة المخزومية التي سرقت ,فقالوا من يكلم رسول الله ,صّلى
الله عليه وسّلم ,ومن يجترئ عليه إل أسامة بن زيممد حممب رسممول
الله صّلى اللمه عليممه وسمّلم ,فكلممم رسمول اللممه صملى اللممه عليممه
م ,فقال :أتشفع فممي حممد مممن حممدود اللممه ,ثممم قممام فخطممب, سل ّ َ
و َ
فقال :يا أيها النمماس إنممما ضممل مممن قبلكممم ,أنهممم كممانوا إذا سممرق
الشريف تركوه .وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحممد ,وايممم
الله لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطممع
محمد يدها.2
-152-
إن الحممديث عممن الشممورى مرتبممط جممذريا ً بمشمماريع الصمملح الممتي
تدندن حولهمما الحممزاب والممدول والمنظمممات والمؤسسممات ودعمماة
الصلح في عالمنمما العربممي والسمملمي الكممبير ,فالصمملح الممذاتي
الداخلي مطلب جوهري لشعوب المسلمين .
-153-
وإذا كممانت الشممورى – طبق ما ً للقممرآن والسممنة – جاريممة فممي حيمماة
الفراد وبين الزواج ,وبيممن البنمماء والبمماء ,فهممي مممن بمماب أولممى
جارية في جميع المصالح العامة والقضايا المشتركة.2
إن الشممورى جممزء مممن الممدين ,وجممزء مممن الشممريعة ,وجممزء مممن
المنظومة السلمية المتكاملة ,ولن تحقق هذه المنظومة أهدافها
-الشورى للريسوني ص .157 2
-154-
على الشكل الكمل والمثل إل بتشغيل جميممع أجزائهمما أو أنظمتهمما
الجزئية وكما أن الختلل في أي جزء ينعكممس سمملبا ً علممى فاعليممة
الجزاء الخرى ,والعكس بالعكس أيضًا.
-155-
ن " ) يوسف ,آية .(15 -7 :والشورى كذلك ل تنجح ول ل َ يَ ْ
شعُُرو َ
تستمر إل في ظل الحرية ,وأجواء الحرية ،حرية الضمير ،وحرية
التكفير ,وحرية التعبير .
والشورى بدون حرية حقيقية ,ل يمكن أن تتم وإذا تمت فل يمكن
أن تستمر ,وإذا استمرت فليست هي ,وإنما هي أسماء وأشممكال
ورسوم. 1
-156-
الجانب "المعرفي" الذي يشمل ما يعرفه الناس في عممامتهم عممن -1
النظام السياسي السائد فممي بلدهممم وممما يعرفممونه عممن أشممخاص
الحكام والمشاكل السياسية التي تواجه المة ككل.
-157-
ون الهممم فممي التركيبممة وهذا هو عين السداد في النظر إلممى المك م ّ
ون الشعب وثقافته الذاتية ول يمكممن لحمماكم أن السياسية ,وهو مك ّ
يصلح أوضاع الرعية مالم تسهم هي بممدورها فممي ذلممك مممن ناحيممة
استعدادها لقبول الصلح على أقل تقدير ثم مشمماركتها فممي تنفيممذ
برامجه ,لن المر بالشورى ينفذ نفمماذه حيممن يوجممد معممه صمماحب
الحق الذي يطالب به من ينساه ويرد إليه من يحيد عنه .1فالمممة –
قبل حاكميها – هي التي ُتخرج مبدأ الشورى مممن حيممز المبممدأ إلممى
حيز الممارسة.2
وقد انتبه العلمة ابن خلدون إلى هممذا الجممانب الثقممافي فممي حيمماة
خلممق المجتمع وإن كان قد نعته باسم آخر فدعاه بوازع الدين فممي ُ
المة وأسلوب تعاملها مع حكمها واستنبط ذلممك مممن الثممر التممالي:
سأل رجل عليا ,رضي الله عنه ما بال المسمملمون اختلفمموا عليممك
ولم يختلفوا على أبي بكر وعمممر؟ فقممال :إن أبمما أبكممر وعمممر كانمما
ل على مثلك. 3 واليين على مثلي ,وأنا اليوم وا ٍ
وقد علل ابن خلممدون التغيممر فممي نظممم الحكممم بممالنقص فممي وازع
ون قموي فممي الدين في الرعية ,وهمو تعليممل صمحيح ,فالممدين مكم ّ
ون فيها ,ومتى الثقافة السياسية للمة المسلمة ,بل هو أقوى مك ّ
ضعف أثره ضعفت الثقافة الذاتيمة للممة قاطبممة ولممما ضمعف همذا
الثر ترسبت في ثقافة المة المسلمة عممبر عصممور تممدهورها كممثير
من الفات التي اعتنى بفحصها وتحليلها الستاذ مالك بن بني ,في
دها مممن المعوقممات سياق ابحمماثه عممن ))مشممكلت الحضممارة(( وعم ّ
الخطيرة الكامنة فممي المجتمممع السمملمي ,والممتي لتممزال تعممترض
بشدة سبيل استعادة المسمملمين لعممافيتهم ونهوضممهم لداء دورهممم
في التاريخ ,لقد عمل مالك بن نممبي رحمممه اللممه علممى تحليممل آثممار
كثيرة من الفكار الميتة والمميتة في ثقافة المجتمعممات السمملمية
انطلقا ً من نظريته الكبرى عن القابلية للستعمار ,فقد آشار إلممى
مجموعة من الفات النفسية والجتماعية المتوطنة من قممديم فممي
العممالم السمملمي والممتي هيممأت للسممتعمار الغربممي أن ينفممذ إليممه
ويقهره ويذله ويخضعه لشروطه ويكيممف أوضمماعه بممما يجعلممه دائم
الذعممان وهممذه المممراض النفسممية والجتماعيممة شممبيهة بممالجراثيم
والمراض العضوية التي تلم بالجسام وحسممب تحليلت مالممك بممن
-158-
نممبي فممإن قابليممة العممالم السمملمي للسممتعمار هممي الممتي جلبممت
الستعمار الغربي إليه .1وانطلقا ً مممن نظريممة مالممك بممن نممبي هممذه
نممرى أن مممن أخطممر الفكممار الميتممة فممي بيئاتنمما الجتماعيممة فكممرة
الستبداد التربوي التي تحكم مؤسستي السرة والمدرسة ,حيممث
تتولد طباع الخنمموع والتقليممد والحجممام عممن التفكيممر وإبممداء الممرأي
وهذه من أشد الطباع مناهضمه لمسماعي اسمتعادة خلمق الشمورى
في المجتمع ,حيث ُتجتث جذور الشورى من العماق ,ولممذلك فل
بد ,من معالجة هذا الشممأن علجما ً جممديا ً جممذريا ً قبممل التفكيممر فممي
توطين الشورى في البنية السياسية العليا للمجتمع .
* إيقاف آلية الشورى عمليا ً وتمثل هذا في جعل ولية العهد الليممة
الوحيدة في نقل السلطة من السلف إلى الخلف .
-159-
* التعرض والتطاول علممى مؤسسممات المجتمممع المممدني ,كممالوقف
مثل ً تأثير النحلل الخلقي والفساد الداري على القرار السياسممي
والشورى.1
-160-
ومع حالة الضعف والوهن السياسي ,وغياب الشورى ,كانت هنمماك
إضاءات وأنوار مشعه ,كما كان الحال مع أنممموذج عصممر عمممر بممن
عبد العزيز الموي فقد كان غّره في جبين ذلك العصر ,وكعهد نور
الدين محمود زنكي في عهد الخلفاء العباسيين ومحمد الفاتح فممي
عهد العثمانيين ,فقد كانت عهود نهوض حضاري اسلمي عظيم.
من أهم الوسائل والرؤى الممتي تسمماعد علممى عممودة الشممورى إلممى
حياة المسلمين:
لبد من الرفض الجمعي لكممل أنممواع القمموة ,مممن قمموة فممي فممرض
الرأي إلى قوة السلح والنقلب العسممكري ,لكممي تأخممذ الشممعوب
حقهمما الطممبيعي فممي اختيممار الحمماكم أو القممائد وفممق آليممه شممورية
وانتخاب صحيح.3
يقول عبد القادر عودة :ولقممد قبممل الفقهمماء إمامممة المتغلممب اتقمماء
للفتنة وخشية للفرقة ,ولكنهمما أدت إلممى أشممد الفتممن وإلممى تفريممق
الجماعة السلمية وإضعاف المسلمين ,وهدم قواعد السلم ,ولممو
علم الفقهاء الذين أجازوا ما سوف تؤدي إليه لممما أجازوهمما لحظممة
واحدة. 4
الشورى المصدر السابق ص .269 - 1
-161-
يقول محمد الغزالممي :إنممي ل أعممرف دين ما ً صممب علممى المسممتبدين
سمموط عممذاب وأسممقط اعتبممارهم ,وأغممرى الجممماهير بمنمماوأتهم
والنتفاض عليهم كالسلم.1
إن أصغر وحدات المة تكوينا ً وتأثيرا ً قي ثقافتها السياسممية هممي بل
شك خليممة السممرة الممتي يتلقممى فيهمما النسممان التوجيهممات الولممى
للممتزم المثممل العليمما فممي الطاعممة والنضممباط والتضممحية وأداء
الواجبات ,والتسامح ,والتعمماون ,والتشمماور ,3فالسممرة فممي الرؤيممة
السمملمية ,نممموذج مصممغر للمممة والدولممة ,تقابممل القوامممة فيهمما
المامة أو الخلفة على مستوى الدولممة ,وتحكمهمما الشممريعة وتممدار
بالشورى ,ويشبه عقد الزواج فيها عقممد البيعممة ,ويتممم اللجمموء عنممد
النزاع إلى الليممات نفسممها الممتي يلجممأ إليهمما فممي حممل النممزاع علممى
مستوى المة ,أي الصلح والتشاور والتحكيم , 4فإذا أردنمما مجتمعمما ً
شوريا ً حقيقيا فلبد أن نهتم بأساليب التربية السرية ونقومها حتى
نسهم في توجيه النشء إلى السلوك الشوري السوي.5
-162-
ارتجالية ,أو هي نتاج عملية زرع في أنبمموب اختبممار وتحممت مراقبممة
الخبراء والعلماء والحكماء ,وليس من الصحيح القول بأن الشمعب
غيممر مهيممأ لقبممول الشممورى أو ليسمموا أهل ً لممذلك ,أوهممم كممالخراف
الضالة ,والتي جاء الحاكم ليقودها بمهارته وقدراته الفائقممة أو أننمما
فممي حالممة حممرب وطممواريء وأحكممام عرفيممة أو لبممد مممن تحريممر
فلسممطين أو قيممام الوحممدة العربيممة أو السمملمية أول ً حممتى نطبممق
الشورى مما يلزم إلغاء الشورى لتنفرد بممالقرار جماعممة أو حمماكم,
فكل هذا ليصممح شممرعا ً ول قانونما ً ول عرفما ً 1ول عقل ً فهنمماك تحممد
يلزم الشعب والجمهور في إقرار الشورى في أنفسهم وعقممولهم,
كما كان يواجه الحماكم تحمدي الذعممان والنصممياع لممرأي الجمهمور,
والشكالية تتحد في معرفة كيفية تحويل قيممة الشمورى -,كتموجه
مؤثر -علممى النخممب الحاكمممة إلممى اختيممار واع ,قممائم علممى بلممورة
خيارات اقتصادية وسياسية واجتماعية قوية متماسكة.2
-163-
فالنظام الشوري يفترض وجود مجتمع مدني له بنية قويممة ,يرتبممط
بمجتمع سياسي متكامل ,كلهما مستقل بقدر المكان عن الدولة,
باعتبارها السلطة التي تعمممل باسممم المممة ,فالنظمممة الدكتاتوريممة
تعتاش على معولين أساسين في استعباد الناس.
أ -القوة :وهي بذاتها ليست مذمومة ,إذ لبد من استعمال القمموة
للمحافظة على القانون ,وطرد الشرار ,ولن الحكم أو الولية كما
يقول ابن تيمية لهمما ركنممان :القمموة والمانممة القمموة فممي كممل وليممة
بحسبها ,فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلممب ,وإلممى
الخبرة بالحروب والمخادعة فيها فممإن الحممرب خدعممة والقمموة فممي
الحكم بين الناس ,ترجع إلى العدل الذي دل عليه الكتاب والسممنة,
وإلى القدرة على تنفيذ الحكام والمانة ترجع إلى خشية اللممه ,وال
يشترى بآياته ثمنا ً قليل ً ,وترك خشية الناس.1
-164-
من تبعيتها للحزاب السياسية التي تتخذها واجهة لتوسمميع نفوذهمما,
ولم تحقق المال المعلقة عليها في تجاوز الزمة السياسية ,بممل ؟
أصبحت بدورها أسيرة لها.
-165-
ولعل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه :لممو ممماتت شمماة علممى
شاطئ الفرات ضمائعة ,لظننمت اللمه عمز وجمل سمائلي عنهما يموم
القيامة 1مايوضح ذلك.
لقد جسد الخلفاء الراشدون رضي الله عنهممم مممدى مدنيممة الحكممم
في السلم ,وأن العسكر ما هم إل موضع خدمممة للشممعب والمممة
والسمملطة الشممرعية وليممس مممن الصممحيح أن قممائد الجيممش بقمموته
وسلطانه يمكن أن يكممون رئيسما ً للدولممة عممبر قمموة السمملح 2وفممي
قصة عزل عمر بن الخطاب للقائد العسكري للمسمملمين خلممد بممن
الوليد ,ما يدل على ماذهبت إليه وقد ذكرت في كتممابي عممن عمممر
الخطاب رضي الله عنه اسباب عزل خالد وملخصها.
ففي قول عمر رضي الله عنه :ولكن الناس فتنوا بممه ,فخفممت أن
يوكلوا إليه ويبتلوا به ,يظهممر خشممية عمممر مممن فتنممة النمماس بخالممد
وظنهم أن النصر يسير في ركابه ,فيضعف اليقين بممأن النصممر مممن
عند الله سواء كممان خالممد علممى رأس الجيمموش أم ل وهممذا المموازع
يتفق مع حرص عمر على صممبغ إدارتممه للدولممة العقائديممة الخالصممة
وبخاصة وهي تحارب أعدائها حربا ً ضروسا ً متطاولة باسم العقيممدة
وقوتها ,وقد يقود الفتتان بقائد كبير مثل خالد نفسه إلممى الفتتممان
بالرعية وأن يرى نفسه يوما فمي مركمز قموة ل يرتقمي إليهما أحمد,
وبخاصة أنه عبقري حرب ومنفق أموال ,فيجر عليه وعلممى الدولممة
سممر ,وهممو إن كممان احتمممال ً بعيممدا ً فممي ظممل ارتبمماط النمماس
خ ْ
أمممر ُ
بخليفتهم عمر وإعجابهم بممه ,وفممي ظممل انضممباط خالممد العسممكري
وتقممواه ,فقممد يحممدث يومما ً ممما بعممد عمممر ,ومممع قممائد كخالممد ,مممما
ل أحسممن يستدعي التأصيل لها من الخوف من قممائد صممغير لممم ي ُب ْم ِ
البلء ولم تتساير بذكره النباء.3
وقد أشار شاعر النيل حافظ إبراهيم إلى تخمموف عمممر فقممال فممي
عمريته في الديوان:
-166-
وقيل خالفت يا فاروق صاحبنا
لمدى تغلغل اليمان في القلوب بينما يرى خالد أن ممن معممه مممن
ذوي البأس و المجاهدين في ميدانه ممما لممم تخلممص نيتهممم لمحممض
ثواب الله وأن أمثال هؤلء في حاجة إلى ما يقوي عزيمتهممم ويممثير
حماستهم من هذا المال ,1كما أن عمر رضي الله عنه كان يرى أن
ضعفة المهاجرين أحق بالمال من غيرهم ,فعندما اعتذر إلى الناس
بالجابية من عزل خالد قال أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفه
المهاجرين فأعطاه ذا البأس ,2ول شك أن عمممر وخالممدا ً مجتهممدان
فيما ذهبا 3إليه ولكن عمر أدرك أمورا ً لم يدركها خالممد رضممي اللممه
عنه.
فقد كان عمر يصر على أن يسممتأذن الممولة منممه فممي كممل صممغيرة
وكبيرة ,بينما يرى خالد أن من حقه أن ُيعطممى الحريممة كاملممة مممن
غيممر الرجمموع لحممد فممي الميممدان الجهممادي وتطلممق يممده فممي كممل
التصرفات إيمانا ً منه بأن الشاهد يرى ما ل يراه الغائب ولعممل مممن
السباب أيضًا ,إفسماح المجمال لطلئع جديمدة ممن القيمادات حمتى
تتوفر في المسلمين نماذج كثيرة من أمثال خالد والمثنممى وعمممرو
-أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ ,شعوط ص .134 1
-167-
بن العاص ,ثم ليدرك النمماس أن النصممر ليممس رهنمما برجممل واحممد,1
مهما كان هذا الرجل.2
لبي ص .350 ص ّ
عمر بن الخطاب لل ّ - 2
-168-
كما فعل عمر بن الخطاب بأرض السواد من العراق والشام حيممث
جعلهمما أراضممي خممراج فجعممل عليهمما إيممراد للرضممي الممتي افتتحهمما
المسلمون عنوة وأوقفها لمصالح المسلمين على الدوام ,فعنممدما
قويت شوكة السلم بالفتوحات العظيمة وبالذات بعد القضاء على
القمموتين العظيمممتين الفممرس والممروم وتعممددت ممموارد المممال فممي
الدولممة السمملمية وكممثرت مصممارفه وللمحافظممة علممى كيممان هممذه
الدولممة المتراميممة الطممراف وصممون عزهمما وسمملطانها ,وضمممان
مصممالح العامممة ,والخاصممة كممان لبممد مممن سياسممة ماليممة حكيمممة
ورشيدة فكر لها عمر رضي الله عنه ,أل وهممي إيجمماد مممورد مممالي
ثابت ودائم للقيام بهذه المهام ,وهذا المورد هو :الخراج فقممد أراد
الفاتحون أن تقسم عليهم الغنائم من أممموال وأراضممي وقممام عمممر
رضي الله عنه بحوارا ً شوريا ً موسعا ً مممع كبممار الصممحابة ظهممر فيممه
أسلوبه في الجدل جمع فيه قمموة الممدليل وروعممة البيممان واسممتماله
المخالف وانتهى المممر بكبممار الصممحابة ورجممال الحممل والعقممد إلممى
إقممرار رأي الخليفممة رضمي اللمه عنمه بتحممبيس الرض علمى أهلهما,
وتقسيم الموال المنقولة على الفاتحين.1
ص ّ
لبي ص .252 -عمر بن الخطاب لل ّ
1
-169-
بالشورى وما حدث في أوربا من تعسف وقتل ضد العلماء في ممما
يسمي بالصراع مابين العلم والكنيسة والتي نتممج عنممه ممما يسمممى
بالعلمانية خير دليل على ما ذهبنا إليه يقممول الكواكممبي :ليممس مممن
غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم ,ولن للعلممم سمملطانا ً أقمموى
من كل سلطان ,لذا فإن بين الستبداد والعلم حربا ً دائمة وطممرادا ً
مستمرا. 1
وفي هممذه الدراسممة نؤكممد علممى دور البممداع والتجديممد فممي الفكممر
بصورة عامة ,والفكر السياسي بصممورة خاصممة ,إذا أردنمما الوصممول
إلى خلق نظممام إبممداعي تنممموي فممي دولنمما وأنظمتنمما الحاكمممة مممع
البتعاد قدر المكان عن الخوض في المسائل التي ل فممائدة فيهمما,
والتوجه بالكلية إلى البحث والدراسة في المسائل المجديممة ,2كممما
يقول الشاطي :من العلم ما هو من صلب العلم ,ومنه ما هو ملممح
العلم ل من صلبه ,ومنه ما ليس من صلبه ول ملحممه والممذي عليممه
مدار الطلب .وإليه تنتهي مقاصد الراسخين ,والشريعة المباركممة
المحمدية منزلة على هذا الوجه ولذلك كانت محفوظة في أصولها
وفروعها ,لنها ترجممع إلممى حفممظ المقاصممد الممتي بهمما يكممون صمملح
الدارين. 3
إن حقيقة النظمة المستبدة أنها أنظمة غير شجاعة ول تقدر علممى
مواجهة التحديات الحضارية ,وأن الحتلل الخارجي لن يكون منقذا ً
للشعوب أو داعمما ً لمنهممج الشممورى ولقممد أثبممت التاريممخ أكممثر مممن
حادثة وواقعة من أن المستجير من ظلم الحمماكم إلممى المسممتعمر,
كالمستجير من النار بالرمضمماء والسممتبداد ل ينتمممي إلممى السمملم
البتة ,بل أن نقيض الشورى حتما هو الستبداد ,وهممذا الخيممر فيممه
من الصفات والوصاف ما يعكس خلف الشورى فمي كمل صمغيرة
وكبيرة وعلى حد توصيف الكواكبي له ,يقول إذا أراد السممتبداد أن
يحتسب وينتسب ,لقممال :أنمما الشممر ,وأبممي الظلممم ,وأمممي السمماءة
وأخي الغدر ,واختي المسكنة ,وعمي الضرر ,وخالي الذل ,وابنممي
الفقر ,وبنتي البطالة ,ووطني الخراب ,وعشيرتي الجهالة.4
-170-
إن تقدم الشعوب وقدرتها على مواجهة التحديات الحضارية يعتمممد
على نشر العدل وإعطاء الحقمموق السياسممية لفرادهمما وجماعاتهمما,
بكافممة أنممواع الحقمموق الفرديممة والجماعيممة ,ولقممد عاشممت أمتنمما
السلمية في أوج حضارتها وتقدمها ,عندما كانت تحافظ على هذه
الحقوق وتعطي كل ذي حق حقه ,وهمموت وسممقطت لممما تجمماوزت
تلك الحقوق , 1فعلى سبيل المثال جاء عصر صمملح الممدين ,الفاتممح
العظيم للقدس ومحررها بعد عصممور مممن الذلممة والهمموان ,والقهممر
السياسي بين المسلمين وحكامهم فيروى ابن الثير ,عممن عصممره,
فيقول :قد طالعت تواريممخ الملمموك المتقممدمين مممن قبممل السمملم
ومنه إلى يومنا هذا ,فلم أر فيه بعد الخلفاء الراشممدين ,وعمممر بممن
عبد العزيز ملكا ً أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين ,ول أكثر
تحريا ً للعممدل والنصمماف منممه ,قممد قصممر ليلممه ونهمماره علممى عممدل
ينشممره ,وجهمماد يتجهممز لممه ,ومظلمممة يزيلهمما ,وعبممادة يقمموم بهمما,
وإحسان يوليه ,وإنعممام يسممديه ,فلممو كممان فممي أمممة لفتخممرت بممه,
فكيف ببيت واحد 2فقد قام صلح الدين ونور الدين والشعوب التي
التفممت حممولهم بمواجهممة التحممديات الحضممارية ومممن أراد التوسممع
فليراجع كتابي عن صمملح الممدين اليمموبي ,وكتممابي عممن نممور الممدين
محمود الشهيد ,ففيها تفاصيل مهمة فممي نهضممة المممة ,ومقاومتهمما
للمشاريع الغازية.
-171-
-172-
الخلصة
منها هممذا
وبعد :فهذا ما يسره الله لي من حديث عن الشممورى تض م ّ
الكتمماب وقمد سمميته "الشمورى فممي السمملم" فممما كمان فيممه ممن
ي ،فله الحمد والمن ّممة ،وممما كممان
صواب ،فهو محضى فضل الله عل ّ
فيه من خطأ ،فأستغفر الله تعالى ،وأتوب إليه ،والله ورسوله برئٌ
منه ،وحسبي أّني كنت حريضا ً أل ّ أقع في الخطأ ،وعسى أل ُأحممرم
من الجر.
ف ّ
ل من جمع وأفنى من دول
-173-
ى وعزل
ملك المر وول ّ
أين عاد أين فرعون ومن
هلك الك ّ
ل ولم تغن القلل
ول
خ َ
تشتغل عنه بمال أو َ
صله فمن
م وح ّ
وأهجر النو َ
-174-
في ازدياد العلم إرغام الِعدى
-175-
فهرس الكتاب
1 المقدمة:
أو ً
ل :الشورى في القرآن الكريم
10
-176-
أ ـ مشاورته في الخروج للقتال.
15
أ ـ في حفر الخندق.
22
-177-
رابعًا :الشورى في عهد الصديق.
28
ع ـ البيعة العامة.
34
-178-
1ـ بيعة عمر بن الخطاب.
39
-179-
ج ـ مدة النتخابات أو المشاورة.
55
-180-
ج ـ التفاق على بيعة عثمان.
59
-181-
4ـ من أقوال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب رضي
الله عنه72 .
*في خلفته.
77
أو ً
ل :فوائد الشورى.
84
-182-
ثالثًا :الشورى المعلمة والشورى الملزمة.
90
-183-
ثامنًا :الشورى ومأسستها.
111
ب ـ قاعدة سد الذرائع.
118
ج ـ المصالح المرسلة.
119
-184-
س ـ القتباس لما فيه مصلحة وخير.
119
ـ هل نستفيد من الديمقراطية.
121
ـ من آفات الديمقراطية.
122
ـ المساواة.
134
-185-
عاشرًا :تفعيل حقيقة الشورى في الشعوب السلمية.
144
-186-
8ـ الحرص على حرية البحث العلمي وإستقلليته.
152
154 الخلصة.
الفهارس.
157
-187-
كتب صدرت للمؤلف
-188-
27ـ وسطية القرآن في العقائد.
28ـ فتنة مقتل عثمان.
29ـ السلطان عبد الحميد الثاني.
30ـ دولة المرابطين.
31ـ دولة الموحدين.
32ـ عصر الدولتين الموية والعباسية وظهور فكر
الخوارج.
33ـ الدولة الفاطمية.
34ـ حركة الفتح السلمي في الشمال الفريقي.
35ـ صلح الدين اليوبي وجهوده في القضاء على
الدولة الفاطمية وتحرير البيت المقدس.
36ـ إستراتيجية شاملة لمناصرة الرسول صلى الله عليه
وسلم دروس مستفادة من الحروب الصليبية.
37ـ الشيخ عز الدين بن عبد السلم سلطان العلماء.
38ـ الحملت الصليبية )الرابعة والخامسة والسادسة
والسابعة( واليوبيون بعد صلح الدين.
39ـ المشروع المغولي عوامل النتشار وتداعيات
النكسار.
40ـ سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت في عهد
المماليك.
ل جلله.41ـ اليمان بالله ج ّ
42ـ اليمان باليوم الخر.
43ـ الشورى في السلم.
-189-